900- ثم وجه القاضي [على نفسه] السؤال المعروف في الخمر فإنها لا تغنى عن مرارتها لعينها وإنما تعني لما لا يحصل إلا عند الاستكثار منها وهي النشوة والطرب والسكر ثم يتعلق بتعاطي القليل منها من الحد ما يتعلق بتعاطي الكثير وقد تكلف الفقهاء وجوها من الكلام لا نراها ونقتصر على أقربها متناولا وذلك أنهم قالوا قليل الخمر داع إلى الكثير وليس في الإكثار منها عند الاستمكان من جنسها ركوب خطر واقتحام غرر فلو لم يوضع الحد في القليل لدعا إلى الكثير منه والغرر في المهج مع قلة المال كاف في الورع فهذا منتهى المطلوب في ذلك.
وإذا لاح مسلك الكلام في النفي والإثبات في هذه المسائل فنحن نذكر بعدها كلاما وجيزا يتخذه الناظر معتبره ويرقى به عن تعارض وجوه الكلام في فن يقصد منه بغية القطع فنقول.(20/129)
ص -79-…الباب الثالث: في تقاسيم العلل والأصول.
901- هذا الذي ذكره هؤلاء أصول الشريعة ونحن نقسمها خمسة أقسام.
أحدها: ما يعقل معناه وهو أصل ويئول المعنى المعقول منه إلى أمر ضروري لا بد منه مع تقرير غاية الإيالة الكلية والسياسية العامية وهذا بمنزلة قضاء الشرع بوجوب القصاص في أوانه فهو معلل بتحقق العصمة في الدماء المحقونة والزجر عن التهجم عليها فإذا وضح للناظر المستنبط ذلك في أصل القصاص تصرف فيه وعداه إلى حيث يتحقق أصل هذا المعنى [فيه] وهو الذي يسهل تعليل أصله ويلتحق به تصحيح البيع فإن الناس لو لم يتبادلوا ما بأيديهم لجر ذلك ضرورة ظاهرة فمستند البيع إذا آيل إلى الضرورة الراجعة إلى النوع والجملة ثم قد تمهد في الشريعة أن الأصول إذا ثبتت قواعدها فلا نظر إلى [طلب] تحقيق معناها في آحاد النوع وهذا ضرب من الضروب الخمسة.
902- والضرب الثاني: ما يتعلق بالحاجة العامة ولا ينتهي إلى حد الضرورة وهذا مثل تصحيح الإجارة فإنها مبنية على مسيس الحاجة إلى المساكن مع القصور عن تملكها وضنة ملاكها بها على سبيل العارية فهذه حاجة ظاهرة غير بالغة مبلغ [الضرورة المفروضة في البيع وغيره ولكن حاجة الجنس قد تبلغ مبلغ] ضرورة الشخص الواحد من حيث إن الكافة لو منعوا عما تظهر الحاجة فيه للجنس لنال آحاد الجنس ضرار لا محالة تبلغ مبلغ الضرورة في حق الواحد وقد يزيد أثر ذلك في الضرر الراجع إلى الجنس ما ينال الاحاد بالنسبة إلى الجنس وهذا يتعلق بأحكام الإيالة والذي ذكرناه مقدار غرضنا الآن.(20/130)
903- والضرب الثالث: ما لا يتعلق بضرورة [حاقة] ولا [حاجة] عامة ولكنه يلوح فيه غرض في جلب مكرمة أو في نفي نقيض لها ويجوز أن يلتحق بهذا الجنس طهارة الحدث وأزالة الخبث وإن أحببنا عبرنا عن هذا الضرب وقلنا: ما لاح ووضح الندب إليه تصريحا كالتنظيف فإذا ربط الرابط أصلا كليا به تلويحا كان ذلك في الدرجة الأخيرة والمرتبة الثانية البعيدة في المقايس وجرى وضع التلويح فيه مع الامتناع.(20/131)
ص -80-…عن التصريح وضع حمل المكلفين على مضمونه مع الاعتضاد بالدواعي الجبلية كما سبق تقرير هذا في المسالك السابقة والصور الممثلة.
904- والضرب الرابع: ما لا يستند إلى حاجة وضرورة وتحصيل المقصود فيه مندوب إليه تصريحا ابتداء وفي المسلك الثالث في تحصيله خروج عن قياس كلي وبهذه المرتبة يتميز هذا الضرب من الضرب الثالث.
وبيان ذلك بالمثال: أن الغرض من الكتابة تحصيل العتق وهو مندوب إليه والكتابة المنتهضة سببا في تحصيل العتق تتضمن أمورا خارجة عن الأقيسة الكلية كمعاملة السيد عبده [و] كمقابلته ملكه بملكه والطهارات قصاراها إثبات السبب وجوبا إلى إيجاب ما لا تصريح بإيجابه وليس فيها اعتراض على أصل آخر سوى ما ذكرناه من التصريح والتلويح وقد مثلناها بوضع الشرع النكاح على تحصين الزوجين.
905- والضرب الخامس من الأصول: ما لا يلوح فيه للمستنبط معنى أصلا ولا مقتضى من ضرورة أو حاجة أو استحثاث على مكرمة وهذا يندر تصويره جدا فإنه إن امتنع استنباط معنى جزئي فلا يمتنع تخيله كليا ومثال هذا القسم العبادات البدنية المحضة فإنه لا يتعلق بها أغراض دفعية ولا نفعية ولكن لا يبعد أن يقال تواصل الوظائف يديم مرون العباد على حكم الانقياد [وتجديد العهد بذكر] الله تعالى ينهى عن الفحشاء والمنكر وهذا يقع على الجملة ثم إذا انتهى الكلام في هذا القسم إلى تقديرات كأعداد الركعات وما في معناها لم يطمع القايس في استنباط معنى يقتضي التقدير فيما لا ينقاس أصله فهذا بيان ضروب الأصول على الجملة.
906- ونحن الآن تعطف عليها ونذكر في كل أصل ما يليق بمذهب القياسين إن شاء الله تعالى.
فأما الضرب الأول: فهو ما يستند إلى الضرورة فنظر القايس فيه ينقسم إلى اعتبار أجزاء الأصل بعضها ببعض وإلى اعتبار غير ذلك الأصل بذلك الأصل إذا اتسق له الجامع فأما اعتبار الجزء بالجزء مع استجماع القياس لشرائط الصحة فهو يقع في الطبقة العليا من أقيسة المعاني.(20/132)
ومن خصائص هذا الضرب أن القياس الجزئي فيه وإن كان جليا إذا صادم القاعدة الكلية ترك القياس الجلي للقاعدة الكلية.(20/133)
ص -81-…وبيان ذلك بالمثال: إن القصاص معدود من حقوق الآدميين وقياسها رعاية التماثل عند التقابل على حسب ما يليق بمقصود الباب وهذا القياس يقتضي ألا تقتل الجماعة بالواحد ولكن في طرده والمصير إليه هدم القاعدة الكلية ومناقضة الضرورة فإن استعانة الظلمة في القتل ليس عسيرا وفي درء القصاص عند فرض الاجتماع خرم أصل الباب.
وحاصل القول في ذلك يئول إلى أن مقابلة الشيء بأكثر منه ليس يخرم أمرا ضروريا فهذا معنى تسميتنا لهذا جزئيا وإلا فالتماثل في الحقوق المغربة إلى الآدميين من الأمور الكلية في الشريعة غير أن القاعدة التي سميناها كلية في هذا الضرب مستندها أمر ضروري والتماثل في التقابل أمر مصلحي والمصلحة إذا لم تكن ضرورة جزء بالإضافة إلى الضرورة وهذا يعضد فيما أجريناه مثلا في القصاص بأمر آخر وهو أن مبنى القصاص على مخالفة [الأعواض جمع] وأن أعواض المتلفات مبناها على جبران الفائتان كالمثلى إذا تلف وضمن بالمثل وكالقيمة إذا جبرت متقوما متلفا فالقصاص لا يجبر الفائت ولا يسد مسده والغالب فيه أمر الزجر وحظ مستحقه منه شفاء الغليل وهذا ميل قليل بالقياس إلى مأرب الناس في [الأعواض] فلما خرج أصله عن مضاهاة الأعواض هذا الخروج احتمل فيه الخروج عن قياس التماثل لدى التقابل.
907- وإذا قسنا الأطراف عند فرض الاشتراك في قطعها بالنفوس كان ذلك واقعا جليا معتضدا بالمعنى الأصلي وهو الضرورة في الصون مع اجتماع الأطراف والنفوس في كونها مصونة بالقصاص.(20/134)
وهذا في نهاية الوضوح لا [يغض] شيء منه إلا فرض [صدور] القطع من شخصين مع تمييز أحد الفعلين عن الثاني فإنه إذا جرى ذلك لم يقطع يد واحد منهما فإن منع مانع ذلك وقال يقطع من يد كل واحد من الجانبين مثل ما قطعه من يد المجني عليه فهذا انفصال على وجه ولكن يبقى مع ذلك أن يد المجني عليه مبانة باشتراكهما ولا يبان يد واحد من الجانبين والإبانة معصومة بالقصاص وإذا كان القطع مما يقبل القسمة فقد يتناوش المتناظران عند ذلك الكلام [و] يتجاذبان أطراف النظر فهذا هو اعتبار الجزء بالجزء في الضرب الأعلى من القياس.
908- ولو أراد القايس أن يعتبر قاعدة أخرى بقاعدة والضرورة الكلية تجمعهما.(20/135)
ص -82-…فهذا متقبل معمول به أيضا فإذا اعتبر القايس حدا واجبا بقصاص أو قصاصا بحد فذلك حسن بالغ وكذلك إذا اعتبر معتبر عقدا تمس الضرورة إليه بالبيع كان حسنا على شرط السلامة فخرج من مجموع ذلك جريان القياس من الوجهين في هذا الضرب أحدهما الجزء بالجزء والضرورة شاملة لهما والثاني اعتبار غير ذلك الأصل بذلك الأصل والجامع الضرورية الكلية.
909- وأما الضرب الثاني: وهو ما يبنى على الحاجة كالإجارة فلا خلاف في جريان قياس الجزء منه على الجزء فأما اعتبار غير ذلك الأصل بذلك الأصل مع جامع الحاجة فهذا امتنع منه معظم القياسين.
910- ونحن نرى أن ننبه قبل تبيين القول فيه على أمر وهو أن الإجارة [جازت] خارجة عن الأقيسة التي سميناها جزيئة في القسم الأول فإن مقابلة العوض الموجود [بالعوض] المعدوم خارج عن القياس المرعي في المعاوضات فإن قياسها ألا يتقابل إلا موجودان ولكن احتمل ذلك في الإجارة لمكان الحاجة وقد ذكرنا أن الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة في [حق] آحاد الأشخاص والبيع يلتحق بقاعدة الضرورة من جهة مسيس الحاجة إلى تبادل العروض والعروض لا تعني لأعيانها وإنما تراد لمنافعها ومتعلق تصرفات الخلق في الأعيان محال منافعهم منها وإذا أطلق الفقيه ملك العين أراد به الاستمكان من التصرف الشرعي على حسب الإرادة ما بقيت العين ثم المنافع إذا قدرت نوعا من العروض وظهر مسيس الحاجة [إليها] في المساكن والمراكب [وغيرها] التحق هذا بالأصول الكلية واشتراط مقابلة الموجود بالموجود من باب الاستصلاح والحمل على الأرشد والأصلح ولا يظن تعلق هذا الفن بالحاجة ولهذا يسمى [القياس] الجزئي وليس المراد بكونه جزئيا جريانه في شخص أو جزء ولكن الأصل الذي لا بد من رعايته الضرورة.(20/136)
ثم الحاجة والاستصلاح في حكم الوجوه الخاصة في حكم الجزء عند النظر في حكم الضوابط الكلية فإذا القياس على الإجارة إذا استجمع الشرائط لا يدرؤه إلا الاستصلاح الجزئي في مقابلة الموجود بالموجود وهذا كقياسك النكاح مثلا في وجه الحاجة إلية على الإجارة.
911- ومن قال: الإجارة [خارجة] عن القياس فليس على بصيرة في قوله فإنها إن خرجت بخروجها عن الاستصلاح فهي جارية على مقتضى الحاجة والحاجة هي.(20/137)
ص -83-…الأصل والاستصلاح بالإضافة إليها فرع.
912- وأنا أضرب لذلك مثلا تقديرا فأقول من سبق عقده قبل ورود الشرائع إلى تقدير ورودها بالمصالح فإنه يسبق مع هذا العقد إلى درء الحاجات والضرورات ويختبط في وجوه الاستصلاحات فإنه يتعارض فيها الظنون بالإضافة إلى الحالات والدرجات فيتوقف لا جرم فيها الضبط على ورود الشرائع ثم إذا تمهد باب من الاستصلاح بالشرع جرى القياس فيه ومستنده يكاد أن يكون غيبا لا يطلع العقل على حقيقته فيكله إلى فاطر البرية سبحانه وتعالى.
ثم قد يظهر الاستصلاح وهو مع ذلك جزئي فإن متضمنة حجرة على مطلق من غير حاجة ولا ضرورة في أمر تطرق المطلق فيه إلى البدل الكلي من غير منع ولا حجر ولكن ضنة النفوس وازعة مع وفور عقلها عن السرف والبذل العرى عن العوض وقد يحملها السرف وفرط الشره على أغرار وأخطار في المعاملات مغباتها وخيمة وغوائلها عظيمة والله تعالى عليم بها فسيصلح الله عباده بما علمه من غيبهم ولو تطرق إلى العقل الوازع عن البدل العرى عن العوض خلل طرد الشارع حجرا ولهذا يطرد الحجر على الصبيان والسفهاء.
فإذا باب الاستصلاح غايته تقليد وتفويض الأمر إلى مالك الأمر وهو باب محاسن الشريعة وقد يعيب [كلى] الاستصلاح [وجزؤه] عن الناظر ومن هذا القبيل عندي تحريم ربا الفضل والحجر المتمهد في ربا [النسيئة].(20/138)
913- ومن دقيق ما يجري في هذا الفن وهو العلق النفيس في هذا القبيل أن الشافعي ألحق إثبات الخيار والأجل [بأبواب] الرخص من جهة أن [قياس] التقابل في المعاوضات أن يخرج العوض عن ملك أحد المتعاقدين حسب دخول مقابله في ملكه وإذا حل أحد العوضين وتأجل الثاني كان ذلك خارجا عن هذا القانون وكذلك الخيار الطارئ على العقد المبني على اللزوم في حكم الرخص والتأجيل أثبت فسحة [لمن لا يملك الثمن] [في الحال ورجاء أن يتمحله] إلى منقرض الآجال والخيار أثبت لتروي من لا بصيرة له وعدم الدراية في السلع أعم وأغلب من المعرفة بها.
914- والقول في ذلك عندنا أن [أصل] البيع مستندة الضرورة أو الحاجة النازلة منزلة الضرورة واللزوم [فيه] بمطلق البيع قد لا يستند إلى الضرورة نعم لو قيل لا يفضى البيع قط [إلى لزوم] جر ذلك ضرارا بينا من حيث لا يثق المتعاوضان بما يتقابضان وكان من الممكن أن يقال إذا تراضى المتعاقدان على الإلزام لزم وإن.(20/139)
ص -84-…أطلقاه فالحكم [بلزومه] من غير تراضيهما [فيه] مصلحي وليس ضروريا [وكذلك] المصير إلى اقتضاء مقتضى العقد حلول العوضين مصلحي.
فإذا تمهد ذلك فشرط الخيار والأجل لا يخرم أمرا ضروريا فليفهم الفاهم ذلك وليتئد إذا انتهى إلى هذا المقام.
915- ولكن الشافعي نظر إلى تعبدات الشارع فقد مهد في العقود تمهيدا عاما وإن لم يكن مستنده إلى ضرورة مدركة بالعقول أو حاجة ثم رأى ما يطرأ عليها بمثابة ما يطرأ على وظائف العبادات [من] الرخص والتخفيفات وإن كانت العبادات في أصولها غير مستندة إلى أغراض وإلا فالقاعدة الكلية اتباع الحاجة [والضرورة] أو أتباع رضا المطلقين فإن [ألحق ملحق الخيار] والأجل بالرخص من جهة [ندورهما] بالإضافة إلى [ما] تمهد في التعبد والاستصلاح في العقود وإلا فاتباع الرضا من غير اقتحام أمر كلي أمس للقياس الكلي من الاستصلاحات وأنا أذكر [الآن] مسألة كلية يقضى الفطن العجب منها فأقول.
[مسألة]:
916- لو درست تفاصيل الشريعة وتعافى نقلتها وبقيت أصولها على [بال] من حملة الدين فالذي يقتضيه التحقيق تصحيح كل بيع استند إلى رضا ولو لم يقل به وتفاصيل الاستصلاحات لا تطلع عليها العقول ولا يحسم باب البيع ففي انحسامه ضرورة عظيمة وقد ذكرت طرفا من هذا [في] الكتاب [الغياثي] والغرض منه الآن أن الكلى ما يتطرق إليه العقل مع نسيان التفاصيل وهذا كاف في هذا الضرب.
917- وأما الضرب الثالث: وهو ما لا ينتسب إلى ضرورة ولا إلى حاجة وغايته الاستحثاث على مكارم الأخلاق ووضع الاستصلاح [ينافي] إيجاب ذلك على كافة في عموم الأوقات [لعسر] الوفاء به والقدر الذي على يقتضيه الاستصلاح لا ينضبط بقدر أفهام المكلفين [ودرك المتعبدين] فإذا عسر الضبط وتعذر الإيجاب العام فيثبت الشارع وظائف [تدعو] إلى مبلغ المقصود الواقع في [علم] الغيب وإن كان لا ينضبط هو في عينه لنا.(20/140)
ويعضد هذا [القسم] في غالب الأمر وبأمور جلية حتى كان الشريعة تتأيد بموجب الجبلة والطبيعة فيكل إليها قدرا ويثبت للوظائف قدرا وهذا كالوضوء فليس [ينكر] العاقل ما فيه من إفادة النظافة [والأمر بالنظافة] على استغراق الأوقات [يعسر] الوفاء به.(20/141)
ص -85-…فوظف الشارع [الوضوء] في أوقات وبنى الأمر على [أفادته] المقصود وعلم الشارع أن أرباب العقول لا يعتمدون نقل الأوساخ والأدران إلى أعضائهم البادية منهم فضلا فكان ذلك نهاية في الاستصلاح ومحاولة الجمع بين [تحصيل] أقصى الإمكان في هذه المكرمة ورفع [التضييق في التدنس والتوسخ] إذا حاول المرء ذلك فهذا وضع هذا الفن.
918- ولكن إزالة النجاسة أظهر في هذا الفن من النظافة الكلية المرتبة على الوضوء فإن النجاسات تتقذر في الجبلات واجتنابها أهم في المكارم والمروءات من اجتناب [الشعث] والغبرات.
ولهذا ذهب طوائف من الفقهاء إلى أنه يحرم على الإنسان التضمخ بالنجاسات من غير حاجة ماسة والشافعي نص هذا في الكثير وقد ردد [في] مواضع من [كتبه] تحريم لبس جلد الميتة قبل الديباغ وحرام على المرء لأن يلبس جلود الكلاب والخنازير فتميز ظهور الغرض في إزالة النجاسة عن النظافة الكلية المعينة في الوضوء ولهذا خصص الشافعي الوضوء بالنية من حيث التحق بالتعبدات العرية عن الأغراض وضاهى العبادات [البدنية].
919- ثم هذا الضرب الذي يفضى الكلام إليه يضيق نطاق القياس فيه فليس للناظر أن يؤسس في هذا الضرب أصلا يتخيل فيه مثل هذا المعنى الذي تكلفنا نظم العبارة [منه] لمعتبره بالقاعدة الثانية.
والسبب فيه أن هذا يدق مدرك النظر فلا يستقل بالتطرق إليه القوى البشرية ولا ينبغي أن يؤتى الإنسان عن خداع فإن مجال الظنون متسع لما يظهر ويدق فإنا لم نؤمر بربط الحكم لكل مظنون.(20/142)
920- فالقول الوجيز فيه أن المعنى الذي ذكرناه في هذه القاعدة الثانية محال على غيب ينفرد بعلمه الشارع وعليه ابتني الإيهام الكلى بين التصريح والتلويح المذكورين في الطهارة [فإنا قلنا] تعميم الأمر بالنظافة عسر ورفعه مناقض للمكارم والمحاسن والقدر المعين لا تدركه أوهام البشر ولا عسر في امتثال أمر الشارع في طهارات متعلقة بأوقات [ثم الفطن] يظن أنها في علم الشارع منطبقة على القدر المقصود الواقع في الغيب وليس من الممكن ربط الظن به فضلا عن دركه يقينا.
921- فإذا كان هذا مبنى الأصل الثابت فكيف يطمع الطامع في تأسيس أصل [وتقعيده قاعدة] تضاهى الطهارة في [وفائها] بالغرض الغيبي ولهذا نقول في هذا.(20/143)
ص -86-…الضرب: لا يجوز قياس غيره عليه وليس كالضرب الأول والثاني المتعلقين بالضرورة [والحاجة] فإن أمرهما بين ودركهما سهل.
ثم للشرع تصرف في الضروريات به يتم الغرض في القسمين الأولين وذلك أن الذي لا يستباح إلا بالضرورة لفحشه أو بعده عن الحل فقد يرعى الشرع فيه تحقق وقوع الضرورة ولا يكتفى بتصورها في الجنس وهذا كحل الميتة ورب شيء يتناهى قبحه في مورد الشرع فلا تبيحه الضرورة أيضا بل يوجب الشرع الانقياد للتهلكة والانكفاف عنه كالقتل والزنا في حق المجبر عليهما.
922- فإذا الضرورات على ثلاث أقسام: فقد لا تبيح الضرورة نوعا يتناهى قبحه كما ذكرناه وقد تبيح الضرورة الشيء ولكن لا يثبت حكمها كليا في الجنس بل يعتبر تحققها في كل شخص كأكل الميتة وطعام الغير والقسم الثالث ما يرتبط في أصله [بالضرورة] ولكن لا ينظر الشرع في الآحاد والأشخاص وهذا كالبيع وما في معناه وإنما كان كذلك لأنه لا أثر للفكر العقلي في تقبيح البيع والتبادل في الأعواض فكفى تخيل الضرورة في القاعدة ولا التفات إلى الآحاد فإن الأمر في ذلك مبنى على قاعدة كلية وليس البيع قبيحا في نفسه عرفا أو شرعا.
923- فأما الطهارات وما يضاهيها فقصاراه تحصيل أمر بوظائف واجبة من غير تصريح بوجوب المقصود فلا جريان للقياس في هذا الباب على معنى أن يعتبر غير الباب بالباب.
وعلى هذا ينبني سد باب القياس في الأحداث فإنها مواقيت الطهارات وثبتها الشرع في أمر مغيب عن دركنا ولم يثبت الطهارة عامة بل خصصها تخصيصا نقدر نحن بظنوننا أنها تأتى على تحصيل النظافة فكيف نستجيز إثبات وقت فيما لا نطلع على إثبات أصله.(20/144)
924- ثم [قال] القاضي رحمه الله كما لا تثبت الأحداث بالقياس فلا مجال للقياس أيضا في نفي الأحداث وهذا [علق مضنة] فليقف الناظر عنده ليقف عليه فإن احتكم محتكم باثبات حدث من غير ثبت فلا حاجة إلى قياس في درء مذهب الخصم [وإن] عزاه فيما زعم إلى قياس فالوجه أبطال قياسه وقد ذكرنا بطلان القياس في إثبات الحدث.(20/145)
ص -87-…925- وإن تمسك بظاهر يتعرض مثله للتأويل في غير هذا الباب وأراد المعترض إزالة الظاهر بقياس فقياسه مردود فإن القياس كما لا يهتدي إلى تأقيت الطهارة لا يهتدي إلى نفي تأقيتها ولو ظن الظان أن القياس ألا ينتقض الطهر بشيء فهذا قول يصدر عن قلة البصيرة كما ذكرناه في استبهام الأمر في أوقات الطهر فإذا استبهم ثبوت الشيء استبهم نفيه وإذا صودف ظاهر لزم اتباعه ولم يثبت في معارضته قياس ومن ينفي الحدث فليكن [متمسك المطالبة] بثبت فيه والظاهر معتصم معمول به [والعبادات] وإن استرسلت في جريانها فتجري في هذه المضايق مجرى التنبيهات للقرائح الذكية والفطن فإذا حاصل كلام الراد إلى المطالبة بالإثبات فإذا وجد شيء يعمل بمثله سقط ما كان يتمسك به وليس معه ثبت في النفي.
926- ومما يتعلق بتمام الكلام في هذا الفصل أن القياس الجزئي في الأصل الذي فيه نتكلم لا يتصور أن يجري معنويا.
نعم لا ينحسم فيه قياس الشبه فإن كل ما يتطرق إليه العلم يتطرق إليه الظن فإذا ينبني على هذا أن إثبات كون الملامسة حدثا بالقياس على خروج الخارج من السبيلين لا مطمع فيه فإنه لا يجمعهما معنى ولا شبه.
927- فأما اعتبار أصحاب أبي حنيفة خروج النجاسات من غير السبيلين بما يخرج من السبيلين ففيه فقه وغايتهم في ذلك تشبيه نجاسة تنفصل من محل الخلاف بالنجاسة التي تنفصل عن أحد السبيلين فإذا أحسنوا الإيراد قربوا الشبه واعتبروا الخارج بالخارج والمخرج بالمخرج.
928- ولأصحاب الشافعي أن يقولوا: لا نسلم فإن خروج النجاسة من أحد السبيلين لا يقتضي الوضوء لأمر يتعلق بالنجاسة فإن الذي يبتدر إلى الفهم من أمر النجاسة رفعها عن محلها وإزالتها عن موردها فأما ربط إيصال الماء إلى غير مورد النجاسة عند اتصال النجاسة بمحل آخر فلا محمل لذلك إلا التأقيت.(20/146)
ثم الذي يليق [بالتأقيت] على ما تمهده القول فيه أن يربط [سبب نظافة] الأعضاء البارزة فضلا بما يتكرر في الجبلة على اعتياد لائق به حتى تنتهض الطهارة وظيفة مكررة متعلقة بأوقات يغلب تكررها فأما الرعاف وما في معناه فليس في حكم ما يتكرر.(20/147)
ص -88-…929- وليعلم الناظر أنهم وإن شبهوا على الظاهر فقطع شبههم بما ذكرناه أقيس للغرض وأقرب إلى الدرك وخاصية النجاسة ساقطة الاعتبار في الأصل والفرع [المعتبر به] المتفق عليه.
930 - نعم [بحق] ردد الإمام1 [المطلبي] قوله فيه إذا انسد المسلك المعتاد وانفتح سبيل آخر للنجاسة المعتادة الخارجة من المحل على ما يفصله الفقيه والسبب فيه أن هذا الآن يشبه النجاسة المعتادة الخارجة من المحل المعتاد من جهة أن الطبيعة تقتضى تكرر دفع الفضلات من السبيل المنفتح فهذا منتهى الغرض في ذلك.
931- وأما الضرب الرابع: فقد مثلناه بالكتابة فهو في الأصل كالضرب الثالث الذي انتجز الفراغ منه في أن الغرض المخيل الاستحثاث على مكرمة لم يرد الأمر على التصريح بإيجابها بل ورد الأمر بالندب إليها فان العتق في الابتداء محثوث عليه مندوب إليه.
فهذا الضرب يتميز عن الضرب الثالث المقدم عليه فإن الشرع احتمل فيه خرم قاعدة ممهدة وهي امتناع معاملة المالك عبده وامتناع مقابلة الملك بالملك على صيغة المعاوضات ولم يجر مثل ذلك في الضرب الثالث وإن اختص الضرب الثالث بإيجاب الطهارة ولا تجب الكتابة على رأي معظم العلماء.
932- وذهب مالك رحمه الله2 في طوائف من السلف إلى وجوبها وإسعاف العبد إذا طلبها ووجد فيها خيرا ومأخذ مذهبه في ذلك يقرب من إيجاب الطهارات مع العلم بأن النظافة في نفسها لا تجب بأمر مقصود وتعلق أيضا بظاهر الأمر في قوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً}3.
933- والشافعي رحمه الله رأي الإيتاء واجبا كما أنبا [عنه] قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ}4 فكان هذا مما اعترض به عليه إذ أجرى إحدى الصيغتين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المراد به: الإمام الشافعي رضي الله عنه.
2 مالك هو: ابن مالك الأصبحي الحمير أبو عبد الله المدني شيخ الأئمة وإمام دار الهجرة.(20/148)
قال البخاري: أصح الأسانيد ملك عن نافع عن ابن عمر. مات سنة 179, له ترجمة في البداية والنهاية 10/174, ومروج الذهب 3/350, ووفيات الأعيان 1/439.
3 آية 33, سورة النور.
4 الآية السابقة.(20/149)
ص -89-…على [اقتضاء] الإيجاب وحمل الأخرى على الاستحباب.
934- فأما ما أشرنا إليه من تشبيه هذا الضرب على رأي مالك [بالطهارات فهو] يصلح لعقد المذهب وإلا فقد مهدنا أن القياس لا يجرى في محاولة تأصيل الأصول على هذا الوجه وإنما يجري [طرف] من التشبيه في [جزيئات] النوع من غير خروج عنه.
وأما التعلق بالظاهر فأوجه ولكن الشافعي لم يعتمد في إيجاب الإيتاء مجرد الظاهر لكن عول على سير الصحابة رضي الله عنهم وما كان منهم ونقل آثارا مطابقة لمعتقده وضم إليه أن الكتابة يتضمنها إرفاق من كل وجه والإيتاء منه وقد رآه الأولون على الاطراد يتضمنها والتبرعات لا تطرد سيما في الأموال والكتابة تلزم في حق السيد ومن متضمنها الرفق المنقول وما تقرر يلزم شيئا إذا صح لم يلزم الإقدام عليه على أن لا أرى مذهب الشافعي مسألة أضيق [مسلكا] من الإيتاء.
935- ونحن نقول وراء ذلك: أما مالك فسوى بين الكتابة وبين باب الطهارات في إثبات إيجاب الأصل ولاح على أصله [إجراء] قسم الكتابة في وضع الشرع على باب الطهارات [باحتمال] أمور خارجة عن أقيسة المعاوضات فيها والشافعي لم يوجب الكتابة وقال للشرع تعبد في الإيجاب متبع وإن لم يكن منقاسا كإيجاب الطهارة وإن لم تجب النظافة وللشارع أحكام في رفع حجره وإطلاق حجر القياس اطراده كما جرى في الكتابة فكان احتمال الشرع لهذا في الكتابة على خلاف القياس [مضاهيا لإيجاب الشرع الطهارة على خلاف القياس].
ويخرج من ذلك تعادل الضربين في خروج الطرفين عن القياس فانتهض إيجاب الطهارة [محصلا] لمكرمة النظافة كما انتهض رفع الحجر في الكتابة مرعيا في تحصيل العتاقة.(20/150)
ثم قال الشافعي: في رفع الحرج في الكتابة ترغيب مالي يتعلق بغرض بين في تحصيل الكسب فإن العبد يحرص إذا [طمع] في العتاقة [والسيد] يتحصل على كسب كان لا يتحصل له بغير الكتابة بظاهر الظن فخرجت الكتابة عن قبيل القرب لظهور الغرض منها ولم يكن في الطهارات غرض ناجز [فلاق] بها ترغيب في الثواب وهذا يقتضي إلحاقها بالقرب المفتقرة إلى النيات فهذا تأسيس القول في البابين ونحن الآن.(20/151)
ص -90-…نرسم مسألة في قسم الكتابة تمس إليها حاجة الفقيه.
مسألة:
936- قد ثبت أن الكتابة الفاسدة تثبت فيها أحكام مشابهة لأحكام الكتابة الصحيحة.
فرأى أصحاب أبي حنيفة أن يعتبروا البيع الفاسد بالكتابة الفاسدة وقضوا بأن البيع الفاسد يفيد الملك إذا اتصل به القبض على تفصيلهم المعروف.
وقد امتنع طوائف من أئمتنا من قبول هذا القياس.
ونحن نكشف الغطاء فيه مستعينين بالله تعالى بعد ذكر مسلك الفريقين اعتراضا وجوابا.
937- قال الشافعي رحمه الله: لا يقبل القياس في الفرعين فان الكتابة الصحيحة خارجة عن قياس المعاملات [والفاسدة] متفرعة عليها فإذا انحسم مسلك القياس في الأصلين ترتب عليه امتناع القياس في الفرعين.
فقال أصحاب أبي حنيفة: إذا ثبتت الكتابة والتحقت بالمعاوضات الصحيحة فلا ننظر بعد ثبوتها إلى خروجها عن القياس ولكنها يقضي فيها وعليها بقضاء المعاوضات حتى نقول يشترط في المعاوضات ولا تنحسم الأقيسة في التفاصيل مع إمكانها بخروج أصل الكتابة عن قياس المعاوضات واعتبار البيع الفاسد بالكتابة الفاسدة من النظر في التفاصيل بعد تسليم الأصل وتنزله على حكم التوقف والفاسد في كل باب حائد عن موجب التعبد لذلك فسد فإذا لم يمتنع التحاق الفاسد بالصحيح في الكتابة مع حيد الكتابة الفاسدة عن الصحيحة فينبغي ألا يمتنع مثل ذلك في البيع وكل أصل مقر على قانونه منقاسا كان أو غير منقاس والفاسد في كل باب حائد عن مراسم الشرع.
فهذا منتهى كلام الفريقين مع فضل بيان شاف في الإيراد لا يستقبل به فقيه ليس له حظوة وافرة من الأصول.
938- ونحن الآن نقول: هذا الجمع لا ينتظم في مناظم المعاني ولا يستبد في ذلك قياس معنوي من جهة أن شرط المعنى اتجاهه أو انقداحه في الأصل ثم إذا تقرر في الأصل معنى واطرد في الفرع فإذا ذاك يجمع الجامع بالمعنى وليس [معنا] معنى.(20/152)
ص -91-…فقيه يتضمن تنزيل الكتابة الفاسدة منزلة الكتابة الصحيحة فإن الذي [لا] يتمارى فيه الناظر في الدرجات الأول من نظره أن الفاسد ليس مطلقا للشرع والأحكام تثبت إذا جرت أسبابها موافقة الشرع ويهون على الرشيد الفطن تقرير خروج الكتابة الفاسدة في نزولها منزلة الكتابة الصحيحة عن القياس المعنوي والاعتبار الكلي وإذا فعل ذلك انحسم مطمع الخصم في قياس المعنى وآل النظر إلى التشبيه.
939- فإن تفطن الخصم وسلم انحسام المعنى واجتزأ بالتشبيه وقال: البيع الفاسد بالإضافة إلى الصحيح في تشبيه الكتابة الفاسدة بالإضافة إلى الصحيحة ولا يلتزم إبداء معنى في الأصل وإظهاره في الفرع.
فعلى الناظر في ذلك وقفة وإمعان نظر فيما يدرأ هذا المسلك وهو النقض الصريح فإن لم ننزل كل فاسد منزلة الصحيح إذ النكاح الفاسد ليس كالصحيح في إثبات حق لا على جواز ولا على لزوم وأقرب من ذلك البيع نفسه فإن فاسده من غير قبض لم ينزل منزلة صحيحة والتشبيه شرطه الطرد وأحق قياس بالبطلان والنقض قياس الشبه فإن المتمسك بالمعنى قد يعن له طرد المعنى ما لم يمنعه مانع وأما الشبه فقصاراه ظن على بعد فإذا عارضه نقض وهى وانحل.
فهذا فن من الكلام واقع يضطرهم إلى النزول عن الشبه والترقي إلى معنى وعن هذا قالوا: ما اتسع طرقه فالفاسد أحد طرقه وزعموا أن الاتساع يشعر بإحلال الفاسد محل الصحيح ومهما اضطروا إلى المعنى وحاولوه افتضحوا واجترءوا ولا يكاد يخفى إبطال هذا المسلك وما في معناه فإذا بطل الجمع المعنوي وانتقض الشبه لم يبق لمتمسكهم بالكتابة الفاسدة وجه.
940- ومما نذكره في ذلك أن الكتابة الفاسدة في وضعها مخالفة للبيع الفاسد على رأى المخالف فإن المكاتب كتابة فاسدة يتسلط على أكسابه [بنفس العقد] تسلطا صحيحا وتنفذ تصرفاته فيها على الصحة نفوذها في الكتابة الصحيحة وليس البيع الفاسد كذلك وإن اتصل بالقبض وهذا يستعمل أيضا في [معرض النقض] المعنوي.(20/153)
941- ومن دقيق القول في ذلك أن تحصيل العتاقة بوجود الصفة مما يجب القضاء بصحته فإن تعليق العتاقة على أداء العوض الفاسد صحيح وإن فسد العوض ثم التعليق إذا صح فقياسه ألا يرفع وأثر فساد الكتابة في رفع وجوب التعليق وهذا.(20/154)
ص -92-…خارج ظاهر الخروج عن قياس بابين أحدهما حكم المعاوضة والثاني حكم تعليق العتق والعتق أنفذ التصرفات وأغلبها فالوجه استيلاء حكمه فإن مؤقته يتأبد ومبعضه يتمم فكيف اكتسب ما ليس يفسد وإن ذكر على صيغة الفساد [قضية] الفساد [من] معاملته واهية بالفساد والجواز فهذا يمنع من [التشبيه] ويعارض ما يأتي به [المشبه] وينزل في المظنونات منزلة بعد الشيء وإن عن التحاق بالمنصوص عليه لكونه في معناه وقياس الشبه مستند إلى القياس الذي يقال فيه إنه في معنى الأصل فهذا منتهى كلام الفقهاء.
942- وأنا أذكر مسلكا أصوليا يغنى عن جميع ذلك فأقول: وقد مهدت أن القوانين المبنية على المكارم الكلية لا يجرى فيها تمهيد أصل قياسا على أصل وإنما الأقيسة في الأصول إذا لاحت المعاني وإنما تظهر المعاني في الضرورات والحاجات وأقرب قطاع الشبه تعدد الأصول فيما لا ينقدح فيه جامع ضروري أو حاجى.
والذي نختتم به الكلام أن أصلين مستندهما المحاسن والمكارم لا تشبه فروع أحدهما فروع الثاني من جهة تعلق كل واحد بأمر [غيبي لا يضبطه الفكر إذ لا يجري كل مقصود في الغيب على قضية واحدة.
943- فإذا لاح ذلك وتجدد العهد به فالبيع من الضروريات فكيف ينقدح تشبيه فاسده بفاسد قسم لا ضرورة فيه ولا حاجة؟ وهذا قاطع للشبه بالكلية فإذا انقطع [الشبه] ولم يلح معنى لم يرتبط الأصل بالفرع.
944- نعم إذا كفى الشافعي احتجاج الخصم [بالكتابة] بقيت عليه غائلة في انتقاض ما يطرده [من] معناه بالكتابة.
فان قال: المعنى حيد الفاسد عن وضع الشرع والمصير إلى أن الفاسد غير معتد به ولا تنتقل الأملاك إلا بمسلك شرعي وإذا نحن اعتمدنا ذلك صدمتنا الكتابة الفاسدة نقضا فلا وجه إلا مسلكان في دفعه:
أحدهما: أن يدعى أن الكتابة صحيحة في جهة مقصودها وقد تناهينا في تقريب ذلك في "الأساليب".(20/155)
والمسلك الثاني: وهو الأصولي ألا يلتزم في أقيسة المعاني النقض بالمنتزع عنها كما سنمهده في باب النقض إن شاء الله تعالى.(20/156)
ص -93-…945- والضرب الخامس: متضمنه العبادات [البدنية] التي لا يلوح فيها معنى مخصوص لا من مآخذ الضرورات ولا من مسالك الحاجات ولا من مدارك المحاسن كالتنظيف في الطهارة والتسبب إلى العتاقة في الكتابة ولكن يتخيل فيها أمور كلية تحمل عليها المثابرة على وظائف الخيرات ومجاذبة القلوب بذكر الله تعالى والغض من العلو في مطالب الدنيا والاستئناس بالاستعداد للعقبى.
فهذه أمور كلية لا ننكر على الجملة أنها غرض الشارع في التعبد بالعبادات البدنية وقد أشعر بذلك نصوص من القرآن العظيم في مثل قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}1 ولا يمتنع أيضا أن يتخيل فيها أمر آخر وهو أن الإنسان يبعد منه الركوب إلى السكون فالقوى المحركة تحركه لا محالة فإن تركت تحركت في جهات الشهوات وإذا استحثت بالرغبة والرهبة على العبادات انصرفت حركاتها إلى هذه الجهات وهذا فن لا يضبطه القياس ولا يحيط به نظر المستنبط والأمر فيه محال على أسرار الغيوب والله تعالى المستأثر به فلا يسوغ اعتبار ضرب إحداها في جهة اختصاصها ولا يسوغ اعتبارها في إثبات قضيتها الخاصة بغيرها من الضروب فإنا منعنا اعتبار ضرب بضرب فيما لا يستند إلى ضرورة وحاجة وإن كان يغلب على الظن [تعين] مقصود منه على منهاج الأمر بالمحاسن فلأن يمتنع ذلك من العبادات التي لا يتعين منها مقصد [أولى وأحرى].
946- فأما اعتبار [البعض من هذا الضرب بالبعض] فقد ينقدح فيه معان فقهية نحو اعتبار القضاء بالأداء في اشتراط تبييت النية والجامع أن النية قصد ومرتبطه الحال أو [عزم] ومتعلقه الاستقبال وقد أمرنا بإيقاع الصوم أداء وقضاء وعبادة والعبادات إنما تقع على قضية التقرب بالقصد وما مضى لا على حكم القرب يستحل انعطاف القصد والعزم عليه فهذا من [أجلى] المعاني المعتمدة وكذلك ما ضاهاها.(20/157)
947- فأما ما يثبت برسم الشارع ولم يكن معقول المعنى فلا يسوغ القياس فيه وهذا كورود الشرع بالتكبير عند التحريم والتسليم عند التحليل ومن هذا القبيل اتحاد الركوع وتعدد السجود فمن اراد أن يعتبر غير التكبير بالتكبير مصيرا إلى أنه تمجيد وتعظيم فقد بعد بعدا عظيما وزال من القاعدة الكلية فإن إيجاب الذكر عند التحليل ليس معقول المعنى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "45" سورة العنكبوت.(20/158)
ص -94-…948- وإذا قال الحنفي: معنى التكبير معقول قيل [له]: اشتراط ما يتضمن تمجيدا عند التحريم غير معقول ولا ينفع الاكتفاء يكون التكبير معقول المعنى فإن هذا يرجع إلى وضع اللسان ومعنى الصيغ وليس هذا من معاني الشرع في ورد ولا صدر.
949- قال الشافعي رضي الله عنه: في مجاري كلامه في رتب النظر من قال لا غرض للشارع في تخصيص التكبير وفي الاستمرار عليه ولا غرض لصحبة ومن بعدهم من نقله الشرائع والقائلين بها في التكبير على التخصيص وقد استتب الناس عليه مع تناسخ العصور واعتقاب الدهور قولا وعملا وتناوله الخلف عن السلف حتى لو فرض عقد الصلاة بغيره لعد نكرا وحسب هجرا [فمن] قال والحالة هذه لا اثر لهذا الاختصاص وإنما هو أمر [وفاقي] فقد نادى على نفسه بالجهل بمقاصد الشريعة وقضايا مقاصد المخاطبين فيما يؤمرون به وينهون عنه ولو كان غير التكبير كالتكبير لكان ذكر الشارع التكبير كلاما عريا عن التحصيل نازلا منزلة قول القائل ابتداء أيحرم على الجنب سورة آل عمران مع القطع بان غيرها من السور بمثابتها ولا ينطق المبتدئ بها إلا ويبين لغوه على عمد إن لم يكن ساهيا.
950- فإذا ثبت قطعا أن تخصيص التكبير ثابت فإن اعترفوا بتعيينه [بدءا] ثم طعموا في اعتبار غير التكبير بالتكبير بجامع التمجيد وهو بعينه جار في الاستحباب فقد طعموا في غير مطمع فالخصم بين أمرين:
أحدهما: أن ينكر قصد التخصيص من الشارع فيكون مباهتا قريبا ممن يجحد الضرورات في المعقولات وإن اعترفوا بالتخصيص في وجه وأرادوا الجمع في وجه آخر ينقضه ما سلموه من التخصيص فقد تناقض كلامهم.
ويخرج مما ذكرناه أن التكبير مخصوص غير معقول الاختصاص فرفع الاختصاص مع ثبوته محال.(20/159)
951- ومن نظر, نظر ذي غرة فقاس غير التكبير على التكبير أوطأه إذ ذاك تطرق فاحشة لا يبوء بها من وقر الدين في صدره وهو إقامة عمد الحدث مقام التسليم من جهة أن التسليم يناقض الصلاة مناقضة الحدث إياها ومن استجاز في محاسن الشريعة أن يلحق عمد الحدث بما يجيزه الشارع من التسليم في اختتام الصلاة فهو بين معاند يظهر خلاف ما يضمر وبين من أعمى الله تعالى بصيرته نسأل.(20/160)
ص -95-…الله تعالى التوفيق ونعوذ به من الانهماك في أوضار التقليد.
952- ثم أن أجرى مجر [في] هذا القسم كلاما [ظاهره] التشبيه مثل أن يقول تعين الركوع كتعين التكبير وامتناع إقامة السجود مقامه يضاهي امتناع إقامة غير التكبير مقامه فقد تردد كلام الشافعي في ذلك فتارة يسميه استشهادا والمعنى به أن ذلك يذكر تقريبا وتحقيقا لمنع القياس ويضرب أمثالا وهو مشبه بتقرير الضرورات على من يجحدها فإنه لا [يجدي] مع جاحدها مسلك نظري والوجه في مكالمته إن ريم ذلك تقريب الأمر بضرب الأمثال فهذا مسلك.
وقد ويقول الشافعي: هذا من مآخذ قياس الشبه فإن الاختصاص بالتكبير مأخذه مأخذ الاختصاص في الركوع وإذا شبه احدهما بالثاني كان ذلك من قياس الشبه وإن كان [نتيجته] منع القياس فإن الاختصاص حكم مطلوب والقياس الشبهي جار فيه.
نعم القياس المعنوي لا يجري إذ الاختصاص معناه [نفي] المعنى المتعدي من محل التخصيص والتنصيص [فطلب] المعنى حيث لا معنى بعيد هذا وقد نجز غرضنا من تقاسيم هذه [الضروب] فان عدنا إلى تقاسيم المعنى بعد ذلك كان ذلك لغرض آخر ونحن نرى أن نقف حيث انتهينا ونستفتح القول في الاعتراضات.(20/161)
ص -97-…الباب الرابع: الاعتراضات وأقسامها.
953- [ونقسمها قسمين:
أحدهما: يشتمل على ما يصح عند المحققين ولا احتفال بما يشذ من خلاف منقول عمن لا اكتراث به.
والقسم الثاني: يحتوي على ما يفسد من الاعتراضات عند المحققين].
فصل: القول في الاعتراضات الصحيحة.
954- [الأول] منها: المنع1.
وهو يتوجه على الأصل ويقدر متوجها على الفرع فأما المنع في الأصل فإنه يجري من وجوه:
أحدها: منع كون الأصل معللا فإن الأحكام تنقسم باتفاق النظار إلى ما يعلل وإلى مالا يعلل فمن استمسك بأصل فهم مطالب بتثبيت كونه معللا2 وهو عندي إنما يتوجه على من لم يذكر تحريرا بعد فأما إذا حرر فإنه قد ادعى أن ما أبداه من الوصف علة في حكم الأصل فان الفرع في العلة [المحررة] يرتبط بالأصل بمعنى الأصل وهو الجامع وسبيل افتتاح النظر من طريق القياس أن يبين الرجل حكما في الأصل3 ويطلب علته فإذا صحت عنده علة الحكم وألفاها متعدية أصلها موجودة في غيره فإنه يحكم فيما توجد العلة فيه بحكم الأصل الذي ثبت عنده تعليله فأما إذا لم تظهر علة [فلم يأت بديل] فلا وجه [لعد] المنع في هذا المقام اعتراضا فإن المسئول إذا ذكر الأصل واقتصر عليه فلا ينتهض السائل للاعتراض بل يرتقب استتمام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال ابن السمعاني: الممانعة أرفع سؤال على العلل وقيل: أساس المناظرة. إرشاد الفحول "ص 230".
2 إرشاد الفحول "ص 230".
3 قال إليكا: هذا الاعتراض باطل لأن المعلل إذا أتى بالعلة لك بكن لهذا السؤال معنى."إرشاد الفحول "ص 230".(20/162)
ص -98-…الكلام وما ذلك إلا لأنه لم يدخل وقت الاعتراض بعد.
وان اقتصر على ذكر الأصل وضم إليه ادعاء كون الفرع بمثابه عد عريا عن التحصيل من جهة أنه لم يذكر ربطا ولم يأت بصيغة قياس بعد فسبيل مكالمته إذا تردد وتبلد أن ينبه على اقتصاره على بعض صيغة القياس فإن ذكر معنى ادعاه علة فإن استمكن منه ففي ضمنه إثبات القول كونه معللا.
955- ومن لطيف القول في ذلك أن تعيين العلة وإثبات أصل التعليل مسلك واحد فإن الإنسان يستبين كون الشيء معللا بأن يتجه فيه معنى يصلح لكونه علة وليس من الممكن أن يعرف بطريق الاستنباط كون الشيء معللا على الجملة نعم إن انعقد عليه إجماع أو ورد فيه نص فيستند [الاعتقاد] إليهما وإن كان التلقي من الاستنباط فتعيين العلة وتثبت الأصل في التعليل يثبت بمسلك واحد فهذا تحقيق القول في المطالبة بكون الأصل معللا وبيان محله ومنصبه في الجدل.
956- والنوع الثاني من المنع: إنكار وجود ما ادعاه المستنبط علة وهذا كثير التدوار في المركبات فإن من قاس على انبة خمس عشرة سنة فقد يدعى بلوغها فينكره الخصم فهذا وما يضاهيه إنكار وجود العلة وعلى المطالب فيه أن [يثبت] بطريقة على ما سيأتي [ذلك] في تقاسيم المركبات إن شاء الله تعالى.
957- والنوع الثالث: منع الحكم في الأصل1 فإذا توجه ذلك على المسئول تعين عليه إثباته فإن [أثبته] بطريق إثباته استد قياسه وكان بانيا والبناء مقبول [من المسئول] ولو رددنا إلى حكم الدين فليس فيه ما يمنع سائلا من نصب دليل ولكن مواقف النظار وأهل الجدال على مسلك رأوه اقرب المسالك [إلى الدرك] وأقصدها فأثبتوا الدليل والبناء والابتداء للمسئول وأقاموا السائل مقام المعترض حتى ينتظم على القرب غرض ويلوح في المطلوب مدركه فلو تصدى كل واحد للدليل والاعتراض لانتشر الكلام وطال المرام ولا ينقضي مجلس [عن] فائدة ثم المسئول لا يدل في كل موضع بل يدل حيث [يبنى] ولو اعترض على علة أبداها.(20/163)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 واختلفوا هل هذا الاعتراض يقتضي انقطاع المستدل أم لا؟ فقيل: إنه يقتضي انقطاعه وقيل إنه لا يقتضي ذلك وبه جزم المؤلف وإليكا الطبري قال ابن برهان إنه المذهب الصحيح المشهور بين النظار واختار الآمدي وابن الحاجب " إرشاد الفحول "ص 230".(20/164)
ص -99-…السائل معارضا معترضا أو مسندا إليها تأويل ظاهر فإذا أورد المسئول عليها نقضا فمنعه السائل لم يكن للمسئول إثباته بالدليل فإنه بإثباته النقض لا يستفيد إثبات مذهبه الذي سئل عن إثباته وإنما يستفيد إبطال علة السائل وهو في هذا المقام معترض والاعتراض والبناء إذا اجتمعا انتشر الكلام ووقع المعنى المحذور الذي لأجله أقام الجدليون بانيا ومعترضا.
ثم قد يأتي السائل بما يصلح للبناء وهو يبغي به الاعتراض بطريق المعارضة كما سيأتي ذلك فأما المسئول فيضطر إلى الاعتراض [بطريق المعارضة] إذا عارض السائل.
958- والنوع الرابع من المنع: المنع من كون ما أبداه المسئول علة1
فيقال: ما الدليل على أن ما أظهرته علة فيتمسك المسئول بما يثبت به العلل وقد مضى القول فيه مفصلا.
959- فوجوه المنع إذا على ما نظمه هؤلاء أربعة: المنع من أصل التعليل والمطالبة بتعيين 0 التعليل] والمطالبة بتحقيق [وجود] ما ادعاه المعلل علة ومنع الحكم والمطالبة بإثبات ما عينه.
960- وزاد بعض المتكلفين منع القياس والمطالبة بإثبات أصل القياس وهذا ليس بشيء [فإنا] في الاعتراضات على القياس وقد ثبت أصله على منكريه فهذه وجوه المنع في الأصل.
961- فأما المنع في الوصف2 فلا يتجه فيه إلا منع واحد وهو منع وجود علة الأصل في الفرع وباقي الوجوه توجه على الأصل فإن من وجوه المنع في الأصل المطالبة بأن ما أظهره والمستنبط يصلح لكونه علة وهذا حقه أن يخصص بالأصل إذ منه الاستنباط وإليه الرد به والاعتبار إذا ثبت صلاح ذلك المعنى لكونه علة لم يحتج إلى ذلك في الفرع وقد انتجز الفراغ منه فلا يبقى مع الفراغ من مطالبات الأصل إلا ممانعة في أن المعنى الذي ثبت علة في الأصل غير موجود في الفرع وهذا يسمى منع الوصف وقد انتهى غرضنا من القول في المنع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إرشاد الفحول "ص 231".
2 إرشاد الفحول "ص 231"(20/165)
ص -100-…و[الثاني] من الأعتراضات الصحيحة: طلب الإخالة.
- 962ذا وهذا من أهم الأسئلة وأوقعها في الأقيسة المعنوية فعلى المتمسك بما يدعيه معنى أن يوضح [مناسبته] للحكم واقتضاءه له وإشعاره به فإذا عجز عن ذلك مع ادعائه المعنى كان ذلك انقطاعا منه بينا.
963- قد وقد قال القاضي رحمه الله في بعض مجاري كلامه: ليس هذا من الأسئلة والاعتراضات بل حق على كل مسئول أن يبدأ بإظهار الإخالة قبل أن يطالب بها فإنه لا يكون آتيا بصورة القياس المعنوي إلا على هذا الوجه ولو سكت عن إظهاره كان مقتصرا على بعض العلة.
نعم لو ضمن تعليله لفظا ظاهرا أشعر بالإخالة كفى ذلك فإن وجه السائل طلبا كان منسوبا إلى القصور عن درك لفظ التعليل هذا إذا كان تمسكه بقياس المعنى.
964- فأما إذا تمسك بقياس الشبه فلا مناسبة ولا إخالة على الوجه المذكور في المعاني ولكن قد يحتاج المشبه إلى إظهار الشبه الخصيص المغلب على الظن فيكون الطلب بذلك والجواب عنه على حسب ذلك كما إذا شبهنا الوضوء بالتيمم فقد التزمنا أن نذكر شبها أو أشباها تقرب الفرع من الأصل وإن كان لا يقتضي الحكم اقتضاء الإشعار والإخالة ولا يقع الاكتفاء بأمور عامة لا تغلب على الظن ولا يتعرض المشبه لأمر عام إلا وينتقض عليه تشبيهه وإذا تصون عن النقض بارتياد خصوص الأشباه فقد خصص شبها مغلبا على الظن.
و [الثالث] من الاعتراضات الصحيحة: القول بالموجب1.
965 - ولا شك أنه إذا استد على شرطه أسقط الاستدلال وقطع المستدل.
ثم الأصوليون تارة يقولون2: القول بالموجب ليس اعتراضا وهو لعمري كذلك لأنه لا يبطل العلة لأنه إذا جرت العلة وحكمها متنازع فيه فلأن تجري وحكمها متفق عليه أولى ولكن المتمسك بها في محل النزاع منقطع فإنه أبداها محتجا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(20/166)
1 بفتح الجيم أي: القول بما أوجبه دليل المستدل قال في "المحصول": وحده تسلم ما جعله المستدل موجب العلة مع استبقاء الخلاف وقال الزركشي في "البحر": وذلك بأن يظن المعلل أن ما أتى به مستلزم لمطلوبه من حكم المسألة المتنازع فيها غير مستلزم قال: وهذا أولى من تعريف الرازي له بموجب العلة لأنه يختص بالقياس. "إرشاد الفحول" "ص 228"
2 إرشاد الفحول "ص 229",.وعزاه إلى "المنخول" للغزالي.(20/167)
ص -101-…بها وهو يروم إثبات المتنازع [فيه] وقد تبين أن الأمر على خلاف ما قدر وهو بمنزلة ما لو رام إثبات المختلف فيه ونصب علة في غير محل النزاع.
966- ثم القول بالموجب ينشأ من اعتناء المعلل بموجب الحكم ولا يتصور قول [بالموجب] ومضمون العلة نفي حكم وإثبات حكم فإن المعلل يثبت ما ينفيه الخصم من الحكم أو ينفي ما يثبته فكيف يتصور المطابقة والأمر كذلك؟
نعم، إذا قال الحنفي في مسألة ماء الزعفران: ماء طاهر خالطه طاهر فالمخالطة لا تمنع صحة الوضوء قال السائل [الشافعي] المخالطة لا تمنع.
ثم ينقسم في هذا مقام السائل فقد ينقدح له [إبداء مقتضى] آخر سوى ما ذكره المعلل مع الاستمرار على الخلاف في الحكم فهذا إن اتفق فهو الغاية في هذا الفن من الاعتراض والغالب في ذلك أن يكون المعلل ذاكرا لبعض ما هو [علة] عند السائل فيبين المعترض أنه ليس موجبا على حياله وهو كما ضربناه مثالا الآن فإن المخالطة لها أثر عند الشافعي ولكنها بمجردها لا توجب منع الاستعمال.
فإن زاد المسئول فقال: المخالطة المغيرة لا توجب منع الاستعمال ألزم السائل القول بالموجب أيضا فإن المخالطة المغيرة لا تمنع التوضؤ فإن زاد وقيد الاعتلال بتفاحش التغيير وإمكان الاحتراز لم يجد أصلا يقيس عليه فإن حذف التعرض للموجب فقال: ماء طاهر خالطه طاهر فيجوز التوضؤ به انتقضت العلة كماء الباقلاء إذا كان مغليا بالنار وهذا مضيق يدفع فلا يجد المعلل محيصا عن التعرض للنقض أو القول بالموجب.
- 967 ومما يطرأ في هذا الفن شيء ليس للرد والقبول فيه مجال وقد ينتهي الأمر بين المعترض والمجيب إلى قريب من الإلباس ونحن نبين الوجه فيه.
[فإذا] قال الشافعي في مسألة تمكين العاقلة مجنونا: جنون أحد المتواطئين لا يوجب درء الحد عن الموصوف بالعقل كجنون الموطوءة.
فقد يقول الحنفي: الجنون ليس دارئا وإنما الدارئ خروج وطء المجنون عن كونه زنا فليست المرأة ممكنة زانيا.(20/168)
فيقول المجيب: إن صح ما قلت فالجنون هو الذي أخرج فعله عن هذه التسمية وغرضي إسقاط أثر الجنون فيقول المعترض: نصبت الجنون علة وهو عندي علة العلة وإطلاق التعليل [بالجنون] يشعر بكونه مماسا للحكم من واسطة فيجر التفاوض(20/169)
ص -102-…لبسا والذي يختاره المعلل أن [يقي] [علته] مواقع اللبس حتى لا يكون متمسكا بما يلتحق بمجملات الألفاظ على ما سنعقد في ذلك فصلا إن شاء الله تعالى.
968- فالوجه إذا أن نقول: لا ينتهض الجنون سببا فإن قيل بموجب علته أمكن الدفع فإنما يؤثر وإن كان لا يستقل يسمى سببا وإن كان لا يحسن تسميته موجبا ما لم يستقل وحفر البئر سبب الهلاك في الشرع وتسمية سببا لا يجحده أحد من حملة الشريعة وإن كان لا يستقل ما لم ينضم إليه أسباب.
وإذا قال القائل: ثبت هذا الحكم بأسباب كان كلاما منتظما ومعناه أنه أثبت باجتماع أسباب ولا يحسن أن يقال ثبت هذا الحكم بعلل إذا كانت كل واحدة لا تستقل بالاقتضاء فإن العلة المركبة من أوصاف يجوز أن يسمي كل وصف منها سببا في الحكم من حيث إنه لا بد منه وليس كل وصف علة وإنما العلة مجموع الأوصاف وإذا قال القائل لا ينتهض كذا سببا وكان لما ذكره أثر عند الخصم ولا يستقل الحكم دونه فلا يمكنه والحالة هذه أن يقول بموجب العلة.
و [الرابع] من الاعتراضات: النقض.
969- وهو تخلف الحكم في بعض الصور مع وجود ما أدعاه المعلل [علة] ذهب معظم الأصوليين إلى أن النقض يبطل العلة المستنبطة.
وحكى أصحاب المقالات عن طوائف من أصحاب أبي حنيفة رحمه الله أنهم قالوا ليس النقض من مبطلات العلل ولكن متى عورضت علة المعلل بنقض فعليه تعليل تلك المسألة التي ألزمها نقضا والفصل بينهما وبين [المسائل] التي ادعى اطراد العلة فيها.
ونحن نذكر مسالك الفريقين ولا نتعدى مسلكا حتى نتبعه بما عندنا فيه ثم نذكر عند نجاز المسألة ما هو الحق المبين عندنا.(20/170)
970- فأما الصائرون إلى أن النقض يبطل العلة فقد تمسكوا بطرق: منها أنهم قالوا: النقض يلحق العلة بعد أن نقضت بالقول المتكافئ والأقوال المتكافئة ساقطة وبيان ذلك بالمثال: أن من قال في محاولة إثبات تحليل النبيذ: مائع فيحل [كالماء] والمعلل غير مبالي بدخول الخمر وغيرها نقضا والمعترض يقول: مائع فيحرم كالخمر وهو أيضا لا يحتفل بما يرد عليه من النقض وليس أحد المسلكين بأولى من الثاني(20/171)
ص -103-…وهذا فيه نظر عندنا من جهة أن بطلان المسلكين كان لوقوعهما طردين خارجين عن مسالك المعاني والأشباه المعتبرة فلا يكاد يقوى التعلق بهذا والمعترض متمكن من إبداء وجه من الإبطال سوى ما ادعاه المتمسك بالطريقة.
971- ومما تمسك به هؤلاء أن قالوا: من يدعى علة لا يخلو إما أن يدعيها عامة أو يدعيها خاصة [فإن ادعاها خاصة] فلتنحصر على محل النص وإن ادعاها عامة ولم تعم فليست وافية بحكم العموم فإنها إذا تعدت لم يكن محل في تعديها أولى من محل.
وهذا على رشاقته لا يستقل دليلا فإن للمعترض أن يقول أطردها ما لم يمنعني مانع فإن ظهر مانع عللته واستمرت على الطرد في غيره.
972- ومما تتعلق به هذه الطائفة: أن من يطرد العلة مدع جريانها متحديا باطرادها مشبه بمدعى النبوة المؤيدة بالمعجزة فإنه يتحدى بها قائلا لا يأتي أحد بمثلها فلو أتي آت بها بطل تحديه.
وهذا تخيل لا حاصل له من جهة أن من يعلل النقض لا يتحدى بعموم العلة والمعجزة لا تدل على الصدق قطعا مع فرض صدورها من كذاب.
973- وربما يستدل القاضي رحمه الله لهؤلاء بكلام منشؤه الأصل والقاعدة المعتبرة في الباب وهو أنه قال قد عرفنا تمسك الأولين بالمعاني الجارية فاتبعناهم ولم يثبت عندنا أن معانيهم كانت تنقض ولا ينفكون عنها فهذا مما لا يقطع بثبوته عن الأولين ولا معتصم في إثبات العمل بالقياس إلا الإجماع والاتباع.
وهذا الكلام وإن كان آثر مما تقدم فقد ينقدح فيه أن يقول قائل: ما صح عندنا أنهم كانوا يحذرون ويحترزون ويتصونون تصون المتأخرين ولكنهم يطلقون المعاني ثم إن عن مخالف عللوه وميزوه عما فيه الكلام [إذ] كان كلامهم تأسيسا وابتداء ولم يكن كلامهم محررا يدور في النفوس [منضجا] بنار الفكر متقدا بذكاء السبر فلا وجه لما ذكره القاضي إذا.(20/172)
974- وأما من لم يرد النقض مفسدا للعلة: فإنه يتمسك بوجوه منها أن الصيغ العامة الواردة لا يمتنع تخصيصها إذا قامت دلالات تقضي التخصيص فإن لم تقم جرت الصيغة على عمومها ولفظ المعلل لا يزيد منصبه على لفظ الشارع ثم المتمسك بالصيغة العامة من لفظ [الشارع] يتعلق بها وهي على تجويز أن يخصص بدلالة.(20/173)
ص -104-…975- وقد قال القاضي: هذا إنما يلزم من يثبت للعموم صيغة ولست منهم.
وقال أيضا في إلزام المعتزلة: البيان عندكم لا يتأخر عن مورد الخطاب ويقتضي ذلك أن تقترن القرائن المخصصة باللفظ فهو مع قرائنه محمول على الخصوص وهذا يناظر في علة المعلل ما يتقيد بقرينة مخصصة حذرا مما يفرض نقضا واردا على اللفظ العام.
وقال أيضا متحكما على من أثبت للعموم صيغة: التخصيص- على رأي هؤلاء- هو الاطلاع على قرينة ولو فرضت صيغة عامة في وضعها متجردة عن القرائن اللفظية والحالية لكانت نصا في اقتضاء العموم.
فإذا ليس للتخصيص معنى إلا ذهاب المخصص عن قرينة مخصصة ثم اطلاعه عليها.
976- والذي ذكره القاضي في إلزام من منع تأخير البيان عن وقت مورد الخطاب لازم كما ذكره.
وأما الاحتكام على المعممين بأن الصيغة لو قدر ورودها مجردة لكانت نصا ففي كلام الشافعي رحمه الله رمز إلى التزام ذلك.
والذي نراه رأيا على مذهب المعممين أن اللفظة إن كانت مجردة عن قرائن الحال والمقال فليست نصا في اقتضاء العموم ولكنها ظاهرة والصيغ منقسمة إلى ما يقع نصا في الوضع وإلى ما يقع ظاهرا والصيغة المجردة في العموم من الظواهر فإن من أطلقها في محاوراته ثم زعم أنه لم يرد بها الاستغراق المحقق لم يكن آتيا منكرا ولكن يقدر مؤولا نعم إن اقترنت بالصيغة قرينة لفظية أو حالية تحسم مواد التأويل والتخصيص فالصيغة إذ ذاك نص لاقترانها بما يلحقها بالمنصوص عليه وقد مضى في ذلك قول شاف في كتاب العموم والخصوص.(20/174)
977- والجواب إذا عن استمساك هؤلاء بتخصيص العام أن تخصيصه ليس انحرافا عن موجب اللسان واقتضاؤه العموم ليس نصا قاطعا ولو رددنا [القياس] لما علمنا بموجب ظاهر مع تعرضه للتأويل فإن العمل المبتوت لا يرتبط بمشكوك فيه أو مظنون والعمل بموجب الظاهر معلوم ولا يترتب العلم على الظن والعمل بالظاهر مستنده إجماع الماضين وهو مقطوع به ثم تبين منهم التأويل والتخصيص عند قيام الأدلة المعارضة لوجه الظن في الظاهر كما تقرر في كتاب التأويل قوانين الكلام فيما يقبل ويرد.(20/175)
ص -105-…978- وأما المعلل فإنه مستنبط علة مظنونة ومعتمدة في استنباطها ظنه لصلاحها فإذا طرأت مسألة [قاطعة لها] مانعة من طردها انبتر ظنه وبطل مستند استنباطه إذ ليست العلة التي استنبطها معولة في نفسها على ظاهر أو تنصيص فلا معنى للتعلق بالعموم على أن ما نحاوله في النفي والإثبات محاولة القطع وتأسيس الأصول والأقيسة لا تجول في مواضع القطع وإنما تجولها في المظنونات.
979- ومما تعلق به من يجوز تخصيص العلة أن قال: إذا لم يبعد تخصيص العلة بزمان لم يبعد اختصاصها بمسائل وأراد بذلك أن الشدة المطربة علة في تحريم الخمر ولم تكن علة قبل نزول تحريمها وهذا كلام.
ساقط فإن المعاني الظنية في الأقيسة العملية لا تقتضي الأحكام لأعيانها ولكن تتبع في موارد الشرع بها أو بأمثالها وكان الشرع متبعا فيها ويجوز تقدير النسخ عليها والذي نحن فيه من [فن] الاستنباط المظنون بعد قرار الشريعة والانتقاض يوهي ظن المستنبط على تحقيق فأين يقع هذا من جواز تبديل الأحكام؟
980- ومما تعلق به هؤلاء جواز تخصيص علة الشارع قالوا: فإذا لم يمتنع ذلك في علة الشارع والصدق ألزم له فلا يلزم المستنبط ما لم يلزم الشارع.
وهذا أيضا كلام غث فإن الشارع إذا علق الحكم بعلة لا تناسب صح وإن كان ذلك طردا لو صدر من المستنبط.
وسيكون لنا كلام في تخصيص علة الشارع في مسألة معقودة إن شاء الله تعالى فهذه عيون كلام الفريقين.(20/176)
981- والمسلك الذي نختاره أن المستنبط إذا نصب علة فورد على مناقضة طردها نقض فإن كان ينقدح من جهة المعنى فرق بين ما يرد نقضا وبين ما نصبه المعلل علة له فإن علته تبطل بورود النقض والسبب فيه أنه إذا نظم فرقا بين ما ألزم وبين محل العلة فيصير ما عكسه في محل العلة قيدا لما أطلقه علة ويتبين بهذا أنه ذكر في الابتداء بعض العلة وأظهر أنه علة مستقلة فإذا أراد التقييد وانتظمت له علة [مقيدة] فالعلة الآن سليمة ولكنه منقطع من جهة ادعائه في أول الأمر وابتدائه أن ما جاء به دليل مستقل [و] لو لم يصرح بكونه دليلا تاما فالحالة المعهودة بين النظار قرينة مصرحة [بذلك] فإنه يسأل أولا عن الحكم فإذا أبان مذهبه [فيه] طولب بالدليل عليه فإذا ذكر كلاما في إسعاف السائل المطالب بالدليل وقطعه وسكت على.(20/177)
ص -106-…منقطعه كان ذلك مشعرا بادعائه أن ما جاء به كلام تام ولو جلس الناس يشتورون باحثين فذكر ذاكرا معنى وسبره وخبره فلم يطرد فقيده تقيدا فقهيا كان كذلك له إذ هو في مهلة النظر ومحاولة استتمام الاجتهاد فهذا حقيقة القول في ذلك.
982- ولو اعترضت مسألة على العلة نقضا وكان لا ينقدح فرق بينها وبين محل العلة فإن لم يكن الحكم فيها معللا مجمعا عليه أو ثابتا بمسلك قاطع سمى غير أن المعلل استثناها بمذهبه فعلته تبطل فإنه مناقض لها وتارك للوفاء بحق العلة فإذا لم يف بحق طردها فكيف يلزم الخصم حق طردها في موضع قصده؟
983- وإن طرأت مسألة اجتماعية وكان لا ينقدح بينها وبين العلة فرق فهذا موضع الأناة والاتئاد.
فإن كان الحكم الثابت فيها على مناقضة علة المعلل معللا بعلة معنوية جارية فورودها ينقض العلة من جهة أنها منعت العلة الجريان وعارضها بفقه وهي آكد في اقتضاء بطلان علة المعلل من المعارضة كما سيأتي فإن المعارضة لا تهجم على الطرد بالقطع بل يستقى حكمها من أصل آخر لا ينقض طرد العلة بل يصطدم موجب العلة على التناقض في محل البحث فإذا كانت المعارضة وهي على هذه الصفة ناقضة فالتي ترد مناقضة وقاطعة للطرد أولى بالإبطال.
984- وإن طرأت المسألة قاطعة للطرد ولم ينقدح فرق وكان لا يتأتى تعليل الحكم فيها على المناقضة بعلة فقهية [فهذا] موضع التوقف.
985- وقد ذكر القاضي على الجملة ترددا في أن القول ببطلان العلة بما يقطع طردها من القطعيات أو من المجتهدات حتى يقال كل مجتهد فيه مصيب أو مؤاخذ بحكم اجتهاده.
والذي أراه في ذلك أن الصور التي قدمناها قواطع ومبطلات قطعا وإنما النظر والتوقف في المسألة المانعة من الطرد التي لا ينقدح فرق بينها وبين محل العلة ولا يتأتى في تعليل حكمها على المناقضة معنى وكانت تلك المسألة مما يقال فيها: إنها لا يعقل معناها فإذا تصورت [المسألة بهذه الصورة انقسم القول فيها عندي أيضا.(20/178)
فإن كان حل العلة من المسألة اللازمة واقعة [موقع] ما يكون في معناه علما وقطعا فالعلة تبطل أيضا من جهة أن التحاق ما في معناها [بها معلوم] وأصل وضع العلة مظنون ولا يعارض ظن [علما].(20/179)
ص -107-…وإن لم يكن محل العلة منها بهذه المثابة وإنما جرت تلك المسألة شاذة فعند ذلك قد يظن الظان أنها تقطع العلة وتنقضها من جهة أن المستنبط إذا عثر عليها وهى ظنه في نصب ما ظنه علة إذا وجد في الأصل الشرع ما يخالف ذلك ويجوز أن ينقدح له ما عينه علة مناط الحكم إلا أن يمنعه استثناء شرعي لا يعقل معناه.
986- والقاضي إنما تردد في هذه الصورة وهي لعمري موضع التردد والذي نراه فيها أن ورودها لا يقطع العلة إذا كانت العلة [فقهية] مناسبة وإنما يلزم المعلل إجراء المعنى ما استمكن منه.
والدليل عليه أنا نجد في الشريعة عللا فقهية متفقا عليها في الصحة وقد طرأ عليها استثناء الشرع في مواقع لا تعلل وهذا كجريان العلة في اختصاص كل متلف أو متعد أو ملتزم بالضمان ولا أحد ينكر جريان هذا المعنى في الشرع مع العلم بأن العاقلة تحمل العقل وحملها له خارج [عن القاعدة] فإذا وجد أمثال ذلك [في] قاعدة الشريعة بنينا عليه طرد المعنى الفقهي المناسب ولم نكع عن التمسك به لورود شيء لم يعلل وأنا فيما ذكرته على قطع فإن معتمدنا فيما نأتي [ونذر] ونقبل ونرد من طريق العلل الاتباع للإجماع وقد علمنا قطعا جريان هذه العلل [في الكليات] وإن استثنى الشارع منها ما استثنى فمنكر هذه المعاني وقد تأيدت بالإجماع كمنكر أصل القياس.
والسر في ذلك أن مالا يعقل معناه في مستثنى الشارع والمستثنى لا يقاس عليه وكأنه منقطع عن كثر الشريعة ولا يعتبر شيء منه ولا يعترض به على شيء فهذا سبيل إجرائها فإن كان ينقدح فيها معنى على حال فهو ملتحق بالأقسام المبطلة التي تقدم ذكرها فهذا بيان الأصل ونحن نضرب أمثالا وننزل عليها تحقيق ما نبغيه نفيا وإثباتا.(20/180)
987- فنقول: إذا أردنا إجراء علة في تخصيص الغرامة لمختص بسببها و [مقتضيها] طردناها غير ملتزمين بتحميل العاقلة على قطع وتحملهم لا يعترض على ما تمهد من المعنى فلو ظن ظان أنه ينقدح في تحمل العاقلة معنى يصلح على السبر مأخوذ في المعاونة فهذا غير سديد فإن ذلك لا يجري فيما يتفق تلفه من الأموال وهو أعم وجودا وأغلب وقوعا [من] القتل الواقع خطأ أو على شبه العمد ثم الإعانة في الشريعة إنما تجب إذا كان المعان معسرا وعلى هذا نظمت أبواب النفقات [والكفارات] فالقاتل خطا يتحمل عنه وإن كان من أيسر أهل زمانه فليس لمثل هذه التخييلات اعتبار.(20/181)
ص -108-…988- وكذلك إذا طردنا طريقة في إيجاب المثل في المثليات التي تتشابه أجزاؤها فألزمنا عليها إيجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من التمر في مقابلة لبن المصراة لم يحتفل بهذا الإلزام ولا تعويل على قول المتكلفين إذ زعموا أن اللبن [المحتلب] في أيام ابتلاء الغزارة والبكاءة يقع مجهول القدر.
فرأى الشافعي رضي الله عنه فيما ورد الشارع فيما يقل ويكثر إثبات مقدر من جنس درءا للنزاع فإن هذا لا جريان له أصلا ويلزم طرد مثله في كل مثلي جهل مقداره وليس لبن المصراة مما يعم ويغلب الابتلاء بالحكم فيه وإن أمثال هذه المعاني البعيدة إنما تثبت بعض الثبوت إذا تقيدت وتأيدت بعموم البلوى على أنها لو كانت كذلك أيضا لكانت من المعاني الكلية التي لا تتخلص في مسالك العرض على السبر ثم تعيين جنس التمر كيف يهتدى إلى تعليله؟
وإنما المطلوب فيما فرضنا الكلام في الجنس المعدول إليه لا في المقدار فإن ما ذكر من دوام النزاع يقدر انقطاعه بتقدير مقدار من النقدين وهما أثمان الأشياء إذا عسر تقدير الأمثال فاطرد إذا ما ذكرناه واستبان أن أمثال هذه المستثنيات لا تعترض على القياس المعنوي.
989- ومما يضرب مثلا الكتابة الفاسدة فإذا قال الشافعي الملك لا ينتقل إلا بمسلك شرعي والفاسد حائد عن سبيل الصحة غير واقع الموقع المطلوب في الشريعة فلا وقوع له في مقصود العقد الصحيح كان ذلك كلاما بالغا حسنا.
فإن ألزم [الخصم] عليه الكتابة الفاسدة فإنها في تحصيل مقصود الكتابة نازلة منزلة الكتابة الصحيحة.
والوجه أن يقال للملزم أتعترف بخروج الكتابة الفاسدة عن قاعدة المعاني أو تدعي جريان المعنى فيها؟
فان ادعى جريان المعنى [فيها] فلا يفي بإظهاره إذ ليس في يدي من يتمسك بالكتابة الفاسدة إلا تشبيه محض ولا يستقل معنى يصحيحه السبر في إحلال الكتابة الفاسدة محل الكتابة الصحيحة.(20/182)
فإن قال الملزم: ليس على المناقض أن يبدي جامعا معنويا بين صورة النقض وبين محل علة الخصم فتكليفكم إيانا إبداء معنى التكليف شطط فإن النقض يلزم من جهة قطعة طرد العلة لا من جهة انتظام رابط بينه وبين محل النزاع وهذه مزلة يجب(20/183)
ص -109-…التثبت عندها.
فإنا نقول للخصم: ما رأيك في علة يطردها الطارد ومضمونها: ألا تزر وزارة وزر أخرى فهل تبطل عندك بتحمل العاقلة العقل فإن سبق إلى مذهب [من] يبطل العلة بورود مثل ذلك عليه بطل عليها مذهبه بما تقدم ونسب إلى رد باب عظيم من العلل المتفق على صحتها فإن الأمة قاطبة مجمعون على طرد هذه العلة [مع اعترافهم بما شذ منها ولا يحكمون على هذه العلة] في هذه القاعدة الكلية بالفساد لشذوذ مسألة عن القاعدة ورأى ذوى الأبصار ألا يحكموا بالشاذ على الكل ولكنهم لا يتركون الشاذ على شذوذه ويعدونها كالخارج عن المنهاج.
990- وإن قال الملزم: أسلم أن ما ذكرتموه لا يبطل بتحمل العاقلة قلنا لهم والكتابة الفاسدة عندنا بهذه المثابة.
وآية ذلك: أن معناها الجلي يجري في الكتابة الفاسدة وإن فسد عوضها فليس يفسد معنى تعليق العتق فيها وهذا يشير إلى فرق.
قلنا: ما ذكرته خارج عن الطريقة فإنه إيماء إلى وجه من الصحة لو استمر القول فيه والذي نحاوله ألا يثبت للفاسد حكم أثبت للصحيح لجلب مسألة.
991- وإن قال الخصم: خذوا الكتابة في منزلة المناقضة شبها فإن الشبة في الأقيسة صحيح مع افتقارها إلى الجوامع فلأن يلزم مسلك الشبه نقضا أولى وليس على الناقض جمع.
قلنا: هذا أوان كشف الغطاء في هذه المحال.
فنقول: لا مشابهة بين صحيح الكتابة وصحيح البيع فإذا لم يتشابها في منزلة الصحة فكيف يتشابهان في الفساد؟
وإن [قنع] الملزم بلفظ يجمع البابين ألزم على مقصوده إيراد تحمل العاقلة على أبواب الغرامات فلاح بما تمهد أنه لا متمسك للخصم بالكتابة الفاسدة على وجه لا على سبيل التعليل ولا على سبيل المناقضة.
992- ومن أمثلة هذا الفصل الاكتفاء بالخرص على من يدعونا إلى التقدير بالكيل أو الوزن الضابطين فالأصل الضبط بالممكن في كل جنس ولكن الخرص أثبته الشرع لحاجة في قضية مخصوصة فهو من المستثنيات ولكن قد ينقدح في هذه.(20/184)
ص -110-…المحال أن الوزن أضبط من الكيل ثم الكيل متعين في بعض الأشياء مع أمكان الوزن فالخرص في محل الحاجة كالكيل في المكيل [بالإضافة إلى الوزن].
فلا يتضح خروج الخرص بالكلية عن القانون حسب اتضاح خروج تحمل العاقلة والكتابة الفاسدة.
والسبب في ذلك ما جاء [به] من المعنى من شوائب التعبد في تعين الكيل مع إمكان الوزن ولكن وإن كان الأمر كذلك فالأصل الرجوع إلى العرف فيما يعد تقديرا فالخرص معدود من الحدس والتخمين المجانب لمدارك اليقين وعلى الجملة بين الداعي إلى التقدير وبين ملزم الخرص تجاذب وتداور من مثل ما ذكرناه والوجه درء الخرص بالمسلك الذي ذكرناه كما تقدم.
993- فإن علل معلل في قطع الخيار عند ظن [صفة في العبد المبيع] من غير تصريح والكلام مفروض في ظهور مخايل وأمارات مشعرة بالصفة المطلوبة فثبوت الخيار عند التصرية إذا قال به المعلل [ينقض تعليله] فإن إشعار التصرية بإبداء غزارة اللبن واضح وليس ببعيد عن مسلك المعنى تعليل الخيار فيه وإذا لم ينقض تعليله ببعد التعليل [على] حال لزم ما يجري التعليل فيه نقضا.
فآل [مآل] الكلام إلى أن ما يورد نقضا إن كان لا ينقدح فيه وجه سديد على جلاء أو خفاء في المعنى فقد استمسك المعلل بالمعنى ولا مبالاة بما وقع مستثنى عن المسلك الذي ارتضيناه فإن كان يثبت فيه معنى وإن خفي وبلغ خفاؤه مبلغا لو عورضت علته بعلة في رتبة علة المعلل لكانت رتبة علة المعلل مرجحة فالالتباس بين الرتبتين لا ينتهض دارئا للنقض ولا احتفال بتخيل معنى [كلي] يظنه الظان على بعد كالمعاونة في تحمل العقل وسبيل تداينه من الكتابة الفاسدة فهذه مجامع الكلام في ذلك.(20/185)
994- وقد رسم القاضي رحمه الله مسألة في أن الحكم ببطلان العلة عند ورود النقص وصحتها قطعي أو ظني وقد ظهر ميله إلى إلحاق ذلك بالظنيات وقد ذكرنا فيما تقدم أن القاضي إنما وقف إذ كان النقض لا يعلل وقد بينا في التفصيل الذي انتجز الآن مدرك الحق وهو مقطوع به عندنا فليتبع الناظر تأمله وليستعن بالله تعالى.
مسألة:
995- اختلفت مذاهب الأصوليين في أن علة الشارع هل يرد عليها ما يخالف(20/186)
ص -111-…طردها فذهب الأكثرون إلى أن ذلك غير ممتنع في علة الشارع من جهة أن قوله متبع في تخصيصه وتعميمه [و] لا معترض عليه إذا خصص علة بمحل ولم يعملها في غير ما نص عليه والمستنبط معتمدة ظنه وإذا تقاعد المستنبط عن الجريان ضعف مسلك ظنه وليس له أن يحتكم بتخصيص العلة.
996- وذهب الأستاذ أبو إسحاق إلى أن علة الشارع يجب طردها كما يجب في العلة المستنبطة.
997- وهذه المسألة عندنا قريبة المأخذ نزرة الفائدة ليس فيها جدوى من طريق المعنى والوجه فيها أن ما نصبه الشارع على صيغة العلة إن لم يكن نصا في كونه علة بل كان ظاهرا في هذا الغرض فإذا ورد عليه ما يمنع جريان العلة فيظهر منه أن الشارع لم يرد التعليل وإن ظهر ذلك منه في مقتضى [لفظه] وتخصيص الظواهر ليس بدعا.
وأن نص على التعليل على وجه لا يقبل التأويل تصدى في ذلك نوع آخر من النظر وهو أن ما نصبه علة إن عم نصبه على صفة لا يتطرق إليها تخصيص ببعض الصور التي تطرد العلة فيها [فلا] مطمع في اعتراض ما يخالف طرد العلة وقد ثبت والأمر على ما صورناه على القطع أمران:
أحدهما: انتصاب المعنى المذكور علة، والآخر: جريانه على اطراد من غير اعتراض مخالف ونص الشارع لا يصادم.
وإن نص الشارع على نصب شيء على الجملة ونص على تخصيصه في كونه علة بمسائل معدودة ومواقع محدودة فليس يمتنع ذلك على هذا الوجه فإن علل الأحكام لا تقتضيها لذواتها وأعيانها وإنما تصير أعلاما عليها إذا نصبت ثم إذا نصبها الشارع في محال على الخصوص دون غيرها فلا معترض عليه في تنصيصه وتخصيصه.
ولو نص على نصب علة على وجه لا يقبل أصل النصب تأويلا ولم يجر في لفظ الشارع تنصيص على التعميم على وجه لا يؤول ولا تنصيص على التخصيص بمواقع مخصوصة فحكم هذا اللفظ الإجراء على العموم ولكن لا يمنع قيام دليل على تخصيص العلة ببعض الصور.
998- فأما ما ذكرنا أن للشارع أن يصرح بالتخصيص ولا يكون في تصريحه.(20/187)
ص -112-…بالتخصيص تناقض مع التنصيص على التعليل في موقع الخصوص فإذا كان لا يمتنع التصريح [بهذا وليس في اللفظ ما يأباه إباء النصوص وليس يمتنع إزالة الظواهر] فيخرج من مجموع ذلك أنه لا يمتنع تخصيص العلة ببعض المسائل.
999- والأستاذ أبو إسحاق يمنع النص على التعليل على وجه لا يقبل التأويل مع تجويز التخصيص ويقول: إن تعرض اللفظ لقبول الخصوص في جريانه لزم أن يكون في وضعه متعرضا للحمل على غير قصد التعليل ولو كان نصا في قصد التعليل فهو نص في قصد التعميم إذ لو لم يكن كذلك لكان خروجه عن حكم العلة في بعض المسائل متضمنا خروجه عن حقيقة العلة في أصل الوضع وذلك يخالف موجب التنصيص على كونه علة.
وهذا الذي ذكره يعترض عليه التنصيص على النصب مع التنصيص على التخصيص ببعض المسائل فإن ذلك سائغ في الوضع ولو كان التخصيص ببعض المحال مخرجا للمنصوب عن كونه علما لكان الجمع بين التنصيص على النصب والتخصيص متناقضا وفي كلام الأستاذ تشبيب بمنع هذا وهو في مجاري كلامه جسور هجوم على منع ما لا سبيل إلى منعه فإن قدر منه القول بهذا رد الكلام معه إلى ما تقدم ذكره من كون هذا غير ممتنع من جهة أن أعلام الأحكام لا تقتضيها لأعيانها وإنما معنى كونها عللا أنها أعلام تنتصب بنصب الشارع.
وإذا كان كذلك [فلا معترض] على من ينصب علما في تعميمه وتخصيصه ولذلك لا يمتنع أن ينصب الشارع علما مثله متى طرده ولم يتضمن إشعارا ولا شبها مقبولا.
1000- فهذا منتهى القول في هذا الفصل.
وعلى الجملة تخصيص المستنبط علة ينفصل عن تخصيص الشارع فإنه ليس للمستنبط وضع العلل على اختياره وإنما له النظر إلى درك ما يتخيله موضوعا بمسلك الظنون وإذا لم تجر العلة عامة فقد وهى ظنه على ما فصلنا القول في ذلك كما نفصل القول فيه قبل أن بينا المختار فيما يجوز ويمتنع(20/188)
ص -113-…فصل:
[في] توابع القول في النقض جدلي يعين على مدرك المقصود المعنوي.
1001- فإذا نصب الناصب علما مستنبطا وذكر لفظا مقتضاه العموم فطرا نقص فقال: أخصص لفظي بغير المسألة الواردة نقضا فإن [تقييد] اللفظ إلى فكيف السبيل إلى ذلك؟ والقول في هذا يتصل الآن بتفسير العلم وما يقبل منه وما لا يقبل.
وأما التخصيص: فيترتب الأمر فيه على ما يسوغ ويمتنع من طريق المعنى أولا فإن خصص تخصيصا يمنعه فهو غير مقبول منه وقد [ذكرنا] في تفصيل المعنى المقصود من هذا الفصل ما يبطل العلة من [النقوض] وإن كان ذكر تخصيصا لو صرح به لم يمتنع مثل أن تكون المسألة الواردة غير معللة وقد تقرر أن ما لا يعلل في حكم المستثنى فإذا أطلق المعلل [لفظه] عاما ثم لما ورد عليه مثل ما وصفناه الآن حاول تخصيص [عموم لفظه فهذا الآن تعلق بالجدل فإن المسألة الواردة ليست مبطلة من طريق] المعنى.
فقال قائلون من الجدليين: إطلاقه لفظه إشارة في بناء الكلام منه فإنه معمم للكلام ملتزم طردا فإذا وردت المسألة بإزائه لم يف بما التزمه.
1002- ونحن نقول: الأحسن أن يشير إلى ما يرد تصريحا وتلويحا مثل أن يقول هذه علة ما لم يستثن الشارع فإن لم يتعرض لهذا فلا معاب فإن العلل إنما يلتزم المستنبط طردها إذا لم يحتكم الشارع في استخراج بعض المسائل فليس على من يطرد علة في الغرم على المتلف أو علة في نفي الغرم على من لم يتلف التعرض للعاقلة وحملها وهذا يظهر في الذي طرأ استثناؤه والقول في ذلك كله قريب من المعنى واعتقاد كون الوارد غير خارج.(20/189)
1003- ومما يتعلق بالتفسير أن المعلل إذا ذكر لفظة مجملة ثم استفسر السائل ففسرها فقد اختلف الجدليون في ذلك فجوزه بعضهم وامتنع منه المحققون فإن الغرض من المناظرة التفاوض بما يعلم ويفهم ومن ذكر لفظا مجملا وسكت عنه فحاله مشعر بإسعافه على قطع السائل الطالب بالدليل ومن حكم إسعافه إياه أن [يفهمه] ما طلبه وإذا لم يفهمه فقد أظهر أنه مسعف والأمر على خلاف ما أظهر.
فإن ذكر لفظا مفهوما في وضعه واستراب السائل فيه واستفسر فالذي يأتي(20/190)
ص -114-…به المجيب من إرشاد وهداية ليس تفسيرا وإنما هو تنبيه للسائل على قصوره عن درك ما هو مفهوم في وضعه ويخرج من جملة ذلك أنه ليس على المعلل تفسير فيما ذكرناه.
فإن أتى بمجمل فقد قصر وعد ذلك من سوء الإيراد وإن لم يكن منقطعا في المعنى فإن أتى بلفظ مستقل مفهوم في وضع اللسان فلا حاجة إلى التفسير والذي نذكره عند [الاستبهام] على السائل سبر تقصير لا سبر تفسير وقد [نجز القول] في النقض وهو في التحقيق تخلف الحكم مع وجود العلة المدعاة ونحن نبتدىء الآن:
القول في تخلف العلة مع جريان الحكم.
[الخامس من الاعتراضات].
1004- وهو الاعتراض المترجم بعدم التأثير1 ونحن نجري في رسم هذا الفن على مسالك الأولين وتقسيمهم ثم نذكر بعد نقل مراسمهم وجه التحقيق إن شاء الله تعالى.
1005- قال أصحاب الجدل: عدم التأثير ينقسم:
إلى ما يقع في وصف العلة وإلى ما يقع في أصلها.
[فأما] الواقع في [الوصف]2 فهو عدم الانعكاس وقد سبق في ذلك قول بين بالغ يطلع على الأسرار والنهايات ونحن نذكر الآن ما يليق بهذا المقام ولا نغادر مضطربا معنويا ولا جدليا.
فنقول: العلة [المعنوية] إذا اطردت فإنها كما تشعر بالحكم في اطرادها فقد يشعر عدمها بعدم الحكم [على حال] ولكن لا يبلغ [إشعار] العدم بانتفاء الحكم [مبلغ] إشعار الوجود بالوجود.
وسبب ذلك أنه لا يمتنع في وضع المعاني ارتباط حكم بعلل تجويزا وإن كنا ادعينا فيما تقدم أن ذلك غير واقع وأن ما ظنه الخائضون في هذا الفن حكما معللا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكر جماعة من الأصوليين أن هذا الاعتراض قوي. حتى قال ابن الصباغ: إنه من أصح ما يعترض به على العلة."أرشاد الفحول" "ص 227".
2 إرشاد الفحول "ص 227".(20/191)
ص -115-…بعلل في التحقيق أحكام وهو كقولهم تحريم المحرمة الصائمة المعتدة الحائض معلل بهذه العلل المزدحمة وقد ذكرنا أن كل قضية من هذه القضايا توجب حكما مغايرا لحكم القضية فلا يعدم الأنيس بالفقه استمكانا من تقدير التعدد في الموجبات بوجوه ترشد إلى التغاير والاختلاف.
وقد يظن الظان [في هذا المقام] أن المسئول إذا فرض الكلام في طرف من أطراف المسألة لغرض وإيضاح كلام فصورة الغرض تختص بعلة وتشبهها مع سائر الأطراف علة عامة وإذا كان كذلك فقد علل الحكم في هذا الطرف بعلة خاصة هي مقصود الفارض وعلة عامة وهذا على حسنه غير صاف عن القذى والكدر.
1006- وأنا أضرب في ذلك أمثلة توضح الغرض فأقول.
إذا قدم الغاصب الطعام [المغصوب] إلى إنسان مضيفا فأكله المضاف ظانا أن الطعام ملك المقدم المضيف فقرار الضمان في قول الشافعي على المقدم ومعتمد هذا القول تقدير التغرير وكون [الغرور] مناطا للضمان.
وقد قال أبو حنيفة لو أكره الغاصب إنسانا على تناول ذلك الطعام فالقرار على الطاعم وإن كان مجبرا [موجرا] كما إذا كان مختارا في التناول.
فإذا فرض الفارض الكلام في صورة [الإكراه] فهذه الصورة لا يجرى فيها عموم التعليل بالتغرير إذ الإجبار ينافى الاغترار ومن ضرورة الاغترار فرض الاختيار في المغرور مع استناد اختياره إلى اغتراره فأما المجبر المكره فلا يتصور تصوره مغترا وإن فرض منه ظن فليس ذلك الاغترار المعنى.(20/192)
فهذا النوع من الفرض غير معنى من جهة أنه يجانب محل السؤال أولا [والفرض] المستحسن هو الواقع في طرف يشتمل عليه عموم سؤال السائل وذلك محمول على استشعاره انتشار الكلام في جميع الأطراف وعدم وفاء مجلس واحد باستتمام الكلام فيها فإذا فرض المجيب فيستفيد بالفرض فيه التعريف على قرب ومهما تعرض المجيب للكلام فيما لم يشتمل عليه سؤال السائل لم يكن للكلام وجه إلا البناء إذ له أن يثبت كلاما في غير محل السؤال ثم يبنى عليه محل السؤال وليس [ذلك] من الفرض وإنما هو بناء.
ولست أرى في البناء في المسألة التي فرضناها وجها فإنه إذا ثبت [أن] الضمان(20/193)
ص -116-…لا يستقر على المكره فكيف ينبني عليه عدم القرار على المختار الطاعم ولا معتمد في التقدير على المختار إلا الاغترار؟ وهو مفقود في [الإجبار] وشرط البناء جمع فقيه بين ما عليه البناء وبين محل السؤال.
نعم أساء أبو حنيفة رحمه الله إذ قرر الضمان على من لا اختيار له إساءة لا ارتباط لها بمأخذ الكلام في صورة الغرور.
1007- ونحن نفرض صورة من الفرض المستحسن يتبين بها قصارى المقصود فنقول: إذا سأل السائل عن نفوذ عتق الراهن فسؤاله يعم المعتق المعسر والموسر [و] إذا رأى المسئول [فرض الكلام] في المعسر فمحمل كلامه يندرج تحت سؤال السائل والفارض يستفيد بالفرض في المعسر أمرين:
أحدهما: دفع أسئلة قد يعتاص الجواب عنها على [البكي] الذي لا تطاوعه العبارة فإن من أسئلة الخصم سريان العتق إلى ملك الشريك فإذا كان يسرى سلطانه إلى غير ملك المعتق فقد يبعد عن محل ملكه مع صحة عبارته فإذا وقع الفرض في المعسر فلا يلزم في أطراف الكلام سريان العتق فإن عتق المعسر غير سار على أصل الشافعي فهذه فائدة.
وأعلى منها أن الخصم قد يتمسك في أطراف الكلام في أن قيمة العبد في فرض المالية نازلة منزلة العبد فليس الراهن المعتق [مفوتا على المرتهن] غرضه من الاستيثاق بالمالية فإذا أقام قيمة العبد رهنا مقامه فهو غير معترض على محل حق المرتهن.
وهذا الفن من الكلام لا حقيقة له إذ ليس هو معنى من ينفذ عتق الراهن فإن عتقه لا ينفذ عند من ينفذه لإمكان إقامة القيمة مقامه بل سبب نفوذه صحة عبارته وثبوت ملكه فيستفيد الفارض بفرضه دفع هذا الكلام الواقع فضلة لا أثر لها [فليكن] قصد المحقق إذا فرض مثل ذلك.(20/194)
1008- والآن نذكر في هذا الفن الغرض الذي استفتحنا القول في الفرض لأجله فنقول: يتجه للفارض في المعسر أن يقول: استأصل المعتق المعسر لو نفذ عتقه حق المرتهن بكماله مشيرا إلى أنه لا يجد ما يبذله غارما فيظهر كلامه من جهة الاستئصال والتسبب إلى قطع حق المرتهن من الاستيثاق بالكلية.
وهنا وقفة محتومة على طالب الغايات فنقول: من منع نفوذ العتق يكتفى بما(20/195)
ص -117-…يقرره بأن نفوذ العتق لو قبل منه أدى إلى قطع حق لازم للمرتهن في عين الرهن فإذا كفى هذا فأي حاجة إلى التعرض لقطع المالية وحسم الطلب في القيمة يوشك لو تفطن الفارض أنه يقع في المحذور الذي نبهنا عليه الآن وهو النطق بما لا اعتناء به ولا وقع له.
فإن قال قائل: ما المانع من ازدحام علتين في هذه الصورة إحداهما قطع المالية بالكلية والثانية قطع حق المرتهن عن العين المخصوصة فيكون امتناع النفوذ معللا بعلة خاصة وهي قطع المالية وأخرى عامة وهي قطع الحق عن عين العبد [فإن] هذا مما يعم الموسر والمعسر وإنما تتبعنا هذا الكلام مع فوائد جمة لهذا الغرض.
1009- ونحن نقول: هذا ليس بشيء فإن المالية ليست مرعية في حق المرتهن وإنما المعتبر حق استيثاقه بعين يتمسك به إذا اعترض له توقعات العسر في الذي يقع في الذمم وهو [يأنس] مستوثقا بالعين التي استمسك بها فهذا غرض الرهن وإذا لم يكن الراهن مطالبا بالدين فقد خرج عن مقصود الرهن ولهذا السر لا يجوز رهن الدين نعم لو فرض من الراهن إتلاف الرهن فالشرع يتقاضاه أن يقيم قيمته مقامه إذ مسلك الشرع إثبات الضمان جبرانا لكل فائت فلا ينبغي أن تعد قضايا الشرع في مظان الضرورات من القضايا الوضعية في تأسيس الأصول.
وهذا يناظر عندي مسلكين في توزيع العوض على مختلفين في أحد شقى العقد عند مسيس الحاجة في شفعة لو فرض تلف أحد العوضين.
1010- وقد زل جماهير الفقهاء فاعتقدوا التوزيع مقصود العقد كما نبهت عليه في مسألة العجوة في "الأساليب" وهذا زلل في سوء مدرك فإن العقد ما انبنى على التوزيع وإنما هو أمر ضروري أحوج إثبات الشفعة إليه وهو إذ ذاك أقرب معتبر.(20/196)
1011- وإن اعتقد الفارض في الراهن المعسر الفصل بينه وبين الموسر صار إلى أن الراهن إذا كان موسرا نفذ عتقه ويلزمه إحلال القيمة محل العبد وإن كان معسرا لا ينفذ عتقه لتعذر تغريمه وإفضاء الإعتاق فيه لو قدر نفوذه إلى إبطال اختصاص المرتهن باستيثاقه بالكلية وشبه [ذلك] بتفصيل مذهبه في تسرية عتق الشريك إذا كان موسرا ومنع تسريته إذا كان معسرا فاتحاد العلة على هذا المذهب أوضح فإن صاحبه متشوف إلى اعتبار انقطاع علقة المرتهن من غرض الوثيقة بالكلية وليس لبطلان حق المرتهن من غير الراهن عنده وقع أصلا ولذلك يبعد عتق الموسر.(20/197)
ص -118-…الراهن فلم ينتظم على المسلكين علتان عامة وخاصة في صورة الفرض.
1012- ومما نجريه مثالا في ذلك أن الشافعي رحمه الله إذا فرض [من هو على مذهبه] الكلام في مسألة ضمان المنافع في طرف الإتلاف وطرد ما يرتضيه فيه فقد يعتقد الفطن أنه يجتمع في هذا الفرض معنيان.
أحدهما: الإقدام على الإتلاف وهو من أقوى أسباب الضمان ولذلك [اختار] الفارض [تعيين هذا] الطرف وتخصيصه بالكلام المختص به وقد اجتمع فيه الإتلاف والتلف تحت اليد العادية وهذا أقرب مسلك في تخيل اجتماع معنيين لحكم واحد.
1013- ونحن نقول فيه: العلة في الضمان الإتلاف في هذه الصورة فحسب فإن التلف [الحاصل] تحت اليد العادية إنما يضمن من جهة اعتداء ذي اليد ومنعه الحق مستحقه فصار الضياع الذي وقع مساويا في أطراد منع المعتدى مشبها بالإتلاف فإذا تحقق الإتلاف لم يبق لتخيل التلف على دوام المنع المشبه بالإتلاف معنى والإتلاف هو المشبه به واعتقاد اجتماع المشبه والمشبه به في صورة واحدة محال.
1014- وأنا أشبه هذا المساق من الكلام بمسألة أصولية ذكرناها في أوائل هذا المجموع وهي قوله صلى الله عليه وسلم: "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل"1 فقد ذهب ذاهبون إلى أن الصيغة عامة في نفي الكمال والجواز وهذا زلل فإن العموم إنما يتحقق إذا أمكن اعتقاد اجتماع المسميات تحت قضية اللفظ المقدر عاما حتى يكون اللفظ شاملا لها وهذا لا يتحقق فيما فيه الكلام فإن الجواز إذا انتفى لم يتحقق مع انتفائه تخيل نفى الكمال إذ من ضرورة نفى الكمال [إجزاء] الشيء وجوازه على حكم النقصان وقد قررنا ذلك بما فيه أكمل مقنع.
1015- وقد تبين بمجموع ما ذكرناه في تقاسيم الفرض أنه لا يكاد يجتمع معنيان وقوعا يصلح كل واحد منهما لتعليل الحكم الواحد ولكن إن لم يقع هذا ولم يتفق فليس في العقل عند النظر في قواعد الشرع بالتعبد ما يحيل ذلك.(20/198)
ولو قدرنا وقوع هذا المجوز لما اقتضى انتفاؤه معنى عدم الحكم إذ الحكم في هذا التقدير مستقل بما بقى من المعاني فليس إشعار عدم المعنى بانتفاء الحكم على
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سبق تخريجه.(20/199)
ص -119-…نحو إشعار ثبوت المعنى بثبوت الحكم.
1016- وأقرب مثال فيما نحاوله من الفصل بين الإشعارين أن نقول العلة المفردة المعنوية تناسب الحكم مناسبة الاستقلال بالاقتضاء ولو فرضت علة مركبة من صفات فقهية فلا يناسب وصف واحد من الأوصاف الحكم واقتضاءه مناسبة العلة المفردة المستقلة ولكنه لا يعرى عن مناسبة لائقة بالحكم مستمدة من قضية فقهية الأوصاف.
فلو قدرنا عللا وقدرنا انتفاء جميعها ولم يرد شرع باطراد الحكم مع انتفاء جميع العلل فإن الحكم ينتفي عند ارتفاض العلل جميعا إذ يستحيل [تقدير] بقاء الحكم غير مرتبط بوصف أو علة وإذا زال بعضها كان لزوال البعض أثر في [النفس] يضاهي زوال ترجيح وتأكد ونحن لا ننكر اجتماع الترجيحات وزوال وصف واحد من العلة [المركبة من الأوصاف تتضمن انتفاء الحكم لاختلال العلة] إذ هي مركبة وشرطها تكامل أوصافها فكان انتفاء الحكم محالا على [اختلال] العلة أصلا ولم [نورد] الوصف الواحد مثلا ونحن [نريد أن نشبهه] في كل الوجوه بآحاد العلل عند [تقدير] اجتماعها وإنما أوردناه لانحطاط حظه من الإشعار عن حظ العلة المستقلة عند تكامل الصفات فكل وصف من أوصاف العلة عند توافيها على حظ وكل علة من العلل التي قدرنا اجتماعها إذا انتفت على حظ من اقتضاء الانتفاء فشابه خفاء إشعار انتفاء علة من علل بانتفاء الحكم خفاء إشعار آحاد الصفات عند توافيها بالحكم.
1017- وإذا تقرر ما ذكرناه فنقول بعده إذا طرد المعلل علة فاطردت له وهو يعتقد اتحاد العلة ولو يقم عنده توقيف في ثبوت الحكم عند انتفاء العلة فإنه يعتقد لا محالة انتفاء الحكم عند انتفاء العلة ويلتزم ذلك غير أنه لا يلزمه في مراسم الجدل أن يبدي توقيفا مقتضيا منع الانعكاس إن كانت العلة لا تنعكس.
1018- وهذا يستدعي مزيد كشف الآن.(20/200)
فنقول والله المستعان قد ذكرنا ترددا في أن العلة إذا امتنع اطرادها بمسألة غير معللة مستندها توقيف فهل يتضمن [ذلك] بطلان العلة؟ وهل يوهى مسلك ظن المستنبط في روم الطرد؟ فمن سبق إلى اعتقاد كون هذا قاطعا للطرد لا يقول إذا قام توقيف مانع من الانعكاس تضمن ذلك بطلان روم الطرد وذلك الإشعار لا يحط(20/201)
ص -120-…الإشعار بالعكس عن الإشعار بالطرد.
على أنا ذكرنا أن الطرد لا ينقطع بمواقع الاستثناء أصلا ومن اعتقد انقطاعه فقوله أقرب من قول من يصير إلى عدم الانعكاس متضمن بطلان الطرد.
فليفهم الناظر ما يلقى إليه من تفاوت المراتب في مآخذ النظر إن كانت مستوية في عقده.
ولهذا المعنى نقول: إذا اعترضت مسألة على مناقضة الطرد غير معللة فعلى المتمسك بالعلة أن يبين خروج المسألة المعترضة عن المعللات والتحاقها بالمستثنيات في أدب الجدل وليس على من ألزم عدم الانعكاس أن يبين السبب التوقيفي المانع من الانعكاس فإن ذلك لو فرض الخوض فيه كان داعية إلى انتشار الكلام والخروج عن الضبط الجدلي وإن كنا نرى أن العلل غير مجتمعة وقوعا وعلى المجتهد فيها أن يبحث عن طرق المناظر في الطرد والعكس وليس كل ما يلتزمه المجتهد في ترددات اجتهاده يذكره في مفاوضة من يناظره.
1019- فإن قيل: هل يسوغ أن يضع المستدل كلامه مبنيا على الدعاء إلى العكس؟
قلنا: لا يستقل في هذا كلامه المطلق بل يحتاج إلى أن يقرر معناه ويبين فساد ما عداه مما انتحله الخصم وادعاه ثم يشير إلى [انتفاء] التوقيف المانع من الوفاء بالعكس فينتظم من مجموع ذلك الدعاء إلى العكس لما ذكرناه من الإشعار [الخفي] به وعليه يخرج التعلق بالعلة القاصرة حيث يصح ويظهر بطلان ما يقدر متعديا فيدعو المتمسك بالعلة القاصرة خصمه إلى الوفاء بمقتضى العكس وسيكون لنا إلى ذلك عودة إن شاء الله تعالى عند الكلام في العلة القاصرة.
فهذا هو الذي أردنا إيراده في حقائق العكس في هذا المقام وقد يخرج ذلك في الاستدلال أيضا.
وكل ما ذكرناه معدود عند أصحاب الجدل من عدم التأثير في الوصف.(20/202)
ص -121-…الكلام عن عدم التأثير في الأصل.
1020- فأما ما عد من عدم التأثير في الأصل1 فنحن نمثله ونتكلم عليه فنقول: إذا علل الشافعي منع نكاح الأمة الكتابية وقال: أمة كافرة فلا يحل لمسلم [نكاحها] كالأمة المجوسية ولا أثر للفرق في الأصل [فإن الحرة المجوسية محرمة والتمجس يستقل بإثارة منع النكاح والرق مستغنى عنه وذكر الرق عديم التأثير في الأصل] والذي صار إليه المحققون فساد العلة بما ذكرناه.
وذهب ذاهبون إلى أن التمسك بذلك صحيح من جهة أن للرق أثرا على الجملة في المنع فذكره مع التمجس ليس عريا عن إشعار وإن كان لا يحتاج إليه.
وزعم هؤلاء أن هذه الزيادة مع ما فيها من الإشعار بالمنع على خفاء مشبهة بشهادة شاهد ثالث وقد استقلت الحكومة بشهادة عدلين.
وهذا غير سديد فإن الرق في الأصل ليس علة ولا وصفا لعلة فوقع التعرض له لغوا ولا حكم له لما فيه من الإشعار على بعد إذ كان لا ينتهض علة ولا ركنا لعلة وليس هذا كما استشهد به من يصحح ذلك في شهادة الشاهد الثالث فإن ذلك استظهار في الحكومة والشاهد الثالث متهيئ لأن يقدر أحد الشاهدين الواقعين ركنا ولا يتصور أن يقع الرق المجرد ركنا في محاولة التحريم على التعميم فقد نأى ما نحن فيه عما استشهد به من تقدم وتعين القول قطعا من سقوط العلة.
1021- وما ذكرناه فيه إذا كان للوصف أثر على بعد في أصل الحكم المطلوب وإن كان لا يؤثر في تفصيله.
فأما إذا كان الوصف الزائد غير محتاج إليه ولم يكن معه إشعار نظر فإن لم يكن في ذكره غرض فهذا لغو لا وقع له ولا يقضى بأنه يبطل العلة إذا كانت مستقلة مع حذف الزيادة ولكن ينسب ذاكرها إلى الهذر وذكر ما لا يحتاج إليه وهذا في مراسم الجدل كترك السنن والهيئات في العبادات.
ولو كانت العلة تنتقض لو قدر حذف الزيادة والزيادة لا إشعار لها فهي عند المحققين منحذفة غير عاصمة من النقض.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إرشاد الفحول "ص 227".(20/203)
ص -122-…وذهب القائلون بالطرد إلى قبول هذا ورأوا ذلك أولى من الطرد المجرد من حيث انطوت العلة على فقه على حال ووجه ولصاحب هذه الزيادة درء النقض.
1022- ونحن نقول: إن كان النقض ينفصل عن محل العلة فذاكر العلة غير آت بتمام العلة ولا يقع الانفصال بالزيادة التي أثبتها والعلة باطلة.
وإن كانت المسألة المعترضة [غير معللة فلا ضير في ذكر الزيادة فإنها منبهة على كون المسألة المعترضة] ملتحقة باستثناء الشارع وقد جرى التنبيه على ذلك.
وتقدم فهذا تمام القول فيما أردناه.
1023- وعلينا الآن فضل كلام في فصل الأصحاب بين عدم التأثير في الوصف [وعدم] التأثير في الأصل.
فنقول: عد الجدليون عدم التأثير في الوصف قولا في العكس كما تفصل وفسروا عدم التأثير في الأصل بذكر صفة لا تستقل علة وعلة الأصل تستقل دونها والذي نراه أن القسمين ينشآن من الأصل فإن فرض الأصل معللا بعلل [فالعلة] الواحدة لا يتضمن انتفاؤها انتفاء الحكم وهذا منشؤه من تعدد العلة في الأصل وإن اتحدت العلة جر ذلك الانعكاس والقول في ذلك كما مضى.
فوضح أن تقسيم الكلام إلى الأصل والوصف لا حاصل له.
1024- ونحن الآن نسرد في بسط المقالات كلاما مجموعا في الخلاف والوفاق حتى يجدها الناظر مجموعة فقد أطلنا [التقرير] بعض الإطالة فنقول:
ذهب شرذمة إلى اشتراط الانعكاس جملة وهذا مذهب مهجور وعلى قلة البصيرة محمول ولست أعدها مقالة معتدا بها فأما التزام الانعكاس مع اتحاد العلة وانتفاء توقيف مانع منه فلا بد.
منه عندنا وقد ذهب ذاهبون إلى أنه لا يلزم لأن إشعار النفي كالمنفى والمقصود طرد خفي لا استقلال له.
والإنصاف في ذلك أن يقال: إنه لا يلزم في الاجتهاد والمطالبة به لا تحسن في الجدل والمعلل إذا ألزم فله الاكتفاء برد الأمر إلى إبهام في المانع من العكس فهذا بيان المقالات في العكس.(20/204)
ص -123-…1025- فأما ما به قوة عدم التأثير في الأصل فينقسم إلى مخيل وإلى ما لا يخيل.
فأما الصفة المشعرة إذا كانت علة الأصل يستقل دونها الحكم وهي لا تستقل علة فالوجه القطع ببطلانها ومن الجدليين من لم يبطلها.
وإن لم تكن مناسبة [ولا] حاجة فهي من اللغو كما مضى وإن رام المعلل بها دفع نقض فهذا على ما تقدم شرحه فمن الناس من قبله.
والمختار عندنا أن النقض إن كان فقهيا لم تغن هذه الصفة والوجه ذكر الفقه الفاصل بين ما اعترض به وبين محل العلة وإن كان الغرض من ذكرها التنبيه على مسألة غير معللة فهذا مستحسن ولكنه لا يلزم الذكر في الرأي الواضح فهذه مجامع المذاهب وقد نجز بنجازها القول في عدم التأثير و [الخامس] من الاعتراضات: فساد الوضع1:
1026 - وهو على أنحاء وأقسام [وحاصل] القول فيه يحصره نوعان.
أحدهما: أن يبين المعترض أن القياس موضوع على خلاف ما يقتضيه ترتيب الأدلة وهذا يشمل فنونا وقد تقدم القول فيها.
أحدها: أن يكون على مخالفة الكتاب، والآخر: أن يكون على مخالفة السنة والكتاب والسنة مقدمان على قياس المستنبط وكذلك القول في الخبر الذي ينقله الآحاد على الصحة المألوفة في أمثالها فخبر الواحد مقدم كما تقدم ذكره.
ومن هذا الفن محاولة الجمع بالقياس بين شيئين فرق بينهما الخبر أو محاولة الفرق بين شيئين اقتضى الخبر الجمع بينهما.
ولا معنى لتعديد وجوه المخالفات فإنها ترتبط بالتزام عد مقتضيات الشرع ولا معنى للإسهاب بعدها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وذلك بإبطال وضع القياس المخصوص في إثبات الحكم المخصوص بأن يبين المعترض أن الجامع الذي ثبت به الحكم قد ثبت اعتبار بنص أو إجماع في نقيض الحكم والوصف الواحد لا يثبت به النقيضان ذلك بأن يكون أحدهما مضيقا والآخر موسعا أو أحدهما مخففا والآخر مغلظا أو أحدهما إثباتا والآخر نفيا "إرشاد الفحول" "ص 230".(20/205)
ص -124-…ويكفى فيما نرومه أن القياس إذا خالف وضعه موجب متمسك في الشرع هو مقدم على القياس والقياس مردود فاسد الوضع [فهذا أحد النوعين].
1027- والنوع الثاني: أن يقع المعنى الذي ربط القايس الحكم به مشعرا بنقيض قصد القايس وهذا بالغ في إفساد القياس وهو زائد على إفساد القياس على الطرد وقد قدمنا أن الطرد إنما يرد من جهة أنه لا يناسب الحكم ولا يشعر به [فالذي لا يشعر به] بل يشعر بخلافه [أولى] أن يرد وهذا كذكر سبب يشعر بالتغليظ في روم تخفيف أو على العكس من ذلك.
مسألة:
1028- إذا اعتبر القايس القصاص بالدية في الثبوت على الشركاء حيث يبغى ذلك أو اعتبر الدية بالقصاص في السقوط حين يلتمسه أو قاس الحد على المهر [في طلب الثبوت أو المهر على الحد] في محاولة السقوط فقد أطلق طوائف من الجدليين أقوالهم بفساد القياس صائرين إلى أن العقوبات تدرأ بالشبهات وأروش الجنايات تثبت الشبهات فاعتبار أحد البابين بالآخر فاسد الوضع.
1029- وسنبين القياس الصحيح باعتبار ما يسقط بالشبهة [بما] لا يسقط بها أو على العكس وهذا أطلقه حذاق في كتبهم.
وليس الأمر عندي كذلك على الإطلاق فإن المهر وإن كان قد يجب مع الشبهة فلا يقضى الشرع بثبوته أبدا ولكنه قد يسقط في بعض الأحوال [وكذلك القصاص] فإن كان يتعرض للسقوط بالشبهة فلا شك أنه [يجب] في بعض الأحوال.
فإذا تعرض القايس لحالة يقتضى حكم الإخالة فيها اجتماع القصاص والدية في السقوط واجتماعهما في الثبوت فقد تعرض جاريا لتبيين الرشاد والسداد وليس يلتزم القايس في التفصيل قياس باب القصاص على باب الدية فلو حاول ذلك لكان مبطلا.
فتحصل من مجموع ذلك أن المتبع في هذا أن اعتبار الباب بالباب مع افتراقهما في أصل الوضع محال متناقض لما عليه وضع الشرع.
وذلك إذا التزم الجامع أن يجب القصاص حيث تجب الدية أو تسقط الدية حيث يسقط القصاص.(20/206)
ص -125-…1030- فأما إذا كان القياس جزئيا ناصا على بعض الصور فينظر في الجامع فإن أخال وصح على الطرد حكم بصحته.
وإن لم يخل أو صادف صورة يقتضى وضع الباب مفارقة أحدهما الثاني في صورة الجمع فالقياس فاسد في وضعه.
وعلى هذا النسق لا يطلق القول ببطلان قياس الرخص على الوظائف الثابتة ولا ننكر أيضا عكس ذلك.
1031- والغرض من مضمون هذه المسألة أن افتراق البابين على الجملة فيما نحن فيه ليس يوجب افتراقهما أبدا بل إن أطلق ذلك فالمراد به الافتراق في خصوص أحكام في صورة معينة فليجتنب الجامع في جمعه محل افتراق البابين وليلزم مع هذا الاجتناب شرائط الأقيسة فهذا الرشد والمسلك القصد.
و السادس- من الاعتراضات- القلب1:
1032- وهو ينقسم إلى قلب فيه التصريح بالحكم وإلى قلب وضعه إبهام الغرض.
فأما القلب الصريح: فقد مثله أهل هذا الشأن [بأن] الشافعي إذا قال عضو من أعضاء الطهارة فلا يتقدر الفرض فيه بالربع قياسا على سائر الأعضاء فيقول الحنفي عضو من أعضاء الطهارة فلا يكتفي فيه بما ينطلق عليه الاسم قياسا على سائر الأعضاء وهو مما ظهر فيه الاختلاف.
1033- فذهب ذاهبون إلى رده وتمسكوا بأن ما جاء به القالب ليس مناقضا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قلب الآمدي: هو أن يبين القالب أن ما ذكره المستدل عليه لا له أو يدب عليه وله والأول قلما يتفق في الأقيسة ومثله في النصوص باستدلال الحنفي في توريث الخال بقوله صلى عليه وسلم: "الخال وارث من لا وارث له" فأثبت إرثه عند عدم الوارث فيقول المعترض: هذا توريث الخال بطريق المبالغة كما يقال: الجوع زاد من لا زاد له والصبر حيلة من لا حيلة له أي: ليس الجوع زاد ولا الصبر حيلة قال الرازي في "المحصول": القلب معارضة إلا في الأمرين:
أحدهما: أنه لا يمكن فيه الزيادة في العلة وسائر المعارضات يمكن.(20/207)
الثاني: لا يمكن منع وجود العلة في الفرع والأصل لأن أصله وفرعه أصل المعلل وفرعه ويمكن ذلك في سائر المعارضات أي: فيما وراء هذين الوجهين فلا فرق بينه وبين المعارضة "إرشاد الفحول" "ص 227, 228".(20/208)
ص -126-…لمقصود المعلل ومقصود المعلل نفى التقدير بالربع وضده أن يتقدر بالربع فلا يستمكن القالب من ذلك أبدا فإن أصل المعلل والقالب واحد ولا يتصور أن يشهد أصل واحد على التصريح بنقيضين وإن فرض إجزاء ذلك فالأصل يشهد لأحد الوجهين دون الثاني فالقلب إذا حائد عن مقصد المعلل ومحل العلة وهو في حكم معارضة في غير محل التعليل والمعارضة إذا لم تجر على المناقضة المحققة بموجب العلة فهي غير قادحة لوقوعها مجانبة لمقصود العلة.
1034- ومن قال: إن القلب قادح استدل بأن العلة وقلبها في الصورة التي ذكرناها مشتملان على حكمين لا سبيل إلى الجمع بينهما فإن من يكتفي بالاسم لا يقدر ومن يقدر لا يكتفي بالاسم فإذا كان كذلك فقد تحقق اشتمال العلة والقلب على أمرين لا يتأتى التزام جمعهما على الموافقة فكان ذلك كالتصريح بالمناقضة.
1035- ثم للقلب عند القائل به مرتبة على المعارضة من جهة أن العلتين المتعارضتين تعتزى كل واحدة منهما إلى أصل لا يشهد للعلة الأخرى والأصل متحد في العلة وقلبها [فكان ذلك أبين] في التناقض.
ومن أسرار هذا أن القالب لا يأتي بالقلب وهو يجوز كونه متعلقا بما يريده ولو كان رام ذلك لكانت العلة قلبا لما يبغيه فإن كان القلب قادحا من جهة كونه قلبا فعلة الخصم قلب القلب فإذا وضع القالب على الإبطال وهو في حكم معارضة الفاسد بالفاسد وإبانة عدم شهادة الأصل على المراد فالعلة إذا عورضت بأخرى فلا يمتنع ارتباط الحكم بإحداهما للترجيح كما سيأتي مفصلا إن شاء الله تعالى فهذا مغزى قول الفريقين.
1036- ونحن نقول: ما وقع الاستشهاد به في حكم مسح الرأس باطل [لا] من جهة القلب ولكن من جهة جريان الكلام من الجانبين طردا فإن إطلاق اسم العضو لا يشعر بمقصود المعلل ولا مقصود القالب فخرج الكلامان عن رتبة الإشعار ووقعا طردين.(20/209)
فإن قيل: إن لم [يستد] القياس المعنوي فهلا قدر أحد الكلامين شبها وهلا قدرا شبهين متعارضين قلنا ما نرى الأمر كذلك فإن أعضاء الوضوء غير متشابهة لا في أقدار محل الفرض ولا في كيفية تأدية الفرض إذ بعضها مستوعب وبعضها غير مستوعب وبعضها مغسول وبعضها ممسوح.
فإذا قال القائل: عضو من أعضاء الطهارة فلا يتقدر فرضه بالربع فليس.(20/210)
ص -127-…الذي جاء به من الشبه في شيء إذ ليس في عضو من الأعضاء ما ينافى تقديرا وإنما لها أوضاع في الشرع وفاقية وهي في وضع الشرع على التقارب فمن يبغى شبها في التسوية في نفي أو إثبات فليس كلامه واقعا في مظنة التشبيه.
فإن عاود معاود بأن الأعضاء الثلاثة التي هي أصل القياس متساوية في عدم التقدير بالربع والمطلوب التشبيه في هذه الخصلة قيل له: هي وإن لم تتقدر ففرضها مختلف الأقدار في وضعها فلم يتأصل فيها شبه في ثبوت ولا نفى وما [يتخيله] القائل على بعد يصادمه ما تقرر من وقوع فرائضها على التفاوت في الشرع والمتمسك بما لم يقع في جميعها لا حاصل له إذ لم يقع في الوجه واليدين ما وقع في الرجلين ولم يقع في الرجلين ما وقع في الوجه واليدين لما ذكرناه من ابتناء الأصل على التفاوت فلم [يمنع أن] يتفق الربع في الرأس ولا يقع في سائر الأعضاء.
1037- نعم، لو قال القائل: ورد ذكر الرأس محلا للمسح وثبت بالسنة المأثورة أن الاستيعاب غير واجب ولم يثبت توقيف في مقدار والتقدير استنباط واعتبار [والتحكم] به محال فيبقى اسم المسح مطلقا مع بطلان المصير إلى طرفي الاستيعاب والتقدير فيتعين والحال هذه حمله على أقل مقتضيات الاسم.
فهذا مسلك حسن بالغ في المسألة ولكنه ليس من القياس بسبيل وإنما هو متلقى من الكتاب والسنة وإبطال [الاحتكام] بالتقدير فليس قياسا ولا يستقل في هذا الطريق ظاهر الكتاب ولا يقتضى ما نقل أن النبي عليه السلام مسح بناصيته وظاهر عمامته ولا يختص إبطال مذهب الخصم في التقدير بل لا بد من التعرض لإبطال اشتراط الاستيعاب بالسنة وإبطال التقدير وإذا بطلا وانحسم جواز فهم كل واحد منهما من ظاهر الخطاب لم يبق للمسح مصرف إلا التنزيل على أقل مقتضى التسمية.
وأين يقع هذا من القياس؟ وإنما هو مسلك بدع جدا لا يعهد له نظير.(20/211)
1038- فإن قيل لو قدر التعليل الذي ذكرتموه مثلا مخيلا مناسبا وقدر القلب مناسبا في غرضه فماذا كنتم تقولون قلنا هذا أولا لا يتصور فليثق الفاهم بهذا فإن الأصل الواحد لا يجوز أن يدل على حكمين نقيضين ويشعر بكل واحد منهما.
وإذا كان لا يتفق وقوع الشيء فلا معنى لتقدير بفرض الكلام عليه فإن كانت إخالة فإنها تختص بالعلة ويقع القلب طردا ويختص بالقلب وتقع العلة طردا ثم(20/212)
ص -128-…يبطل ما وقع طردا ولا معنى والحالة هذه لابتغاء مسلك في البطلان وراء ما ذكرناه فإن الطرد ليس على صيغ الأدلة حتى يتوقع فيه اعتراض وإنما هو دعوى عرية بمثابة دعوى المذاهب.
1039- ولو تكلف متكلف في محال الأشباه استمساك المعلل والقالب بوجهين من الشبه يطابق في طريق الظن كل وجه من الشبه مراد صاحبه في الوجه الذي أبداه معللا أو قالبا.
فهذا إن تشبثوا به موضع الكلام وتلتبس به الحظوظ المعينة بالمراسم الجدلية فلا يشك ذو نظر أن القلب لا يعارض العلة معارضة المضادة ومناقضة النفي للإثبات بل يقع القلب للعلة في طرفين فيتجه من طريق الجدل إذا كان المسئول هو المقلوب عليه أن يقول للسائل: لم تتعرض لمقصود علتي؟ وأنت محمول على حصر كلامك في الاعتراض على مساق كلامي ممنوع عما يكون فرضا وتخصيصا للكلام بجانب من جوانب المسألة فهذا وجه لائح من وجوه الجدل.
1040- وإن قال السائل: اتباع المقاصد أولى من التمسك بالصيغ والألفاظ فالعلة وقلبها يعسر الجمع بينهما مذهبا ومعنى والمعارضة المناقضة على التصريح إنما كانت اعترافا من جهة استحالة الجمع بينها وبين العلة وإذا تحقق عسر الجمع بين مقتضى العلة وموجب القلب كان القلب في وجه قدح المعارضة كالمعارضة.
وقد تحقق هذا النوع من الكلام بأن المجتهد إذا استنبط علة لعمل أو فتوى وعن له وجه من القلب فلا يحل له إمضاء الاجتهاد بموجب العلة [ما لم] يدفع القلب وإذا كان كذلك فشرط سلامة العلة السلامة من القلب والمسئول قد التزم الإتيان بعلة سليمة من الاعتراضات فعليه الوفاء بالملتزم ويقع القلب على هذا التقدير مطالبة بتسليم العلة عما يقدح فيها.
وإذا اتجه هذا المسلك المعنوي لم تقف له تلفيقات الجدليين.(20/213)
1041- ومما يحقق الغرض والمقصد منه أن منصب السائل في وضع الجدل يمنعه من الدليل ويحصر كلامه في التعرض للاعتراضات ثم إذا عارض علة المسئول بعلة فهو في مقام المستدلين ولكن قبل ذلك لوقوع ما أتى به اعتراضا.
1042- فهذا منتهى كلام الجدليين وأصحاب المعاني من الأصوليين ولى بعد(20/214)
ص -129-…المسلكين نظر آخر وهو مختاري.
فأقول: إن كان مضمون القلب تعرضا لطرد لا يناسب مضمون العلة من طريق المعنى ولكن اتفق مذهب الخصم في الطرفين على مقتضى في نفي أو إثبات ولا يمتنع أن يفرق بينهما فارق فيثبت أحدهما وينفى الثاني ولكن القائل قائلان أحدهما: يثبت أمرا والثاني: ينفيه ولو قدر مصير صائر إلى إثبات أحدهما: ونفى، الثاني: لم يكن ذلك متناقضا فإذا وقع القلب والعلة على هذا النسق فالقالب فارض وقلبه غير قادح [لا] جدلا ولا معنى إذ لا تعلق لواحد من الطرفين بالثاني وكأن المسئول فرض الكلام في طرف وفرض السائل الكلام في طرف آخر وهذا ممنوع لا شك فيه.
ويمكن أن نمثل [هذا] بما قدمناه في العلة والقلب في مسح الرأس لو أخذنا بكونهما شبهين فإن المعلل قال في حكم علته: لا يتقدر الفرض بالربع وقال القالب: لا يكتفى بالاسم [ولا يمتنع من طريق المعنى ألا يتقدر بالربع ولا يكتفى بالاسم] وهذا يقوى جدا إذا صح مذهب معتبر غيرهما.
والأمر كذلك في المسح فإن مالكا رضي الله عنه أوجب الاستيعاب فلا ينتهض اتفاق مذهبي [الخصمين] في الطرفين على نفي وإثبات سببا في توجه الاعتراض إذا لم يكن الكلام في وضعه قادحا.
فأما إذا كان في القلب تعرض من طريق المعنى لمناقضة مقتضى العلة أصلا وسياقا وتفريعا فهذا إذ ذاك قدح من جهة تلاقي العلة والقلب على قضية التناقض ضمنا وإن لم يتلاقيا صريحا.
وهذا بمثابة قول القائل: مكث في محل مخصوص فلا يكون قربة لعينه كالوقوف بعرفة وغرض المعلل اشتراط الصوم في الاعتكاف ولكنه لم يستمكن من اشتراط ذلك صريحا لأنه لو صرح به لم يجد أصلا.
فإذا قال الشافعي: مكث فلا يشترط في وقوعه قربة صوم كالوقوف بعرفة فهذا القلب لم يتعرض للعلة تعرضا بينا فكان قادحا.
1043- والقول الضابط في ذلك أن قول القائل لا يستقل بإثبات مذهبة من جهة أنه لا يكتفى بانضمام كل عبادة إلى الاعتكاف ولكن لم يتأت له التصريح فأبهم.(20/215)
ص -130-…وأثبت طرفا من المذهب فإذا استمكن القادح تصريحا في مصادمته فيما [شبب] به تلويحا كان ذلك قدحا معينا.
- 1044وفي القلب شيء يجب التنبه له وهو أن الصوم عبادة مستقلة فوقوعها شرطا بعيد وهي عبادة معينة في ذاتها والخصم لا يكتفي بانكفاف المعتكف عن المفطرات حسب اكتفاء المصلي الصائم بالإمساك والذي وقع القياس عليه لا يشترط فيه قربة مستقلة بل هو ركن من عبادة فكان لزوم القلب متجها.
- 1045ولو علل الشافعي بما ذكرناه على صيغة القلب فقال: مكث في مكان مخصوص فلا يشترط في وقوعه قربة صوم كالوقوف بعرفه.
فقال الحنفي: فلا يقع بمجرده قربة كالوقوف بعرفة فهذا معترض لعله الشافعي من جهة أن متضمن القلب [إنكار] وقوع المكث المحض قربة فعلى الشافعي أن يدرا هذا القلب ودرؤه ممكن بأن يقول الوقوف جزء في عبادة وليس الاعتكاف من الصوم ولا الصوم من الاعتكاف إذ ليسا عبادة واحدة واشتراط عبادة في عبادة بعيد خلا الإيمان فإنه أصل ولا يعقل ملابسة فرع دونه وليس القلب في صورته [مبطلا إبطالا] لا يستدرك كالنقض فإنه لا ينفع بعد اتجاهه فرق ولا تعليل فإن القلب وإن اتجه فهو في معرض المعارضة وإذا عورضت علة المجيب وتمكن من إبطال ما عورض به وترجيح علته سلمت العلة واندفعت المعارضة.
فهذا منتهى الكلام في القلب المصرح به.
1046- فأما القلب المبهم فينقسم قسمين:
أحدهما: إبهام في غير تسوية.
والآخر: إبهام بالتسوية.
فالإبهام من غير تسوية مثل أن يقول الحنفي صلاة شرع فيها الجماعة فلا يثنى فيها الركوع في ركعة واحدة قياسا لصلاة الخسوف على صلاة العيدين فيقول القالب فجاز أن تختص بزيادة كصلاة العيدين إذ فيها تكبيرات زائدة فهذا قلب مبهم.
1047- والقاضي رحمه الله قضى بإبطال هذا القلب وذكر وجوها [نسردها] ونتتبعها.(20/216)
ص -131-…منها: أنه قال: هذا الذي ذكره القالب ينقلب عليه فإن المعلل يقول: لا تختص بزيادة وهي ركوع وإذا كان كذلك فالقلب لو كان فادحا لوجب أن يفسد من حيث يقدح إذا أمكن قلب القالب وإذا فسد لم ينقدح.
وهذا الذي ذكره غير سديد فإن هذا الذي فرضه قلبا للقلب هو إعادة العلة وليس أمرا زائدا عليها ولا قلب في عالم الله تعالى إلا وهو بهذه الصفة وغرض القالب أن يورد ما يقتضي تعارضا وإذا ذكر المعلل علته في معرض القلب فهو [مقرر] لوجه التعارض وهو القادح وهو بمثابة ما لو عورضت علته بعلة أخرى فأعاد المجيب علته على صيغة المعارضة لما عورض به فثمرة هذا اعترافه بتعارض العلتين.
1048- ومما تمسك به القاضي أن قال: المصرح مرجح على المبهم فلو قدر القلب معارضة لوجب سقوطه من جهة [ظهور ترجح الصريح] عليه.
وهذا غير سديد أيضا فإن ما ذكره إن كان وجها في الترجيح فقد يعارضه ترجيح أقوى منه فرب مبهم أفقه من صريح فلا ينبغي أن يحتكم بتقديم كل صريح على كل مبهم ويرد الأمر في هذا إلى منازل الترجيح وفي المصير إلى هذا قبول القلب والنظر إلى الترجيح.
1049- ومما تمسك به القاضي أيضا أن قال: المبهم قاصر النظر والمصرح تام النظر ولا يعارض نظر قاصر نظر تاما فإن النظر القاصر لا يناط به حكم.
وهذا تلبيس من جهة أن القالب ناط بقلبه ما يجوز أن يكون معتقدا مستقلا ومذهبا تاما في النفي والإثبات وإنما يقصر الاجتهاد [مالا] يشعر بمذهب تام مستقل ثم غرضه [مما] أتى به القدح فإذا ظهر ما أتى به القادح تلاقي القلب والعلة علي قضية المناقضة فقد ظهر غرض القادح.
1050- فإن قيل: فما المرضي عندكم؟.
قلنا: قدمنا أنه لا يجري في مواقع الظنون علة وقلبها إلا وهما طرديان أو أحدهما طردي وإن كانا معنويين فلا تلاقي بينهما بل يقعان في طرفين لا يمنع إثبات أحدهما ونفي الثاني فإن تلاقيا على قضية متناقضة فلا بد أن يكونا طردين أو يكون أحدهما فقهيا والثاني خليا عن الفقه.(20/217)
نعم، قد يفرض الفطن في مجال الأشباه اشتمال كل واحد منهما على شبه(20/218)
ص -132-…فإن اتفق ذلك فالقلب وإن كان مبهما إذا ناقض فقد عارض فتعين الاعتناء بدفعة بما يندفع به معارضة العلة فهذا قسم من الإبهام في القلب.
1051- فأما القسم الثاني:- وهو قسم التسوية- فمثاله أن يقول الحنفي في طلاق المكره مكلف قاصد إلى لفظ الطلاق فأشبه المختار.
فإذا قال الشافعي: فيستوي إقراره وإنشاؤه كالمختار فهذا الفن مختلف فيه وكل ما ذكرناه في القلب المبهم الذي لا تسويه فيه يعود في ذلك فإن التسوية لا بد فيها من الإبهام وقد أخذ فصل الإبهام [بحظه].
ولقالب التسوية مزية مزيد يتعرض لها فإن الشيئين اللذين سوى القالب بينهما لو فصل غرضه فيهما لكان مطلوبه مناقضا لحكم الأصل فإن الشافعي [يبغي] بالتسوية بين إقراره وإنشائه ألا يقع الإنشاء ولا ينفذ في الفرع كما لا ينفذ الإقرار وهما جميعا نافذان في الأصل.
فصار صائرون ممن يقبل القلب المبهم إلى رد التسوية لهذا المعنى.
1052- والأستاذ أبو إسحاق رحمه الله يختار قبول قلب التسوية ويقول: غرض القالب التسوية المبهمة وهي على قضية معقولة معتقدة وإذا ثبتت جرت على المسائل ردا وقبولا.
وبيانه فيما ضربناه مثلا: أن الإقرار والإنشاء يظهر تساويهما على تعين المثارات ويستفيد بإثباتهما أمرا واقعا في الإقرار فاتجه مراده [ولا احتفال] بما ذكره الرادون من مناقضة الأصل إذ لا مناقضة في مقصود التسوية.(20/219)
والأمر على ما ذكره الأستاذ أبو إسحاق وهو الحق المبين عندنا ولكن القالب في الصورة التي ذكرناها أراه طاردا فإن التقييد بالتكليف لا أثر له إذ يستوي من غير المكلف إقراره وإنشاؤه طاردا ووجه قبول التسوية استرسالها على عموم الأحوال فلينظر الناظر في منازل القلب نظرا أوليا في الطرد والإخالة ثم لينظر ثانيا في التلاقي على التناقض وعدم التلاقي وليحصر إمكان القلب إن كان في ملتطم [الأشباه] ثم ليعقده مبهما كان أو مصرحا به وليتكلم عليه كلامه على المعارضات وتندرج التسوية تحت المبهمات وقد نجز القول في القلب.(20/220)
ص -133-…و السابع - من الاعتراضات -: المعارضة1.
1053- فإذا نصب المجيب علة التحريم فأتى السائل المعترض بعلة في التحليل كان ما جاء به اعتراضا صحيحا في نوعه ثم هو مقبول منه في رسم الجدل.
وذهب بعض الجدليين إلى أن المعارضة غير مقبولة من السائل لأنه ينتهض مستدلا.
والذي تقتضيه مراسم الجدل أن يحصر السائل كلامه في الاعتراضات المحضة والعلة التي عارض بها على صيغة الأدلة والسائل يحتاج في الوفاء بإثباتها إلى تقرير علتها بالأدلة فان القياس لا يستقل إذ ثبتت علة أصله [بمسلك] من المسالك المتقدمة في إثبات علل الأصول وإن لم يأت السائل بذلك كان ما جاء به أمرا غير مثمر وإن أثبت علة الأصل [مصورة] بصورة [البانين] وخرج عن رتبة السائلين الهادمين.
1054- وهذا مسلك ضري به طوائف من المنتمين إلى الجدل وهو عرى عن التحصيل عند ذوي التحقيق من وجوه.
منها: أن المعارضة اعتراض من جهة أن العلة التي تمسك بها المجيب لا تستقل ما لم يسلم عنها وقد حصل الوفاق على تسليم الاعتراض للسائل وهو لم يبد العلة ثانيا مثبتا لمذهبه وإنما أبداها معترضا بها والذي حاول منها في الاعتراض محقق [كائن] فليسغ منه المعارضة اعتراضا.
والذي يكشف الحق في ذلك أن المجيب لما كان بانيا فلو عارضت علته علة عسر عليه إفسادها وترجيح علته على ما عورض به كان ذلك مبطلا لغرضه والسائل إذا عارضه لا يلتزم وراء المعارضة إفسادا ولا ترجيحا لأنه جرد قصده إلى الاعتراض فتبين أن ما أتى به اعتراضا فهو اعتراض واقع وإنما [الممتع] من السائل أن يعارض ويضم إلى المعارضة الترجيح أو أفسادا وراء المعارضة كدأب من يبني ويثبت هذا إن فعله كان مجاوزة لمراسم الجدل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(20/221)
1 هي إلزام المستدل الجمع بين شيئين و التسوية بينهما في الحكم إثباتا و نفيا. كذا قال الأستاذ أبو إسحاق. وقد أثبت هعتراض المعارضة الجمهور من أهل الأصول و الجدل، و زعم قوم أنها ليست بسؤال صحيح. واختلف القائلون بها في الثابت منها، فقيل: إنما يثبت منها معارضة الدلالة بالدلالة، و العلة بالعلة و لا يجوز معارضة الدعوى بالدعوى. "إرشاد الفحول" "ص 232".(20/222)
ص -134-…1055- ومن الدليل على قبول [العلة و] المعارضة أن المجيب التزم إذ نطق بالعلة [تصحيحها] والوفاء بإتمام هذا الغرض منها [في مسلك الظن] ولن يتم هذا الغرض ما لم تسلم العلة عن المعارضة ولو قيل أظهر الاعتراضات وأكثرها وقوعا المعارضات في تقابل الظنون لكان ذلك ترجيحا فالمقصود أنه لا يتطرق الكلام ما لم يغلب على الظن ثبوت علة المجيب ومن ضرورة ذلك درء المعارضات عنها والسائل مرتب في مراسم النظر لإيراد ما يقدح لو ثبت فإذا فعل ما رتب له شيئا تصدى المجيب لدفعه والجواب عنه فيكونان متعاونين على البحث اعتراضا وجوابا.
والذي ذكره هؤلاء [من] أن السائل ممنوع من الإتيان بصورة الدليل لا طائل وراءه فإن صورة الأدلة ما امتنعت من حيث إنها تسمى أدلة وإنما امتنعت إذا كان السائل مضربا عن قصد الاعتراض آتيا بكلام على الابتداء ليس اعتراضا فهذا يخرم شرط الجدل من جهة أن السائل إذا كان كذلك مع المسئول لا يتلاقيان على مباحثة والغرض من المناظرة التعاون على البحث والفحص.
1056- وبالجملة إذا كان يقبل من السائل اعتراض لا يستقل في نوعه كلاما فلأن يقبل منه كلام ينقدح ويستقل اعتراضا أولى.
ولم يختلف أرباب النظر قاطبة في أن المجيب إذا تمسك بظاهرة فللسائل أن يؤوله فإذا كان التأويل مقبولا منه فمن ضرورته اعتضاده بدليل وإذا جاء بما يعضد التأويل فهو دليل فإن قبل من جهة كونه عضد التأويل الواقع اعتراضا فليقبل معارضة القياس بالقياس على قصد الاعتراض وإن تشبث متشبث بمنع قبول التأويل من صاحب التأويل فقد تصدى لأمرين عظيمين:
أحدهما: أن يقبل التأويل منه من غير دليل وهذا خرق فإن المستدل معترف بتوجه التأويل [وإمكانه] مقر بأن متمسكه ظاهر وليس بنص فهذا أحد الأمرين.(20/223)
والثاني: أن يفسد باب التأويل على السائل ويتوخى المناظرة بذكر المسئول ظاهرا وهذا اقتحام عظيم وأن التزم السائل أن يعارض الظاهر بالظاهر فقد يقدمه [في هذا المقام] ثم في هذا اعتراف بقبول المعارضة فليجر مثله في الأقيسة.
1057- فإذا تبين أن المعارضة من أقوى الاعتراضات الصحيحة المفسدة فالجواب عنها ينحصر في مسلكين:(20/224)
ص -135-…أحدهما: أن يتصدى المجيب لإفساد ما عورض به بمسلك من المسالك المذكورة في الاعتراضات الصحيحة.
والثاني: أن يرجح علته على ما عورض به على ما سيأتي شرح قواعد الترجيح وتفاصيلها في كتاب الترجيح إن شاء الله تعالى.
فإذا لم يتأت أحد المسلكين كان منقطعا.
1058- ومن أسرار المعارضات أنه إذا غلب على الظن استواء العلتين فسدتا فلو قال قائل: ترجيح السائل غير مقبول ابتداء وانحسام الترجيح يفسد ما جاء به وليس بين هذين المسلكين مسلك.
قيل: هذا منتهى غرض السائل ومنه قال المحققون معارضة الفاسد بالفاسد اعتراض صحيح وعند ذلك يتبين تحقيق المعارضة الصادرة من السائل إذ غرضه الإفساد المحض لا البناء.
1059- ثم مما يتصل بأحكام المعارضة أن المجيب إذا رجح علته لم ينحسم على السائل مسلك معارضه الترجيح بالترجيح فليفعل ذلك وليجرد قصده إلى طلب المساواة فإنها إذا ثبتت فسد بها كلام المسئول ومن خرق السائل أن يتشوف إلى الزيادة على قصد المساواة فإنه إذا فعل ذلك كان ذاهبا إلى مضاهاة قول البانين ولا يبعد أن ينسب فيه إلى الجهل بمراسم الجدل.
فلو ذكر المسئول ترجيحا فعارضه السائل بترجيحين وفي أحدهما كفاية في طلب المساواة فهو مجاوز لسواء القصد وإن عارض بترجيح واحد [ولكنه أوقع] من كلام المسئول فهذا يقبل منه فإنه قد لا [يجد] غيره ومنعه من الإتيان به يمنعه من معارضة العلة بعلة أجلى منها وأظهر في بوادي الظنون.
والسبب في قبول هذا الفن أن ما في الترجيح من مزية القوة والظهور لا يمكن قطعه من الكلام وهو إذ جيء به اعتراض فليقبل اعتراضا إذ لم يقبل بناء وابتداء فهذا منتهى الكلام في ذلك.
1060- ومما يتعلق بالمعارضة وهو مفتتح القول في الفرق أن السائل إذا اقتصر على معارضة علة الأصل بعلة أخرى [بحكم الأصل ولم] يأت بعلة مستقلة ذات فرع وأصل على ما نعهده من صيغ التعليل فهذا يستند أولا إلى ما سبق تمهيده من أن.(20/225)
ص -136-…الحكم الواحد هل يعلل بعلتين؟ وقد مضى في ذلك قول بالغ.
فمن لم يمنع تعليل حكم بعلتين لم يعتد بما جاء به السائل اعتراضا من جهة أن ثبوت ما أورده السائل [علة] منتهى مراده ولو سلم له ما يحاوله لم يندفع دليل المسئول وقد ذكرنا ما نختاره في ذلك وأنهينا الكلام غاية انفصل القول عنها مع القطع بأن الحكم الواحد لا يعلل بعلتين فليقع التعويل على المختار ووراءه عرض الفصل فإنا رأينا امتناع ذلك وقوعا وإن كان لا يمتنع من ناحية التجويز العقلي فينشأ من ذلك قضية جدلية لطيفة مشوبة بحقائق الأصول.
مسألة:
1061- إذا قبلنا من السائل معارضة العلة بالعلة المستقلة فلو عارض علة الأصل التي جعلها المسئول رابطة القياس بعلة أخرى وزعم أن العلة ما أبداها معترضا لا ما أتى به المعلل جامعا رابطا فمن الجدليين من يرى ذلك اعترضا واقعا وأوجب على المجيب الجواب عنه ومنهم من لم يره اعتراضا فالمذهبان جميعا في المسألة المعقود مبنيان على منع تعليل الحكم بأكثر من علة واحدة.
1062- فأما من رأى ذلك اعتراضا فوجهه أن من شرط سلامة علة الخصم عروها عن المعارضة من جهة امتناع [تعدد] العلة فإذا أبدى المعترض علة أخرى فقد عارض معارضه يمتنع معها لو صحت تقديرا ثبوت علة المجيب كما يمتنع ذلك في العلتين المستقلتين الجاريتين على التناقض في التعارض.
وحقيقة هذا المذهب آيل إلى أن المعلل لا يستقل كلامه ما لم يبطل بمسلك السبر كل ما عدا علته مما يقدر التعليل به فإذا علل ولم يسبر فعورض في معنى الأصل بعلة فكأنه طولب بالوفاء بالسبر وتتبع كل ما سوى علته بالنقض.(20/226)
1063- ومن لم ير ذلك اعتراضا استدل بأن إبداء معنى آخر من المعارض على صورة دعوى عرية عن الدليل وقد سبق المسئول في إثبات معنى أصله بالدليل إما معتنيا به بعد طرد العلة ومضمنا ذلك علته من جهة إشعارها ووفقها وإخالتها والسائل إذا أبدى معنى غير مقرون بدليل على تهيئة وصلاحه لكونه علة للحكم فصيغة كلامه معارضة كلام مدلول عليه بدعوى فهذا القائل لو أبدى المعنى وقرنه بما يعد دليلا على إثبات المعنى كانت معارضة مقبولة ويتعين إذ ذاك على المسئول الجواب عنه.(20/227)
ص -137-…1064- فيرجع مطلب المسألة المبينة على امتناع تعليل الحكم بعلتين فصاعدا إلى أنا هل نوجب على المعلل بعد إثباته [علته] التتبع والسبر أم لا؟ وذلك يجري وكلام السائل دعوى محضة ولو أتى السائل بدليل على ما أبداه من معناه فيتعين الجواب عنه على هذا الأصل وهذه المسألة التي ذكرناها متصلة بالمعارضة وتحقيقها [يعود] في الفرق وحقائق القول فيه.
فصل: في الفرق1.
1065- فأما الفرق فقد ظهر خلاف أرباب الجدل [فيه] قديما وحديثا فذهب ذاهبون إلى أنه ليس باعتراض وسبق إليه طوائف من الأصوليين وذهب جماهير الفقهاء إلى أنه من أقوى الاعتراضات وأجدرها بالاعتناء به فأما من لم يعده اعتراضا مقبولا فإن متعلقه وجوه.
منها: أن الجامع لم يلتزم بجمعه مساواة الفرع للأصل في كل القضايا وإنما مغزاه ومنتهاه إثبات اجتماع الأصل والفرع في الوجه الذي يبغيه فإذا استتب له ما يريده من ذلك وينتحيه وكان وجها يعترف به الفقيه في قصد الجمع ويرتضيه فالفرق يقع وراءه وهو قار على حاله وصاحب الجمع معترف بأنه غير ملتزم اجتماع الفرع والأصل في كل ورد وصدر وكل سؤال استمكن المعلل من الاعتراف بمقتضاه مع الاستمرار على مقصده من العلة فليس قادحا وإنما الاعتراض القادح ما يرد مناقضا لمقصود المسألة نعم إن تمكن من [وقف موقف الفارقين] من إبطال الجمع فذاك السؤال اعتراض مقبول وليس فرقا وإنما يتحقق هذا بان يخرم ما جاء به المعلل زاعما أنه مناسب مخيل فيتبين أن الذي تعلق به غير مشعر بالحكم ويلتحق كلامه بالطرد المقضي ببطلانه فإذا تمكن السائل من ذلك فلا حاجة به إلى الفرق وإنما الفرق هو الواقع بعد سلامة فقه الجمع فينبغي ألا يلتزم لما سبق من أنه غير مناقض لمقصود المعلل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(20/228)
1 هو إبداء وصف في الأصل يصلح أن يكون علة مستقلة أو جزء علة وهو معدوم في الفرع سواء كان مناسبا أو شبها إن كانت العلة شبهية بأن يجمع المستدل بين الأصل والفرع بأمر مشترك بينهما، فيبدي المعترض وصفا فارقه بينه و بين الفرع. قال: في "المحصول": الكلام فيه مبني على أن تعليل الحكم بعلتين هل يجوز أم لا؟ "إرشاد الفحول" "ص 229".(20/229)
ص -138-…1066- وذهب معظم المحققين إلى قبول الفرق وعده من الأسئلة الواقعة.
واحتج القاضي رحمه الله بأن متبوعنا في الأقيسة والعمل بها وما درج عليه الأولون قبل ظهور الأهواء واختلاف الآراء ولقد كانوا يجمعون ويفرقون وثبت اعتناؤهم بالفرق حسب ثبوت تعلقهم بالجمع وقد ثبت ذلك في وقائع جرت في مجامع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
منها: القصة الجارية في إرسال عمر بن الخطاب1 رضي الله عنه رسوله وتحميله إياه تهديد مومسة وإجهاضها بالجنين لما بلغها الرسالة ثم أنه رضي الله عنه جمع الصحابة واستشارهم في الجنين فقال عبد الرحمن بن عوف2 رضي الله عنه: إنه مؤدب ولا أرى عليك بأسا، فقال علي3 رضي الله عنه: إن لم يجتهد فقد غشك وإن اجتهد فقد أخطأ أرى عليك الغرة.
قال القاضي رحمه الله: كانوا رضى الله عنهم لا يقيمون مراسم الجمع والتحرير ويقتصرون على المرامز الدالة على المقاصد فكأن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه حاول تشبيه تأديبه بالمباحات التي لا تعقب ضمانا وجعل الجامع أنه فعل ما له أنه يفعله.
فاعترض عليه علي رضي الله عنه وشبب الفرق وأبان أن المباحات المضبوطة النهايات ليست [كالتعزيرات] التي يجب الوقوف فيها دون ما يؤدى إلى إتلافات.
ولو تتبع المتتبع مناظرات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسائل الجد وغيرها من قواعد الفرائض لألفى معظم كلامهم في المباحثات جمعا وفرقا ويهون على الموفق تقدير جريان الجمع والفرق من الأولين مجرى واحدا في طريق النقل المستفيض.
1067- فهذا كلام القاضي ولا يتبين مدرك الحق إلا بتفصيل نبديه وفيه تبين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سبقت ترجمته.
2 عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف أبو محمد القرشي الزهري المكي ثم المدني ولد بعد عام الفيل بعشر سنين وأسم في أول الإسلام وهاجر قبل الفتح وقال ابن الضحاك: كان ممن هاجر الهجرتين مات سنة 31 له ترجمة في "الرياض المستطابة" "ص 176, 177".(20/230)
3 علي هو: أمير المؤمنين علي بم أبي طالب بن عبد المطلب القرشي الهاشمي المكي ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم كان أول من أسلم من الصبيان وأول من هاجر بعد النبي وأبي بكر ومناقبه كثيرة مات سنة 40 له ترجمة في "أسد الغابة" "4/91" والإصابة "1/133" والنجوم الزاهرة"1/119".(20/231)
ص -139-…مدرك الحق في الفرق.
فنقول: رب فرق يلحق جمع الجامع بالطرد وإن كان لولاه لكان الجمع فقهيا فما كان كذلك فهو مقبول لا محالة غير معدود من الفروق التي يختلف فيها ومن آية هذا القسم أن الفارق [يعيد] جمع الجامع ويزيد فيه ما يوضح بطلان أثره ومثال ذلك أن الحنفي إذا قال في مسألة البيع الفاسد معاوضة جرت على تراض فتفيد ملكا كالصحيح فيقول الفارق المعنى في الأصل أنها معاوضة جرت على وفق الشرع [فنقلت] الملك بالشرع بخلاف المعاوضة الفاسدة فينتهض هذا الكلام إذا وفي صاحبه بتحقيقه مبطلا إخاله كلام المعلل وما أدعاه من إشعاره بالحكم فهذا النوع مقبول ومن خصائصه إمكان البوح منه بالغرض لا على سبيل الفرق بأن يقول السائل: لا تعويل على التراضي بل المتبع الشرعي في الطرق الناقلة إلى حد ما يعرفه الفقيه.
1068- ومما يقع مدانيا لهذا أن الحنفي إذا قال طهارة بالماء فلا تفتقر إلى النية كإزالة النجاسة فالفارق يعيد كلامه ويزيد قائل: المعنى في الأصل أنها طهارة بالماء عينيه والوضوء طهارة حكمية ومقصودة أن [يخرم] فقه الجامع ويلحقه بالطرد.
وهذا محطوط عما استشهدنا به أولا من جهة أنا نرى مدار الكلام في هذه المسألة على الأشباه وقد يظن الحنفي أن الطهارة بالماء أشبه بالطهارة بالماء والفارق يدعى مسلكا فقهيا وإنما يبغي تشبيها ومدار الكلام في المسألة الأولى على اتباع التراضي أو اتباع الشرع فليفهم الفاهم ما يلقى إليه من حقائق الكلام.(20/232)
1069- ومما نجريه مثلا أن المالكي إذا قال الهبة عقد تمليك فيترتب على صحة الإيجاب والقبول فيها الملك [كالمعاوضة] فإذا قال الفارق: المعاوضة متضمنها النزول عن المعوض والرضا بالعوض وذلك يحصل بنفس العقد والتبرع عقد لا يقابله عوض فيشترط فيه [الإقباض] المشعر بنهاية الرضا [لم يكن هذا الفرق مبطلا بالكلية فقه الجمع ولكن سره أن الجامع أبدا يجمع بوصف عام] و الفارق يفرق بوجه خاص فإن لم يبطل ما أبداه من خصوص الفرق في عموم الجمع فهذا مما تنازع فيه الأصوليون وإن أبطل فقه الجمع فلا شك في كونه اعتراضا.(20/233)
ص -140-…1070- ثم الفرق والجمع إذا ازدحما على فرق فاصل في محل النزاع فالمختار فيه اتباع الإخالة فإن كان الفرق [أخيل] أبطل الجمع وإن كان الجمع [أخيل] سقط الفرق وإن استوى أمكن أن يقال: هما كالعلتين المتناقضتين إذا ثبتا على صيغة التساوي وأمكن أن يقال: الجمع مقدم من جهة وقوع الفرق بعده غير مناقض له والجامع يقول: لم ألتزم انسداد مسالك الفرق كما ذكره الذين ردوا الفرق فالأوجه اتجاهه ووجوب الجواب عنه.
1071- فإن قيل: هلا قلتم: الفرق يشتمل على معارضة معنى الأصل ثم معارضة العلة بعلة مستقلة في جانب الفرع فهو على التحقيق سؤالان؟ قلنا: قد قال بقبول المعارضة كل معتبر عليه معول ومضى في معارضة معنى الأصل ما فيه مقنع والكلام في الفرق وراء ذلك فإنه ينتظم من مجموع كلام الفارق فقه يناقض قصد الجامع وهو خاصية الفرق وسره ومن رد الفرق لا يرد المعارضة بل يرد خاصية الفرق.
1072- وحاصل القول في مذاهب الجدليين يئول إلى ثلاثة مذهب:
أحدها: رد الفرق جملة وإنما يستمر هذا المذهب مع المصير إلى رد المعارضة في جانبي الأصل والفرع جميعا وخاصية الفرق مردودة هذا عند القائل بما سبق تقريره من أن الجامع إذا استمر جمعه لم يحتفل بالافتراق في وجه لم يقع له التعرض ورد الفرق على الإطلاق يستند إلى إبطال المعارضة في الأصل والفرع وعدم المبالاة بوقوع الفرق من وجه بعد استمرار الجمع من الجهة التي أرادها الجامع.
فهذا مذهب وهو عند المحصلين ساقط مردود.
1073- والمذهب الثاني: وهو معزو إلى ابن سريج وهو مختار الأستاذ أبي إسحاق رحمه الله: أن الفرق ليس سؤالا على حياله واستقلاله وإنما هو معارضة [معنى] الأصل بمعنى ومعارضة العلة التي نصبها المسئول في الفرع بعلة مستقلة ومعارضة العلة بعلة مقبولة فإن تردد المترددون في معارضة معنى الأصل فالفرق عند هذا القائل آيل إلى ما ذكره والمقبول منه المعارضة وقد مضى القول بالغا في قبول المعارضة.(20/234)
1074- والمذهب الثالث: وهو المختار عندنا وارتضاه كل من ينتمي إلى التحقيق من الفقهاء والأصوليين أن الفرق صحيح مقبول وهو وإن اشتمل على معارضة معنى الأصل ومعارضته علة [الفرع] بعلة فليس المقصود منه المعارضة وإنما الغرض منه مناقضة الجمع.(20/235)
ص -141-…ثم الصحيح المقبول منه ينقسم على الوجه المقدم إلى ما يبطل فقه الجمع رأسا ويلحقه بالطرد وهذا على التحقيق ليس هو الفرق المطلوب فإنه أبدى سقوط فقه علة الخصم على صيغة مخصوصة.
ومنه مالا يحيط فقه الجمع بالكلية ولكنه يشتمل على فقه آخر مناقض لقصد الجامع ثم ذلك ينقسم إلى زائد في الإخالة على العلة وإلى مساويها كما سبق.
1075- والقول الوجيز فيه أن قصد الجمع ينتظم بأصل وفرع ومعنى رابط بينهما على شرائط بينة والفرق معنى يشتمل على ذكر أصل [وفرع] وهما يفترقان فيه وهذا يقع على نقيض غرض الجمع ومن ضرورته معارضة معنى الأصل والفرع ولكن الغرض منه مضادة الجمع بوجه فقه أو بوجه شبه إن كان القياس من فن الشبه فعلى هذا إذا لو سمى [مسم] الفرق معارضة لم يكن مبعدا ولكن ليس الغرض منه الإتيان بمعارضة على الطرد والعكس لاتصال أحدهما بالآخر بل القصد منه فقه ينتظم من معارضتين يشعر بمفارقة الأصل للفرع على مناقضة الجمع.
فهذا سر الفرق وسنبين أثر ذلك في التفاصيل.
1076- ومن وفر حظه من الفقه وذاق حقيقته استبيان أن المعارضة الكبرى التي عليها تناجز الفقهاء وتنافس الكلام على الفرق والجمع أبدا يأتي بما يخيل اقتضاء الجمع ويكون ما يأتي به في محل يأتي الفرق صفة عامة بالإضافة إلى الفرق ويأتي الفارق بأخص منه مع الاعتراف به ويبين أن الفرع والأصل إذا افترقا في الوجه الخاص كان الحكم بافتراقهما أوقع من الحكم باجتماعهما للوصف العام ثم يتجاذبان أطراف الكلام.
فهذا قول بالغ في تحقيق المذهب وسر كل رأي وبيان المختار الذي ينتحيه المحققون وما مهدناه يتهذب بمسائل نذكرها تترى إن شاء الله تعالى.
مسائل في الفرق.
مسألة:
1077- إذا ذكر الفارق معنى في الأصل مغايرا المعنى المعلل وعكسه في الفرع وربط [به] الحكم مناقضا لحكم علة الجامع فهل يشترط رد معنى الفرع إلى الأصل على القول بقبول الفرق.(20/236)
ص -142-…ذهب طوائف من الجدليين إلى أن ذلك لا بد منه وهذا ينبني على أصلين: أحدهما: المصير إلى إبطال الاستدلال على ما سيأتي القول فيه مشروحا بعد نجاز القول في القياس إن شاء الله تعالى ومن ينفي الاستدلال لا يجوز الاستمساك قط بمعنى غير مستند إلى أصل وإن كان مناسبا مخيلا فهذا أحد الأصليين.
و [الأصل] الثاني: أن الغرض من الفرق المعارضة [والمعارضة] ينبغي أن تشتمل على علة مستقلة.
فهذا مأخذ هذا المذهب.
1078- قال القاضي رحمه الله: رأينا تصحيح الاستدلال على ما سيأتي ولو كنت من القائلين بإبطال الاستدلال لقبلته على صيغة الفرق فإن الغرض [من الفرق] إبداء فقه يناقض غرض الجامع وهذا يحصل من غير رد إلى أصل ثم قد يقع الكلام وراء ذلك في ترجيح العلة على ما أبداه الفارق من حيث إن العلة مستندة إلى أصل وما أظهره الفارق لا أصل له وفيه كلام يطول استقصاؤه في الترجيح.
فآل حاصل القول في هذه المسألة إلى أن من يري الفرق معارضة ينزل منزلة المعارضات ومن يرى خاصية الفرق [في] مضادة جمع الجامع فلا يشترط فيه ما يشترط في العلة المستقلة.
مسألة:
قريبة المأخذ من التي تقدمت:
1079- ذهب ذاهبون من الذين صاروا إلى أن شرط الفرق استناده في جانب الفرع إلى أصل [إلى] أن الفارق إذا أبدى في الأصل معنى مغايرا لمعنى المعلل فينبغي أن يرد ذلك أيضا إلى أصل فيأتي في كلامه في شقي الفرع والأصل بأصلين ولا شك أن صدر هذا الكلام عن رأي من ينكر الاستدلال ولا يراه حجة.
وذهب آخرون ممن يشترط استناد الفرع إلى الأصل إلى أن ذلك غير مشروط في الأصل واحتج كل فريق على مخالفة بما عن له.
1080- فأما من لم يشترط ذلك فتمسك بأن الغرض الأظهر من الفرق معارضة معنى الأصل والتحاقه في محل النزاع فإذا [أيد] ذلك بأصل فقد وفى بالمعارضة في محل الخلاف فكفاه ذلك وأيضا فإنا لو [كلفناه] إلحاق معناه الذي أبداه.(20/237)
ص -143-…في جانب الأصل بأصل فقد لا يمتنع في ذلك الأصل الذي نقدره معارضه معنى آخر ثم قد ينقدح رد ذلك المعنى إلى أصل ثابت.
ويلزم من مساق ذلك أن يقال إذا عورض معنى الأصل فعلى المسئول وقد عورض معناه بمعنى غيره أن يأتي بمعناه الذي ادعاه بأصل [آخر] فإنه والمعترض تساويا في ادعاء معنيين فليس أحدهما [بالاحتياج] إلى إبداء أصل آخر أولى من الثاني إذ المسألة فيه [إذا] لم يبطل أحدهما معنى صاحبه بل اقتصر على معارضته ثم لا يزالان كذلك في كل مستند وتتعطل المسألة عن غرضها وتحوج المعلل والمعترض إلى أصول لا ينتهي القول فيها إلى ضبط وهذا ظاهر البطلان.
1081- وقد نقل بعض النقلة: أن من صار إلى التزام ذلك يذهب إلى أن الكلام لا يقف أو ينتهي الكلام إلى أصل يتحد معناه ولا يتأتي معارضة فيه وهذا تكلف عظيم وأمر معوص.
ومن شرط ذلك يقول: كل كلام لا أصل له فهو استدلال مردود وإذا تأتي معارضة معنى الأصل بمعنى آخر فقد صار معنى الأصل متنازعا فيه فلا بد من تأييد الكلام بأصل غيره.
1082- والكل عندنا ضبط وتخليط ومن أحاط بسر الفرق واستبان أن الغرض منه هذا لم يتخيل كل هذا الانحلال ولم يشترط في الفرق إلا ما يليق ويطلب منه وهو مضادة قصد الجامع كما سبق تقريره.
مسألة:
1083- وإذا تمكن الفارق من إبداء معنى في الأصل مغاير لمعنى الجامع وعكسه في الفرع من غير مزيد فهو الفرق الذي فيه الكلام.
وإن احتاج إلى إبداء مزيد في جانب الفرع فقد ظهر اختلاف الجدليين فيه ولا معنى للتطويل فمن اعتقد الفرق معارضة فمقتضى مذهبه أن الزيادة ممتنعة فإن الفارق معارض والمعارضة تنقسم إلى ما يذكر على صيغة الفرق وإلى ما يذكر ابتداء ولا أثر لاختلاف الصيغ عند هذا القائل والغرض المعارضة المحضة.(20/238)
1084- ومن طلب من الفرق الخاصية التي ذكرناها وهي مضادة الجمع فيخرم هذه القضية عند مسيس الحاجة إلى ذكر زيادة ومزية في جانب الفرع فإنا قد أوضحنا أن الفارق مستمسك بجهة خاصة مرتبة على الجهة العامة التي جمع بها الجامع(20/239)
ص -144-…مشعرة باقتضاء الافتراق.
فإذا كان عكس معنى الأصل على قضية الخصوص غير مشعر بنقيض ما أشعر به الوصف العام لم يكن الفرق مستقلا بذاته جاريا على حقيقته وخاصيته فإن كان يتأتى مع مزية في إشعار بالافتراق فهو على تكلف وبعد فإن صفوة الفرق مأخوذة من متلقي النفي والإثبات والطرد والعكس من غير احتياج إلى مزيد ولا شك [أن] المزيد المذكور في جانب الفرع يقع خارجا عن قضية الفرق إذ ليس لها في جانب الأصل ذكر على الثبوت إذ لو كان لها ذكر لكان الفرق جاريا على سداده وقد يذكر الفارق مزيد الدرء قاعدة ولو لم يذكرها لو ردت تلك القاعدة نقضا فيقع عند ذلك الكلام في أن القواعد هل تنقض الأقيسة إذا كانت مستقلة؟ وقد قدمنا في ذلك أبلغ قول في فصل النقض فلا حاجة إلى إعادته.
مسألة:
1085- مما ذكره الذاكرون على صيغة الفرق وليس هو على التحقيق فرقا وإن كان مبطلا للعلة ما ننص عليه الآن.
فنقول: إذا جمع الجامع [بين] مختلف فيه ومتفق عليه في تفصيل حكم [وأصل] ذلك الحكم منفي في الأصل مثل أن يقول الحنفي في منع اشتراط [تعيين] النية ما تعين أصله لم يشترط فيه تعين النية: كرد الغصوب والودائع.
فنقول: أصل النية ليس مرعيا في الأصل وهو معتبر في محل النزاع وهذا قد نورده على صيغة الفرق وليس بفرق ولكن الجمع باطل باتفاق الأصوليين فإن الكلام في تفصيل النية يقع فرعا لتسليم أصل النية وأبو حنيفة رضي الله عنه لا يراعي التعيين مع اشتراط أصل النية صائرا إلى أن أصل النية كاف مغن عن التفصيل والتعيين فكيف يتأتى الاستمساك بما لا يشترط أصل النية.
فيه ولا يعد من قبيل القربات فهذا إذا باطل من قصد الجامع وصيغة الفرق تقرر الجمع ويقع وراءه افتراق في أمر [أخص] منه كما تمهد ذكره فيما سبق.(20/240)
ص -145-…فصل: في الاعتراض على الفرع مع قبوله في الأصل.
1086- والقول الوجيز في ذلك: أن كل ما يعترض به على العلل المستقلة فقد يذكر فرضه موجها على القول الفارق في جانب الفرع ونحن وإن كنا لا نرى الفرق معارضة فمستنده إلى صورة معارضة ثم تلك الصورة في النفي والإثبات تثبت خاصة كما سبق تقريرها فإذا بطل مستند الفرق بطل الفرق فأما الكلام المظهر في جانب الأصل فحاصله ادعاه معنى آخر وينتظم عليه الخلاف القائم في أن الحكم هل يعلل بعلتين؟
فمن لم يمتنع من تعليل الحكم بعلتين فقد يقول: أنا قائل بهما وإنما يتأتى ذلك إذا استمكن من طرد المعنى الذي أبداه الفارق في جانب الأصل على وجه يطابق مذهبه.
وأما نحن فلا نرى تعليل حكم بعلتين أمرا واقعا وإن لم نستبعده في مساق الأقيسة أن لو قدر وقوعه.
والأولون يرون الفرق سؤالين [وقول] المعلل في الأصل بالمعنيين إذا جرى له ذلك غير كاف فإن الكلام في جانب الفرع قائم بعد والسؤالان على هذا الرأي لا ارتباط لأحدهما بالثاني فكأن الفارق وجه سؤالين فتعرض المعلل للجواب على أحدهما.
1078- ونحن نقدر الآن لأنفسنا مذهبا لا نعتقده ونبني عليه سرا هو خاتمة الكلام في الفرق.
فنقول: لو كنا من القائلين بتعليل حكم واحد بعلتين لما رأينا مصير المعلل إلى القول بهما جوابا عن سؤال من جهة أن الفرق وإن اشتمل على كلامين فهو في حكم سؤال واحد وقد استقل كلام الفارق وجرى مرامه في الإشعار بالفرق فإذا قال المعلل بالعلتين في الأصل لم يخرم ذلك غرض الفارق والجواب الخاص عن الفرق الواقع السالم عما يعترض على المعاني والمعلل عدم إشعاره بإثارة الفرق أو يتبين ترجيح مسلك الجامع عن طريق الفقه في اقتضاء الجمع على مسلك الفارق.
مسألة:
1088- إذا لم يذكر الفارق معنى [في] الأصل معكوسا من الفرع ولكنه(20/241)
ص -146-…أطلق في جانب الأصل حكما ونفاه في الفرع فهذا مما طول فيه القاضي نفسه.
والكلام عندنا فيه قريب وقد ذكرنا وقع ذلك في العلل ابتداء وسميناه فيما يظن قياس الدلالة أو قريبا من الأشباه.
فإذا قال القائل: من صح طلاقه صح ظهار كالمسلم فليس ما جاء به من فن المعاني المختصة المشعرة بالحكم وإن كان مقبولا.
فإذا وقع الفرق على هذه الصفة نظر فإن كانت العلة على نحوها قبل ذلك في الأصل ووقع الكلام في التلويح والترجيح وتقريب الأشباه فإن كان القياس معنويا فقهيا وجرى الفرق على صيغة إلحاق حكم بحكم فهذا من الفارق محاولة معارضة المعنى المناسب بالأشباه أو ما هو في معناها ولا يقع ذلك موقع القبول فإن أدنى المعاني المناسبة يتقدم على أعلى الأشباه المظنونة وهذا يهذبه الترجيح إن شاء الله تعالى.
وقد انتهى غرضنا في القول في الفرق وانتهى بانتهائه الكلام على الاعتراضات الصحيحة في قواعدها.
فصل: القول في الاعتراضات الفاسدة.
1089- ما يفسد من الاعتراضات لا ينحصر وفي ضبط ما يصح منها كما تقدم حكم بفساد ما عداه.
وإنما نعقد هذا الباب للكلام على اعتراضات استعملها بعض من لابس الجدل وهي باطلة عند المحققين فلا نذكر صيغا منها إلا وفيها خلاف ونحن نرتبها ونرسمها مسائل أن شاء الله تعالى.
مسألة:
1090- إذا استنبط القايس علة في محل النص وكانت مقتصرة عليه منحصرة فيه لا تتعداه فالعلة صحيحة عند الشافعي رضي الله عنه ونفرض المسألة في تعليل الشافعي تحريم ربا الفضل في النقدين بالنقدية وهي مختصة بالنقدين لا تعدوهما.
وقال بعض أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه: إذا لم تتعد العلة محل.(20/242)
ص -147-…النص كانت باطلة.
والمعتمد في صحة العلة أنها مستجمعة شرائط الصحة إخالة ومناسبة وسلامة عن الاعتراضات ومعارضات النصوص وهي على مساق العلل الصحيحة ليس فيها إلا [اقتصارها] وانحصارها على محل النص وحقيقة هذا يئول إلى أن النص يوافق مضمون العلة ويطابقها وهذا بأن يؤكد العلة ويشهد بصحتها أولى من أن يشهد على فسادها وليس يمتنع في حكم الله تعالى ووضع شرعه أن تكون العلة المستثارة هي العلة المرعية [الشرعية] في القضية التي ثبت حكمها بالنص فإذا لم يمتنع ذلك وقوعا ولم يوجد إلا موافقة النص ومطابقته لموجب العلة فلا وجه [للحكم] بفسادها.
1091- ويتوجه وراء ذلك سؤالان: والانفصال عنهما يبين حقيقة المسألة.
أحدهما: أن قائلا لو قال العلة تستنبط وتستثار لفوائدها ولا فائدة في العلة القاصرة فإن النص يغني عنها ولسنا نمنع الظان أن يظن حكمه في مورد النص ومن اكتفى بهذا التقدير سوعد وليس ذلك محل الخلاف المعنى بالصحة والفساد فإن الغرض إبانة كون العلة القاصرة مأمورا بها ومعنى صحتها موافقتها الأمر ومعنى فسادها عدم تعلق الأمر بها ولا حرج على المفكرين في استنباط حكم إذا لم يكن استنباطهم مناطا لأمر فيخرج من ذلك أن القائل بالعلة [القاصرة] إن لم يظهر لها فائدة لزمه الاعتراف بكونها ساقطة الاعتبار خارجة عن تعلق الأمر الشرعي ولقد أضطرب أرباب الأصول عند هذا المنتهى.
1092- ونحن نذكر المختار من طرقهم ونعترض على ما يتطرق الاعتراض إليه ثم ننص على ما نراه.
قال قائلون ممن يصحح العلة القاصرة: فائدة تعليل تحريم التفاضل في النقدين تحريم التفاضل في الفلوس [إذا جرت نقودا وهذا خرق من قائله وضبط على الفرع والأصل فإن المذهب أن الربا لا يجري في الفلوس] إن استعملت نقودا فإن النقدية الشرعية مختصة بالمصنوعات من التبرين والفلوس في حكم العروض وإن غلب استعمالها.(20/243)
ثم أن صح هذا المذهب قيل لصاحبه إن كانت الفلوس داخلة تحت أسم الدراهم فالنص متناول لها والطلبة بالفائدة قائمة وإن لم يتناولها النص فالعلة متعدية إذا.(20/244)
ص -148-…والمسألة مفروضة في العلة القاصرة.
1093- وقال قائلون: العلة القاصرة تفيد بعكسها فإذا ثبتت النقدية علة في النقدين فالنص مغن عن محل طرد العلة ولكن عدم النقدية يشعر بانتفاء تحريم الربا والنص على [اللقب] لا مفهوم له فهذا وجه إفادة العلة.
