ص -36-…إلى ذلك المشترك استناد الأثر إلى المؤثر وإلى الوصف استناد الشيء إلى المعرف له ولا يمتنع ذلك بل هو الواقع في سائر الأحكام فإن الحكم مستند إلى الحاجة استناد الأثر إلى المؤثر وإلى الوصف استثناء الشيء إلى المعرف واعلم أن الحجاج في هذه المسألة طويل لا يحتمله هذا الشرح لا سيما وصاحب الكتاب أومى إلى الاختصار حيث اقتصر فيها على مجرد الدعوى والحق عندي جريان القياس فيها إن قلنا برجوع التشبيه إلى الأحكام الشرعية على ما تقدم ذلك في أوائل الكتاب فإنه حينئذ يشملها دلائل العمل بالقياس في الأحكام ثم إن اعترف الخصوم بمكان معرفة العلة وتعديتها ثم توقفوا عن التعدية كانوا متحكمين بالفرق بين حكم وحكم كمين يقول نجري القياس في حكم الضمان لا في القصاص وفي البيع لا في النكاح وإن ادعوا الإحالة فمن أين عرفوا ذلك فإن قلت الأحكام مسلم في العقل لكنه غير واقع لأنه لا يتيقن الأسباب علة مستقيمة تتعدى قلت الآن قد ارتفع النزاع الأصولي إذ لا ذاهب إلى تجويز القياس حيث لا تفعل العلة أو لا تتعدى وهم قد ساعدونا على تجويز القياس حيث أمكن معرفة العلة وتعديتها فارتفع الخلاف وهذا ذكره الغزالي فذكرناه هنا وأما إن لم نقل برجوع السببية إلى الأحكام فعندي توقف(15/62)
البحث السادس القياس في الأمور العادية والخلقية كأقل الحيض وأكثر وكذا الحمل والنفاس فقال المصنف لا يجري فيه القياس ونقله الإمام عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي والذي قاله الشيخ في شرح اللمع أن ما طريقة العادة إن كانت علته إمارة جاز إثباته بالقياس قال وذلك كالشعر هل يحل فيه الروح والحامل هل تحيض فإنا نستدل في مسألة الشعر والعظم بالنماء والاتصال ونقيس على سائر الأعضاء والخصم يقيس على أغصان الشجرة من حيث أنه لا يحس ولا يتألم وفي مسألة الحامل بأن الحمل لو منع دم الحيض لمنع دم الاستحاضة ألا ترى أن الصغر لما منع أحدهما منع الآخر فكذا الكبر والخصم يقول لو كان دم الحيض لانقضت به العدة وحرم الطلاق وإن لم يكن عليه أمارة كأقل الحيض وأكثره فلا يجوز إثباته بالقياس كما نقله(15/63)
ص -37-…الإمام لأن أشباهها غير معلومة لا قطعا ولا ظاهرا فوجب الرجوع فيها إلى قول الصادق قال الشيخ أبو إسحاق ومن استدل في هذا بالقياس عالما به فقد كذب على دين الله وفسق بذلك
"الباب الثاني في أركانه إذا ثبت الحكم في صورة لمشترك بينها وبين غيرها تسمى الأولى أصلا والثانية فرعا والمشترك علة وجامعا وجعل المتكلمون دليل الحكم في الأصل أصلا والإمام الحكم في الأول أصلا والعلة فرعا وفي الثانية بالعكس وبيان ذلك في فصلين"
أركان القياس أربعة الأصل والفرع والجامع بينهما وحكم الأصل وأما حكم الفرع فهو حكم الأصل بالحقيقة وإن كان غيره باعتبار المحل فلذلك لم تكن الأركان خمسة وقول الآمدي حكم الفرع ثمرة القياس وليس ركنا منه لأن الحكم في الفرع متوقف على صحة القياس فلو كان ركنا منه لتوقف على نفسه مدخول فإن التوقف على صحة القياس هو العلم بثبوت الحكم في الفرع الذي هو ثمرة القياس لا نفس حكم الفرع ثم إن المصنف اكتفى بتعريف الحكم في أول الكتاب عن إعادته هنا وقد اختلف اصطلاح الأئمة في الأركان الثلاثة فذهب الفقهاء والنظار إلى ما صدر المصنف به كلامه فقالوا إذا ثبت الحكم في صورة كالذرة مثلا لأمر مشترك بينها وبين البر وهو الطعم سميت الأولى وهي البر أصلا والثانية وهي الذرة فرعا والمشترك وهو الطعم علة وجامعا وزعم الآمدي أن هذه المقالة هي لأشبه قال المتكلمون الأصل هو دليل الحكم أي النص الدال على ثبوت أن البر ربوي مثلا وضعف الإمام هاتين المقالتين
أما الأولى فلأن أصل الشيء ما تفرع عليه غيره والحكم المطلوب إثباته في الذرة لا يتفرع على البر لأن البر لو لم يوجد فيه ذلك الحكم وهو تحريم الربا لم يمكن تفريع حرمة الربا في الذرة عليه ولوجد ذلك الحكم في صورة أخرى ولم يوجد في البر أمكن تفريع الذرة عليه فإن الحكم المطلوب إثباته غير متفرع على البر بل على الحكم الحاصل فيه فلا يكون البر أصلا للحكم المطلوب(15/64)
وأما الثانية فمن هذا الوجه لأنا لو قدرنا كوننا عالمين حرمة الربا في البر(15/65)
ص -38-…بالضرورة أو بالدليل العقلي لأمكن تفريع الذرة عليه ولو قدرنا أن النص لم يدل على حرمة الربا في صورة خاصة لم يكن تفريع الذرة عليه تفريعا قياسا وإن أمكن تفريعا نصيبا ثم ذهب الإمام إلى رأي ثالث فقال الحكم أصل في محل الوفاق فرع في محل الخلاف والعلة فرع في محل الوفاق أصل في محل الخلاف فتحريم الربا في البر أصل وعلته وهي الطعم فيه فرع وفي الصورة الثانية وهي الذرة بالعكس فصار القياس عنده مشتملا على أصلين وفرعين باعتبار الصورتين المحل المقيس والمقاس عليه قال الإمام ولقول المتكلمين وجه لأن الحكم الحاصل في محل الوفاق أصل كما وضح والنص أصل لذلك الحكم فكان أصلا للأصل فحسنت لذلك تسميته بالأصل ولك أن تقول الكلام فيما هو أصل بالذات من غير وساطة شيء لا فيما هو أصل بالعرض ولقول الفقهاء وجه لأن النص والحكم يتوقفان على حصول المحل ضرورة وحصول المحل لا يتوقف عليهما قال النقشواني وقول الإمام في الرد عليهم البر لو لم يوجد فيه ذلك الحكم لم يمكن تفريع الذرة عليه ممنوع لأن المجتهد إذا تأمل حال البر لو لم يوجد فيه ذلك الحكم لم يمكن تفريغ الذرة عليه ممنوع لأن المجتهد إذا تأمل حال البر والذرة قبل ورود النص بتحريم الربا في شيء منهما ووجدهما مشتركين في الطعم وأنهما مما يتوقف البقاء عليهما وأن بيع بعضه ببعض متفاضلا فيه مفسدة فتلك المفسدة إن كانت موجبة لربا الفضل وجب حرمة ربا الفضل فيهما وإلا لعدم الفرق بينهما في هذا المعنى فقياسه قبل العلم بالنص وثبوت الحكم في أحدهما وقيل أن النص وجد كل واحدة من الصورتين صالحة لأن تكون أصلا وبعده تسمى المنصوصة أصلا لأن علمه بشمول هذا الحكم المعين إنما نشأ من حكم هذه الصورة بعينها فسميت أصلا بهذا الاعتبار وقوله لو وجد ذلك الحكم في صورة أخرى ولم يوجد في البر أمكن تفريع الذرة عليه ممنوع لأنه لو ورد الشرع بروبية الحديد لم يفرع الذرة عليه لبعد الاشتراك في مناط الحكم قلت(15/66)
والمنع الأول حسن وأما الثاني ففيه نظر لأن الصورة الأخرى التي فرض الإمام وجود الحكم فيها لا بد وأن تشارك الذرة في العلة فإن فرضنا أن العلة وصف يشمل الحديد والذرة فلا نسلم بعد الاشتراك في مناط الحكم واعلم أن هذه أمور اصطلاحية لا طائل تحت المنازعة فيها والذي(15/67)
ص -39-…نقوله أن هناك أربعة أشياء أحدها البر والثاني النص الوارد بتحريم الربا فيه والثالث الحكم المستفاد من ذلك النص والرابع العلم به والحكم في الذرة ليس متفرعا عن البر من حيث هو بر وهذا هو واضح ولا عن الحكم من حيث هو حكم لأن تحريم الربا من حيث هو شيء واحد لا يختلف بالمحل وإنما إذا أخذ مضافا إلى محله فيمكن أن يقال إن الحكم في الذرة متفرع عن الحكم في البر ويمكن أن يقال إن الذرة مع ثبوت الحكم فيها يتفرع عن البر مع ثبوت الحكم فيه فالفقهاء نظروا إلى هذا والإمام نظر إلى الأول وهما متقاربان ونظر الفقهاء أقرب إلى الاصطلاح وأوفق لمجاري الاستعمال بين الجدلين ولقولنا القياس حمل معلوم على معلوم والمحمول المحل لا الحكم ولقول من قال القياس رد فرع إلى أصل لعلة جامعة والفرع والأصل هما المعلومان المذكوران في الحد ولو قال قائل إن المتفرع هو العلم بالحكم في الذرة عن العلم بالحكم في البر لكان أولى من قول الإمام وليس مخالفا لقول الفقهاء
وبيان الأولوية أن الحكم قديم في الأصل والفرع والنص الوارد دال عليه والعلم به هو الذي اقتضى تعديته من محل ورود النص إلى الفرع وينبغي أن يحقق أنه هل يتعقل تفرع حكم الذرة على حكم البر وهما قديمان أولا يعقل بل هما سواء والتفرع في عملنا والأدلة الدالة على ذلك هذا موضع نظر يحتاج إلى زيادة فكر ثم قال الإمام وبعد التنبيه على هذه الاصطلاحات نساعد الفقهاء على مصطلحهم لئلا يفتقر إلى تغييره ثم أن المصنف لما بين الأركان الثلاثة على سبيل الإجمال تصدى لتبينها مفصلة فعقد لذلك فصلين
قال "الفصل الأول في العلة وهي المعرف للحكم قيل المستنبطة عرفت به فيدور قلنا تعريفه في الأصل وتعريفها في الفرع فلا دور"(15/68)
إنما أفرد بيان العلة بفصل مقدم على بيان الأصل والفرع ومتعلقاتهما لكثرة تشعب الآراء عندها وعظم موقعها وتشتت المباحث فيها وقد اختلفت مقالات الناس في تفسيرها على مذاهب الأول وبه جزم المصنف واختاره الإمام.(15/69)
ص -40-…وأكثر الأشاعرة أنها المعرف للحكم وقد يقال العلامة والإمارة واعترض على هذا بأن المستنبطة لم تعرف إلا من الحكم لأن معرفة كونها علة للحكم تتوقف على معرفة الحكم ضرورة فلو عرف الحكم لها لتوقف العالم بالحكم عليها وهو دور وإنما قيدنا السؤال بالمستنبطة لعدم توقف معرفة العلة المنصوصة على معرفة الحكم لكونها معروفة من النص وأجاب بأن تعريف الحكم للعلة بالنسبة إلى الأصل وتعريف العلة للحكم بالنسبة إلى الفرع فلا دور لاختلاف المحل وقضية هذا القول أن تكون العلة عبارة عن معرف حكم الفرع فقط ولا فدخل لها في تعريف حكم الأصل لكونه حينئذ معلوما بالنص أو دليل آخر وبهذا اعترض عليه صفي الدين الهندي
وقال يخدشه ما هو المشهور من قول أصحابنا من أن حكم الأصل معلل بالعلة المشتركة بينها وبين الفرع مع كونه على هذا القول غير معرف بها والمذهب الثاني أنها الموجب لا لذاته بل يجعل الشارع إياه موجبا للأحكام وهو رأي الغزالي(15/70)
وقال صفي الدين الهندي هو قريب لا بأس به والثالث وهو قول المعتزلة أنها المؤثر في الحكم بذاته وهو باطل لأنه مبني على التحسين والتقبيح ولأن الحكم قديم والوصف حادث فيستحيل تعليله به والرابع واختاره الآمدي وابن الحاجب أنها الباعث أي مشتملة على حكمة صالحة أن تكون مقصودة للشارع من شرع الحكم وهو ضعيف لاستحالته في حق الله تعالى لأن من فعل فعلا لغرض فلا بد وأن يكون حصول ذلك الغرض بالنسبة إليه أولى من لا حصوله وإلا لم يكن غرضا وإذ كان حصول الغرض أولى وكان حصول تلك الأولوية متوقفا على فعل ذلك الفعل كان حصول تلك الأولوية لله تعالى متوقفة على الغير فتكون ممكنة غير واجبة لذاته ضرورة توقفها على الغير فيكون كماله تعالى ممكنا غير واجب لذاته وهو باطل لا يقال حصول ذلك الغرض ولا حصوله وإن كان مستويا بالنسبة إليه فمتفاوت بالنسبة إلى غيره لأن حصوله لهم أولى فيفعله تعالى لا لغرضه بل لغرضهم وحينئذ لا يلزم منه استكمال ذاته تعالى(15/71)
ص -41-…بصفة ممكنة لأنا نقول فعله لذلك الفعل لتحصيل غرضهم إن كان أولى من لا فعله جاء حديث الاستكمال وإن لم يكن فتحصيل الغرض إن كان لتحصيل غرض آخر لهم كان الكلام فيه كالأول وتسلسل وإن لم يكن لغرض آخر لهم مع أنه ليس فيه أولوية استحال أن يكون غرضا
وقد نجز من القول في هذه المسألة ما لا يحتمل هذا الشرح أطول منه وبقي سؤال يورد الشيوخ وهو أن المشتهر عن المتكلمين أن أحكام الله تعالى لا تعلل واشتهر عن الفقهاء التعليل وأن العلة بمعنى الباعث وتوهم كثير منهم منها أنها باعثة للشرع على الحكم كما هو مذهب قد بينا بطلانه فيتناقض كلام الفقهاء وكلام المتكلمين وما زال الشيخ الإمام الوالد والدي رحمه الله أطال الله عمره يستشكل الجمع بين كلاميهما إلى أن جاء ببديع من القول فقال في مختصر لطيف كتبه على هذا السؤال وسماه ورد العلل في فهم العلل لا تناقض بين الكلامين لأن المراد أن العلة باعثة على فعل المكلف مثاله حفظ النفوس فإنه علة باعثة على القصاص الذي هو المكلف المحكوم به من جهة الشرع فحكم الشرع لا علة له ولا باعث عليه لأنه قادر أن يحفظ النفوس بدون ذلك وإنما تعلق أمره بحفظ النفوس وهو مقصود في نفسه وبالقصاص لكونه وسيلة إليه فكلا المقصد والوسيلة مقصود للشارع وأجرى الله تعالى العادة أن القصاص سبب للحفظ فإذا فعل المكلف من السلطان والقاضي وولي الدم القصاص وانقاد إليه القاتل امتثالا لأمر الله به ووسيلة إلى حفظ النفوس كان لهم أجران أجر على القصاص وأجر على حفظ النفوس وكلاهما مأمور به من جهة الله تعالى
أحدهما بقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ1}
والثاني إما بالاستنباط وأما بالإيماء في قوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ2} وهكذا يستعمل ذلك في جميع الشريعة ومن هنا يتبين أن كل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة "178"
2 سورة البقرة """179"(15/72)
ص -42-…حكم معقول المعنى فللشارع فيه مقصودان أحدهما ذلك المعنى والثاني الفعل الذي هو طريق إليه وأمر المكلف أن يفعل ذلك الفعل قاصدا به ذلك المعنى فالمعنى باعث له لا للشارع ومن هنا يعلم أن الحكم المعقول المعنى أكثر أجرا من الحكم التعبدي فيه معنى آخر وهو أن النفس لاحظ لها فيه فقد يكون أجر الواحد يعدل الأجرين اللذين في الحكم غير التعبدي ويعرف أيضا أن العلة القاصرة سواء كانت منصوصة أم مستنبطة فيها فائدة وقد ذكر الناس لها فوائد وما ذكرناه فائدة زائدة وهي قصد المكلف فعله لأجلها فيزداد أجره فانظر هذه الفائدة الجليلة واستعمل في كل مسألة ترد عليك هذا الطريق وميز بين المراتب الثلاث وهي حكم الله بالقصاص ونفس القصاص حفظ النفوس وهو باعث على الثاني لا على الأول وكذا حفظ المال بالقطع في السرقة وحفظ العقل باجتناب المسكر فشد يديك بهذا الجواب
قال "والنظر في أطراف الأول في الطرق الدالة على العلية الأول النص القاطع كقوله تعالى كيلا يكون دولة وقوله عليه السلام "إنما جعل الاستئذان من أجل البصر" وقوله إنما "نهيتكم عن لحم الأضاحي لأجل الدافة"
المراد بالنص كما قال الإمام وغيره ما كانت دلالته ظاهرة سواء كانت قاطعة أم محتملة وتقسيم المصنف النص إلى قاطع وظاهر يخالف ما تقدم منه في تقسيم الألفاظ من جعل الظاهر قسيما للنص لا قسما منه وحاصله ما ذكره هنا أن النص على قسمين الأول القاطع وعبر عنه الآمدي والهندي وغيرهما بالصريح وله ألفاظ منها كي كقوله تعالى في الفيء {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً1} أي إنما وجب تخميسه كيلا يتداوله الأغنياء منكم فلا يحصل للفقراء شيء ومنها لأجل كذا أو من أجل كذا كقوله عليه السلام "إنما جعل الاستئذان من أجل البصر2" رواه البخاري ومسلم وقوله : "إنما نهيتكم من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحشر آية "7"(15/73)
2 حديث صحيح أخرجه البخاري كتاب الإستئذان من أجل البصر "8/66" من حديث سهل ابن سعد الساعدي كما أخرجه الترمذي "تحفة الأحوذي" 7/488-490" كما رواه مسلم في صحيحه(15/74)
ص -43-…أجل الدافة التي وفت فكلوا وادخروا1" رواه مسلم وأبو داود والنسائي أي لأجل التوسعة على الطائفة التي قامت المدينة أيام التشريق والدافة القافلة السائلة ومنها لعلة كذا أو لسبب أو لمؤثر أو لموجب وإهمال المصنف ذلك لكونه في معنى لأجل
قال والظاهر اللام كقوله تعالى: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} فإن أئمة اللغة قالوا اللام للتعليل وفي قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} وقول الشاعر
لدوا للموت وابنوا للخراب
للعاقبة مجازا وأن مثل ولا تقربوه طيبا فإنه يحشر يوم القيامة مبليا والباء مثل فبما رحمة من الله لنت لهم
الثاني من قسمي النص الظاهر وهو اللام وأن الباء أما اللام فكما في قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ2} فإن أهل اللغة نصوا على أنه للتعليل وإنما لم يكن صريحا لاحتمال الاختصاص أو الملك وغير ذلك قوله وفي قوله هذا جواب عن سؤال مقدار تقريره اللام ليست للتعليل كقوله تعالى: {لَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ3} فإن ذلك ليس عرضا بالإجماع فإن الناس على قولين منهم من لم يعلل أفعال الله لشيء أصلا ومنهم من يعللها بالمصالح فأما تعليلها بالمضار والعقوبات فلم يقل به عاقل ولقول الشاعر 4
له ملك ينادي كل يوم … لدوا للموت وابنوا للخراب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري كتاب الأضاحي باب :ما يؤكل من لحوم الأضاحي "7/133-134" ومالك في الموطأ "1/321"ومسلم "6/80" باب :بيان ماكان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي والترمذي "تحفة الأحوذي5/99" باب :في الرخصة في أكل الضاحي والنسائي كتاب الأضاحي باب :النهي عن أكلها "7/205"
2 سورة الإسراء آية "78"
3 سورة الأعراف آية "179"
4 البيت لأبي العتاهية : إسماعيل بن القاسم بن سويد بن كيسان المتوفي سنة 210ه وهو مطلع قصيدة له في الزهد "ديوان أبي العتاهية ص 23" ط بيروت سنة 1909م(15/75)
ص -44-…وذلك ليس للعلية إذا الولادة والبناء ليس لغرض الموت والخراب وجوابه أن اللام في هذه الأماكن مستعملة على جهة التجوز للعاقبة فإن عاقبة كثير من المخلوقات جهنم وعاقبة الولادة الموت والبناء للخراب والعلاقة بين العلة والعاقبة أن عاقبة الشيء مترتبة عليه في الحصول كترتب العلة الغائبة على معلولها واستعمالها على جهة المجاز لا ينفي كونها ظاهرة في التعليل الذي هو حقيقتها فإن قلت استعمالها في غير التعليل لا ينفي كونها ظاهرة فيه لو ثبت كونها حقيقة له لكن لم يثبت بعد فإنكم إنما استدللتم عليه بالاستعمال وعارضناه بمثله فليس الاستدلال بذلك الاستعمال على حقيتها في التعليل أولى من العكس
قلت الاستدلال بما ذكرناه من الاستعمال أولى لموافقته قول أهل اللغة أنها للتعليل ولكونه أسبق إلى الفهم وأما إن فكقوله عليه الصلاة والسلام في المحرم الذي وقصته ناقته "ولا تمسوه طيبا ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا" أخرجاه في الصحيحين وفي هذا الحديث جهتان يدلان على التعليل أن كما تقرر وترتيب الحكم على الوصف كما سيأتي في كلام المصنف إن شاء الله تعالى وأما الباء ففي قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ1}
فإن قلت أصل الباء للإلصاق فلم قلتم بأنها ظاهرة في التعليل قلت قال الإمام ذات العلة لما اقتضت وجود المعلول حصل معنى الإلصاق هنا فحسن استعماله فيه مجازا لكن قال صفي الدين الهندي هذا مخالف لما ذكره غيره ولما أشعر به كلامه أيضا إذ صرح بأن دلالة اللام وأن والباء على التعليل ظاهرة من غير تفرقة بينها ثم إنه صرح بأن دلالة اللام حقيقة فأشعر بالتسوية في الدلالة ولأن دلالة المجاز لا تكون ظاهرة إلا بطريق علية الاستعمال أو القرينة فكان يجب عليه أن يقيد ظهور دلالته بغلبة الاستعمال لا في أصل الوضع
قال "الثاني الإيماء وهو خمسة أنواع"
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(15/76)
1 سورة آل عمران آية "159"(15/77)
ص -45-…الأول ترتيب الحكم على الوصف بالفاء ويكون في الوصف أو الحكم وفي لفظ الشارع أو الراوي مثاله السارق والسارقة لا تقربوه طيبا زنا ماعز فرجم
الثاني من الطرق الدالة على العلية الإيماء والتنبيه قال الآمدي وصفي الدين الهندي دلالته على العلية بالالتزام لأنه يفهم التعليل فيه من جهة المعنى لا من جهة اللفظ قال الهندي إذ اللفظ لو كان موضوعا لها لم يكن دلالته من قبيل الإيماء بل كان صريحا وهذا الذي قالاه فيه نظر سنذكره وهو أنواع
الأول أن يذكر حكما ووصفا وتدخل الفاء على أحدهما وهو أقسام أولها دخول الفاء على الوصف في كلام الشارع كقوله صلى الله عليه وسلم :"فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا1"
الثاني دخولها في كلام الراوي ولم يمثل له المصنف
الثالث دخول الفاء على الحكم في كلام الشارع مثل {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا2}
الرابع دخولها عليه في كلام الراوي مثل زنا ماعز فرجم وقد تقدم الكلام على حديث زنا ماعز من التخصيص وليس فيه وقوع هذا اللفظ في كلام الراوي ومثاله أيضا سها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجد
قال الإمام يشبه أن يكون تقدم العلة على الحكم أقوى في الإشعار بالعلية من الثاني لأن إشعار العلة بالمعلول أقوى من إشعار المعلول بالعلة لأن الطرد واجب في العلل دون العكس وعكس النقشواني الأمر معترضا على الإمام بأنه إذا تقدم الحكم تطلب نفس السامع العلة فإذا سمع وصفا معقبا بالفاء سكنت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حديث صحيح أخرجه الشيخان من حديث ابن عباس في المحرم الذي وقصته ناقته فمات فقال صلي الله عليه وسلم "أغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبه ولا تمسوه بطيب ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا" "التاج 2/114-115"
2 المائدة آية "38"(15/78)
ص -46-…نفسه عن الطلب وركنت إلى أن ذلك هو العلة وأما إذا تقدم معنى لم يعلم بعد حكمه مثل والسارق والسارقة فالنفس تطلب الحكم فإذا صار الحكم مذكورا فبعد ذلك قد يكتفي في العلة بما سبق إن كان شديد المناسبة مثل السارق والسارقة وقد لا يكتفي بل يطلب العلة بطريق آخر بأن يقول إذا أقمتم الصلاة فاغسلوا وجوهكم تعظما للمعبود وأما فيما إذ تأخر ذكر العلة فلا يجوز ذكر علة أخرى قال ولو ذكر علة عد مناقضا فكان الإشعار بالعلية على عكس ما قاله الإمام كيف وترتيب الحكم على الوصف عند الإمام يقتضي العلة وإن لم يكن مناسبا ويلزمه أن يقول إشعار قول القائل أما الطوال فأكرموهم بالعلة أقوى من أكرموا هؤلاء فإنهم طوال وليس كذلك لإمكان قول القائل في الأول لم أجعل الإكرام علة دون الثاني وأما قول الإمام إشعار العلة بالمعلول أقوى فهذا لا يتأتى إلا في شيء عرف كونه علة قبل الكلام أو قبل الحكم أما ما كانت العلة فيه مستنبطة من ذلك الكلام فلا يتأتى فيه ما ذكر الثانية ما ورد في كلام الله تعالى أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم فهو أقوى دلالة على العلية من كلام الراوي لتطرق احتمال الخطأ إليه دون الله ورسوله وجعل الآمدي الوارد في كلام الله أقوى من الوارد في كلام رسوله والحق مساواتهما لعدم احتمال تطرق الخطأ قاله الهندي وهو صحيح وما كان من كلام الراوي الفقيه أقوى مما هو من كلام من ليس بفقيه.
الثالثة استدل الآمدي على إفادة هذا النوع من الإيماء العلية بأن الفاء للتعقيب ودخولها على الحكم بعد الوصف يقتضي ثبوت الحكم عقب الوصف ويلزم كون الوصف سببا إذ لا معنى لسببيته إلا ثبوت الحكم عقيبه
وقد ذكر الهندي هذا التعليل واعترض عليه بأنا نسلم أن كل سبب يعقبه الحكم لكن لا نسلم أن كل ما يعقبه الحكم سبب فإن القضية الكلية لا تنعكس كنفسها وهو اعتراض صحيح ثم هذا الدليل على ضعفه يختص بدخولها على الحكم بعد الوصف دون عكسه(15/79)
وقد جعل ابن الحاجب دلالة الأقسام التي ذكرناها في هذا القسم من باب(15/80)
ص -47-…الصريح دون الإيماء والحق عندي في هذا أن يقال ترتيب الحكم على الوصف يفيد العلية بوضع اللغة ولم تضع العرب ذلك دالا على مدلوله بالقطع والصراحة بل بالإيماء والتنبيه ولا بدع في مثل هذا الوضع وإنما لم نجعله من باب الصريح لتخلفه في بعض محاله عن أن يكون إيماء وهو حيث تكون الفاء بمعنى الواو فكانت دلالته أضعف وإذا وضح هذا علمت أن دلالته ليست إلتزامية كما زعم الآمدي والهندي وهذا هو النظر الذي أشرنا إليه أول الفصل وإنها ليست صريحة على خلاف ما ظن ابن الحاجب الرابعة قد يقال كيف يعتمد قول الراوي هنا مع جواز أن يكون ترتيبه للحكم على الوصف لفهمه أو ظنه ما ليس بعلة علة وقد قال الجمهور لا يعتمد قوله هذا منسوخ ولا عمله بخلاف ما رواه لاحتمال ذلك ولا قوله أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند بعض الأصوليين وقد يقال يعتمد قوله في فهم مدلولات الألفاظ كالرواية بالمعنى ويجاب بأن العمل بقوله هذا منسوخ يلزم منه رفع دليل ثابت بقول جاز أن يقوله عن اجتماد لا نراه بخلاف مثل قوله سها فسجد فإنه لا يلزم من إثبات هذا الحكم الذي جاءه به رفع دليل ثابت وكذا الآخذ بما رآه دون ما رواه وأما قوله أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا فالأكثرون على اعتماده والعمل به ومن لم يعتمده مستنده احتمال أن الحكم كان غير دائم وظنه دائما أو مختصا بواحد وظن عدم اختصاصه لا من جهة ظنه ما ليس بأمر أمرا فإن ذلك بعيد من العربي وحاصل هذا كله أن الراوي يرجع إليه في مدلولات الألفاظ لا في الاجتهاد والحق عندي في هذا أن يقال إن كان الراوي صحابيا اعتمد فهمه لأن الصحابة رضي الله عنهم كلهم فقهاء ومن صميم العرب وإن كان غير صحابي فالظاهر أيضا اعتماده إذا كان كذلك وإن كان ممن قد يخفى عليه أن ترتيب الحكم على الوصف يشعر بالعلية فلا يعتمد(15/81)
"فرع ترتيب الحكم على الوصف يشعر بالعلية وقيل إذا كان مناسبا لنا لو قيل أكرم الجاهل وأهن العالم قبح وليس لمجرد الأمر فإنه قد يحسن فهو لسبق التعليل قيل الدلالة في هذه الصورة لا تستلزم دلالته في الكل قلنا يجب دفعا للاشتراك"(15/82)
ص -48-…اختلفوا في اشتراط المناسبة في الوصف المومى إليه فذهب الأكثرون إلى عدم اشتراطه1
وقيل يشترط وتوجيه تفريع هذا الفرع على ما قبله أن يقال إذا ثبت أن ترتيب الحكم على الوصف يشعر بالعلية فهو يشترط مناسبة الوصف واستدل المصنف على أنه لا يشترط بأن القائل لو قال أكرم الجاهل وأهن العالم استقبح هذا الكلام منه عرفا وليس الاستقباح لمجرد الأمر بذلك فإن الجاهل قد يحسن إكرامه في الجملة لسبب أو دين أو غير ذلك
والعالم قد يحسن إهانته لفسق أو بخل أو غيره فثبت أن استقباح ذلك إنما هو لسبق الفهم إلى تعليل إكرام الجاهل بالجهل وإهانة العالم بالعلم لأن الأصل عدم غيره فيكون حقيقة في أن ترتيب الحكم على الوصف يقتضي العلية مطلقا واعلم أن عبارة الإمام أكرم الجهال وأهن العلماء وفهم علية الوصفين في هذه الصورة أسبق إلى الذهن من فهمه في قولنا أكرم الجاهل وأهن العالم لأنه قد يقال أنه في حالة الجمع يكون ناظرا إلى جهة الجهل والعلم دون الأفراد إذ يكون الشخص فيه مقصودا فإتيان المصنف بصيغة الإفراد أحسن إذ يلزم من ثبوته فيه ثبوته لك الصورة بطريق أولى
وهكذا فعل الآمدي وقد اعترض الخصم على هذا الدليل بأن دلالته الترتيب على العلية في هذه الصورة لا تستلزم دلالته في جميع الصور لأن المثال الجزئي لا يدل على الكلية فيحتمل أن يكون ذلك لخصوصية هذه الصورة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(15/83)
1 في هامش النسخة المطبوعة ص "34" "بناء علي أن العلة بمعني المعرف وعلي هذا فلا امتناع في جعل الجهل علامة علي الإكرام والعلم علامة علي الإهانة إذ لم يكن هو الباعث بل الباعث شيء آخر وأعترض بان هذا معارض لم علم في شروط العلة من أنه يشترط في الإلحاق بها اشتمالها علي حكمه تبعث المكلف علي الإمتثال وتصح لإناطة الحكم وأيضا فإن العلة تستلزم الحكم وكيف يتأتي هذا مع عدل المناسبة والجواب :أن المراد أنه لا يشترط مناسبة ظاهرة وإن كان لابد منها في نفس الأمر وقيل: يشترط في الإيماء مناسبة الوصف المومأ إليه للحكم بناء علي أن العلة بمعني الباعث يعني أنها الباعث للشارع علي شرع الخكم وليس المقصود مجرد التعريف بل مع بيان وجه مشروعية الحكم إذ له دخل في العلية فلابد من معرفته حتي يكونالإيماء صحيحا"أ ه مصححه(15/84)
ص -49-…وأجاب بأنه إذا ثبت في هذه الصورة لزم في جميع الصور وألا يلزم الاشتراك في هذا النوع من التركيب ولقائل أن يقول الترتيب تركيب والمركب غير موضوع عنده فأين لزوم الاشتراك سلمنا أنه موضوع ولكن إنما يلزم الاشتراك أن لو قلنا إنه يدل في غير هذه الصورة على شيء وفرق بين الدلالة على العدم وعدم الدلالة والاشتراك لازم على الأول الممنوع دون الثاني المسلم ولا يقال الترتيب الدال في هذه الصورة لا بد أن يدل على شيء في غيرها لأن ذلك مجرد دعوى
قال "الثاني أن يحكم عقيب علمه بصفة المحكوم عليه كقول الأعرابي واقعت يا رسول الله فقال اعتق رقبة لأن صلاحية جوابه تغلب ظن كونه جوابا والسؤال معاد فيه تقديرا فالتحق بالأول"
الثاني من أنواع الإيماء أن يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم بحكم في محل عند علمه بصفة فيه فيغلب على الظن أن تلك الصفة علة لذلك الحكم مثاله ما روي أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال هلكت وأهلكت واقعت أهلي في نهار رمضان عامدا فقال أعتق رقبة وأصل الحديث في الكتب الستة كلها لكن بغير صيغة أعتق رقبة وبهذا الصيغة في سنن ابن ماجة فيظن أن الوقاع في نهار رمضان سبب لوجوب عتق الرقبة لأن ما ذكره الرسول عليه السلام من الكلام يصلح أن يكون جوبا لهذا السؤال وصلاحيته لذلك تغلب على الظن كونه جوابا لأن الاستقراء يدل على أن الغالب فيما صلح للجواب أن يكون جوابا فإن قلت يحتمل أن يكون جوابا عن سؤال آخر أو ابتداء كلام أو زجرا له عن الكلام كقول السيد لعبده إذا سأله عن شيء اشتغل بشأنك قلت غلبة الظن توجب لحاق هذا الفرد بالأعم والأغلب ولأنه لو لم يكن جوابا لخلا السؤال1 عن الجواب ولزم تأخير البيان عن وقت الحاجة وما يقال عليه لعله عليه السلام عرف أنه لا حاجة للمكلف إلى ذلك الجواب في ذلك الوقت فلا يلزم تأخير البيان عن وقت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(15/85)
1 جعله سؤالا باعتبار المقصود منه وإن لم يكن سؤالا بحسب الصورة أ ه مصححة(15/86)
ص -50-…الحاجة فهو احتمال مرجوح لكونه نادرا إذا الغالب في السؤال كونه وقت الحاجة وإذا كان ما ذكره الرسول عليه السلام جوابا عن السؤال معاد في الجواب تقديرا1 فيصير تقدير الكلام واقعت فاعتق فيرجع إلى نوع ترتيب الحكم على الوصف بالفاء لكنه أضعف منه لأن الفاء وإعادة السؤال مقدر فيه والمقدر وإن ساوى المحقق في أصل الثبوت فلا يساويه في القوة وما وقع من هذا النوع في كلام الراوي فهو حجة أيضا لأن معرفة كون الكلام المذكور جوابا عنه أو ليس جوابا لا يحتاج إلى دقيق نظر وظاهر حال الراوي العدل لا سيما العارف أنه لا يجزم بكونه جوابا إلا وقد تيقن ذلك
قال "الثالث أن يذكر وصفا لو لم يؤثر لم يفد مثل إنها من الطوافين عليكم والطوافات ثمرة طيبة وماء طهور وقوله أينقض الرطب إذا جف قيل نعم فقال فلان إذن وقوله لعمر وقد سأل عن قبلة الصائم أرأيت لو تمضمضت بما ثم مججته"
إذا ذكر الشارع وصفا لو لم يؤثر في الحكم أي لم يكن علة فيه لم يكن لذكره فائدة دل على عليته إيماء وإلا كان ذكره عبثا ولغوا ينزه هذا المنصب الشريف عنه وهو على أربعة أقسام
الأول أن يدفع السؤال في صورة الإشكال بذكر الوصف كما روي أن عليه السلام امتنع من الدخول على قوم عندهم كلب فقيل إنك تدخل على بني فلان وعندهم هرة فقال عليه السلام : "إنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم والطوافات2" رواه الأربعة أصحاب السنن فلو لم يكن لكونها من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الداعي إلي هذا التقرير تحقق الإقتران بين الوصف والحكم في كلام واحد اذا لإقتران بينها في كلامين غير معقول "أ ه" مصححة(15/87)
2 رواه أبو داود: كتاب الطهارة باب : سؤر الهرة "1/18".والترمذي باب : سؤر الهرة "تحفة الأحوذي 1/307"والنسائي كتاب الطهارة باب سؤر الهرة "1/48". وفي بعض الروايات : "أو الطوافات" قال صاحب مطالع الأنوار يحتمل أن تكون للشك ويحتمل أن تكون للتقسيم ويكون ذكر الصنفين من الذكور والإناث" "المجموع للنووي1/226"(15/88)
ص -51-…لطوافات أثر في طهارتها لم يكن لذكره عقيب الحكم بطهارتها فائدة
الثاني أن يذكر وصفا في محل حكم لا حاجة إلى ذكره ابتداء فتعلم أنه إنما ذكره لكونه مؤثرا في الحكم كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليلة الجن لابن مسعود : "ما في أداوتك" قال نبيذ قال : "تمرة طيبة وماء طهور" وهو حديث ضعيف رواه الترمذي وابن ماجة قال القرافي في تعليقه على المنتخب وهذا المثال غير مطابق لأن ذكره عليه السلام طيب التمرة ليس إشارة إلى العلة في بقاء الطهورية بل إلى عدم المانع والمعنى لو كانت التمرة مستقذرة أمكن أن تكون نجسة كمنع من بقاء الطهورية لكن ليست كذلك
الثالث أن يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن شيء فيسأل عليه السلام عن وصف له فإذا أخبر عنه حكم فيه بحكم كما روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سأل عن اشتراء الرطب بالتمر فقال : "أينقص الرطب إذا يبس" قالوا نعم قال صلى الله عليه وسلم : "فلا إذن" رواه الأربعة وقال الترمذي حسن صحيح وصححه ابن خزيمة والحاكم فلو لم يكن نقصانه علة في المنع لم يكن للتقديم عليه فائدة وهو يدل على العلية بوجهين آخرين من حيث الفاء ومن قوله إذن فهي من صيغ التعليل وقد عدها ابن الحاجب مما يدل بالنص على العلية مثل من أجل كذا وشبه(15/89)
الرابع أن يسأل عن حكم فيتعرض لنظيره وينبه على وجه الشبه بينه وبين المسؤول عنه فيفيد أن وجه الشبه هو العلة كما روى أبو داود والنسائي أن عمر رضي الله عنه قال هششت فقبلت وأنا صائم فقلت يا رسول الله صنعت اليوم أمرا عظيما قبلت وأنا صائم قال : "أرأيت لو تمضمضت من الماء وأنت صائم" قلت لا بأس قال : "فمه" قال النسائي هذا الحديث منكر وقال أحمد بن حنبل ضعيف1 فنبه عليه السلام بهذا على أنه لا يفسد الصوم بالمضمضة لمشابهتها للقبلة في أن كلا منهما وإن كان مقدمة للشرب والوقاع المفسدين فلم يحصل منه المطلوب من الشرب والوقاع وفيه إشارة إلى أركان القياس الأربعة لأنه عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أصله صحيح أخرجه البخاري كتاب الصيام باب القبلة في الصوم كما أخرجه مسلم "3/134" فقول النسائي "هذا الحديث منكر" غير مسلم(15/90)
ص -52-…السلام جعل المضمضة أصلا والقبلة فرعا وكون كل منهما مقدمة المفسد جامعا وعدم الإفساد حكما واعترض الآمدي على التمثيل بهذا الحديث بأنه ليس من قبيل ما نحن فيه إذ ليس فيه ما تتخيل أن يكون مانعا من الإفطار بل غايته أن لا يفطر قال بل هو نقض لما توهمه عمر رضي الله عنه من إفساد مقدمة الإفساد قال الهندي وهو ضعيف لأن في قوله عليه السلام أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكنت شاربه تنبيها على الوصف المشترك بين المضمضة والقبلة وهو عدم حصول المقصود منهما وهو يصلح للعلية لعدم اشتراط المناسبة في الوصف المومى إليه
قال "الرابع أن يفرق الحكم بين شيئين بذكر وصف مثل القاتل لا يرث وقوله "إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد"
إذا فرق الشارع بين شيئين في الحكم بذكر صفة كان إيماء إلى علية الصفة وإلا لم يكن لذكرها معنى وهو ضربان
أحدهما أن لا يكون حكم أحدهما مذكورا في الخطاب بل في خطاب آخر مثل قوله عليه السلام "القاتل لا يرث" وقد تقدم الكلام على الحديث في الخصوص مع تقديم بيان إرث الورثة ففرق بقوله القاتل لا يرث بينه وبين جميع الورثة بذكر القتل الذي يجوز جعله في نفي الإرث
وثانيهما أن يذكر حكمهما في الخطاب وهو على خمسة أوجه اقتصر في الكتاب على الأول منها وهو أن يقع التفرقة بلفظ يجري مجرى الشرط كقوله عليه السلام في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه وهو في صحيح مسلم "فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد1" نهيه عن بيع البر بالبر متفاضلا والثاني أن يقع التفرقة بالغاية مثل {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ2} والثالث بالاستثناء {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ3} والرابع بلفظ يجري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صحيح مسلم كتاب الربا :الصرف وبيع الذهب بالورق "4/66-100بشرح النووي"كما أخرجه ابن ماجة "2/15" والإمام أحمد في مسنده "4/131،5/2".
2 سورة البقرة آية "222"(15/91)
3 سورة البقرة آآآية "237"(15/92)
ص -53-…مجرى الاستدراك مثل {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ1} يدل على علية التعقيد للمؤاخذة والخامس استئناف أحد الشيئين بذكر صفة من صفاته بعد ذكر الآخر صالحة للعلية كقوله عليه السلام : "للراجل سهم وللفارس سهمان2" وأعلم أن اعتماد هذين النوعين على أنه لا بد لتلك التفرقة من سبب ولذكر الوصف من فائدة وجعل الوصف سبب التفرقة فائدة
قال "الخامس النهي عن مفوت الواجب مثل وذروا البيع"
إذا نهى عن فعل يمنع الإتيان به حصول ما تقدم وجوبه علينا كان إيماء إلى أن علة ذلك النهي كونه مانعا من الواجب كقوله تعالى: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ3} فإنه لما أوجب السعي ونهى عن البيع مع علمنا بأنه لو لم يكن النهي عنه لمنعه من السعي الواجب لما جاز ذكره في هذه الموضع لكونه يخل بجزالة الكلام وفصاحته دل على إشعاره بالعلية وقد نجز القول في أقسام الإيماء الذي هو الثاني من الطرق الدالة على العلية ونعقبه إن شاء الله بالثالث وبالله التوفيق
قال "الثالث الإجماع كتعليل تقديم الأخ من الأبوين في الإرث بامتزاج النسبين"
إذا أجمعت الأمة على علية وصف الحكم ثبتت عليته له كإجماعهم على أن العلة في تقديم الأخ من الأبوين على الأخ من الأب في الإرث وهو امتزاج النسبين فيلحق به تقديمه في ولاية النكاح وصلاة الجنازة والحضانة والوصية لأقرب الأقارب والوقف عليه وتحمل الدية قياسا بجامع امتزاج النسبين فإن قلت قد وقع خلاف في المذهب في أكثر هذه الصور هل يستويان أو يقدم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة آية "89"
2 رواه أبو داود كتاب الجهاد باب فيمن أسهم له سهما واترمذي باب سهم الخيل "تحفة الأحوذي 6/163"
3 سورة الجمعة آية "9"(15/93)
ص -54-…الأخ من الأبوين كولاية النكاح وصلاة الجنازة وتحمل العقل والوصية والوقف وإنما لم يقع في الحضانة لأن الأنوثة في بابها أقوى من الذكورة ولذلك قال بعض الأصحاب بتساوي الأخ للأم والأخ للأب فكيف ذلك مع الإجماع قلت لا يلزم من إجماعهم على علية وصف أن لا يقع خلاف معها لجواز أن يكون وجودها في الأصل أو الفرع متنازعا فيه أو يكون في حصول شرطها أو منعها نزاع وهذا على رأي من يجوز تخصيص العلة وإنما لا يتصور الخلاف إذا وقع الاتفاق على ذلك كله
قال "الرابع المناسبة المناسب ما يجلب للإنسان نفعا أو يدفع عنه ضررا"
عرف المناسب بأنه الذي يجلب للإنسان نفعا أو يدفع عنه ضررا وغيره قال إنه الوصف المفضي إلى ما يجلب للإنسان نفعا أو يدفع عنه ضرا وهما متغايران لأن المصنف جعل المقاصد أنفسها أوصافا وهذا التعريف هو قوله من يعلل أفعال الله تعالى بالمصالح1 والنفع عبارة عن اللذة وما كان طريقا إليها والضرر الألم وطريقه وقيل في حد اللذة إدراك الملايم والألم إدراك المنافي قال الهندي وهو لا يخلو عن شائبة الدور يعني لأن إدراك أحدهما يتوقف معرفته على إدراك الآخر وهذا فيه نظر إذ قد يدرك المنافي من لم يدرك الملايم ويعرفه وكذا العكس قال الإمام والصواب عندي أنهما لا يحدان لكونهما من الأمور الوجدانية أما من لم يعلل أفعال الله تعالى فقال المناسب الملايم لأفعال العقلاء في العادات
قال "وهو حقيقي دنيوي ضروري كحفظ النفس بالقصاص والدين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(15/94)
1 قال في التوضيح وما أبعد عن الحق قول من قال:إنها غير معللة بها فإن بعث الأنبياء لإهتداء الخلق وإظهار المعجزات لتصديقهم فمن أنكر التعليل فقد أنكر النبوة وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون} وأيضا لو لم يفعل لغرض أصلا يلزم العبث ودليلهم أنه فعل لغرض فإن لم يكن حصول ذالك لغرض أولي به من عدمه امتنع منه فغله وأن كان أولي كان مستكملا به فيكون ناقصا والجواب أنه إنما يكون مستكملا به لو كان الغرض راجعا إليه وهنا راجع إلي العبد بإختصار مصححه(15/95)
ص -55-…بالقتال والعقل بالزجر عن المكسرات والمال بالضمان والنسب بالحد على الزنا ومصلحي كنصب الولي للصغير وتحسيني كتحريم القاذورات واحروي كتزكية النفس وإقناعي بظن مناسبا فيزول بالتأمل فيه"
هذا تقسيم أول للمناسب المناسب إما حقيقي أو إقناعي الأول الحقيقي وهو إما لمصلحة تتعلق بالدنيا أو بالآخرة والمتعلق بالدنيا إما أن يكون في محل الضرورة وهو الضروري أو في محل الحاجة وهو المصلحي أولا في محل الضرورة ولا الحاجة بل كان مستحسنا في العادات فهو التحسيني فالضروري ما تضمن حفظ مقصود من المقاصد الخمس التي اتفقت الملل على حفظها وهي النفس والدين والعقل والمال والنسب فحفظ النفس بمشروعية القصاص قال الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ1} وأما الدين فبقتال الكفار وعليه نبه قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ2} وأما العقل فبتحريم المسكرات
وعليه نبه قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ3} وأما حفظ المال فبالضمان على الغاصب والاختلاس والسرقة وأما النسب فبوجوب الحد على الزاني فهذه الخمسة هي الضرورية ويلتحق بها ما كان مكملا لها كتحريم البدعة والمبالغة في عقوبة المبتدع إليها وفي تحريم شرب القليل من المسكر ووجوب الحد فيه وفي حفظ النسب بتحريم النظر والمس وترتيب التعزير على ذلك وأما المصلحي فكنصب الولي للصغير فيمكن من تزويج الصغيرة لأن مصالح النكاح غير ضرورية ولكن واقعة في محل الحاجة فإنها داعية إلى الكفء الموافق وهو لا يوجد في كل وقت فلو لم يقيد بالنكاح لأوشك فواته لا إلى بدل ومثله تجويز الإجاره فإنها مبنية على مسيس الحاجة إلى المساكن مع القصور عن تملكها وضنة مالكها ببذلها عارية
قال إمام الحرمين فمن قال الإجارة خارجة عن مقتضى القياس فليس على
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية "179"
2 سورة التةبة آية "29"(15/96)
3 سورة المائدة آية "91"(15/97)
ص -56-…بصيرة من قوله فإنها إن خرجت فخروجها عن الاستصلاح فهي خارجة على مقتضى الحاجة والحاجة أصل والاستصلاح بالإضافة إليه فرع انتهى ومراده بالاستصلاح كما نبه هو عليه الحمل على الأصلح والأرشد كاشتراط مقابلة الموجود بالموجود فليست الإجارة من الأقيسة الجزئية التي هي الاستصلاح لأنها مقابلة موجود بمعدوم
قال إمام الحرمين وليس المراد بكونه قياسا جزئيا جريانه في شخص أو جزء ولكن الأصل الذي لا بد من رعايته الضرورة ثم الحاجة والاستصلاح في الوجوه الخاصة في حكم الجزء عند النظر في المصالح والضوابط الكلية انتهى وكالإجارة المساقاة لاشتغال بعض الملاك عن تعهد أشجاره والقراض وذكر بعضهم البيع في ذلك هذا القسم
وقال إمام الحرمين تصحيح البيع آيل إلى الضرورة فإن الناس لم يبذلوا ما بأيديهم لجر ذلك إلا لضرورة ظاهرة فيلتحق بمشروعية القصاص واعلم أنه قد يتناهى بعض جزئيات هذا القسم فيخرج عنه إلى حد الضرورة كتمكين الولي من شراء الطعام والملبوس للصغير الذي في معرض التلف من الجوع والبر واستئجار المرضعة له ويلتحق بقسم المصلحي ما كان مكملا له كرعاية الكفاءة ومهر المثل في التزويج فإنه أفضى إلى دوام النكاح وتكميل مقاصده وإن حصلت أصل الحاجة بدون ذلك وأما التحسيني فقسمان أحدهما وعلى ذكره اقتصر المصنف ما يقع على غير معارضة قاعدة معتبرة كتحريم القاذورات فإن نفرة الطباع عنها لقذارتها معنى يناسب حرمة تناولها حثا على مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم ومن هذا إزالة النجاسات فإنها مستقذرة في الجبلات واجتنابها أهم في المكارم والمرآت ولهذا يحرم على الصحيح أن يتضمخ المرء بالنجاسة من غير حاجة(15/98)
قال إمام الحرمين في البرهان والشافعي نص على هذا في الكبير ثم إنه في النهاية عند الكلام في وطئ المرأة في دبرها قال لا يحرم ويحرم أيضا على الصحيح لبس جلد الميتة ولا يجوز أن يلبس دابته جلد الكلب أو الخنزير وقال بعض الأصحاب بمنع الاستصباح بالدهن النجس وأما إيجاب الوضوء(15/99)
ص -57-…فليس ينكر العاقل ما فيه من إفادة النظافة والأمر بالنظافة على استغراق الأوقات يعسر الوفاء به فوظف الشرع الوضوء في أوقات وبنى الأمر على إفادته المقصود وعلم الشارع أن أرباب العمل لا يعتمدون نقل الأوساخ والادران إلى أعضائهم البادية منهم فكان ذلك النهاية في الاستصلاح ومحاولة الجمع بين تحصيل أقصى الإمكان في هذه المكرمة ورفع التضييق في التدنس والتوسخ إذا حاول المرء ذلك
قال إمام الحرمين ولكن إزالة النجاسة أظهر في هذا من النظافة الكلية المترتبة على الوضوء من حيث أن الجبلة تستقذرها والمروءة تقتضي اجتنابها فهي أظهر من اجتناب الشث والغبرات قال ولهذا خص الشافعي رضي الله عنه الوضوء بالنية من حيث التحق بالتعبدات العرية عن الأغراض وضاهى العبادات الدينية ومن هذا القسم التحسيني أيضا سلب أهلية الشهادة عن الرقيق لأجل أنها منصب شريف والعبد نازل القدر والجمع بينهما غير ملائم
وأما سلب ولايته فهو محل الحاجة إذ ولاية الأطفال تستدعي استغراقا وفراغا والعبد مستغرق بخدمة سيده فتفويض أمر طفله إليه إضرار بالطفل أما الشهادة فتتفق أحيانا كالرواية والفتوى قال الغزال وقول القائل سلب منصب الشهادة لخسة قدره ليس كقولنا سلب ذلك لسقوط الجمعة عنه فان ذلك لا يشم منه رائحة مناسبة أصلا وهذا لا ينفك عن الانظام لو صرح به الشارع وليس تنتفي مناسبته بالرواية والفتوى بل ذلك نقض على المناسب إلى أن يعتذر عنه(15/100)
والمناسب قد يكون منقوضا فيترك أو يحترز عنه بعذر أو تعبد وكذلك تقييد النكاح بالولي فلو علل بقصور رأيها في انتفاء الأزواج وسرعة الاغترار بالظواهر لكان مصلحيا في محل الحاجة ولكن لا يصح ذلك في سلب عبارتها وفي نكاح الكفوء فهو رتبة التحسيني لأن الأليق بمحاسن العادات استحياء النساء عن مباشرة العقد لأن ذلك يشعر بتوقان نفسها إلى الرجال وذلك غير لائق بالمروءة ففوضه الشرع إلى الولي حملا للخلق على أحسن المناهج وكذلك تقييد النكاح بالشهادة لو علل بالإثبات عند النزاع لكان واقعا في محل(15/101)
ص -58-…الحاجة ولكن سقوط الشهادة على رضاها يضعف هذا المعنى فهو لتفخيم أمر النكاح وتمييزه عن السفاح بإعلان والإظهار عند من له رتبة ومنزلة على الجملة والثاني من قسمي التحسيني ما يقع على معارضة قاعدة معتبرة وذلك كالكتابة فإنها من حيث كونها مكرمة في العوائد مستحسنة احتمل الشرع فيها خرم قاعدة ممهدة وهي امتناع معاملة السيد عبده وامتناع مقابلة الملك بالملك على صيغة المعارضة ولم يجز ذلك في الصرف المتقدم ولكن اختص ذلك الضرب بإيجاب الطهارة ولا تجب الكتابة على السيد على رأي معظم العلماء وحكى صاحب التقريب قولا أنها تجب إذا طلبها العبد ووجد السيد فيه خيرا وهذا تمام القول في المتعلق بالدنيا وأما المتعلق بالآخرة فكتزكية النفس ورياضتها وتهذيب الأخلاق المؤدي إلى امتثال الأوامر واجتناب النواهي الموصل إلى رضا الرحمن سبحانه وتعالى
وبقي قسم ثالث لم يورده المصنف تبعا للإمام وهو ما يتعلق بمصالح الدارين معا وذلك ما يحصل برعياته بعض ما تقدم من مصالح الدنيا والآخرة كإيجاب الكفارات إذ يحصل بها الزجر عن تعاطي تلك الأفعال التي وجبت الكفارة بسببها ويحصل تلاقي التقصير وتكفير الذنب الكبير الذي حصل من فعلها واعلم أنه قد يقع في كل قسم من هذه الأقسام ما يظهر كونه منه وما يظهر كونه ليس منه وما يستوي الأمران فيه
أما الأول فوجوب القصاص بالمثقل إذ يظهر أنه من المصالح الضرورية في حفظ النفوس لأنه لو لم يجب به القصاص لفات المقصود من حفظ النفوس لأن من يريد قتل إنسان والحالة هذه يعدل عن المحدد إلى المثقل درءا للقصاص عن نفسه والمثقل ليست فيه زيادة مؤنة على المحدد حتى يقال لا يكثر به القتل بسبب تلك المؤنة كما يكثر في المحدد فعدم وجوب القصاص فيه لا يفضي إلى الهرج والمرج بل المثقل أسهل من المحدد لوجوده غالبا من غير عوض(15/102)
وأما الثاني فكإيجاب القصاص على أحد الوجهين عندنا بالثقل بغرز الإبرة في غير مقتل بحيث لا يعقب ألما وورما ظاهرا وكذا إبانه فلقة خفيفة من(15/103)
ص -59-…اللحم على ما ذكره إمام الحرمين ونظائر ذلك فإنه يظهر منه أنه ليس من قبيل رعاية المصالح الضرورية إذ لا يفضي ذلك إلى الهلاك إلا نادرا فاشبه السوط الخفيف
وأما الثالث فكإيجاب القصاص على الجماعة بقتل الواحد لاحتمال الحاقة بالمصالح الضرورية إذ لو لم نوجب ذلك لاستعان كل من أراد قتل إنسان بصديق يشاركه فتبطل فائدة شرعية القصاص واحتمال خروجه عنه لاحتياجه إلى مشاركة غيره والظاهر أن ذلك الغير لا يشاركه فلم تساو المصلحة هنا المصلحة في وجوب القصاص في المنفرد ولنزول هذا القسم عن الأول كان في المذهب قول استنبطه أبو حفص بن الوكيل من كلام الشافعي أن الجماعة لا يقتلون الواحد
وقول آخر عن القديم أن ولي الدم يقتل واحدا يختاره من الجماعة ويأخذ حصة الآخرين ولا يقتل الجميع ولا خلاف عندنا في وجوب القصاص بالمثقل ولتعاليه عن الثاني كان الخلاف فيه أضعف منه في الثاني وقد نجز القول في تقسم الحقيقي وأما الاقناعي فهو الذي يظن مناسبته في بادئ الرأي وإذا بحث عنه حق البحث وضح أنه غير مناسب مثل تعليل بعض أصحابنا تحريم بيع الخمر والميتة والعذرة بنجاستها وقياس الكلب والسرقين عليها قال لأن كونه نجسا يناسب إذلاله ومقابلته بالمال في البيع يناسب إعزازه والجمع بينهما متناقض فهذا وإن تخيلت مناسبته أولا فليس الأمر كذلك لأن المعنى بكونه نجسا منع الصلاة معه ولا مناسبة بين بيعه واستصحابه في الصلاة كذا ذكره ولقائل أن يقول لا نسلم أن المعنى بكونه نجسا منع الصلاة معه بل ذلك من جملة أحكام النجس وحينئذ فالتعليل بكون النجاسة تناسب الإذلال ليس بإقناعي نعم مثال هذا استدلال الحنفية على قولهم إذا باع عبدا من عبدين أو ثلاثة يصح غرر قليل تدعو الحاجة إليه فأشبه خيار الثلاث فان الرؤساء لا يحضرون السوق لاختيار المبيع فيشتري الوكيل واحدا من ثلاثة ويختار الموكل ما يريد فهذا وإن تخيلت مناسبته أولا فعند(15/104)
ص -60-…التأمل يظهر أنه غير مناسب لأنا نقول لا حاجة إلى ذلك لأنه يمكنه أن يشتري ثلاثة في ثلاثة عقود بشرط الخيار فيختار منها ما يريد
قال "والمناسبة تفيد العلمية إذا اعتبرها الشارع فيه كالسكر في الحرمة أو في جنسه كامتزاج النسبين في التقديم أو بالعكس كالمشقة المشتركة بين الحائض والمسافر في سقوط الصلاة أو جنسه في جنسه كإيجاب حد القذف على الشارب لكون الشرب مظنة للقذف والمظنة قد أقيمت مقام الظنون
هذا تقسيم ثان للمناسب من جهة شهاب الشرع لاعتباره وعدم اعتباره فنقول المناسب إما أن يعتبره الشارع أو لا الضرب الأول ما علم اعتبار الشارع له والمراد بالعلم هنا ما هو أعم من الظن وبالاعتبار إيراد الحكم على وفقه لا التنصيص عليه ولا الإيماء إليه وإلا لم تكن العلية مستفادة من المناسبة وهو أربعة أحوال لأنه إما أن يعتبر نوعه أو في جنسه أو جنسه في نوعه أو جنسه
الحالة الأولى أن يعتبر نوعه في نوعه ومثل له المصنف بالسكر في الحرمة أي أن حقيقة السكر إذا اقتضت حقيقة التحريم فإن النبيذ يلحق بها لأنه لا فارق بين العلتين وبين الحكمين إلا اختلاف المحلين واختلاف المحل لا يقتضي ظاهرا اختلاف الحاليين ومثاله أيضا قياس المثقل على الجارح في وجوب القصاص بجامع كونه قتلا عمدا محضا عدوانا وأنه عرف تأثير نوع كونه قتلا عمدا عدوانا في نوع الحكم الذي هو وجوب القصاص في النفس في المحدد
الحالة الثانية أن يعتبر نوعه في جنسه وإليه الإشارة بقوله أو في جنسه الإخوة من الأب والأم لما اقتضت التقدم في الميراث قيس عليها التقدم في النكاح وما أشبهه والأخوة من الأب والأم نوع واحد في الموضعين إلا أن ولاية النكاح ليست مثل ولاية الإرث ولكن بينهما مجانسة في الحقيقة وهذا القسم دون الأول لأن المفارقة بين المثلين بحسب اختلاف المحلين أقل من المقارن بين نوعين مختلفين
الحالة الثالثة أن يعتبر جنسه في نوعه وإليه الإشارة بقوله أو بالعكس(15/105)
ص -61-…إسقاط قضاء الصلاة عن الحائض إذا قيس على إسقاط الركعتين الساقطتين عن المسافر في الرباعية تعليلا بالمشقة فالمشقة جنس وإسقاط قضاء الصلاة نوع واحد يشتمل على صنفين إسقاط قضاء الكل وإسقاط قضاء البعض وقد ظهر تأثيرها في هذا النوع ضرورة تأثيرها في إسقاط قضاء الركعتين ولو فرض ورود النص بسقوط قضاء الصلاة على الحرائر الحيض وقسنا عليهن الإماء لكن ذلك من الحالة الأولى لظهور تأثير نوعه في نوع الحكم ومثال هذا القسم أيضا قولنا قليل النبيذ حرام وإن لم يسكر قياسا على قليل الخمر وتعليلنا قليل الخمر بأن ذلك يدعو إلى كثيره فهذا مناسب لم يظهر تأثير نوعه لكن ظهر تأثير جنسه إذ الخلوة لما كانت داعية إلى الزنا حرمها الشرع بتحريم الزنا وهذا القسم والذي قبله متقاربان لكن ذلك أولى لأن الإبهام في العلة أكثر محذورا من الإبهام في المعلول
الحالة الرابعة وإليها الإشارة بقوله أو جنسته في جنسه اعتبار جنس الوصف في جنس الحكم
مثل ما روي أن عليا رضي الله عنه أقام الشرب مقام القذف فقال أرأى أنه إذا سكر هذى وإذا هذى افترض وأوجب عليه حد القذف إقامة لمظنة الشيء مقامه قياسا على الخلوة فإنها لما كانت مظنة الوطئ أقيمت مقامه في الحرمة ولقائل أن يقول كان الوفا بإقامة المظنة مقام المظنون أن يوجب الحد بالخلوة ولا قائل به وبتفريغ مظنة القذف على مظنه الوطئ أن يقال بتحريم ما هو مظنة القذف(15/106)
كما هو الواقع وكما هو في الأصل ولا يوجب الحد فإن فيه زيادة في الفرع على الأصل الذي هو إلحاق الخلوة بالوطئ إذ لم يلحق به في غير الحرمة ثم اعلم أن للجنسية مراتب فأعم الأوصاف كونها حكما ثم ينقسم الحكم إلى أقسامه من تحريم ومن إيجاب وغيره والواجب إلى عبادة وغيرها والعبادة إلى صلاة وغيرها وتنقسم الصلاة إلى فرض ونفل فما ظهر تأثيره في الفرائض أخص مما ظهر في الصلاة وهكذا وكذا في جانب الأوصاف أعم أوصافه كونه وصفا يناط به الأحكام حتى تدخل فيه الأوصاف المناسبة وغيرها(15/107)
ص -62-…وأخص منه المناسب الضروري وأخص منه ما هو كذلك في حفظ النفوس وبالجملة فإنما يلتفت إلى الأوصاف بعد ظن التفات الشرع إليها وكل ما كان التفات الشرع إليه أكثر كان ظن كونه معتبرا أقوى وكل ما كان الوصف والحكم أخص كان ظن كون ذلك الوصف معتبرا في حق ذلك الحكم آكد فيكون مقدما على ما هو أعم منه
قال "لأن الاستقراء دل على أن الله تعالى شرع أحكامه لمصالح لعباده تفضيلا وإحسانا فحيث ثبت حكم وهناك وصف ولم يعلم غيره ظن كونه علة"
هذا دليل على أن ما تقدم من المناسب يفيد العلية وتقريره أنا استقرينا أحكام الشرع فوجدناها على وفق مصالح العباد وذلك من فضل الله تعالى وإحسانه لا بطريق الوجوب عليه خلافا للمعتزلة فحيث ثبت حكم وهناك وصف صالح لعلية ذلك الحكم ولم يوجد غيره يحصل ظن أن ذلك الوصف علة لذلك الحكم والعمل بالظن واجب وقد ادعى بعضهم الإجماع على أن الأحكام مشروعة لمصالح العباد قال وذلك إما بطريق الوجوب عند المعتزلة أو الإحسان عند الفقهاء من أهل السنة وهذه الدعوى باطلة لأن المتكلمين لم يقولوا بتعليل الأحكام بالمصالح لا بطريق الوجوب ولا الجواز وهو اللائق بأصولهم وكيف ينعقد الإجماع مع مخالفة جماهير المتكلمين والمسألة من مسائل علمهم وقد قالوا لا يجوز أن تعلل أفعال الله تعالى لأن من فعل فعلا لغرض كان حصوله بالنسبة إليه أولى سواء كان ذلك الغرض يعود إليه أم إلى الغير وإذا كان كذلك يكون ناقصا في نفسه مستكملا في غيره ويتعالى الله سبحانه عن ذلك
قال "وإن لم يعتبر فهو المناسب المرسل اعتبر مالك"
تقدم الكلام في المناسب إذا اعتبره الشارع وإن لم يعتبره فوراء ذلك حالتان
إحداهما أن لا يعلم أن الشارع اعتبره ولا الفاه وفيها كلام المصنف(15/108)
ص -63-…وذلك هو المناسب المرسل وقد قال به مالك بن أنس وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى مبسوطا في الكتاب الخامس فإن صاحب الكتاب هناك ذكره
والثانية ولم يذكرها المصنف أن يلغيه الشارع فهذا لا يجوز التعليل به باتفاق القياسيين ومثاله قول بعض العلماء لبعض الملوك لما جامع في نهار رمضان عليك صوم شهرين متتابعين فلما أنكر عليه حيث لم يأمره بالاعتاق مع اتساع ماله قال لو أمرته بذلك لسهل عليه واستحقر عتق رقبة في قضاء شهوته فكانت المصلحة عندي في إيجاب الصوم لينزجر فهذا قول باطل ومخالف لنص الكتاب بما اعتقده مصلحة وفتح هذا الباب يؤدي إلى تغيير جميع حدود الشرائع ونصوصه بسبب تغير الأحوال ثم إذا عرف ذلك من صنيع العلماء لم يحصل الثقة بقولهم للمستفتين ويظن الظان أن فتياهم بتحريف من جهتهم بالرأي فإن قلت قولكم آنفا هذه الحالة لم يذكرها المصنف مدخول لأنها داخلة في عموم قوله وإن لم يعتبر ولا يقال هي وإن دخلت في كلامه فلم يردها لعدم الاختلاف في بطلانها لأن ابن الحاجب قد جعل المرسل هو ما لم يعتبر سواء علم إلغاؤه أم لا ونقل بعضهم القول بالمرسل عن مالك فيعلم من ذلك إن كان مالكا يخالف فيما علم إلغاؤه أيضا قلت هذا التركيب غير صحيح لأن الذي نقل عن مالك أنه اعتبر المرسل لم يقل أن المرسل ما لم يعتبر سواء أعلم إلغاؤه كابن الحاجب صرح بوقوع الاتفاق على ما علم إلغاؤه
وقد قال إمام الحرمين في باب ترجيح الأقيسة من كتاب الترجيح ولا نرى التعليق عندنا بكل مصلحة ولم ير ذلك أحد من العلماء قال ومن ظن ذلك بمالك فقد أخطأ انتهى فإذا كان مالك لا يرى التعليق بكل مصلحة مع أن من جملة ذلك ما لم يعلم إلغاؤه فكيف يقول بما علم إلغاؤه
قال "والغريب ما أثره هو فيه ولم يؤثر جنسه كالطعم في الربا والملائم ما أثر جنسه في جنسه أيضا والمؤثر ما أثر جنسه فيه"(15/109)
هذا تقسيم للضرب الأول من المناسب وهو ما علم أن الشارع اعتبره وقد قسمه المصنف إلى غريب وملائم ومؤثر وعبارات المصنفين في التعبير عن(15/110)
ص -64-…هذه الأقسام مضطربة والأمر فيه قريب لكونه أمرا اصطلاحيا ونحن نأتي بما ذكره المصنف ونشير إلى قليل من كلام غيره فنقول الوصف إما أن يؤثر نوعه في نوع الحكم ولا يؤثر جنسه في جنسه أو يكون كذلك
والأول هو الغريب وهو معدول عند جماهير القياسيين وسمي بذلك لأنه لم يشهد غير أصله المعين باعتباره وذلك كالطعم في الربا فإن كل واحد من نوع الطعم يؤثر في نوع من الأحكام وهو حرمة الربا إذا بيع ذلك النوع بمثله كالبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر ولا يؤثر جنس هذه الأنواع وهو الطعم في جنس الربا وهو زيادة أحد العوضين على الآخر بدليل جواز بيع بعض الأنواع كالشعير مثلا ببعض آخر كالبر مثلا متفاضلا مع وجود الطعم فيهما
والثاني أن لا يكون كذلك فإما أن يكون أثر نوعه في نوع الحكم وجنسه أيضا في جنس الحكم أولا والأول الملائم وقد اتفق القياسيون على قبوله كالقتل العمد لعدوان في وجوب القصاص إذا أثر نوعه في وجوب القصاص الذي هو نوع من الحكم وكذلك جنسه وهي الجناية التي هي أعم من القتل حيث أثرت في جنس المؤاخذة وجوبا أو جوازا وذلك أعم من وجوب القصاص(15/111)
والثاني أن يكون جنسه مؤثرا في نوع الحكم لا غير كالمشقة المشتركة بين الحائض والمسافر في سقوط قضاء الصلاة على ما تقدم بيانه وكقياس الجمع بين الصلاتين في الحضر بعذر المطر على الجمع في السفر بجامع الحرج فإن جنس الحرج مؤثر في نوع الحكم وهو إباحة الجمع وكقياس من شذ من أصحابنا وجوز الجمع للمرض فهو المؤثر عند صاحب الكتاب وسماه غيره بالملائم وقال قوم المؤثر هو ما دل نص أو إجماع على عليته سواء كان مناسبا كما تقدم من الأمثلة أو غير مناسب كالمني لايجاب الغسل واللمس لنقض الوضوء وقالوا إنما يسمى بذلك لأنه ظهر تأثيره فلم يحتج مع ذلك إلى المناسبة وأما الإمام فإنه قال في تعريف الغريب والملائم ما قاله المصنف وقال في المؤثر عكس مقالته فجعله ما يكون الوصف فيه مؤثرا في جنس الحكم دون غيره كامتزاج النسبين مع تقديم الأخ من الأبوين وكالبلوغ(15/112)
ص -65-…فإنه يؤثر في رفع الحجر عن المال فيؤثر في رفعه عن النكاح دون الثيابة فإنها لا تؤثر في جنس هذا الحكم وهو رفع الحكم ثم قال الإمام إن ذلك إنما يتم بالمناسب أو السير
قال "مسألة المناسبة لا تبطل المعارضة لأن الفعل وإن تضمن ضررا أزيد من نفعة لا يصير نفعه غير نفع لكن يندفع مقتضاه"
إذا تضمن الوصف المشتمل على مصلحة مقتضية لمناسبته مفسدة هل يكون تضمنه لها موجبا لبطلان مناسبته فيه مذهبان
أحدهما واختاره صفي الدين الهندي وابن الحاجب نعم
والثاني وبه جزم في الكتاب تبعا للإمام أنها لا تبطل واحتج عليه بأن الفعل إذا تضمن مصلحة ومفسدة فإما أن تترجح مصلحته على مفسدته فالراجح لا يبطل بالمرجوح أو تكون مساوية لها فيلزم الترجيح من غير مرجح أو انقص منها فالفعل وإن تضمن ضررا أزيد من نفعه لا يصير نفعه بذلك التضمن غير نفع ولا يخرج عن حقيقته غاية الأمر أن مقتضاه لا يترتب عليه وذلك غير قادح في المناسبة لأن انتفاء المانع شرط في ترتب المقتضى والمانع هنا موجود وقد اقتصر المصنف على هذا القسم الثالث لأن المناسبة إذا لم تبطل فيه بمعارضة المفسدة الراجحة لم تبطل في غيره بطريق أولى
واعترض على هذا الدليل بأنا على تقدير كونها مساوية لها لا نسلم لزوم الترجيح من غير مرجح وهذا لأن إبطال مناسبة المصلحة بأعمال مناسبة المفسدة أولى لأن دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح ولقائل أن يقول تقديم درء المفاسد على جلب المصالح عند التعارض إنما هو فيما إذا تساويا من حيث المصلحة والمفسدة أما لو ترجح جانب المصلحة مثل إن عظم وقعها وجل خطبها على جانب المفسدة فإن حقر أمرها وقل فلا نسلم هنا أن درء هذه المفسدة أولى من جلب تلك المصلحة ولعل هذه الحالة هي المرادة بالمساواة في الدليل وإلا فعلى تقدير مطلق كونها مصلحة مع كونها مفسدة أين المساواة مع ترجح درء المفاسد واعترض عليه أيضا بأن العقلاء يعدون فعل ما فيه مفسدة(15/113)
ص -66-…مساوية للمصلحة عبثا وسفها فإن من سلك مسلكا يفوت درهما ويحصل آخر مثله وأقل منه عد عابثا وسفيها وأعلم أن كل من قال بتخصيص العلة يقول ببقاء المناسبتين للمصلحة والمفسدة لأن القول بإحالة انتفاء الحكم على تحقق المانع مع موجود المقتضي إما أن يكون مناسبته راجحة أو مساوية أو مرجوحة فإن كان الأول أو الثاني فقد لزم منه تحقيق مناسبة المقتضى المرجوحة أو المساوية وإلا فقد كان الحكم منتفيا لانتفاء المقتضى لا لوجود المانع فإن المقتضى إذا لم يكن مناسبا لم يكن مقتضيا فكان الانتفاء مضافا إليه لأن إضافة انتفاء الحكم إلى عدم المقتضى أولى من إضافة انتفائه إلى وجود المانع ولكنه خلف إذ التقديران انتفاء الحكم إنما هو لوجود المانع وإن كان الثالث فلأنه لا بد أن يكون المانع مناسبا لانتفاء الحكم إذ لو جاز انتفاء الحكم بما ليس بمناسب للانتفاء لجاز ثبوته بما ليس مناسب للثبوت مع عدم جهة أخرى للعلية ويلزم من ذلك القول ببقاء المناسبة المرجوحة مع المعارضة إذ الغرض أن مفسدة المانع مرجوحة وأما من لم يقل بتخصيص العلة فهم المختلفون في المسألة
قال الخامس الشبه القاضي المقارن للحكم إن ناسبه بالذات كالسكر للحرمة فهو المناسب أو بالتبع كالطهارة لاشتراط النية فهو الشبه وإن لم يناسب فهو الطرد كبناء القطرة للتطهير وقيل ما لم يناسب إن علم اعتبار جنسه فهو المناسب وإلا فالطرد
اسم الشبيه ينطلق على كل قياس فإن الفرع يلحق بالأصل بجامع يشبهه فيه فهو إذن تشبيه ولكن اصطلح على تسمية بعض الأقيسة به وقد اختلف في تعريف الشبه المصطلح على مقالات ذكر منها المصنف مقالتين(15/114)
الأولى مقالة القاضي أبي بكر وهو مقتضى إيراد إمام الحرمين في البرهان أن الوصف المقارن للحكم إما أن يناسبه بالذات فهو المناسب كالسكر للتحريم إذ السكر مناسب بالذات لتحريم المسكر أولا فإما أن يناسبه بالتبع أي بالالتزام فهو الشبه كالطهارة لاشتراط النية فإن الطهارة من حيث هي لا يناسب اشتراط النية لكن يناسبها من حيث أنها عبادة والعبادة مناسبة(15/115)
