واحدا فإن في إخراج الواحد من وقوع العتق عليهم عملا بالتبعيض، وفي نفوذ العتق فيمن سواه عملا بالعموم فإن البعض يطلق على الأقل والأكثر، والعموم لا يبطل رأسا بخروج واحد مما شمله فتعين هذا لأن العمل بكليهما أولى من العمل بأحدهما وإهدار الآخر ثم في التلويح ما معناه "وهذا يتم في الدفعي" أي هذا ظاهر على تقدير تعلق المشيئة بالكل دفعة؛ لأن من شاء المخاطب عتقه ليس بعض العبيد بل كلهم "لا في الترتيب" لأنه يصدق على كل واحد أنه شاء المخاطب عتقه حال كونه بعضا من العبيد ويمكن الجواب بأن تعلق المشيئة بكل على الانفراد أمر باطن لا اطلاع عليه والظاهر من إعتاق الكل تعلق المشيئة بالكل فلا بد من إخراج البعض ليتحقق التبعيض.
قال العبد الضعيف - غفر الله تعالى له -: وأحسن منه أن يقال ثم حيث لزم العمل بالعموم فيما عدا واحدا وهو قد أعتقهم واحدا بعد واحد فقد وجد في حق كل غير الأخير المقتضي وهو ظاهر، وانتفى المانع وهو عدم العمل بالتبعيض لقيام احتمال عدم عتق الأخير فنفذ فيهم العتق، ووجد في حق الأخير المقتضي أيضا لكن لم ينتف المانع في حقه؛ لأن بعتقه يبطل التبعيض الممكن الجمع بينه وبين العموم كما قررناه آنفا فلم يعمل المقتضي فيه عمله فلم ينفذ(22/52)
ص -255-…فيه العتق بخلاف ما إذا أعتقهم جملة فإنه، وإن وجد في حقهم جميعا المقتضي لكن لم يوجد في حقهم جميعا انتفاء المانع بل إنما وجد فيما عدا واحدا لا بعينه فكان بيانه إلى المفوض؛ لأنه الذي أخرجه من أن يكون محلا لأثر هذا التفويض بما اشتمل عليه من التبعيض وصار ما دام بيانه ممكنا منه كالمجمل لا يدرك إلا ببيان من المجمل والله - سبحانه – أعلم.
"وتوجيه قوله" أي أبي حنيفة كما وجهه صدر الشريعة ذاكرا أنه مما تفرد به "بأن البعض متيقن" على تقديري تبعيضها وبيانها فيلزم تبعيضها لثبوته على كلا التقديرين دفع في التلويح بما معناه هذا "لا يقتضيها تبعيضية لأنها" أي التبعيضية "للبعض المجرد" وهو البعض الذي يكون تمام المراد لا في ضمن الكل نحو أكلت من الرغيف فإن بعض الرغيف هو تمام المراد "وليس" هذا البعض "هو المتيقن" من البيانية "بل" البعض المحقق منها "ضده" أي ضد هذا البعض وهو الكائن في ضمن الكل الذي هو تمام المراد، وهو الضروري فلا يثبت التبعيض للمتكلم فيه بهذا وأجيب عن الدفع بأن المراد بقوله: البعض متيقن أن تعلق الحكم بما صدق عليه البعض متيقن على تقديري التبعيض والبيان كما يشهد به قوله: فإرادة البعض متيقنة، وإرادة الكل محتملة والحاصل أنه أخذ القدر المشترك بين التبعيض والبيان وحكم به؛ لأنه متيقن، ومؤداه كمؤدى العمل بخصوصية البعض والله - سبحانه - أعلم ثم أشار إلى توجيه آخر لقوله ذكروه مدفوع فقال "وبأن وصف من بمشيئة المخاطب" في من شئت من عبيدي عتقه "وصف خاص" لإسنادها إلى خاص فيبقى معنى الخصوص معتبرا فيها مع صفة العموم فيتناول بعضا عاما "وعمومها" أي المشيئة إنما هو "بالعام" أي بواسطة إسنادها إلى العام الذي هو من "كمن شاء من عبيدي" وقد وصفت بها من فأسقط الوصف بها الخصوص فوجب العمل بالعموم "دفع بأن حقيقة وصفها" أي من "فيه" أي في من شئت من عبيدي عتقه "بكونها" أي من "متعلق مشيئته" أي المخاطب "وهو" أي(22/53)
متعلق مشيئته "عام" فتعم المشيئة بعمومه فإن قلت: ليس من متعلق مشيئته، وإنما متعلقها عتقه الذي هو المفعول قلت: لما كان عتقه مصدرا مضافا إليها وهو إنما كان مفعولا باعتبار إضافته إليها قيل بنوع من المسامحة إنها متعلق مشيئته ولا بدع في ذلك.
"وأما ما فلغير العاقل" وحده نحو {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] "وللمختلط" ممن يعقل ومن لا يعقل كقوله تعالى {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الحديد: 1] وقد يستعمل لمن يعلم إذا قصد به التعظيم كما قال السهيلي نحو {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس: 5] {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] "فلو ولدت غلاما وجارية في إن كان ما في بطنك غلاما" فأنت طالق "لا يقع" الطلاق؛ لأن الشرط أن يكون جميع ما في بطنها غلاما بناء على عموم ما حتى كأنه قال ذلك أو إن كان حملك غلاما؛ إذ الحمل اسم للمجموع وأورد لم لا يجوز أن يكون ما بمعنى شيء فيكون تقدير الكلام إن كان شيء هو في بطنك غلاما فأنت طالق وهذا لا يقتضي أن يكون جميع ما في بطنها غلاما. قلت ويمكن(22/54)
ص -256-…الجواب بأنها موصولة أكثر منها موصوفة فحملت على الأكثر على أنهما لو كانتا سواء فالأصل عدم وقوع الطلاق فلا يقع بالشك "وفي طلقي نفسك من الثلاث ما شئت لها الثلاث عندهما" أي أبي يوسف ومحمد "وعنده" أي أبي حنيفة وبه قال الشافعي وأحمد "ثنتان وهي" أي هذه المسألة "كالتي قبلها" في من من حيث إن كلا منهما فيها من بيانية عندهما تبعيضية عنده "وقوله" أي أبي حنيفة "أحسن؛ لأن تقديره" أي الكلام "على البيان" طلقي نفسك "ما شئت مما هو الثلاث" والوجه كما في فتح القدير طلقي نفسك ما شئت الذي هو الثلاث ا هـ. يعني: إذا كانت ما معرفة وعددا شئت هو الثلاث إذا كانت ما نكرة موصوفة لأن ضابط البيانية صحة وضع الذي مكانها ووصلها بضمير مرفوع منفصل مع مدخولها إذا كان المبين معرفة وصحة وضع الضمير المنفصل المرفوع موضعها لتكون مع مدخولها صفة لما قبلها إذا كان المبين نكرة حتى إنه يقال في قوله تعالى {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30] الرجس الذي هو الأوثان وفي قوله تعالى {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} [الكهف: 31] أساور هي ذهب وحيث كان المراد من هذا الكلام هذا فهو مفوض للثلاث إليها "وطلقي ما شئت واف به" فلم يكن حاجة إلى من الثلاثة على أن المعنى ليس عليه فيما يظهر، والبيان لا يتقدم على المبين "فالتبعيض" أي فكون التبعيض مرادا منه "مع زيادة من الثلاث" عليه "أظهر" لا سيما مع وجود ضابط التبعيضية فيها، وهو صحة وضع بعض موضعها. "وأما كل فلاستغراق أفراد ما دخلته كأن ليس معه" أي مدخولها "غيره" أي مدخولها "في المنكر" المفرد نحو {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 135] والمثنى نحو كل رجلين جماعة وشهادة كل امرأتين بشهادة رجل والمجموع نحو:
وكل أناس سوف يدخل بينهم
دويهية تصفر منها الأنامل
[ونحو]:
وكل مصيبات تصيب فإنها
سوى فرقة الأحباب هينة الخطب(22/55)
وفي المعرف المجموع نحو {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم: 95] "وأجزائه" أي ولاستعراق أجزاء ما دخلته "في المعرف" المفرد نحو كل زيد أو الرجل حسن أي كل أجزائه "فكذب كل الرمان مأكول" لأن قشره غير مأكول "دون كل رمان" مأكول لأن كل فرد منه مأكول "ووجب لكل من الداخلين" الحصن "في كل من دخل" هذا الحصن "أولا" فله كذا ما سماه "بخلاف من دخل أولا" فله كذا فدخل اثنان فصاعدا جميعا "لا شيء لأحد لأن عمومها" أي من "ليس كجميع" من حيث إنه على سبيل الاجتماع قصدا ليكون لهم نفل واحد "ولا ككل" من حيث إنه على سبيل الانفراد ليكون لكل نفل "بل ضرورة إبهامه كالنكرة في النفي فلا شركة تصحح التجوز" به عن جميع أو كل، وأورد أنه وإن لم يكن في من دلالة على العموم على أحد هذين الوجهين فليس فيه ما يمنع إرادة أحدهما منه بالقرينة، ولا شبهة أن هذا الكلام إنما سبق في مقام التحريض على القتال فيستلزم معنى كل من دخل فلم لا يجوز(22/56)
ص -257-…أن يستعار له لما بينهما من لزوم بحسب المقام الموجب للمشاركة المصححة للاستعارة بينهما وأجيب بعد تسليم المشاركة المصححة للاستعارة بينهما أن الأول نص في معناه فلا يعدل عنه إلا لصارف قوي ولا صارف هنا لإمكان العمل بالحقيقة "وقيل" في الفرق بين المسألتين، والقائل صدر الشريعة وذكر أنه تفرد به "الأول فرد سابق على كل من سواه بلا تعدد، وإضافة كل توجبه" أي التعدد فيه "فجعل" الأول "مجازا عن جزئه وهو" أي جزؤه "السابق فقط" أي بلا قيد الفردية على الغير مطلقا سواء كان جميع ما عداه أو بعضه كالمتخلف ليجرى فيه التعدد فيصح إضافة كل الإفرادي إليه ويكون من فيه نكرة موصوفة "ففي التعاقب يستحق الأول فقط؛ لأن من بعده مسبوق وكمال السابق بعدمه" أي بعدم كونه مسبوقا بالغير "خصوصا في مقام التحريض فلا يعترض بأن مقتضاه استحقاق كل من المتعاقبين إلا الآخر بعموم المجاز" وهو السابق بالنسبة إلى غيره. وليس كذلك لتصريحهم بأن النفل للأول خاصة وإنما لم يعترض به لأن قيد عدم المسبوقية بالغير مراد فلا يصدق إلا على الأول خاصة بخلاف من دخل الحصن أولا فإنه لم يوجد ما يوجب حمل الأول على المعنى المجازي فيه فتعين الحقيقي فيستحق الأول لا غير إذا تعاقبوا ولا يستحق الجميع إن دخلوا جميعا لانعدام الأولية الحقيقية في حق كل منهم لوجود المزاحم له في ذلك "وأما جميع فللعموم على الاجتماع فللكل نفل" واحد بينهم بالسوية إذا دخلوا جميعا وهو بفتحتين ما ينفله الغازي أي يعطاه زائدا على سهمه "في: جميع من دخل أولا فله كذا بحقيقته" أي لفظ جميع وهي العموم الإحاطي على سبيل الاجتماع "وللأول فقط في التعاقب بدلالته" أي هذا القول فإن هذا التنفيل للتشجيع والحث على المسارعة إلى الدخول أولا فإذا استحقه السابق بصفة الاجتماع فلأن يستحقه بصفة الانفراد أولى لأن الجرأة والجلادة فيه أقوى "لا بمجازه في كل" أي لا عملا بالمعنى المجازي لجميع. وهو معنى كل(22/57)
على سبيل الاستعارة بناء على أن كلا منهما يوجب العموم الإحاطي "وإلا" لو استحق الأول بمجازه "لزم الجمع بين الحقيقي والمجازي في الإرادة لتعذر عموم المجاز هنا" قال المصنف فإن المعنى الحقيقي لجميع، وهو الإحاطة بقيد الاجتماع بحيث يكون المتعدد كالواحد حتى يجب للكل نفل ليس من معنى كل بل لو دخلت الجماعة معا في كل كان لكل منهم النفل فلزم أنه لو تجوز به في معنى كل لم يثبت للجماعة نفل وللواحد مثله بعموم المجاز بل بحقيقته ومجازه معا، وهو ممنوع "وأما أي فلبعض ما أضيف إليه" حال كون المضاف إليه "كلا معرفة ولو باللام وإلا" أي وإن لم يكن المضاف إليه كلا معرفة "فلجزأيه" أي المضاف إليه؛ لأنه حينئذ يكون كليا نكرة أو معرفة لفظا كالتي للمعهود الذهني في نحو اشتر اللحم وادخل السوق ذكره المصنف. "وبحسب مدخولها يتعين وصفها المعنوي فامتنع أي الرجل عندك لعدم الصحة" لأنه إنما تجوز الإضافة إلى مثله إذا كان بينهما جمع مقدر كما صرحوا به ولا معنى ل: أي أجزاء الرجل عندك "وجاز" أي الرجل "أحسن" لصحة: أي أجزائه أحسن قالوا وإنما جاز أي التمر أكلت، وأي رجل عندك؛ لأن فيه معنى الجمع أي: أي آحاد التمر أكلت، وأي الرجال عندك "وهي في(22/58)
ص -258-…الشرط والاستفهام ككل في النكرة فتجب المطابقة" أي مطابقة الضمير الراجع إليها إفرادا وتثنية وجمعا تذكيرا وتأنيثا "لما أضيفت إليه ك: أي رجلين تكرم أكرمهما، وأي رجال تكرم أكرمهم" وأي رجل تكرم أكرمه، وأي امرأة تكرم أكرمها، وأي امرأتين تكرم أكرمهما، وأي نساء تكرم أكرمهن، وأي رجل قام، وأي رجلين قاما وأي رجال قاموا وأي امرأة قامت وأي امرأتين قامتا وأي نساء قمن "وبعض في المعرفة فيتحد" الضمير الراجع إليها مثنى كان المضاف إليه أو مجموعا مذكرا أو مؤنثا "كأي الرجلين" أو المرأتين أو الرجال أو النساء "تضرب أضربه، وتعم" أي "بالوصف" العام كما نص عليه محمد في الجامع الكبير "فيعتق الكل إذا ضربوا في: أي عبيدي ضربك" فهو حر ضربوه معا أو مرتبا لعمومها بعموم وصفها الذي هو الضاربية لإسناد الضرب إلى الضمير الراجع إليها "ومنعوه" أي عتق الكل "في" أي عبيدي "ضربته إلا الأول" في ضربهم على الترتيب لعدم المزاحم له "أو ما يعينه المولى في المعية" لأن نزول العتق من جهته فالتعيين إليه، وإن كان الاختيار في الضرب إلى الضارب "لأن الوصف" الذي هو الضاربية "لغيرها" أي لغير أي، وهو المخاطب لإسناد الضرب إليه وهو خاص فلا تعم لعدم اتصافها بصفة عامة. "ومنع" كونها غير موصوفة بصفة عامة هنا أيضا والمانع صدر الشريعة "بأنها" أي أيا "موصوفة بالمضروبية، وكون المفعولية فضلة تثبت ضرورة التحقق" أي تحقق تعدي الفعل "لا ينافيه" أي العموم ليقال ما ثبت ضرورة يتقدر بقدرها فلا يظهر أثره في التعميم وكيف والضرب صفة إضافية لها تعلق بالفاعل وهو بهذا الاعتبار وصف له وبالمفعول وهو بهذا الاعتبار وصف له ولا امتناع في قيام الإضافيات بالمضافين "والفرق" بينهما كما قال صدر الشريعة "بكون الثاني" وهو أي عبيدي ضربته "لاختيار أحدهم عرفا" أي لتخيير الفاعل المخاطب في تعيينه "ك: كل أي خبز تريد". قال المصنف: "والوجه أي خبزي ليطابق المثال" وهو أي(22/59)
عبيدي "ليس له" أي للمخاطب "أكل الكل بل تعيين واحد يختاره بخلاف الأول" وهو أي عبيدي ضربك فإنه لا يمكن فيه تخيير الفاعل؛ لأنه إنما يعقل في متعدد ولا تعدد في المفعول "لا يدفع بنحو: أي عبيدي وطئته دابتك" أو عضه كلبك كما وقع في التلويح "لأن محل العرف ما يصح فيه التخيير" للفاعل وهذا مما لا يصح فيه لعدم تصوره "وأما ادعاء وضعها ابتداء للعموم الاستغراقي بادعاء الفرق بين أعتق عبدا من عبيدي ضربك وأي عبد" ضربك كما في التلويح يعني فإنه ليس للمأمور إلا إعتاق واحد متصف بالضاربية له في الأول وله أن يعتق كل عبد من عبيده ضربه في الثاني "فممنوع" قال المصنف: أي لا نسلم أن بينهما فرقا بل العموم فيهما للوصف فالفرق بينهما ممنوع ا هـ. وعلى تقدير التسليم فقد قيل: لقائل أن يقول: لا نسلم أن هذا الفرق لأجل أن كلمة أي عام بحسب الوضع لم لا يجوز أن تكون كلمة أي من جهة توغلها في الإبهام بحيث لا يتعين معناها، وإن أضيفت إلى المعرفة كما صرح به صارت قريبة من العموم حتى صار عمومها عند اتصافها بصفة عامة مطردا بخلاف سائر النكرات؛ ولذا اختلفوا في عموم سائر النكرات بصفة عامة على أن الشيخ علاء الدين الشيرازي صرح بأن النكرة الموصوفة بصفة عامة لا تعم في(22/60)
ص -259-…جميع المواضع؛ لأن قوله: جاءني رجل عالم نكرة موصوفة بصفة عامة وهي غير عامة بالإجماع وكذا قوله {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] وإنما تعم إذا انضم دليل آخر بحسب المقام من كون الصفة علة لذلك الحكم نحو أيما إهاب دبغ وكون المقام للإباحة نحو: كل أي خبز تريد أو للتحريض نحو أي رجل دخل هذا الحصن فله كذا وقوله: أي عبيدي ضربك فهو حر من التحريض فيعم وأما قوله: أي عبيدي ضربته فمقام المنع لأن معناه لا تطيق أن تضرب عبدا من عبيدي فإن وقع ضربك على عبد من عبيدي فالضرر علي لازم بعتق ذلك العبد، وعلى هذا إذا أخرج نكرة موصوفة بالاستثناء من منفي تكون النكرة المخرجة عامة؛ لأن الاستثناء من الحظر للإباحة فتعم لكونها في موضع الإباحة نحو: لا أكلم إلا رجلا كوفيا فإن له أن يكلم جميع رجال الكوفة وعلى هذا تخرج مسألة الإيلاء المذكورة في الجامع وهي: والله لا أقربكما إلا يوما أقربكما فيه لم يكن موليا بهذا الكلام أبدا؛ لأنه وصف اليوم المستثنى بصفة عامة فأوجب العموم في موضع الإباحة فيمكن أن يقربهما أبدا في كل يوم يأتي بلا شيء يلزمه والله - سبحانه - أعلم "ورد أخذ خصوصها" أي أي "وضعا من إفراد الضمير في: أي الرجال أتاك، وصحة الجواب" أي ومن صحته "بالواحد" مثل زيد أو عمرو "بالنقص بمن، وما" وغير خاف كونه متعلقا ب رد "يعني لأنهما استغراقيان وضعا مع إفراد ضميرهما وجوابهما" كما أشار إليه في التلويح أيضا "ممنوع بل وضعهما أيضا على الخصوص كالنكرة وعمومهما بالصفة كما مر، وعدم عتق أحد في أيكم حمل هذه، وهي حمل واحد فحملوها لعدم الشرط" لعتقه كما بينه بقوله "حمل واحد" لها بكمالها "ولذا" أي ولأن الشرط حمل الواحد لها بكمالها "عتق الكل في التعاقب" لوجوده في حمل كل "وكذا إذا لم يكن حمل واحد" بأن كان لا يطيق حملها واحد فحملها واحد أو جماعة عتقوا أما الأول فبطريق الدلالة من الثاني، وأما الثاني فلأن المقصود(22/61)
صيرورتها محمولة إلى موضع حاجته وهو يحصل بمطلق فعل الحمل منهم، وقد وجد بخلاف ما إذا كان يطيق حملها واحد، فلأن المقصود معرفة جلادتهم، وهو إنما يحصل بحمل واحد منهم تمامها لا بمطلق الحمل لكن لقائل أن يقول: فعلى هذا يلزم أنه لو انخرقت العادة لهم بأن حملها كل واحد على التعاقب أن لا يعتق إلا الأول لحصول المقصود بحمله فينتهي حكم التعليق به حتى يصير حمل غيره من بعده كحمل أجنبي عبثا أو لغرض من الأغراض لكن ظاهر الكشف الكبير عتق الكل والله - سبحانه – أعلم.
مسألة
"ليس العام مجملا خلافا لعامة الأشاعرة" على ما في التلويح "ونقل بعضهم" وهو صدر الشريعة "دليله" أي الإجمال "أعداد المجموع مختلفة" فإن جمع القلة يصح أن يراد به كل عدد من الثلاثة إلى العشرة، وجمع الكثرة يصح أن يراد به كل عدد من العشرة إلى ما لا نهاية له "فوجب التوقف" في المراد به "إلى معين يفيد" هذا النقل "أن الخلاف في الجمع المنكر لا العام مطلقا" لعدم جريان هذا فيما سوى الجمع المنكر "ومعممه" أي الجمع المنكر "من الحنفية يصرح بنفيه" أي الإجمال "وجوابهم" أي معمميه منهم عن هذا الدليل "وجب الحمل على" المرتبة(22/62)
ص -260-…"المستغرقة" لكل جمع من مراتبه "على ما تقدم عنهم" في مسألة خاصة بهم "فلا إجمال وبالحمل على المتيقن" وهو أقل الجمع للتيقن به كما هو جواب غيرهم "فلا إجمال" أيضا. "وقد ينقل" دليل الإجمال "العام مشترك بين الواحد والكثير للإطلاق" على كل منهما "والأصل" في الإطلاق "الحقيقة" فاشتبه المراد به "فوجب التوقف إلى دليل العموم" فيعمل به حينئذ أو الخصوص فيعمل به حينئذ "فيقيد" هذا "أنه" أي القول بالإجمال "قول القائل باشتراك الصيغة" بين العموم والخصوص "وهو" أي القول باشتراكها بينهما "أحد قولي الأشعري ونسبته" أي الإجمال "إلى الأشعرية غير واقع بل إلى الأشعري" أيضا "لتوقفه في الصيغ" المستعملة في العموم أنها موضوعة له خاصة "للاشتراك له" أي للأشعري أي لقوله بأنها مشتركة بينهما "أو لا له" أي للاشتراك بل لكونه لا يدرى كونها موضوعة للعموم أو الخصوص "في" قول "آخر" للأشعري. "وإذا فمعلوم تفرع التوقف على مذهب الاشتراك" بينهما كائنا من كان القائل به "والوقف" في كونها للخصوص أو العموم "إلى المعين" للمراد من خصوص أو عموم "وقد أفرد المبنى" لهذا الخلاف، وهو أن الصيغ المستعملة للعموم هل هي خاصة به أو بالخصوص أو مشتركة بينهما "بالبحث" كما قدمناه مع إبطال الاشتراك والوقف "فيستغنى به" أي بإفراد المبنى بالبحث "عن هذه" المسألة لتفرعها عليه "وتفارق" هذه المسألة "مسألة منع العمل به" أي بالعام "قبل البحث عن المخصص بأن البحث" المتوقف عليه على هذا القول أعني قول الإجمال للاشتراك "يظهر المراد من المفاهيم" الوضعية لغرض الاشتراك "وهناك" أي والبحث في مسألة توقف العمل به على العمل عن المخصص يظهر "إرادة المفهوم المتحد" في الوضع وهو العموم أي أنه ثابت "لا المجاز" أي لا إرادة أنه مخصص أو بالعكس. "ولو جعلت هذه" المسألة "إياها" أي مسألة وجوب البحث عن المخصص للعام قبل العمل به "أشكل بنقل الإجماع فيها" أي في مسألة وجوب(22/63)
البحث عن مخصص العام قبل العمل به كما سيأتي "بخلاف هذه" فإنها لم ينقل فيها الإجماع على ذلك بل نقلوا فيها الخلاف كما علمت. "فإن قيل": الإجماع المذكور مستبعد؛ لأن العام الوارد إلى المجتهد "إن اشتهر المجاز أعني الخصوص" فيه يعني كونه مجازا في البعض لكونه مخصوصا "فلا إجماع على التوقف" بل يعمل بالخصوص "وإلا فكذلك" أي وإن لم يشتهر ذلك فيه فلا إجماع على التوقف أيضا؛ لأنه حينئذ يجب العمل بالحقيقة، وهي العموم "فالجواب قد يقع التردد فيه" أي الخصوص باشتباه القرائن "والمزاحمة" أي مزاحمة ما يوجب الاحتمال "فيلزم حكم المجمل" وهو التوقف إلى أن يظهر المراد منه بطريقة "وهو" أي التردد في الخصوص "ثابت في خصوص هذه الحقيقة بسبب ما من عام إلا وقد خص" حتى هذا "وجوابه" أي الإجمال على تقدير كون دليله الاشتراك في كونها للعموم والخصوص أو الوقف في ذلك "بطل الاشتراك والوقف كما تقدم" في البحث الثاني "والله - سبحانه - الموفق".
مسألة
"نقل الإجماع على منع العمل بالعام قبل البحث عن المخصص" ومن ناقليه الغزالي والآمدي وابن الحاجب "وهو" أي نقل الإجماع المذكور "إما لعدم اعتبار قول الصيرفي"(22/64)
ص -261-…يتمسك به ابتداء ما لم يظهر مخصص "لقول إمام الحرمين: إنه" أي قول الصيرفي "ليس من مباحث العقلاء بل صدر عن غباوة وعناد، وإما لتأويله" أي قول الصيرفي كما ذكر العلامة الشيرازي "بوجوب اعتقاد العموم قبل ظهور المخصص فإن ظهر" المخصص "تغير" اعتقاد العموم "وإلا" أي وإن لم يظهر "استمر" اعتقاد العموم قال المصنف "وقد يقال الفرق" بين الاعتقاد والعمل بأنه يجب اعتقاده قبل البحث عن مخصصه ولا يجوز العمل قبله "تحكم" لأن الاعتقاد إنما هو للعمل فإيجاب اعتقاده يوجب إيجاب العمل به فلا يفيد هذا التأويل رجوعه إلى الإجماع "وكلام البيضاوي" وهو يستدل بالعام ما لم يظهر المخصص، وابن سريج أوجب طلبه أولا "لا يحتمل ذلك التأويل فلا ينصرف عنه" أي عن قول الصيرفي بهذا "قول الإمام ومثله" أي العام في منع العمل به قبل البحث عن المخصص "كل دليل يمكن معارضته" أي عدم العمل به فلا يجوز العمل بدليل ما قبل البحث عن وجود معارض "وهذا لأنه" أي الدليل "لا يتم دليلا" موجبا للعمل "إلا بشرط عدمه" أي المعارض "فيلزم الاطلاع على الشرط" وهو عدم المعارض "في الحكم بالمشروط" وهو العمل به، وهنا أمور لا يتم المطلوب إلا بمعرفتها فلا علينا أن نذكرها.(22/65)
الأمر الأول: قال الشيخ تاج الدين السبكي دعوى الإجماع على أنه لا بد من البحث ممنوعة فالمسألة مشهورة بالخلاف بين أئمتنا حكاه الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني والشيخ أبو إسحاق الشيرازي ومن يطول تعداده، وعليه جرى الإمام الرازي وأتباعه ا هـ وقدح الفاضل الأبهري فيه أيضا مع مخالفة الصيرفي بأنه إن كان في عصره فكيف ينعقد مع مخالفته وهو من أهل الإجماع، ولو كان قبله لعرفه فلم يخالفه لأنه أقعد بمعرفته وإن كان بعده لم يخالفه من بعد ابن الحاجب الحاكي له لكن خالفه كثير من العلماء المحققين كمصنفي الحاصل والتحصيل والمنهاج فإنهم اختاروا جواز العمل به والتمسك به ما لم يظهر مخصص وأسندوا إيجاب طلبه إلى ابن سريج ا هـ. وأضاف الشيخ أبو حامد إليه الإصطخري وابن خيران والقفال الكبير ثم قال: وزعم ابن سريج ورفقته أن ما ذهبوا إليه مذهب الشافعي لأنه قال: وعلى أهل العلم في الكتاب والسنة أن يطلبوا دليلا يفرقون به بين الحتم وغيره في الأمر والنهي فأخبر أنه يجب أن يطلب دليلا يستدل به على موجب اللفظ.
الأمر الثاني: قال السبكي أيضا: والذي عليه الصيرفي أنه يجب اعتقاد العموم في الحال، والعمل بمقتضاه كما نقله من ذكرنا، واقتصر القاضي أبو الطيب وإمام الحرمين وابن السمعاني في النقل عنه على وجوب اعتقاد العموم في الحال ا هـ فانتفى تأويل العلامة بما عليه ثم إن الفاضل الكرماني قال بعد حكاية قول الصيرفي: قلت وهو موافق لما في رسالة الشافعي، والكلام إذا كان عاما ظاهرا كان على عمومه وظهوره حتى يأتي دلالة على خلاف ذلك انتهى، وقد قال السبكي: ثم قال الشيخ أبو حامد: وذكر الصيرفي أن ما ذهب إليه مذهب الشافعي فذكر هذا بعينه وكأن الكرماني لم يطلع عليه فتوارداه.(22/66)
ص -262-…الأمر الثالث: قال الكرماني: مثار الخلاف التردد في أن التخصيص مانع أو عدمه شرط فالصيرفي يقول إنه مانع فيتمسك به ما لم ينهض المانع لأن الأصل عدمه وابن سريج يقول عدمه شرط فلا بد من تحققه انتهى والشأن في الترجيح.
الأمر الرابع: قال السبكي أيضا: وأما قول ابن الحاجب وكذا كل دليل مع معارضه فهي طريقة بعض الأصوليين وعليها جرى الشيخ أبو حامد حيث قال: وهكذا الخلاف بين أصحابنا في لفظ الأمر والنهي إذا وردا مطلقين، والأصح عندنا ومنهم من نقل فيه الإجماع أنه لا يجب عند سماع الحقيقة طلب المجاز، وإن وجب عند سماع العام البحث عن الخاص؛ لأن تطرق التخصيص إلى العمومات أكثر، وأيده بتوجيه عن أبيه ثم نقل عنه أنه قال: ومن شبه العام بالحقيقة فقد أتى بساقط من القول.
الأمر الخامس: حكى الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني الاتفاق على التمسك بالعام في حياة النبي صلى الله عليه وسلم قبل البحث عن المخصص لتأكد انتفاء احتمال المخصص ثمة؛ لأن التمسك بالعام إذ ذاك بحسب الواقع فيما ورد لأجله من الوقائع وهو قطعي الدخول عند الأكثر.(22/67)
ثم قال المصنف بناء على وجوب البحث قبل العمل: "والخلاف في قدر البحث، والأكثر" أنه يبحث "إلى أن يغلب ظن عدمه" أي المخصص "وعن القاضي أبي بكر إلى القطع به" أي بعدمه "لنا لو شرط" القطع به "بطل" العمل بأكثر العمومات المعمول بها اتفاقا؛ إذ القطع لا سبيل إليه، والغاية عدم الوجدان عند البحث والنظر، وهو لا يدل على عدم الوجود "قالوا" أي القاضي ومن تبعه "إذا كثر بحث المجتهد" عن المخصص "ولم يجد قضت العادة بعدم الوجود أجيب بالمنع فقد يجد" المجتهد المخصص "بعد الكثرة" أي كثرة بحثه عنه وحكمه بالعموم "ثم يزيد" في البحث استظهارا في أمره فيظهر وجوب العمل به "فيرجع" عن الحكم بالعموم ثم هذه المسألة لم أقف فيما وصل الناظر القاصر إليه من كتب الحنفية على صريح لهم فيها نعم أصولهم توافق ما ذهب إليه الصيرفي ولا سيما ما ذهب إليه معظمهم القائلون بأن موجبه قطعي كموجب الخاص والله - سبحانه – أعلم.(22/68)
ص -263-…المسلمين لما حسن هذا؛ لأنه تكرار بلا فائدة فإن قيل: بل له فائدة وهي التنصيص والتأكيد؛ كعطف الصلاة الوسطى على الصلوات، قلنا: يعارضها فائدة الابتداء الذي هو الأصل أعني التأسيس ثم تقدم على فائدة التكرار كما قال: "وفائدة الابتداء أولى من النصوصية بعد التناول ظاهرا"؛ إذ الإفادة خير من الإعادة، ولا يقال: الإفادة بطريق النصوصية دون الظهور تأسيس لا تأكيد لأنا نقول: ليس هذا إلا تقوية لمدلول الأول تدفع توهم التجوز وعدم الشمول وهو معنى التأكيد "وسببه" أي وللأكثر أيضا سبب نزول هذه الآية وهو قول أم سلمة يا رسول الله إن النساء قلن ما نرى الله ذكر إلا الرجال فأنزلت في مسند أحمد من طريق أم سلمة ومن طريق أم عمارة وحسنه الترمذي" إلا أن ظاهر هذا أن هذا اللفظ في مسند أحمد من هاتين الطريقين وأن الترمذي حسنه. وليس كذلك فإن الذي في مسند أحمد عن أم سلمة قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال قالت فلم يرعني منه ذات يوم إلا ونداؤه على المنبر أيها الناس قالت: وأنا أسرح رأسي فلففت شعري ثم دنوت من الباب فجعلت سمعي عند الجريد فسمعته يقول إن الله - عز وجل - يقول {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 35] هذه الآية بل قال شيخنا الحافظ جاء من طرق عن أم سلمة لم أر في شيء منها أوله هكذا انتهى ولا ذكر له من طريق أم عمارة في مسند أحمد نعم هو في جامع الترمذي من طريقها بلفظ أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت ما أرى كل شيء إلا للرجال، وما أرى النساء يذكرن بشيء فنزلت هذه الآية {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 35] الآية هذا حديث حسن غريب، وإنما يعرف هذا الحديث من هذا الوجه وقال شيخنا الحافظ رجاله رجال الصحيح لكن اختلف في وصله وإرساله رواه شعبة عن حصين مرسلا، وهو أحفظ من(22/69)
سليمان بن كثير يعني الراوي له عن حصين عن عكرمة مرفوعا وذكر مقاتل بن حيان في تفسيره أن أسماء بنت عميس سألت أيضا عن ذلك نحو سؤال أم عمارة وعلى كل حال فلا ضير فإن الحاصل أنهن نفين ذكرهن مطلقا "فقرر" النبي صلى الله عليه وسلم "النفي" ولو كن داخلات لم يصدق نفيهن ولم يقررهن عليه بل منعهن منه "وهن أيضا من أهل اللسان" نعم أخرج الطبري بإسناد صحيح عن قتادة قال دخل نساء من المؤمنات على نساء النبي صلى الله عليه وسلم فقلن قد ذكركن الله في القرآن ولم نذكر بشيء أما فينا ما يذكر فأنزل الله - تعالى {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب: 35] الآية ورواه ابن سعد عنه نحوه فإن لم يكن ما تقدم راجحا عليه وإلا فهو معكر للمطلوب والله تعالى أعلم.
"قالوا" أي الحنابلة "صح" إطلاقه "للمذكر والمؤنث" كـ{اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً} خطابا لآدم وحواء وإبليس "كما للمذكر فقط، والأصل" في الإطلاق "الحقيقة أجيب يلزم الاشتراك" اللفظي على هذا التقدير "والمجاز خير" منه قال الكرماني وللخصم أن يمنع أنه للرجال وحدهم حقيقة بناء على مذهبه من أنه ظاهر في الكل "واعلم أن من المحققين"، وهو ابن الحاجب "من يورد دليلهم" أي الحنابلة "هكذا المعروف" من أهل اللسان "تغليب الذكور" على الإناث عند اجتماعهما باتفاق، وهذا إنما يتصور بدخول النساء فيه "ويجيب بكونه إذا(22/70)
ص -264-…مجازا وأنه خير إلى آخره وهو" أي إيراد دليلهم هكذا "بعيد" منهم "إذ اعترافهم بالتغليب اعتراف بالمجاز" لأنه نوع منه "وعلى كل تقدير" من إيراد دليلهم على ما ذكرنا، ومن إيراده على ما قاله هذا المحقق "فالانفصال" عن دليلهم "بكون المجاز خيرا إنما هو في اللفظي ويمكن ادعاؤهم المعنوي أي هو" أي جمع المذكر "للأحد الدائر في عقلاء المذكرين منفردين أو مع الإناث فلا يتم" الانفصال المذكور؛ لأن المعنوي خير من المجاز "ويدل عليه" أي على أن الصيغة للمشترك المعنوي "شمول الأحكام المعلقة بالصيغة" لهن أيضا كوجوب الصلاة والزكاة والصيام الثابت بقوله تعالى {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 110] وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] "فإن قيل" شمولها لهن "بخارج" كالحديث الحسن الذي أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم "إنما النساء شقائق الرجال" والإجماع "منع" كون شمولها لهن بخارج؛ إذ لا معين لذلك "فإن استدل بعدم دخولهن في الجهاد والجمعة وغيرهما" كحل الاستمتاع بملك اليمين في نحو قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78] {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم} [المؤمنون: 5-6] "لعدمه" أي دخولهن في أحكام أخر حتى إنه يحتاج ثبوت وجوب الصلاة والزكاة والصيام ونحوها في حقهن إلى دليل غير الصيغ المذكورة "فقد يقال بل ذلك" أي عدم دخولهن فيما لم يدخلن فيه من أحكام الصيغ المذكورة "بخارج" عنها. "وهو" أي عدم دخولهن فيما لم يدخلن فيه من ذلك بخارج "أولى من دخولهن" فيما دخلن فيه من ذلك "به" أي بخارج "لأنه" أي عدم دخولهن المذكور "أقل" من دخولهن المذكور "وإسناد الأقل إلى الخارج أولى" من إسناد الأكثر إليه لما فيه من تقليل خلاف الظاهر "خصوصا بعد(22/71)
ترجيح المعنوي" على اللفظي والمجاز. ثم الخارج المخرج لهن من الجهاد والجمعة وحل الاستمتاع بملك اليمين الإجماع، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض" رواه أبو داود.. وقال النووي على شرط الشيخين وما في صحيح البخاري عن عائشة استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاد فقال: "جهادكن الحج" وما روى ابن ماجه بإسناد على شرط الصحيح عنها قلت يا رسول الله هل على النساء جهاد قال: "نعم جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة" إلى غير ذلك "ولا حاجة بعد ذلك" أي كون جمع الواحد المعنوي "إلى الاستدلال" لدخولهن حقيقة "بالإيصاء لنساء ورجال" بشيء "ثم قوله أوصيت لهم" بكذا حيث يدخل النساء في لهم ثم يدفع بأن تقدم الجمعين الخاصين قرينة إرادة الكل مجازا كما ذكر ابن الحاجب للاستغناء عنه بما ذكرنا من المعنوي مع أنه أقوى "وحينئذ" أي وحين ترجح قول الحنابلة "فقولها" أي أم سلمة نقلا عنهن بناء على اللفظ الذي ذكره المصنف ما معناه "ما نرى الله ذكرهن" فإنه المفهوم من قولهن ما ذكر إلا الرجال "أي" ما ذكرهن "باستقلال" وقولها نفسها على ما ذكرنا ما لنا لا نذكر أي مستقلات، وقول أم عمارة وما أرى النساء يذكرن بشيء أي مستقلات جمعا بين الأدلة "ولا يخفى عدم تحقق الخلاف في نحو: زيدون" لأنه(22/72)
ص -265-…موضوع بحسب المادة للذكور خاصة. وهذا ما تقدم الوعد بالتنبيه عليه "إلا بفرض امرأة مسماة بزيد" فإنه حينئذ يتحقق لعدم اختصاصه بحسب المادة بالذكور "وأما أسماء الأجناس ك: مسلمون فقد يستدل به" للأكثر "للاتفاق على أنه جمع المذكر والجمع لتضعيف الواحد وهو مسلم" ومسلم غير مسلمة "ولهم" أي الحنابلة "دفعه" أي هذا الاستدلال "بأن الجمع للتضعيف" للواحد "لكن الكلام في كونه" أي الواحد المضعف "الواحد المذكر ليس غير" أو والمؤنث أيضا "وتسميته" أي هذا الجمع "بجمع المذكر اصطلاح" لأهل العربية لا للعرب فلا تقوم به الحجة. "فإن قيل": لو كان مسلمون جمعا لمسلمة أيضا لزم أن لا يصح فيه الواحد فلم يكن جمع تصحيح ثم يقال استبعادا "فأين تذهب التاء في مسلمة التي هي من آحاده قيل مذهبها في صواحب أو طلحون على رأي أئمة الكوفة" وابن كيسان إلا أنه فتح اللام في طلحون قياسا على أرضون، وإن منعه البصريون، وقالوا: إنما يجمع على طلحات كما هو المسموع والحرف أن الخلو من تاء التأنيث المغايرة لما في عدة وثبة علمين شرط لهذا الجمع فقال البصريون: نعم وقال الكوفيون لا ثم قد عرفت من هذا أن القول بأنها ذهبت مذهبها في طلحون أولى؛ لأن كلا منهما جمع تصحيح بخلاف صواحب. "والوجه أن الاستدلال بتسمية جمع المذكر من كل أئمة اللغة استدلال بإجماعهم" على ذلك فتقوم به الحجة "وإلا لقالوا: جمع المختلط" لأنه في الحقيقة كذلك "والأصل عدم التغليب في التسمية بل" كان "يجب" أن يقولوا: جمع المختلط "دفعا لموهم فحيث قالوه" أي جمع المذكر "كان" هذا الجمع "ظاهرا في الخصوص" بالذكور "ويدفع" هذا بأنه "لما لزمه" أي لفظ جمع المذكر "الذكور حيث كان" جمع الذكور "للأعم منهم" أي من الذكور "منفردين أو مختلطين كان نسبته" أي جمع المذكر "إليهم" أي الذكور "أولى من المختلط؛ إذ لا يلزمه" أي الاختلاط هذا الجمع "وحينئذ" أي وحين كان الأمر على هذا "ترجح الحنابلة، وهو قول(22/73)
الحنفية" أيضا، وفي البديع: وأكثر أصحابنا والحنابلة يدخلن تبعا "وعليه" أي القول بتناول جمع المذكر الإناث "فرع أمنوني على بني تدخل بناته" ثم كر المصنف على قول الحنابلة مرجحا لقول الأكثر فقال "والأظهر خصوصه" أي جمع المذكر بالذكور "لتبادر خصوصهم عند الإطلاق" من غير قرينة، والتبادر عنده بدونها من أمارات الحقيقة "ودخول البنات" في الأمان على البنين "للاحتياط في الأمان حيث كان مما تصح إرادته" أي الأمان عليهن من الأمان عليهم تبعا حقنا للدم أو بعموم المجاز في البنين بالأولاد.
مسألة
"هل المشترك عام استغراقي في مفاهيمه فالحكم عليه" أي المشترك "يتعلق بكل منها" أي مفاهيمه "لا المجموع" منها من حيث هو مجموع بحيث لا يفيد أن كلا من معانيه مناط الحكم، والفرق بينهما ما هو الفرق بين الكل الإفرادي والكل المجموعي، فمن ذلك أن الإفرادي جزء من المجموعي، ومن ثمة يصح: كل واحد يشبعه رغيف بالمعنى الإفرادي دون المجموعي، ولا يصح: كل واحد يحمل هذا الحجر العظيم بالمعنى الإفرادي دون(22/74)
ص -266-…المجموعي فإنه لا نزاع في عدم جوازه حقيقة ولا في جوازه مجازا إن وجدت علاقة مصححة، ولا في صحة إرادة كل من معانيه على سبيل البدل بأن يطلق تارة ويراد معنى من معانيه ويطلق تارة ويراد معنى غير ذاك، ولا في كونه حقيقة ولا في صحة أن يراد به أحد معانيه من غير تعيين وهو ما لا يتجاوزها، وإنما الشأن في كونه حقيقة أو مجازا فقال صاحب المفتاح: حقيقة، وقال آخرون مجاز "فعن الشافعي نعم" أي يجوز حقيقة نقله أمام الحرمين والغزالي والآمدي "والحنفية لا" يجوز حقيقة "ولا مجازا" ووافقهم البصريان أبو الحسين وأبو عبد الله وأبو هاشم وغيرهم "فقيل": عدم الجواز "لغة كالغزالي" وأبي الحسين وفخر الدين الرازي لا عقلا "وقيل": عدم الجواز "عقلا" وهو مختار صدر الشريعة "الآمدي يصح مجازا" وهذا مخالف لما في شرح المنهاج للإسنوي وتوقف الآمدي فلم يختر شيئا ا هـ نعم ذهب إلى هذا إمام الحرمين واختاره ابن الحاجب "وقيل" يصح "في النفي فقط حقيقة وعليه" أي هذا القول "فرع في وصايا الهداية" فقال في مسألة من أوصى لمواليه وله موال أعتقهم وموال أعتقوه فالوصية باطلة؛ لأن أحدهما مولى النعمة والآخر منعم عليه فصار مشتركا فلا ينتظمهما لفظ واحد في موضع الإثبات بخلاف ما إذا حلف لا يكلم موالي فلان حيث يتناول الأعلى والأسفل؛ لأنه مقام النفي فلا تنافي فيه "وفي المبسوط: حلف لا أكلم مولاك وله أعلون وأسفلون أيهم كلم حنث؛ لأن المشترك في النفي يعم، وهو المختار" عند المصنف "والقاضي والمعتزلة" على ما في مختصر ابن الحاجب وفي البديع، وبعض المعتزلة "يصح حقيقة" وعليه ظاهر ما في الاختيار في مسألة الوصية المذكورة، وعن أبي حنيفة وأبي يوسف أنها جائزة، وتكون للفريقين لأن الاسم ينتظمهما وما في شرح مختصر ابن الحاجب للسبكي وقف على مواليه وله موال من أعلى وموال من أسفل الصحيح أنه يقسم بينهم "فإن" كانت صحة الإطلاق حقيقة "للعموم" أي لعمومه في مفاهيمه، وهو(22/75)
ظاهر ذكر البديع إياهم مع الشافعي "فكقول الشافعي" بل هو هو فيكون العام على قولهم قسمين متفق الحقيقة وهو عموم غير المشترك ومختلف الحقيقة، وهو عموم المشترك "أو للاشتراك في كلها" أي مفاهيمه "وكل منها" أي مفاهيمه أي لوضعه لمجموعها ولكل منها أيضا وعلى هذا مشى الشيخ تاج الدين السبكي "أو ليس" المشترك "كذلك" أي مشتركا في الكل وكل من المفاهيم بل موضوع لكل منها لا غير لا للمجموع من حيث هو مجموع لعدم النزاع في عدم جوازه حقيقة كما تقدم وحينئذ فلا يتم قوله "فمباين له" أي لقول الشافعي لأن هذا عين الأول فإنما يتم فيما قبله لأنه على هذا مجمل عند القاضي ومن وافقه ظاهر في الجميع عند الشافعي "فليس مذهب الشافعي أخص منه" أي من قول القاضي "كما قيل" قاله المحقق التفتازاني "ولأنه" أي المشترك "حقيقة" في كل من معانيه "يتوقف السامع في المراد بها" أي بحقيقته بالنسبة إلى معانيه "إلى القرينة" المعينة له لإجماله في معانيه "ومذهبه" أي الشافعي "لا يتوقف" السامع في المراد بها إلى القرينة لظهوره في معانيه "والمذهب هو المجموع" من كونه حقيقة يتوقف السامع في المراد بها إلى القرينة إن كان هو مذهب،(22/76)
ص -267-…القاضي أو من كونه حقيقة لا يتوقف السامع في المراد بها إلى القرينة إن كان هو مذهب الشافعي "لا مجرد كونه حقيقة، ووجود مشترك بينهما" أي بين قولي الشافعي والقاضي "هو صحة إطلاقه عليهما لا يوجب الأخصية" لأحدهما بالنسبة إلى الآخر "ككل متباينين تحت جنس" كالإنسان والفرس المندرجين تحت الحيوان "وعن الشافعي يعمم احتياطا" نقله فخر الدين الرازي "وهو أوجه النقلين عنه" أي الشافعي "للاتفاق على أنه" أي عموم المشترك "حقيقة في أحدهما" أي أحد معنييه فصاعدا "فظهوره" أي عمومه "في الكل" أي كل من معانيه على سبيل الاستغراق الإفرادي لها "فرع كونه" أي عمومه "حقيقة فيه" أي في الكل "أيضا وهو" أي كون عمومه حقيقة في الكل "بوضعه" أي اللفظ "له" أي للكل "أيضا فلزم" كون الكل مدلولا للمشترك "مفهوما آخر" له أيضا فإذا هو مجمل إلا أنه كما قال "فتعميمه" أي المشترك "استعمال في أحد مفاهيمه" وهو الكل "لأن فيه" أي استعماله في هذا "الاحتياط" لما فيه من الخروج عن العهدة بيقين؛ لأن في عدم الحمل على واحد منها أصلا تعطيله وفي الحمل على واحد منها ترجيحا بلا مرجح "جعله" أي الشافعي الاحتياط "كالقرينة" لكون الكل هو المراد فقال به السبكي ونقل عن القاضي أيضا وتظهر فائدة التردد في كونه مجملا أو عاما فيما إذا وقف على مواليه وليس له موال إلا من أعلى أو من أسفل قال الرافعي فالوقف عليه قال والده: هذا إن جعلناه مجملا فإن انحصار الأمر في إحدى الجهتين يكون قرينة، وأما إن قلنا إنه عام أو كالعام فإذا حدث له بعد ذلك موال من الجهة الأخرى يدخلون في الوقف كما لو وقف على أولاده وله أولاد ثم حدث آخر يشاركهم ا هـ. "والجمع كالواحد عند الأكثر" أي وجمع المشترك باعتبار معانيه كالعيون للباصرة والجارية وغيرهما من معاني العين كالمفرد المشترك في جواز إطلاقه على معانيه دفعة، وعدمه عند الأكثرين فمن أجاز في المفرد ذلك أجاز جمعه باعتبارها كذلك، ومن(22/77)
منع في المفرد ذلك منع جمعه باعتبارها كذلك، ومن فصل ثمة فصل هنا؛ لأن جمع الاسم جمع ما اقتضاه فإن كان الاسم متناولا لمعانيه كان الجمع كذلك، وإن كان لا يفيد سوى أحد معانيه فكذا جمعه "وأجازه" أي جمعه باعتبار معانيه "آخرون مع منعه" أي إطلاقه على معانيه دفعة "في المفرد لأنه" أي الجمع "في قوة المتعدد بالعطف" فكأنه استعمل كل مفرد في معنى وقد يجاب بالمنع أولا، وبأنه بعد تسليم أنه تعديد الأفراد لكن لا مطلقا بل تعديد أفراد نوع واحد بشهادة الاستقراء ثانيا، ومن هذا يخرج الجواب عن جوازه قياسا على العلم، ومنهم من أجاب عن هذا بلزوم اللبس على تقديره دون العلم، والتثنية ملحقة بالجمع ثم للنحويين فيهما مذهبان الجواز، وعليه ابن الأنباري وصححه ابن مالك وعليه قول الشاعر:
عينان إحداهما عارت وثانية …غارت فدمعى على العينين مسكوب
فالمراد بهما الجارحة وهي التي عارت بالمهملة وعين الماء وهي التي غارت بالمعجمة وما في سنن أبي داود وصحيح ابن حبان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأيدي ثلاثة فيد الله العليا ويد المعطي التي تليها، ويد السائل السفلى" والمنع، قال أبو حيان: وهو المشهور(22/78)
ص -268-…"وشرط تعميمه" أي المشترك في مفاهميه "مطلقا" أي سواء كان مفردا أو مثنى أو مجموعا "إمكان الجمع" بينهما فلا تعمم صيغة افعل على أنها حقيقة في كل من الإيجاب والتهديد فيهما؛ لأن الإيجاب يقتضي الفعل، والتهديد يقتضي الترك "والاتفاق على منعه" أي التعميم "في المجموع" من حيث هو مجموع، وأشار إلى ما أسلفنا من الفرق بينه وبين محل النزاع بقوله "فلا يتعلق الحكم إلا به" أي بالمجموع على تقدير جريانه فيه "على خلاف العام" فإن الحكم يتعلق فيه بكل من أفراده "و" الاتفاق أيضا "على منع كونه" أي المشترك "فيهما" أي في مفهوميه "حقيقة" في أحدهما "ومجازا" في الآخر "لنا يسبق إلى الفهم إرادة أحدهما" أي معنيي المشترك على تقدير كونه مشتركا في معنيين على البدل "حتى تبادر طلب المعين" لأحدهما "وهو" أي طلب المعين "موجب الحكم بأن شرط استعماله" أي المشترك "لغة كونه في أحدهما" أي معنييه "فانتفى ظهوره" أي المشترك "في الكل" أي معنييه معا "ومنع سبق ذلك" أي إرادة أحدهما لا بخصوصه كما يشير إليه كلام المحقق التفتازاني "مكابرة تضمحل بالقرض" على أهل عرف الاستعمال فيسألون أي شيء يفهمون إذا أطلق لفظ عين؟ هل يفهمون إرادة الباصرة والجارية وكذا وكذا؟ أو يفهمون أن المتكلم أراد أحدها ويتوقفون في تعيينه إلى أن يدل عليه دليل "وإلزام كونه" أي المشترك "مشتركا معنويا" لا لفظيا على تقدير سبق أحدهما لا بعينه كما يشير إليه كلام المحقق التفتازاني أيضا "ممنوع فإنه" أي المشترك اللفظي "ما" أي اللفظ الذي "تعددت أوضاعه للمفاهيم" وهذا كذلك بخلاف المعنوي "وشرط كون استعماله" أي المشترك "في الإثبات في بعضها" أي بحيث يستعمل في الإثبات في بعض المفاهيم "كالمعنوي للأفراد فلزم فيهما" أي المعنوي واللفظي "تبادر الأحد والتوقف إلى المعين فاشتركا" أي المعنوي واللفظي "في لازم" هو التبادر والتوقف المذكوران "مع تباين الحقيقتين" أي حقيقتيهما فلا يستدل(22/79)
بهذا اللازم على أحدهما بعينه؛ لأن الأعم لا يدل على الأخص بخصوصه "وأيضا اتفاق المانعين لوجوده" أي المشترك "على تعليله" أي المنع لوجوده "بأنه" أي المشترك "مخل بالفهم والمجيبين على أن الإجمال مما يقصد اتفاق الكل على نفي ظهوره" أي المشترك "في الكل" أي في معنييه فصاعدا "وأيضا لو عم" المشترك في معنييه فصاعدا "كان مجازا" في أحدهما "لأنه حينئذ" أي حين يكون المراد أحدهما "عام مخصوص لا يقال ذلك" أي إنما يكون مجازا في أحدهما إذا عم فيهما "لو لم يكن موضوعا له" أي لأحدهما أيضا "لأنه حينئذ" أي حين يكون موضوعا لأحدهما "مشترك بين الكل والبعض" لوضعه للكل ولكل واحد "فيلزم التوقف في المراد منهما" أي من الكل والبعض "إلى القرينة" المعينة لما هو المراد منهما "فلا يكون" المشترك "ظاهرا في الكل" كما عن الشافعي "فلو عم" المشترك "فلغيره" أي فلغير كونه موضوعا للعموم "كما نقل عن الشافعي أنه" أي عمومه "احتياط للعلم" أي ليقع العلم "بفعل المراد" أي مراد المتكلم بالمشترك "قلنا لا يتوصل إليه" أي إلى أنه عام في الكل للاحتياط "إلا بالعلم بشرع ما علم أنه لم يشرع" إذ المشروع أنه لواحد لا للكل "وهو" أي شرع ما علم أنه لم يشرع "حرام، والتوقف إلى ظهور المراد الإجمالي واجب" فبطل كونه عاما في معنييه فصاعدا حقيقة "وأما بطلانه" أي عمومه في معانيه(22/80)
ص -269-…"مجازا فلعدم العلاقة" بينه وبين أحد معانيه الذي هو المعنى الحقيقي له والمجاز لا يتصور بدون علاقة بينه وبين المعنى الحقيقي، فإن قيل: لا نسلم عدمها لم لا يجوز أن يستعمل في الجميع باعتبار إطلاق اسم البعض على الكل أجيب بأنه لا يجوز "والجزء في الكل مشروط بالتركب الحقيقي، وكونه إذا انتفى الجزء انتفى الاسم عن الكل عرفا كالرقبة على الكل" أي كإطلاق الرقبة على الإنسان "بخلاف الظفر" أي إطلاقه أو الأصبع على الإنسان فإنه لا ينتفي الإنسان عرفا بانتفاء الظفر أو الأصبع "ونحو الأرض لمجموع السموات والأرض" أي وبخلاف إطلاقها عليه فإنه لا قائل بصحته لعدم التركب الحقيقي "على أنه" أي تعميم المشترك في معانيه "ليس منه" أي من إطلاق البعض على الكل "لأنه" أي المشترك "لم يوضع لمجموعها" أي المفاهيم "ليكون كل مفهوم جزء ما وضع" المشترك "له خصوصا على قول المجاز" أي أنه يعم في مفاهيمه مجازا لانتفاء الوضع الحقيقي في المجاز "وأما صحته" أي عمومه حقيقة "في النفي" كما هو المختار "فإن المنفي ما يسمى باللفظ" فيتناول سائر مسمياته لكن الفاضل الأبهري ذكر أنه لا كلام في صحة هذا ومجازيته كما يؤول العلم بما يسمى به وهو الأشبه فيما يظهر "المصححون حقيقية وضع الكل" من المفاهيم "فإذا قصد الكل" أي جميعها به "كان" مستعملا له "فيما وضع له قلنا: اسم الحقيقة" إنما يثبت للفظ "بالاستعمال لا بالوضع فإذا شرط في الاستعمال عدم الجمع" بين مفاهيمه في الإرادة منه دفعة لغة "امتنع" استعماله في الجميع "لغة فلو استعمل" في الجميع "كان خطأ فضلا عن كونه حقيقة" فيه وحينئذ "فيمتنع وجوده" أي استعماله في الجميع "في لسان الشرع واللغة، ودليل الاشتراط" المذكور "ما قدمنا" من تبادر الأحد من معانيه لكن على هذا بالنسبة إلى المفرد ما سيأتي مع جوابه وإلى التثنية والجمع ما قدمنا من الشعر والحديث "قالوا" أي المجوزون في دفع الامتناع "وقع" استعماله(22/81)
كذلك في القرآن العظيم، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ} [الأحزاب: 56] {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ} [الحج: 18] الآية وهي" أي الصلاة "من الله الرحمة ومن غيره الدعاء فهو" أي لفظ يصلون "مشترك" وقد استعمل بكل من معنييه في هذه الآية "والسجود في العقلاء بوضع الجبهة" على الأرض "ومن غيرهم" هو "الخضوع" فهو إذا مشترك استعمل بكل من معنييه في هذه الآية أيضا "قلنا: إذا لزم كونه" أي اللفظ "حقيقة في معنيين وأمكن جعله" أي اللفظ "لمشترك بينهما" أي المعنيين "لزم" كذلك لا مشتركا لفظيا؛ لأن التواطؤ خير من الاشتراك اللفظي، وهنا كذلك "فالسجود" أي معناه "المشترك" بين سجود العقلاء وغيرهم هو "الخضوع الشامل" للاختياري والقهري "قولا وفعلا" وهو انقياد المخلوق لأمر الله وتصرفه فيه "فهو" أي الخضوع "متواطئ فيسجد له يخضع له من في السموات والأرض وهو" أي الخضوع "لجنسيته يختلف صورة ففي العقلاء بالوضع، وفي غيرهم بغيره" أي وضع الجبهة على الأرض مما يفيد معنى الخضوع "فاندفع الاعتراض بأنه إذا أريد القهري شمل الكل فلا وجه لتخصيص كثير من الناس أو الاختياري ولم يتأت في غيرهم" أي غير العقلاء "وكذا الصلاة موضوعة للاعتناء" بالمصلى عليه "بإظهار الشرف" ورفع القدر له "ويتحقق" الاعتناء المذكور "منه تعالى بالرحمة ومن غيره بدعائه له تقديما للاشتراك المعنوي(22/82)
ص -270-…على اللفظي أو يجعل" ذلك المعنى المشترك للذي ذكرنا أنه المعنى الكلي الشامل للمعاني المختلفة "مجازا فيه" أي في كل من السجود والصلاة على التوزيع فالسجود للخضوع مجازا والصلاة لإظهار الاعتناء مجازا "فيعم" المعنى المجازي المعنى الحقيقي فيهما وهو وضع الجبهة في السجود والدعاء في الصلاة "وأما أهل التفسير فعلى إضمار خبر للأول" في آية الصلاة أي إن الله يصلي وملائكته يصلون فحذف يصلي لدلالة يصلون عليه كما في قول القائل:
نحن بما عندنا وأنت بما …عندك راض والرأي مختلف
وعلى هذا فقد كرر اللفظ مرادا به في كل مرة معنى؛ لأن المقدر في حكم الملفوظ، وهذا جائز اتفاقا "وعليه" أي منع تعميم المشترك "تفرع بطلان الوصية لمواليه وهم له من الطرفين" كما قدمنا لأنه لما لم يعمهما اللفظ وليس أحدهما بأولى من الآخر بقي الموصى له مجهولا فبطلت وقياس ما أسلفناه عن السبكي في مسألتهم في الوقف أنها لو كانت في الوصية أن يكون بينهم كذلك أيضا، والله - تعالى – أعلم.
مسألة(22/83)
"المقتضى" بفتح الضاد "ما استدعاه صدق الكلام كرفع الخطأ أو النسيان أو" ما استدعاه "حكم" للكلام "لزمه" أي الحكم الكلام "شرعا" فهذان مقتضيان بكسر الضاد وأما المقتضى فيهما فيذكره قريبا "فإن توقفا" أي الصدق والحكم المذكوران "على خاص بعينه أو عام لزم" ذلك الخاص أو العام "ومنع عمومه" أي المقتضى بالفتح "هنا" أي فيما إذا توقف على عام "لعدم كونه لفظا" كما ذكره جمع من متأخريهم صدر الشريعة "ليس بشيء؛ لأن المقدر كالملفوظ" في إفادة المعنى "وقد تعين" المقدر بصفة العموم بالدليل المعين له فيكون عاما "وأيضا هو" أي المقدر "ضروري لفرض التوقف" أي توقف الكلام صدقا أو صحة شرعية "عليه" أي المقدر "وإلا" فلو كان غير متوقف عليه صدقا أو صحة شرعية "فغير المفروض ولو كان" توقف الصدق أو الحكم شرعا "على أحد أفراده" أي العام "لا يقدر ما يعمها" أي أفراده "بل إن اختلفت أحكامها ولا معين" لأحدها "فمجمل" أي المقدر فيكون حكمه حكم المجمل "أو لا" تختلف أحكامها "فالدائر" بينها أي فواحد منها ونسب إلى الشافعية أنه يقدر ما يعمها "لنا" في أنه لا يقدر ما يعمها أنه "إضمار الكل بلا مقتض" فلا يجوز؛ لأن ما يقدر للضرورة يقدر بقدرها "قالوا" أي المعممون: إضمار ما يعمها كرفع حكم الخطأ والنسيان عموما في أفراده ليشمل كل حكم لهما حيث لم ترتفع ذاتهما "أقرب" مجاز "إلى الحقيقة" كرفع ذات الخطأ والنسيان من سائر المجازات إليها؛ لأن في رفع أحكامها رفعها، والمجاز الأقرب إلى الحقيقة أولى من غيره "قلنا إذا لم ينفه" أي المجاز الأقرب كنفي عموم أحكام الخطأ والنسيان "الدليل" ولكن هنا نفاه، وهو إضمار الكل بلا مقتض "وكون الموجب للإضمار في البعض" مبتدأ وخبره "ينفي الكل لما قلنا" من كونه بلا مقتض أيضا "ففي الحديث أريد حكمها" أي الخطأ والنسيان "ومطلقه" أي حكمها "يعم حكمي الدارين" الدنيا والآخرة "ولا تلازم" بين الحكمين "إذ ينتفي الإثم" وهو(22/84)
ص -271-…حكم الآخرة "ويلزم الضمان" وهو حكم الدنيا كما في إتلاف مال محترم مملوك للغير خطأ "فلولا الإجماع على أن الأخروي مراد توقف" عن العمل به لإجماله فيهما "وإذ أجمع" على أن الأخروي مراد "انتفى الآخر" وهو الدنيوي "ففسدت الصلاة بنسيان الكلام وخطئه" مطلقا عند أصحابنا ولغيرهم تفاصيل تعرف في فروعهم "والصوم بالثاني" أي بالمفسد خطأ كسبق الماء إلى بطنه في المضمضة "لا الأول" أي بفعل المفسد من أكل وشرب نسيانا "بالنص" وهو ما في الصحيحين وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه" إلى غير ذلك. "ولو صح قياسه" أي الخطأ "عليه" أي النسيان في عدم إفساد الصوم بجامع عدم القصد إلى الجناية كما هو القول الأصح للشافعي إذا لم يبالغ في المضمضة والاستنشاق، وقول أحمد إذا لم يسرف فيهما خلافا لأصحابنا ومالك بل أكثر الفقهاء على ما قال الماوردي "فدليل آخر" لا من حديث رفع الخطأ وإنما قال لو صح للنظر في صحته فقد يدفع بأنه قياس مع الفارق المؤثر؛ لأنه قل ما يحصل الفساد بالأكل والشرب مع التذكر وعدم قصد الجناية كما في حالة الخطأ بخلاف حصوله بهما مع عدم التذكر وقيام مطالبة الطبع بالمفطرات فلا يلزم من كونه عذر فيما يكثر وجوده مثله فيما لم يكثر إلى غير ذلك. "وأما الصلاة" أي قياسها "على الصوم" في عدم الفساد بفعل المفسد نسيانا "فبعيد؛ لأن عذره" أي المكلف "ولا مذكر" له كما في الصوم "لا يستلزمه" أي عذره "معه" أي المذكر كما في الصلاة؛ لانتفاء التقصير منه في الأول دون الثاني "ولذا" أي ولأنه لا يلزم من ثبوت العذر عند عدم المذكر ثبوته مع المذكر "وجب الجزاء بقتل المحرم الصيد ناسيا" لوجود المذكر له وهو التلبس بهيئة الإحرام. "وفي الثاني" أي أعتق عبدك عني بألف "لزم التركيب شرعا حكم" هو "صحة العتق" عن الآمر "وسقوط الكفارة" عنه إن نوى عتقه عنها فيقتضي سبق وجود الملك(22/85)
للآمر في العبد؛ لأن إعتاقه عنه لا يصح بدون الملك بالنص، والملك يقتضي سببا، وهو هنا البيع بقرينة قوله عني بألف فيكون البيع لازما متقدما لمعنى الكلام كما أشار إليه بقوله "ويقتضي" هذا الحكم "سبق تقدير اشتريت عبدك بألف في المتقدم" أي في قول الآمر أعتق عبدك عني بألف على هذا "وبعته في المتأخر" أي وتقدير سبق بعته في قول المأمور أعتقه عنك على هذا وهذا أولى من تقديرهم مع الأول بعينه بل القياس أن لا يكفي في المطلوب كما أشار إليه بقوله "أما بعينه فتوكيل البائع فقط لا يجزئ" في انعقاد البيع وإن استلزم قول المأمور أعتقه سبق بعته؛ لأنه شطر العقد فلا يتم به وحده كما صرحوا به إذا كانا صريحين إلا أنا تركنا القياس لما أشار إليه بقوله "لولا أنه ضمني" إذ كم من شيء يثبت ضمنا ولا يثبت قصدا فلا ضير في ثبوته بلا قبول، وإن كان ركنا؛ لأنه مما يقبل السقوط كما في بيع التعاطي، وإذا صح بيعا مجرد قطع ثوب جوابا لقول مالكه بعتكه بكذا فاقطعه فلا يبعد صحة هذا بدون ذكر القبول على أنه لم يشترط في هذا البيع ما هو شرط في البيع القصدي من كون المبيع مقدور التسليم حتى صح هذا في الآبق فيعتق عن الآمر ولم يثبت له بعض لوازمه من خيار الرؤية والعيب، وإنما يثبت بشروط المقتضى، وهو الإعتاق فيعتبر في الآمر أهليته للإعتاق حتى لو كان ممن لا يملك الإعتاق لا يثبت(22/86)
ص -272-…البيع به، ولا يقال يشكل كون المقتضى لا عموم له بوقوع الثلاث بطلقي نفسك إذا طلقت نفسها ثلاثا وقد نواها الزوج؛ لأنه بناء على أن المعنى طلقي نفسك طلاقا وهو جنس فيجوز أن يعمم بأن يراد به الثلاث مع أنه ثابت مقتضى؛ لأنا نقول "وليس من المقتضى" بالفتح ما اقتضاه "طلقي" نفسك من المصدر "لأن الجنس" الذي هو طلاق "مذكور لغة إذ هو" أي طلقي "أوجدي طلاقا"؛ لأنه لطلب الطلاق في المستقبل فلا يتوقف إلا على تصور وجوده لا فرق بينهما إلا من حيث الإيجاز والتطويل، وهذا أحسن من قولهم أن معناه افعلي فعل الطلاق فيكون ثابتا لغة لا اقتضاء "فصحت نية العموم" فيه كما لو كان مصرحا به؛ لأنه بمنزلته، وحمله على الأقل كسائر أسماء الأجناس. "ونقض" هذا "بطالق" فإن اسم الفاعل يتضمن المصدر كالفعل فينبغي أن تصح نية الثلاث فيه لكن الحنفية لم يصححوه حتى لو نوى الثلاث لم يقع إلا واحدة "وأجيب بأنه" أي المصدر "المذكور" لغة لا اقتضاء في أنت طالق "طلاق هو وصفها" أي المطلقة؛ لأنها هي الموصوفة بطالق في أنت طالق "وتعدده" أي وصفها به "بتعدد فعله" يعني المطلق أي "تطليقه"؛ لأن وصفها به أثر تطليقه. "وثبوته" أي تطليقه "مقتضى حكم شرعي هو الوقوع تصديقا له" أي ثبت ضرورة أن اتصاف المرأة بالطلاق يتوقف شرعا على تطليق الزوج إياها سابقا؛ ليكون صادقا في وصفه إياها به فيكون ثابتا اقتضاء "فلا يقبل العموم ويدفع" هذا كما أشار إليه في التلويح "بأنه" أي أنت طالق "إنشاء شرعا يقع به" الطلاق "ولا مقدر أصلا؛ لأنه" أي التقدير المذكور "فرع الخبرية المحضة" التي يثبت التقدير باعتبارها "ولا تصح فيه" أي في أنت طالق "الجهتان" الإنشائية والخبرية معا كما قيل إخبار من وجه إنشاء من وجه "لتنافي لازمي الخبر والإنشاء" أي احتمال الصدق والكذب الذي هو لازم الخبر وعدم احتمالهما الذي هو لازم الإنشاء "والثابت له" أي لأنت طالق إنما هو "لازم الإنشاء" وهو عدم(22/87)
احتمال الصدق والكذب فهو إنشاء من كل وجه "وقد يلتزم" كونه إنشاء ويجاب عدم صحة نية الثلاث فيه بأنه لما كان في الأصل إخبارا ثم نقل إلى الإنشاء الشرعي يجب أن يبقى ما عرف أنه نقل إليه، ومن المعلوم أنه إنما نقل إلى وقوع واحدة فلا يجوز أن يقع به أكثر منها إلا بسمع، وهو منتف، وهذا معنى قوله: "غير أن المتحقق تعيينه برمته" أي أنت طالق بجملته "إنشاء لوقوع واحدة فتعديها" أي الواحدة إلى ما فوقها يكون "بلا لفظ" مفيد لذلك، وهو لا يقع بهذا "بخلاف طلقي" فإنه لم ينقل إلى شيء بل استعمل في معناه اللغوي "لأنه طلب لإيقاع الطلاق فتصح" نية الثلاث فيها كما تقدم. ولما كان هنا مظنة أن يقال يشكل ما تقدم من عدم وقوع الثلاث بنيتها بطالق بوقوع الثلاث بنيتها بطالق طلاقا فإن طلاقا منتصب على أنه مصدر طالق أشار إلى جوابه أولا بقوله: "وفي الثلاث" أي وفي وقوعها بنيتها "بطالق طلاقا رواية" عن أبي حنيفة "بالمنع" أي بمنع وقوعها، وإنما يقع به واحدة، وإن نوى الثلاث فلا إشكال وثانيا بقوله "وعلى التسليم" لوقوعها به كما هو الرواية المشهورة "هو" أي وقوعها به "على إرادة التطليق بطلاقا مصدر المحذوف" فإنه قد يراد به التطليق كالسلام والبلاغ بمعنى التسليم والتبليغ فصح أن يراد به الثلاث حينئذ معمولا لفعل محذوف تقديره طالق؛ لأني طلقتك طلاقا ثلاثا لكن قال المصنف "وإنما يتم" القول بوقوعها بطلاقا "بإلغاء طالق معه" أي مع(22/88)
ص -273-…طلاقا في حق الإيقاع "كما مع العدد" في أنت طالق ثلاثا فإن الواقع هو العدد "وإلا" لو لم يلغ في حقه بل "وقع به" أي بطالق "واحدة لزم ثنتان بالمصدر، وهو" أي وقوع ثنتين بالمصدر "منتف عندهم" أي الحنفية في الحرة لما عرف من أن معنى التوحد مراعى فيه، وهو بالفردية الحقيقية والجنسية والمثنى بمعزل عنهما، وهذا يقوي رواية المنع أيضا ويجب كون طالق الطلاق مثله على هذه الرواية، وإن لم يذكر إلا في المنكر قاله المصنف رحمه الله تعالى "وفي أنت طالق" يصح نية الثلاث "بتأويل وقع عليك" التطليق فيصح فيه نية الثلاث. "وما قيل فما يمنع مثله في طالق" بأن يراد أنت ذات وقع عليك التطليق فتصح فيه نية الثلاث أيضا كما أشار إليه في التلويح "ويجاب بعدم إمكان التصرف فيه" أي أنت طالق "إذا نقل للإنشائية" أي إليها شرعا كما تقدم "فكان عين اللفظ" أي أنملت طالق "لعين المعنى المعلوم نقله إليه، وهو" أي المعنى المنقول إليه هو الطلقة "الواحدة" عند عدم ذكر العدد "والثنتان والثلاث مع العدد" بخلاف طلاق فإنه ليس كذلك "وليس من المقتضى المفعول" به المطوي ذكره لفعل متعد واقع بعد نفي أو شرط كما "في نحو لا آكل، وإن أكلت" فعبدي حر "إذ لا يحكم بكذب مجرد أكلت" ولا آكل "فلم يتوقف صدقه" أي أكلت وكذا لا آكل "عليه" أي المفعول به "ولا" يحكم "بعدم صحة شرعية" لأكلت ولا للآكل بدون المفعول به "فنخصه" أي هذا المفعول به "باسم المحذوف، وهو" أي هذا المحذوف "وإن قبل العموم لا يقبل عمومه التخصيص إذ ليس" هذا المحذوف أمرا "لفظيا ولا في حكمه" أي اللفظي لتناسيه وعدم الالتفات إليه إذ ليس الغرض إلا الإخبار بمجرد الفعل على ما عرف من أن الفعل المتعدي قد ينزل منزلة اللازم لهذا الغرض، وقد نصوا على أن من العمومات ما لا يقبل التخصيص فليكن هذا منها لهذا المعنى. "فلو نوى مأكولا دون آخر لم تصح" نيته قضاء اتفاقا ولا "ديانة خلافا للشافعية" ورواية عن أبي(22/89)
يوسف اختارها الخصاف "والاتفاق عليه" أي على عدم التخصيص "في باقي المتعلقات من الزمان والمكان" حتى لو نوى لا يأكل في زمان أو مكان دون آخر لم تصح نيته اتفاقا على ما ذكره غير واحد قال الفاضل الكرماني للاتفاق على أن عمومهما عقلي إذ هما محذوفان لا مقدران فلا يتجزآن وفاقا "والتزام الخلاف" في العموم "فيها" أي في بقية المتعلقات المذكورة أيضا بجامع المفعولية كما في أصول ابن الحاجب "غير صحيح" بل قال الفاضل الأبهري: التزام ابن الحاجب عموم المفعول فيه في نحو لا آكل خلاف ما اتفق عليه العلماء إذ لم يذهب أحد من العلماء إلى أن حذف المفعول فيه قد يكون للتعميم، واتفقوا على خلافه بل حذفه إنما يكون للعلم به أو لعدم إرادته. ا هـ. لكن قرر الشيخ تاج الدين السبكي التزام ابن الحاجب بما نصه فإنه لو قال والله لا آكل ونوى زمنا معينا أو مكانا صحت يمينه هذا مذهبنا، ودعوى الإمام الرازي الإجماع على خلافه ممنوعة، ونحوه في شرح المنهاج للإسنوي وزاد وقد نص الشافعي على أنه لو قال إن كلمت زيدا فأنت طالق ثم قال أردت التكليم شهرا أنه يصح فعلى هذا يحتاج إلى الفرق.
"والفرق" بين المفعول به وظرفي الزمان والمكان على ما ذكروا "بأن المفعول في حكمه" أي المذكور "إذ لا يعقل" معنى الفعل المتعدي "إلا بعقليته" أي المفعول به فجاز أن(22/90)
ص -274-…يراد به البعض بخلاف الظرفين فإنهما ليسا في حكم المذكور؛ لأن الفعل قد يعقل مع الذهول عنهما، وإن كان لا ينفك عنهما في الواقع فلم يكونا داخلين تحت الإرادة فلم يقبلا التخصيص؛ لأن قبولهما يتوقف على دخولهما تحت الإرادة "ممنوع ونقطع بتعقل معنى المتعدي من غير إخطاره" أي المفعول به بالبال "فإنما هو" أي المفعول به "لازم لوجوده" أي الفعل المتعدي "لا مدلول اللفظ" ليتجزأ بالإرادة فلم يكن كالمذكور "بقي أن يقال لا آكل" معناه "لا أوجد أكلا" وأكلا عام؛ لأنه نكرة في سياق النفي "فيقبله" أي التخصيص، إذ لا مانع منه كما لو كان مصرحا به غايته أنه لا يقبل منه قضاء؛ لأنه خلاف الظاهر فيحتاج إلى الجواب وقد تضمنه قوله: "والنظر يقتضي أنه إن لاحظ الأكل الجزئي المتعلق بالمأكول الخاص" الذي لم يرده "إخراجا" له من الأكل العام لا المأكول نفسه "صح"؛ لأنه جزئي من جزئياته "أو" لاحظ "المأكول" الخاص إخراجا من المأكول المطلق من حيث هو "فلا" يصح؛ لأنه من المتعلقات التي يعقل الفعل بدونها "غير أنا نعلم بالعادة في مثله" أي هذا الكلام "عدم ملاحظة الحركة الخاصة" التي هي بعض أفراد الفعل المطلق الذي هو الأكل. "وإخراجها" أي الحركة الخاصة من الأكل المطلق "بل" المراد إخراج "المأكول" الخاص من المأكول المطلق "وعلى مثله" أي ما هو معلوم عادة "يبنى الفقه فوجب البناء عليه" أي على أنه لاحظ المأكول الخاص إخراجا له من المأكول المطلق، وهو غير عام فلا يقبل التخصيص كما تقدم "بخلاف الحلف لا يخرج" حال كونه "مخرجا للسفر مثلا" من الخروج بالنية "حيث يصح" إخراجه منه تخصيصا "لأن الخروج متنوع إلى سفر وغيره قريب وبعيد" بدليل اختلاف أحكامهما "والعادة ملاحظته" أي النوع منه "فنية بعضه" أي خروج نوع منه "نية نوع" فصحت "كأنت بائن ينوي الثلاث" حيث يصح نيتها؛ لأنها أحد نوعي البينونة، والله سبحانه أعلم.
مسألة(22/91)
المذكور في عبارة كثير الفعل المثبت ليس بعام أو لا يعم في أقسامه وجهاته فعمم المصنف عدم العموم ونبه على أن المراد بالفعل ليس ما يقابل القول بل الفعل المصطلح، وهو اللفظ الخاص المعروف فقال "إذا نقل فعله صلى الله عليه وسلم بصيغة لا عموم لها كصلى في الكعبة"، وهو بهذا اللفظ عن بلال في صحيح البخاري "لا يعم" فعله "باعتبار" من الاعتبارات "; لأنه" أي نقل فعله بالصيغة المذكورة "إخبار عن دخول جزئي في الوجود فلا يدل على الفرض والنفل لشخصيته" أي الفعل المذكور بسبب دخوله في الوجود "وأما نحو صلى العشاء بعد غيبوبة الشفق" كما في مختصر ابن الحاجب والله تعالى أعلم بقائله. والذي في الحديث الحسن الذي رواه أبو داود والترمذي وابن خزيمة وغيرهم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في إمامة جبريل ما لفظه: ثم صلى بي العشاء حين غاب الشفق وفي حديث أبي موسى الأشعري الذي رواه مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه سائل فسأله عن مواقيت الصلاة فلم يرد عليه شيئا فأمر بلالا فأقام الصلاة حين انشق الفجر فساقه ما لفظه ثم أقام العشاء حين غاب الشفق "فإنما يعم الحمرة والبياض عند من يعمم المشترك ولا يستلزم" تعميمه "تكرر(22/92)
ص -275-…الصلاة بعد كل" من الحمرة والبياض "كما في تعميم المشترك حيث يتعلق بكل على الانفراد لخصوص المادة" هنا "وهو كون البياض دائما بعد الحمرة فصح أن يراد صلى بعدهما صلاة واحدة فلا تعم في الصلاة بطريق التكرار فلا يلزم جواز صلاتها بعد الحمرة فقط. وما يتوهم من نحو" ما عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر والشمس بيضاء مرتفعة حية أخرجه أبو داود وكان يجمع بين الصلاتين في السفر أخرجه البزار عن ابن مسعود "من التكرار" لصلاته العصر والشمس بيضاء ولجمعه بين الصلاتين سفرا، وهذا آية العموم ثم هو بيان لما يتوهم "فمن إسناد المضارع" لا من الفعل من حيث هو وقيل من كان ومشى عليه ابن الحاجب "وقيل من المجموع منه" أي إسناد الفعل المضارع "ومن قران كان لكن نحو بنو فلان يكرمون الضيف ويأكلون الحنطة يفيد أنه عادتهم" فيظهر أن التكرار من مجرد إسناد المضارع فلا جرم إن قال المحقق التفتازاني: والتحقيق أن المفيد للاستمرار هو لفظ المضارع وكان للدلالة على مضي ذلك المعنى "ولا يخفى أن الإفادة" أي إفادة إسناد المضارع التكرار "استعمالية لا وضعية" وأكثرية أيضا لا كلية فلا يقدح عدم ذلك فيما في سنن أبي داود في شأن خرص نخل خيبر عن عائشة قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة فيخرص النخل الحديث لكون خيبر كانت سنة سبع على قول الجمهور وعبد الله قتل في سنة ثمان ثم لقائل أن يقول كما أن مجرد إسناد المضارع قد يفيد التكرار استعمالا عرفيا كذلك مجرد كان إذا دخلت على ما لا يفيده شرط وجزاء كما في الصحيحين عن حذيفة كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يشوص فاه وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله إلى غير ذلك ولا سيما على رأي من يقول: إنها تدل على الدوام وحينئذ فلا بأس أن يقال إن كان، وإسناد المضارع إذا اجتمعا كانا متعاضدين على إفادة التكرار(22/93)
غالبا، وإن تصحيح فخر الدين الرازي عدم دلالة كان على التكرار عرفا كما لا يدل عليه وضعا منتف، والله سبحانه أعلم. "ومنه" أي ومما لا يعم باعتبار ما "أن لا يعم الأمة، ولو بقرينة كنقل الفعل خاصا بعد إجمال في عام بحيث يفهم أنه" أي ذلك الفعل "بيان" لإجمال ذلك العام "فإن العموم للمجمل لا لنقل الفعل" الخاص، وقد أفاد المصنف شرح هذا فقال لما وقع للقاضي عضد الدين أن مثل القرينة بقوله كوقوعه بعد إجمال أو إطلاق أو عموم فيفهم منه أنه بيان له فيتبعه في العموم وعدمه وكان هذا يفيد أنه يصير عاما تبعا نفاه المصنف وقصر العموم على المجمل؛ لأن النقل لما كان بصيغة ليست عامة لا يصير عاما غاية الأمر أن عدم العمل بذلك المجمل زال بالفعل المبين مثلا إذا قال الراوي قطع يد السارق من الكوع بعد اقطعوا أيديهما فهذه حكاية فعل بعد عموم فيه إجمال في محل القطع على قول كما تقدم أو هو بيان المراد من الدليل على القول بعدم الإجمال، وأن اليد اسم لما من المنكب إلى الأصابع، وحاصله بيان مجاز أو قال صلى فقام وركع وسجد بعد قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} (البقرة: من الآية43)، وهو إجمال في عام ففي هذا ونحوه لا يفيد تكرر الفعل أصلا ولكنه يفيد أنه أوقع الصلاة بهذه الأفعال فيزول ذلك الإجمال الكائن فيما تعلق بالعام فيمكن العمل بعمومه(22/94)
ص -276-…حينئذ أما أن الفعل صار عاما فلا ولا نقله "وكذا نحو" قول الراوي صلى فقام وركع وسجد مع ما في صحيح البخاري عنه صلى الله عليه وسلم "صلوا كما رأيتموني أصلي" فإن العموم لقوله صلوا إلخ لا لصلى فقام إلخ "وتوجيه المخالف" القائل بعمومه للأمة "بعموم نحو سها فسجد" أي قول عمران بن الحصين أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم فسها في صلاته فسجد سجدتي السهو أخرجه أبو داود والترمذي وقال حسن غريب وفعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا كما هو لفظ عائشة بعد قولها إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل، وهو حديث صحيح أخرجه أحمد والترمذي وغيرهما حتى كان كل من هذين عاما للأمة "مدفوع بأنه" أي العموم لهم "من خارج" عن مفهوم اللفظ المحكي كقوله صلى الله عليه وسلم: "لكل سهو سجدتان بعد السلام"رواه أحمد وأبو داود وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا التقى الختانان وجب الغسل" رواه مسلم وغيره قال الآمدي ولعموم السجود جواب خاص، وهو إنما عم لعموم العلة، وهو السهو من حيث إنه رتب السجود على السهو بفاء التعقيب، وهو دليل العلية "وأما حكاية قول له" أي للنبي صلى الله عليه وسلم "لا يدرى عمومه بلفظ عام"، وهو متعلق بحكاية "كقضى بالشفعة للجار" كما أسنده شيخنا الحافظ إلى جابر بهذا اللفظ، وقال حديث حسن الإسناد ولكنه شاذ المتن "ونهى عن بيع الغرر" كما أخرجه مسلم وغيره عن أبي هريرة. "وهي" أي هذه المسألة "مسألة أخرى" ذكرها المصنف هنا لمناسبة بين القول والفعل "فيجبالحمل" للفظ المحكي عنه "على العموم" فتكون الشفعة لكل جار، والنهي عن كل بيع فيه غرر كبيع الآبق والمعدوم "خلافا للكثير"، وإنما قلنا ذلك "لأنه" أي الصحابي "عدل عارف باللغة والمعنى" عموما وخصوصا "فالظاهر المطابقة" بين نقله وما في نفس الأمر من ذلك "وقولهم" أي الكثير "يحتمل غررا وجارا خاصين كجار شريك فاجتهد في العموم فحكاه أو أخطأ فيما سمعه احتمال لا يقدح"؛ لأنه(22/95)
خلاف الظاهر من علمه وعدالته، والظاهر لا يترك للاحتمال؛ لأنه من ضرورته فيؤدي إلى ترك كل ظاهر "وجعلهما" أي قضى بالشفعة،نهى عن بيع الغرر "من حكاية فعل ظاهر في العموم" كما تنزل إليه صدر الشريعة "منتف؛ لأن القضاء والنهي قول يكون معه عموم وخصوص" ولا يخفى أن المراد بقضى حكاية قوله الذي هو القضاء ونهى حكاية قوله الذي هو النهي.
مسألة
"قيل" والقائل ابن الحاجب: "نفي المساواة في {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} يدل على العموم" لجميع وجوه المساواة "خلافا للحنفية وليس" كذلك "بل لا يختلف في دلالته" أي نفي الاستواء "عليه" أي على عمومه "وكذا نفي كل فعل" عام في وجوهه "كلا آكل" فإنه عام في وجوه الأكل "ولا" يختلف أيضا "في عدم صحة إرادته" أي العموم في نفي المساواة "لقولهم" أي الحاكين لعدم دلالته على العموم عن الحنفية "في جواب قول الحنفية لا يصدق" عموم نفي المساواة في لا يستوي "إذ لا بد" بين كل أمرين "من مساواة" من وجه وأقله المساواة في سلب ما عداهما عنهما فلزم عدم عموم نفي المساواة هذا مقول قول الحنفية "المراد" من عموم نفي المساواة "مساواة يصح نفيها وما سواه" أي المساواة التي يصح(22/96)
ص -277-…نفيها بمعنى التساوي "مخصوص بالعقل"، وهذا مقول قول المجيبين فهذا يدل على اتفاق الكل على دلالة العموم، وإن هذا العموم المدلول غير مراد على صرافته، وإذا كان الأمر على هذا "فالاستدلال" على عموم نفي المساواة "بأنه" أي نفي المساواة "نفي على نكرة يعني المصدر" الذي تضمنه الفعل المنفي فيعم كسائر النكرات في سياق النفي كما ذكر ابن الحاجب استدلال "في غير محل النزاع" لما سمعت من أنه لا نزاع في العموم لفظا ولا في عدم إرادة صرافته "إنما هو" أي النزاع "في أن المراد من عمومه" أي نفي المساواة "بعد تخصيص العقل ما لا بد منه" أي تخصيصه "هل يخص أمر الآخرة فلا يعارض" المراد منه "آيات القصاص العامة" كقوله تعالى {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] الآية "فيقتل المسلم بالذمي أو يعم الدارين" الدنيا والآخرة "فيعارض" المراد منه آيات القصاص حتى يخصها وحينئذ "فلا يقتل" المسلم بالذمي. قال المصنف: وحاصله أنه هل ثم قرينة تصرف نفي المساواة إلى خصوص أمر الآخرة أو لا فتعم الدارين؟. "قال به" أي بالعموم "الشافعية والحنفية بالأول" أي بخصوص أمر الآخرة "لقرينة تعقيبه بذكر الفوز {أصحاب الجنة هم الفائزون} ثم في الآثار ما يؤيده" أي قول الحنفية منها "حديث" عبد الرحمن "بن البيلماني" بالباء الموحدة واللام المفتوحتين بينهما ياء تحتانية من مشاهير التابعين روى عن ابن عمر لينه أبو حاتم وذكره ابن حبان في الثقات وقال الدارقطني: ضعيف لا تقوم به حجة قال: قتل صلى الله عليه وسلم مسلما بمعاهد الحديث" يعني قوله وقال: "أنا أحق من وفى بذمته" رواه أبو حنيفة وأبو داود في مراسيله وعبد الرزاق وأخرجه الدارقطني عن ابن البيلماني عن ابن عمر مرفوعا وأعله، واستيفاء الكلام فيه له موضع غير هذا. "ونحو" ما روى المشايخ عن علي رضي الله عنه "إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا إلخ" أي وأموالهم كأموالنا(22/97)
ولم يجده بهذا اللفظ المخرجون، وإنما روى الشافعي والدارقطني بسند فيه أبو الجنوب، وهو مضعف عن علي رضي الله عنه من كانت له ذمتنا فدمه كدمنا وديته كديتنا "فظهر" من هذا التحرير "أن الخلاف في تطبيق كل من المذهبين على دليل تفصيلي" فهي مسألة فقهية لا أصلية.
مسألة
"خطاب الله تعالى للرسول بخصوصه يا أيها الرسول {لَئِنْ أَشْرَكْتَ} قد نصب فيه خلاف" ومن ناصبيه ابن الحاجب "فالحنفية" وظاهر كلام الشافعي في البويطي على ما ذكر الإسنوي وأحمد "يتناول الأمة والشافعية لا" يتناولهم "مستدلين" أي الشافعية "بالقطع من اللغة بأن ما للواحد لا يتناول غيره وبأنه لو عمهم كان إخراجهم تخصيصا، ولا قائل به وليس" هذا الاستدلال "في محل النزاع فإن مراد الحنفية" بعمومه إياهم "أن أمر مثله" أي النبي صلى الله عليه وسلم "ممن له منصب الاقتداء والمتبوعية يفهم منه" أي من أمره "أهل اللغة شمول أتباعه عرفا" لا مدلولا وضعيا لذلك اللفظ "كما إذا قيل لأمير اركب للمناجزة"، وهي بالجيم والزاي المحاربة وبالحاء والراء المهملة المقاتلة "غير أن النبي صلى الله عليه وسلم له منصب الاقتداء به في كل شيء إلا بدليل" يفيد اختصاص ذلك به "لأنه بعث ليؤتسى به فكل حكم خوطب هو به عم عرفا، وإن كان(22/98)
ص -278-…فعله" أي ذلك الحكم "لا يتوقف على أعوان كالمناجزة، وإذا" أي، وإذا كان عمومه عرفا "يلتزمون" أي الحنفية "أن إخراجهم" أي الأمة من خطابه بخصوصه "تخصيص فإنه" أي التخصيص "كما يرد على العام لغة يرد على العام عرفا واستدلالهم" أي الحنفية لعموم ذكر المتبوع بخصوصه الأتباع "بنحو {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] فأفرده بالخطاب وأمر بصيغة الجمع والعموم فدل أن مثله خطاب عام له وللأمة "وبأنه لو لم يعمهم لكان خالصة لك" بعد قوله {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [الأحزاب: 50] إلى قوله {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} [الأحزاب: 50] "غير مفيد"؛ لأن عدم العموم وكونه خاصا به ثابت بتخصيصه بالخطاب والتالي منتف "و {زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} [الأحزاب: 37] فأخبر أنه إنما أباح تزويجه إياها ليكون شاملا للأمة، ولو كان خطابه خاصا به ولا يتعدى حكمه إلى الأمة لما حصل الغرض "لبيان التناول العرفي" لهم "لا اللغوي" فاستدلالهم مبتدأ، وهذا خبره. وحينئذ "فأجوبتهم" أي الشافعية عن هذه الاستدلالات "التي حاصلها أن الفهم" أي فهم الأمة من هذه النصوص "بغير الوضع اللغوي طائحة" أي ساقطة؛ لأن الحنفية معترفون بأنه لا يعم غيره لغة فكون العموم بخارج لا يضرهم ثم ذكر على وجه الاستدلال بقوله {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ} [الأحزاب: 50] الآية، فقال: "غير أن نفي الفائدة مطلقا" على ذلك التقدير "مما يمنع لجواز كونها" أي الفائدة "منع الإلحاق" أي إلحاق الأمة به في ذلك قياسا كما كان يلحق به لو لم يرد خالصا ثم أفاد بأن هذا المنع غير ضائر، فقال: "ولا يحتاج إليه" أي إلى نفي الفائدة(22/99)
مطلقا "في الوجه" أي وجه الاستدلال بالآية المذكورة لهم "ويكفي" في الاستدلال لهم بها "أن {خَالِصَةً لَكَ} ظاهر في فهم العموم" لهم من قوله {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ} [الأحزاب: 50] "لولاه" أي لفظ خالصة ثم لما كان استدلالهم بمثل {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] قد دفع أيضا بأن ذكر النبي للتشريف والخطاب بما بعده للجميع ولا يمتنع أن يقال يا فلان افعل أنت وأتباعك كذا إنما النزاع فيما يقال افعل ولا يتعرض للأتباع أشار المصنف إلى دفعه أيضا، فقال "وكون إفراده بالذكر للتشريف لا ينافي المطلوب"، وهو عمومهم عرفا "فمن التشريف أن خصه" أي النبي صلى الله عليه وسلم "به" أي بالخطاب "والمراد أتباعه معه" على أن إبطال الدليل المعين لا يبطل المدعى "وعرف" من هذا التقرير "أن وضعها" أي هذه المسألة "الخطاب لواحد من الأمة هل يعم ليس بجيد"؛ لأن الحنفية لا يقولون خطاب واحد من آحاد الأمة ممن ليس له منصب الاقتداء يعم سائرهم عرفا بل هذا موضوع التي تلي هذه.
مسألة
"خطاب الواحد لا يعم غيره لغة ونقل عن الحنابلة عمومه، ومرادهم خطاب الشارع لواحد بحكم يعلم عنده" أي خطابه "تعلقه" أي ذلك الحكم "بالكل إلا بدليل" يقتضي التخصيص قالوا "كقوله حكمي على الواحد حكمي على الجماعة" وقد ذكرنا في البحث الثاني من مباحث العام أنه لم يعرفه غير واحد من الحفاظ المتأخرين وما يسد مسده "وفهم الصحابة(22/100)
ص -279-…ذلك" أي أن حكمه صلى الله عليه وسلم على الواحد حكمه على الجماعة "حتى حكموا على غير ماعز بما حكم به" النبي صلى الله عليه وسلم من الرجم "عليه" أي على ماعز حتى قال عمر رضي الله عنه خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل لا نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ألا وإن الرجم حق على من زنى وقد أحصن إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف رواه البخاري وقال أيضا:رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده. رواه مسلم وأبو داود ورجم علي رضي الله عنه أيضا كما في صحيح البخاري وغيره، وحكوا على ذلك إجماع الصحابة ومن بعدهم ممن بعدهم ممن يعتد بإجماعه ولعموم الرسالة بقوله صلى الله عليه وسلم: "بعثت إلى الأسود والأحمر" رواه أحمد وابن حبان وأبو داود لكن بتقديم الأحمر على الأسود أي إلى العرب والعجم وقيل إلى الإنس والجن وبقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ28] إذا كان هذا مراد الحنابلة "فكلام الخلافيين فيها" أي في هذه المسألة "كالتي قبلها" من حيث عدم التوارد على محل واحد. وللشيخ تاج الدين السبكي هنا كلام يزيد هذا المقام وضوحا لا بأس بذكره قال أعلم أنه لا ينبغي أن يعتقد أن التعميم من جهة وضع الصيغة لغة ولا أن الشارع لم يحكم بالتعميم حيث لم يظهر التخصيص بل الحق أن التعميم منتف لغة ثابت شرعا من حيث إن الحكم على الواحد حكم على الجماعة ولا أعتقد أن أحدا يخالف في هذا وينبغي أن يرد الخلاف إلى أن العادة هل تقضي بالاشتراك بحيث يتبادر فهم أهل العرف إليها أولا فأصحابنا يقولون لا قضاء للعادة في ذلك كما لا قضاء للغة، وإنما الخلق في الشرع شرع، وهم يقولون العادة تقضي بذلك وقد ذكر ابن السمعاني أن المخالفين استدلوا بأن عادة أهل اللسان يخاطبون الواحد ويريدون الجماعة، وهو يرشد إلى ما ذكرناه أو يرد إلى أنه هل صار عرف الشرع أن الواحد إذا خوطب فالمراد الجماعة(22/101)
فكأنه حقيقة شرعية أو لا فهم يقولون بالأول؛ لأنه لما استقر من الشرع استواء الناس في شرعه كان خطاب الواحد خطابا مع الكل وكأنه إذا قال يا زيد قائل يا أيها الناس ويكون الدال على معنى الناس لفظين أحدهما الناس بوضع اللغة والثاني زيد إذا تقدم من اللافظ به أنه إذا أنطق به أراد به الناس كلهم. وإذا كان الشارع هو الذي تقدم منه هذا القول كما في مسألتنا صار حقيقة شرعية فمعنى الناس يدل على لفظه لغة وشرعا، ولفظ يا زيد شرعا ونحن نقول يا زيد باق على دلالته الأصلية سواء سبق قبل ذكره من قائله أن حكم غيره حكمه أم لا، وهو الحق؛ لأن القائل لم يضع يا زيد للناس، وإنما جعله سواء في الحكم ولا يلزم من ذلك صيرورتهم من مدلول اللفظ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم.
مسألة
"الخطاب الذي يعم العبيد لغة" ك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} "هل يتناولهم شرعا فيعمهم حكمه؟. الأكثر نعم وقيل لا والرازي الحنفي" يتناولهم شرعا فيعمهم حكمه "في حقوق الله تعالى فقط" ثم قال الكرماني لا كلام في أن مثل الناس إذا لم يتضمن حكما يحتاج في قيامه به إلى صرف زمان يتناولهم بل فيما إذا تضمن ما يمنعه من الاشتغال بقيام مهمات السادات(22/102)
ص -280-…"وحاصله" أي هذا الخلاف "أن الخلاف في إرادتهم باللفظ العام وعدمها" أي إرادتهم به "واستدلال النافي" لتناولهم "بما ثبت شرعا من كون منافعه مملوكة لسيده فلو تناولهم ناقض" أحدهما الآخر؛ لأنه حينئذ يكون مكلفا بصرفها إلى سيده، وإلى غيره "دليل عدم الإرادة" أي إرادتهم شرعا به، وهذا خبر استدلال النافي "وأما قولهم" أي النافين "خرج" العبد "ومن نحو الجهاد والجمعة والحج" والتبرعات وبعض الأقارير مع صلاحية الخطاب بمفيدها لتناولهم "فلو كان داخلا أي مرادا كان تخصيصا، والأصل عدمه" أي التخصيص "فتجوز بالتخصيص عن النسخ" إذ من المعلوم أن ليس معنى قولهم خرج من الجهاد إلا لم يرد بخطابه فلو كان داخلا فيه وعلمت أن المراد لو كان مرادا منه كغيره من الأحرار كان خروجا من هذا الخطاب نسخا؛ لأنه خروج بعد الإرادة فقولهم كان تخصيصا أخف الأحوال فيه أن يكون تجوزا أو تساهلا وحينئذ كما قال المصنف "والجواب بأن خروجه بدليل يلزم أن معناه لم يرد لدليل فضلا عن إرادته ثم نسخه" أي الحكم "عنه" أي عن العبد "وحاصله أن اللازم التخصيص الاصطلاحي بدليله لا النسخ". يعني أن اللازم في نفس الأمر من القول بعدم دخولهم في الإرادة ليس إلا التخصيص الاصطلاحي، وهو بيان أن الخارج من العام لم يكن مرادا منه واللازم من الدليل الذي ذكروه حيث قالوا خرج فلو أريد كان تخصيصا غيره؛ لأنه إذا أريد ثم أخرج يكون نسخا لا تخصيصا فقول من قال تخصيصا خطأ على ما هو تركيب الدليل، وعلى كل تقدير يجاب بأنه إذا قام دليل الإخراج فلا محيص عن العمل به وقد قام فكان خروجهم تخصيصا لهم عن العام بدليله وبه ثبت أنهم لم يرادوا بالعام ابتداء فضلا عن أنهم أريدوا ثم نسخ عنهم كما يقتضيه ذلك الدليل أو أنهم خصوا والتخصيص خلاف الأصل بل خصوا ووجب العمل به، وإن كان خلاف الأصل كذا أفاده المصنف رحمه الله تعالى "وقد يقرر" الوجه في هذه المسألة هكذا "دل" "على عدم إرادته" أي(22/103)
العبد "في بعضها" أي الأحكام "وعليها في بعضها" أي وعلى إرادته في بعض الأحكام "فالمثبت يعتبر بالتناول؛ لأن الأصل مطابقته" أي التناول "الإرادة والنافي عرض الاشتراك في الاستعمال فتوقف دخولهم إلى الدليل أو قام" الدليل "على عدمها" أي الإرادة "وهو" أي الدليل القائم على عدمها "مالكية السيد لها" أي منافعه. "والرازي يمنعه" أي عدم إرادتهم "في حقوقه" تعالى "والدليل" على إرادتهم فيها "الأكثرية" فإن ما تعلق بالعبد من أحكام الخطاب التي في حق الله أكثر مما لم يتعلق به فيها فنسبة دخوله إلى الأكثر كما هو ظاهر اللغة، وخروجه إلى الأقل كما هو خلاف ظاهرها أولى من العكس لما فيه من تقليل المخالفة الظاهرة "فوجب التفصيل" بين حق الله وغيره "وانتظم منع عموم مملوكية منافعه" للسيد في سائر الأوقات بل قد استثنى وقت تضايق العبادات حتى لو أمره السيد في آخر وقت الصلاة حين تضايق عليه، ولو أطاعه لفاتته وجبت عليه الصلاة وعدم صرف منفعته في ذلك الوقت إلى السيد ولا يجوز للسيد استخدامه فيه "فاندفع الأول" أي التناقض على تقدير كون منافعه لمالكه، وتناول الخطاب له؛ لاختلاف الوقتين فترجح قول الشيخ أبي بكر الرازي والله تعالى أعلم.(22/104)
ص -281-…مسألة
"خطاب الله - سبحانه - العام كيا عبادي يا أيها الناس شمله صلى الله عليه وسلم إرادته كما تناوله لغة عند الأكثر" مطلقا أعني سواء كان مصدرا بالقول صريحا أو غير صريح كبلغ أولا، وهو متعلق بشمله إرادته "وقيل لا" يشمله إرادته "لأن كونه" صلى الله عليه وسلم "مبلغه" أي الخطاب للأمة "مانع" من ذلك، وإلا كان مبلغا ومبلغا بخطاب واحد "ولذا" المانع من شمول إرادته بالخطاب المذكور "خرج" صلى الله عليه وسلم "من أحكام عامة" أي لم يدخل فيها "كسنية الضحى" فإنها مندوبة للأمة على القول الأشبه وقد ذهب غير واحد من أعيان المتأخرين منهم النووي في الروضة إلى أنها واجبة عليه والأوجه عدمه فإن الخصوصية لا تثبت إلا بدليل صحيح، وهو مفقود بل وجاء مما هو أقوى منه ما يعارضه كما هو معروف في موضعه وقد نقل في شرح المهذب عن العلماء أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يداوم على صلاة الضحى مخافة أن تفرض على الأمة فيعجزوا عنها، وكان يفعلها في بعض الأوقات. "وحل أخذ الصدقة" فإنها لا تحل له تنزيها له وتشريفا ففي صحيح مسلم "إن هذه الصدقات أوساخ الناس وأنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد" ولا يقدح في الاختصاص تحريمها على آله أيضا؛ لأنه بسببه فالخاصة عائدة إليه بخلاف غيره إذا لم يكن به مانع من حل الأخذ "والزيادة على أربع" أي وحل تزوجه بما فوق أربع زوجات بالإجماع، وإنما الكلام في الزيادة على التسع فإنه مات عن تسع كما رواه الحافظ ضياء الدين عن أنس في الأحاديث المختارة والأصح الجواز كما قطع به الماوردي وكيف لا، وقد قالت عائشة ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل له النساء قال الترمذي حسن صحيح وفي رواية ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه وقال صحيح على شرط الشيخين حتى أحل له من النساء ما شاء وزاد ابن أبي حاتم إلا ذات محرم إلى غير ذلك من الخصوصيات. "والجواب المبلغ جبريل عليه السلام للأحكام العامة إلى واحد من العباد(22/105)
مشمولا بها ليسمعهم إياها"، وهو النبي صلى الله عليه وسلم فهو حاك تبليغ جبريل الخطاب الذي هو داخل فيه "فلا موجب لخروجه، وهو مشمول به لغة فما تحقق خروجه منه لزم كونه لدليل خاص فيه، فتفصيل الحليمي" والصيرفي "بين أن يكون" الخطاب العام "متعلق قول كقل يا عبادي فيمنع" شموله إياه "وإلا" أي، وإن لم يكن متعلق قول "فلا" يمنع "منتف" لما ذكرنا. وأجاب في البديع بأن جميع الخطابات الواردة مقدرة بنحو قل قال الفاضل الكرماني بعد ذكره بحثا؛ لأنه مأمور بتبليغ ما أنزل إليه والمقدر كالملفوظ قال المحقق التفتازاني: ورد بالمنع، ولو سلم فليس المقدر كالملفوظ من كل وجه والله تعالى أعلم.
مسألة
"الخطاب الشفاهي ك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ليس خطابا لمن بعدهم" أي للمعدومين الذين سيوجدون بعد الموجودين في زمان الخطاب "وإنما يثبت حكمه" أي الخطاب الشفاهي "لهم" أي لمن بعدهم "بخارج" من نص أو إجماع أو قياس "دل على أن كل خطاب علق(22/106)
ص -282-…بالموجودين حكما فإنه يلزم من بعدهم وقالت الحنابلة وأبو اليسر من الحنفية: هو" أي الخطاب الشفاهي "خطاب لهم" أي لمن بعدهم أيضا "لنا القطع بعدم التناول" أي تناول الخطاب الشفاهي لهم "لغة" قال القاضي عضد الدين: وإنكاره مكابرة قال المحقق التفتازاني: وهو حق "قالوا لم تزل علماء الأمصار في الأعصار يستدلون به" أي الخطاب الشفاهي "على الموجودين" في أعصارهم مع كونهم معدومين في زمان الخطاب، وهو إجماع على العموم لهم "أجيب لا يتعين كونه" أي استدلالهم به عليهم "لتناولهم" أي لتناول الخطاب الشفاهي إياهم "لجواز كونه" أي استدلالهم به عليهم "لعلمهم" أي العلماء "بثبوت حكم ما تعلق بمن قبلهم" أي بالموجودين وقت الخطاب "عليهم" أي على من بعدهم بنص أو إجماع أو قياس فيذكر لبيان عموم الحكم لهم أيضا، وإن كان الخطاب لأولئك لا يتناولهم جمعا بين الدليل الدال على المشاركة في الحكم والدليل الدال على عدم الدخول في الخطاب. "وأما استدلالهم" أي الحنابلة "لو لم يتعلق" الخطاب الشفاهي "بهم" أي بمن بعد الموجودين وقتئذ "لم يكن" النبي صلى الله عليه وسلم "مرسلا إليهم" واللازم منتف أما الملازمة فإنه لا معنى لإرساله إلا أن يقال له بلغ أحكامي ولا تبليغ إلا بهذه العمومات، وأما انتفاء اللازم فبالإجماع "فظاهر الضعف" للمنع الظاهر لكونه لا تبليغ إلا بهذه العمومات التي هي خطاب المشافهة للقطع بأنه لا يتعين في التبليغ المشافهة، وأنه يحصل بحصوله للبعض شفاها وللبعض بنصب الدلائل والأمارات على أن حكمهم حكم الذين شافههم. "واعلم أنه إذا نصر الخطاب في الأزل للمعدوم"، وهو مسألة تكليف المعدوم الآتية صدر الفصل الرابع المحكوم عليه، وسيأتي نصره فيها كما هو قول الأشاعرة والأزل ما لا أول له "ومعلوم أن النظم القرآني يحازي دلالة" أي من حيث الدلالة المعنى "القائم به تعالى قوي قولهم" أي الحنابلة بل قال العلامة: ذكر في الكتب المشهورة أن الحق(22/107)
أن العموم معلوم بالضرورة من دين محمد صلى الله عليه وسلم قال المحقق التفتازاني: وهو قريب "ويجاب بأن التعلق في الأزل يدخله معنى التعليق على ما عرف" من أن معناه أن المعدوم الذي علم الله أنه يوجد بشرائط التكليف يوجه عليه حكم في الأزل بما يفهمه ويفعله فيما لا يزال. "والكلام في النظم الخالي عنه" أي عن معنى التعليق، وهو توجيه الكلام اللفظي إلى الغير للتفهيم، وهذا لا بد فيه من وجود المخاطب فيقوى قول الأكثرين ويبعد كون الحق عموم التناول لفظا بالضرورة الدينية وقربه والله تعالى أعلم.
مسألة
"المخاطب" بكسر الطاء "داخل في عموم متعلق خطابه عند الأكثر مثل" قوله تعالى {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 29] وأكرم من أكرمك ولا تهنه" فالله سبحانه عالم بذاته والآمر الناهي إذا أكرم غيره كان الغير مأمورا بإكرامه منهيا عن إهانته لوجود المقتضي وانتفاء المانع "وقيل كونه" أي المتكلم "المخاطب يخرجه" من ذلك "والجواب منع الملازمة، وأما الله خالق كل شيء فمخصوص بالعقل"، وهو جواب عن سؤال مقدر قرر وجها للمانعين لدخوله، وهو أنه لو كان داخلا لزم أن يكون تعالى خالقا لنفسه لقوله تعالى {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}(22/108)
ص -283-…[الزمر: 62] واللازم باطل، فالملزوم مثله وكل من وجه الملازمة وبطلان اللازم ظاهر، وتقرير الجواب أنه إنما يلزم ذلك لو لم يكن كل شيء مخصوصا بما سواه تعالى لكنه مخصوص به عقلا؛ لأنه دال على امتناع خلق القديم، ولا منافاة بين دخوله في العموم بمقتضى اللفظ وخروجه عنه بمقتضى العقل. قلت: على أن الشيخ أبا المعين النسفي شنع على القائل بهذا وعلله بأن خروج ما يوجب ظاهر اللفظ بقضية اللغة دخوله فيه هو التخصيص دون خروج ما لا يقتضي ظاهر اللفظ دخوله فيه، والله تعالى، وإن كان شيئا لكن عند ذكر الأشياء لا يفهم دخوله فيه ثم وجه ذلك بما حاصله أن الشيء مشترك لفظي بين القديم والحادث، وهو لا عموم له وعند تعين البعض مرادا يخرج ما وراءه من حكم الخطاب ولا يعد تخصيصا وقد تعين البعض الذي هو الحادث وقال القاضي البيضاوي: الشيء يختص بالموجود؛ لأنه في الأصل مصدر شاء أطلق بمعنى شاء تارة وحينئذ يتناول الباري تعالى كما قال {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ} [الأنعام: 19] وبمعنى مشيء أخرى أي مشيء وجوده وما شاء الله وجوده فهو موجود في الجملة وعليه قوله {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 135] {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62] فهما على عمومهما بلا مثنوية والمعتزلة لما قالوا الشيء ما يصح أن يوجد، وهو يعم الواجب والممكن أو ما يصح أن يعلم ويجبر عنه فيعم الممتنع أيضا لزمهم التخصيص بالممكن في الموضعين بدليل العقل انتهى، وحينئذ فالتشبث بهذه الآية للمانعين إنما يتجه على هذا القول لا غير، وحينئذ يجابون بالجواب المذكور فليتنبه له.
مسألة(22/109)
العام في معرض المدح والذم كـ{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وإن وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13-14] "يعم" استعمالا كما هو عام موضعا "خلافا للشافعي حتى منع بعضهم" أي الشافعية "الاستدلال بـ{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] الآية "على وجوبها" أي الزكاة "في الحلي"؛ لأن القصد من الآية إلحاق الذم بمن يكنز الذهب والفضة لا بيان التعميم، وإثبات الحكم في جميع المتناولات اللغوية "لنا عام بصيغته" من غير معارض فوجب العمل به "قالوا: عهد فيهما" أي في المدح والذم "ذكر العام مع عدم إرادته" أي العموم "مبالغة" في الحث على الطاعة والزجر عن المعصية. "وأجيب بأنها" أي المبالغة "لا تنافيه" أي العموم "إذا كانت" المبالغة "للحث بخلاف نحو قتلت الناس كلهم" مما لم يقصد فيه المبالغة في الحث بل قصدت مطلقا فإن العموم قد ينافيه، هذا وقال السبكي ليست المسألة مقصورة على ما سيق للمدح أو الذم بل هي عامة في كل ما سبق لغرض، والله تعالى أعلم.
مسألة
"مثل {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [103] لا يوجبه" أي الأخذ "من كل نوع" من أنواع المال "عند الكرخي وغيره" كالآمدي وابن الحاجب "خلافا للأكثر له" أي الكرخي "يصدق(22/110)
ص -284-…بأخذ صدقة" واحدة "منها" أي من جملة أموالهم "أنه أخذ صدقة من أموالهم"؛ لأن المأمور بأخذه صدقة ما، إذ هي نكرة مثبتة من جملة الأموال ومهما أخذ من مال واحد ذلك صدق أنه أخذ من الأموال لكون المال جزأها، وإذا صدق ذلك فقد امتثل "وهم" أي الأكثر "يمنعونه" أي صدق أنه أخذ من أموالهم صدقة بأخذ صدقة واحدة منها "لأنه" أي لفظ أموال "جمع مضاف فالمعنى من كل مال" صدقة "فيعم" المأخوذ "بعمومه" أي المأخوذ منه "أجيب عموم كل تفصيلي" أي لاستغراق كل واحد واحدا مفصلا "بخلاف الجمع" فإن عمومه استغراقي من غير قيد التفصيل "للفرق الضروري بين للرجال عندي درهم ولكل رجل" عندي درهم حتى يلزم في الأول درهم واحد للجميع وفي الثاني دراهم بعدة الرجال "وهذا" الجواب "يشير إلى أن استغراق الجمع المحلى ليس كالمفرد"، وإلا لم يفرق بينهما بهذا الفرق "وهو" أي وكون استغراقه ليس كالمفرد "خلاف المنصور بل هو" أي الجمع المحلى في العموم "كالمفرد" كما اختاره المصنف. "وإن صح إرادة المجموع به" أي بالجمع المحلى "لا كل فرد بالقرينة" المعينة لها كهذه الدار لا تسع الرجال للعلم باتساعها لكل واحد واحد لا للمجموع كما يصح أن يراد به الحقيقة بالقرينة المعينة لها كفلان يركب الخيل ويا هند لا تكلمي الرجال فقوله بالقرينة متعلق بصح "وقد ينصر" كون استغراق الجمع المحلى ليس كالمفرد "بالفرق بين: للمساكين عندي درهم وللمسكين" عندي درهم عند قصد الاستغراق به بتبادر إرادة المجموع في الجمع وكل واحد واحد في المفرد "قبل ملاحظة استحالة انقسامه" أي الدرهم "على الكل" الموجبة لانتفاء إرادة استغراق كل جمع جمع في الجمع، ومن هنا قال الفاضل الأبهري في تقرير الفرق في الصورة الأولى: أنه ليس لأجل أن استغراق كل واحد زائد يدل على العموم بل لأجل أن الرجل ليس مما يشتمل على الأنواع المختلفة الحقائق فلم يقصد لجمعه الأنواع، واللام الداخلة فيه لجنس الجمع لا لاستغراق(22/111)
المجموع لما عرفت أن اللام موضوعة للإشارة إلى الحقيقة، والاستغراق إنما ينشأ من المقام، ولم يوجد هنا قرينة تدل على الاستغراق والأصل براءة الذمة فحملت اللام على الحقيقة ولما لم تتحقق الحقيقة إلا في ضمن جزئي من جزئياتها حمل الرجال هنا على أقل مراتب الجمع كما قيل في قوله تعالى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] على مرتبة تستغرق جميع مراتب الجمع كما قال أبو علي في الجمع المنكر في سياق الإثبات. ا هـ. وقد عرفت ما في بعض هذا فيما تقدم. "وبتبادر صدق ما تقدم" أي أخذ صدقة من أموالهم على أخذ صدقة واحدة منها "فالحق أن عمومها" أي الجموع "مجموعي، وإن قلنا إن إفراد الجمع العام الوحدان" كما سلف في أوائل الكلام في العام "فإنه" أي ذاك "لا ينافيه" أي هذا "ولزوم الحكم الشرعي أو مطلقا" أي شرعيا كان أو غيره "لكل" من الآحاد فيه "ضرورة عدم تجزي المطلوب وغيره" من الموانع "ك {يحب المحسنين} " للعلم بحب كل محسن. "والحاصل أنه" أي عموم الجمع في الآحاد على وجه الانفراد "مقتضى أمر آخر غير اللغة" من حيث الوضع فلا ينافي ما سلف في الكلام في تعريف العام من أنه إنما لزم من تعليق الحكم بالجمع العام تعلقه بكل فرد مع أن(22/112)
ص -285-…التعليق بالكل لا يلزم في الجزء للعلم باللزوم لغة في خصوص هذا الجزء؛ لأنه جزئي من وجه "وصورة هذه" المسألة "عند الحنفية الجمع المضاف لجمع كمن أموالهم لا يوجب الجمع في كل فرد خلافا لزفر" فإن عنده إيجابه في كل فرد "وجه قوله: إن المضاف إلى الجمع مضاف إلى كل فرد، وهو" أي المضاف هنا "جمع فيلزم في حق كل فيؤخذ من كل مال لكل" من الأفراد. "ومفزعهم" أي ملجأ الحنفية "في دفعه" أي وجهه "الاستعمال المستمر نحو {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} وكركبوا دوابهم يفيد نسبة آحاده" أي المضاف "إلى آحاده" أي المضاف إليه "ففي الآية يؤخذ من مال كل لا من كل مال كل ويدفع" هذا الدفع "أنه" أي كون مقابلة الجمع بالجمع يفيد انقسام الآحاد على الآحاد فيما ذكر "لخصوص المادة" ألا ترى أن قوله تعالى {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} [الأنعام: 31] إخبار بحمل كل واحد ما يخصه من الوزر لا وزرا واحدا وأنه يصح: قتل المسلمون الكافرين، وإن لم يقتل كل مسلم كافرا إلى غير ذلك "لكنه" أي هذا الدفع للدفع "إبطال دليل معين لا يدفع المطلوب وقد بقي ما قلنا" من كون الحق أن عموم الجمع مجموعي، ومعلوم أن عليه يوجد الامتثال بأخذ صدقة من مال كل "وعليه" أي أن مقابلة الجمع بالجمع تفيد انقسام الآحاد على الآحاد "فرع" ما في الجامع الكبير "إذا دخلتما هاتين الدارين أو ولدتما ولدين فطالقتان فدخلت كل دارا وولدت كل ولدا طلقت" في نظائر لهاتين المسألتين تعرف ثمة.
مسألة
"الاتفاق على عموم مفهوم الموافقة دلالة النص وكذا إشارة النص عند الحنفية؛ لأنهما دلالة اللفظ، واختلف في عموم مفهوم المخالفة عند قائليه نفاه الغزالي خلافا للأكثر فقيل"(22/113)
ص -286-…الخلاف "لفظي" ذكره ابن الحاجب وغيره "لثبوت نقيض الحكم" للمنطوق "في كل ما سوى محل النطق اتفاقا ومراد الغزالي أنه" أي العموم "لم يثبت" في الأفراد التي تناولها المفهوم "بالمنطوق" بل المفهوم بواسطة المنطوق "ولا يختلف فيه" أي في أن ثبوت نقيض الحكم في الأفراد التي تناولها المفهوم ليس بالمنطوق وحاصله أنه نزاع لفظي يرجع إلى تفسير العام فمن فسره بما يستغرق في محل النطق لم يكن للمفهوم عموم، ومن فسره بما يستغرق في الجملة، سواء كان في محل النطق أو لا كان له عموم "لكن قول الغزالي" في المستصفى "من يقول بالمفهوم قد يظن للمفهوم عموما ويتمسك به" أي بعمومه "وفيه" أي وفي أن له عموما "نظر؛ لأن العموم لفظ" تتشابه دلالته بالإضافة إلى المسميات، والنحوي ليس يتمسك بلفظ بل بسكوت وقد عبر المصنف عن هذا مختصرا بقوله: "والتمسك بالمفهوم تمسك بسكوت" فإذا قال في سائمة الغنم زكاة فنفي الزكاة عن المعلوفة ليس بلفظ حتى يعم اللفظ أو يخص وقوله: {ولا تقل لهما أف} [الإسراء: 23] دل على تحريم الضرب لا بلفظ المنطوق به حتى يتمسك بعمومه، وقد ذكرنا أن العموم للألفاظ لا للمعاني. ا هـ "ظاهر في تحققه" أي الخلاف "وبنائه على أنه" أي العموم "من عوارض الألفاظ خاصة" فلا تعم، وهو قوله كما أفصح به "أولا" من عوارضها خاصة فتعم خاصة كما قال غيره "وحقق تحقق العموم" في المفهوم. "وإن النزاع في أنه" أي العموم "ملحوظ للمتكلم" بمنزلة المعبر عنه بصيغة العموم "فيقبل حكمه" أي العموم "من التخصيص" وتجزئ الإرادة "أولا" أي أو غير ملحوظ له "بل هو لازم عقلي ثبت تبعا لملزومه"، وهو المنطوق "فلا يقبله" أي التخصيص والتجزئة في الإرادة؛ لأن اللازم عقلا لا مدخل للإرادة فيه "وهو" أي كونه لازما عقليا "مراد الغزالي فيحمل قوله ويتمسك به إلخ أي في إثبات حكمه ذلك" فيكون الضمير المجرور في به عائدا على نفس المفهوم لا على عمومه، وغير خاف أن هذا مستغن عن(22/114)
قوله إلى آخره، وإنما حقق هذا والمحقق له القاضي عضد الدين "لاستبعاد أن لا يثبت نقيض حكم المنطوق لكل ما صدق عليه المفهوم". قال المصنف: "وعلمت أن لفظ الغزالي ظاهر في خلافه" أي هذا المحقق "وجاز أن يقول" الغزالي "بثبوت النقيض" أي نقيض حكم المنطوق لما صدق عليه المفهوم "على العموم وينسبه إلى الأصل لا للمفهوم كطريق الحنفية فيه" أي في المفهوم "على ما تقدم" في بحث المفهوم فلم يوجب الإثبات لكل ما صدق عليه المفهوم تأويل لفظه بما ذكر فيبقى على ظاهره قلت على أن حمل قوله ويتمسك على ما ذكره ينبو عنه كل النبو قوله وفيه نظر إلخ فلينظر.
مسألة
"قالت الحنفية يقتل المسلم بالذمي فرعا فقهيا مع" علمهم بالحديث الحسن الذي في التاريخ الأوسط للبخاري وسنن أبي داود رواية أبي بكر بن داسة وغيرهما من "قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده" فاختلف في مبناه" أي هذا الفرع "فالآمدي" والغزالي "عموم المعطوف عليه يستلزم عموم المعطوف عند الحنفية خلافا لهم" أي للشافعية "ولا بد من تقدير: بكافر مع ذو عهد، وإلا" أي، وإن لم يقدر بكافر بعد في عهده "لم يقتل" ذو عهد(22/115)
ص -287-…"بمسلم" فإنه حينئذ يكون نفيا لقتله مطلقا، وهو باطل اتفاقا، وإذ كان عموم المعطوف عليه يستلزم عموم المعطوف عند الحنفية "فأما" يكون "لغة على ما قال الحنفية المعطوف جملة ناقصة فيقدر خبر الأول فيها تجوزا به" أي بالخبر "عن المتعلقات" فإن بكافر ليس بخبر لمبتدأ بل هو جار ومجرور متعلق بالفعل "فنحو ضربت زيدا يوم الجمعة وعمرا يلزم تقييد عمرو به" أي ضربه بيوم الجمعة "ظاهرا" فلا يضر التزامه إذا أورد "ووجهه" أي هذا الاستلزام لغة "أن العطف لتشريك الثاني في المتعلق" بفتح اللام الكائن للعامل مع العامل "وهو" أي وتشريكه فيه "عدم قتله" أي ذي عهد "بكافر، وإن شركه النحاة في العامل، ولم يأخذوا القيد" الكائن في المعطوف عليه "فيه" أي في المعطوف أيضا "لكن هذا" أي التشريك في المتعلق أيضا "حق، وهو لازمهم" أي النحاة "فإن العامل مقيد بالفرض فشركته" أي الثاني للأول "فيه" أي في العامل "توجب تقيده" أي الثاني بذلك القيد "مثله" أي الأول "وإما" يكون "بمنفصل شرعي هو لزوم عدم قتل الذمي بمسلم لولاه" أي شركته معه في المتعلق "ثم هو" أي الكافر "مخصوص بالحربي لقتله" أي ذي العهد "بالذمي فانتفى اللازم"، وهو عموم الثاني "فينتفي الملزوم، وهو عموم الأول" فلا يحمل على عدم قتل المسلم بكافر مطلقا. "وقيل" قاله الإمام الرازي والبيضاوي بل الجمهور على ما قال الأصفهاني "تخصيص المعطوف يوجبه في المعطوف عليه عندهم" أي الحنفية "وهذا" القول "لازم للأول" الذي قاله الآمدي "لأن تخصيصه" أي المعطوف "نفي عمومه، وهو" أي نفي عمومه "انتفاء اللازم في الأول"؛ لأن اللازم في الأول هو عموم المعطوف "ونفي اللازم ملزوم لنفي الملزوم"، وهو عموم المعطوف عليه في الأول فينتفي عموم المعطوف عليه؛ لانتفاء عموم المعطوف، ويلزم منه أن تخصيص المعطوف يخصص المعطوف عليه، وهو المطلوب، وفي هذا تعريض بالتعقب لقول المحقق التفتازاني فزعم بعضهم أن هذه تلك، وليس(22/116)
كذلك بل هذه مسألة برأسها "وقد يقال" في تقرير هذا تخصيص الثاني "يستلزم تخصيص الأول بما خص به" الثاني "ولا شك أنه" أي تخصيص الثاني بالحربي "مراد" لئلا يلزم منه أن لا يقتل ذمي بذمي، وحيث يخصص الثاني بالحربي فالأول كذلك "فيصير الحديث دليلا للحنفية على قتل المسلم بالذمي"؛ لأنه صار المعنى لا يقتل مسلم بحربي ولا ذمي بحربي ويلزمه أنه يقتل مسلم بغير حربي فيدخل في غير الحربي الذمي لكن كما قال المصنف "وهذا إنما يتم لو قالوا بمفهوم المخالفة"، وهم لا يقولون به في مثله "وقيل قلبه" أي يستلزم تخصيص الأول تخصيص الثاني "غير أنه" أي هذا القول "لا يصح مبني الفرع" المذكور لعدم دليل الخصوص في الأول "نعم لا تلازم" بين المعطوف والمعطوف عليه من جهة العموم والخصوص "فقد يعمان" أي المعطوف والمعطوف عليه "وقد يعم أحدهما لا الآخر، وكون العطف للتشريك يصدق إذا شركت بعض أفراد المعطوف في المقيد المتعلق بكل الأول". قال المصنف: يعني لا يلزم من كون العطف للتشريك في العامل المقيد استواء المتعاطفين في العموم الصرف أو التخصيص بل يصدق التشريك إذا كان المعطوف عاما مخصوصا تعلق به ما تعلق بالعام المعطوف عليه الذي لم يخصص هذا معنى قوله بكل(22/117)
ص -288-…الأول والمراد ببعض أفراده التي شركت هي الباقية تحت العام المعطوف بعد التخصيص، وإنما يصح العطف مع ذلك؛ لأنه يصدق أن المراد بالمعطوف شارك المراد بالمعطوف عليه فيما تعلق به، وإنما اختلف المراد بالمتعاطفين نفسهما "فظهر" بناء على الأصل المذكور لهم "أن الحديث لا يعارض آيات القصاص العامة، وإن خص منها الحربي لتخصيص كافر الأول بالحربي، والمحققون" من الحنفية "على أن المراد بالكافر الحربي المستأمن" لا الحربي مطلقا "ليفيد" قوله: " لا يقتل مسلم بكافر " "إذ غيره" أي الحربي المستأمن، وهو الحربي الذي ليس بمستأمن "مما عرف بالضرورة من الدين كالصلاة" أن المسلم لا يقتل به "فلا يقتل الذمي بالمستأمن" كما لا يقتل المسلم به بناء على أن تخصيص كافر الأول به موجب لتخصيص كافر الثاني به أيضا. قال المصنف: والظاهر من الحنفية أن تخصيص الأول بدليل يوجبه في الثاني بعينه لما ذكرنا أنه ناقص فيقدر ما في الأول فيه فلا يمنع من قتل الذمي بالذمي وتخصيص الثاني بدليله يدل على مثله في الأول دلالة قريبة فلا يوجبه لغة، ولا يمنع من قتل المسلم بالذمي "والذي في هذه" المسألة "من مباحث العموم كون العطف على عام لعامله متعلق عام يوجب تقدير لفظه" أي لفظ المتعلق العام "في المعطوف ثم يخص أحدهما بخصوص الآخر، وإلا" أي، وإن لم يخص أحدهما بخصوص الآخر "اختلف العامل وفيه" أي لزوم اختلافه على هذا التقدير "ما سمعت" من عدم لزوم اتحاد كميتي المتعاطفين في الأفراد المتناولة، وأن اختلافها لا يوجب اختلاف العامل؛ لأنا فرضنا تقدير قيد العامل في كل منهما ولا ينافيه اختلاف كميتهما إذ يصدق أنه شرك المراد بأحدهما المراد بالآخر في العامل المقيد قاله المصنف أيضا ثم في هذا المقام مزيد كلام لم نطول به إيثارا للاقتصار على ما في الكتاب من المرام.
مسألة(22/118)
"الجواب غير المستقل" عن سؤال بأن لا يكون مفيدا بدونه كنعم ولا "يساوي السؤال في العموم اتفاقا وفي الخصوص قيل كذلك" أي يساويه في الخصوص أيضا اتفاقا حتى لو قيل هل يجوز الوضوء بماء البحر فقال نعم كان عاما ولو قيل هل يجوز لي الوضوء بماء البحر فقال نعم كان خاصا "وقيل يعم" الجواب فيه "عند الشافعي" حتى كان الجواب فيه إلا على جواز التوضؤ بماء البحر لكل أحد "لترك الاستفصال" أي؛ لأن تركه في حكاية الحال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال كما هو محكي عن الشافعي، وهذا صريح كلام الآمدي وشارحي أصول ابن الحاجب على ما ذكره المحقق التفتازاني لكن الظاهر كما نبه عليه الفاضل الأبهري أن من ذهب إلى أن الشافعي ذهب إليه إنما أخذه من المحكي المذكور عنه لتناوله الجواب غير المستقل لكنه وهم فإنه لم يرده إلا فيما هو مستقل ومن ثمة لم يورد إمام الحرمين في أمثلته إلا ما هو مستقل بل وقال إمام الحرمين في هذه المسألة: العموم فرع استقلال الكلام بنفسه بحيث يفرض الابتداء به من غير تقدم سؤال فإذ ذاك يستمسك بعض باللفظ وآخرون بالسبب فأما إذا كان لا يثبت الاستقلال دون تقدم سؤال، والسؤال خاص به(22/119)
ص -289-…فالجواب تتمة له وكالجزء منه ولا سبيل إلى ادعاء العموم به، وبهذا ظهر وجه قول المصنف "والظاهر الأول" أي أن الجواب غير المستقل يتبع السؤال في الخصوص "ولا معنى للزوم العموم" في الجواب "لتركه" أي الاستفصال "إلا في الأحوال والأوقات والمراد عموم المكلفين" أي لكن النزاع إنما هو في أن المراد عموم الجواب للمكلفين أو خصوصه ببعضهم "والقطع أنه" أي العموم للمكلفين "إن ثبت في نحو" نعم جوابا لقوله "أيحل لي كذا فبقياس" لهم عليه لوجود علته فيهم كما فيه "أو بنحو وحكمي على الواحد" حكمي على الجماعة من النصوص المفيدة لثبوت الحكم في حقهم أيضا "لا من نعم" فقط، وهذا لا ينافي خصوصه كسائر أنواع الخصوص. "وأما" الجواب "المستقل العام على سبب خاص فللعموم" عند الأكثر والمراد بالمستقل ما يكون وافيا بالمقصود مع قطع النظر عن السبب ولا فرق بين أن يكون السبب سؤالا، نحو ما روى أحمد وقال صحيح والترمذي وحسنه قيل يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة، وهي بئر تلقى فيها الحيض والنتن ولحم الكلاب فقال: "إن الماء طهور ولا ينجسه شيء" أو حادثة كما لو شاهد من رمى إهاب شاة ميتة فقال "أيما إهاب دبغ فقد طهر" "خلافا للشافعي" على ما نقله الآمدي وابن الحاجب وغيرهما اعتمادا على قول إمام الحرمين في البرهان أنه الذي صح عندي من مذهب الشافعي لكنه مردود كما قال الإسنوي بنصه في الأم على أن السبب لا يصنع شيئا إنما يصنعه الألفاظ ومشى عليه أكثر أصحابه، وبين فخر الدين الرازي في مناقبه، وهم ناقل الأول عنه بما يعرف ثمة نعم قال به من أصحابه المزني وأبو ثور والقفال والدقاق وروي عن مالك وذهب بعض العلماء كأبي الفرج ابن الجوزي إلي كان وقوع حادثة "لنا أن التمسك باللفظ، وهو عام" ولا مانع من إجرائه على عمومه.(22/120)
فإن قيل بل ثم مانع، وهو خصوص السبب قلنا ممنوع كما أشار إليه قوله "وخصوص السبب لا يقتضي إخراج غيره" أي ذي السبب بالضرورة؛ لأنه لا ينافي عمومه فكيف يخرج غيره. "وتمسك أصحابه فمن بعدهم في جميع الأعصار بها" أي بالأجوبة العامة الواردة على سبب خاص "كآية السرقة، وهي في رداء صفوان أو المجن" كما قال ابن الحاجب وغيره وتعقبه شيخنا الحافظ رحمه الله بأنه لم ير في شيء من التفاسير أن ذلك سبب نزول الآية، وإنما ذكر الواحدي وجماعة عن ابن الكلبي أن الآية نزلت في ابن أبيرق سارق الدرع الذي ذكرت قصته في الآيات التي من سورة النساء فيها {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ} بل سياق قصة القطع في رداء صفوان على ما أخرجه الدارقطني في الموطآت يفيد تأخر وقوعها عن نزول الآية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قطع المخزومية التي سرقت وذلك بعد فتح مكة كما ثبت في مسلم وصفوان بن أمية إنما أسلم بعد ذلك "وآية الظهار في سلمة بن صخر البياضي" كما قاله ابن الحاجب وغيره أيضا وتعقبوه بأنها إنما نزلت في أوس بن الصامت وزوجته خولة كما رواه أبو داود وغيره. وأخرج الطبراني من حديث ابن عباس قال كان أول ظهار في الإسلام بين أوس بن الصامت وامرأته قال شيخنا الحافظ: وليس يبعد ما قاله ابن(22/121)
ص -290-…الحاجب وذلك ظاهر من سياق حديث سلمة بن صخر ثم أسند إليه قال كنت امرأ أصيب من النساء ما لا يصيب غيري فدخل شهر رمضان فخفت أن يقع مني شيء في ليلتي فيتابع بي حتى أصبح فظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ الشهر فبينما هي تخدمني إذ تكشف لي منها شيء فما لبثت أن نزوت عليها فلما أصبحت خرجت إلى قومي فقصصت عليهم خبري وقلت لهم امشوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا لا والله ما نمشي معك إنا نخاف أن ينزل فيك القرآن أو يتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيك بمقالة يلزمنا عارها فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: "أنت بذاك يا سلمة" قلت: أنا بذاك يا رسول الله قال: أنت بذاك يا سلمة قلت أنا بذاك يا رسول الله قال أنت بذاك يا سلمة قلت أنا بذاك يا رسول الله فاحكم في بما أراك الله فها أنا ذا صابر نفسي قال "أعتق رقبة"، الحديث. أخرجه أحمد وغيره وحسنه الترمذي ثم قال فجائز أن تكون قصة سلمة وقعت عقب قصة أوس بن الصامت فنزلت الآية فيهما وذلك ظاهر من قول قوم سلمة نخشى أن ينزل فيك قرآن فإن فيه وفي سؤال سلمة إشارة إلى أن آية الظهار لم تكن نزلت. انتهى. قلت ولقائل أن يقول يبعده تضافر الروايات المعتبرة على أن زوجة أوس لما ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما برحت أو فلم ترم مكانها حتى نزلت الآية، ثم الآية نفسها فإنها مشيرة إلى أن سبب نزولها مجادلة زوجة المظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكواها إلى الله ولم ينقل هذا كله إلا في زوجة أوس ثم ليس في قول قوم سلمة نخشى أن ينزل فيك قرآن ولا في سؤال سلمة إشارة راجحة إلى أن آية الظهار لم تكن نزلت ولا بظاهر أيضا أن المخشي وقوعه من النزول كان بيان حكم الظهار ولا من البعيد أن يكون المخشي نزوله فيه هو التوبيخ له ونحوه، ومن ثمة أردفوه بقولهم أو يتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيك بمقالة يلزمنا عارها ولا أن تكون الآية قد نزلت وخفي عليهم(22/122)
وعليه حكمها بالنسبة إليه، ويدل عليه مبادرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيان الحكم من غير ذكر انتظار الوحي ولا التوقف فيه، والله سبحانه أعلم.
"وآية اللعان في هلال بن أمية أو عويمر" كما كلاهما في الصحيحين وغيرهما وسياقه بالنسبة إلى عويمر أنه قال لعاصم أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل سل لي عن ذلك يا عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن عاصما سأله فكره المسائل وعابها حتى كبر على عاصم ما سمع منه وأن عويمرا قال لا أنتهي حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فجاءه في وسط الناس فسأله فقال: " قد أنزل فيك وفي صاحبتك فاذهب فأت بها" قال سهل فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال شيخنا الحافظ رحمه الله تعالى: والجمع بين الحديثين أن عاصما لما سأل لعويمر تخلل بين ذلك وبين مسألة عويمر بنفسه قصة هلال فنزلت الآية فلما جاء عويمر قيل له قد أنزل فيك وفي صاحبتك باعتبار شمول الآية كل من وقع له ذلك. ا هـ. قلت: وهذا يفيد أن سبب نزولها كل منهما ثم قول أنس كان أول من لاعن في الإسلام هلال بن أمية الحديث، يفيد أن العمل بمقتضى الآية كان في هلال قبل عويمر، والله تعالى أعلم.(22/123)
ص -291-…"قالوا: لو كان" الجواب عاما للسبب وغيره "لجاز تخصيص السبب بالاجتهاد" من عموم الجواب كغيره من أفراده لتساويها في العموم، واللازم باطل فالملزوم مثله "وأجيب" بمنع الملازمة "بأنه" أي تخصيص السبب بالاجتهاد "خص من جواز التخصيص للقطع بدخوله" أي الفرد السببي في إرادة المتكلم قطعا "وإلا" أي، وإن لم يكن داخلا فيها "لم يكن" الجواب "جوابا" له، وهو باطل، ولا بعد أن يدل دليل على إرادة خاص فيصير كالنص فيه والظاهر في غيره فيمكن إخراج غيره دونه. "وأجيب أيضا بمنع بطلان اللازم"، وهو جواز تخصيص السبب بالاجتهاد "فإن أبا حنيفة أخرج ولد الأمة" الموطوءة "من عموم الولد للفراش" فلم يثبت نسبه منه إلا بدعواه "مع وروده" أي الولد للفراش"في وليدة زمعة" وكانت أمة موطوءة له ولا بأس بسوقه إيضاحا للمرام ففي الصحيحين وغيرهما عن عائشة قالت كان عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص أن ابن وليدة زمعة مني فاقبضه إليك فلما كان عام الفتح أخذه سعد فقال ابن أخي عهد إلي فيه فقام عبد بن زمعة فقال أخي وابن أبي ولد على فراشه فتساوقا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال كل منهما ما قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هو لك يا عبد بن زمعة الولد للفراش وللعاهر الحجر". ثم قال لسودة بنت زمعة "احتجبي منه" لما رأى من شبهه بعتبة فما رآها حتى لحق بالله تعالى "وليس" هذا الجواب "بشيء" دافع لدليل المخصصين "فإن السبب الخاص ولد زمعة ولم يخرجه" من الولد للفراش"فالمخرج نوع السبب"، وهو ولد الأمة الموطوءة "مخصوصا منه" أي نوع السبب "السبب" الخاص، وهو ولد زمعة "والتحقيق أنه" أي أبا حنيفة "لم يخرج نوعه أيضا؛ لأنها ما لم تصر أم ولد عنده" أي أبي حنيفة "ليست بفراش فالفراش المنكوحة"، وهي الفراش القوي يثبت فيه النسب بمجرد الولادة ولا ينتفي إلا باللعان "وأم الولد"، وهي فراش ضعيف إن كانت حائلا فيجوز تزويجها، وفراش متوسط إن كانت(22/124)
حاملا فيمتنع تزويجها، ويثبت نسب ولدها بلا دعوة وينتفي بمجرد نفيه في الحالين، وهذا أوجه من قولهم الفرش ثلاثة: قوي، وهي المنكوحة. ومتوسط، وهي أم الولد. وضعيف، وهي الأمة الموطوءة التي لم يثبت لها أمومية الولد "وإطلاق الفراش على وليدة زمعة في قوله صلى الله عليه وسلم: " الولد للفراش" بعد قول عبد بن زمعة ولد على فراش أبي لا يستلزم كون الأمة مطلقا فراشا لجواز كونها" أي وليدة زمعة "كانت أم ولد وقد قيل به" أي بكونها أم ولد له "ودل عليه بلفظ وليدة فعيلة بمعنى فاعلة على أنه منع أنه صلى الله عليه وسلم أثبت نسبه لقوله هو لك" أي ميراث من أبيك ومن ثمة لم يقل هو أخوك وما في رواية هو أخوك يا عبد فمعارضة بهذه، وهذه أرجح؛ لأنها المشهورة المعروفة. وقوله: "احتجبي منه يا سودة" إذ لو كان أخاها شرعا لم يجب احتجابها منه ويؤيده رواية أحمد "وأما أنت فاحتجبي منه فإنه ليس لك بأخ" "قالوا لو عم" الجواب في السبب وغيره "كان نقل الصحابة السبب بلا فائدة" إذ لا فائدة له سوى التخصيص "وهو" أي ونقلهم السبب بلا فائدة "بعيد"؛ لأن مثلهم لا يعتني بنقل ما لا فائدة فيه "أجيب بأن معرفته" أي السبب "ليمنع تخصيصه" بالاجتهاد "أجل فائدة، ونفس معرفة الأسباب ليحترز عن الأغاليط". فائدة: أيضا "قالوا لو قال لا أتغدى جواب تغد(22/125)
ص -292-…عندي لم يعم" قوله لا أتغدى كل تغد ونزل على التغدي عنده "إذ لم يعد كاذبا بتغديه عند غيره أجيب بأن تخصيصه" لعموم كل تغد "يعرف فيه"، وهو عرف المحاورة الدال على أنه لا يتغدى عنده "لا بالسبب" وتخلف الحكم عن الدليل لمانع لا يقدح فيه فانتفى قول زفر بعمومه، حتى لو كان حالفا على ذلك حنث، ولو زاد على الجواب اليوم ثم تغدى عند غيره لم يحنث عند الشافعي أيضا إذا حلف عليه، وقال أصحابنا: يحنث لظهور إرادة الابتداء دون الجواب حملا للزيادة على الإفادة دون الإلغاء نعم إن نوى الجواب صدق ديانة لاحتماله. "قالوا: لو عم" الجواب السبب المسئول عنه وغيره "لم يكن" الجواب "مطابقا" للسؤال؛ لأن السؤال خاص، والجواب عام، وأنه يجب نفي مثله عن الشارع "قلنا" الملازمة ممنوعة بل "طابق" الجواب السؤال بكشفه عن معناه وتبيين حكمه "وزاد" عليه ما لم يسأل عنه، ولا ضير في ذلك وكيف لا، وقد قال تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى قال هي عصاي قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه: 17-18] وصحح البخاري والترمذي وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ماء البحر فقال: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" "قالوا لو عم" الجواب المسئول عنه غيره "كان" العموم "تحكما بأحد مجازات محتملة" ثلاثة "نصوصية على السبب فقط" أي كون عموم الجواب نصا في الفرد السببي الخاص الذي لأجله ورد العام دون غيره. "أو" نصوصية على السبب "مع الكل" أي سائر الأفراد التي هو ظاهر فيها الفرق بينه وبين العام الذي هو حقيقة أنه ظاهر في الجميع وما نحن فيه نص في بعض وظاهر في الباقي. "أو" نصوصية على السبب مع "البعض" أي بعض الأفراد التي هو ظاهر فيها "قلنا: لا مجاز أصلا؛ لأنه" أي المجاز إنما يتحقق "بالاستعمال في المعنى" الذي لم يوضع اللفظ له "لا بكيفية الدلالة" من الظهور والنصوص "وقد استعمل"(22/126)
اللفظ العام الذي هو الجواب "في الكل" أي فرده السببي وباقي أفراده "فهو حقيقة" في العموم "وأيضا نمنع نصوصيته" أي اللفظ العام بالنسبة إلى الفرد السببي "بل تناوله للسبب كغيره" من الأفراد "وإنما يثبت بخارج" عن اللفظ، وهو لزوم انتفاء الجواب "القطع بعدم خروجه" أي الفرد السببي "من الحكم". لكن على هذا ما قال المصنف: "ولا يخفى أن الخارج حينئذ" أي حين كونه سببا للقطع بعدم خروجه "محقق للنصوصية؛ لأنها" أي النصوصية "أبدا لا تكون من ذات اللفظ إلا إن كان" اللفظ "علما إن لم يتجوز بها" أي بالأعلام فإن تجوز بها فهي كغيرها إنما تكون نصوصيتها بخارج فإن قلت هذا فرض ما هو غير ممكن فيها؛ لأن فخر الدين الرازي والآمدي صرحا بأن الأعلام ليست بحقيقة ولا مجاز، والتجوز بها فرع كونها حقيقة. قلت: ممنوع فإن الأصح أن المجاز لا يستلزم الحقيقة كما يأتي في موضعه على أن الأشبه أنها بعد الاستعمال لا تخرج عنها كما سيذكر في محله ثم ما نحن فيه ليس من الأعلام فلا يتم هذا الجواب وفيما قبله كفاية.
"البحث الرابع الاتفاق على إطلاق قطعي الدلالة على الخاص وعلى احتماله" أي الخاص "المجاز" بمعنى أنه يجوز أن يراد به معنى مجازي له "ويلزمه" أي الاتفاق على احتمال الخاص المجاز "الاتفاق على عدم القطع بنفي القرينة الصارفة عن" المعنى "الحقيقي"(22/127)
ص -293-…للخاص إلى المعنى المجازي له؛ لأن القطع بنفيها يمنع احتماله إياه إلا أن في هذين الأمرين ملزوما ولازما بحثا يوجب منعه كما يذكره المصنف آخرا "وإن هذا القطع" المنسوب إلى دلالة الخاص "لا ينافي الاحتمال مطلقا"، وإنما ينافي الاحتمال الناشئ عن دليل "واختلف في إطلاقه" أي قطعي الدلالة "على العام فالأكثر" من الفقهاء والمتكلمين "على نفيه" أي نفي إطلاقه عليه "وأكثر الحنفية" أي جمهور مشايخ العراق وعامة المتأخرين. "نعم" أي يطلق عليه بل ذكر عبد القاهر البغدادي من المحدثين أنه مذهب أبي حنيفة وأصحابه وقواه فخر الإسلام "وأبو منصور" الماتريدي "وجماعة"، وهم مشايخ سمرقند لا يطلق عليه "كالأكثر لكثرة إرادة بعضه" أي العام من إطلاقه "سواء سمي" كون بعضه مرادا "تخصيصا اصطلاحيا أو لا كثرة تجاوز الحد، وتعجز عن العد حتى اشتهر ما من عام إلا وقد خص، وهذا" العام أيضا مما خص بنحو {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} لعدم تخصيص ما في هاتين الآيتين من العموم "في قلة مما لا يحصى ومثله" أي وجود هذه الكثرة "يورث الاحتمال في" العام "المعين" جريا على ما هو الكثير الغالب "فيصير" كون المراد جميع مدلوله "ظنيا فبطل" بهذا دفع صدر الشريعة الاستدلال على ظنية العام بكثرة بل بأكثرية تخصيصه، وهو "منع كثرة تخصيصه؛ لأنه" أي تخصيصه عندنا إنما يكون "بمستقل مقارن، وهو" أي المستقل المقارن "قليل" فلا يتم القول بأن الأكثر في العام التخصيص، وإنما بطل "لأنهم" أي الظنيين "يمنعون اقتصاره" أي التخصيص على أنه إنما يكون بمستقل مقارن بل هو أعم من ذلك "ولو سلم" أن التخصيص إنما يكون بذلك "فالمؤثر في ظنيته" أي في الموجب لظنية العام إنما هو "كثرة إرادة البعض فقط لا مع اعتبار تسميته تخصيصا في الاصطلاح" ولا شك في ثبوته ونحن نسميه تخصيصا وعلى رأينا أطلقناه عليه فإن وافقتم على الإطلاق فبها،(22/128)
وإن أبيتم إطلاقه عليه اصطلاحا منكم فلا يضر في المقصود. "قالوا" أي القطعيون: "وضع" العام "لمسمى فالقطع بلزومه" أي المسمى له "عند الإطلاق" كالخاص ثم قالوا إيرادا وجوابا "فإن قيل إن أريد" بالقطع بلزومه "لزوم تناوله" أي اللفظ له "فمسلم ولا يفيد"؛ لأن التناول ثابت للكل بعد التخصيص بالعقل؛ لأنه يتبع الوضع فلا يدل لزوم تناول اللفظ والقطع به على كونه قطعي الدلالة لثبوته قطعا حال ظنية العام، وهو ما بعد التخصيص والقطع بأنه حينئذ متناول لجميع ما وضع له ذكره المصنف "أو إرادته" أي لزومها "فممنوع إذ تجويز إرادة البعض قائم فيمنع القطع، قيل المراد" بالقطع بلزومه القطع بإرادة ما تناوله اللفظ، وهو "ما" أي قطع "كقطعية الخاص"، وهو القطع الذي لا احتمال فيه عن دليل "لا ما ينفي احتماله" أي العام أصلا "لتحققه" أي الاحتمال لا عن دليل "في الخاص مع قطعيته اتفاقا" فانتفى كون التجويز المذكور منافيا للقطع فيه "فحقيقة الخلاف" في قطعية العام "أنه" أي العام "كالخاص" في القطعية "أو أحط فلا يفيد الاستدلال" على قطعية العام "بأنه لو جاز إرادة بعضه بلا قرينة كان تلبيسا أو تكليفا بغير المقدور"؛ لأنه ليس في الوسع الوقوف على الإرادة الباطنة ولا تكليف إلا بما في الوسع، وإنما لا يفيد الاستدلال بهذا على ذلك "للزوم مثله في الخاص"، وهو أن لا يجوز(22/129)
ص -294-…أن يراد به بعضه، وهو ممنوع؛ لأنه يحتمل المجاز إذ هذا القطع لا ينفي الاحتمال كما بينا "مع أن الملازمة ممنوعة أما الأول" أي أما منعها على تقدير اللازم الأول الذي هو لزوم التلبيس في إطلاق العام "فلأن المدعى خفاؤها" أي القرينة "لا نفيها" أي إنما يجوز أنه أراد به بعضه ونصب قرينة غير أنها خفيت علينا ولا تلبيس بعد نصب القرينة، وستسمع ما على هذا من التعقب. "وأما الثاني" أي وأما منعها على تقدير اللازم الثاني، وهو التكليف بغير المقدور "فإنما يلزم" التكليف بغير المقدور "لو كلف" بالعمل "بالمراد" بالعام "لكنه" أي التكليف به منتف فإنه إنما كلف بالعمل "بما ظهر من اللفظ" مرادا كان أو غير مراد في نفس الأمر "والاستدلال" على ظنية العام "بكثرة الاحتمال في العام إذ فيه" أي في العام "ما في الخاص" من احتمال المجاز "مع احتمال إرادة البعض مدفوع" كما ذكر صدر الشريعة "بأن كون حقيقة لها معنيان مجازيان وأخرى واحد لا يحطه" أي ما له مجازان "عنه" أي ما له مجاز واحد "لأن الثابت في كل منهما" أي مما له مجازان وما له مجاز "حال إطلاقه احتمال مجاز واحد فتساويا" في الدلالة على المعنى الحقيقي حيث لا قرينة للمجاز أصلا "قلنا" نحن معشر الظنيين "حين آل" الاختلاف بيننا وبينكم معشر القطعيين في المراد بقطعية دلالة العام على معناه "إلى أنه كالخاص" فيها كما هو مرادكم "أو دونه" كما هو مرادنا "فإنما يرجح" الخاص على العام عندنا "بقوة احتمال العام إرادة البعض لتلك الكثرة" أي كثرة إرادة بعضه من إطلاقه "وندرة ما في الخاص" من احتمال إرادة المجاز "لندرة" أن يراد بنحو "جاء زيد" رسول زيد أو "كتاب زيد بزيد. فصار التحقيق أن إطلاق القطعية على الخاص لعدم اعتبار ذلك الاحتمال" فيه كما في المثال المذكور "بخلاف العام" فإن إرادة البعض من إطلاقه كثير بل أكثري فلا يتحدان مرتبة "قولهم" أي القطعيين "لا عبرة به" أي باحتمال التخصيص في(22/130)
العام "أيضا إذ لم ينشأ عن دليل" فصار العام كالخاص "قلنا" ممنوع "بل نشأ عنه" أي عن دليل "وهو" أي الدليل "غلبة وقوعه" أي التخصيص في العام "فتوجب" غلبة وقوعه "الظنية في المعين، وإن أريد" بالدليل في لم ينشأ عن دليل "دليل إرادة البعض في" العام "المعين" أي لم يثبت دليل إرادة البعض في العام المعين "خرج"، وهذا العام "عن محل النزاع، وهو" أي محله "ظنية إرادة الكل" أي كون الكل مرادا ظني أو قطعي كالخاص بالمعنى المذكور، وهذه معترضة بين ما خرج عنه وبين ما خرج إليه، وهو "إلى القطع بإرادة البعض" فيصير في تحقق إرادة البعض منه أو الكل فقال قائل تحقق في العام المعين إرادة بعضه وقال آخر بل كله "والجواب" عن ظنيته من القطعيين "منع تجويز إرادة البعض بلا مخصص مقارن" مستقل "لاستلزامه" أي هذا التجويز "ما سيذكر في اشتراط مقارنة المخصص" من الإيقاع في الكذب أو طلب الجهل المركب. "ومثله" أي ويجيء مثله "في الخاص" إذا لم يقرن بما يفيد غير ظاهره "وقولهم" أي الظنيين "يحتمل" العام "المجاز أي من حيث هو أما الواقع في الاستعمال فلا يحتمل غيره إلا بقرينة تظهر فتوجب" القرينة "غيره" أي غير ظاهره "وحينئذ" أي وحين كان الحال في احتمال العام المجاز هذا التفصيل "فكون الاتفاق على عدم القطع بنفي القرينة" الصارفة عن الحقيقي إلى المجازي في الخاص(22/131)
ص -295-…كما تقدم "ممنوع بل إذا لم تظهر" القرينة "قطع بنفيها" وقد عرف من هذا منع كونها نصبت وخفيت، وإن المصنف مع أكثر الحنفية "وثمرته" أي الخلاف في أن العام أحط رتبة من الخاص في ثبوت الدلالة أو مثله فيه تظهر "في المعارضة ووجوب نسخ المتأخر منهما" أي العام والخاص "المتقدم" فالقائلون بأن الخاص أقوى قدموه على العام عند التعارض، ولم يجوزوا نسخه بالعام لرجحان الخاص عليه والقائلون بتساويهما لم يقدموا أحدهما على الآخر إذا تعارضا إلا بمرجح وجوزوا نسخ أحدهما بالآخر "ولذا" أي تساويهما "نسخ طهارة بول المأكول" المستفادة مما عن أنس أن رهطا من عكل أو قال عرينة قدموا فاجتووا المدينة فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاح وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها متفق عليه؛ لأن النجس واجب الاجتناب محرم التداوي به ففي سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ولا تداووا بحرام" "وهو" أي النص المفيد طهارته، وهو قوله فأمرهم أن يشربوا من أبوالها أي اللقاح "خاص باستنزهوا البول" أي بما عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه ". رواه الحاكم وقال: على شرطهما ولا أعرف له علة، وهو عام؛ لأن من للتعدية لا للتبعيض والبول محلى باللام للجنس فيعم كل بول وقد أمر بطلب النزاهة منه والطاهر لا يؤمر بالاستنزاه منه هذا إن كان الأمر باستنزاه البول متأخرا عن حديث العرنيين كما قيل "أو رجح" الاستنزاه على حديث العرنيين إن لم يعلم تأخره عنه كما هو الظاهر "بعد المعارضة للاحتياط" في العمل بالمحرم "وأما وجوب اعتقاد العموم فبعد البحث عن المخصص" إلى القطع أو غلبة الظن بعدمه حتى يجب العمل به "اتفاق لبعد وجوب العمل بما لم يعتقد مطابقا له" أي لاعتقاده "وأما قبله" أي البحث عن المخصص "فما تقدم من حمل كلام الصيرفي" عليه في مسألة نقل الإجماع على منع العمل بالعام قبل البحث عن المخصص(22/132)
"يفيد أنه" أي وجوب اعتقاد عمومه "كذلك" أي اتفاق أيضا وكيف لا وقد صرح هو به كما ذكره إمام الحرمين وغيره عنه كما تقدم ثمة "والنظر يقتضي إذ توقف وجوب العمل على البحث توقف اعتقاده" أي وجوب اعتقاد عمومه على البحث عن المخصص لما سلف ثمة من أن الفرق بين الاعتقاد والعمل بأنه يجب اعتقاد العموم قبل البحث عن المخصص ولا يجوز العمل به قبله تحكم مع بيان وجهه فليراجع وقد ظهر ما ذكرناه هناك أيضا من أن ظاهر كلام مشايخنا يوافق ما عن الصيرفي ولا سيما كلام القطعيين منهم فليتأمل. "وقول محمد" في الزيادات "فيمن أوصى بخاتم لإنسان ثم" أوصى مفصولا "بفصه لآخر الفص بينهما" والحلقة للأول خاصة "من باب الخاص"؛ لأن التعبير عنه إما بخاتمي أو هذا الخاتم أو الخاتم الفلاني، وكل منها من الخاص "لا العام" وكيف يكون عاما وتعريف العام غير صادق عليه، وإنما الفص منه كجزء من الإنسان مثلا فكما لا يصير الإنسان باعتبار أجزائه عاما فكذا الخاتم "غير أنه" أي الخاتم "نظير" للعام من حيث إن اسمه يشمل الفص كشمول العام ما يتناوله فأطلق عليه العام توسعا. "وخالفه" أي محمدا "أبو يوسف فجعله" أي الفص "للثاني" كما في الهدايا والإيضاح والمنظومة وغالب شروح الزيادات، وظاهر التقويم وأصول فخر الإسلام أن(22/133)
ص -296-…قول محمد قول الكل قال صاحب الكشف فيحمل على أن لأبي يوسف فيه روايتين. ا هـ. قلت: وهو كذلك فقد ذكر الكرخي أن أبا يوسف لم يثبت خلافه في ظاهر الرواية، وإنما علم من رواية الإملاء واتفقوا على أنه لا خلاف في أن الحلقة للأول والفص للثاني إذا كان موصولا، وجه ما عن أبي يوسف أن الوصية لا تلزمه شيئا في الحياة، والكلام الثاني بيان للمراد من الأول فيكون الموصول والمفصول فيه سواء، كما في الوصية بالرقبة لإنسان والخدمة أو الغلة لآخر، ووجه الظاهر أن اسم الخاتم يتناولهما معا؛ لأنه مركب منهما ومن ثمة صح استثناؤه منه فكان الكلام الثاني تخصيصا، وهو إنما يصح موصولا أما إذا كان مفصولا كان معارضا للأول، وهما في إيجاب الحكم سواء فثبتت المساواة بينهما فيه وليس الثاني رجوعا عن الأول؛ لأن اللفظ لا ينبئ عنه فصار كما لو أوصى بشيء معين لإنسان ثم أوصى به أيضا لآخر حيث يكون بينهما بخلاف ما لو قال الشيء الفلاني الذي أوصيت به لفلان هو لفلان فإنه يكون رجوعا حتى يكون للثاني خاصة بخلاف ما قاس عليه فإن الرقبة لم تتناول الخدمة أو الغلة على سبيل الجزئية لها بل لكونها وصفا تابعا، وهو ليس من التناول اللفظي بشيء، ومن ثمة لم يصح استثناؤهما منها فإذا أوجب الخدمة أو الغلة للغير اختص بها لعدم المزاحم المساوي له في استحقاقها، والله سبحانه أعلم.(22/134)
"البحث الخامس يرد على العام التخصيص فأكثر الحنفية"، وهم الكرخي وعامة المتأخرين وبعض الشافعية أيضا على ما في الكشف وغيره "بيان أنه" أي العام "أريد بعضه بمستقل مقارن" فاحترز بمستقل، وهو ما كان مستبدا بنفسه غير متعلق بصدر الكلام عن غير المستقل، وهو ما لم يكن كذلك كالاستثناء والصفة وبمقارن "أي موصول" بالعام أي مذكور عقبه "في" المخصص "الأول"، وإنما فسره به دفعا لتوهم أن المراد بالمقارنة المعية فإنها بهذا المعنى غير مرادة هنا مع أنها إنما تتصور في فعل خاص للنبي صلى الله عليه وسلم مع قول عام عما لا يكون كذلك فإنه نسخ لا تخصيص، ومن ثمة قال "فإن تراخى" البيان المذكور عنه "فناسخ لا" في المخصص "الثاني"، وهلم جرا، قال المصنف ": والوجه أن الثاني"، وهلم جرا إذا تراخى "ناسخ أيضا إلا القياس إذ لا يتصور تراخيه" أي مقتضاه لعموم علة المنصوص عليه للمقيس الموجبة لمشاركته إياه في الحكم، وإنما كان الوجه هذا الجريان الموجب لاشتراط المقارنة في الأول فيما بعده فعلى ما ذكروا يجوز الإلحاق بالمخصص الثاني المتأخر، وتعدية الإخراج، وعلى ما ذكر المصنف بحثا لا يجوز؛ لأنه ناسخ والناسخ لا يعلل. "وصرح المحققون بأن تفرع عدم جواز ذكر بعض" من المخصصات "دون بعض على منع تأخير المخصص ضروري" من العلم بعلة منع تأخير المخصص، وهذا يؤيد كون الثاني إذا تراخى يكون ناسخا ثم عطف على تراخ "أو جهل" تراخيه كما جهل أيضا مقارنته "فحكم التعارض" يجري بينه وبين القدر المعارض له من العام "كترجيح المانع" منهما أياما كان على المبيح "وإلا" أي، وإن لم يتأت الترجيح فالحكم "الوقف" كما في البديع أو التساقط كما في أصول ابن الحاجب، وهما متقاربان. "ووجب نسخ الخاص بالعام المتأخر عنه" كقلبه وبه قال القاضي وإمام الحرمين. وفي(22/135)
ص -297-…البديع جعل هذا قول العراقيين من الحنفية ثم قال والشافعي والقاضي أبو زيد وجمع من مشايخنا الخاص مبين مطلقا يعني سواء كان الخاص متقدما أو متأخرا أو مجهولا أو وردا معا كما صرح به شارحوه وذكر في المحصول وغيره أن كون الخاص الوارد بعد العام مخصصا محله إذا ورد قبل حضور وقت العمل بالعام؛ لأن تأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز أما إذا ورد بعد حضور وقت العمل بالعام فإنه يكون ناسخا؛ لأن البيان لا يتأخر عن وقت الحاجة، قال الإسنوي: وحينئذ فلا نأخذ به مطلقا، وإنما نأخذ به من حيث لا يؤدي إلى نسخ المتواتر بالآحاد، وأما العامان من وجه الخاصان من وجه فسيأتي الكلام فيهما في التعارض. هذا ومن أصحابنا وغيرهم من زاد لفظي بعد مستقل احترازا عن غير اللفظي كالعقل. "والشافعية" أي أكثرهم "وبعض الحنفية قصر العام على بعض مسماه وقيل" على بعض "مسمياته" كما في أصول ابن الحاجب والبديع بناء "على إرادة أجزاء مسماه" كما حكاه المحقق التفتازاني عن جمهور الشارحين تنزيلا لأجزائه منزلة مسميات له إذ لا مسميات للفظ الواحد بل مسماه واحد من حيث هو مجموع، وهو كل واحد "وهو" أي كون المراد هذا "يحقق ما أسلفناه" في الكلام على تعريف العام "أن دلالته" أي العام "على الأفراد تضمنية أو" إرادة "الآحاد المشتركة في المشترك" بينهما، وهو المعنى الكلي الذي يندرج تحته المسميات التي هي جزئيات له ويصدق حمله على كل منها كما مشى عليه الفاضل الأبهري ", وإضافة المسميات إليه" أي العام "حينئذ" أي حين يكون المراد هذا "بعموم نسبته فإنها" أي الآحاد "مسميات في نفس الأمر لا به" أي بالعام، وعلى هذا لو قال بعض أفراده لكان أوضح كما قال السبكي: وهذا أولى ثم لا خفاء في صدقه على العام المراد به ابتداء الخصوص والعام المراد به ذلك بعد إرادة العموم، والفرق بينهما أن المخصوص عمومه مراد تناولا لا حكما والمراد به الخصوص عمومه ليس بمراد لا حكما ولا تناولا.(22/136)
"ويكون" التخصيص "بمستقل كالعقلي والسمعي المنفصل، ومتصل، والعام فيه" أي في تعريف التخصيص "حقيقة؛ لأنه" أي التخصيص "حكم على المستغرق" بإرادة بعضه لا مجاز كما في قولهم خصص العام، وهذا عام مخصص وفي هذا تعريض بنفي ما ذكر المحقق التفتازاني من أن المراد به عام على تقدير عدم المخصص في غير الاستثناء "فمخرج البعض مطلقا" أي سواء كان متصلا أو لا "مخصص" أي الدال على إخراج البعض من عقل أو حس أو لفظ أو عادة يقال له مخصص مجازا مشهورا تسمية للدليل باسم المدلول؛ لأنه في الحقيقة إرادة المتكلم وقد يراد به أيضا معتقد ذلك من مجتهد أو مقلد. "ويقال": التخصيص "لقصر اللفظ مطلقا" أي عاما كان أو غيره "على بعض مسماه"، وهذا أعم من الأول لصدقه على استعمال الكل في الجزء "ولا يخفى ما في قصر إذ لا ينفي النسخ" بل يصدق عليه في بعض الصور كنسخ بعض ما يتناوله العام لكن أجاب الأبهري بمنع وروده؛ لأن العام إذا ورد عليه النسخ في البعض لم يكن مقصورا على بعض مسمياته حين أطلق بل أريد به أولا ثم رفع البعض أو انتهى حكمه على اختلاف تعريف النسخ بخلاف التخصيص فإنه لم يرد بالعام حين أطلق إلا البعض إما بحسب الحكم كما في الاستثناء، وإما بحسب(22/137)
ص -298-…الذات كما في غيره "ومنعه" أي التخصيص "شذوذ بالعقل؛ لأنه" أي التخصيص بالعقل "لو صح صحت إرادته" أي ما قضى العقل بإخراجه من العام، واللازم منتف. أما الملازمة فلأن الخارج بالعقل من مسمياته، وإطلاق اللفظ لغة على مسمياته صحيح لغة، وأما انتفاء اللازم فلأنه لا يصح لعاقل أن يريد ما يخالف صريح العقل فإذا قلنا {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} فهم منه لغة أن المراد به غير نفسه أما لو أراد مريد به نفسه كان المريد مخطئا لغة كما هو مخطئ عقلا فيكون خروجه باللغة موافقا للعقل لا بالعقل "ولكان" العقل "متأخرا" عن العام؛ لأنه بيان، والبيان متأخر عن المبين. "والعقل متقدم ولصح نسخه" أي كون العقل ناسخا؛ لأنه بيان أيضا واللازم منتف أيضا "أجيب بمنع الملازمة" في الكل "بل اللازم" في الأول "دلالته" أي العام على ما قضى العقل بإخراجه "وهي ثابتة بعد الإخراج وتأخر بيانه" أي واللازم في الثاني تأخر بيان العقل عن العام "لا ذاته" أي العقل "ولعجز العقل عن درك المدة المقدرة للحكم" في الثالث؛ لأن النسخ بيان مدة الحكم الشرعي ونظر العقل محجوب عنه بخلاف المخصص فإن خروج البعض عن الخطاب قد يدركه العقل فافترقا "وأجيب عن الأول" أي لو صح لصحت إرادته كما في مختصر ابن الحاجب وغيره "أيضا بأن التخصيص للمفرد، وهو كل شيء" في قولنا {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} بعد التركيب "ويصح إرادة الجميع" أي جميع المسميات التي يطلق عليها شيء "به" أي بكل شيء "إلا أنه إذا وقع في التركيب ونسب إليه ما يمتنع" نسبته، وهي المخلوقية "إلى الكل" أي إلى كل فرد من أفراده "منعها" أي العقل إرادة الكل؛ لأنه يستحيل أن يكون الله تعالى خالق نفسه "وهو" أي منع العقل إرادته هو "معنى تخصيص العقل ودفع أيضا" هذا الجواب ودافعه القاضي عضد الدين "بأن التحقيق صحتها" أي إرادة الكل "في التركيب أيضا لغة غير أنه يكذب" التركيب حينئذ لعدم مطابقته الواقع "وهو" أي(22/138)
وكذبه "غيرها" أي صحتها فالمانع إنما هو لزوم الكذب لا غير، ودفع المصنف هذا الدفع بقوله "ولا يخفى أن المراد" من تخصيص العقل "حكم العقل بإرادة البعض لامتناعه" أي حكمه "في الكل" أي بإرادة الكل "في نفس الأمر ممن يمتنع عليه الكذب" فلم تصح إرادة الكل في التركيب لغة أيضا لامتناع إرادة اللغة ما يمنع العقل إرادته ثم المثال المذكور بناء على ما عليه كثير أن المراد بشيء في مثله ما يطلق عليه لفظ شيء لغة، وإلا فقد أفدناك في مسألة المخاطب داخل في عموم متعلق خطابه أنه على قول أبي المعين النسفي وما ذكره البيضاوي عن غير المعتزلة أنه ليس من العام المخصوص بالعقل فالجواب هو الأول "قالوا" أي المانعون من التخصيص بالعقل: "تعارضا" العام والعقل "فتساقطا" هربا من التحكم بترجيح أحدهما بلا مرجح "أو يقدم العام؛ لأن أدلة الأحكام النقل لا العقل قلنا في إبطاله" أي العقل "إبطال" أي النقل "لأن دلالته" أي النقل "فرع حكمه" أي العقل "بها" أي بدلالته "فإذا حكم" العقل "بأنها" أي دلالته "على وجه كذا" كالخصوص هنا "لزم" حكمه، وهو المطلوب "وأيضا يجب تأويل المحتمل" إذا عارضه ما هو أقوى منه "وهو" أي المحتمل هنا "النقل"؛ لأنه ظاهر يحتمل غير ظاهره، وهو الخصوص بخلاف العقل فإنه قاطع فيتعين تأويل النقل بالتخصيص(22/139)
ص -299-…المذكور الذي هو مقتضى العقل هذا والخلاف لفظي كما ذكر السبكي فإن أحدا لا ينازع في أن ما يسمى مخصصا بالعقل خارج، وإنما النزاع في أن اللفظ هل يشمله فمن قال يشمله سماه تخصيصا ومن قال لا كما هو ظاهر كلام الشافعي لا يسميه مخصصا. وحملت دعوى أبي حامد الإجماع على أن العقل مخصص على أن ما يسمى مخصصا خارج لا على أنه يسمى مخصصا فإن الخلاف فيه مشهور.