ويتوجه على هذا وجوه من الكلام واقعة لا استقلال بالجواب عنها:
منها أن الانعكاس لا يتحتم في علل الأحكام ولا يمتنع ثبوت علة يناط الحكم بها مع انتفاء العلة المعينة وإذا كان ذلك لا يمتنع فالعكس يضطر إلى إبطال ما يدعيه الخصم من العلة في معارضة العكس فإن لم يقدر على ذلك لم يستقل كلامه وإن تمكن من إفساد ما يبديه الخصم من العلل المتعدية فلا حاجة أيضا إلى تكلف العكس فإن الأحكام تثبت غير متعلقة بدلالة وأمارة فليكتف الناظر بالنص في محل إثبات الحكم [ثم يكفيه في محل العكس عدم الدلالات على ثبوت نقيض الحكم] الذي يشهد عليه النص في محله ورجع حاصل القول إلى تكلفة طردا وعكسا من غير فائدة.
ومما يوضح الغرض في ذلك أن العلة إنما تنعكس ويتعين التعلق بها في إثبات نقيض حكم الطرد وبعكسها بشرطين:
أحدهما: أن تكون مخيلة في الطرد والعكس يشعر العدم فيها بالعدم كما يشعر الوجود فيها بالوجود.
والآخر: ألا تخلف العلة الزائلة في الثبوت علة فإن لم تخلف علة وأحال النفي في الانتفاء إحالة الثبوت في الإثبات فإذ ذاك يتصور محل الطرد.
والعكس بصورة مسألتين مشتملتين على علتين وكل واحدة منهما سليمة عما يشترط سلامة العلل عنها وإذا كان الأمر كذلك فلتكن النقدية مخيلة حتى يتخيل فيها الانعكاس وليست النقدية مخيلة فقهية فقد سقط طلب إفادتها من جهة الانعكاس.
1094- فإن قال قائل: إذا سلمتم أن العلة إذا لم تفد فلا يحكم عليها بصحة ولا فساد ولا تقدر متعلقا لأمر ولا نهي وعدت خطرة في مجاري الوسواس وخرجت عن الرتب المعول بها في الأقيسة فأين تستعمل هذه العلة القاصرة؟(20/245)
[قلنا]: إن كان كلام الشارع نصا لا يقبل التأويل فلا نرى للعلة القاصرة وقعا ولكن يمتنع عن الحكم بفسادها لما ذكرناه في صدر المسألة وإنما [يفيد] إذا كان.(20/246)
ص -149-…قول الشارع ظاهرا يتأتى تأويله ويمكن تقدير حمله على الكثير مثلا دون القليل فإذا سنحت علة توافق الظاهر فهي تعصمه عن التخصيص بعلة أخرى لا تترقى [في] مرتبتها على المستنبطة القاصرة.
1095- ثم في ذلك سر وهو: أن الظاهر إذا كان يتعرض للتأويل ولو أول لخرج بعض المسميات ولارتد الظاهر إلى ما هو نص فيه فالعلة في محل الظاهر كأنها ثابتة في مقتضى النص متعدية إلى ما اللفظ ظاهر فيه حيث عصمته عن التخصيص والتأويل فكان ذلك إفادة وإن لم يكن تعديا حقيقيا فلا يتجه غير ذلك في العلة القاصرة فليفهم الفاهم ما يرد [عليه من] ذلك.
1096- فإن قيل: قول الرسول عليه السلام: "لا تبيعوا الورق بالورق"، الحديث1 نص أو ظاهر؟ فإن زعمتم أنه نص فالتعليل [بالنقدية] باطل وإن كان ظاهر فالأمة مجمعة على إجرائه في القليل والكثير فقد صار بقرينة الإجماع نصا فأي حاجة إلى التعليل؟ فهذا منتهى القول فيه.
فنقول: أما الحظ الأصولي فقد وفينا به والأصول لا تصح على الفروع فإن تخلفت مسألة فلتمتحن بحقيقة الأصول فإن لم تصح فلتطرح.
1097- فإن قيل: ما ذكرتموه تصريح بإبطال التعليل بالنقدية.
قلنا: لم نر أحدا ممن خاض في مسائل الربا على تحصيل فيما نورده ونصدره والصحيح عندنا: أن مسائل الربا شبهية ومن طلب فيها إخالة اجترا على العرب كما قررناه في مجموعاتنا ثم الشبه على وجوه فمنها التعلق بالمقصود وقد بينا أن المقصود من الأشياء الأربعة الطعم والمقصود من النقدين النقدية وهي مقتصرة لا محالة وليست علة إذ لا شبه لها ولا إخالة فيها ولكن لما انتظم فيها اتباع المقصود عد من مسالك الأشياء الأربعة وليس بعد هذا نهاية.(20/247)
1098- السؤال الثاني: فإن قال قائل: النص مقطوع به والعلة مستنبطة مظنونة ومجال الاجتهاد عند انعدام القواطع فلتبطل العلة القاصرة من حيث إنها مظنونة وهذا قريب المأخذ من السؤال الأول فإن غايته ترجع إلى أن لا فائدة فيها ولا أثر لها وما اخترناه يدرأ هذا فإنا بينا أن العلة إنما تستنبط ولفظ الشارع ظاهر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه البخاري في "البيوع" "78" والنسائي في"البيوع" "44" وأحمد "2/437", "3/47, 82".(20/248)
ص -150-…ثم نبهنا على التحقيق.
1099- وقد ذكر بعض المنتمين إلى الأصول وهو: الحليمي طريقة [وأخذ] يتبجح بها وقال: من ينشئ نظره لا يدري أيقع على قاصرة أم متعدية فإن العلم بصفة العلة غير ممكن حالة إنشاء النظر فيجب النظر من هذه الجهة.
وقائل هذا قليل [النزل] فإن الخصم لا ينكر هذا وإنما الخلاف فيما تحقق قصوره فما قول هذا الشيخ إذا انكشف النظر والعلة قاصرة؟ ولا مزيد إذا على ما تقدم.
1100- ثم تكلم القائلون بالعلة القاصرة إذا عارضتها علة متعدية وثبت بمسلك قاطع من إجماع أو غيره اتحاد العلة في مورد النص فأي العلتين أقوى؟
فذهبت طوائف من الفقهاء إلى أن المتعدية أقوى من حيث إنها المفيدة والقاصرة يغنى النص عنها.
وذهب الأستاذ أبو إسحاق: إلى أن القاصرة أولى فإن النص شاهد لحكمها.
وامتنع آخرون من الترجيح من جهة التعدي والقصور.
وكل ذلك عندنا خارج عن حقيقة المسألة: ومن أطلع على ما قدمناه هانت عليه هذه المدارك وآل القول إلى أن القاصرة والمتعدية إذا سنحتا في مورد ظاهر والظاهر شاهد للقاصرة وهو أيضا شاهد في مضمونه للمتعدية فإن المتعدية تستوعب محل الظاهر وتزيد فقد استويا في الشهادة واختصت المتعدية بالإفادة وهي المعتبرة في تقدير توجه الأمر بالقياس فإذا جرت المتعدية سليمة لم يقدح فيها غير معارضة القاصرة.
1101- والذي يظهر عندي أن المتعدية أولى وهذا إذا استوتا في المرتبة جلاء وخفاء.
وسيعود هذا الفصل بعينه في كتاب الترجيح إن شاء الله تعالى.
وما قدرناه لا يجري في [النقدين] فإن العلة التي عداها الخصم فيها باطلة من وجوه سوى المعارضة وإنما الذي ذكرناه كلام مرسل حيث يتصور سلامة القاصرة والمتعدية ولو فرضت كل واحدة منهما مفردة.(20/249)
ص -151-…مسألة:
1102- ومن الاعتراضات الفاسدة: أنه إذا تعلق المتعلق بما يدل على فساد في الفرع واستشهد به على فساد الأصل كان ذلك مقبولا عند المحققين وقد يناكد في مدافعه ذلك بعض الجدليين ويقول التفريع تسليم الأصل وخوض في تسليم الفرع والتصرف في الفرع اعتراف بصحة الأصل وثبوته فإذا قلنا: نكاح لا يفيد الحل مع إمكان الاستمتاع وجهوا هذا السؤال.
وهذا الاعتراض فاسد لا خفاء بسقوطه فإن [صحة] الأصول إذا كانت تقتضي صحة الفروع [ففساد الفروع] يدل على فساد الأصول وإنما يستمر هذا الاعتبار إذا قدر المعتبر أن الأصل إذا صح مقتضاه نقيض ما ثبت في الفرع في محل الاعتلال وإذا ثبت ذلك كان ذلك باعتبار حكم الفرع في نهاية الظهور وغاية القايسين الوصول إلى غلبات الظنون ولا مزيد على ما فيه الكلام فإذا ثبت اقتضاء أصل حكما وتبين أن ذلك الحكم غير ثابت ظهر أن الأصل لم يثبت على الصحة ولا يبقى مع هذا الإلحاح الجدلي ولجاجة في عبارة الأصل والفرع معنى.
1103- ومن لطيف الكلام في ذلك أن من لا يقول بالاستدلال ويزعم أن كل معنى يستدعي الاستناد إلى أصل وإن كان مخيلا فالذي يقتضيه قياسه أن يستثني هذا الفن ويقول به وإن لم يجد [أصلا] فإنه إذا سلم اقتضاء العقد حكما ثم لم يثبت مقتضاه فلا يستريب في اختلال العقد إذا تخلف عن اقتضائه.
ثم من صحح هذا النوع اضطربوا في أنه [هل هو] من قياس المعنى أو من قياس الشبه فقال قائلون هو من أجلى الأشباه وقال آخرون: هو من أقيسة المعاني والصحيح عندنا أنه من أقيسة الدلالة كقول القائل من صح طلاقه صح ظهار بل هذا الذي نحن فيه أعلى [منه] فإنه تعلق بغير مقتضى الشيء ولا يجوز المحصل مباينة المقتضى مقتضاه والطلاق والظهار حكمان متغايران.
مسألة:
1104- ومن الاعتراضات الفاسدة: أنه إذا طرد طارد علة في حكم واستمر له فقال المعترض: هلا طردتها في حكم آخر بعينه؟(20/250)
ص -152-…فهذا الاعتراض فاسد مثاله: أنا إذا اعتبرنا كون الشيء مقتاتا مستنبتا في تعلق العشر فإنا نسلم هذا الاعتبار عن وجوه الاعتراضات الواقعة فقال المعترض بعد: هلا اعتبرتم [ذلك] في تحريم ربا الفضل فإذا أبطلتموه في الربا فأبطلوه في الزكاة.
فنقول: هذا لا وجه له فإن من طرد علة في حكم فلا يلتزم إلا كونها مشعرة به إن كانت معنوية مع السلامة عن الوجوه المبطلة ولا سبيل إلى تكليف المعلل طرد علته في جميع الأحكام فإن زعم المعترض أن تحريم الربا في معنى الزكاة كان مدعيا مطالبا بإثبات ما يدعيه.
هذا حكم الجدل في المسلك الحق وليس من المدافعات ولكن الناظر البالغ مبلغ الاجتهاد إذا كان يبغي مدرك مأخذ الكلام فحق عليه أن يعرف انفصال كل باب عما عداه في سبيله وليس كل ما يلتزمه المجتهد في نفسه يلزمه البوح به في النظر.
مسألة:
1105- ومن الاعتراضات الفاسدة:
التعرض للفرق بين الأصل والفراغ بما هو نتيجة [افتراقهما] في الاجتماع والخلاف.
ومثاله: إذا قاس القايس النبيذ المشتد على الخمر فقال المعترض: مستحل الخمر كافر ومستحل النبيذ لا يفسق وهذا يرجع حاصله إلى أن تحريم الخمر متفق عليه ثابت من جهة الشرع قطعا ومنكر ذلك جاحد للشرع وتحريم النبيذ مختلف فيه.
ومن هذا الجنس قول أصحابنا في طلب الفرق بين المدبرة والمستولدة: إن القضاء ببيع المستولدة منقوض بخلاف المدبرة وهذا باطل لصدره عن افتراق الأصل والفرع في ظهور الحكم في الأصل وكونه مجتهدا فيه في الفرع.
مسألة:
1106- ومن الاعتراضات الفاسدة: قول القائل: الحكم يثبت في الأصل متأخرا والمعلول لا يسبق العلة فإذا قسنا الوضوء في الافتقار إلى النية على التيمم قالوا: ثبوت التيمم متأخر عن الوضوء.(20/251)
ص -153-…والجواب عن ذلك لائح ولا يليق بهذا المجموع ذكر أمثال ذلك إلا رمزا فنقول: إذا ثبت اشتراط النية في التيمم فاعتبار الوضوء به في الحال متجه وسؤال المعترض مباحثة عن أمر منقض وحقه ألا يتعرض لما مضى فإن الناظر في تأخر النزاع قد لا يشك في أن النية في الوضوء كانت عند مثبتيها مدلولة بدلالة أخرى قبل ثبوت التيمم فإذا ثبت التيمم دل عليها والعلامات قد تترتب تقدما وتأخرا وذلك غير مستنكر في دلالات العقول فما الظن بالأمارات؟
ثم لا يمتنع أن يقال: إذا ثبت كون الوضوء في معنى التيمم ثم ثبتت النية في التيمم أرشد ذلك من طريق السبر والاستناد إلى أن النية كانت مرعية في الوضوء فيما سبق وهذا تكلف مستغنى عنه فإن المناظرات لا تدار على الأحكام الماضية ومنتهى هذا السؤال آيل إلى المطالبة بما دل على [النية قبل] ثبوت التيمم وهذا لا يلزم الجواب عنه.
[مسألة]:
1107- ومن الاعتراضات الفاسدة:
جعل المعلول علة والعلة معلولا مثاله: إنا إذا قلنا في ظهار الذمي: من صح طلاقه صح ظهار كالمسلم فإذا قال المعترض: جعلتم الظهار معلولا والطلاق علة وأنا أقول في الأصل المقيس عليه [المسلم]: إنما صح طلاقه لأنه صح ظهار فأجعل ما جعلتموه علة معلولا وما جعلتموه معلولا علة فإذا كان لا ينفصل ما ادعيتموه عما ادعيناه ولا يتأتى تميز العلة عن المعلول لم يصح فإن باب العلة ينبغي أن يتميز بحقيقته وخاصيته عن باب المعلول وقد يستشهد هذا السائل بلقب قرع مسامعه من المعقولات ويقول: العلة والمعلول في الشرعيات على مضاهاة العلل في العقليات ثم العلة العقلية متميزة عن المعلول فليكن الأمر كذلك في السمعيات.(20/252)
وهذا عند ذوي التحقيق ركيك من الكلام وإنما يتوجه هذا الفن من الاعتراض على قياس الدلالة كالطلاق والظهار وما أشبهها فإن الغرض أن يدل باب على باب بوجه يغلب على الظن ومن يروم ذلك يتمسك بالمتفق عليه من البابين ويجعله علما ودلالة على المختلف فيه فإن كان هذا المعترض يتشبث برد قياس الدلالة ويجعل ما ذكره عبارة عن هذا المقصود فالوجه إثبات هذا الباب من القياس وقد تقدم ذكر ذلك.(20/253)
ص -154-…وإن كان يعترف بقياس الدلالة فالذي ذكره جار فيه ثم لا ننكر أن يكون الظهار علما دالا على الطلاق حيث تمس الحاجة إلى ذلك والغرض ألا يختلف البابان إذا غلب على الظن اجتماعهما فقد تبين سقوط الاعتراض.
1108- وأما مل ذكره من الاستشهاد بالعلة والمعلول في المعقول فما أبعدهم عن ذلك وهو عمدة صناعة الكلام.
والذي انتهى إليه اختيارنا بعد استيعاب معظم العمر في المباحثة أن ليس في العقل علة ولا معلول فكون العالم عالما هو العلم فيه بعينه وإنما صار إلى القول بالعلة والمعلوم من أثبت الأحوال وزعم أن كون العالم عالما معلول والعلم علة له وهذا مما لا نرضاه ولا نراه.
ثم العلل الشرعية لا تجري مجرى المعقولات فإن الأحكام العقلية تستند إلى صفات الأنفس والذوات والعلل الشرعية مستندها النصب وليست هي مقتضية معلولاتها لأنفسها وإذا كان انتصابها عللا راجعة إلى نصب ناصب إياها أعلاما فلا يمتنع تقدير [حكمين] كل واحد منهما علم على الثاني مشعر بوقوعه عند وقوعه.
[مسألة]:
1109- ومن الاعتراضات الفاسدة:
أن يقول القائل: هذا الذي نصبته علما هو صورة المسألة فالعلة حقها أن تكون زائدة على الحكم وهذا لا حاصل له فإن الذي نصبه [الناصب علما] إن أخال وجرى سليما عن المبطلات غير معترض على الأصول فلا معنى لقول القائل أنها صورة المسألة إذ لا علة في عالم الله تعالى إلا وهي كذلك فالوجه إقامة شرائط العلة واطرح هذا الفن من السؤال.
وحظ هذا الفن من التحقيق أن من نص على صورة المسألة وميزها بخاص وصفها فلا يتصور أن يجد أصلا متفقا عليه وإن ذكر عبارة تعم صورة المسألة وأصلا متفق عليه فالوجه الذي به العموم هو الجمع ولا تتصور العلل إلا كذلك.
فهذا منتهى المراد في هذا وقد نجز بنجازه [الكلام في] الاعتراضات الصحيحة والفاسدة.(20/254)
ص -155-…القول في المركبات.
فصل
1110- وهذا يستدعي تجديد العهد بالطرق التي تثبت بها علل الأصول وقد سبقت فليجدد الناظر عهده بها مما تقدم في هذا المجموع ولا مطمع والمسألة مختلف فيها في علة تكون في الأصل متفقا عليها فإنها لو كانت مجمعا عليها وهي م موجودة في محل النزاع فلا يتصور والحالة هذه الخلاف في الفرع.
ومما تمس الحاجة إلى ذكره أن من ذكر في علة الأصل صفة مضمونة إلى أخرى وكانت [إحداهما] تستقل بإثبات الحكم المطلوب في الأصل وهذا النوع من التعليل باطل مثل: أن نقول في النكاح بلا ولي أنثى فلا تزوج نفسها كالصغيرة فكأنه ذكر الأنوثة والصغير في الأصل فهذه مقدمات لا بد من التنبه لها.
1111- ثم التركيب يقع في الأصل والوصف.
فأما التركيب في الأصل، فمنه البين والفاحش ومنه ما لا يتفاحش.
ونحن [نرسم الصور] ونذكر في كل صورة ما يليق بها ثم نذكر قولا جامعا بعد نجاز الصور والأقوال فيها.
فمن الصور أن يقول المعلل: أنثى فلا تزوج نفسها كابنة خمس عشرة سنة والخصم يعتقد أنها صغيرة ولو كانت كذلك لكان ما جاء به المعلل قياسا على الصغيرة وقد ذكرنا بطلانه وإن ثبت أنها كبيرة فسيمنع الحكم ويقضي بأنها تزوج نفسها.
1112- والذي ذهب إليه طوائف من الجدليين القول بصحة التركيب وحاصل كلامهم يئول إلى أن الحكم متفق عليه والمعلل يلتزم إثبات الأنوثة علة فإن أثبتها ثبتت العلة وتشعب المذاهب بعد ذلك لا أصل له وإن لم يتمكن المعلل من إثبات ما ذكره في الفرع علة في الأصل فالذي جاء به باطل وإن لم يكن مركبا فإذا لا أثر للتركيب كان أو لم يكن وإنما المتبع إثبات علل الأصول.
وهذا باطل عند المحققين فإن المخالف يقول: ظننت ابنة الخمس عشرة صغيرة(20/255)
ص -156-…ولو كانت كذلك لكان القياس على الصغيرة باطلا كما تقدم إلحاقا بالقياس على ما لو مس وبال وإن ثبت بما يغلب على الظن أن ابنة الخمس عشرة بالغة فلها أن تزوج نفسها ولا يخلو التقدير من هذين فالعلة مرددة بين منع الحكم في الأصل على تقدير وبين سقوط العلة على تقدير.
1113- فإن قيل: أرأيتم لو أثبت المعلل الأنوثة علة.
قلنا: ما نراه يقدر على ذلك فإن فرض إمكان ذلك فالعلة لا أصل [لها] ويرجع الكلام إلى الاستدلال المحض كما سنذكره بعد نجاز القول في المركبات فإن قيل: يثبت المعلل أن الأنوثة علة في ابنة الخمس عشرة قلنا: مع اعتقاد صغرها أو مع ثبوت بلوغها فإن ثبت بلوغها فالحكم ممنوع وإن ثبت وإن ثبت صغرها فالصغر مستقل بالمنع.
1114- صورة أخرى:
إذا قلنا في تزويج الأب البكر: بكر فيزوجها أبوها مجبرا كبنت الخمس عشرة فهذه الصورة دون الأولى فإنه وإن ثبت صغرها فالقياس على البكر الصغيرة غير ممتنع عند الشافعية إذ مجرد الصغر لا يثبت ولاية الأب فإن الثيب الصغيرة لا يزوجها أبوها عندهم فتصدى في الأصل تقدير منع بأن يقول الخصم: ابنة الخمس عشرة صغيرة فإذا أنكر عليه قال: هذا مظنون فإن ثبت أنها بالغة فلا يجبرها الأب ولا شك أن من يقول بالتركيب يقبل هذا.
وهذه الصورة تنفصل عن الأولى فإن الأولى تبطل على تقدير الصغر والبلوغ جميعا [والصورة] الثانية لا تبطل على تقدير الصغر ولكن يتوجه على تقدير الكبر منع من الخصم [ويضطر المعلل] إلى رد القياس إلى الصغيرة بالبكر فيلغو تعيين خمس عشرة.
فصل: التركيب في الوصف.
1115- وأما التركيب في الوصف: فمنه المتفاحش وهو أن يقول الشافعي في قتل المسلم بالذمي: من لا يستوجب القصاص بقتل شخص بالمثقل لا يستوجب بقتله بالسيف كالأب في ابنه.(20/256)
ص -157-…فهذا يصححه بعض الجدليين بناء على ما تقدم وهو على نهاية الفساد عندنا فإن المثقل على رأي الخصم ليس آلة القصاص فإن ثبت أنه ليس آلة القصاص كان القصاص باطلا [آيلا] إلى أن من لا يستوجب القصاص بقتل شخص خطأ لا يستوجب بقتله عمدا وإن ثبت أنه آلة القصاص منع الخصم الحكم فالعلة بين منع بطلان.
1116- وقد يجري في الوصف تركيب قريب يضاهي عند المحققين التمسك بمناقضة الخصم وشرط ذلك أن يكون مشعرا بفقه.
ومثاله: قولنا في الثمرة التي لم تؤبر أنها تتبع الشجرة في مطلق التسمية ما يستحقه الشفيع من الشجرة يدخل تحت مطلق تسميتها كالأغصان.
ووجه الفقه أن الشفعة في وضعها لا تختص بالمنقولات فأشعر أخذ الشفيع الثمرة بكون الثمرة معدودة من إجزاء الشجرة ملتحقة بها.
فأما إذا قال الخصم: سبب أخذها قطع ضرار مداخلة المشترى ولذلك أثبت أخذ الثمار المؤبرة [للشفيع] فالوجه أن يقول الحكم المطلوب ثابت والمناسبة كما تريدها ظاهرة ومعناكم ظاهر على السبر فقد جرى هذا فقها وسببه مناقضتكم فليسند التعلق به وما يتعلق تعلقا ظاهرا فإنه يتضمن إلحاق الثمرة بأجزاء الشجرة وهو المقصود الأقصى.
والتركيب البعيد لا يناسب غرض المسألة والتعويل فيه على [زلل] الخصم.
1117- مسألة أخرى ليست من محل النزاع بسبيل.
[كغلط] يتفق في سن البلوغ فلا تعلق له بتزويج المرأة أو امتناع ذلك عليها فإذا توصل ذو الجدل إلى صورة فيها غلط للخصم عنده في حد البلوغ فإنا نستجيز طالب المعنى [استثارة] غرض النكاح من غلطه [في] سن البلوغ.(20/257)
1118- وإذا اعتبرنا القصاص [في النفس بالقصاص في الطرف] في صورة نفرضها في قتل المسلم بالذمي وذلك إذا فرضنا في المسلم والذمية ثم اعتبرنا النفس بالطرف كان الاعتبار واقعا مناسبا لغرض [المسألة] إما من جهة [تشبيه] أو من جهة إشارة إلى معنى فقه فإذا ذهبوا يخبطون في الأطراف كان ذلك من مناقضاتهم وسوء نظرهم وعلى هذا يجري تدرب النظار في مناقضات الخصوم.
فهذا منتهى القول فيما يصح ويبطل من التركيب في الأصل والوصف.(20/258)
ص -158-…مسألة: في التعدية
1119- ثم ضري أهل الزمان بفن من الكلام يسمونه التعدية وهو عرى عن التحصيل ولكن لا سبيل إلى تعرية هذا المجموع عن ذكره والتنبه على فساده فنفرض [من صوره] صورة في التركيب ونرتب عليها صورة التعدية.
فإذا قلنا: أنثى لا تزوج نفسها كبنت الخمس عشرة فيقول المعترض المعنى فيها أنها صغيرة وعدى ذلك إلى منع استقلالها بالتصرفات واطراد ولاية الولي عليها.
فإذا قال القائل: دعواك الصغر ممنوعة وكذلك فروعها.
قال المعدي: كذلك الأنوثة ليست علة وقد ادعيتها علة وعديتها إلى فرعك فادعيت الصغر علة وعديتها إلى فروعي فاستوى القدمان وآل الأمر إلى التزامك إبطال علتي أو ترجيح علتك.
وقد ينقدح للمعدي جهتان في التعدية و [ذلك] إذا قال المعلل: بكر فيجبرها أبوها كبنت الخمس عشرة فينقدح للمعدي أن [يقول المعنى فيها أنها صغيرة وعدى ذلك إلى اضطراد الحجر عليها فهذا وجه في التعدية وقد] يقول: المعنى فيها أنها صغيرة واعديها إلى جواز تزويجها مجبرا وإن كانت ثيبا وهذا يطرد للمعدي في الصغيرة الثيب التي يتفق على صغرها.
1120- ثم تكلم أصحاب التركيب على التعدية من وجوه لست أرى ذكر معظمها.
فمنها: أنهم قالوا: معناي مسلم الوجود وهو الأنوثة وإنما أنازع في إثباته علة وهذا يجري في [كل] علة مستثارة في محل الاجتهاد وما ادعيته علة لا أسلم وجوده فإن اشتغلت بإثبات وجوده كنت منتقلا إلى مسألة أخرى ليست من مسألتنا بسبيل والانتقال ممنوع لا سبيل إليه ويستوي فيه السائل والمسئول.
فهذا وجه التضييق الذي تخيله المركبون فلو عدى المسئول لم يقبل منه فإن دليل المسئول إنما يقبل في نفس المسألة أو فيما تنبني عليه فإنه إذا احتاج إلى إثبات مسألة لا تعلق لها بمحل النزاع فقد عد متنقلا.
1121- وقد يسلك المركب في إبطال التعدية مسلكا آخر فيقول: لو ثبت معناك(20/259)
ص -159-…لقلت به ضمنا إلى معناي فإن الحكم لا يمتنع ثبوته بعلتين وهذا قد لا يجري في بعض المركبات فإنا إذا قلنا: بكر فتجبر كما ذكرناه فذكر المعدي الصغر لم يمكنا أن نجعل الصغر علة في الإجبار فإن الثيب الصغيرة لا تجبر عندنا.
1122- وقال الأستاذ أبو إسحاق وهو من المركبين: سبيل المركب إذا عورض بالتعدية أن يقول: معناي عندكم دعوى غير مثبتة [بما] تثبت به معاني الأصول أم قد يثبت مدلولا فإن لم يقم عليه دليل [فلست] معللا بعد ولا مقيما متمسكا في محل النزاع فابتدارك إلى معارضتي بالتعدية غير متجه وإن اعترفت بكون معناي ثابتا فمعناك الذي ابتدأته ليس مناقضا لمعناي وإنما تقدح المعارضة إذا جرت مناقضة في المقتضى.
فهذا مضطرب المركبين والمعدين.
وقد بان أصلنا فيما نقبله ونرده في تركيب الأصل والفرع.
1123- ونحن الآن نجمع المقصود والمدرك الحق في تقسيم فنقول:
الأقيسة [الخلية] عن معنى التركيب في الأوصاف والأصول بينة وقد قدمنا تقاسيمها وذكرنا مراتبها.
فأما ما يليق بما نحن فيه فينقسم إلى قسمين:
أحدهما: يتلقى انتظامه من مذهب الخصم لا تعلق له بمحل النزاع ولا يشعر به ولا يقتضيه بطريق التشبيه وهذا كمصير أبي حنيفة إلى أن بنت الخمس عشرة صغيرة فهذا لا يناسب تزويج المرأة نفسها ولا امتناع ذلك منها وليس منها على معنى ولا تشبيه ومذهبه ذكر التركيب فهو إذا [تعقيد] على الشادين والمبتدئين ومدافعة لهم عن مسلك الرشد وتعميه عليهم.
وقد أجمع الناظرون في هذا الباب أن هذا القسم لا يجوز أن يكون مستند الفتوى ولا الحكم وليس هو مناطا لحكم الله تعالى لا معلوما ولا مظنونا فهذا هو المردود فإن الجدل الحسن المأمور به هو الذي [يقرب] من مثار الأحكام [فيرشد] إلى مناطها وهذا القسم هو المردود عندنا.
1124- وأما التركيب المشعر بفقه كما قدمنا تصويره فينقسم إلى قسمين:
منه ما الحكم فيه مع المعنى الفقيه متفق عليه فما كان كذلك فهو مقبول.(20/260)
ص -160-…مستند للفتوى والحكم ووجوب العمل وهذا كقياسنا القصاص في النفس على القصاص في الطرف في بعض صور الوفاق وإن وقع القصاص في الطرف مركبا عند الخصم كان التركيب منه معدودا من خبطه وتعلق القياس بالإجماع على الحكم والمعنى الفقيه أو وجه لائح في التشبيه فهذا قسم.
1125- والقسم الثاني من هذا: أن ينفرد الخصم بتسليم الحكم ثم يبتدئ منه تركيبا فهذا لا ينتهض مستند الفتوى والحكم ولكن يجوز التمسك به في المناظرة كما يجوز التمسك بمناقضة الخصم والسبب فيه أن المناقضات لها تعلق بفقه المسألة وفي المباحثة عنها التنبيه على مآخذ الكلام والتدرب في الجدل المفضى إلى مدرك الحق وهذا من فوائد المناظرات.
1126- فيترتب من مجموع ما ذكرنا مركب مردود حكما ونظرا ومركب معمول به حكما ومن ضرورته أن يكون مقبولا نظرا ومركب مقبول نظرا والغرض منه التدرب في المسلك المطلوب في المناظرات وليس معمولا به في فتوى ولا قضاء.
وقد نجز بهذا تمام القول في المركبات بل وفي تقاسم الأقيسة وما يصح وما يفسد من الاعتراضات وطرق الانفصال عنها ونحن الآن نفتتح الكلام في الاستدلال.(20/261)
ص -161-…الكتاب الرابع: كتاب الاستدلال.
القول في الاستدلال.
1127- اختلف العلماء المعتبرون والأئمة الخائضون في الاستدلال وهو: معنى مشعر بالحكم مناسب له فيما يقتضيه الفكر العقلي من غير وجدان أصل متفق عليه والتعليل المنصوب جار فيه.
1128- فذهب القاضي وطوائف من متكلمي الأصحاب إلى رد الاستدلال وحصر المعنى فيما يستند إلى أصل.
1129- وأفرط الإمام إمام دار الهجرة مالك بن أنس في القول بالاستدلال فرئي يثبت مصالح بعيدة عن المصالح المألوفة والمعاني المعروفة في الشريعة وجره ذلك إلى استحداث القتل وأخذ المال بمصالح تقتضيها في غالب الظن وإن لم يجد لتلك المصالح مستندا إلى أصول ثم لا وقوف عنده بل الرأي رأيه ما استند نظره وانتقض عن أوضار التهم والأغراض.
1130- وذهب الشافعي ومعظم أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنهما إلى [اعتماد] الاستدلال وإن لم يستند إلى حكم متفق عليه في أصل ولكنه لا يستجيز النأي والبعد والإفراط وإنما يسوغ تعليق الأحكام بمصالح يراها شبهية بالمصالح المعتبرة وفاقا وبالمصالح المستندة إلى أحكام ثابتة الأصول قارة في الشريعة.
1131- فالمذهب إذا في الاستدلال ثلاثة:
أحدها: نفيه والاقتصار على اتباع كل معنى له أصل.
والثاني: جواز إتباع وجوه الاستصلاح والاستصواب قربت من موارد النص أو بعدت إذا لم يصد عنها أصل من الأصول الثلاثة الكتاب والسنة والإجماع.(20/262)
ص -162-…والمذهب الثالث: هو المعروف من مذهب الشافعي: التمسك بالمعنى وإن لم يستند إلى أصل على شرط قربه من معاني الأصول الثابتة.
1132- أما القاضي فإنه احتج بأن قال: الكتاب والسنة متلقيان بالقبول والإجماع ملتحق بهما والقياس المستند إلى الإجماع هو الذي يعتمد حكما وأصله متفق عليه.
أما الاستدلال فقسم لا يشهد له أصل من الأصول الثلاثة وليس يدل لعينه دلالة أدلة العقول على مدلولاتها فانتفاء الدليل على العمل بالاستدلال دليل انتفاء العمل به.
وقال أيضا: المعاني إذا حصرتها الأصول وضبطتها المنصوصات كانت منحصرة في ضبط الشارع وإذا لم يكن يشترط استنادها إلى الأصول لم تنضبط واتسع الأمر ورجع الشرع إلى اتباع وجوه الرأي واقتفاء حكمة الحكماء فيصير ذوو الأحلام بمثابة الأنبياء ولا ينسب ما يرونه إلى ربقة الشريعة وهذا ذريعة في الحقيقة إلى إبطال أبهة الشريعة ومصير إلى أن كلا يفعل ما يراه ثم يختلف ذلك باختلاف الزمان والمكان وأصناف الخلق وهو في الحقيقة خروج عما درج عليه الأولون.
1133- وأما الشافعي فقال: إنا نعلم قطعا أنه لا تخلو واقعه عن حكم الله تعالى معزو إلى شريعة محمد صلى الله عليه وسلم على ما سنقرره في كتاب الفتوى.
والذي يقع به الاستقلال هاهنا: أن الأئمة السابقين لم يخلوا واقعه [على] كثرة المسائل وازدحام الأقضية والفتاوى عن حكم الله تعالى ولو كان ذلك ممكنا لكانت تقع وذلك مقطوع به أخذا من مقتضى العادة وعلى هذا علمنا بأنهم رضى الله عنهم استرسلوا في بناء الأحكام استرسال واثق [بانبساطها] على الوقائع متصد لإثباتها فيما يعن ويسنح متشوف إلى ما سيقع ولا يخفى على المنصف أنهم [ما] كانوا يفتون فتوى من فتوى من تنقسم الوقائع عنده إلى ما يعرى عن حكم [الله] وإلى ما لا يعرى عنه.(20/263)
فإذا تبين ذلك بنينا عليه المطلوب وقلنا: لو انحصرت مآخذ الأحكام في المنصوصات والمعاني المستثارة منها لما اتسع باب الاجتهاد فإن المنصوصات ومعانيها المعزوة إليها لا تقع من متسع الشريعة غرفة من بحر ولو لم يتمسك الماضون بمعان في.(20/264)
ص -163-…وقائع لم يعهدوا أمثالها لكان [وقوفهم عن] الحكم يزيد على جريانهم وهذا [إذا] صادف تقريرا لم يبق لمنكري الاستدلال مضطربا.
1134- ثم عضد الشافعي هذا بأن قال: من سبر أحوال الصحابة رضي الله عنهم وهم القدوة والأسوة في النظر لم ير لواحد منهم في مجالس الاشتوار تمهيد أصل واستثارة معنى ثم بناء الواقعة عليه ولكنهم يخوضون في وجوه الرأي من غير التفات إلى الأصول كانت أو لم تكن فإذا ثبت اتساع الاجتهاد واستحال حصر ما اتسع منه في المنصوصات وانضم إليه عدم احتفال علماء الصحابة تطلب الأصول أرشد مجموع ذلك إلى القول بالاستدلال.
1135- ومما يتمسك به الشافعي رضي الله عنه أن يقول: إذا استندت المعاني إلى الأصول فالتمسك بها جائز وليست الأصول وأحكامها حججا وإنما الحجج في المعنى ثم المعنى لا يدل بنفسه حتى يثبت بطريق [إثباته] وأعيان المعاني ليست منصوصة وهي [المتعلق] فقد خرجت المعاني عن ضبط النصوص وهي متعلق النظر والاجتهاد ولا حجة في انتصابها إلا تمسك الصحابة رضي الله عنهم بأمثالها وما كانوا يطلبون الأصول في وجوه الرأي فإن كان الاقتداء بهم فالمعاني كافية وإن كان التعلق بالأصول فهي غير دالة ومعانيها غير منصوصة.
1136- ومن تتبع كلام الشافعي لم يره متعلقا بأصل ولكنه ينوط الأحكام بالمعاني المرسلة فإن عدمها التفت إلى الأصول [مشبها] كدأبه إذ قال طهارتان فكيف يفترقان؟ ولا بد في التشبيه من الأصل كما سنجري في ذلك فصلا إن شاء الله تعالى.
1137- وأما ذكره القاضي من المسلك الأول ففي طرد كلام الشافعي ما يدرؤه ولو قيل: لم يصح في النقل عن واحد طرد القياس على ما يعتاده بنو الزمان من تمثيل أصل واستثارة معنى منه وربط فرع به لكان ذلك أقرب مما قال القاضي.(20/265)
1138- وأما ما ذكره من خروج الأمر عن الضبط والمصير إلى انحلال ورد الأمر إلى آراء ذوي الأحلام فهذا إنما يلزم مالكا رضي الله عنه ورهطه إن صح ما روى عنه كما [سنقيم] الآن واضح الرأي على أبي عبد الله مالك رضي الله عنه أولا حتى إذا انتجز ضممنا [النشر] وأنهينا النظر وأتينا بمسلك اليقين والحق المبين مستعينين بالله تعالى وهو خير معين.(20/266)
ص -164-…1139- فنقول لمالك رحمه الله: [أتجوز] التعلق بكل رأي فإن أبي لم نجد مرجعا نقر [عنده] إلا التقريب الذي ارتضاه الشافعي رضي الله عنه كما سنصفه وإن لم يذكر ضبطا وصرح: بأن ما لا نص فيه ولا أصل له فهو مردود إلى الرأي المرسل واستصواب ذوي العقول فهذا الآن اقتحام عظيم وخروج عن الضبط ويلزم منه ما ذكره القاضي رحمه الله.
1140- وما نزيده الآن قائلين: لو صح التمسك بكل رأي من غير قرب ومداناة لكان العاقل ذو الرأي العالم بوجوه الإيالات إذا راجع المفتين في حادثة فأعلموه أنها ليست منصوصة في كتاب ولا سنة ولا أصل لها يضاهيها لساغ والحالة هذه أن يعمل العاقل بالأصوب عنده والأليق بطرق الاستصلاح.
وهذا مركب صعب لا يجترئ عليه متدين ومساقه رد الأمر إلى عقول العقلاء وإحكام الحكماء ونحن على قطع نعلم أن الأمر بخلاف ذلك.
ثم وجوه الرأي تختلف بالأصقاع والبقاع والأوقات ولو كان الحكم ما ترشد إليه العقول في طرق الاستصواب ومسالكه تختلف للزم أن تختلف الأحكام [باختلاف] الأسباب التي ذكرناها.
ثم عقول العقلاء قد تختلف وتتباين على النقائض والأضداد في المظنونات ولا يلزم مثل ذلك فيما له أصل أو تقريب فإن [شوف] الناظرين إلى الأصول الموجودة فإذا رمقوها واتخذوها معتبرهم لم يتباعد أصلا اختلافهم.
ولو ساغ [ما قاله] مالك رضي الله عنه إن صح عنه لاتخذ العقلاء أيام كسرى أنو شروان في العدل والإيالة معتبرهم.
وهذا يجر [خبالا لا] استقلال به.
1141- وإن أخذ مالك رحمه الله وأتباعه يقربون وجه الرأي من القواعد الثابتة في الشريعة فالذي جاءوا به مذهب الشافعي رحمه الله على ما سنصف طريقة.
وإنما وجهنا ما ذكرناه على [من] يتبع الرأي المجرد ولا يروم ربطة بأصول الشريعة ويكتفي ألا يكون في الشريعة أصل يدرؤوه من نص كتاب أو سنة أو إجماع.
1142- فإن قيل: فما معنى التقريب الذي نسبتموه إلى الشافعي؟(20/267)
قلنا: هذا [محز] الكلام ونحن نقول: قد ثبتت [أصول] معللة اتفق القايسون.(20/268)
ص -165-…على عللها فقال الشافعي أتخذ تلك العلل معتصمي وأجعل الاستدلالات قريبة منها وإن لم تكن أعيانها حتى كأنها مثلا أصول والاستدلال معتبر بها واعتبار المعنى بالمعنى تقريبا أولى من اعتبار صورة بصورة بمعنى جامع فإن متعلق الخصم من صورة الأصل معناها لا حكمها فإذا قرب معنى المجتهد والمستدل فيما يجتهد إلى الشرع ولم يرده أصل كان استدلالا مقبولا.
وهذا يتبين برسم مسألة واستقصاء القول فيها ونحن نجريها ونذكر ما فيها حتى تنتج الأصول والمعاني والاستدلالات.
مسألة:
1143- الرجعية محرمة الوطء عند الشافعي وهي مباحة الوطء عند أبي حنيفة رضي الله عنهما.
ومعتمد الشافعي: أنها متربصة في تبرئة الرحم وتسليط الزوج على شغل رحمها في الزمان الذي تؤمر فيه بالتبرئة متناقض.
وهذا معقول فإن المرأة لو تربصت قبل الطلاق [واعتزلها] الزوج لم يعتد بما جاءت به عدة فلو كانت تحل قبل الطلاق وبعده لما كان لاختصاص الاعتداد بما بعد الطلاق معنى ولم يطلب الشافعي بهذا المعنى أصلا وما ذكره قريب من القواعد فإنه كلام منشؤه من فقه العدة ثم عضده بما قبل الطلاق.
1144- وقال بعض أصحابه: نقيس الرجعية على البائنة في العدة.
ويتسع الآن القول في إثبات الحكم بالعلتين ونفى ذلك والغرض يتبين بفرض أسئلة وأجوبة عنها.
فإذا قلنا: معتدة فتكون محرمة كالمعتدة البائنة فيقول [المعترض: المعنى] في تحريمها أنها بائنة وهذا المعنى يستقل باقتضاء الحكم ولا خلاف أن البينونة علة في اقتضاء التحريم فليقع الاكتفاء بها.
وربما أكد السائل كلامه بأن قياس الرجعية على البائنة بمثابة قياس البالغة على الصغيرة بجامع الأنوثة فإذا قال القائل: أنثى فلتلحق بالصغيرة كان ذلك مردودا فإن الصغر بمجرده يستقل نافيا للاستقلال فلا أثر للأنوثة وقد قدمنا ذلك في العلل المركبة وهذا القول يلتحق بقول القائل: مس فصار كما لو مس وبال.(20/269)
ص -166-…وقد أجاب عن ذلك الأولون فقالوا: لسنا ننكر كون البينونة علة ولكن العدة علة أخرى وليس بين العلتين تعارض إذ ليس بين حكميهما تناقض ولا يمتنع.
ارتباط الحكم الواحد بعلتين وأما القياس على الأنثى الصغيرة فهو في صوره كقياس الرجعية على البائنة ولكن الأنوثة ليست مخيلة والمستدل بتلك الصورة طارد فكان بطلان العلة لذلك وكذلك سبيل القياس على ما لو مس وبال.
1145- فإن قيل: قد قدمتم أن الحكم لا يعلل بعلتين فلم سوغتموه الآن؟
قلنا: حاصل كلامنا فيما مضى آيل إلى أن ذلك غير ممتنع من طريق النظر فإن العلل الشرعية أمارات ولا يمتنع انتصاب أمارات على حكم واحد كما لا يمتنع ازدحام أدلة عقلية على مدلول واحد وإنما كان يمتنع تقدير ذلك أن لو كانت الأمارات موجبات كالعلل العقلية عند مثبتيها فإنها موجبة معلولاتها فيمتنع على هذا التقدير ثبوت موجبين لموجب واحد مع الاستقلال بأحدهما وينجر القول إلى سقوط فائدة إحدى العلتين وهذا لا يتحقق في العلامات ولكنا مع هذا قلنا: هذا الذي لا يمتنع في مسلك النظر لم يتفق وقوعه ثم أوردنا صورا يتعلق بها في ظاهر الأمر حكم بعلل وأوردنا أنها أحكام تعلل بعلل وإنما يتخيلها الناظر حكما واحدا لضيق المحل عن الوفاء بأعدادها عند ازدحامها.
وقد سبق في هذا قول مقنع تام.
والغرض من تجديد العهد به أن القايس على البائنة [يستدل بأن] يقول: اجتمع في البائنة المعتدة علتان وتحريمان: أحد التحريمين تحريم البينونة وانقطاع النكاح وهذا لا يختص بالعدة فإنها لو [أبينت] قبل الدخول من غير عدة لحرمت والتحريم الثاني تحريم التربص فهذا هو المطلوب وهو المعلل بالعدة وليس في هذا التقدير إثبات حكم واحد بعلتين فإن أنكر [منكر] كون العدة علة فعلى السابر الجامع أن يثبت ذلك بما يثبت به علل الأصول.
فهذا وجه الكلام.(20/270)
1146- ونحن نذكر الآن في هذا الفن سرا بديعا يتخذه الناظر معتبرا في أمثاله فإن قال قائل: إنما يستقيم ما ذكرتموه من تجريد النظر إلى العدة بأن تقدروا زوال البينونة وتمحض العدة من غير انقطاع النكاح ولو كان كذلك لكان ما تعتقدونه أصلا عين مسألة الخلاف فإن المعتدة التي ليست بائنة هي الرجعية وينقدح في هذا السؤال(20/271)
ص -167-…الذي اعتمدناه في رد التركيب إذ قلنا المركب يقول إن كانت ابنه الخمس عشرة كبيرة فالحكم ممنوع كذلك إن فرض تجريد العدة عن البينونة فيكون الحكم ممنوعا عند الخصم وهذا الذي نحن فيه نوع من التركيب في العلل ومهما سلم الجامع ثبوت علة أبداها المعترض [في الأصل] سوى ما وقع الجمع به فيتوجه تقدير المنع على هذا الترتيب الذي ذكرناه.
وهذا من لطيف الكلام في هذا الباب فليتنبه الناظر له وهو يجري في القياس على ما لو مس وبال [لو] كان قوله مس مخيلا فإن رجع الكلام إلى أنه مس فصار كما لو مس فلا يستبد التعلق بالعدة في اقتضاء التحريم إلا استدلالا.
1147- فإن قيل: لو قال من يحرم الرجعية معتدة فشابهت المعتدة عن وطء شبهة طارئ على النكاح فهل يصلح هذا وهل يستقيم [تقدير عدة الشبهة] أصلا؟.
قلنا: هذا على اطراده من أحسن فنون الطرد فإن المعتدة في الأصل مشغولة الرحم بماء محترم لغير الزوج وفي إقدام الزوج على وطئها اختلاط الماءين ولا خلاف أن التحريم في الأصل معلل بهذا لا غير.
ومن يريد جمعا في متعلق له إلا اسم المعتمدة فكان طاردا فإن أخذ يبدي [في عدة المعتدة الرجعية] ما ذكرناه استدلالا من كونها متربصة عن الزوج لم يتحقق هذا في الأصل فالعلة [الأولى] فيها إخالة ربط حكم أو حكمين متماثلين بعلتين وهذه العلة إن ردت إلى طالب الإخالة فالأمة مجمعة على أن الفرع والأصل غير مجتمعين في المعنى المقتضى فلا يبقى الاجتماع إلا في نعت واسم.
والذي يحقق ذلك أن العدة عن الغير تمنع ابتداء النكاح لغير من عنه العدة ولو كانت العدة من الزوج ولم تقع الحرمة الكبرى لما امتنع على الزوج النكاح فاستبان أن محرم الرجعية إن عول على العدة لم يجد أصلا.
1148- فإن قيل: فما رأيكم في استعمال ذلك استدلالا؟(20/272)
قلنا: هو الآن يتعلق بفن من الفقه ولكن إذا انتهى الكلام إليه نأتي فيه بما يليق بهذه المحال ونقول: إن تمسك المحرم بمناقضة التربص المستدعي البراءة للوطء الشاغل فلست أرى هذا المعنى واقعا من جهة أن الوطء عند الخصم لو جرى لانقطعت العدة وإنما الممتنع [اجتماع] العدة والتشاغل بالوطء على مذهب من يبيح.(20/273)
ص -168-…الرجعية بل هو رجعة عنده ثم الرجعة والعدة عنده لا [يجتمعان] ولكن [طريان] الرجعة يتضمن انقطاع العدة فليكن الوطء كذلك.
1149- فإن قيل فما الرأي في قول من يتمسك بالاحتساب بالعدة؟ ويقول: ولو كانت مستحلة كما كانت لما احتسبت الأقراء [عدة] كما لو وجدت صورة الأقراء قبل الطلاق؟
قلنا: هذا أمثل قليلا وهو في التحقيق تمسك بالعكس وجواب الخصم عنه [أوضح منه] فإنه يقول الطلاق في غير الممسوسة ينجز البينونة وهو في الممسوسة يثبت المصير إلى البينونة وذلك يحصل بالخلو عن العدة والعدة زمان الجريان إلى البينونة وهذا لا يتحقق قبل الطلاق إذ ليس قبله مرد إلى البينونة يتوقع المصير إليها فالذي أوجب الفصل بين ما قبل الطلاق وبعده في الاعتداد ما ذكرناه والتي انقضت عدتها بعد الطلاق [و] صارت بريئة الرحم تلتحق بالتي لم تمس أصلا فهذا وجه الكلام.
1150- فإن تعلق المحرم بان الطلاق أوجب المصير إلى البينونة فليكن هذا محرما لم يستبد هذا أيضا من جهة أن الزوج إذا علق الطلاق الثلاث بمجيء رأس الشهر لم تحرم المرأة في الأمد المضروب فإن كانت البينونة هي المحرمة فهي منتظرة غير واقعة وإن كان الطلاق هو المحرم فلم ينتصب دليلا عليه بعد.
فإن قيل: لو كانت مستحلة لما احتيج إلى الرجعة فللخصم أن يقول الرجعة تقطع وقوع البينونة فإنها لو تركت لصارت إليها.
1151- ولم نذكر هذه المعارضات إلا ليستبين الناظر وجه التمسك بالمعاني التي لا أصول لها واعتماد المستدل على الإخالة والمناسبة فالوجه في مسألة الرجعية إذا اعترضت أن تقع البداية بأن الوطء لا يكون رجعة [وثبت] ذلك سهل كما سبق منا التدرج إليه في "الأساليب".
وإذا ثبت ذلك بنينا عليه تحريم الوطء قائلين: إذ لم يكن الوطء رجعة لم تنقطع به العدة فيؤدي إباحة الإقدام عليه إلى الجمع بين دوام التربص لتفريغ الرحم وبين إباحة شاغلة وهذا وإن لم يستند إلى أصل فهو معنى قويم ومسلك مستقيم.(20/274)
ص -169-…فصل: في ضابط ما يجري فيه الاستدلال.
1152- فإن قيل: قد [أثبتم] الاستدلال ولم تقبلوه على الإرسال وزعمتم أن المقبول منه ما يلتفت إلى الأصول ويضاهي معانيها ولم تأتوا في ذلك بقول ضابط يستبين به المردود من المقبول.
قلنا: الوجه في ذلك أن نقول: إذا ثبت حكم متفق عليه في أصل ثم رام المستنبط إثارة معنى يعتقده مناطا للحكم [فما الضبط] فيما يقبل منه وما يرد؟ فليقل المستدل: كل معنى لو ربط به حكم متفق عليه في أصل لجرى و [استد] فإذا اعتبره المستدل عليه من غير إسناد إلى أصل كان مقبولا إذ المعنى الذي يبديه المستنبط لا يشترط فيها أن يسنده إلى معنى الذي يبديه وفاقي مماثل له ولكن يكفي أن يناسب ويسلم على السبر ويثبت ببعض الطرق المذكورة في إثبات العلل فكل علة إذا لا يشترط في ثبوتها أن تعهد ثابته بعينها [قبل أن يرى] المستنبط مثلها في غير محل الاستنباط فكل معنى في أصل فمتعلقه معنى وهو في حكم مستدل به وليس التعلق بحكم الأصل ولا بحصول الوفاق عليه.
1153- وإن قربنا العبارة قلنا: ليعتقد المستدل صورة مختلفا فيها متفقا على حكمها [ولير] رأيه في استنباط معناه وإن كان لا يستد فكره إلا بمستند.
وبالجملة لا يحدث الناظر [الموفق] مسلكا إلا وبينه وبين ما تمهد في الزمن الماضي من السلف الصالح مداناة.
والذي ننكره من مالك رضي الله عنه [تركه] رعاية ذلك وجريانه على الاستدلال في الاستصواب من غير [اقتصاد].
ونحن نضرب في ذلك مثالا ثم نذكر بحسبه لمالك مذهبا.
1154- فلو قدر وقوع واقعة حسبت نادرة لا عهد بمثلها فلو رأى ذو نظر جدع الأنف أو اصطلام الشفة وأبدى رأيا لا تنكره العقول صائرا إلى أن العقوبات مشروعة لحسم الفواحش وهذه العقوبة لائقة بهذه النادرة فمثل هذا مردود.
ومالك رضي الله عنه التزم مثل هذا في تجويزه لأهل الإيالات القتل في التهم العظيمة حتى نقل عنه الثقات أنه قال: أنا أقتل ثلث الأمة لاستبقاء ثلثيها.(20/275)
1155- فإن قيل: فبم تردون ما ذكره؟.(20/276)
ص -170-…قلنا: تبين من نظر الصحابة رضي الله عنهم في مائة سنة ومن نظر أئمة التابعين أن ما قال مالك رضي الله عنه وما استشهدنا به لا يحكم به.
ونحن نعلم أن الأمد الطويل لا يخلو عن جريان ما يقتضى مثل ما يعتقده مالك ثم لم يجر.
وشذت واقعة في العقوبات واضطرب فيها رأي الصحابة وهي حد الشارب فجرى فيه واشتهر ولم يستجيزوا الاستجراء على تقدير زيادة فيه إلا بعد أن يثبتوا أنه.
لم يكن مقدرا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كأنهم أجروه مجرى التعزيرات.
قال على رضي الله عنه: أما أنا [لا أقتل] في حد وأجد في نفسي [شيئا إلا حد الشارب فإنه شيء رأيناه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فليكن هذا سبيلا قاطعا في الرد على مالك رحمه الله ومن نحا نحوه وفيه تنبيه على ما نريده.
فصل
1156- فإن قال قائل: ما الاعتراض على الاستدلال؟.
قلنا: الاستدلال معنى مخيل قد يتطرق إليه من الاعتراضات ما يتطرق إلى معنى يبديه المستنبط مخيلا في أصل غير أن [للمعنى] المستند إلى أصل تعلقا به فقد يتوجه كلام على الأصل بفرق أو غيره والاعتراضات على الاستدلال الذي لا يستند إلى أصل تنتحي نحو المعنى فحسب ويتوجه عليه النقض إن أمكن والمعارضة وشرط ثبوته ألا يناقض أصول الأدلة.
1157- وأنا أرى الكلام عليه محصورا في أوجه:
أحدها: المناقشة في الإخالة والإشعار.
والآخر: طلب النقض إن كان.
والآخر: تقديم مقتضى أصل علته.
والآخر: معارضته بمعنى آخر [يناقضه].
فهذي مجامع الاعتراضات على الاستدلال ويفسد من الاعتراضات عليه ما يفسد من الاعتراضات على ما يستند إلى أصل.(20/277)
ص -171-…وقد تمهد فيما تقدم مسلك الصحيح من الاعتراضات والفاسد.
ولا شك أنه لا يتصور استقلال التشبيه بنفسه فإن التشبيه معناه تقريب شيء من شيء بما يغلب على الظن من غير [التزام] معنى مخيل ومن ضرورة ذلك أصل متفق عليه.
فإن قيل: هل يترجح المعنى المستند إلى أصل على المعنى الذي لا أصل له؟
قلنا: هذا نستقصيه في كتاب الترجيح إن شاء الله تعالى.
فصل: في استصحاب الحال.
1158- قد قال باستصحاب الحال قائلون ثم اختلفوا.
فذهب بعضهم إلى أنه دليل بنفسه ولكنه مؤخر عن الأقيسة وهو آخر متمسك الناظر.
وقال قائلون: لا يستقل الاستصحاب دليلا ولكن يسوغ الترجيح به والوجه أن نصوره ثم نؤثر ما هو المختار عندنا فيه.
1159- فإذا ثبت حكم متعلق بدليل ولم يتبدل مورد الحكم فليس هذا من مواقع الاستصحاب فإن الحكم معتضد بدليل وهو مستدام فدام الحكم بدوامه قد يقول بعض من لا يحيط بالحقائق: لا يمتنع تقدير نسخ ولكنه غير محتفل به والحكم مستصحب إلى نقل ناسخ على ثبت فيلتحق هذا الفن عند القائل بالاستصحاب.
فهذه مناقشة لفظية فإنه ثبت بالدليل القاطع قيام الدليل إلى يوم نسخه فإن سمى مسم هذا استصحابا لم يناقش في لفظ وليس مقصود الفصل منه بسبيل.
1160- فأما إذا ثبت حكم في صورة ثم تغيرت وحالت ورام الناظر طرد الحكم الثابت في الصورة الأخرى فإن لم [يكن للصورة] الثانية تعلق بالأولى ولم يكن تغيرها مرتبا على الصورة الأولى فلا معنى للاستصحاب في مثل ذلك.
كالذي يبغى أن يستصحب حكما في صدقة البقر في صدقة الغنم ولا يترتب أحد الجنسين على الثاني تصورا ولا تقديرا.(20/278)
ص -172-…وهذا بعينه محاولة جمع بدعوى عرية من غير معنى جامع ولا وجه في الشبه غالبا على الظن وهو احتكام مجرد.
1161- فأما إذا ترتبت صورة على صورة فإن تغيرت عليها فأثبتت في الخلفة عليها فعند ذلك يقول قائلون نستصحب الحكم الثابت في الصورة الأولى ونجريه في الثانية.
وهذا باطل عندنا غير صالح للاستدلال ولا للترجيح فإن الصورتين متغايرتان وإن أثبتت إحداهما على الأخرى تصورا وكلفة فلا معنى لقول القائل: أستصحب [الحكم] وقد تغير المورد [وتغاير] المحل فلا يمتنع تغاير الحكمين لذلك وهذا كقول القائل في استئناف الفريضة عند أبي حنيفة في زكاة الإبل فقد اطردت فريضة الإبل على نصب معلومة فينبغي أن يستصحبها وراء المائة والعشرين حتى لا يوجبها إلا على ذلك القياس.
وقد عورضوا بأن فريضة الإبل إذا ثبتت وجب استصحابها وذلك [قاض بمنع] العود إلى الشاة.
والقائلان ذاهلان عن الحقيقة فلا معنى للاستصحاب من الفئتين وما قاله أصحابنا أمثل لاعتضاده بفقه وهو المعتمد دون الاستصحاب وذلك أن الشاة أثبتت ابتداء اجتنابا لتشقيص مع [أن] إيجاب بعير مجحف بالخمس من الإبل فالعود إلى الشاة مع كثرة الإبل بعيد وهذا ليس استصحابا.
1162- فإن قيل: من استيقن الطهارة وشك في الحدث فالحكم استصحاب الطهارة وكذلك نقيض هذ1 وكذلك من تيقن النكاح وشك في الطلاق فالجواب كذلك فهل هذا الفن مما يلحق باستصحاب الحال [أم لا]؟
قلنا: هذا لباب الفصل ونحن نقول فيه قول الفقيه يستصحب يقين الطهارة فيه تجوز فإن اليقين لا يصحب الشك فليس المعنى بقولهم لا يترك اليقين بالشك أنهم على يقين مع التردد في الحدث ولكن المراد به أن ما تقدم من الطهر يقين فيبقى الحكم ما تيقناه والقول فيه: إذا طرأ الشك لم يخل المشكوك فيه من ثلاثة أحوال:(20/279)
1163- أحدها: أن يرتبط بعلامة بينة في محل الظنون فما كان كذلك فلاجتهاد هو المتبع ولا التفات إلى ما تقدم فإنه يتصدى للمرء شك في بقاء ما سبق واجتهاده ظاهر في زواله والاجتهاد مقدم.(20/280)
ص -173-…1164 -فإن ثبتت علامة خفية كالعلامات التي يقع التمسك بها في تمييز النجس من الطاهر في الأواني وفي والثياب فإن عارض يقين النجاسة يقين الطهارة فعلم صاحب الإناءين أن أحدهما نجس والآخر طاهر فليس التمسك بيقين الطهارة بأولى من التمسك بيقين النجاسة فيضطر إلى التمسك بالعلامات وإن خفيت.
[وإن لم يوجد] يقين النجاسة ولكنا تيقنا طهارة وشككنا في طريان نجاسة وثبتت علامة خفية ففي التعلق بها قولان:
أحدهما: أنها ضعيفة وإن تناهى المرء في تصويرها محاولا إظهار ما وقع في النفس فليفهم الناظر ما يرد عليه فالتعلق بالاستصحاب أولى على قول والتمسك بها أولى على قول.
1165- وإن تقدم يقين وطرأ شك وليس لما فيه علامة جلية ولا خفية فعند ذلك تأسيس الشرع على التعلق بحكم ما تقدم وهذا نوع من الاستصحاب صحيح وسببه ارتفاع العلامات وليس هذا من فنون الأدلة ولكنه أصل ثابت في الشريعة مدلول عليه بالإجماع وإن طرأ مثل ذلك في منازل المجادلات فأراد [المستدل] أن يدعو الخصم إلى موجب الاستصحاب وكانت الصورة على نحو ما ذكرناها فذلك [سائغ] والدليل عليه اعتباره بنظائره بتشبيه أو تقريب معنوي فليلحق ذلك بأبواب القياس إذا.
1166- ولا يستمر هذا إلا بسبر وهو تمام الكلام.
ومعناه أن يدعى أولا انتفاء الدليل عند قيام التردد ثم لا يتوصل إلى ذلك إلا بتخيل جهات الأدلة وإبانة انتفائها في محل الكلام ثم يستمر بعد هذا ما يحاوله من اعتبار صورة بصورة.
وبيان ذلك بالمثال: أن المسئول عن وجوب الأضحية يقول الأصل براءة الذمة فلا معنى لشغلها إلا بثبت وهذا لو اقتصر عليه لاستقل كلاما مفيدا مستقيما وحاصله يئول إلى أنه لم يقم عندي دليل على وجوب الأضحية وإذا قسم وسبر وتتبع مواقع تعلقات الخصم بالنقض استمر له ما ذكرناه في الاستصحاب.
فهذا منتهى الغرض في ذلك وقد نجز بنجازه القول المقصود في الاستدلال والحمد لله وحده.(20/281)
ص -175-…الكتاب الخامس: كتاب الترجيح.
1167- الترجيح تغليب بعض الأمارات على بعض في سبيل الظن ولا ينكر القول به على الجملة مذكور وقبله منكرو القياس واستعملوه في الظواهر والأخبار وحكى القاضي عن [الملقب بالبصري وهو جعل]1 أنه أنكر القول بالترجيح2 ولم أر ذلك في شيء من مصنفاته مع بحثي عنها وسأذكر شيئا ينبه على إمكان ذلك في النقل.
1168- والدليل القاطع في الترجيح إطباق الأولين ومن تبعهم على ترجيح مسلك في الاجتهاد على مسلك هذا ما درج عليه الأولون قبل اختلاف الآراء وكانوا رضي الله عنهم إذا جلسوا يشتورون تعلق معظم كلامهم في وجوه الرأي بالترجيح وما كانوا يشتغلون بالاعتراضات والقوادح [وتوجيه النقوض].
وهذا أثبت بتواتر النقل في الأخبار والظواهر وجميع مسالك الأحكام فوضح أن الترجيح مفطوع به3.
1169- واستدل القاضي رحمه الله لمن حكى الخلاف عنه في نفي الترجيح بالبينات في الحكومات فإنه لا يترجح بينة على بينة بعد استقلال كل واحدة لو انفردت.
وهذا مردود فإن العلماء من يرى ترجيح البينة على البينة وهو مالك رضي الله عنه وطوائف من علماء السلف وليس من الإنصاف إلزام مجتهد فيه على القول في مسألة مسلكها القطع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في إرشاد الفحول: سحعل, والظاهر أنه تصحيف.
2 في إرشاد الفحول: "ص 276": واستبعد الأنباري وقوع ذلك من مثله.
3 إرشاد الفحول "ص 276".(20/282)
ص -176-…ثم إن ظن ظان أن لا ترجيح في البينة ورآها مستندة إلى توقيفات تعبدية فهذا لا يعارض ما ثبت قطعا تواترا في الترجيح والعمل به وليس متعلق مثبتي الترجيح تجويزا ظنيا فينتقض بشيء أو يقاس على شيء.
1170- فإذا ثبت أصل الترجيح فلا سبيل إلى استعماله في مسالك القطع.
فإذا أجرى المتكلم في مسلك قطعي صيغة ترجيح أشعرت بذهوله أو غباوته وما يفضى إلى القطع لا ترجيح فيه فإنه ليس بعد العلم بيان ولا ترجيح وإنما الترجيحات تغليبات لطرق الظنون ولا معنى لجريانها في القطعيات فإن المرجح أغلب في الترجيح وهو مظنون [والمظنون] غير جار في مسلك القطع فكيف يجرى في القطعيات ترجيح ما لا يجرى أصله فيها؟
مسألة:
1171- أطلق الأئمة القول بأن المعقولات لا ترجيح فيها وهذا سديد لا ننكره ولكنا أوضحنا في الديانات أن العوام لا يكلفون بلوغ الغايات ودرك حقائق العلوم في المعتقدات وإنما يكلفون تحصيل عقد متعلق بالمعتقد على ما هو به مع التصميم ثم عقدهم لا يحصل في مطرد العادة هجوما وافتتاحا من غير استناد إلى مسلك من مسالك النظر وإن كان غير تام وإذا كان كذلك فالترجيحات عندهم في قواعد العقائد قد تجرى فإن عقودهم ليست علوما ومأخذها كمأخذ الظنون في حق من يعلم أنه ظان وهذا الذي ذكرناه لا يناقض ما ذكره الأئمة فإنهم زعموا أن الترجيحات لا وقع لها في مدارك العلوم وما ذكروه حق لا نزاع فيه وإنما يكتفى من العوام بعقود سليمة ليست علوما فتجرى عقائدهم مجرى الظنون في المظنونات.
مسألة:
1172- قال الأئمة رضي الله عنهم: الترجيحات لا تستعمل في المذاهب من غير نصب أمارات فإن كل ذي مذهب مدع قبل أن يدل والدعاوى لا تقبل الترجيح إذ الترجيح في نفسه لا يستقل دليلا والمذهب لو كفى ترجيحه لكان الترجيح مستقلا لإثبات المذهب وما كان كذلك كان دليلا مستقلا بنفسه.
وهذا يتطرق إليه استثناء عندنا على تفصيل نشير إليه الآن ثم نقرره في كتاب الفتاوى إن شاء الله تعالى.(20/283)
ص -177-…فليعلم الناظر أن المستفتى لا يتخير في تقليد من شاء من المفتين ولكن عليه ضرب من النظر في تخير واحد منهم لمزية يتخيلها أو يظنها لمن يختاره وسيأتي ذلك مشروحا في موضعه إن شاء الله تعالى.
وإن كان كذلك فمتعلق المستفتى ترجيح مجرد وقد ينقدح أن يقال: ما يغلب على ظنه تخصيص واحد من العلماء فهو دليل مثله فالقول في هذا يئول إلى عبارة ونحن الآن نرسم ما يترجح به مذهب الإمام المطلبي الشافعي رضي الله عنه.
مسألة:
1173- أجمع المحققون على أن العوام ليس لهم أن يتعلقوا بمذاهب أعيان الصحابة رضي الله تعالى عنهم بل عليهم أن يتبعوا مذاهب الأئمة الذين سبروا ونظروا وبوبوا الأبواب وذكروا أوضاع المسائل وتعرضوا للكلام على مذاهب الأولين.
والسبب فيه أن الذين درجوا وإن كانوا قدوة في الدين وأسوة للمسلمين فإنهم لم يفتنوا بتهذيب مسالك الاجتهاد وإيضاح طرق النظر والجدال وضبط المقال ومن خلفهم من أئمة الفقه كفوا من بعدهم النظر في مذاهب الصحابة فكان العامي مأمورا باتباع مذاهب السابرين.
1174- ثم نحن نوضح وراء ذلك ما يتعلق به منتحل المذهب على الجملة في اختيار مذهب الشافعي ومجامع الكلام في ذلك يحصرها طرق.
أحدها: أن السابق وإن كان له حق الوضع والتأسيس والتأصيل فللمتأخر الناقد حق التتميم والتكميل وكل موضوع على الافتتاح قد يتطرق إلى مبادئه بعض التثبيج ثم يتدرج المتأخر إلى التهذيب والتكميل فيكون المتأخر أحق أن يتبع لجمعه المذاهب إلى ما حصل السابق تأصيله وهذا واضح في الحرف والصناعات فضلا عن العلوم ومسالك الظنون وهذه الطريقة يقبلها كل منصف وليس فيها تعرض لنقض مرتبة إمام.
1175- فإذا حصلنا المقصود مع الاعتراف للمتقدمين بفضل السبق فالذي يتم به الغرض أن الصديق أفضل من طلعت عليه الشمس بعد النبي عليه السلام ثم اشتغال من بعده بالسبر أوجب على العوام ألا يبتدروا مذهب الصديق رضي الله عنه مع علو منصبه وارتفاع قدره.(20/284)
ص -178-…فإن قيل: يلزمكم على هذا أن توجبوا الاقتداء بمن بعد الشافعي من الأئمة على ما ذكرتموه.
قلنا: إن ثبت لأحد بعده من الأئمة من المزية والفضل وتهذيب ما لم ينتظم وكشف ما لم يتبين فلا يناقض مسلك الطريقة ولكنا لسنا نرى أحدا بلغ هذا المحل وسيأتي تفصيل ذلك في كتاب الفتوى إن شاء الله تعالى.
1176- طريقة أخرى:
وهي أن نقول: المذاهب [تمتحن] بأصولها فإن الفروع تستد باستدادها وتعوج باعوجاجها وهذا النوع [من النظر] هو الذي يليق بالمستفتين ومنتحلي المذاهب وسبيل محنة الأصول معرفتها أفرادا في قواعد ثم معرفة ترتيبها وتنزيل كل أصل منها منزلته.
فإذا تبين ذلك فأصول الشريعة الكتاب والسنة والإجماع ثم الأقيسة الظنية علامات انتصبت على الأحكام [أعلاما] بأصل من الأصول الثلاثة مقطوع به كما سبق شرح ذلك.
ثم لها مراتب ودرجات ومناصب فإذا نظر الناظر إلى منصب الشافعي عرف أنه أعرف الأئمة بكتاب الله تعالى فإنه عربي مبين والشافعي تفقأت عنه بيضة قريش.
ولا يخفى تميزه عن غيره فيما نحاوله ثم يتعلق معرفة الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول بمعرفة الروايات ومقامه لا يخفى في الأخبار ومعرفة الرجال وفقه الحديث والإجماع يتلقى من معرفة الآثار وما يصح نقله من الوفاق والخلاف وهذا بيان الأصول.
1177- وأما تنزيلها منازلها [فإنه شوف] الشافعي فإنه قدم كتاب الله تعالى ثم أتبعه بسنة رسوله عليه السلام ثم إذا لم يجدها تأسى بالصحابة رضي الله عنهم في التعلق بالرأي الناشئ من قواعد الشريعة المنضبطة أصولها ولم ير التعلق بكل استصواب لما فيه من الانحلال والانسلال عن ضبط الشريعة ثم رأى قواعد الشريعة منقسمة إلى ما يعلل وإلى ما لا يعلل فاستحث على الاتباع فيما لا يعقل معناه وقد يقيس إذا لاحت الأشباه وأما ما يعقل معناه فمغزاه فيه المعنى [المخيل](20/285)
ص -179-…المناسب وهو في ذلك يلتفت إلى قواعد الشرع ويدور عليها.
1178- ومن بديع نظره أنه قد يعن له معنى مخيل ولكن يراه منقوضا [بما لا يعلل] فيلحقه بما لا يعلل وهذا مسلكه في منع القيم في الزكوات فإن غرض الزكاة سد الخلة والحاجة وهو وإن كان معقولا فلا جريان له فرأى الأتباع فيه معنى السد مع الخلاص [من] غرر المخالفة ثم جعل كون الزكاة عبادة عضدا لذلك كالمرجح به ولا حاجة إلى ذكر [مذهب] غيره فإن في هذا تنبيها على مقتضاه.
1179- طريقة أخرى: وهي تشتمل على نظر كلي إلى الفروع وهذا يتأتى بضبط ورد نظر إلى الكليات فالشريعة متضمنها مأمور به ومنهي عنه ومباح.
فأما المأمور به: فمعظمه العبادات فلينظر الناظر فيها وأما المنهيات فأثبت الشرع في الموبقات منها زواجر ولا يكاد يخفى احتياط كثير من الناس فيها وبالجملة الدم معصوم بالقصاص ومسألة المثقل يهدم حكمة الشرع فيه والفروج معصومة بالحدود ولا يخفى ما فيها من الاضطراب والأموال معصومة عن السراق بالقطع وقد أثبت من [نعنيه] ذرائع إلى إسقاطه سهلة المدارك وأعيان الأموال مستردة من الغصاب.
وقد بان للفقيه مسالك الناس الذين خالفوا مذهب الشافعي1 فمن نظر إلى الأصول ثم نظر نظرا كليا إلى الفروع لم يخف عليه من يكون أولى بالاتباع وإن قصر [نظر] بعض المستفتين عن فهم ما ذكرناه فلا عليه لو [احتذى] بقول النبي عليه السلام: "الأئمة من قريش"2 ولم أجد أحدا من أصحاب المذاهب معتزيا إلى طينة قريش بالمسلك الواضح إلا الشافعي ولا خلاف في اختصاصه بذاك وأبو حنيفة من الموالى ومالك كذلك [على ما حكى بعض الناس] فهذه مرامز كافية فيما نحاوله وإذا أردنا أن نعبر عن الأئمة الثلاثة الناخلين المرموقين الذين طبقت مذاهبهم طبق الأرض مالك والشافعي وأبو حنيفة رضي الله عنهم قلنا:(20/286)
1180 - أما أبو حنيفة فلا ننكر [اتقاد] فطنته وجودة قريحته في درك عرف المعاملات ومراتب الحكومات فهو في هذا الفن واستمكانه من وضع المسائل بحسنه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سبق تخريجه.
2 أحمد "3/183", "4/421, 345", والبيهقي "3/121", "8/143, 144" والحاكم "4/76" وسكت عنه الذهبي في "التلخيص" والطبراني "1/224" وابن أبي شيبة "12/170".(20/287)
ص -180-…على النهاية ولكنه غير خبير بأصول الشريعة وهي في حقه منقسمة إلى أصل جهله [أو] أغفله وذهل عنه وإلى آخر تمسك به وما رعاه وما [عقله] وانتهض لتبويب الأبواب انتهاض من لم يستمد من القواعد ومن عجيب أمره أنه لم يعتن بجمع الأخبار والآثار ليبني عليها مسائله ولكنه يوصل الفروع بناء على ما يراه ثم يستأنس بما يبلغه وفاقا.
1181- وأما الإمام مالك فلا يشق غباره في ضبط ما يصح من الأخبار والآثار والأقضية ووقائع الصحابة ولا يدرك آثاره في درك سبل الصحابة والطرق التي منها يتطرق الخلل وإمكان الزلل إلى النقلة فقد كان يقول في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد رأيت بعدد أساطين هذا المسجد من يقول: حدثني أبي فلان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أستجز أن أروى عنهم حديثا.
فقيل له أكنت لا تثق بهم فقال كنت [لا] أتهم صدقهم ولو نشروا بالمناشير ما كذبوا على رسول الله عليه السلام ولكن لم يكونوا من أهل [هذا] الشأن.
ولكنه ينحل بعض الانحلال في الأمور الكلية حتى يكاد أن يثبت في الإيالات والسياسات أمورا لا تناظر قواعد الشريعة وكان يأخذها من وقائع وأقضية لها محامل على موافقة الأصول بضرب من التأويل فكان يتمسك بها ويتخذها أصولا ويبنى عليها أمورا عظيمة.
كما روى أن عمر رضي الله عنه قال للمغيرة: وكان قد أخذ قذاة من لحيته فظن عمر [به] استهانة فقال: أبن ما أبنت وإلا أبنت يدك.
ونقل عنه مشاطرة خالد وعمرو بن العاص1 على أموالهما فاتخذ ذلك أصلا فرأى إراقة الدم وأخذ أموال بتهم من غير استحقاق لمصالح إيالية حتى انتهى إلى أن قال: أقتل ثلث الخلق في استبقاء ثلثيهم.
وكان من الممكن أن يحمل قول عمر رضي الله عنه2 على التغليظ بالقول
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(20/288)
1 عمرو بن العاص بن وائل السهمي أسلم سنة سبع قبل الفتح بستة أشهر وكان من دهاة العرب ورؤسائهم وله مناقب عديدة مات سنة "43" ودفن بمصر له ترجمة في "الرياض المستطابة" "ص 215, 217".
2 سبقت ترجمته.(20/289)
ص -181-…وكانوا يعتادون ذلك وكذلك من بعدهم.
وأخذه الأموال محمول على علمه بانبساط خالد وعمرو فيما لا يستحقان من مال الخمس وأموال المسلمين ولا يبلغ من حزم عمر درك مبلغ ذلك فإذا أمكن هذا فلا وجه لإطلاق أيدي الولاة في الدماء والأموال.
1182- وأما الشافعي1 فإنه أعرف خلق الله بأصول الشريعة وأضبطهم لها وأشدهم كيسا [واتقادا] في مآخذها وتنزيلها منازلها [وترتيبها على مراتبها ويشهد ذلك بالثقة فيها سابقا إليه] ولكن لم تتنفس مدته ولم تتسع مهلته فلم يتشوف إلى وضع مسائل بديعة وكان متصديا للإجابة عن كل ما يسأل عنه واخترم وقد نيف على الخمسين وكان ذلك الأمد لا يتسع لأكثر من ضبط الأصول فيها فهان على أصحابه البناء عليها.
1183- وهذا بيان منازلهم وسنذكر في كتاب الفتوى أنه يتعين على المستفتى نظر كلي في [تخير] قدوته وسنصف ذلك النظر وحده.
ثم نقول: ليس على المستفتى تعلق بمبادئ النظر في كل مسألة يأخذ فيها جواب قدوته وهذا متفق عليه في المظنونات.
1184- ونقل عن الأستاذ أبي إسحاق أنه قال: إذا اشتملت المسألة على مدرك قطعي وجب على العامي الاحتواء عليه فإن كانت المسألة عملية فتلتحق بالعقائد التي لا يسوغ العقل التقليد فيها.
1185- وهذا عندنا سرف ومجاوزة حد فإنا لا نرى أولا في العقائد ما يراه وقد ظهر اختيارنا فيما عليهم من عقائدهم وأما إلحاق قطعيات الشرع بالعقائد فعظيم فإن الشريعة تحتوي على مائة ألف مسألة وأكثر مستندها القطع وتكليف العامي الإحاطة بها في معاملاته التي يمارسها ظاهر الفساد وهو اقتحام خرق الإجماع.
مسألة:
1186- ذهب معظم الأصوليين إلى أن المجتهد لا يجوز له الاقتصار على ترجيح مذهب على مذهب من غير تمسك بما يستقل دليلا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سبقت ترجمته.(20/290)
ص -182-…وحكى صاحب المغنى وهو عبد الجبار في كتابه المترجم بالعمد عن بعض أصحابه جواز الاكتفاء بالترجيح وسقوط هذا المذهب واضح فإن الترجيح الحقيقي ينشأ من منتهى الدليل فإذا لم يكن دليل لم يثبت الترجيح تصورا وإن فرض تمسك بمبادئ نظر وسمى ذلك ترجيحا فهو نظر فاسد لقصوره ولا ترجيح بالفاسد والنظر يفسد بقصوره تارة وبحيد عن المدرك المطلوب أخرى.
1187- فإن قيل: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفاوضهم يكتفون بمسالك الترجيحات وما كانوا يمهدون أدلة مستقلة ثم يبنون عليها ترجيحات وهم الأسوة.
قلنا: هذه دعوى عرية لا أصل لها فإنهم كانوا يبنون أحكاما على معان سديدة وعلى تقريبات شبهية وهذا مدرك الشرع وكانوا لا يعتنون برد المعاني إلى الأصول لا عن جهل بها ولكنهم علموا أن معتمد الأحكام المعاني.
فأما الاقتصار على الترجيحات فادعاؤه عليهم تخرص [بين] [نعم] قد نقول: إذا عريت واقعة عن نظر قويم ولاحت فيه مخيلة على بعد ولا يكون مثلها دليلا فقد يجوز التمسك بها تجويزا للمجتهد استصحاب الحال وإن رأينا أن نذكر في آخر هذا المجموع طرفا صالحا من حكم شغور الزمان عن المفتين وحملة الشريعة ذكرنا طرفا صالحا في ذلك إن شاء الله تعالى.
القول في ترجيحات الأدلة.
1188- إنما مظنة الترجيحات تعارض صور الأدلة وهي في غرضنا ألفاظ منقولة ومعان مستنبطة.
فأما الألفاظ فتنقسم إلى النصوص التي لا تقبل التأويل وإلى الظواهر.
فأما النصوص فتنقسم إلى ما ينقل قطعا واستوت في النقل ويلتحق بهذا القسم ما ينقل من غير قطع ولكن تستوي النصوص في [طريق] النقل من غير ترجيح آيل إلى الثقة والتغليب فيها ونحن نرسم ما يتعلق بهذا القسم.(20/291)
ص -183-…مسألة:
1189- إذا تعارض نصان على الشرط الذي ذكرناه وتأرخا فالمتأخر ينسخ المتقدم1 وليس ذلك من مواقع الترجيح.
1190- فإن تطرق إلى أحد النصين ظن النسخ من غير قطع فهذا نصفه ونصوره ثم نذكر المذاهب فيه.
قال الشافعي في مسألة المس: قيس بن طلق2 راوي حديث الخصم وهو ممن تقدم إسلامه3 وأبو هريرة4 ممن روى [أحاديثنا] وكان إسلامه بعد الهجرة بست سنين فرأينا إمكان النسخ تطرق إلى ما رواه قيس.
وكذلك صح عن النبي عليه السلام [في مرض موته] أنه قال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون"5.
ولكن الشافعي تعلق بجلوس النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته والمقتدون به قيام وراءه فكان هذا من أواخر أفعاله والحديث الذي رويناه مطلق فيغلب على الظن أنه كان في صحته.
ومن هذا القبيل أخبار الدباغ مع ما رواه عبد الله بن عكيم6 الجهني قال: ورد علينا كتاب النبي عليه السلام قبل موته بشهر "لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب"7.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مثاله: حديث شداد بن أوس مرفوعا: "أفطر الحاجم والمحجوم" رواه أبو داود والنسائي. وذكر الشافعي أنه منسوخ بحديث ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم. احتجم وهو محرم صائم" أخرجه مسلم فإن ابن عباس إنما صحبه محرما في حجة الوداع سنة عشر وفي بعض طرق حديث شداد: أن ذلك كان زمن الفتح سنة ثمان. "تدريب الراوي" "2/191, 92".
2 قيس بن طلق ين علي بن المنذر الحنفي اليمامي روى عن أبيه قال العجلي: يمامي تابعي ثقة وأبو صحابي وقال ابن معين: لقد أكثر الناس فيه وأنه لا يحتج بحديثه, له ترجمة في "تهذيب التهذيب" "8/356/710".
3 هذه العبارة سهو من أمام الحرمين, وإنما الصحابي هو أبو طلق. الإصابة "2/232/4283".
4 سبقت ترجمته.
5 البخاري "1/177, 187" "2/59, 89", ومسلم في "الصلاة" "82", وأبو داود "605", والنسائي "2/142", وابن ماجه "1237", وأحمد "6/51".(20/292)
6 عبد الله بن عكيم الجهني. روى عن أبي بكر وعمر وحذيفة بن اليمان وعائشة. وعنه زيد بن وهب وعبد الرحمن بن أبي ليلى, قال الخطيب: سكن الكوفة وقدم المدائن في حياة حذيفة, وكان ثقة. وقال ابن حبان في"الصحابة" أدرك زمنه, ولم بسمع منه شيئا, مات في ولاية الحجاج. له ترجمة في الإصابة "2/346/4831" وتهذيب التهذيب "5/283/554".
7 أبو داود في: اللباس "41", والترمذي "1729" وقال: حسن, والنسائي "7175" وابن ماجه "3613" وأحمد "4/310, 311" والطبراني في "الصغير" "2/101" وابن أبي شيبة "8/315" "13/53" والإرواء "1/76/28" وقال: صحيح.(20/293)
ص -184-…فأحاديث الدباغ كانت مطلقة غير مقيدة بتاريخ فالغالب على الظن جريانها قبل هذا التاريخ ولكن الشافعي رد حديث عبد الله لأنه كان محالا على الكتاب وناقل الكتاب مجهول ليس بمذكور فالتحق الحديث بالمرسلات فهذا تصوير ما أردناه.
1191- قال الشافعي: إن تجرد نص ولم يعارضه آخر فإمكان النسخ مردود ومدعيه مطالب بنقل النسخ ولا يكتفى في هذا المقام بغلبة الظن فإن تعارض نصان وتطرق إلى أحدهما مسلك من المسالك التي صورناها فعند ذلك يرى الشافعي ترجيح النص الذي لا يتطرق إليه ظن النسخ على الآخر [ورأيه أولى] من الحكم بتساقط النصين عند تعارضهما.
1192- وقال قائلون: النصان متعارضان فإن الذي اتجه فيه إمكان النسخ ظنا لا يخفى سقوطه والنص الآخر يهى به ويحط عن منزلته والتمسك بمرتبة أخرى دون النصوص أولى ولا يبقى مع تعارض النصين إلا ظن ترجيح ومجرد الترجيح لا يجوز التمسك به.
1193- ووجه الحق في ذلك: أن الحادثة إذا عريت عن مسلك [يعد] من سبل مسالك الأحكام وتعارض خبران نصان وتطرق إلى أحدهما إمكان النسخ وعدم المجتهد متعلقا سواهما فالوجه التمسك بالخبر الذي لا يتطرق إليه ظن النسخ وهذا أولى من تعطيل الحكم وتعرية الواقعة عن موجب الشرع وهذا يناسب القول في مآخذ الأحكام عند عرو الزمان عن المفتين ولعلنا نختتم هذا المجموع بطرف صالح منه يقع به الاستقلال.
فإن وجد المتناظران مسلكا من مآخذ [الأحكام] سوى الخبرين مثل أن يجد للقياس مضطربا فالوجه النزول عن الخبرين جميعا والتمسك بالقياس ثم الخبر الذي بعد عن ظن النسخ يستعمل ترجيحا لأحد القياسين [على الآخر].
فهذا وجه مدرك الحق في ذلك وهو أصل في كتاب الترجيح وسنسند إليه أمثاله.(20/294)
ص -185-…مسألة:
1194- إذا تعارض خبران نصان نقلهما الآحاد واستوى الرواة في الصفات المرعية في حصول الثقة ولكن كان أحدهما أكثر رواة.
فالذي ذهب إليه الأكثرون الترجيح بكثرة العدد [وهو مذهب الفقهاء] وذهب بعض المعتزلة إلى منع الترجيح بكثرة العدد واحتجوا في ذلك بالشهادة فإنه لا ترجح بينة على بينة بكثرة العدد.
وهذا الذي ذكروه مما اختلف الفقهاء فيه:
1195- فذهب معظم أصحاب مالك وشرذمة من أصحاب الشافعي إلى أن البينة المختصة بمزيد العدد في الشهود مقدمة على البينة التي تعارضها.
والمسألة على الجملة مظنونة وللاجتهاد فيها مجال ثم معظم قواعد الشهادات منوطة بالتعبدات والروايات مدار أصولها وتفاصيلها على الثقة المحضة ولهذا لا تعتبر فيها الحرية والعدد في [أصل القبول] وكثرة الروايات توجب مزيدا في غلبة الظن.
وقد قال القاضي رحمه الله تعالى: تقديم الخبر على الخبر بكثرة الرواة لا أراه قاطعا وإنما أراه من مسالك الاجتهاد.
1196- والوجه في هذا عندنا: أن المجتهدين إذا لم يجدوا متمسكا إلا الخبر وتعارض في الواقعة خبران واستوى الرواة في العدالة والثقة وانفرد بنقل أحدهما واحد وروى الآخر جمع فيجب العمل بالخبر الذي رواه الجمع.
وهذا مقطوع به فإنا على قطع نعلم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لو تعارض لهما خبران كما وصفنا والواقعة في محل لا تقدير للقياس فيه ولا مضطرب للرأي لما كانوا يعطلون الواقعة بل كانوا يرون التعلق بما رواه الجمع.
1197- فأما إذا كان في المسألة قياس وخبران متعارضان كثرت رواة أحدهما فالمسألة الآن ظنية فإن الخبر الذي نقله الواحد يضعف بالخبر الذي يعارضه فيبعد أن يستقل دليلا.
والذي يقتضيه هذا المسلك النزول عنهما والتمسك بالقياس وترجيح القياس الذي يعضده الخبر الذي يرويه الجمع ولو تجرد القياس في الجانب الآخر [فهو](20/295)
ص -186-…متمسك [الحكم ومتعلقه فهذا وجه ولكن قد نظن أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقدمون] الخبر الذي يرويه الجمع ويضربون عن القياس كدأبهم في تعظيم الخبر وتقديمه ولسنا على قطع في ذلك فإنا لا نثبت أصول الشريعة إلا بمستند قطعي فما قطعنا به أثبتناه وما غلب على ظننا ترددنا فيه وألحقناه بالمظنونات.
1198- فآل حاصل القول إلى أن الخبر وإن رواه جمع من الثقات إذا عارضه خبر نقله عدل واحد فيسقط ما رواه الجمع عن رتب الأدلة المقطوع بها فإن عدمنا مأخذا سواهما كان تعلقنا بالأرجح تعلق من لا يجد مضطربا سوى الترجيح ومحض الترجيح لا يتعلق به عند فقد الأدلة كما سيأتي شرحه إن شاء الله تعالى.
1199- فأما إذا وجدنا [أدلة فالمسألة إذ ذاك ظنية منزلة على ما يؤدى إليه اجتهاد الناظر وكذلك إذا وجدنا] القياس موافقا للخبر الذي نقله الواحد فالمسألة ظنية أيضا وإن كان القياس في جانب الخبر الذي رواه الجمع [فلا شك أن الحكم بذلك القياس المرجح بالخبر الذي رواه الجمع] فهذه جوامع القول في ذلك.
1200- وقد ذكرنا في تعارض الخبرين إذا تطرق إلى أحدهما إمكان النسخ من الجهات التي ذكرناها [أن] الوجه النزول عنهما والتمسك بالأقيسة إن وجدناها ولم [نردد] في ذلك تغليب ظن.
والسبب فيه أنا ظننا ظنا غالبا بالصحابة رضي الله عنهم اعتبار الترجيح بالثقة والعدد ورددنا القول ولم يسنح لنا مثل ذلك فيما يتطرق إليه النسخ إمكانا إذ تبينا من تفحصهم عن أسباب الثقة ما يغلب على الظن الترجيح بها وتقديم الأخبار على الأقيسة تعظيما لها إذا رجع الأمر إلى التفاوت في الثقة.
[فإن ظهر لنا ظن عندنا في وقائع] بلغته أنهم نظروا في إمكان النسخ نظرهم في الثقة نزلنا تلك [المسألة] هذه المنزلة وعاد القول إلى التعارض إلا فيما يمنع منه متمسك لما قدمنا تمهيده من أن التعارض في التساقط [أقوى] في نظر الناظرين من الاعتصام بترجيح ظني فهذا منتهى المراد.(20/296)
1201- ومما نذكره في فروع هذا الفصل أنه إذا روى راويان خبرين وكل.(20/297)
ص -187-…واحد منهما [ثقة] مقبول الرواية لو انفرد ولكن في أحدهما مزية ظاهرة في قوة الحفظ والضبط والاعتناء بالوعي فهذا مما يرى أهل الحديث مجمعين على التقديم [فيه].
وهو كما روى عبيد1 الله بن عمر العمري [مع ما رواه أخوه عبد الله2 بن عمر العمري] في سهم الفارس من المغنم3 فقال الأئمة: حديث عبيد الله مقدم وإن كان أخوه عبد الله عدلا فإن بينهما تفاوتا بينا قال محمد بن إسماعيل البخاري: بينهما ما بين الدينار والدرهم والفضل لعبيد الله وهذا وإن ظهر من خدمة الحديث فإذا رجع الأمر إلى العلم فالقول عندي في الخبرين مع اختصاص إحدى الروايتين بالمزية كالقول في اختصاص أحد الخبرين بكثرة الرواة مع الاستواء في الصفات المرعية وقد سبق ذلك مفصلا.
غير أن التمسك بحديث عبيد الله حتم من جهة أن القول متعلق بالتقدير وهو متلقى من توقيف الشارع ولا مجال للقياس فيه والرأي لا يضبط منتهى الغناء والكفاية.
1202- فهذا من المنازل التي يتعين فيها الاستمساك بالخبر ولا نظر لذي الرأي على استرسال كلى وهو موافق لمذهب الشافعي فإن نظرنا إلى الغناء فلا يكاد يخفى أن غناء الفارس يزيد على ضعف غناء الراجل فلا موقف ينتهى [إليه] فيستعمل الرأي كليا ويستعمل الخبر توقيفا ينتهى إليه.
1203- ومما يتصل بذلك [أنه] إذا روى أحد الخبرين ثقة وروى الآخر جمع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العدوي العمري أحد الفقهاء السبعة روى عن أم خالد بنت سعيد بن العاص ولها صحبة وعن أبيه وخاله, وآخرين؛ قال أبو زرعة وأبو حاتم: ثقة. مات سنة "147هـ" له ترجمة في "تهذيب التهذيب" "7/35, 36/71".(20/298)
2 عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم. روى عن نافع وزيد بن أسلم وسعيد بن المقبري. قال أحمد: كان يزيد في الأسانيد, ويخالف, وكان رجلا صالحا. وقال ابن حبان: كان ممن غلب عليه الصلاح حتى غفل عن الضبط, فاستحق الترك. مات سنة "173هـ" له ترجمة في تهذيب التهذيب" "5/285, 286/564".
3 البخاري في "الجهاد" "51" والمغازي "38" ومسلم في "الجهاد" "57" وأبو داود في الجهاد" "143, 147", والترمذي في "السير" "6, 8" وأحمد "2/2".(20/299)
ص -188-…لا يبلغ آحادهم مبلغ راوي الخبر الآخر في الثقة والعدالة فاجتمع مزية الثقة وقوة العدد فمن أهل الحديث من يقدم مزية العدد ومنهم من يقدم مزية الثقة.
والمسألة لا تبلغ مبلغ القطع والغالب على الظن التعلق بمزية الثقة إذا ظهرت فإن الغالب على الظن أن الصديق رضي الله عنه لو روى خبرا وروى جمع على خلافه خبرا لكان الصحابة يؤثرون رواية الصديق.
ومأخذ الكلام في جميع هذه الفنون واحد فليرجع الناظر إلى المعتبر الممهد أصلا وتفصيلا وليميز مواقع القطع من الظن.
مسألة:
في تقديم أحد الخبرين على الآخر بموافقة أقضية الصحابة رضي الله عنهم.
1204- القول في حقيقة هذه المسألة يستدعى مقدمة من كتاب الإجماع فنقول: إن اجتمع علماء العصر على [مذهب] واستمر الإجماع على الشرائط المرعية فلا يبقى للتعلق بالخبر والحالة هذه وقع فإن الخبر إن كان منقولا آحادا فلا خفاء بما ذكرناه.
ولو فرضنا خبرا متواترا وقد انعقد الإجماع على خلافه فتصويره عسر فإنه غير واقع ولكنا على التقدير نقول لو فرض ذلك فالتعلق بالإجماع أولى فإن الأمة لا تجتمع على الضلالة ويتطرق إلى الخبر إمكان النسخ فيحمل الأمر على ذلك قطعا لا وجه غيره ونقطع بهذا.
1205- فإن قيل: الخبر المتواتر النص من الأدلة القاطعة وكذلك الإجماع فلم قدمتم الإجماع؟.
قلنا: لأن الخبر عرضة لقبول النسخ والإجماع لا ينعقد متأخرا إلا على قطع فلا يتصور حصول الإجماع على باطل وتطرق النسخ إلى الخبر ممكن فالوجه حمل الإجماع على القطع الكائن وحمل الخبر على مقتضى النسخ استنادا أو تنبيها على تقدير استثناء والمستحيل حصول الإجماع على حكم مع خبر نص على مناقضته مع الإجماع على أنه غير منسوخ فهذا مما لا يتصور وقوعه حتى يتكلم فيه في تقديم أو تأخير وإنما الكلام في خبر مطلق.
ثم الذي أراه [أن] من ضرورة الإجماع على مناقضه الخبر النص المتواتر أن(20/300)
ص -189-…يلهج أهل الإجماع بكونه منسوخا فهذا قولنا في الإجماع.
1206- أما إذا فرض خبر على شرط الصحة نقله الآحاد وجرت أقضية [أئمة من] الصحابة على مخالفته فكيف الوجه؟
ذهب مالك رحمه الله إلى تقديم ما صار إليه أهل المدينة يعني علماءها وروي عنه في تحقيق ذلك تمسك بأخبار تشير إلى تعظيم المدينة وأهلها فإن صح ذلك فهو ضعيف وإن كان مذهبه النظر في مذاهب العلماء الذين كانوا وإنما أجرى ذكر [أهل] المدينة لتوافر العلماء بها في ذلك الزمن فهذا قريب على ما سيأتي الشر حليه إن شاء الله.
1207- وقال الشافعي رحمه الله: لا نظر إلى الأعمال والأقضية إذا لم يتفق عليها أهل الإجماع والتعلق بالخبر أولى.
ونحن نذكر ما تمسك به الشافعي ثم نذكر بعده المختار عندنا.
قال الشافعي: الحجة في الخبر وما نقل من عمل على خلافه فهو منقول عن أقوام ليست أقوالهم حجة ولا معنى لترك الحجة لما ليس بحجة.
ويمكن أن يعبر عن هذا فيقال: العاملون بخلاف الخبر محجوجون به ولا يقدم قول محجوج بحجة على الحجة.
وقال الشافعي في بعض مجاري كلامه: لو [عاصرت] العاملين بخلاف الخبر لحاججتهم وجادلتهم العين, العين ولا يتعين ذلك بانقراضهم.
وقد يقول: لو وجدت قياسا يخالف أقضية أقوام من الأئمة لتمسكت به ولم أبال بمن ينازعني والخبر مقدم على القياس فإذا قدمت القياس على قولهم فكيف أترك الخبر المقدم على القياس بقولهم؟.
وقال رضى الله عنه: إن كان تقديم أقضية الصحابة لتحسين الظن بهم ولا تجب لهم العصمة فتحسين الظن بخبر الشارع المعصوم [أولى].
1208- والرأي الحق عندنا [في ذلك] يوضحه تقسيم فنقول:
إن تحققنا بلوغ الخبر [طائفة من أئمة الصحابة وكان الخبر] نصا لا يطرق إليه تأويل ثم ألفيناهم يقضون بخلاف مع ذكره والعلم به فلسنا نرى التعلق بالخبر إذ(20/301)
ص -190-…لا محمل لترك العمل بالخبر إلا الاستهانة والإضراب وترك المبالاة أو العلم بكونه منسوخا وليس بين هذين التقديرين لاحتمال ثالث مجال.
[وقد] أجمع المسلمون قاطبة على وجوب اعتقاد تبرئتهم عن القسم الأول فيتعين حمل عملهم مع الذكر والإحاطة بالخبر على العلم بورود النسخ وليس [ما] ذكرنا تقديما لأقضيتهم على الخبر وإنما هو استمساك بالإجماع على وجوب حمل عملهم على وجه يمكن من الصواب [فكأنا] تعلقنا بالإجماع في معارضة الحديث وليس في تطريق إمكان النسخ إلى الخبر غض من قدره عليه السلام وحط من منصبه وقد قدمنا في كتاب الإجماع أن الإجماع في نفسه ليس بحجة ولكن [إجماع] أهله يشعر بصدر ما أجمعوا عليه [عن] حجة.
فهذا قول في قسم وهو: إذا بلغهم الخبر وعملوا بخلافة ذاكرين له.
1209- فأما إذا لم يبلغهم أو غلب على الظن أنه لم يبلغهم فالتعليق بالخبر حينئذ وظني بدقة نظر الشافعي في أصول الشريعة أنه رأى التقديم للخبر في مثل هذه الصورة.
1210- وإن غلب على الظن أن الخبر بلغهم وتحققنا أن عملهم مخالف له فهذا عندي مقام التوقف والبحث فإن لم نجد في الواقعة متعلقا سوى الخبر والأقضية فالوجه التعلق بالخبر وإن وجدنا مسلكا في الدليل سوى الخبر فالتمسك به أولى.
1211- ومما ينبغي أن يتنبه الناظر له: أن مذاهب الصحابة إذا نقلت من غير إجماع فلا نرى التعلق بها وإذا نقلت في معارضة خبر نص على المخالفة التي لا تقبل تأويلا فتعين التعلق بالمذاهب وليس هذا على الحقيقة تعلقا بالمذاهب وإنما هو تعلق بما صدرت المذاهب عنه وما ذكرناه في أئمة الصحابة يطرد في أئمة التابعين وأئمة كل عصر ما لم تقف على خبر.
وبيان ذلك بالمثال: أن مالكا رضي الله عنه يرى تقديم أقضية الصحابة رضي الله عنهم على الخبر مطلقا من غير تفصيل وقد لا نأمن أن يكون بعض تلك الأقضية ممن لم يبلغه الخبر أو بلغه ونسيه.(20/302)
فإذا لم يفصل مالك تبينا أنه لم يكن مطلعا على حقيقة هذا الأصل فلا جرم نقول: إذا روى مالك خبرا وخالفه لم نبل بمخالفته من حيث لا نثق بتحقيق منه في.(20/303)
ص -191-…مأخذ الباب ولذلك ثبت خيار المجلس بما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر عن الرسول عليه السلام ولم يقل مالك بخيار المجلس.
1212- ومما يجب تنزيله على هذا القسم: أن جمعا لو بلغهم خبر ثم صح عندنا عملهم بخلافة بعد تطاول زمن وجوزنا ذهولهم عنه ونسيانهم له فليخرج ذلك على التقاسم في تطاول غلبة الظن كما سبق.
وما ذكرناه في جمع فهو في المجتهد الواحد الموثوق بعدالته وأمانته بمثابته في جمع.
1213- ولو صح خبر وعمل به جمع ولم يعمل به جمع والفريقان ذاكران الخبر والمسألة مفروضة حيث لا احتمال إلا النسخ.
فالذي أراه تقديم عمل المخالفين فإنه لا يحمل أمرهم إلا على ثبت وتحقيق وعمل العاملين يحمل على التمسك بظاهر الخبر.
1214- وليعلم الناظر إذا انتهى إلى هذا المقام أن الكلام في هذه المضايق ينتهي إلى حال يعسر التصوير فيها فلا ينبغي للإنسان أن يسترسل في قبول كل ما يتصور عليه.
ومن هذا القبيل ما انتهينا إليه فإنه يبعد قطع قوم بالمخالفة مع تصحيح الخبر وقطع آخرين بالعمل فلا بد أن يشيع المخالفون ما عندهم ويبحث عنه العاملون.
[نعم قد يتفق عمل العاملين في صقع من غير غوص وتحقيق وبحث عن حالة المخالفين].
فهذا منتهى القول في ذلك وهو مقدمة غرضنا في الترجيح.
1215- فإذا تعارض خبران صحيحان وعمل بأحدهما أئمة من الصحابة.
فقد رأى الشافعي ترجيح ذلك الخبر على الخبر الذي [عارضه و] لم يصح العمل به واستشهد بما رواه أنس1 في نصب الغنم إذ عارضه ما رواه علي2 رضي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أنس هو: ابن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي, أبو حمزة. خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم حضرا وسفرا منذ قدم المدينة إلى أن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وغزا معه ثمان غزوات. مات سنة "93". له ترجمة في: الإصابة "1/84" وشذرات الذهب "1/100", والعبر "1/107".
2 سبق تخريجه.(20/304)
ص -192-…الله عنه فيها وعمل الشيخين يوافق ما رواه أنس [فقال رضي الله عنه أقدم حديث أنس].
وهذا مما يجب التأني [فيه] فليس ما استشهد به مما يقال فيه إن عمل الصحابة خالف خبرا إذ لم يصح عندنا أنهم بلغهم حديث على رضي الله عنه ثم لم يعلموا به ولكن قد يظن ذلك ظنا.
1216- فإن قيل: فما الوجه والحالة كما وصفتم؟.
قلنا: نرى الحديثين متعارضين فإن معارضة أحدهما الثاني ليس مما يسقطه ترجيح ظني في أحد الجانبين ثم لو صح أنه بلغهم الحديثان ثم عملوا بأحدهما فليس هذا من الترجيح ولكنه يتعلق بالقسم المتقدم وهو أن أقضية أئمة الصحابة بخلاف الخبر مع العلم به والذكر له كيف الوجه فيه وقد تقدم ما فيه بلاغ.
1217- ومما يجب التفطن له أن النصب مقادير ولا مجال فيها للرأي والخبران وإن رأينا تعارضهما فيخرج وجوب العمل بما عمل به الصحابة رضي الله عنهم على الرأي المتقدم في أنا إذا عدمنا مسلكا للحكم ولم نظفر إلا بما يقع ترجيحا لا استقلال له ولو ثبتت الأدلة فالتمسك بما لا يستقل أولى من تعريه الواقعة عن حكم.
فالوجه إذا التعلق بحديث أنس لما ذكرنا آخرا والله أعلم.
مسألة:
1218- إذا تعارض خبران نصان وانضم إلى أحدهما قياس يوافق معناه [الخبر] فقد اختلف العلماء في ذلك:
فالذي ارتضاه الشافعي أن الحديث الذي وافقه القياس مرجح على الآخر واستدل بأنه قال إذا اختص أحد الحديثين بما يوجب تغليب الظن تلويحا فهو مرجح على الآخر ومجرد التلويح لا يستقل دليلا فإذا اعتضد أحد الحديثين بما يستقل دليلا فلأن يكون مرجحا أولى.
1219- وقال القاضي: إذا تعارض الخبران كما ذكرناه في تصوير المسألة تساقطا ويجب العمل بالقياس والمسلكان يفضيان إلى موافقة حكم القياس ولكن الشافعي يرى متعلق الحكم بالخبر المرجح بموافقة القياس والقاضي يرى العمل بالقياس وسقوط الخبرين.(20/305)
ص -193-…واستدل القاضي بأن قال: الخبر مقدم في مراتب الأدلة على القياس [فيستحيل] ترجيح خبر على خبر بما يسقطه الخبر ومن أحاط بمراتب الأدلة لم يتعلق بالقياس في واقعة فيها خبر صحيح فإن القياس مع الخبر الصحيح المستقل الواقع نصا في حكم اللغو الذي لا حاجة إليه وما يقدم على القياس إذا خالفه فهو مقدم عليه أيضا إذا وافقه فالقياس إذا لا وقع له مع ثبوت الخبر والتعارض يوجب سقوط التعلق بالخبرين فإذا سقطا فالتعلق بعد سقوطهما.
1220- والقول في ذلك عندي لا يبلغ مبلغ الإفادة ويجوز لمن ينصر نص الشافعي في ذلك أن يقول: إنما يقدم الخبر إذا لم يعارضه خبر فإذا تعارضا افتقر أحدهما إلى التأكيد بما يغلبه على الآخر.
فهذا منتهى القول ولا قطع والعمل بما اجتمع عليه الخبر والنظر.
ونبني على هذا مسائل نسردها ونبين الحق فيها منها:
[مسألة]:
1221- أنه إذا تعارض خبران واعتضد أحدهما بقياس الأصول وكان أقرب إلى القواعد الممهدة.
قال الشافعي: يقدم ما يوافق القواعد.
ومثال ذلك: الخبران المتعارضان [في صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع فالذي رواه ابن عمر فيه ترددات كثيرة والترددات تخالف نظم الصلاة ورواية خوات ابن جبير ليس فيها حركات وترددات فرأى الشافعي رضي الله عنه تقديم خبر خوات وهذا يتصل تحقيقه بموافقة القياس لإحدى الروايتين ومخالفة الأخرى فكان العمل بموجب القياس أولى ثم يئول الكلام إلى أن رواية خوات مرجحة بالقياس أم الروايتان متعارضتان والتعلق بالقياس بعدهما؟
1222- ويجري في هذه الواقعة نوعان من النظر: أحدهما: أنه لا يمتنع جريان الصلاتين الموصوفتين في الروايتين.
وقد مال الشافعي في بعض أجوبته إلى تجويزهما جميعا ثم آثر رواية خوات من طريق التفصيل وهذا متجه حسن فإنه يبعد أن تختلف روايتان في واقعة واحدة اختلاف رواية ابن عمر وخوات.(20/306)
ص -194-…وإذا روى عدلان لفظين من غير تاريخ فالظن بهما الصدق ويقدر [تقدم] أحدهما [وتأخر] الآخر فإذا اعتاص معرفة ذلك منهما قيل: تعارضا.
فأما إذا تعلقت الروايتان بحكاية واحدة وظهر التفاوت في النقل فالوجه أن يحمل الأمر على جريانهما جميعا ويرد الترجيح إلى الفضيلة فهذا وجه.
ومما يتعلق بما نحن فيه أنا إذا حملنا الرواية المختارة على الجواز ولم نجوز غيرها فليس في روايتنا منع لما رواه ابن عمر فإذا لا تعارض في الحقيقة إلا من وجهة واحدة وهي أن يدعي الاتحاد وتنسب إحدى الروايتين إلى الوهم والزلل ثم لا يتعين لذلك أحدهما فيتمسك بالقياس وهذا بعيد عما تعبدنا به من تحسين الظن بالرواة والمختار تجويز ما اشتملت عليه الروايتان ورد الأمر إلى التفصيل.
1223- وقد ذكر القاضي وجها في تقديم رواية ابن عمر رضي الله عنهما وهو أنه قال: إنها نافلة عن المألوف في القواعد فيجب حملها على تثبيت الناقل والرواية الأخرى ليست كذلك وقد يشعر بعدم التثبيت وبناء الأمر مطلقا على ما عهد في الشرع.
وهذا غير سديد وهو تحويم على تخصيص عدل بوهم وزلل بموافقة الأصول فيما رواه ثم [في] رواية خوات أنواع من الإثبات لا تعهده في القوانين والقواعد فلا وجه لما ذكره.
مسألة:
1224- ومنها: إذا تعارض خبران ووافق أحدهما حكم اقترن من كتاب الله تعالى فقد رجح بعض العلماء الخبر الذي وافقه حكم القرينة.
ومثال ذلك الخبران المتعارضان في العمرة فيروى أن النبي عليه السلام قال: "الحج جهاد والعمرة تطوع"1 وعارضه ما روى أنه عليه السلام قال: "الحج والعمرة نسكان فرضان لا يضرك بأيهما بدأت"2 ثم خبر الفريضة وافق حكم القرآن في كتاب الله تعالى فإنه قال: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}3.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(20/307)
1 ابن ماجه "2989" من طريق مندل والحسن وهما ضعيفان, والبيهقي "4/148", والطبراني "11/442", والمجمع "3/205", وعزاه إليه في "الكبير" من طريق محمد بن الفضل, وهو كذاب.
2 الدارقطني "2/284".
3 آية "169" سورة البقرة.(20/308)
ص -195-…وهذا فيه نظر فإن إتمام الحج يتعرض لفرضه ابتداء لا في الحج ولا في العمرة وهما مقترنان وفاقا في وجوب الإتمام بعد الشرع فيهما ولم نذكر هذا إلا أن الشافعي ذكره فتيمنا بإيراد كلامه.
مسألة:
1225- إذا تعارض خبران ولم يترجح احدهما على الثاني ولم يتطرق إلى واحد منهما نسخ فيما يعلم أو يظن وعريت الواقعة عن دلالة أخرى فحكمهما عند الأصوليين الوقف عن الحكم فيها وإلحاق الصورة بالوقائع كلها قبل ورود الشرائع وهذا حكم الأصول.
1226- ولكن ما أراه: أن الشريعة إذا كانت متعلقة بالمفتين ولم يشغر عنهم [الزمان] فلا يقع مثل هذه الواقعة [إذ] لو فرض تجويز ذلك لوجب في حكم العادة وقوعه لا محالة فإذا لم يقع مثله في الأزمان على تطاولها وقد اشتملت على كل ممكن على التكرر [فارتقاب] واقعة شاذة لا نظير لها ولا مداني محال في حكم العادة وسيأتي شرح ذلك في كتاب الفتوى.
وإن تحقق التعارض والتساوي بين النصين وانحسم مسلك التأويل ووجدنا للحكم متعلقا من طريق القياس [أو الاستدلال] وآخر مسلكه استصحاب الحال فهذا مما تقرر القول فيه قبل من أن الخبر الذي يوافقه مرجح به أو الخبران يتساقطان بالتعارض والمعنى مجرد للتعلق به.
فصل: في تعارض الظواهر.
1227- [كل ما] قدمناه في تعارض النصوص.
وأما إذا تعارض ظاهران يتطرق التأويل إلى كل واحد منهما فتتسع مسالك الترجيح فإن مبنى التعلق بالظاهر على غلبات الظنون وهي حرية بالترجيحات.
فإذا تعارضا وتأيد أحدهما بمزية ثقة في الراوي أو العدد في الرواة فالوجه التمسك بما تأيد بهذه الجهات وليس كالنصين فيما قدمناه فإنا تحققنا [من] طرق الماضين أنهم في غلبات الظنون كانوا يبغون ترجيح ظن على ظن.(20/309)
ص -196-…وإنما توقفنا في تعارض النصوص من جهة أن معارضة النص بالنص يوهي التعلق به واقتضاؤه إياه يزيد على ما يتعلق به الترجيح وأيضا فإنا لم نتحقق مثالا في تعارض النصيين مع ترجيح أحدهما بمزية البينة والعدد ولم ينقل لنا مسلك الأولين في مثل ذلك حتى نتخذه معتبرا.
[وأما ما] يتعلق بالظنون [فقد] استبنا على قطع استرسال الأولين في الاستمساك بما يتضمن مزية في تغليب الظن فإذا تعارض ظاهران ولم يكن أحدهما في الثبوت والتعرض للتأويل بأولى من الثاني ولم يتطرق إلى أحدهما ما يوجب تغليب الظن فتعارضهما والحالة هذه كتعارض النصين على ما تقدم.
مسألة:
1228- إذا تعارض ظاهران أحدهما من الكتاب والآخر من السنة فقد اختلف أرباب الأصول.
فقال بعضهم: يقدم كتاب الله تعالى وقال آخرون: تقدم السنة وقال آخرون: هما متعارضان.
1229- فأما من قدم الكتاب فمتعلقه قول معاذ1 إذ قال: "أحكم بكتاب الله فإن لم أجد فبسنة رسول الله فإن لم أجد اجتهد رأيي"2 واشتهر في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الابتداء بالكتاب ثم طلب السنة إن لم يجدوا متعلقا من الكتاب.
1230- ومن قدم السنة احتج بأن السنة هي المفسرة للكتاب وإليها الرجوع في بيان مجملات الكتاب وتخصيص ظواهره وتفصيل محتملة.
1231- والصحيح عندنا الحكم بالتعارض فإن الرسول عليه السلام ما كان يقول من تلقاء نفسه شيئا وكل ما كان يقول فمستنده أمر الله تعالى وما ذكره معاذ فمعناه أن ما يوجد فيه نص من كتاب الله تعالى فلا يتوقع فيه خبر يخالفه فمبني الأمر فيه على تقديم الكتاب ثم آي الكتاب لا تشتمل على بيان الأحكام والأخبار أعم وجودا [منها] ثم طرق الرأي لا انحصار لها فجرى الترتيب منه بناء على هذا في الوجود.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سبقت ترجمته.
2 سبق تخريجه.(20/310)
ص -197-…ونحن فرضنا المسألة في ظاهرين ليسا نصين وكذلك ما ادعاه من ابتدار الصحابة الكتاب فهو منزل على ما ذكرناه.
فأما كون السنة مفسرة فلا تعلق [فيه] فإنا نقول أن روى تفسيرا للكتاب فلا خلاف في قبوله وتنزيل الكتاب عليه ومعظم التفاسير منقولة آحادا وليس هذا من غرضنا وكذلك لو كان الخبر الذي نقله الأثبات نصا في معارضه ظاهر فالنص مقدم على الظاهر من الكتاب والسنة.
وقد ذكرنا هذا في تخصيص العموم وأشرنا إلى خلاف فيه والذي ذكرناه الآن هو المختار.
1232- وقال القاضي رحمه الله: إن تعارض ظاهر خبر نقله الآحاد فهما متعارضان وهذا لست أراه كذلك فإن الظاهرين متساويان في تطرق التأويل إلى كل واحد منهما والكتاب يختص [بثبوته على جهة القطع] ولا أعرف خلافا [أنه] إذا تعارض ظاهران من الأخبار أحدهما منقول تواترا والآخر منقول آحادا فالمتواتر يقدم فليكن الأمر كذلك في تقديم الكتاب على السنة.
مسألة:
1233- قال الله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ}1 الآية وهذه الآية من آخر ما نزل ولا خلاف أنها ليست منسوخة.
وقد تعلق مالك رحمه الله بموجبها ونزل مذهبه عليها فحرم ما اقتضت الآية تحريمه وأحل ما عداه ورأى الشافعي رحمه الله التعلق بأخبار نقلها الآحاد وترك موجب الآية لها.
منها: أنه عليه السلام نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير2 وحرم الفواسق3 وحرم الحمر الأهلية4 والأخبار في تحريمها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "145" سورة الأنعام.
2 الترمذي "1477", وأحمد "1/147, 194, 224, 289", والبيهقي "1/25", "5/338", وابن شيبة "5/399", والحاكم "2/40".
3 البخاري في "الصيد" "7", ومسلم في "الحج" 71, 73", والترمذي في "الحج" "21" والنسائي في "المناسك" "116, 117", وأحمد "1/257".(20/311)
4 البخاري في "الذبائح" "28", ومسلم في "الصيد" "33, 25, 27, 30, 31, 37" والترمذي في "النكاح" "29", والصيد "9", والأطعمة "6" والنسائي في "الصيد" "31" وابن ماجه في "الذبائح" "13" وأحمد "2/21".(20/312)
ص -198-…بعد التحليل في الصحاح.
وتقديم أخبار الآحاد على نص الكتاب مشكل في غير محل الإجماع وليس القرآن في مرتبة الظواهر في هذا الغرض ولكنه يشتمل على النفي والإثبات والإبقاء والاستثناء وهذا أبعد في التأويل من الأخبار التي رويت في معرض المناهي.
وصيغ النهي ليست نصوصا في التحريم والتنزيه غالب في كثير من المطعومات.
1234- والذي اعتمده الشافعي في الكلام على الآية تنزيلها على [سبب] في النزول يدل عليه ما قبل الآية التي فيها الكلام وما بعدها وذلك أنه قال: زعمت اليهود أن الشحوم محرمة وذكر تفاصيلهم في البحيرة والسائبة ونسبوا النبي عليه السلام إلى أنه بغير حكم الله تعالى من تلقاء نفسه وأباح طوائف من الكفار الميتة وجادلوا المسلمين فيها وكانوا يقولون: تستحلون ما تقتلون ولا تستحلون ما يقتله الله تعالى وأباح آخرون الخنزير والدم فأنزل الله تعالى أنه لم يحرم إلا ما أحلوه وأنهم مراغمون لما أنزل الله تعالى على نبيه عليه السلام وتجري الآية على مذهب من يقول لمن يخاطبه لم تأكل اليوم حلاوى؟ فيقول المجيب: لم آكل اليوم إلا الحلاوى.
1235- وهذا [استكراه] عندي في الكلام على الآية ولكن يعضده عندي ما هو مجمع عليه في أمور ومذهب مالك مسبوق بالإجماع فيها فإنا لا نشك في اجتناب أصحاب النبي عليه السلام أكل الحشرات وغيرها واعتقادهم أنها بمثابة المحرمات وكذلك الخمر محرمة وليس لها ذكر في هذه الآية ونزولها مسبوق يتحريم الخمر فإذا ظاهر الآية متروك بالإجماع ولا يعتد [مع تحققه] بخلاف مالك بعده فينتظم من ذلك الآية على ما ذكره الشافعي.
مسألة:
1236- إذا ورد عام وخاص في حادثة وتسلط الخاص [على العام] إجماعا وورد مثله عام وخاص فالوجه تنزيل العام على موجب الخاص.
ومثال موضع الخلاف والوفاق ما نصفه الآن أما المتفق عليه فتنزيل قوله(20/313)
ص -199-…قوله عليه السلام: "في الرقة ربع العشر"1 على قوله: "ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة"2 والحديث الأول يعم القليل والكثير والحديث الثاني يخص الزكاة بالنصاب فهذا متفق عليه وسببه أن المقيد من الخبرين نص في نفي الزكاة عما قصر عن خمس أواق والخبر الأول ظاهر غير مقصود والغالب على الظن أن المراد بيان قدر الزكاة.
1237- فأما ما أختلف العلماء فيه وهو [في] معنى ما وصفناه فقوله عليه السلام: "فيما سقت السماء العشر" مع قوله: "ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة"3.
فلم يعتبر أبو حنيفة النصاب وتعلق بظاهر قوله عليه السلام: "فيما سقت السماء العشر"4 وقال الشافعي أقصى الممكن منه تسليم ظاهره.
على أن الأمر على خلاف ذلك فإنه لا يخفى على الفاهم أن الغرض من مساق الحديث الفصل بين العشر وبين نصف العشر فإنه عليه السلام قال: "فيما سقت السماء العشر وفيما سقى بنضح أو دالية نصف العشر"5 وخمسة أوسق نص فلا عذر لأبي حنيفة في تركه.
وضرب الشافعي ما [في الورق] من الخبرين مثالا ورأى ما ذكره مسلكا قطعيا وألحق الشافعي بهذا الفن قوله عليه السلام: "في أربعين شاة, شاة"6 مع قوله: "في سائمة الغنم الزكاة".
وهذا دون القسم الأول فإن اشتراط السوم متلقى من المفهوم ونفي الزكاة عما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مالك في "الزكاة" باب "11", حديث "23".
2 مسلم في "الزكاة" " "6" والنسائي "5/36" والبيهقي "4/84" وابن خزيمة "2298, 2299".
3 البخاري في "الزكاة" "4/32", والبيوع "83" والمساقاة "17" ومسلم في "الزكاة" "1,3, 4, 6" والبيوع "71", وأبو داود في "الزكاة" "2" والبيوع "20, 98, 296" والترمذي في "الزكاة" "7", والنسائي في "5" وابن ماجه في "6", والدارمي في "الزكاة "1, 2", وأحمد "2/92, 237, 402".
4 سبق تخريجه.
5 سبق تخريجه.
6 مالك في "الزكاة" حديث "23".(20/314)
ص -200-…دون خمسة أوسق منصوص عليه على وجه لا يقبل التأويل.
مسألة:
- 1238 إذا تعارض عمومان من الكتاب [أو السنة] فظاهرهما التناقض والتنافي مثل قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}1 فهذا ظاهر في وضع السيف فيهم حيث يثقفون.
وقال في آية أخرى حَتَّى: {يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ}2 فظاهر الآية أخذ الجزية من كل كافر كتابيا كان أو وثنيا.
وقال عليه السلام: "خذ من كل حالم دينارا"3.
وظاهر هذا جواز أخذ الجزية من أصناف الكفار من غير تفصيل.
وقال عليه السلام: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله"4 وظاهر هذا أن الجزية لا تؤخذ وأن ليس بيننا وبين الكفار إلا السيف أو الإسلام.
1239- وقال بعض الفقهاء فيما ذكرناه وأمثاله: الوجه الجمع بين الظاهرين في المقدار الممكن فنأخذ الجزية من أهل الكتاب لآية الجزية ونضع السيف فيمن ليس متمسكا بكتاب ولا شبهة كتاب لظاهر الآية الواردة في القتل.
وزعم هؤلاء أن هذا يتضمن استعمال مقتضى كل واحدة من الآيتين وكذلك القول في الخبرين وهؤلاء يرون تصرفا في الظواهر مستقلا بنفسه غير محتاج إلى إقامة دلالة.
1240- وهذا مردود عند الأصوليين فالظاهر إذا تعارضهما إلا أن يتجه تأويل وينتصب عليه دليل كما أوضحنا سبيل ذلك في كتاب التأويلات.
وما ذكره الفقهاء من الجمع احتكام لا أصل له ولو لم يقم عليه دليل لكان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "5" سورة التوبة.
2 آية "29" سورة التوبة.
3 الإرواء "5/95/1254" وعزاه إلى الشافعي وقال: صحيح.
4 البخاري في "الإيمان" "17" ومسلم في "الإيمان" "32" وأبو داود في "الزكاة" "1" والترمذي في "الإيمان "1, 2", والنسائي في "الزكاة" "3", وابن ماجه في "الفتن" "1" وأحمد "1/11, 78" "2/314".(20/315)
ص -201-…ذلك الممسك متضمنا تعطيل الظاهرين وإخراجهما من حكم العموم من غيره دليل وليس أحد الظاهرين أولى بالتسليط على الثاني من الآخر وكل عموم خص فلا بد من عضد تخصيصه بدليل ونحن إنما نخص الجزية بالكتابيين بأخبار وآثار مسطورة في كتب الفقه.
والغرض من هذا الفصل إجراء الظاهرين على تعارضهما من غير أن يجعل أحدهما دليلا في تخصيص الثاني ثم يجعل الثاني دليلا في تخصيص الأول وهذا لا سبيل إليه.
ولكن اتجه في كل ظاهر تخصيص افتقر ذلك التخصيص إلى دليل غير الظاهرين وإن لم يتجه تعلقنا بالترجيح إن وجدناه فإن لم نجد نزلنا عن التعلق بالظاهرين.
مسألة:
1241- إذا تعارض ظاهران وأحدهما وارد على سبب خاص والثاني غير مطلق وارد على سبب.
أما من قال بتخصيص اللفظ العام بمورده فلا شك أنه يخصصه به.
وأما من رأى التمسك بالعموم دون السبب فإذا تعارض عمومان كما وصفناه والتفريع على أن الاعتبار بعموم اللفظ فإنه يوهيه ويحطه عن رتبة عموم اللفظ المطلق والترجيح يغلب على الظن من منشأ الدليل.
واللفظ العام يغلب على الظن حمله على مقتضى شموله فإذا عارضه لفظ آخر ينحط عنه في غلبة الظن آخر عن الأول.
وهذا هو السر الأخفى في الترجيحات فلا وجه للترجيح من طريق النظر في النصوص إلا أن يحمل ذلك على عمل المجمعين والظاهر يقوى وقع الترجيح فيها وهو متضح في طريق النظر فإن المتعلق فيه غلبة الظن وقد تحقق من الأولين في تعارض الظواهر الاستمساك بالأظهر فالأظهر.
مسألة:
1242- إذا تعارض ظاهران وفي أحدهما ما يقتضي التعليل في [صيغة التعميم] فهو مرجح على العام الذي عارضه وليس فيه اقتضاء التعليل والسبب فيه أن التعليل.(20/316)
ص -202-…في صيغة العموم من أقوى الدلالات على ظهور قصد التعميم حتى ذهب ذاهبون إلى أنه نص ممتنع تخصيصه فإن قدر نصا فلا شك في تقديمه على الظاهر المعرض للتأويل وإن اعتقد ظاهرا فهو مرجح على معارضه لاختصاصه بما يوجب تغليب الظن.
1243- وكشف الغطاء في هذا عندنا وهو مما أراه سر هذه الأبواب ولم نسبق بإظهاره فنقول إذا صدر من الشارع كلام غير مقيد بسؤال ولا حكاية حال ولاح قصد التعميم من إجرائه الحكم الذي فيه العموم مقصودا [لكلامه] [فما] يقع كذلك فاللفظ في المتماثلات نص وليس من الظواهر والضابط فيه أنما لا يخلو عن ذكر المتكلم وعلمه وقت قوله واللفظ في الوضع يتناوله وقد لاح بانتفاء التقييدات وقرائن الأحوال قصد التعميم فلو تخيل متخيل قصر اللفظ على بعض المسميات المتماثلة لكان ذلك عندنا خلفا وتلبيسا وإنما يسوغ الخروج عن مقتضى اللفظ وضعا فيما يجوز تقدير ذهول المتكلم عنه وهذا في حكم التعميم بناء عظيم.
وتمام الغرض فيه بذكر معارض لذلك على المناقضة فنقول مستعينين بالله تعالى:
1244- لو ظهر لنا خروج معنى عن قصد المتكلم وكان سياق الكلام يفضي إلى تنزيل غرض الشارع على قصد آخر فلست أرى التعلق بالعموم الذي ظهر فيه خروجه عن قصد الشارع وهو كقوله عليه السلام: "فيما سقت السماء العشر وفيما سقى بنضح أو دالية نصف العشر"1 فالكلام مسوق لتعيين [العشر ونصف العشر فلو تعلق الحنفي بقوله عليه السلام: "فيما سقت السماء العشر"، ورام تعليق العشر بغير الأقوات فلسنا نراه متعلقا بظاهر فهذا طرف.
1245- ولو نقل لفظ ولم يظهر فيه قصد التعميم ولا تنزيل الكلام على مقصود آخر فهذا هو الذي أراه ظاهرا وهو الذي يتطرق التخصيص إليه.
1246- وقد رأى القاضي التعلق بالقسم الأول الذي أخرجته عن الظواهر على رأي المعممين ثم قال: هذا يعارضه أدنى مسلك في الظن ويتسلط عليه التأويل والتخصيص والرأي عندي فيه قد قدمته.(20/317)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سبق تخريجه.(20/318)
ص -203-…والدليل عليه: أن الشارع إذا كان مقصوده بيان العشر ونصف العشر لو أخذ يفصل الأجناس وهو يبغي غيرها يعد ذلك تطويلا نازلا عن الوجه المختار في اللغة العالية فتقدير التعميم يشير إلى أنه [لو لم] يرد العموم لفصل الأجناس ولو فصلها لكان مائلا عن الوجه الأحسن في النظم.
وإذا تمهد هذا الأصل فالذي ذكره الأصحاب من أن علة الشارع لا تنقض محمول على تقدير ما قصد التعميم فيه نصا فليفهم الناظر ذلك وليقف عليه عند هذا وقفة باحث.
مسألة:
1247- وإذا تعارض ظاهران وقد تطرق التخصيص إلى أحدهما فالمذهب الذي ذهب إليها المحققون أن الذي لم يتطرق إليه تخصيص مرجح.
فأما المعتزلة فإنهم قضوا بأن اللفظ الذي خص في بعض المسميات صار مجملا في الباقي ولا يعارض المجمل ظاهرا.
وأما أهل الحق وإن لم يحكموا بالإجمال فإنهم يرون تعميم اللفظ في الباقي أضعف في حكم الظن من اللفظ الذي لم يجر فيه تخصيص فإذا لاح وجه في غلبة الظن من منشأ ظهور الظاهر كان ذلك ترجيحا مقبولا.
مسألة:
1248- إذا تعارض ظاهران أو نصان وأحدهما أقرب إلى احتياط فقد ذهب أكثر الفقهاء إلى أن الأحوط مرجح على الثاني وزعموا أن الذي يقتضيه الورع وإتباع السلامة هذا واحتجوا بأن قالوا: اللائق بحكمة الشريعة ومحاسنها الاحتياط فإذا تعارض لفظان غلب على الظن أن الذي نقله صاحب الاحتياط صدق وكأن القواعد تغلب على الظن ذلك وتؤازر الرأي في ذلك.
1249- وقال القاضي: لا مستروح إلى هذا ولا معنى للترجيح بالسلامة وما ذكره هؤلاء من شهادة الأصول وإثارتها تغليب الظن يعارضه أن العدل الذي نقل الثاني لا يتهم ولا يظن به العدول عن قاعدة الاحتياط إلا بثبت واختصاص بمزية حفظ.(20/319)
ص -204-…وقد يتخيل أن ما جاء به الأخر بناه على ما [رآه] من ظاهر الاحتياط وحمل عليه نظم لفظه من غير ثبت في النقل ثم قال القاضي: لا وجه للترجيح وإن انقدح ما ذكرناه آخر فيما لا يوافق الاحتياط انخرمت الشهادة كما ذكرناها أولا فالوجه التعارض.
مسالة:
1250- إذا تعارض لفظان متضمن أحدهما النفي ومتضمن الثاني الإثبات فقد قال جمهور الفقهاء: الإثبات مقدم.
وهذا يحتاج إلى مزيد تفصيل عندنا: فإن كان الذي [نقله النافي] إثبات لفظ عن الرسول عليه السلام مقتضاه النفي فلا يترجح [على ذلك] اللفظ الذي متضمنه الإثبات لأن كل واحد من الراويين متثبت فيما نقله.
وهو مثل أن ينقل أحدهما أن الرسول عليه السلام أباح شيئا وينقل الثاني أنه قال لا يحل وكل ناف في قوله مثبت.
فأما إذا نقل أحدهما قولا أو فعلا ونقل الثاني أنه لم يقل ولم يفعل فالإثبات مقدم لأن الغفلة تتطرق إلى المصغي المستمع وإن كان محدا والذهول عن بعض ما يجري أقرب من تخيل شيء لم يجر له ذكر.
مسألة:
1251- إذا تعارض ظاهران أو نصان أحدهما يوافق المعروف المعتاد والآخر ما جرى به العرف فالقول في هذا كالقول في موافقة أحد المنقولين للاحتياط ومخالفة الآخر إياه وقد مضى فيه قول بالغ.
والمختار التعارض في المسألتين.
فهذا الذي ذكرناه كلام بالغ في ترجيح الألفاظ النصوص منها والظواهر ومن أحاط بها وأحكم أصولها لم يخف عليه مدرك الكلام فيما يرد عليه من أمثالها.(20/320)
ص -205-…باب: في ترجيح الأقيسة.
1252- هذا الباب هو الغرض الأعظم من الكتاب وفيه تنافس القياسون وفيه أتساع الاجتهاد وهو يستدعي تجديد العهد بمراتب الأقيسة فنقول:
المرتبة العليا المعدودة من مسالك القياس ما يقال: إنه في معنى الأصل وقد سبق تأصيله وتفصيله وتقدم القول في أنه: هل يعد من الأقيسة أو يعد من مقتضيات الألفاظ وهو على كل حال مقدم على ما بعده.
والسبب فيه أنه ملتحق بأصله قطعا والتحاقه به مقطوع غير مظنون ولا شك في تقديم مراتب العلوم على درجات الظنون ثم يلي ذلك من قياس المعنى ما يطرد وينعكس ويليه القياس الذي يسمى قياس الدلالة كما سبق وصفه ويلي ذلك قياس الشبه فأما ما يعلم فلا ترتيب فيه.
مراتب قياس المعنى.
1253- وأما قياس المعنى فهو على مراتب لا يضبطها ضابط فإن مسالك الظنون لا يتأتى حصرها وهي وإن كانت منحصرة من جهة تعيين مناسبتها لأصولها الشريعة فلا يتأتى للناظر الوصول إلى ضبطها بعد وربطها بحد ولكنا نحرص على تقريب الأمور والإشراف على ما يكاد أن يكون تشوفا إلى الضبط ونتقي فيما نحاوله مصالح لا نرى تقدير ها مأخذ الأحكام ونحاذر فيها الوقوع في منخرق مذهب مالك ومتسع مسلكه المفضى إلى الخروج عن الحصر والضبط.
ثم قد ذكرنا في الاستدلال طرفا من ذلك ونحن نعيده ونزيده تقريرا وتقريبا فنقول:
1254- إذا وجدنا أصلا استنبطنا منه معنى مناسبا للحكم فيكفي فيه ألا يناقضه أصل من أصول الشريعة ويكفي في الضبط فيه استناده إلى أصل متفق الحكم [ومرجوعنا] في ذلك وجداننا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مسترسلين في استنباط المصالح من أصول الشريعة من غير توقع وقوف عند بعضها.
1255- فأما المعنى الذي لا نجد له أصلا ولا مستندا فهو الذي سميناه الاستدلال ونحن نرى التعلق به كما مهدنا القول فيه.(20/321)
ص -206-…ولا يجوز التعلق عندنا بكل مصلحة ولم ير ذلك أحد من العلماء ومن ظن ذلك بمالك رضي الله عنه فقد أخطأ فإنه قد اتخذ من أقضية الصحابة رضي الله عنهم أصولا وشبه بها مأخذ الوقائع فمال فيما قال إلى فتاويهم وأقضيتهم فإذا لم ير الاسترسال في المصالح ولكنه لم يحط بتلك الوقائع على حقائقها وهذا كبنائه قواعد على سيرة عمر رضي الله عنه في أخذه شطرا من مال خالد وعمرو وقد قدر ذلك تأديبا منه.
وهذا زلل فإنه لا يمتنع أنه رآهما آخذين من مال الله تعالى ما لا يستحقان أخذه على ظن وحسبان وكان يرعى طبقة الرعية بالعين الكالئة والأليق بشهامته وإيالته أن نظره الثاقب كان بالمرصاد لما يتعديان فيه الحدود عامدين أو خاطئين إذ كانا موليين على مال الله تعالى وإذا أمكن ذلك وهو الظاهر فحمله على التأديب لا وجه له ولو صح عنه أخذ مال رجل غير متصرف في مال الله تعالى لكان يظهر ما تخيله مالك.
وكذلك كل واقعة ربط مالك أصلا من أصوله بها فإنه لا يرى ذلك الأصل استحداث أمر وهو عند الباحثين ينعطف على أبلغ وجه إلى قواعد الشريعة.
فخرج مما ذكرناه أن مالكا ضم وقائع الصحابة إلى الأمور الظاهرة من الشريعة ولم يظن بهم افتتاح أمر من عند أنفسهم ولكنه قال: الأخبار [منقسمة] إلى ما نقلت صريحا وإلى ما فهمنا ضمنا فإنا لا نظن بأئمة الصحابة استقلالهم بأنفسهم في تأسيس أصول فهذا بيان مذهبه.(20/322)
1256- ونحن نرى الاقتصار في مآخذ الأحكام على أصول الشريعة وأقضية الصحابة محمولة عليها ولا نتخيل أخبارا استندوا بها وسكتوا عن نقلها مع علمنا بأنهم كانوا يبرئون أنفسهم عن الاستقلال ويعضدون ما يحكمون به بما يصح عندهم من أخبار الرسول عليه السلام وهذا وجه انفصال أحد المذهبين عن الثاني ثم الاستدلال المقبول هو المعنى المناسب الذي لا يخالف مقتضاه أصلا من أصول الشريعة كما ذكرناه في المعنى المستنبط من الأصول ويظهر أثر ذلك بضابط في النفي والإثبات وهو أن كل معنى لو أطرد جر طرده حكما بديعا لم يعهد مثله في الزمان الأطول فيدل خروج أثره عن النظير على خروج معناه المقتضى عن كونه معتبرا.
والدليل عليه أنه لو كان معتبرا لوجب في حكم العادة القطع بوقوع مثله في.(20/323)
ص -207-…الزمن المتمادي وبمثل هذا المسلك قطعنا [بأنه] لا تخلو واقعة عن حكم الله تعالى وإذا كان أثر المعنى لا يعدم نظيرا قريبا ولم يقتض طرد المعنى مخالفة أصل من الأصول فهو استدلال مقبول معمول به.
وبيان ذلك بالمثال: أن مالكا لما زل نظره كان آثر ذلك تجويز قتل ثلث الأمة مع القطع بتحرز الأولين عن إراقة محجمة دم من غير سبب متأصل في الشريعة ومنه [تجويزه التأديب] بالقتل في ضبط الدولة وإقامة السياسة وهذا إن عهد فهو من عادة الجبابرة وإنما حدثت هذه الأمور بعد انقراض عصر الصحابة.
1257- فإذا تجدد العهد بما ذكرناه فنحن نرسم بعده مراتب في الإخالات وننزل كل مرتبة منزلتها ونرى أن مدركها على حقائقها مشرف على طرف المعاني فإذا عسر الوفاء باستيعاب أمثلة الأقيسة المعنوية في هذا المجموع فالوجه أن نتخذ أصلا من أصول الشريعة يشتمل على مجامع القول في وجوه الإخالات ونبين فيه وجوه الترتيب فيها وما يقع في الرتبة العليا والرتبة التي تليها إلى استيعاب مدارك الفقه ومعانيها ثم [يقيس] الفطن على ما نرسمه فيها ما يدانيها.
المرتبة الأولى:
1258- فليقع الكلام في القصاص وما يقتضى إيجابه وما يوجب اندفاعه فنقول أوجب الله القصاص في نص كتابه زجرا للجناة وكفا لهم وأشعر بذلك قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}1 واتفق المسلمون على هذه القاعدة ولم ينكرها من طبقاتهم منكر.
ثم قال أئمة الشريعة: كل مسلك يطرق إلى الدماء الهرج على جريان واسترسال واستمكان من غير حاجة إلى أمر نادر ومعاناة شاقة فهو مردود فإن المقصود المتفق عليه من القصاص صيانة الدماء وحفظ المهج فمن خالف هذا فهو لو قدر ثبوته [ناقض] له والثالث نصا وإجماعا لا سبيل إلى نقضه.
فإذا تمهد [ذلك] فكل معنى يستند إلى هذه القاعدة ويوافقها من غير اختلاف في مجراه فهو على المرتبة العليا من أقيسة المعاني.
1259- وهذا يمثل [بالقول في القتل] بالمثقل.(20/324)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "179" سورة البقرة.(20/325)
ص -208-…ولا شك أن من نفي القصاص به مناقض للقاعدة من جهة أن القصد إلى القتل بهذه الآلات أمر ثابت وهو ممكن لا عسر في إيقاعه وليس القتل به مما يندر [فإذا لم يعسر ولم يندر] فكان نفي القصاص بالقتل بها مضادا لحكمة الشريعة في القصاص.
فإذا ناكر الخصم العمدية في القتل بهذه الآلات سفه عقله ولم يستفد به إيضاح عسر القتل.
1260- وإن شبب بتعبد في آلة القصاص وكان ذلك في حكم العبث فإن تقدير التعبد مع ما تمهد من الحكمة يناقض الحكمة المرعية في العصمة فليفهم الفاهم مواقع التعبد.
1261- وإن تمسك بصورة في العكس وقال الجرح الذي لا يغلب اقتضاؤه إلى الهلاك إذا أهلك أوجب القصاص كان هذا غاية في خلاف الحق فإن الجرح لاختصاصه بمزيد الغور وإمكان السريان إذا اقتضى القصاص حسما لمادة الجناية وردعا للمعتدين فكيف يستجيز ذو الدين أن يبنى عليه إسقاط القصاص بالقتل الذي يقع بالأسباب التي تقتل لا محالة؟
وليعتبر المعتبر عن هذا الأصل فإنه أجلى أقيسة المعاني وأعلى مرتبة فيها فإنه لا حاجة في ربطه بالقاعدة إلى تكلف أو تقرير أو تقريب وتحرير.
ولو قيل: هو الأصل بعينه [و] ليس ملحقا به لم يكن [بعيدا].
1262- ومخالف ما يقع في هذه المرتبة مائل عن الحق على قطع وليس القول فيها دائرا في فنون الظنون وما يكون بهذه الصفة لا يتصور أن يعارضه معارض.
1263- ونضرب لهذا مثالا آخر قياسا.
فنقول: الغرض من شهادة الشهود إيضاح المقصود المشهود به ثم للشرع تعبدات وتأكيدات في رتب البينات على حسب أقدار المقاصد.
وأعلى البينات بينة الزنا فإذا شهد على صريح الزنا أربعة من الشهود العدول وتناهى القاضي في البحث وانتفت مسالك التهم فهذا أقصى الإمكان في الإيضاح والبيان فلو شهدوا وأقر المشهود عليه مرة واحدة لم يؤثر إقراره ووجب القصاص بموجب البينة فإن إقراره تأكيد البينة ولا يحط من مرتبة البينة شيئا.(20/326)
فإذا قال أبو حنيفة: إذا أقر المشهود عليه مرة سقطت البينة ولم [يثبت] بذلك.(20/327)
ص -209-…الإقرار شيء لم يجز أن يكون هذا مضمون في أصل الشريعة المحمدية فإن الإقرار لم يعارض البينة مناقضا ثم هو ذريعة يسيرة غير عسيرة في ترك البينات ثم المقر لا يحلف حتى يتخيل ارعواؤه ولو طلبنا أمثال ذلك وجدنا منه الكثير.
المرتبة الثانية:
1264- تعتمد على قياس معتضد بالأصل ولكنه قد يلقى الجامع احتياجا إلى مزيد تقرير وتقريب ويعن للخصم تخيل فرق وإن كان إفساده هينا.
ومثال ذلك: أنه قد ثبت وجوب القصاص على المشتركين في القتل وهذا مستند إلى قاعدة الشرع في تحقيق العصمة وزجر الجناة فإن الاستعانة في أمثال ذلك ليست بالعسيرة والقتل على [الاشتراك] غالب الوقوع فاقتضى معنى القصاص في الأصل إيجاب القتل على الشركاء وهذا يتطرق إليه الكلام قليلا من جهة أن كل واحد [منهم] ليس قاتلا وفعل كل واحد منهما يخرج أفعال شركائه عن الاستقلال بالقتل وقتل غير القاتل فيه مخالفة الموضوع المشروع في تخصيص القتل بالقاتل.
وفيه وجه آخر: وهو أن إمكان القتل بالمثقل فوق إمكان الاستعانة وعن هذا تردد بعض العلماء في إيجاب القصاص على الشركاء وصرح بعض المفتين بأن قتل المشتركين خارج عن القياس.
والمعتمد فيه قول عمر رضي الله عنه إذ قال: "لو تمالا عليه اهل صنعاء لقتلتهم به"، فنشأ من منتهى هذا الكلام أن الجاني محرم الدم معصوم [فإذا تطرقت الاحتمالات لم يجز الهجوم على قتل معصوم].(20/328)
1265- والمسلك الحق عندنا أن المشركين يقتلون بحكم قاعدة القصاص ولا نظر إلى خروج بعضهم عن الاستقلال بالقتل إذا كان يظهر بسبب درء القصاص [عنهم] هرج ظاهر فلا نظر مع الظهور إلى انحطاط إمكان الاشتراك قليلا عن الانفراد بالقتل بالمثقل فإنه يعارض ذلك أن المنفرد لا يستمكن استمكان المشتركين ويتطرق إلى الاستقلال بالقتل عسر [من وجه] حتى تمس الحاجة إلى فرض كلام في أيد وضعيف أو تقدير اغتيال [فيعتدل] المسلكان حينئذ وخروج كل واحد عن كونه قاتلا لا وقع له مع إفضاء درء القصاص إلى الهرج مع العلم بأن القصاص ليس على قياس الأعواض.(20/329)
ص -210-…وأما كون الجاني معصوما فلا أثر له في هذا المقام مع أنه سعى في دم من غير أن يفرض له تقدير عذر فكان ما أقدم عليه مسقطا حرمته وخارما عصمته والشبهات إنما تنشأ من فرض أمر يقدر للجاني عذرا على قرب أو على بعد وهو منشأ الشبهات على ما سنوضحه إن شاء الله تعالى.
1266- فإذا تمهدت هذه القاعدة [فغرض هذه] المرتبة إلحاق فرع بهذا الأصل مع تقدير الوفاق فيه.
فنقول في الطرف: إنه صين بالقصاص على المنفرد فليصن بالقصاص على المشتركين كالنفس وهذا أجلى ولكنه في أعلى مراتب الظنون.
1267- فإن قيل: ما سبب خروج هذا القياس عن مسالك العلوم مع استبانة [استقائه] من القاعدة كما ذكرتموه؟ قلنا: في القاعدة على الجملة نظر.
أما إسقاط أصل القصاص عن المشتركين فمعلوم بطلانه قطعا فإنه مبطل لحكمة العصمة وأما قتل واحد من المشركين لا بعينه مع تفويض الأمر إلى رأى من له القصاص فليس يرد ذلك ولكنه يقع في مجال الظنون.
ثم في إلحاق الطرف بالنفس ثلاثة أشياء يطرق كل واحد إليه الظن:
أحدها: أن قائلا لو قال: لو أفضى قطع الطرف إلى النفس لوجب القصاص على المشتركين وتقرير ذلك مردعة لهم فلا يؤدي ذلك إلى الهرج هذا وجه واقع ودافعه أنه لو صح لسقط القصاص في الطرف أصلا فإذا جرى القصاص مع الاندمال أشعر ذلك باعتناء الشرع بتخصيصه بالصور حتى كأن الطرف مع النفس كزيد مع عمرو في أن كل واحد منهما مقصود بالصون.
1268- والوجه الثاني: مما يقتضي الظن ظن الخصم أن ما ذكرناه من الجمع في حكمه القصاص ينقضه تمييز فعل أحد الشريكين في القطع عن فعل الشريك الثاني فإذا كان كذلك فهو ممكن غير عسير ثم لا قصاص على واحد منهما وهذا إن سلم فهو لعمري قادح في الجمع وقد صح فيه منع كما يعرف الفقهاء.
1269- والوجه الثالث: أن الطرف مما يقبل التبعيض فيصور الخصم أن القطع الواقع على صورة الشركة يحمل على وقوعه على التبعيض إذا كان المجني عليه قابلا للتبعيض.(20/330)
ص -211-…وهذا زلل فإن إمكان تصوير ما يسقط القصاص لا يدرؤه إذا لم يكن وكان بدله ما يشابه الاشتراك في الروح فلو توجهت هذه الجهات وبعد القول في الأصل بعض البعد كان ذلك دون المرتبة الأولى المستندة إلى العلم [والقطع] فهذا واضح جدا.
ومن حكم وضوحه أنه لا يثبت له معارض إذ لو قدر له معارض لكان ناشئا من تقدير شبهة توجب المحافظة على حكمة العصمة في حق الجاني ومآخذ الشبهات ما يشير إليه المعاذير ولا عذر للجاني.
وإن حاول الخصم تسبيب المعارضة في جهة أن واحدا لم يقطع اليد بطل ذلك عليه بالنفس.
ولو رجع وزعم أن القصاص على الشركاء على خلاف القياس كان ذلك روم اعتراض وقد أوضحنا بطلانه والمخيلة العظمى في ظهور قياس المعنى امتناع المعارضة المحوجة إلى الترجيح.
فإن عارضوا القصاص في الطرف بقطع السرقة وشبهوا الاشتراك في قطع اليد بالاشتراك في سرقة نصاب لم يكن ما جاءوا به مأخوذا من قاعدة القصاص.
ونحن لم نعن بامتناع المعارضة انسداد المسالك البعيدة وإنما المعارضة الحاقة ما ينشأ من وضع الكلام ولا شك [في] أن قطع السرقة بعيد في أصله وتفصيله عن القصاص فإن الأصل المعتبر في قطع السرقة أخذ مال غير تافه على الاختفاء من حرز مثله والغرض بشرع القطع ردع السارق عن تناول المال والنفيس وفي النفس مزجرة عن ركوب الأخطار بسبب التافه.
وهذا المعنى يوجب نفي القطع عن الشركاء فإن كل واحد منهم على حصته من المسروق وذلك المقدار لا حاجة إلى إثبات رادع عنه.
وهذا لا يتحقق في القصاص أصلا [فيما نحن فيه] فإن معتمده الصون وتمهيد العصمة وليس في قاعدته انقسام إلى التافه والنفيس وخروج كل جان عن الاستقلال بكل الجناية لا يسقط القصاص عنه إذ لو قيل به لخرم قاعدة الصون على أنه محقق في النفس كما سبق.
1270- وإذا لم تكن المعارضة على حقها في منشأ الاجتهاد لم ينتظم فرق(20/331)
ص -212-…ورجع كلام المحقق إلى تباين القاعدتين وتباعدهما وإيضاح ابتناء كل واحد منهما على أصل غير معتبر في القاعدة الأخرى.
وهذا لا ينتظم فرقا ويدخل في أقسام فساد الوضع ووجب نسبه الخصم إلى البعد عن مأخذ الكلام والاكتفاء بتلفيق لفظي عرى عن التحقيق.
1271- والذي يحقق ذلك أن من سرق نصابا واحدا في دفعات [وهو في كل دفعة] يهتك حرزا لم يستوجب قطعا ولو قطع جان يدا واحدة بدفعات استوجب القصاص عند الإبانة.
1272- ويتعلق بالكلام في هذا القسم أمر يتعين الاعتناء به وهو مزلة مالك ونحن نقول فيه: إذا ثبت ارتباط حكم في أصل بحكمة مرعية فيجوز الاستمساك بعينها في إلحاق الفرع بالمنصوص عليه في عين الحكم المنصوص.
ولا يجوز تقدير حكم آخر متعلق بحكمة تناظر الحكمة [الثابتة] [في الأصل المنصوص عليه فإن هذا يجر إلى الخروج عن الضبط ويفضي في مساقه إلى الانحلال فإن الحكمة الثانية] لو قدرت لدعت إلى ثالثه ثم لا وقوف إلى منتهى مضبوط.
1273- وبيان ذلك بالمثال: أن المال صين بشرع القطع إبقاء له على ملاكه وزجرا للمتشوفين إليه ولو فرض تعرض للحرم بمراودات دون الوقاع فأدناها يبر على أقدار الأموال ولا يسوغ نقل القطع إليه وكذلك القول في أمثاله.
1274- وعند ذلك انتشر مذهب مالك وكاد يفارق ضوابط الشريعة واعتصم بألفاظ وعيدية معرضة للتأويل منقولة عن جلة الصحابة وقد يدنو المأخذ جدا فيزل الفطن إذا لم يكن متهذبا دربا بقواعد الاجتهاد.
1275- وبيان ذلك [بالمثال] أنا إذا قلنا: قطع السرقة مشروع لصون الأموال وزجر السارقين فألزمنا عليه ما إذا نقب الواحد الحرز وسرق الآخر فلا قطع على وواحد منهما وهذا يخرم الحكمة المرعية في [صون] الأموال فإن [التسبب] إلى ما ذكرناه يسير ممكن.(20/332)
وهذا على الحقيقة غامض من جهة أن الشخص الواحد إذا نقب وسرق فقد أخرج النقب الحرز عن حقيقته ولم يقدم على المال إلا وهو في مضيعة ثم لم نقل لا قطع عليه من حيث انفصل هتك الحرز عن أخذ المال وكان من الممكن أن(20/333)
ص -213-…يختص القطع بمن يتسلق على الحرز ويأخذ المال من غير هتك.
وهذا مجال ضيق ويتجه فيه خلاف العلماء وحق الأصولي ألا يعرج على مذهب ولا يلتزم الذب عن مسلك واحد ولكن يجري مسلك القطع غير ملتفت إلى مذاهب الفقهاء في الفروع.
1276- ثم القول الممكن في السارق والناقب أن صون الأموال وإن اثبت فهو مخصوص بالسرقة من الحرز وليس [إلينا] وضع الحكم والمصالح ولكن إذا وضعها الشارع اتبعناها.
1277- ومن لطيف الكلام في ذلك أن المعلل إذا قيد تعليله [الفقهي] المعنوي يقيد غير مخيل لا على معنى الاستقلال ولا على الانضمام إلى أركان العلة المركبة فذلك التقييد مطرح في مسلك المعاني وطرق الإخالة إلا فيما نصفه وهو تقييد الكلام بحكم معين تعلق بحكمة معلومة.
وهذا كذكرنا صون المال عن السراق فإذا ألزمنا صون الحرم لم نلتفت إليه ولم نلتزم فرقا بين الصورتين فإن ذلك إنما ينشأ من رعاية المصلحة مع الانحصار على الحكم المنصوص عليه.
ثم ما ذكرناه ليس مختصا بحكم واحد بل هو مطرد في جمله المصالح الشرعية فكل مصلحة مختصة [بحكمها] وغاية القايس ضم جزئي في المنصوص عليه إلى القاعدة الكلية.
1278- فإن قيل: إذا قسم الطرف في حق الاشتراك على النفس فهل تنسبون إلى المحذور الذي ذكرتموه من مجاوزة موارد المصالح؟.
قلنا: إن كان ذلك مجاوزة فلا قياس إذا وينبغي أن يجتنب المنتهي إلى هذا المقام طرفي القياس والانحلال.
فنقول: ساوى الطرف النفس في الأصل وهو القصاص ثم ثبت الصون في النفس بإجراء [القصاص] على المشتركين فرمنا إلحاق الطرف المساوي للنفس [في أصل القصاص بالنفس] في فرع اقتضاه أصل القصاص وهذا غاية المطلوب في ارتباط الفرع بالأصل واقتضاء الأصل الفرع.
1279 - وإذا بلغ الكلام هذا المبلغ فليعلم الناظر أن أسد المذاهب في القول.(20/334)
ص -214-…بالقياس الحق واجتناب الخروج عن الضبط مذهب الشافعي.
ولست أرى في مسالكه حيدا إلا في أصل واحد لم يحط بسر مذهبه [فيه فهمي] وهو: إثباته قتل تارك الصلاة فإنه لم يرد فيه نص وتقريب القول فيه يتضمن حكمه لم يثبت أصلها وهذا مشكل جدا فإن طمع [من] قصر فكره بتشبيه المأمور به بالمنهي عنه كان ذلك بعيدا غير لائق بمذهب هذا الإمام.
وهذا القدر كاف في التنبيه وقد نجز غرضنا في القول في المرتبة الثانية من قياس المعنى.
المرتبة الثالثة:
1280- نمثلها في القول بالمكره على القتل وفيه ثلاثة مذاهب:
أحدها: أن القصاص على المكره دون المكره.
والثاني: وهو قياس مبين أن القصاص على المكره دون المكره وهو مذهب زفر.
والثالث: أن القصاص يجب عليهما وهو مذهب الشافعي.
1281- وأبعد المذاهب عن الصواب إيجاب القصاص على المكره دون المكره المحمول فإنه زعم أن فعل منقول إلى مكره وكأنه آلة له.
وهذا ساقط مع المصير إلى [أن] النهي عن القتل متجه مستمر على المكره القاتل فكيف يتحقق كونه آلة مع تكليف الشرع إياه ومن ضرورة كون الشيء آلة انقطاع التكليف عنه فتخصيص المكره بإلزام القصاص مع ما ذكرناه لا أصل له.
1282- [ووجه] مذهب زفر في القياس لائح وهو: أنه رأى المحمول ممنوعا ولم ير أثر الإكراه في سلب المنع والنهي والمباشرة تغلب على السبب إذا استقلت فارتبط بها التكليف والتصريف من الشارع.
1283- والذي يختاره أصحاب الشافعي ينبني على ما ذكرناه لزفر في استقلال المباشرة وهذا يقتضي إيجاب القصاص على القاتل المحمول ولكن لم ير هؤلاء إحباط الإكراه وإسقاط أثره [بالكلية] فإنه موقع القتل غالبا والإكراه من أسباب تقرير الضمان فيبعد تعطيله وإخراجه من البين وبعد إحباط المباشرة فالوجه تنزيلها منزلة الشريكين ولا شك أن فعل كل واحد من الشريكين يضعف فعل صاحبه من.(20/335)
ص -215-…جهة أنه يخرجه عن كونه قتلا ثم لم يسقط الاشتراك القصاص عنهما.
فإذا لم يصر أحد إلى إسقاط القصاص عن الحامل والمحمول لضعف ما صدر عن كل واحد منهما أما ضعف المباشر فمن جهة كون المباشرة [محمولا] وأما ضعف الإكراه فمن جهة كون المكره المحمول منهيا واستمرار التكليف يوهي أثر الإكراه فليس أحدهما بالضعف أولى من الثاني فلا سبيل إلى تخصيص القصاص بأحدهما وقد ثبت أن القصاص أولى بأحدهما وقد ثبت أن القصاص لا يسقط عنهما وقرب تنزيلهما منزلة الشريكين.
1284- ولكن القول في هذا ينحط عن القول في الشريكين من جهة اختلاف السبب والمباشرة وخروج كل واحد منهما عن قياس بابه ثم يتعارض مأخذ مذهب زفر وأبي حنيفة والترجيح لزفر.
1285- ومأخذ إيجاب القصاص عليهما يتشوف إلى جمع نكتتي المذهبين مع امتناع إسقاط القصاص [عنهما جميعا وإيجاب القصاص] على شهود الزنا إذا رجعوا بعد إقامة الرجم أظهر من إيجاب القصاص على المكره الحامل من جهة أن الإكراه يضعف ببقاء التكليف على المحمول ولا خيرة للقاضي بعد إقامة البينة وليس ممنوعا منع المكره المحمول بل النية أوجبت على القاضي إقامة الرجم ولذلك لم يختلف قول الشافعي في وجوب القصاص عليهم اختلافه في المكره.
أما الشهود على القصاص إذا رجعوا فإن فرض رجوع المدعي واعترافه فلا وجه لوجوب القصاص على الشهود فالطريق القطع بتغليب المباشرة وإن فرض الكلام في استمرار المدعي على دعوى الاستحقاق فهذا ينحط في مرتبة الاجتهاد عن شهود الزنا فإن المدعي على خيرته.
ولو ذهبنا نستقصي هذه الأمثلة لطال الكلام وإنما غرضنا التنبيه.
1286- ولم يوجب الشافعي عقوبة في هذا المساق أبعد من إيجابه حد الزنا على المرأة إذا نكلت عن اللعان بعد لعان الرجل فإن هذا سفك دم بقول المدعي وهو في مسلك القياس يداني إيجاب القصاص بأيمان المدعي في مسلك لوث القسامة ولولا الخبر لما اقتضى القياس ذلك.(20/336)
1287- وهذا أوان تغليب حق المدعي عليه من طريق القياس.
قال الشافعي: إذا كان القصاص لحقن الدم والهلاك لا يستدرك وإذا رجع(20/337)
ص -216-…الغرض إلى حقن دم الباقين فرعاية حقن دم الجاني وهو غير مسفوك أولى واللعان أبعد من القسامة من جهة أن الشرط فيها ظهور اللوث عند الحاكم وهو غير مشروط في اللعان غير أن المعتمد في القسامة الخبر الصريح والمعتمد في اللعان يستند إلى شيئين:
أحدهما: أنا لا نجد بدا من الخروج عن قانون الحجج فالاستمساك بظاهر القرآن العظيم أقرب وحمل العذاب على الجنس بعيد.
وبالجملة نفي إيجاب الحد وتغليب حقن دمها أقرب عندي إلى مأخذ الشريعة.
1288- ومن عجيب الأمر أن قول الشافعي اختلف في القصاص:
هل يجب بأيمان القسامة؟ ولم يختلف في وجوب الحد على المرأة مع تعرض الحد الواجب [لله تعالى] فيه للسقوط بما لا يسقط القصاص به وسبب هذا أن خبر القسامة ورد في [الغرم] وآية اللعان اشتملت على ذكر العذاب وهذا وغيره في أمثال ما ذكرناه من قواعد الشريعة.
ونحن نختتمه بأمر بديع يقضي الفطن [العجب] منه:
1289- فالمرتبة الأولى: العلمية تكاد أن لا تكون جزءا من المنصوص عليه.
والمرتبة الأخيرة: نعنى اللعان والقسامة لا يستقل المعنى فيها ولم نرسمها مرتبة في القياس من حيث لم نرها مستقلة.
فهذه جملة كافية في التنبيه على المراتب وضابطها القريب من القاعدة والبعيد منها مراتب قياس الشبه.
1290- ونحن نذكر الآن مراتب قياس الشبه.
فنقول: مجال هذا القسم [عند] انحسام المعنى المخيل المناسب فإذا لم نجد معنى للحكم الثابت أو صادفنا ما يخيل غير صحيح على السبر فالوجه رد النظر إلى التشبيه.
1291- ثم مراتب الأشباه تنقسم إلى القريب والبعيد انقسام [مراتب] قياس المعنى.
فالواقع في المرتبة الأولى هو الذي يسميه الأصوليون في معنى الأصل ولا يريدون به المعنى المخيل وهذا إذا وقع معلوما كان في المرتبة العالية.(20/338)
ص -217-…وقد سبق [القول في] الاختلاف فيها هل يسمى قياسا أو هو ملتقى من الألفاظ والنص؟
1292- والوجه عندنا في ذلك أن يقال إن كان في اللفظ إشعار به من طريق اللسان فلا نسميه قياسا كقوله عليه السلام من أعتق شركا له في عبد قوم عليه فهذا وإن كان في ذكر فالعبودية مستعملة في الأمة وقد يقال للأمة عبدة وأما إذا لم يكن لفظ الشارع مشعرا في وضع اللسان بما ألحق به فهو قياس مفض إلى العلم وهو قاعدة الأشباه بعد ونظيره إلحاق الشافعي عرق الكلب بلعانة في التعبد برعاية العدد والتعفير.
1293- فإذا زال العلم وكان الشبه يفيد غلبة الظن ولا يفسد لدى السبر والعرض على الأصول [فهو مقبول] وإن لم يفد غلبة الظن فهو الطرد المردود عند المحققين والأشباه بين طرفي قياس المعنى والطرد.
1294- والذي لاح من كلام الشافعي أن أقرب الرتب من المراتب المعلومة إلحاق الزبيب بالتمر في الربا وأبعد منه قليلا بحيث لا يخرج عن الرتبة إلحاق [الرز بالحنطة والذرة بالشعير ثم يلي هذه الرتبة] الوضوء بالتيمم في الافتقار إلى النية ولهذا قال الشافعي [مستبعدا] طهارتان فكيف تفترقان؟
1295- ونحن نقول في ذلك كل شبة يعتضد بمعنى كلي فهو بالغ في فنه وذلك إذا كان المعنى لا يستقل مخيلا مناسا.
وبيان ذلك فيما وقع المثل به: أن التيمم ليس فيه غرض ناجز وقد بينا من كلى الشريعة أنها [مبنية] على الاستصلاح فإذا لم يلح صلاح ناجز يظهر من المآخذ الكلية ربط ما لا غرض فيه ناجز بصلاح في العقبى وهو التعرض للثواب ولا سبيل إليه إلا بقصد التقرب فإذا وجدنا طهرا كذلك متفقا عليه ثم كان المختلف فيه غير معقول المعنى ظهر فيه وقع التشبيه في الافتقار إلى النية المحصلة غرض العقبى.
1296- فليتخذ الناظر هذا معتبرا في الرتبة الأولى من الأشباه المظنونة ولم يبلغ مرتبة العلم للاختلاف الواقع بين الطهرين في أحكام وشرائط.(20/339)
وإلحاق المطعومات التي لا تقدر بكيل ووزن طريقة الأشباه عندنا فإن مسالك.(20/340)
ص -218-…الإخالات باطلة فلا يبقى إلا التشبيه.
ثم سبيل هذا التشبيه النظر إلى المقصود من المنصوص عليه وقد لاح أن المقصود هو الطعم وبطل اعتبار القوت لمكان الملح وسقط اعتبار [التقدير] لجريانه في الجنسين والجنس على وتيرة واحدة ولاح النظر إلى المقصود مع الاعتراف بأنه غير مستند إلى معنى معقول وهذا ينحط عما يتعلق بغرض في العقبى كما ذكرناه في القسم الأول من المظنونات.
ولولا ما ثبت عندنا في الاضطرار إلى تعليل المنصوصات في الربا لما لاح لنا فيها معنى ولا شبه ولكن إذا اضطررنا إليه لإجماع القياسين وجدنا إتباع المقصود أقرب مسلك ولهذا وقع في المرتبة الثانية.
1297- فإن قيل: هل ترون الشبه الخلقي في غير مجانسة ومماثلة معتبرا؟.
قلنا: لا، إلا أن نشير إلى أن اعتبار الخلقي أصل الشريعة كما ثبت ذلك في جزاء الصيد وقد ثبت قريب منه في الحيوانات المشكلة في الحل والحرمة.
وما ذكره أبو حنيفة في [اعتبار الانطراق] والانطباع في الجواهر المعدنية في الزكاة طرد عندنا.
1298- ومن أبواب الشبه ما يتعارض فيه المعنى والشبه على التناقض فيقع لذلك الشبه ثانيا وهو كالتردد في أن قيمة العبد هل تضرب على العاقلة؟
فالذي يقتضيه القياس المعنوي عدم الضرب اعتبارا بجملة المملوكات والذي يقتضيه الشبه اعتباره بالحر.
فإن قيل: هذا أيضا في الشبه الخلقي وقد أنكرتموه.
قلنا: ليس الأمر كذلك فإن العبد يفرض قتله على الجهة التي يفرض فيها قتل الحر إذ قد يظن على بعد أن سبب التعاون في الحمل في الديات ما يقع [من] الخطأ بالقتل بين أصحاب الأسلحة وهذا يتفق في الحر والعبد على جهة واحدة.(20/341)
1299- ومما يلتحق بهذا الفن القول في تقدير أروش أطراف العبيد بالسبب الذي يقدر [به] أطراف الأحرار فالذي يقتضيه القياس المعنوي نفي التقدير واعتبار ما ينتقص من القيمة نظرا إلى المملوكات سيما على رأي تقديره قيمه العبيد وتنزيلهم منزلة البهائم التي تضمن بأقصى قيمتها وهذا مذهب ابن سريج والظاهر(20/342)
ص -219-…من مذهب الشافعي أنها تقدر ومعتمده الشبه.
1300- فإن قيل: فما الوجه في المثالين؟.
قلنا: الوجه في مسألة التقدير مذهب الشافعي فإن الشارع أثبت [للحر] بدلا حتى لا يحبط إذا قتل خطأ ثم قاسموا أطرافه بجملة بمعان لا تنتهي أفهام المستنبطين إلى ضبطها وكان من الممكن ألا [تتقدر] أروش أطراف الحر فإنا ألفينا في جراح الأحرار حكومات غير مقدرة فلئن اقتضى شرف الحر تقدير دينه فهذا لا يطرد في أطرافه فلما تأصل في الطرف تقدير وطرف العبد في العبد كطرف الحر في الحر فلا التفات إلى خروج قيمة العبد عن التقدير.
1301- فإن قيل: [فقدروا] أطراف البهائم.
قلنا: لم يتحقق فيها أنها تقع موقع أطراف الأحرار في الأحرار فهذا الشبه أولى من المعنى الكلي من جهة أنه أجلى وأليق بالغرض وأميز للمقصود هذا والمضمون من الحر والعبد الدمية.
1302- أما القول في تحمل العقل والقيمة فالأظهر عندنا التمسك بالمعنى لعبد تحمل العاقلة العقول عن مدارك العقول وقد يظن أن العبيد لا يخالفون الأحرار في تعاطيهم الأسلحة وإن ذكر فيهم ذلك فقد يتعدى إلى الدواب في تجاول الفرسان فكان تقدير أروش أطراف الأحرار معللا بمعان اعتقدناها ولم ندرك حقيقتها وضرب العقل [يشبه] تحكم المالك على المملوكين [فالأحزم] أن [لا] يضطرب فيها [بالخطى] الوساع.
1303- ومما يعده الفطن قريبا مما نحن فيه إلحاق القليل من الدية بالكثير في الضرب على العاقلة.
ونحن نرى ذلك المسلك الأعلى من الشبه من جهة أن أصل الضرب ثابت وهو جاز في القليل عند كثرة الشركاء جريانه في الكثير وليس هو مبينا على الإجحاف بالمحمول عنه فإن الدية محمولة على الموسرين فكأن الضرب ثبت في الشرع مسترسلا [على الأقدار] من غير اعتبار مقدار وهذا من جملة الأمثلة التي ذكرناها تكاد أن تلتحق بالمرتبة المعلومة أو تدانيها.
1304- فهذه قواعد الأشباه المعتبرة ونحن نجدد فيها ترتيبا بعد ما وضحت.(20/343)
ص -220-…الأصول ونبني الغرض على سؤال وجواب وهو السر وكشف الغطاء.
1305- فإن قيل: إن تعلق الناظر بوجه من الشبه فما وجه تقريره إذا نوقش فيه؟.
فإن قال المشبه: ما ذكرته يغلب على الظن.
فقال له المعترض: ليس كذلك فما سبيل درئه وكيف الجواب عن سؤاله؟
ولا شك أن غلبة الظن لا تحصل إلا مستندة إلى شبه يقتضيها ولا بد من ذكره وبه يتميز الشبه عن الطرد وكل شبه يقتضي الظن فلا بد أن تنتظم عبارة وعربة عنه ثم أن تأتي وانتظم ذلك سالما عن القوادح فهو معنى إذا فترجع الأشباه إلى معان خفية ويبطل تقسيم الأقيسة إلى المعنوي والشبهي.
1306- قلنا: هذا السؤال بحث عن لباب الفصل وحقيقته فلا يتصور استقلال [شبه] دون ما ذكره السائل ولكن سبيل القول فيه أن الشبه يستند إلى مأخذين هما الأصل وبعدهما أمر ثالث ينبه [عليه].
أحدهما: الأمثلة وجريانها على مقتضى الشبه.
وهذا كإلحاقنا اليسير بالكثير في الضرب على العاقلة والمستند فيه ضرب حصة آحاد الشركاء مع تناهيها في القلة وينضم إليه بطلان اعتبار المواساة المشروعة بسبب خيفة الإجحاف.
فيخرج [مما] ذكرناه وأمثاله أن ضرب العقل لا ينتهي إلى موقف في قلة [ولا كثرة] وليس هذا معنى مخيلا [مناسبا] وإنما هو متلقى من أصل الوضع بالمسلك الذي ذكرناه فهذا إذا ظهر قليلا التحق [بالقسم] الذي يسمى قياسا في معنى الأصل كما سنذكره في آخر هذا الفصل فهذا وجه.
1307- والوجه الثاني: وهو الذي يدور عليه معظم الأشباه إن ثبت معنى على الجملة في قصد الشارع ولا يدخل في الإمكان ضبطه بعبارة وهذا كعلمنا أن الشارع قدر أرش يد الحر بنصف الدية لنسبة لها مخصوصة إلى الجملة لا يضبطها والإصبع دونها في [الغناء] وهذا لا شك فيه ولكنا إذا أردنا أن نطلع عليه وعلى الوجه الذي لأجله يقتضي التشطير لم يكن ذلك ممكنا وهذا يناظر علمنا بأن الشارع فرق بين التافه والنفيس من المسروق ثم قدر النفيس بدينار أو ربع دينار.(20/344)
ص -221-…فالأصل معلوم ولا اطلاع على المعنى الذي يقتضي هذا المقدار ويناسبه.
فإذا تمهد ذلك وكان اعتبار يد العبد بيد الحر شبها فإنا نعلم أن غناء يد العبد من جملته كغناء يد الحر من جملته فهذا إذا يستند إلى معنى معتقد [على الجملة] من قصد الشارع ولكن لا سبيل إلى التنصيص عليه.
ومهما اتجه هذا النوع كان بالغا جدا مقدما على المعاني الكلية المناسبة.
1308- فأما الأمر الثالث الموعود: فالتشبيه بالمقصود وهذا لا استقلال له إلا أن يضطر إلى التمسك بتقدير علم الحكم المنصوص عليه.
ومثال ذلك الأشياء الستة المنصوص عليها في الربا فلو هجم الناظر عليها ولم يتقدم عنده وجوب طلب علم لم يعثر على فقه قط ولا شبه فإن الفقه مناسب جار مطرد سليم على السبر والشبه متلقي من أمثلة أو مخيل معنى جملي والرأي لا يقضي بواحد منهما في نصب الطعم علما ولكن إذا ثبت طلب العلم وانحسم المعنى المسبور والجملي فلا وجه إلا أن يقال: إذا لم يثبت الحكم لأعيان هذه الأشياء ثبت لمعانيها هي المقصودة منها.
1309- ثم ينتصب على ذلك شاهدان:
أحدهما: من قبيل التخصيص وهو اختلاف الحكم باتحاد الجنس واختلافه.
والثاني: عموم قوله عليه السلام: "لا تبيعوا الطعام بالطعام"1 [إلا مثل بمثل] فهذه معاقد الأشباه ثم لا حاجة إلى تكلف الميز بينها وبين الطرد.
1310- فإن قيل: المعلوم الذي يسمى قياسا في معنى الأصل ما مستند العلم فيه؟.
قلنا: اكتفى بعض الضعفة بادعاء العلم وانتهى إلى دعوى البديهة وزعم أن جاحده في حكم جاحد الضرورات.
ونحن نوضح الحق في ذلك ونقول: كون العتق في العبد بمثابة كونه في الأمة والرق فيهما أيضا على وتيرة واحدة وهذا معلوم قطعا ولا يمتنع أن ينص الفصيح على واحد من الأمثال ويرغب عن التعلق بالألفاظ العامة ويجعل ما ذكره مثالا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سبق تخريجه.(20/345)
ص -222-…لحكم يؤسسه [كالواحد] منا إذا أراد أن يبين حكم البيع فقد يقول: من باع [ثوبا] فقد زال ملكه عنه فيؤثر ضرب مثل لخفته عليه في مجارى الكلام وهذا أن ساغ لا استكراه فيه ولا يمتنع في تحكمات الشرع تخصيص سريان العتق بالعبد.
لكن لو كان كذلك لتعين في حكم البيان التنصيص على التخصيص [فإذا] لم يجر ذلك انتظم من مجموعة القطع بثبوت القياس في معنى الأصل.
1311- ولو نص الشارع على موصوف وذكر فيه حكما تقتضيه تلك الصفة اقتضاء اختصاص فهذا النوع من التخصيص بتضمن نفي ما عدا المنصوص وهو المفهوم وقاعدته كقوله عليه السلام: "في سائمة الغنم الزكاة"1 فأما لو قدر مقدر من الشارع أن يقول في عفر الغنم زكاة فهذا ليس في مرتبة المفهوم ولا يصلح [أيضا] لإجراء مثالا بخلاف العبد الذي يجرى مثالا في المملوكين.
فإذا لا يقول الشارع مثل هذا فإنه من التخصيص العرى عن الفائدة.
فليفهم الناظر هذه المنازل والترتيب بعد ذلك كله.
1312- فالمرتبة الأولى: للمعلوم وقد بينا مأخذه.
1313- والمرتبة الثانية: لما يتلقى من الأمثلة كإلحاق القليل من العقل [في الضرب] على العاقلة بالكثير فإن ذلك قريب جدا من الرتبة المعلومة.
1314- والمرتبة الثالثة: ما يستند إلى معنى كلى لا تحيط الأفهام والعبارات بتفصيله كما ذكرناه في تقدير أروش الأطراف وافتقار طهارة الحدث إلى النية.
1315- وأنا أرى الطهارة تنحط في الرتبة عن تقدير الأروش فإن تقدير الأروش يستند إلى أغراض ناجزة نعتقد أصولها ونقصر عن درك تفصيلها وأمر الثواب خفي في الطهارة لا يتأتى فيه من الاطلاع ما يتأتى في مستند تقدير الأروش فلا بأس إذا لو قدر افتقار الطهارة إلى النية كرتبة متأخرة عن تقدير أروش أطراف العبيد.
وأما نصب المقاصد فمسترسل كما سبق تقديره في الربويات فهذا لا يستقل بنفسه دون الإرهاق إلى نصب العلم وهو دون المرتبة الثالثة.
1316- ونحن نختم هذا الأصل بمسألة يتعارض فيها شبهان فنقول:(20/346)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سبق تخريجه.(20/347)
ص -223-…اختلف العلماء في أن العبد هل يملك؟.