ص -67-…لاشتراط النية أو لا يناسبه مطلقا فهو الطرد وهو حكم لا يعضده معنى ولا شبه كقول بعضهم الخل مايع لا تبنى القنطرة على جنسه فلا تزال النجاسة به كالدهن فكأنه علل إزالة النجاسة بالماء بأنه تبني القنطرة على جنسه واحترز عن الماء القليل وإن كان لا تبنى القنطرة عليه لأنه يبنى على جنسه فهذه علة مطردة لا نقض عليها وليس فيها خصلة سوى الاطراد ويعلم أنها لا تناسب الحكم ولا تستلزم ما يناسبه فإنا نعلم أن الماء جعل مزيلا للنجاسة بخاصة وعلل وأسباب يعلمها الله تعالى وإن لم نعلمها ويعلم أن بناء القنطرة مما لا يوهم الاشتمال عليها ولا يناسبها وقد علم من هذا التقسيم أن الشبه هو الوصف المقارن للحكم المناسب له بالتبغ دون الذات وإن شئت قلت المستلزم لما يناسبه وهو الذي نقلوه عن القاضي كما عرفت والذي رأيته في مختصر التقريب والإرشاد من كلامه أن قياس الشبه إلحاق فرع بأصل لكثرة أشباهه للأصل في الأوصاف من غير أن يعتقد أن الأوصاف التي شابه الفرع فيها الأصل علة حكم الأصل
"المقالة الثانية" أن الوصف الذي لا يناسب الحكم إن علم اعتبار جنسه القريب في الجنس القريب لذلك الحكم فهو الشبه لأنه من حيث كونه غير مناسب يظن عدم اعتباره ومن حيث أنه عرف تأثير جنسه القريب في الجنس القريب للحكم مع أن غيره من الأوصاف ليس كذلك لظن أنه أولى بالاعتبار وتردد بين أن يكن معتبرا أو لا يكون وإن لم يعلم اعتبار جنسه القريب في الجنس للحكم فهو الطرد وعلم من هذا التقسيم أن الشبه هو الوصف الذي لا يكون مناسبا للحكم المعلوم اعتبار جنسه القريب في الجنس القريب للحكم(15/116)
ومثال هذا إيجاب المهر بالخلوة على القديم فإن الخلوة لا تناسب وجوب المهر لأن وجوبه في مقابلة الوطىء إلا أن جنس هذا الوصف وهو كون الخلوة مظنة للوطىء معتبر في جنس الوجوب وهو الحكم بتحريم الخلوة بالأجنبية واعلم أن تعبير المصنف عن ما ليس بمناسب ولا مستلزم للمناسب بالطرد موافق لعبارة الإمام وأتباعه ومن قبلهم إمام الحرمين والغزالي وغيرهما(15/117)
ص -68-…وعبر عنه الآمدي بالطردي بزيادة الياء وهو أحسن فإن الطرد عند المصنف من جملة طرق العلة كما سيأتي إن شاء الله تعالى
قال "واعتبر الشافعي رضي الله عنه المشابهة في الحكم وابن علية في الصورة والإمام ما يظن استلزامه ولم يعتبر القاضي مطلقا"
المختار أن قياس الشبه حجة والخلاف فيه مع القاضي أبي بكر والصرفي وأبي إسحاق المروزي وأبي إسحاق الشيرازي فإنهم لم يعتبروه وأنكروا حجيته ولكن النقل عن الصيرفي وأبي إسحاق المروزي في مختصر التقريب والإرشاد أه هو عند القاضي صالح لأن يرجح به كما ذكر في باب ترجيح العلل من التقريب ثم القائلون بأنه حجة اختلفوا في أنه فيماذا يعتبر فاعتبر الشافعي رضي الله عنه المشابهة في الحكم ولهذا الحق العبد المقتول بسائر المملوكات في لزوم قيمته على القائل بجامع إن كل واحد منهما يباع ويشتري ومن أمثلته أن نقول في الترتيب في الوضوء عبادة يبطلها الحدث فكان الترتيب فيها مستحقا أصله الصلاة فالمشابه في الحكم الذي هو البطلان بالحدث ولا تعلق له بالترتيب وإنما هو مجرد شبه ومنها الأخ لا يستحق النفقة على أخيه لأنه لا يحرم منكوحة
أحدهما على الآخر فلا يستحق النفقة كقرابة بني العم واعتبر ابن علية المشابهة في الصور دون الحكم ومقتضى ذلك قتل الحر بالعبد وهذا ما نقله إمام الحرمين في البرهان عن أبي حنيفة في الحاقة التشهد الثاني بالأول في عدم الوجوب حيث قال تشهد فلا يجب كالتشهد الأول فكذلك قوله يقتل الحر بعبد الغير وعن أحمد أيضا في الحاقة الجلوس الأول بالثاني في الوجوب حيث قال أحد الجلوسين في الصلاة فيجب كالجلوس الأخير(15/118)
وقال الإمام المعتبر حصول المشابهة فيما يظن أنه مستلزم لعلة الحكم أو علة للحكم فمتى كان كذلك صح القياس سواء كانت المشابهة في الصورة أو المعنى واعلم أن صاحب الكتاب لم يصرح بذكر قياس علية الأشباه وهو أن يكون الفرع مترددا بين أصلين لمشابهته لهما فيلحق بأحدهما لمشابهته في أكبر(15/119)
ص -69-…صفات مناط الحكم ولعله ظنه قسما من قياس الشبه أو هو هو وهو ظن صحيح فالناس فيه على هذين الاصطلاحين ولم يقل أحد أنه قسم للشبه بل أما قسم منه أو هو هو وحينئذ يكون قضية كلام المصنف بقوله ولم يعتبر القاضي مطلقا أن الخلاف جار فيه
وهذا الذي اقتضاه كلام المؤلف صحيح واقتضاه كلام غيره وقد صرح به القاضي في مختصر التقريب والإرشاد لإمام الحرمين والذي تحصل لي من كلامه في هذا الكتاب أن في قياس الشبه مذاهب أحدها بطلانه والثاني اعتباره ثم قال إن ذلك يؤثر عن الشافعي رضي الله عنه ولا يكاد يصح عنه مع علو رتبته في الأصول وهذا الذي قاله القاضي قاله الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع وقال كلام الشافعي متأول محمول على قياس العلة فإنه ترجح بكثرة الأشباه ويجوز ترجيح العلل بكثرة الأشباه ثم قال القاضي وأجمع القائلون بقياس الشبه على أنه لا يصار إليه مع إمكان المصير إلى قياس العلة والثالث أنه لا يعمل بالشبه إلا بشرطين
أحدهما ما ذكرناه من عدم إمكان المصير إلى قياس العلة والثاني أن يجتذب الفرع أصلان فيلحق بأحدهما بعلية الأشباه قال ومما اختلفوا فيه أن قال بعضهم الأشباه الحكيمة أولى ثم الأشباه الراجعة إلى الصفة وذهب آخرون إلى أنه لا فرق بينهما وهذا مذهبان لم يتقدم لهما حكاية لأن الذي تقدم أن الشافعي يعتبر الحكم وغيره الصورة والإمام ما يظن استلزامه وهذان القولان متفقان على اعتبار الحكم والصفة وإنما الخلاف عند القائلين بهما في أن الحكم أولى وأنهما مستويان ولهما يحصل في قياس الشبه سبعة مذاهب(15/120)
أحدهما بطلانه والثاني اعتباره في الحكم ثم الصورة والثالث اعتباره فيها على حد سواء والرابع اعتباره في الحكم فقط والخامس اعتباره في الصورة فقط والسادس فيما يظن استلزامه للعلة والسابع اعتبار قياس عليه الأشباه دون غيره ورأيت نص الشافعي رضي الله عنه عليه في الأم في باب اجتهاد الحاكم وهو باب الأفضية وقيل باب التثبيت في الحكم وغيره قال رضي(15/121)
ص -70-…الله عنه ما نصه والقياس قياسان أحدهما يكون في معنى فذاك الذي لا يحل لأحد خلافه ثم قياس أن يشبه الشيء بالشيء من الأصل والشيء من الأصل غيره فيشبهه هذا بهذا الأصل ويشبه غيره قال الشافعي وموضع الصواب فيه عندنا والله أعلم أن ينظر فأيهما كان أولى بشبهة صيره إليه أن أشتبه أحدهما في خصلتين والآخر في خصلة ألحقه بالذي هو أشبه في خصلتين انتهى هذا لفظه بحروفه وهذا الباب في مجلد ثامن من الأم من أجزاء تسعة واعلم أن القاضي بين قياس الشبه على أن المصيب واحد من المجتهدين أو كل مجتهد مصيب وقال إن كنت تذب عن القول بأن المصيب واحد من المجتهدين(15/122)
فالأولى بك أبطال قياس الشبه وإن قلنا بتصويبهم فلو غلب على ظن المجتهد حكم من قضية اعتبار الأشباه فهو مأمور به قطعا عند الله تعالى قال إمام الحرمين وأول ما يعني القاضي إلى أن رد قياس الشبه والقول به لا يبلغ إلى القطع وهو من مسائل الاحتمال قال وهذا فيه نظر عندنا فإن الأليق بما مهده من الأصول إن يقال كلما آل إلى إثبات دليل من الأدلة فيطلب فيه القطع قال على إن ما قاله من أن المجتهد مأمور بما غلب على ظنه سديد فيما رامه فأنار بما نقول أن المجتهد المتمسك بضرب من القياس إذا غلب على ظنه شيء وفي الحادثة نص لم يبلغه فهو مأمور قطعا بما أدى إليه اجتهاده وإن كان القياس في مخالفة النص مردود انتهى قلت وحاصل هذا أن إمام الحرمين لم يوافق القاضي على أن المسألة ظنية ووافقه على البناء على مسألة تصويب المجتهدين على تقدير ثبوت كونها ظنية وفي هذا البناء على هذا التقدير أيضا نظر فإن قياس الشبه إن كان باطلا فكيف يغلب على ظن المجتهد حكم مستند إليه مع كونه عنده باطلا وكيف يجوز له العمل بما هو مبني على باطل وإن فرض حصول ظن مستند إليه فلا عبرة به لبنائه على فاسد وإن كان قياس الشبه صحيحا فهو معمول به كسائر الأدلة من غير تعلق بتصويب المجتهدين وقول إمام الحرمين إذا غلب على ظنه شيء وفي الحادثة نص لم يبلغه فهو مأمور به وإن كان القياس في مقابلة النص مردودا من غير ما نحن فيه لأن الذي غلب على ظنه حكم مستند إلى اجتهاده ولم يبلغه النص فغلب على(15/123)
ص -71-…ظنه أن الاجتهاد الذي جاء به دليل يجب عليه العمل به بخلاف قياس الشبه فإنه يظن بطلانه فكيف يستند إليه أو يبني اجتهاده عليه
قال "لنا أنه يفيد ظن وجود العلية فيثبت الحكم قالوا ما ليس بمناسب فهو مردود بالإجماع قلنا ممنوع"
واحتج على أن قياس الشبه حجة بأنه يفيد ظن وجود العلية إما على تفسير المنقول عن القاضي فلأنه مستلزم للمناسب وإما على الثاني فلأنه لما أثر جنس الوصف في جنس الحكم دون غيره من الأوصاف أفاد ظن إسناد الحكم إليه وإذا ثبت كونه مفيدا لظن وجب العمل به واحتج القاضي بأن الشبه ليس مناسبا وغير المناسب مردود بالإجماع فلا يعتبر وأجاب بالمنع فإن ما ليس بمناسب ينقسم إلى الشبه وغيره والشبه غير مردود بالإجماع وهو محل النزاع وذكر القاضي من وجوه الاحتجاج للقائلين ببطلان الشبه إن الأشباه التي الحق الفرع بها إن كانت علة في الأصل فذاك إذا كان قياس علة لا شبه وإن لم يكن فما وجه إلحاق الفرع بأشباه لم يجب لها في الأصل ولو ساغ ذلك لساغ أن يجمع بينهما من غير وصف أصلا
"فروع" الأول الظهار لفظ محرم وهو كلمة زور فيدور بين القذف والطلاق ويبنى على هذا مسائل منها لو قال عينك طالق طلقت كيدك وجسمك وجميع الأجزاء ولو قال لرجل زنت عينك وما أشبه ذلك من الأعضاء دون الفرج فإنه في هذا الباب صريح فالمذهب أنه كناية وقيل صريح أيضا ولو قال لامرأته أنت علي كعين أمي فإن أراد الكرامة فليس بظهار وأن أراد الظهار فظهار على المذهب وإن أطلق فعلى أيهما يحمل وجهان أرجحهما أنه يحمل على الإكرام ويتجه أن يقال إنما جرى الوجهان هنا في حالة الإطلاق لتردد الظهار بين مشابهة الطلاق والقذف فقضية مشابهته للطلاق أن يحمل الإطلاق هنا على الظهار ومقتضى مشابهته للقذف أن يحمل على الإكرام ولا يجعل صريحا في الظهار
والثاني زكاة الفطر تتردد بين المؤنة والقربة(15/124)
ص -72-…الثالث الكفارة تردد بين العبادة والعقوبة
الرابع الحوالة تردد بين الاستيفاء والاعتياض فإذا تناقض حكم الشائبتين ولم يمكن إجلاء الواقعة عن أحد الحكمين وظهر دليل ترجيح إحدى الشائبتين ولم يظهر معنى مناسب في أحد الطرفين ينبغي أن يحكم بالأغلب الأشبه وأما ما يتفرع على تردد هذه الأبواب بين معانيها فكثير لا نطيل بذكره وفي كتابنا الأشباه والنظائر تممه الله تعالى منه ما لا مزيد على حسنه ولا مطمع للطالب في الإحاطة بأكثر منه
الخامس اللعان يشبه اليمين والشهادة ولفظهما فيه وهو مركب منهما فليس يمينا محضا فإن يمين المدعي لا يقبل والملاعن مدع وليس بشهادة محضة فإن الشاهد يشهد لغيره وهو إنما شهد لغيره وهو إنما يشهد لنفسه وينبني على ذلك لعان الذمي والرقيق فإنهما ليسا من أهل الشهادة وأن صحت منهما اليمين وقال الأصحاب بصحة لعانهما لأن المعروف عندهم أن اللعان يمين مؤكدة بلفظ الشهادة وقيل هو يمين فيها شوب الشهادة
السادس الجنين يشبه بعض أعضاء الأم في الحكم لأنه يتبعها في البيع المطلق والهبة ونحوها ويشبه إنسانا منفردا في الصورة لأنه مستقل بالحياة والموت فإذا قال بعتك هذه الجارية إلا حملها فعلى الأول يبطل البيع كاستثناء عضو من الأعضاء وعلى الثاني يصح كما لو قال بعتك هذه الصيعان إلا هذا الصاع والمذهب فيما إذا استثنى حملها أنه لا يصح البيع وقيل وجهان
قال السادس الدوران وهو أن يحدث الحكم بحدوث وصف وينعدم بعدمه وهو يفيد ظنا وقيل "قطعا وقيل لا ظنا ولا قطعا"
عرف الدوران بحدوث الحكم بحدوث الوصف وانعدامه بعدمه فذلك الوصف يسمى مدارا والحكم دائرا والمراد بالحكم تعلقه عند من يجعل التعلق حادثا ومنهم المصنف ثم قول المصنف يحدث بحدوثه وينعدم بعدمه عبارة فيها نظر لأن ثبوت الحكم بثبوته هو كونه علة فكيف تستدل به على علية الوصف لثبوت الحكم وقد سبق الغزالي إلى هذه العبارة(15/125)
ص -73-…وقال هذا هو الدوران الصحيح وأما ثبوته عند ثبوته وعدمه عند عدمه ففاسد واعترض عليه لما ذكرناه والعبارة المحررة ما زعم الغزالي فسادها ثم الدوران يقع على وجهين
أحدهما أن يقع في صورة واحد كالتحريم مع السكر في العصير فإنه لما لم يكن مسكرا لم يكن حراما فلما حدث السكر فيه وجدت الحرمة ثم لما زال السكر بصيرورته خلا صار حلالا فيدل على أن العلة في تحريمه السكر ومثل الحب يجري فيه الربا وهو مأكول فإذا زرع صار قصيلا غير مطعوم لا ربا فيه فإذا عقد الحب فيه صار مطعوما وعاد الربا فيه فيدل على أن علية الربا فيه الطعم
والثاني أن يوجد في صورتين وهو كوجوب الزكاة مع ملك النصاب تام في صورة أحد النقدين وعدمه مع عدم شيء منها كما في ثياب البذلة والمهنة حيث لا يجب فيها الزكاة لفقد شيء مما ذكرناه واختلف الأصوليون في إفادة الدوران العلية فذهب الجمهور كإمام الحرمين وغيره ونقله عن القاضي أبي بكر بعضهم وليس بصحيح عنه إلى إفادته ظن العلية بشرط عدم المزاحم وهو اختيار الجدليين والإمام وأتباعه ومنهم المصنف فذهب بعض المعتزلة إلى أنه يفيد يقين العلة وذهب الباقون إلى أنه لا يفيد ظن العلية ولا يقينها وهو اختيار الآمدي
قال إمام الحرمين وذهب القاضي أبو الطيب الطبري إلى أنه أعلى المسالك المظنونة وكاد يدعي افضاه إلى القطع
قال لنا أن الحادث له علة وغير المدار ليس بعلة لأنه إن وجد قبله فليس بعلة للتخلف وإلا فالأصل عدمه وأيضا علية بعض المدارات مع التخلف في شيء من الصور لا تجتمع مع عدم علية بعضها لأن ماهية الدوران إما أن يدل على علية المدار فيلزم عليه هذه المدارات أو يدل فيلزم عدم علية تلك للتخلف السالم عن المعارض
والأول ثابت فانتفى الثاني وعورض في مثله وأجيب بأن المدلول قد لا يثبت لمعارض(15/126)
ص -74-…استدل على علية الدوران بوجهين
أحدهما أن الحكم لا بد له من علة على ما تقرر فتلك العلة إما المدار أو غيره
الثاني باطل لأن ذلك الغير إن كان موجودا قبل الحكم لزم تخلف الحكم عن العلة وهو خلاف الأصل وإن لم يكن موجودا قبله لم يكن علة لذلك الحكم إذ ذاك والأصل بقاؤه على ما كان عليه عدم من عليته فيحصل ظن عدم عليته باستصحاب هذا الأصل وبحصول هذا الظن يحصل ظن علية المدار إذ ليس غيره فإن قلت كما دار الحكم مع ذلك الوصف وجودا وعدما كذلك دار مع تعينه وحصوله في ذلك المحل فيحصل المزاحم حينئذ وتمتنع الإضافة إلى الوصف أو يقال مجموع الوصف مع التعين والحصول في المحل عملا بالدورانين وحينئذ لا يجوز تعديته عن ذلك المحل قلت التعين والحصول في المحل أمران عدميان إذ لو كانا وجوديين لزم أن يكون للتعين تعين آخر وللحصول في المحل حصول آخر فيتسلل ضرورة مشاركة التعيين حينئذ لسائر التعيينات في كونه تعينا وامتيازه عنها بخصوصية وكذا الحصول في المحل فإنه حينئذ يكون له حصول في المحل إذ ليس هو بجوهر قائم بنفسه وهو معلوم بالضرورة فيكون له حصول في المحل فثبت أنهما أمران عدميان حينئذ لا يجوز أن يكونا جزئي علة ولا مزاحما لها كذا ذكر السؤال والجواب ولك أن تقول المختار عند صاحب الكتاب كما صرح به في الطوالع أن التعين أمر وجودي فالسؤال وارد عليه وقد استدل على كونه وجوديا أنه جزء من المعين الموجود إذ الموجود ليس هو الماهية الكلية بل المعينة وكلما هو جزء الموجود فهو موجود ولقائل أن يقول إن أريد بالمعين معروض التعين فيمنع أن التعين جزؤه وإن كان المراد به المركب من العارض والمعروض فيمنع أنه موجود في الخارج على أن هذا العلم ليس موضع البسط في مسألة التعين واعترض النقشواني على هذا الدليل بأوجه أخر منه أنه لا يختص بصورة الدوران بل قيل ابتداء هذا الحكم لا بد له من علة حادثة وما كان موجودا قبل هذا الحكم لا يصلح علة له للتخلف(15/127)
المذكور فوضح أن العلة التي هي غير هذا الوصف لم تكن موجودة قبل هذا الحكم فوجب بقاؤها على العدم بالاستصحاب فتعين كون هذا الوصف(15/128)
ص -75-…علة فهذه طريقة مستقلة لا يحتاج إلى الدوران ومنها أنه يمكن معارضته بأن يقال ليس هذا الوصف علة لأنه إن وجد قبل هذا الحكم لا يكون علة للتخلف وإن لم يوجد قبله لا يكون علة أيضا لأن الأصل استمراره على العدم
وهما اعتراضان صحيحان وأجاب عنهما بعض الشراح المحصول بما لا أرتضيه
الوجه الثاني مما يدل على علية الدوران أن علية بعض المدارات للحكم الدائر عنه في شيء من صور الدوران لا يجتمع مع عدم علية بعض المدارات للدائر ويلزم من انتفاء ثبوت علية جميع المدارات للدائر وذلك لأن ماهية الدوران من حيث هي إما أن تدل على علية المدار للدائر
أولا فإن دلت لزم علية المدارات التي فرضنا عدم عليتها الوجود ماهية الدوران فيها فيكون جميع المدارات علة لاشتراكها في وجود ماهية الدوران وإن لم تدل لزم علية البعض الذي فرضنا عليته وتخلف الدائر عنه في صورة من صور الوجود المقتضى لعدم العلية وهو تخلف الدائر عن المدار مع سلامته عن المعارض الذي هو دلالة ماهية الدوران على العلية إذ الغرض ماهية الدوران لا يدل على العلية فلا يعارض وهذا بخلاف ما لو دلت ماهية الدوران على العلية إذا كانت تعارض التخلف لاقتضائه عدم العلية فوضح أن علية بعض المدارات مع التخلف لا يجتمع مع عدم علية بعضها
لكن الأول وهو علية بعض المدارات مع التخلف في صورة من صوره ثابت فإن تناول السقمونيا علة للإسهال مع تخلفه عنه بالنسبة إلى بعض الأشخاص في بعض الأوقات فينتفي الثاني وهو عدم علية بعض المدارات للدائر وهو المطلوب وإنما قيد المصنف علية بعض المدارات بالتخلف المذكور ليحتج به على عدم علية تلك على التقدير الثاني وهو عدم دلالة ماهية الدوران على العلية قوله وعورض أي عورض هذا الدليل الثاني بمثله وتقرير المعارضة أن يقال علية بعض المدارات مع التخلف في شيء من صوره مع عدم علية البعض مما لا يجتمعان(15/129)
ص -76-…لأن ماهية الدوران إن دلت على العلية لزم علية ذلك البعض المفروض عدم عليته كما تقدم وإن لم يدل لزم علية البعض المفروض كونه علة كما عرفت
لكن الثاني ثابت وهو عدم علية البعض لأن الأبوة مع النبوة والعلم مع المعلوم والجزء الأخير من العلة المركبة مع المعلول ونظائرها من الأشياء المتلازمة تدور وجودا أو عدما ولا علة ولا معلوم وإذا ثبت الثاني انتفى الأول وهو علية البعض ويلزم منه عدم علية جميع المدارات للتنافي بين علية البعض وعدم علية البعض الآخر وذلك هو المطلوب
وأجاب عن هذه المعارضة بأن غاية ما يلزم مما ادعيناه من علية جميع المدارات للدائر مع التخلف في بعض الصور أن يوجد الدليل بدون المدلول وهذا أمر لا بدع فيه فإن المدلول قد يتخلف لمانع وأما ما قلتموه من عدم علية المدارات فيلزم منه أن يوجد المدلول بدون الدليل وهو محال
قال "قيل الطرد لا يؤثر والعكس لم يعتبر قلنا يكون للمجموع ما ليس لأجزائه"
هذه شبهة لمن منع الدوران وتقريرها أنه مركب من الطرد وهو ترتب وجود الشيء على وجود غيره والعكس وهو ترتب عدمه على عدم غيره وكل منهما لا يدل على العلية أما الطرد فلأن حاصله يرجع إلى سلامة الوصف عن النقص وسلامته عن مفسد واحد لا يوجب سلامته عن كل مفسد ولو سلم عن كل مفسد لم يلزم من ذلك صحته فإنه كما يعتبر عدم المفسد يعتبر وجود المقتضى للعلية والطرد من حيث هو طرد لا يشعر بالعلية بل بعدم النقص فلا يفيد العلية والعكس غير معتبر في العلل الشرعية فمجموعها أيضا كذلك
وأجاب بأنه لا يلزم من عدم دلالة كل واحد منهما على الانفراد عدم دلالة المجموع فإنه يجوز أن يكون للهيئة الاجتماعية ما ليس لكل واحد من الأجزاء ألا ترى أن كل واحد من أجزاء العلة ليس بعلة مع أن المجموع علة
وهذا ما أجاب به إمام الحرمين في البرهان بعد أن ذكر أن الشبهة المذكورة(15/130)
ص -77-…من فن التشدق والتفيهق الذي يستدل به من لا يعد من الراسخين وقال من زعم أن مجموعها لا يغلب على الظن انتصاب ما اطرد وانعكس علما فقد انتسب إلى العناد
قال "السابع التقسيم الحاصر كقولنا ولاية الاجبار إما أن لا تعلل بالبكارة أو الصغر أو غيرهما والكل باطل سوى الثاني والأول والرابع للإجماع والثالث لقوله صلى الله عليه وسلم :"الثيب أحق بنفسها1" والبر غير الحاصر مثل أن يقول علة حرمة الربى إما الطعم أو الكيل أو القوت فإن قيل لا علة لها أو العلة غيرها قلنا قد بينا أن الغالب على الأحكام تعليلها والأصل عدم غيرها" من طرق العلة التقسيم الحاصر والتقسيم الذي ليس بحاصر ويعبر عنهما بالسبر والتقسيم لأن الناظر في العلة يقسم الصفات ويختبر صلاحية كل واحد منها للعلية والسبر في اللغة الاختبار ثم التقسيم إما أن يكون دائرا بين النفي والإثبات وهو التقسيم المنحصر أو لا يكون كذلك وهو التقسيم المنتشر وإليه أشار المصنف بقوله والسبر غير الحاصر أما الأول فهو لإفادته العلم حجة في العمليات والعمليات من غير اختلاف إن كان الدليل الدال على نفي علته ما عدا الوصف المعين فيه قطعيا أيضا وإلا فهو والقسم الثاني حجة في العمليات لإفادته الظن دون العلميات وطريق إيراد النوع الأول أن يقال الحكم إما أن يكون معللا بعلة أولا والثاني باطل فتعين الأول وتلك العلة أما الوصف الفلاني أو غيره والثاني باطل ونذكر على ذلك دليلا قاطعا وحصول هذا القسم في الشرعيات عسر جدا ومثل المصنف للتقسيم الحاضر في الشرعيات بقولنا ولاية الإجبار على النكاح إما أن تعلل أو لا تعلل وحينئذ فإما أن تكون العلة البكارة أو الصغر أو غيرهما وما عدا القسم الثاني من الأقسام باطل أما الأول وهو عدم تعليلها مطلقا والرابع وهو تعليلها بغير البكارة والصغر فبالإجماع
وأما الثالث فلأنها لو عللت بالصغر لثبت على الثيب الصغيرة لوجود الصغر(15/131)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه مسلم كتاب النكاح باب إستئذان الثيب ‘كتاب النكاح باب الإستثمار‘والترمذي ‘باب خطبة النكاح "تحفة الأحوذي4/244" والنسائي كتاب النكاح ‘باب إستئذان البكر في نفسها "6/96".(15/132)
ص -78-…فيها وهو باطل لقوله صلى الله عليه وسلم :"الثيب أحق بنفسها" أخرجه مسلم ولفظه الأيم ومثل للتقسيم المنتشر وهو الذي ليس بحاصر بقولنا علة حرمة الربا فيما عدا النقدين من الربويات إما الطعم أو الكيل أو القوت والثاني والثالث باطلان فتعين أن تكون العلة الطعم والدليل على بطلان الثاني والثالث أنه علية السلم علق الحكم باسم الطعام في قوله الطعام بالطعام وهو مشتق من الطعم والحكم المعلق بالاسم المشتق معلل بما منه الاشتقاق وهذا دليل على أن غير الطعم ليس بعلة وهو صالح لأن يكون دليلا أصليا على علية الطعم من غير نظر إلى طريقة البر والتقسيم فإن قيل في الابراد على الاستدلال بالتقسيم المنتشر لا نسلم أن تحريم الربا معلل ولئن سلمنا أنه معلل فلا نسلم انحصار العلة فيما ذكرتم لجواز أن تكون العلة غير هذه الثلاثة
وأجاب المصنف عن الأول بأنا بينا فيما سبق أن الغالب أحكام الله تعالى معللة بمصالح العباد تفضلا منه وإحسانا فيلحق هذا الحكم بالغالب وعن الثاني بأن الأصل عدم علة آخرى غير الأمور المذكورة واستصحاب هذا الأصل كاف في حصول الظن بعلية أحدها وقد صرح إمام الحرمين في كتاب الأساليب بأن البر والتقسيم لا يحتج به إلا أن قام الدليل على أن الحكم معلل وأن العلة منحصرة في أحد أوصاف معينة ومتحدة ثم يبطل ما عدا الوصف المدعى علة فيثبت حينئذ علية ذلك الوصف وهذا هو المختار
قال "الثامن الطرد وهو أن يثبت معه الحكم فيما عدا التنازع فيه فيثبت فيه إلحاقا للفرد بالأعم الأغلب وقد قيل يكفي مقارنته في صوره وهو ضعيف"
الطرد هو الحكم الذي لم يعلم كونه مناسبا ولا مستلزما للمناسب وإذا كان الحكم حاصلا مع الوصف في جميع الصور المغايرة لمحل النزاع في حصوله فيه هذا هو المراد من الإطراد على قول الأكثر واختلف من قال بحجية الدوران في حجية الطرد فذهب المعتبرون من النظار إلى أن التمسك به باطل(15/133)
قال إمام الحرمين وتناهى القاضي في التغليظ على من يعتقد ربط أحكام الله تعالى به وذهب طوائف من أصحاب أبي حنيفة إلى أنه حجة وإليه مال(15/134)
ص -79-…الإمام وجزم به المصنف وقال الكرخي هو مقبول جدلا ولا يسوغ التعويل عليه عملا ولا الفتوى به وبالغ قوم وقالوا يكفي في علية الوصف الطردي أن يكون الحكم مقارنا له ولو في صورة واحدة قال صاحب الكتاب وهو ضعيف وسنبين وجه ذلك إن شاء الله تعالى
واحتج المصنف على أنه حجة بأن الحكم إذا ثبت فيما عدا صورة النزاع مع الوصف ووجه الوصف في صورة النزاع لزم ثبوت الحكم معه فيه إلحاقا للمفرد بالأعم الأغلب فإن الاستقراء يدل على إلحاق لنادر بالغالب وهذا معتصم ضعيف فإنه إن أريد بالاستقراء إلحاق كل نادر بالغالب في جميع الأشياء فهو ممنوع لما يرد عليه من النقوض الكثيرة ولأن من جملة تلك الصور محل النزاع ولو ثبت هذا الحكم في محل النزاع لاستغنى عن هذه المقدمة وإن أريد به أنه في بعض الصور كذلك فلا يلزم من تسليمه شيء وإن أريد به أنه كذلك فيما عدا محل النزاع فيصعب إثباته لما ذكرناه من النقوض ولو سلم فلقائل أن يقول لم يلزم فيما نحن فيه إلحاق النادر بالغالب وهل هذا إلا إثبات الطرد بالطرد ولو سلمنا أنا إذا رأينا حكما في أغلب صور وصف يغلب على ظننا أنه في جميع صور الوصف كذلك
فلقائل أن يقول المعلوم فيما نحن فيه في أغلب الوصف إنما هو مقارنة الحكم مع الوصف لا كون الحكم معللا بذلك الوصف فإن هذا غير معلوم لي ولا في صورة واحدة ولا يلزم من علية الاقتران كونه علة للحكم ولو لزم ذلك لما كان الوصف بكونه علة للحكم أولى من الحكم بأن يكون الوصف(15/135)
واحتج من أبطله بوجوه أوجهها أن أقيسة المعاني لم تقتض الأحكام لأنفسها وإنما تعلق بها الصحابة إذا عدموا متعلقا من الكتاب والسنة فإجماعهم على ذلك ومستند العمل بالأقيسة الصحيحة كما سبق والذي تحقق لنا من مسالكهم النظر إلى المصالح والمراشد والاستحثاث على اعتناق محاسن الشرع فأما الأحكام بطرد لا يناسب الحكم ولا يثير شبها فلم يثبت عنهم الاعتماد عليه بل نظرهم إلى ما ذكرناه دليل على أنهم كانوا يأبونه ولا يرونه ولو كان الطرد(15/136)
ص -80-…مناطا لأحكام الله تعالى لما أهملوه ولا عطلوه ولسنا نطيل بالرد على القائل بالطرد ففي هذا الدليل مقنع
وقد قال القاضي والأستاذ من طرد عن غيره فهو جاهل غبي ومن مارس قواعد الشرع واستجاز الطرد فهي هازئ بالشريعة مستهين بضبطها مشير إلى أن الأمر إلى القائل كيف أراد وإذا وضح بطلان القول بالطرد بأن فساد قول من يكفي ولو في صورة واحدة بطريق الأول
وقد قال المصنف إنه ضعيف مع قوله بالطرد وهذا صحيح لأن القائل بالطرد يستند إلى ضرب من الظن وهو حصول التكرار والصورة الواحدة لا تكرار فيها فمن أين الظن وأما الكرخي فقد ناقض لقوله كما قال إمام الحرمين فإن المناظرة مباحثة عن مأخذ أحكام الشريعة والجدال استياقها على أحسن ترتيب وأقربه إلى المقصود وليس في أبواب الجدل ما يسوغ استعماله في النظر مع الاعتراف بأنه لا يصح أن يكون مناطا لحكم وغاية المعترض أن يثبت ذلك فيما تمسك به خصمه فإن اعترف به فقد كفى المؤونة وعاد الكلام ونكدا وعنادا وأضحى لجاجا وخرج عن كونه حجاجا
قال "التاسع تنقيح المناط بأن يبين إلغاء الفارق وقد يقال العلة أما المشترك أو المميز والثاني باطل فثبت الأول ولا يكفي أن يقال محل الحكم أما المشترك أو المميز الأصل لأنه لا يلزم من ثبوت المحل ثبوت الحكم"(15/137)
إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه بإلغاء الفارق يسمى تنقيح المناط وهو أن يقال لا فرق بين الفرع والأصل إلا كذا وكذا وذلك لا مدخل له في الحكم البتة فيلزم اشتراكهما في الحكم لاشتراكهما في الموجب له ومثاله قياس الأمة على العبد في السراية في قوله صلى الله عليه وسلم : "من اعتق شركا له في عبد قوم عليه الباقي" بأنه لا فارق بين الأمة والعبد إلا الذكورة وهو ملغى بالإجماع إذ لا مدخل له في العلية وهذا هو الذي تسميه الحنفية بالاستدلال ويفرقون بينه وبين القياس بأن يخصوا اسم القياس بما يكون الإلحاق فيه بذكر الجامع الذي لا يفيد إلا الظن والاستدلال بما يكون الإلحاق فيه بإلغاء الفارق الذي يفيد(15/138)
ص -81-…القطع حتى اجروه مجرى القطعيات في النسخ به ونسخه فيجوز والزيادة عن النص به ولم يجوزوا نسخه بخبر الواحد والحق أن تنقيح المناط قياس خاص مندرج تحت مطلق القياس وكل من القياسين أعني ما يلحق فيه بذكر الجامع وبالغاء الفارق قد يكون ظنيا وهو الغالب إذ قلنا يقوم القاطع على أن الجامع علة أو أن ما به الامتياز لا مدخل له في العلية وقد يكون قطعيا بأن يوجد ذلك نعم حصول القطع فيما فيه الإلحاق بإلغاء الفارق أكثر من القسم الآخر لكن ليس ذلك فرقا في المعنى بل في الوقوع
وأعلم أنه قد يقال في إيراد تنقيح المناط هذا الحكم لا بد له من علة كما تقدم وهي إما المشترك بين الأصل والفرع كالرق في المثال الذي ذكرناه أو المختص بالأصل كالذكورة والثاني باطل لأن الفارق ملغى فتعين الأول فيلزم ثبوت الحكم في الفرع لثبوت عليته فيه فإن قلت هذه الطريقة بعينها هي طريقة السبر والتقسيم قلت كذا قال الإمام ولكن يمكن أن يفرق بينهما بأن السبر والتقسيم لا بد فيه من تعيين الجامع والاستدلال على العلية وأما هذا فلا يجب فيه تعيين العلة ولكن ضابطه أنه لا يحتاج إلى التعرض للعلة الجامعة بل يتعرض للفارق ويعلم أنه لا فارق إلا كذا ولا مدخل له في التأثير مثل من أعتق شركا له في عبد كما أوضحناه كقوله صلى الله عليه وسلم : "أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه1" فالمرأة في معناه وقوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ2} فالعبد في معناها وقوله صلى الله عليه وسلم : "من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشرطه المبتاع3" فالجارية في معناه وقوله صلى الله عليه وسلم في موت الحيوان في السمن أنه يراق المائع ويقور ما حوالي الجامد فإن العسل وكل جامد في معناه ولا يكفي أن يقال في إيراده هذا الحكم لا بد له من محل وهو إما المشترك أو مميز الأصل عن الفرع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(15/139)
1 رواه مالك وأبو داود "الجامع الصغير للالباني 2/395"
2 سورة النساء آية "25"
3 رواه الإمام أحمد بلفظ : "من باع عبدا وله مال فله ماله وعليه دينه وإلا أن يشترط المبتاع ومن أبرنحلا وباعه بعد تأبيره فله ثمرته إلا أن يشترط المبتاع" "مجمع الزوائدللهيثمي 4/106-107ط بيروت"(15/140)
ص -82-…والثاني باطل لأن الفرق ملغى فوجب أن يكون محله المشترك ويلزم ثبوت الحكم في الفرع ضرورة حصوله في الأصل وذلك لأنه لا يلزم من وجود المحل وجود الحال فيه ومثاله قول الحنفي وجوب كفارة الإفطار له محل وهو إما المفطر بالوقائع بخصوص الوقاع أو المفطر لا بخصوص الوقاع
والأول باطل لأن خصوص الوقاع ملغى كخصوص القتل بالسيف في وجوب القصاص فتعين الثاني فتجب الكفارة على من أفطر بالأكل فنقول سلمنا أن المفطر بالأكل يصدق عليه أنه مفطر لكن لا يلزم من ثبوت الحكم في المفطر ثبوته في كل مفطر وهذا كما أنه إذا صدق هذا الرجل طويل يصدق الرجل الطويل ضرورة كون الرجل جزء من هذا الرجل واستلزام حصول المركب حصول المفرد ولا يلزم منه صدق كل رجل طويل
فائدة قد اقتصر المصنف على ذكر تنقيح المناط دون تحقيق المناط وتخريج المناط ونحن لا نطيب قلبا بإخلاء هذا الشرح عن الكلام فيهما ليحصل التفرقة بينهما وبين تنقيح المناط فنقول أما تنقيح المناط فقد عرفت أنه الاجتهاد في تعيين السبب الذي ناط التنازع الحكم به وأضافه إليه ونصبه علامة عليه بحذف غيره من الأوصاف عن درجة الاعتبار وأما تحقيق المناط فهو أن يتفق على علية وصف بعض إجماع ويجتهد في وجودها في صورة النزاع كالاجتهاد في تعيين الإمام بعد ما علم من إيجاب نصب الإمام وكذا تعيين القضاة والولاة وكذا في تقدير التعزيزات وتقدير الكفاية في نفقة القريب
وإيجاب المثل في قيم المتلفات وأروش الجنايات وطلب المثل في جزاء الصيد فإن مناط الحكم في نفقة القريب الكفاية وذلك معلوم بالنص إما أن الرطل كفاية لهذا الشخص أم لا فيدرك بقول المقومين وهو مبنى على الظن والتخمين وينتظم هذا الاجتهاد بأصلين
أحدهما أنه لا بد من الكفاية
والثاني أن الرطل قدر الكفاية فيلزم منه أنه الواجب أما الأصل الأول فمعلوم بالنص والإجماع(15/141)
ص -83-…وأما الثاني فبالظن وكذا نقول يجب في حمار الوحش بقرة لقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ1} فنقول المثل واجب والبقرة مثل فإذن هي الواجب فالأول معلوم بالنص وهي المثلية التي هي مناط الحكم أما تحقيق المثلية في البقرة فمعلوم بنوع من المقايسة والاجتهاد وكذلك من أتلف على إنسان فرسا فعلية ضمانه والضمان هو المثل في القيمة أما كون مائة درهم مثلا له في القيمة فيعرف بالاجتهاد ومن هذا القبيل الاجتهاد في القبلة فإنه يجب استقبال جهتها بالنص أما أن هذه هي جهة القبلة فيعلم بالاجتهاد عند تعذر اليقين وكذا العدالة فإن كونها مناط قبول الشهادة معلوم بالإجماع وتحققها في كل واحد من الشهود مظنون وكلما علم وجوبه أو جوازه من حيث الجملة وإنما النظر في تعيينه وتقديره
قال الغزالي وهذا لا خلاف فيه بين الأمة وهو نوع اجتهاد قال والقياس مختلف فيه فكيف يكون هذا قياسا وكيف يكون مختلفا فيه وهي ضرورة كل شريعة لأن التنصيص على عدالة الأشخاص وقدر كفاية كل شخص محال فمن ينكر القياس ينكره حيث يمكن التعريف للحكم بالنص المحيط بمجاري الحكم
وأما تخريج المناط فهو الاجتهاد في استنباطه علة الحكم الذي دل النص والإجماع عليه من غير تعرض لبيان علته لا بالصراحة ولا بالإيماء نحو قوله : "لا تبيعوا البر بالبر إلا مثلا بمثل2" فإنه ليس فيه ما يدل على أن علة تحريم الربا الطعم لكن المجتهد نظر واستنبط العلة بالطرق العقلية من المناسبة وغيرها فكأن المجتهد أخرج العلة من خفاء فلذلك سمى تخريج المناط بخلاف تنقيح المناط فإنه لم يستخرجه لكونه مذكورا في النص بل نقح المنصوص وأخذ منه ما يصلح للعلية وترك ما لا يصلح قال الغزالي وهذا هو الاجتهاد والقياس الذي عظم فيه الخلاف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة "95"(15/142)
2 أخرجه مسلم "3/1211" بلفظ : "الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والمسلح بالمسلج مثلا بمثل سواء بسواء يد بيدفإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد".(15/143)
ص -84-…قال "تنبيه قيل لا دليل على عدم عليته فهو علة قلنا لا دليل على عليته فليس بعلة قيل لو كان علة لتأتى القياس المأمور به قلنا هو دور"
هذان طريقان ظن بعض الأصوليين أنهما مقيدان للعلية فعقد المصنف هذه الجملة منبهة على فساد هذا الظن أحدهما أن يقال لم يقم الدليل على أن هذا الوصف غير علة فيكون علة لأنه إذا انتفى الدليل على عدم عليته ثبت كونه علة للزوم انتفاء المدلول بانتفاء الدليل وقد اختار الأستاذ أبو إسحاق هذه الطريقة كما هو محكى في مختصر التقريب والجواب أن يعارض هذا بمثله ويقال لم يقم الدليل على عليته فليس بعلة كما ذكرتم وقد بالغ القاضي في مختصر التقريب في الرد على من استدل بهذا الطريق وهذا الجواب هو حاصل ما ذكره
والثاني أن يقال هذا الوصف على تقدير عليته يتأتى معه العمل بالقياس المأمور به وعلى تقدير عدم عليته لا يتأتى معه ذلك فوجب أن يكون علة لتمكن الإتيان معه بالمأمور به وهذا إيضاح هذا الطريق على الوجه الذي ساقه المصنف ولو قال إذا كان علة بدل قوله لو كان لأحسن فإن عبارة هذه توهم أن هذا طريق في نفي العلية لا في إثباتها وقد فهم الشيرازي شارح الكتاب هذا ومشى عليه وليس بجيد وأجاب المصنف بأن هذا دور لأن تأتي القياس يتوقف على ثبوت العلة فلو أثبتنا العلة به لتوقف ثبوت العلة ولزم الدور والله أعلم
قال الطرف الثاني فيما يبطل العلية وهو ستة:
النقض وهو إبداء الوصف بدون الحكم مثل أن يقول لمن لم يبيت يعري أول صومه عن النية فلا يصح فينتقض بالتطوع.
هذا مبدأ القول في الأمور المبطلة للعلية وهي ستة النقض وعدم التأثير والكسر والقلب والقول بالموجب والفرق الأول النقض وهو عبارة عن إبداء الوصف الذي ادعى المستدل حجة عليته في بعض الصور مع تخلف الحكم عنه فيها وربما يعبر عنه معبرون بتخصيص العلة ومثاله قولنا من لم(15/144)
ص -85-…يبيت النية تعرى أول صومه عنها فلا يصح لأن الصوم عبارة عن إمساك النهار جميعه مع النية فيجعل العراء عن النية في أول الصوم علة بطلانه فيقول الخصم ما ذكرت منقوض بصوم التطوع فإنه يصح من غير تثبيت وأمثلة هذا الفصل يخرج على حد الحصر فلا نطيل باستقصائها
قال "قيل يقدح وقيل لا مطلقا في المنصوصة وقيل حيث مانع وهو المختار قياسا على التخصيص والجامع جمع الدليلين ولأن الظن باق بخلاف ما لم يكن مانع"
الكلام في النقض من عظائم المشكلات أصولا وجدلا ونحن نتوسط في تهذيبه فلا نسهب ولا نوجز بل نأتي بالمقنع فنقول أعلم أولا أن الصور في النقض تسع لأن العلة إما منصوصة قطعا أو ظنا أو مستنبطة وتخلف الحكم إما بمانع أو فوات شرط أو دونهما فصارت تسعا من ضرب ثلاثة في ثلاثة فالقائل بأن النقض قادح مطلقا قائل به في التسع ومقابلة مانع في جميع ذلك ولنذكر صورها الأولى القطعية المتخلف الحكم عنها لوجود مانع الثانية القطعية المتخلف الحكم عنها لفوات الشرط الثالثة القطعية المتخلف الحكم عنها لا لمانع ولا لفوات شرط وإنما يكون ذلك بعض تعبدي أو إجماع مع عدم ظهور مانع أو شرط الرابعة والخامسة والسادسة الظنية كذلك السابعة والثامنة والتاسعة المستنبطة كذلك وعلى الفقيه طلب أمثلتها وسنذكر في أثناء الفصل من أمثلتها الكثير إن شاء الله تعالى
وقد اختلف الناس في النقد هل يكون قادحا في العلية
أحدها أنه يقدح مطلقا وهو اختيار أبي الحسين البصري والإمام وإليه ذهب أكثر أصحابنا
والثاني لا يقدح مطلقا وعليه أكثر أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد
والثالث لا يقدح في المنصوصة مطلقا في صورها الست ويقدح المستنبطة مطلقا في صورها الثلاث
والربع واختاره المصنف لا يقدح حيث وجد مانع مطلقا سواء كانت(15/145)
ص -86-…العلة منصوصة أم مستنبطة فإن لم يكن مانع قدح مطلقا وإلى المذهبين الأخيرين أشار بقوله وقيل في المنصوصة وقيل حيث مانع وتقديره وقيل لا يقدح في المنصوصة وقيل لا يقدح حيث مانع ولم يصرح بالنفي لأنه معطوف على منفي وحكى القاضي أبو بكر في التلخيص الذي اختصره إمام الحرمين من كتابه التقريب والإرشاد مذهبا خامسا عن بعض المعتزلة أنه يجوز تخصيص علة الحل والوجوب ونحوهما مما لا يكون خطرا قال وحملهم على ذلك قولهم لا تصح التوبة عن قبيح مع الإصرار على قبيح ويصح الإقدام على عبادة مع ترك أخرى وحكى ابن الحاجب مذهبا سادسا أنه لا يقدح في المستنبطة ويقدح في المنصوصة عكس الثالث واختار مذهبا سابعا وهو أنه يجوز في المستنبطة في صورتين فلا يقدح فيهما وهما ما إذا كان التخلف لمانع أو انتفاء شرط ولا يجوز في صورة واحدة ويقدح فيها وهي ما إذا كان التخلف دونهما وأما المنصوصة فإذا كان النص ظنيا وقدر مانع أو فوات شرط جاز ولا يجوز في القطعي في صوره الثلاث أي لا يمكن وقوعه لأن الحكم لو تخلف لتخلف الدليل وهو لا يمكن أن يكون قطعيا لاستحالة تعارض القطعيين إلا أن يكون أحدهما ناسخا ولا ظنيا لأن الظني لا يعارض القطعي وهذا الذي اختاره ابن الحاجب نحو ما اختاره الآمدي والمنع في النص القطعي إذا لم يكن مانع ولا فوات شرط ظاهر(15/146)
وأما إذا كان مانع أو فات شرط فلا وجه للمنع إذا كان ذلك المانع أو الشرط عليه دليل لأنه حينئذ يكون ذلك الدليل مخصصا للنص القطعي اللهم إلا أن تقدر دلالة النص على جميع الأفراد قطعية فيصح ما قاله لأنه حينئذ لا يمكن التخلف وحاصله أنه في النص القطعي لا يمكن ورود النقض وفي الظني يمكن وقال إنه يقدر مانع ولا حاجة إلى ذلك فقد يكون تعبديا بالدليل الدال على التخصيص من غير ظهور معني فيمكن النقض ولا يكون قادحا وفي المستنبطة يجوز حيث مانع أو فقدان شرط ولا يجوز فيما سواهما ففيما سواهما يكون قادحا ولا يكون النقض قادحا في شيء من المواضع إلا في هذا المكان وهو إذا استنبطت علة وتخلف الحكم عنها إلا لمانع أو لفوات شرط فيستدل حينئذ بالتخلف على فسادها فينبغي أن يختصر الكلام(15/147)
ص -87-…ويقال النقض يقدح في العلية إذا كانت مستنبطة ولم يكن مانع ولا فوات شرط ولا يقدح فيما سواه
وإما إمام الحرمين فذهب إلى رأي ثامن فقال في المستنبطة أن انقدح من جهة المعنى فرق بين ما ورد نقضا وبين ما نصبه المستنبطة علة بطلت علته لأنه يتبين بهذا أنه ذكر في الابتداء بعض العلة وأظهر أنه علة مستقلة وإن لم ينقدح فرق فإن لم يكن الحكم فيها مجمعا عليه أو ثابتا بمسلك قاطع سمعي بطلت علته أيضا فإنه مناقض بها وتارك للوفاء بحكم العلة فإذا لم يف بحق طردها فكيف يلزم الخصم حق طردها في موضع قصده وإن طرد مسألة اجماعية لا فرق بينها وبين محل العلة فهذه موضع الآباء والامناء فإن كان الحكم الثابت فيها على مناقصة علة التعلل معللا بعلة معنوية جارية فوردها ينقض العلة من جهة أنها منعت العلة من الجريان وعارضتها بفقه وإن كانت المسألة قاطعة للطرد ولا فرق وكان لا يتأتى تعليل الحكم فيها على المناقضة بعلة فقيهة فهذا موضع التوقف هذا رأيه في المستنبطة وحاصله أن النقض قادح فيما إذا انقدح فرق أو لم يكن الحكم في الصورة مجمعا عليه أو لم يكن ثابتا بقطعي أو كان ثابتا بإجماع وفي محل النقض معنى يعارض العلة التي ذكرها المستدل ويمنعها من الجريان وإن لم يكن كذلك فالتوقف(15/148)
وأما المنصوصة فإن كان بنص ظاهر فيظهر أورده المعترض أن الشارع لم يرد التعليل وإن ظهر ذلك من مقتضى لفظه وتخصيص الظواهر ليس بدعا وإن كان بنص لا يقبل التأويل فإن عمم بصيغة لا يتطرق إليها تخصيص ببعض الصور التي تطرق العلة فيها فلا مطمع في تخصيصها لقيام القطع على العلية وجريانها على اطراد ونص الشارع لا يصادم وإن نص الشارع على شيء وعلى تخصيصه في كونه علة لمسائل معدودة فلا يمتنع ذلك ولا معترض عليه تنصيصه وتخصيصه ولو نص على نصب علة على وجه لا يقبل أصل النصب تأويلا ولم يجز في لفظ الشارع تنصيص على التعميم على وجه لا يأول ولا على التخصيص بمواقع مخصوصة فهذا عام ولا يمتنع فيه تخصيص العلة
وأما حجة الإسلام الغزالي فذهب إلى مقالة تاسعة فقال تخلف الحكم عن(15/149)
ص -88-…العلة بفرض على ثلاثة أوجه الأول أن يفرض في صوب جريان العلة ما يمنع اطرادها وهو الذي يسمى نقصا وهو قسمان
أحدهما ما يظهر أنه ورد مستثنى عن القياس مع استثناء القياس فلا يفسد العلة بل يخصصها بما وراء المستثنى ويكون علة في غير محل الاستثناء ولا فرق بين أن يرد ذلك على علة مقطوعة أو مظنونة مثال الأول إيجاب صاع من التمر في لبن المصراة فإن علة إيجاب المثل في المثليات تماثل الأجزاء والشرع لما أوجب ذلك لم ينقص هذه العلة إذ عليها تعويلنا في الضمانات لكن استثنى هذه الصور فهذا الاستثناء لا يبين المجتهد فساد هذه العلة ولا ينبغي أن يكلف الناظر الاحتراز عنه حتى نقول في علته تماثل الأجزاء في غير المصراة فيقتضي إيجاب المثل لأن هذا تكليف قبيح
ومثال الثاني مسألة العرايا كما سيأتي إن شاء الله تعالى في كلام المصنف(15/150)
وثانيهما ما لم يرد مورد الاستثناء فلا يخلو إما أن يرد على المنصوصة أو المظنونة فإن ورد على المنصوصة فلا يتصور هذا إلا بأن ينعطف منه قيد على العلة ويتبين أن ما ذكر لم يكن تمام العلة مثاله قولنا خارج فينقض الطهر أخذا من قوله الوضوء مما خرج ثم بان إنه لم يتوضأ من الحجامة فيعلم أن العلة ليس مطلق كونه خارجا بل خارج عن المخرج المعتاد فكان ما ذكر بعض العلة فإن لم يكن كذلك فيجب تأويل التعليل إذ قد يرد بصيغة التعليل ما لا يراد به التعليل أو يراد به التعليل لكن لا لذلك الحكم المذكور قال الله تعالى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ1} ثم قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ2} وليس كل من شاقق الله ورسوله يخرب بيته فتكون العلة منقوضة ولا يمكن أن يقول إنه علة في حقهم خاصة لأن هذا يعد تهافتا في الكلام فإذن الحكم المعلول بذلك ليس هو التخريب المذكور بل هو لازمه أو جزؤه الأعم وهو كونه عذابا ولا شك أن كل من يشاقق الله ورسوله فإنه معذب أما بخراب البيت أو غيره
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحشر آية "2"
2 سورة الحشر آية "3"(15/151)
ص -89-…وهذا وإن كان خلاف الظاهر وتأويلا للنص لكي يتعين المصير إليه رعاية لعدم انتقاض الكلام وإن ورد على العلة المظنونة وانقدح جواب عن محل النقض من طريق الإحالة إن كانت العلة محيلة أو من طريق الشبه إن كان تشبيها فهذا يبين أن ما ذكر لم يكن تمام العلة وانعطف قيد على العلة من مسألة النقض به يندفع النقض أما إذا كانت العلة محيلة ولم ينقدح جواب مناسب وأمكن كون النقض دليلا على فساد العلة وكونه معرفا اختصاص العلة بمجراها بوصف من قبيل الأوصاف الشبيهة بفصلها عن غير مجراها فهذا الاحتراز عنه مهم في الجدل للمناظر لكن المجتهد الناظر ماذا عليه أن يعتقده في هذه العلة الانتقاض والفساد أو التخصص هذا عندي في محل الاجتهاد ويتبع كل مجتهد وغلب على ظنه(15/152)
ومثاله قولنا إن صوم رمضان يفتقر إلى تبييت النية لأن النية لا تنعطف على ما مضى وصوم جميع النهار واجب وأنه لا يتجزأ فينتقض هذا بالتطوع فإنه لا يصح إلا بنية ولا يتجزأ على المذهب الصحيح ولا مبالاة بمذهب من يقول إنه صائم بعض النهار فيحتمل أن ينقدح عند المجتهد فساد هذه العلة يسبب التطوع ويحتمل أن ينقدح له أن التطوع ورد مستثنى رخصة لتكثير النوافل فإن الشرع قد يسامح في النقل بما لا يسامح به في الفرض فالمحيل الذي ذكرناه يستعمل في الفرض ويكون وصف الفرضية فاصلا بين مجرى العلة موقعها ويكون ذلك وصفا شبهيا اعتبر في استعمال المحيل وتمييز مجراه عن موقفه ومن أنكر قياس الشبه جوز الاحتراز عن النقض بمثل هذا الوصف الشبهي فأكثر العلل المحيلة خصص الشرع اعتبارها بمواضع لا ينقدح في تعيين المحل معنى مناسب على مذاق أصل العلة وهذا التردد وإنما ينقدح في معنى مؤثر لا يحتاج إلى شهادة الأصل فإن مقدمات هذا القياس مؤثرة بالاتفاق من قولنا إن كل الصوم واجب وأن النية عزم لا ينعطف على الماضي وأن الصوم لا يصح إلا بنية فإن كانت العلة مناسبة بحيث يفتقر إلى أصل يستشهد به فإنما يشهد لصحتها ثبوت الحكم في موضع واحد على وفقها فتنقض هذه الشهادة(15/153)
ص -90-…بتخلف الحكم على وفق المعنى إن دل على التفات الشرع إليه فقطع الحكم أيضا يدل على إعراض الشرع عنه
وقول القائل أني اتبعته إلا في أعراض الشرع بالنص ليس بأولى من قول خصمه أعرض عنه إلا في اعتبار الشرع إياه بالتنصيص على الحكم وعلى الجملة يجوز أن يصرح الشرع بتخصيص العلة أن يكون بفساد العلة وأن يكون يصرح واحتمل نفي الحكم مع وجود العلة أن يكون بفساد العلة وأن يكون لتخصيصها فإن كانت العلة قطعية كان تنزيلها على التخصيص أولى من التنزيل على نسخ العلة وإن كانت مظنونة ولا مستند للظن إلا إثبات الحكم على وفقها في موضع فينقطع هذا الظن بأعراض الشرع عن إثباتها في موضع وإن كانت مستقلة مؤثرة كما ذكرناه في مسألة التبييت كان ذلك في محل الاجتهاد
الوجه الثاني لانتفاء حكم العلة أن ينتفي لا لخلل في نفس العلة لكن يندفع الحكم عنه بمعارضته علة أخرى وافقة كما سيأتي تمثيله في كلام المصنف في أن علة رق الولد ملك الأم وتخلف في ولد المغرور فهذا لا يرد نقضا لأن الحكم هنا كأنه حاصل تقديرا
الوجه الثالث أن يكون النقض مائلا عن صوب جريان العلة ويكون تخلف الحكم لا لخلل في ركن العلة لكن لعدم مصادفتها محلها أو شرطها أو أهلها كقولنا السرقة علة القطع وقد وجد في حق النباش فقيل تبطل بسرقة الصبي وسرقة ما دون النصاب والسرقة من غير حرز أو نقول والتبع علة الملك وقد جرى فلبثت الملك في زمن الخيار فيقال باطل ببيع المستولدة والموقوف والمرهون وأمثال ذلك فهذا جنس لا يلتفت المجتهد إليه لأن نظره في تحقيق العلة دون شرطها ومحلها فهو مائل عن صوب نظره أما المناظر فهل يلزمه الاحتراز عنه أم يقبل منه العذر بأن هذا منحرف عن مقصد النظر وليس البحث عن المحل والشرط فيه اختلاف بين الجدليين والخطب فيه يسير والجدل شريعة وضعها أهلها فإليهم وضعها كيف شاءوا أو تكليف الاحتراز الجميع لنشر الكلام وذلك بأن يقول بيع صدر من أهله وصادف محله وجمع شرطه(15/154)
ص -91-…فيفيد الملك أو سرق نصابا كاملا من حرز لا شبهة له فيه هذا إتمام كلام الغزالي رضي الله عنه
وهو عندنا كلام جيد مرضي فلذلك احتملنا طوله وأوردناه وفيما ذكرناه من تفاصيل المذاهب شفاء للعليل فلنلتفت إلى كلام صاحب الكتاب وقد علمت اختياره أن التخلف إن كان لمانع لا يقدح والاقداح سواء كانت العلة منصوصة أو مستنبطة فإن قلت كيف يتصور تخلف الحكم لا لوجود مانع أو لفوات شرط في محل فيه وصف نص الشارع قطعا أو ظاهرا على عليته أو استنبط ذلك استنباطا صحيحا
قلت هو لعمر الله بعيد الوجود والمجوز لذلك إنما مستنده جواز تخصيص العلة منصوصة كانت أو مستنبطة والتخصيص لا يكون بغير مخصص ذلك المخصص إن كان حيث يوجد مانع أو يفوت شرط لم يكن صورة المسألة وإن كان بدونها أمكن وهو محتمل على بعد بأن يحصل نص على عدم الحكم في محل الوصف فيه موجود وليس فيه معنى يدعى أنه مانع أو عدمه شرط وهيهات أن يوجد ذلك
وإذا عرفت هذا فقد استدل المصنف على ما اختاره بوجهين
أحدهما قياس النقض على التخصيص حيث لا يقدح في حجية العام في الباقي على ما سبق في مكانه والجامع الجمع بين الدليلين المتعارضين فترتب الحكم على العلة فيما عدا صورة وجود المانع إذ الوصف بالنسبة إلى موارده كالعام بالنسبة إلى أفراده والمانع المعارض للوصف كالمخصص المعارض للعام وهذا الوجه يختص بإحدى شقي المدعي وهو أن التخلف إذا كان لمانع لا يقدح
والثاني أن التخلف إذا كان لمانع فظن عليه الوصف باق والعمل بالظن واجب بخلاف ما إذا لم يكن التخلف لمانع فإن ظن العلية ينتفي وذلك لأن انتفاء الحكم إذا لم يكن لمانع يتعين أن يكون لعدم المقتضى فيكون التخلف لا لمانع قادحا في العلية(15/155)
ص -92-…قال "رحمه الله قيل العلة ما يستلزم الحكم وقبل انتفاء المانع لم يستلزم قلنا بل ما يغلب على ظنه وإن لم يخطر المانع وجودا وعدما"
هذه حجة من حجج القائلين بأن النقض يقدح مطلقا وتقريرها أن العلة ما تستلزم الحكم وقبل أن ينتفي المانع أي مع وجوده لا يستلزم الحكم فلا تكون علة وحينئذ يكون تخلف الحكم مع وجود المانع قادحا في العلية وإذا كان كذلك كان التخلف لا لمانع قادحا بطريق أولى والجواب أنا لا نسلم كون العلة ما تستلزم الحكم بل هي ما يغلب على الظن وجود الحكم بمجرد النظر إليه وإن لم يخطر وجود المانع أو عدمه بالبال وهذا الجواب يستدعي تحديد العهد بالكلام في العلة وقد بنى المصنف كلامه على المختار من العلة المعرف
ولقائل أن يقول إن قلنا العلة مؤثرة أو باعثة فلا ريب في أنها تستلزم وإن قلنا معرفة نصبت أمارة فتعريفها للحكم يوجب ظن حصوله فصار مستلزما لحصول الظن والعمل بالظن واجب فهي مستلزمة على الأقوال جميعا وإن اختلفت جهة الاستلزام وحكمها(15/156)
وقال أبو الحسين في المعتمد إن أقوى ما يحتج به هؤلاء أن يقال تخصيص العلة مما يمنع كونها أمارة على الحكم في شيء من الفروع سواء ظن كونها جهة المصلحة أو لا يظن ذلك لكن ذلك باطل لأن العلة فائدتها كونها توجب العلم أو الظن بثبوت الحكم في الفرع والأفقي الأصل لا حاجة إليها لثبوت الحكم فيه بالنص وإذا لم يحصل هذا بطل كونه علة وبيان أنه يمنع كونها أمارة على الحكم أنا إذا علمنا أن علة حرمة التفاضل في بيع الذهب بالذهب هي كونه موزونا ثم علمنا إباحة بيع الرصاص بالرصاص متفاضلا مثلا مع أنه موزون فلا يخلو إما أن يعلم ذلك بعلة أخرى يقتضي إباحته أو بنص فإن علمنا إباحته بعلة أخرى بقياس بها الرصاص على أصل ثبت فيه ذلك الحكم لكونه أبيض مثلا فأنا إذا علمنا في شيء أنه موزون وشككنا في كونه أبيض مثلا لم يعلم قبح بيعه متفاضلا ما لم يعلم أنه ليس بأبيض كما لو شككنا في كونه موزونا فظهر أنه لا يعلم بعد التخصيص تحريم بيع شيء متفاضلا لكونه(15/157)
ص -93-…موزونا فقط فبطل أن يكون كونه موزونا وحده علة بل كونه موزونا مع كونه غير أبيض وإن علمنا إباحته بالنص فالكلام فيه كما في القسم الأول
وأجيب عن هذا الوجه بأنا نسلم أنه مهما انتفى الحكم عن العلة في بعض الصور لمعارض فما لم يعلم أو يظن انتفاء ذلك المعارض في غيره من الصور لا يمكننا إثبات ذلك الحكم فيه لكن لم قلتم أنه يلزم منه أن يكون إثبات ذلك الحكم فيه داخلا في ذات العلة بل جاز أن يكون شرطا
واحتج القائلون بأن النقض لا يقدح مطلقا بأوجه منها ما روى عن ابن مسعود أنه كان يقول هذا حكم معدول به عن سنن القياس وعن ابن عباس رضي الله عنه مثله واشتهر ذلك فيما بين الصحابة من غير نكير فصار إجماعا وأجيب عنه بوجهين
أحدهما أنه لا دلالة لقول ابن مسعود وابن عباس على أن القياس الذي ثبت الحكم على خلافه حجة فالإجماع على ذلك لا يكون مفيدا
والثاني سلمنا أن حجة لكن يمكن حمل ذلك على ما إذا كان تخلف الحكم عنه بطريق الاستثناء ويجب الحمل عليه جمعا بين الأدلة واعترض صفي الدين الهندي على الأول بعد أن ذكر أنه إشكال قوي بأن إطلاق القياس عليه يشعر إشعارا ظاهرا بكونه حجة وتسميته ذلك اعتبارا بما كان قبل ذلك الحكم المعدول به مجازا على خلاف الأصل والقياس الذي لا يعمل به من المنسوخ والفاسد لا نسلم أنه يسمى قياسا إذ ذاك على الإطلاق في الفرق وإن سمي به مفيدا ومنها أن العلة الشرعية أمارة على الحكم في الفرع فوجودها في موضع من غير حكم لا يخرجها عن كونها أمارة إذ ليس من شرط الإمارة أن يصحبها الحكم ولا يتخلف عنها أصلا وإلا لكان دليلا قاطعا لأمارة ولهذا أن جميع الإمارات الشرعية موجودة قبل ورود الشرع وإن لم تكن الأحكام ملازمة لها والغيم الرطب أمارة على وجود المطر وأن تخلف عنه المطر آونة
وخبر الواحد العدل علامة على وجود وإن تخلف عنه وجود القاطع(15/158)
ص -94-…وجوابه أنا لا نسلم أن تخلف الحكم عن الإمارة لا يقدح في كونها أمارة قوله لو صحبها الحكم في كل الصور لم تكن أمارة بل قاطعا قلنا ممنوع وهذا لأن القاطع هو الذي لا يجوز أن ينفك الحكم عنه ولو لمانع لا أنه الذي لا ينفك الحكم عنه فإن الدليل الظني قد لا ينفك الحكم عنه وإن كان يجوز انفكاكه لمانع وما ذكره من الأمثلة فنحن نمنع كونه لا يقدح في غلبة الظن في كونه إمارة وإنما لا يقدح ذلك إذا غلبت على ظنه حصول ما يلازم انتفاء الحكم في صور التخلف فإما إذا لم يحصل ذلك فلا نسلم أنه لا يقدح ذلك فيه ثم الذي يؤيد ما ذكرناه من الاحتمال أن الدليل الدال على كون الإمارة للحكم الفلاني أن اعتبر في كونها إمارة صورا مخصوصة وصفة مخصوصة وهيئة مخصوصة فلا يكون تخلف الحكم في غير تلك الصور وفي غير تلك الصفة والهيئة تخلف الحكم عن الإمارة بل عن بعضها لأن تلك الخصوصيات معتبرة في ماهية الإمارة حينئذ وإن لم تعتبر ذلك بل دل على كونها إمارة في سائر الصور كيف حصلت فيمتنع التخلف وإلا يلزم الترك لمقتضى دليل الإمارة وهو باطل
واحتج القائلون بأن النقض يقدح المستنبطة دون المنصوصة بأن دليل العلة المستنبطة اقتران الحكم بها في بعض الصور فكما أن اقتران الحكم بالوصف في بعض الصور يدل على العلية فقدم الاقتران به في بعض الصور يدل على عدم العلية فتعارضا وتساقطا بخلاف العلة المنصوصة فإن دليل عليتها النص فكما أن تخلف حكم النص عنه في بعض الصور لمعارض لا يوجب إبطال العمل به فيما عداها فكذلك العلة المنصوصة التي في معناها
وأجيب عنه بأنه ليس دليل علية المستنبطة مجرد الاقتران بل شهادة المناسبة وغيرها من الطرف المذكورة والتخلف لمانع أو فوات شرط لا يدل على عدم العلية لما سبق فلا يعارض دليل العلية كما في المنصوصة
قال "والوارد استثناء لا يقدح كمسألة العرايا لأن الإجماع أول من النقض"(15/159)
ما تقدم في كلام المصنف هو فيما إذا لم تكن صورة النقض واردة على سبيل الاستثناء أما إذا كانت واردة على سبيل الاستثناء(15/160)
ص -95-…أما إذا كانت واردة على سبيل الاستثناء فإنه لا يقدح على المختار خلافا لبعض المانعين من جواز تخصيص العلة سواء كانت العلة معلومة كمسألة الصاع في المصراة أو مظنونة كمسألة العرايا وهي بيع الرطب على رؤوس النخل بالتمر والعنب في الكرم بالزبيب فإنها واردة نقضا على تحريم الربا لأن العلة في تحريمه إما الطعم أو الكيل أو الفوت أو المال وكل منها موجود في العرايا وإنما لا يقدح ذلك في العلة لأنه إنما يعلم كونه ورد على سبيل الاستثناء إذا كان النقص لازما على جميع المذاهب كما ذكرناه في مسألة العرايا
وحينئذ يكون معارضا للإجماع فإنه منعقد على أن علة الربا أحد الأمور الأربعة والإجماع أقوى في الدلالة منه فيقدم عليه ويعمل بمقتضاه واعلم أن الإمام مثل الوارد على سبيل الاستثناء في المظنونة بمسألة العرايا وفي المعلومة بضرب الدية على العاقلة فإنها لا تنقض علمنا بأن من لم ينقدح على الجنابة لم يؤاخذ بضمانها
وقد سبق الإمام بهذا المثال إمام الحرمين وغيره واعترض على التمثيل به بأنه عكس النقص لأنه أبدا الحكم بدون القلة وذلك أن الجنابة سبب لوجوب الضمان وهنا وجب بدون الجناية وهو اعتراض غير منقدح لأن تقرير التمثيل ذلك أن يقال الجناية سبب الضمان
وقد تخلف الحكم في القاتل عمدا أو عمد خطأ مع وجود العلة وإن قرر على الوجه المذكور كان بمعنى أن يقول عدم الجناية سبب لعدم الضمان
وقد وجب هذا السبب في العاقلة مع تخلف عدم الضمان والمصنف اقتصر على التمثيل بمسألة العرايا لأنها واردة نقضا على علة مظنونة فإذا لم يقدح فيها لم يقدح في المعلومة بطريق الأولى وفي التمثيل بمسألة العرايا دقيقة أخرى وهي الإشارة إلى أن ما ورد مستثنى جاز أن يكون معقول المعنى كمسألة العرايا فإنها استثنيت رخصة وتسهيلا على المعسرين ولذلك يختص بها الفقراء على أحد قولين وهذا ما عليه الجمهور وأعني أن المستثنى يجوز أن يعقل له معنى وأن لا يعقل(15/161)
ص -96-…وادعى إمام الحرمين أن الصورة المستثناة لا تكون معقولة المعنى وأن ما يعقل معناه لا يستثنى ثم أورد تحمل العاقلة ومسألة المصراة فقال إذا أردنا إجراء علة في تخصيص الغرامة بمختص بسببها ومقتضاها طردناها غير مكثرين بتحمل العاقلة على قطع وتحملهم لا يعترض على ما يمهد من المعنى ولو ظن ظان أنه ينقدح في تحمل العاقلة معنى تصح على السير مأخوذا من المعاونة فهذا غير سديد فإن ذلك لا يجري فيما يتفق تلفه من الأموال وهو أعم وجودا وأغلب وقوعا من العقل الواقع خطأ أو على شبه العمد ثم الإعانة إنما تجري في الشريعة وإذا كان المعان معسرا وعلى هذا انتظمت أبواب النفقات والكفارات والقاتل خطأ يتحمل عنه وإن كان من أيسر أهل زمانه فليس بمثل هذه التخيلات اعتبار
وكذلك إذا طردنا طريقة في إيجاب المثل في المثليات التي تنشأ به أجزاؤها فيلزمنا عليه من إيجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من التمر في مقابلة لبن المصراة لم يحتمل بمثل هذا الإلزام ولا تعويل على قول المتكلفين إذ زعموا أن اللبن المحتلب في أيام اختيار الفرارة والبكارة يقع مجهول القدر فرأي الشارع فيما يقع ويكثر إثبات مقدر من جنس درا للنزاع
فإن هذا لا جريان له أصلا ويلزم طرد مثله في كل مثلي جهل مقداره وليس لبن المصراة مما يعم ويغلب الابتلاء بالحكم به
فإن أمثال هذه المعاني البعيدة إنما يثبت بعض الثبوت إذا تقيدت وتأيدت بعموم البلوى على أنها لو كانت أيضا كانت من المعاني الكلية التي لا تتخلص في مسالك الفرض على السبر ثم تعيين جنس التمر كيف يهتدي إلى تعلية(15/162)
وإنما المطلوب فيما فرضناه الكلام في الجنس المعدول إليه لا في المقدار فإن ما ذكروه من دوام النزاع بعد انقطاعه بذكر مقدار من النقدين وهما أثمان الأشياء إذا عسر تقدير الثمن انتهى وإمام الحرمين أجل من أن يصادم كلامه بكلمات أمثالنا ولكنا نقول على جهة الاستشكال دون المناظرة مسألة العاقلة معقولة المعنى واتفاق الجاهلية على ذلك قبل ورود الشرع يرشد إلى ذلك لأن التعبدي لا تهتدي إليه العقول وإنما يتلقى من الشرع"(15/163)
ص -97-…فإن قلت وما ذلك المعنى قلت المعاونة على حمل الجناية قولكم ذلك لا يجري فيما يتفق تلفه من الأموال
قلنا أولا هذا نقض والكلام في أن النقض يقدح
وثانيا أن الأموال غالبا لا تتلف ما سيق مؤثة وإنما يكون ذلك في أموره يسيرة وأما إتلاف النفوس فالأمر فيها مشق وإذا ثبت الحمل في موضع يعظم العزم فيه لم يلزم إثباته في موضع لا يعظم فيه ولا يشق وأيضا فوقوع إتلاف النفوس لا يكثر بخلاف الأموال فلم يلزم من تحمل ما يقع نادرا تحمل ما يغلب وقوعه أيضا كانت العرب تتناضل أبطالها وتتجاول فرسانها وبهم إلى ذلك حاجة ويقع القتل الخطأ عند الطراد فرجعت الفائدة إلى العاقلة فناسب توزيع الغرم الذي لا يشق عليهم قولكم وهو أعم وجودا وأغلب وقوعا من قتل الخطأ وشبه العمد قلنا لعل ذلك هو السبب في عدم التحمل فيه كما بيناه فإن الشيء إذا كان وقوعه نادرا تناسب فيه المعاونة قوله الإعانة إنما تكون إذا كان المعان معسرا قلنا الإعانة من حيث هي مطلوبة محبوبة والصدقة على الأغنياء جائزة ولكن الإعانة حالة الإعسار آكدور بما شبه أعانته الأقارب بتحمل الدية عنهم بإعانة الأجانب الذين غرموا لإصلاح ذات البين
وأما مسألة المصراة فمعقولة المعنى أيضا من جهة ما ذكره إمام الحرمين وقوله يلزم طرد مثله في كل مثلي جهل مقداره إلى قوله كيف يهتدي إلى تعيين جنس التمر قلنا قد رجع الشرع إلى البدل من غير مثل ولا يقوم في أماكن منها الحر يضمن بمائة من الإبل ومنها الجنين يضمن بالقوة ويستوي في الذكر والأنثى
ومنها المقدرات الشرعية في الشجاج كالموضحة مع اختلافها في الصغر والكبر
ومنها جزاء الصيد فليس من شرط الضمان أن يكون بالمثل أو القيمة من النقدين ولا من شرط المثل أن يضمن بالمثل والعدول في الأمور التي لا تنضبط إلى شيء مقدر لا يختلف من محاسن الشريعة قطعا للتشاجر والتخاصم(15/164)
ص -98-…والتمر كان أغلب أقواتهم كما أن الإبل غالب أموالهم وقد انتهى ما تخيلناه وأوردناه ولكنا نطرق سبيلا للبحث يسلكه الفطن يغر ناظرين إلى الجزم بصحته
وقد تعرض ابن الابياري شارح البرهان لما أوردناه في مسألة العاقلة والذي نقول أخيرا أن الظاهر أن الحق في جانب إمام الحرمين ولو عقل في العاقلة معنى المعاونة لعدى إلى الجيران ولكان أبعاض الجاني من آبائه وبنيه أولى من بقية العصيات في تحملها مع كونهم لا يتحملونها
وأما تشبيه تحمل الأقارب الدية بإعانة الأجانب الغارمين فأين أحدهما من الآخر والغارمون قد ثبت في ذمتهم وناسب قضاء دينهم في ذلك أما القاتل خطأ أو عمد خطأ فلم يشغل الشارع ذمته بشيء فلا ريب في أن هذا حكم تعبدي نتلقاه على الرأس والعين وكذلك القول في مسألة المصراة
ثم ألحق إمام الحرمين بتحمل العاقلة الكتابة الفاسدة حيث نزلناها منزلة الكتابة الصحيحة
وإذا قلنا في البيع الفاسد الملك لا ينتقل بدون سبب شرعي والفاسد حائد عن سبيل الصحة غير واقع والموقع المطلوب في الشريعة فلا وقع له في مقصود العقد الصحيح لم يكن للخصم نقض ذلك بالكتابة الفاسدة لكونها مستثناة شاذة عن القاعدة كتحمل العاقلة ورأي ذو البصائر أن لا يحكموا بالشاذ عن الكل ولكن يتركون الشاذ على شذوذه يعتقدونه كالخارج على المنهاج ولقائل أن يقول