"وآخرون" أي ومنع التخصيص قوم آخرون "مطلقا" أي سواء كان بالعقل أو غيره "لأنه" أي التخصيص "كذب"؛ لأنه ينفي فيصدق نفيه فلا يصدق هو وإلا صدق النفي والإثبات معا "قلنا يصدق" نفي التخصيص "مجازا" نظرا إلى ظاهر اللفظ ويصدق ثبوته حقيقة نظرا إلى المعنى فلا تتحد جهة النفي والإثبات. "قيل" القائل المحقق التفتازاني: "يزاد أو بداء" بالدال المهملة والمد، وهو ظهور المصلحة بعد خفائها ليشمل الإنشاء كما في المنهاج وغيره، وهو ظاهر في أن الخلاف فيه أيضا "وإلا" أي، وإن لم يزد "خص" الامتناع "الخبر"؛ لأنه الذي يتأتى فيه الكذب "وليس" الامتناع بخاص فيه كما ذكرنا "لكن صرح بأن الخلاف ليس إلا في الخبر" والمصرح الآمدي "واعترض أبو إسحاق" والظاهر أنه الشيرازي الشافعي المشهور "من أوهم كلامه أنه" أي الخلاف "في الأمر أيضا". قلت فاندفع ما ذكره الفاضل الأبهري من أنه إنما لم يتعرض القاضي عضد الدين لنفيه في الإنشاء لعدم القائل بالفصل إذ المثبت يجوز وقوعه في الإنشاء والخبر كليهما والنافي يمنعه في كليهما فإذا انتفى وقوعه في الإخبار لزم انتفاؤه في الإنشاء أيضا؛ ولأن الإنشاء في حكم الإخبار؛ لأنك إذا قلت أكرم كل رجل فكأنك قلت كل رجل أنت مأمور بإكرامه فإذا خصصت وقلت إلا الفاسق فكأنك قلت ليس كل رجل أنت مأمور بإكرامه فيلزم الكذب في أحد الحكمين مع أن في هذا من التعسف ما لا يخفى ثم ملخص الجواب أنه إنما يلزم الكذب أو البداء إذا أراد العموم من أول الأمر أبدا، أما إذا لم يرده ونصب(22/140)
الدليل عليه فلا، وهذا هو الذي نقول به على أنه قد وقع أما في الخبر فكما قال. "والقاطع فيها" أي في هذه المسألة "الله خالق كل شيء وهو على كل شيء قدير 1" بناء على أن المراد بشيء ما يطلق عليه لفظ شيء لغة كما ذكرنا آنفا فيشمل الواجب والممكن والممتنع ثم يكون مخصوصا في الآيتين بالممكن لامتناع وقوع الخلق والقدرة على ذاته وسائر الممتنعات كالجمع بين الضدين وقد أسلفنا في مسألة المخاطب داخل في عموم متعلق خطابه ما قاله البيضاوي عن غير المعتزلة من أن الشيء فيهما بمعنى المشي وأنه فيهما على عمومه وما قاله أبو المعين النسفي والظاهر أنه لا بأس به وخصوصا عند من لا يرى عموم المشترك مطلقا أو في الإثبات ولا خفاء أنه على كل من هذين لا حجة في الآيتين على هذا المطلوب أصلا فضلا أن يكونا دليلين قطعيين فيه فليتنبه له. وأما في الإنشاء فقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] مع القطع بعدم إرادة أهل الذمة ثم الظاهر أنه يأتي في
ـــــــــــــــــــ
1 قدير كذا وقع في النسخ والتلاوة وكيل لا قدير وهي آية كما لا يخفى على الحفظة كتبه مصححه.(22/141)
ص -300-…هذا الخلاف أنه لفظي كما فيما قبله فليتأمل. "ولنا في" منع "التراخي أن إطلاقه" أي العام "بلا مخرج إفادة إرادة الكل فمع عدمها" أي إرادة الكل في نفس الأمر "يلزم إخبار الشارع" في الخبر "وإفادته" في الإنشاء "ما ليس بثابت" في نفس الأمر "وذلك كذب" في الخبر "وطلب للجهل المركب من المكلفين" في الإنشاء، وكلاهما منتف فالتراخي منتف "وهذا" الدليل بعينه "يجري في المخصص الثاني"، وهلم جرا "كالأول" فلا جرم أن قلنا: والوجه نفي التراخي أيضا في الثاني، وهلم جرا "ومقتضى هذا" الدليل أيضا "وجوب وصل أحد الأمرين" بالعام "من" البيان "الإجمالي كقول أبي الحسين أو التفصيلي ثم يتأخر" البيان التفصيلي "في" المخصص "الأول" أي الإجمالي إذا وقع "إلى" وقت "الحاجة" إليه للحاجة إلى الامتثال "بعده" أي البيان الإجمالي "لأنه" أي البيان التفصيلي "حينئذ" أي حين كان العام موصولا بالإجمالي "بيان المجمل"، وهو جائز التأخير إلى وقت الحاجة إلى الفعل كما هو المختار "ولا يبعد إرادتهموه" أي إرادة الحنفية وجوب وصل أحد الأمرين من البيان الإجمالي أو التفصيلي باشتراطهم مقارنة المخصص الأول للعام، ويكون المراد بوصل الإجمالي به "كهذا العام مرادا بعضه" أو مخصوص "وبه" أي وبكون مرادهم هذا بذاك "تنتفي اللوازم الباطلة" من الكذب وطلب الجهل المركب على تقدير تراخي المخصص مطلقا ولا سيما الأول لما يقارنه من القرينة المصرحة إجمالا أو تفصيلا بأن العموم غير مراد لكن لقائل أن يقول الشأن في هذا بعد إرادتهم إياه في الإجمالي حيث لا تفصيلي مقارن فإنه لم ينقل ولو كان شرطا لنقل عادة ومن ادعاه فعليه البيان ويمكن الجواب بأن هذا إنما يتم أن لو وجد عام مخرج منه خروجا متراخيا ما نسميه تخصيصا مع عدم اقترانه ببيان إجمالي ومن ادعاه فعليه البيان "وإلزام الآمدي" وغيره الحنفية بناء على امتناع تأخير المخصص للعام "امتناع تأخير النسخ بجامع الجهل بالمراد"(22/142)
بالعام قبل العلم بالمخصص وبمدة المنسوخ قبل العلم بالناسخ ولا يمتنع تأخير النسخ فكذا التخصيص "ليس لازما؛ لأن" الجهل "البسيط غير مذموم" في الجملة "ولذا طلب عندنا في المتشابه" فقلنا يجب اعتقاد حقيقته، وترك طلب تأويله كما قررناه في موضعه "بخلاف" الجهل "المركب" فإنه مذموم لم يطلب، والأول هو اللازم في النسخ، والثاني هو اللازم في تراخي المخصص عن العام فلم يوجد الجامع بينهما "وللتمكن من العمل المطابق" لما في نفس الأمر في المنسوخ "إلى سماع الناسخ" بخلاف العام المتراخي عنه مخصصه إلى سماع مخصصه فلا يصح قياس أحدهما على الآخر في التراخي ومنعه. "وقولهم" أي المجوزين للتراخي فيه كالشافعية لا يلزم من إطلاق العام، وإرادة بعضه منه بلا قرينة إفادة الشارع ما ليس بثابت "بل" إطلاقه "لتفهيم إرادة العموم على احتمال الخصوص إن أريد المجموع" من تفهيم إرادة العموم وتجويز التخصيص "معنى الصيغة" العامة "فباطل"؛ لأن الصيغة لم توضع للمجموع قطعا "أو هو" أي معنى الصيغة "الأول" أي تفهيم إرادة العموم "والاحتمال" أي احتمال الخصوص ثابت "بخارج" عن مفهوم اللفظ، وهو كثرة تخصيص العمومات "لزم أن تعينه" أي هذا الاحتمال "قرينة لازمة، وإن لم يلزم" الخارج "تعقله" أي العام(22/143)
ص -301-…"لا يفيد"؛ لأن الكلام في المعنى الوضعي للفظ "ولزومها" أي القرينة المعينة لهذا الاحتمال للفظ "ممنوع إلا إن كانت ما تقدم من غلبة التخصيص في بحث القطعية، وعلمت أنها" أي كثرة التخصيص "إنما تفيد" عدم القطع "في العام في الجملة لا في خصوص" العام "المستعمل" فيستمر لزوم المنع لدعوى القرينة اللازمة له "قالوا" أي المجوزون للتراخي "وقع فإن وأولات الأحمال:أجلهن أن يضعن حملهن "خص به" أي بمنطوقه عموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234] فإنه شامل للحامل والحائل مع التراخي بينهما "قلنا الأولى متأخرة لقول ابن مسعود من شاء باهلته أن سورة النساء القصرى بعد التي في سورة البقرة" ذكره محمد في الأصل ويوضحه رواية أبي داود والنسائي وابن ماجه من شاء لاعنته لأنزلت سورة النساء القصرى بعد أربعة أشهر وعشرا، وهو في البخاري بلفظ أتجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون لها الرخصة أنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}. وزاد عبد الرزاق في مصنفه وكان بلغه أن عليا يقول هي آخر الأجلين فقال ذلك "فيكون" إخراج الحوامل بآية سورة الطلاق من آية سورة البقرة "نسخا" لا تخصيصا "وكذا {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} "بعد {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} "كما ذكره جماعة من المفسرين ويدل له ما عن جبير بن نفير قال حججت فدخلت على عائشة فقالت لي يا جبير تقرأ المائدة قلت نعم فقالت أما إنها آخر سورة نزلت فما وجدتم فيها من حلال فأحلوه وما وجدتم من حرام فحرموه رواه الحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه إلى غير ذلك فيكون إخراج الكتابيات من المشركات نسخا. "وكذا جعل السلب للقاتل مطلقا" أي سواء نفله الإمام أم لا إذا كان القاتل من أهل السهم(22/144)
كما هو قول الشافعي وأحمد وزاد أحمد أو الرضخ، وهو قول للشافعي أيضا "أو برأي الإمام" كما هو قول أصحابنا ومالك لما في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل قتيلا فله سلبه" إلى غير ذلك وسلب المقتول ثيابه وسلاحه ومركبه بما عليه من الآلة وما معه من مال "بعد" قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] الآية فيكون اختصاص المقاتل بالسلب نسخا. "وكل متراخ" مخرج من عموم سابق بعضه يكون ناسخا لذلك البعض لا مخصصا "قالوا" أيضا قوله تعالى قال تعالى لنوح عليه السلام {فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} [المؤمنون: 27] وتراخى إخراج ابنه" كنعان بقوله: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46] "قلنا هو" أي تراخى إخراج ابنه "بيان المجمل" والمجمل يجوز تراخي بيانه "لأنه" أي الأهل "شاع في النسب وغيره كالزوجة والأتباع الموافقين" كما في قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا} [القصص: 29] وبين تعالى بقوله: {لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46] إرادته أحد المفهومين، وهو المتبعون أو هو" أي البيان المتأخر "لاستثناء مجهول منه" أي من العام الذي هو أهلك، وهو "إلا من سبق عليه" القول منهم فهو بيان مجمل أيضا، وعلى اصطلاح أكثر الشافعية وبعض الحنفية من بيان بعض المراد بالتخصيص(22/145)
ص -302-…الإجمالي للعموم ثم اعلم أنه قد يراد بالأهل الأهل إيمانا وقد يراد به الأهل قرابة فإن أريد هنا الأهل إيمانا لم يتناول الابن؛ لأنه كافر ويكون قوله: { إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} (هود: من الآية40)استثناء منقطعا. "وقوله: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود: 45] لظن إيمانه عند مشاهدة الآية" أي طغيان الماء وغزارة فيضه من السماء والأرض أو ظن إيمانه مطلقا؛ لأنه لم يعلم بكفره؛ لأنه كان من المنافقين على ما قيل وربما يشهد له قوله تعالى {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [هود: 46] كما هو احتمال في الآية "أو ظن إرادة النسب" بالأهل، وهذا تكميل لتقرير الجواب على الوجه الأول، وإن أريد هنا الأهل قرابة تناول الأهل الابن الكافر لكن استثنى بقوله: {إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} وعلى هذا فالاستثناء متصل وقوله {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} لظن أنه ليس من الأهل الذين سبق عليهم القول وقوله: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} أي الذين لم يسبق عليهم القول والمراد بسبق القول ما سبق من قضائه بإهلاك الكفار، وهذا تكميل لتقرير الجواب على الوجه الثاني "وأما {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] "فعمومه في معبود المخاطبين به"، وهم قريش، وهو الأصنام كما ذكره السهيلي "فلم يتناول عيسى والملائكة" حتى يقال إنهم أخرجوا متراخيا بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101] الآيات فيكون فيه حجة لجواز تراخي المخصص. "واعتراض ابن الزبعرى" بكسر الزاي وفتح الموحدة وسكون المهملة وعن أبي عبيدة فتح الزاي وأصله البعير الكثير الشعر في الرأس والأذنين. وقال الفراء: السيئ الخلق. قال شيخنا الحافظ: واسمه عبد الله كان من أعيان قريش في الجاهلية وفحول الشعراء وكان(22/146)
يهاجي المسلمين ثم أسلم عام الفتح، وحسن إسلامه وله أشعار يعتذر فيها مما سبق منه مذكورة في السيرة لابن إسحاق "جدل متعنت على حكاية الأصوليين"، وهي مختصرة مما أسند شيخنا الحافظ إلى ابن عباس قال: جاء عبد الله بن الزبعرى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد تزعم أن الله أنزل عليك {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98] قال نعم قال فقد عبدت الشمس والقمر والملائكة وعيسى وعزير فكل هؤلاء في النار مع آلهتنا فنزلت {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101] ونزلت {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً} [الزخرف: 57] إلى قوله: {خَصِمُونَ} [الزخرف: 58] ثم قال هذا حديث حسن وكونه جدل متعنت ظاهر من هذا ومما تقدم. وأما قول الآمدي ومن تبعه كالقاضي عضد الدين أنه صلى الله عليه وسلم قال له: "ما أجهلك بلغة قومك" لما لا يعقل فقال السبكي: فشيء لا يعرف وقال شيخنا الحافظ: لا أصل له من طريق ثابتة ولا واهية "وأما على بعض الروايات أنه سأله صلى الله عليه وسلم: أهذا لكل ما عبد فقال: "نعم" فلا" يكون جدل متعنت وبهذه الرواية نقض الحافظ الزيلعي قول السهيلي السابق لكن كما قال المصنف "وفي صحته" أي هذا المروي "بعد" من جهة الدراية، وإن أخرجه ابن مردويه والواحدي بلفظ فقال يا محمد أهذا لآلهتنا أو لكل من عبد من دون الله فقال ألست تزعم أن الملائكة عباد صالحون وأن عيسى عبد صالح وأن عزيرا عبد صالح قال نعم قال فهذه النصارى تعبد عيسى، وهذه اليهود تعبد(22/147)
ص -303-…عزيرا وقد عبدت الملائكة قال فضج أهل مكة فأنزل الله {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء: 101] الآية وقال شيخنا الحافظ: حديث حسن انتهى. فإن الذي يظهر أن هذه الزيادة منكرة فإن كلا من العقل والشرع قاض بأن الله لا يعذب أحدا بجريمة صادرة من غيره لم يدع إليها ولا رضي بها فكيف يصرح النبي صلى الله عليه وسلم بما ينافيه ومثل هذا مما يعد من الانقطاع الباطن الموجب للرد فالوجه هو الجواب الأول. "قالوا فيه" أي في نسخ الخاص المتقدم بالعام المتأخر "إبطال القاطع بالمحتمل"، وهو ممتنع فيتعين تخصيص العام به "قلنا" هذا "مبني على ظنية دلالة العام، وهو" أي وكونه ظني الدلالة "ممنوع" بل هو قطعي الدلالة أيضا كما تقدم فلا يكون فيه إلا إبطال القاطع بالقاطع ولا خلاف في جوازه "ولو سلم" أن العام ظني الدلالة "فلا مخصص في الشرع بخاص" من كل وجه "بالاستقراء بل بعام خصوصه بالنسبة" إلى ما هو مخصص به "كلا تقتلوا النساء" أي كما لو قال الشارع هذا مع قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] أو ما في صحيح البخاري وغيره عنه صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه" فإن ذاك عام في نفسه خاص بالنسبة إلى الآية والحديث، وإنما قلت كما لو قال الشارع هذا؛ لأنه بعينه لا يحضرني عنه بل معناه ففي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن قتل النساء إلى غير ذلك وفي آثار محمد بن الحسن عن ابن عباس النساء إذا هن ارتددن لا يقتلن ولكن يحبسن ويدعين إلى الإسلام ويجبرن عليه وما استدلوا به من {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ} {وَالْمُحْصَنَاتُ} فإن كلا منهما عام في نفسه خاص بالنسبة إلى ما هو مخصص به على قولهم "فاللازم إبطال ظني بظني" ولا خلاف في جوازه هذا.(22/148)
واعلم أن في البديع ومنهم من شرط الاستقلال مع الاتصال في أول مخصص، والفرق أن غير المستقل إذا كان معلوما فالعام فيما وراءه موجب للعلم لعدم قبول التعليل؛ ولأن الاستثناء تكلم بالباقي، وهو معلوم العموم بخلاف المستقل المتصل فإنه يوجب تغير العام من القطع إلى الاحتمال لشبهه بالاستثناء حكما وبالناسخ صيغة، فقال المصنف بناء على ظن إفادة هذا: إن الموجب لظنية العام إذا كان مخصصا عند القائل بقطعيته قبل التخصيص إنما هو كون المخصص مستقلا.
"وأما اشتراط الاستقلال" في المخصص "فلتغير دلالته" أي لأجل تغير دلالة العام من القطع "إلى الظن لا يحتاجه القائل بظنيته من الحنفية" كأبي منصور ومن معه لكون دلالته ظنية بدون التخصيص عنده فإنما يحتاجه القائل بقطعيته قبل التخصيص ليكون تغيره منها إلى الظنية بواسطته، وهذا يفيد أن اقتران العام بغير مستقل كالاستثناء، ويدل البعض لا يخرجه من القطعية إلى الظنية ولقائل أن يقول في كل نظر بل الذي يظهر أنه إذا اقترن بمخرج مجمل أبطل حجيته فضلا عن قطعيته كلاما مستقلا كان أو غير مستقل ما لم يلحقه بيان وبمبين يقبل التعليل أخرجه من القطعية إلى الظنية مستقلا كان أو غير مستقل وبمبين لا يقبل التعليل لم يخرجه من القطعية إلى الظنية مستقلا كان أو غير مستقل. وملخصه أن المخرج له من القطعية(22/149)
ص -304-…إلى الظنية ما اقترن به من مخرج لبعض منه معين قابل للتعليل وأما المتراخي فإن كان غير مستقل فغير معتبر، وإن كان مستقلا لم يقبل التعليل؛ لكونه نسخا ويلزمه أن لا يخرجه من القطعية إن كان قطعيا ولم يكن فيه أعني المخرج إجمال ويشهد له قوله: "ولا خلاف في عدم تغيره" أي العام "بالعقل" من القطع "إلى الظن كخروج الصبي والمجنون من خطاب الشرع إلا أن يخرج" العقل "مجهولا" بأن يكون الحكم مما يمتنع على الكل دون البعض مثل الرجال في الدار فإنه يبطل حجيته في الباقي ما لم يلحقه بيان فضلا عن أن يخرجه من القطع إلى الظن وما سيأتي في مسألة العام المخصوص "تفصيل المتصل إلى خمسة الأول الشرط ما يتوقف عليه الوجود" أي وجود الشيء بأن يوجد عند وجوده "ولا دخل له في التأثير والإفضاء فخرج جزء السبب"؛ لأنه، وإن كان قد يتوقف عليه وجود الشيء الذي هو السبب لكن له دخل في الإفضاء إليه "والعلة"؛ لأنه، وإن توقف عليه وجود الشيء الذي هو المعلول لكنها مؤثرة فيه "وقول الغزالي ما لا يوجد المشروط دونه ولا يلزم أن يوجد" المشروط "عنده" أي الشرط أورد عليه أنه دوري لتوقف تعقل المشروط على الشرط؛ لأنه مشتق منه، و "دفع دوره بإرادة ماصدق عليه المشروط أي الشيء"، وهو غير محتاج في تعقله إلى الشرط، وإنما الموقوف على تعقل الشرط هو تعقل مفهوم المشروط بوصفه العنواني "ويرد" على طرده "جزء السبب المتحد"؛ لأن المسبب لا يوجد بدونه ولا يلزم أن يوجد المسبب عنده مع أن جزء السبب المتحد ليس بشرط وأجيب بأن المراد بما لا يوجد المشروط دونه لا يوجد المشروط لعدم وجوده، وجزء السبب المتحد ليس عدم المسبب لعدمه بل لعدمه وعدم تعدد السبب "وقيل ما يتوقف عليه تأثير المؤثر كالوضوء يتوقف عليه تأثير المؤثر في الصلاة". وهذا بناء على قول المحقق التفتازاني إذا قلنا الوضوء شرط في الصلاة لم نرد أنه يتوقف عليه تأثير الصلاة في الشيء بل تأثير المؤثر في الصلاة لكن(22/150)
الأشبه قول المحقق الأبهري وأما كون الوضوء شرطا للصلاة فيحتمل أن يقال إنه شرط لتأثير الصلاة في الحكم، وهو الصحة وأنه شرط لتأثير المصلي أو شرط لتحققها "ويرد" على عكسه "الحياة للعلم القديم" فإنها شرط لتحققه لا لتأثيره في الحكم المعلول به، وهو العالمية؛ لأن إيجاب العلة الحقيقية لحكمها لا يكون مشروطا بشرط اتفاقا هذا ملخص ما ذكره الأبهري وعلى هذا لا حاجة إلى تقييده بالقديم ويظهر أنه أولى مما ذكره التفتازاني على ما يعرف في حاشيته ويندفع به أيضا قول المحقق الكرماني: أي شرط لذات القديم في وجود العلم، وإنما جعلنا المشروط الذات لا العلم ليظهر للفظ القديم فائدة، وإلا فلا تأثير أصلا للعلم إذ ليس هو صفة مؤثرة وللمعرف أن يقول المعني بقولنا الشرط ما يتوقف عليه التأثير شرط المؤثر لا الشرط مطلقا. انتهى على ما في هذه من العناية ما فيها من العناية. هذا وقد جزم بهذا التعريف صاحب المحصول بزيادة لا ذاته والبيضاوي بزيادة لا وجوده أي ولا يتوقف عليه وجود المؤثر احترازا عن علته وجزئها وشرطها وجزء نفس المؤثر؛ لأن التأثير يتوقف على هذه الأشياء كما أن وجوده يتوقف عليها أيضا بخلاف الشرط فإن وجود المؤثر لا يتوقف عليه بل إنما يتوقف عليه تأثيره(22/151)
ص -305-…كالإحصان فإن تأثير الزنا في الرجم متوقف عليه، وأما نفس الزنا فلا؛ لأن البكر قد يزني ويمكن أن يقال لا حاجة إلى الزيادة؛ لأن توقف التأثير على وجود المؤثر توقف قريب، وتوقفه على علته وجزئها وشرطها توقف بعيد، ومن المعلوم أن المتبادر عند الإطلاق، وهو الأول "وهو" أي الشرط "عقلي كالحياة للعلم" فإن العقل هو الذي يحكم بأن العلم لا يوجد بدون الحياة "وشرعي كالطهارة" للصلاة فإن الشرع هو الحاكم بذلك "فأما اللغوي"، وهو مدخول أداة الشرط كدخول الدار من إن دخلت الدار فأنت كذا؛ لأن أهل اللغة وضعوا هذا التركيب ليدل على أن ما دخلت إن عليه هو الشرط والآخر المعلق به هو الجزاء "فإنما هو العلامة" لكونه دليلا على ظهور الحكم عند وجوده فحسب نعم صار استعماله في السببية غالبا كما في هذا المثال وقد أشار إليه بقوله "وتسمية نحو إن جاء فأكرمه، وإن دخلت فطالق به" أي بالشرط "مع أنه سبب جعلي" للثاني "لصيرورته علامة على الثاني" أي الجزاء. "وإنما يستعمل" هذا شرطا "فيما لا يتوقف المسبب بعده على غيره" أي وقد يستعمل في شرط شبيه بالسبب من حيث إنه يستتبع الوجود، وهو الشرط الذي لم يبق للمسبب أمر يتوقف عليه سواه حتى إذا وجد فقد وجدت الأسباب والشروط كلها فيوجد المشروط فيفهم من إن دخلت الدار فأنت طالق أنه لم يبق من أسباب الطلاق إلا الدخول ولذا قيل الشروط اللغوية أسباب إذ يلزم من وجودها الوجود ومن عدمها العدم "وقد يتحد" الشرط أي يكون أمرا واحدا "وقد يتعدد معنى" لا لفظا أو ولفظا "جمعا" بأن يتوقف المشروط على حصولهما جميعا "وبدلا" بأن يحصل بحصول أيهما كان سواء كان بأو أو لا فهذه ثلاثة أقسام.(22/152)
"وكذا الجزاء" يتحد ويتعدد معنى جمعا حتى يلزم حصول كليهما وبدلا حتى يلزم حصول أحدهما مبهما فهذه ثلاثة أقسام، وإذا اعتبر التركيب "فهي تسعة بلا توقف على أداة بل معنى" حاصلة من ضرب إحدى كل من ثلاثتي الشرط والجزاء في الأخرى، والأمثلة ظاهرة "ولذا" أي ولانقسام كل منهما إلى هذه الأقسام "اختلف لو دخلت إحداهما في قوله إن دخلتما" الدار "فطالقان" على ثلاثة أقوال "أتطلق" الداخلة "للاتحاد عرفا" أي؛ لأن الشرط دخول إحداهما والجزاء طلاقها؛ لأنه يراد عرفا من مثله أن طلاق كل مشروط بدخولها فكأنه قال لكل إن دخلت فأنت طالق فيكون من اتحاد الشرط والمشروط، وهذا أحد الأقوال "أو لا" تطلق واحدة منهما "حتى تدخلا؛ لأن الشرط دخولهما" جميعا فالشرط متعدد جمعا فتطلقان حينئذ جميعا، وهذا ثاني الأقوال "أو تطلقان" جميعا، وإن لم تدخل الأخرى "لأنه" أي دخولهما الذي هو "الشرط" متعدد "بدلا"، وهذا ثالث الأقوال "ونحو" أنت "طالق إن دخلت" إن دخلت "شرط للمتقدم" أي أنت طالق "معنى للقطع بتقيده" أي المتقدم "به" أي بأن دخلت "وعند النحاة" إن دخلت شرط "لمحذوف مدلول على لفظه" بالمتقدم "فلم يجزم" المتقدم "به" أي بالشرط "على تقيده" أي مع تقيد المتقدم بالشرط. "وإن أطلق" المتقدم "لفظا" أولا فإن التقييد ثانيا لا ينافيه هذا محصل ما ذكره ابن الحاجب ومن وافقه والذي في شرح الكافية للإستراباذي إذا تقدم على أداة الشرط ما هو جواب من حيث المعنى فليس عند البصريين(22/153)
ص -306-…بجواب له لفظا؛ لأن للشرط صدر الكلام بل هو دال عليه وكالعوض منه وقال الكوفيون: بل هو جواب في اللفظ أيضا لم ينجزم ولم يصدر بالفاء لتقدمه فهو عندهم جواب واقع موقعه ثم قال جواب من حيث المعنى اتفاقا لتوقف مضمونه على حصول الشرط، ولهذا لم يحكم بالإقرار في لك علي ألف درهم إن دخلت الدار وعند البصرية لا يقدر مع هذا المقدم جواب آخر للشرط، وإن لم يكن جوابا للشرط؛ لأنه عندهم يغني عنه فهو مثل استحارك الذي هو كالعوض من المقدر إذا ذكرت أحدهما لم تذكر الآخر ولا يجوز عندهم أن يقال هذا المقدم هو الجواب الذي كان مرتبته التأخر عن الشرط فقدم على أداته؛ لأنه لو كان هو الجواب لوجب جزمه وللزم الفاء في نحو أنت مكرم إن أكرمتني، ولجاز ضربت غلامه إن ضربت زيدا على أن ضمير غلامه لزيد فمرتبة الجزاء عند البصريين بعد الشرط وعند الكوفية قبل الأداة. ا هـ. وعلى هذا فكان الوجه أن يقول المصنف بعد تقيده به ما نصه: وإن أطلق لفظا ثم عند الكوفيين ولفظا ولم يجزم للتقدم وقال البصريون بل هو لفظا لمحذوف مدلول عليه بالأول لا يجامعه ذكرا ويحذف ما سوى هذا نعم ظاهر كلام بعض المتأخرين أن جمهور البصريين على أن ما تقدم ليس بجواب له لا معنى ولا لفظا، وهو كما قال ابن الحاجب وغيره: مكابرة وعناد إذ من المعلوم قطعا أن أكرمك إن دخلت إنما يدل على إكرام مقيد بالدخول ولذا لو لم يدخل ولم يكرم لم يعد كاذبا، ولو لم يكن مقيدا به لكان كاذبا بترك الإكرام، وإن لم يدخل "فإذا تعقب" الشرط "جملا" متعاطفة كلا آكل ولا أشرب ولا ألبس إن فعلت كذا "قيدها" جميعا "عند الحنفية بخلاف الاستثناء" فإنه يختص بالأخيرة إلا بدليل فيما قبلها "عندهم"؛ لأن الشرط لصدارته مقدر تقديمه بخلاف الاستثناء كما سيأتي، ونظر فيه بأنه يقدر تقديمه على ما يرجع إليه فلو كان للأخيرة قدم عليها لا على الجميع، وعند غير الحنفية فيه بقية المذاهب الآتية في الاستثناء كما هو ظاهر(22/154)
كلام ابن الحاجب، وهل يجب فيه الاتصال اتفاقا؟. فقيل نعم وعليه مشى السبكي في شرح المنهاج وقيل فيه الخلاف الآتي في الاستثناء، وهو ظاهر كلام ابن الحاجب وعليه مشى السبكي في جمع الجوامع.
"الثاني الغاية" ولفظها إلى وحتى نحو "أكرم بني تميم إلى أن يدخلوا" أو حتى يدخلوا كذا أطلقوا ولا ريب كما نبه عليه السبكي أن ليس مرادهم غاية لو لم يؤت بها لم يدل اللفظ عليها ك {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}؛ لأن زمن طلوعه ليس من الليل حتى يشمله سلام هي ولا غاية يكون اللفظ شاملا لها، وهي جارية مجرى التأكيد لشموله نحو قطعت أصابعه كلها من الخنصر إلى الإبهام فإن كلا من هاتين ليس مما نحن فيه بل لتحقيق العموم فيما قبلها لا لتخصيصه، وإنما مرادهم غاية تقدمها عموم يشملها لو لم يأت كالمثال الذي ذكره المصنف فإنها لو لم يأت لكان المطلوب إكرامهم دخلوا أو لم يدخلوا ثم يأتي في هذا قول المصنف "ولا يخفى عدم صدق تعريف التخصيص على إخراج الشرط والغاية؛ لأنه" أي الإكرام في المثال المذكور "لكل تميم على تقدير"، وهو أن لا يدخلوا كلهم "لا قصر على بعضهم دائما" دخلوا أو لم يدخلوا "وحقيقته" أي إخراج الشرط والغاية "تخصيص عموم(22/155)
ص -307-…التقادير عن أن يثبت معها" أي التقادير كلها "الحكم" فأكرم بني تميم اطلب إكرامهم من غير تقييد بتقدير دون آخر، وهذا معنى إفادته عموم التقادير فإذا قال إن دخلوا أو إلى أن يدخلوا خصص التقادير وقصرها على تقدير الدخول في الشرط وعلى عدم الدخول في الغاية فلا يثبت الحكم الذي هو الإكرام لهم على تقدير وجود الغاية ولا على تقدير عدم الشرط "وقد يتفق تخصيص الآخر" أي بني تميم بأن يدخل بعضهم فإنه يقصر عمومه على الداخلين في الشرط وعلى غير الداخلين في الغاية "وقد لا" يتفق تخصيص العام الآخر الذي هو بنو تميم بأن يدخل الكل في الشرط فإنه يكرم الكل فلا يتخصص بالبعض، وأما في الغاية فإنما يقال أكرم تميما إلى أن يجبنوا أو يدخلوا حالة عدم الجبن وعدم الدخول فلا يتخصص ببعضهم حالة التكلم فيكرم الكل ثم كل من جبن أو دخل خص ولو لم يجبن أحد، ولم يدخل أحد استمر عموم الآخر فاللازم دائما إنما هو تخصيص التقادير ذكره المصنف. "وقد يتضادان" أي الشرط والغاية "تخصيصا" يعني إذا اتحدت كيفيتا التركيب الشرطي والغائي في النفي والإثبات تضاد تخصيصهما كما رأيت فيما تقدم فإن فيما إذا قال أكرمهم إن دخلوا المخرج عن الإكرام غير الداخلين، وفي إلى أن يدخلوا المخرج منه الداخلون أما إذا اختلفت كيفيتاهما في النفي والإثبات بأن قال إلى أن لا يدخلوا، وإن دخلوا لم يتضادا؛ لأن فيهما معا يخرجهم عن الإكرام عدم الدخول، ولهذا قال وقد يتضادان "وتجري أقسام الشرط" والمشروط التسعة الماضية "في الغاية" والمغيا أيضا بأن يقال كل من الغاية والمغيا قد يكون متحدا ومتعددا على الجمع وعلى البدل وتركب فتأتي الأقسام التسعة ولا بد فيها من الاتصال بما هي غاية له قال ابن الحاجب، وهي كالاستثناء في العود على المتعدد أي من حيث العود إلى الجميع أو إلى الأخيرة، والمذاهب المذاهب والمختار المختار كذا ذكره القاضي عضد الدين وغيره.(22/156)
"الثالث الصفة أكرم الرجال العلماء" فقصر العلماء الرجال على بعض أفراده، وهو العلماء باعتبار الحكم الوارد عليه إذ لولاه لعم العلماء وغيرهم، ويجب فيها الاتصال بالموصوف "وفي تعقبه" أي الوصف "متعددا كتميم وقريش الطوال" فعلوا كذا خلاف في تقييده الأخير أو المجموع "كالاستثناء والأوجه الاقتصار" على الأخير كما في الاستثناء ثم قال المصنف "ولا يخفى أن الإخراج بالصفة والشرط والغاية والبدل يسمى تخصيصا" كما تقوله الشافعية ومن وافقهم "أو لا" يسمى تخصيصا "لا يتصور من الحنفية لنفي المفهوم" المخالف عندهم "وليس" الإخراج بأحدها "تخصيصا إلا به" أي باعتبار، كما تقدم فليتنبه له.
"الرابع بدل البعض" من الكل نحو أكرم بني تميم "العلماء منهم" ذكره ابن الحاجب قال السبكي: ولم يذكره الأكثرون وصوبه والده؛ لأن المبدل منه في نية الطرح فلا تحقق فيه لمحل يخرج منه فلا تخصيص به. قلت: وسبقه إلى النظر فيه بمعنى هذا الأصبهاني وفيه نظر؛ لأن الذي عليه المحققون كالزمخشري أن المبدل منه في غير بدل الغلط ليس في حكم(22/157)
ص -308-…المهدر المطرح بل هو للتمهيد والتوطئة وليفاد بمجموعهما فضل تأكيد وتبين لا يكون في الأفراد فلا يتم ما ذكره.
"الخامس الاستثناء المتصل والمراد" به هنا كما ذكره المحقق التفتازاني "أدوات الإخراج لا الإخراج الخاص، وإن كان" الإخراج الخاص "يراد به" أي بالاستثناء "كالمستثنى" أي كما يراد بالاستثناء أيضا المخرج أو المذكور بعد إلا "إذ الكلام في تفصيل ما هو" أي الذي الإخراج الخاص يتحقق "به لا" في نفس "التخصيص الخاص، وهو" أي المعنى المراد هنا بالاستثناء "إلا غير الصفة، وأخواتها"، وإنما قيد بغير الصفة لدخولها صفة في المخصص الوصفي كقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] والمشهور من أخواتها غير وسوى وعدا وخلا وحاشا وليس ولا يكون ولا سيما وبيد وبله ولما، على ما في بعضها من خلاف يعرف في فن العربية "وأنها" أي إلا غير الصفة وأخواتها "تستعمل في إخراج ما بعدها" حال كونه "كائنا بعض ما قبلها عن حكمه" أي ما قبلها "وهذا الإخراج يسمى استثناء متصلا، و" يستعمل "في إخراجه" أي ما بعدها حال كونه "كائنا خلافه" أي ما قبلها "عن حكمه" أي ما قبلها "ويسمى" هذا الإخراج استثناء "منقطعا" إلا أنهم قالوا إلا وغير وسوى وقيل وبيد تستعمل في المتصل والمنقطع وباقي الأدوات لا تكون في المنقطع. "وشرطه" أي المنقطع "كونه" أي المستثنى "مما يقارنه" أي المستثنى منه "كثيرا" لملابسته إياه وكونه من توابعه حتى يستحضر بذكره أو بذكر ما ينسب إليه "كجاءوا" أي القوم مثلا "إلا حمارا"؛ لأنه ليس منهم بل من توابعهم بحيث يستحضر بذكرهم في الجملة "ومنه" أي المنقطع قول الشاعر:
وبلدة ليس بها أنيس …"إلا اليعافير وإلا العيس(22/158)
لأنه حصر الأنيس" فيهما فاستحضرهما بذكره بناء على أن المراد به ما يؤانس ويلازم المكان فهو أعم من الإنسان أو؛ لأنهما قد خلفتا أهل البلدة فيها فكانتا بمنزلة أهلها ومن ثمة فصله عما قبله، واليعافير جمع يعفور قيل الحمار الوحشي وقيل تيس من تيوس الظباء، والعيس جمع عيساء إبل بيض في بياضها ظلمة خفية وقيل يخالطه شيء من الشقرة، وقيل الجراد قيل والظاهر أنه مراد الشاعر؛ لأن خلو البلدة من الأنيس وكونها مأوى اليعافير التي هي من الوحشيات يقتضي ذلك. "بخلاف إلا الأكل" أي لا يقال جاءوا إلا الأكل "أو" كون المستثنى "يشمله حكمه" أي المستثنى منه "كصوتت الخيل إلا الحمير" أو البعير؛ لأن التصويت يشمل الحيوانات كلها "بخلاف صهلت" الخيل إلا الحمير أو البعير فإن الصهيل لا يشملها فلا يجوز "أو" كون المستثنى "ذكر" قبله "حكم يضاده" أي المستثنى "كما نفع إلا ما ضر" وما زاد إلا ما نقص، قال الأصفهاني: قال سيبويه ما الأولى نافية والثانية مصدرية وفاعل زاد ونفع مضمر، ومفعولهما محذوف، والتقدير ما زاد فلان شيئا إلا نقصانا وما نفع فلان إلا مضرة فالمستثنى، وهو النقصان والمضرة حكم مخالف للمستثنى منه، وهو الزيادة والنفع فيكون الاستثناء منقطعا؛ لأن المستثنى من غير جنس المستثنى منه، وقال المحقق التفتازاني في المثال(22/159)
ص -309-…الثاني، والمعنى لكن النقصان فعل أو لكن النقصان أمره وشأنه على ما قدره السيرافي وليس ما زاد شيئا غير النقصان ليكون متصلا مفرغا. وأما المصنف فقال "أما ما زاد إلا ما نقص فيحتمل الاتصال؛ لأنه" أي النقصان "زيادة حال بعد التمام"، وهذا مأخوذ من قول ابن السراج، وإنما حسن هذا الكلام؛ لأنه لما قال ما زاد دل على قوله هو على حاله إلا ما نقص. ا هـ. ثم فيه إشارة إلى أن ما نفع إلا ما ضر لا يحتمل الاتصال بنحو هذا التقدير، وفيه نظر فإن الظاهر أنهما سيان، ومن ثمة قال ابن السراج فيه أيضا وكذلك دل قوله ما نفع على هو على حاله إلا ما ضر ,. وقال ابن مالك: إذا قلت ما زاد فكأنك قلت ما عرض له عارض ثم استثنيت من العارض النقص، وإذا قلت ما نفع فكأنك قلت ما أفاد شيئا إلا ضرا ثم هذا الذي ذكره المصنف من شرط المنقطع مأخوذ من قول ابن مالك المستثنى المنقطع المستعمل لا يكون إلا مما يستحضر بوجه ما عند ذكر المستثنى منه أو ذكر ما نسب إليه نحو قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 77]؛ لأن عباد الأصنام كانوا معترفين به لقولهم: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ولأن ذكر العبادة مذكر بالإله الحق فبهذا الاعتبار لا يكون المنقطع غير بعض إلا أن المستثنى منه لا يتناوله وضعا فله حظ من البعضية مجازا ولذلك قبل له مستثنى فإن لم يتناوله بوجه من الوجوه لم يصح استعماله لعدم الفائدة ومثل لكل ببعض المثل المتقدمة. والملخص أن شرطه تقدير دخوله في المستثنى منه بوجه، وهذا مذهب بعض النحويين كابن السراج وآخرون على أن ذلك ليس بشرط وقسموه إلى ما يتصور فيه الاتصال مجازا فيتعين فيه النصب عند جمهور العرب ويجوز فيه الرفع على البدل عند تميم، وإلى ما لا يتصور فيه الاتصال أصلا فيتعين فيه النصب عند جميع العرب "والمراد من الإخراج إفادة عدم الدخول في(22/160)
الحكم اشتهر" لفظ الإخراج "فيه" أي في هذا المعنى "اصطلاحا" فلا ضير في ذكره في التعريف مرادا به هذا المعنى "إذ حقيقته" أي الإخراج إنما يكون "بعد الدخول، وهو" أي الإخراج حقيقة "من الإرادة بحكم الصدر منتف" للزوم النسخ في الإنشاء والتناقض في الخبر وكلاهما منتف "ومن التناول" أي تناول اللفظ له "لا يمكن" أيضا فإن تناوله باق بعد الاستثناء؛ لأنه بعلة وضعه لتمام المعنى، وهي قائمة مطلقا على أنه كما قال المحقق التفتازاني الخروج هنا مجاز ألبتة؛ لأن الدخول هو الحركة من الخارج إلى الداخل والخروج بالعكس ثم إذا كان المراد بالاستثناء هنا الأدوات "فقيل" الاستثناء بهذا المعنى "مشترك فيهما" أي في الإخراجين المسمى أحدهما متصلا والآخر منقطعا "لفظي" لإطلاقه على كل منهما مع اختلافهما وانتفاء مشترك بينهما معنى وعدم ترجيح أحدهما "قيل متواطئ" أي موضوع للقدر المشترك بينهما، وهو مطلق المخالفة والتواطؤ خير من الاشتراك اللفظي والمجاز "والمختار" أنه في المتصل حقيقة، و "في المنقطع مجاز" ونقله الآمدي عن الأكثرين وسيأتي وجهه. "قالوا" ومنهم ابن الحاجب: "فعلى التواطؤ أمكن حده" أي المنقطع "مع المتصل بحد واحد باعتبار المشترك بينهما مجرد المخالفة الأعم من الإخراج وعدمه" وغير خاف أن "مجرد" بالجر عطف بيان أو بدل من المشترك ثم أورد الكرماني لفظ الأعم أفعل(22/161)
ص -310-…تفضيل معرفا باللام فيجب تأنيثه لجريانه على المخالفة ويمتنع فيه من وأجاب بأن الأعم صفة لمجرد وأن من لبيان المخالفة لا صلة للأعم، وفيه تأمل. "فيقال ما دل على مخالفة بإلا غير الصفة إلخ" أي وأخواتها فما دل على مخالفة شامل لأنواع التخصيص وبإلا غير الصفة وأخواتها يخرج سائر أنواعه، وقد عرفت وجه التقييد بغير الصفة، والمراد بأخواتها "وعلى أنه مشترك" لفظي بينهما "أو مجاز في المنقطع" حقيقة في المتصل "لا يمكن" حد المنقطع مع المتصل بحد واحد "لأن مفهوميه" أي الاستثناء بهذا المعنى "حينئذ" أي حين يكون مشتركا لفظيا فيهما أو حقيقة في المتصل مجازا في المنقطع "حقيقتان" أي ماهيتان "مختلفتان فيحد كل بخصوصه فيزاد" على الحد السابق "في المنقطع من غير إخراج لإخراج المتصل"؛ لأنه يدل على مخالفة مع إخراج لكن هذا يوهم أن الحد السابق صالح للمتصل وحده من غير زيادة مع إخراج، وليس كذلك فكان الأولى أن يقولوا وفي المتصل مع إخراج ثم قال المصنف: "ولا شك أن هذا" أي امتناع الجمع بين شيئين في تعريف واحد "إنما هو في تعريف ماهيتين مختلفتين كما لو كان التعريف للاستثناء بمعنى الإخراجين المسميين بالمتصل والمنقطع" للاختلاف المانع من الاجتماع. "و" لا شك "بأن" أي في أن "وضع لفظ مرتين لشيئين" حتى كان مشتركا لفظيا بينهما "أو" وضع لفظ "مرة لمشترك بينهما" أي بين شيئين حتى كان متواطئا "أو" وضع لفظ مرة "لأحدهما ويتجوز به في الآخر لا يتعذر تعريفه على تقدير والكلام في الاستثناء" هنا "إنما هو بمعنى الأداة" وقد قيل فيه كل من هذه الأقوال فلا يتعذر تعريفه على كل تقدير منها "فيقال ما دل على عدم إرادة ما بعده كائنا بعض ما قبله أو" كائنا "خلافه" أي ما قبله "بحكمه" أي ما قبله دلالة كائنة "عن وضعين" وضع مرة لأن يدل على عدم إرادة ما بعده كائنا بعض ما قبله ووضع مرة لأن يدل على عدم إرادة ما بعده من حكم ما قبله، هذا "على الاشتراك(22/162)
ويترك لفظ الوضع" أي عن وضعين "على التواطؤ، و" يقال على أنه حقيقة في المتصل مجاز في المنقطع ما دل على عدم إرادة ما بعده حال كونه "كائنا بعضه" أي ما قبله "بحكمه" أي ما قبله، وهو متعلق بإرادة "بوضعه" أي بسبب وضع ما دل على هذا المعنى "له" أي لهذا المعنى "فقط" فينطبق هذا على المتصل "وخلافه بالقرينة" أي ما دل على عدم إرادة ما بعده كائنا خلاف ما قبله من جهة حكمه بواسطة القرينة المفيدة لإرادة هذه الدلالة منه فينطبق على المجاز، وقد ظهر من هذا أنه لو قال وخلافه بحكمه بالقرينة لكان أولى "ثم لا يخفى صدق تعريفنا عليها" أي على الأداة التي الاستثناء هنا بمعناها "على التقادير" الثلاثة "بلا حاجة إلى خلافه" من التعاريف له بهذا المعنى.
"وقوله" أي المعرف الأول "بإلا إلخ يفيد أن إلا وأخواتها مع ما دل غير إن"؛ لأن من المعلوم أن الدال بواسطة شيء هو غير ذلك الشيء "وليس" هما غيرين؛ لأن الدال إنما هو إلا أو إحدى أخواتها. "وقوله في المنقطع من غير إخراج، إن" أراد "مطلقا لم يصدق" التعريف "على شيء من أفراد المحدود؛ لأنها" أي أفراده "مخرجة من الحكم" الذي للمستثنى منه "والإخراج في الاستثناء بقسميه" المتصل والمنقطع "ليس إلا منه" أي من الحكم "وحمله" أي(22/163)
ص -311-…الإخراج "على أنه من الجنس فقط، وأنه الاصطلاح باطل للقطع بأن زيدا لم يخرج من القوم ولا يصطلح على باطل، وإن أريد التجوز بالجنس عن حكمه أو أضمر" الحكم "صار المعنى من غير إخراج من حكم الجنس وعاد الأول، وهو أن الواقع إخراج ما بعد إلا مطلقا" أي متصلا كان أو لا "من حكم ما قبلها" سواء كان جنسا له أو لا "وعدمه" أي الإخراج "من نفس الجنس" أما في المتصل فلأن التناول باق، وأما في المنقطع فلعدم الدخول الذي الإخراج فرعه. "ووجه المختار" من أن الاستثناء بمعنى الأداة حقيقة في المتصل مجاز في المنقطع "بأن علماء الأمصار ردوه" أي الاستثناء بهذا المعنى "إلى المتصل، وإن" كان الاتصال "خلاف الظاهر فحملوا له ألفا إلا كرا" من البر "على قيمته" أي الكر منه لشمول القيمة له، ولو كان في المنقطع ظاهرا لم يرتكبوا مخالفة ظاهر حذرا عنها. وقد قيل على هذا: إنه لا يمنع الاشتراك؛ لأن المشترك قد يكون أحد معنييه أظهر لكثرة الاستعمال فيحمل عند الإطلاق عليه وكأن لهذا قال المصنف: ووجه المختار ثم لم يكتف به بل أردفه بما هو أقوى منه فقال "ولأنه يتبادر من نحو جاء القوم إلا، قبل ذكر زيد أو حمار أنه يريد أن يخرج بعض القوم عن حكمهم فيشرأب" أي فيتطلع "إلى أنه أيهم ولو كان حقيقة في إخراج الأعم منه" أي من المتصل والمنقطع "من حكمه" أي الأعم "لم يتبادر معين، لا يقال جاز" تبادر المتصل "لعروض شهرة أوجبت الانتقال إليه" أي المتصل؛ لأنا نقول ليس كذلك "لأنه" أي عروض الشهرة في أحد المعنيين الحقيقيين "نادر لا يعتبر به قبل فعليته" أي تحققه بالفعل، والفرض جوازه لا تحققه "وإلا" لو اعتبر جواز عروض الشهرة موجبا للتبادر "بطل الحمل على الحقيقة عند إمكانهما" أي الحقيقة والمجاز بأن يقال جاز أن يكون المتبادر المجازي لعروض شهرته فلا يتعين أن يكون الحقيقي. "وغير ذلك" قال المصنف كأن ينفي الاشتراك فإذا أثبت بتبادر المفاهيم على السواء والتوقف(22/164)
في المراد قيل جاز كون تبادرها بعروض شهرة في المجاز حتى ساوى الحقيقي. ا هـ. واللازم باطل فالملزوم مثله "وقال الغزالي" والقاضي في التعريف "في المتصل قول ذو صيغ مخصوصة دال على أن المذكور به لم يرد بالقول الأول إفادة جنسه"، وهو قول "أنه" أي التعريف "لغير" المعنى "المصدري" الذي هو الإخراج بل هو للأداة "ومخصوصة أي معهودة، وهي إلا وأخواتها" كما ذكره العلامة والأصفهاني "وإلا نسب أن يقال يرد على طرده الشرط" أي أداته في نحو أكرم الناس إن عملوا "لا التخصيص به" أي بالشرط "والموصول" حال كونه "وصفا" مخصصا، نحو أكرم الناس الذين علموا "والمستقل" نحو لا تكرم زيدا بعد أكرم القوم لا التخصيص بهما كما قال ابن الحاجب لظهور أن التعريف للاستثناء بمعنى الأدوات للتخصيص بها الذي هو الإخراج "ودفع الأولان" أي الشرط والموصول وصفا، والدافع ابن الحاجب "بأنهما لا يخرجان المذكور"، وهو العلماء في مثاليهما "بل" يخرجان "غيره" أي المذكور، وهو من عدا العلماء "وتقدم التحقيق فيه" قال المصنف: الذي تقدم أن الشرط لا يخرج ما بعده بل مخرج بعض التقادير، والعام الآخر فإن قولك أكرم بني تميم إن علموا يخرج غير العلماء، والوصف مثله إذا عرف هذا ظهر أنهما لا يصدق عليهما التعريف(22/165)
ص -312-…"والمستقل لم يوضع لإفادة المخالفة، وإنما تفهم" المخالفة "بملاحظتهما" أي المستقل والمخصص به، ويلزم منهما لزوما عقليا إن كان القائل ممن لا يناقض نفسه لا وضعيا ألا ترى أنك تقول لم يجئ القوم ولم يجئ زيد، ولا دلالة له على مخالفة أصلا ذكره القاضي عضد الدين. "وعلى عكسه شخص جاءوا إلا زيدا وسائرها" أي وشخص كل من باقي أدوات الاستثناء؛ لأنه يصدق على كل شخص أنه استثناء ولا يصدق عليه الحد؛ لأنه ليس ذا صيغ "ورد" هذا وراده القاضي عضد الدين "بظهور أن المراد جنس الاستثناء المتصل" ذو صيغ وكل استثناء ذو صيغة من الصيغ أي وكل شخص منه ذو صيغة واحدة كما هو ظاهر من قوة اللفظ، قال: والمناقشة في مثله مع مثله لا تحسن كل الحسن. قال المصنف "ولا يخفى ما فيه" كما يظهر بعد، على أن هذا يشير إلى أن المناقشة فيه تحسن في الجملة "و" لا يخفى "عدم وروده" أي هذا إلا يراد على التعريف المذكور "على كونه تعريفا للأدوات بقيد العموم وعلى كونه" تعريفا "لما يصدق عليه أداة الاستثناء ليكون المثال" المذكور في الإيراد باعتبار اشتماله على إلا "من أفراد المعرف بخلاف الأول" أي إذا كان تعريفا لأدواته بقيد العموم فإن إلا في المثال المذكور ليس من أفراد المعرف بل المعرف "صادق عليه" أي على إلا فيه "إذ الجنس" في تعريفه "قول كلي لا يتحقق خارجا إلا ضمن أداة، وهو" أي الجنس "نفسه ذو الصيغ ويصدق على الكلي الكائن في ضمن إلا" الذي هو جزئي "في المثال" المذكور "ذلك" أي الكلي المطلق الذي هو الجنس، وهو فاعل يصدق ثم الحق أنه إذ كان المراد بصيغ صيغا معينة هي أدوات الاستثناء كما تقدم لا يرد عليه شيء من هذه الإيرادات الأربعة كما قال العلامة والأصفهاني فقد كان الأنسب التعرض لنفي ورودها معللا بهذا. نعم يرد أن هذا تعريف الشيء بما هو أخفى منه، وهو غير جائز "وقيل: لفظ متصل بجملة لا تستقل دال على أن مدلوله غير مراد بما اتصل به ليس بشرط ولا صفة(22/166)
ولا غاية"، وهذا بعينه مختار الآمدي إلا أنه قال مكان وليس بشرط إلخ بحرف إلا أو إحدى أخواتها، وقال: احترز بلفظ عن غير اللفظ من الدلالات المخصصة الحسية أو العقلية وبمتصل عن الدلائل المنفصلة، وبلا يستقل عن مثل قام القوم، ولم يقم زيد، وبدال عن الصيغ المهملة، وبعلى أن مدلوله غير مراد عن الأسماء المؤكدة والنعتية مثل جاء القوم العلماء كلهم وبحرف إلا أو إحدى أخواتها عن مثل قام القوم دون زيد كذا ذكره المحقق التفتازاني.
قلت: وفيه نظر فإن التعريف للاستثناء على ما في الكتاب له بمعنى الأداة كما يذكره المصنف فاحتاج إلى إخراج الشرط والصفة والغاية لصدق الحد بدونه على الغاية، وهو ظاهر وعلى الوصف في نحو {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]؛ لأنه يدل على عدم إرادة الله وعلى الشرط في نحو أكرم الناس إن لم يكونوا جهالا فإنه يدل على عدم إرادة الجهال وتعريف الاستثناء على ما ذكره الآمدي إنما هو له بمعنى المستثنى فكيف يكون عين ما في الكتاب فليتأمل.(22/167)
ص -313-…"وعلى طرده" يرد "قاموا لا زيد" لصدق الحد عليه وليس باستثناء، ومعلوم أن هذا لا يرد على تعريف الآمدي "ودفع بما ذكرنا" من أنه لم يوضع لإفادة عدم الإرادة، وإنما لزمت من ملاحظته مع ما قبله لزوما عقليا لا وضعيا بدليل جاء عمر ولا زيد لامتناع إرادة زيد من عمر ولعدم إمكان دخوله فيه "وعلى عكسه" يرد "المفرغ للفاعل" نحو ما جاء إلا زيد فإنه استثناء ولا يصدق عليه الحد لعدم اتصاله بجملة؛ لأنه هو الفاعل والفعل وحده مفرد، ومن المعلوم ورود هذا على تعريف الآمدي أيضا "ودفع بأن ما قبله" أي إلا زيد "في تقديرها" أي الجملة، والمراد بالجملة وما يقدر بها "وهذا على من يقدر فاعلا عاما" ويجعل ما بعد إلا منه فيقول التقدير ما جاء أحد إلا زيد "ولعل المعرف يراه" فإنه الظاهر، وهو الذي عليه المعنى أما من لم يقدر فاعلا عاما بل يقول زيد هو الفاعل فالدفع على قوله مدفوع كما أن قوله أيضا مدفوع "ثم يفسد" عكسه أيضا "بأن كل مستثنى متصل مراد بالأول" ثم يخرج عنه ثم يسند إلى الباقي فصدق الحد لا المحدود "ويدفع بمنعه" أي أن المستثنى مراد بالأول وفي هذا المنع نظر فلا جرم إن قال "ولو سلم" أن المستثنى مراد بحسب دلالة لفظ المستثنى منه عليه "فغير مراد بالحكم" أي بحكمه أقول: والتحقيق أن لا ورود لهذا أصلا على هذا التعريف ليحتاج إلى الجواب؛ لأن هذا التعريف للاستثناء بمعنى الأداة ولا يتصور فيها ذلك فليتدبر. "وهذا" التعريف "أيضا لما له" التعريف "الأول" أي تعريف الغزالي، وهو الاستثناء بمعنى الأداة كما هو ظاهر من كل، لا للمعنى المصدري الذي هو الإخراج لمنافاة جنس هذا، وهو اللفظ لذلك كمنافاة جنس الأول له "فلا يكون الأولى" من كل منهما أن يقال في تعريفه كما قال ابن الحاجب: "إخراج بإلا أو إحدى أخواتها، وهو" أي هذا التعريف "على غير مهيعه" أي طريق كل من التعريفين السابقين؛ لأن هذا بالضرورة إنما هو له بالمعنى المصدري اللهم "إلا على(22/168)
معنى الأول تعريف المصدري الذي هو التخصيص الخاص"، وهو ما يكون بإلا أو إحدى أخواتها "وترك ما به" التخصيص أي المخصص "وليس" هذا "كذلك" أي أولى هنا "فإن الكلام في ذلك" أي المخصص المتصل المسمى بالاستثناء لا في نفس التخصيص إذ الكلام في بيان المخصصات المنفصلة "واعلم أنه قد يعرف ما يطلق عليه لفظ الاستثناء من ماهيتي المتصل والمنقطع غير أنه ليس حقيقة فيهما مشتركا أو متواطئا إلا اصطلاحا" نحويا. "ونظر الأصولي في معنى الاستثناء" إنما هو "من جهة اللغة ويمكن تعريفهما لا من حيث هما مدلولا لفظ أصلا أو مدلولا لفظ لغوي هو الأدوات فالاستثناء أي ما تفيده إلا وأخواتها المعروفة إخراج بها أي منع من الدخول اشتهر" الإخراج "فيه" أي المنع "عن الحكم أو الصدر معه" أي الحكم، وحاصله منع دخول ما بعد إلا أو إحدى أخواتها بها في حكم ما قبلها أو وصدره أيضا فقد شمل المتصل والمنقطع تعريف واحد.
مسألة
"الاتفاق أن ما بعد إلا مخرج من حكم الصدر أي لم يرد" ما بعدها "به" أي بحكم الصدر "فالمقر به ليس إلا سبعة في علي عشرة إلا ثلاثة، واختلف في تقدير دلالته" أي تركيب(22/169)
ص -314-…الاستثناء على سبعة "فالأكثر أريد سبعة" بعشرة "وإلا قرينته" أي هذا المراد الذي هو الجزء باسم الكل "والاتفاق أن التخصيص كذلك" أي يكون المخصص قرينة على المراد بالمخصص كما في اقتل المشركين، والمراد الحربيون بدليل يخرج الذمي "وقيل أريد عشرة" بعشرة "ثم أخرج" منها ثلاثة بإلا ثلاثة فدل إلا على الإخراج، وثلاثة على العدد المسمى بها حتى بقي سبعة "ثم حكم على الباقي"، وهو سبعة قال المصنف: "والمراد أريد" بعشرة "عشرة وحكم على سبعة فإرادة العشرة" بعشرة "باق بعد الحكم" على سبعة "وإلا" لو لم يكن المراد هذا "رجع إلى إرادة سبعة به" أي بلفظ عشرة "مع الحكم عليها" أي سبعة "فلم يزد على الأول إلا بتكلف لا فائدة له واختاره" أي هذا القول "بعض المتأخرين"، وهو ابن الحاجب، وقال: "للقطع باستثناء نصفها في اشتريت الجارية إلا نصفها فكان" جميع الجارية "مر إذا" من الجارية "وإلا" لو لم يكن المراد بلفظ الجارية جميعها بل نصفها "كان" الاستثناء لنصفها "من نصفها فهو مستغرق"، وهو باطل "أو" كان "المخرج الربع؛ لأن الباقي من النصف بعد إخراج النصف منه" أي من النصف "الربع ويتسلسل أي ينتهي إلى إخراج الجزء غير المتجزئ منه" أي من المستثنى منه أي ثم يلزم أن يكون المراد بالربع المستثنى منه الثمن؛ لأنه الباقي بعد إخراج النصف من الربع، وهلم جرا. قال المصنف في جواب هذين: "وعلمت أن الإخراج مجاز عن عدم الإرادة" أي إرادة المستثنى بالمستثنى منه "عندهم، وإلا نصفها بيان إرادة النصف بلفظها" أي الجارية فلا يكون إلا نصفها مستغرقا "ولا يتسلسل لعدم حقيقة الإخراج" قال ابن الحاجب أيضا "وأيضا الضمير" في نصفها "للجارية" قطعا، إذ المراد نصف جميعها قطعا "ويدفع" هذا "بأن المرجع" لضمير نصفها "اللفظ" أي لفظ الجارية "لأنه" أي الضمير "لربط لفظ بلفظ باعتبار معناهما لا" أن المرجع "المسمى" الحقيقي للفظ "فيرجع" ضمير نصفها "إلى لفظ الجارية مرادا(22/170)
به بعضها" الذي هو النصف قال ابن الحاجب "وأيضا إجماع العربية أنه" أي الاستثناء المتصل "إخراج بعض من كل" ولو أريد الباقي من الجارية لم يكن ثمة كل ولا بعض ولا إخراج قال المصنف في جوابه "وعرفت أنه" أي الإخراج "منع دخوله" أي المستثنى "في الكل" أي المستثنى منه "فالإجماع على هذا المعنى"، وهو موجود على قول الأكثر. قال ابن الحاجب "وأيضا تبطل النصوص" إذ ما من لفظ منها موضوع لمعنى له أجزاء أو جزئيات إلا استثناء بعضه ممكن فيكون المراد الباقي فلا يكون نصا في الكل، ونحن نعلم أن نحو عشرة نص في مدلوله "قلنا: النص والظاهر سواء باعتبار ذاتهما فلا نصوصية بمعنى رفع الاحتمال مطلقا إلا بخارج، وليس العدد بمجرده منه فالملازمة ممنوعة" قال المصنف يعني أن كون اللفظ نصا في معنى بحيث لا يحتمل خلافه، وهو المفسر عند الحنفية لا يتحقق قط من ذاته؛ لأنه باعتبار مجرد ذاته لا فرق بينه وبين الظاهر إذ المتحقق في كل منهما أنه لفظ علمنا وضعه لمعنى وفي الظاهر احتمال أن يتجوز فلولا اقتران أحد اللفظين بخارج ينفي أنه يراد به غيره كان مثله، إذ لا أثر لذات اللفظ في منع التجوز به ولا للمعنى الوضعي فلم يثبت النص، وهو المفسر للفظ الملائكة لولا كلهم أجمعون ولا لطائر لولا قوله تعالى {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ}(22/171)
ص -315-…وحينئذ لا نسلم أن مجرد لفظ العدد مثل عشرة من النص بمعنى انتفاء الاحتمال ومجرده، وهو المذكور في الاستثناء فإذا أريد به سبعة لا يبطل به نص بمعنى ما لا يحتمل أن يتجوز به في غيره نعم قد يقوى الاحتمال في بعض الألفاظ التي علمنا لها وضعا دون بعض. وذلك باتفاق كثرة التجوز بذلك البعض، وندرته في البعض الآخر كالعام كثر التجوز به في البعض بخلاف أسماء الأعداد ونحو زيد وعمرو ندر أن يراد بزيد كتابه أو صاحبه العزيز عليه وبعشرة سبعة فقد يقال لا احتمال فيها، وإنما المراد أن الاحتمال لندرته لا يلاحظ فلا يكون المراد به غيره ما لم يتحقق فعليته فلم يكن حينئذ بد من اعتباره ولا شك أن بالاستثناء يتحقق فعلية ذلك القليل فيثبت أنه أريد به ذلك المعنى الذي لم يعقل ملاحظته. انتهى. وقد أجاد فيما أفاد.(22/172)
"وأما إسقاط ما بعدها" أي وأما الدليل الخامس لابن الحاجب أيضا، وهو أنا نعلم أنا نسقط ما بعد إلا مما قبلها "فيبقى الباقي" من المستثنى منه فيسند إليه الحكم "وهو" أي إسقاط ما بعدها مما قبلها "فرع إرادة الكل" مما قبلها، وهذا المعنى معقول واللفظ دال عليه فوجب تقديره "فقول الأكثر يقتضي أن الإسقاط" أي أن معنى إسقاط ما بعدها مما قبلها "ذكر ما لم يرد" بالحكم، وهو الثلاثة بعدها "ونسبته" أي ما لم يرد به "للمسمى" الموضوع له العشرة "ليعرف الباقي" منه، وهو السبعة بالنسبة إلى الحكم "أو بالنسبة إلى مدلوله" فلا يكون الكل مرادا "وإذا لم يبطل الأول" أي قول الأكثر "وهو أقل تكلفا" من الثاني "تعين؛ ولأن الثاني خارج عن قانون الاستعمال، وهو" أي قانون الاستعمال "إيقاع اللفظ في التركيب ليحكم على وضعيه" أي المعنى الموضوع له اللفظ "أو مراده" أي أو على المعنى المراد به مجازا "أو بهما" أي أو ليحكم بالمعنى الموضوع له اللفظ أو بالمراد منه "ولا موجب" للخروج عن قانون الاستعمال "فوجب نفيه" أي هذا القول الثاني لخروجه عن قانون الاستعمال "وعن القاضي أبي بكر عشرة إلا ثلاثة لمدلول سبعة كسبعة" واختاره إمام الحرمين "ورد بأنه خارج عن اللغة إذ لا تركيب من" ألفاظ "ثلاثة في غير المحكي، والأول غير مضاف ولا معرب ولا حرف" ويفهم من هذا أنه يوجد مركب من ثلاثة ألفاظ إذا كان محكيا، وهو كذلك كبرق نحره وشاب قرناها، وإذا كان غير محكي إذا كان الأول منه مضافا أو معربا أو حرفا، والأول والثالث موجودان كأبي عبد الله، ولا رجل ظريف والثاني لا يحضرني أحد ذكره ولا مثاله وعشرة إلا ثلاثة ليس أحدها. "و" رد أيضا "بلزوم عود الضمير" في نحو إلا نصفها "على جزء الاسم" الذي هو الجارية في اشتريت الجارية إلا نصفها "وهو" أي جزء الاسم "كزاي زيد لعدم دلالته" أي جزء الاسم في الاسم على معنى فيمتنع عود الضمير عليه "والحق أنه" أي قول القاضي "أحد المذهبين"(22/173)
السابقين "للقطع بأن مفرداته" أي علي عشرة إلا ثلاثة باقية "في معانيها" الإفرادية "وقوله بإزاء سبعة" إنما هو "باعتبار الحاصل ولذا شبه" فقال كسبعة على ما نقل عنه "فانتفى ما بناه بعضهم"، وهو صدر الشريعة "عليه" أي قول القاضي "من أن تخصيصه" أي الاستثناء فيما إذا كان المستثنى منه عددا "كمفهوم اللقب" أي كتخصيصه "المقتضى أن لا إخراج أصلا(22/174)
ص -316-…وجهه" أي الحق، وهو رد قول القاضي إلى أحد المذهبين "أن الحكم ليس إلا على سبعة فإما باعتبارها" أي السبعة "مدلولا مجازيا للتركيب" والمعنى الحقيقي له العشرة الموصوفة بإخراج العشرة، وهذا هو ظاهر مذهب الجمهور "أو ما يصدق عليه معناه المتبادر" أي أو باعتبار السبعة أمرا يصدق عليه معنى مجموع المركب المتبادر إلى الفهم كما يطلق الطائر الولود على الخفاش من حيث إنه من أفراده "فيكون التركيب حقيقة فيها" أي في السبعة بمعنى أنه عبر عنها به كما يعبر عن النوع بالأجزاء العقلية من الجنس والفصل أو الخارجية فيعبر عن الإنسان بالحيوان الناطق والبدن والنفس وعن الشيء بلازمه المركب فيعبر عن السبعة بأنها أربعة وثلاثة لا بمعنى أن المجموع وضع لها وضعا واحدا.
قلت: وهذا صريح كلامه في التقريب حيث قال إذا خص باستثناء متصل فإنه قد يكون مع الاستثناء حقيقة فيما بقي، والدليل على ذلك أن اتصال الاستثناء به بغيره، ويؤثر في معنى لفظه؛ لأن كثيرا من الكلام إذا اتصل بعضه ببعض كان له بالاتصال تأثير ليس له بالانفراد ثم قال، وإذا كان كذلك وجب أن يكون هذا حكم اللفظ مع الاستثناء في أنه يصير باقترانه اسما لقدر ما بقي ولو عدم لكان عاما. انتهى. وهو مصرح أيضا بالموافقة للحنفية في أن الاستثناء بيان تغيير ثم الأمر.(22/175)
"هذا وبعض الحنفية" بل الجم الغفير منهم وخصوصا المتأخرون "قالوا: إخراج الاستثناء عند الشافعي بطريق المعارضة"، وهو أن يثبت للمستثنى حكما مخالفا لصدر الكلام كما في العام إذا خص منه بعضه فإنه يمتنع حكم العام فيما خص منه لوجود المعارض فيه صورة، وهو دليل الخصوص "وعندنا بيان محض" لكون الحكم المذكور لصدر الكلام واردا على بعض أفراده، وهو ما عدا المستثنى فتقدير لفلان علي عشرة إلا ثلاثة عنده إلا ثلاثة فإنها ليست علي وعندنا لفلان علي سبعة "ثم أبطلوه" أي الحنفية كونه إخراجا بطريق المعارضة "بأنه لو كان" إخراجه بها "وهو" أي والحال أن هذا الكلام "لا يوجب" الحكم الذي هو الإقرار "إلا في سبعة ثبت ما ليس من محتملات اللفظ فإن العشرة لا يقع عليها" أي السبعة فقط "حقيقة"، وهو ظاهر "ولا مجازا"؛ لأنه نسبة معنوية بينها وبين العشرة سوى العددية، وهي عامة لا تصلح للتجوز ولا صورية إلا من حيث الكل والجزء وشرط التجوز به كون الجزء مختصا بالكل ليصح إطلاق الكل على الجزء اللازم المختص وليس ما دون العشرة سبعة كان أو غيره كذلك إذ كما يصلح جزءا لها يصلح جزءا للعشرين وما فوقه مثلا. "بخلاف العام" المخصوص إذا منع دليل الخصوص فيه الحكم في بعض أفراده بطريق المعارضة صورة "لا يستلزمه" أي ثبوته ما ليس من محتملات اللفظ لبقاء الاسم دالا على الباقي بلا خلل ولا يخفى أن هذا مخالف لما تقدم في تقدير قول الأكثر، ودفع كون المراد بالمستثنى منه الباقي بعد الاستثناء مبطلا للنصوصية والأشبه ما تقدم كما يشير إليه قوله "ولو سلم" جواز التجوز بالعشرة عن السبعة قيل؛ لأن أكثر الشيء يطلق عليه اسم كله ولأجل دفع هذا الاحتمال يقال(22/176)
ص -317-…عشرة كاملة، وغير خاف أن هذا يخص ما إذا كان المستثنى أقل من الباقي من المستثنى منه والمدعى أعم من ذلك كما هو الصحيح فالأشبه كما ذكر بعض المحققين أن العلاقة المجوزة للتجوز باسم العدد عن جزئه مطلقا كون الجزء لازما للكل سواء كان أقل من الباقي أو مساويا له أو أكثر منه وعلى هذا فدعوى الاختصاص فيه ممنوعة "فالمجاز مرجوح"؛ لأنه خلاف الأصل "فلا يحمل عليه" مع إمكان الحمل على الحقيقة إذ يصح أن يراد الكل، ويكون تعلق الحكم بعد إخراج البعض "كذا نقله" أي هذا الإبطال بالمعنى "متأخر"، وهو صدر الشريعة "من الحنفية، وأنه" عطف على الضمير في نقله أيضا ما معناه أن الشأن "على القائل" له علي "عشرة" إلا ثلاثة سبعة، والتكلم في حق الحكم يكون "في سبعة" أي يكون الحكم عليها فقط لا على الثلاثة لا بالنفي ولا بالإثبات هذا لفظه، وعبر المصنف عن معنى هذا كما عما قبله بقوله "فتكون الثلاثة مسكوتة، وكأن هذا منه" أي من المتأخر "إلزام" للشافعي "وإلا فالشافعي لا يجعلها مسكوتة" بل يجعل لها من الحكم ضد ما للصدر "وغيره" أي هذا المتأخر "منهم" أي الحنفية كصاحب التحقيق وصاحب المنار وشارحيه والبديع "نقله" أي الإبطال "بالآية هكذا لو كان" عمل الاستثناء "على المعارضة ثبت في قوله تعالى" {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} حكم الألف بجملتها ثم عارضه" أي الاستثناء حكم الألف "في الخمسين فيلزم كذب الخبر في أحدهما" والله سبحانه متعال عن ذلك علوا كبيرا. "وهذا" التوجيه "هو الأليق بمعنى المعارضة"، وهو المنافاة "وإلا فالحكم على سبعة" في علي عشرة إلا ثلاثة "وتسعمائة وخمسين" في {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} "بالإثبات لا يعارضه نفيه" أي الحكم بالإثبات "عن ثلاثة" في علي عشرة إلا ثلاثة "وخمسين" في {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} لعدم توارد الإثبات والنفي على(22/177)
محل واحد "وبنوه" أي الحنفية كونه بطريق المعارضة "على أن الاستثناء من النفي إثبات وقلبه" أي ومن الإثبات نفي "منقولا عن أهل اللغة، وعلى أن التوحيد"، وهو الإقرار بوجود الباري تعالى ووحدانيته "في كلمته" أي التوحيد، وهي لا إله إلا الله "بالنفي" للألوهية عما سوى الله "والإثبات" أي، وإثباتها لله وحده "وإلا كانت" كلمة التوحيد "مجرد نفي الألوهية عن غيره" أي الله تعالى فلا تكفي في الإقرار بالتوحيد؛ لأنه لا يتم إلا بنفي الألوهية عما سوى الله، وإثباتها لله "فالتزمته" أي أنها لا تفيد إلا النفي عن غير الله تعالى "الطائفة القائلون منهم" أي الحنفية "ما بعد إلا مسكوت، وأن التوحيد من النفي القولي والإثبات العلمي؛ لأنهم" أي الكفار في الجملة "لم ينكروا ألوهيته تعالى" كما يدل عليه قوله تعالى {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} إلى غير ذلك "بل أشركوا فبالنفي عن غيره ينتفي" الشرك "ويحصل التوحيد فلا تكون" كلمة التوحيد "من الدهري إياه" أي توحيد ا لإنكاره وجود الباري تعالى، وهذا أوجه مما قيل بل يكون؛ لأن الدهري، وإن لم يقل بوجوده تعالى فهو قائل بصانع، وهو إما الدهر أو الأفلاك أو الأنجم أو الفصول الأربع أو غير ذلك على حسب ضلالته فإذا نفى الجميع لزم الإقرار بوجوده تعالى. "والجمهور ومنهم طائفة من الحنفية"(22/178)
ص -318-…كفخر الإسلام وموافقيه ذهبوا إلى الحكم "فيما بعد إلا بالنقيض، وهو الأوجه لنقل الاستثناء من النفي إلخ" أي إثبات وقلبه عن أهل اللغة "ولا يستلزم" هذا "كون الإخراج بطريق المعارضة لعدم اتحاد محل النفي والإثبات كما ذكرنا آنفا" من أن الحكم على سبعة وعلى تسعمائة وخمسين بالإثبات لا يعارضه نفيه عن ثلاثة وعن خمسين "ونقل أنه" أي الاستثناء "تكلم بالباقي بعد الثنيا" بالضم والقصر الاسم من الاستثناء عن أهل اللغة أيضا "لا ينافيه" أي كونه من الإثبات نفيا وقلبه "فجاز اجتماعهما" أي النقلين "فيصدق أنه تكلم بالباقي بعد الثنيا باعتبار الحاصل من مجموع التركيب ونفي وإثبات باعتبار الأجزاء ونحو لا صلاة إلا بطهور" وتقدم في المسألة الرابعة في ذيل المجمل أنه روي معناه مرفوعا "يفيد ثبوتها" أي صحة الصلاة "مع الطهور في الجملة"، وهي الصلاة الجامعة لبقية شروطها وجميع أركانها الخالية عن المفسد لها لا كل صلاة، وإن كان قوله لا صلاة سلبا كليا بمعنى لا شيء من الصلاة بجائزة، وهو عند وجود الموضوع في قوة الإيجاب الكلي المعدول المحمول فيتعلق الاستثناء بكل فرد من أفراد الصلاة. والفرض أن الاستثناء من النفي إثبات فيلزم تعلق إثبات ما نفي عن الصدر بكل فرد من أفراد الصدر فيكون المعنى كل فرد من أفراد الصلاة جائزة حال اقترانها بطهور للإجماع على بطلان بعض الصلاة المقترنة بطهور كالصلاة إلى غير جهة القبلة وبدون النية ونحو ذلك "وغايته" أي هذا "تكلم بعام مخصوص" بدليله ولا بدع في ذلك على أن الأشبه أن موضوع هذا القول إنما جاء عمومه من ضرورة كونه نكرة واقعة في سياق النفي، وهذا المقتضى منتف في الإثبات، وإن كان الموضوع بعينه موجودا فيه فيكون المعنى لا صلاة جائزة إلا في حال الاقتران بالطهور فإن فيها ينتفي هذا الحكم ويثبت نقيضه، وهو جواز شيء من الصلوات إذ نقيض السلب الكلي الإيجاب الجزئي، وهو صادق فلا يصلح دليلا لنفي كون(22/179)
الاستثناء من النفي إثباتا كما هو منقول عن الحنفية. "غير أن قول الطائفة الثانية" فيما بعد إلا حكم بالنقيض، الحكم "الثاني" ثابت عندهم "إشارة، وهو" أي الحكم الإشاري "منطوق غير مقصود بالسوق على ما مر" في التقسيم الأول "وقول الهداية في ما أنت إلا حر يعتق؛ لأن الاستثناء من النفي إثبات على وجه التأكيد كما في كلمة الشهادة ظاهر في العبارة" وقال في شرح الهداية هذا هو الحق المفهوم من تركيب الاستثناء لغة ثم قال: وأما كونه إثباتا مؤكدا فلوروده بعد النفي بخلاف الإثبات المجرد "والأوجه أنه منطوق إشارة تارة وعبارة أخرى بأن يقصد لما ذكرنا" من قصده بالسوق "ولأن النفي عما بعد إلا يفهم من اللفظ، وأما" الاستدلال له بما ملخصه "الاتفاق على أن إلا لمخالفة بعدها لما قبلها وضعا فلا يفيد" إثباته "لصدق المخالفة بعدم الحكم عليه" أي ما بعد إلا "فلا يستلزم الحكم" على ما بعد إلا "بنقيضه" أي حكم ما قبل إلا "إلا فهمه" أي الحكم بنقيضه من اللفظ "كما سمعت ثم يقصدان" أي الإثبات والنفي "ككلمة التوحيد، والمفرغ" ك ما جاء إلا زيد وما زيد إلا قائم للقطع بفهم أن هذه مسوقة لإثبات الألوهية لله وحده ومجيء زيد وقيامه بأبلغ وجه وآكده "فعبارة" أي فالحكم على ما بعد إلا فيها عبارة. "أو" يقصد "غير الثاني"، وهو الحكم على ما قبلها لا غير "كعلي(22/180)
ص -319-…عشرة إلا ثلاثة لفهم أن الغرض السبعة" أي الإقرار بها ولا غرض يظهر أن يقول إلا ثلاثة ليست علي "فإشارة" أي فالحكم على ما بعد إلا حينئذ إشارة "ولما بعد أن يقول بحقيقة المعارضة" في الاستثناء الواقع في الكتاب والسنة "مسلم؛ لأنها" أي المعارضة حينئذ تكون "بثبوت الحكمين" المتناقضين "وهو" أي وثبوتهما "التناقض صرح المحققون بنفي الخلاف المذكور وباتفاق أهل الديانة أنه بيان محض كسائر التخصيصات، وإنما هو صورتها نظرا إلى ظاهر إسناد الصدر ولا يختلف فيه كالتخصيص بغيره" ومن المصرحين بذلك صاحب الميزان ولفظه ولا نص عن الشافعي في ذلك لكن استدلوا بمسائل تدل على ذلك ثم قال ولكن الصحيح أن لا يكون في هذا خلاف بين أهل الديانة؛ لأنه خلاف إجماع أهل اللغة وخلاف إجماع المسلمين ثم أتى على وجه ذلك.(22/181)
"تنبيه: جواز" بيع "ما لا يدخل تحت الكيل" من المكيلات "قلة" بأن يكون ما دون نصف صاع على ما قالوا "بجنسه متفاضلا عند الحنفية لا الشافعية مع قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء" أخرجه بمعناه الشافعي في مسنده "قيل" وقائله فخر الإسلام وموافقوه كصاحب البديع "للمعارضة عنده" أي الشافعي "فمعنى الاستثناء لكم بيع طعام" بطعام "مساو فما سواه" أي المساوي منه قليلا كان أو كثيرا "منع" أي ممنوع "بالصدر" أي لا تبيعوا الطعام بالطعام؛ لأن الاستثناء أخرج الكيل خاصة ضرورة ثبوت المعارضة فيه إذ المراد بالتساوي التساوي في الكيل اتفاقا فبقي غير المكيل داخلا في الحرمة فيحرم بيع حفنة من البر بحفنتين منه مثلا "والحنفية لا حكم في الثاني" أي المستثنى "وهو استثناء حال المساواة من الثلاثة المجازفة وأخويها" المفاضلة والمساواة بناء على أنه تكلم بالباقي فيعمها الصدر حتى كأنه قال لا تبيعوا الطعام بالطعام في جميع الأحوال من المفاضلة والمجازفة والمساواة إلا في حال المساواة "والكل" أي المجازفة، وأخواها "يستند إلى الكيل"؛ لأن المساواة لا تتحقق إلا في المكيل ولا مستوي فيه إلا الكيل كما تقدم وحرمت المفاضلة لوجود الفضل في أحدهما.، والمجازفة لاحتمال المفاضلة فلم يثبت اختلاف الأحوال إلا في الكثير، وهو الذي يدخل تحت الكيل فتعين كون المراد المقدر به فلا تثبت الحرمة في القليل، وهو ما لا يدخل تحت الكيل فلا يحرم بيع حفنة من البر بحفنتين منه "ولا يلزم" بناء هذا الاختلاف في هذا الفرع على المعارضة وعدمها "بل لا يشكل على أحد أنه" أي الاستثناء في هذا الحديث "مفرغ للحال" أي حال الطعام المقابل بشيء منه كما تقدم؛ لأن استثناء الحال من العين لا يستقيم لعدم المجانسة والمجانسة هي الأصل فيه فحمل صدر الكلام على عموم الأحوال لتحصل المجانسة "فلزم الاتصال فالمبنى" لهذا الاختلاف "تقدير نوع المفرغ له" القريب(22/182)
"أو" تقدير نوع له "أعلى أي تقدير معنى لا إعراب" فقدرنا القريب بدليل "ما فيها إلا زيد أي إنسان لا حيوان والمساواة بالكيل" فتعين أن يكون المعنى "فلا تبيعوا طعاما يكال إلا مساويا فالحل فيما دونه" أي ما يكال "بالأصل" فإن الأصل في البيع الحل "وقدروا" أعلى منه فقالوا "طعاما في حال فشمل القلة. أما ذلك" المبنى الأول "فمبنى كون الحل في التساوي" عند الحنفية(22/183)
ص -320-…والشافعية "بالأصل أو بالمنطوق" فعند الحنفية بالأصل وعند الشافعية بالمنطوق "ثم هو" أي كون ذاك هو المبنى لهذا بناء "على" قول "الطائفة الأولى" من الحنفية ليس فيما بعد إلا حكم أما على قول الطائفة الأخرى فيه حكم بالنقيض فالحل فيه بالمنطوق أيضا عبارة؛ لأن الاستثناء مفرغ فليتنبه له.
مسألة
"يشترط فيه" أي الاستثناء "الاتصال" بالمستثنى منه لفظا عند جماهير العلماء "إلا لتنفس أو سعال أو أخذ فم ونحوه" كعطاس وجشاء "وعن ابن عباس جواز الفصل بشهر وسنة ومطلقا" أما الشهر فنقله الآمدي وابن الحاجب وغيرهما وقال شيخنا الحافظ: لم أجد رواية الشهر، وإنما وجدت رواية فيها أربعين يوما فلعل من قال شهر ألغى الكسر. انتهى. ولا يخفى ما فيه مع بعده، ثم أخرج عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم حلف على شيء فمضى أربعون ليلة فأنزل الله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً} فاستثنى النبي صلى الله عليه وسلم بعد أربعين ليلة ثم قال هذا حديث غريب أخرجه أبو الشيخ في تفسيره هكذا. انتهى. ولا يخفى أنه ليس في هذا عن ابن عباس أنه كان يرى ذلك، نعم أخرجه إسحاق بن إبراهيم في تفسيره عن سعيد بن جبير بلفظ قال: يستثنى ولو بعد شهر، وهذا يخالف ما ذكر الخطابي عنه أنه يستثنى بعد أربعة أشهر، ونقل هذا صاحب الكشف عن أبي العالية وأما السنة فنقلها جماعة منهم المازري وأخرجها الحاكم في مستدركه والطبراني في الأوسط عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس قال إذا حلف الرجل على يمين فله أن يستثني ولو إلى سنة، وإنما نزلت هذه الآية في هذا {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} قال إذا ذكر استثنى وكان الأعمش يأخذ بهذا اللفظ الحاكم ثم قال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وتعقبه شيخنا الحافظ بأنه لم يقع عنده ما(22/184)
عند الطبراني قيل للأعمش سمعته من مجاهد قال لا حدثني به ليث عن مجاهد. انتهى. فإن به تبين أن الإسناد معلول، وأن بين الأعمش ومجاهد واسطة، وهو ليث بن أبي سليم ضعيف ولم يحتج به واحد من الشيخين، وإما مطلقا، وهو الذي يقتضيه كلام الأكثرين في النقل عنه وصرح به بعضهم وقال صاحب الكشف وبه قال مجاهد فالله تعالى أعلم به. وقال السبكي: وهي روايات شاذة لم يثبت عنه "وحمل" ما عن ابن عباس من جواز الفصل "على ما إذا كان" الاستثناء "منويا حال التكلم" فيكون متصلا قصدا متأخرا لفظا "ويدين" الناوي له فيما بينه وبين الله تعالى في صحة دعوى نية الاستثناء، قال الغزالي نقل عن ابن عباس جواز تأخير الاستثناء، ولعله لا يصح النقل عنه إذ لا يليق ذلك بمنصبه، وإن صح فلعله أراد به إذا نوى الاستثناء أولا ثم أظهر نيته بعده فيدين فيما بينه وبين الله تعالى فيما نواه، ومذهبه أن ما يدين فيه العبد يقبل ظاهرا فهذا له وجه، أما تجويز التأخير لو أصر عليه دون هذا التأويل فيرده عليه اتفاق أهل اللغة على خلافه؛ لأنه جزء من الكلام يحصل به الإتمام فإذا انفصل لم يكن إتماما كالشرط وخبر المبتدأ. قال المصنف: "وهو" أي جواز(22/185)
ص -321-…فصل الاستثناء إذا كان منويا حال التكلم بالمستثنى منه "قول أحمد" هذا ظاهر سوق الكلام، ولم أره بل يخالفه قوله في شرح الهداية واشتراط الاتصال قول جماهير العلماء منهم الأربعة. انتهى. والذي في فروع ابن مفلح ومن قال في يمين مكفرة إن شاء الله متصلا وعنه وجزم به في عيون المسائل مع فصل يسير ولم يتكلم وعنه في المجلس، وهو في الإرشاد عن بعض أصحابنا، وهو في المبهج ولو تكلم قدم الاستثناء على الجزاء أو أخره فعل أو ترك لم يلزمه كفارة قال أحمد قول ابن عباس إذا استثنى بعد سنة فله ثنياه ليس هو في الأيمان إنما تأويله قول الله {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً} [الكهف: 23-24] فهذا استثناء من الكذب؛ لأن الكذب ليس فيه كفارة، وهو أشد من اليمين؛ لأن اليمين تكفر والكذب لا يكفر، قال ابن الجوزي فائدة الاستثناء خروجه من الكذب قال موسى {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً} [الكهف: 79] ولم يصبر فسلم منه بالاستثناء، وكلامهم يقتضي أن رده إلى يمينه لم ينفعه لوقوعها وتبين مشيئة الله تعالى. انتهى. "وعن طاوس والحسن تقييده" أي جواز الفصل "بالمجلس" ذكره الخطابي وغيره وزاد في الكشف وغيره عطاء وبه قال أحمد بن حنبل وقد عرفت أنه رواية عنه وفي شرح المصنف للهداية، وهو قول الأوزاعي "لنا لو تأخر" أي لو جاز تأخير الاستثناء "لم يعين تعالى لبر أيوب عليه السلام أخذ الضغث"، وهي الحزمة الصغيرة من الحشيش ونحوه وضرب زوجته به في حلفه إن برئ ضربها مائة ضربة لما ذهبت لحاجة فأبطأت على ما روي لكن الله تعالى عين ذلك للتحلل من يمينه حتى حكي أن أبا إسحاق المروزي أراد مرة الخروج من بغداد فاجتاز في بعض سككها برجل على رأسه باقلاء، وهو يقول لآخر معه لو صح مذهب ابن عباس لما قال الله(22/186)
تعالى لأيوب عليه السلام {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} بل كأن يقول استثن ولا حاجة إلى هذا التحيل في البر فقال أبو إسحاق بلدة فيها رجل يحمل البقل، وهو يرد على ابن عباس لا يستحق أن يخرج منها "ولم يقل صلى الله عليه وسلم" "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير" كما في صحيح مسلم "مقتصرا" على الأمر بالتكفير "إذ لم يتعين" التكفير "مخلصا" من عهدة اليمين بل كأن يقول فليستثن أو ليكفر خصوصا "مع اختياره الأيسر لهم دائما" كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة مع أن الاستثناء أولى من التكفير لعدم الحنث الذي هو عرضة الإثم وحيث قاله "بلا تفصيل بين مدة ومنوي وغيرهما" دل على عدم اعتباره متأخرا. "وأيضا لم يجزم بطلاق وعتاق وكذب وصدق ولا عقد" لإمكان الاستثناء ودعوى إلحاقه بكل من هذه الأمور بعد حين، واللازم باطل قطعا فالملزوم مثله "ودفع أبو حنيفة عتب المنصور" أبي جعفر الدوانيقي ثاني الخلفاء العباسية في مخالفة جده ابن عباس في جواز الانفصال "بلزوم عدم لزوم عقد البيعة" فقال هذا يرجع عليك أفترضى لمن يبايعك بالأيمان أن يخرج من عندك فيستثني فاستحسنه ذكره في الكشاف وغيره، وقيل إن الذي أغراه به محمد بن إسحاق صاحب المغازي وأنه أجابه الإمام بذلك قال نعم ما قلت، وغضب على بن إسحاق(22/187)
ص -322-…وأخرجه من عنده "قالوا: ألحق صلى الله عليه وسلم إن شاء الله بقوله: "لأغزون قريشا بعد سنة" قلنا بتقدير استئناف لأغزون" أي هو ملحق بمستأنف مقدر هو لأغزون جمعا بين هذا وبين أدلتنا "وحمله" أي الفصل "على السكوت العارض مع نقل هذه المدة ممتنع"، وهو ظاهر قلت لكن الحامل له على هذا المحمل كابن الحاجب إنما حمله عليه بناء على الاحتجاج به بلفظ: قال صلى الله عليه وسلم: "والله لأغزون قريشا" ثم سكت ثم قال "إن شاء الله" كما هو حديث غريب اختلف في وصله، وإرساله أخرجه أبو داود على أنه أيضا إنما يتم الاستدلال به إذا لم يغزهم كما وقع في رواية لأبي داود ثم لم يغزهم وكان ثابتا قال شيخنا الحافظ: لكن الحديث لم يثبت؛ لأن سماكا كان يقبل التلقين وعابوا عليه أحاديث كان يصلها، وهي مرسلة وصوب جماعة من الحفاظ منهم أبو حاتم الرازي رواية الإرسال. وأما ذكر السنة كما في الكشف وغيره فالله تعالى أعلم به على أنه لو ثبت الحديث مع الزيادة لا يدل على أنه لم يحنث ولم يكفر، والشأن في ذلك "قالوا سأله اليهود عن مدة أهل الكهف فقال غدا أجيبكم فتأخر الوحي بضعة عشر يوما ثم أنزل ولا تقولن الآية فقالها: "أي إن شاء الله ولا كلام يعود عليه إلا قوله غدا أجيبكم ولولا صحة الانفصال لما ارتكب هذا "قلنا" هذه القصة في المغازي الكبرى لابن إسحاق بسياق في بعضه ما ينكر وفي سنده مبهم، وقال شيخنا الحافظ: ولم أر فقال إن شاء الله في هذا السياق ولا في غيره. انتهى. ثم نقول لا نسلم لزوم عوده إلى غدا أجيبكم وكيف وقد انقضى اليوم الموعود بالإجابة فيه وبعده أيام بل يجوز أن يكون ملحقا بمستأنف مقدر نحو أجيبكم إن شاء الله "كالأول جمعا" بينه وبين أدلتنا "ويجوز فيه" أي في هذا "أمتثل" إن شاء الله أي أعلق كل ما أقول إني فاعله غدا بمشيئة الله تعالى كما يقال افعل كذا فيقول المخاطب إن شاء الله أي أفعل ذلك إلا أن يشاء الله. "وكون ابن عباس عربيا" فصيحا(22/188)
وقد قال به فيتبع "معارض بعلي وغيره من الصحابة" المقطوع بعربيتهم وفصاحتهم ولم يقولوا به، وإلا لنقل عنهم كما عنه ثم يترجح جانبهم بما تقدم "أو مراده" أي ابن عباس بجواز الانفصال في الاستثناء الاستثناء "المأمور به"، وهو التعليق بمشيئة الله المستفاد من قوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً} [الكهف: 23-24] بأن يقول أولا أفعل ثم يقول بعد حين أفعل إن شاء الله فإنه يكون ممتثلا، وإنما كان مأمورا به؛ لأنه في معنى لا تقولن ذلك إلا متلبسا بمشيئة الله تعالى قائلا إن شاء الله فيكون إن شاء الله مأمورا به عند قول إني فاعل أو المأمور به في قوله {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24] إذا فسر باذكر مشيئة ربك بأن قل إن شاء الله إذا فرط منك نسيان لذلك والمعنى إذا نسيت كلمة الاستثناء وتنبهت عليها فتداركها بالذكر ويؤيد هذا ظاهر ما سلف عن ابن عباس في مستدرك الحاكم وأوسط الطبراني ومن ثمة قال الطبري ومعناه أنه إذا نسي أن يقول في كلامه أو حلفه إن شاء الله وذكر ولو بعد سنة فالسنة أن يقول ذلك ليكون آتيا بسنة الاستثناء حتى ولو بعد الحنث لا أنه يكون رافعا لحنث اليمين ومسقطا للكفارة. "وقيل لم يقله ابن عباس" ويؤيده ما أخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه في(22/189)
ص -323-…التفسير عنه عن ابن عباس في قوله تعالى {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24] قال: إذا نسيت الاستثناء فاستثن إذا ذكرت قال هي خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لأحدنا الاستثناء إلا في صلة من يمينه. نعم في سنده عبد العزيز بن الحصين ضعفه الجمهور ووثقه الحاكم وأما كون الوليد بن مسلم مدلسا، وهو فيه وقد عنعن فلا ضير على أصول مشايخنا لكونه ثقة أخرج له الأئمة ويتأكد رجحان هذا على ذلك في ذاك لما في ذاك من الاضطراب وما يلزمه الباطل الذي يجل عنه مكانة ابن عباس في سعة العلم وسلامة الفهم. وأما قول المصنف "وحكاية المنصور تبعدهما" أي كون مراد ابن عباس الاستثناء المأمور به، وكونه لم يقله؛ لأنه على تقدير أحدهما ما كان المنصور معاتبا للإمام على اشتراط الاتصال ولا الإمام مجيبا له بما أجابه فإنما يتم لو ثبتت الحكاية بما يثبت به نسبة هذا القول إلى ابن عباس، وهو منتف ثم من الجائز أن المنصور لم يعلم مراد ابن عباس بظاهر ما نسب إليه من ذلك ولم يصل إليه هذا الذي في أوسط الطبراني آخرا، وأن الإمام بادر بدفعه تنزلا لظهور أنه أدفع لاعتراضه وأقطع لشغبه وصولته أو لعدم وصول هذا إليه أيضا والله سبحانه أعلم.(22/190)
"واعلم أن التزام الجواب عن فصله - صلى الله عليه وسلم -" إن شاء الله عما ألحقه به "بناء على أن المعنى" أي معنى إن شاء الله "إلا أن يشاء الله خلافه فهو" حينئذ استثناء "من الأحوال" حتى كأنه قال أفعل كذا في كل حال له إلا في حال مشيئة الله لعدم فعله "أو" بناء على أنه "لا فرق" بين إن شاء الله، وإلا أن يشاء الله من حيث وجوب الاتصال "وإلا" أي، وإن لم يكن بناء على أحد هذين التوجيهين "فليس" إن شاء الله "من مفهوم محل النزاع" أي من أفراده، وهو الفصل في الاستثناء وظني أن أحدا لم يذهب إلى سواهما ويشهد للأول ما أخرج النسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من حلف على يمين فقال إن شاء الله فقد استثنى ".(22/191)
ص -324-…مسألة
الاستثناء "المستغرق باطل"؛ لأنه لا يبقى بعده شيء يصير متكلما به، وتركيب الاستثناء لم يوضع إلا للتكلم بالباقي بعد الثنيا لا لنفي الكل وحكى ابن الحاجب وغيره فيه الاتفاق، وهو محمول على ما إذا كان بلفظ الصدر أو مساويه لقوله "وفصله" أي المستغرق "الحنفية إلى ما بلفظ الصدر أو مساويه" في المفهوم كعبيدي أحرار إلا عبيدي أو إلا مماليكي "فيمتنع وما بغيرهما" ولو مساويا في الوجود وأخص في المفهوم "كعبيدي أحرار إلا هؤلاء أو إلا سالما وغانما وراشدا، وهم الكل وكذا نسائي" طوالق "إلا فلانة وفلانة وفلانة" وفلانة أو إلا هؤلاء وليس له نساء غيرهن "فلا" يمتنع فلا يعتق واحد منهم ولا تطلق واحدة منهن قالوا؛ لأن الاستثناء تصرف لفظي فينبني على صحة اللفظ لا على صحة الحكم ألا يرى أنه لو قال أنت طالق ألفا إلا تسعمائة وتسعة وتسعين طلقة كيف يصح الاستثناء فلا يقع سوى واحدة، وإن كان الألف لا صحة لها من حيث الحكم؛ لأن الطلاق لا مزيد له على الثلاث "والأكثر على جواز الأكثر والنصف، ومنعهما" أي الأكثر والنصف "الحنابلة والقاضي" أولا ونقله ابن(22/192)
ص -325-…السمعاني عن الأشعري خص القاضي آخر أو ابن درستويه المنع بالأكثر "وقيل إن كان" المستثنى منه "عددا صريحا" يمتنع فيه استثناء الأكثر والنصف كعشرة إلا ستة أو إلا خمسة، وإن كان غير صريح لا يمتنعان فيه كأكرم بني تميم إلا الجهال، وهم ألف، والعالم فيه النصف فما دونه إلى الواحد، وقال ابن عصفور يمتنع الاستثناء في العدد مطلقا "لنا في غير العدد {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ}، وهم" أي متبعوه "أكثر" ممن لم يتبعه "لقوله تعالى {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ} [يوسف: 103] الآية" فإن قلت إما أن يراد بعبادي ما يعم الملك والإنس والجن، وحينئذ فمتبعوه أقل أو المؤمنون فالاستثناء منقطع قلت المراد بعبادي هنا بقرينة سوق الآية الإنس خاصة من غير اشتراط كونهم مؤمنين ومتبعوه منهم أكثر ممن لم يتبعه منهم للآية الثانية فإن قلت اللام في الناس فيها للعهد، وهم الموجودون من حين بعثه صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة فلا يلزم من كون المتبعين أكثر من هذه الطائفة أن يكونوا أكثر من عامة بني آدم من لدن آدم عليه السلام المرادين بقوله {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الإسراء: 65] إلى قيام الساعة. قلت: لا نسلم أن اللام في الناس للعهد إذ لا دليل عليه وكيف وملاحظة ما في نفس الأمر شاهدة بإرادة الكل كما هو ظاهر الإطلاق فتعين لوجود المقتضى مع مؤكده وانتفاء المانع "وكلكم جائع إلا من أطعمته" كما هو بعض من حديث قدسي طويل رويناه في صحيح مسلم وغيره فإن من أطعمه الله تعالى أكثر ممن لم يطعمه "ومن العدد إجماع" فقهاء "الأمصار على لزوم درهم في عشرة دراهم إلا تسعة قالوا عشرة إلا تسعة ونصف وثلث وثمن درهم مستقبح عادة أجيب استقباحه لا يخرجه عن الصحة كعشرة إلا دانقا ودانقا إلى عشرين" دانقا، وهو سدس الدرهم فإنه مستقبح وليس استقباحه لأجل أن المستثنى أكثر؛ لأنه ثلث الكل بل لأجل(22/193)
التطويل مع إمكان الاختصار. "والحاصل صرف القبح إلى كيفية استعمال اللفظ لا إلى معناه" واحتج ابن عصفور بأن أسماء العدد نصوص فلو جاز الاستثناء منها لخرجت عن نصوصيتها، وإنما جاز من الألف في قوله تعالى {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت: 14]؛ لأنه يدخله اللبس؛ لأنه قد يؤتى به على جهة التكثير فيقال اقعد ألف سنة أي زمنا طويلا فتبين بالاستثناء أنه لم يستعمل للتكثير، وكذا كل ما جاء من الاستثناء من الأعداد التي يجوز أن تستعمل للتكثير وقواه قول أبي حيان لا يكاد يوجد استثناء من عدد في شيء من كلام العرب إلا في الآية الكريمة وقد طالعت كثيرا من دواوين العرب جاهليها، وإسلاميها فلم أقف فيه على استثناء من عدد. ا هـ.
والجواب ما تقدم من جواز التجوز باسم العدد في جزئه بالقرينة الدالة عليه وأن مجرد لفظ العدد ليس من النص بمعنى انتفاء الاحتمال، وأنه لا يبطل بالاستثناء منه نص بمعنى أنه لا يحتمل أن يتجوز في غيره على أن اللبس على تقدير التحقق إنما يكون إذا كان الاسم محتملا لغير مدلوله احتمالا متساويا، وإذا كان كذلك يخرج النص عن النصية، والعجب تجويزه أن يراد بالألف التكثير ومنع تجويزه أن يراد به بعض مدلوله النصي مع أن كلا منهما غير مدلوله النصي فإن كان كونه نصا في مدلوله مانعا من إطلاقه على غيره فليكن مانعا في
الصورتين فإن قيل إنما جاز استعماله في التكثير لا في بعضه؛ لأن العرب استعملته في التكثير لا في بعضه قلنا ممنوع عدم استعمال العرب له في بعضه وكيف لا والقرآن ناطق بذلك فإن الألف فيه مستعمل في بعضه لا أنه مراد به التكثير اتفاقا ثم قلة الوقوع لا يمنع الجواز مع وجود المقتضي، والله سبحانه أعلم.
مسألة(22/194)
"الحنفيةشرط إخراجه" أي المستثنى من المستثنى منه "كونه" أي المستثنى بعضا "من الموجب" أي المستثنى منه "قصدا لا ضمنا" أي لا تبعا لأن الاستثناء تصرف لفظي فيقتصر عمله على ما تناوله اللفظ "فلذا" الشرط "أبطل أبو يوسف استثناء الإقرار من الخصومة في التوكيل بها" أي بالخصومة "لأن ثبوته" أي الإقرار للوكيل "بتضمن الوكالة إقامته" أي الموكل الوكيل "مقام نفسه" لا بواسطة أن الإقرار يدخل في الخصومة قصدا حتى يصح إخراجه منها، ولهذا قال: لا يختص إقراره بمجلس القضاء كما لا يختص إقرار الموكل به "إذ الخصومة لا تنتظمه" أي الإقرار لأنه مسالمة وموافقة، والخصومة منازعة وإنكار فلا يصح استثناؤه "وإنما أجازه" أي استثناء الإقرار منها "محمد" لوجهين:(22/195)
الوجه الأول "لاعتبارها" أي الخصومة "مجازا في الجواب" مطلقا لأن حقيقة التوكيل بالخصومة مهجورة شرعا لقوله تعالى {وَلا تَنَازَعُوا} [الأنفال: 46] فيصار إلى المجاز صونا لكلام العاقل عن الإلغاء، ومطلق الجواب يصلح جوابا لأن الخصومة سبب للجواب، وإطلاق السبب وإرادة المسبب طريق من طرق المجاز "فكان" الإقرار "من أفراده" أي مطلق الجواب، قالوا: والاستثناء على هذا يكون بيان تغيير فيصح موصولا لا مفصولا، وعلى هذا ما في التحفة والبدائع، وكل بالخصومة مطلقا ثم استثنى الإقرار في كلام منفصل عند محمد لا يصح، وأما ما فيهما أيضا وعند أبي يوسف يصح، فظاهره مشكل لأنه إذا لم يصح عنده موصولا فكيف يصح مفصولا، ثم جوازه موصولا اختيار الخصاف كما ذكره فخر الإسلام وظاهر الرواية على ما في الذخيرة والتتمة وفيهما وفي غيرهما أيضا وعن محمد يصح من الطالب لأنه مخير لا من المطلوب لأنه مجبور عليه وفي المنبع: والصحيح أنه لا فرق في صحة الاستثناء بين الطالب والمطلوب لأن استثناء الإقرار في عقد التوكيل إنما جاز لحاجة الموكل إليه لأن الوكيل بالخصومة يملك الإقرار عند علمائنا الثلاثة، فلو أطلق التوكيل من غير استثناء لتضرر به الموكل وهذا المعنى لا يوجب الفصل بين التوكيل من الطالب وبينه من المطلوب لأن كلا منهما محتاج إلى التوكيل بالخصومة.
الوجه الثاني أن استثناء الإقرار عمل بحقيقة اللغة فيكون استثناؤه تقريرا لموجب التوكيل بالخصومة فهو بالحقيقة بيان تقرير لا استثناء على هذا يصح موصولا ومفصولا "وعلى هذا" الاعتبار المذكور لمحمد "صح استثناء الإنكار عنده" أي محمد أيضا من التوكيل بالخصومة لشمول معناها المجازي له وهل يشترط اتصاله؟ لم أره، والظاهر نعم(22/196)
ص -326-…لأنه مغير وعلى الوجه الثاني لا يصح كما صرح به فخر الإسلام وغيره لما سنذكر "وبطل" استثناؤه "عند أبي يوسف لأنه" أي استثناءه "مستغرق" إما لأنه حقيقة معنى الخصومة وهذا ما وعدنا به، ومن هنا قيل: لا يصح عند الكل، وإما لأن الإقرار يثبت عنده تبعا للإنكار فإذا استثنى الإنكار لزم استثناء الإقرار أيضا بخلافه عند محمد على الوجه الأول، ومن هنا يعرف أن كون استثناء الإنكار على الخلاف في الأصح كما ذكره فخر الإسلام وغيره إنما هو على الوجه الأول، وأنه يقتضي أن الأصح هو الوجه الأول، ثم أقول وعلى هذا القائل أن يقول: يشكل بهذا ما في مبسوط خواهر زاده والذخيرة: قال وكلتك بالخصومة غير جائز الإقرار والإنكار، لا رواية في هذا عن أصحابنا المتقدمين انتهى. فإن الرواية ببطلان استثناء الإنكار فقط رواية ببطلانه مع الإقرار دلالة، اللهم إلا أن يراد فيه بعينه خصوصا ثم فيهما، واختلف المتأخرون فيه فبعضهم لا: يصح التوكيل أصلا؛ لأن التوكيل بالخصومة توكيل بجوابها، وجوابها إقرار وإنكار فإذا استثنى كليهما لم يفوض إليه شيئا، وبعضهم ومنهم القاضي صاعد: يصح التوكيل ويصير الوكيل وكيلا بالسكوت متى حضر مجلس الحكم يسمع البينة عليه، وإنما صح التوكيل بهذا القدر لأنه يحصل به ما هو مقصود الطالب وهو خصم تسمع بينته عليه؛ لأن السكوت من الخصم كاف لسماع البينة عليه كالإنكار، وللمطلوب نوع فائدة أيضا كما فيما لو ادعى الطالب البيع - والمطلوب ينكره فإن الطالب إذا أقام بينة على البيع إذا سكت وكيل المطلوب ثم قبل أن يقضي القاضي على المطلوب بالبيع أقر المطلوب بالبيع وأراد أن يرد المبيع على البائع بالعيب أمكنه ذلك، بخلاف ما لو أنكر الوكيل نصا فإنه لا يمكنه لأنه حينئذ يصير مناقضا في دعواه البيع، فإن إنكار الوكيل كإنكاره فعلى هذا فالقائلون بصحة الوكالة في هذه الصورة قائلون بصحتها في صورة انفراد استثناء الإنكار من التوكيل بالخصومة(22/197)
بطريق أولى والله سبحانه أعلم.(22/198)
ص -330-…لا في عطف الجمل الذي كلامنا فيه وهذا هو الإبطال الموعود "وما يقال هي" أي الجمل "مثلها" أي المفردات "إذ الاستثناء فيها" أي الجمل "من المتعلقات أو المسند إليه أجيب بأنه" أي كونها مثلها "إذا اتحدت جهة النسبة فيها" أي الجمل "وهو" أي اتحاد جهة النسبة فيها "الدليل" على تعلقه بالكل "ككونها" أي الجمل "صلة" للموصول، نحو اضرب الذين قتلوا وسرقوا وزنوا إلا من تاب ونحوه مما يوجب الاتصال والارتباط لا مطلقا "للقطع بأن نحو ضرب بنو تميم وبكر شجعان ليس في حكمه" أي المفرد "قالوا" ثانيا "لو قال" والله "لا أكلت ولا شربت إن شاء الله تعالى تعلق" إن شاء الله "بهما" أي بالجملتين اتفاقا "أجيب بأنه" أي إن شاء الله "شرط" لا استثناء "فإن ألحق" الشرط "به" أي بالاستثناء "فيقاس في اللغة" وتقدم أنه غير صحيح "ولو سلم" صحته "فالفرق أن الشرط مقدر تقديمه" على الجزاء بخلاف الاستثناء فإنه غير مقدر تقديمه على المستثنى منه وتقدم ما فيه "ولو سلم عدم لزومه" أي تقدم الشرط "فلقرينة الاتصال وهو" أي دليله "الحلف على الكل" عاد "إن شاء الله" إلى الكل وليس النزاع فيما كان هكذا وإنما النزاع فيما لا قرينة توجب رجوعه إلى الكل، قيل وأيضا لما كانت الأشياء كلها موقوفة على مشيئة الله - تعالى - كان الظاهر والغالب من حال المتكلم عود المشيئة إلى الكل فيصير ذكرها قرينة معنوية تقتضي العود إلى الكل وهذه القرينة مفقودة في غيره من صور الاستثناء. "قالوا" ثالثا "قد يتعلق الغرض به" أي بالاستثناء "كذلك" أي عائدا إلى الكل "وتكراره" أي الاستثناء لكل منها "يستهجن" ولولا أنه يعود إلى الجميع فكان مغنيا عن التكرار لما استهجن لتعينه طريقا إليه "فلزم ظهوره" أي الاستثناء "فيها" أي في الجمل كلها "قلنا الملازمة" بين تكراره واستهجانه "ممنوعة لمنع الاستهجان إلا مع اتحاد الحكم المخرج منه" لكونه حينئذ تكرارا خاليا عن الفائدة، والحكم المخرج منه هنا(22/199)
متعدد لا متحد "ولو سلم" أن التكرار يستهجن "لم يتعين" التكرار "طريقا" لإفادة المراد "فلينصب قرينة الكل أو يصرح به" أي بالاستثناء من الكل "بعده" أي الكل كأن يقول بعد الكل إلا كذا في الجميع. "قالوا" رابعا هو "صالح" للجميع "فالقصر على الأخيرة تحكم قلنا: إرادتها" أي الأخيرة "اتفاق والتردد فيما قبلها، والصلاحية لا توجب ظهوره" أي الاستثناء "فيه" أي الكل "كالجمع المنكر في الاستغراق" فإنه صالح للجميع وليس بظاهر فيه. "قالوا" خامسا "لو قال: علي خمسة وخمسة إلا ستة فبالكل" أي يتعلق بالجميع اتفاقا، ومن ثمة لم يكن مستغرقا فكذا في غيره من الصور دفعا للاشتراك والمجاز "قلنا بعد كونه" أي كل من هذه المستثنى منها "مفردا" وكلامنا فيما إذا كانت جملا "أوجبه" أي كون الاستثناء منها "تعينه للصحة" إذ لو رجع إلى الأخيرة لم يستقم لأنه حينئذ يكون مستغرقا مع زيادة وهو باطل فهو مما قامت فيه قرينة على عوده إلى الكل ولا نزاع فيه وأيضا مدعاكم العود إلى كل لا إلى الجميع فلا جرم أن قال القاضي عضد الدين: والحق أن النزاع يصلح للجميع وللأخيرة وهذا ليس منه إذ لا يصلح لكل واحدة ولا للأخيرة هذا، وقد ظهر أن رجوع الاستثناء المتعقب لمفردات متعاطفات إلى جميعها محل اتفاق.(22/200)
ص -331-…"تنبيه بني على الخلاف" في عوده على الأخيرة فقط إلا لدليل أو على الجميع إلا لدليل "وجوب رد شهادة المحدود في قذف عند الحنفية" إذا تاب من ذلك بأن أكذب نفسه في قذفه عند من قذفه به وأصلح عمله على ما هو الأشبه لقصر {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} على ما يليه وهو {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} فينتفي عنه الفسق لا غير ويبقى ولا تقبلوا شهادة أبدا على حكمه "خلافا للشافعي" ومالك وأحمد "ردا له" أي الاستثناء "إليه" أي ما يليه "مع لا تقبلوا" فينتفي عنه الفسق وتقبل شهادته "ولو منع الدليل من تعلقه" أي الاستثناء "بالأول" أي فاجلدوهم "تعلق به" أيضا عندهم لأن عوده إلى الكل عندهم ليس بقطعي بل ظاهر يعدل عنه عند قيام الدليل على ذلك وقد وجد هنا ذلك فإن الجلد فيه حق الآدمي راجح على حق الله تعالى عندهم حتى يسقط بعفوه ويورث عنه فلا يسقط بالتوبة فيندفع أن يقال: فينتفي أن يتعلق به أيضا عندهم مع أن المستثنى هو الذين تابوا وأصلحوا، ومن جملة الإصلاح الاستحلال وطلب عفو المقذوف وعند وقوع ذلك يسقط الجلد فيصح صرف الاستثناء إلى الكل "ثم قيل الاستثناء منقطع" قاله القاضي أبو زيد وفخر الإسلام وشمس الأئمة السرخسي "لأن الفاسقين لم يتناول التائبين" ليخرجوا منهم فالمعنى لكن الذين تابوا فإن الله يغفر لهم ولم يرحمهم وهذا على ما ذهب إليه فخر الإسلام ومن وافقه أو لأن المستثنى منه الذين يرمون لكن لم يقصد إخراج التائبين من حكم الرامين بل قصد إثبات حكم آخر للتائبين وهو أن التائب لا يبقى فاسقا بعد التوبة وهذا على ما ذهب إليه القاضي أبو زيد واختاره صدر الشريعة. "والأوجه متصل من {أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} أعني الذين يرمون" لتناولهم إياهم ثم إخراجهم من حكمهم كما هو ظاهر الآية أي أولئك الذين يرمون محكوم عليهم بالفسق إلا التائبين منهم فإنهم غير محكوم عليهم به حال اتصافهم بالتوبة للإجماع القاطع على أن لا فسق مع التوبة،(22/201)
وكيف لا؟، "والتائب من الذنب كمن لا ذنب له" كما رواه الطبراني برواية الصحيح عن ابن مسعود مرفوعا، والفسق هو المعصية والخروج من الطاعة فلا يضر كون المراد بالفاسق الفاسق على الدوام والثبات، وانتفى كون المراد بالفاسق الفاسق في الجملة لكن التائب لم يخرج من حكم القاذفين الذي هو الفسق كما قاله القاضي أبو زيد فليتأمل.
مسألة
"إذا خص العام كان مجازا في الباقي عند الجمهور" من الأشاعرة ومشاهير المعتزلة "وبعض الحنفية" كصاحب البديع وصدر الشريعة "إلا أنه لا تخصيص لأكثرهم" أي الحنفية "إلا بمستقل على ما سبق" فهو بعد إخراج بعضه بغير مستقل حقيقة على قولهم كما صرح به صدر الشريعة، واختار هذا القول بدون هذا التقييد ابن الحاجب والبيضاوي "وبعضهم" أي الحنفية "كالسرخسي والحنابلة" وأكثر الشافعية بل جماهير الفقهاء على ما ذكر إمام الحرمين "حقيقة" في الباقي "وبعضهم" أي الحنفية "وإمام الحرمين حقيقة في الباقي مجاز في الاقتصار والشافعية" نقلوا "عن الرازي من الحنفية وهو" الشيخ الإمام أبو بكر أحمد "الجصاص إن كان الباقي كثرة يعسر ضبطها فحقيقة وإلا" إن كان الباقي ليس كذلك "فمجاز" والمذكور في(22/202)
ص -332-…كلام ابن الحاجب والرازي حقيقة إن كان الباقي غير منحصر وفسره القاضي عضد الدين بمعنى ما ذكره المصنف لكن زاد السبكي على آحاد الناس كذا فسره إمام الحرمين وقال الغزالي كل عدد لو اجتمعوا في صعيد لعسر على الناظر عددهم بمجرد النظر كالألف فهو غير محصور وإن سهل كالعشرة والعشرين فمحصور وبين الطرفين أوساط تلحق بأحدهما بالظن وما وقع فيه الشك استفتي فيه القلب "والحنفية" نقلوا "عنه" أي الجصاص "إن كان جمعا فقط" أي من غير تقييد بالقيد السابق فحقيقة وإلا كان مجازا "أبو الحسين إن خص بما لا يستقل" من شرط أو صفة أو استثناء أو غاية "فحقيقة" وإن خص بمستقل من سمع أو عقل فمجاز، وبه قال الإمام فخر الدين الرازي: قال السبكي: وهو الذي رأيته منصورا في كلام القاضي ونقله عنه أيضا المازري وذكر أنه آخر قوليه وأن أولهما كونه مجازا مطلقا وقال المتأخرون منهم ابن الحاجب "القاضي: إن خص بشرط أو استثناء" فحقيقة وإلا فمجاز "عبد الجبار" إن خص "بشرط أو صفة" فحقيقة وإلا فمجاز ونظر فيه العلامة وتبعه التفتازاني بأنه قال في عمدة الأدلة: الصحيح أنه يصير مجازا بأي شيء خص لأنه استعمال اللفظ في غير ما وضع له لقرينة اتصلت أو انفصلت استقلت أم لا وأجاب الأبهري بأن المذكور في العمدة هو قوله أولا وكأنه رجع عنه ثم ذكر عن المعتمد لأبي الحسين ما يفيد موافقة ما في الكتاب "وقيل إن خص بلفظي" متصل أو منفصل فحقيقة وإلا فمجاز فهذه ثمانية مذاهب "لنا" على المختار وهو الأول "الفرض أنه" أي العام "حقيقة في الاستغراق على الخصوص فلو كان للباقي فقط حقيقة" أيضا "كان مشتركا" لفظيا "وهو" أي كونه مشتركا لفظيا بين الكل والبعض "غير المفروض ودفع" هذا ودفعه القاضي عضد الدين "بأنه" أي العام "في صورة التخصيص للاستغراق لأن أكرم بني تميم الطوال في تقدير من بني تميم أي بعضهم" لأن من للتبعيض "فلزم إرادة كلهم" من قوله بني تميم ضرورة "وإلا" لو لم يكن(22/203)
المراد هذا "كان المعنى" أكرم "بعض بعضهم" لأن من شأن من التبعيضية صحة وضع بعض مكانها، والفرض أن المراد ببني تميم البعض أيضا فيئول المعنى إلى هذا وهو ليس بصحيح "ثم عرض الحكم" الذي هو إكرام الموصوف منهم بالطول "فخرج الآخر" وهو من لم يوصف منهم به من طلب الإكرام "وهذا" التوجيه "لازم في المستثنى على ما قيل" أي كما تقدم من اختيار ابن الحاجب أن المراد بالمستثنى منه معناه حقيقة ثم يخرج منه المستثنى ثم يحكم على الباقي "ويمكن اعتباره" أي هذا وهو أن المراد من العام جميع ما يتناوله اللفظ ثم يخرج غير المراد منه ثم يحكم على الباقي "في الكل" أي في سائر العمومات المخصصة بأي تخصيص كأن قال المصنف "غير أن وضع المفرد واستعماله ليس إلا للتركيب" لما تقدم قبيل الفصل الأول من أن المقصود من وضع المفردات ليس إلا المعاني التركيبية "ويبعد أن يركبه" أي المتكلم المفرد مع غيره "مريدا المجموع" مما يتناوله "ليحكم على البعض لأنه" أي القصد للمجموع "حينئذ" أي حين يكون الحكم على بعضه "بلا فائدة لصحة أن يريد منه" أي من اللفظ العام "لغة المحكوم عليه فقط ولو كان" العام "عددا" فانتفى الدفع "وقول السرخسي(22/204)
ص -333-…صيغة العموم للكل ومع ذلك حقيقة فيما وراء المخصوص لأنها" أي صيغته "إنما تتناوله" أي ما وراء المخصوص "ومن حيث إنه كل لا بعض كالاستثناء يصير الكلام عبارة عما وراء المستثنى بطريق أنه" أي ما وراء المستثنى "كل لا بعض إن أراد" أن تناوله لما وراء المخصوص "بوضع آخر خاص لزم الاشتراك" اللفظي والمفروض خلافه "أو وضع المجاز فنقيض مطلوبه" لأن مطلوبه أنه حقيقة فيه. "فإن قيل لم لم تحمله" أي هذا من السرخسي "على أنه لا يشترط الاستغراق" في العام فيكون العام المخصوص من أفراده ما لم ينته إلى ما دون الثلاث فيكون حقيقة "قلنا الكلام في العام إذا خص" هل يكون فيما وراء المخصوص حقيقة "وإنما يقبله" أي التخصيص "الصيغ المتقدمة كالجمع المحلى ونحوه" من الموصولات وأسماء الشرط والاستفهام ونحوها "مما اتفق على استغراقه والخلاف في اشتراطه" أي الاستغراق إنما هو "في مسمى لفظ عام ومن لم يشترطه" أي الاستغراق في مسمى لفظ عام "وإن جعل من صيغه" أي العام "الجمع المنكر لا يصحح اعتباره" أي عدم شرطه "هنا إذ لا يقبل الإخراج منه ولذا لا يستثنى منه" كما تقدم في بحثه، ولقائل أن يقول: لا خفاء في أنه يتعدى من ثبوت الخلاف في اشتراط الاستغراق في مسمى لفظ عام ثبوته في صيغه أيضا ضرورة اتصافها به.
والجواب المحقق في دفع قول السرخسي على هذا التقدير أن ما لا يصح فيه التخصيص من صيغه لا كلام فيه وما يصح التخصيص فيه منها تناوله إذا قصر على الثلاث فصاعدا، معنى العموم فيه باق على قول من لم يشرط الاستغراق لكن لا يلزم منه كون تلك الصيغة حقيقة في الباقي لأنه ليس تمام معناها الوضعي فلا يجدي عدم اشتراطه في مسمى العام ولا فيما تناولته صيغته كون الصيغة حقيقة في الباقي فليتأمل.(22/205)
"وما قيل" وقائله عضد الدين "إرادته" أي الباقي "ليس بالوضع الثاني والاستعمال" الثاني له فيه "بل" الباقي مراد "بالأول" منهما وإنما طرأ عدم إرادة بعض معنى اللفظ "ممنوع بل الحقيقة إرادته" أي الباقي "بالأول من حيث هو" أي الباقي "داخل في تمام الوضعي المراد" باللفظ "لا" إراداته "بمجرد كونه تمام المراد بالحكم" أما إذا أريد هذا "فهو" أي كونه موضوعا له إنما هو "بالثاني" وليست إرادة الباقي إلا بالاعتبار الأول "الحنابلة: تناوله" أي العام للباقي بعد التخصيص "كما كان" قبله "وكونه" أي التناول للباقي بعد التخصيص "ومع قرينة الاقتصار" عليه "لا يغيره" أي تناوله له "فهو حقيقة قلنا الحقيقة بالاستعمال في المعنى" الموضوع له "لا التناول لأنه" أي التناول "لتبعيته للوضع ثابت للمخرج بعد التخصيص ولكل وضعي حال التجوز بلفظة الرازي إذا بقي" من العام مقدار "غير منحصر" في عدد "فهو" أي ذلك الباقي "معنى العموم" لأنه كون اللفظ دالا على أمر غير منحصر في عدد فيكون فيه حقيقة "نقله الشافعية عنه والحنفية بنقل مذهبه أجدر" من الشافعية به فإنه لكونه منهم هم به أعرف "وهو" أي مذهبه "بناء على عدم اشتراط الاستغراق" في العموم "وغلط" الرازي "بأن مقتضاه"(22/206)
ص -334-…أي دليله "كون الخلاف في لفظ العموم لا في الصيغة" والأمر بالعكس فهو من اشتباه العارض بالمعروض كما وقع مثله لكثير من الأصوليين في كثير من المواضع ثم أجيب عن الأول بمنع كون معنى العموم ذلك بل معناه تناوله لجميع ما يصلح له وقد كان متناولا لجميع ما يصلح له فصار لبعضه فكان مجازا "أبو الحسين لو كان الإخراج بما لا يستقل يوجب تجوزا" في اللفظ "لزم كون المسلم للمعهود مجازا" واللازم باطل فالمزوم مثله بيان الملازمة أن مسلما مقيد بما هو كالجزء له وهو اللام وقد صار به لمعنى غير ما وضع له أولا فإنه قبل دخول اللام كان لمن قام به الإسلام بدون عهد وقد صار له مع العهد قال المصنف "والجواب" عنه كما في أصول ابن الحاجب وغيره "بأن المجموع" من مسلم واللام هو "الدال" على مجموع المعنى لا أن مسلما للجنس واللام للقيد "مندفع بأنه بعد العلم بأنهما" أي اللام ومسلما "كلمتان بوضعين ركبتا" وجعل مجموعهما دالا على المعنى "مجرد اعتبار يمكن مثله في العام المقيد بما يستقل وإلا" إن اعتبر كون الدال في مثل المسلم المجموع من اللام ومدخولها ولم يعتبر كون الدال في العام والمقيد به مما لا يستقل المجموع منهما "فتحكم محض" لكونه فرقا بين المتساويين بلا فرق مؤثر هذا وفي حاشية الأبهري وفيما نقل عنه المصنف - من أن العام المخصص بغير المستقل حقيقة - نظر لأن العام المخصص وحده ليس حقيقة عنده ولا مجازا كما يدل عليه صريح كلامه على أن تلخيص دليله على الوجه المذكور في المتن والشرح ينفي كونه مجازا وينافي كونه حقيقة ولأنه يدل على أن العام المخصص بغير المستقل ليس له دلالة وحده كما أن مسلما في مسلمون ليس دالا فلا يكون حقيقة بل المجموع هو الحقيقة "القاضي وعبد الجبار مثله" أي أبي الحسين "فيما لم يخرجاه" مما لا يستقل وهو الصفة والغاية عند القاضي، والاستثناء عند عبد الجبار دليلا وهو لزوم كون نحو المسلم للمعهود مجازا لو كان الإخراج(22/207)
بغير هذه المخرجات يوجب تجوزا في اللفظ وجوبا وهو منع لزومه ثم قالوا إنما استثنى القاضي الصفة لأنها عنده كأنها مخصص مستقل وعبد الجبار الاستثناء لأنه ليس بتخصيص عنده ولم يوجهوا للغاية وجها وقد عرفت ما في الجواب وأيضا ذكر عبد الجبار في عمدة الأدلة الاستثناء من المخصصات على أنه إذا لم يكن الاستثناء منها عنده كان المستثنى منه باقيا على عمومه فيكون حقيقة، وقد قال: إنه ليس بحقيقة "المخصص باللفظ مثله" أي أبي الحسين أيضا دليلا وهو لزوم كون نحو المسلم للمعهود مجازا لو كانت الدلائل اللفظية توجب تجوزا في اللفظ وجوابا وهو منع لزومه "وهو" أي دليل هذا "أضعف" من دليله لشمول اللفظي المتصل والمنفصل، وقد كان عدم الاستقلال للمتصل وهو المانع من إيجاب التجوز لفظا، أوله دخل في منع إيجابه كما في نحو المسلم كما ظن وهو منتف في المنفصل فلا يصح قياسه عليه قطعا "الإمام الجمع كتعداد الآحاد" قال أهل العربية معنى الرجال فلان وفلان وفلان إلى أن يستوعب وإنما وضع الرجال اختصارا وإذا كان كذلك "وفيه" أي تعدادها "إذا بطل إرادة البعض لم يصر الباقي مجازا" فكذا الجمع وإنما عدل المصنف عن العام كما هو مذكور في(22/208)
ص -335-…نقل ابن الحاجب وغيره إلى الجمع كما يشير به تقرير القاضي عضد الدين، لأنه الذي يظهر فيه هذا التوجيه وإن كان قاصرا على بعض الدعوى إذ ليس كل عام جمعا "أجيب أن الحاصل" من العام "واحد" وهو استغراق ما يصلح له لوضعه "للاستغراق" أي لاستغراقه "ففي بعضه" أي فاستعمال العام مرادا به بعضه "فقط مجاز" بخلاف الآحاد المتعددة فإنه لم يرد بلفظ منها بعض ما وضع له وإذا بطلت بعض الحقائق لم يلزم بطلان حقيقة أخرى على أنه قد منع كون الجمع كتكرار الآحاد، وقول أهل العربية ذلك ليس لأنه مثله في جميع أحكامه بل لبيان الحكمة في وضعه "وما قيل يمكن اللفظ" الواحد أن يكون حقيقة ومجازا "بحيثيتين" فليكن العام المخصوص كذلك فيكون مجازا - من حيث إن الباقي ليس موضوعه الأصلي - وحقيقة من حيث إنه باق على أصل وضعه فلم ينقل نقلا كليا كما هو شبهة اختيار السبكي إياه "فتانك" الحيثيتان إنما هما "باعتبار وضعي الحقيقي والمجازي" قال المصنف يعني أن الحيثيتين الكائنتين للفظ إنما هما كونه بحيث إذا استعمل في هذا كان حقيقة له لوضعه له عينا وهو الوضع الحقيقي وإن استعمل في ذاك كان مجازا لوضعه بالنوع له وسيأتي تحقيق وضع المجاز في الكتاب لا أنه استعمال واحد يكون اللفظ فيه حقيقة ومجازا كما ادعاه الإمام "ولا يلزم اجتماعهما" أي الحقيقة والمجاز معا في استعمال واحد "على أنه نقل اتفاق نفيه" أي الاتفاق على منع أن يكون اللفظ الواحد حقيقة ومجازا في استعمال واحد وإنما اختلفوا في صحة أن يراد به المعنى الحقيقي والمعنى المجازي معا في استعمال واحد ثم يكون حقيقة أو مجازا في ذلك الاستعمال على الخلاف "هذا" ما ذكر "ولم يستدل" الإمام "على شقه الآخر وهو أنه مجاز في الاقتصار لظنه ظهوره وهو غلط لأنه لا يكون" اللفظ العام "مجازا باعتبار الاقتصار إلا لو استعمل في معنى الاقتصار، وانتفاؤه" أي استعماله في معنى الاقتصار "ظاهر بل الاقتصار يلزم استعماله في(22/209)
الباقي بلا زيادة فهو" أي الاقتصار "لازم لوجوده" أي استعماله في الباقي "لا مراد إفادته" أي الاقتصار "به" أي باللفظ العام المخصوص "ولو أراد بالاقتصار استعماله" أي العام "في الباقي بلا زيادة فهو شقه الأول وعلمت مجازيته" أي العام "فيه" أي في الباقي والله سبحانه وتعالى أعلم.
مسألة
"الجمهور العام المخصوص بمجمل" أي مبهم غير معين من الإجمال بالمعنى اللغوي "ليس حجة كلا تقتلوا بعضهم" مثلا مع اقتلوا المشركين، أو هذا العام مخصوص أو لم يرد به كل ما تناوله لا أنه بالإجماع كما ذكر الآمدي وغيره لما سيأتي "وبمبين حجة فخر الإسلام حجة فيهما ظنية الدلالة بعد أن كان قطعيها" أي الدلالة لما مضى ويأتي من أن العام عنده قطعي الدلالة كالخاص "وقيل يسقط المجمل، والعام" يبقى "كما كان" قبل لحوقه به كما عليه أبو المعين من الحنفية وابن برهان من الشافعية "وفي المبين أبو عبد الله البصري إن كان العام منبئا عنه" أي الباقي بعد التخصيص "بسرعة كالمشركين في أهل الذمة" فإن لفظ المشركين بعد التخصيص بالذمي منبئ عن الباقي الذي هو الحربي بلا توقف على تأمل فهو حجة بعد .(22/210)
ص -336-…التخصيص "وإلا" أي وإن لم ينبئ عن الباقي بعد التخصيص "فليس بحجة كالسارق لا ينبئ عن سارق نصاب ومن حرز لعدم الانتقال" أي انتقال الذهن "إليهما" أي النصاب والحرز من إطلاق السارق قبل بيان الشارع فإذا بطل العمل به - أعني لم يحكم بقطع اليد في صور انتفاء النصاب والحرز أو أحدهما إذ لا يثبت القطع شرعا عند ذلك - لم يعمل بمقتضاه أيضا في صورة وجود الأمرين لأن اللفظ لا ينبئ عن أن القطع إنما يكون إذا كان المسروق نصابا محرزا "عبد الجبار إن لم يكن" العام "مجملا" قبل التخصيص "فهو حجة" نحو اقتلوا المشركين فالعمل به قبل التخصيص بالذمي ممكن بتعميم القتل لكل مشرك "بخلاف" المجمل قبل التخصيص، مثل أقيموا "الصلاة فإنه بعد تخصيص الحائض منه يفتقر" إلى البيان كما كان مفتقرا إليه قبله لإجمال الصلاة فلا يكون حجة "البلخي من مجيزي التخصيص بمتصل" أي غير مستقل كالشرط والصفة "حجة إن خص به" أي بالمتصل ليس بحجة إن خص بمنفصل كالدليل العقلي "وقيل حجة في أقل الجمع" وهو اثنان أو ثلاثة على الخلاف لا فيما زاد عليه "أبو ثور ليس حجة مطلقا" أي سواء خص بمتصل أو بمنفصل أنبأ عن الباقي أو لا احتاج إلى البيان أو لا هذا ما نقله الآمدي وابن الحاجب وغيرهما عنه "وقيل عنه" أي عن أبي ثور ليس حجة "إلا في أخص الخصوص" أي الواحد "إذا علم" أي كان المخصوص معلوما "كالكرخي والجرجاني وعيسى بن أبان أي يصير" العام المخصوص "مجملا فيما سواه" أي أخص الخصوص "إلى البيان" ففي كشف البزدوي وغيره أن هؤلاء ذهبوا إلى أنه لا يبقى حجة بعد التخصيص بل يجب التوقف إلى البيان سواء كان المخصوص معلوما أو مجهولا إلا أنه يجب به أخص الخصوص إذا كان معلوما، غير أنه بالنسبة إلى عيسى مقيد برواية وفي البديع الكرخي وابن أبان وأبو ثور لا يبقى حجة مطلقا إلا في الاستثناء المعلوم، انتهى. وقد عرفت أن أكثر الحنفية - ومنهم الكرخي على أن الاستثناء ليس تخصيصا فلا يخالف(22/211)
هذا ما في الكشف - بالنسبة إلى من عدا أبا ثور - ولا قول صاحب المنار وصدر الشريعة وغيرهما إن مذهب الكرخي إذا لحقه خصوص معلوم أو مجهول لا يبقى حجة بل يجب التوقف فيه إلى البيان، انتهى ولعل هؤلاء إنما لم يستثنوا أخص الخصوص كالأولين للعلم به وإلا كان نسخا كما سيذكر المصنف مع عدم التمكن من العمل به بقيد التعيين قبل البيان أيضا لأن كل فرض من الباقي يحتمل على حد سواء أن يكون هو الباقي وأن يكون مخرجا، ولكن على هذا لا حاجة إلى تقييد الأولين هذا بما إذا كان المخصوص معلوما فإنه كذلك إذا كان مجهولا لعين هذا التوجيه، فليتأمل. ثم قد ظهر من هذه الجملة أن قول البلخي هو بعينه قول الكرخي، ومن ثمة قال شارحو منهاج البيضاوي في قوله وفصل الكرخي، انتهى. فقال إن خص بمتصل كان حجة وإلا فلا وظهر أن استثناء البديع الاستثناء غير محتاج في الحقيقة إليه "لنا" على الأول "استدلال الصحابة به" أي بالعام المخصوص بمبين، وتكرر وشاع ولم ينكر فكان إجماعا. "ولو قال: أكرم بني تميم ولا تكرم فلانا وفلانا(22/212)
ص -337-…فترك" إكرام سائرهم "قطع بعصيانه" فدل على ظهوره فيه وهو المطلوب "ولأن تناول الباقي بعده" أي التخصيص "باق، وحجيته" أي العام "فيه" أي الباقي "كان باعتباره" أي التناول "وبهذا" الدليل الأخير "استدل المطلق" لحجيته كفخر الإسلام فإنه سيأتي وجهه "ويدفع" قول المطلق "باستدلالهم" أي الصحابة فإنه إنما كان بعام مخصوص بمبين "والعصيان" بترك فعل ما تعلق بالعام المخصوص طلب فعله إنما هو أيضا "في المبين، والحجة فيه" أي الثاني "قبله" أي التخصيص أيضا إنما كان "لعدم الإجمال" فلا يكون حجة في المخصوص بمجمل لتحقق الإجمال حينئذ "وبقاؤه" أي التناول إنما هو أيضا "في المبين لا المجمل فخر الإسلام والعام عنده كالخاص" في قطعية الدلالة كما تقدم قال - والحالة هذه -: "للمخصص شبه الاستثناء" بحكمه "لبيانه عدم إرادة المخرج" مما تناوله العام بحكمه "و" شبه "الناسخ" بصيغته "لاستقلاله" بنفسه في الإفادة "فيبطل" المخصص "إذا كان مجهولا" أي متناولا لما هو مجهول عند السامع "للثاني" أي لشبه الناسخ "ويبقى العام على قطعيته لبطلان الناسخ المجهول" لأنه لا يصلح ناسخا للمعلوم ولا تتعدى جهالة المخصص إليه لكون المخصص مستقلا بخلاف الاستثناء فإنه بمنزلة وصف قائم بصدر الكلام لا يفيد بدونه حتى إن مجموع الاستثناء وصدر الكلام بمنزلة كلام واحد فجهالته توجب جهالة المستثنى منه فيصير مجهولا مجملا متوقفا على البيان "ويبطل الأول" أي كون العام قطعيا "للأول" أي لشبهه بالاستثناء لتعدي جهالته إليه كما في الاستثناء المجهول "وفي" المخصص "المعلوم شبه الناسخ" من حيث كونه مستقلا "يبطله" أي العموم "لصحة تعليله" أي المخصص من هذه الحيثية كما هو الأصل في النصوص المستقلة وإن كان الناسخ لا يعلل "وجهل قدر المتعدى إليه" بالقياس "فيجهل المخرج" بهذا السبب "وشبه الاستثناء" من حيث إثبات الحكم فيما وراء المخصوص وعدم دخول المخصوص تحت الحكم العام "يبقى(22/213)
قطعيته".
قال المصنف "وهو" أي هذا الدليل "ضعيف لأن إعمال الشبهين عند الإمكان - وهو" أي إمكان إعمالهما "منتف - في المجهول بل المعتبر الأول" أي الشبه بالاستثناء "لا به" أي الشبه به "معنوي" لأن الاستثناء يخرج من العام كالمستقل، غير أنه لم يسم تخصيصا "اصطلاحا وشبه الناسخ طرد" لا أثر له "لأنه" أي الشبه به "في مجرد اللفظ" أي كون كل منهما لا يحتاج في صحة التكلم به إلى غيره "وعلى هذا" وهو أن المعتبر شبهه بالاستثناء "تبطل حجيته" في المجهول "كالجمهور وصيرورته ظنيا في المعلوم لما تحقق من عدم إرادة معناه" أي العام بسبب التخصيص بالمعلوم "مع احتمال قياس آخر مخرج" منه بعضه أيضا "وهذا لتضمنه" أي المخصص القياس المذكور "حكما" لا حقيقة فقد تضمن ما يوجب الاحتمال للإخراج في كل فرد معين أو لتضمن المخص(22/214)
ص - على صيغة اسم المفعول - حكما شرعيا، والأصل في النصوص التعليل "لا لشبه الناسخ باستقلال صيغته" لما ذكرنا من أنه طردي لا أثر له "وكون السمعي حجة" في إثبات حكم "فرع معلومية محل حكمه والقطع بنفيها" أي معلومية محل حكمه "في نحو لا تقتلوا بعضهم فإن دفع" هذا "بثبوتها" أي الحجية مع انتفاء(22/215)
ص -338-…معلومية حكم المخصص في نحو {وَحَرَّمَ الرِّبا} من قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] للعلم بحل البيع قلنا: إن علموه أي الربا "نوعا معروفا من البيع فلا إجمال وإلا" أي وإن لم يعرفوه نوعا منه "فك حرم بعض البيع" أي فهو مجمل يتوقف العمل به إلى البيان مع اعتقاد حقية المراد به. "وإخراج سارق أقل من" مقدار قيمة "المجن" المشار إليه في حديث أيمن قال: "لم تقطع اليد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا في ثمن المجن وثمنه يومئذ دينار" رواه الحاكم في المستدرك وسكت عليه أي في مقدار ثمنه لا نسلم أنه من التخصيص بالمجهول بناء على ظن أن مقدار قيمته كان مجهولا بل هو معلوم كما أفاد هذا الحديث وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "كان ثمن المجن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم" أخرجه أحمد وإسحاق والنسائي والدارقطني ومن ثمة قال أصحابنا: لا تقطع في أقل من عشرة دراهم وإنها كانت قيمة الدينار، وحديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع سارقا في مجن قيمته ثلاثة دراهم متفق عليه. ومن ثمة قال مالك والشافعي وأحمد في أظهر رواياته: تقطع إذا سرق ثلاثة دراهم أو ربع دينار، غير أن الشافعي يقول كانت قيمة الدينار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر درهما بدليل ما في مسند أحمد عن عائشة عنه صلى الله عليه وسلم: "اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك: وإلى هذا أشار بقوله "مدعى كل معلومية كمية ثلاثة أو عشرة فليس" تخصيص عموم الآية به "منه" أي من التخصيص بالمجمل فلا يسقط الاحتجاج بآية السرقة على قطع السارق شرعا "أو" سلمنا أنه منه لكنهم "توقفوا أولا" في العمل بآية السرقة "حتى بان" مقدار قيمة المجن "على الاختلاف" فيه فعملوا بها. "وقوله" أي فخر الإسلام في التخصيص بالمعلوم يبطل العموم لصحة تعليله "ولا يدرى قدر المتعدى إليه إن أراد" أنه لا يدرى ذلك(22/216)
"بالفعل" أي فعل القياس "ليس بضائر" والأولى فليس بضائر "إلا لو لزم في حجيته" أي العام المخصوص "في الباقي تعين عدده لكن اللازم تعين النوع والتعليل يفيده" أي تعين النوع "لأنها" أي علة الإخراج حينئذ "وصف ظاهر منضبط فما تحققت فيه" من المندرج تحت العام "ثبت خروجه وما لا" تتحقق فيه "فتحت العام" باق "أو" أراد أنه لا يدرى "قبله" أي التعليل بالفعل "أي بمجرد علم المخصص" أي العلم به "يجب التوقف" في الباقي "للحكم بأنه" أي المخرج "معلل ظاهرا ولا يدرى إلخ فقول الكرخي وغيره من الواقفية لأن معناه يتوقف لذلك" أي لكونه لا يدرى قدر المتعدى إليه "إلى أن يستنبط" من المخرج بواسطة علة إخراجه ما يلحق به في الإخراج لتحقق علته فيه أيضا "فيعلم المخرج بالقياس حينئذ لما ذكرنا في المجهول" وهذا فيما يظهر تعليل لقوله لأن معناه يتوقف إلخ لكن لم يتقدم في المجهول ما يفيد هذا وإنما تقدم فيه لفخر الإسلام ما يفيد كونه حجة ظنية من غير توقف وللمصنف ما يفيد خروجه عن الحجية كما هو قول الجمهور ثم لم يظهر لي ما يتجه أن يعطف عليه "وزيادة العمل بالعام قبل البحث عن المخصص أعني القياس الذي حكم به" أي الذي تضمنه المخصص "للحكم بمعلولية التخصيص" نعم يظهر أنه يريد يتوقف فيه فلا يعمل به إلى البيان لجهالة قدر المتعدى إليه(22/217)
ص -339-…المستلزمة لجهالة الباقي ولعدم جواز العمل بالعام قبل البحث عن المخصص ولكن في إفادة هذه العبارة لهذا ما ترى "وهو" أي هذا القول مرادا به هذا المعنى "حسن" لكن لا خفاء في أنه ليس بمراد فخر الإسلام وإلا لم يكن عنده حجة، والفرض خلافه وإنما حاصل مراد فخر الإسلام كما أشار إليه المحقق التفتازاني أن المخصص المجهول باعتبار الصيغة لا يبطل العام وباعتبار الحكم يبطله، والمعلوم بالعكس فيقع الشك في بطلانه والشك لا يرفع أصل اليقين بل وصف كونه يقينا فيكون حجة فيه شبهة ثم يطرقه ما أفاده المصنف من أن شبهه بالناسخ طرد لا أثر له وأن شبهه بالاستثناء هو المعتبر فيتوجه حينئذ إبطاله في المجهول وظنيته في المعلوم، وأن احتمال جهالة قدر المتعدى إليه في المعلوم لا يخرجه عن الظنية لعدم الظهور وقد عرف فيما سلف ما في وجوب البحث عن المخصص قبل العمل بالعام من المقال وأن مقتضى كلام مشايخنا عدمه "وقول الإسقاط" للعام المخصوص "مطلقا" أي في أخص الخصوص وغيره "إن صح" أن أحدا ذهب إليه "وهو" أي والقول به "بعيد" وإن نقله الآمدي وغيره "ساقط لقطعيته" أي العام "في أخص الخصوص" معلوما كان المخصص أو مجهولا لأن تناول العام لأخص الخصوص بعد التخصيص قطعي لا يتطرق إليه احتمال خروجه وهو المسقط "وإلا" لو جاز خروجه أيضا "كان نسخا" لا تخصيصا فيخرج البحث من الكلام في تخصيص العام الذي هو فرض المسألة إلى نسخ العام فلا يمكن أن يقول أحد بسقوطه مطلقا. هذا ويتجه أن يقال: القاصر للعام على بعضه إن كان غير مستقل سمي تخصيصا أو لم يسم فإما أن يكون المخرج به معلوما فالعام على ما كان عليه قبل القصر من قطع أو ظن على الاختلاف فيه لعدم مورث الشبهة من جهالة المخرج واحتمال التعليل لأن غير المستقل لا يحتمله وإما أن يكون المخرج به مجهولا فهو غير حجة إلى أن يتبين تبين المراد، وإن كان مستقلا وكان عقلا فإما أن يكون المخصوص معلوما كما في الخطابات(22/218)
التي خص منها الصبي والمجنون فالعام قطعي في الباقي لعدم مورث الشبهة وإما أن يكون مجهولا فهو لا يصلح حجة إلى بيان المراد منه لأن جهالة المخرج أورثت جهالة في الباقي لا أن المخصوص بالعقل ينبغي أن يكون عقليا كما أطلق صدر الشريعة ولا أنه يكون ظنيا مطلقا كما هو ظاهر إطلاق كثير، وإن كان كلاما فقد عرفت ما فيه وإن كان غير العقل والكلام ففي التلويح فالظاهر أنه لا يبقى قطعيا لاختلاف العادات وخفاء الزيادة والنقصان وعدم اطلاع الحس على تفاصيل الأشياء، اللهم إلا أن يعلم القدر المخصوص قطعا والله تعالى أعلم.
مسألة
"القائلون بالمفهوم" المخالف "خصوا به العام كفي الغنم الزكاة مع في الغنم السائمة" الزكاة فخصوا عموم الأول بالمفهوم المخالف للثاني وهو ليس في غير السائمة الزكاة فلا يجب في المعلوفة جمعا بينهما "لجمع الظنية إياهما" أي العام والمفهوم المخالف لأن كلا منهما ظني الدلالة عند القائلين به "ومساواتهما" أي المخصوص والمخصوص به "ظنا ليس شرطا" للتخصيص حتى يقال على اشتراطه إنما يصار إلى التخصيص دفعا للمعارضة ولا(22/219)
ص -340-…معارضة بين المنطوق والمفهوم المخالف فإن المنطوق أقوى منه فيسقط اعتبار المفهوم معه "للاتفاق عليه" أي التخصيص "بخبر الواحد للكتاب بعد تخصيصه" أي الكتاب بالقطعي مع أن الكتاب أقوى "للجمع" بين الأدلة المتعارضة لأن إعمال كل من الدليلين ولو في الجملة أولى من إهمال أحدهما بالكلية لأنه خلاف الأصل وإنما قال بعد تخصيصه لتتم دعوى الاتفاق لأن عند أصحابنا لا يجوز تخصيص الكتاب بخبر الواحد ابتداء كما سيأتي "والتحقيق أن مع ظنية الدلالة فيهما" أي العام والمفهوم المخالف "يقوى ظن الخصوص" في العام "لغلبته في العام" فلا يكون العام أقوى منه ثم كونه عند القائلين به يخص العموم قال الآمدي لا نعرف فيه خلافا بينهم وحكى أبو الخطاب الحنبلي منعه عن قوم منهم وجزم به فخر الدين الرازي في المنتخب وقال صاحب الحاصل: إنه الأشبه والظاهر أن ما عليه جمهورهم أوجه.
مسألة(22/220)
"العادة" وهي الأمر المتكرر من غير علاقة عقلية والمراد "العرف العملي" لقوم "مخصص" للعام الواقع في مخاطبتهم وتخاطبهم "عند الحنفية خلافا للشافعية ك حرمت الطعام وعادتهم" أي المخاطبين "أكل البر انصرف" الطعام "إليه" أي البر "وهو" أي قول الحنفية "الوجه أما" تخصيص العام "بالعرف القولي" وهو أن يتعارف قوم إطلاق لفظ لمعنى بحيث لا يتبادر عند سماعه إلا ذاك المعنى "فاتفاق كالدابة على الحمار والدرهم على النقد الغالب لنا الاتفاق على فهم" لحم "الضأن بخصوصه في: اشتر لحما وقصر الأمر" بشراء اللحم "عليه إذا كانت العادة أكله فوجب" كون العرف العملي مخصصا "كالقولي لاتحاد الموجب" وهو تبادره بخصوصه من إطلاق اللفظ فيهما "وإلغاء الفارق" بينهما "بالإطلاق" في العملي "والعموم" في القولي لظهور أنه لا أثر له هنا "وكون دلالة المطلق" كلحم في: اشتر لحما "على المقيد" كلحم الضأن "دلالة الجزء على الكل و" دلالة "العام على الفرد قلبه" أي دلالة الكل على الجزء وقد قيل هذه أقوى فلا يلزم من صرف الأولى بمثل هذه القرينة صرف الثانية "كذلك" أي فرق لا أثر له هنا لظهور أنه فارق ملغي.(22/221)
"تنبيه مثل جمع من الحنفية" منهم فخر الإسلام وصاحب المنار "لذلك" أي التخصيص بالعادة "بالنذر بالصلاة والحج ينصرف إلى الشرعي" منهما "فقد يخال" أي يظن كل منهما "غير مطابق" له وإنما هما مثالان للتخصيص بالعرف القولي "والحق صدقهما" أي التخصيص بالعرف العملي والتخصيص بالعرف القولي "عليهما" أي هذين المثالين لأن الأصل والمعتاد في فعل المسلم لهما أن يكون على الوجه الشرعي وفي إطلاق كل من لفظهما شرعا وخصوصا في النذر المعنى الشرعي له، ولا يقال وضع الحنفية يشير إلى أن المراد العرف القولي لأنا نقول لا نسلم ذلك "إذ وضعهم" لهذه المسألة "تترك الحقيقة" بخمسة أشياء ولا شك أن هذا أعم من أن تكون الحقيقة "عاما أو غيره بدلالة العادة" هذا أحد الخمسة "وبدلالة اللفظ في نفسه" هذا ثاني الخمسة وفسروه كما قال "أي إنباء المادة عن(22/222)
ص -341-…كمال فيخص" اللفظ "بما فيه" ذلك الكمال "كحلفه لا يأكل لحما ولا نية معممة" لكل ما يطلق عليه لفظ لحم "لا يدخل السمك" أي لحمه في حلفه إلا في رواية شاذة عن أبي يوسف لأنه سمي لحما في القرآن قال تعالى: {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً} [النحل: 14] أي من البحر سمكا وإنما لم يدخل فيه على الصحيح حيث لا نية تدخله "لإنبائه" أي لفظ اللحم "عن الشدة بالدم" لأن مادته تدل على الشدة والقوة وسمي اللحم لحما لقوة باعتبار تولده من الدم الذي هو أقوى الأخلاط في الحيوان وليس للسمك دم بدلالة عيشه في الماء وحله بلا ذكاة لأن الدموي لا يعيش فيه ولا يحل بدونها فلكمال الاسم ونقصان في المسمى خرج من مطلق اللفظ لأن الناقص فيه في مقابلة الكامل فيه بمنزلة المجاز من الحقيقة فلا يحنث بأكله. ومن ثمة قال في الفتاوى الظهيرية: حلف لا يأكل لحما فهو على الحيوان الذي يعيش في البر محرما كان أو غير محرم ولا يحنث بأكل ما يعيش في الماء قلت: إلا أنه ينبغي أن يقول: الحيوان الدموي الذي يعيش في البر ليخرج الجراد ونحوه مما لا دم فيه مما يعيش في البر ثم لا فرق بين أن يكون اللحم مطبوخا أو مشويا، وفي حنثه بالنيء خلاف. قال المصنف الأظهر لا يحنث وعند الفقيه أبي الليث يحنث، انتهى. قلت إلا أنه ينبغي أن يقيد بالذي ليس بقديد فقد نص محمد في الأصل على أنه يحنث بأكله قديدا "وقد يدخل" هذا "في العرفي" ففي التحقيق وعامة العلماء تمسكوا في هذه المسألة بالعرف فقالوا: إنه لا يستعمل استعمال اللحم في الباجات وبائعه لا يسمى لحاما، والعرف في اليمين معتبر فيخصص اليمين به كما يخصص الرأس في قوله "لا يأكل رأسا" برأس الغنم أو الغنم والبقر فلم ينصرف إلى رأس البعير والعصفور بالاتفاق وإن كان رأسا حقيقة وقوى المصنف هذا في شرح الهداية وهو حسن إلا أنه يشكل عليه ما سيأتي في مسألة قبيل مسائل الحروف من الحنث بأكل لحم الآدمي والخنزير مع أنه ليس(22/223)
بمتعارف وسنذكر ما قيل فيه ثمة إن شاء الله تعالى ثم إنما قال ولا نية معممة لأنه لو نواه حنث "نعم لو انفرد" إنباء اللفظ بالإخراج من العام أو المطلق "أخرج ولو عارضه" أي الإنباء عرف "قدم العرف" على الإنباء لرجحان اعتباره عليه. "وقوله كل مملوك لي حر لا يعتق مكاتبه" ويعتق مدبره وأم ولده لأن الملك في المكاتب ناقص لأنه مملوك رقبة لا يدا حتى ملك هو أكسابه لا المولى ولا يحل للمولى وطء المكاتبة ولا يفسد نكاح المكاتب بنت مولاه بموت مولاه فلم يتناوله المملوك عند الإطلاق نعم إن نواه عتق والملك في المدبر وأم الولد كامل ولذا يحل للمولى وطؤها ووطء المدبرة لأن الوطء لا يحل إلا بكمال أحد الملكين فتناولهما المملوك عند الإطلاق وإنما صح عتق المكاتب في الكفارة دونهما لأن الرق فيه كامل بدليل قبول الفسخ وفيهما ناقص بدليل عدم قبول الفسخ، وتحرير الرقبة يستدعي كمال الرق "أو" إنباء المادة "عن نقص" في المسمى "فلا يتناول" اللفظ مسمى "ذا كمال كحلفه لا يأكل فاكهة لا يحنث بالعنب لأن التركيب دال على التبعية والقصور في المقصود الأصلي" وهو التغذي لأن الفاكهة اسم من التفكه وهو التنعم وهو إنما يكون بأمر زائد على المحتاج إليه أصالة بما يكون به القوام لأن ما يكون به القوام لا(22/224)
ص -342-…يسمى تنعما وكل الناس سواء في تناوله وإن اختلف كيفية وكمية والعنب فيه أمر زائد على ذلك لأنه يتعلق به بالقوام حتى يكتفى به في بعض المواضع، ومثله الرطب والرمان وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقالا يحنث لأن معنى التفكه فيها موجود بل هي أعز الفواكه، والتنعم بها يفوق التنعم بغيرها من الفواكه ثم المشايخ قالوا: هذا اختلاف زمان ففي زمانه لم تعد من الفاكهة فأفتى على حسب ذلك وفي زمانهما عدت منها فأفتيا به ولا يقال هذا يخالف الأول لأنا نقول لا لجواز كون العرف وافق اللغة في زمنه ثم خالفها في زمنهما ثم هذا إذا لم يكن له نية فإن نواها حنث. هذا وكما قال بعض الأفاضل واعلم أنك إذا دققت النظر وجدت القسمين من واد واحد لأنه بقدر ما زاد في العنب من معنى التغذي نقص منه من معنى التفكه وإذا كان ناقصا في الفاكهية لم يتناوله اسم الفاكهة عند الإطلاق كالمكاتب بالنسبة إلى المملوك فالتحقيق الاقتصار على الأول لاندراج الثاني فيه كما أشار إليه فاضل آخر ثم لقائل أن يقول: إذا كان اللفظ عند الإطلاق لا يتناول هذه الأشياء لا يثبت التخصيص فيه لأن التخصيص يستدعي سابقة التناول، فليتأمل. "وبمعنى من المتكلم" هذا ثالث الخمسة أي وبدلالة صفة من صفات المتكلم راجعة إليه "كإن خرجت فطالق عقيب تهيئها لخرجة لجت فيها" أي حرضت عليها "لا يحنث به" أي بخروجها "بعد ساعة وتسمى يمين الفور" وهو مأخوذ من فوران القدر سميت به باعتبار صدورها من فوران الغضب أو لأن الفور استعير للسرعة ثم سمي به الحالة التي لا لبث فيها يقال خرج من فوره أي من ساعته وأول من استخرجها أبو حنيفة وكانوا قبل ذلك يقولون اليمين مؤبدة كلا أفعل كذا ومؤقتة كلا أفعل اليوم كذا، وهي مؤبدة لفظا مؤقتة معنى تتقيد بالحال لكونها جوابا بالكلام يتعلق بالحال فالدليل على ترك الحقيقة في هذه الصورة دلالة معنى قائم بالمتكلم وحالة راجعة إليه فإن التعليق في هذه الحالة دال(22/225)
على أنه قصد منعها من الخروج الذي تهيأت له حتى كأنه قال إن خرجت الساعة فيتقيد به فيها قال المصنف "وحقيقته" أي المخصص في هذا القسم "دلالة حالهما" أي المتكلم والمخاطب ككونها ملحة على الخروج في تلك الحالة وكونه ملحا على منعها حينئذ "وبدلالة محل الكلام" بأن يكون المحل غير قابل للحقيقة فإن تعذر قبوله حكمها موجب لإرادة المجاز ضرورة أن العاقل لا يستعمل الكلام في المفهوم الحقيقي في محل لا يقبله وأن كلامه مصون عن الكذب واللغو بحسب الإمكان وهذا رابع الخمسة. "كإنما الأعمال بالنيات" ورفع الخطأ" أي وحديث "رفع الله عن أمتي الخطأ" وتقدم تخريجه في تقسيم الدلالة اللفظية فإنه لو حمل هذان الحديثان على الحقيقة لما وجد عمل بلا نية ولا خطأ ولا نسيان والواقع خلافه قطعا فتعين إرادة المجاز كما تقدم تقديره في مسألة النفي في الحصر بإنما لغير الآخر قيل بالمفهوم ومسألة المقتضى "وقد يدرج هذا في" المخصص "العقلي" لأن نفس كل من هذين المثالين يدل عقلا على عدم إرادة حقيقته لحصول العمل كثيرا بلا نية ووقوع الخطأ والنسيان جما غفيرا من الأمة لكن تعقب هذا بالنسبة إلى الأعمال بالنيات بأنه يمكن أن يقال لا نسلم أن نفس هذا الكلام يدل عقلا على عدم إرادة(22/226)
ص -343-…مسألة
"إفراد فرد من العام بحكمه" أي العام "لا يخصصه" أي العام "وهو" أي وإفراد فرد منه بحكمه "قلب المتعارف في التخصيص وهو" أي المتعارف فيه "قصره" أي الحكم "على غير متعلق دليله" أي التخصيص، ومتعلق دليله هو الفرد المخصوص "بل هذا" أي إفراد فرد منه بحكمه "قصره" أي الحكم "عليه" أي متعلق دليله الذي هو الفرد المخصوص "مثاله" ما أخرج أحمد وإسحاق والترمذي وصححه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "أيما إهاب دبغ فقد طهر" مع قوله في شاة ميمونة "دباغها طهورها" فلا يخص الطهورية جلد شاة ميمونة إذا دبغت من بين سائر الأهب إلا أن هذا اللفظ لم أقف عليه في شاة ميمونة بل في الميتة مطلقا كما أخرجه أحمد وأقرب لفظ وقفت عليه في شاة ميمونة إلى هذا اللفظ ما أخرج الطحاوي والبزار والبيهقي عن ابن عباس قال: ماتت شاة لميمونة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هلا استمتعتم بإهابها فإن دباغ الأديم طهورها" فلا جرم أن قال المصنف "ومنه" أي إفراد فرد من العام بحكمه "أو شبهه" ما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم "وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" مع ما في رواية(22/227)
ص -344-…لمسلم: "وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا وتربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء" والأولى مع "وترابها لنا طهورا" كما رواه الدارقطني في سننه وأبو عوانة في صحيحة لجواز أن يكون المراد بالتربة ما فيها من تراب أو غيره مما يقاربه ولعله إنما قال "أو شبهه" لجواز أن يقال التراب جزء من الأرض لا جزء لها كجلد شاة ميمونة بالنسبة إلى أيما إهاب وإنما بينهما شبه من حيث أن كلا بعض من المسمى وقد ذكر له حكم المسمى ثم كما أن إفراد بعض ذاك بحكمه لا يخصصه فكذا إفراد بعض هذا بحكمه لا يخصصه وقيل يخصصه "لنا لا تعارض" بين البعض والكل في حكم حكم به على كل منهما "فوجب اعتبارهما فلا يخص الطهورية التراب من أجزاء الأرض قالوا المفهوم مخصص" للعام كما تقدم ومفهوم فرد من العام بحكمه نفي الحكم عن سائر أفراده إذ لا فائدة لذكره إلا ذلك فيكون مفهوم "دباغ جلد شاة ميمونة طهورها" دالا على نفي طهورية ما سواه من سائر الحيوانات إذا دبغ "قلنا" كون المفهوم معتبرا "ممنوع عند الحنفية ولو سلم" اعتباره "فهذا" أي مفهوم فرد من العام بحكمه "مفهوم لقب مردود" عند الجمهور كما تقدم وفائدة ذكر ذلك الفرد نفي احتمال تخصيصه من العام لكن هذا إذا لم يكن له مفهوم مخالفة إلا اللقب أما إذا كان له مفهوم مخالفة غير مفهوم اللقب يقتضي نفي الحكم عن غيره من أفراد العام كمفهوم الصفة مثلا يكون مخصصا عند القائلين به أو أكثرهم كما تقدم ولعله إنما لم يذكره اعتمادا على ما سبق بيانه نعم يتم هذا على القائل بمفهوم اللقب ولعل القائل بتخصيصه هو القائل به.