ومأخذ الكلام من طريق التشبيه ما نصفه أما من يقول يملك فشبهه بالحر من جهة أن الحر فطن مؤثر مختار طلوب لما يصلحه دافع لما يضره لبيب فطن أريب والعبد في هذا كالحر فهذا شبه فطري غير عائد إلى [الصورة] وإنما راجع إلى المعاني التي بها يتهيأ الإنسان لمطالبة ومآربه.
1317- ومن منع كونه مالكا شبهه بالبهائم من حيث إنه مسلوب القصد والاختيار مستوعب المنافع باختيار مالكه حتى كأنه لا اختيار له والتعلق بهذه الأشياء أقرب فإن القائل الأول تمسك بالأمور الخلقية ومن منع الملك تمسك بمأخذ الأحكام فكان ما قاله أقرب فإن الرق حكم غير راجع إلى صفات حقيقية خلقية وحاصلة سقوط استبداد شخص وتهيؤه لتصرف غيره وهذا يناقض صفات المالكين فإن حكم الملك الاستقلال ثم أقام الشارع المالك طالبا للمملوك فيما يسد حاجته ويكفي مؤنته والحاجة [التي] لا يتصور فيها الكفاية أثبتها الشارع للمملوك بإذن مالكه وهو حق المستمتع في النكاح.
1318- فإن قيل: السيد إذا ملك عبده فالحق لا يعدوهما فإن كان استغراق السيد إياه يمنعه من صفات المالكين فإذا ملكه المولى وجب أن يملك.
قلنا: هذا يلزم الخصم في تصوير إلزام الملك [له] ثم التمليك لم يخرجه عن كونه مملوكا متحكما عليه فلم يجامعه التمليك كما لم يجامعه إلزام الملك فإذا زال الرق عنه ملك حينئذ وإذا ثبت له حق [الاستقلال] بأن كاتبه فيتصور له ملك على ضعف على حسب ما يليق به.
فهذا المعتبر في النظر إلى [أقرب] الأشباه [وأدنى المآخذ] فيها.
وما تعلق به الأولون موجبة أن لا فرق لأن خلقه وصفاته كصفات الحر فإذا تصور كونه مملوكا سقط هذا الاعتبار وجلى الشرع حكمه.
فصل
1319- المرتبة الأولى: من قياس المعنى: هو النتيجة الأولى لما صح من معنى القاعدة ويناظرها في مأخذ الأشباه ما يقال إنه في معنى الأصل.(20/348)
ص -224-…وما يستأخر من أقيسة المعاني عن رتبة العلم ويقع في أعلى مراتب الظنون كاعتبار الإطراف بالنفس يناظر من الأشباه ما ثبت بظواهر الأمثلة كاعتبار القليل من ضرب العقل على العاقلة بالكثير.
وما يبعد عن المرتبة الأولى في المعاني المظنونة يناظر ما يتعلق بتقدير الأروش في أطراف العبيد ثم ما يتعلق بالأمور المغيبة كتقدير الثواب في الطهارة وما ثبت معللا من جهة الشارع ولم يعقل وجه المناسبة فيه كقوله عليه السلام: "أينقص الرطب إذا يبس؟"1 يناظر ما يضطر إليه من اعتبار المقاصد في الربويات.
1320- فأما رتبة العلم فلا يترجح فيها مطلوب على مطلوب فإن العلوم لا تفاوت فيها.
وإن انحططنا عن رتبة العلم فآخر مراتب المعاني مقدم على أعلى مراتب الأشباه إلا أن يسترسل المعنى ويختص بالشبه كاعتبار نقصان القيمة في أطراف العبيد أخذا من المعاني الكلية مع التقدير أخذا من التشبيه بالأحرار.
وهذا لا يتطرق إليه قطع إذ لو كان مقطوعا به لما عد من خفيات المظنونات.
وإلحاق القليل بالكثير في ضرب العقل [على العاقلة] أظهر من المعنى الكلي فيه فإن من تمسك بالمعنى الكلي ينقطع طرد كلامه بمحل الوفاق في ضرب العقل على العاقلة ويضطر أن يقف موقف الطالبين [ويقول] الأصل تخصيص الغرم بالجاني فأقيموا دليلا في محل النزاع.
وإذا طالب ذكرنا مسلكا من ضرب الأمثلة فكان في حكم شبه لا يعارضه معنى غير أن الشبه ينبغي أن يكون على نهاية القوة في محاولة النقل من أصل كلي إلى الإلحاق بما هو عن قياس المعنى.
ولا مزيد في القوة على ما ذكرناه والمسألة مع ذلك مظنونة وليس هذا كتقدير ارش طرف العبد فإن من يوجب ما ينقص بطرد معنى فلا ينتقض عليه فيبغي اعتبار صاحب الشبه بالأخص فلينظر الناظر إلى جولان الحقائق في هذه المضايق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سبق تخريجه.(20/349)
ص -225-…فصل: في مراتب قياس الدلالة.
1321- أحدث المتأخرون لقبا لباب من أبواب القياس وراموا بذلك التلقيب تمييز فن كثير في مسالك الأحكام جار على منهاج واحد وهو عند المحققين إذا صح يلتحق بقياس الشبه من وجه وقد يتأتى في بعض أمثلته وجه يلحقه بقياس المعنى واللقب الذي تواضعوا عليه هو قياس الدلالة وهو كقول الشافعي في الذمي من صح طلاقه صح ظهار كالمسلم.
1322- والذي يقتضيه الترتيب تصدير الفصل بأن المستدل بهذا النوع يتوجه عليه سؤال المطالبة لا محالة كما ذكرنا قريبا منه [فيما تمحض] شبها فللمعترض أن يقول: وأي مناسبة بين الطلاق والظهار؟ ولم يجب أن يتساويا ثبوتا ونفيا؟ مع العلم بانقسام الأحكام إلى التساوي والتفاوت؟ فإن لم يبحث المطالب ويبدي وجها كان مقصرا.
1323- ثم ينقدح في الخروج عن المطالبة مسلكان نجريهما ثم ننهي كل واحد منهما النهاية المطلوبة ثم مسلك الحق وراء الاستقصاء المقول والمنقول.
فإن قال المطالب: الطلاق مقتضاه التحريم والحل والكفر لا ينافي ذلك ومحل التصرف قابل له والظهار فيما ذكرته كالطلاق [ولا ينافي الكفر المنكر والزور كما لا ينافي التصرف في الطلاق] وإذا سلك هذا المسلك لم يبعد أن يكون ما ذكره جامعا بين الطلاق والظهار معنويا وقد يتمكن المطالب من منع يضاهي ما ذكرناه على ما يورده الفقهاء.
فهذا النوع إذا سلك صاحب هذا المسلك يلتحق بأقيسة المعاني.
1324- والمسلك الثاني: في الخروج عن المطالبة ألا يخوض المطالب في التزام طريق المعاني المستقلة الجامعة من طريق المعنى وهذا القسم ينقسم قسمين:(20/350)
أحدهما: أن يرد الأمر إلى طريق الاطراد والانعكاس وقد ذكرنا أن الطرد والعكس معتبر معتمد وقد قدمنا في ذلك قولا بالغا فليقل المطالب اقترن الطلاق [بالظهار] ثبوتا ونفيا واقترنا في الصبي ومن لا يعقل انتفاء فكذلك القول في اقترانهما ثبوتا وانتفاء باختلاف صفات المحل في البقاء في النكاح والبينونة عنه فهذا مسلك مرضى.(20/351)
ص -226-…1325- والقسم الثاني من هذا القسم: أن يذكر المطالب بين ما استشهد به وبين المتنازع فيه شبها غير مخيل ولكنه يستقل في طريق الشبه فهذا مضطرب النظار فيما ذكرناه.
1326- وأنا أقول: إذا تحقق وجوب الخروج عن المطالبة فلا يستقل بتمهيد قياس الدلالة إلا فطن دراك فإن المعلل لو سلك طريق [إبداء] المعنى فقد بين أن ما اعتمده وسكت عليه لم يكن كلاما [تاما] فإن إبداء المناسب إذا كان محتوما ولم يكن في الكلام الأول ذلك فسكوت المطالب بالدليل على [ما جاء] به يتضمن اعتقاد كونه مستقلا فإذا بين أن [التمام] في الجواب عن المطالبة فقد لاح أن ما أبداه مفتاح الحجة ومبدؤها وقد سكت عنه سكوت من يراه تاما مستقلا فهذا وجه.
1327- والوجه الآخر: أنه جعل أصل قياسه المسلم فيما تمثلنا به.
والآن إذا أبدى معنى جامعا بين الطلاق والظهار فقد صار الطلاق أصلا للظهار وخرج الكلام الأول عن نظمه وترتيبه وإن أبدى وجها من الشبه بين الطلاق والظهار فقد التزم الجمع تشبيها وهو تتمة الكلام [كما] قدمناه في المعنى المستقل وينقدح فيه تغيير الترتيب والنظم كما تقدم فإذا لا بد من مناسبة فقهية أو شبهية وكلاهما ينافي المسلك الأول الذي اعتمده.
1328- وإذا انتبه الناظر [للغائلة] التي ذكرناها فلا يظن أنها تشبيب برد هذا النوع من القياس فإنا من القائلين به ولكن الوجه في تمهيد هذا النوع ودفع المطالبة شيئان:
أحدهما: الطرد والعكس كما تقدم وفيه التغليب المطلوب وتقرير نظر الدلالة الأولى [من] غير مسيس حاجة إلى إتمام أو تعيين أصل بتقدير الصرف عن الاعتبار بالمسلم ويرد الأمر إلى اعتبار الظهار بالطلاق ومن اللطائف الجدلية في ذلك أن مطلق الشرط يشعر بالعكس فلا يكون من صاغ [العلة] على صيغة الشرط بإبداء الطرد والعكس مظهرا لما لم يتضمنه الكلام الأول.
والصحيح عندنا التحاق ذلك بالأشباه.(20/352)
ص -227-…1329- ومن تتمة القول فيه: إن قياس المعنى إذا انعكس كان العكس فيه ترجيحا فإذا لم يلتزم المعلل المعنى وتمسك بالاطراد والانعكاس كان متمسكه شبها وكان قريبا من القسم الثاني الذي يستند إلى ضرب الأمثلة كما قدمناه في إلحاق القليل بالكثير في ضرب العقل على العاقلة.
1330- ومما ينقدح في هذا النوع أن يقول المتمسك به:
الأصل المسلم وظهاره والفرع الكافر وظهاره والجامع بينهما شبه الطلاق فنفوذ الطلاق من المسلم والذمي شبه جامع بينهما في الظهار فغلب على الظن وهذا وإن كان يستمر شبها فكل شبه يعتضد كما ذكرت في تقاسيم الأشباه فإن تمكن الجامع من إبداء معتضد الشبه كما تقدم مفصلا كان حسنا وإن أراد الاجتزاء بالطرد والعكس عاد إلى المسلك الأول.
والأحزم في قياس الدلالة الاكتفاء بالطرد والعكس فهذا النوع من القياس يجري في الأغلب من المسائل التي يكون المعنى ممكنا فيها ولكن يطول الكلام في تقريره وتتسع العبارة في محاولة ضم نشره والمناظر المتحذق يبغي ضم أطراف الكلام وإرهاق الخصم بالمسلك الأقرب والسبيل المهذب إلى مضيق التحقيق في إيراد فرق يعسر إيراده على شرطه.
فلو تكلف المناظر الجمع بين الطلاق والظهار بمعنى مناسب لكثرت المطالبات في وجوه المناسبات ولم يأمن الجامع من التعرض للنقض ما لم يتناه في التصون والتحرز فيؤثر والحالة هذه جعل الطلاق وصفا ويربط الظهار به حكما ويتخذ المسلم أصلا ويجعل معتمده في إثبات الطريقة جريانها طردا وعكسا.
1331- ومما يتعين الإحاطة به في هذا الصنف [أن] المعنى المخيل حكم مناسب لحكم أو صورة تنبئ العبارة عنها وتقع مناسبة وقد يكون الجامع نفي حكم أو نفي مع ظهور المناسبة والسلامة عن المبطلات فإذا ظهرت الإخالة واتضحت السلامة قيل: معنى مخيل مناسب جامع مستند إلى أصل.فلو قال المطالب وراء ذلك: فلم زعمت أن الحكم الذي قدر وصفا يقتضي الحكم الذي فيه النزاع؟(20/353)
كان الجواب الكافئ فيه إيضاح الإخالة مع استمرار السلامة فإن أراد المطالب إبداء فرق بين الحكم المجعول وصفا وبين محل النزاع لم ينتظم فيه كلام على صورة الفرق ونظمه.(20/354)
ص -228-…1332- نعم قد يبدى كلاما يقدح في المناسبة ويتعين على المستدل قطع ما دونه واستقلال مناط الحكم المتنازع فيه بمناسبة وإخالة.
وبيان ذلك بالمثال: أنا إذا طلبنا مسلك المعنى وقلنا: كلمة تتضمن التحريم فيثبت حكمها في حق الذمي كالطلاق وكان معنى التحريم مع قبول المرأة له واتصاف الكافر بالاستمكان منه مناسبا للنفوذ.
فإذا قال الخصم: التحريم ينقسم إلى ما يقع تصرفا [محضا] في مورد النكاح غير متعلق بحق الله تعالى وإلى ما يتعلق بحق الله تعالى [وتحريم الظهار يتعلق بحق الله تعالى] والاستحقاق في في مورد النكاح قائم لم ينخرم والكافر لا يخاطب بما يقع حقا لله تعالى فقصد المعترض بهذا يرجع إلى [توهين] الإخالة في التحريم المطلق فيتعين الإجابة بطريقها وليس ما جاء به فرقا على نظمه المعروف.
1333- فإذا قلنا في هذه المسألة: من صح طلاقه صح ظهار فنحن رابطون نفوذا بنفوذ ولكن في تصرفين مختلفين يتأتى جعل أحدهما [أصلا والآخر] فرعا ونصب الجامع بينهما وإذا أمكن الجمع تصور الفرق ولا يمكن الجمع بين حكم مناسب لشيء وبين ذلك الشيء فلما أمكن الفرق ظهرت المطالبة بالجمع وتميز هذا الصنف عما يتمحض فقها مناسا فكان القسم الذي فيه الكلام بين قياس المعنى من جهة مناسبة تصرف تصرفا على الجملة مع الجريان على السلامة وبين مسالك الأشباه من جهة تطرق المطالبة بالجمع وعدم التزام المعلل له.
والذي [يحيك في الصدر] أن المعنى إذا أمكن فهو [أولى] ونصبه في مراتب الأقيسة أعلى والتمسك بالأدنى مع الاستمكان من الأعلى لا [يتجه] في طرق الفتوى والنظر تدوار على تمهيد طرق الاجتهاد التي هي مستند الفتوى فسبيل الجواب عنه أن نقول:(20/355)
1334- إذا اشتملت المسألة المظنونة على مراتب من الأدلة متفاوتة فلا حرج على المستدل لو تمسك بأدنى المراتب وإنما يظهر تفاوت الرتبتين إذا تناقض موجب الحجتين فيقدم موجب الأعلى على الأدنى فأما إذا توافقت شهادات المراتب المختلفة على مقتضى الوفاق فلا معاب على من يتمسك بالأدنى وكذلك إذا اشتملت المسألة على خبر نص وقياس ولا يمتنع التمسك(20/356)
ص -229-…بالقياس الموافق الخبر وإنما يمتنع التمسك بقياس يخالفه نعم إذا كان المطلوب في المسألة علما فلا وجه للتمسك بقياس لا يقتضي العلم.
1335- وحاصل القول في هذا الفن إذا انتهى الكلام إليه يحصره أقسام.
أحدها: يطلب العلم وما كان كذلك فالمطلوب منه ما يفضي إلى العلم ولا حكم لتفاوت الرتب بعد استواء [الجميع] في الأفضاء إلى العلم.
1336- والقسم الثاني: ما تتفاوت الرتب فيه ومتعلق جميعها ظنون.
والرأي عندنا تسويغ التمسك بالجميع على ما يراه المستدل.
ومنع بعض الجدليين التمسك بالأدنى مع التمكن من الأعلى وهذا فيه نظر إذا تميزت المراتب بالقواطع وإن كانت كل مرتبة في نفسها لا تقتضى علما فأما إذا كان تفاوت الرتب مظنونا فلا يمتنع وفاقا من التمسك بأدنى آحاد الرتب.
1337- ومما يتعلق باستكمال الكلام في هذا الفصل أنه قد يتعلق ثبوت بنفي أو نفي بثبوت على مضاهاه قياس الدلالة وليس من قياس الدلالة في شئ وهو كقول القائل من لا يملك التصرف [يل] الوالى التصرف منه أو من يستقل بالتصرف لا يلي الوالى منه ما يستقل به.
فهذا إذا سلم يلتحق بأقيسة المعاني فإنه مناسب مخيل ولا ينتظم بين النفي والإثبات فرق.
1338- وقياس الدلالة [يتميز] عن محض قياس المعنى بهذا فإنه لا يمتنع رسم [فرق] بين وصف قياس الدلالة والحكم المنوط به ويمتنع ذلك بين نفي التصرف وإثبات الولاية وإثبات التصرف ومنع نفي الولاية.
1339- فهذا منتهى القول على قدر ما يليق بهذا المجموع في قياس الدلالة فإذا نجز قدر الحاجة في مراتب الأقيسة حان أن نرجع بناء الكلام إلى الترجيح فنقول.
فصل: [الترجيح في الأقيسة].
1340- إنما يجري الترجيح في أقيسة لا يعترض عليها إلا من وجهة التعارض ثم الأصل المعتبر في الترجيح [الخصيص] بالأقيسة [ينشأ] من تفاوت الرتب مع اجتماع الجميع في الظن.(20/357)
ص -230-…فأما اقيسة المعاني فمستندها قاعدة معنوية معلومة ولا ترجيح في معلوم فإذا انحط المعنى عن العلوم فقد تقدم ترتيب مسالك الظنون والأرجح: فالأرجح أقربها إلى المعنى المعلوم وقد مضى ترتيبها في القرب والبعد.
1341- ومما يتعلق بالترجيح في المعاني النظر فيما يثبتها وقد تقدم القول مثبتات المعاني ورجع الحاصل إلى مسلكين:
أحدهما: إيماء الشارع.
والثاني: الإخالة [مع السلامة.
وما يثبته الشرع مقدم على الإخالة] التي لا دلالة في لفظ الشارع عليها والسبب فيه أن ما أشار الشارع إلى التعليل به أمن المستنبط من الوقوع في متسع المصالح التي لا يحصرها ضبط الشريعة وهذا أمر عظيم في الاجتهاد وهو محذور الحذاق من أهل النظر ثم الإخالة على الرتب المقدمة.
1342- ومن الأسرار في ذلك: أن الاستدلال يصح القول به وإن لم يستند إلى أصل حكمه متفق عليه على الرأي الظاهر فلو عارض استدلال لا اصل له معنى مستندا إلى أصل فالمستند إلى الأصل مرجح على الاستدلال والسبب فيه انحصاره في حكم ثابت شرعا متفق عليه والمستدل على خطر الخروج عن الضبط.
1343- فهذه قواعد الترجيح في أقيسة المعاني.
ثم أدناها مرجح على أعلى الأشباه المظنونة كما سبق في ذلك قول بالغ.
1344- فإذا تعارض شبه خاص ومعنى عام كلي فقد قدمنا وجه الرأي فيه فلا نعيده.
1345- والاستدلال إذا عارضه شبه [ومن] ضرورة الشبه استناده إلى أصل فالذي ذهب إليه المحققون تقديم الشبه لمكان استناده إلى أصل.
وقدم الأستاذ أبو إسحاق رحمه الله تعالى الاستدلال على الشبه والقول في ذلك يتعلق بالظن عندنا فليعمل كل مجتهد على حسب ما يؤدي إليه إجتهاده.
1346- فهذه مجامع الأقوال في ترجيح الأقيسة لا يشذ عنها إلا أفراد مسائل اضطراب فيها الجدليون ونحن نرسمها مسألة مسألة وفي استيفائها استكمال القول في الترجيح.(20/358)
ص -231-…مسائل تشذ عن القاعدة العامة للترجيح.
مسألة:
1347- إذا تعارضت علتان إحداهما منعكسة والآخرى غير منعكسة فالذي ذهب إليه معظم الأصوليين أن الانعكاس من المرجحات المعتمدة.
وهذا يتجه جدا على قولنا إن الانعكاس مع الاطراد دليل صحة العلة وقد قدمنا في حقيقة العكس قولا بالغا مغنيا عن الإعادة.
ونحن نذكر من اسراره مأخذا يستدعيه ويقتضيه أمر الترجيح فنقول:
1348- القياس الشبهى إذا اطرد وانعكس كان الانعكاس مخيلة معتمدة جدا فإن أقوى متعلقات الأشباه الأمثلة كما قدمنا ذكرها والاطراد والانعكاس فن الأمثلة المغلبة على الظن فإذا فرضنا تعارض شبهين انعكس أحدهما دون الثاني كان ذلك ترجيحا مقتضيا مزيد تغليب الظن لا يجحده في هذا المقام إلا غبي بمآخذ الأقيسة ومراتبها.
1349- وإن فرض الانعكاس في أقيسة المعاني فلا بد من ذكر تقسيم في ذلك منبه على سر العكس أولا ثم يعود الكلام إلى غرضنا من الترجيح فنقول: رب معنى مخيل مناسب لا يشعر انتفاؤه لانتفاء الحكم في وضعه وربما يشعر انتفاؤه بانتفاء الحكم الذي اقتضاه الطرد.
وبيان ذلك بالمثال: أنا قلنا في تحريم النبيذ: مشتد مسكر فهذا يناسب التحريم من جهة إفضاء السكر إلى الاستجراء على محارم الله تعالى والاستهانة بأوامره وعدم الشدة لا يشعر بالتحليل.
1350- وإذا قلنا: مستقل بالتصرف فلا يولى عليه كان الاستقلال مشعرا بنفي الولاية وعدم الاستقلال مشعر بإثبات الولاية فإذا تمثل النوعان في قياس المعنى بنينا عليه غرضنا وقلنا: إن لم يكن المعنى بحيث يخيل عدمه عدم حكم الطرد وفرض مع ذلك انعكاسه فقد تجمعت فيه الإخالة والشبه فإذا عارضه معنى غير منعكس ولم يكن في وضعه بحيث يشعر عدمه بعدم الحكم فالمنعكس مقدم عليه بطريق الترجيح إذا اجتمع فيه إخالة فقهية وقوة شبهية.(20/359)
ص -232-…1351- فإن تعارض معنيان وأحدهما يشعر في الطرد والعكس نفيا وإثباتا والثاني يخيل من وجه الطرد ولا يخيل من جهة العكس فان انعكس المخيل ولم ينعكس ما لا يخيل فالمنعكس مرجح وسبب ترجيحه قوة الإخالة وإن لم ينعكس ما لا يخيل من جهة العكس بسبب علة أخرى خلفت العلة الزائلة فالوجه ترجيحها على العلة التي لا تخيل في العكس فإن عدم الانعكاس فيما يخيل من جهة الانعكاس محمول على ثبوت علة اخرى خلفت العلة الزائلة وقوة الإخالة لا تزول.
1352- وتحقيق هذا: أنا قدرنا عند انتفاء العلة التي فيها الكلام انتفاء علة أخرى [لانتفي] الحكم لقوة الخالة [وشدة] الارتباط [ومقتضى 9 اقتران الحكم والعلة وهذا المعنى لا يتحقق فيما لا يقتضي الإخالة في جهة العكس.
1353- فلو لم تنعكس علة مقتضاها الانعكاس لمكان علة اخرى [خالفت] وانعكست التي لا تخيل في جهة العكس فقد اختلف المحققون في ذلك:
فقدم مقدمون المنعكس لاجتماع قوة الإخالة في الطرد وقوة الشبه في العكس وذهب أخرون إلى تقديم العلة التي تخيل في جهة العكس لاختصاصها بقوة الإخالة.
وأدنى مأخذ المعاني مقدم على أعلى مسالك الاشباه ولا يقدح في قوة الإخالة عدم الانعكاس إذا ثبتت علة تخلف العلة في الطرد.
1354- ومما يتم به الغرض في ذلك أن العلة إذا أخالت في العكس فالعلة المخالفة يجب أن تكون أقوى من [إخالة] العلة الأولى في العكس لا محالة.
1355- فإن امتنع الانعكاس لنص أو إجماع فهذا موضوع التوقف.
قال قائلون: عدم الانعكاس مفسد للعلة من حيث إنه أثر في فقهه وإخالته فكان هذا كالنقض في الطرد.
وقال المحققون: لا يبطل العلة فلها في الثبوت دلالة وعلة عدم الحكم عدم العلة أمكن الانعكاس فالإجماع [قدح انتفاء الحكم] في تقدير العدم علة والنقض يخرج وجود العلة عن كونه علة والقول في النقض طويل وقد سبق تفصيله فيما تقدم فهذا هو اللآئق بغرض الترجيح في فصل الانعكاس.(20/360)
ص -233-…مسألة:
1356- وقد تقدم القول في العلة القاصرة المقتصرة على محل النص فإذا رأينا صحتها فلو فرضنا علة متعدية عن محل النص ففي ترجيحها على القاصرة خلاف.
1357- وحاصل ما قيل فيه ثلاثة مذاهب:
أحدها: وهو اختيار الأستاذ أبي إسحاق ترجيح القاصرة.
والثاني: وهو المشهور ترجيح المتعدية.
والثالث: وهو اختيار القاضي أنه لا ترجح إحداهما على الأخرى بالقصور والتعدي.
1358- وأول ما يجب به الافتتاح تصوير المسألة:
فإن فرضنا علتين: قاصرة ومتعدية في نص واحد فالقول في هذا ينبني على أن الحكم الواحد هل يعلل بأكثر من علة واحدة وهذا أصل قد سبق تمهيده.
فإن لم يمتنع اجتماعهما فلا معنى لترجيح إحدى العلتين على الأخرى ولكن الوجه القول بالعلتين والقاصرة والمتعدية متوافيتان في محل النص الواحد لا تناقض بينهما ولا تعارض فإن المتعدية مستعملة مقول بها وراء النص.
وإن لم نر اجتماع [العلتين لحكم واحد فإذ ذاك] ينقدح الكلام في ترجيح القاصرة على المتعدية.
1359- [أما الجمهور] من أرباب الأصول فذاهبون إلى ترجيح المتعدية ووجه قولهم أن العلل [تعني] كفوائدها والفائدة المتعدية فإن النص يغنى عن القاصرة فكان التمسك بالمتعدية أولى ومن رجع القاصرة احتج بأنها متأيده بالنص وصاحبها آمن من الزلل في حكم العلة فكان التمسك بها أولى.
1360- ووجه القاضي: إن الفوائد بعد صحة العلل [وصحة العلل] ترتبط بما يصحهها مما يقتضي سلامتها عن المبطلات فإذا دل الدليل على الصحة.
واستمرت دعوى السلامة فلا نظر وراء ذلك في النتائج والفوائد قلت أو كثرت وليس من الرأى الترجيح بحكم العلة وهو النتيجه والفائدة.(20/361)
ص -234-…والترجيح الحقيقي إنما ينشأ من مثار الدليل على الصحة وفائدة العلة في مرتبة ما يدعى لها.
1361- وقول القاضي في المسلك الذي ذكره أوجه الأقوال في مقتضى الأصول.
وما رآه الجمهور من النظر إلى الفوائد متروك بما ذكرناه وما اعتبره الأستاذ في مطابقة النص لحكم العلة القاصرة غير معتبر لما نبهنا عليه من أن حق المرجح ألا ينظر إلى حكم العلة ولا يرجح به بل الترجيح بما يصحح به العله ويقتضى مزيد تغليب الظن فيه.
وما ذكره مرجح العلة القاصرة من الأمن [لا وقع] له فإنه راجع إلى استشعار [خيفة] لا إلى تغليب ظن وتلويح متلقى من مسالك الاجتهاد.
1362- والذي [يبتغى] وراء ما ذكرناه أن العلة المتعدية إذا صحت على السبر ولم يناف صحتها طارىء فقد وجدنا معنى على شرط الصحة ومقتضاه اعتبار غير المنصوص عليه بالمنصوص عليه وهو مستند إلى أصل ثابت منشؤه من قاعدة شرعية.
فلست أدري ردها لمكان حكمة تسنح من الفكر منطبقة على محل النص فإن المعاني إذا اتصفت بالصفات التي ذكرناها من اجتماع الأمور المرعية والسلامة عن المبطلات والاستناد إلى منصوص عليه.
فالأولون من الأئمة كانوا مسترسلين على العمل بها وليس ما يجرى في الفكر من العلة القاصرة مناقضا فلا وجه لترك المتعدية قطعا.
وإنما المتروك من قول من يرجح العلة المتعدية [تعلقه] بالفوائد ومصيره إلى أن العلة [تعنى] لثمرتها وفوائدها وهذا واه ضعيف فالوجه التعلق باسترسال المجمعين على العمل بالقياس كما ذكرناه وهذا إذا ضمه الناظر إلى ما حصلناه من القول في العلة القاصرة انتظم له فيه حقيقة المراد.
1363- [وعندنا أن] هذه المسألة غير [واقعة في الشريعة وإنما هي مقدرة] والشريعة عرية عن اتفاق وقوعها.
1364- فإن قيل: قد علل أبو حنيفة رحمه الله تعالى الربا في النقدين.(20/362)
ص -235-…بالوزن وهو متعد إلى كل موزون وعلل الشافعي رحمه الله بكونهما جوهري النقدين وهذا مقتصر على محل النص.
فما قولكم في ذلك؟.
1365- قلنا: الوزن على باطلة عند الشافعي والقول في التقديم والترجيح يتفرع على اتصاف كل واحدة من العلتين بما يقتضى صحتها لو انفردت.
1366- ومن تمام الكلام في ذلك أن العلة القاصرة لو صح القول بها إن كانت غير مخيلة في جهة العكس فلا معارضة ولا مناقضة [والنقدية] ليست مخيلة في جهة العكس فكيف يتوقع اقتضاؤها نفي الحكم في العكس؟ وقد ذكرنا في مراتب الأقيسة أن علة الربا في الأشياء الستة واقعة آخرا في درجات الأشباه ولا يتسلط المستنبط عليها [إلا] بتقدير الإرهاق والاضطرار إلى استنباطها.
فلسنا نرى للمسألة الموضوعة جدوى ولا فائدة.
1367- فإن قال قائل: لو استنبط ناظر علة في محل التحريم فصادف اجتهاده علة قاصرة ورأى محل النزاع عكسا لها واستنبط مستنبط آخر في محل تحليل مجمع عليه علة متعدية وصورة النزاع طردها فما القول والحالة هذه؟
قلنا: لا يتصور أن يعارض عكس طردا فإن الطرد في منزلة العلة والعكس يقع في حكم [العضد] للإخالة على طريق التبعية ولا يقابل ما هو أصل ما يقع فرعا في معرض التلويح.
وهذا على التحقيق لو قيل به مصير إلى معارضة العلة ترجيحا.
1368- فإذا لم يتصور في اجتماع العكس قاصرة ومتعدية على حكم التوافق [نظرا] إلى الترجيح ولم يتحقق تعارض بين قاصرة ومتعدية في أصلين مختلفين فإن القول يرجع إلى معارضة الطرد والعكس وهذا لا سبيل إليه.
1369- فإن قيل: علة الشافعي في تثبيت الخيار للمعتقة تحت العبد قاصرة وقد قدمتموها على العلة المتعدية لأبي حنيفة قلنا هذا ساقط من أوجه:
أحدها: أن ما اعتمده أصحاب أبي حنيفة من تعليل الخيار باطل في نفسه فلا ينتهى القول فيه إلى مقام الترجيح.(20/363)
ص -236-…ومنها: أن الرأي الظاهر عندنا ألا يعلل خيار المعتقة [تحت العبد] كما حققنا في "الأساليب".
ومنها: أن من يثبت الخيار للمعتقة تحت الحر يزعم أن قصة بريرة كانت واقعة والزوج.
حر فلا معنى للاستشهاد بهذه الصورة في ادعاء الوقوع والاستشهاد به.
1370- فإذا هذه المسألة تقديرية لا نراها واقعة وقد [كنا] ذكرنا أن اجتماع العلل للحكم الواحد ينساغ في نظر العقول [ولكنه غير متفق وقوعا في الشرع] فلا معنى لإعادة ما سبق فهذا منتهى المراد [في ذلك].
ثم فرع الجدليون وراء هذا مسألتين نرسمهما وهما عريتان عن الفوائد.
مسألة:
1371- قال من يرجح العلة المتعدية: إذا تعارضت علتان فروع إحداهما أكثر من [فروع] الأخرى [وهما جميعا متعديتان] فكثيرة الفروع منهما مقدمة على الأخرى.
وقد ذكرنا أن أصل الكلام في المتعدية والقاصرة غير واقع وإنما يتكلم المتكلم على التقدير فالقول في المتعديتين يجرى على ذلك النحو فليس في المتفق عندنا علتان على الوفاق لحكم واحد منصوص عليه ومجمع عليه وكل واحدة على شرط الصحة.
1372- فإن قدر المقدر فرضهما فلسنا نرى تعطيل العلة الكثيرة الفروع لمكان أخرى تساويها في بعض مقتضياتها فليس هذا [إذا] لو اتفق [من] مسالك الترجيح في شيء فلو فرضنا علتين متناقضتين في محل النزاع وأصلاهما مختلفان فلا يقع الترجيح بكثرة فروع إحداهما قطعا ومن خالف في ذلك لم نبال به وإنما تتخصص إحدى العلتين بما يقتضي تغليبا على الظن والترجيح عائد إلى تلويح ظني وهذا القدر كاف.
مسألة:
1373- من اعتقد أن كثرة الفروع تقتضي ترجيحا رسم مسألة وتكلم فيها مجادلا بما يصفه.
والغرض ألا يعرى هذا المجموع عما [قيل في] أصول الترجيح.
قال هؤلاء: إذا كثرت فروع علة وقلت فروع أخرى ولكن القليلة الفروع.(20/364)
ص -237-…اعتضدت بنظائر لها تضاهي في عدتها فروع العلة الكثيرة [الفروع] كانت كثرة النظائر في معارضة كثرة الفروع.
1374- وبيان ذلك بالمثال: أن الشافعي خصص لزوم الكفارة العظمى من جملة المفطرات بالوقاع ورأى إتيان المرأة في المأتى الأصل وفيه واقعة الأعرابي وعدى علته إلى إيلاج الحشفة في كل فرج.
-1375 واعتبر أبو حنيفة في إيجاب الكفارة الفطر [بمتنوع] [المفطرات] فكانت فروعه أكثر ولكن للاختصاص بالوقاع نظائر كثيرة كالغسل والحد ووجوب المهر وتكميله والإحصان والتحليل فكانت هذه النظائر في الاختصاص مضاهية لكثرة الفروع في علة الخصم.
1376- وهذا قول عرى عن التحصيل في مساق كلام هذا القائل إلى [أن نذكر] حقيقة المسألة فإن النظائر التي ذكرناها ما نراها معللة فلا وجه للاعتضاد بها.
وإن تمسك متمسك بها في مسلك الأشباه [فلا] تعلق أيضا بها فإن ثبوت [الأحكام بالوقاع] على الاختصاص لا يغلب على الظن أن يختص بها كل حكم ينقل فيه ولا يجري مجرى الأمثلة التي ذكرناها للرتبة العليا من أقيسة الأشباه.
ومن فهم ما تقدم تميز عنده ما نحن فيه عما سبق.
1377- وبالجملة: إن تلك الأمثلة تجري في غير المطلوب إذ النظر في اعتبار القليل بالكثير في ضرب العقل اعتضد بالقليل في حق الشريك وكان ذلك ناشئا من عين المطلوب والضرب مسترسل لا توقف فيه فلا أصل إذا لما ذكر هذا الإنسان.
ثم إنما يستقيم ما ذكره لو كانت علة الخصم صحيحة دون تقدير المعارضة وليست كذلك ولو صحت لما عارضتها علة أخرى تساويها وتوافقها في بعض مقتضياتها.
وقد ينشأ من فرض هذه المسألة أصل في الترجيح فليتأمله الناظر.(20/365)
1378- فأما مسلك أبي حنيفة فمردود من جهة التناقض المنقول عنه في مذهبه وإنما المذهب المطرد مذهب مالك في تعليقه الكفارة بكل فطر هاتك حرمة الصوم من غير مناقضة فإذا استنبط ذلك من محل النص وهو الوقاع واستنبطناه فلا نرى لترجيح ما يستنبطه وجها مع جريان ما اعتبره مالك وإن تعلقنا بالأشباه وادعينا أن الوطء.(20/366)
ص -238-…يجب أن يكون على مزية اعتبارا [بالنسك] فهذا شبه على بعد في معارضة معنى الهتك [وليس من الانصاف معارضة شبه على هذا النعت بمعنى جار في محل النزاع وإن لم نر تعليل الكفارة لم ينتفع بهذا ما لم نبطل معنى الهتك] لمالك وبالجملة قوله في تعميم الكفارة متجه جدا والعلم عند الله وليس هذا من القول في قواعد الترجيح ولكن وضع المسألة على ما وصفناه.
مسألة: متعلقة ببقايا الكلام في هذا الفن.
1379- قال قائلون من أصحاب الشافعي رضي الله عنه: إذا تعارضت علتان وإحداهما أكثر فروعا بيد أن الأخرى منطبقة على الأصل والفرع من غير تأويل والكثيرة الفروع تحتاج إلى تقدير [تأويل] في بعض مجاريها فهذا يغض من جريانها ويقدح في الترجيح بكثرة فروعها.
1380- وبيان ذلك: أن إذا اعتبرنا في القرابة المقتضية للنفقة والعتق البعضية وهذا يجري في الوالدين والمولودين على انطباق.
واعتبر أبو حنيفة رضي الله عنه الرحم والمحرمية وفروع علته وإن كانت مركبة أكثر فإنها تتناول الأصول والفروع غير أن الرحم والمحرمية لا يجريان إلا على تأويل بين الذكرين والأنثيين وذلك بأن يقدر أحدهما ذكرا والآخر أنثى.
وهذا ركيك من الكلام لا ينساغ مثله لمتشوف إلى تحصيل وذلك أن الرحم لا تأويل فيه وكذلك المحرمية ولكن لا يظهر التحريم لا لتقاعد العلة ولكن لعدم المحل.
1381- وليس من الرأي التعويل على مثل هذا بعدما قدمنا القول في كثرة الفروع وقلتها وقد انتهى الغرض في هذا الفن ونحن نأخذ بعده في رسم مسائل في سائر أغراض المرجحين إن شاء الله تعالى.
مسائل في أغراض المرجحين.
مسألة:
1382- ذهب ذاهبون إلى أن ما تجاذبه أصلان وتعارض في إلحاقه بأحدهما نظر النظار فمن تمكن من توفير شبهى الأصليين كان مسلكه مرجحا ومثلوا ذلك بالقول في يمين اللجاج والغضب فإنها بين النذر الذي يوجب الوفاء وبين اليمين التي توجب(20/367)
ص -239-…الكفارة فمن خير بين الوفاء والكفارة كان مسلكه مرجحا من جهة توفير شبهى الأصليين.
1383- وهذا مزيف عندنا من جهة أنه ترجيح مذهب لا ترجيح علة جارية على شرط الصحة وقد قدمنا في أول [الكتاب] أن المذاهب لا ترجح [و] مأخذ مسألة يمين اللجاج من [الآثار عندنا] وكل من سلك هذا المسلك فهو يزعمه [يوفر] شبهين من أصلين على إبعاد في الكلام وهو على القرب بقطعة عنهما جميعا وهو غافل عما يأتي.
وبيانه أن مقتضى النذر إلتزام الوفاء [لا تجويزه] ومقتضى اليمين التزام الكفارة والتخيير مباين للمقتضيين ووضوح ذلك مغن عن بسط القول فيه.
مسألة:
1384- إذا تعارضت علتان واختصت إحداهما بالاستناد إلى أصول ففي الترجيح بكثرة الأصول خلاف بين أهل الأصول.
فذهب بعضهم: إلى أن ذلك يقتضي ترجيحا من جهة أنها في محل الشواهد وكثرة الشهادات تغلب على الظن وهو المقصود بالترجيح واستشهد هؤلاء بكثرة الرواة في تعارض الخبرين.
1385- والرأي الحق عندنا يقتضي تفصيلا.
فإن كان المعنى الجامع واحدا وكان مستندا إلى أصول فلست أرى الترجيح بكثرة الأصول والحالة هذه فإن الدلالة على الحكم [هي] المعنى وإنما يذكر الذاكر الأصل استئناسا به وأمنا من الوقوع في متسع الظنون مع العلم بأن مسالكها مضبوطة في الشريعة وهذا يحصل بأصل واحد وليس عدد الأصول بمثابة عدد الرواة فإن التعويل في الأخبار على الثقة وظهورها في الظن وهذا يزداد بزيادة عدد الرواة ولو استمكن القايس من جوامع وكل جامع معنى مستقل مستند إلى أصل ولم يتمكن الخصم إلا من معنى واحد فلا شك أن من كثرة معاينة مع الاستواء في الرتب مقدم لكثرة الدلالات وهذا الآن يناظر كثرة الرواة.
ولكن إذا عارض معنى الخصم معنى آخر ثم أتى بمعان فهذا من باب ترجيح دليل بدليل وقد تقدم القول فيه وهو متعلق بلفظ [بعدما وضح] أن صاحب.(20/368)
ص -240-…المعاني يقدم مذهبه.
1386- ومما يتصل بهذا الفصل أن الناظر في مسلك الأشباه قد يلقى صورة تضاهي كثرة الأصول والترجيح بها واقع.
ومثاله: أن أحمد بن حنبل رحمه الله جوز المسح على العمامة تشبيها بالمسح على الخفين ومنعه الشافعي رحمه الله تشبيها بالوجه واليدين.
فإذا ما يمنع المسح فيه أكثر وهذا يقوي من جهة أن الكلام في قربه واحدة تشتمل عليها رابطة فكثرة الأمثلة فيها تقرب من مآخذ الأشباه وليس هذا كأصول متبددة يجمعها معنى واحد فليفهم الناظر ما يرد عليه.
1387- فإن قيل: إلحاق الرجل بالرأس أخص وأمس من جهة أن التخفيف يتطرق إليها.
قيل: هذا باطل فإن ما ابتنى على التخفيف أشعر ابتناؤه عليه باكتفاء الشرع به حتى لا مزيد وهذا يعتضد بأمر واقع وهو تيسير مسح الرأس مع العمامة من غير احتياج إلى [تنحيتها] بخلاف القدم والخف ثم محل الأشباه في الرخص البعيدة عن مدارك المعاني الجزئية والكلية ضيق جدا والأصل اتباع الأصل.
مسألة:
1388- إذا تعارض قياسان ومع أحدهما ظاهر معرض للتأويل فالعلماء على مذاهب.
قال بعضهم: إذا كان الظاهر بحيث يسوغ تأويله بالقياس الذي يعارضه فلا وقع له ولا ترجيح به والقياسان متعارضان.
وقال قائلون: القياس الذي يعتضد بالظاهر مرجح وقال آخرون القياسان يتساقطان والتعلق بالظاهر.
1389- فأما من أسقط الظاهر فمذهبه مردود وذلك أن تأويل الظاهر إنما ينساغ إذا اعتضد بقياس غير معارض والمسألة مفروضة في تعارض القياسين.
وإذا بطل هذا المذهب فالمذهبان الآخران بعده متقاربان وحاصلهما يئول إلى(20/369)
ص -241-…تقديم المذهب الذي توافق عليه الظاهر والقياس.
1390- والعبارة السديدة: ترجح القياس المعتضد بالظاهر فإن الظاهر لا يستقل دليلا مع قياس يصلح لإزالة الظاهر فإذا لم يستقل دليلا واعتضد به قياس أفاده ترجيحا وتلويحا ولا مرد على من أسقط القياسين وتمسك بالظاهر والأمر بعد بطلان المذهب الأول قريب.
مسألة:
1391- إذا تعارض قياسان واعتضد أحدهما بمذهب صحابي.
فمن يقول: مذهب الصحابي حجة عد هذا من انضمام دليل إلى أحد القياسين وهذا يقتضى تقديم المذهب الذي تطابق عليه القياس ومذهب الصحابي.
ويقع الكلام في أن هذا هل يسمى ترجيحا أم لا؟ وإذا كنا لا نرى التعلق بمذهب الصحابي فلا أثر له في الترجيح وقوله كقول بعض علماء التابعين ومن بعدهم.
1392- وإن اعتضد القياس بمذهب صحابي شهد له الشارع بمزية علم في ذلك الفن كقوله عليه السلام أفرضكم زيد فهذا على المذهب الظاهر يقتضى ترجيحا وإن كنا لا نرى قول الصحابي حجة وذلك لما في هذا التوافق من تغليب الظن مع المصير إلى أن مجرد قوله ليس بحجة.
1393- ثم قال الشافعي رضي الله عنه قول زيد في الفرائض أرجح من قول معاذ وإن [قال رسول الله صلى الله عليه وسلم]: "أعرفكم بالحلال والحرام معاذ"1 وذلك أن شهادة الرسول عليه السلام لزيد2 أخص في الفرائض3 وأدل على اختصاصه بمزية الدرك فيها.
وكذلك مذهبه مع انضمام قياس أرجح من مذهب علي رضي الله عنه وإن قال الرسول عليه السلام: "أقضاكم علي"4 وهذا أوضح وأبين مما قدمناه في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد "3/281" وابن ماجه "154" والبيهقي "3/422" وقال: صحيح على شرط الشيخين, ووافقه الذهبي.(20/370)
2 زيد هو: ابن ثابت ين الضحاك الأنصاري الخزرجي البخاري المدني. استصغره النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر فرده, وشهد أحدا وما بعدها, وكان يكتب لرسول الله الوحي والمراسلات. مات بالمدينة سنة "45" له ترجمة في "أسد الغابة" "2/278", والإصابة "1/543" والنجوم الزاهرة "1/130".
3 الحديث السابق.
4 نفس الحديث.(20/371)
ص -242-…في معاذ فإن شهادة الشارع له بمزية النظر في القضاء تشير إلى التفطن لقطع الشجار وفصل الخصومة والتهدي إلى تمييز المبطل عن المحق والشهادة بمزية العلم في الحلال والحرام أوقع في مظان الاجتهاد والشهادة بمزية العلم في الفرائض أخص من الجميع فهذه إذا ثلاث مراتب.
1394- فإذا لم يكن في الواقعة قياس واجتمعت هذه المراتب فالقول في تقليد من يقلد يتعلق بكتاب الفتوى وبيان المفتى والمستفتى وسنستقصي القول في مذاهب الصحابة.
1395- فإن قيل: إذا اعتضد مذهب يقول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فما الرأي فيه وقد قال عليه السلام: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر"1 قلنا: هذا أعم عندنا من الشهادة لعلي بمزية العلم في القضاء فإنا نجوز أن الرسول عليه السلام أشار إلى الاستحثاث على اتباعهما في الخلافة وإبداء الطاعة فإذا انضم إلى المراتب في الشهادة للصحابة رضي الله عنهم مرتبة رابعة فأعلاها وأولاها في التعلق أخصها وتليها الشهادة لمعاذ2 وتليها الشهادة لعلي3 رضي الله عنه ثم يلي ما ذكرناه الشهادة لأبي بكر4 وعمر5 رضي الله عنهما.
1396- ثم قال الشافعي: قول على في الأقضية كقول زيد6 في الفرائض وقول معاذ في التحليل والتحريم إذا لم يتعلق بالفرائض كقول زيد في الفرائض.
مسألة:
1397- إذا تعارضت علتان وإحداهما مستندة إلى أصل مجمع عليه [أو إلى نص] والأخرى ليست كذلك فالمستندة إلى الإجماع أو إلى محل النص مرجحة.
وبيان ذلك بالمثال: أن أبا حنيفة رحمه الله إذا أوجب الكفارة في الطعام وقاسه على الوقاع فعلته مستندة إلى محل الإجماع والنص.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي "3662" وقال: حسن, وابن ماجه "97" وأحمد "5/382, 385, 399" والبيهقي "5/12" والحاكم "3/75".
2 سبقت ترجمته.
3 سبقت ترجمته.
4 سبقت ترجمته.
5 سبقت ترجمته.
6 سبقت ترجمته.(20/372)
ص -243-…ونحن إذا أبقينا الكفارة واستنبطنا القياس من [بلع] الحصاة لم يكن مستند [قياسنا] مجمعا عليه وهو [أظهر] ما يعتني به في الترجيح.
ولكن لا ينتهي القول مع أبي حنيفة إلى الترجيح فإن ما استنبطه باطل وإنما يقع الترجيح وراء الاستقلال نعم مصادمة مالك عسرة [فإنه] لا يناقض ولا يوجد معه أصل به مبالاة.
1398- ومن هذا القبيل الذي ذكرناه أن أبا حنيفة إذا استنبط علة في عتق الأمة تحت العبد وعداها إلى الأمة المعتقة تحت الحر فعلته إن صحت مستندة إلى محل النص فإن وجدنا محلا مجمعا عليه في نفي الخيار واستندنا إليه علة في عتق الأمة تحت الحر تفاوتت العلتان.
1399- وهذا تقدير ذكرناه: تمثيلا وإلا فعله أبي حنيفة باطلة في تلك المسألة والصحيح عندي قصور العلة رأسا على خيار المعتقة تحت العبد كما ذكرنا في "الأساليب" فليتنبه الناظر لهذا الأصل العظيم في الترجيح وليكن على بال منه.
مسألة:
1400- إذا تقابلت علتان إحداهما ذات وصف واحد والأخرى ذات وصفين فصاعدا.
فذهب بعض الجدليين إلى تقدم التي هي ذات وصف واحد وعللوا بأمرين:
أحدهما: أن ذات الوصف الواحد تكثر فروعها وفوائدها.
والآخر: أن الاجتهاد يقل فيه وإذا قل الاجتهاد قل الخطر.
1401- وهذا المسلك باطل عند المحققين.
فأما كثرة الفروع فقد سبق القول فيه ثم إطلاق هذا القول لا وجه له فرب علة.
ذات وصف لا تكثر فروعها وربما تكون قاصرة لا تعدو محل النص فإن فرض فارض ازدحام علتين على أصل واحد [و] لم تكونا قاصرتين فإذ ذاك ذات الوصفين أقل فروعا ويعود الكلام إلى تعليل حكم بعلتين.
1402- ونحن نقول [و] قد انتهى الكلام إلى هذا الحد:
من يتمسك بذات الوصفين لا يخلو إما أن يقول لا تستقل العلة بالوصف(20/373)
ص -244-…الواحد فعليه إبانة بطلانها ولا يكون هذا الكلام في محل الترجيح وإما أن يقول تستقل العلة بالوصف الواحد فلا معنى إذا لما يريده ولا يتعلق هذا بالترجيح.
1403- وهذا نمثله بقولين للشافعي في علة الربا: مذهبه في الجديد أن العلة الطعم في الأشياء الأربعة وضم في القديم التقدير إلى الطعم.
فإن كان يرى في القديم الاقتصار على الطعم فاسدا تعين بيان فساد الاقتصار وإن كان يرى ذلك مسوغا فليس التقدير وصفا في العلة قطعا.
ولكن إن ذكره ذاكر فغايته أن يكون الكلام في التقدير أظهر منه دونه ويكون هذا بمنزلة من يتخذ صورة من صور الخلاف ويرى الكلام فيها أقرب.
فالقول بالتقديرين جميعا خارج عن محل الترجيح وإنما أجرينا هذا مثالا وإلا فلا ريب في أن الشافعي رأى في القديم الاقتصار على الطعم فاسدا.
1404- وأما ما ذكره من تقديم ذات الوصف من [قلة] الاجتهاد فقول ركيك فإن [النظر] في الأدلة وترجيح بعضها على بعض لا يتلقى من جهة الخطر واستشعار الخوف.
والذي يحقق ذلك أن صاحب العلة ذات الوصف الواحد إن لم ينظر في ذات الوصفين فاجتهاده قاصر وهو على رتبة المقلدين والمقتصرين على طريق من الاجتهاد.
وإن نظر في ذات الوصفين ولم ير التعلق بها فقد كثر اجتهاده وتعرض للغرر ولكن أدى اجتهاده إلى النفي فإن رأى ذات الوصف صحيحة فذات الوصفين عنده عديمة التأثير في أحد وصفيها.
وكل ذلك يفسد نهاية الاجتهاد فسقط الركون إلى قلة الاجتهاد واستشعار الخوف وتبين أن اقتحام الخطر حتم على كل مجتهد.
مسألة:
1405- إذا تضمنت إحدى العلتين نفيا والأخرى إثباتا فقد صار بعض الناس إلى تقديم العلة المثبتة وهذا قول من لا يثبت فيما يأتي به فإن الترجيح لا ينشأ من النفي والإثبات فربما يكون الإثبات أغلب في مسالك الظنون وربما يكون الأمر على [الظن في].(20/374)
ص -245-…العكس فليتبع المتبع طريق التغليب على الظن مع الانحصار في مسالك الشريعة غير معرج على نفي أو إثبات.
1406- ويتصل بهذه المسألة: أن إحدى العلتين إذا انطبقت على أصل مستقر في الشرع وتضمنت الأخرى النفل عنه فهذا مقام النظر فقد قال قائلون النافلة أولى لاشتمالها على الزيادة واستشهدوا بخبرين أحدهما يثبت قول الشارع والآخر ينفيه فالمثبت أولى لاختصاصه بمزية درك يقدر ذهول النافي عنه.
وهذا قد فصلناه في ترجيح الأخبار.
1407- ولكن لو سلمنا الآن فليس مما نحن فيه بسبيل من جهة أن مأخذ الأخبار يستند إلى بصيرة النافلة ومرتبته في الدرك وقد يختص المثبت بها والعلل لا تؤخذ من هذا المأخذ ولكن مسالكها معلومة مسورة فلتعرض ولينظر الناظر فيها ثم لا يقع الترجيح [بحسبها].
نعم الوجه تقديم العلة المنطبقة على الأصل المستقر فإنه في حكم الشهادة المؤكدة للعلة والنافلة تحتاج إلى مزيد وضوح يصادم قرار الأصل الذي يناقضها وإذا كان كذلك فالترجيح بمطابقة الأصل المستقر أولى.
ونقول بحسب ذلك: إذا تقابلت علتان في الحكم بالحظر والتحليل [فالتحليل في] أصل الحظر علته أغلب فالمرجح العلة الحاظرة إلا أن تختص المحللة بمزية ظاهرة.
فهذا سر القول في هذا الفصل.
مسألة:
1408- إذا تقابلت علتان إحداهما حكم والأخرى أمر ثابت محسوس فلا يقع بينهما ترجيح.
وذهب بعض الجدليين إلى أن المحسوس مرجح من جهة أن ثبوته معلوم قطعا.
وهذا الفن ساقط عندنا فإن الحكم عندنا ثابت قطعا وإن لم يكن ثبوته مقطوعا به والقول فيه يتعلق بما مهدناه في استناد إحدى العلتين إلى مقطوع به وتردد الأخرى فأما إذا كان الحكم مجمعا عليه فلا وجه لما قاله هؤلاء.(20/375)
ص -246-…مسألة:
1409- إذا كانت إحدى العلتين تعم الأحوال كعلة الشافعي في منع بيع الكلب فإنه اعتبر النجاسة وكانت العلة الأخرى تختص ببعض الأحوال كالانتفاع الذي تمسك به أبو حنيفة في جواز البيع وهذا لا يجري في الجرو.
فقد قال قائلون: [تقدم] العلة التي تعم الأحوال.
وهذا عندنا عرى عن التحصيل فإن الجرو من جنس ما ينتفع به فلا ينتصب من مثل هذا شئ له وقع في مأخذ الأدلة.
1410- ورأينا في مسألة الكلب أن التعلق بالنجاسة شبه لا يتأتى الوفاء بتقديرها معنى فقهيا ولكنه شبه مطرد.
وقول أبي حنيفة في الانتفاع معنى فقهي ولكنه منتقض والشبه المطرد مقدم على المخيل المنتقض فهذا وجه الكلام.
1411- والأمر المتبع في ترجيح الأقيسة ما مهدناه قبل الخوض في رسم المسائل ولكنا استوعبنا بهذه المسائل ما خاض فيه الخائضون وأوفينا على الاستيعاب وإن تركنا شيئا لم نتعرض له فقد مهدنا ما يرشد إلى [قواعد] القول فيه والله المستعان.
باب النسخ.
1412- النسخ في وضع اللغة معناه الرفع ومنه قولهم نسخت الشمس الظل ونسخت الريح آثار القوم1.
ومعناه في التواضع بين الأصوليين وحملة الشريعة مختلف فيه فأقرب عبارة منقولة عن الفقهاء أن النسخ هو اللفظ الدال على انتهاء أمد الحكم الشرعي مع تأخير عن مورده.
وقال القاضي أبو الطيب2: الدال على انتهاء أمد العبادة وهذا مزيف من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إرشاد الفحول "ص 183" وزاد في: "منه تناسخ القرون, وعليه اقتصر العسكري. ويطلق ويراد به النقل والتحويل, ومنه: نسخت الكتاب. أي: نقلته ومنه قوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ومنه تناسخ المواريث. أ هـ.
2 سبق تخريجه.(20/376)
ص -247-…جهة أن النسخ لا يختص بالعبادات والحدود تعني للجمع والاحتواء.
ولم يقيد كثير من الفقهاء الكلام بالتأخير وهذا يرد عليه الألفاظ المتضمنة للتأقيت على الاتساق والاتصال كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}1 فهذه الألفاظ ليست نسخا وفيها بيان انتهاء الآماد وليس ما ذكرناه مذهبا.
ولكن أتى قوم من اختلال العبارة وقلة تصورهم عما يرد عليها.
1413- والمذهب الذي يعزى إلى الفقهاء ما ذكرناه عاما للأحكام مقيدا بشرط التأخير.
وحقيقته ترجع إلى أن النسخ في حكم البيان لمعنى اللفظ والمكلفون قبل وروده [لا يقطعون بتناول] اللفظ الأول جميع الأزمان على التنصيص وإنما يتناولها ظاهرا معرضا للتأويل.
فالنسخ عندهم تخصيص اللفظ بالزمان كما أن ما يسمى تخصيصا هو إزالة ظاهر العموم في المسميات.
1414- وقد صرح الأستاذ أبو إسحاق: بأن النسخ تخصيص الزمان.
1415- وقالت المعتزلة النسخ هو اللفظ الدال على أن الحكم الذي دل عليه اللفظ الأول زائل في المستقبل على وجه لولاه لثبت مع التراخي.
ومذهبهم قريب من مذهب الفقهاء وقال القاضي أبو بكر بن الطيب النسخ رفع الحكم بعد ثبوته.
وهو لا يحتاج إلى التقييد بالتأخير فإن اللفظ الذي ينتظم لقصد التأقيت ليس فيه رفع حكم بعد ثبوته في قصد الشارع ومعتمد القاضي أن الحكم يثبت على التحقيق مؤبدا ثم يزول بعد ثبوته.
1416- ونحن نذكر لباب كلام القاضي في إتباع من يخالفه ثم نذكر بعد نجاز تفاوضهم ما هو الحق عندنا.
قال القاضي رحمه الله: إذا كان النسخ في حكم البيان لمعنى اللفظ فلا فرق بينه وبين التخصيص وإزالة ظاهر اللفظ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "187" سورة البقرة.(20/377)
ص -248-…وهذا في التحقيق إنكار للنسخ وموافقة لجاحديه من اليهود وغلاة الروافض ويلزم منه تجويز النسخ بما يجوز به التخصيص حتى لا يمتنع نسخ نصوص القرآن والأخبار المتواترة بالخبر الذي ينقله الآحاد وبالقياس على رأى من يرى التخصيص به.
1417- وهذا الذي ذكره القاضي [عندنا] تشعيب غير مستند إلى مأخذ من القطع.
فأما نسبته القوم إلى موافقة من ينكر النسخ فمردود من جهة أن منكريه لا يرون تخصيص الألفاظ في الزمان.
وما ذكره من إلزامهم تجويز النسخ بما يجوز التخصيص به كلام غير سديد فإن المعتمد في التخصيص ما ظهر من سيرة الصحابة رضي الله عنهم فلولا إزالتهم الظواهر لما أزلناها وقد رأيناهم لا يرون النسخ بما يرون التخسيس به فلا وقع إذا لهذا الكلام.
وإن تعلق متعلق باقتضاء النسخ الرفع في اللغة كان ذلك ركيكا من الكلام فإن مثل هذا الأصل العظيم لا يتلقى من اشتقاق اللغة مع اتساعها لتطرق التأويلات إليها.
1418- ثم إذا وضح ما ذكرناه فإن نفتتح بعده سؤالا موجها على القاضي ينكشف به وجه الحق فنقول:
إذا أثبت الله تعالى حكما على المكلفين فمعناه تعلق قوله الأزلي به في حق المكلفين فإذا علم [الله] أنه سيرد عليهم ما يسميه العلماء نسخا فخبره الأزلي يتعلق بتقديره وتحقيقه ويستحيل أن يتعلق خبره بثبوته على الأبد وارتفاعه على [الجمع] فإن ذلك لو قدر لكان [تناقضا] فلا معنى إذا لحقيقة الرفع بعد الثبوت وهذا ما لا جواب عنه.
ويتصل به أن اللفظ الأول الوارد على المكلفين إذا اقتضى تأبيدا فهو متضمن بشرط ألا يرد ما ينفي التأبيد وكان التقدير فيه أن المكلفين متعبدون بالحكم الأول أبدا بشرط ألا يرد عليهم ما ينافيه وهذا الشرط وإن لم يكن مصرحا به فهو ثابت قطعا.
1419- ولا يسوغ فهم الناسخ والمنسوخ مع تنزيه كلام الله تعالى عن.(20/378)
ص -249-…التناقض واعتقاد استحالة البداء عليه إلا على هذا الوجه.
فإذا الحكم الذي يرد النسخ عليه في علم الله تعالى غير مؤبد ولا لبس على الله تعالى وإنما حسب المتعبدون أمر بأن خلاف ما حسبوه ولو تحققوا لكانوا في استمرار الحكم الأول مجوزين للتقدير الذي ذكرناه فلا يكونون [إذا] قاطعين بالتأبيد في الحكم مع تجويزهم ورود ما ينافيه وعلمهم بأنه لا تبديل لقول الله عز وجل وموجب علمه فيرجع والحالة هذه النسخ إلى انعدام شرط دوام الحكم الأول والنسخ إظهار لذلك بعد أن كان مستورا عن المخاطبين ويرجع التقدير في الحكم الأول إلى أن الحكم ثابت بشرط ألا ينسخ فإذا ظهر النسخ لم يكن مقتضاه رفع ما تحقق ثبوته ولكن كان إبداء [لانتفاء شرط] الاستمرار.
والعبارة عن هذا المقصود أن النسخ هو اللفظ الدال على ظهور انتفاء شرط دوام الحكم الأول.
1420- فإن قيل: لا فرق بين هذا الاختيار وبين مذاهب الفقهاء.
قلنا: لا فرق بين هذا وبين مذاهبهم في أن الحكم الثابت في علم الله وقوله تعالى لا يزول لما قدمناه.
ولكن في كلام الفقهاء ما يدل على أن اللفظ الدال على الحكم الأول ظاهر في الأزمان معرض للتأويل تعرض الألفاظ العامة للتخصيص.
وهذا فيه إيهام لا حاجة إليه فإن اللفظ العام في وضعه ليس نصا في استغراق المسميات وليس كذلك موجب اللفظ في تأبيد الحكم فإنا نجوز ورود النص في استغراق الزمان مطلقا مع ورود الناسخ بعده وليس ذلك من جهة تأويل اللفظ في وضعه وإنما هو من جهة [تقدير] شرط مسكوت عنه وهو متضمن كل أمر يجوز تقدير نسخه.
1421- فإن قيل: لو قال الشارع: هذا الحكم مؤبد عليكم لا ينسخه شيء فهل يجوز تقدير النسخ فيه والحالة هذه؟
قلنا: إذا ثبت هذا المعنى نصا لم يجز ورود [النسخ عليه] فإن [في] تقدير [ورود] النسخ عليه تجويز الخلف ولهذا اعتقدنا تأبيد شريعتنا ولا يكاد يبقى خلاف معنوي مع الفقهاء.(20/379)
ص -250-…وما ذكرناه إن كان تنبيها لم [ينتبه] إليه [بحث] الفقهاء [و] إشارة إلى تهذيب لفظ في التعرض لإظهار الشرط [المقدر] الذي لا بد منه فإذا رجع إلى أن الثابت في علم الله تعالى لا ينسخ التفتت المذاهب إلى الوفاق فإن وافق القاضي ما ذكرناه فلا خلاف وإن أصر على أن النسخ يتضمن رفعا لم يكن لمذهبه وجه.
1422- والنسخ فيما اخترناه مثل ما نصفه.
فنقول: إذا توجه الأمر الجازم على معين فهو مشروط بأن يبقى إمكانه فإذا اخترم تبينا لم يكن مأمورا فإن توجه الأمر مشروط بالإمكان والأمر وإن كان مطلقا فالإمكان مشروط [فيه] وإن لم يجر ذكره تصريحا.
وقد ذكرنا في ذلك قولا بليغا في كتاب الأوامر ونقلنا في ذلك لجاج القاضي وطريق تتبعه بالنقض مع بناء الأمر على [امتناع] تكليف ما لا يطاق.
مسألة:
1423- منعت اليهود النسخ وتابعهم على منعه غلاة الروافض من التناسخية وغيرهم وافترق نفاته فرقتين:
فذهب أكثرهم إلى أن النسخ ممتنع عقلا.
فنقول لهؤلاء: إن زعمتم أن وقوعه مستحيل وأن [امتناعه من] جهة استحالة وقوعه فقد جحدتم البديهة فإنا نعلم على اضطرار أن ذلك ممكن الوقوع.
1424- وإن جحدتم ذلك من جهة أن المأمور به الأول مستحسن فلو فرض النهي عنه لتضمن [ذلك] كونه مستقبحا وفي ذلك خروجه عن حقيقة الأولى فقد قدمنا في أول الكتاب أن الاستحسان والاستقباح لا يرجعان إلى حقائق الأفعال وصفات ذواتها.
ثم القول في النسخ غير مفروض فيما يزعم المخالفون أنه حسن لعينه أو قبيح لعينه وإنما تفرض مسائل النسخ في التفاصيل التي تتفق أرباب العقول على أن مداركها الشرع لا غير.
1425- وإن زعموا أن النسخ ممتنع من جهة إفضائه إلى البداء والقديم سبحانه وتعالى متعال عنه فلا حقيقة لهذا فإن البداء إن أريد به تبين ما لم يكن متبينا في علمه فليس هذا من شرط النسخ فإن الرب تعالى كان عالما في أزلة.(20/380)
ص -251-…تفاصيل ما يقع فيما لا يزال ولئن كان يلزم من تجدد الإحكام البداء لزم من تجدد الحوادث إماتة وإحياء وإعاشة [وإرداء] ما ادعاه هؤلاء وليس الأمر كذلك.
1426- فإن ردوا الامتناع إلى ما يتعلق باستصلاح العباد واستفسادهم فهذا غير مرضى عندنا في حكم الله تعالى ثم لا يمتنع في غيبه أن يكون الاستصلاح في تبديل الأحكام كلما فتر قوم في امتثال الأحكام أرسل الله تعالى إليهم مبتعثا جديدا بحكم جديد فلا وجه لادعاء الاستحالة من طريق العقل.
1427- وزعم زاعمون أن النسخ ممتنع من جهة السمع.
وادعى طوائف من اليهود: أن موسى عليه السلام أنبأهم أن شريعته مؤبدة إلى قيام الساعة وزعم هؤلاء أن طريق معرفة ذلك من دينهم كطريق معرفتنا بذلك من ديننا.
1428- وهذا باطل من وجهين:
أحدهما: أن الأمر لو كان كذلك لما قامت معجزة عيسى عليه السلام ومعجزة محمد صلى الله عليه وسلم بعده على نسخ ملة موسى فإن أنكروا قيام المعجزة رد الكلام معهم إلى أصل النبوات وكان سبيل إنكارهم معجزة من بعد موسى كسبيل إنكار من يجحد معجزة موسى.
1429- والوجه الثاني: أن ما ادعوه من دينهم لو كان صريحا لأظهروه وباحوا به من عصر نبينا عليه السلام ولا تخذوا ذلك أقوى عصمهم ولو فعلوا ذلك لنقله الناقلون متواترا لأن الأمر الخطير لا يخفى وقوعه وتتوفر الدواعي على نقله فقد ثبت جواز النسخ عقلا وشرعا.
1430- ولو أردنا أن نبتدئ الدليل على جوازه فأقرب مسلك فيه التمسك بمعجزة عيسى بعد موسى عليهما السلام ثم التمسك بالإجماع في تحريم الخمر بعد ثبوت تحليلها في صدر الشرع وهذا على من ينكر النسخ من اهل الملة ممن ينتمي إلى المسلمين ثم نقول لهؤلاء: لا شك في مخالفة [دين نبينا] محمد صلى الله عليه وسلم دين موسى وعيسى عليهما السلام في معظم قواعد الشريعة فكيف السبيل إلى تصديق الأنبياء مع إنكار النسخ؟ وهذا فيه أكمل مقنع.(20/381)
ص -252-…مسألة: مترجمة بالنسخ قبل الفعل.
1431- وهذه الترجمة فيها خلل من جهة أن كل نسخ واقع فهو متعلق بما كان يقدر وقوعه في المستقبل فإن النسخ لا ينعطف على مقدم سابق.
والغرض من هذه المسألة أنه إذا فرض ورود أمر بشيء فهل يجوز أن ينسخ قبل أن يمضي من وقت اتصال الأمر به زمن يتسع لفعل المأمور به؟
1432- فالذي ذهب إليه أهل الحق جواز ذلك وأطبقت المعتزلة على منعه وساعدهم على ذلك طوائف من الفقهاء.
1433- والدليل على تجويزه كالدليل على تجويز أصل النسخ فالوجه رد الكلام إلى التقاسيم السابقة في مسالك العقول التي يتلقى منها الجواز والاستحالة.
1434- فإذا قالوا: النسخ يرجع إلى بيان مدة التكليف وليس رافعا لما ثبت في حكم الله تعالى [ولو جوزنا النسخ في صورة الخلاف لكان ذلك رافعا للحكم لا محالة.
قلنا: ما ذكرناه من اختيارنا يجيب عن هذا فإنا نقول النسخ راجع إلى إظهار انتفاء لشرط بقاء الحكم فإن الحكم الموجه مشروط بألا ينسخ فإذا ثبت النسخ قبل انقضاء زمان يسع الفعل بان أنه لا حكم أصلا.
وهو من طريق التمثيل كزوال إمكان المكلف قبل استتمام الفعل.
1435- وإذا رد المعتزلة الكلام إلى استصلاح العباد لم يخف خلافنا لهم في أصل ذلك ثم لا يبعد في مجاري أحكام الغيب أن يكون الاستصلاح في أن يخاطبوا ويقبلوا ثم يرفع عنهم التكليف حتى يؤجروا على صدق نياتهم ويوفوا مالا يستقلون به في علم الله تعالى.
1436- ثم استدل أصحابنا في تجويز النسخ قبل الفعل بما جرى في قصة الخليل عليه السلام وابنه الذبيح الحق أو إسماعيل عليهم السلام.
ووجه التمسك أن الأمر بالذبح نسخ قبل وقوعه.
1437- فإن زعم المخالف أن المأمور به كان شدا وربطا وتلا للجبين كان ذلك باطلا من وجهين:(20/382)
ص -253-…أحدهما أن الخليل عليه السلام اعتقد وجوب الذبح [ولو لم يكن] الأمر كذلك لما كان هذا بلاء عظيما كما أشعر به القرآن العظيم وهذا مقطوع به ويستحيل أن يكون معتقد النبي عليه السلام في الذي خوطب به خطا.
ثم الفداء دليل على ارتفاع الذبح بعد وقوعه الأمر [به] وقيام الفداء مقام ما كان المأمور به من الذبح.
1438- فإن [تعلقوا] بقوله تعالى: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا}1.
قيل لهم: لم يقل: قد حققت [أوأ] وقعت ما أمرت به بل قال صدقت وليس من شرط التصديق إيقاع ما يتعلق التصديق به.
1439- وقال بعض المخالفين: وقع الذبح وجرت المدية وكانت تقطع ويلتحم ما انقطع وهذا بهت عظيم إذ لو كذلك لكان هذا أحق منقول وأظهر معجزة تتوفر الدواعي على نقلها ونص القرآن مع ما فيه من القيود والقرائن أصدق شاهد في ذلك فإنه قال: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ} ولو كان ذبح لما وقع الاقتصار على ذكر التل للجبين دون وقوع المأمور به ثم ذكر الفداء بعد هذا مشعر بأن الذبح المأمور به لم يقع وأن الفداء قائم مقامه.
وهذا منتهى المثال في ذلك.
مسألة:
1440- قطع الشافعي جوابه بأن الكتاب لا ينسخ بالسنة وتردد قوله في نسخ السنة بالكتاب والذي اختاره المتكلمون وهو الحق المبين أن نسخ الكتاب بالسنة غير ممتنع.
والمسألة دائرة على حرف واحد وهو أن الرسول لا يقول من تلقاء نفسه أمرا وإنما يبلغ ما يؤمر به كيف فرض الأمر ولا امتناع بأن يخبر الرسول الأمة مبلغا بأن حكم آية يذكرها قد رفع عنكم.
ويرجع حاصل القول في المسألة إلى أن النسخ لا يقع إلا بأمر الله تعالى ولا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "105" سورة الصافات.(20/383)
ص -254-…ناسخ إلا الله والأمر كيف فرض جهات تبليغه لله تعالى فهذا القدر فيه مقنع.
1441 - فإن زعم الفقيه أن القرآن معجزة بخلاف السنة فليس المنسوخ نفس القرآن وإنما المنسوخ حكمه ولا إعجازه في الحكم [و] هذا عرى عن التحصيل.
1442- وإن تعلقوا بقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}1 فهذا خبر من الله تعالى وليس فيه ما يتضمن استحالة الوقوع وفيها الخلاف بل لا يمتنع تأويل الظواهر ولا وقع لها في القطعيات.
1443- ثم لا محمل لقول القائل: لا تنسخ السنة بالقرآن.
فيقال لمن أنتحل هذا المذهب: نزول القرآن بخلاف السنة ممتنع أم لا فإن منعه كان منكرا من القول وإن جوزه وزعم أن الرسول يسن عند نزوله سنة بخلاف السنة الأولى فيقع نسخ السنة بالسنة فهذا من الهزء واللعب والتلاعب بالحقائق وكيف يقدر وقوف النسخ وقد ورد القرآن.
وبالجملة إلى الله مصير الأمور ومنه النسخ والإثبات والرسول عليه السلام مبلغ في البين وهذا القدر كاف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "106" سورة البقرة.
مسألة: مشهورة بالزيادة على النص.
1444- ومدارها على تحقيق تصويرها فإذا ورد نص في شيء [واقتضى] وروده الاقتصار على المنصوص عليه والحكم بالإجزاء فكان ذلك مقطوعا تلقيا من اللفظ والفحوى ولو فرضنا زيادة مشروطة لتضمن ثبوتها نسخ الإجزاء في المقدار الأول لا محالة ولا [يسوغ] تقدير الخلاف في ذلك.
1445- وإن اقتضى ما ورد به أولا الإجزاء وجواز الاقتصار اقتضاء ظاهرا وكان يتطرق التأويل إليه في منع الإجزاء فلو فرضت زيادة كانت في معنى إزالة الظاهر الأول ولم يتضمن نسخا اعتبارا بكل ظاهر يزال بحكم التأويل.
وهذا مما لا أرى فيه للخلاف مساغا.
1446- وإذا ثبت هذان الطرفان وهما حظ الأصول فالكلام بعدهما في(20/384)
ص -255-…ألفاظ ظنها الظانون نصوصا وهي ظواهر ثم القول في تفاصيلها مستقصى في "الأساليب" ولكنا نضرب للتمثيل صورا:
منها: أن أصحاب أبي حنيفة ظنوا أن من أثبت النية في الطهارة فقد زاد على النص والكلام في ذلك مشهور.
وأقرب مسلك فيه: أنا لا نبعد أن يكون غرض الآية مقصورا على بيان [أفعال الطهارة] وتقدير هذا لا يخالف نصا ولا فحوى وليس مع تجويز هذا لإدعاء النص وجه.
ومنها: قوله تعالى في كفارة الظهار: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}1 قال أصحاب أبي حنيفة: زيادة الإيمان نسخ الأجزاء في الرقبة المطلقة وقد أوضحنا أن هذا تخصيص عموم.
ومنها قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ}2.
قالوا إثبات الشاهد واليمين يخالف هذا الحصر وهذا لا وجه له مع أن هذا الاحتياط مندوب إليه ونحن لا ننكر الندب [إلى بينة] كاملة مغنية عن الحلف.
ومنها قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا}3 الآية مع استدلال الخصم بها في معنى التغريب.
وهذا من أظهر ما يتمسكون به وليس نصا فإنه لا يمتنع اشتمال الآية على بعض العقوبة وإحالة تمامها إلى بيان الرسول عليه السلام إذ ليس في الآية للرجم في حق المحصن ذكر.
فهذا بيان حقيقة القول في المسألة.
مسألة:
1447- أجمع العلماء على أن الثابت قطعا لا ينسخه مظنون فالقرآن لا ينسخه الخبر المنقول آحادا والسنة المتواترة لا ينسخها ما نقله غير مقطوع به ووراء ما ذكرناه حقيقة هي كشف الغطاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "3" سورة المجادلة.
2 آية "282" سورة البقرة.
3 آية "2" سورة النور.(20/385)
ص -256-…ونحن نبينها بسؤال وجواب عنه:
فإن قيل ما المانع من انتصاب دليل قاطع على أن الخبر إذا نقله العدول يجب ترك حكم القرآن عند نقلهم؟.
قلنا هذا غير ممتنع لو ورد ولكن لم يرد ثم لو قدر وروده فالنسخ يتلقى من الدليل القاطع والخبر المنقول آحادا في حكم العلم الذي يقع العمل عنده لا به وقد تكرر هذا الفن مرارا في مسائل هذا المجموع.
وهذا الذي ذكرناه في الخبر يطرد في القياس أيضا.
مسألة:
1448- يجوز نسخ رسم آية من القرآن في التلاوة مع بقاء حكمها ويجوز تقدير نسخ حكمها مع بقاء رسمها في آي القرآن.
وقد منع مانعون من المعتزلة الأمرين وصار إلى منع أحدهما دون الآخر [على البدل] صائرون.
وما ذكرنا في طريق إثبات الجواز في مسالك هذا الكتاب يجري على المنكر للجواز في هذه المسألة.
ثم الأمر بالتلاوة على نظم القرآن حكم غير القرآن فيؤل القول في الحقيقة إلى نسخ حكم فأما عين القرآن فلا يرد عليه نسخ [أصلا].
مسألة:
1449- إذا ثبت النسخ ولم يبلغ خبره قوما فهل يثبت النسخ في حقهم قبل بلوغ الخبر إياهم؟.
هذا ما أختلف فيه الأصوليون.
وعندنا أن المسالة إذا حقق تصويرها لم يبق فيها خلاف فإن قيل على من لم يبلغه الخبر الأخذ بحكم الناسخ قبل العلم به فهذا ممتنع عندنا وهو من فن تكليف ما لا يطاق وهو مستحيل في تكليف الطلب وإن أريد بثبوت النسخ في حق من لم يبلغه الخبر أن الخبر إذا بلغه لزمه تدارك أمر فيما مضى فهذا لا امتناع فيه وإذا ردت المذاهب المطلقة في النفي والإثبات إلى هذا التفصيل لم يبق للخلاف تحصيل.(20/386)
ص -257-…مسألة:
- 1450لا يمتنع نسخ الحكم من غير بدل عنه ومنع ذلك جماهير المعتزلة وهذا تحكم منهم والدليل على جوازه ما تمهد في مسألة التجويز في أصل النسخ فلا معنى للإعادة بعد وضوح المقصد.
مسألة:
1451- إذا ورد نص واستنبط منه قياس ثم نسخ النص تبعه القياس المستنبط [منه].
وقال أبو حنيفة: لا يبطل القياس وإن نسخ النص وقد جرى له هذا المسلك في الأخذ من صوم [يوم] عاشوراء [في ترك حكم التبييت] لما اعتقد وجوبه ثم ثبت نسخ وجوبه.
1452- والقول الواقع في ذلك عندنا أن المعنى المستنبط من الأصل الأول إذا نسخ أصله [بقي] معنى لا أصل له فإن صح استدلالا نظرنا فيه وإن لم يصح أبطلناه.(20/387)
عنوان الكتاب:
التقرير والتحبير – الجزء الأول
تأليف:
محمد بن محمد ابن أمير الحاج الحنبلي
دراسة وتحقيق:
عبد الله محمود محمد عمر
الناشر:
دار الكتب العلمية -بيروت
الطبعة الاولى 1419هـ/1999م(21/1)
ص -7-…بسم الله الرحمن الرحيم
[خطبة الكتاب]
الحمد لله الذي رضي لنا الإسلام دينا وفتح علينا من خزائن علمه فتحا مبينا ومن علينا بالتحلي بشرعه الشريف ظاهرا وباطنا عملا ويقينا، وجعل أجل الكتب فرقانه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وأفضل الهدي سنة نبيه الكريم الذي لا يدرك بشر قصارى مجده ولا شأو شرفه، وخير الأمم أمته المحفوظ إجماعها من الضلال في سبيل الصواب، والفائز أعلامها في استنباط الأحكام بأوفر نصيب من جزيل الثواب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلها ما زال عليما حكيما، وأن سيدنا ومولانا محمدا عبده ورسوله نبيا ما برح بالمؤمنين رءوفا رحيما فأقام بيمنه أود الملة العوجاء، وأظهر بمفسر إرشاده محاسن الحنيفية السمحة البيضاء، وأزال بمحكمات نصوصه كل شبهة وريب، وأبان بأوامره ونواهيه منهج الحق طاهرا من كل شين وعيب، وأوضح تقرير الدلالة على طرق الوصول إلى ما شرعه دينه القويم من جميل القواعد وراسخ الأصول فأضحى منهاج سالكه صراطا سويا وبحر أفضاله موردا رواء وشرابا هنيا وتقويم آيات سماء فضائله حكما صادقا ودليلا مهديا، وتنقيح مناط عقائل خرائده روضا أنفا وثمرا جنيا، وتبيين منار بيناته توضيحا باهرا ومنطوقا جليا، وتلويح إشارات عيونه على أنواع فنونه إيماء رائعا ووحيا خافيا، وتحقيق مقاصده بكشف غوامض الأسرار وإفاضة الأنوار في مواقف البيان خطيبا بليغا وكفيلا مليا، ومنخول محصول حاصله بتحصيل الآمال، وبلوغ الغاية القصوى من المنال ضمينا وفيا وسببا قويا، ومنتخب فوائد جوامع كلمه وفرائد مآثر حكمه درا نقيا وعقدا بهيا، ومستصفى نقود مواهبه وخلاصة عقود مآربه كنزا وافرا وذخرا سنيا، وتحرير ميزان دلائله وتقرير آثار رسائله قضاء فصلا وقولا مرضيا فصلى الله على هذا النبي الكريم وعلى آله، وأصحابه الذين بلغوا من المكارم مكانا قصيا ورفعهم في الدارين مقاما عليا وسلم تسليما دائما سرمديا.(21/2)
[مقدمة الشارح]
"وبعد" لما كان علم أصول الفقه والأحكام من أجل علوم الإسلام كما تقرر عند أولي النهى والأحلام أقام الله تعالى له في كل عصر وزمان طائفة من العلماء الأعيان ومعشرا من فضلاء ذلك الأوان فشيدوا بجميل المذاكرة والتصنيف قواعده الحسان واعتمدوا فيما حاولوه من حسن المدارسة والتأليف غاية الإحسان، وإن من هؤلاء الأقوام شيخنا الإمام الهمام البحر العلامة والحبر المحقق الفهامة محقق حقائق الفروع والأصول محرر دقائق المسموع والمعقول شيخ الإسلام والمسلمين كمال الملة والفضائل والدين الشهير نسبه(21/3)
ص -8-…الكريم بابن همام الدين تغمده الله برحمته، ورفع في الفردوس علي درجته، ومما شهد له بهذا الفضل الغزير مصنفه المسمى بالتحرير فإنه قد حرر فيه من مقاصد هذا العلم ما لم يحرره كثير مع جمعه بين اصطلاحي الحنفية والشافعية على أحسن نظام وترتيب واشتماله على تحقيقات الفريقين على أكمل توجيه وتهذيب مع ترصيع مبانيه بجواهر الفرائد وتوشيح معانيه بمطارف الفوائد وترشيح صنائعه بالتحقيق الظاهر وتطريف بدائعه بالتدقيق الباهر وكم مودع في دلالاته من كنوز لا يطلع عليها إلا الأفاضل المتقنون، ومبدع في إشاراته من رموز لا يعقلها إلا الكبراء العالمون. فلا جرم إن صدقت رغبة فضلاء العصر في الوقوف على شرح يقرر تحقيقاته وينبه على تدقيقاته ويحل مشكلاته ويزيح إبهاماته ويظهر ضمائره ويبدي سرائره وقد كان يدور في خلدي مع قلة بضاعتي ووهن جلدي أن أوجه الفكر نحو تلقاء مدين هذه المآرب، وأصرف عنان القلم نحو تحقيق هذه المطالب؛ لإشارة متعددة من المصنف - تغمده الله برحمته - إلى العبد بذلك حال قراءتي عليه لهذا الكتاب الجليل وسؤال خليل مني هذا المرام بعد خليل وكان يعوقني عن البروز في هذا المضمار ما قدمته من الاعتذار مع ما منيت به من فقد مذاكر لبيب، ومنصف ذي نظر مصيب، وإلمام بعض عوائق بدنية في الوقت بعد الوقت، وقصور أسباب تقعد عن إدراك ما هو المأمول من الجد والبخت إلى أن صمم العزم على الإقدام على تحقيق هذا المرام بتوفيق الملك العلام فوقع الشروع فيه من نحو عشر حجج وتجشمت في الغوص على درر مقدمته ونبذة من مباديه غمرات اللجج ثم بينما العبد الضعيف يركب كل صعب وذلول في تقرير الكتاب ويكشف قناع محاسن أبكاره على الخطاب من الطلاب برزت الإشارة الشيخية بالرحلة إلى حضرته العلية قضاء للحق الواجب من زيارته وتلقيا للزيادات التي ألحقها بالكتاب بعد مفارقته واستطلاعا للوقوف على ما برز من الشرح وكيفية طريقته. فطار العبد إليه بجناحين إلا أنه(21/4)
لم يقدم عليه إلا وقد نشبت به مخالب الحين ثم لم ينشب رحمه الله تعالى إلا قليلا، ومات فلم يقض العبد الوطر مما في النفس من التحقيقات والمراجعات نعم اقتنصت في خلال تلك الأوقات ما أمكن من الفوائد الشاردات، وأثبت في الكتاب عامة ما استقر الحال عليه من التغييرات والزيادات ثم رجعت قافلا والقلب حزين على ما فات والعزم فاتر عن الخوض في هذه الغمرات، والبال قاعد عن تجشم هذه المشقات وانطوى على هذه الأحوال السنون حتى كأن تلك الأمور كانت في سنات غير أن الأخلاء لم يرضوا بإعراض العبد عن القيام بهذا المطلوب ولا برغبته عن هذا الأمر المرغوب بل أكدوا العزيمة على إبرام العزم نحو تحقيق مطالبه وكرروا الإلحاح على إعمال الرجل والخيل في الكر على الظفر بغنيمة مآربه، والعبد يستعظم شرح هذا المرام ويرى أن بعضهم أولى منه بهذا المقام وتطاول على ذلك الأمد وليس بمنصرف عن هذا المسئول منهم أحد فحينئذ استخرت الله تعالى ثانيا في شرح هذا الكتاب لكن لا على السنن الأول من الإطناب بل على سبيل الاقتصاد بين الاختصار والإسهاب وشرعت فيه موجها وجه رجائي في تيسيره إلى الكريم(21/5)
ص -9-…الوهاب سائلا من فضله تعالى مجانبة الزلل والثبات على صراط الصواب، وأن يثيبني عليه من كرمه - سبحانه - جزيل الثواب، وأن يرزقني من كل واقف عليه دعاء صالحا يستجاب وثمرة ثناء حسن يستطاب على أني متمثل في الحال بقول من قال:
ماذا تؤمل من أخي ثقة …حملته ما ليس يمكنه
إن بان عجز منه فهو على …عذر يبين إذا يبرهنه
قدمت فيما قلت معتذرا…هذا طراز لست أحسنه
ولعله إذا فتح الله تعالى بإتمامه، ومن بالفراغ من إتقانه واختتامه أن يكون مسمى بالتقرير والتحبير في شرح كتاب التحرير وحسبي الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .(21/6)
ص -10-…[المقدمة]
قال رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم بدأ بالبسملة الشريفة تبركا، ومجانبة لما نفرت عنه السنة القولية من ترك البداءة بها أو بما يسد مسدها في الثناء على الله تعالى بالجميل على سبيل التبجيل فإنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر" وفي رواية أقطع فإن قلت وقد جاء أيضا في رواية ثابتة لا يبدأ فيه ب "الحمد لله" فهذه تعارض الأولى فما المرجح للأولى عليها قلت تصدير كتاب الله العظيم وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل وغيره بها على ما في الصحيح واستمرار العرف العملي المتوارث عن السلف قولا وفعلا على ذلك ثم هذا إذا كان المراد لا يبدأ بلفظهما لكن ذكر الشيخ محيي الدين النووي - رحمه الله -: أن المراد بحمد الله ذكر الله كما جاء في الرواية الأخرى فإن كتاب هرقل كان ذا بال من المهمات العظام ولم يبدأ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظ الحمد وبدأ بالبسملة ا هـ.(21/7)
قال العبد الضعيف - غفر الله تعالى له -: وفي ذلك نظر فإنه إن عنى حينئذ بذكر الله في قوله إن المراد بحمد الله ذكر الله ذكره بالجميل على قصد التبجيل الذي هو معنى الحمد خاصة فالأمر بقلب ما قال وهو أن المراد بذكر الله ما هو المراد بحمد الله فهو من باب حمل المطلق على المقيد لا من باب التجويز بالمقيد عن المطلق وحينئذ يبقى الكلام في تمشية مثل هذا الحمل على القواعد وهو متمش على قواعد الشافعية، ومن وافقهم؛ لأنهم يحملون في مثله المطلق على المقيد لا على قاعدة جمهور الحنفية؛ لأنهم لا يحملون في مثله المطلق على المقيد؛ لأن التقييد فيه راجع إلى معنى الشرط، وإنما يجرون في مثله المطلق على إطلاقه والمقيد على تقييده حتى إنه يخرج عن العهدة بأي فرد كان من أفراد ذلك المطلق فتعليق الحكم الثابت للمطلق بالمقيد من حيث إنه لا يؤثر اعتبار قيد ذلك المقيد في ذلك المطلق عندهم كأفراد فرد من العام بحكم العام حيث لا يوجب ذلك تخصيص العام كما هو المذهب الصحيح على ما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى. وحينئذ يتجه أن يسألوا عن الحكمة في التنصيص على ذلك الفرد من المطلق دون غيره ويتجه لهم أن يحيبوا هنا بأن لعلها إفادة تعليم العباد ما هو أولى أو من أولى ما يؤدى به المراد من المطلق، وإن عنى حينئذ بذكر الله في قوله المذكور ذكره مطلقا على أي وجه كان من وجوه التعظيم سواء كان تسبيحا أو تحميدا أو شكرا أو تهليلا أو تكبيرا أو تسمية أو دعاء فلا نسلم أن المراد بحمد الله ذكر الله على هذا الوجه من الإطلاق للعلم بأن المعنى الحقيقي للحمد ليس ذلك فلا يصح ذلك ولا داعي إلى التجوز به عن مطلق الذكر لاندفاع الإشكال بكتاب هرقل، وما جرى مجراه بما ذكرناه على قول جمهور الحنفية فتأمل.(21/8)
"يقول العبد الفقير محمد بن عبد الواحد بن عبد الحميد الإسكندري مولدا السيواسي منتسبا الشهير بابن همام الدين" لقب والده العلامة عبد الواحد المذكور كان قاضي سيواس البلد الشهير ببلاد الروم، ومن بيت العلم والقضاء به قدم القاهرة وولي(21/9)
ص -11-…خلافة الحكم بها عن القاضي الحنفي بها ثمة ثم ولي قضاء الحنفية بالإسكندرية وتزوج بها بنت القاضي المالكي يومئذ فولدت له المصنف، ومدحه الشيخ بدر الدين الدماميني بقصيدة بليغة يشهد له فيها بعلو المرتبة في العلم وحسن السيرة في الحكم ثم رغب عنها ورجع إلى القاهرة، وأقام بها مكبا على الاشتغال في العلم إلى أن مات كذا ذكر لي المصنف رحمه الله. وأما المصنف فمناقبه في تحقيق العلوم المتداولة معروفة مشهورة، ومآثره في بذل المعروف والفضائل على ضروب شجونها محفوظة مأثورة فاكتفينا بقرب العهد بمعرفته عن بسط القول هنا في ترجمته "غفر الله ذنوبه وستر عيوبه الحمد لله" هذه الجملة كما أفاد المصنف فيما كان شرحه من كتاب البديع لابن الساعاتي إخبار صيغة إنشاء معنى كصيغ العقود قال وبالغ بعضهم في إنكار كونها إنشاء لما يلزم عليه من انتفاء الاتصاف بالجميل قبل حمد الحامد ضرورة أن الإنشاء يقارن معناه لفظه في الوجود ويبطل من قطعيتين إحداهما أن الحامد ثابت قطعا بل الحمادون، والأخرى أنه لا يصاغ لغة للمخبر عن غيره من متعلق إخباره اسم قطعا فلا يقال لقائل زيد ثابت له القيام قائم فلو كان الحمد إخبارا محضا لم يقل لقائل الحمد لله حامد ولانتفى الحامدون وهما باطلان فبطل ملزومهما، واللازم من المقارنة انتفاء وصف الواصف المعين لا الاتصاف وهذا؛ لأن الحمد إظهار الصفات الكمالية الثابتة لا ثبوتها نعم يتراءى لزوم كون كل مخبر منشئا حيث كان واصفا للواقع، ومظهرا له وهو توهم فإن الحمد مأخوذ فيه مع ذكر الواقع كونه على وجه ابتداء التعظيم وهذا ليس جزء ماهية الخبر فاختلفت الحقيقتان وظهر أن الغفلة عن اعتبار هذا القيد جزء ماهية الحمد هو منشأ الغلط، إذ بالغفلة عنه ظن أنه إخبار لوجود خارج مطابقه وهو الاتصاف ولا خارج للإنشاء، وأنت علمت أن هذا خارج جزء المفهوم وهو الوصف بالجميل وتمامه وهو المركب منه، ومن كونه على وجه ابتداء التعظيم لا(21/10)
خارج له بل هو ابتداء معنى لفظه علة له والله سبحانه الموفق. ا هـ. وقد عرفت منه معنى الحمد وللناس عبارات شتى في بيانه لا يخلو بعضها من نظر وبحث فيطلب مع بيان الفرق بين الحمد والشكر والمدح في مظانها إذ لا حاجة بنا هنا إلى الإطناب بها. ثم من المعلوم أن الاسم الجليل أعني الله خاص بواجب الوجود "ولكن هل هو عربي أم عبري أو سرياني؟ ثم على أنه عربي هل هو علم أو صفة؟ ثم على أنه علم هل هو مشتق أو الخالق للعالم المستحق لجميع المحامد بل هو أخص أسمائه الحسنى والصحيح أنه عربي كما عليه عامة العلماء لا أنه عبري أو سرياني كما ذهب إليه أبو زيد البلخي ثم على أنه عربي هل هو علم أو صفة فقيل صفة، والصحيح الذي عليه المعظم أنه علم ثم على أنه علم هل هو مشتق أو غير مشتق فقيل مشتق على اختلاف بينهم في المادة التي اشتق منها، وفي أن علميته حينئذ بطريق الوضع أو الغلبة. وقيل غير مشتق بل هو علم مرتجل من غير اعتبار أصل أخذ منه، وعلى هذا الأكثرون منهم أبو حنيفة، ومحمد بن الحسن والشافعي والخليل والزجاج وابن كيسان والحليمي، وإمام الحرمين والغزالي والخطابي ثم روى هشام عن محمد بن الحسن قال سمعت أبا حنيفة - رحمه الله - يقول: اسم الله الأعظم هو الله، وبه قال الطحاوي(21/11)
ص -12-…وكثير من العلماء، وأكثر العارفين حتى إنه لا ذكر عندهم لصاحب مقام فوق الذكر به، وقد علم من هذا وجه تخصيص الحمد به دون غيره من أسمائه تعالى، وإنما قدم الحمد عليه جريا على ما هو الأصل من تقديم المسند إليه مع انتفاء المقتضي للعدول عنه من غير معارض سالم من المعارض؛ لأن كون ذكر الله أهم نظرا إلى ذاته يعارضه كون المقام مقام الحمد لله.
"الذي أنشأ" في الصحاح أنشأه الله خلقه، والاسم النشأة والنشاءة بالمد عن أبي عمرو بن العلاء، وأنشأ يفعل كذا أي ابتدأ "هذا العالم" المشاهد علويه وسفليه، وما بينهما لذوي البصائر والأبصار على ممر السنين والأعصار ثم قيل هو مشتق من العلم فإطلاقه حينئذ على السموات والأرض، وما بينهما بطريق التغليب لما في هذه من ذوي العلم من الثقلين والملائكة على غيرهم من الحيوانات والجمادات والجواهر والأعراض، وقيل هو مشتق من العلامة؛ لأن فاعلا كثيرا ما يستعمل في الآلة التي يفعل بها الشيء كالطابع والخاتم فهو كالآلة في الدلالة على صانعه فهو حينئذ اسم لكل ما سوى الله تعالى بصفاته من الجواهر والأعراض فإنها لإمكانها وافتقارها إلى مؤثر واجب لذاته تدل على وجوده، ولعل على هذا ما في الصحاح من تفسيره بالخلق أي المخلوق "البديع" وهو يحتمل أن يكون صفة مشبهة من بدع بداعة وبدوعا صار غاية في وصفه خيرا كان أو شرا، وأن يكون معناه المبتدع على صيغة اسم المفعول أي المخترع لا على مثال كما أشار إليه في الصحاح وغيره لكن على هذا يكون قوله البديع "بلا مثال سابق" تصريحا بلازمين لإنشاء العالم؛ لأن الظاهر أن الفعل المبتدأ للفاعل المطلق غير مسبوق إليه ولا متقدم في الوجود العيني ما يقدر متعلقه عليه كما هو ظاهر من قوله تعالى {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} [الواقعة: 35] الاحتمال الأول فإن عليه إنما يكون في هذا القول تصريح بلازم واحد وهو قوله بلا مثال سابق، وأيا ما كان فلا ضير غير أن الأول أنسب(21/12)
بما سيأتي كما سنشير إليه. وقد يقال الإنشاء والإبداع إيجاد الشيء بلا سبق مادة وزمان ولا توسط آلة وكل منهما يقابل التكوين لكونه مسبوقا بالمادة والإحداث لكونه مسبوقا بالزمان، وعند العبد الضعيف غفر الله تعالى له في هذا نظر ينوره قوله تعالى {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [الأنعام: 98] {ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} [العنكبوت: 20] {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] "وأنار لبصائر العقلاء طرق دلالته على وجوده وتمام قدرته" أي جعل أنواع الأدلة الأنفسية والآفاقية الدالة على وجوب وجوده بالذات وشمول كمال قدرته لسائر الممكنات واضحة جلية لذوي الاستبصار من عقلاء العباد حتى صار ذلك عند الخاصة من أولي الرشاد من ضرورات الدين بل ومن عين اليقين، وأحسن بقول العارف أبي إسحاق إبراهيم الخواص:
لقد وضح الطريق إليك حقا …فما أحد أرادك يستدل
ويقول الآخر:
لقد ظهرت فلا تخفى على أحد …إلا على أكمه لا يعرف القمرا(21/13)
ص -13-…"فهو إلى العلم بذلك سائق" أي إيضاحه للأدلة عليه سائق للقلوب المستبصرة إلى العلم القطعي بوجوده الذاتي، وقدرته الباهرة، ومن عيون كلام الشيخ أبي عمرو بن مرزوق قيل وكان من أوتاد مصر: الطريق إلى معرفة الله وصفاته الفكر والاعتبار بحكمه وآياته ولا سبيل للألباب إلى معرفة كنه ذاته فجميع المخلوقات سبل متصلة إلى معرفته وحجج بالغة على أزليته، والكون جميعه ألسن ناطقة بوحدانيته، والعالم كله كتاب يقرأ حروف أشخاصه المتبصرون على قدر بصائرهم. "دفع نظامه" أي اضطر نظام العالم "المستقر" أي الثابت على أتم وجوه الانتظام من غير اختلال ولا انخرام للمعتبرين من ذوي النهى والأحلام "إلى القطع بوحدانيته"؛ لأنه كما قال أصدق القائلين {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء: 22]، وقد أحسن أبو العتاهية في قوله:
فواعجبا كيف يعصى الإله …أم كيف يجحده الجاحد
ولله في كل تحريكة …وتسكينة أبدا شاهد
وفي كل شيء له آية …تدل على أنه واحد
"كما أوجب" لذوي النظر الصحيح "توالي نعمائه تعالى المستمر" أي تتابعها الدائم على سائر مخلوقاته مع تلبس الكثير من المكلفين بالكفر والعصيان والجحود والطغيان "العلم" القطعي لهم "برحمانيته" أي باتصافه بالرحمة الواسعة التي هي إفاضة الإنعام أو إرادة الإحسان، وإلا لبادوا عند الخالفة ولم يمهلوا وقتا من الزمان كما قال الكريم المنان {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر: 45] إلى غير ذلك من آي القرآن، وأنواع البرهان فسبحانه من إله وسع كل شيء رحمة وعلما وغفر ذنوب المذنبين كرما وحلما.(21/14)
"تنبيه" وهذا من المصنف رحمه الله جار على منوال كون العلم الحاصل عقب النظر الصحيح واجبا أي لازما حصوله عقبه إما وجوبا عاديا كما هو منسوب إلى القاضي أبي بكر الباقلاني، وإمام الحرمين أو وجوبا عقليا غير متولد منه كما هو اختيار الإمام فخر الدين الرازي وكشف القناع عنه في الكتب الكلامية يعني وجب بخلق الله تعالى للعقلاء عقب نظرهم الصحيح في دوام تواتر نعمائه التي لا تحصى على العباد مع كثرة أهل الشرك والعصيان في كثير من البلاد العلم القطعي باتصافه سبحانه بهذه الصفة العظيمة التي هي من أصول صفاته الحسنى ونعوته العلى فاتحد هذان المطلبان في القطع دليلا ومدلولا. وقد ظهر أن هاتين الجملتين خرجتا مخرج البيان والشهادة لبداعة هذا العالم كما هو مقتضى الاحتمال الأول فيما اشتق منه البديع هنا، ولجملة وأنار لبصائر العقلاء طرق دلالته فلا جرم أن لهذا ولكونهما لا يصح تشريكهما في حكم ما قبلهما من الجملتين الأوليين إذ لا يصلح أن يقعا صلتين لما الأوليان صلتان له فصلهما عنهما. وظهر أيضا أن إسناد دفع إلى نظام، وأوجب إلى توالي إسناد مجازي لملابسة السببية كما في قوله تعالى {إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ(21/15)
ص -14-…إِيمَاناً} [الأنفال: 2]، وأن قوله المستمر مرفوع على أنه صفة توالي كما أن المستقر مرفوع على أنه صفة نظامه وتعالى جملة معترضة بين الصفة والموصوف للدلالة على الإجلال والتعظيم ثم كما أن لربنا تعالى علينا نعما يتعذر إحصاؤها كذلك لنبينا أيضا علينا منن يبعد استقصاؤها وهو أيضا الوسيلة العظمى إليه، ومن رام إنجاح مطالبه فهو كل عليه فلا جرم إن أتى المصنف بتبجيله وتمجيده منسوقا على حمد الله وتوحيده فقال "وصلى الله على رسوله محمد" وكون الحمد في صورة الجملة الأسمية والصلاة في صورة الجملة الفعلية غير ضائر لاتفاقهما هنا في كونهما إنشاء وسيأتي في مسألة هل المشترك عام استغراقي في مفاهيمه أن الصلاة موضوعة للاعتناء بإظهار الشرف وتتحقق منه تعالى بالرحمة، ومن غيره بدعائه له.(21/16)
ثم كما قال بعض المحققين: أجمع الأقوال الشارحة للرسالة الإلهية أنها سفارة بين الحق والخلق تنبه أولي الألباب على ما تقصر عنه عقولهم من صفات معبودهم ومعادهم، ومصالح دينهم ودنياهم، ومستحثات تهديهم ودوافع شبه ترديهم، والأصح أنها غير مرادفة للنبوة وبينهما فروق شهيرة، فلا جرم أن قال القاضي عياض: والصحيح الذي عليه الجمهور أن كل رسول نبي من غير عكس، وهو أقرب من نقل غيره الإجماع عليه لنقل غير واحد الخلاف في ذلك، ومما قيل في التفرقة بينهما أن الرسول مأمور بالإنذار، وأنه يأتي بشرع مستأنف ولا كذلك النبي، وإن كان قد أمر بالتبليغ، وأنه يأتيه الوحي من جميع وجوهه والنبي يأتيه الوحي من بعض وجوهه والنبوة، والرسالة أشرف مراتب البشر ثم لما كان من جملة ما يقع به التفضيل الثمرة والجدوى قال الشيخ شهاب الدين القرافي: وجاء من هذا الوجه تفضيل الرسالة على النبوة فإنها تثمر هداية الأمة، والنبوة قاصرة على النبي فنسبتها إلى النبوة كنسبة العالم إلى العابد، وكان الشيخ عز الدين بن عبد السلام يلاحظ في النبوة جهة أخرى يفضلها بها على الرسالة وكان يقول النبوة عبارة عن خطاب الله تعالى نبيه بإنشاء حكم يتعلق به كقوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] فهذا وجوب متعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم والرسالة خطاب يتعلق بالأمة، والرسول عليه السلام أفضل من الأمة بالخطاب المتعلق به فيكون أفضل من جهة شرف المتعلق فإن النبوة هو متعلقها، والرسالة متعلقها الأمة، وإنما حظه منها التبليغ فهذان وجهان متعارضان ولا مانع من أن تكون الحقيقة الواحدة لها شرف من وجه دون وجه ا هـ. وقطع في مؤلف له بأن النبوة أفضل قائلا: لأن النبوة إخبار عما يستحقه الرب سبحانه من صفات الجلال ونعوت الكمال، وهي متعلقة بالله من طرفيها، والإرسال دونها أمر بالإبلاغ إلى العباد فهو متعلق بالله من أحد طرفيه وبالعباد من الطرف(21/17)
الآخر ولا شك أن ما تعلق بالله من طرفيه أفضل مما تعلق من أحد طرفيه. والحاصل أن النبوة راجعة إلى التعريف بالإله وبما يجب للإله، والإرسال راجع إلى أمره الرسول بأن يبلغ عنه إلى عباده أو إلى بعض عباده ما أوجبه عليهم من معرفته وطاعته واجتناب معصيته، والنبوة سابقة على الإرسال فإن قول الله سبحانه وتعالى لموسى عليه السلام {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص: 30] مقدم على قوله {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه: 24،والنازعات: 17] فجميع ما أخبره به قبل قوله:(21/18)
ص -15-…{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه: 24 والنازعات: 17] نبوة، وما أمره بعد ذلك من التبليغ فهو إرسال، وأفاد أيضا - رحمه الله تعالى - أن الإرسال من الصفات الشريفة التي لا ثواب عليها، وإنما الثواب على أداء الرسالة التي حملها، وأما النبوة فمن قال النبي هو الذي ينبئ عن الله قال يثاب على إنبائه عنه؛ لأنه من كسبه، ومن قال بما ذهب إليه الأشعري من أنه الذي نبأه الله قال لا ثواب له على إنباء الله تعالى إياه لتعذر اندراجه في كسبه وكم من صفة شريفة لا يثاب الإنسان عليها كالمعارف الإلهية التي لا كسب له فيها وكالنظر إلى وجه الله الكريم الذي هو أشرف الصفات ثم لا شك في أن سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم رسول الله إلى الإنس والجن كما دل عليه الكتاب والسنة، وانعقد عليه الإجماع. وأما أنه هل هو مرسل إلى الملائكة أيضا فنقل البيهقي في شعب الإيمان عن الحليمي من غير تعقب نفي إرساله إليهم، ومشى عليه فخر الدين الرازي بل في نسخة من تفسير سورة الفرقان في تفسيره أجمعنا أنه عليه السلام لم يكن رسولا إلى الملائكة ا هـ. فما في تشنيف المسامع بجمع الجوامع بعد ذكر هذه مسألة وقع النزاع فيها بين فقهاء مصر مع فاضل درس عندهم، وقال لهم الملائكة ما دخلت في دعوته فقاموا عليه ما لفظه. وذكر فخر الدين في تفسير سورة الفرقان الدخول محتجا بقوله تعالى {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان: 1] والملائكة داخلون في هذا العموم. ا هـ غلط فليتنبه له.(21/19)
ومحمد أشهر أسمائه الأعلام، وهل هو منقول أو مرتجل فعلى ما عن سيبويه أن الأعلام كلها منقولة، وما قيل في تفسير المرتجل بأنه الذي لم يثبت له أصل يرجع استعماله إليه، وإنما هو لفظ مخترع أو أنه الذي استعمل من أول الأمر علما ولم يستعمل نكرة هو منقول إما عن اسم المفعول أو المصدر مبالغة؛ لأن هذه الصيغة كما تكون اسم مفعول كما هو الظاهر الكثير قد تكون مصدرا كما في قوله تعالى {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ: 19]، وقولهم جربته كل مجرب. ووجه كونه منقولا على القولين الأولين ظاهر، وأما على الثالث فلأنه استعمل صفة قبل التسمية به، وعرف بأداة التعريف قال الأعشى:
إلى الماجد الفرع الجواد المحمد
وعلى ما عن الزجاج الأعلام كلها مرتجلة؛ لأن النقل خلاف الأصل فلا يثبت إلا بدليل، ولا دليل على قصد النقل إذ لا يثبت إلا بالتصريح من الواضع ولم يثبت عنه تصريح هو مرتجل. وعلى كونه مرتجلا مشى ابن معط ولا ينافيه قول القائل فيه:
وشق له من اسمه ليجله …فذو العرش محمود وهذا محمد
ولا قول أهل اللغة يقال رجل محمد، ومحمود أي كثير الخصال المحمودة لكن لعل النقل أشبه.
ثم أيا ما كان فكما قال العلماء إنما سمي بهذا الاسم؛ لأنه محمود عند الله، وعند أهل السماء والأرض، وإن كفر به بعض أهل الأرض جهلا أو عنادا، وهو أكثر الناس حمدا إلى غير ذلك، وقد منع الله تعالى بحكمته أن يسمى به أحد غيره إلى أن شاع قبيل إظهاره للوجود الخارجي أن نبيا يبعث اسمه محمد فسمى قليل من العرب أبناءهم به رجاء من كل أن يكون(21/20)
ص -16-…ابنه ذلك ثم منع الله كلا منهم أن يدعي النبوة أو يدعيها أحد له أو يظهر عليه سبب يشكك أحدا في أمره. ثم المفيد لصحة وصفه بما مدحه به من قوله "أفضل من عبده من عباده" الكتاب والسنة والإجماع التي من خالف شيئا منها فقد ضل طريق سداده، وكذا لا ريب في كونه أعلم الخلق بالله وأتقاهم، وأنه أرحم بأمته من الوالد العطوف بأولاده "وأقوى من ألزم" باللسان والسنان من أمكنه تبليغه "أوامره" ليفوز الملزم بذلك بالسعادة السرمدية أبد آباده "ونشر ألوية شرائعه" على اختلاف موضوعاتها وتباين محمولاتها فغدت على ممر الأحقاب مرفوعة الأعلام "في بلاده" ثم يجوز أن يكون المراد بالأمر هنا دينه وشرعه كما في الحديث الصحيح "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد" بدليل ما في لفظ آخر له "من أحدث في ديننا ما ليس فيه رد" وجمعه نظر إلى أنواع متعلقاته من الاعتقادات والعمليات، ويجوز أن يكون المراد به ضد النهي، وعلى هذا إنما لم يذكر النواهي اكتفاء بأحد الضدين كما في قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 21] أي والبرد على أحد القولين ثم لا يخفى ما في قوله ونشر ألوية شرائعه في بلاده من حسن الاستعارة المكنية التخيلية المرشحة على طريقة صاحب التلخيص فإنه أضمر في النفس تشبيه الشرائع بالملوك ذوي الجيوش والرايات بجامع ما بينهما من السلطنة، ونفاذا لحكم في متعلقهما فإن الشرائع الإلهية المتعلقة بالمكلفين نافذة أحكامها فيهم وواجب عليهم طاعة مقتضاها أبلغ من نفاذ أحكام الملوك في أتباعهم ورعاياهم، وآكد من طاعة الرعايا لهم ثم رشح ذلك تخييلا بذكر نشر الألوية في البلاد فإن هذا من لوازم المشبه به وهو صفة كمال له. ثم ما زال صلى الله عليه وسلم قائما بأعباء التبليغ ودعوة الخلق إلى دين الإسلام وطاعة الرحمن بنفسه وكتبه ورسله إلى البلاد بحسب الاستطاعة والإمكان "حتى افترت ضاحكة عن جذل بالعدل والإحسان" يقال افتر فلان ضاحكا إذا ضحك(21/21)
حتى بدت أسنانه فضاحكة منصوب على الحال من الضمير الذي للبلاد في افترت من قبيل الحال المؤكدة لعاملها كقوله تعالى {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً} [النمل: 19]. وعن جذل بفتح الجيم والذال المعجمة أي عن فرح وابتهاج مصدر جذل يجذل من حد علم يعلم وهو متعلق بافترت في محل النصب على أنه مفعول به وبالعدل والإحسان متعلق بجذل في محل النصب على أنه مفعول به أيضا أي حتى تجاوز افترار البلاد عن الفرح والسرور بما بسط الله في بسطتها من التوسط في الأمور اعتقادا كالتوحيد المتوسط بين التعطيل والتشريك، والقول بالكسب المتوسط بين محض الجبر والقدر، وعملا كالتعبد بأداء الواجبات المتوسط بين البطالة والترهب وخلقا كالجود المتوسط بين البخل والتبذير إلى غير ذلك، ومن الإحسان في الطاعات كمية وكيفية، وفي معاملة الخلق، ومعاشرتهم حتى في قتل ما يجوز قتله من الناس والدواب ولا يخفى ما في هذه الغاية من حسن الاستعارة المكنية التخيلية المرشحة فإنه أضمر في النفس تشبيه البلاد بالعقلاء من بني آدم بجامع أن كلا منهما محل لمظاهر الأحكام، وإقامة شرائع الإسلام ثم رشح ذلك تخييلا بالتبسم والضحك الناشئ عن السرور والفرح بهما فإن ذلك من لوازم فرح العقلاء عادة وصفة كمال لهم فعم البلاد آثار هذا الجود(21/22)
ص -17-…والامتنان "بعد طول انتحابها على انبساط بهجة الإيمان" لكثرة ما اشتملت عليه من الكفر والطغيان والظلم والعدوان. ثم النحيب رفع الصوت بالبكاء، والانبساط هنا ترك الاحتشام، والبهجة الحسن وهذا ترشيح آخر للاستعارة الماضية. البيان "ولقد كانت" البلاد في ذلك الزمان.
"كما قيل:
وكأن وجه الأرض خد متيم …وصلت سجام دموعه بسجام
المتيم العاشق من تيمه الحب ذلك وجعله عبدا لمحبوبه وسجم الدمع سجوما سال وانسجم، وإنما كان المحب على هذا الحال من الحزن والاكتئاب لما يتوارد عليه من ألوان العذاب في معاملة الأحباب، ولا سيما إذا بعد من ذلك الجناب، وفقد ما يوصله إليه من الأسباب بل ربما يبكي المحب في حالة القرب مخافة الافتراق كما يبكي حالة البعد من شدة الاشتياق كما قال القائل:
وما في الدهر أشقى من محب …وإن وجد الهوى حلو المذاق
تراه باكيا أبدا حزينا …لخوف تفرق أو لاشتياق
فيبكي إن نأوا شوقا إليهم …ويبكي إن دنوا خوف الفراق
ثم غير خاف وجه هذا التشبيه وحسن ما فيه. وقد سألت المصنف رحمه الله عن اسم صاحب هذا البيت فذكر أنه لا يحضره، وقتئذ، وأن البيت مذكور في كتاب نور الطرف ونور الظرف(21/23)
ثم إن المصنف ختم هذه الصفات المادحة للنبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة عليه ثانيا عودا على بدء لما عنده من الشغف بذلك، ويحق له ذلك وليقرنها بالسلام عليه كما اقترنا في الأمر بهما في الكتاب العزيز فيخرج عن عهدة ما قيل من كراهة إفرادها عنه، وإن لم يكن ذلك صحيحا كما بيناه في كتابنا حلبة المجلي وليقرب أتباع الآل والصحب له في ذلك فإن لهم من الاختصاص بذاته الشريفة ما ليس لسائر الأمة، وقد وصل إلى الأمة بواسطتهم من الخيرات، وأسباب البركات ولا سيما من تبليغ الأحكام الشرعية للمكلفين ما لم يصل مثله إليهم بواسطة غيرهم من اللاحقين فقال "صلى الله عليه وسلم وعلى آله الكرام، وأصحابه الذين هم مصابيح الظلام وسلم تسليما". على أن الطبراني في الأوسط، وأبا الشيخ في الثواب وغيرهما رووا بسند فيه ضعف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى علي في كتاب لم تزل الملائكة يستغفرون له ما دام اسمي في ذلك الكتاب "، وفي لفظ لبعضهم من كتب في كتابه صلى الله عليه وسلم لم تزل الملائكة تستغفر له ما دام في كتابه، ومثل هذا مما يغتنم ولا يمنع منه الضعف المذكور لكونه من أحاديث الفضائل ولم يضعف بالوضع.
وقد اختلف في أصل الآل فسيبويه والبصريون أهل فأبدلت الهاء همزة ثم أبدلت الهمزة ألفا والكسائي ويونس وغيرهما أول(21/24)
ص -18-…فقلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها كما في قال وهذا هو الصحيح أما أولا فلأن هذا الانقلاب قياس مطرد في الأسماء والأفعال حتى صار من أشهر قواعد التصريف والاشتقاق بخلاف انقلاب الهاء همزة حتى قال الإمام أبو شامة: إنه مجرد دعوى، وحكمه العرب تأباه إذ كيف يبدل من الحرف السهل وهو الهاء حرف مستثقل وهو الهمزة التي عادتهم الفرار منها حذفا وإبدالا وتسهيلا مع أنهم إذا أبدلوا الهاء همزة في هذا المكان فهي في موضع لا يمكن إثباتها فيه بل يجب قلبها ألفا فأي حاجة إلى اعتقاد هذا التكثير من التغيير بلا دليل ولا يشكل بماء لقيام الدليل على إبدال الهاء فيه همزة ليقوى على الإعراب. وأما أرقت فالهاء فيه بدل من الهمزة لا بالعكس، وأما ثانيا فلاختلافهما استعمالا مع عدم الموجب لذلك فيما يظهر فإن الآل لم يسمع إلا مضافا إلى معظم ذي علم علم أو ما جرى مجراه يصلح أن يكون مرجعا، ومآلا بخلاف الأهل فإنه يضاف إلى معظم وغير معظم ذي علم وغير ذي علم علما ونكرة، ومن ثمة يقال آل محمد وآل إبراهيم ولا يقال آل ضعيف ولا آل الدار ويقال أهل ضعيف، وأهل الدار، وأما قول عبد المطلب في الاستغاثة بالله على أصحاب الفيل:
وانصر على آل الصليب…وعابديه اليوم آلك(21/25)
فالظاهر أنه على سبيل المشاكلة كما في {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116]. والأصل في الاسمين إذا اتحدا أن يتساويا في الاستعمال إلا لموجب ولا موجب هنا فيما يظهر وبهذا يندفع ما احتج به القائلون: إن أصله أهل من أنه سمع في تصغيره أهيل لا أويل، والتصغير يرد الأشياء إلى أصولها، ووجه اندفاعه أنه لم يسمع مصغرا بالشروط المذكورة، وإنما سمع في نحو يا أهيل الحمى يا أهيل النقى، وقد عرفت من أنه لا يقال آل الدار بل يقال أهلها أنه لا يقال آل الحمى والنقى بل أهلهما فأهيل الحمى والنقى تصغير أهل حينئذ لا آل وكأن اختصاصه بذوي الخطر من ذوي العلم الأعلام منع من ذلك. ويبقى بعد هذا علاوة على ما ذكر الكسائي أنه سمع أعرابيا فصيحا يقول أويل في تصغير آل، وأما ثالثا فإن الآل إذا ذكر مضافا إلى من هو له ولم يذكر من هو له معه مفردا أيضا تناوله الآل كما يشهد به كثير من المواقع كقوله تعالى {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} [الأعراف: 130] {اَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46] إذ لا ريب في دخول فرعون في آله في كلتا الآيتين وكما في الصحيحين في صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى الله عليه وسلم علمهم أن يقولوا اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم فإن إبراهيم داخل فيما صلى الله عليه بل هو الأصل المستتبع لسائر آله، وما فيهما أيضا عن عبد الله بن أبي أوفى أن أباه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بصدقة فقال: "اللهم صل على آل أبي أوفى "، ومعلوم أن أبا أوفى هو المقصود بالذات بهذه الدعوة ولا كذلك الأهل إذ لو قيل مثلا جاء أهل زيد لم يدخل زيد فيهم ثم الصحيح جواز إضافته إلى المضمر واختلف في المراد بهم في مثل هذا الموضوع فالأكثرون أنهم قرابته الذين حرمت عليهم الصدقة على الاختلاف فيهم، وقيل جميع أمة الإجابة، وإلى هذا مال مالك(21/26)
على ما ذكر ابن العربي واختاره الأزهري ثم النووي في شرح مسلم، وقيل غير ذلك، وبسط الكلام(21/27)
ص -19-…فيه له موضع غير هذا الكتاب. والكرام جمع كريم وهو قد يراد به الجواد الكثير الخير المحمود، وقد يراد به الذات الشريفة، وقد يراد به كل ذات صدر منها منفعة وخير، وآله لم يخلو من هذه الأوصاف غالبا، ومن كرمهم عموما تحريم أوساخ الناس عليهم ودخولهم في الصلاة عليه تبعا له حتى في الصلاة، ومن لطيف ما يؤثر مما يناسب هذا ما حكى الخطيب قال دخل يحيى بن معاذ على علوي ببلخ أو بالري زائرا له، ومسلما عليه فقال العلوي ليحيى ما تقول فينا أهل البيت فقال ما أقول في طين عجن بماء الوحي وغرست فيه شجرة النبوة وسقي بماء الرسالة فهل يفوح منه إلا مسك الهدى، وعنبر التقوى، فقال العلوي ليحيى إن زرتنا فبفضلك، وإن زرناك فلفضلك فلك الفضل زائرا ومزورا والأصحاب جمع صحب قاله الجوهري، وفي صحيح البخاري الأشهاد واحده شاهد مثل صاحب وأصحاب، وهو أشبه وسيأتي في مسألة الأكثر على عدالة الصحابة أن الصحابي عند المحدثين وبعض الأصوليين من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مسلما، ومات على الإسلام أو قبل النبوة، ومات قبلها على الحنفية كزيد بن عمرو بن نفيل أو ارتد، وعاد في حياته، وعند جمهور الأصوليين من طالت صحبته متتبعا له مدة يثبت معها إطلاق صاحب فلان عرفا بلا تحديد في الأصح ويذكر ثمة مزيد تحقيق لهذا إن شاء الله تعالى. وفي وصفهم بكونهم مصابيح الظلام إشارة على سبيل التلميح إلى ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مثل أصحابي في أمتي مثل النجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم" وسيأتي الكلام عليه مع تخريجه في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى فإن النجوم تسمى مصابيح أيضا كما قال تعالى {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك: 5] ثم غير خاف أن بين الآل والأصحاب عموما وخصوصا من وجه، وأن ذلك ليس بمانع من عطف أحدهما على الآخر(21/28)
"وبعد فإني بعد أن صرفت طائفة من العمر" أي مدة من مدة الحياة في الدنيا "في طريقي الحنفية والشافعية في الأصول خطر لي أن أكتب كتابا مفصحا عن الاصطلاحين" في الأصول للفريقين كائنا "بحيث يطير من أتقنه إليهما بجناحين" أي بحيث يصل من أحاط بما فيه دراية إلى معرفة الاصطلاحين ولا يخفى ما في هذه الاستعارة المكنية التخيلية المرشحة من اللطف والحسن فإنه شبه في النفس الاصطلاحين بالمكان الرفيع بجامع علو المقام بينهما، وإن كان العلو في المكان حسيا، وفي الاصطلاحين عقليا، والمتقن للكتاب بالطائر بجامع السعي السريع بينهما الموصل للمطلوب، وأثبت للمشبه الجناحين اللذين لا قوام للمشبه به إلا بهما تخييلا وترشيحا، وما دعاني إلى قصد كتابة كتاب بهذه المثابة إلا "إذا كان من علمته أفاض في هذا المقصود" أي من صنف كتابا في بيان الاصطلاحين المذكورين كالنحرير العلامة صاحب البديع فإنه ذكر في ديباجته: قد منحتك أيها الطالب لنهاية الوصول إلى علم الأصول هذا الكتاب البديع في معناه المطابق اسمه لمسماه لخصته لك من كتاب الأحكام ورصعته بالجواهر النفيسة من أصول فخر الإسلام ثم قال: وهذا الكتاب يقرب منهما البعيد ويؤلف الشريد، ويعبد لك الطريقين ويعرفك اصطلاح الفريقين "لم يوضحهما حق الإيضاح ولم(21/29)
ص -20-…يناد مرتادهما" أي طالبهما بالنصب مفعول ينادي، وفاعله "بيانه إليهما بحي على الفلاح" وهذا قد صار في العرف مثلا يستعمل في اشتهار التبليغ والإيقاظ له. والإفصاح عن المقصود مأخوذ من قول المؤذن ذلك فكنى بهذا القول عن عدم بيان من صنف في بيان الاصطلاحين إياهما على الوجه الواضح الجلي المستوفي؛ لأنك تارة ترى بعض المواضع منه عاريا من التمييز بينهما، وتارة ترى بعضا منه خاليا من أحدهما "فشرعت في هذا الغرض" وهو كتابة كتاب مفصح على الاصطلاحين بحيث يطير من أتقنه إليهما بجناحين "ضاما إليه" أي إلى بيان الاصطلاحين "ما ينقدح" أي يظهر "لي من بحث" وسيأتي تعريفه "وتحرير" أي تقويم "فظهر لي بعد" كتابة شيء "قليل" من ذلك "أنه" أي هذا المشروع فيه إذا تم "سفر" أي كتاب "كبير، وعرفت من أهل العصر" أي من مشتغلي زماني "انصراف هممهم" أي توجهها جمع همة وهي اسم من الاهتمام بمعنى الاغتمام من هم إذا تدافع في القصد، وقيل هي الباعث القلبي المنبعث من النفس لمطلوب كمالي، ومقصود عال "في غير الفقه إلى المختصرات، وإعراضهم عن الكتب المطولات" وخصوصا إن كانت تلك المختصرات بالمعنى الحقيقي اللغوي للاختصار وهو رد الكثير إلى القليل، وفيه معنى الكثير، وقد يعبر عنه بما دل قليله على كثيره كما هو منقول عن الخليل بن أحمد فإن اختيار المختصرات حينئذ متجه؛ لأن المختصر أقرب إلى الحفظ، وأنشط للقارئ، وأوقع في النفس، ومن ثمة تداول الناس إعجاز قوله تعالى {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]، وعجبوا من وجيز قوله سبحانه {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94]، ومن اختصار قوله عز وجل {يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} [هود: 44] الآية. وقالوا إنها أخصر آية في كتاب الله واستحسنوا اختصار قوله جل، وعلا {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} [الزخرف: 71] حيث جمع في هذا اللفظ الوجيز بين جميع المطعومات والمشروبات(21/30)
والملبوسات وغيرها ولفضل الاختصار على الإطالة قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أوتيت جوامع الكلم واختصرت لي الحكمة اختصارا"، وقال الحسن بن علي رضي الله عنهما خير الكلام ما قل ودل ولم يطل فيمل غير أن للإطالة موضعا تحمد فيه ولذلك لم يكن جميع كتاب الله الكريم مختصرا، ومن هنا اختيرت المطولات أيضا في الفقه واللغة والتواريخ لتعلق الغرض باتساع ما فيها من الجزئيات التي لا يجمعها ضابط في الغالب. "فعدلت" بهذا السبب عن إتمام ذلك "إلى" تصنيف "مختصر متضمن إن شاء الله تعالى الغرضين" يعني - والله أعلم - غرضه الذي هو ذكر الاصطلاحين على الوجه الذي قصده من الإيضاح والإتقان، وغرض أهل العصر الذي هو الاختصار في البيان "واف بفضل الله سبحانه بتحقيق متعلق العزمين" يعني - والله أعلم - بأحد العزمين العزم على بيان الاصطلاحين على الوجه الذي ذكره وبالآخر العزم على ضم ما ينقدح له من بحث وتحرير إلى ذلك، ومتعلقهما البيان والضم المذكوران والعزم القصد المصمم، وقد يعبر عنه بجزم الإرادة بعد التردد، والباء في بفضل الله إما بمعنى من أو للسببية، وفي بتحقيق للتعدية وهو ظاهر. "غير أنه" أي هذا المعدول إليه "مفتقر إلى الجواد الوهاب تعالى أن يقرنه" بكسر الراء وضمها "بقبول أفئدة العباد" والجواد بالتخفيف من(21/31)
ص -21-…أسماء الله تعالى، ورد في عدة أحاديث منها حديث أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي وحسنه وهو في كلام العرب الكثير العطاء، وقال أبو عمرو بن العلاء: الكريم، وأما كون الوهاب من أسمائه تعالى فمما تظافر عليه الكتاب والسنة والإجماع وهو في حقه تعالى يدل على البذل الشامل والعطاء الدائم بغير تكلف ولا غرض ولا عوض، واختلف في أنه من صفات الذات أو الأفعال، والوجه الصحيح الظاهر أنه من صفات الأفعال. "وأن يتفضل عليه بثواب يوم التناد" أي يوم القيامة سمي به؛ لأنه ينادي فيه بعضهم بعضا للاستغاثة أو يتنادى أصحاب الجنة، وأصحاب النار، وقيل غير ذلك وهذا إذا لم تكن الدال مشددة، فإن كانت مشددة فلأنه يند بعضهم من بعض أي يفر كما قال تعالى {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} [عبس: 34] الآية. والأول هو الرواية، وقراءة السبعة في قوله تعالى {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} [غافر: 32]، وإنما كان هذا المصنف محتاجا إلى كل من هذين الأمرين؛ لأن الغرض في الدنيا من التصنيف نشر المصنف والتحلي بمعرفته، وهو لا يتم إلا بعلاقة القلوب بكتابته، ومدارسته واعتقاد صحته وحقيقته، وفي الآخرة إفاضة الجود والإحسان من الكريم المنان مسببا ذلك في الجملة عما عاناه المصنف في ذلك العمل في سالف الأزمان، ولما كان ذلك مقذوفا بمقتضى فضل الله الذي يخص به سبحانه من شاء من أفراد الإنسان. قال: "والله سبحانه وتعالى أسأل ذلك" أي جعله في الدنيا مقبولا، وفي الآخرة جزيل الثواب حبلا موصولا وذلك مما يصلح أن يقع إشارة إلى المثنى بدليل قوله {لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: 68]، وقدم المفعول وهو الاسم الجليل للاهتمام والتخصيص "وهو سبحانه نعم الوكيل" وكفى به وكيلا، وكيف لا وهو المستقل بجميع ما يحتاج إليه جميع الخلق، وقد وكل أمور خلقه إليه ووكل عباده المتوكلون عليه أمورهم إليه ثم هذا من أسمائه تعالى التي تظافر(21/32)
عليها الكتاب والسنة والإجماع، ويجوز أن يكون بمعنى مفعول، وعليه تفسيره بالموكول إليه الأمور من تدبير البرية وغيرها، وأن يكون بمعنى فاعل، وعليه تفسيره بالكفيل بالرزق والقيام على الخلق بما يصلحهم وبالمعين وبالشاهد وبالحفيظ وبالكافي إلى غير ذلك ثم أفاد القرطبي أنه إذا كان الوكيل الذي وكل عباده أمورهم إليه واعتمدوا في حوائجهم عليه فهو وصف ذاتي فيه معنى الإضافة الخاصة إذ لا يكل أمره إليه من عباده إلا قوم خاصة وهم أهل العرفان، وإذا كان الوكيل الذي وكل أمور عباده إلى نفسه، وقام بها وتكفل بالقيام عليها كان وصفا فعليا مضافا إلى الوجود كله؛ لأن هذا الوصف لا يليق بغيره، وعلى هذا يخرج شرح العلماء لهذا الاسم ويتضمن أوصافا عظيمة من أوصافه كحياته وعلمه وقدرته، وغير ذلك، والضمير المرفوع المنفصل هو المخصوص بالمدح قدمه للتخصيص. "وسميته بالتحرير" لكونه مشتملا على تقويم قواعد هذا الفن وتقريب مقاصده وتهذيب مباحث هذا العلم وكشف القناع عن وجوه خرائده "بعد ترتيبه على مقدمة هي المقدمات" الآتي ذكرها، وهي الأمور الأربعة بيان المفهوم الاصطلاحي للاسم الذي هو لفظ أصول الفقه، وبيان موضوعه أي التصديق بأنه ما هو، وبيان المقدمات المنطقية التي هي جملة مباحث النظر وطرق معرفة صحيحه وفاسده وبيان استمداده من أي شيء فصارت(21/33)
ص -22-…المقدمة تقال على كل واحد من البيانات الأربعة، وعلى مجموع البيانات كما يقال لكل فرد إنسان وللكل الإنسان، وقد يقال إنسان بمعناه، وعليه قوله مقدمة هي المقدمات ذكره المصنف.
قال العبد الضعيف - غفر الله تعالى له -: فظهر من هذا أن المراد بالمقدمة هنا ما يذكر أمام الشروع في العلم لتوقف الشروع على بصيرة أو زيادتها عليه، ولما كان كل من هذه الأمور المذكورة لا تنفك عند التحقيق عن أحد هذين كما أن جملتها لا تنفك عنهما بطريق أولى ساغ أن يترجم عن هذا المعنى بلفظ مفرد نكرة نظرا إلى أنه معنى كلي تشترك فيه هذه الماصدقات فيكفي في التعبير عنه اسم الجنس النكرة؛ لأن الأصل في الأسماء التنكير على ما عرف ثم لا موجب هنا يوجب مخالفته على أن ما كان على الأصل لا يسأل عن سببه. ثم لما كانت المقدمات عبارة عن الأمور المذكورة، وقد تقدم الشعور بالمعنى الكلي الشامل لها بحيث يعد كل منها من ماصدقاته لاستبداد كل منها في إفادة أحد ذينك الأمرين، وإن كان بعضها أتم من بعض باعتبار تقدم اللفظ الحامل له أعني لفظ مقدمة تعين إذ جمعت هذه الماصدقات، ووقعت تفسيرا له أن تعرف، ويكون التعريف فيها للعهد الذكري؛ لتقدم مدلولها معنى كما قالوا في قوله تعالى {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آل عمران: 36] فتأمله. هذا وأفاد المصنف رحمه الله أنه إنما لم يقل على مقدمة في كذا كما في كلام غير واحد؛ لأنه يستدعي تكلف كلام في مجازية الظرف المفاد بفي وبعد الفراغ منه يظهر أن حقيقة المقدمة ليس إلا عين البيان للأمور التي تقدمت معرفتها على الشروع في الفن يوجب حصول زيادة البصيرة فيه فأسقط بذلك مؤنة ذلك ونبه على ما قد يغفل عنه من أنها هي المذكورات بعينها أعني البيانات بمعنى الحاصل بالمصدر. ا هـ.(21/34)
فإن قلت: المشهور كون مقدمة العلم حده وغايته والتصديق بموضوعه فما بال المصنف أسقط ذكر الغاية وذكر المقدمات المنطقية والاستمداد؟. قلت: لأنه قد صرح غير واحد من المحققين منهم الشريف الجرجاني بأن ما جرت به العادة من ذكرهم وجه ما اشتملت عليه مقدمة العلم من حده وغايته والتصديق بموضوعه لم يقصدوا به بيان حصر المقدمة فيها بل توجيه ما ذكر فيها حتى ولو وجد غيرها مشاركا لها في إفادة البصيرة ساغ ضمه وجعله منها. وعلى قياس هذا ولو ظهر عدم الاحتياج إلى بعضها في إفادة البصيرة لسد غيره مسده جاز أيضا إسقاطه استغناء بغيره عنه، ولا مرية في مشاركة المقدمات المنطقية والاستمداد لهذه الأمور في إفادة البصيرة كما أنه لا احتياج إلى ذكر الغاية مع ذكر الحد في هذا الغرض كما سيتعرض له المصنف فيما سيأتي، ويذكر عنه ثمة توجيهه إن شاء الله تعالى. ومن هذا يظهر أن حصر المقدمة في الأمور المذكورة ليس من حصر الكل في أجزائه كما هو ظاهر كلام غير واحد بل من حصر الكلي في جزئياته أو في جزئيات منها بحسب الاستيفاء لها وعدمه، كما مشى عليه المصنف ثم المقدمة اسم فاعل على المشهور قيل من قدم لازما بمعنى تقدم كبين بمعنى تبين، وقيل متعديا؛ لأن هذه الأمور لما فيها من سبب التقدم كأنها(21/35)
ص -23-…تقدم غيرها أو لإفادتها الشروع بالبصيرة تقدم من عرفها من الشارحين على من لم يعرفها. وعن الزمخشري أن فتح الدال خلف، وعن غيره جوازه إذا كانت من المتعدي فلعل ما عن الزمخشري محمول على ما إذا كانت من اللازم فلا يكون بين هذين تعارض ثم لم يبين الزمخشري وجه منع الفتح قيل: ولعله أن في الفتح إيهام أن تقدم هذه الأمور إنما هو بالجعل والاعتبار دون الاستحقاق الذاتي وهو خلاف المقصود؛ لأن تقدم هذه الأمور إنما هو بسبب استحقاقها للتقدم بحسب الذات كما بين في موضعه ا هـ.
قال العبد الضعيف - غفر الله تعالى له -: وفيه أيضا من جهة اللفظ عدم ذكر الجار والمجرور، ويلزم مع اسم المفعول من اللازم ذكر الجار والمجرور كما عرف في موضعه فانتفى على هذا ما قيل أن فتح الدال فيها ليس ببعيد لفظا، ومعنى ثم هل هي منقولة عن مقدمة الجيش فيكون لفظها في مقدمتي العلم والكتاب حقيقة عرفية، أو مستعارة منها فتكون مجازا فيهما أو كلاهما موجود فيها بناء على أنها في الأصل صفة حذف موصوفها وأطلقت على الطائفة المتقدمة من المعاني أو الألفاظ على العلم أو على سائر ألفاظ الكتاب، والتاء إما للنقل من الوصفية إلى الاسمية أو لاعتباره مؤنثا كما قالوا: في لفظ الحقيقة احتمالات، ورجح أنها إن كانت بمعنى الوصف أي ذات مؤنثة ثبت لها صفة التقديم، واعتبار معنى التقديم فيها لصحة إطلاق الاسم كالضاربة فإطلاقها على الطائفة المذكورة حقيقة إن كان باعتبار أنها من أفراد هذا المفهوم، ومجاز إن كان بملاحظة خصوصها، وإن كانت بمعنى الاسم واعتبار معنى التقديم لترجح الاسم كما في القارورة فإطلاقها على الطائفة إنما يكون حقيقة لو ثبت وضع واضع اللغات المقدمة لهذه الطائفة. والظاهر أنه لم يثبت بل الثابت إنما هو وضعه لها بإزاء مقدمة الجيش(21/36)
"وثلاث مقالات في المبادئ" أي، وعلى ثلاث مقالات أولها في بيان التصورات والتصديقات المعدودة من مبادئ هذا العلم "وأحوال الموضوع" أي وثانيها في بيان التصورات والتصديقات الراجعة إلى أحوال موضوع العلم "والاجتهاد" أي وثالثها في بيان ماهية الاجتهاد، وما يقابله وهو التقليد، وما يتبعهما من الأحكام
ثم لما كان المذكور في هذه المقالة ما يفيد أنه ليس من مسائل الفن؛ لأن مسائل الفن ما للبحث فيها رجوع إلى موضوعه، ومسائل الاجتهاد وما يتبعه ليست كذلك كما سنذكره لكن جرت عادة كثير منهم الشافعية أن يذكروها على سبيل اللواحق المتممة للغرض منه إسعافا أشار المصنف إلى ذلك فقال "وهو" أي الاجتهاد مع ما يتبعه "متمم مسائله" بعضها "فقهية" لكون هذا البعض من بيان أحكام أفعال المكلفين كمسألة الاجتهاد واجب عينا على المجتهد في حق نفسه، وكذا في حق غيره إذا خاف فوت الحادثة على غير الوجه، وحرام في مقابلة قاطع نص أو إجماع إلى آخر أقسامها إلى غير ذلك فإن الاجتهاد فعل المجتهد، وهو بذل وسعه في طلب الحكم الشرعي، وكل من الوجوب والحرمة وباقي محمولات أقسام موضوعات المسألة(21/37)
ص -24-…حكم شرعي، وإلى هذا أشار بقوله "لمثل ما سنذكر" قريبا. بيان الموضوع أن البحث عن حجية الإجماع وخبر الواحد والقياس ليس منه بل من الفقه؛ لأن موضوعاتها أفعال المكلفين، ومحمولاتها الحكم الشرعي فإن مثل هذا الكلام جار في بعض مسائل الاجتهاد الكائن على هذا الوجه، وإنما لم يقل لما سنذكر نظرا إلى خصوص الجزئية الكائن لهذه المسائل فإنه غير الخصوص الكائن لغيرها "واعتقادية" أي وبعضها مسائل اعتقادية لكونه راجعا إلى ما على النفس من الأمور الاعتقادية المنسوبة إلى دين الإسلام كمسألة لا حكم في المسألة الاجتهادية قبل الاجتهاد، ومسألة يجوز خلو الزمان عن مجتهد فإن كلا من هاتين عقيدة دينية منسوبة إلى دين الإسلام غاية الأمر كما قال المصنف أنهم لم يدونوا هذه المسائل في الفقه والكلام، وذلك لا يخرجها عنهما بعد رجوع البحث عنها إلى موضوعهما، وكان مقتضى ما فعله في المقدمة أن يذكر في المقالات نظيره فيقول ثلاث مقالات هي المبادئ ولكن المقالة أجريت مجرى القول بالمعنى المصدري فكان المقول الذي هو نفس العلم متعلقه فيثبت التغاير، والله أعلم. فإن قلت لم اختار الترتيب على التأليف؟. قلت ليشير على سبيل التنصيص إلى أنه وضع ما اشتمل عليه المختصر من الأجزاء مواضعها اللائقة بها من التقديم والتأخير في الرتبة العقلية؛ لأنهم قالوا الترتيب في اللغة جعل كل شيء في مرتبته، وفي الاصطلاح جعل الأشياء المتعددة بحيث يطلق عليها اسم الواحد، ويكون لبعضها نسبة إلى البعض بالتقديم والتأخير في الرتبة العقلية بخلاف التأليف فإنه جعل الأشياء المتعددة بحيث يطلق عليها اسم الواحد سواء كان لبعضها نسبة إلى بعض بالتقديم والتأخير أم لا فهو أعم من الترتيب فلا يكون فيه إشارة ناصة على هذا المطلوب ثم قد ظهر من هذا أن الضمير المجرور في ترتيبه راجع إلى المختصر مرادا به مضمون ما قام في النفس من الأجزاء والمواد التي يستعقب تركيبها على الوجه المذكور(21/38)
المختصر؛ لأن الصورة معلول الترتيب، ولا ضير في ذلك، وإن كان الضمير في سميته راجعا إلى المختصر مرادا به معناه المقرر له في الخارج المتبادر من إطلاقه فإن مثله شائع بل هو من التحسين المعنوي المسمى بالاستخدام عند أهل البديع فتنبه له.(21/39)
ص -25-…المقدمة
[الأمر الأول: في مفهوم اسم أصول الفقه]
"المقدمة" المذكورة فالتعريف فيها للعهد الذكري "أمور" أربعة، وقد عرفت لم قال هكذا ولم يقل في أمور الأمر "الأول مفهوم اسمه" أي اسم هذا العلم، وهو لفظ أصول الفقه ووجه تقديم هذا الأمر على غيره ظاهر "والمعروف كونه" أي اسمه حال كونه غير مراد به المعنى الإضافي "علما، وقيل" بل اسمه "اسم جنس لإدخاله اللام" أي لصحة إدخال اللافظ اللام عليه فيقال الأصول، وإلى هذا جنح القاضي تاج الدين السبكي حيث قال وجعله اسم جنس أولى من جعله علم جنس؛ لأنه لو كان علما لما دخلته اللام. قال المصنف "وليس" هذا القول بشيء أو ليس اللام بداخل عليه، وهذا من المصنف مشى على ما ذهب إليه بعض النحويين من جواز حذف الخبر في باب كان وأخواتها في سعة الكلام اختصارا، وإنما قلنا إن هذا ليس بشيء "فإن العلم" بفتح اللام هو الاسم "المركب" الإضافي من لفظي أصول والفقه "لا الأصول" أي لا أحد جزأي هذا المركب الذي هو لفظ أصول فقط ونحن لا ندعي العلمية إلا للمركب المذكور حال كونه غير مراد به المعنى الإضافي، واللام لم تدخل عليه بل على الجزء الأول حالة كونه فاقدا للإضافة مطلقا؛ لأن اللام لا تجامع الإضافة، وقد تعقبها ونحن نقول: إنه حينئذ نكرة فإذا دخلت عليه اللام عرفته ثم لما كان كثيرا ما يطلق لفظ الأصول محلى باللام ويراد به هذا العلم. وقد ظهر أنه سبب وهم القائل أنه اسم جنس أشار إلى وجه ذلك فقال "بل الأصول بعد كونه" في الأصل لفظا "عاما في المباني" أي في كل ما يبنى عليه شيء، سواء كان ذلك في الحسيات كبناء الجدار على الأساس أو في المعنويات كبناء المسائل الجزئية على القواعد الكلية كما هو مقتضى عرف اللغة يعني إذا لم يقصد بالأصول خصوص من المباني فإنه حينئذ من ألفاظ العموم صيغة، ومعنى لكونه جمعا محلى باللام للاستغراق "يقال" لفظ الأصول أيضا قولا "خاصا في المباني المعهودة للفقه" التي هي عبارة(21/40)
عن هذا العلم على سبيل الغلبة عليه من بين سائر المباني كالنجم للثريا أعني الأدلة الكلية والقواعد التي يتوصل بمعرفتها إلى قدرة الاستنباط كما هو عرف الفقهاء حتى صار حقيقة عرفية فيه "فاللام" فيه حينئذ بالنسبة إلى أول حالات إرادتها بخصوصها منه لأهل هذا العرف "للعهد" الذهني ثم صارت بعد ذلك لازمة له كالجزء منه كهي في النجم للثريا يعني، ومن المعلوم أيضا أنه بهذا الاعتبار ليس باسم جنس أيضا بل من الأعلام الكائنة على سبيل الغلبة، وقصارى ما يلزم من هذا أن يكون له اسمان علم منقول لا بطريق الغلبة هو لفظ أصول الفقه، وعلم منقول بطريق الغلبة وهو لفظ الأصول ولا محذور في ذلك. ثم حيث كان المعروف كون اسمه الذي هو أصول الفقه علما فهل هو جنسي أو شخصي؟. فنص المحقق الشريف الجرجاني على أنه من أعلام الأجناس؛ لأن علم أصول الفقه كلي يتناول أفرادا متعددة إذ القائم منه بزيد غير ما قام(21/41)
ص -26-…بعمرو شخصا، وإن اتحد مفهوماهما ولما احتيج إلى نقل هذا اللفظ عن معناه الإضافي جعلوه علما للعلم المخصوص على ما عهد في اللغة لا اسم جنس، وقال المصنف: "والوجه" في علمية أصول الفقه "أنه" أي أصول الفقه علم "شخصي إذ لا يصدق" أصول الفقه "على مسألة" واحدة من مسائله، وهذا أمارة الشخصية؛ لأن الكل لا يصدق على جزئه حقيقة.
قال العبد الضعيف - غفر الله تعالى له -: وهذا إنما ينفي كونه اسم جنس لا كونه علم جنس؛ لأن علم الجنس موضوع للحقيقة المتحدة في الذهن كما هو الصحيح وسيأتي في موضعه من هذا الكتاب ثم هم قد عاملوه معاملة المتواطئ في إطلاقه حقيقة على كل فرد كما صرح به ابن الحاجب وغيره فأصول الفقه إذا كان علم جنس فإنما هو موضوع للحقيقة المتحدة ذهنا التي هي مجموع الإدراكات أو المدركات المتعينة فيه، وأفراد هذا المعنى إنما هي المظاهر الوجودية للحقيقة المذكورة لا مسائله التي هي أجزاء مسماه على القول بأنه موضوع بإزائها فعدم صحة إطلاقه على المسألة الواحدة كما أنه لازم لكونه علم شخص كذلك هو لازم لكونه علم جنس فلا يصلح أن يكون معينا لأحدهما نافيا للآخر نعم يمكن إثبات كونه علم شخص بشيء غير هذا أشار إليه المصنف حال قراءتنا لهذا الموضع عليه وهو ما حاصله مزيدا عليه ما يكسوه إيضاحا وتحقيقا أنا لا نسلم أن هذا الاسم موضوع لأمر كلي يتناول أفرادا متعددة متغايرة قائمة بزيد، وعمرو وغيرهما بل هو موضوع لأمر خاص هو مجموع إحدى الكثرتين الإدراكات الخاصة أو المدركات الخاصة الآتي بيانهما أعني الكثرة الحاضرة المعينة في الذهن، وإن تركبت من مفاهيم كلية فمسماه حينئذ إما مجموع أمور محققة خاصة هي العلم بأن الأمر للوجوب، والعلم بأن النهي للتحريم إلى غير ذلك أو مجموع عين الأمر للوجوب والنهي للتحريم إلى غير ذلك ثم هو يصلح أن يكون متعلقا لإدراك زيد، وعمرو وغيرهما بمعنى أن يكون مدركا لهم. ومن المعلوم أن وقوع هذا له لا(21/42)
يقتضي تعددا له في نفسه من حيث هو بل هو حالة تعلق إدراك زيد به هو بعينه حالة تعلق إدراك عمرو به وهلم جرا كما أن تصورات متصورين لزيد علما وتصديقاتهم بأحواله لا يقتضي تعدده بل هو هو، سواء تعلقت به تصوراتهم وتصديقاتهم بأحواله أو لم تتعلق فإن قلت لا بأس بهذا فيما إذا كان الاسم موضوعا بإزاء المدركات لصحة تعلق الإدراكات بها أما إذا كان موضوعا بإزاء الإدراكات فكيف يسوغ ذلك إذ يصير الإدراك متعلق الإدراك قلت سواغه أيضا ظاهر؛ لأنه حينئذ يكون بالنسبة إلى الإدراك المذكور مدركا، وإن كان هو في نفسه إدراكا أيضا فتأمله. ثم هذا جار في أسماء سائر العلوم، والله سبحانه أعلم.
ثم لما كان تعريف مفهوم هذا الاسم مختلفا باعتبار ما كان اللفظ أولا عليه وباعتبار ما صار ثانيا إليه، وقد أفادوا تعريفه على كليهما وافقهم المصنف على ذلك مشيرا إلى صنيعهم هذا تمهيدا لإفادته لذلك فقال: "والعادة تعريفه مضافا، وعلما" أي تعريف مفهوم اسمه الذي هو لفظ أصول الفقه من حيث كون اسمه مركبا إضافيا ليس بعلم أو حال كونه كذلك، ومن(21/43)
ص -27-…جهة كونه علما على هذا العلم أو حال كونه كذلك والفرق بين الاعتبارين إنه باعتبار الإضافة مركب يعتبر فيه حال الأجزاء وباعتبار العلمية مفرد لا يعتبر فيه حال الأجزاء، ثم بدأ بتعريفه على التقدير الأول ذاكرا معنى كل من جزأيه من حيث تصح الإضافة بينهما كما هو السبيل في مثله مراعاة للتقدم الوجودي فقال: "فعلى الأول" أي فتعريف مفهوم اسمه على تقدير كون الاسم مركبا إضافيا ليس بعلم أن يقال "الأصول الأدلة" فأداة التعريف في الأصول للعهد أي المذكور في قولنا أصول الفقه ثم هي جمع أصل، وعنه لغة عبارات أحسنها ما يبتنى عليه غيره كما ذكره أبو الحسين وغيره. وأشار المصنف آنفا إليه أي من حيث يبتنى عليه لما عرف أن قيد الحيثية لا بد منه في تعريف الإضافيات إلا أنه كثيرا ما يحذف لشهرة أمره ويستعمل اصطلاحا بمعان المناسب منها هنا الدليل كما ذكره المصنف ونذكر وجهه قريبا، والمراد بالأدلة الأدلة الكلية السمعية الآتي بيانهأدلته، وهذا أيضا هو العذر في ترك التقييد لفظا بالسمعية ثم المعين أيضا لذلك كله إضافتها إلى الفقه كما سيتضح وجهه قريبا فإن دلائل الفقه في نفس الأمر كذلك. ثم في هذا المعنى الاصطلاحي المالأدلة مبنى الفقه، ومرجعه بل نص غير واحد من المحققين على أن الأصل هنا بمعنى الدليل ليس منقولاعنى اللغوي؛ لأن هذه عا، وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وإنما لم يذكر المصنف لفظ الكلية للعلم به من حيث إن قيد الحيثية مراد منها كما ذكرنا حتى كأنه قال من حيث هي ن المعنى اللغوي السابق، وإنما هو من ماصدقاته، غايته أن بالإضافة إلى الفقه الذي هو معنى عقلي يعلم أن الابتناء هنا عقلي فيكون أصول الفقه ما يبتنى هو عليه ويستند إليه ولا معنى لمستند العلم ومبتناه إلا دليله، وهو حسن نعم إذا أطلق لفظ الأصول مرادا به هذا العلم الخاص يكون علما بطريق الغلبة منقولا كما حققناه سالفا، وإن اندرجت حقيقته في مطلق مسمى الأصول لغة؛(21/44)
لأن تخصيص الاسم بالأخص بعد كونه للأعم الصادق عليه، وعلى غيره نقل بلا شك، وقد نبه على هذا شيخنا المصنف في غير هذا الكتاب فلا تذهلن عنه.
"والفقه التصديق لأعمال المكلفين التي لا تقصد لاعتقاد بالأحكام الشرعية القطعية مع ملكة الاستنباط" فالتصديق أي الإدراك القطعي سواء كان ضروريا أو نظريا صوابا أو خطأ جنس لسائر الإدراكات القطعية بناء على اشتهار اختصاص التصديق بالحكم القطعي كما في تفسير الإيمان بالتصديق بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من عند الله، ومن ثمة سيقول المصنف مشيرا إلى ظن الأحكام الشرعية، وعلى ما قلنا ليس هو شيئا من الفقه ولا الأحكام المظنونة إلا باصطلاح ولا يضر استعمال المنطقيين إياه مرادا به ما هو أعم من القطعي والظني؛ لأنهم قسموا العلم بالمعنى الأعم إلى التصور والتصديق تقسيما حاضرا توسلا به إلى بيان الحاجة إلى المنطق بجميع أجزائه، ولأعمال المكلفين أي سواء كانت من أعمال الجوارح، وهي حركات البدن أو من أعمال القلوب، وهي قصودها وإرادتها، والمكلف هو العاقل البالغ فصل أخرج التصديق لغير أعمالهم من السماء والأرض وغيرهما بالوجود وغيره والتي لا تقصد لاعتقاد فصل ثان أخرج التصديق لأعمالهم التي تقصد لاعتقاد كالتصديق لطاعاتهم ومعاصيهم(21/45)
ص -28-…بأنها واقعة بقضاء الله تعالى، وقدره وإرادته ومشيئته، والاعتقاد الحكم الذهني الذي لا يحتمل النقيض عند الحاكم لا بتقديره في نفسه ولا بتشكيك مشكك، وهو إن كان مطابقا فصحيح، وإلا ففاسد وسببه الأكثري التقليد، وقوته ورخاوته على حسب مراتب الكبراء في النفوس، والمراد بكونها لا تقصد لاعتقاد أن لا يكون المقصود من الحمل عليها نفس الاعتقاد لها وبالأحكام الشرعية فصل ثالث أخرج التصديق لأعمالهم التي لا تقصد لاعتقاد بما ليس بحكم شرعي من عقلي أو لغوي أو غيرهما. والمراد بالأحكام الشرعية آثار خطابه تعالى المتعلق بأفعال المكلفين طلبا أو وضعا كما سيأتي بيانه مفصلا في أوائل المقالة الثانية إن شاء الله تعالى. والقطعية فصل رابع أخرج التصديق لأعمالهم التي لا تقصد لاعتقاد بالأحكام الشرعية التي ليست بقطعية من المظنونات وغيرها، والمراد بالقطعية ما ليس في ثبوته احتمال ناشئ عن دليل، ومع ملكة الاستنباط أي مع حصولها لمن قام به هذا التصديق فصل خامس أخرج التصديق المذكور إذا لم تكن معه هذه الملكة، والمراد بها كيفية راسخة في النفس متسببة عن استجماع المآخذ والأسباب والشروط التي يكفي المجتهد الرجوع إليها في معرفة الأحكام الشرعية الفرعية التي بحيث تنال بالاستنباط أي باستخراج الوصف المؤثر من النصوص المشتملة عليه لتعدي ذلك الحكم الكائن للمحال المنصوص عليها إلى المحال التي ليست كذلك لمساواتها إياها في الوصف المذكور، ومن هذا عرفت أنه لا حاجة إلى تقييد الاستنباط بالصحيح كما أفصح به صدر الشريعة وآثر لفظ الاستنباط على الاستخراج ونحوه إشارة إلى ما في استخراج الأحكام من النصوص من الكلفة والمشقة الملزومة لمزيد التعب كما هو الواقع فإن استعماله الكثير لغة في استخراج الماء من البئر والعين والتعب لازم لذلك عادة، وإشارة أيضا إلى ما بين المستخرجين من المناسبة، وهي التسبب إلى الحياة مع أنها في العلم أتم فإن في الماء حياة(21/46)
الأشباح، وفي العلم حياة الأشباح والأرواح. ثم قد وضح من هذا التقرير أن كلا من قوله لأعمال المكلفين، ومن قوله بالأحكام في محل النصب على أنه مفعول به للتصديق، وعداه إلى أحدهما باللام، وإلى الآخر بالباء؛ لأن مما يعبر عنه الحكم، وهو من شأنه أن يعدى إلى أحد مفعوليه بالباء، وإلى الآخر بعلى في مثل هذا التركيب وجعل المعدى إليه باللام هو الأعمال والمعدى إليه بالباء هو الأحكام؛ لأن الأعمال هي الموضوع والأحكام هي المحمول، ومن هنا قدم الأعمال على الأحكام؛ لأن الأصل تقديم الموضوع على المحمول، وأن قوله مع ملكة الاستنباط في محل النصب على أنه حال من التصديق، ثم بقي أن يقال لم قيد الأحكام الشرعية بالقطعية ثم قيد التصديق للأعمال المذكورة بها بمصاحبة هذه الملكة؟. والجواب إنما وقع التقييد بالقطعية دفعا لما كان يلزم من كون الفقه هو التصديق لعامة عمليات المكلفين المذكورة بعامة الأحكام الشرعية لعموم كل من أعمال المكلفين والأحكام الشرعية صيغة ومعنى، ويلزم لكون الفقه هذا المعنى على هذه الصرافة من العموم أنه إلى الآن لم يوجد الفقه والفقيه؛ لأن من المعلوم أن من الأحكام الشرعية الكائنة للأعمال المذكورة ما كل من دلالة النصوص عليه، ومن طريق وصوله إلى المكلفين قطعي كالثابت(21/47)
ص -29-…بالنص من الكتاب والسنة المتواترة والإجماع المتواتر، وأن هذا مما يمكن إحاطة كثير من المكلفين به فضلا عن المجتهدين. ومنها ما ليس كذلك إما لكون دلالة النصوص عليه غير قطعية أو لكون طريق وصوله إلى كثير من المكلفين غير قطعي كالثابت بالقياس، وبخبر الواحد من حيث هو ثابت بهما، وإن هذا مما لا يمكن لأحد من البشر الإحاطة به فإن الواقعات الجزئية لا تقف عند حد ولا تدخل تحت الضبط والعد؛ لأنها لا تنتهي إلا بانتهاء دار التكليف، واللازم باطل قطعا فالملزوم مثله ثم إنما لم يكتف بالتصديق القطعي للأعمال المذكورة بالأحكام الشرعية القطعية بل ضم إليه ملكة الاستنباط لما علم من أن مفيد الأحكام الشرعية للأعمال المذكورة أحد أمرين النص عليها في خصوص محالها، والقياس على المنصوص حيث تتوفر شروط القياس، وأن الفقيه الذي هو المجتهد هو القيم بكليهما معرفة تفصيلية في المنصوصات السمعية المشار إليها، وملكة لإدراك ما سواها على الوجه الذي يخرج به عن عهدة التكليف بها شرعا ولا يقدح في هذا ثبوت لا أدري في بعض المسائل من بعض من لا شك في كونه مجتهدا كالإمام أبي حنيفة والإمام مالك لجواز أن يكون ذلك لتعارض الأدلة تعارضا يوجب الوقف أو لعدم التمكن من الاجتهاد في الحال أو لعارض غير هذين من العوارض الموقفة للمجتهد عن الحكم بشيء معين فإذن لا بد من تقييد التصديق المذكور بملكة الاستنباط ليقع استيفاء جزأي المعنى المتبادر من إطلاق اللفظ اصطلاحا، وإلا كان التعريف غير تام ثم من التأمل في هذا التحقيق يندفع أن يختلج في الذهن أن حصول ملكة الاستنباط شرط للفقه لا شطر. ويظهر ما أشار إليه بقوله "ودخل نحو العلم بوجوب النية" في الفقه حتى تكون النية واجبة في الصلاة والزكاة والصوم والحج من مسائله؛ لأن موضوعها عمل من أعمال المكلفين القلبية التي لا تقصد لاعتقاد، ومحمولها حكم من الأحكام الشرعية القطعية، وهو الوجوب، وقد تعلق التصديق له(21/48)
بالوجوب، وإنما نص على هذا دفعا لوهم اختصاص الأعمال المذكورة بأعمال الجوارح كما وقع لبعضهم، وإنما قال نحو العلم بوجوب النية تنبيها على دخول أمثال هذا مما موضوعه عمل من الأعمال القلبية التي لا تقصد لاعتقاد، ومحموله حكم من الأحكام الشرعية القطعية كالعلم بتحريم الحسد والرياء "وقد يخص" الفقه "بظنها" أي الأحكام الشرعية للأعمال المذكورة حتى شاع أن الفقه من باب الظنون، وهذا طريق الإمام فخر الدين الرازي، وأتباعه، وعليه مشى المصنف في ضمن كلام له في شرح الهداية فقال: والعلم مطلقا بمعنى الإدراك جنس، وما تحته من اليقين والظن نوع، والعلوم المدونة تكون ظنية كالفقه، وقطعية كالكلام والحساب والهندسة ا هـ. وملخص ما قالوا في وجه هذا أن الفقه مستفاد من الأدلة اللفظية السمعية، وهي لا تفيد إلا ظنا لتوقف إفادتها اليقين على نفي الاحتمالات العشرة المعروفة في موضعها، ونفيها ما ثبت إلا بالأصل، والأصل إنما يفيد الظن قالوا وبتقدير أن يكون منه شيء قطعي الثبوت والدلالة فهو مما علم بالضرورة من الدين، وهو ليس من الفقه اصطلاحا منهم على ذلك وسيتعرض المصنف لهذا قريبا. ونذكر ما قيل في وجهه وعليه، وعلى هذا فلا يقال في تعريفه العلم بالأحكام الشرعية(21/49)
ص -30-…الفرعية عن أدلتها التفصيلية كما وقع لبعضهم بل الظن بذلك "وعلى ما قلنا" من أنه التصديق إلخ "ليس هو" أي الظن بالأحكام الشرعية لأعمال المكلفين التي لا تقصد لاعتقاد "شيئا من الفقه" أي جزءا من أجزائه فضلا عن أن لا يكون الفقه سواه "ولا الأحكام المظنونة" أي ولا تكون نفس الأحكام المظنونة جزءا من الفقه أيضا حتى إن الظن بالأحكام الشرعية القطعية للأعمال المذكورة، وما موضوعه عمل من الأعمال المذكورة، ومحموله حكم شرعي مظنون لا يكون من مسائل الفقه "إلا باصطلاح" من الاصطلاحات غير اصطلاحنا المذكور كالاصطلاح بأن الفقه كله ظني فيكون الفقه هو الظن بالأحكام المذكورة للأعمال المذكورة إذا قلنا إن الاسم موضوع بإزاء الإدراك والأحكام المظنونة إذا قلنا إن الاسم موضوع بإزاء المدرك، وإلى الإشارة إلى كون الفقه يقال على كل من هذين المعنيين تعرض لنفيهما تفريعا على ما اختاره من التعريف، وكالاصطلاح بأن منه ما هو قطعي، ومنه ما هو ظني، وقد نص غير واحد من المتأخرين على أنه الحق فيكون حينئذ كل من ظن الأحكام المذكورة، ومن الأحكام المظنونة من الفقه على الاختلاف في مسمى الاسم بقي الشأن في أي من هذه الاصطلاحات أحسن أو متعين، ويظهر أن ما مشى عليه المصنف متعين بالنسبة إلى أن المراد بالفقيه المجتهد لما ذكرنا ونذكر، وأن الثالث أحسن إذا كان موضوعا بإزاء المدرك، وما زال العمل في التدوين له من السلف والخلف على هذا، وغاية ما يلزم على هذا أنه لا يوجد جملة الفقه بهذا المعنى ما بقيت دار التكليف ويلزم منه انتفاء حصوله أجمع بهذا المعنى لأحد من البشر، ولا ضير في ذلك إذ لا قائل بتوقف وجود حقيقة الاجتهاد والمجتهد عليه برمته بهذا المعنى في الواقع لينتفي بسبب انتفاء تمام جملته، والله سبحانه وتعالى أعلم.(21/50)
"ثم على هذا التقدير"، وهو كون الفقه الظن بالأحكام الشرعية للأعمال المذكورة وكذا على تقدير كون الفقه هو الأحكام الشرعية المظنونة للأعمال المذكورة "يخرج ما علم بالضرورة الدينية" أي يخرج من الفقه ما صار من الأمور الظاهرة المعروف انتسابها إلى دين الإسلام بحيث صار التصديق به كالتصديق البديهي في الاستغناء عن الاستدلال حتى اشترك في معرفة كونه من الدين العوام القاصرون والنساء الناقصات كوجوب الصلوات الخمس على المكلفين، ووجه الخروج ظاهر فإن العناد بين الظن والعلم مفهوما قائم وكذا يخرج هذا من الفقه عند من جعله علما، واشترط في كونه متعلقا بالأحكام والأعمال المشار إليهما أن يكون عن استدلال قيل: والنكتة في ذلك أن الفقه لما كان لغة: إدراك الأشياء الخفية حتى يقال فقهت كلامك ولا يقال فقهت السماء والأرض خص بالعلوم النظرية ولا يخرج هذا من الفقه على قولنا؛ لأنه جزئي من جزئيات العلم القطعي، وهو أوجه فإنه يلزم المخرج إخراج أكثر علم الصحابة بالأحكام الشرعية للأعمال المشار إليهما من الفقه فإنه ضروري لهم لتلقيهم إياه من النبي صلى الله عليه وسلم حسا، ومن المعلوم بعد هذا فكذا ما يفضي إليه.