إذا كانت الكتابة مستثناة والمستثنى عندك تعبد خارج عن القياس فلم قست الفاسد منها على الصحيح ولا محيص عن هذا إلا أن يحصل نص أو ينعقد إجماع على إلحاق الكتابة الفاسدة بالصحيحة فكذلك فاسد البيع يلحق بالصحيحة فتصير مستثناة بذلك وإلا فللمنفي أن يقول وقع الاتفاق على إلحاق الكتابة الفاسدة بالصحيحة فكذلك فاسد البيع يلحق بالصحيحة فتصير الكتابة الفاسدة بالصحيحة فكذلك فاسد البيع يلحق بصحيحه
فإن قلت هذا مستثنى قلت أين دليله الذي خرج به ثم نحرر عبارة فنقول(15/165)
ص -99-…ما اتسعت طرقه كان الفاسد أحد طرقه الدليل عليه العتق وبيان هذا في الفرع أن الملك يحصل بأسباب البيع والهبة والإرث والاغتنام والاحتطاب والاحتشاش والإلتقاط والمعدن وفي الأصل العتق يحل بأسباب مباشرة وتسببا وفي الثمن بالإستيلاد والتدبير والكتابة فلما استويا في اتساع الطرق جاز أن يكون الفاسد أحد الطرق وتأثير هذا الكلام أن الطرق إذا اتسعت في تحصيله فقد دخله نوع من المسامحة والمساهلة فجاز أن يكون الفاسد من طرقه ولا يقال الكتابة حصل العتق فيها بالتعليق دون المعارضة لأنا نقول لو كان كذلك وجب اشتراط التنصيص على التعليق ولا يجب التنصيص عليه
وتقول فإن أديت إلى فأنت حر وأيضا فإنه مستحق فسخ هذه الكتابة ولو كان التعليق هو الذي تحصل به العتق لما قبل الفسخ كسائر التعليق وأيضا فإكسابه وأولاده تتبعه في العتق ولو عتق بالتعليق لم يكن ذلك وأيضا فلو كاتبه على خمر وأداه وجب عليه قيمة نفسه ولو عتق بالتعليق لما وجب عليه قيمة نفسه فما هذا الرجوع بالقيمة إلا حكم المعاوضة
وقد تناهينا في الاحتجاج للخصم ولسنا ممن يغادر هذه الكلمات سالمة عن الإبطال وإن طال بها الفصل وخرج عن المقصود من الشرح
فنقول قد أجاب أصحابنا عن قياسهم البيع الفاسد على الكتابة الفاسدة بطريق ونحن نزيف منها ما لا نرتضيه حتى لا نتجاوز حد الإنصاف
أحدهما قولهم البدل في الكتابة غير مقصود لتمكن السيد من أخذ اكتساب العبد دون الكتابة ولما كان كذلك لم ينظر إلى فساده وصحته وهذا غير مرضي فإن العبد قد يكون كسوبا ويكاتبه السيد طمعا فيما لعله يصل إليه من سهم الرقاب وأيضا كان ينبغي أن لا يفسد العقد كما إذا تزوجها على صداق فاسد فإنه لما كان البدل غير مقصود في النكاح لم يؤثر في فساده فتأثيره في الكتابة يدل على أنه مقصود(15/166)
ص -100-…وثانيها قولهم العتق في الكتابة مضاف إلى التعليق فإن الكتابة الصحيحة اشتملت على تعليق ومعاوضة ولا بد فيها من ذكر التعليق فنقول كاتبتك على ألف فإن أديت فأنت حر وفي الفاسدة لا بد من التعليق والتعليق لا فساد فيه وعلى هذا تمتنع المسائل التي لزمت من أحكام المعاوضات كقبول الفسخ ولزوم القيمة له واستتباع الاكساب والأولاد
وهذا الجواب أمثل من الأول إلا أن لقائل أن يقول العتق مضاف إلى المعاوضة لا إلى التعليق قولكم يشترط أن ينص على التعليق قلنا لا نسلم بل لو نواه بقوله كاتبتك على كذا صحت الكتابة أيضا وهذا واضح وأبلغ منه قول مخرج من التدبير أن لفظ الكتابة صريح مغن عن التصريح بالتعليق ونيته ونظيره قول إلى اسحاق إن كان الرجل فقيها صحت الكتابة والأفد به من التعليق أو نيته ثم كيف يشترط التنصيص على التعليق والعتق عند الأداء يحصل لا محالة بعقد المعاوضة وتسليم العوض يقتضي تسليم ما يقابله فلا يحتاج أن يشترطه في العقد ويصير بمثابة البيع لما اقتضى بنفسه الملك لم يحتج إلى أن يقول بعتك على أن تتسلم أو تتملك
وأما المسائل فلا منع فيها وإنما منع أصحابنا استتباع الكسب والولد فحسب وأما الفسخ فغير ممتنع وقيمة نفسه واجبة وذلك من أحكام العوض دون التعليق
وثالثهما قول بعضهم الكتابة في الأصل خارجة عن القياس فألحقنا فاسدها بصحيحها لأن ما ثبت على خلاف القياس لا يقاس عليه بخلاف البيع وهذا كلام رديء فإن إلحاق فاسدها بصحيحها عين القياس ثم إنها وإن عدل بها عن القياس إلا أنه بعد ورود الشرع بها وصفت بالصحة فينبغي وصف فاسدها بالفساد وإذا ثبت فسادها والفاسد عند الشافعي مرادف للباطل وجب إلغاؤها وأن يكون لها حكم ألا ترى أن السلم والإجارة ثبتا على خلاف القياس لورودهما على معدوم ثم لما ثبت الصحيح منهما ونعت بالصحة يؤدي على الفاسد بالفساد حتى لا يثبت لفاسد كل منهما ما لصحيحه(15/167)
والحق عندنا في الجواب رأي رابع فنقول الكتابة عقد إرفاق لا يقصد بها غير العتق وأن يخلص العبد من الرق فألفينا مضى الفساد ولم ننظر إليه(15/168)
ص -101-…وعمدنا إلى العتق الذي هو المقصود ورأينا الشارع متشوف إلى تحصيله ما أمكن ولهذا يكمل بعضه بعضا ويجعل بعض الملك كجميعه وبعض اللفظ كجميعه ويعتق القريب على قريبه وننزله في أبواب الكفارات في أول الدرجات ونضرب صفحا عن إيجاب الصوم على ذي الميسرة العظمى وإن كان الصوم أشق عليه وما ذلك إلا تشوف إلى تحصيل العتق كيف قدر الأمر ولهذا إذا أدى الأمر إلى العتق بعد هذا لا ينقض ولا يرفض وفي البيع الفاسد إذا تأدى الأمر إلى الملك بالقبض يجب نقضه عندهم ورفضه واسترجاعه كل ذلك تغليبا لتحصيل العتق
فإن قلت فما دعاك إلى آنه تتبعه ولده قلت في ثبوت الكتابة لولد المكاتبة من زنا أو نكاح أجنبي قولان فإن قلنا لا يثبت اندفع السؤال وإن قلنا بالصحيح وهو أنه يثبت فنقول نحن إذا الفينا معنى المعاوضة الفاسدة ولم ننظر إليها طلبا لتحصيل العتق صححنا ما هو تابع طلبا لتكثير العتق ولهذا كان هذا القول الصحيح وهو الأحب للشافعي رضي الله عنه وإنما أحبه للزومه تكثير العتق وقطع به إسحاق رحمه الله وقال إذا اختاره الشافعي كان الآخر ساقطا
فرعان أحدهما في وجوب الاحتراز عن النقض مذاهب ثالثها يجب في المستثنى دون غيره
الثاني ذهب بعض الفقهاء إلى أن مسألة النقض من القطعيات قال القاضي وليس الأمر كذلك عندي بل هي من المجتهدات وكل مأمور بما غلب على ظنه
قال "وجوابه منع العلة لعدم قيد"
هذه الجملة معقودة لبيان النقض وجوابه قال صاحب الكتاب وهو يتأتى بأحد أمور ثلاثة الأول منع وجود العلة في محل النقض وفيه بحثان
أحدهما أن ذلك لا يكون معاندة وصدا بالمكابرة بل يكون بناء على وجود فيه مناسب أو مؤثر في العلة وهو غير حاصل في صفة النقض ولم يتعرض(15/169)
ص -102-…المصنف للكلام في تقسيم القيد فنقول لا يخلو ذلك القيد أما أن يكون جليا أو خفيا الأول الجلي وله أمثلة منها أن في نصرة القول الصحيح هذا الحلي مال معد لاستعمال مباح فلا يجب فيه زكاة كثياب البذلة وعبيد الخدمة فإن نقض بالمعد لاستعمال محرم أو مكروه فدفعه واضح لأنه غير معد لاستعمال مباح
ومنها قولنا طهارة عن حديث فيشترط فيها النية كالتيمم فإن نقض بالطهارة عن النجاسة قلنا ليس الحدث من النجاسة
ومنها قولنا من لم ينو في رمضان ليلا يعرا أول صومه عن النية فلا يصح فإن نقض بالتطوع قلنا العلة عرا أول الصوم الواجب لا مطلق الصوم
ومنها قولنا في المستولد بين الظباء والغنم حيوان متولد بين ما لا يجب فيه الزكاة بحال وما يجب فيه فلا يجب كما إذا كانت أمهات ظباء فإن نقض بالمتولد بين السائمة والمعلولة يجب فيها الزكاة في بعض الأحوال
ومنها أن نقول في نصرة المذهب الصحيح التباس أخذ لنصاب تام خفيفة من حرز مثله عدوانا فيكون سارقا يجب قطعه فإن نقض بما إذا سرق الكفن في قبر في مغارة حيث لا يجب القطع على أصح الوجهين قلنا ليس ذلك في حرز مثله والثاني الخفي فإما أن يكون معناه واحدا أو متعددا إما بطريق التواطئ أو المشكك أو الإشتراك فهذه أقسام أربعة أن يكون معناه واحدا
وذكر من أمثلته قولنا السلم عقد معاوضة فلا يشترط فيه الأجل كالبيع فإن نقض بالكتابة قلنا ليست عقد معاوضة إذ هي بيع مال الإنسان بمال نفسه وذلك لا يجوز بل هي عقد إرفاق ولذلك لا يحيل مقصودها لفساد العوض
وفي هذا المثال نظر والحق أن الكتابة معاوضة تضمنت تعليق عتق وقيل تعليق عتق بصفة ضمنت معاوضة معدولة عن القياس بل الجواب عن هذا النقض أن نقول الكتابة وردت مستثناه فلا ترد نقضا لم تقدم
ومنها قولنا في قصر الصلاة رخصة شرعت للتخفيف فلا يتحتم الأخذ بها(15/170)
ص -103-…كالإفطار في الصوم فإن نقض بأكل الميتة حال من الإضطرار حيث يجب على أصح الوجهين قلنا حينئذ أنه شرع للتخفيف بل للضرورة وقيام البينة
وثانيها أن يتعدد بطريق التواطؤ
ومن أمثلته قولنا الصوم عبادة متكررة فتفتقر إلى تعيين النية كالصلاة فإن نقض بالحج لأنه يتكرر على الأشخاص قلنا المراد من التكرار التكرار بحسب الأزمان والأشخاص أو بحسب الأزمان وما ذكرتم من النقض ليس كذلك بل هو متكرر بحسب الأشخاص فقط ومنها قولنا يحج عن الميت المستطيع وإن لم يوص لأنه حق لازم عليه فيقضي عنه سواء أوصى به أو لم يوص كالدين فإن نقض بالصلاة والصوم قلنا بعد تسليم الحكم وعدم الفرق الإجمالي الحق اللازم مقول على الحق المالي وعلى غيره بالتواطئ والأول هو المقصود هنا دون الثاني الذي هو المراد من النقض
وثالثها أن يتعدد معناه بطريق التشكيك كقولنا في المتولد بين الظباء والغنم حيوان متولد بين ما لا زكاة فيه وما فيه زكاة فلا تجب فيها الزكاة قياسا على ما إذا كانت الأمهات ظباء فإن الخصم وافق في هذه الحالة فإن نقض بالمتولد بين السائمة والمعلوفة من البقر والغنم قلنا ما لا يجب فيه الزكاة مقول بالتشكيك على ما يجب فيه بحال كالظباء وعلى ما يجب له من حيث الجملة كالمعلوفة فإنه يجب فيها الزكاة إذا صارت سائمة وكذا إذا علفت قدرا تعيش الماشية بدونه كاليومين مثلا فإنها معلوفة ولا زكاة فيها والحالة هذه على أصح الأوجه وكذا لم يقصد العلف على أحد الوجهين وقد تقدم ذكره هذه المسألة مثالا للقيد الجلي ولكن على غير هذا الوجه فإنها ثم مقيدة بقولنا لا يجب فيها الزكاة بحال(15/171)
وقد قال بعض الأصوليين أن النقض يندفع أيضا بتفسير اللفظ وذكر هذا المثال وقال إذا صارت من سائمة وجبت زكاتها ويكون اللفظ غير متناول لها عرفا أو شرعا وذكر إمام الحرمين في التخليص الذي اختصره من التقريب والإرشاد للقاضي أبي بكر هذا المثال ثم قال وهذا الضرب مقبول ولا نظن أن النقض يندفع بالتفسير ولكنه يندفع بقضية اللفظ لاقتضاء عموم اللفظ النفس والتفسير إيضاح له وكل تفسير لا ينبني عليه قضية اللفظ في إطلاقه فلا معول عليه في دفع النقض مثل أن يقول القائل مطعوم فلا يباع بعضه ببعض متفاضلا فإذا(15/172)
ص -104-…نقض عليه اعتلاله بالبر مع الشعير فلا يجديه في دفع النقض أن يقول اسم المطعوم ينطلق على ما يتحد جنسه وعلى ما يختلف جنسه فإذا خصصه وفسره بجهة من جهات احتماله وهي ما إذا اتحد الجنس فلا يقبل ذلك منه إذ ظاهر لفظه لا ينبني على هذا التفسير وأطال القاضي في هذا الفصل وما ذكره حق متقبل
وحاصله أن التفسير إذا كان لا ينبئ عنه اللفظ لم يقبل وإلا قبل ويكون حينئذ راجعا إلى هذه الأقسام التي نحن في ذكرها
ورابعها أن يتعدد بطريق الإاشتراك كقولنا جمع الطلاق في القرء الواحد فلا يكون مبتدعا كما لو طلقها ثلاثا في قرء واحد مع الرجعة بين الطلقتين فإن نقض بما لو طلقها ثلاثا في الحيض فإنه جمع الطلاق في الطهر الواحد مع أن الطلاق يدعى وفاقا قبنا المراد من القرء هنا الطهر
قال "وليس للمعترض الدليل على وجوده لأنه نقل ولو قال فادللت على وجوده هنا دل عليه ثمنه فهو نقل إلى نقض الدليل"
"البحث الثاني في أن المستدل إذا منع حصول وجود العلة في صورة النقض فهل للمعترض إقامة الدلالة عليه فيه مذاهب"
أحدها قال الأكثرون وجزم به الإمام والمصنف أنه لا يمكن من ذلك لأنه انتقال من مسألة قبل تمامها إلى أخرى لأن وجود العلة في صورة النقض مسألة تغاير المسألة التي أقام المستدل عليها الدليل وأيضا فإن فيه قلب القاعدة فإن المعترض يصير مستدلا والمستدل معترضا
والثاني أنه يمكن من ذلك لأن فيه تحقيق النقض فكان من متمماته
والثالث قاله الآمدي أنه إن تعين ذلك طريقا للمعترض في هدم كلام المستدل وجب قبوله منه تخفيفا لفائدة المناظرة وإن أمكن القدح بطريق آخر هو أفضى إلى المقصود فلا وهذا التفصيل عندي داخل في مجاري التحقيق
والرابع يمكن المعترض ما لم يكن حكما شرعيا كذا حكاه ابن الحاجب(15/173)
ص -105-…وقال قطب الدين السيرازي ما وجدته في شيء من الكتب ولعل تقريره أن يقال يمكن المعترض في الحكم العقلي لأنه يقدح فيه فيحصل فيه فائدة لا أن يمكن في الحكم الشرعي إذا التمكين فيه انتقال من الاعتراض إلى الاستدلال ولا ينفعه لأنه بعد بيان المعترض وجود العلة في صورة النقض يقول المستدل يجوز أن يكون تخلف الحكم لوجود مانع أو فوات شرط فيجب الحمل عليه جمعا بين الدليلين دليل العلة ودليل التخلف فلا تبطل العلة بخلاف الحكم العقلي فإنه لا يتمشى فيه قال قطب الدين ويحتمل أن يكون المراد ما لم يكن الوصف المدعي علة حكما شرعيا فإنه إن مكن من إثباته لزم قلب القاعدة لصيرورة المعترض مستدلا لإثباته الحكم الشرعي بخلاف ما لم يكن الوصف حكما شرعيا فإنه لا يلزمه ذلك قال وهذا الاحتمال أظهر(15/174)
قلت وقد حكى صفي الدين الهندي هذا المذهب وفرق بين الحكم الشرعي وغيره بأن الحكم ينتشر الكلام فيه جدا بخلاف غيره فإن الأمر فيه قريب قوله فلو قال المعترض ما ذكرت من الدلالة على وجود العلة في محل النقض فهو نقل أي انتقال من نقض العلة إلى نقض الدليل أي دليل وجود العلة في الفرع ولم يتعرض المصنف بعد قوله إن هذا نقل إلى أنه هل يكونه مسموعا أولا ولك أن تقول قوله أنه نقل الإشارة إلى أنه لا يكون مسموعا لأنه قدم أولا أنه ليس للمعترض الدليل على وجوده لكونه نقلا فأومأ بذلك إلى أن النقل لا يجوز ويحتمل أن يريد أن مثل هذا النقل يسمع وعلى هذا مشى الشيرازي شارح الكتاب وكلام الإمام أيضا محتمل للأمرين وظاهره الإشارة إلى أنه لا يكون مسموعا فإنه قال لا يمكن المعترض من إقامة الدليل على وجود العلة في صورة النقض لكونه انتقالا إلى مسألة أخرى بل لو قال المعترض ما دللت به إلى آخره قال فيكون انتقالا من السؤال الذي ابتدأ به إلى غيره هذا كلامه وكأنه قال في تلك الصورة إنها انتقال من مسألة إلى مسألة أخرى أراد التنبيه على أن ما يقوله المعترض في هذا الفرع انتقال من السؤال الأول إلى غيره لا من مسألة إلى أخرى فأتى بلفظه بلى لذلك ولم يرد أن هذا انتقال مسموع(15/175)
ص -106-…وعلى هذا مشى الشيخ صفي الدين الهندي وقال يعد منقطعا وبه جزم الآمدي أعني بأنه لا يكون مسموعا نعم لو قال ذلك ابتداء أو قال يلزمك إما نقض العلة أو نقض الدليل الدال على وجودها في الفرع كان مسموعا يحتاج المستدل إلى الجواب عنه
قال "أو دعوى الحكم مثل أن يقول السلم عقد معاوضة فلا يشترط فيه التأجيل كالبيع فينتقض بالإجارة قلنا هناك لاستقرار المعقود لا لصحة العقد ولو تقديرا كقولنا رق الأم علة رق الولد وثبت في ولد المغرور تقديرا وإلا لما تجب قيمته"
الأمر الثاني من الأمور الثلاثة التي يتأتى بها دفع النقض أن يمنع المطل عدم الحكم في صورة النقض ويدعي ثبوته فيها وذلك قد يكون ظاهرا بأن يكون الحكم ثابتا فيها جزما على رأس المستدل إن كان مجتهدا أو رأي إمامه إن كان مقلدا ناصرا لمذهبه أو على أحد قوليه غير المرجوع عنه أو غير ذلك ولم يتعرض المصنف لهذا القسم لكونه كما قال الإمام معلوما وقد يكون خفيا وفيه كلام المصنف وذلك قد يكون تحقيقا وقد يكون تقديرا الأول التحقيقي مثل السلم عقد معاوضة فلا يتشرط فيه التأجيل كالبيع فإن نقض بالإجارة قلنا الأجل ليس شرطا لصحة عقد الإجارة وإنما جاء فيها التقرير المعقود عليه وهو الانتفاع بالعين
ومن أمثلته أيضا الإجارة عقد معاوضة فلا تنفسخ بالموت كالبيع فإن نقض بالنكاح قلنا بعد تسليم كونه عقد معاوضة هناك لا ينفسخ بالموت لكن انتهى
منها الثيب الصغيرة ثيب فلا يجوز إجبارها كالبالغ فإن نقض بالثيب المجنونة بحيث يجوز تزويجها على الوجه الصحيح قلنا لا نسلم صحة إجبارها كما لو كانت عاقلة وهو وجه في المذهب
ومنها أن يقول في تخالف المتبايعين بعد هلاك السلعة أنه فسخ بيع يصح مع رد العين فصح مع رد القيمة كما لو اشترى ثوبا بعبد وتقابضا ثم هلك العبد ثم(15/176)
ص -107-…علم مشتري الثوب بالثوب عيبا فيقول الحنفي هذا ينتقض بالإقالة فإنها بيع يصح مع رد العين ولا يصح مع رد القيمة فنقول لا نسلم ذلك فإن الإقالة عندنا تصح بعد هلاك السلعة ويرجع فيها بالقيمة
والثاني التقديري وإليه أشار بقوله ولو تقديرا وهو دافع للنقض على الرأي الأظهر لأن المقدر كالمحقق
مثاله قولنا رق الأم علة رق الولد فيكون هذا الولد رقيقا فإن نقض بولد المغرور بحرية الجارية حيث كان رق الأم موجودا مع انعقاد الولد حرا قلنا رق الولد موجود تقديرا أو مقدر وجوده إذ لو لم يقدر رقه لم نوجب قيمته إذ لا قيمة في الحر ولذلك حكي وجه أنه ينعقد رقيقا ثم يعتق على المغرور حكاه الرافعي في كتاب العتق وجزم في النكاح بخلافه
وأعلم أن الأول أعني التحقيق دافع للنقض إذا كان الحكم مشفقا عليه بين المستدل وخصمه وكذا إن كان مذهبا للمستدل فقط لأنه إذا لم يف بمقتضى علته في الاطراد فالآن لا يجب على غيره كان أولى وإن كان مذهبا لخصمه فقط كما يقول هذا الوصف مما لا يطرد على أصل فإنه ثابت في الصورة الفلانية والحكم غير ثابت فيها عندي ولست بالمنقاد إليه لم يتوجه النقض لأن خلاف الخصم في تلك المسألة كخلافه في المسألة المتنازع فيها وهو محجوب بذلك الدليل في المسألتين معا وأما تمكين المعترض في إقامة الدلالة على عدم الحكم ففيه الخلاف السابق في منع وجود العلة في صورة النقض ومن فروع هذا القسم أعني منع الحكم ما إذا ذكر المعترض صورة فقال المستدل المنتصر لمذهب إمامه لا أعرف في هذه نصا فلا يلزمني النقض فهل يندفع النقض بذلك ذكر الشيخ أبو إسحاق هذا في كتابه الملخص في الجدل(15/177)
ومثل له بأن يستدل الحنفي في القارن إذا قتل صيدا أنه يلزمه جزآن لأنه أدخل النقض على إحرام الحج والعمرة فلزمه جزآن كما لو أحرم بالحج فقتل صيدا ثم أحرم بالعمرة فقتل صيدا فيقال له هذا ينتقض به إذا أحرم المتمتع بالعمرة فجرح صيدا ثم أحرم بالحج فجرحه ثم مات فإنه أدخل النقض على إحرام الحج والعمرة ثم لا يلزمه جزاء أن فيقول المخالف لا أعرف نصا في هذه(15/178)
ص -108-…المسألة ثم قال رأيت القاضي أبا الطبيب يقول في مثل هذا إذا جوزت أن يكون مذهبك على ما ألزمته وجب أن لا يحتج بهذا القياس قال وعندي أنه لا يلزمه النقض لأنه وإن احتمل ما قال إلا أن القياس يقتضي أنه يلزمه كفارتان فيعمل به ما لم يمنع كالعموم قبل ظهور المخصص
قلت وحاصل هذا أن المعلل له أن يلتزم بصورة النقض عند الشيخ وعند القاضي ليس له الالتزام بها مع احتمال أن لا يكون مذهب إمامه وهذا أمر راجع إليه في نفسه ولا خلاف بينهما في أنه لا يكتفي منه بأن يقول لا أعرف نصا في هذه المسألة وهذا هو الحق وكيف يكون خلافه والمعترض بنادي يلزمك إما انتقاض علتك أو دعوى ثبوت الحكم
قال أو "إظهار المانع" الأمر الثالث مما يجاب به عن النقض أن يظهر المعلل مانعا من ثبوت الحكم في صورة النقض فيندفع النقض بذلك عند من يجعل تخلف الحكم لمانع لا يقدح ومنهم المصنف كما علمت مثاله يجب القصاص القتل بالمثقل قياسا على المحدد بجامع القتل العمد من العدوان فإن نقص بقتل الوالد ولده بأن الوصف فيه مع تخلف الحكم قلنا تخلف لمانع وهو أن الوالد سبب لوجود الولد فلا يحسن أن يكون الوالد سببا لعدمه وإذا تخلف لمانع فلا يقدح في العلية
ولم يذكر المصنف مما يدفع به النقض غير هذه الثلاثة وكان ينبغي أن يذكر دفعه يورد صورة النقض مستثاة فإنه دافع أيضا
قال "تنبيه دعوى ثبوت الحكم أو نفيه عن صورة معينة أو مهمة ينتقض بالإثبات أو النفي العامين وبالعكس"
هذه الكلمات منبهة على ما يتجه من النقوض ويستحق الجواب وما ليس كذلك أعلم أن المقصود من ثبوت الحكم إما إثباته ونفيه معا أو أحدهما
فإن كان الأول ولم يتعرض له المصنف وجب أن يكون الحكم مطردا ومنعكسا مع علته كالحد مع المحدود فمتى ثبت عند عدمه أو عدم وجوده توجه عليه النقض(15/179)
ص -109-…وإن كان الثاني فالمدعي إما ثبوت الحكم أو نفيه وكل منهما إما أن يكون في بعض الصور أو جميعها وإذا كان في بعض الصور فإما أن يكون في صورة معينة أو مبهمة فهذه ثلاثة أقسام داخلة في كل من القسمين أعني ثبوت الحكم أو نفيه في صورة وثبوته أو نفيه مطلقا
الأول دعوى ثبوت الحكم في صورة معينة فينتقضه النفي عن جميع الصور لأن السالبة الكلية تناقض الموجبة الجزئية ولا ينقضها النفي عن صورة لأن الجزئين لا يتناقضان فالثبوت في صورة لا تناقض النفي في صورة
مثاله قول الحنفي في جريان القصاص بين المسلم والذمي في حالة العمد محقونا الدم فجرى بينهما القصاص كالمسلمين وينقضه الأب والابن فإنهما لا يجري بينهما القصاص بحال ولا ينقضه إذا بين عدم جريان القصاص بينهما حالة الخطأ
والثاني دعوى نبوته في صورة مبهمة وهو كالأول
ومثاله قولنا الصبي حر مسلم مالك للنصاب فيجب الزكاة في ماله كالبالغ فإن نقض بالحلي وثياب البذلة لم نجبه لما عرفت ومثال المعين المنفي أن يقال هذا النبيذ ليس بنجس قياسا على خل الزبيب فينتقض بأن كل نبيذ مسكر وكل مسكر نجس
ومثال المبهم المنفي أن يقال إذا اشتبه عليه نهر غيره بأنهار نفسه لا يحل له الشرب من نهر واحد لا بعينه كما لو اشتبه عليه ظرف ماء غيره بظروف مائه بجامع الاشتباه فينقبض بأنه يحل الشرب من النهر الجاري وإن كان لغيره فإنه لا يجوز المنع من الشرب على أظهر الوجهين وادعى الشيرازي صاحب الكتاب في هذا الإجماع وليس بسديد وإذا علمت هذه الأقسام الأربعة فهي المشار إليها بقوله دعوى ثبوت الحكم إلى قوله العامين وتقدير الكلام دعوم ثبوت الحكم في صورة معينة أو مهمة ينتقض بالنفي العام ودعوى نفيه عن صورة معينة أو مبهمة ينتقض بالإثبات العام ففيه لف ونشر على جعل الأول للثاني والثاني للأول(15/180)
ص -110-…قوله وبالعكس إشارة إلى القسم الآخر وهو أن يدعي ثبوت الحكم أو نفيه عاما وقد قلنا إنه يدخل فيه أقسام ثلاثة أيضا الأول نقض دعوى ثبوت الحكم عاما بالصورة المعينة مثاله قولنا كل شريك فدعواه رد المال على شريكه مقبولة قياسا على الوكيل إذا ادعى الرد من وكله وكذا المودع والجامع أن كلا من الشريك والوكيل والمودع أمين فينتقض هذا بالمرتهن حيث لا يقبل دعواه الرد عند العراقيين وهو الأصح وكذلك ينتقض بالمستأجر ومن أمثلته أيضا قولنا يقتل كل رقيق بمثله والمدبر بالمدبر وأم الولد بأم الولد قياسا على الحر بالحر بجامع الكفاءة فينتقض بما إذا قيل المبعض مثله مع التساوي في قدري الرق والحرية حيث لا يجب القصاص على أحد الوجهين ولا ينتقض بما إذا قتل الأب الرقيق عبد ابنه لأن المستدل يقول تخلف الحكم لمانع وهو أن قصاص العبد لابن القاتل فلو ثبت لأدى إلى ثبوت القصاص للوالد على الولد
الثاني نقض هذه الدعوى المذكورة بالصورة المبهمة ولا استحضر له مثالا
الثالث نقض دعوى نفي الحكم عاما بالصورة المعينة
كما إذا قال قائل فيما إذا قطع مملوك طرف مملوك آخر فملوكان فلا يجري بينهما القصاص كالصغيرين فينقض بجريان القصاص بينهما في النفس ومن أمثلته أيضا أن يقال بيع النحل في الكوارة والحمام في البرج إذا لم يشاهد غير صحيح قياسا على بيع الغائب بجامع عدم الرؤية للمشتري فينتقض بأن العبد الأعمى يصح أن يشتري نفسه من سيده مع أن المبيع غير مرئي للمشتري وبأنه لو كان مرئيا قبل العقد ولم يحتمل التغير صح بيعه وإن لم يشاهد في الحال ولئن قال المعلل لا يصح بيع السمك في الماء والطير في الهواء قياسا على بيع الغائب بجامع الغرر كان تعليلا صحيحا وليس للمعترض نقضه ببيع النحل وهو طائر حيث يصح على أصح الوجهين وبيع الحمام وهي طائرة اعتمادا على عودها ليلا على أحد الوجهين لأن المعلل يمنع الغرر والحالة هذه(15/181)
الرابع نقض هذه الدعوى بالصورة المبهمة ولا يحضرني مثاله والله تعالى أعلم(15/182)
ص -111-…قال "الثاني عدم التأثير
بأن ينفي الحكم بعده وعدم العكس بأن يثبت الحكم في صورة بعلة أخرى فالأول كما لو قيل مبيع لم ير فلا يصح كالطير في الهواء والثاني الصبح لا يقصر فلا يقدم أذانها كالمغرب ومنع التقديم ثابت فيما قصر"
عدم التأثير وعدم العكس من واد واحد فلذلك جمع بينهما والذي عليه الجدليون أن عدم التأثير أعم من عدم العكس فإنهم قالوا كما نقله أمام الحرمين وغيره عدم التأثير ينقسم إلى ما يقع في وصف العلة وإلى ما يقع في أصلها وجعلوا الواقع في الوصف وهو عدم الانعكاس وسيتضح إن شاء الله ذلك بالمثل
وقال إمام الحرمين الذي نراه أن القسمين ينشآن من الأصل وإذا عرفت هذا فقد عرف المصنف تبعا للإمام عدم التأثير بأن ينفي الحكم بدون ما فرض علة له وعدم العكس بحصول الحكم في صورة بعلة أخرى واعتراض على هذا لأن قوله ينفي الحكم بدون ما فرض علة له إن أريد به أنه كذلك في المحل الذي ادعى أنه علة فيه وهو ظاهر مراده فهو غير لازم لأن عدم التأثير قد يكون بأن يبين ثبوت الحكم في غير ذلك المحل بدون ما جعل علة له وإن أراد أنه كذلك في غير ذلك المحل فقط ففاسد لأنه إذا بين بناء الحكم في ذلك المحل بعينه بدون ما جعل علة له كان ذلك عدم التأثير بطريق أولى وإن عنى به ما هو الأعم من هذين فباطل لأن العكس أيضا كذلك إذا ليس من شرط العكس حصول الحكم في صورة أخرى بل لو حصل في تلك الصورة بعينها بعلة أخرى كان ذلك عكسا أيضا وهو اعتراض منقدح إذا كان الإمام قد مشى على مراسم الجدليين وعلمك محيط بأن القوم ذوو اصطلاح فليساعدوا عليه ما لم يخرج عن قانون معتبر وإن لم يف الإمام باصطلاحهم كان له أن يقول المراد من عدم التأثير
القسم الأول وقولكم قد يكون بغير ذلك قلنا في مصطلحي لا يكون كذلك بل له أن يقول المراد
القسم الثالث قولكم ليس من شرط العكس حصول الحكم في صورة(15/183)
ص -112-…أخرى قلنا بل هو من شرطه في مصطلحنا وإذا علمت هذا فقد مثل المصنف لعدم التأثير بقولنا في الغائب يبيع غير مرئي فلا يصح كالطير في الهواء والسمك في الماء بجامع عدم الرؤية فينقدح للمعترض أن يقول عدم الرؤية لا تأثير له في الحكم لبقاء الحكم المذكور بعد زواله فيما إذا صار البيع مرئيا ولكن غير مقدور على تسليمه وهذا المثال واقع لعدم التأثير في أصل العلة دون وصفها كما وضح ومثل لعدم العكس باستدلال الحنفي على منع تقديم آذان الصبح بقوله الصبح صلاة لا تقصر فلا يجوز تقديم آذانها على وقتها كالمغرب بجامع عدم جواز القصر فيقول هذا الوصف لا ينعكس لأن الحكم الذي هو منع تقديم الآذان على الوقت موجود فيما قصر من الصلوات بعلة أخرى وهذا المثال واقع لعدم التأثير في الوصف كما ظهر
ومن أمثلة الأول أيضا أن يقال على لسان الشافعي في منع نكاح الأمة الكتابية أمة كافرة فلا يحل للمسلم نكاحها كالأمة المجوسية فيقال لا أثر للرق في الأصل فإن الحرة المجوسية محرمة والتمجس مستقل بإثارة منع النكاح والرق مستغن عنه فذكره عديم التأثير في الأصل وقد تم ما في الكتاب
وقد قسم الباب النظر عدم التأثير أقساما عديدة
أولها وثانيها عدم التأثير في الأصل والوصف وهما المتقدمان في كلام المصنف والثالث عدم التأثير في الأصل والفرع جميعها فإذا قلنا بأن عدم التأثير في الأصل فقط يقدح كما ستعرفه إن شاء الله كان قادحا بطريق أولى ومثال هذا قوله من اعتبر العدد الاستجمار بالأحجار عبادة متعلقة بالأحجار لم يتقدمها معصية فينبغي أن يعتبر فيها العدد قياسا على رمي الجمار وإذا اعتبر العدد وجب أن يكون ثلاثة ضرورة أنه لا قائل بالوصف(15/184)
وقوله لم يتقدمها معصية عديم التأثير في الأصل والوصف معا بخلاف قولنا أمة كافرة فلا تحل للمسلم كالأمة المجوسية فإن كونها أمة لا أثر له في الأصل لكن تأثير في الفرع فلئن قال مثلا إذا سقط قوله لم يتقدمها معصية انتقض بالرجم فإنه عبادة تتعلق بالأحجار ثم لا يعتبر فيه العدد فنقول قال الشيخ أبو(15/185)
ص -113-…إسحاق الشيرازي هذا أصعب ما يجيء في هذا الباب قال وعندي أن مثل هذا لا يجوز تعليق الحكم عليه ذكره في الملخص
والرابع عدم التأثير في الفرع دون الأصل وهو قسمان
أحدهما أن يذكر وصف في الفرع يتحقق الخلاف فيه بدونه كقولهم نوى صوم رمضان قبل الزوال فصح كما لو نوى من الليل فقيل كونه من رمضان لا مدخل له في تحقيق الخلاف إذ يتحقق بدونه ولو نوى مطلق الصوم فيه لخلاف أيضا وقد اختلف في قبول هذا القسم أيضا
وثانيهما أن يلحق الفرع بالأصل بوصف تأثير له على إطلاقه في الفرع وفاقا كقولنا في إثبات فسخ النكاح بالعيوب الخمسة عيب ينقض الرغبة في المعقود عليه فوجد ثبوت الفسخ به كما في البيع فالوصف المذكور في الإلحاق لا تأثير له في الفرع على إطلاقه وفاقا ولهذا لا يثبت الخيار في النكاح بكل عيب شأنه ما ذكر وفاقا وقول القاضي الحسين ومن شذ عن الأصحاب بدعواه ثبوت الخيار بكل عيب منفر يكسر ثورة التوقان لا يرد على دعوانا الوفاق هنا فمن العيوب ما ينقص الرغبة ولا يكن منفرا يكسر ثورة التوقان ولا عبرة به على العموم إجماعا وإن اختلف في أفراد خاصة
والخامس عدم التأثير في الحكم وهو أن يذكر في الدليل وصفا لا تأثير له في الحكم المعلل به كما إذا قيل في مسألة المرتدين إذا أتلفوا أموالنا في دار الحرب طائفة مشركة فلا يجب عليهم الضمان يتلف أموالنا في دار الحرب كأهل الحرب فالإتلاف في دار الحرب لا تأثير له في نفي الضمان وإثباته فإن من أوجب الضمان أوجبه مطلقا سواء كان في دار الحرب أم غيرها ومن نفاه نفاه مطلقا
والفرق بين هذا والثالث فرق ما بين العام والخاص لأنه يلزم من أن يكون له تأثير في الحكم أن لا يكون له تأثير في الأصل والفرع من غير عكس
وقال الآمدي حاصل هذا القسم يرجع إلى عدم التأثير في الوصف بالنسبة إلى الحكم المذكور وإذا بطل عدم التأثير في الفرع كما هو أحد الرأيين ورجع(15/186)
ص -114-…حاصل هذا القسم إلى عدم التأثير في الوصف فلم يبق غير عدم التأثير في الوصف وفي الأصل
والآمدي لم يذكر القسم الثالث الذي أوردناه ولعله أهمله لكون الخامس أعم منه وإذا تفهمت ما ألقيته لك من الشرح وعلمت عود الأقسام كلها إلى عدم التأثير في الأصل وفي الوصف عرفت أن اقتضاء صاحب الكتاب على ذكرهما نوع حسن من الاختصار والله أعلم
قال الأول يقدح أن منعنا تعليل الواحد بالشخص بعلتين
والثاني تمتنع تعليل الواحد بالنوع بعلتين وذلك جائز في المنصوصة كالايلاء واللعان والقتل والردة لافي المستنبطة لأن ظن ثبوت الحكم لأحدهما يصرفه عن الآخر عند المجموع
تقدم تصويرها عدم التأثير وعدم العكس والكلام هنا في أنهما هل يقدحان في العلية وقد تشاجر القوم في ذلك وبنى المصنف الأول على أنه هل يجوز تعليل الحكم الذي هو واحد بالشخص بعلتين فيقدح عند مانعه لأنه إذا لم يوجد الوصف المفروض علة مع بقاء الحكم والفرض أنه ليس ثابتا بعلة أخرى يحصل العلم بأن ذلك الوصف ليس علة
وبنى الثاني على أنه يمتنع تعليل الحكم الواحد بالنوع بعلتين بناؤه ظاهر مما تقدم لأن النوع باق فيه ويعلم من هذا أن الحكم الواحد إن بقي شخصه بعد زوال العلة فهو عدم التأثير وإن بقي بنوعه فهو عدم العكس فامتناع بيع الطير في الهواء بقي شخصه بعد زوال الرؤية كما كان قبلها وامتناع نكاح الأمة المجوسية باق بالشخص بعد زوال العلة وهي كون الصلاة لا تقصر إنما هو في الرباعية وما كان ثابتا مع العلة إنما هو مع غيرها لكنهما اشتركا في النوعية وهو منع تقديم الآذان
وأعلم أن المبني عليه من أعظم ما خاض فيه الأصوليون والمصنف اختصر القول فيه جدا نحن نأخذ ما في شرح الكتاب على الاختصار ثم نعود إلى الكلام في ذلك على حسب التوسط فنقول يجوز تعليل الحكم الواحد نوعا(15/187)
ص -115-…المختلف شخصا بعلل مختلفة وفاقا كتعليل إباحة قتل زيد بردته وعمرو بالقصاص وخالد بالزنا بعد الإحصان وربما أومأ بعضهم إلى جريان الخلاف فيه وعلى ذلك مشى صاحب الكتاب حيث جعل عدم العكس مبنيا عليه والأشبه ما ذكرناه وبه صرح الآمدي وصفي الدين الهندي وهذا في العلل الشرعية
أما العقلية فظاهر نقل بعضهم أن الخلاف في تعليل المعلول الواحد بعلل عقلية يختص بالواحد بالنوع دون الواحد بالشخص فإنه يمتنع تعدد علته بلا خلاف وأما تعليل الحكم الواحد في شخص واحد بعلل مختلفة نحو تحريم وطء المعتدة المحرمة الحائض وزاد إمام الحرمين الصائمة وهو سهو لأن الصوم يستحيل أن يجامع الحيض شرعا وكذا أباحه قتل الشخص الواحد بردته وقتله الموجب للقصاص هل يجوز بهذه الإمارات المزدحمة اختلفوا فيه على مذاهب
أحدهما المنع من ذلك مطلقا
والثاني الجواز مطلقا وإليه ذهب الجماهير
والثالث أنه يجوز في المنصوصة دون المستنبطة وهو اختيار الأستاذ أبي بكر بن فورك الغزالي والإمام والمصنف قال إمام الحرمين وللقاضي إليه صفو ظاهر في كتاب التقريب
قلت وظاهر ما في التخليص مختصر التقريب تجويزه مطلقا وأما ما ذهب إليه الغزالي منا من التفصيل فيخالف ما ذكره في الفقه فإن قال في كتاب البيع من الوسيط عند الكلام في زوائد المبيع والحكم الواحد قد يعلل بعلتين
والرابع عكسه وذهب إمام الحرمين إلى رأي خامس وهو أنه جائز غير واقع قوله وذلك هذا دليل على التفصيل الذي اختاره
وتقريره أنه قد وقع تعليل الواحد بالشخص بعلتين منصوصتين فدل على جوازه ودليل وقوعه اللعان والإيلاء فإنهما علتان مستقلتان في تحريم وطء المرأة ولك أن تقول الإيلاء لا تحرم به الزوجة فلا يصح التمثيل به ولا يمكن أن يبدل الإيلاء بالظهار لأن الظهار وإن كان محرما إلا أنه لا يمكن اجتماعه مع اللعان(15/188)
ص -116-…إذا اللعان يقطع الزوجية فلا تجتمع علتان على معلول واحد فينبغي التمسك بالطلاق الرجعي مع الظهار فإنهما علتان في تحريم الوطء وقد يجتمعان في المرأة فتكون رجعية مظاهرة أمنها ودليل وقوعه أيضا المرتد الجاني فإن كلا من الارتداد والجناية علة مستقلة في إراقة دمه وكذلك الصوم والعدة والإحرام في تحريم الوطء الزوجية ومثل الغزالي بأن من لمس ومس وبال في وقت واحد انتقض طهره ولا يخال على واحد من هذه الأسباب ومن أرضعتها زوجة أخيك وأختك أيضا وجمع لبنهما وانتهيا إلى حلق المرتضعة في لحظة واحدة حرمت عليك لأنك خالها وعمها والنكاح فعل واحد وتحريمه حكم واحد ولا يمكن أن يحال على الخؤلة دون العمومة أو بعكسه ولا يمكن أن يقال هما تحريمان وحكمان بل التحريم له حد واحد وحقيقة واحدة يستحيل اجتماع المثلين انتهى
وإذا ثبت هذا في الواحد بالشخص وضح ثبوته في الواحد بالنوع بطريق أولى
وأما المنع في المستنبطة فاستدل عليه بأن ظن ثبوت الحكم لأجل أحد الأمرين مانع من ظن ثبوته لأجل الأمر الآخر بمفرده أو لأجل المجموع وما لا يحصل الظن لثبوت الحكم لأجله لا يحكم بعلتيه بالاستنباط والاجتهاد فلا نحكم بعلية أمور متعددة لشيء واحد بالاستنباط والاجتهاد وهذا كما إذا تصدق على فقيه فقير قريب فإنه يحتمل أن يكون الداعي إلى الصدقة مجموع الأوصاف أو بعضها أو فرد منها والاحتمالات متنافية لما ذكرناه هذا تقرير ما في الكتاب وفي الدليل المذكور نظر نذكره من بعد إن شاء الله تعالى(15/189)
عدنا إلى الكلام في أصل المسألة فنقول اختلفوا في أن العكس هل يجب في العلة فقالت المعتزلة وبعض أصحابنا كالإمام لا يجب سواء كانت عقلية أم شرعية وادعى القاضي في مختصر التقريب والإرشاد الاتفاق في العلل العقلية على خلاف ذلك فإنه قال يشترط في العلة العقلية الإطراد والانعكاس باتفاق العقلاء القائلين بالعلل أو قال قوم أنه واجب مطلقا وأوجبه قوم في العقلية دون الشرعية وعليه أكثر أصحابنا وقال آخرون يجب في المستنبطة دون المنصوصة(15/190)
ص -117-…وقال الغزالي إن لم يكن للحكم إلا علة واحدة فالعكس لازم لأن انتفاء العلة يوجب انتفاء الحكم لأن الحكم لا بد له من علة فإذا اتحدت العلة وانتفت فلو بقي الحكم لكان ثابتا بغير سبب أما حيث تعددت العلة فلا يلزم انتفاء الحكم عند انتفاء بعض العلل بل عند انتفاء جميعها قال والذي يدل على لزوم العكس عند اتحاد العلة أنا إذا قلنا لا نثبت الشفعة للجار لأن ثبوتها للشريك معلل بعلة الضرر اللاحق من التزاحم على المرافق المتحدة من المطبخ والخلاء ومطرح التراب ومصعد السطح وغيره
فلأبي حنيفة أن يقول لا مدخل لهذا في التأثير فإن الشفعة ثابتة في العرصة أيضا وما لا مرافق له فهذا إلزام عكس وهو لازم لأنه يقول لو كان هذا مناطا للحكم لا ينفي الحكم عند انتفائه فنقول السبب فيه ضرر مزاحمة الشريك فيما يتأبد ويبقى فنقول فليجر في الحمام وما لا ينقسم كما هو عندكم قول قديم أو وجه فلا يزال يؤاخذنا بالطرد والعكس وهي مؤاخذة صحيحة إلى أن يعلل بضرر مؤنة القسمة ونأتي بتمام قيود العلة بحيث يوجد الحكم بوجودها ويعدم بعدمها وهذا المكان أنا أثبتنا هذه العلة بالمناسبة وشهادة الحكم لها بوروده على وفقها وشرط مثل هذه العلة الاتحاد وشرط الاتحاد العكس
قال صفي الدين الهندي وينبغي أن لا يكون فيما ذكر الغزالي خلاف ونزاع لأحد ويظهر عند هذا أن هذه المسألة فرع مسألة الحكم الواحد بعلل مختلفة فلذلك لم يشتغل صاحب الكتاب بالكلام فيها بل تكلم في تعليل الواحد بعلل فليكن كلامنا أيضا في ذلك(15/191)
وقد علمت المذاهب فيها وما احتج به صاحب الكتاب على اختياره وهو مدخول عندنا لأن نقول على الاستدلال له المنصوصة لا دلالة لما ذكرت إلا على اجتماع سببين أو أكثر على حكم واحد وليس فيه دلالة على أن ذلك الحكم معلل بكل منها أو واحد منها فلئن قال أعود وأقرره على وجه آخر فأقول العلل إذا اجتمعت في الشخص الواحد كالقتل والردة والزنا فإما أن يقال لا يثبت الحكم فيه أصلا وهو باطل أو يثبت بواحدة معينة وهو أيضا باطل للزوم الترجيح من غير مرجح أو بواحدة لا بعينها وهو كذلك لأن ما لا(15/192)
ص -118-…تعين له لا وجود له في نفسه ما لا وجود له لا يصلح أن يكون علة أو بمجموعها وهو كذلك لأنه حينئذ تكون كل واحدة منها جزءا لعلة وليس كلامنا فيه فيتعين أن يعلل الحكم بكل واحدة منها لا يقال نمنع وجود العلل دفعة واحدة ونقول فيما إذا ترتيب الحكم معلل بالسابق منها وشيء من تلك المفاسد المذكورة غير لازم حينئذ لأنا نقول منع وجودها مكابر ة إذ نحن على قطع أنه لا منافاة بين تلك الأمور فيصح اجتماعها ووجودها دفعة واحدة إذ يمكن صدور الزنا والردة من واحد من واحد والعياذ بالله في ساعة واحدة
فنقول قاربت الإصابة بالتقرير على هذا الوجه ولكنا لا نسلم بعد ذلك أن الحكم هناك حكم واحد بل أحكام كثيرة فإن الإباحة الحاصلة بالقتل غير الحاصلة بالردة والدليل عليه وجهان
الأول أن الرجل إذا عاد إلى الإسلام زالت الإباحة الحاصلة بسبب الردة وبقيت الإباحة الحاصلة بالقتل والزنا
والثاني أن القتل المستحق بالقتل يجوز لولي الدم العفو عنه والمستحق الردة لا يتمكن الولي من إسقاطه فدل على تغاير الحكمين وهذا لمنع الذي ذكرناه هو الذي اعتمد عليه إمام الحرمين في رد هذه الحجة وهو عندنا منع صحيح
وإن كان القاضي في مختصر التقريب والإشاد قال إنه هذيان يدني قائله من جحد الحقائق ونحن نذكر ما رد به ونزيفه بعد ذلك وأجمع كلام في الرد عليه كلام الإمام فقال الدليل على أن الحكم واحد أن إبطال حياة الشخص الواحد أمر واحد فهو إما أن يكون ممنوعا منه من جهة الشرع بوجه فهو الحرمة أو لا فهو الحد
وإن كانت الحياة واحدة كانت إزالتها واحدة فكان الإذن في تلك الإزالة واحدا فإن قلت الفعل الواحد كونه حلالا من وجه حراما من آخر وحينئذ يجوز أن يتعدد حكم الحد لتعدد جهاته فيكون الشخص الواحد مباح الدم من حيث أنه مرتد وأنه زان وأنه قاتل(15/193)
ص -119-…قلت حرمة الشيء من وجه وحله من آخر معقول لأن الحل هو تمكين الشرع من الفعل ولا يتحقق هذا المعنى إذا لم يكن فيه وجه يقتضي المنع أصلا بل ليس من شرط الحرمة أن يكون حراما من جميع جهاته لأن الظلم حرام مع أن كونه حادثا وعرضا وحركة لا يقتضي الحرمة وحينئذ نقول حل الدم على هذا الوجه يستحيل أن يتعدد والعلم بذلك ضروري هذا ما ذكره الإمام
وقد اعترض النقشواني على قوله إبطال حياة الشخص الواحد أمر واحد بالمنع
وفيه نظر ثم بعد التسليم بأنك لم قلت أن ما يكون طريقا إلى الشيء يجب أن يكون واحدا لأن الحكم الذي كلامنا فيه ليس نفي إبطال حياة الشخص بل الطريق إليه ألا ترى أن حياة الشخص الواحد يمكن إبطالها بضرب عنقه وقده نصفين وأمور لا تعد فيما نحن فيه لم ادعيت أنه ليس كذلك فإن إباحة القتل بالردة هو طريق واحد إلى إبطال الحياة وحكمه أن يقتله الإمام ما لم يتب وليس له إسقاطه وإباحته بالقصاص أن يتمكن الولي من قتله بمثل الطريق التي صدرت عنه أو بالسيف وله العفو وإباحته بالزنا أن يرجم ولا يتبع إذا هرب ولا يسقط فهذه طرق مختلفة غير أنها اشتركت في أمر واحد وذلك لا يوجد اجتماع العلل على حكم واحد وأيضا عصمة دم المرء حكم شرعي وهو مشروط بأمور منها الإسلام ويضاده الكفر ومنها العفة ويضادها الزنا ومنها العدل ويضاده القتل ظلما ويختل كل واحد منها بواحد من هذه الأفعال(15/194)
وكما قال إمام الحرمين لن يقدم الانس بالفقه استمكانا من تقدير التعدد في الموجبات بوجوه ترشد إلى التغاير والاختلاف ونظير هذا في الأمور العقلية إن حياة الشخص الواحد مشروطة بشروط منها بقاء الأعضاء الرئيسية على أمزجتها المعينة ومنها اتصال بعضها ببعض وغير ذلك وكل ما يحصل في البدن مبطلا لواحد من هذه الشروط تصير سببا لإبطال الحياة ولا جرم إن تعددت أسباب إبطال الحياة فإذا فرضنا اجتماع عدة منها لا نقول إن العلل الكثيرة تواردت على معلول واحد وإذا فرضنا دفعة واحدة حز رقبة شخص وقده بنصفين من شخصين معا لا يقال اجتمع هاتان العلتان على معلول واحد إذ(15/195)
ص -120-…لا يتصور ذلك في العلل العقلية التامة المؤثرة فكلما ذكر عذرا في الصورة كان عذرا لنا في دفع ما ذكر من الدليل ولسنا بالمعتذرين عن العلل العقلية فإن العلة العقلية لا حقيقة لها عندنا ومن طلب الإحاطة بذلك فهو محال على دقيق الكلام في العلة والمعلول ولكنا نحيل الأمر إلى الإمام
ثم قال الإمام قولكم الدليل على التغاير أنه لو أسلم زال أحد الحلين وبقي الآخر قلنا لا نسلم أنه يزول أحد الحلين بل يزول كون ذلك الحكم معللا بالردة فالزائل ليس هو نفس الحل بل وصف كونه معللا بالردة
ولقائل أن يقول لو لم يزل ذلك الحل لكان مستمرا بدون علته فإنه لا أثر للزائل في المستمر بل التحقيق أن الحل المضاف إلى الردة زال وبقي حل آخر ثم قال قولكم ولي الدم مستقل بإسقاط أحد الحلين قلنا ممنوع بل هو متمكن من إزالة أحد الأسباب فإذا زال السبب زال انتساب ذلك الحكم إليه لا الحكم نفسه واعترض عليه النقشواني أيضا بأنا نعلم أن الولي كان متمكنا من إزالة الحل الثابت له وهذا الزوال يستدعي سببا غير عفوه وبأنا نقول إن كان الزائل بالعفو شيء آخر غير حل القتل فموجب قتل القاتل ظلما هو ذلك الشيء لأن العفو يسقط موجب الجناية فإذا كان موجب الجناية غير الحل فلا يلزم اجتماع العلل على حكم واحد وهكذا نقول في سائر الصور المذكورة من اجتماع العدة والحيض في الزوجة وصورة الرضاع في زوجة الأخ والأخت وغيرها وإن كل هذه الأحكام مشروطة بشروط على ما تقرر
ثم إنا نقول ما ذكرتم من الصور التي فرضتم الكلام فيها أمر عجاب فإن بعضها مستنبطة مومئ إليها فإن عليه ما أردتم إنما جاء من الاستنباط وإيماء النصوص لا من النص وأنتم لا تجوزون اجتماعها على المعلول الواحد إذ فرقتم بين المستنبطة والمنصوصة فكيف يحصل الفرض من هذا وعليهم في هذا الدليل اعتراضات أخر أضربنا عنها إذ قد أطلنا بعض الإطالة(15/196)
ولإمام الحرمين هنا كلمات لا نرى إخلاء هذا الشرح منها فلا يطولن الفصل عليك ففيه كبير فائدة(15/197)
ص -121-…قال قد يظن الظان الفطن في هذا المقام أن المسؤول إذا فرض الكلام في طرف من المسألة لفرض إيضاح كلام ولصورة الفرد تعلق بالعلة من حيث العموم وليست مقصود الفارضي
من حيث الخصوص وهي مقصود والفارض وإذا كان كذلك فقد تعلق الحكم في هذا الطرف بعلتين قال وهذا على حسنه غير صاف عن القذى والكدر وأنا أضرب في ذلك أمثلة توضح الفرض فنقول إذا قدم الغاصب الطعام المغصوب إلى ضيف فأكله الضيف ظانا أن الطعام ملك المقدم المضيف فقرار الضمان في قول الشافعي على المضيف ومعتمد هذا الظن التغرير وكون الغرور مناطا للضمان
وقد قال أبو حنيفة لو أكره الغاصب إنسانا على تناول ذلك الطعام فالقرار على الطاعم وإن كان مجبرا أو مؤجرا كما إذا مختارا في التناول فإذا فرض الفارض في صورة الإكراه فليس يجبر لأنه إنما يصح أن لو كان في الصورة عموم وخصوص والغرور ليس أعم من الإجبار إذ الإجبار ينافي الاغترار ومن ضرورة الاغترار فرض إجبار في المغرور مع استناد اختياره إلى الاغترار فأما المجبر المكره فلا يتصور بصورة مغتر وإن فرض منه ظن فليس ذلك الاغترار المعنى
قال فهذا النوع ليس بمرضي من جهة أنه مجانب لمحل السؤال أو لا إذ لا عموم وخصوص فيه والفرض المستحسن هو ما اشتمل على ذلك ثم قال وليس للفرض في هذه المسألة وجه أيضا فإنه إذا ثبت الضمان لا يستغرق على المكره فكيف يبني عليه عدم القرار على المختار الطاعم في مسألة التقرير ولا معتمد في التقرير على المختار إلا الاغترار
وحاصل هذا أنه لا عموم وخصوص في هذه الصورة وليس للشافعي إلزام الحنفي بها لأن الضمان إذا ثبت لا يستقر على المكره وهو كلام صحيح إلا أن المذهب الصحيح المشهور في الجديد أن قرار الضمان في مسألة التغرير على الآكل دون المضيف والصحيح في مسألة الإكراه استقرار الضمان على المكره بكسر الراء على خلاف ما قاله فيهما ثم ذكر إمام الحرمين صورة من الفرض(15/198)
ص -122-…المستحسن فقال إذا سأل عن نفوذ عتق الراهن فسؤاله يعم المعتق الموسر والمعسر فإذا فرض المسؤول كلامه في المعسر كان مندرجا تحت سؤال السائل ويستفيد الفارض بالفرض في المعسر أمرين أحدهما دفع أسئلة قد لا يحضر عنده الجواب عنها كسريان العتق إلى ملك الشريك فلا يلزمه إذا فرض كلامه في هذه الصورة لأن عتق المعسر غير سار عند الشافعي
وأحسنهما أن الخصم قد يتمسك في كلامه على أن قيمة العبد في غرض المالية منزل منزلة العبد فليس الراهن المعتق مقوتا على المرتهن غرضه من الاستيثاق فإنه إذا قام قيمة العبد مقامه هنا لم يكن معترضا على محل الحق المرتهن قال وهذا لا حقيقة له إذا ليس هو مبني على مذهب من ينفذ عتق الراهن فإن عتقه لا ينفذ عند من ينفذه لإمكان إتمامة القيمة مقام المقوم بل سبب نفوذه الملك وصحة العبارة فاستفاد الفارض بفرضه المسألة في المعسر قطع هذا الكلام الواقع فضله لا أثر لها
قال فليكن قصد المحقق إذا فرض مثل ذلك ويتجه للفارض في المعسر أن يقول يستأصل المعسر المعتق لو نفذ عتقه حتى المرتهن بكماله ويشير إلى أنه لا يجد ما يقيمه مقام المرهون فيظهر كلامه من جهة الاستئصال والتسبب إلى قطع حق المرتهن من الاستيثاق بالكلية
قال وهذه وقفة محتومة على طالب الغايات فنقول من منع نفوذ العتق يكتفي فيما يقرره بأنه لو نفذ أدى إلى قطع حق لازم للمرتهن في غير الرهن وإذا كفى هذا فأي حاجة للتعرض لقطع المالية وحسم الطلب في القيمة قال ويوشك لو لم يفطن الفارض أنه يقع في المحذور الذي ذكرناه وهو التعلق بما لا اعتبار به ولا وقع له
فإن قال قائل ما المانع من ازدحام علتين في هذه الصورة قطع المالية بالكلية وقطع حق المرتهن من العين المخصوصة فيعلل امتناع النفوذ بعلة خاصة وهي قطع المالية وأخرى عامة وهي قطع الحق من عين العبد فإن هذا الشيء يعم المعسر والموسر(15/199)
ص -123-…فنقول هذا هو الغرض من سياق هذا الكلام وليس بشيء فإن المالية ليست مرعية في حق المرتهن وإنما المعتبر اختصاص استحقاق واستيثاقه بعين يستمسك بها إذا عرضت له توقفات العسر في الدين الذي يقع في الذمة وهو تأثر مسبوق بالعين التي استمسك بها فهذا غرض الراهن مطالبا بالدين فقد خرج عن مقصود الراهن
قال ولهذا السر لا يجوز رهن الدين نعم لو فرض من الرهن إتلاف المرهون فالشرع يتقاضاه أن يقيم قيمته مقامه إذ مسلك الشرع ثبات الضمان جبرانا لكل بدل فائت فلا ينبغي أن يعد قضايا الشرع في مظن الضرورات من القضايا الوضعية في تأسيس الأصول اه وهو بليغ معترض عليه ومراده أن هذه الصورة إن أوردها عليه من يقول باجتماع العلتين خلص عن إيراده بأن يقول العلة عندي واحدة وهي ما ذكرت وإن اعتقد الخصم أن المالية مرعية فلا مبالاة بمعتقده ثم قال وهذا يناظر عندي مسلكي في توزيع العوض على مختلفين في أحد شقي العقد عند مسيس الحاجة في شفعة لو فرض تلف في أحد عوضين
وقد زل جماهير الفقهاء فاعتقدوا أن التوزيع مقصود العقد كما نبهت عليه في مسألة العجوة وهذا زلل وسوء مدرك فإن العقد ما أنشىء على التوزيع
وإنما هو أمر ضروري أحوج الشفعة إليه أه ومناظرة ما ذكر لأن قضايا الشرع في محل الضرورة لا يعد من القضايا الوضعية في تأسيس الأصول ظاهرة على مسلكه كما ذكر ولكن هو مسلك جاد به عن سبيل الأصحاب ومع ذلك هو مدخول
ومن وجوه الاعتراض عليه ما ذكره الرافعي فقال أليس قد ثبت التوزيع المفصل في مسألة الشفعة وهي ما إذا باع شخصا من عقار وسيفا بألف ولولا أنه قضية العقد لكان ضم السيف إلى الشخص من الأسباب الدافعة للشفعة فإنها قد تندفع بأسباب وعوارض
واعترض عليه أيضا حيث قال المعتمد عندي في التعليل أنا تعبدنا بالمماثلة تحقيقا وإذا باع مدا ودرهما بمدين لم تتحقق المماثلة فيفسد العقد فإن للخصم(15/200)
ص -124-…أن يقول تعبدنا بتحقيق المماثلة فيما إذا تمحضت مقابلة شيء منها بجنسه أم على الإطلاق وإن قلنا بالثاني فممنوع وإن قلنا بالأول فمسلم ولكنه ليس صورة المسألة إلا أن هذا اعتراض ضعيف ولا سيما في الغرض الذي فرضه وهو إذا باع مدا ودرهما بمدين فإنه يصح في هذه الصورة إنه باع تمرا بتمر لأن التمر مع الدرهم مبيع قطعا ولا مقابل له إلا تمر ومتى صدق أنه باع تمرا بتمر وجبت المماثلة بالنص وتمحض المفاضلة قيد زائد لم يدل عليه دليل فالكلام في هذا دخيل في الكتاب
ولعلنا نأتي إن شاء الله تعالى في كتابنا الأشباه والنظائر بالعجب العجاب ثم قال وإن اعتقد الفارض في الراهن المعسر الفصل بينه وبين الموسر صائرا إلى أن الراهن إذا كان موسرا ينفذ اعتاقه ويلزمه إحلال القيمة موضع العبد وإن كان معسرا لا ينفذ اعتاقه لتعذر تغريمه وافضاء الإعتاق فيه بتقدير نفوذه إلى إبطال اختصاص المرتهن باستيثاقه بالكلية وشبه ذلك بتفصيل مذهب في ترسه عتق الشريك إذا كان موسرا دون ما إذا كان معسرا فاتحاد العلة على هذا المذهب أوضح فإن صاحبه متشوق إلى اعتبار انقطاع علقة الرهن من عرض الوثيقة بالكلية وليس لبطلان حق المرتهن من عتق الرهن عنده وقع أصلا فلذلك ينفذ عتق الراهن الموسر فلم ينتظم على المسلكين علتان عامة وخاصة في صورة الفرض
ثم قال إذا فرض الشافعي الكلام في مسألة ضمان منافع المغصوب في طرف الإتلاف طرد ما يرتضيه في الباب فقد يعتقد الفطن أنه يجتمع في هذا الطرف معنيان
أحدهما الإقدام على الإتلاف وهو من أقوى أسباب الضمان ولذلك اختار الفارض تعيين هذا الطرف وتخصيصه بالكلام المختص به
وقد اجتمع فيه الإتلاف والتلف تحت يد العارية وهذا أقرب مسلك في تخييل اجتماع معنيين بحكم واحد
ونحن نقول فيه العلة في الضمان الإتلاف في هذه الصورة فحسب فإن(15/201)
ص -125-…المتلف الحاصل تحت يد العارية إنما يضمن من جهة اعتداء ذي اليد بمنع الحق مستحقة فصار الضياع الذي يقع سماويا في إطراد منع المتعدي مشبها بإتلافه وإذا تحقق الإتلاف لم يبق لتخيل التلف على دوام المنع المشبه بالإتلاف معنى والإتلاف هو المشبه به واعتقاد اجتماع المشبه والمشبه به في صورة واحدة محال أهو بليغ لا يخدشه شيء وهذا ما أردنا إيراده من كلام إمام الحرمين
ولنعد إلى الكلام على ما استدل به صاحب الكتاب على اختياره فنقول وأما ما استدل به على المنع في المستنبطة فلولا مراعاة الاتفاق لما رددناه لأنه ماس على معتقدنا ولكنا نقول للخصم أن يقول لا نسلم أن ظن ثبوت الحكم لأجل أحد الأمرين يمنع ظن ثبوته لأجل الأمر الآخر أو المجموع وإنما يكون ذلك أن لو تأتت عليه
أحدهما للحكم علية الآخر وهو أول النزاع
فإن قلت قد تحصل لنا من اختيارك موافقة إمام الحرمين على عدم وقوع اجتماع العلل على المعلول الواحد وما دللت عليه بل زدت على هذا أن أبطلت الدليل على المنع في المستنبطة وهو بعض مطلوبك
قلت طال الفصل وما بقي الشرح يحتمل أكثر من هذا التطويل ولذلك لم يشتغل بالكلام في حجج بقية المذاهب ولعلنا نقرر اختيارنا في مجموع آخر وبالله التوفيق
قال رحمه الله "الثالث الكسر وهو عدم تأخير أحد الجزئين ونقض الآخر كقولهم صلاة الخوف صلاة يجب قضاؤها فيجب أداؤها قيل خصوصية الصلاة ملغى لأن الحج كذلك فبقي كونه عبادة وهو منقوض بصوم الحائض"
اتفق أكثر أهل العلم كما ذكره الشيخ أبو إسحاق في الملخص وغيره على صحة الكسر وإفساد العلة به وهذا ما اختاره الإمام والمصنف والآمدي وهو نقض من طريق المعنى وإلزام من سبيل الفقه وعبر عنه الآمدي وابن الحاجب بالنقض والمكسور وجعلا الكسر قسما آخر وغيره وهو تعبير حسن(15/202)
ص -126-…وعبر عنه المصنف بأنه عدم تأثير أحد جزأي المركب الذي ادعى المستدل عليته ونقض الآخر ومثل له تبعا للإمام بما إذا قيل على لسان الشافعية في إثبات صلاة الخوف صلاة يجب قضاؤها فيجب أداؤها كصلاة الأمن فيقول المعترض خصوصية كونها صلاة ملغاة لا أثر لها لأن الحج أيضا كذلك فلم يبق غير كونها عبادة وهو منقوض بصوم الحائض حيث كان عبادة يجب قضاؤها ولا يجب أداؤها بل يحرم فيكون ذلك قدحا في تمام العلة بعدم التأثير وفي جزئها بالنقض
واعترض بأن العلة إذا كانت مركبة فكل جزء من أجزاءها يكون ملغى بالنسبة إلى ذلك الحكم وحينئذ فالكسر غير صحيح لأن العلة المجموع ولم يرد النقض عليه وهو ضعيف لأن المعترض أزال الوصف الخاص بالنقض والزم بالوصف العام وصار المستدل عنده معللا بالوصف العام مع الوصف الآخر فوجه النقض عليه بعد ذلك فلم يرد إلا على المجموع هذا شرح ما في الكتاب وتعبيره عن الكسر بأنه عدم تأثير أحد الجزئين ونقض الآخر تعبير لم يصرح به الإمام وإن دل عليه قوله فيكون ذلك قدحا في تمام العلة بعدم التأثير وفي جزئها بالنقض والأمر فيه قريب
ومن أمثلته أيضا أن يقال على لسان الشافعية في بيع ما لم يره المشتري مبيع مجهول الصفة عند العاقد فلم يصح كما لو قال بعتك ثوبا
فيقول المعترض ينكسر هذا بما إذا نكح امرأة لم يرها فإنه يصح نكاحها كونها مجهولة الصفة عند العاقد فهذا كسر لأنه نقض من طريق المعنى بدليل أن النكاح في الجهالة كالبيع بدليل أن الجهل بالعين في كل منهما يوجب الفساد وإن أردت تنزيل هذا المثال على عبارة المصنف
قلت خصوص كونه مبيعا ملغى لأن المرهون كذلك فبقي كونه عقدا وهو منقوض بالنكاح وليس للمعترض إيراد الوصية بدل النكاح لأنها ليست في معنى البيع في باب الجهالة ألا ترى أن شيئا من الجهالات لا ينافيها بخلاف النكاح(15/203)
ص -127-…ومنها أم يقال على لسان الشافعية في إيجاب الكفارة في قتل العمد قتل من يضمن بدية أو قصاص بغير أذن شرعي فيجب كفارته كالخطأ فيقول المعترض خصوص كونه يضمن بالدية أو القصاص ملغى لأنها تجب على السيد في قتل عبده فبقي كونه آدميا وهو منقوض بالحربي والمرتد وقاطع الطريق والزاني المحصن ولو أن المستدل قال قتل معصوم الدم لما توجه عليه كسر
ومنها أن يقال على لسان الشافعية صلاة الجمعة صلاة مفروضة فلم تفتقر إقامتها إلى إذن السلطات كالظهر فيقول المعترض خصوص كونها مفروضة ملغى لأن التطوع كذلك فبقي كونها صلاة مطلوبة وهو منقوض بصلاة الاستسقاء وإنما قلنا مطلوبة ولم نقتصر على قولنا صلاة لتكون العلة مركبة كما أتى بها المستدل
قال "الرابع القلب وهو أن يربط خلاف قول المستدل على علته إلحاقا بأصله"
عرف القلب بأن يربط المعترض خلاف قول المستدل على علته التي ذكرها إلحاقا بالأصل الذي جعله مقيسا عليه وإنما قال خلاف قوله ولم يقل نقيض قوله كما فعل الإمام لأن الحكم الذي يثبته القالب جاز أن يكون مغيرا لا نقيضا ولكن للعبارة التي ذكرها الإمام فائدة ستعرفها إن شاء الله تعالى
ولقائل أن يقول هذا ليس بجامع لأنه يخرج بقوله على علته قلب في غير القياس
والمصنف تبع الإمام حيث قال في قياس ولعلهما أرادا تعريف قلب خاص وهو الواقع في القياس لأن الكلام في مبطلات العلة وليس بمانع لجواز أن يربط المعترض مسألة أخرى غير التي ذكرها المستدل على علته ويصدق ربط خلاف قوله على علته وليس ذلك بقلب فكان ينبغي أن يزيد في التعريف ويقول أن يربط خلاف قول المستدل في مسألة على علته ويزيد أيضا على ذلك الوجه وإلا لم يكن مانعا أيضا لجواز أن يثبته في تلك المسألة لكن على غير ذلك الوجه مثل أن يستدل بنص بطريق الحقيقة والمعترض يستدل(15/204)
ص -128-…عليه في تلك المسألة بطريق التجوز وإن أريد تعريف القلب مطلقا فيقال هو بيان أن ما ذكره المستدل عليه في تلك المسألة على ذلك الوجه
قال "وهو إما نفي مذهبه صريحا كقولهم المسح ركن من الوضوء فلا يكفي أقل ما ينطلق عليه الاسم كالوجه فنقول ركن منه فلا يتقدر بالربع كالوجه أو ضمنا كقولهم بيع الغائب عقد معاوضة فيصح كالنكاح فنقول فلا يثبت فيه خيار الرؤية ومنه قلب المساواة كقولهم المكره مالك مكلف فيقع طلاقه كالمختار فنقول فيسوي بين إقراره وإيقاعه أو إثبات مذهب المعترض كقولهم الاعتكاف لبث مخصوص فلا يكون بمجرد قربة كالوقوف بعرفة"
فيقول فلا يشترط الصوم فيه كالوقوف بعرفة
قسم القلب إلى ثلاثة أقسام
الأول أن يكون لنفي مذهب المستدل صريحا وهو قسمان
أحدهما وعلى ذكره اقتصر المصنف أن لا يدل مع النفي على صحة مذهب المعترض صريحا كقولهم مسح الرأس ركن من أركان الوضوء فلا يكفي أقل ما ينطلق عليه الاسم كالوجه فنقول ركن من أركان الوضوء فلا يتقدر بالربع كالوجه فهذا نفي لمذهب المستدل بالصراحة ولا إثبات فيه لمذهب المعترض بالصراحة لجواز أن يكون الحق في جانب ثالث وهو الاستيعاب كما هو قول المالكي نعم يدل عليه بواسطة اتفاق الإمامين على أحد الحكمين ونفي ما عداهما
وثانيهما أن يدل على الأمرين معا كما إذا قيل على لسان الشافعية في البيع الموقوف عقد عقده في حق الغير من غير ولاية ولا استنابة فلا يصح كما إذا اشترى شيئا لغيره بغير إذنه فيقول الخصم عقد عقده في حق الغير من غير ولاية ولا استنابة فكان صحيحا كما إذا اشترى شيئا لغيره بغير أذنه
القسم الثاني أن يكون لنفي مذهب المستدل ضمنا أي لنفي لازم من لوازم مذهب المستدل لانتفاء الحكم بانتفاء لازمه كقولهم بيع الغائب صحيح(15/205)
ص -129-…كنكاح الغائبة بجامع أن كل واحد منهما عقد معاوضة فيقول فلا تثبت الرؤية في بيع الغائب قياسا على النكاح بالي مع المذكور ويلزم من نفي خيار الرؤية نفي صحة بيع الغائب إذ خيار الرؤية لازم لصحة بيع الغائب بدليل أن من قال بصحته قال بثبوت خيار الرؤية فإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم فالحكمان أعني الصحة ونفي الخيار لا تنافي بينهما في الأصل وهو النكاح لاجتماعهما فيه وهما متنافيان في الفرع وهو بيع الغائب قوله ومنه أي ومن هذا
القسم الثاني قلب المساواة وهو أن يكون في الأصل حكمان
أحدهما منتف في الفرع بالاتفاق من الخصمين والآخر متنازع فيه بينهما فإذا أراد أن يثبت في الفرع بالقياس على الأصل فيقول المعترض تجب التسوية بينهما في الفرع بالقياس على الأصل أو يلزم من وجوه التسوية بينهما في الفرع عدم ثبوته فيه
كقولهم في طلاق المكره مكلف مالك للطلاق فيقع طلاقه كالمختار فنقول مكلف مالك فيسوي بين إقراره بالطلاق وإيقاعه إياه كالمختار ويلزم من هذا أن لا يقع طلاقه ضمنا لأنه إذا ثبتت المساواة بين إقراره وإيقاعه وإقراره غير معتبر بالاتفاق فيكون إيقاعه أيضا غير معتبر
فإن قلت الحاصل في الأصل اعتبارهما معا وفي الفرع عند المعترف عدم اعتبارهما معا بمقتضى القلب فأين التسوية بينهما في الحكم وكيف يسمى هذا بطلب المساواة
قلت القياس على الأصل إنما هو من حيث عدم الاختلاف وهو ثابت فيه لكن عدم اختلاف الأصل في ثبوت الصحة فيهما وفي الفرع في عدم ثبوت الصحة فيهما وهو غير متناف للاشتراك في أصل الاستواء فظهرت التسوية وصحة التسمية
القسم الثالث أن يكون لإثبات مذهب المعترض صريحا كقولهم الاعتكاف مكث في محل مخصوص فلا يكون بمجرده قربة كالوقوف بعرفة(15/206)
ص -130-…حيث لم يكن قربة بغير الإحرام وغرضهم التعرض لاشتراط الصوم ولكنهم لم يستمكنوا من التصريح باشتراطه لأنه لو صرح بذلك لم يجد أصلا فيقول مكث في محل مخصوص فلا يشترط في وقوعه قربة صوم كالوقوف بعرفه فهذا القسم يعترض1 للعلة تعرضا كليا ويثبت مذهب المعترض صريحا لصحة الاعتكاف
قال "المتنافيان لا يجتمعان قلنا الثاني حصل في الفرع بغرض الإجماع"
أنكر بعض الناس إمكان القلب على الوجه الذي تقدم تعريفه محتجا بأن الحكمين أعني ما يثبته المستدل وما يثبته الغالب إن لم يتنافيا فلا قلب إذ لامتناع في أن تكون العلة الواحدة مقتضية لحكمين غير متنافيين فلا تفسد به العلة وهذا يعرفك فائدة قول الإمام في التعريف نقيض الحكم كما سبقت الإشارة إليه وإن تنافيا استحال اجتماعهما في صورة واحدة فلم يمكن الرد إلى ذلك الأصل بعينه فلا يكون قلبا إذ لا بد فيه من الرد إلى ذلك الأصل
والجواب أن الحكمين غير متنافيين لذاتيهما فلا جرم يصح اجتماعهما في الفرع وهو إجماع الخصمين على أن الثابت فيه إنما هو أحد الحكمين
فالثاني حصل في الفرع بعرض الإجماع والعرض بالعين المهملة أي الأمر العارض للفرع وهو إجماع الخصمين وإنما نبهنا عليه لوقوع الغلط فيه وهذا الكلام كما إنه الجواب فهو ابتداء دليل على القلب والمختار عند جمهور الأصوليين أن القلب حجة قادح في العلة إن اختلفوا في بعض أنواعه وذكر الشيخ أبو علي الطبري من أئمة أصحابنا أنه من ألطف ما يستعمله المناظر
قال الشيخ أبو إسحاق وسمعت القاضي أبا الطيب يقول إن القلب إنما ذكره المتأخرون من أصحابنا حيث استدل أبو حنيفة بقوله صلى الله عليه وسلم :"لا ضرر ولا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأصل المطبوع "يتعرف" تحريف(15/207)
ص -131-…إضرار1" في مسألة الساحة وفي هدم البناء ضرر بالغاصب فقال له أصحابنا وفي منع صاحب الساحة من ساحته إضرار به فقال يجب أن يذكر مثل هذا في القياس ثم أعلا مراتبه ما يدل على بطلان مذهب الخصم وإثبات مذهب المعترض وهو الذي عليه المعظم ولا يخفى عليك الترتيب مما تقدم وأما قلب التسوية فذهب القاضي في مختصر التقريب والإرشاد وغيره إلى بطلانه مع القول بأصل القلب
قال" تنبيه القلب معارضة إلا أن علة المعارضة وأصلها قد يكون مغايرا لعلة المستدل"
وأصل القلب في الحقيقة معارضة وذلك أن المعارضة تسليم دليل الخصم وإقامة دليل آخر على خلافه وهذا صادق على القلب إلا أن الفرق بينهما فرق ما بين العموم والخصوص وذلك أن العلة المذكورة في المعارضة والأصل المذكور فيها قد تغاير العلة والأصل اللذين أتى بهما المستدل بخلاف القالب فإن علته وأصله هما علتا المستدل وأصله ومن الناس من لم يجعل القلب معارضة بل مناقضة لبعض مقدمات الدليل فيقال لو كان الوصف المذكور علة لما ذكرت لم يكن علة لما ينافيه معنى ما ذكرت والشيء الواحد لا يعلل به المتنافيان وإلا لاجتمعا
وقال الشيخ أبو إسحاق أن هذا يكثر في إيراد القلب قلت وهذا القول لازم لهؤلاء الذين عدوا القلب من مفسدات العلة ولا يغتر بهم وإلا فالقالب كيف يفسدها مع احتجاجه بها ومنهم من يقول القلب شاهد زور كما يشهد لك يشهد عليك
قال الخامس القول بالموجب وهو تسليم قول المستدل مع بقاء الخلاف مثاله في النفي أن يقول التفاوت في الوسيلة لا يمنع القصاص فيقول مسلم ولكن لم يمنعه غيره ثم لو بينا أن الموجب قائم ولا مانع غيره لم يكن ما ذكرنا تمام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه ابن ماجة – كتاب الأحكام "7842" من حديث ابن عباس وعبادة بن الصامت كما رواه الحاكم من حديث بن سعيد وقال :صحيح الإسناد علي شرط مسلم(15/208)