مسألة(22/228)
"رجوع الضمير" الواقع بعد العام "إلى البعض" من أفراده "ليس تخصيصا" للعام "مثل والمطلقات مع وبعولتهن" أحق بردهن فإن المطلقات عام في البائنات والرجعيات وضمير بعولتهن إنما يصح عوده إلى الرجعيات فقط لأن الرد إنما يمكن فيهن "فلا يخص التربص الرجعيات" بل يتعلق بهن وبالبائنات وهذا عزاه السبكي إلى أكثر الشافعية واختاره الآمدي وابن الحاجب والبيضاوي "وأبو الحسين وإمام الحرمين" على ما ذكر ابن الحاجب قالا "تخصيص" له قال السبكي: وعليه أكثر الحنفية وعزاه الآمدي إلى بعض الشافعية وبعض المعتزلة كعبد الجبار والقرافي إلى الشافعي قال المصنف "وهو الأوجه قيل بالوقف" وهذا عزاه الآمدي وغيره إلى إمام الحرمين وغيره واختاره صاحب المحصول "لنا" على المختار وهو أنه تخصيص له "حقيقته" أي الضمير "رابط لمعنى متأخر بمتقدم أعم من مذكور أو مقدر بدليل" يدل على تقديره، وقوله "على أنه" أي الرابط "هو" أي المتقدم متعلق برابط "فلا يتصور الاختلاف" بينهما "وما قيل" في وجه إنه لا يخص "التجوز فيه" أي الضمير بخروجه عن حقيقته التي هي العموم "غير ملزوم للتجوز في الأول" يعني العام أي لا يلزم من كون الضمير مجازا في البعض كون العام مجازا في البعض "فبعيد إذ رجوعه" أي الضمير "إلى لفظ الأول باعتبار معناه فلا يتصور كونه" أي الضمير "مجازا" في البعض ومرجعه - الذي هو العام - باق على حقيقته التي هي العموم من غير تخصيص ضرورة اتحادهما "فإذا خص" الضمير(22/229)
ص -345-…"الرجعيات" من المطلقات "مع كونه" أي الضمير "عبارة عن المطلقات فهن" أي الرجعيات "المراد به" أي العام وهو المطلقات لما ذكرنا أن الضمير هو نفس مرجعه باعتبار المعنى "وهو" أي وكون المراد بالمطلقات الرجعيات لا غير هو "التخصيص" للمطلقات "وبه" أي وبهذا التوجيه "ظهر أن قولهم" أي القائلين بعدم التخصيص "في جواب قول الواقف" لزم تخصيص الظاهر أو الضمير دفعا للمخالفة، وتخصيص أحدهما دون الآخر تحكم إذ "لا ترجح لاعتبار الخصوص في أحدهما بعينه" فوجب التوقف ومقول قولهم "إن دلالة الضمير أضعف" من دلالة الظاهر لتوقف الضمير عليه بخلاف العكس "فالتغيير فيه" أي الضمير "أسهل" من التغيير في الظاهر فترجح اعتبار الخصوص في الضمير وانتفى التحكم "لا يفيد" لما ظهر من وحدتهما باعتبار المراد من لفظهما "وامتنع الخلاف" وفي نسخة الاختلاف بين الضمير ومرجعه "في الآية فبطل ترجيحه" أي قول القائل بعدم التخصيص "بأنه" أي تخصيص الضمير "لا يستلزم تخصيص الأول بخلاف قلبه" أي تخصيص الظاهر فإنه يستلزم تخصيص الضمير وإنما بطل لأنه إذا ظهر أنهما واحد معنى استلزم كون أحدهما إذا أريد به بعض معناه الوضعي أن يكون هو عين المراد بالآخر "واللازم في الآية إما عوده" أي الضمير "على مقدر هو المتضمن" على صيغة اسم المفعول وهو الرجعيات "مدلولا" تضمنيا "للمتضمن" على صيغة اسم الفاعل وهو المطلقات كما في قوله تعالى {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] "وإما عليه" أي المتضمن - على صيغة اسم الفاعل - وهو المطلقات مرادا بهن الرجعيات "مجازا" من إطلاق الكل وإرادة البعض "ووجوب تربص غير الرجعيات بدليل آخر" كالإجماع.
مسألة(22/230)
"وليست لغوية مبدئية" بل مستطردة قال "الأئمة الأربعة" والأشعري وأبو هاشم وأبو الحسين على ما ذكر ابن الحاجب وغيره "يجوز التخصيص بالقياس" أعم من أن يكون قطعيا أو ظنيا كما هو الظاهر من إطلاقهم لا الظني فقط بناء على أن التخصيص بالقطعي لا خلاف فيه كما أشار إليه ابن الأنباري شارح البرهان وغيره نعم ذكر السبكي أن المراد قياس نص خاص كما صرح به الغزالي في حصر الجواز فيه تأمل. ثم الظاهر من حكاية الأقوال المختلفة في جوازه بالقياس أن المراد به أعم من ذلك "إلا أن الحنفية" قيدوا الجواز به "بشرط تخصيص بغيره" أي غير القياس من سمعي أو عقلي. "وتقييده" أي التخصيص بغيره "بالقبلية" أي بأن يكون قبل التخصيص بالقياس كما وقع في عبارة كثير "لا يتصور" إذ لا يتصور تراخي مقتضى القياس على المنصوص المخرج منه عن خروجه منه لاشتراكهما حينئذ في العلة المقتضية للخروج بل ولا تراخي المخصص مطلقا عند المصنف "وتقدمت إشارة إليه" في البحث الخامس من مباحث العام وبينا وجهه "فالمراد بالقبلية" للغير "ظهور الغير سابقا" على ظهور ما سواه وقال "ابن سريج: إن كان" القياس "جليا" جاز تخصيصه وإن كان خفيا لا يجوز، في الجلي مذاهب الراجح منها في المنتخب ونص عليه القاضي في التقريب أنه قياس المعنى، والخفي قياس الشبه والذي مشى عليه ابن الحاجب وسيحكيه المصنف في موضعه(22/231)
ص -346-…أنه الذي قطع فيه بنفي تأثير الفارق بين الأصل والفرع، والخفي ما ظن فيه نفي تأثيره بينهما "وقيل إن كان أصله" أي القياس يعني المقيس عليه "مخرجا من ذلك العموم بنص" خص وإلا فلا "والجبائي يقدم العام مطلقا" أي جليا كان القياس أو خفيا مخرجا أصله من ذلك العموم أو لا ونقله القاضي في التقريب عن الأشعري واختاره الإمام الرازي في المعالم. "وتوقف إمام الحرمين والقاضي وقيل إن كان أصله مخصصا" أي مخرجا من العموم "أو" ثبتت "العلة بنص أو إجماع" خص "وإلا" أي وإن لم يكن أحد هذه الثلاثة "اعتبرت قرائن الترجيح" فإن ظهر ترجيح خاص بالقياس عمل به وإلا عمل بالعام "واختاره بعضهم" وهو ابن الحاجب قلت وقول السبكي وهو آيل إلى اتباع أرجح الظنين وإن تساويا فالوقف وهذا هو رأي الغزالي واعترف الإمام الرازي في أثناء المسألة بأنه حق واستحسنه القرافي وقال الشيخ الأصفهاني: إنه حق واضح ا هـ. ليس كذلك فإنه لا وقف أصلا في هذا المختار لابن الحاجب وأما أنه حق فستقف على ما فيه "لنا" على الأول "الاشتراك" أي العام والقياس متشاركان "في الظنية أما الثلاثة" أي أما عند مالك والشافعي وأحمد "فمطلقا" أي سواء خص العام أو لا وقد عرفت أنه قول طائفة من الحنفية "وأما الطائفة من الحنفية" القائلون بأن العام قطعي "فبالتخصيص" صار ظنيا عندهم أيضا بواسطة تحقق عدم إرادة معناه واحتمال إخراج بعض آخر منه "والتفاوت في الظنية غير مانع" من تخصيص الأقوى فيها بما دونه فيها لأن مساواة المخصص والمخصص فيها ليست شرطا "كما تقدم" في التخصيص بالمفهوم "ووجهه" أي التخصيص بالقياس "إعمالهما" أي العام والقياس "ما أمكن أو ترجح المخصص" على صيغة اسم الفاعل وإن كان المخص(22/232)
ص - على صيغة اسم المفعول - أقوى منه في الظن "هو الواقع كما تقدم" في التخصيص بالمفهوم للاتفاق عليه بخبر الواحد للكتاب بعد تخصيصه بقطعي "فبطل توجيه الأخير" أي مختار ابن الحاجب "بكون العلة كذلك" أي ثابتة بنص أو إجماع "توجب كون القياس كالنص والإجماع" وإنما بطل "لأن" العلة "المستنبطة دليل، ووجوب الإعمال عام" لكل دليل فوجب إعمال المستنبطة كالمنصوصة "وما قيل" في وجه عدم إعمالها إذا عارضت عاما "المستنبطة إما راجحة أو مساوية أو مرجوحة" بالنسبة إلى العام "فالتخصيص على تقدير" أي رجحانها "وعدمه" أي التخصيص "على تقديرين" أي مساواتها ومرجوحيتها "فيترجح" عدم التخصيص بها لأن وقوع احتمال من اثنين أقرب من وقوع واحد معين "يوجب بطلان المخصص مطلقا" إذ يقال كل مخصص إما راجح على العام المخرج منه أو مساو أو مرجوح فالتخصيص على تقدير، وعدمه على تقديرين فيترجح عدم التخصيص لما ذكرنا فيبطل التخصيص من أصله واللازم باطل فالملزوم مثله "بل الرجحان" للمخص(22/233)
ص - على صيغة اسم الفاعل - "دائمي بإعمالهما" أي بسبب إعماله وإعمال المخص(22/234)
ص - على صيغة اسم المفعول - حيث أمكن ولا يخفى أن هذا إذا قدر من الحنفية كان على طريق الإلزام للمخالفين إذ يقال لهم مثل هذا في التخصيص بالقياس ابتداء "ولما تقدم" من أن ترجح المخصص وإن كان دون المخصص في الظن هو الواقع وعلى هذا فقوله "ولتخصيص الكتاب بخبر الواحد" عطف(22/235)
ص -347-…تفسيري له وقد كان الأحسن "ولما تقدم من تخصيص الكتاب بخبر الواحد" أو الاقتصار على أحدهما وقد كان كذلك فإنه لم يكن فيه "ولما تقدم" فزيد ولو زيد عوضه على أن ذاك يقلب عليه ليشرح بأن التخصيص كما يكون على تقدير الرجحان يكون على تقدير المساواة فالتخصيص على تقديرين هما ذاك وعدمه على تقدير وهو المرجوحية فيترجح التخصيص لعين تلك العلة لكان أولى "الجبائي يلزم تقديم الأضعف" أي القياس على الأقوى وهو العام "على ما يأتي" تقريره في مسألة تعارض القياس والخبر "في الخبر ويأتي جوابه" وما يفتح الله في بيانه ثمة إن شاء الله تعالى "وبأن ذلك" أي لزوم ما ذكر من تقديم الأضعف على الأقوى إنما هو "عند إبطال أحدهما" الذي هو العام "وهذا" أي وتخصيص العام بالقياس "إعمالهما" أي العام والقياس لا إبطال أحدهما فانتفى اللازم الباطل "وبأنه" أي الجبائي "يخصص الكتاب بالسنة وبالمفهوم" المخالف والسنة به أيضا مع قصورهما في القوة عن الكتاب وقصور المفهوم عنها أيضا فما هو جوابه عن هذا فهو جوابنا عن ذاك "وقالوا" للجبائي أيضا "أخر معاذ القياس" عن السنة "وأقره" النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فقد أخرج أحمد وأبو داود الترمذي عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن قال: "كيف تقضي إذا عرض لك أمر" قال: أقضي بما في كتاب الله قال: "فإن لم يكن في كتاب الله" قال: فبسنة رسول الله قال: "فإن لم يكن في سنة رسول الله" قال أجتهد رأيي ولا آلو قال فضرب في صدري وقال: "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله" وكل من تقديم معاذ وتقرير النبي صلى الله عليه وسلم يدل على وجوب تقديم الخبر على القياس خالفه أو وافقه "أجيب أخر السنة أيضا عن الكتاب وتخصيصه" أي الكتاب "بها" أي بالسنة "اتفاق" فما هو الجواب عن هذا هو الجواب عن تأخير القياس عن السنة مع جواز تخصيصها به. "وأيضا ليس فيه" أي حديث معاذ "ما يمنع الجمع" بين(22/236)
القياس والعام "عند التعارض والتخصيص منه" أي الجمع بينهما وإنما غاية ما فيه أنه لا تبطل السنة بالقياس ونحن قائلون به على أن حديث معاذ قال الترمذي فيه غريب وليس إسناده عندي بمتصل. وقال البخاري لا يصح، انتهى. لكن شهرته وتلقي العلماء له بالقبول لا يقعده إن شاء الله تعالى عن درجة الحجية ومن ثمة أطلق جماعة من الفقهاء كالباقلاني وأبي الطيب الطبري وإمام الحرمين عليه الصحة. قال شيخنا الحافظ وله شاهد صحيح الإسناد لكنه موقوف ثم أسند من طريق الدارمي ثم البيهقي عن عبد الله بن مسعود قال لقد أتى علينا زمان وما نسأل ولسنا هناك ثم بلغنا الله ما ترون فإذا سئل أحدكم عن شيء فلينظر في كتاب الله فإن لم يجده في كتاب الله فلينظر ما اجتمع عليه المسلمون فإن لم يكن فليجتهد رأيه ولا يقل أحدكم إني أخشى فإن الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهة فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك وفي الباب عن عمر بن الخطاب نحو حديث عبد الله بن مسعود دون ما في أوله وآخره أخرجه الدارمي والبيهقي أيضا بإسناد صحيح، وأخرج البيهقي عن زيد بن ثابت أنه قال ذلك لمسلمة بن مخلد لما سأله عن القضاء وإسناده حسن. "وله" أي الجبائي "أيضا دليل اعتبار القياس الإجماع ولا إجماع عند مخالفته" أي(22/237)
ص -348-…القياس "العموم" للخلاف بين العلماء في وجوب العمل به فامتنع العمل به، إذ لا يثبت حكم بلا دليل "والجواب إذا ثبتت حجيته" أي القياس "به" أي الإجماع "ثبت حكمها" أي مخالفة هذا القياس له في هذه الصورة لأنه جزئي من جزئيات القياس الكلي الثابت اعتباره بالإجماع "ومنه" أي حكمها "الجمع" بين مقتضى القياس وبين العام والمعارض له "ما أمكن" وقد أمكن كما ذكرنا "وللمفصل الثاني" أي ابن الحاجب جواب غير هذا وهو العلة "المؤثرة" أي ما ثبت تأثيرها بنص أو إجماع "والمخصص" أي العام الذي هو محل التخصيص "ترجعان إلى النص" وهو ما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة" وتقدم أنه لم يحفظ هذا اللفظ وأنه ورد معناه مع أنه مجمع عليه فإذا ثبتت العلية أو الحكم في حق واحد ثبت في حق الجماعة بهذا النص ولزم تخصيص العام وبه كان بالحقيقة تخصيصا بالنص لا بالقياس "وإذا ترجح ظن التخصيص" أي تخصيص القياس للعام فيما سواهما "فبالإجماع على اتباع الراجح" يجب تخصيص العام به "وهذا" الجواب بناء "على اعتبار رجحان ظن القياس" على العام "في تخصيصه" أي القياس للعام "وعلمت انتفاءه" أي انتفاء اعتباره حيث قلنا التفاوت في الظنية غير مانع "أو لزومه" أي التخصيص بالقياس "بلا تلك القيود" من كون العلة ثابتة بنص أو إجماع أو مرجح خاص بالقياس لأنه دليل ويجب إعمال كل دليل ما أمكن "الواقف في كل منهما" أي العام والقياس "جهة قطع" ففي العام باعتبار الثبوت وفي القياس باعتبار الحجية "وظن" ففي العام باعتبار الدلالة وفي القياس باعتبار الحكم في الفرع "فيتوقف قلنا لو لم يكن مرجح - وهو إعمالهما - وأما تخصيص القرآن بخبر الواحد وتقييده" أي القرآن "به" أي بخبر الواحد "و" تخصيص "الكتب بالكتاب والإجماع ففي مواضعها" تأتي مفصلة من هذا الكتاب ونذكر فيها إن شاء الله تعالى ما ييسره الكريم الوهاب "وأما" تخصيص العام "بالتقرير" أي(22/238)
تقرير النبي صلى الله عليه وسلم لما هو مخالف للعموم "كعلمه" صلى الله عليه وسلم "بفعل مخالف للعام ولم ينكره يكون الفاعل مخصصا" من ذلك العام "فواجب عند الشافعية" ومن لم يشرط مقارنة المخصص من الحنفية "مطلقا" أي سواء كان فعل الفاعل عقب ذكر العام في مجلس ذكره أو لا "لأنه" أي التخصيص "أسهل من النسخ وأكثر وبشرط كون العلم" بفعل الفاعل المخالف للعموم "عقيب ذكر العام في مجلسه وإلا" فإن كان بعده في غير مجلسه "فنسخ" لذلك العموم "عند شارطي المقارنة من الحنفية" للتخصيص لتراخيه ثم على كونه مخصصا "فإن علل ذلك" أي تخصيص الفاعل من العام بمعنى "تعدى" ذلك التخصيص "إلى غير الفاعل" أيضا إما بالقياس عليه وإما بعموم حكمي على الواحد حكمي على الجماعة لكن بشرط أن لا يستوعب ذلك المعنى جميع أفراد العام وإلا يكون نسخا وإن لم يعلل فالمختار أن لا يتعدى حكمه إلى غيره لتعذر دليل التعدية أما بالقياس فظاهر وأما بحكمي على الواحد فلأنه مخصوص بما علم فيه عدم الفارق وهنا لم يعلم لاختلاف الناس في الأحكام بواسطة عروض الأوصاف والأعذار. قال السبكي ولقائل أن يقول إذا ثبت حكمي على الواحد لم يحتج إلى العلم بالجامع بل يكفي عدم العلم بالفارق، والأصل بعد ثبوت هذا(22/239)
ص -349-…الحديث أن الخلق في الشرع شرع فالمختار عندنا التعميم وإنما يظهر المعنى ما لم يظهر ما يقتضي التخصيص ثم إن استوعب الأفراد كلها فهو نسخ وإلا فتخصيص، انتهى. "ويأتي تمامه" في مسألة قبل فصل التعارض بثلاث مسائل "ويتصور كون فعل الصحابي" المخالف للعموم "عند الحنفية مخصصا إذا عرف علمه" أي الصحابي "بالعام إذ قالوا" أي الحنفية ووافقهم الحنابلة "بحجيته" أي فعل الصحابي "حملا على عمله" الصحابي "بالمقارن" أي بالمخصص المقارن للعام "وهو" أي حمل فعله في هذه الصورة على العلم بالمخصص "أسهل من حملهم" أي الحنفية "مرويه" أي الصحابي إذا فعل بخلافه "على علمه بالناسخ" لأن التخصيص أخف من النسخ فيتعين حيث أمكن والله سبحانه أعلم.
مسألة(22/240)
"الأكثر أن منتهى التخصيص" جمع كثير سواء كان العام جمعا كالرجال أو غير جمع كمن وما، غير أنه اختلف في تفسيره فقال البيضاوي وهو غير المحصور وفيه نظر ظاهر وخصوصا إذا كان القائل بهذا يرى الاستثناء تخصيصا ويجيز استثناء الأكثر كالبيضاوي وقال ابن الحاجب ما يقرب من مدلول العام وقال التفتازاني قد فسروه بما فوق النصف، ولا خفاء في امتناع الإطلاق عليه إلا فيما يعلم عدد أفراد العام وهذا ما مشى عليه المصنف فقال "جمع يزيد على نصفه ولا يستقيم إلا في نحو علماء البلد مما ينحصر" لكن قال الأبهري إن أراد أنه يمتنع الإطلاق على النصف فيما لم يعلم عدد أفراد العام فمسلم لكن لا جدوى له في هذا المقام وإن أراد أنه يمتنع الاطلاع على ما فوق النصف فيه فظاهر البطلان لأنه إذا كان أهل بلد غير محصور وقيل كل من في البلد مؤمن واستثني واحد من أهله إلى مائة مثلا علم قطعا أن ما بقي بعد التخصيص أكثر من النصف "وقيل" منتهى التخصيص "ثلاثة وقيل اثنان وقيل واحد" ونقله ابن السمعاني عن سائر الشافعية "وهو مختار الحنفية وما قيل" أي وأما قول كثير منهم كصاحب المنار وصدر الشريعة "الواحد فيما هو جنس والثلاثة فيما هو جمع فمرادهم" أي الحنفية بالجمع الجمع "المنكر صرح به" حيث قالوا كالعبيد ونساء "وبإرادة نحو الرجل والعبيد والنساء والطائفة بالجنس" وكان في الأصل وأن هذه مفرد دلالة فنسخها يعني وصرحوا أيضا بأن كلا من الرجل وما بعده مفرد دلالة وإن كان بعضها جمعا صيغة كالعبيد "وهو" أي الجنس "معظم الاستغراقي وفيه" أي العام الاستغراقي "الكلام" أي أن منتهى تخصيصه كذا فلزم أن منتهى تخصيص صيغ العموم الاستغراقي إلى واحد ليس غير "وأما" الجمع "المنكر فمن الخاص خصوص جنس على ما أسلفناه" في أول التقسيم الثاني من التقسيم الثالث من هذا الفصل فهو "حقيقة في كل مرتبة ثلاثة أو أكثر لأنها" أي كل مرتبة من مراتبه "ما صدقاته كرجل في كل فرد زيد أو غيره ولو(22/241)
سلم" كونه عاما كما هو قول من لم يشرط الاستغراق في العموم "فعمومه لا يقبل حكم المسألة إذ لا يقبل التخصيص كعموم المعنى والمفهوم على ما قيل وكونه" أي الشأن "قد يدخل عليهم" أي الحنفية "أن الاستغراق" في الجمع المحلى "ليس مسلوبا معنى الجمعية" إلى الجنسية "باللام بل المعهود الذهني" هو الذي يسلب معنى الجمعية(22/242)
ص -350-…إذا كان جمعا إلى الجنسية باللام "شيء آخر" غاية ما يلزمه أنه لا يصلح علة له في الجمع الاستغراقي ولا بأس ثم هو غير قادح في أن منتهى التخصيص في العام الاستغراقي مطلقا إلى الواحد لثبوته في الجمع الاستغراقي بغيره كما يظهر بالتأمل الصادق "واختار بعض من يجوز التخصيص بالمتصل" وهو ابن الحاجب "أنه" أي منتهى التخصيص "بالاستثناء والبدل واحد وبالصفة والشرط اثنان وبالمنفصل في المحصور القليل إلى اثنين ك قتلت كل زنديق وهم ثلاثة أو أربعة" وقد قتل اثنين وعلم ذلك بكلام أو حس "وفي غير المحصور والعدد الكثير الأول" أي جمع يقرب من مدلوله "وعلمت أن لا ضابط له" وعلمت أيضا ما قيل عليه ولا بأس بقوله "إلا أن يراد كثرة كثيرة عرفا" وحينئذ لا حاجة إليه أو إلى العدد الكثير "قالوا" أي الأكثر "لو قال قتلت كل من في المدينة وقد قتل ثلاثة عد لاغيا فبطل" مذهب الثلاثة ثم "مذهب الاثنين والواحد" بطريق أولى "والجواب أنه" أي عده لاغيا "إذا لم يذكر دليل التخصيص معه فإن ذكره" أي دليل التخصيص مع العام "منعناه" أي عده لاغيا "إلا إن أراد انحطاط رتبة الكلام" عن درجة البلاغة على ما فيه "وليس فيه الكلام وتعين الاثنين في القليل كقتلت كل زنديق لاثنين وهم أربعة حتى امتنع" كونه منتهى التخصيص "ما دونهما" أي الاثنين فيه "وفي الصفة والشرط" قول "بلا دليل" وكيف لا "ومن البين صحة أكرم الناس العلماء أو إن كانوا علماء وليس في الوجود إلا عالم" واحد "لزم إكرامه وهو معنى التخصيص ومعين الجمع" أي الثلاثة "والاثنين ما قيل في الجمع" من أن أقله ثلاثة أو اثنان كأنه جعله فرع كون الجمع حقيقة في الثلاثة أو الاثنين "وليس بشيء" مثبت العام لا في أقل مرتبة يطلق عليه الجمع المنكر لأنه الذي فيه الاختلاف كما تقدم وقد عرفت أنه ليس بعام استغراقي، والكلام في تخصيص العام الاستغراقي وأن عموم الجمع المنكر عند من لم يشرط الاستغراق لا يقبل التخصيص "ولا(22/243)
تلازم" أيضا بين هذين الأقلين فلا يكون المثبت لأحدهما مثبتا للآخر "ولنا" على ما هو مختار الحنفية {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} والمراد نعيم بن مسعود كما يفيده كلام ابن سعد في الطبقات وجزم به السهيلي في المبهمات وذكره ابن عبد البر عن طائفة من المفسرين والثعلبي عن مجاهد وعكرمة ومقاتل والماوردي عن الواقدي لا باتفاق المفسرين كما ذكره القاضي عضد الدين "فإن أجيب بأن الناس للمعهود فلا عموم" لأن المعهود ليس بعام كما تقدم "فمدفوع بأن كون الناس المعهود لواحد مثله" أي مثل الناس العام فإذا جاز أن يراد بالناس المعهود واحد من معناه الكثير جاز في الناس للكثير غير المعهود أن يراد به ذلك قاله المصنف "وأيضا لا مانع لغوي من الإرادة" أي إرادة واحد بالعام "بالقرينة وإنما يعد لاغيا" بإرادة واحد به "إذا لم ينصبها ونحن اشترطنا المقارنة في التخصيص" فلم يرد به إلا مقرونا بالقرينة الدالة على إرادته فلا محذور هذا كله في العام "وأما الخاص فعلمت" في أوائل هذا التقسيم "أنه ينتظم المطلق وما بعده" من العدد والأمر والنهي وحيث كان البحث عن كل من المطلق والأمر والنهي من مهمات علم الأصول دون العدد فلا بأس بتعريف كل وذكر أحواله التي يبحث عنها في هذا(22/244)
ص -351-…العلم فنقول "أما المطلق فما دل على بعض أفراد" وهذا شامل للمطلق والمقيد وما عسى أن يكون ليس بأحدهما مما هو كذلك، وإنما قال بعض ولم يقل فرد ليشمل الواحد والأكثر فيدخل في المطلق الجمع المنكر فإنه حيث خرج من العام الاستغراقي ليس له موضع إلا المطلق إذ لا فرق بين رجل ورجال إلا بأن رجلا مطلق في الآحاد ورجالا في الجموع قوله "شائع" صفة بعض مخرج للعام وللمعارف كلها إلا المعهود الذهني وزاد "لا قيد معه" أي مع البعض لإخراج نحو رقبة مؤمنة فإنه مقيد يصدق عليه أنه دال على بعض شائع وقوله "مستقلا لفظا" لئلا يخرج المعهود الذهني فإنه من المطلق، واللام فيه قيد لكنه غير مستقل إذ المراد بالاستقلال اللفظي له الاستقلال اللفظي له من حيث الدلالة على المعنى الموضوع له لا التمام في المعنى الذي يحسن السكوت عليه ثم إنما قال "فوضعه" أي المطلق "له" أي اللفظ الدال على بعض أفراد شائع إلى آخره تمهيدا لدفع قول من قال إنه موضوع للحقيقة من حيث هو وأثبته بقوله "لأن الدلالة" أي تبادر البعض الشائع من اللفظ "عند الإطلاق دليله" أي الوضع للمتبادر لأن التبادر أمارة الحقيقة "ولأن الأحكام" المتعلقة بمطلق إنما هي "على الأفراد والوضع للاستعمال" أي ومعلوم أن المقصود من وضع اللفظ لمعنى استعماله فيه والفرض هنا أن استعمال المطلق يفيد كونه للأفراد "فكانت" الأحكام على الأفراد "دليله" أي وضع المطلق للبعض الشائع لا للماهية من حيث هي فإن قيل قد يستعمل لفظ المطلق ويراد به الطبيعية أيضا قلنا نعم في القضايا الطبيعية "والقضايا الطبيعية" غير مستعملة في العلوم باتفاق أهل الفنون وإنما قد يعرض إرادتها به قليلا قلة "لا نسبة لها بمقابلها" أي لا ينسب في القلة إلى استعمالها للأفراد بنسبة "فاعتبارها" أي الطبيعية من حيث إن اللفظ قد يستعمل مرادا به إياها "دليل الوضع" للماهية حينئذ "عكس المعقول والأصول" لأن الدلالة إنما تنسب إلى الأكثر لا(22/245)
إلى ما لا وجود له بالإضافة إليه "فالماهية فيها" أي في القضايا الطبيعية "إرادة لا دلالة قرينتها" أي إرادتها "خصوص المسند ونحوه" مما لا يصح أن يسند إلا إليها، مثل الرجل نوع أو صنف ونحوه بخلاف تبادر الفرد فإنه قبل الإسناد وغيره "فلا دليل على وضع اللفظ للماهية من حيث هي إلا علم الجنس إن قلنا بالفرق بينه وبين اسم الجنس والنكرة وهو" أي الفرق بينهما "الأوجه إذ اختلاف أحكام اللفظين يؤذن بفرق في المعنى" بينهما وقد وجدت فإن علم الجنس كأسامة يمتنع من أل والإضافة والصرف ويوصف بالمعرفة، ويجيء الحال عنه متأخرة، واسم الجنس كأسد ليس كذلك فلا جرم إن كان علم الجنس موضوعا للحقيقة المتحدة في الذهن واسم الجنس موضوعا للفرد الشائع "وإلا" أي وإن لم يكن بينهما فرق في المعنى كما ذهب إليه ابن مالك وهو غير الأوجه "فلا" وضع للحقيقة أصلا "فقد ساوى" المطلق "النكرة ما لم يدخلها عموم والمعرف لفظا فقط" أيضا نحو "اشتر اللحم" لأن كلا من هذه دال على شائع في جنسه لا قيد معه مستقلا لفظا ولكون المعرف لفظا لا معنى باقيا على عدم التعين ساغ وصفه بالنكرة اعتبارا بمعناه كما ساغ وصفه بالمعرفة اعتبارا بلفظه وجاز في الجملة الخبرية الواقعة بعده أن تكون حالا منه ملاحظة لجانب اللفظ وصفة له ملاحظة لجانب المعنى كما(22/246)
ص -352-…في قوله تعالى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة: 5] وربما يرجح الوصف في بعض المواضع كما في قول القائل:
ولقد أمر على اللئيم يسبني
فتأمل. "فبين المطلق والنكرة عموم من وجه" لصدقهما في نحو {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وانفراد النكرة عن المطلق في نكرة عامة كالنكرة في النفي وانفراد المطلق عنها في نحو اشتر اللحم فإنه معرفة في الاصطلاح ذكره المصنف فانتفى قول صاحب التحقيق الأظهر أنه لا فرق بين النكرة والمطلق في اصطلاح الأصوليين إذ تمثيل جميع العلماء المطلق بالنكرة في كتبهم يشعر بعدم الفرق بينهما وقول الآمدي المطلق هو النكرة في الإثبات "ودخل الجمع المنكر" في المطلق لصدق تعريفه عليه كما بيناه "ومن خالف الدليل" الدال على أن أسماء الأجناس النكرات ليست إلا للمفاريد الشائعة لا للماهيات المذكور بقوله الدلالة عند الإطلاق دليله إلخ، وهو الإمام الرازي ثم البيضاوي ثم السبكي "فجعل النكرة للماهية" احتاج إلى فرق بينها وبين أعلام الأجناس لأنها للماهية كما تقدم فتكلف اعتبار قيد زائد على الماهية في موضوعها فقال معنى علم الجنس الماهية باعتبار حضورها الذهني الذي هو نوع تشخص لها كما أشار إليه قوله "أخذ في علم الجنس حضورها الذهني فكان" حضورها الذهني "جزء مسماه" أي علم الجنس قال المصنف "ومقتضاه" أي هذا الأخذ "أن الحكم على أسامة يقع على ما صدق عليه" أسامة "من أسد وحضور ذهني أو" كان الحضور الذهني "مقيدا به" الماهية التي وضع لها علم الجنس فيقع الحكم على أسامة على ما صدق عليه من أسد بقيد الحضور الذهني فيه "وهو" أي وكون الحكم واقعا على ما صدق عليه من أسد وحضور ذهني أو من أسد بقيد حضور ذهني فيه "منتف" فإن الظاهر أن الحكم على أسامة إنما يكون على ما صدق عليه من أسد فقط "ولو سلم" عدم انتفاء هذا "فقد استقل ما تقدم" من تبادر البعض الشائع من الإطلاق إلى آخره "بنفيه" أي وضع المطلق للماهية "فالحق(22/247)
الأول" أي أن لا وضع للحقيقة أصلا إلا علم الجنس "وكذا" خالف الدليل "من جعلها" أي النكرة "قسيم المطلق فهي" أي النكرة "للفرد" الشائع "وهو" أي المطلق "للماهية" من حيث هي كما ذكره في التحقيق عن بعضهم فإنه "مع كونه بلا موجب ينفيه اتفاقهم على أن من مثله" أي المطلق "رقبة" في {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} "ولا ريب أنه" أي لفظ رقبة "نكرة والمقيد ما" أي لفظ دال على بعض شائع "معه" قيد ملفوظ مستقل كرقبة مؤمنة والرقبة المؤمنة "فالمعارف بلا قيد" معها مستقل لفظا "ثالث" أي لا مطلق ولا مقيد "وقد يترك" القيد في تعريفيهما أي لا قيد معه وما معه قيد فيقال في المطلق ما دل على بعض شائع وبالضرورة يكون المقيد ما دل لا على شائع ذكره المصنف "فتدخل" المعارف وكذا العمومات "في المقيد وليس" دخولهما في المقيد "بمشهور" أي باصطلاح شائع ذكره التفتازاني ثم قال وإنما الاصطلاح يعني في المقيد ما أخرج من الشياع بوجه من الوجوه كرقبة مؤمنة فإنها وإن كانت شائعة بين الرقبات المؤمنات فقد أخرجت من الشياع بوجه ما حيث كانت شائعة بين المؤمنة وغير المؤمنة فأزيل ذلك(22/248)
ص -353-…الشياع عنه، وقيد بالمؤمنة فكان مطلقا من وجه مقيدا من وجه، ثم قالوا: وجميع ما ذكر في تخصيص العام من متفق ومختلف ومختار ومزيف يجري مثله في تقييد المطلق ويزيد هذا بهذه.
مسألة
"إذا اختلف حكم مطلق ومقيده" أي وحكم مقيد من مقيداته وهو المسند كأطعم فقيرا واكس فقيرا عاريا "لم يحمل" المطلق على المقيد "إلا ضرورة" أي إلا إذا كان أحدهما موجبا لذلك ألبتة "كأعتق رقبة ولا تتملك إلا رقبة مؤمنة" فإن النهي عن تملك ما عدا الرقبة المؤمنة مع الأمر بعتق الرقبة يوجب تقييد المعتقة بالمؤمنة ضرورة أن العتق لا يكون إلا في الملك وقد فرض نهيه عن تملك غير المؤمنة فيكون مأمورا بعتق المؤمنة. قلت ولقائل أن يقول: ليس هذا مما يجب فيه حمل المطلق على المقيد، أما أولا فإنه إنما يكون النهي عن تملك ما عدا الرقبة المؤمنة موجبا تقييد الرقبة بالمؤمنة في الأمر بعتق رقبة لما ذكرنا إذا لم يكن في ملك المأمور رقبة كافرة أما إذا كان في ملكه رقبة كافرة فلا لأنه حينئذ لا يتوقف عتق الرقبة على تملك المؤمنة ليستلزم كون المعتقة مؤمنة ألبتة إذ لا خفاء في أنه لو أعتق الكافرة ولم يتملك إلا مؤمنة كان متمثلا للأمر والنهي، وأما ثانيا فلا نسلم أن عتق الرقبة يتوقف على تملك المؤمنة لإمكان العتق بدون تملك المؤمنة بأن يرث رقبة كافرة فيعتقها فإن التملك يقتضي الاختيار ولا اختيار في الإرث فيكون ممتثلا للأمر والنهي وبهذا يظهر أيضا أن تمثيل صدر الشريعة لهذا ب أعتق عني رقبة ولا تملكني رقبة كافرة لا يتعين فيه الحمل المذكور بل المثال المطابق له أعتقت رقبة ولم أملك رقبة كافرة أو إلا رقبة مؤمنة "أو اتحد" حكم المطلق وحكم مقيده حال كونهما "منفيين" كلا تعتق رقبة لا تعتق رقبة كافرة "فمن باب آخر" أي إفراد فرد من العام بحكم العام وتقدم أنه ليس بتخصيص للعام على المختار لا من باب المطلق والمقيد "أو" حال كونهما "مثبتين متحدي السبب وردا معا حمل(22/249)
المطلق عليه" أي المقيد "بيانا ضرورة أن السبب الواحد لا يوجب المتنافيين في وقت واحد كصوم" كفارة "اليمين على التقدير" أي تقدير ورود المطلق - وهو قراءة الجمهور {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} - والمقيد وهو قراءة ابن مسعود فصيام ثلاثة أيام متتابعات فيها معا ومن ثمة قال أصحابنا بوجوب التتابع فيه "أو جهل" كونهما معا "فالأوجه عندي كذلك" أي حمل المطلق على المقيد "حملا" لهما "على المعية تقديما للبيان على النسخ عند التردد" بينهما "للأغلبية" أي أغلبية البيان على النسخ "مع أن قولهم" أي الحنفية "في التعارض": الدليلان المتعارضان إذا لم يعلم تاريخهما يجمع بينهما "يؤنسه" أي هذا الاختيار لأن فيه جمعا بينهما "وإلا" أي وإن علم تأخر أحدهما عن الآخر فإن كان المطلق فسيأتي وإن كان المقيد "فالمقيد المتأخر ناسخ عند الحنفية أي أريد الإطلاق ثم رفع بالقيد فلذا" أي فلكون المقيد المتأخر عن المطلق ناسخا له عند الحنفية "لم يقيد خبر الواحد عندهم المتواتر وهو" أي تقييد خبر الواحد المتواتر هو "المسمى بالزيادة على النص" عندهم لأن خبر الواحد ظني والمتواتر قطعي، ولا يجوز نسخ القطعي بالظني "وهو" أي(22/250)
ص -354-…كون المقيد المتأخر عن المطلق ناسخا له "الأوجه والشافعية" قالوا ورود المقيد بعد المطلق "تخصيص" للمطلق "أي بين المقيد أنه" نفسه "المراد بالمطلق وهو" أي وكونه مبينا أنه المراد بالمطلق "معنى حمل المطلق على المقيد، وقولهم" أي الشافعية "إنه" أي حمل المطلق على المقيد "جمع بين الدليلين" المطلق والمقيد "مغالطة قولهم لأن العمل بالمقيد عمل به" أي المطلق من غير عكس "قلنا" لا نسلم أنه عمل بالمطلق مطلقا "بل بالمطلق الكائن في ضمن المقيد من حيث هو كذلك" أي في ضمن المقيد "وهو" أي المطلق في ضمن المقيد "المقيد فقط وليس العمل بالمطلق كذلك" أي العمل به في ضمن مقيد فقط "بل" العمل به "أن يجزئ كل ما صدق عليه" المطلق "من المقيدات" فيجزئ كل من المؤمنة والكافرة في {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} مثلا "ومنشأ المغالطة أن المطلق باصطلاح" - وهو اصطلاح المنطقيين - "الماهية لا بشرط شيء" فظن أن المراد به هذا هنا "لكن" ليس كذلك بل المراد به الفرد الشائع "هنا بشرط الإطلاق" أو الماهية بشرط الإطلاق حتى كان متمكنا من أي فرد شاء، والتقييد ينافي هذه المكنة، وقول الشافعية أيضا "ولأن فيه" أي حمل المطلق على المقيد "احتياطا لأنه قد يكون مكلفا بالقيد واعتبار المطلق لا يتيقن معه بفعله" أي المقيد المكلف به حينئذ لتجويزه الخروج عن العهدة بفعل مقيد غيره من مقيداته "قلنا قضينا عهدته" أي المطلق "بإيجاب المقيد" من حيث إنه فرد من أفراده "وإنما الكلام في أنه" أي إيجاب المقيد "حمل" هو "بيان" كما هو قولهم "أو نسخ" كما هو قول أصحابنا "فالمقيد" للشافعية "في محل النزاع إثبات أنه بيان ولهم" أي الشافعية "فيه" أي إثبات أنه بيان "أنه أسهل من النسخ" لأنه دفع، والنسخ رفع، والدفع أسهل من الرفع "فوجب الحمل عليه قلنا إذ لا مانع" من الحمل عليه "وحيث كان الإطلاق مما يراد قطعا وثبت" الإطلاق "غير مقرون بما ينفيه وجب اعتباره كذلك على نحو ما(22/251)
قدمناه في تخصص المتأخر وما قيل" كما ذكره ابن الحاجب وغيره "لو لم يكن المقيد المتأخر بيانا لكان كل تخصيص نسخا" للعام بجامع أن كلا منهما مخالف له، واللازم باطل بالاتفاق "ممنوع الملازمة بل اللازم كون كل" لفظ مستقل مخرج لبعض ما تناوله العام من إرادته به "متأخر" عن العام "ناسخا" لحكمه في ذلك البعض "لا تخصيصا وبه نقول على أن في عبارته مناقشة بقليل تأمل" فإنه لا يكون تخصيصا ونسخا للتنافي بينهما "ثم أجيب" عن هذا "في أصولهم" أي الشافعية - والمجيب القاضي عضد الدين "بأن في التقييد حكما شرعيا لم يكن ثابتا قبل" أي قبل التقييد كوجوب إيمان الرقبة مثلا "بخلاف التخصيص فإنه دفع لبعض حكم الأول" فقط لا إثبات حكم آخر قال المصنف "وينبو" أي ويبعد هذا الجواب "عن الفريقين" الحنفية والشافعية "فإن المطلق مراد بحكم المقيد إذا وجب الحمل" للمطلق على المقيد "اتفاقا" وإذا كان المطلق مرادا بحكم المقيد من حين تكلم به لم يصح قوله لم يكن ثابتا قبل "وإلزامهم" أي الشافعية للحنفية "كون المطلق المتأخر نسخا" للمقيد على تقدير كون المقيد المتأخر نسخا للمطلق لأن التقييد اللاحق كما ينافي الإطلاق السابق ويرفعه فكذا بالعكس وإنهم لا يقولون به "لا أعلم فيه تصريحا من الحنفية" ومن وقف عليه في كلامهم(22/252)
ص -355-…فليأت به، والظاهر عدمه وكيف لا "وعرف" من قواعدهم "إيجابهم وصل بيان المراد بالمطلق" بالمطلق إذا لم يكن المراد به الإطلاق "كقولهم في تخصيص العام" يجب وصل المخصص به إذا لم يكن المراد عمومه "بذلك الوجه" المتقدم بيانه ثمة فليراجع. "ويجيء فيه" أي في تأخير المقيد "ما قدمناه من وجوب إرادتهم مثل قول أبي الحسين من" وصل البيان "الإجمالي كهذا الإطلاق مقيد ويصير" المطلق حينئذ "مجملا أو التفصيلي ولنا أن نلتزمه" أي كون المطلق المتأخر ناسخا للمقيد "على قياس نسخ العام المتأخر الخاص المتقدم عندهم" أي الحنفية كما تقدم "ومعنى النسخ فيه" أي في نسخ المطلق المتأخر المقيد "نسخ القصر على المقيد" وإلا فمعلوم أن حكم المقيد لم يرفع بالمطلق. هذا وفي جمع الجوامع وشروحه: المطلق والمقيد المثبتان إن تأخر المقيد عن وقت العمل بالمطلق فالمقيد ناسخ له بالنسبة إلى صدقه بغير المقيد، وإن تأخر عن وقت الخطاب بالمطلق دون العمل، أو تأخر المطلق عن المقيد مطلقا، أو تقارنا، أو جهل تاريخهما حمل المطلق على المقيد، وقيل المقيد ناسخ للمطلق إن تأخر عن وقت الخطاب به كما لو تأخر عن وقت العمل به وقيل يحمل المقيد على المطلق بأن يلغى القيد لأن ذكر المقيد ذكر جزئي من المطلق فلا يقيده كما أن ذكر فرد من العام لا يخصصه. وظاهر هذا السياق أن الجادة هو القول الأول المفصل فإما عنده وإما عندهم، والله سبحانه أعلم.(22/253)
ثم قال عطفا على متحدي السبب "أو مختلفي السبب كإطلاق الرقبة في كفارة الظهار" حيث قال {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} "وتقييدها في" كفارة "القتل" حيث قال {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} "فعن الشافعي يحمل" المطلق على المقيد فيجب كونها مؤمنة في كفارة الظهار كما في كفارة القتل "فأكثر أصحابه - يعني - بجامع" بين المطلق والمقيد، وهو والصحيح عندهم واختاره ابن الحاجب وهو في هذا المثال حرمة سببهما أعني الظهار والقتل "والحنفية يمنعونه" أي حمل المطلق على المقيد بجامع "لانتفاء شرط القياس وهو عدم معارضة مقتضى نص" في المقيس فإن المطلق نص دال على إجزاء المقيد وغيره فلا يجوز أن يثبت بالقياس عدم إجزاء غير المقيد لانتفاء صحته "وبعضهم" أي الشافعية نقل عن الشافعي أنه يحمل المطلق على المقيد "مطلقا" أي من غير اشتراط جامع بينهما "لوحدة كلام الله تعالى فلا يختلف" بالإطلاق والتقييد "بل يفسر بعضه بعضا" فإذا نص على الإيمان في كفارة القتل لزم أيضا في كفارة الظهار "وهو" أي هذا القول "أضعف" من الأول "وإذا نظرنا في مقتضيات العبارات" وهي تختلف بالإطلاق والتقييد قطعا لا في الصفة الأزلية القائمة بالذات "ولو كان الاختلاف بالإطلاق والتقييد في سبب الحكم الواحد ك أدوا عن كل حر وعبد" أي كما أخرج عبد الرزاق عن عبد الله بن ثعلبة قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس قبل الفطر بيوم أو يومين فقال أدوا صاعا من بر أو قمح بين اثنين أو صاعا من تمر أو شعير عن كل حر وعبد صغير أو كبير إلى غير ذلك مما لم يقع فيه التقيد بإسلام المخرج عنه "مع رواية من المسلمين" كما في الصحيحين عن ابن عمر بلفظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس صاعا من تمر أو صاعا من شعير(22/254)
ص -356-…على كل حر وعبد ذكر أو أنثى من المسلمين إلى غير ذلك، ومما وقع فيه التقييد بإسلام المخرج عنه، إذ السبب في وجوب صدقة الفطر رأس يمونه المخرج ويلي عليه، وقد وقع تارة مطلقا عن قيد الإسلام وتارة مقيدا به "فلا حمل" للمطلق على المقيد في هذا عند الحنفية "خلافا للشافعي لما تقدم" من أنه قيد ولا يقولون بالمفهوم فلا يلزم من انتفائه انتفاء فصار كل من المسلم وغيره سببا ولا حمل. نعم لو قالوا بالمفهوم حتى لزم من قوله من المسلمين أن غير المسلم لا يجب الأداء عنه لزم الحمل حينئذ ضرورة لأنه حينئذ يكون الحاصل من المطلق: ملك العبد سبب لوجوب الأداء عنه - مسلما كان أو كافرا - ومن المقيد: ملك العبد المسلم سبب، وملك غيره ليس سببا لدلالة المفهوم على ذلك بالفرض فإذا فرض ترجيح بمقتضى المفهوم تقيد الآخر، لكنهم لا يقولون بحجية المفهوم فبقي حاصل المقيد أن العبد المسلم سبب فقط، والمطلق يفيد أنه سبب وأن غيره سبب أيضا ولا معارض له في سببية الغير، إذ المفهوم ليس معارضا فوجب سببية غيره أيضا، ولا حمل، كذا ذكره المصنف ثم قال: "والاحتياط المتقدم لهم" أي الشافعية في العمل بالمقيد "ينقلب عليهم" في حملهم المطلق على المقيد في هذا "إذ هو" أي الاحتياط هنا "في جعل كل" من المطلق والمقيد "سببا" للحكم المذكور لأنه لا مدافعة في الأسباب إذ يجوز أن يكون لشيء واحد أسباب متعددة شرعا وحسا، ثم فيه الخروج عن العهدة بيقين لأنه قد يكون السبب هو المطلق فإذا لم يعمل إلا بمقيد مخصوص يكون تاركا للحكم مع قيام سببه. وأورد حكم المقيد يفهم من المطلق فلو لم يحمل عليه يلزم إلغاء المقيد. وأجيب بأنه يفيد استحباب المقيد وفضله وأنه عزيمة والمطلق رخصة ونحو ذلك على أنه لو لم يكن فيه فائدة جديدة لا يجوز إبطال صفة الإطلاق لطلب فائدة المقيد عند إمكان الجمع، فيجعل سببية مفهوم المطلق ثابتة بالنص المطلق وسببية مفهوم المقيد ثابتة بالمقيد والمطلق(22/255)
جميعا، وليس بمستبعد في الشرع إثبات شيء بنصين وبنصوص كالصلاة والزكاة وغيرهما. ثم بقي هنا شيء للشافعية لا بأس بذكره تتميما وهو ما إذا أطلق الحكم في موضع وقيد في موضعين بقيدين متضادين ماذا يكون حكمه.؟ قالوا: من قال بالحمل مطلقا قال ببقاء المطلق على إطلاقه إذ ليس التقييد بأحدهما بأولى من الآخر، ومن قال بالحمل قياسا حمله على ما حمله عليه أولى فإن لم يكن قياس رجع إلى أصل الإطلاق ويشكل على الكل نص الشافعي على التخيير بين التعفير بالتراب في الأولى والثامنة ومن غسلات ولوغ الكلب، وأنه لا يطهره غير ذلك مع وروده في كل منهما ومطلقا، وكون الإطلاق محمولا على إحداهما ليس بأولى من الأخرى، ومن ثمة قال النووي: في هذه الروايات دلالة على أن التقييد بالأولى وبغيرها ليس على الاشتراط بل المراد إحداهن، وأما قول السبكي: وكأن أبي يقول إنما ينبغي حينئذ إيجاب كليهما لورود الحديث فيهما - ولا تنافي في الجمع بينهما - فعجيب من مثله وكذا عدم تعقب ولده له في ذلك، فليتأمل.
"وأما الأمر فلفظه" أي أمر "حقيقة في القول المخصوص" أي موضوع للصيغة المعلومة "اتفاقا" ثم قيل "مجاز في الفعل" غير القول المخصوص، ومنه قوله تعالى {وَشَاوِرْهُمْ فِي(22/256)
ص -357-…الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] أي الفعل الذي تعزم عليه "وقيل مشترك لفظي فيهما" أي موضوع لكل من القول المخصوص والفعل "وقيل" مشترك "معنوي" بينهما "وقيل" موضوع "للفعل الأعم من اللساني، ورد بلزوم كون الخبر والنهي أمرا" حينئذ لأن كلا من الخبر والنهي فعل لساني، واللازم باطل فالملزوم مثله "وقيل" موضوع "لأحدهما الدائر" بين القول الخاص والفعل "ودفع بلزوم كون اللفظ الخاص ليس أمرا لأنه" أي اللفظ الخاص "ليس إياه" أي الأحد الدائر بل واحد معين "وإنما يتم" هذا الدفع بناء "على أن الأعم مجاز في فرده" وسيدفع وهذا "ما لم يؤول" الأحد الدائر - الذي هو الأعم - بالمعنى الذي في ضمن الأخص أما إذا أول بهذا فلا يدفع بلزوم اللازم المذكور لانتفائه بل بما أشار إليه بقوله "ويدفع" كون المراد هذا "بأنه تكلف لازم للوضع للماهية" حتى يكون المراد بجاءني إنسان الماهية الكلية المقيدة بعوارض مانعة من فرض الاشتراك، ومن المعلوم بعد خطور هذا للمتكلم فضلا عن إرادته "فيؤيد" لزوم هذا التكلف المنتفي "نفيه" أي الوضع للماهية "وقد نفيناه" أي الوضع لها ما عدا علم الجنس قريبا وإذا كان كذلك "فمعنى" وضع لفظ الأمر "لأحدهما" وضعه "لفرد منهما على البدل" وهو معنى الوضع للفرد الشائع وإنما فسر الأحد الدائر بهذا لئلا يتوهم أن الأحد الدائر ماهية كلية، والآحاد المستعمل فيها أفراده فيجيء تحقق الوضع للماهية فيلزم في استعمالها ما تقدم. والحاصل أن الوضع للفرد معناه لما صدق عليه فرد لا لمفهوم فرد بقيد كليته "ودفع" كون الأعم مجازا في فرده أيضا "على تقديره" أي الوضع للماهية "بأنه" أي كون الأعم مجازا في فرده "غلط" ناشئ "من ظن كون الاستعمال فيما وضع له" اللفظ في تعريف الحقيقة استعماله "في المسمى دون أفراده ولا يخفى ندرته" أي هذا الاستعمال، ويلزم منه ندرة الحقائق وكون كل الألفاظ مجازات إلا النادر وليس كذلك. "لنا" على المختار وهو أن لفظ(22/257)
الأمر حقيقة في القول المخصوص مجاز في الفعل أنه "يسبق القول المخصوص" إلى الفهم عند إطلاق لفظ الأمر على أنه مراد دون الفعل "ولو كان كذلك" أي لفظ الأمر مشتركا لفظيا أو معنويا بين القول المخصوص والفعل "لم يسبق معين" منهما إلى الفهم على أنه مراد، وإنما بادر كل منهما على طريق الخطور "واستدل" أيضا على المختار "لو كان" لفظ الأمر "حقيقة فيهما" أي القول المخصوص والفعل "لزم الاشتراك" اللفظي "فيخل بالفهم" لانتفاء القرينة المبينة للمعنى المراد منه كما هو الفرض "فعورض بأن المجاز مخل" بالفهم عند عدم القرينة "ليس" هذا "بشيء" دافع "لأن الحكم به" أي المجاز "بالقرينة" الظاهرة "وإلا" فإن لم تظهر "فبالحقيقة فلا إخلال، والأوجه أنه" أي هذا الاستدلال "لا يبطل التواطؤ" لأن التوطؤ غير مخل بالفهم لمساواة أفراده فيه وللخروج عن العهدة بكل منها "فلا يلزم المطلوب" وهو أن لفظ الأمر مجاز في الفعل "فإن نظمه" أي المستدل التواطؤ "في الاشتراك" بأن أراد به أعم من اللفظي والمعنوي "قدم" المستدل "المجاز على التواطؤ وهو" أي تقديم المجاز عليه "منتف" لمخالفته الأصل، فلا موجب بخلاف تقديم التواطؤ عليه فلا جرم أن "صرح به اللفظي يطلق" لفظ الأمر "لهما" أي القول المخصوص والفعل "والأصل الحقيقة، قلنا أين لزوم اللفظي؟" من هذا فإنه(22/258)
ص -358-…يصدق بالمعنوي "والمعنوي يطلق لهما وهو" أي المعنوي "خير من اللفظي والمجاز. أجيب لو صح" هذا "ارتفعا" أي الاشتراك اللفظي والمجاز "لجريان مثله" أي هذا التوجيه "في كل معنيين للفظ" واللازم باطل فالملزوم مثله "والحل أن ذلك" أي تعين المعنوي بالتوجيه المذكور "عند التردد" بينه وبينهما "لا مع دليل أحدهما كما ذكرنا" من تبادر القول المخصوص بخصوصه "واستدل" على المختار أيضا "لو كان" لفظ الأمر "حقيقة في الفعل اشتق باعتباره فيقال أمر وآمر" مثلا لمن قام به الأكل في الزمان الماضي وباعتبار قيامه به "ك أكل وآكل، ويجاب إن اشتق فلا إشكال وإلا" أي وإن لم يشتق - وهو الظاهر - "فكالقارورة" أي لمانع من ذلك كما امتنع أن تقال: القارورة للظرف غير الزجاجي مما يصلح مقرا للمائعات، كما تقال للظرف الزجاجي الصالح لذلك وإنما قلنا ذلك "لدليلنا" الدال على أنه حقيقة في الفعل. ولقائل أن يقول قد علم أن المانع من إطلاق القارورة على الظرف غير الزجاجي انتفاء الزجاج الذي الظاهر اشتراطه في إطلاقها على ما هو مقر المائعات من الظروف فما المانع من إطلاق أمر وآمر على ما يطلق عليه أكل وآكل غير كون الفعل المخبر به في الأول والقائم بما اتصف به في الثاني ليس بالقول المخصوص ثم لا دليل غير مخدوش يفيد تقدير المانع في هذا وأمثاله مما لا يطلق عليه نحو أمر وآمر ومن ادعاه فعليه البيان. "و" استدل للمختار أيضا "بلزوم اتحاد الجمع" أي جمع أمر بمعنى القول المخصوص والفعل - لو كان لو كان حقيقة فيهما - "وهو" أي اتحاد جمعه بهما "منتف لأنه" أي جمعه "في الفعل أمور والقول أوامر، ويجاب بجواز اختلاف جمع لفظ واحد باعتبار معنييه" الحقيقي والمجازي كاليد فإنها بالمعنى الحقيقي - الذي هو الجارحة - تجمع على أيد، وبالمعنى المجازي - الذي هو النعمة - تجمع على أياد هذا وقد منع في المعتمد وغيره كون أوامر جمع أمر لأن أهل اللغة مصرحون بأن فعلا لا يجمع على(22/259)
فواعل بل هي جمع آمرة كضوارب جمع ضاربة، ثم قيل وحيث كان يصدق على الصيغة أنها طالبة وآمرة؛ فأوامر جمع لها بهذا الاعتبار، يعني بأن سميت بها ثم جمعت على فواعل كما هو قياس جمعها، وقيل جمع أمر مجازا بهذا التأويل وقيل جمع آمر على وزن أفعل جمع أمر على القياس، كأكالب جمع أكلب جمع كلب فعلى هذا وزنه أفاعل لا فواعل ولعل هذا مراد القاآني بقوله يجوز أن يكون جمعا له مبنيا على غير واحده، نحو أراهط في رهط "و" استدل للمختار أيضا "بلزوم اتصاف من قام به فعل بكونه" أي الفعل "مطاعا أو مخالفا" لو كان حقيقة في الفعل كما في القول، لأن الأمر الحقيقي يوصف بذلك، واللازم منتف فكذا الملزوم. "ويجاب بأنه" أي اتصاف الفعل بذلك "لو كان" ثبوت الطاعة والمخالفة "لازما عاما" للأمر باعتبار كل ما صدق عليه حقيقة "لكنه" ليس كذلك بل إنما هو "لازم أحد المفهومين" وهو القول المخصوص لا غير "و" استدل للمختار أيضا "بصحة نفيه" أي الأمر "عن الفعل" إذ الحقيقة لا تنفى لكنه يصح نفيه عنه للقطع لغة وعرفا بصحة: فلان لم يأمر بشيء اليوم إذا لم يصدر عنه الصيغة الطالبة وإن صدر عنه أفعال كثيرة فلم يكن حقيقة، قال المصنف "وهو" أي هذا الدليل "مصادرة" على المطلوب؛ إذ القائل بأنه حقيقة في الفعل يمنع صحة هذا النفي(22/260)
ص -359-…مرادا به نفي وضع لفظ الأمر له كما هو أول المسألة، ولكن لقائل أن يقول: حيث كان صحة النفي مقطوعا بها لغة وعرفا في مثل هذا لا يكون الاستدلال به على كون المراد به نفي وضع لفظ الأمر له كما هو الظاهر من إطلاق النفي مصادرة بل منع هذا حينئذ مكابرة، فليتأمل.
"وحد النفسي" بأنه "اقتضاء فعل غير كف على وجهة الاستعلاء" وهذا الحد لابن الحاجب فاقتضاء فعل مصدر مضاف إلى المفعول - أي طلبه شامل للأمر والنهي والالتماس والدعاء - وغير كف مخرج للنهي، وعلى جهة الاستعلاء أي طلب علو الطالب على المطلوب وعد نفسه عاليا مخرج للالتماس؛ لأنه على سبيل التساوي والدعاء لأنه على سبيل التسفل لكن كما قال المصنف "وسيتحقق في الحكم أنه" أي الأمر النفسي "معنى الإيجاب فيفسد طرده بالندب النفسي" لصدقه عليه مع أنه ليس بالإيجاب لأن الإيجاب اقتضاء فعل غير كف حتما "فيجب زيادة حتما" ليخرج الندب، قلت لا يستغنى عنه بالاقتضاء لأنه الطلب كما ذكرنا وهو قدر مشترك بين الجازم وغيره، ثم كون الأمر النفسي - وهو معنى الإيجاب - يحقق قول الجمهور إن الأمر حقيقة في الوجوب لا غير "وأورد: اكفف" وانته وذر واترك "على عكسه" فإنها أوامر ولا يصدق الحد عليها لاقتضائها فعلا - هو الكف - فلا يكون منعكسا لوجود المحدود مع عدم الحد "ولا تترك" ولا تنته ولا تذر ولا تكف "على طرده" فإنها نواه ويصدق حد الأمر عليها لأن معنى "لا تترك": افعل، وهلم جرا فلا يكون مطردا لصدق الحد مع عدم المحدود "وأجيب بأن المحدود النفسي فيلتزم أن معنى "لا تترك" منه أي الأمر النفسي "واكفف {وَذَرُوا الْبَيْعَ} نهي" فاطرد وانعكس "وإذا كان معنى اطلب فعل كذا الحال دخل" في الأمر النفسي لصدق حده عليه وإن كان خبرا صيغة "وإنما يمتنع" دخوله "في الصيغي فلا يحتاج" في تقدير دخول نحو اكفف في الأمر إلى ما أشار إليه العلامة وأفصح به التفتازاني من "أن المراد" بالكف في قوله غير كف "الكف عن(22/261)
مأخذ الاشتقاق" ونحو اكفف وإن صدق عليه أنه كف لكن عن مأخذ الاشتقاق ثم كما قال: "والأليق بالأصول تعريف الصيغي لأن بحثه" أي علم الأصول "عن" الأدلة اللفظية "السمعية" من حيث يوصل العلم بأحوالها العارضة لها من عموم وخصوص وغيرهما إلى قدرة إثبات الأحكام الشرعية للمكلفين وإن كان مرجع الأدلة السمعية إلى الكلام النفسي "وهو" أي الأمر اللفظي "اصطلاحا" لأهل العربية "صيغته المعلومة" سواء كانت على سبيل الاستعلاء أو العلو أو لا كما ذكره الأبهري وغيره "ولغة هي" أي صيغته المعلومة "في الطلب الجازم أو اسمها" كصه ونزال فيه أيضا "مع استعلاء" فما في المفتاح أن الأمر في لغة العرب عبارة عن استعمالها - أعني استعمال لينزل وانزل ونزال على سبيل الاستعلاء لعله يريد في الطلب الجازم "بخلاف فعل الأمر" فإنه لا يشترط فيه الطلب الجازم ولا الاستعلاء "فيصدق" الأمر بالمعنى اللغوي "مع العلو وعدمه وعليه" أي عدم اشتراط العلو، وهو كون الطالب أعلى مرتبة من المطلوب منه "الأكثر وأهدرهما" أي الاستعلاء والعلو أبو الحسن "الأشعري" وبه قال أكثر الشافعية ذكره السبكي واختاره وقال الأبهري: إنه المختار عند الأشاعرة "واعتبر المعتزلة العلو" أي أشترطوه إلا أبا الحسين منهم(22/262)
ص -360-…ووافقهم أبو إسحاق الشيرازي وابن الصباغ والسمعاني من الشافعية ونقله القاضي عبد الوهاب في الملخص عن أهل اللغة وجمهور أهل العلم واختاره مع الاستعلاء غير أنه كما قال المصنف "ولا أمر عندهم" أي المعتزلة "إلا الصيغة" لإنكارهم الكلام النفسي "ورجح نفي الأشعري العلو بذمهم" أي العقلاء "الأدنى بأمر الأعلى" لأنه لو كان العلو شرطا لم يتحقق الأمر من الأدنى فلا ذم والاستعلاء بقوله تعالى عن فرعون: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الشعراء: 35] خطابا لقومه فإنه أطلق الأمر على قولهم المقتضي له فعلا غير كف ولم يكن لهم استعلاء عليه، وكيف وهم كانوا يعبدونه والعبادة أقصى غاية الخضوع "ومنهم من جعله" أي ماذا تأمرون "لنفي العلو" لأن من المعلوم أنه لم يكن لهم علو على فرعون فلا جرم أن مشى البيضاوي على أنه يفسدهما "والحق اعتبار الاستعلاء" كما صححه في موضع من المحصول وفي المنتخب وجزم به في المعالم والآمدي وابن الحاجب "ونفي" اشتراط "العلو لذمهم الأدنى بأمر الأعلى" لما ذكرنا آنفا من أنه لو اشترط العلو لم يكن هذا أمرا لانتفاء العلو ولولا أن فيه استعلاء لما استحق الذم موافقة للتفتازاني في هذا التفصيل بتوجيهه، ولكن لقائل أن يقول لا نسلم أنه لو لم يكن فيه استعلاء لما استحق الذم، لم لا يجوز أن يكون استحقاقه الذم لكونه آتيا بصورة الأمر مع انتفاء العلو عنه، نعم قول الإسنوي: الاستعلاء غير متحقق في أمر الله - تعالى - فماذا يقولون فيه ممنوع، وكيف لا {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} "والآية" أي {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} "وقوله" أي عمرو بن العاص لمعاوية:
"أمرتك أمرا جازما فعصيتني" …وكان من التوفيق قتل ابن هاشم(22/263)
لما خرج هذا من العراق على معاوية مرة بعد مرة سابقة كان معاوية قد أمسكه فيها وأشار عليه عمرو بقتله فخالفه وأطلقه لحلمه، أو حضين بن المنذر يخاطب يزيد بن المهلب أمير خراسان والعراق إلا أن تمامه على هذا:
فأصبحت مسلوب الإمارة نادما
"مجاز عن تشيرون وأشرت" لأنه كما قال التفتازاني "للقطع بأن الصيغة في التضرع والتساوي لا تسمى أمرا" ولا بأس بهذا ويكون تأمرون في الآية مجازا عن تشيرون وفي الكشاف تأمرون من المؤامرة - وهي المشاورة - أو من الأمر الذي هو ضد النهي، جعل العبيد آمرين وربهم مأمورا لما استولى عليه من فرط الدهش والحيرة، انتهى. ومعناه أنه بسبب ما بهره المعجز بسلطانه أظهر التواضع لملئه استمالة لقلوبهم وخاطبهم بهذا الخطاب، وليس ببعيد من الصواب، وأما أن أمرت في البيت بمعنى أشرت ففيه نظر بالنسبة إلى ظاهر التركيب وما تقتضيه صناعة الإعراب، اللهم إلا أن يقال: لا ضير فإن هذا توجيه معنى لا توجيه إعراب. وقال "القاضي وإمام الحرمين" والغزالي "القول المقتضي" بنفسه "طاعة المأمور بفعل المأمور به" قالوا: فالقول احتراز عما عدا الكلام والمقتضى احتراز عما عدا الأمر من أقسام الكلام وبنفسه لقطع وهم من يحمل الأمر على العبارة فإنها لا تقتضي بنفسها وإنما يشعر بمعناها(22/264)
ص -361-…عن اصطلاح أو توقيف عليها، قلت: ومن ثمة لما كان محذوفا في نقل ابن الحاجب وصاحب البديع كما وافقهما المصنف عليه قال التفتازاني بناء عليه هذا: الحد يحتمل اللفظي والنفسي، والطاعة احتراز عن الدعاء والرغبة من غير جزم في طلب الطاعة "ويستلزم" هذا الحد "الدور من ثلاثة أوجه" ذكر الطاعة والمأمور والمأمور به؛ لأن الطاعة موافقته الأمر، والمأمور مشتق من الأمر فيتوقف معرفة كل منهما على معرفة الأمر لأن المضاف من حيث هو مضاف لا يعلم إلا بمعرفة المضاف إليه، ومعنى المشتق منه موجود في المشتق وزيادة، والفرض أن الأمر يتوقف معرفته على هذه الثلاثة "ودفعه" أي الدور كما قال القاضي عضد الدين "بأنا إذا علمنا الأمر من حيث هو كلام علمنا المخاطب به - وهو المأمور -، وما يتضمنه - وهو المأمور به -، وفعله" أي مضمونه "- وهو الطاعة - ولا يتوقف" العلم بكل من هذه الأمور "على معرفة حقيقة الأمر المطلوبة بالتعريف فإن أراد" بقوله إذا علمنا الأمر من حيث هو كلام "الحاصل من الجنس" أي القول وهو المعنى المفيد "لم يلزمه غير الأولين" أي العلم بمخاطب والعلم بمخاطب به "ثم لم يفد" هذا "حقيقة المأمور" أي بيانها "من مجرد فهم المخاطب ولا" بيان حقيقة "المأمور به من حيث هو كذلك" أي مأمور به "من معرفة أن الكلام معنى تضمنه" وهو ظاهر لأن المأمور أخص من المخاطب، والمأمور به أخص من المعنى الذي تضمنه الكلام ولا دلالة للأعم من حيث هو أعم على أخص بخصوصه من حيث هو أخص. "وأما فعله" أي وأما إفادته لفعل مضمونه "وكونه" أي فعله "طاعة فأبعد" وهو واضح فلا يندفع الدور بهذه الإرادة. "أو" أراد الحاصل من الجنس "بقيوده" المذكورة "فعين الحقيقة" أي فهذا المراد عين حقيقة الأمر "ويعود الدور" لأنه حيث كانت معرفة حقيقة الأمر متوقفة على معرفة حقيقة هذه الأجزاء، ومعرفة حقيقة بعض هذه الأجزاء متوقفة على معرفة حقيقة الأمر فقد توقفت معرفة حقيقة كل من(22/265)
الأمر وذلك الجزء على معرفة حقيقة الآخر وهو دور. إلا أن هذا قد يدفع بتسليم أن تصور الأمر بحقيقته متوقف على تصور هذه الأمور؛ ومنع أن تصور هذه الأمور متوقف على تصور حقيقة الأمر بل إنما يتوقف تصور هذه الأمور على تميز الأمر عن غيره، فإذا عرفنا الأمر بأنه نوع من الكلام متميز عن غيره باقتضاء موافقة المخاطب لما خوطب به كفانا ذلك في معرفة هذه الأمور. "ويبطل طرده ب أمرتك بفعل كذا" فإنه ليس بأمر مع صدق الحد عليه، ولقائل أن يقول حيث كان هذا حدا للنفسي فهذا منه فلا يبطل طرده لصدقه عليه "وقيل هو الخبر عن استحقاق الثواب وفيه" أي هذا الحد "جعل المباين" للمحدود - وهو الخبر - "جنسا" له وهو باطل لما بينهما من التنافي "والمعتزلة" أي وقال جمهورهم كما في المحصول وغيره: "قول القائل لمن دونه: افعل" أي لفظا موضوعا لطلب الفعل من الفاعل فإن هذه الصيغة علم جنس لهذا المعنى - كما صرح به ابن الحاجب في شرح المفصل - لا خصوصية هذا اللفظ "وإبطال طرده" أي هذا التعريف "بالتهديد وغيره" أي بما لم يرد به الطلب من هذه الصيغة لقائلها لمن دونه تهديدا كان نحو اعملوا ما شئتم أو إباحة نحو {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} أو غيرهما لصدق الحد المذكور عليه مع أنه ليس بأمر "مدفوع(22/266)
ص -362-…بظهور أن المراد" قول القائل "افعل" حال كونه "مرادا به ما يتبادر منه" عند الإطلاق - وهو الطلب - "و" إبطال طرده "بالحاكي" لا من غيره لمن دونه "والمبلغ" له من دونه لصدق الحد على المحكي والمبلغ مع أن كلا منهما ليس بأمر مدفوع أيضا "بأنه" أي كلا من المحكي والمبلغ "ليس قول القائل" الذي هو الحاكي والمبلغ "عرفا يقال للمتمثل" بشعر أو غيره لغيره "ليس" ما تمثل به "قوله" وإن كان حاكيا له "وليس القرآن قوله" أي النبي "صلى الله عليه وسلم" وإن كان مبلغه فلم يصدق على كل الحد فلم يبطل الطرد. "نعم العلو غير معتبر" على الصحيح عندنا ولعل هذا إشارة إلى أنه لا يورد عليهم أنه غير منعكس بأمر الأدنى للأعلى كما أورده ابن الحاجب وصاحب البديع لأن إيراده إنما هو بناء على اعتبار العلو، لكن لقائل أن يقول: هذا التعريف إنما هو لأكثرهم، وقد تقدم أنهم يشترطون العلو فلم لا يورد عليهم على سبيل الإلزام بناء على زعمهم؟ ويجاب حينئذ بمنع كونه أمرا عندهم لغة، وإن سمي به عرفا كما ذكره القاضي عضد الدين وحينئذ فقد كانت الإشارة إلى إيراد هذا وجوابه هكذا أولى. "وطائفة" منهم "الصيغة مجردة عن الصارف عن الأمر وهو" أي هذا التعريف تعريف الشيء "بنفسه ولو أسقطه" أي لفظ "عن الأمر" "صح" التعريف "لفهم الصارف عن المتبادر" الذي هو الطلب من إطلاق الصارف. "وطائفة" من معتزلة البصرة "الصيغة بإرادة وجود اللفظ" أي إرادة إحداث الصيغة، لأن الآمر هو الموجد للكلام عندهم والأمر من باب الكلام "ودلالته على الأمر" أي وإرادة كون هذه الصيغة أمرا فإن المتكلم قد يريد بها التهديد أو غيره من المعاني التي ليست بأمر "والامتثال" أي وإرادة وجود المأمور به "ويحترز بالأخير" أي الامتثال "عنها" أي الصيغة صادرة "من نائم ومبلغ وما سوى الوجوب" ومن تهديد وغيره "وما قبله" أي الأخير "تنصيص على الذاتي" كما قال التفتازاني: إنه الأولى. "وأورد: إن أريد بالأمر(22/267)
المحدود اللفظ أفسده إرادة دلالتها على الأمر" لأن اللفظ غير مدلول عليه "أو" أريد بالأمر المحدود "المعنى أفسده جنسه" أي صيغته لأن المعنى ليس صيغة "وأجيب بأنه" أي المراد بالمحدود "اللفظ" وبما في الحد المعنى الذي هو الطلب "واستعمل المشترك" الذي هو الأمر "في معنييه بالقرينة" العقلية. "وقال قوم" آخرون من المعتزلة "إرادة الفعل، وأورد غير جامع لثبوت الأمر ولا إرادة في أمر عبده بحضرة من توعده" أي السيد بالإهلاك وهو قادر عليه "على ضربه" أي بسبب ضربه "فاعتذر" عن ضربه "بمخالفته" أي العبد له فإن في هذا أمره، وإلا لم يظهر عذره وهو مخالفة أمره، ولم يرد منه الفعل لأنه لا يريد ما يفضي إلى هلاك نفسه وإلا لكان مريدا لهلاك نفسه، وإرادة العاقل ذلك محال "وألزم تعريفه" أي الأمر "بالطلب النفسي له" أي هذا الإيراد، وهو أنه قد يوجد الأمر، ولا طلب فإن العاقل كما لا يريد هلاك نفسه لا يطلبه "ودفعه" أي هذا الإلزام كما قال القاضي عضد الدين "بتجويز طلبه" أي العاقل الهلاك لغرض "إذا علم عدم وقوعه" أي الهلاك "إنما يصح في اللفظي، أما النفسي فكالإرادة لا يطلبه أي سبب هلاكه بقلبه كما لا يريده" والقول بأنه يجوز من العاقل طلب هلاكه إذا علم أنه لا يقع، ولا يجوز إرادته أصلا ممنوع "وما قيل" أي وما ذكر الآمدي في الرد عليهم، وقال ابن الحاجب إنه الأولى "لو كان" الأمر "إرادة(22/268)
ص -363-…لوقعت المأمورات بمجرده" أي الأمر "لأنها" أي الإرادة "صفة تخصص المقدور بوقت وجوده" أي المقدور "فوجودها" أي الإرادة "فرع مخصص" والتالي باطل فإن الكافر الذي علم الله موته على الكفر كفرعون مأمور بالإيمان اتفاقا مع أنه لم يؤمن "لا يلزمهم" أي المعتزلة "لأنها" أي الإرادة "عندهم" أي المعتزلة بالنسبة إلى العباد "ميل يتبع اعتقاد النفع أو دفع الضرر وبالنسبة إليه - سبحانه - العلم بما في الفعل من المصلحة" وهو منسوب إلى محققيهم ثم كما لا يلزمهم هذا بالنسبة إلى تفسيرهم الإرادة بهذا لا يلزمهم بالنسبة إلى باقي تفاسيرهم إياها أيضا، واستيفاء الكلام في هذا في الكلام.
مسألة(22/269)
"صيغة الأمر خاص" أي حقيقة على الخصوص "في الوجوب" فقط "عند الجمهور" وصححه ابن الحاجب والبيضاوي، وقال الإمام الرازي إنه الحق، وذكر إمام الحرمين والآمدي أنه مذهب الشافعي، وقيل وهو الذي أملاه الأشعري على أصحاب الإسفراييني "أبو هاشم" في جماعة من الفقهاء منهم الشافعي في قول وعامة المعتزلة حقيقة "في الندب" فقط وقال الأبهري - من المالكية -: أمره تعالى وأمر رسوله الموافق له أو المبين له للوجوب والمبتدأ منه للندب "وتوقف الأشعري والقاضي في أنه" موضوع "لأيهما" أي الوجوب والندب "وقيل" توقفا فيه "بمعنى لا يدرى مفهومه" أصلا قال التفتازاني وهو الموافق لكلام الآمدي انتهى. قلت: ولا ينافي هذا نقل ابن برهان عن الأشعري أنه مشترك بين الطلب والتهديد والتكوين والتعجيز، ونقل غيره كصاحب التحقيق - عنه في رواية وابن سريج اشتراكه في الوجوب والندب والإباحة والتهديد نعم يخالف كليهما تقرير غير واحد توقفهما بمعنى أن الصيغة مترددة بين أن تكون حقيقة في الوجوب فقط أو الندب فقط أو فيهما بالاشتراك اللفظي لكن لا يدرى ما هو، واختاره الغزالي في المستصفى، قال السبكي والآمدي: لكن ذكر الإسنوي أن الذي صححه في الأحكام التوقف في الوجوب والندب والإرشاد والله سبحانه أعلم "وقيل مشترك" لفظي "بينهما" أي الوجوب والندب وهو منقول عن الشافعي "وقيل" مشترك لفظي بين الوجوب والندب "والإباحة وقيل" موضوع "للمشترك بين الأولين" أي الوجوب والندب، وهو الطلب أي ترجيح الفعل على الترك، وهو منقول عن أبي منصور الماتريدي وعزاه في الميزان إلى مشايخ سمرقند "وقيل" موضوع "لما" أي للقدر المشترك "بين الثلاثة" أي الوجوب والندب والإباحة "من الإذن" وهو رفع الحرج عن الفعل وفي التحقيق وهو مذهب المرتضى من الشيعة وقال "الشيعة مشترك بين الثلاثة" أي الوجوب والندب والإباحة "والتهديد" وقيل غير ذلك "لنا" على المختار وهو الأول أنه "تكرر استدلال السلف بها" أي(22/270)
بصيغة الأمر مجردة عن القرائن "على الوجوب" استدلالا "شائعا بلا نكير فأوجب العلم العادي باتفاقهم" على أنها له "كالقول" أي كإجماعهم القولي على ذلك. "واعترض بأنه" أي الوجوب في استدلال السلف بها عليه "كان بأوامر محققة بقرائن الوجوب(22/271)
ص -364-…بدليل استدلالهم بكثير منها" أي من صيغ الأمر "على الندب قلنا تلك" أي صيغ الأمر المنسوب إليها الندب ثبوته لها "بقرائن" مفيدة له بخلاف الصيغ المنسوب إليها الوجوب "باستقراء الواقع منهما" أي من الصيغ المنسوب إليها الوجوب والصيغ المنسوب إليها الندب في الكتاب والسنة والعرف "قالوا" ما يفيده هذا الدليل "ظن في الأصول لأنه" أي الإجماع المذكور "سكوتي ولما قلنا من الاحتمال" أي احتمال كونه بقرائن تفيد الوجوب، والظن فيها لا يكفي لأن المطلوب فيها العلم "قلنا لو سلم" أنه ظن "كفى وإلا تعذر العمل بأكثر الظواهر" لأن المقدور فيها إنما هو تحصيل الظن بها، وأما القطع فلا سبيل إليه واللازم منتف فالملزوم مثله، ثم في المحصوليات المسألة وسيلة إلى العلم فيكفي الظن "لكنا نمنعه" أي الظن هنا "لذلك العلم" العادي باتفاقهم على أنها للوجوب "ولقطعنا بتبادر الوجوب من" الأوامر "المجردة" عن القرائن "فأوجب" القطع بتبادر الوجوب منها "القطع به" أي الوجوب أيضا "من اللغة وأيضا" قوله تعالى - لإبليس: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12] يعني اسجدوا لآدم المجرد" عن القرائن فإنه ظاهر في الوجوب أيضا وإلا لما لزمه اللوم، ولقال: أمرتني ومقتضى الأمر الندب أو ما يؤدي هذا المعنى، فإنه قد ناظر بأشد من هذا حيث قال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} والقول بأن الوجوب لعله فهم من قرينة حالية أو مقالية لم يحكها القرآن أو من خصوصية تلك اللغة التي وقع الأمر بها، إذ القرينة لم تكن حينئذ وإنما حكى القرآن ما وقع بغيرها احتمال مرجوح غير قادح في الظهور وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات: 48] ذمهم على مخالفة اركعوا بقوله لا يركعون حيث رتبه على مجرد مخالفة الأمر المطلق بالركوع "وأما" الاستدلال للوجوب كما ذكره غير واحد منهم ابن الحاجب بقولنا "تارك الأمر(22/272)
عاص" لقوله تعالى - حكاية عن خطاب موسى لهارون عليهما السلام {أفعصيت أمري} [طه: 93] أي تركت مقتضاه "وهو" والوجه وكل عاص "متوعد" لقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [الجن: 23] فتارك الأمر متوعد وهو دليل الوجوب فأشار المصنف إلى منع صغراه بقوله "فنمنع كونه" أي العاصي "تارك" الأمر "المجرد" عن القرائن المفيدة للوجوب لصدقه على ما هو للندب وليس تاركه بعاص اتفاقا "بل" العاصي "تارك ما" هو محتف من الأوامر "بقرينة الوجوب فإذا استدل" لكون تارك الأمر المجرد عن القرائن المفيدة للوجوب عاصيا "ب {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} أي: اخلفني منعنا تجرده" أي هذا الأمر عن القرائن المفيدة لوجوب مقتضاه، وكيف لا، وقد قرنه بقوله: {وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 142] "فأما" الاستدلال للوجوب على ما ذكره كثير بقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] أي يخالفون أمره أو يعرضون عن أمره بترك مقتضاه أن تصيبهم فتنة أي محنة في الدنيا أو يصيبهم عذاب أليم في الآخرة لأنه رتب على ترك مقتضى أمره أحد العذابين "فصحيح لأن عمومه" أي أمره "بإضافة الجنس المقتضي كون لفظ أمر لما يفيد الوجوب خاصة يوجبه" أي الوجوب "للمجردة" أي لصيغة الأمر المجردة من قرائن الوجوب لأنها من أفراده، ثم تلخيص الاستدلال به أن مخالفة أمره متوعد عليها، وكل(22/273)
ص -365-…متوعد عليه حرام، فمخالفة أمره حرام وامتثاله واجب "والاستدلال" للوجوب أيضا "بأن الاشتراك خلاف الأصل" لإخلاله بالفهم "فيكون" الأمر دفعا للاشتراك "لأحد الأربعة" من الوجوب والندب والإباحة والتهديد حقيقة وفي الباقي مجازا. وقالوا وإنما خصت هذه الأربعة للاتفاق على أنه مجاز فيما سواها من المعاني التي تستعمل فيه. قلت: وهو مشكل بما في الميزان، وقال أكثر الواقفية بأنه لا صيغة للأمر بطريق التعين بل هي صيغة مشتركة بين معنى الأمر وبين المعاني التي تستعمل فيها، فهي موضوعة لكل حقيقة بطريق الاشتراك وإنما يتعين البعض بالقرينة، وهم بعض الفقهاء وأكثر المتكلمين. "والإباحة والتهديد بعيد للقطع بفهم ترجيح الوجود" وهو منتف فيهما "وانتفاء الندب" أيضا ثابت "للفرق بين اسقني وندبتك" إلى أن تسقيني ولا فرق إلا الذم على تقدير الترك في اسقني، وعدمه على تقدير الترك في ندبتك إلى أن تسقيني ولو كان للندب لم يكن بينهما فرق فتعين كونه للوجوب، استدلال "ضعيف لمنعهم" أي النادبين "الفرق" بينهما "ولو سلم" أن بينهما فرقا "فيكون ندبتك نصا" في الندب "واسقني" ليس بنص فيه بل "يحتمل الوجوب" والندب لكن قيل على هذا لا يلزم من الفرق بالنصوصية والظهور عدم الفرق من جهة أخرى "وأيضا لا ينتهض" هذا "على المعنوي، إذ نفي اللفظي لا يوجب تخصيص الحقيقة بأحدها" أي الأربعة الذي هو الوجوب "ولو أراد" المستدل بالاشتراك خلاف الأصل "مطلق الاشتراك" ليشمل اللفظي والمعنوي "منعنا كون المعنوي خلاف الأصل ولو قال" المستدل "المعنوي بالنسبة إلى معنوي أخص منه خلاف الأصل، إذ الإفهام باللفظ" والأصل فيه الخصوص لإفادته المقصود من غير مزاحم له فيه وحينئذ كلما كان أخص كان في إفهامه المراد أسرع ولتوهم مزاحمة غيره أدفع "اتجه" قوله هذا "كالمعنوي الذي هو المشترك بين الوجوب والندب" وهو الطلب "بالنسبة إلى المعنوي الذي هو وجوب فإنه" أي المشترك بين الوجوب(22/274)
والندب "جنس بالنسبة إلى الوجوب إذ هو" أي الوجوب "نوع" بالنسبة إلى الطلب. "فدار" معنى الأمر "بين خصوص الجنس وخصوص النوع" وخصوص النوع أولى لما فيه من تقليل الاشتراك هذا ما ظهر لي في توجيه اتجاهه. وأقول ولقائل أن يقول أولا: إن هذا إنما يتجه على منوال القول بتقديم الخاص على العام والخاص من وجه على العام مطلقا كما ذهب إليه الشافعية لا على قول من لا يرى ذلك إلا بمرجح من خارج كما ذهب إليه الحنفية. وثانيا إن هذا إثبات اللغة بلازم الماهية لأنكم جعلتم الأخصية لازما للوجوب وجعلتم صيغة الأمر باعتبارها للوجوب وهو باطل. وثالثا أنه إذا كان خصوص النوع أولى من خصوص الجنس، ومعلوم أن الوجوب كما هو خصوص النوع كذلك الندب فلا تتم الأخصية من حيث هي مرجحة للوجوب على الندب لتساويهما فيها، فليتأمل. واستدل "النادب" بما في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" لأن النبي صلى الله عليه وسلم رد الأمر إلى مشيئتنا وهو معنى الندب "قلنا" ممنوع بل رده إلى استطاعتنا وحينئذ "هو دليل الوجوب" لأن الساقط عنا حينئذ ما لا استطاعة لنا فيه على أن تقريرهم لا يدل على مدعاهم أيضا لأن المباح أيضا بمشيئتهم، ثم لا خفاء في أن(22/275)
ص -366-…قولهم رده إلى مشيئتنا مع روايتهم للحديث بلفظ ما استطعتم ذهول عظيم واستدل "القائل بالطلب" بأنه "ثبت رجحان الوجود" الذي هو المعنى المشترك بين الوجوب والندب بالضرورة من اللغة "ولا مخصص" له بأحدهما "فوجب كونه" أي رجحان الوجود "المطلوب مطلقا دفعا للاشتراك" على تقدير أنه موضوع لكل منهما "والمجاز" على تقدير أنه موضوع لأحدهما لا غير فإن التواطؤ خير منهما "قلنا" بل هو لأحدهما وهو الوجوب "بمخصص وهي" أي المخص(22/276)
ص - وأنثه باعتبار الخبر وهو - "أدلتنا على الوجوب مع أنه" أي جعله للطلب "إثبات اللغة بلازم الماهية" وهو الرجحان لجعل الرجحان لازما للوجوب والندب وجعل صيغة الأمر لهما باعتبار هذا اللازم مع احتمال أن يكون للمقيد بأحدهما أو للمشترك بينهما وذلك باطل "الاشتراك بين الأربعة والاثنين" والثلاثة أيضا "ثبت الإطلاق" على الأربعة وعلى الاثنين وعلى الثلاثة "والأصل الحقيقة قلنا المجاز خير" من الاشتراك "وتعيين الحقيقي" الذي هو الوجوب "بما تقدم" من أدلته "والواقف كونها" أي الصيغة "للوجوب أو غيره بالدليل" لاستعمالها في كل منه ومن غيره "وهو" أي الدليل على أنها حقيقة في أحدها دون الباقي "منتف إذ الآحاد لا تفيد العلم" وهو المطلوب في هذه المسألة "ولو تواتر لم يختلف" فيه لإيجابه استواء طبقات الباحثين فيه لأنه لا بد للكل من الاطلاع عليه لبذلهم جهدهم في طلبه لكن الاختلاف فيه ثابت فلم يتواتر والعقل الصرف بمعزل عن ذلك "قلنا" لا نسلم أنه يتواتر إذ "تواتر استدلالات عدد التواتر من العلماء وأهل اللسان تواتر أنها" أي الصيغة "له" أي للوجوب وعلى هذا فإما الملازمة ممنوعة الإطلاق لجواز أن لا يفرغ بعض الباحثين جهده في ذلك لعارض وإما أن يكون التواتر فيه بالنسبة إلى قوم دون آخرين، وكلاهما محل تأمل "ولو سلم" أنه لم يتواتر "كفى الظن" المستفاد من تتبع موارد استعمال هذه الصيغة فإنه دال على أن المقصود بها عند الإطلاق هو الواجب وتقدم ما في المحصوليات "القائل بالإذن كالقائل بالطلب" وهو أنه ثبت الإذن بالضرورة اللغوية ولم يوجد مخصص له بأحد الثلاثة من الوجوب والندب والإباحة فوجب جعله للمشترك بينها وهو الإذن في الفعل، والجواب المنع بل وجد وهو أدلتنا الدالة على الوجوب.
مسألة(22/277)
ليست مبدئية لغوية بل شرعية "مستطردة: أكثر المتفقين على الوجوب" لصيغة الأمر حقيقة كما ذكر ابن الحاجب وصاحب البديع ومنهم الشافعي وأبو منصور الماتريدي "أنها بعد الحظر" أي المنع "في لسان الشرع للإباحة باستقراء استعمالاته" أي الشرع لها "فوجب الحمل" أي حملها "عليه" أي المعنى الإباحي "عند التجرد" عن الموجب لغيره "لوجوب الحمل على الغالب" لصيرورته كالأصل بالنسبة إلى غيره "ما لم يعلم أنه" أي المحمول "ليس منه" أي الغالب "نحو {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} فالأمر هنا للوجوب وإن كان بعد الحظر
للعلم بوجوب قتل المشرك إلا لمانع والفرض انتقاؤه "وظهر" من الاستناد في الإباحة إلى استقراء استعمالات الشارع الأمر فيها "ضعف قولهم" أي القائلين بالوجوب بعد(22/278)
ص -367-… الحظر كالقاضي أبي الطيب الطبري وأبي إسحاق الشيرازي والإمام الرازي والبيضاوي من الشافعية وفخر الإسلام وعامة المتأخرين من الحنفية بل عزاه صاحب الكشف إلى عامة القائلين بالوجوب قبل الحظر. "ولو كان" الأمر للإباحة بعد الحظر "امتنع التصريح بالوجوب" بعد الحظر ولا يمتنع إذ لا يلزم من إيجاب الشيء بعد تحريمه محال، ووجه ظهور ضعفه أن كونه للإباحة بعد الحظر وقع فلا معنى لاستبعاده ثم الملازمة ممنوعة فإن قيام الدليل الظاهر على معنى لا يمنع التصريح بخلافه، ويكون التصريح قرينة صارفة عما يجب الحمل عليه عند التجرد عنها "ولا مخلص" من أنه للإباحة للاستقراء المذكور "إلا بمنع صحة الاستقراء إن تم" منع صحته وهو محل نظر "وما قيل أمر الحائض والنفساء" بالصلاة والصوم بعد تحريمهما عليهما في الحيض والنفاس "بخلافه" أي يفيد الوجوب لا الإباحة "غلط لأنه" أي أمرهما بهما "مطلق" عن الترتيب على سبق الحظر "والكلام" في أن الأمر بعد الحظر للإباحة إنما هو "في المتصل بالنهي إخبارا" كما عن بريدة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور فقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه فزوروها فإنها تذكر الآخرة" رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح "و" في الأمر "المعلق بزوال سببه" أي سبب الحظر نحو قوله تعالى {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] فالصيد كان حلالا على الإطلاق ثم حرم بسبب هو الإحرام ثم علق الإذن فيه بالحل وهو زوال السبب الذي هو الإحرام "ويدفع" هذا التغليظ "بوروده" أي الأمر للحائض في الصلاة "كذلك" أي معلقا بزوال سبب الحظر "ففي الحديث" المتفق عليه "فإذا أدبرت الحيضة فاغسلي عنك الدم وصلي" إلا أن الحيضة لم تذكر بعد "أدبرت" اكتفاء بضميرها المستتر فيه لتقدم ذكرها في قوله: "فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة"، ويجوز الفتح والكسر في حائها وهي الحيض فعلق الأمر بالصلاة على زوال سبب حرمتها وهو(22/279)
انقطاع الحيض وأما دفعه بالنسبة إلى أمرها بالصوم وإلى أمر النفساء بالصوم والصلاة فالله تعالى أعلم به. هذا ولقائل أن يقول: إن لم يكن على هذا الاشتراط في محل الخلاف اتفاق مصرح به فما المانع من أن يكون الكلام في الأمر المعلوم وروده بعد الحظر أعم من أن يكون في اللفظ متصلا بالنهي إخبارا أو معلقا على زوال سبب الحظر؟ ولا يلزم من كون الخلاف محكيا في أفراد من هذين الحصر فيهما "والحق أن الاستقراء دل على أنه" أي الأمر "بعد الحظر لما اعترض عليه" أي لما كان عليه المأمور به من الحكم قبل المنع "فإن" اعترض الحظر "على الإباحة" ثم وقع الأمر بذاك المباح أو لا "ك اصطادوا فلها" أي فالأمر للإباحة "أو" اعترض "على الوجوب ك اغسلي عنك وصلي فله" أي فالأمر للوجوب لأن الصلاة كانت واجبة ثم حرمت عليها بالحيض "فلنختر ذلك" أي هذا التفصيل وقد ذكره القاضي عضد الدين بلفظ قيل، ثم قال: وهو غير بعيد وفي الكشف والتحقيق ورأيت في نسخة من أصول الفقه: الفعل إن كان مباحا في أصله ثم ورد حظر معلق بغاية أو بشرط أو بعلة عرضت فالأمر الوارد بعد زوال ما علق الحظر به يفيد الإباحة عند جمهور أهل العلم كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] لأن الصيد كان حلالا على الإطلاق ثم حرم بسبب الإحرام فكان قوله:(22/280)
ص -368-…{فَاصْطَادُوا} إعلاما بأن سبب التحريم قد ارتفع وعاد الأمر إلى أصله وإن كان الحظر واردا ابتداء غير معلل بعلة عارضة ولا معلق بشرط ولا غاية فالأمر الوارد بعده هو المختلف فيه. زاد في الكشف وذكر في المعتمد: الأمر إذا ورد بعد حظر عقلي أو شرعي أفاد ما يفيده لو لم يتقدمه حظر من وجوب أو ندب "وقولهم" أي القائلين بأنه للوجوب بعد الحظر "الإباحة فيها" أي في هذه المأمورات من الاصطياد وأخواته "لأن العلم بأنها" أي هذه المأمورات "شرعت لنا فلا تصير" واجبة "علينا" بالأمر لئلا يعود الأمر على موضوعه بالنقض "لا يدفع استقراء أنها" أي صيغة الأمر "لها" أي للإباحة "فإنه" أي الاستقراء مع القرينة دليل "موجب للحمل" أي حمل الأمر "على الإباحة فيما لا قرينة معه" على ما نسب إلى اختيار الأكثر أولا "و" موجب لحمله "على ما اخترنا على ما اعترض عليه" من الحكم. والحاصل أنها كلما وردت بعد الحظر للإباحة كانت متجوزا بها في الإباحة فإذا غلب واستمر وجب الحمل عليه لوجوب الحمل على الغالب حيث لا مانع منه، ومن هنا قال "ثم إنما يلزم" هذا "من قدم المجاز المشهور" على الحقيقة المستعملة وهو أبو يوسف ومحمد ومن وافقهما "لا أبا حنيفة" لأنه لا يقدمه عليها بل يقدمها عليه "إلا أن تمام الوجه" - أي وجه هذه المسألة - ثابت "عليه" أي أبي حنيفة "فيها" كما سيأتي فيلزم ترجح كون الأمر بعد الحظر للإباحة - حيث لا مانع من ذلك تفريعا على ترجيح قولهما المذكور - وكونه للوجوب حيث لا قرينة تصرفه عنه تفريعا على قوله المذكور، ووجه اختيار المصنف أن الحظر قرينة دالة على رفع الحكم الذي قبله فإذا زال الحظر انتفى المانع فبقي ما كان على ما كان حتى كأن الآمر قال: قد كنت منعت من كذا وقد رفعت ذلك واستمر ما كان مشروعا قبل المنع على الوجه الذي كان مشروعا قبله فإن قلت لكن كونه للإباحة هو الأغلب فكما يكون لها عند قرينتها يكون لها عند عدمها حملا له على(22/281)
الأغلب كما تقدم قلت لا نسلم: كونه للإباحة هو الأغلب سلمناه، لكن لا نسلم أنه يكون لها حيث لا قرينة لها بل إنما ينبغي أن يكون لها حيث لا قرينة لها ولا لغيرها وهو منتف فإنه لا يخلو عن إحدى القرينتين فإذا انتفت قرينتها كانت قرينة غيرها موجودة فيعمل بها سواء كان ذلك هو الوجوب - وهو ظاهر - أو غيره لانتفاء مزاحمة المجاز الذي لا قرينة له لما له قرينة، وقد ظهر من هذه الجملة انتفاء التوقف كما ذهب إليه إمام الحرمين هذا، وفي المحصول والأمر بعد الاستئذان كالأمر بعد التحريم وفيه نظر ظاهر للمتأمل ولم أقف على التعرض له في الكتب المشهورة.
مسألة
لا شك في تبادر كون الصيغة في الإباحة والندب مجازا بتقدير أنها خاص في الوجوب، وحكى فخر الإسلام على التقدير" أي تقدير كونها خاصا في الوجوب "خلافا في أنها مجاز" فيهما "أو حقيقة فيهما، فقيل أراد لفظ أمر وبعد" كونه مراده "بنظمه الإباحة" مع الندب في سلك واحد لأنه كما قال "والمعروف كون الخلاف في الندب فقط هل يصدق أنه مأمور به حقيقة وسيذكر" في فصل المحكوم به "وقيل" أراد بالأمر "الصيغة، والمراد أنها حقيقة(22/282)
ص -369-…خاصة للوجوب عند التجرد" عن القرينة الصارفة لها عنه "وللندب والإباحة معها" أي القرينة المفيدة أنها لهما كما أن المستثنى منه حقيقة في الكل خاصة بدون الاستثناء وفي الباقي مع الاستثناء "ودفع" هذا القول في التلويح "باستلزامه رفع المجاز" لأنه يلزم منه كون اللفظ حقيقة في المعنى المجازي "وبأنه يجب في الحقيقة استعماله" أي اللفظ "في الوضعي بلا قرينة" تفيده وهذا يوجبها في بعض الصور. "وقيل بل القسمة" للفظ باعتبار استعماله في المعنى "ثلاثية" وهي أنه إن استعمل في معنى خارج عما وضع له فمجاز، وإلا فإن استعمل في عين ما وضع له فحقيقة، وإلا فحقيقة قاصرة كما أشار إلى هذا "بإثبات الحقيقة القاصرة وهي ما" أي اللفظ المستعمل "في الجزء" أي جزء ما وضع له فإذا تقرر هذا "فالكرخي والرازي وكثير" بل الجمهور على أنها في الندب والإباحة "مجاز إذ ليسا" أي الندب والإباحة "جزأي الوجوب لمنافاته" أي الوجوب "فصلهما" أي الندب والإباحة كما يظهر على الأثر "وإنما بينهما" أي بين الوجوب وبين الندب والإباحة، والأحسن بينها قدر "مشترك هو الإذن" في الفعل ثم امتاز الوجوب بمع امتناع الترك، والندب بمع جواز الترك مرجوحا، والإباحة بمع جواز الترك مساويا "والقائل" بأن صيغة الأمر فيهما "حقيقة" يقول "الأمر في الإباحة إنما يدل على المشترك الإذن وهو" أي المشترك "الجزء" من الوجوب "فحقيقة قاصرة" أي فهو فيهما حقيقة قاصرة "وثبوت إرادة ما به المباينة" للوجوب أو جواز الترك مرجوحا ومساويا "وهو" أي ما به المباينة "فصلهما" أي الندب والإباحة إنما يدل عليه "بالقرينة لا بلفظ الأمر" أي صيغته "ومبناه" أي هذا الكلام "على أن الإباحة رفع الحرج عن الطرفين" أي الفعل والترك "وكذا الندب" رفع الحرج عن الطرفين "مع ترجيح الفعل، والوجوب" رفع الحرج "عن أحدهما" أي أحد الطرفين وهو الفعل "ومن ظن جزئيتهما" أي الندب والإباحة للوجوب "فبنى الحقيقة" أي فجعل(22/283)
كونه فيهما حقيقة قاصرة بناء "عليه" أي على كونها جزءا منه وهو صدر الشريعة "غلط لترك فصلهما" ولما كان حاصل تقريره كما في التلويح أن ليس معنى كون الأمر للندب أو الإباحة أنه يدل على جواز الفعل وجواز الترك مرجوحا أو مساويا حتى يكون المجموع مدلول اللفظ للقطع بأن الصيغة لطلب الفعل، ولا دلالة لها على جواز الترك أصلا بل معناه أنه يدل على الجزء الأول من الندب أو الإباحة، أعني جواز الفعل الذي هو بمنزلة الجنس لهما وللوجوب من غير دلالة على جواز الترك أو امتناعه وإنما يثبت جواز الترك بحكم الأصل إذ لا دليل على حرمة الترك، ولا خفاء في أن مجرد جواز الفعل جزء من الوجوب المركب من جواز الفعل مع امتناع الترك، فيكون استعمال الصيغة الموضوعة للوجوب في مجرد جواز الفعل من قبيل استعمال الكل في الجزء، ويكون معنى استعمالها في الإباحة والندب هو استعمالها في جزئهما الذي هو بمنزلة الجنس لهما ويثبت الفصل الذي هو جواز الترك بحكم الأصل لا بدلالة اللفظ ويثبت رجحان الفعل في الندب بواسطة القرينة. أشار المصنف إلى دفعه بقوله "ولا يخفى أن الدلالة على المعنى" الوضعي بتمامه "وعدمها" أي الدلالة عليه إما بأن لا يكون دالا عليه أصلا أو بأن لا يكون دالا على جزئه "لا دخل لها" والظاهر لهما أي للدلالة وعدمها(22/284)
ص -370-…"في كون اللفظ مجازا وعدمه" أي وعدم كون اللفظ مجازا "بل" الذي له دخل في كون اللفظ بالنسبة إلى غير المعنى الوضعي له مجازا "استعمال اللفظ فيه" أي في غير المعنى الوضعي له "وإرادته" أي غير المعنى الوضعي "به" أي باللفظ. قال المصنف: يعني كون اللفظ حقيقة مطلقة باستعماله في تمام معناه الوضعي، وكونه حقيقة قاصرة باستعماله في جزئه فقط، وكونه مجازا باستعماله فيما سوى ذلك من المعاني المناسبة للوضعي ولا دخل لدلالته في واحد من الأمور الثلاثة ولذا ثبتت دلالته على الوضعي، وينتفي عنه كونه حقيقة إذا لم يستعمل فيه بل في معنى خارج عنه فإنه حينئذ مجاز وله دلالة في تلك الحال على الحقيقي وليس حقيقة إذ لم يستعمل فيما دل عليه، وهذا لأن الدلالة على المعنى معلومة بوضع اللفظ له، فإذا وجدت العلة وجد المعلول وهو الدلالة على الوضعي فثبتت دلالته على الوضعي وهو مجاز لا حقيقة "ولا شك أنه" أي الأمر "استعمل في الإباحة والندب بالفرض فيكون مجازا وإن لم يدل الأمر حينئذ إلا على جزئه إطلاق الفعل" أي فإذا استعملت صيغة الأمر في الإباحة مثلا - التي هي رفع الحرج عن الطرفين - وجب أن يكون مجازا لا حقيقة قاصرة، وإن دل اللفظ في هذه الحالة على جزء الإباحة أعني رفع الحرج عن الفعل بسبب أنه جزء معناه الوضعي، وهو الوجوب بل وعلى جزئه الآخر وهو إثباته بالترك، إذ دلالته على الوضعي لا يسقط فدل تضمنا عليه لدلالته في حال استعماله في الإباحة على رفع الحرج عن الفعل وإثباته على الترك وإن لم يرد أحد الجزأين منه؛ لأنه لم يستعمل في هذا الجزء بخصوصه بل للمركب منه ومن رفع الحرج عن الترك الذي به يباين معناه الوضعي، ذكره المصنف أيضا ثم في التلويح فإن قلت: صرحوا باستعمال الأمر في الندب والإباحة وإرادتهما منه، ولا ضرورة في حمل كلامهم على أن المراد أنه يستعمل في جنس الندب والإباحة عدولا عن الظاهر، وما ذكر من الأمر لا يدل على جواز الترك(22/285)
أصلا وإن أراد بحسب الحقيقة فغير مفيد وإن أراد بحسب المجاز فممنوع. لم لا يجوز أن يستعمل اللفظ الموضوع لطلب الفعل جزما في طلب الفعل مع إجازة الترك والإذن فيه مرجوحا أو مساويا بجامع اشتراكهما في جواز الفعل والإذن فيه، قلت: هو كما صرحوا باستعمال الأسد في الإنسان الشجاع وإرادته منه، فإن ذلك من حيث إنه من أفراد الشجاع لا من حيث إن لفظ الأسد يدل على ذاتيات الإنسان كالناطق مثلا، فإذا كان الجامع هاهنا هو جواز الفعل والإذن فيه كان استعمال صيغة الأمر في الندب والإباحة من حيث إنهما من أفراد جواز الفعل والإذن، وتثبت خصوصية كونه مع جواز الترك أو بدونه بالقرينة كما أن الأسد يستعمل في الشجاع ويعلم كونه إنسانا بالقرينة، ا هـ.
وقد تعقب المصنف هذا بقوله "وكون استعماله" أي الأمر "فيها" أي الندب والإباحة "من حيث هما" أي الندب والإباحة "من أفراد الجامع" بينهما وبين الوجوب "وهو" أي الجامع "الإذن" في الفعل "كاستعمال الأسد في الرجل الشجاع من حيث هو" أي الرجل الشجاع "من أفراده" أي الأسد "ويعلم أنه" أي الأسد إذا استعمل في إنسان "إنسان بالقرينة" ك يلاعب بالأسنة "لا يصرف عنه" أي عن كون لفظ الأمر مستعملا في تمام ما وضع له من المعنى الذي هو(22/286)
ص -372-…"مدلولها" أي الصيغة "طلب حقيقة الفعل فقط، والمرة والتكرار خارجان" عن حقيقته فيجب أن يحصل الامتثال به في أيهما وجد ولا يتقيد بأحدهما "ودفع" هذا كما أفاده القاضي عضد الدين "بأنه استدلال بالنزاع" لأن المخالف يقول: هي للحقيقة المقيدة بالمرة أو التكرار "وبأنهما" أي واستدل له أيضا بأن المرة والتكرار "من صفاته" أي الفعل كالقليل والكثير "ولا دلالة للموصوف" بالصفات المتقابلة "على الصفة" المعينة منها فلا دلالة للأمر الدال على طلب الفعل عليهما "ودفع" هذا كما أفاده القاضي المذكور أيضا "بأنه إنما يقتضي انتفاء دلالة المادة أي المصدر على ذلك" أي المرة والتكرار "والكلام" في انتقاء الدلالة عليهما "في الصيغة" فلم لا يجوز أن تدل الصيغة على المرة والتكرار، وهو المتنازع فيه، واحتمال الصيغة لهما لا يمنع ظهور أحدهما والمدعى الدلالة بحسب الظهور لا النصوصية "قالوا" أي المكررون "تكرر" المطلوب "في النهي فعم" في الأزمان "فوجب" التكرار أيضا "في الأمر لأنهما" أي الأمر والنهي "طلب قلنا" هذا "قياس في اللغة لأنه في دلالة لفظ" وقد تقدم بطلانه "و" أجيب أيضا "بالفرق" بينهما "بأن النهي لتركه" أي الفعل "وتحققه" أي الترك "به" أي بالترك "في كل الأوقات، والأمر لا ينافيه" أي الفعل "ويتحقق" الفعل "بمرة ويأتي" في هذا أيضا "أنه محل النزاع" لأن كونه لمجرد إثباته الحاصل بمرة عين النزاع إذ هو عند المخالف لإثباته دائما. "وأما" الفرق بينهما كما في مختصر ابن الحاجب والبديع "بأن التكرار مانع من" فعل "غير المأمور به" لأن الأفعال كلها لا تجامع كل فعل "فيتعطل" ما سواه من المأمور والمصالح المهمات "بخلاف النهي" فإن التروك تجامع كل فعل، فقال المصنف: "فمدفوع بأن الكلام في مدلوله" أي لفظ الأمر "وليس" مدلوله "ملزوم الإرادة" للتكرار "فيجب انتفاؤها" أي إرادة التكرار "للمانع" منها "قالوا" أي المكررون أيضا: الأمر "نهي عن أضداده،(22/287)
وهو" أي النهي "دائمي" أي يمنع من المنهي عنه دائما "فيتكرر" الأمر "في المأمور" أي به، والوجه عدم حذفه ثم الظاهر فيتكرر المأمور به. "قلنا: تكرر" النهي "المضمون فرع تكرر" الأمر "المتضمن، فإثبات تكرره" أي تكرر الأمر المتضمن "به" أي بتكرر النهي المضمون "دور" لتوقف تكرر كل منهما على الآخر "وليس" هذا الجواب "بشيء" دافع لهذا الاستدلال "بل إذا كان" تكرر النهي المضمون "فرعه" أي تكرر الأمر المتضمن "وتحققنا ثبوته" أي تكرر النهي "استدللنا به" أي بتكرره "على أن الأصل" أي الأمر "كذلك" أي للتكرار "من قبيل" البرهان "الآني" هو الاستدلال بالأثر على المؤثر "بل" يلزم "للفرعية" أي لكون تكرار النهي فرع تكرار الأمر "إذا كان" الأمر "دائما كان" نهيا عن أضداده "دائما أو" كان الأمر "في" وقت "معين ففيه" أي الوقت المعين الأمر "نهي الضد" أي عن أضداده "أو" كان الأمر مطلقا ففي "وقت الفعل" للمأمور به يكون الأمر نهيا عن أضداده "المعلق" أي القائل الأمر المعلق على شرط أو صفة يدل على التكرار قال "تكرر" المأمور به "في نحو {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} فتكرر وجوب الاطهار بتكرر الجنابة. "قلنا: الشرط هنا علة فيتكرر" موجب الأمر "بتكرارها اتفاقا" ضرورة تكرر المعلول بتكرر علته "لا بالصفة وأما غيره" أي ما لا يكون علة "كإذا دخل الشهر فأعتق(22/288)
ص -373-…فخلاف" في كونه للتكرار "والحق النفي" أي نفي التكرار فيه "فإن قلت فكيف نفاه" أي تكرر الحكم بتكرار الوصف الذي هو علته "الحنفية في السارق والسارقة" {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} "فلم يقطعوا في" المرة "الثالثة" يد السارق اليسرى إذا كان قد قطع في الأولى يده اليمنى، وفي الثانية رجله اليسرى مع أن السرقة علة القطع "وجلدوا في الزاني بكرا أبدا" أي كلما زنى مع أن الزنا علة الجلد "فالجواب أما مانعو تخصيص العلة فلم يعلق" القطع عندهم "بعلة" هي السرقة "لأن عدم قطع يده في الثانية إجماعا نقض" لكونها علة لتخلف حكمها عنها "فوجب عدم الاعتبار" لها علة له "فبقي موجبه" أي النص "القطع مرة مع السرقة" بخلاف الجلد في الزنا فإنه علق بعلة هي الزنا فتكرر بتكرره. "والوجه العام" أي على القول بجواز تخصيص العلة وبعدم جوازه بين هذين "أنه" أي نص القطع "مؤول إذ حقيقته قطع اليدين بسرقة واحدة" وهي غير معمول بها إجماعا "بل صرف" النص "عنه" أي عن قطع اليدين "إلى واحدة هي اليمنى بالسنة" قلت: غير أن كون السنة مفيدة للاقتصار على واحدة كثير، وسنذكر بعضا منه، وأما كونها معينة لليمنى فلا يحضرني منها ما يفيد بمجرده تعين اليمنى ألبتة بل غاية ما حضرني منها أنه صلى الله عليه وسلم أتي بسارق فقطع يمينه كما أخرجه الطبراني وهو لا يفيد تعينها من حيث إنها يمنى بل إنما يفيد كون قطعها مخرجا عن العهد لكونها من صدقات اليد، من غير تعرض لعدم إجزاء قطع اليسرى، نعم إذا ضم إليه. ولم يرد عنه صلى الله عليه وسلم قطع اليسرى مع قيام اليمنى فحيث لم يقطع اليسرى حينئذ واليمنى أنفع؛ لأنه يتمكن بها من الأعمال وحدها ما لا يتمكن منه باليسرى، ومن عادته طلب الأيسر للأمة ما أمكن دل على تعين اليمنى للقطع لم يكن به بأس "وقراءة ابن مسعود" فاقطعوا أيمانهما على ما في غير موضع من تفسير البيضاوي، أو والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم على ما في تفسير(22/289)
الزجاج والكشاف، والقراءة الشاذة حجة على الصحيح "والإجماع" وفي هذا كفاية ولا عبرة بما نقل عن شذوذ من الاكتفاء بقطع الأصابع لأن بها البطش "فظهر" بهذه الأدلة "أن المراد" من النص "انقسام الآحاد على الآحاد أي كل سارق فاقطعوا يده اليمنى بموجب حمل المطلق" وهو أيديهما "عليه" أي المقيد وهو اليمنى لما ذكرنا على أنا نقول "فلو فرضت" السرقة "علة" للقطع "تعذر" القطع في الثانية "لفوت محل الحكم" الذي هو القطع وهو اليمنى "في الثانية" لقطعها في الأولى "بخلاف الجلد" فإنه يتكرر بالزنا لعدم فوت محله وهو البدن بالجلد السابق، ثم لا يقال لما تعذر في الثانية أقيمت الرجل اليسرى مقامها فيه لأنا نقول لا نسلم ذلك لأنه لا مدخل للرأي فيه. "وقطع الرجل في الثانية بالسنة ابتداء" فقد روى الشافعي والطبراني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا سرق السارق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله" إلى غير ذلك وبالإجماع، وقال "الواقف" لو ثبت كونه للمرة أو للتكرار "فأما بالآحاد" وهي إنما تفيد الظن - والمسألة علمية - أو بالتواتر وهو يمنع الخلاف والعقل الصرف لا مدخل له فيه فلزم الوقف "وتقدم مثله" أي مثل هذا في مسألة صيغة الأمر خاص في الوجوب للواقف في كونها له أو لغيره وجوابه "وسؤال" الأقرع بن حابس النبي صلى الله عليه وسلم عن الحج "ألعامنا هذا أم للأبد أورده فخر الإسلام" دليلا(22/290)
ص -374-…"لاحتمال التكرار"، فقال فلو لم يحتمل لما أشكل عليه "وهو" أي وكونه دليلا "للوقف بالمعنى الثاني" وهو لا يدري مراد المتكلم به أهو المرة أم التكرار "أظهر" من كونه دليلا لاحتمال التكرار لأن كونه ظاهرا للمرة لا يستلزم كون السؤال في محل الحاجة لجواز العمل به من غير حاجة إلى الاستخبار عن الاحتمال المرجوح بخلاف ما إذا كان مراد المتكلم خفيا على السامع فإن سؤاله في محل الحاجة وهو الأصل فيه والأصل الحمل على الأصل "وإيراده" دليلا "لإيجاب التكرار وجه بعلمه" أي السائل "بدفع الحرج" في الدين وفي حمل الأمر بالحج على التكرار حرج عظيم فأشكل عليه فسأل قال المصنف "وإنما يصحح" هذا التوجيه "السؤال" على تقدير كون الأمر للتكرار، إذ يقال: إنه حينئذ لم يكن محتاجا إليه فيعتذر بهذا "لا كونه دليلا لوجوب التكرار" لاستغنائه حينئذ عن السؤال ظاهرا، وأما قوله "أو احتماله" ففيه نظر لأن الاستفسار قد يكون للقطع بالمرجوح لظنه بقرينة عليه "ثم الجواب" للجمهور عن هذا السؤال "أن العلم بتكرير" الحكم "المتعلق بسبب متكرر ثابت فجاز كونه" أي سؤال السائل "لإشكال أنه" أي سبب الحج "الوقت فيتكرر" الحج لتكرر الوقت "أو" أن سببه "البيت فلا" يتكرر لا لكون الأمر يوجب التكرار أو يحتمله أو للوقف في مقتضاه، والاحتمال مسقط للاستدلال ثم الحديث بهذا اللفظ لم أقف عليه، والذي في صحيح مسلم وسنن النسائي عن أبي هريرة قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا" فقال رجل أكل عام يا رسول الله فسكت حتى قالها ثلاثا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم "، نعم كون السائل الأقرع بن حابس هو كذلك على ما في رواية ابن عباس عند أحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجه، ثم وجه الاستدلال به أن المعنى لو قلت نعم لتقرر الوجوب في كل عام على ما هو المستفاد من الأمر، وأجيب بالمنع بل معناه لصار(22/291)
الوقت سببا لأنه صلى الله عليه وسلم كان صاحب الشرع وإليه نصب الشرائع. هذا وفي التلويح وفي أكثر الكتب أن السائل هو سراقة، فقال في حجة الوداع ألعامنا هذا أم للأبد ولا تعلق له بالأمر ا هـ. والله - تعالى - أعلم بذلك والذي في مسند أبي حنيفة والآثار لمحمد بن الحسن عن جابر قال: لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بما أمر في حجة الوداع قال سراقة بن مالك يا نبي الله أخبرنا عن عمرتنا هذه ألنا خاصة أم هي للأبد قال هي للأبد "وبنى بعض الحنفية" أي كثير منهم كفخر الإسلام وصدر الشريعة "على التكرار وعدمه واحتماله طلقي نفسك أو طلقها يملك" المأمور أن يطلق "أكثر من الواحدة" جملة ومتفرقة "بلا نية على الأول" أي التكرار، أما ما لو نوى واحدة أو ثنتين ففي الكشف والتحقيق ينبغي أن يقتصر على ما نوى عندهم، لأنه وإن أوجب التكرار عندهم فقد يمنع عنه بدليل، والنية دليل، انتهى. وتعقب بأن المنع عنه مسلم إذا لم يمنع منه مانع، وفيما فيه تخفيف وجد المانع فلا يصدق قضاء في صرف اللفظ عن موجبه، وهو الثلاث للتخفيف "وبها" أي ويملك أكثر من الواحدة بالنية "على الثالث" أي احتمال التكرار مطابقا لنيته من اثنين وثلاث فإن لم يكن له نية أو نوى واحدة فواحدة لا غير "وعلى الثاني" أي عدم احتماله التكرار "وهو" أي الثاني "قولهم" أي الحنفية(22/292)
ص -375-…مسألة
الفور" للأمر وهو امتثال المأمور به عقبه "ضروري للقائل بالتكرار" له لأنه من لازم(22/293)
ص -376-…استغراق الأوقاف بالفعل المأمور به مرة بعد أخرى "وأما غيره" أي القائل بالتكرار "فإما" أن المأمور به "مقيد بوقت يفوت الأداء بفوته" أي الوقت، يأتي الكلام فيه مستوفى في الفصل الثالث في المحكوم فيه "أو لا" أي أو غير مقيد بوقت يفوت الأداء بفوته، وإن كان واقعا في وقت لا محالة "كالأمر بالكفارات والقضاء" للصوم والصلاة "فالثاني" أي غير المقيد المذكور "لمجرد الطلب فيجوز التأخير" على وجه لا يفوت المأمور به أصلا كما يجوز البدار به، وهو الصحيح عند الحنفية، وعزي إلى الشافعي وأصحابه، واختاره الرازي والآمدي وابن الحاجب والبيضاوي ,. وقال ابن برهان: لم ينقل عن الشافعي وأبي حنيفة نص، وإنما فروعهما تدل على ذلك ا هـ. وقد يعبر بالتراخي، والمراد به أنه جائز كالبدار لا أن البدار لا يجوز فإنه خلاف الإجماع على ما نقله غير واحد "وقيل يوجب الفور أول أوقات الإمكان" للفعل المأمور به وهو معزو إلى المالكية والحنابلة وبعض الحنفية وقال "القاضي" الأمر يوجب "إما إياه" أي فعل المأمور به على الفور "أو العزم" عليه في ثاني الحال. "وتوقف إمام الحرمين في أنه لغة للفور أم لا فيجوز التراخي ولا يحتمل وجوبه" أي التراخي "فيمتثل بكل" من الفور والتراخي "مع التوقف في إثمه بالتراخي، وقيل بالوقف في الامتثال" إن بادر به للتوقف فيه كما يتوقف في الفور "لاحتمال وجوب التراخي، لنا" على المختار وهو أنه لمجرد الطلب أنه "لا يزيد دلالة على مجرد الطلب" من فور أو تراخ لا بحسب المادة ولا بحسب الصيغة "بالوجه السابق" في السابقة، وهو إطباق العربية على أن هيئة الأمر لا دلالة لها إلا على الطلب في خصوص زمان إلى آخره "وكونه" دالا "على أحدهما" أي الفور أو التراخي "خارج" عن مدلوله "يفهم بالقرينة ك اسقني" فإنه يدل على الفور للعلم العادي بأن طلب السقي يكون عند الحاجة إليه عاجلا "وافعل بعد يوم" فإنه يدل على التراخي بقوله بعد يوم "قالوا" أي(22/294)
القائلون بالفور. أولا "كل مخبر" بكلام خبري ك زيد قائم "ومنشئ ك بعت وطلق يقصد الحاضر" عند الإطلاق والتجرد من القرائن حتى يكون موجدا للبيع والطلاق بما ذكره "فكذا الأمر" والجامع بينه وبين الخبر كون كل منهما من أقسام الكلام، وبينه وبين سائر الإنشاءات - التي يقصد بها الحاضر - كون كل منهما إنشاء. "قلنا" هذا "قياس في اللغة" لأنه قياس الأمر في إفادته الفور على غيره من الخبر والإنشاء وهو مع عدم اختلاف حكمه غير جائز فما الظن "مع اختلاف حكمه فإنه في الأصل تعين الحاضر ويمتنع في الأمر غير الاستقبال في المطلوب" لأن الحاصل لا يطلب "والحاضر الطلب وليس الكلام فيه" أي في الطلب بل في المطلوب "فإن كان" المطلوب إيجاده مطلوبا "أول زمان يليه" أي الطلب "فالفور أو" إن كان المطلوب إيجاده مطلوبا في زمان هو "ما بعده" أي ما بعد أول زمان يلي الطلب "فوجوب التراخي أو" إن كان المطلوب إيجاده مطلوبا "مطلقا فما يعينه" المأمور من الوقت "لا على أنه" أي التراخي "مدلول الصيغة قالوا" ثانيا "النهي يفيد الفور فكذا الأمر" لأنه طلب مثله. "قلنا" قياس في اللغة وأيضا الفور "في النهي ضروري بخلاف الأمر، والتحقيق أن تحقيق المطلوب به" أي بالنهي "وهو الامتثال" إنما يكون "بالفور" لأنه كما تقدم لترك المنهي عنه، وتحقق تركه(22/295)
ص -377-…إنما يكون بتركه في كل الأوقات "لا أنه" أي النهي "يفيده" أي الفور. "وقولنا ضروري فيه أي في امتثاله قالوا" ثالثا "الأمر نهي عن الأضداد وهو" أي النهي "للفور فيلزم فعل المأمور به على الفور ليتحقق امتثال النهي عنها" أي أضداد المأمور به "وتقدم" الآن "نحوه وما هو التحقيق" فيه وهو أن الامتثال بالفور لا أن النهي يفيده "قالوا" رابعا "ذم" الله - تعالى - إبليس "على عدم الفور" بقوله: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12] حيث قال: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة: 340] فدل على أنه للفور، وإلا لأجاب بأنك ما أمرتني بالبدار، وسوف أسجد "قلنا" هذا "مقيد بوقت" أي وقت تسويته ونفخ الروح فيه، وقد "فوته" أي إبليس الامتثال "عنه بدليل {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} لأن العامل في إذا فقعوا فالتقدير فقعوا له ساجدين وقت تسويتي إياه ونفخي فيه الروح، فامتناع تأخير السجود عن زمان التسوية والنفخ مستفاد من امتناع تأخير المظروف عن ظرفه الزماني لا من مجرد الأمر "قالوا" خامسا "لو جاز التأخير لوجب إلى" وقت "معين أو إلى آخر أزمنة الإمكان والأول" أي وجوب التأخير إلى وقت معين "منتف" لأنه إن كان مذكورا فالفرض خلافه لأن الكلام في المطلق عن الوقت لا في المقيد به، وإن لم يكن مذكورا فلا إشعار للأمر به ولا دليل من خارج عليه فإن قيل بل عليه دليل من خارج، وهو غلبة الظن بفواته على تقدير تأخيره عن ذلك الوقت لأنا لا نعني بالوقت المذكور إلا ذلك. أجيب بالمنع فإنه لا بد للظن من أمارة وليست إلا كبر السن أو المرض الشديد ونحوهما وهي مضطربة إذ كم من شاب يموت فجأة وشيخ ومريض يعيش مدة "والثاني" أي وجوب تأخيره إلى آخر أزمنة الإمكان تكليف "ما لا يطاق" لكونه غير معين للمكلف فيكون مكلفا بالفعل في وقت يجهله، وبالمنع عن تأخيره عن وقت لا(22/296)
يعلمه وهو محال "أجيب بالنقض" الإجمالي "بجواز التصريح بخلافه" بأن يقول الشارع افعل ولك التأخير فإن هذا جائز إجماعا وما ذكر من الدليل جار فيه "و" بالنقض التفصيلي "بأنه إنما يلزم" تكليف ما لا يطاق "بإيجاب التأخير إليه" أي آخر أزمنة الإمكان. "أما جوازه" أي التأخير "إلى وقت يعينه المكلف فلا" يلزم منه تكليف ما لا يطاق "لتمكنه من الامتثال" بالبدار في أول أزمنة الإمكان "قالوا" سادسا "وجبت المسارعة" إلى الفعل المأمور به - - لقوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133] {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148] للاتفاق على أن المراد المسارعة إلى سبب المغفرة لأن نفس المغفرة ليست في قدرة العبد، فأطلق المسبب وأريد السبب، ومن سببها فعل المأمور به كما أنه أيضا من الخيرات فتجب المسارعة والمسابقة إليه، وإنما يتحققان بفعله على الفور. "الجواب جاز" أن يكون كل من هاتين الآيتين مفيدة لإيجاب الفور "تأكيدا لإيجابه بالصيغة" كما قالوا "وتأسيسا" أي وجاز أن يكون كل منهما مفيدة لفائدة جديدة، وهي وجوب الفور بناء على أن الصيغة غير متعرضة لوجوبه كما قلنا "فلا يفيد" كل منهما "أنه" أي الفور "موجبها" أي الصيغة عينا كما هو مطلوبهم لعدم انتهاض الاستدلال على المطلوب مع احتمال خلافه "فكيف والتأسيس مقدم" على التأكيد إذا تعارضا فيترجح أن الصيغة غير دالة عليه "فانقلب"(22/297)
ص -378-…دليلهم عليهم "إذ أفاد" دليلهم "حينئذ نفيه" أي الفور؛ لأن كلا من المسارعة والاستباق مباشرة الفعل في وقت مع جواز الإتيان به في غيره. "القاضي ثبت حكم خصال الكفارة في الفعل والعزم وهو" أي حكمها "العصيان بتركهما" أي الفعل والعزم "وعدمه" أي العصيان "بأحدهما" أي بالفعل أو العزم "فكان" الحكم المذكور "مقتضاه" أي الأمر. "والجواب: الجزم بأن الطاعة" إنما هي "بالفعل بخصوصه، فوجوب العزم ليس مقتضاه" أي الأمر "على التخيير" بينه وبين الفعل "بل هو" أي العزم "على" فعل "ما ثبت وجوبه من أحكام الإيمان" يثبت مع ثبوت الإيمان لا اختصاص له بهذه الصيغة ولا بهذا الفعل. "الإمام الطلب محقق، والشك في جواز التأخير فوجب الفور" ليخرج عن العهدة بيقين "واعترض" على هذا بأنه "لا يلائم ما تقدم له" أي الإمام "من التوقف في كونه للفور، وأيضا وجوب المبادرة ينافي قوله" أي الإمام "أقطع بأنه مهما أتى به موقع بحكم الصيغة للمطلوب" ذكره التفتازاني قال المصنف "وأنت إذا وصلت قوله" أي الإمام "للمطلوب ينافي قوله: وإنما التوقف في أنه لو أخر هل يأثم بالتأخير مع أنه ممتثل لأصل المطلوب لم تقف عن الجزم بالمطابقة، فإن وجوب الفور بعد ما قال ليس إلا احتياطا لاحتمال الفور لا أنه مقتضى الصيغة، وأن الشك في جواز التأخير بالشك في الفور" أي بسببه؛ لأن الشك في أحد الضدين شك في الآخر بالضرورة "ثم كونه ممتثلا بحكم الصيغة ينافي الإثم إلا أن يرادا ثم ترك الاحتياط" وبعد تسليم أن الفور احتياط فكون تركه مؤثما محل نظر "نعم لو قال" الإمام "القضاء بالصيغة لا بسبب جديد أمكن" عدم المنافاة بين الامتثال بحكم الصيغة والتأثيم بالتأخير إلى ما بعد زمن الفور لجواز جعله ممتثلا بحكم الصيغة - من حيث القضاء - وآثما بتركه الامتثال بحكم الصيغة - من حيث الأداء -، هذا ما ظهر لي في توجيه هذه الزيادة وعليه من التعقب. أولا أن المصطلح عند الشافعية أن العبادة إذا(22/298)
لم يكن لها وقت محدود الطرفين - كسجدة التلاوة والصلاة المطلقة - لا توصف بأداء ولا قضاء. وثانيا أن المشهور عن عامة الشافعية أن القضاء بسبب جديد. وثالثا أن نفس الإمام قد قال بعد ما تقدم: فأما وضع التوقف في أن المؤخر هل يكون كمن أوقع ما طلب منه وراء الوقت الذي يتأقت به الأمر حتى لا يكون ممتثلا أصلا؟ فهذا بعيد لأن الصيغة مرسلة، ولا اختصاص لها بزمان فلم تكن حاجة إلى هذه الزيادة. "وأجيب لا شك" في جواز التأخير "مع دليلنا" المفيد له فوجب العمل به ثم هذا تنبيه كان الأولى ذكره في ذيل مسألة صيغة الأمر خاص في الوجوب
"قيل: مسألة الأمر للوجوب شرعية لأن محمولها الوجوب وهو شرعي وقيل لغوية وهو ظاهر الآمدي وأتباعه"، والصحيح عند أبي إسحاق الشيرازي "إذ كرروا قولهم في الأجوبة: قياس في اللغة وإثبات اللغة بلوازم الماهية وهو" أي كونها لغوية "الوجه إذ لا خلل" في ذلك، وإن كان محمولها الوجوب "فإن الإيجاب لغة الإثبات والإلزام، وإيجابه - سبحانه - ليس إلا إلزامه، وإثباته على المخاطبين بطلبه الحتم فهو" أي الوجوب الشرعي "من أفراد اللغوي" فإن قيل بل ينبغي أن تكون شرعية لأنه مأخوذ في تعريف الوجوب استحقاق العقاب بالترك وهو إنما يعرف بالشرع فالجواب المنع "واستحقاقه العقاب بالترك ليس جزء المفهوم" للوجوب(22/299)
ص -379-…"بل" لازم "مقارن بخارج عقلي أو عادي لأمر كل من له ولاية الإلزام وهو" أي الخارج المذكور "حسن عقاب مخالفه" أي أمر من له ولاية الإلزام "وتعريف الوجوب طلب" لفعل "ينتهض تركه سببا للعقاب" كما ذكره غير واحد "تجوز" بمطلق الوجوب "لإيجابه - تعالى - أو" لإيجاب "من له ولاية الإلزام بقرينة ينتهض إلى آخره، فيصدق إيجابه - تعالى - فردا من مطلقه" أي الوجوب اللغوي "وظهر أن الاستحقاق" للعقاب بالترك "ليس لازم الترك" مطلقا "بل" هو لازم "لصنف منه" أي من الوجوب "لتحقق الأمر ممن لا ولاية له مفيدا للإيجاب فيتحقق هو" أي الوجوب فيه "ولا استحقاق" للعقاب "بتركه" لأنه "بلا ولاية" للآمر عليه.
مسألة(22/300)
"الآمر" لشخص "بالأمر" لغيره "بالشيء ليس آمرا به" أي بالشيء "لذلك المأمور، وإلا" لو كان آمرا به لذلك "كأن" مر عبدك ببيع ثوبي "تعديا" على المخاطب بالتصرف في عبد بغير إذنه "وناقض قولك للعبد لا تبعه" لنهيه عن بيع ما أمره ببيعه. قالوا: واللازم منتف فيهما قال السبكي: ولقائل أن يقول على الأول إنما يكون متعديا لو كان أمره لعبد الغير غير لازم لأمر السيد لعبده بذلك لكنه لازم له هنا لدلالة "مر عبدك بكذا" على أمر السيد بأمر عبده بذلك وعلى أمره هو العبد بذلك وهذا لازم للأول بمعنى أن أمر القائل للعبد بذلك متوقف على أمر السيد إياه به لازم له، وحينئذ لا يكون أمره للعبد تعديا لأنه موافق لأمر السيد له بذلك فهو آمر بما أمره به سيده. سلمناه لكن لا نسلم أن التعدي لأجل أن الصيغة لم تقتضه بل لوجود المانع من ذلك - وهو التصرف في ملك الغير من غير سلطان عليه - وهذا المانع مفقود في أوامر الشرع لوجود سلطان التكليف له علينا فلا تعدي حينئذ. وعلى الثاني إنما يلزم التناقض لو كان اللازم مستلزما للإرادة، وجاز أن يكون أحد الأمرين غير مراد فلا تناقض، انتهى. وفيه نظر لأنه ليس هنا تدافع بين أمرين بل بين أمر ونهي فالأولى قول المصنف "ولا يخفى منع بطلان" اللازم "الثاني" الذي هو التناقض "إذ لا يراد بالمناقضة هنا إلا منعه" أي المأمور من البيع "بعد طلبه" أي البيع "منه" أي المأمور به "وهو" أي منعه منه بعد طلبه منه "نسخ" لطلبه هذا هو المختار وقيل أمر به. "قالوا فهم ذلك من أمر الله - تعالى - رسوله بأن يأمرنا" فإنه يفهم منه أن الآمر هو الله - تعالى - "و" أمر "الملك وزيره" بأن يأمر فلانا بكذا فإنه يفهم أن الآمر الملك. "أجيب بأنه" أي فهم ذلك في كليهما "من قرينة أنه" أي المأمور أولا "رسول" ومبلغ عن الله كما في الأول، وعن الملك كما في الثاني "لا من لفظ الأمر المتعلق به" أي بالمأمور به ثانيا، ومحل النزاع إنما هو هذا ثم قال(22/301)
السبكي: ومحل النزاع قول القائل: مر فلانا بكذا، أما لو قال: قل لفلان افعل كذا فالأول آمر والثاني مبلغ بلا نزاع، وصرح به ابن الحاجب في المنتهى وسوى التفتازاني بينهما في الإرادة بموضوع المسألة، ثم قال وقد سبق إلى بعض الأوهام أن المراد الأول فقط، يعني ما كان بلفظ الأمر فهذا يشير إلى أن التسوية بينهما هو الثبت وهو الأشبه، والله سبحانه أعلم.(22/302)
ص -380-…مسألة
"إذا تعاقب أمران" غير متعاطفين "بمتماثلين في" مأمور به "قابل للتكرار" ك صل ركعتين صل ركعتين "بخلاف" أمرين متعاقبين غير متعاطفين بمتماثلين في مأمور به غير قابل للتكرار، نحو صم اليوم "صم اليوم ولا صارف عنه" أي التكرار "من تعريف" للمأمور به بعد ذكره منكرا "ك صل الركعتين" بعد صل ركعتين "أو" من "عادة ك اسقني ماء" اسقني ماء "فإنه" أي كون الثاني مؤكدا الأول في هذه الصورة "اتفاق" أما في الأول فظاهر لعدم القابلية للتكرار وأما في الثانية فلأن الأصل الأكثري أن النكرة إذا أعيدت معرفة كانت عين الأولى، وأما في الثالثة فلأن دفع الحاجة بمرة واحدة غالبا يمنع تكرار السقي، وسيعلم فائدة ما بقي من القيود "قيل بالوقف" في كونه تأسيسا أو تأكيدا، وهو لأبي بكر الصيرفي وأبي الحسين البصري. "وقيل: تأكيد" وهو لبعض الشافعية والجبائي "وقيل: تأسيس" وهو للأكثرين على ما ذكر السبكي ولعبد الجبار على ما في البديع "لأنه أفود، ووضع الكلام للإفادة ولأنه الأصل، والأول" وهو لأنه أفود ووضع الكلام للإفادة "يغني عن هذا" أي لأنه الأصل وهو ظاهر "والكل" أي وكل منهما "لا يقاوم الأكثرية" للتكرير في التأكيد لأنه كثر التكرير في التأكيد ما لم يكثر في التأسيس فيحمل على التأكيد حملا للفرد على الأعم الأغلب "ومعارض بالبراءة الأصلية" أي والتأسيس معارض بما في التأكيد من الموافقة للأصل، الذي هو براءة ذمة المكلف من تعلق التكلف بها مرة ثانية إذ لا ضرورة تدعو إليه، والأصل عدمه "بعد منع الأصالة" أي كون الأصل في الكلام الإفادة "في التكرار" إنما ذاك في غير التكرار بشهادة الكثرة "فيترجح" التأكيد "وإذ منع كون التأسيس أكثر في محل النزاع" وهو توالي أمرين بمتماثلين في قابل للتكرار لا صارف عنه "سقط ما قيل" أي ما قاله الواقف "تعارض الترجيح" في التأسيس والتأكيد "فالوقف" لأنه ظهر أرجحية التأكيد عليه فلا وقف هذا في التعاقب بلا عطف(22/303)
"وفي العطف ك وصل ركعتين" بعد صل ركعتين "يعمل بهما" أي الأمرين لأن التأكيد بواو العطف لم يعهد أو يقل قال القرافي واختاره القاضي أبو بكر وهو الذي يجيء على قول أصحابنا، وقيل: يكون الثاني عين الأول، انتهى. والأول هو الوجه "إلا إن ترجح التأكيد" في المعطوف بمرجح عادي من تعريف أو غيره ولا معارض يمنع منه "فيه" أي فيعمل بالتأكيد "أو" يوجد "التعادل" بين تراجيح كونه تأسيسا وتأكيدا "فبمقتضى خارج" أي فالعمل بمقتضى خارج عنهما إن وجد، وإلا فالوقف ك اسقني ماء، واسقني الماء؛ لأن العادة والتعريف في مقابلة العطف والتأسيس، فإن قيل بل يترجح التأسيس لما فيه من الاحتياط لاحتمال الوجوب مرة ثانية، أجيب: قد يكون الاحتياط في الحمل على التأكيد لاحتمال الحرمة في المرة الثانية، هذا كله في الأمرين بمتماثلين فإن كانا مختلفين عمل بهما اتفاقا متعاطفين كانا ك صم وصل أو غير متعاطفين ك صم صل ذكره في البديع وغيره، لكن ذكر القرافي أن الثاني إذا كان ضده يشترط فيه أن يكون في وقتين، نحو أكرم زيدا وأهنه فإن اتحد الوقت حمل على التخيير ولا يحمل على النسخ لأن من شرطه التراخي حتى يستقر الأمر الأول ويقع التكليف والامتحان(22/304)
ص -381-…به ويكون الواو حينئذ بمعنى أو حتى يحصل التخيير. وفي المحصول: فإن كان أحدهما عاما والآخر خاصا، نحو صم كل يوم صم يوم الجمعة فإن كان الثاني غير معطوف كان تأكيدا، وإن كان معطوفا فقال بعضهم: لا يكون داخلا تحت الكلام الأول ليصح العطف، والأشبه الوقف للتعارض بين ظاهر العموم وظاهر العطف، وقال القاضي عبد الوهاب: والصحيح أن ذلك محمول على ما يسبق للوهم عند السماع من التفخيم والتعظيم للاسم المذكور اهتماما به بذكره ثانيا على تقدير كونه مؤخرا، وبذكره أولا على تقدير البداءة به، ثم هذا كله في المتعاقبين فإن تراخى أحدهما عن الآخر عمل بها، سواء تماثلا أو اختلفا، وسواء كان الثاني معطوفا أو غير معطوف والله سبحانه أعلم.
مسألة(22/305)
"اختلف القائلون بالنفسي فاختيار الإمام والغزالي وابن الحاجب أن الأمر بالشيء فورا ليس نهيا عن ضده" أي ذلك الشيء "ولا يقتضيه" أي النهي عن ضده "عقلا، والمنسوب إلى العامة من الشافعية والحنفية والمحدثين أنه نهي عنه إن كان" الضد "واحدا" فالأمر بالإيمان نهي عن الكفر "وإلا" فإن كان له أضداد "فعن الكل" أي فهو ينهى عن كلها فالأمر بالقيام نهي عن القعود والاضطجاع والسجود وغيرها، ذكره صاحب الكشف وغيره. "وقيل" نهي "عن واحد غير عين" من أضداده "وهو بعيد" ظاهر البعد "وإن النهي أمر بالضد المتحد" فالنهي عن الكفر أمر بالإيمان "وإلا" فإن كان له أضداد "فقيل" أي قال بعض الحنفية والمحدثين وهو أمر "بالكل" أي بأضداده كلها "وفيه بعد" يظهر مما سيأتي. والعامة: من الحنفية والشافعية والمحدثين هو أمر "بواحد غير عين" من أضداده "فالقاضي أبو بكر" الباقلاني قال "أولا كذلك" أي الأمر بالشيء نهي عن ضده، والنهي عن الشيء أمر بضده "وآخرا يتضمنان" أي يتضمن الأمر بالشيء النهي عن ضده، والنهي عن الشيء الأمر بضده "ومنهم من اقتصر على الأمر" أي قال الأمر بالشيء نهي عن ضده، وسكت عن النهي وهو معزو إلى أبي الحسن الأشعري ومتابعيه "وعمم" الأمر في أنه نهي عن الضد "في الإيجابي والندبي فهما" أي الأمر الإيجابي والأمر الندبي "نهيا تحريم وكراهة في الضد" أي فالأمر الإيجابي نهي تحريمي عن الضد، والأمر الندبي نهي تنزيهي عن الضد "ومنهم من خص أمر الوجوب" فجعله نهيا تحريميا عن الضد دون الندب "واتفق المعتزلة لنفيهم" الكلام "النفسي على نفي العينية فيهما" أي على أن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده، ولا بالعكس لعدم إمكان ذلك فيهما لفظا.(22/306)
"واختلفوا هل يوجب كل من الصيغتين" أي صيغتي الأمر والنهي "حكما في الضد؟ فأبو هاشم وأتباعه لا بل" الضد "مسكوت" عنه "وأبو الحسين وعبد الجبار" الأمر "يوجب حرمته" أي الضد "وعبارة" طائفة "أخرى" الأمر "يدل عليها" أي حرمة ضده "و" عبارة طائفة "أخرى" الأمر "يقتضيها" أي حرمة ضده. والحاصل أن حرمة الضد لما لم تكن عندهم من موجبات صيغة الأمر فرارا من أن يكون الأمر نهيا عن ضده تنوعت أشارتهم إلى ذلك على ما(22/307)
ص -382-…قالوا، فمن قال يوجب أشار إلى أن حرمة الضد تثبت ضرورة تحقق حكم الأمر كالنكاح أوجب الحل - في حق الزوج بصيغته - والحرمة في حق الغير بحكمه دون صيغته، ومن قال يدل أشار إلى أنها تثبت بطريق الدلالة لأن الصيغة تدل على الحرمة، وإن لم تكن الحرمة من موجباتها، كالنهي عن التأفيف يدل على حرمة الضرب، وإن لم تكن حرمته من موجبات لفظ التأفيف، ومن قال يقتضي أشار إلى أنها تثبت بطريق الضرورة المنسوبة إلى غير لفظ الأمر لأن المقتضى يثبت زيادة على اللفظ بطريق الضرورة، ولا يخفى على المتأمل ما فيه "وفخر الإسلام والقاضي أبو زيد وشمس الأئمة" السرخسي وصدر الإسلام "وأتباعهم" من المتأخرين الأمر "يقتضي كراهة الضد، ولو كان" الأمر "إيجابا والنهي" يقتضي "كونه" أي الضد "سنة مؤكدة، ولو" كان النهي "تحريما، وحرر أن المسألة في أمر الفور لا التراخي" ذكره شمس الأئمة وصدر الإسلام وصاحب القواطع وغيرهم "وفي الضد" الوجودي "المستلزم للترك، لا الترك" ذكره الشيخ سراج الدين الهندي والسبكي وغيرهما ثم قالوا "وليس النزاع في لفظهما" أي الأمر والنهي بأن يطلق لفظ أحدهما على الآخر للقطع بأن صيغة الأمر افعل ونحوها، وصيغة النهي لا تفعل "ولا المفهومين" أي وليس النزاع في أن مفهوم أحدهما - وهو الصيغة التي هي كذا - عين مفهوم الآخر أو في ضمنه "للتغاير" أي للقطع بأن مفهوم كل منهما غير مفهوم الآخر "بل" النزاع "في أن طلب الفعل - الذي هو الأمر - عين طلب ترك ضده الذي هو النهي" فالجمهور: نعم فالمتعلق واحد والمتعلق به شيئان متلازمان، فهو عندهم كالعلم المتعلق بمعلومين متلازمين، فكما يستحيل أن يتحقق العلم بأحدهما ويجهل الآخر يستحيل أن يتحقق الاقتضاء النفسي لفعل دون اقتضائه لترك ضده، والقاضي آخرا: لا، إلا أنه يثني المتعلق والمتعلق به جميعا فيرى أن الأمر النفسي يقارنه نهي نفسي أيضا فيكون وجود القول النفسي - الذي هو اقتضاء القيام ويعبر عنه(22/308)
ب قم - متضمنا وجود قول آخر في النفس يعبر عنه بلا تقعد ويكون القول المعبر عنه ب قم متضمنا للقول الثاني ومقارنه حتى لا يوجد منفردا عنه ويجري مجرى الجوهر والعرض من حيث إنه لا يمكن انفصالهما. والإمام والغزالي ومن وافقهما لا أيضا، إلا أنهم يوحدون المتعلق والمتعلق به هذا، وذهب الغزالي أيضا إلى أن غيرية أحدهما للآخر إنما هي في غير كلام الله - تعالى - فقال طلب القيام هل هو بعينه طلب ترك القعود وهذا لا يمكن فرضه في حق الله - تعالى - فإن كلامه واحد، وهو أمر ونهي ووعد ووعيد، فلا تتطرق الغيرية إليه فليفرض في المخلوق وهو أن طلبه للحركة هل هو بعينه كراهة السكون وطلب لتركه، ا هـ. ووافقه على هذا أبو نصر القشيري وأجيب بأنه لا شك في أنه في ذاته واحد ولكنه متعدد باعتبار المتعلقات، وكلامنا في الغيرية بهذا المعنى ثم قد علم من هذا أيضا أن النزاع في أن النهي عن الشيء أمر بضده أو لا إنما هو في أن طلب الكف عن الشيء الذي هو النهي هل هو عين طلب فعل ضده الذي هو الأمر أم لا، فقيل نعم اتحد الضد أم تعدد وقيل بل أمر بالمتحد، وإلا فبواحد غير عين وقيل لا ولكن يتضمنه، ولعله إنما لم يذكره لأن ما ذكر يرشد إليه "وقول فخر الإسلام ومن معه" الأمر بالشيء يقتضي كراهة ضده،(22/309)
ص -383-…والنهي يقتضي كون ضده سنة مؤكدة "لا يستلزم اللفظي" أي كون المراد بالأمر الأمر اللفظي وبالنهي النهي اللفظي "بل هو" أي هذا القول "كالتضمن في قول القاضي آخرا" فإنه أفاد أنه اختار هذا بناء على أن كلا من الأمر والنهي لما كان ثابتا في الآخر ضرورة لا مقصودا، وكان الثابت بغيره ضرورة لا يساوي بنفسه لأن الأول ثابت بقدر ما ترتفع به الضرورة، والثاني ثابت من كل وجه سماه اقتضاء، ثم قال هو وغيره: وليس المراد بالاقتضاء هنا المصطلح - وهو جعل غير المنطوق منطوقا لتصحيح المنطوق إذ لا توقف لصحة المنطوق عليه - بل أنه ثابت بطريق الضرورة غير مقصود، فسمي به لشبهه به من حيث الثبوت ضرورة، ومن ثمة كان موجب الأمر والنهي هنا بقدر ما تندفع به الضرورة وهو الكراهة والترغيب كما يجعل المقتضى مذكورا بقدر ما تندفع به الضرورة وهو صحة الكلام وهذا في المعنى ما ذهب إليه القاضي من المراد بالتضمن لكن هذا لا يعين كون المراد بكل من الأمر والنهي في كلام فخر الإسلام النفسي بل الظاهر أن اللفظي هو المراد له كما فيما تقدم من أول كتابه إلى هذا الباب "ومراده" أي فخر الإسلام "غير أمر الفور لتنصيصه على تحريم الضد المفوت" يعني إذا كان الأمر للوجوب فقال: وفائدة هذا الأصل أن التحريم إذا لم يكن مقصودا بالأمر لم يعتبر إلا من حيث يفوت الأمر فإذا لم يفوته كان مكروها كالأمر بالقيام ليس بنهي عن القعود قصدا حتى إذا قعد لم تفسد صلاته بنفس القعود، ولكنه يكره، ا هـ. ولو كان مراده أمر الفور إما بناء على أنه له كما ذهب إليه الرازي أو لأنه مضيق ابتداء كما في صوم رمضان أو بسبب ضيق الوقت كالأمر بالصلاة عند ضيق الوقت لم يتأت القول بكراهة الضد لأنه ما من ضد إلا، والاشتغال به مفوت للمأمور به حينئذ "وعلى هذا" الذي تحرر مرادا لفخر الإسلام "ينبغي تقييد الضد بالمفوت ثم إطلاق الأمر عن كونه فوريا" فيقال: الأمر بالشيء نهي عن ضده المفوت له أو(22/310)
يستلزمه، وعلى قياسه: والنهي عن الشيء أمر بضده المفوت عدمه له فيئول في المعنى إلى قول صدر الشريعة: إن الصحيح أن الضد إن فوت المقصود بالأمر يحرم، وإن فوت عدمه المقصود بالنهي يجب، وإن لم يفوت فالأمر يقتضي كراهته، والنهي كونه سنة مؤكدة لكن كما قال التفتازاني: حاصل هذا الكلام أن وجوب الشيء يدل على حرمة تركه، وحرمة الشيء يدل على وجوب تركه وهذا مما لا يتصور فيه نزاع، انتهى. وأما الباقي فسيأتي ما فيه إن شاء الله تعالى.
"وفائدة الخلاف" في كون الأمر بالشيء نهيا عن ضده أو يستلزمه. أو لا تظهر إذا ترك المأمور به وفعل ضده الذي لم يقصد بنهي من حيث "استحقاق العقاب بترك المأمور به فقط" كما هو لازم القول بأنه ليس نهيا عن ضده ولا يستلزمه "أو" استحقاق العقاب "به" أي بترك المأمور به "وبفعل الضد حيث عصى أمرا ونهيا" كما هو لازم القول بأنه نهي عن ضده أو يستلزمه، وفي كون النهي عن الشيء أمرا بضده تظهر إذا فعل المنهي عنه وترك ضده الذي لم يقصد بأمر من حيث استحقاق العقاب بفعل المنهي عنه فقط كما هو لازم القول بأنه ليس أمرا بضده أو به وبترك فعل الضد كما هو لازم القول بأنه أمر بضده ولعله إنما لم يذكره اكتفاء(22/311)
ص -384-…بإرشاد الأول إليه "للنافين" كون الأمر نهيا عن ضده وبالعكس أنه "لو كانا" أي النهي عن الضد والأمر بالضد "إياهما" أي الأمر بالشيء والنهي عن الشيء "أو لازميهما" أي الأمر بالشيء والنهي عن الشيء "لزم تعقل الضد في الأمر والنهي والكف" في الأمر والأمر في النهي "لاستحالتهما" أي الأمر والنهي حينئذ "ممن لم يتعقلهما" أي الضد والكف في الأمر والضد والأمر في النهي "والقطع بتحققهما" أي الأمر والنهي "وعدم خطورهما" أي الضد والكف في الأمر والضد والأمر في النهي "واعترض بأن ما لا يخطر الأضداد الجزئية، والمراد" بالضد هنا "الضد العام" أي المطلق وهو ما لا يجامع المأمور به الدائر في الأضداد الجزئية. "وتعلقه" أي الضد العام "لازم" للأمر والنهي "إذ طلب الفعل موقوف على العلم بعدمه" أي الفعل "لانتفاء طلب الحاصل وهو" أي العلم بعدمه "ملزوم العلم بالخاص" أي بالضد الخاص "وهو" أي الضد الخاص "ملزوم للعام" أي للضد العام "ولا يخفى ما في الاعتراض من عدم التوارد أولا، وتناقضه في نفسه ثانيا، إذ فرضهم الجزئية" للضدية في نفي الخطور "فلا تخطر" الأضداد الجزئية "تسليم" لنفي خطور الضد الجزئي "وقوله" العلم بعدم الفعل "ملزوم العلم بالخاص يناقض ما لا يخطر إلى آخره" أي الأضداد الجزئية لأن العلم بالضد الخاص إثبات خطور له "وأجيب" عن هذا الاعتراض "بمنع التوقف" للأمر بالفعل "على العلم بعدم التلبس" بذلك الفعل في حال الأمر "لأن المطلوب مستقبل فلا حاجة له إلى الالتفات إلى ما في الحال ولو سلم" توقف الأمر بالفعل على العلم بعدم التلبس به. "فالكف" عن الفعل الذي هو الضد "مشاهد" محسوس "ولا يستلزم" الكف حينئذ "العلم بفعل ضد خاص لحصوله" أي الكف "بالسكون" فلا يلزم تعقل الضد "ولو سلم" لزوم تعقل الضد "فمجرد تعقله الضد ليس ملزوما لطلب تركه" الضد "لجواز الاكتفاء" في الأمر "بمنع ترك الفعل" المأمور به "إما لما قيل: لا نزاع في أن الأمر(22/312)
بالشيء نهي عن تركه، وإما لأنه" أي منع تركه "بطلب آخر" غير طلب الفعل المأمور به "لخطور الترك عادة، وطلب ترك تركه" أي المأمور به "الكائن بفعله وزان لا تترك وكذا الضد المفوت" أي مطلوب بطلب آخر لخطوره عادة وطلب تركه بفعل المأمور به "فالأوجه أن الأمر بالشيء مستلزم للنهي عن تركه غير مقصود" استلزاما "بالمعنى الأعم" فيه "وكذا" الأمر بالشيء نهي "عن الضد المفوت لخطوره كذلك" يعني إذا تعقل مفهوم الضد المفوت وتعقل معنى طلب الترك حكم به فيه وبلزومه له قاله المصنف "فإنما التعذيب به" أي بالضد "لتفويته" المأمور به فالتعذيب على فعل الضد من حيث إنه مفوت لا مطلقا "فإما ضد بخصوصه" إذا كان للمأمور به ضد غيره "فليس لازما عادة للقطع بعدم خطور الأكل من تصور الصلاة في العادة، القاضي لو لم يكن" الأمر بالشيء "إياه" أي نهيا عن ضده وبالعكس "فضده أو مثله أو خلافه" لأنهما حينئذ إن تنافيا لذاتيهما أي يمتنع اجتماعهما في محل واحد بالنسبة إلى ذاتيهما فضدان، وإن تساويا في الذاتيات واللازم فمثلان، وإن لم يتنافيا بأنفسهما بأن لم يتنافيا أو تنافيا لا بأنفسهما فخلافان. "والأولان" أي كونهما ضدين وكونهما مثلين "باطلان"، وإلا لم يجتمعا لاستحالة اجتماع الضدين والمثلين(22/313)
ص -385-…"واجتماع الأمر بالشيء مع النهي عن ضده لا يقبل التشكيك" لأن وقوعه ضروري كما في: تحرك ولا تسكن "وكذا الثالث" أي كونهما خلافين باطل أيضا "وإلا جاز كل" أي اجتماع كل من الأمر بالشيء والنهي عن الشيء "مع ضد الآخر كالحلاوة والبياض" أي يجوز أن تجتمع الحلاوة مع ضد البياض، وهو السواد "فيجتمع الأمر بشيء مع ضد النهي عن ضده" أي الشيء "وهو" أي ضد النهي عن ضد الشيء "الأمر بضده" أي الشيء "وهو" أي الأمر بشيء مع ضد النهي عن ضده "تكليف بالمحال لأنه" أي الأمر "طلبه" أي الفعل "في وقت طلب فيه عدمه" أي الفعل فقد طلب منه الجمع بين الضدين والجمع بينهما محال. "أجيب بمنع كون لازم كل خلافين ذلك" أي اجتماع كل مع ضد الآخر "لجواز تلازمهما" أي الخلافين بناء على ما عليه المشايخ من أنه لا يشترط في التغاير جواز الانفكاك كالجوهر مع العرض والعلة مع معلولها المساوي "فلا يجامع" أحدهما "الضد" للآخر لأن اجتماع أحد المتلازمين مع شيء يوجب اجتماع الآخر معه فيلزم اجتماع كل مع ضده، وهو محال "وإذن فالنهي إن كان طلب ترك ضد المأمور به اخترناهما" أي الأمر بالشيء والنهي عن ضده "خلافين ولا يجب اجتماعه" أي النهي "مع ضد طلب المأمور به كالصلاة مع إباحة الأكل" فإنهما خلافان ولا يجب اجتماعهما "وبعد تحرير النزاع لا يتجه الترديد بينه" أي ترك ضد المأمور به أن يكون هو المراد بالنهي "وبين فعل ضد ضده" أي المأمور به "الذي يتحقق به ترك ضده، وهو" أي فعل ضد ضده "عينه" أي المأمور به أن يكون هو المراد بالنهي. وإذن "فحاصله طلب الفعل طلب عينه وإنه لعب ثم إصلاحه" حتى لا يكون لعبا "بأن يراد أن طلب الفعل له اسمان أمر بالفعل ونهي عن ضده، وهو" أي النزاع "حينئذ" أي حين يكون المراد: هذا نزاع "لغوي" في تسمية فعل المأمور به تركا لضده وفي تسمية طلبه نهيا ولم يثبت ذلك. "ولهم" أي القائلين الأمر بالشيء عين النهي عن ضده وبالعكس وهو القاضي وموافقوه(22/314)
"أيضا فعل السكون عين ترك الحركة، وطلبه" أي فعل السكون "استعلاء - وهو" أي طلبه استعلاء "الأمر - طلب تركها" أي الحركة "وهو" أي طلب تركها "النهي وهذا" الدليل "كالأول يعم النهي" لأنه يقال أيضا بالقلب "والجواب برجوع النزاع لفظيا" كما ذكره ابن الحاجب وغيره "ممنوع بل هو" أي النزاع "في وحدة الطلب القائم بالنفس وتعدده" أي الطلب القائم بها "بناء على أن الفعل - أعني الحاصل بالمصدر وترك أضداده - واحد في الوجود بوجود واحد أو لا" أي أو ليس كذلك "بل الجواب ما تضمنه دليل النافين من القطع بطلب الفعل مع عدم خطور الضد وأيضا فإنما يتم" هذا الدليل "فيما أحدهما" أي الأمر والنهي "ترك الآخر كالحركة والسكون لا الأضداد الوجودية فليس" ما أحدهما ترك الآخر "محل النزاع عند الأكثر ولا تمامه" أي محل النزاع "عندنا" لأنه أعم من ذلك "وللمعمم" أي القائل "في النهي": إنه أمر بالضد "دليلا القاضي" وهما لو لم يكن نفسه لكان مثله أو ضده أو خلافه، وهي باطلة، وترك السكون الحركة، فطلبه طلبها "والجواب" عنهما "ما تقدم" آنفا وهو منع كون لازم الخلافين ذلك لجواز تلازمهما والقطع بطلب الفعل مع عدم خطور الضد "وأيضا يلزم في نهي الشارع كون كل من المعاصي المضادة" كاللواط والزنا(22/315)
ص -386-…"مأمورا به مخيرا" مثابا عليه إذا ترك أحدهما إلى الآخر على قصد الامتثال والإتيان بالواجب "ولو التزموه" أي هذا "لغة غير أنها" أي المعاصي "ممنوعة بشرعي كالمخرج من العام" من حيث إن العام "يتناوله" أي المخرج "ويمتنع فيه" أي المخرج "حكمه" أي العام بموجب لذلك "أمكنهم وعلى اعتباره فالمطلوب ضد لم يمنعه الدليل وأما إلزام نفي المباح" على هذا القول؛ إذ ما من مباح إلا وهو ترك حرام كما هو مذهب الكعبي وهو باطل كما يأتي "فغير لازم" إذ لا يلزم من ترك الشيء فعل ضده "المضمن" أي القائل بأن الأمر بالشيء يتضمن النهي عن ضده قال "أمر الإيجاب طلب فعل يذم تركه فاستلزم النهي عنه" أي ترك المأمور به "وعما يحصل به" ترك المأمور به "وهو" أي ترك المأمور به "الضد" للأمر، وهو النهي "ونقض" هذا بأنه "لو تم لزم تصور الكف عن الكف لكل أمر" لأن الكف عن الفعل منهي عنه حينئذ، والنهي طلب فعل هو كف فيكون الأمر متضمنا لطلب الكف عن الكف، والحكم بالشيء فرع تصوره فيلزم تصور الكف عن الكف، واللازم باطل للقطع بطلب الفعل مع عدم خطور الكف عن الكف فلا يكون الكف الذي ذم عليه منهيا عنه فلا يستلزم الأمر بالشيء النهي عن الكف ولا عن الضد "ولو سلم" عدم النقص بهذا لعدم لزوم تصور الكف عن الكف في كل أمر للدليل المذكور لأن الكف مشاهد فيستغنى بمشاهدته عن تصوره على أن النهي غير مقصود بالذات وإنما هو مقصود بالعرض فهو معترض من وجه آخر كما أشار إليه بقوله "منع كون الذم بالترك جزءا لوجوب" في نفس الأمر "وإن وقع" الذم بالترك "جزء التعريف" الرسمي له "بل هو" أي الوجوب "الطلب الجازم ثم يلزم تركه" أي مقتضاه "ذلك" أي الذم "إذا صدر" الأمر "ممن له حق الإلزام" فلا يكون الأمر متضمنا للنهي لأن المبحث أنه يستلزمه بحسب مفهومه لا بالنظر إلى أمر خارج عن مفهومه "ولو سلم" كون الذم بالترك جزء الوجوب "فجاز كون الذم عند الترك لأنه لم يفعل" ما أمر به.(22/316)
قال المصنف: "ولا يخفى أنه لا يتوجه الذم على العدم من حيث هو عدم بل من حيث هو فعل المكلف وليس العدم فعله بل الترك المبقي للعدم على الأصل وما قيل لو سلم" أن الأمر بالشيء متضمن للنهي عن ضده "فلا مباح" لأن الشيء حينئذ مطلوب فعله وترك ضده، والمباح ليس أحدهما "غير لازم" لجواز عدم طلب فعل شيء، وعدم طلب ترك ضده، وفعل أو ترك ما هو كذلك هو المباح "وإلا" لو كان ذلك مستلزما نفي المباح "امتنع التصريح بلا تعقل الضد المفوت" لأن تحصيل الحاصل محال. "والحل أن ليس كل ضد مفوتا، ولا كل مقدر ضدا كذلك" أي مفوتا "كخطوه في الصلاة وابتلاع ريقه وفتح عينه وكثير، وأيضا لا يستلزم" هذا الدليل "محل النزاع وهو: الضد" للأمر "غير الترك" للمأمور به "لأن متعلق النهي اللازم" للأمر "أحد الأمرين من الترك والضد" أي لا يلزم أن يكون متعلقا بالضد الجزئي لقطعنا بأن لزومه لنفي التفويت، وهو كما يثبت بفعل الضد يثبت بمجرد الترك "فنختار الأول" أي أن اللازم النهي عن الترك فلا يثبت أن الأمر بالشيء يتضمن النهي عن ضد المأمور به.(22/317)
ص -387-…"وزاد المعممون في النهي" أي القائلون بأن النهي عن الشيء يتضمن الأمر بضده "أنه" أي النهي "طلب ترك فعل وتركه" أي الفعل "بفعل أحد أضداده" أي الفعل "فوجب" أحد أضداده وهو الأمر لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب "ودفع" هذا "بلزوم كون كل من المعاصي إلى آخره" أي المضادة مأمورا به مخيرا "وبأن لا مباح وبمنع وجوب ما لا يتم الواجب أو المحرم إلا به وفيهما" أي لزوم كون كل من المعاصي إلى آخره وبأن لا مباح "ما تقدم" من أنهم لو التزموا الأول لغة أمكنهم وأن الثاني غير لازم "وأما المنع" لوجوب ما لا يتم الواجب أو المحرم إلا به "فلو لم يجب" ما لا يتم الواجب أو المحرم إلا به "جاز تركه ويستلزم" جواز تركه "جواز ترك المشروط أو جواز فعله" أي المشروط "بلا شرطه الذي لا يتم إلا به وسيأتي تمامه" في مسألة ما لا يتم الواجب إلا به وهنا لا يلزم ذلك من جواز ترك الأمر "بل يمنع أنه" أي النهي "لا يتم إلا به" أي طلب فعل الضد المعين "بل يحصل" النهي "بالكف المجرد" عن الفعل المطلوب تركه "والمخصص في العينية واللزوم" أي المقتصر على أن الأمر بالشيء نهي عن ضده أو يستلزمه وليس النهي عن الشيء أمرا بضده ولا يستلزمه "فإما لأن النهي طلب نفي" أي فإما لأن مذهبه أن النهي طلب نفي الفعل الذي هو عدم محض كما هو مذهب أبي هاشم لا طلب الكف عن الفعل الذي هو ضده فلا يكون أمرا بالضد ولا يستلزمه إذ لا فعل ثمة حينئذ ولا ضد للعدم المحض "مع منع أن ما لا يتم الواجب إلى آخره" أي إلا به فهو واجب علاوة على هذا "وإما لظن ورود الإلزام الفظيع" وهو كون الزنا واجبا لكونه تركا للواط على تقدير كون النهي عن الشيء أمرا بضده أو يستلزمه "أو الظن أن أمر الإيجاب استلزم النهي باستلزام ذم الترك" أي بهذه الواسطة "والنهي لا" يستلزم الأمر لأنه طلب فعل هو كف وذاك طلب فعل غير كف "مع منع أن ما لا يتم إلى آخره" علاوة على هذا "وإما لظن ورود إبطال المباح(22/318)
كالكعبي" على تقدير كون النهي عن الشيء أمرا بضده دون العكس لأن المباح ترك المنهي عنه، وإذا كان المنهي عنه مأمورا به كان المباح مأمورا به فلا يكون المباح مباحا "ومخصص أمر الإيجاب" بكونه نهيا عن ضده أو مستلزما له دون الندب "لظن ورود الأخيرين" على تقدير كون أمر الندب بالشيء نهيا عن ضده دون أمر الوجوب وهما أن استلزام الذم للترك المستلزم للنهي إنما هو في أمر الوجوب وأن لزوم إبطال المباح إنما هو على تقدير كون الأمر للندب لا للوجوب وهو ظن لا بأس به لأن أمر الندب لا يستلزم ذم الترك، وأوامر الندب تستغرق الأوقات فلو استلزمت كراهة أضداد المندوبات بطل بالكلية المباحات المضادة لها بخلاف أوامر الإيجاب فإنها إنما تمنع المباحات المضادة للواجبات في وقت لزوم الأداء خاصة، وتبقى في غير ذلك الوقت مباحة فلا ينتفي المباح بالكلية "وعلمت مرجع فخر الإسلام إلى العامة" في المعنى على ما فيه "ولا يخفى أن ما مثل به لكراهة الضد من أمر قيام الصلاة لا يفوت بالقعود فيها" لجواز أن يعود إليه لعدم تعيين الزمان "ويكره اتفاقي لا من مقتضى الأمر بل مبنى الكراهة خارج هو التأخير" للقيام عن وقته من غير تفويت "وإلا" لو كان القعود فيها مفوتا لأمر القيام "فسدت" وكان ذلك القعود حراما "وكذا(22/319)
ص -388-…قول أبي يوسف بالصحة فيمن سجد على مكان نجس في الصلاة وأعاد على طاهر" ليس من مقتضى الأمر "لأنه" أي سجوده على نجس "تأخير السجدة المعتبرة عن وقتها لا تفويت" لها "وهو" أي تأخيرها عن وقتها "مكروه وفسدت" الصلاة "عندهما" أي أبي حنيفة ومحمد "للتفويت" لأمر الطهارة "بناء على أن الطهارة في الصلاة" وصف "مفروض الدوام" في جميعها فاستعمال النجس في جزء منها في وقت ما يكون مفوتا للمقصود بالأمر وقد تحقق في هذه الصورة لأن استعمال النجاسة كما يكون بحملها تحقيقا يكون بحملها تقديرا كما هنا لأنها إذا كانت في موضع وضع الوجه يصير وضعا للوجه باعتبار أن اتصاله بالأرض ولصوقه بها يصير ما هو وصف للأرض وصفا له، وحكاية الخلاف بينهم هكذا مذكورة في أصول فخر الإسلام وشمس الأئمة ومتابعيهما والمنظومة والمجمع، وذكر القدوري في شرح مختصر الكرخي أن النجاسة إذا كانت في موضع سجوده فروى محمد عن أبي حنيفة أن صلاته لا تجزئ إلا أن يعيد السجود على موضع طاهر وهو قول أبي يوسف ومحمد، وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة أن صلاته جائزة. وجه الأولى أن السجود في الصلاة كالقيام فكما لا يعتد به مع النجاسة فكذا السجود. وجه الأخرى أن الواجب عنده أن يسجد على طرف أنفه، وهو أقل من قدر الدرهم، واستعمال أقل من قدر الدرهم من النجاسة لا يمنع جواز الصلاة، فأما على قولهما فالسجود على الجبهة واجب وهي أكثر من قدر الدرهم فإذا استعمله في الصلاة لم يجز فأما إذا سجد على موضع نجس ثم أعاد على طاهر جاز لأن السجود على النجاسة غير معتد به فكأنه لم يسجد، ولا يجعل كمن استعملها في حال الصلاة لأن الوضع على النجاسة أهون من حملها ثم ذكر ما لا يفيد ذلك إلا ما إذا افتتح على موضع طاهر ثم نقل قدمه إلى مكان نجس ثم أعاده إلى مكان طاهر صحت صلاته إلا أن يتطاول حتى يصير في حكم الفعل الذي إذا زيد في الصلاة أفسدها، والله سبحانه أعلم.(22/320)
"وأما قوله" أي فخر الإسلام "النهي يوجب في أحد الأضداد السنية كنهي المحرم عن المخيط، سن له الإزار والرداء فلا يخفى بعده عن وجه الاستلزام" قلت وفي هذا سهو فإن لفظ فخر الإسلام وأما النهي عن الشيء فهل له حكم في ضده فساق ما ساق إلى أن قال: وقال بعضهم يوجب أن يكون ضده في معنى سنة واجبة وعلى القول المختار يحتمل أن يقتضي ذلك، انتهى. أي كون الضد في معنى سنة مؤكدة إذا كان النهي للتحريم، ووجه بأن النهي الثابت في ضمن الأمر لما اقتضى الكراهة التي هي أدنى من الحرمة بدرجة وجب أن يقتضي الأمر الثابت في ضمن النهي سنية الضد التي هي أدنى من الواجب بدرجة اعتبارا لأحدهما بالآخر، وغير خاف أن هذا التلازم غير لازم كما أشار إليه المصنف ثم في التحقيق وغيره ولم يرد بالسنة ما هو المصطلح بين الفقهاء وهو ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن ذلك لا يثبت إلا بالنقل، وإنما أراد به ترغيبا يكون قريبا إلى الوجوب، وقال يحتمل لأنه لم ينقل هذا القول نصا عن السلف ولكن القياس اقتضى ذلك حتى قال أبو زيد في التقويم لم أقف على أقوال الناس في حكم النهي على الاستقصاء كما وقفت على حكم الأمر ولكنه ضد الأمر فيحتمل(22/321)
ص -389-…أن يكون للناس فيه أقوال على حسب أقوالهم في الأمر، والنهي المشار إليه ما في الصحيحين وغيرهما عن ابن عمر أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ما يلبس المحرم من الثياب فقال: "لا يلبس القميص ولا العمائم ولا البرانس ولا السراويل ولا الخفاف إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين" نعم تقدم أن العامة على أن النهي عن الشيء أمر بضده المتحد، وإلا فبواحد غير عين من أضداده لكن الظاهر أن النهي عن لبس المخيط سواء ثبت بهذا اللفظ أو بمعناه للإجماع على أن المراد بالحديث المذكور ذلك ذو ضد متحد لأنه لا واسطة بين لبس المخيط ولبس غيره فيلزم على هذا أن يكون لبس الإزار والرداء واجبا لا سنة على أن كون لبس الإزار والرداء ضدا للبس المخيط ليس مما نحن فيه إذا لوحظ غير هذا الحديث مما يفيد حكم لبسهما لأن الكلام في ضد لم يقصد بأمر وهذا قد قصد به فقد قال ابن المنذر ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين" إلا أن النووي قال حديث غريب ويغني عنه ما ثبت عن ابن عباس قال: انطلق النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة بعد ما ترجل وادهن ولبس إزاره ورداءه هو وأصحابه ولم ينه عن شيء من الأزر والأردية تلبس إلا المزعفرة التي تردع على الجلد حتى أصبح بذي الحليفة ركب راحلته حتى استوى على البيداء أهل هو وأصحابه، رواه البخاري، والله سبحانه أعلم.(22/322)
"وأما النهي فالنفسي طلب كف عن فعل" فخرج الأمر لأنه طلب فعل غير كف "على جهة الاستعلاء" فخرج الالتماس والدعاء "وإيراد: كف نفسك" عن كذا على طرده لصدقه عليه مع أنه أمر جوابه "إن كان" المراد به "لفظه فالكلام في النفسي" فلا يرد عليه لعدم صدق الحد عليه "أو" كان المراد "معناه التزمناه نهيا" نفسيا فلا يقدح دخوله في طرده بل هو محقق له "وكذا معنى اطلب الكف" نهي نفسي "لوحدة معنى اللفظين" أي كف نفسك، أو اطلب الكف، وكذا اترك كذا وأنا طالب كفك إذا أريد بهما المعنى لأن هذه الألفاظ دالة على قيام طلب الكف بالقائل "وهو" أي هذا المعنى الذي هو الكف هو "النهي النفسي واللفظي وهو غرض الأصولي" لأن بحثه إنما هو عن الأدلة اللفظية السمعية من حيث يوصل العلم بأحوالها إلى قدرة إثبات الأحكام الشرعية للمكلفين كما تقدم مثله في الأمر "مبنى تعريفه أن لذلك الطلب صيغة تخصه" بمعنى أنها لا تستعمل في غيره حقيقة "وفي ذلك" أي في أن له صيغة تخصه من الخلاف "ما في الأمر" والصحيح في كليهما نعم "وحاصله" أي تعريف النهي اللفظي "ذكر ما يعينها" أي ما يميز تلك الصيغة من غيرها من الصيغ "فسميت" المذكورات لذلك "حدودا والأصح" في تعريفه "لا تفعل أو اسمه كمه حتما استعلاء" وظاهر أن لا تفعل نهي لفظي، وأما زيادة أو اسم لا تفعل يعني من حيث المعنى كمه فلأنه اسم لا تكفف، وهو و "لا تفعل" واحد في المعنى وأما حتما فلأن ذكر كل منهما لا على هذا السبيل ليس من هذا القبيل وأما اشتراط كونه في حال الاستعلاء ففيه خلاف وهذا هو المختار كما تقدم مثله في الأمر "وهي" أي هذه الصيغة خاص "للتحريم" دون الكراهة "أو الكراهة" دون التحريم أو مشترك لفظي بين التحريم والكراهة أو معنوي لوضعها للقدر المشترك بينهما وهو طلب الكف استعلاء(22/323)
ص -390-…أو متوقف فيها بمعنى لا ندري لأيهما وضعت "كالأمر" أي كصيغته هل هي خاص للوجوب فقط أو للندب فقط أو مشترك لفظي بينهما أو معنوي أو متوقف فيها لا ندري لأيهما وضعت ثم يريد الأمر بباقي المذاهب المذكورة ثمة "والمختار" أن صيغة النهي حقيقة "للتحريم لفهم المنع الحتم من المجردة" وهو أمارة الحقيقة "ومجاز في غيره" أي التحريم لعدم تبادر الأحد الدائر في التحريم وغيره فلا يكون حقيقة فيه فانتفى الاشتراك المعنوي، والأصل عدم الاشتراك اللفظي، والمجاز خير منه فتعين ثم هذا الحد النفسي. وقد ذكر ابن الحاجب نحوه غير منعكس لصدقه على الكراهة النفسية "فمحافظة عكس النفسي بزيادة حتم، وإلا دخلت الكراهة النفسية فالنهي" النفسي "نفس التحريم، وإذا قيل مقتضاه" أي النهي التحريم "يراد اللفظي" لأن التحريم نفس النفسي لا مقتضاه "وتقييد الحنفية التحريم بقطعي الثبوت وكراهته" أي التحريم "بظنيه" أي الثبوت "ليس خلافا" في أن النهي النفسي نفس التحريم "ولا تعدد في نفس الأمر" فإن الثابت في نفس الأمر طلب الترك حتما ليس غير، وهذا الطلب قد يصل ما يدل به عليه بقاطع إلينا فيحكم بثبوت الطلب قطعا وهو التحريم وقد يصل بظني فيكون ذلك الطلب مظنونا فنسميه كراهة تحريم ذكره المصنف "وكون تقدم الوجوب" للمنهي عنه قبل النهي عنه "قرينة الإباحة" أي كون النهي للإباحة "ذكر الأستاذ" أبو إسحاق الإسفراييني "نفيه" أي نفي كون تقدمه قرينة لكون النهي للإباحة "إجماعا، وتوقف الإمام" أي إمام الحرمين في ذلك حيث قال في البرهان ذكر الأستاذ أبو إسحاق أن صيغة النهي بعد تقدم الوجوب محمولة على الخطر، والوجوب السابق لا ينتهض قرينة في حمل النهي على رفع الوجوب، وادعى الوفاق في ذلك ولست أرى ذلك مسلما أما أنا فساحب ذيل الوقف عليه كما قدمته في صيغة الأمر بعد الحظر وما أرى المخالفين يسلمون ذلك، ا هـ. "لا يتجه إلا بالطعن في نقله" أي الإجماع "ونقل الخلاف" فيه،(22/324)
وظاهر كلام الإمام أنه لم يقله إلا تخمينا فلا يقدح "إذ بتقدير صحته" أي الإجماع على ذلك "يلزم استقراؤهم ذلك" أي أنه بعد الوجوب ليس قرينة كونه للإباحة "وموجبها" أي صيغة النهي ولو اسمها "الفور والتكرار أي الاستمرار خلافا لشذوذ" ذهبوا إلى أنه مطلق الكف من غير دلالة على الدوام والمرة، ونص في المحصول على أنه المختار، وفي الحاصل أنه الحق لأنه قد يستعمل لكل منهما، والمجاز والاشتراك اللفظي خلاف الأصل فيكون للقدر المشترك وأجيبوا بأن العلماء لم يزالوا يستدلون بالنهي على الترك مع اختلاف الأوقات من غير تخصيص بوقت دون وقت ولولا أنه للدوام لما صح ذلك ومن هنا - والله أعلم - حكى ابن برهان الإجماع على ذلك ثم لا يخفى أنه إذا كان المراد بالتكرار دوام ترك المنهي عنه كان مغنيا عن الفور لاستلزامه إياه.