قال العبد الضعيف - غفر الله تعالى له -: والجواب عن النكتة المذكورة أنا لا نسلم أن الفقه(21/51)
ص -31-…لغة ما ذكرت فقد نص في الصحاح وغيره على أنه الفهم من غير تقييد بشيء، وعلى هذا لا مانع من أن يقال فقهت السماء والأرض كما لا مانع من أن يقال فهمتهما بمعنى علمتهما ولو سلم ذلك فلعل المانع أن الفهم إنما يذكر في الأمور المعنوية والسماء والأرض من المحسوسات ولو سلم ذلك فليس بلازم اعتبار المناسبة بين اللغوي والاصطلاحي في خصوص هذا الوصف ولو سلم ذلك فليس هو بلازم في كل مسألة من مسائله، ولو سلم ذلك فاشتراطه إنما هو بحسب الأصل، وهو موجود في هذا فإن ظهوره إلى هذا الحد إنما هو بعارض كونه قد صار من شعائر الدين فلا يكون هذا العروض له بمانع من جعله من الفقه، وكذا على هذا التقدير يخرج منه ما علم ثبوته قطعا من الأحكام للأعمال المشار إليهما، وإن لم يكن من ضروريات الدين، ومن هذا يعرف أن المصنف إذا كان مصرحا بهذا اللازم لو قال: وعلى هذا التقدير يخرج ما علم ثبوته قطعا لكان أولى لشموله حينئذ ما كان من ضروريات الدين، وما لم يكن كذلك.(21/52)
"وأما قصره" أي الفقه "على اليقين" أي يقين الأحكام الشرعية العملية بأن جعل اسما له حيث كان موضوعا بإزاء الإدراك "وجعل الظن في طريقه" أي هذا اليقين، وهو مقدمتا القياس الموصل إليه كما أشار إلى هذا الصنيع إمام الحرمين ثم فخر الدين الرازي، ومن تبعه كالبيضاوي فإنه بعد أن تعرض لاعتراض القاضي أبي بكر الباقلاني تعريف الفقه بالعلم بالأحكام الشرعية بقوله قيل الفقه من باب الظنون يعني فلا يجوز أن يؤخذ العلم جنس تعريفه أجاب بما حاصله مشروحا أن المراد بالعلم بالأحكام الشرعية العلم بوجوب العلم بها عن ظن المجتهد ثبوت ذلك الحكم، وهذا أمر قطعي؛ لأنه ثابت بدليل قطعي، وهذا الحكم مظنون المجتهد قطعا وكل مظنون للمجتهد قطعا يجب العمل به قطعا أما كون الصغرى قطعية فظاهر؛ لأن ثبوت ظن الحكم له وجداني والإنسان يقطع بوجود ظنه كما يقطع بوجود جوعه وعطشه، وأما كون الكبرى قطعية فقالوا للدليل القاطع على وجوب اتباع الظن ثم لم يعينه صاحب المحصول ولا مختصروه، وعينه غيرهم على اختلاف بينهم في تعيينه، وأحسن ما قيل فيه أنه الإجماع كما نقله الشافعي في رسالته ثم الغزالي في مستصفاه واعترض بأنه لا يفيد القطع ودفع بأنه خلاف المختار نعم يشترط في قطعيته أن لا يكون سكوتيا كما هو قول قوم من العلماء، والظاهر أن هذا كذلك فإن الشافعي على ما نقل عنه أنه لا يرى حجية السكوتي فضلا عن كونه قاطعا، وقد نقله في معرض الاستدلال، وأن يكون متواترا، والاستقراء يدل على أنه كذلك حتى زعم بعضهم أن هذا الحكم الثابت به من ضروريات الدين وحيث كانت هاتان المقدمتان قطعيتين فالمطلوب، وهو فهذا الحكم يجب العمل به قطعا قطعي غير أنه وقع الظن في طريقه كما رأيت من التصريح به محمولا في الصغرى موضوعا في الكبرى وذلك غير موجب لظنية المقدمة؛ لأن المعتبر في كون المقدمة قطعية أو ظنية ما اشتملت عليه من الحكم فإن ظنيا فظنية، وإن قطيعا فقطعية، سواء كان الطرفان ظنيين(21/53)
في نفسهما أو قطعيين أو أحدهما ظنيا والآخر قطعيا، وقد علمت هنا قطعية كل من الحكمين اللذين اشتمل عليهما(21/54)
ص -32-…المقدمتان المذكورتان. وإذا كان هذا هو المراد من التعريف المذكور فيلزمه أمران أحدهما ما أشار إليه بقوله "فمغير لمفهومه" أي فهذا الصنيع مغير لمفهوم الاسم؛ لأنه صار المعنى العلم بوجوب العمل بالأحكام المظنونة للمجتهد، وقد كان هو العلم بنفس الأحكام الشرعية العملية، وأين أحدهما من الآخر. ثانيهما ما أشار إليه بقوله "ويقصره" أي هذا الصنيع الفقه "على حكم" واحد من الأحكام الخمسة، وهو وجوب العمل بما ظنه المجتهد فيصير الفقه كله هذه المسألة الواحدة، وقد كان العلم بأحكام شرعية من وجوب وندب وتحريم وكراهة وإباحة، وهذان اللازمان باطلان فالملزوم مثلهما .(21/55)
فإن قيل المراد العلم بمقتضى الظن بالأحكام على الوجه المظنون فإن ظن وجوبه علم وجوب العمل به، وإن ظن حرمته علم حرمة العمل بها وكذا الباقي والتعرض للوجوب على سبيل التمثيل أجيب بأن القياس المذكور لا يفيد إلا وجوب العمل بمقتضى الظن لا غير، ولا يقال المراد وجوب اعتقاد الحكم على الوجه المظنون فإذا كان الندب مظنونا وجب اعتقاد ندبيته، وهكذا الباقي؛ لأنا نقول لا دلالة للعلم بالأحكام على ذلك فحينئذ يكون التعريف فاسدا ثم هذا كله بعد تسليم صحة أن يقال أولا العلم بالأحكام ويراد العلم بوجوب العمل بالأحكام، وإلا فقد يقال أولا لا دلالة له على هذا بشيء من الدلالات الثلاث، ولو قيل أطلق ذلك وأريد به هذا مجازا فجوابه أنه أولا ممنوع إذ لا علاقة بينهما مجوزة له ولو سلم فمثل هذا المجاز ليس بشهير ولا قرينة ظاهرة عليه فلا يجوز استعماله في التعريفات وثانيا العلم بوجوب العمل بالأحكام مستفاد من الأدلة الإجمالية، والفقه مستفاد من الأدلة التفصيلية. وثالثا إنما يتم هذا المطلوب على مذهب المصوبة القائلين بكون الأحكام تابعة لظن المجتهد، وهو قول مرجوح كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى. وأما على مذهب غيرهم فيجب عليه اتباع ظنه ولو خطأ فلا يكون مناطا للحكم ولا وجوب اتباعه موصلا له إلى العلم، قال المحقق الشريف: ولا مخلص إلا أن يراد بالأحكام أعم مما هو حكم الله تعالى في نفس الأمر أو في الظاهر، ومظنونه حكم الله ظاهرا طابق الواقع أو لا، وهو الذي نيط بظنه، وأوصله وجوب اتباعه إلى العلم بثبوته، ومن ها هنا ينحل الإشكال بأنا نقطع ببقاء ظنه، وعدم جزم مزيل له، وإنكاره بهت فيستحيل تعلق العلم به لتنافيهما وذلك؛ لأن الظن الباقي متعلق بالحكم قياسا إلى نفس الأمر والعلم المتعلق به مقيسا إلى الظاهر "وما قيل في" وجه "إثبات قطعية مظنونات المجتهد" بناء على أن المصيب واحد كما هو المذهب الراجح على ما ذكره الفاضل العبري في(21/56)
شرح منهاج البيضاوي من القياس المركب المفصول النتائج لإنتاج أن الفقه عبارة عن علم قطعي متعلق بمعلوم قطعي، وهو الحكم المظنون للمجتهد، وأن الظن إنما هو وسيلة إليه لا نفسه "مظنونة" أي الحكم المظنون للمجتهد "مقطوع بوجوب العمل به" للدليل القاطع عليه كما سلف فهذه صغرى قطعية "وكل ما قطع إلخ" أي بوجوب العمل به "فهو مقطوع به" أي بأنه حكم الله، وإلا لم يجب العلم به فهذه كبرى قطعية أيضا فينتج من الضرب الثاني من الشكل الأول لازم قطعي ضرورة قطعية المقدمتين، وهو مظنون المجتهد مقطوع(21/57)
ص -33-…بأنه حكم الله، وهو المطلوب، ولما كان كل من هذه الصغرى والكبرى محتاجا إلى كسب بقياس آخر تجعل كبرى هذا القياس صغرى لكبرى قياس آخر هكذا كل ما قطع بوجوب العمل به فهو معلوم قطعا، وكل ما هو معلوم قطعا فهو مقطوع به ينتج إذا سلمت مقدمتاه كل حكم قطع بوجوب العمل به فهو مقطوع به فتثبت الكبرى المذكورة حينئذ ثم تجعل صغرى القياس الأول صغرى لقياس آخر، وهذه النتيجة كبراه هكذا الحكم المظنون للمجتهد مقطوع بوجوب العمل به وكل مقطوع بوجوب العمل به فهو مقطوع به ينتج إذا سلمت مقدمتاه الحكم المظنون للمجتهد مقطوع به فتثبت الصغرى حينئذ. فالجواب أن تمام هذا موقوف على تسليم مقدمتيه أو قيام الدليل على تمامهما ولم يوجد كل منهما بل هو مسلم الصغرى "ممنوع الكبرى"، وهي وكل ما قطع بوجوب العلم به فهو مقطوع بأنه حكم الله فإنا لا نسلم أن كل ما قطع بوجوب العمل به يكون هو نفسه قطعي الثبوت بأنه حكم الله، لم لا يجوز أن يكون بعضه ظني الثبوت بأنه حكم الله بل هذا هو الثابت في نفس الأمر؛ لأن من الظاهر أن أبا حنيفة مثلا يقطع بوجوب العمل بالوتر عليه ولا يقطع بثبوت وجوب الوتر نفسه بل إنما ظنه، وقطع بحكم آخر بعده، وهو وجوب العمل بهذا المظنون فهو نفسه مظنون ولزوم العمل قطعي فظهر أن قوله، وإلا لم يجب العمل به ممنوع لظهور أنه يجب العمل بما يظن أنه حكم الله تعالى أيضا على أنه كما قال الشيخ جمال الدين الإسنوي ما ذكر، وإن دل على أن الحكم مقطوع به لكن لا يدل على أنه معلوم؛ لأن القطع أعم من العلم إذا المقلد قاطع وليس بعالم يعني، وقد عرف أنه لا يلزم من ثبوت الأعم ثبوت أخص بخصوصه، وإن بنى على أن كل ما هو مظنون للمجتهد فهو حكم الله قطعا كما هو رأي البعض يكون ذكر وجوب العمل ضائعا لا معنى له أصلا ذكره المحقق سعد الدين التفتازاني ولا يمنع هذا استرواحا إلى أن الاستدلال حينئذ من الشكل الثالث هكذا الحكم المظنون للمجتهد يجب العمل(21/58)
به، وكل ما هو مظنون للمجتهد فهو حكم الله قطعا؛ لأنه ينتج بعض ما يجب العمل به فهو حكم الله قطعا فلا يثبت المدعي، وهو كل ما يجب العمل به من الحكم المظنون للمجتهد فهو حكم الله قطعا على أن هذا بناء على رأي غير سديد. هذا واعلم أنه لما ظهر من تعريف المصنف للفقه أنه مجموع أمرين العلم بالأحكام الشرعية العملية القطعية، وملكة الاستنباط، وقد اعترض على مثله بأن ذكرها مما يجتنب في التعريف لعدم تعين ما هو المراد منها في نفسه وخصوصا إذا أريد بها الصفة التي يقال لها التهيؤ فإنه إن أريد مطلقه كان الفقه بهذا المعنى حاصلا لغير الفقيه لجواز حصول ذلك له، وإن أريد خاص منه، وهو المسمى بالقريب فمتفاوت المراتب ولهذا يفضل بعض المجتهدين على بعض، ولا كلي ضابط لها ليكون هو المراد فلزمت الجهالة في المرتبة المرادة منه دفعه المصنف بأن المراد منها معلوم كما أشار إليه بقوله: "والمراد بالملكة أدنى ما تتحقق به الأهلية" للاجتهاد بقرينة إضافتها إلى الاستنباط، وهي أدنى المراتب التي بها يصير في رتبة الاجتهاد، وهي التي لا بد منها لكل مجتهد، ومتى نزل عنها لم يكن مجتهدا ", وهو" أي أدنى ما يتحقق به ذلك "مضبوط" في شروط مطلق الاجتهاد كما سيأتي وتقدمت(21/59)
ص -34-…العبارة الإجمالية عنه. والحاصل أن هذه المرتبة مضبوطة بأن يراد بها الاتصاف بشروط الاجتهاد المذكورة في الفن، ولا يضر لزوم اختلافها بالزيادة بالنسبة إلى بعض الأشخاص، وإلا لم يثبت حكم بالاجتهاد، ولم يصح إطلاق المجتهد على أحد وكلاهما منتف قطعا، وخفاء هذا على من لا شعور له بمعاني اصطلاحات هذا الفن غير ضائر كما هو غير خاف فلا جهالة قادحة في صحة التعريف ثم بقي أن يقال قد بقي لهذا التعريف جزء آخر كالصورة له، وهو الإضافة وكما توقفت معرفته على معرفة الجزأين الماضيين اللذين كالمادة له يتوقف معرفته على معرفة هذا الجزء فلم لم يتعرض له، والجواب أنه إنما لم يتعرض له للعلم بأن معنى إضافة المشتق، وما في معناه كالأصل اختصاص المضاف بالمضاف إليه باعتبار مفهوم الإضافة مثلا دليل المسألة ما يختص بها باعتبار كونه دليلا عليها فأصل الفقه ما يختص به من حيث إنه مبني له ومستنده.(21/60)
"وعلى الثاني" أي وأما تعريف أصول الفقه على أنه علم على هذا العلم "فقال كثير أما تعريفه" أو حده كما قال ابن الحاجب "لقبا" أي حال كون هذا الاسم لقبا لهذا العلم أو من جهة كونه كذلك فعبروا باللقب لا العلم "ليشعروا برفعه مسماه" أي ليعلموا الواقفين على هذه العبارة بالتنويه بمسمى هذا العلم مع تمييزه عن غيره؛ لأن اللقب علم مشعر مع تمييز المسمى برفعته أو ضعته، ولفظ أصول الفقه كذلك فإنه مشعر بابتناء الفقه في الدين على مسماه، وهو صفة مدح؛ لأن بالفقه في الدين نظام المعاش ونجاة المعاد بخلاف التعبير عن اسمه بالعلم فإنه لا يتعين أن يكون فيه إشارة إلى هذه الرفعة فإن من أقسام العلم الاسم، وهو إنما وضع على المسمى لمجرد التمييز من غير نظر إلى تعظيم ولا تحقير. "وبعضهم علما" أي، وقال بعضهم علما مكان لقبا، وهو العلامة صاحب البديع ونقل عنه أنه قال، وإنما لم نقل لقبا كما ذكره ابن الحاجب؛ لأن اللقب أخص من العلم باعتبار أنه اعتبر في اللقب قيد كونه منبئا عن مدح أو ذم، وذلك لا مدخل له في كونه معرفا تعريفا حديا، وإلى شرح هذا أشار المصنف بقوله: "لأن التعريف" الحدي إنما هو "إفادة مجرد المسمى لا" إفادة المسمى "مع اعتبار ممدوحيته" التي هي وصف له أيضا "وإن كانت" الممدوحية في نفس الأمر "ثابتة" للمسمى؛ لأن التعريف الحدي إنما هو للحقيقة من حيث هي ثم إذ لم يلزم من كون الممدوحية وصفا ثابتا له في هذه الحالة أن يكون التعريف له باعتبارها لم يكن التصريح بحده مقيدا بالنظر إلى مطلق علميته التي لا دلالة لها من حيث هي على الممدوحية نفيا للممدوحية "فلا يعترض" على صاحب البديع "بثبوتها" أي بأن الممدوحية ثابتة له في نفس الأمر كما وقع من الشيخ سراج الدين الهندي حيث قال في شرحه: ويرد عليه أن كونه علما لعلم هو صلاح أمر الدين والدنيا مدح له ففيه دلالة على المدح فيكون لقبا وجوابه بأن كونه مدحا باعتبار مفهومه الإضافي لا باعتبار(21/61)
دلالته على ذلك الشخص ليس بقوي فإن جميع الألقاب باعتبار دلالته على ذلك الشخص كذلك، وإنما المعتبر في كونه مدحا تسميته بما يدل على المدح قبلها ا هـ. فإن صاحب البديع ليس بمنكر أنه يشعر بذلك، وأن اسمه لقب في نفس الأمر، وإنما الكلام في(21/62)
ص -35-…تعريف مسمى لفظ أصول الفقه، وهو ليس باعتبار إشعاره بذلك بل باعتبار ما يميزه عن غيره فقط وكذلك كل تعريف سواء كان في نفس الأمر لقبا أو لا فيتجه قول القائل علما على قول القائل لقبا ثم يحتاج الكل إلى التقصي عما اشتهر من أن الشخصي لا يحد، وإنما طريق إدراكه الحواس؛ لأنه إن أخذت العوارض المشخصة فيه فهي في معرض التغيير والتبديل، وإن اقتصر على مقومات الماهية لم يكن حدا له من حيث إنه شخص وبهذا يندفع ما عسى أن يقال المحدود هنا هو المسمى المفهوم للعلم لا للشخص؛ لأن الفرض أنهم قالوا أما تعريفه علما ولقبا وقد عرفت أنه علم شخصي فكأنهم قالوا إما تعريفه من حيث هو شخصي ويمكن الجواب بأن المراد بحده هنا ما يفيد امتيازه عن جميع ما عداه من أفراد مطلق العلم الموجودة في نفس الأمر، ولا خفاء في أن المذكور له تعريفا في هذه الحالة يفيد ذلك والحد بهذا المعنى مما يصلح أن يكون للشخصي كما يكون لغيره كما نبه عليه المحقق التفتازاني على أن لقائل أن يقول المشخصات في مثل هذا ليست في معرض التغيير والتبديل مع فرض بقاء ماهيته الخاصة؛ لأنها هي المقومات لها حتى متى ما زالت زالت، وإنما ذلك في الشخصيات من الأعيان، والله سبحانه أعلم.(21/63)
ثم أخذ المصنف في تمهيد تحقيق يتفرع عليه اختلاف التعريف العلمي باختلاف ما اسم العلم موضوع بإزائه فقال "وكل علم كثرة الإدراكات ومتعلقاتها" الإضافة في كثرة الإدراكات، ومتعلقاتها بيانية أي كل علم من العلوم المدونة عبارة عن كثرتين كثرة هي إدراكات وكثرة هي متعلقات تلك الإدراكات بفتح اللام؛ لأن إضافة العلم إلى المتعلق المسماة بالتعلق بالمعلوم لا بد منها إما على أنها داخلة في حقيقة العلم كما هو أحد المذهبين فيها فظاهر، وإما على أنها عارض لازم له كما هو المذهب الآخر الراجح فكذلك وحينئذ فإما أن يكون المراد بالإدراكات ما يعم التصديقات بالمسائل، ويعم المبادئ بالمعنى الأخص لها، وهو على ما قالوا ما لا يكون مقصودا بالذات بل يتوقف عليه ذلك، سواء كان من قبيل التصورات أو التصديقات؛ لأن المشهور أن المبادئ بهذا المعنى من أجزاء العلم وشيخنا المصنف موافق على ذلك كما سمعته منه في بعض المجالس، والإدراك أي وصول النفس إلى المعنى بتمامه من نسبة أو غيرها يقال على ما يعم التصديق والتصور، ولهذا قد يقسم إليهما ويجعل جنسا لهما، وهو سائغ لا نزاع فيه، وإنما لم نقل، وما يعم التصديق بهلية ذات الموضوع أيضا مع تصريح بعض أعيان المتأخرين بأنه أيضا من أجزاء العلوم؛ لأن شيخنا المصنف لم يختره كما سنشير إليه ونقرره إن شاء الله تعالى. ويكون المراد بالمتعلقات هذه المدركات، وإما أن يكون المراد بالإدراكات التصديقات وبالمتعلقات المسائل بناء على أن مقاصد العلوم بالذات هي مسائلها التي إدراكاتها تصديقات فالمقصود منها الإدراكات التصديقية، وأما الموضوع فإنما احتيج إليه ليرتبط بعض المسائل ببعض ارتباطا يحسن معه جعل تلك المسائل الكثيرة علما واحدا، والمبادئ احتيج إليها لتوقف تلك المسائل عليها توقف المقصود على الوسيلة فالأولى أن تعتبر تلك الإدراكات التصديقية على حدة وتسمى باسم وحينئذ فلعل من جعل(21/64)
ص -36-…الموضوع والمبادئ من أجزاء العلوم تسامح في ذلك بناء على شدة احتياج المسائل إليهما فنزلا منزلة الأجزاء ثم بعد أن تشاركت العلوم كلها في كونها تصديقات وأحكاما بأمور على أخرى إنما صارت كل طائفة من التصديقات علما خاصا بواسطة أمر ارتبط به بعضها ببعض وصار المجموع ممتازا عن الطوائف الأخر بحيث لولاه لم يعد علما واحدا ولم يستحسنوا إفراده بالتدوين والتعليم، وذلك الأمر بحسب الواقع أما موضوع العلم بأن يكون مثلا موضوعات مسائله راجعة إلى شيء واحد كالعدد للحساب، وأما غايته كالصحة في مسائل الطب الباحث عن أحوال بدن الإنسان والأدوية والأغذية من حيث إنها تتعلق بالصحة، وقد يجتمعان معا كما في أصول الفقه إذ البحث فيه عن أحوال الدليل السمعي لاستثمار الأحكام قالوا: والأصل الذي لا بد من اعتباره في جهة الوحدة هو الموضوع؛ لأن المحمولات صفات مطلوبة لذوات الموضوعات فإن اتحد فذاك، وإن تعدد فلا بد من تناسبها في أمر واتحادها بحسبه إما في ذاتي كأنواع المقدار المتشاركة فيه لعلم الهندسة أو عرضي كموضوعات الطب في الانتساب إلى الصحة وكأقسام الدليل السمعي في الدلالة على الأحكام إن جعلت موضوعا لهذا الفن، ومن ثمة نراهم يقولون تمايز العلوم بتمايز الموضوعات بأن يبحث في هذا عن أحوال شيء أو أشياء متناسبة، وفي ذاك عن أحوال شيء آخر أو أشياء متناسبة أخرى ولا يعتبرون رجوع المحمولات إلى ما يعمها فالموضوع إما واحد أو في حكمه كما إذا قيس المتعدد إلى وحدة الغاية.(21/65)
وذهب شيخنا المصنف إلى أن الأصل في جهة الوحدة هي وحدة الغاية فقال "ولها وحدة غاية تستتبع وحدة موضوعها أول الملاحظة، وفي التحقق الاتصافي بالقلب" أي وللإدراكات، ومتعلقاتها التي هي معنى العلم جهة وحدة هي غايتها المقصودة أولا وبالذات من تحصيل تلك الكثرة بل، ومن وضع موضوع تلك الكثرة أيضا ليبحث عن أحواله فتحصل الكثرتان ثم هذه الوحدة تستتبع وحدة أخرى هي وحدة الموضوع أي تجعل هذه الوحدة وحدة الموضوع تابعة لها بيانه أن الغرض من وضع سائر العلوم الذي هو تعليم أحوال الأشياء ليس ذات معرفة تلك الأحوال بل معرفة ما يترتب على معرفتها من مقاصد أخرى مهمة، فأول ما يقع للإنسان مثلا طلب عصمة اللسان عن الخطأ فيما تسميه الإعراب نفيا للنقص والعيب عنه يأخذ ينظر ما يوصله إليه فيظهر له أنه معرفة ما يعرض من الأحكام للكلم العربية في التركيب فيضع الكلم العربية ليبحث عن أحوالها ماذا يكون عند التركيب فما وضع الموضوع ليبحث عن حاله إلا لتحصيل المقصود الذي هو العصمة الخاصة، وهي الغاية هذا في أول عروض حاجته إلى الغاية ثم إذا وضعه وبحث عن أحواله واتصف بها؛ لأن حاصله علم بأحوال أشياء اتصف بنفس الغاية فظهر أن الغاية متقدمة على ذي الغاية من حيث التصور. وأما من حيث الوجود الاتصافي فالاتصاف بنفس العلم بالأشياء يكون في الخارج أولا ثم يتصف بعده بالغاية مثلا بعد أن اتصف بالعلم بأحوال الكلم العربية في التركيب اتصف بقدرة على عصمة نفسه عن الخطأ في الإعراب، وهذا معنى قوله: وفي(21/66)
ص -37-…التحقق الاتصافي بالقلب، ومن هنا قالوا: غاية الشيء علة له في الذهن معلولة له في الخارج أي سابقة له في التصور فإنها باعثة للفاعل على إيجاد ذي الغاية في الخارج متأخر وجودها في الخارج عن وجوده فيه فهذا الذي اختاره المصنف أظهر .
ثم إذا عرف هذا فنقول "وأسماء العلوم" المدونة من الفقه والأصول وغيرهما موضوعة اصطلاحا "لكل" من الكثرتين باعتبار أمر ربط البعض بالبعض وجعل المجموع شيئا واحدا. قال المصنف: يعني اسم العلم الذي هو النحو مثلا يوضع تارة بإزاء الكثرة العلمية وباعتباره يقال هو علم بأحوال الكلم إلخ، وتارة بإزاء المعلومات، وهي الكثرة للمتعلقات بتلك الإدراكات وباعتباره يقال فلان يعلم النحو فإن المعنى يعلم أحكام الكلم لا يعلم العلم بأحكام الكلم، وليس المراد أنه يوضع مرة لهذه الكثرة ولا يوضع للأخرى، ومرة يوضع للأخرى دون هذه بل كل اسم لعلم فهو مشترك فرغ من وضعه لكل من الكثرتين بوضعين بدليل أن كل اسم علم يستعمل على النحوين. "وكذا" نقول استطرادا "القاعدة والقضية" يقال كل منهما اصطلاحا لكل من المعلومات المتعلق بها العلوم الكائنة بالمحكوم عليه وبه والنسبة، ومن العلم المتعلق بالنسبة المذكورة، وهي المسمى بالحكم فإن الحق أن الحكم من قبيل الإدراكات فهو كيف لا فعل للنفس لما ثبت أن الأفكار ليست موجدة للنتائج بل معدات للنفس لقبول صور النتائج العقلية عن واهبها، وهو عندنا الله تبارك وتعالى. والنتيجة هي العلم الثالث بشيء وليس هو إلا حكما بأن كذا لكذا فإذا لم يكن للنفس فيه فعل وتأثير كان صورة إدراكية مفاضة من الوهاب جل جلاله بعد العلم بالمقدمتين فلزم أن الحكم ليس فعلا لها كذا قرره المصنف رحمه الله.(21/67)
قلت: ومن إطلاقهما مرادا بهما الإدراك إطلاق القاعدة على الحكم بأن المجاز خير من الاشتراك اللفظي، وقولهم القضية إما صادقة أو كاذبة، ومن إطلاقهما مرادا بهما المدرك قولهم القاعدة قضية كلية كبرى لصغرى سهلة الحصول والقضية قول يصح أن يقال لقائله أنه صادق فيه أو كاذب ثم إذا تقرر هذا فلا ريب أن الجدير بكل طالب علم أن يتصوره أولا بحده أو رسمه ليكون على بصيرة أو زيادتها في طلبه؛ لأن التعريف للعلم إنما يؤخذ من جهة وحدة الموضوع أو الغاية أو كلتيهما؛ لأن حقيقة ذلك العلم تتميز عن الحقائق الأخر بتلك الجهة، ومن هنا يعلم كون التعريف حقيقيا أو رسميا، وإنما كان الجدير بالطالب هذا؛ لأنه لو لم يتصوره بوجه استحال طلبه ولو توجه إلى تصور كل واحد من أفراد تلك الكثرة بخصوصه تعذر عليه ذلك أو تعسر ولو اندفع إلى طلب الكثرة من حيث إنها جزئي للمفهوم العام قبل ضبطها بجهة الوحدة لم يتميز عنده المطلوب، ولم يأمن أن يؤديه الطلب إلى غيره فيفوت ما يعنيه ويضيع عمره فيما لا يغنيه. فحينئذ الجدير بطالب علم الأصول أن يتصوره أولا بحده غير أنه إذ كان التعريف له اسميا، وأسماء العلوم تقال عليها بكل من الاعتبارين فحسن أن يعرف بالنظر إلى كل منهما(21/68)
ص -38-…"فعلى الأول" أي فيقال على أن لفظ أصول الفقه موضوع بإزاء الإدراك "هو" أي مسمى هذا الاسم "إدراك القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الفقه" فإدراك مع قطع النظر عن كون متعلقه القواعد جنس صالح؛ لأن تكون هي متعلقة وغيرها من الجزئيات والكليات وبإضافته إلى القواعد خرج إدراك الجزئيات، وما عدا القواعد من الكليات، والمراد بإدراكها التصديق بها أعم من أن يكون قطعيا أو ظنيا مطابقا للواقع أو غير مطابق كما سيظهر، والمراد بالقواعد هنا القضايا الكلية المنطبقة على جزئياتها عند تعرف أحكامها فالمراد بها حينئذ المعلومات كما سيأتي قريبا بيانه. وبقوله التي يتوصل بمعرفتها إلى استنباط الفقه خرجت القواعد التي ليست كذلك سواء كانت تلك لا يتوصل بها إلى شيء لكونها مقصودة لنفسها أو يتوصل بها إلى غير الفقه سواء كان ذلك من الصنائع أو العلوم، ومنه علم الخلاف فإنه علم يتوصل به إلى حفظ الأحكام المستنبطة المختلف فيها بين الأئمة أو هدمها لا إلى استنباطها، ومنه علم الجدل فإنه علم بقواعد يتوصل بها إلى حفظ رأي أو هدمه أعم من أن يكون في الأحكام الشرعية أو غيرها فنسبته إلى الفقه وغيره سواء فإن الجدلي إما مجيب يحفظ وضعا أو معترض يهدم وضعا نعم أكثر الفقهاء فيه من مسائل الفقه، وبنوا نكاته عليها حتى توهم أن له اختصاصا به وانطبق التعريف على مسمى أصول الفقه من غير حاجة إلى زيادة على وجه التحقيق؛ لإخراج هذين العلمين كما فعل صدر الشريعة فإن قلت من الظاهر أن المراد بالفقه هنا ما تقدم فيصير تقدير الحد إدراك القواعد المتوصل بمعرفتها إلى استنباط التصديق لأعمال المكلفين التي لا تقصد لاعتقاد بالأحكام الشرعية القطعية مع ملكة الاستنباط، وفيه ما فيه. قلت لا ضير فيه فإن المراد باستنباط التصديق المذكور الاستدلال عليه بضم القاعدة الكلية التي تقع كبرى إلى الصغرى السهلة الحصول في الشكل الأول ليخرج المطلوب الفقهي من القوة إلى الفعل(21/69)
ولا نكير في هذا غايته أن هذا لا يتأتى إلا للمجتهد؛ لأن تحصيل تلك القاعدة الكلية ثم تركيبها مع غيرها على الوجه المنتج للمطلوب يتوقف على البحث عن أحوال الأدلة والأحكام، ومعرفة الشرائط والقيود المعتبرة في كلية القاعدة وبالجملة يتوقف ذلك على قيام ملكة الاستنباط بالمحصل، وهي لا تكون إلا لمن هو في رتبة الاجتهاد ولا بأس بالقول باختصاص قيام هذا العلم أجمع بمن هو في هذه المرتبة حتى إن من ليس كذلك فهو إما عادم له أو ذو حظ منه بحسبه، ولا يقال التعريف صادق على العلم بقواعد العربية والكلام؛ لأنه يتوصل بكل منهما إلى استنباط الفقه؛ لأنا نقول المراد بالتوصل بمعرفتها التوصل القريب بمساعدة باء السببية، وإطلاق التوصل إلى ذلك إذ البعيد إنما يكون في الحقيقة إلى الواسطة، ومنها إلى استنباط الفقه وكل من القواعد العربية والقواعد الكلامية من هذا القبيل فإنه يتوصل بقواعد العربية إلى معرفة كيفية دلالة الألفاظ على مدلولاتها الوضعية وبواسطة ذلك يقتدر على استنباط الأحكام من الكتاب والسنة وبقواعد الكلام إلى ثبوت الكتاب والسنة ووجوب صدقهما؛ ليتوصل بذلك إلى الفقه فإن قيل التوصل المذكور لا يكون إلا بقواعد المنطق فيكون المنطق جزءا من الأصول. أجيب بأن وصف القواعد بالتوصل يشعر بمزيد اختصاص(21/70)
ص -39-…لها بالأحكام، ولا كذلك قواعد المنطق ثم في قوله يتوصل إلخ إشارة إلى أن هذا العلم طريق إلى غيره غير مقصود بالذات لنفسه، وإلى أن غايته حصول غيره كما هو شأن العلوم الآلية كما أن غاية العلم المقصود حصول نفسه قال شيخنا المصنف رحمه الله، وإن كان له غاية أخروية أو دنيوية إذ ليس مسمى الغاية إلا ما علمت ا هـ. وهو حسن، وإلى وحدة غايته فإن الغاية المقصودة منه هي التمكن من استنباط الأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية(21/71)
"وقولهم" أي جمع من الأصوليين في تعريفه "عن" الأدلة "التفصيلية" بعد قولهم العلم بالقواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية الفرعية كما هو تعريف ابن الحاجب وصاحب البديع وغيرهما "تصريح بلازم" ظاهر للاستنباط فإن استنباط الأحكام المذكورة لا يكون إلا كذلك فهو بيان للواقع لا للاحتراز عما هو داخل بدون ذكره إذ لم يوجد علم بقواعد يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها الإجمالية حتى يحترز بذكر التفصيلية عنه فلا ضير في تركه بل لعل تركه أدخل في باب التحقيق في شأن الحدود. "وإخراج" علم "الخلاف" عن تعريف علم الأصول "به" أي بقولهم عن أدلتها التفصيلية كما في البديع فإن قول الخلافي مثلا ثبت بالمقتضى السالم عن المعارض ولم يبينه أو لو ثبت لكان مع المنافي ولم يبينه تمسك بالدليل الإجمالي "غلط" فإنه لا بد من تعيين ذلك المقتضي أو المنافي، وإن أجمل في أول كلامه فيقول ثبت مع المقتضي، وهو كذا أو مع المنافي، وهو كذا وحينئذ فهو متمسك بالدليل التفصيلي، وإلا لم يثبت له شيء؛ لأن كلامه حينئذ مجرد دعوى أن هناك مقتضيا أو نافيا. مثاله لو قال الحنفي المعلل: الوتر واجب لا يكفيه أن يقتصر على قوله لوجود المقتضي بل لا بد أن يعينه بأن يقول مثلا، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم "الوتر حق فمن لم يوتر فليس مني الوتر حق فمن لم يوتر فليس مني الوتر حق فمن لم يوتر فليس مني" كما رواه الحاكم وصححه ولو قال المعترض الشافعي: الوتر ليس بواجب لا يكفيه أن يقتصر على قوله إذ لو ثبت وجوبه لكان مع المنافي بل لا بد أن يعينه بأن يقول مثلا: وهو ما في الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر على البعير فيحتاج المعلل إما أن يجمع بينهما بأن حديث ابن عمر واقعة حال لا عموم لها فيجوز أن يكون ذلك لعذر أو يرجح حديث الحاكم بأنه قول، والقول مقدم على الفعل إلى غير ذلك فلم يذكر كل منهما إلا دليلا(21/72)
تفصيليا فظهر أن الاحتراز عن علم الخلاف لم يقع بقولهم عن الأدلة التفصيلية بل إنما وقع بما في الحد من وصف القواعد بكونها يتوصل بها إلى استنباط الفقه ثم نقول استطرادا: "وعليه" أي على أن اسم العلم بإزاء الإدراك "ما تقدم من" تعريف "الفقه" تغليبا لأحد جزأيه الذي هو التصديق المذكور على الجزء الآخر الذي هو ملكة الاستنباط فإن التصديق إدراك، وهو كالأصل في حصول الملكة.
واعلم أنه لما وقع لجماعة كابن الحاجب تعريف الأصول بالعلم بالقواعد، وفسره أعيان من المتأخرين كشمس الدين الأصفهاني وسراج الدين الهندي وسعد الدين التفتازاني بأنه(21/73)
ص -40-…الاعتقاد الجازم المطابق ووقع عند المصنف عدم اشتراط المطابقة والجزم لوجود المقتضي لعدم اشتراطهما أفاض في بيان ذلك فقال "وجعل الجنس" في تعريف الأصول إذا كان موضوعا بإزاء الإدراك "الاعتقاد الجازم المطابق" للواقع لموجب احترازا بالجزم عن الظن وبالمطابقة عن الجهل وحذفوا هذين القيدين اللذين ذكرناهما للعلم بهما "مشكل بقصة المخطئ في" علم "الكلام" فإن مقتضى هذا الجعل أن لا يكون شيء من الإدراك الظني للقواعد المذكورة، ومن الإدراك القطعي لها الذي ليس بمطابق للواقع من أصول الفقه لكن صرح القاضي عضد الدين وغيره بأن المخالف، وإن خطئ سواء بدع في اعتقاده، وفيما يتمسك به في إثباته كالمعتزلة أو كفر كالمجسمة لا يخرجه من علماء الكلام ولا علمه الذي يقتدر معه على إثبات عقائده الباطلة ولا مسائله من علم الكلام فإنه كما قال شيخنا المصنف علم الكلام يقال لما يبحث عن أحوال موضوعه الخاص الذي هو المعلوم من حيث يثبت له ما يصير معه عقيدة دينية أو ذات الله تعالى على اختلافهم فيدخل في ذلك علم المخطئ؛ لأنه يبحث عن أحوال موضوعه كذلك فإذا كان هذا في الكلام، وهو أعلى العلوم، وألزمها قطعا بالمسائل ففي الأصول أولى، ولا شك أن إدراك المخطئ ليس مطابقا في كل علم فلزم أن لا يذكر في علم من العلوم لفظ العلم جنسا، ويراد به ذلك. قلت: وفي هذا دليل على أن أسماء العلوم إنما وضعت بإزاء ما أدى إليه البحث عن أحوال موضوعها من التصديقات أو المسائل طابقت أو لم تطابق ثم هذا بيان المقتضي لدخول غير المطابق هنا. وأما بيان المقتضي لدخول التصديق الظني فأشار إليه بقوله: "ولأنا نمنع اشتراطه" أي الاعتقاد الجازم المطابق "في الأصول" قال المصنف: لأن هذه القواعد التي هي مسائل أصول الفقه مما يكفي الظن في أن تنسب إلى موضوعاتها، وهي الكليات الجارية على خصوصيات الأدلة التفصيلية أحكامها كالأمر للوجوب والنهي للتحريم وتخصيص العام يجوز والمشترك(21/74)
لا يعم وخبر الواحد مقدم على القياس الجاريات على أقيموا الصلاة، لا تقربوا الزنا لا تقتلوا النساء والصبيان، وخبر القهقهة ونحو ذلك.
قلت: ثم هنا تنبيهات.
أحدها: أنه قد ظهر أن هذا المنع الثاني الصريح المتسلط على اشتراط جملة هذا المركب التقييدي إنما هو راجع إلى اشتراط الجزم منه كما أن المنع الأول بالقوة إنما هو راجع إلى اشتراط المطابقة منه ولا ريب في صحة مثله؛ لأنه لا وجود لجملة المركب بدون وجود جميع أجزائه.
ثانيها: إن قلت كيف يسوغ هذا، وقد تقرر أن الحد لا يمنع قلت ليس هذا بالمنع الممنوع، وإن كان بلفظ المنع، وإنما هو بيان خلل في الحد أوجب عدم كونه جامعا، ومثله لا شك في جوازه.
ثالثها: إن قلت إذا كان هذا الإدراك الخاص طريقا إلى الفقه، ومنه ما هو ظن لقاعدة(21/75)
ص -41-…مظنونة في نفسها يلزم منه أن يكون الإدراك الخاص المتعلق بجزئياتها ظنا أيضا، وأن تكون جزئيات القاعدة المظنونة مظنونة أيضا فلا يتم كون الفقه التصديق القطعي فقد أجاب المصنف عن هذا بما حاصله القول بالموجب، ومنع تمام كون الفقه التصديق القطعي اصطلاحا، وأفاد أن ظن الأحكام المذكورة كوجوب الوتر وحرمة اليراع والشطرنج واستنان الأربع بتسليمة وكراهة التنفل قبل المغرب، وما لا يحصى من أفراد الأحكام المظنونة متعلقات للفقه لا من الفقه؛ لأن متعلقات الفقه ليست من ذاته .
ثم إذ قد ظهر أن اللازم أن لا يذكر في تعريف علم من العلوم لفظ العلم جنسا ويراد به الاعتقاد الجازم المطابق "فالأوجه كونه" أي معنى العلم جنسا في تعريف أي علم كان "أعم" من الجازم والمطابق قال المصنف: هذا إن شرط في ذلك العلم الجزم بالمسائل ولم يكتف فيه بالظن، وإن اكتفى به فأحرى. ثم إن الأصول ليست كالكلام فإن بعض مسائله ظنية كما تقدمت الإشارة إليه فلهذا عدل المصنف إلى جعل الجنس الإدراك الأعم من اليقين الكائن في المسائل الإجماعية من الأصول والجهل المركب الكائن من المخطئ في خلافياته والظن الكائن في الظنية منه والله سبحانه أعلم.(21/76)
"وعلى الثاني" أي ويقال في تعريف أصول الفقه على أنه موضوع بإزاء المدرك "القواعد التي يتوصل بمعرفتها" إلى استنباط الفقه، وإنما حذفه للعلم به مع قرب العهد حتى لو أريد الاقتصار على تعريفه بهذا الاعتبار وجب ذكر هذا المحذوف ثم عرفت أنه لا يشترط في هذه القواعد القطع ولا المطابقة، وأن وصفها بكونها يتوصل بمعرفتها توصلا قريبا إلى استنباط الفقه مخرج لما عداها ثم لا بأس أن يقال توضيحا "والقواعد هنا" أي في هذا التعريف "معلومات أعني المفاهيم التصديقية الكلية من نحو الأمر للوجوب" والنهي للتحريم وخبر الواحد يفيد الظن لا نفس الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس كما ظنه بعضهم. "ولذا" أي ولأجل أن المراد هنا بلفظ القواعد المعلومات "قلنا" يتوصل "بمعرفتها"؛ لأنها حينئذ تكون معروفة مدركة، وإلا كان المعنى يتوصل بعلم العلم كذا عن المصنف يعني لو كان المراد بها الإدراكات ولقائل أن يقول لا ضير في ذلك؛ لأنها تصير مدركة للإدراك، وإن كانت هي في نفسها إدراكا أيضا كما تقدم نظيره في شرح قوله. والوجه أنه شخصي بل التوصل المذكور إنما هو بمعرفتها بل برعايتها واستعمال مقتضياتها سواء كانت مدركات أو إدراكات، وإن كانت هي في حد ذاتها صالحة للتوصل كما هو الشأن في سائر الآلات الموضوعة لتحصيل ما وضعت لتحصيله. نعم الشائع أن يقال فيما هو مدرك في حد ذاته يتوصل بمعرفته، وفيما هو إدراك في نفسه يتوصل به تحاشيا عن صورة التكرار، ولعل هذا هو مراد المصنف ثم في ظني إني كنت قد سألت المصنف - رحمه الله تعالى - عن وجه تخصيص التنبيه على أن القواعد هنا معلومات مع أنها في التعريف الأول كذلك فأجابني بما معناه؛ لأنه ليس في كونها كذلك هناك لبس واحتمال بخلافها هنا. "ومعناها" أي القاعدة من(21/77)
ص -42-…حيث هي مرادا بها المعلوم فينطبق على كل قاعدة من هذه القواعد؛ لأنها من ماصدقاتها كغيرها أيضا؛ لأن القواعد تضمنتها، والمقيد يشتمل على المطلق "كالضابط والقانون والأصل والحرف" أي مثل معنى هذه الألفاظ اصطلاحا، وإن كانت في الأصل لمعان غير ما نذكره من المعنى الاصطلاحي لها أما ما عدا القانون فظاهر، وأما القانون فلأنه في الأصل لفظ سرياني روي أنه اسم المسطر بلغتهم إما مسطر الكتابة أو الجدول والمعنى الاصطلاحي المترادفة هذه الألفاظ فيه "قضية كلية كبرى سهلة الحصول" أي لقضية صغرى سهلة الحصول فيخرج الفرع بترتيبها معها من القوة إلى الفعل، وإنما لم يذكر هذا للعلم به ثم هذا هو المراد بما يقال أمر كلي منطبق على جزئياته عند تعرف أحكامها منه فإذن ما في الكتاب أجلى وأولى ثم إنما وصف القضية، وقدمنا تعريفها بالكلية؛ لأن القضية الجزئية أو الشخصية لا تسمى بشيء من هذه الأسماء وبكونها كبرى؛ لأنه المحقق لتسميتها بهذه الأسماء وبكون صغراها سهلة الحصول؛ لأنها من قبيل حمل الكلي على ما هو جزئي له، وقد أشار إلى سبب سهولتها بقوله "لانتظامها" أي لكون صغراها منتظمة "عن" أمر "محسوس" والمراد بالفرع الذي يخرج بجعلها كبرى لتلك الصغرى من القوة إلى الفعل حكم ذلك الجزئي الذي حمل عليه الكلي ثم أشار بقوله "كهذا نهي، وأمر" إلى مثالين للصغرى المذكورة من الأصول، وهما أن يقال مثلا في قوله تعالى {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء: 32] هذا أو لا تقربوا الزنا نهي، وفي قوله تعالى {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 43] هذا أو أقيموا الصلاة أمر إذ لا خفاء في أن كلا من لا تقربوا الزنا وأقيموا الصلاة شيء محسوس بحاسة السمع فإذا ضممت إليه القاعدة التي هي وكل نهي للتحريم وكل أمر للوجوب انتظمت معه كبرى، وخرج بهذا الترتيب الفرع، وهو لا تربوا الزنا للتحريم وأقيموا الصلاة للوجوب من القوة إلى الفعل. قال المصنف - رحمه الله -: ومثال(21/78)
ذلك من الفقه قولنا كل تصرف أوجب زوال الملك في الموصى به فهو رجوع عن الوصية فإذا وجد بيع للموصى به انتظمت الصورة السهلة المسندة إلى الحس، وهو قولنا هذا تصرف أوجب زوال الملك في الموصى به وتضم الكبرى هكذا وكل تصرف أوجب زوال الملك في الموصى به فهو رجوع عن الوصية فيخرج الفرع هذا رجوع عن الوصية ثم هنا تنبيه وتكميل فالتنبيه لم يذكر المصنف تعريف الفقه على اعتبار وضعه للكثرة المدركة؛ لأنه لم يقع التعرض لتعريفه إلا لوقوعه جزءا من تعريف الأصول بالمعنى الإضافي وحيث عرفه بناء على اعتبار وضعه للكثرة الإدراكية اقتصر عليه لاندفاع الضرورة به، وأنت إذا أردت تعريفه باعتبار وضعه للكثرة المدركة فلا يخفى عليك مما تقدم فعلى المنهج الذي سلكه المصنف المسائل التي موضوعاتها أعمال المكلفين التي لا تقصد لاعتقاد، ومحمولاتها الأحكام الشرعية القطعية مع ملكة الاستنباط، وعلى سبيل من خصصه بالظن إبدال القطعية بالظنية، وعلى طريق من جعل بعضه قطعيا وبعضه ظنيا الجمع بينهما. وأما التكميل فاعلم أن اسم العلم كما يوضع بإزاء كل من الكثرتين المذكورتين ويعرف باعتبار كل منهما يوضع بإزاء الملكة ويعرف باعتبارها كما صرحوا به في شرح غير ما تعريف بل بعد أن ذكر بعض الأفاضل أن الظاهر أن(21/79)
ص -43-…العلم حقيقة في الإدراك مجاز في القواعد المدركة إطلاقا للمصدر على المفعول، ولم يجعل حقيقة فيها ترجيحا للمجاز على الاشتراك وكذا إطلاق العلم على الملكة مجاز إطلاقا لاسم المسبب على السبب أو بالعكس قال: وقد يقال يتبادر إلى الفهم من إطلاق العلم على العلوم المدونة والصناعات الملكة أو القواعد من غير استعانة بقرينة، وهذا آية النقل فلفظ العلم فيهما حقيقة عرفية واصطلاحية ا هـ. وعلى هذا فتعريفهما على منهاج المصنف أن يقال: الأصول الملكة الحاصلة من القواعد التي يتوصل بمعرفتها إلى استنباط الفقه هذا إن أريد بالفقه إحدى الكثرتين فإن أريد به الملكة قيل إلى حصول الفقه أو إلى الفقه، والفقه الملكة التي يتوصل بها إلى التصديق بالأحكام الشرعية القطعية لأعمال المكلفين التي لا تقصد لاعتقاد ولاستنباط. "وهذا" التعريف "اسمي" وكذا ما تقدمه وكأنه إنما خصصه لقربه وظهور جريان هذا فيما قبله أيضا، وإنما كانت هذه حدودا اسمية؛ لأنها تعريف مفهوم الاسم، وما تعقله الواضع فوضع الاسم بإزائه، وهو بهذا الاعتبار اسمي ألبتة؛ لأنه جواب ما التي لطلب مفهوم الاسم، ومتعقل الواضع، وهو هنا لإفادة ما وضع الاسم بإزائه بلفظ يشتمل على تفصيل ما دل عليه الاسم إجمالا، ومن ثمة تعدد في المعنى كما في اللفظ ولو كان حدا ذاتيا تاما لم يتعدد معنى؛ لأن الشيء لا يكون له حدان ذاتيان إلا من جهة العبارة بأن يذكر بعض الذاتيات بالمطابقة تارة وبالتضمن أخرى بخلاف غيره فإنه جائز التعدد نعم قد يكون التعريف الاسمي نفس حقيقة ذلك الشيء بأن يكون متعقل الواضع نفس الحقيقة فيتحد التعريف الاسمي والحقيقي إلا أنه قبل العلم بوجود الشيء يكون اسميا وبعد العلم بوجوده ينقلب حقيقيا. مثلا: تعريف المثلث في مبادئ الهندسة بشكل يحيط به ثلاثة أضلاع تعريف اسمي وبعد الدلالة على وجوده بالبرهان الهندسي يصير هو بعينه تعريفا حقيقيا فلا جرم أن يقال "ولا ينافي" التعريف(21/80)
الاسمي التعريف "الحقيقي" ثم لما وقع التنبيه على هذا ولم يثبت خلاف صريح في جواز وجود الحقيقي وغير الحقيقي من حيث هما ولا في جواز كون غير الحقيقي مقدمة للشروع، وإنما ثبت في جواز الحقيقي مقدمة للشروع أشار إلى ذلك فقال: "واختلف فيه" أي في الحد الحقيقي حيث إنه هل يكون "مقدمة للشروع" في العلم "ولا خلاف في خلافه كما قيل" أي والحال أنه لا خلاف في خلاف الحقيقي المذكور مقدمة للشروع، وهو الحقيقي الذي لم يذكر مقدمة له فإنه جائزا لوجود بلا خلاف على ما قيل "لإمكان تصور ما تتصف به" النفس من تصور أو تصديق ولما كان تصور التصديق الذي اتصفت به النفس ليس به خفاء إذ لا خفاء في إمكان تصور النسبة الواقعة بين الشيئين والتي ليست بواقعة بينهما بخلاف التصور إذ قد يستبعد تصوره بواسطة أن حصول الشيء في النفس هو تصوره خصه بإزالة الوهم فقال "ولو" كان ذلك الوصف "تصورا إذ الحصول لا يستلزمه" أي تصور الحاصل فضلا عن كونه نفس تصوره. قال المصنف - رحمه الله -: وحاصله أن الحد تصور ذات المحدود إجمالا وغاية حاد العلم أن يكون متصفا بالعلم بجميع مسائله، والاتصاف بالشيء لا يستلزم تصوره كالشجاع متصف بالشجاعة، وقد لا يتصورها، وإذا كان كذلك أمكن أن يتعلق من العالم(21/81)
ص -44-…بالمسائل المشتملة على التصورات تصور لها على سبيل الإجمال فيكون تصورا متعلقا بتصور حاصل ليصير متصورا إجمالا، ولا شك أن الإنسان، وإن علم المسائل تفصيلا لا يصير عالما دائما بتفصيلها في مشاهد النفس فإن النفس لبساطتها لا تدرك المتعدد التفصيلي إلا على التعاقب، وإذا تم كذلك صار عندها صورة إجمالية منه حاصلة فصح أن يتعلق بها تصور لها ا هـ. فظهر أن التصور لا حجر فيه يتعلق بكل شيء حتى التصور، وعدم التصور ثم كما أن الحصول لا يستلزم التصور كذلك التصور لا يستلزم الحصول والحاصل كما في شرح المواقف للمحقق الشريف وغيره أن ارتسام ماهية العلم في النفس على وجهين
أحدهما أن ترتسم فيها بنفسها في ضمن جزئياتها وذلك حصولها وليس تصورها ولا مستلزما له على قياس حصول الشجاعة للنفس الموجبة لاتصافها بها من غير أن تتصورها والثاني أن ترتسم فيها بمثالها وصورتها، وهذا هو تصورها لا حصولها على قياس تصور الشجاعة التي لا توجب اتصاف النفس بها(21/82)
ثم أفاض في بيان ما أشار إليه من الاختلاف فقال "فقيل لا" يجوز أن يكون الحقيقي مقدمة للشروع "لأن الكثرة" الخاصة الإدراكية أو المدركية التي هي عبارة عن العلم، وقد وضع الاسم بإزائها لها جهة وحدة اعتبارية هي وحدة الغاية أو الموضوع كما سلف. وظاهر أن هذه الكثرة "بتلك الوحدة" الاعتبارية "لا تصير نوعا حقيقيا"؛ لأن الحد الحقيقي يكون بذكر الذاتيات الكلية التي هي الجنس الكلي للمحدود والمميز الكلي الداخل، وهو الفصل وجهة الوحدة المأخوذة في تعريف العلم إنما هي عارضة من عوارض تلك الكثرة فلا يكون المعنى المنتزع من تلك الكثرة جنسا وفصلا حقيقيين فلا يكون التعريف حدا حقيقيا بل رسما وتعقبه المصنف بقوله "ومقتضى هذا" التعليل "نفيه مطلقا" أي نفي وجود الحقيقي مقدمة للشروع وغير مقدمة له، وإذا كان كذلك "ففيه الخلاف أيضا". والحاصل أن المصنف نظر فيه بأن الدليل أعم من الدعوى فلو صح لبطل ما المبطل معترف بصحته، وهو جواز وجود الحقيقي في حد ذاته، ومنهم من علل منع الجواز بما أشار إليه بقوله "ولأنه" أي الحد الحقيقي "بسرد العقل كل المسائل" أي بتصور جميع مسائل العلم المحدود أو بتصور جميع التصديقات المتعلقة بها لما عرفت أن حقيقة كل علم مسائله إذا كان موضوعا بإزاء المعلومات أو التصديق بمسائله إذا كان موضوعا بإزاء العلم بالمعلومات "وليس" الحد الحقيقي "حينئذ" أي حين إذ كان عبارة عما ذكرنا "المقدمة" للشروع في العلم؛ لأن الحد الحقيقي حينئذ بمعرفتها نفسها، وذلك هو معرفة العلم نفسه لا مقدمة الشروع فيه فلا يتصور أن يكون له حد حقيقي هو مقدمة الشروع فيه "وقيل نعم" أي يجوز أن يكون مقدمة للشروع "لأن الإدراكات أو متعلقاتها" أي متعلقات الإدراكات التي كل منهما نفس العلم على تقدير وضع اسم العلم بإزائه "كالمادة" لمسمى العلم فينتزع العقل منها واحدا كليا مشتركا بين سائر الإدراكات أو متعلقاتها "ووحدتها" أي وحدة الإدراكات أو(21/83)
متعلقاتها على التقديرين، وهي وحدة الموضوع "الداخلة" في مسمى العلم(21/84)
ص -45-…اصطلاحا "كالصورة" لمسمى العلم فينتزع العقل منها كليا خاصا بذلك المسمى "فينتظم المأخوذ منهما" أي من الإدراكات أو متعلقاتها، ومن وحدتها "جنسا، وفصلا" بأن يكون ما هو كالمادة جنسا قريبا، وما هو كالصورة فصلا قريبا فيتحقق الحد الحقيقي "من غير حاجة" في انتظام المأخوذ منهما حدا حقيقيا "إلى سرد الكل" أي إلى تصور كل المسائل أو تصور كل التصديقات بها على التقدير، وإذا أمكن تحققه بهذا الوجه فلا مانع من وقوعه مقدمة للشروع في العلم قال المصنف - رحمه الله تعالى - فاندفع الوجه الأول، وهو ظاهر وتضمن دفع الثاني أيضا فإنه لما أمكن حد العلم الحقيقي بأمرين كليين لم يلزم أن يكون حده بمعرفة عين تلك المسائل واحدة واحدة؛ ولأن تلك جزئيات، والتعريف ليس بها بل بالمنتزع الكلي منها كالحيوان الناطق المنتزع من زيد ا هـ. وفي اندفاع الأول بما سبق ما لا يخفى بل الوجه ما أشار إليه بقوله "وإذا كان العلم مطلقا" أي بمعنى الإدراك "ذاتيا لما تحته" أي جنسا للأنواع التي هي اليقين والظن والشك والوهم "والعلم المحدود ليس إلا صنفا" من بعض أنواعه؛ لأن واضع العلم لما لاحظ الغاية المطلوبة له فوجدها تترتب على العلم بأحوال شيء أو أشياء من جهة خاصة وضعه ليبحث عن أحواله من تلك الجهة فقد قيد ذلك النوع من العلم بعارض كلي فصار صنفا، وقيل للواضع صنف العلم أي جعله صنفا فالواضع للعلم أولى باسم المصنف من المؤلفين، وإن صح أيضا فيهم ذكره المصنف في فتح القدير فحينئذ "لم يبعد كونه" أي الخلاف في جواز وجود الحد الحقيقي مقدمة للشروع الذي هو فرع وجوده في حد ذاته خلافا "لفظيا مبنيا على" اختلاف "الاصطلاح في مسمى" الحد "الحقيقي أهو ذاتيات" الماهية "الحقيقية"، وهي الثابتة في نفس الأمر مع قطع النظر عن اعتبار العقل "أو مطلقا" أي أو هو الأمر الكلي الأعم من أن يكون ذاتيات الماهية الحقيقية أو ذاتيات الماهية الاعتبارية، وهي الكائنة بحسب اعتبار(21/85)
العقل كما إذا اعتبر الواضع عدة أمور فوضع بإزائها أسماء فمن اصطلح على الأول نفى وجود الحد الحقيقي لشيء من العلوم؛ لأن العلوم المحدودة كلها ليست إلا ماهيات اعتبارية؛ لأن كل علم عبارة عن كثرة من الإدراكات هي علوم أو ظنون أو منها، ومنها متعلقة بأشياء كما ذكرنا فميزت كل طائفة من تلك الإدراكات بنسبتها إلى متعلق خاص فعدت علما على حدة فكان كل علم طائفة من الإدراكات الجزئية انتزع منها كلي عام كالعلم والظن ونحوه، وقيدت بعارض كلي هو جهة الغاية، والموضوع هو أمر خارج عن نفس تلك الإدراكات المنتزع منها والصنف هو النوع المقيد بعارض كلي فهو إذن أمر اعتباري؛ لأن ماهيته ليست بحقيقية بل اعتبارية؛ لأنه اعتبر فيه داخل وخارج جعل جزأه بخلاف النوع، وإذا انتفى وجود الحد الحقيقي في نفسه فقد انتفى كونه مقدمة للشروع. ومن اصطلح على الثاني جوز وجود الحد الحقيقي للعلوم لما ذكرناه وحينئذ لا يبعد جواز وجوده مقدمة للشروع إذ لا مانع من ذلك، والتعاليل من الطرفين مما يرشد إلى ذلك ولو، وقع الاتفاق على أن مسمى الحد الحقيقي ما قاله الأولون أو ما قاله الآخرون لارتفع الخلاف إذ على التقدير الأول يقع الاتفاق على نفي وجوده مطلقا، وعلى التقدير الثاني يقع الاتفاق على جواز وجوده مطلقا ولا(21/86)
ص -46-…بعد حينئذ في أن يقع الاتفاق على جواز كونه مقدمة للشروع ثم ما ذكره المصنف من أن العلم مطلقا ذاتي لما تحته من الأنواع لا عارض لها هو الظاهر للقطع بأن مفهومه معتبر فيما تحته منها يقينا وظنا وغيرهما لا يزيد كل منها عليه إلا بما ينضم إليه فيصير به نوعا فاندفع منع كونه ذاتيا لما تحته كما في شرح المواقف للمحقق الشريف ولا يقال ينبغي أن لا يصح انقسام العلم إلا ما ذكرتم؛ لأنه من مقولة الكيف على ما هو الصحيح والكيفيات لا تقبل التقسيم ولا يبحث عنها بكم؛ لأنها لا تتجزأ؛ لأنا نقول: التقسيم المنفي عنها تقسيم الكل إلى أجزائه، ومطلق العلم كلي معقول، وما تحته من المعاني هي جزئيات له، ولا ريب في صحة قسمة الكلي إلى جزئياته فيجوز السؤال عن عدد جزئيات مطلق العلم وانقسامه إليها وحمله بالمواطأة عليها، والله تعالى أعلم.
[الأمر الثاني من أمور المقدمة: في بيان موضوع أصول الفقه]
الأمر "الثاني" من الأمور التي مقدمة هذا الكتاب عبارة عنها في بيان موضوعه(21/87)
"موضوعه" أي أصول الفقه "الدليل السمعي الكلي" فالدليل سيأتي بيانه مستوفى، والسمعي ما ثبت كونه كذلك بالشرع فصدق على القياس كما على الكتاب والسنة والإجماع، وهو احتراز عما ليس بسمعي فإنه ليس موضوع هذا العلم سواء كان عقليا صرفا أو حسيا محضا أو غيرهما، والكلي سيأتي معناه أيضا، وهو احتراز عن الجزئي فإنه ليس موضوع هذا العلم، وإنما هو من أفراد أنواعه أو أعراضه أو أنواعها يكون موضوعا لمسائله كما سيأتي قريبا فإن قلت كيف يستقيم وصف الدليل السمعي به، وهو لا وجود له في الخارج، والدليل السمعي موجود فيه قلت الكلي الذي لا وجود له في الخارج هو العقلي والمنطقي، وهذا الكلي ليس بأحدهما، وإنما هو كلي طبيعي، وهو مما قد يكون موجودا في الخارج على ما عرف ثم ليس الدليل المذكور من حيث هو موضوع هذا العلم بل "من حيث يوصل العلم بأحواله" أي الدليل "إلى قدرة إثبات الأحكام" الشرعية "لأفعال المكلفين" التي لا تقصد لاعتقاد، وإنما طوى ذكرهما للعلم بهما مما تقدم "أخذا من شخصياته" أي حال كون الدليل المذكور مأخوذا أي منتزعا من ماصدقاته، وإنما كان هذا موضوع هذا العلم؛ لأن موضوع كل علم يبحث فيه عن أعراضه اللاحقة لذاته أو مساويه، والعارض هنا الخارج المحمول، وقد يتجوز في التمثيل بمبدئه، والذاتي منه ما عروضه بلا واسطة في الثبوت في نفس الأمر، وإن استدعى وسطا في التصديق لخفاء ذلك اللزوم لا ما منشؤه الذات كما ذهب إليه بعضهم، ومشى عليه في التلويح قال المصنف، وإلا لما بحثوا عن وجود النفوس والعقول في الإلهي إذ ليس هو مقتضي ذواتها، وكذا الأحكام السبعة بالنسبة إلى أفعال المكلفين وغير ذلك. والمراد بالمساوي أعم من المساوي في الصدق، وهو المشهور أو في الوجود حتى إن ما يعرض بواسطة المباين المساوي في الوجود يثبت بوجود الجسم للجسم يبحث عنه في(21/88)
ص -47-…العلم حتى أنه يبحث عن الألوان في العلم الذي موضوعه الجسم الطبيعي، وعروضه للجسم بواسطة السطح فليس الجسم أبيض إلا لأن السطح أبيض، ولا شيء من الجسم بسطح .
فإن قيل كون الذاتي لازما للذات يقتضي ثبوته معها ذهنا، وإذا ثبت حيث ثبت فلا بحث؟. فالجواب أن اللازم من اللزوم ثبوته معه صورة مع صورة، وإن لم يكن مدركا إذ حصول الشيء ذهنا لا يستلزم تصوره والمراد من البحث الحكم بثبوته له صادقا عليه لزوما، وهو أخص من ثبوته معه حتى إن ما من اللزوم يكفي في الحكم به تصور الملزوم أو الملزوم مع اللازم، وهما البين بالمعنى الأخص والبين بالمعنى الأعم ليس واحد منهما مبحوثا عنه، وإذا كان هذا في اللوازم العقلية كمساواة المثلث لقائمتين ففي الشرعية أولى ا هـ.(21/89)
والدليل السمعي الكلي بالنسبة إلى هذا العلم بهذه المثابة؛ لأنه يبحث فيه عن أعراضه اللاحقة لذاته، وهي كونه مثبتا للأحكام الشرعية ثم لما كان اللازم في التعبير عنه لفظا للدلالة عليه بخصوصه أن يقيد بالحيثية التي يقع البحث عن أعراضه المذكورة من جهتها؛ لأنه لم تتحقق غاية تترتب على البحث عن أحوال شيء من جميع جهاته قيده بها، وقد اندفع بقوله إلى قدرة إثبات الأحكام الإشكال المشهور على قولهم إلى إثبات الأحكام، وهو أنه إذا كان موضوع الأصول الأدلة الشرعية من حيث إثباتها للأحكام الشرعية كانت هذه الحيثية قيدا للموضوع فتكون جزءا منه. وحينئذ يلزم تقدمها على نفسها؛ لأنها مما يبحث عنها في هذا العلم ولا خفاء في أن ما به يعرض الشيء للشيء لا بد، وأن يتقدم على العارض على أن موضوع العلم ما يبحث فيه عن أعراضه المذكورة لا عنه ولا عن أجزائه حتى احتاجوا إلى الجواب عنه بأن الحيثية هنا ليست نفس الإثبات بل إمكانه، وأن هذا ليس من الأعراض المبحوث عنها فيه وذهب صدر الشريعة إلى أنها بيان الأعراض الذاتية المبحوث عنها فيه فإنه يمكن أن يكون للشيء أعراض متنوعة، وإنما يبحث في ذلك العلم عن نوع منها فالحيثية لبيان ذلك النوع لا قيد للموضوع "وبالفعل في المسائل" أي والموضوع بالفعل في مسائل هذا العلم "أنواعه" أي الدليل الكلي السمعي نحو الكتاب يفيد الحكم قطعا إذا كانت دلالته قطعية. وقد وقع في التلويح أن هذا الحمل على موضوع العلم، وهو سهو كما نبه عليه المصنف فيما كتبه على البديع، وقال فيه الدال على الموضوع إذا أفاد مسمى كليا فالموضوع هو ما صدق عليه والحمل في المسائل قلما يقع عليه نفسه بل كما أفادني المصنف رحمه الله حال القراءة عليه أن موضوع العلم لا يكون موضوعا في شيء من مسائل العلم إلا إذا قلنا إن موضوع علم الكلام ذات الله سبحانه ا هـ. يعني كما هو قول القاضي الأرموي، وقد نظر فيه في المواقف من وجهين على ما يعرف ثمة.(21/90)
"وأعراضه" أي الدليل الذاتية كالعام قطعي الدلالة، والأمر للوجوب "وأنواعها" أي الأعراض الذاتية كالعام المخصوص حجة ظنية في الباقي "فالمراد بالأحوال" المذكورة(21/91)
ص -48-…للدليل "ما يرجع إلى الإثبات" أي إثبات الأحكام المذكورة قطعا أو ظنا عموما أو خصوصا إلى غير ذلك ولو بالآخرة "وهو" أي إثبات الأحكام عرض "ذاتي للدليل"؛ لأن عروض الإثبات للدليل بلا واسطة في ثبوته له في نفس الأمر، وإن كان العلم بثبوته له قد يحتاج إلى برهان "وإن لم يحمل الإثبات بعينه" في مسألة من مسائل هذا العلم بل ما به الإثبات فإن ذلك غير ضائر "ونظيره" أي هذا الذي نحن فيه من حيث إن المحمول فيه ليس الغرض الذاتي للمعروض الذي هو الموضوع بل إنما هو ما به لحوقه للمعروض ما تقرر "في المنطق" من أن الإيصال إلى مجهول عقلي تصوري أو تصديقي عارض ذاتي للمعلومات التصورية والتصديقية التي هي موضوع المنطق من حيث صحة إيصالها إلى ذلك مع أنه "لا مسألة" من مسائل المنطق "محمولها الإيصال" نفسه، وإنما محمول مسائله ما به الإيصال. "ومقتضى الدليل" العقلي في نفس الأمر "خروج" البحث عن "عنوان الموضوع" أي وصفه الكائن به موضوعا من مباحث العلم الذي هو موضوعه؛ لأنه كما قال المصنف - رحمه الله - فيما كتبه على البديع: إن أفاد الدال على الموضوع عنوانا خارجا فإنما يبحث في ذلك العلم عما صدق عليه إذا وجد متصفا به إذ الموضوع هو المقيد فما لم يوجد المقيد لم يوجد فإذا وجد مع قيده بحث حينئذ عن أحوال له أخرى غير القيد، وهذا؛ لأن البحث يستدعي جهالة ثبوته له فإذا بحث عن عنوانه والفرض أنه معرفه لبحث فيما علم ثبوته أو فيما لم يعلم موضوعيته فظهر أن عدم البحث يتحقق مع اعتبار الحالة قيدا خارجا غير متوقف على اعتبارها جزءا من الموضوع فإذا قلنا موضوع الإلهي الموجود فالبحث عن أحوال غير الوجود. وحينئذ إذا قلنا موضوع الأصول الدليل السمعي فينبغي أن لا يبحث عن حجية شيء منها؛ لأن كونه حجة هو كونه دليلا، وهو وصف الموضوع العنواني بل إنما يبحث فيما تحقق باسم الحجة عن أحوال أخر من كونه مفيدا لكذا من الأحكام مقدما على كذا عند التعارض أو(21/92)
مؤخرا "فالبحث عن حجية الإجماع وخبر الواحد والقياس ليس منه" أي علم الأصول "بل" البحث عن حجية كل من هذه مسألة "من الفقه؛ لأن موضوعاتها أفعال المكلفين" كما هو ظاهر في الإجماع وخبر الواحد، وأما في القياس فعلى تقدير أنه فعل للمجتهد كما سينبه عليه قريبا "ومحمولاتها" التي هي حجة "الحكم الشرعي إذ معنى" قولنا أن أحد هذه "حجة" أنه "يجب العمل بمقتضاه" ولا ريب في أن هذا حكم شرعي، وهذا هو الموعود بذكره قبيل المقدمة "وهو" أي، وما ذكرنا من أن البحث عن حجية القياس مسألة فقهية لا أصلية إنما يتأتى "في القياس على تقدير كونه فعل المجتهد" كما هو ظاهر أكثر عباراتهم عنه كما سيأتي "أما على أنه المساواة الكائنة" في الحكم بين الأصل والفرع الحاصل "عن تسوية الله تعالى بين الأصل والفرع في العلة" المثيرة لذلك الحكم، وهو الصحيح كما سيأتي أيضا إن شاء الله. "فليست" القضية المذكورة التي هي القياس حجة "مسألة" أصلا تعويلا على أن المسألة اصطلاحا حكم خبري نظري أو حكم نظري من العلوم الموضوعة "لأنها" أي هذه القضية حينئذ "ضرورية دينية" بمعنى أنه متى علم أن معنى القياس المساواة المذكورة قطع بالضرورة من الدين بأنه يجب العمل بمقتضاه من غير(21/93)
ص -49-…نظر، وتوقف هذا الحكم على الاطلاع على أن مفهوم الاسم ذلك لا ينافي الضرورة المذكورة لكن على هذا لا تكون ضرورية دينية مطلقا بل عند البعض دون البعض، ومن ثمة لم يكفر منكرها، ويطرقه أن الضروري الديني ما هو بحال لا يتطرق إليه من أهل الملة الشك ويستوي في معرفته جميع المكلفين منهم، ويكفر منكر مقتضاه كوجوب الصلاة فالأظهر أن هذه ليست بضرورية دينية على أن أحكام الشرع وخصوصا على قاعدة الأشاعرة لا يعرف شيء منها إلا بالدليل السمعي فهي كلها نظرية إلا أنه لما كان بعض منها بما ذكرناه من الوصف أشبه الضروري فسمي به ورتب عليه إكفار منكره، وحكم هذه القضية ليس كذلك؛ لأنه تطرق إليه الشك من بعض العقلاء، ومنع صحته غير واحد من المعدودين من علماء الملة ولم يكفر بذلك فالوجه أنها مسألة كما أنها مسألة أيضا إذا فسرت المسألة اصطلاحا بما هو أعم من الحكم النظري والضروري لكنها ليست بأصلية بل كلامية كمسألتي كون كل من الكتاب والسنة حجة كما مشى عليه المصنف فيما كتبه على البديع، وإليه يشير أيضا ما في التلويح.(21/94)
فإن قلت فما بالهم يجعلون من مسائل الأصول إثبات الإجماع والقياس للأحكام ولا يجعلون منها إثبات الكتاب والسنة كذلك؟. قلت: لأن المقصود بالنظر في الفن هو الكسبيات المفتقرة إلى الدليل، وكون الكتاب والسنة حجة بمنزلة البديهي في نظر الأصولي لتقرره في الكلام وشهرته بين الأنام بخلاف الإجماع والقياس ولهذا تعرضوا لما ليس إثباته للحكم بينا كالقراءة الشاذة وخبر الواحد ا هـ. فظهر أن هذه الأبحاث ليس محلها هذا العلم بالذات "بخلاف عموم النكرة في النفي فإنه" أي العموم "حال" أي عرض ذاتي "للدليل" كما تقدم، والنكرة مع قطع النظر عن عمومها وعدمه مما يتحقق باسم الدليل إذ لا بد أن نفيد حكما ما فالبحث عن عمومها إذا وقعت في سياق النفي بحث أصلي "فعن هلية الموضوع البسيطة أولى" أي ثم إذا كان البحث عن حجية الإجماع، وما ذكر معه ليس من الأصول فالبحث عن وجود الموضوع في حد ذاته أولى أن لا يكون منه، وإنما قيد بالبسيطة، وهي التي يطلب بها وجود الشيء كما ذكرنا؛ لأن المركبة، وهي التي يطلب بها وجود شيء لشيء من باب البحث عن حال الموضوع، وقد عرفت أنه من مسائل العلم هذا. "وقولهم" في تعليل كون التصديق بهلية ذات الموضوع جزءا من العلم "ما لم يثبت وجوده كيف يثبت له الأحكام يقتضي التوقف" أي توقف البحث عن الأحوال التي هي غير الوجود على إثبات الوجود له إذا كان نظريا "لا كونها" أي لا أنه يقتضي كون القضايا الباحثة عن هلية الموضوع "من مسائل العلم" الذي جعل موضوعه ما أثبت وجوده كيف وكون الشيء موضوعا أمر زائد على وجوده فأنى يتحقق الشيء موضوعا لعلم دون أن يتحقق بأحد الوجودين بل بأحدهما يتم كونه موضوعا ثم ينظر في أحوال أخر له، كذا أفاده المصنف فلا جرم أن في الشفاء وغيره أن التصديق بوجود الموضوع من المبادئ التصديقية لا أنه من أجزاء العلم.
ثم اعلم أن كون الموضوع هو الأدلة السمعية من الحيثية المذكورة كما مشى عليه(21/95)
ص -50-…المصنف هو طريق الآمدي وصاحب البديع وغيرهما، وهو المشهور، وقيل هي والترجيح والاجتهاد؛ لأنه يبحث عن أعراضهما فيه ورد إلى المشهور بأن البحث عن الترجيح بحث عن أعراض الأدلة باعتبار ترجح بعضها على بعض عند التعارض أو تساقطها به لعدم المرجح، وعن الاجتهاد باعتبار أن الأدلة إنما يستنبط منها الأحكام المجتهد. وحاصله أن المقصود بالذات أحوال الأدلة من حيث دلالتها على الأحكام إما مطلقا، وإما باعتبار تعارضها أو استنباطها منها فتكون هي موضوع العلم بالحقيقة، والبحث عن الترجيح والاجتهاد راجعا إليها، وقيل الأدلة والأحكام وصححه صدر الشريعة ثم المحقق التفتازاني؛ لأنه يبحث فيه عن العوارض الذاتية للأدلة، وهي إثباتها الحكم والعوارض الذاتية للأحكام، وهي ثبوتها بتلك الأدلة وحقق هذا المحقق ذلك بأنا رجعنا الأدلة بالتعميم إلى الأربعة والأحكام إلى الخمسة ونظرنا في المباحث المتعلقة بكيفية إثبات الأدلة للأحكام إجمالا فوجدنا بعضها راجعة إلى أحوال الأدلة وبعضها إلى أحوال الأحكام فجعل أحدهما من المقاصد والآخر من اللواحق تحكم؛ غاية ما في الباب أن مباحث الأدلة أكثر وأهم لكنه لا يقتضي الأصالة والاستقلال ا هـ.(21/96)
ولقائل أن يقول في دعوى التحكم نظر فإن البحث بالذات إنما يقع في هذا العلم عن أحوال الأدلة من حيث كونها مثبتة للأحكام، وأما البحث عن أحوال الأحكام فلم يقع إلا باعتبار كون أحوال الأحكام ثمرة أحوال الأدلة ولا خفاء في أن ثمرة الشيء أمر تابع له متفرع على تحققه لا أنه أصل مثله فذكرها فيه للاحتياج إلى تصورها ليتمكن من إثباتها أو نفيها لا لكون الأحكام موضوعا له أيضا فإذا عرف هذا فاعلم أن المصنف فرع على هذا القول الأخير ما أشار إليه بقوله: "وعلى" قول "من أدخل الأحكام" الشرعية مع الأدلة السمعية في الموضوعية لهذا العلم "إذ يبحث عنها" أي الأحكام الشرعية "من حيث تثبت بالأدلة" السمعية في هذا العلم كما يبحث عن الأدلة السمعية من حيث إنها تثبت الأحكام الشرعية فيكون موضوعه كلتيهما من الحيثيتين المشار إليهما "لا يبعد إدخال المكلف الكلي" أيضا معهما في الموضوعية لهذا العلم "إذ يبحث عنه" أي المكلف الكلي فيه "من حيث تتعلق به الأحكام" المذكورة فكما اعتبرت الأدلة والأحكام موضوعا له؛ لأنه يبحث فيه عن عوارضهما الذاتية من الحيثيتين المذكورتين يعتبر المكلف الكلي أيضا موضوعا معهما؛ لأنه يبحث فيه عن عوارضه الذاتية من الحيثية المذكورة. "وقد وضعه الحنفية" أي جعلوه في كتبهم الأصلية موضوعا "معنى، وأحواله" العارضة له أيضا "في ترجمة العوارض السماوية" له، وهي ما ليس للعبد فيها اختيار "والمكتسبة" أي والعوارض التي كسبها العبد أو ترك إزالتها "لبيان كيف تتعلق به" الأحكام، وإنما قيد جعلهم المكلف الكلي موضوعا بقوله معنى؛ لأنه إنما استفيد من بحثهم عن أهليته للحكم. وإذا كان كذلك فلو ذهب ذاهب إلى هذا القول لكان هذا الصنيع منهم كالشاهد له، ولا سيما إن كان حنفيا لكنه لم يذهب إليه ذاهب فيما علمه العبد الضعيف غفر الله تعالى له بل صدر الشريعة الذاهب إلى أن موضوع هذا العلم الأدلة والأحكام مصرح باندراج المباحث المتعلقة(21/97)
بالمحكوم عليه الذي هو المكلف والأهلية والعوارض المذكورة تحت القضية الكلية(21/98)
ص -51-…التي هي إحدى مقدمتي الدليل على مسائل الفقه المسماة بالقواعد لاختلاف الأحكام باختلاف المحكوم عليه وبالنظر إلى وجود العوارض وعدمها كاندراج المحكوم به الذي هو فعل المكلف تحتها أيضا؛ لأن الأحكام تختلف باختلاف أفعال المكلفين لكن عليه أن يقال إن كان هذا موجبا لعدم جعل المكلف الكلي من الحيثية المذكورة موضوعا أو مانعا منه فكذلك الأحكام لإمكان اندراج أعراضها في مباحث أعراض الأدلة كما ذكرنا فجعلها موضوعا دونه تحكم، ويجاب عنه بأن في جعل المكلف الكلي من الحيثية المذكورة موضوعا مانعا لما عرف من أن موضوع العلم ما يبحث فيه عن أعراضه الذاتية، وأحوال المكلف الكلي التي هي العوارض المذكورة ليست بذاتية له كما سيصرح المصنف به عند إفاضته في الكلام فيها. والأهلية وصف عنواني له، وقد عرفت أن مقتضى الدليل خروج البحث عن عنوان الموضوع من مباحث العلم الذي هو موضوعه فلا يكون البحث عنها في هذا العلم دليلا على أن المكلف الكلي موضوعه فالتحقيق أن البحث عن هذه الأمور من باب التتميم بذكر التوابع واللواحق وكيف لا، ومنها ما ليس بعارض للمكلف مع قيام هذا الوصف به كالصغر، ومنها ما هو أفعال المكلفين كالسفر والإكراه والهزل والخطأ فالمباحث المتعلقة بها مسائل فقهية بلا ريب؛ لأن موضوعاتها أفعال المكلفين، ومحمولاتها الأحكام الشرعية، وهذا كله مما سنح للعبد الضعيف، والله سبحانه أعلم.(21/99)
ثم أخذ المصنف في استئناف بيان تحقيق لما في الواقع من أمر الموضوع فقال "وإذا كانت الغاية المطلوبة" الحصول لواضع علم لتحصيلها "لا تترتب إلا على" البحث عن أحوال "أشياء كانت" تلك الأشياء "الموضوع" لذلك العلم المطلوب لتلك الغاية "كما لو ترتبت غايات على جمل من أحوال" شيء "واحد حيث يكون" ذلك الشيء الواحد "موضوع علوم" مختلفة مقصودة لتلك الغايات المختلفة "يختلف" ذلك الشيء الواحد الذي هو الموضوع "فيها" أي تلك العلوم "بالحيثية" التي تعددت بها موضوعيته، وإن كان واحدا بالذات فيكون كونه موضوعا لعلم من حيث إنه يبحث عنه من جهة كذا غير كونه موضوعا لعلم آخر من حيث إنه يبحث عنه من جهة غير تلك الجهة فجاءت موضوعات العلوم منها ما هو أمر واحد لعلم واحد، ومنها ما هو أمر واحد من حيثيتين لعلمين، ومنها ما هو أمور متعددة من حيثية واحدة لعلم واحد؛ لأن الموجب لانفصال الموضوعات تمايز الغايات عند ملاحظتها كما تقدم ولا مانع يمنع شيئا من هذه الأمور "ومن هنا" أي، ومن أن الغاية المطلوبة إذا ترتبت على أشياء كانت هي الموضوع لذلك العلم الذي يثمر تلك الغاية "استتبعته" أي الغاية المطلوبة الموضوع أي كان تابعا لها ذهنا في التصور، وإن كان حصولها خارجا تابعا لحصوله كما سلف بيانه.
ولما لزم من هذا أنه لو ترتبت الغاية المطلوبة على أشياء ليس بينها تناسب أن تكون موضوع علم تلك الغاية أشار إلى التزام هذا اللازم وحقيته، وإن صرح غير واحد بأن الموضوع إذا كانت أشياء يشترط تناسبها في ذاتي أو عرضي كما تقدم ذكره. فقال: "ولزوم(21/100)
ص -52-…التناسب" بين الأشياء التي هي موضوع علم على الوجه المذكور بسبب أن الغاية المطلوبة إنما ترتبت عليها أمر "اتفاقي"، وهو إن اتفق أن لا تترتب غاية يعتد بها على أشياء إلا إذا كانت متناسبة لا لزومي إذ لا دليل على ذلك وحينئذ فنقول إن اتفق ترتب الغاية المطلوبة على أمور متناسبة فذاك وكانت هي الموضوع "ولو اتفق ترتبها" أي الغاية المطلوبة على أمور "مع عدمه" أي عدم تناسبها "أهدر" أي التناسب من الاعتبار في صحة موضوعية تلك الأمور حتى كانت هي الموضوع لذلك العلم المثمر لتلك الغاية، ومن ثمة لما قرر المحقق الشريف وجه تمايز العلوم بحسب تمايز الموضوعات على المنوال المتداول كما أشرنا إليه قال: وهذا أمر استحسنوه في التعلم والتعليم، وإلا فلا مانع عقليا من أن تعد كل مسألة علما برأسه، وتفرد بالتدوين ولا من أن تعد مسائل غير متشاركة في موضوع واحد سواء كانت متناسبة من وجه آخر أو لا علما واحدا وتفرد بالتدوين "وبحسب اتفاق الترتب" أي ترتب الغايات على ما ترتبت عليه من البحث عن أحوال شيء أو أشياء "كانت" العلوم "متباينة" إذا تباينت موضوعاتها "ومتداخلة" إذا كان بين الموضوعين خصوص وعموم فيكون الأخص داخلا تحت الأعم كعلمي الحديث والأصول "إلا في لزوم عروض عارض المباين للآخر في البحث" فإنه حينئذ لا يكون ذلك العلمان متباينين، وإن كان موضوعاهما متباينين أي بل نقول "فتتداخل مع التباين" حينئذ العلوم التي موضوعاتها متباينة بهذا الاعتبار "للعموم الاعتباري" في ذلك الموضوع العارض عارضه لذلك الموضوع المباين له فيندرج العلم العارض لموضوعه ذلك العارض على سبيل اللزوم له تحت العلم الخاص ذلك العارض بموضوعه "كالموسيقى" أي كعلم الموسيقى بضم الميم وكسر السين المهملة والقاف، وهو لفظ يوناني معناه تأليف الألحان "موضوعه النغم ويندرج" علم الموسيقى "تحت علم الحساب، وموضوعه" أي والحال أن موضوعه "العدد"، وإنما اندرج علم الموسيقى تحت(21/101)
علم الحساب "مع تباين موضوعيهما كما قيل إذ كان البحث في النغم عن النسب العددية" العارضة للنغم على سبيل اللزوم، وهي عارض خاص لموضوع علم الحساب. والحاصل أن العلمين إنما يكونان متباينين لا يدخل أحدهما تحت الآخر بسبب تباين موضوعيهما إذا لم يكن موضوع أحد العلمين مقارنا لأعراض ذاتية خاصة بموضوع الآخر. أما إذا كان موضوع أحدهما مقارنا لأعراض ذاتية خاصة بموضوع الآخر فإنه حينئذ يدخل العلم المقارن موضوعه ذلك تحت ذلك العلم الآخر كموضوع الموسيقى والحساب فإن موضوع الموسيقى النغم من حيث يعرض لها نسب عددية مقتضية للتأليف أي لتأليف النسب والنغم من الكيفيات المسموعة فلولا هذه الحيثية لكان جزءا من الطبيعي لكن النسب العددية أعراض خاصة للعدد الذي هو موضوع علم الحساب فيكون علم الموسيقى تحت علم الحساب مع تباين موضوعيهما؛ لأن النغم إذا بحث فيها عن النسب العددية فلا بد، وأن يعتبر فيها ضرب من التعدد فكأنها فرضت عددا مخصوصا فتندرج بهذا الاعتبار تحت العدد الذي هو موضوع علم الحساب فظهر أن الاستثناء المذكور من قوله كانت متباينة، وأنه لو أخره عن متداخلة ليتصل الاستثناء(21/102)
ص -53-…به لكان أحسن، وأن قوله للآخر متعلق بعروض لا بالمباين. ثم جملة القول في هذا المقام أن العلوم إما متداخلة أو متناسبة أو متباينة، وذلك يتعلق بتداخل موضوعاتها وتناسبها وتباينها فإن كانت موضوعاتها متداخلة بأن يكون موضوع أحد العلمين أعم من موضوع العلم الآخر أو موضوع أحدهما من حيث يقارن أعراضا خاصة بموضوع الآخر سميت العلوم متداخلة وسمي العلم الخاص موضوعا تحت العلم العام، وإن لم تكن الموضوعات متداخلة فإن كانت واحدة لكن تتعدد بالاعتبار أو كانت أشياء لكنها تشترك في البحث أو تندرج تحت جنس واحد سميت متناسبة، وإلا فمتباينة، والله تعالى أعلم.(21/103)
ثم من الخواص المستفادة من المصنف تعقبا لكثير ما أشار إليه بقوله "واعلم أن إيرادهم" في أوائل الكتب المدونة في العلوم قبل الشروع فيها "كلا من الحد والموضوع والغاية لتحصيل البصيرة لا يخلو عن استدراك إلا من حيث التسمية باسم خاص ولم يورده لذلك"، وقد بين ذلك فيما كتبناه عنه من الحواشي فقال اعلم أن ذكرهم الأمور الثلاثة أعني التعريف والتصديق بالموضوع والغاية لا يخلو عن استدراك؛ لأن التعريف إن أخذ فيه الموضوع نحو باحث عن أحوال كذا أعني عن إفراد التصديق بالموضوع؛ لأنه يستلزمه إذ يعلم منه أن كذا لذلك المذكور باسمه هو المبحوث عن أحواله، وهذا هو عين العلم بأن موضوعه ماذا نعم لا يعلمه من حيث هو مسمى لفظ الموضوع، وذلك غير مخل بالمقصود من ذكر الموضوع في أوائل العلوم، وهو حصول البصيرة أو مزيدها؛ لأنها إنما ترتبت على معرفة خصوص ما يبحث في هذا العلم عن أحواله لا بقيد كونه مسمى بلفظ مخصوص فإنا لو لم نسمه بخصوص اسم سوى أن كذا هو المبحوث عن أحواله في العلم حصل المقصود. وإن لم يؤخذ في التعريف الموضوع استلزم معرفة غايته؛ لأنه لا بد من المميز، وهو في رسم مفهوم العلم ليس إلا حيثية الغاية كتعريف المواقف علم يقتدر معه على إثبات العقائد فإن ملكة إثباتها هي الغاية المقصودة أولا، وإن كان يقال غايته الترقي من التقليد إلى الإيقان بالعقائد، وقمع المبطلين والدرجات عند الله تعالى فهي غاية الغاية، وهذا كما يقال غاية أصول الفقه حصول أهلية الاجتهاد مع أنه يتأتى فيه جميع ما ذكرنا، ولو سلم أن ما ذكرنا هو الغاية ابتداء فالعلم به لازم العلم بالغاية الأولى إذ يلزم كونه ذا ملكة إثبات العقائد فتحصل أن تعريف العلم من جهة الموضوع، وهو حده لا حاجة معه في تحصيل البصيرة الكائنة في تصور الموضوع إلى إفراد تصديق به، ومع رسمه لا حاجة في تحصيل البصيرة المستفادة من معرفة غايته إلى إفراد تصديق بها نعم يحتاج إليهما في إفادة لفظ(21/104)
اصطلاحي هو اسم الموضوع والغاية لكنهم لم يقدموا ذكره لهذا الغرض بل لما ذكرنا وليزداد جد الطالب في الغاية ا هـ. نعم في شرح المواقف للمحقق الشريف واعلم أن الامتياز الحاصل للطالب بالموضوع إنما هو للمعلومات بالأصالة وللعلوم بالتبع والحاصل بالتعريف على عكس ذلك إن كان تعريفا للعلم، وأما إن كان تعريفا للمعلوم فالفرق أنه قد يلاحظ الموضوع في التعريف كما في تعريف الكلام إن جعل تعريفا لمعلومه، وهو غير قادح أيضا في هذا الذي أفاده المصنف رحمه الله.(21/105)
ص -54-…الأمر الثالث من أمور المقدم: في المقدمات المنطقية
الأمر "الثالث" من الأمور التي مقدمة هذا الكتاب عبارة عنها "المقدمات المنطقية" ونسبها إلى المنطق؛ لأنها منه، وقوله "مباحث النظر" عطف بيان أو بدل منها "وتسمية جمع" من الأصوليين كالآمدي، ومن تابعه "لها" أي لهذه المباحث "مبادئ كلامية بعيد"؛ لأن هذه النسبة تفيد الاختصاص ظاهرا، وعلم الكلام غير مختص بها "بل الكلام فيها" أي في هذه المباحث "كغيره" من العلوم الكسبية في الحاجة إليها "لاستواء نسبتها" أي هذه المباحث "إلى كل العلوم" الكسبية في كونها آلة لها "وهو" أي بيان الاستواء المذكور "أنه" أي الشأن "لما كان البحث" عرضا "ذاتيا للعلوم" لعروضه لها بلا وسط في الثبوت في نفس الأمر "وهو" أي البحث "الحمل بالدليل"، وهذا أوجز ما قيل في تعريفه مع الجمع والمنع "وصحته" أي الدليل "بصحة النظر، وفساده به" أي، وفساد الدليل بفساد النظر كما سيظهر "وجب التمييز" بين النظر الصحيح والنظر الفاسد "ليعلم" بمعرفتهما "خطأ المطالب وصوابها" فإن خطأها من فساد دليلها الناشئ عن فساد النظر وصوابها عن صحة دليلها الناشئ عن صحة النظر. فإذا عرف حال النظر عرف حال الدليل، وإذا عرف حال الدليل عرف حال ما أدى إليه فإذا لا بد من معرفة كل من النظر، وقسميه والدليل وما يفيده من العلم والظن لتوقف معرفة حال المطلوب على هذه الأمور سواء كان المطلوب من المطالب الأصلية أو الكلامية أو غيرهما فجعل هذه الأمور مبادئ كلامية للأصول ليس بأولى من العكس مثلا، وقد صرح بذلك الإمام الغزالي في المستصفى حيث قال: إن المقدمة المشتملة على هذه المباحث ليست من جملة أصول الفقه ولا من مقدماته الخاصة بل هي مقدمة العلوم كلها، وحاجة جميع العلوم النظرية إلى هذه المقدمة كحاجة أصول الفقه ا هـ. نعم لا بأس بما ذكره المحقق الشريف من أن الحق أن إثبات مسائل العلوم النظرية محتاج إلى دلائل وتعريفات معينة، والعلم(21/106)
بكونها موصلة إلى المقصود لا يحصل إلا من المباحث المنطقية أو يتقوى بها فهي تحتاج إليها تلك العلوم وليست جزءا منها بل هي علم على حيالها، وعلم الكلام لما كان رئيس العلوم الشرعية، ومقدما عليها انتسبت إليه هذه القواعد المحتاج إليها فعدت مبادئ كلامية للعلوم الشرعية ا هـ. فإن حاصل هذا أن هذه الإضافة ليست للتخصيص بل لاتفاق سبق وقوعها مبادئ للكلام لتقدمه في الاعتبار والشرف على ما سواه والشيء يضاف إلى غيره بأدنى ملابسة على ما عرف في العربية، والسبق من أسباب الترجيح، وحيث يظهر أن المراد هذا فلا بأس بذلك
ثم نقول استطرادا "وليس في الأصول من الكلام إلا مسألة الحاكم" فإنها من العقائد الدينية "وما يتعلق بها من" مباحث "الحسن والقبح" لكون ذلك وسيلة إلى ما هو من العقائد الدينية فتلحق بها في كونها من مسائل الكلام "ونحوه" أي هذا المذكور كمسألة المجتهد يخطئ ويصيب، ومسألة يجوز خلو الزمان عن مجتهد، وما ضاهاهما. "وهذه" المذكورات "من المقدمات" لهذا العلم لا منه "يتوقف عليها" أي على معرفتها "زيادة بصيرة" لمعرفة بعض مقاصد هذا العلم تذكر فيه لهذا الغرض وليس ذكرها في أثناء المقاصد لمناسبة حسنته ثمة(21/107)
ص -55-…كما هو غير خاف على المتأمل بمانع من كونها من المقدمات، وقد عرفت أن مقدمة العلم غير محصورة في حده وغايته والتصديق بموضوعه بل إذا وجد لهذه الأمور مشارك في إفادة البصيرة كان منها وساغ ذكره مع هذه الأمور فيها ثم لا يصح أن تكون هذه المذكورات من مبادئ هذا العلم على اصطلاح المنطقيين؛ لأنها عندهم ما يبدأ به قبل المسائل لتوقفها عليه، وهي معدودة من أجزاء العلم عندهم على ما هو المشهور، وهذه المذكورات ليست كذلك. "وتصح" أن تكون "مبادئ" له "على" اصطلاح "الأصوليين"، وإن لم تكن منه؛ لأن المبادئ عندهم ما تتوقف عليه مسائل العلم أو الشروع فيه على بصيرة فمنها ما هو من أجزائه، ومنها ما ليس من أجزائه كهذه المذكورات فهي عندهم أعم منها عند المنطقيين وحينئذ فجعل هذه من المقدمات لا من المبادئ على اصطلاح المنطقيين، وجعلها من المبادئ على اصطلاح الأصوليين اختلاف مبني على تفسير المبادئ ليس إلا.(21/108)
"ولما انقسم" الدليل "إلى ما يفيد علما" قطعيا ولم يذكره لدلالة قسيمه عليه أعني قوله "وظنا ميزا" أي العلم والظن بما يفيد تصور كل على حدة ثم إذ وجب التمييز "وتمامه" أي والحال أن تمام تمييز الشيء من غيره على ما ينبغي قد يكون أيضا "بالمقابلات" أي بذكر المقابلات للشيء وذكر معناها مع ذكر ذلك المميز فإن في ذلك أمانا من وهم الاشتباه وزيادة جلاء لبيان المقابلات والأشباه، ومن ثمة قيل وبضدها تتبين الأشياء فلا علينا أن نأتي بمميز كل ثم بالمقابلات وبيان معناها، وما له مناسبة بالمقام، وتقدم الكلام في هذه الجملة على بيان الدليل، وما يتبعه لكون العلم والظن هما المقصودين بالذات من الدليل، وإن كان سائغا تقديمه عليهما، ومن ثمة قدمه بعضهم عليهما لكونه وسيلة إليهما، والوسائل قد تقدم على المطالب. "فالعلم حكم لا يحتمل طرفاه نقيضه عند من قام به لموجب" أي إدراك نسبة موجبة أو سالبة بين محكوم ومحكوم عليه لا يحتملان نقيض ذلك الإدراك عند المدرك كائن لموجب فحكم شامل للعلم القطعي والظن والجهل، وما كان من اعتقاد المقلد حكما ولا يحتمل طرفاه نقيضه عند من قام به أي لا يجوز الحاكم به تعلق نقيض ذلك بطرفيه في نفس الأمر مخرج للظن سواء كان عن دليل ظني أو تقليدا أو جهلا مركبا؛ لأن الظن حكم يحتمل طرفاه نقيضه في نفس الأمر في الحال أو فيه، وفي المآل عند الظان ولموجب بكسر الجيم أي من حس أو عقل أو برهان أو عادة مخرج للجهل المركب مطلقا ولاعتقاد المقلد مطلقا؛ لأن كلا منهما ليس بمستند لموجب "فدخل" تحت هذا الحد العلم "العادي"، وهو ما موجبه العادة، وهو فعل المختار على سبيل الدوام كعلمنا بأن الجبل الذي شاهدناه فيما مضى حجر أنه في حال غيبتنا عنه حجر أيضا لم ينقلب ذهبا؛ لأنه يصدق على هذا العلم أنه حكم لا يحتمل طرفاه نقيضه، وهو الحكم بكونه ذهبا في نفس الأمر عندنا لموجب، وهو العادة المستمرة بأن ما شوهد حجرا في وقت فهو كذلك(21/109)
دائما، وإن كان كون الجبل ذهبا في هذه الحالة ممكنا لذاته "لأن إمكان كون الجبل ذهبا" في هذه الحالة "لا يمنع الجزم بنقيضه" أي كون الجبل ذهبا، وهو الحكم بكونه حجرا في هذه الحالة في نفس الأمر "عن موجبه" أي هذا الجزم المذكور اتفاقا فإن الإمكان الذاتي لا ينافي الوجوب بالغير(21/110)
ص -56-…فلا يظن أن الحد غير منطبق عليه فلا يكون جامعا. واعلم أن جعل نقيض كون الجبل حجرا كونه ذهبا وبالعكس تسامح مشهور وافقناهم في التقرير عليه لعدم الخلل في المقصود، وإلا فنقيض كون الجبل حجرا إنما هو كونه غير حجر وكونه ذهبا أخص من نقيضه ونقيض كونه ذهبا كونه غير ذهب وكونه حجرا أخص من نقيضه هذا "والحق أن إمكان خرق العادة" الموجبة لكون الجبل السابق مشاهدة حجريته حجرا بأن يصير ذهبا في نفس الأمر "الآن" أي في حال الغيبة عنه "وهو" أي والحال أن الإمكان المذكور "ثابت" في هذه الحالة في حق الجبل، ومن ثمة كانت العادة قابلة للانخراق بكرامة ولي كما تقبله بمعجزة نبي، وإن حلف ليقلبن هذا الحجر ذهبا انعقدت يمينه "يستلزم تجويز النقيض"، وهو أن يكون ذهبا "الآن" أي في هذه الحالة "إذا لوحظ" النقيض في هذه الحالة للإمكان وشمول قدرة القادر المختار، وإلا كان ممتنعا امتناعا ذاتيا لكنه في نفس الأمر ممكن إمكانا ذاتيا والإمكان الذاتي، وإن كان لا ينافي الوجوب بالغير لكنه لا يلزم من عدم منافاته للوجوب بالغير عدم تجويز النقيض إذ ليس كل جائز واقعا فلا يصدق التعريف المذكور على العلم العادي، وإنما قيد كون إمكان خرق العادة حينئذ مستلزما لتجويز النقيض حينئذ بملاحظة النقيض، وقتئذ لتوقف استلزام تجويزه على ملاحظته؛ لأن التجويز فرع الملاحظة حتى يكون مذهولا عنه عند عدمها ثم حين آل الأمر إلى خروج العلم العادي من هذا التعريف للعلم القطعي بواسطة أنه يتأتى فيه تجويز النقيض كما اقتضاه هذا التحقيق، وقد فرض أن القطعي لا يتأتى فيه ذلك "فالحق أن العلم كذلك" أي حال كونه لا يتأتى فيه تجويز النقيض أن يقال "هو ما" أي حكم "موجبه لا يحتمل التبدل كالعقل والخبر الصادق" والحس فإن كلا من هذه الموجبات لا يحتمل التبدل أصلا لاستحالته عليها. وحاصله أنه ما موجبه لا يحتمل الخروج عن كونه موجبا له فخرج العادي؛ لأن العادة تحتمل التبدل بخرقها(21/111)
كما ذكرنا هذا غاية ما ظهر لي في تقرير هذه الجملة، وعليه أن يقال ما قالوا أن معنى احتمال العاديات تجويز النقيض أنه لو فرض وقوع ذلك النقيض بدلها لم يلزم من ذلك محال لذاته؛ لأن الأمور العادية ممكنة في حد ذاتها والممكن لا يستلزم شيء من طرفيه محالا لذاته ولا يخفى أن هذا جار في جميع الممكنات الواقعة لا اختصاص له بالعادية، وأن معنى عدم احتمال العلم للنقيض هو أن العقل لا يجوز بوجه من الوجوه كون الواقع في نفس الأمر نقيض ذلك الحكم حينئذ، وإن كان من الأمور الممكنة لامتناع إمكان اجتماع النقيضين، وهذا ممنوع ثبوته في العلوم العادية كما في العلوم المستندة إلى الحس وغيرها فكما أنه إذا شاهد حركة زيد وبياض جسم لا يجوز العقل ألبتة في ذلك الوقت كون زيد ساكنا والجسم أسود بل يقطع بأن الواقع هو هذه النسبة لا غير فالعلم العادي كذلك ويوافقه ما قال شيخنا المصنف - رحمه الله - في تقرير دليل التمانع من كتابه المسايرة: أنه لم يؤخذ في مفهوم العلم القطعي استحالة النقيض بل مجرد الجزم عن موجب بأن الآخر هو الواقع، وإن كان نقيضه لم يستحل وقوعه ا هـ. فإذن لا فرق بين أن نعلم كون الجبل حجرا مشاهدة وبين أن نعلم ذلك عادة في التجويز العقلي ونفي الاحتمال في نفس(21/112)
ص -57-…الأمر فلا يكون الحق أن يقال ما موجبه لا يحتمل التبدل نعم العلم بالأمور التي لا تقبل النسخ لذاتها كالعلم بوجوب وجود الواجب لذاته وبامتناع شريكه ونحو ذلك لا يحتمل النقيض بالمعنى المذكور لا يتأتى فيها التجويز العقلي للنقيض لكن التعريف المذكور لم يشترط فيه نفي كليهما على أنه لو اعتبر في القطعي نفي كليهما لأدى إلى انحصار القطعي اصطلاحا في العلم بالواجب والممتنع لذاتيهما لا غير، وليس كذلك قطعا كما يؤيده ما ذكرناه عن المصنف آنفا بل قد ذكر صدر الشريعة وغيره أن العلماء يستعملون العلم القطعي في معنيين أحدهما ما يقطع الاحتمال أصلا كالمحكم والمتواتر والثاني ما يقطع الاحتمال الناشئ عن دليل كالظاهر والنص والخبر المشهور مثلا، والأول يسمونه علم اليقين والثاني علم الطمأنينة والله سبحانه أعلم.
"والظن حكم يحتمله" أي يحتمل متعلقه الذي هو طرفاه نقيضه عند الحاكم احتمالا "مرجوحا" بمعنى أنه لو خطر بالبال لحكم بإمكانه ثم إن كان الحكم المذكور مطابقا للواقع فهو صادق، وإلا فهو كاذب، وهو صنف من الجهل المركب على ما سيذكره المصنف قريبا ونوافقه عليه بعد تقييده بما يجب تقييده به إن شاء الله تعالى
ثم قيل إنما يسمى الحكم المذكور ظنا إذا لم يأخذ القلب بالراجح ولم يطرح الآخر أما إذا عقد القلب على الراجح وترك المرجوح يسمى الراجح أكبر الظن وغالب الرأي، وهو غريب بل المعروف أن الظن هو الحكم المذكور أخذ القلب به وطرح المرجوح أو لم يأخذه ولم يطرح الآخرون، وأن غلبة الظن زيادة على أصل الرجحان لا يبلغ به الجزم الذي هو العلم "وهو" أي والاحتمال المرجوح أي ملاحظته هو "الوهم".(21/113)
ثم اعلم أن الشيخ حافظ الدين النسفي ذكر في أوائل كشف الأسرار تقسيما يخرج منه تفسير العلم وغيره، وقد أشار المصنف إلى تعقب أمور منه فلا بأس أن نسوقه ليعلم ما هو محل التعقب منه عند تعرض المصنف له، وإذا أحلنا عليه تقع حوالتنا عليه رائجة. قال - رحمه الله -: اعلم أن حكم الذهن بأمر على آخر إن كان جازما فجهل إن لم يطابق وتقليد إن طابق ولم يكن لموجب، وعلم لو كان لموجب عقلي أو حسي أو مركب منهما فالأول بديهي إن كفى تصور طرفيه لحصوله، وإلا فكري والثاني علم بالمحسوسات والثالث بالمتواترات والحدسيات والمجربات، وإن لم يكن جازما فشك إن تساوى طرفاه، وإلا فالراجح ظن، والمرجوح وهم ا هـ. فصرح بأن كلا من الشك والوهم حكم كما ذكره جمع من المتأخرين وليس كذلك كما صرح به غير واحد من المحققين فلا جرم أن قال المصنف معرضا به "ولا حكم فيه" أي الوهم "لاستحالته" أي الحكم "بالنقيضين" للشيء الواحد في حالة واحدة للاتفاق على الحكم بالطرف الراجح مع الحكم بالطرف المرجوح على هذا القول، واللازم باطل فالملزوم مثله بل هو من قبيل التصورات الساذجة "والشك عدم الحكم بشيء" نفيا، وإثباتا لشيء "بعد الشعور" بذلك الحكم الذي بحيث يعرض لنسبة ذينك الطرفين بعد تصورهما،(21/114)
ص -58-…وتصورها التصور الساذج والشعور أول مراتب وصول النفس إلى المعنى من غير وقوف على تمامه، وهذا بشرط أن يكون عدم الحكم المذكور "للتساوي" أي لكون متعلقه من حيث هو يحتمل كلا من النفي والإثبات على حد سواء عند من بحيث يحكم، وهو المتصور المذكور. وعلى هذا فقوله بعد الشعور من باب التصريح باللازم إيضاحا، ومن ثمة لم يصرح به غير واحد "فيخرج" عن الشك بواسطة لزوم الشعور المذكور له "أحد قسمي الجهل البسيط"، وهو عدم الحكم بشيء مع عدم الشعور بذلك الحكم عما من شأنه أن يكون حاكما فإن من الجهل البسيط ما يكون كذلك كما في خالي الذهن، وأما القسم الآخر الذي هو قسيم هذا فهو عدم الحكم بالشيء مع الشعور بالحكم عما من شأنه أن يكون حاكما والظاهر أن ماصدقاته إنما هي الشك والوهم لا غير؛ لأن عدم الحكم بالشيء مع الشعور بذلك الحكم لا يتحقق إلا إذا كان ذلك المشعور به طرفاه سواء أو مرجوحا بالنسبة إلى طرفه الآخر فيخرج حينئذ باشتراط التساوي أحد فردي هذا القسم أيضا، وهو الوهم. هذا ولقائل أن يقول: هذه العبارة تشير إلى أنه لا قسيم للجهل البسيط وراء هذين القسمين، وهو خلاف صريحهم وإشارتهم، فقد عرفوه كما في المواقف وغيره بعدم العلم عما من شأنه أن يكون عالما، وقال الآمدي: والجهل البسيط يمتنع اجتماعه مع العلم لذاتيهما فيكون ضدا، وإن لم يكن صفة إثبات وليس الجهل البسيط ضد الجهل المركب ولا للشك ولا للظن ولا النظر بل يجامع كلا منهما لكنه يضاد النوم والغفلة والموت؛ لأنه عدم العلم عما من شأنه أن يقوم به العلم، وذلك غير متصور في حالة النوم وأخواته. وأما العلم فإنه يضاد جميع هذه الأمور المذكورة ويمكن الجواب عنه بأنه لما كان من الجهل البسيط قسمان يتناولهما جنس الشك أعني الحكم بشيء ثم منهما بعد ذلك ما لا ينطبق تعريف الشك عليه أصلا، ومنهما ما ينطبق على بعض أفراده، وقسمان لا يتناولهما جنس الشك أصلا، وهما كل من الحكم الجازم الغير(21/115)
المطابق والحكم الراجح الغير المطابق إذا لم يقترنا باعتقاد كونهما في الواقع كذلك توفرت العناية على التنبيه على خروج ذلك القسم المشارك له في الجنس المرتفع عن انطباق التعريف عليه أصلا، ولم ينبه على خروج القسمين الأخيرين للعلم بخروجهما بمعنى عدم دخولهما أصلا على أنه قد كان الأولى أن يقول فخرج بعض أقسام الجهل البسيط ليتناول الوهم كما ذكرنا.
"والجهل المركب الحكم غير المطابق" للواقع وينبغي أن يزاد مع اعتقاد مطابقته، وإلا لكان غير مانع لصدقه على البسيط فإن الحكم غير المطابق إذا لم يقترن باعتقاد مطابقته جهل بسيط لصدق تعريفهم إياه بعدم العلم عما من شأنه أن يكون عالما عليه. فإن الظاهر أن المراد بالعلم الجازم الثابت المطابق وكما يصدق عدم العلم بهذا المعنى بانتفاء جميع هذه الأمور يصدق بانتفاء بعضها. وقد ظهر من هذا أن دعوى الآمدي أن البسيط يجامع المركب ممنوعة للمعاندة بينهما في جزء المفهوم
"ولم نشرط" نحن في الحكم الذي هو جنس الجهل المركب "جزما" كما شرطه في(21/116)
ص -59-…المواقف حيث قال هو عبارة عن اعتقاد جازم غير مطابق، ومشى عليه في شرح المقاصد "لأن الظن المطابق ليس سواه" أي الجهل المركب والجزم مخرج له فلا يكون التعريف جامعا لكن قد عرفت أنه إنما يكون الظن غير المطابق جهلا مركبا إذا اعتقد مطابقته، وإلا فهو بسيط وبهذا تعرف أن ما في الكشف من أن حكم الذهن بأمر على أمر إن كان جازما فجهل إن لم يطابق محمول على بيان بعض ماصدقات الجهل البسيط ثم قد ظهر من هذه الجملة أن اللائق أن يكون ما في المواقف تعريفا للجهل البسيط تعريفا لمطلق الجهل الصادق على البسيط والمركب، وأما هما فما ذكرنا فلا جرم أن في التلويح، وهو أي الجهل عدم العلم عما من شأنه فإن قارن اعتقاد النقيض فمركب، وهو المراد بالشعور بالشيء على خلاف ما هو به، وإلا فبسيط، وهو المراد بعدم الشعور ا هـ. ثم إنما سمي الجهل المركب مركبا؛ لأن كونه اعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه جهل بذلك الشيء واعتقاده أنه اعتقاد الشيء على ما هو عليه جهل آخر فقد تركبا معا، وقد يتركب من ثلاثة كقول أبي الطيب
ومن جاهل بي وهو يجهل جهله …ويجهل علمي أنه بي جاهل(21/117)
"وأما التقليد فليس من حقيقته ظن فضلا عن الجزم كما قيل"، وقد عرفت أن قائله صاحب الكشف؛ لأن التقليد كما سيأتي هو العمل بقول من ليس قوله إحدى الحجج بلا حجة منها فأين الظن فضلا عن الجزم "بل قد يقدر" المقلد "عليه" أي ظن ما قلد فيه أي على اكتساب ظن به "إذا كان المقلد قريبا" من مرتبة الاجتهاد لوجود أهليته في الجملة لاكتساب ذلك من الأدلة فإنه بعد فرض أنه قلد غيره في ذلك الحكم لا تخرجه هذه الحالة بالنسبة إلى هذه الواقعة عن كونه مقلدا كما في غيرها مما يقدر فيه على ظن حكم ما قلد فيه غيره "وقد لا" يقدر المقلد مطلقا على اكتساب ذلك أما القريب فلتعارض الأمارات عنده من غير ترجيح أو لغير ذلك، وأما البعيد فلعدم الأهلية لاكتسابه من الدليل "وغايته إذا" أي وغاية المقلد إذا قلد المجتهد في حكم شرعي حالة كونه غير قادر على اكتساب جزم أو ظن بذلك الحكم من الدليل "حسن ظنه" أي المقلد "بمقلده" بفتح اللام وذلك بأن يعتقد أنه لم يقله عن هوى، وإنما هو الحكم الذي أدى إليه اجتهاده بعد إفراغ الوسع في طلب الحق في ذلك ولا بدع في ذلك بل هو متعين. "وقد يكون" أي يوجد التقليد لمن هو أهل له "ولا ظن" أي والحال أن لا ظن عند المقلد للحكم الذي ذهب إليه مقلده أصلا بل قد يقلده "مع علمه" أي المقلد "أنه" أي مقلده "مفضول" فيما قلده فيه ويقدم على تقليده، والحالة هذه لكونه مسقطا للواجب؛ لأن الجمهور على جواز تقليد المفضول مع وجود الفاضل كما سيأتي
ثم هذا كله شيء، وقع في البين فلنرجع النظر إلى تعريفي العلم والظن المذكورين فنقول "وخرج التصور من العلم والظن" بواسطة جعل الجنس فيهما الحكم، وهذا يفيدك أن المراد لم يدخل التصور بأقسامه فيهما؛ لأن حقيقة الخروج بالدخول ولم يوجد ولا ضير في كون الخروج مرادا به المنع من الدخول فإنه بهذا المعنى مجاز مشهور ثم هذا الخروج "على(21/118)
ص -60-…الأكثر" أي على قولهم إن العلم والظن من باب التصديق "اصطلاحا" منهم على ذلك "لا لاعتبار الموجب" أي لا أنه إنما خرج التصور عن العلم والظن لذكر الموجب في التعريف؛ لأنه ليس بمقتض لذلك "ويقال" في تعريف العلم أيضا "صفة توجب تمييزا لا يحتمل" النقيض، وإنما لم يذكره للعلم به مما تقدم مع شهرته، وهذا معزو إلى الشيخ أبي منصور الماتريدي، وقال ابن الحاجب وغيره أنه أصح الحدود، وفي المواقف، وهو المختار فصفة أي معنى قائم بغيره يتناول العلم وغيره وتوجب أي تستعقب بخلق الله تعالى عادة لمحلها الذي يتصف بها، وهو النفس تمييزا بين الأمور يخرج الصفات التي توجب لمحلها تمييزا على الغير لا تمييزا، وهو ما عدا الإدراكات من الصفات النفسانية كالشجاعة وغير النفسانية كالسواد مثلا فإن هذه الصفات توجب لمحالها تمييزا عن غيرها ضرورة أن الشجاع بشجاعته ممتاز عن الجبان، والأسود بسواده ممتاز عن الأبيض، وأما الإدراكات فإنها توجب لمحالها تميزا عن غيرها على قياس ما مر، وتوجب لها أيضا تمييزا لمدركاتها عما عداها أي تجعلها بحيث تلاحظ مدركاتها وتميزها عما سواها فظهر أن معنى الإيجاب ما يصحح قولنا إذا وجد وجد ولا يحتمل النقيض أي لا يحتمل متعلق التمييز نقيض ذلك التمييز بوجه من الوجوه بمعنى أنه غير قابل لطرو نقيض هذا التمييز عليه على وجه يطابق الواقع يخرج الصفات الإدراكية التي توجب لمحلها تمييزا يحتمل متعلقه نقيضه كالظن والشك والوهم فإن متعلق التمييز الحاصل فيها يحتمل نقيضه بلا خفاء، والجهل المركب لاحتمال أن يطلع صاحبه في المستقبل على ما في الواقع فيزول عنه ما حكم به من الإيجاب والسلب إلى نقيضه، وفي شرح المقاصد، وقد يقال إن الجهل المركب ليس بتمييز ا هـ. والتقليد؛ لأنه يزول بالتشكيك، وفي شرح المقاصد بل ربما يتعلق بالنقيض جزما، ومحصل هذا كما قال المحقق الشريف في شرح المواقف أن العلم صفة قائمة بمحل متعلقه بشيء توجب تلك(21/119)
الصفة إيجابا عاديا كون محلها مميزا للمتعلق تمييزا لا يحتمل ذلك المتعلق نقيض ذلك التمييز فلا بد من اعتبار المحل الذي هو العالم؛ لأن التمييز المتفرع على الصفة إنما هو له لا للصفة ولا شك أن تمييزه إنما هو لشيء تتعلق به تلك الصفة والتمييز وذلك الشيء هو الذي لا يحتمل النقيض ا هـ. لكن على هذا لقائل أن يقول فلا حاجة إلى التجوز بالتمييز عن متعلقه ولا إلى تقدير متعلقه مسندا إليه لا يحتمل على أنه لا فرق في الحاصل بين أن يكون مسندا إلى متعلقه مرادا به ما قدمناه أو إليه نفسه حقيقة بمعنى أنه غير قابل لطرو نقيضه بدله على وجه يطابق الواقع قال الفاضل سيف الدين الأبهري: وهذا كما يقول المتكلمون تارة ماهية الممكن قابلة لوجودها وتارة وجود الممكن قابل لعدمه، ومآل العبارتين واحد.
ثم هذا الحد يتناول التصديق اليقيني والتصور كما أشار إليه بقوله "فيدخل" أي التصور في حد العلم إذ لا نقيض للتصور على ما هو المشهور بناء على أن النقيضين هما المفهومان المتمانعان لذاتيهما، ولا تمانع بين التصورات فمفهوما الإنسان واللا إنسان مثلا لا تمانع بينهما إلا إذا اعتبر ثبوتهما لشيء فحينئذ يحصل هناك قضيتان متنافيتان صدقا، وإذا لم يكن للتصور(21/120)
ص -61-…نقيض صدق أن متعلقه لا يحتمل النقيض بوجه أيضا فإذا تصورنا ماهية الإنسان وحصل في ذهننا صورة مطابقة لها فالتمييز هنا هو تلك الصورة إذ بها تمتاز وتنكشف الماهية ولا تحتمل نقيض ذلك التمييز إذ لا نقيض له. وعلى هذا فالعلم بالإنسان ليس تلك الصورة بل صفة توجبها ولا يقال فعلى هذا جميع التصورات علوم مع أن بعضها غير مطابق؛ لأنا نقول لا يوصف التصور بعدم المطابقة أصلا فإنا إذا رأينا من بعيد شبحا هو حجر مثلا وحصل منه في أذهاننا صورة إنسان فتلك الصورة صورة الإنسان والعلم به تصوري والخطأ إنما هو في حكم العقل بأن هذه الصورة للشبح المرئي فالتصورات كلها مطابقة لما هي تصورات له موجودا كان أو معدوما ممكنا كان أو ممتنعا، وعدم المطابقة في أحكام العقل المقارنة لتلك التصورات فلا إشكال، وإلى معنى هذا أشار بقوله: "وعدم المطابقة" للواقع "في تصور الإنسان" حيوانا "صهالا"؛ لأن الإنسان في الواقع حيوان ناطق لا صهال إنما هو "للحكم" العقلي "المقارن" لتصور الإنسان حيوانا صهالا بأن الصورة المتصورة للإنسان حيوان صهال لا غير "أما الصورة" الحاصلة في الذهن التي العلم بها تصوري "فلا تحتمل غيرها" أي غير نفسها، وفي هذا تعريض برد ما في حاشية المحقق التفتازاني على شرح القاضي عضد الدين مختصر ابن الحاجب تعقبا للقول بأن معنى لا نقيض للتصور أنه لا نقيض لمتعلقه؛ لأن نقيض الشيء رفعه وسلبه ففيه شائبة الحكم والتصديق من أن هذا يبطل كثيرا من قواعد المنطق ويوجب شمول التعريف لجميع التصورات الغير المطابقة كما إذا تعقل الإنسان حيوانا صهالا اللهم إلا أن يقال إنه ليس بتمييز ا هـ.(21/121)
نعم إن قيل المتناقضان هما المفهومان المتنافيان لذاتيهما والتنافي إما في التحقق والانتفاء كما في القضايا، وإما في المفهوم بأنه إذا قيس أحدهما إلى الآخر كان أشد بعدا مما سواه فيوجد في التصورات أيضا كمفهومي الفرس واللا فرس وبهذا المعنى قيل رفع كل شيء نقيضه سواء كان رفعه في نفسه أو رفعه عن شيء ثم أيا ما كان فالمراد بالتصور الداخل في الحد المذكور ما ليس متعلقه محتملا للنقيض فلا يضر ما هو الواجب من خروج الوهم والشك من العلم كما تقدم ثم هذا بناء على أن إدراك الحواس الظاهرة من قبيل العلم كما ذهب إليه الشيخ أبو الحسن الأشعري، وأما من لم ير ذلك، وهم جمهور المتكلمين فيقيد التمييز بقوله بين المعاني أي ما ليس من الأعيان المحسوسة بالحواس الظاهرة، وهي الأمور العقلية كلية كانت أو جزئية بناء على أن المراد بالمعاني ما يقابل العينية الخارجية فيخرج عن حد العلم إدراك الحواس الظاهرة فإنها تفيد تمييزا في الأمور العينية، ومنهم من قيد المعاني بالكلية ميلا إلى تخصيص العلم بالكليات والمعرفة بالجزئيات. هذا وقد تعقب المحقق الشيخ ولي الدين الملوي هذا التعريف بأنه تفسير القوة العلمية، وإلا فهم متفقون على أن العلم إما تصور، وإما تصديق ضروري ومطلوب، وليس ذلك نفس الصفة بل أثرها فعرضته على شيخنا المصنف رحمه الله فدافعه بعض المدافعة ثم استحسنه، وألحقه بالكتاب قائلا. "والوجه" في حد العلم على وجه يشمل التصور أن يقال "إنه تمييز" لا يحتمل النقيض "وإلا(21/122)
ص -62-…فإنما يصدق على القوة العاقلة" المفيدة للتصور والتصديق لا عليهما لما ذكرنا لكني أقول هذا إذا لم يكن من يقول: إن العلم عبارة عن صفة حقيقية ذات تعلق بالمعلوم أما إذا كان ثمة من يقول بهذا حتى إن العلم عنده من مقولة الكيف بالذات، ومن مقولة المضاف بالعرض كما ذهب إليه ابن سينا وغيره فالقوة التي من شأنها ذلك هي نفس العلم عنده فلا يتم نفي كون هذا تفسيرا للعلم عنده فلا جرم أن صرح القاضي عضد الدين في المواقف بأن هذا التعريف عند من يقول بهذا القول. ثم قال: ومن قال إنه نفس التعلق يعني المخصوص بين العالم والمعلوم حده بأنه تميز معنى عند النفس تميزا لا يحتمل النقيض ا هـ. حتى يكون من قبيل الإضافات، ومبدؤه من الكيفيات كما ذهب إليه صاحب الصحائف أو من قبيل الانفعال نعم يكون تقسيم العلم على القول الأول إلى التصور والتصديق مجازا باعتبار متعلقه بخلافه على القول الثاني ثم ظاهر قول شيخنا أنه تمييز يخالف كلا من هذين القولين؛ لأن الظاهر أن التمييز فعل فليتأمل.(21/123)
ثم لما وقع التعرض لشمول هذا التعريف للتصور في الجملة، ومنه الحد، وقد ذكروا أن التصور من حيث هو لا يكتسب ببرهان ولا يطلب عليه دليل ولا يقبل المنع ولا يعارض سواء كان حدا حقيقيا أو اسميا أو غيرهما وصرحوا أيضا بأن الحد باعتبار عارض له قد يطلب عليه الدليل ويعارض ويمنع أشار إلى ما يفيد المناط في هذه الأحكام ثبوتا وانتفاء فقال "ولا دليل" يطلب ويقام "إلا على نسبة" أي حكم نسبة بين شيئين ثبوتا أو نفيا لما سيعرف من معرفة الدليل. "وكذا المعارضة" لا تكون بين أمرين بحيث يكون أحدهما معارضا للآخر إلا إذا كانا حكمين وتحقق فيهما باقي الشروط المعتبرة في وجود التدافع بينهما "وذلك" أي قيام الدليل والمعارضة إنما يقع في صور المتصورات "عند ادعائها" أي صور المتصورات الحاصلة في الذهن من الأمور التي الصور المذكورة عبارة عن تصورها "صورة كذا كصور الحدود" بالنسبة إلى المحدودات أي كادعاء أن الصورة الحاصلة من الأمر الفلاني المسمى بالحد هي الأمر الفلاني المسمى بالحدود. "وحينئذ" أي وحين يقصد الحكم بالحد على المحدود كما ذكرنا "تقبل" صور الحدود "المنع" لوجود ما يصلح أن يكون معروضا لذلك حينئذ، وهو الحكم وكشف القناع عن ذلك أن التعريف الذي يقصد به تحصيل ما ليس بحاصل من التصورات قسمان.
أحدهما:ما يقصد به تصور مفهومات غير معلومة الوجود في الخارج، ويسمى تعريفا بحسب الاسم فإذا علم مثلا مفهوم الجنس إجمالا، وأريد تصوره بوجه أكمل فإن فصل نفس مفهومه بأجزاء كان ذلك حدا له اسميا، وإن ذكر في تعريفه عوارضه كان له رسما اسميا.
ثانيهما:ما يقصد به تصور حقائق موجودة ويسمى تعريفا بحسب الحقيقة إما حدا أو رسما وكلا هذين القسمين لا يتجه عليه منع؛ لأن التحديد تصوير ونقش لصورة المحدود في الذهن ولا حكم فيه أصلا. والحاد إنما ذكر المحدود ليتوجه الذهن إلى ما هو معلوم بوجه(21/124)
ص -63-…ما ثم يرسم فيه صورة أتم من الأولى لا ليحكم بالحد عليه إذ ليس هو بصدد التصديق بثبوته له. مثلا إذا قال الإنسان حيوان ناطق لم يقصد به أن يحكم على الإنسان بكونه حيوانا ناطقا، وإلا لكان مصدقا لا مصورا بل إنما أراد بذكر الإنسان أن يتوجه ذهنك إلى ما عرفته بوجه ما ثم شرع في تصويره بوجه أكمل فما مثله إلا كمثل النقاش إلا أن الحاد ينقش في الذهن صورة معقولة، وهذا ينقش في اللوح صورة محسوسة فكما أنه إذا أخذ يرسم فيه نقشا لم يتوجه عليه منع فلا يقال مثلا لا نسلم كتابتك كذا لا يصح أن يقال لا نسلم أن الإنسان حيوان ناطق؛ لأنه جار مجراه فاتضح أن الحد مع المحدود ليس قضية في الحقيقة، وإن كان على صورتها. وأما ما اشتهر في ألسنة العلماء أن لا نسلم أنه حد لما حددتموه به فهذا منع عليه فأجيب بأن الحد له مفهوم، وما صدق عليه والمنع بتوجه على الثاني لا الأول ففي المثال المذكور لا يمنع كونه ناطقا بل يمنع كونه جدا للإنسان أو أن الحيوان جنس له أو الناطق فصل له إلى غير ذلك فإن هذه الدعاوى صادرة عنه ضمنا، وقابلة للمنع باعتبار ما لزم عنها من الحكم وبهذا الاعتبار يتجه أيضا على الحد النقض والمعارضة فإذا قيل مثلا العلم ما يصح من الموصوف به إحكام الفعل يقال هذا منقوض بالواجبات والمستحيلات فإن سلم الحاد وجود العلم المتعلق بهما فقد اعترف ببطلان حده، وفساد نقشه وإلا فلا، ويقال أيضا هذا معارض بأنه الاعتقاد المقتضي لسكون النفس فإن سلم الحد الثاني بطل حده، وإلا فلا إذ لا تعاند بين مفهومي هذين الحدين بل كل منهما مفهوم على حدة، والله تعالى أعلم.(21/125)
ثم أفاد ما يكون للحاد إذا منع حده على الوجه الذي يتوجه له دفعه فقال "ويدفع" المنع "في الاسمي بالنقل" عن أهل اللغة إن كان لغويا، وعن أهل الشرع إن كان شرعيا، وعلى هذا القياس فإذا أتى الحاد به فقد تم مطلوبه "وفي" منع الحد "الحقيقي العجز لازم" للحاد لكن "لا لما قيل لا يكتسب الحد" الحقيقي "ببرهان" أي بالحد الأوسط مع ما تقيد به ويقال في توجيهه "للاستغناء عنه" أي لاستغناء الحد عن البرهان "إذ ثبوت أجزاء الشيء له" أي للشيء "لا يتوقف" ثبوتها "إلا على تصوره" أي ذلك الشيء لا غير؛ لأن الذاتي للشيء لا يعلل ثبوته للذات بشيء فيكفي في ثبوت أجزاء الشيء له تصوره وحقيقة الحد هي حقيقة المحدود، وأجزاؤه على التفصيل فيكفي في ثبوت الحد للمحدود تصور المحدود، وإنما منع المصنف التعليل بهذا "لأن الفرض جهالة كونها" أي أجزاء الشيء التي هي الحد "أجزاء الصورة الإجمالية" التي هي المحدود، وإلا لو كان معلوما كونها إياها من غير توقف على نظر وكسب لكانت الصورة الإجمالية من قبيل البديهات المستغنية عن الحدود لا النظريات فكيف يكفي في معرفة الحد معرفة المحدود فإن قيل نسبة ما يقال أنه أجزاء الصورة الإجمالية إليها بالجزئية لها يوجب أن يكون تصور الصورة الإجمالية كافيا في ثبوت تلك الأجزاء لها فالجواب المنع.
"ونسبتها" أي ونسبة ما يقال أنه أجزاء الصورة الإجمالية "إليها" أي الصورة الإجمالية(21/126)
ص -64-…"بالجزئية" أي بأنها أجزاؤها "مجرد دعوى" يتسلط عليها المنع ويحتاج إلى دليل يثبتها، وإذا كان كذلك "فلا يوجبه" أي ثبوت أجزاء الحد للمحدود "إلا دليل" يوجبه، والمفروض خلافه "أو للدور" عطف على قوله للاستغناء أي ولا لما قيل لا يكتسب الحد ببرهان دفعا للدور اللازم على تقدير كونه مكتسبا به؛ لأن الاستدلال على ثبوت شيء لشيء يتوقف على تعقلهما فالدليل على ثبوت الحد للمحدود يتوقف على تعقلهما ثم تعقل المحدود مستفاد من ثبوت الحد له فلو توقف ثبوت الحد له على الدليل يلزم الدور. وإنما منع المصنف التعليل بهذا أيضا "لأن توقف الدليل" على تعقل المحكوم عليه، وهو المحدود هنا إنما هو "على تعقل المحكوم عليه بوجه" ما؛ لأنه يكفي في الاستدلال تصور المحكوم عليه بوجه ما "وهو" أي تعقل المحكوم عليه إنما يتوقف "عليه" أي الدليل "بواسطة توقفه" أي توقف المحكوم عليه "على الحد بحقيقته" المتوقف عليه الدليل فلا دور؛ لأنه ظهر أن الدليل إنما توقف على تصور المحدود بوجه والمحدود إنما توقف على الدليل من حيث تصوره بحقيقته بواسطة استدعاء الدليل على ثبوت الحد للمحدود تصورا بالحد بحقيقته المستلزم لتصور المحدود بحقيقته. فيتلخص أن الدليل توقف على تصور المحدود بوجه وتصور المحدود بحقيقته توقف على الدليل لكن يطرق هذا أن الدليل يجب فيه تعقل المستدل عليه من جهة ما يستدل عليه فلو أقيم البرهان على ثبوت الحد للمحدود فلا بد من تعقل الحد من حيث إنه حد، وفيه تعقل المحدود بحقيقته فيكون تعقل حقيقة المحدود بالحد حاصلا قبل الدليل على ثبوته له فلو استدل عليه ليجعل ذريعة إلى تصوره بالحد لزم الدور "أو؛ لأنه إنما يوجب أمرا في المحكوم عليه" عطف على قوله أو للدور أي ولا لما قيل لا يكتسب الحد ببرهان؛ لأن البرهان يستلزم حصول أمر، وهو المحكوم به للمحكوم عليه؛ لأن حقيقته وسط يستلزم ذلك "وبتقديره يستلزم عينه" أي ولو قدر في الحد وسط يستلزم حصوله(21/127)
للمحدود لكان الوسط مستلزما لحصول عين المحكوم عليه لنفسه؛ لأن الحد الحقيقي التام ليس أمرا غير حقيقة المحدود تفصيلا، وفيه تحصيل الحاصل؛ لأن ثبوت الشيء لنفسه بين فإذا تصور النسبة بينهما حصل الجزم بلا توقف على شيء أصلا ولا يمكن إقامة البرهان إلا بعد تصورها المستلزم للحكم فهو حاصل قبل البرهان فيلزم المحذور، وإنما منع المصنف التعليل بهذا أيضا "لأنه" أي التعليل به "غير ضائر" لدعوى إثبات الحد للمحدود بالبرهان ولم يبين وجهه؛ لأن هذا المحذور إنما لزم من دعوى أن الحد عين المحدود، وهي مما تمنع فإن الحد يغاير المحدود في الجملة ولو بالإجمال والتفصيل فلا يلزم من إثبات الحد للمحدود بالبرهان تحصيل الحاصل من كل وجه ولا يحصل الاستغناء عن البرهان مطلقا.
"فإن قال" المعلل بهذا: وكيف يتجه دعوى اكتساب الحد للمحدود بالبرهان "وتعقلها" أي عين المحكوم عليه الذي هو المحدود "يحصل بالحد" أي بتعقله ضرورة أنه أجزاء المحدود وحيث توقف ثبوته للمحدود على تصوره لما قدمناه فإذا تعقل من حيث هو حد فقد حصل المحدود قبل إقامة البرهان على ثبوته له فلا حاجة إلى إقامة البرهان عليه "فكالأول" أي(21/128)
ص -65-…فالجواب عن هذا التوجيه لنفي اكتساب الحد للمحدود بالبرهان كالجواب عن التوجيه لنفيه باستغناء ثبوت الحد له عن البرهان، وهو أن هذا إنما يتم إذا كانت أجزاء الحد معلومة الانتساب بالجزئية إلى المحدود بحيث يعلم قطعا من العلم بالمحدود من غير نظر ولا كسب لكن المفروض جهالة انتسابها إليه، وإلا لكان المحدود بديهي التصور لا يحتاج إلى كسب ونظر، والواقع خلافه، وقد ظهر أن التعليل الأول وجوابه مغنيان عن هذا الإيراد والإشارة إلى جوابه.(21/129)
ثم ذكر ما هو التعليل المتجه عنده لهذه الدعوى مضربا عن هذه التعاليل كلها فقال: "بل لعدمه" أي بل العجز لازم للحاد في منع الحد الحقيقي لعدم وجود برهان عليه؛ لأنه من قبيل التصورات المحضة، وهي لا تستفاد من البرهان فالاقتصار في تعليله على ذكر عدم وجود البرهان له أولى لحصول المقصود مع قصر المسافة والسلامة من هذه المناقشات. "فإن قيل المتعجب يفيده" أي إثبات الحد للمحدود بالبرهان؛ لأنه يصلح أن يكون دليلا على إثبات الحيوانية الناطقة حدا للإنسان "كناطق" أي مثل أن يقال الإنسان حيوان ناطق "لأنه" أي الإنسان "متعجب وكل متعجب" حيوان ناطق فالإنسان حيوان ناطق "قلنا" هذا الدليل "يفيد مجرد ثبوته" أي الحد الذي هو حيوان ناطق للمحدود الذي هو الإنسان للمساواة الكائنة بين الإنسان والمتعجب "والمطلوب" للقائل بأن الحد يكتسب بالبرهان "أخص منه" أي من مجرد ثبوت الحد للمحدود بالبرهان، وهو "كونه على وجه الجزئية" أي كون كل من أجزاء الحد ثابتا للمحدود على أنه جزء معلوم منه بالبرهان، وهذا الدليل لا يثبته كذلك "فالحق حكم الإشراقيين"، وهم قوم من الفلاسفة يؤثرون طريقة أفلاطون، وما له من الكشف والعيان على طريقة أرسطو، وما له من البحث والبرهان. "لا يكسب الحقيقة إلا الكشف" ولعل المراد به علم ضروري تدرك به حقائق الأشياء كإدراك الحقائق المحسوسة بالحس السليم غير مقدور للمخلوق تحصيله "وهو معنى الضرورة" أي ما ثبت بها، وهو الضروري، ومن ثمة فسر بما لا يكون مقدورا للمخلوق تحصيله، وإلا فالضرورة هنا مفسرة بعدم القدرة على الفعل والترك، وهو لا يصدق ظاهرا على الكشف لا أن الاطلاع على الحقائق العينية مما يتوصل إليه بالحدود كما ذهب إليه المشاءون من الفلاسفة المؤثرون طريقة أرسطو؛ لأنهم سلموا أن الشيء يذكر في تعريفه الذاتي الخاص والعام وسلموا أن المجهول لا يتوصل إليه إلا من المعلوم، والذاتي الخاص ليس بمعهود لمن يعرف به في مكان آخر،(21/130)
وإلا لم يكن خاصا، وقد فرض خاصا هذا خلف ثم حيث يكون الحق في باب إحاطة العلم بالمتصورات بالحقائق العينية ما سلكه الإشراقيون فمن هو بصدد المعارضة لغيره في هذا الباب إما موافق له على أنه يدرك حقيقة ما يعبر عنه بالعبارة الموافقة لما في نفس الأمر على الوجه الذي أدركه وحينئذ فباب المنع مسدود للتسجيل على المانع حينئذ بالمكابرة والسفسطة في ضروري، وإما عار عن ذلك، وحينئذ فكل منهما معذور ولا حجة لأحدهما على الآخر ثم لعل ما ذهب إليه الإمام فخر الدين الرازي من امتناع الكسب في التصورات، وإنما هي بأسرها من قبيل الضروريات اختيار لطريقة الإشراقيين، وبسط الكلام في ذلك في غير هذا الكتاب به أليق.(21/131)
ص -66-…"وكذا منع التمام" أي وكذا العجز لازم للحاد إذا منع مانع كون الحد الذي ذكره لأمر حقيقي حدا تاما له بأن منع كون المذكور فيه جميع ذاتيات المحدود فإن الحاد لا يستطيع حينئذ دفعه بالبرهان "فلو قال" الحاد في دفع هذا المنع هذا المنع ممنوع؛ لأنه "لو كان" هذا الحد غير تام لإخلاله ببعض ذاتيات المحدود "لم نعقلها" أي حقيقة المحدود بالكنه ضرورة توقف تعقلها بالكنه على تعقل جميع ذاتياتها لكنا عقلناها بالكنه فالمذكور في حدها جميع ذاتياتها "منع نفي التالي" أي كان للمانع أن يمنع نفي التالي بأن يقول لا نسلم أنك عقلتها بالكنه فتقرر العجز "فالاعتراض" على الحد من حيث هو حد "ببطلان الطرد" أي طرده بأن وجد ولم يوجد المحدود كما لو قيل مثلا حدا لكلمة بدال على معنى مفرد غير مطرد لصدقه على الخط، وعدم صدق الكلمة عليه. "والعكس" أي وببطلان عكسه بأن وجد فرد من أفراد المحدود ولم يصدق الحد عليه كما لو قيل مثلا حد الإنسان بحيوان ضاحك بالفعل غير منعكس لعدم صدقه على إنسان لم يضحك قط "بناء على الاعتبار في المفهوم، وعدمه" فيتوجه الأول بناء على اعتبار المعترض هناك شيئا آخر لم يذكره الحاد في الحد، وقد وضع الاسم لذلك المذكور والمتروك فهو داخل في المسمى فحيث لم يذكره لزم عدم الاطراد ويتوجه الثاني بناء على أن هناك شيئا آخر ذكره الحاد في الحد، وهو خارج عن المحدود لعدم دخوله فيما وضع الاسم له فلزم من ذكره فيه عدم الانعكاس وحينئذ يطالب الحاد للمعترض بذلك الحد على رأيه ليقابل أحد الحدين بالآخر ويعرف الأمر الذي فيه يتفاوتان من زيادة أو نقصان ويجرد النظر إليه فيبطله بطريقه أو يثبته بطريقه، وإذا كان الأمر على هذا "فإنما يورد" الاعتراض بكل منهما "عليه" أي الحد "من حيث هو اسمي"؛ لأنه الذي يتأتى فيه الاعتبار المذكور، وعدمه حتى يصح أن يقال للحاد قد أخرجت عن مسمى اللفظ كذا، وهو داخل فيه أو أدخلته فيه، وهو خارج عنه لا من(21/132)
حيث هو حد حقيقي؛ لأنه لا يكون حدا حقيقيا حتى يكون مشتملا على جميع ذاتيات المحدود فلا يتأتى فيه ذلك بالاتفاق.
ثم لما كان النظر مأخوذا في تعريف الدليل قدم تفسيره عليه لئلا يحتاج إلى رجوع النظر إليه فقال "والنظر حركة النفس من المطالب أي في الكيف طالبة للمبادئ باستعراض الصور أي تكيفها بصورة صورة لتجد المناسب، وهو الوسط فترتبه مع المطلوب على وجه مستلزم".
اعلم أن النظر يستعمل لغة واصطلاحا بمعان والذي يهمنا شرحه هنا المعنى الاصطلاحي الذي ذكره المصنف، وهو بهذا المعنى هو المعتبر في العلوم النظرية ويرادف الفكر في المشهور، وهو بناء على أن النظر نفس الانتقال المذكور، وهو كذلك فإن الاتفاق على أن الفكر فعل إرادي صادر عن النفس لاستحصال المجهولات بالمعلومات ثم كما أن الإدراك بالبصر يتوقف على أمور ثلاثة مواجهة المبصر وتقليب الحدقة نحوه طلبا لرؤيته، وإزالة الغشاوة المانعة من الإبصار، كذلك الإدراك بالبصيرة يتوقف على أمور ثلاثة التوجه(21/133)
ص -67-…نحو المطلوب وتحديق العقل نحوه طلبا لإدراكه وتجريد العقل عن الغفلات التي هي بمنزلة الغشاوة. ثم حيث كان الظاهر أن النظر اكتساب المجهولات من المعلومات كما هو مذهب أصحاب التعاليم ولا شبهة في أن كل مجهول لا يمكن اكتسابه من أي معلوم اتفق بل لا بد له من معلومات مناسبة له ولا في أنه لا يمكن تحصيله من تلك المعلومات على أي وجه كانت بل لا بد هناك من ترتيب معين فيما بينها، ومن هيئة مخصوصة عارضة لها بسبب ذلك الترتيب فنقول إذا أردنا تحصيل مجهول تصديقي مشعور به من وجه على وجه أكمل انتقلت النفس منه وتحركت في المعقولات حركة من باب الكيف كما أشار إليه المصنف في الكيفية النفسانية التي هي الصور المعقولة على قياس الحركة في الكيفيات المحسوسة طالبة المبادئ لهذا المطلوب أعني تكيفت النفس بواحد من المعاني المخزونة عندها بعد واحد بواسطة استعراضها، وملاحظتها لتلك المعاني أي اتصفت بالحالات العارضة لها عند ملاحظتها للمعاني المخزونة عندها فإنها إذا لاحظت معنى تحصل لها حالة لم تكن لها مغايرة لما يعرض لها عند ملاحظة معنى آخر ولا تزال كذلك طالبة لمبادئ هذا المطلوب إلى أن تظفر بمباديه أعني الأمر المناسب له المفضي إلى العلم أو الظن به، وهذا الأمر المناسب هو الحد الوسط بين طرفي المطلوب فتتحرك فيه مرتبة له مع طرفي المطلوب على وجه مستلزم له استلزاما قطعيا أو ظنيا كما سيأتي بيانه مفصلا وتنتقل منه إلى المطلوب مثلا إذا كان مطلوب النفس كون العالم حادثا انتقلت منه وترددت في المعاني الحاضرة عندها فوجدت المتغير مناسبا لكونه محمولا على العالم، وموضوعا للحادث فرتبته فحصل العالم متغير وكل متغير حادث ثم رجعت إلى أن العالم حادث فظهر أن هنا حركتين مختلفتين، وأن ما منه الحركة الأولى هو المطلوب المشعور به من وجه، وما هي فيه هي الصور العقلية المخزونة عند العقل، وما هي إليه هو الحد الأوسط، وما منه الحركة الثانية هو الوسط(21/134)
أيضا، وما هي فيه هي الحدود، وما هي إليه هو التصديق بالمطلوب، وأن الحركة الأولى تحصل ما هو بمنزلة المادة أعني مبادئ المطلوب التي يوجد معها الفكرة بالقوة والثانية تحصل ما هو بمنزلة الصورة أعني الترتيب الذي يوجد معه الفكر بالفعل وحينئذ يتم الفكر بجزأيه معا، وإلا فالفكر عرض لا مادة له ثم هذا على ما عليه المحققون من أن الفعل المتوسط بين المعلومات والمجهولات في الاستحصال هو مجموع الانتقالين إذ به يتوصل من المعلوم إلى المجهول توصلا اختياريا، وأما الترتيب المذكور فهو لازم له بواسطة الجزء الثاني، وأما المتأخرون فعلى إن الفكر هو ذلك الترتيب الحاصل من الانتقال الثاني؛ لأن حصول المجهول من مباديه يدور عليه وجودا وعدما. وأما الانتقالان فخارجان عن الفكر إلا أن الثاني لازم له لا يوجد بدونه قطعا، والأول لا بل هو أكثري الوقوع معه، وهل هذا النزاع بحسب المعنى أو إنما هو في إطلاق لفظ الفكر لا غير؟. جزم المحقق الشريف بالثاني وظهر أيضا خروج الحدس، وما يتوارد على النفس من المعاني بلا قصد عن حد النظر .
ثم بقي أن هذا التعريف هل هو خاص بالصحيح، وهو المشتمل على شرائطه مادة(21/135)
ص -68-…وصورة أو شامل له وللفاسد، وهو ما ليس كذلك فذكر شيخنا المصنف رحمه الله أنه شامل لهما، وأن الترتيب على وجه مستلزم لا يستلزم صحة النظر؛ لأنه سيظهر أن فساد النظر قد يكون من جهة المادة فلو رتب مادة فاسدة ترتيبا مستلزما كأن اعتقد أن العالم مستغن عن المؤثر، وكل مستغن عنه قديم حتى أنتج أن العالم قديم كان هذا نظرا فاسدا، وعلى هذا فالمراد بوجود الأمر المناسب بحسب الاعتقاد سواء كان مطابقا للواقع أو لا كما أن الأمر كذلك في المطلوب نعم هو خاص بالمطالب التصديقية يقينية كانت أو ظنية كما يفيده قوله لتجد المناسب إلخ لا ما يعمها ويعم التصورات، والله سبحانه أعلم.
"والدليل" لغة فعيل بمعنى فاعل من الدلالة ثم ظاهر الصحاح وغيره أنه والهدى والرشاد مترادفات قال الأبهري: لكن مقتضى قول صاحب الكشاف فيه أن الهدى أخص من الدلالة، وقول صاحب المصادر أن الإرشاد أخص منها قالوا وللدليل لغة ثلاثة معان "الموصل بنفسه" إلى المقصود، وعبر عنه الآمدي بالناصب للدليل "والذاكر لما فيه إرشاد" إلى المطلوب كالذي يعرف الطريق بذكر ما يفيد ذلك "وما فيه إرشاد" كالعلامة المنصوبة من الأحجار أو غيرها لتعريف الطريق فيقال على الأول الدليل على الله هو الله كما أجمع عليه العارفون، وعلى الثاني هو العالم بكسر اللام الذاكر لما يدل عليه تعالى. ولا يخفى أن هذا مما يصح أيضا في حق الله تعالى؛ لأنه ذكر لعباده ما يدل عليه فيصح أن يقال على هذا المعنى أيضا: إن الدليل على الله هو الله لكن لا على قصد الحصر بخلافه على الأول فتأمل. وعلى الثالث العالم بفتح اللام؛ لأن فيه إرشادا إليه ودلالة عليه قالوا: وإطلاق الدليل على الدال والذاكر للدليل حقيقة، وعلى ما فيه إرشاد مجاز إذ الفعل قد ينسب إلى الآلة كما يقال السكين قاطع.(21/136)
"وفي الاصطلاح" الخاص لأهل الفقه وأصوله لا الفقهاء لا غير كما هو ظاهر البديع "ما يمكن التوصل بذلك النظر فيه إلى مطلوب خبري" فما أي شيء جنس شامل للدليل وغيره، وما عداه فصل أخرج ما سواه ثم قوله يمكن التوصل دون ما يتوصل تنبيه على أن الدليل من حيث هو دليل لا يعتبر فيه التوصل بالفعل بل يكفي إمكانه فلا يخرج عن كونه دليلا بعدم النظر فيه أصلا بعد أن كانت فيه هذه الصلاحية وذلك؛ لأن الدليل معروض الدلالة، وهي كون الشيء بحيث يفيد العلم أو الظن إذا نظر فيه، وهذا حاصل، نظر فيه أو لم ينظر. وقوله بذلك النظر يعني ما تقدم بيانه، وقد عرفت أنه يشمل الصحيح والفاسد فهذا التعريف للدليل يشمل الدليل الصحيح والفاسد أيضا لكن كما قال شيخنا المصنف رحمه الله هذا على المنطقيين أما على الأصوليين فيجب أن لا يكون الدليل فاسدا إلا بنوع من التجوز؛ لأنه عندهم هو المحكوم عليه في المطلوب الخبري فلا يتصور فيه فساد ا هـ. نعم المذكور في غير ما كتاب من الكتب المعتبرة تقييد النظر بالصحيح قالوا، وإنما قيد به؛ لأن الفاسد لا يمكن التوصل به إلى المطلوب؛ لأنه ليس هو في نفسه سببا للوصول ولا آلة له، وإن كان يفضي إليه في الجملة فذلك إفضاء اتفاقي، وأورد الإفضاء إلى المطلوب يستلزم إمكان التوصل إليه(21/137)
ص -69-…لا محالة وأجيب بالمنع فإن معنى التوصل يقتضي وجه الدلالة بخلاف الإفضاء يعني التوصل إلى العلم أو الظن بالمطلوب لا يتحقق إلا بالنظر فيما هو معروض الدلالة من الجهة التي من شأنها أن ينتقل الذهن بها إلى المطلوب المسماة وجه الدلالة، وهذه الجهة منتفية في النظر الفاسد، وإنما غايته أنه قد يؤدي إلى المطلوب بواسطة اعتقاد أو ظن كما إذا نظر في العالم من حيث البساطة أو في النار من حيث التسخين فإن البساطة والتسخين ليس من شأنهما أن ينتقل بهما إلى وجود الصانع والدخان ولكن يؤدي إلى وجودهما ممن اعتقد أن العالم بسيط وكل بسيط له صانع، وممن ظن أن كل مسخن له دخان، والأشبه أن الفاسد قد يمكن به التوصل إلى المطلوب؛ لأنه كما قال المحقق الشريف: والحكم بكون الإفضاء في الفاسد اتفاقيا إنما يصح إذا لم يكن بين الكواذب ارتباط عقلي يصير به بعضها وسيلة إلى البعض أو يخص بفساد الصورة أو بوضع ما ليس بدليل مكانه وأريد بالنظر فيه ما يتناول النظر فيه نفسه، وفي صفاته، وأحواله فيشمل المقدمات التي هي بحيث إذا رتبت أدت إلى المطلوب الخبري والمفرد الذي من شأنه أنه إذا نظر في أحواله أوصل إليه كالعالم وحيث أريد بالإمكان المعنى العام المجامع للفعل والوجوب اندرج في الحد المقدمات المترتبة وحدها. وأما إذا أخذت مع الترتيب فيستحيل النظر فيها إذ لا معنى للنظر وحركة النفس في الأمور الحاضرة المرتبة، وقوله إلى مطلوب خبري، وهو التصديق المحتمل للصدق والكذب احتراز مما يمكن التوصل به إلى مطلوب تصوري، وهو القول الشارح حدا ورسما تامين وناقصين فإنه ليس بدليل اصطلاحا ثم حيث أطلق التوصل إلى المطلوب الخبري شمل ما كان بطريق العلم، وما كان بطريق الظن وانطبق التعريف على القطعي والظني كالعالم الموصل بصحيح النظر في أحواله إلى العلم بوجود الصانع والغيم الرطب الموصل بصحيح النظر في حاله إلى ظن وقوع المطر، وقد يخص الدليل بالقطعي فيقال إلى العلم(21/138)
بمطلوب خبري ويسمى الظن حينئذ أمارة هذا، وقد تعقب شارح العقائد هذا التعريف بأنه ليس بجيد لصدقه على نفس المدلول؛ ولأن استعمال "يمكن" مفسد إذ المراد بالإمكان إما عام فيكون مفهوم التعريف حينئذ الدليل هو الذي بصحيح النظر فيه سلب التوصل إلى العلم بمطلوب ليس بضروري أو خاص فيكون مفهومه سلب التوصل عنه وإثباته له ليسا بضروريين فعلى هذا يلزم أن يكون كل شيء دليلا على أي شيء شئت لصدق هذا الحد عليه، وهذا ظاهر البطلان لكن خفي على كثير من المنسوبين إلى التحقيق ثم قال ونحن نقول بعون الله وإلهامه: لا يبعد أن يكون الحق في حد الدليل هنا هو الذي يلزم من النظر الصحيح فيه التصديق ا هـ.
والعبد الضعيف - غفر الله تعالى له - يقول التعقب للتعريف المذكور بصدقه على المدلول وارد على هذا التعريف أيضا؛ لأنه قد يصدق على المدلول أنه يلزم من النظر الصحيح فيه التصديق فما هو جوابه عن هذا فهو جوابهم ثم الحق أنه ليس بمتجه عليهم ولا عليه؛ لأن الدليل والمدلول من الأمور الإضافية والتعريف لها إنما هو من حيث هي كذلك، وإذن لا نسلم صدق التعريف للدليل من حيث هو دليل على المدلول من حيث إنه مدلول نعم الوجه ذكر(21/139)
ص -70-…اللزوم لا الإمكان سواء كان المراد به الإمكان الخاص أو العام، وإن أمكن التمحل لتوجيه كل منهما في الجملة؛ لأن فيه بعد اللتيا والتي عدولا عما هو كالفصل القريب إلى ما هو بمنزلة العرض العام، وأما أنه يلزم من الإمكان بالمعنى الخاص أن يكون كل شيء دليلا على ما أراد الناظر فغير لازم قطعا بل هو إسراف ظاهر وغلو مردود فتأمله، والله سبحانه أعلم.
"فهو" أي الدليل اصطلاحا شرعيا "مفرد" بالمعنى الذي يقابل الجملة "قد يكون المحكوم عليه في المطلوب كالعالم" في المطلوب الخبري الذي هو قولنا العالم حادث حتى أنه يتوصل بالنظر في أحواله إلى هذا المطلوب الخبري بقولنا العالم متغير، وكل متغير حادث "أو الوسط ولو معنى في السمعيات" أي، وقد يكون الحد الأوسط في إثبات المطالب الخبرية السمعية بطريق القياس ولو كان كونه الحد الأوسط فيه دليلا إنما هو من جهة المعنى فقط. "ومنه" أي الدليل المفرد "نحو أقيموا الصلاة" فإنه يتوصل بالنظر فيه إلى مطلوب خبري هو وجوب الصلاة بأن يقال أقيموا الصلاة أمر بإقامتها والأمر بإقامتها يفيد وجوبها فأقيموا الصلاة يفيد وجوبها، وهذا وأمثاله من آتوا الزكاة ولا تقربوا الزنا كما يشير إليه لفظ نحو مما اجتمع فيه كون الدليل باعتبار اللفظ مفردا محكوما عليه في المطلوب وباعتبار المعنى مفردا حدا وسطا بين طرفي المطلوب أما الأول فلأن المحكوم عليه لا يكون إلا مفردا لفظا ومعنى أو لفظا وأقيموا الصلاة ليس بمفرد معنى فهو مفرد لفظا، وإن كان جملة في الصورة؛ لأن الجملة إذا أريد بها اللفظ كانت مفردا كما تقرر في العربية. وأما الثاني فلأن الأمر بإقامتها عبارة عن معنى أقيموا الصلاة وغير خاف أن لفظ الأمر بإقامتها ليس بجملة، وهذا أحسن من قول الأبهري الدليل في عرف أهل الشرع ما يجعل محكوما عليه في صغرى الشكل الأول، وهو الأصغر "ذكر كل" من هذين أنه دليل في الاصطلاح، وقدمنا أيضا عن المحقق الشريف أن الدليل(21/140)
اصطلاحا يشمل المفرد الذي من شأنه أنه إذا نظر في أحواله أوصل إلى المطلوب الخبري والمقدمات التي بحيث إذا رتبت أدت إلى المطلوب الخبري والمقدمات المرتبة وحدها "إلا أن من أفرد" أي من قال بأن الدليل مفرد "وأدخل الاستدلال في مسمى الدليل" كالآمدي وابن الحاجب فإنهما ذكرا من أقسام الدليل السمعي الاستدلال زيادة على الكتاب والسنة والإجماع والقياس فهو "ذاهل"؛ لأن التركيب لازم في التلازم، وهو من أقسام الاستدلال فإن حاصله على ما ستعلم تركيب اقتراني أو استثنائي، وأيا ما كان فهو مركب فبعض الدليل حينئذ مركب، وقد كان كله مفردا.
"وعند المنطقيين" الدليل "مجموع المادة والنظر فهو الأقوال المستلزمة" قولا آخر وحذفه للاعتماد على شهرته والمراد بالأقوال ما فوق قول واحد وبالقول المركب التام المحتمل للصدق والكذب المعقول إن كان الدليل معقولا والملفوظ إن كان الدليل ملفوظا؛ لأن الدليل عندهم كالقول، والقضية تطلق على المعقول والمسموع اشتراكا أو حقيقة ومجازا، وبالاستلزام أعم من أن يكون بينا أو غير بين ذاتيا أو غيره وبالقول الآخر المعقول؛ لأن المسموع أعني التلفظ بالنتيجة غير لازم لا للمعقول ولا للمسموع، وفيه إشارة إلى أنه يغاير كلا من المقدمتين، وإلا لزم أن تكون كل قضيتين ولو متباينتين دليلا(21/141)
ص -71-…لاستلزام مجموعهما كلا منهما وليس كذلك فتخرج القضية الواحدة المستلزمة لذاتها عكسها المستوي، وعكس نقيضها والقولان فصاعدا من المركبات التقييدية أو منها ومن التامة، وقولان من التامة إذا لم يشتركا في حد أوسط ويدخل القياس الكامل وغيره والبسيط والمركب والقطعي والظني الذي هو الإمارة "ولا تخرج الأمارة ولو يزاد لنفسها" بعد المستلزمة قال المصنف يعني أن الأمارة وإن لم تستلزم ثبوت المدلول لا تخرج بقيد الاستلزام إذ لا شك أنه يلزم على الوجه الذي عليه المقدمتان. فوجود القاضي في المنزل مثلا، وإن لم يلزم من قيام بغلته مشدودة على بابه لكن يلزم ظنه من ذلك فإذا قلت إن كانت بغلة القاضي على بابه فهو في المنزل لكنها على بابه يلزم قطعا فهو في المنزل لكن على سبيل الظن؛ لأن الشرطية التي هي الدليل ظن فالحاصل أنه يلزم الظن قطعا بالظن بالمطلوب.(21/142)
ثم من زاد لنفسها لم يزده لإخراجها "بل ليخرج قياس المساواة"، وهو ما يتركب من قضيتين متعلق محمول أولاهما موضوع الأخرى ك "ا" مساو ل "ج" و "ج" مساو ل "ب" فإن هذا يستلزم "ا" مساو ل "ب" لكن لا لذاته بل كما قال "لأنه للأجنبية" أي؛ لأن الاستلزام المذكور إنما هو بواسطة مقدمة أجنيبة، وهي أن كل مساو للمساوي للشيء مساو لذلك الشيء؛ لأنه يتحقق الاستلزام حيث تصدق هذه المقدمة كما في هذه الصورة ولا يتحقق حيث لا تصدق كما في "ا" مباين ل "ب" و "ب" مباين ل "ج" فإنه لا يلزم منه أن "ا" مباين ل "ج"؛ لأن مباين المباين لا يجب أن يكون مباينا "ولا حاجة" إلى هذه الزيادة لإخراج هذا القياس من الدليل "لأعميته" أي المستلزم ما كان بنفسه، وما كان بواسطة مقدمة أجنبية "فيدخل" قياس المساواة في الدليل قال المصنف رحمه الله فتكون المقدمة الأجنبية جزء الدليل، وإن لم تكن جزء قياس ويجعل الدليل أعم من القياس وكشف ذلك أنه لا شك في ملزومية العلم الثالث عند ثبوت المقدمات الثلاث المقدمتان اللتان هما صورة الشكل والأجنبية فحينئذ الدليل تارة يقوم بمقدمتين وتارة بثلاث وتارة بأكثر كما في الأقيسة المركبة.(21/143)
ثم وقع في عبارة كثير متى سلمت لزم عنها قول آخر فتعقبه المصنف بقوله "ولا" حاجة "لقيد التسليم؛ لأنه" أي قيد التسليم "لدفع المنع" عن تلك الأقوال التي هي القياس "لا"؛ لأنه شرط "للاستلزام؛ لأنه" أي استلزام الأقوال المذكورة لازم "للصورة" ألبتة ثم إذا كان الأمر على هذا "فتستلزم" الصورة القول الآخر "دائما على نحوها" من قطع أو ظن فإن كانت الأقوال قطعية الثبوت استلزمت قطعيا، وإن كانت ظنية استلزمت ظنيا، وإن كانت صادقة أنتجت صادقا، وإن كانت كاذبة أنتجت كاذبا، ومن ثمة لم يذكر هذا القيد المتقدمون، وإنما ذكره المتأخرون معترفين بأنه لا مدخل له في الاستلزام فإن من المعلوم أن تحقق اللزوم لا يتوقف على تحقق الملزوم ولا اللازم، أو لا يرى أن قول القائل العالم قديم وكل قديم مستغن عن المؤثر يستلزم العالم مستغن عن المؤثر إذ لو تحقق الأول في نفس الأمر تحقق الثاني قطعا، وهو معنى الاستلزام ولا تحقق لشيء منهما، وأن التصريح به إشارة إلى أن القياس من حيث(21/144)
ص -72-…هو قياس لا يجب أن تكون مقدماته صادقة مسلمة فلا يتوهم من عدم ذكره خروج القياس الذي مقدماته كاذبة ولا أن تلك القضايا متحققة في الواقع، وأن اللازم متحقق فيه أيضا "ولزم" من العلم بحقيقة النظر "سبق الشعور بالمطلوب" التصديقي النظري للناظر قبل النظر المستلزم لحصوله ضرورة استحالة طلب المجهول من كل وجه. وذلك "كطرفي القضية وكيفيتي الحكم" أي كتصور طرفي المطلوب اللذين هما المحكوم عليه والمحكوم به والنسبة التي بينهما الصالحة موردا للحكم وصفته من الإيجاب والسلب تصورا ساذجا. "والتردد في ثبوت أحدهما" أي وتردد الناظر إنما هو كائن في ثبوت المحكوم به للمحكوم عليه الذي هو الحكم "على أي كيفيتيه" من الإيقاع والانتزاع بعينها فهو ساع في تحصيل ذلك.(21/145)
والحاصل أن المطلوب التصديقي معلوم باعتبار التصور الذي به يتميز عما عداه مجهول باعتبار التصديق الذي هو المطلوب بحسبه فلم يلزم طلب ما لا شعور به أصلا ولا طلب ما هو حاصل ولا عدم معرفة أنه المطلوب إذا حصل ولما أورد على التصور مثل هذا كما هو أحد وجهي اختيار الإمام فخر الدين الرازي امتناع اكتساب التطورات، وهو أن المطلوب التصوري يمتنع طلبه؛ لأنه إما مشعور به مطلقا فهو حاصل وتحصيل الحاصل محال أو ليس بمشعور به مطلقا فطلبه محال أيضا لاستحالة طلب ما هو كذلك بل ظاهر كلام العلامة قطب الدين شارح المطالع أن هذا لا يراد إنما وقع أولا على المطالب التصورية، وأن أول من أورده ماتن مخاطبا به سقراط، وقد أجيب عنه بأن التقسيم غير حاصر بل هنا قسم ثالث، وهو أنه معلوم من وجه مجهول من وجه فيطلب من الوجه المعلوم الوجه المجهول أشار إليه المصنف استطرادا فقال "والمحدود معلوم" للطالب "من حيث هو مسمى" للفظ معين عنده مجهول له من حيث الذات والحقيقة "فيطلب" من هذه الحيثية التي هو بها معلوم حقيقته المجهولة، وهي "أنه أي مادة مركبة" من المواد المركبة ليتصور أجزاءه متميزة عن غيرها ويرتبها على ما ينبغي فيتضح المحدود؛ لأن الحد يميز أجزاء المحدود أو المحدود معلوم للطالب بسبب العلم ببعض صفاته الذاتية أو العرضية مجهول له من حيث الذات والحقيقة فيطلب ما هو مجهول له من الوجه الذي هو معلوم له ليصير المجهول له معلوما أيضا فالوجه المجهول، وهو الذات هو المطلوب والوجه المعلوم، وهو بعض الصفات أو الاعتبارات، ولو مجرد كونه مسمى لفظ معين ليس بمطلوب فلم يلزم طلب المجهول مطلقا ولا تحصيل الحاصل. وإنما قال أي مادة مركبة؛ لأن البسيط لا يكتسب بالحد؛ لأن الحد كما عرفت يميز أجزاء المحدود؛ لأن دلالته على معناه لا تعدد فيها والبسيط لا أجزاء له فينتفي تميزها. فإن قيل من الجائز أن يكتسب حقيقة البسيط المجهولة التصورية بالنظر بأن يكون هناك(21/146)
حركة واحدة من المطلوب إلى المبدأ الذي هو معنى بسيط يستلزم الانتقال إلى المطلوب فقد أجاب المصنف بالمنع قائلا "وتجويز الانتقال إلى بسيط يلزمه المطلوب(21/147)
ص -73-…ليس به" أي بالنظر المعتبر في العلوم "ولو كان" الانتقال المذكور "بالقصد إذ ليس النظر" بالمعنى المعتبر في العلوم "الحركة الأولى" يعني الحركة من المطالب إلى المبادئ، وإن كان النظر قد يطلق عليها أيضا بل النظر المعتبر في العلوم حركة النفس من المطالب إلى المبادئ، والرجوع عنها إليها كما تقدم شرحه غايته أن ما تقدم تعريف للنظر الخاص بالتصديق، وهذا يعم النظر فيه، وفي التصور فهو مجموع الحركتين ثم كان الأولى ترك تعليل نفي كون النظر الحركة الأولى بقوله "إذ لا تستلزم" الحركة الأولى الحركة "الثانية بخلاف الثانية" يعني فإنها تستلزم الأولى "ولذا" أي ولكون الثانية تستلزم الأولى فيستغنى بالتنصيص عليها عن ذكر الأولى معها "وقع التعريف بها" أي بالثانية من غير ذكر الأولى معها بناء على استلزامها إياها "كترتيب أمور إلخ" أي معلومة على وجه يؤدي إلى استعلام ما ليس بمعلوم كما هو مذكور في الطوالع إلى غير ذلك فإن ظاهر كلامهم أن كلا من الحركتين يستلزم الأخرى حتى قال المحقق سعد الدين التفتازاني في شرح المقاصد: وكثيرا ما يقتصر في تفسير النظر على بعض أجزائه أو لوازمه اكتفاء بما يفيد امتيازه أو اصطلاحا على ذلك فيقال هو حركة الذهن إلى مبادئ المطلوب أو حركته عن المبادئ إلى المطالب أو ترتيب المعلومات للتأدي إلى مجهول ا هـ. ثم استلزام كل من الحركتين للأخرى ليس دائما بل أكثري كما صرحوا به في استلزام الثانية للأولى ويظهر أنه أيضا كذلك في استلزام الأولى للثانية ثم الترتيب ليس هو الحركة الثانية، وإنما هو لازمها كما تقدم ثم قدمنا أن المتأخرين على أن الفكر المرادف للنظر بهذا المعنى هو الترتيب الحاصل من الحركة الثانية، وأما الانتقالان فخارجان عنه إلا أن الثاني لازم له قطعا، والأول لازم أكثري فلم لا يكون هذا التعريف بناء عليه كما هو الظاهر ثم حيث كان المدعي أن النظر مجموع الحركتين فأي أثر لتعليل نفي كون النظر هو(21/148)
الحركة الأولى فقط بكونها غير مستلزمة للثانية سوى أنه لا يجوز في تعريفه الاقتصار عليها بخلاف الثانية كما وقع لبعضهم. ومعلوم أنا لسنا الآن بهذا الصدد فظهر أن الوجه حذف هذه الجملة من البين.
"وقد ظهر" من تعريف النظر والدليل "أن فساد النظر" بأمرين أحدهما "بعدم المناسبة" أي بعدم دلالة ما يقع فيه النظر على المطلوب "وهو" أي عدم المناسبة للمطلوب "فساد المادة" كما إذا جعلت مادة القياس المطلوب منه إنتاج أن العالم قديم العالم بسيط، وكل بسيط قديم فإن هاتين المقدمتين كاذبتان مع أن البساطة لا ينتقل منها إلى القدم ثانيهما ما أشار إليه بقوله "وعدم ذلك الوجه" أي وبعدم المستلزم للمطلوب، وهو فساد الصورة كأن لا يقع القياس جامعا لشرائط الإنتاج فظهر قصور ما في البديع من قوله، وما عرفت جهة دلالته على المطلوب فصحيح، وإلا ففاسد؛ لأن ما يعرف جهة دلالته على المطلوب قد لا يكون صحيحا لفقد صورته "وهو" أي ذلك الوجه المستلزم "جعل المادة على حد معين في انتساب بعضها إلى بعض، وذلك" الحد المعين "طرق" أربعة(21/149)
ص -74-…القياس الاستثنائي المتصل
"الأول ملازمة بين مفهومين ثم نفي اللازم لينتفي الملزوم أو إثبات الملزوم ليثبت اللازم" أي الطريق الأول القياس الاستثنائي المتصل، وهو مقدمتان أولاهما شرطية متصلة موجبة لزومية كلية أو جزئية إذا كان الاستثناء كليا أو شخصية حالها وحال الاستثناء متحد تفيد تلازما بين مفهومي جزأيها اللذين يسمى أحدهما الملزوم والشرط والمقدم، وهو الأول والآخر اللازم والجزاء والتالي، وهو الثاني وأخراهما استثنائية تفيد نفي اللازم لينتفي الملزوم؛ لأن عدم اللازم يستلزم عدم الملزوم أو إثبات الملزوم ليثبت اللازم؛ لأن وجود الملزوم يستلزم وجود اللازم والمراد بالكلية أن تكون النسبة الإيجابية الاتصالية بين المقدم والتالي شاملة لجميع الأوضاع الممكنة الاجتماع مع المقدم فلا حاجة إلى ذكر الدوام معها كما ذكره الإمام ابن الحاجب لا على سبيل التأكيد والتصريح باللازم كما مشى عليه المحقق الشريف ولا إلى كلية المقدم أو التالي بل تتحقق مع شخصيتهما كما صرحوا به قالوا: وسور الموجبة الكلية الشرطية المتصلة كلما ومهما، ومتى وأكثر ما يستثنى فيه عين المقدم ما يكون بأن، وأكثر ما يستثنى فيه نقيض المقدم ما يكون بلو قالوا ولا ينتج استثناء نقيض المقدم نقيض التالي ولا استثناء عين التالي عين المقدم. وغير خاف أن هذا يتناول ما اللازم فيه مساو للملزوم وغيره كما هم مصرحون به لكن تعليلهم المنع بقولهم لجواز أن يكون التالي أعم من المقدم فلا يلزم من عدم الملزوم عدم اللازم ولا من وجود اللازم وجود الملزوم لا يقتضي نفي الإنتاج المذكور فيما إذا كان بين اللازم والملزوم مساواة لعدم جريان التجويز المذكور فيه فلا جرم أن قال "أو نفي الملزوم لنفي اللازم في المساواة أو ثبوت اللازم لثبوت الملزوم فيه" أي التساوي "أيضا"، وقولهم إن لزوم هذا الخصوص المادة الدالة على المساواة لا لنفس صورة الدليل، وهو بالحقيقة بملاحظة لزوم المقدم(21/150)
للتالي، وهو متصل آخر ليس بضائر في المطلوب كما تقدم نحوه في دخول قياس المساواة في القياس ثم لا بأس بإيضاحه بالأمثلة. "كان" كان هذا الفعل واجبا "أو كلما" كان هذا الفعل واجبا "أو لو كان" هذا الفعل "واجبا فتاركه يستحق العقاب" على تركه فهذه مقدمة شرطية متصلة موجبة لزومية كلية على تقدير تصديرها بكلما وشخصية حالها وحال الاستثناء متحد على تقدير تصديرها بأن ولو بفرض أن يكون المراد في حال كذا في كل منها، ومن الاستثناء ثم إن كانت المقدمة الاستثنائية نفي اللازم أعني "لكن لا يستحق" تارك هذا الفعل العقاب على تركه أنتج نفي الملزوم أعني "فليس" هذا الفعل واجبا، وإن كانت إثبات الملزوم كما أشار إليه بقوله "أو واجب" أي لكن هذا الفعل واجب أنتج إثبات اللازم أعني "فيستحق" تاركه العقاب على تركه، وإن كانت نفي الملزوم كما أشار إليه بقوله "أو ليس" أي لكن ليس هذا الفعل "واجبا" أنتج نفي اللازم أعني "فلا يستحق" تاركه العقاب على تركه، وإن كانت إثبات اللازم أعني لكن يستحق "تاركه" العقاب على تركه أنتج إثبات الملزوم أعني فهذا الفعل واجب، وهذان بناء على أن بين ترك الواجب واستحقاق العقاب عليه تلازما على سبيل المساواة وكأنه لم يذكر هذا المثال الأخير لإرشاد ما قبله إليه.(21/151)
ص -75-…القياس الاستثنائي المنفصل
"الطريق الثاني" القياس الاستثنائي المنفصل، وهو مقدمتان أولاهما موجبة كلية أو جزئية أو شخصية شرطية منفصلة حقيقية لتحقق الانفصال بين جزأيها في الصدق والكذب لتركبها من الشيء ونقيضه أو مساوي نقيضه فلا يجتمعان صدقا ولا يرتفعان كذبا كما أشار إليه بقوله "عناد بينهما" أي بين مفهومين "في الوجود والعدم" وأخراهما استثنائية لعين أحدهما فينتج نقيض الآخر أو لنقيض أحدهما فينتج عين الآخر كما أشار إليه بقوله "ففي وجود أحدهما عدم الآخر، وفي عدمه وجوده" فيكون حينئذ له أربع نتائج اثنتان باعتبار استثناء العين واثنتان باعتبار استثناء النقيض كما ترى في قولنا دائما العدد إما زوج أو فرد لكنه زوج فهو ليس بفرد لكنه فرد فهو ليس بزوج لكنه ليس بزوج فهو فرد لكنه ليس بفرد فهو زوج "أو في الوجود فقط" أي أو مقدمتان أولاهما موجبة كلية أو جزئية أو شخصية شرطية مانعة الجمع؛ لأنها يمتنع الجمع بين جزأيها في الصدق لعناد بينهما فيه لتركبها من الشيء والأخص من نقيضه وأخراهما استثنائية لعين أحدهما فينتج نقيض الآخر كما أشار إليه بقوله "فمع وجود كل" من الجزأين "عدم الآخر" ضرورة التنافي بينهما في الصدق "وعدمه عقيم" أي واستثناء نقيض كل منهما غير منتج لوجود الآخر لجواز ارتفاع عينيهما مثال الأول "الوتر إما واجب أو مندوب لكنه واجب للأمر المجرد" عن القرائن الصارفة عن الوجوب "به" أي بالوتر "فليس مندوبا" ولو قيل لكنه مندوب أنتج فليس واجبا. وفي الاقتصار على المثال الأول مع قوله للأمر المجرد به إشارة إلى أنه لا ينبغي وضع المندوب المقتضي لرفع الوجوب لعدم مطابقته الواقع أما لو قيل لكنه ليس بواجب لم ينتج فهو مندوب أو لكنه ليس بمندوب لم ينتج فهو واجب لجواز أن لا يكون واجبا ولا مندوبا؛ لأن ما ليس بواجب أعم من المندوب، وما ليس بمندوب أعم من الواجب "أو في العدم" فقط أي أو مقدمتان أولاهما موجبة كلية أو(21/152)
جزئية أو شخصية شرطية مانعة الخلو؛ لأنها يمتنع الخلو من كل من جزأيها في النفي لمعاندة بينهما فيه لتركبها من الشيء والأعم من نقيضه وأخراهما استثنائية لنقيض أحدهما فتنتج عين الآخر كما أشار إليه بقوله "فقلب المثال وحكمه" فقلب المثال المذكور الوتر إما لا واجب أو لا مندوب، وقلب حكمه أن عدم كل ينتج وجود الآخر؛ لأنهما لا يرتفعان ووجوده لا ينتج عدمه؛ لأنهما يجتمعان فإذا قلت لكنه لا واجب أو لا مندوب لم يفد بل إذا قلت لكنه واجب أنتج لا مندوب أو مندوب أنتج لا واجب كذا ذكره المصنف وهو حسن. وقد ظهر أن الضمير في حكمه راجع إلى ما قبله لا إلى المثال؛ لأنه لم يقلب حكمه أيضا فالمراد فقلب مثال ما قبله، وقلب حكم ما قبله فتنبه له.
واعلم أن المراد بالكلية في هذا النوع أن تكون النسبة العنادية بين المقدم والتالي على التقادير المذكورة شاملة لجميع الأوضاع الممكنة الاجتماع مع المقدم كما تقدم نظيره في النوع الأول قالوا وسور الموجبة الكلية الشرطية المنفصلة لفظة دائما، والله سبحانه أعلم.(21/153)
ص -76-…القياس الاقتراني
"الطريق الثالث" القياس الاقتراني، وهو "انتساب المناسب، وهو" أي المناسب "الوسط لكل من طرفي المطلوب بالوضع والحمل" أي بأن يكون الوسط موضوعا لكل من طرفي المطلوب أو محمولا لكل منهما أو موضوعا لأحدهما محمولا للآخر على وجه خاص من الوجوه الآتي بيانها؛ لأن النسبة بين طرفيه لما كانت مجهولة لكونها مكتسبة بالقياس فلا بد من أمر ثالث مناسب لهما يتوسط بينهما ويكون له إلى كل منهما نسبة ليعلم بسببه النسبة بينهما، وإلا لم يفد القياس المطلوب، وإذا كان كذلك "فيلزم" في تحقق هذا الطريق "جملتان خبريتان" أي قولان محتملان للصدق والكذب من حيث هما "وهما المقدمتان" اللتان هما جزءا القياس، وهما يكونان في الحقيقة مركبتين "من" حدود "ثلاثة" طرفي المطلوب والحد الوسط ينفرد كل من المقدمتين بأحد الطرفين ويشتركان في الحد الوسط، وإنما لم يعتبر الحد الوسط اثنين مع أنه في الصورة كذلك "لتكرار الوسط" فلم يكن اثنين في المعنى، والعبرة للمعنى "ويسمى المحكوم عليه في المطلوب أصغر"؛ لأنه في الأغلب أخص والأخص أقل أفرادا فيكون أصغر "وبه فيه" أي ويسمى المحكوم به في المطلوب حدا "أكبر"؛ لأنه في الأغلب أعم، والأعم أكثر أفرادا والمشترك المكرر بين الأصغر والأكبر حدا أوسط لتوسطه بين طرفي المطلوب "وباعتبارهما" أي الأصغر والأكبر تسمى "المقدمتان" صغرى، وهي ما اشتملت على الأصغر وكبرى، وهي ما اشتملت على الأكبر "ويتصور" على صيغة المبني للفاعل الانتساب المذكور "بأربع صور؛ لأن المتكرر محمول في الصغرى موضوع في الكبرى أو عكسه" أي موضوع في الصغرى محمول في الكبرى "أو موضوع فيهما" أي الصغرى والكبرى "أو محمول" فيهما فهذه أربع صور. "وكل صورة تسمى شكلا" فإذن الأشكال أربعة إلا أن الصورة الأولى تسمى الشكل الأول، والثانية الشكل الرابع، والثالثة الشكل الثالث، والرابعة الشكل الثاني "وقطعية اللازم" عن الصغرى والكبرى، وهو(21/154)
المطلوب والنتيجة أيضا "بقطعيتهما" أي قطعية الصغرى والكبرى؛ لأن لازم القطعي قطعي "وهو" أي القياس الكائن بهذا الوصف من القطعية هو "البرهان"، وإنما سميت الحجة القطعية به لوضوح دلالتها على ما دلت عليه أخذا من معناه اللغوي، وهو الشعاع الذي يلي وجه الشمس، ومنه الحديث "إن روح المؤمن تخرج من جسده لها برهان كبرهان الشمس" "وظنيته" أي اللازم "بظنية إحداهما" أي المقدمتين المشار إليهما فضلا عن ظنيتهما؛ لأن لازم الظني ظني "وهو" أي القياس الكائن بهذا الوصف من الظنية هو "الإمارة" نعم اللزوم، وهو الإنتاج قطعي مطلقا سواء كان اللازم قطعيا أو ظنيا ثم تسمية المرتب على المقدمتين لازما ظاهر، ومطلوبا؛ لأنه يوضع أولا ثم يرتب ما يتوصل به إليه ويستلزمه، ونتيجة؛ لأنه يتولد من القياس المذكور بخلق الله تعالى العلم به على ما هو المذهب الحق.
فإذا تقرر هذا فنقول "الشكل الأول بحمله في الصغرى ووضعه في الكبرى" أي ما يكون الوسط فيه محمولا في صغراه موضوعا في كبراه. "شرط استلزامه" أي هذا الشكل(21/155)
ص -77-…للمطلوب بحسب كيفية مقدماته وكميتها أمران أحدهما بحسب الكيفية، وهو "إيجاب صغراه" ليندرج الأصغر تحت الأوسط فيحصل الإنتاج ولم يزد الجمهور على هذا وزاد غير واحد أو كونها في حكم الإيجاب أي ما يستلزم إيجابا بأن تكون موجبة محصلة المحمول أو معدولته أو سالبته، وأن تكون الكبرى على وفقها في جانب الموضوع ليتحقق التلاقي، وأفاد المصنف جواز وقوع الصغرى سالبة محضة بشرط مساواة طرفي الكبرى وكونها حينئذ موجبة كلية كما أشار إليه بقوله "إلا في مساواة طرفي الكبرى"؛ لأن الشكل على هذا التقرير يحصل فيه أيضا اتحاد الوسط المقتضي للإنتاج كما هو ظاهر للمتأمل ثانيهما بحسب الكمية، وهو ما أشار إليه بقوله "وكلية الكبرى" ليعلم اندراج الأصغر تحت الأوسط بخلاف ما لو كانت جزئية إذ يجوز كون الأوسط حينئذ أعم من الأصغر وكون المحكوم عليه في الكبرى بعضا من الأوسط غير الأصغر فلا يندرج فلا ينتج كما في نحو الإنسان حيوان، وبعض الحيوان فرس "فيحصل" باشتراط هذين الأمرين لاستلزام هذا الشكل للمطلوب من الضروب الممكنة الانعقاد فيه "ضروب" أربعة منتجة وبما زاده المصنف زيادة خامس عليها الضرب الأول "كليتان موجبتان" فينتج كلية موجبة. مثاله "كل جص مكيل وكل مكيل ربوي فكل جص ربوي". الضرب الثاني ما أشار إليه بقوله "وبكيفيتيه" أي ما يكون بصفتي الضرب الأول، وهما الإيجاب في الصغرى والكبرى "والصغرى جزئية" والكبرى باقية على كميتها من الكلية فينتج جزئية موجبة. مثاله "بعض الوضوء منوي وكل منوي عبادة فبعض الوضوء عبادة" الضرب الثالث ما أفصح عنه قوله "وكليتان الأولى موجبة" والثانية سالبة فينتج كلية سالبة مثاله "كل وضوء مقصود لغيره ولا مقصود لغيره يشترط فيه نية فلا وضوء يشترط فيه نية" الضرب الرابع ما أشار إليه بقوله: "وقلبه في التساوي فقط" أي قلب الثالث، وهو ما يكون من كليتين صغرى سالبة وكبرى موجبة متساوية الطرفين فينتج كلية سالبة مثاله(21/156)
"لا شيء من الإنسان بصهال وكل صهال فرس" فلا شيء من الإنسان بفرس "ولو قلت" بدل صهال "حيوان لم يصح" لكون المحمول أعم من الموضوع في الكبرى فلا يحصل الاندراج تحت الأوسط. الضرب الخامس ما أشار إليه بقوله "وبكيفيتي ما قبله والأولى جزئية" أي ما يكون بصفتي ما قبل الرابع، وهو الثالث من إيجاب الصغرى وسلب الكبرى إلا أن الصغرى في هذا جزئية بخلافها في الثالث فإنها فيه كلية. وحاصله ما كان مركبا من جزئية موجبة صغرى وكلية سالبة كبرى فينتج سالبة جزئية. مثاله: بعض المكيل ربوي ولا شيء من الربوي بجائز التفاضل فليس بعض المكيل بجائز التفاضل وكأنه إنما لم يذكره للعلم به مما تقدم. هذا ولقائل أن يقول يلزم من قود ما اختاره المصنف من زيادة ضرب خامس مركب من كليتين صغرى سالبة وكبرى موجبة متساوية الطرفين زيادة ضرب سادس مركب من جزئية سالبة صغرى وكلية موجبة كبرى متساوية الطرفين فينتج جزئية سالبة كقولنا ليس بعض الإنسان بفرس وكل فرس صهال فليس بعض الإنسان بصهال لاتحاد الوسط المقتضي للإنتاج أيضا كما في الخامس المذكور.(21/157)
ص -78-…ثم اعلم أن ما ذكرنا من ترتيب هذه الضروب في الأولية ثم ما بعدها بناء على ترتيبها الذكري هكذا للمصنف، وإلا فالذي درج عليه المنطقيون أن الضرب الثاني ما كان من كليتين موجبة صغرى وسالبة كبرى فينتج كلية سالبة، والضرب الثالث ما كان من موجبتين جزئية صغرى وكلية كبرى فينتج موجبة جزئية. والضرب الرابع ما كان من جزئية موجبة وكلية سالبة فينتج جزئية سالبة، وادعوا أنها إنما رتبت هذا الترتيب؛ لأن هنا كيفيتين إيجابا وسلبا والإيجاب أشرف؛ لأنه وجود والسلب عدم، والوجود أشرف وكميتين الكلية والجزئية والكلية أشرف؛ لأنها أضبط، وأنفع في العلوم، وأخص من الجزئية والأخص أشرف لاشتماله على أمر زائد فإذن الموجبة الكلية أشرف المحصورات والسالبة الجزئية أخسها والسالبة الكلية أشرف من الموجبة الجزئية؛ لأن شرف السلب الكلي باعتبار الكلية وشرف الإيجاب الجزئي بحسب الإيجاب، وشرفه من جهة وشرف الكلي من جهات ثم إذا كان المقصود من الأقيسة نتائجها رتبت الضروب باعتبار ترتيب نتائجها شرفا الأشرف فالأشرف. وهذا التعليل، وإن كان لا يعرى عن بحث لمن تحقق فقد صار من المسلمات عندهم ويمكن أن يحمل كلام المنصف على هذا المنوال؛ لأنه لم يصرح بأولية، ولا بما بعدها من المراتب بل إنما ذكرها بحرف الجمع المطلق ثم ليس لمثل هذا الاختلاف ثمرة تظهر في الحكم فتأمل.(21/158)
"وإنتاج" ضروب "هذا" الشكل المنتجة "ضروري" بين بنفسه فلا يحتاج إلى برهان ثم كما أنه لا بد من انتهاء المواد إلى ضروري يحصل التصديق به بلا كسب، كذا لا بد من انتهاء الصور إلى ضروري قطعا للتسلسل، وهو هذا الشكل "وباقيها" أي، وإنتاج باقي هذه الأشكال الأربعة "نظري" غير بين بنفسه فيحتاج إلى برهان عليه "فيرد إلى الضروري" عند قصد الوقوف على نتائجه سريعا بالعكس أو الخلف كما سيأتي تفاصيله بل قال غير واحد من المحققين: إن الشكل الأول هو المنتج منها في الحقيقة ولذا كان غيره موقوفا في إنتاجه على الرجوع إليه، وعلى اشتماله على هيئته، وإنما يعلم برجوعه إليه، وبالجملة فحقيقة البرهان وجهة الدلالة منحصرتان في الشكل الأول فلا إنتاج في نفس الأمر إلا له والعقل لا يحكم بالإنتاج إلا بملاحظته سواء صرح به أو لا فلا جرم أن كان معيار العلوم. ومن خواصه أيضا أنه ينتج المطالب الأربعة كما رأيت دون ما سواه فإنه لا ينتج إيجابا كليا كما سترى ثم لعل وضع الظاهر أعني الضروري في قوله إلى الضروري موضع الضمير لمزيد الاعتناء بالإعلام بثبوت هذا الوصف له ليتمكن في ذهن السامع فضل تمكن.