ص -132-…الدليل وفي الثبوت قولهم الخيل يسابق عليها فيجب فيها الزكاة كالإبل فيقول مسلم في زكاة التجارة
القول بالموجب هو تسليم مقتضى ما نصه المستدل دليلا لحكم مع بقاء الخلاف بينهما فيه وذلك بأن نظر المعلل أن ما تأتي به مستلزم لمطلوبه من حكم المسألة المتنازع فيها مع كونه غير مستلزم فلا ينقطع النزاع بتسليمه وهذا التعريف أولى من قول الإمام تسليم ما جعله المستدل موجب العلة لكونه لا يتناول غير القياس
والقول بالموجب لا يختص بالقياس وليت المصنف عمل كذلك في القلب إلا أنا اعتذرنا عنه ثم بما هو عذرا للإمام هذا والقول بالموجب من أحسن ما يجيء به المناظر
وقد وقع في الكتاب العزيز في قوله تعالى: {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ1} فأنتم المخرجون بفتح الواو وهو قادم في الدليل لأنه إذا كان تسليم موجب ما ذكره من الدليل لا يرفع الخلاف علمنا أن ما ذكره ليس بدليل الحكم الذي رام إثباته أو نفيه كذا ذكره صفي الدين الهندي وغيره وهو مقتضى كلام الآمدي والمراد بهذا التقرير جعله من مفسدات العلة
ولقائل أن يقول هذا التقرير يخرج لفظ القول بالموجب عن إجرائه على قضيته بل الحق أن القول بموجب الدليل تسليم له وهذا ما اقتضاه كلام الجدليين وإليهم المرجع في ذلك وحينئذ لا يتجه عده من مبطلات العلة ثم القول بالموجب له حالتان
أحدهما أن يكون في جانب النفي كقولنا في القتل بالمثقل التفاوت في الوسيلة لا يمنع وجوب القصاص كالتفاوت في المتوسل إليه فإن الوضيع والشريف وغير ذلك على السواء في القصاص فيقول الخصم أقول بموجبه لكن لم لا يجوز أن يمنعه مانع آخر غير التفاوت في الوسيلة بأن يكون في المثقل وصف مانع من القصاص غير ذلك أو فقدان شرط فإنه لا يلزم من عدم مانعية ذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المنافقون آية"8"(15/209)
ص -133-…عدم مانعية ما عداه ثم أنا لو ادعينا بعد ذلك أنه يلزم من تسليم ذلك الحكم تسليم محل النزاع وبيناه بأن المقتضي للقصاص قائم في محل النزاع وأنه لا مانع فيه غير التفاوت في الوسيلة بالأصل أو بغيره من الأدلة لم يكن ما ذكرناه أولا تمام الدليل بل جزءا منه فيكون ذلك انقطاعا والثانية أن يكون في جانب الثبوت نحو قولهم الخيل يسابق عليها فيجب فيها الزكاة كالإبل فنقول بالموجب إذ يجب فيها زكاة التجارة والنزاع ليس الا في زكاة العين ودليلكم إنما يقتضي وجوب الزكاة في الجملة فلئن قال المعلل أن هذا ليس قولا بالموجب لأن كلامنا في زكاة العين والألف واللام التي في الزكاة المذكورة للعهد فيصرف إليه
وحينئذ ليس ما إلتزموه قولا بالموجب قلنا العبرة بدلالة اللفظ لا بالقرينة وشيء من ألفاظ القياس في العلة وغيرها لا يأتي ذلك بل يصدق عليه فكان قولا بالموجب كذا أجاب الهندي
ولك أن تقول الحمل على العهد مقدم على الجنس والعموم على ما هو مقرر في موضعه ومدلوله غير مدلولها وإنما يصح ما ذكرتم أن لو أمكن حمله على غير العهد
ثم أن العلة في المثال المذكور كون الخيل يسابق عليها وليس هذا الوصف المقتضى لزكاة التجارة إنما الوصف المقتضي لذلك النماء الحاصل فيها هذا شرح ما في الكتاب
وقد علمت به أن المستدل إما أن ينصب دليله على إبطال مذهب خصمه فيقول الخصم بموجبه وهو الأغلب ورودا في المناظرات كالمثال الأول وإما أن ينصبه على تحقيق مذهبه كالثاني
ومن أمثلته الفصل ما لو قيل على لساننا الجاني الملتجئ إلى الحرم وجد فيه سبب جواز استيفاء القصاص فكان استيفاؤه جائزا فيقول الخصم أقول بموجب هذا الدليل فإن الاستيفاء عندي جائز بعد الخروج من الحرم والنزاع ليس إلا في الاستيفاء في الحرم فإني أدعي أن الاستيفاء فيه هتك لحرمته(15/210)
ص -134-…ومنها لو قيل في نصره أحد الوجهين الملتجئ إلى المسجد الحرام وجد في سبب استيفاء القصاص فتبسط الانطاع ويستوفي منه فيقول ناصر الوجه الأصح يستوفي منه بعد الإخراج
وهذا تأخير يسير وفيه صيانة للمسجد ومنها لو قال من نصر القول القديم من ضل ماله أو غضب أو سرق وتعذر انتزاعه أو أودعه فجحد أو وقع في بحر فلا زكاة فيه وإلا لوجب أداؤه لأنه مال يجب زكاته فيجب أداؤها قياسيا على سائر الأموال الزكوية فيقول ناصر الجديد أقول بموجبه فإنه يجب أداؤها إذا وجده والكلام فما قبله وقائل به
قال "السادس الفرق وهو جعل تعيين الأصل علة والفرع مانعا والأول يؤثر حيث لم يجز التعليل بعلتين والثاني عند من جعل البعض مع المانع قادحا"
ذهب جماهير الفقهاء إلى أن الفرق أقوى الاعتراضات وأجدرها بالاعتناء به وقال ابن السمعاني جعل كثير من فقهاء الفريقين الفرق أقوى سؤال وظنوه فقه المسألة قال وبه يتمسك الناظرون من فقهاء غزنة وكثير من بلدان خراسان قال وهو عند المحققين أضعف سؤال يذكر وهو ضربان
الأول أن يجعل المعترض تعين أصل القياس علة لحكمه كما لو قال الزائد عن الشافعية النية في الوضوء واجبة لأنها عن طهارة عن حدث فوجبت كالتيمم والجامع أنهما طهارتان قال الشافعي رضي الله عنه طهارتان فأنى يفترقان فيقول الخصم الفرق ثابت بين الأصل والفرع فإن العلة في وجوب النية في التيمم خصوصيته التي لا تعدوه وهي كونه ترابا وقع في كلام بعض الشارحين أن الخصوصية كونه طهارة ضعيفة وهذا عرى عن التحقيق
فإن ضعف الطهارة لا تختص بالتيمم فإن وضوء المستحاضة ومن به سلس البول وسلس المذي كذلك ثم إن ضعف الطهارة لا يمنع من وجوب النية إذ تجب النية على من ذكرناه في وضوئه عند من يوجبها في مطلق الوضوء
وقد بنى المصنف القول في أن هذا الضرب هل يقدح على تعليل الحكم(15/211)
ص -135-…الواحد بعلتين فصاعدا وقد سلف القول البليغ فيه وهو في هذا البناء تابع للجماهير من المتقدمين والمتأخرين ووجه البناء واضح
فإن السائل إذا عارض علة الأصل التي جعلها المسؤول رابطة القياس بعلة أخرى فمن منع التعليل بعلتين رآه اعتراضا واقعا يجب الجواب عنه وإلا يلزمه تعدد العلة ومن لم يمنع لم ير ذلك قادحا إذا لامتناع في إبداء معنى آخر واجتماع علتيه القدر المشترك والتعيين الخاص وبهذا ضعف ابن السمعاني الفرق وفي تضعيفه بذلك نظر لأنا إذا بنينا الأمر على مسألة التعليل بعلتين نقول له إنما يضعف الفرق لو جعلنا التعليل بالعلتين جائزا أما أن معناه فلا وينقدح عندي قبل هذا البناء بناء آخر لم أر من ذكره وهو تفريغ المسألة أولا على التعليل بالعلة القاصرة
فإن قلنا بمنعها فالفرق مردود لأن التعين يتخص بالمحل الذي هو فيه وهذا هو القصور ولعل من لم يذكر ذلك لم ير التفريغ على معنى القاصرة لضعف وإلا فيبين على التعليل بعلتين فإن معناه امتنع وإلا فيحتمل أن يقال وإن وقع التعليل بعلتين لكن لا بد وأن يكون من واد واحد فلا يكون أحديهما متعدية والأخرى قاصرة لأن المتعدية تقتضي إلحاق فرغ بالأصل والقاصرة تقتضي الجمود فيتنافيان فيما يقتضيان
ويحتمل أن يقال يجوز اجتماع القاصرة والمعتدية ولا تنافي ويكون مقتضى القاصرة عدم التعدية بها لا بغيرها فيجوز التعدية بغيرها من دون تناف وهذا هو الحق وهو مقتضى كلام ابن السمعاني وغيره من أصحابنا في العلة القاصرة
الضرب الثاني أن يجعل تعيين الفرع مانعا من ثبوت الحكم الأصل فيه كقولهم يقاد المسلم بالزمن قياسا على غير المسلم بجامع القتل العمد العدوان فنقول الفرق أن تعين الفرع وهو الإسلام مانع من وجوب القصاص عليه ولك أن تقول هذا أيضا إنما يأت على القول بالقاصرة
وقد وقع في بعض الشروح أن تعين المسلم مانع لشرفه وهو محمول على شرفه(15/212)
ص -136-…الخاص وهو الإسلام لا مطلق شرفه وإلا لم يكن تعينا ثم إن صاحب الكتاب بنى القول في هذا الضرب على أن النقض مع المانع هل يقدح فإن قلنا بقدحه كان هذا قادحا لأن الوصف الذي علق المستدل الحكم به إذ وجد في الفرع وتخلف الحكم عنه لمانع وهو التعين فقد وجد النقض مع المانع والغرض أنه قادح وإلا لم يقدح
وقد أنهينا الكلام في المبني عليه غاية الفصل القول عنها هذا شرح ما في الكتاب وإذا جردت العهد بما تقدم من كلامه في المسألتين اللتين بني عليهما القول هنا علمت أن الفرق بتعين الأصل إنما يقدح عنده في المستنبطة دون المنصوصة وأن الفرق بتعين الفرع لا يقدح مطلقا
واعلم أن الفرق عند بعض المتقدمين عبارة إن عن مجموع الضربين المذكورين حتى أنه لو اقتصر على أحدهما لا يكون فرقا واختلفوا في أنه سؤال واحد أو سؤالان لاشتماله على معارضة علة الأصل بعلة ثم على معاوضة الفرع بعلة مستقلة في جانب الفرع
والحق الذي قال إمام الحرمين أنه اختار عنده وارتضاه كل منتم إلى التحقيق من الفقهاء والأصوليين أن الفرق صحيح ومقبول وهو إن اشتمل على معنى معاوضة الأصل وعلى معارضة الفرع وعلى معارضة علته بعلة مستقلة فليس المقصود منه المعارضة وإنما الغرض منه المناقضة للجمع فالكلام في الفرق وراء المعارضة وخاصية وسره فقه تناقض قصدا الجمع ومن رد الفرق لا يرد المعارضة بل خاصية الفرق
وذكر إمام الحرمين أن من الفروق ما يلحق جمع الجامع بالطرد وإن كان لولاه لكان الجمع ففيها قال وما كان كذلك فهو مقبول مجمع عليه لا محالة غير معدود من الفروق التي يختلف فيها قال ومن أنه هذا القسم أن يعيد الفارق جمع الجامع ويزيد فيه ما يوضح بطلان أثره قيل قول الحنفي في البيع الفاسد معاوضة جرت على تراض فيفيد ملكا كالصحيحة
فيقول الفارق المعنى في الأصل أنها معاوضة جرت على وفق الشرع فنقلت(15/213)
ص -137-…الملك بالشرع بخلاف المعاوضة الفاسدة فينتهض الكلام إذا وفيه صاحبه بتحقيقه مبطلا إخاله كلام المعلل وما ادعاه مشعرا بالحكم قال ومن خصائصه إمكان البوح به بالعوض لا على سبيل المفاقهة بأن يقول السائل لا تعويل على التراضي بل المتبع الشرع والطرق النافلة على ما يعرفه الفقيه
ثم ذكر مثالا لا ينحط عن هذا وثالثا يضادهما فلا يكون الفرق فيه مبطلا الكلية والأمثلة الجزئية يختلف الحكم فيها باختلاف الاخالة فلا وجه للتطويل بتعداد الأمثلة والإخالة لا ينضبط
وقد أتى إمام الحرمين بعد ذلك بكلام جامع فقال الفرق والجمع إذا ازدحما على فرع واصل في محل النزاع فالمختار عندنا فيه إتباع الإحالة فإن كان الفرق أخيل أبطل الجمع وعكسه وإن استويا أمكن أن يقال هما كالعلتين المتناقضتين إذا ثبتنا على صيغة التساوي وأمكن أن يقدم الجمع من جهة وقوع الفرق بعده غير مناقض له وكل هذا فيما إذا كان الفرق لا يحيط فقه الجمع بالكلية فإن ذلك ليس من الفرق المختلف فيه على ما عرفت وقد نجز تمام هذا القول فيما يفسد العلة(15/214)
واعلم أن صاحب الكتاب لم يذكر كيفية دفع الفرق وما قبله من القلب والكسر وعدم التأثير وخص النقض من بين المفسدات بذلك لتشعب الآراء وكثرة النظر فيه ونحن تابعناه على ما فعل فإن ذلك نظر متمحض جدلا لا تعلق له بصوم نظر المجتهد وإنما هو تابع لشريعة الجدل والتي وصفها أهلها باصطلاحاتهم فإن لم يتعلق بها فائدة دينية فينبغي أن نشح على الأوقات أن نضيعها بها وبتفصيلها وأن تعلق بها فائدة من ضم نشر الكلام ورد مباحث المناظرين إلى مجز الخصام لئلا يذهب كل واحد في كلامه طولا وعرضا وينحرف عن مقصود نظره بما لا يرضي فتلك فائدة ليست من أصول الفقه فينبغي أن يفرد بعلم النظر وهو عندنا من أكيس العلوم وأعظمها كفالة بتدقيق المنطوق والمفهوم ولكن لا ينبغي أن المزج بالأصول التي مقصدها تذليل سبل الاجتهاد للمجتهدين لا تعليم طرق الخصام للمتناظرين ولهذا حذف الغزالي هذه الاعتراضات بالأصالة وبالله التوفيق(15/215)
ص -138-…قال رحمه الله الطرف الثالث في أقسام العلة الحكم إما محله أو جزؤه عنه عقلي حقيقي أو إضافي أو سلبي أو شرعي أو لغوي متعدية أو قاصرة وعلى التقديرات إما بسيطة أو مركبة
هذا الطرف معقود لبيان ما يظن أنه من مفسدات العلة مع أنه ليس كذلك وذكر قبل الخوض فيه تقسيمات للعلة
اعلم أن كل حكم ثبت في محل فعلة ذلك الحكم إما نفي ذلك المحل أو ما يكون جزءا من ماهيته إما العام أو الخاص أو ما يكون خارجا عنه والخارج إما أن يكون أمرا عقليا أو شرعيا أو لغويا أو عرفيا ولم يذكره المصنف والعقلي إما أن يكون حقيقيا وهو الذي يعقل باعتبار نفسه أو إضافيا وهو الذي يعقل باعتبار غيره والحقيقي والإضافي ثبوتيان فيقابلهما السلب فحصل في العقلي ثلاثة أقسام مع الأربعة المذكورة فالأقسام سبعة
التعليل بالمحل مثل الذهب ربوي لكونه ذهبا
الثاني بجزء المحل الخاص وهو مع الأول لا يكون في العلة القاصرة لاستحالة وجود خصوصية المحل أو جزئه الخاص في غيره أو بجزئه العام كتعليل إباحة البيع بكونه عقد معاوضة فعقد المعاوضة من حيث أنها جنسه جزء له لا يختص به
الثالث بأمر خارج عقلي حقيقي كتعليل الربوي بالطعم
الرابع بأمر خارج عقلي إضافي كتعليل ولاية الإجبار بالأبوة
الخامس بأمر خارج على سلبي كتعليل بطلان بيع الآبق والضال بعدم القدرة على التسليم وقد يجتمع التعليل بهذه الأقسام الثلاثة مثل القتل العمد بغير حق فإن القتل حقيقي والعمد إضافي وقولنا بغير حق سلبي
السادس بأمر شرعي كتعليل حرمة بيع الكلب بنجاسته
السابع بأمر لغوي كقولنا في النبيذ أنه يسمى بالخمر فيحرم كالمعتصر من العنب هذه الأقسام التي في كلام المصنف(15/216)
ص -139-…والثامن ما أشرنا إليه وأهمله التعليل بأمر عرفي كقولنا هذا عيب عرفا فيثبت به الرد ثم العلة تنقسم باعتبار آخر إلى متعدية وهي التي توجد في غير المحل المنصوص أو قاصرة وهي التي تختص بذلك المحل وعلى التقديرات كلها إما أن تكون بسيطة وهي التي لا جزء لها كالإسكار والطعم أو مركبة وهي التي لها جزء كالقتل العمد العدوان
قال "قيل لا يعلل بالمحل لأن القابل لا يفعل قلنا لا نسلم ومع هذا فالعلة المعرف"
شرع في مسائل الفصل وهي ست
الأولى اختلفوا في جواز التعليل بمحل الحكم أو جزئه الخاص والمختار عند المصنف والأكثرين جوازه وقول الآمدي المختار التفصيل وهو امتناع ذلك المحل دون الجزء ليس مذهبا ثالثا لأن مراده الجزء العام بدليل قوله بعد ذلك وأما الجزء فلا يمتنع التعليل به لاحتمال عمومه للأصل والفرع
قال صفي الدين الهندي الحق أن الخلاف في المسألة مبني على جواز التعليل بالقاصرة فإن جوز ذلك جوز هذا سواء عرفت عليته بنص أو غيره إذ لا يبتعد أن يقول الشارع حرمت الربا في البر لكونه برا أو تعرف مناسبة محل الحكم له لاشتماله على حكمة داعية إلي إثبات ذلك الحكم فيه وهذا صحيح وهو مقتضى كلام الإمام وغيره
واجتمع من منع التعليل بالمحل بأن المحل قابل للحكم فلو كان علة له لكان فاعلا له أيضا لتأثير العلة في المعلول والمؤثر لا بد أن يفعل فيه ويمتنع كون الشيء قابلا وفاعلا معا لشيء واحد لأن نسبة القابل إلى المقبول بالإمكان ونسبة الفاعل إلى المفعول بالوجوب فبينهما تناف
وأجاب بأنا لا نسلم أن الشيء الواحد لا يكون قابلا وفاعلا ألا ترى أن الجسم المتحرك قابل للحركة وفاعل لها ولو سلم امتناع كون الشيء الواحد قابلا وفاعلا ولكن ذلك إذا كان الفاعل بمعنى المؤثر أما إذا كان معنى المعرف فلا يمتنع قطعا وإلى هذا أشار بقوله ومع هذا فالعلة المعرف(15/217)
ص -140-…قال قيل لا يعلل بالحكم الغير المضبوطة كالمصالح والمفاسد لأنه لا يعلم وجود القدر الحاصل في الأصل والفرع قلنا لو لم يجز لما جاز بالوصف المشتمل عليها فإذا حصل ظن أن الحكم لمصلحة وجدت في الفرع يحصل ظن الحكم فيه
المسألة الثانية جوز قيام التعليل بالحكمة واختاره المصنف تبعا للإمام ومنع منه آخرون وفصل قوم فقالوا إن كانت الحكمة ظاهرة منضبطة بنفسها جاز التعليل بها وإلا فلا
واختاره الآمدي وصفي الدين الهندي وأطبق الكل على جواز التعليل بالوصف المشتمل عليها ما حاد عن ذلك قياس كالقتل والزنا والسرقة وغير ذلك
واحتج المفصل بما أشار إليه في الكتاب من أن الحكم التي لا تنضبط كالمصالح والمفاسد لا يعلم لعدم انضباطها أن القدر الحاصل منهما في الأصل حاصل في الفرع أم لا فلا يمكن التعليل بها لأن القياس فرع ثبوت ما في الأصل من المعنى في الفرع
وأجاب بأنه لو لم يجز التعليل بالحكم التي لا تنضبط لم يجز بالوصف المشتمل عليها أيضا واللازم باطل بالاتفاق فبطل الملزوم
وبيان الملازمة أن الوصف بذاته ليس بعلة للحكم بل بواسطة اشتماله على الحكمة فعلية الوصف بمعنى أنه علامة على الحكمة التي هي علة غائبة باعثة للفاعل والوصف هو المعرف فإذا لم تكن تلك الحكمة علة للحكم لم يكن الوصف بواسطته علة له وإذا بطل الملزوم فيجوز التعليل بالحكم التي لا تنضبط لأننا إذا ظننا استناد الحكم المخصوص في مورد النص إلى الحكم المخصوصة ثم ظننا حصول تلك الحكمة في صورة تولد لا محالة من ذينك الظن ظن حصول الحكم في تلك الصورة والعمل بالظن واجب
وإذا أقام الدليل على جواز التعليل بالحكم التي لا تنضبط فليكن جائزا فيما تنضبط بطريق أولى وهذا هو السر في إعراض المصنف عن الكلام مع مانع(15/218)
ص -141-…التعليل بالحكم مطلقا والذي نختاره نحن في هذه المسألة التفصيل وقولهم إذا ظننا استناد الحكم المخصوصة إلى الحكمة ثم حصول تلك الحكمة في صورة ظننا حصول الحكم فيها قلنا هذا لا يتأتى إلا إذا كانت الحكمة مضبوطة يمكن معرفة مقاديرها فإنها إذا لم تنضبط لا يمكن معرفة مقاديرها فيتعذر حصول الظن بالمقدمتين
وقولهم لو لم يجز بالحكمة لم يجز بالوصف المشتمل عليها
قلنا العلة في الحقيقة هي الحكمة والحاجة فإنها غائبة الباعثة للفاعل كما ذكرتم ولكنها لما كانت في الغالب لا تنضبط ولا تتقدر في ذاتها جعل الوصف علة بمعنى أنه يعرف العلة بصالحية الوصف للضبط وتعريف العلة التي هي الحكمة هي العلة في جعله علة وهذا قررناه مرة من قبل وإذا وضح هذا فالحكمة لا تصلح لأن يعامل بها ما لا ينضبط إلا بواسطة الوصف لأن الشارع أقامه حينئذ ضابطا لها ولا مبالاة بوجدانها والحالة هذه دون الوصف فأنا تعلم بالاستقراء من محاسن الشريعة رد الناس فيما يضطرب ويختلف باختلاف الصورة والأشخاص والأزمان والأحوال إلى المظان الواضحة التي يكشف غيهبها ردا لما تدع العامة تخبط عشواء ونفيا للجرح والضراء ألا ترى إلى حصر القصر والفطر في مظنته الغالبة وهي السفر وإن كانت الحكمة المشقة التي قد توجد في حق الحاضر وتنعدم في حق المسافر
قال قيل العدم لا يعلل به لأن الإعدام لا تتميز وأيضا ليس على المجتهد سبرها قلنا لا نسلم فإن عدم اللازم متميز عن عدم الملزوم وإنما سقطت عن المجتهد لعلة تناهيها
المسألة الثالثة ذهب قوم إلى أنه يجوز التعليل بالعدم ثبوتيا كان الحكم أو عدميا لأنه قد يحصل دور أن الحكم مع بعض العدميات والدوران يفيد الظن ولأن العدة المعرف وهو غير مناف للعدم فإن العدم قد يعرف وجود الحكم الثبوتي فإن عدم امتثال العبد لأمر سيده يعرفنا سخطه عليه والحكم العدمي فإن عدم العلة يعرف عدم المعلول وكذا عدم اللازم وكذا عدم اللازم وعدم الشرط فيصح(15/219)
ص -142-…قيام العلية بالعدم كما بالموجود واختاره الإمام وأتباعه ومنهم المصنف ومنع منه قوم إذا كان الحكم ثبوتا واختاره الآمدي وابن الحاجب واحتج هؤلاء بوجهين أشار إليهما في الكتاب
أحدهما أن العلة لا بد أن تتميز عما ليس بعلة سواء أريد بها المؤثر أو المعرف أو الداهي والتمييز عبارة عن كون كل واحد من المتميزين مخصوصا في نفسه بحيث لا يكون تعيين هذا حاصلا لذاك ولا تعيين ذلك لهذا وهذا غير معقول في العدم الصرف لأنه نفي محض
والثاني أن المجتهد إذا بحث عن علة الحكم لم يجب عليه سبر الأوصاف العدمية فإنها غير متناهية مع أنه يجب عليه سبر كل وصف يصلح للعلية وهذا يدل على أن الوصف العدمي لا يصلح للعلية
وأجاب عن الأول بأنا لا نسلم أن الإعدام لا تتميز لأن كلامنا في الإعدام المضافة وبعضها يتميز عن بعض بدليل أن عدم اللازم متميز عن بعض الملزوم
لأن الأول يستلزم الثاني من دون عكس وكذا عدم أخذ الضدين عن المحل يصح حلول الآخر فيه نعم العدم المطلق لا يتميز وليس فيه كلامنا
وعن الثاني بأنه إنما أسقط عن المجتهد سبرها لتعذره لأن العدميات لما كانت غير متناهية تعذر سبرها
وقد يجاب بأنا لا نسلم أنه لا يجب عليه سبر ما تتخيل المناسبة فيه أو الدوران أو ما يقرب من العلية
قال "قيل إنما يجوز التعليل بالحكم المقارن وهو أحد التقادير الثلاثة فيكون مرجوحا قلنا ويجوز بالمتأخر لأنه معرف"
المسألة الرابعة ذهب الأكثرون إلى أنه يجوز تعليل الحكم الشرعي بالحكم الشرعي وهو اختيار الإمام وأتباعه ومنهم المصنف لأن الحكم قد يدور مع الآخر وجودا وعدما لأن العلة هي المعرف فلا بدع في جعل حكمه معرفا لآخر(15/220)
ص -143-…كأن يقول الشارع مهما رأيتموني أثبت الحكم الفلاني في الصورة الفلانية فاعملوا إني أثبت الحكم الفلاني فيها أيضا وذهب الأقلون إلى امتناع ذلك واحتجوا بأن الحكم إذا كان علة لحكم آخر فلا بد وأن يكون مقارنا له لأنه إن لم يقارنه فإما أن يكون متقدما عليه فيلزم وجود العلة مع تخلف المعلول عنها وهو غير جائز ولو سلم جوازه فلا ريب في أنه مخالف للأصل فلا يجوز إثبات العلة بهذه الصفة إلا عند قيام الدليل عليه أو يكون متأخرا عنه والمتأخر لا يكون علة للمتقدم فثبت أنه لا بد في كونه علة من المقارنة وعلى هذا فلا يكون الحكم علة إلا على تقدير واحد من ثلاثة وهو احتمال المقارنة والاحتمالان أغلب واحد والتعليل به لا يصح على تقديرهما فكان عدم التعليل به راجحا على التعليل به لأنه ثابت على احتمالين من ثلاثة والعبرة بالراجح دون المرجوح
وأجاب بأنا لا نسلم أن يمتنع كونه علة على تقدير تأخره فإن العلة هي المعرف ويجوز أن يكون المتأخر معرفا للمتقدم كالعام للصانع وحينئذ يندفع ما ذكرتم ويكون التعليل به ثابتا على احتمالين من ثلاثة فيكون راجحا وقد ذهب الآمدي في المسألة إلى تفصيل مبني على ما لا نوافقه عليه فلذلك لم نورده
قال "قالت الحنفية لا يعلل بالقاصرة لعدم الفائدة قلنا معرفة كونه على وجه المصلحة فائدة ولنا أن التعدية توقفت على العلة فلو توقفت هي عليها لزم الدور"
المسألة الخامسة أطبق الناس كافة على صحة العلة القاصرة وهي المقصورة على محل النص المنحصرة فيه التي لا تعداه إذا كانت منصوصة أو مجمعا عليها كما نقله جماعة ومنهم القاضي أبو بكر في التقريب والإرشاد فيما إذا كانت منصوصة وجعلوا محل الخلاف في المستنبطة والذي ذهب إليه الأكثرون منهم الشافعي والأصحاب ومالك وأحمد والقاضيان أبو بكر وعبد الجبار وأبو الحسين وعليه المتأخرون كالإمام وأتباعه ومنهم المصنف أنها صحيحة معول عليها(15/221)
وذهب أبو حنيفة وأصحابه وأبو عبد البصري والكرخي إلى امتناعها وحكاه الشيخ محي الدين النووي في شرح المذهب وجها لأصحابنا وكذلك(15/222)
ص -144-…الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع وأغرب القاضي عبد الوهاب في المخلص فحكى مذهبا ثالثا أنها لا تصح على الإطلاق فيه سواء كانت منصوصه أم مستنبطة وقال هو قول أكثر فقهاء العراق وهذا يصادم ما نقلناه من وقوع الاتفاق في المنصوصة ولم أر هذا القول في شيء مما وقف عليه من كتب الأصول سوى هذا
واحتجت الحنفية على امتناع التعليل بها بما أشار إليه المصنف من أنه لا فائدة فيها لأن الفائدة من العلة التوسل بها إلى معرفة الحكم وهذه الفائدة مفقودة هنا لأن الحكم في الأصل معلوم بالنص ولا يمكن التوسل بها إلى معرفة الحكم في غيره لأن ذلك إنما يمكن إذا وجد ذلك الوصف في غير الأصل والفرض خلافه لأنها قاصرة
وأجاب بأن لها فائدة وهي معرفة أن الحكم الشرعي مطابق لوجه الحكمة والمصلحة وهذه فائدة معتبرة لأن النفوس إلى قبول الأحكام المطابقة للحكم والمصالح أميل وعن قبول الحكم المحض والتعبد الصرف أبعد وقد ذكر لها فوائد أخرى منه أنه إذا ثبت كون القاصرة علة للحكم في محل فلو وجد فيه وصف آخر مناسب متعد يمتنع تعدية الحكم به لمعارضة القاصرة ما لم يدل دليل على استقلاله بالعلية بخلاف ما لو لم يثبت كون القاصرة علة له فإنه حينئذ كان تعدى الحكم بالوصف المناسب المتعدي من غير افتقار إلى دلالة دليل على استقلاله وحاصله أنها تفيد منع حمل الفرع على الأصل كما أن تعديها يفيد وجوب الحمل ومنها أنا بإطلاعنا على علة الحكم نزداد علما بما كنا غافلين عنه والعلم بالشيء أعظم فائدة كما أن الجهل أخس خسران وأقبحه ومنها أن العلة إذا طابقت النص زادته قوة ويتعاضدان وكذلك سبيل كل دليلين اجتمعا في مسألة واحدة ففائدتها فائدة اجتماع دليلين ذكره القاضي في التقريب والإرشاد باختصار إمام الحرمين ومنها ما نبه عليه والدي أيده الله تعالى من أن المكلف يقصد الفصل لأجلها خير زاد أجره كما قررناه في الكلام على العلة فجدد العهدية(15/223)
وذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي من فوائدها أنه إذا حدث هناك فرع(15/224)
ص -145-…فيعلق على العلة ويلحق المنصوص عليه وهذا فيه نظر إذا المسألة مفروضة في القاصرة ومتى حدث فرع يشاركها في المعنى خرت عن أن تكون قاصرة
وقد ذكر إمام الحرمين ذلك فقال قال من يصحح القاصرة فائدة تعليل تحريم التفاضل في النقدين تحريم التفاضل في الفلوس إذا ضربت نقودا وضعفه بأن المذهب أن الوبا لا يجري في الفلوس وإن استعملت نقودا فإن التعدية الشرعية مختصة بالمطبوعات من التبرين والفلوس في حكم العروض وإن غلب استعمالها ثم إن صح هذا المذهب قيل لصاحبه إن كانت الفلوس داخلة تحت اسم الدراهم والنص متناول لها فالطلبة بالفائدة قائمة وأن لم يتناولها النص فالعلة إذن متعدية لا قاصرة
قوله ولنا أي دليلنا على صحة القاصرة أن صحة تعدية العلة إلى الفرع فرع صحتها في نفسها فلو توقفت صحتها في نفسها على صحة تعديتها إلى الفرع لزم الدور وإذا لم تتوقف صحتها في نفسها على صحة التعدية صحت وإن لم تتعد وهو المطلوب
واعترض الآمدي على هذا الدليل بوجهين
أحدهما أنه أن أريد بالتعدية الموقوفة على صحة العلة ثبوت الحكم بها في الفرع وهو مسلم ولكن لا نسلم أن التعدية بهذا الاعتبار شرط في صحة العلة وإن أريد بهذه التعدية وجودها في الفرع لا غير فهو غير مفض إلى الدور فإن صحة العلة وإن كان مشروطا بوجودها في غير حمل النص فوجودها فيه غير متوقف على صحتها في نفسها فلا دور سلمنا لزوم الدور لكن دور معية أو غيره
والثاني ممنوع والأول مسلم وهو صحيح كما في المتلازمين والمتضايفين
فإن قلت ليس دور معية بدليل أن صحة تعديتها إلى الفرع فرع صحتها في نفسها لأنه يصح دخول ما يقتضي التراخي عليه إذ يصح أن يقال صحت العلة في نفسها ثم عدمت أو عدمت بعد أن صحت أو فعديت ولو كانا معا لما صح بهذا القول إذ لا يجوز إدخال كلمة تقتضي التأخير ما بين المتضافين(15/225)
ص -146-…والمتلازمين فلا يجوز أن يقال حصلت الأبوة ثم النبوة أو حصل العلو ثم السفل وبالعكس
قلت دخول "ثم" ههنا إنما هو لحصول الترتيب في التعدية التي هي فعل المعدي ولا نسلم جواز دخول ما يقتضي التأخير في التعدية التي أريد بها وجود الوصف في صورة فلا يقال صحت العلة في كذا فعديت أو ثم عدينا بمعنى وجدت وإنما يصح بمعنى الإثبات
فائدتان أحدهما
قال إمام الحرمين إن كلام الشارع نصا لا يقبل التأويل فلا يرى للقاصرة وقعا ولكن يمتنع عن الحكم بفسادها لما سبق وإنما يفيد إذا كان قول الشارع ظاهرا يتأتى تأويله ويمكن حمله على الكثير مثلا دون التعليل فإذا سنحت علة توافق الظاهر فهي تعصمه من التخصيص بعلة أخرى لا تترقى مرتبتها إلى المستنبطة القاصرة ثم في ذلك سر وهو أن الظاهر إن كان متعرضا للتأويل ولو أول لخرج بعض المسميات ولارتد الظاهر إلى ما هو نص فيه فالعلة في محل الظاهر فإنها ثابتة في مقتضى النص منه متعدية إلى ما اللفظ ظاهر فيه عاصم له عن التخصيص والتأويل فكان ذلك إفادة وإن لم يكن تعديا حقيقيا ولا يتجه غير ذلك في العلة القاصرة
ثم قال فإن قيل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :"لا تبيعوا الورق بالورق1" الحديث نص أم ظاهر فإن زعمتم أنه نص بطل التعليل بالنقدية وإن كان ظاهرا فالأمة مجمعة على إجرائه في القليل والكثير فقد صار بقرينة الإجماع نصا فأي حاجة إلى التعليل2 فنقول أما الخط الأصولي فقد وفينا به والأصول لا تصح على الفروع فإن تخلفت مسألة فليمتحن بحقيقة الأصول فإن لم يصح فليطرح هذا كلام إمام الحرمين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه مسلم بلفظ "الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعو كيف شئتم إذا كان يدا بيد"
2 في الأصل المطبوع :"التعليل" تحريف(15/226)
ص -147-…ولقائل أن يقول القاصرة مفيدة مطلقا سواء كانت مستنبطة من ظاهر أم نص لما عرفت ولكن هذا الذي ذكره في منعها من التخصيص في الظاهر فائدة أخرى جلية ولا تنحصر الفائدة فيها
وأما قوله إن الأمة مجمعة على إجرائه في القليل والكثير فصار كالنص
فنقول إذا انتهى القليل إلى حد لا يورث فلا نسلم حصول الإجماع بل أبو حنيفة يخالف فيه كمخالفته في بيع ثمرة بتمرتين فيجوز عنده بيع ذرة بذرة من الذهب والفضة كذا حكاه والدي في تكعلة شرح المهذب عن شرح الهداية للسقناقي من كتب أصحابه فيمكن استعمال العلة وهي جنس الأثمان في ذلك ومنع تخصيص العموم فيه وتحصل الفائدة التي حاولها إمام الحرمين وإلا فآخر كلامه يشير إلى الامتناع من الحكم بصحة العلة المذكورة فإنه قال فإن قيل هذا تصريح بإبطال التعليل النقدية
قلنا الصحيح عندنا أن مسائل الربا بأشهية والشبه على وجوه منها التعليق بالمقصود والمقصود من الأشياء الأربعة الطعم ومن النقدين النقدية هي مقتصرة وليست هي علة إذ لا شبه فيها ولا إحالة ولكن لما انتظم منها اتباع المقصود عد من مسالك الأشياء الأربعة انتهى
فقد امتنع من الحكم بصحة العلة المذكورة لعدم الجريان على القانون الذي مهده وهو مع ذلك لا يراد التعليل بالوزن كقول أبي حنيفة لبطلان التعليل من أوجه تخصه
الثانية رجع الجمهور التعدية على القاصرة امتنع قوم من الترجيع ورجح الأستاذ أبو إسحاق القاصرة بشادة النص بحكمها ويتضح بذلك مذهب الشافعي فيما إذا أفسد صوم رمضان بجماع وترجيح كون العلة الجماع وهي قاصرة على الإفساد وفي تعليل النقدين بالنقدية على الوزن وفي نفقة الوالد على الولد وبالعكس وعلق الأصول على الفروع وبالعكس بالبعضية على القرابة وأما على المذهب الأولين فللشافعي في هذه المسائل أدلة تخصها كالشمس وضوحا(15/227)
ص -148-…قال "قيل لو علل بالمركب فإذا انتفى جزء تنتفي العلية ثم إذا انتفى جزء آخر يلزم التخلف أو تحصيل الحاصل قلنا العلة عدمية فلا يلزم ذلك"
مثل المسألة السادسة التعليل بالوصف المركب جائز عند المعظم وبه قال المتأخرون ومنهم الإمام وأتباعه ومنهم صاحب الكتاب لأن ما يدل على علية الوصف من الدوران والسبر والتقسيم والمناسبة مع الاقتران لا تختص بمفرد بل دلالته عليه وعلى المركب على حد سواء فعمل به في المركب كما عمل به في المفرد
وقال قوم لا يجوز به معللين بأن جوازه يؤدي إما إلى تخلف المعلول عن العلة العقلية أو تحصيل الحاصل وهما محالان فكذا ملزومهما والدليل على أنه مؤد إلى ذلك أن الوصف المركب إذا كان علة كالقتل العمد العدوان في إيجاب القصاص مثلا كان عدم كل جزء من أجزائه علة مستقلة لعدم عليته لانعدام كل واحد من أجزائه ضرورة إذ عليته من جملة صفات ماهية المنعدمة بانعدام كل واحد من أجزائه وانعدام الوصف يستلزم انعدام الصفة
فإذا انتفى جزء من أجزاء المركب يترتب عليه عدم عليته فيلزم تحصيل الحاصل أو لا يلزم تخلف المعلول عن العلة
وأجاب بأن العلية صفة عدمية لأنا من النسب والإضافات تعتبرها العقول ولا وجود لها في الخارج
ويلزم من كونها عدمية أن يكون انتفاؤها وجوديا فإن العدم والوجود نقيضان ولا بد و أن يكون أحد النقيضين وجوديا وإذا كان انتقاؤها وجوديا فلا يجوز أن يكون عدم كل جزء علة له لأن الأمور العدمية لا تكون علة للأمر الوجودي هكذا أقرره العبري وغيره من شارحي الكتاب وهو أولا ضعيف لأنه ليس بأولى من قول المعترض العلية أمر وجودي لأن نقيضها وهو عدم العلية عدمي واحد من النقيضين واقع لا محالة
وثانيا مخالف لما في المحصول فإنه جعله جوابا لشبهة أخرى لهم غير هذه(15/228)
ص -149-…ولكن صاحب الحاصل ترك ذكر تلك الشبهة ونقل جوابها إلى هذه الشبهة التي أوردها صاحب الكتاب فتبعه المصنف على ذلك
وقد أجيب عن هذه الشبهة بأمور منها أن عدم الجزء ليس علة لعدم العلية بل كل جزء فوجوده شرط لها وعدمه يكون عدما لشرطها ومنها أنه يقتضي أن لا يوجد ماهية مركبة لما ذكر من التقرير بعينه فإن عدم كل واحد من أجزائه علة لعدم تلك الماهية المركبة فإذا انعدم جزء انعدمت تلك الماهية وإذا انعدم جزء آخر لزم إما انعدامها وهو تحصيل الحاصل ونقص العلة العقلية وكلاهما محال
"فرع" قال الإمام نقل الشيخ أبو إسحاق الشيرازي عن بعضهم إنه قال لا يجوز أن تزيد الأوصاف على سبعة وهذا الحصر لا أعرف له حجة قلت والذي نقله الشيخ شرح اللمع عن بعض الفقهاء أنه لا يجوز أن تزيد على خمسة وغلط قائله ورأيته في عدة نسخ من الشرح وكان الخمسة تصحفت بسبعة في نسخة الإمام
قال "وهنا مسائل الأولى يستدل بوجود العلة على الحكم لا بعليتها لأنها نسبة يتوقف عليه"
ش الاستدلال قد يكون بذات العلة على الحكم كما يقال في القتل بالمثقل قتل عمد عدوان فيجب به القصاص وهو طريق صحيح بخلاف الاستدلال بعلية العلة للحكم على الحكم فإنه فاسد
ومثاله أن يقال عليه القتل العمد العدوان علة لوجوب القصاص وقد وجد في المثقل فيجب
واحتج علية للمصنف تبعا للإمام بأمر العلية أمر نسبي بين العلة والحكم فيتوقف ثبوتها على ثبوت المنتسبين اللذين هما العلة والحكم فتتوقف على ثبوت الحكم فيكون إثبات الحكم دورا واعترض عليه صاحب التحصيل بأن صدق قول القتل سبب لوجوب القصاص لا يتوقف لا على وجود القصاص وهو(15/229)
ص -150-…اعتراض منقدح لأن النسبة لا تتوقف على وجود المنتسبين في الخارج بل في الذهن
وحينئذ لا يلزم الدور قال ولو سلمناه لكن لما فسرت العلة بالمعروف انقطع الدور وهو أيضا متجه ومراده انقطع الدور الممتنع وإلا فلزوم الدور على تفسير العلة بالمعروف أيضا واضح
وللاعتراف بصحة هذين الاعتراضين فر صفي الدين الهندي من تعليل فساد هذه الطريق بهذا الوجه إلى وجه تكلفة وهو أن علية العلة للحكم تتوقف على اقتضاء العلة للحكم وكونه مرتبا عليها لولا المانع بحيث يجب أن يكون فلو استفيد اقتضاؤها بها وترتبه عليها من العلية لزم الدور
فإن قلت كيف علية العلة على اقتضاء العلة للحكم وكونه بحيث يجب أن يترتب عليها لولا المانع ولا معنى للعلية إلا هذا والشيء لا يتوقف على نفسه
قلت هو مغاير له لأن اقتضاء الشيء للحكم وكونه مرتبا عليها لولا المعارض أعم من أن يكون بطريق العلة أو غيرها نعم إذا أضيف الاقتضاء إلى العلة تخصص لكن ذلك لا تقتضي أن يكون عينه فإن هذا التخصيص خارج عن ماهية الاقتضاء وداخل في ماهية العلية فهما متغايران
سلمنا أنه عينه لكن تقول إن كون الحكم مترتبا على العلة وكونها مقتضية له إما أن يكون عين فعلية فيلزم الاستدلال بالشيء على نفسه أو غيرها فيلزم الدور على ما سبق فثبت المقصود على التقديرين وهو امتناع الاستدلال بالعلية على ثبوت الحكم وترتبه على العلة
قال "الثانية التعليل بالمانع لا يتوقف على المقتضى لأنه إذا أثر معه فدونه أولى قلنا لا يستند العدم المستمر قلنا الحادث يعرف الإلى كالعالم للصانع"
تعليل الحكم العدمي بالوصف الوجودي يسمى تعليلا بالمانع واختلفوا في أنه هل يشترط في صحة هذا التعليل بيان وجود المقتضى
فذهب جمع إلى اشتراطه وهو اختيار الآمدي وأباه الآخرون وعليه الإمام(15/230)
ص -151-…وشيعته كالمصنف واختاره الحاجب ولا يخفى عليك أن هذا الخلاف إنما يتأتى إذا جوزنا تخصيص العلة فأما إذا لم يجوز ذلك فلا يتصور هذا الخلاف لأن التعليل بالمانع حينئذ لا يتصور فضلا من أن يختلف في أنه مشروط ببيان وجود المقتضى
كذا قال صفي الدين الهندي وهو متلقى من قول الإمام إن هذه المسألة من تفاريع تخصيص العلة فإما إن أنكرناه امتنع الجمع بين المقتضى والمانع
ولقائل أن يقول هذا غير لازم فإن العلة من تخصيص العلة جاز أن يقول شرط تعليل الحكم العدمي بالوصف الوجودي وجود المقتضى في تلك الصورة ويكون مراده أن هذا الشرط ممتنع ويمتنع بامتناعه تعليل الحكم العدمي بالوصف الوجودي
واحتج المصنف بأن بين المقتضى والمانع معاندة ومضادة والشيء لا يتقوى بضده بل يضعف به فإذا كان المانع مؤثرا حال ضعفه وهو وجود المقتضى فلأن يكون ذلك حال قوته وهو عدم المقتضى أولى
واحتج المشترطون بأن المعلول الذي هو عدم الحكم إما أن يكون هو العدم المستمر وذلك باطل لأن المانع حادث والعدم المستمر أزلي ويمتنع استناد الأزلي الحادث وإن كان هو العدم المتجدد فهو المطلوب لأن العدم المتجدد إنما يتصور بعد قيام المقتضى
وأجاب بأنا لا نسلم امتناع تعليل المتقدم بالمتأخر بمعنى المعرف وحينئذ المعلل هو العدم المستمر وهو جائز بهذا المعنى كما أن العالم معرف للصانع
وأجيب أيضا بأنا نقول المعلل هو العدم المتجدد قلنا ممنوع لأنا لا نعني العدم المتجدد إلا أنه حصل لنا العلم بعدم الحكم من قبل الشرع ومعلوم أن هذا لا يقتضي تحقق المقتضى
ولقائل أن يقول ما حكم ما فيه بالعدم بناء على البراءة الأصلية لا يكون معرفا من قبل الشرع لأن الشرع لم يرد فيه بشيء وقولهم إن العلة المعرف والمتأخر يعرف المتقدم قلنا لا يصح أن تكون العلة بمعنى المعرف في هذا المقام(15/231)
ص -152-…لأنكم اعترفتم من قبل بأن الوصف ليس معرفا للحكم في الأصل بل هو معرف بالحكم في الأصل معرف للحكم في الفرع فالوصف معرف إما بالنص إن ورد فيه نص كما قلتم أو بالبراءة الأصلية وعلى التقديرين لا يكون الوصف معرفا له
والكلام لم يقع إلا فيه فامتنع استناد العدم في الأصل إلى هذا العدم المتحدد سواء جعلناه معرفا أو مؤثرا وإذا عرفت ضعف ما أجاب به فنقول وما استدل به أيضا ضعيف لأن للخصم أن يقول لا يلزم من جواز تعليل عدم الحكم بالمانع حال وجود المقتضى الذي هو شرط التعليل به جواز تعليله به حال عدم المقتضى الذي هو مناف لتعليله به
وأما قولكم إنه قوي حال عدمه ضعيف حال وجوده فلسنا نسلم ذلك وسند هذا المنع أن وجود المقتضى لما كان شرط تأثيره في عدم الحكم استحال أن يقال إنه يضعف إذ ذاك وكيف يضعف الشيء حال وجود شرط تأثيره
ولئن سلمناه فلا يلزم منه أيضا عدم الجواز لأن المأخذ في هذا ليس هو القوة والضعف حتى يلزم ما ذكرتم بل غيرها من أدلة نقيمها ومن جملتها الدليل الذي أشرتم إليه وبينا ضعف ما أجبتم به عنه
قال "الثالثة لا يشترط الاتفاق على وجود العلة في الأصل بل يكفي انتهاض الدليل عليه"
ش شذ بعض الأصوليين فقال وجود الوصف الذي جعل علة في الأصل لا بد وأن يكون متفقا عليه وهذا ضعيف لأنه لما أمكن إثباته بالدليل حصل الغرض وكان اشتراط الاتفاق تعيثا بل الحق أنه قد يكون ضروريا ومعلوما بالبرهان اليقيني ومظنونا
واستدل الشيخ أبو إسحاق على بطلان هذا المذهب بأن قائله إن أراد بالاتفاق الذي اشترط إجماع الأمة كلها أدى إلى إبطال القياس لأن نفاة القياس من جملة الأمة وأكثرهم يقولون إن الأصول غير معللة وإن أراد إجماع القياسيين فهم بعض الأمة وليس قولهم بدليل(15/232)
ص -153-…قال "الرابعة الشيء يدفع الحكم كالعدة أو يرفعه كالطلاق أو يدفع ويرفع كالرضاع"
ش الوصف المجعول علة على ثلاثة أقسام
الأول أن يكون دافعا للحكم فقط ومثل له المصنف بالعدة فإنها دافعة لحل النكاح إذا وجدت في ابتداء النكاح وليست رافعة له إذا وجدت في أثنائه فإن الموطؤة بشبهة تعتد وهي باقية على الزوجية
وكذا الإحرام يمنع ابتداء النكاح ولا يقطعه وهذا يلتفت على أن يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء وكذلك الأصح صحة رجعة المحرم لتنزيلها منزلة الدوام وتوقيت النكاح مانع في ابتدائه ولا يمنع في دوامه
فإذا قال أنت طالق غدا أو بعد شهر صح وعقد الذمة لا يجوز مع تهمة الخيانة ولو اتهمهم بعد العقد لم ينبذ إليهم عهدهم بخلاف الهدنة فإنه ينبذ العقد فيها بالتهمة ولو نكح حرة لا تفسخ نكاح الأمة خلافا للمزني ولو رأى المتيمم الماء في أثناء صلاته أتمها إن كانت مما يسقط فرضها بالتيمم وهو مانع في ابتداء الصلاة ولو ملك عبدا له عليه دين ففي سقوط الدين وجهان أصحهما لا وإن كان لا يثبت له على عبده ابتداء لأن الدوام من القوة ما ليس للابتداء وهذه قاعدة في الفقه عظيمة كثرت مسائلها ومن أراد الإحاطة بفروعها فعليه بكتابنا الأشباه والنظائر أتمه الله
الثاني أن يكون رافعا للحكم فقط كالطلاق فإنه يرفع حل الاستمتاع ولكن لا يدفعه إذ الطلاق لا يمنع وقوع نكاح جديد ولك أن تقول الرفع أشد من الدفع فإذا صلح الوصف لأن يكون دافعا بطريق أولى والطلاق كما رفع حل الاستمتاع دفعه ولكن ليس هذا الدفع والرفع مؤبدا بل قد يزولان بنكاح جديد والمصنف أراد بكونه لا يدفعه أنه لا يمنع من طريانه فإنه في القسم الأول منع من الابتداء دون الدوام وفي هذا المنع من الدوام دون الابتداء
ويتعرج هذا إلى أنه قد يغتفر في الابتداء ما لا يغتفر في الدوام عكس هذه(15/233)
ص -154-…القاعدة الأولى وهو في مسائل معدودة غير عديدة استقضيناها في كتابنا الأشباه والنظائر كمله الله تعالى
منها في الملك مضمنى لو اشترى قريبه الذي يعتق عليه صح وعتق عليه فالقرابة منافية لدوام الملك دون ابتدائه
ومنها لو قتل عتيق زوجته وله منها ولد ثم ماتت قبل الاستيفاء وبعد البينونة فهل نقول وجب لولدها هذا القصاص ثم سقط أو لم يجب أصلا ظاهر قول الأصحاب ورث القصاص ولده أنه وجب ثم سقط فقد قارن المسقط وهو البنوة سبب الملك ولم يمنع ابتداء دخول الملك ومنع الدوران وحكى إمام الحرمين عن شيخه أن القصاص لا يجب وقس على هذا لو زوج عبده بأمته هل نقول المهر ثم سقط أو لم يجب
ومنها المفلس يصح أن يستدين مؤجلا على المذهب ولو حجر عليه بالفلس حل ما عليه من الدين على قول
ومنها أن الجنون فإنه يحل به الديون على وجه ولو أن ولي المجنون استدان له مؤجلا حيث لا تجوز له الاستقراض له لجاز ذلك
ومنها لو تكفل ببدن حي فمات انقطعت الكفالة على وجه ومنها إذا أذن لجاريته ثم استولدها ففي بطلان الإذن اختلف بين الأصحاب قال الرافعي واتفقوا على أنه يجوز ابتداء أن يأذن للمستولدة
الثالث أن يكون دافعا ورافعا كالرضاع فإنه يمتنع من ابتداء النكاح ومن دوامه إذا طرأ وكذا اللعان إذا طراء قطع ومنع الابتداء وحرم على التأييد والحق بهذا أم زوجتك فإن نكاحك بنتها إذا وجد مانع من أن يبتدئ عليها عقدا ولو كنت قد عقدت على أمها ولم تدخل بها لجاز لك نكاح بنتها وانقطع به نكاح الأم وأقسام هذا الأنواع كثيرة أعني كون الشيء يمنع من الدوام والابتداء
قال الخامسة العلة قد يعلل بها ضدان ولكن بشرطين متضادين
ش هذه المسألة مبنية على جواز تعدد الحكم لعلة واحدة فلنذكر المبني عليه(15/234)
ص -155-…ثم نعود إلى المبنى عليه ثم نعود إلى المبنى فنقول ذهبت الجماهير إلى أن العلة الواحدة الشرعية يجوز أن يترتب عليها حكمان شرعيان مختلفا
وخالف شرذمة قليلون وحجة الجمهور أن العلة إن فسرت بالمعرف فجوازه ظاهر إذ لا يمتنع لا عقلا ولا شرعا نصب إمارة واحدة على حكمين مختلفين
قال الآمدي وذلك مما لا نعرف فيه خلافا كما لو قال الشارع جعلت طلوع الهلال أمارة على وجوب الصوم والصلاة وإن فسرت بالباعث فلا يمتنع أيضا أن يكون الوصف الواحد باعثا على حكمين مختلفين أي مناسبا لهما بأمر مشترك بينهما كمناسبة الربا وللشرب للتحريم ووجوب الحد والقتل للقصاص والكفارة وحرمان الميراث وإن فسرت بالموجب وكانت العلة مركبة لم يمتنع ذلك أيضا لجواز أن يكون الموجب المركب مصدرا لأثرين مختلفين كما في العلل الفعلية المركبة وإن كانت بسيطة فكذلك إذ لا يتمنع أن تكون العلة البسيطة موجبة لأثرين مختلفين لأن القول بأن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد مقطوع ببطلانه على أن القول يكون العلة الشرعية موجبة باطل
وأيضا دليل الجواز الوقوع وقد وقع كما عرفت واعتل المانع بما لا يعصم ولا يرتضى ذكره
إذا عرفت ذلك فإن قلنا بمذهب الجماهير فقد يعلل بالعلة متماثلان كالقتل الصادر من زيد ومن عمرو فإنه يوجب القصاص على كل واحد منهما ولا يتأتى ذلك في الذات الواحد لاستحالة اجتماع المثلين
وقد يعلل بها مختلفان غير متضادين كالحيض لحرمة الوطء ومس المصحف
وقد يعلل بها ملولان متضادان وعلى ذكر هذا القسم اقتصر في الكتاب وذلك لا يكون إلا بشرطين متضادين كالجسم يكون علة للسكون بشرط البقاء في الحيز وعلة للحركة بشرط الانتقال عنه وإنما قلنا يشترط فيهما شرطان لأنه لا يمكن اقتضاؤهما لها بلا شرط أصلا أو لبعضهما بشرط دون الآخر وإلا يلزم اجتماع الضدين وهو محال وإنما قلنا يشترط التضاد في الشرطين لأنه لو أمكن(15/235)
ص -156-…اجتماعهما كالبقاء في الحيز مع الانتقال مثلا فعند حصول ذلك الشرطين إن حصل الحكمان أعني السكون والحركة لزم اجتماع الضدين
وإن حصل أحدهما دون الآخر لزم الترجيح دون مرجح وإن لم يحصل واحد منهما خرجت العلة عن أن تكون علة فتعين التضاد في الشرطين فاعتمد على هذا التقرير
قال "الفصل الثاني في الأصل والفرع أما الأصل فشرطه ثبوت الحكم فيه بدليل غير القياس لأنه إن اتحدت العلة فالقياس على الأصل الأول وإن اختلفت لم ينعقد الثاني"
ش للأصل شرائط الأول ثبوت الحكم فيه لأن القياس عبارة عن إثبات مثل حكم الأصل في الفرع كما عرفت ولا يتأتى ذلك إلا بعد ثبوت الحكم في الأصل
والثاني أن يكون ذلك الثبوت بدليل لأن الحكم لا بد له من دليل وأن يكون شرعيا وهذا في الحقيقة شرط ثالث ولكن لما كان الحكم عندنا لا يكون إلا شرعيا لعدم القول بالحسن والقبح اكتفى المصنف بقول بدليل وأن يكون الدليل على معرفته سمعيا
وهذا وإن صلح لأن يكون شرطا رابعا فاكتفى المصنف عن ذكره بقوله بدليل أيضا لأن رأينا أن ما لا يكون طريق معرفته سمعيا لا يكون حكما شرعيا وهذا ظاهر على مذهبنا
وقال صفي الدين الهندي يحترز بالحكم الشرعي عن اللغوي والعقلي فأنا بتقدير أن يجري القياس التمثيلي فيهما فإنه ليس قياسا شرعيا بل لغويا وعقليا وكلامنا في اللغوي
ولقائل أن يقول إذا قلت بجريان القياس فيهما ترتب على ذلك أمر شرعي وهو تحريم النبيذ مثلا لصدق الخمر عليها قياسا
والثالث هو المشار إليه بقوله غير القياس وأنت إذا تأملت كلامنا قضيت(15/236)
ص -157-…عليه بأنه خامس أن لا يكون الدليل الدال على حكم الأصل قياسا وهذا الشرط معتبر عند الجماهير من أصحابنا والحنفية
وخالف فيه بعض المعتزلة والحنابلة وأبو عبد الله البصري لنا أن العلة الجامعة بين القياسين إما أن تكون متحدة أو مختلفة فإن كان ذكر الأصل الثاني تطويلا بلا فائدة لأنه يستثنى عنه بقياس الفرع الثاني على الأصل الأول
مثاله كما لو قيل من جانبنا الوضوء عبادة فيشترط فيها النية قياسا على الغسل ثم نقيس الغسل في أنه يشترط فيه النية على الصلاة والصوم بجامع كونه عبادة فرض الوضوء إلى الصلاة والصوم بهذا الجامع أولى
وإن كان الثاني لم ينعقد القياس الثاني لعدم اشتراك الأصل والفرع فيه في علة الحكم كما يقال من جانبنا الجذام عيب يفسخ به البيع فيفسخ به النكاح قياسا على القرن والرتق ثم يقاس القرن على الجب في الحكم المذكور بجامع فوات الاستمتاع وهو غير موجود في الجذام فلا يصح قياسه عليه
فرع قد علمت أن حكم الأصل لا بد وأن يكون ثابتا بدليل سوى القياس ولا ينحصر الدليل المشار إليه في الكتاب والسنة بل جاز أن يكون إجماعا لأنه أصل في إثبات الأحكام فجاز القياس على ما ثبت به ولأنه إذا جاز القياس على ما ثبت بخبر الواحد فلأن يجوز على ما ثبت بالإجماع بطريق أولى ومن أصحابنا من قال لا يجوز القياس على ما ثبت بالإجماع بل يشترط أن يكون كتابا أو سنة حكاه الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع
قال وأن لا يتناول دليل الأصل الفرع وإلا لضاع القياس
ش الشرط الرابع أن لا يكون دليل الأصل بعينه دليل الفرع أي متناولا له وإلا لضاع القياس لخلوه عن الفائدة حينئذ بالاستثناء بدليل الأصل عنه ولأنه حينئذ لا يكون جعل أحدهما أصلا والآخر فرعا أولى من العكس
مثاله ما لو قيل من جانبنا فضل لقاتل القتيل بالإسلام فلا يقتل به كما لو قتل المسلم الحربي(15/237)
ص -158-…ثم استدل على علية الكفر لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم : "لا يقتل مؤمن بكافر1" وكذا لو قسنا السفرجل على البر بجامع الطعم دالين عليه بقوله عليه الصلاة والسلام : "لا تبيعوا الطعام بالطعام2" الحديث
قال "وأن يكون حكم الأصل معللا بوصف معين" الخامس لا بد وأن يظهر كون ذلك الأصل معللا بوصف معين لأن رد الفرع إليه لا يصح إلا بهذه الواسطة فلو ادعى عليه شيء مشترك بين الأصل والفرع منهم لم يقبل منه إلا عند بعض المتحذلقين من متأخري الجدليين حيث قلبوه في مجلس المناظرة قال "غير متأخر عن حكم الفرع دليل سواه"
ش السادس أن يكون حكم الأصل متأخر عن حكم الفرع وهو كقياس الوضوء على التيمم في اشتراط النية لأن التبعد بالتيمم إنما ورد بعد الهجرة والتبعد بالوضوء كان قبله
قال المصنف تبعا للإمام وهذا يستقيم إذا لم يكن للفرع دليل سوى القياس علة ذلك الأصل المتأخر لأن قبل ذلك المتأخر إن كان الحكم ثابتا في الفرع من أنه لا دليل عليه سوى القياس عليه لزم تكليف ما لا يطاق وأما إذا كان عليه دليل آخر سوى القياس عليه فيجوز كونه متأخرا لزوال المحذور المذكور
وترادف الأدلة على المدلول الواحد جائز مليح وكتب الأصوليين إلا من نحا نحو الإمام ساكتة عن هذا التفصيل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه أبو داود "4/252" والنسائي" والبخاري : كتاب العلم من حديث أبي جحيفة قال قلت لعلي هل عندكم كتاب؟ قال إلا كتاب الله أو فهم أعطية رجل مسلم وما في هذه الصحيفة قال : العقل وفكاك الأسير ألا يقتل مسلم بكافر
2 لم أجد الحديث بهذا اللفظ والذي رواه أحمد ومسلم عن معمر بن عبدالله قال : كنت أسمع النبي صلي اله عليه وسلم يقول :"الطعام بالطعام مثلا بمثل" وكان طعامنا يومئذ الشعير "نيل الأوطار 5/218"(15/238)
ص -159-…ولقائل أن يقول إذا كان للفرع دليل آخر سواه فكيف يكون هذا الذي سميتموه بالأصل أصلا له وهو لم يتفرع عنه ولم ينبن عليه نعم هو صالح لأن يكون أصلا بمعنى أنه لو يوجد حكمة المستند إلى غير هذا الأصل لوجد مستندا إليه
قال "وشرط الكرخي عدم مخالفة الأصول أو أحد أمور ثلاثة التنصيص على العلة والإجماع على التعليل مطلقا وموافقة أمور أخر والحق أنه يطلب الترجيح بينه وبين غيره"
جعل الكرخي من شروط الأصل كونه غير مخالف في الحكم للأصول الثابتة في الشرع أو وجدان أحد أمور ثلاثة على تقدير مخالفته لها
أولها تنصيص الشارع على علة ذلك الحكم قال فإن التنصيص على علتيه كالتصريح بوجوب القياس عليه
وثانيها إجماع الأمة على تعليل ذلك ولا يضر مع هذا الإجماع إن يختلفوا في علته وإلى هذا أشار المصنف بقوله مطلقا
وثالثها أن يكون القياس عليه موافقا للقياس على أصول أخر كالتخالف عن اختلاف المتبايعين في قدر الثمن إذا لم يكن لأحد منهما بينة فإنه وإن كان مخالفا لقياس الأصول لأن قياس الأصول يقتضي قول المنكر إذ الأصل عدم شغل ذمته بما يدعيه البائع من القدر الزائد لكن ثم أصل آخر يوافقه وهو أن المشتري ملك المبيع علية فالقول قول من ملك عليه أصله الشفيع من المشتري إذا اختلفا في قدر ثمن الشقص فإن القول قول المشتري لأن الشفيع يملك عليه الشقص ولذلك قسنا في التحالف على الاختلاف ثمن المبيع ما عدا المبايعات من عقود المعاوضات كالسلم والإجازة والمساقاة والقراض والجعالة والصلح عن الدم والخلع والصداق والكتابة
وذهب أكثر أصحابنا وبعض الحنفية إلى جواز القياس على ما خالف قياس الأصول مطلقا والمختار عند المصنف تبعا للإمام أنه بطلب الترجيح بين ذلك الأصل وبين غيره من الأصول المخالفة له ويلحق الفرع بالراجح منهما هذا شرح ما في الكتاب والموضع يزيد بسطه في الكلام(15/239)
ص -160-…وقد أحسن الغزالي في هذا الفصل ونحن لا نعد بكلامه فنقول من شروط حكم الأصل أن لا يكون خارجا عن قاعدة القياس وهذا مما أطلق وهو محتاج إلى تفصيل فاعلم أن وصف الحكم بهذه الصفة باعتبارات
الأول القاعدة المشروعية ابتداء من غير أن تقطع عن أصل آخر التي لا يعقل معناها فلا يقاس عليها لتعذر العلة
قال الغزالي فيسمى هذا خارجا عن القياس تجوز إذ معناه أنه ليس منقاسا لأنه لم يدخل في القياس حتى يخرج عنه ومثاله المقدرات في إعداد الركعات ونصب الزكوات ومقادير الحدود والكفارات وجميع التحكمات المبتدأة التي لا ينقدح فيها معنى
الثاني ما استثني عن قاعدة عامة ولا يعقل معناه من غير أن تنسخ تلك القاعدة قلا يقاس عليه أيضا لأنه فهم ثبوت الحكم في المستثنى على الخصوص وفي القياس إبطال الخصوص مثل تخصيصه عليه الصلاة والسلام خزيمة بقبول شهادته وحده وتخصيص أبي بردة في الأضحية بالعناق
الثالث ما استثني عن قاعدة لمعنى يعقل فهذا بقياس عليه مثاله استثناء العرايا فإنه لم يرد ناسخا لعلة الربا وإنما استثني فنقيس عليه العنب على الرطب وهذا القسم هو وقع فيه كلام المصنف واختلاف العلماء على الأقوال الثلاثة التي قد عرفها ولا يتجه جريان الخلاف في غيره
والرابع ما شرع مبتدأ غير متقطع عن أصول أخر وهو معقول المعنى لكنه عديم النظر فلا يقاس عليه لأنه لا يوجد له نظير خارج مما يتناوله النص والإجماع فالمانع من القياس فقد العلة في غير المنصوص معلل بعلة قاصرة ومثاله رخص السفر والمسح على الخفين رخصة المضطر في أكل الميتة وتعلق الأرش برقبة العبد وإيجاب غرة الجنين والشفعة في العقار وخاصية الإجارة والنكاح وحكم اللعان والقسامة ونظائرها
وعد الغزالي من جملتها ضرب الدية على العاقلة وذلك قول منه بأنها معقولة المعنى مخالف إمامه ويساعد ما أوردناه بحثا فيما تقدم فإن هذه القواعد(15/240)
ص -161-…متباينة المأخذ فلا يقال بعضها خارج عن قياس البعض بلى لكل واحد معنى ينفرد به لا يوجد له نظير فليس البعض بأن يوضع أصلا ويجعل الآخر خارجا عن قياسه بأولى عن عكسه ولا ينظر فيه إلى كثرة العدد وقلته
وتحقيقه أنا نعلم أنه إنما جوز المسح على الخف لعسر النزع ومسيس الحاجة إلى استصحابه فلا نقيس عليه والقفازين وما لا يستر جميع القدم لا لأنه خارج عن القياس لكن لأنه لا يوجد ما يساويه في الحاجة وكذا رخصة السفر ثابتة للمشقة ولا يقاس عليها مشقة أخرى لأنه لا يشاركها غيرها في جملة معانيها ومصالحها لأن المرض لا يحوج إلى الجمع بل إلى القصر
وقد قصر في حقه بالرد من القيام إلى القعود ولما سواه في حاجة الفطر سوى الشرع بينهما وكذلك قولهم تناول الميتة للمضطر رخصة خارجة عن القياس غلط لأنه إن أريد به أنه لا يقاس عليه غير المضطر فلأنه ليس في معناه وإلا فنقيس الخمر على الميتة والمكره على المضطر فهو منقاس وكذلك بداية الشرع بأيمان المدعي في القسامة لشرف أمر الدم ولخاصية لا يوجد مثلها في غيره ولأنه عديم النظير وأقرب شيء إليه البضع
وقد ورد تصديق المدعي باللعان على ما يليق به وكذلك ضرب الدية على العاقلة كان ذلك رسم الجاهلية قرره الشرع لكثرة وقوع الخطأ وشدة الحاجة إلى ممارسة السلاح ونظير له في غير الدية وهذا مما يكثر وهو يعرف أن قول الفقهاء تأقت الإجارة خارج عن قياس البيع والنكاح خطأ كقولهم تأبد البيع والنكاح خارج عن قياس الإجارة فتأقت المساقات خارج عن قياس تأبد القراض خارج عن قياس تأقت المساقاة فإذن هذه الأقسام الأربعة لا بد من فهم تباينها بحصول الوقوف على سر هذا الأصل
الخامس ما شرع مبتدأ من غير اقتطاع عن أصول أخر وهو معقول المعنى وله نظائر وفروع فهذا هو الذي يجري فيه القياس وفي جزئياته تنافر القياسيين واضطراب آراء الجدليين
قال "وزعم عثمان البتي قيام ما يدل على جواز القياس عليه وبشر(15/241)
ص -162-…المريسي1 الإجماع عليه أو التنصيص على العلة وضعفهما ظاهر"
"ش" هذان بحثان
الأول لا يشترط في الأصل أن يقوم دليل على جواز القياس عليه بحسب الخصوصية نوعية كانت أو شخصية بل كل حكم انقدح فيه معنى مخيل غلب على الظن إتباعه فإنه يجوز أن يقاس عليه
والثاني لا يشترط في الأصل انعقاد الإجماع على أن حكمه معللا وإن ثبتت عليته بالنص
وخالف عثمان2 البتي في الأول فزعم اشتراط قيام ما يدل على جواز القياس علية بحسب الخصوصية النوعية فإن كانت المسألة من مسائل البيع مثلا فلا بد من دليل على جواز القياس في أحكام البياعات أو في النكاح فكذلك
وخالف بشر بن غياث المريسي في الثاني فزعم اشتراط قيام الإجماع عليه أو التنصيص على العلة
قال صاحب الكتاب وضعفهما ظاهر يعني مذهب عثمان وبشر وهو كما قال فقد استعملت الصحابة رضي الله عنهم القياس من غير بحث عن ذلك وأيضا أدلة القياس مطلقة من غير تقييد باشتراط شيء مما ذكراه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو أبو عبدالرحمن: بشر بن غياث المريسي فقيه متكلم، كان مرجئا، وإليه تنسب الطائفة المريسية من المرجئة توفي ببغداد سنة 318ه
الأعلام للزرطلي 1/147
2 هو أبو عمرو : عثمان بن مسلم البتي، البصري، روي عن عن أنس والشعبي، وصالح بن أبي مريم وروي عنه سغبة والثوري وغيرهما توفي سنة 143
خلاصة تذهيب الكلام 2/221(15/242)
ص -163-…قال "وأما الفرع فشرطه ثبوت العلة فيه بلا تفاوت وشرط العلم به والدليل على حكمه إجمالا ورد بأن الظن يحصل بدونهما"
"ش" ذكر المصنف مما اشترط في الفرع واحدا يوافق عليه وآخرين لا يوافق عليهما
أما الأول فأن تكون العلة الموجودة فيه مثل علة حكم الأصل من غير تفاوت البتة لا في الماهية ولا في القدر أي في النصفان فأما في الزيادة فلا يشترط إذ قد يكون في الفرع أولى كقياس الضرب على التأفيف
والدليل على هذا الشرط أن القياس إثبات مثل حكم معلوم في معلوم آخر لاشتراكهما في علة الحكم فإذا لم توجد علة حكم الأصل في الفرع لا يحصل إثبات حكمه فيه
وأما الثاني فشرط أن يكون وجود العلة في الفرع معلوما لا مظنونا
وأما الثالث فشرط دلالة دليل غير القياس على ثبوت الحكم في الفرع بطريق التفصيل وهذا ذكره أبو هاشم وقال لولا أن الشرع ورد بميراث الجد جملة لما نظر الصحابة رضي الله عنهم في توريث الجد مع الأخوة ورد المصنف هذين القولين بأن ظن ثبوت الحكم في الفرع يحصل بدون حصول هذين الأمرين والعمل بالظن واجب فلا يشترطان
ورد الغزالي إلى قول أبي هاشم بأن الصحابة رضي الله عنهم قاسوا قوله أنت علي حرام الطلاق والظهار واليمين ولم يكن ورد فيه حكم لا على العموم ولا على الخصوص
وقد أهمل المصنف من شروط الفرع كون حكمه مماثلا لحكم الأصل إما نوعا كقياس وجوب القصاص في النفس في صورة القتل بالمثقل على وجوبه فيها في القتل بالمحدد أو جنسا كإثبات ولاية النكاح على البنت الصغيرة بالقياس على إثبات الولاية في مالها فإن المماثلة إنما هي في جنس الولاية لا في نوعها وهذا شرط معتبر بلا شك ويدل عليه قولنا القياس إثبات مثل حكم معلوم في معلوم
فإن قلت كلامكم هنا ناطق بأن كون حكم الفرع مماثلا لحكم الأصل شرط(15/243)
ص -164-…وكذا وجود العلة فيه بلا تفاوت وظاهر ما ذكرتم في تعريف القياس يقتضي أنهما ركنان إذ قلتم إنه إثبات مثل حكم معلوم في معلوم آخر لاشتراكهما في علة الحكم وإنما يذكر في الحد الأركان دون الشرائط
قلت الذي ذكرناه هنا أنه شرط للفرع وما ذكرناه في التحديد يقتضي أن يكون ركنا في القياس ولا امتناع في أن يكون الشيء ركنا لمجموع ويكون شرطا لبعض أجزائه كقراءة الفاتحة ركن في الصلاة وشرط لصحة القيام وكذلك التشهد بالنسبة إلى القعود بل أركان الصلاة كلها بهذه المثابة فإن بعضها شرط لصحة البعض الآخر
قال "تنبيه يستعمل القياس على وجه التلازم ففي الثبوت يجعل حكم الأصل ملزوما وفي النفي نقيضه لازما مثل لما وجبت الزكاة في مال البالغ للمشترك بينه وبين مال الصبي وجبت في ماله ولو وجبت في الحلي لوجبت في اللآلئ قياسا عليه واللازم منتف فالملزوم مثله"
"ش" القياس أكثر ما يستعمل لا على وجه التلازم ولما اشتمل الباب على الكثير منه نبه المصنف بهذه الجملة على أنه لا ينحصر في ذلك بل قد يستعمل أيضا على وجه التلازم وذلك بأنه يصرح فيه بصيغة الشرطية وذلك قد يكون في الإثبات وقد يكون في النفي فإذا استعمل في الثبوت يجعل حكم الأصل ملزوما لحكم الفرع وحكم الفرع لازما والعلة المشتركة بيانا للملازمة حتى يلزم من ثبوت حكم الأصل حكم الفرع وإذا استعمل في النفي جعل حكم الفرع ملزوما من ثبوت حكم الأصل حكم الفرع وإذا استعمل في النفي جعل حكم الفرع ملزوما ونقيض حكم الأصل لازما والعلة مشتركة دليلا على الملازمة حتى يلزم في الأول من وجود اللازم وفي الثاني من نفي اللازم نفي الملزوم
مثال الأول لما وجبت الزكاة في مال البالغ للعلة المشتركة بينه وبين مال الصبي وهي دفع حاجة الفقراء لزم أن تجب في مال الصبي ولو لم يستعمله على وجه التلازم لقلت تجب الزكاة في مال الصبي قياسا على البالغ بجامع دفع(15/244)
ص -165-…حاجة الفقراء فجعلت في التلازم ما كان أصلا وهو مال البالغ ملزوما لما كان فرعا وهو مال الصبي والعلة المشتركة دليل الملازمة
ومثال الثاني لو وجبت الزكاة في الحلي لوجبت في اللآلئ واللازم منتف لأنها بإجماع الخصمين لا تجب في اللآلئ فالملزوم الذي هو الوجوب في الحلي مثله وبيان الملازمة اشتراكهما في المشترك وهو الزينة ولو لم تستعمله على وجه التلازم لقلت لا زكاة في الحلي قياسا على اللآلئ يجامع الزينة واعلم أن المقدمة المنتجة في جانب الثبوت قد استعمل المصنف فيها لما لإفادتها ذلك واستعمل في المنتجة في جانب النفي لفظه لو لدلالتها على امتناع الشيء لامتناع غيره وهذا منتهى القول في كتاب القياس والحمد لله وحده وصلى الله علي سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين وحسبنا الله ونعم الوكيل
قال الكتاب الخامس في دلائل اختلف فيها وفيه بابان
الأول في المقبولة منها وهي ستة
الأول الأصل في المنافع الإباحة(15/245)
لقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} وفي المضار التحريم لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" ش هذا الكتاب معقود للمدارك التي وقع الاختلاف بين المجتهدين المعتبرين في أنها هل هي مدارك للأحكام أم لا أولها الأصل في المنافع الأذن وفي المضار المنع خلافا لبعضهم وهذا بعد ورود الشرع وأما قبله فقد تقدم تقريره في مسألة حكم الأشياء قبل ورود الشرع واستدل المصنف على أن الأصل في المنافع الإباحة بآيات الأولى الشرع قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً1} واللازم يقتضي التخصيص بجهة الانتفاع فيكون الانتفاع بجميع ما في الأرض جائزا إلا الخارج بدليل والثانية قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ2} أنكر على من حرم زينته فوجب أن يثبت حرمتها ولا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية 29
2 سورة الأعراف آية 3332(15/246)
ص -166-…حرمة شيء منها وإذا انتفت الحرمة ثبتت الإباحة والثالثة قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ1} واللام في لكم للاختصاص على جهة الانتفاع كما عرفت وليس المراد بالطيبات الحلال وإلا يلزم التكرار بل المراد ما تستطيعه النفوس واستدل على أن الأصل في المضار التحريم بما روى الدارقطني من قوله صلى الله عليه وسلم : "لا ضرر ولا ضرار2" قال النووي في الأذكار حديث حسن وجه الاحتجاج أن الحديث دال على نفي الضرر وليس المراد نفي وقوعه ولا إمكانه فدل على أنه لنفي الجواز ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في لفظ آخر للحديث رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه : "من ضار أضر الله به" وإن انتفى الجواز ثبت التحريم وهو المدعى