مسألة
"الأكثر إذا تعلق" النهي "بالفعل كان" النهي "لعينه" أي لذات الفعل أو جزئه "مطلقا" أي حسيا كان أو شرعيا "ويقتضي" النهي "الفساد شرعا وهو" أي الفساد شرعا "البطلان" وهو "عدم سببيته" أي خروج الفعل عن كونه سببا "لحكمه" وثمرته المقصودة منه "وقيل" يقتضي(22/325)
ص -391-…الفساد "لغة وقيل" يقتضي الفساد "في العبادات فقط" كما عليه أبو الحسين البصري والغزالي والإمام الرازي، ثم المذكور في أصول ابن الحاجب وغيره "يدل" مكان "يقتضي" وفرق بينهما بأن في لفظ الاقتضاء إشارة إلى أن القبح لازم متقدم بمعنى أنه يكون قبيحا فنهى الله عنه لا أن النهي يوجب قبحه كما هو رأي الأشعري لكن لا يخفى أن هذا لا يتأتى في عامة ما هنا، فليتأمل. "والحنفية كذلك" أي ذهبوا إلى أن النهي المتعلق بأفعال المكلفين دون اعتقاداتهم على ما في التلويح يكون لعين الفعل "في الحسي" وهو "ما لا يتوقف معرفته على الشرع كالزنا والشرب" أي شرب الخمر فإن كلا منهما يتحقق حسا ممن يعلم الشرع ومن لا يعلمه ولا يتوقف معرفة حقيقته على الشرع "إلا بدليل أنه" أي النهي عن الفعل "لوصف ملازم" للفعل المنهي عنه أي قائم به غير منفك عنه، فيكون حينئذ لغيره إلا أنه بمنزلة ما هو لعينه "أو" أن النهي عنه لوصف منفك عنه "مجاور" له فيكون لغيره أيضا إلا أنه لا يكون بمنزلة ما هو لعينه "كنهي قربان الحائض" فإن النهي عن وطئها في الحيض لمعنى استعمال الأذى، وهو مجاور للوطء غير متصل به وصفا لازما؛ إذ الوطء قد ينفك عنه كما في حالة الطهر "أما" الفعل "الشرعي" وهو ما يتوقف معرفته على الشرع "فلغيره" أي فالنهي عنه لغيره من جهة كونه "وصفا لازما للتحريم أو كراهته" أي التحريم "بحسب الطريق" الموصلة له إلينا من قطع أو ظن "للزوم المنهي" أي للزوم ذلك المعنى الذي هو مثار النهي بالفرض "كصوم" يوم "العيد" فإن الصوم الشرعي يتوقف معرفته على الشرع، وما في الصحيحين نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم الفطر والنحر انتهى. لمعنى اتصل بالوقت الذي هو محل الأداء وصفا لازما له وهو كونه يوم ضيافة الله - تعالى - لعباده وفي الصيام إعراض عنها فكان حراما للإجماع عليه كما في الاختيار وشرح المهذب للنووي، وإلا فقد كان مقتضى اصطلاح الحنفية نظرا إلى السمعي(22/326)
المذكور كونه مكروها تحريما لأنه غير قطعي الثبوت "أو" فالنهي عنه لغيره من جهة كونه وصفا "مجاورا" له "ممكن الانفكاك" عنه "فالكراهة ولو" كان طريق ثبوت النهي "قطعيا كالبيع وقت النداء" أي أذان الجمعة بعد زوال شمس يومها فإن النهي عنه في قوله تعالى {وَذَرُوا الْبَيْعَ} لغيره "لترك السعي" أي للإخلال بالسعي الواجب إلى الجمعة وهو أمر مجاور للبيع قابل للانفكاك عنه فإن البيع يوجد بدون الإخلال بالسعي بأن يتبايعا في الطريق ذاهبين إليها، والإخلال بالسعي يوجد بدون البيع بأن يمكثا في الطريق من غير بيع "فإن نافى" الحكم الشرعي للنهي وهو التحريم "الأول" وهو النهي عنه لوصف ملازم "فباطل" أي ففعل المنهي عنه باطل "كنكاح المحارم ليس حكمه" أي النكاح "إلا الحل المنافي لمقتضاه" أي النهي وهو التحريم فكان نكاحهن باطلا فإن قيل يشكل عليه ثبوت النسب وعدم وجوب الحد فالجواب لا فإن هذه الأشياء ليست حكم العقد بل حكم شيء آخر كما أشار إليه قوله "وعدم الحد وثبوت النسب حكم الشبهة" أي صورة العقد عليهن هذا، وعدم الحد قول أبي حنيفة وسفيان الثوري وزفر وثبوت النسب ووجوب العدة أيضا قول بعض المشايخ تفريعا على هذا القول ومنهم من منع ثبوته ووجوبها لأن أقل ما يبتني(22/327)
ص -392-…كلاهما عليه وجود الحل من وجه وهو منتف في المحارم وعلى هذا لا ورود للإشكال بالنسبة إلى النسب والعدة، وأما على قول أبي يوسف ومحمد والأئمة الثلاثة فلا إشكال أصلا إذا علم بالتحريم لإيجابهم الحد عليه وعدم وجوب العدة وثبوت النسب، ويورد الإشكال بعدم الحد إذا لم يعلم بالتحريم على قولهم، ويدفع بأنه لعدم العلم بذلك، فليتنبه له. قال المصنف "ويجب مثله" أي هذا وهو البطلان "في العبادات" سواء كان النهي عنها لوصف ملازم أو لا، لأنها إذا لم تنتهض سببا لحكمها الذي شرعت له تحققت بوصف الباطل، إذ تصير عديمة الفائدة، وهذا بحث المصنف واختياره ورتب عليه خلافا لهم في بعض الفروع. "كصوم العيد" فإن النهي عنه لمعنى ملازم وهو الإعراض عن ضيافة الله - تعالى - فكان بعد كونه حراما لانعقاد الإجماع عليه بعد النهي عنه باطلا "لعدم الحل والثواب" أي لانتفاء صفة الحل وسببيته للثواب وهو الذي شرع له العبادة النافلة، ثم رتب على عدم حل الشروع فيه عدم لزوم القضاء بالإفساد فقال "فوجب عدم القضاء بالإفساد لأن وجوبه" أي القضاء بالإفساد "يتبعه" أي حل ابتداء الشروع، وهو منتف فإن قيل: فيلزم أن لا يصح النذر به لما في صحيح مسلم مرفوعا "لا نذر في معصية الله" لكنه يصح فالجواب المنع "وصحة نذره لأنه" أي نذره "غير متعلقه" الذي هو مباشرة الصوم المنذور فيه فصح "ليظهر" أثره "في القضاء تحصيلا للمصلحة" والحاصل أن صحة النذر به تتبع وجود المصلحة، لأن شرع المشروعات كلها لمصالح العباد، وفي تصحيح النذر به ذلك، وهو أن ينعقد به ليظهر في القضاء فيحصل به فما انعقد إلا موجبا للقضاء "فيجب" على هذا "أن لا يبرأ" الناذر "بصومه" لكنهم قائلون بخروجه عن نذره بصيامه مع العصيان لأنه نذر ما هو ناقص، وأداه كما التزمه ولما كان هذا مبنيا على أن موجب النذر وجوب أدائه فإذا لم يؤده حينئذ يوجب خلفه من القضاء دفعه بقوله "فإن لزم فيها" أي في صحة النذر "وجوب(22/328)
الأداء" للمنذور "أولا وجب نفيها" أي صحة النذر به لأنه نذر بمعصية وهي منهي عنه، غير أنا إنما صححنا حملا للنهي على ما إذا نذر بمعصية ليفعلها أما إذا نذر بمعصية لها قضاء هو عبادة فلا يلزم من الشرع نفيه لأن قوله صلى الله عليه وسلم: "لا نذر في معصية" نفي النذر أن يوجبها وحينئذ فيجب في تصحيح النذر بصوم العيد الاعتبار الذي ذكره فإن أبوا، إلا أن يشترط لصحته كونه يوجب أولا نفس المنذور منعنا صحة النذر حينئذ "خلافا لهم" أي للحنفية في الفصلين على التقديرين وهما وجوب أن لا يبرأ بصومه إن كانت صحة النذر ليست إلا لتظهر في وجوب القضاء فإنهم يقولون لو صام خرج عن عهدة النذر وصحة النذر إن كان أثره في إيجاب الأداء أولا لأنه تصحيح نذر بمعصية ثم هذا المذكور 1 من إطلاق صحة نذر صوم يومي العيدين وأيام التشريق، وأنه يفطر ويقضي ولو صامها أجزأه هو المسطور في كثير من الكتب المعتبرة وفي شرح مختصر
ـــــــــــــــــــ
1 قوله ثم هذا إلى قوله ولا يعرى عن تأمل هذه العبارة ساقطة من النسخة العتيقة المعتمدة ولكنها ملحة في هامش نسخة مصححة وعليها علامة كتبه مصححه.(22/329)
ص -393-…القدوري للحدادي: رجل نذر صوم يوم النحر صح نذره عندنا في ظاهر الرواية وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنه لا يصح وبه قال زفر والشافعي والتوفيق: إذا عين النذر بيوم النحر لا يصح فتحمل رواية أبي يوسف على هذا، وإن قال لله علي صوم غد فكان الغد يوم النحر يلزم صومه وعليه يحمل ظاهر الرواية، ا هـ.
قلت وقد روى هذا التفصيل عن أبي حنيفة الحسن على ما في المبسوط وغيره، وهو يشعر بأن ظاهر الرواية إطلاق الصحة كما في عامة الكتب ويتلخص أن في هذه المسألة عن أبي حنيفة ثلاث روايات: الصحة مطلقا وهي ظاهر الرواية ومنعها مطلقا، وهي رواية أبي يوسف وابن المبارك عنه أيضا كما ذكره بعضهم وبه قال مالك كما في بعض المواضع والشافعي وأحمد والتفصيل وهي رواية الحسن عنه يوافقه ما في رواية ابن القاسم وابن وهب عن مالك: لو نذر صوم يوم فوافق يوم فطر أو نحر يقضيه، ووجهه أنه لما نص على يوم النحر فقد صرح بما هو منهي عنه بخلاف ما إذا لم ينص عليه فصار كقولها: لله علي صوم يوم حيضي - فلا يصح - وغدا، وهو يوم حيضها، فيصح لكن المسطور في الخلاصة وغيرها عزو هذا إلى أبي يوسف خلافا لزفر ثم توجيه قول أبي يوسف بأن ما يوجبه الإنسان على نفسه من الصوم في وقت بعينه بمنزلة ما يوجبه الله - تعالى - عليه في وقت بعينه، ومعلوم أنها لو حاضت في يوم من رمضان لزمها قضاؤه فكذا هذا كما في شرح الحدادي غير وجيه بالنسبة إلى ما نحن فيه وأوجه منه ما قيل لأنه أضيف إلى اليوم وهو محله. واعتراض الحيض منع الأداء لا الوجوب عند صدور النذر، وصار كنذرها صوم غد فجنت يجب القضاء بعد الإفاقة أو صوم غد، وهي حائض يجب القضاء لتصور انقطاع الدم، والمسألتان في الفتاوى الظهيرية بخلاف "يوم حيضي" لأنها لم تضفه إلى محله شرعا. قلت: على أن لقائل أن يقول لا يتم هذا القياس من حيث إن الحيض لا يلزم وجوده في غد، وإن كان يوم عادتها بخلاف الأيام المذكورة إذا نذر صيامها من غير نص(22/330)
عليها من حيث إنها محققة الوقوع في غد ونحوه فيما إذا ثبت شرعا تعينها لذلك وقت النذر، ثم قيل في الفرق بين نذر صوم يوم النحر على ظاهر الرواية ونذرها صوم يوم حيضها إن الحيض وصف للمرأة لا لليوم وقد ثبت بالإجماع أن طهارتها شرط لأدائه فلما علقت النذر بصفة لا تبقى معها أصلا للأداء لم يصح كالرجل يقول: لله علي أن أصوم يوما أكلت فيه بخلاف نذر صوم يوم النحر فإنه ليس كذلك ولا يعرى عن تأمل.
"وما خالف" ما ذكرنا من وجوب بطلان العبادات التي تعلق بها نهي التحريم "فلدليل كالصلاة" النافلة "في الأوقات المكروهة على ظنهم" أي الحنفية فإنهم حكموا بصحتها مع النهي المحرم أو الموجب لكراهة التحريم ففي صحيح مسلم والسنن الأربع عن عقبة بن عامر الجهني قال: لاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن وأن نقبر فيهن موتانا حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول وحين(22/331)
ص -394-…تضيف الشمس للغروب حتى تغرب". وأشار بقوله على ظنهم إلى أنه مخالف لظنهم ثم لما كان حاصل وجه ظنهم أن النهي تعلق بمسمى الصلاة، ومسماها مجموع الأركان وبمجرد الشروع لا تتحقق الأركان فلم يتحقق المنهي عنه فصح الشروع لعدم تعلق النهي بخلاف الصوم فإنه بمجرد الإمساك بنية يكون مرتكبا للمنهي عنه فلا يلزم المضي فيه ليلزم القضاء بالإفساد، أشار إليه مع دفعه بقوله "وكون مسماها" أي الصلاة "لا يتحقق إلا بالأركان لا يقتضي" إفسادها "وجوب القضاء لأنه" أي وجوب القضاء بالإفساد "بوجوب الإتمام قبل الإفساد والثابت نقيضه" أي نقيض وجوب الإتمام وهو حرمة الإتمام "ويلزم" أيضا "أن تفسد" الصلاة "بعد ركعة" لارتكاب المنهي عنه حينئذ "وهو" أي الفساد بعد ركعة "منتف عندهم فالوجه أن لا يصح الشروع لانتفاء فائدته من الأداء والقضاء ولا مخلص إلا بجعلها" أي كراهة الصلاة النافلة في الأوقات الثلاثة المكروهة "تنزيهية وهو" أي وجعلها تنزيهية "منتف إلا عند شذوذ. أما البيع فحكمه الملك ويثبت" الملك "مع الحرمة فيثبت" البيع مع النهي "مستعقبا له" أي للملك حال كونه "مطلوب التفاسخ رفعا للمعصية إلا بدليل البطلان وهو" أي وثبوت الملك مطلوب التفاسخ "فساد المعاملة عندهم" أي الحنفية، وقيد بها ليخرج العبادة، فإن فسادها عندهم وبطلانها سواء، إنما الفرق بين الفساد والبطلان في المعاملات فإن مقتضى النهي هو التحريم، والفرض أنه لا ينافي حكمه من الملك فلم يكن النهي مانعا من ثبوت حكمه، وهو نفس الصحة ومع كونه مطلوب التفاسخ هو الفساد "بخلاف بيع المضامين" جمع مضمون من ضمن الشيء بمعنى تضمنه ما تضمنه صلب الفحل من الولد، فيقول: بعت الولد الذي يحصل من هذا الفحل فإنه "باطل" لقيام الدليل على ثبوت البطلان فيه مع النهي عنه. فقد أخرج عبد الرزاق بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المضامين، والدليل كون النهي عنه "لعدم المحل" أي محليته(22/332)
الشرعية للبيع لأن الماء قبل أن يخلق منه الحيوان ليس بمال، والحكم لا يثبت إلا في المحل فكان باطلا بالضرورة، ثم ظهر أن حق العبادة أن يقال رفعا للمعصية، وهو فساد المعاملة عندهم إلا بدليل البطلان كبيع المضامين إلى آخره، فليتأمل. "أما الأول" أي كون حكم البيع الملك "فلعدم النافي" له كما هو الأصل "ووجود المقتضي، وهو الوضع الشرعي" لأن الشرع وضع البيع - وهو الإيجاب والقبول - لإثبات الملك ولم يوجد منه بعد ذلك سوى نهيه عنه إذا كان بصفة كذا، وهذا القدر لا يوجب تخلف مقتضى ذلك الوضع "للقطع بأن القائل: لا تفعله" أي: لا تفعل ما جعلته سببا لكذا "على هذا الوجه فإن فعلت" ذلك على هذا الوجه "ثبت حكمه وعاقبتك لم يناقض" قوله الثاني قوله الأول فكان إثبات البطلان ونفي حكم التصرف من مجرد النهي لوصف لازم قولا بلا دليل موجب. "وقولهم" أي الشافعية النهي عن البيع "ظاهر في عدم ثبوته" أي الملك فيه "شرعا ممنوع" فإن أثر النهي ليس إلا في التحريم، وقد فرض أنه لا يضاد حكمه "فيثبت الملك شرعا في بيع الربا والشرط" المفسد حال كونه "مطلوب الفسخ" رفعا للمعصية "ويلزمه الصحة بإسقاط الزيادة في الشرط لأنه" أي كلا من الزيادة والشرط هو "المفسد" وقد زال إلا أن بعد كون هذا قول علمائنا الثلاثة خلافا لزفر(22/333)
ص -395-…ليس على إطلاقه بل هو في بعض المفسدات بشرط فيه، ومحل هذه الجملة كتب الفروع "وأما الثاني" أي لزوم التفاسخ "فلرفع المعصية ويصرح بثبوت الاعتبارين" أي استعقاب الحكم مطلوب التفاسخ من غير العبادات" "طلاق الحائض" المدخول بها في الحيض "ثبت حكمه، وأمر بالرجعة رفعا" للمعصية "بالقدر الممكن" ففي الصحيحين عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر للنبي صلى الله عليه وسلم فتغيظ فيه صلى الله عليه وسلم ثم قال: "ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها قبل أن يمسها فتلك العدة كما أمر الله تعالى" "بخلاف ما لا يمكن" رفعه "كحل مذبوح ملك الغير" فإنه لا قدرة للعبد على رفع المعصية اللازمة من ذبحه حيوان الغير بغير إذنه المنهي عنه بإعادته إلى ملك الغير وبه الروح، فلا يكون مأمورا بذلك، والمفيد لهذا ما أخرج الدارقطني بسند جيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما طابت به نفسه"، وما أخرج الطبراني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زار قوما من الأنصار في دارهم فذبحوا له شاة فصنعوا له منها طعاما فأخذ من اللحم شيئا فلاكه فمضغه ساعة لا يسيغه فقال: "ما شأن هذا اللحم"؟. قالوا شاة لفلان ذبحناها حتى يجيء فنرضيه من ثمنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أطعموها الأسرى" "قالوا" أي الذاهبون إلى أنه يدل على البطلان مطلقا: "لم تزل العلماء" في سائر الأعصار "يستدلون به" أي النهي "على الفساد أي البطلان" من غير إنكار عليهم فهو إجماع منهم على فهم ذلك منه "قلنا" إنما لم يزالوا يستدلون به على البطلان "في العبادات ومع المقتضي في غيرها" أي وعلى البطلان في غير العبادات من المعاملات مع المقتضي للبطلان "وإلا" فحيث لا مقتضى للبطلان فيها "فعلى مجرد التحريم" أي فإنما يستدلون على مجرد تحريم المنهي عنه "ولو صرح بعضهم بالبطلان" أي بأنه يدل على البطلان في(22/334)
المعاملات "فكقولكم وبه" أي بهذا الدليل "استدل للغة" أي بأنه يدل على البطلان لغة "ومنع بأن فهمه" أي البطلان منه "شرعا" لأن فساد الشيء أي بطلانه عبارة عن سلب أحكامه وليس في لفظ النهي ما يدل عليه لغة قطعا. "قالوا" أي الذاهبون إلى أنه يدل على الفساد أي البطلان لغة: "الأمر يقتضي الصحة فضده" وهو النهي يقتضي "ضدها" وهو الفساد أي البطلان "أجيب بمنع اقتضائه" أي الأمر الصحة "لغة ولو سلم" أن الأمر يقتضي الصحة "فيجوز اتحاد أحكام المتقابلات" لجواز اشتراكها في لازم واحد "ولو سلم" أن أحكام المتقابلة متقابلة "فاللازم عدم اقتضاء الصحة لا اقتضاء عدمها" والأول أعم، والأعم لا يستلزم الأخص "ودليل تفصيلهم" أي الحنفية "فيما" يكون النهي عنه لقبح "لعينه وغيره أما في الحسي فالأصل" أي فلأن كونه قبيحا لعينه هو الأصل؛ لأن الأصل أن يثبت القبح باقتضاء النهي في المنهي عنه لا في غيره فلا يترك الأصل من غير ضرورة، ولا ضرورة هنا لإمكان تحقق الحسيات مع صفة القبح لأنها توجد حسا، فلا يمتنع وجودها بسبب القبح إلا إذا قام الدليل على خلافه كالنهي عن الوطء في الحيض كما تقدم. "وأما في الشرعي فلو" كان النهي عنه "لعينه" لقبحها "امتنع المسمى شرعا" لامتناع وجود القبيح شرعا "فحرم نفس الصوم والبيع لكنهما ثابتان فكان" الشرعي "مشروعا بأصله لا وصفه بالضرورة، وقيل لو كان" القبح في(22/335)
ص -396-…المنهي عنه الشرعي لعينه "امتنع النهي لامتناع المنهي" حينئذ لكن النهي واقع فكذا المنهي "ودفع بأن امتناعه" أي المنهي عنه "لا يمنع تصوره" أي وجود المنهي عنه "حسا وهو" أي تصوره حسا "مصحح النهي، وهو" أي هذا الدفع "بناء على أن الاسم للصورة" فقط "وهم" أي الحنفية "يمنعونه" أي كونه للصورة فقط "بل" هو عندهم لها "بقيد الاعتبار" وهو منتفي التحقق. "قالوا" أي القائلون بأن الاسم الشرعي للصورة فقط: "النهي" النفسي "عن صلاة الحائض" وهو ما في حديث فاطمة بنت أبي حبيش المتفق عليه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة" "و" النهي عن "صوم العيد" وتقدم تخريجه قريبا "ولزوم كون مثل الطهارة" من شروط الصلاة "جزء مفهوم المشروط" الذي هو الصلاة لأن الصلاة المعتبرة هي المفعولة بشروطها وهو باطل للاتفاق على أنها شروط لا أركان "و" لزوم "بطلان صلاة فاسدة" للمنافاة بينهما وبين وصفها بالفساد "يوجبه" أي كون الاسم بإزاء الهيئة فقط لأن المتصور في هذه الصور الصورة فقط. "الجواب" المنع بل "إنما توجب" النهي عن صلاة الحائض وصوم يوم العيد وقولهم صلاة فاسدة "صحة التركيب ولا يستلزم" صحة التركيب "الحقيقة" أي كون الاسم حقيقة في الصورة فقط "فالاسم مجاز شرعي في الجزء" الذي هو الصورة "للقطع بصدق لم يصم للممسك حمية" مع وجود الصورة ولو كان الاسم حقيقة شرعية للصورة فقط لم يصدق "والوضع لما وجد شرطه لا يستلزم اعتبار الشرط جزءا" منه فانتفى لزوم كون الشرط جزء مفهوم المشروط. قال المصنف "ولا يخفى أنه آل كلامهم" أي الحنفية على هذا الجواب "إلى أن مصحح النهي جزء المفهوم، وهو مجرد الهيئة، فسلموا قول الخصم" في المعنى لموافقتهم له على أن مصحح النهي الوجود الحسي للمنهي، وإن اختلفوا في أن الاسم حقيقة شرعية للصورة فقط أو بقيد الاعتبار. "غير أن ضعف الدليل" المعين "لا يبطل المدلول" لجواز ثبوته بغيره "ويكفيهم"(22/336)
أي الحنفية "ما ذكرناه لهم" من أنه لو كان لعينه لامتنع المسمى لامتناع كونه قبيحا لعينه حال كونه متصفا بكونه مشروعا للشارع.
"تنبيه لما قالت الحنفية بحسن بعض الأفعال وقبحها لنفسها وغيرها كان تعلق النهي الشرعي باعتبار القبح مسبوقا به" أي بالقبح "ضرورة حكمة الناهي" لأن الحكيم لا ينهى عن شيء إلا لقبحه، قال تعالى: {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} "لا" أنه يكون "مدلول الصيغة فانقسم متعلقه" أي النهي "إلى حسي فقبحه لنفسه إلا بدليل ولا جهة محسنة فلا تقبل حرمته النسخ ولا يكون سبب نعمة كالعبث" أي اللعب لخلوه عن الفائدة الشرعية "والكفر" لما فيه من الكفران بالمنعم بجلائل النعم ودقائقها، وقبح ما لا فائدة فيه وكفران المنعم مركوز في العقول بحيث لا يتصور جريان النسخ فيه، وبهذا يعلم أن المراد بقولهم: إنه قبيح لعينه أن عين الفعل الذي أضيف إليه النهي قبيح، وإن كان ذلك لمعنى زائد على ذاته "بخلاف الكذب المتعين طريقا لعصمة نبي" فإن فيه جهة محسنة "أو" قبحه "لجهة لم يرجح عليها غيرها فكذلك" أي لا تقبل حرمته النسخ ولا يكون سبب نعمة. "ويقال فيه قبح لعينه شرعا كالزنا للتضييع" أي فإنه فعل حسي منهي عنه - بقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:(22/337)
ص -397-…32] قبيح لجهة فيه لم يرجح عليها غيرها وهي تضييع النسل، لأن الشرع قصر ابتغاء النسل بالوطء على محل مملوك بقوله تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] "فلم يبحه" الله تعالى "في ملة" من الملل. فإن قيل: ثبوت حرمة المصاهرة نعمة لأنها تلحق الأجنبيات بالأمهات والأجانب بالآباء وقد ثبتت مسببة عن الزنا عند الحنفية، وهو تناقض ظاهر لأنه يفيد جعل الزنا مشروعا بعد النهي. فالجواب منع ثبوتها مسببة عن الزنا من حيث ذاته بل من حيث إنه سبب للماء الذي هو سبب البعضية الحاصلة بالولد الذي هو مستحق للكرامات، ومنها حرمة المحارم إقامة للسبب الظاهر المفضي إلى المسبب الخفي مقامه كما في الوطء الحلال لأن الوقوف على حقيقة العلوق متعذر، والولد عين لا معصية فيه ثم يتعدى حرمة آباء الواطئ وأبنائه من الولد إلى الموطوءة، وحرمة أمهات الموطوءة وبناتها منه أيضا إلى الواطئ لصيرورة كل من الواطئ والموطوءة بعضا من الآخر بواسطة الولد؛ لأن الولد مخلوق من مائهما ومضاف إلى كل منهما وهذا هو المراد بقوله "وثبوت حرمة المصاهرة عنده" أي الزنا "بأمر آخر" لا بالزنا. وهذا التقصي من هذا الإيراد كالتقصي من الإيراد القائل: الغصب فعل حسي منهي عنه - بقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] - قبيح لجهة فيه لم يرجح عليها غيرها - وهي التعدي على الغير - وقد جعلتموه مشروعا بعد النهي حيث جعلتموه سببا لملك المغصوب إذا تغير اسمه وكان مما يملك، والملك نعمة، بأن يقال: لم يثبت الملك بالغصب مقصودا كما يثبت بالبيع والهبة بل يثبت بأمر آخر: وهو أن لا يجتمع البدلان في ملك واحد حكما للضمان المتقرر عليه بالغصب وهذا معزو إلى بعض المتقدمين من الحنفية، وإليه أشار بقوله "كثبوت ملك الغاصب عند زوال الاسم وتقرر الضمان فيما بحيث يملك" وفي المبسوط ولكن هذا غلط لأن الملك(22/338)
عندنا يثبت من وقت الغصب ولهذا نفذ بيع الغاصب وسلم الكسب له قال المصنف "والمختار: الغصب عند الفوات سبب الضمان مقصودا جبرا" للفائت رعاية للعدل "فاستدعى" كونه سبب الضمان "تقدم الملك فكان" الغصب "سببا له" أي الملك "غير مقصود بل بواسطة سببيته" أي الغصب "لمستدعيه" أي الملك وهو الضمان "وهذا قولهم" أي الحنفية "في الفقه: هو" أي الغصب "بعرضية أن يصير سببا" لملك المغصوب "لا يقال لا أثر للعلة البعيدة" في الحكم "فيصدق نفي سببيته" أي الغصب "للملك" لأنه السبب البعيد له وحينئذ "فالحق الأول" أي كون السبب له أمرا آخر، هو الضمان لا نفس الغصب؛ لأنا نقول: ليس الحق الأول بناء على هذا "لأن" نفي السببية للملك "الصادق" على الغصب هو نفي السببية "المطلق" أي للملك المطلق "وسببيته" أي الغصب للملك إنما هو "بقيد كونه" أي الملك "غير مقصود منه" أي الغصب بل إنما ثبت للقضاء بالقيمة. "ولولاه" أي ملك الغاصب للمغصوب "لم يصح" أي لم ينفذ "بيع الغاصب" له قبل الضمان لانتفاء ما عدا الملك من شروط النفوذ وحيث انتفى الملك أيضا فقد انتفى شرط النفوذ مطلقا لكنه نافذ، فالملك ثابت له، فإن قيل: يشكل بعدم نفوذ عتقه، قيل: لا، لأن المستند ثابت من وجه دون وجه فيكون ناقصا، والناقص يكفي لنفوذ البيع لا(22/339)
ص -398-…العتق كالمكاتب يبيع ولا يعتق "ولم يسلم له الكسب السابق" لانتفاء موجب السلامة حينئذ لكنه يسلم له، فالملك ثابت له. فإن قيل: يشكل ملكه المغصوب بالغصب بعدم ملكه زوائده المنفصلة كالولد، أجيب: لا كما أشار إليه بقوله "وعدم ملك زوائده المنفصلة لأنه" أي ملك المغصوب "ضروري" أي يثبت شرطا لحكم شرعي هو وجوب الضمان المتوقف على خروج المغصوب عن ملك المغصوب منه ليكون القضاء بالقيمة جبرا لما فات إذ لا جبر بدون الفوات، وما يثبت شرطا لحكم شرعي يكون مقدما عليه ضرورة تقدم الشرط على المشروط فزوال ملك الأصل مقتضى، وملك البدل مترتب عليه، ثم حيث كان زوال الملك ضروريا لم يتحقق فيما ليس تبعا للمغصوب "والمنفصل" من الزيادة كالولد "ليس تبعا" له فلا يتحقق فيه "بخلاف الزيادة المتصلة" كالسمن والجمال "والكسب" فإن كلا منهما تبع محض له، أما المتصلة فظاهر، وأما الكسب فلأنه بدل المنفعة، والحكم يثبت في التبع بثبوته في الأصل سواء ثبت في المتبوع مقصودا سببه أو شرطا لغيره، ثم لا خفاء في أن شرط الشيء تابع له فثبوت الملك للغاصب حسن بحسن مشروطه، وإن قبح في نفسه "بخلاف المدبر" فإنه، وإن لم يثبت الملك فيه للغاصب وإن أدى الضمان كما وقع الاحتراز عنه بقوله فيما بحيث يملك لأن المدبر المطلق لا يقبل الانتقال من ملك إلى ملك عند الحنفية "فإنه" أي الغاصب "يملك كسبه" أي المدبر "إن كان" له كسب "بناء على أنه" أي المدبر "خرج عن" ملك "المولى تحقيقا للضمان بقدر الإمكان". فإن قيل يرد على هذا الأصل ملك الكافر مال المسلم إذا أحرزه بدار الحرب فإن الاستيلاء فعل حسي منهي عنه لذاته فلا يكون مشروعا بعد النهي وقد خالفه الحنفية حيث جعلوه بعد النهي سببا للملك الذي هو نعمة وهذا هو المراد بقوله "وأما الكافر بالإحراز". قلنا لا يرد "فإما لعدم النهي" للكافر عن ذلك "بناء على عدم خطابهم بالفروع فليس من الباب وإما" أنه إنما يملك ذلك بالاستيلاء(22/340)
"عند ثبوت الإباحة" أي إباحة ذلك المال له "بانتهاء ملك المسلم" أي بسبب انتهاء ملك المسلم لذلك المال فهو متعلق بثبوت الإباحة "بزوال ملك المسلم" أي بسبب زوال ملكه عنه فهو متعلق بانتهاء ملك المسلم "بزوال العصمة" أي بسبب زوال كون ملك المسلم حرام التعرض له لحق الشرع أو لحق العبد فهو متعلق بزوال ملك المسلم "بالإحراز بدارهم" أي بسبب إحرازهم مال المسلم بدار الحرب فهو متعلق بزوال العصمة، وإنما كان إحرازهم له بدار الحرب مزيلا للعصمة "لانقطاع الولاية" أي ولاية التبليغ والإلزام فكان استيلاؤهم على هذا المال وعلى الصيد سواء. والحاصل أن عصمة مال المسلم انتهت بانتهاء سببها وهو إحرازه له لأنها إنما ثبتت بالإحراز وهو إنما يتحقق باليد عليه حقيقة بأن كان في تصرفه أو بالدار وقد انتهى كلاهما بإحرازهم المأخوذ بدار الحرب، وإذا انتهت سقط النهي فلم يكن الاستيلاء محظورا، فصلح أن يكون سببا للملك ثم يتلخص من هذا أن ما هو محظور - وهو ابتداء الاستيلاء - ليس بسبب الملك وما هو سبب الملك - وهو حال البقاء - ليس بمحظور فلا يرد النقض ولا يقال فكما ابتداؤه غير مفيد للملك لعدم المحل فكذا بقاؤه كمن اشترى خمرا فصارت خلا فإنه لا(22/341)
ص -399-…ينعقد البيع، وإن صارت محلا له؛ لأنا نقول قد عرف أن ما له امتداد فلحالة بقائه من الحكم ما لابتدائه كأنه يحدث ساعة فساعة كما في مسألتي اللبس والسكنى "والاستيلاء ممتد فبقاؤه كابتدائه" فصار بعد الإحراز بدار الحرب كأنه استولى على مال معصوم ابتداء بدار الحرب فيصلح سببا للملك، ومسألة البيع ليست من هذا القبيل لأنه ليس بممتد فإذا لم يصادف محله بطل أصلا، فإن قيل: يرد على هذا الأصل جواز ترخص المسافر سفر معصية بقطع طريق أو إباق فإنه فعل حسي منهي عنه فينتفي مشروعيته، وقد قال الحنفية بها حيث جعلوه سببا للرخصة التي هي نعمة، فالجواب منع كون سفر المعصية منهيا عنه لذاته بل كما قال. "والترخص بسفر المعصية للعلم بأنه" أي النهي "فيه" أي سفر المعصية "لغيره" أي لغير ذات السفر "مجاورا" للسفر "من القصد للمعصية، إذ قد لا تفعل" المعصية بل يتبدل قصدها بقصد طاعة "ويدرك الآبق الإذن" بالسفر من مولاه فيخرج عن كونه عاصيا فلم يؤثر هذا المعنى المجاور له في كونه من حيث هو سير مديد سببا للنعمة؛ لأنه مباح غير محظور "وكذا وطء الحائض عرف" أن النهي عنه بقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] "للأذى" بدليل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ أَذىً} [البقرة: 222] وهو مجاور في المحل قابل للانفكاك كما تقدم "فاستعقب الإحصان وتحليل المطلقة" ثلاثا لعدم المانع منهما وصار كما يثبت حرمته باليمين ولم يبطل به إحصان القذف أيضا لعدم المقتضي لإبطاله ثم عطف على قوله إلى حسي قوله "وإلى شرعي فالقطع بأنه" أي النهي فيه "لغيره" أي غير المنهي عنه، وإلا لم يشرع أصلا قطعا "ولا ينتهض" المنهي عنه "سببا" للنعمة "إذا رتب" الشارع عليه "حكما يوجب كونه" أي النهي عنه "لعينه"أي المنهي عنه "أيضا كنكاح المحارم" ذوات الرحم فإنه فعل "شرعي عقل قبحه لأنه طريق القطعية" للرحم المأمور بصلتها لما فيه من الامتهان بالاستفراش وغيره.(22/342)
"فحين أخرجن عن المحلية" لنكاحه "صار" نكاحه إياهن "عبثا فقبح لعينه فبطل ثم الإخراج" عن المحلية "ليس إلا لازما لما مهدناه" سالفا "من أنه" أي الشارع "لم يجعل له" أي للنكاح "حكما إلا الحل فنافى" حكمه "مقتضى النهي" وهو التحريم فكان المنهي عنه باطلا "وكذا الصلاة بلا طهارة باطلة لمثله" أي لانتفاء أهلية العبد لها بلا طهارة شرعا، لأن الشارع قصر أهليته لها على حال الطهارة فصار فعلها بدون الطهارة عبثا فقبح لعينه. "وكان يجب مثله" أي بطلان الصلاة "في الأوقات المكروهة" لما سبق من انتفاء الأداء والقضاء "لكن الظن المتقدم" لهم أوجب خلافه، وقد عرفت ما فيه "وروي عن أبي حنيفة بطلانها كما اخترناه، وهو قول زفر" والدارية تقوي هذه الرواية فليكن التعويل عليها "فإن لم يرتب" الشارع حكما يوجب كون النهي عن المنهي عنه لعينه أيضا "ظهر أنه لم يعتبر فيه جهة توجب قبحا في عينه كالبيع" الفاسد وفي وقت النداء لصلاة الجمعة "على ما تقدم فينعقد سببا" لحكمه الذي هو الملك "فظهر أن الاختلاف" في المنهيات الشرعيات من حيث الانتهاض سببا وعدمه "ليس مرتبا على أن النهي عن الشرعي يدل على الصحة" للمنهي عنه كما هو معزو إلى الحنفية، وإلا لما اختلفت في انتهاضها سببا، بل على أن النهي إن أخرجها عن المحلية لمنافاة حكمه لها لم(22/343)
ص -400-…تنتهض سببا، وإلا انتهضت سببا. "وقولهم" أي الحنفية النهي في الشرعيات "يدل على مشروعيته" أي الفعل المنهي عنه "بأصله لا بوصفه إنما يفيد صحة الأصل" أي أصل الفعل "ولا يختلف فيه" أي في كون أصل الفعل صحيحا "لأنه" أي الأصل "غير المنهي عنه" الذي هو مجموع الأصل والوصف "فلا يستعقب" كون النهي يدل على مشروعية الفعل بأصله لا بوصفه "صحته" أي الأصل "بوصف يلازمه" أي الأصل فلا يتم كون النهي عن الشرعي يدل على صحة المنهي عنه، فليتأمل، والله أعلم.(22/344)
عنوان الكتاب:
التقرير والتحبير – الجزء الثاني
تأليف:
محمد بن محمد ابن أمير الحاج الحنبلي
دراسة وتحقيق:
عبد الله محمود محمد عمر
الناشر:
دار الكتب العلمية - بيروت
الطبعة الاولى 1419هـ/1999م(23/1)
ص -3-…"بسم الله الرحمن الرحيم"
الفصل الخامس: في المفرد باعتبار استعماله
"هو" أي المفرد "باعتبار استعماله ينقسم إلى حقيقة ومجاز" ووجه حصره فيهما ظاهر من تعريفهما "فالحقيقة" فعيلة إما بمعنى فاعل من حق الشيء يحق بالضم والكسر إذا ثبت والتاء للتأنيث وإما بمعنى مفعول من حققت الشيء بالتخفيف أحقه بالضم إذا أثبته فيكون المعنى الكلمة الثابتة أو المثبتة في مكانها الأصلي والتاء للنقل من الوصفية إلى الاسمية الصرفة كالأكيلة عند الجمهور وللتأنيث عند السكاكي بناء على تقدير لفظ الحقيقة صفة مؤنث غير مذكور أي الكلمة ونوقش بأنه تكلف مستغنى عنه بما تقدم وهي اصطلاحا "اللفظ المستعمل فيما وضع له أو ما صدق عليه" أي أو في فرد من ماصدقات مفهوم اللفظ الموضوع له "في عرف به" أي بذلك العرف "ذلك الاستعمال" فخرج بالمستعمل المهمل والموضوع قبل الاستعمال فإنه لا يوصف بحقيقة ولا مجاز وبقوله فيما وضع له المجاز والغلط وسينص عليه وتأتي فائدة أو ما صدق عليه وبقوله في عرف به ذلك الاستعمال اللفظ الذي له وضعان لمعنيين مختلفين في عرفين إذا استعمل في كل منهما بغير الوضعي في العرف الذي به التخاطب فإنه فيه مجاز "وتنقسم" الحقيقة "بحسب ذلك" الوضع "إلى لغوية" بأن يكون لواضع اللغة "وشرعية" بأن يكون للشارع "كالصلاة" فإنها حقيقة لغوية في الدعاء لأن واضع اللغة وضعها له وحقيقة شرعية في العبادة المخصوصة لأن الشارع وضعها لها "وعرفية عامة" بأن يكون لأهل العرف العام "كالدابة" في ذوات الأربع أو الحوافر لأن أهل العرف العام وضعوها لها "وخاصة" بأن يكون لأهل العرف الخاص "كالرفع" للحركة المخصوصة فإن أهل العربية وضعوه لها "والقلب" كجعل المعلول علة وقلبه فإن الأصوليين وضعوه له "ويدخل" في الحقيقة اللفظ "المنقول ما وضع لمعنى باعتبار مناسبة لما كان له أولا" على ما فيه من تفصيل آت قريبا "والمرتجل" كما صرح به صدر الشريعة وهو المستعمل في وضعي لم(23/2)
يسبق بآخر "والأعم" المستعمل "في الأخص كرجل في زيد" قال المصنف رحمه الله تعالى: لأن الموضوع للأعم حقيقة في كل فرد من أفراده كإنسان في زيد لا يعرف القدماء غير هذا إلى أن حدث التفصيل بين أن يراد به خصوص الشخص يعني بجعل خصوص عوارضه المشخصة مرادا مع المعنى الأعم بلفظ الأعم فيكون مجازا وإلا فحقيقة وكأن هذه الإرادة قلما تخطر عند الإطلاق حتى ترك الأقدمون ذلك التفصيل بل المتبادر من مراد من يقول لزيد يا إنسان يا من يصدق عليه هذا اللفظ لا يلاحظ أكثر من ذلك وهذا فائدة أو ما صدق عليه "وزيادة أولا" بعد قوله فيما وضع له كما ذكر الآمدي ومن وافقه "تخل بعكسه لصدق الحقيقة على المشترك(23/3)
ص -4-…في المتأخر وضعه له" وهذه الزيادة تمنع صدق الحد عليه "وليس في اللفظ أنه" أي أولا "باعتبار وضع المجاز" ليخرج به المجاز على هذا التقدير كما ذكر الشيخ سراج الدين الهندي "على أنه لو فرض" وضع المجاز "جاز أولية وضع المجاز كاستعماله" أي كما يجوز أولية استعمال المجاز بالنسبة إلى كونه حقيقة بأن يوضع اللفظ لمعنى ثم يستعمل فيما بينه وبينه علاقة قبل أن يستعمل في المعنى الحقيقي كذلك يجوز أولية وضع المجاز فيه قبل وضعه لمعناه بأن يقول: وضعت هذا اللفظ لأستعمله فيما بينه وبين ما سأضعه له مناسبة اعتبرتها ذكره المصنف "وبلا تأويل" أي وزيادة السكاكي بلا تأويل بعد ذكر الوضع ليحترز به عن الاستعارة لعد الكلمة فيها مستعملة فيما هي موضوعة له لكن بالتأويل في الوضع وهو أن يستعار المعنى الموضوع له لغيره بطريق الادعاء مبالغة ثم يطلق عليه اللفظ فيكون مستعملا فيما هو موضوع له ادعاء لا تحقيقا وهي مجاز لغوي على الأصح "بلا حاجة" إليه في صحة الحد "إذ حقيقة الوضع لا تشمل الادعائي" كما سيتضح قريبا وأحسن ما اعتذر عنه في ذلك أنه أراد دفع الوهم لمكان الاختلاف في الاستعارة هل هي مجاز لغوي أو حقيقة لغوية ونظيره في دفع الوهم الاحتراز في حد الفاعل بقيد تقديم الفعل عليه عن المبتدأ في زيد قائم "والمجاز" في الأصل مفعل إما مصدر ميمي بمعنى اسم الفاعل من الجواز بمعنى العبور والتعدي كما اختاره السكاكي سميت به الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له لعلاقة الجزئية لأن المشتق منه جزء من المشتق أو اسم مكان منه سميت به الكلمة الجائزة أي المتعدية مكانها الأصلي أو الكلمة المجوز بها على معنى أنهم جازوا بها مكانها الأصلي كما ذكره الشيخ عبد القاهر فالتسمية من إطلاق المحل وإرادة الحال أو من جعلت كذا مجازا إلى حاجتي أي طريقا لها على أن معنى جاز المكان سلكه فإن المجاز طريق إلى تصور معناه كما ذكره صاحب التلخيص واصطلاحا "ما استعمل لغيره"(23/4)
أي لفظ مستعمل لغير ما وضع له وما صدق عليه ما وضع له "لمناسبة" بينه وبين ذلك الغير "اعتبر نوعها وينقسم" المجاز إلى لغوي وشرعي وعرفي عام وخاص "كالحقيقة" لأن استعمال اللفظ في المعنى الذي لم يوضع له إن كان لمناسبة لما وضع له لغة فهو مجاز لغوي وهكذا تقول في سائر الأقسام وبالجملة كل مجاز متفرع على معنى لو استعمل اللفظ فيه كان حقيقة فيكون المجاز تابعا للحقيقة في هذه الأقسام الأربعة "وتدخل الأعلام فيهما" أي في الحقيقة والمجاز فالمرتجل في الحقيقة وهو ظاهر والمنقول إن لم يكن معناه الثاني من أفراد المعنى الأول فهو حقيقة في الأول مجاز في الثاني من جهة الوضع الأول ومجاز في الأول حقيقة في الثاني من جهة الوضع الثاني وإن كان معناه الثاني من أفراد معناه الأول فإن كان إطلاقه عليه باعتبار أنه من أفراد الأول فهو حقيقة من جهة الوضع الأول مجاز من جهة الوضع الثاني وإن كان باعتبار أنه من أفراد الثاني فحقيقة من جهة الوضع الثاني مجاز من جهة الوضع الأول وممن نص على أن المجاز يدخل في الأعلام الغزالي وقال ابن لقمان الحنفي: ذهب عامتهم إلى أن الألقاب يدخل فيها الحقيقة والمجاز "وعلى من أخرجها" أي الأعلام منهما كالآمدي والإمام(23/5)
ص -5-…الرازي "تقييد الجنس" المأخوذ في تعريفهما بغير العلم واقتصر البيضاوي على أنها لا توصف بالمجاز بالذات لأنها لم تنقل لعلاقة وفيه نظر "وخرج عنهما" أي الحقيقة والمجاز "الغلط" كخذ هذا الفرس مشيرا إلى كتاب بيدك أما عن الحقيقة فلأنه لم يستعمل في الوضعي وأما عن المجاز فلأنه لم يستعمل في غير الوضعي لعلاقة اعتبر نوعها وقد يقال لأن الاستعمال يؤذن بالقصد إذ كان فعلا اختياريا ولا قصد في الغلط إلى ذلك المعنى بذلك اللفظ كما مشى عليه المصنف في تحشية هذا الموضع وهو متعقب بأنه غلط إذ ليس المراد بالغلط المخرج عنهما ما يكون سهوا من اللسان بل يكون خطأ في اللغة صادرا عن قصد فإن قيل حد المجاز غير جامع لخروج المجاز بالنقصان والزيادة كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] و{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] عنه أجيب بأن لفظ المجاز مقول بالاشتراك على ما نحن بصدده مما هو صفة اللفظ باعتبار استعماله في المعنى وعلى المجاز المورد الذي هو صفة الإعراب أو اللفظ باعتبار تغير حكم إعرابه والتعريف للأول ثم نقول "ومجاز الحذف حقيقة لأنه المذكور" كالقرية "باعتبار تغير إعرابه ولو أريد به" أي بالمذكور كالقرية اللفظ "المحذوف" كالأهل حتى كان لفظ القرية مستعملا في أهل القرية "كان" المذكور هو المجاز في معناه الوضعي "المحدود ومجاز الزيادة قيل ما لم يستعمل لمعنى ومقتضاه" أي هذا القول أنه "لا حقيقة ولا مجاز" لأن كلا منهما مستعمل لمعنى "ولما لم ينقص" مجاز الزيادة "عن التأكيد قيل لا زائد" في كلام العرب "والحق أنه" أي مجاز الزيادة "حقيقة لوضعه لمعنى التأكيد" في التركيب الخاص وإن عرف لغيره في غيره مثلا من للتبعيض وللابتداء فإذا وقعت قبل نكرة عامة كانت لتأكيد عمومه وضعا وقس قاله المصنف "لا مجاز لعدم العلاقة" التي هي شرط في المجاز "فكل ما استعمل زائدا مشترك" بين ما لم يقصد به معنى أصلا وهو المنفي عن الكلام(23/6)
الفصيح وبين ما لا يخل سقوطه بالمعنى الأصلي وهو لا يعرى عن التأكيد وهذا هو المدعى وجوده في الكلام الفصيح وحينئذ فكما قال "وزائدا باصطلاح" للنحويين وهو عطف على حقيقة.
"واعلم أن الوضع يكون لقاعدة كلية جزئيات موضوعها ألفاظ مخصوصة و" يكون "لمعنى خاص وهو" أي الوضع لمعنى خاص "الوضع الشخصي والأول" أي الوضع لقاعدة كلية إلخ الوضع "النوعي وينقسم" النوعي: "إلى ما يدل جزئي موضوع متعلقه" على المعنى "بنفسه" فالضمير في متعلقه وبنفسه راجع إلى ما ثم بنفسه متعلق ببدل "وهو" أي هذا القسم "وضع قواعد التركيب والتصاريف وبالقرينة" أي وإلى ما يدل جزئي موضوع متعلقه بالقرينة "وهو وضع المجاز كقول الواضع: كل مفرد بين مسماه وغيره مشترك اعتبرته" أي المفرد "أي استعملته في الغير باعتباره" أي المشترك "فلكل" من الناس أن يستعمل "ذلك" المفرد في ذلك الغير باعتبار المشترك بينهما "مع قرينة" تفيد ذلك "ولفظ الوضع حقيقة عرفية في كل من الأولين" الشخصي والنوعي الدال جزئي موضوع متعلقه بنفسه لتبادر كل منهما إلى الفهم من إطلاق لفظ الوضع "مجاز في الثالث" أي النوعي الدال جزئي موضع متعلقه بالقرينة "إذ لا(23/7)
ص -6-…يفهم بلا تقييده" أي الوضع بالمجاز كأن يقال وضع المجاز "فاندفع" بهذا التحقيق "ما قيل" على حد الحقيقة "إن أريد بالوضع الشخصي خرج من الحقيقة" كثير من الحقائق "كالمثنى والمصغر" والمنسوب وبالجملة كل ما يكون دلالته بحسب الهيئة دون المادة لأنها إنما هي موضوعة بالنوع لا بالشخص "أو" أريد به مطلق الوضع "الأعم" من الشخصي والنوعي "دخل المجاز" في تعريف الحقيقة لأنه موضوع بالنوع وإنما اندفع لأن المراد به ما يتبادر إلى الفهم من إطلاقه وهو تعيين اللفظ بإزاء المعنى بنفسه أي لا بضميمة قرينة إليه فتدخل الحقائق المذكورة ولا يدخل المجاز "وظهر اقتضاء المجاز وضعين" وضعا "للفظ" لمعنى بحيث إذا استعمل فيه يكون استعمالا له في معناه الوضعي وهو الحقيقة "و" وضعا "لمعنى نوع العلاقة" بين المعنى الحقيقي والمجازي وهي بكسر العين ما ينتقل الذهن بواسطته عن محل المجاز إلى الحقيقة لأنها في الأصل ما يعلق الشيء بغيره نحو علاقة السوط وعلاقة المجاز كذلك لأنها تعلقه بمحل الحقيقة بأن ينتقل الذهن بواسطتها عن محل المجاز إلى الحقيقة كما ذكرنا أما بفتح العين فهي علاقة الخصومة والحب وهو تعلق الخصم بخصمه والمحب بمحبوبه ذكره الطوفي هذا وذكر المحقق الشريف أن الخلاف في أن المعنى المجازي وضع اللفظ بإزائه أو لا لفظي منشؤه أن وضع اللفظ للمعنى فسر بوجهين: الأول تعيين اللفظ بنفسه للمعنى فعلى هذا لا وضع في المجاز أصلا لا شخصيا ولا نوعيا لأن الواضع لم يعين اللفظ للمعنى المجازي بل بالقرينة الشخصية أو النوعية فاستعماله فيه بالمناسبة لا بالوضع والثاني تعيين اللفظ بإزاء المعنى وعلى هذا ففي المجاز وضع نوعي قطعا إذ لا بد من العلاقة المعتبر نوعها عند الواضع وأما الوضع الشخصي فربما يثبت في بعض وهذا الخلاف جار على مذهبي وجوب النقل وعدمه فعلى الثاني استعمال المجاز بمجرد المناسبة المعتبرة نوعا والخلاف في أن هذا الاعتبار وضع أولا وعلى(23/8)
الأول استعماله بالمناسبة المعتبر نوعها مع الاستعمال الشخصي والنزاع فيما ذكر وليس الاستعمال مع القرينة مستلزما للوضع بالمعنيين حتى يتوهم تفرع الخلاف على المذهبين فمن قال بوجوب التعقل قال بالوضع ومن قال بعدمه قال بعدم الوضع أيضا ويمكن أن يقال: منشأ الخلاف أن الوضع هل هو تخصيص عين اللفظ بالمعنى فيكون تخصيصا متعلقا بعين اللفظ بالقياس إلى معناه وهو تخصيص اللفظ بالمعنى فينقسم إلى شخصي ونوعي فعلى الأول المجاز موضوع عند المشترطين النقل في الآحاد إذ قد علم بالاستعمال تخصيص عينه بإزاء المعنى وليس بموضوع عند غيرهم فالاختلاف معنوي راجع إلى وجوب النقل وعدمه وعلى الثاني هو موضوع على المذهبين ويرد على هذا أن نقل الاستعمال لا يدل على الوضع الشخصي وأيضا المشتقات كاسم الفاعل وغيره موضوعة لمعانيها الحقيقية بلا خلاف مع أن الظاهر أن وضعها نوعي.
"وهي" أي العلاقة "بالاستقراء" على تحرير المصنف خمسة "مشابهة صورية" بين محل الحقيقة والمجاز "كإنسان للمنقوش" أي كإطلاق لفظ إنسان على شكله المنقوش(23/9)
ص -7-…بجدار وغيره "أو" مشابهة بينهما "في معنى مشهور" أي صفة غير الشكل ظاهرة الثبوت لمحل الحقيقة لها به مزيد اختصاص وشهرة لينتقل الذهن عند إطلاق اللفظ من المعنى الحقيقي أعني الموصوف إلى تلك الصفة فيفهم المعنى الآخر أعني المجازي باعتبار ثبوت الصفة له "كالشجاعة للأسد" فإنها صفة ظاهرة له فإذا أطلق فهم منه الحيوان المفترس وانتقل الذهن منه إلى الشجاع وإذا نصبت قرينة منافية لإرادة المفترس كفي الحمام فهم أن المراد منه شجاع غير الأسد فصح إطلاقه على الرجل الشجاع للاشتراك في الشجاعة "بخلاف البخر" فإنه صفة خفية له فلا يصح إطلاقه على الرجل الأبخر للاشتراك في البخر. فهذا النوع بقسميه إحدى العلاقات وقد يعدان نوعين "ويخص" هذا النوع "بالاستعارة في عرف" أي لأهل علم البيان فهي اللفظ المستعمل فيما شبه بمعناه الأصلي لعلاقة المشابهة وكثيرا ما تطلق على استعمال المشبه به في المشبه فالمشبه به مستعار منه والمشبه مستعار له ولفظ المشبه به مستعار لأنه بمنزلة اللباس المستعار من واحد فألبس غيره وما عدا هذا النوع من المجاز يسمى مجازا مرسلا وحكى القرافي أن منهم من قال: كل مجاز مستعار ولا مشاحة في الاصطلاح "والكون" عليه أي "كون المجازي سابقا بالحقيقي على اعتبار الحكم كآتوا اليتامى" فإن المعنى المجازي وهو اليتم سبق اعتبار حقيقته الحكم وهو الإيتاء وإن كان الحقيقي ثابتا حال التكلم فهو مجاز لانتفاء المعنى الحقيقي عنه حال وقوع النسبة عليه وهو الإيتاء فآتوا اليتامى في زمان ثبوت اليتم مجاز وإن وقع التكلم به حال ثبوت الحقيقي لليتامى لأنه ليس متصفا به حال وقوع النسبة عليه وهو إيتاء الأولياء وإنما كان كذلك لأنه لم يذكر إلا ليثبت الحكم في معناه والواقع أن الحكم لم يرد إثباته فيه حال المعنى الحقيقي الذي هو حال التكلم بل إذا صار إلى خلافه فكان النظر إلى المعنى المجازي في ذلك الوقت ومن هذا رأيت عبدا تريد معتوقا1 فإن(23/10)
معناه الحقيقي كان حاصلا قبل وقوع نسبة الرؤية إليه وقبل التكلم ذكره المصنف. رحمه الله تعالى فهذا النوع علاقة ثانية "والأول" أي كون الحقيقي "آيلا إليه" أي إلى المجازي "بعده" أي بعد اعتبار الحكم "وإن كان" الحاصل هو "الحقيقي حال التكلم" أي زمان إيقاع النسبة والتكلم كون الحقيقي المراد باللفظ آيلا إلى المجازي أي يصير إياه بعد وقوع النسبة إليه "كقتلت قتيلا وإنما لم يكن" هذا "حقيقة لأن المراد" قتلت "حيا" وإنه يصير قتيلا بعد القتل فكان مجازا باعتبار أوله بعد القتل إلى المعنى الحقيقي ثم ظاهر هذا أنه لا بد من الصيرورة إليه فلا يكتفى بمجرد توهمها وعليه اقتصر كثير وذكر بعضهم أنه يكتفى بتوهمها وإن لم يصر بالفعل كما أشار إليه بقوله "وكفى" في كونه مجاز الأول "توهمه"
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 معتوقاً كذا في النسخ معتوق بوزن مفعول وهو غير جائز كما في نص عليه أئمة اللغة لأن عتق الثلاثي لازم لا يبنى منه مفعول ويتعدى بالهمز فاسم المفعول منه معتق أفاده في المصباح. كتبه مصححه.(23/11)
ص -8-…أي الأول إليه "وإن لم يكن كعصرت خمرا فهريقت في الحال" وتعقبه المصنف بقوله "وكونه" أي الحقيقي الذي يئول إليه "له" أي للمعنى المجازي "بالقوة الاستعداد فيساوي" الاستعداد "الأول على التوهم" أي على الاكتفاء به إذ لا يلزم من مجرد الاستعداد للشيء حصوله. "وعلى اعتبار حقيقة الحصول لا" يساوي الاستعداد الأول بل يكون الاستعداد أعم من الأول "فهو" أي الاعتبار لتحقق الصيرورة إليه في الأول "أولى" ويجعل المكتفى فيه بالتوهم مجاز الاستعداد لأنه من العلاقات والأصل فيها عدم الاتحاد "ويصرف المثال" أي عصرت خمرا فهريقت في الحال "للاستعداد" لا للأول لوجود التوهم فيه دون تحقق الحصول فهما نوعان من العلاقات ثالثة ورابعة "والمجاورة" وهذه هي العلاقة الخامسة "ومنها" أي المجاورة "الجزئية للمنتفي عرفا بانتفائه" أي كون المسمى الحقيقي للاسم المطلق على غيره جزءا من ذلك الغير بحيث ينتفي ذلك الغير بانتفائه إما في نفس الأمر أو عرفا عاما إن كان التخاطب به أو خاصا إن كان التخاطب به فأبهمه المصنف ليتناول كليهما واقتصر عليه لأنه يعلم منه بطريق أولى صلاحية الجزئية للمنتفي في نفس الأمر بانتفائه للعلامة "كالرقبة" أي كإطلاقها على الذات كما في قوله تعالى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92]. فإن الذات تنتفي بانتفاء الرقبة "لا الظفر" فإن الذات لا تنتفي بانتفائها فلا يصح إطلاقه عليها "بخلاف الكل في الجزء" أي إطلاق اسم الكل على الجزء فإنه لا يشترط فيه أن يكون الجزء بهذه المثابة قلت: وعلى هذا فلا يتم كون إطلاق اسم الكل على الجزء أقوى ; لأن الكل يستلزم الجزء من غير عكس كما ذكره البيضاوي "ومنه" أي إطلاق اسم الكل على الجزء "العام لفرده {الذين قَالَ لَهُمُ النَّاسُ}" بناء على أن المراد بالناس نعيم بن مسعود الأشجعي كما ذكره ابن عبد البر عن طائفة من المفسرين وابن سعد في الطبقات وجزم به السهيلي قلت وقول الإسنوي وفيه نظر فإن(23/12)
العموم من باب الكلية لا من باب الكل والفرد منه من باب الجزئية لا من باب الجزء ا هـ. فيه نظر يعرف مما تقدم في أول مباحث العام "وقلبه" أي إطلاق فرد من العام على العام نحو "{عَلِمَتْ نَفْسٌ} [التكوير: 14]" فإن المراد كل نفس {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء: 69] أي رفقاء "والذهنية" أي ومن المجاورة المجاورة الجزئية الذهنية "كالمقيد على المطلق كالمشفر" بكسر الميم وهو شفة البعير "على الشفة مطلقا ولاجتماع الاعتبارين" وهما التشبيه وعدمه في اللفظ الواحد بالنسبة إلى المعنى الواحد "صح" أن يكون إطلاق المشفر على شفة الإنسان "استعارة" إذا كان المراد تشبيهها بمشفر الإبل في الغلظ كما صح أن يكون مجازا مرسلا من إطلاق المقيد على المطلق من غير قصد إلى التشبيه "وقلبه" أي إطلاق المطلق على المقيد. "والمراد أن يراد خصوص الشخص" كزيد "باسم المطلق" كرجل "وهو" أي والقول بأن هذا مجاز قول لبعض المتأخرين "مستحدث والغلط" فيه جاء "من ظن" أن يكون المراد بوقوع "الاستعمال فيما وضع له" وقوعه "في نفس المسمى" الكلي "لا أفراده" فيكون استعماله في فرد منها مرادا به خصوص عوارض(23/13)
ص -9-…الفرد المشخصة مع معناه الأعم استعمالا في غير ما وضع له فيكون مجازا وليس هذا الظن بمطابق للواقع إذ هذه الإرادة قلما تخطر عند الإطلاق "ويلزمهم أن أنا من متكلم خاص وهذا لمعين مجاز" لأن كلا منهما موضوع لمعنى كلي شامل لأفراده فاستعماله في جزئي منها استعمال في غير ما وضع له "وكثير" أي ومجازية كثير مما عدا هذين مما هو كلي وضعا جزئي استعمالا "والاتفاق على نفيه" أي نفي كون استعمال هذه في أفراد خاصة منها مجازا "فإنما هو" أي استعمال المطلق في فرد من أفراده "حقيقة كما ذكرنا أول البحث وكونهما" أي الحقيقي والمجازي "عرضين في محل كالحياة للعلم" فيسمى العلم حياة لهذه العلاقة. قلت: إلا أنه لو قال قائل: لو كانت العلاقة بينهما في صحة تسمية العلم حياة هذه لجاز العكس والظاهر عدمه لاحتاج إلى جواب "أو" كونهما عرضين "في محلين متشابهين" أي متقاربين "ككلام السلطان لكلام الوزير" وبالعكس "أو" كونهما "جسمين فيهما" أي في محلين متقاربين "كالراوية" وهي في الأصل اسم للبعير الذي يحمل المزادة "للمزادة" أي المزود الذي يجعل فيه الزاد أي الطعام المتخذ للسفر كذا في شرحي التلخيص وشرح المفتاح للتفتازاني والذي في شرحه للمحقق الشريف والمزادة ظرف الماء يستقي به على الدابة التي تسمى راوية قال أبو عبيد: لا تكون المزادة إلا من جلدين تفأم بجلد ثالث بينهما لتتسع وجمعها المزاد والمزايد وأما الظرف الذي يجعل فيه الزاد أي الطعام المتخذ للسفر فهو المزود وجمعه المزاود انتهى. والجملة من الصحاح وهو الصواب وعليه لا بالتزام ما قال أبو عبيد ما في منهاج البيضاوي كالراوية للقربة إذ هي ما يستقى فيه الماء كما في الصحاح "وكونهما" أي الحقيقي والمجازي "متلازمين ذهنا" بالمعنى الأعم "كالسبب للمسبب" نحو رعينا الغيث أي النبات الذي سببه الغيث "وقلبه" أي إطلاق اسم المسبب على السبب "وشرطه" أي شرط قلبه "عند الحنفية الاختصاص" أي اختصاص المسبب(23/14)
بالسبب "كإطلاق الموت على المرض" المهلك "والنبت على الغيث" قلت: ولقائل أن يقول: في هذين نظر فإن الموت ليس بمختص بالمرض لوقوعه بدونه كثيرا والنبت ليس بمختص بالغيث لوجوده بدون خصوص الغيث نعم هو مختص بالماء ولعله مطلقا هو المراد بالغيث من إطلاق المقيد على المطلق وإلا فالوجه والنبت على الماء "والملزوم على اللازم كنطقت الحال" مكان دلت فإن النطق ملزوم للدلالة وقلبه كشد الإزار لاعتزال النساء كما في قوله:
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم …دون النساء ولو باتت بأطهار
"أو" متلازمين "خارجا كالغائط على الفضلات" لأن الغائط وهو المكان المنخفض مما يقصد عادة لإزالتها "وهو" أي إطلاق الغائط عليها "المحل على الحال وقلبه" أي إطلاق الحال على المحل كقوله تعالى {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ} [آل عمران: 107] أي الجنة التي تحل فيها الرحمة "وأدرج في" التجاور "الذهني أحد المتقابلين في الآخر" فإن بينهما مجاورة في الخيال ولا سيما بين الضدين حتى إن الذهن ينتقل من ملاحظة السواد مثلا إلى(23/15)
ص -10-…البياض "ومنع الإدراج المذكور بامتناع إطلاق الأب على الابن" مع أن بينهما تقابل التضايف ومجاورة من قبيل التلازم في الوجود ذهنا وخارجا "وإنما هو" أي إطلاق أحد المتقابلين على الآخر "من قبيل الاستعارة بتنزيل التضاد منزلة التناسب لتمليح" أي إتيان بما فيه ملاحة وظرافة "أو تهكم" أي سخرية واستهزاء "أو تفاؤل كالشجاع على الجبان" فإنه إن كان الغرض منه مجرد الملاحة لا السخرية فتمليح وإلا فتهكم فهو صالح لهما "والبصير على الأعمى". وهذا صالح للكل والفرق بينهما بحسب المقام "أو" متلازمين "لفظا" فيطلق اسم أحدهما بخصوصه على الآخر مشاكلة كقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] فأطلق السيئة على الجزاء مع أنه حسن لوقوعه في صحبتها وقد يقال: إنما سمي جزاؤها سيئة لأنه يسوء من ينزل به وحينئذ فهو ليس مثالا لما نحن فيه بل من مثله قوله:
قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه …قلت اطبخوا لي جبة وقميصا(23/16)
أي خيطوا فذكرها بلفظ الطبخ لوقوعها في صحبة طبخ الطعام ونحوه "وما ذكر من الزيادة والنقصان من العلاقة" كما في منهاج البيضاوي "منتف" لما تقدم من أنه حقيقة "والمجاز في متعلقهما" بفتح اللام أي متعلق الزيادة والنقصان "مجاز" لانتفاء استعمال اللفظ في غير ما وضع له فيه والعلاقة المشابهة في التعدي من أمر أصلي إلى أمر غير أصلي "ويجمعها" أي العلاقات "قول فخر الإسلام اتصال" بينهما "صورة أو معنى" لأن كل موجود من الصور له صورة ومعنى لا ثالث لهما فلا يتصور الاتصال بوجه ثالث انتهى "زاد" فخر الإسلام "في الصوري" أي قال بعد قوله اتصال صورة "لا تدخله شبهة الاتحاد فاندفع" بهذا "لزوم إطلاق بعض الأعضاء على بعض" فإن اتصال بعضها ببعض يدخله شبهة الاتحاد باعتبار الصورة الاجتماعية لها حتى صح أن يقال على المجموع شخص واحد ونحوه "ولم يحققوا علاقة التغليب" حتى قال الشيخ سعد الدين التفتازاني: وأما بيان مجازية التغليب والعلاقة فيه وأنه من أي أنواعه فما لم أر أحدا حام حوله قال المصنف: "ولعلها في العمرين" أبي بكر وعمر رضي الله عنهما "المشابهة سيرة وخصوص المغلب للخفة" فإن لفظ عمر أخف من لفظ أبي بكر "وهو" أي تغليب لفظ عمر على لفظ أبي بكر "عكس التشبيه" أصالة وهو إلحاق الشيء بما هو دونه في وجه الشبه فإن المشبه في الواقع عمر والمشبه به أبو بكر "وفي القمرين الإضاءة والخصوص" أي وتغليب خصوص لفظ القمر على لفظ الشمس وإن كان لفظ الشمس أخف "للتذكير" أي لتذكير القمر وتأنيث الشمس فإن المذكر أخف "معكوسا" أي عكس التشبيه أيضا فإن المشبه في الواقع القمر والمشبه به الشمس "وأما الخافقان فلا تغليب" فيه "على أنه للضدين وقد نقل" فقال ابن السكيت: الخافقان أفقا المشرق والمغرب لأن الليل والنهار يخفقان فيهما أي يضطربان وهو معنى ما قيل هما الهواءان المحيطان بجانبي الأرض جميعا. وقال الأصمعي: هما طرف السماء والأرض وأما من جعل الخافق حقيقة(23/17)
في المغرب من خفقت النجوم إذا غابت أو في المشرق لأنه تخفق منه الكواكب أي تلمع فقد غلب أحدهما على الآخر وأياما كان فيحتاج إلى علاقة فليتأمل فيها.(23/18)
ص -11-…"تنبيه يقال الحقيقة والمجاز على غير المفرد بالاشتراك العرفي فعلى الإسناد عند قوم" كصاحب التلخيص "وعلى الكلام على الأكثر" منهم الشيخ عبد القاهر والسكاكي "وهو" أي وصف الكلام بهما "أقرب" من وصف الإسناد بهما ويأتي وجهه قريبا وعليه قوله "فالحقيقة الجملة التي أسند فيها الفعل أو معناه" من المصدر واسمي الفاعل والمفعول والصفة المشبهة واسم التفضيل والظرف "إلى ما" أي شيء "هو" أي الفعل أو معناه "له" أي لذلك الشيء كالفاعل فيما بني له والمفعول فيما بني له نحو ضرب زيد عمرا أو ضرب عمرو فإن الضاربية لزيد والمضروبية لعمرو بخلاف نهاره صائم فإن الصوم ليس للنهار فمعنى كونه له أن معناه قائم به ووصف له وحقه أن يسند إليه سواء كان مخلوقا لله تعالى أو لغيره وسواء صدر عنه باختياره كضرب أو لا كمات "عند المتكلم". وهو متعلق بله أي في اعتقاده بأن يفهم من ظاهر حاله أنه يعتقده بأن لا يكون هناك قرينة تدل على أنه لا يعتقد ما يفهم من ظاهر الكلام وحينئذ فكما يدخل في التعريف ما يطابق الاعتقاد طابق الواقع أو لا يدخل فيه أيضا ما لا يطابق الاعتقاد طابق الواقع أو لا كقولك جاء زيد معتقدا أنه لم يجئ إذا قصدت ترويجه بحسب الظاهر لغرض لك فيه فلا جرم أن اقتصر في المفتاح عليه وظهر أنه كما قال المصنف "ولا حاجة إلى في الظاهر" كما في التلخيص ليدخل فيه ما لا يطابق الاعتقاد لدخوله بدونه "لأن المعرف الحقيقة في نفسها ثم الحكم بوجودها" أي الحقيقة "بدليله" أي الوجود "غير ذلك" أي غير الحقيقة في نفسها نعم لا يدخل فيه ما ليس فيه المسند فعلا ولا في معناه نحو زيد إنسان مع أن ظاهر كلام عبد القاهر والسكاكي أنه حقيقة فيبطل عكسه ولا محيص إلا أن يلتزم أن مثله لا يسمى حقيقة كما لا يسمى مجازا أيضا كما ذهب إليه صاحب التلخيص. "والمجاز" الجملة التي أسند فيها الفعل أو معناه "إلى غيره" أي غير ما هو له عند المتكلم "لمشابهة الملابسة" بين(23/19)
الفعل أو معناه وبين غير ما هو له وعلى أنهما وصف الإسناد قوله "أو الإسناد كذلك" أي إسناد الفعل أو معناه إلى ما هو له عند المتكلم وإسناد الفعل أو معناه إلى غير ما هو له عند المتكلم لمشابهة الملابسة "والأحسن فيهما مركب" نسب فيه أمر إلى ما هو له عند المتكلم أو إلى غير ما هو له عند المتكلم لمشابهة الملابسة عند من يجعلهما وصفا للكلام "ونسبة" لأمر إلى ما هو له عند المتكلم أو إلى غير ما هو له عند المتكلم لمشابهة الملابسة عند من يجعلهما وصفا للنسبة "ليدخل" المركب "الإضافي إنبات الربيع" وشقاق بينهما ومكر الليل والنهار وغير ذلك لشمول النسبة النسبة التامة وغيرها بخلاف الإسناد بالمعنى المصطلح وهذه المركبات لا إسناد فيها بهذا المعنى. ثم إنما قال الأحسن لإمكان دفع إيراد خروج المركب الإضافي أو النسبة الإضافية بأن التعريف بالذات إنما هو للمركب الإسنادي وما سواه متفرع عليه أو بأن المراد بالإسناد مطلق النسبة هذا ولقائل أن يقول: كل من هذه التعاريف للمجاز غير مطرد لصدقه على ما يقوله المتكلم قاصدا به صدور الكذب عنه وإن جاز أن يكون ذلك صادقا مطابقا للواقع مع أنه ليس بمجاز لأنه ليس بمطابق لاعتقاده بل مخالف لما عنده إلا أنه بصدد ترويجه بما يمكنه فلا يرتكب فيه تأويلا أصلا(23/20)
ص -12-…فالوجه زيادة بضرب من التأويل كما ذكره السكاكي وغيره لئلا يصدق التعريف عليه "ويسميان" أي هذه الحقيقة وهذا المجاز "عقليين" لأن الحاكم بأنه ثابت في محله أو مجاوز عنه هو العقل لا الوضع. "ووجه الأقربية" أي كون قول الحقيقة والمجاز على الكلام أقرب من قولهما على الإسناد "استقرار أنه" أي الوصف بهما "للفظ والمركب" الكلي "موضوع للتركيبي" أي للمعنى التركيبي وضعا "نوعيا تدل أفراده" أي المركب الكلي من المركبات المعينة على معانيها التركيبية "بلا قرينة فهي" أي أفراده التي هي المركبات بإزاء معانيها المذكورة "حقائق" لاستعمالها فيها "فإذا استعمل" المركب "فيما" أي في المعني "بها" أي بالقرينة "فمجاز" أي فذلك المركب مجاز لاستعماله في معنى غير وضعي له بالقرينة فلا ينهض توجيه صاحب التلخيص اختيار كونهما وصفا للإسناد بأن الإسناد ينسب إلى العقل بلا واسطة والكلام ينسب إليه باعتبار أن الإسناد منسوب إلى العقل على توجيه اختيار كونهما وصفا للمركب "والأولان" أي الحقيقة والمجاز في المفرد "لغويين تعميما للغة في العرف" فيشملان العرفيين وإنما سميا بهما لأن صاحب وضع الحقيقة واضع اللغة واستعمالها في الغير بالنسبة إلى نوع حقيقتها "وتوصف النسبة بهما" أي بالحقيقة والمجاز فيقال نسبة حقيقة ومجاز. "وتنسب" النسبة إليهما "لنسبتها" أي نسبة النسبة "إلى الحقيقة والمجاز" فيقال: نسبة حقيقية ونسبة مجازية "واستبعاده" أي المجاز العقلي "باتحاد جهة الإسناد" كما ذكره ابن الحاجب إذ ليس للإسناد جهتان جهة الحقيقة وجهة المجاز كالأسد والمجاز لا يتحقق إلا عند اختلاف الجهتين "بعيد إذ لا يمنع اتحاده" أي الإسناد "بحسب الوضع" اللغوي "انقسامه" أي الإسناد "عقلا إلى ما هو للمسند إليه" فيكون إليه حقيقة "وما ليس له" فيكون إليه مجازا وإنما ينافيه اتحاد جهته بحسب العقل وليس هذا كذلك فإن إسناد الفعل إلى ما هو متصف به محلا له في المبني(23/21)
للفاعل ومتعلقا له في المبني للمفعول ما يقتضيه العقل ويرتضيه وإلى غير ذلك مما يأباه إلا بتأويل "ثم". لا يمنع "وضع الاصطلاح" ذلك "والطرفان" أي المسند إليه والمسند والمضاف والمضاف إليه في المجاز العقلي "حقيقيان كأشاب الصغير البيت" أي:
أشاب الصغير وأفنى الكبير …كر الغداة ومر العشي
يعني إذا علم أو ظن أن قائله قاله عن اعتقاد فإن كلا من الإشابة والإفناء والكر والمر مراد به حقيقته أما إذا علم أو ظن أنه قاله عن غير اعتقاد حمل على المجاز وإذا لم يعلم ولم يظن شيئا منهما تردد بين كونه مجازا صادقا وكونه حقيقة كاذبة وهو للصلتان العبدي.
"أو مجازان كأحياني اكتحالي بطلعتك". فإن المراد بالإحياء السرور وبالاكتحال الرؤية وكلاهما مجاز عنهما "أو أحدهما" وهو المسند إليه حقيقة والآخر وهو المسند مجاز نحو قول الجاهل أحيا الربيع الأرض فإن المراد بالربيع حقيقته وبإحيائه الأرض المعنى المجازي للإحياء وهو تهييج القوى النامية فيها وإحداث نضارتها بأنواع النبات إذ الإحياء(23/22)
ص -13-…حقيقة إعطاء الحياة وهي صفة تقتضي الحس والحركة الإرادية أو بالعكس نحو كسا البحر الفياض الكعبة فإن المراد بالبحر الفياض الشخص الجواد وهو مجازي له وبالكسوة المعنى الحقيقي المعروف. "وقد يرد" المجاز العقلي "إلى التجوز بالمسند فيما يصح نسبته" إلى المسند إليه "وإلى كون المسند إليه استعارة بالكناية كالسكاكي وليس" هذا القول "مغنيا" عن القول بكون الإسناد مجازيا "لأنها" أي الاستعارة بالكناية "إرادة المشبه به بلفظ المشبه بادعائه" أي المشبه "من أفراده" أي المشبه به فيدعي أن اسم المنية مثلا في مخالب المنية نشبت بفلان اسم للسبع مرادف له بارتكاب تأويل وهو أن المنية تدخل في جنس السباع لأجل المبالغة في التشبيه فالمراد بها السبع بادعاء السبعية لها كما صرح به السكاكي "فلم يخرج" الإسناد المذكور "عن كون الإسناد إلى غير من هو له" عند المتكلم فيكون مجازا عقليا. "وقد يعتبر" المجاز العقلي "في الهيئة التركيبية الدالة على التلبس الفاعلي ولا مجاز في المفردات" حينئذ وإنما المجاز العقلي في المركب من حيث أسند فيه الفعل إلى غير ما يقتضي العقل إسناده إليه تشبيها بالفاعل الحقيقي بأن شبه التلبس الغير الفاعلي بالتلبس الفاعلي فاستعمل فيه اللفظ الموضوع لإفادة التلبس الفاعلي "فهو" أي هذا المجاز "استعارة تمثيلية" وهي استعارة وصف إحدى صورتين منتزعتين من أمور لوصف الأخرى فمثلا إذا شبهت تردد المفتي في حكم بصورة تردد من قام ليذهب وقلت: أراك أيها المفتي تقدم رجلا وتؤخر أخرى لم يكن حينئذ في تقدم وتؤخر رجلا استعارة إذ لم يقع بهذا التجوز تصرف في هذه الألفاظ بل هي باقية على حقائقها التي كانت عليها قبل الاستعارة المتعلقة بمجموعها من حيث هو مجموع وإنما وقع التجوز في مجموع ذلك اللفظ المركب باعتبار انتزاع صورة منه وتشبيهها بصورة أخرى مثلها وادعاء دخول الأولى في جنس الأخرى روما للمبالغة في التشبيه فأطلق على الصورة(23/23)
المشبهة اللفظ المركب الدال على الصورة المشبه بها "ولم يقولوه" أي علماء البيان هذا "هنا وليس ببعيد" كما ذكره المحقق التفتازاني "فإنما هي" أي هذه الإرادات المجازية "اعتبارات" وتصرفات عقلية للمتكلم "قد يصح الكل في مادة وقد لا" يصح الكل فيها وإنما يصح في خصوصها بعضها "فلا حجر" فيها لأن المجاز يكفي فيه العلاقة المعتبر نوعها ولا يجبر الاستعمال والتركيب الواحد مما يمكن فيه اعتبار المناسبة من جهات متعددة فيمكن اعتبار التجوز فيه من كل جهة منها ومن ثمة اعتبر صاحب الكشاف المجاز في قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة: 7] من أربعة أوجه والله سبحانه أعلم.
مسألة
"لا خلاف أن" الأسماء "المستعملة لأهل الشرع من نحو الصلاة والزكاة" في غير معانيها اللغوية "حقائق شرعية يتبادر منها ما علم" لها من معانيها المذكورة "بلا قرينة" سواء كان ذلك لمناسبة بينه وبين المعنى اللغوي فيكون منقولا أو لا فيكون مبتدأ "بل" الخلاف "في أنها" أي الأسماء المستعملة لأهل الشرع في المعاني المذكورة حقيقة "عرفية للفقهاء" أي بسبب وضعهم إياها لتلك المعاني فهي في تخاطبهم تدل عليها بلا قرينة وأما الشارع فإنما(23/24)
ص -14-…استعملها فيها مجازا عن معانيها اللغوية بمعونة القرائن فلا تحمل عليها إلا بقرينة "أو" حقيقة شرعية "بوضع الشارع" حتى أنها في كلامه وكلامهم تدل عليها بلا قرينة "فالجمهور" الواقع "الثاني" أي أنها حقيقة شرعية "فعليه" أي الثاني "يحمل كلامه" أي الشارع. وكلام أهل الفقه والأصول ومن يخاطب باصطلاحهم أيضا إذا وقعت مجردة عن القرائن لأنه الظاهر منه ومنهم "والقاضي أبو بكر" الواقع "الأول" أي أنها حقيقة عرفية للمتشرعة لا للشارع "فعلى اللغوي" يحمل إذا وقعت في كلامه محتملة للغوي والشرعي "إلا بقرينة" توجب حمله على الشرعي لزعمه أنها مبقاة على حقائقها اللغوية على ما زعمه بعضهم وسيأتي ما يوافقه في الاستدلال كما ينبه المصنف عليه وأشار هنا إلى إنكاره بقوله "وفيه نظر لأن كونها" أي الصلاة مستعملة "للأفعال" المعلومة شرعا "في عهده صلى الله عليه وسلم لا يقبل التشكيك وأشهر" أي وإنه مجاز أشهر من الحقيقة في زمنه صلى الله عليه وسلم. قال المصنف: إذ لا شك في اشتهاره في كلام الشارع في المعاني الخاصة قبل انقطاع الوحي فهي وإن كانت مجازات حين ابتداء استعمالها لكنها صارت فيها أشهر منها في المعاني اللغوية "وهم" أي القاضي والجمهور "يقدمونه" أي المجاز الأشهر من الحقيقة "على الحقيقة" فكيف يصح أن يحمل على اللغوي عند عدم القرينة إذا وقع في لفظه.(23/25)
ثم قال المصنف: فإن قلت كيف يترتب الحمل على المعنى الحقيقي اللغوي على كونها مجازات في استعماله؟ قلت: لأنها إذا كانت مجازات لا يحكم بها إلا بقرينة فإذا لم يوجد معها في استعماله والفرض أن لا نقل لزم حملها على الحقيقة اللغوية وحكم بأن هذا مذهب القاضي لأنه لما قال: إنها ليست إلا حقائق في عرف أهل الشرع ومعلوم أنها مستعملة في كلام الشارع في المعاني الخاصة لزم كونها مجازا في استعماله فيها وأنكر كون قول القاضي إن الشارع استعملها في حقائقها اللغوية لاستبعاد أن يقول عالم إن قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الروم: 31] معناه أقيموا الدعاء. ثم شرط فيه الأفعال التي هي الركوع والسجود فتكون خارجة عن الصلاة شرطا كالوضوء ولهذا لم ينقل هذا عنه في الأحكام والمحصول وحكم بعض المحققين بنفيه عنه وحينئذ فالاستدلال الآتي المتضمن كونها في المعاني اللغوية والزيادات شروط من التزام النافين عنه وأيضا "فما قيل" أي قول البيضاوي "الحق أنها مجازات" لغوية "اشتهرت يعني في لفظ الشارع" لا موضوعات مبتدأة ليس قولا آخر بل هو "مذهب القاضي" بعينه كما ذكره المحقق التفتازاني إذ لا شك في حصول الاشتهار بعد تجوز الشارع باللفظ "وقول فخر الإسلام" وفاقا لأخيه صدر الشريعة والقاضي أبي زيد وشمس الأئمة السرخسي "بأنها أي الصلاة اسم للدعاء سمى بها عبادة معلومة لما أنها" أي الصلاة "شرعت للذكر" أي لذكر الله تعالى بنعوت جلاله وصفات كماله قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]. قيل: أي لتذكرني فيها لاشتمالها على الأذكار الواردة في أركانها فالمصدر مضاف إلى المفعول وكل دعاء ذكر لأن الدعاء ذكر المدعو لطلب أمر منه فسميت العبادة المعلومة بها مجازا من إطلاق اسم الجزء على الكل "يريد مجازا لغويا هجرت(23/26)
ص -15-…حقائقها أي معانيها الحقيقية لغة فليس" قوله "مذهبا آخر" غير المذهبين المتقدمين "كالبديع" أي كما هو ظاهر كلام صاحب البديع بل هو مذهب القاضي أبي بكر الباقلاني كما صرح به بعض شارحي البزدوي بناء على أن كثرة استعمالها في هذه المعاني المجازية صيرتها كالحقائق لا أنها حقائق شرعية لها كما قاله الجمهور "لنا" على أنها حقيقة شرعية بوضع الشارع "القطع بفهم الصحابة قبل حدوث الاصطلاحات في زمنه صلى الله عليه وسلم" وهو ظرف لفهم الصحابة ومفعوله "ذلك" أي المعنى الشرعي لها "وهو" أي فهمهم ذلك "فرعه" أي فرع الوضع لها "نعم لا بد أولا من نصب قرينة النقل" دفعا لتبادر اللغوي "فمدار التوجيه على أنه إذا لزم تقدير قرينة غير اللغوي فهل الأولى تقديرها قرينة تعريف النقل أو المجاز. والأوجه الأول" أي تقدير قرينة غير اللغوي قرينة تعريف النقل كما هو قول الجمهور "إذ علم استمراره" أي الشارع "على قصده" أي الشرعي "من اللفظ أبدا إلا لدليل" فإن استمراره على ذلك أمارة نسخ إرادة الأول وهو معنى النقل "والاستدلال" للمختار كما في مختصر ابن الحاجب والبديع "بالقطع بأنها" أي الصلاة في الشرع موضوعة "للركعات وهو" أي والقطع بأنها لها في الشرع هو "الحقيقة" الشرعية "لا يفيد" إثبات المختار "لجواز" كونها مجازا فيها ثم "طروه" أي القطع بذلك "بالشهرة" أي بشهرتها فيها شرعا "أو بوضع أهل الشرع" إياها لها "قالوا" أي القاضي وموافقوه أولا "إذا أمكن عدم النقل تعين وأمكن" عدم النقل "باعتبارها" باقية "في اللغوية والزيادات" التي جاءت من قبل الشرع عليها "شروط اعتبار المعنى شرعا. وهذا" الدليل جار "على غير ما حررنا عنه" أي القاضي من أنها مجاز أشهر من الحقيقة اللغوية "مخترع باختراع أنه" أي القاضي "قائل بأنها" مستعملة "في حقائقها اللغوية" وتقدم النظر فيه قلت: لكن ذكر الأبهري أن للقاضي قولين: أحدهما ما حرره المصنف والآخر هذا وقال: قال الإمام(23/27)
وأما القاضي فاستمر على لجاج ظاهر فقال: الصلاة الدعاء والمسمى بها في الشرع هو الدعاء لكن إنما تعتبر عند وقوع أفعال وأحوال وطرد ذلك في الألفاظ التي فيها الكلام فإذا صح هذا عن القاضي فالعهدة عليه "وأجيب باستلزامه" أي هذا القول "عدم السقوط" للصلاة المفروضة عن المكلف "بلا دعاء لافتراضه" أي الدعاء "بالذات و" باستلزامه "السقوط" لها عن ذمته "بفعل الشرط" الذي هو الزيادة على اللغوي فقط "مطردا" أي دائما "في الأخرس المنفرد" لصحة صلاته مع انتفاء المشروط الذي هو اللغوي وكلاهما ممنوع إلا أن السبكي قال: ولك منع كون الأخرس ليس بداع إذ الدعاء هو الطلب القائم بالنفس وذلك يوجد من الأخرس وبأن الدعاء ليس ملازما للصلاة ا هـ وفيه تأمل "ثم لا يتأتى" هذا التوجيه "في بعضها" أي الأسماء الشرعية كالزكاة فإنها لغة النماء والزيادة وشرعا تمليك قدر مخصوص من مال مخصوص لشخص مخصوص بنية مخصوصة "قالوا" أي القاضي وموافقوه ثانيا "لو نقلها" أي الشارع الأسماء عن معانيها اللغوية إلى غيرها "فهمها" أي المعاني المنقولة "لهم" أي للصحابة لأنهم مكلفون بما تضمنتها والفهم شرط التكليف "ولو وقع" التفهيم "نقل" إلينا لأننا مكلفون به أيضا "ولزم تواتره" أي النقل "عادة" لتوفر الدواعي عليه ولم يوجد وإلا لما وقع الخلاف في(23/28)
ص -16-…النقل "والجواب القطع بفهمهم" أي الصحابة المعاني الشرعية منها "كما ذكرنا" صدر الاستدلال "وفهمنا" أي والقطع بفهمنا تلك المعاني أيضا منها "وبعد حصول المقصود لا يلزم تعيين طريقه ولو التزمناه" أي تعيين طريقه "جاز" أن يكون التفهيم "بالترديد" أي بمعونة التكرار "بالقرائن" أي معها "كالأطفال" يتعلمون اللغات من غير تصريح لهم بوضع اللفظ للمعنى بل إذا ردد اللفظ وكرر يحفظونه ويفهمون معناه بالقرينة "أو" جاز أن يكون "أصله" أي التفهيم "بإخباره" أي الشارع "ثم استغنى عن إخبارهم" أي الصحابة "لمن يليهم أنه أخبرهم لحصول القصد" بدونه للشهرة الموجبة لتبادرها منها عند الإطلاق "قالوا" أي القاضي وموافقوه ثالثا "لو نقلت" الأسماء عن معانيها اللغوية إلى المعاني الشرعية "كانت" الأسماء المنقولة إليها "غير عربية لأنهم" أي العرب "لم يضعوها ويلزم أن لا يكون القرآن عربيا" لاشتماله عليها وما بعضه عربي دون بعض لا يكون كله عربيا واللازم باطل لقوله تعالى {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} [يوسف: 2] "أجيب" بالمنع والقول "بأنها عربية إذ وضع الشارع لها ينزلها مجازات لغوية ويكفي في العربية" أي في كون الألفاظ عربية "كون اللفظ منها" أي من الألفاظ العربية "والاستعمال على شرطها" أي الألفاظ العربية في الاستعمال وإن لم يضعوا عين ذلك اللفظ لذلك المعنى "ولو سلم" أنه لا يكفي ذلك في كونها عربية "لم يخل" كونها عربية "بعربيته" أي القرآن "إما لكون الضمير" في قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} [يوسف: 2] "له" أي للقرآن "وهو" أي القرآن "مما يصدق الاسم" أي اسمه "على بعضه" أي بعض مسماه "ككله كالعسل" فإنه كما يصدق العسل على القليل منه والكثير يصدق القرآن على جزء منه وعلى جميعه حتى لو حلف لا يقرأ القرآن فقرأ جزءا منه حنث لمشاركة الجزء الكل في الاتفاق في الحقيقة فيصح أن يطلق القرآن ويراد به بعضه ولا(23/29)
ريب في كونه عربيا "بخلاف المائة والرغيف" مما لا يشارك الجزء الكل في الحقيقة فإنه لا يصدق فيه الاسم على كل من الكل والجزء حقيقة فلا يطلق الاسم ويراد به الجزء حقيقة "أو" لكون الضمير "للسورة" باعتبار المنزل أو المذكور أو القرآن ولا يخفى أن مآل هذين في المعنى واحد لا فرق بينهما سوى أن على هذا الضمير لبعض معين هو السورة وعلى الأول الضمير لبعض غير معين أعم من أن يكون السورة أو غيرها وأن القرآن كما يطلق مرادا به المفهوم الكلي الصادق على كل فرد منه وعلى جميع أفراده فيأتي فيه ما ذكرنا يطلق ويراد به المجموع الشخصي فلا يتأتى فيه ذلك غير أنه لا يتعين إرادته في كلام إطلاق ليندفع به كل من التوجيهين المذكورين هذا وابن الحاجب إنما أجاب أولا بأن الضمير للسورة ثم تنزل إلى أنه ولو سلم أنه للقرآن فلا يخرج عن كونه عربيا بوقوع هذه الألفاظ فيه إذ يصح إطلاق اسم العربي على ما غالبه عربي مجازا كشعر فيه فارسي وعربي أكثر منه وإطلاق العربي على القرآن لا يستلزم كونه حقيقة فيه غايته كما قال بعض المحققين أن يقال الأصل في الإطلاق الحقيقة لكن المجاز قد يرتكب للدليل وهو موجود هنا وهو ما ذكرنا من الدليل على كونها حقائق شرعية.
"واعلم أن المعتزلة سموا قسما من" الحقائق "الشرعية" حقيقة "دينية وهو ما دل على(23/30)
ص -17-…الصفات المعتبرة في الدين وعدمه اتفاقا كالإيمان والكفر والمؤمن" والكافر "بخلاف الأفعال" أي ما هي من فروع الدين أو ما يتعلق بالجوارح فإن فيها خلافا "كالصلاة والمصلي ولا مشاحة ووجه المناسبة أن الإيمان" على قولهم "الدين لأنه" أي الدين اسم "لمجموع التصديق الخاص" القلبي بكل ما علم مجيء النبي صلى الله عليه وسلم به من عند الله ضرورة "مع المأمورات والمنهيات لقوله تعالى: {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] بعد ذكر الأعمال" أي قوله تعالى: {وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة: 5] فذلك إشارة إلى المذكور من العبادات المدلول عليها بقوله تعالى: {لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} [البينة: 5] على أنها للعموم لأن يعبدوا في تأويل المصدر المضاف إلى الضمير لكونه منصوبا بأن المصدرية المقدرة بعد لام كي والمصدر المضاف إلى المعرفة يفيد العموم فيكون يعبدوا في معنى عباداتهم وتذكير اسم الإشارة لاعتبار لفظ أن يعبدوا وعلى هذا يكون قوله: {وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة: 5] من عطف الخاص على العام لزيادة الاهتمام كما في قوله {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر: 4] وقد تعلق الأمر الذي هو للوجوب بها فيكون معنى قوله {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] جميع العبادات الواجبة دين الملة المستقيمة "والاتفاق على اعتبار التصديق في مسماه" أي الدين بخلاف الأفعال "فناسب تمييز الاسم الموضوع له" أي للتصديق الخاص "شرعا بالدينية وهذه" المناسبة "على رأيهم" أي المعتزلة "في اعتبار الأعمال جزء مفهومه" أي الإيمان "وعلى" رأي "الخوارج" المناسبة في هذه التسمية "أظهر" منها على رأي المعتزلة لجعل المعتزلة مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر وجعل الخوارج مرتكبها كافرا "ولا يلزم من نفي ذلك" أي كون الأعمال جزء مفهوم الإيمان كما هو قول أصحابنا "نفيها" أي الحقيقة الدينية لأنه لا(23/31)
ينتفي ما يصلح مناسبة لوضع الاصطلاح "إذ يكفي أنها" أي الدينية "اسم لأصل الدين وأساسه أعني التصديق فظهر أن الكلام في ذلك" أي في إثبات نفي أنها منه "مع أنه" أي الكلام في ذلك "يخرج إلى فن آخر" أي علم الكلام "ولا يتوقف عليه" أي على ذلك "مطلوب أصولي بل اصطلاحي وفي غرض سهل وهو إثبات مناسبة تسمية اصطلاحية لا يفيد نفيها فعلى المحقق تركه" وفي هذا تعريض بابن الحاجب حيث تعرض له.
"تتمة كما يقدم الشرعي في لسانه". أي خطاب الشارع "على ما سلف" أي اللغوي "كذا العرفي في لسانهم" أي أهل العرف خاصا كان أو عاما يقدم على اللغوي أيضا لأنه الظاهر منهم "فلو حلف لا يأكل بيضا كان" البيض "ذا القشر" ففي المبسوط فهو على بيض الطير من الدجاج والإوز وغيرهما ولا يدخل بيض السمك فيه إلا أن ينويه لأنا نعلم أنه لا يراد بهذا بيض كل شيء فإن بيض الدود لا يدخل فيه فيحمل على ما ينطلق عليه اسم البيض ويؤكل عادة وهو كل بيض له قشر كبيض الدجاج ونحوها "فيدخل النعام" أي بيضه بل كما قال في الكشف فهذا يدل على أنه يحنث بم سوى الدجاج والإوز كبيض النعام والحمام وسائر الطيور لكن قال صاحب المبسوط في أصوله يتناول يمينه بيض الدجاج والإوز خاصة لاستعمال ذلك عند الأكل عرفا ولا يتناول بيض الحمام والعصفور وما أشبه ذلك ووافقه(23/32)
ص -18-…فخر الإسلام وغيره وحيث كان الموجب للاختصاص اختصاص التعارف بذلك فيدور ذلك معه ولا شك أنه مما يختلف فلا ريب في اختلاف الجواب باختلافه "أو" لا يأكل "طبيخا فما طبخ من اللحم في الماء ومرقه" أي فيمينه عليهما للعرف فيحنث بكل منهما كما يحنث بهما ولا يحنث بما طبخ قلية يابسة من اللحم إلى غير ذلك نعم في الخلاصة يحنث بالأرز إذا طبخ بودك لأنه يسمى طبيخا إلا بما يطبخ بزيت أو سمن وإذا كان المدار تعارف تسميته طبيخا ففي عرفنا يسمى ما يطبخ بهما طبيخا ولا سيما في عرف القرويين فينبغي أن يحنث بأكله أيضا "أو" لا يأكل "رأسا فما يكبس" في التنانير في عرف الحالف ويباع فيه من الرءوس مشويا "بقرا وغنما" عند أبي حنيفة آخرا لأن كلا منهما لا غير كان المتعارف في زمنه آخرا وإبلا أيضا عنده أولا لأنه أيضا كان متعارفا لأهل الكوفة أولا ثم تركوه دونهما "ولو تعورف الغنم فقط تعين" كون الرأس رأسها كما هو محل قولهما إن يمينه على رءوس الغنم خاصة لمشاهدتهما اقتصار أهل بغداد وغيرهم عليها فالخلاف خلاف زمان لا برهان "أو" لا يأكل "شواء خص اللحم" فلا يحنث بالمشوي من البيض والباذنجان والجزر وغيرها لأن التعارف مختص به "وقول فخر الإسلام" في توجيه ترك الحقيقة بالعرف "لأن الكلام موضوع لاستعمال الناس وحاجتهم فيصير المجاز باستعمالهم كالحقيقة يحمل على ذلك المحمل" الماضي قريبا وهو أنه مجاز لغوي مهجور الحقيقة.
مسألة(23/33)
"لا شك أن الموضوع قبل الاستعمال ليس حقيقة ولا مجازا لانتفاء جنسهما" وهو المستعمل "ولا" شك أيضا "في عدم استلزام الحقيقة مجازا" إذ غير ممتنع أن يستعمل اللفظ في معناه الوضعي ولا يستعمل في غيره "واختلف في قلبه" أي استلزام المجاز الحقيقة "والأصح نفيه" أي نفي قلبه "ويكفي فيه" أي في نفي استلزامه إياها "تجويز التجوز به" أي باللفظ لما يناسبه "بعد الوضع قبل الاستعمال" له في المعنى الموضوع له "لكنهم استدلوا بوقوعه" أي المجاز ولا حقيقة "بنحو شابت لمة الليل" إذا ظهرت فيه تباشير الصبح فإن هذا مجاز لا حقيقة له "ودفع" هذا الاستدلال دفعا إلزاميا "بأنه مشترك الإلزام" أي كما يمكن أن يلزم به الملزم يمكن أن يلزم به النافي "لاستلزامه" أي المجاز "وضعا" إذ الوضع للمجاز ثابت اتفاقا وقطعا وهذا الدليل ينفيه بأن يقال لو استلزم المجاز الوضع لوجب أن يكون هذا المركب موضوعا لمعنى متحقق "والاتفاق أن المركب لم يوضع شخصيا والكلام فيه" أي في الوضع الشخصي للمركب فلا يكون هذا الدليل صحيحا بجميع مقدماته "وأيضا إن اعتبر المجاز فيه" أي في شابت لمة الليل "في المفرد" أي في شابت حيث أريد بالشيب هنا حدوث بياض الصبح في آخر سواد الليل أو في لمة بأن أريد بها سواد آخر الليل وهو الغلس "منعنا عدم حقيقة شابت أو لمة" لاستعمالهما في المعنى الحقيقي لهما من بياض الشعر والشعر المجاوز لشحمة الأذن في غير هذا المركب "أو" اعتبر المجاز فيه "في نسبتهما" أي النسبة الإسنادية للشيب إلى(23/34)
ص -19-…اللمة والنسبة الإضافية للمة إلى الليل "فليس" المجاز فيهما "النزاع" لأنه مجاز عقلي والنزاع إنما هو في غيره "وأما منع الثاني" أي المجاز في النسبة "لاتحاد جهة الإسناد" كما قدمنا تقريره في تنبيه يقال الحقيقة والمجاز على غير المفرد "فغير واقع لما تقدم" هناك وأوضحناه فليراجع "وأيضا الرحمن لمن له رقة القلب ولم يطلق" إطلاقا "صحيحا إلا عليه تعالى" والله منزه عن الوصف بها "فلزم" كون إطلاقه على الله تعالى "مجازا بلا حقيقة" قال السبكي: وهذا بناء على أن أسماء الله صفات لا أعلام أما إن جعلناها أعلاما فالعلم لا حقيقة ولا مجاز ا هـ قلت وقد عرفت أن هذا إنما هو مذهب بعضهم كالرازي والآمدي وأن التحقيق خلافه وعليه فكون إطلاق الرحمن على الله مجازا وإن قلنا: إنه من الأعلام عليه تعالى كما هو الأوجه نظرا إلى أن معنى الرحمة في الأصل رقة القلب ظاهر "بخلاف قولهم" أي بني حنيفة في مسيلمة الكذاب "رحمن اليمامة" وقول شاعرهم:
وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا(23/35)
فإنه لم يطلق عليه إطلاقا صحيحا بل هو مردود ولمخالفته اللغة أوقعهم فيها لجاجهم في الكفر وأيضا كما قال المصنف "ولأنهم لم يريدوا به" أي بلفظ رحمن في إطلاقه على مسيلمة المعنى "الحقيقي من رقة القلب" بل أرادوا أن يثبتوا له ما يختص بالإله تعالى بعد أن أثبتوا له ما يختص بالأنبياء وهي النبوة وقال السبكي: جوابه عندي أنهم لم يستعملوا الرحمن المعرف بالألف واللام وإنما استعملوه معرفا بالإضافة في رحمن اليمامة ومنكرا في لا زلت رحمانا ودعوانا إنما هي في المعرف بالألف واللام ا هـ وفيه نظر يظهر بالتأمل "قالوا" أي الملزمون "لو لم يستلزم" المجاز الحقيقة "انتفت فائدة الوضع" لأن فائدته إفادة المعاني المركبة فإذا لم يستعمل لم يقع في التركيب فتنتفي فائدته "وليس" هذا "بشيء" تقوم به الحجة "لأن التجوز" باللفظ "فائدة لا تستدعي غير الوضع" له لمعنى غير المتجوز فيه فلا يستدعي لزوم الاستعمال فيه فلا يستدعي الحقيقة والله سبحانه أعلم.
مسألة
"المجاز واقع في اللغة والقرآن والحديث خلافا للإسفراييني في الأول" أي في اللغة وحكى السبكي النفي لوقوعه مطلقا عنه وعن الفارسي والإسنوي عنه وعن جماعة "لأنه" أي المجاز "قد يفضي إلى الإخلال بغرض الوضع" وهو فهم المعنى المجازي المراد باللفظ "لخفاء القرينة" الدالة عليه فيقضي بالمعنى الحقيقي لتبادره وعدم ظهور غيره "وهو" أي خلافه في وقوعه "بعيد على بعض المميزين فضلا عنه" أي عن الأستاذ أبي إسحاق "لأن القطع به" أي بوقوعه "أثبت من أن يورد له مثال" لكثرته في اللغة والكتاب والسنة "ويلزمه" أي هذا الدليل "نفي الإجمال مطلقا" لأنه من حيث هو مخل بفهم عين المراد منه وهو أيضا باطل فلا جرم أن قال السبكي: الأستاذ لا ينكر استعمال الأسد للشجاع وأمثاله بل يشترط في ذلك(23/36)
ص -20-…القرينة ويسميه حينئذ حقيقة وينكر تسميته مجازا وانظر كيف علل باختلال الفهم ومع القرينة لا اختلال فالخلاف لفظي كما صرح به إلكيا "وللظاهرية في الثاني" أي القرآن وكذا في الثالث وهو الحديث إلا أنهم غير مطبقين على إنكار وقوعه فيهما وإنما ذهب إليه أبو بكر بن داود الأصفهاني الظاهري في طائفة منهم وابن القاص من قدماء الشافعية على أن المصرح بإنكاره في كتاب ابن داود وإنما هو مجاز الاستعارة وذهب ابن حزم إلى أنه لا يجوز استعمال مجاز إلا أن يكون ورد في كتاب وسنة "لأنه" أي المجاز "كذب لصدق نقيضه" أي المجاز فإنه ينفي فيصح إذ يصح أن يقال في الرجل البليد حمار ليس الرجل البليد حمارا وكل ما يصح نفيه فهو كذب فالمجاز كذب "فيصدقان" أي النقيضان من الصدق والكذب والكذب محال في حق الله تعالى ثم في حق رسوله وصدق النقيضين باطل مطلقا قطعا "قلنا جهة الصدق مختلفة" فمتعلق الإثبات المعنى المجازي ومتعلق النفي المعنى الحقيقي فلا كذب ولا صدق للنقيضين إنما ذلك لو اتحد متعلقهما "وتحقيق صدق المجاز صدق التشبيه ونحوه من العلاقة" للمجاز بحسب مواقعه وتنوع علاقته فصدق المجاز الذي هو زيد أسد بصدق كونه شبيها به في الشجاعة وعلى هذا القياس "وحينئذ" أي وحين كان الأمر على هذا "هو" أي المجاز "أبلغ" من الحقيقة على ما في هذا الإطلاق من بحث يأتي في مسألة إذا لزم مشتركا إلخ "وقولهم" أي الظاهرية "يلزم" على تقدير وقوع المجاز في كلام الله تعالى "وصفه تعالى بالمتجوز" لأن من قام به فعل اشتق له منه اسم فاعل واللازم باطل لامتناع إطلاقه عليه تعالى اتفاقا فالملزوم مثله "قلنا إن" لزم وصفه به "لغة منعناه بطلان اللازم" لأنه لا مانع منه لغة "أو" لزم وصفه به "شرعا منعنا الملازمة" لأن ذلك إذا لم يمنع منه مانع وهنا مانع منه لأن المتجوز يوهم أنه يتسمح ويتوسع فيما لا ينبغي من الأفعال والأقوال وما يوهم نقصا لا يجوز إطلاقه على الله تعالى(23/37)
اتفاقا ولنا {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35] فإن النور في الأصل كيفية تدركها الباصرة أولا وبواسطتها سائر المبصرات كالكيفية الفائضة من النيرين على الأجرام الكثيفة المحاذية لهما وهو بهذا المعنى لا يصح إطلاقه على الله تعالى إلا بتقدير مضاف كزيد كرم بمعنى ذو كرم أو على تجوز بمعنى منور السموات والأرض وقد قرئ به فإنه تعالى نورها بالكواكب وما يفيض عنها من الأنوار وبالملائكة والأنبياء أو مدبرها من قولهم للريس الفائق في التدبير: نور القوم لأنهم يهتدون به في الأمور أو موجدها فإن النور ظاهر بذاته مظهر لغيره وأصل الظهور هو الوجود كما أن أصل الخفاء هو العدم والله سبحانه موجود بذاته موجد لما عداه إلى غير ذلك ومكروا "{وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: 54]" لأن المكر في الأصل حيلة يجلب بها غيره إلى مضرة فلا يسند إلى الله تعالى وإنما أسند هنا إليه على سبيل المقابلة والازدواج "{اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15]" لأن الاستهزاء السخرية والاستخفاف وهو لا ينسب إليه تعالى وإنما أسند إليه هنا مشاكلة أو استعارة لما ينزله بهم من الحقارة والهوان الذي هو لازم الاستهزاء أو الغرض منه إلى غير ذلك مما يعرف في موضعه {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} [البقرة: 194] بمثل ما اعتد عليكم وجزائ سيئة "جزاء سيئة {سَيِّئَةٌ(23/38)
ص -21-…مِثْلُهَا} [الشورى: 40] ومعلوم أن ليس جزاء الاعتداء اعتداء إذ ليس فيه تعد عن حكم الشرع بل هو عدل وحق ولا جزاء السيئة سيئة لأنه لم ينه عنه شرعا والسيئة ما نهي عنه شرعا بل هو حسن فهما من إطلاق اسم أحد الضدين على الآخر بجامع المجاورة في التخيل أو من المشاكلة "وكثير" إلى أن بلغ في الكثرة حدا يفيد الجزم بوجوده ولا يفيد المانعين تجشم دفع ذلك في صور معدودة منها المثل المتقدمة فإنه قد قيل لا تجوز في شيء منها فالنور معناه الظاهر في نفسه المظهر لغيره لا العرض الذي شأنه هذا فيكون إطلاقه على الله حقيقة وقال الإمام الرازي: المكر إيصال المكروه إلى الغير على وجه يخفى فيه والاستهزاء إظهار الإكرام وإخفاء الإهانة فيجوز صدورهما من الله حقيقة لحكمة وقوله {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: 67] لا يدل على أن كل استهزاء حقيقة الجهل والاعتداء إيقاع الفعل المؤلم أو هتك حرمة الشيء وحينئذ فمعنى الآية كما هتكوا حرمة شيء أي حرمة كانت من الحرم أو الشهر الحرام أو النفس أو المال أو العرض فاهتكوا حرمة له كذلك كما يدل عليه سياق الآية {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة: 194] والسيئة ما يسوء من ينزل به "وأما {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] فقيل": القرية فيه "حقيقة" وأمر بنو يعقوب عليهم السلام أباهم أن يسألها "فتجيبه" بناء على أن الله تعالى قادر على إنطاقها لا سيما والزمان زمان النبوة وخرق العوائد فلا يمتنع نطقها بسؤال نبي وضعف بأن هذا وإن كان ممكنا إنما يقع لنبي عند التحدي وإظهار المعجزات ولم يكن ذلك كما هو ظاهر السياق "وقدمناه" أي لفظ القرية "حقيقة مع حذف الأهل" ويشهد له تخصيصهم القرية بالتي كنا فيها وهي مصر أو قرية بقربها لحقهم المنادي فيها فإنه يدل على أن المراد أهلها من الأحياء المدركين لما جرى بينهم وبين يوسف لا نفس القرية لأن جميع الجمادات(23/39)
متساوية في عدم الإدراك وفي أنها لو أجابت لكان جوابها دالا على صدقهم وهذا أيضا مما يدل على ضعف ما قبله "و {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ليس من محل النزاع" وهو مجاز العلاقة لأن هذا من مجاز الزيادة "ألا يرى إلى تعليلهم" أي الظاهرية بأنه كذب وهو لا يصدق على مجاز الزيادة فالاستدلال به في غير محل النزاع "وقد أجيب" أيضا من قبلهم بغير هذا فأجيب "تارة بأنه" أي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] لنفي الشبيه "حقيقة" فالكاف فيه مستعملة في مفهومها الوضعي وهو الشبيه "والمثل يقال لنفسه" أي لنفس الشيء وذاته فيقال "لا ينبغي لمثلك" كذا أي لك {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} [البقرة: 137] أي بنفس ما آمنتم به وهو القرآن أو دين الإسلام كما هو أحد الأقوال في الآية فالمعنى ليس كذاته شيء "وتمامه" أي هذا الجواب "باشتراك مثل" بين النفس والشبيه إذ لا ريب في إطلاق مثل على المماثل وهو غير نفسه فإن كان في الآخر حقيقة ثبت الاشتراك "وإلا" أي وإن لم يكن في الآخر حقيقة بل كان مجازا "ثبت نقيض مطلوبهم" أي الظاهرية وهو وجود المجاز في القرآن "وهو" أي الاشتراك "ممنوع" لأن الأصل عدمه والمجاز أولى منه "وتارة" بأن {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] "حقيقة" في نفي التشبيه على أن الكاف بمعنى مثل وكل منها ومنه غير زائد ثم هو "إما لنفي مثل مثله" أي(23/40)
ص -22-…الله تعالى "ويلزمه" أي نفي مثل مثله تعالى "نفي مثله وإلا" لو لم يلزمه نفي مثله "تناقض لأنه" تعالى "مثل مثله" فلا يصح نفي مثل المثل لكنه صحيح فنفي مثله صحيح وإيضاحه أن الظاهر المتبادر من هذه العبارة ثبوت المثل فإنك إذا قلت: ليس شيء مثل مثل زيد تبادر منه إلى الفهم أن لزيد مثلا وقد نفيت عنه أنه يماثله شيء ولا شك أنه إذا ثبت له تعالى مثل كان هو مثلا لمثله فيندرج تحت النفي الوارد عليه فيلزم نفيه تعالى مع إثبات مثله والمراد نفي المثل مع ثبوت ذاته وهما متناقضان ثم الحاصل أن ثبوت مثله تعالى مستلزم لثبوت مثل مثله فنفي اللازم وجعل دليلا على نفي الملزوم "وللزوم التناقض" على تقدير أن لا يلزمه نفي مثله "انتفى ظهوره" أي نفي مثل مثله "في إثبات مثله وبه" أي بلزوم التناقض "يندفع دفعه" أي هذا الجواب ودافعه ابن الحاجب "باقتضائه" أي هذا الجواب "إثبات المثل في مقام نفيه" أي المثل "وظهوره" أي المثل "فيه" أي في إثبات مثله "وجعل هذا" الدفع الذي لابن الحاجب "مرتبا على الجواب الأول سهوا" قال المصنف: وقع في حواشي الشيخ سعد الدين الاقتصار على نقل الجواب الأول للظاهرية وهو أن الكاف بمعنى الذات ثم رتب عليه اعتراض ابن الحاجب المذكور فأشار المصنف إلى أن هذا سهو ا هـ قلت: لأن كون المعنى ليس كذاته شيء لا يقتضي إثبات المثل في مقام نفيه غير أن قول المصنف وهو أن الكاف بمعنى الذات سهو والصواب وهو أن المثل بمعنى الذات فسبحان من لا يسهو "وإما لنفي شبه المثل فينتفي المثل بأولى كمثلك لا يبخل ولا شك أن اقتضاء شبه صفته انتفاء البخل أولى منه" أي من اقتضاء شبه صفته انتفاء البخل "اقتضاء صفته" انتفاء البخل لأن المشبه به في ذلك أقوى فيكون المعنى من كان على صفة المثل وشبهه فهو منفي فكيف المثل حقيقة فيفيد الكلام نفي التشبيه والتشريك من غير تناقض إلا أن المصنف تعقب هذا بقوله "لكن ليس منه ما نحن فيه من نفي مثل المثل"(23/41)
لينتفي المثل "وإلا لم يصح نفي مثل مثل لثابت له مثل واحد لكنه صحيح فإذا قيل ليس مثل مثل زيد أحدا اقتضى" هذا القول "ثبوت مثل لزيد وصرف" هذا القول أيضا "لزوم التناقض" اللازم من لزوم نفي مثله لنفي مثل مثله "إلى نفي مثل" آخر "غير زيد" وحينئذ لا تناقض لأنه كما قال "فلم يتحد محل النفي والإثبات وهو" أي هذا الصرف "أظهر من صرفه" أي هذا القول التناقض "السابق عن ظهوره" أي المثل "في إثبات المثل" إلى نفي ذاته وإثباته "لأسبقية هذا" إلى الفهم "من التركيب فالوجه" في دفع أنه لنفي مثل مثله اللازم منه نفي مثله "ذلك الدفع" أي دفع ابن الحاجب وقد يقرر لزوم نفي المثل من نفي مثل المثل في الآية الكريمة بأن مثل المثل إنما هو ذاته تعالى مع وصف أنه مثل المثل لأن مثله تعالى لا يكون له مثل إلا ذاته تعالى وحينئذ يلزم من نفي مثل مثله نفي مثله بطريق برهاني وهو أن نفي مثل مثله إما بانتفاء ذاته أو بانتفاء الوصف والأول ممتنع لذاته متقرر في العقول قال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] فتعين أن يكون بانتفاء الوصف وانتفاء الوصف إنما يتصور عند انتفاء المثل في العقل والخارج لأنه لو تحقق مثله عقلا أو خارجا لزم أن يثبت وصف أنه مثل مثله ثم غير خاف أن المراد بالمثل(23/42)
ص -23-…هنا المثل المتوهم وليس لمتوهمه أن يعتقد أنه مطابق للواقع لأنه شرك بل الله بخلافه لا مثله وقد يقال مثل في الآية بمعنى الصفة العجيبة الشأن التي لا عهد بمثلها والمعنى ليس كصفته العجيبة الشأن شيء وإنه لصدق فهي مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وهو حسن لا كلفة فيه والله سبحانه أعلم.
مسألة
"اختلف في كون المجاز نقليا فقيل في آحاده وقيل في نوع العلاقة وهو الأظهر" فحاصل المذاهب لا يشترط نقل الآحاد ولا نقل نوع العلاقة يشترط نقل الآحاد يشترط نقل نوع العلاقة فقط والمذهب الأول يفهم من قوله اختلف في كون إلخ فإنه يفيد أن قائلا قال: ليس نقليا وآخر قال: نقل ثم اختلفوا فقيل: نقل الآحاد وقيل: بل نقل نوع العلاقة كالسببية والمسببية كذا ذكر المصنف "فالشارط" للنقل في نوع العلاقة يقول معناه "أن يقول" الواضع "ما بينه وبين آخر اتصال كذا إلخ" أي أجزت أن يستعمل فيه من غير احتياج إلى نقل آحاده فإذا علمنا أنهم أطلقوا اسم اللازم على الملزوم ويكفينا هذا في إطلاق كل لازم على ملزومه ولا يتوقف على سماعه منهم في عين كل صورة من جزئياته والشارط للنقل في الآحاد يشترط سماعه منهم في عين كل صورة "والمطلق" للجواز من غير اشتراط نقل في الآحاد ولا في النوع يقول "الشرط" في صحة التجوز أن يكون "بعد وضع التجوز اتصال" بين المتجوز به والمتجوز عنه "في ظاهر" من الأوصاف المختصة بالمتجوز عنه فحيث وجد لم يتوقف على غيره "وعلى النقل" أي القول باشتراطه آحادا أو نوعا "لا بد من العلم بوضع نوعها" وإلا كان استعمال اللفظ في ذلك المعنى وضعا جديدا أو غير معتد به "واستدل" للمطلق أنه "على التقديرين" أي تقدير شرط نقل الآحاد وتقدير شرط نقل الأنواع "لو شرط" أحدهما "توقف أهل العربية" في إحداث آحاد المجازات على التقدير الأول وأنواعها على التقدير الثاني "ولا يتوقفون أي في الآحاد وإحداث أنواعها" أي العلاقة بل يعدون ذلك من كمال(23/43)
البلاغة ومن ثمة لم يدونوا المجازات تدوينهم الحقائق "وهو" أي هذا الدليل "منتهض في الأول" أي في عدم اشتراط النقل في الآحاد "ممنوع التالي" والوجه فيما يظهر أن يقال ممنوع استثناء نقيض التالي وهو عدم التوقف "في الثاني" أي عدم اشتراط النقل في الأنواع "وعلى الآحاد" أي واستدل على عدم اشتراط النقل في الآحاد "لو شرط" النقل فيها "لم يلزم البحث عن العلاقة" لأن النقل بدونها مستقل بتصحيحه حينئذ فلا معنى للنظر فيها لكنه لازم بإطباق أهل العربية فلا يشترط النقل في الآحاد "ودفع إن أريد نفي التالي" وهو لزوم البحث عن العلاقة "في غير الواضع منعناه" أي نفي التالي "بل يكفيه" أي غير الواضع "نقله" الآحاد "وبحثه" عن العلاقة "للكمال" وهو الاطلاع على الحكمة الباعثة على ترك الحقيقة إلى المجاز وتعرف جهة حسنه "أو" أريد نفي التالي "فيه" أي في الواضع "منعنا الملازمة" فإن الواضع محتاج إلى معرفة المناسبة بين المعنى الحقيقي والمجازي المسوغة للتجوز عنه إليه وأيضا كما قال المصنف "وغير النزاع" لأن النزاع في غير الواضع لا في الواضع "قالوا" أي الشارطون(23/44)
ص -24-…للنقل في الآحاد: "لو لم يشترط" النقل فيها "جاز نخلة لطويل غير إنسان" للمشابهة في الطول كما جازت للإنسان الطويل "وشبكة للصيد" للمجاورة بينهما "وابن لأبيه" إطلاقا للمسبب على السبب "وقلبه" أي أب لابنه إطلاقا للسبب على المسبب "وهذا" الدليل "للأول" أي القائل بأن الخلاف في نقل الآحاد "والجواب وجوب تقدير المانع" في هذه الصور وما جرى مجراها "للقطع بأنهم لا يتوقفون" عن استعمال مجازات لم يسمع أعيانها بعد أن كانت من مظاهر العلاقة المعتبرة نوعا وتخلف الصحة عن المقتضى في بعض الصور لمانع مخصوص بها لا يقدح في الاقتضاء لأن عدم المانع ليس جزءا من المقتضى وبهذا التقدير يتم مقصودنا ولا يلزمنا تعيين المانع ثم الحاصل أن عدم استعماله مع العلاقة حكم بوجود مانع هناك إجمالا ما لم يعلم فيه ذلك فإن علم أو ظن وجود مانع فيه لم يستعمل وإلا جاز استعماله لأن الأصل عدم المانع على أن صدر الشريعة ذهب إلى أنه إنما لم يجز نخلة لطويل غير إنسان لانتفاء المشابهة فيما له مزيد اختصاص بالنخلة بناء على أن جوازها لإنسان طويل ليس لمجرد الطول بل مع فروع وأغصان في أعاليها وطراوة وتمايل فيها.
"المعرفات" للمجاز(23/45)
"يعرف المجاز بتصريحهم" أي أهل اللغة "باسمه" كهذا اللفظ مجاز في كذا "أو حده" كهذا اللفظ مستعمل في غير وضع أول على وجه يصح "أو بعض لوازمه" كاستعماله في كذا يتوقف على علاقة "وبصحة نفي ما" أي معنى "لم يعرف" معنى حقيقيا "له" أي اللفظ "في الواقع" كقولك للبليد ليس بحمار وإنما قال في الواقع لصحة سلب الإنسان لغة وعرفا عن الفاقد بعض صفات الإنسانية المعتد بها كالبليد وغيره بناء على اعتبارات خطابية "قيل" أي قال ابن الحاجب: "وعكسه" وهو عدم صحة نفي ما لم يعرف حقيقيا له في الواقع "دليل الحقيقة" ولذا لا يصح أن يقال للبليد ليس بإنسان "واعترض" أي قال المحقق التفتازاني ويشكل هذا "بالمستعمل" أي بالمجاز "في الجزء واللازم" المحمول "من قولنا عند نفي خواص الإنسانية" عن زيد "ما زيد بإنسان أي كاتب أو ناطق لا يصح النفي ولا حقيقة" قال المصنف "والحق الصحة" أي صحة النفي "فيهما" أي في الجزء واللازم فيكون مجازا "قيل" أي قال القاضي عضد الدين: "وأن يعرف له معنيان حقيقي ومجازي ويتردد في المراد" منهما في مورد "فصحة نفي الحقيقي" عن المورد "دليله" أي كون اللفظ مجازا في ذلك قال المصنف: "وليس بشيء لأن الحكم بالصحة" أي بصحة نفي الحقيقي عنه "يحيل الصورة لأنه" أي الحكم بالصحة "فرع عدم التردد وإن أريد" أن صحة نفي الحقيقي بالأخرة دليله "لظهور القرينة" المفيدة للمجازية "بالآخرة فقصور إذ حاصله إذا دلت القرينة على أن اللفظ مجاز فهو مجاز ومعلوم وجوب العمل بالدليل وبأن يتبادر غيره" أي ويعرف المجاز بتبادر غير المعنى المستعمل فيه إلى الفهم "لولا القرينة" فيكون في المعنى المستعمل فيه مجازا "وقلبه" وهو أن لا يتبادر غير المستعمل فيه لولا القرينة الدالة على أن المراد غيره على ما ذكره القاضي عضد الدين وهو أعم من أن يتبادر هو أولا "علامة الحقيقة" يعني فهذه مطردة منعكسة إذ تبادر(23/46)
ص -25-…الغير علامة المجاز وعدمه علامة الحقيقة "وإيراد المشترك" على علامة الحقيقة "إذ لا يتبادر المعين وهو" أي المشترك "حقيقة فيه" أي في المعين "مبني على انعكاس العلامة وهو" أي انعكاسها "منتف" لأن شرطها الاطراد لا الانعكاس "وإصلاحه" أي إيراد المشترك "تبادر غيره" أي غير المعين "وهو المبهم إلا بقرينة" تعين المعين "ودفعه" أي الإيراد بعد الإصلاح "بأن في معنى التبادر" أي مأخوذ في معناه من قولنا أن لا يتبادر غيره "أنه" أي الغير "مراد وهو" أي تبادر الغير على أنه مراد "منتف بالمبهم واندفع ما إذا قرر" الإيراد على علامة الحقيقة "بما إذا استعمل" المشترك "في مجازي فإنه لا يتبادر غيره" أي غير المجازي المستعمل فيه لتردد بين معانيه "فبقيت علامة الحقيقة في المجاز" وهو باطل اندفاعا بينا "بأن علامة الحقيقة تبادر المعنى لولا القرينة وهو" أي تبادره لولا القرينة هو "المراد بعدم تبادر غيره" لولا القرينة كما سلف "فلا ورود لهذا إذ ليس يتبادر المجازي" من لفظ المشترك حتى يكون حقيقة "ثم هو" أي هذا التقرير "يناقص مناضلة المقرر" أي القاضي عضد الدين "فيما سلف" أي في مسألة عموم المشترك "على أن المشترك ظاهر في كل معين ضربة عند عدم قرينة معين وبعدم اطراده" أي ويعرف المجاز بعدم اطراد اللفظ في مدلوله من غير مانع لغوي أو شرعي عن الاطراد "بأن استعمل" اللفظ في محل "باعتبار وامتنع" استعماله "في آخر معه" أي مع ذلك الاعتبار "كاسأل القرية دون البساط" فإن لفظ اسأل استعمل في محل هو نسبة السؤال إلى القرية بسبب تعلق السؤال بأهلها ولم يستعمل في محل آخر هو نسبة السؤال إلى البساط وإن وجد فيه تعلق السؤال بالأهل وعلى هذا فليس هذا مما الكلام فيه كما ينبه المصنف عليه ولا يقال: لعل المراد أن القرية أطلقت على أهلها بعلاقة الحلول وقد وجدت في البساط ولم يطلق على أهله لأنا نقول: لو كان المراد هذا لم يكن من مثل عدم الاطراد لأنه لم(23/47)
يستعمل ذلك اللفظ في محل آخر مع وجود ذلك المعنى فيه بل إنما لم يستعمل نظيره في محل آخر مع وجود ذلك المعنى "ولا تنعكس" هذه العلامة أي ليس الاطراد دليل الحقيقة فإن المجاز قد يطرد كالأسد للشجاع "وأورد" على هذا "السخي والفاضل امتنعا فيه تعالى مع المناط" أي وجود مناط إطلاقهما وهو الجود والعلم في حقه تعالى "والقارورة في الدن" أي لا يسمى قارورة مع وجود المناط لتسميتها بها فيه وهو كونه مقرا للمائع "وأجيب بأن عدمه" أي التجوز في هذه "لغة عرف تقييدها بكونه" أي الجود "ممن شأنه أن يبخل و" العلم ممن شأنه أن "يجهل وبالزجاجية" أي وبكون ما هو مقر للمائع من الزجاج فانتفى مناط التجوز المذكور فيها لشمول جوده تعالى وكمال علمه سبحانه وعدم الزجاجية في الدن "ويجيء مثله" أي هذا الجواب "في الكل" أي في كل ما استعمل باعتبار وامتنع في آخر معه "إذ لا بد من خصوصية" لذلك المحل المستعمل ذلك فيه "فتجعل" الخصوصية "جزءا" من المقتضي فيكون الانتفاء فيما تخلف فيه لانتفاء المقتضي "وبجمعه على خلاف ما عرف لمسماه" أي إذا كان للاسم جمع باعتبار معناه الحقيقي وقد استعمل بمعنى آخر ولم يعلم أنه حقيقة فيه أو مجاز غير أن جمعه بذلك المعنى مخالف لجمعه باعتبار المعنى الحقيقي كان اختلاف جمعه باعتبارهما(23/48)
ص -26-…دليلا على أنه مجاز في ذلك الذي لم يعلم حقيقيته ومجازيته كلفظ الأمر فإن جمعه باعتبار معناه الحقيقي وهو القول الدال على طلب الفعل استعلاء على أوامر وقد استعمل بمعنى الفعل ووقع التردد في كونه حقيقة فيه فوجد أنه يجمع بهذا المعنى على أمور دون أوامر فدل على أنه مجاز فيه "دفعا للاشتراك" اللفظي لأنه خير منه "وهذا في التحقيق يفيد أن لا أثر لاختلاف الجمع" يعني أن المؤثر في الحكم بالمجازية دفع الاشتراك وهو لا ينفي كون اختلاف الجمع معرفا "ولا تنعكس" هذه العلامة إذ ليس كل مجاز يخالف جمعه جمع الحقيقة فإن الأسد بمعنى الشجاع والحمار بمعنى البليد يجمعان على أسد وحمر كما يجمعان عليهما بالمعنى الحقيقي ولا حاجة إلى قوله "كالتي قبلها" لتصريحه به ثمة "وبالتزام تقييده" أي ويعرف المجاز بهذا بأن يستعمل اللفظ في معنى مطلقا ثم يستعمل في آخر مقيدا لزوما بشيء من لوازمه كجناح الذل ونار الحرب ونور الإيمان فإن جناحا ونارا ونورا مستعملة في معانيها المشهورة بلا قيد وفي هذه بهذه القيود فكان لزوم تقييدها بها دليلا على كونها مجازات في هذه وحقائق في المعاني المشهورة وإنما كان الأمر هكذا لأنه ألف من أهل اللغة أنهم إذا استعملوا لفظا في مسماه أطلقوه إطلاقا وإذا استعملوه بإزاء غيره قرنوا به قرينة لأن الغرض من وضع اللفظ للمعنى أن يكتفي به في الدلالة عليه والأصل أن يكون ذلك في الحقيقة دون المجاز لكونها أغلب في الاستعمال فإذا وجدناهم لا يستعملون اللفظ في معنى إلا مقيدا بقيد هو قرينة دالة عليه علمنا أنه مجاز فيه ولا عكس إذ قد يستعمل المجاز غير مقيد اعتمادا على القرائن الحالية أو المقالية غير التقييد وإنما اعتبر اللزوم فيه احترازا عن المشترك إذ ربما يقيد كرأيت عينا جارية لكن لا يلزم فيه ذلك "وبتوقف إطلاقه" أي ويعرف المجاز بتوقف إطلاق اللفظ مرادا به ذلك "على" ذكر "متعلقه" حال كون ذلك اللفظ "مقابلا للحقيقة" أي(23/49)
للفظ مرادا به المعنى الحقيقي أي بهذا الشرط لأن الأحوال شروط فيكون اللفظ حقيقة فيما لم يتوقف مجازا فيما توقف ففي العبارة تعقيد نحو قوله تعالى "{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: 54]" فإن إطلاق المكر على المعنى المتصور من الحق يتوقف على استعماله في المعنى المتصور من الخلق فيكون بالنسبة إلى الحق مجازا وإلى الخلق حقيقة وهذا بناء "على أنه" أي المجاز "مكر المفرد وإلا" إن كان المجاز في النسبة "فليس" هو "المقصود كالتمثيل لعدم الاطراد باسأل القرية" فإن المجاز فيه في النسبة لا في المفرد الذي هو مجرد السؤال وأنه لو كان في القرية لا يكون من أمثلة عدم الاطراد وإنما قلنا: المجاز في النسبة غير مقصود بالتمثيل هنا "فإن الكلام في" المجاز "اللغوي لا العقلي" والمجاز في النسبة عقلي والله سبحانه أعلم.
مسألة
"إذا لزم" كون اللفظ "مشتركا" بين معنيين "وإلا" لو لم يكن مشتركا بينهما لكان "مجازا" في أحدهما للعلم بأنه وضع لمعنى ثم استعمل في آخر ولم يعلم أنه موضوع له حتى دار بين لزوم كونه حقيقة فيه أيضا فيكون مشتركا أو غير موضوع له فيكون مجازا "لزم المجاز" أي(23/50)
ص -27-…كونه مجازا فيما لم يوضع له "لأنه" أي كونه مجازا فيه "لا يخل بالحكم" بما هو المراد منه "إذ هو" أي الحكم "عند عدمها" أي القرينة الدالة على أن المراد المجازي "بالحقيقي ومعها" أي القرينة الدالة على أن المراد المجازي "بالمجازي أما المشترك فلا" يحكم بأن المراد به معنى معين من معنييه "إلا معها" أي القرينة المعينة له قال المصنف: "ولا يخفى عدم المطابقة" فإن عدم الحكم بأن المراد به معنى معين من معنييه عند عدم قرينته لا يوجب الخلل بالحكم أما على قول من لا يرى المشترك عاما استغراقيا في مفاهيمه أو يراه والمعنيان مما لا يمكن اجتماعهما فظاهر لانتفائه حينئذ حتى يظهر المراد منه ولا سيما إن كان مجملا اللهم إلا أن يجعل التوقف عين الخلل كما ذكره الكرماني وفيه نظر وأما على قول من يراه عاما فيها وكانت مما يمكن اجتماعها فلحمله على جميعها لظهورها فيه عنده "وقولهم" أي المرجحين للحمل على الاشتراك "يحتاج" المشترك "إلى قرينتين" بحسب معنييه "بخلاف المجاز" فإنه إنما يحتاج إلى واحدة فبعد أنه إنما يتمشى على عدم تعميمه في مفاهيمه "ليس بشيء" مقتض لترجيحه على المجاز لتسلط المنع على احتياج الاشتراك إلى قرينتين في كل استعمال إذ الفرض أن المراد واحد فيكفي قرينته وأما اقتضاء المعنى الآخر قرينة أخرى فإنما هو في استعمال آخر "بل كل" من المشترك والمجاز "في المادة" الاستعمالية "يحتاج" في إفادة ما هو المراد به "إلى قرينة وتعددها" أي القرينة في المشترك "لتعدده" أي المعنى المراد منه "على البدل كتعددها" أي القرينة في اللفظ الواحد المجاز "لتعدد" المعاني "المجازيات كذلك" أي على البدل فهما سيان في هذا القدر من الاحتياج وإنما يختلفان من حيث إن قرينة المشترك لتعيين الدلالة وقرينة المجاز لنفس الدلالة فكما لا يقال في اللفظ المستعمل في كل من معنييه المجازيين في حالتين إنه محتاج إلى قرينتين في إفادة كل منهما فقط لا يقال(23/51)
ذلك في المشترك أيضا.
ثم أشار إلى توجيه عساه أن يحمل عليه قولهم تصحيحا له بقدر الإمكان فقال: "ولعل مرادهم لزوم الاحتياج" إلى قرينتين "دائما على تقدير الاشتراك دون المجاز" إحداهما "لتعيين المراد" به والأخرى كما قال "ونفي الآخر" أي لنفي أن يكون المعنى الآخر هو المراد ولا كذلك المجاز فإنه إنما يحتاج إلى قرينة صارفة عن الحقيقي إليه لا غير، غايتها أنها تتكرر بتكرر المعاني المجازية ثم تعقبه بقوله "وهذا" أي احتياج المشترك إلى قرينتين "على معممه في حالة عدم التعميم" لمانع من التعميم لتدل إحداهما على المعنى المراد والأخرى على عدم التعميم "والمجاز كذلك على الجمع" أي يلزم كونه محتاجا إلى قرينتين إحداهما لإرادة المراد به والأخرى لنفي الحقيقي على قول من يجيز الجمع بين الحقيقي والمجازي بلفظ واحد في حالة واحدة فلا يترجح المجاز على الاشتراك على هذا التقدير نعم يترجح على قول المانع منه لأن على قوله إذا دلت القرينة على أن المجاز مراد كفى إذ لا يمكن أن يراد مع الحقيقي أيضا "وأبلغ" أي ولأن المجاز أبلغ "وإطلاقه" أي أن المجاز دائما أبلغ "بلا موجب لأنه" أي كونه أبلغ "من البلاغة" ما يشعر به كلام القاضي عضد الدين وهو ظاهر(23/52)
ص -28-…حكاية السكاكي له عن أهل البلاغة "ممنوع" وكيف لا "وصرح بأبلغية الحقيقة" من المجاز "في مقام الإجمال" مطلقا لداع دعا إليه من إبهام على السامع كلي عين أو غير ذلك أو أولا ثم التفصيل ثانيا لأن ذكر الشيء مجملا ثم مفصلا أوقع في النفس "فإن المشترك هو المطابق لمقتضى الحال بخلاف المجاز" فإن اللفظ مع عدم القرينة يحمل على الحقيقة ومعها على المجاز فلا إجمال "وبمعنى تأكيد إثبات المعنى" عطف على قوله من البلاغة أي ولأنه من المبالغة كما ذكره غير واحد بمعنى كونه أكمل وأقوى في الدلالة على ما أريد به من الحقيقة على ما أريد بها "كذلك" أي ممنوع أيضا "للقطع بمساواة رأيت أسدا ورجلا هو والأسد سواء" في الشجاعة فإن المساواة المفهومة منه ومن رأيت أسدا لا يتصور فيها زيادة ولا نقصان "نعم هو" أي المجاز "كذلك" أي يفيد التأكيد في "رجلا كالأسد" بالنسبة إلى رأيت شجاعا "وكونه" أي المجاز "كدعوى الشيء ببينة" أي فيه تأكيد للدلالة وتقويتها "بناء على أن الانتقال إلى المجازي" من الحقيقي يكون "دائما من الملزوم" إلى اللازم كالانتقال من الغيث الذي هو ملزوم النبت إلى النبت كما التزمه السكاكي فإن وجود الملزوم يقتضي وجود اللازم لامتناع انفكاك الملزوم عن اللازم "ولزومه" أي الانتقال في المجاز دائما من الملزوم إلى اللازم "تكلف" حيث يراد باللزوم الانتقال في الجملة سواء كان هناك لزوم عقلي حقيقي أو عادي أو اعتقادي أو ادعائي مع أن هذه الثلاثة أكثر ما يعتبر من اللزوم في هذا الباب وباللازم ما هو بمنزلة التابع والرديف وبالملزوم ما هو بمنزلة المتبوع والمردوف "وهو" أي التكلف "مؤذن بحقية انتفائه" أي لزوم الانتقال المذكور المستند إليه الأبلغية المذكورة "مع أنه إنما يلزم" هذا الترجيح "في" اللزوم "التحقيقي لا الادعائي" كما هو غير خاف على المتأمل "وأما الأوجزية" أي وأما ترجيح المجاز على المشترك بأن المجاز أوجز في اللفظ من الحقيقة(23/53)
فإن أسدا يقوم مقام رجل شجاع "والأخفية" أي بأن المجاز أخف لفظا من الحقيقة كالحادثة والخنفقيق للداهية "والتوصل إلى السجع" أي وبأن المجاز يتوصل به إلى تواطؤ الفاصلتين من النثر على الحرف الآخر نحو حمار ثرثار إذا وقعا في أواخر القرائن بخلاف بليد ثرثار أي كثير الكلام "والطباق" أي وبأن المجاز يتوصل به إلى الجمع بين معنيين متقابلين في الجملة أو ما هو ملحق به نحو قول دعبل:
لا تعجبي يا سلم من رجل …ضحك المشيب برأسه فبكى
ف"ضحك" مجاز عن ظهر ولو ذكره مكانه لفات هذا التحسين البديعي "والجناس" أي وبأن المجاز يتوصل به إلى تشابه اللفظين لفظا مع تغايرهما معنى وأصنافه كثيرة ومن مثل الجناس التام المماثل قوله:
أقم إلى قصدهم سوق السرى وأقم …بدار عز وسوق الأينق التثم
فأقم الأول مجاز لو ذكر حقيقته وهي التنفيق لفات الجناس "والروي" أي بأن المجاز يتوصل به إلى المحافظة على الحرف الذي تبتنى عليه القصيدة نحو قوله:(23/54)
ص -29-…عارضننا أصلا فقلنا الربرب …حتى تبدى الأقحوان الأشنب
الربرب القطيع من بقر الوحش والأقحوان البابونج والشنب حدة الأسنان وبردها تجوز بهما عن السن الأبيض للتوصل إلى الروي فتحصل المناسبة بين الأشنب والربرب لفواته بسنهن الأبيض "فمعارض بمثله في المشترك" فقد يكون أوجز وأخف كالعين للجاسوس وللينبوع ويتوصل به إلى السجع والروي مثل ليث مع غيث دون أسد والمطابقة نحو خسنا خير من خياركم والجناس نحو رحبة رحبة بخلاف واسعة "ويترجح" المشترك "بالاستغناء عن العلاقة ومخالفة الظاهر وهو" أي الظاهر "الحقيقة وهذا" أي الاستغناء عن مخالفة الظاهر "إن عمم في غير المنفرد" وهو المشترك "فممنوع" لأن المشترك حقيقة وليس بظاهر على ما هو الحق في شيء من معانيه حيث لا قرينة معينة له "وإلا" إذا لم يعمم فيه "لا يفيد" لأن الكلام فيه "وعن ارتكاب الغلط للوقف" فيما هو المراد منه "لعدمها" أي القرينة المعينة عند من لا يعممه "أو للتعميم" عطف على للتوقف أي أو لتعميمه في مفاهيمه لحمله على الجميع عند من يرى ذلك "بخلافه" أي المجاز فإنه لا يتوقف فيه عند عدمها بل يحكم بإرادة الحقيقي والحال أنه كما قال "وقد لا يراد الحقيقي وتخفى القرينة" فيقع الغلط في الحكم بإرادته "والوجه أن جواز الغلط فيهما" أي المشترك والمجاز "بتوهمها" أي القرينة وهما في توهمها سواء "ولا أثر للاحتياج" أي لاحتياج المجاز "إلى علاقته" المسوغة للتجوز به عن الحقيقي بخلاف المشترك فإنه لا يحتاج إلى علاقة في ترجيح المشترك على المجاز كما ذكروه "بقليل تأمل" لأن الكلام فيهما بعد تحقق كل منهما ولا تحقق للمجاز بدون علاقته المذكورة "وبأنه يطرد" أي ويترجح المشترك أيضا باطراده في كل من معانيه لأنه حقيقة فيه فيطلق عليه في جميع محاله فلا يضطرب بخلاف المجاز فإن من علاماته أن لا يطرد فيضطرب فيه بحسب محاله وما لا يضطرب أولى لأن الاضطراب يكون لمانع والأصل عدمه "وتقدم ما فيه"(23/55)
فإن المجاز قد يطرد كالأسد للشجاع "وبالاشتقاق" أي ويترجح المشترك أيضا بالاشتقاق "من مفهوميه" إذا كان مما يشتق منه لأنه حقيقة في كل منهما وهو من خواصها "فيتسع" الكلام وتكثر الفائدة والمجاز قد لا يشتق منه وإن كان مما يصلح له وهذا إنما يتم على قول القاضي والغزالي وإلكيا مانعي الاشتقاق من المجاز ورد بأنه يئول إلى قصر المجازات كلها على المصادر فلا جرم أنه لم يمنعه الجمهور هذا "والحق أن الاشتقاق يعتمد المصدرية حقيقة كان" المصدر "أو مجازا كالحال ناطقة ونطقت" الحال من النطق بمعنى الدلالة "وقد تتعدد" المعاني "المجازية للمنفرد أكثر من مشترك فلا يلزم أوسعيته" أي المشترك على المجاز "فلا ينضبط" الاتساع المقتضي للترجيح "وعدمه" أي الاشتقاق "من الأمر بمعنى الشأن لعدمها" أي المصدرية لا لأنه مجاز فيه كما قيل "ومن فإنما هي إقبال وإدبار" مع وجود المصدر "لفوت غرض المبالغة" الحاصلة من حمل المصدر على الناقة المفيد جعلها لكثرة ما تقبل وتدبر كأنها تجسمت من الإقبال والإدبار والتخلف لمانع لا يقدح في اقتضاء المقتضي كما تقدم "وترجح أكثرية المجاز الكل" أي مرجحات الاشتراك فإن من تتبع كلام العرب علم(23/56)
ص -30-…أن المجاز فيه أغلب من المشترك حتى ظن بعض الأئمة أن أكثر اللغة مجاز فيترجح المجاز عليه إلحاقا للفرد بالأعم الأغلب.
مسألة
"يعم المجاز فيما تجوز به فيه فقوله" صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا الدينار بالدينارين ولا الدرهم بالدرهمين ولا الصاع بالصاعين إني أخاف عليكم الرماء" والرماء هو الربا أخرجه أحمد والطبراني في الكبير "يعم فيما يكال به فيجري الربا في نحو الجص" مما ليس بمطعوم "ويفيد مناطه" أي الربا لأن الحكم علق بالمكيل فيفيد عليه مبدأ الاشتقاق "وعن بعض الشافعية لا" يعم وعزاه غير واحد إلى الشافعي "لأنه" أي المجاز "ضروري" أي لضرورة التوسعة في الكلام كالرخص الشرعية الثابتة ضرورة التوسعة على الناس إذ الأصل في الكلام الحقيقة ولذا تترجح على المجاز عند التعارض والضرورة بدون إثبات العموم فلا حاجة إليه "فانتفى" الربا "فيه" أي في نحو الجص ووجه ترتيبه على كونه ضروريا ظاهر فإنه حيث كان كذلك لا يعم لاندفاع الضرورة ببعض أفراد العام والإجماع على أن الطعام مراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء" أخرج معناه الشافعي في مسنده فلم يبق غيره مرادا فصار المراد بالصاع الطعام "فسلم عموم الطعام لانتفاء علية الكيل" أي فتعين الطعم للعلية وبطل علية الكيل للاتفاق على أنه لم يعلل بعلتين فسلم عليته عن المعارض وعمومه "فامتنع" أن تباع "الحفنة بالحفنتين منه" أي من الطعام "ولزمت عليته" أي الطعم عندهم "قيل" أي قال الشيخ سعد الدين التفتازاني ما معناه: "لم يعرف" نفي عموم المجاز "عن أحد ويبعد" أيضا نفيه "لأنها" أي الضرورة "بالنسبة إلى المتكلم ممنوع" وجودها "للقطع بتجويز العدول إليه" أي المجاز "مع قدرة الحقيقة لفوائده" أي المجاز التي منها لطائف الاعتبارات ومحاسن الاستعارات والموجبة لزيادة بلاغة الكلام أي علو درجته وارتفاع طبقته على أن المجاز واقع في كلام من يستحيل عليه العجز(23/57)
عن استعمال الحقيقة والاضطرار إلى استعمال المجاز وبالنسبة إلى الكلام "وإلى السامع أي لتعذر الحقيقة" بمعنى أنه لما تعذر العمل بها وجب الحمل عليه ضرورة لئلا يلزم إلغاء الكلام وإخلاء اللفظ من المرام "لا تنفي العموم" فإنه يتعلق بدلالة اللفظ وإرادة المتكلم فعند الضرورة إلى حمل اللفظ على معناه المجازي يجب أن يحمل على ما قصده المتكلم واحتمله اللفظ بحسب القرينة إن عاما فعام وإن خاصا فخاص "ولا" تتحقق الضرورة أيضا "بالنسبة إلى الواضع بأن اشترط في استعماله" أي المجاز "تعذرها" أي الحقيقة "لما ذكرنا" من أنه لا ينفي العموم "ولأن العموم للحقيقة باعتبار شمول المراد" باللفظ "بموجبه" أي الشمول من أسباب زائدة على ذاتها كأداة التعريف ووقوعها في سياق النفي "لا" باعتبار "ذاتها" أي ليس العموم ذاتيا للحقيقة بمعنى أنه ناشئ عنها إذ لو كان كذلك لما انفك عنها لأن موجب الذات لا ينفك عنها فكانت لا توجد إلا عامة وليس كذلك فإذا وجدت في المجاز الأسباب الموجبة للعموم في الحقيقة كان عاما أيضا لوجود المقتضي وعدم المانع "قيل" أي قال التفتازاني: "ولا يتأتى نزاع لأحد في صحة قولنا جاءني الأسود(23/58)
ص -31-…الرماة إلا زيدا لكن الواجد" للخلاف "مقدم" على نافيه لعدم استيعاب النافي عامة المحال "واندرج الوجه" لعموم المجاز فيما تقدم كما أوضحناه فلا حاجة إلى إعادته "ولزمت المعارضة" بين علية وصف الطعم وكونه يكال ويترجح الأعم وهو كونه يكال فإنه أعم من الطعم لتعديه إلى ما ليس بمطعوم وذلك من أسباب ترجيح علية الوصف والله سبحانه أعلم.