"الشكل الثاني بحمله فيهما" أي ما يكون الوسط فيه محمولا في الصغرى والكبرى "شرطه" أي استلزم هذا الشكل للمطلوب أمران أحدهما بحسب الكيف، وهو "اختلافهما" أي مقدمتيه "كيفا" أي من جهة الإيجاب والسلب بأن تكون إحداهما موجبة والأخرى سالبة وثانيهما بحسب الكم، وهو ما أشار إليه بقوله "وكلية كبراه" سالبة إن كانت صغراه موجبة، وموجبة إن كانت صغراه سالبة "فلا ينتج" هذا الشكل حينئذ "إلا سلبا" كليا أو جزئيا كما(21/159)
ص -79-…سترى وذلك لما أشار إليه بقوله "والنتيجة تتضمن أبدا ما فيهما" أي المقدمتين "من خسة سلب وجزئية"، وهذا أتم من قولهم أنها تتبع أخس المقدمتين ثم لمية ذلك كله مبذولة في الكتب المنطقية فحينئذ "ضروبه" المنتجة من الضروب الممكنة الانعقاد فيه أربعة لا غير. الضرب الأول "كليتان الأولى موجبة" والثانية سالبة فينتج سالبة كلية مثاله "السلم رخصة للمفاليس ولا حال برخصة" للمفاليس أما أن الأولى كلية فلأن أداة التعريف فيها للاستغراق، وأما أن الثانية كلية فظاهر؛ لأن النكرة في سياق النفي تعم ولا سيما في سياق لا التي لنفي الجنس كما فيما هنا "فلا سلم حال رده" أي هذا الضرب إلى الضرب الثالث من الشكل الأول "بعكس الثانية" عكسا مستويا، وهو ولا رخصة للمفاليس بحال ثم تضم إلى الأولى فينتج المطلوب المذكور، وإنما انعكست عكسا مستويا هكذا لما أشار إليه بقوله "والسالبة تنعكس ككميتها بالاستقامة" إذا كانت مما تنعكس كما هو مقرر في الكتب المنطقية، وهذه السالبة الكلية في هذا المثال مما يجوز أن تنعكس ثم قال استطرادا "والموجبة الكلية" تنعكس عكسا مستويا موجبة "جزئية إلا في مساواة طرفيها" فإنها تنعكس كلية فكل إنسان حيوان ينعكس إلى: بعض الحيوان إنسان وكل إنسان ناطق ينعكس إلى: كل ناطق إنسان والاستثناء من زوائد المصنف فإن المنطقيين على أن الموجبة الكلية تنعكس مطلقا جزئية ولعمري إنها لزيادة حسنة، وإن الاعتذار عنهم بأنهم إنما يبحثون عن عكوس القضايا على وجه كلي من غير نظر إلى المواد الجزئية فلذا حكموا بأن عكس الموجبة الكلية جزئية؛ لأنها لازمة لها في جميع صورها بخلاف الكلية لتخلفها عنها في بعضها غير مقبول عند ذوي الأنصاف من أرباب العقول.(21/160)
الضرب الثاني ما أشار إليه بقوله "وقلبه" أي الضرب الأول كليتان سالبة صغرى، وموجبة كبرى فينتج سالبة كلية أيضا مثاله لا شيء من الحال برخصة وكل سلم رخصة فلا شيء من الحال بسلم "ورده" إلى الضرب الثالث من الشكل الأول أيضا "بعكس الصغرى" عكسا مستويا، وهو لا شيء من الرخصة بحال "وجعلها كبرى" والكبرى صغرى فيصير كل سلم رخصة ولا شيء من الرخصة بحال فينتج لا شيء من السلم بحال "ثم عكس النتيجة" عكسا مستويا، وهو عين المطلوب المذكور.
الضرب الثالث ما أشار إليه بقوله "وكالأول إلا أن الأولى جزئية" هنا وكلية هناك فهو حينئذ موجبة جزئية صغرى وسالبة كلية كبرى فينتج سالبة جزئية. مثاله والصغرى والكبرى معدولتا المحمول "بعض الوضوء غير منوي ولا عبادة غير منوي فبعض الوضوء ليس عبادة، رده" إلى الضرب الرابع من الشكل الأول "كالأول" أي كرد الضرب الأول من هذا الشكل إلى الضرب الرابع من الشكل الأول، وهو بعكس الكبرى عكسا مستويا، وقد عرفت أنها تنعكس كنفسها بعد أن تكون مما تنعكس، وهي هنا كذلك فتنعكس حينئذ سالبة كلية معدولة الموضوع هكذا ولا غير منوي بعبادة، وتضم إلى الصغرى المذكورة فتنتج النتيجة المذكورة.(21/161)
ص -80-…الضرب الرابع ما أشار إليه بقوله "وكالثاني إلا أن أولاه" أي أولى هذا "جزئية"، وأولى الثاني كلية كما تقدم فهو حينئذ جزئية سالبة صغرى وكلية موجبة كبرى فتنتج سالبة جزئية أيضا مثاله "بعض الغائب ليس بمعلوم وكل ما يصح بيعه معلوم فبعض الغائب لا يصح بيعه رده" إلى الضرب الرابع من الشكل الأول "بعكس الثانية بعكس النقيض"، وهو عند قدماء المنطقيين جعل نقيض الجزء الثاني أولا، ونقيض الجزء الأول ثانيا مع بقاء الكيف والصدق بحالهما، وعند متأخريهم جعل نقيض الجزء الثاني أولا، وعين الجزء الأول ثانيا مع المخالف في الكيف فعلى الأول تكون صورة عكسها، وكل ما ليس بمعلوم لا يصح بيعه، وعلى الثاني يكون صورة عكسها ولا شيء مما ليس بمعلوم يصح بيعه، وأيا ما كان إذا ضم إلى الصغرى المذكورة أنتج النتيجة المذكورة "وبالخلف" بسكون اللام أي ورد هذا الشكل إلى الشكل الأول بقياس الخلف "في كل ضروبه" ثم فسر المراد به هنا بإبداله منه قوله "جعل نقيض المطلوب، وهو" أي نقيض المطلوب "الموجبة الكلية هنا" أي في هذا الضرب الرابع من هذا الشكل "صغرى" الشكل "الأول وتضم الكبرى" من ضروب هذا الشكل الثاني "إليها" أي هذه الصغرى المذكورة "تستلزم" هذا الصنيع "بالأخيرة كذب نقيض المطلوب فالمطلوب حق"، وإنما كان نقيض المطلوب في هذا الضرب موجبة كلية؛ لأن المطلوب فيه سالبة جزئية، وهو بعض الغائب لا يصح بيعه فنقيضها موجبة كلية، وهي كل غائب يصح بيعه فإذا جعلت صغرى للضرب الأول من الشكل الأول، وضم إليها الكبرى من هذا الضرب يصير كل غائب يصح بيعه وكل ما يصح بيعه معلوم وينتج كل غائب معلوم، فتناقض صغرى الضرب المذكور إذ هي بعض الغائب ليس بمعلوم فإذن الصادق هي أو هذا اللازم لكن هي صادقة بالفرض فيكون الكاذب هذا اللازم، وكذب اللازم يستلزم كذب المقدمتين أو كذب إحداهما؛ لأنهما لو صدقتا كان اللازم صادقا والفرض أن الكبرى صادقة، وهي كل ما يصح بيعه معلوم(21/162)
فيلزم كون الكاذب الصغرى التي هي كل غائب يصح بيعه فيصدق نقيضها، وهو بعض الغائب لا يصح بيعه، وهو المطلوب ثم لما كان الجزم بصدق المطلوب لا يتم إلا بتمام هذا التقرير قال المصنف: يستلزم بالأخيرة كذب نقيض المطلوب. وعلى هذا القياس الضروب الثلاثة الماضية إلا أن نقيض المطلوب في الضرب الثالث موجبة كلية؛ لأن المطلوب فيه سالبة جزئية، وضم الكبرى إليه يجعله من الضرب الثالث من الشكل الأول بخلاف الأول والثاني فإن نقيض المطلوب فيهما موجبة جزئية؛ لأن المطلوب فيهما سالبة كلية وضم الكبرى إليه في الثاني يجعله من الضرب الثاني من الشكل الأول، وفي الأول يجعله من الضرب الرابع منه ثم إنما سمي هذا الطريق خلفا؛ لأنه ينتج الباطل على تقدير حقية المطلوب لا؛ لأنه باطل في نفسه، وهذا بناء على أن الخلف هنا الباطل كما ذكره الجمهور، وقيل: لأن المتمسك به لما كان مثبتا لمطلوبه بإبطال نقيضه فكأنه يأتي مطلوبه لا على الاستقامة بل من خلفه، وهذا بناء على أن الخلف هنا ضد القدام كما ذهب إليه بعضهم ثم إنما رتبت ضروب هذا الشكل هذا الترتيب؛ لأن الضربين الأولين ينتجان الكلي، وقدم الأول على الثاني والثالث على الرابع لاشتمالهما على صغرى الشكل الأول بخلاف الثاني والرابع.(21/163)
ص -81-…"الشكل الثالث بوضعه فيهما" أي ما يكون الوسط موضوعا في صغراه وكبراه "شرطه" أي استلزم هذا الشكل للمطلوب أمران أحدهما بحسب الكيفية، وهو "إيجاب صغراه" حقيقة أو حكما كما تقدم في الشكل الأول وثانيهما بحسب الكمية، وهو ما صرح به بقوله "وكلية إحداهما" أي مقدمتيه الصغرى والكبرى ولمية اشتراط هذين الأمرين مقررة في الكتب المنطقية فحينئذ "ضروبه" المنتجة من الضروب الممكنة الانعقاد فيه ستة لا غير:
الضرب الأول "كليتان موجبتان" فينتج جزئية موجبة، مثاله "كل بر مكيل وكل بر ربوي فبعض المكيل ربوي" فإن قلت: لم ينتج جزئيا مع أنه من موجبتين كليتين؟. فالجواب "لأن رده بعكس الأولى" أي؛ لأنه لا بد أن يرد إلى الشكل الأول كغيره، ورده إليه إنما هو بعكس الأولى عكسا مستويا؛ لأنها هي المخالفة للأول، وإذا عكست صارت جزئية كما تقدم فلا جرم أن كان رد هذا الضرب إلى الضرب الثاني منه وكانت نتيجته جزئية، ومن ثمة قالوا من خواص هذا الشكل أنه لا ينتج إلا جزئيا؛ لأن هذا الضرب أخص ضروبه، وهو لا ينتج كليا، ومتى لم ينتج الأخص شيئا لم ينتجه الأعم نعم لم ير المصنف لزوم هذا فيه في سائر المواد بل قال "فلو كانت" الأولى من هذا الضرب "متساوية الجزأين أنتج" هذا الضرب لازما "كليا" بناء على ما تقدم من اختياره كون الموجبة الكلية المتساوية الطرفين تنعكس كنفسها، وقد عرفت اتجاهه وحينئذ يكون رده إلى الضرب الأول من الشكل الأول، مثاله كل إنسان ناطق، وكل إنسان ضاحك ينتج كل ناطق ضاحك.(21/164)
الضرب الثاني ما أشار إليه بقوله "ومثله" أي هذا الضرب الأول في الكيف وكلية الثانية "إلا أن الأولى جزئية". الضرب الثاني فهو حينئذ موجبتان جزئية صغرى وكلية كبرى "ينتج مثله" أي الأول موجبة جزئية، مثاله بعض المكيل بر وكل مكيل ربوي فبعض البر ربوي "ويرد" إلى الضرب الثاني من الشكل الأول بعكس الصغرى، وهو ظاهر الضرب الثالث ما أشار إليه بقوله "وعكس" الضرب "الثاني" فهو حينئذ موجبتان كلية صغرى وجزئية كبرى "ينتج" موجبة جزئية "كالأول" أي كما ينتجها الضرب الأول والثاني أيضا مثاله كل بر مكيل وبعض البر ربوي فبعض المكيل ربوي "ورده" إلى الضرب الثاني من الشكل الأول "بجعل عكس الكبرى"، وهو بعض الربوي بر "صغرى" للضرب المذكور لعدم صلاحيتها أن تكون كبراه لجزئيتها، وعين الصغرى كبراه ليصير بعض الربوي برا وكل بر مكيل فينتج بعض الربوي مكيل "وعكس النتيجة" اللازمة له، ومعلوم أن عكسها حينئذ عين المطلوب ثم مما زاده المصنف بأخرة هنا، وقرأناه عليه ما نصه "فلو الصغرى متساوية عكست" وكتب عليه ما صورته؛ لأن عدم عكس الصغرى هنا ليس إلا؛ لأنها تنعكس جزئية فيصير الأول من جزئيتين، وذلك لا يصح والمصنف يرى مع تساوي طرفي القضية تنعكس الكلية كلية فلذا قال فلو الصغرى إلخ وحينئذ لا حاجة إلى عكس النتيجة ا هـ.(21/165)
ص -82-…ولم يظهر للعبد الضعيف - غفر الله تعالى له - استقامة هذا فإن مثال هذا والصغرى متساوية الطرفين كل إنسان ناطق، وبعض الإنسان كاتب واللازم عنه بعض الناطق كاتب فإذا عكست الصغرى فلا بد أن تكون هي الكبرى في الضرب الثاني من الشكل الأول؛ لأن الكبرى من هذا الضرب من الشكل الثالث لا يصلح أن تكون كبرى في الشكل الأول مطلقا وحينئذ إما أن تبقى عين الكبرى صغرى فيصير بعض الإنسان كاتبا وكل ناطق إنسان، وهذا إنما هو من ضروب الشكل الرابع المنتجة على ما اختاره المصنف كما سيأتي، ومن ضروبه العقيمة على قول المنطقيين. وأما عكسها فيصير بعض الكاتب إنسانا وكل ناطق إنسان، وهذا كما ترى من ضروب الشكل الثاني العقيمة فالظاهر أن هذه الزيادة وقعت عن ذهول عن هذا المقام فسبحان من لا يذهل ولا يغفل.
الضرب الرابع ما أفصح به قوله "وكليتان الثانية سالبة" والأولى موجبة مثاله "كل بر مكيل وكل بر لا يجوز بيعه بجنسه متفاضلا فبعض المكيل لا يجوز بيعه بجنسه متفاضلا ينتج" هذا الضرب "كالأول في المساواة والأعمية" يعني كما ينتج الضرب الأول فيهما فإذا كان هنا جزء الأولى متساويين أنتج كليا كما هناك مثاله كل فرس صهال ولا شيء من الفرس بإنسان فإنه ينتج لا شيء من الصهال بإنسان، وإذا كان هنا محمول الأولى أعم من موضوعها أنتج جزئيا. ومثاله المثال المذكور فإن المكيل أعم من البر ثم هذا الضرب يرد إلى الشكل الأول "بعكس الصغرى" كما هناك أيضا؛ لأنها المخالفة للأولى من الشكل الأول إلا أن هذا الضرب يرد في المساواة إلى الضرب الثالث من الشكل الأول، وفي الأعمية إلى الضرب الرابع منه، وذاك يرد في المساواة إلى الضرب الأول، وفي الأعمية إلى الضرب الثاني.(21/166)
الضرب الخامس ما أشار إليه بقوله "وكالرابع إلا أن أولاه جزئية" بخلافها في الضرب الرابع فهو حينئذ جزئية موجبة صغرى وكلية سالبة كبرى "ينتج سلبا جزئيا" مثاله بعض الموزون ربوي ولا شيء من الموزون يباع بجنسه متفاضلا فبعض الربوي لا يباع بجنسه متفاضلا "ويرد" إلى الضرب الرابع من الشكل الأول بعكس الصغرى؛ لأنها المخالفة للأولى فيه "مثله" أي مثل ما رد الرابع المذكور إليه في الأعمية فنقول في المثال المذكور بعض الربوي موزون والباقي بعينه من الكبرى والنتيجة.
الضرب السادس ما أشار إليه بقوله "وقلبه" أي الضرب الخامس "كمية" لا كيفية فهو كلية موجبة صغرى وجزئية سالبة كبرى "ينتج" سلبا جزئيا "مثله" أي الخامس أيضا مثاله "كل بر مكيل وبعض البر لا يباع بجنسه متفاضلا فبعض المكيل لا يباع إلخ" أي بجنسه متفاضلا ولما كان رد هذا الضرب إلى الضرب الثاني من الشكل الأول بعكس الكبرى، وجعلها صغرى وضم الصغرى إليها كبرى فينتج ما تنعكس إلى المطلوب وكان مما يخال أنها لا تنعكس ثم على تقدير أن تنعكس إنما تنعكس سالبة، والسالبة لا تصلح صغرى في الشكل الأول قرر المصنف رده بالطريق المذكور على وجه يصح أن يقع عكس الكبرى المذكور صغرى في(21/167)
ص -83-…الشكل الأول مع إشارة إلى دفع هذا المخيل فقال: "ورده باعتبار الكبرى موجبة سالبة المحمول" أي سلب محمولها عن موضوعها بجعل السلب جزءا للمحمول ثم أثبت ذلك السلب للموضوع ولملاحظة السلب والإيجاب فيها سميت موجبة سالبة المحمول "وهي" أي الموجبة السالبة المحمول "لازمة للسالبة" كما أن السالبة لازمة لها أيضا إذ لا فرق في المعنى بين سلب الشيء عن الشيء، وإثبات سلبه له، ومن ثمة لا تحتاج هذه الموجبة إلى وجود الموضوع كالسالبة بخلاف المعدولة ولهذا لم نجعلها في حكم المعدولة وكما تنعكس الموجبة المحصلة، وإن كانت جزئية تنعكس هذه السالبة "وبجعل عكسها" مستويا "صغرى" للضرب الثاني من الشكل الأول. وقد قدمنا أن هذه من ماصدق كون الصغرى في حكم الإيجاب، وإذا عرف هذا فعكس الكبرى في هذا المثال بعض ما لا يباع بجنسه متفاضلا بر فيجعل صغرى "لكل بر مكيل فينتج ما ينعكس" مستويا "إلى المطلوب" فإنه ينتج بعض ما لا يباع بجنسه متفاضلا مكيل، وهو ينعكس مستويا إلى: بعض المكيل لا يباع بجنسه متفاضلا، وهو المطلوب "ويبين هذا" الضرب "وما قبله" من الضروب الخمسة والأخصر، ويبين ضروبه "بالخلف" أيضا أي بقياسه، وهو أن تأخذ نقيض المطلوب كما أخذته في الشكل. الثاني "إلا أنك تجعل نقيض المطلوب كبرى" لصغرى الشكل الأول هنا؛ لأن الصغرى دائما موجبة، ونقيض النتيجة دائما كلية، وفي الشكل الثاني تجعل صغرى لكبرى الشكل الأول كما تقدم بيانه فتقول في هذا الضرب لو لم يصدق بعض المكيل لا يباع بجنسه متفاضلا لصدق نقيضه، وهو كل مكيل يباع بجنسه متفاضلا ويجعل كبرى للصغرى المذكورة، وهي كل بر مكيل فينتج من الضرب الأول من الشكل الأول كل بر يباع بجنسه متفاضلا، وهذا يناقض ما كان كبرى في هذا الشكل، وهو بعض البر لا يباع بجنسه متفاضلا فلا يجتمعان صدقا لكن الكبرى صادقة بالفرض فتعين كذب هذا وكذبه يستلزم كذب مجموع المقدمتين أو إحداهما؛ لأنهما لو صدقتا لصدق هو(21/168)
أيضا. والفرض أن الصغرى منه صادقة فلزم كون الكاذبة هي الكبرى الآن التي هي نقيض المطلوب، وإذا كذب نقيض المطلوب كان المطلوب صدقا، وهو المدعى، والباقي ظاهر تخريجه لمن تصوره، وبالله التوفيق.
"ثم اعلم" أن ترتيب ضروب هذا الشكل على هذا الوجه صنيع الإمام ابن الحاجب، ومشى عليه الشارحون لمختصره وغيرهم، وفي الشمسية جعل ما هو الضرب الثاني هنا الضرب الثالث، وما هو الضرب الثالث هنا الضرب الخامس، وما هو الضرب الرابع هنا الضرب الثاني، وما هو الضرب الخامس هنا الرابع، وأما الأول والسادس فكما هنا، ومشى على هذا شارحوها معللين بأن الأول أخص الضروب المنتجة للإيجاب والثاني أخص الضروب المنتجة للسلب، والأخص أشرف، وقدم الثالث والرابع على الأخيرين لاشتمالهما على كبرى الشكل الأول والأمر في ذلك، وإن كان قريبا ولا خلل في المقصود على كل حال إلا أنه لعل الأولى ما في الشمسية(21/169)
ص -84-…"الشكل الرابع خالف" الشكل "الأول فيهما" أي الصغرى والكبرى بأن كان الحد الوسط موضوعا في الصغرى محمولا في الكبرى، وإذ كان كذلك "فرده" إلى الشكل الأول "بعكسهما" أي المقدمتين عكسا مستويا فيجعل في كل منهما الموضوع محمولا والمحمول موضوعا ويبقيان على حالهما من الترتيب "أو قلبهما" أي أو بتقديم الكبرى على الصغرى من غير تبديل الموضوع محمولا، والمحمول موضوعا "فإذا كانت صغراه" أي هذا الشكل "موجبة كلية أنتج مع السالبة الكلية" التي هي كبراه سالبة جزئية "برده" إلى الضرب الرابع من الشكل الأول "بعكس المقدمتين فقط" أي لا مع القلب أيضا "لعدم السلب في صغرى" الشكل "الأول"، وهو لازم للقلب "و" أنتج "مع الموجبتين" الكلية والجزئية كبريين موجبة جزئية برده إلى الضرب الثاني من الشكل الأول "بقلبهما" أي المقدمتين "ثم عكس النتيجة لا بعكسها لبطلان الجزئيتين" فإنه لا قياس عنهما، وهو لازم من عكسهما "فسقطت السالبة الجزئية" في هذا الشكل لعدم صلاحيتها أن تكون فيه صغرى أو كبرى "لانتفاء الطريقين" اللذين إنما يرتد هذا الشكل إلى الشكل الأول بأحدهما، وهما العكس والقلب "معها" أي السالبة الجزئية أما انتفاء العكس فلأن هذه السالبة الجزئية لا تنعكس، وأما انتفاء القلب فلأنها حينئذ إن كانت كبرى صارت صغرى الأول سالبة، وإن كانت صغرى صارت كبرى الأول جزئية وكلاهما يمنع من الإنتاج فيه كما عرف. ثم لما كان مختار المصنف أن الموجبة الكلية إذا تساوى طرفاها تنعكس كنفسها فرع عليه "ولو تساويا" أي الطرفان "في الكبرى الموجبة الكلية صح" رد هذا الضرب إلى الضرب الأول من الشكل الأول بعكسهما لانتفاء المانع وكانت النتيجة حينئذ موجبة كلية "وإذا كانت الصغرى" في هذا الشكل "موجبة جزئية فيجب كون الأخرى السالبة الكلية"، وإلا لكانت إما موجبة لسقوط السالبة الجزئية وحينئذ فإن كانت كلية لزم منه جعل الجزئية الموجبة كبرى للشكل الأول أي الطريقين(21/170)
سلكت أما طريق العكس فلأن عكس الموجبة الكلية موجبة جزئية، وأما طريق القلب فلأن الفرض أن الصغرى موجبة جزئية فتحل محل الكبرى والجزئية الموجبة لا تصلح كبرى الأول، وإن كانت جزئية فالجزئيتان لا تنتجان بنفسهما ولا بعكسهما بوجه ثم هذا كله إذا كانت الموجبة الكلية غير متساو طرفاها. فأما إذا تساويا فنقول "وعلى التساوي تجوز الموجبة الكلية" أن تكون كبرى للموجبة الجزئية هنا؛ لأن المانع من ذلك إنما كان لزوم صيرورة كبرى الشكل الأول جزئية، وهذا المانع قد انعدم حينئذ لانعكاسها كلية إذا كانت كذلك كما تقدم غير مرة، ويتعين حينئذ أن يكون الرد بطريق العكس "أو" كانت الصغرى في هذا الشكل "السالبة الكلية فيجب" حينئذ أن تكون "الكبرى كلية موجبة لامتناع خلاف ذلك" أما الموجبة الجزئية فلأنه لو قلبت حينئذ المقدمتان لم يكن بد من عكس النتيجة، وهي جزئية سالبة لا تنعكس ولو عكستهما صارت الكبرى جزئية في الشكل الأول، وأما السالبة الكلية فلأنه حينئذ يصير القياس من سالبتين، وهما لا ينتجان أصلا، وقد عرفت مع هذا أيضا سقوط السالبة الجزئية فتلخص أن شرط إنتاج هذا الشكل أن لا تكون صغراه سالبة جزئية مع شيء من المحصورات الأربع ولا سالبة كلية مع مثلها، ولا مع(21/171)
ص -85-…موجبة جزئية ولا موجبة جزئية مع مثلها ولا مع الموجبة الكلية ولا أن تكون كبراه سالبة جزئية مع إحدى الثلاث الباقية فحينئذ "ضروبه" المنتجة من الضروب الممكنة الانعقاد فيه خمسة لا غير.
الضرب الأول "كليتان موجبتان" ينتج موجبة جزئية، مثاله "كل ما يلزم عبادة مفتقر إلى النية وكل تيمم يلزم عبادة، لازمه كل تيمم مفتقر إلى النية بقلب المقدمتين" فيقال كل تيمم يلزم عبادة وكل ما يلزم عبادة مفتقر إلى النية فينتج اللازم المذكور "ثم يعكس" عكسا مستويا "إلى المطلوب جزئيا بعض المفتقر تيمم فإن قلت ما السبب" في كون المطلوب في هذا جزئيا "وكل من لزوم الكلية" الكائنة في اللازم المذكور للملزوم المذكور "ومعناها صحيح قيل" إنما كان المطلوب في هذا جزئيا "لفرض كون الصغرى مطلقا" أي في أي شكل من الأشكال الأربعة قدر "ما اشتمل على موضوع المطلوب والكبرى محمولة" أي وكون الكبرى مطلقا ما اشتمل على محمول المطلوب كما تقدم "فإذا زعمت أن الاستدلال" على المطلوب الذي هو افتقار التيمم إلى النية "بالرابع" أي بالشكل الرابع "كان المفتقر موضوعه" أي المطلوب "والتيمم محموله" أي المطلوب "والحاصل عند الرد" إلى الشكل الأول "عكسه"، وهو أن يكون التيمم موضوع المطلوب، والمفتقر محموله فيحتاج إلى عكسه "فينعكس جزئيا" لما عرف من أن الموجبة الكلية تنعكس موجبة جزئية فهذا سبب كون اللازم في هذا الضرب جزئيا ثم نقول على وتيرة ما تقدم "ولو تساويا" أي الطرفان في الموجبة الكلية التي هي لازم هذا الضرب "كان" عكسه "كليا" ولا يتأتى السؤال المذكور.(21/172)
الضرب الثاني مثله أي الضرب الأول "إلا أن الثانية جزئية" فهو موجبتان كلية صغرى وجزئية كبرى ينتج موجبة جزئية مثاله "كل عبادة بنية وبعض الوضوء عبادة" ينتج بعض ما هو بنية الوضوء "والرد واللازم كالأول" أي ورد هذا الضرب إلى الشكل الأول واللازم له كالضرب الأول من هذا الشكل إلا أن الضرب الأول منه يرد إلى الضرب الأول من الشكل الأول، وهذا الضرب يرد إلى الضرب الثالث منه فتقلب المقدمتان إلى بعض الوضوء عبادة وكل عبادة بنية فينتج بعض الوضوء بنية ثم يعكس هذا اللازم إلى بعض ما هو بنية الوضوء، وهو المطلوب .
الضرب "الثالث كليتان الأولى سالبة" والثانية موجبة مثاله "كل عبادة لا تستغني عن النية وكل مندوب عبادة ينتج سالبة كلية لا مستغن" عن النية "بمندوب بالقلب والعكس" أي بقلب المقدمتين ليرتد إلى الضرب الثاني من الشكل الأول ثم عكس النتيجة إلى المطلوب فيقال كل مندوب عبادة، وكل عبادة لا تستغني عن النية فينتج كل مندوب لا يستغني عن النية ويعكس إلى لا مستغن عن النية بمندوب
الضرب "الرابع كليتان الثانية سالبة" والأولى موجبة "ينتج جزئية سالبة" مثاله "كل مباح مستغن" عن النية "وكل وضوء ليس بمباح فبعض المستغني عن النية ليس بوضوء بعكس(21/173)
ص -86-…المقدمتين" فتعكس الأولى إلى موجبة جزئية، وهي بعض المستغني عن النية مباح. والثانية إلى وكل مباح ليس بوضوء ثم تضمها إلى الأولى فيكون الضرب الرابع من الشكل الأول وينتج النتيجة المذكورة بعينها، وهذا بإطلاقه ماش على قولهم، وأما على ما تقدم غير مرة من أن الموجبة الكلية إذا تساوى طرفاها تنعكس كنفسها فنقول "ولو كان في الموجبة تساو" بين طرفيها "كانت" النتيجة سالبة "كلية" لكلية كلتا المقدمتين عينا، وعكسا.(21/174)
الضرب "الخامس جزئية موجبة وسالبة كلية كالرابع" أي هو كالضرب الرابع من هذا الشكل "لازما وردا" إلى الشكل الأول فينتج جزئية سالبة من الضرب الرابع من الشكل الأول بعكس المقدمتين مثاله بعض المباح مستغن عن النية ولا شيء من الوضوء بمباح فبعض المستغني عن النية ليس بوضوء فتعكس الأولى إلى بعض المستغني عن النية مباح والثانية إلى ولا شيء من المباح بوضوء فينتج اللازم المذكور بعينه. "ويبين الكل" أي الضروب الخمسة من هذا الشكل "بالخلف"، وهو أن تضم نقيض النتيجة إلى إحدى المقدمتين لينتج ما تنعكس إلى نقيض الأخرى غير أن المراد بإحدى المقدمتين المضموم إليها نقيض النتيجة في الضربين الأولين المنتجين للإيجاب هي الصغرى ويكون النقيض هو الكبرى كما في الخلف المستعمل في الشكل الثالث، وفي الضروب الثلاثة الأخر المنتجة للسلب هي الكبرى ويكون نقيض النتيجة هو الصغرى كما في الخلف المستعمل في الشكل الثاني فنقول في مثال الضرب الأول لو لم يصدق بعض المفتقر إلى النية تيمم لصدق نقيضه، وهو لا شيء من المفتقر إلى النية بتيمم وتضم كبرى إلى صغراه، وهي كل ما يلزم عبادة مفتقر إلى النية فينتج من الضرب الثالث من الشكل الأول لا شيء مما يلزم عبادة بتيمم وتعكس إلى لا شيء من التيمم يلزم عبادة، وهذا يناقض كبرى هذا الضرب المردود فإنها كل تيمم يلزم عبادة فالصادق إحداهما لكن كبرى هذا الضرب صادقة بالفرض فيكون الكاذب هذا اللازم وكذبه بكذب مقدمتيه اللتين هما الملزوم أو بكذب إحداهما والفرض أن هذه الصغرى صادقة فيلزم كون الكاذبة هي الكبرى التي هي نقيض المطلوب فالمطلوب حق. ونقول في مثال الضرب الثالث لو لم يصدق لا مستغن عن النية بمندوب لصدق نقيضه، وهو بعض المستغني عن النية مندوب فيضم صغرى إلى كبراه فينتج من الضرب الثاني من الشكل الأول بعض المستغني عن النية عبادة وينعكس إلى بعض العبادة مستغن عن النية، وهذا يناقض صغرى هذا الضرب، وهي كل عبادة(21/175)
لا تستغني عن النية فالصادق إحداهما لكن الصغرى صادقة بالفرض فيكون الكاذب هذا اللازم وكذبه بكذب كلتا المقدمتين أو إحداهما والفرض أن كبراه صادقة فيلزم كون الكاذبة هي هذه الصغرى التي هي نقيض المطلوب فالمطلوب حق، وعلى هذين الإيضاحين أخذ بالباقي ثم ترتيب هذه الضروب ليس باعتبار إنتاجها لبعدها عن الطبع بل باعتبار أنفسها فقدم الأول؛ لأنه من موجبتين كليتين والإيجاب الكلي أشرف الأربع ثم الثاني لمشاركته الأول في إيجاب مقدمتيه ثم الثالث لارتداده إلى الشكل الأول بالقلب ثم الرابع لكونه أخص من الخامس ثم حصر الضروب المنتجة من هذا الشكل في هذه رأى المتقدمين وكثير(21/176)
ص -87-…من المتأخرين وزاد بعضهم ثلاثة أخرى بل وزاد نجم الدين النخجواني في كل من الشكل الأول والثاني أربعة أخرى، وفي الثالث ستة أخرى، وفي الرابع سبعة أخرى والتحقيق خلافه كما يعرف في موضعه .
"تذنيب". قالوا، وإنما وضعت الأشكال في هذه المراتب؛ لأن الأول على النظم الطبيعي، وهو الانتقال من موضوع المطلوب إلى الحد الوسط ثم منه إلى محموله حتى يلزم منه الانتقال من موضوعه إلى محموله، وهذا لا يشارك الأول فيه غيره فوضع في المرتبة الأولى ثم ثني بالثاني؛ لأنه أقرب ما بقي من الأشكال إليه لمشاركته له في صغراه التي هي أشرف لاشتمالها على موضوع المطلوب الذي هو أشرف من المحمول؛ لأن المحمول إنما يطلب إيجابا وسلبا له ثم أردف بالثالث؛ لأن له به قربا لمشاركته له في أخس المقدمتين ثم ختم بالرابع إذ لا قرب له به أصلا لمخالفته إياه في المقدمتين وبعده عن الطبع جدا.
الاستقراء(21/177)
"الطريق الرابع الاستقراء تتبع الجزئيات" أي استقصاء جميع جزئيات كلي أو أكثرها لتعرف حكم من أحكام هي بحيث تتصف به هل الواقع أنها متصفة به على سبيل العموم أم لا، وإذ كان كذلك "فيستدل على" ثبوت "الحكم الكلي" الشامل لكل فرد من أفراد المحكوم عليه "بثبوته" أي ذلك الحكم "فيها" أي الجزئيات المذكورة فالاستدلال به استدلال بحال الجزئي على حال الكلي، وقد يقال على الغرض من هذا التتبع، وعليه تعريفه بإثبات الحكم لكلي لثبوته في جزئياته "وهو" قسمان "تام إن استغرقت" الجزئيات بالتتبع "يفيد القطع" كالعدد إما زوج، وإما فرد وكل زوج يعده الواحد وكل فرد يعده الواحد فكل عدد يعده الواحد ويسمى أيضا قياسا مقسما "وناقص خلافه" أي إن لم تستغرق جزئياته بالتتبع، وإنما تتبع أكثرها لا يفيد القطع بل يفيد الظن لجواز أن يكون ما لم يستقر أمن جزئيات ذلك الكلي على خلاف ما استقرئ منها كما يقال كل حيوان يحرك عند المضغ فكه الأسفل؛ لأن الإنسان والفرس وغيرهما مما نشاهده من الحيوانات كذلك مع أن التمساح بخلافه فإنه عند المضغ يحرك فكه الأعلى، وأفادني المصنف إملاء فإن قيل الاستقراء التام إنما يفيد معرفة أحكام الجزئيات ولا يلزم من ذلك القطع بأن حكم الكلي هذا الجواز أن يكون بعض أفراده المقدرة الوجود لو وجدت كان حكمها غير هذا فالجواب أن حاجتنا في الشرعيات إنما هي الحكم على الأمور الخارجية واستقراء الشرع تام فيحصل به المقصود قطعا بخلاف استقراء اللغة فإنه غير تام ا هـ. ثم لما كانت طرق الاستدلال المقبول منحصرة في خمسة الأربعة الماضية والخامس ما يسمى بالتمثيل وكان هذا من أجزاء هذا العلم لم يقل الطريق الخامس التمثيل بل قال "فأما التمثيل، وهو القياس الفقهي الآتي فمن مقاصد الفن" الأصولي تنبيها على أنه لا يجوز أن يعد هنا من المقدمات بالنسبة إلى هذا العلم لمنافاته حينئذ لجزئيته، وإن صلح أن يكون منها بالنسبة إلى غيره ما عدا المنطق إذ(21/178)
لا ضير في ذلك.(21/179)
ص -88-…الأمر "الرابع" من الأمور المقدمة في استمداد علم أصول الفقه.
الأمر "الرابع" من الأمور التي هي عبارة عن مقدمة هذا الكتاب "استمداده" أي ما منه مدد هذا العلم، وهو أمر أن أحدهما "أحكام" كلية لغوية "استنبطوها" أي استخرجها أهل هذا العلم من اللغة العربية باستقرائهم إياها إفرادا وتركيبا. "لأقسام من العربية جعلوها" أي علماء هذا العلم الأحكام المستنبطة المذكورة "مادة له" أي جزءا لهذا العلم، وإن كانت هذه الأحكام في نفس الأمر "ليست مدونة قبله" أي تدوين هذا العلم، وإنما تذكر في غضون استدلالاتهم في الفروع وغيرها وذلك كالعموم والخصوص والتباين والترادف والحقيقة والمجاز والظهور والنصوصية والإشارة والعبارة "فكانت" هذه الأحكام حينئذ بعضا "منه"، وأشار بهذا إلى دفع توهم أن هذا العلم أبعاض علوم كما سيشير إليه أيضا ثانيا ويصرح بنفيه ثالثا ثم استمداده من هذه الأحكام من جهة كل من تصورها وتصديقها، ومن ثمة ترى كثيرا منها معنونا ذكره في هذا العلم بمسألة .(21/180)
فإن قيل بعض مقاصد هذا العلم تتوقف معرفته على معرفة بعض هذه الأحكام فلا تكون جزءا منه ضرورة كون المتوقف عليه خارجا عن المتوقف فلا تكون تلك الأحكام من المقاصد الأصلية فالجواب كما قال "وتوقف إثبات بعض مطالبه" أي مسائل هذا العلم "عليها" أي هذه الأحكام تصورا وتصديقا كالتصديق مثلا بأن العموم يلحقه الخصوص "لا ينافي الأصالة" أي أن يكون ما توقف عليه ذلك المطلب من جملة أجزاء هذا العلم "لجواز" كون "مسألة" من العلم "مبدأ لمسألة" أخرى منه بالمعنى الأخص في المبدئية كما فيما ذكرنا من المثال ولا نسلم أن كل ما توقف على شيء يكون ذلك الشيء خارجا عنه فإن المركب يتوقف على كل من أجزائه ولا شيء من أجزائه بخارج عنه ثم لو سلمنا كون ما توقف عليه فيما نحن بصدده خارجا عن المتوقف فهو لا يقتضي أن يكون خارجا عن جملة هذا العلم "وهذا" أي: وإنما قلنا هذا العلم مستمد من هذه الأحكام "لأن الأدلة" الكلية السمعية "من الكتاب والسنة" التي هي موضوع هذا العلم "منها" أي اللغة العربية فالاستدلال بها يتوقف على معرفة أقسام اللفظ العربي صيغة ومعنى. "وحمل حكم العام مثلا والمطلق" أي: وحمل حكمه على ما يكون من الأدلة من الكتاب والسنة عاما، ومطلقا "ليس بقيد كونه" أي كون العام المحمول عليه "عام الأدلة" المذكورة ولا بقيد كون المطلق المحمول عليه مطلق الأدلة المذكورة أي ليس الحمل باعتبار هذا التقييد الخاص "بل ينطبق عليها" أي بل باعتبار كل منهما في نفسه فينطبق على عام الكلام السمعي، ومطلقه من الكتاب والسنة؛ لأن كلا من هذين من ما صدقات ذينك حينئذ فاندفع أن يقال الأحكام الكائنة لأقسام من العربية إنما هي مذكورة في هذا العلم من حيث كونها أحكام الأدلة من الكتاب والسنة لا مطلقا فلا يكون هذا العلم مستمدا من الأحكام على الوجه الذي ذكرتم. ووجه الاندفاع ظاهر.
ثم نبه على أن الأحكام قد لا تكون مجمعا عليها خشية توهم كونها أجمع مجمعا عليها(21/181)
ص -89-…فقال "وقد يجري فيها خلاف" بين المستنبطين كما ستقف عليه ثاني الأمرين ما أشار إليه بقوله "وأجزاء مستقلة تصورات الأحكام" الشرعية الخمسة التي هي الوجوب والتحريم والندب والكراهة والإباحة والوصف بالاستقلال إشارة إلى دفع توهم كون هذا العلم أبعاض علوم، وهو المراد بقولنا سالفا أنه سيشير إليه ثانيا، وإنما فسر الأجزاء بتصورات الأحكام؛ لأن التصديق بإثباتها ونفيها من حيث استفادتها من أدلتها من مسائل هذا العلم لا من مقدماته "كالفقه" أي كما أن الفقه يستمد من هذه الأجزاء المستقلة أيضا "يجمعهما" أي هذا العلم والفقه من حيث كون تصورات هذه الأحكام ممتدة لكل منهما "الاحتياج" الكائن لكل منهما "إلى تصورات محمولات المسائل" أي مسائلهما؛ لأن مقصود الأصولي من الأصول إثبات الأحكام ونفيها من حيث إنها مدلولة للأدلة السمعية، ومستفادة منها، والفقيه من الفقه إثباتها ونفيها من حيث تعلقها بأفعال المكلفين التي لا تقصد لاعتقاد، وهي تقع جزءا من محمولات مسائلهما كالأمر للوجوب والوتر واجب فإن معنى الأولى أنه دال على الوجوب ومفيد له، ومعنى الثانية أنه متعلق الوجوب، وموصوف به فوقع الوجوب جزءا من المحمول فيهما لا نفس المحمول، والحكم بالشيء نفيا، وإثباتا فرع تصوره بسائر أجزائه، وهذا بالنسبة إلى الفقه استطراد، وكذا قوله "على أن الظاهر استمداد الفقه إياها" أي تصورات الأحكام المذكورة "منه" أي علم الأصول "لسبقه" أي أصول الفقه في الاعتبار لكونه فرعا عليه "وإن لم يدون" علم الأصول مستقلا قبل تدوين الفقه فإن أول من دون الفقه ورتب كتبه، وأبوابه الإمام أبو حنيفة رحمه الله، ومن هنا قال الإمام الشافعي رحمه الله من أراد الفقه فهو عيال على أبي حنيفة كما نقله الفيروزآبادي الشافعي في طبقات الفقهاء وغيره ,. وقال المطرزي في الإيضاح ذكر الإمام السرخسي في كتابه أن ابن سريج وكان مقدما في أصحاب الشافعي بلغه أن رجلا يقع في أبي(21/182)
حنيفة فدعاه فقال يا هذا أتقع في رجل سلم له الناس ثلاثة أرباع العلم، وهو لا يسلم لهم الربع فقال وكيف ذلك؟ فقال الفقه سؤال وجواب، وهو الذي تفرد بوضع السؤال فسلم له نصف العلم ثم أجاب عن الكل وخصوصه لا يقولون: إنه أخطأ في الكل فإذا جعلت ما وافقوه فيه مقابلا بما خالفوه فيه سلم ثلاثة أرباع العلم له وبقي بينه وبين جميع الناس ربع العلم فتاب الرجل عن وقيعته في أبي حنيفة رحمه الله. ويقال إن أول من دون في أصول الفقه على سبيل الاستقلال الإمام الشافعي صنف فيه كتاب الرسالة بالتماس ابن المهدي.
"ويزيد" هذا العلم على الفقه "بها" أي بتصورات الأحكام المذكورة "موضوعات" لمسائله "في مثل المندوب مأمور به أولا والواجب إما مقيد بالوقت أو لا" فإن الموضوعات في هذه المسائل أسماء مشتقة من الأحكام وليس مثله بواقع في الفقه فيكون حينئذ احتياج هذا العلم إلى تصورات هذه الأحكام أكثر من احتياج الفقه إليها؛ لأن استمداده منها أوفر من استمداد الفقه ثم لو قال: مثل الإباحة حكم شرعي والإباحة ليست جنسا للوجوب لكان أولى "وعنه" أي كون هذا العلم يزيد بهذه الأحكام موضوعات لمسائله "عدت" هذه الأحكام "من(21/183)
ص -90-…الموضوع" أي موضوع هذا العلم؛ لأن ذلك يقتضي كون نفس الأحكام موضوعا لهذا العلم؛ لأن موضوعات مسائل العلم تكون بحيث يصدق عليها موضوع العلم، وقد أسلفنا بيان هذا، ومن ذهب إليه، وما عليه، وأن البحث عنها، وعن المكلف الكلي، وأحواله من باب التتميم واللواحق فراجعه ثم بقي هنا شيء، وهو أن الآمدي وابن الحاجب، ومن تابعهما ذكروا أن استمداد هذا العلم من ثلاثة هذين والثالث علم الكلام ولعله إنما لم يذكره؛ لأن مرادهم بما منه الاستمداد ما تكون الأدلة متوقفة عليه من حيث ثبوت حجيتها للأحكام أو من حيث إن إثبات الأحكام أو نفيها متوقف على تصورها أو التصديق بها كما هو ظاهر من الوقوف على تعليلهم لهذه الدعوى.
وعلم الكلام بالنسبة إلى الأدلة من قبيل الأول كما قرروه في كتبهم. ومراد المصنف بما منه الاستمداد ما بحيث يكون مادة وجزءا لهذا العلم وليس علم الكلام كذلك، ومن ثمة نبه فيما مضى على أنه ليس في الأصول من الكلام إلا مسألة الحاكم، وما شابهها أو ما له تعلق بها، وهي ليست من الأصول، وقد أوضحناه فيما سلف ثم إنه - وإن كان لا مناقشة في الاصطلاح - صنيع المصنف نظرا إلى المعنى اللغوي أولى؛ لأن المدد للشيء لغة ما يزيد به الشيء ويكثر، ومنه المدد للجيش، وهذا غير ظاهر في الكلام.(21/184)
"وما قيل كله أجزاء علوم باطل" أي، وقول تاج الدين السبكي إن علم الأصول ليس علما برأسه بل هو أبعاض علوم جمعت من الكلام والفقه واللغة والحديث والجدل ليس بحق "وما يخال من علم الحديث" أي، وما يظن من البحث عن أحوال راجعة إلى متن الحديث أو طريقه كالقول بأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب أو بالعكس أو لعمل الصحابي لا لروايته أو بالعكس، وعدالة الراوي وجرحه، وهو مذكور في علم الأصول كما في علم الحديث أنه من علم الحديث فيظن أن علم الأصول بالنسبة إلى هذا مستمد من علم الحديث حتى يكون الأصولي فيه عيالا على المحدث ليس كذلك كما أشار إليه بقوله "ليس استمدادا" أي ليس البحث عن هذه الأمور في هذا العلم استمدادا له من علم الحديث "بل" السبب في توارد بحثهما عنها "تداخل موضوعي علمين يوجب مثله" فقد عرفت جواز تداخلهما باعتبار عموم موضوع أحدهما بالنسبة إلى الآخر وخصوص موضوع الآخر بالنسبة إليه، ولا شك أن ذلك قد يوجب التقاءهما بحثا في بعض المطالب من غير أن يكون أحدهما عيالا على الآخر في ذلك، وموضوعا هذين العلمين كذلك كما أشار إليه بقوله "والسمعي" أي الدليل الكلي السمعي مطلقا "من حيث يوصل" العلم بأحواله إلى قدرة إثبات الأحكام لأفعال المكلفين "يندرج فيه السمعي النبوي من حيث كيفية الثبوت"، وهو ظاهر لكون هذا جزئيا من جزئيات ذاك. وقد عرفت أن ذاك موضوع أصول الفقه، وهذا موضوع علم الحديث فإذن علم الحديث باب من الأصول، وكون الأصولي يبحث عن الدليل المذكور من حيث الإيصال المشار إليه لا يقتضي نفي البحث عنه من حيث كيفية الثبوت، وكيف يقتضيه والبحث من(21/185)
ص -91-…حيث الإيصال المذكور لا يكون إلا بعد معرفة كيفية الثبوت من صحة وحسن وغيرهما، ومن ثمة تختلف صفات إثبات الأحكام للمكلفين باختلاف كيفية ثبوت الأدلة قوة وضعفا فلا تتنافى بين قيدي الموضوعين فظهر أن ذكر تفاصيل مباحث السنة المذكورة في الأصول لا يوجب استمداده إياها من علم الحديث بل هي من مباحثه بالأصالة أيضا "ومباحث الإجماع والقياس والنسخ ظاهر" أي، ومباحث هذه، وما يتبعها ظاهر كونها مباحثه المختصة به ولا يعلم علم من العلوم المدونة كفيل بها سواه، وأما الكلام فقد عرفت أنه ليس في الأصول منه إلا مسألة الحاكم، وما يتعلق بها، وأنها من المقدمات أو من المبادئ بالاصطلاح الأصولي، وأما الفقه فليس في الأصول منه إلا ما هو إيضاح لقواعده في صورة جزئية أو استطراد.
قال المصنف رحمه الله والجدل المذكور فيه أعني كيفية الإيراد على الأقيسة الفقهية ذوات العلل الجعلية منه حادث بحدوثه فإن أفرد هذا الجدل فكالفرائض بالنسبة إلى الفقه والجدل القديم جمل قليلة في بيان ما على المانع والمعلل من حفظ وضعيهما. وكذا مباحث أقسام اللفظ الآتي تفصيلها منه لظهور توقف الإيصال المذكور على معرفتها، وغاية ما يلزم كون المبادئ اللغوية جزءا من الأصول واللازم حق فظهر أن هذا العلم مستقل برأسه غير مستمد من علم مدون قبله شيئا يكون منه جزءا وهو المطلوب، وهذا أخر الكلام في المقدمة.(21/186)
ص -92-…المقالة الأولى: في المبادئ اللغوية
المبادئ جمع مبدإ، وهو في الأصل مكان البداءة في الشيء أو زمانه ثم سمي به ما يحل فيه توسعا مشهورا كما هنا فإن المراد ما يبدأ به قبل ما سواه من مسائل هذا العلم لتوقفه عليه كما هو المصطلح المنطقي؛ لأن المباحث المقصودة ذاتا للمصنف في هذه الترجمة من أجزاء هذا العلم، ومن ثمة تراه ينبه على ما ذكر فيها مما ليس كذلك أنه ليس منها، وقد عرف من هذا وجه تقديم هذه المقالة على المقالتين الآتيتين كما عرف مما تقدم قريبا وجه تسميتها لغوية ثم حاصل ما في هذه المقالة بيان معنى اللغة والإشارة إلى سبب وضعها، وبيان الواضع، وهل المناسبة بين اللفظ ومعناه لازمة، وأن المعنى الذي وضع اللفظ له ذهني أو خارجي أو أعم منهما وطريق معرفة الوضع، وهل يجري القياس في اللغة، وانقسام اللفظ إلى أقسام متعددات متباينات، ومتداخلات باعتبارات مختلفات كما ستقف عليها بحذافيرها مفصلات إن شاء الله تعالى مفيض الجود والخيرات.
المقام الأول في بيان معنى اللغة
"اللغات الألفاظ الموضوعة" للمعاني، وحذفها لشهرة أن وضعها إنما هو لمعانيها كما هو المتبادر واللفظ صوت معتمد على مخرج حرف فصاعدا، والمراد بالوضع تعيين اللفظ بإزاء المعنى فيعم ما يكون بنفسه أو بقرينة فيتناول الحقائق والمجازات والمعنى ما يقصد باللفظ ثم الألفاظ شاملة للمستعملات والمهملات المفردات والمركبات، والموضوعة مخرجة للمهملات، وإنما عبر بالجمع؛ لأنه وقع تفسيرا للجمع "ثم تضاف كل لغة إلى أهلها" أو يجري عليها صفة منسوبة إليهم فيقال لغة العرب، ولغة عربية تمييزا لها عما سواها.
المقام الثاني في بيان سبب وضع لغات الأناسي(21/187)
لما خلق الله تعالى الإنسان غير مستقل بمصالحه في معاشه من مأكول، ومشروب وملبس ومسكن، وما يلحق بها من الأمور الحاجية، وفي معاده من استفادة المعرفة والأحكام التكليفية التشريفية عن ربه سبحانه الموجبة لخيري الدارين مفتقرا إلى معاضدة غيره من بني نوعه على ذلك وكانت المعاضدة لا تتأتى له إلا بتعريف ما في الضمير، والواقع إما باللفظ أو بالكتابة أو بالإشارة كحركة اليد والرأس أو بالمثال، وهو الجرم الموضوع على شكل الشيء ليكون علامة عليه وكان في المثال عسر في كثير من الأشياء مع عدم عمومه إذ ليس كل شيء يتأتى له مثال، وقد يبقى المثال أيضا بعد انقضاء الحاجة فيقف عليه من لا يريد وقوفه عليه والإشارة لا تفي بجميع الأشياء أيضا وكيف، وهي لا تقع إلا في المحسوسات أو ما أجري مجراها والكتابة فيها من الحرج ما لا يخفى، وكانت الألفاظ أيسر على العباد فإنها كيفيات تحدث من إخراج النفس الضروري الحصول للإنسان الممتد للطبيعة بلا مشقة ولا(21/188)
ص -93-…تكلف مع أنها مقدرة بقدر الحاجة توجد مع وجودها وتنقضي مع انقضائها، وأعم فائدة؛ لأنها صالحة للتعبير بها عن كل مراد حاضر أو غائب معدوم أو موجود معقول أو محسوس قديم أو حادث كان الشأن كما قال المصنف "ومن لطفه الظاهر تعالى، وقدرته الباهرة" أي، ومن إفاضة الإحسان برفق على عباده في الباطن والظاهر كما هو واضح عند أولي الأبصار والبصائر، وآثار صفته الأزلية المؤثرة في المقدورات عند تعلقها بها الغالبة لعقول العقلاء من الأوائل والأواخر لشمولها كل الممكنات على سائر الوجوه من النعوت والصفات "الإقدار عليها" أي إعطاؤه تعالى إياهم القدرة على هذه الألفاظ السهلة الحصول عليهم متى شأوا "والهداية للدلالة بها" أي، وهدايتهم؛ لأن يعلموا غيرهم بها ما في ضمائرهم من الأغراض والمقاصد متى أرادوا.
ثم كما قال المصنف الإقدار ترجع إلى القدرة، والهداية إلى اللطف فهو لف ونشر مشوش "فخفت المؤنة" بهذا الطريق من التعريف ليسره وسهولته "وعمت الفائدة" لشموله، وإحاطته ووضع الضمير موضع الظاهر في قوله، ومن لطفه للعلم به وزيادة وضوحه أو لأنه بلغ من عظم الشأن إلى أن صار متعقل الأذهان.
المقام الثالث: في بيان الواضع(21/189)
وفيه مذاهب. أحدها: وهو مختار الإمام فخر الدين والآمدي وابن الحاجب ونسبه السبكي إلى الجمهور أنه الله تعالى، وأنه وقف العباد عليها بوحيه إلى بعض الأنبياء أو بخلقه الألفاظ الموضوعة في جسم ثم إسماعه إياها لواحد أو جماعة إسماع قاصد للدلالة على المعاني أو بخلقه تعالى العلم الضروري لهم بها، ومن ثمة يعرف هذا بالمذهب التوقيفي ولما كان في هذا الإطلاق بعض تفصيل أشار المصنف إليه بقوله "والواضع للأجناس" أسماء، وأعلاما للأعيان والمعاني مقترنة بزمان وغير مقترنة به "أولا الله سبحانه" هذا "قول الأشعري"، وقال للأجناس؛ لأنه لا شك في أن واضع أسماء الله تعالى المتلقاة من السمع والأعلام من أسماء الملائكة وبعض الأعلام من أسماء الأنبياء هو الله تعالى. وقال أولا؛ لأنه سيشير إلى أنه يجوز أن يتوارد على بعضها وضعان لله أولا وللعباد ثانيا كما سنوضحه قريبا "ولا شك في أوضاع أخر للخلق علمية شخصية" حادثة بإحداثهم إياها، ومواضعتهم عليها لما يألفون على اختلاف أنواعه وكيف لا، والوجدان شاهد بذلك بل كما قال الشيخ أبو بكر الرازي: إن هذه الأسماء لا تتعلق باللغة ولا بمواضعات أهلها واصطلاحهم؛ لأن لكل أحد أن يبتدئ فيسمي نفسه، وفرسه وغلامه بما شاء منها غير محظور عن ذلك، وقيد بالشخصية لانتفاء القطع بهذا الحكم للعلمية الجنسية "وغيرها" أي وغير هذه من أسماء الأجناس، وأعلامها "جائز" أن يتوارد عليه في الجملة وضعان سابق للحق ولا حق للخلق بأن يضع الباري تعالى اسما منها لمعنى ثم يضعه الخلق لآخر حتى يكون ذلك الاسم من قبيل الأضداد إن كان المعنيان متضادين أو يضعوا لذلك المعنى بعينه اسما آخر أيضا "فيقع الترادف" بين ذينك الاسمين إذ لا مانع من هذا التجويز فيتحرر أن محل النزاع أسماء الأجناس، وأعلامها في أول الأمر. وإنما(21/190)
ص -94-…ذهب من ذهب إلى هذا لقوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] فإن تعليمه تعالى آدم عليه السلام جميعها على سبيل الإحاطة بها ظاهر في إلقائها عليه مبينا له معانيها إما بخلق علم ضروري بها فيه أو إلقاء في روعه، وأيا ما كان فهو غير مفتقر إلى سابقة اصطلاح ليتسلسل بل يفتقر إلى سابقة وضع، والأصل ينفي أن يكون ذلك الوضع ممن كان قبل آدم، وممن عسى أن يكون معه في الزمان من المخلوقات فيكون من الله تعالى، وهو المطلوب(21/191)
ثانيها ما أشار إليه بقوله "وأصحاب أبي هاشم" المعتزلي المشهور يعبر عنهم بالبهشمية يقولون الواضع "البشر آدم وغيره" بأن انبعثت داعيتهم إلى وضع هذه الألفاظ بإزاء معانيها ثم عرف الباقون بتعريف الواضع أو بتكرار تلك الألفاظ مرة بعد أخرى مع قرينة الإشارة إليها أو غيرها كما في تعليم الأطفال ويسمى هذا بالمذهب الاصطلاحي، وإنما ذهب من ذهب إليه لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] أي بلغة قومه الذي هو منهم وبعث فيهم، وإطلاق اللسان على اللغة مجاز شائع من تسمية الشيء باسم سببه العادي، وهو مراد هنا بالإجماع. ووجه الاستدلال بهذا النص أنه "أفاد" هذا النص "نسبتها" أي اللغة "إليهم" سابقة على الإرسال إليهم "وهي" أي ونسبتها إليهم كذلك "بالوضع" أي يتعين ظاهرا أن تكون بوضعهم؛ لأنها النسبة الكاملة، والأصل في الإطلاق الحمل على الكامل "وهو" أي، وهذا الوجه "تام على المطلوب" أي على إثبات أن الواضع البشر "وأما تقريره" أي الاستدلال بهذا النص "دورا" أي من جهة أنه يلزم الدور الممنوع على تقدير أن يكون الواضع الله كما ذكره ابن الحاجب، وقرره القاضي عضد الدين "كذا دل" هذا النص "على سبق اللغات الإرسال" إلى الناس فإنه ظاهر في إفادته أن يكون أولا للقوم لسان أي لغة اصطلاحية لهم فيبعث الرسول بتلك اللغة إليهم "ولو كان" أي حصول اللغات لهم "بالتوقيف" من الله تعالى "ولا يتصور" التوقيف "إلا بالإرسال" للرسل إليهم "سبق الإرسال للغات فيدور" لتقدم كل من الإرسال واللغات على الآخر وحيث كان الدور باطلا كان ملزومه، وهو كون الواضع هو الله كذلك؛ لأن ملزوم الباطل باطل "فغلط لظهور أن كون التوقيف ليس إلا بالإرسال إنما يوجب سبق الإرسال على التوقيف لا" أنه يوجب سبق الإرسال "اللغات بل" هذا النص "يفيد سبقها" أي اللغات على الإرسال، ولا يلزم من سبقها عليه سبق التوقيف عليه أيضا لجواز وجودها(21/192)
بدونه فلا دور. وحينئذ "فالجواب" من قبل التوقيفية عن هذا الاستدلال للاصطلاحية "بأن آدم علمها" بلفظ المبني للمفعول وبني له للعلم بالفاعل، وهو الله أي علم الله آدم الأسماء "وعلمها" آدم غيره "فلا دور" إذا تعليمه بالوحي يستدعي تقدم الوحي على اللغات لا تقدم الإرسال إذ قد يكون هناك وحي باللغات وغيرها ولا إرسال له إلى قوم لعدمهم وبعد أن وجدوا وتعلموا اللغات منه أرسل إليهم "وبمنع حصر" طريق "التوقيف على الإرسال" أي والجواب من قبل التوقيفية عن استدلال الاصطلاحية بالنص المذكور على هذا الوجه بهذا أيضا "لجوازه" أي التوقيف من الله "بالإلهام" بأن ألقى الله تعالى في روع العاقل من غير كسب منه أن واضعا ما وضع هذه الألفاظ بإزاء هذه المعاني "ثم دفعه" أي هذا الجواب "بخلاف(21/193)
ص -95-…المعتاد" أي بأن عادة الله تعالى لم تجر بذلك بل المعتاد في التعليم التفهيم بالخطاب ونحوه فإذا لم يقطع بعدمه فلا أقل من مخالفته للظاهر مخالفة قوية فلا يترك الظاهر لمجرده. ثم قوله "ضائع" خبر قوله فالجواب، وما عطف عليه ووجه ضياعه ظاهر فإن ما بني هذا كله عليه من دعوى الدور لم يتم "بل الجواب" من قبل التوقيفية عما تقدم من الاستدلال بالنص المذكور للاصطلاحية على الوجه التام بمطلوبهم "أنها" أي الإضافة في قوله تعالى {بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] "للاختصاص" أي لاختصاصهم بها في التعبير عن مقاصدهم دائما أو غالبا من بين سائر اللغات "ولا يستلزم" اختصاصهم بها "وضعهم" أي أن يكونوا هم الواضعين لها "بل يثبت مع تعليم آدم بنيه إياها وتوارث الأقوام فاختص كل بلغة" أي بل يجوز أن يكونوا مختصين بها بعدم وضعه تعالى إياها وتوقيفهم عليها بأن يكون الله تعالى وضعها، وعلمها لآدم ثم آدم علمها لبنيه ثم ما زال الخلف منهم يتوارثها من السلف إلى أن تميز كل منهم بإرث لغة واختص بها دون من سواه. ولا ريب أن مثل هذا مما يسوغ الإضافة ولا سيما والكلام الفصيح طافح بإضافة الشيء إلى غيره بأدنى ملابسة فما الظن بمثل هذا، وهذا الجائز معارض لذلك الجائز ثم يترجح هذا بموافقته لظاهر {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ} [البقرة: 31]، ومخالفة ذاك لهذا الظاهر إذ الأصل عدم المخالفة، والجمع بين المتعارضين واجب ما أمكن، وقد أمكن بهذا الوجه فيتعين ", وأما تجويز كون علم" أي كون المراد بعلم آدم الأسماء كلها "ألهمه الوضع" بأن بعث داعيته له، وألقى في روعه كيفيته حتى فعل وسمى ذلك تعليما مجازا كما في قوله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ} [الأنبياء: 80]، وأطلق الأسماء، وأراد وضعها لكونها متعلقة كما هذا تأويل من الاصطلاحية لدفع الاحتجاج بهذه الآية للتوقيفية "أو ما سبق وضعه ممن تقدم" أي أو ألهمه الأسماء السابق وضعها ممن تقدم آدم(21/194)
فقد ذكر غير واحد من المفسرين أن الله تعالى خلق جانا قبل آدم، وأسكنهم الأرض ثم أهلكهم بذنوبهم، والظاهر أنه كان لهم لغة كما هذا تأويل آخر من الاصطلاحية لدفع الاحتجاج بهذه الآية للتوقيفية "فخالف الظاهر" من الآية مخالفة قوية ونحن ندعي الظهور، والاحتمالات البعيدة لا تدفعه أما الأول فلأن المتبادر من تعليم الله تعالى آدم الأسماء تعريف الله إياه الألفاظ الموضوعة لمعانيها وتفهيمه بالخطاب لا بالإلهام، وأما الثاني فلأن الأصل عدم وضع سابق على أن القوم المشار إليهم لم يثبت وجودهم على الوجه المذكور ولو ثبت لم يلزم أن هذه اللغات كانت لهم ولا يصار إلى خلاف الظاهر إلا بدليل كالإجماع في، وعلمناه ولم يوجد هنا ثم لما لزم من هذا ظن كون اللغات توقيفية واشتهر أن لا ظن في الأصول نبه المصنف على أنه لا ضير فيه؛ لأنها ليست من مقاصده. فقال "والمسألة ظنية من المقدمات، والمبادئ فيها تغليب" أي، وإطلاق المبادئ على ما تضمنته هذه المقالة تغليب لما هو منها لكثرته على ما ليس منها لقلته، وهذه المسألة من هذا القبيل فالمبدئية فيها من هذا الباب من التغليب، ومن هنا قال أبو الربيع الطوفي: وهذه المسألة من رياضيات الفن لا من ضرورياته ا هـ. على أن مباحث الألفاظ قد يكتفى فيها بالظواهر كما ذكره المحقق الشريف بل قد يكتفى بالظن في الأصول كما في كيفية إعادة المعدوم ونحوها(21/195)
ص -96-…من الأمور المتعلقة بالاعتقاد، ولم يوجد فيها القطع فاندفع ما ذكره الفاضل الكرماني عن أستاذه القاضي عضد الدين في درسه من أن المسألة علمية فلا فائدة في بيان ظاهرية قول الأشعري كما ذكره ابن الحاجب إذ الظنون لا تفيد إلا في العمليات. وقوله "كالتي تليها" أي كما أن الأمور السابقة على هذه من تعريف اللغة وبيان سبب وضعها من المقدمات لهذا العلم، والمبدئية فيها من باب التغليب المذكور أيضا ففاعل تليها ضمير مستتر يرجع إلى هذه المسألة، ومفعوله الذي هو الهاء يرجع إلى الموصوف المقدر بين الجار والمجرور أي كالأمور التي تليها هذه المسألة أو كما أن الأمور الآتية بعد هذه المسألة من بيان هل المناسبة بين اللفظ والمعنى معتبرة؟. وبيان الموضوع له، وطرق معرفة اللغات من المقدمات لهذا العلم، والمبدئية فيها من باب التغليب المذكور أيضا ففاعل تليها ضميره مستتر يرجع إلى الأمور الذي هو الموصوف المقدر، ومفعوله الذي هو الهاء يرجع إلى هذه المسألة أي كالأمور التي تلي هذه المسألة؛ لأن تلك السوابق، وهذه اللواحق ليست مما يتوقف عليه مسائل هذا العلم، وإنما تفيد نوع بصيرة فيه. فإذن هذا من النوع المسمى بالتوجيه عند أهل البديع ثم هذا مما يشهد بما ذكرناه صدر هذه المقالة من أن إطلاق المصنف المبادئ على ما اشتملت عليه من الأحكام اللغوية إنما هو بالاصطلاح المنطقي "وكون المراد بالأسماء المسميات بعرضهم" أي، وما قيل أيضا من قبل الاصطلاحية دفعا لاحتجاج التوقيفية بالآية الشريفة ليس المراد بالأسماء الألفاظ الموضوعة لمعانيها بل المراد بها حقائق الأشياء وخواصها بأن علمه أن حقيقة الخيل كذا، وهي تصلح للكر والفر وأن حقيقة البقر كذا، وهي تصلح للحرث، وهلم جرا بدليل قوله تعالى: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ} [البقرة: 31]؛ لأن العرض للسؤال عن أسماء المعروضات فلا يكون المعروض نفس الألفاظ على أن عرضها من غير تلفظ بها غير متصور(21/196)
وبتلفظ بها يأباه الأمر بالإتيان بها على سبيل التبكيت؛ ولأن الضمير الذي هو هم للأسماء إذ لم يتقدم غيره، وهي إنما تصلح لذلك إذا أريد بها الحقائق لإمكانه حينئذ تغليبا لذوي العلم على غيرهم "مندفع بالتعجيز بأَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ "؛ لأنه تعالى أمرهم بالإنباء على سبيل التبكيت والإظهار لعجزهم عن القيام به، وأضاف فيه الأسماء إلى هؤلاء، وهي المسميات. ومعلوم أن ليس المراد بها هنا المسميات لما يلزمه من إضافة الشيء إلى نفسه، وإنما المراد بها الألفاظ الدالة عليها فكذا الأسماء التي هي متعلق التعليم، وإلا لما صح الإلزام بطلبه الأنباء بالأسماء ثم إنبائه تعالى إياهم بها؛ لأن صحته إنما تكون لو سأل الملائكة عما علم آدم لا عن شيء آخر، والضمير في عرضهم للمسميات المدلول عليه ضمنا إذ التقدير: أما أسماء المسميات فحذف المضاف إليه لدلالة المضاف عليه؛ لأن الاسم لا بد له من مسمى، وعوض عنه اللام كقوله تعالى {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} [مريم: 4] كما هو مذهب الكوفيين وبعض البصريين وكثير من المتأخرين. وأما الأسماء للمسميات فحذف الجار والمجرور لدلالة الأسماء عليه كما هو مقتضى مذهب الباقين، وأيا ما كان فلا إشكال إذ لا منافاة بين كون المراد بالأسماء الألفاظ وبين عود الضمير إلى المسميات التي هي ما أضيفت الأسماء إليه أو كانت متعلقة بها هذا(21/197)
ص -97-…ولا يبعد عند العبد الضعيف - غفر الله تعالى له - أن يقال في هذه الآية استخدام أعني يكون المراد بالأسماء في وعلم آدم الأسماء الألفاظ ويكون الضمير في عرضهم راجعا إلى الأسماء مرادا بها المسميات كقول الشاعر:
إذا نزل السماء بأرض قوم …رعيناه وإن كانوا غضابا
وهذا مع كونه من المحسنات البديعية أيسر وأسهل "وبعد علم المسميات" أي، ومندفع أيضا ببعد أن يقال، وعلم آدم المسميات؛ لأن المفعول الثاني للتعليم إنما يكون من قبيل الأعراض والصفات لا من قبيل الأشخاص والذوات إلا بنوع مقبول من التأويلات كما يشهد به استقراء الاستعمالات فلا يترك الظاهر القريب السالم من تكلف تأويل لاحتمال خفي من غير دليل.(21/198)
ثالثها: وهو مذهب القاضي أبي بكر الباقلاني ونقله في الحاصل عن المحققين، وفي المحصول والتحصيل عن جمهورهم واختاره الإمام الرازي، وأتباعه التوقف ولما كان ظاهر هذا عدم القول بمعين من الأقوال الممكنة فيها، وقالوا في وجهه؛ لأن كلا من المذاهب فيها ممكن لذاته لا يلزم من فرض وقوعه محال لذاته، وشيء من الأدلة لا يفيد القطع فوجب الوقف أشار المصنف إليه مع الاعتراض عليه بقوله "وتوقف القاضي" عن القطع بشيء من المذاهب "لعدم" دليل "القطع" بذلك "لا ينفي الظن" بأحدها، وهو ما الدليل يفيد ظنه بل يجامع الظن بأحدها عدم القطع بشيء منها فلا يلزم الوقف إلا بالنسبة إلى القطع فقط "والمبادر" إلى الذهن والأحسن ولكن المبادر "من قوله" أي القاضي "كل" من المذاهب فيها "ممكن عدمه" أي الظن بأحدهما؛ لأن مثل هذا الإطلاق يقتضي المساواة في الاحتمال من غير رجحان لاحتمال على آخر "وهو" أي عدم الظن بأحدها "ممنوع" لوجود ما يفيد ظن أحدها راجحا على غيره كما لعله دليل الأشعري بالنسبة إلى قوله على أن عبارة البديع والقاضي كل من هذه ممكن والوقوع ظني فهذا ظاهر في أن هذا لفظه، وهذا صريح منه بظن أحدها وحينئذ فلا بأس بحمل الإمكان على ما ذكروه يعني ليس منها شيء ممتنع لذاته ثم النظر إلى الواقع يفيد ظن وقوع أحدها سالما عن المعارض الموجب للوقف، والله تعالى أعلم بما هو عنده فهو قائل به كذلك متوقف عن القطع به وبغيره لكن على هذا أن يقال إذا كان الأمر على هذا فلا ينبغي أن يكون واقفا عن القطع بل يكون قاطعا بعدم القطع بأحدها ولا ينافيه ظن أحدها لما ذكرنا ويمكن الجواب بأنه لعله كذلك على أنه إنما يلزم ذلك أن لو وجد من نفسه القطع بذلك عن ملاحظة ما في الواقع موجبا له في نظره والظاهر أنه لم يجده لمانع قام عنده. وإن لم يكن ذلك بمانع في الواقع فأخبر عما عنده في ذلك ثم كأنه يرى أن الظن لا يغني في هذه شيئا فأطلق الوقف، ولم يقيده بقوله عن القطع بناء(21/199)
على ظن تبادر ذلك منه فليتأمل.
رابعها: وهو مذهب الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني أن القدر الذي يحتاج إليه الواضع في تعريف الناس اصطلاحه ليوافقوه عليه توقيفي من الله تعالى، وما عداه ممكن ثبوته بكل(21/200)
ص -98-…من التوقيف والاصطلاح أو هو ثابت بالاصطلاح على اختلاف النقل عنه في هذا كما نذكره قريبا ويعرف هذا بالمذهب التوزيعي، وقد أشار المصنف إليه في ضمن رده بقوله "ولفظ كلها" في قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] "ينفي اقتصار الحكم على كون ما وضعه سبحانه القدر المحتاج إليه في تعريف الاصطلاح" والأحسن ينفي اقتصار ما وضعه الله على القدر المحتاج إليه في تعريف الاصطلاح "إذ يوجب" لفظ كلها "العموم" للمحتاج إليه وغيره فإنه من ألفاظ العموم، ولعل المصنف إنما اقتصر على هذا مع أن الأسماء تفيده أيضا؛ لأنه أنص فيه ثم غاية ما فيه أنه خصص منه ما تقدم ذكره لقيام دليل التخصيص عليه فبقي فيما وراءه على العموم ولا بدع في ذلك "فانتفى" بهذا "توقف الأستاذ في غيره" أي غير المحتاج في بيان الاصطلاح بالنسبة إلى ما هو الواقع بعينه فيه من التوقيف والاصطلاح "كما نقل عنه" أي الأستاذ لعدم موجب التوقف في ذلك. ومن الناقلين عنه هذا الآمدي وابن الحاجب ونقل الإمام الرازي والبيضاوي عنه أن الباقي اصطلاحي، وعلى هذا يقال بدل هذا فانتفى قوله بالاصطلاح في غيره، ولعل المصنف اقتصر على الأول لكونه أثبت عنده ثم لما كان وجه قوله دعوى لزوم الدور على تقدير انتفاء التوقيف في المحتاج إليه كما ذكره ابن الحاجب بأن يقال؛ لأنه لو لم يكن القدر المحتاج إليه في بيان الاصطلاح بالتوقيف لتوقف الاصطلاح على سبق معرفة ذلك القدر، والمفروض أنه يعرف بالاصطلاح فيلزم توقفه على سبق الاصطلاح المتوقف على معرفته، وهو الدور هذا تقرير القاضي عضد الدين، وأما العلامة، ومن تبعه فبنوا لزوم الدور على أنه لا بد في الأخيرة من العود إلى الاصطلاح الأول ضرورة تناهي الاصطلاحات أو دعوى التسلسل كما ذكره الآمدي بأن يقال لو لم يكن القدر المحتاج إليه في تعريف الاصطلاح بالتوقيف لتوقف معرفة الاصطلاح على سبق معرفة ذلك القدر باصطلاح آخر سابق،(21/201)
وهو على آخر، وهلم جرا والدور والتسلسل باطلان فملزومهما باطل جمع المصنف بينهما مصرحا بانتفائهما فقال "وإلزام الدور أو التسلسل لو لم يكن توقيف البعض منتف"؛ لأنا نمنع توقف القدر المحتاج إليه على الاصطلاح قولكم المفروض أنه يعرف بالاصطلاح ممنوع بل أنه لا يعرف بالتوقيف، وهو لا يوجب أن يعرف بالاصطلاح بل بالترديد والقرائن كالأطفال وبهذا يظهر أنه يمكن منع توقف الاصطلاح على سبق معرفة ذلك القدر "بل الترديد مع القرينة كاف في الكل". ثم لما لزم من سوق المصنف الجنوح إلى المذهب التوقيفي وكان على الاستدلال له بالآية المتقدمة أن يقال إنها إنما تثبت بعض المدعى لاختصاص الأسماء بنوع خاص من أنواع الكلمة الثلاثة أشار إلى دفعه عودا على بدء فقال "وتدخل الأفعال والحروف" في الأسماء من قوله تعالى {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ} [البقرة: 31] "لأنها أسماء"؛ لأن الاسم لغة ما يكون علامة للشيء ودليلا يرفعه إلى الذهن من الألفاظ، وملخصه اللفظ الدال بالوضع، وهذا شامل لأنواعها الثلاثة، وأما تخصيصه بالنوع المقابل للفعل والحرف فاصطلاح حدث من أهل العربية بعد وضع اللغات فلا يحمل القرآن عليه على أنه لو سلم أن الاسم لغة يختص بالنوع المذكور فالتكلم بالأسماء لإفادة المعاني المركبة إذ(21/202)
ص -99-…هي الغرض من الوضع والتعليم يتعذر بدونهما على أنه لو سلم عدم التعذر فحيث ثبت أن الواضع للأسماء هو الله فكذا الأفعال والحروف إذ لا قائل بأن الأسماء توقيفية دون ما عداها، والقائل بالتوزيع لم يذهب إليه، وإن أمكن على مذهبه أن يقال به .
"تذنيب" ثم قيل لا فائدة لهذا الاختلاف، وقيل بل له فائدة فقال المازري هي أن من قال بالتوقيف جعل التكليف مقارنا لكمال العقل، ومن قال بالاصطلاح أخر التكليف عن العقل مدة الاصطلاح على معرفة الكلام، وقيل غير ذلك، والله سبحانه أعلم.
المقام الرابع في أنه هل يحكم باعتبار المناسبة بين اللفظ ومعناه الموضوع له؟(21/203)
فقال المصنف آتيا بما هو من فصل الخطاب علاقة وكيدة بين الخروج من الكلام إلى آخر الأمر "هذا" أو مضى هذا أو هذا كما ذكر "أما اعتبار المناسبة" بين اللفظ ومعناه بمعنى أنه لا يقع وضع لفظ لمعنى إلا بعد أن يكون بينهما مناسبة "فيجب الحكم به" أي باعتبارها بينهما "في وضعه تعالى" أي فيما علم أن واضع ذلك اللفظ لذلك المعنى هو الله سبحانه فإن خفي ذلك علينا بالنسبة إلى بعض الألفاظ مع معانيها فلقصور منا أو لغيره من مقتضيات حكمته وإرادته. وإنما قلنا هذا "للقطع بحكمته" وكيف لا، وهو العليم الحكيم، وهذا القدر من بعض آثار مقتضياتها فيجب القطع به "وهو" أي اعتبار المناسبة بينهما "ظاهر في غيره" أي مظنون وجوده في غير ما علم من الألفاظ وضع الباري تعالى إياها لمعانيها؛ لأن الظاهر حكمة الواضع ورعاية التناسب من مقتضياتها، فالظاهر وجوده. وقوله "والواحد قد يناسب بالذات الضدين" جواب عن دخل مقدر، وهو أن اللفظ الواحد قد يكون للشيء وضده كالجون للأبيض والأسود، وبمناسبته لأحدهما لا يكون مناسبا للآخر. وإيضاح الجواب أن اللفظ الواحد يجوز أن يناسب بالذات معنيين متضادين من وجهين كلا من وجه فيصدق أن بين كل من المعنيين اللذين وضع اللفظ لكل منهما وبين اللفظ مناسبة ذاتية، وكشف الغطاء عن هذا أن المناسبة اتحاد الشيئين في المضاف كاتحاد زيد وعمرو في بنوة بكر، واتحاد متضادين في المضاف ليس بممتنع ولا مستبعد "فلا يستدل على نفي لزومها" أي المناسبة بين اللفظ، ومعناه كما ذهب إليه من يذكره "بوضع" اللفظ "الواحد لهما" أي للضدين كما تواردوه؛ لأنه قد ظهر أن هذا لا ينافيها ثم لما كان الذي عليه الجمهور تساوي نسبة الألفاظ إلى معانيها، وأن المخصص لبعضها ببعض المعاني دون بعض هو إرادة الواضع المختار، سواء كان هو الله تعالى أو غيره.(21/204)
وقد نقل غير واحد من الثقات أن أهل التكسر وبعض المعتزلة منهم عباد بن سليمان الصيمري ذهبوا إلى أن بين اللفظ والمعنى مناسبة طبيعية موجبة لدلالته عليه فلا يحتاج إلى الوضع، يدرك ذلك من خصه الله به كما في القافة ويعرفه غيره منه. وقد ذكر القرافي أنه حكى أن بعضهم كان يدعي أنه يعلم المسميات من الأسماء فقيل له ما مسمى أذغاغ، وهو من(21/205)
ص -100-…لغة البربر فقال أجد فيه يبسا شديدا، وأراه اسم الحجر، وهو كذلك. ورد الجمهور هذا القول بوجوه منها أنه لو كان كذلك لامتنع نقل اللفظ عن معناه الذاتي إلى معنى آخر بحيث لا يفهم منه الذاتي أصلا واللازم باطل فالملزوم مثله ثم ذكر السكاكي وغيره أن أهل التصريف والاشتقاق على أن للحروف في أنفسها خواص بها تختلف كالجهر والهمس وغيرهما مستدعية في حق عالمها إذا أخذ في تعيين شيء يركب منه المعنى أنه لا يهمل التناسب بينه وبين المعنى الذي عينه له قضاء لحق الحكمة. ومن ثمة ترى الفصم بالفاء الذي هو حرف رخو لكسر الشيء من غير أن يبين وبالقاف الذي هو حرف شديد لكسر الشيء حتى يبين، وأن لهيئات تركيبات الحروف أيضا خواص يلزم فيها ما يلزم في الحروف، ومن ثمة كان الفعلان والفعلى بالتحريك لما في مسماه كثرة حركة كالنزوان والحيدى. وقد تقرر أنه ينبغي حمل كلام العاقل على الصحة ما أمكن ولا سيما من كان من عداد العلماء لا جرم أن أول السكاكي قول عباد بهذا مجوزا أن يكون هذا مراده بنوع من الرمز إليه ووافقه المصنف في الجملة عليه لكن من غير التزام ضابط في المناسبة من جهة خاصة ليشمل ما ذكر وغيره لما على الحصر فيه من التعقب لما نذكر قريبا. فقال: "وهو" أي وجوب الحكم باعتبار المناسبة قطعا أو ظنا بين اللفظ، ومعناه كما فصلناه "مراد القائل بلزوم المناسبة في الدلالة" أي دلالة الألفاظ على معانيها فإنه ممكن ولم يوجد ما يمنع إرادته بل وجد ما يعينها، وهو حمل كلام العاقل على الصحة ما أمكن "وإلا فهو ضروري البطلان" أي، وإن لم يكن هذا مراد عباد من قوله فقوله ضروري البطلان عند أولي العلم والإتقان كما يشهد به ما ذكروه من الحجج والبرهان ثم ينبغي التنبه هنا لأمرين أحدهما أن صرف قول عباد، ومن وافقه عن ظاهره إلى أن يكون المراد به كما عليه التصريفيون إنما يتم إذا كان عباد، ومن وافقه قائلين بأنه لا بد مع ذلك من الوضع كما ذكر الإسنوي أنه(21/206)
مقتضى كلام الآمدي في النقل عنهم أما إذا كانوا مصرحين بأنه يفيد المعنى بذاته لمناسبة ذاتية بينهما من غير احتياج إلى وضع كما قررناه آنفا، ونقله في المحصول عن عباد، وقال الأصفهاني إنه الصحيح عنه فلا يتم وهو ظاهر ثانيهما أنه يطرق ما عليه التصريفيون ما ذكره المحقق الشريف من أنه لا يخفى أن اعتبار التناسب بين اللفظ والمعنى بحسب خواص الحروف والتركيبات يتأتى في بعض الكلمات، وأما اعتباره في جميع كلمات لغة واحدة فالظاهر أنه متعذر فما الظن باعتباره في جميع كلمات اللغات.
المقام الخامس: في بيان أن المعنى الموضوع له
اللفظ هل هو الذهني أو الخارجي أو الأعم منهما
وقد تعرض المصنف لهذا بقوله "والموضوع له" اللفظ "قيل الذهني دائما" كأنه يعني سواء كان له وجود في الذهن بالإدراك، وفي الخارج بالتحقق كالإنسان أو في الذهن لا في الخارج كبحر زئبق، وسواء كان اللفظ مفردا أو مركبا، وهذا مختار الإمام الرازي ووجه أما في المفرد فلاختلاف اللفظ لاختلاف الذهني دون الخارجي فإنا إذا رأينا جسما من بعيد وظنناه(21/207)
ص -101-…حجرا سميناه به فإذا دنونا منه، وعرفنا أنه حيوان لكن ظنناه طائرا سميناه به فإذا ازداد القرب، وعرفنا أنه إنسان سميناه به، وهذا آية على أن الوضع للذهني، وأما في المركب فلأن قام زيد مثلا يدل على حكم المتكلم بأن زيدا قائم، وهو أمر ذهني إن طابق كان صدقا، وإلا كان كذبا لا على قيام زيد في الخارج، وإلا كان صدقا وامتنع كذبه وليس كذلك وأجيب عن الأول بأن اختلاف الاسم لاختلاف المعنى في الذهن لظن أنه في الخارج كذلك لا لمجرد اختلافه في الذهن فالموضوع له ما في الخارج، والتعبير عنه تابع لإدراك الذهن له حسبما هو كذا، وعن الثاني بأنا لا نسلم أنه لو كان موضوعا للخارجي لامتنع الكذب، وإنما يلزم لو كانت إفادته للخارجي قطعية، وهو ممنوع لجواز أن تكون ظنية كالغيم الرطب للمطر فيختلف المدلول مع وجود اللفظ فيكون كذبا ثم يلزم هذا القول أن لا تكون دلالة اللفظ على الموجودات في الخارج مطابقة ولا تضمنا، وأن لا يكون استعماله فيها حقيقة. "وقيل" المعنى الموضوع له اللفظ هو "الخارجي"، وممن عزى إليه هذا أبو إسحاق الشيرازي في شرح اللمع والظاهر أن هذا فيما لمعناه وجود ذهني وخارجي لا ذهني فقط ثم قد تضمن رد وجه ما قبله وجهه "وقيل" المعنى الموضوع له اللفظ هو "الأعم" من الذهني والخارجي، ونص الأصفهاني على أنه الحق في المفرد فالإنسان مثلا موضوع للحيوان الناطق أعم من أن يكون موجودا في الذهن أو في الخارج والوجود عينا أو ذهنا خارج عن مفهومه زائد على الماهية كما أن كونه واحدا أو كثيرا زائد عليه، وما تقدم من إطلاق الحجر والطائر والإنسان على الجسم الواحد المرئي من بعيد ثم قريب إنما هو باعتبار اعتقاد أنه في نفس الأمر كذلك لا باعتبار أنه موجود في الذهن أو في الخارج قال، وأما المركب الخبري فإنما يفيد حكم المتكلم بأن النسبة بين الطرفين إيجابية أو سلبية واقعة في نفس الأمر وبهذا الاعتبار يحتمل التصديق والتكذيب، وأما(21/208)
الإنشائية فموضوعه لإنشاء مدلولها، وإثباته وليس لها خارج حتى يفيد إظهاره، وأما سائر المركبات فحكمه حكم المفردات "ونحن" نقول اللفظ موضوع "في الأشخاص للخارجي" أي في الأعلام الشخصية للمعنى الخارجي، وهو المسمى المتشخص في الخارج كما يبعد أن يذهب أحد إلى خلافه. وقوله "ووجوب استحضار الصورة للوضع لا ينفيه" جواب عن دخل مقدر هو أن الوضع للشيء فرع تصوره فلا بد من استحضار صورته في الذهن عند إرادة الوضع فحينئذ ما وضع اللفظ له هو الصورة الذهنية لا العينية. وتوضيح الجواب أن هذا الاستحضار ليس مقصودا لذاته بل ليتوصل به إلى معرفة الموضوع له الذي هو المعنى الخارجي وظاهر أن هذا لا ينافي كون الوضع له وكيف ينافيه، وهو طريق إليه "ونفيناه" أي ونفينا نحن في أوائل بحث المطلق من هذا الكتاب الوضع "للماهيات الكلية سوى علم الجنس على رأي"، وهو رأي الفارقين بينه وبين اسم الجنس في المعنى بأن علم الجنس كأسامة موضوع للحقيقة المتحدة في الذهن، واسم الجنس كأسد موضوع للفرد الشائع في أفراده وسيقول المصنف ثمة إن الفرق بينهما هكذا هو الأوجه.
واعلم أن هذا موهم بأن ثم من يقول بأن علم الجنس لم يوضع للحقيقة المتحدة في(21/209)
ص -102-…الذهن ولم أقف عليه بل الظاهر أن لا خلاف في أن علم الجنس موضوع للماهية، وإنما الخلاف في اسم الجنس كما سنشير إليه في المطلق، وعلى هذا ينبغي حذف على رأي أو زيادة اسم الجنس قبله "بل" نقول: اللفظ في غير الأعلام الشخصية والجنسية موضوع "لفرد غير معين فيما أفراده خارجية أو ذهنية" هذا والذي يظهر أن ما كان واضعه الله تعالى، ومسماه مدرك في الذهن محقق في الخارج فهو موضوع لمسماه الخارجي كما يدل عليه ظاهر قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ} [البقرة: 31] الآية. فإن العرض في هذا إنما يكون لما له وجود في نفس الأمر، وقد تقرر أن مسميات الأسماء التي وضعها الله تعالى لها، وعلمها آدم هي المعروضات، وما الظاهر أن الله تعالى وضعه لمعنى مدرك في الذهن غير موجود في الخارج فهو موضوع لذلك في الذهن، وما كان واضعه غيره تعالى فمنه ما هو موضوع للشخص الخارجي كالعلم الشخصي، ومنه ما هو موضوع للماهية الكلية الذهنية كالعلم الجنسي، ومنه ما هو موضوع لفرد غير معين أي شائع في جنسه، وهو اسم الجنس النكرة كما ذكره المصنف، والله سبحانه أعلم.
المقام السادس في بيان طرق معرفة اللغات(21/210)
أعني معرفة كون اللفظ الفلاني موضوعا للمعنى الفلاني، وقد أشار إليه بقوله "وطريق معرفتها" تنحصر في أمور ثلاثة أحدها "التواتر كالسماء والأرض والحر والبرد" لمعانيها المعروفة "وأكثر ألفاظ القرآن" لمعانيها "منه" أي مما ثبت لها بالتواتر كما ذكره في المحصول وغيره، وكذا أكثر ألفاظ الأحاديث النبوية كما ذكره الأصفهاني وغيره "والتشكيك فيه" أي هذا النوع بأن أكثر الألفاظ دورانا على الألسن لفظ الله، وقد وقع الخلاف فيه أسرياني هو أم عربي، وعلى أنه عربي أموضوع هو ابتداء من غير اشتقاق أو مشتق، وعلى الأول أللذات من حيث هو أو لبعض المعاني أو للمفهوم الكلي أو الجزئي، وعلى الثاني هل هو من أله أو من وله أو من غيرهما فما الظن بغيره من الألفاظ، وبأن الرواة أخذوا ذلك من تتبع كلام البلغاء، والغلط عليهم جائز وبأنهم معدودون كالخليل والأصمعي لم يبلغوا عدد التواتر فلا يحصل القطع بقولهم "سفسطة في مقطوع" به أي مكابرة لما علم قطعا بأخبار من يمنع العقل تواطؤهم على الكذب أنه موضوع لما استعمل فيه فلا يستحق قائله الجواب؛ لأنه كإنكار البديهيات. "والآحاد" أي وثانيها أخبار الآحاد "كالقر" أي كإخبارهم بأن القر بضم القاف وتشديد الراء اسم للبرد والتكأكؤ اسم للاجتماع والافرنقاع اسم للافتراق إلى غير ذلك مما لا يكون كثير الدوران في الكلام، وهذا لا يضره أيضا التشكيك بشيء مما تقدم؛ لأنه يكفي فيه الظن، وهو غير قادح فيه "واستنباط العقل من النقل" أي وثالثها أن يستنبط العقل من مقدمتين نقليتين حكما لغويا "كنقل أن الجمع المحلى" بأداة التعريف للجنس "يدخله الاستثناء" المتصل لأي فرد أو أفراد تراد "وأنه" أي الاستثناء المتصل المذكور "إخراج بعض ما يشمله اللفظ" فيعلم من هاتين المقدمتين المنقولتين أن الجمع المحلى يجوز أن يخرج منه أي فرد أو أفراد تراد "فيحكم" العقل "بعمومه" أي الجمع المذكور بضميمة حكمه بأنه لو لم يكن عاما متنا ولا لجميع(21/211)
الأفراد لم يجز فيه ذلك.(21/212)
ص -103-…والملخص أن العقل يدرك من الثانية أن كل ما يدخله الاستثناء فهو عام فتضم هذه النقلية إلى الأولى فينتج أن الجمع المحلى باللام عام، ومن هنا قال الفاضل العبري: لو بدلت الثانية بهذه وجعلت الثانية دليلا عليها لكان أظهر في المطلوب. ثم الآمدي وابن الحاجب لم يفردا هذا بالذكر؛ لأنه كما أشار إليه القاضي عضد الدين، وأوضحه المحشون لا يخرج عن الأولين إذ لا يراد بالنقل ما يكون مستقلا بالدلالة على الوضع من غير مدخل للعقل فيه لاستحالة ذلك إذ صدق المخبر لا بد منه في حصول العلم بالنقل، وإنه عقلي لا يعرف بالنقل لاستلزامه الدور أو التسلسل، وقد اتفقوا على أن الاستعانة بالعقل لا يشترط أن تكون بمقدمة من القياس بل المراد أن يكون للنقل فيه مدخل، وهذا كذلك وكأن المصنف إنما أفرده كالبيضاوي لامتيازه عنهما بأن ما يثبت به لا يثبت ابتداء بمنطوق العبارة بل يثبت لازما لها بخلافهما ثم حيث كان في الحقيقة مندرجا فيهما فقد يكون قطعيا، وقد يكون ظنيا فتنبه لذلك.(21/213)
"أما" العقل "الصرف" بكسر الصاد أي الخالص "فبمعزل" بفتح الميم وكسر الزاي أي بمكان بعيد عن أن يستقل بمعرفة اللغات؛ لأنها أمور وضعية ممكنة والعقل إذا لاحظ الممكن من حيث هو كذلك مع قطع النظر عن غيره تردد في وجوده وعدمه؛ لاستوائهما بالقياس إلى ذاته فلا بد من انضمام أمر آخر إليه ليجزم بأحد طرفيه ولا يتصور فيما نحن بصدده إلا النقل على أسلوب ما تقدم فكان الطريق فيه ذلك ثم نبه على ما هو المراد بنقلها بقوله "وليس المراد" من نقلها "نقل قول الواضع كذا لكذا" أي اللفظ الفلاني موضوع للمعنى الفلاني "بل" المراد من نقلها "توارث فهم كذا" أي المعنى الفلاني "من كذا" أي اللفظ الفلاني فإن ذلك علامة واضحة على أن العلاقة بينهما وضع ذلك اللفظ لذلك المعنى لبعد توارث ذلك مع انتفاء الوضع "فإن زاد" الطريق النقلي المعرف لها على هذا المقدار بنحو اللفظ الفلاني موضوع للمعنى الفلاني "فذاك" أي فبها ونعمت لما فيه من زيادة الوضوح بالنص الصريح عليه، وإلا فلا ضير.
المقام السابع في أن القياس هل يجري في اللغة(21/214)
بمعنى أنه يكون طريقا مثبتا لها، وقد أشار المصنف إليه مفسرا لما هو محل الخلاف، ومبينا لما هو المختار فقال "واختلف في القياس أي إذا سمى مسمى باسم فيه" أي في ذلك المسمى "معنى يخال اعتباره في التسمية" أي يظن كون ذلك المعنى سببا لتسمية ذلك المسمى بذلك الاسم "للدوران" أي لأجل دوران التسمية بذلك الاسم مع ذلك المعنى وجودا وعدما فيرى أنه ملزوم التسمية، وأنها لازمة له فأينما وجد توجد "ويوجد" أي والحال أنه يوجد ذلك المعنى "في غيره" أي غير ذلك المسمى أيضا "فهل يتعدى الاسم إليه" أي إلى ذلك الغير "فيطلق" ذلك الاسم "عليه" أي على ذلك الغير "حقيقة كالمسمى نقلا" أي كما أطلق الاسم على ذلك المسمى الذي ثبت إطلاقه عليه نقلا لا تعدية أو لا يتعدى الاسم إليه بل يخص حقيقة ذلك المسمى، وإنما يطلق إذا أطلق على غيره مجازا "كالخمر" فإنها اسم للنيء من ماء(21/215)
ص -104-…العنب إذ غلا واشتد وقذف بالزبد فهل يطلق حقيقة "على النبيذ" من الأنبذة المسكرة كما يطلق على النيء من ماء العنب المذكور إلحاقا له به في الاسم المذكور "للمخامرة" أي للمعنى الذي هو التخمير للعقل، وهو تغطيته المشترك بينهما الذي دارت التسمية للمسمى معه وجودا وعدما فإن التخمير للعقل ما لم يوجد في ماء العنب لا يسمى خمرا بل يسمى عصيرا وخلا، وإذا وجد فيه سمي بها. "أو يخص" هذا الاسم الذي هو الخمر "بمخامر هو ماء العنب" المذكور فلا يطلق حقيقة على النبيذ لانتفاء تلك الذات "والسارق" أي، ومثل السارق فإنه اسم للآخذ مال الحي خفية من حرز لا شبهة له فيه فهل يطلق حقيقة "على النباش"، وهو من يأخذ كفن الميت خفية من القبر بعد دفنه كما يطلق على الآخذ المذكور إلحاقا له به في الاسم المذكور "للأخذ خفية" أي لهذا المعنى المشترك بينهما الذي دارت التسمية للمسمى معه وجودا، وعدما فإن الآخذ لمال الحي مجاهرة لا يسمى سارقا بل يسمى مكابرا أو غاصبا، وإذا وجد المعنى المذكور يسمى سارقا أو لا يطلق حقيقة عن النباش لانتفاء تلك الذات "والزاني" أي، ومثل الزاني فإنه اسم للمولج آلته في قبل آدمية حية محرمة عليه بلا شبهة فهل يطلق "على اللائط" إلحاقا له به في الاسم المذكور للإيلاج المحرم الذي هو المعنى المشترك بينهما الذي دارت التسمية للمسمى معه وجودا وعدما أو لا يطلق حقيقة على اللائط لانتفاء تلك الذات فالمشهور أن في هذه المسألة قولين أحدهما أن القياس يجري في ذلك، وهو مختار ابن سريج وابن أبي هريرة وأبي إسحاق الشيرازي والإمام الرازي ونقل ابن جني أنه قول أكثر علماء العربية. ثانيهما المنع، وهو قول أكثر الشافعية منهم إمام الحرمين والغزالي والآمدي، وعامة الحنفية، وإليه أشار بقوله "والمختار نفيه" أي كون القياس طريقا مثبتا للغة. "قالوا" أي المثبتون: الحجة "الدوران" أي دار الاسم مع المعنى وجودا وعدما كما بينا فدل على(21/216)
اعتباره؛ لأن الدوران يفيد ظن العلية. "قلنا" في جوابهم "إفادته" أي الدوران ذلك "ممنوعة" فإن في كونه طريقا صحيحا لإثبات المطلوب خلافا يأتي في مسالك العلة، والحنفية على منعه فهذا المنع على طريقتهم، ومن اقتفاها "وبعد التسليم" لصحته طريقا مثبتا للمطلوب كما هو طريقة غيرهم وتنزلا منهم "إن أردتم" بقولكم دار الاسم مع المعنى وجودا أو عدما أنه دار معه "مطلقا" أي في كل محل بأن ثبت عن العرب أن الاسم لما فيه ذلك المعنى كائنا ما كان "فغير المفروض" محلا للنزاع؛ لأن المفروض محلا له أن الاسم إذا كان موضوعا لمسمى ثم رأينا فيه معنى يناسب أن يكون سبب تسميته بذلك الاسم ووجدنا ذلك المعنى في مسمى غيره فهل يعدى ذلك الاسم إلى الغير أيضا حكما على اللغة أم لا، وهذا الذي ذكرتم ليس كذلك "لأن ما يوجد فيه" ذلك المعنى من المسميات "حينئذ" أي حين يكون ثابتا عنهم كون الاسم موضوعا لما فيه ذلك المعنى يكون "من أفراد المسمى" بذلك الاسم أفاد الاستقراء لكلامهم أو النقل عنهم أن الاسم لمشترك معنوي ينطبق عليها، وهو ما فيه ذلك المعنى كما في تسمية زيد في ضرب زيد فاعلا لكون تتبع كلام العرب أفاد أن كل ما أسند الفعل أو شبهه إليه، وقدم عليه على جهة قيامه به يسمى فاعلا وتسميته ضاربا لنقلهم أن اسم الفاعل اسم لذات قام بها(21/217)
ص -105-…الفعل. وهذا لا نزاع في صحة إطلاقه على ما وجد فيه ذلك المعنى، وإن لم يسمع إطلاقه على ذلك الفرد بعينه؛ لأن هذا وضع وتوقيف منهم على ذلك لا أن بعض أفراده مسكوت عن تسميته فيقاس على غيره منها في ذلك ثم كما أنه لا يسمع دعوى قياس بعض أفراد مسمى في حكم تناولها بطريق العموم على بعض في ذلك لا يسوغ سماع دعوى قياس تسمية بعض أفراد مسمى باسم موضوع للمعنى الشائع فيها على بعض في التسمية بذلك الاسم بجامع أن ليس أحدها بأولى من الآخر في ذلك في الفصلين مع انتفاء شرط القياس، وهو أن يكون المقيس غير منصوص عليه فإن كلا من هذين الأمرين في هذين الفصلين ثابت بعين اللفظ "أو في الأصل فقط" أي أو أردتم بقولكم دار الاسم مع المعنى وجودا وعدما في المقيس عليه كالخمر في النيء من ماء العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد لا في غيره من المحال سلمنا كون الأمر فيه كذلك كما قدمناه ثم "منعنا كونه" أي الدوران في الأصل "طريقا" مثبتا لتسمية الشيء باسم لمسمى فيه معنى يناسب تسميته به، وقد وجد ذلك المعنى في ذلك الشيء "هنا" أي في هذه المسألة لجواز أن يكون الاسم موضوعا للمجموع من ذلك المعنى وتلك الذات فيكون الخمر موضوعا لمجموع النيء من ماء العنب المخامر للعقل فيكون المعنى حينئذ جزء العلة المركبة منه، ومن عين المحل لا علة مستقلة، فلا يستلزم وجود المعنى فقط وجود الاسم.(21/218)
ثم لما كان من أدلة المثبتين القياس ثبت شرعا فيثبت لغة؛ لأن المعنى الموجب للثبوت فيهما واحد، وهو الاشتراك في معنى يظن اعتباره بالدوران أشار إليه وإلى دفعه بقوله "وكونه" أي القياس "كذلك" أي طريقا صحيحا "في الشرعيات" العمليات "للحكم الشرعي" أي لتعديته فيها من محل إلى محل "لا يستلزمه" أي كونه طريقا صحيحا "في الاسم" أي في تعدية الاسم لمسمى لغة إلى آخر لم تعلم تسميته به لغة أيضا "لأنه" أي قياس ما لم ينص عليه من الشرعيات العمليات على ما نص عليه منها لإثبات الحكم المنصوص فيما لم ينص عليه لمشاركته إياه في المعنى المصحح لتعديته إليه كما يعرف في محله إن شاء الله أمر "سمعي تعبد به" أي تعبدنا الشارع به في ذلك بشروط "لا" أنه أمر "عقلي" يستوي فيه الممكنات من الشرعيات واللغويات وغيرهما فلا يكون دليلا إلا في الشرعيات العمليات خاصة، وأيضا إنما كان القياس حجة فيها بالإجماع إذ خلاف الظاهرية غير قادح ولا إجماع هنا، وبهذا ظهر أن ليس المعنى الموجب للقياس في الشرعي واللغوي واحدا. "ثم" إن قيل مجرد تجويز كون الاسم موضوعا للمجموع من الوصف والذات لا يقتضي ترجح كونه كذلك حتى يمنع صحة كون الوصف علة بمفرده فيمنع من إطلاق الاسم على ما فيه ذلك فيقال "تجويز كون خصوصية المسمى معتبرة" في تسمية المسمى بذلك الاسم "ثابت بل ظاهر" أي مظنون "بثبوت منعهم طرد الأدهم والأبلق والقارورة والأجدل والأخيل، وما لا يحصى" من أسماء مسميات فيها معنى يناسب تسميتها بها فيما يوجد فيه ذلك المعنى من غيرها حتى إنهم لا يطلقون الأدهم الذي هو اسم للفرس الأسود على غيره مما هو أسود، ولا الأبلق الذي هو اسم للفرس المخطط بالبياض والسواد على غيره مما هو(21/219)
ص -106-…مخطط بهما، ولا القارورة التي هي اسم لمقر المائعات من الزجاج على ما هو مقر لها من غيره، ولا الأجدل الذي هو اسم للصقر لقوته على غيره مما له هذا الوصف، ولا الأخيل الذي هو اسم لطائر به خيلان على غيره مما به ذلك، ولا السماك الذي هو اسم لكل من كوكبين مخصوصين مرتفعين على ما له السموك من غيرهما إلى غير ذلك مما يتعذر على البشر إحصاؤه فإن هذا المنع مما يفيد ظاهرا أن ذوات المسميات التي بها هذه المعاني جزء من علة تسميتها بهذه الأسماء، وإلا لم يكن لمنعهم وجه في الظاهر "فظهر" من هذا "أن المناط" لتسمية المسمى باسمه المخيل كونه له باعتبار ما فيه من المعنى "في مثله" أي هذا النوع هو "المجموع" من الذات والوصف المخصوصين "فإثباته" أي اللغة حينئذ "به" أي بالقياس إثبات "بالاحتمال" المرجوح، وفي بعض النسخ بمحتمل بصيغة المصدر الميمي، ولا شك في أن إثبات اللغة بالاحتمال المرجوح غير جائز اتفاقا؛ لأنه حكم بالوضع بمجرد الاحتمال ثم يقع القياس ضائعا وكان الأولى ذكر هذه الجملة عقب قوله منعنا كونه طريقا هنا؛ لأنها جواب عن إيراد مقدر على سند مقدر لهذا المنع كما رأيت فتأمله.(21/220)
ثم قيل: هذا الاختلاف في نفس الألفاظ وإطلاقها على مسميات أخر لا في أحكامها فإنها تثبت بالقياس بلا خلاف، وقيل في الحقيقة لا المجاز، والظاهر كما قال الأصفهاني أنه في الألفاظ وأحكامها والحقيقة والمجاز، ثم ثمرة الخلاف تظهر في الحدود في الجنايات المذكورة فالقائل بالقياس يجوز التسمية ويثبت حد الخمر والسرقة والزنا في شارب النبيذ والنباش واللائط بالنصوص الواردة فيها وتناولها لما يلحق بها، ومن لا يقول بالقياس لا يجوز التسمية ولا يثبت الحدود المذكورة فيها لعدم تناول النصوص إياها ذكره الشيخ سراج الدين الهندي في شرح البديع. وعند العبد الضعيف في الشق الثاني نظر فإن الشافعية النافين للقياس فيها مصرحون بثبوت الحدود في هذه الجنايات المذكورة، ووجهوه بما لا يخلو من نظر كما يعرف في موضعه.
المقام الثامن في أقسام اللفظ
وهي ضربان ما تخرجه القسمة الأولى له، وما تخرجه غيرها، ولما كان تقديم الضرب الأول أولى أشار إليه مبينا للحيثية المقتضية له فقال "واللفظ إن وضع لغيره" أي لغير نفسه بأن وضع لمعنى "فمستعمل، وإن" فرض أنه "لم يستعمل" قط في ذلك المعنى ليكون حقيقة أو في معنى غيره فيكون مجازا "وإلا" أي، وإن لم يوضع لغيره بل وضع لنفسه "فمهمل، وإن" فرض أنه "استعمل" استعمالا ما "كديز ثلاثة" برفع كليهما على الابتدائية والخبرية فإن ديزا لفظ مهمل لعدم وضعه لمعنى، وقد استعمل محكوما عليه بأنه ثلاثة أحرف في هذا الاستعمال "وبالمهمل" أي وباستعمال المهمل في نفسه "ظهر وضع كل لفظ لنفسه" وضعا علميا كما صرحوا به "كوضعها لغيره" أي كما ظهر وضع بعض الألفاظ لغير نفسه مع ذلك بالاستعمال الفاشي له في غير نفسه فأعاد الضمير إلى بعضها المفهوم مما تقدم بمعونة السياق، وأنث(21/221)
ص -107-…الضمير الراجع إليه بناء على اكتسابه التأنيث من المضاف إليه ولا يقال لم لا يجوز أن يكون استعمال اللفظ في نفسه مجازا، وفي غيره حقيقة فلا يلزم أن يكون كل لفظ وضع لنفسه كما وضع بعضها لغيره "لأن المجاز يستلزم وضعا للمغاير" أي؛ لأنا نقول المجاز غير ممكن؛ لأنه يستلزم وضعا للشيء المغاير له لما تقرر من أن المجاز يقتضي سابقة الوضع لغير المتجوز فيه؛ لأنه استعمال اللفظ في غير ما وضع له "وهو" أي الوضع للمغاير "منتف في المهمل" إذ الفرض أنه لم يوضع لغير نفسه "ولعدم العلاقة" بين ما اللفظ باعتباره حقيقة، وما اللفظ باعتباره مجازا في المستعمل، وأما في المهمل فبطريق أولى؛ لأنه لم يوضع لغيره أصلا فالأول خاص بالمهمل والثاني بالنسبة إلى المستعمل ولا تحقق للمجاز بدون تحقق علاقة صحيحة بينه وبين الحقيقة قال المصنف رحمه الله فصار استعماله في نفسه لا يجوز مجازا، سواء كان موضوعا لغيره أو لا لعدم العلاقة المعتبرة فإنما يجوز كل منهما حقيقة ا هـ.
قال العبد الضعيف - غفر الله تعالى له -: وعليه أن يقال لم لا يجوز أن يكون استعمال اللفظ الموضوع لغيره في نفسه مجازا لوجود سابقة الوضع المغاير، والعلاقة المصححة لذلك، وهي الاشتراك الصوري بينهما أو المجاورة فإنه لما كان اللفظ موضوعا لمعناه مستعملا فيه مرتسما معه في الخيال حصل بينهما مجاورة صالحة لأن تجعل علاقة كما صرح به الأصفهاني فليتأمل.(21/222)
فإن قيل فعلى هذا يصير اللفظ الموضوع لغيره مشتركا لفظيا لوضعه لغيره ولنفسه فيجب التوقف فيما هو المراد به قبل الحكم عليه مثلا إذا لم توجد قرينة تعين أحدهما كما هو شأن المشترك اللفظي في الاستعمال لكن تبادر المغاير عند ذكره حتى يحكم بأنه المراد منه قبل أن يظهر أنه كذلك بالحكم عليه أو ليس كذلك بالحكم على نفسه كما أشار إليه بقوله: "ويجب كون الدلالة على مغاير قبل المسند" المفيد ذكره لأحدهما ينفي ذلك. فالجواب أولا بمنع صيرورة اللفظ مشتركا اصطلاحا بمجرد هذا. وثانيا سلمنا أنه مشترك، وما ذكرتم من التبادر لا ينفيه؛ لأنه لم ينشأ من عدم وضعه لنفسه بل مما قال "لعدم الشهرة وشهرة مقابله" أي عدم شهرة الوضع في الوضع لنفسه وشهرة الوضع في مقابل الوضع لنفسه، وهو الوضع لغيره بل قد أنكر الوضع لنفسه كما سيأتي وجاز أن يشتهر اللفظ الذي له وضعان في أحد مفهوميه فيتبادر عند إطلاقه "ولما كان" وضع اللفظ لنفسه "غير قصدي" أي غير مقصود بالذات "لأن الظاهر أنه" أي وضع اللفظ لنفسه "ليس إلا تجويز استعماله ليحكم عليه نفسه" بما يسوغ الحكم به عليه حتى كأن هذا الوضع في المعنى هو قول الواضع جوزت أن تذكر هذه الألفاظ ليحكم على ذواتها بما يصح عليها مهملة كانت أو مستعملة فوضعها لنفسها هو هذا التجويز فقط بخلاف وضعها لغيرها فإن المقصود به إفادة الأحكام الكائنة لها في مواقع الاستعمال كما سيأتي بيانه قريبا. "لم يوضع" للفظ كائنا ما كان "الألقاب الاصطلاحية" أي المنسوبة إلى اصطلاح الأصوليين "باعتباره" أي هذا الوضع لانتفاء مقتضياتها الاصطلاحية(21/223)
ص -108-…حينئذ "فلم يكن كل موضوع للمغاير مشتركا" مع أنه لا بد له من وضعين لنفسه ولغيره "ولم يسم باعتباره" أي هذا الوضع "علما ولا اسم جنس ولا دالا بالمطابقة" ولا بالتضمن ولا بالالتزام لكن يطرق عموم هذا المنع المنع بالنسبة إلى الموضوع لغيره إذا استعمل لنفسه فإنه وقع التصريح بمجازيته كما ذكره الأصفهاني وتقدمت الإشارة إليه، وأطلق بعضهم عليه العلم كما ستسمعه على الأثر من هذا.
ثم اعلم أنه لما تصدى المحقق التفتازاني في حاشية الكشاف لتحقيق معاني الأفعال على وجه أفاد التصريح بانقسام الوضع إلى لغيره ولنفسه ثم تعقبه المحقق الشريف في حاشيته على الكشاف أيضا بأن دلالة الألفاظ على أنفسها ليست مستندة إلى وضع أصلا لوجودها في الألفاظ المهملة بلا تفاوت وجعلها محكوما عليها لا يقتضي كونها أسماء؛ لأن الكلمات بأسرها متساوية الأقدام في جواز الإخبار عن لفظها بل هو جار في المهملات كقولك جسق مركب من حروف ثلاثة ودعوي كونها موضوعة بإزاء نفسها وضعا قصديا أو غير قصدي مكابرة في قواعد اللغة على أن إثبات وضع غير قصدي لا يساعده نقل ولا عقل، وما وقع في عبارة بعضهم من أن ضرب ومن أخواتهما أسماء لألفاظها الدالة على معانيها، وأعلام لها فكلام تقريبي قالوا ذلك لقيامها مقام الأسماء الأعلام في تحصيل المرام. والتحقيق أنه إذا أريد إجراء حكم على لفظ مخصوص فإن تلفظ به نفسه لم يحتج هناك إلى وضع ولا إلى دال على المحكوم عليه للاستغناء بتلفظه وحضوره بذلك في ذهن السامع عما يدل عليه ويحضره فيه فالألفاظ كلها متشاركة في صحة الحكم عليها عند التلفظ بها أنفسها، وإنما يحتاج إلى ذلك إذا لم يكن المحكوم عليه لفظا أو كان ولم يتلفظ به فينصب هناك ما يدل عليه ليتوجه الحكم إليه ا هـ. وكان كشف الغطاء عن المراد بوضعه لنفسه كما أفاده المصنف، وأوضحناه رافعا للخلاف في المعنى أشار أولا إلى التعقب المذكور مع زيادة في توجيهه ثم ثانيا إلى الخروج عن(21/224)
عهدته فقال: "والاعتراض بأنه" أي وضع اللفظ لنفسه "مكابرة للعقل بل ولا وضع" للفظ لنفسه "لاستدعائه" أي الوضع "التعدد" ضرورة استلزامه موضوعا، وموضوعا له ولا تعدد على تقدير وضع اللفظ لنفسه بل كيف يتصور أن يكون اللفظ نفسه مدلوله والدال لا بد أن يكون غير المدلول "ولأنه" أي الوضع "للحاجة" إلى إفادة المعاني القائمة بالنفس وغيرها "وهي" أي الحاجة المذكورة إنما تحصل "في المغاير" أي اللفظ الموضوع لغيره لا لنفسه "مبني على ظاهر اللفظ" أي على ما يظهر من إطلاق لفظ الوضع اصطلاحا كما يعطيه قوة كلام المعترض "وما قلنا" من أن المراد بوضعه لنفسه إنما هو الإذن في الإخبار عن ذاته "مخلص منه" أي من هذا الاعتراض إذ هذا المراد لا ينفيه عقل ولا نقل ولا المعترض أيضا كما رأيت. وأجيب عن استدعائه التعدد بأن تغاير الاعتبار كاف في كون الشيء دالا ومدلولا، ويجاب عن انحصار الحاجة في المغايرة بالمنع ثم قصارى المعترض أنه يمنع تسمية هذا المراد بالوضع نظرا إلى ما هو المتبادر منه عند إطلاقه، ومثله مشاحة لفظية يدفعها أنه لا مناقشة في مثله من الأمور الاصطلاحية، والله سبحانه وتعالى أعلم.(21/225)
ص -109-…فهذا ما يتعلق بالقسمة الأولى للفظ ولنشرع من هنا في بيان الأقسام اللاحقة للفظ المستعمل من حيثيات مختلفة فنقول:
"والمستعمل" من حيث الإفراد والتركيب "مفرد، ومركب" لما يعلم من تعريفهما ثم تعريفهما لغة هو المقصود بالذات، وأنت إذا تأملته رأيت على اعتباره تقديم المفرد أولى فلا جرم أن قال "فالمفرد ما له دلالة" على معنى "لاستقلاله بوضع" أي لاستبداد ما له دلالة على معنى، وهو اللفظ بوضعه لذلك المعنى "ولا جزء منه" أي مما له هذه الدلالة كائن "له" أي للجزء المذكور دلالة "مثلها" أي الدلالة المذكورة بأن يدل بالاستقلال على معنى لوضع ذلك الجزء لذلك المعنى "والمركب ماله ذلك ولجزئه" أي ما له دلالة بالاستقلال على معنى بالوضع له ولجزئه أيضا دلالة بالاستقلال على معنى بالوضع له ثم لا يشترط في دلالة الجزء على المعنى أن تكون ثابتة له على الدوام بل يكفي ثبوتها له في أصل الوضع "ولم نشرط كونه على جزء المسمى" أي ولم نشرط في المفرد بدلا ولا جزءا منه له مثلها قولنا ولا جزءا منه يدل على جزء المسمى ولا في المركب بدل ولجزئه مثلها قولنا ولجزئه دلالة وضعية على جزء المسمى كما شرطه المنطقيون لاختلاف الاصطلاحين "فدخل نحو عبد الله" حال كونه "علما في المركب" لكونه دالا على معناه العلمي بوضع مستقل ودلالة كل من جزأيه اللذين هما عبد والاسم الشريف على معنى بوضع مستقل، وإن لم تكن هذه الدلالة مرادة لهما في هذه الحالة وكما دخل في المركب المركب الإضافي علما دخل فيه سائر المركبات من المزجي والتوصيفي والعددي والإسنادي أعلاما ولعله إنما قال نحو عبد الله إشارة إلى هذه، وقال علما؛ لأنه إذا لم يكن علما كان مركبا اتفاقا. "وخرج" أي ولم يدخل في المركب "يضرب، وأخواته" بل هي داخلة في المفرد.(21/226)
قال المصنف رحمه الله: قوله وأخواته يشمل المبدوء بالهمزة والنون والياء، والمذاهب فيه ثلاثة المذكور هنا، وهو الحق أن الكل مفرد، ومقابله كون الكل مركبا ونسب إلى الحكماء. والتفصيل قول ابن سينا إن المبدوء بالياء مفرد وغيره مركب وجه الحكماء أنه يدل جزؤه، وهو حرف المضارعة على موضوع معين في غير ذي الياء وغير معين في ذي الياء، وجوابه ما سنذكر من منع دلالة الجزء أعني حرف المضارعة بانفراده على شيء بل المجموع دال على المجموع وليس لحرف المضارعة وضع على حدته ولا وجه للتفصيل ا هـ. يعني موجبا له ثم إنما لم يدخل المضارع مطلقا "لأنه" أي المضارع موضوع "لمجرد فعل الحال أو الاستقبال" أو لهما على سبيل الاشتراك اللفظي على اختلاف الأقوال فيه "لموضوع خاص" يعني لفعل المتكلم وحده إن كان بالهمزة وله مع غيره إن كان بالنون ولفعل المخاطب إن كان بالتاء ولفعل الغائب إن كان بالياء وضعا تضمنيا فليس شيء منها كلمتين بوضعين فهي مفردات "بخلاف ضربت" بتثليث التاء فإنه مركب لدلالته على إسناد الفعل إلى المتكلم أو المخاطب أو المخاطبة بوضع مستقل ودلالة جزئه الذي هو الفعل على حدث مقترن بزمان(21/227)
ص -110-…قبل زمان الإخبار بوضع مستقل ودلالة جزئه الذي هو التاء على متكلم أو مخاطب أو مخاطبة مسند إليه بوضع على حدة أشار إليه بقوله "لاستقلال تائه بالإسناد"، وإن لم تكن مستقلة في اللفظ "بخلاف تاء تضرب" سواء كانت للمخاطبة أو للغائبة فإنها ليست بدالة على مسند إليه بوضع على حدة بل ولا على غيره من المعاني على سبيل الاستقلال فيكون مفردا؛ لأنه ليس لجزئه دلالة على معنى بوضع مستقل وسيأتي الرد على جعله مركبا. "وقيد المنطقيون" في كلا تعريفي المفرد والمركب "دلالة الجزء بجزء المعنى، وقصدها" فالمفرد عندهم ما ليس للفظه جزء دال على جزء معناه المقصود والمشهور صدقه على أربعة أقسام ما لا جزء للفظه كهمزة الاستفهام، وما للفظه جزء لكن لا دلالة له على معنى أصلا كزيد، وما للفظه جزء دال على معنى لكن المعنى ليس جزءا المعنى المقصود من اللفظ حال الإطلاق الخاص له كعبد الله علما فإن كلا من عبد، وإن دل على العبودية، ومن الاسم الشريف، وإن دل على الألوهية ليس جزء المعنى المقصود من جملة اللفظ في هذه الحالة، وهو الذات المشخصة، وما للفظه جزء دال على جزء المعنى المقصود إلا أن دلالته غير مقصودة كالحيوان الناطق علما على شخص إنساني فإن معناه حينئذ الماهية الإنسانية مع التشخص، والماهية الإنسانية مجموع مفهومي الحيوان والناطق فالحيوان مثلا دال على جزء المعنى المقصود؛ لأنه دال على مفهومه، ومفهومه جزء الماهية الإنسانية، وهي جزء المعنى الذي هو الشخص الإنساني فيكون مفهومه أيضا الشخص الإنساني؛ لأن جزء الجزء جزء لكن دلالة الحيوان على مفهومه ليست مقصودة حال العلمية؛ لأن المراد من اللفظ علما المعنى العلمي، وإنما خص هذين القسمين بالذكر حيث قال "فعبد الله مفرد، والحيوان الناطق لإنسان" أي اسما لفرد من أفراده مفرد أيضا حال كون كل منهما علما كما ذكرنا وصرح به سالفا في عبد الله فيعلم به تقييدهما به أيضا هنا، وإلا كانا مركبين عند(21/228)
الكل؛ لأن هذين مما عسى أن يتوهم كونهما مركبين، وفيهما أيضا تظهر ثمرة اختلاف الاصطلاحين بخلاف الأولين. والمركب عندهم ما دل جزؤه على جزء معناه المقصود وصدقه على ما عدا ما يصدق عليه المفرد، وهو ظاهر "وإلزامهم" أي المنطقيين "بتركيب نحو مخرج" وضارب وسكران كما ذكره ابن الحاجب "غير لازم" لهم؛ لأن المقتضي لهذا الإلزام إما ظن أن هذه الكلمات تدل على معنى وكلا من جوهرها، ومن الهيئة الحاصلة من الحركات والسكنات وتقديم بعض الحروف على بعض يدل على جزء ذلك المعنى أو كلا من الحروف الأصلية منها، ومن الحروف الزوائد فيها يدل على جزء ذلك المعنى فإن كان المقتضي لهذا هو الأول كما أشار إليه بقوله "فعلى اعتبار الجزء الهيئة" أي فأما عدم لزوم هذا الإلزام لهم بناء على اعتبار الملزم الجزء المنسوب إليه الدلالة على جزء المعنى "لتصريحهم بالمسموع بالاستقلال" أي لذكرهم بأن مرادهم بالأجزاء الألفاظ المرتبة في السمع المستقلة بذلك أي التي بحيث يسمع بعضها قبل وبعضها بعد، وإن نوقشوا في هذه الإدارة من الحد "ولأن الكلام في تركيب اللفظ" أي في تركيب لفظ مع لفظ "ظاهر"؛ لأن الهيئة مع المادة ليست بألفاظ مرتبة في السمع مستقلة بذلك، ولا يتصور الترتيب(21/229)
ص -111-…بينها وبين المادة بل هما مسموعان معا، وهي صفة عارضة للفظ، وإن كان المقتضي له الثاني كما أشار إليه بقوله "وعلى اعتباره" أي، وأما عدم لزوم هذا الإلزام لهم بناء على اعتبار الملزم الجزء المنسوب إليه الدلالة على جزء المعنى "الميم" في مخرج "ونحوه" أي ونحو الميم كالألف في ضارب "فلمنع دلالته" أي الجزء بهذا التفسير على جزء المعنى المراد "بل" الدال على مجموع المعنى المراد في هذه الألفاظ هو "المجموع" من الحروف الأصول والزوائد من غير وضع الجزء بإزاء الجزء إلا أن لقائل أن يقول يلزمهم القول بتركيب مخرج ونحوه إذا كان الموجب لقولهم بتركيب أضرب ونحوه ما فيه من الزوائد مع باقي الحروف كما هو أحد الوجهين لهم في تركيب الفعل المضارع؛ لأن الميم في مخرج والألف في ضارب من حيث الدلالة على المعنى الزائد على المصدر ليسا بأقل من كل من حروف المضارعة في دلالتها على معان من المتكلم وغيره عندهم، وقد قالوا بتركيب أمثلة المضارع فكذا هذه إذ لا فارق مؤثر بين القبيلين على هذا التقرير. كما يمكن أن يقلب هذا بأن يقال يلزمهم القول بإفراد أمثلة المضارع حيث قالوا إن مخرجا وضاربا ونحوهما مفردات؛ لأن الدال على المعنى المراد في هذه مجموعها ولا جزء منها يدل على جزء ذلك المعنى فكذا في أمثلة المضارع المذكورة. "وجعل تضرب" بالتاء المثناة من فوق للمخاطب أو الغائبة "مركبا إن كان للإسناد" أي إن كان هذا الجعل لعلة إسناد معناه "إلى تائه فخلاف أهل اللغة" لإجماعهم على أن لا إسناد إلى حرف من حروف المضارعة، وكيف لا وكون الشيء مسندا إليه من خواص الأسماء، وحروف المضارعة حروف مبان فضلا عن أن تكون حروف معان فضلا عن أن تكون أسماء "أو للمستكن" أي، وإن كان الجعل المذكور لعلة تركبه مع المستتر فيه من أنت للمخاطب، وهي للغائبة "فما ذكرنا" أي فجوابه ما تقدم قريبا أن المضارع إنما هو موضوع لفعل الحال أو الاستقبال لموضوع خاص من متكلم أو(21/230)
مخاطب أو غائب لا له مع إسناده إلى الضمير المستتر فيه وليس الكلام إلا فيه مع قطع النظر عن إسناده إلى شيء، وهذا هو المراد بقوله "ولذا لم يركب أضرب ويضرب في زيد يضرب" ونضرب، وإن كان في كل منها ضمير مستكن هو أنا، وهو ونحن، وإنما قيد يضرب بكونه في زيد يضرب لانتفاء كون يضرب في يضرب زيد مركبا بطريق أولى لخلوه من الضمير المستكن لإسناده إلى الاسم الظاهر "وجواب مركبه" أي الفعل المضارع للغائب في هذه الصورة "منهم" أي المنطقيين "ما ذكرنا" فلم تكن حاجة إلى زيادته. ثم إنما قال منهم؛ لأن ابن سينا منهم لم يقل بتركيبه بل نص الفاضل الأبهري على أنه لم يذهب أحد من المنطقيين إلى أن يضرب للغائب مركب، وإن اعترض به بعضهم إلزاما لكن في كلام القاضي عضد الدين إشارة إلى أنه لا فرق في هذا المعنى بين المضارع للغائب وغيره على ما توهمه ابن سينا كما ذكره المحقق التفتازاني وجزم به. ومعلوم أن من حفظ حجة على من لم يحفظ لا بالعكس لكن بقي أن يقال إنما يلزم انتفاء كون يضرب، وأخواته مركبة عندهم لانتفاء التعليلين المذكورين أن لو كانا أو أحدهما مساويا للمدعي ولا علة له غيرهما وليس(21/231)
ص -112-…كذلك لم لا يجوز أن يكون المضارع عندهم مركبا لكون حروف المضارعة فيه أجزاء مسموعة مرتبة دالة على المعاني المذكورة كما صرحوا به وذكرناه آنفا وكونها عندكم معشر أهل اللغة ليست أجزاء؛ لأنها لم توضع وضعا مستقلا لهذه المعاني بل الصيغ التي هي في أوائلها كل منها بمجموعها وضع بإزاء مجموع المعنى من غير وضع للجزء بإزاء الجزء عندكم. وما وقع في بعض عبارات أهل العربية من أن الياء للغائب، والتاء للمخاطب، والهمزة للمتكلم وحده والنون له مع غيره فمحمول على التسامح والتساهل عندكم كما ذكره الأصفهاني في شرح الكافية لا يضرنا في إثبات أنها أجزاء لها دالة على جزء المعنى المقصود منها على اصطلاحنا فإنا لا نشترط في تحقق الجزء سوى كونه مسموعا مرتبا دالا على جزء المعنى المقصود للوضع فيه مدخل، وقد وجد هذا في هذه الأحرف، ودار معها وجودا وعدما على أن الإستراباذي الشهير بالرضي ذهب في شرح الكافية إلى أن المضارع مركب من كلمتين حروف المضارعة، وما بعدها صارتا في شدة الامتزاج ككلمة واحدة، ومن ثمة سكن أول أجزائه فأعرب إعرابها قلت ويستفاد من هذا دفع ما قيل الزوائد في المضارع، وإن دلت على معنى لكن هذا القدر لا يقتضي التركيب، وإنما يقتضيه أن لو كان الباقي منه يدل على الباقي من المعنى وليس كذلك فإنه لا يمكن الابتداء به فأقل ما في الباب أنه لا يكون لفظا دالا على أنه قد أجيب بمنعه فإن المركب يكفي فيه دلالة جزء واحد، وأما دلالة الباقي من اللفظ على الباقي من المعنى فمما لا يقتضيه حد المركب. قلت: وبهذا أيضا يندفع ما قيل تعريف المفرد يقتضي أن يكون إن قام زيد مفردا؛ لأن جزأه، وهو القاف من قام وكذا الزاي من زيد لا يدل على جزء معناه فينبغي أن يقيد بالجزء القريب فتنبه له، ثم هذا اصطلاح ولا مشاحة فيه باصطلاح غير أهله نعم يلزمهم على هذا القول بتركيب مخرج وضارب ونحوهما ما لم يبدوا مانع منه والشأن في ذلك والظاهر بعده والله(21/232)
سبحانه أعلم.
"وينقسم كل من المفرد والمركب" إلى ما تقف عليه ولا علينا أن نبدأ ببيان أقسام المركب لقلتها بالنسبة إلى أقسام المفرد "فالمركب إن أفاد نسبة تامة"، وهي تعلق لأحد جزأيه بالآخر يفيد المخاطب معنى يصح السكوت عليه "بمجرد ذاته" أي مع قطع النظر عن لاحق به محصل لهذه الإفادة أو مانع منها "فجملة" أي فهو جملة اسمية إن بدئ باسم كزيد قائم، وإن زيدا عالم، وفعلية إن بدئ بفعل نحو قام محمد ويا عبد الله، وإن أكرمتني أكرمتك ويقال لهذه شرطية، وأمامك أو في الدار من زيد أمامك أو في الدار وفاقا للبصريين، ومن وافقهم في تقديرهم مثله بنحو حصل أو استقر ويقال لهذه ظريفة وخلافا للكوفيين في تقديرهم إياه بنحو حاصل أو مستقر فجعلوه من قبيل المفرد، وأغرب ابن السراج بجعله قسما برأسه لا من المفرد ولا من الجملة "أو ناقصة" أي، وإن أفاد نسبة ناقصة، وهي تعلق لأحد جزأيه بالآخر غير مفيد ما يصح السكوت عليه بمجرد ذاته. "فالتقييدي" أي فهو المركب التقييدي لتقييد كل من جزأيه بالآخر، والناقص لنقصان نسبته عن نسبة الأول فيشمل سائر المركبات حاشا الإسنادي "ومفرد أيضا" أي، وهو مفرد أيضا في اصطلاح النحويين؛ لأن المفرد عندهم مقول بالاشتراك(21/233)
ص -113-…اللفظي على هذا كما هو مرادهم به في تقسيم خبر المبتدأ إلى مفرد وجملة، وعلى ما أشار إليه استطرادا بقوله "وكذا في مقابلة المثنى والمجموع" كما هو ظاهر تقسيم الاسم إليه وإليهما، وفي مقابلة المثنى والمجموع جمع سلامة لغير المؤنث كما هو مرادهم به في باب الإعراب بالحركات الثلاث "والمضاف" أي، وعلى ما هو في مقابلة المضاف إلى غيره والمشبه به كما هو مرادهم به في قولهم المنادي المفرد المعرفة يبنى على ما يرفع به.
فإن قيل يشكل هذا باسم الفاعل في حد ذاته كقائم فإنه يفيد نسبة ناقصة مع أنه ليس بمركب تقييدي فالجواب ما أشار إليه بقوله "ونحو قائم" من الصفات في حد ذاته "لا يرد" على المركب "; لأنه مفرد" لصدق تعريف المفرد عليه "وأيضا" ليس بمفيد نسبة ناقصة وضعا بل هو وضعا "إنما يدل على ذات متصفة" بالمعنى الذي اشتق هو منه "فتلزم النسبة" أي نسبته إلى شيء آخر "عقلا" ضرورة أن الوصف لا بد أن يقوم بموصوف "لا مدلول اللفظ" أي لا أن النسبة المشار إليها مقصودة الإفادة من لفظه مدلولا له فلا نسبة وضعية فيه من حيث هو لا تامة ولا ناقصة ثم لو قيل ينبغي أن يكون اسم الفاعل المخبر به عن المبتدأ المسند إلى ضمير يرجع إليه مع الضمير جملة كالفعل إذا كان كذلك لقيل في جوابه "وحال وقوعه" أي اسم الفاعل "خبرا في نحو زيد قائم نسبته إلى الضمير" المستتر فيه، وهو هو الراجع إلى زيد "ليست تامة بمجرد ذاته" أي قائم "بل التامة" نسبته "إلى زيد" فلا ينبغي أن يكون مع ضميره جملة "ولذا" أي ولكون نسبة قائم إلى الضمير المستتر فيه ليست بتامة "عد" قائم "معه" أي مع ضميره "مفردا" لا جملة كما هو قول المحققين على ما في شرح التسهيل لمصنفه، وعلله ابن الحاجب في أمالي المسائل المتفرقة بوجهين:(21/234)
الأول أن الجملة هي التي تستقل بالإفادة باعتبار المنسوب والمنسوب إليه، واسم الفاعل مع ضميره ليس كذلك بدليل أنه يختلف لفظه باختلاف العوامل، وهو حكم المفردات، وعبر ابن مالك عن هذا بقوله لتسلط العوامل على أول جزأيه.
الثاني أن وضعه على أن يكون معتمدا على من هو له؛ لأن وضعه على أن يفيد في ذات تقدم ذكرها فيستقل مع المعتمد عليه بالإفادة فاستعماله مبتدأ مستقلا بفاعله خروج عن وضعه ا هـ. على أن منهم من يقول بأن الفعل مع مرفوعه عند التحقيق ليس بجملة حال كونه خبرا أيضا قال، وإلا يلزم أن يكون في نحو زيد قام أبوه خبران، وهو باطل بالضرورة لكن لما كان الفعل مع مرفوعه حال كونه منفردا جملة تامة استصحبوا إطلاق الجملة عليه حال كونه خبرا للمبتدأ تسمية للشيء باسم ما كان عليه والمشتق لما لم يكن مع مرفوعه جملة تامة ضرورة احتياجه إلى ضميمة أخرى لم يجعلوه جملة، وهذا هو الذي اعتمده الأصفهاني في وجه الفرق بين كون الفعل مع مرفوعه جملة دون اسم الفاعل مع مرفوعه.
هذا كله على اصطلاح النحويين "وعلى المنطقيين" أي وأما على اصطلاحهم "في اعتباره" أي اعتبارهم الضمير "الرابطة" الغير الزمانية في القضايا الحملية ليرتبط بها المحمول(21/235)
ص -114-…بالموضوع، وهي عبارة عن وقوع النسبة أو لا، وقوعها سمي بها لدلالته على النسبة الرابطة بينها تسمية للدال باسم المدلول فيكون اسم الفاعل في نحو زيد قائم ليس بجملة "أظهر" لانتفاء الإسناد إليه أصلا كما نبه عليه بقوله "فإسناده" أي اسم الفاعل على اصطلاحهم "ليس إلا إلى زيد" لا إلى هو الرابطة؛ لأنها غير مستقلة لتوقفها على المحكوم عليه وبه؛ لأنها نسبة يرتبطان بها معقولة من حيث إنها حاصلة بينهما آلة لتعرف حالهما فلا يكون معنى مستقلا يصلح أن يكون محكوما عليه أو به ففائدتها كما قال "وهو" أي الضمير في المثال المذكور هو الذي "يفيد أن معناه" أي اسم الفاعل محمول "له" أي لزيد "وإلا استقل كل بمفهومه" أي، وإلا لو كان الضمير في مثل هذه القضية غير مفيد هذا استبد كل من الموضوع والمحمول بمفهومه عن الآخر "فلم يرتبط" كل منهما بالآخر فينبغي كونهما قضية بل يكونان من قبيل تعداد الألفاظ التي حقها أن ينعق بها والفرض خلافه "وغاية ما يلزم" من هذا "طرده" أي اعتبار الضمير "في الجامد" من الأخبار كما في المشتق منها لعين هذا المعنى "وقد يلتزم" طرد اعتبار الضمير في الجامد أيضا "كالكوفيين" فإنهم على أن خبر المبتدأ مشتقا كان أو غير مشتق فيه ضمير، ويتأولون غير المشتق بالمشتق؛ ليحتمل الضمير فيتأولون زيد أسد بشجاع، وأخوك بمواخيك وغيرهما بما يناسبه من المشتقات بل عن الكسائي أن الجامد يتحمل الضمير، وإن لم يؤول بمشتق، وقد يعزى إلى الكوفيين والرماني أيضا، وهو غير المشهور عنهم.(21/236)
ثم في شرح التسهيل لمصنفه، وهذا وإن كان مشهورا انتسابه إلى الكسائي دون تقييد فعندي استبعاد إطلاقه إذ هو مجرد عن الدليل، والأشبه أن يكون حكم بذلك في جامد عرف لمسماه معنى ملازم لا انفكاك عنه كالإقدام والقوة للأسد والحرارة والحمرة للنار ا هـ. فيتحصل أن لتحمل الجامد الضمير نظرين التأويل بالمشتق، وهو المشهور عن الكوفيين والبقاء على مدلوله ولمح المعنى الملازم للمسمى، وهو الذي ينبغي أن يحمل عليه قول الكسائي ,. وقال الإستراباذي: وأما الجامد فإن كان مؤولا بالمشتق نحو: هذا القاع عرفج كله أي غليظ تحمل الضمير، وإن لم يكن مؤولا به لم يتحمله خلافا للكسائي وكأنه نظر إلى أن معنى زيد أخوك متصف بالأخوة، وهذا زيد متصف بالزيدية أو محكوم عليه بكذا، وذلك؛ لأن الخبر عرض فيه معنى الإسناد بعد إن لم يكن فلا بد من رابط، وهو الذي يقدره أهل المنطق بين المبتدأ والخبر فالجامد كله على هذا متحمل للضمير عند الكسائي لكنه لما لم يشابه الفعل لم يرفع الظاهر كالمشتق ولذا لم يجر على ذلك الضمير تابع لخفائه فإذا لا ضير في التزام ملتزم لهذا الذي عليه الكوفيون بل لما عليه الكسائي.
"وإن كان" التزام طرده عند المنطقيين "على غير مهيعهم" أي على خلاف طريق الكوفيين فإن المنطقيين لا يلتزمون تحمل المشتق له فضلا عن الجامد بل إن كان ملفوظا فيها ويسمون القضية حينئذ ثلاثية، وإن كان غير ملفوظ لشعور الذهن به قالوا هو محذوف للعلم به وسموا القضية حينئذ ثنائية نعم الشأن في صلاحية الضمير المستكن دليلا على(21/237)
ص -115-…الربط إذ عليه أن يقال الربط أمر خفي فينبغي أن يكون دليله ظاهرا والضمير المستتر ليس كذلك، وإلى هذا مع أفادة ما عدل إليه أشار بقوله "ولخفائه والدال ظاهر" أي والحال أن الدال ينبغي أن يكون ظاهرا لدلالة على المدلول "قيل الرابط" للخبر بالمبتدأ "حركة الإعراب" كما ذكره المحقق التفتازاني في شرح الشمسية فإنها ضمة ظاهرة في آخر الاسم المفرد المعرب، ويلحق بها في هذا ما يقوم مقامها من واو وألف؛ لأن الظاهر أن الواضع كما وضع الألفاظ لإفادة المقاصد الباطنة وغيرها وضع الإعراب لإفادة المعاني الطارئة على بعضها بالتركيب توفية لكمال المقصود مع الاختصار لكن كما قال "ولا يفيد" كون الدليل على الربط حركة الإعراب في سائر القضايا "إذ تخفى" هذه الحركة "في المبني والمعتل" مقصورا كان أو منقوصا بل وفي المعرب بها إذا وقف عليه بالسكون. "والأظهر أنه" أي الرابط بينهما "فعل النفس"، وهو الحكم النفسي بالخبر على المبتدأ ثبوتا أو نفيا "ودليله" أي فعل النفس هذا؛ لأنه أمر مبطن لا يوقف عليه إلا بتوقيف من الرابط "الضم الخاص" أي التركيب الخاص الموضوع نوعه لإفادة ذلك الربط لعمومه، وأما الحركة "فعند ظهورها" لفقد مانع منه "يتأكد الدال" لتعدده حينئذ "وإلا" أي، وإن لم يظهر لمانع "انفرد" الضم الخاص بالدلالة على ما بينهما من الربط، وبه كفاية.
"واعلم أن المقصود من وضع المفردات ليس إلا إفادة المعاني التركيبية"؛ لأنها الكافلة ببيان المرادات الدنيوية والأخروية التي هي المقصودة بالذات من وضع الألفاظ لا المعاني الإفرادية لها للزوم الدور على هذا التقدير لتوقف فهمها حينئذ على إفادة الألفاظ لها، وهي متوقفة على العلم بوضع الألفاظ لها، وهو متوقف على فهم المعاني المفردة .(21/238)
فإن قيل فمثل هذا يجيء في إفادتها النسب والمعاني التركيبية أيضا؛ لأن فهمها يتوقف على العلم بوضع الألفاظ لها، وهو يتوقف على فهمها أجيب بمنع توقف إفادتها المعاني التركيبية على العلم بكون الألفاظ موضوعة لتلك المعاني المركبة بل العلم بالنسب والتركيبات الجزئية يتوقف على العلم بالوضع، وهو يتوقف على العلم بالنسب والتركيبات الكلية فلا يلزم الدور. هذا وذهب غير واحد منهم الأصفهاني إلى أن الحق أن وضع الألفاظ المفردة لمعانيها المفردة ليفيد أن المتكلم أرادها منها عند استعمالها ووضع الألفاظ المفردة لمعانيها المفردة ليفيد أن المتكلم أرادها منها عند استعمالها، ووضع الألفاظ المركبة لمعانيها المركبة ليفيد أن المتكلم أرادها منها عند استعمالها إلا أن المقصود من استعمال المتكلم الألفاظ المفردة لمعانيها المفردة التوصل به إلى إفادة النسب والتركيبات؛ لأنها المتكفلة بجدوى المخاطبات، وهو حسن لا محذور فيه
"والجملة خبر إن دل على مطابقة خارج" أي والمركب الذي هو جملة خبر إن فهم منه نسبة بين طرفيه مطابقة للنسبة التي بينهما في نفس الأمر بأن تكونا ثبوتيتين أو سلبيتين "وأما عدمها" أي مطابقة النفسية للخارجية بأن كانت إحداهما ثبوتية والأخرى سلبية "فليس مدلولا ولا محتمل اللفظ إنما يجوز العقل أن مدلوله" أي اللفظ "غير واقع" بأن يكون المتكلم كاذبا،(21/239)
ص -116-…وهذا ما ذكره بعض المحققين من أن الخبر من حيث اللفظ لا يدل إلا على الصدق، وأما الكذب فليس بمدلوله بل هو نقيضه، وقولهم يحتمله لا يريدون أن الكذب مدلول لفظ الخبر كالصدق بل المراد أنه من حيث هو لا يمتنع عقلا أن لا يكون مدلوله ثابتا في الخارج لا أن احتمال عدم الثبوت مدلول له؛ لأن دلالة الألفاظ على معانيها وضعية لا عقلية تقتضي استلزام الدليل للمدلول استلزاما عقليا ليستحيل التخلف كما في دلالة الأثر على المؤثر. "وإلا" أي، وإن لم يدل المركب الذي هو الجملة على مطابقة خارج بأن كان لا خارج لنسبته "فإنشاء ولا حكم فيه"؛ لأنه من قبيل التصور، وفسر الحكم بقوله "أي إدراك أنها" أي نسبته "واقعة أولا" دفعا لتوهم أن يراد به هنا النسبة فإنه مما يقال بالاشتراك اللفظي عليهما، وعليه فيفرع أن يقال "فليس كل جملة قضية" لصدق الجملة على الخبر والإنشاء لإفادة كل منهما نسبة تامة بمجرد ذاته، وعدم صدق القضية على الإنشاء؛ لأنه لا يصح أن يقال لقائله أنه صادق فيه أو كاذب لعدم الخارج لنسبته، وكل قضية جملة "والكلام يرادفها" أي الجملة "عند قوم" من النحويين منهم الزمخشري كما هو ظاهر المفصل "وأعم" منها مطلقا "عند الأصوليين كاللغويين" أي كما عندهم لنقل الآمدي في الأحكام عن أكثر الأصوليين والإمام الرازي في المحصول عن جميعهم أن الكلمة المركبة من حرفين فصاعدا كلام قال صاحب البديع فهو إذن ما انتظم من الحروف المسموعة المتواضع عليها الصادرة عن مختار واحد فما انتظم أي تألف والتأليف، وإن كان حقيقة في الأجسام لكنه يطلق على المتألف من الحروف تشبيها بها كالجنس والباقي كالفصل فخرج بمن الحروف، والمراد حرفان فصاعدا المتألف من حرف واحد وحركته وبالمسموعة المكتوبة والمعقولة، وبالمتواضع عليها المهمل وبالصادرة عن مختار المسموعة من الجمادات وبواحد الصادرة عن أكثر من مختار واحد كما لو صدرت بعض حروف الكلمة من واحد والبعض من آخر(21/240)
فإنه لا يسمى كلاما قال: واختلف في إطلاق لفظ الكلام على كلمات مجتمعة غير منتظمة المعاني كزيد بل في فقيل يسمى كلاما؛ لأن كلا من كلماته وضع لمعنى ويسمى كلاما عندهم فالمجموع أولى، وقيل لا يسمى كلاما ذكره سراج الدين الهندي في شرحه قلت والأول هو المتجه. وفي الصحاح الكلام اسم جنس يقع على القليل والكثير فهذه النقول تفيد إطلاق الكلام على الكلمة الواحدة عند الفريقين والظاهر أن الجملة لا يقال عليها عندهم، وإنما يقال على الكلمتين فصاعدا فإذن الكلام أعم منها مطلقا، وهي أخص منه مطلقا لكن يلزم من هذا الذي قاله الأصوليون أن لا يطلق الكلام عندهم على لفظ الأمر الذي على حرف واحد مثل ق و ع إذا لم يكن علما، وفيه بعد اللهم إلا أن يقال يطلق عليه الكلام لكن لا مع قصر النظر عليه بل مع ملاحظة كلمة أخرى مقدرة فيه، وهو الضمير المستتر فيه ولا بدع في ذلك فكثيرا ما يعطى للمقدر حكم الملفوظ ثم لا يضر في أعميته إطلاق الجملة على مثل هذا أيضا ثم يلزم من قول الفريقين أن الكلام باصطلاح اللغويين أعم منه باصطلاح الأصوليين ولا ضير في ذلك، وقول البديع، وأهل اللغة المركب من كلمتين بالإسناد مراده بهم النحويون كما صرح به شارحوه نعم إن(21/241)
ص -117-…سلم قول ابن عصفور الكلام في أصل اللغة اسم لما يتكلم به من الجمل سواء كانت مفيدة أو غير مفيدة عكر هذا بالنسبة إلى ما تقدم عن أهل اللغة؛ لأن ظاهره أن الكلام والجملة متساويان لكن لعل ما تقدم أثبت، والله سبحانه أعلم.
"وأخص" منها مطلقا، وهي أعم منه مطلقا "عند آخرين" منهم ابن مالك، ومشى عليه الإستراباذي وذكر المحقق التفتازاني أنه الاصطلاح المشهور فقالوا الكلام ما تضمن الإسناد الأصلي وكان مقصودا لذاته، والجملة ما تضمن الإسناد الأصلي سواء كان مقصودا لذاته أو لا فالمصدر والصفات المسندة إلى فاعلها ليست كلاما ولا جملة؛ لأن إسنادها ليس أصليا، والجملة الواقعة خبرا أو وصفا أو حالا أو شرطا أو صلة أو نحو ذلك جملة وليست بكلام؛ لأن إسنادها ليس مقصودا لذاته، وقال ابن هشام: والصواب أنها أعم منه إذ شرطه الإفادة بخلافها ولهذا تسمعهم يقولون جملة الشرط جملة الصلة وكل ذلك ليس مفيدا فليس كلاما ا هـ. وهذا كما ترى يفيد أن المقتضي لخصوص الكلام اشتراط الإفادة فيه دون الجملة لا اشتراط كون الإسناد مقصودا لذاته فيه دونها، وهذا موافق لظاهر قول سيبويه على ما يفيده قول ابن مالك، وقد صرح سيبويه في مواضع كثيرة من كتابه بما يدل على أن الكلام ما يطلق حقيقة إلا على الجمل المفيدة ا هـ. فيتلخص أن المراد باشتراط الإفادة في الكلام اشتراطها فيما يطلق عليه حالة إطلاقه عليه، وأن الإفادة لا تشترط في الجملة أصلا ثم على هذا لو قال القائلون بالترادف بينهما أن كليهما لا يقال: حقيقة اصطلاحية إلا على ما اشتمل على الإسناد المفيد، وقولهم جملة الشرط والصلة ونحوهما لا يلزم منه عدم اشتراط الإفادة فيها لم لا يجوز أن يكون هذا من تسمية الشيء باعتبار ما كان عليه أو باعتبار الصورة. ونظيره تسميتهم المضارع الداخل عليه لم المقتضية قلبه ماضيا مضارعا بأحد هذين الاعتبارين وحينئذ لا يلزم أن يكون القول بأن الجملة أعم من الكلام اصطلاحا(21/242)
هو الصواب لاحتاجوا إلى الجواب فليتأمل.
بيان انقسامات اللفظ المفرد
وقد آن الشروع في بيان انقسامات اللفظ المفرد، وإن لم يكن بعض أقسامه خاصا به كما عسى أن ننبه عليه في مواضعه فنقول: "وللمفرد باعتبار ذاته ودلالته، ومقايسته لمفرد آخر ومدلوله واستعماله وإطلاقه وتقييده انقسامات" خمسة بعدة هذه الاعتبارات التي أولها اعتبار الذات، وآخرها اعتبار الاستعمال "في فصول" خمسة بعدتها أيضا، وأما الإطلاق والتقييد فهما من جملة أوصاف بعض أقسام انقسامه بالاعتبار الرابع كما سترى فالوجه إسقاطهما هنا.
"الفصل الأول" في انقسام اللفظ المفرد باعتبار ذاته من حيث إنه مشتق من غيره أو لا
وجميع ما تضمنه هذا الفصل مما اختص به غير الحنفية، وأما هم فاكتفوا بالإشارة إلى ما يهمهم منه فيما يكونون بصدده ثم حيث كان المشتق لا يعلم من حيث هو مشتق إلا بعد(21/243)
ص -118-…معرفة الاشتقاق فلا علينا أن نصدر هذا الفصل ببيانه ثم نأتي على ما فيه. فنقول الاشتقاق اصطلاحا يقال على أمور
أحدها:على ما حرره العبد الضعيف غفر الله تعالى له وفاقا للبصريين موافقة غير مصدر له في الحروف الأصول مرتبة، وفي المعنى مع زيادة فيه على المصدر كضرب وضارب فالمصدر مشتق منه والآخر مشتق فإذا اعتبر من حيث إنه صار من الواضح احتيج إلى العلم به لا إلى عمله فعرف بحسب العلم فيقال هو أن يوجد بين مصدر وغيره موافقة في الحروف الأصول مرتبة، وفي المعنى مع زيادة فيه على المصدر فيعرف ارتداد غير المصدر إلى المصدر، وأخذه منه، وإذا اعتبر من حيث الاحتياج إلى عمله عرف باعتبار العمل فيقال هو أخذ لفظ من مصدر بحروفه الأصول مرتبة، ومعناه مع زيادة فيه عليه.
ثانيها: موافقة لفظين في الحروف الأصول غير مرتبة مع موافقة أو مناسبة في المعنى كجذب والجبذ(21/244)
ثالثها:مناسبة لفظين في الحروف الأصول والمعنى كالثلب والثلم والنعيق والنهيق وتسمى هذه صغيرا أو كبيرا وأكبر، وقد تسمى أصغر وصغيرا وأكبر، وقد تسمى أصغر، وأوسط وأكبر ولا مشاحة، والأول أشهر ثم لما كان المراد باشتقاق عند الإطلاق هو الأول، وهو حظ الأصولي كما سينبه المصنف عليه قسم اللفظ المفرد باعتباره فقال "هو مشتق ما وافق مصدرا بحروفه الأصول، ومعناه مع زيادة" فما وافق مصدرا شامل للمطلوب وغيره وبحروفه الأصول، ومعناه أي معنى المصدر، وهو الحدث الخاص مخرج لما وافق مصدرا بحروفه الأصول لا بمعناه كضرب بمعنى بين بالنسبة إلى الضرب بمعنى السير في الأرض أو بمعناه لا بحروفه كنصر بمعنى أعان بالنسبة إلى الإعانة، والمراد موافقته في جميعها مع ترتيبها بأن يشتمل المشتق على مثل جميعها كذلك كما في الأصل لفظا أو تقديرا فلا يشكل عليه نحو خف من الخوف فإن الواو مقدرة، وإنما سقطت بعد انقلابها ألفا لعارض التقاء الساكنين وكأنه لم يذكر الترتيب للعلم به بقرينة. ومعناه وقيد الحروف بالأصول، وهي ما تقابل بالفاء والعين واللام لئلا يخرج عنه نحو الاستباق من السبق فإنه لا وجود للزوائد في السبق فضلا عن الموافقة فيها ونحو دخل من الدخول، ومع زيادة يعني في المعنى سواء كان في اللفظ زيادة أم لا كفرح من فرح كما ذكره المصنف هنا حاشية ونبه على وجه الزيادة بقوله "هي فائدة الاشتقاق" فهي علة غائبة له في المعنى ثم فرع عليه "فالمقتل" حال كونه "مصدرا" ميميا "مع القتل أصلان مزيد"، وهو المقتل "وغير مزيد"، وهو القتل هذا إذا لم يعتبر في المقتل زيادة تقوية في معناه الثابت للقتل "وإن اعتبر به" أي بالمقتل "زيادة تقوية" في معناه الثابت للقتل "فمشتق منه" أي فالمقتل مشتق من القتل حينئذ لموافقته إياه في حروفه الأصول بترتيبها، ومعناه مع زيادة المقتل في المعنى على القتل بالتقوية فيه، وفي اللفظ أيضا، وهي الميم ويتعين حينئذ أن يكون الاشتقاق(21/245)
الواقع من هذه المادة من القتل. ثم بقي هنا التنبيه على أمور.(21/246)
ص -119-…أحدها: لم يقل ما وافق أصلا كما قال ابن الحاجب فيصلح أن يكون تعريفا له على رأي الكوفيين أن الفعل أصل فيه ورأي البصريين أن المصدر أصل فيه بل قال مصدرا فيكون تعريفا له على رأي البصريين خاصة؛ لأنه الصحيح كما عليه المحققون، وقد بين وجهه في موضعه.
ثانيها:المراد بالمصدر أعم من المستعمل والمقدر فتدخل الأفعال التي لم يستعمل لها مصادر كنعم وبئس وتبارك والصفات التي لا مصادر لها ولا أفعال كربعة وحزور وكفاخر كما ذكره ابن مالك فتقدر المصادر لها تقديرا، والتعقب بأن الظاهر في هذه الألفاظ الأخيرة أنها ليست بمشتقة من مصادر أهملت فيحتاج إلى تقديرها، وإنما أجريت مجرى المشتق لو تم لا ينفي الوجود مطلقا.
ثالثها: ثم أسماء الفاعل والمفعول مشتقة من الأفعال، المشتقة من المصادر على ما ذكره أبو علي في التكملة، وعبد القاهر في شرحها والسيرافي لكونها جارية على سننها والجمهور على أنها من المصادر نفسها كما هذا التعريف ماش عليه، وما وقع من إطلاق اشتقاقها من الفعل فالمراد به المصدر؛ لأن سيبويه يسمي المصدر فعلا وحدثا كما ذكره الإستراباذي أو على التجوز كما ذكره ابن هشام وغيره تنبيها على الحروف المعتبرة في الاشتقاق فإن بعض المصادر كالقبول يشتمل على حرف لا يعتبر فيه كما ذكره المحقق الشريف، وعكس هذا بعضهم فقال لنا أن نشتقها من الفعل لأصالته القريبة، ومن المصدر لأصالته البعيدة فإن الإضافة إلى البعيد مع وجود القريب مجاز، وإلى القريب حقيقة كما في إضافة الحكم إلى العلة القريبة والبعيدة.
رابعها: لا يشترط في الاشتقاق من المصدر أن يكون باعتبار المعنى الحقيقي له بل يجوز أن يكون باعتبار المعنى المجازي له فيشتق من النطق مرادا به لدلالة الناطق، ومنه قولهم الحال ناطقة بكذا.(21/247)
خامسها: كما أنه لا بد للمشتق من زيادة على المشتق منه في معناه لا بد من تغيير لفظه حركة ولو اعتبارا بإبدال أو سكون أو زيادة أو حرفا بحذف أو إبدال أو زيادة أو حركة وحرفا معا. وقد بلغه الإمام في المحصول تسعة أقسام وكملها البيضاوي خمسة عشر ولا بأس أن نذكرها مع أمثلتها الصحيحة لها إسعافا مقدمين أمامها أن ليس المراد بالحركة واحدة بالشخص بل جنسها واحدة كانت أو أكثر، وكذا الحرف والمركب منهما، وأن حركة الإعراب، وهمزة الوصل لا اعتداد بهما؛ لأن الحركة الإعرابية طارئة على الصيغة بعد تمامها متبدلة عليها بحسب العامل، وهمزة الوصل تسقط في الدرج فما زيد فيه حركة لا غير نحو علم من العلم وحرف لا غير نحو كاذب من الكذب بكسر الذال، وما زيدا معا فيه نحو ضارب من الضرب، وما نقص فيه حركة لا غير نحو سفر بسكون الفاء من السفر بفتحها وحرف لا غير نحو صهل بكسر الهاء اسم فاعل من الصهيل، وما نقصا معا فيه نحو صب من الصبابة، وما زيد(21/248)
ص -120-…ونقص منه حركة نحو حذر بكسر الذال اسم فاعل من الحذر، وما زيد ونقص منه حرف نحو صاهل من الصهيل، وما زيد فيه حرف ونقص منه حركة نحو أكرم من الكرم، وما زيد فيه حركة ونقص منه حرف نحو رجع من الرجعي، وما زيد فيه حركة وحرف ونقص منه حركة نحو منصور من النصر، وما زيد فيه حركة وحرف ونقص منه حرف نحو مكلم اسم فاعل أو مفعول من التكليم، وما نقص منه حركة وحرف وزيد فيه حركة نحو عد أمر من الوعد، وما نقص فيه حركة وحرف وزيد فيه حرف نحو كال بتشديد اللام اسم فاعل من الكلال، وما زيد فيه حركة وحرف ونقصا منه نحو مقام من الإقامة ثم لا خفاء في أن من هذه الأقسام ما تحته أقسام فإن الحركة تحتها ثلاثة أنواع فلو اعتبر نقصها وزيادتها منفردين، ومجتمعين متنوعات حسب تنوعها لكثرت الأقسام جدا إلا أنهم لم يلحظوا هذا الاعتبار في التقسيم لما يلزمه من الانتشار مع قلة الجدوى. "وجامد خلافه" أي معناه خلاف معنى المشتق فهو ما ليس بموافق لمصدر بحروفه الأصول، ومعناه مع زيادة فيه كرجل، وأسد "والاشتقاق الكبير ليس من حاجة الأصولي"؛ لأن حاجته إلى الاشتقاق إنما هي من حيث إنه يعرف به أن مبدأ اشتقاق اللفظ المشتق المرتب عليه حكم من الأحكام علة لذلك الحكم، وهذه الحاجة مندفعة بمعرفة الاشتقاق المسمى بالأصغر أو الصغير فلا حاجة إلى ذكر الكبير والأكبر أيضا في هذا العلم "والمشتق" قسمان "صفة ما دل على ذات مبهمة متصفة بمعين" أي ما فهم منه ذات غير معينة وصفة معينة كضارب فإنه يفهم منه شيء ما له الضرب أعم من أن يكون إنسانا بل جسما أو غيره حتى لو أمكن تقدير ما هو أعم من الشيئية لم يقدر موصوفه شيء "فخرج" بقيد الإبهام في الذات "اسم الزمان والمكان" كالمقتل لزمان القتل، ومكانه من أن يكون صفة "لأن المقتل مكان أو زمان فيه القتل" لا شيء ما فيه القتل فلا إبهام في الذات، ومن ثمة لا يصح مكان أو زمان مقتل كما يصح مكان أو زمان مقتول فيه "قيل تتحقق(21/249)
الفائدة في نحو الضارب جسم فلم يكن جزءا، وإلا لم يفد كالإنسان حيوان" قال المصنف رحمه الله: هذا دليل ذكر على لزوم إبهام الذات في المشتق الصفة، وهو أن قولنا الضارب جسم مفيد فلو كان الجسم معتبرا جزءا من الضارب لم يفد لاستفادة ذلك من مجرد ضارب كما لم يفد قولنا الإنسان حيوان لاعتبار الحيوان جزءا من مفهوم الإنسان، وقد اعترضه المصنف بقوله "ولقائل منع الفرق والاستدلال بتبادر الجوهر منه" أي لقائل أن يمنع الفرق بينهما ويستدل بتبادر الجوهر من ضارب فيفهم منه باستقلاله كما يفهم الحيوان من إنسان استقلالا ثم إن لم يفد الإنسان حيوان كذلك الضارب جسم وحينئذ لم يتم الدليل على أن المعتبر في مفهوم الصفة إبهام الذات ثم عدل المصنف إلى دليل اقترحه بقوله "والأوجه صحة الحمل على كل من العين والمعنى" أي والدليل الأوجه لإبهام الذات في مفهوم الوصف أن الوصف يصح حمله حقيقة على الجسم كزيد مليح، وعلى المعنى كالعلم حسن والجهل قبيح فلو أفادت الصورة مادة خاصة بالجوهرية لم يصح حمله على المعنى أو مادة خاصة بالعرضية لم يصح حمله على العين. ومعلوم أن ليس لكل وصف جزئي وضع بل الوضع كلي واحد لكل وصف فظهر أن(21/250)
ص -121-…الصفة إنما تعتمد ذاتا أي موصوفا غير معين إنما يتعين في التركيب "وغير صفة خلافه" أي معنى الصفة، وهو ما لا يدل على ذات مبهمة متصفة بمعين، وقد عرفت أن منه أسماء الزمان والمكان.
"تتميم" ثم المشتق قد يطرد كأسماء الفاعلين والصفة المشبهة، وأفعل التفضيل، وأسماء الزمان والمكان والآلة، وقد لا يطرد كالقارورة الدبران والعيوق والسماك، والمناط فيهما أن وجود معنى المشتق منه في محل التسمية بالمشتق إن اعتبر من حيث إنه داخل في التسمية وجزء من المسمى حتى كان المراد ذاتا ما باعتبار نسبة لمعنى الأصل إليها فهذا المشتق يطرد في كل ذات كذلك أي لمعنى الأصل معها تلك النسبة، اللهم إلا لمانع كما في الفاضل فإنه لا يطلق على الله تعالى لعدم الإذن فيه مع أنه سبحانه ذو الفضل العظيم. وإن اعتبر من حيث إنه مصحح للتسمية بالمشتق مرجح لها من بين سائر الأسماء من غير دخول المعنى في التسمية وكونه جزءا من المسمى حتى كان المراد ذاتا مخصوصة فيها المعنى لا من حيث هو في تلك الذات بل باعتبار خصوصها فهذا المشتق لا يطرد في جميع الذوات التي يوجد فيها ذلك؛ لأن مسماه تلك الذات المخصوصة التي لا توجد في غيره، وإلى هذا أشار السكاكي حيث قال، وإياك والتسوية بين تسمية إنسان له حمرة بأحمر وبين وصفه بأحمر فتزل فإن اعتبار المعنى في التمسية لترجيح الاسم على غيره حال تخصيصه بالمسمى واعتباره في الوصف لصحة إطلاقه عليه فأين أحدهما من الآخر ثم لهذا نفع في باب القياس فكن منه على بصيرة.
مسألة(21/251)
"ولا يشتق لذات" وصف من مصدر "والمعنى" الذي للمصدر "قائم بغيره" أي غير الموصوف به "وقول المعتزلة: معنى كونه متكلما خلقه" الكلام اللفظي "في الجسم" كاللوح المحفوظ والشجرة التي سمع منها موسى "وألزموا" على هذا "جواز" إطلاق "المتحرك والأبيض" مثلا على الله - تعالى - لخلقه هذه الأعراض في محالها لكنهم كغيرهم على امتناع إطلاق ذلك عليه تعالى قطعا "ودفع عنهم" هذا الإلزام "بالفرق" بين مسألة الكلام وما ألزموا به "بأنه ثبت المتكلم له" أي إطلاقه عليه صفة له - تعالى - قطعا "وامتنع قيامه" أي الكلام "به"؛ لأن الكلام عندهم إنما هو الأصوات والحروف لا المعنى النفسي، وهي حادثة فلا تكون قائمة به، وإلا لزم أن يكون ذاته محلا للحوادث، والله - سبحانه - متعال عن ذلك علوا كبيرا "فلزم أن معناه" أي المتكلم "في حقه خالقه" أي الكلام في الجسم ولا كذلك المتحرك والأبيض ونحوهما فإنه لم يثبت له شيء منها وهذا الدفع مذكور للمحقق التفتازاني في حواشيه على شرح القاضي عضد الدين لمختصر ابن الحاجب "وليس" هذا الدفع "بشيء" يعتد به فيما نحن بصدده "لأنه لا تفصيل في الحكم اللغوي" أي لم يثبت فيه من حيث هو تفصيل "بين من يمتنع القيام به" أي قيام معنى الوصف به عقلا وشرعا "فيجوز" أن يطلق الوصف عليه "وهو" أي ومعناه قائم "بغيره" أي غير الموصوف به "وغيره" أي بين من لا يمتنع قيام الوصف به "فلا"(21/252)
ص -122-…يجوز إطلاق الوصف عليه، والمعنى قائم بغيره "بل لو امتنع" قيام معنى الوصف بشيء "لم يصغ له" أي امتنع صوغ الوصف له لغة "أصلا" لأنه يمتنع أن يجرى على شيء وصف، والمعنى قائم بغيره كما يمتنع أن يوصف بأمر من سائر الأمور الممتنع اتصافه بها "فحيث صيغ" له - تعالى - وصف من هذا المصدر موضوع لمن يقوم به معنى هذا المصدر وهو المتكلم "لزم قيامه" أي قيام معنى الكلام "به تعالى" لا أنه - تعالى - يوصف بها والمعنى قائم بغيره وتجاب المعتزلة بأنه لا ملجئ إلى هذا المحتمل الممتنع فإن الكلام يطلق حقيقة ويراد به المعنى القائم بالنفس فيتعين أن يكون المراد في حقه - سبحانه - على أنه صفة أزلية قديمة قائمة بذاته - تعالى - منافية للسكوت والآفة ثم لعل المصنف إنما لم يقل خلافا للمعتزلة كما قال غير واحد استبعادا أن ينازع هؤلاء العقلاء في هذا الأصل اللغوي بحذافيره، وإشارة إلى تجويز أخذ خلافهم فيه من خلافهم في خصوص هذه المسألة الكلامية، وفي كلام القرافي في شرح تنقيح المحصول ما يعضد كليهما ومن ثمة قال "فلو ادعوه" أي المعتزلة إطلاق المتكلم عليه - تعالى، والمعنى غير قائم به "مجازا" باعتبار أنه خالقه فيكون من تسمية المتعلق باسم المتعلق لامتناع صحة إطلاقه عليه حقيقة كما تقدم "ارتفع الخلاف في الأصل المذكور" لموافقتهم حينئذ العامة على أنه لا يشتق لذات وصف بطريق الحقيقة والمعنى قائم بغيره "وهو" أي هذا الادعاء "أقرب" من إثبات خلافهم لبعده من العقلاء العارفين بالأوضاع اللغوية "غير أنهم" أي الأصوليين "نقلوا استدلالهم" أي المعتزلة على ما نسب إليهم من تجويز أن يشتق لشيء وصف والمعنى بغيره "بإطلاق ضارب حقيقة" على مسمى "وهو" أي الضرب قائم "بغيره" أي غير ذلك المسمى، فإن هذا صريح منهم في مخالفتهم الأصل المذكور "وأجيب" هذا الاستدلال "بأنه" أي الضرب "التأثير، وهو" أي التأثير قائم "به" أي بالضارب لا التأثير القائم بالمضروب(21/253)
وهو أثر الضرب وأورد لو كان التأثير غير الأثر لكان أثرا أيضا لصدوره عن الفاعل فيفتقر إلى تأثير آخر فيعود الكلام إليه ويتسلسل، ودفع بأن التأثير، وإن كان غير الأثر فهو أمر اعتباري لكونه نسبة فلا يستدعي تأثيرا آخر فلا يتسلسل، وعلى تقدير التسلسل فهو في الاعتبارات العقلية، وهو فيها ليس بمحال؛ لأنه ينقطع بانقطاع الاعتبار.
فإن قيل: التأثير ليس بأمر اعتباري لتحققه، فرضه فارض أو لا؛ إذ لو لم يتحقق لما وجد الأثر، وليس غير التأثير لما مر وحينئذ يلزم المطلوب أجيب بأن التأثير في غير التأثير مغاير للأثر الذي هو تأثير فيه وأما التأثير في التأثير فهو نفسه في الحقيقة فلا يحتاج إلى تأثير مغاير له في الحقيقة فلا يلزم التسلسل.
ونقل الأصوليون استدلال المعتزلة أيضا بما أشار إليه بقوله "وبأنه" أي الشأن "ثبت الخالق له" أي الله - تعالى "باعتبار الخلق وهو" أي الخلق "المخلوق" كما في قوله تعالى {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} [لقمان: 11] والمخلوق ليس قائما بذاته "لا" أن الخلق هو "التأثير وإلا قدم العالم إن قدم" أي وإلا لو كان الخلق هو التأثير قدم العالم إن كان التأثير قديما إما؛ لأن المؤثر وهو الله(21/254)
ص -123-…سبحانه قديم. والتأثير فرض قديما فالأثر وهو العالم كذلك لاستحالة تخلف الأثر عن المؤثر الحقيقي فيلزم من وجودهما في الأزل وجود العالم، وإما لأن التأثير نسبة، والنسبة موقوفة على المنتسبين وهما الخالق والمخلوق فلو كانت قديمة مع أنها متوقفة على المخلوق لكان المخلوق قديما بطريق أولى "وإلا تسلسل" أي وإلا لزم التسلسل إن لم يكن التأثير قديما لأنه حينئذ حادث محتاج إلى خلق آخر أي تأثير آخر لأن كل حادث لا بد له من تأثير مؤثر فيعود الكلام إلى ذلك التأثير ويتسلسل وكلاهما محال فيثبت المطلوب وتعقبه المصنف أولا بقوله: "وهو" أي هذا الاستدلال "مثبت لجزء الدعوى" لا لها كلها؛ لأن كمالها - كما قال المصنف رحمه الله صحة صوغ الوصف لذات وليس المعنى قائما بها بل هو قائم بغيرها وإذا كان الخلق بمعنى المخلوق، وبعضه جواهر صدق جزء الدعوى، وهو أن المعنى ليس قائما بالذات، ولا يصدق الجزء الآخر من الدعوى، وهو أنه قائم بغيرها؛ لأن من المخلوق جواهر تقوم بنفسها لا بغيرها فلم يشتق الوصف لذات. والمعنى قائم بغيرها بل والمعنى قائم بنفسه ويتضمن ليس قائما بها، وهو جزء الدعوى فأثبت الدليل عدم قيامه بالذات ولم يثبت قيامه بغيرها فلم يتم المطلوب وثانيا بقوله "أجيب بأن معنى خلقه كونه سبحانه تعلقت قدرته بالإيجاد وهو" أي تعلق قدرته بالإيجاد للمخلوقات "إضافة اعتبار يقوم به" أي بالخالق قال المصنف فما اشتق له الخالق إلا باعتبار قيام الخلق به، وقوله "لا صفة متقررة ليلزم كونه محلا للحوادث أو قدم العالم" دفع لما يراد على ذلك التقرير وهو أنه لو كان معنى خلقه تعلق قدرته، وتعلقها حادث وهو قائم به لزم كونه محلا للحوادث أو قدم العالم فقال: إنما يلزم لو كان تعلقها يوجب وصفا حقيقيا يقوم به - تعالى - لكنه إنما يوجب إضافة من الإضافات، وهي أمور اعتبارية "وأورد - إن قامت به النسبة - الاعتبار فهو محل للحوادث" لأنها حادثة "وإن لم تقم(21/255)
به ثبت مطلوبهم وهو الاشتقاق لذات وليس المعنى به" أي قائما بالمشتق "مع أن الوجه أم لا يقوم به؛ لأن الاعتباري ليس له وجود حقيقي فلا يقوم به حقيقة". والجواب ما أشار إليه قوله "لكن كلامهم" أي الأصوليين "أنه يكفي في الاشتقاق هذا القدر من الانتساب" الذي هو تعلق القدرة بالإيجاد كما صرح به القاضي عضد الدين وغيره "فليكن" هذا القدر من الانتساب "هو المراد بقيام المعنى في صدر المسألة ثم هذا الجواب" الناطق بأن معنى خلقه كونه - تعالى - تعلقت قدرته بإيجاده "ينبو عن كلام الحنفية" أي يبعد عن كلام متأخريهم من عهد أبي منصور الماتريدي "في صفات الأفعال" لله - تعالى - قال المصنف وهي ما أفادت تكوينا كالخالق والرازق والمحيي والمميت فإنهم مصرحون بأنها صفات قديمة مغايرة للقدرة والإرادة "غير أنا بينا في الرسالة المسماة بالمسايرة" في العقائد المنجية في الآخرة "أن قول أبي حنيفة لا يفيد ما ذهبوا إليه وأنه" أي ما ذهبوا إليه في هذا المقام "قول مستحدث" وليس في كلام أبي حنيفة والمتقدمين تصريح بذلك سوى ما أخذوه من قوله كان - تعالى - خالقا قبل أن يخلق ورازقا قبل أن يرزق وذكروا له أوجها من الاستدلال والأشاعرة يقولون ليست صفة التكوين على فصولها سوى صفة القدرة باعتبار تعلقها بمتعلق خاص(21/256)
ص -124-…فالخلق: القدرة باعتبار تعلقها بالمخلوق والترزيق تعلقها بإيصال الرزق، وما ذكروه من معناها لا ينفي هذا ويوجب كونها صفات أخرى لا ترجع إلى القدرة المتعلقة والإرادة المتعلقة، ولا يلزم من دليل لهم ذلك، وأما نسبتهم ذلك إلى المتقدمين ففيه نظر بل في كلام أبي حنيفة ما يفيد أن ذلك على ما فهمه الأشاعرة من هذه الصفات على ما نقله الطحاوي فإنه قال: وكما كان بصفاته أزليا لا يزال عليها أبديا ليس منذ خلق الخلق استفاد اسم الخالق ولا بأحداث البرية استفاد اسم الباري له معنى الربوبية ولا مربوب ومعنى الخالق ولا مخلوق وكما أنه محيي الموتى استحق هذا الاسم قبل إحيائهم كذلك استحق اسم الخالق قبل إنشائهم ذلك بأنه على كل شيء قدير ا هـ فقوله ذلك بأنه على كل شيء قدير تعليل وبيان لاستحقاق اسم الخالق قبل المخلوق فأفاد أن معنى الخالق قبل الخلق واستحقاق اسمه بسبب قيام قدرته عليه فاسم الخالق، ولا مخلوق في الأزل لمن له قدرة الخلق في الأزل وهذا ما تقوله الأشاعرة فلا جرم أن قال هنا "وقوله" أي أبي حنيفة إن الله تعالى "خالق قبل أن يخلق إلخ" أي ورازق قبل أن يرزق "بالضرورة يراد به" أي بالخالق له "قدرة الخلق" التي هي صفة حقيقية "وإلا قدم العالم" أي وإلا لو أريد به الخلق بالفعل لا أنه له قدرة الخلق لزم قدم العالم ووجه الملازمة ظاهر واللازم باطل فالملزوم مثله فتعين ما ذكرنا "وبالفعل تعلقها" أي ويراد بصفة الخلق بالفعل الصفة الاعتبارية، وهي تعلق القدرة على وجه الإيجاد بالمقدور "وهو" أي والتعلق المذكور "عروض الإضافة" وهي النسبة الإيجادية "للقدرة" بالنسبة إلى مقدور مخصوص "ويلزم" من كون التعلق عبارة عما ذكرنا "حدوثه" أي التعلق كما هو ظاهر ولا محذور في ذلك بعد إحاطة العلم بكونه من قبيل الإضافات والاعتبارات العقلية ككون الباري - تعالى - وتقدس قبل كل شيء ومعه وبعده ومذكورا بألسنتنا ومعبودا لنا ومحييا ومميتا ونحو ذلك(21/257)
فيتم ما هو المطلوب من تمام الجواب السالف "ولو صرح به" أي ولو فرض تصريح أبي حنيفة بأن المراد بصفة الخلق الخلق بالفعل لا القدرة على الخلق "فقد نفاه الدليل" وهو لزوم قدم العالم والإمام رحمه الله تعالى بريء من ذلك.