"تنبيه" الضرر ألم القلب كذا قاله الأصوليون واستدلوا عليه بأن الضرب يسمى ضرارا وكذا تفويت المنفعة والشتم والاستخفاف فجعل اللفظ اسما للمشترك بين هذه الأمور وهو ألم القلب دفعا للاشتراك والذي قاله أهل اللغة أن الضرر خلاف النفع وهو أعم من هذه المقالة
قال "قيل على الأول اللام تجيء لغير النفع كقوله تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} قلنا مجاز لاتفاق أئمة اللغة على أنها للملك ومعناه الاختصاص النافع بدليل قولهم الجل للفرس قيل المراد الاستدلال قلنا هو حاصل من نفسه فيحتمل على غيره" ش اعترض على دليل إباحة المنافع بوجهين أحدهما أنا لا نسلم أن اللام تقتضي الاختصاص بجهة الانتفاع ويدل عليه قوله تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا3} وقوله: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ4} إذ يمتنع في هاتين الآيتين أن تكون لاختصاص المنافع أما الأولى فلاستحالة حصول النفع في الإساءة وأما الثانية فلتنزهه تعالى عودة النفع إليه وأجاب بأن استعمال اللام فيما ذكرتم من الآيتين مجاز لاتفاق أئمة اللغة على أن اللام موضوعة لملك ومعنى الملك(15/247)
الاختصاص النافع لأنه يصح إطلاقها عليه كما تقول الجل للفرس فيكون حقيقة في الاختصاص النافع ويحمل في غيره على المجاز دفعا للاشتراك واعترض القرافي على هذا الجواب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدةآية 3
2 تقدم تخريجه قريبا
3 سورة الإسراء آية 7(15/248)
ص -167-…بأن جعلها حقيقة في مطلق الاختصاص أولى من الاختصاص النافع حذرا من الاشتراك والمجاز وموافقة لقول النحاة اللام للاختصاص بالمنافع خلاف الأصل وهو منقدح ولهم الجل للفرس لا دلالة فيه إلا على صحة استعمالها في الاختصاص النافع ولا يدل على نفي استعمالها في الاختصاص الذي لا ينفع ثم ادعى أن اللام للملك وفسره بالاختصاص النافع والملك أخص من الاختصاص النافع ألا ترى أن من لا يملك كالعبد يقدر الاختصاصات من الاصطياد والاحتطاب وغيرها وأيضا فهذه الدعوى تخالف قوله في القياس اللام للتعليل الثاني سلمنا أن اللام للاختصاص النافع ولكن لا يلزم منه إباحة جميع الانتفاعات بل المراد مطلق الانتفاع ويحمل على الاستدلال بالمخلوقات على وجود الخالق وأجاب بأن الاستدلال على الخالق يحصل لكل عاقل من نفسه إذ يصح أن يستدل بنفسه على خالقه فليحمل على الانتفاع في الآيات على غيره ولا يحمل عليه لامتناع تحصيل الحاصل فإن قلت لا نسلم أنه يلزم تحصيل الحاصل وهذا لأن الانتفاع بالاستدلال الثاني غير الانتفاع بالاستدلال بنفسه ضرورة أنه يحصل تأكيد العلم الأول قلت الدليل على كونه تحصيلا للحاصل أن الحاصل بالاستدلال الأول هو العلم بوجود الصانع وما هو من لوازمه والحاصل بالثاني هو هذا وقولك يحصل تأكيد العلم ممنوع بناء على أن العلم لا يقبل التأكيد سلمناه لكن الحمل على غير هذه الفائدة فائدة تأسيسية وهي أولى من التأكيدية سلمنا أن المراد مطلق الانتفاع ولكنه كما ذكرتم يصدق بصورة وإذا كان الانتفاع بفرد من أفراد الانتفاعات مأذون فيه لزم الإذن في الكل لأنه لا قائل بالفصل هذا شرح ما في الكتاب(15/249)
واعتراض القرافي بعد تسليم أن الأخبار عن اختصاص الخلق بالمنافع بأن الانتفاع لا يدل على أنه لا حجر فيها لأنه صادق بأن الانتفاع لا يصدر إلا منا سواء كان مباحا أو محرما فجاز أن يصدق الاختصاص بالانتفاع مع الثواب على تركه أو ترك بعضه أو فعل بعضه كما تقول وطء النساء حلال لبني آدم لم يجعل لغيرهم في الوجود وإن عوقب على البعض
ولقائل أن يقول لا يصدق اختصاصهم بها مع صدق المعاقبة ولا تحصل المنة(15/250)
ص -168-…مع ذلك أيضا واعترض صفي الدين الهندي على الاستدلال بقوله أحل لكم الطيبات بأنه لا يفيد العموم لأنه يجوز أن يكون للعهد وهو ما أحل في الشرع مما يستطاب طبعا وحينئذ لا يحمل على العموم لتقدم العهد عليه ولك أن تقول يلزم مما قررت أن يكون قوله أحل خبر إلا إنشاء والحمل على الإنشاء أولى لكونه أكثر فائدة على أنا لا نسلم أن ما أحل في الشرع يجوز أن يكون معهودا هنا لأنه لم يتقدم له ذكر في الكلام ولا تعلق بحال الخطاب والمعهود ليس إلا ما كان كذلك وأما الاستدلال بقوله قل من حرم زينة الله فهو مبني على أن المفرد المضاف يفيد العموم فإن قلت لا نسلمه ولو سلمناه فالدليل خاص بالزينة والدعوة عامة
قلت أما الأول فمبين في موضعه وأما الثاني فإذا دل على الزينة دل على ما لا زينة فيه من المنافع ضرورة أنه لا قائل بالفصل كما علمت نعم لقائل أن يقول الآية دالة على عدم الحرمة ولا يلزم من ذلك الإباحه إلا أن يستدل مع ذلك باللام في قوله أخرج لعباده من حيث أنها للإختصاص النافع على ما سلف
"فائدة" قد علمت قول الجماهير أن الأصل في المنافع الإباحة ولك أن تقول الأموال من جملة المنافع والظاهر أن الأصل فيها التحريم لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن دماؤكم وأموالكم" الحديث وهو أخص من الدلائل المتقدمة التي استدلوا بها على الإباحة فيكون فاضيا عليها إلا أنه أصل طارئ على أصل سابق فإن المال من حيث كونه من المنافع الأصل فيه الإباحة بالدلائل السابقة ومن خصوصية الأصل فيه التحريم بهذا الحديث
قال "الثاني الاستصحاب حجة خلافا للحنفية والمتكلمين"(15/251)
"ش" الاستصحاب يطلق على أوجه أحدهما استصحاب العدم الأصلي وهو الذي عرف العقل نفيه بالبقاء على العدم الأصلي كنفي وجوب الصلاة سادسة وصوم شوال فالعقل يدل على انتفاء وجوب ذلك لا لتصريح الشارع لكن لأنه لا مثبت للوجوب فبقي على النفي الأصلي لعدم ورود السمع به والجمهور على العمل بهذا وادعى بعضهم فيه الاتفاق فإن قلت قصارى دلالة الاستصحاب الظن وعدم وجوب(15/252)
ص -169-…الصلاة السادسة وصوم شوال قطعي فكيف يستفاد من الاستصحاب قلت عدم السمعي الناقل قد يكون معلوما كما في هذين المثالين ويدل الاستصحاب فيه على القطع وقد يكون مظنونا كعدم وجوب الوتر والأضحية وزكاة الخيل والحلي
والثاني استصحاب العموم إلى أن يرد مخصص وهو دليل عند القائلين به واستصحاب النص إلى أن يرد ناسخ وهو دليل على دوام الحكم ما لم يرد النسخ كما دل العقل على البراءة الأصلية بشرط أن لا يرد سمع متغير
الثالث استصحاب حكم دل الشرع على ثبوته ودوامه كالملك عند جريان فعل الملك وكشغل الذمة عند جريان إتلاف أو إلزام فإن هذا وإن لم يكن حكما أصليا فهو شرعي دل الشرع على ثبوته ودوامه جميعا ولولا دلالات الشرع على دوامه إلى حصول براءة الذمة لما جاز استصحابه فالاستصحاب ليس بحجة إلا مما دل الدليل على ثبوته ودوامه بشرط عدم المغير كما دل على البراءة العقلية وعلى الشغل السمعي وعلى الملك الشرعي
ومن هذا القبيل الحكم بتكرر الأحكام عند تكرار أسبابها كشهور رمضان ونفقات الأقارب عند مسيس الحاجات وأوقات الصلوات لأنه لما عرف حملة الشريعة قصد الشارع صلوات الله عليه إلى نصبها أسبابا وجب استصحابها ما لم يمنع منه مانع فإذن الاستصحاب عبارة عن التمسك بدليل عقلي أو شرعي وليس راجعا إلى عدم العلم بالدليل بل إلى دليل مع العلم بانتفاء المغير أو مع ظن انتفاء المغير عند بذل الجهد في الطلب
والرابع استصحاب حال الإجماع في محل الخلاف مثاله من قال إن المتيمم إذا رأى الماء في خلال الصلاة مضى في الصلاة لأن الإجماع منعقد على صحة صلاته ودوامها وطريان وجود الماء كطريان هبوب الريح وطلوع الفجر وسائر الحوادث فنحن نستصحب دوام الصلاة حتى يدل الدليل على أن رؤية الماء قاطعة فهذا ليس بحجة عند كافة المحققين وذهب الصيرفي والمزني وأبو ثور إلى صحته وهو مذهب داود قال الشيخ أبو إسحاق وكان القاضي يعني أبا الطيب(15/253)
ص -170-…يقول داود لا يقول بالقياس الصحيح وهنا يقول بقياس فاسد لأنه يحمل حالة الخلاف على حالة الإجماع من غير علة جامعة وللخصم في هذا أن يقول أجمعنا على أن رؤية الماء قبل الدخول في الصلاة مبطلة فكذا بعد الدخول استصحابا لحال وكذا إذا كان الكلام في زوال ملك المرتد بالردة ويؤدي ذلك إلى تكافؤ الأدلة وهذه الأقسام الأربعة وردها الغزالي كما ذكرناها
والخامس الاستصحاب المقلوب وهو استصحاب الحال في الماضي كما إذا وقع البحث في أن هذا المكيال مثلا هل كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول القائل نعم إذ الأصل موافقة الماضي للحال وكما رأيت زيدا جالسا في مكان وشككت هل كان جالسا فيه أمس فيقضي بأنه كان جالسا فيه أمس استصحابا مقلوبا وأعلم أن الطريق في إثبات الحكم به يعود إلى الاستصحاب المعروف وذلك لأنه لا طريق له إلا قولك لو لم يكن جالسا أمس لكان الاستصحاب يفضي بأنه غير جالس الآن فدل على أنه كان جالسا أمس
وقد قال به الأصحاب في صورة واحدة وهي ما إذا اشترى شيئا وادعاه مدع وأخذه منه بحجة مطلقة فإن أطبق عليه الأصحاب ثبوت الرجوع له على البائع بل لو باع المشتري أو وهب وانتزع المال من المتهب أو المشتري منه كان للمشتري الأول الرجوع أيضا وهذا استصحاب للحال في الماضي فإن قيل السنة لا توجب الملك ولكنها تظهره فيجب أن يكون الملك سابقا على إقامتها ويقدر له لحظة لطيفة ومن المحتمل انتقال الملك من المشتري إلى المدعي ولكنهم استصحبوا مقلوبا وهو عدم الانتقال منه فيما مضى استصحابا للحال وقال الأصحاب فيما إذا وجدنا ركازا مدفونا في الأرض ولم يعرف هل هو من دفين الجاهلية أو الإسلام فالمنقول عن نصه أنه ليس بركاز وفيه وجه أنه ركاز لأن الموضع يشهد له وعلى هذا الوجه استصبحنا مقلوبا لأنه استدللنا بوجه أنه في الإسلام على أنه كان موجودا قبل ذلك(15/254)
وإذا عرفت هذه الأقسام فنقول اختلف الناس في استصحاب الحال المشار إليه في القسم الثاني والثالث وكذا الأول إن لم نجعله محل وفاق على مذاهب بعد اتفاقهم على أنه لا بد من استفراغ الجهد في طلب الدليل وعدم وجدانه(15/255)
ص -171-…أحدها أنه حجة وبه قال الأكثرون وهو مختار الإمام وأتباعه منهم المصنف
والثاني أن ليس بحجة وبه قال الحنفية كما نقله في الكتاب تعبا لغيره وكثير من المتكلمين والثالث ما اختاره القاضي أبو بكر في كتابه التقريب والإرشاد أنه حجة على المجتهد فيما بينه وبين الله تعالى فإن لم يكلف إلا أقصى الطلب الداخل في مقدوره على العادة فإذا فعل ذلك ولم يجد دليلا أخذ بنفي الوجوب ولا يسمع منه إذا انتصب مسؤولا في مجالس المناظرة فإن المجتهدين إذا تناظرا وتذاكرا طرق الاجتهاد فما يفي المجيب قوله لم أجد دليلا على الوجوب وهل هو في ذلك إلا مدع فلا يسقط عنه عهدة الطلبة بالدلالة وهذا التفصيل عندنا حق متقبل والرابع وهو المعمول به عند الحنفية كما صرح به أصحابهم في كتبهم أنه لا يصلح حجة على الغير ولكن يصلح لإبداء العذر والدفع ولذلك قالوا حياة المفقود باستصحاب الحال تصلح حجة لإبقاء ملكه لا في إثبات الملك له في مال مورثه والخامس أنه يصلح للترجيح فقط
قال "لنا أن ما ثبت ولم يظهر زواله ظن بقاؤه ولولا ذلك لما تقررت المعجزة لتوقفها على استمرار العادة ولم تثبت الأحكام الثابتة في عهده عليه السلام لجواز النسخ ولكان الشك في الطلاق كالشك في النكاح ولأن الباقي يستقي عن سبب أو شرط جديد بل يكفيه دوامها دون الحادث ويقل عدمه لصدق عدم الحادث على ما لا نهاية له فيكون دوامها راجحا" ش استدل على حجية الاستصحاب بأوجه
أحدها أن ما علم حصوله في الزمان الأول ولم يظهر زواله ظن بقاؤه في الزمن الثاني ضرورة وحينئذ فيجب العمل به على علم من وجوب العمل بالظن
الثاني أنه لو لم يكن حجة لما تقررت المعجزة لأنها فعل خارق للعوائد ولا يحصل هذا الفعل إلا عند تقرير العادة ولا معنى للعادة إلا العلم بوقعه على وجه مخصوص في الحال يقتضي اعتقاد أنه لو وقع لما وقع إلا على ذلك الوجه وهذا عين الاستصحاب(15/256)
ص -172-…الثالث أنه لو لم يكن حجة لم تكن الأحكام الثابتة في عهد النبي ثابتة في زماننا وتلازم باطل فكذا الملزوم وجه الملزمة أن دليل ثبوت الأحكام في زماننا هو اعتقاد استمرارها على ما كانت عليه وهذا هو الاستصحاب فإذا لم تكن حجة لم يمكن الحكم بثبوتها لجواز تطرق النسخ
الرابع لو لم تكن حجة لتساوي الشك في الطلاق والشاك في النكاح لاشتراكهما في عدم حصول الظن بما مضى وهو باطل اتفاقا إذ يباح للشاك في الطلاق دون الشاك في النكاح ولك أن تجعل هذه الأوجه الأربعة وجها واحدا في الدليل فنقول ما ثبت ولم يظهر زواله ظن بقاؤه لما تقررت المعجزة ولم تثبت الأحكام الثابتة في عهده عليه السلام ولتساوي الشك في الطلاق والنكاح وعلى ذلك جرى العبري في شرحه وكلام المصنف محتمل للأمرين فارن قوله ولولا ذلك يحتمل أن يريد ولولا حجة الاستصحاب وأن يريد ولولا ظن البقاء(15/257)
الخامس أن الباقي لا يفتقر إلى سبب جديد وشرط جديد بل يكفيه دوام السبت والشرط أي لا يحتاج إلى مؤثر والحادث مفتقر إلى هذين فيكون الباقي راجحا في الوجود على الحادث والعمل بالراجح واجب فيجب العمل بالاستصحاب لا استلزامه العمل بالباقي وإنما قلنا إن الباقي مستغن عن المؤثر لأنه لو افتقر إليه فإما أن يصدر منه والحالة هذه أثر أو لا وهذا الثاني محال لأن فرض مؤثر مفتقر إليه مع أنه لم يصدر منه أثر البتة جمع بين النقضين الأول إن كان أثره عين ما كان حاصلا قبله فيلزم تحصيل الحاصل وإن كان غيره فيقتضي أن يكون الأثر الصادر عنه حادثا لا باقيا والفرض خلافه ولما كان افتقار الباقي إلى المؤثر يفضي إلى هذه الأقسام الباطلة كان باطلا وأما كون الحادث مفتقرا إليه فمتفق عليه بين العقلاء هذا تقرير الدليل المذكور وعليه من الاعتراضات والأجوبة عنها ما لا يحتمل هذا الشرح ذكره قوله ويقل عدمه هذا يصلح أن يكون دليلا سادسا وأن يكون دليلا على أن الباقي راجح في الوجود على الحادث وتقريره أن عدم الباقي أقل من عدم الحادث(15/258)
ص -173-…لأن عدم الحادث صادق على ما ليس له نهاية بخلاف عدم الباقي فإنه مشروط بوجود الباقي وهو متناه فلا يصدق على ما لا نهاية له وإذا وضح أن عدم الباقي أقل من عدم الحادث كان وجوده أكثر من وجوده والكثرة مرجحة والله أعلم
"خاتمة" قد علمت أن الاستصحاب هو ثبوت أمر في الثاني لثبوته في الأول لعدم وجدان ما يصلح أن يكون مغيرا بعد البحث التام وينشأ من هذا البحث في أن مجرد الظهور هل يصلح أن يكون معارضا له وهذه هي قاعدة الأصل والظاهر المشهور في الفقه وللشافعي فيما إذا تعارض أصل وظاهر غالبا قولان وقد أتينا في كتابنا الأشباه والنظائر أتمه الله تعالى في هذه القاعدة بعد تحقيقها من سرد فروعها ما تقر الأعين فعليك به وعلمت أيضا أن الأصل لا يدفع بمجرد الشك والاحتمال أخذا بالاستصحاب وهذا معنى القاعدة المشهورة في الفقه أن اليقين لا يرفع بالشك فإنه مع وجدان الشك لا يقين ولكن استصحاب لما تيقن في الماضي وهو الأصل وأطلق عليه اليقين مجازا وقد قال أبو العباس بن القاص لا يستثنى من هذه القاعدة إلا إحدى عشرة مسألة فيها بمجرد الشك وقد سردناها في الأشباه والنظائر وزدنا ما أمكن مع التحري في كل ذلك فلا نطل بذكره هنا
قال "الثالث الاستقراء"
مثاله الوتر يؤدي على الراحلة فلا يكون واجبا لاستقراء الواجبات وهو يفيد الظن والعمل به لازم لقوله صلى الله عليه وسلم "نحن نحكم بالظاهر"(15/259)
"ش" الاستقراء ينقسم إلى تام وناقص فأما التام فهو إثبات الحكم في جزئي لثبوته في الكلي وهو هو القياس المنطقي وهو يفيد القطع مثاله كل جسم متحيز فإنا استقرينا جميع جزئيات الجسم فوجدناها منحصرة في الجماد والنبات والحيوان وكل منها متحيز فقد أفاد هذا الاستقراء الحكم يقينا في كلي وهو قولنا كل جسم متحيز بوجود التحيز في جميع جزئياته وأما الناقص وفيه كلام المصنف فهو إثبات الحكم في كلي لثبوته في أكثر جزئياته وهذا هو المشهور بإلحاق الفرد بالأعم والأغلب ويختلف فيه الظن باختلاف الجزئيات فكلما كانت أكثر كان الظن أغلب وقد اختلف في هذا النوع واختار المصنف أنه(15/260)
ص -174-…حجة تبعا لتاج الدين صاحب الحاصل وهو ما اختاره صفي الدين الهندي وبه نقول وقال الإمام الأظهر أنه لا يفيد الظن إلا بدليل منفصل ثم بتقرير الحصول يكون حجة وهذا يعرفك أن الخلاف الواقع في أنه هل يفيد الظن لا في أن الظن المستفاد منه هل يكون حجة
ولقائل أن يقول الدليل المنفصل لا يصير ما لا يفيد الظن مقيدا للظن فإن أراد بالدليل المنفصل ما يعضد الاستقراء فالمفيد للظن حينئذ هو مجموع المنفصل والاستقراء لا الاستقراء بالدليل المنفصل فالمنفصل وإن أراد بالدليل المنفصل ما يدل على أنه مفيد للظن أو أنه حجة فسوف يأتي به إن شاء الله تعالى(15/261)
وقد مثل المصنف له بقولنا الوتر يصلي على الراحلة بالإجماع منا ومن الخصم أو بالدليل الذي عليه ولا شيء من الواجبات يؤدي على الراحلة لأنا استقرأنا القضاء والأداء من الظهر والعصر وغيرهما من الواجبات فلم نر شيئا منها يؤدي على الراحلة والدليل على أنه يفيد الظن أنا إذا وجدنا صورا كثيرة داخلة تحت نوع واحد وقد اشتركت في حكم ولم نر شيئا مما نعلم أنه منها خرج عند ذلك الحكم إفادتنا هذه الكثرة بلا ريب ظن أن ذلك الحكم وهو عدم الأداء على الراحلة في مثالنا هذا من صفات ذلك النوع وهو الصلاة الواجبة ومنهم من استدل عليه بأن القياس التمثيلي حجة عند القائلين بالقياس في الحكم الشرعي وهو أقل مرتبة من الاستقراء لأنه حكم على جزئي لثبوته في جزئي آخر والاستقراء حكم على جزئي كلي لثبوته في أكثر الجزئيات فيكون أولى من القياس التمثيلي وهذا مدخولا لأنه يشترط في إلحاق الجزئي بالجزئي الآخر أن يكون بالجامع الذي هو عليه الحكم وليس الأمر في الاستقراء بل حكم على الكل بمجرد ثبوته في أكثر جزئياته ولا يمنع عقلا أن يكون بعض الأنواع مخالفا للنوع الآخر في الحكم وإن اندرجا تحت جنس واحد وإذا كان مفيدا للظن كان العمل به لازما واستدل المصنف على ذلك مما روى من قوله صلى الله عليه وسلم : "نحن نحكم بالظاهر والله متولي السرائر1" وهو حديث لا أعرفه وقد سألت عنه شيخنا الحافظ أبا عبد الله الذهبي فلم يعرفه ولو استدل بأن العمل بالظن واجب لما تقدم من الأدلة لكفاه ذلك والله أعلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(15/262)
1 قال الحافظ العراقي : لا أصل له ، وسئل عنه المزي فأنكره والذي في البخاري – كتاب ترك الحيل، ومسلم – كتاب : الأحكام عن أم سلمة عن النبي صلي الله عليه وسلم – قال : "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحق بحجته من بعض فأقضي له علي نحو ما أسمع فمن قضيت له من حق اخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار"(15/263)
ص -175-…قال الرابع أخذ الشافعي بأقل ما قيل إذا لم يجد دليلا
كما قيل دية الكتابي الثلث وقد قيل النصف وقيل الكل بناء على الإجماع والبراءة الأصلية قيل يجب الأكثر ليتقن الخلاص قلنا حيث يتيقن الشغل والزائد لم يتيقن
"ش" ذهب إمامنا الشافعي رضوان الله تعالى عليه إلى أنه يجوز الاعتماد في إثبات الأحكام على الأخذ بأقل ما قيل ووافقه القاضي أبو بكر والجمهور وخالفه قوم مثاله اختلاف العلماء في دية اليهود قال بعضهم كدية المسلم وقال آخرون نصف ديته وقال آخرون بل الثلث فقط وأخذ به الشافعي رضي الله عنه ونحوه أيضا زكاة الفطر قال بعضهم خمسة أرطال وثلث وقال آخرون ثمانية أرطال فأخذ بالأول ونحوه أيضا النفاس واعلم أن هذه كما أشار المصنف بقوله بناء إلى آخره مبنية على قاعدتين أحدهما الإجماع والثانية البراءة الأصلية فإن الأمة لما أجمعت على ذلك الأول كالثلث في المثال الأول فإن من أوجب الكل أو النصف فقد أوجب الثلث ضرورة كونه بعضه فلكل مطبقون على وجوب الثلث وأما البراءة الأصلية فإنها تدل على عدم الوجوب في الكل ترك العمل بها في الثلث لحصول الإجماع عليه فيبقى الباقي على أصله ويصار إليه وإنما يتم هذا إذا لم يكن في الأمة من يقول بعدم وجوب شيء منها أو بوجوب أقل من الثلث فإن بتقدير ذلك لا يكون القول بوجوب الثلث قول كل الأمة وأن لا يكون هناك دليل دال على الأكثر فإن بتقدير ذلك لا يصح أن يتمسك بالبراءة الأصلية فإنها ليست بحجة مع الناقل السمعي فإن قلت هل الأخذ بأقل ما قيل تمسك بالإجماع قلت قال بعض الفقهاء ذلك وعزاه إلى الشافعي وهو خطأ عليه رضي الله عنه قال القاضي أبو(15/264)
ص -176-…بكر ولعل الناقل عنه زل في كلامه وقال الغزالي هو سوء ظن به فإن الجمع عليه وجوب هذا القدر ولا مخالفة فيه والمختلف فيه سقوط الزيادة والإجماع فيه وقد علمت مما قررناه أنه ليس تمسكا بالإجماع وحده فإن قلت حاصل ما قررته أنه مركب من الإجماع وهو دليل بلا ريب ومن البراءة الأصلية وهي كذلك فما وجه جعله دليلا مستقلا برأسه وكيف يتجه ممن يوافق على الدليل المذكورين مخالفة الشافعي رحمه الله فيه فما هو إلا تمسك بمجموع هذين الدليلين الدال
أحدهما على إثبات الأقل والآخر على نفي الزيادة قلت هذا السؤال لم نزل نورده ولم يتحصل لها عنه جواب فإن قلت ما بال الشافعي اشترط أربعين في الجمعة وقد اكتفى بعض العلماء بثلاث واشترط سبعا في عدد الغسل من ولوغ الملك وقد اكتفى فيه بثلاث مرات قلت هذا سؤال لم يحط بالحقائق فالشافعي لم يخالف أصله لأن أصله الأخذ بالمتيقن وطرح المشكوك واتفق العلماء في صورة الجمعة والغسل من ولوغ الكلب بالخروج عن العهد بالأربعين وبالسبع واختلفوا في الخروج عنها بما دون ذلك فالأربعون السبع بمنزلة الأقل إذا أخذ الشافعي فيهما بالمتيقن فلا يتوهمن متوهم أنه أخذ بالأكثر فيما ذكر وإنما أخذ بالمتيقن ولا يقال قد اشترط بعض العلماء الخمسين في الجمعة وكان قياس هذا الأصل القول بالخمسين لأنا نقول وصح له دليل ينفي اشتراط الخمسين هذا ما انقدح لنا في وجوب هذا السؤال وهو ما اقتضاه إيراد الإمام أبي المظفر بن السمعان في القواطع حيث قال الأخذ بأقل ما قيل على ضربين
أحدهما أن يكون فيما أصله براءة الذمة فيختلف في قدره بعد الاتفاق على وجوبه كدية اليهودي وحكى وجهين للأصحاب فيه(15/265)
والثاني أن يكون فيما هو ثابت في الذمة كالجمعة الثابت فرفضها فلا يكون الأخذ بالأقل دليلا لارتهان الذمة بها ولا تبرأ الذمة بالشك وهل يكون الأخذ بالأكثر دليلا فيه وجهان انتهى فجعل الأكثر هنا بمنزلة الأقل ثم ومن الناس من أجاب عنه بأن الشافعي لم يخالف أصله لأن شرطه عدم ورود دليل سمعي على الأكثر كما عرفت ولم يوجد هذا الشرط عنده فيما ذكرتم بل دل(15/266)
ص -177-…الدليل على الأكثر فلم يمكن التمسك فيه بالبراءة الأصلية ويوضح ذلك أن بعض العلماء اشترط في الجمعة خمسين فلو أن الشافعي أخذ بالأكثر لاشتراط الخمسين فإن قلت فهل يقضون فيما إذا أحدث مجتهد أداه اجتهاده إلى إيجاب قدر أقل من الثلث بأن ذلك يصير مذهبا للشافعي رحمه الله لأنه أقل ما قيل حينئذ قلت هذا غير متصور لأن الاجتهاد مع قيام الإجماع خطأ ولو صدر من واحد لسفهنا كلامه وقضينا عليه بما نقضي على خارق الإجماع فإذا قلت هب أنه لم يوجد دليل سمعي سوى الإجماع لكن لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول قلت إنما لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول في الأمور الحقيقة لا في الشرعية التكليفية فإن تجويز ذلك يستلزم تكليف ما لا يطاق فإن قلت لا يلزم من عدم وجدانه عدم وجوده قلت هذا ساقط إن قلنا كل مجتهد مصيب وإلا فيصير حكم الله في حقه إذ ذاك ذلك الذي غلب على ظنه فيخرج عن العهدة وألا يلزم التكليف بما لا يطاق
قوله قيل يجب الأكثر تقرير هذا الاعتراض أنه ينبغي أن يجب الأكثر ليستيقن المكلف الخاص حينئذ وجوابه أن ذلك إنما يجب حيث تيقنا شغل الذمة لا حيث الشك والزائد على الأقل لم يتيقن فيه ذلك لعدم ثبوت الدليل عليه واعلم أن هذا الاعتراض يناسب من يقول بقاعدة الاحتياط والاحتياط أن يجعل المعدوم كالموجود والموهوم كالمحقق وما يبرئ على بعض التقديرات يلزم به وما لا يبرئ على كل التقديرات لا يلزم به ونأخذ بأقل القولين وأكثرهما ولعلنا نتعرض لهذه القاعدة في الأشباه والنظائر كملها الله تعالى وقد عضدت القول بها مرة بقوله تعالى اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم وهو استئناس حسن ذكرته لأبي أيده الله فأعجبه(15/267)
قال الخامس المناسب المرسل إن كانت المصلحة ضرورية قطعية كلية كتترس الكفار المقاتلين بأسارى المسلمين اعتبر وإلا فلا وأما مالك فقد اعتبرها مطلقا لأن اعتبار جنس المصالح يوجب ظن اعتبارها ولأن الصحابة رضي الله عنهم قنعوا بمعرفة المصالح
"ش" تقدم في كتاب القياس أن المناسب إما يعلم أن الشارع اعتبره أو الفاه(15/268)
ص -178-…أو يجهل حاله وانفصل القول البليغ في القسمين الأولين والنظر هنا في الثالث وقد يعبر عنه بالمصالح المرسلة وبالاستصحاب وفيه مذاهب
أحدها المنع منه مطلقا وهو الذي عليه الأكثرون والثاني أنه معتبر مطلقا وهو المنقول عن مالك بن أنس رحمه الله والثالث ما اختاره المصنف أنه إن كانت تلك المصلحة ضرورية قطعية كلية اعتبرت وإن فات أحد هذه القيود الثلاثة لم تعتبر والضرورية ما تكون في الضروريات الخمس أعني الدين والعقل والنفس والمال والنسب والقطعية التي تجزم بحصول المصلحة فيها والكلية هي التي تكون موجبة لفائدة تعم جميع المسلمين ومثل ذلك بما إذا تترس الكفار حال التحام الحرب بأسارى المسلمين وقطعنا بأنا لو امتنعنا عن التترس لعدمونا واستولوا على ديارنا وقتلوا كافة المسلمين ولو رمينا الترس لقتلنا مسلما من دون جريمة صدرت منه فيجوز والحالة هذه رمية وهذا التفصيل مأخوذ من الغزالي رحمه الله ونحن نشبع القول فيه ثم نلتفت إلى الكلام مع مالك رضي الله عنه فنقول ما ذكرناه من المثال لا عهد به في الشريعة قال الغزالي فلا يبعد أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد فنقول هذا الأسير مقتول بكل حال لأنا لو كففنا عن الترس لسلطنا الكفار على جميع المسلمين فيقتلونهم ثم يقتلون الأسارى أيضا فحفظ المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع لأنا على قطع نعلم أن الشرع يقصد تقليل القتل كما يقصد حسم سبيله عند الإمكان فإن لم نقدر على الحسم فقد قدرنا على التقليل وكان هذا التفاتا إلى مصلحة علم بالضرورة كونها مقصودة بالشرع لا بدليل واحد بل أدلة خارجة عن الحصر ولكن تحصيل هذا المقصود بهذا الطريق وهو قتل من لم يذنب لم يشهد أصل معين فينقدح اعتبار هذه المصلحة باعتبار الأوصاف الثلاثة وهي كونها ضرورية قطعية كلية فليس في معناها ما لو تترس الكفار في قلعة بمسلم أنه لا يحل رمي الترس إذ لا ضرورة بنا إلى أخذ القلعة فيعدل عنها وليس في معناها إذا لم يقطع بظفرهم بنا(15/269)
فإنها ليست قطعية بل ظنية كذا قال الغزالي وهو إشارة إلى اعتبار القطع بحصول المصلحة وفي اشتراط القطع به وعدم الاكتفاء بالظن الغالب نظر
وقد حكى الأصحاب في مسألة الترس وجهين من غير تصريح منهم(15/270)
ص -179-…باشتراط القطع وعللوا وجه المنع بأن غاية الأمر أن نخاف على أنفسنا ودم المسلم لا يباح بالخوف وهذا تصريح بجريان الخلاف في صورة الخوف ولا قاطع فيه وقد يقال إن المسألة في حالة القطع مجزوم باعتبارها والخلاف إنما هو في حالة الخوف وقد صرح الغزالي بذلك في المستصفي وقال إنه إنما يجور ذلك عند القطع أو ظن قريب من القطع وليس في معناها جماعة في سفينة لو طرحوا واحدا لنجوا وإلا غرقوا بحملتهم لأنها ليست كلية إذ يحصل بها هلاك عدد محصور ولعل مصلحة الذين في بقاء من طرح أعظم منها في بقاء من بقي ولأنه ليس يتعين واحد للإغراق إلا أن يعين بالقرعة ولا أصل لها في الشرع وكذلك جماعة في مخصمة لو أكلوا واحدا بالقرعة لنجوا فلا رخصة فيه وليس في معناها قطع اليد للأكلة حفظا للروح فإنه ينقدح الرخصة فيه لأنه إضرار به لمصلحة وقد شهد الشرع بالإضرار لشخص في قصد صلاحه كالقصد والحجامة وغيرهما وكذلك قطع المضطر فلقة من فخذه إلى أن يجد الطعام هو كقطع اليد لكن بما يكون القطع سببا ظاهرا في الهلاك ويكون الخوف منه كالخوف في ترك الأكل أو أشد فيمنع منه وليس كذلك ما إن كان الخوف منه دون الخوف من ترك الأكل فإنه يجوز على الأصح بشرط أن لا يجد شيئا غيره فإن قلت فهل يجوزون أن يقطع لنفسه من معصوم غيره أو أن يقطع الغير للمضطر من نفسه قلت لا نجوزه لأنه ليس رعاية مصلحة أحدهما بالقطع له أولى من رعاية الآخر بترك القطع فإن قلت فالضرب بالتهتمة للاستنطاق بالسرقة مصلحة فهل تقولون به قلت قد قال به مالك رحمه الله ولكنا لا نقول به لا لإبطال النظر إلى جنس المصلحة لكن لما علمت من معارضة هذه المصلحة لمصلحة أخرى وهي مصلحة المضروب فربما يكون بريئا من الذهب فترك الضرب في مذنب أهون من ضرب برئ وإن كان فيه فتح باب يعسر معه انتزاع الأموال ففي الضرب فتح أبواب إلى تعذيب البرآء فإن قلت فالزنديق إذا تاب فالمصلحة في قتله وأن لا تقبل توبته وقد قال(15/271)
رسول الله صلى الله عليه وسلم :"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله1" فماذا ترون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري – كتاب الإيمان – من حديث ابن عمر كما أخرجه مسلم – كتاب الإيمان عن ابن عمر وأبي هريرة وجابر بن عبدالله(15/272)
ص -180-…"قلت" المسألة في محل الاجتهاد والذي نراه قبول توبته جريا على تعميم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن غاية ظننا فيه أنه أسر الكفار ولسنا على قطع بذلك وقد صادم هذا الظهور بلفظه بكلمة الشهادة العاصمة عن القتل فلا يرجع إليه وهذا الذي رأيناه هو الذي نص عليه الشافعي رضي الله عنه في المختصر وقطع به العراقيون وصححه المتأخرون وخالف فيه بعض الأصحاب واستعجل هذه المصلحة في تخصيص عموم الحديث وزعم الروياني أن العمل على ذلك وفي المسألة أوجه أخر ناظرة إلى ما يقوي الظن
فقال القفال الشاشي لا تقبل توبة المشاهير في الخبث كدعاة الباطنية وتقبل من عوامهم وقال الأستاذ أبو إسحاق إن أخذ ليقتل فتاب لم تقبل وإن جاء تائبا وظهرت إمارات الصدق قبلت وهو حسن وقال أبو إسحاق المروزي لا يقبل إسلام من تكررت ردته فإن قلت رب ساع في الأرض بالفساد بالدعوة إلى البدعة أو بإغراء الظلمة بأموال الناس وحرجهم وسفك دمائهم بإثارة الفتنة والمصلحة قتله لكف شره فما تقولون
قلت إذا لم يقتحم جريمة موجبة لسفك الدم فلا سبيل إلى قتله إذ في تجليد الحبس عليه كفاية شره فليست هذه المصلحة ضرورية فإن قلت فلو كان زمان فترة لم يقدر على تخليد الحبس فيه مع تبديل الولايات على قرب فليس في حبسه إلا إيغار صدره وتحريك داعيته
قلت هذا رجم وحكم بالوهم فربما لا يفلت وتتبدل الولاية والتنقل بتوهم المصلحة لا سبيل إليه فإن قلت إذا توقعنا من الساعي في الأرض بالفساد بتعريض أموال المسلمين ودمائهم للهلاك وغلب ذلك على الظن بما عرف من طبيعته وعادته المجربة طول عمره
قلت قال الغزالي لا يبعد أن يؤدي اجتهاد مجتهد إليه قال بل هو أولى من التترس فإن هذا ظهرت جرائمه الموجبة للعقوبة فكأنه التحق بالحيوانات الضارية لما عرف من طبعه وسجيته ونحن نقول فيما ذكره الغزالي نظر بل الفرق بين هذا ومسألة التترس دعت الضرورة إلى المبادرة بحيث أنا لو لم نبادر(15/273)
ص -181-…في الوقت الحاضر لاستأصلونا وأما هذا فجاز أن يهلكه الله تعالى قبل أن يصدر منه ما يتوقع في المستقبل ولا يتصور قطع في ذلك فإن قلت كيف يجوز هذا في مسألة الترس وها هنا على ما ذكر الغزالي وقد قدمتم في كتاب القياس أن المصلحة إذا علم إلغاؤها بمخالفة النص لم تتبع كإيجاب صوم شهرين على الملك المجامع في نهار رمضان وهذا يخالف قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً1} وقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ2} فإن زعمتم أن نخصص العموم بصورة ليس فيها خطر كلي فليخص العتق بصورة يحصل بها الانزجار على الجناية
قلت جعل الغزالي المسألة في محل الاجتهاد قال ولا يبعد المنع من ذلك ويتأيد بمسألة السفينة فإنه يلزم منه قتل ثلث الأمة في استصلاح ثلثيها ترجيحا بالكثرة إذ لا خلاف في أن كافرا لو قصد قتل عدد مخصوص كعشرة مثلا وتترس بمسلم فلا يجوز لهم قتل الترس في الدفع بل حكمهم حكم عشرة أكرهوا على قتل أو اضطروا إلى أكل أحدهم
وإنما نشأ هذا من الكثرة ومن كونه كليا لكن الكلي الذي لا يحصره حكم آخر أقوى من الترجيح بكثرة العدد ولهذا لو اشتبهت أخته بنساء بلدة حل له النكاح ولا يحل له إذا اشتبهت بعشرة أو عشرين ولا خلاف أنهم لو تترسوا بنسائهم أو ذراريهم قتلناهم وأن التحريم عاما لكن تخصيصه بغير هذه الصورة بل أبلغ من هذه الصورة أنه لو لم تكن المصلحة ضرورية
وإنما كانوا يدفعون بهم عن أنفسهم واحتمل الحال تركهم لجاز رميهم على أحد قولي الشافعي رحمه الله لئلا يتخذ ذلك ذريعة للجهاد فإذا خصص العموم بما ذكرناه كذلك ها هنا التخصيص ممكن وقول القائل هذا سفك دم معصوم يعارضه أن في الكف عنه إهلاك دماء معصومة لا حصر لها ونحن نعلم أن الشرع يؤثر حفظ الكلي على الجزئي وأن حفظ أصل الإسلام عن اصطدام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية 93(15/274)
2 سورة الإسراء آية 33(15/275)
ص -182-…الكفار أهم في مقصود الشرع من دم مسلم واحد فهذا مقطوع به من جهة الشرع والمقطوع به لا يحتاج إلى شهادة أصل فإن قلت فتوظيف الخراج من المصالح فهل إليه سبيل أم لا قلت لا سبيل إليه مع كثرة الأموال في أيدي الجنود
أما إذا خلت الأيدي ولم يكن من مال المصالح ما يفي بخراجات العسكر ولو تفرق العسكر أو اشتغلوا بالكسب لخيف دخول الكفار بلاد الإسلام أو خيف ثوران الفتنة من أهل الغرامة في بلاد الإسلام فيجوز للإمام أن يوظف على الأغنياء مقدار كفاية الجند ثم إن رأى في طريق التوزيع التخصيص بالأراضي فلا حرج لأنا نعلم أنه إذا تعارض ضرران دفع أشدهما وما يؤديه كل واحد منهم قليل بالإضافة إلى ما يخاطر به من نفسه وماله لو خلت خطة الإسلام عن ذي شوكة بحفظ نظام الأمور وبقطع مادة الشرور وكان هذا لا يخلو عن شهادة أصول معينة بأن لولي الطفل عمارة القنوات وإخراج أجرة الفصاد وثمن الأدوية وكل ذلك تنجيز خسران لتوقع ما هو أكثر منه وهذا أيضا يؤيد مسلك الترجيح في مسألة التترس لكن هذا تصرف في الأموال والأموال بذلة محور ابتذالها في الأغراض التي هي أهم منها
وإنما الخطر سفك دم المعصوم من غير ذنب فإن قلت أجرة الجلاد في الحدود والقاطع في السرقة إذا قلنا حدا لوجهين وهو أنها تجب من بيت المال لا على المجلود والسارق المقطوع ولم يكن في بيت المال ما يمكن صرفه إليه فهل للإمام أخذها من الأغنياء(15/276)
قلت يأخذ من الأغنياء إذا لم تكن مندوحة عن ذلك وهنا مندوحة فليستقرض على بيت المال إلى أن يجد سعة فإن لم يجد من يفرضه فعل ذلك على أن القاضي الروياني جوز أن تستأجر بأجرة مؤجلة أو من يستخير من يقوم به على ما يراه قال الرافعي والاستئجار قريب والتخيير بعيد وبتقدير أن يجوز ذلك فيجوز أن يأخذ الأجرة من يراه من الأغنياء ويستأجر به فإن قلت فما قولكم في المصالح الجزئية المتعلقة بالأشخاص مثل المفقود زوجها وكذلك إذا عقد وليان أو وكيلان نكاحين وأحدهما سابق وأستبهم الأمر ووقع اليأس على البيان هل ينفسخ النكاح بالمصلحة أم تبقى المرأة محبوسة طول العمر عن(15/277)
ص -183-…الأزواج ومحرومة في الصورة الثانية عن زوجها المالك في علم الله وكذلك المرأة إذا تباعد حيضها ما شاء الله وتعوقت عدتها وبقيت ممنوعة من النكاح هل يجوز لها الاعتداد بالأشهر أو يكفي بتربصها أربع سنين فكل ذلك مصلحة ودفع ضررها ونحن نعلم أن دفع الضرر مقصود شرعا
قلت المسألتان الأوليان مختلف فيهما فهما في محل الاجتهاد فقد قال في القديم تنكح زوجته المفقودة بعد أربع سنين ولكن الجديد هو الصحيح فإنه يبعد الحكم بموته من غير بينه إذ لا ندارس الأخبار أسباب سواء الموت لا سيما في حق الحامل الذكر النازل القدر وإن فسخنا فالفسخ إنما يثبت بنص أو قياس والمنصوص أعذار وعيوب من جهة الزوج من إعسار وجب وعنة وإذا كانت النفقة دائمة فغايته الامتناع من الوطء وذلك في الحضر لا يؤثر فكذا في الغيبة لإيقاع سبب الفسخ رفع الضرار عنها ورعاية جانبها لأنه معارض برعاية جانبه وفي تسليم زوجته إلى غيره بفتنة ولعله محبوس أو غير ذلك إضرار به فقد تقابل الضرران وما من ساعة إلا وقدوم الزوج فيها ممكن
وأما مسألة الأولين فإن علم سبق أحدهما ولم يعلم عينه فباطلان على المذهب المنصوص وأن سبق معين ثم خفي فالمذهب الوقف حتى يتبين وقيل فيه قولان فلو قبل بالفسخ من حيث تعذر إمضاء العقد لم يكن حكما بمجرد مصلحة بل معتضدا بأصل معين وأما تباعد الحيضة فلا خلاف فيها في مذهب الشافعي(15/278)
وقد أوجب الله تعالى التربص بالإقراء إلا على اللائي يئسن وليس هذه منهن وما من لحظة إلا ويتوقع هجوم الحيض فهذا عذر نادر لا يسلطنا على تخصيص النص قال الغزالي وكان لا يبعد عندي لو اكتفى بأقصى مدة الحمل وهو أربع سنين لكن لما وجبت العدة مع تعليق الطلاق على يقين البراءة غلب العبد قلت وقد قال في القديم فيما إذا انقطع دمها لا لعلة تعرف أنها تترابص بسبعة أشهر وفي قول أربع سنين وفي قول مخرج ستة أشهر ثم تنتقل إلى الأشهر فإن قلت فقد ملتم في أكثر هذه المسألة إلى القول بالمصالح فلم لم(15/279)
ص -184-…تلحقوا هذا الأصل بالكتاب والسنة والإجماع والقياس وتجعلوه أصلا خامسا قلت من ظن أنه أصل خامس خطأ لانا رددنا المصلحة إلى حفظ مقاصد الشرع وهي معروفة بالكتاب والسنة والإجماع فكل مصلحة رجعت إلى حفظ مقصود شرعي علم كونه مقصودا بهذه الأدلة فليس هذا خارجا عن هذه الأصول لكنه لا يسمى قياسا بل مصلحة مرسلة إذ القياس له أصل معين وكون هذه المعاني مقصودة عرفت بلا دليل واحد بل بأدلة كثيرة من الكتاب والسنة وقرائن الأحوال وتفاريق الإمارات فسمى لذلك مصلحة مرسلة
قال الغزالي وإذا فسرنا المصلحة بالمحافظة على مقصود الشرع فلا وجه للخلاف فيها بل نقطع بكونها حجة وحيث جاء خلاف فهو عند تعارض مصلحتين ومقصودين وعند ذلك يرجح الأقوى
ولذلك قطعنا بكون الإكراه مبيحا لكلمة الكفر والشرب لأن الحذر من سفك الدم أشد من هذه الأمور ولا يباح به الزنا لأنه في مثل محذور الإكراه فإذن منشأ الخلاف في مسألة الترس الترجيح إذ الشرع ما رجح الكثير على القليل في مسألة السفينة ولا رجح الجزئي على الكلي في قطع اليد المتآكلة وهل يرجح الكلي على الجزئي في مسألة الترس فيه خلاف فإن قلت لا ننكر أن مخالفة مقصود الشرع حرام ولكن لا نسلم أن هذه مخالفة قلت قهر الكفار واستعلاء الإسلام مقصود وفي هذا استئصال الإسلام واستعلاء الكفر فإن قلت فالكف عن المسلم الذي لم يذنب مقصود قلت اضطررنا إلى مخالفة أحد المقصودين ولا بد من الترجيح والجزئي محتقر بالإضافة إلى الكلي فإن قلت لا نسلم أن الجزئي محتقر بالإضافة إلى الكلي فإن ذلك لا يعرف إلا بنص أو قياس قلت عرف ذلك لا بنص واحد بل بتفاريق أحكام واقتران دلالات لم يبق معها الشك في أن حفظ خطة الإسلام ورقاب المسلمين أهم في مقاصد الشرع من حفظ شخص معين في ساعة أو نهار وسيعود إليه الكفار بالقتل(15/280)
وهذا كما أبحنا أكل مال الغير بالإكراه لعلمنا بحقارة المال في ميزان الشرع بالإضافة إلى الدماء وكما قلنا في مسألة السفينة أنه لو كان فيها مال(15/281)
ص -185-…لوجب الفاه لأن المفسدة في فواته أخف من المفسدة في فوات أرواح الناس فإن قلت لو علمنا أنهم لا يقتلون الترس بعد استئصال الإسلام فما ترون
قلت الذي لاح من كلام الغزالي أولا وآخرا أن الجواز إنما هو حالة العلم باستئصال الأسارى أيضا ولكن كلام الأصحاب في حكاية الخلاف مطلق والذي يظهر لي إطلاق الجواز فإن حفظ الجمع العظيم الخارج عن حد الحصر مع خطة الدين وإعلاء كلمة الإسلام أهم في مقاصد الشرع من حفظ عشرة أنفس مثلا يصيرون مستأسرين تحت ذل الكفر فإن قلت فهلا فهمتم أن حفظ الكثير أهم من حفظ القليل في مسألة السفينة والإكراه والمخصمة
قلت إن الإجماع قام وهو لا يصادم على أنه لو أكره شخصان على قتل شخص لا يحل لهما قتله وأنه لا يحل لمسلم أكل مسلم في المخصمة فمنع الإجماع من ترجيح الكثرة بمجردها أما ترجيح الكلي فمعلوم إما على القطع أو بظن قريب منه لم يقم دليل على خلافه فقد علمت بما أوردناه وغالبه من كلام الغزالي أنه يجوز أتباع المصالح بالشروط التي سردناها وبأن لك أن الاستصلاح ليس أصلا خامسا برأسه بل من استصلح فقد شرع كما أن من استحسن فقد شرع فلنلتفت إلى الكلام مع إمام دار الهجرة مالك رضي الله عنه حيث اعتبر جنس المصالح مطلقا وقد نقل ناقلون هذا عن الشافعي رحمه الله ولم يصح عنه والذي نقله عنه إمام الحرمين أنه لا يستجيز التنائي والإفراط في البعد وإنما يسوغ تعليق الأحكام بمصالح يراها شبيهة بالمصالح المعتبرة وفاقا وبالمصالح المستندة إلى أحكام ثابتة الأصول قارة في الشريعة(15/282)
واختار إمام الحرمين ذلك أو نحوا منه وإذا حقق التفصيل الذي ذكرناه عن الغزالي لم يكن بعيدا من هذا إذا عرفت هذا فنقول قال إمام الحرمين الذي ننكره من مذهب مالك ترك رعاية ذلك وجريانه على استرساله في الاستصواب من غير اقتصاد ونحن نعرض على مالك واقعة وقعت نادرة لا يعهد مثلها ونقول له لو رأى ذو نظر فيها جذع أنف أو اصطلاح شفة وأبدى رأيا لا تنكره العقول صائرا إلى أن العقوبات مشروعة لحسم الفواحش وهذه العقوبة لائقة بهذه النازلة للزمك التزام هذا لأنك تجوز لأصحاب الإيالات القتل(15/283)
ص -186-…في التهم العظيمة حتى نقل عنك الثقات أنك قلت أقتل ثلث الأمة في استيفاء ثلثيها ثم إنا نقول ثانيا أيجوز التعلق بكل رأي فإن أبى ذلك لم نجد مرجعا يفر عنه إلا ما ارتضاه الشافعي من اعتبار المصالح المشبه بما علم اعتباره وإن لم يذكر ضابطا وصرح بأن ما لا نص فيه ولا أصل له فهو مردود إلى الرأي واستصواب ذوي العقول فهذا الآن اقتحام عظيم وخروج عن الضبط كما ذكر القاضي أبو بكر حيث قال المعاني إذا حضرتها الأصول وضبطتها المنصوصات كانت منحصرة في ضبط الشرع فإذا لم يشترط استنادها إلى الأصول لم تنضبط ويتسع الأمر ويرجع إلى اتباع وجوه الرأي واقتفاء حكمة الحكماء ويصير ذوو الأحلام بمثابة الأنبياء حاش الله ثم لا ينسب ما يرونه إلى ربقة الشريعة وهذه ذريعة في الحقيقة إلى إبطال أبهة الشريعة ومصير إلى أن كلا يفعل ما يرى ثم يختلف ذلك باختلاف الزمان والمكان وأصناف الخلق وهو في الحقيقة خروج عما درج عليه الأولون والزم إمام الحرمين مالكا رضي الله عنه إن قال بالتمسك بكل رأي من غير فرق ومداناة بأن العاقل ذا الرأي العالم بوجوه الآيات إذا أرجع المفتتن في واقعة فاعلموه أنها ليست بمنصوصة ولا أصل يصاهيها بأن يسوغ له والحالة هذه أن يعمل بالصواب عنده والأليق بطرق الاستصلاح قال وهذا مركب صعب مساقه رد الأمر إلى عقول العقلاء واحتكام الحكماء ونحن على قطع نعلم أن الأمر بخلاف ذلك ثم وجوه الرأي تختلف بالبقاع والأصقاع والأوقات وعقول العقلاء تتباين فيلزم اختلاف الأحكام باختلاف كل ذلك
وهذا لا يلزم فيما له أصل وتقريب قال ولو شاع هذا لا اتخذ العقلاء أيام كسرى أنوشروان في العدل والإيالات معتبرهم وهذا يخرجنا الاستقلال به(15/284)
وهذه الجملة التي أوردناها مجموعة من كلام إمام الحرمين في البرهان وهذا الإلزام الذي ذكره أخيرا لا يلزم مالكا لأنه يشترط في اتباع المصلحة أن لا يناقض أمرا مفهوما من الشريعة والعامي من أين يعلم هذا والمانع من مناقضة ما يراه من الرأي لقواعد الشريعة وقد احتج مالك بوجيهن أشار إليهما في الكتاب
أحدهما أن الشارع اعتبر جنس المصالح في جنس الأحكام واعتبار جنس(15/285)
ص -187-…المصالح يوجب ظن اعتبار هذه المصلحة لكونها من جملة أفرادها والعمل بالظن واجب
والثاني أن المتتبع لأحوال الصحابة رضي الله عنهم يقطع بأنهم كانوا يقنعون بمجرد معرفة المصالح في الواقع ولا يبحثون عن وجود أمر آخر وراءها فكان ذلك منهم إجماعا على وجوب اعتبار المصالح كيف كانت ولم يتعرض المصنف للجواب عن هاتين الشبهتين ونحن نقول في الجواب عن الأولى ليس اعتبار المصالح المرسلة بمجرد مشاركتها للمصالح التي اعتبرها الشارع في كونها مصالح بأولى من إلغائها لمشاركتها للمصالح التي ألقاها الشارع في ذلك فيلزم اعتبارها وإلقاؤها وعن الثانية لا نسلم أن الصحابة رضي الله عنهم قنعوا بمجرد معرفة المصالح وسند المنع أنه لو كان كذلك لم ينعقد الإجماع بعدهم على إلغاء بعض المصالح فدل على أنهم لم يعتبروا من المصالح إلا ما اطلعوا على اعتبار الشرع نوعه أو جنسه القريب فإن الشارع لم يعتبر المصالح مطلقا بل بقيود وشرائط لا تهتدي العقول إليها إذ غاية العقل أن يحكم بأن جلب المصلحة مطلوب لكن لا ينتقل بإدراك الطريق الخاص لكيفيته فلا بد من الإطلاع على ذلك الطريق بدليل شرعي مرشد إلى المقصد فقبله لا يمكن اعتبار المصالح فإن قيل فبأي طريق أبلغ الصحابة رضي الله عنهم حد الشرب إلى ثمانين فإن كان مقدرا فقد زادوا بالمصلحة وإن كان تعذيرا غير مقدر فلم افتقر إلى التشبيه بحد القذف وكيف بلغ الحد(15/286)
قلنا الصحيح أنه لم يكن مقدرا لكن ضرب الشارب في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنعال وأطراف الثياب مقدار ذلك على سبيل التعديل والتقويم بأربعين فرأوا المصلحة في الزيادة فزادوا و التقديرات مفوضة إلى رأي الأئمة فكأنه يثبت بالإجماع أنهم أمروا بمراعاة المصلحة وقيل اعملوا بما رأيتموه أصوب بعد صدور الجناية الموجبة للعقوبة ومع هذا فلم يريدوا الزيادة على تقرير فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بتقريب من منصوصات الشرع فرأوا الشرب مظنة القذف لأن من سكر هذا ومن هذا افترا ومظنة الشيء تقام مقام الشيء كما يقام النوم مقام الحدث والوطء مقام شغل الرحم والبلوغ مقام نفس العقل والله أعلم(15/287)
ص -188-…قال السادس فقد الدليل بعد التفحيص البليغ يغلب عدم ظن عدمه يستلزم عدم الحكم لامتناع تكليف الغافل
"ش" الأستدلال على عدم الحكم بعدم الدليل حق مستقبل عند المصنف وتقريره أن فقدان الدليل بعد بذل الوسع في التفحص يغلب ظن عدم الدليل وظن عدمه يوجب ظن عدم الحكم لأن عدم الحكم الدليل يستلزم عدم الحكم لأنه لو ثبت حكم شرعي ولا دليل عليه للزم منه تكليف الغالب وهو ممتنع
قال "الباب الثاني في المردودة في الاستحسان
قال به أبو حنيفة وفسر بأنه دليل ينقدح في نفس المجتهد وتقصر عنه عبارته ورد بأنه لا بد من ظهوره ليتميز صحيحه من فاسدة وفسره الكرخي بأنه قطع المسألة عن نظائرها لما هو أقوى كتخصيص أبي حنيفة قول القائل مالي صدقة بالزكاة لقوله تعالى خذ من أموالهم صدقة وعلى هذا فالاستحسان تخصيص وأبو الحسين بأنه ترك وجه من وجوه الاجتهاد غير شامل شمول الألفاظ لأقوى يكون كالطارئ فخرج التخصيص ويكون حاصله تخصيص العلة"
"ش" ذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى القول بالاستحسان وأنكر الباقون حتى قال الشافعي من استحسن فقد شرع ورد الشيء قبل فهمه محال فلا بد أولا من فهم الاستحسان وقد ذكر المصنف ثلاث مقالات لهم
الأولى أنه عبارة عن دليل ينقدح في نفس المجتهد وتقصر عنه عبارته فلا يقدر أن يفوه به وردها صاحب الكتاب بأنه لا بد من ظهور ليتبين ليتبين صحيحه من فاسدة فإن ما ينقدح في نفس المجتهد قد يكون وهما لا عبره به وهذا الرد يتضح به أنه لا يجدي شيئا في مجلس المناظرة وأما أن المجتهد لا يعمل به فللقوم منع ذلك وأن يقولوا إذا انقدح له دليل على حادثة وهو جازم بها أفتى بها المقلد ولكن سبيل الرد عليهم أن يقولوا هذا الدليل المنقدح في نفس المجتهد إنما يمتاز عن غيره من الأدلة لكونه لا يمكن التعبير عنه وذلك أمر لا يؤل إلى القدح في كونه دليلا فجاز التمسك به وفاقا فأين الاستحسان المختلف فيه(15/288)
ص -189-…المقالة الثانية قال الكرخي الاستحسان قطع المسألة عن نظائرها أي أن المجتهد يعدل عن الحكم في مسألة بما حكم به في نظائرها إلى الحكم بخلافه لوجه أقوى من الأول يقتضي العدول عنه ومثاله تخصيص أبي حنيفة رضي الله عنه قول القائل مالي صدقة بمال الزكاة فإن هذا القول منه عام في التصدق بجميع أمواله وقال أبو حنيفة يختص بمال الزكاة لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً1} والمراد من الأموال المضافة إليهم أموال الزكاة فعدل عن أن يحكم في مسألة المال الذي ليس هو بزكوى بما حكم به في نظائرها من الأموال الزكوية إلى خلاف ذلك الحكم لدليل أقوى اقتضى العدول وهو الآية ورد المصنف هذا بأنه يلزم من أن يكون التخصيص استحسانا لأنه عدول بالخاص عن بقية أفراد العام بدليل ونحن موافقون على التخصيص فأين الاستحسان المختلف فيه ويلزم منه أيضا أن يكون الناسخ استحسانا لكونه كذلك إذا كان نسخا في بعض الصور
والثالثة قال أبو الحسين هو ترك وجه من وجوه الاجتهاد غير شامل شمول الألفاظ لوجه أقوى منه وهو حكم الطارئ على الأول واحترز بقوله وهو في حكم الطارئ على الأول عن ترك أضعف القياسين للأقوى فإن أقوى القياسين ليس في حكم الطارئ على الأضعف فإن فرض أنه طارئ فذاك الاستحسان
ومثال ذلك العنب حيث يحرم بيعه بالزبيب سواء كان على رؤوس الشجر أم لا قياسا على الرطب ثم إن الشارع أرخص في بيع الرطب على رؤوس النخل بالتمر فقيس عليه العنب وترك القياس الأول لكن الثاني أقوى فلما اجتمع في الثاني القوة والطريان كان استحسانا ورده صاحب الكتاب بأن حاصله راجع إلى أن الاستحسان هو تخصيص العلة ونحن موافقون على ذلك ولك أن تقول هو بهذا التفسير أعم من تخصيص العلة فإنه رجوع عن حكم دليل خاص إلى مقابلة بدليل طارئ عليه أقوى منه وذلك أعم ورده الإمام بأنه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية 103(15/289)
ص -190-…يقتضي أن تكون الشريعة كأنها استحسان لأن البراءة الأصلية مقتضى العقل وإنما يترك ذلك لدليل أقوى منه وهذا الأقوى في حكم الطارئ على الأول ثم قال ينبغي أن يزاد في حكم الحد قيد آخر فيقال ترك وجه من وجوه الاجتهاد مغاير للبراءة الأصلية واللفظية بوجه أقوى منه وهو في حكم الطارئ على الأولى
قال صفي الدين الهندي وفي قوله ترك وجه من وجوه الاجتهاد ما ينبئ عن أن ذلك الوجه مغاير للبراءة الأصلية فإنها ليست وجها من وجوه الاجتهاد إذ هي معلومة أو مظنونة من غير اجتهاد فلا حاجة إلى ما ذكره الإمام من القيد ومن وجود الرد على هذا التفسير أنه يقتضي أن يكون العدول من حكم القياس إلى النص الطارئ عليه استحسانا والخصم لا يقول به ذكره الهندي قال ثم إنه لا نزاع في هذا أيضا فإن حاصله يرجع إلى تغيير الاستحسان بالرجوع عن حكم دليل خاص إلى مقابلة بدليل أقوى منه وهو طارئ عليه من نص أو إجماع أو غيرهما
وقد ذكر للاستحسان تفاسير أخر مزيفة لا نرى التطويل بذكرها وحاصلها يرجع إلى أنه لا يتحقق استحسان مختلف فيه ثم إنا نقول لهم بعد ذلك إن عنيتم ما يستحسنه المجتهد يعقله ورأى نفسه من غير دليل وذلك هو ظاهر لفظة الاستحسان والذي حكاه بشر المريسي والشافعي عن أبي حنيفة رحمه الله وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي هو الصحيح عنه فهذا لعمر الله اقتحام عظيم وقول في الشريعة بمجرد التشهي وتفويض الأحكام إلى عقول ذوي الآراء ومخالفة لقوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ1} ولكن أصحابه ينكرون هذا التفسير وإن عنيتم جواز استعمال لفظ الاستحسان فأنى ينكر ذلك والله تعالى يقول {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ2} والكتاب والسنة مشحونان بذلك والقوم لا يعنون بالاستحسان ذلك فلا نسهب في الإمعان فيه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الشوري آية 10
2 سورة الزمر آية 18(15/290)
ص -191-…فإن قلت قد وقع في كلام الشافعي رضي الله عنه استحسن في المتعة أن تكون ثلاثين درهما واستحسن أن تثبت الشفعة للشفيع إلى ثلاثة أيام واستحسن أن يترك شيء للمكاتب من نجوم الكتابة واستحسن أن يضع أصبعيه في صفاحي أذنيه إذا أذن
وقال الغزالي استحسن الشافعي رضي الله عنه التحليف على المصحف وقال في السارق إن أخرج يده اليسرى بدل اليمين القياس أن تقطع يمناه والاستحسان أن لا يقطع وقال الأوزاعي في أخلاق الأصحاب في مسألة الجارية المعنية وهي التي اشتريت بألفين ولولا الغنى لساوت الفآكل هذا استحسان والقياس الصحة وقال الرافعي في التغليظ على المعطل في اللعان استحسن أن يحلف ويقال قال بالله الذي خلقك ورزقك فقد قيل أن المعطل وإن غلا في إنكاره فإذا رجع إلى نفسه وجدها مذعنه لخالق وقال القاضي الروياني فيما إذا امتنع المدعي من اليمين المردودة وقال أمهلوني لأسأل الفقهاء استحسن قضاء بلدنا إمهاله يوما قال أبو الفرج السرخسي في تقدير نفقة الخادم على الزوج المتوسط استحسن الأصحاب أن يكون عليه مد وسدس لتفاوت المراتب في حق الخادمة فإن الموسر عليه مد وثلث والمعسر مد فليكن المتوسط كذلك كما تفاوتت المراتب في حق المخدومة
وقال الأصحاب ليس لولي المجنونة والصبية المراهقة إذا آلى عنهما الزوج وضربن المدة وانقضت أن لا يطالب بالغيبة لأن ذلك لا يدخل تحت الولاية واستحسن أن يقول الحاكم للزوج على سبيل النصيحة اتق الله يفئ إليها أو طلقها(15/291)
وقال أبو العباس بن القاص في التخليص لم يقل الشافعي بالاستحسان إلا في ثلاثة مواضع وذكر ثلاثا من هذه الصور المعدودة ونحن أيضا نقول ما الاستحسان الذي قال به الشافعي قلت قد عرفت أنه لا نزاع في ورود هذه اللفظة على الألسنة استعمالا وقول ابن القاص لم يقل به إلا في ثلاثة مسائل يجب أن يكون المراد منه لم يزد على لفظة فيما اطلعت عليه لما هو المعروف المشهور من قاعدته في الرد على الاستحسان ثم نقول في هذه الصورة الدليل(15/292)
ص -192-…على أنه ليس فيها إلا استعمال اللفظ أن أحدا من الأصحاب لم يقدر المتعة بثلاثين درهما بل منهم من استحسن هذا القدر لأجل ذهاب ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما إليه وقال في التنمية المستحب أن يمتعها بخادم فإن لم يكن فثلثين أو مقنعة ولم يقل الشافعي ولا أحد من الأصحاب أن دليل ذلك الاستحسان ولم يوجب أحد منهم على السيد أن يترك للمكاتب شيئا من نجوم الكتابة بل أوجبوا الإيتاء ماحطا من نجوم الكتابة وإيتاء من غيرها واستحبوا أن يكون خطا من النجوم وكل مستحب مستحسن قال الشافعي استحسن أن يترك شيء للمكاتب من نجوم الكتابة ولم يقل أن مستنده الاستحسان وأما مسألة السارق فلم يقل أيضا لا تقطع يمناه للاستحسان أن لا يقطع فيلزم من يقول به أن لا يقطعها وكذلك القول في سائر الصور المذكورة فإن قلت ولم جرى الخلاف المذهبي في مسألتي الشفعة والسارق قلت لا أجل الاستحسان معاذ الله لا نجد في عبارة أحد من الأصحاب ذلك بل لمعان أخر نجدها مسطورة في الفقهيات
قال "الثاني قيل قول الصحابي حجة وقيل إن خالف القياس
وقال الشافعي في القديم إن انتشر ولم يخالف لنا قول فاعتبروا بمنع التقليد وإجماع الصحابة على جواز مخالفة بعضهم بعضا وقياس الفرع على الأصول قيل أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم قلنا المراد عوام الصحابة قيل إذا خالف القياس اتبع الخير قلنا ربما خالف لما ظنه دليلا ولم يكن"
"ش" اتفق أهل العلم على أن قول الصحابي ليس حجة على صحابي آخر مجتهد كما صرح به القاضي أبو بكر في التقريب والإرشاد باختصار إمام الحرمين والمتأخرون منهم الآمدي وغيره واختلفوا في كونه حجة على التابعين ومن عداهم من المجتهدين(15/293)
فذهب الشافعي رضي الله عنه في الجديد والأشاعرة والمعتزلة وأحمد ابن حنبل في إحدى الروايتين والكرخي إلى أنه ليس بحجة مطلقا وهو باختيار الإمام والآمدي وعليه جرى صاحب الكتاب وقال آخرون هو حجة مطلقا وعليه الشافعي رحمه الله في القديم كما نقل المصنف أنه حجة بشرط أن ينتشر(15/294)
ص -193-…ولا يخالف كذا حكى المصنف هذا المذهب وهو وهم وإنما هذا قول من مسألة أخرى وهي أنه هل يجوز للعالم تقليده وفيها مذاهب
أحدها هذا وقد ذكر الإمام هذه المسألة فرعا بعد ذكر المسألة التي نحن فيها فنقل المصنف هذا القول منها إلى هنا وليس بجيد وفي المسألة التي نحن فيها قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما حجة دون غيرهما وهذا القول ليس هو الذي تقدم في الإجماع وإن توهم ذلك بعض الشارحين فإن ذلك في أن قول مجموعها إجماع لا كل واحد منهما على حدته وهذا في إن قول كل واحد منهما وحده حجة ولا يشترط اتفاقهما
وذهب قوم إلى أن قول الخلفاء الأربعة حجة إذا اتفقوا وهذا هو القول الذي تقدم في الإجماع فإن قلت ما دلك على أن القائل بأن قول الشيخين حجة لا يشترط اتفاقهما هنا بخلاف القائل ثم وأن القائل بأن قول الأربعة حجة هنا يشترط اتفاقهم كما فعل ثم وعبارة الإمام وغيره لا تعطي ذلك قلت أما الثاني فصرح به الغزالي في المستصفى والإمام وغيرهما
وأما الأول فهو مقتضى عدم تقييد من حكاه ولا سيما الغزالي والإمام حيث قيد أحد القولين دون الآخر والآمدي لم يحك هنا القول باتفاق الأربعة وكأنه اكتفى بحكايته في كتاب الإجماع وحكى القول بحجية قول الشيخين مع حكايته في كتاب الإجماع القول بأن اجتماعهما حجة وذلك دليل على ما قلناه وإلا فكان حكاية قول الشيخين تكريرا وهو قد فر منه في قول الأربعة ثم إن الخلاف هنا في أن قول الشيخين حجة لا في أنه إجماع والخلاف هناك في كونه إجماعا وقد يكون الشيء حجة ولا يكون إجماعا كما قيل في الإجماع السكوتي وغيره إذا عرفت ذلك فقد احتج المصنف على أن قول الصحابي ليس بحجة مطلقا بثلاثة أوجه
أولها قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا1} أمر بالاعتبار وذلك ينافي التقليد كذا قرره الإمام واعترض عليه صفي الدين الهندي بأن الأخذ بقول الصحابي عند
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحشر آية 2(15/295)
ص -194-…القائلين به ليس على سبيل التقليد بل هو أخذ بمدرك من المدارك الشرعية فلا ينافي وجوب النظر والقياس كالأخذ بالنص وغيره ولك أن تقول في تقريره قوله فاعتبروا أمر بالاعتبار وذلك ينافي جواز التقليد كذا قرره الإمام واعترض عليه صفي الدين الهندي بأن الأخذ بقول الصحابي عند القائلين به ليس على سبيل التقليد بل هو أخذ بمدرك من المدارك الشرعية فلا ينافي وجوب النظر والقياس كالأخذ بالنص وغيره ولك أن تقول في تقريره قوله فاعتبروا يقتضي وجوب الاجتهاد خالفناه فيما إذا وجد نص أو إجماع فبقي ما عداهما على الأصل
والثاني أن الصحابة أجمعوا على مخالفة كل واحد من آحاد الصحابة فإن قلت هذا دليل على غير محل النزاع قلت لا لأنه إذا كان حجة ومن مذهبهم جواز مخالفة بعضهم بعضا جاز لغيرهم ذلك أيضا أعين مخالفة كل منهم لأن مذهبهم جواز المخالفة والفرض أن مذهبهم حجة كذا أجاب به العبري وفيه نظر لأن الإقتداء بهم عند القائل به إنما هو فيما لم يختصوا به وهم مخصوصون بعدم حجية قول بعضهم على بعض ولك أن تضايق في تصوير وقوع إجماعهم على مخالفة بعضهم بعضا لأن الإجماع لا بد وأن يكون من الكل والمجمع على مخالفته غير داخل في المجمعين على فلا يتصور الإجماع دونه وإذا فهمت هذا فنقول يمكن أن يقرر الإجماع على وجه آخر يغاير لفظ الكتاب وهو أنهم سكتوا على مخالفة التابعين لبعضهم وذلك باتفاق منهم على تجويزه
والثالث قياس الفروع التي هي محل الخلاف على الأصول لامتناع كون قولهم حجة فيها على غيرهم من المجتهدين اتفاقا والجامع كون المجتهد متمكنا من إدراك الحكم بطريقة وقد اعترض على هذا بالفرق بين الفروع والأصول إذ الظن الذي هو مطلوب في الفروع يحصل بقول صحابي دون القطع الذي هو مقصود في الأصول وبأن الخصم لا يسلم أن قول الصحابي في الأصول ليس هو حجة بل هو دليل من الأدلة يعم الأصول والفروع واحتج من قال بأن قول(15/296)
ص -195-…الصحابي حجة مطلقا بما روى من قوله صلى الله عليه وسلم :"أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم1" فدل على أن الإقتداء بهم هدى وطلب الهدى واجب
وقد سلف في الإجماع الكلام على هذا الحديث وأجاب المصنف بأن الخطاب خطاب مشافهة لا يدخل فيه غيرهم ولا يجوز أن يكون مجتهديهم لأنه ليس محل الخلاف فتعين أن يكون لعوامهم ونحن نسلم أن العامي منهم يهتدي بالإقتداء بأي مجتهد كان منهم فإن قلت على هذا لا يختص هذا الحكم بهم قلت نعم من هذا الوجه ولكن فيه فائدة تميزهم عن غيرهم بتقليد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين شاركوهم في الصحبة التي هي من أعظم مناقبهم وهذا الوصف لم يحصل لغيرهم فإنه لولا الدليل الدال على أن عامي الصحابة يقلد العالم منهم كهذا الحديث وغيره لكان ينقدح للباحث أن يقول لا يقلد الصحابي صحابيا آخر وإن قلد العامي مجتهدا والفرق أن المجتهد يتميز عن العامي برتبة العلم ولا وصف في العامي يقاومه به وأما عامي الصحابة فقد قاوم مجتهدهم بمشاركته في وصفه الأعظم
وأجاب الآمدي عن الحديث بأنه وإن عم في الأشخاص فلا دلالة على عموم الاهتداء في كل ما يقتدي فيه فيحمل على الإقتداء بهم فما يروونه عن النبي صلى الله عليه وسلم واعتراض الهندي على هذا بأن ترتيب الحكم على الوصف وهو كونهم صحابة يشعر بالعلية ومن وجوه الاعتراض عليه أيضا أنا نقول العام في الأشخاص عام في الأحوال وقد سبق في أول كتاب العموم من البحث في هذا ما تقربه عين المسترشد واحتج من قال قول الصحابي حجه إذا خالف القياس بأنه ثقة فلا يحمل مخالفته للقياس إلا على إطلاعه على خبر مخافة القدح في عدالته لو لم يكن ذلك فيعتمد حينئذ على قوله وأجاب بأنه ربما خالف لشيء ظنه دليلا وليس في الأمر كذلك ثم إنا لو سلمنا أنه نفس الأمر كذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(15/297)
1 رواه الدار قطني في لافضائل وابن عبدالبر في العلم – جامع بيان فضل العلم 2/104 وقال هذا إسناد لا تقوم به حجة لأن الحارث بن عقبة مجهول ورواه البيهقي في المدخل من حديث ابن عمر ومن حديث ابن عباس بنحوه من وجه آخر مرسلا ةقال متنه مشهور وسانيده ضعيفة ولم يثبت في إسناد(15/298)
ص -196-…فالحجة حينئذ ليست في قول الصحابي بل في الخبر ولم يتعرض المصنف للقول المفصل بين أن ينتشر أم لا لكونه سبق في كتاب الإجماع
قال "مسألة منعت المعتزلة تفويض الحكم إلى رأي النبي صلى الله عليه وسلم أو العالم لأن الحكم يتبع المصلحة وما ليست بمصلحة لا يصير مصلحة قلنا الأصل ممنوع وإن سلم فلم لا يجوز أن يكون اختياره أمارة المصلحة وجزم بوقوعه موسى بن عمران لقوله بعد ما أنشدت ابنة النضر ابن الحارث لو سمعت لما قلت وسؤال الأقرع في الحج أكل عام فقال لو قلت ذلك لوجبت ونحوه قلنا لعلها ثبتت بنصوص محتملة للاستثناء وتوقف الشافعي"
"ش" أول ما نقدمه تحرير محل الخلاف في المسألة فنقول الحكم المستفاد من العباد على أمور
أحدها ما جاء على طريق التبليغ عن الله تعالى وهذا مختص بالرسل علهم السلام وهم فيه مبلغون فقط
والثاني المستفاد من اجتهادهم وبذلهم الوسع في المسألة وهذا من وظائف المجتهدين من علماء الأمة وفي جوازه للنبي صلى الله عليه وسلم خلاف يأتي إن شاء الله تعالى في كتاب الاجتهاد
والثالث ما يستفاد بطريق تفويض الله إلى نبي أو عالم بمعنى أن يجعل له أن يحكم بما شاء في مثله ويكون ما يجيء به هو حكم الله الأزلي في نفس الأمر لا بمعنى أن يجعل له أن ينشئ الحكم فهذا ليس صورة المسألة وليس هو لأحد غير رب العالمين قال الله {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ1} أي لا ينشئ الحكم غيره إذا عرفت هذا فقد اختلف العلماء في أن هل يجوز أن يفوض الله تعالى حكم حادثة إلى رأي نبي من الأنبياء أو عالم من العلماء فيقول له احكم بما شئت فما صدر عنك فيها من الحكم فهو حكمي في عبادي ويكون إذ ذاك قوله من جملة المدارك الشرعية فذهب جماهير المعتزلة إلى امتناعه وجوزه الباقون منهم ومن غيرهم وهو الحق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة يوسف آية 40(15/299)