مسألة
"الحنفية وفنون العربية" أي عامة أهل الأدب والمحققون من الشافعية على ما في الكشف وغيره "وجمع من المعتزلة" منهم أبو هاشم "لا يستعمل" اللفظ "فيهما" أي في الحقيقة والمجاز "مقصودين بالحكم" في حالة واحدة "وفي الكناية البيانية" إنما يستعمل في معنييه "لينتقل من الحقيقي الواقع بينه إلى المجازي" كقولهم كناية عن طويل القامة طويل النجاد فمناط الحكم فيها إنما هو المعنى الثاني فلم يستعمل اللفظ فيها مرادا به كلاهما مقصودين بالحكم "وأجازه" أي استعماله فيهما في حالة واحدة "الشافعية والقاضي وبعض المعتزلة" كعبد الجبار وأبي علي الجبائي "مطلقا إلا أن لا يمكن الجمع" بينهما "كافعل أمرا وتهديدا" لأن الإيجاب يقتضي الفعل والتهديد يقتضي الترك فلا يجوز استعماله فيهما في حالة واحدة "والغزالي وأبو الحسين يصح" استعماله فيهما "عقلا لا لغة" قال المصنف "وهو الصحيح إلا في غير المفرد" أي ما ليس بمثنى ولا مجموع "فيصح لغة" أيضا "لتضمنه" أي غير المفرد "المتعدد فكل لفظ لمعنى وقد ثبت القلم أحد اللسانين والخال أحد الأبوين" فأريد بأحد اللسانين القلم وهو معنى مجازي للسان وباللسان الآخر الجارحة وهو معنى حقيقي له وبأحد الأبوين الخال وهو معنى مجازي للأب وبالآخر من ولده وهو معنى حقيقي له "والتعميم في المجازية" أي واستعمال اللفظ في معانيه المجازية المختلفة في حالة واحدة "قيل" أي قال القرافي هو "على الخلاف كلا أشتري بشراء الوكيل والسوم" فإن كلا منهما معنى مجازي لقوله لا أشتري "والمحققون لا خلاف(23/59)
في منعه" فعلى هذا يحكم بخطأ من قال: لا أشتري وأراد شراء الوكيل والسوم "ولا" خلاف أيضا "فيه" أي في منع تعميمه في الحقيقي والمجازي "على أنه حقيقة ومجاز" بحيث يكون اللفظ بحسب هذا الاستعمال حقيقة ومجازا "ولا" خلاف أيضا "في جوازه" أي استعمال اللفظ "في مجازي يندرج فيه الحقيقي" ويكون من أفراده "لنا في الأول" أي في صحته عقلا "صحة إرادة متعدد به قطعا" للإمكان وانتفاء المانع "وكونه" أي اللفظ موضوعا "لبعضها" أي المعاني وهو المعنى الحقيقي دون البعض "لا يمنع عقلا إرادة غيره" أي غير ذلك البعض الذي هو المعنى الحقيقي "معه" أي مع البعض الذي هو المعنى الحقيقي "بعد صحة طريقه" أي غير المعنى الحقيقي "إذ حاصله نصب ما يوجب الانتقال من لفظ بوضع وقرينة" وما قيل لا بد من توجيه الذهن إلى أحدهما حقيقة والآخر مجازا وكل منهما قضية والذهن لا يتوجه في حالة واحدة إلى حكمين باتفاق العقلاء وإنما المختلف فيه توجيه الذهن في حالة واحدة إلى تصورين ممنوع "فقول بعض الحنفية" بل الجم الغفير منهم "يستحيل" الجمع بينهما "كالثوب" الواحد يستحيل أن يكون(23/60)
ص -32-…على اللابس الواحد "ملكا وعارية في وقت" واحد "تهافت" أي تساقط "إذ ذاك" أي كون اجتماع الشيئين المتنافيين محالا إنما هو فيهما حال كونهما جسمين "في الظرف الحقيقي" فمن أين يلزم منه استحالة إطلاق اللفظ وإرادة المعنى الحقيقي والمجازي معا وإن كان توضيحا وتمثيلا للمعقول بالمحسوس فلا بد من الدليل على استحالة إرادة المعنيين فإنها ممنوعة غير مسموعة "لا يقال المجازي يستلزم معاند الحقيقي" أي وجود معانده أعني "قرينة عدم إرادته" أي الحقيقي فلا يعقل اجتماعهما لأنا نقول ليس كذلك "لأنه" أي استلزامه ذلك "بلا موجب" له فلا يسمع "بل ذاك" أي استلزامه إياه "عند عدم قصد التعميم أما معه" أي قصد تعميمه به "فلا يمكن" عند المعمم "نعم يلزم عقلا كونه حقيقة ومجازا في استعمال واحد وهم ينفونه" أي كونه حقيقة ومجازا في استعمال واحد لغة "لا يقال" على هذا "بل" هو "مجاز للمجموع" كما مشى عليه في التلويح حيث قال على أنا لا نجعل اللفظ عند إرادة المعنيين حقيقة ومجازا ليكون استعماله فيهما بمنزلة استعمال الثوب بطريق الملك والعارية بل نجعله مجازا قطعا لكونه مستعملا في المجموع الذي هو غير الموضوع له لأنا نقول ليس كذلك "لأنه" أي اللفظ "لكل" من الحقيقي والمجازي "إذ كل" منهما "متعلق الحكم لا المجموع لكن نفيهم غير عقلي" وإنما هو لغوي "بل يصح عقلا حقيقة لإرادة الحقيقي ومجازا لنحوه" أي لإرادة نحو الحقيقي وهو المجازي "ولنا في الثاني" أي نفي صحته لغة "تبادر الوضعي فقط" من إطلاقه "ينفي غير الحقيقي" أن يكون اللفظ فيه "حقيقة" لأن التبادر أمارة الحقيقة ولا سيما مع العلم بوضع اللفظ له وعدمه أمارة عدمها ولا سيما مع العلم بوضع اللفظ لغيره وتأكده بالمبادرة وكون الأصل عدم الاشتراك وكان يكفيه أن يقول غيره أي غير الوضعي إلا أنه وضع الظاهر موضع المضمر لزيادة التمكن في ذهن السامع والحقيقي مكان الوضعي لبيان أنه المراد به "وعدم العلاقة(23/61)
ينفيه" أي غير الحقيقي أن يكون اللفظ فيه "مجازا بما قدمناه في المشترك" من انتفاء العلاقة وانتفاء الحقيقة والمجاز عن استعمال اللفظ في المعنى بمنع صحته لغة "وعلى النفي" أي نفي الجمع بين الحقيقة والمجاز باللفظ الواحد "اختص الموالي بالوصية لهم دون مواليهم" أي موالي الموالي فيما إذا أوصى من لا ولاء عليه بشيء لمواليه وله عتقاء وعتقاء عتقاء لأن العتقاء مواليه حقيقة لمباشرته عتقهم وعتقاء العتقاء مواليه مجازا لتسببه في عتقهم بإعتاق معتقيهم لأنهم بعتقه صاروا أهلا لإعتاق غيرهم والجمع بينهما متعذر فتعينت الحقيقة لترجحها وإمكان العمل بها "إلا أن يكون" أي يوجد "واحد" من الموالي لا غير "فله النصف والباقي للورثة" لأنه لما تعينت الحقيقة واستحق الاثنان منهم ذلك لأن لهما حكم الجمع في الوصية كما في الميراث كان بالضرورة النصف للواحد والنصف للورثة لا لعتقاء العتيق لئلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز وأورد هب أن الموالي لمن باشر إعتاقهم لكن المفروض أن له معتقا واحدا فلم لا يكون ذكر الجمع وأراد المفرد مجازا وأجيب بالفرق بين إرادة المعنى الحقيقي ووجوده في الخارج ولا يلزم من انتفاء الثاني انتفاء الأول ولعله إنما أراد معناه الحقيقي لأن بعض أفراده موجود وبعضها منتظر الوجود إذ الإعتاق مندوب إليه(23/62)
ص -33-…وفي الوقت سعة "وكذا لأبناء فلان مع حفدته عنده" أي ومثل حكم الموالي مع موالي الموالي في الوصية لهم حكم الأبناء مع أبناء الأبناء عند أبي حنيفة فيما لو أوصى لأبناء فلان ولفلان أبناء وأبناء أبناء فقال: تكون الوصية للصلبيين خاصة لأن الأبناء حقيقة فيهم مجاز في بنيهم والجمع متعذر فتعينت الحقيقة إلا أن يوجد ابن صلبي لا غير فيكون له النصف والنصف للورثة دون أبناء الأبناء "وقالا" أي أبو يوسف ومحمد "يدخلون" أي موالي الموالي والحفدة "مع الواحد" من الموالي والأبناء "فيهما" أي في المسألتين "بعموم المجاز" لأن الموالي تطلق عرفا على الفريقين والأبناء تطلق عرفا على الفريقين أيضا ولا تدخل موالي الموالي ولا أبناء الأبناء مع الاثنين من الفريقين بالاتفاق "والاتفاق دخولهم" أي موالي الموالي وأبناء الأبناء "فيهما" أي في المسألتين "إن لم يكن أحد" من الموالي والأبناء "لتعيين المجاز حينئذ" أي حين لم يكن منهم أحد للإرادة بهم احترازا من الإلغاء "وأما النقض" لمنع الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد "بدخول حفدة المستأمن على بنيه" مع بنيه في الأمان مع أن الأبناء حقيقة في الصلبيين مجاز في الحفدة "وبالحنث بالدخول راكبا" أو متنعلا "في حلفه لا يضع قدمه في دار فلان" ولا نية له كما لو دخلها حافيا مع أنه حقيقة فيه حتى لو نواه صدق قضاء وديانة مجاز في دخوله راكبا ومتنعلا "وبه" أي بالحنث "بدخول دار سكناه" أي فلان "إجارة" أو إعارة "في حلفه لا يدخل داره" أي فلان ولا نية له كما لو دخل دار سكناه المملوكة له مع أنها حقيقة في المملوكة بدليل عدم صحة نفيها عنه مجاز في المستأجرة والمستعارة بدليل صحة نفيهما عنه "وبالعتق" أي عتق عبده مثلا "في إضافته إلى يوم يقدم" فلان "فقدم ليلا" ولا نية له كما لو قدم نهارا مع أنه حقيقة فيه حتى لو نواه صدق قضاء وديانة مجاز في الليل بدليل صحة نفيه عنه "ويجعل لله علي صوم كذا بنية النذر(23/63)
واليمين يمينا ونذرا حتى وجب القضاء والكفارة بمخالفته" أي بعدم صيام ما سماه القضاء بتفويت موجب النذر وهو الوفاء بما التزمه والكفارة بتفويت موجب اليمين وهو المحافظة على البر كما هو قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى مع أن هذا الكلام حقيقة للنذر حتى لا يتوقف على النية مجاز لليمين حتى يتوقف على نيتها لا على قول أبي يوسف فإنه قال يكون نذرا فقط "فأجيب عن الأول" أي النقض بدخول حفدته في الاستئمان على بنيه "بأن الاحتياط في الحقن" أي حفظ الدم وصيانته عن السفك "أوجبه" أي دخول الحفدة "تبعا لحكم الحقيقي" أي حقن دماء الأبناء "عند تحقق شبهته" أي الحقيقي فيهم "للاستعمال" أي لاستعمال لفظ البنين فيهم كما في "نحو بني هاشم وكثير" لوجود شبهة صورة الاسم لأن الأمان مما يحتاط في إثباته ولو بالشبهة حتى ثبت بمجرد صورة المسالمة بأن أشار مسلم إلى كافر بالنزول من حصن أو قال: انزل إن كنت رجلا أو تريد القتال أو ترى ما أفعل بك وظن الكافر منه الأمان يثبت الأمان بخلاف الوصية فإنها لا تستحق بصورة الاسم والشبهة "ففرعوا عدمه" أي عدم الدخول "في الأجداد والجدات بالاستئمان على الآباء والأمهات بناء على كون الأصالة في الخلق" في الأجداد والجدات "يمنع التبعية في الدخول" أي دخولهم "في اللفظ" أي لفظ الآباء والأمهات(23/64)
ص -34-…قالوا: لأن التبعية في الدخول باعتبار تناول صورة الاسم دليل ضعيف في نفسه فإذا عارضه كونهم أصولا لهم في الخلقة سقط العمل به "وإعطاء الجد السدس لعدم الأب ليس بإعطائه الأبوين" أي بطريق التبعية للأب مع كونه أصلا له خلقة ليقدح في كون الأصالة خلقة غير قادحة في التبعية "بل بغيره" أي بل بدليل آخر وهو إقامة الشرع إياه مقام الأب عند عدمه كما في بنت الابن عند عدم البنت "إلا أنه" أي هذا الجواب "يخالف قولهم الأم الأصل لغة وقول بعضهم البنات الفروع لغة" فإن هذا يفيد استواءهم في الدخول "وأيضا إذا صرف الاحتياط عن الاقتصار في الأبناء" على الأبناء "عند شبهة الحقيقة بالاستعمال فعنه" أي فيصرف الاحتياط عن الاقتصار "في الآباء" على الآباء "لذلك" أي لشبهة الحقيقة بالاستعمال "كذلك" أي كما في الأبناء "بعموم المجاز في الأصول" أي بجعل الآباء مجازا عن الأصول "كما هو" أي لفظ الأبناء مجاز "في الفروع إن لم يكن" اللفظ "حقيقة" في ذلك "فيدخلون" أي الأجداد والجدات في الآباء والأمهات "ومانعية الأصالة خلقة" من الدخول أمر "ممنوع" لعدم اقتضاء عقل أو نقل ذلك "هذا والحق أن هذا من مواضع جواز الجمع عندنا" أي عند المصنف "لأن الأبناء والآباء جمع" ونحن قد جوزنا الجمع بين الحقيقة والمجاز لغة وعقلا في غير المفرد كما قدمناه "وعن الثاني" أي النقض بالحنث بالدخول راكبا في حلفه لا يضع قدمه في دار فلان "بهجر" المعنى "الحقيقي" لوضع القدم لأنه لو اضطجع خارجها ووضع قدميه فيها لا يقال عرفا وضع القدم في الدار حتى لا يحنث بذلك كما في الخانية وما ذاك إلا "لفهم صرف الحامل" على هجره إلى الدخول بواسطة اليمين لظهور أن مقصوده منع نفسه من الدخول لا من مجرد وضع القدم فصار باعتبار مقصوده كأنه حلف لا يدخل فأطلق السبب وأراد المسبب والدخول مطلق عن الركوب والتنعل والحفا فيحنث بكل منها لحصول الدخول المقصود بالمنع "والجواب عن الثالث" أي النقض(23/65)
بالحنث بدخول دار سكنى فلان إعارة في حلفه لا يدخل داره "بأن حقيقة إضافة الدار بالاختصاص" الكامل المصحح لأن يخبر عن المضاف بأنه للمضاف إليه "بخلاف نحو كوكب الخرقاء" في قوله:
إذا كوكب الخرقاء لاح بسحرة …سهيل أذاعت غزلها في القرائب
فإن إضافة كوكب الذي هو سهيل وهو كوكب بقرب القطب الجنوبي يطلع عند ابتداء البرد إلى الخرقاء وهي التي في عقلها هوج وبها حماقة إضافة مجازية لاختصاص مجازي وهو كون زمان طلوعه وقت ظهور جدها في تهيئة ملابس الشتاء بتفريقها قطنها في قرائبها ليغزل لها فجعلت هذه الملابسة بمنزلة الاختصاص الكامل "وهو" أي اختصاصه الكامل بالدار يكون "بالسكنى والملك فيحنث" بكل حتى يحنث "بالمملوكة غير مسكونة كقاضي خان" لوجود الاختصاص الكامل وهذا أولى من التعليل بأن المراد بكون الدار مضافة إلى فلان نسبة السكنى إليه حقيقة كانت وهو ظاهر أو دلالة بأن تكون ملكه فيتمكن من السكنى فيها "خلافا للسرخسي" ووافقه صاحب الكافي بناء على انقطاع نسبة السكنى إليه بفعل غيره قلت وفيه نظر فإن الباعث على اليمين قد يكون الغيظ اللاحق له من فلان وذلك مما(23/66)
ص -35-…يقتضي امتناعه من دخول المنسوبة إليه بالاختصاص مملوكة كانت ولو غير مسكونة له أو مسكونة له ولو غير مملوكة له "وعن الرابع" أي وعن النقض بعتق من أضاف عتقه إلى يوم يقدم فلان فقدم ليلا "بأنه" أي اليوم "مجاز في الوقت" المطلق "عام لثبوت الاستعمال" له كذلك "عند ظرفيته لما لا يمتد" من الأفعال وهو ما لا يقبل التأقيت نحو قوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] فإن التولي عن الزحف حرام ليلا كان أو نهارا وهو مما لا يمتد لأنه لا يقبل التأقيت "فيعتبر" المجازي العام "إلا لموجب" يقتضي كون المراد به بياض النهار خاصة "كطالق يوم أصوم" فإن الطلاق مما لا يمتد لأنه لا يقبل التأقيت والموجب لإرادة بياض النهار به أن الصوم الشرعي إنما يكون فيه وفي التلويح على أنه لا امتناع في حمل اليوم على مطلق الوقت ويحصل التقييد باليوم من الإضافة كما إذا قال أنت: طالق حين يصوم أو حين تنكسف الشمس "بخلاف" ما كان ظرف "ما يمتد" من الأفعال وهو ما يقبل التأقيت "كالسير والتفويض" فإنه يكون المراد به بياض النهار "إلا لموجب" يقتضي كون المراد به مطلق الوقت "كأحسن الظن يوم تموت" فإن إحسان الظن مما يمتد والموجب لإرادة مطلق الوقت به إضافته إلى الموت وفي التلويح على أنه لا امتناع في حمل اليوم فيه على بياض النهار ويعلم الحكم في غيره بدليل العقل "ولو لم يخطر هذا" الفرق للقائل "فقرينة" إرادة "المجاز" به في النقض المذكور وهو مطلق الوقت "علم أنه" أي العتق إنما هو "للسرور ولا يختص بالنهار" فلم يستعمل حينئذ إلا في مجاز عام يندرج فيه الحقيقة "وعن الخامس" أي عن النقض بكون لله علي صوم كذا نذرا ويمينا بنيتهما "تحريم المباح" الذي هو فطر الأيام المنذور صيامها "وهو" أي وتحريمه "معنى اليمين" هنا لما عرف من أن تحريم المباح يمين بالكتاب والسنة "يثبت مدلولا التزاميا للصيغة" أي لله علي صوم كذا لأن المقصود منها(23/67)
إيجاب المنذور لما عرف من أن المنذور لا بد أن يكون قبل النذر مباح الفعل والترك ليصح التزامه بالنذر وحيث صار كذا صار تركه الذي كان مباحا حراما به لازما له "ثم يراد به" أي بالمدلول الالتزامي "اليمين" أي معناها "فأريد" اليمين أي معناها "يلازم موجب اللفظ" الذي هو النذر بفتح الجيم أي حكمه "لا به" أي باللفظ الذي هو النذر "ولا جمع" بين الحقيقة والمجاز باللفظ الواحد "دون الاستعمال فيهما" أي المعنى الحقيقي والمجازي ولا استعمال للفظ الواحد هنا فيهما فلا جمع بينهما "وما قيل لا عبرة لإرادة النذر" لأنه ثابت بنفس الصيغة من غير تأثير للإرادة "فالمراد اليمين فقط" أي فكأنه لم يرد إلا المعنى المجازي "غلط إذ تحققه" أي النذر "مع الإرادة وعدمها" أي إرادته "لا يستلزم عدم تحققها" أي إرادته "وإلا" لو استلزم تحقق النذر عدم تحقق إرادته "لم يمتنع الجمع" بين الحقيقي والمجازي "في صورة" لأن المعنى الحقيقي يثبت باللفظ فلا عبرة بإرادته ولا تأثير لها "وقد فرض إرادتهما" أي الحقيقي والمجازي "وفيه" أي في الجواب عن هذا النقض "نظر إذ ثبوت الالتزامي" حال كونه "غير مراد" هو "خطوره عند فهم ملزومه" الذي هو مدلول اللفظ "محكوما بنفي إرادته" أي المدلول الالتزامي للمتكلم "وهو" أي والحكم بذلك "ينافي إرادة اليمين" به أعني "التي هي إرادة(23/68)
ص -36-…التحريم على وجه أخص منه" حال كونه "مدلولا التزاميا لأنه" أي إرادة التحريم بمعنى قصده الذي هو معنى اليمين "تحريم يلزم بخلفه الكفارة" ولا كذلك تحريم المباح الثابت مدلولا التزاميا له بل هو أعم من ذلك "وعدم إرادة الأعم" الذي هو تحريم المباح الثابت مدلولا التزاميا "ينافيه إرادة الأخص" أي تحريمه على ذلك الوجه "وظاهر بعضهم" كصاحب البديع "إرادته" أي معنى اليمين "بالموجب" أي موجب النذر بفتح الجيم "نفسه إلحاقا لإيجاب المباح" الذي هو معنى النذر "بتحريمه" أي المباح الذي هو معنى اليمين "في الحكم وهو" أي الحكم "لزوم الكفارة ويتعدى اسم اليمين" إلى الموجب "ضمنه" أي ضمن هذا القصد وتبعا له "لا لتعدية الاسم ابتداء" ثم ترتب عليه الحكم قال المصنف رحمه الله: وفيه أيضا نظر لأن إرادة الإيجاب على أنه يمين إرادته على وجه هو أن يستعقب الكفارة بالخلف وإرادته من اللفظ نذرا إرادته بعينه على أن لا يستعقبها بل القضاء وذلك تناف فيلزم إذا أريد يمينا وثبت حكمها شرعا وهو لزوم الكفارة بالخلف أنه لم يصح نذرا إذ لا أثر لذلك فيه "وشمس الأئمة" السرخسي ذهب إلى أنه "أريد اليمين بالله" لأنه قسم بمنزلة بالله "والنذر بعلي أن أصوم رجب" يعني معينا وهو ما يتعقب اليمين ليصح منعه من الصرف للعلمية والعدل عن الرجب كما في سحر لسحر بعينه إلا أن هذا الكلام غلب عند الإطلاق على معنى النذر عادة فإذا نواهما فقد نوى لكل لفظ ما هو من محتملاته فتعمل نيته "وجواب القسم محذوف مدلول عليه بذكر المنذور كأنه قال: لله لأصومن وعلي أن أصوم وعلى هذا لا يردان" أي النذر واليمين "بنحو علي أن أصوم" ليكون جمعا بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد بل أريدا بلفظين إن كان القسم معنى مجازيا للام كما هو الظاهر "وعلى ما قبله يرادان" بنحو علي أن أصوم على ما فيه من مسامحة إذا كانت اليمين مرادة بالموجب "وهذا" أي الذي ذهب إليه السرخسي "يخالف الأول" وما هو(23/69)
ظاهر بعضهم أيضا "باتحاد المنذور والمحلوف" فيه فإنه يكون فيه نادرا للصيام مقسما عليه "والأول" وما هو ظاهر بعضهم ليسا كذلك بل فيهما "المحلوف تحريم الترك والمنذور الصوم" نعم فيما ذكره السرخسي نظر لأن اللام إنما تكون للقسم إذا كانت للتعجب أيضا كما صرح به النحويون وهو ظاهر فيما استشهد به مما عن ابن عباس دخل آدم الجنة فلله ما غربت الشمس حتى خرج وفي قول الشاعر:
لله يبقى على الأيام ذو حيد …بمشمخر به الظبيان والآس
وما أجيب به من أن نذر الإنسان وإيجابه على نفسه أمر عجيب صالح لأن يتعجب منه فما يتعجب منه بل الظاهر أن فهم النذر إنما هو من مجموع لله علي كذا وأن اللام فيه لبيان من أثبت له الوجوب وأما ما قيل يلزمه أن يكون نذرا لا يمينا نحو نذرت أن أصوم رجبا وإن نوى النذر واليمين لعدم اللفظ الذي يصح به اليمين فظاهر ولكن إنما يشكل عليه أن لو كان قائلا بلزومهما ولم يؤثر عنه.
تتميم: وكما أورد النقض بهذا ناويا به النذر واليمين على قولهما خلافا لأبي يوسف(23/70)
ص -37-…حيث قال: هو نذر فقط أو ورد به أيضا ناويا به اليمين ولم يخطر له النذر فإنه يكون نذرا ويمينا على قولهما خلافا له حيث قال: هو يمين لا غير وبقي للمسألة أربعة أوجه: هي لم ينو شيئا نوى النذر ولم يخطر له اليمين نوى النذر أن لا يكون يمينا فهو نذر بالاتفاق نوى اليمين وأن لا يكون نذرا فهو يمين بالاتفاق.
"تنبيه لما لم يشرط نقل الآحاد" لأنواع العلاقات في أفراد المجازات في الألفاظ اللغوية بل جاز المجاز فيها إذا وجدت العلاقات المذكورة بين معانيها اللغوية الوضعية وغيرها بالقرينة الدالة عليه كذلك "جاز" المجاز "في" الألفاظ "الشرعية" إذا وجدت العلاقات المذكورة بين معانيها الشرعية سواء كانت العلاقة معنوية أو صورية "فالمعنوية فيها" أي في الشرعية "أن يشترك التصرفان في المقصود من شرعيتهما علتهما الغائية كالحوالة والكفالة المقصود منها التوثق فيطلق كل على الآخر كلفظ الكفالة بشرط براءة الأصيل" تطلق على الحوالة مجازا بعلاقة اشتراكهما في هذا الأمر المعنوي "وهو" أي شرط براءة الأصيل "القرينة في جعله" أي لفظ الكفالة "مجازا في الحوالة وهي" أي الحوالة "بشرط مطالبته" أي الأصيل "كفالة" والقرينة في جعل لفظ الحوالة مجازا في الكفالة شرط مطالبة الأصيل وكلفظ الحوالة للوكالة كما أشار إليه بقوله "وقول محمد" أي وكقوله فيما إذا افترق المضارب ورب المال وليس في المال ربح وبعض رأس المال دين لا يجبر المضارب على نقده "ويقال له" أي للمضارب "أحل رب المال" على المدينين "أي وكله" بقبض الديون "لاشتراكها" أي الحوالة والكفالة والوكالة "في إفادة ولاية المطالبة" للمدين "لا" لاشتراكها "في النقل المشترك الداخل" في مفهومها أعني النقل المشترك "بين الحوالة التي هي نقل الدين" من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه على ما هو الصحيح "والكفالة على أنها نقل المطالبة" بالدين من ذمة المكفول عنه إلى ذمة الكفيل "والوكالة على أنها نقل(23/71)
الولاية" من الموكل إلى الوكيل كما ذكره غير واحد من المشايخ "إذ المشترك" بين الحقيقي والمجازي "الداخل" في مفهومهما "غير معتبر" علاقة للتجوز "لا يقال لإنسان فرس وقلبه له" أي ولا يقال لفرس إنسان لاشتراكهما في الحيوانية الداخلة في مفهومهما بل الاتصال المعنوي المعتبر علاقة في التصرفات الشرعية هو المعنى الخارج عن مفهومها الصادق عليها الذي يلزم من تصورها تصوره "فكيف ولا نقل في الأخيرين" أي الكفالة فإنها ضم ذمة إلى ذمة في المطالبة على الأصح وقيل في الدين والوكالة إقامة الإنسان غيره مقامه في تصرف معلوم "والصورية العلية والسببية" لأن المجاورة التي بين الحكم والعلة وبين المسبب والسبب شبيه بالاتصال الصوري في المحسوسات "فالعلية كون المعنى وضع شرعا لحصول الآخر فهو" أي الآخر "علته" أي المعنى الموضوع شرعا لحصوله "الغائية كالشراء" وضع شرعا "للملك فصح كل" من الشراء والملك مجازا "في الآخر لتعاكس الافتقار" أي لافتقار العلة إلى حكمها من حيث الغرض والشرعية ولهذا لم تشرع في محل لا يقبله كشراء الحر وافتقار الحكم إلى علته من حيث الثبوت فإنه لا يثبت بدونها ومن ثمة قالوا: الأحكام العلل المآلية والأسباب العلة الآلية "وإن كان" الافتقار "في المعلول" إلى علته "على(23/72)
ص -38-…البدل منه" أي من علته بمعنى الموجد أو السبب الذي هو الشراء "ومن نحو الهبة" كالصدقة لوضعها شرعا للملك أيضا وإنما امتاز كل بما هو معلوم في موضعه "فلو عنى بالشراء الملك في قوله إن اشتريت" عبدا بأن أراد إن ملكته "فهو حر فاشترى نصفه وباعه واشترى" النصف "الآخر لا يعتق هذا النصف إلا قضاء" أي لا يعتق ديانة لأنه تجوز بالعلة عن حكمها ويعتق قضاء لا لعدم صحة هذا التجوز بل للتهمة لأن فيه تخفيفا عليه كما سيذكر "وفي قلبه" أي فيما لو عنى بالملك الشراء بأن قال: إن ملكت عبدا وأراد به إن اشتريت فهو حر فاشترى نصف عبد وباعه ثم اشترى النصف الآخر يعتق "مطلقا" أي قضاء وديانة "لتغليظه" على نفسه "فإنه" أي العبد "لا يعتق فيه" أي في الملك "ما لم يجتمع" جميع العبد "في الملك قضية لعرف الاستعمال فيهما" أي في الملك والشراء لأن المقصود من مثل هذا الكلام عرفا الاستغناء بملك العبد وهو إنما يحصل إذا كان الملك بصفة الاجتماع بخلاف الشراء فإن الملك فيه ليس بلازم حتى لو قال: إن اشتريت عبدا فامرأته طالق ثم اشترى عبدا لغيره يحنث فضلا عن اشتراط الغنى فإذا الشرط شراء عبد مطلقا من غير شرط الاجتماع وقد حصل يوضحه ما حكي عن الشيخ أبي بكر الإسكاف وكان إماما ببلخ وله بواب يقال له إسحاق فكان إذا أراد تفهيم أصحابه هذه المسألة دعاه وقال: هل اشتريت بمائتي درهم؟ فيقول: نعم بألوف ثم يقول هل ملكت مائتي درهم؟ فيقول: والله ما ملكتها قط ثم يقول لأصحابه: كم ترون أنه ملك من الدراهم متفرقة وأنفق على نفسه ثم هذا إذا كان العبد منكرا كما ذكرنا فإن كان معينا بأن قال لعبد: إن اشتريتك أو ملكتك فأنت حر والمسألة بحالها يعتق النصف الباقي في الوجهين لأن العرف المذكور إنما ثبت في المنكر دون المعين إذ في المعين قصده نفي ملكه عن المحل وقد ثبت ملكه فيه وإن كان في أزمنة متفرقة فبقي على أصل القياس على أن الاجتماع والتفرق من الأوصاف والصفة في(23/73)
الحاضر لغو ثم هذا إن كان الشراء صحيحا فإن كان فاسدا لم يعتق وإن اشتراه جملة لأن شرط حنثه وجد قبل أن يقبضه ولا ملك له قبل القبض فلا يحنث وتنحل اليمين حتى لا يعتق أيضا بعد القبض إلا أن يكون مضمونا بنفسه في يده حين اشتراه حتى ينوب قبضه عن قبض الشراء فيعتق لوجود الشراء وتملكه بنفس الشراء ثم غير خاف أن القول بعتق النصف في هذه المسائل ماش على قول أبي حنيفة أما عندهما فينبغي أن يعتق كله ثم تجب السعاية أو الضمان للاختلاف المعروف في تجزئ الإعتاق والله سبحانه أعلم "والسبب" المحض "لا يقصد" حصول المسبب "بوضعه" يعني لم يوضع لحصوله "وإنما يثبت" المسبب "عن المقصود" بالسبب اتفاقا "كزوال ملك المتعة بالعتق لم يوضع" العتق "له" أي لزوال ملك المتعة "بل يستتبعه" أي بل يتبع زوال ملك المتعة "ما هو" أي السبب الذي العتق موضوع "له" وهو زوال ملك الرقبة "فيستعار" السبب "للمسبب لافتقاره" أي المسبب "إليه" أي إلى السبب "على البدل منه" أي من السبب الذي هو العتق "ومن الهبة والبيع" والصدقة لأن كلا منها سبب لزوال ملك الرقبة افتقار الحكم إلى العلة لقيامه به "فصح العتق" مجازا "للطلاق" حتى لو قال لامرأته: أعتقتك أو(23/74)
ص -39-…أنت حرة ونوى الطلاق به وقع وإنما احتاج إلى النية لتعيين المجاز لأن المحل غير متعين له بل لحقيقة الوصف بالحرية "والبيع والهبة" مجازا "للنكاح" لأن كلا منهما سبب مفض لملك المتعة "ومنع الشافعي هذا" التجوز بهما عنه "لانتفاء" العلاقة "المعنوية" بينه وبينهما "لا ينفي غيرها" وهو السببية المحضة التي هي أحد نوعي العلاقة الصورية وبها كفاية "ولا عكس" أي ولا يتجوز بالمسبب عن السبب "خلافا له" أي للشافعي فإنه جوزه "فصح عنده الطلاق" مجازا "للعتق لشمول الإسقاط" فيهما لأن في الإعتاق إسقاط ملك الرقبة وإزالته وفي الطلاق إسقاط ملك المتعة وإزالته والاتصال المعنوي علاقة مجوزة للمجاز كما تقدم "والحنفية تمنعه" أي التجوز بالطلاق عن العتق "والمجوز" للتجوز المعنى المشترك بين المتجوز والمتجوز عنه على وجه يكون في المتجوز عنه أقوى منه في المتجوز "المشهور المعتبر" أي الثابت اعتباره عن الواضع نوعا باستعماله اللفظ باعتبار جزئي من جزئيات المشترك المذكور أو نقل اعتباره عنه "ولم يثبت" هذا بالتجوز "بالفرع" أي المسبب عن الأصل أي السبب "بل" ثبت هذا في التجوز "بالأصل" عن الفرع "إذ لم يجيزوا المطر للسماء بخلاف قلبه" أي وأجازوا السماء للمطر فنقل عنهم ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم أي المطر "مع اشتراكهما" أي السبب والمسبب "في" الاتصال "الصوري" فوجب مراعاة طريقهم "فلا يصح طالق أو بائن أو حرام للعتق" عند أصحابنا ومزيد الكلام في هذه له موضع غير هذا "إلا أن يختص" المسبب "بالسبب" بحيث لا يوجد المسبب بدونه "فكالمعلول" أي فيجوز التجوز بكل منهما عن الآخر كما في العلة والمعلول لأنهما يصيران في معناهما كالنبت للغيث وبالعكس كما تقدم على ما فيه من بحث.
مسألة(23/75)
"المجاز خلف" عن الحقيقة "اتفاقا" أي فرع لها بمعنى أن الحقيقة هي الأصل الراجح المقدم في الاعتبار وإنما الخلاف في جهة الخلفية "فأبو حنيفة" خلف عنها "في التكلم" حتى يكفي صحة اللفظ من حيث العربية صح معناه أو لا "فالمتكلم بهذا ابني في التحرير" الذي هو معنى مجازي له خلف "عن التكلم به" أي بهذا ابني "في النسب" أي في ثبوت البنوة الذي هو المعنى الحقيقي له من غير نظر في ثبوت الخلفية إلى الحكم ثم يثبت الحكم به وهو العتق بناء على صحة التكلم لا خلفا عن شيء كما يثبت حكم الحقيقة بناء على صحة التكلم "وهما" خلف عنها "في حكمها فأنت ابني لعبده الأكبر منه" مجاز "عن عتق على من وقت ملكته عنده" أي أبي حنيفة استعمالا لاسم الملزوم في لازمه "وقالا: لا" يعتق "لعدم إمكان الحقيقي" وإذا لم يمكن لم يمكن حكمه وهو العتق لأن شرط صحة الخلف إمكان الأصل "فلغا" وإنما اعتبرا الخلفية في الحكم "لأن الحكم" هو "المقصود فالخلفية باعتباره" أي الحكم "أولى وقد يلحق" عدم العتق في هذه "بعدم انعقاد الحلف ليشربن ماء الكوز ولا ماء لعدم تصوره" أي حكم الأصل في كليهما والخلف إنما يصير خلفا عن الأصل إذا أمكن الأصل ولا إمكان له فيهما "وعن هذا" أي اشتراط تصور حكم الأصل للخلف "لغا قطعت يدك" خطأ "إذا أخرجهما" أي اليدين(23/76)
ص -40-…"صحيحتين ولم يجعل مجازا عن الإقرار بالمال" أي دية اليد لعدم إمكان معناه الحقيقي وتعقبه المصنف بقوله "لكن لا يلزم من لزوم إمكان محل حكم شرعي" وهو ماء الكوز في الملحق به فإنه محل وجوب البر "لتعلق الحكم بخلفه" أي الخطاب بخلف ذلك الحكم الشرعي وهو الكفارة لعجزه عن البر "لزوم صدق معنى لفظ" حقيقي "لاستعماله" أي لأجل استعمال ذلك اللفظ "مجازا" في معنى من المعاني بعد صحة التركيب لغة إذ لا يظهر بينهما ملازمة فلا يصح الإلحاق به "والثاني" أي ولغو الإقرار بقطع اليد إذا أخرجهما صحيحتين ليس لتعذر الحقيقي فقط بل لتعذره و "لتعذر المجازي أيضا فإن القطع سبب مال مخصوص" وهو دية اليد على العاقلة "في سنتين" لما عرف أن مثله تتحمله العاقلة في هذه المدة فظهر أنه كما قال "وليس" هذا المال المخصوص هو "المتجوز عنه" بالقطع لأنه لا يمكن إثباته إلا بحقيقة القطع فلا يمكن جعل اللفظ تجوزا بالسبب عن المسبب "والمطلق" أي والمال المطلق الذي يمكن إثباته "ليس مسببا عنه" أي عن القطع فامتنع إيجاب المال به مطلقا فلغا ضرورة بخلاف ما نحن فيه فإن الحرية لا يختلف ذاتها حاصلة عن لفظ حر أو لفظ ابني فأمكن المجازي حين تعذر الحقيقي فوجب صونه عن اللغو "وله" أي لأبي حنيفة "أنه" أي التجوز "حكم لغوي يرجع للفظ هو" أي الحكم "صحة استعماله" أي اللفظ "لغة في معنى" مجازي "باعتبار صحة استعماله" أي اللفظ "في" معنى "آخر وضعي" أي حقيقي "لمشاكلته ومطابقته" أي الوضعي للواقع "ليست جزء الشرط" لتجوز عنه بغيره "فكل" من اللفظ الحقيقي والمجازي "أصل في إفادة حكمه فإذا تكلم وتعذر الحقيقي وجب مجازيته فيما ذكر من الإقرار" أي الإخبار ببنوته لأنه سبب لحريته من حين ملكه "فتصير أمه أم ولد" لأنه كما جعل إقرارا بحريته جعل إقرارا بأمومية الولد لأمه لأن هذا الحق يحتمل الإقرار وما تكلم به سبب يوجب هذا الحق لها في ملكه كما هو موجب حقيقة الحرية للولد(23/77)
"وقيل" وجب مجازيته "في إنشائه" العتق وإحداثه إياه لأنه ذكر كلاما هو سبب للتحرير في ملكه وهو البنوة "فلا تصير" أمه أم ولد له إذا كانت في ملكه لأنه ليس للعبد ابتداء تأثير في إثبات أمومية الولد لأمه لأنه لا يملك إيجاب ذلك الحق لها بعبارته ابتداء بل بفعل هو استيلاد "والأصح الأول" أي مجازيته في الإخبار عن عتقه "لقوله" أي محمد "في" كتاب "الإكراه إذا أكره على هذا ابني لعبده لا تعتق والإكراه يمنع صحة الإقرار بالعتق لا إنشائه" على أنه لا ضرورة في جعله تحريرا مبتدأ وهو في نفسه إخبار "فإن تحقق" المعنى المجازي بأن كان عتقه قبل ذلك "عتق مطلقا" أي قضاء وديانة "وإلا" لو لم يتحقق "فقضاء" مؤاخذة له بإقراره لا ديانة "لكذبه حقيقة ومجازا إلا أنه قد يمنع تعين المجازي" الذي هو "العتق لجواز معنى الشفقة ودفعه" أي تعين هذا المعنى "بتقدم الفائدة الشرعية" وهي العتق "عند إمكانها" أي الفائدة الشرعية "وغيرها" وهو الشفقة "معارض بإزالة الملك المحقق مع احتمال عدمه" أي زوال الملك والمتيقن لا يزول بالاحتمال فأقل ما في الباب أن لا يتعين أحد هذين المجازين أو يتعين هذا لأنه أخف "وعدمه" أي العتق في ظاهر الرواية "في هذا أخي بنوه على اشتراكه" أي الأخ "استعمالا فاشيا في المشارك نسبا ودينا وقبيلة ونصيحة فتوقف" العمل به "إلى قرينة كمن أبي" أو(23/78)
ص -41-…أمي أو من النسب "فيعتق" لكونه ذا رحم محرم منه "وعلى أن العتق بعلة الولاد وليس في اللفظ" له ذكر ليكون مجازا عن لازمه فامتنع لعدم طريقه "وعليه" أي على أن العتق بعلة الولاد "بني عدمه" أي العتق "في جدي لعبده الصغير" فإن هذا الكلام لا وجود له إلا بواسطة الأب ولا وجود له في اللفظ "ويرد أنها" أي علة عتق القريب "القرابة المحرمة" لا خصوص الولاد "ولذا" أي ولكونها العلة فيه عتق "بعمي وخالي" بلا خلاف ذكره في البدائع وغيرها "فترجح رواية الحسن" العتق في جدي "وعدمه" أي العتق "بيا ابني لأنه" أي النداء "لإحضار الذات ولم يفتقر هذا القدر لتحقيق المعنى" أي البنوة "فيها" أي في الذات من جهة كونه "حقيقيا أو مجازيا" لأن إعلام المنادي بمطلوبية حضوره لا يتوقف على ذلك فانتفى أن يقال يجب أن يعتق به لتعذر العمل بالحقيقة وتعين المجاز وإيضاح انتفائه أن النداء وضع لاستحضار المنادي وطلب إقباله بصورة الاسم من غير قصد إلى معناه فلا يفتقر إلى تصحيح الكلام بإثبات موجبه الحقيقي أو المجازي بخلاف الخبر فإنه لتحقيق المخبر به فلا بد من تصحيحه بما أمكن "بخلاف يا حر" حيث يعتق به "لأن لفظه صريح في المعنى" لأن الحر موضوع للعتق وعلم لإسقاط الرق فيقوم عينه مقام معناه "فيثبت بلا قصد" حتى لو قصد التسبيح فجرى على لسانه عبدي حر يعتق "وقيل إذا كان الوصف المعبر به عن الذات يمكن تحقيقه من جهته" أي المتكلم "باللفظ حكم بتحقيقه" أي الوصف "مع الاستحضار" تصديقا له "كيا حر" فإن الحرية يمكن إثباتها من جهة التكلم بهذا اللفظ اللهم إلا إذا كان اسمه ذلك الوصف فناداه به فإنه لا يعتق لأن المراد حينئذ إعلامه باسمه العلم لا إثبات ذلك الوصف لأن الأعلام لا يراعى فيها المعاني حتى لو ناداه بلفظ آخر بمعناه كعتيق عتق لأن الأعلام لا تغير "وإلا" لو كان الوصف المعبر به عن الذات لا يمكن تحقيقه من جهته باللفظ "لغا" ذلك الوصف "ضرورة" وتجرد(23/79)
للأعلام "كيا ابني إذ تحقق الأبنية غير ممكن له بهذا اللفظ لأنه إن تخلق من ماء غيره فظاهر وكذا" إن تخلق "منه" أي من مائه "لأن النسب إنما يثبت به" أي بتخلقه من مائه "لا باللفظ وأما إلزامهما" أي أبي يوسف ومحمد "المناقضة بالانعقاد" أي بالاتفاق على صحة انعقاد النكاح "بالهبة في الحرة ولا يتصور الحقيقي" الذي هو "الرق" فيها ليتفرع عليه تملكها بهذا اللفظ لأن الحرة لا تقبل ذلك ما دامت حرة "فلا يلزمهما إذ لم يشرطاه" أي إمكان الحقيقي "إلا عقلا" وهو ممكن عقلا وكيف لا وقد وقع في شريعة يعقوب عليه الصلاة والسلام وفي أول الإسلام "ولم تذكر الشافعية هذا الأصل" وهو أن الخلفية للمجاز في التكلم أو في الحكم "وموافقتهما" أي الشافعية لهما "في الفرع" أي في قوله لعبده الأكبر سنا منه أنت ابني "لا يوجبها" أي الموافقة "في ; أصلهما" كما هو ظاهر صنيع صاحب الكشف وغيره ومن ثمة صرح بعضهم بأن المبني فيه عند الشافعي عدم ثبوت السبب والله تعالى أعلم.
مسألة
"يتعين على الخلفية" أي خلفية المجاز عن الحقيقة "تعينها" أي الحقيقة "إذا أمكنا" أي الحقيقة والمجاز "بلا مرجح" لرجحانها في نفسها عليه "فيتعين الوطء من {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ(23/80)
ص -42-…آبَاؤُكُمْ} لأنه المعنى الحقيقي للنكاح على ما هو الصحيح كما عرف في موضعه وهو هنا ممكن مع مجازيه الذي هو العقد "فحرمت مزنية الأب" على فروعه بالنص وأما حرمة المعقود له عليها عقدا صحيحا عليهم فبالإجماع "وتعلق به" أي بالوطء الجزاء "في قوله لزوجته إن نكحتك" فأنت كذا كما هو ظاهر "فلو تزوجها بعد إبانة" قبل الوطء "طلقت بالوطء" لا بالعقد لما ذكرنا "وفي الأجنبية" أي وفي قوله لأجنبية إن تزوجتك فعبدي حر تتعلق الحرية "بالعقد" لأن وطأها لما حرم عليه شرعا كان الحقيقة مهجورة شرعا فتعين المجاز "وأما المنعقدة" أي إرادة اليمين المنعقدة وهي الحلف على أن يفعل أمرا أو يتركه في المستقبل "بعقد تم" من قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89] "لأن العقد" حقيقة "لما ينعقد" أي للفظ يربط بآخر لإيجاب حكم فالعقد إذا كما قال "وهو مجموع اللفظ المستعقب حكمه مجازا في العزم" أي القصد القلبي "السبب له" أي لمجموع اللفظ المذكور فإنه لا يعتبر بدونه "فلا كفارة في الغموس" وهي الحلف على أمر يتعمد الكذب به "لعدم الانعقاد لعدم استعقابها وجوب البر لتعذره" أي البر فيها "فقد يقال كونها" أي المنعقدة "حقيقة فيه في عرف أهل الشرع لا يستلزمه" أي كونها حقيقة "في عرف الشارع وهو" أي عرفه "المراد لأنه" أي المجاز "في لفظه" أي الشارع "ويدفع هذا بأن الأصل في مثله استصحاب ما قبله إلا بناف" له ولم يوجد النافي له "وأيضا" يتعين إرادة المنعقدة "إن كان" العقد في مجموع اللفظ المستعقب حكمه حقيقة "وإلا فالمجاز الأول" أي وإن لم يكن العقد في هذا حقيقة فهو المجاز الأول عن الحقيقة اللغوية التي هي شد بعض الحبل ببعض "بالنسبة إلى العزم لقربه" إليه أكثر من العزم والمجاز الأقرب مقدم "ومنه" أي العمل بالحقيقة لإمكانها ولا مرجح للمجاز قوله هذا "ابني لممكن" أي لعبد له يولد مثله لمثله "معروف النسب" من غيره(23/81)
"لجوازه" أي كونه "منه" بأن كان من منكوحته أو أمته حقيقة ولا يمكنه الإثبات لعارض "مع اشتهاره من غيره" فيكون المقر صادقا في حق نفسه لا في إبطال حق الغير فحينئذ "عتق وأمه أم ولده وعلى ذلك" أي تعين الحقيقة لإمكانها ولا مرجح للمجاز "فرع فخر الإسلام قول أبي حنيفة بعتق ثلث كل من الثلاثة" الأولاد "إذا أتت بهم الأمة في بطون ثلاثة" أي بين كل ومن يليه ستة أشهر فصاعدا "بلا نسب" معروف لهم "فقال" المولى في صحته "أحدهم ابني ومات" المولى "مجهلا" أي قبل البيان "خلافا لقولهما" أي أبي يوسف ومحمد "بعتق الأصغر ونصف الأوسط وثلث الأكبر نظرا إلى ما يصيبهما" أي الأوسط والأكبر "من الأم لأنه" أي ما يصيبهما من العتق من الأم "كالمجاز بالنسبة إلى إقراره للواسطة" أي لأنه ثابت لهما بواسطة الأم بخلاف ما يصيبهما من العتق بإقراره فإنه كالحقيقة لعدم توقفه على شيء فاعتبره ولم يعتبر ما يصيبهما من الأم وإيضاح هذه الجملة أن عند أصحابنا لا يثبت نسب أول أولاد أم الولد من مولاها إلا بالدعوة ويثبت نسب من عداه بدونها إذا لم ينفه فقالا: يعتق كل الثالث لأنه حر في جميع الأحوال أعني فيما إذا كانت الدعوة له أو للثاني أو للثالث كما هو ظاهر ونصف الثاني لأنه يعتق فيما إذا كانت الدعوة له أو للأول ولا يعتق فيما إذا كانت للثالث لأن(23/82)
ص -43-…أحوال الإصابة وإن كثرت حالة واحدة إذ الشيء لا يصاب إلا من جهة واحدة كالملك مثلا إذا أصيب بالشراء لا يصاب بالهبة وهلم جرا لأن إثبات الثالث محال بخلاف الحرمان يجوز أن تتعدد جهاته فإن ما ليس بحاصل أصلا يصدق عليه أنه ليس بحاصل بجهة الشراء والهبة والإرث وهلم جرا وقال أبو حنيفة: يعتق من كل ثلثه لأن ما يحصل من العتق زائدا على الثلث إنما هو باعتبار صيرورة أمهما فراشا لأبيهما بدعوى نسب أحدهم إذ لولاه لما حصل وأما الثلث فباعتبار ما يحصل لهما من قبل نفسهما فالزائد عليه بمنزلة المجاز من الحقيقة فلا يعتبر مع وجودها كما في حقيقة الحقيقة والمجاز ووضعت في بطون لأنهم لو كانوا في بطن واحد ثبت نسب كل على ما عرف وقيدت بكونه في الصحة لأنه لو كان في مرض الموت ولا مال له غيرهم وقيمتهم على السواء ولم تجز الورثة يجعل كل رقبة ستة أسهم لحاجتنا إلى حساب له نصف وثلث وأقله ستة ثم تجمع سهام العتق وهي سهمان وثلاثة وستة فتبلغ أحد عشر سهما وقد ضاق ثلث المال وهو ستة عنه فجعل كل رقبة أحد عشر سهما فيعتق من الأكبر سهمان ويسعى في تسعة ومن الأوسط ثلاثة أسهم ويسعى في ثمانية ومن الأصغر ستة أسهم ويسعى في خمسة ليستقيم الثلث والثلثان "والبديع" أي وصاحبه فرع قول أبي حنيفة "على تقديم المجاز بلا واسطة عليه" أي المجاز "بها" أي بواسطة "لقربه" أي المجاز بلا واسطة "إلى الحقيقة وتقريره" أي كلامه "تعذر الحقيقي" الذي هو النسب "لامتناع" ثبوت "نسب المجهول" من أحد لأنه إنما يثبت من المجهول ما يحتمل التعليق بالشرط ليكون متعلقا بخطر البيان والنسب لا يحتمل التعليق بالشرط "فلزم مجازيته في اللازم إقراره بحريته فيعتق كذلك" أي ثلث كل "باللفظ وقولهما" يعتق الأصغر ونصف الأوسط وثلث الأكبر "بواسطة معه" أي مع اللفظ "والأول" وهو العتق بلا واسطة "أقرب" إلى الحقيقة من العتق بها فيتعين "منتف" وهو خبر تقريره وإنما كان منفيا "إذ لا موجب(23/83)
حينئذ للأمومة وهي" أي والحال أن الأمومة "ثانية وأيضا لا صارف للحقيقي إذ الحقيقي مراد فيثبت لوازمه من الأمومة وحرية أحدهم وانتفى ما تعذر من النسب فينقسم" المعنى المجازي بينهم "بالسوية لا بتلك الملاحظة لأنها" أي الملاحظة "مبنية على ثبوت النسب" وهو منتف "وعرف تقديم مجاز على آخر بالقرب" إلى الحقيقة "وأما قوله في صحته لابني ابن عبده لبطنين وأبيهما" أي ولأبيهما وجدهما فثنى الأب على لغة النقض فيه "أحدهم ابني وهو" أي وكل منهم "ممكن" أن يولد مثله لمثله "ومات" المولى "مجهلا ففي الكشف الكبير الأصح الوفاق على عتق ربع عبده إن عناه لا" إن عنى "أحد الثلاثة" الباقين فقد عتق في حال ورق في ثلاثة أحوال فيعتق ربعه "وثلث ابنه" أي وعلى عتق ثلث ابن عبده "لعتقه إن عناه أو أباه" لا بسبب عتق الأب لأن حرية الأب لا توجب حرية الابن بخلاف الأم بل لأنه يصير حفيد المعتق "لا" إن عنى "أحد الابنين وأحوال الإصابة حالة" واحدة كما قدمنا فقد عتق في حال ورق في حالتين فيعتق ثلثه "وثلاثة أرباع كل منهما" أي وعلى عتق ثلاثة أرباع كل من الابنين "لعتق أحدهما في الكل" أي كل الأحوال بيقين بأن يراد نفسه أو أبوه أو جده "والآخر" أي وعتق الآخر "في ثلاث" من الأحوال(23/84)
ص -44-…بأن أريد نفسه أو أبوه أو جده "لا إن عنى أخاه ولا أولوية" أي ليس أحدهما بعينه أولى بجعله المعتوق بكل حال دون الآخر "فبينهما عتق ونصف" فيوزع بينهما بالسوية فيعتق نصف وربع من كل منهما "ولو كان" ابن ابن عبده "فردا أو توأمين يعتق كله" لعتقه في كل حال "وثلث الأول" لأنه عتق في حالة وهو ما إذا عناه ورق في حالة وهو ما إذا عنى ولده أو حفيده "ونصف الثاني" لأن أحوال الإصابة واحدة وهي ما إذا عناه أو أباه وأحوال الحرمان وهي ما إذا عنى ابنه فيتنصف "وجزم في الكشف الصغير بعتق ربع كل" من الأربعة "عنده" أي عند أبي حنيفة كما لو قال: أحد هؤلاء حر قال المصنف: "وهو الأقيس بما قبله إذ الكل مضاف إلى الإيجاب بلا واسطة" كما هو قول أبي حنيفة "وبواسطة" كما هو قولهما "ولذا" أي كون العتق لكل مضافا إلى الإيجاب "لو استعمل" أحدهم ابني "مجازا في الإعتاق" أي تحريرا مبتدأ "عتق في الثانية" أي فيما إذا قال ذلك لعبده وابنه وابن ابنه واحدا أو توأمين "ثلث كله" أي كل واحد كما لو قال: أحدهم حر "وربعه" أي وعتق ربع كل من الأربعة "في الأولى" أي فيما إذا قال ذلك لعبده وابنه وابني ابنه في بطنين وقيدت بكونه في الصحة لأنه لو قال في مرضه ولا مال له غيرهم ولم تجز الورثة عتقوا من الثلث بحساب حقهم فيجعل كل رقبة اثني عشر لحاجتنا إلى حساب له ثلث وربع وأدناه اثنا عشر حق الأول في ربعه وهو ثلاثة أسهم والثاني في ثلثه وهو أربعة وكل واحد من الآخرين في ثلاثة أرباعه وهي تسعة فصارت سهام الوصية خمسة وعشرين وثلث المال ستة عشر فضاق الثلث عن سهام الوصايا فجعل الثلث خمسة وعشرين والمال خمسة وسبعين فيحتاج إلى معرفة الرقبة من الثلث ليظهر مقدار ما يعتق منها ومقدار ما نسعى فيه فنقول: ثلث المال رقبة وثلث والرقبة منه ثلاثة أرباعه وليس لخمسة وعشرين ربع صحيح فاضربه في أربعة فيصير مائة والمال ثلثمائة والرقبة ثلاثة أرباع المائة وهي خمسة وسبعون(23/85)
كان حق الأول ثلاثة ضربناها في أربعة فبلغ اثني عشر وصار على هذا القياس للثاني ستة عشر ولكل من الآخرين ستة وثلاثون وتسعون في الباقي ثم الأصح هو المذكور في الجامع وهو احتراز عما في الزيادات من اعتبار أحوال الإصابة كاعتبار أحوال الحرمان ووجهه أن الرق لا يثبت أصله إلا بسبب واحد وهو القهر والعتق له أسباب من تنجيزه والكتابة والاستيلاد والتدبير فإذا اعتبر أحوال ما اتحد سببه متعددة فلأن يعتبر أحوال ما تعدد سببه أولى ووجه الأصح كما قدمنا أوجه.
مسألة
"يلزم المجاز لتعذر الحقيقي كحلفه ولا نية لا يأكل من هذا القدر فلما يحله" أي القدر بتأويل المحل وإلا فالوجه يحلها لأنها مؤنث سماعي أي فيمينه على ما يطبخ فيها لتعذر أكل عينها عادة تجوزا باسم المحل عن الحال "ولعسره" أي الحقيقي "كمن الشجرة" في حلفه لا يأكل من الشجرة التي لا يؤكل عينها عادة "فلما تخرج" الشجرة من الثمر وغيره حال كونه "مأكولا بلا كثير صنع" تجوزا باسم السبب وهو الشجرة عن المسبب وهو الخارج المذكور "ومنه" أي ومما تخرجه مأكولا "الجمار" وهو شحم النخل "والخل لأبي اليسر" وأبي الليث(23/86)
ص -45-…والظاهر كما مشى عليه المصنف في فتح القدير وفاقا لكثير أنه لا يحنث لأنه لا يخرج كذلك ولم يذكر الفريقان فيه نقلا عن المتقدمين "لا ناطفها ونبيذها" لأن ما توقف على الصنع ليس مما خرج مطلقا ولذا عطف على الثمر في قوله تعالى: {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} [يّس: 35] فلا يحنث به "ولو لم تخرج مأكولا فلثمنها" فيحنث بأكل ما اشتراه به "وللهجر" أي لهجر الحقيقي "عادة وإن سهل" تناوله "كمن الدقيق فلما له" كالعصيدة فيحنث بأكلها لا بسفه لترك تناوله هكذا عادة خلافا للشافعي "ولا يشرب من البئر" وهي غير ملأى "فلمائه" أي المكان المسمى بالبئر وإلا فهي مؤنث سماعي كما مشى عليه فيما سيأتي "اغترافا اتفاقا يحنث بالكرع" أي بتناوله بفيه من موضعه من غير أن يشرب بكفيه أو بإناء على ما في الصحاح وغيره وفي الفتاوى الظهيرية وتفسير الكرع عند أبي حنيفة أن يخوض الإنسان في الماء ويتناوله بفيه من موضعه ولا يكون إلا بعد الخوض في الماء فإنه من الكراع وهو من الإنسان ما دون الركبة ومن الدواب ما دون الكعب كذا قال الشيخ الإمام نجم الدين النسفي ا هـ والأول هو المعروف المتبادر لأنه كما قال في التلويح أصل ذلك في الدابة لا تكاد تشرب إلا بإدخال أكارعها فيه ثم قيل للإنسان كرع في الماء إذا شرب بفيه خاض أو لم يخض "في الأصح" وفي الذخيرة الصحيح "ولو" كانت "ملأى فعلى الخلاف المشهور في لا يشرب من هذا النهر" فعنده على الكرع وعندهما على الاغتراف "وأفادوا أن مجازي البئر الاغتراف وفيه بعد" لعدم العلاقة الثابتة الاعتبار "والأوجه أن تعليق الشرب بها" أي بالبئر "على حذف مضاف" أي من مائها "فهي" أي البئر "حقيقة" قلت: أو عبر بالبئر عن مائها تجوزا باسم المحل عن الحال وهو أوجه لأكثرية مجاز العلاقة بالنسبة إلى مجاز الحذف وأيا ما كان يلزم منه ترجح الحنث بالكرع من البئر وإن كانت غير ملأى كما هو قول بعض المشايخ وقد(23/87)
ذكر المصنف في شرح الهداية هذين التوجيهين في وجه قولهما بالحنث كيفما شرب من ماء دجلة في حلفه لا يشرب من دجلة "ومنه" أي من لزوم المجازي للهجر عادة حلفه "لا يضع قدمه" في دار فلان فإنه مجاز "عما تقدم" وهو دخولها كما أوضحناه ثمة "وشرعا" أي وللهجر شرعا حلفه "لينكحن أجنبية لم يحنث بالزنا إلا بنيته" أي المعنى الحقيقي الذي هو الوطء إذ المهجور شرعا كالمهجور عرفا لمنع العقل والدين ظاهرا منه فإنما يحنث بالعقد كما تقدم "والخصومة في التوكيل بها" أي بالخصومة لأن حقيقتها وهي المنازعة مهجورة شرعا فيما عرف الخصم فيه محقا لأنها حينئذ حرام لقوله تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا} [الأنفال: 46] إلى غير ذلك فانصرف الوكيل بها "للجواب" مجازا إطلاقا لاسم السبب على المسبب لأنها سببه أو للمقيد على المطلق أو للكل على الجزء بناء على عموم الجواب للإقرار والإنكار كما سنذكر وهذا عند علمائنا الثلاثة غير أن عند أبي يوسف آخرا يصح إقراره على الموكل في مجلس القاضي وغيره لأن الموكل أقامه مقام نفسه مطلقا وعندهما يصح "عند القاضي" لا غير لأن إقراره إنما يصح باعتبار أنه جواب الخصومة مجازا والخصومة تختص بمجلس القضاء فكذا جوابها ألا يرى أنه لا يقع سماع بينة ولا استحلاف(23/88)
ص -46-…ولا إعداء ولا حبس إلا عند القاضي وما يكون في غير مجلسه يكون صلحا فإذا كان الجواب المعتبر هو الجواب في مجلس القضاء لم يعتبر إقرار الوكيل على موكله في غير مجلس القضاء بل يخرج به من الوكالة فلا يصح دعواه بعده لتكذيبه نفسه بالقول الأول وهذا استحسان والقياس وهو قول زفر والأئمة الثلاثة لا يجوز إقراره على موكله مطلقا لأن الإقرار ضد الخصومة وجوابه واضح مما سبق "فيعم" الجواب "الإقرار" كالإنكار لأن الجواب كلام يستدعيه كلام الغير ويطابقه مأخوذ من جاب الفلاة إذا قطعها سمي به لأن كلام الغير ينقطع به وذلك كما يكون بلا يكون بنعم "ولا يكلم الصبي فيحنث به" أي بكلامه حال كونه "شيخا" لأن الصبي من حيث هو صبي مأمور فيه بالمرحمة شرعا والهجر ينافيه فانصرف اليمين عند الإشارة إلى خصوص ذات صبي إلى خصوص ذاته باعتبار وصف فيها آخر لا يتقيد بزمن من الصبا أو لشدة كراهة ذاته فيحنث به شيخا لوجود ذاته "بخلاف المنكر" أي لا يكلم صبيا فإنه لما لم يشر إلى خصوص ذات كان الصبا نفسه مثير اليمين وإن كان على خلاف الشرع فيجب تقييد اليمين به لقصده بها وإن كان حراما كحلفه ليشربن اليوم خمرا أو ليسرقن الليلة فإنها تنعقد لهذا المعنى وإن كانا حرامين "وقد يتعذر حكمهما" أي الحقيقة والمجاز "فيتعذران" أي الحقيقة والمجاز فيكون ذلك الكلام لغوا "كبنتي لزوجته المنسوبة" أي كقوله لزوجته الثابت نسبها من غيره هذه ابنتي "فلا تحرم" عليه أبدا بهذا سواء كانت أكبر منه أو أصغر أصر على ذلك أم رجع بأن قال: غلطت أو وهمت "وإن أصر" أي دام على هذا الكلام "ففرق" أي حتى فرق القاضي بينهما "منعا من الظلم" أي ظلمه لها بترك قربانها وإنما قلنا تعذرت الحقيقة هنا "للاستحالة في الأكبر منه" سنا كما هو ظاهر "وصحة رجوعه" عن كونها بنته "في الممكنة" أي في الأصغر منه سنا وهذا وإن لم يتحقق في الحال فهو في معنى المتحقق كما أشار إليه بقوله "وتكذيب الشرع" له(23/89)
في هذا الإقرار لأن فيه إبطال حق الغير وهو لا يفيد إبطاله شرعا "بدله" أي قائم مقام رجوعه لأن تكذيب الشرع لا يكون أدنى من تكذيب نفسه "فكأنه رجع والرجوع عن الإقرار بالنسب صحيح" وعند الرجوع عن الإقرار لا يبقى الإقرار فلم يثبت النسب مطلقا ولا في حق نفسه "بخلافه" أي الإقرار بالبنوة "في عبده الممكن" كونه منه من حيث صغر سنه الثابت نسبه من الغير فإنه ليس فيه إقرار على الغير لأنه صار مجازا عن الحرية والعبد والأب لا يتضرران بها وذلك بناء على ما هو الأصل من أن الكلام إذا كان له حقيقة ولها حكم يصار إلى إثبات حكم تلك الحقيقة مجازا عند تعذر الحقيقة وحيث لزم أن يكون المراد به ذلك لا يصح رجوعه عنه "لعدم صحة الرجوع عن الإقرار بالعتق" ولم يمكن العمل بهذا الأصل في قوله لزوجته هذه بنتي "ولأن ثبوته" أي التحريم الذي هو المعنى المجازي لهذه بنتي "إما حكما للنسب وهو" أي النسب قد ثبت "من الغير" فيثبت للغير لا له "أو بالاستعمال" لهذه بنتي "فيه" أي في التحريم "وهو" أي تحريم النسب "مناف لسبق الملك" أي للنكاح لمنافاته لملك النكاح لانتفاء صحة نكاح المحرمات "لا أنه" أي تحريم النسب "من حقوقه" أي ملك النكاح "والذي من حقوقه" أي والتحريم الذي(23/90)
ص -47-…هو من حقوق ملك النكاح وهو إنشاء التحريم الكائن بالطلاق "ليس اللازم" للمعنى الحقيقي لهذه بنتي "ليتجوز به" أي بهذه بنتي "فيه" أي في التحريم الكائن بالطلاق ثم بين التحريمين منافاة لتنافي لوازمهما لأن أحدهما ينافي محلية النكاح ويثبت حرمة لا ترتفع ولا يصلح أن يكون من حقوق النكاح والآخر من حقوق النكاح ولا يخرج المحل عن محلية النكاح ويرتفع برافع وتنافي اللوازم يدل على تنافي الملزومات فتعذر المجازي أيضا.
مسألة: الحقيقة المستعملة أولى من المجاز المتعارف الأسبق منها(23/91)
أي الحقيقة المستعملة "عنده" أي أبي حنيفة "وعندهما والجمهور قلبه" أي المجاز المتعارف الأسبق منها أولى من الحقيقة المستعملة "وتفسير التعارف بالتفاهم" كما قال مشايخ العراق "أولى منه" أي من تفسيره "بالتعامل" كما قال مشايخ بلخ "لأنه" أي التعامل "في غير محله" أي المجاز "لأنه" أي التعامل "كون المعنى المجازي متعلق عملهم" أي أهل العرف "وهذا" أي عملهم "سببه" أي التعارف "إذ به" أي بالتعامل "يصير" المجاز "أسبق" إلى الفهم فمحل التعامل المعنى ومحل الاستعمال والحقيقة والمجاز اللفظ "ثم هذا على تسمية المعنى بهما" أي بالحقيقة والمجاز مسامحة لإجماع أهل اللغة على أنهما من أوصاف اللفظ "والتحرير أنه" أي المجاز المتعارف هو "الأكثر استعمالا في المجازي منه" أي من استعماله "في الحقيقي وما قيل" أي وما قاله مشايخ ما وراء النهر التفسير "الثاني قولهما والأول قوله للحنث عنده بأكل آدمي وخنزير" أي لحمهما في حلفه لا يأكل لحما لأن التفاهم يقع عليه فإنه يسمى لحما وعدمه عندهما لأن التعامل لا يقع عليه لأنه لا يؤكل عادة "غير لازم بل" الحنث عنده فيهما "لاستعمال اللحم فيهما" أي في لحمي الآدمي والخنزير "فيقدم" الاعتبار للحقيقة وعدم الحنث عندهما لمضمون قوله "ولأسبقية ما سواهما" أي لحمي الآدمي والخنزير إلى الأفهام عند الإطلاق "عندهما ويشكل عليه" أي على أبي حنيفة "ما تقدم من التخصيص بالعادة بلا خلاف" فإنه يقتضي اقتصار الحنث على ما اعتيد أكله من اللحوم فلا جرم إن قيل إذا كان الحالف مسلما ينبغي أن يحنث لأن أكله ليس بمتعارف ومبنى الأيمان على العرف قال العتابي: وهو الصحيح وفي الكافي وعليه الفتوى "وكون هذه" المسألة "فرع جهة الخلفية فرجح التكلم بها" أي بالحقيقة على التكلم بالمجاز لرجحانها عليه "ورجحا الحكم بأعميته" أي حكم المجاز "لحكمها" أي الحقيقة لأنه شملها حتى صارت فردا من أفراده فكثرت فائدته وكان فيه عمل بالحقيقة من(23/92)
وجه لدخولها فيه كما هو حاصل ما في أصول فخر الإسلام وموافقيه "لا يتم إذ الغرض يتعلق بالخصوص كضده" أي كما يتعلق بالعموم "والمعين" لما هو الغرض منهما "الدليل" مع أن المجاز المتعارف قد لا يعم الحقيقة "فالمبني" لهذه المسألة "صلوح غلبة الاستعمال دليلا" مرجحا للغالب استعمالا فيهما على الآخر "فأثبتاه ونفاه بأن العلة لا ترجح بالزيادة من جنسها فتكافآ" أي فتساوى الحقيقة والمجاز في الاعتبار "ثم تترجح" الحقيقة عنده لرجحانها عليه "لا ذلك" أي كون المجاز أعم كما قالاه "وإلا" لو تم كون الخلاف في المجاز الأسبق من الحقيقة المستعملة بناء على الخلاف في جهة الخلفية "اطرد" الترجيح بالعموم(23/93)
ص -48-…عندهما "فرجحا" حينئذ المجاز "المساوي" للحقيقة في التبادر للفهم "إذا عم" حكمه الحقيقة "وقالا" حينئذ أيضا "العقد العزم لعمومه" أي العزم "الغموس وكثير وليس" شيء منها كذلك وكيف "والمساوي اتفاق" أي محكي فيه اتفاقهم على تقديم الحقيقة إذا ساواها المجاز مطلقا "وفرعها" أي هذه المسألة حلف "لا يشرب من الفرات" وهي بالتاء الممدودة في الخط في حالتي الوصل والوقف النهر المعروف بين الشام والجزيرة وربما قيل بين الشام والعراق حلف "لا يأكل الحنطة انصرف" الحلف "عنده إلى الكرع" في الشرب من الفرات "وعينها" أي وإلى أكل عين الحنطة "وإلى ما يتخذ منها" أي من الحنطة "ومائه" أي الفرات "عندهما وعلى الحنطة" أي يرد على مسألتها "التخصيص بالعادة" فإن مقتضاه اقتصار الحنث على ما يتخذ منها عادة لأن العرف العملي مخصص كما سلف "وأجيب بأنها" أي العادة مخصصة أو المسألة الخلافية "في" الحنطة "غير المعينة أما فيها" أي المعينة "فقوله مثلهما" والصواب القلب كما هو كذلك في الكشف وغيره ومشى عليه المصنف في فتح القدير حيث قال: وهذا الخلاف إذا حلف على حنطة معينة أما لو حلف لا يأكل حنطة ينبغي أن يكون جوابه كجوابهما ذكره شيخ الإسلام ا هـ. فيطالب بالفرق "ويمكن ادعاؤه" أي أبي حنيفة في الفرق بينهما "أن العادة فيها" أي في المعينة "مشتركة" بين تناول عينها وما يتخذ منها "وإن غلبت" العادة "فيما" يتخذ "منها كالكرع" فإن العادة في الشرب مشتركة بينه وبين الشرب بالإناء ونحوه فانصرفت اليمين عنده إلى الحقيقة المستعملة بخلاف غير المعينة فإن العادة في تعلق الأكل بها إرادة ما يتخذ منها وهذا أقرب من دعوى شيخ الإسلام التعارف في حنطة غير معينة لا في حنطة بعينها وإذا لم يوجد التعارف في المعينة لا يترك العمل بالحقيقة لأن الحقيقة تترك بنية غيرها أو بالعرف ولم يوجد واحد منهما هذا وبعد أن ذكر في فتح القدير ما تقدم قال: ولا يخفى أنه تحكم والدليل(23/94)
المذكور المتفق على إيراده في جميع الكتب يعم المعينة والمنكرة وهو أن عينها مأكول "وتقدم بقية الصوارف في التخصيص" في مسألة العادة العرف العملي مخصص فليراجع.
"تتمة: ينقسم كل من الحقيقة والمجاز باعتبار تبادر المراد" من إطلاقه "للغلبة استعمالا وعدمه" أي وباعتبار عدم تبادر المراد لعدم الغلبة استعمالا "إلى صريح يثبت حكمه الشرعي بلا نية وكناية" لا يثبت حكمه إلا بنية أو قائم مقامها "منه" أي هذا القسم الذي هو الكناية "أقسام الخفاء" أي الخفي والمشكل والمجمل "والمجاز غير المشتهر ويدخل الصريح المشترك المشتهر في أحدهما" أي أحد معنييه "بحيث تبادر" ذلك الأحد من إطلاقه "والمجاز" الغالب الاستعمال "مع الهجر" لحقيقته "اتفاقا كذلك" أي صريح "ومع استعمال الحقيقة" هو صريح أيضا "عندهما والظاهر وباقي الأربعة" النص والمفسر والمحكم "إن اشتهرت فإخراج شيء منها" أي من الظاهر وباقي الأربعة "مطلقا" من الصريح كما ذكره صاحب الكشف وغيره "لا يتجه" بل يخرج منها ما ليس بمشتهر "لكن ما لا يشتهر منها لا يكون كناية والحال تبادر المعين" من إطلاق اللفظ "وإن كان" تبادره "لا للغلبة" الاستعمالية "بل" تبادره "للعلم بالوضع"(23/95)
ص -49-…أي وضع اللفظ له "وقرينة النص" من كون الكلام مسوقا "وأخويه" أي وقرينة المفسر من عدم احتماله للتخصيص والتأويل وقرينة المحكم من كونه غير قابل للنسخ "فيلزم تثليث القسمة إلى ما ليس صريحا ولا كناية لكن حكمه" أي هذا القسم "إن اتحد بالصريح أو بالكناية فلا فائدة" في تثليثها به وهو ممكن "فليترك ما مال إليه كثير من" ذكر "قيد الاستعمال" كما مشينا عليه أولا "ويقتصر" في تعريف الصريح "على ما تبادر خصوص مراده لغلبة أو غيرها" من تنصيص أو تفسير أو إحكام كما مال إليه شمس الأئمة السرخسي والقاضي أبو زيد "لكن أخرجوا" من الصريح "الظاهر على هذا" التعريف لأن الظهور فيه ليس بتام "ولا فرق" بين الظاهر والصريح "إلا بعدم القصد الأصلي" في الظاهر بخلافه في الصريح وهو غير مؤثر في التبادر "ثم من ثبوت حكمه" أي الصريح "بلا نية جريانه" على لسانه كأنت طالق وأنت حرة "غلطا في نحو سبحان الله واسقني" أي بأن أراد أن يقول هذا فقال ذاك قالوا: فيثبت الطلاق والعتق "وأما قصده" أي الصريح "مع صرفه بالنية إلى محتمله فله ذلك ديانة كقصد الطلاق من وثاق" في قوله هي طالق "فهي زوجته ديانة" لاحتمال اللفظ له لا قضاء لأنه خلاف الظاهر وفيه تخفيف عليه "ومقتضى النظر كونه" أي ثبوت حكمه بلا نية "في الكل" أي في الغلط وما قصد صرفه بالنية إلى محتمله "قضاء فقط وإلا" لو ثبت حكمه فيهما مطلقا "أشكل بعت واشتريت إذ لا يثبت حكمها في الواقع مع الهزل" مع أنهما صريح "وفي نحو الطلاق والنكاح" إنما ثبت حكمه مطلقا في الهزل "بخصوصه دليل" وهو الحديث الآتي على الأثر ولم يكن حاجة إلى "وكذا في الغلط" يثبت فيه حكمه قضاء لا ديانة للاستغناء عنه بقوله في الكل قضاء فقط فلعله ذكره ليصل به "لما ذكرته في فتح القدير" من أن الحاصل أنه إذا قصد السبب عالما بأنه سبب رتب الشرع حكمه عليه أراده أو لم يرده إلا إن أراد ما يحتمله وأما أنه لم يقصده أو لم يدر ما هو فيثبت(23/96)
الحكم عليه شرعا وهو غير راض بحكم اللفظ ولا باللفظ فمما ينبو عنه قواعد الشرع وقد قال تعالى {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] وفسر بأمرين أن يحلف على أمر يظنه كما قال مع أنه قاصد للسبب عالم بحكمه فألغاه لغلطه في ظن المحلوف عليه والآخر أن يجري على لسانه بلا قصد إلى اليمين كلا والله بلى والله فرفع حكمه الدنيوي من الكفارة لعدم قصده إليه فهذا تشريع لعباده أن لا يرتبوا الأحكام على الأشياء التي لم نقصد وكيف وقد فرق بينه وبين النائم عند العليم الخبير من حيث لا قصد له إلى اللفظ ولا حكمه وإنما لا يصدقه غير العلم وهو القاضي "ولا ينفيه" أي هذا القول "الحديث" الذي أخرجه أصحاب السنن. وقال الترمذي: حسن غريب والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم "ثلاث جدهن.. إلى آخره" أي جد : وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة لأن الهازل راض بالسبب لا بالحكم والغالط غير راض بهما فلا يلزم من ثبوت الحكم في حق الأول ثبوته في حق الثاني "وما قيل" أي وقول الجم الغفير من مشايخنا "لفظ كنايات الطلاق مجاز لأنها" أي كنايات الطلاق "عوامل بحقائقها غلط إذ لا تنافي الحقيقة الكناية وما قيل" أي وقولهم أيضا في وجه أنها مجاز "الكناية الحقيقة" حال(23/97)
ص -50-…كونها "مستترة المراد وهذه" أي كنايات الطلاق "معلومته" أي المراد "والتردد فيما يراد بها" فيتردد مثلا في أن المراد بهي بائن "أبائن من الخير أو النكاح منتف بأن الكناية بالتردد في المراد" من اللفظ حقيقة كان أو مجازا إلا في الوضعي "وإنما هي معلومة الوضعي كالمشترك والخاص في فرد معين وإنما المراد" بكونها مجازا "مجازية إضافتها إلى الطلاق فإن المفهوم" من كنايات الطلاق "أنها كناية عنه" أي عن الطلاق "وليس" كذلك "وإلا" لو كانت كناية عنه "وقع الطلاق رجعيا" مطلقا بها لأن الإيقاع بلفظ الطلاق رجعي ما لم يكن على مال أو الثالث في حق الحرة أو الثاني في حق الأمة وليس هي مطلقا كذلك بل بعضها كما عرف في موضعه.
مسائل(23/98)
"الحروف قيل" أي قال صدر الشريعة: "جرى فيها" أي الحروف "الاستعارة تبعا كالمشتق فعلا ووصفا بتبعية اعتبار التشبيه في المصدر لاعتبار التشبيه أولا في متعلق معناه الجزئي وهو كلية على ما تحقق فيستعمل في جزئي المشبه" وهو المعنى الحرفي للحرف يعني كما جرت الاستعارة في المشتق فعلا ووصفا بتبعية اعتبار التشبيه أولا في المصدر فقولنا: نطقت الحال فرع تشبيه الحال باللسان ثم نسبة النطق إليها ثم اشتق من النطق بمعناه المجازي نطقت فصار استعارة نطقت تبعية استعارة النطق هكذا الحرف يعتبر أولا التشبيه في متعلق معناه الجزئي وهو المعنى الكلي المندرج فيه معنى الحرف وهو المراد بقوله كلية بيانه أن ما تذكره بلفظ اسم لمعنى حرف ليس هو عين معناه فإن التبعيض المفاد بقولك من للتبعيض ليس هو نفس معنى من بل تبعيض كلي ومعنى من تبعيض جزئي ملحوظ بين شيئين خاصين مندرج تحت مطلق التبعيض فيعتبر أولا التشبيه للمعنى الكلي المتعلق لمعنى الحرف ثم يستعمل الحرف في جزئي منه كما شبه ترتب العداوة والبغضاء على الالتقاط بترتب العلة الغائبة على الفعل فاستعمل فيها اللام الموضوعة للترتب العلي كذا أفاده المصنف رحمه الله "وهذا" الكلام "لا يفيد وقوع" المجاز "المرسل فيها" أي في الحروف لانتفاء علاقة المشابهة في متعلق معناها "ثم لا يوجب" هذا الكلام أيضا "البحث عن خصوصياتها في الأصول لكن العادة" جرت به "تتميما" للفائدة لشدة الاحتياج إليها في بعض المسائل الفقهية وذكرت عقب مباحث الحقيقة والمجاز لأنها تنقسم إليهما أيضا.
[أقسام الحروف](23/99)
"وهي" أي الحروف "أقسام حروف العطف الواو للجمع فقط" أي بلا شرط ترتيب ولا معية "ففي المفرد" أي فهي فيه اسما كان أو فعلا حال كونه "معمولا" لجمع المعطوف "في حكم المعطوف عليه من الفاعلية والمفعولية والحالية وعاملا" أي وحال كونه عاملا لجمع المعطوف "في مسنديته" أي المعطوف عليه "كضرب وأكرم في جمل لها محل" من الإعراب لجمع المعطوفة في حكم المعطوف عليها "كالأول" أي ككونها في المفرد معمولا "وفي(23/100)
ص -51-…مقابلها" أي الجمل التي لا محل لها من الإعراب "لجمع مضمونها في التحقق وهل يجمع في متعلقاتها" أي الجملة المعطوف عليها "يأتي" في المسألة التي بعد هذا "وقيل" الواو "للترتيب ونسب لأبي حنيفة" والشافعي أيضا "كما نسب إليهما" أي أبي يوسف ومحمد ومالك أيضا "المعية لقوله" أي أبي حنيفة "في إن دخلت فطالق وطالق وطالق لغير المدخول تبين بواحدة وعندهما" تبين "بثلاث" فإن قوله هذا ظاهر في جعلها للترتيب حيث أبانها بالأولى فقط لا إلى عدة كما لو كانت بالفاء أو ثم فلم يقع ما بقي وقولهما ظاهر في جعلها للمقارنة كما في أنت طالق ثلاثا وإلا لأوقعا واحدة لا غير "وليس" كلا القولين بناء على ذلك "بل لأن موجبه" أي العطف "عنده" أي أبي حنيفة "تعلق المتأخر بواسطة المتقدم فينزلن كذلك" أي مترتبات "فيسبق" الطلاق "الأول فيبطل محليتها" لما بعده لانتفاء العصمة والعدة "وقالا بعد ما اشتركت" المعطوفات "في التعلق وإن" كان اشتراكها "بواسطة" أي عطف بعضها على بعض "تنزل دفعة لأن نزول كل" منها "حكم الشرط فتقترن أحكامه" عند وجوده "كما في تعدد الشرط" لكل واحد نحو إن دخلت فأنت طالق وإن دخلت فأنت طالق فإنه قد تعلق طلاق بعد طلاق بكل من الشرطين ثم إذا وجد الشرط بأن دخلت مرة يقع ثنتان "ودفع هذا" أي تعدد الشرط الملحق به "بالفرق بانتفاء الواسطة" أي بأن تعلق الثاني فيه ليس بواسطة تعلق الأول وإن كان بعده بخلاف إن دخلت فأنت طالق وطالق "لا يضر" في المطلوب "إذ يكفي" في الدفع لهما "ما سواه" أي سوى هذا الدليل قال المصنف يعني من قولهما التعلق وإن كان بواسطة فبعد ثبوت الواسطة وتعلق الثاني صار الحاصل تعلق كل من طلاقين بشرط فيكون نزول كل منهما حكما لثبوته فإذا ثبت نزل كل حكم له دفعة لوجود العلة التامة في ثبوت كل ولا يجوز أن يتأخر شيء منها فقد رجح المصنف قولهما "وفيه" أي في الجواب لهما عن دليله "ترديد آخر ذكرناه في الفقه" فقال: وقولهما(23/101)
أرجح قوله تعلق بواسطة تعلق الأول إن أريد أنه علة تعلقه فممنوع بل عليته جمع الواو إياه إلى الشرط وإن أريد كونه سابق التعلق سلمناه ولا يفيد كالأيمان المتعاقبة ولو سلم أن تعلق الأول علة لتعلق الثاني لم يلزم كون نزوله علة لنزوله إذ لا تلازم فجاز كونه علة لتعلقه فيتقدم في التعلق وليس نزوله علة لنزوله بل إذا تعلق الثاني بأي سبب كان صار مع الأول متعلقين بشرط وعند نزول الشرط ينزل المشروط "لنا النقل عن أئمة اللغة وتكرر من سيبويه كثيرا" فذكره في سبعة عشر موضعا من كتابه "ونقل إجماع أهل البلدين" البصرة والكوفة "عليه" نقله السيرافي والسهيلي والفارسي إلا أنهم نوقشوا فيه بأن جماعة منهم ثعلب وغلامه وقطرب وهشام على أنها للترتيب "وأما الاستدلال" للمختار "بلزوم التناقض" على تقدير الترتيب "في تقدم السجود على قول حطة" كما في سورة البقرة "وقلبه" أي تقديم قول حطة على السجود كما في سورة الأعراف "مع الاتحاد" أي اتحاد القصة لأن وجوب دخول الباب سجدا يكون مقدما على قول حطة ما دلت عليه آية البقرة مؤخرا عنه كما دلت عليه آية الأعراف والقصة واحدة فيهما أمرا ومأمورا وزمانا والتناقض في كلامه تعالى محال ومعنى حطة حط عنا ذنوبنا "وامتناع تقاتل زيد(23/102)
ص -52-…وعمرو" أي وبلزوم امتناعه إذ لا يتصور في فعل يعتبر في مفهومه الإضافة المقتضية للمعية ترتيب لكنه صحيح بالاتفاق "وجاء زيد وعمرو قبله" أي وبلزوم امتناعه للتناقض فإن عمرا يكون جائيا بعد زيد للواو وقبله لقبله واللازم منتف بالاتفاق "والتكرار بعده" أي وبلزوم التكرار في جاء زيد وعمرو بعده لدلالة الواو على البعدية وليس بتكرار اتفاقا "فمدفوع بجواز التجوز بها" أي بالواو "في الجمع فصحت" للجمع "في الخصوصيات" أي في هذه الصور المخصوصة فلم يلزم المطلوب "وبلزوم صحة دخولها في الجزاء" أي والاستدلال للمختار بأنها لو كانت للترتيب لزم صحة دخولها على جزاء الشرط لربطه به على سبيل الترتيب عليه "كالفاء" واللازم باطل بالاتفاق إذ لا يصح إن جاء زيد وأكرمه كما يصح فأكرمه مدفوع "بمنع الملازمة كثم" أي لا نسلم أنها لو كانت للترتيب لصح دخولها على الجزاء فإنه منقوض بثم فإنها للترتيب اتفاقا ولا يجوز دخولها على الجزاء اتفاقا "ويحسن الاستفسار" أي والاستدلال للمختار بأنها لو كانت للترتيب لما حسن من السامع أن يستفسر من المتكلم "عن المتقدم" والمتأخر في نحو جاء زيد وعمرو لكونهما مفهومين من الواو واللازم باطل مدفوع "بأنه" أي حسن الاستفسار "لدفع وهم التجوز بها" لمطلق الجمع "وبأنه مقصود" أي والاستدلال للمختار بأن مطلق الجمع معنى مقصود للمتكلم "فاستدعى" لفظا "مفيدا" له كي لا تقصر الألفاظ عن المعاني "ولم يستعمل فيه" أي في هذا المعنى "إلا الواو" فتعين أن تكون موضوعة له فلا تكون للترتيب والألزم الاشتراك وهو خلاف الأصل مدفوع "بأن المجاز كاف في ذلك" أي في إفادته فيكفي أن يكون مجازا للجمع المطلق على أنه معارض بالمثل فإن الترتيب المطلق أيضا معنى مقصود كالجمع المطلق فلا بد من لفظ يعبر به عنه وليس ذلك غير الواو اتفاقا فتكون موضوعة له "والنقض" لكونها لمطلق الجمع "بالترتيب" أي بأنها تفيده "للبينونة بواحدة في قوله لغير(23/103)
المدخولة طالق وطالق وطالق كما بالفاء وثم" وإلا لو كانت للجمع لجمعت الثلاث فطلقت ثلاثا "مدفوع بأنه" أي وقوع الواحدة لا غير "لفوات المحلية قبل الثانية إذ لا توقف" للأولى على ذكر الثانية لعدم موجب التوقف لأن أنت طالق منجز ليس في آخره ما يغير أوله من شرط أو غيره فينزل به الطلاق في المحل قبل التلفظ بالثانية والثالثة ويرتفع محليتها للباقي لعدم العدة فيلغو لهذا لا لكون الواو للترتيب "بخلاف ما لو تعلقت بمتأخر" أي بشرط متأخر كأنت طالق وطالق وطالق إن دخلت فإنه يقع الثلاث اتفاقا لتوقف الكل على آخر الكلام لوجود المغير فيه فتعلقت دفعة ونزلت دفعة ثم عند أبي يوسف يقع الأول قبل الفراغ من التكلم بالثاني "وما عن محمد إنما يقع عند الفراغ من الأخير محمول على العلم به" أي بالوقوع أي لا يعلم وقوع ما قبل الأخير إلا عند الفراغ من الأخير "لتجويز إلحاق المغير" به من شرط ونحوه "وإلا" لو لم يكن المراد هذا "لم تفت المحلية فيقع الكل" بنصب يقع على جواب النفي لوجود المحلية حالة التكلم بالباقي كما ذكره شمس الأئمة السرخسي والحاصل أن المصنف استبعد كون قول محمد على ظاهره لأنه إذا لم يكن الصدر متوقفا فتأخير حكمه إلى غاية خاصة ممنوع لأنه كما قال "ولأنه" أي تأخير حكم الأول(23/104)
ص -53-…إلى الفراغ من الأخير "قول بلا دليل" فالصواب ما قاله أبو يوسف من أنه يقع بمجرد فراغه من الأول وحين أول المصنف كلام محمد بما تقدم ارتفع الخلاف إذ لا شك في تأخر العلم بالوقوع عن تمام الكلام لكن عند تمامه يحكم بأن الوقوع كان بمجرد فراغه من الأول "وببطلان نكاح الثانية" أي والنقض لكونها لمطلق الجمع بأنها تفيد الترتيب بدليل بطلان نكاح الأمة الثانية "في قوله" أي المولى لأمته "هذه حرة وهذه" حرة "عند بلوغه تزويج فضولي أمتيه من واحد" كما لو أعتقهما بكلامين منفصلين وإلا لما بطل نكاح واحدة منهما ما لو أعتقهما معا مدفوع "بتعذر توقفه" أي نكاح الثانية لأن بثبوت الحرية للأولى بهذه حرة قبل التلفظ بقوله وهذه بطلت محلية وتوقف النكاح في الثانية "إذ لا يقبل الإجازة" لأن النكاح الموقوف معتبر بابتداء النكاح وليست الأمة منضمة إلى الحرة بمحل لابتدائه فكذا لتوقفه "لامتناع" نكاح "الأمة على الحرة" وإذا بطل التوقف لا يمكن تدارك محليتها له لتعتق بعد ذلك لأن التوقف لا يعود بعد البطلان فالترتيب جاء في ثبوت العتق لوجود اللفظين متعاقبين لا لكونها للترتيب "وبالمعية" أي والنقض لكونها لمطلق الجمع بأنها للمقارنة "لبطلان إنكاحه" أي الفضولي الآخر "أختين في عقد من واحد فقال" الزوج "أجزت فلانة وفلانة" أي نكاح فلانة ونكاح فلانة كما لو قال: أجزت نكاحهما وإلا لبطل نكاح الأخيرة لا غير كما لو أجازهما متفرقا بأن قال: أجزت نكاح فلانة ثم أجاز نكاح الأخرى لئلا يلزم الجمع بين نكاح الأختين وقيد بفي عقدين لأن تزويجهما في عقد واحد لا ينفذ بحال "ولعتق ثلث كل من الأعبد الثلاثة إذا قال: من مات أبوه عنهم" أي الأعبد الثلاثة "فقط" وهم متساوون في القيمة ولا وارث له غيره ومقول قوله "أعتق" أبي "في مرضه هذا وهذا وهذا متصلا" بعضه ببعض بالواو وكما لو قال: أعتقهم كلهم أي وإلا لو لم يكن للمقارنة لعتق كل الأول وثلث الثالث كما لو أقر به(23/105)
متفرقا بأن قال: أعتق أبي هذا وسكت ثم قال لآخر: أعتق أبي هذا وسكت ثم قال لآخر: أعتق أبي هذا لأنه لما أقر بإعتاق الأول وهو ثلث المال عتق من غير سعاية لعدم المزاحم ثم لما أقر بإعتاق الثاني فقد زعم أنه بين الأول والثاني نصفين فيصدق في حق الثاني لا في حق الأول لأن المغير يغير بشرط الوصل ولم يوجد ثم لما أقر للثالث فقد زعم أنه بينهم أثلاثا يصدق في حق الثالث لا الأولين لما ذكرنا مدفوع "بأنه" أي كلا من بطلان نكاح الثانية وعتق كل من الأعبد الثلاثة "للتوقف" لصدر الكلام على آخره "لمغيره من صحة إلى فساد بالضم في الأول" أي في نكاح الأختين "ومن كمال العتق إلى تجزئته" للعتق "عنده" أي أبي حنيفة "من براءة" لذمته "إلى شغل" لها "عند الكل" أي أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد فإنهم متفقون على أنه يجب عليه أن يسعى في ثلثي قيمته غير أنه عنده رقيق في الأحكام كالمكاتب إلا أنه لا يرد إلى الرق بالعجز وعندهما كالحر المديون "بخلاف النقضين الأولين" أي النقض بالبينونة بواحدة في تنجيز الطلاق بطالق وطالق وطالق والنقض ببطلان نكاح الأمة الثانية في هذه حرة وهذه "لأن الضم" للطلاق الكائن بعد الأول إلى ما قبله "لا يغير ما قبله من الوقوع ولقائل أن يقول: الضم المفسد لهما" أي لنكاح الأختين هو الضم "الدفعي كتزوجتهما وأجزتهما" أي(23/106)
ص -54-…نكاح الأختين لأنه جمع بين الأختين "لا" الضم "المرتب لفظا لأنه" أي الفساد لهما فيه "فرع التوقف" للأول على الآخر "ولا موجب له" أي للتوقف "فيصح الأولى" أي نكاحها "دون الثانية كما لو كان" الضم "بمفصول" أي بكلام متأخر عن الأول بزمان استدل "المرتبون" بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] وثبوت الواو في اركعوا كما في النسخ سهو ففهم منه أن السجود بعد الركوع ولولا الواو للترتيب لم يتعين فكانت حقيقة فيه لأن الأصل عدم المجاز "وسؤالهم" أي الصحابة "لما نزل {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} بم نبدأ" كذا ذكره غير واحد من المشايخ ولم أقف عليه مخرجا وإنما في صحيح مسلم عن جابر ثم خرج يعني النبي صلى الله عليه وسلم من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ "{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} أبدأ بما بدأ الله به فبدأ بالصفا" الحديث وهو بصيغة الفعل المضارع للمتكلم ويؤيده رواية مالك وغيره نبدأ وهو عند النسائي والدارقطني ابدءوا بصيغة الأمر ولولا أنها للترتيب لما سألوه ولما قال: "أبدأ وابدءوا بما بدأ الله به" ولما وجب الابتداء إذ لا موجب له غيره "وإنكارهم" أي الصحابة "على ابن عباس تقديم العمرة" على الحج "مع {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} فإن جعل هذه الآية مستند إنكارهم عليه دليل فهمهم الترتيب منها بواسطة الواو وهم أهل اللسان وهذا ذكره غير واحد من المشايخ ولم أقف عليه مخرجا أيضا "وبقوله صلى الله عليه وسلم: "بئس الخطيب أنت" لقائل ومن يعصهما أي الله ورسوله فقد غوى" كما بينه قوله "هلا قلت ومن يعص الله ورسوله" كذا في البديع ولم أقف على هلا مخرجا والذي في صحيح مسلم "قل: ومن يعص الله ورسوله" فلو لم تكن للترتيب لما فرق بين العبارتين بالإنكار على ما بالواو فإنه كما قال "ولا فرق" بينهما "إلا بالترتيب وبأن الظاهر أن الترتيب اللفظي(23/107)
للترتب الوجودي والجواب عن الأول" أي اركعوا واسجدوا "بأنه" أي الترتيب بينهما "من" قوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي" رواه البخاري وتقدم في مسألة إذا نقل فعله صلى الله عليه وسلم بصيغة لا عموم لها إذ لا يلزم من موافقة حكم لدليل كونه منه ومن عدم دلالته عليه عدم الدلالة مطلقا "وعن الثاني" أي عن سؤالهم عما يبدءون بالطواف منه من الصفا والمروة "بالقلب" وهو "لو" كانت الواو "للترتيب لما سألوا" ذلك لفهمهم إياه منها فسؤالهم دليل على أنهم لم يفهموه منها "فالظاهر أنها للجمع والسؤال لتجويز إرادة البداءة بمعين" منهما "والتحقيق سقوطه" أي الاستدلال "لأن العطف فيها" أي في الآية "إنما يضم" المعطوف إلى المعطوف عليه "في الشعائر ولا ترتيب فيها" أي الشعائر "فسؤالهم" إنما هو "عما لم يفد بلفظه" أي الواو "بل" عما أفيد "بغيره" أي الواو وهو التطوف بينهما "وأجاب هو" صلى الله عليه وسلم "ابدءوا بما بدأ الله" وعن الثالث" أي إنكارهم على ابن عباس تقديم العمرة على الحج "أنه" أي الكلام "لتعيينه" تقديمها عليه "والواو للأعم منه" أي تقديمها عليه وهو مطلق الجمع المفيد للخروج من العهدة بكل من تقديم أحدهما على الآخر "وعن الرابع" أي إنكاره صلى الله عليه وسلم على القائل ومن يعصهما "بأنه ترك الأدب لقلة معرفته" بالله تعالى لأن في الإفراد بالذكر تعظيما ليس في القران مثله من مثل القائل "بخلاف مثله" أي الجمع بينهما في التعبير عنهما بضمير المثنى "منه صلى الله عليه وسلم" كما في الصحيح "لا يؤمن(23/108)
ص -55-…أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما" فإنه أعلم الخلق بالله وأشدهم له خشية فلا يكون في ذلك منه إخلال بالتعظيم ويوضحه أنه لا ترتيب بين المعصيتين لأن معصية الله معصية لرسوله وبالعكس فتعين ما ذكرنا "وعن الخامس" أي الترتيب اللفظي للترتيب الوجودي "بالمنع والنقض برأيت زيدا رأيت عمرا" للاتفاق على صحته مع تقدم رؤية عمرو على رؤية زيد في الواقع وكيف لا وقد قال تعالى {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ} [الشورى: 3] "ولو سلم" أن الترتيب اللفظي للترتب الوجودي "فغير محل النزاع" لأن النزاع إنما هو في أن المذكور بعد الواو بالنسبة إلى ما قبلها لا في مطلق الترتيب اللفظي.
مسألة(23/109)
الواو "إذا عطفت جملة تامة" أي غير مفتقرة إلى ما تتم به "على أخرى لا محل لها شركت" بينهما "في مجرد الثبوت" لاستقلالها بالحكم ومن ثمة سماها بعضهم واو الاستئناف والابتداء نحو {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} "واحتمال كونه" أي الثبوت "من جوهرهما يبطله ظهور احتمال الإضراب مع عدمها" أي الواو "وانتفاؤه" أي احتمال الإضراب "معها" أي الواو فإن قام زيد قام عمرو يحتمل قصد الإضراب عن الإخبار الأول إلى الإخبار الثاني بخلاف ما إذا توسطت الواو "فلذا" أي فلكون عطف التامة على أخرى لا محل لها من الإعراب تشرك في مجرد الثبوت "وقعت واحدة في هذه طالق ثلاثا وهذه طالق" على المشار إليها ثانيا لأن الثانية جملة تامة لاشتمالها على المبتدأ والخبر "وما لها" أي وإذا عطفت جملة تامة على جملة لها محل من الإعراب "شركت المعطوفة في موقعها إن خبرا" عن المبتدأ "أو جزاء" للشرط "فخبر وجزاء" قال المصنف: وهذا يفيد أن جملة الجزاء قد يكون له محل وبه قال طائفة من المحققين وهو ما إذا كانت بعد الفاء وإذا جوابا لشرط جازم "وكذا ما" أي الجملة التي "لها موقع" من الإعراب "من غير" الجملة "الابتدائية مما" أي من الجمل التي "ليس لها محل" من الإعراب إذا عطفت عليها أخرى شركت المعطوفة في موقعها إن خبرا فخبر وإن جزاء فجزاء هذا ما يعطيه السياق ولم يظهر لي الاحتياج إلى هذا لاندراجه فيما تقدم ثم فائدة التقييد المذكور وهو من الملحقات "كإن دخلت فأنت طالق وعبدي حر فيتعلق" عبدي حر بدخول الدار لكونه معطوفا على أنت طالق جزاء لإن دخلت "إلا بصارف" عن تعلقه به نحو إن دخلت فأنت طالق "وضرتك طالق" فإن إظهار خبرها صارف عن تعلقها به إذ لو أريد عطفها على الجزاء اقتصر على مبتدئها وإذ صرفت عن عطفها على الجزاء "فعلى الشرطية" أي فهي معطوفة على الجملة الشرطية برمتها "فيتنجز" طلاقها لأنه غير معلق "ومنه" أي ومما اشتمل على الصارف عن تعلقها بما(23/110)
تعلقت به المعطوف عليها قوله تعالى "{وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] بعد {وَلا تَقْبَلُوا} بناء على الأوجه من عدم عطف الإخبار على الإنشاء" فإنه لازم على تقدير العطف على ولا تقبلوا أو فاجلدوا "ومفارقة الأوليين" أي جملة فاجلدوا وجملة لا تقبلوا لهذه الجملة "بعدم مخاطبة الأئمة" بمضمونها بخلافهما "مع الأنسبية من إيقاع الجزاء على الفاعل أعني اللسان كاليد في القطع" فإن رد الشهادة حد في اللسان الصادر منه(23/111)
ص -56-…جريمة القذف كقطع اليد في السرقة إلا أنه ضم إليه الإيلام الحسي لكمال الزجر وعمومه جميع الناس فإن منهم من لا ينزجر بالإيلام باطنا "وأما اعتبار قيود" الجملة "الأولى فيها" أي في الثانية وبالعكس "فإلى القرائن لا الواو وإن" عطفت جملة "ناقصة وهي المفتقرة في تمامها إلى ما تمت به الأولى" بعينه "وهو عطف المفرد انتسب" المفرد المعطوف "إلى عين ما انتسب إليه الأول بجهته ما أمكن فإن دخلت فطالق وطالق وطالق تعلق" فيه طالق الثاني وطالق الثالث "به" أي بدخلت بعينه "لا بمثله كقولهما" أي أبي يوسف ومحمد "فبتعدد الشروط وعلمت أن لا ضرر عليهما في الاتحاد وما تقدم لهما" في أول بحث الواو من إلحاق إن دخلت فأنت طالق وطالق وطالق بتعدد الشرط في قوله إن دخلت فأنت طالق إن دخلت فأنت طالق إن دخلت فأنت طالق إن دخلت فأنت طالق "تنظير لا استدلال لاستقلال ما سواه" وأنهما لو اعتبراه دليلا لم يضرهما بطلانه إذ يكفيهما ما ذكر مما قدمناه "فتفريع كلما حلفت" بطلاقك "فطالق ثم" قال لها "إن دخلت فطالق وطالق" أنه "على الاتحاد يمين والتعدد يمينان" لتكررها بتكرر الشرط "فتطلق ثنتين" كما هو مذكور في شرح البديع للشيخ سراج الدين الهندي تفريع "على غير خلافية" فإنه غير لازم أن يكونا قائلين بالتعدد كما تقدم "بل" المراد "لو فرض" خلاف بينه وبينهما في ذلك "كان" التعدد "كذا" أي يمينين "والنقض" لهذا "بهذه طالق ثلاثا وهذه إذ طلقتا ثلاثا لاثنتين بانقسام الثلاث عليهما" بأن تجعل مشاركة للأولى فيها "دفع بظهور القصد إلى إيقاع الثلاث" بالتنصيص عليها ليسد على نفسه باب التدارك وبالانقسام بفوت هذا الغرض "والمناقشة فيه" أي في القصد إلى ذلك بأنه لو كان كذلك لم يعطف الثانية عليها "احتمال لا يدفع الظهور" أي ظهور القصد ثم شرع في بيان قسيم قوله إن انتسب إلى آخره بقوله "وفيما لا يمكن" انتساب العين "يقدر المثل" كي لا يلغو وإن كان الإضمار خلاف الأصل(23/112)
فإن ارتكابه بالقرينة وهي دلالة العطف أولى من إلغاء الكلام "كجاء زيد وعمرو بناء على اعتبار شخص المجيء" لاستحالة تصور الاشتراك في مجيء واحد لأن العرض الواحد لا يقوم بمحلين "وإن كان العامل ينصب عليهما معا لأن هذا تقدير حقيقة المعنى وعنه" أي عن اعتبار تعلق المعطوف بعين المعطوف عليه في المفرد أن "في قوله لفلان علي ألف ولفلان انقسمت عليهما" فيكون لكل خمسمائة تحقيقا للشركة "ونقل عن بعضهم أن عطفها" أي الواو الجملة "المستقلة" على غيرها "تشرك في الحكم وبه انتفت الزكاة في مال الصبي كالصلاة من {أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}" بناء على أنه يجب أن يكون المخاطب بأحدهما غير المخاطب بالآخر ولما لم يكن الصبي مخاطبا بأقيموا الصلاة لم يكن مخاطبا بآتوا الزكاة "ودفع" بأن الصبي "خص من الأول" أي أقيموا الصلاة "بالعقل لأنها" أي الصلاة عبادة "بدنية" وهي موضوعة عن الصبي "بخلاف الزكاة" فإنها عبادة مالية محضة "تتأدى بالنائب فلا موجب لتخصيصه" أي الصبي منها.
"تتمة: تستعار" الواو "للحال" أي لربط الجملة الحالية بذيها لأن المعنى الحقيقي لها مطلق الجمع والجمع الذي لا بد منه بين الحال وذيها من محتملاته فإذا استعملت فيه بعينه(23/113)
ص -57-…كانت مجازا فيه "بمصحح الجمع" بينهما "على ما فيه" لأن ما مضى من أن الاسم الأعم في الأخص حقيقة ينفيه "بل هو من ما صدقاته والعطف أكثر فيلزم إلا بما لا مرد له" فلا يلزم حينئذ "فإن أمكنا" أي العطف والحال "رده" أي الحال "القاضي" لأنه خلاف الظاهر وفيه تخفيف عليه وحكم بالعطف لأنه الظاهر "وصح نيته" أي الحال "ديانة" للاحتمال فقول المولى لعبده "فأد" إلي ألفا "وأنت حر" والإمام للحربي "وانزل وأنت آمن تعذر" العطف "لكمال الانقطاع" لأن الأولى فعلية إنشائية والثانية اسمية خبرية فانتفى الاتصال الذي لا بد منه بينهما في العطف "وللفهم" أي لعدم العطف فإن المفهوم تعلق الحرية والأمان بالأداء والنزول لا مجرد الإخبار بهما "فللحال على القلب أي كن حرا وأنت مؤد" وكن آمنا وأنت نازل أي أنت حر في حالة الأداء وآمن في حالة النزول والقلب سائغ في الكلام وإنما قلنا يحمل على هذا "لأن الشرط الأداء والنزول" لا الحرية والأمان فإن المتكلم إنما يتمكن من تعليق ما يتمكن من تنجيزه وهو لا يتمكن من تنجيز الأداء والنزول فلا يتمكن من تعليقهما وهو متمكن من التحرير والأمان تنجيزا فكذا تعليقا فكانا مشروطين خصيتيه شرطين "وقيل على الأصل" في الحال من وجوب مقارنة حصول مضمونها لحصول مضمون العامل "فيفيد ثبوت الحرية مقارنا لمضمون العامل وهو" أي مضمونه "التأدية وبه" أي بهذا القدر "يحصل المقصود" من هذا الكلام فانتفى ما قيل من أنه يلزم الحرية والأمان قبل الأداء والنزول لوجوب تقدم مضمون الحال على العامل لكونها قيدا له وشرطا للقطع بأنه لا دلالة لائتني وأنت راكب إلا على كونه راكبا حالة الإتيان لا غير "ومقابله" أي تعذر العطف وهو عدم تعذره مع تعذر الحال وقول رب المال للمضارب: "خذه" أي هذا النقد "واعمل في البز" وهو متاع البيت من الثياب خاصة وقال محمد: هو في عرف أهل الكوفة ثياب الكتان والقطن دون الصوف والخز "تعين العطف للإنشائية"(23/114)
فيهما "ولأن الأخذ ليس حال العمل" أي لا يقارنه في الوجود بل العمل بعد الأخذ فلا تكون للحال وإن نوى "فلا تتقيد المضاربة به" أي بالعمل في البز بل تكون مشورة "وفي أنت طالق وأنت مريضة أو مصلية يحتملهما" أي العطف والحال "إذ لا مانع" من كل "ولا معين" له لوجود التناسب بين الجملتين المصحح للعطف ولقبول الطلاق التعليق بهما "فتنجز" الطلاق "قضاء" لأنه الظاهر وخصوصا وحالة المرض والصلاة مظنة الشفقة والإكرام والأصل في التصرفات التنجيز والتعلق بعارض الشرط فلا يثبت بمجرد الاحتمال "وتعلق" بالمرض والصلاة "ديانة إن أراده" أي التعليق بهما لإمكانه وإنما لم يصدق قضاء لأنه خلاف الظاهر وفيه تخفيف عليه "واختلف فيها" أي الواو "من طلقني ولك ألف فعندهما للحال" فيجب له عليها الألف إذا طلقها "للتعذر" أي تعذر العطف "بالانقطاع" لأن الأولى فعلية إنشائية والثانية اسمية خبرية "وفهم المعاوضة" فإن ظاهر هذا قصد الخلع به وهو معاوضة من جانبها ولذا صح رجوعها قبل إيقاعه فكأنها قالت: طلقني في حال يكون لك علي ألف عوضا عن الطلاق الموجب لسلامة نفسي لي فإذا قال الزوج: طلقت فكأنه قال: طلقت بهذا الشرط أي إن قبلت الألف وقد ثبت قبولها بدلالة قولها فيجب عليها "أو" لأن الواو هنا(23/115)
ص -58-…"مستعارة للإلصاق" الذي هو معنى الباء بدلالة المعاوضة لما ذكرنا والمناسب للمعاوضة الباء لا الواو لأنه لا يعطف أحد العوضين على الآخر فصار كأنها قالت: طلقني بألف وإنما استعيرت للإلصاق "للجمع" أي للتناسب بينهما في الجمع فإن كلا منهما يدل على الجمع "وعنده" الواو "للعطف تقديما للحقيقة فلا شيء لها" إذا طلقها "وصارف المعاوضة غير لازم فيه" أي في الطلاق "بل عارض" لندرة عروض التزام المال في الطلاق وغلبة وجود الطلاق بدونه لعدم احتياجه إليه لأن البضع غير متقوم حالة الخروج والعارض لا يعارض الأصلي "ولذا" أي ولعروضه "لزم في جانبه" أي الزوج فصار يمينا "فلا يملك الرجوع قبل قبولها بخلاف الإجارة احمله ولك درهم" فإن ظاهره قصد المعاوضة لأنها فيها أصلية لأن الإجارة بيع المنافع بعوض فتحمل الواو بدلالة المعاوضة على الباء فكأنه قال: احمله بدرهم "والأوجه" في طلقني ولك ألف "الاستئناف" لقولها ولك ألف "عدة" منها له والمواعيد لا تلزم "أو غيره" أي أو غير وعد بأن تريد ولك ألف في بيتك ونحوه "للانقطاع" بهما ما ذكرا "فلم يلزم الحال لجواز مجازي آخر ترجح بالأصل براءة الذمة وعدم إلزام المال بلا معين" لإلزامه وفي بعض هذا ما فيه والله سبحانه أعلم.
مسألة(23/116)
"الفاء للترتيب بلا مهلة فدخلت في الأجزية" لتعقبها الشروط بلا مهلة "فبانت غير الملموسة" أي غير المدخول بها "بوا حدة في طالق فطالق" لانتفاء كونها محلا للثانية "و" دخلت في "المعلولات" لأن المعلول يتعقب علته بلا تراخ "كجاء الشتاء فتأهب على التجوز بجاء عن قرب فإن قربه علة التأهب له وقوله صلى الله عليه وسلم" "لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه" رواه مسلم "لأن العتق معلول معلوله" أي الشراء وهو الملك فإن الملك معلول الشراء والعتق معلول ملك الولد فصحت إضافة العتق إلى الشراء بهذا الاعتبار "فيعتق بسبب شرائه فليس" هذا الحديث "من اتحاد العلة والمعلول في الوجود ولا نحو سقاه فأرواه" منه أيضا كما ذكره صدر الشريعة لأن الإرواء غرضه لا فعله "فلذلك" أي لكونها للترتيب على سبيل التعقب "تضمن القبول" للبيع "قوله فهو حر جواب بعتكه بألف" حتى صح عتقه لأن ترتب العتق على ما قبله لا يمكن إلا بعد ثبوت الملك له بالقبول فيثبت اقتضاء وصار كأنه قال قبلت فهو حر "لا هو حر بل هو رد للإيجاب" وإنكار على الموجب بالإخبار عن حريته الثانية قبل الإيجاب حتى كأنه قال: أتبيعه وهو حر أو هو حر فكيف تبيعه "وضمن الخياط" ثوبا "قال له" مالكه "أيكفيني" قميصا "قال: نعم قال: فاقطعه فقطعه فلم يكفه" لأنه كان كفاني قميصا فاقطعه ولو قاله فقطع فلم يكفه ضمن فكذا هذا "لا في اقطعه فلم يكفه" إذا قطعه فلم يكفه لوجود الإذن مطلقا "وتدخل" الفاء "العلل" وإن كان "خلاف الأصل" لأن تعقب العلة حكمها مستحيل دخولا "كثيرا لدوامها" أي لكون تلك العلة موجودة بعد وجود المعلول "فتتأخر" العلة عن المعلول "في البقاء" فتدخل الفاء عليها نظرا إلى هذا المعنى "أو باعتبار أنها" أي العلة علة في الذهن للمعلول "معلولة في الخارج للمعلول ومن الأول" أي(23/117)
ص -59-…دخولها على العلة المتأخرة في البقاء "لا الثاني" أي لا من دخولها على المعلولة في الخارج ما يقال لمن هو في شدة "أبشر" أي صر ذا فرح وسرور فهو هنا لازم وإن كان قد يكون متعديا "فقد أتاك الغوث" أي المغيث فإنه باق بعد الإبشار كذا قالوا وفيه تأمل "ومنه" أي دخولها على العلة المتأخرة في البقاء أيضا "أد" إلي ألفا "فأنت حر" لأن العتق يمتد فأشبه المتراخي عن الحكم وهو الأداء "وانزل فأنت آمن" لأن الأمان يمتد فأشبه المتراخي عن الحكم وهو النزول "وتعذر القلب" وهو كونه داخلا على المعلول وهو الأداء والنزول "لأنه" أي القلب "بكونه جواب الأمر وجوابه" أي الأمر "يخص المضارع" لأن الأمر إنما يستحق الجواب بتقدير أن وهي إن كانت تجعل كلا من الماضي والجملة الاسمية بمعنى المستقبل فإنما ذاك إذا كانت ملفوظة كما في إن تأتني أكرمتك أو فأنت مكرم لا إذا كانت مقدرة فلا يجوز ائتني أكرمتك أو فأنت مكرم "فيعتق" في الحال أدى أو لم يؤد لأن المعنى لأنك حر "ويثبت الأمان في الحال" نزل أو لم ينزل لأن المعنى لأنك آمن "ومن الثاني" أي دخولها على العلة المعلول في الخارج ما أخرج النسائي في حق الشهداء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "زملوهم" الحديث أي بدمائهم "فإنه ليس كلم يكلم في سبيل الله إلا يأتي يوم القيامة يدمى لونه لون الدم وريحه ريح المسك" فإن الإتيان على هذه الكيفية يوم القيامة علة تزميلهم أي تكسيتهم بدمائهم وهو معلول التزميل في الخارج "واختلفوا في عطفها" أي الفاء "لطلقات معلقة" في غير المدخول بها بأن قال: إن دخلت فأنت طالق فطالق فطالق كما ذكره الإسبيجابي وغيره "قيل كالواو" أي هو على الخلاف فعنده تبين بواحدة ويسقط ما بعدها وعندهما يقع الثلاث قاله الطحاوي والكرخي "والأصح الاتفاق على الواحدة للتعقيب" فصارت كثم وبعد وممن اختاره الفقيه أبو الليث "وتستعار" الفاء "لمعنى الواو في له علي درهم فدرهم" إذ الترتيب في(23/118)
الأعيان لا يتصور فلا يقال زيد في الدار فعمرو فبكر لأن المجتمعين في الدار لا ترتيب فيهم حال الاجتماع قيل ويكون من إطلاق اسم الكل على الجزء لأن مفهوم الواو جزء مفهوم الفاء ثم قد سمعت هذه الاستعارة قال:
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
لأن البينية من الأعراض التي لا تقوم إلا بشيئين كالشركة والخصومة وقيل: بل هي على حقيقتها من الترتيب وهو مصروف إلى الوجوب بأن يراد وجوب هذا أسبق من وجوب ذاك لا إلى الواجب وأيا ما كان "يلزمه اثنان" وهو أولى مما عن الشافعي يلزمه درهم لأن معنى الترتيب لغو فيحمل على جملة مبتدأة لتحقيق الدرهم الأول وتأكيده ويضمر المبتدأ أي فهو درهم لأن الإضمار لتصحيح ما نص عليه لا لإلغائه.
مسألة
"ثم لتراخي مدخولها عما قبله" حال كون مدخولها "مفردا والاتفاق على وقوع الثلاث على المدخولة في طالق ثم طالق ثم طالق في الحال بلا زمان" متراخ بينهما "لاستعارتها(23/119)
ص -60-…لمعنى الفاء وتنجيزه" أي أبي حنيفة "في غيرها" أي المدخولة "واحدة وإلغاء ما بعدها في طالق ثم طالق ثم طالق إن دخلت وفي المدخولة تنجزا" أي الأولان وحق العبارة وفي المدخولة إلا الأوليين بدل تنجزا "وتعلق الثالث" هذا إن كان آخر الشرط "وإن قدم الشرط تعلق الأول ووقع ما بعده في المدخولة وفي غيرها" أي المدخولة "تعلق الأول وتنجز الثاني فيقع الأول عند الشرط بعد التزوج الثاني" لأن زوال الملك لا يبطل اليمين "ولغا الثالث" لعدم المحل ثم تنجيزه مبتدأ خبره "لاعتباره" أي أبي حنيفة التراخي "في التكلم فكأنه سكت بين الأول وما يليه وحقيقته" أي السكوت "قاطعة للتعلق" بالشرط فكذا ما في معناه "كما لو قال لها" أي غير المدخولة "بلا أداة: إن دخلت فأنت طالق طالق طالق ذكره الطحاوي" وهذا تشبيه في الحكم لا في الوجه ووجهه أن طالق الأولى تعلقت بالشرط وطالق الثانية وقعت منجزة بتقدير أنت ولغت الثالثة لإبانتها لا إلى عدة "وعلقاها" أي أبو يوسف ومحمد الثلاث بالشرط "فيهما" أي في تقدم الشرط وتأخره "فيقع عند الشرط في غيرها" أي المدخولة "واحدة" وهي الأولى "للترتيب" ويلغو الباقي لانتفاء المحلية بالبينونة لا إلى عدة "وفيها" أي المدخولة يقع "الكل مرتبا لأن التراخي في ثبوت حكم ما قبلها لما بعدها لا في التكلم واعتباره" أي أبي حنيفة التراخي في التكلم حتى كأنه "سكت" اعتبار لخلاف الظاهر "بلا موجب وما خيل دليلا" على ذلك "من ثبوت تراخي حكم الإنشاءات عنها" أي الإنشاءات على تقدير التراخي في الحكم لا في التكلم بها "وهي" أي الأحكام "لا تتأخر" عن الإنشاءات "فلزم الحكم على اللغة بهذا الاعتبار" وهو التراخي في التكلم كما ذكر هذا التوجيه صدر الشريعة "ممنوع الملازمة" إذ لا يلزم من ذلك كذلك شرعا أن يكون كذلك لغة "ولو اكتفى باعتباره" أي التراخي بمعنى السكوت "شرعا" في الإنشاء "ففي محل تراخي حكمه" أي الإنشاء لا غير "وهو" أي محل تراخيه(23/120)
"في الإضافة والتعليق دون عطفه بثم" فلا يتم المرام "لأنه" أي العطف "النزاع" أي محله "على أنا نمنعه" أي تراخي الحكم "فيهما" أي الإضافة والتعليق "أيضا بمعنى اعتبار السكوت وما قيل" أي وما قاله غير واحد في توجيه قوله أيضا "هي" أي ثم "للتراخي فوجب كماله" إذ المطلق ينصرف إلى الكامل "وهو" أي كماله "باعتباره" أي التراخي بمعنى السكوت "ممنوع" المقدمة "الثانية" أي كماله باعتباره "إذ المفهوم ليس غير حكم اللفظ في الإنشاء ومعناه" أي اللفظ "في الخبر وهذا" الجواب "يصلح" جوابا "عن الأول أيضا" وهو ما ظن دليلا "وكذا" ثم للتراخي أيضا "في الجمل وموهم خلافه" أي التراخي فيها نحو قوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82] وقوله تعالى: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ. فَكُّ رَقَبَةٍ. أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ. أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ. ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا } [البلد: 11-17] فإن الاهتداء ليس بمسبوق بالإيمان والعمل الصالح بدون الإيمان غير معتد به إذ الإيمان مقوم كل عبادة وأصل كل طاعة "تؤول بترتب الاستمرار" أي ثم استمر على الهدى ثم استمر على الإيمان وصاحب الكشاف فيه على أنها في الآية الأولى دالة على تباين المنزلتين دلالتها على تباين الوقتين في جاء زيد ثم عمرو، أعني أن منزلة الاستقامة على(23/121)
ص -61-…الخير مباينة لمنزلة الخير نفسه لأنها أعلى منها وأفضل. ا هـ. والصبر عليها أبلغ وأكمل ومن ثمة قيل:
لكل إلى نيل العلى حركات…ولكن عزيز في الرجال ثبات
وفي الآية الثانية لتراخي الإيمان وتباعده في الرتبة والفضيلة عن العتق والصدقة لا في الوقت لأن الإيمان هو السابق المقدم على غيره ولا يثبت عمل صالح إلا به ومشى غير واحد على أنها في الآية الثانية بمعنى الواو.
مسألة
"تستعار" ثم "لمعنى الواو" قالوا: للمجاورة التي بينهما إذ كل منهما للجمع بين المعطوف والمعطوف عليه وفيه نظر وذلك نحو قوله تعالى: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} [يونس:46] أي والله لأنه لا يمكن حقيقته لأنها تؤدي إلى أن يكون شهيدا بعد إن لم يكن وهو ممتنع لأنه تعالى ليس بمحل للحوادث "إن لم يكن مجازا عن معاقب في مقام التهديد" أي ثم الله معاقب لهم على ما يفعلون أو مرادا به أنه تعالى مؤد شهاداته على أفعالهم يوم القيامة حين تنطق جلودهم وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بذلك فتكون ثم على معناها الحقيقي "ففي" قوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت بالذي هو خير ثم ليكفر عن يمينه" أخرجه السرقسطي في الدلائل "حقيقة ومجاز عن الجمع" الذي هو معنى الواو "في فليكفر ثم ليأت" ولم أقف عليه مخرجا وإنما الذي وقفت عليه مخرجا ما روى أبو داود والنسائي "إذا حلفت على يمين فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير" وبه يحصل المقصود أيضا "وإلا" لو لم يحمل ثم على الواو في هذا "كان الأمر للإباحة" إذ لا قائل بوجوب التكفير قبل الحنث "والمطلق" أي التكفير "للمقيد" أي ما سوى الصوم منه من الأطعام والكسوة والتحرير "فيتحقق مجازان" كون الأمر للإباحة والمطلق للمقيد من غير ضرورة "وعلى قولنا" مجاز "واحد" وهو كون ثم بمعنى الواو ضرورة الجمع بين(23/122)
الروايتين ولا شك في أولويته.
مسألة
"بل قبل مفرد للإضراب فبعد الأمر كاضرب زيدا بل بكرا والإثبات قام زيد بل بكر لإثباته" أي الحكم الذي قبلها "لما بعدها" وهو بكر في هذين المثالين "وجعل الأول" وهو زيد فيهما "كالمسكوت فهو" أي الأول "على الاحتمال" أي يحتمل أن يكون مطلوبا وأن يكون غير مطلوب في المثال الأول مخبرا بقيامه وغير مخبر به في المثال الثاني هذا إذا لم يذكر مع لا "ومع لا" نحو جاء زيد لا بل عمرو "ينص على نفيه" أي الأول فيفيد عدم مجيء زيد قطعا "وهو" أي بل "في كلام غيره تعالى تدارك أي كون الإخبار الأول أولى منه" أي الأول "الثاني فيعرض عنه" أي الأول "إليه" أي الثاني "لا إبطاله" أي الأول وإثبات الثاني تداركا لما وقع أولا من الغلط "كما قيل: ويعد النهي" كلا تضرب زيدا بل عمرا "والنفي" كـ"ما" قام زيد بل(23/123)
ص -62-…عمرو "لإثبات ضده" أي حكم الأول لما بعدها "وتقرير الأول" ففي الأول قررت النهي عن ضرب زيد وأثبت الأمر بضرب عمرو وفي الثاني قررت نفي القيام لزيد وأثبته لعمرو "وعبد القاهر" الجرجاني كما هو ظاهر كلام صاحب الكشف أو ابن عبد الوارث ابن أخت الفارسي كما ذكره غير واحد من النحويين ولعله عن كليهما وفاقا للمبرد على أنها كذلك لكن "يحتمل نقل النهي والنفي إليه" أي الثاني قال ابن مالك: وهو مخالف لاستعمال العرب "فقول زفر يلزمه ثلاثة في له درهم بل درهمان لا يتوقف على إفادة إبطال الأول وإن قيل به" أي بإبطاله كما تقدم "بل يكفي" في لزوم الثلاثة "كونه" أي المقر أعرض عن الإقرار بدرهم "كالساكت عنه" أي الإقرار به "بعد إقراره في رده" أي كالملفوظ في بل له درهمان "كالإنشاء" نحو قوله للمدخول بها أنت "طالق واحدة بل ثنتين يقع ثلاث وفي غير المدخولة واحدة لفوات المحل بخلاف تعليقه" كذلك في غير المدخولة "بقوله إن دخلت فطالق واحدة بل ثنتين يقع عند الشرط ثلاث لأنه" أي كالملفوظ "كتقدير شرط آخر" مماثل للمذكور حتى يكون بمنزلة التصريح بتكرير الشرط مثل إن دخلت الدار فأنت طالق واحدة إن دخلت الدار فأنت طالق ثنتين ومعلوم أن في هذا يقع الثلاث بالدخول مرة واحدة فكذا في ذاك "لا حقيقته" أي الشرط كما مشى عليه صدر الشريعة "إذ لا موجب" لاعتبار شرط آخر "وتحميل فخر الإسلام ذلك غير لازم بل تشبيه للعجز عن إبطال" الطلاق "الأول" المعلق بالشرط "فلا يتوسط" الأول لتعليق الثاني بذلك الشرط "بخلافه" أي هذا بالعطف "بالواو عنده" أي أبي حنيفة إذا عطف على الجزاء بالواو ولا بأس بذكر لفظه ليعلم ظهور ذلك منه قال: لما كان معنى بل لإبطال الأول وإقامة الثاني مقامه كان من قضيته اتصاله بذلك الشرط بلا واسطة لكن بشرط إبطال الأول وليس في وسعه إبطال الأول ولكن في وسعه إفراد الثاني بالشرط ليتصل به بغير واسطة كأنه قال: لا بل أنت طالق ثنتين إن دخلت(23/124)
الدار فيصير كالحلف بيمينين وهذا بخلاف العطف بالواو عند أبي حنيفة لو قال: إن دخلت هذه الدار فأنت طالق واحدة وثنتين ولم يدخل بها أنها تبين بالواحدة لأن الواو للعطف على تقدير الأولى فيصير معطوفا على سبيل المشاركة فيصير متصلا بذلك بواسطة ولا يصير منفردا بشرطه لأن حقيقة المشاركة في اتحاد الشرط فيصير الثاني متصلا به بواسطة الأول فقد جاء الترتيب ا هـ قال المصنف رحمه الله تعالى: وبقليل تأمل يظهر أن ليس بلازم من كلامه هذا تقدير شرط آخر ألبتة بل يصح أن يراد بالأول المبطل مجرد المعطوف عليه وقوله وقضيته اتصاله بذلك الشرط بلا واسطة إلخ ظاهر في هذا وقوله بعد ذلك كالحلف بيمينين تشبيه يعني كما لا يتعلق بواسطة الأول في اليمينين كذلك في العطف ببل في اليمين الواحدة وحاصله أنه علق واحدا ثم أراد أن يبطل تعليقه بقيد الوحدة إلى تعليقه مع آخر وليس في وسعه ذلك فلزم اتصال الاثنين معه بذلك الشرط فيقع الثلاث ثم يقول "وقلنا" في جواب زفر كالملفوظ "يحصل بالإعراض عن الدرهم إلى درهمين بإضافة" درهم "آخر إليه" أي إلى الأول "فلم يبطل الإقرار ولم يلزمه ثلاثة وأما قبل الجملة فللإضراب عما قبله" أي بل "بإبطاله" كقوله تعالى {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ(23/125)
ص -63-…مُكْرَمُونَ} [الانبياء:26] أي بل هم" عباد مكرمون وقوله: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ} [المؤمنون: 70] أما في كلامه تعالى فللإفاضة في غرض آخر" من غير إبطال نحو قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى. وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى. بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [الأعلى: 14-16] وقوله {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ. بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ} [المؤمنون: 62- 63] وادعاء حصر القرآن عليه" أي على أنها للانتقال من غرض إلى آخر كما زعمه ابن مالك في شرح الكافية "منع بالأول" أي بقوله {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الانبياء: 26] {بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ} [المؤمنون: 70] وتوجيهه بأن كلامه تعالى منزه عن أن يبطل منه شيء هو كذلك لكن الإبطال ليس لكلامه تعالى بل لقول الكفرة الذين حكى الله قصتهم وقوله "لا عاطفة" عطف على فللإضراب أي بل قبل الجملة سواء كانت للإضراب أو للانتقال حرف ابتداء كما مشى عليه صاحب رصف المباني وغيره ونص ابن هشام على أنه الصحيح لأنك لما أضربت صار المضروب عنه كأنه لم يذكر وصارت هي أول الكلام وكان ما بعدها كلاما مفيدا مستقلا بنفسه منقطع التعلق عما قبله لا أنها عاطفة للجملة بعدها على ما قبلها كما هو ظاهر كلام ابن مالك وصرح به ابنه والله تعالى أعلم.
مسألة(23/126)
"لكن للاستدراك" حال كونها "خفيفة" من الثقيلة وعاطفة "وثقيلة وفسر" الاستدراك "بمخالفة حكم ما بعدها لما قبلها" أي لحكمه "فقط" حال كونه "ضدا" نحو ما زيد أبيض لكن عمرو أسود "أو نقيضا" نحو ما زيد ساكنا لكن عمرو متحرك "واختلف في الخلاف ما زيد قائم" على لغة تميم "لكن" عمرو "شارب" ذكر معنى هذا ابن هشام "وقيل" الاستدراك ما تقدم "بقيد رفع توهم تحققه" أي ما قبلها هذا ما يعطيه السوق والذي ذكره ابن هشام نقلا عن جماعة منهم صاحب البسيط من النحاة أنهم فسروا الاستدراك برفع ما توهم ثبوته وفي التلويح وفسره المحققون برفع التوهم الناشئ من الكلام السابق مثل ما جاءني زيد لكن عمرو إذا توهم المخاطب عدم مجيء مرة أيضا بناء على مخالطة وملابسة بينهما "كليس بشجاع لكن كريم" لأن الشجاعة والكرم لا يكادان يفترقان فنفي أحدهما يوهم انتفاء الآخر "وما قام زيد لكن بكر للمتلابسين وإذا ولي الخفيفة فحرف ابتداء واختلفا" أي ما قبلها وما بعدها "كيفا ولو معنى كسافر زيد لكن عمرو حاضر أو" وليها "مفرد فعاطفة وشرطه" أي عطفها "تقدم نفي" نحو ما قام زيد لكن عمرو "أو نهي" نحو لا يقم زيد لكن عمرو "ولو ثبت" ما قبلها "كمل ما بعدها كقام زيد لكن عمرو لم يقم ولا شك في تأكيدها" أي لكن لمضمون ما قبلها "في نحو لو جاء أكرمته لكنه لم يجئ" لدلالة لو على انتفاء الثاني لانتفاء الأول "ولم يخصوا" أي الأصوليون "المثل بالعاطفة إذ لا فرق" بينهما وبين المشددة والمخففة منها في المعنى الذي هو الاستدراك فلا يعترض بالتمثيل بغير العاطفة من حيث إن البحث إنما هو في العاطفة "وفرقهم" أي جماعة من مشايخنا "بينها" أي لكن "وبين بل بأن بل توجب نفي الأول وإثبات الثاني بخلاف لكن" فإنها توجب إثبات الثاني فأما نفي الأول فإنما يثبت بدليله وهو(23/127)
ص -64-…النفي الموجود في صدر الكلام "مبني على أنه" أي إيجابها نفي الأول وإثبات الثاني هو "كالملفوظ" كما هو قول بعضهم "لا جعله" أي لا أن كالملفوظ جعل الأول "كالمسكوت" كما هو قول المحققين "وعلى المحققين يفرق بإفادتها" أي بل "معنى السكوت عنه" أي الأول "بخلاف لكن" قلت وفيه نظر فإن لكن حيث كانت لإثبات ما بعدها فقط فما قبلها في حكم المسكوت عنه أيضا بل الفرق بينهما على قول المحققين أن بل للإضراب عن الأول مطلقا نفيا كان أو إثباتا فلا يشترط اختلافهما بالإيجاب والسلب بخلاف لكن فإنه يشترط في عطف المفردين بها كون الأول منفيا والثاني مثبتا وفي عطف الجملتين اختلافهما في النفي والإثبات كما تقدم "وعلمت عدم اختلاف الفروع على هذا التقدير" أي جعل الأول كالمسكوت عنه حتى لزم قائل له على درهم بل درهمان ثلاثة عند زفر على هذا التقدير كما على ذلك التقدير "وقول المقر له بعين" بأن قال من هو بيده هذا لفلان ومقول قول المقر له "ما كان لي قط لكن لفلان موصولا يحتمل رد الإقرار" وتكذيبه له فيه كما هو صريح نفي ملكه عنه "فلا يثبت" أي العين "له" أي للمقر له لانفراده بذلك "والتحويل" أي ويحتمل تحويل العبد عن ملكه إلى فلان ونقله إليه أعني "قبوله" أي كون العبد له "ثم الإقرار به" أي بالعبد لفلان لا تكذيبا للمقر وردا لإقراره "فاعتبر" هذا الاحتمال "صونا" لإقراره عن الإلغاء "والنفي مجاز أي لم يستمر" ملك هذا لي "فانتقل إليه" أي إلى فلان "أو حقيقة أي اشتهر لي وهو له فهو" أي لكن لفلان "تغيير للظاهر فصح موصولا فيثبت النفي مع الإثبات" لا متراخيا عنه كي لا يصير النفي ردا للإقرار حينئذ وإنما صح موصولا "للتوقف" لأول الكلام على آخره كما في غيره من النفي والإثبات "للمغير" للحكم فيه عن كونه نفيا مطلقا ولم يصح مفصولا لأن النفي يكون حينئذ مطلقا فيكون ردا للإقرار وتكذيبا للمقر حملا للكلام على الظاهر ويكون لكن لفلان بعد ذلك شهادة(23/128)
بالملك للمقر له الثاني على المقر الأول وبشهادة المقر لا يثبت الملك فتبقى العين ملكا للمقر الأول "ومنه" أي من هذا القبيل "ادعى دارا على جاحد ببينة فقضي" له بها "فقال" الجاحد "ما كانت لي لكن لزيد موصولا فقال" زيد: "كأن" المدعى به أو المقر به الذي هو الدار "له" أي للجاحد "فباعنيه بعد القضاء" أو وهبنيه فأفاد بلكن تكذيبه في أنها لم تكن له وتصديقه في الإقرار بها له "فهي" أي الدار "لزيد لثبوته" أي الإقرار "مقارنا للنفي للوصل" للاستدراك بالنفي "والتوقف" لأول الكلام على آخره لوجود المغير فيه وإنما احتيج إلى إثباتهما معا لأنه لو حكم بالنفي أولا ينتقض القضاء ويصير الملك للمقضي عليه فالاستدراك يكون إقرارا على الغير وإخبارا بأن ملكه للغير فلا يصح ثم على المقضي له وهو المقر قيمتها للمقضي عليه فهذا حكم المسألة قال المصنف: "وتكذيب شهوده" أي المقضي له "وإثبات ملك المقضي عليه" لزيد "حكمه" أي مجموع هذا الكلام "فتأخر" هذا الحكم "عنه فقد أتلفها على المقضي عليه بالإقرار لزيد على ذلك الوجه فعليه قيمتها" توجيه ذلك وحاصله أنه لما وجب مقارنة النفي عن نفسه في جميع الأزمنة الماضية للإثبات للمقر له لم يمتنع ثبوت الإقرار فيثبت للمقر له ثم هذا النفي المقارن يوجب ثبوت الملك فيها للمقضي عليه فهو(23/129)
ص -65-…لازم للنفي ولازم الشيء بمعنى حكمه متأخر له والمتأخر عن المقارن للشيء متأخر عن ذلك الشيء فقد اعترف أنها للمقضي عليه بعد ما أتلفها عليه بالإقرار لزيد فيلزمه قيمتها له ا هـ. وحينئذ كما في التلويح لا حاجة إلى ما يقال من أن النهي هنا لتأكيد الإثبات عرفا فيكون له حكم المؤكد لا حكم نفسه فكأنه أقر وسكت أو أنه في حكم المتأخر لأن التأكيد يتأخر عن المؤكد أو أن المقر قصد تصحيح إقراره وذلك بالتقديم والتأخير فيحمل عليه احترازا عن الإلغاء ا هـ وهذه التوجيهات الثلاثة في الكشف "ولو صدقه" أي المقر له "فيه" أي في النفي أيضا "ردت" الدار "للمقضي عليه لاتفاق الخصمين على بطلان الحكم ببطلان الدعوى والبينة وشرط عطفها" أي لكن "الاتساق عدم اتحاد محل النفي والإثبات" ليمكن الجمع بينهما واتصال بعضه ببعض ليتحقق العطف "وهو" أي الاتساق "الأصل فيحمل" العطف "عليه" أي الاتساق "ما أمكن فلذا" أي فلوجوب الحمل عليه ما أمكن "صح" قول المقر له متصلا "لا لكن غصب جواب" قول المقر "له علي مائة قرضا لصرف النفي إلى السبب" أي لإمكان صرف لا إلى كونه قرضا ثم إنه تداركه بكونه غصبا فصار الكلام مرتبطا فلا يكون ردا لإقراره بل نفيا لذلك السبب الخطأ فيه فلا يصرف إلى الواجب الموجب لعدم استقامة الاستدراك وعدم اتساق الكلام وارتباط بعضه ببعض "بخلاف من بلغه تزويج أمته بمائة" فضولا "فقال: لا أجيز النكاح ولكن" أجيزه "بمائتين" فإنه لا يمكن حمله على الاتساق لأن اتساقه أن لا يصح النكاح الأول بمائة لكن يصح بمائتين وهو غير ممكن لأنه لما قال: لا أجيز النكاح انفسخ النكاح الأول فلا يمكن إثباته بعينه بمائتين "للاتحاد" أي اتحاد محل النفي والإثبات حينئذ "لنفي أصل النكاح" بقوله لا أجيز النكاح "ثم ابتدائه بقدر آخر بعد الانفساخ" فيحمل لكن أجيزه بمائتين على أنه كلام مستأنف فيكون إجازة لنكاح آخر مهره مائتان "بخلاف لا أجيز" النكاح "بمائة لكن"(23/130)
أجيزه "بمائتين لأن التدارك في قدر المهر لا أصل النكاح" حينئذ فيكون متسقا.
مسألة
"أو قبل مفرد لإفادة أن حكم ما قبلها ظاهر لأحد المذكورين" اسمين كانا أو فعلين "منه" أي مما قبلها "وما بعدها" وسيظهر فائدة قوله ظاهرا "ولذا" أي ولكونها لإفادة هذا "عم" أو "في النفي وشبهه" كالنهي "على الانفراد" لأن انتفاء الواحد المبهم لا يتصور إلا بانتفاء المجموع ففي "لا تطع آثما أو كفورا لا أكلم زيدا أو بكرا منع" المخاطب والحالف "من كل" لأن التقدير لا تطع "واحدا منهما" ولا أكلم واحدا منهما وهو نكرة في سياق النهي والنفي فيعم "لا" أن التقدير لا تطع ولا أكلم "أحدهما ليكون معرفة" فلا يعم "وحينئذ" كان التقدير واحدا منهما "لا يشكل بلا أقرب ذي أو ذي" حيث "يصير موليا منهما" لأنه في معنى واحدة منهما وهي نكرة في سياق النفي فتعمهما "فتبينان" معا عند انقضاء مدة الإيلاء من غير فيء "وفي إحداكما من إحداهما" أي ولا يشكل بصيرورته موليا من إحدى زوجتيه المخاطبتين بلا أقرب إحداكما لا منهما جميعا حتى لو مضت مدة الإيلاء من غير فيء تبين إحداهما لا هما(23/131)
ص -66-…لأن إحداكما معرفة غير عامة "بخلافه" أي العطف "بالواو" كلا أكلم زيدا وعمرا "فإنه" أي الحلف على المتعاطفين بها منع "من الجمع" لأنها موضوعة له فيتعلق بالمجموع "لعموم الاجتماع فلا يحنث بأحدهما إلا بدليل" يدل على أن المراد امتناعه من كل منهما فحينئذ يحنث بأحدهما "كلا يزني ويشرب" الخمر فإنه يحنث بكل منهما للقرينة الحالية الدالة على أن المراد امتناعه من كل منهما وهو حرمته في الشرع "أو يأتي بلا" الزائدة المؤكدة للنفي مثل ما رأيت "لا زيدا ولا بكرا ونحوه" والحاصل أنه إن قامت قرينة في الواو على شمول العدم فذاك وإلا فهو لعدم الشمول وأو بالعكس "وتقييده" أي كون الدليل يدل على أن المراد المجموع "بما إذا كان للاجتماع تأثير في المنع" أي في منع المانع للحالف من تناول المتعاطفين كما إذا حلف لا يتناول السمك واللبن فإن للاجتماع هنا تأثيرا في المنع كما ذكره صدر الشريعة "باطل بنحو لا أكلم زيدا وعمرا وكثير" مما هو لنفي المجموع مع أنه لا تأثير للاجتماع في المنع "والعموم بأو في الإثبات كلا أكلم أحدا إلا زيدا أو بكرا" فيحنث بتكليم من عداهما لا بتكليمهما ولا بتكليم أحدهما "من خارج" وهو الإباحة الحاصلة من الاستثناء من الحظر لأنها إطلاق ورفع قيد "فهي" أي أو "للأحد فيهما" أي النفي والإثبات "فما قيل" أي قول فخر الإسلام وموافقيه أو "تستعار للعموم تساهل" فإن ظاهره أن العموم معنى لها وليس كذلك "بل يثبت" العموم "معها لا بها وليست في الخبر للشك أو التشكيك" كما ذكره القاضي أبو زيد وأبو إسحاق الإسفراييني في جماعة من النحاة وستعلم الفرق بينهما "لا لأن الوضع للإفهام وهو" أي الإفهام "منتف لأنه إن أريد إفهام المعين" أي غير الأحد الدائر كما في جاء زيد "منعنا الحصر" أي لا نسلم أن الوضع لا يكون إلا لإفهام المعين وإلا انتفى الإجمال حينئذ وهو باطل "أو مطلقا" يعني سواء كان مبهما أو معينا "لم يفد" في المطلوب شيئا(23/132)
وهو أن أو ليست للتشكيك أو الشك "بل" إنما لم تكن للشك أو التشكيك "لأن المتبادر أولا إفادة النسبة إلى أحدهما" أي أحد المذكورين فيفهم السامع من جاء زيد أو عمرو نسبة المجيء إلى أحدهما غير عين "ثم ينتقل" الذهن بعد ذلك "إلى كون سبب الإبهام أحدهما" أي الشك إن لم يكن المتكلم عالما وقت الحكم بمجيء أحدهما عينا أو التشكيك إن كان عالما بذلك عينا وإنما أراد أن يلبس على السامع "فهو" أي الشك أو التشكيك الناشئ عن المتكلم إنما هو مدلول "التزامي عادي" للكلام "لا عقلي" قال المصنف: إذ لا يمكن انفكاكهما بأن يستفيد السامع نسبة المجيء إلى أحدهما مبهما من غير أن ينتقل ذهنه إلى سبب الإبهام وهذا معنى قوله "لإمكان عدم إخطاره" فالمصنف مساعد على أنها في الخبر ليست للشك ولا للتشكيك لا على الوجه الذي ذكروه "وعنه" أي كون الشك أو التشكيك مدلولا التزاميا عاديا لأو "تجوز بأنها للشك" بعلاقة التلازم العادي بينهما حينئذ "وقد يعلم بخارج التعيين" لمتعلق الحكم المذكور "فيكون للإنصاف" أي إظهار النصفة حتى إن كل من سمعه من موال أو مخالف يقول لمن خوطب به: قد أنصفك المتكلم نحو قوله تعالى: "{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ} [سبأ: 24] الآية" أي {لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي وإن أحد الفريقين من الموحدين(23/133)
ص -67-…المتوحد بالرزق والقدرة الذاتية بالعبادة والمشركين به الجماد النازل في أدنى المراتب الإمكانية لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال المبين وهو بعد ما تقدم من التقرير البليغ الدال على من هو على الهدى ومن هو في الضلال أبلغ من التصريح لأنه في صورة الإنصاف المسكت للخصم المشاغب ثم عطف على قوله قبل مفرد قوله "وقبل جملة" يعني وأو قيل جملة "لأن الثابت" أي لإفادة أن الثابت "أحد المضمونين وكذا تجوز" أي كما تجوز بأن أو للشك أو للتشكيك وهو تساهل كذلك تجوز "بأنها للتخيير أو الإباحة بعد الأمر" وفيه تساهل أيضا "وإنما هي لإيصال معنى المحكوم به إلى أحدهما فإن كان" المحكوم به "أمرا لزم أحدهما ويتعين" كل من الإباحة والتخيير "بالأصل فإن كان" الأصل "المنع فتخيير فلا يجمع" المخاطب بينهما "كبع عبدي ذا أو ذا" فيبيع أحدهما لا كليهما "أو" كان الأصل "الإباحة فإلزام أحدهما وجاز الآخر بالأصل وفي" قوله لعبيده الثلاثة "هذا حر أو هذا" بأو "وذا" بالواو "قيل: لا عتق إلا بالبيان لهذا أو هذان" لأن الجمع بالواو بمنزلة الجمع بألف التثنية فيتخير بين الأول والأخيرين وهذا قول زفر والفراء ذكره العتابي في جامعه "وقيل: يعتق الأخير" في الحال ويتخير في الأولين يعين أيهما شاء "لأنه كأحدهما وهذا" لأن سوق الكلام لإيجاب العتق في أحد الأولين وتشريك الثالث فيما سبق له الكلام فالمعطوف عليه هو المأخوذ من صدر الكلام لا أحد المذكورين بعينه وهذا هو الذي مشى عليه الجم الغفير "ورجح" والمرجح صدر الشريعة "باستدعاء الأول تقدير حران" لأن الخبر المذكور وهو حر لا يصلح خبرا للاثنين "وهو" أي وتقدير حران "بدلالة" الخبر "الأول وهو" أي الأول "مفرد" وهو غير مناسب هنا لأن العطف للاشتراك في الخبر المذكور أو لإثبات خبر آخر مثله لا لإثبات خبر آخر مخالف له لفظا "ويجاب" والمجيب التفتازاني "بأنها" أي دلالة المذكور على المقدر "تقتضي اتحاد المادة لا(23/134)
الصيغة" بدليل قول محمد في عتاق الزيادات رجل له ثلاثة أعبد فقال: أنتم أحرار أو هذا وهذان مدبران فقوله أو هذا عطف على قوله أنتم وخبره لا يصلح خبرا له وقول الشاعر:
نحن بما عندنا وأنت بما …عندك راض والرأي مختلف
"ولو سلم" أولوية اتحاد الدال والمدلول في الصيغة أيضا "فإنما يلزم" ما ذكره "لو ثنى ما بعد أو" هنا لكنه لم يثن "فالمقدر مفرد في كل منهما" أي هذا وذا إذ التقدير هذا حر أو هذا حر وذا حر ولا يقال يلزم كثرة الحذف لأنا نقول مشترك الإلزام إذ التقدير فيما هو المختار عند المرجح هذا حر أو هذا حر وهذا حر تكميلا للجمل الناقصة بتقدير المثل لأن الحرية القائمة بكل تغاير حرية الآخر ولو سلم فمعارض بالقرب وكون المعطوف عليه مذكورا صحيحا لكن قد أجيب بأن المعطوف بأو في هذا الوجه هو مجموع الثاني والثالث بعد عطف الثالث على الثاني بالواو ولهذا لم يحكم على شيء منهما بما يحكم على الأول بل على المجموع من حيث هو وهذا ما صرح به صاحب الكشاف في بيان معنى الواو في قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد: 3] حيث قال وأما الواو الوسطى فمعناها الدلالة على(23/135)
ص -68-…أنه الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين ومجموع الصفتين الأخريين فإنه جعل المتعدد في حكم الواحد بواسطة الواو فيجب أن يلاحظ فيما نحن فيه جهة الوحدة المعنوية دون التعدد الصوري وحينئذ يصير هذا وهذا في معنى هذان ولا شك أن هذان يقتضي خبرا يطابقه في التثنية وهو حران لا حر وحر "وبأن أو مغيرة" أي ورجح الأول أيضا بأن أو هذا مغير لمعنى هذا حر "فتوقف عليه الأول لا الواو" أي لا أنها مغيرة لما قبلها لأنها "للتشريك" فيقتضي وجود الأول "فلا يتوقف" الأول على قوله وهذا حر "فليس" الثالث "في حيز أو فينزل" ويثبت التخيير بين الأول والثاني بلا توقف على الثالث فيصير معناه أحدهما حر وهذا حر "ويمنع" هذا الترجيح "بأنه" أي قوله وهذا "عطف على ما بعد أو فشرك في حكمه" أي ما بعد أو يعني في "ثبوت مضمون الخبر" الذي هو حر "للأحد منه" أي ما بعد أو "ومما قبله فتوقف" ما قبله "عليه" أي على ما بعده لكونه مغيرا له لأنه لولا هذا التشريك كان له أن يختار الثاني وحده وبعده ليس له ذلك بل يجب اختيار الأول وحده أو الأخيرين معا كما أشار إليه بقوله "ولم يعتق" أحدهم "إلا باختيارهما" فيعتقان "أو الأول" فيعتق وحده "وصار كحلفه لا يكلم ذا أو ذا وذا لا يحنث بكلام أحد الأخيرين" وإنما يحنث بتكليمهما أو تكليم الأول قلت وأفاد في الدراية أن ابن سماعة روى عن محمد كون الطلاق والعتاق كاليمين في هذا الحكم وأن ظاهر الرواية عتق الآخر وطلاق الأخيرة والخيار في الأوليين ثم قال فيها: والفرق عليها بين اليمين والطلاق والعتاق أن أو إذا دخلت بين شيئين تتناول أحدهما نكرة إلا أن في الطلاق والعتاق الموضوع موضع الإثبات فالنكرة فيه تختص بتناول إحداهما فإذا عطف الثالث على إحداهما صار كأنه قال: إحداكما طالق وهذه ولو نص على هذا كان الحكم ما قلنا وفي مسألة اليمين الموضوع موضع النفي فتعم فيه النكرة وتكون كلمة أو بمعنى لا قال الله تعالى: {وَلا تُطِعْ(23/136)
مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الانسان: 24] أي ولا كفورا فصار كأنه قال: لا أكلم فلانا ولا فلانا فلما عطف الثالث صار كأنه قال: ولا هذين ولو نص على هذا كان الحكم هكذا فكذا هنا ذكره الإمام قاضي خان ولأنه حينئذ صار كأنه قال: هذه طالق أو هاتان طالق وإنه لا يصح فجعل كأنه قال: هذه طالق أو هذه طالق وهذه ليصح ولو قال هكذا تطلق الثالثة وخير في الأوليين فكذا هذا وثم صار كأنه قال: لا أكلم فلانا هذا ولا أكلم هذين وأنه صحيح ا هـ إلا أن على هذا كما قال بعض شارحي أصول فخر الإسلام لو قال: أعتقت هذا أو هذا وهذا ينبغي أن يعتق أحد الأولين والثالث ثم قال: ولو قيل في الفرق بينهما إن اليمين عقدت لتحريم الكلام فإما أن يكون المراد لا أكلم هذين وهذا أو لا أكلم هذا أو هذين والثاني أولى للاحتياط لأنه متى حرم عليه أن يتكلم مع هذا أو هذين فقد حرم عليه أن يتكلم مع أحد هذين وهذا لأنه متى تكلم مع أحد هذين وهذا فقد تكلم مع الأول والثالث أو الثاني والثالث فوجد التكلم مع الأول أو مع الثاني والثالث لكان حسنا والاحتياط في مسألة العتق في عدم الحرمة ثم لما توهم بعض المعتزلة منع التكليف بواحد مبهم من أمور معينة ظنا منه أن ذلك مجهول والمجهول لا يكلف به حتى ذهب إلى أن الواجب الجميع ويسقط بواحد وكان هذا من(23/137)
ص -69-…لوازم الكلام في التخيير أشار المصنف إلى رده فقال: "ومنع صحة التكليف مع التخيير فحكم بوجوب خصال الكفارة" التي هي الإطعام والكسوة والتحرير "ويسقط" وجوبها "بالبعض" منع "بلا موجب لأن صحته" أي التكليف "بإمكان الامتثال وهو" أي إمكانه "ثابت مع التخيير لأنه" أي الامتثال "بفعل إحداها" أي الخصال وسيأتي الكلام في هذه في موضعها إن شاء الله تعالى "والإنشاء كالأمر" فيكون أو فيه للتخيير أو الإباحة "فلذا" أي لكون أو للتخيير أو الإباحة بعد الإنشاء "وعدم الحاجة" إلى أو أو إلى تحمل الجهالة "أبطل أبو حنيفة التسمية وحكم مهر المثل في التزوج على كذا أو كذا لأنه جهالة لا حاجة إلى تحملها إذا كان له" أي للنكاح "موجب أصلي" معلوم وهو مهر المثل "وصححاه" أي أبو يوسف ومحمد ما اشتمل عليه التخيير من المسمى "إن أفاد التخيير" بأن وقع بين أمرين مختلفين في كل منهما نوع يسر وذلك "باختلاف المالين حلولا وأجلا" كعلي ألف حالة أو ألفين إلى وقت كذا لتردد اليسر بينهما باعتبار الحلول في أحدهما والزيادة في الآخر "أو جنسا" كعلي ألف درهم أو مائة دينار لتردد اليسر بينهما باعتبار القدرة حينئذ على أحدهما دون الآخر فيتخير الزوج في الفصلين في أداء أيهما شاء عملا بكلمة التخيير بقدر الإمكان "وإلا" إن لم يفد التخيير بأن وقع بين أمرين ليس في كل منهما نوع يسر بل اليسر متعين في أحدهما كعلي ألف أو ألفين "تعين الأقل" لتعين الرفق فيه ومعلوم بالبديهة أنه يختاره وكيف لا وقد أحضرت الأنفس الشح هذا وذكر المال في النكاح ليس من تمامه ومن ثمة لا يتوقف عليه بل هو بمنزلة التزام مال ابتداء من غير عقد فيجب القدر المتيقن "كالإقرار والوصية والخلع والعتق" بأن أقر لإنسان أو أوصى له بألف أو ألفين أو خالعها أو أعتقها على ألف أو ألفين "ولزوم الموجب الأصلي" المعلوم وهو مهر المثل في النكاح إنما هو "عند عدم تسمية ممكنة" وهي هنا متحققة فلا يلزم(23/138)
الموجب الأصلي وهذا ترجيح ظاهر لقولهما فلا يضرهما الفرق لأبي حنيفة بين هذه ومسألة الإقرار وما معها بأنه إنما وجب الأقل فيها لأنه ليس فيها موجب أصلي معلوم يعارض المسمى كما في هذه بدليل جوازها بلا عوض وعدم وجوب شيء عند الإطلاق فوجب اعتبار المسمى بالضرورة.
تنبيه: ثم معنى تحكيم أبي حنيفة رحمه الله مهر المثل في هذه الصور أنه ينظر إلى مقدار مهر المثل فإن كان ألفي درهم أو أكثر فإن شاءت أخذت الألف الحالة أو الألفين عند حلول الأجل لأنها التزمت أحد وجهي الحظ إما القدر وإما الأجل وإن كان أقل من ألف درهم فأيهما شاء أعطاها وإن كان بينهما كان لها مهر المثل وفي باقي الصور إن كان مهر مثلها مثل الأقل أو أقل منه يجب الأقل وإن كان مثل الأكثر أو أكثر منه يجب الأكثر وإن كان بينهما يجب مهر المثل.
"وفي وكلت هذا أو هذا" مشيرا إلى رجلين ببيع هذا العبد أو شرائه "صح" التوكيل لأحدهما بذلك "لإمكان الامتثال بفعل أحدهما" ولا يشترط اجتماعهما على ذلك "ولا يمتنع(23/139)
ص -70-…اجتماعهما" عليه أيضا "فهو تسوية ملحق بالإباحة بخارج للعلم" بأنه إذا رضي برأي أحدهما فهو "برأيهما أرضى بخلاف بع ذا أو ذا" مشيرا إلى عبدين مثلا "يمتنع الجمع" بينهما في البيع "لانتفائه" أي الرضا ببيعهما جميعا "والقياس البطلان في هذه طالق أو هذه لإيجابه" الطلاق "في المبهم ولا يتحقق" الطلاق "فيه" أي المبهم "لكنه" أي هذه طالق وكذا هذه حرة "شرعا إنشاء عند عدم احتمال الإخبار بعدم قيام طلاق إحداهما وعدم حريتها" أي إحداهما "في هذه حرة أو هذه موجب للتعيين" وهو بالرفع صفة إنشاء حال كون التعيين "إنشاء من وجه لأن به" أي التعيين "الوقوع فلزم قيام أهليته ومحليتهما عنده" أي التعيين لأن الإنشاء لا بد له من أهلية المنشئ ومحلية المنشأ "فلا يعين" المطلق وكذا المعتق "الميت" لانتفاء المحلية فيه "واعتباره" أي ولزم اعتبار الإنشاء "في التهمة فلم يصح تزوج أخت المعينة من المدخولتين" وحال كون التعيين "إخبارا من وجه" لأن الصيغة صيغة إخبار "فأجبر عليه" أي البيان إذ لا جبر في الإنشاءات بخلاف الإقرار فإنه لو أقر بمجهول صح وأجبر على بيانه "واعتبر" الإخبار "في غيرهما" أي المدخولتين "فصح ذلك" أي تزوج أخت المعينة قال المصنف رحمه الله: وحاصل الصورتين إذا طلق إحداهما بغير عينها ولم يكن دخل بهما ثم تزوج أخت إحداهما ثم بين الطلاق في أخت المتزوجة جاز النكاح اعتبارا له إظهارا لعدم التهمة إذ يمكن إنشاء الطلاق في التي عينها وتزوج أختها ولو كان دخل بهما لا يجوز نكاح الأخت لقيام العدة فاعتبر إنشاء وإنما لم يجز للتهمة المحققة فيه لأنه لا يملك تزوجها في الحال بإنشاء الطلاق لمكان العدة إذ لا تتزوج الأخت في عدة الأخت فإن قيل: يشكل على كون أو للتخيير في الإنشاء آية المحاربة فإنها مشتملة على أو في الإنشاء مع أنكم لم توجبوا التخيير فيما اشتملت عليه من الحكم قلنا إنما يشكل لو لم يكن صارف عن ذلك وليس كذلك بل نقول "وترك(23/140)
مقتضاها" أي أو وهو التخيير "للصارف" عن العمل به "لو لم يكن أثر" مفيد لمخالفته أيضا "وهو" أي الصارف "أنها" أي آية المحاربة "أجزية بمقابلة جنايات لتصور المحاربة بصور أخذ" للمال المعصوم فقط "أو قتل" للنفس المعصومة فقط "أو كليهما" أي أخذ وقتل "أو إخافة" للطريق فقط "فذكرها" أي الأجزية "متضمن ذكرها" أي الجنايات ضرورة أنها أجزيتها "ومقابلة متعدد بمتعدد ظاهر في التوزيع وأيضا مقابلة أخف الجنايات بالأغلظ وقلبه" أي مقابلة أغلظ الجنايات بالأخف "ينبو عن قواعد الشرع" وكيف لا وقد قال تعالى "{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] فوجب القتل بالقتل وقطع اليد" اليمنى "والرجل" اليسرى "بالأخذ" للمال المعصوم إذا أصاب كلا منهم نصابا ومالك شرط كون المأخوذ نصابا فصاعدا أصاب كلا نصاب أو لا وإنما قطعتا معا في الأخذ مرة واحدة بخلاف السرقة لأن هذا الأخذ أغلظ من أخذ السرقة حيث كان مجاهرة ومكابرة مع إشهار السلاح فجعلت المرة منه كالمرتين من غير اشتراط تعدد النصاب مرتين لأن الغلظ في هذه الجناية من جهة الفعل لا من جهة متعلقه الذي هو المال "والصلب" حيا ثم يبعج بطنه برمح حتى يموت كما عن الكرخي وغيره أو بعد القتل كما عن الطحاوي وهو الأصح وأيا ما كان بعد قطع يده ورجله من خلاف أولا(23/141)
ص -71-…أو القتل بلا صلب ولا قطع على حسب اختيار الإمام كما هو مذهب أبي حنيفة وزفر "بالجمع" بين القتل والأخذ بناء على أنه اجتمع في فعله تعدد الجناية من حيث الصورة واتحادها من حيث إن المجموع قطع الطريق فبالنظر إلى تعددها يستحق جزاءين مناسبين للجنايتين وهما القطع المناسب للأخذ والقتل المناسب للقتل وإلى اتحادها يستحق جزاء واحدا فيتخير الإمام في ذلك وقالا: لا بد من الصلب "والنفي" من الأرض أي الحبس "بالإخافة فقط فأثر أبي يوسف عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم وادع إلى آخره" أي أبا بردة هلال بن عويمر الأسلمي فجاء أناس يريدون الإسلام فقطع عليهم أصحاب أبي بردة الطريق فنزل جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحد أن من قتل وأخذ المال صلب ومن قتل ولم يأخذ المال قتل ومن أخذ مالا ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف ومن جاء مسلما هدم الإسلام ما كان منه في الشرك. وفي رواية عطية عن ابن عباس: ومن أخاف الطريق ولم يقتل ولم يأخذ المال نفي. "على وفقه" أي الصارف "زيادة لا يضرها التضعيف" بمحمد بن السائب الكلبي لاتهامه بالكذب "فكيف ولا ينفي" التضعيف "الصحة في الواقع" لجواز إجادة الضعيف في خصوص مروي "فموافقة الأصول" أي الأثر لها "ظاهر في صحتها" أي الزيادة التي هي الأثر المذكور وهو الذي عناه بقوله آنفا لو لم يكن أثر "وإذ قبلت" أو "معنى التعيين كالآية" أي آية المحاربة "وصورة الإنصاف" كـ{إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} "وجب" المعين الذي هو المجازي "في تعذر الحقيقي" الذي هو أحد الشيئين أعم من كل منهما معينا لأنه أولى من إلغاء الكلام وإبطاله وصار كما لو قال ذلك في عبدين له فإنه يجبر على التعيين بخلاف ما إذا قاله في عبده وعبد غيره فإنه لا يتعين عتق عبده لأن عبد الغير محل لإيجاب العتق أيضا لكنه موقوف على إجازة المالك "فعنه" أي وجوب المجازي(23/142)
عند تعذر الحقيقي "قال" أبو حنيفة: "في هذا حر أو ذا لعبده ودابته يعتق" عبده "وألغياه لعدم تصور حكم الحقيقة" وهو عتق أحدهما غير عين لأنه ليس بمحل للإيجاب ضرورة أن أحدهما وهو الدابة ليس بمحل له شرعا وبدون صلاحية المحل لا يصح الإيجاب كذا في أصول شمس الأئمة وغيرها وهو يشير إلى أنه لا يعتق العبد عندهما بالنية أيضا لأن اللغو لا حكم له أصلا وفي مبسوطه يعتق ثم هذا منهما تفريع على أن المجاز خلف عن الحقيقة في الحكم "كما هو أصلهما" فلما لم ينعقد هنا الإيجاب للحكم في المبهم بطل في المعين كما عندهما في هذا ابني للأكبر منه سنا "لكن" يرد "عليه" أي أبي حنيفة "أنهم يمنعون التجوز في الضد" شرعا "والمعين ضد المبهم بخلاف ابني للأكبر لا يضاد حقيقيه مجازيه وهو العتق فالوجه أنها" أي أو "دائما للأحد وفهم التعيين أحيانا بخارج من غير أن يستعمل فيه" فالتعيين في {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً} الآية من علم المراد من خارج لا أن أو استعملت فيه والتعيين في قوله لعبده ودابته هذا حر أو ذا بخارج وهو لزوم صون عبارة العاقل ما أمكن وقد أمكن إذ عرف أن أو تقع في موقع يتعين فيه المراد ذكره المصنف هذا وقال بعض شارحي أصول البزدوي: ويجوز أن يفصل في مسألة الدابة وما يشاكلها تفصيل مليح وهو أن(23/143)
ص -72-…يقال لو قدم الإشارة إلى العبد يعتق العبد ويلغو العطف وإن قدم الإشارة إلى الدابة لا يعتق العبد لأن المحل غير صالح للعتق أصلا فيلغو الكلام الأول فيصير وجوده كعدمه وإذا صار وجوده كعدمه فقوله أو هذا لم يفد شيئا كما لو استأنفه ا هـ وفيه نظر فليتأمل.
مسألة
"تستعار" أو "للغاية" أي للدلالة على أن ما بعدها غاية لما قبلها وهي ما ينتهي أو يمتد إليه الشيء "قبل مضارع منصوب وليس قبلها" أي أو "مثله" أي مضارع منصوب بل فعل ممتد يكون كالعام في كل زمان ويقصد انقطاعه بالفعل الواقع بعد أو "كلألزمنك أو تعطيني" حقي إذ المراد أن ثبوت الإلزام ممتد إلى غاية هي وقت إعطاء الحق كما لو قال: حتى تعطيني حقي ومن ثمة ذهب النحاة إلى أن أو هذه بمعنى إلى أن لأن الفعل الأول ممتد إلى وقوع الثاني أو إلا أن لأن الفعل الأول ممتد في جميع الأوقات إلا وقت وقوع الفعل الثاني فعنده ينقطع ومن هذا تظهر المناسبة بين أو والغاية فإن أو لأحد المذكورين وتعيين كل منهما باعتبار الخيار قاطع لاحتمال الآخر كما أن الوصول إلى الغاية قاطع للفعل "وليس منه" أي من أو للغاية قوله تعالى "{أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [آل عمران: 128]" كما ذكره صدر الشريعة تبعا للفراء حيث قال: إن أو هنا بمعنى حتى لأنه لو كان على حقيقته فإما أن يكون معطوفا على شيء أو على ليس والأول عطف الفعل على الاسم والثاني عطف المضارع على الماضي وهو ليس بحسن لاختلافهما حدا وحكما فسقطت حقيقته واستعير لما يحتمله وهو الغاية لما ذكرنا أي ليس لك من الأمر في عذابهم أو استصلاحهم شيء حتى تقع توبتهم أو تعذيبهم "بل عطف على يكبتهم" كما صرح به جماعة منهم البيضاوي والنسفي أو يقطع كما صرح به أبو البقاء وكلام صاحب الكشاف يحتمل كلا منهما فإنه قال: أو يتوب عطف على ما قبله فلا جرم أن قال المحقق التفتازاني عطف على ليقطع أو ليكبت ثم قال: ووجه سببية النصر على تقدير تعلق اللام بقوله {وَمَا(23/144)
النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ظاهر وأما على تقدير تعلقها بقوله {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ} فلأن النصر الواقع ببدر كان من أظهر الآيات وأبهر البينات فيصلح سببا للتوبة على تقدير الإسلام أو لتعذيبهم على تقدير البقاء على الكفر لجحودهم بالآيات وإن أريد التعذيب في الدنيا بالأسر فالأمر ظاهر فإن قيل: هو يصلح سببا لتوبتهم والكلام في التوبة عليهم قلنا يصلح سببا لإسلامهم الذي هو سبب للتوبة عليهم فيكون سببا لها بالواسطة واستشكل الفاضل علاء الدين البهلوان سببية النصر للتعذيب بأن موتهم على الكفر سبب لتعذيبهم لا النصر للمؤمنين، وأجيب بأن النصر سبب لكونهم مقتولين على الكفر، وهو سبب للتعذيب قالوا: والمعنى أن الله مالك أمرهم فإما أن يهلكهم أو يهزمهم أو يتوب عليهم إن أسلموا أو يعذبهم إن أصروا على الكفر وليس لك من أمرهم شيء إنما أنت عبد مبعوث لإنذارهم ومجاهدتهم "وليس ومعمولاها" وهما لك شيء مع الحال من شيء وهو من الأمر ما نص عليه أبو البقاء "اعتراض" بين المعطوف الذي هو التوبة والتعذيب المتعلق بالآجل والمعطوف عليه الذي هو القطع والكبت وهو شدة الغيظ أو وهن يقع في القلب المتعلق(23/145)
ص -73-…بالعاجل فمن ثمة قيل ما أحسنه وإنما لم تكن هذه الآية من أمثلة أو بمعنى حتى أو إلى "لما في ذلك" أي جعلها للغاية "من التكلف مع إمكان العطف" إما على يقطع أو يكبت كما ذكرنا وإما على الأمر أو شيء بإضمار أن من عطف الخاص على العام مبالغة في نفي الخاص أي ليس لك من أمرهم أو التوبة عليهم أو من تعذيبهم شيء أو ليس لك من أمرهم شيء أو التوبة عليهم أو تعذيبهم كما ذكر صاحب الكشاف ثم البيضاوي ولم يتعقباه وقد ظهر من هذا أن عطف يتوب على شيء من عطف الاسم في المعنى على الاسم نعم تعقبه التفتازاني بلكن في مثل هذا العطف بكلمة أو نظر ا هـ وبينه البهلوان بأن عطف الخاص على العام بأو عزيز في كلام العرب بخلاف العكس كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [آل عمران: 135] وأن كون الضمير في يتوب الله لا يساعد المعنى المذكور والعبد الضعيف غفر الله تعالى له يقول: وأنت إذا تأملت هذه الجملة رأيت أن العطف لا يخلو من شائبة وأن التكلف فيه لا في كونها بمعنى حتى أو إلا أن كما ذكره غير واحد وعزاه بعضهم إلى سيبويه والمعنى ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب عليهم فتفرح بحالهم أو يعذبهم فتتشفى منهم وأن ارتكاب مجازيته عن حتى ولا سيما على قول الكوفيين إن حتى هي الناصبة أولى من العطف والله تعالى أعلم.