مسألة
"الوصف حال الاتصاف" أي إطلاقه على من وصف به في حالة قيام معنى الوصف به "حقيقة" اتفاقا كضارب لمباشر الضرب "وقبله" أي وإطلاقه على من سيوصف به قبل قيام معناه به "مجاز" اتفاقا كالضارب لمن لم يضرب وسيضرب "وبعد انقضائه" أي وإطلاقه على من اتصف به ثم زال معناه عنه فيه ثلاثة أقوال مجاز مطلقا حقيقة مطلقا "ثالثها إن كان بقاؤه" أي معنى الوصف بعد تمام وجوده "ممكنا" بأن كان حصوله دفعيا كالقيام والقعود "فمجاز وإلا حقيقة" أي وإن لم يكن بقاؤه ممكنا بأن كان حصوله تدريجيا كالمصادر السيالة التي لا ثبات لأجزائها كالتكلم والتحرك فإطلاقه عليه حقيقة. "كذا شرح به" أي بمعنى هذا التقرير "وضعها" أي هذه المسألة فيما معناه "هل يشترط لكونه حقيقة بقاء المعنى ثالثها إن كان ممكنا اشترط" والواضع ابن الحاجب والشارح القاضي عضد الدين قال المصنف: "وهو"(21/258)
ص -125-…أي هذا الشارح "قاصر" عن مطابقة الوضع المذكور بل مناقض لبعض ما تضمنه "إذ يفيد إطلاق الاشتراط" أي اشتراط بقاء المعنى في الإطلاق الحقيقي كما في المشروح "المجازية حال قيام جزء فيما يمكن" أي مجازية إطلاق الوصف على من بقي به جزء من المعنى فيما يمكن بقاؤه؛ إذ بقاء جزئه ليس بقاءه "والشرح" يفيد "الحقيقية" أي حقيقية إطلاق الوصف على من بقي به جزء من المعنى فيما يمكن بقاؤه لاعتباره الانقضاء، ومعلوم أنه لا يتحقق الانقضاء مع بقاء جزء من المنقضي وعلى هذا مشى المصنف. هذا ويجب أن يستثنى من كلام ابن الحاجب الماضي والأمر والنهي لدخولها في كلامه؛ لأنها من جملة المشتقات مع أن إطلاق الماضي باعتبار ما مضى والأمر والنهي باعتبار المستقبل حقائق بلا نزاع، ويستثنى المضارع؛ إذ قيل: إنه مشترك أو حقيقة في الاستقبال ولم ينبه على هذا أحد من مشهوري شارحي كلامه "المجاز" أي قال القائلون بأن إطلاق الوصف على من زال عنه معناه بعد قيامه به مجاز وهو مختار كثير من المتأخرين منهم البيضاوي "يصح في الحال نفيه" أي الوصف المنقضي "مطلقا" عن التقييد بماض أو حال أو استقبال عمن وجد منه ثم انقضى "وهو دليله" أي وصحة النفي مطلقا من علامات المجاز كما أن عدم صحته من علامات الحقيقة "وكونه" أي النفي المطلق في الحال "لا ينافي الثبوت المنقضي في نفس الأمر لا ينفي مقتضاه" أي مقتضى نفسه "من نفي كونه" أي الإطلاق "حقيقة" وهذا جواب عن مقدر دفع به الاستدلال المذكور وهو أن النفي المطلق إنما يفيد المطلوب إذا كان منافيا للثبوت المنقضي لكنه لا ينافيه. وملخص الجواب أن النفي المطلق وإن لم يناف المنقضي لا ينفي مقتضى نفسه من ثبوت المجازية "نعم لو كان المراد" من النفي المطلق في: زيد ليس ضاربا إذا كان قد ضرب بالأمس وانقضى "نفي ثبوت الضرب في الحال" بأن أريد ليس ضاربا في الحال "وهو" أي نفي ثبوت الضرب في الحال "نفي المقيد" أي الضرب المقيد(21/259)
بالحال كما رأيت لم يتمش لأهل المجاز الاستدلال به على أهل الحقيقة؛ لأن هذه الصحة عند أهل الحقيقة في حيز المنع وكيف لا وليس محل النزاع إلا هذا فحذف جواب لو للعلم به من السياق والسباق "لكن" ليس المراد هذا من النفي المطلق بل "المراد صدق: زيد ليس ضاربا من غير قصد التقييد" بشيء من الأزمنة لكن هذا أيضا مما لحقه المنع كما أشار إليه بقوله "وأجيب بمنع صدق" النفي "المطلق على إطلاقه" فلا يجدي الاسترواح إليه "قالوا" ثانيا "لو كان" الإطلاق "حقيقة باعتبار ما قبله لكان" حقيقة أيضا "باعتبار ما بعده وإلا فتحكم" أي وإلا فإن كان حقيقة باعتبار ما قبله مجازا باعتبار ما بعده فهو تحكم لعدم المقتضي لهذه التفرقة. "بيان الملازمة أن صحته" أي كون الإطلاق حقيقة بسبب الاتصاف به "في الحال إن تقيد" القول بها "به" أي باعتبار ثبوت الاتصاف في الحال "فمجاز فيهما" لانتقاء الثبوت فيهما "وإلا فحقيقة فيهما" أي وإن لم يتقيد القول بها باعتبار ثبوته في الحال فإطلاقه باعتبار ما بعده حقيقة كإطلاقه باعتبار ما قبله "وغيره" أي اعتبار كل من هذين الاعتبارين "تحكم" لما ذكرنا لكن ليس الإطلاق حقيقة باعتبار ما بعده اتفاقا فكذا ينبغي أن لا يكون حقيقة باعتبار ما قبله "الجواب" نختار الشق الثاني، وهو أن القول بصحته(21/260)
ص -126-…غير مقيد باعتبار ثبوته في الحال ثم نمنع لزوم اللازم المذكور؛ لأنه "لا يلزم من عدم التقييد به" أي باعتبار الثبوت في الحال "عدم التقيد" بغيره في نفس الأمر "لجواز تقيده بالثبوت" أي بثبوت معنى ذلك الوصف "قائما أو منقضيا" فيكون حقيقة باعتبار ما قبله لوجود ثبوت ذلك المعنى له منقضيا كما يكون حقيقة لوجوده قائما ولا يكون حقيقة باعتبار ما بعده لعدم ثبوته له قائما أو منقضيا "الحقيقة" أي قال القائلون بأن إطلاق الوصف على من زال عنه بعد قيامه به حقيقة وهو مختار ابن سينا والجبائيين "أجمع أهل اللغة على" صحة إطلاق "ضارب أمس" على من قام به الضرب بالأمس وانقضى. "والأصل" في الإطلاق "الحقيقة، عورض" هذا الدليل "بإجماعهم" أي أهل اللغة "على صحته" أي إطلاق ضارب "غدا ولا حقيقة" بل هو مجاز بالإجماع "وحاصله" أي هذا الجواب الواقع بطريق المعارضة أنه "خص الأصل" في الإطلاق الحقيقية في: ضارب أمس بمعنى أنه لا يجرى هذا الأصل فيه "لدليل الإجماع" على أنه لا يجري في: ضارب غدا للإجماع "على مجازية الثاني" يعني: ضارب غدا فيستدل به على مجازية الأول أعني: ضارب أمس وحينئذ فالوجه حذف "وليس مثله في الآخر" لأن معناه كما قال المصنف أي ليس في الآخر، وهو الإطلاق بعد الانقضاء دليل تخصيص الأصل المذكور وهو أن قولنا: الأصل الحقيقة فيعمل بعمومه فيه فيثبت أنه بعده حقيقة ا هـ. وإنما اتفق هذا لأنه قد كان في النسخ مكان وحاصله إلخ ما نصه وقد يقال: قد يخص الأصل لدليل والإجماع على مجازية الثاني دليله ا هـ وهو على هذا التقدير حسن لا بد منه فلما وقع التغيير إلى هذا وقع الذهول عن حذفه ثم هو مما يصلح دفعا لهذه المعارضة ولا سيما وقد تقدم أنه لا يلزم من كون الإطلاق باعتبار ما قبله حقيقة كونه باعتبار ما بعده حقيقة فليتأمل "قالوا" ثانيا "لو لم يصح" كون إطلاق الوصف بعد انقضاء معناه "حقيقة لم يصح المؤمن لغافل ونائم" حقيقة لأنهما غير(21/261)
مباشرين للإيمان حينئذ سواء فسر بالتصديق أو بغيره "والإجماع أنه" أي على أن المؤمن "لا يخرج بهما" أي بالغفلة والنوم "عنه" أي عن كونه مؤمنا "أجيب أنه" أي بإطلاق المؤمن على كل منهما "مجاز" بدليل عدم اطراده "لامتناع كافر لمؤمن لكفر تقدم" أي لامتناع إطلاق كافر على مؤمن تقدم كفره "وإلا كان أكابر الصحابة كفارا حقيقة" كما أنهم مؤمنون حقيقة "وكذا النائم لليقظان" يكون حقيقة كما أن اليقظان كذلك، والحاصل أن ذلك مجاز وإلا لزم الاتصاف بالمتقابلين حقيقة وهو باطل.
"قيل" أي قال المحقق التفتازاني ما معناه "والحق أنه" أي الوصف من المؤمن وما جرى مجراه "ليس من محل النزاع وهو" أي محله "اسم الفاعل بمعنى الحدوث لا" بمعنى الثبوت ولا ما جرى مجراه كما "في مثل المؤمن" والكافر والنائم واليقظان والحلو والحامض "والحر والعبد مما لم يعتبر فيه طريان" والأولى مما يعتبر في بعضه الاتصاف به مع عدم طريان المنافي وفي بعضه الاتصاف به بالفعل ألبتة كما هو عبارة هذا القائل، وتعقبه المصنف رحمه الله بقوله "وقد يقال لو سلم" أي هذا الوصف من مؤمن ونحوه منه محل النزاع(21/262)
ص -127-…"فالجواب" من قبل أهل المجاز لأهل الحقيقة "الحق أنه إذا أجمع على أنه" أي المؤمن "إذا لم يخرج بهما" أي بالنوم والغفلة "عن الإيمان" إذا لوحظ مجرد الوصف "أو عن كونه مؤمنا" إذا لوحظت الذات الموصوفة بالإيمان "باعترافكم" متعلق ب يخرج "بل حكم أهل اللغة والشرع أنه" أي الشأن "مادام المعنى" كالإيمان بمعنى التصديق "مودعا حافظة المدرك" الذي هو المؤمن في هذا المثال "كان" ذلك المعنى "قائما به" أي بالمدرك "ما لم يطرأ حكم يناقضه" أي ذلك المعنى "بلا شرط دوام المشاهدة" والملاحظة لذلك المعنى. "فالإطلاق" للمؤمن "حينئذ" أي حين نومه وغفلته إطلاق له "حال قيام المعنى وهو" أي، وإطلاقه عليه حال قيام المعنى به إطلاق "حقيقي اتفاقا فلم يفد" الإطلاق عليه حينئذ "في محل النزاع" وهو الإطلاق عليه بعد انقضاء المعنى "شيئا" من مطلوبكم "وبه" أي وبهذا "يبطل الجواب" المتقدم "بأنه" أي إطلاق المؤمن على المؤمن الغافل والنائم "مجاز" وإن ذكره ابن الحاجب وتابعه الشارحون وأردفه المحقق الشريف بأن الإجماع إنما هو على إطلاق المؤمن عليهما في الجملة، وأما بطريق الحقيقة فلا، وإجراء أحكام المؤمنين على النائم مثلا لا يستلزم كون إطلاقه عليه حقيقة، ووجه بطلانه ظاهر "وإثباته" أي كون الإطلاق المذكور مجازا "بامتناع كافر لمؤمن صحابي أو غيره إلخ" أي تقدم كفره كما تقدم أيضا "باطل" فإن هذا الامتناع يقتضي أن لا يصح الإطلاق لا حقيقة ولا مجازا وليس كذلك "بل صحته" أي إطلاق كافر على من آمن بعد كفره "لغة: اتفاق إنما الخلاف في أنه" أي: الإطلاق لغة "حقيقة" أو مجاز. "والمانع" من الإطلاق عليه استعمالا حقيقة ومجازا أمر "شرعي" كما ذكره صاحب التحصيل وغيره، وهو حرمة نبز المؤمن ولا سيما الصحابي بهذا الذم الذي طهره الله منه، وليس الكلام باعتبار الشرع بل باعتبار اللغة "وإذا لهم" أي وإذ لم يكن خلاف اللغة في صحة إطلاق كافر على من آمن بعد كفر فلأهل(21/263)
الحقيقة "ادعاء كونه" أي إطلاق كافر على من آمن بعد كفر "حقيقة" أي إطلاقا حقيقيا لغويا "مع صحة إطلاق الضد" وهو مؤمن في هذا المثال عليه "كذلك" أي إطلاقا حقيقيا لغويا أيضا "ولا يمتنع" هذا "إلا لو قام معناهما" أي الضدين "في وقت الصحتين" أي صحة إطلاق كافر حقيقة وصحة إطلاق مؤمن حقيقة على الشخص الواحد به "وليس المدعى" في هذا "سوى كون اللفظ بعد انقضاء المعنى حقيقة وأين هو" أي إطلاق لفظ الضد "من قيامه" أي معنى الضد "في الحال ليجتمع المتنافيان أو يلزم قيام أحدهما بعينه".
قال المصنف رحمه الله: وحينئذ يبطل إلزام القاضي عضد الدين كونه كافرا حقيقة مؤمنا حقيقة في وقت واحد حقيقة؛ لأنه إنما يبطل ذلك لو كان إطلاق الكافر والمؤمن في وقت واحد حقيقة؛ لأنه يستلزم ثبوت نفس الإيمان والكفر في وقت واحد وليس كذلك؛ لأن إحدى الحقيقتين لا يقارنها وجود معنى بل يثبت حال انتفائه؛ لأن الفرض كون اللفظ حقيقة بعد انقضاء المعنى فلم يلزم من كونه كافرا حقيقة مؤمنا حقيقة سوى صحة الإطلاقين الحقيقيين وليس ذلك بممتنع إلا لو استلزم اجتماع معناهما وهو منتف قلت وعلى ذا لا يستبعد جريان هذا في النائم واليقظان والحلو والحامض إلى غير ذلك وينتفي ما نظر في تعليل منع إطلاق الكافر على مسلم(21/264)
ص -128-…تقدم كفره بما ذكرناه آنفا بأن القاعدة أن امتناع الشيء متى دار إسناده بين عدم المقتضي، ووجود المانع كان إسناده إلى عدم المقتضي أولى؛ لأنه لو أسند إلى وجود المانع لكان المقتضي وجد وتخلف أثره والأصل عدمه فيكون على هذه دعوى امتناع الكافر لعدم المقتضي، وهو وجود معنى الوصف حالة الإطلاق أولى من دعوى امتناعه لوجود المانع المذكور؛ لأن أهل الحقيقة بصدد منع عدم المقتضي؛ لأن الفرض كون اللفظ حقيقة بعد انقضاء المعنى عندهم. نعم لقائل أن يقول: تمام أن يكون لأهل الحقيقة الادعاء المذكور إذا لم يكن إجماع على المنع لكن ظاهر كلام الآمدي وجوده حيث قال: لا يجوز تسمية القائم قاعدا والقاعد قائما للقعود والقيام السابق بإجماع المسلمين وأهل اللسان وعليه قول المحقق التفتازاني فإن قيل: إنما يمتنع ذلك لو اتحد الزمان وهو غير لازم قلنا الكلام في اللغة، وبطلان ذلك معلوم لغة لكن شيخنا المصنف رحمه الله إنما ذكره على سبيل الفرض، وأنه لا مانع عقلي لهم من ذلك لو ادعوه فلا ضير عليه.(21/265)
"قالوا" ثالثا "لو اشترط لكونه" أي الوصف "حقيقة بقاء المعنى لم يكن لأكثر المشتقات حقيقة كضارب ومخير" والوجه حذف ضارب فإن المقصود أن بقاء المعنى لو كان شرطا للحقيقة لم يكن للمشتقات من المصادر السيالة حقيقة فإنها كما تقدم يمتنع وجود معانيها دفعة في زمان، ولا تجتمع أجزاء معانيها في آن؛ لأنها تدريجية التحقق لا يحصل الجزء الثاني منها حتى ينقضي الأول وهلم جرا فانتفى أن تكون حقيقة في الحال لتوقفها على كونها قارة فيه وهو محال والفرض أنها ليست حقيقة فيما مضى لعدم حصول معانيها ولا فيما يستقبل لانقضائها فلا يكون لها حينئذ حقيقة أصلا. وهذا بخلاف الضرب فإنه دفعي الحصول كما سينبه المصنف عليه ولعله إنما وقع ذكره نظرا لذكر المحقق التفتازاني إياه مع المشي والحركة والتكلم تمثيلا للمصادر التي يمتنع وجود معانيها في آن "بل لنحو قائم وقاعد" أي بل إنما يمكن أن يكون الوصف حقيقة للمشتقات من المصادر الآنية وهي التي تجتمع أجزاء معانيها في آن واحد وتبقى كعالم وقائم وناصر أو توجد دفعة كضارب بأن تطلق على من قامت به حال قيامها به، واللازم باطل فالملزوم مثله "والجواب أنه" أي بقاء المعنى "يشترط" في صحة الإطلاق حقيقة "إن أمكن" بقاؤه "وإلا فوجود جزء" أي وإن لم يكن بقاء المعنى فإنما يشترط في صحة الإطلاق حقيقة وجود جزء من المعنى مع إطلاق اللفظ فلا يلزم أن لا يكون للمشتقات المذكورة حقيقة أصلا لإمكان تحقق هذا القدر فيها ثم لما كان هذا الجواب من قبل مطلق الاشتراط أورد كيف يصح هذا منه، وأجيب بأن معنى الجواب عن الدليل إبطاله، وبيان عدم إفادته مطلوب المستدل فلا يضره عدم موافقته مذهب المجيب، وهذا ما يقال: المانع لا مذهب له. وقيل: هذا تخصيص للدعوى بصورة الإمكان ورجوع إلى المذهب الثالث، وعليه مشى القاضي عضد الدين ثم المصنف فقال "والحق أن هذا" التفصيل "يجب أن يكون مراد مطلق الاشتراط" أي اشتراط بقاء المعنى في كون الإطلاق(21/266)
حقيقيا عن تقييده بكونه مما يمكن بقاؤه أو لا يمكن، وأنه بعد الانقضاء مجاز "ضرورة" وإلا لزم اللازم الباطل المتقدم، وهو أن لا يكون نحو مخبر يستعمل حقيقة أصلا "لا" أن يكون(21/267)
ص -129-…الاشتراط المطلق عن التقييد المذكور مع كونه بعد الانقضاء مجازا "مذهبا ثالثا" لكونه حقيقة بعد الانقضاء، وهذا التفصيل فليس هنا في التحقيق سوى مذهبين يجتمعان على الحقيقة حال الاتصاف ويفترقان فيما بعد الانقضاء بالحقيقة والمجاز ثم أوضحه بقوله "فهو" أي مطلق الاشتراط "وإن قال: يشترط بقاء المعنى" لكونه حقيقة، ولم يقيده بشيء لا يريد به بقاء كله بل "يريد وجود شيء منه" أي من المعنى "فلفظ مخبر وضارب إذا أطلق في حال الاتصاف ببعض الإخبار" بكسر الهمزة وبمباشرة الضرب في الجملة "يكون حقيقة؛ لأن مثل ذلك" أي حال الاتصاف بوجود جزء منه "يقال فيه" أي في ذلك الحال "إنه" أي ذلك الحال "حال اتصافه بالإخبار والضرب عرفا وإذا كان" ذلك الحال. "كذلك" أي يقال فيه: إنه متصف بذلك الوصف "وجب أن يحمل كلامه" أي المطلق "عليه" أي على هذا المراد خصوصا "ومن المستبعد أن يقول أحد: لفظ ضارب في حال الضرب مجاز" لعدم قيام جميعه به حينئذ "وأنه" أي الضارب "لم يستعمل قط حقيقة" كما هو لازم ظاهر إطلاق الاشتراط كما بيناه "وكثير مثل هذا في كلام المولعين" بفتح اللام أي المغرين "بإثبات الخلاف ونقل الأقوال لمن تتبع" ذلك فليس هذا بأول مصروف عن ظاهره.(21/268)
قال العبد الضعيف - غفر الله تعالى له -: ولكن لا يخفى أن هذا ليس بمطابق للمذهب المفصل فإن المفصل مصرح باشتراط وجود بقاء كل المعنى إذا كان مما يمكن بقاؤه وجزء منه إذا كان مما لا يمكن بقاؤه في الإطلاق الحقيقي وهذا يفيد أن الشرط وجود جزء منه سواء كان ممكن البقاء أو لا كما عليه جمهور شارحي مختصر ابن الحاجب على ما ذكره المحقق التفتازاني ولا يقال: لعل المراد أن مذهب المطلق هو مذهب المفصل بعد إلغاء تفصيله بناء على أن في حال وجود بعضه يقال فيه إنه متصف به عرفا سواء كان ممكن البقاء أو لا كما تقدم عن الشارحين المذكورين؛ لأنا نقول: لا تفصيل حينئذ على أنه يمكن أن يقال: لا يلزم من اعتبار المسامحة المشار إليها في المصادر الزمانية اعتبارها في الآنية أيضا لما يلزم من تعذر الحقيقة في الأولى على تقدير عدم المسامحة فيها دون الثانية. وأيضا مذهب المفصل يفيد أن إطلاق ما لا يمكن بقاؤه بعد انقضائه حقيقي ومذهب مطلق الاشتراط يفيد أنه مجازي نعم إطلاق المصنف ولا غيره ليتناول الجزء الأول والآخر وما بينهما بعد حمله على ما لا يمكن بقاؤه وكما مشى عليه المحقق التفتازاني أولى من تقييده بآخر جزء منه في ذلك كما قاله الآمدي وتابعه عليه جماعة حتى قال الإسنوي فمن قال: قام زيد مثلا إنما يصدق عليه متكلم حقيقة عند مقارنة الدال فقط لا قبلها ولا بعدها فإن هذه مضايقة ومشاحة لا توسعة ومسامحة.
"ثم الحق أن ضاربا ليس منه" أي مما يدخل في الوجود جزء معناه كما قيل "لأن الموجود تمام المعنى وإن انقضى كثير من الأمثال" أي بل الداخل في الوجود تمام معناه لأن تمام معناه هو كونه متصفا بالتأثير في الغير بالإيلام، وتمام هذا المعنى متحقق في الضربة(21/269)
ص -130-…الواحدة فالباقي بعدها، ولو ضربة واحدة بعد مائة ضربة تمام معناه أيضا، وما انقضى قبل الأخيرة وبعد الأولى تكرار لتمام المعنى "لا يقال فالوجه حينئذ" أي حين لم يسلم ما تقدم من الأدلة للمجاز "الحقيقة تقديما للتواطؤ على المجاز" لأنه دار اللفظ بعد الانقضاء بين كونه مجازا أو متواطئا أي موضوعا للذات باعتبار ما قام بها أو وقع عليها في الوجود أعم من قيامه حال الإطلاق أو انقضائه. والتواطؤ مقدم على المجاز كما أن المجاز مقدم على الاشتراط اللفظي "لا" أن الوجه "التوقف" عن الجزم بأحدهما بعينهي "كظاهر بعض المتأخرين" وهو الآمدي ثم ابن الحاجب بناء على تعارض أدلتهما، وزعم انتفاء المرجح لأنا نقول: ليس كذلك "لعدم لازمه" أي التواطؤ "وهو" أي لازمه "سبق الأحد الدائر" في الثبوت القائم والمنقضي إلى الفهم "لسبقه" أي المعنى إلى الفهم "باعتبار الحال من نحو: زيد قائم" وإذا كان السابق إلى الفهم في نحو إطلاق زيد قائم وضارب قيام قيامه وضربه في الحال لزم أن يكون وضعه للمحال فيترجح المجاز حينئذ والله - سبحانه وتعالى – أعلم.
"الفصل الثاني" في انقسام اللفظ المفرد باعتبار دلالته
"في الدلالة" للمفرد "وظهورها وخفائها تقسيمات" ثلاثة، والتقسيم إظهار الواحد الكلي في كثير من المواد فيلزم منه امتناع تقسيم الشيء إلى نفسه وغيره، وكون المقسم أعم من كل قسم مطلقا.(21/270)
"التقسيم الأول": في اللفظ المفرد باعتبار دلالته من حيث هي "اللفظ المفرد" الموضوع لمعنى "إما دال" عليه "بالمطابقة" أي بسبب وضع اللفظ له بتمامه "أو التضمن" أي بسبب وضع اللفظ له ولغيره معا "أو الالتزام" أي بسبب وضع اللفظ لملزومه "والعادة" العملية للمنطقيين "التقسيم فيها" أي في الدلالة "ويستتبعه" أي، ويكون اللفظ تبعا للدلالة في هذا التقسيم لتعديه منها إليه، وإنما أوردناه نحن في اللفظ المفرد في هذا الفصل لكونه بالذات له بهذا الاعتبار كما أن سائر إخوته من الفصول الآتية له بالذات باعتبارات أخر أيضا ثم يقع التقسيم له أولا، وبالذات فيها والأمر في ذلك قريب "والدلالة كون الشيء متى فهم فهم غيره فإن كان التلازم" بينهما "بعلة الوضع" أي بسبب وضع الشيء للغير أي جعله بإزائه بحيث إذا فهم الشيء فهم الغير "فوضعية" أي فدلالة الشيء على الغير وضعية "أو بالعقل" أي أو كان التلازم بينهما بإيجاب العقل الصرف في ذلك "فعقلية" أي فدلالة الشيء على الغير عقلية. قال المصنف "ومنها" أي العقلية "الطبيعية" وهي ما اقتضى التلفظ بملزومها الذي هو اللفظ طبع اللافظ عند عروض المعنى له كدلالة أح بفتح الهمزة وضمها وبالحاء المهملة على أذى الصدر "إذ دلالة أح على الأذى دلالة الأثر على مبدئه" أي مؤثره "كالصوت والكتابة والدخان" أي كدلالة الصوت المسموع من وراء جدار على وجود مصوته ثمة والكتابة على كاتبها والدخان على النار فإن هذه الدلالات عقلية لأنها دلالة الأثر على مؤثره فكذا هذه؛ لأن أح أثر عروض وجع صدر اللافظ، فإذن لا تصلح أن تكون قسيمة للعقلية كما فعلوه عن آخرهم(21/271)
ص -131-…"والوضعية" قسمان "غير لفظية كالعقود" جمع عقد وهو ما يعقد بالأصابع على كيفيات خاصة أي كدلالتها على كميات معينة من العدد "والنصب" جمع نصبة وهي العلامة المنصوبة لمعرفة الطريق أي كدلالتها على ذلك فإن كلا من هاتين دلالة وضعية غير لفظية "ولفظية" وهي المخصوصة بالنظر في العلوم لانضباطها وشمولها لما يقصد إليه من المعاني وهي "كون اللفظ بحيث إذا أرسل فهم المعنى للعلم بوضعه" أي كون اللفظ كلما أطلق فهم منه معناه للعلم بتعيينه بنفسه بإزاء معناه المفهوم منه أعم من أن يكون هو جميع ما وضع اللفظ له أو جزأه أو لازمه. وما قيل إنما قال من قال بالنسبة إلى من هو عالم بالوضع ولم يقل بوضعه له لئلا يخرج عن التعريف دلالة التضمن والالتزام، فيه نظر ولا يقال العلم بالوضع الذي هو نسبة بين اللفظ والمعنى يتوقف على فهم المعنى كما يتوقف على فهم اللفظ وقد ذكر في التعريف أن فهم المعنى لأجل العلم بالوضع فلو صح هذا لزم توقف كل من فهم المعنى والعلم بالوضع على الآخر في الوجود لأنا نقول: فهم المعنى في حال إطلاق اللفظ موقوف على العلم السابق بالوضع ومن المعلوم أن ذلك العلم السابق لا يتوقف على فهم المعنى في الحال بل على فهمه في الزمان السابق، وأيضا فهم المعنى من اللفظ موقوف على العلم بالوضع وليس العلم بالوضع موقوفا على فهمه من اللفظ بل على فهمه مطلقا فظهر تغاير الفهمين في الجواب الأول بحسب الزمان، وفي الجواب الثاني بحسب الإطلاق والتقييد فلا دور ثم هذا احتراز عن الدلالة العقلية طبيعية كانت أو غير طبيعية؛ إذ لا وضع فيها ولاستواء العالم والجاهل في ذلك الفهم إن كان هناك وضع.(21/272)
"وأورد سماعه" أي اللفظ الدال بالوضع "حال كون المعنى مشاهدا" قال المصنف: فإن الدلالة الوضعية ثابتة مع انتفاء الحد إذا أطلق اللفظ ولم يفهم المعنى فبطل عكس التعريف ا هـ لأن فهم المفهوم محال؛ إذ الفرض أن المعنى مرتسم عنده بواسطة المشاهدة. "وأجيب بقيام الحيثية" أي بمنع انتفاء الحد حال كون المعنى مشاهدا لبقاء قيام الحيثية باللفظ حينئذ أيضا "وهي" أي الحيثية هي "الدلالة" قلت: وفيه نظر لاتجاه تسلط المنع على كونها حقيقة الدلالة بل من الظاهر أنها شرط تحققها فلا جرم أن قال "والحق الانقطاع بالسماع ثم التجدد عنه" أي والجواب الحق منع انتفاء الحد في هذه الحالة قوله: لأنه أطلق اللفظ ولم يفهم المعنى، قلنا: ممنوع قوله: لأن فهم المفهوم محال قلنا مسلم، ولكن إنما يلزم هذا لو لم ينقطع فهم المعنى، ويذهب انتقاشه من النفس عند سماع اللفظ الدال عليه وضعا لكنه ينقطع حالتئذ للذهول عنه بالالتفات إلى المسموع ثم يتجدد فهمه ثانيا عن سماع اللفظ فيكون إدراكا ثانيا بعد الإدراك الأول ثم غير خاف على المتأمل أن هذا مما يحقق صحة دعوى قيام الحيثية في هذه الحالة فالجواب في الحقيقة إنما هو بدعوى قيامها، وهذا بيان لذلك فليتأمل.
"وللدلالات" الوضعية اللفظية "إضافات" ثلاث: إضافة "إلى تمام ما وضع له اللفظ وجزئه" أي وإضافة إلى جزء ما وضع له اللفظ "ولازمه" أي وإضافة إلى لازم ما وضع له اللفظ(21/273)
ص -132-…"إن كانا" أي إن وجد الجزء واللازم، وفي هذا إشارة إلى أن المطابقة لا تستلزم التضمن والالتزام دائما، والأمر على ما أشار؛ لأنه قد يكون مسمى اللفظ بسيطا كالوحدة والنقطة فيدل عليه مطابقة ولا تضمن لانتفاء الجزء وبهذا يعرف أيضا أن الالتزام لا يستلزم التضمن فإن المعنى البسيط إذا كان له لازم ذهني كان ثمة التزام بلا تضمن. ويجوز أن لا يكون للمسمى لازم بين يلزم فهمه فهمه، وللعلم الضروري بأنا نعقل كثيرا من الأشياء مع الذهول عن جميع الأغيار فانتفى زعم الإمام الرازي بأن المطابقة تستلزمه كما سيذكره المصنف، وبهذا يعرف أيضا أن التضمن لا يستلزم الالتزام لجواز أن لا يكون للمسمى المركب لازم كذلك وللعلم بأنا نعقل كثيرا من المعاني المركبة مع الغفلة عن الأمور الخارجة عنه نعم التضمن والالتزام مستلزمان للمطابقة لأنهما لا يوجدان إلا معها بالاتفاق "ولها" أي وللدلالة الوضعية واللفظية "مع كل" من هذه الإضافات "اسم فمع الأول" أي فلها مضافة إلى تمام ما وضع له اللفظ من حيث هو تمامه اسم هو "دلالة المطابقة" لموافقة المعنى اللفظ "ومع الثاني" أي ولها مضافة إلى جزء ما وضع له اللفظ من حيث هو جزؤه اسم هو "دلالة التضمن" لتضمن المعنى الموضوع له إياه "وكذا الالتزام" أي وكذا لها مضافة إلى اللازم الخارج عن المعنى الموضوع له اللفظ من حيث هو لازمه اسم هو دلالة الالتزام لاستلزامه له. "ويستلزم اجتماعها" أي المطابقة والتضمن والالتزام "انتقالين واحد" من اللفظ "إلى المعنى المطابقي والتضمني" معا "لأن فهمه" أي الجزء الذي هو الدلالة التضمنية "في ضمنه" أي في ضمن فهم الكل؛ لأن اللفظ الموضوع للمعنى المركب من حيث هو يلاحظ ملاحظة واحدة إجمالية فليس ثمة إلا فهم واحد لهما فالدلالة على الكل لا تغاير الدلالة على كل من الأجزاء مغايرة بالذات بل بينهما تغاير بالإضافة والاعتبار فإن ذلك الفهم الواحد إن أضيف إلى الكل واعتبر بالقياس(21/274)
إليه سمي فهم الكل، ودلالة المطابقة إن أضيف إلى أحد الأجزاء واعتبر بالنسبة إليه سمي فهم ذلك الجزء، ودلالة التضمن واستوضح ذلك بما إذا وقع بصرك على زيد من رأسه إلى قدمه دفعة واحدة فإنك تراه وترى أجزاء برؤية واحدة فإن نسبت هذه الرؤية إلى زيد تسمى رؤيته وإن أضيفت إلى جزء من أجزائه تسمى رؤية ذلك الجزء "لا كظن شارح المطالع" قطب الدين الفاضل المشهور أنه ينتقل الذهن من اللفظ إلى جزء ما وضع هو له ثم منه إلى تمام ما وضع هو له وأن المطابقة تابعة للتضمن في الفهم لسبق الجزء في الوجودين لظهور منع الأول وسبق الجزء في الوجودين مطلقة لا دائمة؛ إذ لا مانع من التفات النفس إلى المجموع من حيث هو مجموع بل هو واجب في تذكر المعنى عند اللفظ الذي هو معنى فهمه منه والالتفات إليه عنده؛ لأن ذلك بعلة سماع اللفظ والعلم بوضعه له وذلك علة الانتقال للمجموع فيثبت كذلك. ثم مقتضاه فهم الجزء مرتين بالاستقلال وفي ضمن الكل لكن الوجدان ينفي الأول بخلاف ابتداء تعقل المركب من مفيده تفصيلا حيث يلزم فيه سبق الجزء كذا أفاده المصنف رحمه الله تعالى "يليه" أي هذا الانتقال انتقال "آخر" من المطابقي أو التضمني إن كان هو الملزوم "إلى الالتزامي" فبينه وبين اللفظ واسطة بخلافهما ثم هذا الانتقال من أحدهما إليه يلزم "لزوما"(21/275)
ص -133-…ذهنيا لا انفكاك له "لأنه" أي اللزوم بين أحدهما وبينه مشروط أن يكون "بالمعنى الأخص" وهو كون اللازم يحصل في الذهن كلما حصل المسمى فيه "فانتفى لزوم الالتزامي مطلقا للزوم تعقل أنه ليس غيره؛ لأن ذلك للأعم" أي فتفرع على هذا انتفاء كون المطابقة تستلزم الالتزام دائما كما يفيده قول الإمام الرازي المطابقة يلزمها الالتزام؛ لأن لكل ماهية لازما بينا، وأقله أنها ليست غيرها والدال على الملزوم دال على اللازم البين بالالتزام، وإيضاح الانتفاء أن هذا بناء على اعتبار اللزوم في اللازم البين في دلالة الالتزام بالمعنى الأعم للزوم، وهو ما يحكم به من اللزوم بين شيئين كلما تعقلا سواء كان حصول اللازم في الذهن على الفور من حصول الملزوم فيه أو بعد التأمل في القرائن، وسواء كان اللزوم بينهما مما يثبته العقل أو عرف عام أو خاص أو ما جرى مجرى ذلك سواء كان الحكم باللزوم بينهما يقينا أو ظنا وهو ممنوع فإن اعتبار اللزوم في اللازم البين في دلالة الالتزام إنما هو بالمعنى الأخص الذي ذكرناه وهو منتف كما بيناه وقد ظهر أن الشرط هو اللزوم الذهني. وأما الخارجي وهو كون اللازم بحيث يلزم من تحقق المسمى في الخارج تحققه أيضا فيه فليس بشرط؛ لأن العدم كالعمى يدل على الملكة كالبصر دلالة التزامية؛ لأنه عدم البصر عما من شأنه أن يكون بصيرا مع عدم اللزوم بينهما في الخارج لما بينهما من المعاندة فيه "هذا" كله "على" اصطلاح "المنطقيين فلا دلالة للمجازات على المجازية" أي فلا دلالة من الدلالات الثلاث للألفاظ المستعملة في معانيها المجازية عليها من حيث هي كذلك "بل ينتقل" من الألفاظ المجازية "إليها" أي إلى معانيها المجازية "بالقرينة" أي بسبب استعانة القرينة الصارفة عن المعاني الحقيقية إليها "فهي" أي المعاني المجازية "مرادات" من الألفاظ المجازية "لا مدلولات لها" أي للألفاظ المجازية "فلا تورد" المجازات "عليهم" أي على المنطقيين كما(21/276)
أوردها القاضي عضد الدين لانتفاء الغرض من إيرادها حينئذ "إذ يلتزمونه" أي عدم دلالة المجازات على معانيها المجازية كما هو مقتضى تعريفهم الدلالة "ولا ضرر" عليهم من ذلك "إذ لم يستلزم" نفي دلالة المجاز على معناه المجازي "نفي فهم المراد" الذي هو المعنى المجازي ليمتنع ما ذهبوا إليه لحصول فهمه بالقرينة المفيدة له ثم إذا كان الأمر على هذا "فليس للمجاز في الجزء واللازم دلالة مطابقة فيهما كما قيل" قاله المحقق التفتازاني. ولفظه إذا استعمل اللفظ في الجزء أو اللازم مع قرينة مانعة من إرادة المسمى لم يكن تضمنا أو التزاما بل مطابقة لكونها دلالة على تمام المعنى أي ما عني باللفظ وقصد "بل" إنما في المجاز في الجزء أو اللازم "استعمال" للفظ في جزء ما وضع له أو لازمه "يوجب الانتقال معه" أي الاستعمال من المطابقي الذي هو الحقيقي "إلى كل" من المعنيين المجازيين المذكورين "فقط القرينة" المفيدة لذلك "ودلالة تضمنية والتزامية فيهما" أي في الجزء واللازم "تبعا للمطابقية التي لم يرد" فيهما.
قال المصنف رحمه الله تعالى: وهذا تصريح بأن كل مجاز له دلالة مطابقة لافتقاره إلى الوضع الأول، وإن لم يفتقر إلى حقيقة، والدلالة تتبع الوضع لا الإرادة على ما هو الحق ا هـ.(21/277)
ص -134-…ومن ثمة تنزل المحقق التفتازاني إليه عقب ما نقلناه عنه آنفا "وهذا لأن بعد الوضع لا تسقط الدلالة عن الوضعي فكذا لا تسقط عن لازمه فتتحقق" الدلالة المطابقية "لتحقق علتها وهو" أي تحقق علتها "العلم بالوضع" لذلك المعنى "والمراد غير متعلقها" أي: والحال أن المراد باللفظ المجازي حينئذ غير متعلق تلك الدلالة الذي هو المعنى الحقيقي له.
وحاصل هذه الجملة كما أفاده المصنف رحمه الله فيما كتبه على البديع أن جميع المعاني المجازية إلا التضمني والالتزامي مرادات باللفظ بالقرينة لا مدلولات له حتى لو استعمل اللفظ الموضوع لمعنى مركب ذي لازم ذهني في مجازي غيرهما مع قرينة صارفة عن مدلولاته كان لهذا اللفظ ثلاث دلالات على غير المقصود وكان المقصود غير مدلول له بل مراد به وأما إذا تجوز به في التضمني أو الالتزامي من حيث هو مستعمل مجازا فيه لا دلالة له على واحد منهما ومن حيث هو موضوع لما هما جزؤه ولازمه وإن لم يكن مراداهما مدلولان تضمني والتزامي فتقرر أنه إذا تجوز به فيهما لم يدل عليهما من حيث هو مجاز فيهما بل من حيث هما جزء ولازم لموضوعه أما أنه يدل عليهما مطابقة فلا وحينئذ يكون له دلالات بعضها مراد وبعضها لا ا هـ وقد ظهر من هذا أن الوجه عدم تقييد قول القاضي عضد الدين ويرد عليهم أنواع المجازات بالتي ليس فيها المعاني المجازية لوازم ذهنية للمسميات ليخرج استعمال الكل في الجزء والملزوم في اللازم الذهني كما قيده المحشون فليتأمل.(21/278)
"وأما الأصوليون فما للوضع دخل في الانتقال" أي وأما الدلالة الوضعية عندهم فما للوضع دخل في الانتقال فيها من الشيء إلى غيره ولو في الجملة "فتحقق" الدلالة الوضعية عندهم "في المجاز" أيضا قال المصنف لأن للوضع للمعنى الحقيقي دخلا في فهم المعنى المجازي إذ لولاه لم يتصور "والالتزامية بالمعنى الأعم" أي وتتحقق الدلالة الوضعية في الالتزامية أيضا، واللزوم فيها بالمعنى الأعم السالف بيانه كما هو الشرط عندهم فضلا عن كونه بالمعنى الأخص؛ لأن للوضع دخلا فيها وأما تحققها في التضمنية فبطريق أولى ولا خلاف في تحققها في المطابقة ومن ثمة لم يذكرهما قال المصنف رحمه الله: وإنما لم نقل بحجية المفاهيم المخالفة بناء على أن لا موجب للانتقال لعدم وضع اللفظ للمخالف وعدم لزومه للموضوع.
"تنبيه" ثم هذه الدلالات تتأتى في اللفظ المركب أيضا؛ لأن الأظهر كما عليه أكثر المحققين أن دلالة المركبات على معانيها التركيبية وضعية بحسب النوع فكن منه على ذكر.
"ثم اختلف الاصطلاح" للأصوليين في أصناف الدلالة الوضعية وأسمائها "وفي ثبوت بعضها أيضا فالحنفية، الدلالة" الوضعية قسمان "لفظية وغير لفظية وهي" أي غير اللفظية "الضرورية ويسمونها" أي الضرورية "بيان الضرورة" أي الحاصل بسببها فهو من إضافة الحكم إلى سببه كأجرة الخياطة وهذا أحد أقسام البيان الخمسة الآتي ذكرها إن شاء الله - تعالى.(21/279)
ص -135-…"وهو" أي بيان الضرورة "أربعة أقسام كلها دلالة سكوت ملحق باللفظية" في الاعتبار، وحصره فيها استقرائي قالوا: وسمي هذا القسم بهذا الاسم؛ لأن الموضوع للبيان في الأصل هو النطق، وهذا يقع بما هو ضده، وهو السكوت لأجل الضرورة الآتي تفصيلها.
القسم "الأول ما يلزم منطوقا" أي لازم مسكوت عنه لملزوم مذكور وله مثل منها قوله تعالى {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11] {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] فإن هذا ناص على انحصار إرثه فيهما، واختصاص الأم بالثلث منه، وهو ملزوم منطوق به وله لازم مسكوت عنه وهو لأبيه الثلثان طوى ذكره إيجازا للعلم وبه وإلا لم ينحصر إرثه فيهما وبقي نصيب الأب مجهولا، وسياق النص يأباه فلا جرم أن "دل سكوته" أي النص عن ذكره مع ما تقدم ذكره على "أن للأب الباقي" لا أن مجرد السكوت، أو تخصيص الأم بالثلث بيان لنصيبه بدليل أنه لو تبين نصيب الأم من غير إثبات الشركة بصدر الكلام لم يعرف نصيب الأب بالسكوت بوجه "ودفعته مضاربة على أن لك نصف الربح" أي ومنها قول رب أحد النقدين لغيره دفعت هذا النقد إليك مضاربة على أن لك نصف ربحه فيقبل الغير ذلك فإنه يفيد اشتراكهما في الربح؛ لأن المضاربة عقد شركة في الربح الحاصل بعمل المضارب، وبيان مقدار نصيب المضارب وهو ملزوم منطوق به وله لازم مسكوت عنه وهو "ولي" نصفه طوى ذكره اختصارا للعلم به لعدم مستحق آخر مع كونه نما ملكه فلا جرم أن كان هذا العقد صحيحا قياسا واستحسانا وقضى فيه بأنه "يفيد" السكوت فيه عن ذكر نصيب المالك مع ما تقدم ذكره "أن الباقي للمالك وكذا في قلبه استحسانا" أي ومنها قوله لغيره دفعته إليك مضاربة على أن لي نصف الربح فيقبل الغير ذلك، فالقياس فساد هذا العقد لعدم بيان نصيب المحتاج إلى بيان نصيبه، وهو المضارب لأنه إنما يستحق بالشرط فلا يتعين كون الباقي له، وصار كما لو قال: دفعته إليك مضاربة ولم يزد(21/280)
عليه والاستحسان وهو الصحيح صحة هذا العقد ويكون الربح بينهما نصفين فإن هذا القول يفيد اشتراكهما في الربح كما ذكرناه وبيان نصيب المالك وهو ملزوم منطوق به وله لازم مسكوت عنه وهو ولك نصفه طوى ذكره اختصارا للعلم به لأن الأصل في المال المشترك بين اثنين أنه إذا بين نصيب أحدهما أن يكون ذلك بيانا لكون الباقي للآخر إذا لم يصرح بخلافه كما في الآية الشريفة فلا جرم أن دل السكوت عن بيان نصيب المضارب مع ما تقدم على أن الباقي نصيبه وقد ظهر أن هذا ليس كقوله دفعته إليك مضاربة من غير زيادة شيء عليه.
القسم "الثاني دلالة حال الساكت" الذي وظيفته البيان مطلقا أو في تلك الحادثة بسبب سكوته عند الحاجة إلى البيان "كسكوته صلى الله عليه وسلم عند أمر يشاهده" من قول أو فعل ليس معتقد كافر، ولا سبق تحريمه كالمعاملات التي كان الناس يتعاملونها والمآكل والمشارب التي كانوا يتعاطونها، ولم يقع منه نهي عنها ولا نكير على فاعليها فإنه دليل على جواز ذلك في الشرع لضرورة حاله فإنه لا يجوز عليه أن يقر الناس على منكر؛ لأنه داع للخلق إلى الحق، وصفه الله(21/281)
ص -136-…بالقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف: 157] "وسيأتي في السنة" بيان مستقصى إن شاء الله تعالى "وسكوت الصحابة عن تقوم منافع ولد المغرور" وهو ولد الرجل من امرأة معتمدا على ملك يمين أو عقد نكاح ثم تستحق المرأة أمة للغير فإن سكوتهم عن تقوم منافع بدن الولد بوجوب قيمتها للمستحق على المغرور مع حكمهم برد الجارية على مولاها وبوجوب العقر على المغرور للمولى وبكون ولده منها حرا بالقيمة "يفيد عدم تقوم المنافع" وأنها بالإتلاف في غير عقد، ولا شبهته لا تضمن بدلالة حالهم فإن المستحق جاء طالبا لحكم الحادثة غير عالم بجميع ماله، وهم عالمون به على وجه الكمال واجب عليهم بيانه فكان السكوت دليل النفي؛ إذ لا يظن بهم السكوت عن واجب لجاهل به والمفيد لسكوتهم عنه عدة آثار مختلفة الألفاظ أخرج بعضها محمد بن الحسن في الأصل عن عمر وعلي وبعضها ابن أبي شيبة عن عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم طوينا ذكرها مخافة التطويل ولم ينقل عن أحد منهم مخالفة في ذلك بل قال الشيخ أبو بكر الرازي لا خلاف بين الصدر الأول وفقهاء الأمصار أن ولد المغرور حر الأصل ولا خلاف بين السلف أنه مضمون على الأب إلا أن السلف اختلفوا في كيفية ضمانه والذي ذهب إليه أصحابنا أن عليه القيمة بالغة ما بلغت ومن هنا حكي في الهداية وغيرها إجماع الصحابة على ذلك "ومنه" أي هذا القسم "سكوت البكر" عند استئذان الولي أو رسوله إليها في تزويجها من معين مع ذكر المهر أولا على اختلاف المشايخ أو عند بلوغها ذلك عن الولي على ما فيه من تفصيل في المبلغ بعرف في مباحث السنة إن شاء الله - تعالى فإن سكوتها في إحدى هاتين الحالين يفيد الإجازة بدلالة حالها، وهي الحياء فإنه يمنعها من التصريح بالإجازة لما فيه من إظهار الرغبة في الرجال والوقاحة كما أشارت إليه عائشة رضي الله عنهما ففي الصحيحين عنها(21/282)
قلت يا رسول الله: تستأمر النساء قال: "نعم، قلت: إن البكر تستحي فتسكت قال: "سكوتها إذنها" ولا تمتنع عادة من التصريح بالرد لا سيما وغالب حالهن إظهار النفرة عند فجأة السماع. ومن ثمة استحسن المشايخ تجديد العقد عند الزفاف فيما إذا زوجت قبل الاستئذان، وإن نقل عنها عدم الرد هذا ولا يخفى أن المراد بالبكر من إذنها معتبر في ذلك شرعا فتخرج الصغيرة والمرقوقة والمجنونة كما أن من المعلوم أن الثيب المعتبر إذنها في صحة العقد لا يكون سكوتها إجازة بل لا بد من نطقها به كما نطق به الحديث الصحيح "وفي ادعاء أكبر ولد من ثلاثة بطون أمته نفي لغيره" وحق العبارة وسكوته عن دعوة ولدين من ثلاثة في ثلاثة بطون أمته بعد الدعوة الأكبر فإنه نفي لهما أي ومن هذا القسم أيضا سكوت المولى عن دعوة ولدين أنهما منه فيما إذا أتت أمته بثلاثة أولاد في بطون ثلاثة بأن كان بين كل اثنين منهم ستة أشهر فصاعدا بعد دعوته أكبرهم فإن سكوته عن دعوتهما نفي لنسبهما بدلالة حال المولى، وهي أن الإقرار بنسب ولد هو منه فرض كما أن نفي نسب من ليس منه عن نفسه فرض أيضا فكان سكوته عن بيانه بعدما وجب عليه لو كان منه دليل النفي؛ لأنه موضع الحاجة إلى البيان فيجعل ذلك منه كالتصريح بالنفي "ولا يلزم ثبوته" أي نسب غير الأكبر منه أيضا بناء(21/283)
ص -137-…على أنهما ولدا أم ولده بدعوة الأكبر؛ لأنه ظهر بدعوته أنها كانت أم ولده من ذلك الوقت ونسب ولد أم الولد لا يتوقف على دعوة لكونها فراشا. ومن هنا قال زفر: يثبت نسبهما أيضا "لمقارنة النفي الاعتراف بالأمومة" أي لأنا نقول: إنما يثبت نسب غير الأكبر إذا لم يقارن نفيه ثبوت أمومتها لكنه مقارنة بسكوته عن الاعتراف به في موضع الحاجة إلى البيان، ودعوته الأكبر لم تكن قبل ولادتهما بل بعدها فلا تكون أم ولد وقت ولادتهما، والحاصل أن الفراش إنما يثبت لها من وقت الدعوة فكان انفصالهما قبل ظهور الفراش فيها فيكونان ولدي الأمة فيحتاج ثبوت نسبهما إلى الدعوة ثم لا فرق في هذا الحكم بين دعوة الأكبر بلفظ الأكبر ابني أو بلفظ هذا ابني فانتفى توهم أن نفي ما سواه بالمفهوم المخالف ثم إيراد أن الحنفية لا يقولون به ثم أقول: لعل الوضع إنما كان في دعوة الأكبر والسكوت عن غيره؛ لأنه يعلم منه فيما لو ادعى الأصغر وسكت عن غيره أنه يكون نفيا للأولين بطريق أولى عند الكل وفيما لو ادعى الأوسط وسكت عن غيره أنه يكون نفيا للأكبر بطريق أولى عند الكل وللأصغر بطريق المساواة عند علمائنا الثلاثة، وأنه لا يكون نفيا له على قياس قول زفر ثم إنما وقع التقييد بثلاثة بطون؛ لأنها لو ولدتهم في بطن واحد بأن كان بين كل اثنين منهم دون ستة أشهر فاعترافه بأحدهم اعتراف بالثاني ضرورة كما هو معروف في موضعه.(21/284)
القسم "الثالث: اعتباره" أي ما اعتبر من سكوت الساكت دلالة كالنطق "لدفع التغرير" أي لضرورة دفع وقوع الناس في الغرور "كدلالة سكوته" أي المولى "عند رؤية عبده يبيع" له أو لغيره بإذنه أو بغير إذنه بيعا صحيحا أو فاسدا أو يشتري ما لم تتعلق به الحاجة كالخبز واللحم "عن النهي" عن ذلك "على الإذن" في التجارة؛ لأنه لو لم يكن سكوته إذنا فيها أفضى إلى ضرر الناس لاستدلالهم به على إذنه فلا يمتنعون من معاملته فإذا لحقه دين وقال المولى محجور عليه يتأخر إلى وقت عتقه وهو غير معلوم، وقد لا يقع، ودفع الضرر والغرور واجب لقوله صلى الله عليه وسلم "لا ضرر ولا ضرار" حديث حسن أخرجه ابن ماجه وغيره وقوله صلى الله عليه وسلم "من غشنا فليس منا" حديث صحيح أخرجه مسلم وغيره، ومن ثمة لم يصح الحجر الخاص بعد الإذن العام نعم لا يكون السكوت إجازة لبيع ذلك إذا لم يكن مالكه أذن فيه سواء كان للمولى أو لغيره ثم هذا مذهب علمائنا الثلاثة وقال زفر والشافعي: لا يكون إذنا لاحتمال أنه لفرط الغيظ وقلة المبالاة بناء على أنه محجور شرعا، والمحتمل لا يكون حجة. قلنا ترجح العادة الفاشية برد تصرفه وإظهار نهيه إذا لم يرض "وسكوت الشفيع" أي وكدلالة سكوت الشفيع عن طلب الشفعة بعد علمه بالبيع على إسقاطها لضرورة دفع الغرور عن المشتري فإنه يحتاج إلى التصرف في الدار المبيعة فلو لم يجعل سكوت الشفيع إسقاطا لها لنقضه لو وقع ظنا منه أن لا غرض للشفيع فيها فلا جرم أن جعل سكوته كالتنصيص على إسقاطها هذا ما قالوه، ومعلوم أن الطلب في الشفعة ثلاثة: طلب مواثبة أن يطلبها كما علم بالبيع سواء كان عنده أحد أو لا وطلب تقرير أن ينهض بعد ذلك ويشهد على البائع إن كان المبيع في يده أو على المشتري أو عند العقار على ما فيه من تفصيل وطلب خصومة وتملك(21/285)
ص -138-…أن يرفع بعد ذلك المشتري إلى القاضي ويطلب قضاءه له بها واتفقوا على أن الثالث لا يبطل بمجرد السكوت بل إنما في رواية عن أبي يوسف أنها تبطل بترك الخصومة في مجلس من مجالس القاضي حتى لو كان له في كل ثلاثة أيام مجلس فلم يخاصم حتى مضى تبطل والرواية الظاهرة عنه لا تبطل بالتأخير أبدا كما هو قول أبي حنيفة، وفي الهداية الفتوى عليه وعند محمد وزفر تبطل بالتأخير شهرا من غير عذر وعند غير واحد من المشايخ الفتوى عليه فخرج هذا الطلب عن كون مجرد السكوت مبطلا له واتفقوا أيضا على أن مدة الثاني مقدرة بتمكنه منه، وعلى أن الأول على الفور واختلفوا في تفسيره فأكثر المشايخ أن يطلبها على فور علمه بالبيع من غير توقف كما هو رواية عن محمد وآخرون أن يطلبها في مجلس علمه كما في خيار المخيرة، وهو رواية عن محمد أيضا واختيار الكرخي وجمع من المتأخرين فعلى قول هؤلاء يكون المراد السكوت عن الطلب الثاني مع التمكن منه، وعلى قول الأكثرين يصلح أن يكون كل من الطلب الثاني والأول مرادا بكون السكوت مبطله، هذا وفي التلويح: والأظهر أن هذا القسم مندرج في القسم الثاني أعني ثبوت البيان بدلالة حال المتكلم ا هـ ولا يعرى عن تأمل بالنسبة إلى سكوت الشفيع عن الطلب إذا كان المراد به طلب التقرير.
ثم هنا تنبيهان متعلقان بسكوت البكر والشفيع نصوا على مضمونهما أحدهما المراد بسكوتهما السكوت الاختياري حتى لو أخذ فهما لا يكون إجازة إذا ردت وطلب في فور زوال ذلك. ثانيهما: لا فرق في كون سكوتهما إجازة في حقها، وإسقاطا للشفعة في حقه بين أن يكونا عالمين بكونه إجازة وإسقاطا أو لا ويظهر جريان كل منهما في سكوت المولى عند رؤية عبده يبيع أو يشتري على ما بيناه قياسا عليهما، والله - سبحانه أعلم.(21/286)
القسم "الرابع الثابت ضرورة الطول فيما تعورف" أي دلالة السكوت على تعيين معدود تعورف حذفه ضرورة طول الكلام بذكره مع وجود معطوف على عدده يفيده عرفا وهو قسمان ما كان مبينا بنفسه كالدرهم والدينار وما كان مقدارا شرعيا كالمكيل والموزون فمن ثمة قال "كمائة ودرهم أو ودينار أو وقفيز" من بر مثلا فالسكوت عن مميز المائة في هذه يدل عرفا على أنه في الأول من الدراهم، وفي الثاني من الدنانير وفي الثالث من القفزان "بخلاف" له علي مائة "وعبد" ومائة "وثوب" فإن المعطوف في هذين ليس بأحد القسمين ولا المميز مما تعورف حذفه فلا يدل السكوت فيهما عرفا على أنه المائة من العبيد ولا من الثياب فيلزمه عبد وثوب وتفسير المائة إليه، والشافعي وإن لم يخالف في أن البيان قد يكون بالسكوت لضرورة طول الكلام كما في عطف الجملة الناقصة على الكاملة نحو زينب طالق وعمرة حتى قال: يطلقان كقولنا: خالف في بناء هذه المسائل عليه فقال في جميعها يلزمه ما بعد المائة كما هو ظاهر وتفسير المائة إليه؛ لأنها مبهمة ولم يذكر ما يصلح مبينا لها فإن العطف لا يصلح بيانا لها لأن مبناه على التغاير ومبنى التفسير على الاتحاد على أنه لو كان بيانا في مائة ودرهم لكان بيانا في مائة وعبد وهو منتف بالاتفاق فكذا هنا بخلاف مائة وثلاثة(21/287)
ص -139-…أثواب أو وثلاثة دراهم؛ لأنه عطف أحد المبهمين على الآخر ثم فسره بالدراهم فينصرف إليهما لحاجة كل إليه قلنا: حذف تمييز المعطوف عليه متعارف في العدد إذا عطف عليه مفسر له ضرورة طول الكلام لكثرة الاستعمال التي هي من أسباب التخفيف كما في بعته بمائة ودرهم وهلم جرا يراد بالجميع الدراهم فكذا فيما نحن فيه بجامع العرف فيهما كذلك ولا كذلك العبد والثوب وما أشبههما مما هو غير معين ولا مقدار شرعي لانتفاء العرف فيه كذلك لانتفاء كثرة الاستعمال المقتضية للتخفيف فإنه لا يثبت دينا في الذمة مطلقا كثبوت ما ذكرنا بل إنما يثبت دينا في الذمة في عقد خاص وهو المسلم أو ما في معناه وهو البيع بالثياب الموصوفة مؤجلا قلت: وبهذا يضعف ما روى ابن سماعة عن أبي يوسف في نوادره أنه إذا قال لفلان: علي ألف وعبد فعليه عبد وألف مما يشاء، ولو قال: وشاة أو وبعير، أو وفرس، أو وثوب فعليه الألف من الغنم والإبل والخيل والثياب، ولا يشبه هذا العبيد؛ لأن الغنم والإبل والخيل والثياب أقسمها إذا كانت بين رجلين، ولا أقسم الرقيق
"تنبيه" فإن قلت: ظهر أن الدلالة في هذه الأقسام لم تحصل من مجرد السكوت بل منه مع ما انضم إليه من قول أو مشاهدة فعل فما وجه نسبتها إلى السكوت حتى كانت غير لفظية، قلت: يمكن أن يقال لتنزيل ما أفادها من مجموع القول أو الفعل مع السكوت عليه بمنزلة علة ذات أجزاء ومن شأن ما كان علته ذات أجزاء أن ينسب إلى آخرها وجودا، والسكوت مع غيره هنا كذلك إلا أن تمشية هذا غير ظاهرة في هذا المثال وإخوته من هذا القسم ثم ظاهر أن جميع أقسام هذه الدلالة من قبيل الدلالة الالتزامية بالمعنى الأعم وسيأتي عدها من قبيل الدلالة اللفظية في غير هذه المواضع وحينئذ فيظهر كونها في الأول والرابع من هذه الأقسام لفظية أيضا، وإلا فكونها فيهما غير لفظية وفي المواضع الآتية لفظية محض اصطلاح فليتأمل(21/288)
"واللفظية عبارة وإشارة ودلالة واقتضاء" ولهم في توجيه الحصر فيها وجوه، والذي ظهر لي على ما هو المناسب لكلام المصنف فيها أن الدلالة اللفظية إما أن تكون ثابتة بنفس اللفظ أو لا. والأولى إما أن تكون مقصودة منه وهي العبارة أو لا وهي الإشارة، والثانية إما أن تكون على مسكوت عنه يفهم بمجرد فهم اللغة وهي الدلالة أو يتوقف صحة اللفظ أو صدقه عليه وهي الاقتضاء أو لا وهي التمسك الفاسد وهذه الأوصاف للدلالة حقيقة ويتعدى بواسطتها إلى اللفظ فلا جرم أن قال "وباعتباره" أي هذا التقسيم في الدلالة "ينقسم اللفظ إلى دال بالعبارة إلى آخره" أي ودال بالإشارة ودال بالدلالة ودال بالاقتضاء "فعبارة النص أي اللفظ" المفهوم المعنى سواء كان بالمعنى المقابل للظاهر أو بغيره مفسرا أو محكما، وسواء كان حقيقة أو مجازا عاما أو خاصا، وإنما فسره به لئلا يتوهم أن المراد به ما يقابل الظاهر؛ لأنه يطلق على كل إطلاقا شائعا ثم العبارة لغة تفسير الرؤيا وسمي هذا النوع من الدلالة بها؛ لأنه يفسر ما في الضمير الذي هو مستور كما أن عبارة الرؤيا تفسر عاقبتها المستورة فظهر أن إضافتها إلى النص ليست من قبيل عين الشيء وكله، وأنها ليست من أوصاف اللفظ بل إضافتها(21/289)
ص -140-…إليه بمعنى اللام وأنها من أوصاف الدلالة كما صرح به "دلالته" أي اللفظ "على المعنى" حال كونه "مقصودا أصليا" من ذكره "ولو لازما" أي: ولو كان ذلك المعنى مدلولا التزاميا للفظ "وهو" أي كون المعنى مقصودا أصليا من ذكر لفظه هو "المعتبر عندهم" أي الحنفية "في النص" المقابل للظاهر "أو" دلالته على المعنى حال كونه مقصودا "غير أصلي" من ذكره. "وهو" أي كون المعنى مقصودا غير أصلي هو "المعتبر" عندهم "في الظاهر" المقابل للنص "كما سيذكر" كل منهما في التقسيم الثاني إن شاء الله - تعالى "ففهم إباحة النكاح والقصر على العدد" أي الأربع بشرط اجتماعهن في حق الحر "من آية فانكحوا" أي من مجموع قوله تعالى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] وإلا قال من فانكحوا "من العبارة" لأن لفظها دال على طلب نكاح من لم يقم الدليل على حرمتها على النكاح، والمراد به الإباحة كما عرف وعلى الاقتصار على الأربع للحر على الوجه المذكور كما عرف في موضعه أيضا "وإن كانت" الآية "ظاهرا في الأول" أي في إباحة نكاح من ذكرنا ونصا في الثاني وهو قصر إباحته على الأربع مجتمعات للحر لأن الحكم الأول ليس المقصود الأصلي منها بل الحكم الثاني وذكر الأول للثاني وستقف على توجيهه في التقسيم الثاني. وكذا حرمة الربا وحل البيع والتفرقة من آية {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] أي وكذا فهم إباحة البيع وحرمة الربا والتفرقة بين البيع والربا بحل البيع وحرمة الربا من قوله تعالى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275] من عبارة النص لأن لفظ هذه الآية دال على كل من هذه الثلاثة وإن كانت في كل من إباحة البيع وحرمة الربا ظاهرا؛ لأنه ليس المقصود الأصلي منها وفي التفرقة المذكورة نصا لأنه المقصود الأصلي منها وذكر لا ولأن لها "والتفرقة" بين البيع والربا بالحل والحرمة "لازم متأخر"(21/290)
عنهما بخلاف حل البيع وحرمة الربا فإن كلا منهما مدلول مطابقي للفظ المفيد له "ولذا" أي ولكون المعنى العباري يكون مدلولا التزاميا للفظ "لم يقيد" المعنى "بالوضعي" فيخرج بل قلنا: ولو لازما ليكون نصا في دخوله. "ويقال" في تعريفها كما قال فخر الإسلام وأتباعه "ما سيق له الكلام" قال جمع منهم صاحب الكشف ووافقهم المصنف "والمراد" أن يساق له مطلقا أي "سوقا أصليا أو غير أصلي وهو" أي غير أصلي "مجرد قصد التكلم به" أي اللفظ "لإفادة معناه" تتميما لأمر لم يسق الكلام له، والأصلي ما سيق الكلام له مع القصد المذكور "ولذا" أي ولكون المراد السوق المطلق "عممنا الدلالة للعبارة في الآيتين" آية {فَانْكِحُوا} [النساء: 3] وآية {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] موافقة لصدر الإسلام وغيره، وفي هذا تعريض بصدر الشريعة حيث جعل الدلالة على التفرقة عبارة؛ لأنها المقصودة بالسوق، وعلى الحل والحرمة إشارة؛ لأنهما ليسا مقصودين به بناء منه على أن المراد بالسوق في تعريف العبارة كون المعنى هو المقصود له فتكون العبارة والنص واحدا عنده والعبارة أعم مطلقا من النص عند غيره "ودلالته" أي اللفظ "على ما لم يقصد به" أي باللفظ "أصلا إشارة" وهي لغة الدلالة على المحسوس المشاهد باليد أو غيرها وسميت هذه الدلالة بها لأن السامع لإقباله على ما سيق له الكلام كأنه غفل عما في ضمنه فهو يشير إليه قالوا ونظير العبارة والإشارة من المحسوس أن(21/291)
ص -141-…ينظر إنسان إلى مقبل عليه فيدركه ويدرك غيره بلحظه يمنة ويسرة فإدراكه المقبل كالعبارة وغيره كالإشارة. "وقد يتأمل" أي ويحتاج في الوقوف على المعنى الإشاري إلى تأمل فقد للتحقيق فإنهم مطبقون على أنها لا تفهم من الكلام أول ما يقرع السمع حتى قيل الإشارة من العبارة كالكناية من الصريح والظاهر والإشارة وإن استويا من حيث إن الكلام لم يسق لهما قد افترقا من حيث إن الظاهر يعرفه السامع أول الوهلة من غير تأمل فيه، والإشارة لا تعرف إلا بنوع تأمل واستدلال من غير أن يزاد على الكلام أو ينقض منه ثم إن كان ذلك لغموض يزول بأدنى تأمل فهي إشارة ظاهرة، وإن كان محتاجا إلى زيادة تأمل فهي إشارة غامضة فلا جرم أن قال صاحب الكشف وغيره فكما أن إدراك ما ليس بمقصود بالنظر مع إدراك المقصود به من كمال قوة الإبصار كذا فهم ما ليس بمقصود بالكلام في ضمن المقصود به من كمال قوة الذكاء وصفاء القريحة ولهذا يختص بفهم الإشارة الخواص وتعد من محاسن الكلام البليغ وستتحقق أنها لا تكون إلا التزامية فإذن هي دلالة التزامية لمعنى اللفظ لم تقصد بسوقه ويحتاج الوقوف عليها إلى تأمل "كالاختصاص بالوالد نسبا من آية {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} [البقرة: 233] دون الأم" أي كاختصاص الأب بكون الانتساب إليه دون الأم من قوله تعالى {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] لأن اللام للاختصاص فيجب كون الوالد أخص بالولد ممن سواه، وذلك بالانتساب ثم هو ليس المقصود من سوق الآية، وإنما المقصود من سوقها إيجاب نفقة الوالدات وكسوتهن على الوالد فلا جرم أن كانت هذه الآية مما اجتمع فيها العبارة والإشارة. "فثبتت أحكام من انفراده بنفقته والإمامة والكفاءة وعدمهما" أي فظهر أثر هذا الاختصاص في انفراد الوالد بوجوب نفقة الولد عليه كالعبد لما كان مختصا بالمولى لا يشاركه أحد في نفقته، وفي تعدية أحكام الشريعة للأب(21/292)
مع ثمراتها إليه إذا كان على ما عليه الأب من الصفات المشروطة لتلك الأحكام حتى لو كان الأب أهلا للإمامة الكبرى وكفء للقرشية لاستجماعه شرائطهما التي منها كونه قرشيا تعدى إلى الابن كونه كذلك إذا توفرت فيه بقية شرائطهما ولو كان الأب غير أهل وكفء لهما لكونه جاهلا غير قرشي كان الابن كذلك إذا كان الابن جاهلا وهذا مطرد "ما لم يخرجه الدليل" أي إلا ما أخرجه الدليل من الأحكام التي هي مقتضى اختصاصه بالنسب عنها كالحرية والرق فإن الابن يتبع الأم فيهما وإن اتصف الأب بضد ما الأم عليه منهما لما عرف في موضعه إلى غير ذلك مما يعرف بالاستقراء "وزوال ملك المهاجر عن المخلف من لفظ الفقراء" أي وكزوال ملك المهاجر من دار الحرب إلى دار الإسلام عما خلفه ثمة من الأموال باستيلاء الكفار عليها وإحرازهم إياها من التعبير عنه بالفقير في قوله تعالى {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر: 8] مع وجودها بمكة وانتفاء كل مزيل لملكها ما عدا استيلاء الكفار عليها؛ لأن الفقير - حقيقة شرعية - من له أدنى شيء أو من لا شيء له لا من بعدت يده عن المال كما أن الغني - حقيقة شرعية - من هو مالك للمال لا من قربت يده منه ألا يرى أن المكاتب ليس بغني وإن كان في يده أموال حتى لا يجب عليه الزكاة وابن السبيل المالك للمال في وطنه غني، وإن بعدت يده عنه حتى وجبت(21/293)
ص -142-…عليه الزكاة. وهذا ليس المعنى المقصود بنظمها بل المقصود به بيان استحقاق الفقراء المهاجرين من مكة إلى المدينة سهما من الغنيمة؛ لأن قوله {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر: 8] بدل من {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الحشر: 7] وما عطف عليه كما في الكشاف وغيره أو عطف بيان منه كما هو ظاهر كلام فخر الإسلام وصاحب الميزان ومشى عليه بعض المتأخرين أو معطوف عليه حذف عاطفه وهو الواو كما حكاه في التيسير وهذا، وإن كان بابه الشعر فقد خرجت عليه آيات منها {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} [الغاشية: 8] كما ذكر ابن هشام فهذه الآية مما اجتمع فيها العبارة والإشارة على هذا أيضا، هذا على ما ذكره كثير منهم فخر الإسلام "والوجه أنه" أي زوال ملك المهاجر عن المخلف في دار الحرب باستيلاء الكفار عليه ثمة من لفظ الفقراء في الآية "اقتضاء" أي مقتضى على صيغة اسم المفعول للفقراء كما هو مقتضى التلويح لأنه لازم لهذا الوصف متقدم مسكوت عنه اقتضاه صحة إطلاقه عليهم "لأن صحة إطلاق الفقير" على الإنسان "بعد ثبوت ملك الأموال" التي يتحقق بملكها الغنى له في وقت "متوقفة على الزوال" أي زوال ملكه لها بعد ذلك فيكون زواله بعد ثبوته سابقا على صحة إطلاق الفقير عليه ضرورة أنه لا يتحقق الفقر بدونه حينئذ وقد ظهر من هذا أيضا انتفاء جعله إشارة من قبيل جزء الموضوع له بناء على أن عدم ملك ما خلفوه في دار الحرب جزء من معنى الفقر كما ذهب إليه صدر الشريعة فإنه غير خاف أن المعنى المدعى ثبوته إشارة إنما هو زوال ملكهم عما خلفوه، وليس هذا جزءا من عدم ملكهم لشيء أصلا أو لأدنى شيء بل هو لازم متقدم لعدم ملكهم لما خلفوه وما دفع به هذا من أن زوال ملكهم عما خلفوا ليس إلا كونهم بحيث لا يملكونها. ولا شك أن كونهم بحيث لا يملكونها جزءا من كونهم لا يملكون شيئا أصلا، وأنا لا نسلم أنه لازم متقدم لأنه ينبغي أن يكون بمنزلة العلة وليس زوال ملكهم عما خلفوا علة(21/294)
لكونهم فقراء لجواز أن يكون لهم غيرهم بل كونهم فقراء علة لزوال ملكهم عما كان لهم في دار الحرب لا يخفى ما فيه من المصادرة والتعسف الظاهر "ودلالة لفظ الثمن في الحديث على انعقاد بيع الكلب" أي وكدلالته في قوله صلى الله عليه وسلم: "إن مهر البغي وثمن الكلب وكسب الحجام وحلوان الكاهن من السحت" رواه ابن حبان في صحيحه هذا على ما هو ظاهر التلويح وتوجيهه أن هذا يفيد المنع من تناوله وهو يقتضي تصوره، وتصوره بانعقاد بيعه وليس هو المعنى المقصود من سياقه. وإنما المقصود منه المنع من تناول العوض المالي عنه بطريق المبادلة الذي هو المعنى العباري له.
وعند العبد الضعيف - غفر الله تعالى له - في هذا نظر فإن لقائل أن يقول: إن انعقاد البيع إن ثبت بهذا إنما يثبت مقتضى لا إشارة لأن تحقق الثمن عنه يستلزم تقدم تحقق بيعه الذي صار به مبيعا وما يقابله من العوض عنه ثمنا فهو لازم للثمن متقدم مسكوت عنه استدعى اعتباره صحة إطلاقه ثم عليه أن يقال: إن قيل يدل على انعقاد بيعه صحيحا فإنما يتم أن لو كان مستعملا في معناه الحقيقي شرعا وهو المال المتقوم شرعا المعتاض به عما هو كذلك بإذن الشارع، وهو محل النزاع ثم أنى يتم مع قوله: سحت، وفي رواية لمسلم خبيث، وإشراكه(21/295)
ص -143-…مع مهر البغي وحلوان الكاهن في هذا الوصف، وإن قيل: يدل على انعقاده فاسدا حتى كان مفيدا للملك بالقبض مطلوب التفاسخ رفعا للمعصية كما في غيره من البيوع الفاسدة كما هو مقتضى تجريد النظر إلى ما هو الأصل في باب النهي كما سيعرف ثمة إن شاء الله - تعالى - فهو خلاف المصرح به لأهل المذهب، وكون أدلة خارجية في نفس الأمر تفيد كون بيعه جائزا من غير فساد لا يوجب كون لفظ الثمن في هذا الحديث وأشباهه مشيرا أو مقتضيا ذلك، وليس الكلام إلا بالنظر إليه من حيث هو فليتأمل.(21/296)
"وآية أحل لكم ليلة الصيام على الإصباح جنبا" أي وكدلالة قوله تعالى {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] الآية على جواز أن يصبح المباشر في ليل رمضان جنبا صائما لإباحة هذا النص المباشرة له في آخر جزء من الليل كما في غيره وهو يستلزم طلوع الفجر عليه جنبا لعدم تمكنه من الاغتسال قبله حينئذ ثم هو مكلف بالصوم من طلوعه فيجتمع له وصفا الجنابة والصوم، ويستلزم هذا أيضا عدم منافاتهما، وهذا ليس المعنى المقصود من سياق الآية، وإنما المقصود منه إباحة المباشرة والأكل والشرب في جميع أجزاء الليل الذي هو المعنى العباري ثم الصريح الصحيح من السنة مؤكد لهذه الإشارة القرآنية كما هو مذكور في موضعه "وظهر" من هذه الأمثلة للإشارة السالمة من التعقب "أنها" أي الإشارة الدالة "الالتزامية" للمعنى المراد من اللفظ التي لم تقصد بسوقه ويحتاج الوقوف عليها إلى تأمل، ومن ثمة قال "وإن خفي" اللزوم حتى احتاج إلى تأمل وجرى فيه خلاف؛ لأن الفقهاء لا يشرطون في الالتزامية اللازم البين فضلا عنه بالمعنى الأخص بل الثبوت في نفس الأمر احتاج إلى تأمل وفكر أو لا، وأن المعنى الإشاري لازم متأخر لمعنى اللفظ غير مسوق له يحتاج الوقوف عليه إلى تأمل فحينئذ لا إشارة إلا مع عبارة كما ذكره المصنف "فإن لم يرد" باللفظ "سواه" أي اللازم "فكان" اللفظ في ذلك المراد "مجازا" حينئذ لاستعماله في غير ما وضع له "لزم" أن تكون دلالة اللفظ على ذلك المعنى اللازم "عبارة لأنه المقصود بالسوق" لا إشارة لأن المعنى الإشاري لا يكون مقصودا بالسوق أصلا "وكذا في الجزء" أي وكذا استعمال اللفظ في جزء معناه الموضوع له إذا لم يرد به سواه حتى كان مجازا فيه لا تكون دلالته عليه إلا عبارة لكونه المقصود بالسوق، والمعنى الإشاري لا يكون مقصودا به أصلا قال المصنف: وكذا كل معنى مجازي ولو كان مدلول الإشارة إذا استعمل اللفظ فيه صار عبارة(21/297)
فيه لصيرورته مقصودا باللفظ ا هـ فتنفرد العبارة عن الإشارة "وإن دل" اللفظ "على حكم منطوق" أي على كونه "لمسكوت لفهم مناطه" أي ذلك الحكم "بمجرد فهم اللغة فدلالة" أي فتلك الدلالة تسمى الدلالة، ودلالة النص ودلالة معنى النص لفهمها منه، وهذا معنى قولهم: الدلالة ما ثبت بمعنى النص لغة لا استنباطا فخرج بمعنى النص العبارة والإشارة لثبوتهما بالنظم، والمحذوف؛ لأنه كالمذكور وبلغة المقتضى لثبوته بمعناه شرعا أو عقلا وبـ "لا استنباطا": القياس إلا أن عندي لا حاجة إليه. أما على القول بتغاير الدلالة والقياس كما هو قول جمهور مشايخنا منهم فخر الإسلام وشمس الأئمة والقاضي أبو زيد فلخروجه بلغة اللهم(21/298)
ص -144-…إلا على سبيل التصريح بما علم التزاما. ومن ثمة لم يذكره صاحب المنار في كشف الأسرار مع ما ذكره له في المنار، وأما على القول بأنها نوع من القياس كما هو قول آخرين وهو نص الشافعي في رسالته واختيار إمام الحرمين وفخر الدين الرازي وسموها قياسا جليا فظاهر ثم الأول، وهو الأوجه للقطع بتوارث ثبوت دلالة النص قبل شرعية القياس حتى قيل: يجب حمل نص الشافعي على أن مراده أن صورته صورة قياس شرعي ويؤخذ منه حكم شرعي كما في سائر الأقيسة وإن كان المقيس معلوما لغة بخلافه في بقية الأقيسة وقيل النزاع لفظي وعندي فيه نظر بالنسبة إلى ما عليه مشايخنا من أنه لا يصح إثبات الحدود والكفارات بالقياس. ويصح بدلالة النص ثم لا فرق في تحققها بين إن "كان" المسكوت "أولى" بحكم المنطوق منه باعتبار مناطه "أو لا" أي أو لم يكن المسكوت أولى بحكم المنطوق منه باعتبار مناطه بل كانا متساويين فيه خلافا لمن اشترط الأولوية فيها كما سيأتي التعرض له مع رده "كدلالة فلا تقل لهما أف على تحريم الضرب" فإن المعنى العباري له تحريم خطاب الولد للوالدين بهذه الكلمة الموضوعة للتبرم والتضجر ثم ينتقل منه إلى المقصود بالنهي الذي لأجله تثبت الحرمة، وهو الأذى وتثبت بدلالته حرمة ضربهما أو شتمهما بطريق أولى من حرمة التأفيف لهما نظرا إلى علة تحريمه المفهومة لكل واحد ممن يعرف اللغة، وهو الإيذاء فإن الإيذاء فيهما فوق الإيذاء بالتأفيف، وقد ظهر أن المراد بالمعنى في قولهم: ما ثبت بمعنى النص المعنى الذي ينتقل إليه من المعنى الوضعي من هو عارف باللغة من غير احتياج إلى اجتهاد، وأن تحريم التلفظ بأف إنما هو بواسطة الأذى لا لعين أف حتى لو كان قوم يستعملونه لنوع إكرام أو ترحم لا للكراهة والتضجر لم يثبت تحريم قوله، ولا ما يترتب على ذلك. وسيأتي مثال ما يكون السكوت عنه مساويا للمنطوق به في حكمه لمساواته له في مناطه.(21/299)
"وأما" أن دلالة اللفظ "على مجرد لازم المعنى كدلالة الضرب على الإيلام" من قبيل دلالة معنى النص كما ذكره فخر الإسلام ومن وافقه فإن الضرب اسم لفعل بصورة معقولة وهو قرع جسم بآخر ومعنى مقصود، وهو الأذى "فغير مشهور" على أن المقصود من الضرب قد لا يكون الإيلام كضرب اليد على اليد تصفيقا، وإنما يكون المقصود منه الإيلام إذا استعمل بآلة التأديب في محل صالح له لقصد التأديب أو التعذيب نعم هذا هو المتبادر من إطلاقه عرفا وعليه تتخرج مسألة الجامع الصغير حلف لا يضرب امرأته فمد شعرها أو خنقها أو عضها حنث "وعلى مسكوت يتوقف صدقه عليه كرفع الخطأ أو صحته على ما سنذكر اقتضاء" أي وإن دل اللفظ على شيء مسكوت عنه يتوقف صدق الكلام على ذلك المسكوت كالحديث المتداول للفقهاء "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" فإن صدقه يتوقف على مقدر هو حكم أي رفع عنهم حكم الخطأ والنسيان في الآخرة؛ لأن نفس الخطأ والنسيان لم يرفعا عنهم لوقوعهما منهم بخلاف حكمهما الأخروي، ولا يضر عدم العثور بروايته بهذا اللفظ فإنه روي بمعناه أخرج أبو القاسم التميمي في فوائده عن الحسين بن أحمد عن محمد بن مصفى أنبأنا الوليد بن مسلم أنبأنا الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس مرفوعا: "رفع الله عن أمتي(21/300)
ص -145-…الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" قال شيخنا الحافظ ورجاله ثقات لكن فيه تسوية الوليد فقد رواه بشر بن بكر عن الأوزاعي فأدخل بين عطاء وابن عباس عبيد بن عمير ا هـ. قلت ولا ضير وإن قال الذهبي في الميزان عبيد بن عمير عن ابن عباس لا يعرف تفرد عنه ابن أبي ذئب ا هـ وعلم عليه لأبي داود فقد قال في ترجمة الوليد بعد أن علم عليه للستة قلت إذا قال الوليد عن ابن جريج أو عن الأوزاعي فليس بمعتمد؛ لأنه يدلس عن كذا بين، فإذا قال: حدثنا فهو حجة ا هـ فإنه هنا قال: حدثنا ثم على هذا لم يتم دعوى تفرد ابن أبي ذئب عن عبيد بن عمير أيضا فتنبه له أو يتوقف صحة الكلام شرعيا عليه كما في قول القائل لغيره: أعتق عبدك عنى بألف كما سيأتي تقريره في مسألة للمقتضى وأحكامه فتلك الدلالة اقتضاء وسميت به لطلب الكلام لها صدقا أو تصحيحا والاقتضاء الطلب.(21/301)
"والشافعية قسموها" أي الدلالة الوضعية "إلى منطوق دلالة اللفظ في محل النطق على حكم لمذكور" سواء ذكر الحكم كفي الغنم السائمة زكاة، فإن هذا يدل بمنطوقه على حكم مذكور، وهو وجوب الزكاة لمذكور وهو الغنم أولا كما أشار إليه بقوله "وإن" كان الحكم "غير مذكور كفي السائمة مع قرينة الحكم" الدالة عليه كأن يقول سائل: أفي الغنم المعلوفة الزكاة أم في السائمة؟ فيقول المجيب: في السائمة فإن سؤاله قرينة على أن الحكم الذي لم يذكر في الجواب هو الحكم المسئول عنه في السؤال وهو وجوب الزكاة "ومفهوم دلالته" أي اللفظ "لا فيه" أي لا في محل النطق "على حكم المذكور" أي على إثباته "لمسكوت أو نفيه عنه" أي أو على نفي حكم مذكور عن مسكوت ثم المنطوق وإن كان مفهوما من اللفظ غير أنه لما كان مفهوما من دلالة اللفظ نطقا خص باسم المنطوق وبقي ما عداه معرفا باللفظ المشترك تمييزا بينهما ثم كونهما من أقسام الدلالة هو الذي مشى عليه القاضي عضد الدين "وقد يظهر أنهما قسمان للمدلول" أي يظهر من كلام القوم أن المنطوق والمفهوم وصفا المدلول لا دلالة اللفظ قال المصنف: وقد هنا للتكثير ا هـ فإنها تستعمل لذلك كما قاله سيبويه في جماعة وإنما الشأن في أنه حقيقي لها أو مجازي لا تحمل عليه إلا بقرينة، وهي على هذا التقدير هنا عباراتهم المفيدة كونهما من أقسام المدلول كقول الآمدي المنطوق ما فهم من اللفظ نطقا في محل النطق والمفهوم ما فهم من اللفظ في غير محل النطق.(21/302)
"فالدلالة حينئذ" أي حين كانا من أقسام المدلول "دلالة المنطوق ودلالة المفهوم لأنفسهما" أي المنطوق والمفهوم "والمنطوق" قسمان "صريح دلالته" أي اللفظ على المعنى دلالة ناشئة "عن الوضع" أي وضع اللفظ له "ولو تضمنا" أي ولو كانت بطريق التضمن "وغيره" أي وغير صريح دلالة اللفظ "على ما يلزم" ما وضع له "وينقسم" غير الصريح "إلى مقصود" للمتكلم "من اللفظ فينحصر" في قسمين بالاستقراء "في الاقتضاء كما ذكرنا آنفا" أي الساعة "والإيماء قرانه" أي اللفظ "بما لو لم يكن هو" أي اللفظ بمعنى مضمونه "علة له" أي للمقرون به، وهو الحكم المعبر عنه بما "كان" ذلك القران "بعيدا" من المتكلم وخصوصا الشارع، وحاصله اقتران الوصف بحكم لو لم يكن الوصف علة للحكم لكان قرانه به بعيدا فيحمل على التعليل دفعا للاستبعاد "ويسمى تنبيها(21/303)
ص -146-…كقران" قوله صلى الله عليه وسلم "أعتق بواقعت" والمعروف وقعت في قول سائله هلكت وقعت على أهلي في رمضان كما هو هكذا في صحيح البخاري فإن الوقاع لو لم يكن علة لوجوب الإعتاق لكان ترتيب ذكره عليه بعيدا، ووجه تسمية هذا القسم بكل من هذين ظاهر ثم فيه تفصيل وأبحاث تأتي إن شاء الله - تعالى - في القياس "وغير مقصود" للمتكلم من اللفظ وهو ما يحصل بالتبعية لما يدل عليه اللفظ "وهو الإشارة ويقال دلالة الإشارة وكذا ما قبله" وهو الإيماء يقال له دلالة الإيماء "كدلالة مجموع" قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15] وقوله تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] أن أقل مدة "الحمل ستة أشهر وآية ليلة الصيام" أي وكدلالة مجموع قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] الآية "على جواز الإصباح جنبا وليس شيء منهما" أي من كون أقل مدة الحمل ستة أشهر وجواز الإصباح جنبا "مقصودا باللفظ بل لزم" كل منهما "منه" أي من مجموع الآيتين في كل من المثالين أما في المثال الأول فلأن الآية الأولى لبيان المدة التي هي مظنة تعب الوالدة بالولد وهي مدتا أكثر الحمل وأكثر الرضاع تنبيها له على حقها عليه فإن الفصال وإن كان الفصام فقد عبر به هنا عن الرضاع التام المنتهي به كما يعبر بالأمد عن المدة، والآية الثانية لبيان أن فطامه في انقضاء عامين ثم لزم من مجموعهما كون أقل مدة الحمل ستة أشهر؛ لأنه إذا ثبت كون مدة الرضاع حولين من ثلاثون شهرا بقي ستة أشهر فتكون هي مدة الحمل ضرورة.(21/304)
قال العبد الضعيف - غفر الله تعالى له -: ولكن هذا إنما يتم إذا كان ثلاثون شهرا توقيتا لهما معا على سبيل التبغيض بينهما وعليه ما قيل في الآية دليل على أن أكثر مدة الرضاع سنتان كما هو قول أبي يوسف ومحمد والأئمة الثلاثة لأن "ثلاثون شهرا" مدة لهما معا، والإجماع على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر فيبقى ما عداها مدة الرضاع وأما إذا قيل: إنها توقيت لكل على حدة كما في لفلان علي ألف درهم وقفيز بر إلى سنة وصدقه المقر له فإن السنة تكون أجلا لكل إلا أنه وجد المنقص في مدة الحمل لا غير وهو قول عائشة رضي الله عنها ما تزيد المرأة في الحمل على سنتين قدر ما يتحول ظل عمود المغزل رواه الدارقطني والبيهقي ومن هنا قال أصحابنا: أكثر مدة الحمل سنتان فتبقى مدة الفصال على ظاهرها كما ذكر هذا دليلا للإمام علي أن أكثر مدة الرضاع سنتان ونصف سنة فلا يلزم من مجموعهما أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وأما في المثال الثاني فتقدم بيانه.
"وكدلالة" ما يعزى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "تمكث" إحداهن "شطر عمرها لا تصلي" جوابا لقائل وما نقصان دينهن لما قال في وصف النساء :"ناقصات عقل ودين" "على أن أكثر الحيض خمسة عشر" يوما بلياليها كما هو مذهب الشافعي وكذا أقل الطهر بناء على أن المراد بالشطر النصف؛ لأن المقصود بالإفادة من هذا الكلام كما هو ظاهر من سياقه بيان نقصان دينهن، وأما أن كلا من أن أكثر الحيض وأقل الطهر خمسة عشر يوما فإنما هو لازم له من(21/305)
ص -147-…حيث إنه قصد منه المبالغة في نقصان دينهن، والمبالغة تقتضي ذكر أكثر ما يتعلق به الغرض فحينئذ لو كان زمان ترك الصلاة، وهو زمان الحيض أكثر من ذلك أو زمان الصلاة وهو وزمان الطهر أقل من ذلك لذكره قضاء لحق المبالغة ثم هذا إنما يتم "لو تم" كون المراد بالشطر هنا النصف "لكن القطع بعدم إرادة حقيقة النصف به" أي بالشطر هنا "لأن أيام الإياس والحبل والصغر من العمر، ومعتادة خمسة عشر لا تكاد توجد ولا يثبت حكم العموم بوجوده في فرد نادر، واستعمال الشطر في طائفة من الشيء" أي بعض منه "شائع فول وجهك شطر المسجد الحرام ومكثت شطرا من الدهر فوجب كونه" أي بعض العمر هو "المراد به" أي بشطر عمرها هنا توسعا في الكلام واستكثارا للقليل، وفي تقرير وجه دلالته ما يوافقه ثم هذا بعد ثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنه لم يثبت عنه بوجه من الوجوه قاله ابن منده وقال ابن الجوزي لا يعرف وأقره عليه صاحب التنقيح ثم النووي مع زيادة باطل بخلاف دليل أصحابنا على أن أكثر مدة الحيض عشرة أيام كما عرف في موضعه.
"تنبيه" ثم ظهر من هذه الجملة أن الشافعية جعلوا ما سماه مشايخنا عبارة وإشارة واقتضاء من قبيل المنطوق إلا أن الآمدي لم يجعل المنطوق غير الصريح من المنطوق، ولا من المفهوم بل قسيما لهما والبيضاوي جعله من قبيل المفهوم، ولعل قول المحقق التفتازاني: والفرق بين المفهوم وغير الصريح من المنطوق محل تأمل جنوح إليه.(21/306)
"والمفهوم" ينقسم "إلى مفهوم موافقة وهو فحوى الخطاب" أي معناه يمد ويقصر "ولحنه" وهو معناه أيضا يسمى تنبيه الخطاب أيضا وهو "ما ذكرنا من الدلالة" أي دلالة النص "إلا أن منهم" أي الشافعية "من شرط أولوية المسكوت بالحكم" من المنطوق في كونه ثابتا بمفهوم الموافقة، قلت: وهو ظاهر كلام الشافعي في الرسالة على ما في برهان إمام الحرمين ثم مشى عليه ابن الحاجب وشارحو كلامه وعزاه الصفي الهندي للأكثرين، قال المصنف: "ولا وجه له" أي لهذا الشرط "إذ بعد فرض فهم ثبوته" أي الحكم "للمسكوت كذلك" أي كفهم ثبوته للمنطوق بمجرد فهم اللغة "ولا وجه لإهدار هذه الدلالة" نعم إن كان هذا شرطا منهم لمجرد تسميتها اصطلاحا بمفهوم الموافقة كما اصطلح بعضهم على تسميته الدلالة على ما هو أولى بالحكم من المنطوق بفحوى الخطاب وعلى ما هو مساو له فيه بلحن الخطاب كما حكاه صاحب القواطع وأما الاحتجاج به فكالأولى اتفاقا كما ذكره غير واحد فلا مشاحة في الاصطلاح "وعبارتهم" أي بعض الشارطين لما سيظهر وهو ابن الحاجب في المنتهى "تنبيه بالأدنى على الأعلى" مثل قوله تعالى {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] كما تقدم "وقلبه" أي وبالأعلى على الأدنى "مثل" قوله تعالى {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75] كعبد الله بن سلام استودعه قرشي ألفا ومائتي أوقية ذهبا فأداه إليه فإنه يدل على أنه إذا اؤتمن على دينار مثلا يؤده إلى المؤتمن بطريق أولى لأن مؤدي الكثير مؤدي القليل بطريق أولى "وقد يكتفي بالأول" وهو تنبيه بالأدنى كما فعله ابن الحاجب في مختصره "على(21/307)
ص -148-…أن يراد" بالأدنى "الأدنى مناسبة للحكم" المترتب عليه وبالأعلى الأكثر مناسبة له فالحكم في منع التأفيف الإكرام والتأفيف أقل مناسبة به من الضرب، وفي أداء القنطار الأمانة. وفي عدم أداء الدينار عدم الأمانة "فالقنطار أقل مناسبة بالتأدية من الدينار، والدينار أقل مناسبة بعدمها منه" أي بعدم التأدية من الدينار فشمل تنبيهه بالأدنى جميع الصور وهذا تدقيق لحظه القاضي عضد الدين وهو أولى من قول الشارح العلامة إنما لم يذكر التنبيه بالأعلى اعتمادا على فهم المتعلم "ولاعتبار الحنفية المساوي" أي ولكون الشرط عندهم إنما هو مساواة المسكوت عنه للمنطوق به في المعنى المناسب للحكم الثابت للمنطوق "أثبتوا الكفارة" كما على المظاهر على الصائم "بعمد الأكل" أو الشرب في نهار رمضان من غير مبيح شرعي ولا شبهة ملحقة به "كالجماع" أي كما أوجبها النص بالجماع العمد كذلك لوجود المساواة بينهما في المعنى المناسب لهذا الحكم وهو الكفارة "لتبادر أنها" أي الكفارة "فيه" أي في الجماع العمد من غير مبيح شرعي مسقط لها "لتفويت الركن اعتداء" أي لعقلية أن المعنى المناط به في النص إيجاب الكفارة التي معنى الزجر فيها أكثر هو الجناية على الصوم عمدا عدوانا بالإخلال بركنه الذي هو الإمساك عن المفطرات الثلاث التي هي الأكل والشرب والجماع. فإن هذا كما يوجد بالجماع يوجد بهما على حد سواء كما هو متبادر إلى فهم كل من عرف معنى الصوم شرعا، وسمع النص المذكور لا الوقاع من حيث هو فإنه وقع على محل مملوك له كما أفصح به السائل في النص ومن ثمة أثبتنا بقاء الصوم المنصوص عليه في الأكل والشرب ناسيا في الجماع ناسيا، وهذا مما وافقنا عليه الشافعي، وهو قاض بتساوي الكف عن الجميع في الركنية شدة وأشدية لا بأشدية ركنية الكف عن الجماع على ركنيته عن الأكل والشرب فيلزمه الموافقة على الأول، وإن المساواة هي الشرط وهذا التوجيه مما فتح الله - تعالى - به وهو أولى(21/308)
مما سلكه غير واحد من المشايخ في تقرير هذا المطلوب كما يظهر لمن يقف عليه مع التأمل والإنصاف.
"ولما انقسم" مفهوم الموافقة "إلى قطعي" وهو ما يكون فيه التعليل بالمعنى، وكونه أشد مناسبة للحكم في المسكوت قطعيين "كما سبق" في قوله تعالى {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] لفهم كل عارف باللغة قطعا أن حرمة التأفيف معللة بإكرام الوالدين ودفع الأذى عنهما، وأن حرمة الضرب أنسب في ذلك من حرمة التأفيف "وظني" هو ما يكون فيه التعليل بالمعنى وكونه أشد مناسبة للحكم في المسكوت ظنيين أو أحدهما ظنيا "كقول الشافعي: إذا وجبت الكفارة" التي هي تحرير رقبة مؤمنة لمن قدر عليه وصيام شهرين متتابعين لمن لم يقدر عليه "في" القتل "الخطأ" للمسلم بأن رمى شخصا يظنه صيدا أو رمى غرضا فأصابه فقضى عليه بالنص على ذلك "وغير الغموس" أي ووجبت الكفارة التي هي إطعام عشرة مساكين من أوسط ما يطعم الشخص أهله أو كسوتهم أو تحرير رقبة في حق المستطيع وصيام ثلاثة أيام إذا لم يستطع واحدة من هذه الخصال على الحانث باليمين المنعقدة، وهي الحلف على أمر في المستقبل ليفعله أو يتركه بالنص على ذلك. "ففيهما" أي فوجوب الكفارة الكائنة في الخطأ في القتل العمد العدوان للمسلم والكفارة الكائنة في اليمين المنعقدة في اليمين الغموس وهي الحلف على أمر حال(21/309)
ص -149-…أو ماض يتعمد فيها الكذب "أولى" من وجوب الأولى في الخطأ والثانية في المنعقدة "لفهم المتعلق" أي تعلق وجوب الكفارة في المحلين المنصوص عليها فيهما "بالزجر" عن ارتكاب كل منهما، واحتياج القتل العمد العدوان واليمين الغموس إلى الزاجر أشد من احتياج الخطأ والمنعقدة إليه، وهذا أمر ظني ومن ثمة لم يوافقه أصحابنا عليه بل ذهبوا إلى أن المناط لها فيهما ما أشار إليه بقوله "لا بتدارك ما فرط بالثواب" أي تلافي ما فرط من التثبيت في الرمي والتحفظ عن هتك حرمة اسم الله بعدم اليمين أو بعدم ارتكاب ما يلزم الحنث بسببه بجبره بما في فعله ثواب؛ لأن الكفارة لا تخلو عنه. وإنما الكلام في أن المعنى العبادة فيها أغلب أم العقوبة حتى لا يكون وجوبها في القتل العمد العدوان والغموس مساويا لوجوبها في القتل الخطأ والمنعقدة فضلا عن أن يكون أولى لجواز أن لا يقبلا التدارك والتلافي بهذا القدر لعظمهما ولعل هذا أولى فلا جرم "جاز الاختلاف فيها" أي في دلالة النص التي هي مفهوم الموافقة "والخطأ" فيها أيضا إذا كانت ظنية "كما ذكرنا" الآن في مناط وجوب الكفارة في هاتين المسألتين؛ إذ لا بدع في الاختلاف في المظنونات وخطأ بعضها ولا سيما المتعارضة منها "ولذا" أي ولجواز الاختلاف في المظنون منها "فرع أبو يوسف ومحمد وجوب الحد باللواطة على دلالة نص وجوبه بالزنا بناء على تعلقه" أي وجوب الحد بالزنا "بسفح الماء" أي إراقة المني "في محل محرم مشتهى" أي لا ملك له فيه أصلا تشتهيه النفس وتميل إليه للين والحرارة وهذا موجود في اللواطة مع أنها أبلغ في تضييع الماء لانتفاء توهم الحبل فيها بخلاف الزنا. "والحرمة قوية" أي والحال أيضا أن حرمتها أقوى من حرمته؛ لأن حرمتها مؤبدة لا تنكشف بحال بخلاف حرمة الزنا فإنها قد تنكشف في بعض المحال بالعقد أو بملك اليمين فيلحق وجوب الحد بها بوجوبه بالزنا دلالة، وبه قالت الأئمة الثلاثة "والإمام" أبو حنيفة يمنع(21/310)
وجوب حده فيها لانتفاء وجوبه فيها دلالة فإنه "يقول السفح" في الزنا "أشد ضررا" من السفح فيها "إذ هو" أي السفح فيه "إهلاك نفس معنى" ومن ثمة قرن بينه وبين القتل في قوله تعالى {وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68] لأن إلقاء البذر في محل صالح مفض إلى النبات ظاهرا، والولد من جنس النبات فينبت وإذا نبت وليس له مرب ولا قيم لكون النساء عاجزات عن الاكتساب والإنفاق غالبا يهلك ويضيع فيفضي الزنا إلى الإتلاف بالآخرة "وهو" أي وهذا القول منه بناء "على اعتباره" أي إهلاك نفس معنى "المناط" في وجوب الحد في الزنا "لا مجرده" أي لا مجرد سفح الماء المناط فيه لحل سفح الماء في غير المحل المذكور بالعزل كما أفادته السنة الصحيحة فلا يؤثر هذا في هذا الحكم. والأول غير موجود في اللواطة فلم يساو تضييع الماء فيها تضييعه في الزنا في المناسبة لهذا الحكم فضلا عن كونه أبلغ منه "والشهوة أكمل" في الزنا منها أيضا "لأنها" أي الشهوة فيه "من الجانبين" الفاعل والمفعول بها لميلان طبعهما إليه بخلاف اللواطة فإن الشهوة فيها من جانب الفاعل فقط؛ إذ المفعول به يمتنع عنها بطبعه على ما هو أصل الجبلة السليمة فيكون الزنا أغلب وجودا، وأسرع حصولا فيكون إلى الزاجر أحوج فلا يتعدى حكمه إليها دلالة "وهذا" القول "أوجه" من قولهما كما هو ظاهر مما ذكرنا(21/311)
ص -150-…"والترجيح" الذي ذكراه "بزيادة قوة الحرمة" في اللواطة على الحرمة في الزنا "ساقط" بالنسبة إلى إيجاب الحد ألا يرى أن حرمة الدم والبول فوق الخمر في الحرمة من حيث إن حرمتها لا تزول أبدا أو حرمة الخمر تزول بالتخليل مع أنه لا يجب الحد بشربهما كما يجب بشرب الخمر. "وكذا قولهما بإيجاب القتل بالمثقل" أي قول أبي يوسف ومحمد بإيجاب القتل بالقتل بالمثقل الذي لا تحتمله البنية كالحجر العظيمة والخشبة الجسيمة عمدا عدوانا بدلالة وجوبه بالقتل بما يفرق الأجزاء من سيف أو غيره أوجه من قول أبي حنيفة بعدم إيجابه بالمثقل "لظهور تعلقه" أي القتل بما يفرق الأجزاء "بالقتل العمد العدوان" لا بمجرد إتلاف البنية بما يفرق أجزاءها؛ لأن الآلة لا مدخل لها في الموجبية، ومن ثمة قلنا: تجب الكفارة بتعمد الصائم في رمضان الأكل أوالشرب لما يصلح غذاء أو دواء بدلالة نص الوقاع، ولم نقف عند كون آلة الإفساد والهتك في موجبيتها في النص الوقاع "ويتحقق" القتل العمد العدوان "بما لا تحتمله البنية" من المثقل كما يتحقق بما يفرق أجزاءها بل ربما كان أبلغ بالمثقل؛ لأنه يزهق الروح بنفسه والجارح بواسطة السراية. "فادعاء قصوره" أي القتل بالمثقل "في العمدية" كما ذكره المشايخ في وجه قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى "مرجوح" كما هو غير خاف على اللبيب المنصف فالقول قولهما وبه قالت الأئمة الثلاثة.
هذا ولقائل أن يقول: القول بأن من الدلالة قسما ظنيا تنازعته آراء الأئمة المجتهدين واختلفت فيه أفهام العلماء المبرزين مع أن الدلالة ما يفهم من اللفظ بمجرد فهم اللغة من غير احتياج إلى رأي واجتهاد مشكل لظهور عدم صدق هذا عليه فإن هذا يوجب توارد الأفهام عليه من غير خفاء ولا اختلاف كما في القسم القطعي فالظاهر حينئذ ما حصرها فيه أو ذكر شيء في بيانها يصحح صدقها على هذا أيضا والله - سبحانه – أعلم(21/312)
"وإلى مفهوم مخالفة وهو دلالته" أي اللفظ "على" ثبوت "نقيض حكم المنطوق للمسكوت ويسمى دليل الخطاب وهو أقسام مفهوم الصفة عند تعليق بموصوف بمخصص" فهو دلالة اللفظ الموصوف بما ينقص شيوع معناه على نقيض حكمه له عند انتفاء ذلك الوصف فبمخصص على بناء اسم الفاعل متعلق بموصوف، وهو صفة لمحذوف أي بوصف مخصص "لا كشف" أي لا يوصف كاشف عن معنى الموصوف كقوله تعالى {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} [المعارج: 18-21] ومن ثمة قال ثعلب لمحمد بن عبد الله بن ظاهر لما سأله ما الهلع: قد فسره الله - تعالى - ولا يكون تفسير أبين من تفسيره وهو الذي إذا ناله شر أظهر شدة الجزع. وإذا ناله خير بخل به، ومنع الناس "ومدح وذم" أي: ولا بوصف مادح ولا ذام ولا مترحم على الموصوف أيضا نحو جاء زيد العالم، أو الجاهل أو الفقير إذا كان زيد متعينا قبل ذكرها ولا بوصف مؤكد، وهو ما موصوفه متضمن لمعناه كأمس الدابر لا يعود فإن هذه ليست لنفي الحكم عما عدا موصوفاتها ممن ليس له أحدها بل لقصد إفادة اتصافها بهذه المعاني من المدح والذم والترحم والتأكيد "ومخرج الغالب كاللاتي في حجوركم" أي ولا بوصف خرج مخرج الغالب كوصف الربائب باللاتي في حجوركم في(21/313)
ص -151-…قوله تعالى {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] وهن جمع ربيبة بنت زوجة الرجل من آخر سميت به؛ لأنه يربها غالبا كما يرب ولده ثم اتسع فيه حتى سميت به، وإن لم يربها وإنما لحقته الهاء مع أنه فعيل بمعنى مفعول؛ لأنه صار اسما فإن كونهن في حجور أزواج الأمهات هو الغالب من حالهن فوصفهن به لكونه الغالب "فلا يدل على نفي الحكم عند عدمه" أي فلا يدل هذا الكلام المفيد لتحريمهن عليهم على عدم تحريمهن عليهم عند عدم كونهن في حجورهم.
ولعل فائدة ذكره كما قال البيضاوي تقوية العلة وتكميلها. والمعنى أن الربائب إذا دخلتم بأمهاتهن، وهن في احتضانكم أو بصدده قوي الشبه بينها وبين أولادكم فصارت أحقاء بأن تجروها مجراهم ثم هذا على ما عليه الجمهور وإلا فقد روي عن علي رضي الله عنه جعله شرطا حتى إن البعيدة عن الزوج لا تحرم عليه كما نقله ابن عطية وغيره وأسنده إليه ابن أبي حاتم ثم قال الإمام ابن عبد السلام: القاعدة تقتضي العكس، وهو أنه إذا خرج مخرج الغالب يكون له مفهوم لا إذا لم يكن غالبا لأن الغالب على الحقيقة تدل العادة على ثبوته لها فالمتكلم يكتفي بدلالتها على ثبوته لها عن ذكره فإنما ذكره ليدل على نفي الحكم عما عداه لانحصار غرضه فيه فإذا لم يكن عادة فغرض المتكلم بتلك الصفة إفهام السامع ثبوتها للحقيقة، وأجاب بأن القول بالمفهوم لخلو القيد عن الفائدة لولاه، وهو إذا كان الغالب يفهم من النطق باللفظ أولا لغلبته فذكره بعده يكون تأكيدا لثبوت الحكم للمتصف به. وهذه فائدة أمكن اعتبار القيد فيها فلا حاجة إلى المفهوم بخلاف غير الغالب وأجاب القرافي بأن الغالب ملازم للحقيقة في الذهن فذكره معها عند الحكم عليها لحضوره في ذهنه لا لتخصيص الحكم به بخلاف غيره فاندفع قول إمام الحرمين الذي أراه أن ذلك لا يسقط التعليق بالمفهوم لكن ظهوره أضعف من ظهور غيره.(21/314)
"وجواب سؤال عن الموصوف" أي ولا بوصف في جواب سؤال عن موصوف به كما لو قيل للنبي صلى الله عليه وسلم هل في الغنم السائمة زكاة فقال "في الغنم السائمة زكاة" فإن تقييده إيجاب الزكاة فيها بالسائمة هنا لبيان الجواب في محل السؤال فلا يدل على عدم الوجوب في غيرها "وبيان الحكم لمن هو له" أي ولا بوصف خرج مخرج بيان الحكم لمن يكون الغرض بيان الحكم له كما لو كان لزيد غنم سائمة لا غير فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "في الغنم السائمة زكاة". فإن تقييد إيجاب الزكاة فيها بالسائمة بيان لحكمها بهذا الوصف دون غيره لمن هي له "لتقدير جهل المخاطب بحكمه" أي لتقدير المتكلم جهل المخاطب بحكم الموصوف به حال كونه موصوفا به فضلا عما إذا كان عالما بجهل المخاطب به "أو ظن المتكلم" أي: أو لتقدير ظن المتكلم علم المخاطب بحال السكوت عنه كظنه أن المخاطب عالم بأنه لا زكاة في المعلوفة في المثال المذكور "أو جهله" أي أو لتقدير جهل المتكلم بحال المسكوت كالمعلوفة فيما مثلنا إذا كان قائله غير الشارع إذ لا اختصاص للمفهوم بكلام الشارع حتى يمتنع هذا فيه(21/315)
ص -152-…"وخوف يمنع ذكر حاله" أي ولا بوصف يكون السبب في ذكر المتكلم له خوفا يمنع ذكره حال المسكوت في ذلك الحكم، وهو موافقته للمنطوق فيه كقول قريب الإسلام لعبده بحضور المسلمين: تصدق بهذا على الفقراء المسلمين ومراده وغيرهم وتركه خوفا من أن يتهم بالنفاق "أو غير ذلك" أي ما ذكر مما يكون فائدة ذكره غير نفي الحكم عن المسكوت عنه في ذلك الكلام؛ لأن حجية المفهوم مشروطة بانتفاء ظهور ما عدا نفي الحكم عن المسكوت من الفوائد فإذا ظهرت فائدة غيره لم يوجد شرطها ثم مثل لما يتحقق فيه المفهوم لفرض تحقق شرطه بقوله "كفي السائمة الزكاة يفيد" الوصف بالسوم "نفيه" أي الحكم الذي هو الزكاة "عن العلوفة" بفتح العين المهملة أي المعلوفة ثم كون هذا مثالا لمفهوم الصفة محكي عن جمهور الشافعية وذكر تاج الدين السبكي أن الأظهر أنه لا مفهوم له لاختلال الكلام بدونه كاللقب، والأول أوجه لدلالته على السوم الزائد على الذات مع أن الموصوف ملاحظ الإرادة تقديرا وللمقدر حكم المذكور ثم الظاهر أنه إن وجدت قرينة على كونه أمرا خاصا كالغنم تعين وجاء فيه من الخلاف ما فيه إذا كان مذكورا وهو أن محققي الشافعية منهم الإمام الرازي على أنه يفيد نفي الزكاة عن المعلوفة من ذلك النوع الخاص؛ لأن المنطوق لا يدل على إثبات الحكم في نوع آخر فالمفهوم أولى أن لا يدل على نفيه عنه؛ لأنه كالتبع له وآخرين على أنه يفيد نفيها عن المعلوفة من جميع الأجناس؛ لأن الحكم متى علق بصفة نزلت منزلة العلة والحكم يتبع علته في طرفي الوجود والعدم، وإن لم توجد قرينة على كونه أمرا خاصا كان الظاهر القصد إلى ما يعم الأجناس كالأنعام لصلاحية القصد وفقد المانع منه، ووجود مانع من غيره؛ إذ ليس كون جنس معين مرادا دون الآخر بأولى من العكس وحينئذ يفيد نفي الحكم عن المعلوفة من سائرها "والشرط" أي ومفهوم الشرط وهو دلالة اللفظ المفيد لحكم معلق "على شرط" لمذكور على نقيضه في المسكوت(21/316)
عند عدم الشرط كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6] فلا نفقة لمبانة غيرها أي غير الحامل من المبانات كما هو مفهوم الشرط لهذه الآية؛ لأنه نقيض الحكم الذي هو وجوب النفقة المعلق على شرط، وهو كون المبانة ذات حمل لمذكور هو ذات الحمل في المسكوت وهو المبانة عند عدم الشرط المذكور، وإنما لم يقل لمطلقة غيرها للإجماع على أن للمطلقة الرجعية النفقة في العدة حاملا كانت أو لا "والغاية" أي ومفهوم الغاية وهو دلالة اللفظ المفيد لحكم "عند مده" أي الحكم "إليها" أي الغاية على نقيض الحكم بعدها كقوله تعالى {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] "فتحل" للأول "إذا نكحت" غيره كما هو مفهوم الغاية لهذه الآية؛ لأنها بعد خروجها من عدة الثاني بعد الغاية والحل نقيض الحكم الممدود إليها هذا ما عليه جمهورهم وذهب القاضي أبو بكر إلى أن دلالتها على نفي الحكم عما بعدها منطوق لاتفاقهم على أنها ليست كلاما مستقلا فقوله تعالى {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 23] لا بد فيه من إضمار لضرورة تتميم الكلام فهو إما ضد ما قبله أو غيره، والثاني باطل؛ لأنه ليس في الكلام ما يدل عليه فتعين الأول فيقدر حتى تنكح فتحل قال: والإضمار بمنزلة الملفوظ؛ لأنه(21/317)
ص -153-…إنما يضمر لسبقه إلى فهم العارف باللسان وأجيب بمنع وضع اللغة لذلك ويمكن حمله على ما سنذكره عن صاحب البديع إن شاء الله تعالى.
"والعدد" أي ومفهوم العدد وهو دلالة اللفظ المفيد لحكم "عند تقييده" أي الحكم "به" أي بالعدد على نقيض الحكم فيما عدا العدد كقوله تعالى {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] فإنه يدل على نفي وجوب الزائد على الثمانين؛ لأنه نقيض وجوب الجلد المقيد بالعدد فيما عداه ثم يظهر بالتأمل أن المشروط والمحدود والمعدود موصوفة في المعنى بمضمون الشرط والحد والعدد "فرجع الكل" الماضي ذكره مما عدا الصفة "إلى الصفة معنى" لأنه ليس المراد بالصفة النعت بل المتعرض لقيد في الذات نعتا كان أو غيره بل قال إمام الحرمين في البرهان: حصر الشافعي رحمه الله مفهوم المخالفة في وجوه من التخصيص التخصيص بالصفة والعدد والحد أي الغاية والتخصيص بالزمان والمكان ثم قال لكن لو عبر معبر عن جميعها بالصفة لكان منقدحا فإن المحدود والمعدود موصوفا بعددهما وحدهما، والمخصوص بالكون في مكان وزمان موصوف بالاستقرار فيهما قلت إلا أنه وإن رجع الجميع إليها لم يعط سائر أحكامها فقد قالوا قال بمفهوم الصفة الشافعي وأحمد والأشعري وأبو عبيد من اللغويين وكثير من الفقهاء والمتكلمين وقال بمفهوم الشرط كل من قال بمفهوم الصفة وبعض من لم يقل به كابن سريج وأبي الحسين البصري وقال بمفهوم الغاية كل من قال بمفهوم الشرط وبعض من لم يقل به كالقاضي عبد الجبار وقالوا: أقوى الأقسام مفهوم الغاية ثم مفهوم الشرط ثم مفهوم الصفة، وعبارة جمع الجوامع فالصفة المناسبة فمطلق الصفة غير العدد فالعدد، وقالوا: وثمرة الخلاف تظهر في الترجيح عند التعارض فيقدم الأقوى فالأقوى "والاتفاق" بين القائلين به على "أنه ظني" إلا أن بين أقسامه تفاوتا في الظن كما ذكرنا "ومفهوم اللقب تعليق بجامد" أي دلالة تعليق حكم باسم جامد على نفي الحكم عن غيره(21/318)
"كفي الغنم زكاة" فإنه يدل بهذا الطريق على نفي الزكاة عن غير الغنم "والفرق" من أهل المذاهب "على نفيه" أي القول به "سوى شذوذ على ما سنذكر، والحنفية ينفونه" أي اعتبار مفهوم المخالفة "بأقسامه في كلام الشارع فقط" فقد نقل الشيخ جلال الدين الخبازي في حاشية الهداية عن شمس الأئمة الكردري أن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه في خطابات الشارع فأما في متفاهم الناس وعرفهم، وفي المعاملات والعقليات يدل ا هـ. وتداوله المتأخرون ويتراءى أن عليه ما في خزانة الأكمل والخانية لو قال مالك: علي أكثر من مائة درهم كان إقرارا بالمائة ولا يشكل عليه عدم لزوم شيء في: ما لك علي أكثر من مائة، ولا أقل كما لا يخفى على المتأمل، وينبغي أن يراد بالحنفية معظمهم فقد ذكر في الميزان أن بقول الشافعي قال بعض أصحابنا كالكرخي وغيره وهذا وإن كان معارضا بما في أصول الفقه للشيخ أبي بكر الرازي، ومذهب أصحابنا أن المخصوص بالذكر حكمه مقصور عليه ولا دلالة فيه على أن حكم ما عداه بخلافه سواء كان ذا وصفين فخص أحدهما بالذكر أو ذا أوصاف كثيرة فخص بعضها به ثم علق به الحكم، وكذا كان يقول شيخنا أبو الحسن ويعزى(21/319)
ص -154-…ذلك إلى أصحابنا ثم يقدم بالنسبة إلى الكرخي على ما في الميزان عنه لأنه أعرف بمذهب شيخه من غيره ممن تأخر عنه مقدم عليه بالنسبة إلى غير الكرخي، وفي البدائع مشيرا إلى ما أخرج الستة عن ابن عمر قال رجل يا رسول الله ما تأمرنا أن نلبس من الثياب في الإحرام قال: "لا تلبسوا القمص ولا السراويلات ولا العمائم" الحديث .
فإن قيل في هذا الحديث ضرب إشكال؛ لأن فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عما يلبس المحرم فأجاب عن شيء آخر لم يسأل عنه، وهذا حيد عن الجواب أو يوجب أن يكون إثبات الحكم في مذكور دليلا على أن الحكم في غيره بخلافه، وهذا خلاف المذهب ثم ذكر أجوبة منها أنه لما خص المخيط علم أن الحكم في غيره بخلافه، والتنصيص على حكم في مذكور إنما لا يدل على تخصيص الحكم به إذا لم يكن فيه حيد عن الجواب فأما إذا كان فإنه يدل عليه صيانة لمنصب النبي صلى الله عليه وسلم عن الجواب عن غير السؤال على أن التنصيص إنما لا يدل على التخصيص عندنا في غير الأمر والنهي فأما في الأمر والنهي فيدل عليه ا هـ. فأفاد ما ترى من التقييد ثم ظاهر قول المصنف في كلام الشارع فقط يفيد بمفهوم المخالفة أنهم لا ينفونه في اللغة كما لا ينفونه في العرف وهو خلاف ظاهر كلامهم في النضال في هذا المجال.(21/320)
ثم لما كانوا موافقين على غالب أحكام الأمثلة السابقة، وكان ذلك موهما كونهم قائلين بمفهوم المخالفة فيها حتى وقع لصاحب المطلب فعزا إلى أبي حنيفة القول بمفهوم الصفة لإسقاطه الزكاة في المعلوفة أشار إلى المستند في هذه الأحكام مع استطراد بيان أنهم لم يقولوا في المثال لمفهوم الشرط بحكم مفهوم المخالفة فيه فقال "ويضيفون حكم الأولين" أي مفهوم الصفة ومفهوم الشرط "إلى الأصل" أي ما هو الحكم لهما قبل ذلك ولا يخالفونه "إلا لدليل" يقتضي مخالفته "والأخيرين" أي مفهوم الغاية ومفهوم العدد "إلى الأصل الذي قرره السمع" فيقولون: لا تجب الزكاة في المعلوفة لأنها لم تكن فيها ولا في المعلوفة ثم الشارع أوجبها في السائمة كما نطق به كتاب أبي بكر رضي الله عنه المسند في صحيح البخاري فقال:" وفي الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة"، وسكت عن المعلوفة فبقي حكمها على ما كان لفقد ما يوجب خلافه، وأما ما قيل من أن النفي عن المعلوفة بقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس في الحوامل والعوامل والبقرة المثيرة صدقة" ففي كونه نصا في المطلوب بعد ثبوته نظر "ويمنعون نفي النفقة" للمبانة التي ليست بحامل فيقولون: تجب النفقة والسكنى للمبانة حاملا كانت أو حائلا وإن كان الأصل عدم وجوبها عليه قبل النكاح للدليل المقتضي لذلك من الكتاب والسنة كما هو مقرر في موضعه ويقولون بحل المطلقة ثلاثا لمطلقها بنكاح غيره النكاح الصحيح الشرعي إذا خرجت من عدته استصحابا بالأصل الكائن قبل هذا كله فيها الذي أقره السمع بعمومات متناولة لها كقوله تعالى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] وبعدم حل ضرب القاذف بسبب القذف ما يزيد على الثمانين استصحابا للأصل الكائن قبل ارتكاب هذا السبب الذي أقره السمع بالعمومات المفيدة للمنع من الضرر والأذى المتناولة له وقد(21/321)
ص -155-…ظهر من هذا فائدة وصف الأصل في هذين بهذا الوصف هذا وذكر صاحب البديع وغيره أن مفهوم الغاية عندنا من قبيل الإشارة؛ لأن غاية الشيء انتهاء له، وهو إنما يكون بمقابلة فلفظ الغاية أفاد انتهاء الحكم المقيد به ولزم منه عدم الحكم فيما بعدها بهذا الطريق، وهو غير مقصود من سوق الكلام وعلى هذا فلا يعد مفهوم الغاية من مفهوم المخالفة "وألحق بعض مشايخهم" أي الحنفية "بالمفهوم" المخالف في النفي "دلالة الاستثناء" فقالوا: ليس فيه دلالة على ثبوت ضد حكم الصدر لما بعد إلا "والحصر" أي ودلالة الحصر على نفي الحكم عن غير ما ذكر في مثل ما في الصحيحين من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" والعالم زيد غير مراد بتعريف العالم عهد، ومن المصرحين بالأول صدر الشريعة، وبالثاني صاحب البديع وأما غير الحنفية فعدوهما من قبيل مفهوم المخالفة والمختار عند المصنف ما أفاده بقوله "وهو" أي كل منهما "عندنا عبارة ومنطوق إلا في حصر اللام والتقديم" كالعالم زيد وصديقي بكر فإن دلالته على النفي عن الغير ليس بهذا الطريق "فما بالأداتين" أي فأما إفادة النفي عن الغير بطريق المنطوق من الحصر بإنما وبما أو لا أو لم وإلا "ظاهر" غايته قد يكون حقيقة، وقد يكون ادعاء "وسيعرف" هذا وكذا ما قبله في مواضعه "وقد نفوا" أي الحنفية "اليمين عن المدعي بحديث "البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه" المخرج في الصحيحين "بواسطة العموم" في قوله: "واليمين على المدعى عليه" فإنه يفيد حصر اليمين في جنس المدعى عليه "فلم يبق يمين عليه" أي على المدعي ضرورة الحصر المذكور وهذا يفيد أنهم قائلون بأن الحصر يدل على النفي عن الغير. قال المصنف: وحاصل هذا تضعيف نسبة نفي دلالة الحصر على النفي إلى الحنفية؛ لأن كلامهم مشحون باعتباره "وقيل العدد اتفاق" أي اعتبار مفهومه متفق عليه بين القائلين بمفهوم المخالفة كما هو ظاهر بين أصحابنا "لقول(21/322)
الهداية" في دفع قول الشافعي: لا يجب الجزاء على المحرم بقتل ما لا يؤكل لحمه من الصيد كالسباع لأنها جبلت على الأذى فدخلت في الفواسق المستثناة ولنا أن السبع صيد لتوحشه وكونه مقصودا بالأخذ لجلده أو ليصاد به أو لدفع أذاه، والقياس على الفواسق ممتنع "لما فيه من إبطال العدد" المذكور في حديث الصحيحين "خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح العقرب والفأرة والكلب العقور والغراب والحدأة" فإن جواز قتل غيرها إلحاقا بها ينفي فائدة تخصيص اسمه دون غيره من الأعداد المحيطة بالملحق وغيره أو ذكره باسم عام مثل يقتل كل عاد منتهب. "والحق أن نفي الزائد" أي نفي حل قتل ما سوى هذه الخمس مما هو من جملة الصيد البري ابتداء عندنا إذا قلنا به إنما هو "بالأصل" الذي أفاده السمع من عدم حل ذلك بالتلبس بالإحرام حيث قال تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة: 96] لا بالمفهوم المخالف للعدد المذكور فلا يرد حل قتل الذئب؛ لأنه ليس من الصيد في ظاهر الرواية، ولا حل قتل الحية وسائر الهوام والحشرات؛ لأنها مبقاة على الحل الأصلي لعدم النهي عن قتلها للمحرم، وازداد حل قتل بعضها تأكيدا بالنص عليه بخصوصه وهو الذئب والحية، وليس الشأن إلا في الزيادة على ما استثنى حل قتله مما عرض له التحريم بالإحرام "وقوله" أي(21/323)
ص -156-…صاحب الهداية المذكور "يكفي إلزاما" للشافعي لا أنه يعتقده يعني أنك تقول بحجية هذا المفهوم فإلحاقك غير الخمسة بها يكون إبطالا له، وإنما قلنا "على ما ظن" لأن الشافعي ينفصل عنه فإنه قائل بتقديم القياس على المفهوم "لكنهم" أي الحنفية "قد زادوا على الخمس" فأجازوا للمحرم قتل الذئب فأبطلوا العدد، فإن قيل ذلك الدليل أوجب نفي النفي عن المسكوت. قلنا: وكذا يقول الشافعي في السبع كذا ذكره المصنف قلت إلا أن جواز قتل الذئب ابتداء قول الكرخي ومن وافقه كصاحب الهداية ورضي الدين صاحب المحيط وإلا ففي شرح الآثار للطحاوي فإن قال قائل: فلم لا تبيحون قتل الذئب قيل له: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خمس من الدواب يقتلن في الحرم والإحرام" فذكر الخمس ما هن فذكره الخمس يدل على أن غير الخمس حكمه غير حكمهن، وإلا لم يكن لذكر الخمس معنى ا هـ ثم إنما يتم التعقب بجواز قتله ابتداء على قوله به إذا كان صيدا كما هو رواية عن أبي يوسف لا إذا لم يكن صيدا كما هو ظاهر الرواية وقدمناه وكلاهما في الخانية وفي البدائع الأسد والذئب والنمر والفهد يحل قتلها ولا شيء فيها وإن لم تصل لأن علة إباحة قتل تلك الأشياء هي الابتداء بالأذى والعدو على الناس غالبا وهذا المعنى موجود في هذه بل أشد فكان ورود النص في تلك ورودا في هذه إلا أن هذا مخالف لعامة الكتب فإن المسطور فيها أنه يقتل سائر السباع إذا صالت عليه ولا جزاء عليه حينئذ خلافا لزفر لا إذا لم تصل حتى لو قتلها حينئذ كان عليه الجزاء اللهم إلا الأسد على ما هو رواية عن أبي يوسف على ما في الخانية. ثم الحاصل أن لقائل أن يقول: لا يلزم من قول الهداية المذكور القول بمفهوم المخالفة أما على أنه لا يحل قتل ما سوى الخمس من الصيد البري فلجواز أن يكون ذلك بالأصل، وقول الهداية على سبيل الإلزام للشافعي بناء على رأيه، وأما على أنه يحل قتل الذئب أو والسبع ابتداء بلا جزاء ولا يحل قتل ما(21/324)
سواهما من الصيود البرية سباعا كانت أو غيرها فلمشاركتهم الشافعي في اللازم الذي هو إبطال العدد فما هو جوابهم عنه فهو جوابه وأما على أنه يحل قتل ما سواهن من السباع المذكورة ابتداء بلا جزاء كما في البدائع فأظهر لعدم تأتي الدفع المذكور حينئذ لاتحاد المذهبين هذا، وقد قال الشيخ أبو بكر الرازي: وقد كنت أسمع كثيرا من شيوخنا يقولون في المخصوص بعدد يدل على أن ما عداه فحكمه بخلافه كقوله صلى الله عليه وسلم: "خمس يقتلهن المحرم في الحل والحرم" أنه دليل أنه لا يقتل ما عداهن وكقوله صلى الله عليه وسلم: "أحلت لي ميتتان ودمان" يدل على أن غيرهما من الميتة والدم غير مباح، وأحسب محمد بن شجاع قد احتج بمثل هذا ولست أعرف جواب المتقدمين في ذلك ا هـ.
قلت: وغير خاف أن ما ذكره الطحاوي في شرح الآثار ظاهر في هذا أيضا وهو من المتقدمين ثم ليس ببعيد أن يكون صاحب الهداية وافق هؤلاء المشايخ على هذا، وأما إلحاق كل منهم قتل الذئب بالخمس، ومن صاحب البدائع قتل السباع بها بطريق الدلالة فلظن أنه لا يبطل العدد لكون الثابت دلالة ثابتا بالنص ويعزب أن هذا لا ينفي أنه أبطل خصوص الخمس ويجيء فيه ما تقدم من أنه لو أراده لذكر عددا يحيط به معها أو اسما عاما يتناول(21/325)
ص -157-…الكل ثم قد ظهر عدم اتفاق مشايخنا على اعتبار مفهوم العدد، وقد أنكره أيضا جماعة ممن قال بمفهوم المخالفة في الجملة كالقاضي أبي بكر وإمام الحرمين والبيضاوي فلا تتم حكاية الاتفاق من أصحابنا، ومن الشافعية على اعتباره، والله - سبحانه - أعلم.
"قالوا" أي القائلون بمفهوم الصفة "صح عن أبي عبيد" بلفظ المصغر بلا هاء في آخره القاسم بن سلام الكوفي كما ذكر الأكثر، أو عن أبي عبيدة بلفظ المصغر بهاء في آخره معمر بن المثنى كما في برهان إمام الحرمين "فهمه" أي مفهوم الصفة "من لي الواجد ومطل الغني" أي من الحديث الحسن الذي أخرجه أحمد وإسحاق والطبراني "لي الواجد يحل عرضه وعقوبته" وليه بفتح اللام مطله وهو مدافعته والتعلل في أداء الحق الذي عليه وحل عرضه أن يقول مطلني وعقوبته الحبس ذكره البخاري عن سفيان الثوري وذكر أحمد وإسحاق عنه حل عرضه أن يشكوه، فقال: يدل على أن لي من ليس بواجد لا يحل عرضه وعقوبته، ومن الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري وغيره "مطل الغني ظلم" فقال: يدل على أن مطل غير الغني ليس بظلم "وكذا عن الشافعي" فهم مفهوم الصفة من المقيد بها "نقله عنه خلق" كثيرون من أصحابه "وهما" أي الشافعي وأبو عبيد "عالمان باللغة" والظاهر أن فهمهما ذلك لغة؛ لأن أهلها لا يفهمون من مجرد اللفظ إلا ما يدل عليه لغة لا اجتهادا، وإن كان احتمالا جائزا؛ لأن اللغة إنما تثبت بقول أئمتها معناه كذا، وهذا التجويز قائم فيه غير قادح في إفادته ظن ذلك ثم في هذا إشارة إلى قول الأكثر دليل المفهوم اللغة لا العرف العام كما قال الإمام الرازي ولا الشرع كما قال بعضهم. "وعورض" قولهما "بقول الأخفش ومحمد بن الحسن" المفيد أن المقيد بالصفة لا يدل التقييد بها على نفي حكمه عما عداه وهما إمامان في العربية، أما محمد فناهيك به، وقد روى الخطيب البغدادي بإسناده عنه قال: ترك أبي ثلاثين ألف درهم فأنفقت خمسة عشر ألفا على النحو والشعر وخمسة(21/326)
عشر ألفا على الحديث والفقه ثم إنه لجدير بما قيل:
وإن صخرا لتأتم الهداة به …كأنه علم في رأسه نار
وأما الأخفش فإنه وإن لم يذكروا أي الأخافش الثلاثة المشهورين هو أبو الخطاب عبد الحميد بن عبد المجيد شيخ سيبويه أو أبو الحسن سعيد بن مسعدة صاحب سيبويه أو أبو الحسن علي بن سليمان صاحب ثعلب والمبرد فلا ضير لأن كلا إمام في هذا الشأن فلا ينهض الاحتجاج بقول ذينك الإمامين مع معارضة قول ذين الإمامين له في ذلك.
"ولو ادعى السليقة في الشافعي فالشيباني مع تقدم زمانه أو العلم وصحة النقل للاتباع فكذا" أي فإن زعم زاعم ترجح القول بمفهوم الصفة على القول بنفيه لأن الإمام الشافعي القائل به ذو طبع سليم وفهم مستقيم أو أنه غزير العلم وأنه صح عنه ذلك لكثرة أتباعه فهو معارض بأن هذا كله أيضا في الإمام محمد بن الحسن القائل بنفيه مع علاوة في جهة محمد لها مدخل في ترجح جانبه على معارضه في مثل هذا وهو تقدم زمانه على زمان(21/327)
ص -158-…الشافعي في الجملة. وعلى أبي عبيد أيضا فإن محمدا ولد سنة اثنتين وثلاثين ومائة وتوفي سنة تسع وثمانين ومائة والشافعي ولد سنة خمسين ومائة وتوفي سنة أربع ومائتين على الصحيح وتوفي أبو عبيد سنة أربع وعشرين ومائتين عن سبع وستين سنة أو ثلاث وسبعين إذ في متقدم الزمان من إدراك صحة الألسنة ما ليس في متأخره ومن ثمة استغنى الصدر الأول عن تدوين علم العربية ووجدت الحاجة إليه فيما يلي زمانها أو في آخره ثم مازال تشتد حتى صار من المهمات، وما استفاض من السبب في تدوين أبي الأسود الدؤلي للنحو كما هو معروف في موضعه شاهد صدق لذلك ثم كلاهما ممن تلمذ له وأخذ عنه وخصوصا الشافعي حتى ذكر أصحابه وغيرهم عنه أنه قال حملت عن محمد بن الحسن وقرى بختي كتبا وأسند الخطيب البغدادي عنه قال: ما رأيت سمينا أخف روحا من محمد بن الحسن وما رأيت أفصح منه كنت إذ رأيته يقرأ كأن القرآن نزل بلغته. وقال أبو إسحاق في الطبقات وروى الربيع قال: كتب الشافعي إلى محمد وقد طلب منه كتبا ينسخها فأخرها عنه.
قولوا لمن لم تر عين …من رآه مثله 0
ومن كأن من رآه …قد رأى من قبله
العلم ينهى أهله …أن يمنعوه أهله
لعله يبذله …لأهله لعله
وعن أبي عبيد ما رأيت أعلم بكتاب الله من محمد بن الحسن إلى غير ذلك فلا أقل من أن لا يترجح أحد القولين على الآخر بواسطة قائله.(21/328)
"فإن قيل المثبت أولى" بالقبول من النافي عند التعارض؛ لأن النافي إنما ينفي لعدم الوجدان، وهو لا يدل على عدم الوجود إلا ظنا والمثبت يثبت للوجدان وهو يدل على الوجود قطعا فيترجح القول به على القول بنفيه. "قلنا ذلك" أي كون المثبت أولى بالقبول من النافي عند التعارض إنما هو "في نقل الحكم عن الشارع ونفيه أما هنا" أي في نقل الحكم اللغوي عن أهل اللغة "فلا أولوية" للمثبت على النافي "وسيظهر" وجهه قريبا وننبه عليه "قالوا" أي المثبتون للمفهوم مطلقا "لو لم يدل" تخصيص المقيد بوصف أو شرط أو غاية أو غيرهما على نفي الحكم عن المسكوت "خلا التخصيص" بذلك "عن فائدة" لأن الفرض عدم فائدة غيره، واللازم منتف لفرض بلاغة الكلام المشتمل عليه، وخصوصا إن كان كلام الله أو رسوله فالملزوم مثله "أجيب بمنع انحصار الفائدة فيه" أي فائدة التخصيص بالذكر في نفي الحكم عن المسكوت؛ إذ كل من تقوية الدلالة على المذكور لئلا يتوهم خروجه بتخصيص، ومن نيل ثواب الاجتهاد بالقياس فائدة ثابتة في كل صورة لكن في هذا كلام سيتعرض له المصنف ونذكر ما يظهر فيه "وبأنه" أي وأجيب أيضا بأن القول بالمفهوم "إثبات اللغة أي وضع التخصيص" بالوصف أو غيره "لنفي الحكم عن المسكوت بأنه" أي التخصيص بالوصف أو غيره "حينئذ" أي حين جعل موضوعا لنفي الحكم عن المسكوت "مفيد وهو" أي إثبات اللغة "باطل" لأنه لا(21/329)
ص -159-…يثبت الوضع بما فيه من الفائدة، وإنما يثبت بالنقل أو باستنباط العقل منه، وهذا ليس كذلك فوضع بالرفع تفسير: "إثبات اللغة" والباء في بأنه للسببية متعلق به. "وتحقيق الاستدلال" المذكور "يدفعه" أي هذا الجواب "وهو" أي تحقيقه "أن الاستقراء" أي التتبع لكلام أهل اللغة "دل عنهم أن ما من التخصيص" بوصف أو غيره "ظن أن لا فائدة فيه سوى كذا" مما يصلح أن يكون فائدة له في كلام العقلاء "تعين" ذلك مرادا منه "وحاصله" أي هذا التحقيق "أن وضع التخصيص" بالوصف أو غيره "لفائدة" معتبرة للعقلاء "فإن ظنت" الفائدة أمرا "غير النفي عن المسكوت فهي" أي فالفائدة المظنونة هي الموضوع لها التخصيص "وإلا" أي وإن لم يظن في التخصيص فائدة غير النفي عن المسكوت "حمل" التخصيص "عليه" أي على نفي الحكم عن المسكوت "ولا يخفى أن مفيده" أي مفيد أنه إذا لم يظهر للسامع فائدة فالفائدة المرادة نفي الحكم عن المسكوت "نقل اللفظ" أي اللفظ المنقول عن الواضع أو عن أهل اللغة أن التخصيص بالوصف أو غيره وضع لذلك "ولا معنى له لاختلاف الفهم" لأن الحاصل أنه وضع التخصيص بالوصف أو غيره دالا على النفي عن المسكوت إذا لم يظهر خلافه وعدم الظهور يختلف بالنسبة إلى الإفهام فلا تظهر فائدة أخرى لشخص وتظهر لآخر "فكان" التخصيص حينئذ "وضعا للإفادة مؤديا للجهل" بالموضوع له وهو باطل فكذا الملزوم. "والاستقراء إنما يفيد وجود الاستعمال" أي استعمال المخصص بالوصف أو غيره في معناه وحكمه منفيا حكمه عن غيره من المسكوتات "ثم غاية ما يعلم عنده" أي عند وجود الاستعمال "انتفاء الحكم عن المسكوت، الكلام بعد ذلك" أي ولا كلام في وجود الانتفاء عن المسكوت في الجملة.(21/330)
وإنما النزاع بعد وجوده في تلك المواد "في أنه" أي انتفاء الحكم عن المسكوت "مدلول اللفظ أو الأصل أو علم الواقع" أي العلم به من خارج ولا شك أنه "لا يفيد ذلك" أي كونه مدلول اللفظ "الاستقراء ولهذا" أي ولأجل أنه لا يفيد كونه مدلول اللفظ الاستقراء "نفاه من ذكرنا من أهل اللغة مع أن الاستعمالات والمرادات لم تخف عنهم" فإن ما كان مفيده الاستقراء لا يختص بمعرفته بعض دون بعض من أئمة ذلك بل يشتركون في معرفته "وهذا" أي: إنما لم يفده مدلول اللفظ الاستقراء "لأن أكثر ما انتفى فيه الحكم عن المسكوت يوافق الأصل" المقرر له قبل ظهور تعلق ذلك الحكم بذلك المخصص. "والاستقراء يفيده" أي استقراء المثل يفيد موافقة الأصل منها ما استدلوا به من: "مطل الغني ظلم ولي الواجد يحل عرضه وعقوبته" فإن عدم الظلم، وحل العرض والعقوبة هو الأصل، وهو الثابت عند عدم الغنى "فلا يتمكن من إثباته" أي إثبات انتفاء الحكم عن المسكوت "باللفظ" لأنه إذا قال: دل اللفظ على الانتفاء يقال له: لم لم يكن لدلالة الأصل عليه؛ إذ كان الأصل العدم "وفيه" أي وفي إثباته باللفظ "النزاع وإذ قد ظهر أن الدليل" للانتفاء عن المسكوت "الفهم" له "وفي مفيده" أي الفهم "احتمال لما ذكرنا" من احتمال كونه اللفظ أو النظر إلى الأصل أو علم الواقع "اتحد حال الإثبات والنفي" فيجب أن لا يثبت ذلك ولا ينفى إلا بنقل اللغة بطريقها فيه. "فإن أجيب عن المنع" أي عن(21/331)
ص -160-…الجواب القائل بمنع انحصار الفائدة في النفي عن الغير كما قررناه بتسليم المنع ثم القول بأنه "وضع التخصيص للفائدة وضع المشترك المعنوي" بين أفراده وهو أن يكون موضوعا لإفادة ما يخرج به عن كونه لغوا "وكل فائدة فرد منه" أي من هذا المعنى الكلي "تتعين" أن تكون هي المرادة "بالقرينة" المعينة لها "في المورود وهي" أي القرينة المعينة للفائدة التي هي النفي عن المسكوت "عند عدم قرينة" غير النفي عن المسكوت لزوم عدم الفائدة إن لم يكن النفي عن المسكوت هو الفائدة حينئذ من ذلك "فيجب" النفي عن المسكوت حينئذ "مدلولا لفظيا"؛ لأن المتواطئ يدل على كل فرد باللفظ عند قيام الدليل على أن ذلك الفرد هو المراد "قلنا: لا دلالة للأعم على الأخص" بخصوصه بشيء من الدلالات الثلاث "فليس" النفي عن المسكوت مدلولا "لفظيا بل" الدلالة "للقرينة" المعينة له قلت لكن على هذا أن يقال: إن تم هذا فإنما يتم على المنطقيين لا على الأصوليين فإن المعنى المجازي مدلول اللفظ. ولا ينزل إرادة فرد معين لمعنى كلي بقرينة معينة له باللفظ المؤدي له على إرادة مجازي للفظ بقرينة صارفة عن معناه الحقيقي إليه في كونه مدلولا لفظيا فالأولى الاقتصار على نفي انتفاء القرينة على غير النفي عن المسكوت "والثابت عدم العلم بقرينة الغير" أي غير نفي الحكم عن المسكوت "لا عدمها" أي قرينة غير نفي الحكم عن المسكوت وعدم العلم بالقرينة لا يوجب عدم القرينة إذ من الجائز وجودها وإنما لم يقع العلم بها لفقد شرط أو وجود مانع "فيكون" المتواطئ "مجملا في المسكوت وغيره" لخفاء المراد به فيتوقف كونه لنفي الحكم عن المسكوت على المعين له "لا موجبا فيه" أي في المسكوت "شيئا كرجل بلا قرينة في زيد" فإن رجلا مجمل في زيد وغيره مما يصح إطلاقه عليه يتوقف كونه المراد به عند إطلاقه على قرينة تعينه ولا يوجبه بخصوصه مجرد إطلاقه لكونه فردا من أفراد معناه.(21/332)
"فإن قيل" لا نسلم كون الثابت عدم العلم بقرينة غير النفي عن المسكوت لا عدم القرينة "بل" عدم الاطلاع على قرينة ما سواه "ظاهر في عدمها" أي قرينة غير النفي عن المسكوت "بعد فحص العالم" عن القرينة كما هو الفرض. "قلنا" ظهور عدمها "ممنوع، وإلا" أي ولو لم يكن الظهور ممنوعا "لم يتوقف في حكم وقد ثبت عن الأئمة" أي لكن ثبت التوقف عن المجتهدين في أحكام كثيرة فالظاهر عدم ظهورها قلت لكن على هذا أن يقال: لا نسلم لزوم عدم التوقف في حكم أصلا لظهور قرينة ما سوى النفي عن المسكوت، وإنما هو لازم للظهور مع انتفاء المعارض المساوي والراجح، وليس هذا بالمدعى، وإنما المدعى مجرد الظهور.
"فإن قيل" التوقف "نادر" فيلزم ثبوت الظهور. "قلنا: فمواضع الخلاف كثيرة تفيد عدم الوجود بالفحص للعالم" أي تفحص المخطئ في ذلك الخلاف مع أنه عالم مجتهد، وإلا لم يخالف فانتفى الظهور قلت: إلا أنه يطرق هذا أيضا أن الخلاف من المخطئ الفاحص ليس بلازم أن يكون عن عدم الوجود بعد الفحص لجواز أن يكون ظفر بالقرينة، وإنما عدل عن(21/333)
ص -161-…مقتضى ذلك لعارض هو عنده أرجح منه، وإن كان في الواقع ليس كما عنده، وهذا كثير بثير بالنسبة إلى منطوقات الدلائل فضلا عن مفاهيمها المحتملة "ولو سلم" أن فحص العالم مع عدم الوجدان ظاهر في انتفاء قرينة غير النفي عن المسكوت حتى يلزم النفي عنه المسكوت "في غير الشارع اقتصر" أي وجب أن يقتصر الحكم عن المسكوت عند عدم الظهور على كلام غير الشارع "فقلنا به" أي بالاقتصار "في غيره" أي غير الشارع "من المتكلمين للزوم الانتفاء" أي انتفاء الفائدة "لولاه" أي انتفاء الحكم عن المسكوت "أما الشارع فللقطع بقصدها" أي الفائدة "منه" أي من الشارع في تخصيصه "يجب تقديرها" أي الفائدة فإذا لم يظهر كونها غير النفي عن المسكوت لا يلزم كونها إياه لجواز كونها غيره مما لم يظهر. والعلم واقع بسعة اعتبارات الشرع بما يقصر عن دركه العقل "فلا يلزم الانتفاء" أي انتفاء الفائدة "لولا الانتفاء" أي انتفاء الحكم عن المسكوت "فإثباته" أي نفي الحكم عن المسكوت هو الفائدة المرادة حينئذ "إقدام على تشريع حكم بلا ملجئ" أي موجب له؛ لأن الموجب كان لزوم انتفاء الفائدة من تخصيصه لولا انتفاء الحكم عن المسكوت، وهذا الموجب منتف هنا؛ لأنا نحكم بإرادة فائدة غير أنا لا نعلمها إذ لم يدل على تعيينها دليل كذا أفاده المصنف رحمه الله تعالى.(21/334)
"فإن قيل": نفي الحكم عن المسكوت "ظني" فيكفي في ثبوته ظن أن لا فائدة في التخصيص سواه "قلنا": كونه ظنيا مسلم لكن ظنه "ظن" الفرد "المعين" من أفراد المتواطئ من بين سائرها، وذلك "عند انتفاء معينه ممنوع"؛ إذ لا موجب له حينئذ وهذا الظني في كلام الشارع كذلك؛ لأن المعين له كما قال "وعلمت أنه" أي المعين لنفي الحكم عن المسكوت "لزوم انتفاء الفائدة" على تقدير انتفائه "وانتفاءه" أي وعلمت انتفاء لزوم انتفاء الفائدة في كلام الشارع على تقدير أن لا يكون هو فائدة التخصيص لسعة اعتبارات الشارع بما يقصر العقل عن دركها فلا يجدي مجرد ظن أن لا فائدة في التخصيص سوى ثبوته "واندفع بما ذكرنا" من أن مفيد كون الفائدة المرادة من التخصيص نفي الحكم عن المسكوت هو اللفظ المنقول عن الواضع أو أهل اللغة إلى آخر ما تقدم مشروحا ومن أنه يجب القطع بقصد الفائدة في التخصيص من كلام الشارع وإذا لم يظهر يجب تقديرها لاتساع دائرة اعتباراته فلا يلزم انتفاؤها في كلامه لولا أن يكون نفي الحكم عن المسكوت
"قولهم" أي المثبتين للمفهوم أيضا "تثبت دلالة الإيماء دفعا للاستبعاد" كما تقدم تقريره "فالمفهوم" أي فلتثبت دلالة اللفظ على مفهوم المخالفة "لدفع عدم الفائدة" على تقدير أن لا يكون هو الفائدة في التخصيص "أولى" لأن الحذر من لزوم غير المفيد أجدر من لزوم البعيد وفي قوله: "ولو جعل" هذا "إثباتا لإثبات الوضع بالفائدة" إشارة إلى عدم افتراق حال هذا في الاندفاع بين أن يكون دليلا مستقلا على المطلوب كما مشى عليه القاضي عضد الدين وبين أن يكون وجوبا ثانيا للجواب القائل: لا نسلم أنه إثبات الوضع بالفائدة بل بالاستقراء عن اعتراض النافين بأن في القول بمفهوم المخالفة إثبات الوضع بالفائدة كما ذهب إليه غيره من شارحي مختصر ابن الحاجب حتى يكون تقريره كما قال المحقق التفتازاني: لا نسلم بطلان إثبات الوضع بالفائدة، والسند أنه(21/335)
ص -162-…جاز ذلك تفاديا عن لزوم المستبعد فأولى أن يجوز تفاديا عن لزوم الممتنع مع ما في ذلك من الإيماء إلى أن للقوم في ذلك طريقين.
ووجه الاندفاع ظاهر، وهو أنه لا يلزم من إثبات كون الوصف المقترن بحكم الصالح لعليته دالا عليها دفعا لاستبعاد اقترانه به إذا لم يكن كذلك دلالة اللفظ على ما لم يقم على تعيينه له معين مع إفضاء القول به إلى نسبة الواضع الحكيم إلى إيقاع السامعين في الجهل، وأيضا نمنع انتفاء الفائدة في كلام الشارع على تقدير انتفاء المفهوم كما ذكرنا فلا يلزم من القول بدلالة الإيماء في كلام الشارع القول بمفهوم المخالفة فيه أيضا بطريق المساواة فضلا عن الأولوية.(21/336)
"وأما الاعتراض" من النافين "عليه" أي على قول المثبتين لو لم يدل التخصيص بالوصف على نفي الحكم عن المسكوت عند عدم ظهور غيره لخلا عن الفائدة "بأن تقوية دلالته" أي الموصوف "على الثبوت في الموصوف" أي على ثبوت حكمه في أفراده المتصفة بتلك الصفة حتى لا يتوهم تخصيصها منه بالاجتهاد "فائدة" ثابتة في كل فرد من أفراد مفهوم الصفة أيضا فلا يتعين أن يكون فائدة ذكرها النفي عن المسكوت، وإنما قلنا: يفيد التقوية المذكورة؛ لأنه لو أتى بالعام دونها أمكن تخصيصه بالاجتهاد ففي الغنم زكاة يجوز أن يكون المراد المعلوفة تخصيصا فإذا ذكر السائمة زال هذا الوهم "وكذا ثواب القياس" أي ثواب الاجتهاد في إلحاق المسكوت بالمذكور بمعنى جامع بينهما فائدة ثابتة في كل فرد من أفراد مفهوم الصفة أيضا فلا يتعين أن يكون فائدة ذكرها النفي عن المسكوت فإذن لا يتحقق مفهوم الصفة لعدم تحقق شرطه "فدفع الأول" وهو أن تقوية الدلالة على ثبوت الحكم في كل فرد من أفراد الموصوف بتلك الصفة فائدة ثابتة في كل فرد من أفراد مفهومها "بأنه" أي جواز التخصيص في الموصوف "فرع عموم الموصوف في نحو في الغنم السائمة زكاة ولا قائل به" أي بعموم الموصوف في مثل الغنم الموصوفة بالسائمة حتى تكون الغنم متناولة للسائمة والمعلوفة وإن كان الغنم بدون التقييد بأحدهما عاما متناولا لهما فيجب رده. "ولو ثبت" العموم "في مادة" كالصورة المذكورة مثلا "فصار المعنى في الغنم سيما السائمة" زكاة "خرج عن النزاع" لأن النزاع فيما لا شيء يقتضي التخصيص فيه سوى مخالفة المسكوت للمذكور ودفع التخصيص فائدة سواها "والثاني" أي ودفع أن ثواب الاجتهاد في إلحاق المسكوت بالمذكور بجامع بينهما فائدة ثابتة في كل صورة "بأنا شرطنا في دلالته" أي التخصيص على نفي الحكم عن المسكوت "عدم المساواة في المناط والرجحان وسيدفع هذا" أي عدم مساواة المسكوت للمنطوق في المعنى المقتضي لحكمه، وعدم كونه أولى من(21/337)
المنطوق به فإذا وجد أحدهما خرج عن محل النزاع لانتفاء شرطه حينئذ، وهو أن لا يظهر أولوية في المسكوت، ولا مساواة، "ونقضه" أي دليل مثبتيه لو لم يدل على نفي الحكم عما عداه لم يكن(21/338)
ص -163-…مفيدا "بمفهوم اللقب" أي بأنه يجيء فيه أيضا مثله بأن يقال: لو لم يدل على نفي الحكم عما عداه لم يكن مفيدا فيلزم أن يعتبر، وليس بمعتبر إلا عند شذوذ "مدفوع بأنه" أي ذكر اللقب "ليصح الأصل" فإنه يختل بإسقاطه، وعدم الاختلال أعظم فائدة فلم يصدق أنه لو لم يثبت المفهوم لم يكن ذكره مفيدا وهو المقتضي لإثبات المفهوم فتنتفي دلالته على المفهوم، وتعقب الفاضل الكرماني إياه بأنه لو حذف في السائمة من: في السائمة زكاة لاختل الكلام فلم يبق الفرق قائما ا هـ غير متجه؛ لأن المراد أنه لا يختل الكلام في مفهوم الصفة بحذفها إذا كان الموصوف مذكورا، وهو في هذا غير مذكور ثم هذا على ما قدمناه من أنه قول الجمهور وأنه الأوجه وإلا فقد علمت ثمة أنه مفهوم لقب عند السبكي "ومن أدلتهم" أي القائلين بالمفهوم "المزيفة" أي المضعفة لمفهوم الصفة "لو لم يكن" ذكر الصفة "للحصر" أي يدل على ثبوت الحكم للمذكور ونفيه عن المسكوت "لزم اشتراك المسكوت والمذكور في الحكم"؛ لأنه لا واسطة بين اختصامه بالمذكور بين اشتراكهما فيه "وهو" أي لكن اللازم الذي هو الاشتراك "منتف للقطع بأنه" أي الحكم "ليس له" أي للمسكوت، وإنما هو للمذكور "بل" كونه للمسكوت أيضا "محتمل" فتعين الحصر "ودفع" هذا الدليل "بمنع الملازمة" أي لا نسلم أن ذكر الوصف لو لم يدل على نفي الحكم عن المسكوت تعين الاشتراك "بل اللازم عدم الدلالة على اختصاص ولا اشتراك بل" الدلالة "على مجرد تعلق الحكم بالمذكور" وهذا واسطة بين الحصر والاشتراك فدعوى عدمها ممنوع "وللإمام" أي إمام الحرمين استدلال "قريب منه" أي من هذا الدليل، وهو ذكر الوصف "لو لم يفد الحصر" أي ثبوت الحكم في المذكور ونفيه عن المسكوت "لم يفد اختصاص الحكم" بالمذكور؛ إذ لا معنى للحصر فيه إلا اختصاصه به دون غيره. فإذا لم يحصل لم يحصل "لكنه" أي الوصف "يفيده" أي الاختصاص "في المذكور" به فيفيد الحصر، وهو المطلوب "وجوابه(21/339)
منع انتفاء اللازم" أي لا نسلم انتفاء عدم إفادته اختصاص الحكم بالمذكور "بل إنما يفيد" هذا الكلام "الحكم على المذكور لا اختصاصه" أي الحكم "به" أي بالمذكور "مع ما في تركيبه" أي هذا الدليل من المصادرة على المطلوب؛ "إذ هو" في المعنى "لو لم يفد الحصر لم يفد الحصر" غايته أن لفظ الاختصاص أوضح دلالة من الحصر فاندفع قول الأبهري في تالي هذه الشرطية تفصيل ليس في مقدمها فلا يعد من استلزام الشيء لنفسه وفي نقيض تاليها تفصيل ليس في نقيض مقدمها فلا يعد من المصادرة على المطلوب بل هو من الاستدلال من التفصيل على الجملة ا هـ ثم إنما قال: وللإمام قريب منه مع أن حاصلهما واحد للاختلاف بينهما في المقدمات. "وما روي لأزيدن على السبعين" أي ومن أدلة مثبتيه على مفهوم العدد ما في الصحيحين أنه لما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي على عبد الله بن طرفة ابن سلول قام عمر فأخذ بثوبه فقال: يا رسول الله تصلي عليه، وقد نهاك ربك أن تصلي عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنما خيرني الله فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} [التوبة: 80] وسأزيده على السبعين" وأخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد في تفسيره عن قتادة والطبري عن عروة مرسلا بلفظ الكتاب فإنه صلى الله عليه وسلم فهم أن حكم ما زاد على السبعين خلاف حكمها "وأجيب بأنه" أي ذكر(21/340)
ص -164-…السبعين في الآية "ليس محل النزاع للعلم بأن ذكرها للمبالغة" في الكثرة على عادة ذكرهم إياها في معرض التكثير "واتحاد الحكم" أي وللعلم باتحاد الحكم، وهو عدم المغفرة "في الزائد" عليها، وفيها "فكيف يفهم" رسول الله صلى الله عليه وسلم "الاختلاف" بينها وبين الزائد عليها في الحكم "فلأزيدن تأليف وعلم أن الاختلاف" أي اختلاف السبعين والزائد عليها في الحكم "جائز" في جنس هذا المقام "إن ثبت يجب كونه من خصوص المادة وهو قبول دعائه" صلى الله عليه وسلم لا من دلالة اللفظ فعلم مبتدأ ويجب خبره.
والحاصل كما قال المصنف أنه أجاب بجوابين على تقديرين الأول على تقدير أن السبعين كناية عن السبعين فما زاد وحينئذ يكون حكم الزائد مثل حكم السبعين، وذكر أن ذلك معلوم للنبي صلى الله عليه وسلم وغيره فلم يكن فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم انتفاء الحكم عن المسكوت فقوله لأزيدن تأليف لقلوب أقاربهم من المؤمنين بإظهار الحدب عليهم وبلوغ الغاية في طلب المغفرة لهم، وإن لم يفد، ولا يقال فهو حينئذ شغل بما لا يفيد؛ لأن نفس الاستغفار تضرع ودعاء، وهو في نفسه مطلوب مع أنه يفيد ما ذكرنا من التأليف؛ لأنه عبادة والثاني على تقدير أن يراد بالسبعين خصوصها فيعلم أن الاختلاف بين السبعين وما زاد عليها جائز فعلم أنه جائز حتى زاد عليها جاز كونه مستندا إلى الأصل من قبول دعائه لا اللفظ ا هـ هذا وقد ذهل جماعة من الأساطين عن رواية هذا الحديث في الصحيحين وغيرهما فأنكروا صحته بالتصميم فلا يتبعون فيه وفوق كل ذي علم عليم.(21/341)
"وقول يعلى بن أمية لعمر: ما بالنا نقصر، وقد أمنا في الشرط فقال عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:" صدقة تصدق الله بها عليكم" أي ومن أدلة مثبتيه المزيفة على مفهوم الشرط هذا المروي فإن عمر ويعلى رضي الله عنهما فهما تقييد قصر الصلاة بحال الخوف وعدم قصرها عند عدم الخوف، وأقر النبي صلى الله عليه وسلم عمر على ذلك ولولا إفادته ذلك لغة لما كانا ثم هذا مخرج لفظ أكثره في صحيح مسلم والسنن ومسندي أحمد وأبي يعلى والباقي فيها معنى وفي آخره فاقبلوا صدقته. "والجواب" لا نسلم أنه لازم فهمهما عدم القصر من التقييد بالخوف؛ إذ من الجائز "جواز بنائهما" العجب من القصر "على الأصل" في الصلاة قبل السفر الواقع فيه الخوف "وهو الإتمام، وإنما خولف" الأصل فيها "في الخوف" بالآية ولهذا ذكراها عند التعجب أي القصر حال الخوف إنما يثبت بالآية فما بال حال الأمن لم يبق ما هو الأصل فيها من الإتمام قلت إلا أن هذا لا يتأتى على قول أصحابنا: الأصل فيها القصر والإتمام في حق المقيم بعارض الإقامة حتى لو صلى المسافر الرباعية إماما أو منفردا أربعا إن أتى بالقعدة الأولى أساء وإن لم يأت بها فسدت صلاته ويشهد لهم ما في الصحيحين عن عائشة قالت: فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر لفظ البخاري ويشكل بظاهر الآية، وهو الحامل لبعضهم على القول بأن المراد بالقصر فيها قصر الأحوال لا الذات يعني إباحة الصلاة(21/342)
ص -165-…بالإيماء مع تخفيف القراءة والتسبيحات لا أعداد الركعات والحديث ينبو عنه سياقا ونصا.
والذي سنح للعبد الضعيف غفر الله - تعالى - له في الجمع بين ظاهر الكتاب والسنة أن يقال - والله سبحانه أعلم -: لما تقررت الزيادة في الإقامة كان مظنة أن يكون في السفر كذلك لأن الأصل عدم اختلاف الإقامة والسفر في الأحكام فأبانت الآية اختلافهما في هذا الحكم وسمت تقرير الحالة الأولى قصرا نظرا إلى ما استقر الحال عليه إقامة وخرج التقييد بالشرط مخرج الغالب؛ لأنه الغالب من حالهم وقت نزولها، وإنما تعجبا لظنهما ثبوت الزيادة في حق المسافر الغير الخائف بالنظر إلى ما هو الأصل من عدم اختلاف المقيم والمسافر في الأحكام، ومن كون الشرط غير خارج مخرج الغالب، وكان ترك الزيادة في السفر مطلقا - كما وقعت في الإقامة مطلقا - صدقة من الله، وصدقة الله لا ترد فانزاح الإشكال.(21/343)
"وإن في القول به تكثير الفائدة" أي ومن أدلة مثبتيه المزيفة عليه مطلقا هذا لاشتماله على النفي عن المسكوت بخلاف عدم القول به لاقتصاره على الحكم للمذكور، وما كثرت فائدته راجح على ما ليس كذلك لملاءمته لغرض العقلاء "ونقض" هذا الدليل نقضا إجماليا "بلزوم الدور" والمعترض به الآمدي وحاصله: لو صح ما ذكرتم لزم أن تتوقف دلالة اللفظ على المفهوم على تكثير الفائدة، وهو يتوقف على دلالة اللفظ على المفهوم أما الأولى فلأن دلالته على النفي تتوقف على وضعه له، وهو يتوقف على تكثير الفائدة؛ لأنه جعل وضعه له معللا بتكثيرها فيكون علة لوضعه له، والمعلول متوقف على علته، وأما الثانية فلأن تكثير الفائدة إنما هو بواسطة دلالة اللفظ على الثبوت للمنطوق والنفي عما عداه فمتى لا يدل إلا على الثبوت للمنطوق لا غير لم يكن فيه تكثيرها، وهذا دور ظاهر. "وليس" هذا النقض "بشيء" قادح في صحة الدليل المذكور "لظهور أن الموقوف عليه الدلالة" أي دلالة اللفظ على النفي عن المسكوت "وتعقلها" أي تعقل الواضع كثرة الفائدة "واقعة" في وضع اللفظ للنفي عن المسكوت مع الثبوت للمذكور ثم وضعه لذلك لا حصول كثرة الفائدة المسبب عن الوضع المذكور "وتحققها" أي: وحصول كثرة الفائدة في الخارج "وهو الموقوف عليها" أي على الدلالة التي هي فرع الوضع المذكور فلا دور لاختلاف جهتي التوقف "بل الجواب" عن النقض المذكور "ما تقدم" من أنه يلزمه إثبات اللغة بالفائدة وهو باطل فالملزوم مثله "وأنه لو لم يكن المسكوت مخالفا لزم حصول الطهارة قبل السبع في طهور إناء أحدكم" أي ومن أدلة مثبتيه المزيفة على مفهوم العدد منه أيضا أنه لو لم يكن المسكوت مخالفا للمذكور في حكمه للزم حصول طهارة الإناء الذي ولغ الكلب فيه قبل أن يغسل سبعا فيما في صحيح مسلم وغيره، وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب" "والتحريم" أي(21/344)
وحصول تحريم نكاح الشخص من لم يقم به موجب من موجبات التحريم عليه إذا اشتركا في الرضاع في مدته "قبل الخمس في خمس رضعات يحرمن" أي قبل خمس رضعات فيما في صحيح مسلم وغيره عن عائشة موقوفا عليها:" كان(21/345)
ص -166-…فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات يحرمن فتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وهي فيما نقرأ من القرآن لأنه لا واسطة بين النفي والإثبات. والفرض أنه لا يدل على النفي فيكون الثابت الإثبات وهو ما ذكرنا "ويلزم تحصيل الحاصل" حينئذ في كليهما لحصول كل من الطهارة والتحريم قبل السبع والخمس، وتحصيل الحاصل محال، فإثبات السبع الطهارة والخمس التحريم كذلك وهو يناقض النص المفيد لكل من إثبات السبع الطهارة والخمس التحريم "والجواب منع الملازمة" أي لا نسلم أنه لو لم يدل اللفظ على النفي عن المسكوت لزم حصول الطهارة والتحريم قبل السبع والخمس فيهما "بل اللازم" فيهما على هذا التقدير "عدم الدلالة على نفي الطهارة والتحريم" قبل وجود السبع والخمس "وإنما يلزم ما ذكر" من التحريم قبل الخمس "لو لم يكن الأصل" فيمن قام به هذا الأثر "عدم التحريم" لكن الفرض أن الأصل فيه عدم التحريم "فيبقى" هذا الأصل فيه مستمرا "إلى وجود ما علق به" وهو خمس رضعات "ضده" وهو التحريم "وكذا صارت النجاسة متقررة بالدليل فيبقى كذلك" أي إنما يلزم طهارة الإناء قبل السبع لو لم يكن الأصل المتقرر له بعد الولوغ فيه النجاسة بدليلها، وهو العلم به، وإن كان الأصل فيه قبل الولوغ الطهارة لكن الأصل المتقرر له إنما هو ذلك فتبقى النجاسة مستمرة إلى وجود ما علق به، وهو الغسل سبعا ضدها، وهو الطهارة هذا كله بالنسبة إلى الشافعية.(21/346)
"وأما الحنفية فالتحريم" بالرضاع لا يتوقف عندهم على خمس بل يثبت "بقليله، والطهارة قبله" أي طهارة الإناء الذي ولغ الكلب فيه لا تتوقف على السبع بل تثبت قبل السبع "بالثلاث" على ما ذكره الحاكم في إشارته وهو أيضا مقتضى نقل بعضهم عن أبي حنيفة وجوبها، واستحباب الأربعة بعدها وبغلبة ظن زوالها على ما ذكره الوبري فإنه قال: لا توقيت في غسلها بل العبرة فيه لأكبر الرأي ولو مرة ونقله النووي عن أبي حنيفة وبعضهم عنه وعن أصحابه "وهما" أي توقف التحريم بالرضاع على خمس، وطهارة الإناء الذي ولغ الكلب على سبع عندهم "منسوخان اجتهادا" منهم "بالترجيح" قال المصنف أي بسبب ترجيح ما عندهم من المعارض فإن كل موضع تعارض فيه دليلان فرجح المجتهد أحدهما يلزم بالضرورة القول بمنسوخية الآخر، وإلا كان تركا لدليل صحيح عن الشارع فتأمل ا هـ.
قال العبد الضعيف غفر الله - تعالى - له: والمعارض الراجح عندهم في طهارة الإناء بالثلاث ما روى ابن عدي عن عطاء عن أبي هريرة مرفوعا: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليهرقه وليغسله ثلاث مرات" مع ما أخرج الدارقطني بسند صحيح عن عطاء موقوفا على أبي هريرة أنه كان إذا ولغ الكلب في الإناء أهراقه ثم غسله ثلاث مرات ولا يضر رفع الأول قول ابن عدي لم يرفعه غير الكرابيسي والكرابيسي لم أجد له حديثا منكرا غير هذا فقد قال أيضا: لم أر به بأسا في الحديث، وقال شيخنا الحافظ: صدوق فاضل ثم كما مال شيخنا المصنف الحكم بالضعف والصحة إنما هو في الظاهر أما في نفس الأمر فيجوز صحة ما حكم بضعفه(21/347)
ص -167-…ظاهرا، وثبوت كون مذهب أبي هريرة ذلك قرينة تفيد أن هذا مما أجاده الراوي المضعف، وحينئذ فيعارض حديث السبع، ويقدم عليه؛ لأن مع حديث السبع دلالة التقدم بما كان من التشديد في أمر الكلاب أول الأمر حتى أمر بقتلها، والتشديد في سؤرها يناسب كونه إذ ذاك، وقد ثبت نسخ ذلك. فإذا عارض قرينه معارض كان التقدمة له، وهذا معنى قول صاحب الهداية: والأمر الوارد بالسبع محمول على الابتداء وبغلبة الظن من غير اشتراط عدد هذا مع زيادة ثم الظاهر أن ليس الغسل منها تعبديا بل لأجلها فيكون المناط ظن زوالها كما في الطهارة من غيرها من سائر النجاسات الغير المرئيات، ووقوع غسل أبي هريرة ثلاثا جاريا مجرى الغالب لا أنه ضربة لازب كما قالوا مثله في حديث المستيقظ، والله - سبحانه - أعلم.(21/348)
والمعارض الراجح عندهم في تحريم قليل الرضاع إطلاق الكتاب كقوله تعالى:{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] والسنة كحديث الصحيحين "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب". ويقدم إطلاق الكتاب لقطعيته، ويحرم من الرضاع لسلامته من القوادح سندا ومتنا بخلاف حديث الخمس فقد قال الطحاوي منكر والقاضي عياض لا حجة فيه لأن عائشة أحالت ذلك على أنه قرآن وقد ثبت أنه ليس بقرآن ولا تحل القراءة به، ولا إثباته في المصحف؛ إذ القرآن لا يثبت بخبر الواحد فسقط التعلق به "أو نقلا" أي أوهما منسوخان نقلا، والمفيد للنسخ نقلا بالنسبة إلى تعلق طهارة الإناء بغسله سبعا من ولوغ الكلب عمل أبي هريرة على خلافه؛ لأنه كما قال شيخنا المصنف رحمه الله تعالى: ظنية خبر الواحد إنما هو بالنسبة إلى غير راويه فأما بالنسبة إلى راويه الذي سمعه من في النبي صلى الله عليه وسلم فقطعي حتى ينسخ به الكتاب إذا كان قطعي الدلالة في معناه فلزم أن لا يتركه إلا لقطعه بالناسخ؛ إذ القطعي لا يترك إلا لقطعي فبطل تجويزهم تركه بناء على ثبوت ناسخ في اجتهاده المحتمل للخطأ، وإذا علمت ذلك كان تركه بمنزلة روايته للناسخ بلا شبهة فيكون الآخر منسوخا بالضرورة غير أن على تقدير لزوم الثلاث لا يكون الاقتصار على وقوع الثلاث منه جاريا مجرى الغالب بل؛ لأنه ضربة لازب بخلافه على غير تقدير لزومها فليتأمل والمفيد للنسخ نقلا بالنسبة إلى تعلق التحريم بخمس رضعات ما روى المشايخ عن ابن عباس لما قيل له: إن الناس يقولون إن الرضعة لا تحرم قال كان ذلك ثم نسخ وعن ابن مسعود قال آل أمر الرضاع إلى أن قليله وكثيره يحرم وعن ابن عمر أن القليل يحرم ثم تكون هذه الآثار صالحة لنسخ حديث عائشة عندهم وإن لم تكافئه في صحة السند ظاهرا لانقطاعه باطنا لما يلزمه من نسخ القرآن بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من ثبوت قول الرافضة ذهب كثير من القرآن بعد رسول الله صلى الله(21/349)
عليه وسلم لم يثبته الصحابة، وكلاهما باطل معدود بطلانه من ضروريات الدين فتقوى هذه الآثار على نسخه ويقع القطع بمضمونها والله - سبحانه - أعلم ثم إذا كان المذهب عند أصحابنا ما قدمناه "فاللازم حق" أي جوابهم عن هذين الدليلين أن حصول الطهارة قبل السبع بالثلاث أو بغلبة ظن زوالها والتحريم قبل وجود خمس رضعات حق "فيسقطان" أي الدليلان المذكوران(21/350)
ص -168-…"تنبيه" ولو حول الاستدلال المذكور في السبع إلى الثلاث بعد القول بلزومها عند مشايخنا ليتم على قولهم فالجواب عنه مثل ما أجيب به عن الشافعية في السبع وتقريره ظاهر مما بيناه ثم غير خاف أن هذين الدليلين بعد ما فيهما إنما يتمشيان على قول القائل بأن دليل المفهوم الشرع، وقد عرفت أنه خلاف قول الأكثر ثم قد كان الأحسن ذكرهما ولاء قوله وما روي لأزيدن على سبعين لاشتراكهما في أنها أدلة على مفهوم العدد.
"واعلم أن المعول عليه" من الحجة "في نفي المفهوم" أي في عدم القول به عند الحنفية "عدم ما يوجبه" أي القول به "إذ علم أن الأوجه" المذكورة لإثباته "لم تفده" أي إثباته "وأيضا الاتفاق على أن المصير إليه" أي إلى القول به إنما هو "عند عدم فائدة أخرى" سواه لتخصيص ذلك بالذكر "وهي لازمة" أي لكن الفائدة التي ليست إياه لازمة له أبدا في كل صورة "إذ ثواب الاجتهاد للإلحاق" أي لإلحاق المسكوت بالمذكور في حكمه بجامع بينهما إن أمكن "فائدة لازمة" له كما ذكرنا فحينئذ لا تحقق له أصلا كما سلف "والدفع" لهذا "بأن شرطه" أي القول بالمفهوم "عدم المساواة" والرجحان في المناط ولم يذكره هنا اكتفاء بما تقدم مع ظهوره "فعندها" أي المساواة أو الرجحان ذلك المحل "غير" محل "النزاع" كما تقدم بيانه "ليس بشيء" يقوى على دفعه "لأن فائدة الثواب" أي الفائدة التي هي الثواب "تلزم الاجتهاد" السائغ مطلقا كما عرف "أوصل" الاجتهاد المجتهد "إلى ظن المساواة" أي مساواة المسكوت في المعنى المقتضي للحكم في المذكور فيثبت ذلك الحكم في المسكوت أيضا "أو" أوصله "إلى عدمها" أي المساواة المذكورة "أو لا" أي أو لم يوصله إلى أحدهما "ثم ينتفي الحكم" للمذكور عن المسكوت على كل من الأخيرين "بالأصل" وإنما غايته أن المصيب أكثر أجرا.(21/351)
ثم لما كان هنا مظنة أن يقال: كيف يتصور الاجتهاد في كل صورة من صور التخصيص وعدم مساواة المسكوت للمذكور في المعنى المقتضي لحكمه قد يكون معلوما في بعض الصور فيمتنع الاجتهاد؛ إذ لا قياس مع انتفائها، قدره مجيبا عنه بقوله: "وعدم المساواة ليس لازما بينا لكل تخصيص ليمتنع الاجتهاد لاستكشاف حال المسكوت" لظهور عدمها لسامعه ببادئ الرأي فيكون حال المسكوت مكشوفا بدون الاجتهاد حينئذ لكن على هذا أن يقال: إن في تسليم كون عدم المساواة ليس لازما بينا لكل فرد من أفراد التخصيص على سبيل الاستغراق تأملا ثم هذا ما تقدم الوعد به بقوله وسيدفع "ولهم" أي وللحنفية كأنهم ذكروا بذكر نفي المفهوم إذ هو يستلزم النافي "غيره" أي هذا المعول عليه "أدلة منظور فيها" غالبها في الحقيقة اعتراضات "منها انتفاؤه" أي المفهوم "في الخبر نحو في الشام غنم سائمة" فإنه لا يدل على عدم المعلوفة فيها كما هو معلوم من اللغة والعرف قطعا "مع عموم أوجه الإثبات" له في الخبر كما في الإنشاء فإنها متواطئة على أن الملجئ للقول به لزوم عدم الفائدة للتخصيص لولاه، وهذا قائم في الخبر كما في الإنشاء فحيث انتفى في الخبر انتفى في الإنشاء فانتفى أصلا. "وأجيب" بوجهين "بالتزامه" أي المفهوم في الخبر أيضا "إلا لدليل" خارجي يدل على(21/352)
ص -169-…عدم إرادته فيه "ومنه" أي: ومن الخبر الذي دل الدليل الخارجي على عدم إرادة المفهوم فيه "المثال" المذكور فإن العلم محيط بوجود المعلوفة في الشام "وبالفرق" بين الإنشاء والخبر "بأن كون المسكوت في الخبر غير مخبر عنه" كما هو الحال على تقدير عدم القول بالمفهوم فيه "لا يستلزم عدم ثبوت الحكم في نفس الأمر" للمسكوت؛ إذ لا يلزم من عدم الإخبار عن الشيء عدمه في الخارج لجواز أن يحصل فيه ما لم يخبر عنه قط "بخلاف الأمر ونحوه" من الإنشاء "فإنه لا خارج له" أي لا متعلق له، وهو النسبة الخارجية "يجري فيه ذلك الاحتمال" وهو أن يكون المسكوت غير المحكوم عليه مع جواز كونه حاصلا في الخارج "فإذا انتفى تعرضه" أي الأمر ونحوه "للمسكوت ينتفي الحكم عنه" أي عن المسكوت "في نفس الأمر ودفع الأول" وهو التزام المفهوم في الخبر "بأنه مكابرة والثاني" وهو الفرق المذكور بين الخبر والإنشاء "بإفادته السكوت عن المسكوت وهو" أي السكوت عن المسكوت "قول النافين" فإن حاصل هذا الوجه أن الحكم منتف عن المسكوت لعدم ما يوجبه فيه فعدم ثبوته فيه بناء على عدم وجوبه، وهذا تصريح بأن النفي غير مضاف إلى اللفظ كما هو مذهب النافين ذكره المصنف والدافع القاضي عضد الدين.