ص -197-…وقال أبو علي الجبائي في أحد قوليه يجوز ذلك للنبي دون العالم وهذا هو الذي اختاره ابن السمعاني وذكر الشافعي في كتاب الرسالة ما يدل عليه وجزم بوقوعه موسى بن عمران من المعتزلة وتوقف الشافعي رضي الله عنه كما نقله المصنف وهذا التوقف يحتمل أن يكون في الجواز وأن يكون في الوقوع مع الجزم بالجواز وبالأول صرح الإمام وكذلك الآمدي فقال ونقل عن الشافعي في كتابة الرسالة ما يدل على التردد بين الجواز والمنع ولكن الثاني أثبت نقلا وعليه جرى الأصوليون من أصحابنا الشافعية واحتجت المعتزلة على المنع بأن الأحكام تابعة لمصالح العباد فلو فوض ذلك إلى اختيار العبد لم يكن الحكم تابعا للمصلحة بل إلى اختياره الذي جاز أن يكون مصلحة فإن ما ليس بمصلحة في نفس الأمر لا يصير مصلحة بتفويض إلى المجتهد وأجاب بمنع الأصل وهو كون الحكم يتبع المصلحة وبأنا لو سلمناه لا يلزم ما ذكرتم لأنه لما قال له إنك لا تحكم إلا بالصواب أمنا من اختياره المفسدة وكان الله تعالى جعل اختياره أمارة على المصلحة وقدر له أن لا يختار سواها واحتج موسى بن عمران على الجزم بوقوعه بأمرين أحدهما قضية النضر بن الحارث التي رواها أهل المغازي والسير فرويناها بإسنادنا إلى عبد الملك بن هشام
قال ثنا زياد بن عبد الله البكائي عن محمد بن إسحاق المطلبي قال بعد أن ذكر غزوة بدر الكبرى وعدد القتلى بها وكان من شياطين قريش قتله علي بن أبي طالب في خمسة نفر من بني عبد الدار بن قصى النضر بن الحارث بن كلدة ابن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار قتله علي بن أبي طالب صبرا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصفراء فيما يذكرون قال ابن هشام بالأثيل قال ابن هشام ويقال النضر بن الحارث ابن كلدة بن عبد مناف ثم ذكر ابن هشام بعد ذلك أبياتا قالتها قتيلة بنت الحارث أخت النضر تبكيه أولها
يا راكبا إن الأثيل مظنة … من صبح حامسة وأنت موفق
ومنها تخاطب النبي صلى الله عليه وسلم(15/300)
ما كان ضرك لو مننت وربما …من الفتى وهو المغيظ المحنق(15/301)
ص -198-…قال ابن هشام فقال والله أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه هذا الشعر قال : "لو بلغني هذا من قبل قتله لمننت عليه1" انتهى وقال الزبير بن بكار في النسب سمعت بعض أهل العلم يقولون إنها مصنوعة انتهى فقوله صلى الله عليه وسلم لمننت عليه يدل على أن الحكم كان مفوضا إلى رأيه فإنه لو كان قتله بأمر الله لقتله ولو سمع شعرها ألف مرة وقد قال المصنف تبعا للإمام إن هذه المرأة ابنة النضر وهو مخالف لما ذكره ابن هشام في رواية أخرى لا تقوم لها الحجة أنه ابنته كما ذكر
وثانيهما ما روى مسلم من حديث أبي بردة قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "يا أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا" قال رجل أكل عام يا رسول الله فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم2" وهذا الرجل هو الأقرع كما ذكر المصنف وهو ابن حابس والأقرع في الصحابة أربعة هذا أشهرهم وهذا الحديث أيضا يدل على أن الأمر كان مفوضا إلى اختياره قوله ونحوه أو نحو هذين الأمرين كقوله صلى الله عليه وسلم : "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة3" وكما قال صلى الله عليه وسلم : "في مكة لا يختلى خلاها ولا يعضدها شجرها" فقال العباس إلا الأزخر فقال : "إلا الازخر4" وغير ذلك وأجاب المصنف عن الكل بأنه يجوز أن تكون هذه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 السير ابن هشام 3/45
2 أخرجه أبو داود : الحج 2/190 والنسائي : مناسك الحج 5/110 وابن ماجة : المناسك 2/963 ولمسلم نحوه من حديث أبي هريرة ولم يسم الأقرع
3 حديث صحيح أخلرجه الحاكم في مستدركه كما أخرجه سعيد بن منصور في سننه بلفظ "لولا أن أشق علي أمتي لأمرتكم بالسواك والطيب عند كل صلاة" الجامع الصغير 2122(15/302)
4 حديث صحيح اخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم يوم فتح مكة : "إن هذا البلد حرام لا يعضد شوكه ولايختلي خلاه ولا ينفر صيده ولا تلتقط لقتطه إلا لمعرف" فقال العباس : إلا الإذخر"فإنه لابد لهم للقيون والبيوت فقال إلا الإذخر"(15/303)
ص -199-…الأحكام ثابتة بنصوص محتملة للاستثناء على وفق سؤال بعض الناس أو حاجتهم فلا يدل على التفويض ولك أن تجيب عما وقع في قضية النضر بأنه لم يصح وابن هشام لم يجزم القول به وقد قال الزبير بن بكار ما قدمته وسمعت والذي أيده الله تعالى يجيب عنه على تقدير صحته بأن النضر كان أسيرا والإمام مخير في الأسارى بين الفعل والاسترقاق والمن والفداء وعندي في هذا نظر فإن الإمام إن خير بين هذه الأشياء فلا خوف بين الأصحاب أنه يجيب عليه رعاية للمصلحة والنبي صلى الله عليه وسلم لا يخفى عليه وجه المصلحة وما قتل النضر وإلا قد كان قتله مصلحة ولا تزول هذه المصلحة بإنشاد أخته أبياتها هذه ولا يقال لعل الحال كان مستويا لأنا نقول لا سبيل إلى ذلك إذ لو فرض استواء لكان الواجب عدم القتل فإنه متى لم يظهر بوجه الصواب في الحال حبسهم الى حين يظهر نص عليه أصحابنا وأجيب عن قوله لو قلت نعم لوجب بأنها قضية شرطية لا تقتضي وقوع مشروطها وهو منقدح وعن قوله إلا الإدخر بأنه يحتمل نزول الوحي سريعا عليه والله أعلم
قال الكتاب السادس في التعادل والترجيح
وفيه أبواب الباب
الأول في تعادل الإمارتين في نفس الأمر منعه الكرخي وجوزه قوم وحينئذ فالتخيير عند القاضي وأبي علي وابنه والتساقط عند بعض الفقهاء فلو حكم القاضي بأحديهما مرة لم يحكم بالأخرى أخرى لقوله عليه السلام لأبي بكر :"لا تقض في شيء واحد بحكمين مختلفين1"(15/304)
"ش" التعادل بين القاطعين المتنافيين ممتنع كما ستعرفه إن شاء الله تعالى عقليين كانا أو نقليين وكذلك بين القطعي والظني لتقدم القطعي وأما التعادل بين الإمارتين في الأذهان فصحيح وأما في نفس الأمر فمنعه الكرخي والإمام أحمد وجمع من فقهائنا وجوزه الباقون هذا هو النقل المشهور وكلام الغزالي يدل على أن من قال المصيب واحد لم يجوز تعادل الإمارتين وأن الخلاف بين المصوبة حيث قال إذا تعارض دليلان عند المجتهد فالمصوبة يقولون هذا لعجزه وإلا فليس في أدلة الشرع تعارض انتهى واختار الإمام أن تعادل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه النسائي : أدب القضاء 8/247 ولفظه :"لا يقضين أحد في قضاء بقضاءين ولا يقضي أحد بين خصمين وهو غضبان"(15/305)
ص -200-…الإمارتين في حكمين متنافيين والفعل واحد لكون الفعل الواحد واجبا وحراما جائز في الجملة غير واقع شرعا أي غير جائز الوقوع شرعا يظهر ذلك بتأمل كلامه وأن تعادلهما في فعلين متنافيين والحكم واحد جائز كوجوب التوجه إلى جهتين قد غلب على الظن أنهما جهة القبلة
وقد احتج من منع من تعادل الأمارتين مطلقا بأنه لو وقع فإما أن يعمل بهما وهو جمع بين المتنافيين أو لا يعمل بواحد منهما فيكون وضعهما عبثا أو يعمل بأحدهما على التعيين وهو ترجيح من غير مرجح أولا على التعيين بل على التخيير والتخيير بين المباح وغيره يقتضي ترجيح أمارة الإباحة بعينها لأنه لما جاز له الفعل والترك مع أنه لا معنى للإباحة إلا ذلك لزم أن يكون ذلك الفعل مباحا له فيكون ترجيحا لأحد الإمارتين بعينها وقد وضح فساده وأجيب بأنه لم لا يجوز أن يعمل بأحدهما على التعيين قوله ذلك ترجيح لإمارة الإباحة بعينها قلنا ممنوع وهذا لأن الإباحة في التخيير بين الفعل والترك مطلقا لا التخيير بينهما بناء على الدليلين الذي يدل أحدهما على الإباحة والآخر على الحظر إذ يجوز أن يقول الشارع للمكلف أنت مخير في الأخذ بأمارة الإباحة أو بأمارة الحظر إلا أنك متى أخذت بأمارة الإباحة فقد أبحت لك الفعل أو بالحظر فقد حرمته وتصرح له بأن الفعل على أحد التقديرين إباحة وعلى الآخر حرام ولو كان ذلك للفعل لما جاوز ويؤكده أنه يجب عليه اعتقاد كل منهما على تقدير الأخذ بإمارته فلو كان ترجيحا لأمارة الإباحة لما اختلف وجوب الاعتقاد ومثاله في الشرع أن المسافر مخير بين أن يصلي أربعا فرضا وبين أن يترك ركعتين ولا يقال لما بين فعل الركعتين وتركهما كانتا مباحتين وكذلك الصلاة المعادة على الوجه الذاهب إلى أنها فرض وفي الدليل وجوابه مواقف أخر نطول بذكرها واحتج من جوز تعادل الإمارتين في نفس الأمر بالقياس على التعادل في الذهن وبأنه لو امتنع لم يكن امتناعه لذاته فلا يلزم من فرض وقوعه(15/306)
محال أو الدليل والأصل عدمه وأجيب عن الأول بأن التعادل الذهني لا يمنع إمكان التوصل فيه إلى رجحان إحدى الإمارتين فلا يكون نصبهما عبثا
وعن الثاني بأنه إثبات للجواز بعدم ما يدل على الفساد وليس أولى من(15/307)
ص -201-…عكسه وهو إثبات الفساد بعدم ما يدل على الجواز وأما اختيار الإمام فعليه كلام طويل ولا نرى الاشتغال بذكره لأن صاحب الكتاب يعمل بحكايته واقتصر في المسألة كلها عن مجرد حكاية المذاهب فلنتبعه في الاختصار وقوله وحينئذ أي إذا قلنا بتجويز تعادل الأمارتين في نفس الأمر وتعادلهما فذهب القاضي أبو بكر وأبو علي وابنه أبو هاشم إلى التخيير فيعمل المجتهد في شأنه بما شاء ويخير العامي في الاستفتاء ويختار أحد الأمرين في الحكم للمتخاصمين ولا يخبرهما درأه للتخاصم وذهب قوم إلى أن حكمه التساقط كالبينتين إذا تعارضتا ويرجع إلى البراءة الأصلية(15/308)
وقال قوم إن وقع هذا التعادل بالنسبة إلى الواجبات فالتخيير إذ لا يمنع التخيير في الشرع بين الواجبات كما أن ملك مائتين من الإبل يجب عليه أن يخرج ما يشاء من الحقا وبنات اللبون عندما يجعل الخيرة للمالك من أصحابنا ومن دخل الكعبة استقبل ما شاء من جدرانها وإن وقع وقع بالنسبة إلى حكمين متنافيين كالإباحة والتحريم فحكمه التساقط والرجوع إلى البراءة الأصلية قوله فلو حكم أي إذا اختار القاضي إحدى الأمارتين وحكم بها لم يكن له أن يحكم بالأخرى وقد استدل على ذلك بما روى أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر رضي الله عنه : "لا تقض في شيء واحد بحكمين مختلفين1" وهذا الحديث لا أعرفه وقد سألت عنه شيخنا الذهبى فلم يعرفه ولا يكاد المجتهد يحيط علما بتعادل الإمارتين في نفس الأمر ويخير المسافر في الركعتين وكونهما مع جواز تركهما يقعان على وجه الوجوب إنما هو في ظن المجتهد ومن أين لنا أن الحال في نفس الأمر كذلك فمن يوجب القصر من العلماء لا يجوز فعلهما لا يوجبه لا يقطع بوقوعه على وجه الوجوب إذ القطع بوقوعه على وجه الوجوب فرع كونه جائز الوقوع وكذا القول في الصلاة المعادة وقد يعلل ما ادعاه المصنف في الحاكم بأنه لو حكم بخلافه مرة أخرى لا تهم والحاكم يتوقى مظان التهم ويجري مثل هذا في المفتي وفيما أن أعمل بأحد الأمرين في شأن نفسه واطلع عليه الناس كيلا يتناقض فعله فيتهمه العامي ولا يرجع إلى فتواه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريج الحديث وصوابه "لأبي بكر" بزيادة تاء التأنيث "سنن النسائي8/347"(15/309)
ص -202-…قال "مسألة إذا نقل عن مجتهد قولان في موضع واحد يدل على توقفه ويحتمل أن يكونا احتمالين أو مذهبين وإن نقل في مجلسين وعلم المتأخر فهو مذهبه وإلا حكي القولان"
"ش" هذه المسألة في حكم تعارض قولين لمجتهد واحد وهو بالنسبة إلى المقلدين كتعارض الأمارتين عند المجتهدين فلذلك أعقبه بتعادله الأمارتين ومضمون المسألة أنه إذا نقل عن مجتهد واحد في مسألة واحدة قولان متنافيان فإما أن يكون ذلك في موضع واحد أولا
الحالة الأولى إذا كان في موضع واحد بأن يقول في هذه المسألة قولان مثلا وهو قسمان أحدهما ولم يذكره في الكتاب أن يعقب ذلك بما يشعر بترجيح أحدهما ولو بالتقريع عليه فيكون ذلك قولان له لأن قول المجتهد ليس غير ما يترجح عنده
والثاني أن لا يفعل ذلك فيدل على توقفه في المسألة لعدم ترجيح دليل أحد الحكمين في نظره وقوله فيها قولان محتمل لأن يريد بالقولين احتمالين على سبيل التجوز أي فيها احتمال قولين لوجود دليلين متساويين ولأن يريد بهما مذهبين لمجتهدين وعلى التقديرين لا ينسب إليه قول في المسألة لتوقفه فيها وإلى هذا القسم أشار المصنف بقوله يدل على توقفه ويحتمل أي وهذا التوقف محتمل لأن يكونا احتمالين ولأن يكونا مذهبين
وذهب قوم إلى أن إطلاق القولين يقتضي التخيير وهو ضعيف واعلم أن وقوع ذلك في مجلس واحد من دون ترجيح قليل نقل الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع عن القاضي أبي حامد المروذي لأنه ليس للشافعي مثل ذلك إلا في بضعة عشر موضعا ستة عشر أو سبعة عشر وقد وقع في المحصول بدل القاضي أبي حامد المروذي الشيخ أبو حامد الإسفرايني وكأنه اشتبه أبو حامد بأبي حامد ووقع فيه الجزم بأن المواضع سبعة عشر وهو وهم والذي نقله الشيخ أبو إسحاق ما ذكرناه وقال القاضي أبو بكر في مختصر التقريب قال المحققون إن ذلك لا يبلغ عشرا(15/310)
ص -203-…الحالة الثانية أن يكون نقل القولين عن المجتهد في موضعين بأن ينص في كتاب أو في وقت على إباحة شيء وفي آخر على تحريمه فهو قسمان أحدهما أن يعلم المتأخر منهما فهو مذهبه ويكون الأول مرجوعا عنه وذهب بعض الأصحاب إلى أنه لا بد وأن ينص على الرجوع فلو لم ينص في الجديد على الرجوع عن القديم لم يكن رجوعا حكاه الشيخ أبو إسحاق والثاني أن يجهل الحال فيحكي عنه القولان من غير الحكم على أحدهما بالترجيح
قال "وأقوال الشافعي رضي الله عنه كذلك وهي دليل على علو شأنه في العلم والدين"
ش وقد وقع الحالان المتقدمان للإمام المطلبي قدوتنا أبي عبد الله الشافعي ابن عم المصطفى صلى الله عليه وسلم وذلك من الأدلة الواضحة على علو شأنه في العلم والدين في الحالتين أما الدليل على العلم في الأولى فإنه كلما زاد المجتهد علما وتدقيقا وكان نظره أتم تنقيحا وتحقيقا ووقوفا على الأدلة المزدحمة مستقيما وإدراك وجه الازدحام فيها وكيفية الانفصال عنها عظيما تكاثرت الإشكالات الموجبة للتوقف لديه وتزاحمت المعضلات بين يديه
وأما في الدين فلم يكن ممن إذا ظهر له وجه الرجحان صمم على مقالته الأولى ولا قام بنصرتها وشال بضبعها حتى ينادي أولى لك فأولى بل صرح ببطلان تلك واعترف بالخطأ فيها وقصور النظر
وأما الحالة الثانية وهي تنصيصه على القولين في موضعين فدليل على علمه أيضا لأنه مبني على اشتغاله طول عمره القصير بالنظر والمباحث واشتماله على التدقيق في الوقائع والحوادث وعلى دينه لإظهاره الشيء إذا لاح له غير مبال بما صدر منه أولا ولا واقف عند كلام غبي ينسبه إلى التناقض في المقال ولا مرجوح لمذهبه وإن كان ذا القدرة العظمى على ما يرومه واليد الطولى فيما يحاوله وقد عاب القولين على الشافعي من لا خلاق له وأتى بخرف من القول زكاة ونمقة والله لا سواه ولا عدله وذلك لنقصان وقصور وحسد كامن في الصدور(15/311)
ص -204-…وقال في العلماء قولا كبيرا وفاه بألسنة حداد سيصلى سعيرا وأضمر في نفسه من الزابين عن مسألة سيد المرسلين عقيدة لا يغسل السيف عارها ولا يواري الليل غوارها ونحن لا نحفل بكلمة ولا نقول بكلامه ولا نرى أن يشتمل مثل هذا الشرح على مثل هذا الهذيان الذي هو خيال طرق ذا الخيال في منامه ويكتفي بما صنفه أصحابنا قديما وحديثا في نصرة القولين ويخيل العطن على ذهنه والبليد على الوقوف عليها ولكنا نورد أسئلة قد تختلج في الصدور وتعتور بني الزمان فيجد بها الغبي نفثة مصدور فيقول قد علمت صنعة القولين وكيفية وقوعهما فإن قلت التردد في القولين ينبئ عن نقصان النظر عن إدراك الأرجح قلت معاذ الله بل يخبر عن حال ذلك لأن قوة النظر كلما زادت توالت عليها التشكيكات كما عرفت فإن قلت من سبق الشافعي إلى ذلك من المجتهدين وقد كان قبله أبو بكر الصديق وهو أفضل من طلعت عليه الشمس بعد النبيين
قلت الفاروق الذي أعز الله به الإسلام بدعوة النبي عليه السلام حيث نص في الشورى على ستة وحصر الخلافة فيهم تنبيها على أن الاستحقاق منحصر فيهم وأن غيرهم ليس أهلا لذلك ولم يعترض أحد عليه بل اتبعوا رأيه واقتفوا أثره فإن قلت فما فائدة ذكر القولين قلت التنبيه على أن الحق لا يعدوهما وقصر نظر المتمذهب له على التدقيق فيها وعدم الالتفات إلى غيرهما(15/312)
فإن قلت من جملة أقواله أن يذكر قولين مع الإشارة إلى ترجيح أحدهما وأي فائدة مع التنبيه على الراجح في ذكر المرجوح قلت ليعلم طرق الاجتهاد والاستنباط والتمييز بين الصحيح والفاسد ومخافة أن يؤدي اجتهاد غيره من متابعته إليه ولا يتنبه لفاسده فيتخذه مذهبا وقد عد الأصحاب لأبي حنيفة رضي الله عنه أمثال ذلك فلطالما قال القياس كذا لكني تركته استحسانا وليس لأحد أن يعيب عليه ذلك ولا أن يقول ما فائدة ذكرك القياس مع عدم اعتمادك إياه فإن قلت أي معنى في إطلاق القولين في وقت واحد من غير ترجيح قلت هذا هو الذي لم يوجد معه سوى النذر اليسير
وقد قلنا إنه فيه متوقف وأنه دليل على غزارة العلم والمنتهى في الديانة وفيه(15/313)
ص -205-…من الفوائد التنبيه على المآخذ وفحص جهتها في ذينك القولين ولذلك جعل عمر رضي الله عنه الأمر شورى في ستة ولم ينص على واحد بعينه وكان قصده أن الخلافة لا تعدوهم ولو لم يفاجئه هادم اللذات لميز الأصح عن غيره فإن قلت فلا معنى لقولكم في هذا القسم للشافعي في هذا المسألة قولان إذ ليس له ما على ما زعمتم في مثل هذه المسائل قول واحد ولا قولان بل هو متوقف غير حاكم بشيء قلت قال إمام الحرمين في التلخيص هكذا القول ولا نتحاشى منه وإنما وجه الإضافة إلى الشافعي ذكره لهما واستقصاؤه وجوه الأشباه فيهما وقد كان الشافعي رضوان الله عليه حديث السن لم تتسع مهلته كثيرا لآلام لم تطل راحته ولا يشغله ذلك عما هو فيه من حياطة الدين والنظر المتين والانجماع على طريق المتقين
وقد سئل بعضهم ما السبب في قصر عمر الشافعي فقال حتى لا يزالون مختلفين ولو طال عمره لرفع الخلاف ولأمعن القول فيما لا يحصره مختصرا ولا معزل من مناقب هذا الخبر ولكن العالم استطرد ووجد للمقال مجالا
فقال ونختم الفصل بما هو من توابع أبواب الترجيح وأمور المقلدين فنقول إن قصر نظر بعض المصنفين عن فهم مراتب المجتهدين فلا عليه لو اقتدى بقوله صلى الله عليه وسلم :"الأئمة من قريش1" وقوله صلى الله عليه وسلم :"قدموا قريشا ولا تذموها2" ولم يكن أحد من أصحاب المذاهب معزيا إلى صليبة قريش بالمسلك الواضح إلى الشافعي ولا خلاف في اختصاصه بذلك وأنه المقصود بقوله صلى الله عليه وسلم عالم قريش يملأ طباق الأرض علما لأنه الذي طبق طباق الأرض وتخلق بالطيب ورد ليلها المسود وجبين نهارها المبيض وصار اسمه في مشارقها ومغاربها وعلا على أنجم السماء طوالعها وغواربها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه النسائي في السنن الكبري "تحفة الأشراف للمزي 1/102"كما رواه الإمام أحمد في المسند 3/129،4/431 ط الحلبي(15/314)
2 رواه الشافعي والبيهقي في المعرفة عن ابن شهاب بلاغا بلفظ :"قدموا قريشا ولا تقدموها وتعلموا ولا تعلموها" كما رواه ابن عدي والطبراني ، والبزار بطرق مختلفة، قريبة من هذا المعني أنظر الجامع اصغير 2/86(15/315)
ص -206-…وقد قام إمام الحرمين مناديا بما لوح به جماعة من الأصحاب من وجوب تقليد الشافعي فقال في كتابه الترجيح بين المذهبين أنه يدعى أنه يجب على كافة المسلمين وعامة المؤمنين شرقا وغربا بعدا وقربا انتحال مذهب الشافعي بحيث لا يبغون عنه حولا ولا يريدون به بدلا والذي نقوله نحن إن كتابنا هذا شارح لمختصر أصول لا نرى أن نخرج عنه إلى ما لا يتعلق به من الترجيح بين المذاهب ولكن الذي نفوه به هو أنه يتعين على المقلد النظر بعين التعظيم إلى قدوته والإيماء بطرف التقديم نحو إمامه ونحن نراعي ذلك في حق إمامنا رضوان الله عليه ونقول بجمع الكلام فيما نحاوله أمور ثلاثة أولها أن السابق وإن كان له حق الوضع والتأسيس فللمتأخر الناقد حق التهذيب والتكميل وكل موضوع على الافتتاح فقد يتطرق إلى مبادئه بعد التسبيح ثم يتدرج الناقد حق التهذيب والتكميل فيكون المتأخر أحق أن يتبع وهذا واضح في الحرف والصناعات فضلا عن العلوم ومسالك الظنون
فإن قلت فيلزمكم على هذا أن توجبوا الإقتداء بمن بعد الشافعي من الأئمة قلت إن ثبت لأحد بعده رتبة الاجتهاد والتنحل وترتيب ما لم ينظم والإطلاع على مقاصد الشريعة والخوض في بحارها فيلزم ذلك ولكنا لسنا نرى أحدا من الأئمة بعده بلغ هذا المحل كذا أجاب إمام الحرمين وتعالى غيره وقال لم يبلغ أحد بعد الشافعي منصب الاجتهاد المطلق فضلا عن الوصول إلى ما وصل إليه الشافعي وثانيهما أن المذاهب يمتحن بأصولها لأن الفروع تستند إليها وتستقيم بتقومها وتعوج باعوجاجها ولا يخفى على الساري في الظلم رجحان نظر الشافعي في الأصول التي هي أهم ما ينبغي للمجتهد وأنه أول من أبدع ترتيبها ومهد قوانينها وألف فيها رسالته ولم لا يكون ذلك وأعظم ما يستمد منه أصول الفقه اللغة والشافعي كان من صميم العرب العربا ممن تفقأت عنه بيضة بني مضر وأصول الشريعة الكتاب والسنة والإجماع ثم الاقيسة بالإمارات المنصوبة علامات على الإجماع(15/316)
ولهذه الأصول مراتب ودرجات فأما الكتاب فهو عربي مبين والشافعي إذا أنصف الناظر عرف أنه المميز عن غيره فيما يحاوله منه لأنه القرشي البليغ ذو(15/317)
ص -207-…اللغة التي يحتج بها الواصل إلى الذروة في معرفة الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول ومعرفة الراويات وأما الحديث فلا ينكر منصف مقامه في الأخبار وإلقاءه الأحاديث من حفظه ولذلك ربما قال أخبرني الثقة ومن لا يحضرني اسمه الآن أن ذلك من آيات من آيات حفظه وشدة ضبطه وتحريه حتى قال أبو زرعة ما عند الشافعي حديث غلط فيه وقال أبو داود ما أعلم للشافعي حديثا خطأ وهو في معرفة الرجال وغير ذلك من فنون الحديث الواصل الليل بالنهار ينزل الأحاديث منازلها ويقبل كلما صح منها ويجعله مذهبه لا يفرق بين كوفي ومدني
ولذلك قال لأحمد أنتم أعلم بالحديث منا فقل لي كوفية وبصرية يعني أنكم يا أهل العراق أعلم منا معشر الحجازيين بأحاديث الكوفة والبصرة فقل لي حتى أنظر فإن كان صحيحا عملت به ولا يظن في ظان الاقتصار على أحاديث المدينة والحجاز من حيث أني من أصحاب مالك وأتى بصيغة الجمع في المخاطب والمخاطب بقوله أنتم ومنا ولم يرد الشافعي أن ابن حنبل أعلم منه بالحديث كما ظن بعض الأغبياء حاش الله وإنما أراد ما ذكرناه والملك العظيم أن أتاه رسول من أخيه الملك من بلدة أخرى يقول له أنتم أعلم بأخبار أخي مني يعني لكونكم في بلدته ولا يلزم من ذلك زيادتهم في القرب منه على أخيه ولا مساواته ولو أراد الشافعي ما زعمه بعض الأغبياء جبرا لأحمد وتأدبا معه وتعظيما لجانب تلميذه لجاز ذلك ولا لوم عليه أما فقه الحديث فهو سيد الناس في ذلك(15/318)
وأما الإجماع فسيلقي من معرفة الآثار وما يصح نقله من الوفاق والخلاف وهو المنهي في ذلك هذا بيان الأصول وأما تنزيلها منازلها فهو سوق الشافعي فإن قدم كتاب الله ثم سنة نبيه صلى الله عليه وسلم مع نهاية التأدب والوقوف عندما ينبغي السوق عنه للناظر في الشريعة فإذا لم يجدها تأسا بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في التعليق بالرأي الناشئ من قواعد الشريعة المنضبطة بأصولها ولم نر التعليق بكل وجه في الاستصواب ولا الاستحسان بما نهواه ثم رأى قواعد الشريعة منقسمة إلى ما يعلل وما لا يعلل فانسحب على الإتباع فيما لا يعقل معناه(15/319)
ص -208-…وقد يقيس إذ لاحت الأشباه وأما ما يعقل معناه فمغزاه فيه المعنى المختل المناسب وهو في كل ذلك يلتفت إلى قواعد الشرع ثم لا يبغي بها بدلا ويقول إذا صح الحديث فهو مذهبي وثالثهما أن المذاهب كما يمتحن بأصولها يستخير بفروعها ولننظر المصنف في كتب الخلافيات المنتشرة في الآفاق فإن كان مع اتصافه أهلا للنظر فليعرضها على الشريعة من كتاب وسنة وإجماع وقياس وليحكم بما أراه الله وإن لم يكن أهلا للنظر فلا كلام له معنا وبالله التوفيق
وآخر ما نذكره دليلا لم ير من سبقنا باستنباطه يدل على ما نحاوله وهو حديث يبعث الله على رأس كل مائة من يجدد لها أمر دينها واتفق الناس على أن المبعوث على رأس الأولى عمر بن عبد العزيز وعلى الثانية الشافعي ويأبى الله أن يبعث مخطئا في اجتهاده أو يختص ناقص المرتبة بهذه المزية بل هذا صريح في أن ما يأتي به المبعوث فهو دين الله الذي شرعه لعباده ومن الغرائب الواقعة في هذا الأمر المؤيدة لما ذكرناه وما حاولناه تأييدا ينثلج به الصدر أن الله تعالى خص أصحاب الشافعي بهذه الفضيلة فكان على رأس الثلثمائة ابن سريج وهو أكبر أصحابه وعلى رأس الأربعمائه الشيخ أبو حامد إمام العراقيين من أصحابه وعلى رأس الخمسمائة الغزالي القائم بالذب عن مذهبه والداعي إليه بكل طريق وعلى السادسة الإمام فخر الدين الرازي أحد المقلدين له والمنتحلين مذهبه والذابين عنه وعلى السابعة الشيخ تقي الدين بن دقيق العبد الذي رجع إلى مذهبه وانتحله وتولى القضاء له وحكم به بعد أن كان في أول نشأته مالكيا
قال "الباب الثاني في الأحكام الكلية للتراجيح الترجيح تقوية إحدى الأمارتين على الأخرى ليعمل بها كما رجحت الصحابة خبر عائشة على قوله عليه السلام إنما الماء من الماء"(15/320)
"ش" الأحكام الكلية للتراجيح هي الأمور العامة لأنواعها التي لا تخص فردا منها والباب مشتمل على مقدمة معرفة لماهية الترجيح وأربع مسائل وقد عرف الترجيح بأنه تقوية إحدى الإمارتين على الأخرى ليعمل بها أي بالإمارة التي قويت وهو مأخوذ من الإمام إلا أن الإمام أبدل الإمارتين بالطريقين(15/321)
ص -209-…وما فعله المصنف أصرح بالمقصود إذ يمتنع الترجيح في غير الإمارتين والإمام قال ليعلم الأقوى فيعمل به وحذف المصنف لفظة العلم وهو حسن إذ يكتفي في الظن بالترجيح ولقائل أن يقول جعلتم الترجيح عبارة عن التقوية التي هي مستندة إلى الشارع أو المجتهد حقيقة أو إلى ما به الترجيح مجازا وهو غير ملائم بحسب الاصطلاح وهو في الاصطلاح عبارة عن نفس ما به الترجيح فلا يجوز أن يجعل عبارة عن التقوية ذكره الهندي
وقد اتفق الأكثرون على جواز التمسك بالترجيح وأنكره بعضهم وقال عند التعارض يلزم التخيير أو الوقف ولا يرجح أحد الظنين وإن تفاوتا وهو قول مردود قال إمام الحرمين في البرهان وقد حكاه القاضي عن البصري وهو الملقب ببعل قال ولم أر ذلك في شيء من مصنفاته مع بحثي عنها واستدل المصنف على وجوب تقديم الراجح بإجماع الصحابة رضي الله عنهم وذلك في وقائع كثيرة منها أنهم قدموا خبر عائشة رضي الله عنها في التقاء الختانين حيث قالت :"فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا1" على خبر أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :"إنما الماء من الماء2" أخرجه مسلم وتقدم في كتاب السنة حديث عائشة
وأن الترمذي قال حسن صحيح والوقائع في هذا كثيرة وعليه درج السابقون قبل اختلاف الآراء وقد تعلق الخصم على نفي الترجيح بالبينات في الحكومات فإنه لا ترجح بينة على بينة بعد استقلال كل واحدة لو انفردت وهو مردود فإن مالكا رحمه الله يرى ترجيح البينة على البينة ومن لا يرى ذلك يقول البينة مستندة إلى توقيعات تعبدية ولذلك لا تقبل بغير لفظ الشهادة حتى لو أتى العدد الكثير بلفظ الأخيار لم يقل ولو شهد ألف امرأة وعبد على إباقه بقل لردوا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه الترمذي كتاب الطهارة باب : وجوب الغسل وابن ماجة كما رواه بلفظ :"إذغ جلس بين شعبها الأربع وجاوز الختل الختان فقد وجب الغسل"(15/322)
2 رواه مسلم – كتاب الطهارة 1/269(15/323)
ص -210-…قال "مسألة لا ترجيح في القطعيات إذ لا تعارض بينهما وإلا ارتفع النقيضان أو اجتمعا"
"ش" قدمنا أن الترجيح مختص بالدلائل الظنية ولا جريان له في الدلائل اليقينية عقلية كانت أو نقلية والحجة على ذلك أن الترجيح فرع وقوع التعارض وهو غير متصور فيها لأنه لو وقع لزم اجتماع النقيضين أو ارتفاعهما وذلك لأن الدليل القطعي ما يفيد العلم اليقيني فلو تعارض قطعيا لم يكن إثبات مقتضى أحدهما دون الآخر للزوم التحكم فإن الرأي السديد والقول الذي عليه المحققون أن العلم لا يتفاوت وليس بعضها أقوى وأغلب من بعض وإن كان بعضها كان بعضها أجلى وأقرب حصولا وأشد استغناء عن التأمل بل بعضها لا يحتاج فيه إلى تأمل كالبديهيات لكنه بعد الحصول تحقق يعني لا تفاوت في كونه محققا فلا ترجيح لعلم على علم فتعين إما رفع مقتضاهما أو إثباته وهو جمع بين النقيضين أو رفع لهما
ولقائل أن يقول هذا دليل على منع التعارض بين القاطعين في نفس الأمر أو على منع التعارض بين القاطعين في الأذهان إن كان على الأول فهو منقوض ولكن لا كلام فيه وأنى يتصور جريان الترجيح في المتعادلين في نفس الأمر ولو جرى لم يكن المتعادلان متعادلين هذا خلف وإن كان على الثاني فممنوع لأنه قد يتعارض عند المجتهد شيئان يعتقد أنهما دليلان يقينيان ويعجز عن القدح في أحدهما وإن كان بطلان أحدهما في نفس الأمر وإن كان كذلك فنحن نقول يجوز تطرق الترجيح إليها بناء على هذا التعارض بالنظر في أحوال المقدمات وأحوال التركيب ويرجح بقلة المقامات والتراكيب وهذا طريق يقبله العقل ولا يدفعه ما ذكرتم
قال مسألة إذا تعارض دليلان(15/324)
فالعمل بهما من وجه أولى بأن يتبعض الحكم فيثبت البعض أو يتعدد فيثبت بعضها أو يعم فيوزع كقوله عليه السلام ألا أخبركم بخبر الشهود فقيل نعم فقال أن يشهد الرجل قبل أن يستشهد وقوله ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل قبل أن يستشهد فيحمل الأول على حق الله تعالى والثاني على حقنا ش إنما يرجح أحد الدليلين على الآخر إذا لم يمكن(15/325)
ص -211-…العمل بكل واحد منهما فإن أمكن ولو من وجه دون وجه فلا يصار إلى الترجيح بل يصار إلى ذلك لأنه أولى من العمل باحدهما دون الآخر إذ فيه أعمال الدليلين والأعمال أولى من الإهمال ثم العمل بكل واحد منهما يكون على ثلاثة أنواع
أحدها أن يتبعض حكم كل واحد من الدليلين بأن يكون قابلا للتبعيض فيبعض بأن يثبت بعضه دون بعض وعبر الإمام عن هذا النوع بالاشتراك والتوزيع ومن أمثلته دار بين اثنين تداعياها وهي في يدهما فإنها تقسم بينهما نصفين لأن ثبوت المالك قابل للتبعيض فيتبعض ومنها إذ تعارضت البينتان في الملك على قول القسمة
الثاني أن يتعدد حكم كل واحد من الدليلين أي يقتضي كل واحد من الدليلين أحكاما متعددة فيحمل واحد منهما على بعض تلك الأحكام ومثاله ما روي أن إعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني رأيت الهلال1 فقال: "أتشهد أن لا إله إلا الله" قال نعم قال: "أتشهد أن محمدا رسول الله" قال نعم قال: "فأذن في الناس يا بلال فليصوموا غدا" فهذا الخبر يقتضي ثبوت رمضان بشهادة الواحد ويترتب عليه وجوب الصوم وحلول الدين المؤجل ووقوع الطلاق والعتاق المعلقين به وهو معارض للقياس فإنه يقتضي عدم ثبوته بقول الواحد كما في سائر الشهور ويترتب على عدم ثبوته عدم ترتب شيء مما ذكرناه فيحمل الأول على وجوب الصوم والقياس على عدم حلول الأجل والطلاق والعتاق وهذا قد صرح به القاضي الحسين والبغوي لكن قال الرافعي لو قال قائل هلا يثبت ذلك ضمنا كما سبق نظيره لا حرج إلى الفرق والذي سبق أنا إذا قلنا بالقول الصحيح وضمنا بقول الواحد لم ير الهلال بعد ثلاثين أفطرنا على أحد الوجهين وإن كنا لا نفطر بقول واحد ابتداء ولا يثبت به هلال شوال على المذهب الصحيح وذلك لأنه يجوز أن يثبت الشيء ضمنا بما لا يثبت به أصلا ومقصودا ألا ترى أن النسب والميراث لا يثبتان بشهادة النساء ويثبتان ضمنا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(15/326)
1 أخرجه البخاري والترمذي من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما "تحفة الأحوذي 3/372(15/327)
ص -212-…للولادة إذا شهدن عليها وفرق ابن الرافعة1 بأن النسب والميراث وكذا الإفطار عقيب الثلاثين لازم للمشهود فلا يعقل ولادة منفكة عن النسب والميراث ولا صوم ثلاثين يوما بوصف كونها منفكة عن الفطر بعدها والدين والطلاق والعتاق ليس يلزم استهلاك الشهر ويعقل انفكاكه عنه قال وقد أشار إلى مثله ابن الصباغ
الثالث أن يكون كل واحد من الدليلين عاما أي مثبت الحكم في موارد متعددة فتوزع ويحمل كل واحد منهما على بعض أفراده ومثاله ما روي عن زيد ابن خالد الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ألا أخبركم بخبر الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها2" رواه مسلم وهذا لفظه وهو معنى اللفظ الذي أورده المصنف وروى المصنف من قوله صلى الله عليه وسلم : "ثم يفشوا الكذب فيشهد الرجل قبل أن يستشهد3" وهذا اللفظ لا أعرفه ولكن في الصحيحين عن عمران ابن حصين رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم إن من بعدهم قوما ما يشهدون ولا يستشهدون4" الحديث فيحمل الأول على حقوق الله تعالى والثاني على حقوق العباد ومن أمثلته أيضا قوله صلى الله عليه وسلم : "من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له5" مع ما روي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو أحمد بن علي الأنصاري فقيه شافعي من فضلاء مصر سئل الإمام ابن تيمية فقال "رأيت شيخا يتقاطر فقه الشافعية من لحيته" من مؤلفاته "الكفاية في شرح التنبيه" "بذل النصائح الشرعية في ما علي السلطان وولادة الأمور وسائر الرعية توفي سنة 710ه
2 أخرجه مسلم :كتاب الأقضية 3/1344 من حديث زيد بن خالد الجهني
3 أخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث ابن عمر
4 صحيح البخاري – كتاب الشهادات 3/224 عن ابن مسعود وعمران بن الحصين – ومسلم 4/1964عن أبي هريرة وعمران بن حصين رواه الترمذي – كتاب الفتن 4/465 عن ابن عمر وفي الشهادات 4/549(15/328)
5 رواه الترمذي 3/108 وأبو داود 2/422 والنسائي 4/196 وابن ماجة 1/542 والدار قطني 2/173 والبيهقي في السنن الكبري 4/213(15/329)
ص -213-…أنه صلى الله عليه وسلم كان يدخل على بعض أزواجه فيقول : "هل من غداء" فإن قالوا لا قال : "إني صائم" ويروى : "أني إذن اصوم1" فيقتصر على الأول وإن كان عاما في كل صوم على صوم الفرض ويحمل الثاني على صوم النفل ومنها قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ2} مع قوله في آية أخرى
{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ3} فظاهر الأولى وضع السيف فيهم حتى ينفقوا وظاهر الآية الثانية يقتضي جواز أخذ الجزية من أصناف الكفار من غير فصل وقال عليه السلام : "خذوا من كل حالم دينارا" وقال : "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" الحديث وظاهر هذا أن الجزية لا تؤخذ وأن ليس بيننا وبين الكفار إلا السيف أو الإسلام فيجمع بين الظاهرين ويأخذ الجزية من أهل الكتاب بآية الجزية ويضع السيف فيمن ليس متمسكا بكتاب ولا يشبه كتاب الظاهر الآية الواردة في القتل وأعلم أن بعض الفقهاء زعم أن هذا يتضمن استعمال مقتضى كل واحد من الدليلين ورأى هذا الجمع مستقلا بنفسه غير محتاج إلى إقامة دليل قال إمام الحرمين وهذا مردود عند الأصوليين بل لا بد من دليل خارج على ذلك وأما أن يجعل أحدهما دليلا في تخصيص الثاني والثاني في تخصيص الأول فهذا ما لا سبيل إليه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه البخاري فضائل أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم ومسلم 3/1379 والنسائي 7/132 من حديث أبي هريرة وابن عمر- رضي الله عنهما
2 سورة التوبة آية 5
3 سورة التوبة آية 29
قال "مسألة إذا تعارض نصان وتساويا في القوة والعموم وعلم المتأخر فهو ناسخ وإن جهل فالتساقط أو الترجيح"
"ش" النصان المتعارضان على ضربين
الأول أن يكونا متساويين في القوة باشتراكهما في العلم أو الظن وفي العموم بأن يصدق كل منهما على ما يصدق عليه الآخر وله ثلاثة أحوال
أولها أن يتأخر ورود أحدهما عن الآخر ويكون معروفا بعينه فينسخ(15/330)
ص -214-…المتأخر المتقدم سواء كانا معلومين أو مظنونين آيتين أم خبرين أم أحدهما آية والآخر خبرا عند من يجوز النسخ عند اختلاف الجنس وأما من يمنعه فيمتنع عنده النسخ في هذا القسم الآخير وهذا إذا كان حكم المتقدم قابلا للنسخ أما إذا لم يقبل النسخ ولم يذكره في الكتاب كصفات الله تعالى فإن كانا معلومين قال الإمام فيتساقطان ويجب الرجوع إلى دليل آخر واعترض عليها النقشواني بأن المدلول إن لم يقبل النسخ يمتنع العمل بالمتأخر فلا يعارض المتقدم بل يجب أعمال المتقدم كما كان قبل ورود المتأخر وإن كانا مظنونين طلب الترجيح ولو كان الدليلين خاصين فحكمهما حكم المتساويين في القوة والعموم من غير فرق ولم يذكر المصنف ذلك
وثانيها: أن يجهل المتأخر منهما فإن كانا معلومين فيتساقطان ويرجع إلى غيرهما لأنه يجوز في كل واحد منهما أن يكون هو المتأخر وإن كانا مظنونين بعين الترجيح وإلى هذا أشار المصنف بقوله وإن جهل فالتساقط أي فيما إذا كانا معلومين أو الترجيح أي فيما إذا كانا مظنونين
وثالثها: أن يعلم مقارنتهما ولم يذكره في الكتاب فإن كانا معلومين فقد قال الإمام أن أمكن التخيير بينهما تعين القول به فإنه إذا تعذر الجمع لم يبق إلا التخيير ولا يجوز أن يرجح أحدهما على الآخر بقوة الإسناد لما عرفت أن العلوم لا تقبل الترجيح قال قال ولا يجوز الترجيح بما يرجع إلى الحكم نحو كون أحدهما حاضرا أو مثبتا حكما شرعيا لأنه يقتضي طرح المعلوم بالكلية هو غير جائز انتهى ولم يذكر حكم القسم الآخر وهو عدم إمكان التخيير بينهما وإن كانا مظنونين تعين الترجيح فيعمل بالأقوى فإن تساويا في القوة قال الإمام فالتخيير
قال "وإن كان أحدهما قطعيا أو أخص مطلقا عمل به وإن تخصص بوجه طلب الترجيح"
"ش" الضرب الثاني أن لا يتساويا في القوة والعموم جميعا فأما(15/331)
ص -215-…يتساويا في العموم ولم يتساويا في القوة أو عكسه أو لم يحصل بينهما تساو لا في العموم ولا في القوة فهذه أحوال ثلاثة
أولها: التساوي في العموم والخصوص مع عدم التساوي في القوة بأن يكون أحدهما قطعيا والآخر فيعمل بالقطعي سواء أعلم تقدم أحدهما على الآخر أم لم يعلم وسواء تقدم القطعي أم الظني وهذا الإطلاق يشمل ما إذا كان المقطوع عاما والمظنون خاصا والصحيح أن المظنون يخصص المقطوع كما سبق في التخصيص
وثانيهما: أن يتساويا في القوة مع التساوي في العموم والخصوص بأن يكونا قطعيين أو ظنيين أو يكونا عامين لكن أحدهما أعم من الآخر إما مطلقا أو من وجه أو يكون خاصين فإن كانا عامين أو كان أحدهما أعم من الآخر مطلقا عمل بالأخص سوء كانا قطعين من وجه السند أم ظنيين علم تقدم أحدهما عملي الآخر أم لم يعلم المهم إلا أن يعلم تقدم الأعم وورود الأخص بعد العمل به فإن الأخص حينئذ يكون تاركا له فيما تناوله الأخص لا تخصصا لامتناع تأخير البيان عن وقت العمل وإن كان أحدهما أعم من الآخر من وجه وأخص من وجه كقوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ1} مع قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ2} فيصار إلى الترجيح بينهما سواء كانا قطعيين أم ظنيين لكن لا يمكن الترجيح في القطعيين بقوة الإسناد بل يرجح بكون حكم أحدهما حظرا والآخر إباحة وأن يكون أحدهما شرعيا والآخر عقليا أو مثبتا والآخر نافيا ونحو ذلك وفي الظنيين يرجح بقوة الإسناد
وثالثهما: أن لا يحصل بينهما تساو لا في العموم والخصوص ولا في القوة فإن اختلفا في كل واحد من هذين بأن يكون أحدهما قطعيا والآخر ظنيا وهما عامان ولكن أحدهما أعم من الآخر مطلقا أو من وجه أو خاصان فإن كانا عامين أو أحدهما أعم من الآخر مطلقا عمل بالقطعي إلا إذا كان القطعي هو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية 23
2 سورة المؤمنون آية 6(15/332)
ص -216-…الأعم فإنه يخص بالظني عند الأكثرين وإن كان أحدهما أعم من الآخر من وجه صير إلى الترجيح فإنه قد يترجح الظني بما يتضمنه الحكم من كونه حظرا أو نفيا أو غير ذلك سواء علم تأخر القطعي عن الظني أم تقدمه أم جهل الحال وأما إن كانا خاصين فالعمل بالقطعي مطلقا
قال "مسألة قد يرجح بكثرة الأدلة لأن الظنيين أقوى قيل يقدم الخبر على الأقيسة قلنا إن اتحد أصلها فمتحدة وإلا فممنوع"
"ش" ذهب الشافعي ومالك إلى أنه يجوز الترجيح بكثرة الأدلة والخلاف مع الحنفية واستدل المصنف بأن كل واحد من الدليلين يفيد ظنا مغاير الظن المستفاد من صاحبه والظنان أقوى من الظن الواحد فيعمل بالأقوى لكونه أقرب إلى القطع كما رجحنا الكتاب على السنة والسنة على الإجماع والإجماع على القياس فإن قلت الفرق بين الترجيح بكثرة الأدلة والترجيح بالقوة والوصف الذي يعود إليه أن الزيادة حصلت مع المزيد عليه في محل واحد بخلاف الترجيح بقوة الأدلة قلت هذا ضعيف لأنه لا أثر لذلك
واحتج الخصم بأن كثرة الأدلة لو كانت سببا للرجحان لكانت الأقيسة المتعددة مقدمة على خبر الواحد إذا عارضها وليس الأمر كذلك وأجاب بأن أصل تلك الأقيسة إن كان متحدا وهذا كما قيل في معارضة ما روى من قوله عليه السلام : "أحلت لنا ميتتان السمك والجراد1" السمك الميت حرام قياسا على الغنم الميتة وعلى الطائر الميت والبقر والإبل والخيل بجامع الموت في كل ذلك فتلك الأقيسة حينئذ تكون أيضا متحدة واحدا وتكون قياسا واحدا لا أقيسة متعددة لوحدة الجامع فإنها لا تتغاير إلا أن يعلل حكم الأصل في قياس منها بعلة أخرى وتعليل الحكم بعلتين مختلفتين ممنوع على ما سلف فيكون الحق من تلك الأقيسة واحدا وإذا قدمنا عليها الخبر لم يكن قد قدمناه إلا على دليل واحد وإن لم يكن أصلها متحدا بل متعددا فلا نسلم تقديم خبر الواحد عليها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(15/333)
1 حديث صحيح أخرجه ابن ماجه والحاكم والبيهقي في السنن من حديث ابن عمر "الجامع الصغير 1/13"(15/334)
ص -217-…كذا أجاب المصنف تبعا للإمام والحق ان خبر الواحد مقدم على الأقيسة وإن تعددت أصولها ما لم تصل إلى القطع ولا يفرض اللبيب صورة تحصل فيها من الأقيسة ظن يفوق الظن الحاصل فيها من خبر الواحد ونقول هلا رجحت أرجح الظنين لأنه لا تجد ذلك إلا والقياس جلي مقدم دون ريب ولا خصوصية إذ ذاك لتعدد الأقيسة بل لقوة الظن
وقد ذكر الإمام أن من صور المسألة ترجيح أحد الخبرين على الآخر بكثرة الرواة ولكن وافق في هذا الفرع بين المخالفين في المسألة ولا شك أن الخلاف فيه أضعف وقد نقله إمام الحرمين عن بعض المعتزلة وقال الذي ذهب إليه الأكثرون الترجيح بكثرة العدد ثم نقل أن القاضي قال ما أرى تقديم الخبر بكثرة الرواة قطعيا والوجه فيه أن المجتهدين إذا لم يجدوا متمسكا إلا الخبرين واستوى رواتهما في العدالة والثقة وزاد أحدهما بعدد الرواة فالعمل به قال وهذا قطعي لأنا نعلم أن الصحابة لما تعارض لهم خبر معين بهذه الصفة لم يعطلوا الواقعة بل كانوا يقدمون هذه قال وأما إذا كان في المسألة قياس وخبران متعارضان كثرة رواة أحدهما فالمسألة الآن ظنية وهذا الذي ذكره القاضي حق ويشبه أن لا يكون محل الخلاف إلا في الصورة التي جعلها ظنية فإنه كما ذكر قد يقال فيها بالنزول عنها والتمسك بالقياس وقد يظن أن الصحابة كانوا يقدمون الخبر الكثير الرواة ويضربون عن القياس فالخلاف في هذه الصورة منتجه وأما في الأولى فلا مساغ له نعم إذا اجتمع مزية الثقة وقوة العدد بأن روى أحد الخبرين ثقة وروى الآخر جمع لا يبلغ أحدهم مبلغ راوي الخبر إلا في الثقة والعدالة فهذه صورة أخرى(15/335)
وقد اعتبر بعض أهل الحديث مزيد العدد وبعضهم مزيد الثقة قال إمام الحرمين والمسألة لا تبلغ مبلغ القطع والغالب على الظن التعلق بمزية الثقة فإن الذي يغلب على الظن أن الصديق رضوان الله عليه لو روى خبرا وروى جمع على خلافه لكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين يؤثرون رواية الصديق انتهى وأبلغ قول في ذلك ما ذكره الغزالي من أن الاعتماد في ذلك ما غلب على ظن المجتهد فإن الكثرة وإن قوة الظن فرب عدل أقوى في النفس من عدلين ويختلف(15/336)
ص -218-…ذلك باختلاف الأحوال والرواة وأما تقديم خبر الصديق رضوان الله عليه فلأن الظن الحاصل بخبره أقوى من الحاصل بخبر الجمع الكثير وقد لا يتأتى ذلك في غيره ومن صور مسألة الكتاب أيضا إذا انضم إلى أحد الخبرين قياس والذي ارتضاه الشافعي رضي الله عنه تقديم الحديث الذي وافقه القياس لأن الترجيح يجوز بما يوجب تغليب الظن تلويحا مع أن مجرد التلويح لا يستقل دليلا كان اعتضد أحد الخبرين بما يستقل دليلا فلأن يكون مرجحا أولى وقال القاضي يتساقط الخبران ويرجع إلى القياس والمسلكان مفيضان إلى موافقة حكم القياس ولكن الشافعي رضي الله عنه يرى متعلق الحكم بالخبر المرجح بموافقة القياس والقاضي يعمل بالقياس ويسقط الخبرين مستدلا بأن الخبر مقدم على القياس ويستحيل تقديم خبر على خبر بما يسقط الخبر وما يقدم على القياس إذا خالفه فهو مقدم عليه إذا وافقه وقال إمام الحرمين القول عندي في ذلك لا يبلغ مبلغ الإفادة ولمن نصر الشافعي أن يقول إنما يقدم الخبر إذا لم يعارضه خبر فإذا تعارضا افتقر أحدهما إلى التأكيد بما يغلب على الظن قلت ويناظر هذا لخلاف الذي ذكره الأصحاب في البيتين إذا تعارضا ومع أحدهما يد فإن الحكم لذات اليد ولكن هل القضاء للداخل باليد أم بالبينة المرجحة باليد اختلفوا فيه وينبني على الخلاف أنه هل يشترط أن يخلف الداخل مع بينته ليقضي له فيه وجهان أو قولان أصحهما لا كما لا يخلف الخارج مع بينته
قال "الباب الثالث في ترجيح الأخبار وهو على وجوه
الأول: بحال الراوي
فيرجح بكثرة الرواة وقلة الوسائط وفقه الراوي علمه بالعربية وأفضليته وحسن اعتقاده وكونه صاحب الواقعة وجليس المحدثين ومختبرا ثم معدلا بالعمل على روايته وبكثرة المزكين وبحثهم وعلمهم وحفظه وزيادة ضبطه ولو لألفاظه عليه السلام ودوام عقله وشهرة نسبه وعدم التباس اسمه وتآخو إسلامه"(15/337)
"ش" أعلم أن تعارض الأخبار إنما يقع بالنسبة إلى ظن المجتهد أو بما يحصل من خلل بسبب الرواة وأما التعارض في نفس الأمر بين حديثين صح صدورهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو أمر معاذ الله أن يقع ولأجل ذلك قال الإمام أبو(15/338)
ص -219-…بكر بن خزيمة رضي الله عنه لا أعرف أنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثان بإسنادين صحيحين متضادين فمن كان عنده فليأت به حتى أولف بينهما إذا عرفت هذا فنقول ترجيح الأخبار على سبعة أوجه
الأول بحسب حال الرواة وذلك باعتبارات أولها بكثرة الرواة وقد مر هذا آنفا مثاله لو قال الحنفي لا يجوز رفع اليدين في الركوع وعند الرفع منه لما روى إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه عند تكبيرة الافتتاح ثم لا يعود فيقول راوي ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة وإذا كبر للركوع وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك وروى رفع اليدين كما روى ابن عمر وآيل بن حجر وأبو حميد الساعدي في عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو قتادة وأبو سعد وسهل بن سعد ومحمد ابن مسلمة ورواه أيضا أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأنس بن مالك وجابر بن عبد الله وابن الزبير وأبو هريرة وجمع بلغ عددهم ثلاثا وأربعين صحابيا وأعلم أنا قد نذكر المثال الواحد للحكم وهو يصلح مثالا لأحكام كثيرة وأنا قد مثلنا لما اشتمل عليه من ضرب من الترجيح وأن عارضه أقوى منه أو ساعده فلا يضرنا ذلك وهنا ليس مستندنا مجرد لكثرة بل والعلل المذكورة فيما رواه القوم مما ليس من غرض الشرح التطويل بذكره(15/339)
الثاني: بقلة الوسائط وعلو الإسناد لاحتمال الغلط والخطأ فيما قلت وسائطه أقل وما برحت الحفاظ الجهابذة تطلب علو الإسناد وتفتخر به وتركب القفار وتنادي عند الديار في تحصيله ومن أمثلته أن يقول الحنفي الإقامة مثنى كالأذان لما روى عامر الأحول عن مكحول أن أبا محيريز حدثه أن أبا محذورة حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه الأذان وعلمه الإقامة الحديث وذكر فيه الإقامة مثنى مثنى فيقول الشافعي بل هو فرادى لما روى خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أنس بن مالك قال مر بلالا أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة
وهذا الحديث من حديث خالد كما رأيت وبينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم فيه ثلاثة وخالد وعامر متعاصران روى عنهما شعبة(15/340)
ص -220-…الثالث: بفقه الراوي سواء كانت الرواية بالمعنى أم باللفظ ومنهم من قال إن روي باللفظ فلا يرجح بذلك والحق ما ذكرناه لأن للفقيه مرتبة التميز بين ما يجوز وما لا يجوز فإذا سمع ما لا يجوز إجراؤه على ظاهره بحث عنه والطلع على ما يزول به الإشكال بخلاف الجاهل
وحكى علي بن خشرم قال قال لنا وكيع أي الإسنادين أحب إليكم الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله أو سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله فقلنا الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله فقال يا سبحان الله الأعمش شيخ وأبو وائل شيخ وسفيان فقيه ومنصور فقيه وإبراهيم فقيه وعلقمة فقيه وحديث يتداوله الفقهاء خير من حديث يتداوله الشيوخ
الرابع: بعلم الراوي بالعربية لأن العالم بها يمكنه التحفظ عن مواقع الزلل فكان الوثوق بروايته أكبر قال الإمام ويمكن أن يقال هو مرجوح لأن العالم بها يعتمد على معرفته فلا يبالغ في الحفظ والجاهل بها يكون خائفا فيبالغ في الحفظ
الخامس: الأفضلية لأن الوثوق بقول الأعلم أتم فيقدم رواية الخلفاء الأربعة في رفع اليدين عند الركوع وعند الرفع منه على رواية ابن مسعود
السادس: حسن اعتقاد الراوي رواية غير المبتدع أولى من رواية المبتدع ولقائل أن يقول إذا كانت بدعته بذهابه إلى أن الكذب كفر أو كبيرة لأن ظن صدقه أغلب ولكن الذي جزم به الأكثرون ما قلناه ومثاله إذا قيل صوم الدهر سنة كما اختاره الغزالي لما روى إبراهيم بن أبي يحيى بسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"من صام الدهر كله فقد وهب نفسه لله" فيجب من يقول بأنه مكروه كصاحب التهذيب وغيره بأنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن عمرو :"لا صام من صام الدهر صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر1" وبأنه روي أنه عليه السلام :"نهى عن صيام الدهر2" والحديث الذي أورده الخصم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حديث صحيح أخرجه البخاري 3/87(15/341)
2 عن عبدالله بن عمرو قال :قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : "لاصام من صام الأبد" رواه البخاري ومسلم =(15/342)
ص -221-…لا يعارض هذين الحديثين لأن إبراهيم بن يحيى وإن سلمنا أنه ثقة كما قاله الشافعي وابن الأصبهاني وابن عقده وابن عدي إلا أنه كان مبتدعا قال البخاري كان يرى القدر وكان جهميا
السابع: كون الراوي صاحب الواقعة لأنه أعرف بالقصة وبهذا رجح الشافعي رضي الله عنه خبر أبي رافع على خبر ابن عباس في تزويج ميمونة أنه صلى الله عليه وسلم نكحها وهو محرم لأن أبا رافع كان السفير في ذلك فكان أعرف بالقصة كذا قيل والحق ان هذا من باب الترجيح بكون أحد الروايتين مباشر لما رواه وهو قسم آخر فصله الآمدي وغيره عن هذا بل مثال هذا قول ميمونة تزوجت رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن حلالان فتقدم على رواية ابن عباس وقد خالف في هذا الجرجاني من أصحاب أبي حنيفة
الثامن: بكون الراوي جليس المحدثين أو أكثر مجالسته من الراوي الآخر لأنه أقرب إلى معرفة ما يعتور الرواية ويداخلها من الخلل ويمكن أن يمثل هذا برواية عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة أن زوج بريرة كان عبدا وهكذا رواه هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة وروى الأسود بن زيد عن عائشة أن زوج بريرة كان حرا فحديث عروة القاسم عن خالتهما أولى لمجالستهما لها وسماعهما منها الحديث شفاها داخل الستر
التاسع: بكون الراوي مختبرا فيرجح المعدل بالممارسة والاختبار على من عرفت عدالته بالتزكية أو برواية من لا يروي من غير العدل لأن الخبر أضعف من المعاينة
العاشر: بكون الراوي معدلا بالعمل على روايته أي يكون ثبوت عدالته بعمل من روى عنه فيرجح على الذي يكون رواية معدلا بغير ذلك وقد أتى صاحب الكتاب بقوله ثم معدلا ليفهم أن التعديل بالاختيار مقدم على هذا الضرب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- = وفي رواية للجماعة إلا البخاري وابن ماجة :"قيل يا رسول الله كيف بمن صام الأبد ؟ قال :"لا صام ولا أفطر" أو "لم يصم ولم يفطر" "نيل الأوطار 4/242-343"(15/343)
ص -222-…فالمراتب ثلاثة التعديل بالاختيار ثم بالعمل ثم بغير ذلك ولقائل أن يقول إن أردتم بغير ذلك صريح القول في التزكية فلا نسلم أن التعديل بالعمل أرجح منها كيف وقد اختل في كونها تعديلا وجزم بهذا الآمدي وغيره وقالوا يرجح صريح المقال في التزكية على العمل بروايته والحكم بشهادته
الحادي عشر: كثرة المزكين للراوي وقد سبق ما يناظره ومن أمثلته حديث بسرة بنت صفوان في مس الذكر مع ما يعارضه من حديث طلق فحديث بسرة رواه مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عروة ابن الزبير وليس فيهم إلا من هو متفق على عدالته وأما رواة الحديث طلق فقد قل مزكوهم بل اختلف في عدالتهم فالمصبر إلى حديث بسرة أولى
الثاني عشر: كثرة بحث المزكين عن أحوال الناس لزيادة الثقة بقولهم حينئذ
الثالث عشر: كثرة علمهم لأن كثرة العلم تؤدي إلى الصواب(15/344)
الرابع عشر: حفظ الراوي وقد أطلقه في الكتاب وهو يحمل أمرين كلاهما حق معتبر أحدهما أن يكون قد لفظ الحديث واعتمد الآخر على المكتوب فالحافظ أولى لما لعله يعتور الخط من نقص وتغيير قال الإمام وفيه احتمال قلت وهو احتمال بعيد وقد ذهب بعض العلماء إلى أنه لا يحتج برواية من يعول على كتابته قال أشهب سئل مالك أيؤخذ ممن لا يحفظ وهو ثقة صحيح الأحاديث فقال لا يؤخذ عنه أخاف أن يزاد في كتبه بالليل وعن هشيم من لم يحفظ الحديث فليس هو أولى من أصحاب الحديث يجيء أحدهم بكتاب كأنه سجل مكاتب وثانيهما أن يكون أحدهما أكثر حفظا فإن روايته راجحة على من كان نسيانه أكثر وسيأتي على الأثر مثال هذا في حديثي شعبة وإسماعيل بن عياش قال شبعة أحفظ منه بلا ريب ومن أمثلته أيضا احتجاجا على أن المسح يتأقت بيوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام وليالهن للمسافر بحديث عاصم عن ذر بن حبيش قال أتيت صفوان بن عسال فسألته عن المسح على الخفين فقال كنا نكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأمرنا أن لا ننزع اخفافنا ثلاثة أيام إلا من(15/345)
ص -223-…جنابة لا من غائط وبول ونوم فإن للخصم في المسألة وهو مالك رحمه الله أن يقول قد تكلم في حفظ عاصم بن أبي النجود قال العقيلي لم يكن فيه إلا سوء الحفظ وقال الدارقطني في حفظه شيء فليرجح عليه حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"إذا توضأ أحدكم ولبس خفيه فليمسح عليهما وليصل فيهما ولا يخلعهما إن شاء إلا من جنابة1"
الخامس عشر: زيادة ضبط الراوي وشدة اعتنائه فليرجح من كان أشد اعتناء به وأكثر اهتماما ولو كان ذلك الضبط لألفاظ الرسول بأن يكون أكثر حرصا على مراعاة كلامه وحروفه لأنه حينئذ يكون أقرب إلى الرواية باللفظ وقد تقدم أنها راجحة على الرواية بالمعنى ومن أمثلته احتجاجا على أن الدم الخارج من غير السبيلين لا ينقض الوضوء بما رواه شعبة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"لا وضوء إلا من صوت أو ريح2" فإن عارضه الخصم بما روى إسماعيل ابن عياش عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن عائشة مرفوعا من قاء أو رعن فأحدث في صلاته فليذهب فليتوضأ ثم ليبن على صلاته قلنا ليس إسماعيل كشعبة في الضبط كيف لا وشعبة أمير المؤمنين في الحديث وابن عياش خلط على المدنيين
السادس عشر: بدوام عقل الراوي فيرجح رواية دائم العقل على من اختلط آونة من عمره ولم يعرف أنه روى الخبر حالة سلامة العقل أو حال اختلاطه
السابع عشر: شهرة الراوي بالعدالة والثقة فيرجح رواية المشهور على الخامل لأن الدين كما يمنع من الكذب كذلك الشهرة والمنصب ومن أمثلته في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1عن صفوان بن عسال قال : أمرنا – يعني النبي صلي الله عليه وسلم :"أن نمسح علي الخفين إذا نحن أدخلناهما علي طهر – ثلاثا إذا سافرنا – ويوما وليلة إذا أقمنا ولا نخلعهما من غائط ولا بول ولانوم ولانخلعهما إلا من جنابة" رواه الالإمام أحمد وابن خزيمة وقال الخطابي : هو صحيح الإسناد
نيل الأوطار 1/239(15/346)
2 حديث ضعيف أخرجه الترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة – رضي الله عنه
الجامع الصصغير 2/204(15/347)
ص -224-…مسألة القهقة من أحاديثنا رواية شعبة عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"لا وضوء إلا من صوت أو ريح" فلا يعارضه الخصم برواية بقية عن محمد الخزاعي عن الحسن بن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل ضحك :"أعد وضؤك1" فإن محمد الخزاعي ليس مشهورا بل هو من مجهولي مشايخ بقية والخصم وإن احتج به على قاعدته في العمل بخبر المجهول لكنه غير مشهور وابن شعبة من الأئمة المشهورين العظماء
الثامن عشر: بشهرة نسبه فإن من ليس بمشهور النسب قد يشاركه ضعيف في الاسم
التاسع عشر: بعد التباس اسمه فيرجح رواية من لا يلتبس اسمه باسم غيره على رواية من يلتبس اسمه باسم غيره من الضعفاء ومن أمثلته أنه لو وقع إسنادان متعارضان في أحدهما محمد بن جرير الطبري أبو جعفر الإمام المشهور وفي الآخر ثقة مثله في العلم والعدالة وصفات الترجيح لقلنا الإسناد الذي فيه محمد بن جرير مرجوع لالتباس اسمه بمحمد بن جرير بن رستم بن جعفر الطبري وكذلك وقع الغلط لبعض الأئمة فنقل على ابن حجر الإمام أنه قال بوجوب المسح على الرجلين بدل غسلهما وإنما القائل بذلك ابن جرير هذا وهو رافضي وكذلك الليث بن سعد الإمام المشهور مع الليث بن سعد النصيبي أحد الضعفاء
العشرون: بتأخر إسلامه فيرجح رواية من تأخر إسلامه على رواية من تقدم إسلامه لأن تأخر الإسلام دليل على روايته أخيرا هكذا نطق به المصنف وصرح به الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع وهو حق مستقبل وجزم الآمدي بعكسه معتلا بعراقة المتقدم في الإسلام ومعرفته وليس بشيء وقال الإمام الأولى أن يفصل ويقال المتقدم إذا كان موجودا مع المتأخر لم يمنع أن تكون روايته متأخرة عن رواية المتأخر فأما إذا مات المتقدم قبل إسلام المتأخر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الطبراني وفيه محمد بن عبدالملك الدقيقي – طرحه ابن معين كما أخرجه الدار قطني وفيه متروك(15/348)
أنظر نصب الراية للزيلعي ج 1ص 48(15/349)
ص -225-…وعلمنا أن أكثر رواه المتقدم على رواة المتأخر منها هنا نحكم بالرجحان لأن النادر يلحق بالغالب ولقائل أن يقول قولكم لا يمنع أن تكون روايته متأخرة فيما إذا لم يمت قبله مسلما ولكن هي مشكوكة ورواية متأخر الإسلام مظنونة التأخر فليرجح على المشكوكة فيها ولهذا قال ابن عباس كنا نأخذ بالأحدث فالأحدث من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أمثلة الفصل قال الشافعي في مسألة المس قيس بن طلق راوي حديث الخصم وهو ممن تقدم إسلامه وأبو هريرة من رواة أحاديثنا وكان إسلامه بعد الهجرة بست سنين فرأينا إمكان النسخ متطرقا إلى ما رواه قيس
قال الثاني: بوقت الرواية
فيرجح الراوي في البلوغ على الراوي في الصبا وفي البلوغ والمتحمل وقت البلوغ على المتحمل في الصبا وفيه أيضا
"ش" الخبر الذي لم يرو به شيئا من الأحاديث إلا بلوغه راجح على خير من لم يروها إلا في صباه لأن البالغ أقرب إلى الضبط ويرجح أيضا على خبر من روى البعض في صباه والبعض في بلوغه لاحتمال أن يكون من مروياته في الصغر قوله والمحتمل أن يرجح الخبر الذي لم يتحمل رواية الأحاديث إلا في زمن بلوغه على من لم يتحمل إلا في زمن صباه قوله أو فيه أيضا أي ويرجح هذا أيضا على من يتحمل البعض في صباه والبعض في بلوغه لاحتمال أن يكون هذا الخبر من الأحاديث المحتملة في الصغر ولهذا قدم ابن عمر روايته في الإفراد في الحج على رواية أنس وقال إنه كان صغيرا وكنت أدخل على النساء وهن مكتشفات وأنا آخذ بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يسيل علي لعابها هكذا ينبغي تقرير ما في الكتاب فلا يعدل عنه وبه يتبين لك أن الكلام هنا في بحثين أحدهما بوقت الرواية في زمن الصبي والثاني بوقت التحمل
قال الثالث: بكيفية الرواية(15/350)
فيرجح المتفق على رفعه والمحكي بسبب نزوله وبلفظه وما لم ينكره راوي الأصل ش الترجيح بكيفية الرواية أقسام أولها ترجيح الحديث المتفق على كونه مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم على المختلف في كونه موقوفا ومن أمثلته أن عبادة ابن الصامت روى أنه صلى الله عليه وسلم قال :"لا صلاة لمن لم(15/351)
ص -226-…يقرأ بفاتحة1" الكتاب وهو مدون في الصحاح متفق على رفعه دال على المأموم يقرأ خلف الإمام فإن احتج الخصم بما روى يحيى بن سلام قال ثنا مالك ابن أنس ثنا وهب بن كيسان عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "كل صلاة لا يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج إلا أن تكون وراء الإمام2" قلنا لم يرفعه عن مالك غير يحيى بن سلام وهو في الموطأ موقوف وقد قيل وهم يحيى بن سلام عن مالك في رفعه ولم يتابع عليه ويحيى كثير الوهم وثانيها يرجح الخبر الذي حكاه الراوي بسبب نزوله لزيادة الاهتمام من حاكى سبب النزول بمعرفة ذلك الحكم وثالثا الخبر المؤدى بلفظ مرجح على المروى بمعناه أو المشكوك في كونه مرويا باللفظ أو المعنى وينبغي أن يرجح المشكوك منه على ما علم أنه مروي بالمعنى ولم أظفر بحديثين متعارضين أحدهما مروي باللفظ والآخر بالمعنى فأمثل به ورابعها إذا أنكر الأصل رواية الفرع عنه وجزم بالإنكار فرواية الفرع غير مقبولة وإن تردد قبلت على المختار فإن قلنا بها فالخبر الذي لم ينكره الأصل راجح على ما أنكره وقد اتبع المصنف الإمام في تعبيره براوي الأصل والصواب زيادة ال في الراوي أو حذفه بالكلية ومن أمثلة هذا الفصل أن سفيان بن عيينة روى عن عمر وعن أبي معبد عن ابن عباس قال كنت أعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكبير قال عمرو بن دينار ثم ذكرته لأبي معبد بعد فقال لم أحدثه قال عمرو وقد حدثه قال وكان من أصدق موالي ابن عباس قال الشافعي رضي الله عنه فإنه نسيه بعد ما حدثه إياه وهذا مثال لما أنكره راوي الأصل ومنها ما روى محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن صدقة قال سمعت بن عمر وسأله رجل فقال إني أهللت بهما جميعا قال لو كنت اعتمرت كان أحب إلي ثم أمره فطاف بالبيت وبالصفا والمروة قال ولا تحل منها بشيء دون يوم النحر ثم شعبة نسي هذا الحديث فقلت إنك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(15/352)
1 رواه البخاري :كتاب الصلاة 1/192 ومسلم :كتاب الصلاة 1/295 حديث رقم 394
2 رواه الإمام أحمد في مسنده وابن ماجة من حديث عائشةوابن عمر كما رواه البيهقي من حديث علي – رضي الله عنه والخطيب عن أبي أمامة بدون ذكر "إلا أن تكون وراء الإمام" الجامع الصغير 2/93(15/353)