مسألة
"حتى جارة" كإلى إلا أن بينهما فروقا تعرف في كتب العربية "وعاطفة" يتبع ما بعدها لما قبلها في الإعراب "وابتدائية" أي ما بعدها كلام مستأنف لا يتعلق من حيث الإعراب بما قبلها لا أنها يجب أن يليها المبتدأ أو الخبر بل هي صالحة لهما فتقع "بعدها جملة بقسميها" فعلية بقسميها: من المضارع والماضي نحو: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} بالرفع كما هو قراءة نافع {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا} وقالوا كما هو الصحيح واسمية مذكور خبرها نحو:(23/146)
فما زالت القتلى تمج دماءها …بدجلة حتى ماء دجلة أشكل
ومحذوف بقرينة الكلام السابق كما سيأتي "وصحت" الوجوه الثلاثة "في أكلت السمكة حتى رأسها" فتجر على أنها جارة وتنصب على أنها عاطفة على السمكة وترفع على أنه مبتدأ خبره محذوف وهو مأكول لقرينة الكلام السابق عليه على أنها ابتدائية ذكره ابن هشام وغيره وتعقب بأن هذا على مذهب الكوفيين وإلا فالبصريون على منع الرفع في هذه الصورة لأنه إنما يجوز عندهم رفع ما بعدها على الابتداء إذا كان بعده ما يصلح أن يكون خبرا له قالوا: ولم يسمع من كلام العرب أكلت السمكة حتى رأسها بالرفع وإنما محل الوجوه الثلاثة اتفاقا أكلت السمكة حتى رأسها أكلته قيل وقد روي بالأوجه الثلاثة:
عممتهم بالندى حتى غواتهم …فكنت مالك ذي غي وذي رشد
فإن صح الرفع في غواتهم ترجح وجه جواز الرفع في المثال المذكور وأما دخول(23/147)
ص -74-…الرأس في الأكل فيه وعدمه فستعلم ما فيه على الأثر من هذا "وهي" أي حتى "للغاية" وتقدم قريبا معناها "وفي دخولها" أي الغاية فيما قبلها حال كونها "جارة" أربعة أقوال: أحدها لابن السراج وأبي علي وأكثر المتأخرين من النحويين تدخل مطلقا ثانيها لجمهور النحويين وفخر الإسلام وموافقيه لا تدخل مطلقا "ثالثها" للمبرد والفراء والسيرافي والرماني وعبد القاهر "إن كان" ما جعل غاية "جزءا" مما قبله "دخل" وإلا لم يدخل "رابعها لا دلالة" على الدخول ولا على عدمه "إلا للقرينة" وهو ظاهر ما عن ثعلب حتى للغاية والغاية تدخل وتخرج يقال: ضربت القوم حتى زيد فيكون مرة مضروبا ومرة غير مضروب ويظهر من ابن مالك موافقته قال المصنف: "وهو" أي هذا القول "أحد" القولين "الأولين إلا أن يراد" بهذا "أنها" دالة "على الخروج" لما بعدها عما قبلها "كما" هي دالة "على الدخول" لما بعدها "فيما قبلها وفيه" أي وفي كون هذا مرادا منها على هذا القول "بعد" ظاهر وكيف لا وأقل ما فيه أنه قول بكونها مشتركة بينهما والأصل عدمه ولم يعرف له قائل ثم الذي يظهر أنه ليس بأحد الأولين فإن الظاهر أن معنى الأول وهو أن مدلول حتى دخول ما بعدها فيما قبلها مطلقا من غير توقف على قرينة فيحكم بالدخول حيث لا قرينة على خلافه ومعنى الثاني هو أن مدلول حتى عدم دخول ما بعدها فيما قبلها مطلقا إلا بقرينة تفيد الدخول فيحكم بعدم الدخول حيث لا قرينة على الدخول وأن معنى الرابع وهو أنه لا دلالة لحتى على دخول ولا على عدمه بل الدال على أحدهما القرينة فحيث لا قرينة عليه يحكم بعدم الدخول بالأصل لا باللفظ إذا احتجنا إلى الحكم وإلا لا يحكم بشيء وإنما يجوز كل منهما تجويزا "والاتفاق على دخولها" أي الغاية فيما قبلها "في العطف" بحتى لأنها بمعنى الواو فتفيد الجمع في الحكم "وفي الابتدائية بمعنى وجود المضمونين في وقت وشرط العطف البعضية" أي كون ما بعدها بعضا مما قبلها كقدم الحاج(23/148)
حتى المشاة وأكلت السمكة حتى رأسها "أو نحوه" نحو قتل الجند حتى دوابهم وخرج الصيادون حتى كلابهم وأعجبتني الجارية حتى حديثها ويمتنع حتى ولدها وضبط ما هو كالجزء مما قبلها بما يلازمه فالولد لا يلازم الجارية إذ لا يلزم أن يكون لكل جارية ولد بخلاف الحديث فإنه يلازمها والدواب فإنها تلازم الجند والكلاب فإنها تلازم الصيادين وخالف الفراء في هذا الشرط فأجاز إن كلبي ليصيد الأرانب حتى الظباء والظباء ليست بعض الأرانب ولا كبعضها قال الصفار: وهذا خطأ عند البصريين "فامتنع جاء زيد حتى بكر" كما نص عليه ابن يعيش "وفي كونها" أي العاطفة "للغاية" كما ذكره غير واحد "نظر" لأنه ليس للعطف غاية إذ هي ليست إلا منتهى الحكم المذكور في الجملة قبلها ومن ثمة ذهب الكوفيون إلى منع العطف بها وتأولوا ما ظاهره ذلك "وكونه" أي المعطوف "أعلى متعلق للحكم" كمات الناس حتى الأنبياء "أو أحط" متعلق له كاستنت الفصال حتى القرعى مثلا يضرب لمن يتكلم مع من لا ينبغي التكلم بين يديه لجلالة قدره أي عدت مرحا حتى الفصلان التي بها قرع وهو بثر أبيض يخرج بها وهي الطرف الأدنى منها والطرف الأعلى الفصال السليمة النشيطة "ليس مفهوم الغاية إذ ليس" مفهومها "إلا منتهى الحكم ولا يستلزم"(23/149)
ص -75-…كون المعطوف أعلى أو أحط "كونه منتهى وفي" أكلت السمكة "حتى رأسها بالنصب" كون الرأس "منتهى الحكم" الذي هو الأكل أمر "اتفاقي" وقوعه في هذه الصورة "لا مدلولها" أي لا أن حتى تدل عليه فلا يطرد "وهو" أي كون العطف لا غاية معه "ظاهر القائل" وهو صاحب البديع حتى "للغاية وللعطف وهو" أي هذا القول هو "الحق" لما ذكرنا آنفا "وتأويله" أي كون ما بعدها غاية لما قبلها إذا كانت عاطفة بأن ينقضي شيئا فشيئا حتى ينتهي إلى المعطوف "في اعتبار المتكلم" لا بحسب الوجود نفسه إذ قد يجوز أن يتعلق الحكم بالمعطوف أولا كما في قولك مات كل أب لي حتى آدم أو في الوسط كما في مات الناس حتى الأنبياء كما في التلويح "تكلف ينفيه الوجدان إذ لا يجد المتكلم اعتباره كون الموت تعلق شيئا فشيئا إلى أن انتهى إلى آدم عليه السلام في مات الآباء حتى آدم وكثير إلا أن قوله" أي القائل حتى للعطف والغاية ما معناه "وقد تعطف تاما أي جملة" وإلا فلفظه وقد يعطف بها تامة أي جملة مصرح بجزأيها "ممثلا بضربت القوم حتى زيد غضبان خلاف المعروف" بل المعروف عطفها المفرد لما تقدم من شرط عطفها إذ لا يتأتى ذلك إلا في المفرد ولأن العاطفة محمولة على الجارة والجارة لا تدخل إلا على الأسماء فكذا العاطفة ثم هذا هو الصحيح كما ذكر ابن هشام فلا جرم أن كان ظاهر كلام فخر الإسلام أنها في هذا وأمثاله ابتدائية ومعنى الغاية فيه أنه ضرب القوم إلى أن غضب زيد وخالف الأخفش فجعلها تعطف الفعل على الفعل ماضيا كان أو مستقبلا إذا كان فيها معنى السبب نحو ضربت زيدا حتى بكى أي فبكى ولأضربنه حتى يبكي أي فيبكي وتظهر ثمرة الخلاف بينه وبين الجمهور في المستقبل فهو يرفعه بالعطف على لأضربنه وهم لا يجيزون فيه إلا النصب "وادعاؤه" أي عطفها الجملة "في حتى تكل مطيهم" على سريت بهم من قول امرئ القيس:
سريت بهم حتى تكل مطيهم…وحتى الجياد ما يقدن بأرسان(23/150)
كما زعمه ابن السيد في رواية رفع تكل "لا يستلزمه" أي جوازه مطلقا قياسا مطردا لأنه فرد شاذ هذا "لو لزم" العطف فيه فكيف "وهو" أي اللزوم فيه "منتف بل" حتى فيه "ابتدائية وصرح في الابتدائية بكون الخبر من جنس" الفعل "المتقدم" ومن المصرحين به الإستراباذي "فامتنع ركب القوم حتى زيد ضاحك بل" إنما يقال حتى زيد "راكب" ومعنى البيت سريت بهم ليلا وامتد بهم السير حتى أعيت الإبل والخيل أيضا فطرحت أرسانها أي حبالها على أعناقها وتركت تمشي من غير احتياج إلى قودها لذهاب نشاطها فهي إذا خليت لم تذهب يمينا ولا شمالا بل سارت معهم فوضع ما يقدن موضع الكلال "ومنه" أي قسم الابتدائية "سرت حتى كلت المطي ويتجوز بالجارة داخلة على الفعل عند تعذر الغاية بأن لا يصلح الصدر" مما قبلها "للامتداد" إلى ما بعدها أي لضرب المدة فيه "وما بعدها للانتهاء" أي دليلا على انتهاء ذلك الأمر الممتد إليه وانقطاعه عنده "في سببية ما قبلها لما بعدها إن صلح" ما قبلها لسببية ما بعدها فمدخول في هو المتجوز فيه قال المصنف: "والوجه" أن يقال يتجوز بها "في سببية أحدهما للآخر" أي ما قبلها لما بعدها وبالقلب "ذهنا أو خارجا لمساعدة المثل"(23/151)
ص -76-…التي هي فيها للسببية على ذلك لأن ما بعدها علة غائبة لما قبلها ومن شأن العلة الغائية كونها علة ذهنا لما هي له معلولة له خارجا وما هي له معلول لها ذهنا علة لها خارجا "كأسلمت حتى أدخل الجنة" فإن الإسلام بمعنى إحداثه لا يحتمل الامتداد وأيضا "ليس" دخول الجنة "منتهاه" أي الإسلام بمعنى إحداثه لانقطاعه دونه وكيف لا وما لا يقبل الامتداد يمتنع أن يلحق بآخره ما يكون غاية له "إلا إن أريد" بالإسلام "بقاؤه" أي الإسلام "وحينئذ" أي وحين يكون المراد به بقاءه "لا يصلح الآخر" أي دخول الجنة "منتهى" له أيضا وكيف والإسلام أكثر وأقوى وبه نيل وتحصل فكيف ينتهي عنده فحتى فيه للسببية لتحقق شرطها ثم كما أن الإسلام في الخارج يصلح أن يكون سببا لدخول الجنة فيعقل دخول الجنة مع العلم باشتراط الإسلام له يصلح أن يكون سببا باعثا عليه "وبه" أي وبأن دخول الجنة لا يصلح منتهى الإسلام وإن كان بمعنى البقاء عليه مما يمتد "رد تعيين العلاقة" بين الغاية والسببية اشتراكهما في "انتهاء الحكم بما بعدها" لأن الفعل الذي هو السبب ينتهي بوجود الجزاء والمسبب كما ينتهي بوجود الغاية على أنه لو صح ذلك لكان حتى للغاية حقيقة حيث احتمل الصدر أعني السبب الامتداد والآخر أعني المسبب الانتهاء إليه والراد الشيخ سعد الدين التفتازاني والمردود لصاحبي الكشفين وغيرهما "واختير" كما هو ظاهر تقريره "أنها" أي العلاقة بينهما "مقصوديته" أي كون ما بعد حتى مقصودا "مما قبله" بمنزلة الغاية من المغيا "وهو" أي هذا الاختيار "أبعد" من الأول "لأنها" أي الغاية "لا تستلزمه" أي كونها المقصود مما قبلها "كرأسها" في أكلت السمكة حتى رأسها فإنه ليس المقصود من أكلها "وغيره" أي وغير رأسها مما جعل غاية لما قبلها مما يعرف بالتتبع لمواردها "والأول" أي كون العلاقة بينهما اشتراكهما في انتهاء الحكم بما بعدها "أوجه" فإن الإسلام بمعنى إحداث إسلام الدنيا غير ممتد وهو(23/152)
صالح لسببية دخول الجنة وكذا الصلاة في صليت حتى أدخل الجنة وعلى هذا فلا حاجة إلى "والدخول منتهى إسلام الدنيا" أي القيام بالتكاليف الإلهية فيها "والصلاة" أي ومنتهى فعلها "في صليت حتى أدخل" الجنة لأن انتفاء كونها للغاية كما يحصل بانتفاء الامتداد والانتهاء يحصل بانتفاء أحدهما ثم حيث لم يكن كل من إحداث الإسلام والصلاة ممتدا فليس دخول الجنة منتهاهما لانقطاعهما قبله إذ الصدر متى لم يقبل الامتداد يمتنع أن يلحق بآخره ما يكون غاية له كما ذكرنا آنفا ولو أريد بالإسلام إسلام الدنيا بمعنى الثبات عليه فكون الدخول منتهاه صحيح لكن يكون فيه حتى للغاية فليتأمل "ومنه" أي كونها للسببية قولك "لآتينك حتى تغديني" لأن الإتيان غير ممتد وحتى تغديني لا يصلح دليلا على الانتهاء بل هو داع إلى زيادة الإتيان فلم يمكن حملها على حقيقة الغاية ثم الإتيان يصلح سببا للغداء والغداء يصلح جزاء له فحمل عليه فيكون المعنى لكي تغديني "فيبر" إذا أتاه "بلا تغد" أي ولم يتغد عنده لأن شرط بره حينئذ الإتيان على وجه يصلح سببا للجزاء بالغداء وقد وجد "بخلاف ما إذا صلح" الصدر للامتداد "فبمعنى إلى" نحو قوله تعالى {قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [طه:91] لأن استمرار إقامتهم على العكوف صالح للامتداد ورجوع موسى(23/153)
ص -77-…إليهم صالح لأن يكون دليلا على الانتهاء "فإن لم يصلح" الصدر "لهما" أي للغاية والسببية "فلعطف مطلق الترتيب" الأعم من كونه بمهلة وبلا مهلة خلافا لابن الحاجب إذ جعلها كثم ولمن قال: لا تستلزم الترتيب أصلا بل قد يتعلق العامل بما بعدها قبل تعلقه بما قبلها وهذا هو المختار في النحو غير أن الاستدلال عليه بقولهم مات الناس حتى آدم إنما يتم إذا ثبت من كلام العرب لا من أهل العرف ذكره المصنف "لعلاقة الترتيب في الغاية وإن كانت" الغاية "بالتعقيب أنسب" منها بالتراخي لأن الغاية لا تتراخى عن المغيا "كجئت حتى أتغدى عندك من مالي لا عقلية لسببيته" أي المجيء "لذلك" أي للغداء عنده من ماله "فشرط الفعلان" المعطوف والمعطوف عليه في البر "للتشريك" أي ليتحقق التشريك بينهما حينئذ "ككونه غاية" أي كما شرط الأمران مما قبلها وما بعدها في البر إذا كانت للغاية لأن الغاية فرع المغيا "كإن لم أضربك حتى تصيح" أو حتى يشفع فلان أو حتى يدخل الليل فكذا فإذا كف قبل هذه الغايات حنث لأن الضرب بالتكرار يحتمل الامتداد في حكم البر وإن لم يحتمله بالنظر إلى ذاته لأنه عرض لا يبقى زمانين والكف عن الضرب يحتمل الامتداد في حكم الحنث وهذه الغايات دلالات على الإقلاع عن الضرب فوجب العمل بحقيقة حتى وهي الغاية فصار شرط الحنث الكف عن الضرب قبل الغاية إما بعدم الضرب أصلا أو بضرب لا يتبعه صياح أو شفاعة أو دخول الليل ثم الشرط وجود الفعلين حال كون المعطوف "معقبا" للمعطوف عليه "ومتراخيا" عنه "فيبر بالتغدي في إتيان ولو" كان التغدي "متراخيا عنه" أي الإتيان في إن لم آتك حتى أتغدى عندك فكذا وكان الأولى ذكره "كما في الزيادات" وشروحها وإنما يحنث إذا لم يتغد متصلا بالإتيان أو متراخيا عنه في جميع العمران أطلق "إلا إن نوى الفور" والاتصال فيبر إذا تغدى عقب الإتيان من غير تراخ وإلا فلا حتى لو لم يأت أو أتى وتغدى متراخيا عنه حنث "وفي المقيد بوقت(23/154)
يلزم أن لا يجاوزه" أي ذلك الوقت "التراخي كإن لم آتك اليوم إلى آخره" أي حتى أتغدى عندك فكذا فإن قيل: الترتيب الأعم من كونه بمهلة أو لا لم يعرف مدلول لفظ أصلا وإنما المعروف مدلول لفظ الترتيب بلا مهلة كما للفاء أو بمهلة كما لثم فكيف يصح التجوز عنه قلنا لا مانع من ذلك لأن الشرط في المجاز وجود مشترك بين المعنى للفظ ومعنى آخر لا يشترط كون ذلك المعنى الآخر وضع له لفظ أصلا كما أشار إليه بقوله "وإذ كان التجوز باللفظ" عن معنى "لا يلزم كونه" أي المعنى المتجوز فيه "في مطابقي لفظ بل ولا معنى لفظ أصلا وإذ لم يشرط في المجاز نقل جاز هذا" المجاز أعني كون حتى لعطف مطلق الترتيب "وإن لم يسمع وباعتباره" أي هذا المجاز "جوزوا" أي الفقهاء "جاء زيد حتى عمرو" إذا جاء عمرو وبعد زيد "وإن منعه النحاة" بناء على ما تقدم من اشتراط كون ما بعدها بعض ما قبلها أو كبعضه "غير أن الثابت" علاقة بين هذا المعنى المجازي والمعنى الحقيقي "عندهم" أي المجوزين "الترتيب" فإنه كما هو ثابت في معناها الحقيقي بين الغاية والمغيا ثابت هنا بين المعطوف والمعطوف عليه وتعقبه بقوله "وتقدم النظر فيه" أي في ثبوت هذا كما بين الغاية والمغيا حال كونها "عاطفة كمات الناس حتى الأنبياء وحتى آدم(23/155)
ص -78-…وأنه لا غاية يلزم فيه" أي في العطف "بل ذلك الغاية" أي الترتيب الكائن بين ما بعدها وما قبلها إنما هو "في الرفعة والضعة" بأن يكون ما بعدها أقوى أجزاء ما قبلها وأشرفها أو أضعفها وأدناها "لا" الغاية "الاصطلاحية منتهى الحكم" وهذا ما قالوا لا يلزم أن يكون ما بعد حتى آخر أجزاء ما قبلها حسا ولا آخرها دخولا في العمل بل قد يكون كذلك وقد لا يكون لكنه يجب فيه أن يكون أقوى الأجزاء إذا ابتدأت من الجانب الأضعف مصعدا نحو مات الناس حتى محمد صلى الله عليه وسلم فهو ليس آخرهم حسا ولا موتا بل آخرهم قوة وشرفا وأضعفها إذا ابتدأت بعنايتك من الجانب الأقوى منحدرا نحو قدم الحاج حتى المشاة ويجوز أن يكونوا قادمين قبل الركبان أو معهم قال نجم الدين الإستراباذي: وأما الجارة فيجوز أن يكون ما بعدها كذلك وأن لا يكون فإذا لم يكن وجب كونه آخر الأجزاء حسا أو ملاقيا له نحو قرأت القرآن حتى سورة الناس وسرت النهار حتى الليل "ولم يلزم الاستثناء بها" أي بحتى أي كونها بمعنى إلا أن استثناء منقطعا كما ذكره ابن مالك وابن هشام الخضراوي ونقله أبو البقاء عن بعضهم في قوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا}[البقرة: 102] بل هي في هذه الآية للغاية كما ذكره جمع منهم أبو حيان وابن هشام المصري والمصنف حيث قال: "وقوله تعالى: {حَتَّى يَقُولا} [البقرة: 102] صحت غاية للنفي كإلى وكذا لا أفعل حتى تفعل" أي إلى أن تفعل وأما قول ابن هشام المصري عن كونها بمعنى إلا ظاهر فيما أنشده ابن مالك من قوله:
ليس العطاء من الفضول سماحة …حتى تجود وما لديك قليل
وفي قوله:
والله لا يذهب شيخي باطلا…حتى أبير مالكا وكاهلا(23/156)
لأن ما بعدها ليس غاية لما قبلها ولا مسببا عنه فأشار المصنف إلى رده بقوله "وقوله حتى تجود وما لديك قليل وحتى أبير مالكا وكاهلا للسببية أو للغاية والله أعلم" إذ معنى البيت الأول كما ذكره المصنف ليس إعطاء الإنساء من الفضول سماحة حتى يعد به المعطي سمحا جوادا إلى أن يتحقق بوصف الإعطاء وما لديه قليل فإن الذي يجود وما لديه قليل هو الذي إعطاؤه من الفضول إذا كانت سماحة وأما الذي لم يتصف بالإعطاء من قليل ليس له سواه إذا أعطى من كثير لا يقال فيه سمح وسماحة وهذا ظاهر في أنها فيه للغاية فلا جرم أن قال المرادى ولا حجة فيه لإمكان جعلها فيه بمعنى إلى ومعنى البيت الثاني لا أترك أخذ ثأر أبي إلى أن أهلك هذين الحيين من أسد فإنهما المتعاضدان على قتله فحينئذ أترك وهذا ظاهر في كونها فيه للغاية أيضا أو أن سبب إبارتهم أن أباه لا يذهب باطلا فإبارتهم سبب عدم ذهابه باطلا في الخارج مسببة له ذهنا فإن تعقل عدم ذهابه باطلا إذ إبارهم سبب داع لإبارتهم وقد ظهر أن الترديد بين أن تكون للسببية والغاية إنما هو بالنسبة إلى البيت الثاني لا غير والله سبحانه وتعالى أعلم.(23/157)
ص -79-…حروف الجر
"مسألة الباء مشكك للإلصاق" أي تعليق الشيء بالشيء وإيصاله به "الصادق في أصناف الاستعانة" أي طلب المعونة بشيء على شيء وهي الداخلة على آلة الفعل ككتبت بالقلم لإلصاقك الكتابة بالقلم "والسببية" وهي الداخلة على اسم لو أسند الفعل المعدى بها إليه صلح أن يكون فاعله مجازا نحو قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [البقرة: 22] إذ يصلح أن يكون الضمير المجرور فاعلا لأخرج فيكون التقدير فأخرج هو أي الماء فيندرج فيها باء الاستعانة كما ذكر ابن مالك إذ يصح أن يقال كتب القلم قال: والنحويون يعبرون عن هذه الباء بباء الاستعانة وآثرت على ذلك باء السببية من أجل الأفعال المنسوبة إلى الله تعالى كقوله تعالى: {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ} [التوبة: 40] فإن استعمال السببية فيها يجوز واستعمال الاستعانة فيها لا يجوز لأن الله تعالى غني عن العالمين "والظرفية" مكانا وزمانا وهي ما يحسن في موضعها في كقوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ} [آل عمران: 123] {نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} "والمصاحبة" وهي ما يحسن في موضعها مع والتعبير عنها وعن مصاحبها بالحال نحو: {قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ} "فإنه" أي الإلصاق "في الظرفية مثلا كقمت بالدار أتم منه" أي الإلصاق "في مررت بزيد فتفريع باء الثمن عليه" أي الإلصاق كما فعل فخر الإسلام تفريع "على النوع" أي نوع الإلصاق الأعم "وعلى الخصوص الإلصاق الاستعانة" أي وأما تفريعها على خصوص من الإلصاق فتفريعها على الاستعانة "المتعلقة بالوسائل دون المقاصد الأصلية" إذ بالوسائل يستعان على المقاصد والمقصود الأصلي من البيع الانتفاع بالمبيع والثمن وسيلة إليه لأنه في الغالب من النقود التي لا ينتفع بها بالذات بل هي بمنزلة الآلات في قضاء الحاجات وأحسن بقول الحسن رحمه الله بئس الرفيق الدرهم والدينار لا ينفعانك(23/158)
حتى يفارقانك "فصح الاستبدال بالكر" من الحنطة "قبل القبض في اشتريت هذا العبد بكر حنطة وصفه" بما يخرجه عن الجهالة من جودة وغيرها لأنه ثمن لدخول الباء عليه فكان كسائر الأثمان في صحة الاستبدال والوجوب في الذمة حالا لأن المكيل مما يثبت في الذمة حالا "دون القلب" أي بعت كرا من الحنطة الموصوفة بكذا على وجه يخرجها من الجهالة بهذا العبد "لأنه" أي القلب "سلم" لأن العبد حينئذ ثمن لدخول الباء عليه والكر مبيع دينا في الذمة والمبيع الدين لا يكون إلا سلما "يوجب الأجل" المعين عند الجمهور منهم أصحابنا "وغيره" كقبض رأس مال السلم في المجلس "فامتنع الاستبدال به" أي بالكر "قبله" أي القبض "وإثبات الشافعي كونها" أي الباء "للتبعيض في امسحوا" برءوسكم "هو الإلصاق مع تبعيض مدخولها وأنكره" أي التبعيض "محققو العربية" منهم ابن جني كما تقدم في المسألة الثانية من المسائل المذيل بها المجمل باصطلاح الشافعية حتى قال ابن برهان النحوي الأصولي: من زعم أن الباء للتبعيض فقد أتى أهل العربية بما لا يعرفونه "وشربت بماء الدحرضين" أي والباء في قول عنترة إخبارا عن الناقة:
شربت بماء الدحرضين فأصبحت …زوراء تنفر عن حياض الديلم(23/159)
ص -80-…"للظرفية" أي شربت الناقة في محل هذا الماء قلت: أو للإلصاق والشرب على ظاهره أو مضمنا معنى رويت كما مشى عليه غير واحد في {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الانسان: 6] ولعل هذا أشبه كما لعل بقية البيت شاهدة بذلك والدحرضان ماءان: يقال لأحدهما وشيع وللآخر الدحرض فغلب في التثنية وقيل ماء لبني سعد وقيل بلد والزوراء المائلة والديلم نوع من الترك ضربهم مثلا لأعدائه يقول هذه الناقة تتجانف عن حياض أعدائه ولا تشرب منها وقيل الديلم: أرض "وشربن بماء البحر" أي والباء في هذا البيت وقد سبق في المسألة المشار إليها "زائدة وهو" أي كونها زائدة "استعمال كثير متحقق" كما يشهد به التتبع "وإفادة البعضية لم تثبت بعد" معنى مستقلا لها "فالحمل عليه" أي كونها زائدة "أولى" من الحمل على البعضية كما هو ظاهر "مع أنه لا دليل" على البعضية "إذ المتحقق علم البعضية ولا يتوقف" علمها "على الباء العقلية أنها" أي الناقة "لم تشرب كل ماء الدحرضين ولا استغرقن" أي السحب "البحر" قلت: وهذا مما يمنع الحمل على الزيادة وإن كانت الزيادة كثيرة في المفعول به ولا سيما وهي غير مقيسة وأن المختار أن ما أمكن تخريجه على غير الزيادة لا يحكم فيه بالزيادة فلا جرم أن قال ابن مالك: والأجود تضمين شربن معنى روين "ومثله" أي مثل هذا التبعيض "تبعيض الرأس فإنها" أي الباء "إذا دخلت عليه" أي الرأس "تعدى الفعل" أي المسح "إلى الآلة العادية" للمسح "أي اليد فالمأمور استيعابها" أي الآلة "ولا يستغرق" استيعابها "غالبا سوى ربعه" أي الرأس "فتعين" الربع "في ظاهر المذهب ولزم التبعيض عقلا غير متوقف عليها" أي الباء "ولا على حديث أنس في" سنن "أبي داود وسكت عليه" فهو حجة لقوله ذكرت فيه الصحيح وما يشبهه ويقاربه وقوله ما كان في كتابي من حديث فيه وهن شديد فقد بينته وما لم أذكر فيه شيئا فهو صالح وبعضها أصح من بعض فلا جرم أن قال ابن الصلاح فعلى هذا ما(23/160)
وجدناه في كتابه مذكورا مطلقا وليس في واحد من الصحيحين ولا نص على صحته أحد ممن يميز بين الصحيح والحسن عرفناه بأنه من الحسن عنده وتعقب ابن رشيد هذا بأنه ليس يلزم ذلك إذ قد يكون عنده صحيحا وإن لم يكن عند غيره كذلك دفع بأن الاحتياط أن لا يرتفع إلى درجة الصحة وإن جاز أن يبلغها عنده لقوله فهو صالح أي للاحتجاج به اللهم إلا أن يكون رأيه انقسام الحديث إلى صحيح وضعيف كالمتقدمين فهو حينئذ صحيح على أن الاحتياط أن يقال: صالح كما هو قال ولفظ حديثه رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وعليه عمامة قطرية فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه "بل هو" أي حديث أنس "مع ذلك الدليل" المذكور آنفا "قائم على مالك" في إيجاب مسح الجميع "إذ قوله" أي أنس "فأدخل يديه" والذي رأيته في نسخة صحيحة يده "من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ظاهر في الاقتصار" عليه وهو الربع المسمى بالناصية كما يؤيده ما روى البيهقي عن عطاء أنه صلى الله عليه وسلم توضأ فحسر العمامة ومسح مقدم رأسه أو قال: الناصية، وهذا حجة عندنا وإن كان مرسلا كيف وقد اعتضد بالمتصل نعم بقي هنا شيء وهو أن كون المفروض مقدار الناصية رواه الحسن عن أبي حنيفة والكرخي والطحاوي عن أصحابنا وهو الأشبه دليلا وأما أنه ظاهر(23/161)
ص -81-…المذهب فيعكره أن في الأصل تقديره بثلاث أصابع اليد فلا جرم أن في المحيط والتحفة أنه ظاهر الرواية اللهم إلا أن يقال المذكور فيه قول محمد "ولزوم تكرر الإذن" للبر "في إن خرجت إلا بإذني لأنه" أي الاستثناء "مفرغ للمتعلق أي" إن خرجت خروجا "إلا خروجا ملصقا به" أي بإذني "فما لم يكن" من الخروج "به" أي بأنه "داخل في اليمين لعموم النكرة" المؤولة من الفعل في سياق النفي فإن المعنى لا تخرجي خروجا إلا خروجا ملصقا بإذني "فيحنث به" أي بذلك الخروج الذي ليس بإذنه "بخلاف" إن خرجت "إلا أن آذن" لك "لا يلزم في البر تكرره" أي إذنه "لأن الإذن غاية" للخروج "تجوز بإلا فيها لتعذر استثناء الإذن من الخروج" لعدم المجانسة ولا يحسن فيه ذلك التقدير لاختلال إن خرجت خروجا إلا خروجا أن آذن لك وبين الغاية والاستثناء مناسبة ظاهرة لأنها قصر لامتداد المغيا وبيان لانتهائه كما أنه قصر للمستثنى منه وبيان لانتهاء حكمه وأيضا كل منهما إخراج لبعض ما تناوله الصدر فلا بدع في أن يتجوز بإلا فيها "وبالمرة" من الإذن "يتحقق" البر "فينتهي المحلوف عليه ولزوم تكرار الإذن" من النبي صلى الله عليه وسلم "في دخول بيوته عليه السلام مع تلك الصيغة" أي إلا أن يؤذن لكم ليس بها بل "بخارج" عنها أي "تعليله" تعالى الدخول بلا إذن "بالأذى" حيث قال: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} [الأحزاب: 53] فلا إشكال.
مسألة(23/162)
"على للاستعلاء حسا" كقوله: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [المؤمنون:22] "ومعنى" كأوجبه عليه وعليه دين ومن ثمة قال "فهي في الإيجاب والدين حقيقة" أما في الإيجاب فظاهر وأما في الدين "فإنه" أي الدين "يعلو المكلف" معنى "ويقال: ركبه دين" إذا علاه معنى وهو لزومه له "فيلزم في علي ألف" لفلان ألف له لأن باللزوم يتحقق الاستعلاء حتى يثبت للمقر له المطالبة والحبس للمقر وهذا "ما لم يصله بمغير وديعة" فإن وصله بها حمل على وجوب الحفظ الذي هو مجاز "لقرينة المجاز" وهو وديعة وإنما اشترط وصله لما عرف من أن البيان المغير إنما يعتبر إذا كان متصلا بالمغير "وفي المعاوضات المحضة" أي الخالية عن معنى الإسقاط "كالإجارة" فإنها معاوضة مال بمنافع "والنكاح" فإنه معاوضة مال بالبضع والبيع فإنه معاوضة مال بمال "مجاز في الإلصاق" نحو بعتك هذا العبد على ألف ونحو "احمله على درهم وتزوجت على ألف لمناسبته" أي الإلصاق "اللزوم" فإن الشيء إذا لزم شيئا التصق به "وفي الطلاق للشرط عنده" أي أبي حنيفة "ففي طلقني ثلاثا علي ألف لا شيء له" أي للزوج عليها إذا أجابها "بواحدة" وإنما يقع عليها طلقة رجعية عنده "لعدم انقسام الشرط على المشروط" اتفاقا لأن ثبوتهما بطريق المعاقبة اتفاقا ضرورة توقف المشروط على الشرط من غير عكس "وإلا" لو لزمها ثلث الألف بواحدة "تقدم بعضه" أي المشروط "عليه" أي الشرط لأن الشرط مجموع الطلقات الثلاث فلا تتحقق المعاقبة بينهما وهو باطل اتفاقا "وعندهما للإلصاق عوضا" لأن الطلاق على مال معاوضة من جانبها ولذا كان لها الرجوع قبل كلام الزوج وكلمة على تحتمل معنى الباء فيحمل عليها بدلالة الحال "فتنقسم الألف" على الطلقات الثلاث فيقع عليها(23/163)
ص -82-…واحدة بائنة بثلث الألف عندهما "للمعية" الثابتة لكل جزء من العوضين في مقابلة الآخر لأن ثبوت العوضين بطريق المقابلة اتفاقا وهي إنما تتحقق بالمقارنة لأن المتأخر لا يقابل المتقدم فيثبت كل جزء من أحدهما في مقابلة كل جزء من الآخر ويمتنع تقدم أحدهما على الآخر كالمتضايفين "ولمن يرجحه" أي قولهما أن يقول "إن الأصل فيما علمت مقابلته" بمال "العوضية" وهذا مما علمت مقابلته به فيتعين فيه العوضية والاتفاق على أن العوض تنقسم أجزاؤه على أجزاء المعوض فتبين منه بواحدة بثلث الألف "وكونه" أي على "مجازا فيه" أي الإلصاق "حقيقة في الشرط" كما ذكره شمس الأئمة السرخسي "ممنوع لفهم اللزوم فيهما" أي الشرط والإلصاق "وهو" أي اللزوم هو المعنى "الحقيقي وكونه" أي على حقيقة "في معنى يفيد اللزوم" وهو الإلصاق "لا فيه" أي لا أنه حقيقة في اللزوم "ابتداء يصيره" أي على لفظا "مشتركا" بين الشرط والإلصاق وإذا كان كذلك "فمجاز" أي فعلى مجاز "فيهما" أي في الإلصاق والشرط وفيه نظر بل الذي يظهر فحقيقة فيهما كما هو الموافق لما كتبه المصنف حاشية على بعض أوائل هذه المسألة من أن الوجه ما ذكره هنا من أنها للاستعلاء الصادق في ضمن اللزوم وغيره وعلى هذا فرع أنها في كل من الإلصاق في العوض والشرط حقيقة لأنهما من أفراد اللزوم فانتظم أن على ضمني وضع للاستعلاء الصادق في محال اللزوم وغيره كجلس على السطح ا هـ. وإذا كان حقيقة في كل منهما فليس أحدهما بمترجح على الآخر بكونه حقيقة بل بغير ذلك وحينئذ فالشأن فيما تقدم إذ لقائل أن يقول أن كون الأصل فيما علمت مقابلته العوضية إنما هو فيما وجب فيه المعاوضة الشرعية المحضة أما ما يصح هي أو الشرط المحض فيه فلا والطلاق من هذا وليس كون مدخولها ما لا مرجحا لمعنى الاعتياض فإن المال يصح جعله شرطا محضا غير منقسم أجزاؤه على أجزاء مقابله كإن طلقتني ثلاثا فلك ألف فإن في هذا لا يكون شيء من الثلاث مقابلا(23/164)
لشيء من الألف بل المجموع يلزم عند المجموع كما يصح جعله عوضا منقسما أجزاؤه على أجزاء مقابله كإن طلقتني ثلاثا بألف فدار الأمر بين لزوم ثلث الألف وعدمه فلا يلزم بالشك ولا يحتاط في اللزوم لأن الأصل فراغ الذمة حتى يتحقق اشتغالها فيترجح قوله على قولهما وهذا على أنه حقيقة في الاستعلاء واللزوم من أفراده قال المصنف رحمه الله: ولو تنزلنا إلى أنه حقيقة في الاستعلاء مجاز في اللزوم لم يضرنا في المطلوب فنقول: لما تعذرت الحقيقة أعني الاستعلاء كان في المجازي أعني اللزوم وهذا المعنى المجازي معنى كلي صادق مع ما يجب فيه الشرطية وما يجب فيه المعاوضة إلى آخر ما قلنا بعينه والله سبحانه أعلم.
مسألة
"من تقدم مسائلها" في بحثي من وما "والغرض" هنا "تحقيق معناها فكثير من الفقهاء" كفخر الإسلام وصاحب البديع هي "للتبعيض" وعلامته إمكان سد بعض مسدها ولا يتوهم مرادفتها له فإن الترادف لا يكون بين مختلفي الجنس "وكثير من أئمة اللغة" كالمبرد ذهبوا إلى كونها "لابتداء الغاية ورجع معانيها إليه" أي إلى ابتداء الغاية وفي التلويح والمراد بالغاية(23/165)
ص -83-…في قولهم من لابتداء الغاية وإلى لانتهاء الغاية هو المسافة إطلاقا لاسم الجزء على الكل إذ الغاية من النهاية وليس لها ابتداء وانتهاء وستعلم ما للمصنف في هذا في إلى "فالمعنى في أكلت من الرغيف ابتداء أكلي" الرغيف وفي أخذت من الدراهم ابتداء أخذي الدراهم "وهو" أي هذا المعنى "مع تعسفه" لمخالفته الظاهر من غير موجب "لا يصح لأن ابتداء أكلي وأخذي لا يفهم من التركيب ولا مقصود الإفادة بل تعلقه" أي الفعل كالأكل والأخذ فيهما "ببعض مدخولها" الذي هو الرغيف والدراهم "وكيف" يصح هذا "وابتداؤه" أي الفعل "مطلقا قد يكذب" لكونه قد فعله متعلقا بغير المذكور قبل المذكور "وتخصيصه" أي الفعل "بذلك الجزئي" الخاص كالرغيف والدراهم "غير مفيد واستقراء مواقعها يفيد أن متعلقها إن تعلق بمسافة قطعا لها" أي للمسافة "كسرت ومشيت أو لا" قطعا لها "كبعت" من هذا الحائط إلى هذا الحائط "وآجرت" الدار من شهر كذا إلى شهر كذا "فلابتداء الغاية أي ذي الغاية وهو" أي ذو الغاية "ذلك الفعل أو متعلقه" أي ذلك الفعل وهو المكان أو الزمان "المبين منتهاه وإن أفاد" متعلقها "تناولا كأخذت وأكلت وأعطيت فلإيصاله" أي المتعلق "إلى بعض مدخولها فعلمت تبادر كل من المعنيين" ابتداء الغاية والتبعيض "في محله أي مع خصوص ذلك الفعل فلم يبق إلا إظهار مشترك" معنوي "يكون" لفظ من موضوعا "له أو" الاشتراك "اللفظي" بينهما "إما" أن من "حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر بعد استوائهما" أي المعنيين "في المدلولية والتبادر في محليهما فتحكم وانتفى جعلها" أي حقيقتها "الابتداء ورد التبعيض إليه" أي إلى ابتداء الغاية "فمشترك" أي فإذا من مشترك "لفظي" بين معانيها والمعين لكل الاستعمال في المتعلق الخاص "ويرد البيان" أي كونها للبيان وعلامته صلاحية وضع الذي موضعها وجعل مدخولها مع ضمير مرفوع قبله صلتها كقوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} [الحج: 30] إذ(23/166)
يصح الرجس الذي هو الأوثان "إلى التبعيض بأنه" أي التبعيض "أعم من كونه" أي التبعيض "تبعيض مدخولها من حيث هو متعلق الفعل أو كون مدخولها" في نفسه من حيث هو "بعضا بالنسبة إلى متعلق الفعل" فالأوثان بعض الرجس.
مسألة
"إلى للغاية أي دالة على أن ما بعدها منتهى حكم ما قبلها وقولهم لانتهاء الغاية تساهل وكذا" هو تساهل "بإرادة المبدأ إذ يطلق" الغاية "بالاشتراك عرفا بين ما ذكرنا" من كون ما بعدها منتهى حكم ما قبلها "ونهاية الشيء من طرفيه" أوله وآخره "ومنه لا تدخل الغايتان" في علي من درهم إلى عشرة حتى يلزمه ثمانية كما هو قول زفر وإنما كان القول المذكور تساهلا "لأن الدلالة بها" أي بإلى "على انتهاء حكمه" أي حكم ما قبلها "لا" على "انتهائه" أي المغيا نفسه ومن ثمة جاز أكلت السمكة إلى نصفها "وفي دخوله" أي ما بعدها في حكم ما قبلها أربعة مذاهب يدخل مطلقا لا يدخل مطلقا يدخل إن كان من جنس ما قبلها ولا يدخل إن لم يكن والاشتراك أي يدخل حقيقة ولا يدخل حقيقة كذا ذكر صدر الشريعة فلا جرم أن قال المصنف "كحتى" وهو يعين كون الرابع في حتى الاشتراك على ما فيه من بعد كما ذكره(23/167)
ص -84-…ثمة ثم في التلويح القول بكونه حقيقة في الدخول فقط مذهب ضعيف لا يعرف له قائل ا هـ وعزاه الإستراباذي إلى بعضهم ولم يسمه وقال المصنف: "ونقل مذهب الاشتراك في إلى غير معروف" وكذا في حتى كما أشار إليه ثمة "ومذهب يدخل" بالقرينة "ولا يدخل بالقرينة غيره" أي غير مذهب الاشتراك لأن معنى هذا المذهب ما سيذكره من أنها لا تفيد سوى أن ما بعدها منتهى الحكم ودخوله وعدم دخوله غير مدلول لها بل للقرينة بخلاف مذهب الاشتراك فإن حقيقته أنها وضعت لإفادة أن ما بعدها منتهى مع دخوله ووضعت وضعا آخر لإفادة أنه منتهى مع عدم دخوله فكان دخولها وعدم دخولها مدلولين لها "فلعله" أي مذهب يدخل ولا يدخل بالقرينة "التبس به" أي بمذهب الاشتراك فوضع مذهب الاشتراك موضعه ثم أوضح معنى هذا المذهب بقوله "فلا يفيد حتى وإلى سوى أن ما بعدهما" أي بعد كل منهما "منتهى الحكم" أي حكم ما قبل كل منهما "ودخوله" أي ما بعد كل منهما في حكم ما قبله "وعدمه" أي عدم دخول ما بعد كل في حكم ما قبله إنما هو "بالدليل" على ذلك في موارد استعمالهما "وإليه" أي إلى هذا المذهب "أذهب فيهما" أي في حتى وإلى. "ولا ينافي" هذا المذهب "إلزام الدخول في حتى" عند عدم القرينة كما هو قول أكثر المحققين "وعدمه" أي وإلزام عدم الدخول "في إلى" عند عدم القرينة كما هو قول أكثر المحققين أيضا "لأنه" أي إلزام الدخول وعدمه "إيجاب الحمل عند عدم القرينة للأكثرية فيهما حملا على الأغلب لا مدلولا لهما" فإن الأغلب في حتى الدخول مع قرينته وفي إلى عدم الدخول مع قرينته فيجب الحمل على الأغلب عند التردد لانتفاء القرينة "والتفصيل" إلى إن كان ما بعدها من جنس ما قبلها فيدخل وإلا فلا تفصيل "بلا دليل" وأشار إلى نفي ما يخال دليلا عليه بقوله "وليس يلزم الجزئية الدخول ولا" يلزم "عدمها" أي الجزئية "عدمه" أي الدخول "إلا أن يثبت استقراؤه" أي هذا التفصيل "كذلك فيحمل" إلى حينئذ عليه "كما(23/168)
قلنا" والشأن في ذلك "وكذا" بلا دليل "تفصيل فخر الإسلام إن كانت" الغاية "قائمة أي موجودة قبل التكلم غير مفتقرة" في الوجود "إلى المغيا أي متعلق الفعل لا الفعل لم تدخل كإلى هذا الحائط والليل في الصوم إلا إن تناولها" أي الغاية "الصدر كالمرافق" في وأيديكم إلى المرافق لأن اليد تتناول الجارحة المعروفة من رءوس الأصابع إلى الإبط وليست المرافق آخرها فيدخل "فأدخل" فخر الإسلام "في القائمة الجزء مطلقا" أي سواء كان آخرا أو لا "والليل" في وأتموا الصيام إلى الليل قال المصنف: وإنما لزم ذلك لأنه استثنى من حكم القائمة بنفسها ما يتناوله اللفظ والجزء مما يتناوله ثم إنما كان هذا بلا دليل لأن كونه مما يشمله الصدر لا يقتضي أنه لا يخرج كما فيما بعده فكما أخرج ما بعد مدخولها وهو مشمول اللفظ لدلالتها على إخراجه جاز أن يخرج مدخولها لدلالتها على أن مدخولها عند المنتهى لا معه "وغيره" أي غير فخر الإسلام كصاحب المنار وصدر الشريعة قال: "إن قامت" الغاية "لا" تدخل "كرأس السمكة وإلا" إن لم تقم "فإن تناولها" الصدر "كالمرافق دخلت وإلا" إن لم يتناولها الصدر "لا" تدخل "كالليل" في الصوم لأن مطلقه ينصرف إلى الإمساك ساعة بدليل مسألة الحلف "فأخرجوهما" أي المرافق والليل عن القائمة(23/169)
ص -85-…وفخر الإسلام أدخلهما "قيل": أي قال الشيخ سراج الدين الهندي ما معناه "مبناه" أي قول غير فخر الإسلام وموافقيه "على تفسير القائمة" بنفسها "بكونها غاية قبل التكلم" أي أنهم أرادوا به "غاية بذاتها لا بجعلها" غاية "بإدخال إلى عندهم" ولا شك أن كلا من المرافق والليل ليس غاية قائمة بنفسها على هذا التفسير لأن كلا منهما إنما صار غاية بالجعل قال المصنف: "ولا يخفى أنه" أي هذا القول "مبني على إرادة منتهى الشيء لا" منتهى "الحكم" بالقائمة "فخرج الليل والجزء غير المنتهى" كالمرافق من القائمة لأن الليل ليس منتهى الصيام والمرافق ليست منتهى اليد "واختص" كونها قائمة على هذا عندهم "بنحو إلى الحائط ورأس السمكة" مما هو منتهى الشيء "وبالمجموع" أي واختص كونها قائمة بمجموع كونها منتهى المغيا ومنتهى حكمه "عنده" أي فخر الإسلام "فدخلا" أي المرافق والليل في القائمة "وفيه" أي كون هذا مبنى الخلاف "نظر لأنه" أي فخر الإسلام "أدخل المرافق" في القائمة "مع انتفاء صدق المجموع عليها" أي المرافق فإنها ليست بمنتهى اليد ولا حكم اليد "والحق أن الاعتبار" في الدخول وعدمه "بالتناول" أي بتناول صدر الكلام للمغيا والغاية معا "وعدمه" أي التناول "فيرجع" كون مناط الدخول وعدمه التناول وعدمه "إلى التفصيل النحوي" إلى أن ما بعدها إن كان جزءا مما قبلها دخل وإلا فلا "ولذا خطئ من أدخل الرأس" من السمكة "في القائمة وحكم بعدم دخول القائمة مطلقا" في حكم المغيا وهو صدر الشريعة "ولم يزد التفصيل إلى القائمة وغيرها سوى الشغب" في المراد بالقائمة ثم هو بالتسكين تهييج الشر ولا يقال شغب كذا في الصحاح وحكى ابن دريد رجل ذو شغب وشغب "فعدم دخول العاشر عنده" أي أبي حنيفة "في له من درهم إلى عشرة لعدم تناوله" أي الدرهم "إياه" أي العاشر فلزمه تسعة "وأدخلاه" أي العاشر "بادعاء الضرورة إذ لا يقوم" العاشر غاية "بنفسها" لعدم وجوده بدون تسعة قبله فلم(23/170)
يكن له وجود قبل هذا الكلام "فلا يكون" العاشر غاية "إلا موجودة" أي إلا بعد الوجود "وهو" أي وجودها "بوجوبها" فيجب "وصار" العاشر "كالمبدأ" وهو الدرهم الأول في الدخول ضرورة فلزمه عشرة "وقال" أبو حنيفة "المبدأ" أي دخوله "بالعرف" ودلالة الحال "والإثبات" للأول "لمعروض الثانوية" أي لأجل إثبات الثانوية للثاني ضرورة ثبوت الثاني وهلم جرا "إلى العاشرية" أي لإثباتها للعاشر "لا يثبت العاشر" لعدم احتياج إثبات التاسعية للتاسع إلى العاشر "ووجوده" أي العاشر إنما هو "لكونه غاية في التعقل لتحديد الثابت دونه" أي دون العاشر وهو التاسع "وإضافة كل ما قبله" أي العاشر "من الثاني إلى التاسع يستدعي ما قبلها لا ما بعدها كالعاشر ولو استدعاه" أي ما بعدها العاشر "كان" استدعاؤه إياه "في الوجود لا في ثبوت حكمه" أي الوجود وهو الوجوب "له" أي للعاشر "لأنه" أي الحكم بشيء "على معروض وصف مضايف" لوصف آخر "لا يوجبه" أي الحكم بشيء آخر "على معروض" الوصف "الآخر وإلا" لو كان الحكم على معروض وصف مضايف لوصف آخر يوجبه على معروض الوصف الآخر "وجب قيام الابن للحكم به" أي لما يحكم به "على الأب" لمضايفته له وليس كذلك ومن ثمة لا يلزم من الحكم بكون الأب في الدار كون الابن فيها(23/171)
ص -86-…ضرورة أن الأب لا يتصور بدون الابن "ولذا" أي ولكون الحكم بشيء على معروض وصف مضايف لوصف آخر لا يوجب الحكم به على معروض الوصف الآخر "لم يقع بطالق ثانية غير واحدة" لكون الثانية لا تتحقق إلا بوقوع الأولى غير أن وصف الثانوية لما كان غير مقصود الثبوت هنا. وإنما المقصود أنت طالق وهو ممكن الثبوت بدون كونه ثانية وكونه ثانية هنا غير ممكن الثبوت لأن كونه ثانية إنما هو بإيقاع أخرى سابقة على هذا الإيقاع وهي غير ممكنة هنا لأنه لم يجر لها ذكر يحتمل الثبوت والطلاق لا يثبت إلا باللفظ لغا وصف الثانوية ووقع معروضها الذي هو الطلاق غير موصوف بهذه الصفة "ووقوعهما" أي الطلقتين عند أبي حنيفة "في" أنت طالق "من واحدة إلى ثلاث بوقوع الأولى للعرف لا لذلك" أي التضايف بينها وبين الثانية "ولا لجريان ذكرها" أي الأولى "لأن مجرده" أي ذكرها "لا يوجبه" أي وقوعها "إذا لم تقتضه" أي وقوعها بمجرد ذكرها "اللغة وبهذا" أي كون مجرد ذكر الشيء لا يقتضي وقوعه إذا لم تقتضه اللغة "بعد قولهما في إيقاع الثالثة" أي بإيقاعها "ومثله" أي هذا الخلاف "الخلاف في دخول الغد غاية للخيار واليمين" في بعتك هذا بكذا على أني بالخيار إلى غد، ووالله لا أكلمك إلى غد "في رواية الحسن" بن زياد عن أبي حنيفة "عنده" أي أبي حنيفة "للتناول" أي تناول الكلام الغاية "لأن مطلقه" أي كل من ثبوت الخيار ونفي الكلام "يوجب الأبد فهي" أي الغاية فيهما "لإسقاط ما بعدها" فيدخل الغد في الخيار وفي اليمين "وما وقع" في نسخ من أصول فخر الإسلام وكذلك "في الآجال والأثمان" في رواية الحسن عنه "غلط لإنفاق الرواية على عدمه" أي دخول الغاية "في أجل الدين والثمن والإجارة" كاشتريت هذا بألف درهم إلى شهر كذا أو آجرتك هذه الدار بمائة إلى شهر كذا فلا يدخل ذلك الشهر في الأجل "وهو" أي عدم الدخول هو "الظاهر" أي الرواية عنه "في اليمين" فلا جرم أن كان الصواب في الآجال في الأيمان(23/172)
كما في بعض النسخ "فلزمه" أي أبا حنيفة "الفرق" بين هذه وبين اليمين "فقيل" في الفرق بين هذه وبين اليمين: ذكر الغاية "في الأولين" أي الدين والثمن "للترفيه" أي التخفيف والتوسعة "ويصدق" الترفيه "بالأقل زمانا فلم يتناولها" أي الكلام الغاية "فهي" أي الغاية فيهما "للمد" أي لمد الحكم إليها "والإجارة تمليك منفعة" بعوض مالي "ويصدق" تمليكها "كذلك" أي بالأقل زمانا "وهو" أي تمليكها كذلك "غير مراد فكان" المراد منها "مجهولا" لجهالة مقدار المدة المرادة "فهي" أي الغاية فيها "لمدة" أي الحكم "إليها" أي الغاية "بيانا لقدر" مجهول فلم تدخل الغاية "وقول شمس الأئمة في وجه الظاهر" في عدم دخول الغد في اليمين "في حرمة الكلام" ووجوب الكفارة به "في موضع الغاية شك" لأن الأصل عدم الحرمة للنهي عن هجران المسلم وعدم وجوب الكفارة بكلامه "وما نسب إليهما" أي الصاحبين من أن الغاية في هذه المسائل "لا تدخل" في المغيا "إلا بدليل ولذا" أي ولعدم دخولها فيه "سميت غاية لأن الحكم ينتهي إليها وإنما دخلت المرافق بالسنة" فعلا كما روى الدارقطني والبيهقي عن جابر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدير الماء على المرافق "وبحث القاضي إذا قرن الكلام بغاية أو استثناء أو شرط لا يعتبر بالمطلق لم يخرج بالقيد" عن(23/173)
ص -87-…الإطلاق "بل بجملته" أي بل يعتبر مع القيد جملة واحدة "فالفعل مع الغاية كلام واحد للإيجاب إليها" أي الغاية "لا للإيجاب والإسقاط" لأنهما ضدان فلا يثبتان إلا بنصين والكلام مع الغاية نص واحد "يوجب أن لا اعتبار بذلك التفصيل" النحوي فقوله وقول شمس الأئمة مبتدأ وكل من قوله وما نسب إليهما ومن قوله وبحث القاضي معطوف عليه ويوجب خبره يعني أنه يؤيد ما رده من التفصيل بين كون محل الغاية متناول الصدر فيدخل أو لا، فلا حيث قال: والتفصيل بلا دليل والوجه المذكور لهم وهو أنه إذا كان مشمولا كان اللفظ مثبتا للحكم فيها وفيما وراءها فذكرها يكون لإخراج ما وراءها غير تام إذ يقال: لم لا يكون ذكرها لإخراج الكل منها ومما وراءها فإن الحاصل تعليق الحكم ببعض المسمى فجاز كونه البعض الذي منه محل الغاية كما جاز كونه ما سواه ذكره المصنف "بل الإدخال بالدليل من وجوب احتياط أو قرينة وهو" أي الدليل على الإدخال "في الخيار كونه" أي الخيار شرع "للتروي وقد ضرب الشرع له" أي للتروي "ثلاثة" من الأيام بلياليها "حيث ثبت" التروي "كالبيع" فروى الحاكم في المستدرك وسكت عليه عن ابن عمر قال: كان حبان بن منقذ رجلا ضعيفا وكان قد أصابته في رأسه مأمومة فجعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم الخيار إلى ثلاثة أيام فيما اشتراه. وأخرجه البيهقي عن ابن عمر سمعت رجلا من الأنصار يشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يزال يغبن في البيوع فقال له: "إذا ابتعت فقل لا خلابة ثم أنت بالخيار في كل سلعة ابتعتها ثلاث ليال". إلى غير ذلك "والردة" فأخرج مالك في الموطأ عن عمر أن رجلا أتاه من قبل أبي موسى فقال له: هل من مغربة خبر 1 قال: نعم رجل ارتد عن الإسلام فقتلناه فقال: هلا حبستموه في بيت ثلاثة أيام وأطعمتموه كل يوم رغيفا لعله يتوب ثم قال: اللهم إني لم أحضر ولم آمر ولم أرض "لأنها" أي الثلاثة "مظنة إتقانه" أي التروي اتقانا "تاما فالظاهر(23/174)
إدخال ما عين غاية" للتروي "دونها" أي ثلاثة أيام "وعلى هذا" البحث "انتفى بناء إيجاب" غسل "المرافق عليه" أي على كونه متناولا للصدر إذ ظهر أن لا أثر لكونه جزءا في الدخول في الحكم "وما قيل" أي وانتفى أيضا توجيه غير واحد من الحنفية والشافعية افتراض غسل المرافق بكونه مبنيا "على استعمالها" أي إلى "للمعية" كما في {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} "بعد قولهم اليد" من رءوس الأصابع "إلى المنكب" وإنما انتفى "لأنه" أي هذا القول "يوجب الكل" أي غسل اليد إلى المنكب "لأنه كاغسل القميص وكمه وغايته" أي ذكر المرافق حينئذ "كإفراد فرد من العام" بحكم العام "إذ هو" أي ذكر المرافق "تنصيص على بعض متعلق الحكم" وهو اليد "بتعليق عين ذلك الحكم" بذلك البعض "وذلك" أي وإفراد فرد من العام بحكم العام "لا يخرج غيره" أي غير ذلك الفرد عن حكم العام فكذا التنصيص على المرافق لا يقتضي إخراج ما وراءها من وجوب الغسل المتعلق بالأيدي "ولو أخرج" التنصيص على
ـــــــــــــــــــ
1 قوله: "هل من مغربة خبر" مغربة بتشديد الراء المكسورة بين غين معجمة وباء موحدة أي هل من خبر جاء من بعيد. يقال غرب البلاد أمعن فيها وأبعد. كتبه مصححه.(23/175)
ص -88-…الفرد منه غيره عن حكمه "كان" إخراجا "بمفهوم اللقب" وهو مردود فكذا هذا "وما قيل" أي وانتفى أيضا ما مشى عليه صاحب المحيط رضي الدين وغيره في توجيه افتراض غسل المرافق بما حاصله أنه "لضرورة غسل اليد إذ لا يتم" غسلها "دونه" أي غسل المرفق "لتشابك عظمات الذراع والعضد" وعدم إمكان التمييز بينهما فيتعين للخروج عن عهدة افتراض غسل الذراع بيقين غسل المرفق وإنما انتفى "لأنه لم يتعلق الأمر بغسل الذراع ليجب غسل ما لازمه" وهو طرف عظم العضد "بل" تعلق وجوب الغسل "باليد إلى المرفق وما بعد إلى لما لم يدخل" كما هو الفرض "لم يدخل جزآهما" أي الذراع والعضد "الملتقيان" في المرفق "وما قيل" أي وانتفى أيضا توجيه افتراض غسل المرفق كما في الاختيار من أنه لما اشتبه المراد بغسل اليد إلى المرفق "للإجمال" لأن إلى تستعمل للغاية وبمعنى مع "وغسله" المرفق صلى الله عليه وسلم "فالتحق" غسله "به" أي بغسل اليد إلى المرفق "بيانا" لما هو المراد منه وإنما انتفى "لأن عدم دلالة اللفظ" يعني وأيديكم إلى المرافق على دخول المرفق في الغسل "لا يوجب الإجمال" فيما هو المراد بقوله إلى المرافق ولا سيما "والأصل البراءة بل" الذي يوجب الإجمال "الدلالة المشتبهة" على المراد اشتباها لا يدرك إلا ببيان من المجمل وهي مفقودة هنا وحين كان الأمر على هذا "فبقي مجرد فعله" صلى الله عليه وسلم "دليل السنة" كما فعل زفر بقوله "وما قيل" أي وانتفى أيضا توجيه افتراض غسل المرفق كما هو مذكور في غير ما كتاب من كتب الحنفية بأن الغاية "تدخل" تارة كما في حفظت القرآن من أوله إلى آخره "ولا" تدخل أخرى كما في قوله تعالى: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] "فتدخل احتياطا" هنا لأن الحدث متيقن فلا يزول بالشك وإنما انتفى "لأن الحكم إذا توقف على الدليل لا يجب مع عدمه" أي الدليل والفرض انتفاء دليل الحكم الذي هو وجوب غسل المرفق في الآية "والاحتياط العمل(23/176)
بأقوى الدليلين وهو" أي العمل بأقواهما "فرع تجاذبهما وهو" أي تجاذبهما "منتف" إذ لم يشتمل المتنازع فيه على دليلين يتنازعان في غسل المرفق إيجابا ونفيا "وما قيل" أي وانتفى أيضا توجيه افتراض غسل المرافق كما ذكره بعضهم بأن قوله إلى المرفقين غاية 1 "لمسقطين مقدر" حتى كأنه قال: فاغسلوا أيديكم حال كونكم مسقطين المنكب إلى المرفق وإنما انتفى "لأنه خلاف الظاهر بلا ملجئ" إليه إذ الظاهر تعلقه بالفعل المذكور "وما قيل" أي وانتفى أيضا توجيه وجوب غسل المرفق كما مشى عليه الشيخ قوام الدين الكاكي من أن إلى المرافق "متعلق باغسلوا مع أن المقصود منه الإسقاط" أي فهو غاية لا غسلوا لكن لأجل إسقاط ما وراء المرفق عن حكم الغسل وإنما انتفى "لأنه" أي اللفظ "لا يوجبه" أي هذا المراد "وكونه" أي إلى المرافق "متعلقا باغسلوا مع أن المقصود منه" أي اغسلوا "الإسقاط" عما وراء المرفق "لا يوجبه" أي الإسقاط "عما فوق المرافق بل" إنما يوجب الإسقاط "عما قبله" أي المرافق "باللفظ مع أنه" أي هذا التوجيه "بلا قاعدة والأقرب" من هذا كله أن لزوم غسلها "الاحتياط لثبوت الدخول
ـــــــــــــــــــ
1 إلى المرفقين هكذا في الأصول التي بيدنا والتلاوة إلى المرافق كتبه مصححه.(23/177)
ص -89-…وعدمه" أي الدخول "كثيرا ولم يرو عنه صلى الله عليه وسلم قط تركه" أي غسل المرافق "فقامت قرينة إرادته" أي الدخول "من النص ظنا فأوجب" هذا التوجيه "للاحتياط" بالغسل "إلا أن مقتضاه" أي هذا التوجيه "وجوب إدخالهما" أي المرفقين في غسل اليدين "على أصلهم" أي الحنفية لأنه ثبت بدليل ظني لا افتراض دخولهما ولكن ظاهر كلامهم الافتراض وإن أطلق بعضهم الوجوب عليه والحق أن إطلاق الوجوب عليه يجب أن يكون بالمعنى الحقيقي الاصطلاحي له ويجب أن يكون هو المراد من إطلاق الفرض عليه لا بالقلب ومن ثمة لم يكفروا هم ولا غيرهم المخالف في ذلك والله تعالى أعلم "أو يثبت استقراء التفصيل" بين ما كان جزءا فيدخل وإلا فلا "فيحمل" الغاية "عليه" أي على التفصيل "عند عدم القرينة في الآية" فتدخل افتراضا إن كان الاستقراء تاما قطعيا والشأن في ذلك.
مسألة(23/178)
"في للظرفية" بأن يشتمل المجرور على متعلقه اشتمالا مكانيا أو زمانيا "حقيقة" كالماء في الكوز والصلاة في يوم الجمعة "فلزما" أي الظرف والمظروف "في غصبته ثوبا في منديل" لأنه أقر بغصب مظروف في ظرف وغصب الشيء وهو مظروف لا يتحقق بدون الظرف "ومجازا كالدار في يده و" هو "في نعمة" جعلت يده ظرفا للدار لاختصاصها بها منفعة وتصرفا والنعمة ظرفا له لغمرها إياه "وعم متعلقها مدخولها" حال كونها "مقدرة لا ملفوظة" وهذا العموم ثابت "لغة للفرق" لغة وعرفا "بين صمت سنة وفي سنة" فإن الأول يفيد استيعاب السنة بالصوم والثاني يفيد وقوعه فيها وهو يصدق بوقوعه في بعض يوم منها إذ ليس من ضرورة الظرفية الاستيعاب ومما يرشد إلى هذا قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51] فإنه لا استيعاب فيما فيه الحرف وهو ثابت فيما لا حرف فيه والنكتة فيه أن نصرة الله إياهم في العقبى دائمة بخلاف النصرة في الدنيا فإنها إنما هي في أوقات لأنها دار ابتلاء "فلم يصدق قضاء في نيته آخر النهار في طالق غدا" وصدق ديانة عند الكل "وصدق في" طالق "في غد" قضاء وديانة في نيته آخر النهار عنده "خلافا لهما" فقالا: يصدق ديانة لا غير لأنه وصفها بالطلاق في جميع الغد كالأول لأن حذف لفظة مع إرادتها وإثباتها سواء وحيث كان حذفها يفيد عموم الزمان فإثباتها كذلك ومن ثمة يقع في إثباتها في أول جزء من الغد عند عدم النية اتفاقا وله أن ذكرها يفيد وصل متعلقها بجزء من مدخولها أعم من كونه متصلا بجزء آخر أو كله أو لا وإنما يعرف أحدها من خارج لا مدلول اللفظ فإذا نوى جزءا من الزمان خاصا فقد نوى حقيقة كلامه لأن ذلك الجزء من أفراد المتواطئ "وإنما يتعين أول أجزائه" أي الغد "مع عدمها" أي النية "لعدم المزاحم" لسبقه بخلاف ما إذا لم يذكر ووصل الفعل إلى الغد بنفسه فإن المفاد حينئذ العموم من(23/179)
اللغة قطعا كما ذكرنا فنية جزء معين فيه خلاف الظاهر وفيه تخفيف عليه فلا يصدق قضاء "وتنجز نحو طالق في الدار والشمس لعدم صلاحيته" أي كل من الدار والشمس "للإضافة" أي إضافة الطلاق إليه لأنه تعليق معنى والتعليق إنما يكون بمعدوم على خطر الوجود والمكان المعين،(23/180)
ص -90-…وما في معناه من الأشياء الثابتة ليس كذلك وإذا بطل التعليق فقد خلا اللفظ في المعنى عنه فيقع في الحال "إلا أن يراد" بقوله في الدار "نحو دخولكها" أي في دخولك الدار حال كون الدخول "مضافا" إلى الدار وحذف اختصارا "أو" يراد به "المحل في الحال" الذي هو الدخول مجازا "أو" يراد به "استعمالها" أي في "في المقارنة" أي بمعنى مع لأن في الظرف معنى المقارنة للمظروف إذ من قضيته الاحتواء عليه فهو حينئذ "كالتعليق توقفا" كما للمقارن مع مقارنه "لا" كالتعليق "ترتبا" كما للمعلق على الشرط معه كما ذهب إليه البعض "فعنه" أي كونه كالتعليق توقفا لا ترتبا "لا تطلق أجنبية قال لها: أنت طالق في نكاحك" ثم تزوجها كما لو قال: مع نكاحك ; لأن إيجاب الطلاق المقارن للنكاح لغو وإلا لو كان كالتعليق ترتبا طلقت كما لو قال: إن تزوجتك فأنت طالق هذا وحذف المضاف أو التجوز المذكور خلاف الظاهر ومن ثمة لم يصدق فيه قضاء وصدق ديانة لاحتمال اللفظ ثم على كل منهما لا يصلح الدخول ظرفا للطلاق على معنى أنه شاغل له لأنه عرض لا يبقى فلا بد أن يصار إلى أنه من قبيل المصدر المراد به الزمان كأتيتك قدوم الحاج وخفوق النجم وهو شائع لغة أو إلى استعارة في للمقارنة للمناسبة المذكورة وعلى هذا فقد كان التحقيق أن يقال إلا أن يراد نحو دخولكها أو المحل في الحال إما على إرادة الزمان أو المقارنة بقي "وتعلق طالق في مشيئة الله" بمشيئة الله كإن شاء الله "فلم يقع" الطلاق "لأنه" أي وقوعه في مشيئة الله "غيب لاختصاصها" أي المشيئة بالله بإضافتها إليه والأصل عدم الوقوع فيكون الحال عليه حتى يثبت الوقوع بطريقه "وتنجز" الطلاق في أنت طالق "في علم الله لشموله" أي علمه جميع المعلومات ألا إنه بكل شيء محيط "فلا خطر" في التعليق به "بل" التعليق به "تعليق بكائن" لأنه لا يصح نفيه عنه تعالى بحال فكان تعليقا بموجود فكان تنجيزا "وأورد" على هذا "فيجب الوقوع في" أنت(23/181)
طالق "في قدرة الله للشمول" أي لشمول القدرة جميع الممكنات "أجيب بكثرة إرادة التقدير" أي تقدير الله من قدرة الله "فكالمشيئة" أي فالحكم فيه حينئذ كالحكم في مشيئة الله تعالى لأنه تعالى قد يقدر شيئا وقد لا يقدره وكون هذا مما قدر وقوعه غيب عنا فلا يقع بالاحتمال "ودفع" هذا الجواب بأنها "تستعمل بمعنى المقدور بكثرة أيضا وأجيب" هذا الدفع "بأن المعنى به" أي بفي قدرة الله "آثار القدرة" على حذف مضاف "ولا أثر للعلم" لأنه ليس بصفة مؤثرة "ودفع" هذا "باتحاد الحاصل من مقدور وآثار القدرة فلم لم يكن" في قدرة الله بمعنى مقدور الله "كالمعلوم" في علم الله فيقع به الطلاق كما أشار إليه في التلويح قال المصنف: "والوجه إذ كان المعنى على التعليق أن لا معنى للتعليق بمقدوره إلا أن يراد وجوده فتطلق في الحال أو" كان المعنى "على أن هذا المعنى ثابت في جملة مقدوراته فكذلك" أي فتطلق في الحال "كما قرره بعضهم في علمه" بأنه يصير المعنى أنت طالق في معلوم الله أي هذا المعنى ثابت في جملة معلوماته إذ لو لم يقع لم يكن هذا المعنى في معلوم الله "ويجاب باختيار الثاني" وهو أن المعنى أن هذا المعنى ثابت في جملة مقدوراته "وبالفرق" بينه وبين في علمه "بأن ثبوته" أي طلاقها "في علمه بثبوته في الوجود وهو" أي ثبوته في الوجود "بوقوعه(23/182)
ص -91-…بخلاف ثبوته في القدرة فإن معناه" أي ثبوته في القدرة "أنه مقدور" أي في قدرته تعالى وقوعه "ولا يلزم من كون الشيء مقدورا كونه موجودا تعلقت به القدرة" ومن ثمة يقال لفاسد الحال في قدرة الله صلاحه مع عدم تحققه في الحال "هذا حقيقة الفرق ولا حاجة إلى غيره مما تقدم وأيضا المبني" فيما يعتبر في التركيب معلقا عليه "الحمل على الأكثر فيه استعمالا فلا يرد الثاني" وهو كون القدرة قد تكون بمعنى المقدور لأن استعمالها بمعناه ليس بأكثر من التقدير "ولو تساويا لا يقع بالشك" هذا ولو أراد حقيقة قدرته تعالى يقع في الحال ذكره في الكافي "ولبطلان الظرفية لزم عشرة في له عشرة في عشرة" لأن العدد لا يصلح ظرفا لنفسه لا يقال لما تعذر العمل بحقيقتها ينبغي أن يحمل على مجازه وهو معنى مع أو واو العطف كما هو قول زفر لأن عند تعدد جهة المجاز لا يتعين واحد منها لعدم المرجح فيتعين الإلغاء على أن الأصل في الذمم البراءة فلا يجب المال بالشك نعم كما قال المصنف "إلا إن قصد به" أي بفي "المعية" أي معنى مع "أو العطف" أي واوه "فعشرون لمناسبة الظرفية كليهما" أي المعية والعطف أما المعية فكما تقدم وأما العطف فلأن الواو للجمع والظرف يجمع المظروف فكان محتمل كلامه مع أن فيه تشديدا عليه فيحكم بما أراده منهما عليه وبينهما فرق في بعض الصور يعلم قريبا "ومثله" أي عشرة في عشرة في بطلان الظرفية أنت "طالق واحدة في واحدة" فيقع واحدة ما لم ينو المعية أو العطف فإن نوى أحدهما وهي مدخول بها وقع ثنتان وإن كانت غير مدخول بها وقع واحدة في نية العطف وثنتان في نية المعية "وإنما يشكل إذا أراد عرف الحساب" في مثل له عشرة في عشرة حيث قالوا: يلزمه عشرة "لأن مؤدى اللفظ حينئذ" أي حين أراد عرف الحساب "كمؤدى عشر عشرات" لأن عرفهم تضيف أحد العددين بعدد الآخر والفرض أنه تكلم بعرفهم وأراده عالما به فصار كما لو أوقع بلغة أخرى وهو يدريها فلا جرم أن قال زفر(23/183)
وباقي الأئمة: يلزمه مائة حتى لو ادعى المقر له مجموع الحاصل وأنكر المقر حلف أنه ما أراده والله سبحانه أعلم.
أدوات الشرط
"أي تعليق مضمون جملة على أخرى تليها وحاصله" أي الشرط "ربط خاص ونسبتها" أي المعلق عليها "عليه" أي الشرط في قولهم جملة شرطية "لدلالتها" أي المعلق عليها "عليه" أي الشرط "ويقال" لفظ الشرط أيضا "لمضمون" الجملة "الأولى" فقط "ومنه" أي هذا الثاني قولهم "الشرط معدوم على خطر الوجود" أي متردد بين أن يكون وأن لا يكون لا مستحيل ولا متحقق لا محالة لأن الشرط للحمل أو المنع وكل منهما لا يتصور فيهما "وإن أصلها" أي أدوات الشرط "لتجردها له" أي للشرط "وغيرها" أي أن تكون للشرط "مع خصوص زمان ونحوه" وما في التحرير شرح الجامع الكبير الأصل في ألفاظ الشرط كلما والباقي ملحق بها غريب "واشترط" لغة "الخطر في مدخولها" أي إن "ومدخول الأسماء الجازمة كمتى حتى امتنع إن أو متى طلعت الشمس أفعل" لأن طلوع الشمس لا خطر فيه "إلا لنكتة" من توبيخ أو تغليب أو غير ذلك كما هو مذكور في علم المعاني وهذا الامتناع واقع لغة "لا لأنه" أي الخطر(23/184)
ص -92-…"شرط الشرط" مطلقا "وحاصله" أي الكلام في إن "أنها إنما وضعت لإفادة التعليق كذلك" أي على ما هو على خطر الوجود "ولذا" أي ولكون الخطر ليس بشرط الشرط مطلقا "صح" الشرط "مع ضده" أي الخطر "في إذا جاء غد أكرمك" فإن مجيء الغد محقق "لوضعها" أي إذا "كذلك" أي لإفادة التعليق على ما هو محقق مقطوع به إذا كانت للشرط "إلا لنكتة كإذا جاء زيد تفاؤلا" إذا كان مجيئه مطلوبا وهو على خطر الوجود وكقول عبد قيس بن خفاف:
واستغن ما أغناك ربك بالغنى …"وإذا تصبك" خصاصة فتجمل(23/185)
"تنزيلا له" أي للخطر وهو إصابة الفقر والمسكنة إياه "محققا" أي منزلة الواقع "لعادة الوجود" لأن من شيمه رد المواهب وحط المراتب "وتوطينا" للنفس على تحمل مشقة الفقر والفاقة والصبر عليها "لدفع الجزع عنده" أي عند وقوعه فيأمن من مفاجأة المكروه "وتخصيصهم" أي المشايخ "تفريع إن لم أطلقك فطالق لا تطلق إلا بآخر حياة أحدهما" أي الزوجين إذا لم يطلقها من عقب التعليق إلى وقتئذ "على الصحيح في موتها للتنبيه على أنه" أي الشرط "العدم مطلقا" أي أن لا يطلقها أبدا وهو لا يتحقق إلا باليأس من الحياة من غير تطليقها من عقب التطليق إلى هذا الحين فإذا بقي من حياة أحدهما ما لا يسع التطليق بلفظ ما فذلك القدر صالح لوقوع الطلاق فيقع لوجود الشرط والمحل وقيد بقوله على الصحيح في موتها احترازا عن رواية النوادر إنها لا تطلق في موتها لأنه قادر على تطليقها وإنما عجز بموتها وصار كإن دخلت الدار فأنت طالق يقع بموته لا بموتها ووجه التسوية بينهما كما هو الظاهر قد عرف وليست هذه كمسألة الدخول لأنه يمكنه بعد موتها فلا يتحقق اليأس بموتها ثم إن كان هو الميت ورثته بحكم القرار إن كانت مدخولة ولا ترثه ووجب لها نصف المهر ولا عدة عليها إن كانت غير مدخولة وإن كانت هي الميت لم يرث منها وكان عليه نصف المهر إن لم يكن دخل بها وإلا فتمامه كما عرف ثم تخصيصهم مبتدأ خبره "لدفع وهم الوقوع بسكوت يسعه" الطلاق بعد هذا التعليق "كما هو" الحكم "في متى" لم أطلقك فأنت طالق لإضافته الطلاق إلى زمان خال عن تطليقها فإن متى ظرف زمان وبمجرد سكوته وجد الزمان المضاف إليه فيقع "فقد تضمن" هذا الكلام "مسألتها" أي متى "ومنها" أي ومن أحكامها أنه إذا قال: "أنت طالق متى شئت لا يتقيد" تفويض المشيئة إليها "بالمجلس فلها مشيئة الطلاق بعده" أي المجلس لأنها باعتبار إيهامها تعم الأزمنة بخلاف إن شئت.
مسألة(23/186)
"إذا لزمان ما أضيفت إليه" كقوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل:1] أي وقت غشيانه على أنه بدل من الليل إذ ليس المراد تعليق القسم بغشيان الليل وتقييده بذلك الوقت ولذا منع المحققون كونه حالا من الليل وإن ذهب إليه ابن الحاجب لأنه يفيد تقييد القسم بذلك الوقت أيضا "وتستعمل للمجازاة" أي للشرط على خلاف أصلها فإن أصلها أن تكون ظرف زمان ما أضيفت إليه من الجمل "داخلة على محقق" كما هو الأصل فيها حينئذ "وموهوم" لنكتة(23/187)
ص -93-…كما سبق "وتوهم أنه" أي دخولها على موهوم "مبني حكم فخر الإسلام أنها حينئذ حرف فدفع بجوازه" أي دخولها على موهوم "للنكتة" وهذا التوهم ودفعه وقعا للتفتازاني قال المصنف: "وليس" هو مبناه "وكلامه" أي فخر الإسلام ما مختصره "يجازى بها ولا" يجازى بها "عند الكوفيين وإذا جوزي" بها "سقط عنها الوقت كأنها حرف شرط ثم قال" فخر الإسلام: "لا يصح طريق أبي حنيفة إلا أن يثبت أنها قد تكون حرفا بمعنى الشرط" مثل إن وقد ادعى ذلك أهل الكوفة "ثم أثبته" أي فخر الإسلام كونها حرفا بمعنى الشرط "بالبيت وإذ تصبك" خصاصة فتحمل "فلاح أن المبني" أي مبنى قول فخر الإسلام أنها حرف "كونها إذن لمجرد الشرط وهو" أي وكونها كذلك مبني "صحيح" لدعوى حرفيتها "لأن مجرده" أي الشرط "ربط خاص وهو من معاني الحروف وقد تكون الكلمة حرفا واسما" كالكاف المفردة وقد بل وفعلا أيضا كعلى وعن "بل الوارد" ورودا صحيحا "منع سقوطه" أي الزمان عنها إذا جزم بها "والجزم لا يستلزمه" أي كونها حرفا ولا منافاة بين الجزم بها وبين دلالتها على الزمان "كمتى وأخواتها وهو" أي وكونها يجازي بها مع عدم سقوط دلالتها على الزمان "قولهما وعليه" أي كونها للشرط مع دلالتها على الزمان "تفرع الوقوع في الحال عندهما في إذا لم أطلقك فطالق وكان عنده" أي وهي كان عند أبي حنيفة فلا تطلق في هذه الصورة حتى يموت أحدهما وهذا إذا لم يكن له نية فأما إذا نوى الوقت أو الشرط المحض فهو على ما نوى بالاتفاق ذكره غير واحد وتعقبه شيخنا المصنف بأنه يجب على قولهما إذا أراد معنى الشرط أن لا يصدقه القاضي لظهورها عندهما في الظرف فإرادة الشرط فقط خلاف الظاهر وفيه تخفيف عليه فلا يصدق قضاء بل يصح ديانة لا غير "والاتفاق على عدم خروج الأمر عنها في أنت طالق إذا شئت" إذا قامت من المجلس من غير مشيئة "لشك الخروج بعد تحقق الدخول عنده" أي أبي حنيفة "لجواز عدم المجازاة كقوله في إذا لم أطلقك" فأنت(23/188)
طالق فإنه قال: الأصل عدم وقوع الطلاق فلا يقع عقب تعليقه بالشك لجواز كونها سقط الوقت عنها فصارت كان والملخص أن الأمر صار بيدها بالتفويض ثم على اعتبار أنها للوقت لا يخرج الأمر من يدها وعلى اعتبار أنها للشرط يخرج فلا يخرج بالشك واستشكله شيخنا المصنف وقال: مقتضى الوجه أن على قولهما لا يخرج من يدها وعلى قوله يخرج وكذا إذا علم أنه نوى ولم تدر نيته لعارض عراه وأما إذا عرفت بأن استفسر فقال: أردت الزمان فيجب أن يصدق على قولهما ولا يخرج الأمر من يدها وكذا على قوله لأنه مقر على نفسه وإن قال: أردت الشرط صدق على قوله ولا يصدق على قولهما لأنه خلاف الظاهر وفيه تخفيف على نفسه والله سبحانه أعلم.
مسألة
"لو للتعليق في الماضي مع انتفاء الشرط فيه" أي الماضي "فيمتنع الجواب المساوي" للشرط في العموم كلو كانت الشمس طالعة كان النهار موجودا لاستلزام انتفاء السبب انتفاء مسببه المساوي له "فدلالته" أي لو "عليه" أي امتناع الجواب المساوي دلالة "التزامية ولا دلالة" للو "في" الجواب "الأعم" من الشرط "الثابت" امتناعه "معه" أي الشرط "وضده" أي(23/189)
ص -94-…ومع ضد الشرط "كلو لم يخف لم يعص" فإن عدم المعصية مع القدرة عليها قد يكون للخوف وقد يكون للحياء والمهابة والإجلال فلا يلزم من انتفاء عدم الخوف المعصية "غير أنها" أي لو "لما استعملت" شرطا في المستقبل "كان تجوزا" كما في قوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 9] أي وليخش الله الذين إن شارفوا أن يتركوا وأول هكذا لأن الخطاب للأوصياء وإنما يتوجه إليهم قبل الترك لأنهم بعده أموات "جعلت له" أي للشرط كإن "في قوله لو دخلت عتقت فتعتق به" أي بالدخول "بعده" أي قوله ذلك "فعن أبي يوسف" أنت طالق "لو دخلت كإن دخلت" فلا تطلق ما لم تدخل "صونا عن اللغو عند الإمكان" ولو قدم الشرط فقال: لو دخلت الدار فأنت طالق يقع في الحال عند أبي الحسن لأن جواب لولا يدخل فيه الفاء وذكر القاضي أبو عاصم العامري أنها لا تطلق ما لم تدخل لأنها لما جعلت بمعنى إن جاز دخول الفاء في جوابها ذكره القاآني وعلى هذا مشى التمرتاشي وهو أوجه "بخلاف لولا لأنه لامتناع الثاني لوجود الأول ليس غير فلا تطلق في أنت طالق لولا حسنك أو أبوك" أي موجود "وإن زال" الحسن "ومات" الأب لجعله ذلك مانعا من وقوع الطلاق.
مسألة(23/190)
"كيف أصلها سؤال عن الحال ثم استعملت للحال في انظر إلى كيف تصنع" كما حكاه قطرب عن بعض العرب أي إلى أي حال صنعته "وقياسها الشرط جزما" اقترنت بما أو لا "كالكوفيين" وقطرب بناء على أنها للحال والأحوال شروط والأصل في الشرط الجزم وقيل بشرط اقترانها بما ولم يجوزه سائر البصريين إلا شذوذا "وأما" كونها للشرط "معنى فاتفاق" لأن الربط لها موجود لكن عليه أن يقال هذا لا يدل على أنها للشرط لأن الربط المعنوي أعم من أن يكون للمجازاة وغيرها ألا ترى أنه موجود في نحو حين يقوم أقوم ولا يدل على أن حينا للمجازاة بل هو ظرف محض يقع فيه الفعلان قالوا: وفعلا الشرط والجواب فيها يجب أن يكونا متفقي اللفظ والمعنى نحو كيف تصنع أصنع فلا يجوز كيف تجلس أذهب بالاتفاق قيل ولهذا لم تجزم عند البصريين لمخالفتها أدوات الشرط في هذا الشرط فإن أدواته مطلقة في هذا فيكونان فيها متفقين نحو إن تعد نعد ومختلفين نحو إن يقم أقعد ولكن في كون هذا مانعا من الجزم ما فيه قالوا ومن ورودها شرطا {يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} {يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} {فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ} وجوابها في ذلك كله محذوف لدلالة ما قبلها قال ابن هشام: وهذا يشكل على إطلاقهم أن جوابها يجب مماثلته لشرطها ا هـ. لأن التقدير كيف يشاء أن ينفق ينفق كيف يشاء أن يصوركم يصوركم، كيف يشاء أن يبسطه يبسطه اللهم إلا أن يقال الشرط هنا لما كان مقيدا بمماثل للجزاء كان في معنى المماثل له ولا يعرى عن تأمل "وما قيل لكنها" أي الحال التي يدل عليها "غير اختيارية كالسقم والكهولة فلا يصح التعليق بها إلا إذا ضمت إليها ما" نحو كيفما تصنع أصنع كما في التلويح قال المصنف "ليس بلازم في الشرط ضده" أي ضد الاختيار "ولا هو" أي الحال(23/191)
ص -95-…الغير الاختياري "في كيف كان تمريض زيد وكيف تجلس أجلس" يعني لا نسلم أن الشرط يلزم كون فعله اختياريا وهو ضد غير الاختياري ولا نسلم لزوم غير الاختياري فإنه يقال كيف كان تمريضك زيدا من الاستفهامية عن الحال وكيف تجلس أجلس في المستعملة شرطا بلا زيادة ما ولا هو غير اختياري ذكره المصنف "وعلى الحالية التفريع فطالق كيف شئت تعليق للحال" أي لحال الطلاق أي صفته "عندهما" أي أبي يوسف ومحمد "بمشيئتها في المجلس وإذ لا انفكاك" للطلاق عن كيفية ككونه رجعيا أو بائنا بينونة خفيفة أو غليظة بمال أو دونه إلى غير ذلك "تعلق الأصل" أي أصل الطلاق "بها" أي كان تعليق وصف الطلاق بمشيئتها تعليقا لأصله بها أيضا "غير متوقف" تعلق الأصل بمشيئتها أيضا "على امتناع قيام العرض بالعرض كما ظن" لأن الطلاق عرض فكان التعليق على صفة ممتنعا فكان به نفسه والظان صدر الشريعة "لأنه" أي قيام العرض بالعرض "بالمعنى المراد هنا وهو النعت" أي لاختصاص الناعت "غير ممتنع" إنما الممتنع قيامه به بمعنى حلوله فيه كما عرف في الكلام فلا يقع شيء ما لم تشأ فإذا شاءت فالتفريع ما سيأتي "وعنده" أي أبي حنيفة "يقع" واحدة "رجعية" في المدخول بها إذا لم تكن مسبوقة بأخرى في الأمة وثنتين في الحرة بمجرد قوله ذلك "ويتعلق صيرورتها بائنة وثلاثا" بمشيئتها "تخصيصا بالعقل لما لا بد منه" لأن تفويض وصف الشيء اللازم لوجوده فرع وجوده وحيث كان لا يوجد إلا على نوع من أنواع ذلك الوصف الكلي تعين أدناها محققا لوجوده وكان المفوض ما سواه وأدنى أوصاف الطلاق في حق المدخول بها إذا كان الحال على ما ذكرنا الواحدة الرجعية فتلزم ثم إن قالت: شئت بائنة أو ثلاثا وقد نوى الزوج ذلك يصير ذلك للمطابقة وإن شاءت أحدهما والزوج على العكس استمرت رجعية لأنها لغت مشيئتها لعدم الموافقة فبقي إيقاع الزوج بالصريح ونيته لا تعمل في جعله بائنا أو ثلاثا ولو لم تحضره نية لا ذكر له في الأصل(23/192)
ويجب أن تعتبر مشيئتها على اختلاف الأصلين إما على أصله فلإقامته إياها مقام نفسه وهو لو أوقع رجعيا يملك جعله بائنا وثلاثا عنده فكذا المرأة وأما على أصلهما فلتفويضه أصل الطلاق إليها على أي وصف شاءت وأما في حق غير المدخول بها فكما قال "فلزم في غير المدخولة البينونة" بواحدة لا إلى عدة ضرورة كونها غير مدخول بها "فتعذر المشيئة" لانتفاء محليتها "ومثله" أي أنت طالق كيف شئت "أنت حر كيف شئت" فعندهما لا يعتق ما لم يشأ في المجلس وعنده يعتق في الحال ولا مشيئة له.
مسألة
"قبل وبعد ومع متقابلات لزمان متقدم على ما أضيفت إليه" في قبل "ومتأخر" في بعد "ومقارن" في مع "فهما" أي قبل وبعد "بإضافتهما إلى" اسم "ظاهر صفتان لما قبلهما وإلى ضميره" أي الاسم الظاهر صفتان "لما بعدهما لأنهما خبران عنه" أي عما بعدهما والخبر في المعنى وصف للمبتدأ "فلزم واحدة في طالق واحدة قبل واحدة لغير المدخولة لفوات المحلية للمتأخرة" أي للطلقة المتأخرة وهي المضاف إليها قبل لبينونتها بالأولى لا إلى عدة "وثنتان في(23/193)
ص -96-…قبلها" واحدة "لأن الموقع ماضيا يقع حالا" لأنه بعد وقوعه لا يمكن رفعه فيبقى إلى الحال وهو لا يملك الإسناد إلى الماضي ويملك الإيقاع في الحال فيثبت ما يملكه ويلغو ما لا يملكه "فيقترنان كمع واحدة" أو معها واحدة وعن أبي يوسف في معها واحدة يقع واحدة والصحيح أنه كمع واحدة "وعكسهما" أي لزوم واحدة في طالق واحدة قبل واحدة ولزوم ثنتين في قبلها واحدة "في بعد واحدة وبعدها" واحدة فتطلق ثنتان في طالق واحدة بعد واحدة لإيقاعه واحدة موصوفة بأنها بعد أخرى ولا قدرة على تقديم ما لم يسبق الموجود على الموجود فيقترنان بحكم أن الإيقاع في الماضي إيقاع في الحال وواحدة في طالق واحدة بعدها واحدة لإيقاعه واحدة موصوفة ببعدية أخرى لها فوقعت الأولى ولا تلحق الثانية لعدم قيام العدة "بخلاف المدخولة والإقرار فثنتان مطلقا" أي أضيف قبل وبعد فيهما إلى ظاهر أو ضميره وهذا تبع لما في التلويح والأمر كذلك في المدخولة لأنها لا تبين بالأولى فتلحقها الثانية في العدة نعم استشكل وقوعهما في واحدة قبل واحدة لأن كون الشيء قبل غيره لا يقتضي وجود غيره وأجيب بالمنع نعم يقتضيه ظاهرا لا قطعا والعمل بالظاهر واجب ما أمكن وقد أمكن هنا كما اللفظ مشعر به فيتعين وأما في الإقرار فليس كذلك فيما إذا كان قبل مضافا إلى الظاهر ففي المبسوط قال له: علي درهم قبل درهم يلزمه درهم واحد لأن قبل نعت للمذكور أولا فكأنه قال: قبل درهم آخر يجب علي ولو قال: قبله درهم فعليه درهمان لأنه نعت للمذكور آخرا أي قبله درهم قد وجب علي ولو قال: درهم بعد درهم أو بعده درهم يلزمه درهمان لأن معناه بعد درهم قد وجب علي أو بعده درهم قد وجب علي لا يفهم من الكلام إلا هذا والله سبحانه أعلم.
مسألة(23/194)
"عند للحضرة" الحسية نحو: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ} والمعنوية نحو: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} "وهو" أي وكون المال حاضرا عند المقر "أعم من الدين" أي كونه دينا في ذمته "الوديعة" أي أو كونه مودعا في يده فمن هذه الحيثية لا يثبت أحدهما بعينه بإطلاق العندية "وإنما تثبت" الوديعة "بإطلاقها" أي عند "كعندي ألف" لمعنى آخر أعنى "لأصلية البراءة فتوقف الدين على ذكره معها" أي عند لكونه على خلاف الأصل ولم يتوقف كونه وديعة على ذكرها لأنها ليست على خلافه وهي أدنى مؤدى اللفظ فتعينت حيث لا معين قطعي يعين غيرها.
مسألة
"غير" اسم متوغل في الإبهام "صفة" وهو الأصل فيه "فلا يفيد حال ما أضيفت إليه كجاء رجل غير زيد واستثناء" وهو عارض عليه "فيفيده" أي حال ما أضيفت إليه "ويلزمها" أي غير إذا كانت استثناء "إعراب المستثنى كجاءوا غير زيد أفادت عدمه" أي المجيء "منه" أي زيد وتعين نصبها لتعينه للمستثنى لو كان بإلا وعلى هذا القياس كما هو معروف في فنه(23/195)
ص -97-…"فله درهم غير دانق" برفع غير "يلزمه" الدرهم "تاما" لأن غيرا حينئذ صفة لدرهم فالمعنى درهم مغاير للدانق وهو بالفتح والكسر قيراطان كذا في المغرب "وبالنصب" يلزمه درهم "بنقصه" أي الدانق منه لأنه حينئذ استثناء فالمعنى درهم إلا دانقا "وفي دينار غير عشرة" من الدراهم "بالنصب كذلك" أي بنقص من الدينار قيمة عشرة دراهم ويلزمه الباقي هذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف "وتام" أي ويلزمه دينار كامل "عند محمد للانقطاع" أي لأنه استثناء منقطع "لشرطه" أي محمد "في الاتصال صورة ومعنى" أي التجانس الصوري والتجانس المعنوي بين المستثنى منه والمستثنى والدرهم ليس بمجانس للدينار صورة "واقتصرا" أي أبو حنيفة وأبو يوسف "عليه" أي التجانس الصوري بينهما شرطا في الاتصال "وقد جمعهما" أي الدرهم والدينار التجانس المعنوي وهو "الثمنية فالمعنى ما قيمته دينار غير عشرة" فكان متصلا فلزمه من قيمة الدينار ما سوى العشرة والله سبحانه أعلم.
وهذا آخر ما تيسر من الكلام في شرح ما تضمنته المقالة الأولى والله تعالى المسئول في تيسير شرح ما اشتملت عليه المقالة الثانية على الوجه الأوجه والأولى وأن ييسرنا لليسرى ويجنبنا العسرى ويرزقنا العافية في الآخرة والأولى آمين.(23/196)
ص -98-…المقالة الثانية: في أحوال الموضوع
"وعلمت" إجمالا في المقدمة "إدخال بعضهم" كصدر الشريعة "الأحكام" في الموضوع وذكرنا ثمة ما ظهر لنا فيه "فانكسرت" أي اشتملت هذه المقالة بسبب هذا الإدخال "على خمسة أبواب" في الأحكام وفي أدلة الأحكام من الكتاب والسنة والإجماع والقياس.
الباب الأول: في الأحكام وفيه أربعة فصول
في الحكم والحاكم والمحكوم فيه والمحكوم عليه.
الفصل الأول: في الحكم
"لفظ الحكم" الشرعي "يقال للوضعي" أي للخطاب الوضعي "قوله" أي الله تعالى "النفسي جعلته" أي كذا ككشف العورة في حالة السعة "مانعا" من صحة الصلاة "أو" جعلت كذا "علامة على تعلق الطلب" لفعل أو ترك من المكلف وقتئذ "كالدلوك والتغير" فإن دلوك الشمس وهو زوالها وقيل غروبها والأول الصحيح كما نطق به غير ما حديث دليل على طلب إقامة الصلاة من المكلفين وتغيرها للغروب دليل على طلب ترك غير الوقتية من المكتوبات "أو" علامة على "الملك أو زواله" كالبيع فإنه علامة على ملك المشتري المبيع والبائع الثمن وعلى زوال ملك البائع عن المبيع وزوال ملك المشتري عن الثمن وقد علم من هذه الجملة وجه تسمية هذا القسم بالخطاب الوضعي لأن متعلقه بوضع الله تعالى أي بجعله "ففي الموقوف عليه الحكم" أي الذي وضع لحكم فكان ذلك الحكم موقوفا عليه "مع ظهور المناسبة" بين ما وضع وحكمه "الباعثة" لشرعية الحكم لذلك الموضوع "وضع العلية" كالقصاص للقتل العمد العدوان وستعلم المراد من المناسبة في بحث العلة إن شاء الله تعالى "وإلا" لو لم يكن بينهما مناسبة ظاهرة "فمع الإفضاء في الجملة" إلى ذلك الحكم "وضع السبب" كملك النصاب للزكاة "ومعه" أي وما كان مع الحكم "جعله" أي الكائن معه "دلالة عليه" أي الحكم "العلامة" كالأوقات للصلاة "وفي اعتباره" أي الموقوف عليه "داخلا في المفعول وضع الركن فإن لم ينتف حكم المركب بانتفائه" أي الموقوف عليه الداخل فيه "شرعا فالزائد" أي فهو الركن(23/197)
الزائد "كالإقرار في الأيمان على رأي" لطائفة من مشايخنا "وإلا" فإن انتفى حكم المركب بانتفائه شرعا "فالأصلي" أي فالركن الأصلي كالقيام حالة القدرة عليه في الصلاة "وغير الداخل" أي والموقوف على غير الداخل في المفعول "الشرط وقد يجامع" الشرط "السبب مع اختلاف النسبة كوقت الصلاة" فإنه شرط بالنسبة إلى الأداء سبب بالنسبة إلى وجوب الأداء "على ما فيه مما سيذكر" في الفصل الثالث "وعلى أثر العلة" أي والحكم يقال أيضا على أثر العلة "كنفس الملك" فإنه أثر للعلة التي هي البيع وقد يعبر عنه بأثر فعل المكلف "ومعلوله" أي ويقال أيضا على معلول أثر العلة مثل "إباحة الانتفاع" بالمملوك بالبيع فإنها معلولة لملكه "وعلى وصف الفعل" أي ويقال أيضا على وصف فعل المكلف حال كونه "أثرا للخطاب" الذي هو الإيجاب والتحريم "كالوجوب والحرمة" فإنهما أثر الإيجاب(23/198)
ص -99-…والتحريم وقوله "أو لا" عطف على أثر للخطاب أي أو غير أثر له "كالنافذ واللازم وغير اللازم كالوقف عنده" أي أبي حنيفة إذا لم يحكم بلزومه قاض يرى ذلك.
ثم في التلويح التحقيق أن إطلاق الحكم على خطاب الشارع وعلى أثره وعلى الأثر المرتب على العقود والفسوخ إنما هو بطريق الاشتراك ا هـ وهذا ظاهر في أن إطلاقه على كل حقيقة ويظهر أنه حقيقة في الخطاب مجاز فيما عداه وكيف والاشتراك والمجاز إذا تعارضا قدم المجاز عليه.(23/199)
"ويقال" الحكم أيضا "على التكليفي خطابه تعالى المتعلق بأفعال المكلفين طلبا أو تخييرا" فالخطاب يأتي الكلام فيه وخرج بالمتعلق بأفعال المكلفين من القلبية والجارحية المتعلق بذات الله تعالى وصفاته وذوات المكلفين والجمادات كمدلول {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255، وآل عمران: 2] الآية. {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ} [الأعراف: 11] {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} [الكهف: 47] وبما بعده نحو {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] على ما قيل كما يأتي والمراد بالطلب أعم من أن يكون للفعل أو الترك حتما أو لا وبالتخيير التخيير بينهما لتساويهما وهو الإباحة "فالتكليفي" أي فإطلاقه على ما هذا شأنه "تغليب" إذ لا تكليف في الإباحة بل ولا في الندب والكراهة التنزيهية عند الجمهور كما سيأتي "ولو أريد" بالتكليفي التكليفي "باعتبار الاعتقاد" حتى ينتفي التغليب للتكليف باعتقاد هذه على ما هي عليه "فلا تخيير" حينئذ فيجب إسقاطه من التعريف لئلا يحتمل به "وهو" أي ذكر الطلب "أوجه من قولهم بالاقتضاء إذ كان" الخطاب "نفسه" أي الاقتضاء لأنه يصير المعنى خطابه المتعلق بأفعال المكلفين بالخطاب أو التخيير نعم إن أريد بالاقتضاء الطلب فلا بأس "والأوجه دخول" الحكم "الوضعي في الجنس" للتكليفي وهو الخطاب "إذا أريد" التعريف "للأعم" أي للحكم الأعم من كل منهما "ويزاد" في تعريفه بما سبق "أو وضعا لا ما قيل لا" يزاد أو وضعا لإدخاله فإنه داخل فيه بدونه "لأن وضع السبب الاقتضاء" للفعل "عنده" أي السبب فمعنى كون الدلوك سببا أو دليلا للصلاة وجوب الإتيان بها عنده فرجع إلى الاقتضاء ومعنى جعل النجاسة مانعة من الصلاة حرمتها معها وجوازها دونها فرجع إلى التخيير وعلى هذا القياس كما ذهب إليه فخر الدين الرازي واختاره السبكي وممن أشار إلى توجيهه بهذا القاضي عضد الدين وإنما نفاه المصنف "لتقدم وضعه" أي السبب(23/200)
"على هذا الاقتضاء ولمخالفة نحو نفس الملك ووصف الفعل" فإنهما من الوضعي ولا اقتضاء فيهما فلا يعم الاقتضاء جميع أقسام الوضعي لكن على هذا أن يقال هذا إنما يضر أن لو كان إطلاق الوضعي على كل من هذين حقيقة والظاهر أنه ليس كذلك كما ذكرنا آنفا ففي الأول كفاية فإن قيل الوضعي ليس بحكم بل هو علامة له فلا يحتاج تعريف مطلق الحكم إلى زيادة أو تأويل يدخله فيه بل يتعين عدم ذلك فالجواب منع كون الوضعي الذي هو معنى قوله النفسي جعلت كذا سببا أو شرطا أو مانعا بكذا ليس بحكم على أنه لو اصطلح مصطلح عليه قيل له "وإخراجه" أي الوضعي منه(23/201)
ص -100-…"اصطلاحا إن لم يقبل المشاحة يقبل قصور ملحظ وضعه" أي الاصطلاح وفيه ما فيه "والخطاب" جار "على ظاهره على تفسيره" اصطلاحا "بالكلام الذي بحيث يوجه إلى المتهيئ لفهمه" فخرج نحو النائم والمغمى عليه "لأن النفسي بهذه الحيثية في الأزل وكونه" أي الخطاب "توجيه الكلام" نحو الغير للإفهام معنى "لغوي" له وهو هنا مراد بالمعنى الاصطلاحي لا اللغوي "والخلاف في خطاب المعدوم" في الأزل "مبني عليه" أي تفسير الخطاب "فالمانع" كونه مخاطبا "يريد الشفاهي التنجيزي إذ كان معناه توجيه" الكلام وهو صحيح إذ ليس موجها إليه في الأزل "والمثبت" كونه مخاطبا "يريد الكلام بالحيثية ومعناه قيام طلب" لفعل أو ترك "ممن سيوجد ويتهيأ" له فالخلاف حينئذ لفظي وسيعاد صدر الفصل الرابع "واعتراض المعتزلة" على هذا التعريف لمطلق الحكم "بأن الخطاب قديم عندكم" لقولكم بأنه كلامه تعالى وقدم كلامه "والحكم حادث" لأنه يقال فيما تنجس من الأشربة الطاهرة "حرم شربه بعد أن لم يكن حراما" إذ التحريم من الأحكام الشرعية وقد ذكر بأنه لم يكن ثم كان وكل ما لم يكن ثم كان فهو حادث إلى غير ذلك "مدفوع بأن المراد" به "تعلق تحريمه" فالموصوف بالحدوث التعلق "وهو" أي التعلق "حادث والتعلق يقال" مشتركا لفظيا "به" أي بهذا المعنى وهو التعلق الحادث "ويكون الكلام له متعلقات وهو" أي هذا المعنى "أزلي وباعتباره" أي هذا المعنى "أورد {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}" على تعريف مطلق الحكم إذا لم يذكر فيه بالاقتضاء والتخيير كما فعل الغزالي لصدقه عليه مع أنه ليس بحكم فلا يكون مانعا "فاحترس عنه بالاقتضاء إلى آخره" لأنه ليس فيه اقتضاء لفعل المكلفين ولا تخيير لهم فيه بل إنما هو إخبار عنهم وعن أفعالهم بخلقها له تعالى "وأجيب أيضا" عن هذا الإيراد "بمراعاة الحيثية" في المكلفين "أي من حيث هم مكلفون" والخطاب في هذه الآية لم يتعلق بأفعالهم من حيث هي أفعال مكلفين(23/202)
لشموله جميع أولاد آدم وأعمالهم بل وسائر الحيوانات وأفعالها إن جعل من باب التغليب "وعلى هذا" الجواب "فبالاقتضاء إلى آخره لبيان واقع الأقسام" لا للاحتراز عن شيء "فيسلم حد الغزالي المتروك منه ذلك" إلا أنه كما قال الشريف وقد يقال يرد على الحد بعد اعتبار الحيثية المذكورة قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الانبياء: 98] فإنه لكونه وعيدا لا يتعلق بفعل المكلف من حيث هو مكلف وليس بحكم شرعي اتفاقا "وأورد" على التعريف أيضا الحكم "المتعلق بفعل الصبي من مندوبية صلاته وصحة بيعه ووجوب الحقوق المالية في ذمته" كقيمة ما أتلفه لغيره من الأموال فإن كلا من هذه حكم شرعي غير متعلق بفعل مكلف فلا يكون جامعا "وقولهم" في جواب هذا الإيراد "التعلق" لهذه الأحكام المتوهم كونه بفعل الصبي ليس كذلك بل إنما هو "بفعل وليه" فيجب على وليه أداء الحقوق من ماله "دفع بأنه" أي المتعلق بفعل وليه "حكم آخر" مرتب عليه لا عينه وبأنه لا يصح في جواز بيعه وصحة صومه وصلاته وكونها مندوبة "فيجب أن يقال" مكان المكلفين "العباد" ذكره صدر الشريعة "وأجيب بمنع تعلق به" أي بفعل الصبي وإنما التعلق بماله أو ذمته "والصحة والفساد" حكمان "عقليان للاستقلال" للعقل(23/203)
ص -101-…"بفهم مطابقة الأمر" أي موافقة الفعل أمر الشارع التي هي معنى الصحة "وعدمها" أي موافقة الفعل أمر الشارع التي هي 1 معنى البطلان كما هما تفسيراهما عند المتكلمين أو على وجه يندفع به القضاء أو لا يندفع كما هما تفسيراهما عند الفقهاء "وإن استعقبا" أي الصحة والفساد "حكما" هو الإجزاء أو ترتب الأثر في الصحة وعدمهما في الفساد إذ العقل مستبد مثلا بمعرفة كون الصلاة مشتملة على شرائطها أو لا على كلا الرأيين حكم الشارع بكونها صحيحة أو لا "أو" هما حكمان "وضعيان" وضع الشارع الصحة للإجزاء أو اندفاع القضاء في العبادة ولترتب الأثر في المعاملة والفساد لعدم ذلك "وكون صلاته" أي الصبي "مندوبة أمر وليه بأمره" بها لما صحح ابن خزيمة وغيره عنه صلى الله عليه وسلم: "مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين وإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها" وما ذاك فيما يظهر إلا ليعتادها فلا يتركها بعد بلوغه إن شاء الله تعالى "لا خطاب الصبي بها ندبا" لأن الأمر بالأمر بالشيء ليس أمرا بذلك الشيء على ما هو المختار كما تقدم "وترتب الثواب له" أي للصبي على فعلها على وجهها "ظاهر" فإنه ليس من لوازم التكليف بل لأن من فضله تعالى أن لا يضيع أجر من أحسن عملا.(23/204)
فإن قيل الحكم الثابت بالسنة أو الإجماع أو القياس لأفعال المكلفين شرعي وهو غير داخل في تعريف الحكم لأنه ليس حكم الله تعالى بل حكم رسوله أو أهل الإجماع قلنا: ممنوع غاية الأمر أن حكم النبي دليل حكمه تعالى وكاشف عنه وكذا الباقي فلا جرم أن قال "والحكم الثابت بما سوى الكتاب داخل" في حكمه تعالى "لأنه" أي الحكم الثابت بأحد هذه "خطابه تعالى والثلاثة كاشفة" ثم قال: واعلم أنه قد ذكر بعض الحنفية أن القياس مظهر بخلاف السنة والإجماع لأنه يظهر الحكم الثابت في الأصل بالسنة أو الإجماع في الفرع بخلافهما ودفع بأنهما أيضا مظهران باعتبار أن الحكم هو القائم بالنفس فهي كلها مظهرة ولا فرق إلا باعتبار أن القياس يظهر بواسطة إظهاره تناول السنة أو الإجماع فالكل مظهر بالذات وبواسطة وحينئذ صح أن الكل مثبتة وهم صرحوا بأن السنة مثبتة فتصريحهم بأنها مثبتة مع العلم بأنها كاشفة ومظهرة بيان أنها باعتبار كشفها سميت مثبتة فلذا قال "وبهذا القدر قيل مثبتة" ومقتضاه أن يقال في نظم الكتاب إنه كاشف أيضا فقال: هو كذلك وإنما تركوا عده منه سد لطريق التحريف والنفي إذ يقال ليس كلامه بل هو كاشف عنه فيتطرق إلى ما لا يليق كما أشار إليه بقوله "وتركهم عد نظم القرآن منه سدا لطريق التحريف وإلا فهو الكاشف عن النفسي بالذات ثم قيل الصحيح" وفي شرح القاضي عضد الدين الأحسن وفي شرح السبكي الأوضح "بفعل المكلف ليدخل خصوصيته صلى الله عليه وسلم" والحكم بشهادة خزيمة وحده فإن الحكم الخاص بواحد بخصوصه لا يعم جميع المكلفين وظاهر قوله بأفعال المكلفين التناول لكل فرد منهم "ولا يفيد" العدول من المكلفين إلى المكلف ذلك "لأنه" أي
ـــــــــــــــــــ(23/205)
ص -102-…المكلف "كالمكلفين عموما ويدفع" أصل الاعتراض "بأن صدق عموم المكلفين لا يتوقف على صدور كل فعل من كل مكلف بل لو انقسمت الآحاد" من الأفعال "على الآحاد" من المكلفين بناء على أن مقابلة الجمع بالجمع تقتضي توزيع الآحاد على الآحاد فيتناول الخطاب المتعلق بالفعل المخصوص بمكلف واحد "صدق" العموم "أيضا" كما أشار إليه الإسنوي وغيره غير أن هذا غير مفيد للمراد هنا كما لا يخفى فالأوجه أنه من قبيل: زيد يركب الخيل وإن لم يركب إلا واحدا منها وليس هناك مجاز بإطلاق الجمع على الواحد بل يفهم منه أن ركوبه متعلق بجنس هذا الجمع لا بجنس الحمار مثلا، فالمراد تعلقه بجنس الفعل من جنس المكلف لا تعلقه بجميع أفعال جميع المكلفين فإنه ظاهر البطلان.(23/206)
"ثم الاقتضاء إن كان حتما لفعل غير كف فالإيجاب وهو" أي هذا "هو نفس الأمر النفسي ويسمى وجوبا أيضا باعتبار نسبته إلى الفعل" فالإيجاب والوجوب متحدان ذاتا لأنهما معنى افعل القائم بذاته المتعلق بالفعل مختلفان بالاعتبار لأنه باعتبار القيام إيجاب وباعتبار الفعل وجوب "وهو" أي الوجوب هنا مراد به "غير" المراد به في "الإطلاق المتقدم" فإن المذكور ثمة أن الوجوب يقال لصفة الفعل التي هي أثر الخطاب والمراد هنا أنه يقال لنفس الإيجاب باعتبار نسبته إلى الفعل هذا وقد أورد الوجوب مرتبا على الإيجاب يقال: أوجب الفعل فوجب وذلك ينافي الاتحاد وأجيب بجواز ترتب الشيء باعتبار على نفسه باعتبار آخر إذ مرجعه إلى ترتب أحد الاعتبارين على الآخر قال المحقق الشريف: وبهذا يجاب أيضا عما قيل: إن الإيجاب من مقولة الفعل والوجوب من مقولة الانفعال ودعوى امتناع صدق المقولات على شيء باعتبارات مختلفة محل مناقشة، نعم يتجه أن يقال ما ذكرتم إنما يدل على أن الفعل من حيث تعلق به القول لم يتصف بصفة حقيقية تسمى وجوبا لكن لم لا يجوز أن يكون له صفة اعتبارية هي المسماة بالوجوب أعني كونه حيث تعلق به الإيجاب بل هذا هو الظاهر ليكون كل من الموجب والواجب متصفا بما هو قائم به ولا شك أن القائم بالفعل ما ذكرناه لا نفس القول وإن كان هناك نسبة قيام باعتبار التعلق ولو ثبت أن الوجوب صفة حقيقية لتم المراد إذ ليس هناك صفة حقيقية سوى ما ذكر إلا أن الكلام في ذلك.(23/207)
واعلم أن هذه المنازعة لفظية إذ لا شك في خطاب نفسي قائم بذاته تعالى متعلق بالفعل يسمى إيجابا مثلا وفي أن الفعل بحيث يتعلق به ذلك الخطاب الإيجابي فلفظ الوجوب إن أطلق على ذلك الخطاب من حيث تعلق بالفعل كان الأمر على ما سلف ولا بد من المساهلة في وصف الفعل حينئذ بالوجوب وإن أطلق على كون الفعل تعلق به ذلك الخطاب لم يتحدا بالذات ويلزم المسامحة في عبارتهم حيث أطلقوا أحدهما على الآخر والله تعالى أعلم بالصواب.
"أو" كان "ترجيحا" لفعل غير كف "فالندب أو" حتما "لكف" ولا حاجة إلى "حتما"(23/208)
ص -103-…لأنه إذا تحقق الطلب الحتم لكف فالكف لا يكون إلا حتما "فالتحريم والحرمة بالاعتبار" أي فهما متحدان ذاتا لأنهما معنى قوله النفسي لا تفعل القائم بذاته تعالى بفعل هو كف، مختلفان بالاعتبار فباعتبار القيام تحريم وباعتبار التعلق حرمة وهي هنا مراد من إطلاقها "غير ما تقدم" مرادا من إطلاقها فإنها ثمة تقال لصفة الفعل الذي هو كف التي هي أثر الخطاب وهنا تقال لنفس التحريم باعتبار فعل غير كف "وظهر" من هذا "ما قدمنا من فساد تعريفهم الأمر والنهي النفسيين بتركهم حتما" في تعريفيهما "وكذا" ظهر مما تقدم في تعريفيهما الفساد "بترك الاستعلاء في التقسيم لأنه" أي التقسيم "يخرج التعريف" لاشتماله على الجنس والفصل لكل من أقسامه والاستعلاء لا بد منه في الأمر والنهي "هذا" الكلام في معرفة الإيجاب والتحريم "باعتبار نفسهما أما" الكلام في معرفتهما "باعتبار الاتصال" أي طريق وصولهما إلى المكلفين بهما بالألفاظ الدالة عليهما المنقولة إليهم "فكذلك عند غير الحنفية" أي يقال الإيجاب الطلب الحتم لفعل غير كف والتحريم الطلب لفعل كف ولا يلاحظ حال الدال "وأما هم" أي الحنفية فلاحظوا ذلك فقالوا: "فإن ثبت الطلب الجازم بقطعي" دلالة من كتاب أو وثبوتا أيضا من سنة أو إجماع "فالافتراض" إن كان المطلوب فعلا غير كف "والتحريم" إن كان المطلوب فعلا هو كف "أو" ثبت الطلب الجازم "بظني" دلالة من كتاب أو دلالة أو ثبوتا من سنة أو إجماع "فالإيجاب" إن كان المطلوب فعلا غير كف "وكراهة التحريم" إن كان المطلوب فعلا هو كف "ويشاركانهما" أي الإيجاب وكراهة التحريم الافتراض والتحريم "في استحقاق العقاب بالترك" لما هو مطلوب من كل "وعنه" أي التشارك في استحقاق العقاب بترك ما هو المطلوب من كل "قال محمد: كل مكروه حرام نوعا من التجوز" في لفظ حرام "وقالا على الحقيقة" المكروه "إلى الحرام أقرب" منه إلى الحل وإنما قلنا: مراد محمد ذلك "للقطع بأن محمدا لا(23/209)
يكفر جاحد المكروه والوجوب" كما يكفر جاحد الفرض والحرام "فلا اختلاف" بينه وبينهما في المعنى "كما يظن" ويؤيده ما ذكر غير واحد أنه ذكر محمد في المبسوط أن أبا يوسف قال لأبي حنيفة: إذا قلت في شيء أكرهه فما رأيك فيه؟ قال: التحريم ويأتي في هذا أيضا ما في لفظ محمد للقطع أيضا بأن أبا حنيفة لا يكفر جاحدا لمكروه هذا وقد بقي من أقسام الاقتضاء الكراهة فيمكن أن يزاد بعد قوله فالتحريم والحرمة بالاعتبار غير ما تقدم ما نصه أو ترجيحا فالكراهة ومتعلقها المكروه ثم يشترك الأربعة في استحقاق الثواب بالامتثال وينفرد الواجب باستحقاق العقاب بالترك والحرام باستحقاق العقاب بالفعل وأما الإباحة فهي معنى التخيير كما تقدم وهي من حيث هي لا استحقاق ثواب ولا عقاب فيها وكان أيضا يمكن أن يقال في تكميل أقسام الاقتضاء باعتبار الوصول إلى المكلفين على قاعدة الحنفية أو بظني فإيجاب إن كان لفعل غير كف وفي تركه استحقاق عقاب وندب إن كان كذلك وليس في تركه استحقاق عقاب وكراهة تحريم إن كان لفعل كف وفي فعله استحقاق عقاب وكراهة تنزيه إن كان كذلك وليس في فعله استحقاق عقاب والله سبحانه أعلم.(23/210)
ص -104-…مسألة
"أكثر المتكلمين لا تكليف" أمرا كان أو نهيا "إلا بفعل" كسبي للمكلف "وهو" أي الفعل المكلف به "في النهي كفه النفس عن المنهي" أي انتهاؤه عن المنهي عنه "ويستلزم" النهي عن الشيء "سبق الداعية" أي داعية المنهي إلى فعله "فلا تكليف قبلها" أي الداعية "تنجيزا" قال المصنف رحمه الله تعالى يعني لما كان التكليف ولو نهيا لا يكون إلا بفعل حتى أنه في النهي كف النفس يلزمه بالضرورة أن لا يتعلق النهي قبل وجود الداعية إلى الفعل المنهي عنه فإذا قال: لا تزن والفرض أن معناه كف نفسك عن الزنا لزم أن لا يتعلق قبل طلب النفس للزنا لأنه إذا لم يخطر طلبها للزنا كيف يتصور كفها عنه فلو طلب منه كفها في حال عدم طلبها طلب ما هو محال فعلى هذا يكون نحو {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} تعليق التكليف أي إذا طلبته نفسك فكفها وإلا لكان معناه إذا لم تطلبه فكفها أو إذا طلبته أو لم تطلبه فكفها وهو محال في شق عدم طلبها فلزم كون المعنى الشق الآخر وهو إذا طلبته فكفها وعلى هذا فما قيل أن أبا بكر رضي الله عنه لم تطلب نفسه الخمر في الجاهلية ولا في الإسلام فحاز فضيلة الامتثال في الحالين كلام غير متأمل بل مقتضى التحقيق أنه لم يمتثل ولا يمكن امتثاله إذ لم يتعلق به نهي منجز وليس هذا نقصا بل كرامة إذ كان نوعا من العصمة وحينئذ فلو طلبته فتوجه عليه الخطاب فكفها لا يكفها إلا لضرر يلحقه بالشرب يجب أن يكون آثما بل مصرا وما قيل أن النهي قد يسقط بلا نية ولا يثاب عليه إلا بنية غير صحيح لأنه إن أريد عدم الفعل قبل داعيته فليس بمكلف ولا آثم ولا مثاب لأنهما فرع التكليف وإن أريد الترك بعدها فهو دائر بين استحقاقه العقاب والثواب على تقديري تركه لخوف ضرره أو لموافقة أمر الله تعالى هذا في طلب الفعل الذي هو ترك فأما الفعل الذي هو غير ترك فطلبه هو الأمر فإن كان ذلك الفعل لا يتصور فعله إلا بعد داعية تركه فكذلك، أو بعد فعل آخر فهو على وزانه(23/211)
نحو: اردد كلام زيد فنقول: لا تكليف تنجيز إلا إذا تكلم زيد لأن قبل كلامه لا يتصور رده فيكون تعليقا للأمر بكلامه وإن كان لا يتوقف فإن التكليف به طلب إيجاده مطلقا نحو: اكتب وصل وزك فهو مكلف بها أي مطلوب منه فعلها وإدخالها في الوجود غير متوقف على طلب النفس تركها أو عدم خطوره والله سبحانه أعلم.
"وكثير من المعتزلة" منهم أبو هاشم المكلف به في النهي "عدمه" أي الفعل "لنا لا تكليف إلا بمقدور" كما سيأتي "والعدم غيره" أي المقدور "إذ ليس" العدم "أثرها" أي القدرة "ولا" العدم أيضا "استمراره" أي أثر القدرة لأن العدم نفي محض ولما نظر في هذا غير واحد كابن الحاجب وقرره القاضي عضد الدين بأنا لا نسلم أن استمرار العدم لا يصلح أثرا للقدرة إذ يمكنه أن لا يفعل فيستمر وأن يفعل فلا يستمر وأيضا فيكفي في طرف النفي أثرا أنه لم يشأ فلم يفعل وقال التفتازاني: وحاصله أنا لا نفسر القادر بالذي إن شاء فعل وإن شاء ترك بل إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل فيدخل في المقدور عدم الفعل إذا ترتب على عدم المشيئة وكان الفعل مما يصح ترتبه على المشيئة ويخرج العدميات التي ليست(23/212)
ص -105-…كذلك وكان هذا عند التحقيق غير مثبت للمطلوب أشار المصنف إليه مع ردة فقال: "وتفسير القادر بمن إن شاء فعل وإلا" أي وإن لم يشأ "لم يفعل لا" بمن إن شاء فعل "وإن شاء ترك وكونه لم يشأ فلم يفعل لا يوجب استمرار" العدم "الأصلي أثر القدرة به" أي المكلف "فيكون ممتثلا للنهي" فقوله وتفسير القادر مبتدأ وكونه معطوف عليه ولا يوجب خبره ثم كون كل من هذين لا يوجب هذا المطلوب غير خاف على المتأمل "بل عدم مشيئة الفعل أصلا صورة عدم الشعور بالتكليف وأما معه" أي الشعور بالتكليف الذي هو النهي "فليس الثابت" من حيث قصد الامتثال للنهي حينئذ "إلا مشيئة عدم الفعل وإن عبر عنه" أي مشيئة عدم الفعل "بعدم مشيئته" أي الفعل تسامحا ومن هنا قال الأبهري في أنه يكفي في طرف العدم أثرا أنه لم يشأ فلم يفعل أي لم يشأ الفعل وشاء عدمه فلم يفعل لا أنه فعل عدمه إذ لا يكفي في كون العدم أثرا مجرد أنه لم يشأ فلم يفعل لأن ما لم يفعله الموجب بالذات يصدق عليه أنه لم يشأ فلم يفعل وليس أثرا للقدرة بالاتفاق "فيتحقق الترك وهو" أي الترك "فعل إذا طلبته" النفس "ويثاب" المكلف "على هذا العزم" أي عزم الكف لله تعالى كما يفيده غير ما سمعي "لا على امتثال النهي إذ لم يوجد" الامتثال بمجرد العزم على الكف بل إنما يوجد بالكف هذا وقد ذكر السبكي أنه وقف على دليلين يدلان على أن الكف فعل أحدهما قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} [الفرقان:30] إذ الاتخاذ افتعال والمهجور المتروك والثاني ما رواه أبو جحيفة السوائي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أي الأعمال خير؟" فسكتوا قال: "حفظ اللسان" ا هـ وذكره الحافظ المنذري بلفظ: أي الأعمال أحب ثم قال رواه أبو الشيخ بن حبان والبيهقي وفي إسناده من لا يحضرني الآن حاله والله سبحانه أعلم.
مسألة(23/213)
"القدرة شرط التكليف بالعقل عند الحنفية والمعتزلة لقبح التكليف بما لا يطاق عقلا واستحالة نسبة القبيح إليه تعالى وبالشرع للأشاعرة" كقوله تعالى "{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ} الآية" أي {نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وكونها شرطا عندهم بالشرع "في الممكن" لذاته وإن كان غير ممكن عادة "كحمل جبل ولو كلف به حسن وهي مسألة التحسين وضده" أي والتقبيح العقليين "واختلفوا" أي الأشاعرة "في المحال لذاته" كالجمع بين الضدين "فقيل عدم جوازه" أي التكليف به "شرعي للآية" المتلوة آنفا كما مشى عليه التفتازاني في شرح العقائد "فلو كلف" الشارع "الجمع بين الضدين" كالحركة والسكون "جاز" عقلا "ونسب للأشعري" من قوله: القدرة مع الفعل وأفعال العباد مخلوقة لله تعالى وإلا فهو لم يصرح به كذا ذكره غير واحد وقال السبكي: وقد صرح الشيخ في كتاب الإيجاز بأن تكليف العاجز الذي لا يقدر على شيء أصلا وتكليف المحال الذي لا يقدر عليه المكلف صحيح وجائز ثم قال: وقد وجد تكليف الله العباد بما هو محال لا يصح وجوده خلافا لبعض أصحابنا ثم استدل بقضية أبي لهب وبإجماع الأمة على أن الكافر مكلف بالإيمان ا هـ.(23/214)
ص -106-…"وقيل" عدم جوازه "عقلي" كما هو ظاهر كلام الآمدي وابن الحاجب لاستدلالهما على نفيه بدليل عقلي وهو "لملزومية الطلب" الذي هو التكليف "تصور المطلوب على وجه المطلوبية" لأن الطلب استدعاء المطلوب المتصور وقوعه في نفس الطالب "فيتصور" المحال كالجمع بين الضدين "مثبتا" أي واقعا في الخارج "وهو" أي تصور المحال مثبتا "تصور الملزوم" الذي هو المحال "ملزوما لنقيض اللازم" وهو أي نقيض اللازم ثبوت المحال فيلزم منه تصور الأمر على خلاف ماهيته فإن ماهيته تنافي ثبوته وإلا لم يكن ممتنعا لذاته فما يكون ثابتا فهو غير ماهيته "وتصور أربعة ليست زوجا تصور أربعة ليست أربعة" لأن كل ما ليس بزوج ليس بأربعة فالمتصور حينئذ أربعة وليس بأربعة هذا خلف "ونوقض بلزوم امتناع الحكم بامتناعه خارجا" أي أورد على هذا نقض إجمالي وهو لو صح ما ذكرتم لزم امتناع الحكم بسبب امتناع المحال في الخارج "لأنه" أي الحكم بامتناعه خارجا "فرع تصوره خارجا" لأن الحكم على الشيء بدون تصوره محال لكن اللازم باطل لتحقق الحكم من العقلاء بأن الجمع بين الضدين محال "أجيب بأن اللازم" للحكم بامتناعه خارجا "تصوره" نفسه فقط "لا" تصوره "بقيد إثباته" خارجا "وهو" أي تصوره كذلك هو "الممتنع فيتصور" الحاكم "الجمع بين المختلفات" الغير المتضادة كالحلاوة والبياض "وينفيه" أي الحاكم الجمع "عنهما" أي الضدين والحاصل أنه إنما يتصور اجتماعهما منفيا "وهو" أي تصور الجمع بين المختلفات منفيا عن الضدين "كاف" في الحكم بامتناع اجتماع الضدين في الخارج "بخلاف ما يستدعيه" أي الحكم الذي يستلزمه "طلب إثباته في الخارج" فإنه يتوقف على تصوره مثبتا في الخارج "والحق أنا نعلم بالضرورة إمكان كلفتك الجمع بينهما" أي الضدين "وهو" أي إمكان هذا "إما فرع قوله النفسي ذلك" أي كلفتك الجمع بينهما "أو" فرع "العلم" بمعنى هذا "فإن استدعى" هذا "قدرا من التعقل فقد تحقق" ذلك القدر ضرورة إمكان(23/215)
الأول وذلك القدر كاف في إمكان التكليف "ولا حاجة لنا إلى تحقيقه وأيضا يمكن تصور الثبوت بين الخلافين فيكلف به" أي الثبوت "بين الضدين" قال المصنف يعني يمنع توقف التكليف بالجمع بين الضدين على تصوره واقعا بل يكفي فيه تصور الاجتماع الممكن ثم طلبه للضدين فيستدعي في الطلب مثل ما يستدعيه في الحكم "وحديث تصور المستحيل" أي الكلام المتقدم في تصوره "بما فيه" من البحث "لا وقوع له بعد ما ذكرنا" من أنا نعلم بالضرورة إمكان كلفتك الجمع بينهما "ولا خلاف في وقوع التكليف بالمحال لغيره" أي غير نفسه "كما" أي الذي "علم سبحانه عدم كونه والوجه أنه لم يتصف بالاستحالة لذلك" أي لعدم علمه بعدم كونه "لاستحالة اجتماعه" أي المحال "مع الإمكان بل هو ممكن مقطوع بعدم وقوعه".
غير أن لقائل أن يقول: هذا مناقشة لفظية لأن الوصف بالمحالية التي لا تجامع الإمكان هو الوصف بالمحالية الذاتية وليست هي المرادة في قولهم محال لغيره غايته أن إطلاق المحال على الممكن الذي منع من أحد طرفيه مانع مجازا وجعلوا التقييد بقولهم لغيره قرينة ذلك "فاستدلال المجيز" لوقوع التكليف بالمستحيل لذاته "به" أي بوقوع التكليف بالمحال(23/216)
ص -107-…لغيره واقع "في غير محل النزاع ويقتضي وقوع تكليف المستحيل لنفسه اتفاقا" وليس كذلك وكيف لا "والاتفاق" بين الأشاعرة "على نفيه" أي وقوع تكليف المستحيل لنفسه كغيرهم "وإلا" لو لم يكن الاتفاق منهم على نفيه "ناقضوا الآية" أي {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] لدلالتها على نفي الوقوع "والخلاف في جوازه" عقلا لا غير "وكذا استدلالهم" على جواز التكليف بالمحال لذاته "بأن القدرة مع الفعل وهو" أي الفعل "مخلوق له تعالى" يقتضي اتفاقهم على أن التكليف وقع به لأن التكليف واقع بلا شبهة وكل ما كلف به فالقدرة عليه لا تسبق فعله "ومنه" أي هذا الاستدلال "ألزم الأشعري القول به" أي بأن القدرة مع الفعل "ويلزم" من هذا الاستدلال "كون كل ما كلف به محالا لذاته" أي فهو محال لذاته والوجه الظاهر محالا وإنما يلزم لوجوب وجود الفعل أو عدمه لوجوب تعلق العلم بأحدهما وأيا ما كان تعين وامتنع الآخر وهو أيضا باطل بالإجماع "وقولهم" أي بالمجيزين لوقوع التكليف بالمحال لذاته "وقع" التكليف به فقد "كلف أبو لهب" أي كلفه الله تعالى "بالتصديق بما أخبر" به النبي صلى الله عليه وسلم إجماعا "وأخبر" الله تعالى "أنه" أي أبا لهب "لا يصدقه" التزاما لإخباره بأنه من أهل النار بقوله {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:3].
قلت: وما قيل ليس فيه ما يدل على أنه لا يؤمن لجواز أن يكون صليها للفسق كما ذكره البيضاوي وغيره فيه نظر لأن الحالة الراهنة حينئذ كانت مفيدة لاستحقاق ذلك كفرا ثم تقرر ذلك بموته عليه فذاك احتمال مرجوح ابتداء منتف انتهاء فلا يقدح في الظهور إن قدح في القطع وبالظهور كفاية.(23/217)
"وهو" أي تكليفه بالتصديق بما أخبر حينئذ "تكليف بأن يصدقه في أن لا يصدقه وهو" أي وتكليفه بهذا "محال لنفسه لاستلزام تصديقه عدم تصديقه غلط بل هو" أي إيمان أبي لهب "مما علم عدم وقوعه فهو" محال "لغيره" سواء "كلف" أبو لهب "بتصديقه" أي النبي صلى الله عليه وسلم "قبل علمه" أي أبي لهب بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يصدقه "أو" كلف "بعده" أي علمه بذلك "فهو" أي هذا الدليل لهم "تشكيك بعد القاطع" في أنه لم يقع وهو قوله تعالى "{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ} [البقرة: 286]الآية فهو" أي التكليف بالمحال لذاته "معلوم البطلان" عقلا غير واقع شرعا والله تعالى أعلم.
مسألة
"نقل عن الأشعري بقاء التكليف" بالفعل أي تعلقه به "حال" مباشرة ذلك "الفعل" المكلف به "واستبعد" هذا "بأنه" أي الأشعري "إن أراد أن تعلقه" أي التكليف بالفعل "لنفسه" أي التكليف "فحق" لأن حقيقة الطلب تستلزم مطلوبا عقلا غير منقطع عنه "لكن يشكل عليه" أي هذا المراد "انقطاعه" أي التكليف "بعده" أي الفعل "اتفاقا" لأن ما بالذات لا يزول بالغير بل يبقى ما دامت الذات فيبقى التكليف بعد حدوث الفعل لتحقق نفس التكليف بعده أيضا وهو باطل لانقطاعه بعد حدوث الفعل إجماعا "أو" أراد بتعلقه به حال حدوثه "تنجيز(23/218)
ص -108-…التكليف" بمعنى أن التكليف باق عليه منجزا "فباطل لأنه" أي التكليف "حينئذ" أي حين يكون المراد هذا تكليف "بإيجاد الموجود" وتعقبه المصنف بقوله "وليس" هذا كذلك "لأن ذلك" أي التكليف بإيجاد الموجود إنما يكون "بعده" أي الفعل "وكلامنا حال هذا الإيجاد وما يقال إحالة للصورة" أي صورة هذه المسألة "الفعل إن كان آنيا" أي دفعي الوجود "لم يتصور له بقاء يكون معه التكليف وإن" كان "طويلا أو ذا أفعال فحال فعله انقضى شيئا فشيئا فالمنقضي سقط تكليفه وما لم يوجد بقي" تكليفه "لا يفيد ذلك" أي إحالة الصورة "لأن الممكن آنيا" كان "أو زمانيا لا بد له من حال عدم وحال بروز" من العدم إلى الوجود "وإن لم يدرك" مقدار زمان بروزه "لسرعته وحال تقرر وجوده والبقاء إنما هو محكوم به للتكليف لا للفعل أي التكليف السابق على الفعل يبقى مع الحالة الثانية" أي حالة البروز "وإن سبقت" الحالة الثانية "اللحظة" في السرعة "وهو" أي هذا القول على هذا الوجه "صحيح ويكون نصا من الأشعري أن التكليف سبقه" أي الفعل "لا مع المباشرة كما نسب إليه لأنه باطل وإلا" لو كان التكليف مع المباشرة "انتفت المعصية" لأنه إن أتى بالمأمور به فذاك وإلا فهو غير مكلف وهو باطل إجماعا.(23/219)
"وتسبب هذا الخبط عن أن القدرة مع الفعل ولا تكليف إلا بمقدور قال إمام الحرمين" في البرهان: والذهاب إلى أن التكليف عند الفعل "مذهب لا يرتضيه لنفسه عاقل" أما أولا فلأنه خارق للإجماع لأن القاعد في حال قعوده مكلف بالقيام إلى الصلاة باتفاق أهل الإسلام وأما ثانيا فلأن التكليف طلب والطلب يستدعي مطلوبا وعدم حصوله وقت الطلب فكيف يتصور أن يطلب كائن ويقتضي حاصل "وينفي" هذا أيضا "تكليف الكافر بإيمان قبله" أي الإيمان وهو ظاهر كما هو ظاهر البطلان "والتحقيق أن القدرة صفة لها صلاحية التأثير" في المعدومات الممكنة بالإيجاد "و" القدرة "التي يقام" الفعل "بها جزئي حقيقي منها" أي القدرة الكلية المذكورة "والمتقدم والمتأخر" على هذا الجزئي منها "الأمثال فالشرط" للتكليف "مثل سابق وقد علمت أن الصلاحية" للتأثير "لازم ماهيتها" أي القدرة "فيلزم" الصلاحية "كل فرد" من أفرادها "وذاك" أي المثل السابق "مدلول عليه بسلامة آلات الفعل وصحة أسبابه فلذا فسرها" أي القدرة "الحنفية به" أي بهذا المعنى وهو سلامة الأسباب والآلات "وأما دفعه" أي قول الأشعري من المعتزلة "بأن عند المباشرة" للفعل "مع الداعية" إليه "والقدرة" عليه "يجب" الفعل "فلا يدخل تحت القدرة" لعدم التمكن من الترك ولا تكليف إلا بمقدور "فمدفوع بأنه" أي وجوب الفعل حينئذ "وجوب عن اختيار سابق في الفعل وعدم" للفعل سابق "مع إمكان" للفعل والترك "مصحح للتكليف حينئذ" أي حين الفعل "وليس" هذا الدفع بدافع لذاك الدفع "لأن الوجوب" للفعل "لا يتحقق إلا بالفعل" على التمام "في التحقيق والقدرة" للعبد "لا يقام بها الفعل عندهم" أي الأشاعرة والحنفية "بل تصاحبه" أي الفعل "إذ لا يقام" الفعل عندهم "إلا بقدرته تعالى ولا تأثير أصلا لقدرة العبد فيه" أي الفعل "أصلا فليس شرط التكليف إلا ما ذكرنا" من سلامة آلات الفعل وصحة أسبابه "ولا يستدعي" هذا المعنى(23/220)
ص -109-…"المعية" أي كون التكليف مع الفعل "فإن عنده" أي ما ذكرنا "يخلق" أي يخلق الله تعالى الفعل "عادة عند العزم المصمم" عليه للعبد فهذا كما قال المصنف: توجيه كون الشرط سلامة آلات الفعل وحاصله أنه لا معنى لاشتراط القدرة إلا أن يفسر بما ذكرنا اصطلاحا فإن حقيقة قدرة العبد لا يقام بها الفعل عند الحنفية والأشاعرة لاتفاقهم على أن الفعل مخلوق لله تعالى فاشتراط حقيقة القدرة أجنبي فالوجه كون الشرط كون المكلف بالصفة التي ذكرنا من سلامة آلات الفعل منه وصحة أسبابه "وأيضا سبق الاختيار التكلف بسبق ما قارنه" أي التكليف وهو مباشرة الفعل كما يفيده القول بأن التكليف عند المباشرة "لا يوجب وقوع الفعل امتثالا لأنه" أي الامتثال "باختياره" أي المكلف الفعل "بعد علمه بالتكليف" وهو منتف حيث كان الفعل مقارنا للتكليف والله تعالى أعلم.
"تنبيه قسم الحنفية القدرة" التي هي شرط التكليف "إلى ممكنة" على صيغة اسم الفاعل وهي أدنى ما يتمكن به المأمور من أداء المأمور به بدنيا كان أو ماليا قال صدر الشريعة: من غير حرج غالبا وإنما قيدنا بهذا لأنهم جعلوا الزاد والراحلة في الحج من قبيل القدرة الممكنة ا هـ. يعني وقد يتمكن من أداء الحج بدون الزاد والراحلة نادرا وبدون الراحلة كثيرا لكن لا يتمكن منه بدونهما إلا بحرج عظيم وفرق بين الغالب والكثير بأن كل ما ليس بكثير نادر وليس كل ما ليس بغالب نادرا بل قد يكون كثيرا واعتبر بالصحة والمرض والجذام فإن الأول غالب والثاني كثير والثالث نادر "وهي السابقة" أي سلامة آلات الفعل وصحة أسبابه "وميسرة" على صيغة اسم الفاعل ويأتي الكلام عليها.(23/221)
"والأولى" أي الممكنة "إن كان الفعل معها بالعزم غالبا" على الظن كوقت الصلاة قبل التضييق "فالواجب الأداء عينا فإن لم" يؤد "بلا تقصير" منه في ترك الأداء "حتى انقضى وقته" أي الأداء "لم يأثم وانتقل الوجوب إلى قضائه" أي ذلك الفعل "إن كان ثمة خلف وإلا" لو لم يكن له خلف "فلا قضاء ولا إثم أو" إن لم يؤد "بتقصير أثم على الحالين" أي فيما له خلف وما لا خلف له كصلاة العيدين "وإن لم يكن" الفعل معها "غالبا" على الظن "وجب الأداء لخلفه لا لعينه" أي ليظهر الوجوب في القضاء فإنه فرع وجود 1 الأداء عند المحققين "كالأهلية في الجزء الأخير من الوقت" هذا مثال ما يجب فيه الأداء ولا إثم بعدمه بل ليظهر في القضاء يعني لو كان غير أهل للوجوب للأداء في الوقت إلى أن بقي منه ما لا يتجزأ للأداء فيثبت أهليته بزوال الصغر بالبلوغ والحيض بالطهر والكفر بالإسلام "خلافا لزفر لاعتباره إياها" أي الأهلية "قبله" أي الجزء الأخير "عند ما يسعه" أي الأداء والشافعي ما يسع ركعة بل يجب القضاء بلا تقدم وجوب الأداء وعلل المذهب بقوله "لأنه لا قطع بالأخير لإمكان الامتداد" يعني لا قاطع بأن ذلك الجزء الذي ثبتت فيه الأهلية آخر الأجزاء بل كل جزء يتوهم
ـــــــــــــــــــ
1 وجود الأداء كذا في جميع النسخ ولعل الصواب بالباء. وحرر كتبه مصححه.(23/222)
ص -110-…معه أنه ليس آخرا فأي جزء كان معه سلامة آلات الفعل يجب عنده التكليف "ولا يشترط بقاؤها" أي القدرة الممكنة "للقضاء" كما للأداء فيجب القضاء وإن كان في وقت عدم القدرة عليه "لأن اشتراطها" للأداء "لاتجاه التكليف وقد تحققت ووجوب القضاء بقاء ذلك الوجوب لاتحاد سببهما" أي الأداء والقضاء "عندهم" أي الحنفية "فلم يتكرر" الوجوب "لتتكرر" القدرة "فوجوب الصلوات الكثيرة" قضاء "في آخر نفس" من الحياة "عين وجوبها" أداء "المستكمل لشرطه" من سلامة الأسباب والآلات "لكنه" أي القاضي "قصر" حتى ضاق ما بقي له من وقت الحياة عن فعلها "وأيضا لو لم يجب" قضاء الصلاة "إلا بقدرة متجددة لم يأثم بترك" للقضاء "بلا عذر وذلك" أي عدم الإثم بالترك "يبطل نفي وجوبها" قضاء "فيخص {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ} الآية الأداء" فإن مقتضاها انتفاء التكليف عند عدم الوسع ولا شك أن في القضاء تكليفا قائما وإن كان هو التكليف السابق ابتداؤه مع عدم الوسع "كما أوجبته" أي التخصيص "نصوص قضاء الصوم" كقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] "والصلاة" كقوله صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" متفق عليه "الموجبة" هي أي نصوص القضاء "الإثم بتركه" أي القضاء بلا عذر "المستلزم لتعلقه" أي القضاء "في آخر نفس وإلا" لو لم يأثم بالترك بلا عذر "انتفى إيجابها" أي نصوص القضاء "للقضاء" لأن موجب الفعل معناه المثبت للوجوب وهو ما ينتهض تركه سببا للعقاب "وأيضا الإجماع على التأثيم" بالترك بلا عذر "إجماع عليه" أي تخصيص الآية كما ذكرنا "ومن الممكنة الزاد والراحلة" أي ملكهما ذاتا أو منفعة بطريق الإجارة في الراحلة بحيث يتوصل بهما إلى الحج "للحج" لأنه لا يتمكن من إقامته إلا به في العادة في جنس المكلفين وكون بعضهم يقدر بالمشي لا يعتبر التكليف باعتباره وليس من القدرة الميسرة لأن ذلك لو توقف التكليف على مراكب وخدم(23/223)
وأعوان وأسباب كثيرة ولم يشرط في وجوبه ذلك بل أن يقدر على أن يكتري رأس زاملة أو شق محمل له مع زاده فإن بدون هذا لا يتحقق قدرة السفر في العادة "والمال" أي وملك المال الذي يتعلق به وجوب صدقة الفطر "لصدقة الفطر فلا تسقط" صدقة الفطر "بهلاكها" أي هذه القدرة بواسطة هلاك المال.
"الثانية الميسرة الزائدة على الأولى باليسر فضلا منه تعالى" على العباد لحصول السهولة في الأداء باشتراطها ولهذا شرطت في أكثر الواجبات المالية لا البدنية لأن أداءها أشق على النفس من البدنية إذ المال محبوب النفس في حق العامة ومفارقة المحبوب بالاختيار أمر شاق "كالزكاة زادت" القدرة المتعلق بها وجوبها "على أصل الإمكان" للفعل "كون المخرج قليلا جدا من كثير وكونه" أي المخرج واقعا "مرة بعد الحول الممكن من الاستنماء فتقيد الوجوب به" أي باليسر "فسقط" الوجوب "بالهلاك" للمال لفوات القدرة الميسرة التي هي وصف النماء إذ بقاؤها شرط لبقاء الواجب بها لأن الحق المستحق متى وجب بوصف لا يبقى إلا كذلك لأن الباقي عين الواجب ابتداء كالملك إذا ثبت مبيعا أو هبة أو إرثا يبقى كذلك وهذا الواجب وجب بعض نماء المال حقيقة أو تقديرا فلو بقي بعد(23/224)
ص -111-…هلاك ذلك المال كما ذهب إليه الشافعي لانقلب غرامة فلا يكون الباقي ما كان واجبا ابتداء "وانتفى" الوجوب "بالدين" الذي له مطالب من جهة العباد لمنافاته اليسر والغنى لكون المال مشغولا بالحاجة الأصلية وهي قضاء الدين واليسر إنما يتحقق بما فضل عنها ومن ثمة لا يجب في دور السكنى وأثاث المنزل وعبيد الخدمة ونحوها وإنما لم يقل فسقط بالهلاك والدين لأن السقوط فرع الثبوت وبالدين لم تجب من الابتداء لا أنها وجبت ثم سقطت وإنما قيدناه بما له مطالب من العباد لأن ما ليس كذلك كالنذور والكفارات لا ينفي الوجوب "وإلا" لو لم يسقط بهلاك النصاب ولم ينتف بالدين المذكور "انقلب" اليسر "عسرا" أي يصير الواجب المقيد باليسر غير مقيد به "بخلاف الاستهلاك" للنصاب بعد توفر شروط الوجوب فيه إنما لم يسقط "لتعديه" أي المالك "على حق الفقراء" بالإهلاك حيث ألقاه في البحر أو أنفقه في حاجته إلى غير ذلك واشتراط بقاء القدرة الميسرة إنما كان نظرا له وقد خرج بالتعدي عن استحقاقه النظر فلم يسقط الوجوب أو القدرة الميسرة جعلت باقية تقديرا زجرا له عن التعدي وردا لقصده إسقاط الحق الواجب عن نفسه ونظرا للفقير.(23/225)
"وهو" أي سقوط الواجب بهلاك النصاب "بناء على أنه" أي الواجب في عرف الشارع "جزء من العين" أي نفس المخرج حقا لله تعالى من النصاب كما يشهد به قوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] إذ معلوم أن متعلق الإيتاء هو المال إلى غير ذلك وإن كانت في عرف الفقهاء كما قال المصنف: نفس الإيتاء لأنهم يصفونه بالوجوب ومتعلق الأحكام الشرعية أفعال المكلفين "ولذا" أي ولكون الزكاة جزءا من العين "سقطت بدفع النصاب" أي بالتصدق به "بلا نية" أصلا أو بنية النفل لوصول الجزء الواجب إلى مستحقه وهو لا يحتاج إلى نية تخصه بعد وقوعه قربة إلا عند المزاحمة بينه وبين سائر الأجزاء والفرض وقوعه قربة وانتفاء المزاحمة لأداء الكل لله تعالى "وكذا الكفارة" لليمين وجوبها بقدرة ميسرة "بدليل تخيير القادر على الأعلى بينه" أي الأعلى "وبين الأدنى" أي بين التحرير والكسوة والإطعام المتفاوتة في المالية تفاوتا ظاهرا عادة فإن هذا إذن للمخير في الترفق بما هو الأيسر عليه بخلاف صدقة الفطر فإن التخيير فيها وإن وقع بين مختلفات في الصورة فهي متماثلة في المعنى لأن مقدار مالية نصف صاع من بر كان مساويا عندهم لقيمة صاع من شعير أو تمر فلا يفيد التخيير فيها التيسير قصدا بل التأكيد فلا جرم أن كان وجوبها بقدرة ممكنة.
"ولم يشرط في إجزاء الصوم" في الكفارة "العجز المستدام" إلى الموت "كما" شرط "في الفدية" في صوم رمضان بالنسبة إلى المكلف المسن العاجز عنه "والحج عن الغير" الحي القادر على النفقة العاجز عن الحج بنفسه "فلو أيسر" المكفر بالصيام لعجزه عن الخصال الثلاث "بعده" أي الصيام "لا يبطل" التكفير به بخلاف المسن العاجز عن الصيام فإنه إذا قدر على الصيام بعد الفدية بطلت ووجب عليه القضاء والمحجوج عنه المذكور فإنه إذا قدر على الحج بنفسه وجب عليه الحج بنفسه وكيف لا ولو كان المراد بعدم وجدان الخصال الثلاث(23/226)
ص -112-…عدمه في العمر لبطل ترتب الصوم عليه لأن العجز عنها حينئذ لا يتحقق إلا في آخر العمر وبعده لا يتصور أداء الصوم فعلم أن المراد به العجز في الحال مع احتمال أن يحصل القدرة في الاستقبال.
"ولو فرط" الموسر الذي وجبت عليه الكفارة في التكفير بالمال "حتى هلك المال انتقل" وجوب التكفير به "إلى الصوم" أي التكفير به "بخلاف الحج" فإنه لو فرط من وجب عليه الحج حتى عجز لا يسقط عنه حتى لو لم يقدر عليه حتى مات كان مؤاخذا به في الآخرة لأنه مبني على القدرة الممكنة كما سلف "وإنما ساوى الاستهلاك" للمال "الهلاك" في سقوط الكفارة بالمال ولم يساوه في سقوط الزكاة مع تساويهما في البناء على القدرة الميسرة "لعدم تعين المال" في الكفارة للتكفير به فلا يكون الاستهلاك تعديا "بخلافه" أي المال "في الزكاة" فإن الواجب جزء من النصاب كما تقدم آنفا فإذا استهلكه فقد استهلك الواجب وبهذا يخرج الجواب عن إشكال آخر وهو أن الواجب المالي في الكفارة يعود بعد هلاك المال بإصابة مال آخر قبل التكفير بالصوم ولا يعود في الزكاة فتكون دون الزكاة وتوضيحه أن الشرع اعتبر القدرة في الزكاة على الأداء بالمال الذي وجبت الزكاة بسببه لا بمال آخر فبعد فوات ما وجب منه لا تثبت القدرة على الأداء بحصول مال آخر فلا يعود الوجوب فأما الكفارة فيتعلق الوجوب فيها بمطلق المال لأن المقصود ما يصلح للتقرب الموجب للثواب الساتر لإثم الحنث ولهذا لم يشترط فيه النماء فكان المال الموجود وقت الحنث وبعده سواء في ثبوت القدرة على التكفير به "ونقض" الدليل الدال على كون وجوب الزكاة بناء على القدرة الميسرة وهو عدم وجوبها مع الدين الذي له مطالب من العباد "بوجوبها" أي الكفارة بالمال "مع الدين بخلاف الزكاة" بأن يقال لو كان الدين منافيا لليسر في الزكاة مانعا من وجوبها لكان منافيا له في الكفارة مانعا من وجوبها لكون المال فيهما مشغولا بالحاجة الأصلية وهي قضاء الدين(23/227)
لكن الكفارة واجبة مع الدين فانتقض ما ذكرتم به "أجيب بمنعه" أي وجوب الكفارة بالمال مع الدين "كقول بعضهم" أي المشايخ كما في الزكاة إجماعا فلا نقض "وبالفرق" بينهما على قول الأخيرين "بأن وجوب الزكاة للأغنياء شكرا لنعمة الغنى وهو" أي الغنى "منتف بالدين" إن استغرق "أو يقصر" الغنى "بقدره" أي الدين إن لم يستغرق "والكفارة" إنما شرعت "للزجر" للحالف عن هتك حرمة اسم الله تعالى "والستر" لجنابته عليه بذلك لما فيها من معنى العبادة "والإغناء غير مقصود بها" بالذات "ولذا" أي ولكونها للزجر والستر والإغناء غير مقصود بها "تأدت بالعتق والصوم" لوجود الزجر والستر وانتفاء الغنى فيهما.
مسألة
"قيل" والقائل غير واحد كالآمدي وابن الحاجب "حصول الشرط الشرعي" لشيء "ليس شرطا للتكليف" أي لصحته بذلك الشيء "خلافا للحنفية وفرض الكلام في بعض جزئيات محل النزاع وهو" أي البعض "تكليف الكفار بالفروع" كالصلاة والزكاة والحج قال(23/228)
ص -113-…المصنف: "ولا يحسن بعاقل" مخالفة هذا الأصل الكلي على صرافته مطلقا كما سيظهر فلا يحسن نسبتها إلى هؤلاء الأئمة المحققين والجلة المدققين على أن كتبهم الشهيرة ليس فيها ذلك وعزي أيضا إلى أبي حامد الإسفراييني من الشافعية وابن خويز منداد من المالكية وعبد الجبار وأبي هاشم في جماعة من المتكلمين والله تعالى أعلم بحقيقة ذلك وقيد الشرط بالشرعي لأن حصول الشرط العقلي للفعل شرط للتكليف به إن لم يمكن تحصيله للمكلف حتى ينتفي التكليف بانتفائه وليس شرطا فيه إن أمكنه تحصيله وأما اللغوي فاستعماله غالبا في السبب "بل هي" أي مسألة تكليف الكفار بالفروع "تمام محله" أي النزاع كما هو ظاهر البيضاوي "والخلاف" بين الحنفية والشافعية "فيها غير مبني على ذلك" أي أن حصول الشرط الشرعي ليس شرطا للتكليف خلافا للحنفية "المستلزم عدم جواز التكليف بالصلاة حال الحدث بل" الخلاف فيها "ابتداء في جواز التكليف بما شرط في صحته الإيمان حال عدمه" أي الإيمان "فمشايخ سمرقند" منهم الأئمة أبو زيد وشمس الأئمة وفخر الإسلام غير مكلفين بما الإيمان شرط لصحته "لخصوصية فيه" أي الإيمان "لا لجهة عمومه" أي الإيمان "وهو" أي عمومه "كونه شرطا وهي" أي الخصوصية فيه "أنه أعظم العبادات" وكيف لا وهو رأس الطاعات وأساس القربات وهو المقصود بالذات "فلا يجعل شرطا تابعا في التكليف" لما هو دونه لأن فيه قلب الأصول ونقض المعقول وأجيب بأن ثبوت وجوب الإيمان بالأوامر المستقلة الواردة فيه لا أنه يثبت في ضمن الفروع فيكون ثبوت وجوبه بالعبارة لا بالاقتضاء وتعقب بأن ثبوته بالعبارة لا ينفي ثبوته بالاقتضاء أيضا وأن الحق أن يقال يثبت الوجوب بهما ولا فساد نعم لو لم يكن العبارة لزم المحذور وهو ممنوع "ومن سواهم" أي مشايخ سمرقند من الحنفية "متفقون على تكليفهم" أي الكفار "بها" أي الفروع "وإنما اختلفوا في أنه" أي التكليف "في حق الأداء كالاعتقاد أو" في حق(23/229)
"الاعتقاد" فقط "فالعراقيون" الكفار مخاطبون "بالأول" أي الأداء والاعتقاد "كالشافعية فيعاقبون على تركهما والبخاريون" مخاطبون "بالثاني" أي بالاعتقاد "فعليه" أي تركه "فقط يعاقبون وليس" جواب هذه المسألة "محفوظا عن أبي حنيفة وأصحابه" نصا "بل أخذها" أي هذه المقالة وهي أن الكفار غير مخاطبين بالعبادات في حق الأداء "هؤلاء" أي البخاريون "من قول محمد" في المبسوط "فيمن نذر صوم شهر فارتد" ثم أسلم "لم يلزمه" من المنذور شيء لأن الردة تبطل كل عبادة ومعلوم أنه لم يرد بهذا التعليل العبادة المؤداة وهو ما أدى المنذور بعد "فعلم أن الكفر يبطل وجوب أداء العبادات بخلاف الاستدلال بسقوط الصلاة أيام الردة" على هذا فإنه غير موجب له "لجواز سقوطه" أي وجوب القضاء "بالإسلام كالإسلام بعد" الكفر "الأصلي" لقوله تعالى: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] والسقوط بإسقاط من له الحق لا يكون دليل انتفاء أصل الوجوب "ولو قيل الردة تبطل القرب" لأنها حسنات والردة تحبطها "والتزام القربة في الذمة قربة فيبطل" النذر "لم يلزم ذلك" أي أخذ الجواب المذكور من مسألة النذر.(23/230)
ص -114-…قال الشيخ سراج الدين الهندي رحمه الله تعالى: وقد ظفرت بمسائل عن أصحابنا تدل على أن مذهبهم ذلك وهي: كافر دخل مكة ثم أسلم وأحرم لا يلزمه دم لأنه لا يجب عليه أن يدخلها محرما ولو كان له عبد مسلم لا يلزمه صدقة الفطر عنه لأنها ليست واجبة عليه ولو حلف ثم أسلم وحنث فيه لا تجب عليه الكفارة والكتابية المطلقة الرجعية تنقطع رجعتها بانقطاع دم حيضتها الثالثة لعدم وجوب الغسل عليها ولزوم الأحكام بخلاف المسلمة فإنها لا تنقطع رجعتها حتى يعتضد الانقطاع بالاغتسال أو لزوم حكم من أحكام الطاهرات بمضي وقت الصلاة وقيل: الخلاف بيننا وبين الشافعي مبني على أن ديانة الكافر واعتقاده دافعة للتعرض دون خطاب الشرع عند الشافعي ودافعة للتعرض والخطاب في الأحكام التي تحتمل التغيير عند أبي حنيفة وفي المحصول وغيره ومن الناس من قال بتناولهم النواهي لصحة انتهائهم عن المنهيات دون الأوامر لعدم صحة إقدامهم على المأمورات.(23/231)
"وظاهر" قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ. الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}. وقوله تعالى: {إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر: 39-47] دليل ظاهر "للعراقيين" أما ظاهر الأولى فواضح وأما ظاهر الثانية فكذلك لإفادتها أن مما سلكهم في سقر ترك الصلاة والإطعام الواجبين عليهم لاستحالة التعذيب شرعا على ما ليس بواجب عليهم "وخلافه" أي ظاهر كل منهما كأن يكون المراد بالأولى لا يفعلون ما يزكي أنفسهم وهو الإيمان والطاعة والمراد من الثانية لم نك من المؤمنين لأنهم قد يرادون بالمؤمنين1 كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "نهيت عن قتل المصلين" أو لم نك من المعتقدين فرضية الصلاة فيكون العذاب على ترك الاعتقاد أو أن يكون غير المصلين غير المكذبين المذكورين لاشتمال النار على المكذبين الكفار وغير المكذبين المسلمين الذين تركوا الصلاة والزكاة وتناول المجرمين الكل فيكون المجموع قول المجموع على التوزيع لا أن المجموع قول كل من المجرمين "تأويل" لم يعينه دليل "وترتيب الدعوة في حديث معاذ" لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: "ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم" أخرجه الستة "لا يوجب توقف التكليف" بوجوب أداء الشرائع على الإجابة بالإيمان كما في جامع الأسرار ألا يرى أنه ذكر افتراض الزكاة بعد الصلاة ولا قائل بأن الزكاة إنما تجب بعد الصلاة في حق من آمن غاية ما(23/232)
فيه تقديم الأهم فالأهم مع مراعاة التخفيف في التبليغ "وأما" إنهم مخاطبون "بالعقوبات والمعاملات فاتفاق" وقالوا في وجه
ـــــــــــــــــــ
1 بالمؤمنين كذا في الأصول التي بيدنا والمناسب بالمصلين فتأمل. كتبه مصححه.(23/233)
ص -115-…العقوبات لأنها تقام بطريق الجزاء لتكون زاجرة عن ارتكاب أسبابها وباعتقاد حرمتها يتحقق ذلك والكفار أليق به من المؤمنين وفي وجه المعاملات لأن المطلوب بها معنى دنيوي وذلك بهم أليق لأنهم آثروا الدنيا على الآخرة ولأنهم التزموا بعقد الذمة ما يرجع إليها والله سبحانه أعلم.
"الفصل الثاني" في الحاكم
"الحاكم لا خلاف في أنه الله رب العالمين ثم الأشعرية لا يتعلق له تعالى حكم" بأفعال المكلف "قبل بعثة" لرسول إليه "وبلوغ دعوة" من الله تعالى إليه "فلا يحرم كفر ولا يجب إيمان" قبل ذلك "والمعتزلة يتعلق" له تعالى حكم "مما أدرك العقل فيه" من أفعال المكلفين "صفة حسن أو قبح لذاته" أي الفعل تقتضيهما كحسن الصدق النافع وقبح الكذب المضر "عند قدمائهم و" عند "طائفة" منهم يتعلق به "لصفة" توجبه فيهما بمعنى أن لها مدخلا في ذلك للقطع بأنها لا تستقل بدون الذات "والجبائية" أبو علي الجبائي وأتباعه ذهبوا إلى أنه يتعلق به "لوجوه واعتبارات" مختلفة توجبه فيهما كلطم اليتيم فإنه باعتبار التأديب حسن وباعتبار مجرد التعذيب قبيح "وقيل" وقائله: أبو الحسين: منهم يتعلق به "لصفة في القبح" فقط "وعدمها" أي الصفة الموجبة للقبح "كاف في" ثبوت "الحسن" ولا حاجة له إلى صفة محسنة "وما لم يدرك فيه" العقل صفة حسن أو قبح كصوم آخر يوم من رمضان وفطر أول يوم من شوال إنما يتعلق الحكم به "بالشرع والمدرك" من الصفات "إما حسن فعل بحيث يقبح تركه فواجب" أي فذلك الفعل واجب "وإلا" فإن كان حسنه بحيث لا يقبح تركه "فمندوب أو" المدرك حسن "ترك على وزانه" أي الفعل "فحرام" ذلك الفعل إن ثبت بفعله القبح "ومكروه" إن لم يثبت بفعله القبح "والحنفية" قالوا "للفعل" صفة حسن وقبح "كما تقدم" في ذيل النهي وكل منهما "فلنفسه" أي الفعل "وغيره" أي الفعل "وبه" أي وبسبب ما بالفعل من الصفة "يدرك العقل حكمه تعالى فيه" أي الفعل "فلا حكم له" أي العقل إن الحكم إلا لله(23/234)
غير أن العقل "إنما استقل بدرك بعض أحكامه تعالى" فلا جرم أن قال المصنف: وهذا هو عين قول المعتزلة لا كما يحرفه بعضهم "ثم منهم كأبي منصور من أثبت وجوب الإيمان وحرمة الكفر ونسبة ما هو شنيع إليه تعالى كالكذب والسفه وهو" أي هذا المجموع "وجوب شكر المنعم وزاد أبو منصور" وكثير من مشايخ العراق "إيجابه" أي الإيمان "على الصبي العاقل" الذي يناظر في وحدانية الله تعالى كما صرح به غير واحد "ونقلوا عنه" أي أبي حنيفة وكان الأولى التصريح به "لو لم يبعث الله للناس رسولا لوجب عليهم معرفته بعقولهم والبخاريون لا تعلق" لحكم الله تعالى بفعل المكلف قبل بعثه رسولا إليه وتبليغه حكم الله في ذلك "كالأشاعرة وهو المختار وحاصل مختار فخر الإسلام والقاضي أبي زيد" وشمس الأئمة الحلواني ومن تابعهم "النفي" لوجوب أداء الإيمان "عن الصبي لرواية عدم انفساخ النكاح" أي نكاح المراهقة وهي المقاربة للبلوغ إذا كانت بين أبوين مسلمين تحت زوج مسلم "بعدم وصف المراهقة الإسلام" إذا عقلت واستوصفته فلم تقدر على وصفه ذكره في الجامع الكبير إذ لو كان الصبي العاقل مكلفا(23/235)
ص -116-…بالإيمان لبانت من زوجها كما لو بلغت غير واصفة ولا قادرة على وصفه وأما نفس الوجوب فثابت كما يأتي في الفصل الرابع "وفي البالغ" الناشئ على شاهق ونحوه إذا "لم تبلغه دعوة لا يكلف به" أي الإيمان "بمجرد عقله ما لم تمض مدة التأمل وقدرها" أي المدة مفوض "إليه تعالى" إذ ليس عليه دليل فإن مضت مدة يعلم ربه بأنه يقدر على ذلك ولم يؤمن يعاقب عليه وإلا فلا وما قيل هي مقدرة بثلاثة أيام اعتبارا بالمرتد فإنه يمهل ثلاثة أيام ليس بقوي لأن مدة التجربة تختلف باختلاف الأشخاص لأن العقول متفاوتة فرب عاقل يهتدي في زمان قليل ما لا يهتدي إليه غيره في زمان كثير "فلو مات قبلها" أي المدة "غير معتقد إيمانا ولا كفرا لا عقاب" عليه "أو" مات "معتقدا الكفر" واصفا له أو غير واصف "خلد" في النار لأن اعتقاد الشرك دليل خطور الصانع بباله ووقوع نوع استدلال منه فلم يبق له عذر "وكذا" يخلد في النار "إذا مات بعدها" أي المدة "غير معتقد" إيمانا ولا كفرا وإن لم تبلغه الدعوة لأن الإمهال وإدراك مدة التأميل بمنزلة دعوة الرسل في حق تنبيه القلب من نوم الغفلة فلا يعذر "وبهذا" التحرير "يبطل الجمع" الذي ذكره الشيخ أكمل الدين بين مذهب الأشاعرة وغيرهم "بأن قول الوجوب معناه ترجيح العقل الفعل والحرمة ترجيحه" أي العقل "الترك" هذا "بعد كونه" أي هذا الجمع "خلاف الظاهر وما ذكرناه عن البخاريين" نقله في الميزان عنهم بلفظ وهو اختيار بعض مشايخ بخارى وغيرهم وقال المصنف: "نقله المحقق ابن عين الدولة عنهم غير أنه قال: أئمة بخارى الذين شاهدناهم كانوا على القول الأول يعني قول الأشاعرة وحكموا بأن المراد من رواية لا عذر لأحد في الجهل بخالقه لما يرى من خلق السموات والأرض وخلق نفسه بعد البعثة" وهذه الرواية في المنتقى ثم في الميزان عن محمد بن سماعة عن محمد بن الحسن عن أبي حنيفة وفي غيره كجامع الأسرار عن أبي يوسف عن أبي حنيفة "فيجب" على هذا "حمل(23/236)
الوجوب في قوله" أي أبي حنيفة السالف "لوجب عليهم معرفته بعقولهم على ما ينبغي".
قلت: لكن بقيته وهي قوله وأما في الشرائع فمعذور حتى تقوم عليه الحجة بمجيء الشرع لا يلائم حكمهم المذكور فإن الإيمان يكون مساويا للشرائع حينئذ وأبو حنيفة نفسه قد خالف بينه وبينها في الحكم.
"وكلهم" أي الحنفية "على امتناع تعذيب الطائع عليه تعالى وتكليف ما لا يطاق" لذاته "فتمت" محال النزاع "ثلاثة اتصاف الفعل" بالحسن والقبح وهذا هو الأول "ومنع استلزامه" أي الاتصاف "حكما في العبد وإثباته" أي إثبات استلزام الاتصاف حكما في العبد وهذا هو الثاني "واستلزامه" أي الاتصاف "منعهما" أي تعذيب الطائع وتكليف ما لا يطاق "منه" تعالى وهذا هو الثالث "ولا نزاع في دركه" أي العقل صفة "للفعل بمعنى صفة الكمال" كما هو قد يراد بالحسن "و" صفة "النقص" كما هو قد يراد بالقبيح "كالعلم والجهل" فيقال العلم حسن والجهل قبيح "ولا فيهما بمعنى المدح والذم" أي ولا نزاع(23/237)
ص -117-…أيضا في إدراك العقل الحسن فيما يطلق عليه الحسن مما يكون متعلق المدح "في مجاري العادات" والقبح فيما يطلق عليه القبيح مما يكون متعلق الذم في مجاري العادات "بل" النزاع في إدراك العقل الحسن والقبح "فيهما" أي الحسن والقبيح أي فيما يطلقان عليه "بمعنى استحقاق مدحه تعالى وثوابه" للفاعل على ذلك الفعل كما هو قد يراد بالحسن "ومقابلهما" أي وبمعنى استحقاق ذمه تعالى وعقابه للفاعل على ذلك الفعل كما هو قد يراد بالقبيح "لنا في الأول" أي اتصاف الفعل بالحسن والقبح "أن قبح الظلم ومقابلة الإحسان بالإساءة مما اتفق عليه العقلاء حتى من لا يتدين بدين" ولا يقول بشرع كالبراهمة والدهرية وذلك "مع اختلاف عاداتهم وأغراضهم فلولا أنه" أي اتصاف الفعل بذلك "يدرك بالضرورة في الفعل لذاته لم يكن ذلك" الاتفاق "ومنع الاتفاق على كون الحسن والقبح متعلقها" أي الأحكام "منه تعالى" كما في شرح المقاصد "لا يمسنا" لأنا لم نقل: مجرد اتصاف الفعل بالحسن والقبح يستلزم حكما منه تعالى على المكلف أو له بل ذهبنا إلى أنه إنما يتعلق ذلك به بالسمع "وقولهم" أي الأشاعرة في دفع هذا الاتصاف بالحسن والقبح قد يكون "مما اتفقت فيه الأغراض والعادات واستحق به المدح والذم في نظر العقول لتعلق مصالح الكل به" أي بذلك الفعل فلا يكون اتصافه بأحدهما ذاتيا "لا يفيد" دفعه "بل هو" أي الاتصاف بأحدهما على هذا الوجه هو "المراد بالذاتي" أي بكون الفعل موصوفا بالحسن أو القبح لذاته "للقطع بأن مجرد حركة اليد قتلا ظلما لا تزيد حقيقتها" أي حركتها بذلك "على حقيقتها" أي حركتها قتلا "عدلا فلو كان الذاتي" هو ما يكون "مقتضى الذات اتحد لازمهما" أي الحركتين "حسنا وقبحا" وليس كذلك قطعا "فإنما يراد" بالذاتي "ما يجزم به العقل لفعل من الصفة" التي هي الحسن أو القبح "بمجرد تعقله" أي الفعل حال كون هذا المجزوم به "كأينا عن صفة نفس من قام به" ذلك الفعل "فباعتبارها" أي(23/238)
تلك الصفة الجازم بها العقل للفعل على هذا الوجه "يوصف" ذلك الفعل "بأنه عدل حسن أو ضده" أي أو ظلم قبيح "هذا باضطرار الدليل" أي اتحاد حركة اليد في العدل والظلم في القتل "ويوجب كونه" أي اتصاف الفعل بالحسن والقبح مطلقا إنما هو "لخارج" عن الفعل "ومثله" أي الاتفاق على اتصاف الفعل بالحسن والقبح في إفادة المطلوب "ترجيح الصدق" أي ترجيح العقل إياه على الكذب "ممن استوى في تحصيل غرضه" من جلب نفع أو دفع ضر "هو" أي الصدق "والكذب ولا علم له بشريعة" تفيد حسن الصدق وقبح الكذب إذ لولا أن حسن الصدق ثابت له في ذاته ومعلوم بالضرورة لما كان كذلك "والجواب" عن هذا من قبل الأشاعرة "بأن الإيثار" من العقل للصدق على الكذب في هذا "ليس لحسنه" أي الصدق "عنده تعالى" بل إنما هو لحسنه في حقنا "ليس يضرنا" لأنا إنما قلناه بالنسبة إلينا وإنه لا يستلزم تعلق حكم الله تعالى على المكلف أو له بل ذلك بالسمع وإنما يضر المعتزلة القائلين بتعلق أحكام الله به من غير توقف على سمع "نعم" يرد "عليه" أي هذا الدليل "منع الترجيح" للصدق على الكذب "على التقدير"(23/239)
ص -118-…أي تقدير عدم مساواة الصدق على الكذب1 في حصول الغرض فإن على هذا التقدير قد يرجح العقل الكذب على الصدق كما يظهر في تقرير قوله "قالوا" أي الأشاعرة: أولا "لو اتصف" الفعل بالحسن والقبح "كذلك" أي اتصافا ذاتيا "لم يتخلف" كل منهما عما اتصف به في سائر موارده "وتخلف" قبح الكذب "في تعينه" أي الكذب طريقا "لعصمة نبي" من ظالم فإنه حسن واجب إلى غير ذلك من الأفعال التي تجب تارة وتحرم أخرى "والجواب هو" أي تعين الكذب للغرض المذكور "على قبحه" أي معه غير أنه رفع الإثم عنه شرعا للضرورة كما في إجراء كلمة الكفر على اللسان رخصة سلمنا أنه صار حسنا لكن لا لذاته بل لما لازمه من الإنقاذ للنبي "وحسن الإنقاذ" أي التخليص للنبي "يربو" أي يزيد "قبح تركه" أي التخليص "عليه" أي الكذب الذي به الإنقاذ "وغاية ما يستلزم" هذا "أنهما" أي الحسن والقبح فيه "لخارج لكنهما" أي الحسن والقبح "من جهتين" فالقبح من جهة كونه لم يتعلق به مصلحة والحسن من جهة أنه تعلق به مصلحة "ترجحت إحداهما" وهي جهة الحسن على جهة القبح "وقيل هو" أي تعين الكذب "فرض ما ليس بواقع إذ لا كذب إلا وعنه مندوحة التعريض" أي سعته فيجوز أن يحصل النجاة بأن يذكر صورة الخبر المطلوب منه وقصد غيره فلم يحتج إلى الكذب فلا يكون حسنا بل يبقى قبيحا.