"ومنها" أي الأدلة المنظور فيها "لو ثبت المفهوم" أي اعتباره "ثبت التعارض" في حكم المسكوت كثيرا "لثبوت المخالفة كثيرا" لمقتضى المفهوم بثبوت مثل حكم المنطوق في المسكوت كقوله تعالى {لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130] فإن مقتضى المفهوم حله إذا لم يكن أضعافا مضاعفة، وغيره من السمعيات كالإجماع وسنده يثبت حرمته كذلك "وهو" أي التعارض "خلاف الأصل لا يصار إليه إلا بدليل" فلا يجوز ما يؤدي إليه إلا بدليل، وما أوجب كثرة التعارض في حكم المسكوت إلا اعتبار المفهوم فيجب أن لا يعتبر.(21/353)
فإن قيل: إذا قام الدليل على اعتباره وجب أن لا يبالي بلزوم كثرة التعارض في حكم المسكوت لوجوب العمل بالدليل إذا أدى إلى خلاف الأصل قلنا "فإن أقيم" الدليل على اعتباره "فبعد صحته" أي الدليل "كان دليلنا" على بعده "معارضا" له فلا يثبت وجوب اعتبار ما يؤدي إليه من كثرة المعارضة في حكم المسكوت؛ إذ لا يجوز العمل به مع وجود معارضه وتعقبه المصنف بأن ذلك إذا لم يرجح عليه فقال "والحق أن كل دليل يخرج عن الأصل بعد صحته" أي الدليل ويعارضه ما يوافق الأصل "يقدم" المخرج على الموافق "وإلا لزم مثله في حجية خبر الواحد وغيره" لأن وضع الأدلة لذلك؛ لأنها لإثبات التكاليف إثباتا ونفيا، والتكليف مطلقا خلاف الأصل "ويدفع" من قبل الحنفية "بأن ذلك" أي الترجيح مثبت خلاف الأصل إنما هو "عند تساويهما" أي الدليلين "في استلزام المطلوب وأدلتكم" على اعتباره "بينا أن شيئا منها لا يستلزم اعتباره" أي المفهوم.
"ومثله" أي المذكور في مفهوم الصفة من مقبول الأدلة كعدم فائدة التقييد لولاه ومزيفها كتكثير الفائدة على القول به من جانب المثبت ومن الأجوبة عنها من جانب النافي يكون "في الشرط" أي في مفهومه "من الجانبين" المثبت والنافي مع اختصاصه بحديث يعلى "وشرطه" أي مفهوم الشرط "ما تقدم من عدم خروجه" أي المقيد وهو(21/354)
ص -170-…الشرط هنا "مخرج الغالب" كقوله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} [النور: 33] كما هو أحد الوجوه "ونحوه" أي هذا الشرط مما لا يتعين معه مفهوم الشرط كالخوف "ويخصه" أي مفهوم الشرط من الأدلة المثبتة له على قول مثبتيه "قولهم: إنه" أي الشرط "سبب" للجزاء، والجزاء مسبب عنه وانتفاء السبب يوجب انتفاء المسبب متحدا كان السبب أو متعددا "فعلى اتحاده ظاهر" لامتناع المسبب بدون سببه "وعلى جواز التعدد" أي تعدد السبب كما في المسببات النوعية "الأصل عدم غيره" أي غير السبب المذكور "فإذا انتفى" السبب المذكور "انتفى مطلقا" أي مطلق السبب؛ لأن غير المذكور، وإن كان جائزا فالأصل عدمه حتى يثبت وجوده وهذا معنى "ملاحظة للنفي الأصلي ما لم يقم دليل الوجود" أي وجود سبب آخر للجزاء. والفرض عدمه "مع أن الكلام فيما إذا استقصى البحث عن آخر فلم يوجد" آخر "فإن احتمال وجوده" أي آخر حينئذ "يضعف فيترجح العدم" أي عدم آخر "والمفهوم ظني لا يؤثر فيه الاحتمال" المرجوح فينتفي المسبب ظاهرا حينئذ، وإن لم ينتف قطعا كما في الاتحاد، وهو كاف في المطلوب وتعقب المصنف هذا بقوله "ولا يخفى أن هذا رجوع عن أنه" أي مفهوم الشرط "مدلول اللفظ إلى إضافته إلى انتفاء السبب وهو" أي والقول بانتفاء الحكم عند عدم الشرط لانتفاء سببه هو "قول الحنفية أنه" أي انتفاء الحكم عند عدم الشرط "يبقى على عدمه الأصلي في التحقيق والأقرب لهم" أي لمثبتيه في الاستدلال "إضافته" أي مفهوم الشرط "إلى شرطية اللفظ المفادة للأداة" بناء "على أن الشرط ما ينتفي الجزاء بانتفائه فيكون" انتفاء الجزاء لانتفاء الشرط "مدلولا" لفظيا حينئذ "للأداة منع كون الشرط سوى ما جعل سببا للجزاء" أي منع كونه غير ما دخل عليه أداة دالة على سببية الأول ومسببية الثاني ذهنا أو خارجا سواء كان علة للجزاء كإن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود، أو(21/355)
معلولا كإن كان النهار موجودا فالشمس طالعة أو غيرهما كإن دخلت فأنت طالق. "والانتفاء" أي انتفاء الجزاء "للانتفاء" أي لانتفاء الشرط "ليس من مفهومه" أي الشرط "بل" انتفاء الجزاء "لازم لتحققه" أي انتفاء الشرط قد يختلف عنه كما في قوله {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} [النساء: 20] فلا جرم أن قال "ويجيء الأول" وهو أن انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط لعدم دليل ثبوته "ويتحد" قول مثبتيه "بقول الحنفية" إن عدم المشروط عند عدم الشرط هو العدم الأصلي كما فيما قبل التعليق هذا، وفي شرح البزدوي مشيرا إلى أن التعليق بالشرط يوجب عدم الحكم عند عدم الشرط عند الشافعي ولا يوجبه عندنا بل عدم الحكم مبقى على العدم الأصلي حينئذ اعلم أن هذا ليس على الإطلاق عنده حتى لو قال: إن لم تدخلي الدار فأنت غير طالق فدخلت لم تطلق عنده، ويجوز أن يجاب عنه بأنه قائل به غير أنه لم يحكم بالطلاق في مثل هذه الصورة؛ لأنه من باب المفهوم وبمثله لا تزول حقوق العباد لاحتياجهم إليها بخلاف حقوق الله فإنه مالك لنواصي العباد مطاع على الإطلاق تجب طاعته بأقصى ما يمكن فجاز إثبات حقوقه بمثله. ولذا لو قال لزيد: لا تعتق(21/356)
ص -171-…عبدي الأسود لا يكون أمرا بإعتاق عبيده البيض والشقر ونحوهما ومع أن التقييد بالوصف عنده يدل على انتفاء الحكم عند انتفائه وينبغي أن يتفرع على مذهبه أنه لو قال لزيد أعتق عبيدي البيض ثم قال أعتق عبيدي السود قبل إعتاقه أن ينعزل عن وكالته الأولى وإن قيل بعدم العزل فله وجه أيضا؛ لأن الصريح أقوى من المفهوم، وفيه نظر من وجه آخر على المذهبين؛ لأن الحكم متى علق بأمر مساو له كان علة أو لم يكن كزنا المحصن مع الرجم أو كالرجم مع إحصان الزاني أو بالإبدال كجواز التيمم مع فقد الماء فإن المتعلقات فيها دائرة مع المعلق به وجودا وعدما بالاتفاق فلا بد من تحرير موضع الخلاف فإذن الواجب أن يقول الحكم متى علق بأمر ابتداء بصلة الشرط ولم يكن ذلك الأمر مساويا له ولا شرطا عقليا كالعلم للإرادة ولا يكون المعلق من العبادات البدنية فإنه لا يدل على انتفاء الحكم عند انتفائه ولا ينعقد المعلق حال كونه معلقا علة مجوزة للحكم عندنا وعند الشافعي يدل نفيه على نفيه وينعقد علة مجوزة.(21/357)
"وفائدة الخلاف أن النفي" أي نفي الحكم عن غير المشروط "حكم شرعي عنده" أي الشافعي لأنه من مدلول الدليل اللفظي المذكور "وعدم أصلي عندهم" أي الحنفية لعدم تعرض الدليل المذكور إليه لا بالنفي ولا بالإثبات "فلا يخص وأحل لكم ما وراء ذلكم بمفهوم وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ وإن لم يشترط الاتصال كقوله :ولا ينسخ على قولنا المتأخر ناسخ خلافا له" أي فيتفرع على هذه الفائدة أنه لا يكون عندنا عموم وقوله تعالى:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] مخصوصا بمفهوم قوله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 25] وإن تنزلنا إلى أن اتصال المخصص بالمخصص ليس بشرط في التخصيص كما هو قول الشافعي ولا منسوخا به على قولنا في المخصص المتراخي أنه ناسخ لما تقدمه في القدر المعارض له في مقتضاه؛ لأن عدم جواز نكاح الأمة مع القدرة على طول الحرة عدم أصلي وحل نكاح من عدا المحرمات من النساء المتناول للأمة حالة القدرة على طول الحرة حكم ثبوتي شرعي. ومعلوم أن العدم الأصلي لا يصلح مخصصا ولا ناسخا فيجوز عندنا نكاح الأمة مع القدرة على نكاح الحرة عملا بالعموم المذكور، وأنه يكون عند الشافعي رحمه الله تعالى عموم الآية الأولى مخصوصا بمفهوم الآية الثانية؛ لأنه حكم شرعي بطريق المفهوم كما أن الأول حكم شرعي بطريق المنطوق فلا يجوز عنده نكاح الأمة مع القدرة على طول الحرة، وإن كانت كتابية بناء على أن ذكر المؤمنات للتشريف لا للشرط كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 49] الآية فإن المسلمة والكتابية في عدم وجوب العدة في الطلاق قبل الدخول سواء "وما قيل من بناء الخلاف" في أن مفهوم الشرط وهو الانتفاء عند الانتفاء هل هو من مدلول اللفظ أم لا أنه كما زعمه صاحب البديع عزوا إلى فخر(21/358)
الإسلام بناء "على أن الشرط مانع من انعقاد السبب" موجبا للحكم قبل وجود الشرط عندنا لا مانع من الحكم فقط "فعدم الحكم" عند عدم الشرط ثابت "بالأصل عندنا" وهو عدم سببه لا بعدم الشرط؛ لأن عدم الحكم لما كان
الوجوب "إلى كون الاستعمال في جزء مفهومه" الذي هو جواز الفعل "ولا" إلى "كون دلالته" أي الأمر "على مجرد الجزء" أي جزء المعنى الموضوع له "بل هو" أي مجرد الدلالة على الجزء "لمجرد تسويغ الاستعمال في تمامه" أي المعنى الغير الوضعي "وهو" أي الاستعمال في تمام المعنى الغير الوضعي "مناط المجازية دون الدلالة لثبوتها" أي دلالة اللفظ "على الوضعي مع مجازيته" أي اللفظ الدال على الوضعي "كما قدمنا والقرينة" إنما هي "للدلالة على أن اللفظ لم يرد به معناه الوضعي" لا الدلالة على المعنى الوضعي أو جزئه "والمراد بحيوان في قولنا "يكتب حيوان" إنسان استعمالا لاسم الأعم في الأخص بقرينة يكتب وتقدم" في أوائل الكلام في الأمر "أنه" أي استعمال الأعم في الأخص.(21/359)
"حقيقة: مسألة الصيغة أي المادة باعتبار الهيئة الخاصة لمطلق الطلب لا بقيد مرة ولا تكرار ولايحتمله" أي التكرار "وهو المختار عند الحنفية" والآمدي وابن الحاجب وإمام الحرمين على نقلهما والبيضاوي، قال السبكي: وأراه رأي أكثر أصحابنا "وكثير للمرة" وهذا عزاه أبو حامد الإسفراييني1، وأبو إسحاق الشيرازي إلى أكثر الشافعية. وقال الإسفراييني: إنه مقتضى كلام الشافعي وإنه الصحيح الأشبه بمذاهب العلماء، لكن قال السبكي: النقلة لهذا عن أصحابنا لا يفرقون بينه وبين الرأي المختار، وليس غرضهم إلا نفي التكرار والخروج عن العهدة بالمرة، ولذا لم يحك أحد منهم المذهب المختار مع حكاية هذا فهو عندهم هو "وقيل للتكرار أبدا" أي مدة العمر مع الإمكان كما ذكره أبو إسحاق الشيرازي وإمام الحرمين والآمدي وابن الحاجب وغيرهم ليخرج أزمنة ضروريات الإنسان من قضاء حاجة وغيره، وعلى هذا جماعة من الفقهاء والمتكلمين منهم أبو إسحاق الإسفراييني "وقيل" الأمر "المعلق" على شرط أو صفة للتكرار لا المطلق، وهو معزو إلى بعض الحنفية والشافعية "وقيل" الأمر المطلق للمرة "ويحتمله" أي التكرار، وهو معزو إلى الشافعي "وقيل بالوقف" إما على أن معناه "لا ندري" أوضع للمرة وللتكرار أو للمطلق من غير دلالة عليهما "أو" على أن معناه "لا يدرى مراده" أي المتكلم به "للاشتراك" اللفظي بينهما وهو قول القاضي أبي بكر في جماعة واختاره إمام الحرمين على قول الإسنوي، هذا ولم يقل أحد: إن المرة لا تفعل بل فعلها متفق عليه كما ذكره غير واحد، واقتضاء كلام الإسنوي خلافه خلاف الواقع "لنا" على المختار وهو الأول "إطباق العربية على أن هيئة الأمر لا دلالة لها إلا على الطلب في خصوص زمان وخصوص المطلوب" من قيام وقعود وغيرهما إنما هو "من المادة ولا دلالة لها" أي المادة "على غير مجرد الفعل" أي المصدر "فلزم" من مجموع الهيئة والمادة "أن تمام مدلول الصيغة طلب الفعل فقط، والبراءة(21/360)
بمرة لوجوده" أي والخروج عن عهدة الأمر بفعل المأمور به مرة واحدة لضرورة إدخاله في الوجود لأنه لا يوجد بأقل منها "فاندفع دليل المرة" وهو أن الامتثال يحصل بالمرة فيكون لها بهذا "واستدل" للمختار أيضا كما في مختصر ابن الحاجب والبديع
ـــــــــــــــــــ
1 الأسفراييني هكذا في النسخ المعتمدة بياءين قبل النون نسبة إلى أسفرايين كما ضبطه ياقوت في معجمه كتبه مصححه.(21/361)
ص -172-…متحققا قبل التعليق. وكان الشرط مانعا من انعقاد سببه استمر العدم الأصلي على حاله لعدم ما يزيله إلى زمان وجود سببه عند وجود شرطه فإن المعلق بالشرط كالمنجز عند وجوده، فيكون عدم الحكم مضافا إلى عدم سببه لا إلى عدم الشرط "ومن الحكم عنده" أي ومانع من الحكم عند الشافعي "بانتفاء شرطه" أي الحكم لا مانع من انعقاد السبب؛ لأن المعلق بالشرط مثل أنت طالق سبب شرعي للطلاق، ولهذا يقع به لولا التعليق، وإذا كان سببا شرعيا له وجب ترتبه عليه في الحال كما هو الأصل في السبب فإذا لم يترتب عليه في الحال بواسطة التعليق ظهر أن تأثير تعليقه في تأخير حكمه إلى زمان وجود الشرط لا في منع انعقاده بعد وجوده حسا كالتأجيل فإنه مؤخر للمطالبة بالثمن إلى حين الأجل لا مانع سببه عن الانعقاد. وهو وجوب الدين؛ ولهذا لو أداه قبل الأجل صح وكشرط الخيار في البيع فإن تأثيره في تأخير حكم البيع وهو الملك إلى زمان وجود الشرط لا في منع انعقاد البيع سببا له بالاتفاق وكالإضافة في الطلاق المضاف نحو هي طالق يوم يقدم فلان فإنها مانعة من الحكم دون انعقاد السبب أيضا فيكون عدم الحكم فيما نحن فيه مضافا إلى عدم الشرط لا إلى العدم الأصلي الذي هو عدم السبب وهو نظير التعليق الحسي فإن تعليق القنديل بحبل من السقف يوجب وجوده في الهواء ويمنع وصوله إلى الأرض ولا يؤثر في ثقله الذي هو سبب السقوط بالإعدام، وإنما يؤثر في حكمه، وهو السقوط فكذا التعليق إذا دخل على علة شرعية لا يمنع من انعقادها، وإنما يمنع من حكمها لا غير حتى إذا وجد الشرط ترتب عليها حكمها كالقنديل إذا انقطع الحبل انجذب إلى أسفل وعمل الثقل عمله وهذا لأن السبب قد وجد حسا فلا يعقل إعدامه بخلاف الحكم فإن ثبوته عرف بالشرع فجاز أن يتعلق بالمانع الحكمي، وهو الشرط وسيجيء وجه قول أصحابنا والجواب عن هذا مفصلا.(21/362)
"وانبنى عليه" أي على هذا المبنى المختلف فيه الخلاف الآتي في الفروع الآتية فانبنى على أصلنا "صحة تعليق الطلاق والعتاق بالملك" أي بملك النكاح في الطلاق وبملك الرقبة في العتاق "عندنا" حتى لو قال لأجنبية: إن تزوجتك فأنت طالق ولأمة الغير إن ملكتك فأنت حرة فتزوج الأجنبية وملك الأمة طلقت وعتقت "وعدمه عنده" أي وانبنى على أصل الشافعي عدم اعتبار هذا التعليق فيهما عند الشافعي حتى لا تطلق بمجرد تزوجه بها ولا تعتق بمجرد ملكه إياها وإيضاح الوجه فيه أما بالنسبة إليه فلأن الفرض عنده انعقاد السبب في الحال حالة التعليق مع تأخير الحكم فيشترط قيام الملك حينئذ؛ لأن السبب لا يتحقق بدون محله، والملك غير قائم حالتئذ فلا انعقاد للسبب حينئذ فكان هذا لغوا كقوله لأجنبية: إن دخلت الدار فأنت طالق، ولأمة الغير: إن دخلت الدار فأنت حرة ثم وجد الشرط في الملك ,. وأما بالنسبة إلينا فلأن الفرض عندنا عدم انعقاد السبب بالتعليق فلم يشترط الملك الذي هو المحل بل كان قبل الشرط يمينا، ومحل الالتزام باليمين الذمة، وهي موجودة ثم الملك إنما يشترط لإيجاب الطلاق والعتاق حال وجود الشرط لا قبله، والملك حال وجود الشرط هنا متيقن، فإذا صح التعليق فيما هو حاصل حالة التعليق غير ثابت يقينا حال وجود الشرط بل ظاهر بالاستصحاب(21/363)
ص -173-…ففيما هو ثابت يقينا حالة وجود الشرط أولى، وهذا معنى قوله "بل الصحة" أي صحة تعليقهما بالملك "أولى منها" أي من صحة تعليقهما "حالة قيامه" أي الملك بأمر على خطر الوجود "للتيقن بوجود المحل عند الشرط" في هذا دون غيره "وكذا" انبنى على هذا المبنى المختلف فيه الاختلاف في حكم هذا الفرع، وهو "تعجيل المنذور المعلق" بشرط قبل الشرط كإن شفى الله مريضي فلله علي أن أتصدق بدرهم فقلنا "يمتنع عندنا" التعجيل به "خلافا له" أي للشافعي حتى لو تصدق بدرهم عن نذره قبل شفائه ثم شفي وجب عليه التصدق به حينئذ عندنا؛ لأنه على أصلنا يكون أداء قبل وجود السبب وهو غير جائز، ولا يجب عليه التصدق به عند الشافعي؛ لأنه على أصله يكون أداء بعد وجوب السبب وهو جائز.
"تنبيه" ثم هكذا وقع ذكر هذا الخلاف في حكم هذا الفرع للبزدوي وغيره وقيده غير ما شارح من جهته بالنذر المالي كمثالنا للاتفاق على أنه في البدني كالصلاة والصوم لا يجوز التعجيل فيه قبل وجود الشرط كما وقع له هذا التفصيل في الكفارة قبل الحنث ويذكر وجهه ثمة إن شاء الله - تعالى - وهو شاهد بصحته هنا فعلى هذا ينبغي أن يقال خلافا له في المالي.(21/364)
ثم غير خاف أن ما قيل مبتدأ خبره "غلط؛ لأن ما يدعيه الشافعي سببا ينتفي الحكم بانتفائه في الخلافية" التي هي هل يدل انتفاء الشرط على انتفاء الحكم دلالة لفظية أم لا قلنا: لا وقال: نعم إنما هو "معنى لفظ الشرط" وهو ما ينتفي الجزاء بانتفائه كما تقدم في بيان ما هو الأقرب لهم "لا الجزاء والخلاف المشار إليه" في أن الشرط مانع من انعقاد السبب كقولنا أو من الحكم فقط كقوله "هو أن اللفظ الذي يثبت سببيته شرعا لحكم إذا جعل جزاء لشرط" أي لما دخل عليه أداة دالة على سببية الأول ومسببية الثاني "هل يسلبه" أي الجعل المذكور اللفظ المذكور "سببيته لذلك الحكم قبل وجود الشرط". فقلنا: نعم وقال: لا فأين أحدهما من الآخر وهذا "كأنت طالق وحرة جعل" كل منهما شرعا "سببا لزوال الملك" أي ملك النكاح والرقبة ولولا السياق والسباق لفسرناه بملك النكاح فقط جاعلين أنت طالق سبب زواله بطريق الصراحة، وأنت حرة سبب زواله بطريق الكناية "فإذا دخل الشرط" عليهما كإن دخلت "منع" دخوله عليهما "الحكم" وهو زوال الملك لا غير من الوجود إلى وجود الشرط "عنده" أي الشافعي لا انعقاد السبب من السببية حالتئذ "وعندنا منع سببيته" أي كونه سببا حينئذ إلى حين وجود الشرط قصدا، وحكمه إلى وقتئذ أيضا تبعا "فتفرعت الخلافيات" المذكورة على هذين الأصلين كما بينا وجه تفريعها عليهما.
قال المصنف: وظهر أن محل كلام الشافعي أعم من كون المعلق مما اعتبر سببا لحكم شرعا كإن دخلت الدار فأنت طالق أو لا بل هو نفس الحكم الخبري ك {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا} [الجمعة: 9] {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3] أو غيره كإذا جاء فأكرمه يفيد نفي إكرامه إن لم يجئ فكيف يبنى ما هو أوسع دائرة على ما هو بعض صوره(21/365)
ص -174-…ألا يرى أنه لا يتصور أن يبتنى على ما ذكر ما إذا كان المعلق نفس الحكم ا هـ. وظهر أيضا أن محل كلام أصحابنا من أن عدم الشرط لا يوجب عدم المشروط لفظا بل هو باق على عدمه الأصلي ما لم يقم عليه دليل أعم من كون المعلق مما اعتبر سببا لحكم شرعا كإن دخلت فأنت حرة أم لا، وكأنه لم يفصح عن هذا كما أفصح في محل كلام الشافعي اكتفاء به؛ لأنه مقابله، والمدلول لا يجوز أن يكون أعم من الدليل، وأيضا هذا أمر لغوي فلا يتوقف اعتباره من حيث هو كذلك على تصرف لفظي من حيث يوجب أمرا شرعيا هو كذا أم لا على أنه ليس في كلام فخر الإسلام ما يفيد كون أحدهما مبنى الآخر فليراجع، ثم لما كان يظهر أن الخلاف في أن التعليق بالشرط يوجب العدم عن عدمه كما هو قول الشافعي أو يبقى الحكم على العدم الأصلي قبله كما هو قول أصحابنا مبني كما ذكره صدر الشريعة على أن الشافعي اعتبر الشروط بدون الشرط، والمشروط يوجب الحكم على جميع التقادير، والتعليق قيده بتقدير معين، أو عدمه على غيره فيكون له تأثير في العدم. وأصحابنا اعتبروا المشروط مع الشرط فهما كلام واحد يوجب الحكم على تقدير وساكت عن غيره، ولزم من هذا أن المعلق بالشرط انعقد سببا عنده كما لو لم يكن معلقا، وإنما التعليق أخر حكمه إلى زمان وجود الشرط، وأنه لم ينعقد سببا عندنا إلا عند وجود الشرط أشار المصنف إليه بقوله: "وإنما يتفرعان" أي هذان القولان "معا على الخلاف في اعتبار الجزاء من التركيب الشرطي مفيدا حكمه" أي حال كون الجزاء مفيدا حكم نفسه "على عموم التقادير" الممكنة له من زمان ومكان وغيرهما "خصصه" أي عموم التقارير "الشرط بإخراج ما سوى ما تضمنه" حكم الجزاء من عموم التقادير الثابت له قبل ذلك "عن ثبوت الحكم" الكائن له حال كونه "معه" أي مع الشرط، وملخصه أن الشرط قصر عموم التقادير التي لحكم الجزاء على بعضها، وهو ما قيد منها بالشرط فصار التركيب الشرطي دالا على حكم الجزاء المقيد(21/366)
بما اشتمل عليه من الشرط وعلى عدم حكمه بالنسبة إلى ما سواه "فيكون النفي" أي نفي حكم الجزاء عند عدم الشرط "مضافا إليه" أي الشرط "لأنه" أي الشرط "دليل التخصيص" فيكون كل من الثبوت والانتفاء حكما شرعيا ثابتا باللفظ منطوقا ومفهوما، ويكون الشرط مانعا من حكم الجزاء إلى حين الشرط لا من انعقاده سببا. وهذا ظاهر ما ذهب إليه السكاكي كما ذكره المحقق الشريف، لا أهل العربية كما ذكره المحقق التفتازاني من أن الحكم هو الجزاء وحده، والشرط قيد له بمنزلة الظرف والحال حتى إن الجزاء إن كان خبرا فالشرطية خبرية وإن كان إنشاء فإنشائية أو غير مفيد حكما في هذه الحالة فضلا عن الحكم على عموم التقادير بل إنما مجموع الشرط والجزاء كلام واحد دال على ربط شيء بشيء، وثبوته على تقدير ثبوته من غير دلالة على الانتفاء عند الانتفاء، وكل من الشرط والجزاء جزء منه كما صرح بمعنى هذا وبمن ذهب إليه بقوله: "وأهل النظر يمنعون إفادته شيئا" أي إفادة جزاء الشرط فائدة تامة "حال وقوعه" جزاء للشرط بدونه "بل هو" أي الجزاء "حينئذ" أي حين وقوعه جزاء للشرط في كونه غير مفيد فائدة تامة بدونه "كزاي زيد" من زيد حال كونه "جزاء الكلام المفيد" وإن كان الزاي من زيد ليس له معنى أصلا بخلاف(21/367)
ص -175-…الجزاء "فضلا عن إيجابه على عموم التقادير" أي عن أن يكون موجبا لحكمه على عموم التقادير حتى يكون تخصيصا وقصرا له على بعضها "والمجموع" أي بل مجموع الشرط والجزاء عندهم "يفيد حكما مقيدا بالشرط فإنما دلالته" أي المجموع "على الوجود" أي وجود الحكم "عند وجوده" أي الشرط ليس إلا "فإذا لم يوجد" الشرط "بقي ما قيد وجوده" من الحكم "بوجوده" أي الشرط مستمرا "على عدمه الأصلي" الكائن له قبل ذلك لعدم دليل ثبوته لا أنه حكم شرعي مستفاد من النظم فمال الشافعي إلى الأول، وأصحابنا إلى الثاني، وهو الصحيح؛ لأنه كما قال المحقق الشريف: لو كان معنى: إن ضربني زيد ضربته أضربه في وقت ضربه إياي لم يكن صادقا إلا إذا تحقق الضرب مع ذلك القيد فإذا فرض انتفاء القيد أعني وقت ضربه إياك لم يكن الضرب المقيد به واقعا فيكون الخبر الدال على وقوعه كاذبا سواء وجد منك ضرب في غير ذلك الوقت أو لم يوجد وذلك باطل قطعا؛ لأنه إذا لم يضربك ولم تضربه، وكنت بحيث إن ضربك ضربته عد كلامك هذا صادقا عرفا ولغة وإذا وقع الجزاء إنشاء كإن جاءك زيد فأكرمه كان مؤولا أي إن جاءك فأنت مأمور بإكرامه أو يستحق هو أن تؤمر بإكرامه على قياس تأويله إذا وقع خبرا للمبتدأ يظهر ذلك كله لمن تأمل أو {أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [قّ: 37]. ثم تقدم منع كون الانتفاء للانتفاء، ووجه كونه مؤخرا للحكم فقط ووعد رده وسيحصل الوفاء به قريبا إن شاء الله - تعالى.(21/368)
ثم لما نظم كثير كفخر الإسلام وصدر الشريعة جواز تعجيل كفارة اليمين بالمال من عتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم قبل الحنث عند الشافعي مع إبطاله تعليق الطلاق والعتاق بالملك وتجويزه تعجيل النذر المعلق تفريعا على ما تقرر من أن السبب عنده ينعقد قبل وجود الشرط وأثر الشرط في تأخير حكمه إلى زمان وجوده لا غير ولم يكن ذلك بالظاهر لم يذكره المصنف ثمة وذكره هنا مقرونا باعتذار لهم فيه ثم بالتعقب له فقال "وأما تفريع تعجيل الكفارة المالية" أي جواز تعجيلها لليمين "قبل الحنث" عند الشافعي على ما تقدم من أصله كما فعلوه "فقبل" لأنه مبناه "باعتبار المعنى" لأنه في معنى من حلف فليكفر إن حنث "ولا يخفى ما فيه" فإن سائر التكاليف المنوطة بأسبابها يتأتى فيها مثل هذا ولا قائل بأنها من هذا القبيل فالوجه عدم ذكره من أفراده ثم إنما قيدها بالمالية لموافقة جديدة على أن البدنية، وهي الصوم قبل الحنث لا يجوز، وفرق له بينهما بأن تأثير الشرط في تأخير وجوب الأداء والحق المالي لله - تعالى - ينفصل وجوب أدائه عن نفس وجوبه لتغاير المال والفعل فجاز اتصاف المال بنفس الوجوب، ولا يثبت وجوب الأداء الذي هو الفعل إلا بعد الحنث كما في الحق المالي للعبد بخلاف الحق البدني لله فإنه لا ينفصل وجوب أدائه عن نفس وجوبه بل نفس وجوبه وجوب أدائه فلو تأخر وجوب أدائه هنا انتفى الوجوب فلا يجوز الأداء؛ لأنه أداء قبل الوجوب حينئذ. ومن ثمة جاز تعجيل الزكاة قبل الحول، ولم يجز تعجيل الصلاة قبل الوقت "والأوجه خلاف قوله" أي الشافعي في هذه المسألة، وهو قولنا "لعقلية سببية الحنث" لكفارة اليمين "لا اليمين" أي دون عقلية سببية اليمين لها؛ لأن الكفارة في التحقيق لستر ما وقع(21/369)
يقع "واحدة" سواء نواها أو الثنتين أو لم ينو شيئا "والثلاث بالنية لا الثنتان" وإن نواهما قال المصنف رحمه الله تعالى "ولا يخفى أن المتفرع" في هذه الصورة "تعداد الأفراد" للمأمور به وعدم تعدادها "وليس" تعدادها "التكرار" للفعل "ولا ملزومه" أي التكرار "للتعدد" في الأفراد "والفعل واحد في التطليق ثنتين وثلاثا" فإن فيه تعدد الطلاق مع عدم تكرر فعل المطلق "فهو" أي تعدد الأفراد "لازم للتكرار أعم" منه لصدقه مع التكرار وعدمه "فلا يلزم من ثبوت التعدد ثبوته" أي التكرار "ولا من انتفاء التكرار انتفاؤه" أي التعدد "فهي" أي هذه الصورة وأمثالها غير مبنية على هذا المبتنى بل هي مسألة "مبتدأة" هكذا "صيغة الأمر لا تحتمل التعدد المحض لأفراد مفهومها فلا تصح إرادته" أي التعدد المحض منها "كالطلاق" أي كما لا يصح إرادة الطلاق "من اسقني، خلافا للشافعي" فإنه ذهب إلى أنها تحتمله وإنما قلنا لا تحتمله "لأنها مختصرة من طلب الفعل بالمصدر النكرة" حتى كان قائل: طلق أوقع طلاقا "وهو" أي المصدر النكرة "فرد فيجب مراعاة فردية معناه فلا يحتمل ضد معناه" وهو التعدد المحض للمنافاة بينهما لأن الفرد ما لا تركب فيه، والعدد ما تركب من الأفراد، فإن قيل: فينبغي أن لا تصح إرادة الثنتين في قوله: طلقي نفسك، لزوجته الأمة، ولا إرادة الثلاث في قوله هذا لزوجته الحرة كما لا تصح إرادة الثنتين فيه لها، فالجواب المنع "وصحة إرادة الثنتين في الأمة والثلاث في الحرة للوحدة الجنسية" فيهما لأنهما كل جنس طلاقهما، إذ لا مزيد له في حق الأمة على الثنتين وفي حق الحرة على الثلاث فكان كل منهما فردا واحدا من أجناس التصرفات الشرعية، فيقع بالنية "بخلاف الثنتين في الحرة لا جهة لوحدته" فيها لا حقيقة ولا حكما "فانتفى" كونه محتمل اللفظ فلا ينال بالنية. والحاصل أن الفرد الحقيقي موجبه والفرد الاعتباري محتمله، والعدد لا موجبه ولا محتمله، والأصل أن موجب اللفظ(21/370)
يثبت باللفظ ولا يفتقر إلى النية ومحتمل اللفظ لا يثبت إلا إذا نوى، وما لا يحتمله لا يثبت وإن نوى لأن النية لتعيين محتمل اللفظ لا لإثباته. قال المصنف: "وبعد أنه لا يلزم اتحاد مدلول الصيغة وتعدده" أي مدلولها بل قد يكون واحدا، وقد يكون متعددا "فقد يبعد نفي الاحتمال" أي احتمال التعدد "لثبوت الفرق لغة بين أسماء الأجناس المعاني وبعض" أسماء الأجناس "الأعيان، إذ لا يقال لرجلين رجل، ويقال للقيام الكثير قيام، كالأعيان المتماثلة الأجزاء كالماء والعسل فإذا صدق الطلاق على طلقتين كيف لا يحتمله" أي الطلاق هذا العدد الصادق عليه؟ "لكنهم" أي الحنفية "استمروا على ما سمعت" من عدم الاحتمال "في الكل" أي أسماء الأجناس المعاني والأعيان حتى قالوا تفريعا على ذلك "فلو حلف: لا يشرب ماء انصرف إلى أقل ما يصدق عليه" ماء وهو قطرة عند الإطلاق "ولو نوى مياه الدنيا صح فيشرب ما شاء" منها ولا يحنث لصدق أنه لم يشربها "أو" قدرا من الأقدار المتخللة بين الحدين كما لو نوى "كوزا لا يصح" ذلك منه لخلو المنوي عن صفة الفردية حقيقة وحكما، والله سبحانه أعلم.(21/371)
ص -176-…من الإخلال بتوفير ما يجب لاسم الله - تعالى وتلافيه، وهذا إنما يكون عن الحنث لا عن اليمين من حيث هي، وأيضا أقل ما في السبب أن يكون مفضيا إلى المسبب، واليمين ليست كذلك؛ لأنها مانعة من عدم المحلوف عليه فكيف تكون مفضية إليه "وإن أضيفت" الكفارة "إليه" أي الحلف "في النص" أي قوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] فإنها من إضافة الحكم إلى شرطه توسعا "كإضافة صدقة الفطر" أي الإضافة التي في صدقة الفطر "عندنا" فإن عندنا الفطر شرطها وسببها رأس يمونه ويلي عليه كما يأتي في موضعه على أنه لو سلم أن اليمين سببها فالحنث شرط وجوبها للقطع بأنها لا تجب قبله وإلا وجبت بمجرد اليمين، والمشروط لا يوجد قبل شروطه فلا تقع واجبة قبله فلا يسقط الوجوب قبل ثبوته، ولا عند ثبوته بفعل قبله لم يكن واجبا. وما وقع من الشرع بخلافه كالزكاة يقتصر على مورده، ولا يلحق به غيره، والفرق بين المالي والبدني ساقط؛ لأن الحق الواجب لله - تعالى - على العباد هو العبادة وهو فعل يباشره المرء بخلاف هوى النفس ابتغاء مرضاة الله - تعالى بإذنه، والمال آلة يتأدى به الواجب كمنافع البدن فيكون المالي كالبدني في أن المقصود بالوجوب الأداء، وأن تعليق وجوب الأداء بالشرط يمنع تمام السببية فيهما جميعا على أن وجوب الأداء بعد تمام السبب قد ينفصل عن نفس الوجوب في البدني أيضا فإن المسافر إذا صام في رمضان جاز اتفاقا، وإن تأخر وجوب الأداء إلى ما بعد الإقامة بالإجماع ثم نقول: "ووجهه" أي ما ذهبنا إليه من أن الشرط مانع من انعقاد سببية ما علق عليه لحكمه "أولا أن السبب" للحكم هو "المفضي إلى الحكم" والطريق المؤدي إليه "والتعليق" أي وتعليق الجزاء المفروض سببيته في نفسه لحكم بشرط "مانع من الإفضاء" أي إفضائه إلى حكمه قبل وجود الشرط "لمنعه" أي التعليق "من المحل" أي وصول المعلق إلى محله وهو وقوع حكمه في الحال. "والأسباب الشرعية لا تصير(21/372)
قبل الوصول إلى المحل أسبابا" لعدم الإفضاء كما لا تكون قبل تمامها أسبابا كمجرد إيجاب البيع فيما يملكه فإنه لا يكون سببا لملك الغير ذلك المبيع "فضعف قوله" أي الشافعي "السبب" لوقوع الطلاق في إن دخلت فأنت طالق "أنت طالق والشرط" الذي هو إن دخلت "لم يعدمه" أي كونه سببا "فإنما أخر" الشرط "الحكم" أي حكم السبب لأنه قد ظهر أن سبب الحكم ما يكون مفضيا إليه، والشرط هنا قد حال بينهما فلم يكن سببا "وأورد" علينا إذا كان مثلا إن دخلت مانعا من وصول أنت طالق إلى محله ما لم يوجد الدخول "فيجب أن يلغو" أنت طالق فيه فلا يقع وإن دخلت "كالأجنبية" أي كما لو قاله منجزا لأجنبية بجامع عدم الوصول إلى المحل فيهما "وأجيب لو لم يرج" الوصول إلى محل بأن علق بشرط لا يرجى الوقوف عليه "لغا كطالق إن شاء الله" فإن مشيئته - تعالى - فيما لا يعلم وقوعه لا علم للعباد بتعلقها به فنحن قائلون بالموجب في هذا "وغيره" وهو ما كان مرجو الوصول إلى محله "بعرضية السببية" لحكمه في المستقبل بوجود شرطه "فلا يلغو تصحيحا" له بسبب هذه الصلاحية كشطر البيع، فإنه لما كان بعرضة أن يصير سببا بوجود الشطر الآخر في المجلس لم يلغ ما دام ذلك مرجوا له "وثانيا" أي ووجه قولنا ثانيا: أن السبب إذا علق بالشرط "توقف(21/373)
ص -177-…على الشرط" ضرورة "فصار" السبب المعلق به "كجزء سبب" لما مر، وجزء السبب لا يكون سببا. ومن هنا زعم بعض الشافعية أن التعليق صير المجموع من الشرط وما كان سببا مستقلا قبله عندنا ورده الشيخ سراج الدين الهندي لأن الشرط ما عنده وجود الشيء ولا يكون مؤثرا، والسبب ما به الشيء، ويكون مؤثرا فلا يصير الشرط جزءا للسبب لتنافي موجبهما وهذا "بخلاف" ما ألحق الشافعي التعليق به من "البيع المؤجل" فيه الثمن "وبشرط الخيار والمضاف كطالق غدا" فإن كلا منهما "سبب في الحال" أما في البيع المؤجل فيه الثمن "لأن الأجل دخوله على الثمن" ليفيد تأخير المطالبة به قبل الأجل "لا" على "البيع" فلا معنى لمنعه من الانعقاد، ولا لحكمه الذي هو ثبوت الملك في المبيع، وثبوت الدين في الذمة عن الثبوت؛ إذ لا وجه لتأثير الشيء فيما لم يدخل عليه، وأما البيع بشرط الخيار على الاختلاف في كمية مدته فمسلم أن الشرط فيه داخل على الحكم فقط لكن لأمر اقتضى ذلك لم يوجد هنا كما أشار إليه قوله "والخيار" أي شرعيته نصا في البيع ثابت "بخلاف القياس لدفع الغبن" أي النقص المتوهم فيه باستيفاء النظر والتروي في اختيار ما هو الأصلح في زمانه كما هو المعنى المعقول من شرعيته إجماعا، وإن اختلف في أقصى مدته، وإنما كان على الخلاف القياس "لأن إثبات ملك المال" الذي هو البيع "لا يحتمل الخطر" أي التعليق بما بين أن يكون وأن لا يكون "لصيرورته قمارا" وهو حرام ثم حيث شرع وكان المعنى المعقول من شرعيته التمكن من دفع الغبن الواقع فيه "فاكتفى باعتباره" أي الشرط "في الحكم" أي حكم البيع، وهو لزومه ابتداء، ولم يعتبر في السبب الذي هو البيع أيضا فينعقد البيع بشرط الخيار سببا ويتراخى الحكم إلى سقوطه لحصول المقصود من التمكن من الرد بدون رضا صاحبه بهذا القدر؛ لأن الضرورة متى أمكن دفعها بأيسر الأمرين لا يصار إلى أعلاهما. والشافعي موافقنا على هذا فإنه قال: والأصل في بيع(21/374)
الخيار أنه فاسد ولكن لما شرط رسول الله صلى الله عليه وسلم في المصراة خيار ثلاث في البيع، وروي أنه جعل لحبان بن منقذ خيار ثلاث فيما ابتاع انتهينا إلى ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ا هـ. هذا التحقيق أحد الجوابين عن هذا.
"والحق أنه" أي انعقاد البيع بالخيار سببا في الحال مع تأخر الحكم إلى سقوطه "مقتضى اللفظ؛ لأن الشرط بعلى لتعليق ما بعده" أي ما يذكر بعد اللفظ على بما قبله "فقط فآتيك على أن تأتيني المعلق إتيان المخاطب" على إتيان المتكلم بخلاف الشرط بإن وأخواتها كما ترى في آتيك إن أتيتني فإن المعلق إتيان المتكلم على إتيان المخاطب وإذ كان كذلك "فبعتك على أني" أو أنك أو أننا "بالخيار أي في الفسخ فهو" أي الفسخ "المعلق والبيع منجز فتعلق الحكم" الذي هو اللزوم وثبوت الملك "دفعا للضرر" عمن له الخيار "لو تصرف" من ليس له الخيار دون السبب الذي هو البيع لخلوه عن الموجب لتعلقه فلا حاجة إلى التوجيه المذكور، وهذا هو الجواب الثاني ثم ما تقدم من أن البيع لا يحتمل التعليق لما ذكرنا "بخلاف الطلاق والعتاق" فإن كلا "إسقاط محض يحتمله" أي الشرط لعدم أدائه إلى القمار فيعمل فيه بالأصل وهو أن يكون داخلا على السبب فلا يتأخر حكمه عنه، ويكون تعليقا من كل وجه كما هو(21/375)
ص -178-…الكامل؛ إذ الأصل الكمال، والنقصان لعارض ولا عارض هنا "وإن كان العتاق إثباتا لكنه ليس إثباتا لملك المال" بل إثبات قوة شرعية هي قدرة على تصرفات شرعية من الولايات كالشهادة والقضاء وإنكاح نفسه وابنته الممنوع منها بالرق فلا يكون دخول الشرط عليه مؤديا إلى القمار "فبطل إيراد أنه إثبات أيضا" كما في التلويح ليترتب عليه عدم صحة دخول الشرط عليه فلا يلحق البيع بالخيار بهما في أن الشرط داخل عليهما ثم هنا أمران يحسن التنبه لهما:(21/376)
الأول: منعهم صحة تعليق ما هو إثبات ملك المال لشبهة بالقمار بما فيه من الخطر فعلل الشبه به في البيع بالخيار بدخوله على الحكم فقط تعقبه المصنف في فتح القدير بلقائل أن يقول: القمار ما حرم لمعنى الخطر بل باعتبار تعليق الملك بما لم يضعه الشارع سببا للملك فإن الشارع لم يضع ظهور العدد الفلاني في ورقة مثلا للملك، والخطر طرد في ذلك لا أثر له نعم يتجه أن يقال: اعتبرناه في الحكم تعليلا لخلاف الأصل ا هـ. وأقول ولقائل أن يقول سلمنا أن القمار حرم لكون الشارع لم يضعه سببا للملك لكن الظاهر أنه ليس بأمر تعبدي محض بل لاشتماله على أمر معقول يصلح مناطا للتحريم فإذ لم يظهر أنه الخطر فلعله ما فيه من إذهاب المال لا في مقابلة غرض صحيح عند العقلاء، وتملكه على صاحبه كذلك ثم كون الخطر فيه أمرا طرديا لا يمنع ثبوته علة لفساد ما دخل عليه في باب إثبات ملك المال بالنظر إلى النهي عن أمور أخرى اشتمل عليها وخيل فيها عليته للتحريم كالنهي عن بيع الملامسة والمنابذة والحصاة، وقد صرح المصنف بذلك في الكلام على النهي عنها فقال: ومعنى النهي كل من الجهالة وتعليق التمليك بالخطر فإنه في معنى إذا وقع حجري على ثوب فقد بعته منك أو بعتنيه بكذا ا هـ غير أنه ظهر أن منع التعليق في إثبات ملك المال كالبيع لما فيه من احتمال الخطر المفضي إلى الفساد شرعا لا إلى القمار كما قالوه، والظاهر أن بحث المصنف إنما هو في مجرد دعوى كون احتماله الخطر مفضيا إلى القمار ليس غير والله - تعالى – أعلم.(21/377)
الثاني: أن المفسر بإثبات القوة الشرعية إنما هو الإعتاق وهو المذكور في التلويح، وأما العتق والعتاق فإنهما مفسران بخلوص حكمي عما كان ثابتا فيه بالرق، ويلزمه ثبوت قوة شرعية لقدرته بسبب هذا على ما لم يقدر عليه فعن هذا يقال: إنه القوة الشرعية إلا أن بعض المشايخ تسامحوا بإطلاق العتاق موضع الإعتاق وأجروا عليه ما هو بالحقيقة للإعتاق ملزوما ولازما من أنه إسقاط، وإثبات لظهور المراد في هذا المقام فوافقهم المصنف على ذلك وأما الإضافة فمسلم كونها غير مانعة كون المضاف سببا في الحال لكن لا يصح إلحاق التعليق بها في ذلك؛ لأن الغرض منه امتناع المتكلم أو غيره من مباشرة الشرط وعدم نزول الجزاء؛ لأنه كما قال "والتعليق يمين وهي" أي اليمين تعقد "للبر إعدام موجب المعلق" لا وجوده "فلا يفضي إلى الحكم" أي فلا يصل المعلق بالتعليق إلى الحكم قبل وجود المعلق عليه استحالة أن يكون مانع الشيء طريقا إليه كما تراه ظاهرا في إن دخلت الدار فأنت طالق "أما الإضافة(21/378)
ص -179-…فلثبوت حكم السبب في وقته" أي لتعين زمان وقوعه "لا لمنعه" أي الحكم من الوقوع فالغرض من أنت حر يوم الجمعة تعيين يوم الجمعة لوقوع الحرية فيه لا منعها من الوقوع "فيتحقق" في الإضافة "السبب بلا مانع إذ الزمان" المضاف إليه "من لوازم الوجود" للحكم أو السبب غير مؤثر في نفي أحدهما، ولا وجود فلا يستقيم إلحاق التعليق بها في ذلك "ويرد" على إطلاق ما علل به منع التعليق من سببية المعلق سلمنا أن التعليق يمين لكن "كون اليمين توجب الإعدام" لموجب المعلق إنما هو "في المنع" أي إذا كانت للمنع من المعلق عليه كإن دخلت فأنت طالق. "أما الحمل" أي أما إذا كانت للحمل على التلبس بالمعلق عليه "فلا" توجب الإعدام لموجب المعلق "كإن بشرتني بقدوم ولدي فأنت حر" وكيف لا، وظاهر أن غرض المتكلم في هذا حث عبده على المبادرة إلى إدخال المسرة عليه بإخباره بوصول محبوبه إليه، لا منعه من ذلك فلا يتم إطلاق كون التعليق مانعا من إفضاء المعلق إلى الحكم، والإطلاق هو المطلوب "فالأولى" في التفرقة بين كون الإضافة غير مانعة من سببية المضاف قبل وجود المضاف إليه، وكون التعليق مانعا منه سببية المعلق قبل وجود المعلق عليه "الفرق بالخطر وعدمه" أي بأن في وجود المعلق عليه خطرا أي ترددا بخلاف المضاف.(21/379)
قلت: ولعل توجيهه أن الأصل في التعليق أن لا يكون إلا في المتردد بين الوقوع وعدمه فأورث ذلك شكا في تحقق المعلق فلم ينعقد سببا؛ لأن الشيء لا يثبت بالشك، ولا سيما مع سابقة العدم، وفي الإضافة أن لا يكون إلا إلى ما هو محقق الوقوع، والفرض أن المضاف وجد وفرع منه صورة ومعنى، وأنه إنما لم يعقبه حكمه لا غير لعروض هذا العارض فلا يكون مؤثرا فيه الإعدام، فلا يستقيم إلحاق أحدهما بالآخر في لازم ما هو مقتضى الأصل فيه إلا بمقتض، وهو منتف بالأصل، ويوافقه ما في شرح للبزدوي. فإن قلت فما الفرق بينهما قلت الحكم لا بد له أن يترتب على علته إما في الحال أو متراخيا في الإضافة، وهذا لم يوجد في الشرط؛ لأنه على خطر الوجود فإن قلت في الإضافة إنما يثبت الحكم عند وجود الوقت المستقبل إذا بقي المحل فأما إذا لم يبق فلا يمكن ترتب الحكم على علته يقينا. قلت: الأصل في كل ثابت بقاؤه فإذن الحكم مترتب على علته في الإضافة ظاهرا فإن قلت ففيما إذا علق بأسباب الملك كالنكاح والملك ينبغي أن تنعقد العلة في الحال؛ لأن الحكم مترتب على علته قطعا كما في الإضافة بل أولى قلت: إلا أن ثم مانعا آخر، وهو عدم الملك في الحال، والعلة لا تنعقد إلا في محلها لكن يطرق هذا الفرق - أيضا - أنه كما قال "ثم يقتضي" هذا الفرق "كون" أنت حر "يوم يقدم فلان كإن قدم في يوم" عينه كيوم الجمعة فأنت حر في حكمه وهو أن لا يكون أنت حر فيه سببا للحرية في الحال؛ لأن القدوم فيهما على خطر الوجود "ويستلزم" التساوي بينهما في الحكم المذكور "عدم جواز التعجيل" بالصرفة "فيما لو قال: علي صدقة يوم يقدم فلان" لأنه حينئذ تعجيل قبل سبب الوجوب لوجود الخطر في المضاف، والتعجيل قبل سبب الوجوب غير مسقط للواجب بعد وجوبه "وإن كان" هذا النذر مذكورا "بصورة إضافة" كما رأيت لكن ظاهر إطلاق قولهم: المضاف(21/380)
ص -180-…سبب في الحال، ويجوز تعجيل حكمه قبل وجود الزمان المضاف إليه، والمعلق ليس بسبب في الحال ولا يجوز تعجيل حكمه قبل وجود ما علق عليه يقتضي أن يفارق أنت حر يوم يقدم فلان. قوله: إن قدم فلان فأنت حر في الحكم، وهو أن يكون أنت حر في الأول سببا للحرية في الحال، وفي الثاني ليس بسبب في الحال، وأن يجوز التعجيل في لله علي صدقة يوم يقدم فلان، ولا يجوز التعجيل في: إن قدم فلان فلله علي صدقة، وهذا الفرع الأخير في شرح الطحاوي "وكون إذا جاء غد فأنت حر كإذا مت فأنت حر" أي ويقتضي هذا الفرق أيضا تساوي هاتين المسألتين في حكم الثانية الذي هو عدم جواز بيعه وإن كان تدبيرا مطلقا؛ لأنه من خصوص المادة وذلك لوجود المقتضي، وهو أنت حر وارتفاع المانع المفروض المشار إليه بقوله "لعدم الخطر" في كل؛ لأن كلا من الغد والموت أمر كائن ألبتة "فيمتنع بيعه قبل الغد" في الأولى "كما يمتنع قبل الموت" في الثانية "لانعقاده" أي أنت حر في كل "سببا" لحرية المخاطب "في الحال على ما عرف" من صلاحيته سببا ناجزا للتحرير عند انتفاء المانع لكونه طريقا مفضيا إليه مع فرض انتفاء المانع. "لكنهم" أي الحنفية "يجيزون بيعه" في الأولى "قبل الغد، والأجوبة" المذكورة في شروح الهداية وغيرها "عنه" أي عن جواز بيعه في الأولى قبل الغد ومنع بيعه في الثانية مطلقا "ليست بشيء" يفيد فرقا مؤثرا بينهما لهذه التفرقة بل حيث خصصت الدعوى بجعل المعلق على ما لا خطر فيه مثل المضاف في ثبوت سببه في الحال ينبغي أن يتساويا في عدم جواز بيعه مطلقا لعدم الخطر فيهما فلا جرم أن ذكرها في فتح القدير متعقبا لها فمنها منع كون الغد كائنا لا محالة لجواز قيام القيامة قبل الغد وتعقبه بأن هذا إنما يستقيم إذا كان التعليق بمجيء الغد بعد وجود شرائط الساعة من خروج الدجال ونزول عيسى صلى الله عليه وسلم وغيرهما أما قبل ذلك فليس بصحيح بل مجيء الغد محقق كالموت، ومنها أن الكلام في(21/381)
الأغلب فيلحق الفرد النادر به وتعقبه بأن هذا اعتراف بالإيراد على أن كون التعليق بمثل مجيء الغد ورأس الشهر غير صحيح أيضا، ومنها أن التعليق الذي هو التدبير وصية، والوصية خلافه في الحال كالوارثة. وتعقبه بأنه يرد عليه أنه يجوز الرجوع عن الوصية، والتدبير المطلق لا يجوز الرجوع عنه فلم يتم هذا الفرق بين الإضافة والتعليق أيضا.
قلت: ولقائل أن يقول للفارق بهذا الفرق أن يلتزم كون أنت حر يوم يقدم فلان كإن قدم في يوم كذا فأنت حر في كون أنت حر ليس سببا للحرية في الحال وحقية استلزامه عدم جواز التعجيل بالصدقة في مثل الصورة المذكورة، ويوافقه ما في شرح للبزدوي فإن قلت فلو قال لها أنت طالق إن مت أو إن مت ينبغي أن يكون من باب الإضافة قلت نعم هو من باب الإضافة كما لو قال لها أنت طالق إن جاء يوم الجمعة وهذا لأن العبرة للمعاني لا للألفاظ وعكسه لو قال لها أنت طالق حين قدوم زيد أو حين دخولك الدار ا هـ. أقول ويشهد له قولهم الحوالة بشرط مطالبة المحيل كفالة والكفالة بشرط عدم مطالبة الأصيل حوالة وما في نكاح مجموع النوازل وتعليق النكاح بشرط معلوم للحال يجوز ويكون تحقيقا بأن قال(21/382)
ص -181-…للآخر: زوجني ابنتك فقال قد زوجتها قبل هذا من فلان فلم يصدقه الخاطب فقال أبو البنت: إن لم أكن زوجتها من فلان فقد زوجتها منك وقبل الآخر فظهر أنه لم يكن زوجها ينعقد هذا النكاح؛ لأن التعليق بشرط كائن تحقيق ألا ترى أنه لو قال لامرأته: أنت طالق إن كان السماء فوقنا، أو الأرض تحتنا فإنها تطلق في الحال؛ لأن هذا تعليق بشرط كائن فيكون تنجيزا، وما في فوائد صاحب المحيط قال لغريمه إن كان لي عليك دين فقد أبرأتك وللطالب عليه كذا دينارا صح الإبراء؛ لأنه تعليق بشرط كائن فيكون تنجيزا إلى غير ذلك مما عمل فيه بجانب المعنى دون الصورة فلا بدع في أن يحمل قولهم: الإضافة لا تمنع سببية المضاف على ما إذا كانت الإضافة إلى ما لا خطر فيه كما هو الأصل فيها والتعليق مانع من سببية المعلق في الحال على ما إذا كان المعلق فيه خطر كما هو الأصل فيه والله - سبحانه وتعالى - أعلم.(21/383)
هذا وإنما لم أقل المراد بقول المصنف لانعقاده سببا في الحال على ما عرف يعني في باب التدبير من أنه لا بد لثبوت الملك وزواله من الأهلية لهما والموت سالب لهذه الأهلية فامتنع أن يجعل قوله المذكور حال حياته سببا بعد موته فلزمت سببيته في الحال وإلا انتفت أصلا لكنها لم تنتف شرعا فثبت ما قلنا؛ لأن هذا ونحوه يفيد أن سببية القول المذكور للحرية في الحال في باب التدبير إنما تثبت ضرورة زوال الأهلية إذا وجد المعلق عليه وحينئذ يقال: عليه لا يصح إلحاق إذا جاء غد فأنت حر إذا مت فأنت حر في ثبوت السببية في الحال لأن ثبوتها في مسألة التدبير للضرورة المذكورة وما ثبت للضرورة يتقدر بقدرها وهي منتفية في إذا جاء غد فأنت حر لانتفاء المانع المذكور؛ إذ ليس موت القائل بمظنون قبل الغد فضلا عن كونه محققا ويكون الجواب بهذا لمن استشكل هذا الفرع على مسألة التدبير دافعا للإشكال، ولا يحتاج إلى الجواب بشيء من الأجوبة الماضية ثم أنى يكون الفرق بين الإضافة والتعليق بالخطر وعدمه مستلزما المساواة إذا جاء غد فأنت حر لإذا مت فأنت حر في عدم جواز البيع قبل الغد كما قبل الموت مع الإعراض عن جعل المناط في مسألة التدبير عدم الخطر بل ضرورة تصحيح قول المدبر شرعا، وهي منتفية في المقيسة فليتأمل.(21/384)
"وقيل: المراد بالسبب في نحو قولنا: المعلق ليس سببا في الحال والعلة، وفي المضاف" أي وبالسبب في قولنا: المضاف سبب في الحال "بسبب المفضي وهو" أي السبب المفضي "السبب الحقيقي" كما يذكر في موضعه "وحينئذ" أي حين إذ يكون المراد بالسبب فيهما ذلك "لا خلاف" في المعنى بين نفي السببية عن المعلق، واثباتها للمضاف ليكون بينهما تقابل الإثبات والسلب؛ لأن المنفي عن المعلق ليس المثبت للمضاف بل غيره حتى يصح نفي السببية عنه بالمعنى الذي نفيتها به عن المعلق كما يصرح به "وارتفعت الإشكالات" السالفة فيقال: عدم جواز التعجيل في إن قدم فلان فعلي صدقة لعدم وجود علة الوجوب وجواز التعجيل في لله علي صدقة يوم يقدم فلان لوجود السبب الحقيقي كما في تعجيل زكاة النصاب قبل الحول وجواز بيع العبد قبل الغد في: إذا جاء غد فأنت حر لعدم وجود علة(21/385)
ص -182-…عتقه. ثم كان مقتضى هذا جواز بيع المدبر المطلق قبل الموت كما قاله الشافعي إلا أنه لما منعت السنة من بيعه لزم لضرورة ذلك انعقاد السببية له في الحال كما بيناه فلا يقاس عليه غيره "وصدق المضاف ليس سببا أيضا في الحال بذلك المعنى" وهو العلة الحقيقية لانتفاء ترتب الحكم عليه في الحال "إلا أن اختلاف الأحكام" لهما "حيث قالوا: المضاف سبب في الحال" لحكمه "فجاز تعجيله" أي حكمه إذا كان عبادة سواء كانت بدنية أو مالية أو مركبة منهما كما هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأنه تعجيل بعد وجود سبب الوجوب خلافا لمحمد فيما عدا المالية ولزفر في الكل. "والمعلق ليس سببا في الحال" لحكمه "فلا يجوز تعجيله" أي حكمه مطلقا بالاتفاق "بنفيه" أي نفي الخلاف بين نفي السببية عن المعلق وإثباتها للمضاف؛ لأن اختلاف الأحكام التي هي اللوازم يوجب اختلاف دلائلها التي هي الملزومات.(21/386)
هذا غاية ما ظهر لي في توجيه هذا الكلام، ولي فيه نظر أما أولا فالمعروف المتداول بين مشايخنا أن المراد من قولهم: المعلق ليس بسبب في الحال أنه ليس من قبيل ما يطلق عليه اسم السبب حقيقة لانتفاء معناه، وهو الإفضاء إلى الحكم من غير أن يضاف إليه وجوب، ولا وجود، ولا يعقل فيه معنى العلل، ولا من قبيل ما يطلق عليه اسم السبب مجازا باعتبار أنه في معنى العلة لانتفاء ذلك كما يعلم في موضعه نعم يطلق عليه أنه علة مجازا لكونه علة اسما، وله شبه بالعلة الحقيقية، وسبب مجازا باعتبار ما يئول إليه أيضا، وأن المراد من قول الشافعي: إنه سبب أنه من قبيل الأسباب التي فيها معنى العلل، وأن الإيجاب المضاف عندهم علة اسما ومعنى لا حكما وهو يشبه السبب فمن أين لهذا القائل أن المراد بقولهم المذكور: ما ذكره، وإن كانت العلة الحقيقية منتفية عن المعلق قبل الشرط إذ لا موجب للاقتصار على أنها منتفية مع عدم الخلاف في ذلك مع أن العلة التي هي علة معنى وحكما منتفية عنه أيضا عندنا مع أنا لسنا في هذا المقام إلا بصدد بيان ما فيه الخلاف لا الوفاق وكأن هذا القائل لاحظ تقرير كشف الأسرار وما حذا حذوه لقولنا: المعلق بالشرط لا ينعقد سببا في الحال بخلاف الإضافة بما يوهم هذا كما يعرف ثمة ولم يستحضر ما قرروه من تقسيم السبب والعلة إلى الأقسام المعروفة لهم في ذلك بمثلها كما سيأتي استيفاؤه إذا أفضت النوبة إليه. وأما ثانيا فعلى تقدير ما قاله هذا القائل لا يرتفع الخلاف بين قولهم: المعلق ليس بسبب في الحال والمضاف سبب في الحال؛ لأنه وإن صدق أيضا أن المضاف ليس سببا بالمعنى المذكور للسبب المنفي في "المعلق ليس سببا" لا يصدق أن المعلق سبب بالمعنى المذكور للسبب المثبت في "المضاف سبب" لوجود الواسطة بينهما كما عرفت ثم ليس غرض القائل بأن التعليق بالشرط لا يمنع السببية من إلحاق المعلق بالمضاف في ذلك إلا إلزام القائل بأن التعليق به يمنع السببية في(21/387)
الحال لا إلزامه بإثبات السببية في المعلق كما المخالف قائل بذلك في المضاف بالمعنى الذي هو المراد بالسببية في المضاف، وعلى هذا التقدير الذي ظنه صاحب هذا القول لا يتأتى هذا ثم من هنا اختلفت أحكامهما فالأقرب أن الفارق بينهما المانع من إلحاق أحدهما بالآخر إنما هو الخطر وعدمه، وقد ظهر أنه لا ضير في التزام ما يلزم ذلك فليتأمل.(21/388)
ص -183-…ثم قد وضح انتفاء النظيرية بين تعليق القنديل والتعليق الحقيقي الذي هو محل النزاع فإنه بان أنه لا يتحقق في الموجود والممتنع بل في معدوم يتصور وجوده، والتعليق الحسي إنما يكون لأمر موجود فالتعليق فيه لا يكون لابتداء وجوده عند المعلق عليه بل نقلا له من مكان إلى مكان ومع انتفاء المماثلة لا تصح المقايسة بل نظيره من الحسيات الرمي فإنه ليس بقتل ولكن بعرض أن يصير قتلا إذا اتصل بالمحل فإذا حال بينه وبين الوصول إلى المحل ترس منع الرمي من انعقاده علة للقتل لا أنه منع القتل مع وجود سببه، والله - سبحانه وتعالى – أعلم.
مسألة(21/389)
"من المفاهيم" المخالفة كما تقدم "مفهوم اللقب نفاه الكل إلا بعض الحنابلة وشذوذا" كابن خويز منداد من المالكية وكالدقاق والصيرفي وأبي حامد المروروذي من الشافعية "وهو" أي مفهوم اللقب "إضافة نقيض حكم" مسمى "معبر عنه" أي المسمى، وجاز حذفه أولا وعود الضمير إليه ثانيا لقرينة "باسمه" حال كونه "علما أو جنسا إلى ما سواه" أي المسمى، ولا فرق بين أن يكون الحكم خبرا أو طلبا "وقد يقال: العلم والمراد الأعم" أي يقتصر على ذكر العلم، ويراد به ما يعم نوعيه علم الشخص، وعلم الجنس واسم الجنس وهو ما ليس بصفة مجازا مشهورا عند أهل هذه العبارة، وهم الحنفية حيث قالوا: التنصيص على الشيء باسمه العلم لا يدل على نفي الحكم عما عداه كما تجوز غيرهم في إطلاق اللقب مريدا به الاسم الأعم منه، وهو ما يشمله والكنية والاسم القسيم لهما واسم الجنس. وإذا ظهر المراد فلا مشاحة ثم المشهور عن القائلين به عدم الفرق بين أسماء الأشخاص والأجناس وحكى ابن برهان أنه حجة في أسماء الأنواع كالغنم لا الأشخاص كزيد "والمعول" في نفيه "عدم الموجب" للقول به كما مضى في نفي مفهوم المخالفة مطلقا "وللزوم ظهور الكفر" فضلا عن الكذب "من نحو محمد رسول الله" فإنه يلزم منه رسالة غيره قيل ووقع الإلزام به للدقاق في مجلس النظر ببغداد فتوقف "وفلان موجود" فإنه يلزم منه نفي وجود واجب الوجود - تعالى "وهو" أي لزوم الكفر من هذين وأضرابهما "منتف" بالإجماع قطعا فالقول بما يفضي إليه باطل قطعا، وأورد إنما يلزم إذا تحقق شرائط مفهوم المخالفة، وهو هنا ممنوع لجواز كون التخصيص بالذكر لقصد الإخبار برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ووجود فلان ولا طريق إلى ذلك إلا بالتصريح بالاسم، وأجيب بأنه حينئذ لا يتحقق مفهوم اللقب أصلا؛ لأن هذه الفائدة حاصلة في جميع الصور. وإنما قال: ظهور لأن دلالة المفهوم بحسب الظهور لا القطع "واستدل" على نفيه "بلزوم انتفاء القياس" على تقدير القول(21/390)
به كما اعتمده البيضاوي وغيره لكن القياس حق فالمفضي إلى إبطاله باطل فالقول بمفهوم اللقب باطل، بيان اللزوم أن النص الدال بمنطوقه على حكم الأصل إن تناول الفرع ثبت الحكم فيه بالنص وإلا دل على انتفاء الحكم فيه قضاء لحق المفهوم؛ إذ الفرض حقيته وأيا ما كان فلا قياس.
"والجواب" لا نسلم أن النص إذا لم يتناول الفرع وقيل بانتفاء الحكم فيه ينتفي القياس؛(21/391)
ص -184-…لأن القياس يستدعي مساواة الفرع للأصل في المعنى الذي ثبت الحكم به في الأصل فلا جرم "إذا ظهر المساواة" بينهما فيه فقد ظهرت في الحكم أيضا فيتعارضان لاقتضاء كل غير ما يقتضيه الآخر ثم "قدم" القياس عليه اتفاقا "لزيادة قوته" فلم يلزم إبطال القياس ولا نفي المفهوم "قالوا" أي القائلون بمفهوم اللقب: "لو قال لمخاصمه: ليست أمي زانية أفاد" قوله هذا "نسبته" أي الزنا "إلى أمه" أي المخاصم ولذا قال مالك وأحمد: يجب الحد على القائل إذا كانت عفيفة، ولولا أن تعليق الحكم بالاسم يدل على نفيه عما عداه لما تبادر إلى الفهم نسبة الزنا إليها، ولما وجب الحد عندهما إذ لا موجب للتبادر والحد وغيره. "أجيب بأنه" أي المتبادر المذكور "بقرينة الحال" وهي الخصام الذي هو مظنة الأذى والتقبيح فيما يورد فيه غالبا، وليس هذا من المفهوم الذي يكون اللفظ ظاهرا فيه لغة بشيء، وإنما لم يحد عند الحنفية والشافعية؛ لأن مفيد نسبة الزنا إليها ليس بقطعي فكان في ثبوتها شبهة يندرئ الحد بمثلها ثم لما مضى عد دلالة إنما على الحصر من مفهوم المخالفة وكان الظاهر خلافه ترجم بيانه بمسألة جعل موضوعها أحد جزأي معنى الحصر وهو النفي عن غير المذكور؛ لأن الجزء الآخر الذي هو الإثبات للمذكور لا خلاف في أن دلالتها عليه منطوقا فقال:
مسألة(21/392)
"النفي في الحصر بإنما لغير الآخر" أي نفي الحكم الثابت للمحصور فيه وهو ما يذكر آخرا عن غيره بإنما "قيل بالمفهوم" قاله أبو إسحاق الشيرازي في جماعة "وقيل بالمنطوق" قاله القاضي أبو بكر والغزالي، قال المصنف "وهو الأرجح ونسب للحنفية عدمه" أي النفي عن غير المحصور فيه وأنها تفيد الإثبات لا غير. "فإنما زيد قائم كأنه قائم" في عدم دلالته على نفي غير القيام عن زيد إذ من الظاهر أن في: إنما زيد قائم من التأكيد ما يزيد على: إن زيدا قائم ثم هذا مختار الآمدي وأبي حيان ونسبه إلى النحويين البصريين ونسبه إلى الحنفية صاحب البديع وتعقبه المصنف بقوله "وتكرر منهم" أي الحنيفة "نسبته" أي الحصر إلى إنما معنى لها كما في كشف الأسرار والكافي وجامع الأسرار وغيرها "وأيضا لم يجب أحد من الحنفية بمنع إفادتها" أي إنما الحصر "في الاستدلال "بإنما الأعمال بالنيات" الثابت في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "على شرط النية في الوضوء" بما ملخصه: الوضوء عمل، ولا عمل إلا بالنية فلا وضوء إلا بالنية أما الصغرى فظاهرة، وأما الكبرى فللحديث المذكور "بل بتقدير الكمال أو الصحة" أي بل إنما أجابوا بما حاصله أن حقيقة عموم الأعمال غير مرادة للقطع بوجود بعضها بلا نية كعمل الساهي فالمراد حكمها، وهو إما أخروي وهو الثواب والعقاب ويعبر عنه بالكمال، أو دنيوي، وهو الاعتبار الشرعي ويعبر عنه بالصحة والأخروي مراد اتفاقا فلا يجوز إرادة الدنيوي معه أيضا إما؛ لأن ثبوته بالاقتضاء والمقتضى لا عموم له. وهذا طريق القاضي أبي زيد ومن وافقه، وإما لأن اللفظ صار مجازا عن نوعين مختلفين لوجود الصحة، ولا ثواب والفساد، ولا عقاب فيكون مشتركا بينهما بالوضع النوعي، والمشترك لا عموم له، وهذا طريق شمس الأئمة السرخسي وفخر الإسلام وأخيه ومن تابعهم(21/393)
ص -185-…فلا يصح التشبث بالحديث على اشتراط النية في الوضوء ثم لما كان يطرق هذا الجواب منع كون الثواب مرادا اتفاقا، وإن اتفق على عدم الثواب بدون النية؛ لأن موافقة الحكم للدليل لا تقتضي إرادته وثبوته به ليلزم عموم المقتضى أو المشترك، وأيضا لا نسلم أن الحكم مشترك بين النوعين اشتراكا لفظيا بل هو موضوع لأثر الشيء ولازمه فيعم الجواز والفساد والثواب والإثم كما يعم الحيوان الفرس والإنسان، فإرادة النوعين لا تكون من عموم المشترك، وكان التزام أن المراد بالأعمال صحتها - كما قاله المخالف - هو الوجه، ولا يلزم منه ضرر في مطلوب الحنفية تممه المصنف على هذا الطريق فقال: "وهو" أي تقدير الصحة "الحق"؛ لأنه المجاز الأقرب إلى الحقيقة من الكمال إليها ولم يقم ما يقدمه عليه فيتعين. وإنما قلنا: لا يضرهم لأن الإجماع على أن الأعمال في الحديث مخصوصة بما ليس بعبادة فاللازم من الاستدلال به لا يصح الوضوء عبادة إلا بالنية حتى كان الشافعي يقول: الوضوء عبادة، وكل عبادة لا تصح إلا بالنية فالوضوء لا يصح إلا بالنية وحينئذ فللحنفية أن يقولوا إن كان المراد: كل وضوء عبادة فلا نسلمها، أو بعض الوضوء عبادة فنسلمها، ونقول: "ولا يصح الوضوء عبادة إلا بالنية لكن منعوا توقف صحة الصلاة على وضوء هو عبادة كباقي الشروط" فيسلكون في الجواب القول بالموجب.(21/394)
وللعبد الضعيف في هذا المقام بحث ذكرته في حلبة المجلي فعدم منعهم كون إنما تفيد الحصر في الحديث دليل ظاهر على قولهم بإفادتها ذلك قلت لكن لقائل أن يقول إنما يتم هذا أنه لو كان مطلوب المخالف يتوقف على ثبوت ذلك لها وليس كذلك لانتهاض تعريف الأعمال به، فإن أداة التعريف فيها للعموم لعدم العهد، وعليه مشى ابن الحاجب في الجواب عن الاحتجاج بهذا الحديث على إفادة إنما للحصر حيث قال في المنتهى: وأما "إنما الأعمال بالنيات" "وإنما الولاء لمن أعتق" فالحصر بغير إنما لما فيه من العموم. ومن ثمة استدل صاحب الهداية على افتراض النية في الصلاة بالحديث المذكور بدون إنما كما هو رواية ثابتة رواها الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى وغيره وحينئذ فقد كان الأولى ترك هذه العلاوة نعم في كشف الأسرار وجامع الأسرار التصريح بكونها في الحديث مفيدة لذلك
"لنا" على إنما للحصر، وأنها للنفي عن غير الآخر منطوقا أنه "يفهم منه" أي إنما "المجموع" من الإثبات والنفي كما هو ظاهر متبادر من موارد لا تحصى كقوله - تعالى -: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ} [طه: 98] "فكان" إنما لفظا موضوعا "له" أي للمجموع كما صرح به علماء المعاني لأن الأصل في الفهم تبعه للوضع ثم كما أنه للإثبات منطوقا فللنفي كذلك؛ لأن المجموع معنى واحد مطابقي لها فلا تكون دلالته على النفي مفهوما؛ لأن اللفظ يدل على كل من جزأي معناه تضمنا من جهة واحدة.
فإن قيل: كيف يفيد النفي منطوقا، وأداته المعهود إفادتها إياه كذلك غير موجودة فالجواب أن ذلك غير ممتنع "وكون النافي المعهود" لإفادة النفي منطوقا كما ولا "منتفيا لا(21/395)
ص -186-…يستلزم نفيه" أي كونها دالة على نفي الحكم عن غير الآخر منطوقا "لأن موجب الانتقال" أي انتقال الفهم من النافي إلى معناه الذي هو النفي منطوقا هو "الوضع" أي وضع اللفظ له، والمعلوم ذلك للفاهم بقرينة التبادر "لا بشرط لفظ خاص" حتى إذا لم يوجد ذلك المعنى، وإذا كان كذلك، فكما جاز أن يفيده أداة مخصوصة لوضعها له خاصة جاز أن يفيده غيرها لوضعه له ولغيره معا، وكما كان الفهم على ذاك الوجه دليل الوضع له فكذا يكون الفهم هنا على هذا الوجه دليل الوضع لهما كذلك، ولا يقال: هذا لا يكفي للمطلوب لأن غاية ما يفيد أنه يفهم من إنما النفي عن الغير ولا يلزم منه أن يكون لوضع اللفظ له بالذات ليكون مستفادا منه منطوقا بل يجوز أن يكون لوضعه له في الجملة فيكون مستفادا منه مفهوما ومع الاحتمال يسقط الاستدلال؛ لأنا نقول: ما قدمناه ظاهر في أنه منطوق "وكون فهمه" أي النفي منه "لا يستلزمه" أي كونه بالمنطوق "لجوازه" أي فهمه "بالمفهوم لا ينفي الظهور"، ونحن إنما نقول هو ظاهر في ذلك ثم كيف يصح أن يكون بالمفهوم. "ولو ثبت" كونه كذلك "كان بمفهوم اللقب" لصدقه عليه حينئذ "وهو" أي مفهوم اللقب "منفي" اتفاقا أو إلزاما فلا يصح للقائلين بأنه بطريق المفهوم القول بثبوته حينئذ أصلا، فإن قلت: مثل جواز إنما زيد قائم لا قاعد بخلاف ما زيد إلا قائم لا قاعد، ومثل: إن صريح النفي والاستثناء يستعمل عند إصرار المخاطب على الإنكار بخلاف إنما من الأمارات الدالة على أنه مفهوم لا منطوق كما ذكره المحقق التفتازاني قلت: الذي صرح به الشيخ عبد القاهر وقال المتأخرون: إنه الأقرب نفي حسن مجامعة لا العاطفة للنفي والاستثناء لا نفي الصحة، وتصريح المفتاح بعدم الصحة متعقب كما قال الإمام الطيبي بأنه إن كان دعوى مستنده إلى الوضع فلا بد من ذكرها وبيانها وإن كان بطريق المعنى فلم لا يجوز إجراؤه على التأكيد على أن جار الله أكثر من هذا التركيب في الكشاف منه(21/396)
قوله في قوله تعالى {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} [آل عمران: 14] أي المزين لهم حبه ما هو إلا شهوات لا غير ا هـ. على أنه يجوز أن يكون هذا منه بالنظر إلى ما يقتضيه علم البلاغة لا العربية؛ إذ لا يقوم دليل على امتناع ذلك من حيث العربية لا صورة ولا معنى، ومن ثمة ساغ في عبارة المصنفين من الأعيان وليس الكلام إلا فيما هو مفادها في الاستعمال العربي بحسب الوضع لغة، ومما يزيده وضوحا أن السكاكي شرط في صحة مجامعة النفي بلا العاطفة لإنما أن لا يكون الوصف بعد إنما مما له في نفسه اختصاص بالموصوف المذكور وعللوه بعدم الفائدة في ذلك عند الاختصاص فهذا يفيد أن ليس علة المنع كون النفي منطوقا، ولا علة الجواز كونه مفهوما على ما في هذا التعليل من بحث وقد ظهر من هذا أيضا اندفاع التشبث بالإمارة الثانية على أنه بالمفهوم لا بالمنطوق على أنا لسنا نقول: النفي المستفاد من إنما منطوقا كالمستفاد من ما في سائر الوجوه، وإن قالوا: السبب في إفادتها القصر تضمنها معنى ما وإلا لأنه كما قال الشيخ عبد القاهر: لم يعنوا به أن المعنى في إنما هو المعنى في ما وإلا بعينه وأن سبيلهما سبيل اللفظين يوضعان لمعنى واحد، وفرق بين أن يكون في الشيء معنى الشيء وبين أن يكون الشيء الشيء على الإطلاق قلت: ومما يشهد بهذا(21/397)
ص -187-…اختلاف ما ولا بمعنى ليس ولنفي الجنس وليس في كثير من الأحكام كما عرف في العربية مع أنه لا قائل بأن النفي في شيء منها مفهوم، ولا منطوق، وبهذا يظهر منع كون النفي في إنما غير صريح، والإيجاب فيها صريحا وأنه لا حاجة إلى دعوى ذلك بل الوجه أن كلا منطوق صريح
"تنبيه" والأصح أن أنما بالفتح كإنما بالكسر "وأما الحصر باللام للعموم" أي التي لاستغراق الجنس الداخلة على أحد جزأي الكلام سواء كان صفة كالعالم أو اسم جنس كالرجل مقدما في الذكر أو مؤخرا في الجزء الآخر بشرط أن يكون أخص منه بحسب المفهوم علما كان كزيد أو غير علم كالجار والمجرور كما أشار إلى جملة هذا بقوله "والآخر أخص كالعالم والرجل تقدم أو تأخر فلا ينبغي أن يختلف فيه" لفهم ذلك منه ظاهرا حتى إن من خالف فيه فقد ارتكب ما لا يحسن ارتكابه "ولو نفى المفهوم" المخالف فإنه لا يتوقف ثبوته على ثبوته كما سيظهر "بخلاف" ما اشتمل على مسند ومسند إليه أحدهما علم، والآخر صفة معرفة بالإضافة نحو "صديقي زيد" فإنه إنما يفيد الحصر إذا كان على هذا الوضع لا "إذا أخر" الاسم الصفة عن العلم كأن يؤخر صديقي عن زيد فإنه لا يفيد الحصر حينئذ "لانتفاء عمومه" أي عموم الاسم الصفة المضاف من حيث هو كصديقي فإنه ليس من ألفاظ العموم. قال المصنف رحمه الله تعالى: وإذا لم يحسن الاختلاف في حصر ما فيه اللام كما ذكرنا لزم أن لا يحسن الاختلاف في إفادة النفي؛ لأن الحصر مركب من إثبات ونفي "ويندرج" كون كل من المعرف وصديقي في التركيب الخاص دالا على النفي عن الغير الذي هو جزء معنى الحصر "في بيان الضرورة عند الحنفية؛ إذ ثبوت الجنس برمته لواحد بالضرورة ينتفي عن غيره" فهو من القسم الأول منه؛ لأنه يلزم جعل جميع ما صدق عليه العالم هو زيد وما صدق عليه زيد هو جميع ما صدق عليه العالم في: زيد العالم، والعالم زيد نفي وجود ما صدق للعالم غير زيد وما صدق لزيد غير العالم ضرورة فرض صدق كون(21/398)
جميع ما صدق عليه زيد هو العالم وجميع ما صدق عليه العالم هو زيد نعم إفادة الحصر فيهما كغيرهما قد يكون حقيقة إما مطلقا ك: الله الخالق، والخالق الله وخالقي الله، وإما بالنظر إلى عرف خاص مثل: واليمين على المدعى عليه. وقد يكون مبالغة وادعاء كما هو كثير بثير في المحاورات الخطابية إما بجعل ما عدا المقصور عليه من ذلك الجنس بلغ من النقصان مبلغا انحط به عنه، وعن أن يسمى به فهو فيما عدا المقصور عليه كالعدم، وإما بجعل المقصور عليه قد ارتقى في الكمال إلى حد صار معه كأنه الجنس كله، ونحن لم ندع إفادة اللام المذكورة للحصر إفادتها له حقيقة مطلقا في كل مورد بل على هذا الوجه التفصيلي، ولم يصرح به للعلم به، وقد ظهر من هذا أنه يصح أيضا القول بالحصر بناء على أن اللام للحقيقة كما نص عليه غير واحد، وعدم صحة نفي كون اللام في مثل: العالم زيد لاستغراق الجنس لعدم صحة كل عالم زيد، وإن قول المانع لإفادته الحصر إنما يفيد المبالغة بمعنى أن زيدا هو الكامل والمنتهي في العلم كما نص سيبويه على أن اللام في الرجل للمبالغة، ومعناه الكامل في الرجولية يفيد كون الخلاف بيننا(21/399)
ص -188-…وبينه في مثله لفظيا، وأن قول المانع أيضا لو أفاد العالم زيد الحصر لأفاد عكسه أيضا صحيح ملتزم. ومنع صحة اللازم ممنوع، ودعوى منع المساواة بينهما غير مسلمة بل إنما التفاوت بينهما من حيث إن المعرف إن جعل مبتدأ فهو مقصور على الخبر وإن جعل خبرا فهو مقصور على المبتدأ كما عرف في علم المعاني، وأشرنا إليه آنفا ثم ممن ذهب إلى أن مثل هذا كيفما دار يفيد الانحصار السكاكي والطيبي "وتكرر من الحنفية مثله" أي هذا القول "في نفي اليمين عن المدعى بقوله عليه السلام: "واليمين على من أنكر" ففي الهداية جعل جنس الأيمان على المنكرين، وليس وراء الجنس شيء وفي الاختيار جعل جنس اليمين على المدعى عليه؛ لأنه ذكره بالألف واللام وذلك ينفي ردها على المدعي "وغيره" أي: وفي غير نفي اليمين عن المدعي، ويمكن أن يكون منه ما يقود إليه كلامهم في وجه الاستدلال لكون أدنى مدة السفر الشرعي ثلاثة أيام ولياليها بقوله صلى الله عليه وسلم: "يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليها" على ما عرف في موضعه فبطل عد كون الحصر في مثل العالم زيد من مفهوم المخالفة. ونفي قول مشايخنا به كما ذكره صاحب البديع.(21/400)
هذا، وقال المصنف رحمه الله تعالى وحاصل ما أراده أنه خالف التفصيل المذكور في طريق ابن الحاجب وغيره بين تقدم المعرف فيفيد الحصر وتأخيره فلا يفيده كزيد العالم وحكم بأنهما سواء في إفادة الحصر بناء على نسبة الحصر للضرورة بسبب العموم كما في اليمين على المنكر فإذا كان كل يمين على المنكر لزم أن لا يبقى يمين على غيره، وهذا الموجب لا يختلف بتقديم معروضه وتأخيره ثم هذا الموجب، وهو العموم منتف في صديقي؛ لأنه ليس إلا ذات متصفة بصداقتي فلا عموم فيه نفسه فلزم أن لا حصر إذا تأخر ففارق ذا اللام حيث جعله في التأخير يفيده وسكت عن تقدمه، ومفهوم شرطه يفيد أنه يفيد الحصر حينئذ، وإذ بين أن لا عموم فيه كإن حصره بطريق آخر ألبتة وهي عنده التقديم فإنه يفيده كما في {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] لأن صديقي موضعه التأخير؛ لأنه خبر عن زيد فإذا قدم كان الحصر فائدة التقديم ا هـ. قلت: وهو حسن إلا إن جعل صديقي زيد مفيدا للحصر بما ذكره إنما يتم على قول الإمام فخر الدين الرازي في مثله أن الاسم متعين للابتداء تقدم أو تأخر لدلالته على الذات، والصفة متعينة للخبر تقدمت أو تأخرت لدلالتها على أمر نسبي؛ لأن معنى المبتدأ المنسوب إليه، ومعنى الخبر المنسوب والذات هي المنسوب إليها، والصفة هي المنسوب فسواء قيل: زيد صديقي أو صديقي زيد يكون زيد مبتدأ وصديقي خبرا لكن الجمهور على أن المبتدأ في مثل هذا المقدم كائنا ما كان حيث لا قرينة معرفة لكون الخبر المقدم وأجابوا: بأنا لا نجعل اسم الصفة مبتدأ إلا حال كونه مرادا به الذات الذي له تلك الصفة غاية الأمر أن الذات وصفت بانتساب أمر نسبي إليه، وهذا لا يوجب تعينه ليكون مسندا فيلزم أن يكون خبرا ولا نجعل اسم الذات كزيد خبرا إلا حال كونه مرادا به مفهوم مسمى بزيد فيكون الوصف مسندا إلى الذات دون العكس ومن ثمة علق الظرف به في قوله تعالى {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ} [الأنعام:(21/401)
3] أي المعبود فيها أو المعروف بالإلهية، والله - تعالى - أعلم.(21/402)
ص -189-…وقوله "والتشكيك بتجويز كونه" أي المحصور باللام "لواحد ولآخر غير مقبول" رد لما في شرح الشيخ سراج الدين الهندي للبديع من أن الوجه في أن "العالم زيد" يفيد الحصر دون "زيد العالم" بعد القول بأن اللام في العالم للحقيقة حيث قال لأنه يكون معنى قولنا: العالم زيد هذه الحقيقة من حيث هي زيد فينحصر فيه بالضرورة ولم يوجد في غيره؛ لأن زيدا ذات معينة ولا يمكن حمله على الحقيقة إلا بكونه عينها فكانت مخصوصة به إذ لو وجد في غيره لما كان عينها بخلاف عكسه وهو زيد العالم؛ لأن معناه العالم ثابت له وثبوته لا يقتضي أن يكون عينه لجواز كونه صفة لغيره ا هـ. ووجه عدم القبول ظاهر مما تقدم "وقد حكي" في إفادة مثل: العالم زيد الحصر أي جزأه الذي هو النفي عن الغير؛ لأنه لا شبهة في ثبوت الإيجاب نطقا كما قلنا مثله في إنما: ثلاثة أقوال حكاها ابن حاجب وغيره أحدها "نفيه" أي الحصر وعزاه صاحب البديع إلى المذهب "وإثباته مفهوما" أي وثانيها أنه يفيدها مفهومه "ومنطوقا" أي وثالثها أنه يفيد منطوقا "واستبعد" هذا "لعدم النطق بالنافي" ذكره المحقق التفتازاني "وعلمت في إنما أن لا أثر له" أي لعدم النطق بالنافي في كون النفي ثابتا باللفظ منطوقا فلا يتم الاستبعاد نظرا إلى هذا الوجه "بل وجهه" أي هذا الاستبعاد "عدم لفظ يتبادر منه" النفي "لأن اللام للعموم فقط" أو للحقيقة فقط، وأيا ما كان فليس النفي جزأه "فإنما يثبت" النفي عن الغير فيه "لازما لإثباته" أي العموم لواحد لا غير أو الحقيقة له وهذا "بخلاف إنما" فإنه يتبادر من لفظها النفي فكان جزء معناها كما تقدم ثم لما كان ما تقدم من أن الحصر باللام للعموم لا ينبغي أن يختلف فيه مظنة أن يقال أنى يكون ذلك، وقد قال المحقق التفتازاني في هذه المسألة: وأما المنطقيون فيأخذون بالأقل المتيقن فيجعلونه في قوة الجزئية أي: بعض المنطق زيد على ما هو قانون الاستدلال قدره المصنف مجيبا عنه بقوله(21/403)
"وما نسب إلى المنطقيين من جعلهم إياه" أي ذا اللازم التي للعموم "جزئيا ينفيه ما حقق من أن السور ما دل على كمية الموضوع" إن كليا فكلي وإن جزئيا فجزئي، وما ذكروه من الأسوار لم يقصدوا به الانحصار وإذا كان كذلك "فذو اللام" التي للعموم "مسور بسور الكلية" لكونه دالا على العموم الاستغراقي، وكل ما يدل عليه فهو سور الكلية كما أفاده أبو علي في الإشارات.
تقسيم اللفظ المفرد باعتبار ظهور دلالته
"التقسيم الثاني" في اللفظ المفرد "باعتبار ظهور دلالته إلى ظاهر ونص ومفسر ومحكم فمتأخر والحنفية ما" أي اللفظ الذي "ظهر معناه الوضعي" للسامع "بمجرده" أي اللفظ أي بنفس سماعه بلا قرينة إذا كان من أهل اللسان حال كونه "محتملا" لغير معناه الظاهر احتمالا مرجوحا "إن لم يسق" الكلام "له أي ليس" سوق معناه المذكور "المقصود من استعماله فهو" أي اللفظ المفرد "بهذا الاعتبار" وهو كون معناه الوضعي ظاهرا للسامع بنفس سماع اللفظ مع احتماله لغيره احتمالا مرجوحا غير مسوق له هو "الظاهر" اصطلاحا من الظهور وهو الوضوح فالمعروف الاصطلاحي، وما في التعريف اللغوي فلا يلزم تعريف الشيء بنفسه، وتقييد الظهور بنفس اللفظ احتراز عما ظهر المراد به لا بنفس اللفظ كالمجمل إذا لحقه البيان(21/404)
ص -190-…"وباعتبار ظهور ما سيق له" أي واللفظ المفرد باعتبار وضوح معناه المسوق له بواسطة السوق له زيادة على ظهوره بمجرد سماعه "مع احتمال التخصيص" إن كان عاما "والتأويل" إن كان خاصا "النص" اصطلاحا، وإنما كان السوق مفيدا لزيادة الوضوح؛ لأن اهتمام المتكلم ببيان ما قصده بالسوق أتم، واحترازه عن الغلط والسهو فيه أكمل، ومن هنا ناسب أن يسمى هذا نصا إما من نصصت الشيء رفعته؛ لأن في ظهوره ارتفاعا على ظهور الظاهر، أو من نصصت الدابة إذا استخرجت منها بالتكليف سيرا فوق سيرها المعتاد؛ لأن في ظهوره زيادة حصلت بقصد المتكلم لا بنفس الصيغة كالزيادة الحاصلة من سير الدابة بتكليفها إياها لا بنفسها من حيث هي "ويقال" النص "أيضا لكل سمعي" كائن ما كان قولا شائعا والمميز بين المرادين من إطلاقه القرينة والفرق بينهما أنه بالمعنى الأول أخص مطلقا منه بالمعنى الثاني "ومع عدم احتماله غير النسخ" أي واللفظ المفرد باعتبار ظهور معناه فوق ظهور النص من حيث إنه مع ذلك لا يحتمل غير النسخ "المفسر" اصطلاحا وسمي به؛ لأنه لما جاوز الظاهر والنص في ظهورهما المذكور، وكان التفسير مبالغة الفسر، وهو الكشف سمي به حملا له على كماله الذي هو الانكشاف بلا شبهة "ويقال": المفسر "أيضا لما بين" المراد منه "بقطعي" كالخبر المتواتر "مما فيه خفاء من الأقسام الآتية" للمفرد باعتبار خفاء دلالته ما عدا المتشابه منها وهو الخفي والمشكل والمجمل لما ستعلم من أن المتشابه لا يلحقه البيان في هذا الدار على ما هو المختار.(21/405)
واعلم أن ظاهر هذا أن المفسر يطلق على معنيين مختلفين في الحكم كالنص، وأن الفرق بين المفسر بالمعنى الأول وبينه بالمعنى الثاني العموم والخصوص من وجه فهو بالمعنى الأول أعم منه بالمعنى الثاني من حيث إنه بالمعنى الأول يتناول ما بحيث لا يحتمل شيئا غير النسخ مما لم يسبق له خفاء كما يتناول ما بيانه بقطعي مما سبق له خفاء من الأقسام المذكورة إذا كان لا يحتمل شيئا غير النسخ وأخص منه باعتبار أنه لا يتناول ما يحتمل التخصيص والتأويل سواء احتمل مع ذلك النسخ، أو لا وسواء كان ذلك مما بين بقطعي مما سبق له خفاء أم لا وهو بالمعنى الثاني أعم منه بالمعنى الأول من حيث إنه بالمعنى الثاني يتناول ما بيانه بقطعي مما سبق له خفاء من الأقسام المذكورة إذا كان يحتمل التخصيص والتأويل والنسخ كما أنه يتناول ما بيانه بقطعي مما سبق له خفاء من الأقسام المذكورة إذا كان لا يحتمل شيئا غير النسخ، وأخص منه باعتبار أنه لا يتناول إلا ما بين بقطعي مما فيه خفاء من الأقسام المشار إليها فتأمله لكن الظاهر أن المفسر عندهم اللفظ باعتبار ظهور معناه فوق ظهور النص بحيث لا يحتمل شيئا غير النسخ كما ذكرنا آنفا وأنه لا إطلاق له على ما يخالف هذا اصطلاحا، وأن إطلاقه على ما بين بقطعي مما فيه خفاء من الأقسام المذكورة بشرط أن لا يحتمل شيئا غير النسخ وحينئذ فهو من إطلاق الكلي على فرد من أفراده كما يفيده قول فخر الإسلام وأما المفسر فما ازداد وضوحا على النص سواء كان بمعنى في النص أو بغيره بأن كان مجملا فلحقه بيان قاطع فانسد به باب التأويل أو عاما فلحقه ما انسد به باب التخصيص مأخوذ مما(21/406)
ص -191-…ذكرنا ا هـ. ومن ثمة قال فاضل من شارحيه: يعني المجمل الذي لحقه البيان المذكور إنما يصير مفسرا إذا لم يكن المعنى الذي عرف ببيان المجمل قابلا للتخصيص والتأويل ا هـ ويعني وأن يكون محتملا للنسخ كما صرح به نفس فخر الإسلام بعد هذا، ويذكره المصنف أيضا عنه وكذا كون ما بين بقطعي مما فيه خفاء على وجه لا يبقى معه احتمال التأويل والتخصيص نوعا من المفسر ظاهر من كلام صاحب التقويم وشمس الأئمة السرخسي وهؤلاء وإن لم يكونوا من المتأخرين فلم يظهر من المتأخرين ما يخالفهم في هذا نعم في ميزان الأصول: وأما حده عند المتكلمين، وأهل الأصول ما ظهر به مراد المتكلم للسامع من غير شبهة لانقطاع احتمال غيره بوجود الدليل القطعي على المراد، وكذا يسمى مبينا ومفصلا لهذا ثم قال وقد يسمى الخطاب والكلام مفسرا ومبينا بأن كان مكشوف المراد من الأصل بأن لم يحتمل إلا وجها واحدا كما يقع على المشترك والمشكل والمجمل الذي صار مراد المتكلم معلوما للسامع بواسطة انقطاع الاحتمال والإشكال ا هـ.
وهذا وإن كان ظاهره أن المفسر له معنيان لكن لا كما ذكره المصنف بل حاصله أن المعنى له عند التفصيل نوعان ما كان مكشوف المراد من الأصل بأن لم يحتمل إلا وجها واحدا، وما كان المراد منه غير مكشوف أولا ثم صار مكشوفا بما لحقه من البيان القطعي المزيل لاحتمال غير ذلك المعنى، ولم يتعرض لاشتراط احتمال النسخ إما بناء على ما عليه المتقدمون من عدم اشتراطه كما سيأتي وليس الكلام الآن في اصطلاحهم، وإما للعلم به؛ لأنه الفصل المميز له من المحكم إن كان على ما عليه المتأخرون من اشتراطه والله - سبحانه - أعلم.(21/407)
"وإن" بين المراد مما فيه خفاء من الأقسام المذكورة "بظني" كخبر الواحد والقياس "فمؤول" اصطلاحا سمي به إما لما فيه من صرفه عن ظاهر حاله أو من رجوعه من بعض احتمالاته إلى بعض منها بخصوصه، والتأويل لغة يدور على ذلك ثم ليس المراد أن المؤول محصور فيما ذكر؛ لأن الظاهر والنص إذا حمل على بعض محتملاته صار مؤولا بلا خلاف ذكره في التحقيق، والمراد: إذا حمل على محتمل له غير ظاهر منه بدليل ظني يوجب ذلك، وسيأتي في هذا مزيد كلام في التقسيم الثالث من الفصل الرابع "ومع عدمه في زمانه صلى الله عليه وسلم" أي واللفظ المفرد باعتبار ظهور معناه فوق ظهور معنى المفسر من حيث إنه مع ذلك لا يحتمل النسخ في زمان حياة النبي صلى الله عليه وسلم "المحكم" وهو "حقيقة عرفية" خاصة للأصوليين "في المحكم لنفسه" عند الإطلاق كالآيات الدالة على وحدانية الله تعالى وصفاته "والكل" أي وكل من هذه الأقسام الأربعة "بعده" أي بعد وفاته صلى الله عليه وسلم "محكم لغيره" لعدم احتماله النسخ بانقطاع الوحي "يلزمه" أي إطلاق المحكم عليه لا المحكم لعينه منها "التقييد" لغيره "عرفا" خاصا أصوليا تمييزا بين الصنفين بعد اشتراكهما في أصل المعنى اللغوي وهو الإتقان على وجه يؤمن فيه التبديل والانتقاض وإنما لزمه دون الأول لأن هذا المعنى في الأول أبلغ وأقوى فجعل المطلق للأكمل والتقييد لما ليس كذلك ثم يجب التنبه هنا لأمرين:(21/408)
ص -192-…أحدهما: قد عرف أن زيادة الوضوح في النص على الظاهر بكونه مسوقا لبيان المراد. وأما زيادة الوضوح في المفسر والمحكم فيكون بوجوه مختلفة كأن كان الكلام في نفسه مما لا يحتمل التأويل ولا النسخ أو لحقه قول أو فعل قاطع لاحتمال التأويل أو اقترن به ما يمنع التخصيص أو يفيد الدوام والتأبيد ذكره في التلويح
ثانيهما: إن قلت ينبغي أن تكون الزيادة المعتبرة في المحكم بالنسبة إلى المفسر زيادة القوة كما هو صنيع فخر الإسلام ومن تبعه لا زيادة الوضوح كما ذكره صدر الشريعة وغيره أما أولا فلأنه المناسب للأحكام وعدم احتمال النسخ. وأما ثانيا فلأن المفسر إذا بلغ من الوضوح بحيث لا يحتمل الغير أصلا فلا معنى لزيادة الوضوح عليه نعم يزداد قوة بواسطة تأكيد وتأييد يندفع عنه احتمال النسخ والانتقاض ومن ثمة تعقب صدر الشريعة بهذا كما في التلويح قلت ليس بين فخر الإسلام وصدر الشريعة مخالفة في المقصود أما أولا فلأنه لو كان كذلك للزم أن تكون أقسام هذا التقسيم ثلاثة للاتفاق على أنه لما هو باعتبار ظهور الدلالة مع تفاوت الأقسام من حيث الأظهرية وإذا كان المحكم ليس فيه زيادة الوضوح على المفسر لا يكون قسيما له من حيث الأوضحية واللازم منتف اتفاقا فالملزوم مثله بل قال بعضهم المحكم ما ظهر لكل أحد من أهل الإسلام حتى لم يختلفوا فيه وأما ثانيا فلأنه كما أن زيادة القوة مناسبة للمعنى اللغوي فكذا زيادة الوضوح هنا باعتبار لازمها وهو زيادة القوة ومن هنا عبر فخر الإسلام ومن تبعه عن زيادة الوضوح بزيادة القوة ولعله إنما اختار ذلك لما فيه من الإشعار بأن زيادة الوضوح إنما هي مطلوبة للازمها هذا لا لنفسها ثم المنع متسلط على القول بأن الشيء إذا بلغ من الوضوح بحيث لا يحتمل الغير لا معنى لزيادة الوضوح عليه فإنه لا ريب في اختلاف مراتب دلالات الألفاظ على إفادة المعنى الواحد في الأوضحية بعد اتفاقها في الوضوح وإن بلغت الحد المذكور. ويؤكده(21/409)
ما هو معلوم من أن في ترادف المؤكدات لبيان المراد من زيادة الجلاء له ما ليس له عند عدمها ثم يشهد له ما قدمناه آنفا عن التلويح فإنه فيه صريح ثم إذا كانت هذه الأقسام عبارة عما ذكرنا "فهي متباينة" لأن في كل قيدا يضاد ما في الآخر فلا تجتمع في لفظ من جهة واحدة "ولا يمتنع الاجتماع" أي اجتماع الظاهر والنص "في لفظ بالنسبة إلى ما سيق له وعدمه" أي في لفظ له معنيان سيق لأحدهما ولم يسق للآخر فيكون بالنسبة إلى الأول نصا وإلى الثاني ظاهرا "كما تفيده المثل" لهما منها قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275] فإنه "ظاهر في الإباحة" للبيع "والتحريم" للربا "إذ لم يسق لذلك" أي لهما من حيث هما وقد فهما من نفس اللفظ فهو بالنسبة إلى كل منهما من حيث هما ظاهر كما أنه "نص" في التفرقة بينهما بحل البيع وتحريم الربا "باعتبار خارج هو رد تسويتهم" أي الكفار بين الربا والبيع في الحل فإنه مسوق لذلك؛ لأنهم كانوا يدعونها بل وجعلوا الربا أصلا في مساواة البيع له في الحل مبالغة منهم في اعتقاد حله فقالوا: إنما البيع مثل الربا ومنها قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ} [النساء: 3] الآية ظاهر في الحل" أي حل النكاح بلا قيد بعدد لفهمه من نفس اللفظ مع كون الكلام غير مسوق له كما(21/410)
ص -193-…تعلم. "نص" في العدد الذي هو الأربع "باعتبار خارج هو قصره" أي الحل "على العدد إذ السوق له" أي للعدد فإنه - تعالى - بدأ بذكر أول العدد ثم زاد عليه ما يليه ثم ما يليه ثم أعقبه ببيان ما ليس بعدد وعلقه بخوف الجور والميل حيث قال: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3] على أن الظاهر أن حل النكاح كان معلوما قبل نزول هذه الآية كما تفيده التفاسير "فيجتمعان" أي الظاهر والنص في اللفظ الواحد "دلالة" أي من حيث الدلالة على معنيين له مطابقة والتزاما أو تضمنا والتزاما إذا أمكنا فيه "ثم القرينة تعين المراد بالسوق وهو" أي المراد به هو المعنى "الالتزامي" لذلك اللفظ "فيراد الآخر" وهو المطابقي أو التضمني له مدلولا "حقيقيا" له "لا أصليا" أي لا معنى له مرادا بالسوق ثم فسر الآخر بقوله "أعني الظاهري" وإنما كان ظاهريا؛ لأن اللفظ ظاهر فيه غير مسوق له، والظاهر يعتبر فيه ذلك "ويصير المعنى النصي مدلولا التزاميا لمجموع الظاهرين" فإن التفرقة بين البيع والربا في الحل مدلول التزامي لمجموع {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275] وكل منهما ظاهر في معناه وقس على هذا.
قال المصنف رحمه الله تعالى ولقصد إفادة أنه يجتمع في لفظ كونه ظاهرا ونصا باعتبارين قال في التقسيم: فهو بهذا الاعتبار الظاهر وباعتبار ظهور ما سيق له النص فإنه يفيد إذا أمكن في لفظ الاعتباران كان نصا وظاهرا بهما.(21/411)
"ومثال انفراد النص" عن الظاهر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [النساء: 1] لظهور مفهومه بنفس اللفظ مع كونه مسوقا له، واحتماله التخصيص "وكل لفظ سيق لمفهومه" مع ظهوره منه بنفسه واحتماله التخصيص أو التأويل "أما الظاهر فلا ينفرد" عن النص "إذ لا بد من أن يساق اللفظ لغرض" فإن كان معناه الوضعي فهو نفس النص وإن كان غيره فهو لازم للمعنى الظاهري فلم ينفرد الظاهر "ومثلوا" أي المتأخرون "المفسر كالمتقدمين" بقوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ} [الحجر: 30وص: 73] الآية ويلزمهم أي المتأخرين "أن لا يصح" هذا مثالا له "لعدم احتمال النسخ"؛ لأنه خبر والخبر لا يحتمله على ما هو الصحيح كما سيأتي "وثبوته" أي احتمال النسخ "معتبر" في المفسر "للتباين" أي لأجل تباين الأقسام عندهم فهو على اصطلاحهم محكم وحينئذ "فإنما يتصور المفسر في مفيد حكم" شرعي للقطع بأنه لا معنى لنسخ معنى اللفظ المفرد فلا يتم الجواب عن اللازم المذكور بأن المفسر {الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30وص: 73] من غير نظر إلى "فسجد" ولا أن الأقسام الأربعة متحققة في هذه الآية فإن الملائكة جمع ظاهر في العموم وبقوله: "كلهم" ازداد وضوحا فصار نصا وبقوله: "أجمعون" انقطع احتمال التخصيص فصار مفسرا وقوله: فسجد إخبار لا يحتمل النسخ فيكون محكما قلت: وعلى هذا فليس المفسر من أقسام المفرد بل من أقسام المركب وحينئذ فلا ينبغي أن يكون مما يخرجه هذا التقسيم ثم المثال الذي لا مناقشة فيه على رأي المتأخرين قوله تعالى {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36] لأن كافة سد باب التخصيص وهو محتمل للنسخ؛ لأنه مفيد حكما شرعيا وليس بخبر وهذا "بخلاف المحكم والله بكل شيء(21/412)
ص -194-…عليم" فإنه لا يشترط فيه أن يكون في مفيد حكم "لأنه" أي المعتبر في الحكم "نفيه" أي احتمال النسخ أيضا فوق نفي احتمال التخصيص والتأويل، ونفي احتمال النسخ يصدق بكون المعنى لا يحتمل تبديلا أصلا كما يصدق بكونه يحتمله في نفسه لكن قام دليل انتفائه "والأولى" في التمثيل نحو: "الجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل" مختصر من حديث أخرجه أبو داود. ولكونه مفيدا حكما شرعيا عمليا غير محتمل للنسخ لاشتماله على لفظ دال على الدوام بخلاف قوله تعالى {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور: 35و64: والحجرات: 16، والتغابن: 11] فإنه، وإن كان غير محتمل للنسخ؛ لأن معناه في نفسه لا يحتمل التبدل فهو ليس بمفيد لحكم شرعي عملي، والكلام إنما هو فيما يفيد ذلك "والمتقدمون" من الحنفية "المعتبر في الظاهر ظهور" المعنى "الوضعي بمجرده" أي سماع من هو من أهل اللسان اللفظ الموضوع له سواء "سيق" اللفظ "له" أي لمعناه الوضعي "أو لا" أي أو لم يسق له "و" المعتبر "في النص ذلك" أي كون معنى اللفظ مسوقا له "مع ظهور ما سيق له" وهو المعنى المذكور فوضع المظهر موضع المضمر لزيادة تمكينه في ذهن السامع سواء "احتمل التخصيص" إن كان عاما "والتأويل" إن كان خاصا "أو لا" يحتمل كلا منهما "و" المعتبر "في المفسر" بعد اشتراط ظهور معناه "عدم الاحتمال" للتخصيص والتأويل "احتمل النسخ أو لا" يحتمل. "و" المعتبر "في المحكم عدمه" أي احتمال شيء من ذلك "فهي" أي هذه الأقسام متمايزة بحسب المفهوم، واعتبار الحيثية "متداخلة" بحسب الوجود فيجوز صدق كل منها على كل من الباقية لا متباينة.(21/413)
"وقول فخر الإسلام في المفسر إلا أنه يحتمل النسخ سند للمتأخرين في التباين" بين الأقسام؛ لأنه موجب للتباين بينه وبين المحكم، وإذا كان بينهما تباين فكذا ينبغي أن يكون بين الباقية "إذ لا فصل بين الأقسام" في التباين وعدمه فإنه لم يقل أحد بأن بعضها متباين، وبعضها متداخل في الاصطلاح "وبه" أي وبقول فخر الإسلام هذا "يبعد نفي التباين عن كل المتقدمين" على ما هو ظاهر التلويح؛ لأن الظاهر أن فخر الإسلام منهم وقد أفاد قوله هذا التباين. "ولعدم التباين" بينها عند المتقدمين "مثلوا الظاهر" بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا} [النساء: 1] {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2] الآية {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} [المائدة: 38] الآية "وبالأمر والنهي مع ظهور ما سيق له" أي مع ظهور معاني هذه العبارات وظهور كونها مسوقة لمعان تقصد بها فلو قالوا بالتباين بين الظاهر والنص بالسوق وعدمه لم يمثلوا للظاهر بهذه الأمثلة لوجود السوق فيها "واقتصر بعضهم" أي صاحب البديع "في" تمثيل "النص" على إباحة العدد "على مثنى إلى رباع" من قوله تعالى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] وعلى التفرقة بين البيع والربا بحل البيع وتحريم الربا على "وحرم الربا" من قوله تعالى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275] "والحق أن كلا من انكحوا واسم العدد" في الآية "لا يستقل نصا" على إباحة العدد المذكور "إلا بملاحظة الآخر" منهما كما هو ظاهر "فالمجموع" منهما هو "النص" على إباحة العدد المذكور قلت: وكذا كل من وأحل الله البع ومن حرم الربا لا يستقل نصا على(21/414)
ص -195-…التفرقة المذكورة إلا بملاحظة الآخر فإنما النص عليها المجموع منهما "والشافعي الظاهر ما" أي لفظ "له دلالة ظنية" أي راجحة على معنى ناشئة "عن وضع" له كالأسد للحيوان المفترس حيث لا قرينة صارفة عنه "أو عرف" عام بأن يكون دالا على ما نقل إليه واشتهر استعماله فيه في العرف العام "كالغائط" للخارج المستقذر من المسلك المعتاد "وإن كان" ذلك المعنى المنقول إليه "مجازا" للفظ "باعتبار اللغة" كهذا المعنى للغائط فإنه مجاز لغوي له لأن مجازيته اللغوية لا تنافي ظاهريته العرفية العامة، أو عرف خاص كالصلاة للأركان المخصوصة في الشرع فيخرج على اصطلاحهم النص؛ لأن دلالته قطعية، والمجمل والمشترك لأن دلالتهما مساوية، والمؤول؛ لأن دلالته مرجوحة "ويستلزم" الظاهر "احتمالا مرجوحا" لغير معناه بالضرورة، ومن ثمة قال في المحصول: الظاهر هو الذي يحتمل غيره احتمالا مرجوحا "فالنص قسم منه" أي من الظاهر بهذا المعنى "عند الحنفية" والأولى فالنص عند الحنفية قسم منه؛ لأنه عند الحنفية قيد للنص. "وهو" أي هذا القسم من الظاهر "ما كان سوقه لمفهومه" المطابقي فهو نص عند الحنفية لظهوره فيه، وسوقه له ظاهر عند الشافعية لغرض دلالته عليه دلالة راجحة عن وضع أو عرف وينفرد ظاهرهم عن نص الحنفية في لفظ له معنى مطابقي لم يسق له والتزامي سيق له يمكن اجتماعهما وقد ظهر في كل منهما فإنه بالنسبة إلى كل منهما ظاهر الشافعية، وبالنسبة إلى ما سيق له نص الحنفية لا بالنسبة إلى ما لم يسق له فصدق على هذا اللفظ بالنسبة إلى هذا المعنى ظاهر عند الشافعية، ولم يصدق عليه نص عند الحنفية، وهذا إذا أريد بالمعنى المدلول عليه في تعريف الظاهر ما هو أعم من المطابقي كما هو الظاهر، وإلا فإن أريد به المعنى المطابقي فالوجه ما كانت النسخة عليه أولا، وهو ما لفظه، وهو قسم من النص عند الحنفية أي الظاهر بهذا المعنى قسم من النص عندهم؛ لأنه كما أفاده حاشية عليه أن(21/415)
النص على ما تقدم ما ظهر معناه وعرف ما هو المقصود بسوقه ولا يشكل أنه قد يقصد بسوق اللفظ إفادة معناه بأن يكون ذلك هو الغرض، وقد يقصد به غيره كما مر من القصد إلى رد التسوية فلزم انقسام النص قسمين ا هـ.
"وإن اختلفوا" أي الحنفية والشافعية "في قطعية دلالته" أي هذا القسم من ظاهر الشافعية الذي هو نص الحنفية أو هذا القسم من نص الحنفية الذي هو ظاهر الشافعية على ما كانت عليه النسخة أولا "وظنيتها" أي دلالته المذكورة فقال أكثر الحنفية: قطعية، وقال الشافعية: ظنية فإنه لا خلاف في الحقيقة لاختلاف مرادهم بالقطعية والظنية، ومن ثمة قال: "والوجه أنه" والأحسن الاقتصار عليه؛ لأنه أي اختلافهم "لفظي فالقطعية للدلالة والظنية باعتبار الإرادة فلا اختلاف" فمراد الحنفية القطع بثبوت دلالته على المعنى ولا يختلف في ذلك؛ إذ بعد العلم بوضعه للمعنى يلزم من سماعه الانتقال إليه، وهو معنى الدلالة، ومراد الشافعية ظن إرادة المعنى باللفظ فإن الفهم عن العلم بالوضع، وإن ثبت قطعا لكن كون المعنى مرادا غير مقطوع به لجواز كون المراد غير المعنى الوضعي المنتقل إليه عند سماع اللفظ، ولا يختلف فيه فلا خلاف كما لا خلاف في وجوب العمل بالوضعي ما لم ينفه دليل كذا أفاده المصنف رحمه الله تعالى قلت: ولا يعرى عن تأمل فإن ظاهر كلام الحنفية القطع بالإرادة أيضا تبعا للقطع(21/416)
ص -196-…بالدلالة حيث لا موجب للمخالفة، وأن هذا التجويز لكونه لا عن دليل ليس بمانع للقطع والله - تعالى - أعلم "واستمروا" أي الشافعية "على إيراد المؤول قرينا له" أي للظاهر وسيعرف تعريف المؤول "فيقال: الظاهر والمؤول كالخاص والعام لإفادة المقابلة فيلزم في الظاهر عدم الصرف" عن معناه كما يلزم في المؤول الصرف عنه تحقيقا للمقابلة بينهما "وإلا" أي وإن لم يلزم ذلك "اجتمعا" أي الظاهر والمؤول في اللفظ الواحد لكن باعتبارين لإمكانه حينئذ فالمنقول لعلاقة، ولم يشتهر كالأسد دلالته على الأول ظاهرة، وعلى الثاني مؤولة، وإن اشتهر وهو المسمى بالمنقول كالصلاة فهو على العكس "إذ" اللفظ "المصروف" عن معناه الراجح إلى معنى مرجوح "لا تسقط دلالته على الراجح" أي على المعنى الراجح كقوله تعالى {فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} [محمد: 38] "فيكون" المصروف "باعتباره" أي كونه دالا على الراجح "ظاهرا وباعتبار الحكم بإرادة المرجوح مؤولا" قلت: والظاهر أنه لا يلزم في الظاهر عدم الصرف أصلا، وإلا لم يوجد إلا في الحقائق لا غير بل قد وقد ولا ضير في الاجتماع باعتبارين كما ذكرنا لأن تقابلهما اعتباري لا حقيقي "وتقدم المؤول عند الحنفية" حيث قال: وإن ظني فمؤول "ولا ينكر إطلاقه" أي المؤول "على المصروف" عن ظاهره بمقتضى "أيضا أحد" فلا يختص به حنفي ولا شافعي "والنص" عند الشافعية ما دل على معنى "بلا احتمال" لغيره فيوافق ما في المنخول هو اللفظ الذي لا يتطرق إليه احتمال لكن الظاهر أن المراد لا يحتمل التأويل كما في المستصفى لأن الظاهر أن احتماله النسخ لا يخرجه عن النصية، ولا ينافي هذا ما في شرح القاضي عضد الدين ما دل دلالة قطعية فلا جرم أن قال "كالمفسر عند الحنفية لا النص" عندهم "فإنه" أي النص عندهم "يحتمل المجاز" باتفاقهم "وعلمت" قريبا "أنه" أي احتماله المجاز "لا ينافي القول بقطعيته" أي النص بخلاف المفسر عندهم فإنه لا يحتمل(21/417)
المجاز بتخصيص ولا بتأويل فالنص عند الشافعية هو المفسر عند الحنفية "وقد يفسرون" أي الشافعية "الظاهر بما له دلالة واضحة فالنص" عندهم حينئذ "قسم منه" أي من الظاهر بهذا المعنى "عندهم" لأن الدلالة الواضحة أعم من الظنية والقطعية والمبين أخص منه؛ لأن الدلالة الواضحة لا تقتضي سابقة احتياج إلى البيان ذكره المحقق التفتازاني فانتفى قول الكرماني فلا يبقى حينئذ فرق بين المبين والظاهر "والمحكم" عندهم "أعم" من الظاهر، والنص "يصدق على كل منهما ولا ينافي التأويل أيضا فهو" أي المحكم "عندهم ما استقام نظمه للإفادة ولو بتأويل" وعبارة السبكي المتضح المعنى "والحنفية أوعب وضعا للحالات" قال المصنف؛ ولذا كثرت الأقسام عندهم، فكانت أقسام ما ظهر معناه أربعة متباينة عند المتأخرين، وعلى قول الشافعية ليس إلا قسمان في الخارج؛ لأن المحكم أعم من الظاهر والنص فلا يتحقق في الخارج محكم غير نص ولا ظاهر بل إنما يتحقق المحكم أحدهما، والمراد من الحالات حالة احتمال غير الوضعي، وحالة سوقه لشيء من مفهومه أو غيره، وحالة عدم سوقه لمفهومه، وحالة عدم احتمال النسخ واحتماله فوضعوا للفظ الدال مع كل حالة أو حالتين اسما "وموضع الاشتقاق" لأسمائها "يرجح قولهم" أي الحنفية "في المحكم" أنه ما لا يحتمل تخصيصا ولا(21/418)
ص -197-…تأويلا، ولا نسخا لمناسبة المعنى اللغوي له كما تقدم بخلافه على قول الشافعية بقي أن المصنف لم يذكر لهم مفسرا، وفي المحصول المفسر له معنيان أحدهما ما احتاج إلى التفسير وقد ورد تفسيره وثانيهما الكلام المبتدأ المستغني عن التفسير لوضوحه ا هـ. وهذا لا يخالف المحكم بالمعنى الذي ذكره المصنف كما أن الثاني منه لا يخالفه بالمعنى الذي ذكره السبكي وأما الأول بالنسبة إليه ففي تعيين ما بينهما من النسبة تأمل، وعلى كل حال فالقول ما قاله من أن الحنفية أكثر استيعابا لوضع الأسماء للفظ باعتبار حالاته المتفاوتة في الوضوح والله - سبحانه - أعلم.(21/419)
ثم هذا "تنبيه" على تفصيل وتمثيل للتأويل وسمه به لسبق الشعور به في الجملة إجمالا "وقسموا" أي الشافعية "التأويل إلى قريب وبعيد ومتعذر غير مقبول قالوا وهو" أي المتعذر "ما لا يحتمله اللفظ، ولا يخفى أنه" أي المتعذر "ليس من أقسامه" أي التأويل "وهو" أي التأويل مطلقا فيعم الصحيح والفاسد "حمل الظاهر على المحتمل المرجوح" إذ من المعلوم أن ما لا يحتمله اللفظ أصلا لا يندرج تحت ما يحتمله مرجوحا وقالوا: حمل الظاهر؛ لأن النص لا يتطرق إليه التأويل، وتعيين أحد مدلولي المشترك لا يسمى تأويلا، وعلى المحتمل؛ لأن حمل الظاهر على ما لا يحتمله لا يكون تأويلا أصلا، والمرجوح؛ لأن حمله على محتمله الراجح ظاهر "إلا أن يعرف" التأويل "بصرف اللفظ عن ظاهره فقط" فيكون من أقسامه لصدقه عليه "ثم ذكروا" أي الشافعية "من البعيدة تأويلات للحنفية في قوله صلى الله عليه وسلم لغيلان بن سلمة الثقفي وقد أسلم على عشر: "أمسك أربعا وفارق سائرهن" رواه ابن ماجه والترمذي وصححه ابن حبان والحاكم "أي ابتدئ نكاح أربع" أي انكح أربعا منهن بعقد جديد وفارق باقيهن إن كنت تزوجتهن في عقد واحد لوقوعه فاسدا "أو أمسك الأربع الأول" وفارق الأواخر منهن إن كنت عقدت عليهن متفرقات لوقوعه فيما عدا الأربع فاسدا، ووجه بعده أنه كما قال "فإنه يبعد أن يخاطب بمثله متجدد في الإسلام بلا بيان" لهذا المرام الخفي عن كثير من الأفهام؛ إذ الظاهر من الإمساك الاستدامة دون الاستئناف، ومن الفراق انقطاع النكاح لا عدم التجديد مع أنه لم ينقل تجديد قط لا منه، ولا من غيره مع كثرة إسلام الكفار المتزوجين، ولو كان لنقل وقوله صلى الله عليه وسلم لفيروز الديلمي وأسلم على أختين: "أمسك أيتهما شئت" مثله أيضا أي ابتدئ نكاح من شئت منهما إن كنت تزوجتهما في عقد واحد لوقوعه فاسدا بخلاف ما لو تزوجهما في عقدين يبطل نكاح الثانية فقط ثم هذا اللفظ وإن لم يحفظ فقد حفظ معناه، وهو اختر(21/420)
أيتهما شئت كما هو رواية الترمذي له فلا يبعد أن يقول من يقول معنى أمسك هذا أنه أيضا معنى اختر. ثم هذا "أبعد" من الأول؛ لأن فيه مع وجهي البعد الماضيين وجها ثالثا، وهو التصريح بأيتهما شئت فدل على أن الترتيب غير معتبر "وقولهم" أي الحنفية في {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} [المجادلة: 4] كما هو نص القرآن في كفارة الظهار "إطعام طعام ستين" مسكينا؛ لأن المقصود من التكفير دفع حاجة المسكين "وحاجة واحد في ستين يوما حاجة ستين" مسكينا فإذا أطعم مسكينا واحدا ستين يوما عنها أجزأه، وإنما بعد؛ لأن فيه اعتبار ما لم يذكر من(21/421)
ص -198-…المضاف، وإلغاء ما ذكر من عدد المساكين "مع إمكان قصده" أي عدد المساكين "لفضل الجماعة وبركتهم وتضافر قلوبهم" أي تظاهرها وتعاضدها "على الدعاء له" أي للمكفر "وعموم الانتفاع" أي وشمول المنفعة للجماعة "دون الخصوص" لواحد. "وقولهم" أي الحنفية في نحو "في أربعين شاة شاة" كما هو هكذا في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن من رواية أبي بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده على ما في مراسيل أبي داود وهو حديث حسن "أي ماليتها" أي الشاة لما تقدم من أن المقصود دفع الحاجة، والحاجة إلى ماليتها كالحاجة إليها، وإنما بعد "إذ يلزم أن لا تجب الشاة" نفسها؛ لأن الفرض أن الواجب ماليتها حينئذ فلا تجب هي فلا تكون مجزئة وهي مجزئة اتفاقا، وأيضا يرجع المعنى، وهو دفع الحاجة المستنبط من الحكم وهو إيجاب الشاة على الحكم وهو وجوب الشاة بالإبطال "وكل معنى استنبط من حكم فأبطله" أي ذلك المعنى ذلك الحكم "باطل"؛ لأنه يوجب إبطال أصله المستلزم لبطلانه فيلزم من صحته اجتماع صحته وبطلانه وإنه محال فتنتفي صحته فيكون باطلا.(21/422)
"تنبيه" ثم إنما قال في نحو في أربعين شاة شاة لجريان مثله في نحو في خمس من الإبل شاة، وهلم جرا مما هم قائلون بأن المراد منه مالية ذلك المسمى لا عينه من الإبل والبقر أيضا "ومنها" أي التأويلات البعيدة لهم "حمل" قوله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل" إلخ أي ثلاث مرات رواه أصحاب السنن وحسنه الترمذي. وقال الحاكم على شرط الشيخين "على الصغيرة والأمة والمكاتبة" ومن جرى مجراهن "أو" أن فنكاحها "باطل أي يئول إلى البطلان غالبا لاعتراض الولي" بما يوجبه من عدم كفاءة أو نقص فاحش عن مهر المثل "لأنها" أي المرأة "مالكة لبضعها" ورضاها هو المعتبر "فكان" تصرفها فيه "كبيع سلعة لها" واعلم أن ظاهر هذا كما مشى عليه المحقق التفتازاني أنهم قائلون إما بحمل عموم أيما امرأة على خصوص منه، وهو الأمة قنة كانت أو مدبرة أو أم ولد أو مكاتبة، والحرة الصغيرة والمعتوهة والمجنونة مع إبقاء: "باطل" على حقيقته، وإما بإبقاء عموم أيما امرأة على ما هو عليه مع حمل: "باطل" على ما يئول إليه لئلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز. وتعقب بأن نكاح الأمة بأصنافها والصغيرة العاقلة ليس باطلا عند الحنفية بل موقوف فالوجه أن يكون باطل على هذا التقدير محمولا أيضا على ما يئول إليه، وهو تام فيما عدا المجنونة والمعتوهة لا فيهما؛ لأن عقدهما باطل حقيقة فيلزم منه الجمع بين الحقيقة والمجاز المهروب منه كما يلزم أيضا في إبقاء أيما امرأة على العموم وإبقاء "باطل" على حقيقته وسيأتي في هذا وجه ثالث أوجه منهما إن شاء الله - تعالى.(21/423)
ثم إنما بعد؛ لأنه أبطل ظهور قصد النبي صلى الله عليه وسلم التعميم في كل امرأة "مع إمكان قصده" صلى الله عليه وسلم العموم "لمنع استقلالها بما لا يليق بمحاسن العادات استقلالها به" فإن نكاحها منه كما يشهد به العرف "ومنها" أي التأويلات البعيدة "حملهم" أي الحنفية ما عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل" على القضاء والنذر المطلق أي الذي لم يقيد بوقت معين ثم هذا(21/424)
ص -199-…الحديث بهذا اللفظ أورده شيخنا الحافظ بسنده في بحث الاستثناء من تخريج أحاديث مختصر ابن الحاجب وقال: حديث حسن، أخرجه النسائي وأبو داود واختلف في رفعه ووقفه ورجح الجمهور ومنهم الترمذي والنسائي الموقوف ا هـ مختصرا ثم لما ذكره ابن الحاجب في مباحث المؤول بهذا اللفظ لم يخرجه شيخنا كذلك بل ساقه بألفاظ غيره ثم قال: وأخرج له الدارقطني شاهدا من حديث عائشة لكنه معلول انقلب الإسناد على رواية "فإنه" أخرجه من رواية المفضل بن فضالة عن يحيى بن أيوب فقال عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة وساقه بلفظ "من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له" وهذا أقرب إلى لفظ المصنف قال الدارقطني: كلهم ثقات قلت: لكن الراوي عن المفضل عبد الله بن عباد ضعفه ابن حبان جدا ا هـ فهذا ظاهر في أنه لم يروه باللفظ المذكور النسائي وأبو داود وهذا هو الموافق لما في نفس الأمر فإن العبد الضعيف راجع سنن أبي داود والنسائي فلم يره فيهما بهذا اللفظ نعم أخرجه النسائي بألفاظ منها لفظ الدارقطني الذي قال شيخنا: إنه أقرب إلى لفظ المصنف ثم حيث يكون من رجاله يحيى بن أيوب فقد قال النسائي فيه: ليس بالقوي ,. وقال أبو حاتم الرازي: لا يحتج به ,. وقال أحمد: سيئ الحفظ، وذكره أبو الفرج في الضعفاء والمتروكين والله - تعالى - أعلم وإنما بعد هذا لما فيه من تخصيص العموم بما وجوبه بعارض نادر "وحملهم" أي ومن التأويلات البعيدة حملهم "ولذي القربى" من قوله تعالى {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] "على الفقراء منهم" أي من ذي القربى من بني هاشم وبني المطلب "لأن المقصود" من الدفع إليهم "سد خلة المحتاج" بفتح المعجمة أي حاجته، ولا خلة مع الغني وإنما بعد لتعطيل لفظ العموم "مع ظهور أن القرابة" التي لرسول الله صلى الله عليه وسلم "قد تجعل سببا للاستحقاق مع الغنى تشريفا للنبي(21/425)
صلى الله عليه وسلم وعد بعضهم" كإمام الحرمين "حمل" الحنفية والمالكية قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} [التوبة: 60] الآية على بيان المصرف لها حتى يجوز الصرف إلى صنف واحد، وواحد منه فقط لا الاستحقاق حتى يجب الصرف إلى جميع الأصناف من التأويلات البعيدة أيضا لكون اللام ظاهرا في الملكية.
ثم أخذ المصنف في الجواب عنها من غير مراعاة ترتيبها فقال "وأنت تعلم أن بعد التأويل لا يقدح في الحكم بل يفتقر إلى" الدليل "المرجح" للتأويل على ذلك الظاهر ليصير به راجحا عليه، وإذا تمهد هذا "فأما الأخير" وهو بعد حمل إنما الصدقات على بيان المصرف لها "فدفع بأن السياق، وهو رد لمزهم" أي طعنهم وعيبهم "المعطين ورضاهم عنهم إذا أعطوهم وسخطهم إذا منعوا يدل أن المقصود" من قوله {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} الآية "بيان المصارف لدفع وهم أنهم" أي المعطين "يختارون في العطاء والمنع" وتقريره هكذا موافق لابن الحاجب وغيره والأولى أن يقال: وهو رد لمزهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضاهم عنه إذا أعطاهم وسخطهم إذا لم يعطهم لأن النص ومنهم من يلمزك في الصدقات إلخ ثم من الدافعين بهذا الغزالي "ورد" هذا الدفع "بأنه" أي السياق "لا ينافي الظاهر" أي ظاهر اللام "أيضا من الملك فلا يصرف" السياق "عنه" أي عن هذا الظاهر فليكن لهما جميعا كما ذكره الآمدي. قال المصنف:(21/426)
ص -200-…"ولا يخفى أن ظاهره" أي {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} الآية "من العموم" أي عموم الصدقات وعموم الفقراء والباقي بمعنى أن كل صدقة يستحقها جميع الفقراء ومن شاركهم "منتف اتفاقا" لتعذره ومن ثمة لم يقل به أحد "ولتعذره" أي العموم المذكور "حملوه" أي الشافعية العموم فيهم "على ثلاثة من كل صنف" من الثمانية إذا كان المفرق للزكاة غير المالك ووكيله ووجدوا "وهو" أي حملهم هذا "بناء على أن معنى الجمع" في الفقراء ومن شاركهم "مراد مع اللام والاستغراق وهو" أي الاستغراق "منتف" فتبقى الجمعية، وأقلها ثلاثة ورد بأنه حينئذ محمول على الجنس كما في لا أتزوج النساء، وإلا لغا التعريف لحمل لا أتزوج نساء على ثلاثة "وكونه" أي اللام "للتمليك لغير معين أبعد ينبو عنه الشرع، والعقل" إذ لا تمليك إلا لمعين مع عدمه تأتيه في في الرقاب وفي سبيل الله لعدم اللام وعدم استقامة الملك في الظرف "فالمستحق الله - تعالى - وأمر بصرف ما يستحقه إلى من كان من الأصناف فإن كانوا" أي الأصناف "بهذا" القدر وهو أمر الله - تعالى - بصرف ما يستحقه إليهم "مستحقين فبلا ملك ودون استحقاق الزوجة النفقة" على زوجها لتعينها دونهم "ولا تملك" النفقة "إلا بالقبض". فكذا الزكاة لا تملك بدونه فلا يثبت الاستحقاق لأحد إلا بالصرف إليه "ولنا آثار صحاح عن عدة من الصحابة والتابعين صريحة فيما قلنا" كعمر رضي الله عنه رواه عنه ابن أبي شيبة والطبري وابن عباس رواه عنه البيهقي والطبري وحذيفة وسعيد بن جبير وعطاء والنخعي وأبي العالية وميمون بن مهران رواه عنهم ابن أبي شيبة والطبري "ولم يرو عن أحد منهم" أي من الصحابة والتابعين "خلافه" أي ما قلنا "ولا ريب في فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف قولهم" وكيف لا. وقد ذكر أبو عبيد في كتاب الأموال أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم الذهبية التي بعث بها معاذ من اليمن في المؤلفة فقط الأقرع وعيينة وعلقمة بن علاثة وزيد الخير(21/427)
ثم أتاه مال آخر فجعله في صنف الغارمين فقط حيث قال لقبيصة بن المخارق حين أتاه وقد تحمل حمالة بفتح المهملة وتخفيف الميم أي كفالة: "أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها" وفي حديث سلمة بن صخر البياضي أنه أمر له بصدقة قومه وأما شرط الفقر" في ذي القربى "فقالوا" أي الحنفية لقوله صلى الله عليه وسلم: "يا بني هاشم إن الله كره لكم أوساخ الناس إلى قوله وعوضكم عنها بخمس الخمس" والمعوض عنه" الذي هو الزكاة إنما هو "للفقير"؛ لأنه الذي له حق فيه لا للغني إلا بعارض عمل عليها فكذا العوض والحديث بهذا اللفظ لم يحفظ نعم في صحيح مسلم "إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد" وفي معجم الطبراني "أنه لا يحل لكم أهل البيت من الصدقات شيء إنما هي غسالة الأيدي، وإن لكم في خمس الخمس لما يغنيكم" وروى ابن أبي شيبة والطبري عن مجاهد قال: كان آل محمد لا تحل لهم الصدقة فجعل لهم خمس الخمس وفي كون هذه مفيدة كونه عوضا عنها لمن كان مصرفا لها لا غير نظر. فلا جرم أن قال شيخنا المصنف في فتح القدير: ولفظ العوض إنما وقع في عبارة بعض التابعين ثم كون العوض إنما يثبت في حق من يثبت في حقه المعوض ممنوع، وقال هنا قالوا: وذهب الشافعي وأحمد إلى استواء غنيهم وفقيرهم فيه لكن للذكر مثل حظ الأنثيين "وأما(21/428)
ص -201-…الأولان" وهما مسألتا إسلام الرجل على أكثر من أربع وإسلامه على أختين "فالأوجه خلاف قول الحنفية" الماضي كما هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف "وهو" أي خلاف قولهم "قول محمد بن الحسن" ومالك والشافعي وأحمد وهو أنه في الأولى يختار أي أربع شاء منهن ويفارق ما عداهن وفي الثانية يختار أيتهم. شاء ويفارق الأخرى من غير فرق في المسألتين بين أن يكون تزوجهن في عقد أو عقود إلا أن في المبسوط: وفرق محمد في السير الكبير بين أهل الحرب وأهل الذمة قال: لو كانت هذه العقود فيما بين أهل الذمة كان الجواب كما قاله أبو حنيفة وأبو يوسف ووجه كون قول محمد أوجه عرف مما تقدم، ولا يدفعه ما في المحيط وقول النبي صلى الله عليه وسلم لغيلان الثقفي: "اختر أربعا، وفارق سائرهن" يحتمل اختر أربعا منهن بالعقد الأول ويحتمل بعقد جديد فإنه لم يقل اختر أربعا منهن بالنكاح الأول، والحديث حكاية حال لا عموم له فلا يصح الاحتجاج به نعم إن تم ما في المبسوط والأحاديث التي رويت قال مكحول: كانت قبل نزول الفرائض معناه قبل نزول حرمة الجمع فوقعت الأنكحة صحيحة مطلقا ثم أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم باختيار الأربع لتجديد العقد عليهن، ولما كانت الأنكحة صحيحة في الأصل جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك مستثنى من تحريم الجمع ألا ترى أنه قال في بعض الروايات: وطلق سائرهن فهذا دليل على أنه لم يحكم بالفرقة بينه وبين ما زاد على الأربع ا هـ لم يحتاجا إلى التأويل المذكور واتجه قولهما على قوله: لكن الشأن في ذلك وكيف وغيلان أسلم يوم الطائف في شوال سنة ثمان إلى غير ذلك مما يمنع تمام هذا الدفع.(21/429)
"وأما" حمل "لا صيام" الحديث على ما ذكر "فلمعارض" له "صح في النفل" وهو ما في صحيح مسلم وغيره عن عائشة قالت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم: "يا عائشة هل عندكم شيء فقلت يا رسول الله: ما عندنا شيء قال: "فإني صائم" ثم قدم هذا لرجحانه في الثبوت عليه مع أنه مثبت وذاك ناف "وفي رمضان بعد الشهادة بالرؤية" أي وصح في أداء صيام رمضان وهو ما في الصحيحين عن سلمة بن الأكوع قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من أسلم أن أذن في الناس أن من كان أكل/ فليصم بقية يومه ومن لم يكن أكل فليصم فإن اليوم يوم عاشوراء كما أشار إليه بقوله "قال" النبي صلى الله عليه وسلم: "من لم يكن أكل فليصم" وهو أي الصوم المأمور به "بعد تعين الشرعي" فيه "مقرون بدلالة عليه" أي على الصوم الشرعي أنه المراد هنا أيضا "أنه" أي النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أكل فلا يأكل بقية يومه، ومن لم يأكل فليصم" والمحفوظ ما تقدم وأيا ما كان فلا ضير "فلو اتحد حكم الأكل وغيره" أي الأكل "فيه" أي يوم عاشوراء وهو عدم صحة صيامه شرعا "لقال: لا يأكل أحد" لأن فيه مع الاختصار نفي ظن مخالفة القسمين في الحكم. "ثم هو" أي صوم يوم عاشوراء وقتئذ "واجب معين" لهذا الحديث وغيره فكذا رمضان والنذر المعين؛ لأن كلا منهما كذلك "فلم يبق" تحت لا صيام "إلا" الصيام "غير المعين فعملوا به" أي بلا صيام "فيه" أي الصيام غير المعين "من القضاء والنذر المطلق" والكفارات وقضاء ما أفسده من التطوع "وهو" أي هذا الصنيع "أولى من إهدار بعض الأدلة بالكلية" كهذين الدليلين؛ لأن الأعمال بحسب الإمكان أولى من الإهمال "وأما النكاح" أي كون(21/430)
ص -202-…قول الحنفية فيه مخالفا لظاهر الحديث المذكور "فلضعف الحديث بما صح من إنكار الزهري" الراوي للحديث عنه سليمان بن موسى "روايته" أي الحديث عنه فقد أسند الطحاوي عن ابن جريج أنه سأله عنه فلم يعرفه. "وقول ابن جريج في رواية ابن عدي" فلقيت الزهري فسألته عن هذا الحديث "فلم يعرفه فقلت له: إن سليمان بن موسى حدثنا به عنك فقال أخشى أن يكون وهم علي وأثنى على سليمان" خيرا "فصمم" الزهري على الإنكار "ومثله" أي هذا اللفظ "في عرف المتكلمين" من أهل العلم "إنكار" منه لروايته "لا شك" فيها حتى لا يقدح في الحديث قلت فينتفي ما ذكر الترمذي أن ابن معين طعن في هذا المحكي عن ابن جريج، وقال: لم يذكر هذا عن ابن جريج إلا ابن علية وسماع ابن علية من ابن جريج فيه شيء؛ لأنه صحح كتبه على كتب ابن أبي داود ا هـ. فإن ابن علية إمام حجة حافظ فقيه كبير القدر ,. وقال أبو داود: وما أحد من المحدثين إلا وقد أخطأ إلا ابن علية وبشر بن المفضل إلى غير ذلك من الثناء عليه فكيف يجوز عليه أن يقول: لقيت الزهري فسألته عن هذا الحديث كذبا بل ما في الميزان قال ابن معين كان ابن علية ثقة ورعا تقيا يبعد هذا عن ابن معين وابن جريج أحد الأعلام الثقات مجمع على ثقته كما لا يقدح في هذا أيضا ما عن أحمد أنه ذكر هذه الحكاية فقال: ابن جريج له كتب مدونة ليس هذا فيها فإن عدم ذكره فيها لا يمنع صحتها عنه في نفس الأمر مع ثقة الراوي عنه فليتأمل نعم لا يبعد أن يقال: الأشبه أن أخشى أن يكون وهم علي ليس جزما بتكذيبه كما أن مجرد نفي معرفته ليس صريحا فيه فلا يجري فيه ما يجري في الجزم الصريح بل ما يجري في النسيان على أنه تابع سليمان عن الزهري فيه الحجاج بن أرطاة عنه عند ابن ماجه وابن لهيعة عن جعفر بن ربيعة عنه عند أبي داود وهما، وإن ضعفا فمتابعتهما لا تعرى عن تأييد لكون ذاك الإنكار نسيانا والله - سبحانه - أعلم.(21/431)
"أو لمعارضة ما هو أصح" منه "رواية مسلم" وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم "الأيم أحق بنفسها من وليها" وهي أي الأيم لغة "من لا زوج لها بكرا كانت أو ثيبا وليس للولي حق في نفسها سوى التزويج فجعلها" النبي صلى الله عليه وسلم "أحق به" أي بالتزويج "منه" أي من الولي "فهو" أي الحديث المذكور دائر "بين أن يحمل" باطل فيه "على أول البطلان أو يترك" العمل به "للمعارض الراجح" عليه، ولولا أنه يلزم من الأول الجمع بين الحقيقة والمجاز كما تقدم لقدم على الثاني لكن حيث لزم منه ذلك، وهو ممتنع تعين الثاني "وأما الحمل" لـ "أيما امرأة" على الأمة وما ذكر" معها كما تقدم "فإنما هو" أي الحمل المذكور في "لا نكاح إلا بولي" كما رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه "أي من له ولاية" أي نفاذ قول "فيخرج نكاح العبد والأمة وما ذكر" معهم من المجنونة والمعتوهة والصغيرة إذا لم يكن بإذن من يتوقف صحة النكاح على إذنه عن الصحة إذ لا ولاية لهم، ويدخل نكاح الحرة العاقلة البالغة؛ لأن لها ولاية "وإذ دل" الحديث السابق "الصحيح على صحة مباشرتها" أي الحرة المذكورة للنكاح "لزم كونه" أي لا نكاح إلا بولي "لإخراج الأمة والعبد والمراهقة والمعتوهة" والمجنونة أيضا بطريق أولى، وغاية ما يلزمه(21/432)
ص -203-…تخصيص العام "وتخصيص العام ليس من الاحتمالات البعيدة" وكيف وما من عام إلا، وقد خص ولا سيما "وقد ألجأ إليه" أي التخصيص "الدليل" فيتعين.
قال المصنف: ويخص حديث أيما امرأة بمن نكحت غير الكفء والمراد بالباطل حقيقته على قول من لم يصحح ما باشرته من غير كفء أو حكمه على قول من يصححه ويثبت للولي حق الخصومة في فسخه كل ذلك شائع في إطلاقات النصوص، ويجب ارتكابه لدفع المعارضة بينها فيثبت مع المنقول الوجه المعنوي، وهو أنها تصرفت في خالص حقها، وهو نفسها وهي من أهله كالمال فيجب تصحيحه مع كونه خلاف الأولى.(21/433)
"وأما الزكاة" أي وأما قول الحنفية المتقدم في الزكاة "فمع المعنى النص" لهم فيه "أما الأول" أي المعنى "فللعلم بأن الأمر بالدفع إلى الفقير إيصال لرزقهم" أي الفقراء "الموعود منه سبحانه" بقوله تعالى {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] إلى غير ذلك "وهو" أي رزقهم "متعدد من طعام وشراب وكسوة" وغيرها؛ إذ الرزق ما يسوقه الله إلى الحيوان فينتفع به "فقد وعدهم" الله "أصنافا" من الرزق "وأمر من عنده من ماله" عز وجل "صنف واحد أن يؤدي مواعيده" تعالى إلى أهلها "فكان" أمره بذلك "إذنا بإعطاء القيم" ضرورة "كما في مثله من الشاهد وحينئذ" أي وحينئذ كان الأمر كذا "لم تبطل الشاة بل" يبطل "تعينها" بمعنى أنه لا يسوغ غيرها مما هو في مقدار ماليتها "وحقيقته" أي بطلان تعينها "بطلان عدم إجزاء غيرها وصارت محلا" للدفع "هي وغيرها فالتعليل وسع المحل" للحكم المذكور لا أنه أبطل المنصوص عليه "وليس التعليل" حيث كان "إلا لتوسعته" أي المحل "وأما النص فما علق البخاري" في صحيحه جزما "وتعليقاته" كذلك "صحيحة" ووصله يحيى بن آدم في كتاب الخراج "من قول معاذ ائتوني بخميس" بالسين المهملة كما هو الصواب لا الصاد قال الخليل: ثوب طوله خمسة أذرع. وقال الداودي: كساء قيسه ذا ثم عن الشيباني سمي بملك من ملوك اليمن أول من أمر بعمله "أو لبيس" ما يلبس من الثياب أو الملبوس الخلق "مكان الشعير والذرة أهون عليكم وخير لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة" وما في كتاب أبي بكر الصديق لأنس الذي رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري "من بلغت عنده من الإبل صدقة الجذع، وليست عنده جذعة، وعنده حقة، فإنها تؤخذ منه الحقة ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهما" الحديث فانتقل في القيمة في موضعين فعلمنا أن ليس المقصود خصوص عين السن المعين، وإلا لسقط إن تعذر أو أوجب عليه أن يشتريه(21/434)
فيدفعه "فظهر أن ذكر الشاة والجذعة" وغيرهما "كان لتقدير المالية، ولأنه أخف على أرباب المواشي" من غيرها "لا لتعينها: وقولهم" أي الحنفية "في الكفارة مثله في الأولين، والله أعلم" وهما مسألتا إسلام الرجل على أكثر من أربع وعلى أختين، وهو أنه خلاف الأوجه، وإنما الأوجه قول الأئمة الثلاثة إذا أطعم مسكينا واحدا ستين يوما لا يجزئه لما تقدم.
قال المصنف: وغاية ما يعطيه كلامهم أن بتكرر الحاجة يتكرر المسكين حكما فكان(21/435)
ص -204-…تعددا حكما، وتمامه موقوف على أن ستين مسكينا مراد به الأعم من الستين حقيقة أو حكما ولا يخفى أنه مجاز فلا مصير إليه إلا بموجبه ا هـ ولا موجب له فيما يظهر والله - تعالى – أعلم.
تقسيم المفرد باعتبار الخفاء في الدلاة
"التقسيم الثالث" للمفرد "مقابل" التقسيم "الثاني" له؛ لأنه "باعتبار الخفاء" في الدلالة كما أن الثاني باعتبار الظهور فيها "فما كان منه" أي من خفاء اللفظ في المعنى الذي خفي اللفظ فيه "يعارض غير الصيغة فالخفي" أي فاللفظ الذي هو متصف بالخفاء في معنى خفي هو فيه بالنسبة إلى المعنى الذي خفي فيه بسبب عارض له غير صيغته هو الخفي اصطلاحا وقيد بغير الصيغة؛ لأن الخفاء إذا كان بنفس اللفظ فاللفظ أحد الأقسام الآتية، وأورد ينبغي أن يكون الخفي ما خفي المراد منه بنفس اللفظ؛ لأنه في مقابلة الظاهر وهو ما ظهر المراد منه بنفس اللفظ، وأجيب بأن الخفاء بنفس اللفظ فوق الخفاء بعارض فلو كان الخفي ما يكون خفاؤه بنفس اللفظ لم يكن في أول مراتب الخفاء فلم يكن مقابلا للظاهر "وهو" أي الخفي "أقلها" أي أقسام هذا التقسيم "خفاء كالظاهر في الظهور" أي كما أن الظاهر في التقسيم الثاني أقل أقسامه ظهورا "وحقيقته" أي الخفي اصطلاحا "لفظ" وضع "لمفهوم عرض فيما" أي في محل "هو" أي ذلك المحل "ببادئ الرأي من أفراده" أي المفهوم "ما" أي عارض "يخفى به" أي بالعارض "كونه" أي ذلك المحل. "منها" أي من أفراده، ويوجب استمرار ذلك الخفاء العارض فيه "إلى قليل تأمل" فيزول الخفاء حينئذ "ويجتمعان" الخفي، والظاهر "في لفظ" واحد "بالنسبة" إلى مفهومه وبعض المحال "كالسارق ظاهر في مفهومه الشرعي" وهو العاقل البالغ الآخذ عشرة دراهم أو مقدارها خفية عمن هو متصد للحفظ مما لا يتسارع إليه الفساد من المال المتمول من حرز بلا شبهة "خفي في النباش" أي آخذ كفن الميت من القبر خفية بنبشه بعد دفنه "والطرار" وهو الآخذ للمال المخصوص من اليقظان في(21/436)
غفلة منه بطر أو غيره. وإنما خفي فيهما "للاختصاص" أي اختصاص كل منهما "باسم" غير السارق يعرف به فيتوقف في كونه من أفراد السارق "إلى ظهور أنه" أي إلى أن يتأمل قليلا في وجه الاختصاص فيظهر أن الاختصاص "في الطرار لزيادة" في المعنى وهو حذق في فعله وفضل في جنايته؛ لأنه يسارق الأعين المستيقظة المرصدة للحفظ لغفلة والسارق يسارق النائمة أو الغائبة "ففيه" أي فيكون في الطرار "حده" أي السارق "دلالة" أي من قبيل الدلالة لثبوته فيه بطريق أولى؛ لأنه سارق كامل يأخذ مع حضور المالك ويقظته فله مزية على السارق ممن انقطع حفظه بعارض نومه أو غيبته عنه "لا قياسا" عليه حتى يورد عليه أن الحدود لا تثبت بالقياس؛ لأن الثبوت به لا يعرى عن شبهة، والحدود تدرأ بها غير أن إطلاق قطعه إنما يتأتى على قول أبي يوسف والأئمة الثلاثة، وإلا فظاهر المذهب فيه تفصيل يعرف في الفقه. "والنباش لنقص فلا" أي وأن الاختصاص في النباش لنقص في المعنى وهو قصور مالية المأخوذ؛ لأن المال ما تجري فيه الرغبة والضنة والكفن ينفر عنه كل من علم أنه كفن به ميت إلا نادرا من الناس مع عدم(21/437)
ص -205-…مملوكيته لأحد أو تحقق شبهة فيها ونقصان الحرز وعدم الحافظ له، وإنما يسارق من لعله يهجم عليه من المارة غير حافظ، ولا قاصد فلا يحد حد السرقة عند أبي حنيفة ومحمد خلافا لأبي يوسف والأئمة الثلاثة؛ لأنه لو كان لكان بالقياس، والقياس الصحيح لا يفي بهذا فما الظن بغيره فإنه قد ظهر أنه يكون تعديه للحكم الذي في الأصل إلى الفرع بالمعنى الذي هو في الفرع دونه في الأصل، وأما السمعي في ذلك فأكثره ضعيف، فإن صلح منه شيء للحجية فمحمول على وقوعه سياسة لمعتاده لا حدا، وبه نقول ثم على الصحيح لا فرق عندهما بين ما إذا كان القبر في الصحراء أو في بيت مقفل لما ذكرنا. "وما" كان من خفاء اللفظ في المعنى الذي خفي اللفظ فيه "لتعدد المعاني الاستعمالية" للفظ "مع العلم بالاشتراك" أي بكون اللفظ مشتركا بينها "ولا معين" لأحدها "أو تجويزها" أي أو مع تجويز المعاني الاستعمالية للفظ "مجازية" له "أو بعضها" أي أو تجويز بعض المعاني الاستعمالية له ويستمر ذلك "إلى تأمل" بعد الطلب فذلك اللفظ "مشكل" اصطلاحا من أشكل عليه الأمر إذا دخل في أشكاله وأمثاله.(21/438)
فإن قيل فعلى هذا يصدق المشكل على المشترك اللفظي. قلنا: نعم "ولا يبالي بصدقه" أي المشكل "على المشترك" فيكون أعم منه لعدم التنافي؛ إذ يجوز أن يسمى الشيء باسمين مختلفين من جهتين "كأنى" أي مثال المشكل لفظ أنى "في أنى شئتم" بعد قوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} [البقرة: 223] فإنه مشترك بين معنيين "لاستعماله كأين" كما في قوله تعالى: {أَنَّى لَكِ هَذَا} [آل عمران: 37] "وكيف" كما في قوله تعالى: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة: 259] فاشتبه المعنى المراد في الآية على السامع واستمر ذلك "إلى أن تؤمل" بعد الطلب لهما والوقوف عليهما في موقعها هذا "فظهر الثاني" وهو كيف دون أين "بقرينة الحرث، وتحريم الأذى" أي ودلالة تحريم القربان في الأذى العارض وهو الحيض فإنه في الأذى اللازم أولى فيقتضي التخيير في الأوصاف أي سواء كانت قائمة أو نائمة أو مقبلة أو مدبرة بعد أن يكون المأتي واحدا وقد ظهر من هذا الفرق بين الطلب والتأمل وهو أن الطلب النظر أولا في معاني اللفظ وضبطها. والتأمل استخراج المراد منها، وأن المصنف إنما لم يذكر الطلب كما ذكروه لاستلزام التأمل تقدم الطلب عليه ثم غير خاف أن هذا أشد خفاء من الخفي، وسيظهر أنه أقل خفاء من المجمل والمتشابه فلا جرم أن كان مقابله النص "وما" كان من خفاء اللفظ في المعنى الذي خفي اللفظ فيه "لتعدد" في معناه "لا يعرف" المراد منه "إلا ببيان" من المطلق "كمشترك" لفظي "تعذر ترجيحه" في أحد معنييه أو معانيه "كوصية لمواليه" فإن المولى مشترك بين المعتق والمعتق "حتى بطلت" الوصية لمواليه "فيمن له الجهتان" من أعتقوه ومن أعتقهم إذا مات قبل البيان في ظاهر الرواية لبقاء الموصى له مجهولا بناء على تعذر العمل بعموم اللفظ وعدم ترجيح البعض على البعض وإلا فهنا روايات منها أن عن محمد إلا أن يصطلحا على أن يكون الموصى به بينهما فإنه يجوز كذلك ومنها أن عن أبي حنيفة(21/439)
وأبي يوسف جوازها وتكون للفريقين "أو إبهام متكلم" والوجه الظاهر أو ما أبهم المتكلم مراده منه "لوضعه" أي ذلك اللفظ "لغير ما عرف" مرادا منه عند إطلاقه بالنسبة إلى أصل وضعه "كالأسماء الشرعية من الصلاة والزكاة والربا" الموضوعة(21/440)
ص -206-…للمعاني المعروفة عند أهلها قبل علمهم بالوضع لها. واللفظ الغريب قبل تفسيره كالهلوع "مجمل" من أجمل الحساب رده إلى الجملة أو الأمر أبهمه.
ثم لما كان هذا أشد خفاء من المشكل لإمكان الوقوف على معناه بالاجتهاد كما بغيره بخلاف المجمل فإنه لا يوقف عليه بالاجتهاد كان مقابله المفسر "وما" كان من خفاء اللفظ في المعنى الذي خفي اللفظ فيه بحيث "لم يرج معرفته في الدنيا متشابه" اصطلاحا من التشابه بمعنى الالتباس "كالصفات" التي ورد بها الكتاب والسنة الصحيحة لله تعالى "في نحو اليد" والوجه الظاهر من نحو اليد "والعين" كما في قوله تعالى {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39] "والأفعال كالنزول" الوارد في الصحيحين وغيرهما ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى الثلث الأخير إلى غير ذلك مما دل السمعي القاطع على ثبوته لله - تعالى - مع القطع بامتناع معناه الظاهر عليه - سبحانه - بناء على ما عليه السلف من تفويض علمه إلى الله - تعالى - والسكوت عن التأويل مع الجزم بالتقديس والتنزيه واعتقاد عدم إرادة الظواهر المقتضية للحدوث والتشبيه كما هو المذهب الأسلم "وكالحروف في أوائل السور" ك الم و ص و حم وإطلاق الحروف عليها مع أنها أسماء مجاز كأنه لقصد رعاية الموافقة بين الاسم والمسمى؛ لأن مدلولاتها حروف ائتساء بالسلف الصالح من الصحابة وغيرهم في ذلك على ما نقل عنهم أو أريد بها الكلمات من إطلاق الخاص على العام. ثم هذا بناء على أنها سر من أسرار الله - تعالى - استأثر الله - تعالى - بعلمه كما هو قول الأكثر منهم أصحابنا والشعبي والزهري ومالك ووكيع والأوزاعي قال القاضي البيضاوي: وقد روي عن الخلفاء الأربعة وغيرهم من الصحابة ما يقرب منه ولعلهم أرادوا أنها أسرار بين الله ورسوله ورموز لم يقصد الله بها إفهام غيره؛ إذ يبعد الخطاب بما لا يفيد ا هـ. وتعقب بأن استئثار الله -(21/441)
تعالى - بعلمها يدفع كونها أسرارا بين الله ورسوله ثم عدم علم الخلق بمعناها لا يوجب أن لا تفيد شيئا وأن لا يكون لذكرها معنى أصلا؛ إذ يجوز أن يكون فائدته طلب الإيمان بها وأن يكون التحدي والتنبيه على الإعجاز ثم لما كان هذا أشدها خفاء كان مقابله المحكم.
ثم قيل: نظير الخفي من الحسيات من اختفى من طالبه من غير تغيير زيه ولا اختلاطه بين أشكاله فيعثر عليه بمجرد الطلب ولا يحتاج فيه إلى التأمل، ونظير المشكل من اغترب عن وطنه ودخل بين أشكاله فيطلب موضعه ثم يتأمل في أشكاله ليقف عليه. ونظير المجمل من اغترب عن وطنه وانقطع خبره فإنه لا ينال بالطلب والتأمل بدون الخبر عن موضعه، ونظير المشابه المفقود الذي لا طريق لدركه أصلا.
"وظهر" من هذا التقرير "أن الأسماء الثلاثة" المشكل والمجمل والمتشابه لما سميت به دائرة "مع الاستعمال لا" مجرد "الوضع كالمشترك" أي كما أن اسم المشترك يدور مع مجرد وضعه لمعنيين فصاعدا على البدل "والخفي" أي واسم الخفي "مع عروض التسمية والشافعي ما خفي مطلقا" أي سواء كان بنفس الصيغة أو بعارض عليها "مجمل، والإجمال في مفرد(21/442)
ص -207-…للاشتراك" كالعين لتردده بين معانيه "أو الإعلال" كمختار لتردده بين الفاعل والمفعول بإعلاله بقلب يائه المكسورة أو المفتوحة ألفا "أو جملة المركب" نحو قوله تعالى {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] لتردد جملة المركب التي هي الموصول مع صلته بين الزوج كما حمله أصحابنا والشافعي وأحمد عليه. ومن حجتهم ما روى الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ولي العقدة الزوج" وبين الولي كما حمله عليه مالك "ومرجع الضمير" منه إذا تقدمه أمران أن يصلح لكل منهما على السواء قيل: كحديث الصحيحين وغيرهما: "لا يمنع أحدكم جاره أن يضع خشبة في جداره" لتردد ضمير جداره بين عوده إلى: أحدكم كما ذهب إليه أحمد إذا كان لا يضره ولا يجد الواضع بدا منه مثل أن يكون الموضع له أربعة حيطان له منها واحد والباقي لغيره حتى يلزمه الحاكم إن امتنع وبين عوده إلى الجار نفسه فلا يلزمه إن امتنع كما ذهب إليه الأئمة الثلاثة قلت: والحق أن ظاهر السياق يعين رجوعه إلى أحد ثم هو محتاج إلى مخصص بما قيده به وهم محتاجون إلى الجواب عنه مطلقا، والكلام في ذلك غير هذا الموضع به أليق فالأولى التمثيل بقول من قال. وقد سئل عن أبي بكر وعلي رضي الله عنهما أيهما أفضل من بنته في بيته "وتقييد الوصف وإطلاقه في نحو" زيد "طبيب ماهر" لتردد ماهر بين رجوعه إلى: طبيب فيتقيد الوصف بالمهارة بكونها في الطب خاصة وبين رجوعه إلى زيد فيكون موصوفا بالمهارة مطلقا لا أن تكون صفة لصفة أخرى كما ذكر الأصفهاني "والظاهر أن الكل" أي إجمال كل ما تقدم من المثل "في مفرد بشرط التركيب" قلت: لكن من الظاهر أن الإجمال في اللفظ لاشتراكه أو لإعلاله في مفرد من غير شرط التركيب فالوجه استثناء ما كان هكذا من اشتراطه "وعندهم" أي الشافعية "المتشابه لكن مقتضى" كلام "المحققين تساويهما" أي المجمل والمتشابه "لتعريفهم(21/443)
المجمل بما لم تتضح دلالته" قيل من قول أو فعل لأن الإجمال يكون فيهما والدلالة أعم من اللفظية وغيرها ودلالة الفعل عقلية. ومن ثمة قال ما ولم يقل لفظ وخرج بلم تتضح دلالته المهمل؛ لأنه لا دلالة له والمبين لاتضاحها "وبما لم يفهم منه معنى أنه المراد" وهذا لم أقف عليه بهذا اللفظ، ولعله بالعناية ما في أصول ابن الحاجب وقيل: اللفظ الذي لا يفهم منه عند الإطلاق شيء.
وحينئذ فللقائل أن يقول: إن أراد بالمعترض عليه في قوله "وعليه اعتراضات ليست بشيء" ما في الكتاب فلا اعتراض عليه، وإن أراد ما في أصول ابن الحاجب فصحيح أن عليه اعتراضات مثل أنه غير مطرد لأن كلا من المهمل ولفظ المستحيل كذلك، وليس بمجمل، وغير منعكس؛ لأنه يجوز أن يفهم من المجمل أحد محامله لا بعينه كما في المشترك، وهو شيء فلا يصدق الحد عليه والمجمل قد يكون فعلا كقيام النبي صلى الله عليه وسلم من الركعة الثانية من غير تشهد فإنه محتمل للجواز والسهو وهو غير داخل في الحد؛ إذ ليس لفظا وحينئذ فلا نسلم أنها ليست بشيء بل هي واردة ظاهرا. وإنما يمكن أن يدفع بالعناية كما قال المحقق التفتازاني وغيره مثل أن يقال: المراد باللفظ الموضوع وبالشيء ما يصح إطلاق لفظ الشيء عليه لغة(21/444)
ص -208-…وإن لم يكن ثابتا في الخارج وبفهم الشيء فهمه على أنه مراد لا مجرد الخطور بالبال، والمقصود تعريف المجمل الذي هو من أقسام المتن، وهو لا محالة لفظ قلت: وعلى هذا لا حاجة إلى دعوى أن المعرف الأول إنما قال ما ولم يقل لفظ ليتناول الفعل المجمل لأن الإجمال يكون فيه أيضا بل حيث كان التعريف للمجمل الذي هو من أقسام المتن ينبغي الاحتراز من الفعل المجمل فليتنبه له "والمتشابه" أي ولتعريفهم إياه "بغير المتضح المعنى" فهذا تساو ظاهر بل اتحاد "وجعل البيضاوي إياه" أي المتشابه "مشتركا بين المجمل والمؤول" حيث قال: والمشترك بين النص والظاهر المحكم وبين المجمل والمؤول المتشابه.(21/445)
وفسر الشارحون القدر المشترك بين الأولين بالرجحان ويمتاز النص بأنه راجح مانع من النقيض دون الظاهر وبين الأخيرين بعدم الرجحان ويمتاز المؤول بأنه مرجوح دون المجمل فيكون المتشابه ما ليس براجح لا ما لم يتضح معناه كما هو صريح كلام غيره "مشكل؛ لأن المؤول ظهرت دلالته على المرجوح بالموجب" له فصار متضح المعنى حينئذ راجحا "لا يقال: يريده" أي كون المؤول غير متضح المعنى أو غير راجح "في نفسه مع قطع النظر عن الموجب" لا إرادة المعنى المرجوح له. وإنما لا يقال "لأنه" أي المؤول "حينئذ" أي حين كون المراد بكونه غير متضح المعنى أو غير راجح أنه غير متضحه أو غير راجحه في نفسه "ظاهر" بالنسبة إلى الموجب لصدق حده عليه حينئذ "لا يصدق عليه متشابه" لعدم صدق حده عليه، والفرض أنه جنس له صادق عليه "وأيضا يجيء مثله" أي هذا "في المجمل" فيقال: المراد بكونه غير متضح المعنى أو غير راجحه أنه غير متضحه أو راجحه في نفسه فيلزم أن يكون المجمل الذي لحقه بيان مجملا؛ لأنه في نفسه غير واضح المعنى ولا راجحه "لكن ما لحقه بيان خرج عن الإجمال بالاتفاق وسمي مبينا عندهم" أي الشافعية "والحنفية" قالوا: "إن كان" البيان "شافيا بقطعي فمفسر" أي فالمجمل حينئذ مفسر كبيان الصلاة والزكاة "أو" كان البيان شافيا "بظني فمؤول" أي فالمجمل حينئذ مؤول كبيان مقدار المسح بحديث المغيرة في صحيح مسلم "أو" كان البيان "غير شاف خرج" المجمل "عن الإجمال إلى الإشكال" لأن خفاء الإشكال دون الإجمال كبيان الربا بالحديث الوارد في الأشياء الستة في الصحيحين "فجاز طلبه" أي بيانه حينئذ "من غير المتكلم"؛ لأن بيان المشكل مما يكتفى فيه بالاجتهاد بخلاف الإجمال. "فلذا" أي للاتفاق المذكور "رد ما ظن من أن المشترك المقترن ببيان" للمراد منه "مجمل بالنظر إلى نفسه مبين بالنظر إلى المقارن" والظان الأصفهاني والراد المحقق التفتازاني ولفظه وليس بشيء إذ لم يعرف اصطلاح على ذلك(21/446)
بل كلام القوم صريح في خلافه على أن الحق أنه يصدق على المشترك المبين من حيث إنه مبين أنه لا يمكن أن يعرف منه مراده بل إنما عرف بالبيان "والحاصل أن لزوم الاسمين" المبين والمجمل "باعتبار ما ثبت في نفس الأمر للفظ من البيان أو الاستمرار على عدمه" أي البيان فلا يجتمعان للتنافي بينهما حينئذ، وإذا عرف هذا "فالمجمل أعم عند الشافعية" منه عند الحنفية "ويلزمه" أي كونه أعم عند الشافعية "أن بعض أقسامه" أي المجمل "يدرك" بيانه "عن غير المتكلم، وبعضه" أي(21/447)
ص -209-…المجمل "لا" يدرك بيانه "إلا منه" أي المتكلم "إذ لا ينكر جواز وجود إبهام كذلك" أي لا يدرك معرفته إلا ببيان من المتكلم "وكذا المتشابه" بعض أقسامه يدرك عن غير المتكلم، وبعضها لا أيضا لتساويهما "إلا أنهم" أي الشافعية "والأكثر على إمكان دركه" أي المتشابه المتفق على أنه متشابه في الدنيا "خلافا للحنفية" حيث قالوا: لا يمكن دركه فيها أصلا، والذي ذكره صاحب الكشف والتحقيق وغيره أن هذا مذهب عامة الصحابة والتابعين وعامة متقدمي أهل السنة من أصحابنا وأصحاب الشافعي والقاضي أبي زيد وفخر الإسلام وشمس الأئمة وجماعة من المتأخرين إلا أن فخر الإسلام وشمس الأئمة استثنيا النبي صلى الله عليه وسلم فذكرا أن المتشابه وضح له دون غيره وذهب أكثر المتأخرين إلى أن الراسخ يعلم تأويل المتشابه.(21/448)
"وحقيقة الخلاف" بين الطائفتين "في وجود قسم" من أقسام اللفظ باعتبار خفاء دلالته "كذلك" أي على هذا الوجه من انقطاع رجاء معرفته في الدنيا "ولا يخفى أنه بحث عن" وجود "قسم شرعي" أي من الخطابات الشرعية، وهو الخطاب بما لا يعرف معناه إلا في الآخرة هل هو واقع منه - تعالى - أو لا "لا لغوي استتبع" أي استطرد في هذا التقسيم "فجاز عندهم" أي الشافعية "اتباعه طلبا للتأويل وامتنع عندنا فلا يحل ولا نزاع في عدم امتناع الخطاب بما لا يفهم ابتلاء للراسخين بإيجاب اعتقاد الحقية" أي حقية ما أراد الله - تعالى - منه على الإبهام "وترك الطلب" للوقوف عليه معينا "تسليما عجزا" أي استسلاما لله واعترافا بالقصور عن درك ذلك ليعلموا أن الحكم لله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ولأن الابتلاء في الوقف من حيث التسليم لله - تعالى - والتفويض إليه واعتقاد حقية ما أراد الله - تعالى - بدون الوقوف على مراده عبودية والإمعان في الطلب ائتمار بالأمر وهو عبادة والعبودية أقوى؛ لأنها الرضا بما يفعل الرب - سبحانه - والعبادة فعل ما يرضي الرب، والعبادة تسقط في العقبى والعبودية لا فظهر أن لا نزاع في عدم امتناع هذا عقلا "بل" إنما النزاع "في وقوعه" أي الخطاب بما لا يفهم ابتلاء للراسخين كما ذكرنا "فالحنفية نعم" هو واقع "لقوله تعالى {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] "عطف جملة" اسمية المبتدأ منها الراسخون "خبره يقولون؛ لأنه - تعالى - ذكر أن من الكتاب متشابها يبتغي تأويله قسم وصفهم بالزيغ فلو اقتصر" على هذا "حكم بمقابلهم قسم بلا زيغ لا يبتغون" تأويله "على وزان {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ} [النساء: 175] اقتضى مقابله" وهو وأما الذين كفروا فلهم كذا وكذا "فتركه" إيجاز الدلالة(21/449)
قسيمه عليه كما هو أسلوب من الأساليب البلاغية "فكيف وقد صرح به أعني،الراسخون وصحت جملة التسليم "وهي: يقولون آمنا به كل من عند ربنا "خبرا عنه" أي عن الراسخون "فيجب اعتباره كذلك" وممن نص على أن الظاهر هذا أبو حيان، وعلى هذا فقوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} جملة معترضة بين القسمين. "فإن قيل قسم الزيغ المتبعون" ما تشابه منه ابتغاء الفتنة والتأويل، فالقسم المحكوم بمقابلته بنفي الأمرين" ابتغاء الفتنة والتأويل جميعا لا ينفي أحدهما فلا يلزم منه ذم من اتبعه ابتغاء التأويل فقط "قلنا قسم الزيغ بابتغاء كل" من الوصفين على الاستقلال "لا المجموع؛ إذ الأصل استقلال(21/450)
ص -210-…الأوصاف" على أن الإجماع على ذم من اتبعه ابتغاء الفتنة فقط بأن يجريه على الظاهر بلا تأويل فكذا من اتبعه ابتغاء التأويل فقط "ولأن جملة يقولون حينئذ" أي حين يكون الراسخون عطفا على الله لا قسيما لقوله: فأما الذين في قلوبهم زيغ "حال" من الراسخون "ومعنى متعلقها" أي هذه الجملة حينئذ "ينبو عن موجب عطف المفرد لأن مثله في عادة الاستعمال يقال للعجز والتسليم" وهذا التقدير ينافيه "وغاية الأمر أن مقتضى الظاهر أن يقال وأما الراسخون" فيقولون ليوافق قسيمه فحذفت أما منه لدلالة ذكرها ثمة عليها هنا؛ لأنها لا تكاد توجد مفصلة إلا وتثنى أو تثلث ثم حذفت الفاء؛ لأنها من أحكامها وحينئذ يقال. "فإذا ظهر المعنى وجب كونه على مقتضى الحال المخالف لمقتضى الظاهر" كما هو شأن البلاغة "مع أن الحال قيد للعامل، وليس علمهم" أي الراسخون بتأويله "مقيدا بحال قولهم آمنا به كل من عند ربنا" على تقدير كونهم يعلمون تأويله فهذا أيضا مما ينافي كون يقولون جملة حالية من الراسخين ثم إيضاح ما ذكرنا أن الآية من باب الجمع والتفريق والتقسيم، فالجمع قوله تعالى {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [آل عمران: 7] والتقسيم قوله {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] والتفريق قوله {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} [آل عمران: 7] فلا بد من جعل قوله: {وَالرَّاسِخُونَ} [آل عمران: 7] قسيما له كأنه قيل فأما الزائغون فيتبعون المتشابه. وأما الراسخون فيتبعون المحكم ويردون المتشابه إلى المحكم إن قدروا وإلا فيقولون كل من المحكم والمتشابه من عند الله ثم جيء بقوله {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7] تذييلا وتعريضا بالزائغين ومدحا للراسخين يعني من لم يذكر، ولم يتعظ ويتبع هواه فليس من أولي الألباب، ومن ثمة قال الراسخون: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا(21/451)
بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8] وما ذكر المحقق التفتازاني من الجواب عن هذا في حاشية الكشاف بما يعرف ثمة لا يدفع ظهور هذا كما لا يخفى على من أحاط علما بما تقدم من التوجيه مع الإنصاف "وأيد حملنا قراءة ابن مسعود وإن تأويله إلا عند الله" وقراءة ابن عباس رضي الله عنهما ويقول الراسخون في العلم آمنا به كما أخرجها سعيد بن منصور عنه بإسناد صحيح وعزيت إلى أبي أيضا. "فلو لم تكن" قراءة ابن مسعود "حجة" مستقلة "صلحت مؤيدا" لما قدمناه "على وزان ضعيف الحديث" الذي ضعفه ليس بسبب فسق راويه "يصلح شاهدا" للحكم الثابت على وفقه بإجماع ظني أو قياس "وإن لم يكن مثبتا" لذلك الحكم لو انفرد "فكيف والوجه منتهض على الحجية كما سيأتي إن شاء الله - تعالى" أي حجية القراءة الشاذة إذا صحت عمن نسبت إليه من الصحابة خصوصا مثل ابن مسعود إذ لا تنزل عن كونها خبرا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه إنما يقرؤها رواية عنه صلى الله عليه وسلم وهذا معنى ما أشار إليه بقوله كما سيأتي يعني في مباحث الكتاب وما في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7] إلى قوله {أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7] قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإذا رأيت الذين يتبعون(21/452)
ص -211-…ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم وما أخرج الطبري وابن أبي حاتم بإسناد صحيح عن عائشة أنها قالت في قوله تعالى {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] انتهى علمهم إلى أن آمنوا بمتشابهه ولم يعلموا تأويله.
هذا وقد أورد على استثناء فخر الإسلام وشمس الأئمة وضوح المتشابه للنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره بأنه يتراءى مخالفا لظاهر الكتاب؛ لأن الوقف إن وجب على: إلا الله كما هو مختارهما موافقة للسلف فهو يقتضي أن لا يعلمه الرسول كغيره من العباد وإن كان الوقف على: والراسخون في العلم كما هو مختار الخلف يلزم أن لا يكون الرسول مخصوصا بعلمه وأجيب بأن معنى الآية على تقدير الوقف على إلا الله وما يعلم أحد تأويله بدون تعليم الله كما في قوله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65] أي لا يعلم بدون تعليم الله إلا الله فيكون إلا حينئذ بمعنى غير، وإذا كان كذلك جاز أن يكون الرسول مخصوصا بالتعليم بدون إذن بالبيان لغيره فيبقى غير معلوم في حق غيره واعترض بأن الآية تقتضي حصر العلم على الله، وإذا صار الرسول صلى الله عليه وسلم عالما بالمتشابهات النازلة قبل نزول هذه الآية بالتعليم لا يستقيم الحصر وكان يقال: تأويله إلا الله ورسوله وأجيب عنه بأنه يجوز أن يكون التعليم حاصلا بعد نزول هذه الآية فلا يكون الرسول عالما بالمتشابه قبل نزولها فيستقيم الحصر بقوله وما يعلم تأويله إلا الله وبأن الآية دلت على حصر العلم على الله عز وجل وعلى من علمه الله بالتأويل الذي ذكر ألا ترى أن تلك الآية توجب حصر علم الغيب على الله - تعالى، ثم لا يمتنع أن يعلمه غير الله بتعليمه كما قال تعالى {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26-27] فكذا هنا كذا في الكشف ولا يعرى عن بحث لمن تحقق ثم بقي من(21/453)
الراسخ في العلم؟ فأخرج ابن أبي حاتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الراسخين في العلم فقال: " من برت يمينه وصدق لسانه واستقام قلبه ومن عف بطنه وفرجه" فذلك من الراسخين في العلم. "وجرت عادة الشافعية باتباع المجمل بخلاف في جزئيات أنها منه في مسائل الأولى التحريم المضاف إلى الأعيان" كحرمت عليكم أمهاتكم حرمت عليكم الميتة والتحليل المضاف إليها نحو أهلت لكم بهيمة الأنعام "عن الكرخي والبصري" أبي عبد الله "إجماله والحق" كما قال الجمهور "ظهوره" أي أنه ظاهر "في معين لنا الاستقراء في مثله" من إضافة الحكم الشرعي إلى الذوات تفيد عرفا أن المراد المعنى المقصود منها حتى إن المراد من إضافة التحريم إليها "إرادة منع الفعل المقصود منها" أي من الأعيان "حتى كان" المنع المذكور "متبادرا" أي سابقا إلى الفهم عرفا "من: حرمت الحرير والخمر والأمهات" وهو اللبس في الحرير والشرب في الخمر والاستمتاع بالوطء ودواعيه في الأمهات والتبادر دليل الظهور "فلا إجمال قالوا لا بد من تقدير فعل" يتعلق بها لأن التحريم والتحليل تكليف هو بما هو مقدور العبد، ومقدوره الفعل لا العين فإن قدر جميع الأفعال المتعلقة بها فمحال لأن من جملتها الامتناع عنها مع أن التقدير للضرورة وهي مندفعة بالبعض فيقدر هو لا الجميع(21/454)
ص -213-…"أفاد" هذا التركيب "بعضا مطلقا ويحصل" البعض المطلق "في ضمن الاستيعاب" أي استيعاب الرأس بالمسح "وغيره" أي الاستيعاب وهو مسح بعض منه أي بعض كان لصدق البعض المطلق عليه "فلا إجمال" لظهوره في بعض مطلق "ثم ادعى مالك عدمه" أي العرف المصحح إرادة البعض "فلزم الاستيعاب" لاتضاح دلالته بالمقتضى السالم عن المعارض ولا يخفى أن كليهما ممنوع ثم لو لم يكن رادا له إلا ما في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته لكفى "والشافعية ثبوته" أي العرف المصحح إرادة البعض "في نحو مسحت يدي بالمنديل" بكسر الميم فإن معناه ببعضه فلزم التبعيض. "أجيب" عن هذا "بأنه" أي التبعيض في مثله هو "العرف فيما هو آلة لذلك" أي فيما كان مدخول الباء آلة الفعل كاليد في هذا ومدخولها في الآية المحل قال المصنف "والأوجه أنه" أي التبعيض في هذا "ليس للعرف" المذكور "بل للعلم بأنه" أي المسح فيه "للحاجة وهي" أي الحاجة "مندفعة ببعضه" أي المنديل عادة "فتعلم إرادته" أي البعض عرفا بهذا السبب.