ص -227-…حدثتني به قال إن كنت حدثتك فهو كما حدثتك وهذا مثال لما لم ينكر ومنهم من كان يقول بعد ذلك حدثني فلان عني كما روى عبد العزيز بن محمد بن ربيعة بن عبد الرحمن بن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد قال عبد العزيز فذكرت ذلك لسهيل فقال أخبرني ربيعة وهو عندي ثقة أني حدثته إياه ولا أحفظه قال عبد العزيز وقد كان أصاب سهيلا علة أذهبت بعض عقله ونسي بعض حديثه وكان سهيل يحدثه عن ربيعة عن أبيه وروي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال حدثني ابني عني أن النبي صلى الله عليه وسلم :"نهى أن يجعل فص الخاتم من غيره" وقال سعيد بن أبي عروبة حدثني بعض أصحابي عن ابن أبي معشر عن إبراهيم في الرجل يقر بالولد ثم ينفيه قال يلاعن بكتاب الله عز وجل ويلزم الولد بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال جرير حدثنيه عن ابن مجاهد عني وهو عندي ثقة عن ثعلبة عن الزهري قال إنما كره المنديل بعد الوضوء لأن الوضوء يوزن
وقد جمع الحافظ أبو بكر الخطيب جزءا ضخما فمن حدث ونسي
قال الرابع: بوقت وروده
فيرجح المدنيات والمشعر بعلو شأن الرسول عليه السلام والمتضمن للتخفيف والمطلق على متقدم التاريخ والمؤرخ بتاريخ مضيق والمتحمل في الإسلام
"ش" ذكر في الترجيح بوقت ورود الخبر أقساما ستة والإمام قد ذكرها أيضا وقال هذه الوجوه في الترجيح ضعيفة أي إفادتها للرجحان إفادة غير قوية لا بمعنى أن القول بإفادتها الرجحان ضعيف يدل عليه قوله بعد ذلك وهي لا تفيد إلا خيالا ضعيفا في الرجحان
أحدهما: الخبر المدني مرجح على المكي لأن المدنيات متأخرة عن الهجرة والمكيات متقدمة عليها إلا قليلا والقليل ملحق بالكثير(15/354)
وثانيهما: يرجح الخبر الدال على علو شأن الرسول صلى الله عليه وسلم على ما ليس كذلك لأنه يدل على تأخره فإن الزيادة العظمى في علو شأنه وظهور أمره كانت في آخر عمره وقال الإمام إن دل الأول على علو الشأن والثاني على الضعف ظهر تقديم(15/355)
ص -228-…الأول على الثاني أما إذا لم يدل الثاني لا على القوة ولا على الضعف فمن أين يجب تقديم الأول عليه واعترض عليه بأن المشعر بعلو شأن الرسول معلوم التأخر أو مظنونة وما لم يشعر بذلك مشكوك فيه فليرجح الأول
وثالثها: يرجح المتضمن للتخفيف على المتضمن للتغليظ لأنه أظهر تأخرا فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغلظ في ابتداء أمره زجرا لهم عن عوائد الجاهلية ثم مال إلى التخفيف هكذا ذكره صاحب الحاصل واتبعه المصنف والحق خلافه فإن النبي صلى الله عليه وسلم يرأف بالناس ويأخذهم شيئا فشيئا ولا يبدر بالتغليظ وهذا دأب الشرع يلوح ثم يعرض ثم يصرح والقرآن أكثره هكذا وانظر إلى آيات تحريم الخمر وغيرها وقد صرح الآمدي بما ذكرناه وقال احتمال تأخر التشديد أظهر وتبعه ابن الحاجب والإمام ذكره على سبيل الاحتمال بعد أن ضعف الأول ونحن لا ريب عندنا فيه كيف وسيأتي إن شاء الله تعالى أن المحرم مرجح على المبيح
ورابعها: يرجح الخبر المروي مطلقا على الخبر المروي بتاريخ متقدم لأن المطلق أشبه بالمتأخر
وخامسها: يرجح الخبر المؤرخ بتاريخ مضيق أي من آخر عمره صلى الله عليه وسلم على المطلق لأنه أظهر تأخرا ومن أمثلته صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :"إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا1" ولكن الشافعي تعلق بجلوس النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته والمقتدون به قيام ورآه وهذا من أواخر أفعاله والحديث الذي رويناه مطلق يغلب على الظن أنه كان قاله في صحته قال إمام الحرمين ومن هذا القبيل أخبار الدباغ مع ما رواه عبد الله بن عكيم الجهني قال ورد علينا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بشهر :"أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" وأحاديث الدباغ كانت مطلقة غير مقيدة بتاريخ والغالب على الظن جريانها قبل هذا التاريخ ولكن الشافعي رد حديث
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(15/356)
1 رواه الخمسة إلا الترمذي قال الإمام مسلم : هو صحيح نيل الأوطار 2/236 ط بيروت(15/357)
ص -229-…عبد الله لأنه كان محالا على الكتاب وناقل الكتاب ليس بمذكور فالتحق الحديث بالمرسلات ومن وجوه العلل فيه أنه روي عن عبد الله بن عكيم من طريق أخرى قال حدثنا مشيخة لنا من جهينة أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليهم الحديث رواه البخاري في تاريخه وأبو حاتم في صحيحه
وسادسها: إذا حصل إسلام راويين معا كإسلام خالد وعمرو بن العاص رضي الله عنهما وعلم أن أحدهما تحمل الحديث بعد إسلامه فيرجح بخبره على الخبر الذي لا يعلم هل تحمله الآخر قبل الإسلام أو بعده لأنه أظهر تأخرا
قال الخامس باللفظ
فيرجع الفصيح لا الأفصح والخاص وغير المخصص والحقيقة
والأشبه بها والشرعية ثم العرفية والمستغني عن الإضمار والدال على المراد من وجهين بغير واسطة والموفي إلى علة الحكم والمذكور معه معارضة والمقرون بالتهديد
"ش" الترجيح بحسب اللفظ يقع بأمور الأول فصاحة أحد اللفظين مع ركاكة الآخر ومن الناس من لم يقبل الركيك والحق قبوله وحمله على أن الراوي رواه بلفظ نفسه فإنه لا يشترط على الراوي بالمعنى أن يأتي بالمساوئ في الفصاحة
الثاني قال قوم يرجح الأفصح على الفصيح لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أفصح العرب فلا ينطق بغير الأفصح والحق الذي جزم به في الكتاب أنه لا يرجح به لأن البليغ قد يتكلم بالأفصح وقد يتكلم بالفصيح لا سيما إذا كان مع ذوي لغة لا يعرفون سوى تلك اللفظة الفصيحة فإنه يقصد إفهامهم وقد روى عبد الرزاق عن عمر عن الزهري عن صفوان بن عبد الله بن صفوان عن أم الدرداء عن كعب بن عاصم الأشعري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :"ليس من أم بر أم صيام في أم سفر" واراد "ليس من البر الصيام في سفر1" فأتى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حديث مسلم صحيح أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وأحمد في مسنده عن جابر بن عبدالله كما أخرجه من حديث ابن عمر الجامع الصغير 2/137(15/358)
ص -230-…بهذه اللغة إذ خاطب بها أهلها وهي لغة الأشعريين يقبلون اللام ميما
الثالث: يرجح الخاص على العام لما تقدم في بابه ومن أمثلة الفصل رواية أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم رجلا الصلاة فقال :"كبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن" وقد احتج به الخصم على أن الفاتحة لا تتعين ولنا ما ثبت في الصحيحين قوله صلى الله عليه وسلم :"لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" ورواه الدارقطني ولفظه :"لا تجزى صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" وهو أظهر في الدلالة لأنه صريح في نفي الصحة
الرابع: يقدم العام الذي لم يخصص على العام الذي نص واستدل عليه الإمام بأن الذي دخله التخصيص قد أزيل عن تمام مسماه والحقيقة مقدمة على المجاز ولقائل أن يعقل إذا كان الغالب أن كل مخصص وأنه ما من عام إلا وقد خص فالعمل لمخصص أولى لأنه التحق بالغالب فاطمأنت إليه النفس ولم ينتظر بعده تطرق التخصيص إليه بخلاف الباقي على عمومه فإن النفس لا تستيقن ذلك واعترض الهندي أيضا بأن المخصوص راجع من حيث كونه خاصا بالنسبة إلى ذلك العام الذي لم يدخله التخصيص والخاص أولى من العام(15/359)
الخامس: تترجح الحقيقية على المجاز لتبادرها إلى الذهن فتكون أظهر دلالة من المجاز وهذا إذا لم يكن المجاز غالبا فإن غلب فقد سبق في موضعه فإن قلت المجاز المستعار أظهر دلالة من الحقيقة فإن قولك فلان بحر أقوى من قولك فلان سخي قلت ليس المعنى قولنا أظهر دلالة وأبلغ بل إن المتبادر فيها إلى الفهم أكثر كما عرفت ولا نسلم أن الاستعارة كذلك فضلا عن أن تكون أظهر ولك أن تقول إذا ذكر المجاز بدون قرينة معينة مقيدة بأن قيل ابتداء فلان بحر فهذا الجواب صحيح لأنه ليست دلالة هذا على الكرم أظهر من قولنا سخي أو كريم كما ذكرتم لأن سميته بالبحر متردد بين علمه الغزير وكرمه الكثير فلا يتعين الواحد منهما إلا بقرينة وأما إذا وجدت أمه قرينة مخصصة معينة لذلك المعنى المجازي فالاستعارة كذلك أظهر دلالة وذلك كقول(15/360)
ص -231-…القائل رأيت أسدا يرمي بالنشاب أو سهم يقوه بالخطاب فإن لهذا دلالة ظاهرة أظهر وأقوى من قولك رأيت شجاعا
السادس: إذا تعارض خبران أو لم يمكن العمل بأحدهما إلا بعد ارتكاب المجاز ومجاز أحدهما أشبه بالحقيقة من مجاز الآخر فيرجح على ما ليس كذلك وقد مر تمثيله في المجمل والمبين
السابع: برجح المشتمل على الحقيقة الشرعية على المشتمل على العرفية أو اللغوية ثم العرفية مقدمة على اللغوية كما عرفت في مكانه
الثامن: يرجح الخبر المستغني عن الإضمار في الدلالة على المفتقر إليه لكون الإضمار على خلاف الأصل
التاسع: يقدم الخبر الدال على المراد من وجهين على الدال عليه من وجه واحد لقوة الظن الحاصل من الأول بتعذر جهة الدلالة
العاشر: يرجح الخبر الدال على الحكم بغير وسط على ما يدل عليه بوسط لزيادة غلبة الظن بقلة الوسائط مثاله قوله صلى الله عليه وسلم :"أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل1" فإنه لا يدل على بطلان نكاحها إذا نكحت نفسها بإذن وليها إلا بواسطة الإجماع إذ يقال إذا بطل عدم الإذن بطل بالإذن لعدم القائم بالفصل وقوله صلى الله عليه وسلم :"الأيم أحق بنفسها من وليها2" يدل على صحة نكاحها إذا نكحت نفسها مطلقا من غير واسطة فالحديث الثاني أرجح من هذا الوجه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حديث صحيح أخرجه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود والترمذي وابن ماجة والحاكم من حديث عائشة رضي الله عنها – وتمام الحديث :"أيما إمراة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فإن كان دخل بها فلها صداقها بما استحل من فرجها فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له" الجامع الصغير 1/119
2 حدجيث صحيح أخرجه الإمام مالك وأحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما الجامع الصغير 1/124(15/361)
ص -232-…الحادي عشر الخبر المذكور مع لفظ موم إلى علته يرجح على ما ليس كذلك لأن الانقياد إليه أكثر من الانقياد إلى المذكور بغير علة مثاله تقديم قوله صلى الله عليه وسلم : "من بدل دينه فاقتلوه1" على ما روى نهيه صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان من جهة أن قوله من بدل إيماء إلى أن العلة التبديل
الثاني عشر: المذكور مع معارضة أولى مما ليس كذلك مثاله قوله عليه السلام : "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها2" فيرجح عليه الخبر الدال على تحريم زيارة القبور أو على كراهيتها من غير ذكر معارض معه مثل : "لعن الله زوارات القبور3" وذلك لأن الترجيح الأول يقتضي النسخ مرة واحدة وترجيح الثاني يقتضي النسخ الثاني حينئذ الأمر المذكور في الأول ونسخ الأمر المذكور فيه النهي المخبر عنه فيكون مرجوحا ومن أمثلته أيضا رواية جميلة بنت محيم قالت كان ابن الزبير يرزقنا الثمر في الجهد فيمر علينا ابن عمر فيقول لا تقاربوا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الأقران مع رواية عطاء الخراساني عن ابن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم : "كنت نهيتكم عن الإقران وإن الله قد أوسع عليكم الخير فاقرنوا" فهذا يدل على جواز إقران التمرتين فما فوقهما وهو صريح في نسخ النهي عنه ولكن الشافعي رضي الله عنه نص على تحريم الإقران بين التمرتين في غير موضع وكأنه لم ير صحة هذا الإسناد
الثالث عشر :المعروف بنوع من التهديد يرجح لأن اقترانه به يدل على تأكد الحكم الذي تضمنه كقوله صلى الله عليه وسلم : "من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم4" وكذلك لو كان أحدهما زيادة تمهيد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وأحمد في مسنده من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما الجامع الصغير 3/168(15/362)
2 أخرجه الحاكم من حديث أنس – رضي الله عنه بلفظ "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها ترق القلب وتدمع العين وتذكرة الآخرة ولا تقولوا هجرا" الجامع الصغير 2/97
3 حديث صحيح أخرجه الإمام أحمد في مسنده وابن ماجة والحاكم من حديث حسان بن ثابت كما رواه أحمد والترمذي وابن ماجة من حديث أبي هريرة الجامع الصغير 2/124
4 رواه الترمذي من حديث عمار بن ياسر وأخرجه البزار عن أبي هريرة بلفظ "نهي رسول الله صلي الله عليه وسلم – عن صيام ستة أيام : أحده اليوم الذي يشك فيه" تحفة الأحوذي 3/365-366(15/363)
ص -233-…قال السادس بالحكم
فيرجح المبقى لحكم الأصل لأنه لو لم يتأخر عن الناقل لم يفدو المحرم عن المبيح لقوله صلى الله عليه وسلم :"ما اجتمع الحلال والحرام إلا وغلب الحرام الحلال" والاحتياط ويعادل الموجب ومثبت الطلاق والعتاق لأن الأصل عدم القيد ونافي الحد لأنه ضرر لقوله صلى الله عليه وسلم :"أدرؤا الحدود بالشبهات"
"ش" الترجيح بحسب الحكم على وجوه الأول إذا كان أحد الخبرين مقرر الحكم الأصل والثاني ناقل فالجمهور على أنه يجب ترجيح الناقل وذهب بعضهم واختاره الإمام وبه جزم المصنف أنه يجب ترجيح المقرر مثاله خبر من روي عنه صلى الله عليه وسلم :"إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ1" وخبر من روى قوله صلى الله عليه وسلم :"هل هو إلا بضعة منك2" فإن الأول ناقل عن حكم الأصل والثاني مقرر وكذلك خبر من روى أفطر الحاجم والمحجوم مع من روى أنه صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم
واحتج المصنف على ما ذهب إليه بأنه حمل الحديث على ما لا يستفاد إلا من الشرع أولى من حمله على ما يستفاد بمعرفته فلو جعلنا المبقى مقدما على الناقل لكان واردا حيث لا يحتاج إليه لأنا في ذلك الوقت نعرف ذلك بالعقل ولو قلنا أن المبقى ورد بعد الناقل لكان واردا حيث يحتاج إليه فكان الحكم بتأخره أولى من الحكم بتقدمه عليه هذا تقريره وحاصله أنه يختار تقدم الناقل وتأخر المقرر لكونه متضمنا للعمل بالخبرين بالناقل في زمان وبالمقرر بعد ذلك فإن كانت الصورة هكذا وهي أنه يقرر حكم الناقل مدة في الشرع عند المجتهد وعمل بموجبه ثم نقل له المقرر في الشرع ولم يعلم التاريخ فيما ذكره من الاحتجاج والترجيح ظاهر
قال النقشواني لكن ليست هذه الصورة بالتي فرض الخلاف وفيها لا يظن بهم المخالفة في ذلك وأما إن كانت الصورة على خلاف ذلك وهو أن الثابت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مالك في الموطأ وصححه يحي بن معين وأحمد بن حنبل(15/364)
2 أخرجه أبو داود والترمذي وصححه كثير من أهل العلم(15/365)
ص -234-…عند الجمهور مقتضى البراءة الأصلية ونقل الخبران المقرر والناقل فلا يتأتى هذا الاحتجاج إذ يلزم تعطيل الناقل بالكلية لعدم وقوع العمل به في شيء من المدة بخلاف المقرر فإن الحكم العقلي يصير مستندا إليه ويصير شرعيا كذا ذكره النقشواني ولقائل أن يقول يتساقط الخبران بالتعارض ونرجح بالبراءة الأصلية ولا نقول إن الحكم العقلي صار شرعيا ولا نرجح أحد الخبرين لموافقته الأصل كما هو قضية تقرير الإمام والمصنف ونحمل قولهم أن المقرر راجح على أن العمل بمضمونه ثابت بالدليل العقلي الثاني ذهب الأكثرون وبه جزم المصنف إلى ترجيح المقتضى للتحريم وقال آخرون بترجيح المقتضى الإباحة لأن الإباحة تستلزم نفي الحرج الذي هو الأصل وحكاهم الشيخ أبو إسحاق وجهين وذهب الغزالي إلى أنهما يستويان لأنهما حكمان شرعيان صدق الراوي فيهما على وتيرة واحدة واحتج الأولون بوجهين ذكرهما في الكتاب أحدهما ما روي من قوله صلى الله عليه وسلم :"ما اجتمع الحلال والحرام إلا وغلب الحرام الحلال1" وهو حديث رواه لا أعرفه والثاني أن الأخذ بالتحريم احتاط لأن الفعل إن كان حراما ففي ارتكابه ضرر وإن كان مباحا فلا ضرر في تركه وهذا ما اعتمد عليه الشيخ أبو إسحاق ولهذا إذا طلق إحدى زوجتيه حرمتا إلى البيان ومن أمثلة الفصل روى أحمد بن حنبل بطريقين متصلين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"ما أسكر كثيره فقليله حرام" وروي الدارقطني بسنده سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن النبيذ حلال وحرام قال :"حلال" فيرجح الأول الثالث إذا ورد خبران مقتضى أحدهما التحريم والآخر الإيجاب فذهب المصنف إلى التسوية بينهما وإليه أشار بقوله ويعادل الموجب أي يعادل الخبر المحرم يقتضي استحقاق العقاب على الفعل كتضمن الموجب العقاب على الترك ورجح آخرون المقتضى للتحريم لأن المحرم يستدعي دفع المفسدة وهي أهم من جلب المصلحة وبه جزم الآمدي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(15/366)
1 حديث صحيح رواه البخاري : كتاب البيوع باب الحلال بين والحرام بين ومسلم : كتاب المساقاة والمزارعة باب أخذ الحلال وترك الشبهات 4/110بشرح النووي كما رواه أبو داود كتاب البيوع باب :احتناب الشبهات 2/228(15/367)
ص -235-…ومن أمثلة الفصل ما روى نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"إنما الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له1" قال نافع فكان عبد الله إذا مضى من شعبان تسع وعشرون يبعث من ينظر فإن رأى فذاك وإن لم يروا لم يحل دون منظره سحاب ولا اقتران صبح مفطرا وإن حال دون منظره سحاب أو اقتران صبح صائما
وهذا يستدل به من يقول بوجوب صوم يوم الشك ويعارضه خصمه بما روي عن عمار بن ياسر :"من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم" قال الترمذي حديث صحيح ومنها ما روي من قوله صلى الله عليه وسلم :"في مالي اليتيم زكاة2" إذا يدل على أنه يجب على الوالي إخراجهما مع قوله صلى الله عليه وسلم :"رفع القلم عن ثلاث3" إذا يدل على عدم الوجوب وإذا لم تجب حرم على الولي إخراجهما لأنه لا يتصرف إلا بالمصلحة والغبطة وذكر للقاضي أبو بكر في مختصر التقريب باختصار إمام الحرمين في تعارض العلة المقتضية للإيجاب مع العلة المقتضية للندب أن بعضهم قدم الإيجاب قال وفي هذا نظر فإن الوجوب فيه قدر زائد على الندب والأصل عدمه
الرابع :إذا كان أحد الخبرين مثبتا للطلاق أو العتاق وإلا حزنا فيا له فمنهم من قدم المثبت على النافي لأن الأصل عدم القيد أي قيد النكاح وقيد الرقبة فما دل على ثبوت الطلاق أو العتاق فقد دل على زوال قيد النكاح أو ملك اليمين فكان موافقا للأصل فليرجح وهذا ما جزم به المصنف ومنهم من قدم النافي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الترمذي من حديث عمر وأبي هريرة وعائشة وسعد بن أبي وقاص وأنس وجابر وأم سلمة كما أخرجه الشيخان من حديث عمر وأبي هريرة وأحمد من حديث عاشة ومسلم من حديث سعد تحفة الأحوذي 3/371
2 رواه الشافعي بلفظ :"ابتغوا في مال اليتيم لا تأكله الزكاة" والحديث ضعيف لكن عمل الصحابة عليه كما قال بن حزم أنظر المحلي 5/307 ط مصر(15/368)
3 رواه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود والحاكم من حديث علي وعمر – رضي اللهما لجامع الصغير 1/24(15/369)
ص -236-…لكونه على وفق الدليل المقتضى لصحة النكاح وإثبات ملك اليمين وهذا هو الصحيح عندي وقولهم الأصل عدم القيد لا يصح مع ثبوت وجوده فإن الأصل بعد ثبوت وجوده إنما هو بقاؤه ومنهم من سوى بينهما وتجري هذه الأقوال في تعارض الخبر المثبت والنافي في خبر الطلاق والعتاق أيضا كخبر بلال دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت وصلى فيه وخبر أسامة لم يصل فيه
ونقل إمام الحرمين هنا عن جمهور الفقهاء ترجيح الإثبات ثم قال وهو يحتاج إلى من يدل تفصيل عندنا فإن كان الذي ينقله الناقل إثبات لفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مقتضاه النفي فلا يرجح عن ذلك اللفظ المتضمن للإثبات لأن كل واحد من الراويين مثبت فيما ينقله ومثاله أن ينقل أحد الراويين أنه أباح شيئا وينقل الآخر أنه قال لا يحل وأما إذا نقل أحدهما قولا أو فعلا ونقل الآخر أنه لم يقله ولم يفعله فلإثبات مقدم لأن الغفلة تتطرق إلى المصغي المستمع وإن كان محدثا والذهول عن بعض ما يجري أقرب من تخيل شيء لم يجر له ذكر وهذا التفصيل حق ولا يتجه معه خلاف في الحالتين بل ينبغي حمل كلام القائل بالاستواء على الحالة الأولى
والقائل بتقديم الإثبات على الثانية ولا يجعل في المسألة خلاف نعم قد يقال في الحالة الثانية بعدم ترجيح الإثبات إذا كان النفي محصورا كخبر أسامة فإن قوله لم يصل نفي محصور في وقت يمكن نفي الفعل فيه فهذا له احتمال الخامس ترجيح الخبر النافي للحد على الموجب له خلافا لقوم واستدل عليه المصنف بأن الحد مدرء بقوله صلى الله عليه وسلم :"ادرؤا الحدود بالشبهات" وهذا الحديث لا يعرف بهذا اللفظ إلا في مسند أبي حنيفة لأبي محمد البخاري وروى الترمذي :"ادرؤا الحدود عن المسلمين ما استطعتم1" ثم صحح أنه موقوف ووجه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(15/370)
1 روي هذا الحديث من عدة طرق باللفظ الأول ابن عدي من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما كما رواه الترمذي والحاكم من حديث عائشة رضي الله عنها – دون قوله "الشبهات" ولفظه كما في جامع الترمذي 4/33 :"أدرؤا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له فخرج فخلوا سبيله فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة" ورواية السيوطي في الجامع الصغي 1/14 "ادرؤا الحدود بالشبهات وأقيلو الكرام عثراتهم إلا في حد من حدود الله تعالي" رواه ابن عدي في جزء له من حديث ابن عباس وروي صدره أبو مسلم الكجي وابن السمعان في الذيل عن عمر بن عبدالعزيز مرسلا ومسدد في سنده عن ابن مسعود موقوفا
قال رحمه الله الكتاب السابع في الاجتهاد والإفتاء
وفيه بابان الأول في الاجتهاد وهو استفراغ الوسع في درك الأحكام الشرعية ش الاجتهاد لغة هو استفراغ الوسع في تحصيل الشيء وقد علمت من ضرورة كونه استفراغ الوسع أنه لا يكون إلا فيما فيه مشقة وكلفة وفي الاصطلاح ما ذكره في الكتاب بقوله استفراغ الوسع جنس وقوله في درك الأحكام فصل خرج به استفراغ الوسع أنه لا يكون إلا فيما فيه مشقة وكلفة وفي الاصطلاح ما ذكره في الكتاب بقوله استفراغ الوسع جنس وقوله في درك الأحكام فصل خرج به استفراغ الوسع في فعل من الأفعال العلاجية مثلا وقوله الشرعية فصل ثان تخرج اللغوية والعقلية والحسية والأحكام الشرعية تتناول الأصول والفروع ودركها أعم من كونه على سبيل القطع أو الظن هذا مدلول لفظه ويجوز أن يريد بالأحكام الشرعية خطاب الله تعالى المتعلق فيخرج الاجتهاد في الأصولية وهذا التعريف الذي ذكره المصنف سبقه إليه صاحب الحاصل وهو من أجود التعاريف فلا نطول بذكر غيره إذ ليس في تعداد التعاريف كبير فائدة(15/371)
ص -237-…الحجة أن الخبر المعارض لوجوب الحد أقل درجاته أنه يكون شبهة والشبهة تدرأ الحد للحديث "فائدة" الخلاف في أنه هل يرجح النافي للحد جر في أنه هل يرجح النافي للحد جر في أنه هل يرجح العلة المثبتة للعتق على النافية له لتشوق الشارع إلى العتق ذكره ابن السمعاني
قال "السابع بعمل أكثر السلف"
"ش" الترجيح بالأمر الخارجي على وجوه اقتصر منها في الكتاب على عمل أكثر السلف فالمختار ترجيح أحد الخبرين بعمل أكثر السلف به لأن الأكثر يوفق له الأقل وهذا ما جزم به المصنف ومنع قوم من حصول للترجيح به لأنه لا حجة في قول الأكثر ومن فروع المسألة التقديم بعمل الشيخين ولذلك قدمنا رواية من روى في تكبيرات العيدين سبعا وخمسا على رواية من روى أربعا كأربع الجنائز لأن الأول قد عمل به أبو بكر وعمر وقد بقيت مرجحات أخر في كل قسم من الأقسام السبعة أهملهما المصنف فتابعناه في ذلك لأن الخطب فيها يسير وهل المدار إلا على زيادة ظن بطريق من الطرق وقد انتحت أبوابها بما ذكرناه فلا يحتاج الفطن من بعده إلى مزيد تطويل ففيما ذكرناه إرشاد عظيم لما نذكره
قال "الباب الرابع في تراجيح الأقيسة
وهي بوجوه الأول بحسب العلة
فترجح المظنة ثم الحكمة ثم الوصف الإضافي ثم العدمي ثم الحكم الشرعي والبسيط والوجودي للوجودي والعدمي للعدمي"
"ش" قال إمام الحرمين رحمه الله هذا الباب هو الغرض الأعظم من الكتاب وفيه تنافس القياسيين وفيه اتساع الاجتهاد واعلم أن ترجيح الأقيسة بوجوه
الأول :بحسب العلة وهو مفرع على جواز التعليل بكل واحد من الأوصاف التي نذكرها وذلك خمسة أمور أولها يرجح القياس المعلل بالوصف(15/372)
ص -238-…الحقيقي الذي هو مظنة الحكمة على القياس المعلل بنفس الحكمة للإجماع بين القياسين على صحة التعليل بالمظنة ومن أمثلته ترجيح التعليل بالسفر الذي هو مظنة المشقة على التعليل بنفس المشقة
وثانيها: يرجح التعليل بالحكمة على التعليل بالوصف العدمي لأن العدم لا يكون علة إلا إذا علم اشتماله على الحكمة فإذا كانت العلة الحكمة لا ذلك العدم كان التعليل بها أولى فإن قلت قضية هذا أن يرجح التعليل بالحكمة على التعليل بالوصف الحقيقي قلت نعم ولكن التعليل الحقيقي راجح من جهة كونه منضبطا ولذلك الاتفاق عليه قوله ثم الوصف الإضافي اعلم أن هذا ساقط في بعض النسخ ولإسقاطه وجه وجيه لدخوله تحت العدمي إذ الإضافات من الأمور العدمية وقد قررنا أن التعليل بها مرجوح ولإثباته وجه من جهة أنه مختلف في كونه وجوديا ومثال تعارض التعليل بالحكمة والوصف الإضافي أن يقول القائل في النكاح بلا ولي ناقضة بالأنوثة فلا ينفذ منها عقد النكاح كالصغيرة فيكون أولى منه أن يقول قلة العقل والدين مع فرط الشهوة حكمة تقتضي أن تسلب الولاية فإن هذا التعليل بالحكمة وذاك بالنقصان وهو أمر إضافي
وثالثها: وإن شئت قلت رابعها على صحة إحدى النسختين يرجع القياس المعلل حكما بالوصف العدمي على المعلل حكمه بالحكم الشرعي لأن التعليل بالعدمي يستدعي كونه مناسبا للحكم والحكم الشرعي لا يكون علة إلا بمعنى الأمارة والتعليل بالمناسب أولى من التعليل بالأمارة وهذا ما اختاره المصنف وصاحب التحصيل وصفي الدين الهندي والإمام ذكر في المسألة احتمالين ولم يرجح شيئا أحدهما هذا والثاني عكسه قال لأن الحكم الشرعي أشبه بالموجود فإن قلت لا نسلم ذلك وهذا لأن الأحكام الشرعية أمور اعتبارية بدليل أنه يجوز لها ولغيرها بحسب الأشخاص والأزمان والأمان والأمور الاعتبارية أمور عدمية قلت لما كان الحكم هو الخطاب المتعلق ولا شك أن الكلام أمر وجودي سقط هذا(15/373)
ورابعها: يرجح المعلل بالحكم الشرعي على المعلل حكمه بغيره ما عدا(15/374)
ص -239-…الأقسام المذكورة كالوصف التقديري مثلا لكون التقديري على خلاف الأصل
وخامسها: المعلل بالبسيطة مرجح على المعلل بالمركبة وهذا هو الذي جزم به المصنف وهو رأي المتأخرين وعليه الجدليون وعلل بأمر أحدهما أن البسيطة تكثر فروعها فوائدها والآخر أن الاجتهاد يقل فيها وإذا قل الاجتهاد قل الحظر له وقال بعضهم بترجيح المركبة وقيل هما سواء قال القاضي في التلخيص لإمام الحرمين ولعله الصحيح وقد اعترض إمام الحرمين على ما اعتل به الأولون بأنه لا ترجيح بكثرة الفروع ثم إنه رب علة ذات وصف لا يلزم فروعها وربما كانت قاصرة وأما ترجيح البسيطة بقلة الاجتهاد فقول ركيك إذ النظر في الأدلة وترجيح بعضها على بعض لا يتلقى من جهة الحظر قال والذي يحقق هذا أن صاحب العلة ذات الوصف الواحد إذا لم يناظر في ذات الوصفين فاجتهاده قاصر وهو على رتبة المقلدين أو المقتصرين على طرف من الاجتهاد وإن نظر في ذات الوصفين ولم ير التعلق بهما فقد كثر اجتهاده وتعرض للغرور ولكن أدى اجتهاده إلى النفي وإن رأى ذات الوصف صحيحة فذات الوصفين عنده عديمة التأثير في أحد وصفيها وكل ذلك بعد نهاية الاجتهاد فسقط الركون إلى قلة الاجتهاد وتبين أن اقتحام النظر حتم على من يجتهد ومن أمن أمثلة الفصل قول الشافعي في الجديد العلة الطعم في الأشياء الأربعة مع ضمه في القديم التقدير إلى الطعم(15/375)
وسادسها: يرجح القياس الذي يكون فيه الوصف وجوديا والحكم وجوديا على ما إذا كان أحدهما عديما أو كانا عدميين ويرجح تعليل العدمي بالعدمي على ما إذا كان أحدهما وجوديا هذا حاصل ما في الكتاب فقوله والوجودي للوجودي أي ويرجح الوصف الوجودي لتعليل الحكم الوجودي على الأقسام الثلاثة وقوله ثم العدمي للعدمي أي يرجح على القسمين الباقيين ومما ينبه عليه المعتني بلفظ الكتاب أن المصنف إنما أتى بالواو في قوله والبسيط لكونه شروعا في ترجيح الأقيسة باعتبار آخر ونختم الفصل بقوله ما اقتضاه كلام المصنف من ترجيح التعليل بالعدمي للعدمي على التعليل بالوجودي للعدمي وعكسه هو ما صرح به الإمام معتلا بالمشابهة بين التعليل بالعدمي للعدمي(15/376)
ص -240-…وعندنا في هذه وقفة فإن مخالفة الأصل فيه أكثر من القسمين الباقيين فكان يجب أن يقضي عليه بالمرجوحية بالنسبة إليهما وإنما قلنا إن مخالفة الأصل فيه أكثر لأن العلية والمعلولية وصفان وجوديان ولا يمكن حملهما على المعدوم إلا إذا قدر موجودا وهو خلاف الأصل وزيادة المناسبة والمشابهة لا تصلح مقاومة لمخالفة الأصل بل لقائل أن يقول إذا كانت العلية والمعلولية صفتين وجوديتين كما صرح به الإمام هنا فيستحيل قيامهما بالمعدومين فإن لم يقتض ذلك منع هذا القسم فلا أقل من اقتضائه المرجوحية
ومما يلتحق بأذيال ما قررناه الترجيح بين العدمي بالوجودي وعكسه وقد سكت عنه المصنف لتوقف الإمام فيه ونحن نقول هو أولى من عكسه لأن المحذور في عكسه أشد لحصوله في أشرف الجهتين وهو العلية
مثال الوجوديين مع العدميين قولنا الخلع طلاق لأنه فرقة ينحصر ملكها في الزوج فيكون طلاقا كما لو قال أنت طالق على ألف مع قول القديم هو فسخ لأنه لا رجعة فيه فلا يكون طلاقا كالرضاع ومثال العدميين مع الوصف في العدمي والحكم الوجودي قولنا المرأة لا تلي القضاء فلا تلي النكاح قياسا على المجنون مع قولهم لا تمنع من التصرف في المال فتتصرف في النكاح قياسا على العاقل ومثال العدميين مع الوصف الوجودي والحكم العدمي أن يقال في عتق الراهن تصرف صادف الملك فلا يلغى كما لو كان غير راهن فيقال لم يتصرف فيه وهو مطلق التصرف فيه فلا يعتبر كما لو أعتقه غير المالك ومثال الوصف العدمي والحكم الوجودي مع عكسه أن يقال في عتق الراهن ليس تصرفا من غير مالك فيكون معتبرا فيقال تصرف يبطل حق الغير وهو المرتهن فلا يعتبر
قال "الثاني بحسب دليل العلية
فيرجح الثابت بالنص القاطع ثم الظاهر اللام ثم إن والباء ثم بالمناسبة الضرورية الدينية ثم الدنيوية ثم التي في حيز الحاجة الأقرب اعتبارا فالأقرب ثم الدوران في محل ثم في محلين ثم السير ثم الشبه ثم الإيماء ثم الطرد"(15/377)
"ش" الترجيح بحسب الدليل الدال على علية الوصف للحكم على أقسام(15/378)
ص -241-…الأول: يرجح القياس الذي يثبت عليه الوصف لحكم أصله بالنص القاطع على ما لم يثبت بالقاطع لأنه لا يحتمل فيه عدم العلية بخلاف ما ليس بقاطع
الثاني: يرجح ما ثبتت علية الوصف فيه بالظاهر على ما لم يثبت بالظاهر من سائر الأدلة سوى النص القاطع والألفاظ الظاهرة في إفادة العلية ثلاثة اللام وإن والباء وأقواها اللام لأنها أظهر في العلية من أن والباء وقد اقتضت عبارة الكتاب مساواة أن للباء والإمام تردد في أيهما يقدم واختار صفي الدين الهندي تقديم الباء لكونها أظهر في التعليل بالاستقراء
الثالث: يرجح ما ثبت علية الوصف فيه بالمناسبة على ما عداها من الدوران وأشباهه لقوة دلالة المناسبة واستقلالها في إفادة العلية ويرجح من المناسبة من هو واقع في محل الضرورة على ما وقع في محل الحاجة وهو المصلحي أو التتمة وهو التحسيني كما تقدم شرح ذلك في كتاب القياس وترجح الضرورية الدينية على الضرورة الدنيوية لأن ثمرتها السعادة الأخروية التي هي انجح المطالب وأروح المكاسب فإن قلت بل ينبغي العكس لأن حق الآدمي مبنى على الشح والمضايقة وحق الله تعالى مبنى على المسامحة والمساهلة
ولهذا كان حق الآدمي مقدما على حق الله تعالى لما ازدحم الحقان في محل واحد وتعذر استيفاؤهما منه كما يقدم القصاص على القتل في الردة والقطع في السرقة كذا الدين على زكاتي المال والفطر في أحد الأقوال قلت الذي نختاره تقديم حق الله تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الخثعمية :"فدين الله أحق بالقضاء1" وفي المسائل التي ازدحم فيها الحقان كثرة والرأي الأصح تقديم الحج والعمرة والزكاة فسقط السؤال بالنسبة إلى الصور الثلاث وأما القتل والقطع فإن المقصود من الشرع إزالة مفسدة الردة ولا غرض له في القتل بل لما كان وسيلة إلى إزالة تلك المفسدة شرع فلما اجتمع مع حقي الآدمي ولم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه البخاري أنظر سبل السلام 2/182(15/379)
ص -242-…يتعارض القصدان إذ ليس غرض الآمدي سوى التشفي بالاقتصاص سلمناه إلى ولي الدم ليستوفي منه فيحصل القصدان في ضمن ذلك فلم يتقدم حق الآدمي وكذلك القول في القطع فتأمل هذا
ومن المسائل اجتماع الكفارات مع حق الآدمي وقد أجرى الأصحاب فيها أقوال الزكاة والأصح تقديم حق الله تعالى قوله الأقرب اعتبارا فالأقرب أي يرجح من ذلك ما هو أقرب اعتبارا في الشرع من صاحبه فيرجح ما ثبت اعتبار نوع وصفه في نوع الحكم على المعتبر نوع وصفه في جنس الحكم أو المعتبر جنس وصفه في نوع الحكم وهما مرجحان على المعتبر جنس وصفه في جنس الحكم وما المرجح منهما قال الإمام هما كالمتعارضين وقال صفي الدين الهندي الأظهر تقديم المعتبر نوع وصفه في جنس الحكم على عكسه وهو كما ذكر لحصول الخصوصية وقلة الإيهام في أشرف الجهتين وهي العلية(15/380)
الرابع: يرجح القياس الذي تثبت علية وصفه بالدوران على الثابت بالسير وما بعده لاجتماع الإطراد والانعكاس في العلية المستفادة من الدوران دون غيره بل قد قدمه بعضهم على المناسبة محتجا بأن المطردة المنعكسة أشبه بالعلل العقلية وهذا ضعيف فإن سبيل العلل الشرعية سبيل الإمارات والعقلية عند القائل بها موجبة فلا يمكن اعتبار تلك بهذه قال القاضي أبو بكر في التلخيص وباختصار إمام الحرمين في الكلام على البسيطة والمركبة مضاهاة العلل العقلية لا أصل له فإن السمعية لا تضاهي العقلية أبدا فتدبر ذلك ثم القياس الثابت عليته بالدوران الحاصل في محل واحد مرجح على الثابت عليته بالدوران الحاصل في محلين لقلة احتمال الخطأ في الأول لأنه يفيد القطع بعدم علية ما عدا الدوران بخلاف الدوران في محلين فإنه لا يفيد ذلك فإنا لما رأينا أن العصير لما لم يكن مسكرا لم يكن محرما ثم صار محرما بالإسكار وانعدم بعدمه حصلنا على قطع بأن ما عدا المسكرية من الصفات الثابتة في الأحوال الثلاثة ليس بعلة للحرمة وإلا لزم وجود العلة بدون الحكم أما الدوران في محلين فليس كذلك ألا ترى أن الحنفي إذا قال في مسألة الحلى كونه ذهبا موجب للزكاة لأن التبر لما كان ذهبا وجب فيه الزكاة(15/381)
ص -243-…وثياب البذلة لما لم يكن ذهبا لم يجب فيها الزكاة لم يكن القطع بأن ما عدا كونه ذهبا ليس علة لوجوب الزكاة لاحتمال أن يكون المجموع المركب من كونه ذهبا وكونه غير معد للاستعمال هو العلة هكذا قرروه ولك أن تقول لا نسلم أن الدوران الحاصل في محل واحد يقبل القطع بعدم علية ما عد الدوران كما تقرر في موضعه وإنما قصراه على الرأي المختار إفادة الظن نعم الظن الحاصل فيه أقوى من الحاصل في محلين وقوة الظن كافية في الترجيح
الخامس: يرجح القياس الذي يثبت علية وصفه بالسير على الثابت بالشبه وما بعده واستدلوا عليه بأنه أقوى في إفادة الظن ومنهم من قدمه على المناسبة لإعادة ظن العلية ونفي المعارض بخلاف المناسبة فإنها لا تدل على نفي المعارض واختاره الامدي وابن الحاجب ويلزم منه تقديمه على الدوران أيضا عند من يقدم الدوران على المناسبة ثم محل الخلاف في غير المقطوع به متعين وليس من قبيل الترجيح لما علم أن تقديم المقطوع على المظنون ليس من الترجيح في شيء وإنما النزاع في السير المظنون في كل مقدماته
وأما ما اشتملت مقدماته على القطعي والظني فذلك مختلف باختلاف القطع والظن فإن كان الظن الحاصل من السير الذي بعض مقدماته قطعي أكثر من الظن الحاصل بالمناسبة فهو أولى وإلا فهما متساويان والمناسبة أولى ومن أمثلة السبر مع الشبه قول الحنفي في الدليل على أنه إذا أفلس المحال عليه فللمحتال الرجوع على المحيل عجز عن الرجوع مع بقاء عينه فليرجع لمشابهة البائع من المفلس فنقول الحوالة وصف فإما أن لا تقتضي شيئا أو تقتضي شيئا وبطلان الأول ظاهر فيثبت الثاني وحينئذ فذلك الشيء إما أن يكون هو تحول الحق عن المحيل أولا والثاني باطل وإلا لزم أن يدوم له المطالبة كما في الضمان فثبت الأول ووجب أن تبرأ ذمته ولا يعود إليه كما لو أبرأه(15/382)
السادس: يرجح القياس الثابت علية وصفه بالإيماء والطرد كذا ذكره المصنف فإما تقديمه على الطرد فظاهر أن لا يمتري الطاردون في ضعف الظن الحاصل منه وأما على الثابت بالإيماء فهو بحث ذكره الإمام بعد أن حكى اتفاق الجمهور على أن ما ظهرت عليته بالإيماء راجع على ما ظهرت عليته(15/383)
ص -244-…بالوجوه العقلية من المناسبة والدوران والسبر ووجهه بأن الإيماء لما لم يوجد فيه لفظ يدل على العقلية فلا بد وأن يكون الدال على عليته أمر آخر سوى اللفظ ولما بحثنا لم نجد شيئا يدل على عليته إلا أحد أمور ثلاثة المناسبة والدوران والسبر على ما تقدم في الإيماء وإذا ثبت أن الإيماءات لا تدل إلا بواسطة أحد هذه الطرق كانت هي الأصل والأصل أقوى من الفرع فكان كل واحد من هذه الثلاثة أقوى من الإيماءات
وهذه لا يقتضي ترجيح دلالة الشبه على الإيماء إلا إذا ساوى الشبه الأمور الثلاثة أو كان أقوى منها وهو خلاف ما رتبه في الكتاب ثم أنه مدخول من وجهين أحدهما أن ما ذكره هو من الدليل وهو استقباح أكرم الجاهل وأهن العالم على أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية دليل غير هذه الثلاثة فلم يلزم افتقار دلالة الإيماء إلى أحد الطرق الثلاثة فلا يلزم كون الطرق العقلية أصلا لها فلا يلزم رجحان الطرق العقلية عليها وثانيهما أنه اختار عدم اشتراط المناسبة في الوصف المومى إليه ولم يشترط فيه الدوران والسير وفاقا فجاز وجدان عليته بدون هذه الأمور الثلاثة ومما نذنبه على هذا الموضع أن القاضي أبا بكر مع قوله ببطلان قياس الأشباه قال هنا الأظهر أنه يجوز الترجيح به وإن لم يجز التمسك به ابتداء وقد حكينا هذا في الكلام على قياس الشبه(15/384)
السابع: يرجح القياس الثابت علية وصفه بالإيماء على الثابت بالطرد لأن الطرد لا يناسب الحكم أصلا والإيماء قد يناسب ولقصور الطرد عند الطاردين عن مراتب إخوانه من الأدلة وأما نحن فلا نقيم للطرد وزنا هذا شرح ما في الكتاب وقد يؤخذ منه أن تنقيح المناط متأخر الرتبة عن الطرد لأنه رتب الأدلة ترتيبا ختم به الطرد ومقتضاه تقديم الطرد على ما لم يذكره وهذا لا ينقسم بل الصواب تقديم تنقيح المناط ولا احتفال بما اقتضاه سياق الكتاب فإنه على هذا الترتيب يقتضي أيضا تأخر رتبة ما ثبت عليته بالإجماع حيث لم يذكره ولأمريه في أنه ليس كذلك
قال "الثالث بحسب دليل الحكم
فيرجح النص ثم الإجماع لأنه فرعه" ش يرجح من القياسيين المتعارضين ما يكون دليل حكم أصله أقوى من دليل(15/385)
ص -245-…حكم أصل الآخر ومن فروع المسألة أنه يرجح القياس الثابت حكم أصله بالنص سواء كان كتابا أم سنة على القياس الثابت حكم أصله بالإجماع وذلك لأن الإجماع على النص لتوقف ثبوته على الأدلة اللفظية والأصل يقدم على الفرع وهذا الذي ذكره اختاره صاحب الحاصل فتبعه فيه والإمام إنما ذكره بحثا بعد أن نقل أنهم قالوا بتقديم الإجماع معتلين بأن الذي ثبت الحكم في أصله بالدلائل اللفظية يقبل التخصيص والتأويل والإجماع لا يقبلهما وهذا هو المختار وما ذكره الإمام مدخول وقوله الأصل يقدم على الفرع قلنا على فرعه أما على فرع آخر فلم لا يقدم وكيف لا يقدم الإجماع مع أنه إن كان صادرا عن نص فالمتعارض إذ ذاك ليس الإنصاف يرجح جانب أحدهما بالإجماع وإن كان عن قياس فدليلان عارضهما دليل واحد وأيضا فالإجماع متفق عليه والنص والحالة هذه غير متفق عليه والمجمع عليه مقدم على المختلف فيه وإن فرضت أن النص غير مختلف فيه فذلك حينئذ إجماع عن نص عارض مثله وليس صورة المسألة
قال "الرابع بحسب كيفية الحكم
وقد سبق لأن الترجيح بحسب كيفية الحكم قد ذكرنا فيه قولا بليغا في باب ترجيح الأخبار فاعتبر مثله هنا
قال الخامس موافقة الأصول في العلة أو الحكم والاطراد في الفروع"
"ش" هذا الوجه في الترجيح بحسب الأمور الخارجية وهو على ثلاثة أضرب
أولها: أن يكون أحد القياسين موافقا للأصول في العلة بأن يكون علة أصله على وفق الأصول الممهدة في الشريعة دون الآخر فيرجح الأول لشهادة كل واحد من تلك الأصول لاعتبار تلك العلة وكلما كان العدول عن القياس فيه أكثر كان أضعف
وثانيها: ترجح الموفق للأصول في الحكم بأن يكون حكم أصله على وفق الأصول المقررة على ما ليس كذلك للاتفاق على الأول(15/386)
الثالث: يرجح الذي يكون مطرد الفروع بأن يلزم الحكم عليته في جميع الصور على ما لا يكون كذلك وبنجاز هذا تم كتاب التعادل والترجيح واعلم أن طرق الترجيح لا تنحصر فإنها تلويحات تجول فيها الاجتهادات ويتوسع فيها(15/387)
ص -246-…من توسع في فن الفقه فلذلك اقتصرنا على شرح ما في الكتاب وأما الأمثلة في بابي تراجيح الأخبار والأقيسة فإذا ضرب الضارب بعضها في بعض وأراد الإتيان لكل قسم بمثال كان طالبا لتطويل عظيم فإن ذلك يحتمل مع الاستيعاب وقد يعبر فلذلك أضربنا عن هذا الغرض وجئنا بالنزر اليسير في البابين والله الموفق والمعين بمنه وكرمه
قال "وفيه فصلان الأول في المجتهد وفيه مسائل الأولى يجوز له عليه السلام أن يجتهد
لعموم فاعتبروا ووجوب العمل بالراجح ولأنه أشق وأدل على الفطانة فلا يتركه ومنع أبو علي وابنه لقوله تعالى وما ينطق عن الهوى قلنا مأمورية فليس بهوى ولأنه ينتظر الوحي قلنا ليحصل اليأس عن النص أو لأنه لم يجد أصلا يقيس عليه"
"ش" اختلفوا في أن الرسول صلى الله عليه وسلم هل كان يجوز له الاجتهاد فيما لا نص فيه فذهب الشافعي وأكثر الأصحاب وأحمد والقاضيان أبو يوسف وعبد الجبار وأبو الحسين إلى جوازه ثم منهم من قال بوقوعه وهو اختيار الآمدي وابن الحاجب ومنهم من أنكر وقوعه وتوقف فيه جمهور المحققين وذهب أبو علي وابنه أبو هاشم إلى أنه لم يكن متعبدا به وشذ قوم فقالوا بامتناعه عقلا بما(15/388)
ص -247-…حكاه القاضي في التلخيص لإمام الحرمين ومنهم من جوزه في أمور الحرب دون الأحكام الشرعية وقد احتج في الكتاب على الجواز بأوجه أربعة وهي دالة على الوقوع أيضا
أحدها :عموم قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَار1ِ} وكان عليه هو أفضل الصلاة والسلام أعلى الناس بصيرة وأكثرهم إطلاعا على شرائط القياس وذلك إن لم يرجح دخوله في هذا الأمر فلا أقل من المساواة فيكون مندرجا في الأمر ومتى كان مأمورا به كان فاعلا له ضرورة امتثاله أوامر ربه ووقوفه عندها صلى الله عليه وسلم
وثانيها :إذا غلب على ظنه عليه السلام كون الحكم في الأصل معللا بوصف ثم ظن أو ظن حصول ذلك الوصف في صورة أخرى فلا بد وأن نظن أن الحكم في الفرع مثله في الأصل وترجيح الراجح على المرجوح من مقتضيات بداية العقول ولقائل أن يقول إذا وجب ترجيح الراجح فليمتنع عن العمل بهذا الراجح لقدرته على أرجح منه وهو النص
وثالثها :أن العمل بالاجتهاد أشق من العمل بالنص فيكون أكثر ثوابا فلا تختص الأمة بفضيلة لا توجد فيه
ورابعها :أن العمل بالاجتهاد أدل على الفطانة والزكاة من النص لتوقفه على النظر الدقيق والقريحة المستجادة فلا يتركه صلى الله عليه وسلم لكونه نوعا من الفضيلة واحتج الجبائيان بوجهين أحدهما قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى2} فإنه دليل على انحصار الأحكام الصادرة منه صلى الله عليه وسلم عن الوحي وأجاب عنه الإمام بأنه متى قال له متى ظننت كذا فاعلم أنه حكمي فالعمل حينئذ بالظن عمل بالوحي لا بالهوى وهذا قد ذكره الغزالي ولقائل أن يقول ليس هذا أمر بالاجتهاد فإنه تعالى لو قال كلما ملكت النصاب وحال عليه الحول أوجبت عليك الزكاة لا يكون هذا أمر بملكية النصاب ثم إن ملكه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحشر آية 2
2 سورة النجم آية 3-4(15/389)
ص -248-…كذلك وجبت عليه الزكاة بالنص لا بالاجتهاد وإنما الكلام في الحكم الثابت بالاجتهاد وهو لا يوجد فيه مثل هذا القول فلا يكون النطق بذلك نطقا بالوحي وأجاب عنه المصنف بأن الاجتهاد إذا كان مأمورا به لم يكن النطق به هوى وهو مدخول لإشعاره بأن الخصم احتج بصدر الآية وليس كذلك إذ هو لا يقول بأن القول بالاجتهاد قول بالهوى والثاني لأنه لو جاز له عليه السلام الاجتهاد لامتنع عليه انتظار الوحي لفصل الحكومات وغيرها لأن الفصل يجب على الفور وقد تمكن منه الاجتهاد ولكنه قد أخره وانتظر الوحي كثيرا
وأجاب بوجهين أحدهما أن العمل بالقياس لما كان مشروطا بعدم وجدان النص فكان انتظاره للوحي لكي يحصل اليأس عن النص فإن قلت إنما شرط فقدان النص إذا احتمل أن يكون ثم نص فأنه يؤمر المجتهد إذ ذاك بالفحص الشديد أما إذا تحقق عدمه فلا يتجه انتظار تشريعه ولو كان كذلك لا يقدح للمعترض أن يقول لينتظر المجتهد إجماع الأمة ولطوينا بساط الاجتهاد قلت كان احتمال نزول النص في حقه صلى الله عليه وسلم بمنزلة احتمال كونه موجودا في حق سائر المجتهدين لقرب وجدانه في الجهتين والثاني أنه يحتمل أن يكون انتظاره الوحي إنما كان فيما لا مساغ للاجتهاد فيه ولا أصل يقيس عليه
فائدتان أحدهما :قال الغزالي يجوز القياس على الفرع الذي قاسه النبي صلى الله عليه وسلم وعلى كل فرع اجتمعت الأمة على إلحاقه بأصل قال لأنه صار أصلا بالإجماع والنص فلا ينظر إلى مأخذهم(15/390)
الثانية :النبي صلى الله عليه وسلم يتصرف في الفتاوى وأن الأقضية يجوز فيها من غير نزاع وستعرف الفرق بينهما بسؤال نذكره من كلام القرافي ومما يدل على جوازه في الأقضية مما روى أبو داود من حديث أبي سلمة رضي الله عنه قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان يختصمان في مواريث وأشياء قد درست فقال: "إني إنما أقضي بينكم برأي فيما لم ينزل علي فيه" فإن قلت ما الفرق بين هذه الأمور وبين الرسالة والنبوة قلت تصرفه صلى الله عليه وسلم بالفتيا هو إخباره عن الله تعالى بما يجده في الأدلة من حكم الله تعالى كما نقول في سائر المفتيين وتصرفه بالتبليغ هو مقتضى الرسالة وهي أمر الله تعالى في ذلك التبليغ فهو عليه السلام ينقل عن الحق(15/391)
ص -249-…للخلق في مقام الرسالة ما وصل إليه عن الله تعالى فهو في هذا المقام مبلغ وناقل عن رب العالمين كما ينقل الرواة لنا أحاديثه فالمحدثون ورثوا عنه هذا المقام كما ورث عنه المفتي الفتيا وإذا اتضح بهذا الفرق بين الراوي والمفتي لاح الفرق بين تبليغه عليه السلام عن ربه وبين فتياه في الدين بهذا الفرق بعينه
وأما تصرفه صلى الله عليه وسلم بالحكم فهو مغاير للرسالة والفتيا لأن الرسالة تبليغ محض واتباع صرف وحكم إنشاء وإلزام من قبله عليه السلام بحسب ما ينسخ من الأسباب والحاجة ولذلك قال عليه السلام :"إنكم تختصمون ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فمن قضيت له فشيء من حق أخيه فلا يأخذه إنما اقتطع له من النار1" دل على أن القضاء يتبع الحاجة وقوة اللحن به فهو عليه السلام في هذا المقام منشئ وفي الفتيا والرسالة مبلغ متبع وهو في الحكم أيضا متبع لأمر الله تعالى له بأن ينشئ الأحكام على وفق الحاجة والأسباب لأنه متبع في نقل ذلك الحكم عن الله تعالى لأن ما فوض إليه من أمر الله تعالى لا يكون منقولا عن الله تعالى وقد يفرق بين الحكم والفتيا بوجه آخر وهو أن الفتيا تقبل النسخ دون الحكم فإنه لا يقبل إلا النقض عند ظهور ما يترتب عليه الحكم وهذا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأما بعده فالفتيا لا تقبل النسخ لتقرر الشريعة
وأما الرسالة من حيث هي فلا تقبل النسخ ولا النقض وأما النبوة فهي الإيحاء لبعض الخلق بحكم الشيء له يختص به كما أوحى الله لمحمد صلى الله عليه وسلم {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ2} فهذا تكليف يختص به قال العلماء فهذه نبوة وليست برسالة فلما نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ3} كان هذا رسالة لأنه تكليف يتعلق بغير الموحى إليه فوضح لك بهذا أن كل رسول ونبي من غير عكس وأما تصرفه عليه السلامة بالإمامة فهو(15/392)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه البخاري كتاب ترك الجيل 9/32 والأحكام 9/860 ومسلم كتاب الأحكام 3/133 من حديث أم سلمة – رضي الله عنها
2 سورة العلق آية1-2
3 سورة المدثر آية 1-2(15/393)
ص -250-…وصف زائد على النبوة والرسالة والفتيا والقضاء معاقد المصالح ودرء مواقع المفاسد إلى غير ذلك
وهذا ليس داخلا في مفهوم شيء مما تقدم لتحقيق الفتيا بمجرد الإخبار عن الله تعالى والحكم بالتصدي لفصل الخصومات دون السياسة العامة لا سيما الحاكم الضعيف الذي لا قدرة له على التنفيذ إذا أنشأ الحكم على الملوك الجبابرة فهو إنما ينشئ الإلزام على ذلك الملك ولا يخطر بباله السعي في تنفيذه لتعذر ذلك عليه فظهر أن الحاكم من حيث هو حاكم ليس له إلا الإنشاء وأما قوة التنفيذ فأمر زائد على كونه حاكما فصارت السلطة العامة التي هي حقيقة الإمامة مباينة للحكم من حيث كونه حكما وأما الرسالة فليس يدخل فيها إلا التبليغ عن الله تعالى ولا يستلزم هذا تفويض السياسة العامة إليه فكم بعث الله من رسول لم يطلب منه غير التبليغ لإقامة الحجة من غير أن يأمره بالنظر في المصالح العامة وبوضوح الفرق بين الرسالة والإمامة يظهر بينهما وبين النبوة إذ النبوة خاصة بالموحى إليه لا تعلق لها بالغير
فإن قلت فهل لهذه الحقائق المفترقة آثار في الشريعة قلت نعم فإن كل ما فعله عليه السلام بطريق الإمامة من إقامة الحدود وترتيب الجيوش وغير ذلك لم يجز لأحد أن يفعله إلا بإذن إمام الوقت الحاضر لأنه عليه السلام إنما فعله بطريق الإمامة ولا استبيح إلا بإذنه وكلما فعله بطريق الحكم كفسوخ الأنكحة والعقود وغير ذلك لم يقدم عليه أحد إلا بالحكم الحاكم في الوقت الحاضر إقتداء رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لم يقرن تلك الأمور إلا وأما تصرفه عليه السلام بالرسالة والتبليغ أو الفتيا فذلك شرع يتقرر على الخلائق إلى يوم الدين من غير اعتبار حكم ولا إذن أمام وإنما هو عليه السلام بلغ الخليقة ارتباط ذلك الحكم بذلك السبب وخلى بينهم وبين ربهم كأنواع العبادات وغيرها فإذا تصرف صلى الله عليه وسلم تصرفا فقد يتضح كونه تصرفا بالإمامة أو بالقضاء أو بالفتيا(15/394)
وقد علمت حكم كل قسم وقد يتردد بين هذه الأقسام ويتشاجر العلماء على أيها نحمل وفي المسائل الداخلة في هذا كثرة ولكنا نورد منها ما شهد به(15/395)
ص -251-…النظر فمنها قوله صلى الله عليه وسلم :"من أحيا أرضا ميتة فهي له1" قال أبو حنيفة هذا تصرف منه عليه السلام بالإمامة فلا يجوز لأحد أن يحي بدون إذن الإمام وقال الشافعي رضي الله عنه بل بالفتيا لأنه الغالب من تصرفاته عليه السلام فلا يتوقف الإحياء على إذن الإمام ومنها قوله صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة لما شكت إليه الشيخ أبا سفيان :"خذي لك ولولدك ما يكفيك بالمعروف2" فذهب الشافعي إلى أن هذا تصرف بالفتيا فعلى هذا من ظفر بجنس حقه أو بغير جنسه إذ لم يظفر بالجنس مع تعذر أخذ الحق ممن هو عليه جاز له أخذه حتى يستوي حقه وحكى في التهذيب وجها أنه يجوز أخذ غير الجنس مع الظفر بالجنس وقد يوجه بعدم التنفيذ في الحديث وذهب مالك رحمه الله إلى خلاف ذلك وقال إنه عليه السلام تصرف في قضية هند بالقضاء وجعل بعضهم هذه القضية أصلا في القضايا على الغائب وهو ضعيف لأن أبا سفيان كان حاضرا في البلد ظاهرا لا يمتنع عن الحضور إذا طلبه النبي صلى الله عليه وسلم والقضاء لا يتأتى على من هو بهذه المثابة على الصحيح من المذهب واستنبط القاضي الحسين من كونه تصرفا بالقضاء أنه يجوز أن يسمع إلى أحد الخصمين دون الآخر واستنبط الرافعي من كونه تصرفا بالفتيا أنه يجوز للمرأة أن تخرج لتستفتي وفيه نظر فإن هند أخرجت عام الفتح متقدمة على سائر النساء لما نزل قوله تعالى :{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ3} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"أبايعنكن على أن لا تشركن بالله شيئا" فقالت هند لو أشركنا بالله شيئا ما دخلنا في دين الإسلام فقال :"أبايعكن على أن لا تقتلن أولادكن" فقالت هند فهل تركتم لنا من ولد ربيناهم صغارا فقتلتموهم كبارا فقال :"أبايعكن على أن لا تزنين" فقالت هند أو تزني الحرة فقال :"أبايعكن على أن لا تسرقن" فقالت هند إن أبا سفيان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(15/396)
1 أخرجه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود والترمذي من حديث سعيد بن زيد ولفظه :"من أحبا أرضا ميتة فهي له وليس لعرق ظالم حق"
الجامع الصغير 2/161
2 أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة من حديث عائشة رضي الله عنها الجامع الصغير 2/4
3 سورة الممتحنة آية 10(15/397)
ص -252-…رجل شيخ1 الحديث فهند لم تخرج لأجل الاستفتاء فلا يحسن الاستدلال بها عليه ومنها قوله صلى الله عليه وسلم :"من قتل قتيلا فله سلبه2" قال بعض العلماء هذا تصرف منه عليه السلام بالإمامة فلا يجوز لأحد أن يختص بسلب إلا بإذن الإمام وقال الشافعي هو تصرف بالفتيا فلا يتوقف على إذن الإمام
قال فرع لا يخطىء اجتهاده وإلا لما وجب اتباعه
ش عبر عن هذا بالفرع بكونه مبنيا على جواز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم والذي جزم به من كونه لا يخطىء اجتهاده هو الحق وأنا أظهر كتابي أن أحكي فيه قولا سوى هذا القول بل نحفل ولا نعبأ واستدل في الكتاب بأنه لو جاز الخطأ عليه لوجب علينا اتباعه في الخطأ وذلك ينافي كونه خطأ ونحن نقول لمن زخرف قوله وقال يجوز بشرط أن لا يقر عليه أليس يصدق صدور الخطأ المضاد لمنصب النبوة ولقد يلزمك على هذا محال من الهذيان وهو أن يكون بعض المجتهدين في حالة إصابته أكمل من المصطفى صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة معاذ الله أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك وأنا قد اقتصرت على ما ذكرت تطهيرا لكتابي من البحث مع هذا القائل ووفاء بحق الشرح وإلا يعجز علينا أن نفوه فيه أو نثني نحوه عطفا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الطبري من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – تفسير الطبري 8/512
2 حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أبي قتادة كما أخرجه أحمد وأبو داود من حديث أنس كذالك أخرجه أحمد وابن ماجة من حديث سمرة ولفظه "من قتل كافرا فله سلبه" الجامع الصغير 2/177
قال الثانية يجوز للغائبين عن الرسول صلى الله عليه وسلم وفاقا وللحاضرين أيضا إن لا يمتنع أمرهم به
قيل عرضة للخطأ قلنا لا نسلم بعد الإذن(15/398)
"ش" اتفقوا على جواز الاجتهاد بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فإما في عصره صلى الله عليه وسلم فقد اختلفوا فيه فمنهم من جوزه مطلقا وهو المختار عند الأكثرين منهم الإمام وصاحب الكتاب ومنهم من منع منه مطلقا وقالت طائفة يجوز للغائبين عن الرسول صلى الله عليه وسلم من القضاة والولاة دون الحاضرين وجوزه آخرون للغائبين مطلقا دون الحاضرين ومنهم من قال يجوز إن لم يوجد مع ذلك منع قال صفي الدين الهندي وهذا ليس بمرضى لأن ما بعده أيضا كذلك فلم يكن(15/399)
ص -253-…خصوصية بزمانه صلى الله عليه وسلم ومنهم من قال إن ورد الإذن بذلك جاز وإلا فلا ثم من هؤلاء من نزل السكوت عن المنع منه مع العلم بوقوعه منزلته الإذن ومنهم من اشترط صريح الإذن هذه جملة المذاهب في المسألة وبه يعلم أن دعوى المصنف الاتفاق على جوازه للغائبين ليس يجيد واحتج المصنف على الجواز بأنه لا يمتنع أن يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لقد أوحى إلي أنك مأمور بأن تجتهد أو بأن تعمل على وفق ظنك واحتج المانعون بأن الاجتهاد في معرض الخطأ والنص آمن منه وسلوك السبيل المخوف مع القدرة عل سلوك السبيل الآمن قبيح عقلا وأجاب عنه تبعا للإمام بأن الشرع لما قال له أنت مأمور بأن تجتهد وتعمل على وفق ظنك كان آمنا من الغلط لأنه بعد الاجتهاد يكون آتيا بما أمر به وهو ضعيف فإن الإذن في الاجتهاد ولا يمنع وقوع الخطأ فيه وقد يقال في تقرير الجواب أنه بالأمر صار آمنا من الخطأ بفعل الاجتهاد أي يكون مفعله الاجتهاد صوابا لا أنه يأمن من تأدية الاجتهاد الخطأ وإذا كان الإقدام على الاجتهاد صوابا فلا عليه أن يخطئ بعد إتيانه بما أمر به وأجيب عنه أيضا بأنا لا نسلم أنه قادر على التوصل إلى النص وذلك لأن ورود النص ليس باختياره ومسألته بل جاز أن يسأل عن القضية ولا يرد فيها نص بل يؤمر بالعمل فيها بالظن ولا يمكنكم نفي هذا الاحتمال إلا إذا أبيتم نفي جواز الاجتهاد فبيان نفي جواز الاجتهاد بناء على نفي هذا الاحتمال دور واعلم أن الأمام قال الخوض في هذه المسألة قليل الفائدة لأنه لا ثمرة له في الفقه وهذا فيه نظر إذ ينبني على الأصل مسائل منها إذا شك في نجاسة أحد الإناءين ومعه ماء طهر بيقين أو ماء يغسل به أحدهما ففي جواز الاجتهاد له بين الإناءين والثوبين وجهان أصحهما أنه يجتهد وكذلك إذا غاب عن القبلة فإنه لا يعتمد على خبر من أخبره من علم ولا على الاجتهاد إلا إذا لم يقدر على معرفة القبلة يقينا وكذلك حكى الأصحاب وجهين في(15/400)
المصلي إذا استقبل حجر الكعبة وحده وقالوا الأصح المنع لأن كونه من البيت غير مقطوع به وإنما هو مجتهد فيه فلا يجوز العدول عن اليقين إليه
قال "ولم يثبت وقوعه" ش هذا عائد إلى الاجتهاد الحاضر الذي جعله(15/401)
ص -254-…المصنف محل الخلاف وقد ذهب الأكثرون إلى ما قاله المصنف من التوقف ومنهم من قال بوقوعه ومنهم من نفاه وهذا في خف الحاضرين وأما الغائبون فمنهم من ذهب إلى وقوع التعبد به في حقهم ومنهم من منعه وتوقفت فرقة ثالثة واحتج من قال بالوقوع في الحاضر والغائب بقول الصديق رضي الله عنه لأبي قتادة حيث قتلا رجلا من المشركين فأخذ غير سلبه لا ما الله إذن لا تعمد إلى أسد من أسود الله يقاتل عن الله ورسوله فنعطيك سلبه فقال النبي صلى الله عليه وسلم :"صدق" فإن الصديق رضي الله عنه قال ذلك اجتهادا وإلا لأسنده إلى النص لكونه ادعى إلى الانقياد وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فإذا جاز في حق الحاضر جاز بطريق أولى في حق الغائب ويخص الغائب حديث معاذ المذكور في كتاب القياس وأجيب عنهما بأنهما أخبار أحاد والمسألة علمية وقول الغزالي هذا حديث معاذ مشهور قبلته الأمة أخذه من إمام الحرمين وإمام الحرمين تلقاه من القاضي فإنه القاضي فإنه قال في التقرب إن الأمة تلقته بالقبول وليس يجيد لما عرفت في كتاب القياس واحتج من أنكر الوقوع مطلقا بأنهم لو اجتهدوا في عصره صلى الله عليه وسلم لنقل واشتهر كاجتهداهم بعده والمختار عندنا التوقف في حق الحاضرين وأما الغائبون فالظاهر وقوع يعبدهم به ولا قطع
قال "الثالثة لا بد له أن يعرف من الكتاب والسنة ما يتعلق بالأحكام والإجماع وشرائط القياس وكيفية النظر وعلم العربية والناسخ والمنسوخ وحال الرواة ولا حاجة إلى الكلام والفقه ولأنه نتيجته"
شرط المجتهد أن يكون محيطا بمدارك الأحكام ومتمكنا من استشارة الظن بالنظر فيها وتقديم ما يجب تقديمه وتأخير ما يتعين وإنما يكون كذلك بأمور(15/402)
أحدهما :كتاب الله فإنه الأصل ولا بد من معرفته ولكن لا يشترط معرفة جميع الكتاب بل ما يتعلق منه بالأحكام قال الغزالي وهو مقدار خمسمائة آية ولا يشترط حفظهما عن ظهر قلب بل أن يكون عالما بمواقعها حين تطلب الآية إذا احتيج إليها
وثانيها :سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يشترط فيها أيضا الحفظ ولا معرفة ما لا يتعلق بالأحكام كما في معرفة الكتاب قال الغزالي ويكفيه أن يكون عنده(15/403)
ص -255-…أصل مصحح لجميع أحاديث الأحكام كسنن أبي داود ومعرفة السنن لأحمد والبيهقي أو أصل وقعه العناية فيه لجميع أحاديث الأحكام ويكفي منه معرفة مواقع كل باب فيراجعه وقت الحاجة قال الشيخ محي الدين النووي قدس الله روحه والتمثيل بسنن أبي داود لا يصح فإنه لم يستوعب الصحيح من أحاديث الأحكام ولا ما معظمه وكم في صحيحي البخاري ومسلم من حديث حكمي ليس في سنن أبي داود
وثالثها :الإجماع فليعرف مواقعه حتى لا يفتى بخلافه ولكنه لا يلزمه حفظ جميع مواقعه بل كل مسألة يفتى فيها فينبغي أن يعلم أن فتواه ليست مخالفة للإجماع إما بموافقة مذهب عالم أو تكون الواقعة متولدة في العصر ليست لأهل الإجماع فيها خوض
ورابعها :القياس فلتعرفه وتعرف شرائطه فإنه مناط الاجتهاد وأصل الرأي ومنه يتشعب الفقه وأساليب الشريعة
وخامسها :كيفية النظر فلتعرف شرائط البراهين والحدود وكيف تركب المقدمات وتستنتج المطلوب لتكون على بصيرة من نظرة
وسادسها :علم العربية لغة ونحوا وتصريفا فلتعرف القدر الذي يفهم به خطاب العرب وعاداتهم في الاستعمال إلى حد يميز به من صريح الكلام وظاهره ومجمله ومبينه وحقيقته ومجازه وعامه وخاصه إلى غير ذلك وليس عليه أن يبلغ مبلغ الخليل بن أحمد
وسابعها :معرفة الناسخ من المنسوخ مخافة أن يقع في الحكم بالمنسوخ المتروك ولا يشترط حفظ ذلك جميعه كما تقدم ومنها حال الرواة في القوة والضعف وتمييز الصحيح عن الفاسد والمقبول عن المردود قال الغزالي وليكتف بتعديل الإمام العدل بعد أن يعرف صحة مذهبه في التعديل
وكذا قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي يقول على قول أئمة المحدثين كأحمد والبخاري ومسلم والدارقطني وأبي داود لأنهم أهل المعرفة بذلك فجاز الأخذ بقولهم كما يؤخذ بقول المقومين في القيم قال الغزالي فهذه هي العلوم الثمانية التي يستفاد بها منصب الاجتهاد وعظم ذلك يشتمل على ثلاثة فنون الحديث(15/404)
ص -256-…واللغة وأصول الفقه وقال الإمام أهم العلوم للمجتهد أصول الفقه وشرط الإمام أن يكون عارفا بالدليل العقلي وعارفا بأننا مكلفون به وقد اتبع في ذلك فإنه ذلك ولم يذكر القياس وكأنهما تركاه لكونه متفرعا عن الكتاب والسنة ولكن لقائل أن يقول الإجماع والعقل أيضا كذلك فلم ذكرا قوله ولا حاجة أي لا يحتاج المجتهد إلى علم الكلام لأنا لو فرضنا إنسانا جازما بالإسلام تقليدا لأمكنه الاستدلال بالدلائل الشرعية على الأحكام ولكن الأصحاب عدوا معرفة أصول الاعتقاد من الشروط ولا حاجة أيضا إلى تفاريع الفقه وكيف يحتاج إليها والمجتهد هو الذي يولدها ويحكم فيها
فإذا كان الاجتهاد نتيجته فلو شرط فيه لزم الدور ونقل اشتراط الفقه عن الأستاذ أبي إسحاق(15/405)