فإن قيل التعريض يوجب عدم الجزم بفهم الحقيقة من لفظ أصلا لجواز أن يكون فيه مصلحة تقتضي صرفه عن ظاهره فيرتفع الوثوق به عن ظاهر الشريعة أجيب بمنع ارتفاع الوثوق عن ظاهر الشرع على تقدير جواز التعريض لأن التعريض في كلام الشارع إنما يكون مع قرينة يعلم بها كونه تعريضا لئلا يكون إضلالا وإيقاعا للعباد فيما لا يجوز فمتى تجرد كلام عن قرينة إرادة التعريض يجزم بالحمل على الظاهر مع أنه منقوض بسائر الاحتمالات كالمجاز والإضمار والتخصيص.(23/240)
"قالوا" أي الأشاعرة ثانيا "لو اتصف" الفعل بالحسن والقبح لذاته "اجتمع المتنافيان في لأكذبن غدا لأن صدقه" أي لأكذبن غدا "الذي حسنه بكذب غد" أي فيه "فيقبح" لكونه كذبا إذ الفرض قبح الكذب لذاته فيلزم اجتماع الحسن والقبح فيه "وقلبه" أي ولأن كذبه بعدم كذبه في الغد إما بصدقه فيه أو سكوته فيقبح لأنه يلزم منه كذبه في اليوم في لأكذبن غدا وكل ما يلزم منه الكذب في اليوم قبيح فصدقه أو سكوته غدا قبيح والصدق حسن في ذاته فيلزم منه اجتماع الصدق والكذب فيه "ومبناه" أي هذا الدليل "على أن الملزوم لخارج حسن حسن" والملزوم لخارج قبيح قبيح كما ذكر غير واحد "وجوابه ما مر من عدم التنافي" بين كونه حسنا وقبيحا "للجهتين لما مر من المراد بالذاتي" فيحسن منه الصدق غدا باعتبار كونه صدقا ويقبح باعتبار استلزامه الكذب اليوم ولا استحالة في اجتماعهما باعتبارين "فلا ينتهض" هذا "على
ـــــــــــــــــــ
1 على الكذب هكذا في النسخ والمناسب للكذب باللام. كتبه مصححه.(23/241)
ص -119-…أحد قالوا" أي الأشاعرة "ثالثا لو اتصف" الفعل بالحسن والقبح لذاته "وهما" أي الحسن والقبح "عرضان قام العرض" الذي هو أحدهما "بالعرض" الذي هو الفعل "لأن الحسن زائد" على مفهوم الفعل "وإلا" لو كان غير زائد بل كان عين الفعل أو جزأه "كانت عقلية الفعل عقليته" أي الحسن وليس كذلك إذ قد يعقل الفعل ولا يعقل حسنه ولا قبحه "و" أيضا الحسن وصف "وجودي لأن نقيضه" أي حسن "لا أحسن" وهو "سلب وإلا" لو كان غير سلب "استلزم محلا موجودا" لامتناع قيام الصفة الثبوتية بالمحل المعدوم "فلم يصدق على المعدوم" لا أحسن وهو باطل بالضرورة لأنا نعلم بالضرورة صدق اللا أحسن على معدومات كثيرة وإذا كان أحد النقيضين سلبا كان الآخر وجوديا ضرورة امتناع ارتفاع النقيضين والكلام في القبح كالكلام في الحسن وكون الشيء وصفا زائدا على مفهوم الموصوف وجوديا معنى العرض ثم الفرض أنه صفة للفعل الذي هو عرض فيكون قائما به فيلزم قيام العرض بالعرض وهو باطل لأنه يلزم منه إثبات الحكم لمحل الفعل لا للفعل "ودفع" هذا الدليل "بأن عدمية صورة السلب موقوفة على كون مدخول الباقي وجوديا وإثبات وجوديته" أي مدخول الباقي "بعدميتها" أي صورة السلب "دور وعليه" أي هذا الدفع أن يقال "إنما أثبته" أي وجود مدخول الباقي "باستلزام محل موجود، ثم ينتقض" الدليل "بإمكان الفعل ونحوه" كامتناعه لأن الإمكان قد يكون ذاتيا للفعل مع إجراء الدليل فيه بأن يقال لو كان الإمكان ذاتيا لزم قيام المعنى بالمعنى لأن إمكان الفعل زائد على مفهومه وإلا لزم من تعقل الفعل تعقله ثم يلزم أن يكون وجوديا لأن نقيضه لا إمكان وهو سلب إذ لو لم يكن سلبا لاستلزم محلا موجودا فلم يصدق على المعدوم الممتنع أنه ليس بممكن وأنه باطل ضرورة "ولا ينتقض" هذا الدليل "باقتضائه أنه لا يتصف فعل بحسن شرعي" للزوم قيام العرض بالعرض وإنما لا ينتقض به "لأنه" أي الحسن الشرعي "ليس عرضا لأنه" أي حسنه "طلبه(23/242)
تعالى الفعل" وطلبه من باب الحكم وهو قديم ثم هو متعلق بالفعل لا صفة له "والتحقيق أن صورة السلب قد تكون وجودا كاللامعدوم" إذ معناه كون الشيء غير معدوم "و" قد تكون صورة السلب "منقسما" إلى موجود ومعدوم "كاللا ممتنع" فإنه يشمل الواجب والمعدوم الممكن "ولو سلم" أنه لو اتصف بأحدهما لذاته كان العرض قائما بالعرض "فقيام العرض" بالعرض "بمعنى النعت" للعرض "به" أي بالعرض "غير ممتنع" بل واقع كاتصاف الحركة بالسرعة والبطء وهو هنا كذلك وإنما كان هذا غير ممتنع "إذ حقيقته" أي كون العرض قائما بالعرض بمعنى النعت به "عدم القيام" للعرض بالعرض "خصوصا وحسن الفعل معنوي إذ ليس المحسوس سوى الفعل قالوا" أي الأشاعرة "رابعا فعل العبد اضطراري واتفاقي لأنه" أي فعله إن كان "بلا مرجح" لوجوده على عدمه بل كان مما يصدر عنه تارة ولا يصدر عنه أخرى بلا تجدد أمر فهو "الثاني" أي اتفاقي "وبه" أي وإن كان فعله بمرجح له بأن توقف وجوده عليه "فإما من العبد وهو" أي كون المرجح من العبد "باطل للتسلسل" لأن ذلك المرجح فعل فيحتاج إلى مرجح منه وهلم جرا "أو" بمرجح "لا منه" أي من العبد "فإن لم يجب الفعل معه" أي المرجح وذلك "بأن صح(23/243)
ص -120-…تركه" أي الفعل كما صح فعله "عاد الترديد" وهو إما أن يكون ذلك المرجح بلا مرجح أو به وما كان به فإما من العبد أو من غيره وأيا ما كان يلزم المحذور "وإن وجب" الفعل معه "فاضطراري ولا يتصفان" أي الاضطراري والاتفاقي "بهما" أي الحسن والقبح اتفاقا "وهو" أي هذا الدليل "مدفوع بأنه" أي الفعل "بمرجح منه" أي العبد "وليس الاختيار بآخر" أي باختيار آخر ليتسلسل "وصدور الفعل عند المعتزلة مع المرجح على سبيل الصحة لا الوجوب إلا أبا الحسين ولو سلم" أن المرجح موجب وجوب الفعل "فالوجوب بالاختيار لا يوجب الاضطرار المنافي للحسن والقبح" وصحة التكليف "ودفع" هذا الدفع بأنه "ثبت لزوم الانتهاء إلى مرجح ليس من العبد يجب معه الفعل ويبطل استقلال العبد به" أي بالفعل "ومثله" أي هذا "عند المعتزلة لا يحسن ولا يقبح ولا يصح التكليف به وهو" أي دفع هذا الدفع "رد المختلف إلى المختلف" لأنهم لا يقولون بوجوب الفعل أبدا بل بصحته مع المرجح ولا بعدم استقلال العبد به بل يستقل به عندهم فلا يلزمهم "ولا يلزمنا" معشر الحنفية أيضا "لأن وجود الاختيار" في الفعل "عندنا كاف في الاتصاف" أي في اتصافه بالحسن والقبح "وصحة التكليف وهذا الدفع يشترك بين أهل القول الذي اخترناه" وهو ما ذكره ابن عين الدولة عمن شاهدهم من أئمة بخارى "وجمع من الأشاعرة ولا ينتهض منهم" أي الأشاعرة "إذ مرجع نظرهم في الأفعال الجبر لأن الاختيار أيضا مدفوع للعبد بخلقه تعالى لا صنع له" أي للعبد "فيه" أي الاختيار.(23/244)
"أما الحنفية فالكسب صرف القدرة المخلوقة" للعبد "إلى القصد المصمم إلى الفعل" وظاهر تعلق الجار الأول بصرف القدرة والجار الثاني بالقصد "فأثرها" أي قدرة الله "في القصد ويخلق سبحانه الفعل عنده" أي القصد "بالعادة فإن كان القصد حالا" أي وصفا "غير موجود ولا معدوم" في نفسه قائما بموجود "فليس" الكسب "بخلق، وعليه" أي ثبوت الحال "جمع من المحققين" منهم القاضي أبو بكر وإمام الحرمين أولا "وعلى نفيه" أي الحال كما عليه الجمهور "فكذلك" أي ليس الكسب بخلق أيضا "على ما قيل" أي قول صدر الشريعة "الخلق أمر إضافي يجب أن يقع به المقدور لا في محل القدرة" أي لا فيمن قامت به القدرة "ويصح انفراد القادر بإيجاد المقدور بذلك الأمر والكسب أمر إضافي يقع به" المقدور "في محلها" أي القدرة "ولا يصح انفراده" أي القادر "بإيجاده" أي ذلك الأمر فأثر الخالق إيجاد الفعل في أمر خارج عن ذاته وأثر الكاسب صنعه في فعل قائم به فحركة زيد مثلا وقعت بخلق الله تعالى في غير من قامت به القدرة وهو زيد ووقعت بكسب زيد في المحل الذي قامت به قدرة زيد وهو نفس زيد وقد يعبر عن الخلق بالإنشاء والاختراع من العدم إلى الوجود وعن الكسب بالتسبب إلى ظهور ذلك الخلق على الجوارح ومن هنا رسم بظهور أثر القدرة القديمة في محل القدرة الحادثة "ولو بطلت هذه التفرقة" بين الخلق والكسب "على تعذره" أي بطلانها "وجب تخصيص القصد المصمم من عموم الخلق بالعقل" وإنما وجب تخصيصه من عموم خلق كل شيء لله "لأنه" أي كون القصد المصمم مخلوقا للعبد "أدنى ما يتحقق به فائدة خلق القدرة" التي من شأنها التمكن من الفعل والترك للعبد وينتفي به الجبر(23/245)
ص -121-…"ويتجه به حسن التكليف المستعقب العقاب بالترك والثواب بالفعل قالوا" أي الأشاعرة.
"خامسا لو حسن" الفعل "لذاته أو لصفة أو اعتبار لم يكن الباري سبحانه وتعالى مختارا في الحكم" واللازم باطل بالإجماع وإنما يلزم ذلك "لأنه" أي الحكم حينئذ "يتعين كونه على وفق ما في الفعل من الصفة" لأن الحكم على خلاف ما هو المعقول قبيح لا يصح من الباري وفي التعين نفي الاختيار "وهو" أي هذا الدليل "وجه عام" لرد قول من عداهم ولكن كما قال "ولا يلزمنا" معشر الحنفية "لأنه" أي الحكم "إذا كان قديما عندنا" كما عندكم لأنه كلامه النفسي "كيف يكون اختياريا فهو إلزامي على المعتزلة ومدفوع عنهم بأن غايته" أي هذا الدليل "أنه مختار في موافقة تعلق حكمه للحكمة وذلك" الاختيار في هذه الموافقة "لا يوجب اضطراره" تعالى للحكم "ولنا في الثاني" أي عدم استلزام اتصاف الفعل حكما لله تعالى فيه "لو تعلق" الحكم بالفعل المتصف بالحسن "قبل البعثة لزم التعذيب بتركه" أي الفعل المتعلق به الحكم "في الجملة" كأن يكون الحكم المتعلق به الوجوب ولم يتعلق بتركه العفو "وهو" أي التعذيب بتركه قبل البعثة "منتف بقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الاسراء: 15] قيل أي ولا مثيبين فاستغنى عن ذكر الثواب بذكر العذاب الذي هو أظهر في تحقق معنى التكليف "وتخصيصه" أي العذاب بعذاب الدنيا كما جرى للمتقدمين من مكذبي الرسل أو بما عدا الإيمان من الشرائع تخصيص "بلا دليل" يعينه ومن الظاهر بعد أن يكون المراد بالرسول العقل "ونفي التعذيب وإن لم يستلزم نفي التكليف" قطعا "عند أبي منصور" وموافقيه لجواز العفو عندهم عن المكلف بترك ما كلف به "خلافا للمعتزلة" فإنه يستلزمه قطعا لعدم تجويزهم العفو عنه بترك ما كلف به "لكنه" أي نفي التعذيب والأحسن فهو "يستلزمه" أي نفي التكليف عند أبي منصور "في الجملة" يعني وإن اختلف في جواز العفو عن بعضها "وإنما(23/246)
لا يلزم" التعذيب "في معين" من تلك التكليفات "فنفيه" أي التعذيب "مطلقا" إنما هو "لنفيه" أي التكليف "وأيضا {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ} الآية" أي {لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: 134] وجه الاستدلال أن الله تعالى "لم يرد عذرهم وأرسل" إليهم "كي لا يعتذروا به" أي بعدم إرساله "وأيضا {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]" فإنه يفهم منه ثبوت الحجة للناس على الله أن لو عذبهم قبل البعثة فيفيد أمنهم من العذاب وهو موجب عدم الحكم قبل البعثة أصلا لكون عدم الأمن من العذاب على ترك الواجب وفعل المحرم من لوازم الوجوب والحرمة مطلقا.
"قالوا" أي المعتزلة "لو لم يثبت" حكم ما إلا بالشرع "لزم إفحام الأنبياء" أي عجزهم عن إثبات البعثة لأن النبي إذا ادعى النبوة وأتى بالمعجز فحينئذ "إذا قال" النبي للمبعوث إليه "انظر" في معجزي "لتعلم" صدقي "قال لا أنظر" فيه "ما لم يثبت الوجوب" أي وجوب النظر "علي" إذ له أن يمتنع عما لم يجب عليه "ولا يثبت" الوجوب على "ما لم أنظر" في معجزك إذ لا وجوب بالفرض إلا من الشرع فوجوب النظر فيه يتوقف على ثبوت الشرع المتوقف على(23/247)
ص -122-…النظر فيه فيتوقف كل من النظر ووجوبه على الآخر "أو" قال هذا المعنى بعبارة أوضح وهي لا يجب النظر على "ما لم يثبت الشرع إلى آخره" أي ولا يثبت الشرع حتى أنظر وأنا لا أنظر ما لم يجب كان هذا القول حقا ولا سبيل للنبي إلى دفعه وإفحامه باطل فبطل كونه شرعيا وإذا بطل كونه شرعيا تعين كونه عقليا إذ لا يخرج عنهما إجماعا.
"والجواب أن قوله ولا يثبت إلى آخره" أي الوجوب على ما لم أنظر وما لم أنظر لا يثبت الوجوب علي "باطل لأنه" أي الوجوب ثابت في نفس الأمر "بالشرع" نظر أو لا ثبت الشرع أو لا لأن تحقق الوجوب في نفس الأمر لا يتوقف على العلم بالوجوب وإلا لو توقف تحقق الوجوب على العلم به لزم الدور لأن العلم بالوجوب يتوقف على الوجوب ضرورة مطابقته إياه وأيضا متى ظهرت المعجزة في نفسها وكان صدق النبي فيما ادعاه ممكنا والمدعو متمكنا من النظر والمعرفة فقد استقر الشرع وثبت والمدعو مفرط في حق نفسه.(23/248)
ولما أورد بعضهم أن هذا تكليف بالوجوب للغافل عنه وأنه باطل وأجاب بأنه جائز في هذه الصورة للضرورة أشار إلى بطلانه بقوله "وليس" وجوب النظر قبل النظر وثبوت الشرع عنده "تكليف غافل بعد فهم ما خوطب به" ولم يصدق به ليحتاج إلى هذا الجواب المردود لأن ذلك من لا يفهم الخطاب كالصبيان أو يفهم لكنه لم يقل له إنه مكلف كالذي لم يصل إليه دعوة نبي "وما قيل" أي وما اختص به صدر الشريعة من الدليل على أن الحكم يتعلق بالمكلف قبل البعثة وهو ما ملخصه "تصديق من ثبتت نبوته" بدعواه إياها وإظهار المعجزة عليها "في أول إخباراته" عن الله تعالى بشيء من التكاليف كوجوب الصلاة "واجب وإلا" لو لم يجب تصديقه في ذلك "انتفت فائدة البعثة" وانتفاء فائدتها بعد ثبوتها منتف وحينئذ "فإما" وجوب التصديق "بالشرع فبنص" أي فمعرف وجوب تصديقه في أول إخباراته حينئذ لا بد أن يكون نصا وحينئذ "فوجوب تصديق" هذا الإخبار "الثاني" الذي هو النص المتوقف وجوب تصديق الإخبار الأول عليه "لا يكون بنفسه" لئلا يلزم توقف الشيء وتقدمه على نفسه فتصديقه بغيره حينئذ "فأما بالأول" أي بالنص الأول "فيدور أو بثالث" أي أو بنص ثالث والثالث برابع وهلم جرا "فيتسلسل" والدور والتسلسل باطلان "فهو" أي وجوب تصديقه في أول إخباراته "بالعقل" وهو حسن عقلا لأن الواجب عقلا أخص من الحسن عقلا ويلزم منه أيضا أن يكون ترك التصديق حراما فيكون قبيحا عقلا "وكذا وجوب امتثال أوامره" أي الشارع "لو" كان "بالشرع توقف" وجوبه "على الأمر بالامتثال" الذي هو نص ثان على ذلك وحينئذ "فوجوب امتثال الأمر بالامتثال" الذي هو النص الثاني "إن كان بالأول دار وإلا" إن كان بثالث والثالث برابع وهلم جرا "تسلسل" والدور والتسلسل باطلان فوجوب امتثال أوامره ابتداء إنما هو بالعقل وهو حسن عقلا لأن الواجب عقلا أخص من الحسن عقلا ويلزم منه أن يكون ترك الامتثال حراما فيكون قبحا فما قيل مبتدأ خبره "فجوابه"(23/249)
كما هو مختصر ما في التلويح "أن(23/250)
ص -123-…اللازم" من هذا الدليل "جزم العقل بصدقه" أي النبي في أول إخباراته وبوجوب امتثال أوامره "استنباطا من دليلها" أي تصديقات إخباراته ووجوبات امتثالات أوامره وهو ظهور المعجزة على يديه "فأين الوجوب عقلا بمعنى استحقاق العقاب بالترك بل يتوقف" الوجوب عقلا بهذا المعنى "على نص" وعبارة التلويح وأما بمعنى استحقاق الثواب أو العقاب في الآجل فيجوز أن يكون ثابتا بنص الشارع على دليله وهو دعوى النبوة وإظهار المعجزة فإنه بمنزلة نص على أنه يجب تصديق كل ما أخبر به ويحرم كذبه أو يحكم الله القدير بوجوب طاعة الرسول غاية ما في الباب أن ظهوره يتوقف على تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما ثبت صدقه بالدليل القطعي انتهت قيل ويمكن أن يقال ابتداء وجوب التصديق وحرمة الكذب بمعنى الاستحقاق المذكور لا يجوز أن يكون ثابتا شرعا بنص الشارع سواء نص على الحكم المذكور أو على دليله أما الأول فلما مر وأما الثاني فلأن ثبوته بدليله المنصوص إنما هو بطريق الاستدلال وعلى تقدير التسليم لا نص من الشارع على دليله سوى إظهار المعجزة لصدق دعواه النبوة وهو ليس بنص بمعنى خطاب الشارع الموجب لكون الحكم شرعيا ولا خفاء أن إثبات المعجزة لدعوى النبوة لا يتوقف على اعتبار كون المعجزة بمنزلة النص وأيضا نحن نجد من أنفسنا أن من ادعى النبوة وأظهر المعجزة على صدق دعواه ثم كذب في بعض أقواله قصدا بلا تعريض مدعيا أنه حكم الله مع علمه بأنه ليس كذلك يستحق العقاب ولا شك أن المنازع في مثله مكابر وبهذا التقدير يكون الجواب المذكور على طرف والله سبحانه أعلم.
"قالوا": أي المعتزلة "ثانيا" وهو يصلح أن يكون للشيخ أبي منصور وموافقيه أيضا نحن "نقطع بأنه يقبح عند الله من العارف بذاته المنزهة وصفاته الكريمة أن ينسب إليه ما لا يليق من صفات النقص ورد شرع أو لا فيحرم عقلا" أن ينسب إليه ذلك أو شيئا منه.(23/251)
"أجيب بأن القطع" المذكور "لما ركز في النفوس من الشرائع التي لم تنقطع منذ بعثة آدم فتوهم" بهذا السبب "أنه" أي القطع المذكور "بمجرد العقل" ثم لما كان المختار عند المصنف أن الفعل يتصف بالحسن والقبح بخارج ولا تكليف قبل البعثة قال "وعلى أصلنا ثبوت القبح" للفعل "في العقل" أي عند العقل "وعنده تعالى لا يستلزم عقلا تكليفه" بمنعه من الفعل "بمعنى أنه يقبح منه تعالى تركه" أي ترك تكليفه "وللحنفية والمعتزلة في الثالث" أي امتناع تعذيب الطائع وتكليف ما لا يطاق أنه "ثبت بالقاطع اتصاف الفعل بالحسن والقبح في نفس الأمر فيمتنع اتصافه" أي فعل الله تعالى "به" أي بالقبح "تعالى" الله عن ذلك "وأيضا فالاتفاق على استقلال العقل بدركهما" أي الحسن والقبح "بمعنى صفة الكمال والنقص كالعلم والجهل على ما مر فبالضرورة يستحيل عليه" أي الله تعالى "ما أدرك فيه نقص وحينئذ" أي وحين كان مستحيلا عليه ما أدرك فيه نقص "ظهر القطع باستحالة اتصافه" أي الله تعالى "بالكذب ونحوه تعالى عن ذلك وأيضا" لو لم يمتنع اتصاف فعله بالقبح "يرتفع الأمان عن صدق وعده و"(23/252)
ص -124-…صدق "خبر غيره" أي الوعد منه تعالى "و" صدق "النبوة" أي لم يجزم بصدقه أصلا لا عقلا لأن الفرض أن لا حكم له ولا شرعا لأنه مما لا يمكن إثباته بالسمع لأن حجية السمع بل ثبوته فرع صدقه تعالى إذ لو جاز كذبه لم يكن تصديقه للنبي بإظهار المعجزة على يديه فإنه في قوة قوله هذا صادق في دعواه دالا على صدقه وإذا كان السمع متوقفا على صدقه لم يكن إثباته به ويلزم منه أن لا يجزم أيضا بصدق مدعي الرسالة أصلا لجواز إظهار المعجزة على يد الكاذب فينسد باب النبوة وأن يرفع الثقة عن كلامه واللازم باطل فالملزوم مثله ولعل المصنف إنما لم يفرد الوعيد بالذكر كما أفرد الوعد إما اكتفاء بدخوله في خبر غيره وإما موافقة للأشاعرة في جواز الخلف في الوعيد كما هو ظاهر المواقف والمقاصد لأنه لا يعد نقصا بل هو من باب الكرم وقد أشبعنا الكلام فيه في حلبة المجلي وعلى هذا فيكون قوله وخبر غيره مخصوصا بما سواه "وعند الأشاعرة كسائر الخلق القطع بعدم اتصافه" تعالى بشيء من القبائح "دون الاستحالة العقلية كسائر العلوم التي يقطع فيها بأن الواقع أحد النقيضين مع عدم استحالة الآخر لو قدر" أنه الواقع "كالقطع بمكة وبغداد" أي بوجودهما فإنه لا يحيل عدمهما عقلا "وحينئذ" أي وحين كان الأمر على هذا "لا يلزم ارتفاع الأمان" لأنه لا يلزم من جواز الشيء عقلا عدم الجزم بعدمه "والخلاف" الجاري في الاستحالة والإمكان العقلي لهذا "جار في كل نقيصة أقدرته" تعالى "عليها مسلوبة أم هي" أي النقيصة "بها" أي بقدرته "مشمولة والقطع بأنه لا يفعل" أي والحال القطع بعدم فعل تلك النقيصة "والحنفية والمعتزلة على الأول" أي أن قدرته عليها مسلوبة لاستحالة تعلق قدرته بالمحالات "وعليه فرعوا امتناع تكليف ما لا يطاق و" وامتناع "تعذيب الطائع" ولفظه في المسايرة واعلم أن الحنفية لما استحالوا عليه تكليف ما لا يطاق فهم لتعذيب المحسن الذي استغرق عمره في الطاعة مخالفا لهوى نفسه(23/253)
في رضا مولاه أمنع بمعنى أنه يتعالى عن ذلك فهو من باب التنزيهات إذ التسوية بين المسيء والمحسن غير لائق بالحكمة في فطر سائر العقول وقد نص الله تعالى على قبحه حيث قال {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21] فجعله سيئا.
هذا في التجويز عليه وعدمه أما الوقوع فمقطوع بعدمه غير أنه عند الأشاعرة للوعد بخلافه وعند الحنفية وغيرهم لذلك ولقبح خلافه "وذكرنا في المسايرة" بطريق الإشارة في الجملة "أن الثاني" أي أنه يقدر ولا يفعل قطعا "أدخل في التنزيه" فإن الذي في المسايرة ثم قال يعني صاحب العمدة من مشايخنا ولا يوصف تعالى بالقدرة على الظلم والسفه والكذب لأن المحال لا يدخل تحت القدرة وعند المعتزلة يقدر ولا يفعل ا هـ ولا شك أن سلب القدرة عما ذكر هو مذهب المعتزلة وأما ثبوتها ثم الامتناع عن متعلقها فبمذهب الأشاعرة أليق ولا شك أن الامتناع عنها من باب التنزيهات فيسبر العقل في أن أي الفصلين أبلغ في التنزيه عن الفحشاء أهو القدرة عليه مع الامتناع عنه مختارا أو الامتناع لعدم القدرة فيجب القول بأدخل القولين في التنزيه ا هـ.(23/254)
ص -125-…"هذا ولو شاء الله قال قائل هو" أي النزاع بين الفرق الثلاثة "لفظي فقول الأشاعرة هو إنه لا يستحيل العقل كون من اتصف بالألوهية والملك لكل شيء متصفا بالجور وما لا ينبغي إذ حاصله أنه مالك جائر ولا يحيل العقل وجود مالك كذلك" أي جائر "ولا يسع الحنفية والمعتزلة إنكاره وقولهم" أي الحنفية والمعتزلة "يستحيل بالنظر إلى ما قطع به من ثبوت اتصاف هذا العزيز الذي ثبت أنه الإله بأقصى كمالات الصفات" وظاهر أن قوله بأقصى متعلق باتصاف "من العدل والإحسان والحكمة إذ يستحيل اجتماع النقيضين فلحظهم" أي الحنفية "إثبات الضرورة" في عدم تجويزهم ذلك "بشرط المحمول في المتصف الخارجي" أي الإله المتصف بأقصى كمالات الصفات "والأشعرية بالنظر إلى مجرد مفهوم إله ومالك كل شيء".
ثم لما جرت عادة الأشاعرة بذكر مسألتين هنا حاصلهما إثبات تعلق حكمه تعالى بشكر المنعم وكان اللائق ظاهرا أن يوردهما المصنف بتوجيه صحيح لأنه مع الأشاعرة في إبطال تعلق الحكم قبل البعثة ولم يوردهما كذلك بل أوردهما على وفق كلامهم ليبين ما فيه مهد العذر أولا في ذلك فقال "واستمر الأشعرية أن تنزلوا إلى اتصاف الفعل" بالحسن والقبح "ويبطلوا مسألتين على التنزل ونحن وإن ساعدناهم على نفي التعلق قبل البعثة لكنا نورد كلامهم لما فيه".
[مسألة](23/255)
"المسألة الأولى: شكر المنعم" أي استعمال جميع ما أنعم الله تعالى على العبد فيما خلق لأجله كصرف النظر إلى مشاهدة مصنوعاته ليستدل بها على صانعها والسمع إلى تلقي أوامره وإنذاراته واللسان إلى التحدث بالنعم والثناء الجميل على موليها وعلى هذا القياس قيل وهذا معنى الشكر حيث ورد في الكتاب العزيز ولهذا وصف الشاكرين بالقلة فقال {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] "ليس واجبا عقلا لأنه" أي الشكر "لو وجب" بالعقل "فلفائدة لبطلان العبث" لقبحه وإذ كان لفائدة "فإما لله تعالى أو للعبد في الدنيا أو الآخرة وهي" أي هذه الأقسام الثلاثة "باطلة لتعاليه" أي الله عن الفائدة فبطل أن يكون لفائدة لله تعالى "والمشقة في الدنيا" لأن من شكره فعل الواجبات وترك المحرمات العقلية وهي مشقة وتعب ناجز لا حظ للنفس فيه وما يكون كذلك فليس له فائدة دنيوية فبطل أن يكون لفائدة للعبد في الدنيا "وعدم استقلال العقل بأمور الآخرة" لأنها من الغيب الذي لا مجال للعقل فيه فبطل أن يكون لفائدة للعبد في الآخرة "وانفصل المعتزلة" عن هذا الالتزام بأنه لفائدة "ثم أبانها" للعبد "في الدنيا وهي دفع ضرر خوف العقاب للزوم خطور مطالبة الملك المنعم بالشكر" على نعمه فلا يأمن من العقاب إلا بالشكر والأمن من العقاب من أعظم الفوائد وأوفر الحظوظ إذ الفائدة كما تكون جلب نفع تكون دفع ضرر فلا يكون فيه تعب ناجز "ومنع الأشعرية لزوم الخطور" على تقدير ترك الشكر لكل مكلف لتسلط المنع على لزوم الخطور المذكور ببال كل عاقل للعلم بعدمه من أكثر الناس بشهادة أحوالهم والمقصود لا(23/256)
ص -126-…يحصل بتسليم الخطور للبعض لإيجابهم الشكر على الكل "وعلى التسليم" للزوم الخطور المذكور للكل "فمعارض بأنه" أي شكر العبد "تصرف في ملك الغير" بالأتعاب بالأفعال والتروك الشاقة بدون إذن المالك فإن ما يتصرف الإنسان فيه من نفسه وغيرها ملك لله تعالى "وبأنه" أي شكر العبد النعمة "يشبه الاستهزاء" فإن شكر النعمة قد يشبه الاستهزاء بوجهين: أحدهما أن لا يكون للنعمة قدر يعتد به بالنسبة إلى مملكة المنعم وعظمته ثانيهما أن يكون شكرها مما لا يليق بمنصب المنعم ونعم الله الفائضة على العبد من الوجود والقوى وغيرها ليس لها قدر يعتد به بالنسبة إلى عظمة الله وملكوته والشكر الذي يفعله العبد لأجلها لا يليق بكبريائه وما مثله إلا كمثل فقير تصدق عليه ملك ملك البلاد شرقا وغربا وعم العباد وهبا ونهبا بلقمة خبز فطفق يذكرها في المجامع ويشكره عليها بتحريك أنملته فكما أن هذا من الفقير لا يليق بمنصب الملك ويعد استهزاء منه فكذا شكر العبد بالنسبة إلى جلال الله وكبريائه بل اللقمة بالنسبة إلى الملك وما يملكه أكثر مما أنعم الله به على العبد بالنسبة إلى الله لأن نعم الله غير متناهية وما يملكه الملك متناه وشكر العبد بفعله أقل قدرا في جنب الله من شكر الفقير بتحريك أصبعه وربما لا يقع لائقا بجناب الجبروت فيكون ترك الشكر واجبا قال المصنف: "ولقد طال رواج هذه الجملة على تهافتها" أي مع سقوطها بينهم "فإن الحكم بتعلق الحكم" بالفعل عقلا "تابع لعقلية ما في الفعل" من الحسن والقبح "فإذا عقل فيه حسن" صفته أنه "يلزم بترك ما" أي الفعل الذي "هو" أي الحسن "فيه القبح كحسن شكر المنعم المستلزم تركه" أي شكره "قبح الكفران بالضرورة فقد أدرك" العقل "حكم الله الذي هو وجوب الشكر قطعا وإذا ثبت الوجوب" عقلا "بلا مرد لم يبق لنا حاجة في تعيين فائدة بل نقطع بثبوتها" أي الفائدة "في نفس الأمر علم عينها أو لا" على أنه كما قال الشيخ سراج الدين(23/257)
الهندي رحمه الله.
وللخصم أن يقول لا نسلم أن التصرف في ملك الغير مطلقا قبيح بل التصرف في ملك من يلحقه الضرر أما من لا يلحقه الضرر فلا يحكم فيه بالقبح ولهذا يحسن منا الاستظلال بحائط الغير والاستصباح من مصباحه والنظر في مرآته لحصول النفع الخالي عن الضرر وإن كان تصرفا في ملك الغير ولأن الإذن حاصل دلالة لأن من كان عبيده مضطرين إلى الطعام والشراب وعنده خزائن الطعام وبحار الشراب لا ينقص من خزائنه شيء فالعادة تحكم بالإذن بالتناول منها كي لا يهلكوا بالامتناع عنه ونعم الله في ذاتها أمور عظيمة كإيجاد الإنسان بقواه الظاهرة والباطنة والأعضاء السليمة لو اجتمع الخلائق على تحصيل واحد منها لعجزوا فالشكر على هذه النعم لا يعد استهزاء وكونها قليلة بالنسبة إلى الله تعالى لا يقدح في عظمها في ذاتها وبالنسبة إلينا وليس هذا كشكر الملك على لقمة خبز لأن اللقمة حقيرة في العرف يقدر على إعطاء أمثالها غيره ممن هو دونه فكان شكره على ذلك استهزاء وليس نعم الله على العبد كذلك ا هـ وأيضا كما قال أبو هاشم: النعمة إذا كان لها قدر يعتد به بالنسبة إلى حاجات المنعم عليه وإن لم يكن لها قدر يعتد به بالنسبة إلى مالك النعم لا يعد شكرها(23/258)
ص -127-…استهزاء ألا ترى أنه لو أعطى ملك يملك خزائن الأرض فقيرا مائة دينار وتنقضي حاجاته في سنة بها استحسن منه أن يشكره عليها وإن لم يكن له قدر يعتد به بالنسبة إلى خزائن الملك والله سبحانه أعلم "ولو منعوا" أي الأشاعرة "اتصاف الشكر" بالحسن "والكفران" بالقبح "لم تصر مسألة على التنزل" لانتفائه بمنع الاتصاف "وكذا انفصال المعتزلة" المذكور يمنع صيرورتها مسألة من هذا القبيل "فإن دفع ضرر خوف العقاب" على الترك "إنما يصح حاملا على العمل" الذي هو الشكر "وهو" أي الخوف "بعد العلم بالوجوب" للشكر "بطريقه" أي العلم "وهو" أي العلم بالوجوب بطريقه هو "الذي فيه الكلام وتسليم لزوم الخطور ومعارضتهم" أي الأشاعرة للمعتزلة "بالتصرف في ملك الغير إلزامي" من الأشاعرة للمعتزلة "إذ اعترفوا" أي الأشاعرة "في المسألة الثانية بأن حرمته" أي التصرف في ملك الغير "ليست عقلية وأما" معارضتهم "بأنه يشبه الاستهزاء فيقضى منه العجب" لما قدمناه وكيف والفرض أنه شاكر حقيقة وهو إنما يكون مع تعظيم الباطن وخفض الجناح على أنه يلزم منه انسداد باب الشكر قبل البعثة وبعدها وهو ممنوع بتطابق المعقول والمنقول.
ثم لما تقدم أن طائفة من حنفية بخارى قالوا بقول الأشاعرة في عدم نسبة التحسين والتقبيح للعقل وقد تهافت دليلهم الذي استدلوا به في هذه المسألة أراد المصنف أن يذكر لأصحابنا دليلا على ذلك فقال "والوجه فيه" أي انتفاء الحكم للفعل قبل البعثة أنه "لا طريق للعقل إلى الحكم بحدوث ما لم يكن إلا بالسمع" في المسموعات "أو البصر" في المبصرات "والفرض انتفاؤهما" أي السمع والبصر "في تعلق حكمه" تعالى بالفعل "ودرك ما في الفعل" من حسن أو قبح "غير مستلزم" تكليفه بفعل أو ترك "إلا لو كان ترك تكليفه تعالى يوجب نقصه تعالى وهو ممنوع" قطعا والله سبحانه أعلم.
[المسألة](23/259)
المسألة "الثانية أفعال العباد الاختيارية مما لا يتوقف عليه البقاء" إذ هي ما يمكن البقاء بدونها كأكل الفاكهة ويقابلها الاضطرارية وهي ما لا يمكن البقاء بدونها كالتنفس في الهواء وكانت واقعة "قبل البعثة إن أدرك فيها جهة محسنة أو مقبحة فعلى ما تقدم من التقسيم عند المعتزلة" من أن المدرك إما حسن فعل بحيث يقبح تركه فواجب وإلا فمندوب أو ترك على وزانه فحرام ومكروه "وإلا" لو لم يدرك فيها جهة محسنة ولا مقبحة "فلهم" أي للمعتزلة "فيها" أي الأفعال الاختيارية ثلاثة مذاهب "الإباحة" أي عدم الحرج وهو قول معتزلة البصرة وكثير من الشافعية وأكثر الحنفية لا سيما العراقيين قالوا: وإليه أشار محمد فيمن هدد بالقتل على أكل الميتة أو شرب الخمر فلم يفعل حتى قتل بقوله: خفت أن يكون آثما لأن أكل الميتة وشرب الخمر لم يحرما إلا بالنهي عنهما فجعل الإباحة أصلا والحرمة تعارض النهي "والحظر" أي الحرمة وثبوت الحرج في حكم الشرع وهو قول معتزلة بغداد وبعض الحنفية والشافعية "والوقف" وهو قول بعض الحنفية منهم أبو منصور الماتريدي وصاحب(23/260)
ص -128-…الهداية وعامة أهل الحديث ونقل عن الأشعري كما سيأتي مع تفسيره "وعلى الأولين" أي الإباحة والحظر أن يقال "إن الحكم بتعلق" حكم "معين" لفعل عقلا "فرع معرفة حال الفعل" له فإذا كان الفرض أنه غير معروف فكيف يعرف حكمه المتوقف على معرفته "فإذا قال المبيح بناء على منع الحصر" لعله يريد في المحظور والمباح "خلق" الله "العبد وما ينفعه" من المطعومات وغيرها "فمنعه" أي الله العبد منها "ولا ضرر" عليه "إخلال بفائدته" أي خلقهما "وهو" أي منعه والحالة هذه "العبث" وجواب إذا "فمراده" أي المبيح "وهو" أي العبث "نقيصة تمتنع عليه تعالى" فتعين أن يكون غير ممنوع عنه وهو معنى الإباحة "والحاظر" أي وإذا قال الحاظر: الإباحة "تصرف في ملك الغير" بغير إذنه فيحرم "فمراده" أي الحاظر "يحتمل المنع فالاحتياط العقلي منعه" أي العبد منه "فاندفع" بهذا "ما قيل على الحظر بأن من ملك بحرا لا ينفد واتصف بغاية الجود كيف يدرك العقل عقوبته عبده بأخذ قدر سمسمة" وإنما اندفع بهذا "لأنه" أي الحاظر "لم يبن الحظر على درك" العقل "ذلك بل" بناه "على احتماله" أي منعه باعتباره "أنه تصرف في ملك الملك بلا إذنه فيحتاط بمنعه و" اندفع أيضا "منع أن حرمة التصرف عقلي بل" هو "سمعي ولو سلم" أنه عقلي "في حق من يتضرر" بذلك والله سبحانه منزه عن ذلك "ولو سلم" أنه في حق كل مالك "فمعارض بما في المنع من الضرر الناجز ودفعه" أي الضرر الناجز "عن النفس واجب عقلا وليس تركه" الفعل "لدفع ضرر خوف العقاب" الحاصل من التصرف في ملك الغير "أولى من الفعل" المستلزم لدفع الضرر الناجز بل اعتبار العاجل أولى "مع ما في هذا" الجواب "من كونه" أي المذكور "غير محل النزاع فإنه" أي النزاع إنما هو "في نحو أكل الفاكهة مما لا ضرر في تركه" كما أشار إليه في أول المسألة بقوله مما لا يتوقف عليه البقاء "وما على الإباحة" أي واندفع أيضا ما أورد عليها "من أنه إن أريد" بها ما "لا حرج(23/261)
عقلا في الفعل والترك فمسلم" ولا نزاع فيه بل النزاع في إطلاق لفظ المباح بإزائه ولذا يمتنع إطلاقه على فعل الله تعالى مع تحقق ذلك المعنى فيه "أو خطاب الشارع به فلا شرع" حينئذ "أو حكم العقل به" أي بكونه مباحا "فالفرض أنه" أي العقل "لا حكم له بحسن ولا قبح إذ يختارون" أي المبيحون "هذا" وهو الأول في المعنى "لملجئ لزوم العبث" على تقدير عدم الإباحة والعبث باطل كما تقدم "وأما دفعه" أي دليل المبيح المذكور "بمنع قبح فعل لا فائدة له" أي لذلك الفعل "بالنسبة إليه تعالى فيخرجه" أي هذا الكلام "عن التنزل لأنه" أي التنزل "دفعه" الخصم "على تسليم قاعدة الحسن والقبح نعم يدفع" دليل المبيح "بمنع الإخلال" بفائدته على تقدير المنع منه "إذ إرادة قدرته" تعالى "على إيجاده" أي ذلك الشيء "محققة مع احتمال غيره" من الفوائد "مما يقصر عن دركه" العقل فلا يقع إخلال بفائدته "والحاظر" أي ودفع بأنه "لا يثبت حكم الحكم الأخروي" من الثبوت والانتفاء "بثبوته" أي بسبب ثبوت حكم الحكم الأخروي "في نفس الأمر قبل إظهاره" أي الحكم "للمكلفين فكيف باحتماله" أي احتمال ثبوته "ولا خوف ليحتاط" بمنعه "وأما الوقف ففسر بعدم الحكم" أصلا وهو منقول عن طائفة من المعتزلة الواقفية "وليس" هذا "به" أي بالوقف لأنه قطع بعدم(23/262)
ص -129-…الحكم لا وقف عنه "وبعدم العلم بخصوصه" أي الحكم "فقيل إن كان" عدم العلم بخصوصه "للتعارض" بين الأدلة الدالة على الأحكام قبل البعثة "ففاسد لأنا بينا بطلانها" أي الأدلة المذكورة كما تقدم "أو لعدم الشرع" حينئذ والفرض أن العقل لا يستقل بإدراكه كما ذكره بعض أصحابنا "فمسلم" وهو مذهبنا "والحصر" في التوقف في الحكم "الأول" أي لتعارض الأدلة "ممنوع بل" قد يكون "لعدم الدليل على خصوص حكم فإن قلت هذه المذاهب توجب من المعتزلة كون الحكم ليس من قبيل الكلام اللفظي إذ لا تحقق له" أي للكلام اللفظي "إلا بعد البعثة ولا نفسي عندهم" فكيف تصورت هذه المذاهب على أصولهم "فالجواب منع توقفه" أي الكلام اللفظي "عليها" أي البعثة "لجواز تقدمه" أي الكلام اللفظي "عليها" أي البعثة "كخطاباته للملائكة وآدم ونقل عن الأشعري الوقف أيضا على الخلاف في تفسيره" أي الوقف كما تقدم "والصواب" أن المراد به التفسير "الثاني" أي عدم العلم بخصوص الحكم "لعدم الحكم عنده" أي الأشعري "أي فيها" أي الأفعال "حكم لا يدري ما هو إلا في البعثة" فإنه حينئذ يدري بالشرع "لأنه" أي الحكم "يتعلق" بالأفعال "فيعلمه" المكلف "فمحل وقف الأشعري غيره" أي وقف المعتزلة "لأنه" أي الوقف "عندهم حينئذ عن الحكم المتعلق" بالأفعال "ولا يتصور" وجود تعلق الحكم "عنده" أي الأشعري "قبل البعثة فحاصله" أي كلام الأشعري "إثبات قدم الكلام والتوقف فيما سيظهر تعلقه" أي التنجيزي بالفعل "وهذا معلوم من كل ناف للتعلق" التنجيزي "قبل البعثة فلا وجه لتخصيصه" أي هذا القول "به" أي بالأشعري "كما لا وجه لإثباتهم" أي المعتزلة "تعلقه" أي الحكم بالأفعال "مع فرض عدم علمه" أي المكلف به "مع أنه حينئذ" أي حين يكون متعلقا به ولا يعلمه المكلفون "لا يثبت في حق المكلفين بل الثبوت" في حقهم "مع التعلق" بأفعالهم التعلق التنجيزي "وإلا فلا فائدة للتعلق" لأنها إما الأداء وهو غير ممكن قبل(23/263)
الشرع لأنه عبارة عن الإتيان بعين ما أمر به في وقته وذلك موقوف على العلم به وبكيفيته ولا علم بشيء من ذلك قبل الشرع وإما ترتب العقاب على الترك وهو منتف لقوله تعالى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الاسراء: 15] "ولو قالوه" أي المعتزلة الوقف "كالأشعري كان" ذلك منهم على أصولهم قولا "بلا دليل إذ لا دليل على ثبوت لفظ فيه" أي في الحكم قبل البعثة "أصلا" ولا نفسي عندهم يثبت به "بخلاف الأشعري" فإنه قائل بأنه "وجب ثبوت النفسي أولا" وبه كفاية إلا أن المذكور في شرح البديع للشيخ سراج الدين الهندي أن الشيخ أبا الحسن الأشعري فسر الوقف بعدم الحكم وعلى هذا فلا يتم له هذا وإنما يتم للمصنف ولأولئك البخاريين ومن عساه وافقهم اللهم إلا أن يكون المراد به عدم التعلق التنجيزي وليس ببعيد وحينئذ يتم له أيضا.
"وأما الخلاف المنقول بين أهل السنة أن الأصل في الأفعال الإباحة أو الحظر فقيل" إنما هو "بعد الشرع بالأدلة السمعية أي دلت على ذلك" قال المصنف: "والحق أن ثبوت هذا الخلاف مشكل لأن السمعي لو دل على ثبوت الإباحة أو التحريم قبل البعثة بطل قولهم" أي الأشعرية وموافقيهم "لا علم قبلها" أي البعثة "فإن أمكن في الإباحة تأويله" أي قولهم لا علم(23/264)
ص -130-…قبلها "بأن لا مؤاخذة بالفعل والترك فمعلوم من عدم التعلق" فلا حاجة إلى ذكره "ثم لا يتأتى في قول الحظر" للمؤاخذة فيه على الترك "ولو أرادوا" أن بمحل الخلاف "حكما بلا تعلق بمعنى قدم الكلام لم يتجه إذ بالتعلق ظهر أن ليس كل الأفعال مباحة ولا محظورة في كلام النفس لأن اللفظي دليله" أي النفسي وهو لا يفيد ذلك بل يفيد أن فيهما النوعين فبطل كل من القولين "وما يشعر به قول بعضهم إن هذا على التنزل من الأشاعرة جيد لو لم يظهر من كلامهم أنه" أي هذا الخلاف "أقوال مقررة والمختار أن الأصل الإباحة عند جمهور الحنفية والشافعية ولقد استبعده" أي قولهم هذا، مرادا بالإباحة عدم المؤاخذة بالفعل والترك "فخر الإسلام قال: لا نقول بهذا لأن الناس لم يتركوا سدى" أي مهملين غير مكلفين "في شيء من الزمان" لقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] "وإنما هذا" أي كون الأصل في الأشياء الإباحة بالمعنى المذكور "بناء على زمان الفترة" الواقعة بين عيسى ونبينا محمد صلى الله عليهما وسلم قال المصنف "لاختلاف الشرائع ووقوع التحريفات فلم يبق الاعتقاد والوثوق على شيء من الشرائع فظهرت الإباحة بمعنى عدم العقاب على الإتيان بما لم يوجد له محرم ولا مبيح وحاصله" أي هذا الكلام "تقييده" أي فخر الإسلام "ذلك" أي كون الأصل الإباحة "بزمان عدم الوثوق" المذكور فإن قيل كم أمة في الفترة ولم يخل فيها نذير أجيب بأنه إذا كانت آثار النذارة باقية لم يخل من نذير إلى أن تندرس وحين اندرست آثار نبوة عيسى بعث الله محمدا صلى الله عليهما وسلم هذا ولم يقف العبد على نقل الخلاف بين أهل السنة هكذا بل المذكور في منهاج البيضاوي في الأدلة المختلف فيها المقبولة الأصل في المنافع الإباحة وفي المضار التحريم فقال غير واحد منهم الإسنوي وهذا إنما هو بعد ورود الشرع بمقتضى الأدلة الشرعية وأما قبل وروده فالمختار الوقف كما تقدم ا هـ(23/265)
وربما يظهر أن هذه الجملة هي مراد المصنف بقوله وأما الخلاف المنقول إلخ ولكن لا يخفى ما بينهما من التفاوت.
ثم الذي في أصول الفقه لصدر الإسلام أن بعد ورود الشرع الأموال على الإباحة بالإجماع ما لم تظهر علة الحرمة لأن الله جل جلاله أباح الأموال بقوله: {الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة: 29] والأنفس أنفس الآدميين مع الأطراف على الحرمة لأن الله تعالى ألزمهم العبادات ولا يقدرون على تحصيل العبادات إلا بالعصمة عن الإتلاف والعصمة عن الإتلاف لا تثبت إلا بحرمة الإتلاف نفسا وأطرافا ولهذا المعنى قال أصحابنا القضاء بالنكول في الأموال جائز وفي الأنفس لا يجوز وفي الأبضاع لا يجوز عند أبي حنيفة وعندهما يجوز وفي الأطراف يجوز عند أبي حنيفة وعندهما لا يجوز فأبو حنيفة ألحق الأطراف بالأموال وهما أتبعا الأطراف أصولها وألحق أبو حنيفة الأبضاع بالأنفس وهما ألحقاها بالأموال ا هـ.
ثم هذا الوضع أولى من الوضع في المنافع لاستغنائه عن استثناء أموالنا ومن ثمة(23/266)
ص -131-…استثناها الشيخ تقي الدين السبكي من الوضع في المنافع ويبقى عليه استثناء أموال أهل الذمة وغير ذلك مما يعلم بالتأمل فليتأمل.
ثم الآية الشريفة لا تمنع اختصاص بعض الأشياء النافعة ببعض الأناسي لأسباب عارضة فإنها دالة على أن الكل للكل لا أن كل واحد لكل واحد ثم هذا
"تنبيه بعد إثبات الحنفية اتصاف الأفعال" بكل من الحسن والقبح "لذاتها" أي لمعنى ثبت في ذات الأفعال سواء كان لعينها أو لجزئها "وغيرها" أي ولمعنى ثبت في غير ذاتها "ضبطوا متعلقات أوامر الشرع منها" أي الأفعال في أربعة أقسام "بالاستقراء فيما حسن لنفسه حسنا لا يقبل السقوط كالإيمان" أي التصديق القلبي للنبي صلى الله عليه وسلم في جميع ما علم مجيئه به بالضرورة من عند الله "فلم يسقط" وجوبه بهذا المعنى عن المكلف بحال حتى "ولا بالإكراه" على تبديله بضده وهو الكفر وهذا هو القسم الأول "أو يقبله" والأحسن ويقبله أي وفيما حسن لنفسه حسنا يقبل السقوط بمعنى أنه لا يجب عليه "كالصلاة" فإنها وإن كانت مشتملة على أقوال وأفعال دالة على تعظيم الله تعالى لأن أولها الطهارة سرا وجهرا ثم جمع الهمة وإخلاء السر والانصراف عما سوى الله إلى الله تعالى بالقصد إليه وهو النية ثم الإشارة برفع اليدين إلى تحقيق الانصراف بنبذ ما سواه وراء ظهره أو إلى نفي الكبرياء عما سواه ثم أول أذكارها التكبير وهو النهاية في التعظيم القولي وأول ثنائها ثناء لا يشوبه ذكر ما سواه ثم القيام مع وضع اليمين على الشمال صارفا نظره إلى موضع سجوده تعظيم ظاهر ثم إعقابه بالركوع زيادة في التعظيم ثم إلحاق السجود به بوضع أشرف الأعضاء على التراب نهاية في التعظيم الفعلي ثم ما في أثناء ذلك من تلاوة القرآن والتكبير والتسبيح تعظيم في تعظيم وتعظيم الله حسن في ذاته إلا أنها "منعت في الأوقات المكروهة" أي طلوع الشمس حتى ترتفع واستوائها وغروبها إلى غير ذلك كما هو مسطور في كتب الفروع لما عرف ثمة من(23/267)
الدليل المانع منها في تلك الأوقات من سنة أو إجماع وسقطت أصلا بالحيض والنفاس إجماعا وهذا هو القسم الثاني.
وتعقبه المصنف بقوله "والوجه إن كان" حسن الأفعال "لذاتها لا يتخلف" عنها أصلا لأن ما بالذات لا يفارقها ما دامت باقية "فحرمتها" أي الأفعال الحسنة لذاتها حيث تكون إنما تكون "لعروض قبح بخارج" عن ذاتها متلبس بها فعلى هذا حسن الصلاة إذ كان ذاتيا لا يسقط أصلا حتى ولا في الأوقات المكروهة وإنما منعت في الثلاثة منها لعروض شبه فاعلها بالكفار في السجود للشمس كما نبهت عليه السنة وفي غيرها لغير ذلك مما يعرف في موضعه وكون ذلك القبح العارض يربو عند الشارع دفع حصوله على حصول الحسن الذاتي لها وقتئذ ولا بدع في ذلك "وما هو ملحق به" أي بالحسن لنفسه "ما لغيره" والوجه مما لغيره أي حسن لغير ذاته حال كون الغير "بخلقه تعالى لا اختيار للعبد فيه كالزكاة والصوم والحج" فإن حسنها "لسد الخلة" أي دفع حاجة الفقير كما في الزكاة والوجه لحاجة الفقير كما قال فخر(23/268)
ص -132-…الإسلام وموافقوه فإنها الكائنة للعبد بخلق الله تعالى إياه عليها بدون اختيار للعبد في ذلك بخلاف دفعها فإنه لاختيار العبد فيه دخل "وقهر عدوه تعالى" وهو النفس الأمارة بالسوء بكفها عن الأكل والشرب والجماع كما في الصوم وقد وقع هذا لفخر الإسلام أيضا والوجه وللشهوة لأنها الثابتة للعبد بخلق الله تعالى إياه عليها بلا اختيار للعبد في ذلك بخلاف قهرها فإنه مما لاختيار العبد فيه دخل "وشرف المكان" أي البيت الشريف بزيارته وتعظيمه كما في الحج فإن شرفه بتشريف الله تعالى إياه لا اختيار للعبد فيه إذ هذه الأمور كلها حسنة كما هو غير خاف وإلا فتنقيص المال وكف مملوك الله عن نعمه المباحة له وقطع مسافة مديدة وزيارة أمكنة معينة ليست بحسنة في ذاتها ثم لما كانت هذه الوسائط على ما حررناه كانت مضافة إلى الله تعالى وسقط اعتبارها في حق العبد حكما فصارت هذه الأفعال حسنة خالصة من الله جل وعلا للعبد بلا واسطة كالصلاة ومن ثمة شرطت فيها الأهلية الكاملة من العقل والبلوغ كالصلاة خلافا للشافعي في الزكاة وهذا هو القسم الثالث ثم هذا ما عليه الجمهور.(23/269)
وذهب صدر الشريعة إلى أن الغير دفع حاجة الفقير وقهر النفس وزيارة البيت لكن الفقير والبيت لا يستحقان هذه العبادة. والنفس مجبولة على المعصية فلا يحسن قهرها فارتفع الوسائط فصارت تعبدا محضا لله تعالى ودفع بأن هذه الأفعال الاختيارية للعبد في الخارج هي الزكاة والصوم والحج لا شيء آخر فلا يصلح أن تكون وسائط لانتفاء التغاير بينهما في الخارج وتعقبه في التلويح بأنه لا خفاء في أنها ليست نفس الزكاة والصوم والحج وفيه نظر وتعقب ما عليه الجمهور بأن فيه نظرا إذ الواسطة ما يكون حسن الفعل لأجل حسنها وظاهر أن نفس الحاجة والشهوة ليست ذلك ودفع بأنه لا يلزم من كون الفعل حسنا لأجل واسطة أن تكون الواسطة حسنة ونظيره الكلام متصف بالبلاغة والفصاحة بواسطة المعنى الأول ولا يكون المعنى الأول متصفا بها كما تقرر في موضعه ويؤيده ما يأتي في القسم الرابع وهو قوله و "ما" حسن "لغيره" حال كونه "غير ملحق" بما حسن لنفسه "كالجهاد والحد وصلاة الجنازة" فإن حسنها "بواسطة الكفر" أي كفر الكافر كما في الجهاد لأن فيه إعلاء كلمة الله وكبت أعدائه "والزجر" للجاني عن المعاصي كما في الحد فإنه شرع لهذا المعنى "والميت المسلم غير الباغي" وقاطع الطريق أيضا أي وإسلام الميت المذكور كما في صلاة الجنازة فإنها شرعت لقضاء حقه ولهذا لو انتفى الكفر انتفى الجهاد أو الجناية الموجبة للحد انتفى الحد أو إسلام الميت أو قضاء حقه بالصلاة عليه انتفت شرعيتها وإلا فمجرد تخريب بلاد الله وقتل عباد الله وإيلامهم وتعذيبهم والصلاة المذكورة بدون الميت المذكور ليس بحسن في ذاته وإنما "اعتبرت الوسائط" في هذا القسم "لأنها" أي الوسائط "باختياره" أي العبد المتصف بها فلم تضف إليه تعالى هذا على ما عليه الجمهور وأشار في التلويح إلى تعقبه بمثل التعقب عليهم فيما قبله وقد عرفت ما فيه وذهب صدر الشريعة إلى أن الواسطة في الجهاد إعلاء كلمة الله وفي صلاة الجنازة قضاء حق(23/270)
الميت المسلم ثم لما(23/271)
ص -133-…كان المقصود منهما يتأدى بعينهما كانا شبيهين بالحسن لمعنى في نفسه لأن مفهوم الجهاد القتل والضرب وأمثالهما وهذا ليس إعلاء كلمة الله تعالى لكن في الخارج صار إعلاؤها كالسقي في المفهوم هو غير الإرواء ولكن في الخارج هو عينه وعلى هذا القياس في الباقي قيل والتحقيق أن هنا ثلاثة أمور المأمور به وهو الجهاد ونحوه والمقصود الذي يتأدى بالمأمور به وهو إعلاء كلمة الله تعالى وقضاء حق الميت والسبب المفضي إليه الموجب له وهو كفر الكافر وإسلام الميت أما كون إعلاء كلمة الله مقصودا من الجهاد فلأن الجهاد في نفسه تخريب بنيان الرب وبلاده فلا جهة لكونه مقصودا في نفسه وكذا صلاة الجنازة بلا ميت عبث والمعاني المقصودة من هذه المأمورات بها وإن كانت مغايرة لها مفهوما هي عينها خارجا لأن بنفس القتل والصلاة في الخارج يحصل الإعلاء وقضاء حق الميت وأما كون كفر الكافر وإسلام الميت سببا للمقصود فلشرعية الجهاد والصلاة للإعلاء وقضاء حق الميت ولما كان الأمر على هذا جعلوا كفر الكافر ونحوه واسطة لحسن المأمور به.
قلت ويتلخص من هذا أن المراد بالغير في القول بأنه حسن لغيره السبب المفضي لوجوب فعل المأمور به على قول الجمهور والغرض المرتب على فعل المأمور به على قول البعض ويبقى الشأن في أيهما أرجح في الاعتبار وهو محل نظر ولعل الثاني أرجح لأنه يظهر من كلام الجمهور أنهم لم يجعلوا الغير السبب إلا مع ملاحظة ترتب الغرض على مسببه والله سبحانه أعلم.
"وتقدم أقسام متعلقات النهي" ما بين حسي وشرعي وبيان المتصف منها بالقبح لذاته أو لغيره في تنبيه في ذيل النهي "وكلها" أي متعلقات أوامر الشرع ونهيه "يلزمه حسن اشتراط القدرة" لأن تكليف العاجز قبيح فلا يجعل من أقسام حسن المأمور به خاصة كما فعل فخر الإسلام وتقدم الكلام عليها مع بيان انقسامها إلى ممكنة وميسرة عند مشايخنا في الفصل السابق.
ثم بقي هنا أمور يحسن التنبه لها:(23/272)
الأول: إن جعل المصنف القسم الثالث ما هو ملحق بالحسن لنفسه وحسنه لغيره أولى من قول فخر الإسلام وموافقيه إنه ملحق به لكنه مشابه بما حسن لمعنى في غيره ومن قول صاحب البديع إنه حسن لمعنى في عينه ومما يوافق صنيع المصنف تصريح شمس الأئمة السرخسي بأن هذا يشبه الحسن لنفسه ومن هنا يعرف أنه كان الأولى بالمصنف أن يقول وفيما لغيره بخلقه تعالى لا اختيار للعبد فيه ملحقا بما لنفسه.
الثاني: أن المصنف أغفل قسما يكون خامسا لهذه وهو ما حسن لغيره غير ملحق بالحسن لنفسه ولا يتأدى الغير به كالوضوء والسعي للجمعة فإن ذاتيهما اللتين هما الغسل والمسح لأعضاء مخصوصة ونفل الأقدام ليستا بحسنتين وإنما حسنهما من حيث إنه يتوصل بهما إلى الصلاة ويتمكن منها بهما وهي فعل مقصود بنفسه لا يتأدى بهما ولا بكل منهما(23/273)
ص -134-…بخلاف الجهاد وما معه فإنه وإن كان حسنا لغيره غير ملحق بالحسن لنفسه فالغير الذي هو إعلاء كلمة الله في الجهاد متأديا بالجهاد وهذه الأقسام ذكرها فخر الإسلام ووافقه أكثر المتأخرين عليها والذي مشى عليه أبو زيد في التقويم أنها أربعة أقسام حسن لمعنى في عينه والمعنى في وضعه كالصلاة وحسن لمعنى في عينه والمعنى متصل بوضعه بواسطة كالزكاة وحسن لمعنى في غيره ويحصل المعنى بفعل العبادة نحو الصلاة على الميت وما معها وحسن لمعنى في غيره ويحصل بعده بفعل مقصود كالوضوء والسعي للجمعة ووافقه شمس الأئمة على أنها أربعة لكن هكذا حسن لعينه لا يحتمل السقوط بحال كالإيمان بالله وصفاته وحسن لعينه قد يحتمل السقوط في بعض الأحوال كالصلاة وحسن لغيره مقصود بنفسه لا يحصل به ما لأجله كان حسنا كالسعي للجمعة والوضوء وحسن لغيره يتحقق بوجوده ما لأجله كان حسنا كالصلاة على الميت وما معها فالأكمل في استيفاء الأقسام ما عليه المتأخرون كما حققناه.
الثالث: اختيار شمس الأئمة السرخسي ثم صدر الشريعة أن الأمر المطلق إذا لم يكن قرينة تدل على الحسن لعينه أو غيره يقتضي كون المأمور به حسنا لعينه حسنا لا يقبل السقوط وفي البديع وقيل بل الحسن لغيره لثبوت الحسن في المأمور به اقتضاء وهو ضروري فيكتفى فيه بالأدنى.
الرابع: أن ما حسن لعينه لا يسقط إلا بالأداء أو إسقاط من الشارع فيما يحتمل الإسقاط وما حسن لغيره يسقط بحصول ما قصد به فعل ذلك الفعل أو لا وبسقوط ما قصد به والله سبحانه أعلم.(23/274)
"وقسموا" أي الحنفية "متعلقات الأحكام" الشرعية "مطلقا" أي سواء كانت عبادات أو عقوبات أو غيرهما "إلى حقه تعالى على الخلوص" قالوا: وهو ما يتعلق به النفع العام للعالم من غير اختصاص بأحد نسب إلى الله تعالى لعظم خطره وشمول نفعه ولئلا يختص به أحد من الجبابرة كحرمة البيت الذي تعلق به مصلحة العالم باتخاذه قبلة لصلواتهم ومثابة لاعتذار إجرامهم وحرمة الزنا لما يتعلق بها من عموم النفع في سلامة الأنساب عن الاشتباه وصيانة الأولاد من الضياع وارتفاع السيف بين العشائر بسبب التنازع بين الزناة وإلا فباعتبار التخليق الكل سواء في الإضافة إلى الله تعالى وله ما في السموات وما في الأرض وباعتبار التضرر أو الانتفاع هو متعال عن الكل قال القاآني ويرد عليه الصلاة والصوم والحج والحق أن يقال يعني بحق الله تعالى ما يكون المستحق هو الله حتى لا يرد عليه ذلك "والعبد كذلك" أي وإلى حق العبد على الخصوص وهو ما يتعلق به مصلحة خاصة كحرمة مال الغير فإنها حق العبد على الخصوص لتعلق صيانة ماله بها ولهذا يباح مال الغير بإباحة مالكه ولا يباح الزنا بإباحة المرأة ولا بإباحة أهلها وأورد حرمة مال الغير أيضا مما يتعلق به النفع العام وهو صيانة أموال الناس وأجيب بأنها لم تشرع لصيانة أموال الناس أجمع ألا ترى أن الكفار(23/275)
ص -135-…يملكون أموالنا بالاستيلاء ونحن نملك أموالهم بذلك وأموال المؤمنين تباح لنا عند وجود الرضا منهم "وما اجتمعا" أي الحقان فيه "وحقه" تعالى "غالب وقلبه" أي وما اجتمعا فيه وحق العبد غالب "ولم يوجد الاستقراء متساويين" أي ما اجتمعا فيه والحقان فيه سواء ثم ما تقدم من معنى الحق يفيد أنه لا يتصور أيضا "فالأول" أي ما هو حق الله تعالى على الخصوص "أقسام" ثمانية بالاستقراء "عبادات محضة كالإيمان والأركان" الأربعة للإسلام بعد الشهادتين وهي الصلاة ثم الزكاة ثم الصيام ثم الحج "ثم العمرة والجهاد والاعتكاف وترتيبها" أي هذه العبادات "في الأشرفية هكذا" أي الإيمان إذ هو أفضلها قطعا وكيف لا وهو أصلها ولا صحة لها بدونه ثم الصلاة لأنها تالية الإيمان وسماها الله تعالى إيمانا حيث قال {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم "بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة" وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود قلت: يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال: "الصلاة على ميقاتها" إلى غير ذلك. وفيها إظهار شكر نعمة البدن ثم الزكاة لأنها تالية الصلاة في الكتاب والسنة وفيها إظهار شكر نعمة المال الذي هو شقيق الروح ثم الصوم قالوا: لأنه شرع رياضة وقهرا للنفس بكفها عن شهوتي البطن والفرج فإن النفس بقهرها ورياضتها تصلح للخدمة فكان قربة بواسطة النفس وهي دون الواسطة في الصلاة والزكاة في المنزلة لأن الواسطة في الصلاة الكعبة المعظمة وإنما يسقط التوجه إليها عند العذر لا غير وفي الزكاة الفقير الذي له ضرب استحقاق في الصرف إليه فكان دونهما في المرتبة ولا يخفى ما فيه على أن في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم "كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال الله عز وجل إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به" وفي رواية "كل عمل بن آدم له إلا الصيام فإنه لي" ومن هنا ذهب بعضهم(23/276)
إلى أنه أفضل عبادات البدن إلا أنه يطرقه أنه يجوز أن يختص المفضول بما ليس للفاضل ألا ترى أن الشيطان يفر من الأذان والإقامة ولا يفر من الصلاة مع أنها أفضل منهما ثم الحج قالوا: لأنه عبادة هجرة وسفر لا يتأدى إلا بأفعال يقوم بها ببقاع معظمة وكأنه وسيلة إلى الصوم لأن بما فيه من هجر الوطن ومفارقة الخلان والسكن تنقطع عنه مراد الشهوات وتضعف نفسه فيتيسر له قهرها بالصوم ولا يخفى ما فيه بل ذهب القاضي حسين من الشافعية إلى أنه أفضل عبادات البدن لاشتماله على المال والبدن وأيضا دعينا إليه في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات كالإيمان وهو أفضل فكذا الحج الذي هو قرينه وفيه ما هو غير خاف على المحقق على أن في الكشاف وعن أبي حنيفة أنه كان يفاضل بين العبادات قبل أن يحج فلما حج فضل الحج على العبادات كلها لما شاهد من تلك الخصائص.
"قالوا: وقدمت العمرة وهي سنة على الجهاد" وإن كان في الأصل فرض عين لأنه شرع لإعلاء الدين وهو فرض على كل مسلم ثم صار فرض كفاية لكون المقصود وهو كسر شوكة المشركين ودفع أذاهم عن المسلمين يحصل بالبعض "لأنها من توابع الحج" وأفعالها من جنس أفعاله "ولا يخفى ما فيه" أي هذا التوجيه لتقديمها عليه فإنه ليس بمقتض لذلك ولعل(23/277)
ص -136-…لهذا ذكره بعضهم بعد الحج ولم يذكرها أصلا ثم الجهاد لما ذكرنا فكان دون ما سبق لأن فرض الكفاية دون فرض العين وفيه ما لا يخفى على أن في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أفضل الأعمال إيمان بالله ورسوله ثم جهاد في سبيل الله ثم حج مبرور" وأخرج أحمد بإسناد صحيح أن رجلا قال: يا رسول الله ما الإسلام: قال صلى الله عليه وسلم: "أن يسلم قلبك وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك" قال: فأي الإسلام أفضل؟ قال: "الإيمان" قال: وما الإيمان؟ قال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت", قال: فأي الإيمان أفضل؟ قال: "الهجرة" قال: وما الهجرة؟ قال: "أن تهجر السوء" قال: فأي الهجرة أفضل؟ قال: "الجهاد" قال: وما الجهاد؟ قال: "أن تقاتل الكفار إذا لقيتهم" قال: فأي الجهاد أفضل؟ قال: "من عقر جواده وأهريق دمه" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثم عملان هما أفضل الأعمال إلا من عمل بمثلهما حجة مبرورة أو عمرة مبرورة" ومن هنا ذهب بعضهم إلى أن الجهاد أفضل عبادات البدن وقد يجاب عن هذا تارة بأن فرض الحج تأخر إلى السنة التاسعة عند كثير من العلماء وكان الجهاد في أول الإسلام فرض عين فلعل النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا قبل فرض الحج ولا إشكال في أفضلية الجهاد المفروض عينا على الحج المتطوع به وتارة بأن جنس الجهاد أشرف من جنس الحج فإن عرض للحج وصف يمتاز به على الجهاد صار ذلك الحج المخصوص أفضل من الجهاد وإلا فالجهاد أفضل ويشهد لصدر هذا ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده ما شحب وجه ولا اغبرت قدم في عمل يبتغى فيه درجات الآخرة بعد الصلاة المفروضة كجهاد في سبيل الله" رواه أحمد والبزار ومن هنا ومما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال حكاية عن الله عز وجل "وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه" كما في صحيح البخاري قال: والله تعالى أعلم أحمد وغيره من العلماء إن الجهاد(23/278)
أفضل الأعمال بعد الفرائض ا هـ أي: على الأعيان وحينئذ فيوافقه ما في قواعد القرافي قال مالك: الحج أفضل من الغزو لأن الغزو فرض كفاية والحج فرض عين وكان ابن عمر يكثر الحج ولا يحضر الغزو ا هـ ويشكل عجزه بقوله صلى الله عليه وسلم: "حجة لمن لم يحج خير من عشر غزوات وغزوة لمن قد حج خير من عشر حجج" رواه الطبراني والبيهقي من رواية عبد الله بن صالح كاتب الليث وثقه ابن معين واحتج به البخاري وقد ظهر من هذه الجملة أنه لا يتم ما في الإحياء من أنه لا يصح إطلاق القول بأفضلية بعض العبادات على بعض كما لا يصح إطلاق القول بأن الخبز أفضل من الماء فإن ذلك مخصوص بالجائع والماء أفضل للعطشان فإن اجتمعا نظر إلى الأغلب فتصدق الغني الشديد البخل بدرهم أفضل من قيام ليلة وصيام ثلاثة أيام لما فيه من دفع حب الدنيا والصوم لمن استحوذت عليه شهوة الأكل أفضل ولا ما قال النووي من أن ليس المراد من قولهم الصلاة أفضل من الصوم أن صلاة ركعتين أفضل من صوم أيام أو يوم فإن صوم يوم أفضل من ركعتين وإنما معناه أن من أمكنه الاستكثار من الصوم والصلاة وأراد أن يستكثر من أحدهما ويقتصر من الآخر على المتأكد فهذا محل الخلاف ا هـ ثم بعد هذا كله لا خفاء في أن الفرض من كل جنس أفضل من نفله وقول(23/279)
ص -137-…الشيخ عز الدين بن عبد السلام ثم القرافي أن المندوب قد يفضل الواجب كمن وجب عليه شاة فأخرجها وتطوع بشاتين فإن الشاتين أفضل لأن المصلحة الحاصلة للفقراء بالشاتين أوسع فيه نظر ظاهر وكيف لا وما قدمناه من قول الله تبارك وتعالى: "وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه" وما روى ابن خزيمة في صحيحه أن الواجب يفضل المندوب بسبعين درجة ينفيه على أنه قد أخرج النسائي سبق درهم مائة ألف. مع أن التوسعة بالألف أعظم منها بالواحد وإنما الشأن في فرض كل جنس بالنسبة إلى الفرائض من باقي الأجناس وللباحث المحقق في ذلك مجال فوق ما قدمناه والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.
ثم الاعتكاف لأنه سنة أو مستحب وشرع لتكثير الصلاة حقيقة أو حكما بانتظارها في مكانها وهو المساجد على صفة الاستعداد لها من الطهارة وغيرها فإن المنتظر لها فيها حكما ولذا اختص بالمساجد وشواهده من السنة مسطورة في مواضعها فكان دون ما تقدم في المرتبة إلا أن قولهم فكان من توابع الصلاة يشكل بتعليلهم تقديم العمرة على الجهاد بكونها من توابع الحج لو صح كونها من توابعه ثم هذا مما يوضح أن كون الشيء من توابع الشيء لا يستلزم ألبتة كونه أفضل مما المتبوع أفضل منه فليتأمل وهذا هو القسم الأول.(23/280)
"وعبادة فيها معنى المؤنة" وهي فعولة على الأصح من مأنت القوم أمأنهم إذا احتملت ثقلهم أو من أتاني فلان وما مأنت له مأنا إذا لم تستعد له وقيل مفعلة من الأون وهو أحد جانبي الخرج لأنه ثقل أو من الأين وهو التعب والشدة وهذه العبادة "صدقة الفطر" وكونها عبادة ظاهر من كونها شرعا صدقة وطهرة للصائم عن اللغو والرفث كما رواه أبو داود وابن ماجه عن ابن عباس مرفوعا ومن اعتبار صفة الغنى فيمن تجب عليه واشتراط النية في الأداء ووجوب صرفها في مصارف الصدقات إلى غير ذلك وكونها فيها معنى المؤنة "إذ وجبت" على المكلف "بسبب غيره" وهو من يليه ويمونه كما أشار إليه ما روى البيهقي الدارقطني عن ابن عمر قال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر عن الصغير والكبير والحر والعبد ممن تمونون فإن العبادة لا تجب على الغير بسبب الغير، "فلم يشرط لها كمال الأهلية" كما شرط للعبادات الخالصة لقصور معنى العبادة فيها "فوجبت في مال الصبي والمجنون" الغنيين عن أنفسهما ورقيقهما يتولى أداءها الأب ثم وصيه ثم الجد ثم وصيه ثم وصي نصبه القاضي عند أبي حنيفة وأبي يوسف "خلافا لمحمد وزفر" وهو القياس لسقوط الخطاب عنهما يرجحان معنى العبادة فيها وإنما استحسن أبو حنيفة وأبو يوسف الوجوب إلحاقا لها بما فيها من معنى المؤنة بنفقة ذي الرحم المحرم منهما فإنها تجب في مالهما إذا كانا غنيين باتفاقهم لكن كما قال صاحب الكشف1 ثم تلميذه قوام الدين الكاكي كلام محمد وزفر أوضح ثم ظهر وجه كونها عبادة فيها معنى المؤنة دون العكس وهذا القسم الثاني.
ـــــــــــــــــــ
1 كما صاحب الكشف هكذا في النسخ ولعل أصل العبارة كما قال الخ. وحرر كتبه مصححه.(23/281)
ص -138-…"ومؤنة فيها معنى القربة كالعشر إذ المؤنة ما به بقاء الشيء وبقاء الأرض في أيدينا به" أي بالعشر لأن الله تعالى حكم ببقاء العالم إلى الوقت الموعود وهو ببقاء الأرض وما يخرج منها من القوت وغيره لمن عليها فوجبت عمارتها والنفقة عليها كما وجب على الملاك نفقة عبيدهم ودوابهم وبقاؤها وبقاء إنزالها إنما هو بجماعة المسلمين لأنهم الحافظون لها إما من حيث الدعاء وهم ضعفاؤهم المحتاجون فإن بهم يستنزل النصر على الأعداء ويستمطر في السنة الشهباء وإما من حيث الذب بالشوكة عن الدار وغوائل الكفار وهم المقاتلة فوجب في بعضها العشر نفقة للأولين وفي بعضها الخراج نفقة للآخرين وجعلت النفقة عليهما نفقة عليها تقديرا ثم في الخراج معنى العقوبة كما سيذكر وفي العشر معنى العبادة كما أشار إليه بقوله "والعبادة" فيه "لتعلقه" أي العشر "بالنماء" الحقيقي لها وهو الخارج منها كتعلق الزكاة أو لأن مصرفه الفقراء كمصرف الزكاة وهذا أشبه "وإذ كانت الأرض الأصل" والنماء وصفا تابعا لها "كانت المؤنة غالبة وللعبادة" فيه "لا يبتدأ الكافر به" لأن الكفر ينافي القربة من كل وجه لأن في العشر ضرب كرامة والكفر مانع منه مع إمكان الخراج "ولا يبقى" العشر "عليه" أي الكافر إذا اشترى أرضا عشرية عند أبي حنيفة "خلافا لمحمد في البقاء" للعشر عليه "إلحاقا" للعشر "بالخراج" فإنه يبقى عليه إذا اشترى أرضا خراجية بالإجماع "بجامع المؤنة" فيهما فإن كلا منهما من مؤن الأرض والكافر أهل للمؤنة، "والعبادة" في العشر "تابعة" فيسقط في حقه لعدم أهليته لها "فلا يثاب" الكافر "به" أي بالعشر "وأجيب بأنه" أي معنى العبادة "وإن تبع" المؤنة "فهو ثابت" في العشر فإن كلا من تعلقه بالنماء وصرفه إلى مصارف الفقراء مستمر "فيمنع" ثبوته فيه من إلغائه في حق الكافر ضرورة عدم إمكان إلغائه.(23/282)
قلت: إلا أن هذا إنما يتم على محمد نظرا إلى ما هو الأشبه في معنى العبادة فيه إذا كان قائلا بأنه يوضع موضع الصدقة لأن الواجب لما لم يتغير عنده لم تتغير صفته كما هو المذكور في السير الكبير والصغير وأما على أنه يوضع في بيت مال الخراج لانتفاء معنى الصدقة فيه كالمال الذي يأخذه العاشر من أهل الذمة كما هو رواية ابن سماعة عنه فلا يتم عليه وعلى هذا فيجاب كما في كشف الأسرار بأن العشر غير مشروع على الكافر إلا بطريق التضعيف فالقول بوجوبه بدون التضعيف عليه خرق الإجماع.
"فتصير" الأرض العشرية "خراجية بشرائه" أي الكافر إياها عند أبي حنيفة وإنما اختلفت الرواية في وقت صيرورتها خراجية ففي السير كما اشترى وفي رواية ما لم يوضع عليها الخراج وإنما يؤخذ إذا بقيت مدة يمكنه أن يزرع فيها زرع أو لا "ولأبي يوسف" أي وخلافا له في أنه "يضعف عليه" لأنه لا بد من تغييره لأن الكفر ينافيه والتضعيف تغيير للوصف فقط فيكون أسهل من إبطال العشر ووضع الخراج لأن فيه تغيير الأصل والوصف جميعا والتضعيف في حق الكافر مشروع في الجملة "كبني تغلب" ولا يقال فيه تضعيف(23/283)
ص -139-…للقربة والكفر ينافيها لأنا نقول بعد التضعيف صار في حكم الخراج الذي هو من خواص الكفار وخلا عن وصف القربة "ويجاب بأنها" أي الصدقة المأخوذة من بني تغلب هي في المعنى "جزية سميت بذلك" أي بكونها صدقة مضاعفة "بالتراضي لخصوص عارض" فإن بني تغلب بكسر اللام عرب نصارى قال القاسم بن سلام في كتاب الأموال هم يعني عمر أن يأخذ منهم الجزية فنفروا في البلاد فقال النعمان بن زرعة أو زرعة بن النعمان لعمر: يا أمير المؤمنين إن بني تغلب قوم عرب يأنفون من الجزية وليست لهم أموال إنما هم أصحاب حروث ومواش ولهم نكاية في العدو فلا تعن عدوك عليك بهم قال: فصالحهم عمر رضي الله عنه على أن يضعف عليهم الصدقة واشترط عليهم أن لا ينصروا أولادهم وفي رواية عنه هذه جزية سموها ما شئتم وإنما اختلف الفقهاء في أنها هل هي جزية على التحقيق من كل وجه؟ فقيل: نعم حتى لو كان للمرأة والصبي نقود أو ماشية لا يؤخذ منهما شيء وهو قول الشافعي ورواية الحسن عن أبي حنيفة قال الكرخي: وهي أقيس لأن الواجب عليهم كان الجزية فإذا صولحوا على مال جعل واقعا موقع المستحق وقيل لا بل هي واجبة بشرائط الزكاة وأسبابها وهو ظاهر الرواية لأن الصلح وقع على ذلك ومن ثمة لا يراعى فيها وصف الصغار والمصرف مصالح المسلمين لأنه مال بيت المال وذلك لا يخص الجزية والمرأة من أهلها ومن أهل ما يجب من المال بالصلح فيؤخذ منها بخلاف الصبي والمجنون بخلاف أرضهما لأن العشر ليس بعبادة محضة ليخص العقلاء البالغين فيؤخذ من أرضهما وقد أجاب أبو يوسف من قبل أبي حنيفة بأن التضعيف ثبت بالإجماع على خلاف القياس في قوم معينين للضرورة السالفة وهي منتفية هنا فلا يصار إليه مع إمكان ما هو الأصل في الكافر وهو الخراج فالصحيح ما قاله أبو حنيفة كما ذكره فخر الإسلام وغيره وهذا هو القسم الثالث.(23/284)
"ومؤنة فيها معنى العقوبة" وهي "الخراج أما المؤنة فلتعلق بقائها" أي الأرض لأهل الإسلام "بالمقاتلة المصارف" له كما بيناه آنفا "والعقوبة للانقطاع بالزراعة عن الجهاد" لأنه يتعلق بالأرض بصفة التمكن من الزراعة والاشتغال بها عمارة الدنيا وإعراض عن الجهاد وهو سبب الذل شرعا "فكان" الخراج "في الأصل صغارا" كما أشار إليه ما في صحيح البخاري أن أبا أمامة الباهلي قال ورأى سكة وشيئا من آلة الحرث سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يدخل هذا بيت قوم إلا أدخله الذل" "وبقي" الخراج للأرض الخراجية وظيفة مستمرة "لو اشتراها مسلم" أو ورثها أو وهبها أو أسلم مالكها "لأن ذلك" أي الصغار "في ابتداء التوظيف" لا في بقائه نظرا إلى ما فيه من رجحان معنى المؤنة التي المؤمن من أهلها وهذا هو القسم الرابع.
"وحق قائم بنفسه أي لم يتعلق بسبب مباشر" أي شيء ثابت بذاته لم يتعلق بالذمم بسبب مقصود وضع له يجب باعتباره أداؤه على المكلف بل ثبت بحكم أن الله مالك الأشياء كلها وهو "خمس الغنائم" أي الأموال المأخوذة من الكفار قهرا لإعلاء كلمة الله فإن الجهاد(23/285)
ص -140-…حق الله إعزازا لدينه وإعلاء لكلمته فالمصاب كله حق الله تعالى إلا أنه سبحانه جعل أربعة أخماسه للغانمين امتنانا منه عليهم من غير أن يستوجبوها بالجهاد لأن العبد بعمله لمولاه لا يستحق عليه شيئا واستبقى الخمس حقا له وأمر بالصرف إلى من سماهم في كتابه العزيز فتولى السلطان أخذه وقسمته بينهم لأنه نائب الشرع في إقامة حقوقه لا أنه حق لزمنا أداؤه بطريق الطاعة "ومنه" أي الحق القائم بنفسه "المعدن" بكسر الدال وهو في الأصل المكان بقيد الاستقرار فيه من عدن بالمكان أقام به ثم اشتهر في نفس الأجزاء المستقرة التي ركبها الله تعالى في الأرض يوم خلقها "والكنز" وهو المثبت فيها من الأموال بفعل الإنسان والركاز يعمهما لأنه من الركز مرادا به المركوز أعم من كون راكزه الخالق أو المخلوق فهو مشترك معنوي بينهما ثم المراد بالمعدن هنا عند أصحابنا الجامد الذي يذوب وينطبع كالنقدين والحديد والرصاص والنحاس وبالكنز ما لا علامة للمسلمين فيه حتى كان جاهليا لأن هذين لا حق لأحد فيهما وقد جعل الشارع أربعة أخماس كل منهما للواجد وبقي الخمس له تعالى مصروفا إلى من أمر بالصرف إليه وقد ظهر أن المراد خمسهما ولو صرح به لكان أحسن "فلم يلزم أداؤه" أي الخمس في هذه الأموال "طاعة" فيشترط له النية ليقع دفعه قربة بها "إذ لم يقصد الفعل" أي لأن الفعل وهو دفعه غير مقصود "بل متعلقه" أي الفعل هو المقصود وهو المال المدفوع فالنفي راجع إلى القيد الذي هو طاعة "بل هو" أي الخمس "حق له تعالى" كما بينا "فلم يحرم على بني هاشم إذا لم يتسخ إذ لم تقم به قربة واجبة" قلت: والأولى الاقتصار على قربة بناء على حرمة الصدقة النافلة عليهم كالمفروضة لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد إنما هي أوساخ الناس" رواه مسلم إلى غير ذلك فوجب اعتباره كما قاله المصنف في فتح القدير ثم كيف يحرم عليهم الخمس وقد أخرج الطبراني عنه صلى الله عليه(23/286)
وسلم: "لا يحل لكم أهل البيت من الصدقات شيء وإنما هي غسالة أيدي الناس وإن لكم في خمس الخمس ما يغنيكم".
ثم إنما قيدنا المعدن والكنز بالقيدين المذكورين لأنهما بدونهما ليس حكمهما ذلك كما عرف في الفروع ولعلهم إنما لم يقيدوهما بهما في الأصول اعتمادا على إحاطة العلم بهما في الفروع ثم قيل إنما ذكر المعادن مع أنها غنيمة لأن اسم الغنيمة خفي في حقها كخفاء اسم السارق بالنسبة إلى النباش ولهذا لم يوجب الشافعي فيها الخمس حيث يشبه الصيد ولا نحن فيما إذا وجده في داره وفي أرضه في رواية على ما عرف وهذا هو القسم الخامس.
"وعقوبات كاملة" أي محضة لا يشوبها معنى آخر تامة في كونها عقوبة وهي "الحدود" أي حد الزنا وحد السرقة وحد الشرب فإنها شرعت لصيانة الأنساب والأموال والعقول وموجبها جنايات لا يشوبها معنى الإباحة فاقتضى كل منها أن يكون له عقوبة كاملة زاجرة عن ارتكابه حقا لله تعالى على الخلوص لأن حرمتها حقه على الخلوص ففي الصحيحين عن(23/287)
ص -141-…رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه" ثم عن المبرد سميت العقوبة عقوبة لأنها تتلو الذنب من عقبه يعقبه إذا تبعه وهذا هو القسم السادس.
"و" عقوبة "قاصرة" وهي "حرمان القاتل" إرث المقتول قتله عمدا أو غيره على ما فيه من تفصيل معروف في موضعه ثم "كونه" أي حرمان القاتل "حقا له تعالى لأن ما يجب لغيره" أي الله تعالى "بالتعدي عليه" أي الغير يكون "فيه نفع له" أي للغير والغير هنا المقتول "وليس في الحرمان نفع للمقتول" فثبت أنه حق لله تعالى زاجر عن ارتكاب ما جناه كالحد لأن ما لا يجب لغير الله يجب لله ضرورة "ومجرد المنع" من الإرث "قاصر" في معنى العقوبة لأنه لم يلحقه ألم في بدنه ولا نقصان في ماله بل منع ذلك ثبوت ملكه في تركة المقتول.
تنبيه: وإنما قدرنا موصوف قاصرة عقوبة كشمس الأئمة السرخسي لأنه لم يذكر لهذا القسم مثالا غير هذا وقد قيل: ليس له مثال غيره حتى كان المراد بقول من قال وعقوبات قاصرة الواحد لكن في التحقيق ويجوز أن يلحق حرمان الوصية بالقتل ووجوب الكفارة من حيث إن معنى العقوبة فيهما قاصر بهذا القسم فيحمل اللفظ على حقيقته ولا يحتاج إلى حمله على الواحد وهذا هو القسم السابع.(23/288)
"وحقوقهما" أي العبادة والعقوبة مجتمعان "فيها كالكفارات" لليمين والقتل والظهار والفطر العمد في نهار رمضان وكفارة قتل الصيد للمحرم وصيد الحرم أما أن فيها معنى العبادة فلأنها تؤدى بما هو عبادة محضة من عتق أو صدقة أو صيام ويشترط فيها النية ويؤمر من هي عليه بالأداء بنفسه بطريق الفتوى ولا يستوفى منه جبرا والشرع لم يفوض إلى المكلف إقامة شيء من العقوبات على نفسه بل هي مفوضة إلى الأئمة وتستوفى جبرا وأما أن فيها معنى العقوبة فلأنها لم تجب إلا أجزية على أفعال من العباد لا مبتدأة كالعبادة ولهذا سميت كفارة لأنها ستارة للذنوب "وجهة العبادة غالبة فيها" بدليل وجوبها على أصحاب الأعذار مثل الخاطئ والناسي والمكره والمحرم المضطر إلى قتل الصيد لمخمصة ولو كانت جهة العقوبة فيها غالبة لامتنع وجوبها بسبب العذر لأن المعذور لا يستحق العقوبة وكذا لو كانت مساوية لأن جهة العبادة إن لم تمنع الوجوب على هؤلاء المعذورين فجهة العقوبة تمنعه والأصل عدمه فلا يثبت بالشك "إلا الفطر" أي كفارته فإن جهة العقوبة فيها غالبة "وألحقها" أي كفارة الفطر "الشافعي بها" أي ببقية الكفارات في تغليب معنى العبادة فيها على العقوبة حيث لم يسقطها بالشبهة كما سيأتي "والحنفية" إنما قالوا بتغليب معنى العقوبة فيها على العبادة "لتقيدها" أي وجوبها "بالعمد" أي بالفطر العمد "ليصير" الفطر العمد "حراما وهو" أي الحرام "المثير للعقوبة والقصور" للعقوبة فيها حيث لم تكن كاملة "لكون الصوم لم يصر حقا تاما مسلما لصاحب الحق" وهو الله عز وجل "وقعت الجناية عليه" لأن تمامه بإكماله يوما فقصرت الجناية فقصرت عقوبتها جزاء وفاقا "فلذا" أي لقصور العقوبة في هذا الحق الذي هو الكفارة "تأدى" هذا الحق "بالصوم والصدقة وشرطت النية" فيه "فتفرع" على غلبة معنى العقوبة(23/289)
ص -142-…"درؤها بالشبهة" أي شبهة الإباحة كما يدرأ الحد بها ومن ثمة لم تجب بالإجماع على من جامع ظانا أن الفجر لم يطلع أو أن الشمس غابت وتبين خلافه وأيضا "فوجبت مرة بمرار" أي بفطر متعدد في أيام "قبل التكفير من رمضان" واحد عندنا كما يحد مرة واحدة بزناه مرة بعد أخرى إذا لم يحد بكل مرة وقال الشافعي يجب عليه بكل فطر يوم كفارة "ومن اثنين" أي ويجب عليه كفارة واحدة بفطر متعدد قبل التكفير من رمضانين "عند الأكثر" أي أكثر المشايخ على ما في التلويح وفي الكافي في الصحيح "خلافا لما يروى عنه" أي عن أبي حنيفة من تعددها بتعدد فطر الأيام منهما قلت: وفيه نظر فإن المسطور في الكتب المشهورة وهو الذي مشى عليه في فتح القدير أن هذا ظاهر الرواية وأن عن محمد أن عليه كفارة واحدة زاد في المبسوط وهو رواية الطحاوي عن أبي حنيفة بل حكى في الحقائق الإجماع على تعددها وإنما قلنا بالتداخل حيث قلنا به "لأن التداخل درء" ثم معنى الزجر معتبر في هذه الكفارة كما علم والزجر يحصل بواحدة "ولو كفر" عن فطر يوم "ثم أفطر" في آخر "فأخرى لتيقن عدم انزجاره بالأولى فتفيد" الكفارة "الثانية" الانزجار إن شاء الله تعالى هذا ظاهر الرواية وروى زفر عن أبي حنيفة أن ليس عليه بالفطر الثاني كفارة أخرى وظاهر الرواية هو الظاهر.(23/290)
"تتميم" وذهب الشافعي إلى أن الغالب في كفارة الظهار العقوبة وهو ظاهر البديع ومشى عليه صدر الشريعة لأن الظهار منكر من القول وزور فتكون جهة الجناية غالبة فيكون في جزائها جهة العقوبة غالبة ودفع بأن السبب ليس الظهار بل العود وهو العزم على الوطء الذي حرمه على نفسه بالظهار كما هو قول كثير من المشايخ منهم صاحب المحيط أو الظهار والعود جميعا كما عليه آخرون منهم فخر الإسلام وقد استروح كل من أصحاب القولين إلى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة:3] الآية لأن لفظها يحتملهما إذ يمكن أن يكون ترتيبها عليهما كما يمكن أن يكون على الأخير وقد ترجح كونه الأخير لأنه بسيط وهو أصل بالنسبة إلى المركب ويرد على كل منهما أن الحكم يتكرر بتكرر سببه لا شرطه والكفارة تتكرر بتكرر الظهار لا العزم وعلى الآخران بمجرد العزم لا تتقرر الكفارة أو إيفاء الواجب من الوطء كما هو قول بعضهم ولعله الأشبه فإن إيفاء حقها من الوطء لا يمكنه إلا برفع الحرمة وهي لا ترتفع إلا بالكفارة ومن ثمة لما ذكر الإمام السروجي ما في المبسوط من أن بمجرد العزم عندنا لا تتقرر الكفارة حتى لو أبانها أو ماتت لم تلزمه عندنا قال: وهذا دليل على أن الكفارة غير واجبة عندنا لا بالظهار ولا بالعود إذ لو وجبت لما سقطت بل موجب الظهار ثبوت التحريم فإذا أراد رفعه فلا بد من الكفارة لرفع الحرمة حتى لو لم يرد ذلك ولم تطالب المرأة بالوطء لا يجب عليه الكفارة أصلا ا هـ على أنه كما في الطريقة المعينة لا استحالة في جعل المعصية سببا للعبادة التي حكمها تكفير المعصية وإذهاب السيئة خصوصا إذ صار معنى الزجر فيها مقصودا وإنما المحال أن تجعل سببا للعبادة الموصلة إلى الجنة لأنها مع حكمها الذي هو الثواب الموصل إلى الجنة تصير من أحكام المعصية فتصير المعصية بواسطة حكمها سببا للوصول إلى الجنة وهو(23/291)
محال ا هـ.(23/292)
ص -143-…ثم يشكل كون الغلبة فيها لجهة العقوبة بأن الأصل في العقوبات المحضة وما العقوبة غالبة فيه التداخل ولا تداخل هنا إذا لم يقصد بالثاني فصاعدا التكرار والتأكيد ثم في التلويح وذكر المحققون في الفرق بين كفارة الفطر وغيرها أن داعية الجناية على الصوم لما كانت قوية باعتبار أن شهوة البطن أمر معود للنفس احتيج فيها إلى زاجر فوق ما في سائر الجنايات فصار الزجر فيها أصلا والعبادة تبعا فإن من دعته نفسه إلى الإفطار طلبا للراحة فتأمل فيما يجب عليه من المشقة انزجر لا محالة وباقي الكفارات بالعكس ألا يرى أنه لا معنى للزجر عن القتل الخطأ وأن كفارة الظهار شرعت فيما يندب إلى تحصيل ما تعلقت الكفارة به تعلق الأحكام بالعلل وهو العود وكفارة اليمين شرعت فيما يجب تحصيل ما تعلقت الكفارة به تعلق الأحكام بالشروط كمن حلف لا يكلم أباه وشرع الزاجر فيما يندب أو يجب تحصيله لا يليق بالحكمة والله سبحانه أعلم.(23/293)
"والثاني حقوق العباد كضمان المتلفات وملك المبيع والزوجة وكثير وما اجتمعا" أي حق الله وحق العبد "فيه وحقه تعالى غالب" وهو "حد القذف" لأنه من حيث إنه يقع نفعه عاما بإخلاء العالم عن الفساد حق الله تعالى إذ لم يختص بهذا إنسان دون إنسان ومن حيث إن فيه صيانة العرض ودفع العار عن المقذوف حق العبد إذ هو الذي ينتفع به على الخصوص ثم في هذا حق الله تعالى أيضا لأن في النفس حقين: حق الاستعباد لله وحق الانتفاع للعبد فكان الغالب حق الله تعالى "فليس للمقذوف إسقاطه" أي الحد لأن حق الله لا يسقط بإسقاط العبد وإن كان غير متمحض له كما يشهد به دلالة الإجماع على عدم سقوط العدة بإسقاط الزوج إياها لما فيها من حق الله عز وجل "ولذا" أي ولكون الغالب في هذا الحد حق الله تعالى "لم يفوض إليه" أي إلى المقذوف ليقيمه على نفسه "لأن حقوقه تعالى لا يستوفيها إلا الإمام" لاستنابة الله تعالى إياه في استيفائها دون غيره "ولأنه" أي حد القذف "لتهمته" أي القاذف المقذوف "بالزنا وأثر الشيء من بابه" أي باب ذلك الشيء وحد الزنا حق الله تعالى اتفاقا "فدار" حد القذف "بين كونه لله تعالى خالصا" كحد الزنا "أو" بين كونه "له" أي الله تعالى "وللعبد" كما ذكرنا فأقل ما في الباب أن يقال "فتغلب" حق الله "به" أي بحد القذف لأن ما للعبد من الحق يتولى استيفاءه مولاه فيصير حق العبد مرعيا بتغليب حق مولاه لا مهدرا ولا كذلك عكسه هذا على ما عليه عامة المشايخ وذهب صدر الإسلام إلى أن الغالب فيه حق العبد وبه قالت الأئمة الثلاثة والأول أظهر كما في الهداية ثم من الأحكام ما بين متفق عليه ومختلف فيه ما يتفرع عليه باعتبار كونه حقا للعبد ومنها ما يتفرع عليه باعتبار كونه حقا لله ومحل الخوض فيها الكتب الفقهية "وما اجتمعا" أي حق الله وحق العبد فيه "والغالب حق العبد" وهو "القصاص بالاتفاق" فإن لله تعالى في نفس العبد حق الاستعباد وللعبد حق الاستمتاع ففي(23/294)
شرعية القصاص إيفاء للحقين وإخلاء للعالم عن الفساد إلا أن وجوبه بطريق المماثلة المنبئة عن معنى الجبر وفيه معنى المقابلة بالمحل فكان حق العبد راجحا ولهذا فرض استيفاؤه للوارث وجرى فيه الاعتياض بالمال والعفو.(23/295)
ص -144-…"وينقسم" متعلق الحكم الشرعي مطلقا "أيضا باعتبار آخر أصل وخلف" أي من حيث اتصافه بالأصالة والخلفية إلى أصل وخلف ثم "لا يثبت" كونه خلفا "إلا بالسمع" نصا أو دلالة أو إشارة أو اقتضاء "صريحا أو غيره" أي غير صريح كالأصل لا بالرأي فحذف المنقسم إليه للعلم به "فالأصل كالتصديق في الإيمان" فإنه أصل محكم لا يحتمل السقوط بعذر ما ولا يبقى مع التبديل بحال "والخلف عنه" أي عن التصديق "الإقرار" باللسان لأنه معبر عما في الجنان "وإذ لم يعلم الأصل يقينا" لأنه غيب "أدير" الحكم "عليه" أي على الخلف "فلو أكره" الكافر على الإسلام "فأقر" به "حكم بإسلامه" لوجوده ظاهرا وإن لم يوجد التصديق القلبي في نفس الأمر وحينئذ "فرجوعه" عن الإسلام إلى الكفر باللسان "ردة لكن لا توجب القتل" لأن الإكراه شبهة لإسقاطه "بل" توجب "الحبس والضرب حتى يعود" إلى الإسلام مع أنه لو قتله قاتل قبل عوده لا شيء عليه "ودفن" من أكره على الإسلام حتى أقر به ثم لم يظهر منه خلافه إلى أن مات "في مقابر المسلمين به" أي بإقراره بالإسلام مكرها "و" يثبت أيضا "باقي أحكام الخلفية في الدنيا" من إسقاط الجزية عنه وجواز الصلاة خلفه وعليه إلى غير ذلك أما الآخرة فالمذهب للحنفية وهو نص أبي حنيفة "أنه" أي الإقرار "أصل" في أحكامها أيضا "فلو صدق" بقلبه "ولم يقر" بلسانه "بلا مانع" له من الإقرار واستمر "حتى مات كان في النار وكثير من المتكلمين" ورواية عن أبي حنيفة وأصح الروايتين عن الأشعري "التصديق وحده" في أحكام الآخرة لأنه هو "والإقرار" شرط "لأحكام الدنيا" أي لإجرائها عليه "كقول بعضهم" أي الحنفية منهم أبو منصور الماتريدي ثم كما في شرح المقاصد الإقرار لهذا الغرض لا بد أن يكون على وجه الإعلان والإظهار على الإمام وغيره من أهل الإسلام بخلاف ما إذا كان لإتمام الإيمان فإنه يكفي مجرد التكلم وإن لم يظهر على غيره ثم الخلاف فيما إذا كان قادرا وترك التكلم لا(23/296)
على وجه الإباء إذ العاجز كالأخرس مؤمن اتفاقا والمصر على عدم الإقرار مع المطالبة به كافر وفاقا لكون ذلك من أمارات عدم التصديق.
"ثم صار أداء الأبوين في الصغير والمجنون خلفا عن أدائهما" أي الصغير والمجنون لعجزهما عن ذلك "فحكم بإسلامهما تبعا لأحدهما" أي الأبوين إذا كان المتبوع والتابع حين الإسلام في دار واحدة أو المتبوع في دار الحرب والتابع في دار الإسلام لا بالعكس كما نبه عليه في الينابيع وغيره اللهم إلا إذا دخل عسكر من المسلمين دار الحرب وأسروا الصغير مع أمه الكافرة مثلا أولا ثم أخرج إلى دار الإسلام أولا فإن الأب إذا كان حيا في دار الإسلام يستتبعه ذكره في الذخيرة والمعتوه كذلك "ثم تبعية الدار" صارت خلفا عن أداء الصغير بنفسه في إثبات الإسلام له عند عدم إسلام الأبوين أو أحدهما على الوجه الذي ذكرنا وعدم خروجهما أو أحدهما إلى دار الإسلام قبله أو معه من ناحية واحدة أولا كما أشار إلى هذا بقوله "فلو سبي فأخرج إلى دار الإسلام وحده حكم بإسلامه وكذا تبعية الغانمين" أي تبعيته للمسلمين الغانمين إذا لم يكن معه أبواه ولا أحدهما واختص به أحدهم في دار الحرب لشرائه من الإمام الغنيمة ثمة صارت خلفا عن أداء الصغير كما أشار إليه بقوله:(23/297)
ص -145-…"فلو قسم في دار الحرب فوقع في سهم أحدهم" أي المسلمين "حكم بإسلامه والمراد أن كلا من هذه خلف عن أداء الصغير" على هذا الترتيب كما ذكرنا "لا أنه يخلف بعضها بعضا" لأن الخلف لا خلف له كذا قالوا وقد قيل عليه لا يجوز أن يكون الشيء الواحد خلفا من وجه وأصلا من وجه ثم كون هذه التبعيات مرتبة هكذا هو المذكور في أصول فخر الإسلام وموافقيه وذكر في المحيط: تبعية صاحب اليد مقدمة على تبعية الدار فقيل: يحتمل أن يكون في المسألة روايتان.(23/298)
قلت: والتحقيق أن المراد أيهما وجد أولا تعين نسبة التبعية إليه لأن السبق من أسباب الترجيح وتحصيل الحاصل محال فالأولى أن يكون الثاني معطوفا بأو أو الواو كما فعل بعضهم ومشى عليه المصنف بقي أن الخلفية لا تثبت إلا بالسمع والظاهر أنه فيما كان بين مسلم أصلي وذمية الإجماع وقد يقال هو ما في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" فجعل اتفاقهما علة ناقلة للولد عن أصل الفطرة فيثبت فيما اتفقا عليه ويبقى على أصل الفطرة فيما اختلفا فيه وهو يصلح أن يكون سند الإجماع وأما فيما بين مسلم عارض إسلامه وذمية وبين مسلمة عارض إسلامهما وذمي فظاهر كلامهم أنه الحديث المذكور لأنه يفيد ثبوت أحد الأوصاف الثلاثة للولد إذا كان أبواه على ذلك الوصف فإذا زال الوصف عن أحدهما انتفت العلة فينتفي المعلول فيترجح ثبوت الوصف المفطور عليه وهو الإسلام ولكن عليه أن يقال فيلزم بعين هذا صيرورة الصغير مسلما بموت أحدهما كما هو قول الإمام أحمد وهو خلاف ما عليه باقي الأئمة وقد يقال هو ما روى الشافعي والبيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر بني قريظة فأسلم ثعلبة وأسيد ابنا شعبة فعصم إسلامهما أموالهما وأولادهما الصغار. ولا يعرى عن تأمل وأما جعله تبعا لدار الإسلام أو للغانم المسلم على الوجه المذكور فالله تعالى أعلم بالسمعي المفيد له فإن قلت: يفيده الحديث السالف بناء على أن كون أبويه ناقليه عن أصل الفطرة معلول بكونه تحت ولايتهما وهو منتف فيمن اختص به مسلم في دار الحرب بشراء من الإمام أو قسمة وبما إذا أخرج وحده مسبيا إلى دار الإسلام المفطور عليه لعدم الناقل له عنه قلت: نعم لو تم لكنه غير تام لأنه حينئذ يقتضي أن يحكم بإسلامه إذا وقع معهما أو مع أحدهما في سهم مسلم بدار الحرب أو أخرج إلى دار الإسلام معهما أو مع أحدهما لأنهما لا ولاية لهما على أنفسهما في هذه(23/299)
الصور فضلا عن أن يكون لهما ولاية عليه لكن المسطور أنه لا يحكم بإسلامه فيها والله سبحانه أعلم.
"هذا" كله "إذا لم يكن" الصغير "عاقلا وإلا" لو كان عاقلا "استقل بإسلامه" فإذا أسلم صح وحينئذ "فلا يرتد بردة من أسلم منهما" أي أبويه "على ما سيعلم" في فصل الأهلية ولكن الذي في شرح الجامع الصغير لفخر الإسلام ويستوي فيما قلنا أن يعقل أو لا يعقل إلى هذا أشار في هذا الكتاب ونص عليه في الجامع الكبير فلا جرم أن قال قاضي خان في(23/300)
ص -146-…شرحه: لو أسلم أحد أبويه يجعل مسلما تبعا سواء كان الصغير عاقلا أو لم يكن لأن الولد يتبع خير الأبوين دينا "ومنه" أي الخلف عن الأصل في متعلق الحكم "الصعيد" فإنه "خلف عن الماء فيثبت به" أي بالصعيد "ما يثبت به" أي بالماء من الطهارة الحكمية إلى وجود الناقض فالأصالة والخلفية بين الآلتين فيجوز إمامة المتيمم للمتوضئ لوجود شرط الصلاة في حق كل فيجوز بناء أحدهما على الآخر كالغاسل على الماسح مع أن الخف بدل من الرجل في قبول الحدث ورفعه هذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف "ولمحمد" وزفر أيضا على ما ذكر الإسبيجابي وفخر الإسلام وموافقوه أن الأصالة والخلفية "بين الفعلين" أي التيمم وكل من الوضوء والاغتسال "فلا يلزم ذلك" أي أن يثبت بالصعيد ما يثبت بالماء "ولا يصلي المتوضئ خلف المتيمم لأنه تعالى أمر" المحدث "بالفعل" فقال: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} "ثم نقل إلى الفعل" عند عدم القدرة على الماء فقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} "ولهما" أي أبي حنيفة وأبي يوسف "أنه" أي الله تعالى "نقل عند عدم الماء" إلى الصعيد حيث قال "فلم تجدوا ماء فكان" الماء هو "الأصل" ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: "الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو إلى عشر سنين" رواه أبو داود والترمذي وحسنه وصححه ابن حبان في صحيحه ثم هذا كله قول أصحابنا بعد اتفاقهم على كون الخلف مطلقا بمعنى أنه يرفع الحدث إلى غاية وجوده أو القدرة على استعمال الماء وضوءا في الحدث الأصغر وغسلا في الحدث الأكبر إلا ما قيل(23/301)
فيما إذا تيمم في المصر لخوف فوت صلاة جنازة فصلى وحضرت أخرى ولم يجد بينهما وقتا يمكنه أن يتوضأ فيه أن الخلافة ضرورية بالمعنى الذي يذكره للشافعي عند محمد في هذه حتى لم يجز أن يصلي على الثانية بذلك التيمم خلافا لهما كما هو معروف في موضعه والظاهر أن قولهما أحسن وقال الشافعي: هو خلف ضروري بمعنى أنه تثبت خلفيته ضرورة الحاجة إلى إسقاط الفرض عن الذمة مع قيام الحدث كطهارة المستحاضة ومن ثمرات هذا الخلاف أنه يجوز عندنا تقديمه على الوقت وأن يصلي به ما شاء من فرائض ونوافل خلافا له ولا خفاء في أن جعل الصعيد أو التيمم خلفا عن الماء أو عن كل من الوضوء والاغتسال مع كونه له حكم برأسه مخالف لحكم الأصل ينفي كونه خلفا عن الأصل بل يفيد كونه أصلا مستقلا بنفسه والاتفاق على خلافه وأما أنه ضروري بمعنى أن شرعيته إنما هي عند العجز عن الماء ضرورة أداء المكتوبات فيما لها من الأوقات وتكثيرا للخيرات فما لا نزاع فيه وهو لا يخل بمعنى الإطلاق هذا.
"ولا بد في تحقيق الخلفية من عدم الأصل" في الحال العارض إذ لا معنى إلى المصير إلى الخلف مع وجود الأصل "و" من "إمكانه" أي الأصل ليصير السبب منعقدا للأصل ثم بالعجز عنه يتحول الحكم عنه إلى الخلف "وإلا" فحيث لا إمكان لوجود أمر ما "فلا أصل"(23/302)
ص -147-…أي فلا يوصف ذلك الأمر بالأصالة لغيره لأنه فرع وجوده في ذاته "فلا خلف" أي فلا يوصف ذلك الغير بالخلفية عنه أيضا ومن هنا لزم التكفير من حلف ليمسن السماء لأنها انعقدت موجبة للبر الذي هو الأصل لإمكان مس السماء في الجملة لأن الملائكة يصعدون إليها والنبي صلى الله عليه وسلم صعد إليها ليلة المعراج إلا أنه معدوم عرفا وعادة فانتقل الحكم منه إلى الخلف الذي هو الكفارة ولم يلزم من حلف على نفي ما كان أو ثبوت ما لم يكن في الماضي لعدم إمكان الأصل الذي هو البر والله سبحانه أعلم.
الفصل الثالث: في المحكوم فيه(23/303)
"المحكوم فيه" مبتدأ وقوله "وهو أقرب من المحكوم به" اعتراض بينه وبين خبره وهو "فعل المكلف" يريد أن التعبير عن فعل المكلف بالمحكوم فيه أولى من التعبير عنه بالمحكوم به كما ذكر صدر الشريعة والبيضاوي وغيرهما قال المصنف: إذ لم يحكم الشارع به على المكلف بل حكم في الفعل بالوجوب بالمنع بالإطلاق والظاهر أن ليس في منعه حكم به على المكلف ولا في إطلاقه والإذن فيه وإنما يخال ذلك في إيجابه وعند التحقيق يظهر أن ليس إيجابه أي إيجاب المكلف فعله حكما بنفس الفعل ولو سلم كان باعتبار قسم يخالفه أقسام ثم إنما يكون المحكوم فيه فعل المكلف حال كون فعله "متعلق الإيجاب وهو" أي فعله متعلق الإيجاب "الواجب لم يشتقوا له" أي لفعل المكلف المذكور "باعتبار أثره" أي للإيجاب المتعلق به اسما "إلا اسم الفاعل" وأما الباقي "فمتعلق الندب والإباحة والكراهة مفعول" أي اشتقوا لمتعلقها باعتبار أثرها اسم المفعول "مندوب مباح" مكروه "و" اشتقوا "كلا" من اسمي الفاعل والمفعول "لمتعلق التحريم حرام محرم تخصيصا بالاصطلاح في الأول" أي متعلق الإيجاب "والأخير" أي متعلق التحريم "ورسم الواجب بما" أي فعل "يعاقب تاركه" على تركه "مردود بجواز العفو" عنه ذكره غير واحد والأولى بما عفي عنه لأنه ليس كل جائز واقعا ولا بد من اعتبار الوقوع كما نبه عليه المحقق الشريف فيكون غير منعكس لخروج الواجب المعفو عن تركه. قال الكرماني وللمعرف به أن يقول: المراد ما يعاقب عليه عادة لا على سبيل الوجوب "و" رسمه "بما" أي فعل "أوعد" بالعقاب "على تركه إن أريد" بالترك الترك "الأعم من ترك واحد أو الكل ليدخل الكفاية" أي الواجب كفاية في هذا التعريف "لزم التوعد بترك واحد في الكفاية" مع فعل غيره "أو" أريد به "ترك الكل خرج متروك الواحد أو" أريد به ترك "الواحد خرج الكفاية" وكل من هذه الملازمات وبطلان اللازم فيها ظاهر فالتعريف كذلك "وأما رده" أي هذا التعريف "بصدق إيعاده(23/304)
كوعده فيستلزم العقاب" على الترك فلا ينعكس لخروج الواجب المعفو عن تركه "فيناقض تجويزهم العفو" لأن صدق الإيعاد يوجب عدم وقوع العفو ووقوع العفو يوجب عدم صدق الإيعاد "وهو" أي هذا الرد "بالمعتزلة أليق" لاستحالة الخلف في الوعيد عليه تعالى عندهم بخلاف أهل السنة كما سنذكر "إلا أن يراد" بإيعاده "إيعاد ترك واجب الإيمان" فإن الخلف فيه غير جائز قطعا لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48]. وأما الإيعاد على ترك واجب غيره فجائز الخلف(23/305)
ص -148-…فيه لقوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] "فلا يبطل التعريف" المذكور "إلا بفساد عكسه بخروج ما سواه" أي ما سوى واجب الإيمان المعفو عن تركه لصدق المحدود بدون الحد، هذا وقد ذكر العبد الضعيف غفر الله تعالى له في حلبة المجلي أن ظاهر المواقف والمقاصد أن الأشاعرة على جواز الخلف في الوعيد لأنه يعد جودا وكرما لا نقصا وأن في غيرهما المنع منه معزو إلى المحققين وإن الشيخ حافظ الدين نص على أنه الصحيح وأن الأشبه بحثا ترجح القول بجوازه في حق المسلمين خاصة بمعنى جواز التخصيص لما دل عليه اللفظ بوضعه اللغوي للمعنى الوعيدي من العموم لا جواز عدم وقوع عذاب من أراد الله الإخبار بعذابه فإنه محال على الله تعالى وقلنا ذلك جمعا بين الأدلة كما يعرف ثمة وهو موافق لما ذكره المصنف وإن الأوجه ترك إطلاق جواز الخلف عليه تعالى وعدا ووعيدا دفعا لأن يكون المراد منه المحال المذكور وحينئذ فلا يخالف الوعد الوعيد في هذا التجويز ويتجه أن يقال: لا وجه لتخصيص ذلك بالوعيد والله سبحانه أعلم.(23/306)
"وأما" رد هذا التعريف "بأن منه" أي الواجب "ما لم يتوعد عليه" فإن أريد بخصوصه فقد يسلم ولا ضير فإن المراد ما هو أعم من ذلك كما هو ظاهر الإطلاق وإن أريد بما هو أعم من ذلك "فمندفع بثبوته" أي الإيعاد "لكلها" أي الواجبات "بالعمومات" كقوله تعالى {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً} [النساء: 14] "ورسم" الواجب أيضا "بما" أي فعل "يخاف العقاب بتركه وأفسد طرده بما ليس بواجب وشك في وجوبه" فإن الوجوب لا يثبت بالشك مع أن الشاك يخاف العقاب على تركه لاحتمال أن يكون واجبا فيصدق الحد بدون المحدود "ويدفع" هذا الإفساد "بأن مفهومه" أي ما يخاف العقاب بتركه "ما بحيث" يخاف "فلا يختص" ترك الواجب "بخوف واحد دون واحد ولا خوف" عقاب عادة "للمجتهد في ترك ما شك فيه" أي في وجوبه لعدم سبب الخوف فلا يصدق الحد بدون المحدود "و" أفسد "عكسه بواجب شك" ابتداء "في عدم وجوبه أو ظن" ابتداء عدم وجوبه "فإنه" أي الشأن "لا يخاف" العقاب بتركه فيصدق المحدود بدون الحد "وهو" أي إفساد عكسه بهذا "حق ومنبع دفع الأول" أيضا لأن الشك ابتداء في عدم وجوبه يفيد الشك ابتداء في وجوبه وما شك ابتداء في عدم وجوبه ووجوبه ليس بحيث مما يخاف المجتهد العقاب بتركه عادة "وللقاضي أبي بكر" رسم آخر وهو "ما" أي فعل "يذم شرعا تاركه بوجه ما" فشمل ما الواجب والمندوب والمباح والمكروه والحرام وخرج بالباقي ما عدا الواجب لأن الحرام يذم فاعله لا تاركه والثاني لا يذم فاعله وقيده ص بشرعا أي بأن يرد في الكتاب أو السنة أو الإجماع ما يدل على أنه بحالة لو تركه كان مستنقصا ملوما إلى حد يصلح لترتب العقاب لأن العبرة به وبوجه ما ليدخل الواجب الموسع والمخير والكفاية لأنه كما قال "يريد" بتركه تركه "في جميع وقته بلا عذر نسيان ونوم وسفر ومع عدم فعل غيره" أي ترك الجميع له "إن" كان الواجب "كفاية و" ترك "الكل" من الأمور المخير فيها(23/307)
"في" الواجب "المخير" فلا يرد عليه أن الصلاة التي تركها النائم والناسي وصوم المسافر في رمضان غير واجب مع صدق الحد عليها(23/308)
ص -149-…فلا يطرد "ولو أراد" القاضي "عدم الوجوب معها" أي الأعذار المذكورة وقد ذكر السبكي أن القاضي صرح في التقريب بأنه لا وجوب على النائم والناسي ونحوهما حتى السكران وأن المسافر يجب عليه صوم أحد الشهرين كالواجب المخير "فلا يذم" المكلف "معها" أي الأعذار المذكورة "بالترك إلى آخر الوقت وبعد زوالها" أي الأعذار المذكورة "توجه وجوب القضاء عنده" أي القاضي "فيذم" المكلف "بتركه" أي القضاء "بوجه ما وهو" أي تركه القضاء بوجه ما "ما" أي الترك الذي يكون "في جميع العمر" مع القدرة عليه "ولبعضهم" ولعله ابن الحاجب "اعتراض جدير بالإعراض" فلا يطول بإيراده ومن أراد الوقوف عليه فليراجع شروح أصوله وحواشيها.
ثم كون الذم على ترك هذه إنما هو بسبب ترك القضاء عند القدرة لا على ترك الأداء لعدم وجوب الأداء وأن القضاء لا يتوقف على وجوب الأداء بل يكفي في وجوبه تحقق سبب وجوب الأداء ولا وجود لنفس وجوب لا غير ليدعي ثبوته في حق النائم والناسي والمسافر فلا يتم نفي اطراد الحد بالصلاة والصوم المذكورين ليس على اصطلاح الحنفية "أما على" اصطلاح "الحنفية فالوجوب ينفك عن وجوب الأداء وهو" أي وجوب الأداء في هذه الحالات هو "الساقط" لا الوجوب فلا يتجه القول بصدق الحد على الصلاة والصوم المذكورين دون المحدود ليتفرع عليه نفي اطراده فليتأمل.
ثم هذا "تقسيم" للواجب باعتبار عدم تقيده بوقت محدود يفوت بفواته وتقيده به فنقول: "الواجب" قسمان:(23/309)
أحدهما واجب "مطلق" وهو الذي "لم يقيد طلب إيقاعه بوقت" محدود "من العمر" بحيث لا يجوز قبله ويفوت بفواته وإن كان واقعا في وقت لا محالة "كالنذور المطلقة والكفارات" وقضاء رمضان كما ذكر القاضي أبو زيد وصدر الإسلام وصاحب الميزان وهو الأظهر كما في التلويح لا أنها من المؤقت كما ذكر فخر الإسلام وشمس الأئمة السرخسي باعتبار أن الصوم لا يكون إلا بالنهار لأن كونه بالنهار داخل في مفهومه لا قيد له "والزكاة" كما هو قول الشيخ أبي بكر الرازي وسيذكر المصنف في أثناء المسألة الثالثة أنه المختار عندهم وذكره ابن شجاع من أصحابنا كما نقله في البدائع وغيرها لكن قال المصنف في فتح القدير: يجب حمله على أن المراد بالنظر إلى دليل الافتراض أي دليل الافتراض لا يوجب الفورية وهو لا ينفي وجود دليل الإيجاب والوجه المختار أن الأمر بالصرف إلى الفقير معه قرينة الفور وهي أنه لدفع حاجته وهي معجلة فمتى لم يجب على الفور لم يحصل المقصود من الإيجاب على وجه التمام فلزم بالتأخير من غير ضرورة الإثم كما صرح به الحاكم الشهيد والكرخي وهو عين ما ذكر الفقيه أبو جعفر عن أبي حنيفة أنه يكره أن يؤخرها من غير عذر فإن كراهة التحريم وهي المحمل عند إطلاق اسمها إذا تعلقت بترك شيء كان ذلك الشيء واجبا لأنهما في رتبة واحدة وعنهما ما يفيد ذلك أيضا وبه قالت الأئمة(23/310)
ص -150-…الثلاثة "والعشر والخراج وأدرج الحنفية صدقة الفطر" في هذا القسم أيضا "نظرا إلى أن وجوبها طهرة للصائم" عن اللغو والرفث كما تقدم في حديث ابن عباس فلا تتقيد بوقت "والظاهر تقيدها بيومه" أي يوم الفطر "من" قوله صلى الله عليه وسلم "اغنوهم إلى آخره" أي عن المسألة في مثل هذا اليوم كما هو لفظ الأصل وهو الواقع في كتب مشايخنا أو عن الطواف في هذا اليوم كما في علوم الحديث للحاكم "فبعده" أي فإخراجها فيما بعد يوم الفطر "قضاء ووجوبه" أي المطلق "على التراخي أي جواز التأخير" عن الوقت الذي يلي وقت ورود الأمر لا وجوب تأخيره عنه "ما لم يغلب على الظن فواته" إن لم يفعله والحاصل أنه مطالب بإتيانه به في مدة عمره بشرط أن لا يخليها منه "عند جماهير الفرق" من الحنفية والشافعية والمتكلمين "خلافا للكرخي وبعض الشافعية" والمالكية والحنابلة كما تقدم فقالوا: وجوبه على الفور "ومبناه" أي هذا الخلاف "أن الأمر للفور أو لا" وتقدم الكلام فيه مستوفى ثمة.(23/311)
ثانيهما: واجب مقيد كما قال "ومقيد به" أي بوقت محدود "يفوت" الواجب "به" أي بفوات الوقت "وهو" أي الوقت المقيد به الواجب "بالاستقراء" أقسام "أربعة": القسم "الأول أن يفضل الوقت عن الأداء ويسمى عند الحنفية ظرفا اصطلاحا" موافقا للغة لأنه لغة ما يحل به الشيء والأداء يحل فيه نعم تخصيصه به مجرد اصطلاح "وموسعا عند الشافعية وبه" أي بالموسع "سماه في الكشف الصغير" أي كشف الأسرار شرح المنار لمؤلفه ولم أقف عليه بل وقفت عليه في الكشف الكبير من كلام الغزالي فيما يظهر وسأذكر سياقه فيما سيأتي إن شاء الله تعالى "كوقت الصلاة" المكتوبة لها فإنه "سبب محض علامة على الوجوب" أي وجوبها فيه "والنعم" المتتابعة على العباد فيه هي "العلة" المثيرة للوجوب فيه "بالحقيقة" لأنها صالحة لوجوب الشكر شرعا وعقلا بخلاف نفس الوقت فإنه لا مناسبة بينه وبينها وإنما جعل سببا مجازا لأنه محل حدوث النعم فأقيم مقامها تيسيرا "وشرط صحة متعلقه" أي الوجوب "من حيث هو كذلك" أي متعلقه وهو المؤدى "وما قيل" أي وما قاله الجم الغفير من أن وقت الصلاة "ظرفيته للمؤدى وهو" أي المؤدى "الفعل وشرطيته للأداء وهو" أي الأداء "غيره" أي الفعل "غلط لأن الفعل الذي هو المفعول في الوقت" كالهيئة الحاصلة من الأركان المخصوصة الواقعة في الوقت المسماة بالصلاة "هو المراد بالأداء لا أداء الفعل الذي هو فعل الفعل" وهو إخراج الفعل من العدم إلى الوجود "لأنه" أي فعل الفعل أمر "اعتباري لا وجود له وفيه" أي هذا القسم "مسألة السبب" للصلاة المكتوبة بالمعنى الذي ذكرنا "الجزء الأول من الوقت عينا للسبق والصلاحية بلا مانع وعامة الحنفية" السبب "هو" أي الجزء الأول من الوقت إذا اتصل به الأداء "فإن لم يتصل به الأداء انتقلت" السببية منه "كذلك" أي كما انتقلت من الأول "إلى ما" أي الجزء الذي بعده بشرط أنه "يتصل به" الأداء "وإلا" لو لم يتصل به انتقل منه إلى ما يليه كذلك حتى الجزء(23/312)
"الأخير وعند زفر" ينتقل من جزء إلى جزء حتى إلى "ما يسع منه إلى آخر الوقت الأداء" هذا كله قبل خروجه "وبعد خروجه" السبب "جملته اتفاقا" قلت ويطرقه ما في التحقيق وذهب أبو اليسر إلى أن الجزء الأخير متعين للسببية من غير أن يضاف الوجوب إلى(23/313)
ص -151-…كل الوقت بعد مضيه بحال "فتؤدى عصر يومه في" الوقت "الناقص" وهو وقت تغير الشمس لأنه وجب ناقصا لأن نقصان السبب مؤثر في نقصان المسبب كالبيع الفاسد مؤثر في فساد الملك فيتأدى بصفة النقصان "لا أمسه" أي ولم يتأد عصر أمسه في هذا الوقت الناقص "لأنه" أي سبب عصر أمسه "ناقص من وجه" لاشتمال جملة الوقت على الوقت الناقص فالواجب به كذلك "فلا يتأدى بالناقص" أي في الوقت الناقص "من كل وجه" لأنه دونه ذكر في مختلفات القاضي الغي1 "واعترض بلزوم صحته" أي عصر أمسه "إذا وقع بعضه فيه" أي الوقت الناقص وبعضه في الوقت الكامل الذي هو أول الوقت لأن الوقت حينئذ كامل من كل وجه ناقص من وجه كالواجب لكنهم نصوا على عدم الصحة "فعدل" عن الجواب المذكور إلى الجواب بأن الوقت الكامل لما كان أكثر من الناقص تعين وجوب القضاء كاملا ميلا "إلى تغليب الصحيح" الأكثر على الفاسد الأقل "للغلبة" لأن للأكثر حكم الكل في بعض المواضع فكان اعتباره أولى "فورد من أسلم ونحوه" كمن بلغ ومن طهر من حائض "في" الوقت "الناقص" فلم يصل فيه حتى مضى "لا يصح منه" قضاء تلك الصلاة "في ناقص غيره" من الأوقات الناقصة "مع تعذر الإضافة" للسبب "في حقه إلى الكل" أي كل الوقت لعدم أهليتهم للوجوب في جميع أجزائه وحينئذ فينبغي أن يجوز لأن القضاء حينئذ يكون بالصفة التي وجب بها الأداء لتقرر تعين الجزء الأخير للسببية في حق من هذا حاله "فأجيب بأن لا رواية" في هذا عن المتقدمين "فيلتزم الصحة" فيه كما هو قول بعض المشايخ وعزاه في الفتاوى الظهيرية إلى فخر الإسلام أو عدمها كما هو قول شمس الأئمة السرخسي وغيره وهو الأوجه وهو مبني على ما عليه المحققون من أنه لا نقص في الوقت وإنما هو في الأداء كما أشار إليه بقوله "والصحيح أن النقصان لازم الأداء في ذلك الجزء" الأخير لما فيه من التشبه بعبدة الشمس في ذلك الوقت "لا الجزء" للوقت مطلقا مما عدا هذا الجزء منه لانتفاء هذا(23/314)
المعنى فيه "فتحمل" النقصان في الأداء فيه "لوجوب الأداء فيه" بسبب شرف الوقت وورود السنة به "فإذا لم يؤد" في ذلك الوقت والحال كما قال "ولا نقص" في الوقت أصلا "وجب الكامل" فلا يتأدى ناقصا مع عدم الجابر له "قالوا" أي الحنفية: "كونه" أي السبب الجزء "الأول يوجب كون الأداء بعده" أي الجزء الأول من الوقت إذا لم يتصل به الأداء "قضاء" كما إذا لم يتصل الأداء بالجزء الأخير من الوقت "و" كونه "الكل" أي كل الوقت "يوجبه" أي الأداء "بعده" أي الوقت ضرورة لزوم تقدم السبب على المسبب "وهما" أي كون الأداء بعد الجزء الأول من الوقت في الوقت قضاء وإيجاب الفعل بعد الوقت أداء "منتفيان" أما الأول فلأنه لا وجه للقول بالتفويت ما بقي الوقت وأما الثاني فبالإجماع "قلنا": نختار الأول ثم "الملازمة ممنوعة وإنما يلزم" كون الأداء بعده قضاء "لو لم يكن" الجزء الأول "سببا للوجوب الموسع بمعنى أنه" أي كونه "علامة على تعلق وجوب الفعل مخيرا في أجزاء زمان مقدر يقع أداء في كل منها" أي الأجزاء
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الغيي هكذا في الأصول بمعجمة ثم مثناة ولم نقف على صحة هذه النسبة. فحرر كتبه مصححه.(23/315)
ص -152-…"كالتخيير في المفعول من خصال الكفارة فجميعه" أي الوقت "وقت الأداء والسبب الجزء السابق" وهذا حكاه غير واحد عن الثلجي وعامة المتكلمين من أصحاب الحديث ونص السرخسي على أنه الأصح وهو كذلك كما ستعلم فلا جرم أن اختاره المصنف "ولا تنعكس الفروع" قال المصنف: يعني أنا وإن قلنا السبب هو الجزء الأول عينا لا تنعكس الفروع المذهبية بل يستمر قولنا إن من أسلم أو بلغ إلخ في الوقت الذي يلزم الأداء فيه نقصان المؤدى لا يصح أداء عصره في مثله من يوم غيره لأن ما يجب دائما كامل إذ لا نقص في الوقت كما حقق فلا يتأدى بما ثبت فيه نقص إلا عصر يومه كما قلنا "وما نقل عن بعض الشافعية أنه" أي المفعول الذي هو الصلاة "قضاء بعده" أي بعد أول الوقت وإن كان في الوقت وفي الكشف الكبير وهو قول بعض أصحابنا العراقيين "و" عن "بعض الحنفية أنه" أي السبب الجزء "الأخير ففيما قبله" أي فالفعل قبل الأخير "نفل يسقط به الفرض ليس" كل منهما "معروفا عندهم" أي عند أهل ذلك المذهب وقطع الشيخ سراج الدين الهندي بأن المعزو إلى بعض الحنفية ليس صحيحا عنهم قلت: ويعكره ما في أصول الفقه للشيخ أبي بكر الرازي بعد حكاية ما عن الثلجي وقال غيره من أصحابنا: إن الوجوب في مثله يتعلق بآخر الوقت فإن أول الوقت لم يوجب عليه شيئا ثم اختلفوا فقال منهم قائلون: إن ما فعله في أول الوقت نفل يمنع لزوم الفرض في آخره وقالت الفرقة الأخرى من أصحابنا: ما فعله في أول الوقت مراعى فإن لحق آخره وهو من أهل الخطاب بها كان ما أداه فرضا وإن لم يكن من أهل الخطاب بها كان المفعول في أول الوقت نفلا ا هـ مختصرا.(23/316)
ونص في الكشفين على أن هذين قولان لمشايخنا العراقيين وقد ذكر المصنف هذا عن الكرخي موافقة لابن الحاجب وصاحب البديع فقال "وإنما عن الكرخي إذا لم يبق بصفة التكليف بعده" أي بعد أول الوقت "بأن يموت أو يجن كان" ذلك المفعول "نفلاً" وفي الميزان عن الكرخي ثلاث روايات: إحداها هذا والثانية ما قبله قال: وهذه الرواية مهجورة والثالثة وهي رواية الجصاص عنه أن الوقت كله وقت الفرض وعليه أداؤه في وقت مطلق من جميع الوقت وهو مخير في الأداء وإنما يتعين الوجوب بالأداء أو بتضييق الوقت فإن أدى في أوله يكون واجبا وإن أخر لا يأثم لأنه لم يجب قبل التعيين وإن لم يؤد حتى لم يبق من الوقت إلا بقدر ما يؤدى فيه يتعين الوجوب حتى يأثم بالتأخير عنه ثم قال: وهذه الرواية هي المعتمد عليها "والكل" من هذه الأقوال قول "بلا موجب" وتشبث كل ممن يعلقه بأول الوقت لا غير بأن الواجب الموقت لا ينتظر لوجوبه بعد وجود شرائطه سوى دخول الوقت فعلم أنه متعلق به كما في سائر الأحكام مع أسبابها وإذا ثبت الوجوب بأول الوقت لا يتعلق بما بعده لامتناع التوسع في الوجوب للمنافاة بينهما فإن الواجب ما لا يسع تركه ويعاقب عليه والتوسع يجوز تركه ولا يعاقب عليه وممن يعلقه بآخر الوقت بأنه لما جاز التأخير إلى التضيق وامتنع التوسع كان الوجوب متعلقا بآخره وإن ما قبله لا تعلق له بالإيجاب وبما اتفق عليه أصحابنا من أن المرأة إذا حاضت في آخر الوقت لم يكن عليها قضاء(23/317)
ص -153-…تلك الصلاة إذا لم تكن صلتها وأن من سافر في آخر الوقت يقصر إذا لم يكن صلاها والفقهاء من أنها لو طهرت في آخر الوقت لزمتها وأن المسافر إذا أقام في آخره قبل أن يصلي يتمها ثم المؤدى إما أن يكون نفلا كما قال البعض لأنه يتمكن من الترك في أوله لا إلى بدل وأثم وهذا حد النفل إلا أن بأدائه يحصل المطلوب وهو إظهار فضل الوقت فيمنع لزومه الفرض كمحدث توضأ قبل الوقت يقع نفلا ومع هذا يمنع لزوم فرض الوقت بعد دخوله وإما أن يكون موقوفا كما قال البعض كالزكاة المعجلة قبل الحول للمصدق كشاة من أربعين شاة فإنه إن تم الحول وعنده تسع وثلاثون أجزأه وإن كان أقل كان له أن يأخذها من يد المصدق إن كانت قائمة تشبث ساقط فإن النصوص كقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الاسراء: 78] وقول جبريل عليه السلام في حديث الإمامة: "يا محمد هذا وقت الأنبياء من قبلك والوقت ما بين هذين الوقتين" رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال: صحيح الإسناد وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن للصلاة أولا وآخرا أي لوقتها وإن أول وقت الظهر حين تزول الشمس وآخر وقتها حين يدخل العصر" الحديث رواه الترمذي يتناول جميع أجزاء الوقت وليس المراد تطبيق الصلاة على أوله وآخره ولا فعلها في كل جزء بالإجماع فلم يبق إلا أنه أريد أن كل جزء منه صالح للأداء والمكلف مخير فيه فثبت التوسع شرعا ضرورة لامتناع قسم آخر وليس هو مع الوجوب بممتنع عقلا فإن قول السيد لعبده: خط هذا الثوب في هذا اليوم إما في أوله أو في وسطه أو آخره صحيح عقلا ولا يخلو إما أن يقال ما أوجب شيئا أو أوجب مضيقا وهما محالان فلم يبق إلا أن يقال أوجب موسعا. ثم الإجماع على وجوبها على من بلغ أو أسلم أو طهرت في وسط الوقت أو آخره الباقي منه ما يسعها ولو كان الوجوب معلقا بأوله لما وجبت عليهم بعد فوات أوله كما لو فات جميع الوقت(23/318)
في هذه الأحوال وعلى أن الواجب إنما يتأدى بنية الفرض لا بنية النفل ولا بمطلق النية ولو كان نفلا كما زعم بعضهم لتأدى بنية النفل أو موقوفا كما زعم آخرون لتأدى بمطلق النية ولاستوت فيه نية الفرض والنفل وفي الكشف الكبير وقولهم وجد في المؤدى أول الوقت حد النفل لأنه لا عقاب على تركه فاسد لأنا لا نسلم أن ذلك ترك بل هو تأخير بإذن الشرع وذكر الغزالي أن الأقسام في الفعل ثلاثة: فعل يعاقب على تركه مطلقا وهو الواجب وفعل لا يعاقب على تركه مطلقا وهو الندب وفعل يعاقب على تركه بالإضافة إلى مجموع الوقت لكن لا يعاقب بالإضافة إلى بعض أجزاء الوقت وهذا قسم ثالث مفتقر إلى عبارة ثالثة وحقيقته لا تعدو الندب والوجوب فأولى الألقاب به الواجب الموسع وقد وجدنا الشرع يسمي هذا القسم واجبا بدليل انعقاد الإجماع على نية الفرض في ابتداء وقت الصلاة وعلى أنه يثاب على فعله ثواب الفرض لا ثواب الندب فإذن الأقسام الثلاثة لا ينكرها العقل، والنزاع يرجع إلى اللفظ واللفظ الذي ذكرناه أولى ا هـ وهذا السياق الذي تقدم الوعد به "وإنما يلزم" كونه قضاء بعد الجزء الأول في الوقت "لو كان" الجزء "الأول سبب" الوجوب "المضيق" وليس كذلك "وقولهم" أي الحنفية(23/319)
ص -154-…"تتقرر السببية على ما" أي الجزء الذي "يليه الشروع" في الواجب "فيه" أي في قولهم "ما سنذكر" في المسألة التي تلي المسألة التي تلي هذه وننبهك عليه إن شاء الله تعالى.
مسألة
"الواجب بالسبب الفعل عينا مخيرا" في أجزاء زمانه المحدود له "كما قلنا" آنفا في السابقة "والقاضي أبو بكر الواجب في كل جزء" من أجزاء الوقت ما لم يتضيق "أحد الأمرين منه" أي الفعل "ومن العزم عليه" أي الفعل "فيما بعده" أي ذلك الجزء الخالي هو وما قبله من الفعل فإذا لم يبق منه إلا ما يسع الفعل تعين الفعل "فإن لم يفعل ولم يعزم" على الفعل حتى مضى الوقت "عصى وعند زفر عصى بالتأخير عن قدر ما يسع" الأداء من آخر الوقت "ودفع" قول القاضي "بأن المصلي في الجزء" الذي ليس بالأخير من آخر الوقت "ممتثل لكونه مصليا لا" لكونه "آتيا بأحد الأمرين" الفعل أو العزم مبهما ولو كان هنا تخيير بين الصلاة والعزم لكان الامتثال بها من حيث إنها أحد الأمرين ومشتملة على المفهوم المطلق كما يعلم في تحقيق القول بالتخيير "وله" أي للقاضي "دفعه" أي هذا الدفع "بأن لا منافاة" بين كونه مصليا وبين كونه آتيا بأحد الأمرين مبهما لكونه أحد جزأيه "فليكن" ممتثلا "لكون الصلاة أحدهما" أي الأمرين مبهما "ودعوى التعين" أي بأن الواجب واحد معين منهما "محل النزاع إنما ذلك" أي وجوب أحدهما بعينه "عند التضيق" في الوقت بحيث لم يبق منه إلا ما يسعها وليس الكلام فيه "وفي البديع" في جواب قول القاضي وبأنه "لو كان العزم بدلا" عن الصلاة وقد أتى به "سقط به المبدل" وهو الصلاة "كسائر الإبدال" كالجمعة للظهر وليس كذلك "والجواب" عن هذا "منع الملازمة" أي لا نسلم سقوطها به لأنا لا نعني أنه بدل عنها مطلقا "بل" نعني أنه بدل عن إيقاعها فيما عدا الجزء الأخير منه وحينئذ "اللازم سقوط وجوبها في ذلك الوقت والبدلية ليست إلا في هذا القدر" أي في سقوط وجوبها في ذلك الوقت بالعزم على الفعل في ثاني(23/320)
الحال قيل وأيضا هو لم يجعل العزم وحده بدلا بل العزم مع الفعل في آخره فتحقق العزم فيما عدا الجزء الأخير مع ترك الفعل فيه لا يقتضي سقوطها لعدم تحقق البدل بكماله "بل الجواب" عن قول القاضي "أن الكلام في الواجب بالوقت ولا تعلق لوجوب العزم به" أي بالوقت "بل وجوب العزم على فعل كل واجب" موسعا كان أو مضيقا إجمالا عند الالتفات إليه إجمالا وتفصيلا عند تذكره بخصوصه كالصلاة حكم "من أحكام الإيمان" يثبت مع ثبوت الإيمان سواء دخل وقت الواجب أو لا فهو واجب مستمر قبل وجوبه ومعه بحسب الالتفات إليه ليتحقق التصديق الذي هو الإذعان والقبول غير مختص بالصلاة ومقيدا كون العزم بدلا عن الفعل "هذا ولا يبعد أن مذهب القاضي أن الواجب بأول الوقت الصلاة أو العزم على فعلها" أي الصلاة "بعده" أي أول الوقت "فيه" أي الوقت "كما هو المنقول عن المتكلمين" إذ في برهان إمام الحرمين والذي أراه أنهم لا يوجبون تجديد العزم في الجزء الثاني بل يحكمون بأن العزم الأول ينسحب على جميع الأزمنة المستقبلة كانسحاب النية على العبادة الطويلة مع عزوبها "لا أن كل جزء يلزم فيه الفعل أو العزم المستلزم لاستصحاب العزم من أول(23/321)
ص -155-…الوقت إلى آخره لأنه بعيد" لأن أحدا لا يقول بأن العزم في الجزء الأخير كاف وقد ذكر غير واحد ما أسلفنا من أن هذا التخيير عنده إنما هو في غير الجزء الأخير أما في الجزء الأخير فيتعين الفعل قطعا والله سبحانه أعلم.
مسألة
"تثبت السببية لوجوب الأداء" في الواجب البدني "بأول الوقت موسعا كما ذكرنا عند الشافعية بخلاف المالي فيثبت بالنصاب" المملوك له "والرأس" الذي يمونه ويلي عليه على قول الحنفية "أو الفطر" أي غروب شمس آخر يوم من رمضان على الصحيح عند الشافعية "والدين" المؤجل إلى وقت معين "أصل الوجوب" للزكاة وصدقة الفطر وتفريغ الذمة من الدين "وتأخر وجوب الدين" إلى تمام الحول في الزكاة وطلوع فجر أول يوم من شوال في صدقة الفطر وحلول الأجل في الدين "بدليل السقوط" لهذه الأشياء عن المكلف "بالتعجيل" لها "وهو" أي سقوطها "فرع سبق الوجوب" لها "و" فرع "تأخر وجوب الأداء عند الحنفية" أي جمهورهم "كذلك" أي قائلون بانفصال الوجوب عن وجوب الأداء "في البدني أيضا" كما في المالي "فثبت بالأول" من إجزاء الوقت "أصل الوجوب فيعتبر حال المكلف في" الجزء "الأخير" من الوقت "من الحيض والبلوغ والسفر وأضدادها" أي الطهارة والصبا والإقامة "فلو كانت طاهرة أول الوقت فلم تصل حتى حاضت آخره لا قضاء" عليها سواء كان الباقي ما يسع الصلاة أو تحريمتها فقط وقال زفر إن بقي ما يسعها لا قضاء وإلا فعليها القضاء وقال الشافعي إن أدرك من عرض له إحدى هذه العوارض قبل عروضها قدر الفرض أخف ما يمكنه فعله وجب عليه وإلا، فلا "وفي قلبه" أي إذا كانت حائضا أول الوقت ثم طهرت آخره "قلبه" أي القضاء ولو كان الباقي من الوقت مقدار ما يسع التحريمة عند علمائنا الثلاثة إذا كان حيضها عشرة أيام فإن كان أقل والباقي قدر الغسل مع مقدماته كالاستقاء وخلع الثوب والتستر عن الأعين والتحريمة فعليها القضاء وإلا فلا وفي شرح للبزدوي وما ذكروا أن المراد به الغسل(23/322)
المسنون أو الفرض والظاهر الفرض لأنه يثبت به رجحان جانب الطهارة وقال زفر لا يثبت الوجوب ما لم يدرك ما يسع جميع الواجب وعلى هذا الخلاف إذا زال الكفر والجنون وقد بقي من الوقت قدر التحريمة يجب عند الثلاثة ولا يجب عند زفر وقال الشافعي يجب إذا زالت هذه العوارض وقد بقي من الوقت قدر تكبيرة والأظهر وجوب الظهر بإدراك تكبيرة العصر، والمغرب بإدراك تكبيرة العشاء ولا يشترط إدراك زمن الطهارة، ويشترط امتداد السلامة من الموانع زمن إمكان الطهارة والصلاة.
"ولا ينكرون" أي الحنفية "إمكان ادعاء الشافعية لكن ادعوه" أي الحنفية إمكانه "غير واقع بدليل وجوب القضاء على نائم كل الوقت وهو" أي وجوب القضاء عليه "فرع وجود الوجوب" عليه حالة النوم وإلا لم يجب عليه القضاء، كما لا يجب بالإجماع على من حدثت له أهلية بعد مضي الوقت بإسلام أو بلوغ وأورد وجوب القضاء عليه ابتداء عبادة تلزمه بعد(23/323)
ص -156-…حدوث أهلية الخطاب بخطاب مبتدأ كما ذهب إليه الشيخ أبو المعين وهو ما روى النسائي والترمذي وصححه عنه صلى الله عليه وسلم: "فإذا نسي أحدكم صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها" وأجيب بالمنع لأن شرائط القضاء فيه كالنية وغيرها ولو كان ابتداء فرض لما روعيت ودفع بأن عند الخصم لا فرق بين الأداء والقضاء في حق النية لا في الصلاة ولا في الصوم بل يحتاج أن ينوي ما عليه عند عدم العذر ولولا العذر لوجب في الوقت وبهذا لا يتبين أنهما وجبا على المكلف في حالة سقوط أدائهما عنه وستقف في كلام المصنف على ما يؤخذ منه دفعه وننبهك عليه إن شاء الله تعالى.
"ولا اعتبار لقول من جعله" أي القضاء المذكور "أداء منهم" أي الحنفية كما هو ظاهر السياق ولعله يريد فخر الإسلام حيث قال وهو أي انفكاك وجوب الأداء وتراخيه عن نفس الوجوب كالنائم والمغمى عليه إذا مر عليهما وقت جميع الصلاة وجنب الأصل وتراخي وجوب الأداء والخطاب ومن ثمة قال الشيخ أكمل الدين في شرحه عبارة الشيخ هنا تدل على أن ما يأتي به النائم والمغمى عليه بعد اليقظة والانتباه أداء لا قضاء، وقال وهو المناسب للقواعد أما أولا فلأن الأداء تسليم نفس الواجب بالأمر وما وجب عليهما بالأمر هو ما يأتيان به بعد خروج الوقت وأما ثانيا فلأن القضاء تسليم مثل الواجب بالأمر والمثل إنما يتحقق إذا كان المكلف مخاطبا بالأصلي وقد فاته فوجب عليه مثله وهذا ليس كذلك لعدم أهليتها لفهم الخطاب ا هـ وهو موافق لما ذكرنا آنفا عن أبي المعين فيندفع بما يندفع به والأشبه كما في شرح الشيخ قوام الدين الأتقاني استعارة معنى الأداء للقضاء لوجود معنى التسليم فيهما لانتفاء حقيقة الأداء بعد انقضاء الوقت إذ هي تسليم الواجب في وقته أو أنه أراد به مجرد التسليم فلا يخالف في المعنى كونه قضاء كما أطلقه القوم.(23/324)
"والاتفاق على انتفاء وجوب الأداء عليه" أي النائم المذكور كما في الكشف وغيره لكن فيه أيضا الأداء نوعان نوع يكون نفس الفعل فيه مطلوبا حتى يأثم بتركه ولا بد فيه من استطاعة سلامة الأسباب والآلات ونوع لا يكون نفس الفعل فيه مطلوبا بل المطلوب منه ثبوت خلفه وهو القضاء حتى لا يأثم بترك الفعل ويكفي فيه تصور ثبوت الاستطاعة ففي مسألة النائم وجوب الأداء بالمعنى الأول غير موجود لفوات استطاعة سلامة الآلات وبالمعنى الثاني موجود لتصور حدوثها بالانتباه فوجوب القضاء بناء على هذا وعدم الإثم بناء على انتقاء ذلك ثم ذكر عن فخر الإسلام في شرح المبسوط ما يوافق هذا ولكن على هذا كما قال الشيخ قوام الدين الكاكي للخصم أن يمنع انفصال وجوب الأداء عن نفس الوجوب وقيل القضاء مبني على نفس الوجوب دون وجوب الأداء بمعنى أن الوجوب إذ ثبت في الذمة فإما أن يكون مفضيا إلى وجوب الأداء أو وجوب القضاء فإن أمكن إيجاب الأداء وجب القول به وإلا وجب الحكم بوجوب القضاء وليس يشترط لوجوب القضاء أن يكون وجوب الأداء ثابتا أولا ثم أنه يجب القضاء لفواته بل الشرط أن يصلح السبب(23/325)
ص -157-…الموجب لإفضائه إلى وجوب الأداء في نفس الأمر فإذا امتنع وجوب الأداء لمانع ظهر وجوب القضاء فهذا هو معنى الخلفية والسبب الموجب وهو الوقت يصلح للإفضاء إلى وجوب الأداء في نفس الأمر كما في حق المستيقظ والمفيق فيصلح أن يكون مفضيا إلى القضاء في حق النائم والمغمى عليه قال الكاكي فعلى هذا الوجه لا يرد المنع المذكور ولكن يرد بوجه آخر وهو أن يقول لا نسلم أن وجوب القضاء عليهما بهذا الطريق ا هـ.
هذا وقد عللوا عدم وجوب الأداء على النائم والمغمى عليه الوقت كله بعدم الخطاب ; لأن خطاب من لا يفهم لغو وفي التلويح ولقائل أن يمنع عدم الخطاب وإنما يلزم اللغو أن لو كان مخاطبا بأن يفعل في حالة النوم مثلا وليس كذلك بل هو مخاطب بأن يفعل بعد الانتباه والمريض مخاطب بأن يفعل في الوقت أو في أيام أخر كما في الواجب المخير والعجب أنهم جوزوا خطاب المعدوم بناء على أن المطلوب صدور الفعل حالة الوجود حتى قال شمس الأئمة من شرط وجوب الأداء القدرة التي بها يتمكن المأمور من الأداء إلا أنه لا يشترط وجودها عند الأمر بل عند الأداء فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان مبعوثا إلى الناس كافة وصح أمره في حق من وجد بعده ويلزمهم الأداء بشرط أن يبلغهم ويتمكنوا من الأداء وقد يصرح بذلك، كالمريض يؤمر بقتال المشركين إذا برأ قال الله تعالى: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النساء: 103] أي إذا أمنتم من الخوف فصلوا بلا إيماء ا هـ وأجيب بأنه يمكن أن يقال لا يجوز أن يكون النائم مخاطبا بأن يفعل بعد الانتباه، والمريض مخاطبا بأن يفعل في الوقت في أيام أخر، وإلا يلزم أن يكون الصبي أيضا مكلفا، ومخاطبا بأن يفعله بعد البلوغ فلم يبق فرق بين الصبي والبالغ والحائض وغيرهما واللازم باطل فالملزوم مثله قال العلامة الشيرازي في شرح مختصر ابن الحاجب: واعلم أنه لا نزاع بين الفريقين في أن حصول الشرط الشرعي لأداء الواجب كالتمكن من(23/326)
الأداء شرط في التكليف بأدائه وليس شرطا في التكليف بوجوبه ولهذا لم يكن المكلف النائم في وقت الصلاة مكلفا بأداء الصلاة مع وجوبها عليه بدخول الوقت وإلا لم يجب عليه القضاء إذا انتبه بعد مضي الوقت كما لو كان النائم غير مكلف بأن كان صبيا - فانتبه - بالغا لانتفاء شرط الوجوب في حقه وهو التمكن من فهم الخطاب ثم إن الخطاب الذي نحن بصدده إنما هو الخطاب بتنجيز التكليف والخطاب بالمعدوم بمعنى التعلق المعنوي وهو كون المعدوم مأمورا ومكلفا على تقدير وجوده ولا فرق في هذا الخطاب بين الصبي والبالغ والمريض والصحيح والنائم والمستيقظ بخلاف الأول وبهذا يندفع التعجب ا هـ لكن كون الصبي إذا استيقظ بعد خروج الوقت بالغا لا قضاء عليه قول بعض المشايخ، وفي الخلاصة والمختار أن عليه القضاء ونقله عن أبي حنيفة، والله سبحانه وتعالى أعلم. "وكذا صحة صوم المسافر عن الفرض فرع الوجوب عليه" أي على المسافر لعدم جواز التعجيل قبل الوجوب "وعدم إثمه" أي المسافر "لو مات بلا أداء في سفره" دليل عدم وجوب الأداء عليه وكأنه حذفه لإرشاد ما قبله إليه "وصرحوا" أي الحنفية "بأن لا طلب في أصل الوجوب بل هو" أي أصل الوجوب "مجرد اعتبار من الشارع أن في(23/327)
ص -158-…ذمته" أي المكلف "جبرا لفعل كالشغل بالدين وهو" أي الدين "فعل عند أبي حنيفة" وهو تمليك المال أو تسليمه، ألا يرى أنه يوصف بالوجوب والوجوب صفة الأفعال لا الأعيان وأورد أن قول القائل أوفى فلان الدين صحيح ولو كان الدين فعلا لكان المعنى أوفى الإيفاء وإن المال يوصف بالوجوب أيضا كما في على فلان ألف درهم واجبة من ثمن مبيع وأجيب عن الأول بأن الإيفاء هو الأداء، والفعل يوصف به وبالقضاء وإن كان كل منهما عين الفعل فيقال أدى الصلاة وقضاها أي فعل هذا الفعل وأتى به فكذا هنا معنى أوفى الدين أتى بهذا الفعل وهو تمليك المال أو تسليمه وعن الثاني بأن المال يوصف به مجازا باعتبار أنه محل الوجوب كالموهوب يسمى هبة، ألا يرى أن المال المجرد عن الفعل لا يصح وصفه بالوجوب فلا يقال جدار واجب كما يصح وصف الفعل المجرد عن المال كالصلاة فعلم أن الوجوب حقيقة من خصائص الفعل.(23/328)
"وقد يشكل المذهبان" أي مذهبا الحنفية والشافعية "بأن الفعل بلا طلب كيف يسقط الواجب وهو" أي الواجب إنما يكون واجبا "بالطلب، والسقوط" إنما يكون "بتقدمه" أي الطلب أيضا. "وقصد الامتثال" إنما يكون "بالعلم به" أي بالطلب وهو يقتضي سبق الوجوب "والشافعية إن أرادوه" أي أرادوا بنفس الوجوب ما أراد الحنفية "فكذلك" أي ورد عليهم ما ورد على الحنفية من أنه إسقاط قبل الطلب "وإن دخله طلب قلنا لا يعقل طلب فعل بلا أدائه وقضائه ; لأنه" أي الفعل "إما مطلق عن الوقت وهو" أي المطلق عنه "مطلوب الأداء في العمر أو مقيد به" أي الوقت "فهو مطلوب الأداء فيه" أي في وقته "مخيرا في الإجزاء وهو الموسع ثم" مطلوب الأداء فيه "مضيفا" عند ضيق الوقت "وقول الحنفية يتضيق" الوجوب "عند الشروع وتتقرر السببية للذي يليه" الشروع "يلزمه كون المسبب هو المعرف للسبب وهو" أي كون المسبب هو المعرف للسبب "عكس وضعه" أي المسبب "و" عكس "وضع العلامة" فإن السبب هو المعرف للمسبب والعلامة هي المعرفة لما هي علامة له "ومفوتا" والظاهر ومفوت "لمقصودها" أي العلامة وهي التعريف بما هي علامة له عطف على عكس "وبه" أي بكون المسبب هنا هو المعرف للسبب "يصير" هذا القول "أبعد من المذهب المرذول أن التكليف مع الفعل لقولهم" أي الحنفية "إن الطلب لم يسبقه" أي الفعل "إذ لا طلب في أصل الوجوب كما ذكرنا وهو" أي أصل الوجوب "السابق" على الفعل قال المصنف رحمه الله تعالى أي يلزم الحنفية أن التكليف بالفعل مع الشروع فيه وهو المذهب الذي تقدم تزييفه وبطلانه، ووجهه أنهم لما قالوا الثابت بأول الوقت أصل الوجوب وصرحوا بأنه لا طلب عنه لزم أن يكون ما يتضيق بآخر الوقت ليس ذاك بل وجوب الأداء والفرض أنه لم يسبق قبل ذلك طلب فيلزم كون المتعلق والمتضيق عند الشروع هو وجوب الأداء وهو ذلك المذهب بعينه وباستلزام عكس وضع العلامة والسبب صار أبعد منه وهذا هو الموعود به في مسألة السبب(23/329)
الجزء الأول عينا بقولنا فيه ما سنذكر "والوجه أن ما أمكن فيه اعتبار وجود الأداء بالسبب موسعا اعتبر كالدين المؤجل يثبت بالشغل" للذمة "وجوب الأداء موسعا أي مخيرا إلى(23/330)
ص -159-…الحلول أو الطلب بعده" أي الحلول "فيتضيق" وجوب الأداء حينئذ "وكالثوب المطار" أي الذي أطارته الريح "إلى إنسان يجب" أداؤه موسعا "إلى طلب مالكه" فيتضيق حينئذ "وما لا" يمكن فيه اعتبار وجوب الأداء بالسبب موسعا "كالزكاة عند الحنفية فإنه لو وجب الأداء بملك النصاب موسعا فإما إلى الحول فيتضيق وإما إلى آخر العمر والأول" أي وجوب الأداء بملك النصاب موسعا إلى الحول "فيتضيق منتف ; لأنه" أي وجوب الأداء "بعد الحول على التراخي على ما اختاروه" كما أسلفناه "وكذا الثاني" أي وجوب الأداء بملك النصاب موسعا إلى آخر العمر منتف "لأن حاصله واجب موسع من حين الملك إلى آخر العمر فيضيع معنى اشتراط الحلول نعم يتم" كون الزكاة واجبة الأداء بملك النصاب موسعا إلى الحول "على" القول "المضيق" للوجوب "بالحول والمصرف" ثم قوله وما لا مبتدأ خبره "فيجب أن يعتبر فيه" أي في هذا "إقامة السبب مقام الوجوب شرعا في حق التعجيل" قبل حقيقة وجوب الأداء لإذن الشارع في ذلك "فلو لم يعجل لا يتحقق هذا الاعتبار" وهو أن السبب أقيم مقام الوجوب شرعا في حق التعجيل "أو" يعتبر فيه "أنه بالمبادرة المأذون فيها شرعا إلى سد خلة أخيه" الفقير "دفع عنه" أي المعجل "الطلب أن يتعلق" الطلب "به شرعا" وإنما قلنا ذلك; لأنه "ألزم ذلك الدليل وكذا في مستغرق الوقت يوما" أقيم السبب مقام وجوب الأداء في حقه ليظهر أثره في ثبوت مصلحة القضاء ومن هذا يؤخذ الجواب عما ذكره الشيخ أبو المعين ثم الشيخ أكمل الدين فليتأمل. "ولو أراد الحنفية هذا" أي أنه أقيم السبب مقام الوجوب شرعا في هذه المواضع "لم يفتقروا إلى اعتبار شيء يسمى بالوجوب ولا طلب فيه ولا تكلف كلام زائد ولا يستقيم ما ذكروا إلا على ذلك".
"مسألة: الأداء فعل الواجب في وقته المقيد به شرعا"(23/331)
ثم أوضح الوقت المقيد به شرعا باتباعه بقوله "العمر وغيره" أي غير العمر ليشمل الواجب المطلق والمؤقت "وهو" أي فعل الواجب في وقته "تساهل" بالنسبة إلى المؤقت فإنه لا يشترط لكونه أداء وجود جميعه في الوقت بل ما أشار إليه بقوله "بل" الشرط "ابتداؤه" أي الفعل "في غير العمر كالتحريمة للحنفية" في غير صلاة الفجر فإن بإدراكها في الوقت يكون مدركا للصلاة أداء وإن كان ما سواها مفعولا خارجه على ما هو المشهور عندهم وهو مطلقا وجه للشافعية تبعا لما في الوقت "وركعة للشافعية" فإن بإدراكها في الوقت يكون مدركا للصلاة أداء وإن كان ما سواها مفعولا خارجه على ما هو أصح الأوجه عندهم كما ذكره النووي وغيره لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة" متفق عليه. وإلا ففي المحيط الصلاة الواحدة يجوز أن يكون بعضها أداء وبعضها قضاء كمصلي العصر غربت الشمس عليه في خلال صلاته يتم الباقي قضاء لا أداء وسبقه إلى هذا الناطفي أيضا، وذكر أبو حامد من الشافعية أنه قول عامة الشافعية قيل وهو التحقيق اعتبارا لكل جزء بوفائه وعلى هذا فلا يكون في العبارة تساهل. "والإعادة فعل مثله" أي الواجب "فيه" أي في الوقت مرة أخرى "لخلل غير الفساد و" غير "عدم صحة الشروع" في نفس الواجب ففعل مثله شامل(23/332)
ص -160-…للقضاء والإعادة وفيه مخرج لفعل مثله بعده على ما عليه البعض وإلا فقول الميزان الإعادة في عرف الشرع إتيان مثل الفعل الأول على صفة الكمال بأن وجب على المكلف فعل موصوف بصفة الكمال فأداه على وجه النقصان وهو نقصان فاحش يجب عليه الإعادة وهي إتيان مثل الأول ذاتا مع صفة الكمال ا هـ يفيد أنه إذا فعل ثانيا في الوقت أو خارج الوقت يكون إعادة كما قال صاحب الكشف والباقي مخرج لما يفعل ثانيا لمفسد في الأول كترك ركن أو لعدم صحة شروع لفقد شرط مقدور من طهارة أو غيرها ; لأن لما فسد أو لم يصح الشروع فيه شرعا حكم العدم شرعا فيكون الاعتبار للثاني الجامع لموجب الاعتبار شرعا وهو أداء إن وقع في الوقت وقضاء إن وقع خارجه ولعله يريد بالخلل ما يؤثر نقصا في الصلاة يجب به سجود السهو كما يعطيه قوة كلام الميزان وحينئذ فهل تكون الإعادة واجبة فصرح غير واحد من شراح أصول فخر الإسلام بأنها ليست بواجبة وأن بالأول يخرج عن العهدة وإن كان على وجه الكراهة على الأصح وأن الفعل الثاني بمنزلة الجبر كالجبر بسجود السهو فلا يدخل في تقسيم الواجب إلى أداء وقضاء والأوجه الوجوب كما أشار إليه في الهداية وصرح به بعضهم كالشيخ حافظ الدين في شرح المنار وهو موافق لما عن السرخسي وأبي اليسر من ترك الاعتدال يلزمه الإعادة زاد أبو اليسر ويكون الفرض هو الثاني وعلى هذا يدخل في تقسيم الواجب وإنما الكلام في أنه لا يخرج عن أحدهما كما هو ظاهر الميزان أو عن الأداء كما صرح به القاضي عضد الدين. وذكر السبكي أنه مصطلح الأكثرين أو أنه قسم ثالث كما مشى عليه في الحاصل والمنهاج، ثم كما قال شيخنا المصنف لا إشكال في وجوب الإعادة إذ هو الحكم في كل صلاة أديت مع كراهة التحريم ويكون جابرا للأول ; لأن الفرض لا يتكرر وجعله الثاني يقتضي عدم سقوطه بالأول إذ هو لازم ترك الركن لا الواجب إلا أن يقال المراد أن ذلك امتنان من الله تعالى إذ يحتسب الكامل، وإن(23/333)
تأخر عن الفرض لما علم سبحانه أنه سيوقعه ا هـ. ومن هذا يظهر أن الإعادة قسم من الأداء أو القضاء أو غيرهما فإن قلنا الفرض هو الأول فهي غيرهما، وإن قلنا الثاني فهي أحدهما، ثم هذا كله على اصطلاح أصحابنا والمشهور عند الشافعية الذي جزم به الإمام الرازي وغيره ورجحه ابن الحاجب أنها فعل الشيء ثانيا في وقت الأداء لخلل في فعله أولا من فوات شرط أو ركن كما صرح به القاضي أبو بكر وغيره وعلى هذا الإخفاء في أن الحق أنها أداء وقيل لعذر أي لخلل في فعله أولا أو حصول فضيلة لم يكن في فعله أولا بناء على أن العذر أعم من الخلل وهو ما ينقطع به اللوم وعلى هذا قيل:
لعل به عذرا وأنت تلوم
فالصلاة المفعولة في وقت الأداء جماعة بعد فعلها على الانفراد من غير خلل إعادة على هذا لحصول فضيلة الجماعة دون الأول لانتفاء الخلل وعلى هذا فالإعادة أعم من الأداء.(23/334)
ص -161-…"والقضاء" تعريفه بناء "على أنه" واجب "بسببه" أي الأداء "فعله" أي الواجب "بعده" أي الوقت، ثم أشار إلى اعتراض على قول الحنفية القضاء يجب بسبب الأداء نفسه فالمقتضى هو نفس الواجب المقيد بالوقت إذا فعله بعد الوقت مع تعريفهم القضاء بأنه أداء مثل الواجب فقال "ففعل مثله" أي الواجب "بعده" أي الوقت "خارج" عن الأقسام الثلاثة الأداء والإعادة والقضاء ثم قال استطرادا "كفعل غير المقيد من السنن" بوقت "والمقيد" منها بوقت "كصلاة الكسوف" فإنها لا توصف بأحد هذه الأوصاف حقيقة عند بعضهم وإلا فقد نص القاضي أبو زيد في التقويم وفخر الإسلام في شرحه. على أن الأداء نوعان: واجب ونفل وتعريفه على هذا فعل ما طلب من العمل بعينه كما ذكر أبو زيد أو تسليم عين ما طلب شرعا كما ذكر شيخنا المصنف "ومن يحقق القضاء في غير الواجب" مثل سنة الفجر كما ذكر أصحابنا وغيرهم "يبدل الواجب بالعبادة" فيقول فعل العبادة بعد وقتها أو فعل مثل عين ما طلب شرعا كما أشار إليه شيخنا المصنف "فتسمية الحج" الصحيح "بعد" الحج "الفاسد قضاء" كما وقع في عبارة مشايخنا وغيرهم "مجاز"; لأنه في وقته وهو العمر فهو أداء على قول مشايخنا وإعادة على تعريفها المذكور للشافعية "وتضييقه" أي وقت الحج "بالشروع" فلا يجوز له الخروج منه وتأخيره إلى عام آخر كما ذكر الإسنوي وغيره "لا يوجبه" أي كونه قضاء بعد الإفساد لفوات وقت الإحرام به كما زعموا "كالصلاة في الوقت" ثانيا "بعد إفسادها والتزام بعض الشافعية" أي القاضي حسين والمتولي والروياني "أنها" أي الصلاة المذكورة "قضاء"; لأنه يتضيق عليه وقتها بدخوله ففات وقت إحرامه بها "بعيد إذ لا ينوي" القضاء بها اتفاقا ولو كانت قضاء لوجبت نيته. قلت وقول السبكي لا يلزم من كونها قضاء وجوب نية القضاء ; لأنا لا نشرط نية القضاء في القضاء ولا نية الأداء في الأداء عجب منه فإنه يعد أن هذا قول الأكثرين فمرادهم كما في الروضة الصحة(23/335)
لمن نوى جاهل الوقت لغيم أو نحوه أو ظانا خروج الوقت أو بقاءه، ثم تبين الأمر بخلاف ظنه، أما العالم بالحال فلا تنعقد صلاته قطعا نقله في شرح المهذب عن تصريحهم ومن ثمة قيل ; لأن نية القضاء مبطلة للمؤدي بعد الإفساد فلا يمكن نيته، ثم التضييق بالشروع بفعله لا بأمر الشرع والنظر في الأداء والقضاء إلى أمر الشرع "وبعضهم" أي الشافعية قال هي "إعادة" وهو متجه على تعريفها لهم كما تقدم. "واستبعاد قول القاضي" أبي بكر من ابن الحاجب وغيره "فيمن" أدرك وقت الفعل، ثم "أخر" الفعل "عن جزء" منه "مع ظن موته قبله" أي الفعل "حتى أثم" بالتأخير "اتفاقا" حيث قال القاضي "إنه" أي فعله بعد ذلك الوقت في وقته المقدر له شرعا أولا "قضاء" خلافا للجمهور في كونه أداء "إن أراد" به أنه يجب فيه "نية القضاء" بناء على أن ذلك الظن كما صار سببا لتعين ذلك الوقت جزءا صار سببا أيضا لخروج ما بعده عن كونه مقدرا أولا بالكلية ثابت وهو خبر استبعاد لم يذكره للعلم به وإنما كان كذلك ; لأنه لم يقل أحد بوجوب نية القضاء وخروج ما بعده عن كونه مقدرا له أولا في نفس الأمر فإن تعين ذلك الجزء إنما يظهر في حق العصيان ولا يلزم اعتباره في خروج ما بعده عن كونه وقتا عند ظهور فساد الظن المقتضي لتعينه "وإلا" لو لم يرد(23/336)
ص -162-…هذا "فلفظي"؛ لأن القاضي يوافق الجمهور في أنه فعل واقع في وقت كان مقدرا له شرعا أولا وهم يوافقونه في كونه واقعا خارج ما صار وقتا له بحسب ظنه فلا منازعة في المعنى "وتعريفه" أي القضاء "بفعل مثله" أي الواجب كما ذكر الحنفية "إنما يتجه على أنه" أي القضاء "بآخر" أي بسبب غير سبب الأداء. "واختلف فيه" أي القضاء "بمثل معقول" أي مدرك للعقل مماثلته للفائت كالصلاة للصلاة والصوم للصوم هل يجب بما يجب به الأداء أو بأمر آخر "فأكثر الأصوليين" منهم أصحابنا العراقيون وصاحب الميزان وعامة الشافعية والمعتزلة يجب "بأمر آخر والمختار للحنفية" كالقاضي أبي زيد وشمس الأئمة وفخر الإسلام ومتابعيهم يجب "به" أي بما يجب به الأداء وبه قال بعض الشافعية والحنابلة وعامة أهل الحديث، وإنما قيد المثل بالمعقول؛ لأنه بمثل غير معقول أي غير مدرك للعقل مماثلته للفائت لعجزه لا أن العقل ينفيه ويحكم بعدم مماثلته؛ لأن العقل حجة من حجج الله وهي لا تتناقض كالفدية للصوم لا يجب إلا بدليل آخر بالاتفاق "للأكثر القطع بعدم اقتضاء صم يوم الخميس صم الجمعة وإلا" لو اقتضاه "كانا" أي صوم يوم الخميس وصوم يوم الجمعة "سواء" في كونهما أداء بمنزلة صم إما يوم الجمعة وإما يوم الخميس فلا يعصي بالتأخير "والجواب مقتضاه أمران التزام الصوم وكونه" أي الصوم "فيه" أي يوم الخميس. "فإذا عجز عن الثاني" وهو كونه فيه الذي به كمال المأمور به "لفواته بقي اقتضاؤه الصوم لا في" خصوص "الجمعة ولا غيرها، وإنما يلزم ما ذكر" من المساواة "لو اقتضاه" أي صم يوم الخميس الصوم "في معين" غيره كيوم الجمعة وليس كذلك "نعم لو اقتضى فواته" أي الأداء "ظهور بطلان مصلحة الواجب ومفسدته" بالنصب عطف على ظهور وبالجر عطف على بطلان "سقط" الواجب بالكلية "للمعارض الراجح" وهو ظهور بطلان مصلحته ومفسدته "وهو" أي اقتضاء فواته ذلك "بعيد إذ عقلية حسن الصلاة ومصلحتها بعد الوقت كقبله" أي(23/337)
الوقت؛ لأن المقصود بها تعظيم الله تعالى ومخالفة الهوى وذلك لا يختلف باختلاف الأوقات. وإنما امتنع التقديم على الوقت لامتناع تقديم الحكم على السبب "وغاية تقييده" أي الواجب "به" أي بالوقت "لزيادة المصلحة فيه" أي في الوقت لشرفه "وقولهم" أي القائلين بأنه غير واجب بما وجب به الأداء "لو لم يكن" الوقت "قيدا فيه" أي في فعل الواجب "داخلا في المأمور به جاز تقديمه" أي المأمور به على الوقت المقيد به "مندفع بأن الكلام في الواجب ولا واجب قبل التعلق" بالوقت فصوم يوم الخميس غير واجب قبل تعلقه به فلا يتقدم عليه وقد اندرج في هذا دليل المختار "ثم قيل ثمرته" أي الخلاف "في الصيام المنذور المعين" إذا فات وقته "يجب قضاؤه على الثاني" أي القول بأنه يجب بما يجب به الأداء وسنذكر ما فيه "ولا" يجب "على الأول" أي القول بأنه يجب بأمر آخر لعدم ورود دليل مقصود فيه. قال صاحب الكشف والتحقيق: وهذا هو الذي يشير إليه كلام فخر الإسلام وصاحب المنتخب "وقيل القضاء" فيه "اتفاق" ذكره أبو اليسر "فلا ثمرة" لهذا الخلاف وفيه بحث فات في الكشف والتحقيق وغيرهما إلا أنه على القول الأول بسبب آخر مقصود غير النذر وهو التفويت; لأنه بمنزلة نص مقصود حتى كأنه إذا فوت(23/338)
ص -163-…فقد التزم المنذور ثانيا أو قضاء المنذور قصدا وعلى القول الثاني بالنذر فإن لم يكن الفوات عند الأولين وهو عدم الفعل لعذر كمرض أو جنون أو إغماء كالتفويت وهو عدم الفعل من غير عذر كما هو ظاهر التعليل فلا يجب القضاء على من فاته الأداء لعذر لعدم النص المقصود صريحا أو دلالة في حقه فلا يكون القضاء مطلقا اتفاقا وحينئذ يظهر ثمرة الاختلاف في بعض الأحكام، وفي التخريج، وإن كان الفوات عندهم كالتفويت كما ذكر شمس الأئمة ولعله الأشبه فلا يظهر ثمرة الاختلاف في الأحكام، وإنما يظهر في التخريج لا غير، والله سبحانه أعلم.