ولقائل أن يقول: الظاهر أن العرف إنما كان مفيدا للتبعيض في مثله لهذا العلم فلا يتم نفي كونه للعرف نعم إسناده إليه أولى لكونه بمنزلة العلة القريبة مع البعيدة "قالوا" أي الشافعية "الباء للتبعيض" وقد دخلت على الرأس فتقيد كون المفروض مسح بعضه كما هو المشهور من مذهبه وعليه معظمهم "أجيب بإنكاره" أي التبعيض "كابن جني" بسكون الياء معرب كني بين الكاف والجيم. "واعلم أن طائفة من المتأخرين" النحويين كالفارسي والقتبي وابن مالك "ادعوه في نحو:
شربن بماء البحر ثم ترفعت" …متى لجج خضر لهن نئيج(21/455)
أي شرب السحب من ماء البحر ثم ترفعت من لجج خضر، والحال أن لهن تصويتا إلى غير ذلك "وابن جني يقول في سر الصناعة: لا يعرفه أصحابنا" ورد بأنه شهادة على النفي وأجيب بأنها على ثلاثة أقسام معلومة نحو العرب لم تنصب الفاعل وظنية عن استقراء صحيح نحو ليس في كلام العرب اسم متمكن آخره واو لازمة قبلها ضمة وشائعة غير منحصرة نحو لم يطلق زيد امرأته من غير دليل فهذا هو المردود، وكلام ابن جني من الثاني؛ لأنه شديد الاطلاع على لسان العرب وسيحكي المصنف إنكاره أيضا عن محققي العربية وأن الباء في هذا زائدة، وأن زيادتها استعمال كثير متحقق. وقال ابن مالك: والأجود تضمين شربن معنى روين "والحاصل أنه" أي كونها للتبعيض "ضعيف للخلاف القوي" في كونها له "ولأن الإلصاق معناها" والأحسن ولأن معناها الإلصاق "المجمع عليه لها ممكن" كما هو ظاهر ومن ثمة قال الزمخشري المعنى: ألصقوا المسح بالرأس "فيلزم" كونه المراد بها هنا "ويثبت التبعيض اتفاقيا لعدم استيعاب الملصق" الذي هو آلة المسح عادة، وهي اليد الملصق به وهو الرأس كما يأتي مزيد إيضاحه "لا" أن التبعيض يثبت لها "مدلولا وجه الإجمال أن الباء إذا دخلت في الآلة تعدي الفعل إلى المحل فيستوعبه" أي الفعل المحل "كمسحت يدي بالمنديل" فاليد كلها(21/456)
ص -214-…ممسوحة "وفي قلبه" أي إذا دخلت في المحل "يتعدى" الفعل "إلى الآلة فيستوعبها" أي الفعل الآلة "وخصوص المحل هنا" وهو الرأس "لا يساويها" أي الآلة التي هي اليد "فلزم تبعيضه" أي المحل ضرورة نقصانها عنه في المقدار "ثم مطلقه" أي التبعيض "ليس بمراد وإلا اجتزئ" أي: اكتفي "بالحاصل في غسل الوجه عند من لا يشرط الترتيب والكل" يعني من شرط الترتيب ومن لم يشرطه "على نفيه" أي الاجتزاء بذلك "فلزم كونه" أي البعض "مقدارا، ولا معين" لكميته. "فكان" البعض "مجملا في الكمية الخاصة، وقد يقال: عدم الاجتزاء لحصوله" أي ذلك البعض "تبعا لتحقيق غسل الوجه لا يوجب نفي الإطلاق اللازم" للإلصاق فلا إجمال "والحق أن التبعيض اللازم" للإلصاق "ما بقدر الآلة" للمسح التي هي اليد "لأنه" أي التبعيض "جاء ضرورة استيعابها" أي الآلة "وهي" أي الآلة "غالبا كالربع فلزم" الربع كما هو ظاهر المذهب لا الإجمال، ولا الإطلاق مطلقا "وكونه" أي الربع "الناصية" وهي المقدم من الرأس "أفضل لفعله صلى الله عليه وسلم" كما سيذكره المصنف في مسألة الباء.(21/457)
الثالثة لا إجمال في نحو "رفع عن أمتي الخطأ" الحديث، وتقدم تخريجه بمعناه خلافا للبصريين أبي عبد الله وأبي الحسين "لأن العرف في مثله" أي هذا التركيب "قبل الشرع رفع العقوبة، والإجماع على إرادته" أي رفعها "شرعا" فإن قيل فيجب أن يسقط عنه ضمان ما أتلف من مال الغير لدخوله في عموم العقاب وقد رفع قلنا لا "وليس الضمان عقوبة" إذ يفهم من العقاب ما يقصد به الإيذاء والزجر، والضمان لا يفهم منه ذلك "بل" يجب "جبر الحال المغبون" المتلف عليه "قالوا" أي المجملون المفهومون مما تقدم قبل الشروع في هذه المسائل وقد كان الأولى ذكرهم في هذه أولا ولو على سبيل الإبهام كما في غيرها "الإضمار" لمتعلق الرفع "متعين" كما تقدم وهو متعدد ولا موجب لجميعه "ولا معين" لبعض بخصوصه فلزم الإجمال "أجيب عينه" أي البعض بخصوصه وهو رفع العقوبة "العرف المذكور" الرابعة لا إجمال فيما ينفى من الأفعال الشرعية محذوفة الخبر كـ"لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" فما زاد أخرجه جماعة منهم الحاكم وقال: حديث صحيح "إلا بطهور" والله - تعالى - أعلم بهذا اللفظ، والذي في كتاب الصحابة لابن السكن "ألا لا صلاة إلا بوضوء" "خلافا للقاضي" أبي بكر الباقلاني "لنا أن ثبت" أن الصحة جزء مفهوم "الاسم الشرعي" وسيأتي ما فيه "ولا عرف" للشارع "يصرف عنه" أي عن كون المراد المفهوم الشرعي "لزم تقدير الوجود" لأن عدم الوجود الشرعي هو عدم الصحة الشرعية كما في "لا صلاة إلا بطهور" "وإلا" أي وإن لم يثبت كون الصحة جزء مفهوم الاسم الشرعي "فإن تعورف صرفه" أي النفي شرعا في مثل ذلك "إلى الكمال لزم" تقديره كما في "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" أخرجه الدارقطني والحاكم في مستدركه وسكت عنه وقال ابن حزم: هو صحيح من قول علي "وإلا" أي وإن لم يتعارف صرفه شرعا في مثل ذلك إلى الكمال "لزم تقدير الصحة؛ لأنه" أي تقديرها "أقرب إلى نفي الذات" التي هي الحقيقة المتعذرة من تقدير الكمال؛(21/458)
لأن ما لا يصح كالعدم في عدم الجدوى بخلاف ما لم يكمل كما في "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" ولا يضر هذا الحنفية؛ لأنه(21/459)
ص -215-…خبر واحد فقضوا حقه بقولهم بوجوبها "وهذا" أي: لزوم تقدير الصحة على هذا التقدير "ترجيح لإرادة بعض المجازات المحتملة" على بعض بالمقتضى له المتفق عليه "لا إثبات اللغة بالترجيح" السالف في بحث المفهوم عدم جوازه "قالوا": أي المجملون "العرف" شرعا فيه "مشترك بين الصحة والكمال" بشهادة ما تقدم من الأمثلة "فلزم الإجمال قلنا: ممنوع" ذلك ولا شهادة لما تقدم عليه "بل" الأمر فيه على ما ذكرنا واختلاف التقدير "لاقتضاء الدليل في خصوصيات الموارد" "الخامسة لا إجمال في القطع واليد فلا إجمال في فاقطعوا أيديهما وشرذمة نعم" أي في القطع، واليد إجمال "فنعم" أي فالآية الشريفة مجملة فيهما "لنا أنهما" أي القطع واليد "لغة لجملتها" أي اليد من رءوس الأصابع "إلى المنكب" وهو مجتمع رأس الكتف والعضد "والإبانة" أي لفصل المتصل "قالوا" أي المجملون "يقال" اليد "للكل" أي لما من رءوس الأصابع إلى المنكب ويقال أيضا لما منها إلى المرفق "وإلى الكوع" أي ويقال لما منها إلى طرف الزند الذي يلي الإبهام "والقطع للإبانة والجرح" أي شق العضو من غير إبانة له بالكلية "والأصل الحقيقة" ولا مرجح فكانا مجملين. "والجواب" المنع "بل" كل من اليد والقطع "مجاز في" المعنى "الثاني" لهما وهو ما من رءوس الأصابع إلى الكوع في اليد وكذا فيما منها إلى المرفق، والجرح في القطع "للظهور" أي لظهور لفظ اليد ولفظ القطع "في الأولين" وهو ما من رءوس الأصابع إلى المنكب في اليد والإبانة في القطع "فلا إجمال واستدل" بمزيف على المختار من عدم الإجمال في اليد والقطع وهو أن كلا منهما "يحتمل الاشتراك" اللفظي فيما تقدم له من المعاني "والتواطؤ" أي وأن يكون متواطئا فيها لوضع لفظه للقدر المشترك بينها "والمجاز" أي وأن يكون حقيقة لأحدها مجازا للباقي "والإجمال على أحدها" أي هذه الاحتمالات وهو الاشتراك اللفظي "وعدمه" أي الإجمال "على اثنين" منها وهما التواطؤ لحمله على(21/460)
القدر المشترك، والمجاز لحمله على الحقيقة "وهو" أي عدم الإجمال "أولى" لأن وقوع واحد لا بعينه من اثنين أقرب من وقوع واحد بعينه فيغلب على الظن الأقرب؛ لأنه الأغلب فيظن عدم الإجمال وهو المطلوب. "ودفع" هذا الاستدلال "بأنه إثبات اللغة بتعيين ما وضع له اليد بالترجيح بعدم الإجمال على أن نفي الإجمال في الآية على تقدير التواطؤ ممنوع إذ الحمل على القدر المشترك لا يتصور إذ لا يتصور إضافة القطع إليه" أي إلى القدر المشترك "إلا على إرادة الإطلاق وهو" أي الإطلاق "منتف إجماعا"؛ لأنه ليس المراد الأمر بقطع ما شاء الإمام من بعضها أو كلها كما هو اللازم من إرادة الإطلاق "فكان" محل القطع "محلا معينا منها" أي من اليد "ولا معين، والحق لا تواطؤ، وإلا ناقض كونه للكل" فإنه إذا كان متواطئا كان كليا يصدق على كثيرين فتكون تلك الأجزاء من الأصابع إلى المنكب ما صدقات لفظ اليد فيصدق على كل جزء بخصوصه اسم اليد حقيقة كالأصبع، وهذا ينافي كونه للكل المعين الذي أوله رءوس الأصابع وآخره المنكب فإن ما بين ذلك يكون أجزاء المسمى، وعلى التواطؤ جزئياته، والأول هو المختار، وقد أضيف إليه القطع "لكن(21/461)
ص -216-…نعلم إرادة القطع في خصوص منه" أي من ذلك الكل لا إرادة القطع من المنكب، ولا الإطلاق للحاكم بأن يقطع من أي محل شاء "ولا معين" لذلك الخصوص "فإجماله فيه" أي فكان القطع مجملا في حق المحل كذا أفاده المصنف رحمه الله تعالى "وأما إلزام أن لا مجمل حينئذ" أي حين يتم هذا التوجيه للإجمال في اليد والقطع فإنه ما من مجمل إلا يجري فيه هذا بعينه "فدفع" هذا الإلزام "بأن ذلك" أي جريان هذا التوجيه في كل مجمل "إذا لم يتعين" الإجمال بدليله "لكن تعينه" أي الإجمال "ثابت بالعلم بالاشتراك والحقائق الشرعية" وهي كلها مجملة لصدق المجمل عليها.(21/462)
"السادسة لا إجمال فيما له مسميان لغوي وشرعي بل" ذلك اللفظ إذا صدر عن الشرع "ظاهر في الشرعي" في الإثبات والنهي وهذا أحد الأقوال في هذه المسألة، وهو المختار، وثانيها للقاضي أبي بكر أنه مجمل فيهما "وثالثها للغزالي في النهي مجمل" وفي الإثبات للشرعي "ورابعها" لقوم منهم الآمدي هو "فيه" أي في النهي "للغوي" وفي الإثبات للشرعي "لنا عرفه" أي الشرع "يقضي بظهوره" أي اللفظ "فيه" أي المعنى الشرعي لاستعماله فيه "الإجمال" فيهما "يصلح لكل" منهما ولم يظهر لأحدهما، وأجيب بظهوره في الشرعي بما ذكرنا "الغزالي الشرعي ما وافق أمره" أي الشرع "وهو" أي ما وافق أمره "الصحيح" فالشرعي هو الصحيح وهذا يتأتى في الإثبات "ويمتنع في النهي"؛ لأن النهي يدل على الفساد "أجيب ليس الشرعي الصحيح بل" إنما هو "الهيئة" أي ما يسميه الشرع بذلك الاسم من الهيئات المخصوصة صحت أو لم تصح وإلا لزم أن يكون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت حبيش: "فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة" كما في صحيح البخاري مجملا في المعنى الشرعي والدعاء، واللازم منتف؛ لأنه ظاهر في معناه الشرعي قطعا؛ لأن الحائض غير منهية عن الصلاة بمعنى الدعاء قلت على أن امتناع الشرعي في النهي يقتضي أن يكون ظاهرا في اللغوي كما سنذكره في توجيه الرابع لا مجملا "والرابع مثله" أي وتوجيه القول الرابع كتوجيه الثالث "غير" أنه يقال "إنه" أي اللفظ "في النهي للغوي؛ إذ لا ثالث" للغوي والشرعي "وقد تعذر الشرعي" للزوم صحته وأنه باطل كبيع الحر فتعين اللغوي فلا إجمال "وجوابه ما تقدم" من أن الشرعي ليس الصحيح، وبأنه يلزم في الحديث المذكور أن يكون المنهي عنه اللغوي وهو الدعاء، وبطلانه ظاهر هذا على ما ذكره غير الحنفية "فأما الحنفية فاعتبروا وصف الصحة في الاسم الشرعي على ما يعرف" في النهي "فالصحة في المعاملة ترتب الآثار مع عدم وجوب الفسخ، والفساد عندهم" ترتب الآثار "معه" أي مع وجوب(21/463)
الفسخ "وإن كان" الصحيح "عبادة فالترتب" قال المصنف رحمه الله تعالى: المراد من هذا أن الحنفية اعتبروا في الاسم الشرعي الصحة على قول المخالفين لهم، وهي ترتب الآثار واستتباع الغاية وهذا القدر عند الحنفية ليس تمام معنى الصحة مطلقا بل في العبادات أما المعاملات فالصحة عندهم ذلك مع قيد كونه غير مطلوب التفاسخ فأما ترتب الآثار فقط فيهما فهو الفساد عندهم لفرقهم في المعاملات بين الصحيح والفاسد، والباطل وهو ما لا ترتب فيه أصلا فصار الحاصل أنهم(21/464)
ص -217-…اعتبروا في الاسم ترتب الأثر المطلوب الذي هو الصحة تارة وتارة بعض الصحة "فيراد" بالاسم الشرعي "في النفي الصورة مع النية في العبادة ويكون مجازا شرعيا في جزء المفهوم" حتى يكون اسم الصلاة في لا صلاة للأفعال المعلومة مع النية لا غير.
"السابعة إذا حمل الشارع لفظا شرعيا على آخر وأمكن في وجه التشبيه مجملان شرعي ولغوي لزم الشرعي كالطواف" بالبيت "صلاة" إلا أن الله قد أحل لكم فيه الكلام فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير" كما هو حديث رواه جماعة منهم الحاكم وقال: صحيح الإسناد "يصح ثوابا أو لاشتراط الطهارة" فيه "وهو" أي وكل من الثواب واشتراطها هو المعنى "الشرعي أو لوقوع الدعاء فيه" أي في الطواف "وهو" أي وقوع الدعاء فيه هو المعنى "اللغوي والاثنان جماعة" كما هو حديث رواه جماعة بأسانيد ضعيفة منهم ابن ماجه بلفظ "اثنان فما فوقهما جماعة" فإنه يحتمل "في ثوابها" أي الجماعة "وسنة تقدم الإمام" عليهم "والميراث" حتى يحجب الاثنان من الإخوة الأم من الثلث إلى السدس كالثلاثة فصاعدا وهذا هو الشرعي "أو يصدق عليهما" أي على الاثنين أنهما جماعة "لغة". وذهب طائفة منهم الغزالي إلى أنه مجمل "لنا عرفه" أي الشارع "تعريف الأحكام" الشرعية؛ لأنه بعث لبيانها "وأيضا لم يبعث لتعريف اللغة" فيحمل على الشرعي؛ لأنه الموافق لما هو المقصود من البعثة "قالوا" أي المجملون: وكان الأحسن سبق ذكرهم كما تقدم "يصح" اللفظ "لهما ولا معرف" لأحدهما بعينه "قلنا": ممنوع بل "ما ذكرنا" من أن عرف الشارع تعريف الأحكام لا اللغة "معرف" أن المراد المعنى الشرعي.(21/465)
"الثامنة إذا تساوى إطلاق لفظ لمعنى ولمعنيين فهو" أي ذلك اللفظ "مجمل" لتردده بين المعنى والمعنيين على السواء وقيل يترجح المعنيان؛ لأنه أكثر فائدة "كالدابة للحمار له" أي للحمار "مع الفرس وما رجح به" القول بظهوره في المعنيين "من كثرة المعنى" أي من أن المعنيين أكثر فائدة فالظاهر أراد بهما "إثبات الوضع بزيادة الفائدة" وقد عرف بطلانه كذا قالوه وتعقبه المصنف بقوله "وهو" أي وكون هذا إثبات الوضع بزيادة الفائدة "غلط بل" هو "إرادة أحد المفهومين" للفظ "بها" أي بزيادة الفائدة، وهو ليس بباطل "نعم هو" أي هذا الترجيح "معارض بأن الحقائق لمعنى أغلب" منها لمعنيين فجعله من الأكثر أظهر "وقولهم" أي المجملين: اللفظ "يحتمل الثلاثة" أي الاشتراك اللفظي والتواطؤ والمجاز بالنسبة إلى المعنى والمعنيين "كما في والسارق" أي كما تحتملها اليد والقطع بالنسبة إلى معانيهما في الآية الشريفة، ووقوع واحد من اثنين أقرب من وقوع واحد بعينه فيغلب على الظن الأقرب فيظن عدم الإجمال، وهو المطلوب "اندفع" هنا أيضا بما اندفع به ثمة من أنه إثبات اللغة بالترجيح بعدم الإجمال، وهو باطل هذا. واعلم أن اللفظ المذكور إنما يكون مجملا بالنسبة إلى المعنى وإلى المعنيين إذا لم يكن ذلك المعنى أحدهما فأما إذا كان أحدهما كما في المثال المذكور فالظاهر أنه لا يكون مجملا بالنسبة إليه لوجوده في الاستعمال فيعمل به كما نبه(21/466)
ص -218-…عليه السبكي والظاهر أنه مرادهم أيضا وإنما يكون مجملا بالنسبة إلى الآخر، والله - سبحانه – أعلم.
الفصل الثالث في المفرد باعتبار مقايسته إلى مفرد آخر
"هو بالمقايسة إلى آخر إما مرادف" للآخر وقوله: "متحد مفهومهما" صفة كاشفة له؛ لأن الترادف توارد كلمتين فصاعدا في الدلالة على الانفراد بأصل الوضع على معنى واحد من جهة واحدة فخرج بقيد الانفراد التابع والمتبوع وبأصل الوضع الدالة على معنى واحد مجازا والدال بعضها مجازا وبعضها حقيقة وبوحدة المعنى ما يدل على معان متعددة كالتأكيد والمؤكد وبوحدة الجهة الحد والمحدود فمن هنا قيل المترادف لفظ مفرد دال بالوضع على مدلول لفظ آخر مفرد دال بالوضع باعتبار واحد مأخوذ من الترادف الذي هو ركوب واحد خلف آخر كأن المعنى مركوب، واللفظان راكبان عليه "كالبر والقمح" للحب المعروف "أو مباين" للآخر، وقوله "مختلفه" أي المفهوم صفة كاشفة له؛ لأن التباين الاختلاف في المعنى؛ إذ المباينة المفارقة ومتى اختلف المعنى لم يكن المركوب واحدا فتتحقق المفارقة بين اللفظين للتفرقة بين المركوبين "تواصلت" معانيهما بأن أمكن اجتماعها بأن يكون أحدهما اسما للذات والآخر صفة لها "كالسيف والصارم" فإن السيف اسم للذات المعروفة سواء كانت كالة أم لا والصارم مدلوله شديد القطع، وقد يجتمعان في سيف قاطع أو أحدهما صفة والآخر صفة الصفة كالناطق والفصيح فإن الناطق صفة الإنسان مع أنه قد يكون فصيحا وقد لا يكون فالفصيح صفة الناطق وتجميع الثلاثة في زيد متكلم فصيح إلى غير ذلك "أو لا" أي أو تفاصلت لعدم إمكان اجتماعها كالسواد والبياض.
مسألة(21/467)
"المترادف واقع خلافا لقوم قولهم" أي القائلين بأنه غير واقع لو وقع لزم تعريف المعرف؛ لأن اللفظ الثاني يعرف ما عرفه الأول وهو محال؛ إذ لا فائدة فيه يجاب بأن قولهم: "لا فائدة في تعريف المعرف لو صح لزم امتناع تعدد العلامات"؛ لأن كلا المترادفين علامة على المعنى يحصل المعرفة بهما بدلا لا معا واللازم ممنوع فكذا الملزوم "ثم فائدته" أي الترادف "التوصل إلى الروي" وهو الحرف الذي تبنى عليه القصيدة ويلزم في كل بيت إعادته في آخره فإن أحد المترادفين قد يصلح للروي كالإنسان دون الآخر كالبشر كما في قول الحماسي:
كأن ربك لم يخلق لخشيته …سواهم من جميع الناس إنسانا
"وأنواع البديع" كالتجنيس "إذ قد يتأتى بلفظ دون آخر" كما في: رحبة رحبة إذ لو قيل واسعة عدم التجانس إلى غير ذلك "وأيضا فالجلوس والقعود والأسد والسبع مما لا يتأتى فيه كونه من الاسم والصفة" كما يتأتى في السيف والصارم "أو الصفات" كما في المنشئ والكاتب "أو الصفة وصفتها كالمتكلم والفصيح يحققه" أي الترادف "فلا يقبل" وقوعه(21/468)
ص -219-…"التشكيك" بأن يقال: ما يظن أنه منه فهو من باب من هذه الأبواب لكن وقع الالتباس بشدة الاتصال بين هذه المعاني فظن أنها موضوعة لمعنى واحد
مسألة
"يجوز إيقاع كل منهما" أي المترادفين "بدل الآخر إلا لمانع شرعي على الأصح" كما هو مختار ابن الحاجب "إذ لا حجر في التركيب لغة بعد صحة تركيب معنى المترادفين" كما هو المفروض، وقيل: يجوز من لغة لا من لغتين، واختاره البيضاوي وقيل: لا يجوز مطلقا وفي المحصول إنه الحق "قالوا لو صح" وقوع كل بدل الآخر "لصح خداي أكبر" في تكبيرة الإحرام ك الله أكبر؛ لأنه مرادفه "قلنا الحنفية يلتزمونه" أي أنه صحيح "والآخرون" المانعون له من المجوزين إنما هو "للمانع الشرعي" وهو التعبد باللفظ المتوارث وقد ذكرنا أن شرط الجواز انتفاء المانع الشرعي "وأما كون اختلاط اللغتين مانعا من التركيب بعد الفهم" كما هو ظاهر كلام ابن الحاجب "فبلا دليل سوى عدم فعلهم" أي العرب وليس ذلك بمانع فهو استثناء منقطع "وقد يبطل" هذا "بالمعرب" وهو لفظ استعملته العرب في معنى وضع له في غير لغتهم فإنه كثيرا ما يركب مع غيره من الكلمات العربية فيلزم منه اختلاط اللغتين؛ لأنه كما قال "ولم يخرج عن العجمية" بالتعريب لينتفي الاختلاط فإن قيل بل أخرجوه عنها بشهادة تغييرهم لفظه فالجواب المنع "والتغيير" للفظه مادة وهيئة "لعدم إحسانهم النطق به أو التلاعب لا قصدا لجعله عربيا، ولو سلم" أن التعريب قصد لجعل المعرب من لغتهم فلا يبطل به كون اختلاط اللغتين مانعا من التركيب "لا يستلزم" عدم فعلهم "الحكم بامتناعه" أي اختلاط اللغتين ليلزم منه امتناع إيقاع كل من المترادفين بدل الآخر "إلا مع عدم علم المخاطب" بمعنى ذلك اللفظ المرادف من لغة أخرى "مع قصد الإفادة" له بذلك المركب المختلط، ونحن لا نرى جوازه حينئذ لعدم تحققها بل هو حينئذ كضم مهمل إلى مستعمل لا المنع مطلقا ثم لا يخفى أن هذا لا يمنع جوازه في لغة واحدة ولا(21/469)
جواز وقوعه إفرادا وقد نص ابن الحاجب وغيره على أنه لا خلاف في هذا ثم كما قيل: والحق أن المجوز إن أراد أنه يصح في القرآن فباطل قطعا، وإن أراد في الحديث فهو على الخلاف الآتي، وإن أراد في الأذكار والأدعية فهو إما على الخلاف أو المنع رعاية لخصوصية الألفاظ فيها وإن أراد في غيرها فهو صواب سواء كان من لغة واحدة أو أكثر.
"مسألة وليس منه" أي المترادف "الحد والمحدود أما التام فلاستدعائه تعدد الدال على أبعاضه" أي المحدود؛ لأن الحد التام مركب يدل على أجزاء المحدود بأوضاع متعددة فدلالته عليها تفصيلية والمحدود يدل عليها بوضع واحد فدلالته إجمالية فهما، وإن دلا على معنى واحد لا يدلان عليه من جهة واحدة "وأما الناقص فإنما مفهومه الجزء المساوي" للمحدود وهو الفصل لإتمام ماهية المحدود "فلا ترادف" لعدم اتحادهما "اللهم إلا أن لا يلتزم(21/470)
ص -220-…الاصطلاح على اشتراط الإفراد" في الترادف فيكون الحد التام والمحدود مترادفين "فهي" أي فهذه المسألة "لفظية" حينئذ لرجوع الخلاف فيها إلى اشتراط الإفراد وعدمه في المترادفين فلو وقع الاتفاق على اشتراطه لوقع الاتفاق على أنهما ليسا مترادفين، ولو وقع الاتفاق على عدم اشتراطه لوقع الاتفاق على أنهما مترادفان قلت: ولقائل أن يقول: لا نسلم رجوع الخلاف لفظيا في مثل الحد والمحدود على تقدير الاتفاق على عدم اشتراطه؛ لأن الظاهر أن اتحاد الجهة متفق عليه وهو منتف في الحد والمحدود نعم يتم في مثل الإنسان قاعد والبشر جالس، وأما الحد اللفظي فلا خلاف في كونه مع المحدود مترادفين "ولا التابع مع المتبوع" في مثل "حسن بسن" شيطان ليطان عطشان نطشان جائع نائع من المترادف "قيل لأنه" أي التابع "إذا أفرد لا يدل على شيء" كما ذكره غير واحد فأنى يكون مرادفا لما دل على معنى معين أفرد أو لم يفرد وهو المتبوع "فإن كانت دلالته" أي التابع "مشروطة" بذكره مع متبوعه "فهو حرف" لأن هذا شأن الحروف، ولا ترادف بين الاسم والحرف ثم نقول "وليس" بحرف إجماعا فهذا التعليل غير صحيح "وقيل" كما هو مقتضى كلام البديع؛ لأن التابع "لفظ بوزن الأول لازدواجه لا معنى له" وعليه ما على الأول "والأوجه أنه" أي التابع لفظ يذكر "لتقوية متبوع خاص" في دلالته على معناه بزنته وهو المسموع تابعا له "وإلا" لو لم يذكر هذا في تعريفه "لزم نحو زيد بسن" أي جواز مثل هذا مما لم يذكر فيه متبوعه الخاص والظاهر المنع والأولى نحو جمل بسن "وأما التأكيد" بكل وأجمع وتصاريفه "كأجمعين فلتقوية" مدلول "عام سابق" عليه، ومن ثمة لا يصح التأكيد بهما إلا لذي أجزاء يصح افتراقها حسا أو حكما "فوضعه" أي هذا التأكيد "أعم من" وضع "التابع" لعدم اشتراط متبوع واحد معين له بخلاف التابع "فلا ترادف" بين المؤكد والمؤكد لعدم اتحاد معناهما "وما قيل المرادف لا يزيد مرادفه قوة" كما ذكره(21/471)
في البديع بلفظ المرادف لا يزيد مرادفه إيضاحا والمؤكد خلافه "ممنوع إذ لا يكون" المرادف مع مرادفه "أقل من التأكيد اللفظي" وهو مما يفيد مؤكده قوة حتى يندفع به توهم التجوز والسهو ثم الذي يتلخص في الفرق بين التابع والمرادف والمؤكد أن التابع يشترط فيه زنة الأول دونهما وذكر متبوع واحد معين قبله دونهما نعم يشترط ذكر المؤكد قبل المؤكد ولا ترتيب لازم في المترادفين ويستعمل كل من المترادفين منفردا بخلاف المؤكد فإن منه ما لا يستعمل كذلك كأجمع ثم هذا فيما عدا أكتع وأتبع وأبصع بمهملة ومعجمة فأما هي فإتباع لأجمع عند كثير منهم ابن الحاجب حتى نص على أن ذكرها بدونه ضعيف والله - تعالى - أعلم.
"تنبيه تكون المقايسة" بين الاسمين "بالذات للمعنى فيكتسبه" أي المعنى "الاسم لدلالته" أي الاسم "عليه" أي المعنى "فالمفهوم بالنسبة إلى" مفهوم "آخر إما مساو" له "يصدق كل على ما صدق عليه الآخر" كالإنسان والناطق فيصدق كل ما صدق عليه إنسان على كل ما صدق عليه ناطق وبالعكس الكلي "أو مباين" له "مباينة كلية لا يتصادقان" أصلا كالحجر والإنسان "أو" مباين له مباينة "جزئية يتصادقان" في مادة "ويتفارقان" في مادتين "كالإنسان(21/472)
ص -221-…والأبيض والعام والمجاز ولا واجب ولا مندوب" فيصدق الإنسان والأبيض على الإنسان الأبيض والإنسان لا الأبيض على الزنجي والأبيض لا الإنسان على الثلج والعام والمجاز على العام المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة بينهما، والعام لا المجاز على العام المستعمل فيما وضع له، والمجاز لا العام على المجاز الخاص، ولا واجب لا مندوب على المكروه ولا واجب لا لا مندوب على المندوب ولا مندوب لا لا واجب على الواجب "وإما أعم منه" أي من الآخر "مطلقا يصدق عليه" أي على الآخر "وعلى غيره" صدقا كليا "كالعبادة" تصدق "على الصلاة والصوم" وغيرهما من أنواعها على سبيل الاستغراق لها "والحيوان" يصدق "على الإنسان والفرس" وسائر أنواعه على سبيل الشمول لها "ونقيضا المتساويين متساويان" فيصدق كل ما صدق عليه لا إنسان على كل ما صدق عليه لا ناطق وبالعكس الكلي "و" نقيضا "المتباينين مطلقا" أي مباينة كلية أو جزئية "متباينان مباينة جزئية كلا إنسان ولا أبيض ولا إنسان ولا فرس إلا أنها" أي المباينة الجزئية "في الأول" أي لا إنسان ولا أبيض وما جرى مجراهما مما بين عينيهما مباينة جزئية "تخص العموم من وجه بخلاف الثاني" أي لا إنسان ولا فرس وما جرى مجراهما مما بين عينيهما مباينة كلية "فقد يكون" تباين نقيضهما تباينا "كليا كلا موجود ولا معدوم على" تقدير "نفي الحال" وهو صفة لموجود غير موجودة في نفسها ولا معدومة كالأجناس والفصول كما هو مذهب الجمهور فإنه على قولهم لا واسطة بين الموجود والمعدوم فلا يصدق على معلوم أنه لا موجود ولا معدوم وقد يكون تباين نقيضهما تباينا جزئيا كلا إنسان ولا فرس "وما بينهما عموم مطلق يتعاكس نقيضاهما فنقيض الأعم" كلا عبادة "أخص من نقيض الأخص" كلا صلاة "ونقيض الأخص أعم من نقيض الأعم" وهو ظاهر فليتأمل.
الفصل الرابع في المفرد باعتبار مدلوله
"وفيه تقاسيم":(21/473)
التقسيم "الأول ويتعدى إليه" أي المفرد "من معناه إما كلي لا يمنع تصور معناه فقط" أي مجرد ذلك مع قطع النظر عما سواه "من الشركة فيه" أي شركة غيره في معناه فدخل ما بهذه الحيثية مما امتنع وجود معناه أصلا كالجمع بين الضدين، وما أمكن ولم يوجد في نفس الأمر كبحر زئبق وما وجد فرد منه قطعا وامتنع غيره كالإله أي المعبود بحق وما وجد فرد منه قطعا وأمكن غيره إلا أنه لم يوجد في نفس الأمر أصلا كالشمس أي الكوكب النهاري المضيء كما دخل ما أمكن عقلا ووجدت أفراده قطعا كالإنسان ثم هو قسمان أحدهما حقيقي، وهو ما صلح أن يندرج تحته شيء آخر بحسب فرض العقل سواء أمكن الاندراج في نفس الأمر أو لا وسمي بالحقيقي؛ لأنه مقابل للجزئي الحقيقي الآتي مقابلة العدم والملكة ثانيهما إضافي وهو ما اندرج تحته شيء آخر في نفس الأمر وخص بالإضافي؛ لأن الإضافة فيه أظهر منها في الأول وهو أخص منه ومقابل للجزئي الإضافي(21/474)
ص -222-…الآتي تقابل التضايف "أو جزئي حقيقي يمنع" تصور معناه شركة غيره في معناه وهو العلم وسمي الأول كليا لكونه في الغالب جزءا من الجزئي الذي هو كل منسوبا إليه والثاني جزئيا لكونه فردا من الكلي الذي هو جزؤه منسوبا إليه وحقيقيا؛ لأن جزئيته بالنظر إلى حقيقته المانعة من الشركة "بخلاف" الجزئي "الإضافي كل أخص تحت أعم" كالإنسان بالنسبة إلى الحيوان فإنه لا يمنع تصور معناه شركة غيره فيه وسمي هذا جزئيا أيضا لما ذكرنا وإضافيا لأن جزئيته بالإضافة إلى شيء آخر ثم ينبغي أن يكون كل أخص تحت أعم حكما من أحكام الإضافي يستنبط منه تعريف له لا تعريفه على ما عرف في موضعه ثم الجزئي الإضافي أعم من الحقيقي وبينه وبين الكليين العموم من وجه لصدق الجزئي الإضافي على الجزئي الحقيقي بدونهما وصدقهما بدونه في المفهومات الشاملة وتصادق الكلي على الكليات المتوسطة وبين الجزئي الحقيقي وبينهما المباينة والله تعالى أعلم "والكلي إن تساوى أفراد مفهومه فيه" أي في مفهومه "فمتواطئ" من التواطؤ وهو التوافق لتوافق أفراد معناه فيه "كالإنسان أو تفاوتت" أفراد مفهومه فيه "بشدة وضعف كالأبيض" فإن اللون المفرق للبصر الذي هو معناه في الثلج أشد منه في العاج "والمستحب" فإن ما تعلق به دليل ندب يخصه الذي هو معناه في صوم يوم عرفة لغير من بعرفات من الحاج أقوى منه في صوم ست من شوال وأبلغ ثوابا "فمشكك" بصيغة اسم الفاعل، وإنما سمي به "للتردد في وضعه" أي لكونه موجبا للناظر التردد في أن وضع لفظه "للخصوصيات" أي لأصل المعنى مع الشدة في البعض والضعف في البعض "فمشترك" لفظي بينهما ضرورة أن البياض المأخوذ مع خصوصية الشدة مثلا معنى، والمأخوذ مع خصوصية الضعف معنى آخر والفرض أن تلك الخصوصيات داخلة في مسمى لفظ البياض "أو" وضعه "للمشترك" أي للقدر المشترك بينها مع قطع النظر عن التفاوت الذي بينهما "فمتواطئ ولهذا" بعينه. "قيل بنفيه" أي التشكيك "لأن(21/475)
الواقع أحدهما" وهو أن التفاوت مأخوذ في الماهية وعلى تقديره فلا اشتراك معنى لاختلاف الماهية حينئذ أو غير مأخوذ فيها فلا تفاوت فيكون متواطئا "والجواب أن الاصطلاح على تسمية متفاوت" بالشدة والضعف في أفراده باعتبار حصوله فيها وصدقه عليها "به" أي بالمشكك "والتفاوت واقع فكيف ينفى" المشكك حينئذ "فإن قيل" ينفى المشكك "بنفي مسماه فإن ما به" التفاوت "كخصوصية الثلج" وهي شدة تفريقه للبصر "إن أخذت في مفهومه" أي المشكك "فلا شركة" لغيره معه فيه "فلا تفاوت ولزم الاشتراك" اللفظي كما بينا "وإلا" أي وإن كان ما به التفاوت غير مأخوذ في مفهومه "فلا تفاوت" لأفراده في مفهومه "ولزم التواطؤ قلنا ما به" التفاوت "معتبر فيما صدق عليه المفهوم من أفراد تلك الخصوصية لا في نفسه" أي المفهوم الذي وضع له الاسم كما أوضحناه آنفا. "وحاصل هذا أن كل خصوصية مع المفهوم نوع" كما أسلفناه "ويستلزم أن مسمى المشكك كالسواد والبياض لا يكون إلا جنسا وما به التفاوت فصول تحصله" أي الجنس "أنواعا فمن الماهيات الجنسية ما فصول أنواعها مقادير من الشدة والضعف وذلك" أي ما فصول أنواعه المقادير المذكورة واقع "في ماهيات الأعراض(21/476)
ص -223-…ولذا يقولون المقول بالتشكيك" على أشياء عارض لها "خارج" عنها لا ماهية لها ولا جزء ماهية لامتناع اختلافهما "ومنها خلافه" أي ومن الماهيات الجنسية العرضية ما ليس فصولها مقادير منها كفصل نفس ماهية المشكك الذي يميزه عن غيره من مشكك آخر هو جنس يندرج معه تحت جنس أعم كفصل نفس السواد الذي يميزه عن البياض وعكسه وهو قولنا: قابض للبصر في السواد ومفرق للبصر في البياض ليس شيء منهما بمقدار خاص من السواد والبياض وهو فصل الماهية العرضية نفسها مندرج كل منهما تحت جنس أعم منهما هو اللون. كذا أفاده المصنف رحمه الله تعالى "ثم وضعها اسم المشكك للأول" أي لما فصول أنواعه مقادير من الشدة والضعف من الماهيات باعتبار أن فصول أنواعه مقادير لا باعتبار أن الماهية نفسها لها فصل في نفسها غير ذلك ذكره المصنف أيضا.(21/477)
"التقسيم الثاني مدلوله" أي المفرد "إما لفظ كالجملة والخبر" فإن مدلول كل منهما مركب خاص ك زيد قائم وقد عرفت فيما تقدم أن الجملة أعم من الخبر "والاسم والفعل والحرف" فإن مدلولها ألفاظ خاصة من نحو زيد وعلم وقد "على نوع تساهل؛ إذ الألفاظ ماصدقات مدلوله" أي المفرد "الكلي" لا نفس مدلوله قال المصنف "إلا أن يراد كل جملة متحققة خارجا" فيكون مدلولها اللفظ الخاص بلا تساهل حينئذ ضرورة أنها موضوعة لأمر معين في الخارج لا للمركب الكلي الصادق على مثل: زيد قائم وغيره "أو غيره" عطف على "لفظ" أي أو غير لفظ وحينئذ "فإما لا يدل" اللفظ "عليه" أي على مدلوله "إلا بضميمة إليه" أي إلى اللفظ "لوضعه" أي اللفظ "لمعنى جزئي من حيث هو ملحوظ بين شيئين خاصين فهو الحرف كمن وإلى" في نحو سرت من مكة إلى المدينة فلزم كون ذكرهما شرط دلالته "بخلاف" الأسماء "اللازمة للإضافة" إلى غيرها ك ذو وقبل وبعد فإنها موضوعة لمعنى كلي من صاحب وسبق وتأخر فالتزم ذكر ما أضيفت إليه لبيانه لا لتوقف معناها في حد ذاته عليه والحاصل أن المعاني التي وضعت الألفاظ لها قسمان غير إضافي والألفاظ الموضوعة له اسم أو فعل وإضافي تارة يعتبر في نفسه من غير أن يلاحظ تعلقه بالغير، وتوقف تعقله على تعقل الغير، واللفظ الموضوع له بهذا الاعتبار إما اسم أو فعل وتارة يعتبر من حيث إنه إضافة متعلقة بالغير متوقف تعقلها على تعقل الغير واللفظ الموضوع له بهذا الاعتبار حرف، ولما كان المعنى الإضافي بالاعتبار الثاني لا يتصور إلا مع غيره فاللفظ الدال عليه بهذا الاعتبار لا يدل عليه إلا بعد ذكر الغير؛ مثلا مفهوم الابتداء مفهوم إضافي فإذا اعتبرت الابتداء في نفسه من غير ملاحظة تعلقه بالغير يكون اللفظ الدال عليه اسما إن كان غير مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة مثل ابتداء ومبتدأ وإن كان مقترنا بأحد الأزمنة الثلاثة مثل ابتدأ ويبتدئ وابتدئ فهو فعل وإذا اعتبرته من حيث إنه ابتداء(21/478)
متعلق بالمحل المخروج عنه فاللفظ الدال عليه بهذا الاعتبار حرف مثل "من" نحو خرجت من البصرة "أو يستقل" اللفظ "بالدلالة" على معناه من غير ضميمة إليه "لعدم ذلك" أي وضعه لمعنى جزئي من حيث هو ملحوظ بين شيئين خاصين. وحينئذ "فإما لا يكون معناه حدثا مقيدا بأحد الأزمنة الثلاثة" الماضي والحال(21/479)
ص -224-…والاستقبال "بهيئة" خاصة للفظ لعدم وضعه له بل لوضعه لمعنى غير مقترن بأحدها "فهو الاسم كالابتداء والانتهاء فالكاف وعن وعلى حينئذ" أي حين كان الأمر على هذا "مشترك لفظي له وضع للمعنى الكلي" وهو المثل "يستعمل فيه اسما كبكابن الماء" في قول امرئ القيس:
ورحنا بكابن الماء يجنب وسطنا …تصوب فيه العين طورا وترتقي
فالكاف فيه اسم بمعنى مثل بشهادة دخول الجار عليها أي بفرس مثل ابن الماء، وهو الكركي شبه به فرسه في خفته وطول عنقه، وإنما الشأن في أنها لا تكون اسما إلا في الشعر كما هو معزو إلى سيبويه والمحققين أو تكون فيه وفي سعة الكلام كما هو معزو إلى كثير منهم الأخفش والفارسي واختاره ابن مالك ولعله الأظهر "و" وضع "لخصوص منه" أي من المعنى الكلي "كذلك" أي من حيث هو ملحوظ بين شيئين خاصين وهو التشبيه "فيستعمل فيه حرفا ك جاء الذي كعمرو" أي الذي استقر كعمرو. وحرفيتها في مثل هذا متعينة عند الجمهور لئلا يلزم الصلة بالمفرد على تقديرها اسما راجحة عند الأخفش والجزولي وابن مالك مجوزين أن تكون مع مدخولها مضافا ومضافا إليه على إضمار مبتدإ كما في قراءة بعضهم تماما على الذي أحسن وهو كما قال ابن هشام تخريج للفصيح على الشاذ "وقس الأخيرين" أي عن وعلى "عليه" أي على هذا فقل وعن له وضع للمعنى الكلي وهو الجانب فيستعمل فيه اسما كما في قوله:
فلقد أراني للرماح دريئة …من عن يميني مرة وأمامي
ووضع للمعنى الجزئي من حيث هو ملحوظ بين شيئين خاصين وهو المجاوزة فيستعمل فيه حرفا كما في مثل سافرت عن البلد وعلى له وضع للمعنى الكلي وهو الفرق فيستعمل فيه اسما كما في قول كعب:
غدت من عليه بعدما تم ظمؤها(21/480)
ووضع للمعنى الجزئي من حيث هو ملحوظ بين شيئين خاصين وهو الاستعلاء فيستعمل فيه حرفا كما في قوله تعالى {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [المؤمنون: 22] خلافا لجماعة من نحاة العرب في زعمهم أنها لا تكون حرفا، وأنه مذهب سيبويه وهو زعم بعيد ثم الأشبه أن على حيث كان مشتركا لفظيا بين الاسم والحرف مع أن الاسم من العلو ويكتب بالألف، وأصله واو بخلاف الحرف يزيد على الكاف وعن بوضع آخر لمعنى كلي مقيد بالزمان الماضي وهو العلو فيه فيستعمل فيه فعلا ماضيا كما في قوله تعالى {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ} [القصص: 4] فيكون مشتركا لفظيا بين الحرف والاسم والفعل، ولا يكون كونه من العلو ويكتب بالألف وإنها في الأصل واو مانعا من ذلك كما ذهب إليه غير واحد منهم ابن الحاجب "أو يكون" معناه حدثا مقيدا بأحد الأزمنة الثلاثة بهيئة خاصة له "فالفعل" بأقسامه من الماضي والمضارع وأمر المخاطب، ثم فائدة التقييد بالهيئة الخاصة في بيان الاسم والفعل(21/481)
ص -225-…دفع ورود نحو ضارب غدا على عكس بيان الاسم، وطرد بيان الفعل فإنه لولاه لم يصدق عليه أنه غير دال على حدث مقيد بأحد الأزمنة مع أنه اسم وصدق عليه أنه دال على حدث مقيد بأحد الأزمنة الثلاثة مع أنه ليس بفعل إلى غير ذلك.
"التقسيم الثالث قسم فخر الإسلام" ومن وافقه "اللفظ بحسب اللغة والصيغة" قيل وهما هنا مترادفتان، والمقصود تقسيم النظم باعتبار معناه نفسه لا باعتبار المتكلم والسامع، والأقرب كما قال المحقق التفتازاني قول صدر الشريعة "أي باعتبار وضعه إلى خاص وعام ومشترك ومؤول" لأن الصيغة الهيئة العارضة للفظ باعتبار الحركات والسكنات وتقديم بعض الحروف على بعض واللغة هي اللفظ الموضوع، والمراد بها هنا مادة اللفظ، وجوهر حروفه بقرينة انضمام الصيغة إليها، والواضع كما عين حروف ضرب بإزاء المعنى المخصوص عين هيئته بإزاء معنى المضي فاللفظ لا يدل على معناه إلا بوضع المادة والهيئة فعبر بذكرهما عن وضع اللفظ ووجه التقسيم إلى هذه الأقسام بأن اللفظ المعنوي لا يخلو من أن يكون معناه واحدا أو أكثر فإن كان واحدا فلا يخلو من أن يكون منتظما أو منفردا والثاني الخاص، والأول العام وإن كان أكثر فإما أن يكون معنياه متساويين بالنسبة إلى السامع أو لا فإن تساويا فهو المشترك وإلا فهو المؤول "واعترض" أي واعترضه صدر الشريعة "بأن المؤول ولو" كان المراد به ما ترجح "من المشترك" بعض وجوهه بغالب الرأي لا مطلق المؤول "ليس باعتبار الوضع بل عن رفع إجمال بظني في الاستعمال" كما تقدم "فهي" أي أقسام هذا التقسيم "ثلاثة؛ لأن اللفظ إن كان مسماه متحدا، ولو بالنوع" كرجل وفرس "أو متعددا مدلولا على خصوص كميته" أي كمية عدده "به" أي بلفظه "فالخاص فدخل المطلق والعدد والأمر والنهي" في الخاص فالأمر والنهي والمطلق لانطباق كون مسماه متحدا ولو بالنوع عليها وسيأتي الكلام عليها مفصلة والعدد لانطباق كون مسماه متعددا مدلولا على خصوص كميته به(21/482)
عليه "وإن تعدد" المعنى "بلا ملاحظة حصر فإما بوضع واحد فمن حيث هو كذلك" أي فاللفظ من حيث إنه لم يلاحظ الواضع في الوضع حصر معناه في كمية بل وضع اللفظ لمجموع المتعدد كائنا ما كان عدده وضعا واحدا هو "العام" فهو لفظ وضع وضعا واحدا لمعنى متعدد لم يلاحظ حصره في كمية "أو" بوضع "متعدد فمن حيث هو كذلك" أي فاللفظ من حيث إنه دال على معنى متعدد بوضع متعدد من غير ملاحظة حصر لكميته هو "المشترك" فهو لفظ وضع وضعا متعددا لمعان متعددة، ولم يلاحظ حصرها في كمية فصدق قول المصنف فيقع بلا ملاحظة حصر بيانا للواقع لا للاحتراس ا هـ. يعني بالنسبة إلى هذا، وإلا فمعلوم أنه بالنسبة إلى العام احتراز عن المثنى والعدد فإن كلا منهما كالزيدين، والمائة مثلا لا ريب في أنه وضع وضعا واحدا لمعنى متعدد لكنه لوحظ حصره في الكمية المدلول عليها بلفظه وهما من قبيل الخاص "فيدخل في العام الجمع المنكر" كرجال؛ لأنه يصدق عليه لفظ وضع وضعا واحدا لمعنى متعدد ولم يلاحظ حصره في كمية فلا يكون واسطة بين العام والخاص هذا على عدم اشتراط الاستغراق في العام كما هو قول أكثر مشايخنا البخاريين "وعلى اشتراط(21/483)
ص -226-…الاستغراق" فيه كما هو قول مشايخنا العراقيين والشافعية وغيرهم "فمتحد الوضع إن استغرق فالعام، وإلا فالجمع" أي فيقال: وإن تعدد بلا ملاحظة حصر فإما بوضع واحد فمن حيث هو كذلك إن استغرق ما يصلح له فالعام، وإلا فالجمع المنكر فهو حينئذ واسطة بين الخاص والعام "وأخذ الحيثية" كما ذكرنا في التقسيم "يبين عدم العناد بجزء المفهوم بين المشترك والعام" قال المصنف: يعني ليس موجب العناد بين المشترك والعام ذاتيا داخلا وهو الفصل كما هو بين الإنسان والفرس لتكون الأقسام الثلاثة أقسام تقسيم حقيقي واحد فتتباين بالذات كما هو حقيقة التقسيم وهو إظهار الواحد الكلي في صور متباينة فإنه سيظهر تصادق المشترك مع العام ومع الخاص فهو تقسيم بحسب الاعتبار ولذا أخذت الحيثية "ولذا" أي ولعدم العناد بجزء المفهوم بينهما "لا يحتاج إليها" أي إلى الحيثية "في تعريفهما ابتداء" ولو كان بينهما عناد ذاتي لذكرت فيه "فالحق تقسيمان":(21/484)
التقسيم "الأول باعتبار اتحاد الوضع وتعدده يخرج المنفرد" وهو الموضوع لمعنى واحد سمي به لانفراد لفظه بمعناه "ولم يخرجه" أي المنفرد "الحنفية على كثرة أقسامهم" وأخرجه الشافعية "و" يخرج "المشترك وفيه" أي في المشترك "مسألة المشترك" في جوازه ووقوعه أقوال: أحدها غير جائز. ثانيها جائز غير واقع. ثالثها جائز واقع في اللغة لا غير رابعها جائز واقع في اللغة والقرآن لا غير "خامسها واقع في اللغة والقرآن والحديث" وهو المختار "لنا" على الجواز "لا امتناع لوضع لفظ مرتين فصاعدا لمفهومين فصاعدا على أن يستعمل لكل على البدل" إذ لا يلزم من فرض وقوعه محال وهذا هو المشترك "وقولهم" أي المانعين "يستلزم" جواز المشترك "العبث لانتفاء فائدة الوضع" وهي فهم المعنى الموضوع له على التعيين لتساوي نسبة المعنيين إلى اللفظ ونسبته إليهما وخفاء القرائن "مندفع بأن الإجمال مما يقصد" فإن الوضع تابع للغرض الذي يقصده الواضع، وهو قد يقصد التعريف الإجمالي لغرض الإبهام على السامع كوضعه صيغة ما لم يسم فاعله لستر الفاعل عن السامع إلى غير ذلك كما يقصد التفصيلي "ولنا على الوقوع ثبوت استعمال القرء" بفتح القاف وتضم "لغة لكل من الحيض والطهر" على البدل "لا يتبادر أحدهما مرادا بلا قرينة" معينة له دون الآخر. "وهو" أي واستعماله كذلك "دليل الوضع كذلك" أي وضع لفظه مرتين لهما على البدل "وهو" أي اللفظ الموضوع مرتين لمفهومين على البدل "المراد بالمشترك وما قيل" في دفع هذا كما في البديع "جاز كونه" أي القرء "لمشترك" أي لمعنى واحد هو قدر مشترك بين الحيض والطهر "أو" جاز كونه "حقيقة" في أحدهما "ومجازا" في الآخر "وخفي التعيين" للحقيقة من المجاز "وكذا كل ما ظن" من الألفاظ "أنه منه" أي من المشترك اللفظي يقال فيه هذا "ثم يترجح الأول" وهو كونه لمعنى واحد مشترك بينهما على الاشتراك اللفظي؛ لأن التواطؤ أولى منه وعلى كونه حقيقة في أحدهما مجازا في الآخر(21/485)
لأن الحقيقة أولى من المجاز "مدفوع بعدمه" أي القدر المشترك "بينهما" أي بين الحيض والطهر وما قيل هو الجمع؛ لأنه من قرأت الماء في الحوض إذا جمعته فيه والدم يجتمع في زمن الطهر في
مسألة
"إذا تعقب" الاستثناء "جملا" متعاطفة "بالواو ونحوها" وهي الفاء، وثم، وحتى كما مشى عليه القرافي فإنه قسم حروف العطف ثلاثة أقسام، أحدها هذه قال: وهي التي يتأتى فيها خلاف العلماء لأنها تجمع بين الشيئين معا في الحكم ويمكن الاستثناء فيهما أو أحدهما فتندرج الجمل المعطوفة بها في صورة النزاع قطعا. ثانيها "بل"، و"لا"، و"لكن" وهي لأحد الشيئين بعينه، نحو: قام القوم لا النساء وبل النساء وما قام القوم لكن النساء فالقائم أحد الفريقين دون الآخر بعينه، فيمكن أن يقال: لا يمكن عود الاستثناء عليهما لأنهما لم يندرجا في الحكم، والعود عليهما يقتضي تقدم الحكم عليهما، ويمكن أن يقال: إنهما معا محكوم عليهما، إحداهما بالنفي والأخرى بالثبوت
فالمنفي ما بعد لا وما قبل لكن وبل. ثالثها "أو" و"إما" و"أم" وهي لأحد الشيئين لا بعينه، نحو: قام القوم أو النساء، أو أم النساء، وإما قام القوم وإما النساء، فالمحكوم عليه في هذه واحد قطعا ولم يتعرض للآخر بالنفي ولا بالثبوت فلا يتأتى الاحتمال الذي في القسم الثاني يتعين أن لا تندرج هذه الجملة المعطوفة بهذه الثلاثة في صورة النزاع، فعلى هذا عبارة من قيد بالواو كإمام الحرمين ومشى عليه الآمدي وابن الحاجب(21/486)
ص -227-…الجسد وفي زمن الحيض في الرحم لا يخفى ما فيه. "وكونه" أي القرء موضوعا "لنحو الشيئية والوجود" فيكون هو القدر المشترك بينهما "بعيد" جدا "ويوجب أن نحو الإنسان والفرس والقعود وما لا يحصى" من المسميات الوجودية "من أفراد القرء" لاشتراكها فيه وهو باطل قطعا "واشتهار المجاز بحيث يساوي الحقيقة" في التبادر "ويخفى التعيين" للمراد منهما "نادر لا نسبة له بمقابله" وهو أن لا يشتهر المجاز بحيث يساوي الحقيقة في التبادر ويخفى التعيين "فأظهر الاحتمالات كونه" أي القرء "موضوعا لكل" من الحيض والطهر على البدل فلا يعرج عنه إلى غيره. "وهو" أي كون القرء موضوعا لكل منهما على البدل "دليل وقوعه" أي المشترك اللفظي "في القرآن" لوقوع القرء في قوله تعالى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] "والحديث" أيضا لوقوعه فيما روى الدارقطني والطحاوي عن فاطمة بنت حبيش قالت يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر قال: "دعي الصلاة أيام أقرائك "وبه" أي بالوقوع "كان قول النافي" للوقوع "إن وقع" المشترك "مبينا" أي مقرونا ببيان المراد منه "طال" الكلام "بلا فائدة" لإمكان بيانه بمنفرد لا يحتاج إلى البيان فلا يطول "أو" وقع "غير مبين لم يفد" لعدم حصول المقصود من وضعه وحاصله لزوم ما لا حاجة إليه أو ما لا فائدة فيه وكلاهما نقص يمتنع اشتمال الكلام البليغ عليه، ولا سيما قرآنا وسنة "تشكيكا بعد التحقق" فلا يسمع "مع أنه" أي قول النافي هذا "باطل" أما الأول فلاشتمال الإبهام ثم التفسير على زيادة بلاغة كما تقرر في فنها. وأما الثاني "فإن إفادته" أي المشترك حينئذ فائدة إجمالية "كالمطلق وفي الشرعيات" له فائدتان أخريان "العزم عليه" أي على الامتثال للمراد منه "إذا بين" المراد منه "والاجتهاد في استعلامه" أي المراد منه "فينال ثوابه" أي ثواب كل منهما فانتفى نفي فائدته "واستدل" للمختار بدليل مزيف،(21/487)
وهو "لو لم يقع" المشترك اللفظي "كان الموجود" أي لفظه "في القديم والحادث" مشتركا "معنويا لأنه" أي الموجود "فيهما" أي في القديم والحادث "حقيقة اتفاقا وهو" أي: وكونه معنويا فيهما "منتف لأنه" أي الموجود اسم "لذات له وجود وهو" أي الوجود "في القديم يباين الممكن" والأولى بيانه أي الوجود في الممكن لكونه في القديم واجبا وفي الممكن حادثا فلا اتحاد "فلا اشتراك" معنويا له فيهما "وليس بشيء" مثبت للمطلوب "لأن الاختلاف بالخصوصيات وبوصف الوجوب والإمكان لا يمنع الاندراج تحت مفهوم عام" كالوجود "تختلف أفراده" فيه شدة وضعفا كما تقدم "فيكون" الوجود مشتركا "معنويا" على سبيل التشكيك؛ لأنه في الواجب أقوى منه في الممكن. "واستدل أيضا" للمختار بدليل مزيف، وهو أنه "لو لم يوضع" المشترك "خلت أكثر المسميات" عن الأسماء "لعدم تناهيها" أي المسميات لكونها ما بين موجود مجرد ومادي ومعدوم ممكن وممتنع، أو لأن من جملتها الأعداد، وهي غير متناهية؛ إذ ما من عدد إلا وفوقه عدد "دون الألفاظ" فإنها متناهية "لتركبها" أي الألفاظ "من الحروف المتناهية" لأن حروف لغة العرب بل أي لغة فرضت متناهية قطعا ثم بعضها يضم في الوضع إلى واحد من باقيها وإلى اثنين إلى سبعة ولا ترتقي عن السباعي، وتقاليب الحروف المضمومة بعضها مهمل، وإذا كان كذلك(21/488)
وصاحب البديع - غير جامعة، وعبارة من أطلق كونه عقب الجمل من غير ذكر للعطف أصلا كفخر الدين الرازي - أو كونه عقب جمل عطف بعضها على بعض بأي حرف من حروف العطف كان كالقاضي وصوبه السبكي - غير مانعة، نعم يشهد للعطف بأو آية المحاربة كما مثل بها الجمهور فإذا عرف هذا "فالشافعية" بل مالك والشافعي وأصحابهما على ما في تنقيح المحصول وأحمد كما ذكر الطوفي "يتعلق بالكل ظاهرا، وقول أبي الحسين" وعبد الجبار على ما في البديع وقال في المحصول: إنه حق "إن ظهر الإضراب عن الأول فللأخير وإلا" أي وإن لم يظهر الإضراب عن الأول "فللكل" وأشار إلى عدم ظهوره بوجهين، أحدهما قوله "ككون الثاني ضمير الأول" أي الاسم في الكلام الثاني ضميرا راجعا إلى الاسم في الكلام الأول "ولو اختلفا" أي الكلامان "فيما يذكر" أي في النوع والحكم والاسم، وثانيهما قوله "أو اشتركا" أي الكلامان "في الغرض ومنه" أي هذا القيل قوله تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] لأنهما اختلفا نوعا وحكما، واشتركا في الغرض وهو الإهانة والانتقام فقول أبي الحسين مبتدأ خبره "لا يزيد عليه" أي قول الشافعية "إلا بتفصيل القرينة" الدالة على الإضراب عن الأول "إلى اختلافهما" أي الكلامين "نوعا بالإنشائية والخبر والأمر والنهي ويقتضي" قول أبي الحسين "في: أكرم بني تميم، وبنو تميم مكرمون إلا زيدا أن إكرامه" أي زيد "مطلوب غير واقع" بناء على أنه تحقق فيهما الاختلاف نوعا لا غير أو حكما بناء على أن الاختلاف نوعا يستلزم الاختلاف حكما كما تردد فيه التفتازاني "أو" اختلافهما "اسما بوجود" الاسم "الصالح لتعلقه" أي الاستثناء "في الثانية" حال كونه "غير" الاسم "الأول" في الجملة الأولى "أو" اختلافهما "حكما" بأن يكون المحكوم به في إحداهما غير المحكوم به في الأخرى، وملخص هذا أن المشعر بالإضراب اختلافهما نوعا أو اسما أو حكما بشرط(21/489)
أن لا يكون اسم الجملة الثانية ضمير اسم الجملة الأولى وعدم اشتراكهما في الغرض وأن ليس بين هذه الاختلافات منع الجمع فقد تجتمع جميعها وقد يجتمع اثنان منها، وأن المشعر بعدم الإضراب انتفاء الاختلاف رأسا أو أحد الشرطين، والأمثلة غير خافية على المتأمل، وإنما كان قول أبي الحسين لا يزيد على قول الشافعية "إذ حاصله" أي قول أبي الحسين "تعلقه" أي الاستثناء "بالكل إلا بقاصر" على الأخيرة "غير أنه" أي أبا الحسين "جعل ذلك" الاختلاف بينهما "قاصرا" للاستثناء على الأخيرة "فإن لم يوافق عليه فالخلاف في شيء آخر" فحاصل مراد المصنف - كما قال - أن مذهب أبي الحسين حاصله أنه إذا لم يوجد دليل يمنع صرفه إلى الكل كان للأخير، وهذا مذهب الشافعية بعينه غير أنه زاد حصر الأدلة أي القرائن الدالة على منع صرفه إلى الكل وعدده فإن سلموا ذلك فذاك، وإلا فخلاف في شيء آخر وهو أن هل كذا وكذا دليل على منع تعلقه بالكل، أو لا يلزم دليلا عليه "والحنفية والغزالي والباقلاني والمرتضى" وفخر الدين الرازي في المعالم يتعلق "بالأخيرة إلا بدليل فيما قبلها قيل" وقائله بمعناه القاضي عضد الدين "فالحنفية لظهور الاقتصار" على الأخيرة لما سيأتي "والآخرون لعدم ظهور الشمول" للكل "إما للاشتراك بين إخراجه مما يليه فقط والكل" أي وبين إخراجه(21/490)
ص -228-…كان مرات الضم متناهية فإذا وضع كل لفظ من الألفاظ لمعنى واحد كان الموضوع له متناهيا لمساواته المتناهي الذي هو الألفاظ وخلت المعاني الباقية عن ألفاظ تدل عليها "لكنها" أي المسميات "لم تخل" عن الأسماء فلزم اشتراك المعاني الكثيرة في اللفظ الواحد، وهو المطلوب "وهو" أي هذا الدليل "أضعف" مما قبله "لمنع عدم تناهي المعاني المختلفة" وهي التي حقيقتها مختلفة، ولا يمتنع اجتماعها في محل واحد كالحركة والبياض "والمتضادة" وهي الأمور الوجودية التي يمتنع اجتماعها في محل واحد في زمان واحد كالبياض والسواد فإن كلتيهما متناهية "وتحققه" أي عدم التناهي "في المتماثلة" وهي المتفقة الحقائق كأفراد الأنواع الحقيقية "ولا يلزم لتعريفها" أي المتماثلة "الوضع لها" أي للمتماثلة ولا يحتاج إليه بحسب خصوصياتها الغير المتناهية "بل القطع" حاصل "بنفيه" أي الوضع لها بحسب الخصوصيات الغير المتناهية وإنما يحتاج إليه باعتبار الحقيقة الواحدة التي اتفقت هي فيها.
والحاصل أنه إن أريد بالمعاني المعاني الكلية من المتخالفة والمتضادة فغير تناهيها ممنوع؛ لأن حصول ما لا نهاية له في الوجود محال، وأما الأعداد فالداخل منها في الوجود متناه على أن أصولها وهي الآحاد والعشرات والمئون والألوف متناهية، والوضع للمفردات لا للمركبات ثم إن الاشتراك إنما يكون بين المتخالفة والمتضادة، وسادس الأقوال فيه وهو منعه بين الضدين كما عن جماعة ممنوع بما في الواقع من أسماء الأضداد وسابعها وهو منعه بين النقيضين كما ذهب إليه الإمام الرازي؛ لأن الواقع لا يخلو عن أحدهما فلا يستفيد السامع بإطلاقه شيئا فيصير عبثا منع بأنه قد يغفل عنهما فيستحضرهما بسماعه ثم يبحث عن المراد منهما، وإن أريد بالمعاني المعاني الجزئية التي يصح بها التماثل فغير تناهيها مسلم وبطلان التالي ممنوع فإن تفهيمها يحصل بالتعبير عنها باسم جنسها مطلقا أو مع القرينة ولا اشتراك فيها.(21/491)
"وإن سلم" الوضع للمتماثلة "فالوضع للمحتاج إليه" منها لا غير "وهو" أي والمحتاج إليه "متناه ولو سلم" أنه لها كلها "فخلوها" أي المسميات عن الأسماء "على التقديرين" أي وجود المشترك وعدمه "مشترك الإلزام" للمجوزين والمانعين "إذ لا نسبة للمتناهي" وهو الألفاظ "بغير المتناهى" وهو المعاني أي لا يعرف قدره في القلة منه فما هو جواب المجوزين فهو جواب المانعين "ولو سلم" الخلو على تقدير عدم وجود المشترك خاصة "فبطلان الخلو ممنوع ولا تنتفي الإفادة فيما لم يوضع له" لفظ فإن كثيرا من المعاني لم يوضع لها ألفاظ دالة عليها كأنواع الروائح والطعوم فتفاد بألفاظ مجازية وبالإضافة وبالوصف فيقال: رائحة كذا وطعم كذا ورائحة طيبة وطعم طيب إلى غير ذلك "وأما تجويز عدم تناهي المركب من المتناهي" أي منع تناهي الألفاظ المركبة من الحروف المتناهية ليندفع به لزوم خلو المسميات عن الأسماء على تقدير عدم المشترك "إذا لم يكن" التركيب "بالتكرار والإضافات كتركيب الأعداد فباطل بأي اعتبار فرض" هذا التجويز "ولو" فرض "مع الإهمال" في بعض(21/492)
من الكل فإنه ثبت عوده إلى ما يليه فقط كما في قوله تعالى: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} [البقرة: 249] وعوده إلى الكل كما في قوله تعالى: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر} [الفرقان: 68] إلى قوله: {إلا من تاب} [الفرقان: 70] والأصل في الإطلاق الحقيقة فكان مشتركا كما هو قول المرتضى إلا أن إثبات عوده إلى ما يليه فقط بالآية المذكورة ذكره الإسنوي وهو متعقب كما ذكره السبكي وغيره بأنه فيها عائد إلى الأولى كما ذكره المفسرون فيحتاج إلى شاهد غيرها، فقيل: قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92] فإنه عائد إلى الأخيرة دون الكفارة قطعا، قلت: وفيه نظر فإن الكلام في اختصاصه بالأخيرة مع إمكان عوده إليها أو إلى ما قبلها وهذا ليس كذلك، واستشهد القرافي بقوله تعالى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ} [هود: 81] قال قرئ بالنصب استثناء من الثانية لأنها منفية وتكون قد خرجت معهم ثم رجعت قاله المفسرون، ا هـ. ولا بأس به فإنه ممكن عوده إلى الأولى ولا ضير في كون أكثر القراء على النصب على الاستثناء منها مع أنه مرجوح بالنسبة إلى البدل، أو كما قال ابن الحاجب وغيره: لا يبعد أن يكون أقل القراء على الوجه الأقوى وأكثرهم على الوجه الذي دونه بل التزم بعض الناس أنه يجوز أن يجمع القراء على قراءة غير الأقوى وإنما لم يذكر الرفع لأن الرفع على البدل ثم هي الأولى لأن به لا يجوز أن يكون استثناء من الأولى كلام موجب فلينتبه له والله تعالى أعلم "أو لعدم العلم بأنه" أي الاستثناء "كذلك" أي لغة راجع إلى الكل حقيقة "أو ما يليه" أي راجع إلى ما يليه لا غير حقيقة كما هو قول(21/493)
القاضي أبي بكر الباقلاني والغزالي واختاره في المحصول "فلزم ما يليه" على قول الكل "وما قيل" وقائله ابن الحاجب "المختار أنه مع" ظهور "قرينة الانقطاع" للأخيرة عما قبلها يكون "للأخيرة و" مع ظهور قرينة "الاتصال" أي اتصالها بما قبلها يكون "للكل وإلا" أي وإن لم تظهر إحداهما "فالوقف مذهب الوقف للاتفاق على إخراجه" أي الاستثناء "من الأخيرة والعمل بالقرينة.
واعلم أن المدعى في كتب الحنفية أنه من الأخيرة وما زيد من ظهور العدم" أي عدم الإخراج مما قبل الأخيرة المشار إليه آنفا بظهور الاقتصار في تعليل قولهم لم يصرحوا به بل "أخذ من استدلالهم" أي الحنفية "بأن شرطه" أي الاستثناء "الاتصال، وهو" أي الاتصال "منتف في غير الأخيرة" لتخلل الأخيرة بينه وبين ما يليها وتخللهما بينه وبين ما قبلهما وهلم جرا. "ومقتضاه" أي هذا الاستدلال "عدم الصحة مطلقا" فيما عدا الأخير "وهو" أي عدم الصحة فيما عداها "باطل إذ لا يمتنع" الاستثناء "في الكل بالدليل" إذ لا يختلف في أنه إذا دل دليل على تعلقه بالكل تعلق به وبه يعلم أنه مما يصح لغة تعلقه بالكل "وأما دفعه" أي هذا الاستدلال "بأن الجميع كالجملة فقول الشافعية العطف يصير المتعدد" أي الجمل المعطوف بعضها على بعض "إلى آخره" أي كالمفرد ولا شك أنه لا يعود فيه إلى جزئه فكذا في الجمل لا يعود إلى بعضها "وسيبطل و" من استدلالهم "بقولهم: عمله" أي الاستثناء "ضروري لعدم(21/494)
ص -229-…تقاليب تركيب بعض الألفاظ "إذ الإخراج" للصوت على وجه يحصل الحروف التي هي مادة الألفاظ يكون "بضغط" أي بزحمة وشدة للصوت "في محال" من الصدر والحلق وغيرهما "متناهية على أنحاء" أي أنواع من الكيفيات له "متناهية" فكيف لا تكون الألفاظ المركبة منها متناهية وهي هي "وإنما اشتبه" المتناهي "للكثرة الزائدة" فيه من التركيب بغير المتناهي.
"التقسيم الثاني باعتبار الموضوع له" اتحادا وتعددا "يخرج الخاص والعام" كما يظهر "وتتداخل" أقسام التقسيمين "فالمشترك عام وخاص والمنفرد كذلك" أي عام وخاص باعتبارين "ولا وجه لإخراج الجمع" المنكر "عنهما" أي عن العام والخاص "على التقديرين" أي اشتراط الاستغراق وعدمه كما فعله صدر الشريعة على تقدير اشتراط الاستغراق في العام بل هو على عدم اشتراط الاستغراق في العام مندرج في العام كما قال هو وعلى تقدير اشتراطه فيه مندرج في الخاص "لأن رجالا في الجمع مطلق كرجل في الوحدان" لأن رجالا معناه طائفة منهم فيصدق على كل جماعة جماعة على البدل كما يصدق رجل على كل رجل رجل على البدل فكان رجال مطلقا كما أن رجلا مطلق، والمطلق مندرج في الخاص اتفاقا "والاختلاف بالعدد" كما في رجال "وعدمه" أي العدد كما في رجل "لا أثر له" في إيجاب الاختلاف بالإطلاق وعدمه "فالمفرد عام، وهو ما دل على استغراق أفراد مفهوم" فيغني ذكر الاستغراق لمقابلته البدلية عرفا عن أن يقول ضربة "ويدخل المشترك" في العام "لو عم أفراد مفهوم أو" عم "في" أفراد "المفاهيم على" قول "من يعممه" أي المشترك فيها. قال المصنف رحمه الله: فإنه إذا عم في المفهومين عم في أفرادهما ضرورة إذ المراد بلا شك حينئذ جميع أفراد المفاهيم فيصدق حينئذ أنه عم في أفراد مفهوم فمفهوم من استغراق أفراد مفهوم مطلق يصدق على ما إذا لم يكن إلا مفهوم واحد أو مفهوم معه مفهوم آخر "والحاصل أن العموم باعتبار" استغراق "أفراد مفهوم" فإن لم يرد به في محل(21/495)
الاستعمال سوى مفهوم واحد كان عاما باعتباره إن دخله موجب العموم كاللام مثلا وإن أريد به المفهومان أو المفاهيم، ودخله الموجب عم بالنسبة إلى أفراد المفاهيم كلها واعتبر ذلك في قولك العين شيء يحب كذا أفاده المصنف رحمه الله تعالى هذا على من شرط الاستغراق في العام "ومن لم يشرط الاستغراق" فيه "كفخر الإسلام" فتعريفه عنده "ما ينتظم جمعا من المسميات" وهذا مختصر تعريف جماعة منهم فخر الإسلام وشمس الأئمة السرخسي مرادا بما عندهما لفظ؛ لأن العموم من عوارض الألفاظ لا غير عندهما ومن ثمة ذكراه بدل ما وعند غيرهما ممن ذهب إلى أن العموم من عوارض المعاني أيضا كما هو قول الجصاص وموافقيه شيء ثم خرج بما ينتظم جمعا أي يشمل أفراد الخاص، وهو ظاهر، والمشترك؛ لأنه لا يشمل معانيه بل يحتمل كلا منها على السواء. واشتراط الاستغراق وبقوله من المسميات أسماء الأعداد فإنه ليس لها مسميات بل لكل اسم عدد مسمى خاص لو نقص منه واحد أو زيد عليه تبدل الاسم ولم يتغير المسمى بخلاف العام فإن له مسميات كثيرة لا يتبدل فيه الاسم، ولا يتغير المسمى بالنقص والزيادة، وكون العموم في المعاني إذا كان المعرف من مانعيه فيها ولم يصدره بلفظ ولا بما مريدا له(21/496)
استقلاله" بنفسه لأنه لا بد له من مستثنى منه والضرورة مندفعة بالعود إلى واحدة "والأخيرة منتفية اتفاقا وما بالضرورة" يقدر "بقدرها" فتتعين الأخيرة. "ومنع" هذا "بأنه" أي عمله "وضعي" لا ضروري "قلنا لو سلم" أنه وضعي "فلما يليه فقط أو الكل فممنوع" للاتفاق على أنه لما يليه، والأصل الحقيقة وعدم الاشتراك "فاللازم لزومه من الأخيرة والتوقف فيما قبلها إلى الدليل" الدال على عوده إليه "وأيضا بدفع الدليل المعين لا يندفع المطلوب" لجواز ثبوته بغيره "فليكن المطلوب ما ذكرنا" من أنه يثبت في الأخيرة إلا بدليل فيما قبلها من غير ادعاء ظهور في عدم تعلقه بما قبلها، إذ الغرض لم يتعلق إلا بعدم رجوعه إلى الكل إلا بدليل في خصوص موارده قاله المصنف "ومن أدلتهم" أي الحنفية "حكم الأولى متيقن ورفعه" أي حكمها "عن البعض" أي بعضها "بالاستثناء مشكوك للشك في تعلقه" أي الاستثناء "به" أي بالبعض إما "لوجه الاشتراك" أي القول به وهو "استعمل" الاستثناء "فيهما" أي في الأخيرة والكل "والأصل الحقيقة" وقد حصل بهذا ذكر دليل القائل بالوقف فيما سوى الأخيرة للاشتراك ضمنا "وهو" أي هذا الوجه "إنما يفيد لزوم التوقف فيها" أي فيما قبل الأخيرة "لا ظهور العدم" فيما قبل الأخيرة "أو دافعه" أي الوجه دافع الاشتراك القائل "المجاز خير" من الاشتراك فليكن فيما قبل الأخيرة مجازا "فيفيده" أي ظهور العدم فيما قبل الأخيرة إلى الدليل على تعلقه فيما قبلها أيضا "وإبطاله" أي هذا الدليل من قبل الشافعية "بقولهم لا يقين مع تجويزه للكل يدفع بما تقدم في اشتراط اتصال المخصص" من أن هذا التجويز ممنوع لأن إطلاق ما قبل الأخيرة من غير تعقب بالاستثناء أفاده إرادة الكل فمع عدمها يلزم إخبار الشارع أو إفادته لثبوت ما ليس بثابت وهو باطل "أو بإرادة الظهور به" أي اليقين "وما قيل" - في معارضته - "الأخيرة أيضا كذلك" أي حكمها متيقن ورفعه عن البعض بالاستثناء مشكوك "لجواز(21/497)
رجوعه" أي الاستثناء "إلى الأول بالدليل قلنا الرفع ظاهر في الأخيرة ولذا" أي ولظهوره فيها "لزم فيها اتفاقا فلو تم" هذا الدليل الذي قيل "توقف في الكل وهو" أي التوقف فيه "باطل، وحاصله" أي قول الشافعية "ترجيح المجاز ففيما يليه" أي فالاستثناء فيما يليه "حقيقة وفي الكل مجاز وأما في غيرهما" أي ما يليه والكل "فيمتنع للفصل" بينه وبين المستثنى منه "حقيقة وحكما وفي المجاز يتوقف على القرينة" فتترجح الحقيقة ثم لو وقع الاستثناء من الكل مجازا ما علاقته فالجواب "والعلاقة تشبيهه" أي غير الكلام الأخير "به" أي بالأخير "لجمع العطف بخلاف الاتصال الصوري لأنه يتحقق بلا عطف ومع الإضراب" فلا يصلح علاقة "وما قيل في وجهه" أي التوقف في غير الأخيرة "الأشكال" بفتح الهمزة جمع شكل بفتح المعجمة "توجب الإشكال" بكسر الهمزة الاشتباه كما قال معناه ابن الحاجب "فمعناه" أن الاستثناء "يخرج من الأولى" تارة "ولا يخرج" منها أخرى "فتوقف فيه" أي في إخراجه من غير الأخيرة "وإلا" أي وإن لم يكن معناه هذا "اقتضى أن يتوقف في الأخيرة أيضا" وهو باطل "الشافعية" قالوا أولا: "العطف يصير المتعدد كالمفرد" وتقدم باقي توجيهه "أجيب" بأن تصيير المتعدد كالمفرد دائما هو "في" عطف "المفردات" بعضها على بعض لأن العطف في الأسماء المختلفة كالجمع في الأسماء المتفقة(21/498)
ص -230-…خاصة بها أما إذا صدره بلفظ أو بما مريدا له خاصة بها فيكون فائدته الأول وأما إذا كان المعرف من مجوزيه فيها فلا ينبغي له تصديره بلفظ ولا بما مريدا له خاصة بها بل بما مريدا بها ما هو أعم منه وحينئذ يكون فائدته الأول وعليه أن يقول أو المعاني، أو والمعاني ومن ثمة قال الجصاص هكذا فإنه مصرح بأن العموم توصف به المعاني حقيقة كالألفاظ فانتفى ما توارد عليه فخر الإسلام وصدر الإسلام وشمس الأئمة السرخسي من تغليطه في ذكر المعاني وخصوصا بأو وتأويلهم له بما هو آب له كما يعرف في كلامه وكلامهم والله الموفق.(21/499)
ثم الانتظام عندهم نوعان بعموم اللفظ كصيغ الجموع وبعموم المعنى كالقوم فإنه لفظ خاص وضع لمعنى عام وهو الجماعة المتفقة الحقيقة من الرجال، وهذا فائدة إردافهم التعريف المذكور بقولهم لفظا أو معنى وأورد عليه أن نحو أعلم زيد بكرا عمرا خير الناس يصدق عليه أنه انتظم جمعا من المسميات مع أنه ليس عاما وأجيب بأن المراد به لفظ واحد "وكذا ما يتناول أفرادا متفقة الحدود شمولا" وهذا تعريف صاحب المنار فخرج ب أفرادا الخاص وب متفقة الحدود المشترك فإنه يتناول أفرادا لكنها مختلفة الحدود وبـ"شمولا" اسم الجنس كرجل فإنه يتناول أفرادا متفقة الحدود لكن على سبيل البدل "وأما تعريفه" أي العام "على الاستغراق بما دل على مسميات باعتبار أمر اشتركت فيه مطلقا ضربة" كما هو تعريف ابن الحاجب فما دل كالجنس وأورد ما بدل لفظ ليتناول عموم المعاني أيضا؛ لأنه يعرض لها حقيقة على ما هو المختار عنده فعلى مسميات لإخراج نحو زيد فباعتبار أمر اشتركت فيه متعلق بدل لإخراج نحو عشرة فإنها دالة على آحادها باعتبار أمر اشتركت فيه بمعنى صدقه عليها؛ لأن آحادها أجزاؤها لا جزئياتها فلا يصدق على واحد واحد أنه عشرة "فمطلقا" قيد لما اشتركت فيه أي بلا قيد يفيد ذلك "لإخراج" الأفراد "المشتركة" في المفهوم "المعهودة" كالرجال في نحو جاءني رجال فأكرمت الرجال "لأنها" أي الأفراد المشتركة المعهودة "مدلولة" للفظ الجمع لكنها "مقيدة بالعهد". فهذا الجمع يدل على المسميات لكن لا مطلقا بل مع تقيدها بمرتبة من مراتب عهدهم بخلافه إذا لم يكن معهودا فإنه يدل على المسميات لكن لا مطلقا بل مع تقيدها بمرتبة من مراتب عهدهم بخلافه إذا لم يكن معهودا فإنه يدل على المسميات مطلقا حتى ينشأ منه استغراقه لجميع المراتب حيث لا مانع دفعا للترجيح بلا مرجح وضربة أي دفعة واحدة لإخراج نحو رجل فإنه يدل على مسمياته لكن لا دفعة بل دفعات على البدل "ويرد" على هذا التعريف "خروج علماء(21/500)
البلد" بقيد مطلقا فيبطل عكسه "وأجيب بأن المشترك فيه" أي في علماء البلد "عالم البلد مطلقا" أي العالم المضاف إلى البلد، وهو في هذا المعنى مطلق "بخلاف الرجال المعهودين" فإن المشترك فيه "فهو الرجل المعهود" فلم يرد بهم أفراده على إطلاقه بل مع خصوصية العهد "والحق أن لا فرق" بين الرجال المعهودين وبين علماء البلد في عدم الإطلاق "لأن عالم البلد معهود" بواسطة إضافته إلى البلد المعهود "وكون المراد عهدا اعتبرت خصوصيته" وهو العهد الكائن باللام فيه نفسه، وهو منتف في عالم البلد "لا يدل عليه اللفظ فيرد" علماء البلد عليه، ولا يندفع عنه بما تقدم "ويرد" أيضا عليه "الجمع(22/1)
ص -231-…المنكر" في الإثبات فإنه عنده ليس بعام مع أنه يصدق عليه التعريف بناء على أن المراد بمسميات أجزاء مسميات الدال على التنكير حتى تكون المسميات في الجمع الوحدان كما هو الظاهر فيبطل طرده. "فإن أجيب بإرادة مسميات الدال" أي جميع جزئيات مسماه الذي هو اسم لكل منها حتى تكون المسميات في الجميع الجموع فيخرج الجمع المنكر "فبعد حمله" أي ما دل على مسميات "على أفراد مسماه ليصح ولا يشعر به" أي بهذا المراد "اللفظ" لأن ظاهره ما تقدم "فباعتبار إلخ" أي أمر اشتركت فيه "مستدرك لخروج العدد" حينئذ بقوله: ما دل على مسميات "لأنها" أي آحاد العدد التي يدل عليها العدد "ليست أفراد مسماه" أي مسمى العدد بل أجزاء مسماه، وإنما أفراد العشرة مثلا العشرات على البدل لصدق العشرة مطلقا على كل منها كذلك بخلاف الآحاد لا يصدق على كل منها عشرة فهي مدلولات تضمنية لعشرة لا أفراد لها وأجيب بأن المراد بها أعم من جزئيات الدال ومن أجزائه وعموم جمع النكرة بالنسبة إلى أجزائه يخرج بقوله باعتبار أمر اشتركت فيه؛ لأن الأمر المشترك فيه هو المعنى الكلي الذي يندرج تحته المسميات التي هي جزئيات له ويصدق حمله على كل واحد منها وعمومه بالنسبة إلى جزئياته يخرج بقوله: ضربة؛ لأنه بإطلاق واحد لا يتناول جميع مراتب الجمع "ثم أفراد العام المفرد الوحدان والجمع المحلى الجموع فإن التزم كون عمومه" أي الجمع المحلى "باعتبارها" أي الجموع "فقط فباطل للإطباق على فهمها" أي: الأفراد "منه" أي من الجمع المحلى "وإلا" فإن كان عمومه باعتبارها فقط "فتعليق الحكم حينئذ به" أي بالجمع المحلى "لا يوجبه" أي تعليق الحكم "في كل فرد"؛ لأن كل الأفراد حينئذ كل وترتب الحكم على الكل لا يوجبه على كل جزء منه كما في: الجيش يفتح المدينة، والحبل يحمل الجرة لا يفتحها واحد منهم ولا يحملها شعرة منه لكنه يوجبه لغة وشرعا لما ذكر ويذكر "والحق أن لام الجنس تسلب الجمعية إلى(22/2)
الجنسية مع بقاء الأحكام اللفظية لفهم الثبوت" للحكم المعلق بالجمع المحلى "في الواحد في" حلفه "لا أشتري العبيد" فيحنث بشراء عبد واحد "ويحب المحسنين" أي وفي قوله تعالى {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] و {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] فإن الله تعالى يحب كل محسن وتواب ومتطهر إلى غير ذلك ولامتناع وصفه بالمفرد فلا يقال: لا أشتري العبيد الأسود مثلا محافظة على التشاكل اللفظي ويكون عموم هذا الجمع باعتبار الآحاد باعتبار معنى مجازي تشترك فيه مسمياته التي هي الجموع وهو ما يسمى بجنسها المفرد ولا بدع في ذلك فإن الأمر الكلي الذي تشترك فيه المسميات كما يكون حقيقيا للعام يكون مجازيا له أيضا كما في عموم اللفظ بين المعنى الحقيقي والمجازي فإنه يكون باعتبار معنى مجازي له يشترك فيه الحقيقي والمجازي إلى غير ذلك فليتأمل.
"ثم يورد" على العام "مطلقا" أي من غير تقييد بكونه جمعا "أن دلالته" أي العام الاستغراقي "على الواحد تضمنية؛ إذ ليس" الواحد مدلولا "مطابقيا ولا خارجا لازما ولا يمكن جعله" أي الواحد "من ما صدقاته" أي العام "لأنه" أي العام "ليس بدليا فالتعليق به" أي بالعام "تعليق بالكل" أي بجميع ما يصلح له "ولا يلزم" من التعليق بالكل التعليق "في الجزء" كما(22/3)
ص -232-…تقدم "والجواب" سلمنا أن دلالة العام الاستغراقي على الواحد تضمنا وكان مقتضى النظر أنه لا يلزم من تعليق الحكم بالعام المذكور تعليقه بالواحد من حيث إنه جزؤه لما ذكر لكن أوجب الدليل أن يلزم ذلك هنا وهو "العلم باللزوم لغة" وشرعا "في خصوص هذا الجزء لأنه" أي هذا الجزء "جزئي من وجه فإنه جزئي المفهوم الذي باعتبار الاشتراك فيه يثبت العموم" لسائر ما يصلح أن يصدق عليه ولا ضير في ذلك "وقد يقال العام مركب فلا يؤخذ الجنس" له "المفرد" وقد أخذته حيث جعلته المقسم له وللخاص "ويجاب بأنه" أي العام ليس المركب بل المفرد "يشترط التركيب فالعام" في الرجل "رجل بشرط اللام" كما هو قول السكاكي "أو بعلتها" كما هو قول كثير فعلى الأول "فالحرف" الذي هو اللام "يفيد معناه" أي العموم "فيه" أي في المفرد الذي هو رجل؛ لأن الحرف إنما يفيد معناه في غيره "أو المقام" أي وعلى الثاني فالمقام يفيد العموم الاستغراقي في المفرد بشرط دخول اللام عليه، وأيا ما كان "فيصير" المفرد هو "المستغرق" بعد استفادته الاستغراق من الحرف أو المقام بشرط دخول اللام عليه لا أن الحرف جزء منه "وفي الموصول" أي وكون المستغرق في الموصولات هو المفرد "أظهر" من كونه في المحلى هو المفرد للعلم بأن الصلة هي المفيدة للموصول وصف العموم وأنها ليست بجزء منه "فيندفع الاعتراض به" أي بالموصول "على الغزالي في قوله" في تعريف العام "اللفظ الواحد" الدال من جهة واحدة على شيئين فصاعدا حيث أورد عليه أن الموصولات بصلاتها ليست لفظا واحدا وعليه مناقشات ومدافعات أخرى تعرف في شرح أصول ابن الحاجب "وخاص" عطف على عام وهو "ما ليس بعام" على اختلاف الاصطلاح فيه من حيث اشتراط الاستغراق فيه وعدمه.(22/4)
ثم نقول: "أما العام فيتعلق به مباحث: البحث الأول هل يوصف به" أي بالعموم "المعاني" المستقلة كالمقتضى والمفهوم "حقيقة كاللفظ" أي كما يوصف به اللفظ حقيقة باعتبار معناه بأن يكون مما يصح الشركة في معناه؛ إذ لو كانت الشركة في مجرد اللفظ كان مشتركا لا عاما "أو" يوصف به المعاني "مجازا أو" لا يوصف به المعاني "لا" حقيقة "ولا" مجازا أقوال "والمختار: الأول ولا يلزم الاشتراك اللفظي" فيه على هذا كما عسى أن يتوهمه صاحب القول الثاني لترجحه على الأول بأنه دار بين أن يكون مشتركا لفظيا فيهما على تقدير الحقيقة وبين أن يكون حقيقة في اللفظ مجازا في المعنى، والمجاز خير من الاشتراك "إذ العموم شمول أمر لمتعدد فهو" أي شمول إلخ مشترك "معنوي خير منهما" أي من كونه مشتركا لفظيا فيهما ومن كونه مجازا في المعاني "وكل من المعنى واللفظ محل" لشمول إلخ. "ومنشؤه" أي هذا الخلاف "الخلاف في معناه" أي العموم "وهو شمول الأمر فمن اعتبر وحدته" أي الأمر "شخصية منع الإطلاق الحقيقي" على المعنى "إذ لا يتصف به" أي بالعموم حينئذ "إلا" المعنى "الذهني ولا يتحقق" الوجود الذهني "عندهم" أي الأصوليين لما سنذكر "وكان" أي العموم في المعنى "مجازا كفخر الإسلام ولم يظهر طريقه" أي المجاز "للآخر" القائل لا يتصف به المعنى لا حقيقة ولا مجازا "فمنعه" أي وصفها به "ومطلقا. ومن فهم من(22/5)
ص -233-…اللغة أنه" أي الأمر الواحد "أعم منه" أي من الشخصي "ومن النوعي وهو" أي كونه أعم منهما "الحق لقولهم مطر عام" في الأعيان "وخصب عام" في الأعراض "في النوعي" فإن الأفراد وإن كثرت تعد واحدا باتحاد نوعها وهذا؛ لأن الموجود من المطر مثلا في مكان ليس إلا فردا من المطر يباين الموجود في مكان آخر بالشخص، ويماثله بالنوع، والكل يطلق عليه مطر حقيقة لاشتراك لفظ مطر بين الكلي والأفراد، وهذا لأن المراد من مطر في قولنا: مطر عام ليس المطر الكلي بل الداخل في الوجود منه أخبر عنه بالعموم فالمراد بالضرورة بمطر عام أفراد مفهوم مطر وجدت في أماكن متعددة كل فرد في مكان كذا أفاده المصنف رحمه الله تعالى "وصوت عام في الشخصي بمعنى كونه مسموعا" للسامعين فإنه أمر واحد متعلق للاستماعات "أجازه" أي وصف المعاني به "حقيقة" نعم قيل: في هذا تسامح؛ لأن الهواء الحامل للصوت إذا صادم الهواء المجاور له حدث فيه مثل ذلك الصوت فالمسموع الذي تعلق به استماع زيد مثل المسموع الذي تعلق به استماع عمرو لا عينه "وكونه" أي الشمول الذي هو معنى العموم "مقتصرا على الذهني وهو" أي الذهني "منتف فينتفي الإطلاق" مطلقا عليه "ممنوع بل المراد" بالشمول "التعليق الأعم من المطابقة كما في المعنى الذهني والحلول كما في المطر والخصب. وكونه مسموعا كالصوت على أن نفي الذهني لفظي كما يفيده استدلالهم" أي النافين للوجود الذهني وهم جمهور المتكلمين، وهو أنه لو تحقق لاقتضى تصور الشيء حصوله في الذهن فيلزم كون الذهن حارا إذا تصور الحرارة ضرورة حصولها في الذهن حينئذ، ولا معنى للحار إلا ما قامت به الحرارة وكذا الحال في البرودة والاعوجاج والاستقامة واجتماع الضدين إذا تصورهما معا وحكم عليهما بالتضاد إلى غير ذلك فإن هذا منهم يفيد القول بنفي عين المتصور بما له من الآثار والأحكام في نفس الأمر في الذهن وهذا مما لا يختلف فيه وإنما الحاصل في الذهن مجرد صورة(22/6)
للمتصور موجودة فيه بوجود ظلي مطابقة لعين المتصور الخارجية حيث كان له وجود خارجي في نفس الأمر، وهذا مما لا يختلف فيه أيضا، وإلا امتنعت التعقلات "وقد استبعد هذا الخلاف؛ لأن شمول بعض المعاني لمتعدد أكثر وأظهر من أن يقع فيه نزاع إنما هو" أي الخلاف "في أنه هل يصح تخصيص المعنى العام كاللفظ وهو" أي هذا الاستبعاد "استبعاد يتعذر فيه القول الثاني؛ إذ لا معنى لجواز التخصيص مجازا نعم صرح مانعو تخصيص العلة بأن المعنى لا يخص وصرح بعضهم بأنه" أي نفى تخصيصه "لأنه" أي المعنى "لا يعم وهو" أي التصريح بأن المعنى لا يعم "ينافي ما ذكر" المستبعد "ويتعذر إرادة أنه" أي المعنى "يعم ولا يخص من قوله لا يعم" وهو ظاهر فلا يتأتى الجمع بين قوله وقول المستبعد بهذه الإرادة ليرتكب والله - سبحانه – أعلم.
"البحث الثاني هل الصيغ من أسماء الشرط والاستفهام والموصولات و" المفرد "المحلى" باللام الجنسية "و" النكرة "المنفية والجمع" المحلى "باللام" الجنسية "والإضافة موضوعة للعموم على الخصوص أو" للخصوص على الخصوص "مجاز فيه" أي في العموم "أو مشتركة" بين العموم والخصوص "وتوقف الأشعري مرة كالقاضي" أبي بكر وغيره "و" قال(22/7)
ص -234-…"مرة بالاشتراك" اللفظي كجماعة "وقيل" العموم "في الطلب" من الأمر والنهي "مع الوقف في الأخبار وتفصيل الوقف إلى معنى لا ندري" أوضعت للعموم أو الخصوص أم لا "ولا نعلم الوضع ولا ندري أحقيقة أو مجاز" أي لكن لا ندري أنها وضعت للعموم فتكون حقيقة فيه أو لا فتكون مجازا فيه وعلى تقدير كونها حقيقة فيه لا ندري أنها وضعت له فقط فتكون منفردة أم له، وللخصوص أيضا فتكون مشتركة كما ذكره ابن الحاجب وقرره الشارحون. أشار المحقق التفتازاني إلى فساده وحققه المصنف فقال "لا يصح إذ لا شك في الاستعمال" لهذه الصيغ كما يذكره "وبه" أي وبالاستعمال لها "يعلم وضعه" أي كل منها في الجملة "فلم يبق إلا التردد في أنه" أي الوضع للعموم هو الوضع "النوعي" فتكون مجازا فيه "أو الحقيقي" فتكون حقيقة فيه "فيرجع" الأول "إلى الثاني" لأنه آل الأمر إلى أن التوقف بمعنى لا ندري أحقيقة في العموم أو مجاز وهذا هو الثاني وقد أوضح المصنف رحمه الله تعالى هذا الرد بما فيه مزيد تحقيق له فقال: لأن الثاني إذ كان حاصله العلم بالوضع مع التردد في أنها أي الصيغ حقيقة أو مجاز كان المراد بالوضع المعلوم الأعم من وضع الحقيقة والمجاز فبالضرورة يكون مقابله الأول والمعبر عنه فلا ندري هو هذا الوضع بعينه ولا شك أن عدم العلم بمطلق الوضع المنقسم إلى وضع الحقيقة ووضع المجاز لا يكون إلا بعد العلم باستعمال الصيغ لذلك المعنى إذ لو علم الاستعمال قطع بأنه إما حقيقة أو مجاز فيقطع بثبوت الوضع الأعم من وضع الحقيقة ووضع المجاز لها، وكون إنسان فضلا عن عالم لم يسمع قط هذه الصيغ استعملت لغة، ولا شرعا في العموم معلوم الانتفاء فلزم أن لا تردد إلا في كونها حقيقة فيه أو مجازا فهو محل الوقف وهو المعنى الثاني "ولا تردد في فهمه" أي العموم "من" اسم الجمع المعرف باللام الجنسية في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" كما(22/8)
في الصحيحين. ومن الجمع المكسر المعرف باللام الجنسية في قوله صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش" كما هو حديث حسن أخرجه البزار وقوله صلى الله عليه وسلم: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث" غير أن المحفوظ إنا كما أخرجه النسائي لا نحن إلا أن مفادهما واحد ومن المفرد المحلى باللام الجنسية في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] ومن قوله تعالى: {لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [العنكبوت: 32] في اسم الجمع المضاف وفهمه أي العموم "العلماء قاطبة" من اسم الشرط كما "في: من دخل" داري فهو حر واسم الاستفهام كما في "وما صنعت ومن جاء" حيث هما "سؤال عن كل جاء ومصنوع" ومن النكرة المنفية كما في "ولا تشتم أحدا إنما هو" أي التردد "في أنه" أي العموم "بالوضع" كقول العموم "أو بالقرينة كقول الخصوص"، والقرينة "كالترتيب" للحكم "على" الوصف "المناسب" أي المشعر بعليته له "في نحو {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] "وأكرم العلماء" فإن الحكم الذي هو القطع والإكرام مرتب على وصف مشعر بعليته له من السرقة والعلم "ومثل العلم بأنه" أي الحكم "تمهيد قاعدة" أي خرج مخرج البيان لحكم كلي ينطبق على جزئياته، وإن كان جزئيا باعتبار متعلقه الذي اتفق وقوعه متعلقا به "كرجم ماعز" أي كرجم النبي صلى الله عليه وسلم ماعزا لما أقر بالزنا(22/9)
ص -235-…وكان محصنا كما في الصحيحين. "إذ علم أنه شارع وحكمي على الواحد" أي وإذ علم أنه قال: حكمي على الواحد حكمي على الجماعة كما هو مشتهر في كلام الفقهاء والأصوليين قال شيخنا الحافظ رحمه الله تعالى: ولم نره في كتب الحديث قال ابن كثير لم أر له سندا قط، وسألت شيخنا الحافظ المزي وشيخنا الذهبي فلم يعرفاه ا هـ وقد جاء ما يؤدي معناه فأخرج مالك والنسائي والترمذي وصححه وابن حبان في صحيحه عن أميمة بنت رقيقة أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة نبايعه على الإسلام فقلت: يا رسول الله هلم نبايعك، فقال: "إني لا أصافح النساء إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة" وفي رواية الحاكم والطبري "إنما قولي لامرأة كقولي لمائة امرأة" وهو في مسند أحمد وطبقات ابن سعد باللفظين فكما أن رجم ماعز مفيد للعموم لغيره ممن حاله كحاله لكل من هاتين القرينتين وإن كان ظاهره الخصوص فكذا غيره من مفيد حكم شرعي "أو ضرورة من نفي النكرة" أي أو ككون العموم ثبت ضرورة كما في نفي النكرة فإنها حيث كانت موضوعة لفرد مبهم كان انتفاؤه بانتفاء جميع الأفراد. فكان انتفاء جميع الأفراد ضرورة انتفائه كما سيأتي التعرض له مرة بعد أخرى "وألزموا" أي القائلون بوضعها للخصوص واستفيد منها العموم بالقرائن "أن لا يحكم بوضعي للفظ" على هذا التقدير؛ إذ يتأتى فيه تجويز كونه فهم منه بالقرائن لا بالوضع فينسد باب الاستدلال بأن اللفظ موضوع لكذا وهو مفتوح "إذ لم ينقل قط عن الواضع" التنصيص على الوضع حتى يمتنع أن يطرقه هذا التجويز "بل أخذ" أي حكم بوضع اللفظ للمعنى "من التبادر" أي تبادر المعنى "عند الإطلاق" للفظ وهو مما لا يمنع التجويز المذكور ثم الحاصل أنه تجويز لا يمنع الظهور فلا يقدح فيه "وأيضا شاع" وذاع من غير نكير "احتجاجهم" أي العلماء سلفا وخلفا "به" أي بالعموم من الصيغ المدعى كونها له وضعا "كعمر على أبي بكر في مانعي الزكاة ب أمرت أن أقاتل(22/10)
الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله" ففي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة قال لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر بعده وكفر من كفر من العرب قال عمر رضي الله عنه لأبي بكر رضي الله عنه كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" فقال أبو بكر والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه. قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق فقد فهم عمر العموم واحتج به وقرره أبو بكر وعدل إلى الاحتجاج في المعنى بقوله إلا بحقها "وأبي بكر" أي وكاحتجاج أبي بكر على الأنصار بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش" ووافقه على ذلك جميع الصحابة كما وقع في المختصر الكبير لابن الحاجب وتبعه الشارحون وتعقبهم شيخنا الحافظ بأنه ليس هذا اللفظ موجودا في كتب الحديث عن أبي بكر وإنما في الصحيحين وغيرهما في قصة السقيفة قول أبي بكر إن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش نعم أخرج أحمد بسند رجاله ثقات لكن فيه(22/11)
ص -236-…انقطاع أن أبا بكر قال لسعد يعني ابن عبادة لقد علمت يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقريش أنتم ولاة هذا الأمر. فلعل هذا مستند من عزا ذلك لأبي بكر فذكره بالمعنى ا هـ. فالأولى أن يقال: وكاحتجاج أهل الإجماع على أن من شرط الإمام أن يكون قرشيا به "ونحن معاشر الأنبياء لا نورث" أي وكاحتجاج أبي بكر على من ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم يورث بهذا وقد عرفت أن المحفوظ إنا لا نحن وأنه لا ضير؛ لأن مفادهما واحد إلى غير ذلك من الاحتجاجات بالعموم من الصيغ المدعى كونها للعموم وضعا، ولولا أنها للعموم لما كان فيها حجة في الصور الجزئية ولأنكر ذلك فلا جرم إن قال "على وجه يجزم بأنه" أي العموم "باللفظ" لا بالقرائن فانتفى أن يقال: الإجماع السكوتي لا ينتهض هنا؛ لأنه حينئذ في الأصول، وهو إنما ينتهض في الفروع "واستدل" للمختار بمزيف، وهو "أنه" أي العموم "معنى كثرت الحاجة إلى التعبير عنه فكغيره" أي فوجب الوضع له كما وضع لغيره من المعاني المحتاج إلى التعبير عنها "وأجيب بمنع الملازمة" وهو أن الاحتياج إلى التعبير لا يقتضي أن يكون له لفظ منفرد على طريق الحقيقة لجواز أن يستغنى عنه بالمجاز والمشترك فلا يكون ظاهرا في العموم "الخصوص لا عموم إلا لمركب ولا وضع له" أي للمركب "بل" الوضع "لمفرداته والقطع أنها" أي المفردات "لغيره" أي العموم "فلا وضع له" أي للعموم "فصدق أنها" أي الصيغ "للخصوص بيانه" أي: لا عموم إلا لمركب "أن معنى الشرط وأخويه" أي النفي والاستفهام "لا يتحقق إلا بألفاظ لكل منها" أي من الألفاظ "وضع على حدته وإنما يثبت" العموم "بالمجموع" منها "مثلا معنى من عاقل" والأولى عالم لوقوعه على الباري - تعالى "فيضم إليه" اللفظ "الآخر بخصوص من النسبة فيحصل" من المجموع "معنى الشرط والاستفهام وبهما العموم وصرح في العربية بأن تضمن من معنى الشرط والاستفهام طارئ على معناها الأصلي والجواب أن اللازم"(22/12)
من لا عموم إلا لمركب "التوقف على التركيب" أي توقف ثبوت العموم على تركيب المفرد مع غيره "فلا يستلزم أن المجموع" المركب هو "الدال" على العموم بل جاز كون المفرد بشرط التركيب هو العام وقبل حصول الشرط له معنى وضعي إفرادي غير معنى العموم "وتقدم الفرق" بين أن يكون الدال المركب أو جزأه بشرط التركيب في ذيل الكلام في تعريف العام "وليس ببعيد قول الواضع في النكرة" من حيث هي جعلتها "لفرد" مبهم "يحتمل كل فرد" معين على البدل "فإذا عرفت" لغير عهد "فللكل ضربة وهو" أي وضعها هكذا هو "الظاهر لأنا نفهمه" أي العموم "في أكرم الجاهل وأهن العالم ولا مناسبة" بين الإكرام والجهل وبين الإهانة والعلم فلم يكن العموم بالقرينة؛ لأنها في مثله المناسبة، وهي منتفية "فكان" العموم معنى "وضعيا" للفظ "وغايته" أي الأمر "أن وضعه" أي اللفظ للعموم "وضع القواعد اللغوية كقواعد النسب والتصغير، وأفراد موضوعها" أي القواعد "حقائق" فهو من أحد نوعي الوضع النوعي كما سيأتي في بحث المجاز "ولذا" أي لكون اللفظ موضوعا للعموم وضعا نوعيا "وقع التردد في كونه" أي اللفظ العام "مشتركا لفظيا" بين الخاص والعام لاستعماله في الخصوص أيضا حتى قال به بعضهم "والوجه أن عموم غير المحلى" باللام الجنسية "و" غير "المضاف عقلي"(22/13)
ص -237-…لا وضعي "لجزم العقل به" أي بالعموم "عند ضم الشرط والصلة إلى مسمى من وهو عاقل و" مسمى "الذي وهو ذات فيثبت ما علق به" أي بالمسمى "لكل متصف" بالمسمى "لوجود ما صدق عليه ما علق عليه" أي لوجود المفهوم الذي نيط به الحكم فالضمير في عليه الأول راجع إلى ما وما علق عليه فاعل صدق "وكذا النكرة المنفية" عمومها عقلي "لأن نفي ذات ما" الذي هو معناها "لا يتحقق مع وجود ذات" كما بيناه آنفا "وهذا" العقلي "وإن لم يناف الوضع" له أيضا لإمكان تواردهما عليه "لكن يصير" الوضع له "ضائعا" لاستفادته بدونه "وحكمته" أي الواضع "تبعده" أي وقوعه "كما لو وضع لفظا للدلالة على حياة لافظه" فإنه، وإن كان ممكنا بعيد جدا. "واعلم أن العربية النكرة المنفية بلا" حال كونها "مركبة" كلا رجل بالفتح "نص في العموم وغيرها" أي المركبة كلا رجل بالرفع "ظاهر" في العموم "فجاز" في غيرها "بل رجلان وامتنع في الأول" أي في كونها مركبة بل رجلان "وبعلته" أي بعلة امتناع بل رجلان في لا رجل وهي النصوصية للتركيب لتضمن معنى من الزائدة "يلزم امتناعه" أي بل رجلان "في لا رجال" للتركيب والنصوصية لكنه ليس بممتنع "فإن قالوا: المنفي" في لا رجال "الحقيقة بقيد تعدد" خارجي لأفرادها بخلاف لا رجل فإن المنفي فيه الحقيقة مطلقا. "قلنا: إذا صح" في المركبة حال كونها جمعا تسلط النفي على الحقيقة بقيد التعدد الخارجي من ثلاثة فصاعدا فجاز بل رجلان لانتفاء هذا التعدد "فلم لا يصح" تسلطه عليها مفردة "بقيد الوحدة" فيجوز بل رجلان أيضا لانتفاء هذا القيد "كجوازه" أي: بل رجلان "في الظاهر" أي لا رجل بالرفع، وإلا فتحكم فإن قيل: المانع هنا اللغة. قلنا ممنوع كما قال "وحكم العرب به ممنوع" بل هو كلام المولدين؛ إذ لم ينقل عن العرب امتناع بل رجلان في لا رجل وجوازه في لا رجال "والقاطع بنفيه" أي الحكم به "منها" أي من العرب لأنه مؤنث "ما عن ابن عباس ما من عام إلا وقد خص وقد(22/14)
خص" هذا أيضا "بنحو والله بكل شيء عليم" فإن هذا لم يخص بشيء أصلا لتعلق علمه بعامة ما يطلق عليه شيء إلى غير ذلك "ولا ضرر" أي وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار" كما رواه كثير منهم مالك والحاكم وقال: صحيح الإسناد على شرط مسلم "وأوجب كثيرا من الضرر" بحق من حد وقصاص وتعزير وغيرها لمرتكب أسبابها "وتنتفي منافاته لإطلاق الأصول العام يجوز تخصيصه" أي وبهذا البحث الذي أبداه المصنف رحمه الله تعالى تنتفي المنافاة بين كلامهم وبين إطلاق الأصوليين جواز تخصيص العام ما لم يمنعه العقل في خصوص المادة أو السمع القطعي نحو بكل شيء عليم.
قال المصنف: ووجه المنافاة أن التخصيص بيان أن بعض الأفراد لم يرد بالحكم المتعلق بالعام وبتقدير كون النفي للحقيقة والجنس مطلقا على كل تقدير لا يصح تخصيص هذا العام كما لا يصح بل رجلان؛ لأنه شمله حكم النفي للنصوصية، ودخل مرادا فامتنع أن يكون غير مراد وحاصل بحثنا أن لا رجل بالتركيب غاية أمره أن دلالته على الاستغراق أقوى من دلالة لا رجل بالرفع وفي كل منهما يجوز أن يعتبر في نفي الجنس قيد الوحدة فيقال بل رجلان وكون المركبة نصا لا يحتمل تخصيصا كالمفسر عند الحنفية ممنوع، وقول صاحب(22/15)
ص -238-…الكشاف في: لا ريب فيه قراءة النصب توجب الاستغراق وقراءة الرفع تجوزه غير حسن، فإن ظاهره أن العموم في الرفع غير مدلول اللفظ بل تجوز إرادته، وعدمها على السواء، وليس كذلك بل النكرة في سياق النفي مطلقا تفيد العموم أطبق أئمة الأصول والفقه عليه، وليس أخذهم ذلك إلا من اللغة وهم المتقدمون في أخذ المعاني من قوالب الألفاظ ثم إن وجدنا المتكلم لم يعقب الصيغة بإخراج شيء حكمنا بإرادة ظاهره من العموم ووجب العمل بالعموم، وإن ذكر مخرجا هو بل رجلان علمنا أنه قصد النفي بقيد الوحدة أو مخرجا آخر متصلا أو منفصلا علمنا أنه أراد بالعام بعضه نحو "لا ضرر ولا ضرار" وأوجب القتل والضرب في مواضع وهو ضرر فعلمنا أنه أريد به في غير تلك المواطن وهو معنى تخصيص العام وهو بيان أنه أريد بالعام بعضه وحينئذ فقراءة كل من النصب والرفع توجب الاستغراق غير أن إيجاب النصب أقوى على ما يقال.(22/16)
"فإن قيل فهل بل رجلان تخصيص" للا رجل المركب "مع أن حاصله" أي لا رجل المركب على تقدير تجويز بل رجلان معه "نفي المقيد بالوحدة فليس عمومه إلا في المقيد بها" أي إلا في رجل بقيد الوحدة فلم يدخل رجلان؛ لأنه بقيد التعدد فلا يتصور إخراجه فلا يقع تخصيصا عند القائلين بالتخصيص بالمتصل "قلنا التخصيص بحسب الدلالة ظاهر إلا" بحسب "المراد" وإلا لم يكن تخصيص أصلا؛ لأن كل مخصص لم يدخل في الإرادة بالعام وإذا عرف هذا "فلا شك على" اصطلاح "الشافعية" على أن التخصيص قصر العام على بعض مسماه في أنه تخصيص لصدقه عليه "وأما الحنفية فهو كالمتصل" أي: فبل رجلان كالتخصيص المتصل باصطلاح الشافعية بناء على أن المراد به ما لا يستقل بنفسه من الخمسة الآتية؛ لأن هذا لما فيه من الإضراب كذلك، وإلا لو ترك هذا القيد لكان هذا منه لا كهو "والتخصيص بمستقل" أي لكن التخصيص اللفظي عند الحنفية إنما يكون بكلام تام مستقل بنفسه فلا يكون هذا تخصيصا عندهم لعدم استقلاله نعم مقتضى كلام المصنف في بحث التخصيص أن هذا عند أكثرهم، وأن بعضهم لم يشترطه وصرح في البديع بأن اشتراطه قول بعضهم وأن أكثرهم على انقسامه إلى مستقل وغير مستقل فإذن إنما لا يكون هذا تخصيصا على قول بعضهم ولعل كونه تخصيصا أوجه "قالوا" أي القائلون بأنها موضوعة للخصوص حقيقة "الخصوص متيقن" إرادته استقلالا على تقدير الوضع له أو مع غيره على تقدير الوضع للعموم، والعموم محتمل لجواز أن يكون الوضع له وأن يكون للخصوص "فيجب" الخصوص "وينفى المحتمل" أي العموم؛ لأن المتيقن أولى من المشكوك "وأجيب بأنه إثبات اللغة بالترجيح" وهو مردود؛ لأنها إنما تثبت بالنقل كما تقدم "وبأن العموم أرجح" من الخصوص "للاحتياط" لأن في الحمل على الخصوص مع احتمال كون العموم مرادا إضاعة غيره مما يدخل في العموم بخلاف الحمل على العموم لدخول الخصوص فيه، والأحوط أولى قال المصنف: "وفي هذا" الجواب "إثباتها" أي(22/17)
اللغة "بالترجيح" أيضا لأن حاصله أن في اعتباره عاما إذا وقع في الخطاب الشرعي احتياطا، وفي عدمه عدم الاحتياط فيجب أن يحكم بأنه موضوع في اللغة(22/18)
ص -239-…لمعنى العموم وهذا هو الحكم بوضع اللغة لترجيح إرادة معنى للفظ في الاستعمال على غيره، وهو كترجيح إرادته لتحقق الاحتياط على إرادة غيره مما الاحتياط في الحكم فهو إثبات اللغة بالترجيح بالاحتياط "مع أن الاحتياط لا يستمر" في الحمل على العموم في كل صورة بل في الإيجاب والتحريم؛ لأن في الحمل على الخصوص فيهما مخالفة للأمر والنهي في بعض ما أمر به ونهي عنه كأكرم العلماء، ولا تكرم الجهال؛ إذ لو حملهما على الخصوص فترك إكرام بعض العلماء وإكرام بعض الجهال أثم أما في الإباحة فلا يكون الحمل على العموم أحوط بل ربما كان الخصوص أحوط كما في اشرب الشراب وكل الطعام فإنه إذا عمل بالعموم فيهما أثم بتناول محرم منهما فلا يتم كلا الجوابين "بل الجواب لا احتمال" للوضع للخصوص حقيقة "بعد ما ذكرنا" بديا من الأدلة المفيدة للوضع للعموم حقيقة "وأما استدلالهم" أي القائلين بالوضع للخصوص أيضا بما ينسب إلى ابن عباس "ما من عام إلا وقد خص" حتى هذا أيضا كما تقدم "ففرع دعوانا" أن الوضع للعموم حقيقة ويحمل على الخصوص مجازا؛ إذ هو مفيد أن العموم أصل والخصوص عارض، وهذا هو الذي نقوله "الاشتراك ثبت الإطلاق لهما" أي للعموم والخصوص "والأصل الحقيقة والجواب لو لم يثبت ما ذكرنا" من الأدلة المفيدة للوضع للعموم حقيقة وللخصوص مجازا "المفصل الإجماع على عموم التكليف وهو" أي عمومه "بالطلب" من الأمر والنهي فلو لم يكن الطلب عاما لم يكن التكليف عاما "قلنا: وكذا الإخبار فيما ليس فيه صيغة خصوص مثل نحن عليك" فإن هذا إخبار بما فيه صيغة خصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو كاف الخطاب المفرد المجرور، وذلك نحو {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62] {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 101] إلى غير ذلك من الوعد والوعيد فتكون عامة أيضا "لتعلقه" أي التكليف بها "بحال الكل" فإنا مكلفون عموما بمعرفتها أيضا للانقياد إلى الطاعات(22/19)
والانزجار عن المخالفات فلا معنى للفرق بينهما، وقد تساويا في التكليف "ولا معنى للتوقف" أيضا في الإخبار دون الطلب، ولا فيها مطلقا "بعد استدلالنا" للمختار بما تقدم؛ إذ لا موجب له بل يتعين القول بما ذهبنا إليه واستدللنا عليه.
"البحث الثالث ليس الجمع المنكر عاما خلافا لطائفة من الحنفية" ومن وافقهم وسيعين منهم فخر الإسلام غير أن صاحب الكشف ذكر أن عامة الأصوليين على أن جمع القلة النكرة ليس بعام لظهوره في العشرة فما دونها، وإنما اختلفوا في جمع الكثرة النكرة، وكأن فخر الإسلام بقوله: أما العام بصيغته ومعناه فهو صيغة كل جمع رد قول العام، واختار أن الكل عام سواء كان جمع قلة أو كثرة إلا أنه إن ثبت في اللغة جمع القلة يكون للعموم يكون العموم في موضوعه وهو الثلاثة فصاعدا إلى العشرة، وفي غيره يكون العموم من الثلاثة إلى أن يشمل الكل؛ إذ ليس من شرط العموم عنده الاستغراق "لنا القطع بأن رجالا لا يتبادر منه عند إطلاقه استغراقهم" أي جماعات الرجال "كرجل" من حيث إنه لا يتبادر منه أيضا عند إطلاقه استغراقه لسائر الوحدان "فليس" الجمع المنكر "عاما" كما أن رجلا كذلك. "فما قيل" في إثبات عمومه كما في البديع ما معناه "المرتبة المستغرقة" لكل جمع "من مراتبه" أي(22/20)
ص -240-…الجمع المنكر "فيحمل" الجمع المنكر "عليها" أي على المستغرقة "للاحتياط" لأنه حمل على جميع حقائقه حينئذ "بعد أنه معارض بأن غيرها" أي غير المستغرقة وهي الأقل "أولى للتيقن" به والشك في غيره والأخذ بالمتيقن وطرح المشكوك أولى، ويتأيد هذا في التكاليف بأن الأصل براءة الذمة "ويكون الاحتياط لا يستمر" في المستغرقة "بل يكون" الاحتياط "في عدمه" أي الاستغراق كما في الإباحة "ليس في محل النزاع لأنه" أي النزاع إنما هو "في أنه" أي العموم الاستغراقي "مفهومه" أي الجمع المنكر "وأين الحمل على بعض ما صدقاته" الذي هو المرتبة المستغرقة "للاحتياط منه" أي من محل النزاع وهو أن العموم الاستغراقي مفهومه وضعا. "وأما إلزام نحو رجل" لمثبت عمومه بأن يقال: هو موضوع للجمع المطلق المشترك بين الجموع أي جمع كان على سبيل البدل كرجل للواحد أي واحد كان فلم يكن ظاهر العموم كما أن رجلا ليس بظاهر في زيد وعمرو "فمدفوع بأنه" أي نحو رجل "ليس من أفراده" المرتبة "المستغرقة" لسائر الأفراد ليحمل عليها "بخلاف رجال فإنه للجمع المشترك بين المستغرق وغيره" أي غير المستغرق فيحمل على المستغرق "قيل مبنى الخلاف" في أنه عام أو لا، والقائل المحقق التفتازاني "الخلاف في اشتراط الاستغراق في العموم فمن لا" يقول باشتراطه "كفخر الإسلام وغيره جعله" أي الجمع المنكر "عاما" ومن يقول باشتراطه لم يجعله عاما "وإذن" أي وحين يكون مبنى ذاك الخلاف هذا الخلاف "لا وجه لمحاولة استغراقه" أي الجمع المنكر "بالحمل على مرتبة الاستغراق" كما فعل صاحب البديع "بل لفظي" إضراب عن هذا الحمل أي ليس ذاك الخلاف خلافا متحققا مبنيا على خلاف آخر أصلا بل ليس هنا خلاف أصلا. "فمراد المثبت" للجمع المنكر عموما كفخر الإسلام "مفهوم عموم" أي لفظ عموم "وهو" أي مفهوم لفظ عموم "شمول" أمر لأمر "متعدد أعم من الاستغراق" ونافي عمومه لا ينازعه في هذا "ومراد النافي عموم الصيغ التي(22/21)
أثبتنا كونها" أي الصيغ "حقيقة فيه" أي في العموم "وهو الاستغراقي حتى قبل الأحكام من التخصيص والاستثناء" المتصل "ولا نزاع في" نفي "هذا" عن الجمع المنكر "لأحد" من مثبت عمومه "ولا في عدمه" أي عدم قبول الأحكام المذكورة "في رجال لا يقال: اقتل رجالا إلا زيدا" على أنه استثناء متصل منهم "لأنه" أي الاستثناء المتصل "إخراج ما لولاه" أي الاستثناء "لدخل" في المستثنى منه وليس هذا كذلك؛ لأنه على تقدير عدم استثنائه لا يلزم أن يكون داخلا في رجال "ولو قيل" اقتل رجالا "ولا تقتل زيدا كان" ولا تقتل زيدا "ابتداء لا تخصيصا" لرجال لانتفاء عمومه الاستغراقي بحيث يلزم شمولهم له قال المصنف رحمه الله تعالى فالحاصل ثبوت الاتفاق على أن عموم الصيغ استغراقي وعلى أن عموم المنكر بمعنى شمول أمر لمتعدد فأين الخلاف "وإذ بينا أنه" أي الجمع المنكر "للمشترك" بين مراتب الجمع "وهو" أي المشترك بينها "الجمع مطلقا ففي أقله" أي الجمع مطلقا "خلاف قيل" أقله حقيقة "ثلاثة مجاز لما دونها" من اثنين وواحد "وهو" أي هذا القول هو "المختار وقيل حقيقة في اثنين أيضا وقيل" حقيقة في ثلاثة "مجاز فيهما" أي في الاثنين "وقيل" حقيقة في ثلاثة ولا يصح أن يطلق على اثنين "لا" حقيقة "ولا" مجازا.(22/22)
ص -241-…واعلم أن حكاية هذه الأقوال على هذا الوجه ذكرها ابن الحاجب وفيها تأمل فإن كون أقل الجمع ثلاثة معزو إلى أكثر الصحابة والفقهاء منهم أبو حنيفة ومالك في رواية والشافعي وأئمة اللغة، وكون أقله اثنين معزو إلى عمر وزيد بن ثابت ومالك في رواية وداود والقاضي والأستاذ والغزالي والخليل وسيبويه، والظاهر أن الأولين لا يمنعون إطلاقه على اثنين مجازا، وأنهم والآخرين لا يمنعون إطلاقه على الواحد مجازا أيضا من إطلاق الكل وإرادة الجزء بشرطه، ويلزم الآخرين كونه حقيقة في ثلاثة فصاعدا أيضا فلا ينبغي أن يعد إطلاقه على الواحد مجازا قولا آخر مقاسما لهما، وأما أنه لا يطلق على الاثنين حقيقة ولا مجازا ويلزمه بطريق أولى أنه لا يطلق على الواحد كذلك فبعيد جدا قال السبكي: ولا نعرفه عن أحد.(22/23)
ثم أفاض المصنف في بيان وجه المختار على وجه يتضمن وجه كل من باقي الأقوال فقال "لقول ابن عباس: ليس الأخوان إخوة" فقد أخرج ابن خزيمة والبيهقي والحاكم وقال صحيح الإسناد عن ابن عباس أنه دخل على عثمان فقال: إن الأخوين لا يردان الأم عن الثلث فإن الله سبحانه يقول {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] والأخوان ليسا بإخوة بلسان قومك فقال عثمان لا أستطيع أرد أمرا توارث عليه الناس وكان قبلي ومضى في الأمصار فهذا يصلح في الجملة متمسكا لنفي صحة الإطلاق عليهما مطلقا بأن يقال: لو كان الإطلاق جائزا ما صح سلب ابن عباس فإذا قيل "أي حقيقة لقول زيد الأخوان إخوة" فقد أخرج الحاكم وقال صحيح الإسناد عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه أنه كان يحجب الأم عن الثلث بالأخوين فقال له يا أبا سعيد فإن الله عز وجل يقول {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] وأنت تحجبها بالأخوين فقال: إن العرب تسمي الأخوين إخوة "أي مجازا جمعا" بين كلام ابن عباس وزيد كان دليلا لمطلقيه عليهما مجازا ثم كما قال المصنف "وتسليم عثمان لابن عباس تمسكه ثم عدوله" أي عثمان "إلى الإجماع دليل على الأمرين" أي نفي كونه حقيقة وكونه مجازا فيهما لا أنه حقيقة في ثلاثة أما الأول فظاهر وأما الثاني فلأنه لما عدل إلى الاحتجاج بما يفيد الإجماع حملوا إخوة في القرآن على أخوين فكان مجازا فيه بالضرورة لثبوت نفي الحقيقة مع وجود الاستعمال بقي كونه مجازا في الواحد أشار إليه بقوله: "ولا شك في صحة الإنكار على متبرجة" أي مظهرة زينتها "لرجل" أجنبي "أتتبرجين للرجال" فإن الأنفة والحمية من ذلك يستوي فيها الجمع والواحد لكنه كما قال: "ولا يخفى أنه" أي لفظ الرجال هنا "من العام في الخصوص لا المختلف من نحو رجال المنكر على أنه" أي هذا "لا يستلزمه" أي كون الجمع "مجازا فيه" أي في الواحد "لجواز أن المعنى هو" أي التبرج "عادتك(22/24)
لهم" أي للرجال "حتى تبرجت لهذا وهو" أي هذا المعنى "مما يراد في مثله نحو" قول القائل لمن هو مظنة الظلم "أتظلم المسلمين" عند مشاهدة ظلمه واحدا منهم "والحق جوازه" أي إطلاق الجمع مرادا به الواحد "حيث يثبت المصحح" لجوازه "ك رأيت رجالا في رجل يقوم مقام الكثير" منهم قيل ومنه قوله تعالى {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} [النمل: 35] فإن المراد واحد وهو سليمان عليه السلام وقوله {بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 35] فإن الرسول(22/25)
ص -242-…واحد بدليل ارجع إليهم "وحيث لا" يثبت المصحح "فلا" يجوز "وتبادر ما فوق الاثنين" عند الإطلاق "يفيد الحقيقة فيه" أي فيما فوقهما؛ لأن التبادر دليل الحقيقة "واستدلال النافين" لصحة إطلاقه على الاثنين مطلقا "بعدم جواز: الرجال العاقلان والرجلان العاقلون مجازا". ولو صح لجاز نعت أحدهما بما ينعت به الآخر "دفع بمراعاتهم" أي العرب "مراعاة الصورة" أي صورة اللفظ بأن يكون كلاهما مثنى أو جمعا فلا ينعت المثنى بصورة الجمع، وإن كان بمعناه ولا العكس محافظة على التشاكل بين الصفة والموصوف؛ لأنهما كشيء واحد "ونقض" هذا الدفع "بجواز" جاء "زيد وعمرو الفاضلان وفي ثلاثة" أي وبجواز جاء زيد وعمرو وبكر "الفاضلون" إذا الموصوف في الكل مفردات وما ثم مثنى ولا مجموع "ودفعه" أي هذا البعض كما ذكره المحقق التفتازاني "بأن الجمع بحرف الجمع" أي بواو العطف في الأسماء المختلفة "كالجمع بلفظ الجمع" في الأسماء المتفقة صورة وفي الاسمين المختلفين كتثنية الاسمين المتفقين صورة فيكون تعاطف المفردات بمنزلة الجمع وفي صورته وتعاطف المفردين بمنزلة التثنية، وفي صورتها "ليس بشيء" دافع له "إذ لا يخرجه" أي كلا من المثالين المنقوض بهما "إلى مطابقة الصورة" اللفظية تثنية وجمعا فكان ينبغي أن لا يجوز إن كانت شرطا. "والوجه اعتبار المطابقة الأعم من الحقيقة والحكمية بما قدمنا" من كلام ابن عباس فإنه يفيد نفي المطابقة بين المثنى والجمع معنى كما هي منفية بينهما لفظا وحينئذ جاز المثالان الأخيران لوجود المطابقة الحكمية بين الموصوف والصفة فيهما وإن كانت المطابقة الحقيقية منتفية بينهما فيهما ولم يجز المثالان الأولان لانتفاء المطابقة بين الصفة والموصوف فيهما حقيقة وهو ظاهر وحكما؛ لأن الرجال ليس في حكم رجل ورجل لا غير ولا عاقلين في حكم عاقل وعاقل لا غير. "ولا خلاف في نحو" قوله تعالى {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] أي في التعبير(22/26)
بصيغة الجمع عما ينفرد من الشيئين إذا أضيف إليهما أو إلى ضميرهما في اللغة الفصيحة كالقلب والرأس واللسان "ونا" أي ولا في الضمير الذي يعبر به المتكلم عن نفسه وغيره متصلا أو منفصلا "وجمع" أي ولا في لفظ جمع "أنه" أي هذا كله "ليس منه" أي من محل الخلاف بل جواز إطلاقه على الاثنين وفاق فالأول قالوا حذرا من استثقال جمع التثنيتين والثاني للاتفاق على كونه موضوعا لتعبير المرء عن نفسه وغيره واحدا كان أو جمعا، والثالث؛ لأنه ضم شيء إلى شيء وهو يتحقق في الاثنين كما فيما فوقهما "ولا" خلاف أيضا في أن "الواو في ضربوا منه" أي من محل الخلاف والأولى ولا في أن ضمائر الغيبة والخطاب للجماعة منه كما في البديع فيشمل نحو قاموا وقمن وقمتم وقمتن.
هذا وفي التلويح: واعلم أنهم لم يفرقوا في هذا المقام بين جمع القلة وجمع الكثرة فدل بظاهره على أن التفرقة بينهما إنما هي في جانب الزيادة بمعنى أن جمع القلة مختص بالعشرة فما دونها، وجمع الكثرة غير مختص لا أنه مختص بما فوق العشرة، وهذا أوفق بالاستعمال، وإن صرح بخلافه كثير من الثقات ا هـ وهو ظاهر كلام المصنف أيضا كما رأيت ولا بأس بذلك ويجمع جموع القلة قول الشاعر:(22/27)
ص -243-…بأفعل ثم أفعال وأفعلة
وفعلة يعرف الأدنى من العدد
وسالم الجمع أيضا داخل معها
فهذه الخمس فاحفظها ولا تزد
"تنبيه لم تزد الشافعية في صيغ العموم على إثباتها، وفصلها الحنفية إلى عام بصيغته ومعناه" بأن يكون اللفظ مجموعا والمعنى مستوعبا "وهو الجمع المحلى للاستغراق" يعني عند شارطيه في العموم، وإلا فهو عند من لم يشرطه فيه منهم الجمع المنكر كما صرحوا به حتى قال صاحب الكشف: اللام في قول فخر الإسلام مثل الرجال والنساء والمسلمين والمسلمات لتحسين الكلام، ومراده الجموع المنكرة "و" إلى عام "بمعناه" فقط بأن يكون اللفظ مفردا مستوعبا لكل ما يتناوله "وهو المفرد المحلى كالرجل والنكرة في النفي والنساء والقوم والرهط ومن وما وأي مضافة وكل وجميع" وقد قسم هذا ثلاثة أقسام:
الأول: ما يتناول مجموع الأفراد فيتعلق الحكم بمجموعها لا بكل فرد على الانفراد وحيث يثبت للواحد فلأنه داخل في المجموع كالرهط اسم لما دون العشرة من الرجال والقوم لجماعة الرجال فاللفظ فيهما مفرد بدليل أنه يثنى ويجمع ويوحد الضمير العائد إليه وهو متناول لجميع آحاده لا لكل واحد من حيث إنه واحد حتى لو قال الرهط أو القوم الذي يدخل الحصن فله كذا فدخله جماعة كان النفل لمجموعهم ولو دخله واحد لم يستحق شيئا.(22/28)
"تنبيه" والمصنف في ذكره النساء من هذا القبيل موافق لصدر الشريعة وعده فخر الإسلام في آخرين من الأول، وكأن هذا الاختلاف بناء على أنه اسم جمع أو جمع فمن قال: اسم جمع عده من الثاني، ومن قال: جمع عده من الأول، والكثير على أنه جمع، وفي ذكره القوم من هذا القبيل موافق لجميعهم ثم في التلويح: والتحقيق أن القوم في الأصل مصدر قام فوصف به ثم غلب على الرجال لقيامهم بأمور النساء ذكره في الفائق وينبغي أن يكون هذا تأويل ما يقال: إن قوما جمع قائم كصوم جمع صائم وإلا ففعل ليس من أبنية الجمع قلت: لكن لا خفاء في أنه ينبو عنه ما في الكشاف وغيره وهو في الأصل جمع قائم كصوم وزور في جمع صائم وزائر، أو تسمية بالمصدر عن بعض العرب إذا أكلت طعاما أحببت نوما وأبغضت قوما أي قياما، والله أعلم.
الثاني: ما يتناول كل واحد على سبيل الشمول فيتعلق الحكم بكل واحد مجتمعا مع غيره أو منفردا عنه مثل من دخل هذا الحصن فله درهم فلو دخله واحد استحق درهما ولو دخل جماعة معا أو متعاقبين استحق كل واحد درهما.
الثالث: ما يتناول كل واحد على سبيل البدل فيتعلق الحكم بكل بشرط الانفراد وعدم التعلق بواحد آخر مثل من دخل هذا الحصن أولا فله درهم فمن دخله أولا منفردا استحق الدرهم، ولو دخلوه معا لم يستحقوا شيئا ومتعاقبين استحق الواحد السابق لا غير.(22/29)
ص -244-…"فانقسم العموم" بواسطة هذا التفصيل في صيغه "إلى صيغي ومعنوي" ولا يتصور أن يكون العام عاما بصيغته فقط؛ إذ لا بد من استيعاب المعنى، وإذا تقرر هذا فلا علينا أن نشبع الكلام مفصلا فيما يحتاج إليه منه فنقول "أما الجمع المحلى فاستغراقه كالمفرد لكل فرد لما تقدم" في ذيل الكلام في تعريف العام، وعليه أكثر أئمة الأصول والعربية، وصرح به أئمة التفسير في كل ما وقع في التنزيل من هذا القبيل "وما قيل" كما في المفتاح وتلخيصه وغيرهما "استغراق المفرد أشمل" من استغراق الجمع؛ لأنه يتناول كل واحد واحد، واستغراق الجمع يتناول كل جماعة جماعة، ولا ينافي خروج الواحد والاثنين. "ففي النفي" لأنه ليس له ما يسلبه معنى الجمعية إلى الجنسية المجردة فإنما يتسلط النفي على الجمع، ولا يستلزم انتفاء الواحد بخلاف المفرد في النفي "أو المراد أنه بلا واسطة الجمع" يعني إذا لم يقيد بالنفي فأشمليته بسبب أن تعلق الحكم بالواحد في المفرد ابتداء، وفي الجمع بواسطة تعلقه بالجمع فتعلق بآحاده بحكم اللغة على ما قدمناه "وإلا" أي وإن لم يكن المراد بكون استغراقه أشمل أحد هذين "فممنوع" كونه كذلك ثم تعقبهما بقوله "وما تقدم" في ذيل الكلام على تعريف العام "ينفي كونه" أي تعلق الحكم بالمفرد في الجمع "بواسطة الجمع وأشمليته" أي وما تقدم من أن لا رجال ك لا رجل من حيث جواز التخصيص فيصح أن يقال لا رجل بل رجلان كما يصح لا رجال بل رجلان ينفي كون استغراق المفرد "في النفي" أشمل من استغراق الجمع أيضا؛ لأن هذا إنما كان مخيلا بناء على صحة التخصيص في لا رجال لا في لا رجل. وقد ظهر أنهما فيه متساويا الأقدام "ولإجماع الصحابة على: الأئمة من قريش واللغة على صحة الاستثناء كما تقدم" من استثناء المفرد من الجمع وبه عرف أن صحة الاستثناء المجعولة دليلا على استغراق الجمع المحلى كالمفرد يراد بها استثناء المفرد "وعنه" أي كون استغراق الجمع المحلى لكل فرد(22/30)
كالمفرد "قالوا" أي أهل السنة والجماعة قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] سلب العموم أي نفي الشمول ورفع الإيجاب الكلي وهو تدركه الأبصار؛ لأنه نقيض لا تدركه الأبصار "لا عموم السلب" أي شمول النفي لكل بصر ليكون سلبا كليا، وهو لا يدركه بصر من الأبصار ثم فسر شمول النفي أيضا إيضاحا فقال "أي لا يدركه كل بصر" كما هو معنى الاستغراق "وهو" أي سلب العموم سلب "جزئي" لأن نقيض الموجبة الكلية السالبة الجزئية. "فجاز لبعضها" أي الأبصار إدراكه لكن نظر فيه بأن الآية وما قبلها في معرض المدح بدلالة قوله {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103] فيكون نفي إدراك البصر مدحا فيكون إدراكه نقصا وعدم إدراك البعض لا يزيل النقص فيكون عموم السلب وصدق السالبة الجزئية لا ينافي صدق السالبة الكلية وإن كانت أخص من السالبة الجزئية إذ قد يصدق الأخص مع الأعم "نعم إذا اعتبر الجمع للجنس" في النفي والجنس في النفي يعم "كان" المعنى "عموم السلب" كقوله تعالى {فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 32] فإن التعريف فيه للجنس فيفيد سلب الحكم عن كل فرد فهو - تعالى - لا يحب كل كافر "ولو اعتبر مثله" أي كون الجمع للجنس "في الآية" على وجه لا يضر في إثبات الرؤية "ادعي أن الإدراك أخص من(22/31)
ص -245-…الرؤية" المطلقة بأن يقال: الإدراك الرؤية المكيفة بكيفية الإحاطة فلا يلزم من نفيها عنه - تعالى - لامتناع الإحاطة به نفي الرؤية المطلقة عنه إذ لا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم ونظر فيه بأن الرؤية إدراك عين المرئي بحاسة البصر. فلو كان الإدراك إحاطة كان الرؤية كذلك فلا يفيد وبالجملة في الآية نزاع بين أهل السنة والاعتزال ثم إن لم يكن فيها دليل على صحة الرؤية فليس فيها دليل على امتناعها كما يعرف في موضعه، ثم أخذ في بيان ما يحمل عليه اللام المعرفة من المعاني المنسوبة إليها من عهد وجنس واستغراق في الجمع المحلى فقال: "والتعيين" أي وتعيين كونها في الجمع المحلى للاستغراق أو للجنس "بمعين، وإن لم يكن" معين لأحدهما "ولا عهد خارجي وأمكن أحدهما" أي الاستغراق أو الجنس دون الآخر "تعين" الممكن منهما غير أن في شرح خالعني على ما في يدي من الدراهم ولا شيء بيدها من فتح القدير أنه لا يكون للجنس إلا عند إمكان الاستغراق لا عند عدمه ولذا تكون للجنس في لا أشتري العبيد لإمكان الاستغراق في النفي دون لأشترين العبيد لعدم الإمكان فيحنث بشراء عبد واحد بالأول ولا يبر بشراء عبد في الثاني بل بشراء ثلاثة ا هـ. فعلى هذا لا يتأتى أن تكون للجنس، ولا تكون للاستغراق فيحمل على أن المراد وأمكن الاستغراق خاصة لأن الظاهر جواز انفراده لكن هذا إن تم، وفي تمامه نظر ظاهر فقد صرح المصنف فيما تقدم من الجواب عما قيل من تأويلات بعيدة للحنفية بتعذر الاستغراق في إنما الصدقات وسيصرح بأن التعريف فيها للجنس، وعلى هذا فيبر بشراء عبد واحد في مسألة لأشترين العبيد ثم يكون شرح ما في الكتاب على ما ذكرنا أولا "وإن أمكن كل منهما" أي من الجنس والاستغراق "قيل" وقائله جماعة منهم فخر الإسلام والقاضي أبو زيد تعين "الجنس للتيقن وقيل"، وقائله عامة مشايخنا وغيرهم: تعين "الاستغراق للأكثرية" أي لأنه أكثر استعمالا "خصوصا في استعمال الشارع" وأعم(22/32)
فائدة وأحوط في أكثر الأحكام وهو الإيجاب والتحريم والندب والكراهة وإن كان البعض أحوط في الإباحة "وقرر" والمقرر المحقق التفتازاني "أن الجمع المحلى للمعهود والاستغراق حقيقة، وللجنس مجاز وأنه" أي الجنس "خلف" عنهما "لا يصار إليه إلا لتعذرهما" كما هو شأن المجاز مع الحقيقة والخلف مع الأصل "ولذا" أي ولأنه لا يصار إليه إلا لتعذرهما "لو حلف لا يكلمه الأيام أو الشهور يقع على العشرة" من الأيام والشهور "عنده" أي أبي حنيفة "وعلى الأسبوع" في الأيام "والسنة" في الشهور "عندهما" أي أبي يوسف ومحمد "لإمكان العهد" في الأيام والشهور "غير أنهم اختلفوا في المعهود" فقال أبو حنيفة: عشرة أيام وعشرة شهور وقالا: الأسبوع في الأيام، والسنة في الشهور والتوجيه في الكتب الفقهية إلا أنه حيث حط كلام شيخنا المصنف رحمه الله تعالى في فتح القدير على ترجيح قولهما فلا بأس بذكره لإفادته مع الإشارة إلى التوجيه من الطرفين في ضمنه قال: نعم لقائل أن يرجح قولهما في الأيام والشهور بأن عهدهما أعهد، وذلك لأن عهدية العشرة إنما هو للجمع مطلقا من غير نظر إلى مادة خاصة يعني: الجمع مطلقا عهد للعشرة فإذا عرض في خصوص مادة من الجمع كالأيام عهدية عدد غيره كان اعتبار هذا المعهود أولى، وقد عهد في(22/33)
ص -246-…الأيام السبعة، وفي الشهور الاثنا عشر فيكون صرف خصوص هذين الجمعين إليهما أولى بخلاف غيرهما من الجموع كالسنين والأزمنة فإنه لم يعهد في مادتيهما عدد آخر فينصرف إلى ما استقر للجمع مطلقا من إرادة العشرة فما دونها فإن قيل: هذه مغالطة فإن السبعة المعهودة نفس الأزمنة الخاصة المسماة بيوم السبت ويوم الأحد إلى آخره. والكلام في لفظ أيام إذا أطلق هل عهد منه تلك الأزمنة الخاصة للسبعة لا شك في عدم ثبوته في الاستعمال إذ لم يثبت كثرة إطلاق أيام وشهور، ويراد يوم السبت والأحد إلى الجمعة والمحرم وصفر إلى آخرها على الخصوص بل الأزمنة الخاصة المسميات متكررة وغير متكررة وغير بالغة السبعة بحسب المرادات للمتكلمين.(22/34)
فالجواب منع توقف انصراف اللام إلى العهد على تقدم العهد عن لفظ النكرة بل أعم من ذلك بل لا فرق بين تقدم العهد بالمعنى عن اللفظ أو لا عنه فإنه إذا صار المعنى معهودا بأي طريق فرض ثم أطلق اللفظ الصالح له معرفا باللام انصرف إليه وقد قسم المحققون العهد إلى ذكري وعلمي، ومثل للثاني بقوله تعالى: {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة: 40] فإن ذات الغار هي المعهود لا من لفظ سبق ذكره بل من وجود فيه وعلى هذا فيجب جعل ما سماه طائفة من المتأخرين بالعهد الخارجي أعم مما تقدم ذكره أو عهد بغيره كما ذكرنا. ونظير هذا قولنا: العام يخص بدلالة العادة فإن العادة ليست إلا عملا عهدا مستمرا ثم يطلق اللفظ الذي يعمها وغيرها فيقيد بها لعهديتها عملا لا لفظا ولا قوة إلا بالله "وخالعني على ما في يدي من الدراهم" فخالعها على ذلك "ولا شيء" بيدها "لزمها ثلاثة" من الدراهم لإمكان العهد في الدراهم فإن على ما في يدي أفاد كون المسمى مظروف يدها، وهو عام يصدق على الدراهم وغيرها فصار بالدراهم عهد في الجملة من حيث هو من ما صدقات لفظ ما وهو مبهم، ولفظة من وقعت بيانا ومدخولها، وهو الدراهم هو المبين لخصوص المظروف فصار كلفظ الذكر في قوله تعالى {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آل عمران: 36] للعهد لتقدم ذكره في قوله {مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} [آل عمران: 35] وإن كان يخالفه في كون مدخول اللام هنا وقع بيانا للمعهود بخلافه في {وَلَيْسَ الذَّكَرُ} لأن المراد بلفظ ما فيه متعين؛ لأن المنذور للبيعة إنما هو الذكر ثم هو جمع وأقله ثلاثة فيلزم أفاده المصنف رحمه الله تعالى. "ولا شك أن تعريف الجنس الذي استدل على ثبوته" والمستدل المحقق التفتازاني "بإطباق العرب على يلبس البرود ويركب الخيل ويخدمه العبيد" للقطع بأن ليس القصد إلى خصوص منها، ولا استغراق لها "هو المراد بالمعهود الذهني؛ إذ هو" أي المعهود الذهني "الإشارة إلى الحقيقة باعتبارها" أي(22/35)
الحقيقة "بعض الأفراد" حال كون بعض الأفراد "غير معينة للعهدية الذهنية لجنسها" أي لعهد جنس حقيقة الأفراد في الذهن "ويصدق" الجنس "على الرجال مرادا به عدد" أي بعض الأفراد، فإذا المراد بكونها للجنس والعهد الذهني واحد "والتعبير بالحصة" من الحقيقة عن العهد الذهني كما وقع في عبارتهم "غير جيد" لما فيه من إيهام تجزئها، وهي غير متجزئة وإنما لها مظاهر متعددة توجد في كل منها على وجه الكمال فاندفع إثبات التغاير بين تعريفي الحقيقة والعهد الذهني بأن الإشارة إلى الحقيقة من حيث الحضور تعريف الحقيقة(22/36)
ص -247-…وإلى الحصة منها تعريف العهد، والمراد بالحصة الفرد منها واحدا كان أو أكثر لا مجرد ما يكون أخص منها، ولو باعتبار وصف اعتباري حتى يقال: الحقيقة مع قيد الحضور حصة من الحقيقة فيكون معهودا فلا يحصل الامتياز، وإنما قلنا يندفع التغاير بينهما؛ لأن الحاصل أن معنى تعريف العهد القصد والإشارة إلى الحاضر في الذهن من حيث إنه حاضر حضورا حقيقيا بأن يكون مذكورا باسمه أو بغيره ك انطلق رجل فالرجل أو المنطلق كذا أو في حكم المذكور بلا تجوز واعتبار خطابي ك أغلق الباب لمن دخل البيت، وادخل السوق لمن دخل البلد لسوق معين عهدته أو تقديريا بأن ينزل منزلة الحاضر المعهود بوجه من الوجوه الخطابيات ككون ذلك الشيء محتاجا إليه كجوهري الثمن والمأكولات المعتادة الغالبة أو محبوبا أو بديعا أو فظيعا فيهتم بشأنه فيجعل كالحاضر. وإلى هذا القسم يرجع تعريف الحقيقة، وأما أن ذلك الحاضر هو الحقيقة أو حصة منها فأمر خارج عن حقيقة تعريف العهد بل هو اختلاف راجع إلى معروض التعريف، وهو الحاضر لا إلى معنى التعريف، وهو الإشارة إلى الحضور فلو اعتبر خصوصية الحاضر وسمي الإشارة إلى حضور الحقيقة تعريف الحقيقة، وإلى حضور الحصة تعريف العهد كان ذلك امتيازا بمجرد اصطلاح، والكلام في تحقيق ماهية تعريف الحقيقة وامتيازها في نفسها عن تعريف العهد فليتأمل "وعنه" أي كونها للجنس "لتعينه وجب من {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} جواز الصرف لواحد وتنصف الموصى به لزيد وللفقراء" فنصف له ونصف لهم "وأجمع على الحنث بفرد في الحلف لا يتزوج النساء ولا يشتري العبيد" لأن اسم الجنس حقيقة في الواحد بمنزلة الثلاثة في الجمع حتى إنه حين لم يكن من جنس الرجال غير آدم عليه السلام كانت حقيقة الجنس متحققة فلم يتغير بكثرة أفراده، والواحد هو المتيقن فيعمل به عند الإطلاق وعدم الاستغراق "إلا بنية العموم فلا يحنث أبدا قضاء" وديانة؛ لأنه نوى حقيقة كلامه؛ لأن عدم(22/37)
تزوج جميع النساء وعدم شراء جميع العبيد متصور. "وقيل" لا يحنث "ديانة" ويحنث قضاء "لأنه" أي العموم وإن كان حقيقة فهو "كالمجاز لا ينال إلا بالنية" فصار كأنه نوى المجاز ومن ثمة لو نوى التخصيص لا يدين في القضاء بل فيما بينه وبين الله - تعالى؛ لأنه خلاف الظاهر فيما له لا فيما عليه ثم الظاهر أن المراد بالإجماع المذكور إجماع مشايخنا فقد ذكر الرافعي في هذين الفرعين أنه يحنث بتزوج ثلاث نسوة وشراء ثلاثة أعبد "ومنه" أي كونها للجنس الذي هو العهد الذهني كما عليه المحققون "لا من الماهية" قال صدر الشريعة: "شربت الماء وأكلت الخبز والعسل" وهو المقدار المعلوم المقدر في الذهن شربه وأكله من هذه الأعيان "ك ادخل السوق" لجزئي محضر في الذهن باعتبار حضوره فيه مما يطلق عليه السوق كما يطلق الكلي الطبيعي على كل من جزئياته لا باعتبار عهد به في الخارج، ونقل في التلويح عن المحققين أنه في هذا للعهد الخارجي لكونه إشارة إلى معين ولا منافاة في المعنى ثم لما كان هذا البحث المتقدم في أحكام اللام ممتزجا مما في التوضيح والتلويح.
وعند المصنف اعتقاد ضعف بعضه وأنه يحتاج إلى تنقيح وتحقيق استأنف الكلام في ذلك لإفادة هذا الغرض وبيان ما عنده فيه فقال: "وهذا استئناف اللام للتعريف والإشارة إلى(22/38)
ص -248-…المراد باللفظ" حال كون المراد "مسمى" حقيقيا له "أو لا" بأن يكون معنى مجازيا له ثم أعقبه بمثاله فقال: "فالمعرف في" مثل رأيت رجلا يجر ثيابه "فأكرمت الأسد الرجل" لأنه المراد بالأسد "وإنما تدخل" اللام التعريفية الاسم "النكرة" لأن تعريف المعرفة محال ضرورة استحالة تحصيل الحاصل "ومسماها" أي النكرة حال كونها "بلا شرط" كوقوعها في سياق النفي ونحوه "فرد" مما تطلق عليه "بلا زيادة" لاشتراط كونه غير معين في نفس الأمر "فعدم التعيين" لمسماها "ليس جزءا لمعناها، ولا شرطا" لاستعمالها في مثل المثال المذكور "فاستعملت" النكرة "في المعين عند المتكلم لا السامع حقيقة" أي استعمالا حقيقيا "لصدق المفرد" عليه كما على الشائع "فإن نسبت إليه" أي إلى مسماها "بعده" أي بعد استعمالها في غير معين ك جاء رجل ثم قلت: فأكرمت الرجل "عرفت" اللام "معهودا يقال ذكريا" لتقديم ذكره "وخارجيا" أيضا "أي ما عهد من" اللفظ "السابق". قال المصنف: وهما اصطلاحان أشهرهما عند العجم ومن تبعهم الثاني، وعند آخرين من أبناء العرب الأول "ولو" عرفت اسما غير مذكور خص بالخارجي {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} وتقدم فيما نقلناه من فتح القدير أنه مثل به للعلمي وممن مثل به له ابن هشام المصري ولا مشاحة في ذلك "وإذا دخلت" اللام الاسم "المستعمل في غيره" أي غير المعين عند المتكلم دون السامع "عرفت معهودا ذهنيا ويقال: تعريف الجنس أيضا لصدق الشائع على كل فرد" مثل شربت الماء وأكلت الخبز وادخل السوق لأن من المعلوم أن الشرب والأكل والدخول لا يتعلق إلا بفرد من المشروب والمأكول والمدخول فيه كما تقدم "وإذا أريد بها" أي النكرة "كل الأفراد عرفت الاستغراق أو" أريد بها "الحقيقة بلا اعتبار فرد فهي لتعريف الحقيقة والماهية" والطبيعة "ك الرجل خير من المرأة غير أنه يخال أن الاسم" المدخول عليه "حينئذ" أي حين يكون المراد به أحد هذين "مجاز فيهما لأنه" أي الاسم "ليس"(22/39)
بموضوع "للاستغراق ولا للماهية ولا اللام" موضوعة لكل منهما "ولكن تبادر الاستغراق عند عدم العهد يوجب وضعه" أي الاسم "له" أي للاستغراق "بشرط اللام كما قدمنا" في ذيل الكلام على تعريف العام "وأنه" أي عدم العهد "القرينة" على ذلك. "ولو أراده" أي هذا "قائل إن الاستغراق من المقام" كالسكاكي "صح" لأن الاسم النكرة بشرط اللام أريد به حينئذ العموم والمقام كشف عن إرادته فصح الاستغراق من المقام بمعنى أنه المفيد لثبوته بالاسم "بخلاف الماهية من حيث هي لم تتبادر" إلا في القضايا الطبيعية وهي غير مستعملة في العلوم فلا يكون تبادرها فيها دليل الوضع لها كما سيأتي "فتعريفها" أي الماهية "تعليق معنى حقيقي للام بمجازي للاسم" وهو الحقيقة من حيث هي "فاللام في الكل" من العهد والاستغراق والحقيقة "حقيقة لتحقيق معناها الإشارة" والتعيين للمراد من اللفظ "في كل" من هذه الأقسام بحسبه "واختلافه" أي وتنوع معناها هذا التنوع المذكور "ليس إلا لخصوص المتعلق" أي مدخولها من كونه فردا غير مستغرق أو مستغرقا أو الحقيقة من حيث هي "فظهر أن خصوصيات التعريفات" المذكورة "تابع لخصوصيات المرادات باللام، والمعين القرينة" وأنه غير قائل بأن أسماء الأجناس النكرات موضوعة للحقائق الكلية بل إذا أريد برجل ونحوه(22/40)
ص -249-…الحقيقة يكون مجازا وسيحقق ذلك في المطلق والمقيد. "فما قيل" والقائل المحقق التفتازاني "الراجح مطلقا الخارجي" لأنه حقيقة التعيين وكمال التمييز "ثم الاستغراق لندرة إرادة الحقيقة من حيث هي، والمعهود الذهني يتوقف على قرينة" للبعضية، والاستغراق هو المفهوم من الإطلاق حيث لا عهد في الخارج خصوصا في الجمع فإن الجمعية قرينة القصد إلى الأفراد دون الحقيقة من حيث هي هي "غير محرر فإن المرجح عند إمكان كل من اثنين في الإرادة الأكثرية استعمالا أو فائدة ولا خفاء في أن نحو جاءني عالم فأكرم العالم زيادة الفائدة" فيه إنما هي "في الاستغراق حيث يكرم الجائي ضمن العموم" الكائن للعالم الشامل للجائي وغيره "بخلاف تقديم الخارجي فإنه يكون أمرا بإكرام الجائي فقط" فيتقدم الاستغراق عليه "ولذا" أي ولمزيد الفائدة في الاستغراق على العهد الذهني "قدم" الاستغراق "على الذهني إذا أمكنا وظهر مما ذكرنا أن ليس تعريف الاستغراق والعهد الذهني من فروع الحقيقة كما قيل ولا أن اللام ليست إلا لتعريف الحقيقة كما نسب إلى المحققين غير أن حاصلها أربعة أقسام فذكروها تسهيلا" وهذه الجملة مذكورة في التلويح "بل المعرف ليس إلا المراد بالاسم وليست الماهية مرادة دائما وكونها جزء المراد لا يوجب أنها المراد الذي هو متعلق الأحكام في التركيب على أنها لم ترد جزءا" من المسمى حيث أريدت من حيث هي به حتى كان التعريف للحقيقة "بل" إنما أريدت به حينئذ "على أنها كل" أي تمام ما وضع اللفظ له "فإنها إنما أريدت" في حالة جزئيتها للمسمى حال كونها "مقيدة بما يمنع الاشتراك" فيها بين مدخولها وغيره "وهي مع القيد نفس الفرد وهو" أي الفرد "المراد بالتعريف والاسم، والمجموع" من الماهية والقيد "غير أحدهما" فكان الفرد غير الماهية من حيث هي. "هذا وحين صار الجمع مع اللام كالمفرد كان تقسيمه" أي الجمع "مثله" أي المفرد "إلا أن كونه" أي الجمع "مجازا عن الجنس يبعد(22/41)
بل" هو "حقيقة لكل" من الاستغراق والجنس "للفهم" أي فهم الجنس منه "كما ذكرنا في نحو: الأئمة من قريش ويخدمه العبيد وما لا يحصى" إلا أنه لو قيل عليه فعلى هذا يكون مشتركا لفظيا بينهما، والمجاز خير منه، ولم لا يجوز أن يكون هذا الفهم من عروض كثرة استعماله مرادا به هذا المعنى كما يعرض لكثير من المجازات المتعارفة حتى قدمها الجمهور على الحقائق المستعملة كما سيأتي لا لكونه حقيقة فيه لاحتاج إلى الجواب والله - سبحانه - أعلم بالصواب.
"وأما النكرة فعمومها في النفي ضروري" كما تقدم توجيهه. "وكذا" عمومها ضروري "في الشرط المثبت" حال كونه "يمينا لأن الحلف على نفيه" أي الشرط فإذا قلت: إن كلمت رجلا فهي طالق فهو على نفي كلام كل رجل؛ لأنه في سياق النفي "لا المنفي" عطف على المثبت أي فإنها لا عموم لها فيه "كإن لم أكلم رجلا" فهي طالق "لأنه" أي الحلف في الشرط المنفي "على الإثبات" أي إثبات الشرط حتى كأنه قال في هذا المثال "لأكلمن رجلا" فلا تعم لوقوعها في الإثبات من غير قرينة العموم والحاصل أن الشرط إذا كان يمينا فإن كان مثبتا فاليمين للمنع، والنكرة فيه خاص يفيد الإيجاب الجزئي فيكون في جانب النقيض للعموم والسلب(22/42)
ص -250-…الكلي، وإن كان منفيا فاليمين للحمل، والنكرة فيه عام يفيد السلب الكلي فيكون في جانب النقيض للخصوص والإيجاب الجزئي "ولا يبعد في غير اليمين قصد الوحدة" من النكرة إذا وقعت فيه كما "في مثل إن جاءك فأطعمه فلا تعم" فيه؛ إذ جاز كون رجل فيه بقيد الفردية والانفراد فلا يطعم رجلين، ولا رجلا بعد رجل "وفي غيرهما" أي النفي الصريح والشرط المثبت الذي هو بمعناه لأنك عرفت أن عموم النكرة في موضع الشرط المثبت ليس إلا عموم النكرة في موضع النفي "إن وضعت بصيغة عامة أي لا تخص فردا عمت ك لعبد مؤمن خير وقول معروف خير" فإن الإيمان ليس مما يختص به رجل واحد ولا المعروف مما يختص به قول واحد بخلاف المتصفة بما يخص فردا فإنها لا تعم فيه نحو لا تجالس إلا رجلا يدخل داره وحده قبل كل أحد فإن هذا الوصف لا يصدق إلا على فرد واحد. ثم إنما تعم "ما لم يتعذر" العموم فإن تعذر لم تعم "ك لقيت رجلا عالما" لتعذر لقائه كل عالم عادة "ووالله لا أجالس إلا رجلا عالما له مجالسة كل عالم جمعا وتفريقا" فلا يحنث بمجالسة عالمين كما لا يحنث بمجالسة عالم واحد "ووالله لا أجالس إلا رجلا غير مقيد" بصفة عامة "يحنث برجلين قيل" ما معناه والقائل شمس الأئمة "الفرق" بين هاتين المسألتين "أن الاستثناء بما يصدق على الشخص" الواحد أي باسم شخص نكرة غير موصوفة "لا يتناول إلا واحدا" ضرورة وحدته فيحنث بمجالسة رجلين "فإذا وصف" الاسم النكرة المستثنى "بعام ظهر القصد إلى وحدة النوع" فيخص ذلك النوع بصيرورته مستثنى، ومن هنا قال بعض الأفاضل: ينبغي أن يقال: صفة عامة لا يزاحمها صفة منافية للعموم لأنه لو قال: والله لا أكلم إلا رجلا كوفيا واحدا يمتنع العموم وأورد: الوحدة صفة عامة أيضا فينبغي فيما لو قال: لا أكلم إلا إنسانا واحدا أن يحنث بالتكلم مع كل واحد واحد وأجيب المستثنى واحد فلو لم يحنث أصلا لما كان واحدا.(22/43)
هذا وقال المصنف رحمه الله تعالى: "وزيادة بقرينة كونه" أي الوصف "مما يصح تعليل الحكم به" كما في التلويح "نقص". قال: بل الصواب أن لا يزاد؛ لأن هذا الحكم ثابت كما هو فيما لو قال: لا أجالس إلا رجلا جاهلا له أن يجالس كل جاهل مع أنه وصف لا يصح التعليل به لأنه غير مناسب عند العقل ا هـ ثم قد قيل على أصل الفرق: إنه تحكم لخفاء الملازمة بين كونها غير موصوفة وكونها للوحدة وبين كونها موصوفة وكون الاستثناء بصفة النوع لجواز أن يراد بالأول لا أجالس إلا جنس الرجل وبالثاني لا أجالس إلا رجلا واحدا موصوفا بصفة العلم ثم كما قال "وحاصله" أي استعمالها في غير النفي "أنها في الإثبات تعم بقرينة لا تنحصر في الوصف بل تكثر وقد يظهر عمومها من المقام وغيره ك علمت نفس وتمرة خير من جرادة" كما هو أثر رواه ابن أبي شيبة عن عمر وابن عباس رضي الله عنهما "وأكرم كل رجل ورجلا لا امرأة، وهي" أي النكرة "في غير هذه" الموضع "مطلقة" أي دالة على فرد غير معين على سبيل البدل ك {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} كما هو المعنى الوضعي لها لا عامة لانتفاء موجب العموم "ومن فروعها" أي النكرة "إعادتها" معرفة ونكرة "وكذا المعرفة" من فروعها(22/44)
ص -251-…إعادتها معرفة ونكرة أي إعادة اللفظ الأول إما مع كيفيته مع التنكير والتعريف أو بدونها "ويلزم كون تعريفها" أي المعرفة حينئذ "باللام أو الإضافة في إعادتها نكرة" وفي إعادة النكرة معرفة أيضا وكأنه لم يذكره اكتفاء لأنه لا يتصور فيهما إلا بأحد هذين الطريقين من التعريف في المعرفة نعم لو لم يشترط أن يكون بإعادة اللفظ الأول لتصور إعادة النكرة معرفة بطريق الإضمار حيث كان الضمير الراجع إلى النكرة مطلقا أو السابق اختصاصها بحكم معرفة ك جاءني رجل، وهو حاضر فتنبه له ثم الأقسام الممكنة أربعة إعادة المعرفة معرفة والنكرة نكرة والمعرفة نكرة والنكرة معرفة. "وضابط الأقسام إن نكر الثاني فغير الأول" أي فاحكم بأنه غير الأول؛ لأن الأول إما نكرة والنكرة إذا أعيدت نكرة كانت غير الأول وإما معرفة والمعرفة إذا أعيدت نكرة كان الثاني غير الأول، وإلا لكان المناسب تعريفه بناء على كونه معهودا سابقا في الذكر في الأول وحملا له على المعهود الذي هو الأصل في اللام والإضافة في الثاني "أو عرف فعينه" أي وإن عرف الثاني فاحكم بأنه عين الأول؛ لأن الأول إما نكرة، والنكرة إذا أعيدت معرفة كان الثاني عين الأول، والمعرفة إذا أعيدت معرفة كان الثاني عين الأول هذا على ما مشى عليه غير واحد وذكر في الكشف الكبير إذا أعيدت النكرة نكرة فالثاني مغاير للأول، وإلا فعينه؛ لأن المعرفة تستغرق الجنس، والنكرة تتناول البعض فيكون داخلا في الكل قدم أو أخر ومثل لإعادة المعرفة نكرة بقول الحماسي:
صفحنا عن بني ذهل
وقلنا القوم إخوان
عسى الأيام أن يرجعن
قوما كالذي كانوا(22/45)
مع القطع بأن الثاني عين الأول وفي التلويح وفيه نظر أما أولا فلأن التعريف لا يلزم أن يكون للاستغراق بل العهد هو الأصل، وعند تقدم المعهود لا يلزم أن تكون النكرة عينه وأما ثانيا فلأن كون الثاني عين الأول أن يكون المراد به هو المراد بالأول، والجزء بالنسبة إلى الكل ليس كذلك وأما ثالثا فلأن إعادة المعرفة نكرة مع مغايرة الثاني للأول كثير في الكلام قال الله - تعالى {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [الأنعام: 154] إلى قوله {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ} [الأنعام: 155] وقال: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة: 36] وقال {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الأنعام: 165] إلى غير ذلك ا هـ وهذا وإن كان للمناقشة في بعضه مجال بالنظر إلى ما تقدم ليس ما في الكشف أرجح من الأول بل في جامع الأسرار الأول أوضح بالنظر إلى الدليل ا هـ ثم مع ذلك لما لم يطرد هذا الأصل بالنسبة إلى سائر الموارد قال في التلويح: المراد أن هذا هو الأصل عند الإطلاق وخلو المقام عن القرائن وقال المصنف: "وهو أكثري" لأنه كما يعاد النكرة نكرة غير الأولى، والمعرفة معرفة عين الأولى كما في قوله تعالى {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح: 5-6] على أحد القولين في الآية ويرجحه ظاهرا ما أخرج عبد الرزاق ثم من طريقه الحاكم في مستدركه وسكت عنه ثم البيهقي عن الحاكم عن الحسن مرسلا في قوله تعالى {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً}(22/46)
ص -252-…[الشرح: 6] قال {خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوما مسرورا فرحا وهو يضحك وهو يقول لن يغلب عسر يسرين {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} ويؤيده رواية ابن مردويه له مسندا عن جابر بن عبد الله قال: لما نزلت {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبشروا لن يغلب عسر يسرين فقد تعاد النكرة نكرة عين الأولى كقوله تعالى {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84] وتعاد المعرفة معرفة غير الأولى كقوله تعالى {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] الآية وكما تعاد النكرة معرفة عين الأولى كقوله تعالى {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 15-16] فقد تعاد معرفة غير الأولى كقوله تعالى {زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ} [النحل: 88] وكما تعاد المعرفة نكرة غير الأولى كما في قوله تعالى {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرائيلَ الْكِتَابَ هُدىً} [غافر: 53-54] فإن المراد بالأول التوراة والصحف التي أوتيها والمعجزات وبالثاني الإرشاد الذي هو خلاف الإضلال فقد تعاد نكرة عين الأولى كبيت الحماسة فلا جرم إن قيل الأصل مستقيم وإنما الأصل قد يترك لتعذر العمل به، وقد تحقق في المواضع ونظائرها كما يدرك بالتأمل فيها، وفيما يرشد إلى ذلك مما يطول بيانه هذا ثم لعل الأشبه ما قال بعض المحققين: تحرير هذه المسألة أن يقال: إن كان الاسم عاما في الموضعين فالثاني هو الأول لأن من ضرورة العموم أن لا يكون الثاني غير الأول ضرورة استيفاء عموم الأول للأفراد سواء كانا معرفتين عامتين أم نكرتين عامتين كوقوعهما في حيز النفي، وإن كان الثاني عاما، والأول خاصا فالأول داخل فيه ضرورة استغراق العام لذلك الفرد، وكذا(22/47)
العكس وإن كانا خاصين، فإن كانا نكرتين فالظاهر أن الثاني غير الأول لأنه لو كان إياه لكان إعادة النكرة وضعا للظاهر موضع المضمر وهو خلاف الأصل، ويحتمل خلافه ولأجل الاحتمالين ورد في حديث الاستسقاء ثم جاء رجل من ذلك الباب فأعاد ذكر الرجل منكرا كما بدأ به منكرا مع تردده في أنه الأول أو غيره كما ورد به مصرحا في الرواية الأخرى حيث قال: ثم جاء رجل لا أدري أهو الأول أو لا وإن كانا معرفتين بأداة عهدية فهو بحسب القرينة الصارفة إلى المعهود والله - سبحانه - أعلم. "فينبني عليه" أي على هذا الأصل "إقراره بمال مقيد بالصك" وهو كتاب الإقرار بالمال وغيره معرب "ومطلق" عنه مسألة "معروفة عند الحنفية" من حيث النقل "غير إقراره بمقيد" بالصك في مجلس "ثم" إقراره "في آخر به منكرا وقلبه" أي وغير إقراره بمال في مجلس منكرا ثم به في مجلس آخر مقيد بالصك فإن حكم هاتين الصورتين غير معروف نقلا عن أبي حنيفة وصاحبيه وإنما "خرج وجوب مالين عند أبي حنيفة" في الأولى "ومال اتفاقا" في الثانية، ولا يبعد من كلام صدر الشريعة أنه المخرج لحكم المسألة الأولى كما مشى عليه في التلويح، والحكم في كلتيهما مذكور في كلام غيره أيضا ممن عساه يكون سابقا عليه.
ثم إن المصنف قد لخص شرح هذه الجملة فقال فالمنقول أنه إذا أقر بألف في هذا الصك ثم أقر بها كذلك في مجلس آخر عند شهود آخرين كان اللازم ألفا واحدة تخريجا على إعادة المعرفة معرفة ولو أقر بألف مطلق عن الصك غير مقيد بسبب ثم في مجلس آخر(22/48)
ص -253-…أقر بألف عند آخرين أو عندهما على الروايتين كذلك، قال أبو حنيفة: يلزمه ألفان بناء على إعادة النكرة نكرة كما لو كتب صكين كلا بألف، وأشهد على كل شاهدين، وعندهما يلزمه ألف واحدة للعرف على تكرار الإقرار للتأكيد، ولو اتحد المجلس في هذه لزمه ألف واحدة اتفاقا في تخريج الكرخي لجمع المجلس المتفرقات ولو أقر بألف مقيد بالصك عند شاهدين ثم في آخر عند آخرين بألف منكر خرج لزوم ألفين على قول أبي حنيفة بناء على إعادة المعرفة نكرة، وفي عكسها ينبغي وجوب ألف اتفاقا؛ لأن النكرة أعيدت معرفة ثم التقييد بالشاهدين في الصور؛ لأنه لو أقر بألف عند شاهد وألف عند آخر أو بألف عند شاهدين وألف عند القاضي لزم ألف واحدة اتفاقا انتهى؛ لأن بالشاهد الواحد لا يصير المال مستحكما ففائدة إعادته استحكامه بإتمام الحجة وفائدة الإعادة عند القاضي إسقاط مؤنة الإثبات بالبينة عن المدعي، وإنما قال في تلك الصورة غير مقيد بسبب إذ لو بين سببا مختلفا يلزم ألفان إجماعا، ولو بين سببا متحدا يلزم ألف بكل حال إجماعا، وقيد الاتفاق بتخريج الكرخي لأنه على الاختلاف في تخريج الرازي، ولو أقر بألف في مجلس وأشهد شاهدين ثم بألفين في مجلس وأشهد شاهدين أو بألفين ثم بألف يلزم المالان عند أبي حنيفة ويدخل الأقل في الأكثر فيكون عليه الأكثر عندهما "وأما من فعلى الخصوص كسائر الموصولات" فأفاد أن الموصولات ليست عامة بالوضع بل بالوصف المعنوي الذي هو مضمون الصلة؛ لأن الموصول مع الصلة في حكم اسم موصوف، وهذا المختار عند المصنف أحد الأقوال وسنذكر باقيها قريبا. "والنكرة" أي وكالنكرة في كونها موضوعة على الخصوص "وأخص منها" أي النكرة "لأنها" أي من "لعاقل ذكر أو أنثى عند الأكثر" ولو قيل لعالم أعم من أن يكون ذكرا أو أنثى لكان أولى؛ لأنها تطلق على الله - تعالى - كقوله تعالى {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: 43] في قول وقد تطلق على غير العالم(22/49)
منفردا ومع غيره كما هو معروف في موضعه وقيل: تختص بالمذكر "ونصب الخلاف في الشرطية" خاصة كما فعل ابن الحاجب "غير جيد"؛ لأنه يوهم الاتفاق في غيرها وليس كذلك بل هي موصولة واستفهامية وموصوفة كذلك أيضا ومن ثمة اعتذر عنه بأنه إنما خصها تمثيلا "والاستدلال" للأكثر ثابت "بالإجماع على عتقهن" أي إمائه "في من دخل" داري فهو حر؛ إذ لولا ظهور تناوله لهن لما أجمع عليه "والنكرة بحسب المادة قد تكون لغيره". قال المصنف رحمه الله تعالى لما قال: إن من أخص لاختصاصها بالعاقل عرف أن النكرة تكون للعاقل وغيره فربما يفهم أن وضعها مطلقا لما يشملهما فحقق المراد بأن النكرة تكون لغير العاقل بحسب المادة التي توضع كما تكون كذلك للعاقل فلفظ عاقل نكرة يخص ذا العقل للمادة ومجنون مثله في ضده وفرس لنوع غير عاقل ورجل لمن بحيث يعقل فلم يوضع النكرة لما هو أعم بل منها ومنها فالأعم جزء من مطلق النكرة التي لم توضع؛ لأن الوضع يتعلق بالأفراد "وتساويها" أي النكرة "الذي" وبقية الموصولات في أنها على الخصوص والشيوع "وضعا وإنما لزمها" أي من الموصولة وكذا بقية الموصولات "التعريف في الاستعمال وعمومها" أي من "بالصفة" المعنوية التي هي مضمون الصلة "ويلزم"(22/50)
ص -254-…عمومها "في الشرط والاستفهام وقد تخص" حال كونها "موصولة وموصوفة" فالموصولة كقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} [الأنعام: 25] فإن المراد بمن هنا أفراد مخصوصون ذكرهم المفسرون. والموصوفة كقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ} [العنكبوت: 10] كما هو احتمال حكى قولا فيها هنا فإن الآية نزلت في أناس بأعيانهم ولقائل أن يقول هذا، وإن كان مذكورا في غير موضع لا تحرير فيه فإن من كما تخص موصولة وموصوفة لعدم عموم مضمون صلتها وصفتها تخص شرطية واستفهامية بما يوجب تخصيصها وكما يلزم عمومها شرطية واستفهامية بواسطة الشرط، والاستفهام قد يلزم عمومها موصولة وموصوفة لعموم مضمون صلتها وصفتها ثم لا يلزم من كونها مرادا بها الخصوص في حالة من هذه الأحوال أن تكون موضوعة له لجواز أن تكون للعموم، واستعمالها في الخصوص من العام المخصوص. هذا وظاهر كلام فخر الإسلام أنها موضوعة للعموم وإنما الخصوص فيها احتمال يثبت بالقرينة ومشى عليه غير واحد بل، وعن الجامع الكبير أن حرف من بالفتح محكم في التعميم وظاهر كلام صاحب المنار أنها لكل منهما على السواء فإذا تقرر هذا "ففي من شاء من عبيدي عتقه" فهو حر فشاءوا عتقهم "يعتقون وكذا من شئت" من عبيدي عتقه فأعتقه "عندهما" أي أبي يوسف ومحمد إذا شاء عتقهم "يعتقهم لأن من للبيان" ومن للعموم فيتناول الجميع "وعنده" أي أبي حنيفة إذا شاء عتقهم يعتق الكل "إلا الأخير إن رتب" عتقهم "وإلا فمختار المولى" أي وإن لم يرتبه بل أعتقهم دفعة عتقوا إلا واحدا للمولى الخيار في تعيينه "لأنها" أي من "تبعيض فيهما" أي في المسألتين "وأمكنا" أي عموم من وتبعيض من "في الأولى لتعين عتق كل بمشيئته فإذا" شاء كل عتق نفسه "عتق كل مع قطع النظر عن غيره فهو" أي كل منهم "بعض" من العموم "وفي الثانية" تعلق عتقهم "بمشيئة واحد فلو أعتقهم لا تبعيض" بالكلية مع إمكان العمل به وبالعموم يعتقهم إلا(22/51)