"ويطالبون" أي القائلون بأنه يجب بالأمر الجديد "بالأمر الجديد" في هذه الصورة والإتيان به فيها متعذر فيما يظهر، ثم هذا على ما في الميزان قال صاحب الكشف وهكذا في عامة نسخ أصول الفقه ونحوه ما في أصول فخر الإسلام واختلف المشايخ في القضاء أيجب بنص مقصود أم يجب بالسبب الذي يوجب الأداء فعليه أنهم يطالبون بالنص المقصود "ولو قيل" بدل بأمر جديد "بسبب" آخر أو بدليل آخر غير الأمر الذي به وجب الأداء كما هو عبارة السرخسي وأبي اليسر وهو أولى "شمل القياس فيمكن" أن يجيبوا بأن الدليل الآخر هو القياس "على الصلاة" المفروضة في الصلاة المنذورة فقد قدمنا عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "فإذا نسي أحدكم صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها" وعلى الصوم المفروض في الصوم المنذور فقد قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] اعتبارا لما هو واجب بإيجاب العبد بما هو واجب بإيجاب الله تعالى ابتداء. وأما ما قيل القياس مظهر لا مثبت فيكون بقاء وجوب المنذور ثابتا بالنص الوارد في بقاء الصوم والصلاة فيكون الوجوب في الكل بالسبب السابق ففيه تأمل فليتأمل.(23/339)
"ونوقض" المختار "بنذر اعتكاف رمضان إذا لم يعتكفه" أي رمضان حيث "يجب" في ظاهر الرواية قضاؤه "بصوم جديد ولم يوجبه" أي نذر اعتكافه صومه لوجوبه بدون النذر "فكان" القضاء "بغيره" أي غير ما هو موجب للأداء "ويبطل" النذر "كأبي يوسف والحسن" ابن زياد؛ لأنه لا يمكن إيجاب القضاء بلا صوم؛ لأنه لا اعتكاف إلا بالصوم، ولا إيجابه بالصوم؛ لأنه يزيد على ما التزمه "أجيب بأنه" أي نذر الاعتكاف "موجب" للصوم؛ لأنه شرط صحة الاعتكاف وشرط الشيء تابع له فيجب لوجوبه إلا أنه "امتنع" إيجابه له "في خصوص ذلك" أي إضافته إلى رمضان بعارض شرف الوقت وحصول المقصود بصوم الشهر؛ لأن الشرط من حيث هو شرط يعتبر وجوده تبعا لا قصدا "فعند عدمه" أي المانع وهو رمضان "ظهر أثره" أي نذر الاعتكاف في إيجاب الصوم كمتطهر نذر صلاة ركعتين فإنه يصليهما بتلك الطهارة وإذا انتقضت لزمته لأدائهما بذلك النذر لا بسبب آخر "ولزم أن لا يقضي في رمضان آخر ولا واجب" آخر؛ لأن الصوم، وإن كان شرطا لكنه مما يلزم بالنذر لكونه عبادة مقصودة في نفسه فإذا ظهر أثر النذر في إيجابه لا يتأدى بعد بواجب آخر كما لو نذره مطلقا أو مضافا إلى غير(23/340)
ص -164-…رمضان "سوى قضاء" الرمضان "الأول" فإنه يجوز فيه "للخلفية" أي لخلفية صوم الشهر المقضى عن صوم شهر رمضان إذ امتناع وجوب الصوم في هذا الاعتكاف كما جاز أن يكون لشرف الوقت وقد زال جاز أن يكون لاتصاله بصوم الشهر وهو باق لبقاء الخلف فيجوز لبقاء إحدى العلتين ونظر فيه صاحب الكشف وغيره بأن الاتصال بالقضاء غير الاتصال بالأداء لكونهما غيرين ولئن سلم أن الاتصال علة فهو باعتبار شرف الوقت وقد فات ومنع بأن العلة الاتصال بصوم الشهر مطلقا وهو موجود.
"تذنيب" لهذا البحث المتعلق بالأداء والقضاء يشتمل على أقسام لهما باعتبارات مختلفة:(23/341)
"قسم الحنفية الأداء معممين" التقسيم له "في المعاملات" كما في العبادات "إلى كامل" وهو المستجمع لجميع الأوصاف المشروعة "كالصلاة" المشروع فيها الجماعة مثل المكتوبة والعيد والوتر في رمضان والتراويح "بجماعة" وإلا فهي صفة قصور كالإصبع الزائد "وقاصر" وهو ما ليس بمستجمع لجميع الأوصاف المشروعة فيه "كالصلاة" المكتوبة إذا صلاها "منفردا" وكيف لا، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم: "صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة"، وفي رواية "بخمس وعشرين ضعفا"، ولا منافاة فإن القليل لا ينفي الكثير أو أخبر أولا بالقليل، ثم أعلمه الله بزيادة الفضل. "وما" أي وأداء "في معنى القضاء كفعل اللاحق" وهو من فاته بعدما دخل مع الإمام بعض صلاة الإمام لنوم أو سبق حدث فما فاته من صلاة الإمام "بعد فراغ الإمام" فهو أداء باعتبار كونه في الوقت قضاء باعتبار فواته مع الإمام بفراغه إذ هو مثل ما انعقد له إحرام الإمام من المتابعة له والمشاركة معه لا عينه لعدم كونه خلف الإمام حقيقة إلا أنه لما كانت العزيمة في حقه الأداء مع الإمام مقيدا به وقد فاته ذلك تعذر جعل الشارع ذلك أداء في هذه الحالة كالأداء مع الإمام فصار كأنه خلف الإمام فصح اجتماعهما في فعل واحد مع تنافيهما لاختلاف الجهة، ثم لما كان أداء باعتبار الأصل قضاء باعتبار الوصف جعل أداء شبيها بالقضاء لا قضاء شبيها بالأداء "ولذا" أي كونه في معنى القضاء "لا يقرأ فيه ولا يسجد لسهوه ولا يتغير فرضه" من الثنائية إلى الرباعية لو كان مسافرا "بنية الإقامة" فيه في موضع صالح لها والوقت باق لأن القضاء لا يتغير بالمغير؛ لأنه مبني على الأصل وهو لم يتغير بها لانقضائه والخلف لا يفارق الأصل في الحكم فكذا ما في معنى القضاء خلافا لزفر في هذا. ثم هو كالمقتدي حكما والمقتدي لا يقرأ خلف الإمام ولا يسجد لسهو نفسه فكذا ما هو مثله حكما بخلاف فعله قبل فراغ الإمام فإنه إذا وجد المغير(23/342)
فيه والوقت باق يصير فرضه به أربعا لانتقاء شبه القضاء فيه وقبول صلاة الإمام للتغير بالمتغير فكذا التبع؛ لأنه لا يفارق الأصل في حكمه هذا كله في حق الله تعالى "وفي حقوق العباد رد عين المغصوب سالما" أي على الوجه الذي غصبه أداء كامل لكونه على الوجه الذي وجب "ورده مشغولا بجناية" في يده يستحق بها رقبته أو طرفه أو بدين باستهلاكه مال إنسان(23/343)
ص -165-…في يده أداء قاصر لكونه ردا لا على الوجه الذي وجب ولأصل الأداء لو هلك في يد المالك قبل الدفع أو البيع في الدين برئ الغاصب ولقصوره إذا دفع أو قتل بذلك السبب أو بيع في ذلك الدين رجع المالك على الغاصب بالقيمة كأن الرد لم يوجد "وتسليم عبد غيره المسمى مهرا بعد شرائه" لزوجته التي سماه لها أداء يشبه القضاء فكونه أداء؛ لأنه عين ما وجب عليه بالتسمية "فتجبر" الزوجة "عليه" أي قبوله كما لو كان في ملكه عند العقد ولا يملك الزوج منعها منه. "ويشبه القضاء؛ لأنه بعد الشراء ملكه حتى نفذ عتقه" وبيعه وغيرهما من التصرفات فيه "منه" أي الزوج "لا منها" أي الزوجة؛ لأن تبدل الملك بمنزلة تبدل العين شرعا لما في صحيح مسلم عن عائشة وأهدي لبريرة لحم فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم والبرمة على النار فدعا بطعام فأتي بخبز وأدم من أدم البيت فقال: "ألم أر برمة على النار فيها لحم" فقالوا: بلى يا رسول الله لحم تصدق به على بريرة فكرهنا أن نطعمك منه فقال: "هو عليها صدقة وهو منها لنا هدية". ورواه البخاري مختصرا فكانت هذه التصرفات مصادفة محلها فينفذ "و" قسموا "القضاء إلى ما" أي قضاء "بمثل معقول وغير معقول كالصوم للصوم والفدية له" أي للصوم وهي الصدقة بنصف صاع بر أو صاع من شعير أو تمر بدلا منه عند العجز المستدام عنه فالأول مثال المعقول والثاني مثال غير المعقول كما تقدم وكلاهما ظاهر "وما" أي وإلى قضاء "يشبه الأداء كقضاء تكبيرات العيد في الركوع" عند أبي حنيفة ومحمد إذا أدرك الإمام فيه وخاف أن يرفع رأسه منه لو اشتغل بها يكبر للافتتاح ثم للركوع، ثم أتى فيه بها "خلافا لأبي يوسف" حيث قال لا يأتي بها فيه، وفي التقريب وروى هلال الرأي عن يوسف السمتي عن أبي حنيفة مثله لفواتها عن محلها وهو القيام وعدم قدرته على مثل من عنده قربة في الركوع كما لو نسي الفاتحة أو السورة أو القنوت، ثم ركع، ووجه ظاهر الرواية أن الركوع(23/344)
لما أشبه القيام حقيقة من حيث بقاء الانتصاب والاستواء في النصف الأسفل من البدن وبه فارق القيام القعود؛ لأن استواء عاليه موجود فيهما وحكما. لأن المدرك المشارك للإمام في الركوع مدرك لتلك الركعة لم يتحقق الفوات لبقاء محل الأداء من وجه وقد شرع ما هو من جنسها وهو تكبيرة الركوع فيما له شبه القيام فإن الأصح أن الإتيان بها في حالة الانحطاط وهي محتسبة في الركعة الثانية من صلاة العيد من تكبيراتها والتكبير عبادة وهي تثبت بالشبهة كان الاحتياط في فعلها لبقاء جهة الأداء لا ببقاء المحل من وجه لا باعتبار جهة القضاء بخلاف القراءة والقنوت فإن كلا غير مشروع فيما له شبه القيام بوجه ثم لا يرفع يديه فيها؛ لأنه ووضع الكف على الركبة سنتان إلا أن الرفع فات هنا عن محله في الجملة والوضع لم يفت فكان أولى، هذا في حق الله تعالى "وفي حقوق العباد ضمان المغصوب" المثلي من مكيل أو موزون أو معدود متقارب "بالمثل صورة" فيتبعها المعنى ضرورة كالحنطة بالحنطة والزيت بالزيت والبيضة بالبيضة قضاء كامل مثل بمثل معقول. "ثم" ضمانه بالمثل "معني بالقيمة للعجز" عن المثل صورة ومعنى لانقطاعه بأن لا يوجد في الأسواق وضمان القيمي كالحيوان والعددي المتقارب كالبطيخ والرمان بالقيمة للعجز عن القضاء بالمثل صورة قضاء قاصر بمثل معقول، أما(23/345)
ص -166-…كونه قضاء فظاهر وأما كونه قاصرا فلانتقاء الصورة. وأما كونه بمثل معقول فللمساواة في المالية "وبغير معقول" أي والقضاء بمثل قاصر غير معقول "ضمان النفس والأطراف بالمال في" القتل والقطع "الخطأ" إذ لا مماثلة صورة بين النفس أو الطرف والمال وهو ظاهر ولا معنى؛ لأن الآدمي مالك مبتذل والمال مملوك مبتذل وللقصور لم يشرع إلا عند تعذر المثل الكامل المعقول وهو القصاص مراعاة لصيانة نفس المقتول أو للطرف عن الهدر وللتخفيف عن كل من القاتل والجاني لعدم قصده إلى غير ذلك مما يأتي قريبا. "وإعطاء قيمة عبد سماه مهرا بغير عينه" قضاء يشبه الأداء "حتى أجبرت" الزوجة "عليها" أي على قيمة عبد وسط أي قبولها إياها إذا أتاها بها كما تجبر على قبول عبد وسط إذا أتاها به لكونه عين الواجب "وإن كانت" القيمة "قضاء لشبهه" أي هذا القضاء "بالأداء لمزاحمتها" أي القيمة "المسمى إذ لا يعرف" هذا المسمى لجهالته وصفا "إلا بها" أي بالقيمة إذ لا يمكن تعيينه بدونها ولا تتعين إلا بالتقويم فصارت القيمة أصلا من هذا الوجه مزاحما للمسمى فأيهما أتى به يجبر على القبول بخلاف المعين فإنه معلوم بدون التقويم فكانت قيمته قضاء محضا فلم يجبر عليها عند القدرة عليه.(23/346)
"وفيه" أي هذا الحكم لهذه المسألة نظرا إلى تعليلها المذكور. "نظر" ولعله أما ما قيل فينبغي على هذا أن تتعين القيمة ولا يخير الزوج بينها وبين العبد وقد أجيب بأن العبد معلوم الجنس وبالنظر إليه يجب هو كما لو أمهر عبدا بعينه مجهول الوصف وبالنظر إليه تجب القيمة كما لو أمهر عبد غيره فصار الواجب كأنه أحد الشيئين فيتخير إذ التسليم عليه لا على المرأة فبأي أتاها يجبر على قبوله وإما ما قيل فعلى هذا يصير كأنه تزوجها على عبد أو قيمته وذا يوجب فساد التسمية ويوجب مهر المثل كما قال الشافعي وقد أجيب بأن التسمية إنما فسدت في هذه؛ لأن القيمة تصير واجبة بها ابتداء وهي مجهولة لاختلافها باختلاف المقومين فصار كأنه قال علي عبد أو دراهم بخلاف مسألتنا فإن العبد الوسط يجب بالعقد وصحت التسمية والقيمة اعتبرت بناء على وجوب تسليم المسمى إذ لا يمكن تسليمه إلا بمعرفتها لا أنها تجب بالعقد؛ لأنه ما سماها كما لو تزوجها على عبد معين فاستحق أو هلك تجب القيمة مهرا أو يتنصف بالطلاق قبل الدخول؛ لأنها وجبت بناء على مسمى معلوم لا ابتداء فكذا هذا كذا في الأسرار ولعل هذا الاحتمال هو الأظهر في كونه المراد ولا يخفى ما في جوابه على المتأمل النقاد.
"وعن سبق المماثل صورة" ومعنى على المماثل معنى لا غير في الاعتبار "قال أبو حنيفة فيمن قطع" يد إنسان عمدا "ثم قتل" القاطع المقطوع أيضا "عمدا قبل البرء" للقطع "للولي كذلك" أي أن يقطع يده ثم يقتله كما له أن يقتله من غير قطع؛ لأن القطع مع القتل مثل كامل لفعله صورة وهو ظاهر ومعنى وهو إزهاق الروح بخلاف القتل بلا قطع فإنه مثل قاصر لمساواته معنى لا صورة والمثل الكامل سابق عليه فله استيفاؤه وله الاقتصار على القاصر؛(23/347)
ص -167-…لأنه حقه كما له العفو لكن قيل هذا يقتضي أن هذا القصاص لو كان بين صغير وكبير هو وليه أن لا يتمكن الكبير من الاقتصار على القتل عنده؛ لأن حق الصغير في الكامل وهو ممكن "خلافا لهما" فإنهما قالا ليس له سوى القتل "بناء على أنها" أي هذه الأفعال جناية "واحدة" معنى عندهما وهي القتل. "لأن بالقتل ظهر أنه" أي الجاني "قصده" أي القتل "بالقطع" فصار كما لو قتله بضربات "وجنايتان عنده" أي أبي حنيفة "وما ذكرا" من أن بالقتل ظهر أنه قصده "ليس بلازم"؛ لأن القتل كما يحتمل أن يكون ماحيا لأثره؛ لأن المحل يفوت به فلا تتصور السراية بعد فواته وهو علة صالحة لإزهاق الروح قطعا فوق القطع فيضاف الحكم إليه ابتداء لتيقنه لا للقطع لعدم القطع بالسراية بخلاف ما لو تخلل البرء بينهما فإن الاتفاق على أن له أن يقطع ويقتل؛ لأن الأولى قد انتهت واستقر حكمها بالبراءة، ثم للمسألة أحكام أخرى بحسب اختلاف وجوهها تعرف في الكتب الفقهية "وعنه" أي سبق المماثل صورة ومعنى على القاصر في الاعتبار أيضا "قال" أبو حنيفة "لا يضمن" الغاصب المغصوب "المثلي بالقيمة إذا انقطع المثل" من أيدي الناس "إلا يوم الخصومة" والقضاء بها "لأن التضييق" لوجوب أدائه المثل الكامل الواجب في ذمته "بالقضاء" به عليه "فعنده" أي القضاء به عليه "يتحقق العجز" عنه فيتحول إلى القاصر. "بخلاف" المغصوب "القيمي" حيث تجب قيمته يوم الغصب اتفاقا "لأن وجوب قيمته بأصل السبب" الذي هو الغصب "فيعتبر" الوجوب "يوم الغصب ولأبي يوسف" في أنه تجب قيمة المثلي "يوم الغصب" أيضا أن يقال "لأنه لما التحق" المثلي "بما لا مثل له بالانقطاع وجب الخلف" وهو القيمة "ووجوبه" أي الخلف "بسبب الأصل" أي المثل صورة ومعنى "وهو" أي السبب "الغصب ومحمد" قال "القيمة للعجز" عن المثل صورة ومعنى "وهو" أي العجز "بالانقطاع فيعتبر يومه" أي الانقطاع ونص في التحفة على أن الصحيح قول أبي حنيفة.(23/348)
"واتفقوا" أي أصحابنا "أن بإتلاف المنافع" للأعيان كاستخدام العبد وركوب الدابة وسكنى الدار "لا ضمان لعدم المثل القاصر"؛ لأن المنفعة لا تماثل العين صورة وهو ظاهر ولا معنى؛ لأن العين مال متقوم والمنفعة لا؛ لأن المال ما يصان ويدخر لوقت الحاجة والمنافع لا تبقى بل كما توجد تتلاشى والتقوم الذي هو شرط الضمان لا يثبت بدون الوجود. لأن التقوم لا يسبق الوجود إذ المعدوم لا يوصف بأنه متقوم؛ لأنه ليس بشيء وبعد الوجود لا يحرز لعدم البقاء فلا يتقوم؛ لأن التقوم لا يسبق الإحراز "والاتفاق" واقع "على نفي القضاء بالكامل" أي على أن المنافع لا تضمن بمثلها من المنافع "لو وقع" ذلك فيها "كالحجر على كميات متساوية" أي الحجر على تقطيع واحد بأجرة واحدة لا يضمن منفعة إحداها بالأخرى مع وجود المشابهة صورة ومعنى فلأن لا يضمن بالأعيان مع أن لا مماثلة بينهما صورة ومعنى أولى.
ولما ذهب الشافعي إلى ضمانها بناء على أنها مال متقوم كالعين بدليل ورود العقد عليها؛(23/349)
ص -168-…لأن غير المال لا يرد العقد عليه كالميتة والدم وأشار إلى دفعه بقوله "ورود العقد عليها لتحقق الحاجة" أي ثبت تقومها في العقد لقيام العين مقامها لضرورة حاجة الناس فإن حاجتهم ماسة إلى شرعية عقد الإجارة ولا بد له من محل يضاف إليه فجعلت محرزة حكما على خلاف القياس بأن أقيم العين مقامها وأضيف العقد إليه. ومن ثمة لا يجوز إضافته إلى المنافع حتى لو قال آجرتك منافع هذه الدار شهرا لا يصح وليس مثل هذه الضرورة في ضمان العدوان فيبقى على الحقيقة فإن قيل الحاجة ماسة إلى ضمانها هنا أيضا؛ لأن في القول بعدم وجوب الضمان انفتاح باب الظلم وإبطال حق الملاك بالكلية أجيب بالمنع فإن الحاجة فيما يكثر وجوده لا فيما يندر والعدوان مما يندر فإنه منهي عنه وسبيله عدم الوجود "ولم ينحصر دفعها" أي حاجة دفع العدوان "في التضمين بل الضرب والحبس أدفع" للعدوان من التضمين ونحن أوجبناهما أو أحدهما على المتعدي تعزيرا له على عدوانه على أن ضمان المنافع بالعقد لو كان على وفق القياس لا يصح قياس العدوان عليه للفرق المؤثر بينهما فإن ضمان العقد إنما وجب بالتراضي وللرضا أثر في إيجاب أصل المال بمقابلة ما ليس بمال كما في الخلع والصلح عن دم العمد، وفي إيجاب الفضل أيضا. كما لو باع شيئا بأضعاف قيمته فإنه يصح ويجب على المشتري الفضل على القيمة لرضاه به وضمان العدوان يبنى على أوصاف العين من الجودة والرداءة بجبر القاضي لا على التراضي فانتفى الجامع بينهما ولا يبطل حق المالك بل يتأخر إلى الدار الآخرة هذا، وفي المجتبى وأصحابنا المتأخرون يفتون بقول الشافعي في المسبلات والأوقاف وأموال اليتامى ويوجبون أجر منافعها على الغصبة، وفي الفتاوى الكبرى وغيرها منافع العقار الموقوفة مضمونة سواء كان معدا للاستغلال أو لا نظرا للوقف، وفي جامع الفتاوى نقلا عن المحيط الصحيح لزوم الأجران معدا للاستغلال بكل حال وحكى بعضهم الإجماع على ضمان المنافع(23/350)
بالغصب والإتلاف إذا كان العين معدا للاستغلال بل وسيذكر المصنف في ذيل الكلام على العلة من مباحث القياس أنه ينبغي الفتوى بضمان المنافع مطلقا لو غلب غصبها وهو حسن كما نذكره ثمة إن شاء الله تعالى، والله سبحانه أعلم.
"ولا" يضمن "القصاص بقتل المستحق عليه" القصاص بقصاص ولا دية. "ولا" يضمن أيضا "ملك النكاح بشهادة الطلاق بعد الدخول إذا رجعوا" أي الشهود بالطلاق بشيء "خلافا للشافعي فيهما" أي في هاتين المسألتين فإن عن الشافعي أن القاتل للقاتل يضمن الدية؛ لأن القصاص ملك متقوم للولي ألا يرى أن القاتل إذا صالح في مرضه على الدية يعتبر من جميع المال وقد أتلف عليه ذلك بقتله فيضمن وأن الشهود يضمنون للزوج مهر المثل؛ لأن ملك النكاح متقوم على الزوج فيكون متقوما عليه زوالا؛ لأن الزائل عين الثابت بل أولى؛ لأن ملك اليمين يجوز اكتسابه بلا بدل بخلاف ملك النكاح فإنه لا ينفك عن مهر، وإنما قلنا نحن لا يضمن القصاص بالدية وملك النكاح بعد الدخول بالمهر "لأن الدية ومهر المثل لا يماثلانهما" أي القصاص وملك النكاح صورة ولا معنى، أما صورة فظاهر وأما معنى فلأن المقصود من(23/351)
ص -169-…القصاص الانتقام والتشفي بإعدام الحياة للإحياء ومن ملك النكاح السكن والازدواج وإبقاء النسل فلم يكونا مالا متقوما. "والتقوم" بالمال في باب القتل وملك النكاح "شرعي للزجر" كما في قتل الأب ابنه عمدا "أو لجبر" كما في القتل الخطأ "وللخطر" أي لشرف المحل فيهما أيضا صيانة للدم عن الهدر ولشرف بضع المرأة في ملك النكاح حالة ثبوته تعظيما له ليكون مصونا عن الابتذال بتملكه مجانا فإن له خطرا كالنفوس لكون النسل حاصلا منه ولذا لا يملك إلا بمهر وشهود وولي في بعض أو مطلقا على الاختلاف فيه والمملوك مجانا مبتذل "لا للتقوم المالي" للقتل وملك النكاح ولما كان التزام القاتل الدية في الصلح بمقابلة ما هو من أصول حوائجه وهو إبقاء نفسه وحاجته مقدمة على حق الوارث اعتبر من جميع المال على أن في تهذيب البغوي القاتل لا يضمن الدية كمذهبنا، والملك الوارد على البضع ليس بذي خطر ولذا صحت إزالته بالطلاق بغير شهود ولا ولي ولا عوض فعند زوال استيلائه لا يحتاج إلى التقويم وقيد بالطلاق بعد الدخول؛ لأن قبله إذا رجعوا يضمنون نصف المهر بالاتفاق؛ لأن المسمى لا يستحق عليه عند سقوط تسليم البضع إليه بالفرقة قبل الدخول لا بصنع منه ولا بانتهاء النكاح فلما أوجب الشهود عليه نصفه بإضافة الفرقة إليه مع فوات تسليم البضع، ثم رجعوا كان قصرا ليده عن ذلك المقدار أي ظهر بالرجوع أنهم أخذوا باطلا ودفعوه إليه فيضمنونه له، والله سبحانه أعلم.(23/352)
"القسم الثاني" من أقسام الوقت المقيد به الواجب "كون الوقت" أي ما يكون الوقت1 فيه "سببا للوجوب مساويا للواجب وكل موقت فالوقت شرط أدائه"؛ لأنه لا يتحقق بدونه وهو غير جزء منه ولا مؤثر في وجوده "ويسمونه" أي الحنفية هذا الوقت "معيارا" لتقدير الواجب به حتى يزداد بزيادته وينقص بنقصه فهو يعلم به مقداره كما تعرف مقادير الأوزان بالمعيار "وهو رمضان عين شرعا لفرض الصوم فانتفى شرعية غيره من الصيام فيه فلم يشرطوا" أي الحنفية "نية التعيين" أي تعيين أنه الصوم الفرض في أدائه "فأصيب" صومه "بنية مباينه" أي مباين صومه "كالنذر والكفارة بناء على لغو الجهة" أي الوصف في نية المباين "فيبقى المطلق" الذي هو أصل نية الصوم "وبه" أي المطلق "يصاب" الصوم الفرض الرمضاني أداء "كالأخص" مثل "زيد يصاب بالأعم" مثل "إنسان والجمهور على نفيه" أي وقوعه عن رمضان بهذه النية "وهو" أي ونفي وقوعه عن رمضان بهذه النية "الحق؛ لأن نفي شرعية غيره" أي صوم رمضان. "إنما توجب نفي صحته" أي الغير "إذا نواه" أي الغير "ونفي صحة ما نواه من الغير لا يوجب وجود نية ما يصح وهو" أي الناوي "ينادي لم أرده" أي ما يصح إذ لم يتعلق له قصد بغير ذلك المعين "بل لو ثبت" وقوعه عن فرض رمضان بهذه النية "كان" وقوعه عنه "جبرا" وهو النافي للصحة؛ لأنه لا بد في أداء الفرض من الاختيار وليس إصابة الأخص
ـــــــــــــــــــ
1 الوقت كذا في النسخ ولعل المناسب الموقت كما لا يخفى. كتبه مصححه.(23/353)
ص -170-…بالأعم بمجرد إرادة مطلق الصوم بل كما قال "وإصابة الأخص بالأعم" إنما يكون "بإرادته" أي الأخص "به" أي الأعم "ونقول لو أراد نية صوم الفرض للصوم صح؛ لأنه أراده وارتفع الخلاف. وأما كون التعيين" أي تعيين الوقت الذي هو رمضان لصومه "يوجب الإصابة" لصومه "بلا نية كرواية عن زفر". وذكره النووي عن مجاهد وعطاء أيضا "فعجب"؛ لأن ذلك إنما يتم لو لم يكن الاختيار للصوم من المكلف شرطا لوجوده شرعا لكنه شرط له بالنص والإجماع ومن المعلوم أن تعين المحل شرعا ليس علة لاختيار المكلف فأنى يكون له وجود بدون نيته. وقد تداول كثير كالشيخ أبي بكر الرازي وأبي زيد والسرخسي وفخر الإسلام حكاية هذا عن زفر ولكن في التقريب والمبسوط قال أبو الحسن الكرخي من حكى هذا فقط غلط، وإنما قال زفر إنه يجوز بنية واحدة.(23/354)
"واستثنى أبو حنيفة" من وقوع نية غير رمضان عن رمضان في رمضان "نية المسافر غيره" أي غير رمضان من واجب آخر من نذر أو كفارة أو قضاء فقال "تقع" نية ذلك الغير "عن الغير" باتفاق الروايات عنه ذكره في الأجناس "لإثبات الشارع الترخص له" أي المسافر بترك الصوم تخفيفا عليه للمشقة "وهو" أي الترخص "في الميل إلى الأخف" عنده من مشروع لوقت وغيره من الواجبات ومن الفطر "وهو" أي الأخف "صوم الواجب المغاير" لمشروع الوقت إذا اختاره بناء على أن إسقاطه من ذمته أهم عنده من إسقاط فرض الوقت؛ لأنه لو لم يدرك عدة من أيام أخر لم يؤاخذ بفرض الوقت، ويؤاخذ بذلك الواجب وأن مصلحة الدين أهم من مصلحة البدن. "وعلى هذا" التوجيه "يقع" المنوي "بنية النفل عن رمضان" إذ لا ترخص بهذه النية؛ لأن الفائدة ليست إلا الثواب وهو في الفرض أكثر فكان هذا ميلا إلى الأثقل فيلغو وصف النفلية ويبقى مطلق الصوم فيقع عن فرض الوقت "وهو رواية" لابن سماعة "عنه" أي أبي حنيفة، وفي الكشف وغيره وهو الأصح، وفي الأجناس ولو صامه بنية التطوع حال سفره في رمضان في المجرد عن أبي حنيفة يكون عن صوم رمضان، وفي نوادر أبي يوسف رواية عن ابن سماعة يكون عن التطوع، وفي مختصر الكرخي وروى ابن سماعة عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه يكون من التطوع "ولأن انتفاء غيره" أي غير فرض الوقت ليس حكم الوجوب فإن الوجوب موجود في الواجب الموسع بل هو "حكم التعيين" أي تعيين هذا الزمان لأداء الفرض. "ولا تعيين عليه" أي المسافر؛ لأنه مخير بين الأداء والتأخير فصار هذا الوقت في حقه "كشعبان فيصح نفله" وواجب آخر عليه كما يصحان في شعبان "وهو رواية" للحسن عن أبي حنيفة أيضا ذكره غير واحد "وهو" أي هذا التوجيه "مغلطة؛ لأن التعيين عليه" أي المكلف "ليس تعيين الوقت ليندرج" التعيين عليه "فيه" أي في تعيين الوقت "وينتفي" التعيين عليه "بانتفائه" أي الوقت "بل معناه" أي التعيين عليه "إلزامه" أي المكلف(23/355)
"صوم الوقت وعدمه" أي إلزامه صوم الوقت "يصدق بتجويز الفطر وتعيين الوقت أن لا يصح فيه" أي في الوقت "صوم آخر فجاز اجتماع عدم التعيين عليه بتجويز الفطر مع تعيين الوقت بأن لا يصح فيه" أي في الوقت "صوم غيره" أي غير فرض الوقت "لو صامه" أي لو نوى صيام غيره. "فلم(23/356)
ص -171-…يلزم من نفي التعيين عليه نفي تعيين الوقت وحقق في المريض تفصيل بين أن يضره" الصوم ككون مرضه حمى مطبقة أو وجع الرأس أو العين "فتعلق الرخصة" بترك صوم فرض الوقت في حقه "بخوف الزيادة" للمرض "فكالمسافر" أي فهذا المريض كالمسافر في تعلق الرخصة في حقه بعجز مقدر لا بحقيقة العجز وعلى هذا يحمل ما مشى عليه صاحب الهداية وأكثر مشايخ بخارى من أن المريض إذا نوى واجبا آخر أو النفل يقع عما نواه كما هو رواية الحسن عن أبي حنيفة "و" بين "أن لا" يضره الصوم "كفساد الهضم" والأمراض الرطوبية "فبحقيقتها" أي فتعلق الرخصة بحقيقة المشقة التي هي العجز "فيقع" ما نواه هذا المريض من الغير "عن فرض الوقت" إذا لم يهلك به؛ لأنه حينئذ يظهر أنه لم يكن عاجزا فلم يثبت له الترخيص فكان كالصحيح وعلى هذا يحمل ما ذهب إليه فخر الإسلام والسرخسي أنه يقع عن فرض الوقت بدليل قول السرخسي. وذكر الكرخي أن الجواب في المريض والمسافر سواء على قول أبي حنيفة وهذا سهو أو مؤول ومراده مريض يطيق ويخاف منه ازدياد المرض ا هـ والقائم بهذا التحقيق صاحب الكشف.(23/357)
قال العبد الضعيف غفر الله تعالى له وعند التحقيق يظهر أن هذا تحقيق يحصل به التوفيق بين ما ذهب إليه كل فريق فإن إجماع من يعتد بإجماعه على أن المرض المبيح للفطر المرض الذي يضر بسببه الصوم صاحبه على اختلاف فيه وأدناه الازدياد أو الامتداد وأعلاه الهلاك وأصحابنا قاطبة على أن الأول هو المناط فالمرض الذي لا يضر بسببه الصوم صاحبه غير مبيح لصاحبه الترخيص بالفطر إجماعا فلا يتفرع على صيام صاحبه بنية واجب آخر أو النفل التردد بين وقوعه عن رمضان أو عما نوى بل يتفرع عليه ما يتفرع على صيام الصحيح بهذه النية؛ لأن من به هذا المرض صحيح بالنسبة إلى الصوم والمرض الذي يضر بسببه الصوم صاحبه مبيح وهذا مما يمكن أن يتفرع على صيامه بنية واجب آخر أو النفل التردد بين وقوعه عن فرض الوقت أو عما نوى بناء على أن المناط عدم القدرة أصلا ولم يتحقق أو وجود اشتداد أو امتداد فيه وقد تحقق وتحمل صاحبه ذلك لغرض له فيه وقد عرفت أن الثاني هو المناط دون الأول. فما رواه الحسن حسن ومن ثمة مشى عليه كثير كخواهر زاده وصاحب الهداية وقاضي خان والولوالجي وأبي الفضل الكرماني وغيرهم نعم لا بأس بأن يؤول قول فخر الإسلام والسرخسي بأن المراد مريض في الجملة لا المريض الذي يباح له الفطر، والله سبحانه أعلم. ثم هذا كله على قول أبي حنيفة، وقالا يقع ما نواه المسافر والمريض من واجب أو نفل عن فرض رمضان كالصحيح المقيم وقد عرفت ما فيه فضلا عمن سواه ممن يباح له الفطر فلا حاجة إلى التطويل بتوجيهه ودفعه، والله تعالى أعلم.
"القسم الثالث" من أقسام الوقت المقيد به الواجب وقت هو "معيار لا سبب كالنذر المعين" أي نذر صوم معين أما كونه معيارا فظاهر. وأما أنه ليس بسبب فلأن السبب النذر(23/358)
ص -172-…"فإدراج" النذر "المطلق والكفارة والقضاء فيه" أي في هذا القسم كما فعل البزدوي والسرخسي وأسلفنا ذكره موجها "غير صحيح؛ لأن الأمر فيها مطلق لا مقيد بالوقت فلا يشترط نية التعيين" له في خروجه عن عهدة النذر "للتعيين شرعا" فيتأدى بمطلق النية ونية النفل إلا في رواية الحسن عن أبي حنيفة على ما في المحيط ولا يتأدى بنية واجب آخر بل يقع فيه عما نوى بلا خلاف بخلاف رمضان؛ لأن ولاية العبد قاصرة فله إبطال ماله وهو صلاحيته للنفل وليس له إبطال ما عليه وهو صلاحيته للواجبات ولله تعالى الولاية المطلقة الكاملة فله إبطال ما للعبد وما عليه فأبطل صلاحيته لغير فرض رمضان نفلا وواجبا وأورد عليه أن التعيين في النذر المعين بإذن صاحب الحق وهو الشارع لإذنه تعالى له بإلزامه على نفسه فينبغي أن يجوز تعديه إلى حقه تعالى أيضا. وأجيب بأنه أذن للعبد في أن يتصرف في حق نفسه لا غير وأورد إذا لم يتعد إلى حق الشارع بقي محتملا لصوم القضاء والكفارة فينبغي أن يشترط التعيين فلا يتأدى بمطلق النية كالظهر عند ضيق الوقت أجيب بأن صوم القضاء والكفارة من محتملات الوقت وأصل المشروع فيه النفل الذي صار واجبا بالنذر وهو واحد فينصرف المطلق إليه وكذا نية النفل بخلاف الظهر المضيق فإن تعين الوقت يعارض التقصير في تأخير الأداء فلا يتعين الوقت بعده له بعدما كان غير متعين له.
قلت ويتمشى البحث السابق للمصنف في أداء رمضان بمطلق النية ونية النفل في أداء هذا بهما أيضا فليتأمل.
"بخلاف ما أدرجوه" من النذر المطلق والكفارة والقضاء فإنه لا بد فيه من التعيين ليلا حتى مطلع الفجر لعدم تعين الزمان لها.(23/359)
"القسم الرابع" من أقسام الوقت المقيد به الواجب وقت "ذو شبهين بالمعيار والظرف" وهو "وقت الحج لا يسع في عام سوى" حج "واحد" فمن هذه الحيثية يشبه المعيار كالنهار للصوم "ولا يستغرق فعله" أي الحج "وقته" أي جميع أجزاء وقته كما يستغرق الصوم النهار ومن هذه الحيثية يشبه الظرف "والخلاف في تعيينه" أي وجوب أدائه "من أول سني الإمكان" أي إمكان أدائه لحصول شرائط وجوب أدائه من الزاد والراحلة وغيرهما "عند أبي يوسف" حتى كان على الفور عنده وكذا عند أبي حنيفة "خلافا لمحمد" حيث قال هو على التراخي إلا إذا غلب على ظنه الفوات إذا أخر فحينئذ لا يحل له التأخير ويصير مضيقا عليه ليس بناء على اختلافهما في أن الأمر المطلق عن الوقت يوجب الفور عند أبي يوسف فأوجب الحج مضيقا بناء عليه ولا يوجبه عند محمد فأوجب الحج موسعا بناء عليه كما ذهب إليه بعض المشايخ كالكرخي. فإن الصحيح الذي عليه عامة المشايخ أنهما متفقان على أن الأمر المطلق لا يوجب الفور بل الخلاف بينهما في الحج "ابتدائي" لدليل لاح لكل منهما فيما ذهب إليه فأبو يوسف قال على الفور "للاحتياط عنده"؛ لأن العام الأول موجود بيقين ولا مزاحم إلا بإدراك العام الثاني وهو مشكوك فيه "لأن الموت في سنة غير نادر" والمشكوك لا يزاحم(23/360)
ص -173-…المتيقن فيتعين العام الأول للأداء تحرزا عن الفوات "فيأثم" بالتأخير عنه "وإلا" لو لم يكن للاحتياط "فموجبه" أي الحج أمر "مطلق" عن الوقت فلا يوجبه على الفور "ولذا" أي الاحتياط "عنده اتفقا" أي أبو يوسف ومحمد "على أنه لو فعل" الحج "بعده" أي أول سني الإمكان "وقع أداء"؛ لأنا إنما قلنا بتعيينه للأداء للشك في إدراك العام الثاني فإذا أدركه زال الشك وحصل اليقين بكونه من عمره ووقع الأمن من الفوات وسقط العام الأول وتعين الثاني للأداء وكذا الحكم في كل عام ولو كان الفور متعينا قطعا للدليل القطعي على تعينه لكان قضاء عند القائل بأنه للفور لفواته عن وقته المتعين له بالدليل القطعي. "وتأدى فرضه" أي حجة الإسلام "بإطلاق النية" للحج "لظاهر الحال" أي حال المكلف الواجب عليه الحج فإن الظاهر منه أنه لا يتحمل المشاق الكثيرة لغيره لما فيه من براءة الذمة وكثرة الثواب "لا" أن تأديه بمطلقها "من حكم الإشكال" أي كون الوقت مشكلا لشبهه بالظرف وبالمعيار "ولذا" أي ولكون التأدي بها لظاهر الحال "يقع" حجه "عن النفل إذا نواه" أي النفل "لانتفاء الظاهر" بالتصريح بخلافه لرجحان الصريح عليه "وقد يبنيان" أي تأدى فرضه بمطلقها ووقوعه عن النفل إذا نواه "على الشبهين" شبه المعيار وشبه الظرف "فالأول" أي تأديه بمطلقها "لشبه المعيار" إذ من شأن المقيد بالوقت الذي هو معيار للواجب شرعا إصابته بمطلق النية كما تقدم في الصوم. "والنفل للظرف"؛ لأن من شأن ما كان ظرفا للواجب أن يصح وقوع النفل فيه كوقت الصلاة والباني لصحة النفل على شبه الظرف عامة أهل المذهب ولم أقف على بناء وقوعه عن فرضه بمطلق نيته على شبهه بالمعيار لغير المصنف وهو أولى من بنائه على ظاهر الحال كما ذكروه؛ لأنه كما قال "ولا يخفى عدم ورود الدليل وهو ظاهر الحال على الدعوى" وهي "تأديه بنية المطلق، وإنما يستلزم" الدليل المذكور "حكم الخارج" أي غير الناوي "عليه" أي الحاج(23/361)
"بأنه" أي الحاج "نوى الفرض لا" أنه يستلزم "سقوطه" أي الفرض "عنه" أي عن الحاج "عند الله إذا نوى الحج مطلقا في الواقع" وليس الكلام إلا في هذا على أنه كما قيل يشكل أيضا بما إذا لم يبق من وقت الصلاة إلا القدر الذي يسعها فإن في هذه الصورة يشترط نية التعيين ولا يتأدى بمطلق النية مع وجود دلالة الحال فإن المسلم لا يشتغل بأداء النفل مع تفويت الفرض فظهر أن بناءه على شبه المعيار كما لحظه المصنف أقرب، والله سبحانه أعلم.
مسألة
"الأمر بواحد" أي إيجاب واحد مبهم "من أمور معلومة صحيح" عند جمهور الفقهاء والأشاعرة واختاره الآمدي وابن الحاجب فيكون الواجب بذلك الأمر الواحد المبهم ويعرف بالواجب المخير "كخصال الكفارة" أي كفارة اليمين فإن قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] في قوة الأمر بالإطعام فيفيد إيجابه وقد عطف الكسوة والتحرير عليه فيقتضي إيجابهما أيضا فيكون كل منها واجبا على البدل لا الجمع لاقتضاء أو ذلك "وقيل" أي وقال بعض المعتزلة هو "أمر بالجميع ويسقط" وجوب الجميع "بفعل البعض وقيل" أي، وقال بعضهم أيضا أمر "بواحد معين عنده تعالى" دون المكلفين "وهو" أي الواحد(23/362)
ص -174-…المعين "ما يفعل كل" منهم "فيختلف" المأمور به بالنسبة إليهم ضرورة أن الواجب على كل ما اختاره ولا شك في اختلاف اختياراتهم. "وقيل لا يختلف" المأمور به باختلاف المفعول لهم "ويسقط" المأمور به "به" أي بالمأمور به "وبغيره" أي غير المأمور به منها ويسمى هذا القول التراجم؛ لأن الأشاعرة ترويه عن المعتزلة والمعتزلة عن الأشاعرة ذكره في المحصول وتعاضد الفريقان على إفساده فإذا لا يسوغ نقله عن أحدهما كما قاله السبكي بل قال والده لم يقل به قائل "ونقل" وجوب "الجميع على البدل" كما هو لازم ما تقدم من أنه أمر بالجميع ويسقط بالبعض ونقله غير واحد "لا يعرف ولا معنى له إلا أن يكون" هو "المختار" بناء على اعترافهم بأن تاركها جميعا لا يأثم إثم من ترك واجبات ومقيمها جميعا لم يثبت له ثواب واجبات كما ذكره الإمام في البرهان عن البهشمية فيكون الخلاف لفظيا وقد مشى عليه غير واحد أما على أن تاركها يأثم إثم من ترك واجبات والآتي بها يثبت له ثواب واجبات كما هو منقول عن بعضهم فالخلاف بينه وبين المختار ظاهر. "لنا القطع بصحة أوجبت أحد هذه" الأمور "فإنه" أي قوله هذا "لا يوجب جهالة مانعة من الامتثال لحصول التعيين بالفعل" لمعين منها "وتعلق علمه تعالى بما يفعل كل" من المكلفين "لا يوجبه" أي مفعول كل "عينا على فاعله بل" يوجب "ما يسقط" به الوجوب من مفعول كل من الأمور المخير فيها إذ كان فردا من أفراد الواحد الدائر بينها المأمور به لا باعتبار خصوص ذلك المفعول "ولا يلزم اتحاد الواجب والمخير فيه بين الفعل والترك؛ لأن الواجب" الواحد "المبهم" منها "لا على معنى بشرط الإبهام" فيه بل بمعنى أنه "لا يعينه الموجب" وهو الله تعالى والحاصل أن الواجب مفهوم الواحد الدائر بين المعينات والمخير فيه ما صدق عليه ذلك المفهوم وهو كل واحد من المعينات فالوجوب لم يتعلق بمعين، والتخيير لم يقع في مبهم وإلا لجاز تركه وهو بترك الكل وهو باطل.(23/363)
"فلذا" أي لكون الواجب هو الواحد المبهم "سقط" الوجوب "بالمعين" منها "لتضمنه" أي المعين "مفهوم الواحد" المبهم.
تتمة: ثم على قول الجمهور إذا كان في الكل ما هو أعلى ثوابا وعقابا وما هو أدنى كذلك ففعل المكلف الكل فقيل المثاب عليه ثواب الواجب الأعلى؛ لأنه لو اقتصر عليه لأثيب عليه ثواب الواجب فضم غيره إليه معا أو مرتبا لا ينقضه، وإن ترك الكل وعوقب عوقب على أدناها عقابا؛ لأنه لو فعله فقط لم يعاقب، وإن تساوى الكل فثواب الواجب والعقاب على واحد منها فعلت معا أو مرتبة وقيل في المرتب الواجب ثوابا أولها تفاوتت أو تساوت لتأدي الواجب به قبل غيره ويثاب ثواب المندوب على كل، وغير خاف أن هذا كله بناء على أن محل ثواب الواجب والعقاب على تركه أحدها من حيث خصوصه الذي يقع نظرا إلى تأدي الواجب به وإلا فالتحقيق على قول الجمهور أنه يثاب ثواب الواجب على مسمى أحدها من حيث إنه أحدها لا من حيث ذلك الخصوص وإلا كان من تلك الحيثية واجبا حتى إن الواجب ثوابا في المرتب أولها من حيث إنه أحدها لا من حيث خصوصه وكذا يقال في كل من الزائد على ما يتأدى به الواجب منها إنه يثاب عليه ثواب المندوب من حيث إنه أحدها لا من حيث خصوصه، والله تعالى أعلم.(23/364)
ص -175-…"مسألة الواجب على الكفاية"
وهو مهم متحتم مقصود حصوله من غير نظر بالذات إلى فاعله فتناول ما هو ديني كصلاة الجنازة ودنيوي كالصنائع المحتاج إليها وخرج المسنون؛ لأنه غير متحتم وفرض العين؛ لأنه منظور بالذات إلى فاعله حيث قصد حصوله من عين مخصوصة كالمفروض على النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته أو من كل عين عين أي واحد واحد من المكلفين واجب "على الكل ويسقط" الوجوب عنهم "بفعل البعض" هذا قول الجمهور وهو المختار عند المصنف ثم المراد بالكل الكل الإفرادي وقيل المجموعي إذ لو تعين على كل أحد لكان إسقاطه عن الباقين رفعا للطلب بعد تحققه وهو إنما يكون بالنسخ وليس بنسخ اتفاقا بخلاف الإيجاب على الجميع من حيث هو فإنه لا يستلزم الإيجاب على واحد ويكون التأثيم للجميع بالذات ولكل واحد بالعرض وأجيب بمنع كون سقوط الطلب بعد تحققه إنما يكون بالنسخ فإنه قد يكون لانتفاء علة الوجوب كحصول المقصود من الفعل هنا. فيكون أمارة على سقوط الواجب من غير نسخ لانتفاء الطريق الشرعي المتراخي الذي يثبت به النسخ، ثم كما في المنهاج فإن ظن كل طائفة أن غيره فعل سقط عن الكل، وإن ظن أنه لم يفعل وجب أي على كل ثم كما قال الإسنوي، وإن ظنت طائفة قيام غيرها به وظنت أخرى عكسه سقط عن الأولى ووجب على الثانية "وقيل" واجب "على البعض" وهو قول الإمام الرازي واختاره السبكي، ثم المختار على هذا أي بعض كان كما هو المشهور إذ لا دليل على أنه معين فمن قام به سقط الوجوب بفعله وقيل من قام به لسقوطه بفعله وقيل معين عند الله دون الناس يسقط الواجب بفعله وبفعل غيره كما يسقط الدين عن المدين بأداء غيره عنه "لنا أثم الكل بتركه" اتفاقا ولو لم يكن واجبا عليهم لما أثموا.
"قالوا" أي القائلون بأنه على البعض أولا "سقط" الوجوب "بفعل البعض" ولو كان على الكل لما سقط إذ من المستبعد سقوط الواجب عن المكلف بفعل غيره.(23/365)
"قلنا" لا استبعاد "لأن المقصود وجوب الفعل لا ابتلاء كل مكلف" كما في فرض العين وقد وجد "كسقوط ما على زيد" من الدين الضامن عمرو إياه عنه "بفعل عمرو" أي بأدائه عنه اتفاقا لحصول الغرض به وقيدنا بالضمان؛ لأن فيه أداء ما يجب في ذمة المؤدي وإسقاط ما في ذمة غيره كما في محل النزاع بخلاف أداء عمرو وما في ذمة زيد غير ضامن له فإن الخصم بما قال لما لم يكن أداؤه واجبا عليهم لم يبعد أن يكون الإتيان به لإسقاط ما يجب على الغير.
"قالوا" ثانيا "أمر واحد مبهم كواحد مبهم" فكما جاز الثاني أعني المكلف به المبهم من أمور معينة بإلغاء الإبهام فيه جاز الأول أعني المكلف المبهم بإلغاء الإبهام فيه.
"أجيب بالفرق بأن إثم" مكلف "مبهم غير معقول" بخلاف تأثيم المكلف بترك أحد أمور معينة مبهما فإنه معقول فالإبهام في المأمور مانع، وفي المأمور به غير مانع. أي قال(23/366)
ص -176-…الشيخ سعد الدين التفتازاني وهذا إنما يصح لو لم يكن "مذهبهم" أي القائلين بالوجوب على البعض "إثم الكل" بسبب ترك البعض "لكن قول قائله" أي الوجوب على البعض "إنه" أي الوجوب "يتعلق بمن غلب على ظنه أنه" أي الواجب "لن يفعله غيره فإن ظنه" أي عدم الفعل "الكل عمهم" الوجوب "وإن خص" ظن عدم الفعل البعض "خصه" أي ذلك البعض الظان "الإثم" على تقدير الترك وحينئذ "فالمعنى" المكلف بالوجوب بعض "غير معين وقت الخطاب؛ لأنه" أي المكلف "لا يتعين" للوجوب عليه "إلا بذلك الظن" وهو ظن أن لن يفعله غيره "ولو لم يظن" هذا الظن أحد "لا يأثم أحد ويشكل" هذا حينئذ "ببطلان معنى الوجوب" فإن لازمه الإثم على تقدير الترك فإذا انتفى انتفى الملزوم الذي هو الوجوب. "وقد يقال" في الجواب عن هذا "إنما يبطل" الوجوب "لو كلف" المكلف بالواجب المذكور "مطلقا" أي سواء ظن أن لن يفعل غيره أو لا "أما" لو كلف "الظان" أن لن يفعل غيره فقط "فلا" يبطل معنى الوجوب؛ لأنه لا تكليف به عند انتفاء الظن حينئذ نعم الشأن في أن هؤلاء القائلين بوجوبه على البعض قائلون به على الوجه الذي ذكره المصنف وقد ذكر بعضهم أن على قول هؤلاء من ظن أن غيره لم يفعله وجب عليه ومن لا فلا "والحق أنه" أي القول بوجوبه على البعض "عدول عن مقتضى الدليل" الدال على وجوبه على الكل "كقاتلوا الذين لا يؤمنون ونحوه بلا ملجئ" للعدول عنه "لما حققناه" من أنه واجب على الكل.
"قالوا" ثالثا "قال تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ}". فصرح بالوجوب على طائفة غير معينة من الفرقة بواسطة لولا الداخلة على الماضي الدالة على التنديم واللوم.(23/367)
"قلنا" هذا مؤول "بالسقوط" للوجوب عن الجميع "بفعلها" أي الطائفة من الفرقة "جمعا بين الدليلين" أي هذا ودليلنا الدال على الوجوب على الجميع على وجه يرتفع التنافي الظاهر بينهما؛ لأنه أولى من إلغاء هذا؛ لأن دليلنا كما أنه لا يلغى لا يحتمل التأويل بخلاف هذا فإنه يحتمل التأويل.
"واعلم أنه إذا قيل صلاة الجنازة واجبة" أي فرض "على الكفاية" كما صرح به غير واحد من الحنفية والشافعية وحكوا الإجماع عليه "فقد يستشكل بفعل الصبي" المميز كما هو الأصح عند الشافعية.
"والجواب" عن هذا "بما تقدم" من أن المقصود الفعل وقد وجد "لا يدفع الوارد من لفظ الوجوب" فإنه لا وجوب على الصبي ولا يحضرني هذا منقولا فيما وقفت عليه من كتب المذهب، وإنما ظاهر أصوله عدم السقوط كما هو غير خاف، والله سبحانه أعلم.
مسألة
"لا يجب شرط التكليف اتفاقا كتحصيل النصاب" للتكليف بوجوب الزكاة "والزاد" أي وتحصيله لوجوب الحج "وأما ما يتوقف عليه الواجب" المأمور به مطلقا من حيث كونه له "سببا عقلا كالنظر" المحصل "للعلم" الواجب كما ذكر الإسنوي "وفيه" أي كون النظر سببا(23/368)
ص -177-…عقليا للعلم "نظر" بل هو سبب عادي له فإن استعقاب النظر العلم بخلقه تعالى بطريق إجراء العادة عند الحنفية والأشاعرة "أو" من حيث كونه سببا له "شرعا كالتلفظ" بما يفيد العتق "للعتق أو" من حيث كونه سببا له "عادة كالأول" أي النظر للعلم "وحز العنق" للقتل "أو" من حيث كونه له "شرطا عقلا كترك الضد" أي جنسه للواجب "أو" من حيث كونه شرطا له "عادة كغسل جزء من الرأس" كغسل الوجه "أو" من حيث كونه شرطا له "شرعا" كالوضوء للصلاة. "فالحنفية والأكثر واجب به" أي بالإيجاب لذلك الواجب "وقيل في الشرط الشرعي" أي واختار ابن الحاجب وصاحب البديع أن المقدور للمكلف الذي يتوقف عليه الواجب من حيث إنه شرط شرعي له يجب بوجوبه وإلا فلا "وقيل" ما يتوقف عليه الواجب لا يجب بوجوبه سواء كان مقدورا للمكلف أو لا "لا في الشرط وغيره فيخطئان" أي هذان القولان "للاتفاق على الأسباب" أي على أن إيجاب المسبب إيجاب لتحصيل سببه المستلزم له "إلا أن يقال التعلق" للإيجاب إنما هو "بها" أي بالأسباب ابتداء "فالأمر بالقتل والعتق يتعلق بالحز" للعنق ونحوه "والتلفظ" بصيغة العتق "ابتداء" لا بنفي الحياة ولا بإزالة الرق "إذ لا تعلق بغير المقدور"؛ لأن التكليف لا يكون إلا بمقدور لنا والمسببات قد لا تكون مقدورة لنا كهذه بخلاف مباشرة الأسباب فإنها في وسع المكلف فالأمر المتعلق ظاهرا بالمسبب متعلق في الحقيقة بالسبب وهو الواجب حقيقة. وإن كان وسيلة إلى المسبب ظاهرا فحينئذ لا يكون القولان من هذا القبيل خطأ "ولا بد من قيد به" في قولهم ما يتوقف عليه الواجب واجب "وإلا" لو لم يكن مرادا "لزم الكفر"؛ لأن المتبادر من إطلاقه الواجب لذاته وهو ليس إلا الله رب العالمين مع أنه ليس المراد من هذا الإطلاق قطعا "للأكثر لو لم يجب" ما يتوقف عليه الواجب من الأقسام الماضية "بقي جواز الترك" للشرط "دائما ولازمه" أي جواز الترك له دائما "جواز ترك ما لا يتأتى" الواجب(23/369)
"بدونه وهو" أي جواز ترك ما لا يتأتى الواجب بدونه "مناف لوجوبه" أي الواجب "في وقت" فإن جواز ترك ما لا يتأتى هو إلا به يستلزم جواز ترك الواجب نفسه ضرورة أنه لا يتحقق الواجب إلا به "أو" لازمه "جواز فعله" أي الواجب الذي هو المشروط "دونه" أي الشرط؛ لأنه يصدق حينئذ أنه أتى بجميع ما أمر به فتجب صحته "فما فرض شرطا ليس شرطا" موقوفا عليه حينئذ. وهو باطل؛ لأنه موقوف عليه بالفرض "ولا يخفى منع الملازمة" أي لا نسلم أنه يلزم من عدم وجوب ما يتوقف عليه الواجب بإيجاب الواجب جواز الترك لجواز وجوبه بغيره "وإنما يجوز الترك لو لم يجب" ما يتوقف عليه الواجب "مطلقا" أما إذا كان واجبا مطلقا كما نحن قائلون به فلا "واستدلالهم" أي الأكثرين "بالإجماع على" وجوب "التوصل" إلى الواجب ولو لم يجب ما لا يتم الواجب إلا به لما وجب التوصل إلى الواجب إذ لا معنى له إلا الإتيان بجميع ما يتوقف عليه "في غير" محل "النزاع؛ لأن الموجب حينئذ" أي حين الاستدلال بالإجماع على أن الموصل إلى الواجب واجب "غير موجب الأصل" الذي هو الواجب الأصلي فإن موجبه الأمر وموجب ما يتوقف عليه الإجماع "وإذن لا حاجة للنافي" لوجوب ما يتوقف عليه الواجب بإيجابه في غير الشرط الشرعي كابن(23/370)
ص -178-…الحاجب وصاحب البديع "إلى الجواب بتخصيص الدعوى بغير الأسباب" كما فعلاه. "واستدلاله" أي النافي "لو وجب" ما يتوقف عليه الواجب بإيجاب الواجب "امتنع التصريح بنفي وجوبه" أي ما يتوقف عليه الواجب لمناقضته له والقطع بصحة إيجاب غسل الوجه ونفي إيجاب غسل غيره "إن أراد" بامتناع التصريح بنفي وجوبه "نفي وجوبه به" أي بإيجاب الواجب "فنفي التالي" الذي هو امتناع التصريح بنفي وجوبه "عين النزاع أو" نفي وجوبه "مطلقا نفينا الملازمة" أي منعناها وهو ظاهر "وكذا قوله" أي النافي "وصح قول الكعبي في نفي المباح"؛ لأن فعل الواجب وهو ترك الحرام لا يتم إلا بالمباح فيجب المباح وهو باطل عليه منع الملازمة وكذا قول النافي "ووجب نية المقدمة"؛ لأنها حينئذ عبادة شرعية واجبة فتجب به "ومعناه" أي وجوب نية المقدمة أنها تجب فيها "كما لو وجب" ما يتوقف عليه الواجب الذي هو المقدمة "بغيره" أي غير الواجب فإن النية تجب فيه لكن وجوبها في المقدمة ممنوع بل يكفي في صحة العمل نية الواجب دون مقدمته عليه منع الملازمة. "وإنما يلزمان" أي نفي المباح ووجوب نية المقدمة "لو تعين" المباح للامتثال "أو شرع" ما يتوقف عليه "عبادة لكنه" أي الامتثال "يمكن بغيره" أي المباح "ونلتزمه" أي وجوب النية "في مقدمة هي عبادة" لا مطلقا "وكذا قوله" أي النافي "لو كان" ما يتوقف عليه الواجب واجبا "لزم تعقله" أي ما يتوقف عليه الواجب "للآمر" لامتناع إيجاب الشيء بدون تعقله "والقطع بنفيه" أي نفي لزوم تعقله؛ لأن الآمر بالشيء قد يذهل عما يتوقف عليه ذلك الشيء عند الأمر به "ممنوع الملازمة بأنه" أي لزوم تعقل الموجب إنما هو "في الواجب أصالة" أما في إيجاب الشيء بتبعية غيره فلا فإن قيل لو وجب ما يتوقف عليه الواجب بإيجاب الواجب للزم وجوبه بلا تعلق الخطاب به وهو ممنوع؛ لأن كل ما تعلق به الخطاب حتما فهو واجب وما لا فلا لدخول التعلق المذكور في حقيقة الوجوب. وهذا مما(23/371)
أورده النافي أيضا دليلا على نفي قول الأكثرين فجوابه ما أشار إليه بقوله "ولزوم الوجوب" لما يتوقف عليه الواجب "بلا تعلق" للخطاب به "ممنوع لما نذكر" قريبا "فإن دفع" هذا المنع "بأن المراد" بأنه لم يتعلق به خطاب الواجب إن دليله غير دال عليه "إذ لو دل" دليله عليه "لعقل" لامتناع إيجاب الشيء بدون تعقله "وإذ لم يعقل لم يدل فلا إيجاب به" أي بدليل الواجب "ووجوبه" أي ما يتوقف عليه الواجب "بغيره" أي غير دليل الواجب "ليس الكلام فيه قلنا وهو الدليل الحق للأكثر إن الدلالة على" اصطلاح "الأصوليين لا تختص باللوازم البينة بالأخص" أي بالمعنى الأخص وهو كون اللازم يحصل في الذهن كلما حصل الملزوم بل بالمعنى الأعم وهو كونه حاصلا للملزوم كلما تعقلا ولا شك في دلالة دليل الواجب عليه بهذا النوع من الدلالة. "وتقدم في مفهوم الموافقة أن دلالته" أي مفهومها "قد تكون نظرية ويجري فيها الخلاف" فلا بعد في كون دليل الواجب موجبا لما يتوقف عليه بطريق الدلالة بل كما قال "فعلى ما علم مقدمة مما هي" أي المقدمة "له أظهر" أي فدلالة اللفظي للواجب على وجوب ما علم مقدمة لمدلوله بحيث يتوقف هو عليها وهو اللفظ الملزم لما له تلك المقدمة كدلالة صل على طلب ما عرف مقدمة(23/372)
ص -179-…يتوقف عليها الصلاة من طهارة وغيرها التزاما بالمعنى الأعم أظهر من دلالته على وجوب الأصل لتوقف تحقق الأصل عليه وعدم توقف تحققه على الأصل "وفرع عليه" أي وجوب المقدمة بوجوب الأصل كما في المنهاج وغيره "تحريم الزوجة إذا اشتبهت بالأجنبية"؛ لأن الكف عن الأجنبية واجب ولا يحصل العلم به إلا بالكف عن الزوجة فيجب الكف عنها ليتيقن الكف عن الأجنبية والله تعالى أعلم.
مسألة
"يجوز تحريم أحد أشياء" معينة "كإيجابه" أي أحد أشياء معينة إلا أن التخيير هنا في التروك وهناك في الأفعال "فله" أي المكلف هنا "فعلها" أي الأشياء "إلا واحدا لا جمعها" أي الأشياء "فعلا" لئلا يكون فاعلا للمحرم بخلافه ثمة فإن له هناك أن يأتي بالجميع وبالبعض دون البعض كما عرف "وفيها" أي هذه المسألة من الأقوال "ما تقدم" في الواجب المخير حتى قيل فيقال على قياسه النهي عن واحد مبهم من أشياء معينة، نحو لا تتناول السمك أو اللبن يحرم واحد منها لا بعينه. وقيل يحرم جميعها فيعاقب بفعلها عقاب فعل محرمات ويثاب بتركها امتثالا ثواب ترك محرمات ويسقط تركها الواجب بترك واحد منها وقيل المحرم واحد منها معين عند الله ويسقط الواجب بتركه أو ترك غيره منها وقيل المحرم ما يختاره المكلف للترك منها بأن يتركه دون غيره. وإن اختلف باختلاف اختيار المكلفين وعلى الأول إن تركت كلها امتثالا أو فعلت وهي متساوية أو بعضها أخف عقابا وثوابا فقيل ثواب الواجب والعقاب في المتساوية على ترك وفعل واحد منها وفي المتفاوتة على ترك أشدها وقيل أخفها سواء فعلت معا أو مرتبا وقيل العقاب في المرتب على فعل آخرها تفاوتت أو تساوت لارتكاب الحرام به ويثاب ثواب المندوب على ترك كل من غير ما ذكر تركه لثواب الواجب والتحقيق أن الثواب الواجب والعقاب على ترك وفعل أحدها من حيث إنه أحدها حتى إن العقاب في المرتب على آخرها من حيث إنه أحدها ويثاب ثواب المندوب على ترك كل من غير ما يتأدى(23/373)
بتركه الواجب منها من حيث إنه أحدها، ثم تزيد هذه المسألة على الواجب المخير بأن بعض المعتزلة زعم أنه لم يرد في اللغة النهي عن واحد مبهم من أشياء معينة كما ورد فيها الأمر بواحد مبهم من أشياء معينة ورد بالمنع حتى إنه لولا الإجماع على النهي عن طاعة الجميع في قوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الانسان: 24] لم تحمل الآية على ذلك. "فتفريع تحريم الكل" أي زوجاته "في قوله لزوجاته إحداكن طالق" على هذا الأصل وهو جواز تحريم أحد أشياء معينة "مناقضة لهذا الأصل" فإن من حكمه أن له فعلها إلا واحدا فتحريم الكل مناف له "بخلاف" تحريم الزوجة في "الاشتباه" بأجنبية فإنها إنما "حرمت الزوجة لاحتمالها" أي الزوجة "المحرمة احتياطا ولا احتمال في الواحدة الموطوءة هنا؛ لأن موجبه" أي إحداكن طالق "ترك واحدة وقد فعل" إذا وطئهن إلا واحدة "إلا أن يعين" إحداهن للطلاق "وينسى" المعينة "فكالاشتباه" أي فيحرمن احتياط الاحتمال أن يكون كل منهن المحرمة.(23/374)
ص -180-…وبعد أن عبر في المحصول عن هذا الفرع بإحداكما طالق قال فيحتمل أن يقال ببقاء حل وطئهما؛ لأن الطلاق شيء معين فلا يحصل إلا في محل معين فإذا لم يعين لا يكون الطلاق واقعا بل الواقع أمر له صلاحية التأثير في الطلاق عند التعيين ومنهم من قال حرمتا جميعا إلى وقت البيان تغليبا لجانب الحرمة وجزم البيضاوي بهذا تفريعا على وجوب المقدمة التي يتوقف عليها العلم بالإتيان بالواجب.
مسألة
"لا يجوز في الواحد بالشخص والجهة وجوبه وحرمته بإطباق مانعي تكليف المحال وبعض المجيزين" له "لتضمنه" أي جواز اجتماع الوجوب والحرمة فيه "الحكم بجواز الترك وعدمه" أي جواز الترك؛ لأن جواز الفعل بمعنى الإذن فيه جنس للأحكام الأربعة غير الحرام، والنوع متضمن لجنسه فيلزم من وجوب الفعل كون الشارع آذنا فيه ومن حرمته كونه غير آذن فيه كما يلزم كونه طالبا لتركه غير طالب له وهو تكليف محال ممتنع بالاتفاق بخلاف التكليف بالمحال فإن جوازه مختلف فيه ويجوز في الحقيقة الواحدة جنسا وقد يقال نوعا أن يكون فرد منها واجبا وفرد منها حراما إذ لا مانع من ذلك وقد قال تعالى: {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} [فصلت: 37] ومنع بعض المعتزلة القائلين بأن الفعل يحسن ويقبح لذاته هذا بأن حقيقة الحسن منافية لحقيقة القبح فلو اجتمعا في فعل واحد لزم أن يكون حقيقة واحدة وهي ذات الفعل مقتضية لمتنافيين ممنوع لجواز أن يكون حقيقة الفعل مقولة على آحادها بالتشكيك ولا تكون مقتضية لواحد منها ويكون بعض آحادها مقتضيا للحسن وبعضها للقبح وقولهم الوجوب والتحريم متعلقان في السجود بقصد التعظيم لا بالسجود فما كان لله فهو واجب وما كان للمخلوق فهو حرام فبعد أنه تخصيص للدعوى بأفعال الجوارح لا يجديهم نفعا؛ لأن الجنس وهو قصد التعظيم واحد، ثم هو مخالف للإجماع لانعقاده قبل ظهور المخالف على أن الساجد للشمس عاص بنفس السجود(23/375)
والقصد جميعا كما ذكر الغزالي. ومنع بعض القائلين منهم بأن الفعل يحسن ويقبح بالأوصاف والإضافات وهذا باستلزامه الجمع بين الضدين مردود بأن اختلاف الأوصاف والإضافات يوجب التغاير فيكون متعلق الوجوب مغايرا لمتعلق الحرمة فلا محال ولا يجوز في الواحد الشخصي ذي الجهتين المتلازمتين وجوبه وحرمته باعتبارهما وإلا لزم وقوع الأمر والنهي عن ذات واحدة من جهة واحدة؛ لأن الأمر بالشيء أمر بما لا يتم ذلك الشيء إلا به.
"ويجوز في" الواحد الشخصي "ذي الجهتين" الغير المتلازمين وجوبه وحرمته فيجب بإحداهما ويحرم بالأخرى "كالصلاة في" الأرض "المغصوبة عند الجمهور" فتجب لكونها صلاة وتحرم لكونها غصبا "خلافا لأحمد وأكثر المتكلمين والجبائي" فقالوا "فلا يصح" الصلاة "فلا يسقط الطلب وللقاضي أبي بكر" فقال "لا يصح" الصلاة "ويسقط" الطلب "لنا القطع فيمن أمر بخياطة لا في مكان كذا فخاط فيه" أي في ذلك المكان "إنه مطيع عاص(23/376)
ص -181-…للجهتين" أي مطيع لجهة الأمر بالخياطة عاص لجهة النهي عن فعلها في ذلك المكان فكذا فيما نحن فيه يكون مطيعا من جهة أنه صلاة عاصيا من جهة أنه غصب "ولأنه" أي اجتماع الوجوب والحرمة "لو امتنع فلاتحاد المتعلق" أي متعلقهما "والقطع بالتعدد" هنا "فإن متعلق الأمر الصلاة و" متعلق "النهي الغصب جمعهما" أي المتعلقين "مع إمكان الانفكاك" بينهما لجواز وجود أحدهما بدون الآخر. "وأيضا لو امتنع" الجمع بينهما "امتنع صحة صوم مكروه وصلاة" مكروهة؛ لأن الوجوب كما يضاد التحريم يضاد الكراهة فلو لم يثبت مع التحريم لما ثبت مع الكراهة إذ لا مانع إلا التضاد واللازم باطل لثبوت كراهة كثير من صوم وصلاة شرعا "ودفعه" أي هذا الدليل كما ذكر ابن الحاجب وغيره "باتحاد متعلق الأمر والنهي هنا" أي في الصلاة في الأرض المغصوبة "وهو" أي متعلقهما "الكون في الحيز" وهو حصول الجوهر في حيزه لأنه جزء من الصلاة المأمور بها ونفس الغصب المنهي "بخلاف المكروه" من الصوم والصلاة "فإن فرض" المكروه "كذلك" أي أن متعلق الأمر والنهي فيه متحد "منع صحته" أي المكروه "وإلا" أي، وإن لم يفرض اتحاده "لم يفد" ثبوت المكروه ثبوت المطلوب أي كانت الملازمة ممنوعة إذ لا يلزم من الصحة في الصلاة المكروهة التي النهي فيها راجع إلى وصف منفك عن نفس الصلاة موجب لعدم اتحاد المتعلق؛ لأن الأمر راجع إلى نفس الفعل والنهي إلى عرض مفارق الصحة في الصلاة في الأرض المغصوبة التي النهي فيها راجع إلى ما هو ذاتي فيها موجبا لاتحاد متعلق الأمر والنهي؛ لأنهما راجعان إلى الكون وهو أمر واحد، ثم قوله ودفعه مبتدأ خبره "يناقض جوابهم الآتي" وسننبهك عليه. "بل ليس فيهما" أي في الصلاة في الأرض المغصوبة والمكروه من صوم أو صلاة "تحتم منع" قطعي "فلا ينافي" المنع منهما "الصحة" لهما "فالمانع" من الجمع بينهما في واحد شخصي ذي جهتين "خصوص تضاد" وهو المنع الحتم القطعي عن الشيء والأمر به(23/377)
"لا مطلقه" أي التضاد "والاستدلال" للمختار. "لو لم تصح" الصلاة في الأرض المغصوبة "لم يسقط" التكليف بها "وهو" أي عدم سقوطه "منتف" قال القاضي "للإجماع السابق" على وجود أحمد ومن معه على سقوطه فالصلاة صحيحة ثم الاستدلال مبتدأ خبره "دفع بمنع صحة نقله" أي الإجماع كما قال إمام الحرمين وغيره لمخالفة أحمد فإنه لو كان إجماعا لعرفه؛ لأنه أقعد بمعرفته من القاضي لكونه أقرب زمانا من السلف ولو عرفه لما خالفه فكان خلافه مظهرا لعدم الإجماع لا موجبا له ويؤيده أنه قد كان من السلف متعمقون في التقوى يأمرون بالقضاء واندفع قول الغزالي: الإجماع حجة على أحمد "قالوا" أي القاضي والمتكلمون "لو صحت" الصلاة في الأرض المغصوبة "كان" كونها صحيحة "مع اتحاد المتعلق" للأمر والنهي "لأن الصلاة حركات وسكنات وهما" أي الحركات والسكنات "شغل حيز" فهما مأمور بهما "وشغله" أي الحيز ظلما "الغصب" وهو منهي عنه "أجيب بأنه" أي متعلقهما واحد لكن "بجهتين فيؤمر به باعتبار أنه صلاة وينهى عنه؛ لأنه غصب" فهو إذا متعدد بالاعتبار، وإن اتحد بالذات وهذا هو الجواب الذي ذكر المصنف أن ما تقدم من الدفع يناقضه. "وألزم" على القول بصحة الصلاة في الأرض المغصوبة بناء على أن(23/378)
ص -182-…تعدد الجهة كاف "صحة صوم" يوم "العيد" لكون صومه مأمورا به من حيث هو صوم منهيا عنه من حيث إنه في يوم العيد "والجواب بتخصيص الدعوى بما يمكن فيه انفكاكهما" أي إنما نقول بجواز اتحاد المتعلق عند جواز انفكاك الجهتين يعني بأن لا تتلازم جهتا الوجوب والتحريم كما هو في الخلافية فإن كلا من جهة الصلاتية والغصبية لا تستلزم الأخرى فتتحقق صلاة ولا غصب ولو في بعضها بلحوق الإذن وغصب ولا صلاة بخلاف صوم يوم العيد فإن المجوز وهو جهة كونه صوما لا ينفك عن كونه في العيد؛ لأن لحوق الإذن فيه لا يكون إلا لله تعالى وتعذر ذلك بتعذر النسخ بعده صلى الله عليه وسلم ذكره المصنف، ثم هذا بناء على أن النهي عن الصلاة في الأرض المغصوبة نهي تنزيه والأوجه أنه نهي تحريم وحينئذ فالجواب كما قال "وبأن نهي التحريم ينصرف إلى العين" أي عين المنهي عنه فيفيد عدم الصحة فيجب القول به "إلا لدليل" يفيد خلافه. "وقد وجدت إطلاقات في الصلاة" في الأرض المغصوبة "أوجبته" أي النهي "لخارج" أي لوصف خارج عن الذات وهي الآيات المطلقة في وجوب الصلاة من غير تقييد بمكان "وإجماع غير أحمد" على صحتها "لا في الصوم" أي بخلاف صوم يوم العيد فإنه لم يقم دليل صارف عن ظاهر بطلانه بل وقع الاتفاق على ذلك كذا ذكر الشيخ سعد الدين التفتازاني قال المصنف "ولا يخفى ما فيه" أي في الفرق المذكور فإنه وجد في الصوم إطلاقات أيضا ففي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" وفيهما أيضا عنه صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد يصوم يوما في سبيل الله إلا باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا" إلى غير ذلك من غير تقييد بكونه غير يوم العيد وإذا ثبت طلبه مطلقا، وإن كان ندبا لزم أنه إذا نهى عنه في وقت كصوم يوم العيد كان النهي لغيره وهو الإعراض عن ضيافة الله تعالى فكان يجب صحته ويعود الإلزام، ثم لا إجماع مع خلاف أحمد وغيره من(23/379)
المتكلمين على أنه خلاف الحنفية ثابت في صحة صوم يوم العيد أيضا فإنهم يصححون نذره وإنه لو صامه خرج عن عهدة النذر، وإن لم يرتضه المصنف كما تقدم بيانه في النهي هذا حاصل ما ذكر المصنف.
قال العبد الضعيف غفر الله تعالى له وأيضا إذا كان المراد بإمكان انفكاك الجهتين كون كل منهما يتعقل انفكاكها عن الأخرى كما ذكر القاضي عضد الدين فالجهتان في كل من الصلاة في الأرض المغصوبة وصوم يوم العيد ممكنتا الانفكاك؛ لأنه كما يمكن وجود صلاة بلا غضب وغصب بلا صلاة يمكن وجود صوم بلا يوم عيد ويوم عيد بلا صوم فلا يتم الفرق بينهما بالانفكاك وعدمه.
ثم كما أن الشارع أمر في صورة الصلاة بالكون وشغل الحيز على الإطلاق ونهى عن شغل الحيز الغصبي بخصوصه بها أمر في صورة الصوم إذا كان منذورا بالوفاء به مطلقا لقوله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] ونهى عن صوم يوم العيد بخصوصه كما ثبت في الصحيحين وغيرهما نعم هذا فرع انعقاد نذر صوم يوم العيد وهو عند الحنفية منعقد(23/380)
ص -183-…فيستويان في الحكم عندهم غير منعقد عند الشافعية فلا يستويان فيه من هذا الوجه عندهم قالوا "ولأن منشأ المصلحة والمفسدة" في الصلاة في المغصوبة "متعدد بخلاف صوم العيد" كما تقدم آنفا توجيهه قال المصنف "وقد يمنع" هذا "بل الشغل منشؤهما" أي المصلحة والمفسدة وهو متحد فيهما كما حققنا فلا يفترقان في الحكم "هذا فأما الخروج" من الأرض المغصوبة "بعد توسطها ففقهي" أي فالبحث عن حكمه بحث فرعي "لا أصلي وهو" أي الحكم الفرعي له "وجوبه" أي الخروج منها بما هو شرطه من السرعة وسلوك أقرب الطرق وأقلها ضررا على قصد التوبة وهو قصد نفي المعصية عن نفسه والخروج عن ملك الغير بقدر الإمكان للإجماع على ذلك وليس ذلك ببدعي؛ لأن ارتكاب أدنى الضررين يصير واجبا نظرا إلى دفع أعلاهما "فقط" أي: لا، وحرمته كما هو ظاهر قول أبي هاشم إنه مأمور به؛ لأنه انفصال عن المكث ومنهي عنه؛ لأنه متصرف في ملك الغير. وقول إمام الحرمين المعصية مستمرة، وإن كان في حركاته في صوب الخروج ممتثلا للأمر، وإنما حكمنا باستمرارها مع أنها إنما تكون بارتكاب المنهي والإمكان معتبر في المنهي ولا إمكان هنا إذ ليس في وسعه الخلاص؛ لأن نسبته إلى ما تورط فيه آخرا بسبب معصيته وليس هو عندنا منهيا عن الكون في هذه الأرض مع بذله المجهود في الخروج منها ولكنه مرتبك أي مشتبك في المعصية مع انقطاع نهي التكليف عنه "واستبعد استصحاب المعصية للإمام" أي استبعده ابن الحاجب وصاحب البديع وغيرهما "إذ لا نهي عنه" أي الخروج توبة "وثبوتها" أي المعصية "بلا نهي" أي فعل منهي عنه أو ترك مأمور به "كقوله" أي إمام الحرمين "ممنوع" قال المحقق التفتازاني. وإنما حكموا بالاستبعاد دون الاستحالة؛ لأن الإمام لا يسلم أن دوام المعصية لا يكون إلا بفعل منهي عنه أو ترك مأمور به بل ذلك في ابتدائها خاصة، وقال الأبهري وإذا عصى المكلف بفعل شخص آخر هو مسبب عن فعله على ما قاله صلى الله عليه(23/381)
وسلم: "من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها" لم يستبعد معصيته لفعل له غير مكلف به هو مسبب عن فعله الاختياري وأشار إلى وجه قول أبي هاشم ورده بقوله "وادعاء جهتي التفريع والغصب" في الخروج "فيتعلقان" أي الأمر والنهي "به" أي بالخروج كما سلف بيانه "يلزمه عدم إمكان الامتثال" للأمر والنهي فيه؛ لأن جهة التفريع لا تنفك عن جهة الغصب وحينئذ "فتكليف بالمحال" التكليف بهما إذ طلب الخروج طلب لشغل الحيز فلو كان شغل الحيز منهيا عنه كان طالبا من المكلف تحصيله غير طالب له ولا شك أنه تكليف محال "بخلاف صلاة الغصب فإنه يمكن" الامتثال للأمر والنهي فيها من غير محال لإمكان انفكاك جهتيهما فيها كما تقدم بيانه، وإنما لم يكن البحث عن حكم الخروج بحثا أصوليا؛ لأنه لا بحث للأصولي من حيث هو أصولي عن أحوال أفعال المكلفين من الوجوب والحرمة وغيرهما، وإنما بحثه عن أحوال الأدلة للأحكام من حيث إثباتها للأحكام وثبوت الأحكام بها فوظيفته هنا بيان امتناع تعلق الأمر والنهي بفعل واحد من جهة واحدة كالخروج؛ لأنه تكليف محال كما بيناه، والله سبحانه أعلم.(23/382)
ص -184-…مسألة
"اختلف في لفظ المأمور به في المندوب" أي في أن تسميته به حقيقة أو مجاز "قيل" أي قال القاضي عضد الدين "عن المحققين: حقيقة، والحنفية وجمع من الشافعية: مجاز ويجب كون مراد المثبت" للحقيقة "إن الصيغة" أي صيغة الأمر "في الندب يطلق عليها لفظ أمر حقيقة بناء على عرف النحاة في أن الأمر" اسم "للصيغة المقابلة لصيغة الماضي وأخيه" أي وصيغة المضارع حال كون الصيغة المذكورة "مستعملة في الإيجاب أو غيره" كالندب والإباحة "فمتعلقه" أي الأمر اسما للصيغة المذكورة "المندوب مأمور به حقيقة والنافي" للحقيقة مستمر "على ما ثبت أن الأمر خاص في الوجوب" والمراد به الصيغة وهو أي نفي الحقيقة "أوجه لابتنائه" أي النفي "على الثابت لغة" من أن الأمر خاص بالوجوب "وابتناء الأول" أي الإثبات حقيقة "على الاصطلاح" للنحويين في أن الصيغة لما هو أعم من الوجوب. "واستدلال المثبت بإجماع أهل اللغة على انقسام الأمر إلى أمر إيجاب وأمر ندب إنما يصح على إرادة أهل الاصطلاح من النحاة" بأهل اللغة مجازا وحينئذ لا حاجة إلى ذلك فإن أحدا لا يخالف فيه حتى يستدل عليه بذلك "لأن ما ثبت من أن الأمر خاص في الوجوب حكم اللغة كاستدلالهم" أي وإرادة أهل الاصطلاح في هذا الاستدلال للمثبتين كإرادة الاصطلاح في استدلالهم أيضا "بأن فعله" أي المندوب "طاعة وهي" أي الطاعة "فعل المأمور به أي ما يطلق عليه لفظ المأمور في الاصطلاح" النحوي "وإلا" أي، وإن لم يكن مرادهم ذلك "فعين النزاع" إذ ليس النزاع إلا في أن إطلاق المأمور على المندوب في اللغة حقيقة أو مجاز "مع أنه" أي هذا الاستدلال إنما يتمشى "على تقدير اصطلاح في الطاعة" وهو أن الطاعة فعل المأمور به بالاصطلاح النحوي "وهو" أي وهذا الاصطلاح فيها "منتف للقطع بعدم تسمية فعل المهدد عليه طاعة لأحد" أي لا يقال للفعل الذي تعلق به افعل به تهديدا إنه مأمور به ولا إنه أمر بذلك الفعل قطعا مع صدق الأمر(23/383)
اصطلاحا نحويا على صيغته بل الطاعة فعل المأمور به أو المندوب "وإلا" أي، وإن لم يرد المثبتون في الاصطلاح النحوي بل أرادوا في اللغة "فإنما يصح على أن الصيغة" التي هي مسمى لفظ أمر "حقيقة في الندب مشتركا" بينه وبين الإيجاب "أو خاصا" للندب "وهم" أي المثبتون "ينفونه" أي أنها حقيقة مشتركة بينهما أو خاصة في الندب ويجعلونها حقيقة في الوجوب خاصة فلا يكون المندوب مأمورا به حقيقة، وإن كان مطلوبا وحينئذ "فاستدلال النافي بأنه" أي المندوب "لو كان مأمورا أي حقيقة لكان تركه معصية" لما ثبت من أن تارك المأمور به عاص إذ كان الأمر خاصا بصيغة الإيجاب "ولما صح". قوله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء" كما في صحيح ابن خزيمة وغيره أو عند كل صلاة كما في الصحيحين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ندبهم إلى السواك ونفى كونه مأمورا به لوجود المشقة على تقدير الأمر ثم فاستدلال النافي مبتدأ خبره "زيادة" منه غير محتاج إليها "وتأويله" أي الأمر في هذين "بحمله" أي الأمر "على قسم خاص هو أمر الإيجاب" كما ذكر ابن الحاجب وغيره مخالفة للظاهر "بلا دليل وقولهم" أي المثبتين "لدليلنا ظهر أنه لم يتم" وحينئذ(23/384)
ص -185-…فأخف الأمرين على المثبتين أن تجعل هذه المخالفة لفظية فالمثبت يعني الاصطلاح النحوي ولا يخالفه النافي والنافي مشى على الجادة ولا يخالفه المثبت كما أشار إليه بقوله "ومثل هذه" المسألة "في اللفظية الخلاف في أن المندوب تكليف والصحيح" الذي عليه الجمهور "عدمه" أي كونه تكليفا "خلافا للأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني والقاضي أيضا"، وإنما كان هذا الخلاف لفظيا "لدفع بعده" أي خلافه "بأن المراد" بقوله إنه تكليف "إيجاب اعتقاده" أي اعتقاد كونه مندوبا وإن كان هذا الدفع بعيدا أيضا؛ لأن الندب حكم والوجوب حكم آخر كما أشار إليهما القاضي عضد الدين وكيف لا، وفي هذا التأويل إهدار الندب من الأحكام التكليفية.(23/385)
ثم هذا بناء على الاتفاق على أن التكليف إلزام ما فيه كلفة ومشقة ورد ما ذهب إليه من أن فعل المندوب لتحصيل الثواب شاق؛ لأنه في سعة من تركه لعدم الإلزام كما مشى عليه القاضي عضد الدين أيضا وإلا فغير واحد على أن الخلاف لفظي بناء على تفسير التكليف. فإن فسر بإلزام ما فيه كلفة فليس بتكليف، وإن فسر بطلب ما فيه كلفة فتكليف لكن هذا إن تم في توجيه خلافه في المندوب لا يتم في توجيه خلافه في المباح؛ لأنه لا طلب فيه بخلاف الدفع المذكور فلا جرم أن اقتصر المصنف عليه ورتب خلافه في المباح أيضا عليه فقال "إلا أن المباح حينئذ" أي حين يكون المراد بكون الندب تكليفا إيجاب اعتقاد ندبيته "تكليف" أيضا بناء على أن المراد به إيجاب اعتقاد إباحته "وبه" أي ويكون المباح تكليفا "قال" الأستاذ "أيضا" ومن سواه على أنه ليس بتكليف قيل: وإنما قال هذا مع أن التكليف عنده طلب ما فيه كلفة تتميما للأقسام وإلا فغيره مثله في وجوب الاعتقاد ولا يخفى ما فيه "ومثلهما" أي المندوب والمباح من حيث إن الخلاف في كون المندوب مأمورا به حقيقة أو مجازا وكونه تكليفا أو لا وفي كون المباح تكليفا أو لا لفظي "المكروه" أي الخلاف في كون المكروه تنزيها منهيا عنه وكونه تكليفا فالمكروه تنزيها "منهي" عنه "أي اصطلاحا" نحويا "حقيقة مجازا لغة"؛ لأن النهي في الاصطلاح يقال على لا تفعل استعلاء سواء كان للمنع الحتم أو لا أما في اللغة فيمتنع أن يقال حقيقة نهي عن كذا إلا إذا منع منه فالقائل "حقيقة" يريد الاصطلاح والقائل "مجاز" يريد اللغة "وإنه" أي المكروه "ليس تكليفا" عند الجمهور؛ لأنه ليس إلزام ما فيه كلفة وتكليف عند الأستاذ؛ لأنه مكلف باعتقاد كراهته تنزيها أو طلب تركه في الجملة فلا جرم أن قال "وفيهما" أي مسألتي المكروه هاتين "ما فيهما" أي مسألتي المندوب مأمور به والمندوب والمباح مكلف بهما. "والمراد" بالمكروه المكروه "تنزيها" كما ذكرنا؛ لأن المكروه(23/386)
تحريما لا خلاف في أنه تكليف وهو ظاهر قالوا "ويطلق" المكروه إطلاقا شائعا "على الحرام وخلاف الأولى مما لا صيغة" نهي "فيه" أي تركه "وإلا" أي، وإن لم يفرق بين الكراهة التنزيهية وخلاف الأولى بأن خلاف الأولى ما لا صيغة نهي فيه "فالتنزيهية مرجعها إليه" أي خلاف الأولى بل هي هو بعينه؛ لأن حاصلها ما تركه أولى فالتفرقة مجرد اصطلاح بأخذ ذلك الاعتبار في خلاف الأولى "وكذا يطلق المباح على متعلق" الإباحة "الأصلية" التي هي عدم(23/387)
ص -186-…المؤاخذة بالفعل والترك لما هو المنافع لعدم ظهور تعلق الخطاب به "كما" يطلق المباح أيضا "على متعلق خطاب الشارع تخييرا" بين الفعل والترك على السواء وهي الإباحة الشرعية "وكلاهما" أي المتعلقين إنما يعرفان "بعد الشرع على ما تقدم" في آخر المسألة الثانية من مسألتي التنزل، وفي ذلك تحرير أوردناه ثمة فليراجع. "أما المعتزلة فأعم من ذلك" أي المباح عندهم يطلق على ما هو أعم من متعلق الإباحة الأصلية والشرعية "والعقلية" ومتعلقها عندهم الأفعال الاختيارية التي يدرك العقل عدم اشتمالها على المصلحة والمفسدة ولم يتعلق بها خطاب لحكم العقل بعدم الحرج في فعلها وتركها "وأما من جعله" أي جواز إطلاق المباح شرعا على متعلق غير الشرعية وهو انتفاء الحرج في الفعل والترك وعدم جواز ذلك "خلافا في أن لفظ المباح هل يطلق في لسان الشرع على غير ذلك" أي غير متعلق خطاب الشارع تخييرا كما هو مقتضى تحرير التفتازاني الكلام في أن المباح عن بعض المعتزلة ما انتفى الحرج في فعله وتركه وعندنا ما تعلق خطاب الشارع بذلك به "فلا حاصل له؛ لأنه إن أراد" بالشرع "الشارع فلا يعرف له" أي للشارع "اصطلاح في المباح أو" أراد به "أهل الاصطلاح الفقهي فلا خلاف برهانيا" بل هو حينئذ لفظي مبني على الاصطلاح "ويرادف المباح" بالمعنى الشرعي وهو ما تعلق به خطاب الله تعالى تخييرا بين الفعل وتركه على السواء "الجائز ويزيد" الجائز عليه في الإطلاق "بإطلاقه" أي الجائز "على ما لا يمتنع شرعا" أي ما لا يحرم شرعا "ولو" كان ذلك "واجبا ومكروها" أي أو مكروها فيطلق على كل من المندوب والمباح بطريق أولى "وعقلا" أي وعلى ما لا يمتنع عقلا وهو الممكن العام سواء كان "واجبا أو راجحا أو قسيميه" أي الراجح وهما المرجوح والمساوي وهذا أعم من الأول مطلقا وبينه وبين الثاني عموم من وجه وعلى ما استوى شرعا أو عقلا في عدم الحرمة فعله وتركه وهذا أعم من الأول وأخص من الثاني(23/388)
مطلقا ومن الثالث من وجه إذا حمل ما استوى فيه الأمران عقلا على الممكن الخاص الذي نسبة ماهيته إلى الوجود والعدم سواء كما في عدم الاقتضاء ولعل المصنف لم يذكر هذا؛ لأن الجائز بهذا المعنى لم يرد في عرف الفقهاء كما ذكر الأبهري. وعلى ما يشك المجتهد فيه في الشرع أو في العقل باعتبار استواء الأمرين فيه شرعا أو عقلا وعدم الامتناع شرعا أو عقلا وهذا معنى قول ابن الحاجب وعلى المشكوك فيه فيهما بالاعتبارين قال الأبهري وهو يشتمل على أربعة أقسام أحدها المشكوك فيه باعتبار استواء الأمرين فيه شرعا في نظر المجتهد وهو ما تعارض فيه دليلان يقتضي كل منهما نقيض الآخر ولم يترجح أحدهما على الآخر في نظره فيتخير بين الحكمين على سبيل البدل لا على سبيل الجمع فيقول الحكم فيه إما هذا أو ذاك والفرق بينه وبين الرابع أن الاستواء هنا في نظر المجتهد وهناك في حكم الشارع وإلى هذا أشار الغزالي بقوله ليس هذا الوجه من الإباحة بشيء؛ لأن المباح ما دل دليل على إباحته لا دليلان متقابلان ثانيها المشكوك فيه باعتبار عدم الامتناع الشرعي في نظر المجتهد وهو ما دل فيه دليل على حكم شرعي وامتنع عدمه ولم يظهر في نظر المجتهد امتناع عدمه فلم يجزم به فعدم امتناع نقيضه مشكوك فيه.(23/389)
ص -187-…ثالثها: المشكوك فيه باعتبار استواء الأمرين فيه عقلا في نفس المجتهد رابعها المشكوك فيه باعتبار عدم الامتناع في نظر المجتهد على قياس ما ذكر في الشرعي ا هـ مختصرا وكأن المصنف لم يذكر هذا لاندراجه فيما لا يمتنع شرعا وما لا يمتنع عقلا كما يظهر بالتأمل الصادق وقوله "كما يقال المشكوك على الموهوم" صحيح في حد ذاته لكن المناسبة في تشبيه ما تقدمه به غير ظاهرة نعم أشار القاضي عضد الدين إلى ما حاصله أن المشكوك فيه كما يقال على ما يستوي طرفاه عقلا أو شرعا في نفس المجتهد وعلى ما لا يمتنع شرعا أو عقلا في نفس المجتهد فهذه أربعة معان كذلك يقال الجائز عليها وهذا التشبيه ظاهر الوجه، والله سبحانه أعلم.
مسألة
"نفي الكعبي المباح خلافا للجمهور؛ لأنه" أي المباح "ترك حرام" فإن السكوت ترك للقذف والسكون ترك للقتل "وتركه" أي الحرام "واجب ولو" كان تركه واجبا "مخيرا" لإمكان ترك الحرام بغير الواجب كالمندوب والمكروه تنزيها فيكون الواجب أحدها فإذا اختار المكلف فعل المباح كان واجبا "فاندفع" بقوله ولو مخيرا "منع تعين المباح للترك" للحرام "لجوازه" أي ترك الحرام "بواجب" لكنه قيل لا يجوز كونه واجبا مخيرا؛ لأن الواجب المخير واحد مبهم من أمور معينة وليس كذلك هنا فأجيب بأن المراد تعينها بالنوع كما في خصال الكفارة وما به يحصل ترك الحرام متعين بالنوع؛ لأنه إما واجب أو مندوب أو مكروه أو مباح ودفع بأن تركه إنما يحصل بالأفعال وتعينها النوعي إنما يحصل بتعين حقائقها وتميز كل منها عما عداه بما يخصه كالصوم والإعتاق مثلا لا بالأعراض العامة ككونها واجبة أو مندوبة وأجيب بأن الشرع عين كل نوع من الفعل يتعلق به حكم والفقهاء دونوا تلك الأنواع والتعبير عنها بالأعراض العامة للإغناء عن التفصيل المعلوم لا للجهل بها على التفصيل.(23/390)
"ويورد" على الكعبي أنه "ليس تركه" أي الحرام "عين فعل المباح" غايته أنه لا يحصل إلا به "وأجاب" الكعبي "بأن" هذا لا يضر فإن "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب" وبه يتم دليلنا فيقال ترك الحرام الذي هو واجب مقدمة للواجب ومقدمة الواجب واجب. "وأورد" على هذا الدليل "أنه مصادمة الإجماع على انقسام الفعل إليه" أي المباح "وباقيها" أي أقسامه من الواجب والحرام والمكروه والمندوب فلا يسمع "فأجاب" الكعبي "بوجوب تأويله" أي الإجماع على انقسام الفعل إلى هذه الأقسام بأنه منقسم إليها "باعتباره" أي الفعل "في ذاته" أي مع قطع النظر عما يستلزمه من كونه يحصل به ترك حرام "لا بملاحظة ما يلزمه" أي الفعل من كونه يحصل به ترك حرام فيكون المباح نظرا إلى ذاته لم يخرج عن كونه مباحا وبالنظر إلى ما يستلزمه من كونه يحصل به ترك حرام واجبا، وإنما أولناه "لقطيعة دليلنا" المذكور جمعا بينه وبين دليلنا بقدر الإمكان لبقاء العمل بالإجماع والدليل المذكور على(23/391)
ص -188-…وجوب المباح إذ الأصل في الأدلة الإعمال لا الإهمال "ويتعين كونه" أي هذا "مراد القائلين بوجوب ما لا يتم الواجب إلا به" قال المصنف فإن قولهم يقتضي وجوب مباحات كثيرة تجر إلى مثل قول الكعبي فيجب كون مرادهم أن تلك المقدمات مباحة في ذاتها ولكن لزمها الوجوب لعارض التوصل إلى الواجب بها "فإن لزم وجوب المعصية مخيرا" للكعبي على سبيل النقض الإجمالي لدليله بأن يقال لو صح ما ذكره بجميع مقدماته لزم كون المحرم إذا ترك به محرما آخر كاللواطة إذا ترك بها الزنا واجبا لقيام ذلك الدليل فيه؛ لأن هذا المحرم يتحقق به ترك الحرام فيكون واجبا "فقد ذكر جوابه" وهو ما ذكره في إلزام خرق الإجماع من كونه في نفسه معصية، وإنما لزمه خلاف ذلك فيكون واجبا حراما معا كالصلاة في الأرض المغصوبة كذا ذكر المصنف وإيضاحه أنه يقول لا مانع من اتصاف الفعل بالوجوب والحرمة معا باعتبار جهتين كما في الصلاة في الأرض المغصوبة فيصير الحرام بالنظر إلى ذاته واجبا بترك حرام آخر لغيره "وجواب الأخيرين" أي أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ووجوب المعصية من قبل الجمهور "منع أن ما لا يتم الواجب إلا به واجب واقتصارهم" أي المتقدمين والمتأخرين منهم "عن آخرهم" على هذا الجواب "ينادي بانتفاء دفعه" أي قول الكعبي "إلا للنافي" كون ما لا يتم الواجب إلا به واجبا "وليس" هذا هو "المذهب الحق" للفقهاء والمحدثين وغيرهم "ولا مخلص لأهله" حينئذ بل يكونون ملزمين بقوله بنفي المباح رأسا. قال المصنف رحمه الله تعالى "وهو" أي جوابه "أقرب إليك منك لانكشاف منع أن كل مباح ترك حرام بل لا شيء منه" أي من المباح "إياه" أي ترك حرام "ولا يستلزمه" أي المباح ترك الحرام "للقطع بأن الترك وهو كف النفس عن الفعل فرع خطوره" أي الفعل "و" فرع "داعية النفس له" أي للفعل "ويقطع بإسكان سائر الجوارح وفعلها" أي الجوارح "لا عن داعية فعل معصية تركا لها" أي للمعصية "بذلك" الإسكان(23/392)
والفعل للجوارح "وعند تحققها" أي داعية فعل معصية "فالكف واجب ابتداء يثبته" أي وجوبه "ما قام بإطلاقه الدليل" قال المصنف فخرج ترك المعصية بفعل المعصية فلا يكون ممتثلا لترك الأولى بذلك فيلتزم أنه لا يحصل له ثواب الترك غير أنه لا يعاقب عليها لعدم الفعل، وإنما صدر الجواب باللفظ المذكور تعجيبا من ذهول الكل عن هذا الجواب مع أنهم المحققون ولكن الله تعالى هو خالق العلم وحاصل الجواب أن قوله كل مباح ترك حرام ممنوع للقطع بفعل مباحات لا تحصى من غير خطور معصية يراد بفعل تلك المباحات تركها ولا شك أن الترك الذي هو الفعل الاختياري لا يتصور إلا بخطور المتروك وداعية النفس إلى فعله فحينئذ يتحقق الترك فثبت المباح مجردا عن كونه تركا لشيء فبطل دليله على ذلك ولله الحمد ا هـ. ثم كون مذهب الكعبي إنكار المباح رأسا كما ذكر المصنف هو ما نقله كثير كإمام الحرمين وابن برهان والآمدي وقيل بل ذهب إلى أن المباح مأمور به دون الأمر بالندب والأمر بالإيجاب وهو المنقول عنه لآخرين كالقاضي والغزالي وهو غريب.(23/393)
ص -189-…مسألة
"قيل المباح جنس الواجب"؛ لأن المباح ما أذن في فعله وهذا جزء حقيقة الواجب لاختصاص الواجب بقيد زائد وهو لا في تركه ولا معنى للجنس إلا كونه تمام الجزء المشترك "وهو" أي هذا القول "غلط بل" المباح "قسيمه" أي الواجب "مندرج معه" أي الواجب "تحت جنسهما إطلاق الفعل لمباينته" أي المباح للواجب "بفصله إطلاق الترك"؛ لأن الواجب غير مطلق الترك "وتقدم في" مسألة لا شك في تبادر كون الصيغة في الإباحة والندب مجازا في بحث "الأمر ما يرشد إليه" أي كونه مباينا فليستذكر بالمراجعة.(23/394)
"تقسيم للحنفية الحكم إما رخصة وهو" أي الرخصة "ما" أي حكم "شرع تخفيفا لحكم" آخر "مع اعتبار دليله" أي الحكم الآخر "قائم الحكم" أي باقيا العمل به "لعذر خوف" تلف "النفس أو العضو" ولو أنملة إذا لم يمتثل ذلك فخرجت العزيمة؛ لأنها لم تشرع تخفيفا لحكم آخر بل شرعت ابتداء لا بناء على عارض كما سيأتي ومنها خصال الكفارة المرتبة والتيمم عند فقد الماء كما هو ظاهر بقليل تأمل "كإجراء المكره بذلك" أي بما يحصل به خوفه على نفسه أو عضوه "كلمة الكفر" على لسانه وقلبه مطمئن بالإيمان "وجنايته" أي المحرم المكره بذلك "على إحرامه" ولم أقف على تفرقة بين أن يكون إحرام حج أو عمرة فلعله على إطلاقه ولا على صريح في أن المراد بها جناية موجبة للفساد أو للدم فقط أو لأعم منهما ومن الصدقة إلا ما عساه يفهم مما في شرح لأصول فخر الإسلام يريد جناية ثبتت بدليل قطعي. ا هـ. ويخال من اقتصار بعضهم على تعليل الترخص في الإقدام على الجناية بأن فيه انجبار حق الله تعالى بالدم أن المراد الجناية التي توجب الدم لا الصدقة ويدفع بأنه إذا ثبت الترخص في الجناية التي توجب الدم ففي التي توجب الصدقة بطريق أولى، ثم لا يخفى أن ما في الشرح المذكور أولى "ورمضان" أي وجناية الصائم في رمضان صحيحا مقيما مكروها بذلك على جنايته على صومه بالإفساد "وترك الخائف على نفسه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصلاة" المفروضة إذا أمر ونهى وصلى "وتناول المضطر مال الغير وهو" أي هذا النوع من الرخصة "أحق نوعيها" أي أولاهما حقيقة باسم الرخصة لقيام دليل العزيمة فيه وقيام حكمه من غير دليل دال على تراخيه عنه وحينئذ "فالعزيمة أولى ولو مات بسببها" أي العزيمة كما في هذه الأمور أما قيام دليل العزيمة في استمرار الإيمان وعدم تراخي حكمه وهو وجوبه عنه فظاهر فإن دليل وجوب الإيمان قطعي لا يتصور تراخي حكمه عنه عقلا ولا شرعا فيقوم حكمه وهو وجوبه بقيام دليله ويدوم بدوامه.(23/395)
وإنما رخص الشارع له في إجراء تلك الكلمة على لسانه في تلك الحالة؛ لأن بالامتناع من إجرائها والصبر على القتل يفوت حقه صورة بتخريب بدنه ومعنى بزهوق روحه وحق الله لا يفوت معنى لكون قلبه مطمئنا بالإيمان وهو الركن الأصلي فيه، وإنما كانت العزيمة أولى، وإن لزم من المحافظة عليها القتل لما فيها من رعاية حق الله صورة ومعنى بتفويت حقه صورة ومعنى فكان جهادا في سبيل الله لإعلاء كلمة الله فكان شهيدا كما في الجهاد مع الكفار ثم مما يدل على هذه(23/396)
ص -190-…الجملة ما روى إسحاق بن راهويه وعبد الرزاق وأبو نعيم والحاكم والبيهقي بإسناد صحيح من طريق أبي عبيدة بن محمد بن عمار عن أبيه قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر آلهتهم بخير فلما أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما وراءك" قال شر يا رسول الله ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير قال: "فكيف تجد قلبك" قال: مطمئنا بالإيمان قال: "فإن عادوا فعد"، وقال ابن عبد البر أجمع أهل التفسير على أن قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل: 106] نزلت في عمار وما روى ابن أبي شيبة عن الحسن مرسلا: أن عيونا لمسيلمة أخذوا رجلين من المسلمين فأتوه بهما فقال لأحدهما أتشهد أن محمدا رسول الله قال نعم قال أتشهد أني رسول الله فأهوى إلى أذنيه فقال إني أصم فأعاد عليه فقال مثله فأمر به فقتل، وقال للآخر أتشهد أن محمدا رسول الله قال نعم قال أتشهد أني رسول الله قال نعم فأرسله فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله هلكت قال: "وما شأنك" فأخبره بقصته وقصة صاحبه فقال: "أما صاحبك فمضى على إيمانه وأما أنت فأخذت بالرخصة".(23/397)
وأما قيام دليل العزيمة في الباقي وهو المحافظة على الإحرام والصيام إلى انتهائهما شرعا عن الجناية الثابتة بدليل قطعي على الإحرام وعلى الصيام بما يوجب الإفساد والقيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأداء الصلاة المكتوبة في وقتها والكف عن تناول مال الغير على سبيل العدوان وعدم تراخي أحكام هذه عن أدلتها من الكتاب والسنة والإجماع فمعروف في مظانه، وإنما رخص الشارع للمحرم والصائم المذكورين الإقدام على الجناية المذكورة وللخائف على نفسه التلف بأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وصلاته المكتوبة في وقتها في ترك ذلك وللمضطر في تناول مال الغير؛ لأن في الإقدام على الجناية في الأوليين وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصلاة في الوقت والكف عن تناول مال الغير فوات حقهم صورة ومعنى وحق الله لا يفوت معنى مع انجباره في الإحرام بالقضاء والدم أو بالدم أو الصدقة، وفي الصيام والصلاة بالقضاء وفي تناول مال الغير بالضمان، وإنما كانت العزيمة في هذه الأمور أولى، وإن لزم منها القتل أما في العبادات فلبذل نفسه لله لإقامة حق الله وإظهار الصلابة في الدين وإعزازه. وأما فيما فيه حق العبادة فقياسا على العبادات لما فيه أيضا من إظهار القوة في الدين ببذل نفسه في الاجتناب عن المحرمات ولذا قال محمد فيه كان مأجورا إن شاء الله تعالى هذا وفي مبسوط خواهر زاده الأصل في تخريج هذه المسائل أن ما حرمه النص حالة الاختيار ثم أبيح حالة الاضطرار وهو مما يجوز أن يرد الشرع بإباحته كأكل الميتة ولحم الخنزير وشرب الخمر وإباحة الفطر في رمضان للمسافر والمريض إذا امتنع عن ذلك حتى قتل كان آثما؛ لأنه أتلف نفسه لا لإعزاز دين الله إذ ليس في التورع عن المباح إعزاز دين الله ومن أتلف نفسه لا لإعزاز دين الله كان آثما وما حرمه النص حالة الاختيار ورخص فيه حالة الاضطرار وهو ليس مما يجوز أن يرد الشرع بإباحته كالكفر بالله ومظالم العباد إذا(23/398)
امتنع فقتل كان مأجورا؛(23/399)
ص -191-…لأنه بذل مهجته لإعزاز دين الله حيث تورع عن ارتكاب المحرم وكذا ما ثبت حرمته بالنص ولم يرد نص بإباحته حالة الضرورة كالإكراه على ترك الصلاة في الوقت وعلى الفطر في رمضان للمقيم الصحيح إذا امتنع عن ذلك فقتل كان مأجورا؛ لأنه بذل مهجته لإعزاز دين الله وقتل الصيد للمحرم كذلك.
"أو" ما شرع تخفيفا لحكم آخر مع اعتبار دليله "متراخيا" حكمه "عن محلها" أي الرخصة "كفطر المسافر" والمريض في رمضان فإن دليل وجوب الصوم كقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] قائم لكن تراخى حكمه عن محل الرخصة وهو السفر والمرض بقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر} [البقرة: 184] "والعزيمة" في هذا النوع "أولى ما لم يستضر" بها نظرا إلى قيام السبب وهو محمل ما في الصحيحين عن أنس كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنا الصائم ومنا المفطر فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم. ويوضحه ما في صحيح مسلم عن حمزة الأسلمي أنه قال يا رسول الله أجد في قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح قال صلى الله عليه وسلم: "هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه" وصام هو في السفر أيضا كما في الصحيحين فبحثنا عن ذلك فظهر أنه؛ لأن معنى الرخصة لم يتمحض في الفطر بل في العزيمة معناها أيضا وهو موافقة الصائمين وليوطن النفس على صوم أيام رمضان وكل ما وطنت عليه النفس خف أمره عليها فكان في تمحض معنى الرخصة في الفطر تردد إذا لم يستضر به فإذا استضر تمحض حينئذ في الفطر معنى الرخصة "فلو مات بها" أي بالعزيمة "أثم" لقتله نفسه بلا مبيح ويشهد له ما في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فشربه فقيل له إن بعض الناس قد صام فقال: "أولئك العصاة"، فإنه محمول على أنهم استضروا به بدليل ما في لفظ(23/400)
له فقيل له إن الناس قد شق عليهم الصوم.
"والعزيمة ذلك الحكم" المعبر عنه بقوله تخفيفا لحكم "فيقيد" ذلك الحكم "بمقابلة رخصة وقد لا يتقيد" بمقابلة رخصة "فيقال ما" أي حكم "شرع ابتداء غير متعلق بالعوارض" أي غير مبني على أعذار العباد وهو إيضاح لابتدائية شرعية الحكم فخرجت الرخصة وعمت العزيمة ما كان هكذا مما كان في مقابلة رخصة أو لا في مقابلتها.
"وتعرف الرخصة بما تغير من عسر إلى يسر من الأحكام" وهو إيضاح لما تغير للعلم من السياق أن المراد حكم تغير إلخ. "وقسم كل" من العزيمة والرخصة بهذين المعنيين "أربعة" من الأقسام فقسمت "العزيمة إلى فرض ما" أي حكم "قطع بلزومه" مأخوذ "من فرض قطع وواجب ما" أي حكم "ظن" لزومه سمي واجبا "لسقوط" أي وقوع "لزومه على المكلف" جبرا "بلا علم" له بثبوته العلم القطعي فهو يتحمله بدون اختياره لعدم علمه بلزومه له قطعا بخلاف الفرض فإنه لما ثبت علمه به قطعا يتحمله باختياره وشرح صدره فهو مأخوذ "من وجب(23/401)
ص -192-…سقط والشافعية" بل الجمهور الفرض والواجب اسمان "مترادفان" لفعل مطلوب طلبا جازما "ولا ينكرون" أي الشافعية بل الجمهور "انقسام ما لزم" فعله الذي هو معنى طلبه طلبا جازما "إلى قطعي" أي ثابت بدليل قطعي دلالة وسندا "وظني" أي ثابت بدليل ظني دلالة وسندا أو دلالة لا سندا وبالقلب "ولا" ينكرون "اختلاف حالهما" أي القطعي والظني من حيث الإكفار وعدمه وغير ذلك، وإنما النزاع في أن الاسمين هل هما لمعنى واحد في ذاته تتفاوت أفراده في بعض الأحكام بالنظر إلى طريق ثبوته أو كل منهما لفرد من ذلك المعنى باعتبار في طريق ثبوته حتى إن النزاع إنما يكون في مجرد اختصاص كل منهما باسم من ذينك الاسمين وإن تسميته به حقيقة اصطلاحية دون الآخر فذهب الجمهور إلى الأول والحنفية إلى الثاني "فهو" نزاع "لفظي" كما نص عليه غير واحد من المحققين. "غير أن إفراد كل قسم باسم أنفع عند الوضع" لموضوع المسألة "للحكم" عليه فإنك حينئذ تضع الفرض موضوع مسألة لتحكم عليه بما يناسبه وتضع الواجب لذلك بخلاف ما إذا لم يكن إلا اسم واحد يعم معنيين قاله المصنف أي فإنك تضع أحد القسمين معبرا عنه باسمه الذي يخصه لتحكم عليه بما يناسبه من الحكم بحسب طريق ثبوته قطعا أو ظنا من غير احتياج إلى نصب قرينة على أن المراد به القسم الذي طريق ثبوته قطعي أو ظني لدلالة لفظه على ذلك بخلاف ما إذا كان كلا الاسمين للقسمين فإن في بعض الأحكام على كل منهما يحتاج إلى نصب قرينة على أن المراد بذلك الاسم قسم معين منهما "وإلى سنة الطريقة الدينية منه صلى الله عليه وسلم أو" الخلفاء "الراشدين أو بعضهم" التي يطالب المكلف بإقامتها من غير افتراض ولا وجوب فيخرج الفرض والواجب، وإنما لم يفصح عن هذا للعلم به مما تقدم ومما يدل على أن السنة مقولة على هذا المعنى ما في الحديث الذي أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وحسنه وصححه: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين(23/402)
عضوا عليها بالنواجذ" وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم كما ذكر البيهقي وغيره لما صحح أحمد وابن حبان والحاكم من حديث سفينة "الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكا" وفي رواية "الخلافة في أمتي، وفي لفظ خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله الملك أو قال ملكه من يشاء" واحتج به أحمد وغيره على خلافتهم.
"وينقسم مطلقها" أي السنة "إلى سنة هدي" وهي ما يكون إقامتها تكميلا للدين "تاركها" بلا عذر على سبيل الإصرار "مضلل ملوم كالأذان" للمكتوبات كما هو قول كثير من المشايخ وإلا فقد ذهب صاحب البدائع إلى وجوبه ومال إليه شيخنا المصنف لمواظبته صلى الله عليه وسلم من غير ترك أصلا وهو قوي "والجماعة" لها ويشهد له ما عن ابن مسعود رضي الله عنه من سره أن يلقى الله غدا مسلما فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن فإن الله تعالى شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى وإنهن من سنن الهدى ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وفي رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا سنن الهدى وإن من سنن الهدى الصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه"،(23/403)
ص -193-…رواه مسلم وأصحاب السنن. "وإنما يقاتل المجمعون على تركها" أي سنة الهدى كما قال محمد في أهل مصر تركوا الأذان والإقامة أمروا بهما فإن أبوا قوتلوا بالسلاح "للاستخفاف"؛ لأن ما كان من إعلام الدين فالإصرار على تركه استخفاف بالدين فيقاتلون على ذلك ذكره في المبسوط ومن هنا قيل لا يكون قوله قوتلوا دليلا على وجوب الأذان كما استدل به بعضهم عليه ويشكل على هذا قوله ولو تركه واحد ضربته وحبسته بل وما في شرح مختصر الكرخي عنه أنه قال: لو ترك أهل كورة سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليها ولو ترك رجل واحد ضربته وحبسته؛ لأن السنة لا يضرب ولا يحبس عليها إلا أن يحمل على ما إذا كان مصرا على الترك من غير عذر فإنه استخفاف كما في الجماعة المصرين عليه من غير عذر وهو متعين للقطع بأن لا ملام على ترك بعض السنن بعذر السفر والمرض "وقول الشافعي مطلقها" أي السنة من أصحابي على ما في الأم أو من المتكلم على لسان الشرع كما ذكر السبكي "ينصرف إليه" أي إلى مسنونه "عليه السلام" وعزاه من الراوي صاحب الكشف وغيره إلى أصحابنا المتقدمين وأصحاب الشافعي وجمهور أصحاب الحديث وبه أخذ صاحب الميزان "صحيح في عرف الآن والكلام في عرف السلف ليعمل به في نحو قول الراوي" صحابيا كان أو غيره "السنة أو من السنة وكانوا" أي السلف "يطلقونها" أي السنة "على ما ذكرنا" أي سنته صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين ولا سيما العمرين ففي صحيح مسلم وغيره عن علي رضي الله عنه في قصة جلد الوليد بن عقبة من شرب الخمر لما أمر الجلاد بالإمساك على الأربعين جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين وكُلٌّ سنة وهذا أحب إلي، وقال: مالك قال: عمر بن عبد العزيز سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننا الأخذ بها اعتصام بكتاب الله وقوة على دين الله ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها ولا النظر في أمر(23/404)
خالفها من اهتدى بها فهو مهتد ومن استنصر بها فهو منصور ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا ووقع ذلك في مديح الشعراء فقال الفرزدق في هشام بن عبد الملك:
فجاء بسنة العمرين فيها …شفاء للصدور من السقام
ومن سليمان بن عبد الملك:
إنا لنرجو أن تعيد لنا …سنن الخلائف من بني فهر
عثمان إذ ظلموا وانتهكوا …دمه صبيحة ليلة النحر
ودعامة الدين التي اعتدلت …عمرا وصاحبه أبا بكر
وكيف لا وقد ثبت إطلاق السنة منه صلى الله عليه وسلم على ما سنوه كما روينا آنفا فلا جرم أن قال الكرخي والقاضي أبو زيد والسرخسي وفخر الإسلام ومتابعوهم والصيرفي لا يجب حمله على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحكى الداودي في شرح مختصر المزني أن الشافعي كان يرى في القديم أن ذلك مرفوع إذا صدر من الصحابي أو التابعي ثم رجع عنه؛ لأنهم قد(23/405)
ص -194-…يطلقونه ويريدون سنة البلد ا هـ لكن قال الإسنوي النقل الأول أرجح لكونه منصوصا عليه في القديم والجديد معا، وقال شيخ شيوخنا الحافظ زين الدين العراقي والأصح في مسألة التابعي كما قال النووي في شرح المهذب إنه موقوف فإن قوله من السنة كثيرا ما يعبر به عن سنة الخلفاء الراشدين ويترجح ذلك إذا قاله التابعي بخلاف ما إذا قاله الصحابي فإن الظاهر أن مراده سنة النبي صلى الله عليه وسلم ا هـ بل جزم البيهقي بنفي الخلاف فيه بين أهل النقل والحاكم فقال في مستدركه أجمعوا على أن قول الصحابي من السنة كذا حديث مسند وابن عبد البر، وقال أيضا إذا قالها غير الصحابي فكذلك ما لم يضفها إلى صاحبها كسنة العمرين وهذا منهم محمول على عدم اطلاعهم على الخلاف واحتج الأولون بأنه عليه الصلاة والسلام هو المقتدي والمتبع على الإطلاق فإضافة مطلقها إليه حقيقة وإلى غيره مجاز لاقتدائه فيها بسنته فيحمل على الحقيقة عند الإطلاق وقد روى البخاري من حديث ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه في قصته مع الحجاج حين قال له إن كنت تريد السنة فهجر بالصلاة قال ابن شهاب قلت لسالم أفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهل يعنون بذلك إلا سنته فنقل سالم وهو أحد الفقهاء السبعة من أهل المدينة وأحد الحفاظ من التابعين عن الصحابة أنهم إذا أطلقوا السنة لا يريدون بذلك إلا سنة النبي صلى الله عليه وسلم وما ذكر من الحديث وإطلاقها على سنتهم لا يلزمنا؛ لأننا لا ننكر جواز الإطلاق عليها، وإنما نمنع فهم سنة غيره من إطلاقها ذكره في المعتمد والميزان وبهذا يندفع ما لو قيل اللفظ مطلق فلا يجوز تقييده بسنته لقيام الدليل على تقييده بسنته كما ذكرنا، والله سبحانه أعلم.(23/406)
"وإلى" سنن "زائدة كما في أكله وقعوده ولبسه" صلى الله عليه وسلم قالوا أخذها حسن وتركها لا بأس به أي لا يتعلق به كراهة ولا إساءة "وإلى نفل" وهو المشروع زيادة على الفرائض والواجبات والسنن لنا لا علينا "يثاب على فعله"؛ لأنه عبادة وأداء العبادة سبب لنيل الثواب "فقط" أي ولا يعاقب ولا يعاتب على تركه لعدم الفرضية والوجوب والسنية ولا يلزم عليه صوم المسافر حيث يوجد فيه هذا الحكم مع أنه لو أداه يقع فرضا لمنع أنه لا يعاقب على الترك أصلا، غاية الأمر أنه لا يلام على التأخير والفرق بينهما واضح "ومنه" أي النفل الركعتان "الأخريان" من الرباعية "للمسافر"؛ لأنه يثاب على فعلهما ولا يعاقب ولا يعاتب على تركهما "فلم ينوبا عن سنة الظهر" على الصحيح؛ لأن السنة بالمواظبة والمواظبة عليها منه صلى الله عليه وسلم بتحريمة مبتدأة، وإن لم يحتج إلى قصد السنة في وقوعها سنة على ما هو المختار، ثم عطف على الأخريان "وما تعلق به دليل ندب يخصه وهو المستحب والمندوب" كالركعتين والأربع قبل العصر والستة بعد المغرب "وثبوت التخيير في ابتداء الفعل" النفل بين التلبس به وعدم التلبس به "لا يستلزم عقلا ولا شرعا استمراره" أي التخيير "بعده" أي الشروع فيه "كما قال الشافعي" وإذا لم يستلزمه "فجاز الاختلاف" بين ثبوت التخيير قبل الشروع وبين ابتداء الفعل في أنه لا يلزمه الشروع ويلزمه الإتمام إذا شرع "غير أنه" أي الاختلاف بينهما في ذلك "يتوقف على دليل" يعين هذا الجائز واقعا وقد وجد "وهو النهي عن إبطال العمل" الثابت بنص القرآن والقياس(23/407)
ص -195-…على الحج النفل "فوجب الإتمام فلزم القضاء بالإفساد والرخصة" أي وقسمت "إلى ما ذكر" أي إلى قسمين أحدهما أتم في معنى الرخصة والآخر مقابله كما تقدم أول التقسيم "و" إلى "ما وضع عنا من إصر" أي حكم مغلظ شاق "كان على من قبلنا" من بعض الأمم "فلم يشرع عندنا" أي في ملتنا أصلا تكريما لنبينا صلى الله عليه وسلم ورحمة لنا "كقرض موضع النجاسة" من الثوب والجلد "وأداء الربع في الزكاة" أي جعل ربع المال مقدار زكاته واشتراط قتل النفس في صحة التوبة وبت القضاء بالقصاص عمدا كان القتل أو خطأ وإحراق الغنائم وتحريم العروق في اللحم والسبت والطيبات بالذنوب، وأن لا يطهر من الجنابة والحدث غير الماء وكون الواجب من الصلاة في اليوم والليلة خمسين وأن لا تجوز الصلاة في غير المسجد وحرمة الجماع بعد العتمة في الصوم والأكل بعد النوم فيه وكتابة ذنب المذنب ليلا على باب داره صباحا. "و" إلى "ما" أي حكم "سقط أي لم يجب" أي لم يثبت "مع العذر مع شرعيته في الجملة" ويسمى هذا القسم رخصة إسقاط "وهذان" القسمان للرخصة "باعتبار ما يطلق عليه اسم الرخصة" سواء كان بطريق الحقيقة أو المجاز لصحة إطلاقها عليهما مجازا باعتبار الصورة أما الأول فلسقوط ذلك في حقنا توسعة وتخفيفا بعد ثبوته في حق من قبلنا إذا قابلنا أنفسنا بهم. وأما الثاني فلسقوطه في محل العذر مع شرعيته في الجملة ومن ثمة كانت المجازية في الأول أتم "لا" أنهما قسمان للرخصة باعتبار "حقيقتها" وهي ما استبيح مع قيام الدليل المحرم لانتفائها فيهما فهذا التقسيم إنما يخرج القسمين الأولين لا غير بخلاف التقسيم الحقيقي للعزيمة فإنه يخرج الأربعة، ثم مثل هذا الأخير بقوله "كالقصر" للصلاة الرباعية للمسافر "لإيجاب السبب" الموجب لها "والأربع في غير المسافر وركعتين فيه" أي المسافر "بحديث عائشة" في الصحيحين حيث قالت فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر "وسقوط حرمة(23/408)
الخمر والميتة للمضطر" أي شرب الخمر وأكل الميتة مخافة الهلاك على نفسه من العطش والجوع "والمكره" على شرب الخمر وأكل الميتة بالقتل فحرمتهما ساقطة مع عذر الاضطرار ثابتا عند عدمه وهذا صحيح واضح على ما هو ظاهر الرواية من سقوط الحرمة في هذه الحالة "للاستثناء" أي لقوله تعالى: {إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] من قوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119] إذ الاستثناء من الحظر إباحة "فتجب الرخصة" التي هي الشرب والأكل كما يجب شرب الماء وأكل الخبز لدفع الهلاك "ولو مات للعزيمة" أي للامتناع عنهما "أثم" كما لو امتنع من شرب الماء وأكل الخبز حتى مات لإلقائه بنفسه إلى التهلكة من غير ملجئ لكن هذا إذا علم بالإباحة في هذه الحالة؛ لأن في انكشاف الحرمة خفاء فيعذر بالجهل ذكره الإسبيجابي ولا يحنث بأكلها مضطر إذا حلف لا يأكل الحرام وذهب كثير منهم أبو يوسف في رواية أن الحرمة لا ترتفع، وإنما رفع إثمها كما في الإكراه على الكفر فلا يأثم بالامتناع ويحنث في الحلف المذكور وعلى هذا فلا يصلح أن يكون هذا من مثل هذا القسم بل يكون من مثل القسم الأول قالوا لقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ(23/409)
ص -196-…اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3] أي يغفر له ما أكل مما حرم عليه حين اضطر إليه فدل إطلاق المغفرة على قيام الحرمة إلا أنه تعالى رفع المؤاخذة رحمة على عباده. وأجيب بأن إطلاق ذكر المغفرة مع الإباحة باعتبار ما يقع من تناول القدر الزائد على بقاء المهجة إذ يعسر على المضطر رعاية ذلك هذا وأورد المكره إن كان مضطرا لم يكن لذكره فائدة، وإن لم يكن مضطرا لم يدخل في إلا ما اضطررتم إليه وأجيب بأن كل مكره بما فيه إلجاء على ما هو المراد هنا مضطر من غير عكس إلا أن الاضطرار نوعان ما يكون من جهة الشرع وما يكون من جهة الغير وهذا هو الذي يسمى بالإكراه عرفا ويستبد بنوع من الأحكام فيكون في ذكره إشارة إلى النوعين جميعا وإلى أنهما في هذا الحكم سواء.
"ومنه" أي القسم الأخير من الرخصة "سقوط غسل الرجل" الذي كان العزيمة حيث لا خف "مع الخف" في مدة المسح؛ لأن استتار القدم بالخف منع سراية الحدث إليها بدليل أنه لو نزعه بعد المسح لزمه غسل الرجلين ولو لم يسر إليهما لم يجب إذ لا يجب على شيء من البدن بدون الحدث فظهر أن غسل الرجلين في هذه الحالة ساقط وأن المسح شرع تيسيرا ابتداء لا على معنى أن الواجب من غسل الرجل يتأدى بالمسح إذ لو كان كذلك لما اشترط كون أول حدث بعد اللبس طارئا على طهارة كاملة كما في المسح على الجبيرة؛ لأن المسح حينئذ يصلح رافعا للحدث الساري إلى القدم وظهر أن الشرع أخرج السبب الموجب للحدث من أن يكون عاملا في الرجل ما دامت مستترة بالخف وجعل الخف مانعا من سراية الحدث إلى القدم "وقولهم" أي جماعة من الحنفية في هذه المسألة "الأخذ بالعزيمة" وهو غسل الرجل "أولى" من الأخذ بالرخصة فيها "معناه إماطة" أي إزالة "سبب الرخصة بالنزع" للخف ليغسلهما أولى من عدمها ليمسح على الخف.(23/410)
هذا وذكر الزيلعي شارح الكنز أن كون المسح على الخف من هذا النوع سهو فإن من شأن هذا النوع أن لا تبقى العزيمة مشروعة معه لكن الغسل في الرجل مشروع، وإن لم ينزع خفيه ولأجل ذلك يبطل مسحه إذا خاض في الماء ودخل في الخف حتى انغسل أكثر رجليه ذكره في عامة الكتب وكذا لو تكلف وغسل رجليه من غير نزع الخف أجزأه عن الغسل حتى لا يبطل بانقضاء المدة. وتعقبه شيخنا المصنف بأن مبنى هذه التخطئة على صحة هذا الفرع وهو منقول في الفتاوى الظهيرية لكن في صحته فإن كلمتهم متفقة على أن الخف اعتبر شرعا مانعا سراية الحدث إلى القدم فتبقى القدم على طهارتها ويحل الحدث بالخف فيزال بالمسح وبنوا عليه منع المسح للمتيمم والمعذورين بعد الوقت وغير ذلك من الخلافيات وهذا يقتضي أن غسل الرجل في الخف وعدمه سواء إذا لم يبتل معه ظاهر الخف في أنه لم يزل به الحدث؛ لأنه في غير محله فلا تجوز الصلاة؛ لأنه صلى مع حدث واجب الرفع إذ لو لم تجب والحال أنه لا يجب غسل الرجل جازت الصلاة بلا غسل ولا مسح فصار كما لو ترك ذراعيه وغسل محلا غير واجب الغسل كالفخذ ووزانه في الظهيرية بلا(23/411)
ص -197-…فرق لو أدخل يده تحت الجرموقين فمسح فوق الخفين. وذكر فيها أنه لم يجز وليس إلا؛ لأنه في غير محل الحدث والأوجه في ذلك الفرع كون الأجزاء إذا خاض النهر لابتلال الخف، ثم إذا انقضت المدة إنما لا يتقيد بها لحصول الغسل بالخوض والنزع إنما وجب للغسل وقد حصل ا هـ قلت على أن الحكم للفرع المذكور وليس في عامة الكتب بل في تتمة الفتاوى الصغرى، وفي فتاوى الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل لا ينتقض مسحه على كل حال؛ لأن استتار القدم بالخف يمنع سراية الحدث إلى الرجل فلا يقع هذا غسلا معتبرا فلا يوجب بطلان المسح ويوافقه ما في المجتبي وعن أبي بكر العياضي لا ينتقض، وإن بلغ الماء الركبة ولا ريب في اتجاه هذا إن شاء الله تعالى كما ذكر المصنف إلا أن قوله والأوجه إلخ يفيد تمشية القول بعدم وجوب غسل الرجل إذا انقضت المدة وهو غير محدث والذي يظهر للعبد الضعيف غفر الله تعالى له أنه يجب عليه غسل رجليه ثانيا إذا نزعهما أو انقضت المدة وهو غير محدث؛ لأن عند النزع أو انقضاء المدة يعمل ذلك الحدث السابق عمله من السراية إلى الرجلين وقتئذ فيحتاج إلى مزيل له عنهما حينئذ للإجماع على أن المزيل لا يظهر عمله في حدث طارئ بعده فليتأمل.(23/412)
"والسلم" وهو بيع آجل بعاجل "سقط اشتراط ملك المبيع" فيه مع الإجماع على اشتراطه فيما عداه من البياعات وقوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تبع ما ليس عندك" قال الترمذي حسن صحيح، وصححه ابن حبان والحاكم لترخيصه فيه كما دل عليه حديث ابن عباس المتفق عليه قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال: "من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" تيسيرا وتخفيفا؛ لأنه بيع المفاليس فكان رخصة مجازا لا حقيقة؛ لأن السبب المحرم قد انعدم في حقه شرعا "فلو لم يبع سلما وتلف جوعا" أي حتى إنه لو امتنع عن قبول السلم عند الجوع حتى مات "أثم" كما ذكره صدر الإسلام وغيره "واكتفى بالعجز التقديري عن المبيع" وهو أن يكون المسلم فيه في ملكه ولكنه مستحق الصرف إلى حاجته إذ السلم عقد بأرخص الثمنين فإقدامه عليه دليل على أنه مصروف إلى حاجته وإلا حجزه عقله عن الإقدام عليه "فلم يشرط عدم القدرة عليه" أي العجز الحقيقي وهو أن لا يكون في ملكه حقيقة "واقتصر الشافعية على أن ما شرع من الأحكام لعذر مع قيام المحرم لولا العذر رخصة" فما شرع من الأحكام أي لفعل كأكل الميتة أو لترك كترك الصوم للمسافر جنس متناول للمطلوب وغيره ولعذر أي ما يطرأ في حق المكلف من أمر مناسب للتسهيل عليه مخرج لما ليس كذلك من الأحكام المشروعة كوجوب الصلاة والزكاة والخصال المرتبة في الكفارة ومع قيام المحرم أي بقاء الدليل الدال على حرمة ذلك الفعل أو الترك معمولا به أي مثبتا للحرمة حتى في حق المكلف أيضا لولا العذر فهو قيد لوصف التحريم لا للقيام كما نبه عليه التفتازاني مخرج لما نسخ تحريمه؛ لأنه لا قيام للمحرم حيث لم يبق معمولا به وما خص من دليل المحرم؛ لأن التخلف ليس بمانع في حقه بل التخصيص بيان أن الدليل لم يتناوله. "وإلا" أي، وإن لم يكن الحكم(23/413)
ص -198-…المشروع هكذا "فعزيمة ومقتضاه" أي هذا الاقتصار "انتفاء التعلق" أي تعلق الحكم الذي هو التحريم "بقائم العذر" لعدم إثبات المحرم الحرمة في حقه "ويقتضي امتناع صبر المكره على الكلمة" أي على إجراء كلمة الكفر على لسانه بالقتل "لحرمة قتل النفس بلا مبيح" ويؤيده قول الأبهري في قول القاضي عضد الدين دليل الحرمة إذا بقي معمولا به وكان التخلف عنه لمانع طارئ في حق المكلف لولاه لثبتت الحرمة في حقه فهو الرخصة ا هـ يدل على أن المكلف إن لم يبق مكلفا عند طرو العذر لم يثبت رخصة في حقه؛ لأن الرخصة إنما تكون في الأحكام الاقتضائية والتخييرية والتكليف شرط لها فعلى هذا لا يكون عدم تحريم مثل إجراء المكره كلمة الشرك على لسانه وإفطاره في رمضان وإتلافه مال الغير وجنايته على الإحرام رخصة؛ لأن الإكراه الملجئ يمنع التكليف ا هـ. ثم قد يقال تعريف الرخصة المذكور وهو للآمدي وابن الحاجب لكن بلا ذكر من الأحكام غير جامع؛ لأنه إن صدق على الرخصة الواجبة كأكل الميتة للمضطر على الصحيح المشهور عند الشافعية لا يصدق على الرخصة المندوبة كقصر الرباعية لمسافر ثلاثة أيام ولا على الرخصة المباحة كالسلم والإجارة فالأولى قول المنهاج الحكم إن ثبت على خلاف الدليل لعذر فرخصة وإلا فعزيمة وجمع الجوامع والحكم الشرعي إن تغير إلى سهولة لعذر فرخصة وإلا فعزيمة، ثم تقسيم الحكم إليهما طريق الحاصل والمنهاج وغيرهما وآخرون كالإمام الرازي على أنهما من أقسام الفعل الذي هو متعلق الحكم هذا وبعضهم كالبيضاوي على دخول الأحكام الخمسة في العزيمة وبعضهم كالإمام الرازي إلا المحرم وخصها القرافي بالواجب والمندوب، وقال ولا يمكن أن يكون المباح من العزائم فإن العزم هو الطلب المؤكد فيه والغزالي في المستصفى والآمدي في الأحكام وابن الحاجب في المختصر الكبير بالواجب لا غير قال التفتازاني وهو مخالف لاصطلاح الجمهور، ثم الآمدي وصاحب البديع على أنهما من أحكام(23/414)
الوضع والظاهر أنهما من أحكام الاقتضاء والتخيير وقيل للشارع في الرخص حكمان كونها وجوبا أو ندبا أو إباحة وهو من أحكام الاقتضاء والتخيير وكونها مسببة عن عذر طارئ في حق المكلف يناسب تخفيف الحكم عليه مع قيام الدليل على خلافه وهو من أحكام الوضع؛ لأنه حكم بالمسببية ولا بدع في جواز اجتماعهما في شيء واحد من جهتين فإن إيجاب الجلد للزاني من أحكام الاقتضاء من وجه وهو ظاهر ومن أحكام الوضع من حيث كونه مسببا عن الزنا وعليه مشى الأبهري، والله سبحانه أعلم.
"تتمة" لهذا الفصل "الصحة ترتب المقصود من الفعل عليه" أي على الفعل "ففي المعاملات الحل والملك"؛ لأنهما المقصودان منها فترتبهما عليها صحتها "وفي العبادات المتكلمون" قالوا هي "موافقة الأمر" أي أمر الشارع وقوله "فعله" أي المأمور به بالجر1 حال
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 بالجر إلى قوله بدل منه كذا في النسخ وحرر هذا الإعراب. كتبه مصححه.(23/415)
ص -199-…كونه "مستجمعا ما يتوقف عليه" بدل منه إذ موافقة الفعل لأمر الشرع هي المقصود من طلبه الذي هو الأمر عند المتكلمين "وهو" أي فعله مستجمعا يتوقف عليه "معنى الإجزاء والفقهاء" قالوا "هما" أي الصحة والإجزاء في العبادات "اندفاع وجوب القضاء"؛ لأنه المقصود فيها فالخلاف في نفس الأمر المقصود منها كما استحسنه القاضي عضد الدين لا في نفس القضاء "ففيه" أي الحكم الذي هو الصحة عند الفقهاء "زيادة قيد" عليه عند المتكلمين فإن حاصله أنها موافقة الأمر على وجه يندفع به القضاء ثم هذه العبارة أحسن من قولهم كون الفعل مسقطا للقضاء لما في تلك من المشاحة1 اللفظية بأن القضاء لم يجب فكيف يسقط وأحسن من قول العضد إنها دفع وجوبه؛ لأن الصحة صفة الفعل والدفع صفة المكلف فغير المصنف هذا بما يطابق الحال وهو اندفاع وجوب القضاء "فصلاة ظان الطهارة مع عدمها" أي الطهارة في نفس الأمر "صحيحة ومجزئة على الأول" أي قول المتكلمين لموافقة الأمر على ظنه المعتبر شرعا بقدر وسعه "لا الثاني" أي قول الفقهاء لعدم سقوط القضاء لها "والاتفاق على القضاء عند ظهوره" أي عدم الطهارة "غير أن الإجزاء لا يوصف به وبعدمه إلا محتملهما" أي الإجزاء بأن يقع على وجه معتد به شرعا لكونه مستجمعا للشرائط المعتبرة، وعدمه بأن يقع على وجه غير معتد به لانتفاء شرط من شروطه "من العبادات" كالصلاة والصوم والحج "بخلاف المعرفة" لله تعالى؛ لأنها لا تحتملهما فإنه إن عرفه تعالى بطريق ما فلا كلام، وإن لم يعرفه فلا يقال عرفه معرفة غير مجزية؛ لأن الفرض أنه ما عرفه بل الواقع جهل لا معرفة "وقيل يوصف بهما" أي بالإجزاء وعدمه ما ليس بعبادة أيضا مما يحتمل أن يقع على وجهين وهو "رد الوديعة على الملك" حال كونه "محجورا" لسفه أو جنون "وغير محجور" فيوصف الأول بالإجزاء والثاني بعدمه "ودفع" والدافع الإسنوي "بأنه" أي ردها إلى المحجور عليه "ليس تسليما لمستحق التسليم" بخلاف ردها(23/416)
إلى غير المحجور فلا يكون من مثل ما يقع على وجهين بل من مثل ما لا يقع إلا على جهة واحدة فيذكر منه كما وقع في المحصول والتحصيل والمنهاج. ويظهر أن الدفع إلى المالك المحجور ليس ردا غير مجز فيكون الرد على المالك من حيث هو مما يحتمل وقوعه مجزيا وغير مجز فالوجه حذفه من مثل ما لا يقع إلا على وجه واحد كما حذفه في الحاصل.
"ثم قيل مقتضى" كلام "الفقهاء" أن الإجزاء "لا يختص بالواجب ففي حديث الأضحية" عن أبي بردة بن نيار أنه ذبح شاة قبل الصلاة فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لا تجزي عنك" قال عندي جذعة من المعز فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تجزي" إلى آخره أي عنك "ولا تجزي عن أحد بعدك" رواه أبو حنيفة وهو بمعناه في الصحيحين وغيرهما، ثم هذا بناء على أن الأضحية سنة كما هو قول الجمهور منهم أصحاب هذا القول "ونظر فيه برواية الدارقطني"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1 المشاحة كذا في النسخ ولعل الصواب المسامحة. كتبه مصححه.(23/417)
ص -200-…مرفوعا بإسناد صحيح على ما قال "لا تجزي صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن" على وجوبها أي أم القرآن في الصلاة فإن الاستدلال بها على الوجوب دليل على أن الإجزاء خاص به وإلا لم يلزم الوجوب وهو ظاهر. "وقالوا هو" أي هذا الحديث بهذا اللفظ في الدلالة على وجوبها "أدل من الصحيحين" أي من لفظهما على وجوبها وهو لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب بناء على ما قيل من أنه مشترك الدلالة؛ لأن النفي لا يرد إلا على النسب لا على نفي الخبر والخبر الذي هو متعلق الجار محذوف فيمكن تقديره صحيحة فيوافق مطلوبهم أو كاملة فيوافق الحنفية وفيه نظر "وفي حديث الاستنجاء" عن عائشة مرفوعا: "إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار فليستطب بها فإنها تجزي عنه" أخرجه أبو داود وغيره مع أن الاستنجاء بثلاثة أحجار فرض عندهم قال المصنف "وهذا" النظر "يحول الدليل" المذكور على أن الإجزاء يوصف به المندوب "اعتراضا عليهم" يعني قولكم أنه يخص الواجب حتى جعلتم حديث: "لا تجزي صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن" وحديث فإنها تجزي دليلا على وجوب الفاتحة، والاستنجاء يرد عليه حديث الأضحية نقضا تقريره لو صح لم يقل صلى الله عليه وسلم تجزي إلى آخره "والصحة عمتهما" أي العبادات والمعاملات "كالفساد" في عمومه لهما "وهو" أي الفساد "البطلان" عند الشافعية "والحنفية كذلك" أي يقولون بأن الفساد مرادف للبطلان "في العبادات بفوات ركن أو شرط" فالفاسدة هي الباطلة وهي ما فات فيها ركن أو شرط "وقدمنا ما اخترنا من الزيادة في النهي" وهو أن النهي إن نافى حكمه حكم الفعل بطل مطلقا غير أنه جعل المراد المقصود من العبادة هناك هو حصول ثوابه تعالى واندفاع عقابه فحكم بأن النهي إذا كان تحريما يبطل العبادة دون المعاملة؛ لأن حكمه الأخروي العقاب المنافي لحكم العبادة أي أثرها فحكم كذلك بخلاف مذهبهم في صحة صوم يوم العيد لو صامه وحكم المعاملة ثبوت ملك عين أو منفعة ويثبت(23/418)
مع الحرمة ذلك فجعل المقصود من العبادة أخرويا ومن المعاملة دنيويا. "وفي المعاملة" قالت الحنفية "كونها ترتب أثرها" وهو الملك عليها حال كونها "مطلوبة التفاسخ شرعا الفساد وغير مطلوبة" التفاسخ شرعا "الصحة وعدمه" أي ترتب أثرها عليها "البطلان"، وإنما قالوا هكذا "لثبوت الترتب كذلك في الشرع بما قدمناه في النهي ففرق" بين مسميات أفراد المعاملة "بالأسماء" المذكورة، ووجه المناسبة بينها وبين مسمياتها ظاهر أما بين الصحيح ومسماه وهو المشروع بأصله ووصفه فلأنه موصل إلى تمام المقصود من دفع الحاجة الدنيوية مع سلامة الدين. وأما بين الفاسد ومسماه وهو المشروع بأصله لا بوصفه فلأنه يقال لؤلؤة فاسدة إذا بقي أصلها وذهب لمعانها وبياضها ولحم فاسد إذا أنتن ولكن بقي صالحا للغذاء. وأما بين الباطل ومسماه وهو ما ليس بمشروع بأصله ووصفه فيقال لحم باطل إذا صار بحيث لا يبقى له صلاحية الغذاء "واستدلال مانعي اتصاف المندوب بالإجزاء" من الحنفية "بما في الاستنجاء" من الحديث الماضي "قد يمنع عندهم فإنه" أي الاستنجاء "مندوب" عندهم إذا لم يبلغ الخارج قدر الدرهم "كاستدلال المعممين" أي كما يمنع استدلال القائلين بأنه يوصف به الواجب والمندوب "بما في الأضحية" أي بحديثها فقط "لأنها" أي(23/419)
ص -201-…الأضحية "واجبة" عند أبي حنيفة "ولا يضرهم" أي مانعي اتصاف المندوب بالإجزاء من الحنفية "ما في الفاتحة" من الحديث المذكور "لقولهم بوجوبها" أي الفاتحة في الصلاة "ومقتضى الدليل التعميم" أي تعميم اتصاف الواجب والمندوب به "لحديث الاستنجاء" وحديث الأضحية وقد كان الأولى أن يذكر هذه الجملة ما قبل قوله والصحة عمتهما. "ثم قد يظن الصحة والفساد في العبادات من أحكام الشرع الوضيعة وقد أنكر ذلك" الظن "إذ كون المفعول موافقا للأمر الطالب له" كما هو معنى الصحة عند المتكلمين "أو" كونه "مخالفا" للأمر الطالب له كما هو معنى عدم الصحة عندهم "وكونه" أي المفعول "تمام ما طلب حتى يكون مسقطا أي دافعا لوجوب قضائه" كما هو معنى الصحة عند الفقهاء ولا يخفى وجه تفسير إسقاط الوجوب بدفعه "وعدمه" أي وكون المفعول عدم تمام المطلوب كما هو معنى عدم الصحة عندهم، ثم كون المفعول إلخ مبتدأ خبره "يكفي في معرفته العقل" حال كونه "غير محتاج إلى توقيف الشرع" على ذلك "ككونه" أي كما يعرف كونه "مؤديا للصلاة وتاركا" لها بالعقل سواء بسواء "فحكمنا به" أي بكل من الصحة والفساد "عقلي صرف" أي خالص هذا ما قرره القاضي عضد الدين شرحا لقول ابن الحاجب. وأما الصحة والبطلان أو الحكم بهما فأمر عقلي؛ لأنهما إما كون الفعل مسقطا للقضاء وإما موافقة أمر الشارع، والبطلان والفساد نقيضها، قالوا: وإنما قيد القاضي بالعبادات كما أشار إليه ابن الحاجب؛ لأنه لا شك في أنهما من أحكام الوضع في المعاملات إذ لا يستراب في أن كون المعاملات مستتبعة لثمراتها المطلوبة منها متوقفة على توقيف من الشارع فلم تذكر؛ لأن الغرض وهو إنكار كونهما من أحكام الوضع لا يتأتى فيها بخلافهما في العبادات.(23/420)
قال المصنف "ولا يخفى أن ترتب الأثر" الذي هو الصحة على الفعل كالصلاة "وضعي" لكن بالنسبة إلى اصطلاح الفقهاء؛ لأن ورود أمر الشارع بالصلاة بالتيمم يحتاج في معرفة كونها صحيحة وغير صحيحة بمعنى كونها مندفعا عنها القضاء وغير مندفع إلى توقيف للشارع؛ لأن بعضها لا يسقط القضاء كصلاة المتيمم المقيم عند الشافعية بشرط كونه ممنوعا من الوضوء من قبل العباد عند الحنفية وبعضها يسقطه كصلاة المسافر المتيمم لعجزه عن استعمال الماء لبرد أو غيره لا بالنسبة إلى اصطلاح المتكلمين فإنه لا يحتاج في معرفة كونها صحيحة وغير صحيحة بمعنى كونها موافقة لأمر الشارع أم لا بعد ورود الأمر بها إلى توقيف الشارع "وكون الحكم به" أي ترتب الأثر على الفعل "بعد معرفته" أي ترتب الأثر عليه إنما هو "بالعقل شيء آخر" ثم لا يخفى على المتأمل أن هذا أولى من قول السبكي الصواب أن الصحة والبطلان والحكم بهما أمور شرعية، وكون الفعل مسقطا أو موافقا للشرع هو فعل الله وتصييره إياه سببا لذلك فما الموافقة ولا الإسقاط بعقليين؛ لأن للشرع فيهما مدخلا ولا بأس بقوله ولو لم تكن الصحة شرعية لم يقض القاضي بها عند اجتماع شرائطها لكنه يقضي بالصحة إجماعا فدل على أنها شرعية إذ لا مدخل للأقضية في العقليات.(23/421)
ص -202-…"واعلم أن نقل الحنفية عن الفقهاء والمتكلمين في الأصل وقوع الظان مخطئا على عكس الشافعية وهي المسألة القائلة هل تثبت صفة الجواز للمأمور به إذا أتى" المأمور "به" أي بالمأمور به "إلى آخرها" وهو قال بعض المتكلمين لا إلا بدليل وراء الأمر والصحيح عند الفقهاء أنه يثبت به صفة الجواز كذا في المنار قلت، وفي نفس الأمر لم تختص الشافعية بنقل ما تقدم من الخلاف في معنى الصحة بل شاركهم فيه كذلك الحنفية فقد ذكره صاحب الكشف والتحقيق فيهما كذلك من غير عزو إلى الشافعية ولم تختص الحنفية بالخلاف المذكور في ثبوت صفة الجواز للمأمور به إذا أتى بالمأمور به بل ذكره الشافعية وغيرهم كذلك فقد قال ابن الحاجب وغيره الإجزاء الامتثال للأمر وحينئذ فالإتيان بالمأمور به على وجهه أي على الوجه الذي أمر به من غير إخلال بشيء من أركانه وشرائطه يحقق الإجزاء اتفاقا لامتناع انفكاك الشيء عن نفسه فإن حقيقة معنى الامتثال للأمر الإتيان المذكور وقيل الإجزاء إسقاط القضاء وحينئذ فقال الجمهور إتيان المأمور به على وجهه يستلزم سقوط القضاء إذ لو لم يستلزم لجاز أن يبقى الطلب متعلقا بما في ذمة المكلف مع إتيانه بالمأمور به على وجهه وهو غير جائز؛ لأنه إن كان متعلقا بعين ما فعل كان طلبا لتحصيل الحاصل وهو محال، وإن كان متعلقا بغيره عوضا عنه لا خلاف فيه لزم أنه لم يأت أولا بكل المأمور به بل ببعضه وقد فرض أنه أتى به كله، وإن كان متعلقا بغيره واستئنافا فليس بقضاء وذهب أبو هاشم وعبد الجبار إلى أنه لا يستلزمه بمعنى أنه لا يمتنع أن يقول الحكيم افعل كذا فإذا فعلت أديت الواجب ويلزمك مع ذلك القضاء قال عبد الجبار في العمد وهذا هو معنى قولنا غير مجزئ ولا نعني به أنه لم يمتثل ولا أنه يجب القضاء فيه، ولا يكون وقع موقع الصحيح الذي لا يقضى. ا هـ. فقد أشار إلى أنه لم يخالف في الإجزاء بالتفسير الأول له ولا في براءة الذمة بالإتيان بالمأمور به،(23/422)
وإنما يخالف فيه بمعنى أن فعل المأمور به لا يمنع من الأمر بالقضاء وأنه لم يلتزم أن القضاء ما فعل بعد وقت الأداء استدراكا بل هذا تفسير لأحد قسميه فهو عنده مثل الواجب أولا. وإن كان الأول مستجمعا لشرائطه فإذن النزاع لفظي كما ذكر السبكي للاتفاق على أنه أتى بالمأمور به على وجهه وعلى أنه يمكن أن يرد أمر آخر بعبادة يوقعها المأمور على حسب ما أوقع الأولى وأنه كما ثم من لم يسمها قضاء، ثم من يسميها قضاء، وإن كانت هذه التسمية بعيدة في نفس الأمر فإذا عرف هذا فقد ظهر أن المسألة عند التحقيق واحدة كما أشار إليه المصنف لكن ليس بين النقول في الموضعين خلاف في الحقيقة. وأما أن الفرع قيل فيه عكس ما تقدم وهو أن الصلاة المذكورة صحيحة ومجزية عند الفقهاء وغير مجزية ولا صحيحة عند المتكلمين فلم أقف عليه بل في البديع قال عبد الجبار لا يكون الامتثال دليل الإجزاء بمعنى سقوط القضاء وإلا فلو كان الامتثال مستلزما للإجزاء بمعنى سقوط القضاء يلزم أن لا يعيد الصلاة أو يأثم إذا علم الحدث بعدما صلى بظن الطهارة واللازم باطل؛ لأنه مأمور بالإعادة وغير آثم، وإنما تثبت هذه الملازمة؛ لأن المصلي إما مأمور أن يصلي بظن الطهارة أو بيقينها فإن كان الأول فلا إعادة عليه لإتيانه(23/423)
ص -203-…بالمأمور به على وجهه، وإن كان الثاني لزم الإثم إذا لم يأت بالمأمور به على وجهه قلنا المكلف مأمور بأمر ثان بتوجهه بالأداء حال العلم بفساد الأداء على حسب حاله من العلم والظن حتى لو مات عند العلم أجزأته تلك الصلاة وسقطت الإعادة وحينئذ لا يأثم إذا صلى بظن الطهارة؛ لأن التكليف بحسب الوسع هذا عند من يقول القضاء بأمر جديد ولمن يوجب القضاء بالأمر الأول أن يجعل الإجزاء بالامتثال مشروطا بعدم العلم أو الظن بالفساد أما مع العلم أو الظن بالفساد فليس الإتيان بالمأمور به دليل الإجزاء ا هـ مشروحا وهذه الجملة تفيد أن وجوب القضاء عند ظهور عدم الطهارة اتفاق كما ذكر المصنف ثمة كما تفيد أيضا أن لا وجوب للقضاء اتفاقا عند عدم العلم والظن بعدم الطهارة، والله سبحانه أعلم.
"الفصل الرابع: في المحكوم عليه المكلف
مسألة
"تكليف المعدوم معناه قيام الطلب" للفعل أو الترك "ممن سيوجد بصفة التكليف فالتعليق" للطلب "بهذا المعنى" للمعدوم في الأزل "هو المعتبر في التكليف الأزلي وليس" تكليف المعدوم بهذا المعنى "بممتنع" عند الأشاعرة وحكي امتناع تكليف المعدوم عن غيرهم "قالوا"؛ لأن في تكليفه "يلزم أمر ونهي وخبر بلا مأمور" ومنهي "ومخير وهو" أي ولزوم ذلك "ممتنع" فيمتنع الملزوم "قلنا" يلزم ذلك "في اللفظي ذي التعلق التنجيزي" من الأمر والنهي "والخطاب الشفاهي في الخبر أما" الطلب "النفسي فتعلقه بذلك المعنى" بالمعدوم "واقع نجده في طلب صلاح ولد سيوجد أو إن وجد وتجد معنى الخبر في نفسك مترددا للاعتبار وغيره أما حقيقة الأمرية" والنهيية "والخبرية الممتنعة بلا مخاطب موجود فبعروض التعلق التنجيزي للنفسي فحيث نفوا عنه التعلق فهو" أي نفيهم عنه "بهذا" المعنى "وإذا أثبت" له التعلق "فبذاك" المعنى فلا خلاف في المعنى لكن هذا إنما يتأتى على القول بالنفسي كما هو الحق، والله سبحانه أعلم.
مسألة(23/424)
"يصح" عند الجمهور "تكليفه تعالى بما علم انتفاء شرط وجوده" الذي ليس بمقدور للمكلف "في الوقت" أي وقت الفعل كما لو أمر الله بصيام غد من علم موته قبل الغد "خلافا للإمام والمعتزلة والاتفاق" على صحة التكليف بالفعل "فيمن لا يعلم" انتفاء شرط وجوده الذي ليس بمقدور للمكلف وقت فعله وهو منحصر في غيره تعالى كقول السيد لعبده صم غدا غير عالم ببقاء حياته إلى غد "لنا لو شرط" لصحة التكليف "العلم" للمكلف "بالوجود" للشرط الذي ليس بمقدور في وقت الفعل "لم يعص مكلف بالترك لاستلزامه" أي الترك "انتفاء إرادة الفعل"؛ لأن الفعل المكلف به مشروط بالإرادة "وهو" أي انتفاؤها "معلوم له تعالى فلا تكليف" به لعلم الله تعالى بانتفائها "فلا معصية"؛ لأنها مخالفة التكليف واللازم باطل بالضرورة من الدين "ويلزم في غيره تعالى انتفاء العلم بالتكليف أبدا" وهذا دليل ثان فهو عطف على لم يعص "لتجويز الانتفاء" أي لتجويز المكلف انتفاء شرط الوجود "في الوقت(23/425)
ص -204-…وإجزائه لو" كان الوقت "موسعا لغيبه" أي غيب وجود الشرط بتجويز موته قبل فعله في كل جزء من أجزاء الزمان وإذا جوز في كل جزء هو فيه انتفاء شرط التكليف في الجزء الذي بعده لم يجزم بأنه مكلف في ذلك والعلم بالتكليف لا بد من كونه سابقا على الامتثال وذلك بالعلم بكونه يبقى مثلا بصفة التكليف إلى وقت الامتثال. فإذا فرض أنه لا يعلمه لم يعلم علم شرط التكليف وهو مستلزم لعدم العلم بالتكليف إذ ما لم يعلم وجود شرط الشيء لم يعلم وجوده وإذا لم يعلم التكليف لا يتصور الامتثال "فيمتنع الامتثال" ولو فعل لانتفاء العلم بالتكليف "ويلزمه" أي انتفاء العلم بالتكليف "عدم إقدام الخليل عليه السلام على الذبح" لولده لانتفاء شرط حله عند وقته وهو عدم النسخ واللازم باطل؛ لأنه أقدم عليه قطعا وهذا دليل ثالث فهو عطف على ما قبله أو على ما قبل قبله "والإجماع على القطع" للمكلف "بتحقق الوجوب والتحريم قبل المعصية" بالمخالفة "والتمكن" من الفعل "فانتفى" بواسطة هذا الإجماع "ما يخال" أي ما اعترض على هذا من ظن "أن الإقدام منه" أي من الخليل صلى الله عليه وسلم على ذبح ولده "ومن غيره" أي غير الخليل على الواجب "لظن التكليف بظن عدم الناسخ" بناء على أن الأصل عدمه "وهو" أي ظن التكليف مع ظن عدم الناسخ "كاف في لزوم العمل كوجوب الشروع" في الفرض "بنية الفرض" إجماعا ولو لم يكن عالما لم يجب بنية الفرض "قالوا" أي المعتزلة أولا "لو لم يشرط" في صحة التكليف بالفعل العلم بوجود شرطه الذي ليس بمقدور للمكلف في وقته "لم يشترط إمكان الفعل؛ لأن ما عدم شرطه غير ممكن ومر في تكليف المحال نفيه" أي نفي التكليف بغير الممكن "والجواب النقض" الإجمالي "بتكليف من لم يعلم الانتفاء" أي بالتكليف بالفعل الذي جهل الآمر انتفاء شرط وقوعه؛ لأن عدم إمكان الفعل الذي هو عدم شرطه بالنسبة إلى المأمور مشترك بين أن يكون الآمر عالما بعدم شرطه كما في أمر الله تعالى أو(23/426)
جاهلا كما في الشاهد مثل أمر السيد غلامه من غير تأثير لعلم الآمر أو جهله في ذلك فإنه يلزم أن لا يصح هذا التكليف وقد صح اتفاقا "وبالحل بأن" الإمكان "المشروط" في التكليف "كون الفعل يتأتى" أي يمكن إيجاده "عند" وجود "وقته وشرائطه لا" أن شرط التكليف "وجودها" أي شرائط الفعل "بالفعل؛ لأن عدمها" أي شرائط الفعل "لا ينافي" الإمكان "الذاتي" له والإمكان الذاتي للفعل هو الشرط في التكليف به وإلا لم يصح تكليف كل من مات على كفره ومعصيته؛ لأن علمه تعالى متعلق بأنه لا يؤمن ولا يتوب "قالوا" ثانيا "لو صح" التكليف "مع علم الآمر بالانتفاء" لشرطه "صح" التكليف "مع علم المأمور" بانتفائه. "إذ المانع" من الصحة ثمة إنما هو "عدم إمكانه" أي الفعل "دونه" أي الشرط؛ لأن شرط التكليف الإمكان "وهو" أي عدم إمكانه "مشترك" بين علم الآمر بالانتفاء وعلم المأمور به. "الجواب منع مانعية ما ذكر" من الصحة "بل" المانع منها "انتفاء فائدة التكليف وهو" أي انتفاؤها إنما يكون إذا انتفى الشرط "في علم المأمور لا" في علم "الآمر فإنها" أي فائدة التكليف "فيه" أي في انتفاء الشرط في علم الآمر "الابتلاء" للمأمور "ليظهر عزمه" أي المأمور على الفعل "وبشره" به "وضدهما" أي العزم والبشر وهو الترك والكراهة له "وبذلك" أي ظهور(23/427)
ص -205-…العزم والبشر وضدهما "يتحقق الطاعة والعصيان" فالطاعة على ظهور العزم والبشر والعصيان على ظهور ضدهما.
"واعلم أن هذه" المسألة "ذكرت في أصول ابن الحاجب وليست سوى جواز التكليف بما علم تعالى عدم وقوعه" من المكلف به "وهم ذكروا في مسألة شرط المطلوب الإمكان الإجماع على وقوع التكليف به" أي بما علم تعالى عدم وقوعه "فحكاية الخلاف مناقضة" كما ذهب إليه غير واحد من شارحي كلامه على ما ذكر السبكي.
"ثم على بعده" أي الخلاف "يكفي عن الإكثار" أن يقال "لنا القطع بتكليف كل من مات على كفر ومعصية بالإيمان والإسلام وإذ منكره" أي الجواز "يكفر بإنكار ضروري ديني"؛ لأنا نعلم بالضرورة من الدين أن الكفار مأمورون بترك الكفر إلى الإيمان "فإنكار إيجاب الإيمان كفر إجماعا" استبعدنا الخلاف خصوصا من "الإمام". وأما السبكي فقال ما لوقوعه شرط إن علم الآمر الشرط واقعا فلا إشكال في صحة التكليف، وإن جهله ويفرض في السيد يأمر عبده فكذلك ونقل المصنف الاتفاق عليه وفيه نظر، وإن علم انتفاءه فعلى قسمين أحدهما ما يتبادر الذهن إلى فهمه حين إطلاق التكليف كالحياة والتمييز فإن السامع متى سمع التكليف يتبادر ذهنه إلى أنه يستدعي حيا مميزا وهذا هو الذي خالف فيه إمام الحرمين والثاني خلافه وهو ما كان خارجيا لا يتبادر إليه الذهن وهو تعلق علم الله مثلا بأن زيدا لا يؤمن فإن انتفاء هذا التعلق شرط في وجود إيمانه ولكن السامع يقضي بإمكان زيد غير ناظر إلى هذا الشرط وهذا لا يخالف فيه الإمام ولا غيره وهو ما سبق نقل الإجماع عليه، ثم قال على أن هذه المسألة لا يترجمها أئمتنا بما ترجمها المصنف، وإنما هي مترجمة عندهم بما جعله المصنف فائدة لهما وهو أنه هل يعلم المأمور كونه مأمورا في أول وقت توجه الخطاب إليه أم لا يعلم ذلك حتى يمضي عليه زمان الإمكان؛ لأن الإمكان شرط التكليف والجاهل بوقوع الشرط جاهل بالمشروط لا محالة قال أصحابنا بالأول، وقالت(23/428)
المعتزلة بالثاني واختاره إمام الحرمين فهي في الحقيقة في زمن تحقق الوجوب على المكلف لا في صحة التكليف وعدمه ولكن عبارة الكتاب قاصرة فالفعل الممكن بذاته إذا أمر الله تعالى به عبده فسمع الأمر في زمن، ثم فهمه في زمن يليه هل يعلم العبد إذ ذاك أنه مأمور مع أن من المحتملات أن يقطعه عن الفعل قاطع عجز أو موت أو نحوهما أو يكون مشكوكا في ذلك؛ لأن التكليف مشروط بالسلامة في العاقبة وهو لا يتحققها أصحابنا على الأول فيرون ذلك محققا مستفادا من صيغة الأمر، وإنما الشك في رافع يرفع المستقر والمعتزلة على العكس، والله تعالى أعلم.
مسألة
"مانعو تكليف المحال" مجمعون "على أن شرط التكليف فهمه" أي التكليف أي تصوره بأن يفهم المكلف الخطاب قدر ما يتوقف عليه الامتثال لا بأن يصدق بأنه مكلف وإلا لزم الدور وعدم تكليف الكفار "وبعض من جوزه" أي تكليف المحال على هذا أيضا "لأنه" أي(23/429)
ص -206-…تكليف المحال عنده قد يكون "للابتلاء وهو" أي الابتلاء وهو الاختبار "منتف هنا"؛ لأن الابتلاء بدون الفهم لا يصح "واستدل" كما في أصول ابن الحاجب وغيره للمختار بأنه "لو صح" تكليف من لا يفهم التكليف "كان" تكليفه "طلب" حصول "الفعل" منه متلبسا "بقصد الامتثال"؛ لأنه معنى التكليف "وهو" أي طلبه بهذا القصد "ممتنع ممن لا يشعر بالأمر وقد يدفع" هذا الاستدلال "بأن المستحيل" في تكليف من لا يفهم التكليف "الامتثال ولا يوجب" استحالة الامتثال فيه "استحالة التكليف" أي تكليفه "إذ غايته" أي تكليف من لا يفهم "تكليف بمستحيل وبلا فائدة الابتلاء ويجب ذلك" أي جواز تكليف من لا يفهم التكليف "ممن يجيز عليه" أي على الله تعالى "تعذيب الطائع تعالى عنه بل" جواز هذا "أولى" من جواز تعذيب الطائع "وأيضا لو صح" تكليف من لا يفهم التكليف "صح تكليف البهائم إذ لا مانع فيها" أي البهائم من التكليف "سوى عدم الفهم وقلتم لا يمنع" عدم الفهم التكليف "ولا يتوقف مجيز تكليف المحال عن التزامه" أي جواز تكليف البهائم "غايته" أنه جائز "لم يقع وليس عدم المانع من التكليف علة لثبوته" أي التكليف "ليلزم الوقوع بل هي" أي علة ثبوت التكليف "الاختيار" أي اختياره لله تعالى ولم يثبت "ولو جعل هذا" الخلاف "ونحوه" خلافا "لفظيا فالمانع" من تكليف من لا يفهم التكليف يقول "لاتفاقنا على أن الواقع" أي المحقق في نفس الأمر "نقيضه" أي تكليف من لا يفهم التكليف وهو عدم تكليفه "فيمتنع" التكليف "بلا فهم" للتكليف "وإلا" لو لم يمتنع "اجتمع النقيضان" وهما تكليفه وعدم تكليفه وهو باطل "والمجيز" لتكليفه مجيز "بالنظر إلى مفهوم تكليف" وهو إلزام ما فيه كلفة أو طلبه على الخلاف "بالنسبة إلى من له القدرة عليه" أي على الفعل "على نحو ما قدمناه في الحاكم" من إمكان أن يقول قائل إن الخلاف في جواز تكليف ما لا يطاق وتعذيب الطائع لفظي "قالوا" أيضا "لو لم يصح" تكليف من(23/430)
لا يفهم التكليف "لم يقع" لكنه وقع وكيف لا "وقد كلف السكران حيث اعتبر طلاقه وإتلافه أجيب بأنه" أي اعتبارهما منه "من ربط المسببات بأسبابها وضعا" كربط وجوب الصوم بشهود الشهر لا من التكليف "قالوا" أيضا "قال تعالى {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} [النساء: 43] الآية فخوطبوا" أي السكارى "حال السكر أن لا يصلوا" وهو تكليف لمن لا يفهم التكليف "أجيب بأنه" أي الاستدلال بها "معارضة قاطع" وهو الدليل الدال على امتناع تكليف من لا يفهم "بظاهر" وهو الآية "فوجب تأويله" أي الظاهر؛ لأنه يؤول للقاطع "إما بأنه نهي عن السكر عند قصد الصلاة"؛ لأن النهي إذا ورد على واجب شرعا وقد تقيد بغير واجب انصرف إلى غير الواجب فلا يكون النهي في الآية للسكران عن الصلاة لكونها واجبة بل نهيا للصاحي عن السكر كما إذا ورد على ما هو واجب لا بالوجوب الشرعي وقد تقيد بغيره حيث ينصرف إلى القيد كما في قوله تعالى: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] فإنه نهي عن عدم الإسلام لا عن الموت وحرف النفي إذا دخل على جملة يتوجه النفي إلى القيد غالبا "أو" بأنه "نهى الثمل" بفتح المثلثة وكسر الميم قيل هو من بدت به أوائل الطرب ولم يزل عقله دون الطافح "لعدم التثبت" فيما ينبغي أن يأتي به في الصلاة "كالغصب" ويؤيده(23/431)