ولعله أراد ممارسة الفقه وهذا قد ذكره الغزالي فقال إنما يحصل الاجتهاد في زماننا بممارسة فهو طريق يحصل الدرية في هذا الزمان ولم يكن الطريق في زمن الصحابة رضي الله عنهم ذلك ويمكن الآن سلوك طريق الصحابة أيضا قال ابن الصلاح واشتراط ذلك في صفة المفتي الذي يتأدى به فرض الكفاية هو الصحيح وإن لم يكن كذلك في صفة المجتهد المستقل على تجرده لأن حال المفتي يقتضي اشتراط كونه على صفة يسهل عليه معها إدراك أحكام الوقائع على القرب من غير تعب كثير ولا يحصل ذلك لأحد الخلق إلا بحفظ أبواب الفقه ومسائله ولا يشترط حفظ الجميع بل قدر يتمكن به من إدراك الباقي على القرب واعلم أن ما ذكرناه من اشتراط هذه العلوم إنما هو في حق المجتهد المطلق أما المجتهد في بعض الأحكام دون بعض فمن عرف طرق النظر القياسي له أن يفتي في مسألة قياسية وإن لم يعرف غيره وقس على هذا وزعم بعض الناس أن الاجتهاد لا يتجزأ وهو ضعيف وأما المجتهد المقيد الذي لا يعدو مذهب إمام خاص فليس عليه غير معرفة قواعد إمامه وليراع فيها ما يراعيه المطلق في قوانين الشرع قال ابن الصلاح والذي رأيته من كلام الأئمة يشعر بأنه لا يتأدى فرض الكفاية بالمجتهد المقيد قال والذي يظهر أنه يتأدى به فرض الكفاية في الفتوى وإن لم يتأد به فرض الكفاية في إحياء العلوم التي منها الاستمداد في الفتوى(15/406)
ص -257-…"خاتمة" شرط الغزالي في المجتهد العدالة ثم قال وهذا يشترط لجواز الاعتماد على قوله إما هو في نفسه وإن كان عالما فله أن يجتهد لنفسه ويأخذ باجتهاد نفسه فالعدالة شرط لقبول الفتوى لا لصحة الاجتهاد هكذا ذكره واقتضى كلام غيره أن العدالة ركن في الاجتهاد ويتفرع على هذا أن الفاسق إذا أداه اجتهاده في مسألة إلى حكم هل يأخذ بقوله من علم صدقه في فتواه بقرائن بل قد يقال إن كانت العدالة ركنا في الاجتهاد فلا يجوز له أن يأخذ في حق نفسه باجتهاده بل يقلد لكونه والحالة هذه غير مجتهد وهذا بعيد
قال "الفصل الثاني في حكم الاجتهاد
اختلف في تصويب المجتهدين في مسائل الفروع بناء على الخلاف في أن لكل صورة حكما معينا وعليه قطعي أو ظني والمختار ما صح عن الشافعي رضي الله عنه أن في الحادثة حكما معينا وعليه أمارة من وجدها أصاب ومن فقدها أخطأ ولم يأثم"
"ش" المسألة عظيمة الخطب قد اختصر المصنف القول فيها فلنتوسط فيما نورده ثم تلتفت إلى ما ذكره فنقول في المسألة أبحاث أولها ذهب طوائف المسلمين على طبقاتهم إلى أنه ليس كل مجتهد في الأصول مصيبا وأن الإثم غير مخطوط عنه إذا لم يصادف ما هو الواقع وإن بالغ في الاجتهاد والنظر سواء كان مدركه عقليا كحدث العالم وخلق الأعمال أو شرعيا لا يعلم إلا بالشرع كعذاب القبر والحشر ولا يعلم خلاف بين المسلمين في ذلك إلا ما نقل عن الجاحظ وعبيد الله بن الحسين العنبري أنهما قالا ابن السمعاني وكان العنبري يقول في مثبتي القدر هؤلاء عظموا الله وفي نافي القدر هؤلاء نزهوا الله ومنهم من لم ينقل عن الجاحظ التصويب بل نفي الإثم والحرج فقط(15/407)
والقاضي في مختصر التقريب اقتصر على النقل عن العنبري ثم قال واختلفت الرواية عنه فقال في أشهر الروايتين إنما أصوب كل مجتهد في الدين لجمعهم الملة فأما الكفرة فلا يصوبون وغلا بعض الولاة عنه فصوب للكافة من المجتهدين دون الراكنين إلا الدعة ونحن نتكلم معهما على سبيل الاختصار فنقول أنتما محجوجان بالإجماع قبلكما وبعدكما وثانيا إن أردتما بذلك مطابقة الاعتقاد للمعتقد فقد خرجتما عن حيز العقلاء وانخرطتما في سلك الأنعام وإن(15/408)
ص -258-…أريد الخروج عن عهدة التكليف ونفي الخروج كما نقل عن الجاحظ فالبراهين النقلية من الكتاب والسنة والإجماع خارجة عن حد الحصر ترد هذه المقالة
وأما تخصيص التصويف بالمجتمعين على الملة الإسلامية فنقول مما خاض فيه المسلمون القول بالتشبيه تعالى الله عنه علوا كبيرا والقول بخلق القرآن وغير ذلك مما يعظم خطره وأجمعوا قبل العنبري على أنه يجب على المر ء إدراك بطلان القول بالتشبيه قال القاضي ونقول له أيضا ما الذي حجزك عن القول بأن المصيب واحد فإن احتج بغموض الأدلة قلنا له فالكلام في النبوات والإحاطة بصفات المعجزات وتمييزها من المخاريق والكرمات أغمض عند العارفين بأصول الديانات من الكلام في القدر وغيره مما يختلف فيه أهل الملة فهلا غدرت الكفرة بما ذكرت قال وهذا لا محيص له عنه(15/409)
البحث الثاني :في تصويب المجتهدين في المسائل الفروعية وقد ضبط صفي الدين الهندي المذاهب فيه جيدا فقال الواقعة التي وقعت إما أن يكون عليها نص أولا فإن كان الأول فأما إن وجده المجتهد أو لا والثاني على قسمين لأنه إما قصر في طلبه أو لم يقصر فإن وجده وحكم بمقتضاه فلا كلام وإن لم يحكم بمقتضاه فإن كان مع العلم بوجه دلالته على المطلوب فهو مخطئ وآثم وفاقا وإن لم يكن مع العلم به ولكنه قصر في البحث عنه فكذلك وإن لم يقصر بل بالغ في الاستكشاف والبحث ولم يعصر على وجه دلالته على المطلوب فحكمه حكم ما إذا لم يجده مع الطلب الشديد وسيأتي إن شاء الله تعالى وإن لم يجده فإن كان لتقصيره في الطلب فهو أيضا مخطئ وآثم وإن لم يقصر بل بالغ في التنقيب عنه وأفرغ الوسع في طلبه ومع ذلك لم يجده بأن خفي عليه الراوي الذي عنده النص أو عرفه لكنه مات قبل وصوله إليه فهو غير آثم قطعا وهل هو مخطئ أو مصيب على الخلاف الذي يأتي إن شاء الله تعالى فيما لا نص فيه وأولى بأن يكون مخطئا وأما التي لا نص عليها فإما أن يقال لله تعالى فيها قبل اجتهاد المجتهد حكم معين أولا بل حكمه فيها تابع لاجتهاد المجتهد فهذا الثاني قول من قال كل مجتهد مصيب وهو مذهب جمهور المتكلمين منا كالشيخ أبي الحسن والقاضي أبي بكر والغزالي(15/410)
ص -259-…ومن المعتزلة كأبي الهزيل وأبي علي وأبي هاشم وأتباعهم ونقل عن الشافعي وأبي حنيفة وأحمد والمشهور عنهم خلافه وهؤلاء اختلفوا في أنه وإن لم يوجد في الواقعة حكم معين فهل وجد فيها ما لو حكم الله تعالى فيها بحكم لما حكم إلا به ولم يوجد ذلك
والأول :هو القول بالأشبه وهو قول كثير من المصوبين وإليه صار أبو يوسف ومحمد بن الحسن وابن سريج في إحدى الروايتين عنه قال القاضي في مختصر التقريب وذهب بعضهم في الأشبه إلى أنه ليس هذا بل هو أولى طرق الشبه في المقاس والعبر ومثلوا ذلك بإلحاق الأرز بالبر بوصف الطعم أو القوت أو الكيل فأحد هذه الأوصاف أشبه عند الله تعالى وأقرب في التمثيل وأما الثاني فقول الخلص من المصوبة
وأما الأول وهو أن الله تعالى في الواقعة حكما معينا فإما أن يقال عليه دلالة وأمارة فقط أو ليس عليه دلالة ولا أمارة فأما القول الأول وهو أن على الحكم دليلا يفيد العلم والقطع فهو قول بشر المريسي والأصم وابن علية وهؤلاء اتفقوا على أن المجتهد مأمور بطلبه وأنه إذا وجده فهو مصيب وإذا أخطأه فهو مخطئ ولكنهم اختلفوا في المخطئ هل يأثم ويستحق العقاب فذهب بشر إلى التأثم وأنكره الباقون لخفاء الدليل وغموضه واختلفوا أيضا في أنه هل ينقض قضاء القاضي فيه فذهب الأصم إلى أنه ينقض وخالفه الباقون(15/411)
وأما القول الثاني :وهو أن على الحكم أمارة فقط فهو قول أكثر الفقهاء كالأئمة الأربعة وكثير من المتكلمين وهؤلاء اختلفوا فمن قائل أن المجتهد غير مكلف بإصابته لخفائه وغموضه وإنما هو مكلف بما غلب على ظنه فهو وإن أخطأ على تقدير عدم إصابته لكنه معذور مأجور وهو منسوب إلى الشافعي رضي الله عنه وعلى هذا فعلام يؤجر المخطئ فيه وجهان لأصحابنا أحدهما وهو اختيار المزني وظاهر النص أنه يؤجر على القصد إلى الصواب ولا يؤجر على الاجتهاد لأنه أفضى به إلى الخطأ فكأنه لم يسلك الطريق المأمور به وشبهه القفال في الفتاوى برجلين رميا إلى كافر فأخطأ أحدهما يؤجر على قصد الإصابة(15/412)
ص -260-…بخلاف صاحبه والساعي إلى الجمعة إذا فاتته يؤجر على القصد وإن لم ينل ثواب العمل
والثاني :أنه يؤجر على القصد وعلى الاجتهاد جميعا لكونه بذل ما في وسعه ومن قائل إنه مأمور بطلبه ومكلف بإصابته أولا فإن أخطأه وغلب على ظنه شيء آخر فهناك تغير التكليف ويصير مأمورا بالعمل بمقتضى ظنه ولا يأثم وأما القول الثالث وهو أنه لا دلالة عليه ولا أمارة فذهب إليه جمع من المتكلمين
وقد زعم هؤلاء أن ذلك الحكم كدفين يتفق عثور الطالب عليه ويتفق تعديه قال القاضي في مختصر التقريب واختلف هؤلاء فذهب بعضهم إلى أن العثور عليه ليس بواجب وإنما الواجب الاجتهاد وذهب بعضهم إلى أن العثور عليه مما يجب على المكلف وإن لم يكن عليه دليل هذا شرح المذاهب في المسألة فلنعد إلى لفظ الكتاب
قوله اختلف في تصويب المجتهدين في مسائل الفروع إشارة إلى أن خلاف العنبري في الأصول لا احتفال به وقد أصاب فإنه لا ينبغي أن يعد ما ذهب إليه هذه الرجل قولا في الشريعة المحمدية مع أنه مصادم بالإجماع قبله والذي نراه شاكين فيه أن المجمعين لو عاصروا العنبري لم يلتفتوا إلى ما قاله ولعدوا الإجماع قائما دونه قوله بناء على الخلاف إلى آخره مقتضاه أن كل من قال بأن لكل صورة حكما معينا وعليه دليل قطعي أو ظني قال بأن المصيب واحد ومن لم يقل بذلك صوب الكل
قوله والمختار إلى آخره مباح باختيار المذهب الذي حكيناه من اشتمال الحادثة على حكم معين وعليه دليل قطعي أو ظني لا يكلف المجتهد به وإنما يكلف بما غلب على ظنه
قال "لأن الاجتهاد مسبوق بالدلالة لأنه طلبها والدلالة متأخرة عن الحكم فلو تحقق الاجتهادان لاجتمع النقيضان ولأنه قال عليه السلام "من اجتهد فأصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجران ومن أخطأ فله أجر"
"ش" هذان وجهان استدل بهما على اختياره أحدهما أن الاجتهاد مسبوق(15/413)
ص -261-…بدلالة الدليل على الحكم لأنه عبارة عن طلب دلالة الدليل على الحكم والطلب مسبوق على المطلوب فيكون الاجتهاد متأخرا عن الدلالة والدلالة متأخرة عن الحكم بها لأنها نسبة بين الدليل الذي هو المطلوب والمدلول الذي هو الحكم والنسبة متأخرة عن كل واحد من الأمرين لتوقف تحققها على تحققهما فيلزم منه أن يكون الاجتهاد متأخرا عن الحكم بمرتبتين لتأخره عن الدلالة المتأخرة عن الحكم فلو تحقق الاجتهاد أي كان كل مجتهد مصيبا لاجتمع النقيضان لاستلزامه ثبوت حكمين متناقضين في نفس الأمر بالنسبة إلى مسألة واحدة وهذا الدليل فيه نظر فإنا وإن سلمنا أن الاجتهاد طلب الدلالة فلا نسلم أن طلب الشيء يتوقف على ثبوته في الخارج بل على تصوره فقط ثم إنه لا يثبت به إلا أحد شطري ما ادعاه فإنه لا يدل على سقوط الإثم عن المخطئ وحصول الأجر له
الوجه الثاني :الحديث الذي ذكره في الكتاب واللفظ في الصحيحين :"إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فله أجر1" دل الحديث على أن المجتهد قد يخطئ وقد يصيب وهو المدعي
فإن قلت لا ينافي ذلك كون كل مجتهد مصيبا إذ يتصور الخطأ عند القائلين بهذه المقالة وذلك فيمن لم يستفرغ الوسع في الطلب مع كونه غير عالم بالتقصير فإنه مخطئ غير آثم للجهل بالتقصير فلعل هذه الصورة هي المرادة من الحديث قلت هذا تخصيص بصورة نادرة من غير دليل وأيضا أن تحقق الاجتهاد المعتبر فيما ذكرته فقد ثبت المدعي وهو خطأ بعض المجتهدين في الجملة وإلا فلا يجوز حمل الحديث عليه من غير صادف عن حمله على الاجتهاد المعتبر لأن الشرعي مقدم على العرفي واللغوي واعلم أن الاستدلال بالحديث قوي كانت المسألة ظنية ولكن المسألة قطعية كما صرح بها الأصوليون على اختلاف طبقاتهم
وبذلك تحل شبهة من قال ليس كل مجتهد مصيبا لقول من قال من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(15/414)
1 البخاري : باب أجر الحاكم إذا اجتهد ومسلم : كتاب الأقضية كما رواه الإمام أحمد من حديث عمرو بن العاص وأبي هريرة(15/415)
ص -262-…المجتهدين ليس كل مجتهد مصيبا لأنه إن أصاب فما قاله حق وإن أخطأ فقد أخطأ بعض المجتهدين فلم يكن كل مجتهد مصيبا فنقول الخلاف في أن المصيب واحد إنما هو في مسائل الفروع الظنية كما عرفت أما مسائل الأصول القطعية فالمصيب فيها واحد بلا خلاف ولك في حل هذه النكتة طريقة أخرى فنقول فتلزم أنه مصيب في قوله ليس كل مجتهد مصيبا ولكن لم قلت أنه يلزم من ذلك أن يكون الواقع في نفس الأمر ليس إلا أنه ليس كل مجتهد مصيبا وقولك لأنه مصيب قلنا وكذا خصمه أيضا مصيب بناء على القول بالتصويب فحكم الله في حق هذا أنه ليس كل مجتهد مصيبا أنه في حق خصمه أن كل مجتهد مصيب فهاتان طريقتان في حل هذه الشبهة الأولى على تقدير كونها من مسائل الأصول والثانية على التزام كونها من مسائل الفروع ومن جيد ما استدل به القائلون بأن المصيب واحد اجتماع الصحابة فمن بعدهم للمناظرة وطلب كل واحد من المتناظرين خصمه إلى ما ينصره فلو أن كل مجتهد مصيب لم يكن إلى الحجاج والنظر فائدة وأجاب عنه القاضي بأن التناظر ثابت وأما ما ادعيتموه من غرض المتناظرين فأنتم منازعون فيه ولسنا نسلم أن العلماء إنما تنازعوا ليدعي كل واحد منهما خصمه بل المندوب في طرق الاجتهاد والاحتمال وضوح نص يقطع البحث وغير ذلك قال قيل لو تعين فالمخالف له لم يحكم بما أنزل الله فيفسق ويكفر لقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} قلنا لما أمر بالحكم بما ظنه وإن أخطأ حكم بما أنزل الله قيل لو لم يصوب الجميع لما جاز نصب المخالف وقد نصب أبو بكر زيدا رضي الله عنهما قلنا لم يجز تولية المبطل والمخطئ ليس بمبطل(15/416)
"ش" احتج المصوبون بوجهين أحدهما أنه لو لم يكن كل مجتهد مصيبا لتعين الحكم في الواقعة قبل الاجتهاد وحينئذ فيكون المجتهد المخالف باجتهاده لذلك الحكم حاكما بخلاف ما أنزل الله فيفسق لقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ1}
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة آية 47(15/417)
ص -263-…ويكفر في آية أخرى {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ1} وأجاب بأنا لا نسلم أنه والحالة هذه يكون حاكما بخلاف ما أنزل الله فإنه لما كان مأمورا الحكم بموجب ظنه بعد الاجتهاد فحكمه به حكم بما أنزل الله وإن أخطأ في اجتهاده بعدم إصابة ذلك الحكم المتعين ولقائل أن يقول إذا كان الحق واحد متعينا فهو الذي أنزله الله والحكم بخلاف ما أنزل الله نعم هو حكم بشيء أنزل الله أن الحاكم به يؤجر ولا يأثم لبذله الوسع في اجتهاده فكان ينبغي تقريره هكذا إنما يفسق أن يكفر الحاكم بخلاف ما أنزل الله من كل وجه لأنه الذي عليه أخلاق قول القائل حكم بخلاف ما أنزل الله أما الحاكم بما أنزل الله أن له أن يحكم به وإن لم يحكم به وإن لم ينزل المحكوم به ولم يجعله الحق عنده فليس حاكما بخلاف المنزل أو نقول هو حاكم بخلافه ولكن هو معذور لما ذكرناه والفسق والكفر يختصان بغير المعذور والثاني أنه لو لم يكن كل مجتهد مصيبا لما جاز للمجتهد أن ينصب حاكما مخالفا له في الاجتهاد لأنه في ظنه قد مكنه من الحكم بغير الحق وليس كذلك لأنه جائز بدليل أن أبا بكر رضي الله عنه نصب زيدا رضي الله عنه مع أنه كان يخالفه في الجد وفي غيره وشاع ذلك بين الصحابة من غيره وشاع ذلك بين الصحابة من غير نكير وأجاب بأن الممتنع إنما هو تولية المبطل أي الذي يقتضي بالباطل ومن كان مجتهدا مخطئا فهو غير مبطل لإتيانه بالمأمورية وهذا أيضا فيه عندنا نظر فإن المجتهد في مسألة القاتل بأن المصيب واحد يظن خطأ صاحبه ولا معنى لذلك إلا أنه مبطل فيما أتى به وإنما بذل الوسع أقام عذره نعم قد يجاب بأنه ليس يعلم حال التولية أنه يحكم بخلاف ما يعتقده وذلك لأن على الحاكم أن يجتهد في الحكم عند كل حادثة وربما تغير اجتهاده وأيضا فلعل أبا بكر رضي الله عنه زايد عن الحكم فيما يخالفه فيه وقصر توليته على الحوادث التي يوافقه فيها وقد صرح بجواز مثل هذا(15/418)
الماوردي كما نقله الرافعي فقال ولو ولى الإمام وجلا وقال لا نحكم في قتل المسلم الكافر والحر العبد جاز وقد قصر عمله على باقي الحوادث ووافقه زيد واقعة عين لا يمكن فيها نفي هذا الاحتمال وأيضا فلعل أبا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة آية 44(15/419)
ص -264-…بكر رضي الله عنه كان يرى أن كل مجتهد مصيب فالمسألة مشهورة باضطراب الآراء فيها قديما وحديثا
قال فرعان الأول لو رأى الزوج لفظ كناية ورأته المرأة صريحا فله الطالب ولها الامتناع فيراجعان غيرهما
"ش" هذا فرعان من فروع حكمة الاجتهاد الأول لو كان الزوجان مجتهدين فخاطبها الزوج بلفظه يرى أنها كناية في الطلاق ولا نية وترى المرأة أنها صريحة فيه فللزوج طلب الاستمتاع منها ولها الامتناع عملا مع كل منهما بمقتضى اجتهاده وطريق قطع المنازعة بينهما أن يراجعا مجتهدا آخر غيرهما حاكما أو حكما من جهتهما ليحكم بينهما بما أرى إليه اجتهاده وهذا الطريق متعين لدفع المشاجرة في نحو الصورة المفروضة سواء قلنا المجتهد واحد أم كل مصيب وهذا إذا لم تكن المنازعة فيما يجري فيه الصلح فإن جرى فيه الصلح كالحقوق المالية فينقطع بطريق الصلح أيضا هذا ما في الكتاب وقد ذكر القاضي في مختصر التقريب هذا الفرع وجعله من أدر خصومه القائلين بأن المصيب واحد وأنهم قالوا هذا يقتضي الجمع بين التسليط على الاستمتاع والامتناع منه ثم أجاب عنه بأنا نسألكم عن هذه الحادثة إذا عنت وكلما قدرتموه جوابا ظاهرا في حقهما فهو حكم الله قطعا قال فإن زعموا أن المرأة مأمورة بالامتناع جهدها والرجل مباح له الطلب للاستمتاع وإن أدى إلى قهرها ولم يعدوا ذلك تناقضا في ظاهر الجواب فهو حكم الله تعالى عندنا ظاهرا وباطنا قال ومما تمسكوا به أن المنكوحة بغير ولي إذا زوجها وليها ثانيا من شافعي والذي تزوج بها أولا حنفي والمرأة مترددة بين دعوتهما وهما مجتهدان في أوجه القول في جمع الحل والتحريم وأجاب بجوابه الأول وأن كل ما أجبتم به في ظاهر الأمر ولم يعدوه تناقضا فهو حكم الله عندنا ثم قال وإن اجتزيت بهذا القدر كفاك وإن أردت التفصيل في الجواب قلنا من القائلين بأن المصيب واحد من صار في هذه الصورة إلى الوقت حتى يرفع الأمر إلى القاضي كما قدمناه في الصورة المعلومة(15/420)
ص -265-…الأولى فعلى هذا نقول حكم الله فيهما الوقف ظاهرا وباطنا حتى نرفع الأمر إلى القاضي كما قدمناه في الصورة المغلومة الأولى فعلى هذا نقول حكم الله فيهما الوقف ظاهرا وباطنا حتى نرفع أمرها إلى القاضي فينزلهما على اعتقاد نفسه وهذا حكم الله حينئذ ومنهم من قال نسلم المراد إلى الزوج الأول فإن نكحها نكاحا يعتقد صحته وهو السابق فلا يبعد أن يكون هذا هو الحكم قال وهذه الصورة وأمثالها من المجتهدات وفيها تقابل الاحتمالات فيجتهد فيها عندنا وما أرى إليه اجتهاده فهو حق من وقف أو تقدم أو غيرهما من وجوه الجواب
قال "الثاني إذا تغير الاجتهاد كما لو ظن أن الخلع فسخ ثم ظن أنه طلاق فلا ينتقض الأول بعد اقتران الحكم وينتقض قبله"(15/421)
"ش" إذا أداه اجتهاده إلى أن الخلع فسخ فنكح امرأة كان قد خالعها ثلاثا بمقتضى هذا الاعتقاد ثم تغير اجتهاده وأداه إلى أنه طلاق فإما أن يتغير بعد قضاء القاضي بمقتضى الاجتهاد الأول المقتضي لصحة النكاح فلا ينقض بالاجتهاد الثاني بل يقي على النكاح وإما أن يتغير قبل القضاء بالصحة فيجب عليه مفارقتها لأن الظن المصاحب له الآن قاض بأن اجتهاده الأول خطأ فليعمل به وهذا ما أراده المصنف بقوله وينتقض قبله ومراده بالنقض ترك العمل بالاجتهاد الأول وإلا فالاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد وهذا فيما تغير اجتهاده في حق نفسه فلو تغير في حق غيره كما إذا أفتى مقلده بصحة نكاح المختلعة ثلاثا ونكحها المقلد عملا بفتواه ثم تغير اجتهاده ولم يكن الحكم قد حكم بصحة النكاح قبل تغير اجتهاده فالمختار أنه يجب عليه تسريحها كما في حق نفس المجتهد ولو قال مجتهد للمقلد والصورة هذه أخطأ بك من قلدته فإن كان الذي قلده أعلم من الثاني أو استويا فلا أثر له لقوله وإن كان الثاني أعلم قال الرافعي فالقياس إما أن أوجبنا تقلدا لأعلم فهو كما لو تغير اجتهاد مقلده وإلا فلا أثر له قال النووي وهذا ليس بشيء بل بوجه الجزم بأنه لا يلزمه بشيء ولا أثر لقول الثاني
خاتمة :القاضي إذا حكم في هذه الواقعة ثم تغير اجتهاده لم يكن له النقض(15/422)
ص -266-…لكون المسألة اجتهادية ولنا فيما إذا حكم الحاكم بحكم ثم انقدح له ما لو كان مقارب لمنع الحكم قول بليغ فلنورده فنقول ذلك على أقسام
أحدها :أن يكون أمرا متجددا لم يكن حالة الحكم مثاله أن يباع مال يتيم بقيمته لحاجته ويحكم بصحة البيع ثم نقلوا الأسعار بعد ذلك فتصير قيمته أكثر فهذا لاعتبار به لأن الشرط البيع بالقيمة ذلك الوقت لا بعده
الثاني :أن يحكم باجتهاده لدليل أو إمارة ثم يظهر له دليل أو أمارة أرجح من الأول ولا ينتهي إلى ظهور النص بهذا أيضا لاعتبار به وإن كان لو قارن لوجب الحكم به لأن الحكم بالراجح وإن كان واجبا لكن الرجحان حاصل الآن في ظنه ولا يدري لو حصل ذلك الاحتمال عنده حالة الحكم هل يكون عنده راجحا أو مرجوحا والاعتبار إنما هو بالرجحان حال الحكم ولا يلزم من الرجحان في وقت الرجحان في وقت غيره لتفاوت الظنون بحسب الأوقات وما يكون فيها من أمور لا تنحصر يتغير بها الظن ولا يتمكن الظان من الحزم بأن الظن الذي عنده في وقت آخر لكان مستمرا ورجحان الاعتقاد إنما يحصل حالا فحالا وأما اعتقاد الرجحان فقد يكون يعتقد في وقت قطعا رجحان أمر عنده في الماضي وهو من الأمور الوجدانيات ليس مما نحن فيه سيأتي قسم منه هنا فاضبط هذا هنا لتنتفع به إذا قلناه
الثالث :أن يظهر دليل أو أمارة تساوي الأول فبطريق الأولى لا اعتبارية وإن كان لو قارن لمنع من الحكم وبهذا تعلم أن إطلاق من أطلق أنه إذا ظهر بعد الحكم ما لو قارن لمنع من الحكم بنقض الحكم ليس بجيد
الرابع :أن يظهر نص أو إجماع أو قياس جلي بخلافه فينتقض الحكم لأن ذلك أمر مقطوع به فلم ينقضه بظن وإنما ينقضه بالدليل القاطع على تقديم النص والإجماع والقياس الجلي على الاجتهاد فهو أمر لو قارن العلم به لوجب تقديمه قطعا فلذلك نقض به(15/423)
الخامس :أن يظهر أمر لو قارن لمنع ظنا لا قطعا كبينة الداخل فإن في تقديمهما على بينة الخارج خلافا فهو أمر مظنون مجتهد فيه ولكن الحاكم الذي(15/424)
ص -267-…يراه اجتهادا أو تقليدا قاطع بظنه ووجوب العمل به فلو قارن لوجب الحكم به وهو يعلم من نفسه أنه إنما يحكم به فإذا حكم الخارج معتقدا أنه لا بينة للداخل ثم جاءت البينة فقد ظهر أمر لو قارن لمنع ظنا والظن سابق معلوم الآن وهذا هو اعتقاد الرجحان الذي أشرنا إليه من قبل وقد اختلف الأصحاب ها هنا في النقض فمن ذهب إلى أنه لا ينقض فوجهه أنه أمر مجتهد فيه ومن قال بالنقض فوجهه أنه عالم بظنه وبأنه إنما حكم معتقدا عدم بينة الخارج فهو قاطع بما كان يمنعه من الحكم لو قارن فانظر هذا التفاوت بين المراتب وأن هذه المرتبة بين ظهور النص وبين الظهور الدليل الراجح والمساوي فلذلك نقض في النص قطعا ولم ينقض في الدليل أن الإمارة قطعا وحصل التردد في هذا على وجهين
السادس :أن يظهر معارض محض من غير مرجح كما إذا حكم للخارج ببينة ثم جاءت بينة لمخارج آخر فهذه البينة لو قارنت فلمنعت الحكم للتعاوض فإذا ظهرت بعد الحكم فلو أيده الله تعالى في المسألة احتمالان أحدهما أن يقال إنه كظهور الإمارة المساوية فلا ينقض به قطعا أو رجحهما عندي أنها ليست كالإمارة المساوية لأن مساواة الإمارة المساوية مظنونة وجاز أن يضعف في وقت آخر ويستمر رجحان الإمارة المحكوم بها لعدم الوثوق بالظنون وجاز أنها لاحت له في وقت الحكم لكانت مرجوحة غير مساوية وأما البينة إذا عارضت أخرى فمساواتها معلومة ما يؤس فيها من الترجيح فلا يبقى لاحتمال استمرار ذلك الحكم أو غيره فيرد الأمر إلى ما كان عليه قبل الحكم ويقف لقطعنا باستواء الجانبين بخلاف الإمارات التي لا يورث بحال الظنون فيها فإنه لو لم يمض الحكم فيها أدى إلى عدم استمرار الأحكام وأن لا يحكم بشيء(15/425)
وقد مال والدي أيده الله إلى ترجيح الأول وقال لم أجد في كلام الأصحاب إلى الآن ما اعتضد به في الجزم بأحدهما غير أني أميل إلى عدم النقض وأن الحاكم لا يحكم ولا ينقض إلا بمستند ولك أن تقول ظهور ما يقع بمساواته مستند وقد تخلص من هذا أن العلم بمقارنة ما يقطع بتقديمه على مستند الحكم موجب لنقضه قطعا والعلم بمقارنة ما يظن تقديمه فيه وجهان كبينة(15/426)
ص -268-…الداخل والعلم بمقارنة ما يمنع الحكم ويوجب التوقف فيه الاحتمالان المذكوران وهذا هو القسم السادس والذي قبله الخامس والذي قبله الرابع والثلاثة الأول لا نقض فيها قطعا أما الأول فللعلم بعدم المقارنة وأما الثاني والثالث فللشك فيها وعدم استقرار الإحكام
قال الباب الثاني في الإفتاء وفيه مسائل الأولى يجوز الإفتاء للمجتهد
ومقلد الحي واختلف في تقليد الميت لأن لا قول له لانعقاد الإجماع على خلافه والمختار جوازه عليه في زماننا
"ش" يشتمل هذا الباب على ثلاثة مسائل الأولى النظر فيما يتعلق بالمفتي أعلم أنه يجوز للمجتهد الإفتاء
وأما المقلد فقال أبو الحسين البصري وجماعة لا يجوز له الإفتاء مطلقا وذهب قوم إلى الجواز مطلقا إذا عرف المسألة بدليلهما وذهب الأكثرون إلى أنه إن تبحر في مذهب ذلك المجتهد واطلع على ما أخذه وكان أهلا للنظر والتفريع على قواعده جاز له الفتوى وإلا فلا وقال آخرون إن عدم المجتهد جاز وإلا فلا وقالت طائفة يجوز لمقلد الحي أن يفتى بما شافهه به أو نقله إليه موثوق بقوله أو وجده مكتوبا في كتاب معتمد عليه ولا يجوز لمقلد الميت هذا شرح ما في الكتاب وعبارته قد توهم اختصاص الخلاف بمقلد الميت وهو جاز مطلقا وقد توهم أن اختياره جواز إفتاء المقلد العامي والظن به إن لم يختر هذا المذهب وإن كان وجها في المذهب فقد قال القاضي في مختصر التقريب أجمعوا على أنه لا يحل لمن شذ أشياء من العلم أن يفتي وإنما قال المصنف في تقليد الميت ولم يقل في مقلد الميت مع أن الغرض حكم إفتاء مقلد الميت لا بيان حكم تقليده ليشير إلى أن جواز إفتائه مشروط بصحة تقليده فيلزم من الخلاف فيها الخلاف في إفتائه قوله لأنه لا قول له أي احتج من منع تقليد الميت بأن الميت لا قول له بدليل انعقاد الإجماع على خلافه ولو كان ذا قول لم ينعقد مع مخالفته كالحي وإذا لم يكن له لم يجز تقليده(15/427)
واستدل المصنف على اختياره بالإجماع عليه في زماننا وهذا قد ذكره الإمام فقال انعقد الإجماع في زماننا على جواز العمل بهذا النوع لأنه ليس(15/428)
ص -269-…في هذا الزمان مجتهد والإجماع حجة ولقائل أن يقول لا يجامع قولك ليس في هذا الزمان مجتهد قولك إجماع أهل الزمان حجة لأن الإجماع المعتبر هو إجماع المجتهدين
قال الثانية يجوز الإفتاء للعامي
لعدم تكليفهم في شيء من الإعصار بالاجتهاد وتفويت معائشهم واستضرارهم بالاشتغال بأسبابه دون المجتهد لأنه مأمور باعتبار قيل معارض بعموم فاسألوا {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} وقول عبد الرحمن لعثمان أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرة الشيخين قلنا الأول مخصوص وإلا لوجب بعد الاجتهاد والثاني في الأقضية والمراد من السيرة لزوم العدل
"ش" هذه المسألة ناظرة فيما يتعلق كالمفتى باحثة عمن يجوز له الاستفتاء ومن لا يجوز فنقول للمكلف حالات الأولى أن يكون عاميا صرفا لم يحصل شيئا من العلوم التي يترقى بها إلى منازل المجتهدين فالجماهير على أنه يجوز له الاستفتاء ويجب عليه التقليد في فروع الشريعة جميعها ولا ينفعه ما عنده من علوم لا تؤدي إلى الاجتهاد وإن كانت عدد الحصى ومنع منه معتزلة بغداد مطلقا وقالوا يجب عليه الوقوف على طريق الحكم ولا يرجع إلى العالم إلا لينبهه على أصولها وطريقة النظر فيها قال القاضي عبد الوهاب وعلى هذا جعفر بن مبشر وجعفر بن حرب منهم وفصل الجبائي فقال يجوز في المسائل الاجتهادية دون ما عداها كالعبادات الخمس الحالة الثانية العالم الذي تعالى عن رتبة العامة بتحصيل بعض العلوم المعتبرة ولم يحط بمنصب الاجتهاد فالمختار في أن حكمه حكم العامي الصرف لعجزه عن الاجتهاد
وقال قوم لا يجوز له ذلك ويجب عليه معرفة الحكم بطريقة لأن له صلاحية معرفة طرق الأحكام بخلاف العامي
واستدل المصنف على جواز الاستفتاء للعامي سواء كان عاميا وهو المذكور في الحالة الأولى أو عالما وهو المذكور في الثانية بوجهين(15/429)
أحدهما إجماع السلف عليه إذ لم يكلفوا العوام في عصر من الأعصار(15/430)
ص -270-…بالاجتهاد بل قنعوا منهم بمجرد أخذ الأحكام من أقوالهم من غير بيان ما أخذها فإن قلت دعوى قيام الإجماع على إفتاء المستفتين صحيحة ولكن من أين لكم أن المستفتين لم يسألوا عن بيان المأخذ قلت لم ينقل ذلك ولا لأم أحد العوام على تركهم السؤال عن وجه دلالة الدليل ويعلم قطعا أنهم كانوا لا يذكرون الدليل عند الإفتاء مع علمهم بجهل المستفتي به والثاني أن وجود ذلك عليهم يؤدي إلى تفويت معائشهم واستضرارهم بالاشتغال بأسبابه وذلك مؤذن باختلال نظام العالم وفساد الأحوال فإن قلت هذا يقتضي أن لا يجب النظر في أصول الدين وأن يجوز فيه التقليد لأنا نعلم أن الصحابة والتابعين ما كانوا يلومون من لم يتعلم علم الكلام بل ربما لاموا المشتغل به مع أنه يلوم منه تعطيل أمور المعايش لأن غرض أدلة الكلام أكثر قلت إن سلمنا عدم جواز التقليد فيه فالفرق أن مطالبة معدودة محصورة لا تتكرر وأكثر أدلتها قواطع تحمل الطبع السليم على الإذعان لها بخلاف الأحكام الفرعية فإنها غير متناهية وأكثر أدلتها ظنون تضطرب بحسب الأذهان فكان تحصيل رتبة الاستدلال فيها محتاجا إلى الانقطاع عن الاشتغال بغيرها فأرى إلى ما ذكرناه واحتج الجبائي بأن الحق في المسائل الاجتهادية متعدد بخلاف غيرها فإنه واحد فالتقليد فيه لا يؤمن من الوقوع في غير الحق والجواب بعد تسليم أن كل قول في المجتهدات حق أنه لا يؤمن فيها أيضا من الوقوع في الخطأ لاحتمال تقصير المجتهد في الاجتهاد أو أن لا يجتهد أو يفتي بخلاف الاجتهاد
"تنبيه" ذهب معظم الأصوليون إلى أن القول بأن العامي مقلد للمفتي فيما يأخذ منه لأن التقليد إن عرف بأن قبول قول القائل بلا حجة فقد تحقق ذلك إذ ليس قوله في نفسه بحجة وإن عرف بأنه قبول قول القائل مع الجهل بأخذه تحقق في قول المفتي أيضا(15/431)
قال القاضي في مختصر التقريب والذي نختاره أن ذلك بتقليد أصلا فإن قول العالم حجة في قول المستفتى نصبه الرب تعالى علما في حق العامي وأوجب عليه العمل به كما أوجب على المجتهد العمل باجتهاده واجتهاده علم علمه وقوله علم على المستفتى ويخرج لك من هذا من لا يتصور تقليد مباح في الشرعية لا في(15/432)
ص -271-…الأصول ولا في الفروع إذ التقليد على ما عرفه القاضي هو اتباع على من لم يقم باتباعه حجه ولم يستند إلى علم قال ولو شاع تسمية العام مقلدا مع أن قول العالم في حقه واجب الإتباع جاز أن يسمي التمسك بالنصوص وغيرها من الدلائل مقلد قوله دون المجتهد هذا هو الحال الثاني وهو أن يبلغ المكلف رتبة الاجتهاد فإن كان قد اجتهد في المسألة ووضح في ظنه وجه الصواب لم يقلد غيره بلا ريب وإن لم يكن قد اجتهد فيها فهي مسألة الكتاب وقد اختلفوا فيها على مذاهب
الأول المنع من التقليد وإليه ذهب أكثر الفقهاء وجمع من الأصوليين منهم القاضي واختاره المصنف تبعا للإمام وهو المختار عند الآمدي وابن الحاجب والثاني التجويز مطلقا وعليه سفيان الثوري وأحمد وإسحاق والثالث يجوز تقليد الصحابة فقط والرابع يجوز تقليد الصحابة والتابعين دون غيرهم والخامس يجوز تقليد العالم لأعلم منه ولا يجوز لمساويه ودونه وإليه ذهب محمد بن الحسن والسادس يجوز التقليد فيما يخصه دون ما يفتى به والسابع أنه يجوز فيما يخصه إذا خشي فوات الوقت باشتغاله بالحادثة وهو رأي أبي العباس ابن سريج
والثامن أنه يجوز للقاضي دون غيره واستدل المصنف على أن المجتهد لا يجوز له التقليد مطلقا بأنه مأمور بالاعتبار في قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا} فإذا تركه يكون تاركا للمأمور به فيعصى ولا يرد العامي لأنه خرج من عموم الأمر بدليل عجزه عن الاجتهاد هذا إن جعلناه مقلدا وإن لم نجعله مقلدا كما قال القاضي فلا سؤال وجعل الآمدي المعتمد في المسألة أن يقال جواز تقليد المجتهد للمجتهد حكم شرعي فلا بد عليه من دليل والأصل عدم ذلك الدليل فعلى مدعيه بيانه والقياس على العامي لا يصلح أن يكون دليلا لما عرفت من الفرق ولمعارض أن يقول القول بوجوب الاجتهاد على المجتهد فيما نزل به من الوقائع مطلقا وحرمة التقليد عليه حكم شرعي فلا بد عليه من دليل وعلى مدعيه بيانه(15/433)
قوله قيل معارض أي عارض الخصم الاستدلال على منع التقليد للمجتهد بأوجه(15/434)
ص -272-…الأول قوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُون1} والعالم قبل أن يجتهد لا يعلم فوجب تجويز الاجتهاد له
والثاني قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ2} والعلماء هم أولوا الأمر لأن أمورهم تنفذ على الأمراء والولاة
والثالث :إجماع الصحابة روى أحمد عن سفيان بن وكيع بن الجراح قال حدثنا قبيصة قال حدثنا أبو بكر بن عياش عن عاصم عن وائل قال قلت لعبد الرحمن بن عوف كيف بايعتم عثمان وتركتم عليا فقال ما ذنبي قد بدأت هكذا لعلي فقلت أبايعك على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرة أبي بكر وعمر فقال فيما استطعت ثم عرضت ذلك على عثمان فقال نعم فقد التزم عثمان ذلك بمحضر من عظام الصحابة من غير نكير عليه فكان إجماعا على جواز أخذ المجتهد بقول المجتهد الميت وإذا ثبت في الميت ثبت في الحي بطريق الأولى
وأجاب المصنف عن الأول بأنه عام مخصوص بالمقلدين وإلا لوجب الاجتهاد على المجتهد بعد اجتهاده لأنه بعد الاجتهاد أيضا ليس بعالم بل هو ظان وذلك باطل بالإجماع ولقائل أن يقول المراد بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُون} إن كنتم غير ذوي علم وذوي العلم صادق على من يتوصل إلى الأحكام بمسالك الظنون وهذا واضح بل الجواب أن السؤال مشروط بعدم العلم ولم يوجد في المجتهد لأنه عالم وقولكم قبل الاجتهاد لا يعلم قلنا لا يخرج عن كونه عالما بغيبوبة المسألة عن ذهنه مع تمكنه من معرفتها من غير احتياج إلى غيره
وأجاب الإمام أيضا بأن ظاهر الآية يقتضي وجوب السؤال على المجتهد وهو غير واجب بالاتفاق قلت وفي دعوى الاتفاق نظر فإن القائل بتجويزه إذا ضاق الوقت لا بد وأن يوجبه عليه والحالة هذه ولعله مراده بالاتفاق اتفاق الخصمين المانع مطلقا ومقابلة لأن البحث في هذا الدليل بينهما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنبياء آية 7(15/435)
2 سورة النساء آية 59(15/436)
ص -273-…وأجاب المصنف عن الثاني بأن الآية الأولى دلت على وجوب الطاعة في الأقضية والأحكام جمعا بين الأدلة وأيضا المتبادر إلى الفهم من إطلاق أولي الأمر والأمراء والحكام
وأجاب عن الثالث بأن المراد من سيرة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لزوم العدل والإنصاف والسنن المرضي في جميع الحالات لأنه من المتبادر إلى الذهن من السيرة وأيضا في سند الحديث سفيان ابن وكيع وقد قال فيه أبو زرعة متهم بالكذب
قال "الثالثة إنما يجوز في الفروع وقد اختلف في الأصول ولنا فيه نظر وليكن آخر كلامنا وبالله التوفيق"
"ش" هذه المسألة فيما يجوز فيه الاستفتاء وما لا يجوز فنقول أما الاستفتاء في الفروع فهو جائز على ما سلف فيه من الكلام وهو عمل العامي بقول المجتهد تقليدا فيه ما أوردناه عن القاضي والأصوليين
وأما الاستفتاء في الأصول فذهب كثير من الفقهاء وبعض المتكلمين كعبيد الله بن الحسين العنبري والحشوية والتعليمية إلى جوازه وربما بالغ بعضهم فقال التقليد واجب والنظر في ذلك حرام وذهب الباقون إلى عدم جوازه وأنه يجب على كل أحد معرفة الله وما يجب له من الأوصاف ويجوز عليه ويتقدس عنه وكذلك جملة العقائد بالنظر والاستدلال ولما كان محل المسألة علم الكلام لم يطل المصنف فيها ولتقاوم الأدلة عنده لم يجزم بشيء بل قال إن له فيه نظرا ونحن نورد نزرا يسيرا من معتصمات الفريقين أما مجوزو التقليد فاحتجوا بوجوه منها أن النظر في أصول الدين منهي عنه لقوله تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا1} {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ2} والنظر يفضي إلى فتح باب الجدال وروى أنه صلى الله عليه وسلم نهى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة غافر آية 4
2 سورة الزخرف آية النحل 58(15/437)
ص -274-…الصحابة لما رآهم يتكلمون في مسألة القدر وإذا كان منهيا عنه فلا يكون واجبا فيكون التقليد جائزا
وأجيب عنه بمنع كون النظر منهيا عنه والآيات محمولة على النهي عن الجدال بالباطل جمعا بين الأدلة فإن قوله تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ 1} {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ 2} وأثنى الله تعالى على الناظرين بقول: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ 3} وأما الحديث فلعل النبي صلى الله عليه وسلم لما علم صحة اعتقادهم وحقيقة يقينهم بما تلقوه عنه وشاهدوا من المعجزات الخوارق علم أن الجدال بعد ذلك لا يفيد شيئا وربما ورث شكا فنهاهم لذلك أما الشارح الذي لم يثبت عنده شيء فكيف لا يجب عليه السعي في إثبات يقينه والذب عن تأكيد دينه
ومنها أن النظر فيه مظنة الوقوع في الشكوك والشبهات والخروج إلى البدع وأجيب بأن التقليد لا بد أنه ينتهي إلى النظر والاستدلال لامتناع التسلسل وحينئذ ما ذكرتم من المحذور لازم التقليد مع زيادة محذور احتمال كذب المقلد فيما أخبر به المقلد عن اعتقاده وأما المانعون فاعتصموا بوجوه منها أن تحصيل العلم في أصول الدين كان واجبا على النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: "فأعلم أنه لا إله إلا الله" فيكون واجبا على أمته بقوله فاتبعوه ومنها أن التقليد مذموم شرعا في قوله تعالى حكاية عن قوم في معرض الذم لهم {إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ 4} ووجوه الحجج في المسألة عديدة وقد ذكرنا أن محلها علم الكلام فمن أراد الإحاطة به فهو محال على كتبه وبنجاز هذه المسألة تم هذا الشرح المبارك أسأل الله تعالى أن يجعله خالصا لوجهه الكريم موجبا للفوز لديه وأن يعم النفع به بمحمد وآله وصحبه(15/438)
وقد راعينا فيه جانب التوسط لأن الكتاب مختصر فالأليق بشارحه أن يحذو حذوه ولا يتعدى ممشاه فوق خطوة وقد كنا نروح ونغدو على المسألة وربما لم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النحل آية 125
2 سورة العنكبوت آية 46
3 سورة آل عمران آية 191
4 سورة الزخرف آية 23(15/439)
ص -275-…نخرج عن حد الشرح قدر أنملة وفي النفس حزازات من مباحث نترك ذكرها خشية التطويل ونسلك في الإضراب عنها سبيل غيرنا
وإن كنا لا نرتضي تلك السبيل على أنا لم نأل جهدا فيما وضعناه ولم نرض إلا أن نحله محل النجم وفي الظن أنا ما أنصفناه فإنا لم نغادر صغيرة ولا كبيرة مما يطالب الشارح بها إلا وقد جمعناها فيه مع زيادات من نقول وفوائد يهيم الفهم إذا سمعها طربا وينطق شاكرها ملء فيه ومباحث ما للبدر الكوامل إلا ما تطلع ولا العرب الأفراب إلا ما تفوه به بنات فكرها وتسمع لكن الكتاب مع أن الروض المبدعة ازهاره والواضح الجلي الذي ينضال لديه النهار وأنواره لم يعن على نفسه لقلة ما أودع فيه من المسائل ولم يبن عن جمع كبير فلم نهتم له ولا به وكيف لا وقد كنا نكتب فيه بأطراف الأنامل ونجيء إليه وقد سلمنا الطيب وقد وقالت النفس حطة وتعد عليه فنقول من رأى القلم يكتب والمهمة تملى عليه أما القلم قد أبل وليس في تلك شطة وفي عزمي والله الميسر أن أضع شرحا على مختصر ابن الحاجب بسيطا لا عذر لي إذا لم آت فيه بالعجب العجاب محيط بهذا العلم على أتم وجه لا أميط عنه إلا القشر عن اللباب والله المسؤول أن يوفقنا لصالح الأعمال ويجمعنا على العلم ونشره في كل حال بمنه وكرمه إنه المرجو خيره المأمول بسره والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين
قال المصنف أيده الله فرغت منه صبيحة يوم الجمعة السادس عشر من صفر المبارك سنة اثنين وخمسين وسبعمائة أحسن الله تقضيها بالمدرسة العادلية منزل سيدي ووالدي أحسن الله إليه من دمشق المحروسة وكتب مؤلفه عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي بن علي السبكي الشافعي أصلحه الله تعالى وكان له والحمد لله وحده وصلى الله علي سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين وحسبنا الله ونعم الوكيل.(15/440)
عنوان الكتاب:
الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية
تأليف:
جلال الدين عبد الرحمن السيوطي
911 هـ
الناشر:
دار الكتب العلمية بيروت - لبنان(16/1)
ص -3-…بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين, وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم,
نحمدك يا من تنزه في كماله عن الأشباه والنظائر, وتقدس في جلاله عن أن تدركه الأبصار, أو تحيط به الأفكار, أو تعزب عنه الضمائر, وتأزر بالكبرياء وتردى بالعظمة, فمن نازعه واحدا منهما فهو المقصوم البائر ونشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك شهادة يلوح عليها للإخلاص أماير, وتبهج قائلها بأعظم البشائر, يوم تبلى السرائر, ونشهد أن سيدنا محمدا عبدك ورسولك أفضل من نسلته من ظهور الأماثل وبطون الحرائر, وأرسلته لخير أمة أخرجت للناس ; فهديت به كل حائر, ومحيت به مظالم الجاهلية, وأحييت به معالم الإسلام والشعائر. وواعدته المقام المحمود وشفعته في الصغائر والكبائر, وكم بين شرائع دينك القويم, حتى ورثها من بعده أولي البصائر, صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ذوي الفضل السائر, صلاة وسلاما نعدهما يوم القيامة من أعظم الذخائر, دائمين ما سار الفلك الجاري ودار الفلك الدائر.
أما بعد: فعلم الفقه بحوره زاخرة, ورياضه ناضرة, ونجومه زاهرة, وأصوله ثابتة مقررة, وفروعه ثابتة محررة. لا يفنى بكثرة الإنفاق كنزه, ولا يبلى على طول الزمان عزه. أهله قوام الدين وقوامه, وبهم ائتلافه وانتظامه, هم ورثة الأنبياء, وبهم يستضاء في الدهماء, ويستغاث في الشدة والرخاء, ويهتدى كنجوم السماء, وإليهم المفزع في الآخرة والدنيا, والمرجع في التدريس والفتيا, ولهم المقام المرتفع على الزهرة العليا, وهم الملوك, لا بل الملوك تحت أقدامهم, وفي تصاريف أقوالهم وأقلامهم, وهم الذين إذا التحمت الحرب أرز الإيمان إلى أعلامهم, وهم القوم كل القوم إذا افتخر كل قبيل بأقوامهم:
بيض الوجوه, كريمة أحسابهم…شم الأنوف, من الطراز الأول(16/2)
ص -4-…ولقد نوعوا هذا الفقه فنونا وأنواعا, وتطاولوا في استنباطه يدا وباعا,
وكان من أجل أنواعه: معرفة نظائر الفروع وأشباهها, وضم المفردات إلى أخواتها وأشكالها. ولعمري, إن هذا الفن لا يدرك بالتمني, ولا ينال بسوف ولعل ولو أني, ولا يبلغه إلا من كشف عن ساعد الجد وشمر, واعتزل أهله وشد المئزر, وخاض البحار وخالط العجاج, ولازم الترداد إلى الأبواب في الليل الداج, يدأب في التكرار والمطالعة بكرة وأصيلا, وينصب نفسه للتأليف والتحرير بياتا ومقيلا, ليس له همة إلا معضلة يحلها, أو مستصعبة عزت على القاصرين فيرتقي إليها ويحلها, يرد عليه ويرد, وإذا عذله جاهل لا يصد, قد ضرب مع الأقدمين بسهم والغمر يضرب في حديد بارد, وحلق على الفضائل واقتنص الشوارد:
وليس على الله بمستنكر …أن يجمع العالم في واحد
يقتحم المهامه المهولة الشاقة, ويفتح الأبواب المرتجة, إذا قال الغبي لا طاقة, إن بدت له شاردة ردها إلى جوف الفرا, أو شردت عنه نادة اقتنصها ولو أنها في جوف السماء. له نقد يميز به بين الهباب والهباء, ونظر يحكم إذا اختلفت الآراء بفصل القضاء, وفكر لا يأتي عليه تمويه الأغبياء, وفهم ثاقب لو أن المسألة من خلف جبل قاف لخرقه حتى يصل إليها من وراء, على أن ذلك ليس من كسب العبد, وإنما هو فضل الله يؤتيه من يشاء.
هذا, وطالما جمعت من هذا النوع جموعا, وتتبعت نظائر المسائل أصولا وفروعا حتى أوعيت من ذلك مجموعا جموعا, وأبديت فيه تأليفا لطيفا, لا مقطوعا فضله ولا ممنوعا. ورتبته على كتب سبعة:
الكتاب الأول: في شرح القواعد الخمس التي ذكر الأصحاب أن جميع مسائل الفقه ترجع إليها.
الكتاب الثاني: في قواعد كلية يتخرج عليها ما لا ينحصر من الصور الجزئية, وهي أربعون قاعدة: الكتاب الثالث: في القواعد المختلف فيها, ولا يطلق الترجيح لظهور دليل أحد القولين في بعضها ومقابله في بعض, وهي عشرون قاعدة.(16/3)
الكتاب الرابع: في أحكام يكثر دورها, ويقبح بالفقيه جهلها: كأحكام الناسي, والجاهل والمكره والنائم والمجنون والمغمى عليه والسكران والصبي والعبد والمبعض, والأنثى, والخنثى, والمتحيرة, والأعمى, والكافر, والجان, والمحارم والولد, والوطء, والعقود, والفسوخ, والصريح, والكناية, والتعريض, والكتابة والإشارة, والملك, والدين, وثمن المثل, وأجرة المثل, ومهر المثل, والذهب والفضة(16/4)
ص -5-…والمسكن والخادم, وكتب الفقيه وسلاح الجندي, والرطب, والعنب, والشرط, والتعليق, والاستثناء, والدور, والحصر, والإشاعة, والعدالة, والأداء, والقضاء, والإعادة, والإدراك, والتحمل, والتعبدية, والموالاة ; وفروض الكفاية, وسننها والسفر, والحرم, والمساجد وغير ذلك. وفي ضمن ذلك قواعد وفوائد, وتتمات وزوائد, تبهج الناظر, وتسر الخاطر.
الكتاب الخامس: في نظائر الأبواب, أعني التي هي من باب واحد, مرتبة على, أبواب الفقه والمخاطب بهذا الباب والذي يليه المبتدئون.
الكتاب السادس: فيما افترقت فيه الأبواب المتشابهة.
الكتاب السابع: في نظائر شتى.
واعلم أن كل كتاب من هذه الكتب السبعة لو أفرد بالتصنيف لكان كتابا كاملا, بل كل ترجمة من تراجمه تصلح أن تكون مؤلفا حافلا.(16/5)
وقد صدرت كل قاعدة بأصلها من الحديث والأثر, وحيث كان في إسناد الحديث ضعف أعملت جهدي في تتبع الطرق والشواهد لتقويته على وجه مختصر, وهذا أمر لا ترى عينك الآن فقيها يقدر عليه, ولا يلتفت بوجهه إليه, وأنت إذا تأملت كتابي هذا علمت أنه نخبة عمر, وزبدة دهر, حوى من المباحث المهمات, وأعان عند نزول الملمات, وأنار مشكلات المسائل المدلهمات, فإني عمدت فيه إلى مقفلات ففتحتها, ومعضلات فنقحتها, ومطولات فلخصتها, وغرائب قل أن توجد منصوصة فنصصتها: واعلم أن الحامل لي على إبداء هذا الكتاب أني كنت كتبت من ذلك أنموذجا لطيفا في كتاب سميته [شوارد الفوائد: في الضوابط والقواعد] فرأيته وقع موقعا حسنا من الطلاب, وابتهج به كثير من أولى الألباب, وهذا الكتاب هو بالنسبة إلى هذا كقطرة من قطرات بحر, وشذرة من شذرات نحر. وكأني بالناس وقد افترقوا فيه فرقا: فرقة قد انطوى على الحسد جنوبهم, ورامت إطفاء نوره بأفواههم, وما هم ببالغيه إلا أن تقطع قلوبهم ; وكيف يقاس من نشأ في حجر العلم منذ كان في مهده, ودأب فيه غلاما وشابا وكهلا, حتى وصل إلى قصده, بدخيل أقام سنوات في لهو ولعب, وقطع أوقاتا يحترف فيها أو يكتسب, ثم لاحت منه التفاتة إلى العلم, فنظر فيه وما احتكم, وقنع منه بتحلة القسم, ورضي بأن يقال: عالم وما اتسم؟
أنا ابن دارة معروفا بها نسبي…وهل بدارة يا للناس من عار
على أنا لا نتكل على الأحساب والأنساب ولا نكل عن طلب المعالي بالاكتساب
لسنا وإن كنا ذوي حسب…يوما على الأحساب نتكل(16/6)
ص -6-…نبني كما كانت أوائلنا…تبني ونفعل مثل ما فعلوا
وأكثر ما عند هذه الفرقة: أن تزدري بالشباب, وبالشيخوخة افتخارها, وتلك شكاة ظاهر عنك عارها, ولو أنصفت لعرفت أن ذلك من سمات المدح, لا من وصمات القدح, وكفى بالرد عليها عند أولي الألباب ما ورد مرفوعا وموقوفا: "ما أوتي عالم علما إلا وهو شاب"
وفرقة: غلب عليها الجهل المركب, وبعد عنها طريق الخير وتنكب, لا تبرح جدالا ولا تعي مقالا, ولا تحسن جوابا ولا سؤالا, ليس لها دأب إلا أكل الحرام, والخوض في أعراض الأنام, وغمص الناس نهارا, وبالليل نيام, فهذه لا تصلح لخطاب ولا تأهل إذا غابت لأن تعاب والسلام.
وفرقة آتاها الله هداها, وألهمها تقواها, وزكاها مولاها, فرأت محاسنه وسناها, وفوائده التي لا تتناهى, فاعترفت بشكرها وثناها, واغترفت من بحرها ولم يلوها عذل عاذل ولا ثناها, وارتشفت من كؤوس حمياها, وانتشقت من, شذا عرف رياها, وهذه طائفة لا تكاد تراها, ولا نسمع بخبرها فوق الأرض وثراها, فحياها الله وبياها, وأمطر علينا سحائب فضله وإياها.
فصل: اعلم أن فن الأشباه والنظائر فن عظيم,
به يطلع على حقائق الفقه ومداركه, ومآخذه وأسراره, ويتمهر في فهمه واستحضاره, ويقتدر على الإلحاق والتخريج, ومعرفة أحكام المسائل التي ليست بمسطورة, والحوادث والوقائع التي لا تنقضي على ممر الزمان, ولهذا قال بعض أصحابنا: الفقه معرفة النظائر.
وقد وجدت لذلك أصلا من كلام عمر بن الخطاب(16/7)
أخبرنا شيخنا الإمام تقي الدين الشمني, أخبرنا أبو الحسن بن عبد الكريم, أخبرنا أبو العباس أحمد بن يوسف "ح" وكتب إلي عاليا أبو عبد الله محمد بن مقبل الحلبي, عن محمد بن علي الحراوي قال: أخبرنا الحافظ أبو محمد الدمياطي, أخبرنا الحافظ أبو الحجاج بن خليل, أخبرنا أبو الفتح بن محمد, أخبرنا إسماعيل بن الفضل أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد "ح" قال الدمياطي: وأنبأنا عاليا أبو الحسن بن المقير, أخبرنا المبارك بن أحمد إجازة, أنبأنا أبو الحسن بن المهتدي بالله قالا: أنبأنا الإمام أبو الحسن الدارقطني, حدثنا أبو جعفر محمد بن سليمان النعماني, حدثنا عبد الله عبد الصمد بن أبي خداش, حدثنا, عيسى بن يونس, حدثنا عبيد الله بن أبي حميد عن أبي المليح الهذلي قال:
كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري
أما بعد: فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة فافهم إذا أدلي إليك(16/8)
ص -7-…فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له, لا يمنعك قضاء قضيته, راجعت فيه نفسك, وهديت فيه لرشدك, أن تراجع الحق, فإن الحق قديم, ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل, الفهم الفهم فيما يختلج في صدرك, مما لم يبلغك في الكتاب والسنة, اعرف الأمثال والأشباه ثم قس الأمور عندك, فاعمد إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق, فيما ترى".
هذه قطعة من كتابه, وهي صريحة في الأمر بتتبع النظائر وحفظها, ليقاس عليها ما ليس بمنقول.
وفي قوله: "فاعمد إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق" إشارة إلى أن من النظائر ما يخالف نظائره في الحكم لمدرك خاص به وهو الفن المسمى بالفروق, الذي يذكر فيه الفرق بين النظائر المتحدة تصويرا ومعنى, المختلفة حكما وعلة.
وفي قوله: "فيما ترى" إشارة إلى أن المجتهد إنما يكلف بما ظنه صوابا, وليس عليه أن يدرك الحق في نفس الأمر, ولا أن يصل إلى اليقين, وإلى أن المجتهد لا يقلد غيره.
الكتاب الأول: في شرح القواعد الخمس التي ذكر الأصحاب أن جميع مسائل الفقه ترجع إليها
حكى القاضي أبو سعيد الهروي: أن بعض أئمة الحنفية بهراة بلغه أن الإمام أبا طاهر الدباس إمام الحنفية بما وراء النهر, رد جميع مذهب أبي حنيفة إلى سبع عشرة قاعدة, فسافر إليه. وكان أبو طاهر, ضريرا وكان يكرر كل ليلة تلك القواعد بمسجده بعد أن يخرج الناس منه فالتف الهروي بحصير, وخرج الناس, وأغلق أبو طاهر المسجد وسرد من تلك القواعد سبعا, فحصلت للهروي سعلة فأحس به أبو طاهر فضربه وأخرجه من المسجد, ثم لم يكررها فيه بعد ذلك, فرجع الهروي إلى أصحابه, وتلا عليهم تلك السبع.
قال القاضي أبو سعيد: فلما بلغ القاضي حسينا ذلك رد جميع مذهب الشافعي إلى أربع قواعد:
الأولى: اليقين لا يزال بالشك. وأصل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان ليأتي أحدكم وهو في صلاته, فيقول له: أحدثت فلا ينصرف, حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا".(16/9)
والثانية: المشقة تجلب التيسير قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وقال صلى الله عليه وسلم: "بعثت بالحنيفية السمحة".
الثالثة: الضرر يزال. وأصلها قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار"
الرابعة: العادة محكمة, لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن" انتهى.(16/10)
ص -8-…قال بعض المتأخرين: في كون هذه الأربع دعائم الفقه كله نظر, فإن غالبه لا يرجع إليها إلا بواسطة وتكلف,.
وضم بعض الفضلاء إلى هذه قاعدة خامسة وهي: الأمور بمقاصدها, لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات", وقال: "بني الإسلام على خمس", والفقه على خمس.
قال العلائي: وهو حسن جدا, فقد قال الإمام الشافعي يدخل في هذا الحديث ثلث العلم.
وقال الشيخ تاج الدين السبكي: التحقيق عندي أنه إن أريد رجوع الفقه إلى خمس بتعسف وتكلف وقول جملي, فالخامسة داخلة في الأولى, بل رجع الشيخ عز الدين بن عبد السلام الفقه كله إلى اعتبار المصالح ودرء المفاسد, بل قد يرجع الكل إلى اعتبار المصالح, فإن درء المفاسد من جملتها. ويقال على هذا: واحدة من هؤلاء الخمس كافية, والأشبه أنها الثالثة, وإن أريد الرجوع بوضوح, فإنها تربو على الخمسين, بل على المئين ا هـ.
وها أنا أشرح هذه القواعد, وأبين ما فيها من النظائر.
القاعدة الأولى: الأمور بمقاصدها
فيها مباحث:
[الأول]: الأصل في هذه القاعدة قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات",
وهذا حديث صحيح مشهور أخرجه الأئمة الستة وغيرهم من حديث عمر بن الخطاب, والعجب أن مالكا لم يخرجه في الموطإ, وأخرجه ابن الأشعث في سننه من حديث علي بن أبي طالب الدارقطني في غرائب مالك, وأبو نعيم في الحلية من حديث أبي سعيد الخدري, وابن عساكر في أماليه من حديث أنس, كلهم بلفظ واحد وعن البيهقي في سننه من حديث أنس: "لا عمل لمن لا نية له", وفي مسند الشهاب من حديثه: "نية المؤمن خير من عمله", وهو بهذا اللفظ في معجم الطبراني الكبير من حديث سهل بن سعد والنواس بن سمعان, وفي مسند الفردوس للديلمي من حديث أبي موسى.(16/11)
وفي الصحيح من حديث سعد بن أبي وقاص: "إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت فيها حتى ما تجعل في في امرأتك", ومن حديث ابن عباس: "ولكن جهاد ونية", وفي مسند أحمد من حديث ابن مسعود: "رب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته". وعند ابن ماجه من حديث أبي هريرة وجابر بن عبد الله: "يبعث الناس على نياتهم", وفي السنن الأربعة من حديث عقبة بن عامر: "إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة", وفيه: "وصانعه يحتسب في صنعته الأجر", وعند النسائي من حديث أبي ذر, "من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم يصلي من الليل فغلبته عينه حتى يصبح كتب له ما نوى". وفي معجم الطبراني من حديث صهيب(16/12)
ص -9-…"أيما رجل تزوج امرأة فنوى أن لا يعطيها من صداقها شيئا مات يوم يموت وهو زان, وأيما رجل اشترى من رجل بيعا فنوى أن لا يعطيه من ثمنه شيئا مات يوم يموت وهو خائن", وفيه أيضا من حديث أبي أمامة: "من أدان دينا وهو ينوي أن يؤديه أداه الله عنه يوم القيامة, ومن أدان دينا وهو ينوي أن لا يؤديه فمات قال الله يوم القيامة: ظننت أني لا آخذ لعبدي بحقه؟ فيؤخذ من حسناته فتجعل في حسنات الآخر, فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات الآخر, فجعلت عليه".
المبحث الثاني: فيما يرجع إلى هذه القاعدة من أبواب الفقه
اعلم أنه قد تواتر النقل عن الأئمة في تعظيم قدر حديث النية.
قال أبو عبيدة: ليس في أخبار النبي صلى الله عليه وسلم شيء أجمع وأغنى وأكثر فائدة منه, واتفق الإمام الشافعي وأحمد بن حنبل وابن مهدي, وابن المديني, وأبو داود, والدارقطني وغيرهم على أنه ثلث العلم, ومنهم من قال: ربعه, ووجه البيهقي كونه ثلث العلم: بأن كسب العبد يقع بقلبه ولسانه وجوارحه, فالنية أحد أقسامها الثلاثة وأرجحها ; لأنها قد تكون عبادة مستقلة, وغيرها يحتاج إليها ومن ثم ورد: "نية المؤمن خير من عمله".
وكلام الإمام أحمد يدل على أنه أراد بكونه ثلث العلم, أنه أحد القواعد الثلاث التي ترد إليها جميع الأحكام عنده فإنه قال: أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث: حديث: "الأعمال بالنية" وحديث: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"1 وحديث: "الحلال بين والحرام بين".
وقال أبو داود: مدار السنة على أربعة أحاديث: حديث: "الأعمال بالنيات", وحديث: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه", وحديث: "الحلال بين والحرام بين", وحديث: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا", وفي لفظ عنه: يكفي الإنسان لدينه أربعة أحاديث, فذكرها, وذكر بدل الأخير: حديث: "لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يرضى لأخيه ما يرضى لنفسه".(16/13)
وعنه أيضا: الفقه يدور على خمسة أحاديث: "الأعمال بالنيات", "والحلال بين", "ولا ضرر ولا ضرار", "وما نهيتكم عنه فانتهوا وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم"2.
وقال الدارقطني: أصول الأحاديث أربعة: "الأعمال بالنيات", "ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه", "والحلال بين", "وازهد في الدنيا يحبك الله".
وحكى الخفاف من أصحابنا في كتاب الخصال عن ابن مهدي وابن المديني: أن مدار الأحاديث على أربعة: "الأعمال بالنيات", و "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث", و "بني الإسلام على خمس", و "البينة على المدعي واليمين على من أنكر",
وقال ابن مهدي أيضا: حديث النية يدخل في ثلاثين بابا من العلم.
وقال الشافعي: يدخل في سبعين بابا.
قلت: وهذا ذكر ما يرجع إليه من الأبواب إجمالا:
من ذلك: ربع العبادات بكماله, كالوضوء, والغسل فرضا ونفلا, ومسح الخف في مسألة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه مسلم بلفظ: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد.
2 رواه البخاري ومسلم بلفظ: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فأجتنبوه"(16/14)
ص -10-…الجرموق إذا مسح الأعلى, وهو ضعيف, فينزل البلل إلى الأسفل, والتيمم, وإزالة النجاسة على رأي, وغسل الميت على رأي, والأواني في مسألة الضبة بقصد الزينة أو غيرها, والصلاة بأنواعها: فرض عين وكفاية, وراتبة وسنة, ونفلا مطلقا, والقصر, والجمع, والإمامة والاقتداء وسجود التلاوة والشكر, وخطبة الجمعة على أحد الوجهين, والأذان, على رأي, وأداء الزكاة, واستعمال الحلي أو كنزه, والتجارة, والقنية, والخلطة على رأي, وبيع المال الزكوي, وصدقة التطوع, والصوم فرضا ونفلا, والاعتكاف, والحج والعمرة كذلك, والطواف فرضا واجبا وسنة, والتحلل للمحصر, والتمتع على رأي, ومجاوزة الميقات, والسعي, والوقوف على رأي, والفداء, والهدايا, والضحايا فرضا ونفلا, والنذور, والكفارات, والجهاد والعتق والتدبير, والكتابة, والوصية, والنكاح, والوقف, وسائر القرب, بمعنى توقف حصول الثواب على قصد التقرب بها إلى الله تعالى, وكذلك نشر العلم تعليما وإفتاء وتصنيفا, والحكم بين الناس وإقامة الحدود, وكل ما يتعاطاه الحكام والولاة, وتحمل الشهادات وأداؤها. بل يسري ذلك إلى سائر المباحات إذا قصد بها التقوي على العبادة أو التوصل إليها, كالأكل, والنوم, واكتساب المال وغير ذلك, وكذلك النكاح والوطء إذا قصد به إقامة السنة أو الإعفاف أو تحصيل الولد الصالح, وتكثير الأمة, ويندرج في ذلك ما لا يحصى من المسائل.
ومما تدخل فيه من العقود ونحوها: كنايات البيع والهبة, والوقف, والقرض, والضمان, والإبراء, والحوالة, والإقالة, والوكالة, وتفويض القضاء, والإقرار, والإجارة والوصية, والعتق, والتدبير, والكتابة, والطلاق, والخلع, والرجعة, والإيلاء, والظهار, والأيمان, والقذف, والأمان.(16/15)
ويدخل أيضا فيها في غير الكنايات في مسائل شتى: كقصد لفظ الصريح لمعناه, ونية المعقود عليه في المبيع والثمن, وعوض الخلع, والمنكوحة, ويدخل في بيع المال الربوي ونحوه وفي النكاح إذا نوى ما لو صرح به بطل.
وفي القصاص في مسائل كثيرة منها تمييز العمد وشبهه من الخطأ, ومنها إذا قتل الوكيل في القصاص, إن قصد قتله عن الموكل, أو قتله بشهوة نفسه. وفي الردة, وفي السرقة فيما إذا أخذ آلات الملاهي بقصد كسرها وإشهارها أو بقصد سرقتها, وفيما إذا أخذ الدائن مال المدين بقصد الاستيفاء, أو السرقة, فلا يقطع في الأول, ويقطع في الثاني وفي أداء الدين, فلو كان عليه دينان لرجل, بأحدهما رهن, فأدى أحدهما ونوى به دين الرهن, انصرف إليه والقول قوله في نيته. وفي اللقطة بقصد الحفظ أو التمليك, وفيما لو أسلم على أكثر من أربع, فقال: فسخت نكاح هذه, فإن نوى به الطلاق كان تعيينا لاختيار النكاح, وإن نوى الفراق أو أطلق حمل على اختيار الفراق, وفيما لو وطئ أمة بشبهة, وهو يظنها زوجته الحرة, فإن الولد ينعقد حرا وفيما لو تعاطى فعل شيء مباح له, وهو يعتقد عدم حله, كمن وطئ امرأة يعتقد أنها(16/16)
ص -11-…أجنبية, وأنه زان بها, فإذا هي حليلته أو قتل من يعتقده معصوما, فبان أنه يستحق دمه, أو أتلف مالا لغيره, فبان ملكه.
قال الشيخ عز الدين: يجري عليه حكم الفاسق لجرأته على الله ; لأن العدالة إنما شرطت لتحصل الثقة بصدقه, وأداء الأمانة, وقد انخرمت الثقة بذلك, لجرأته بارتكاب ما يعتقده كبيرة.
قال: وأما مفاسد الآخرة فلا يعذب تعذيب زان ولا قاتل, ولا آكل مالا حراما لأن عذاب الآخرة مرتب على ترتب المفاسد في الغالب, كما أن ثوابها مرتب على ترتب المصالح في الغالب.
قال: والظاهر أنه لا يعذب تعذيب من ارتكب صغيرة ; لأجل جرأته وانتهاك الحرمة ; بل عذابا متوسطا بين الصغيرة والكبيرة.
وعكس هذا: من وطئ أجنبية وهو يظنها حليلة له لا يترتب عليه شيء من العقوبات المؤاخذات المترتبة على الزاني اعتبارا بنيته ومقصده.
وتدخل النية أيضا: في عصير العنب بقصد الخلية والخمرية, وفي الهجر فوق ثلاثة أيام فإنه حرام, إن قصد الهجر وإلا فلا.
ونظيره أيضا: ترك الطيب والزينة فوق ثلاثة أيام لموت غير الزوج, فإنه إن كان بقصد الإحداد حرم وإلا فلا
وتدخل أيضا في نية قطع السفر, وقطع القراءة في الصلاة, وقراءة القرآن جنبا بقصده, أو بقصد الذكر. وفي الصلاة بقصد الإفهام, وفي غير ذلك وفي الجعالة إذا التزم جعلا لمعين, فشاركه غيره في العمل إن قصد إعانته, فله كل الجعل, وإن قصد العمل للمالك فله قسطه, ولا شيء للمشارك, وفي الذبائح.
فهذه سبعون بابا, أو أكثر, دخلت فيها النية كما ترى.
فعلم من ذلك فساد قول من قال إن مراد الشافعي بقوله: "تدخل في سبعين بابا من العلم" المبالغة وإذا عددت مسائل هذه الأبواب التي للنية فيها مدخل لم تقصر عن أن تكون ثلث الفقه أو ربعه.(16/17)
وقد قيل في قوله صلى الله عليه وسلم: "نية المؤمن خير من عمله": أن المؤمن يخلد في الجنة وإن أطاع الله مدة حياته فقط ; لأن نيته أنه لو بقي أبد الآباد لاستمر على الإيمان, فجوزي على ذلك بالخلود في الجنة, كما أن الكافر يخلد في النار, وإن لم يعص الله إلا مدة حياته فقط ; لأن نيته الكفر ما عاش.(16/18)
ص -12-…المبحث الثالث فيما شرعت النية لأجله
المقصود الأهم منها: تمييز العبادات من العادات, وتمييز رتب العبادات بعضها من بعض, كالوضوء والغسل, يتردد بين التنظف والتبرد, والعبادة, والإمساك عن المفطرات قد يكون للحمية والتداوي, أو لعدم الحاجة إليه, والجلوس في المسجد, قد يكون للاستراحة, ودفع المال للغير, قد يكون هبة أو وصلة لغرض دنيوي, وقد يكون قربة كالزكاة, والصدقة, والكفارة, والذبح قد يكون بقصد الأكل, وقد يكون للتقرب بإراقة الدماء, فشرعت النية لتمييز القرب من غيرها, وكل من الوضوء والغسل والصلاة والصوم ونحوها قد يكون فرضا ونذرا ونفلا, والتيمم قد يكون عن الحدث أو الجنابة وصورته واحدة, فشرعت لتمييز رتب العبادات بعضها من بعض.
ومن ثم ترتب على ذلك أمور:
أحدها: عدم اشتراط النية في عبادة لا تكون عادة أو لا تلتبس بغيرها, كالإيمان بالله تعالى, والمعرفة والخوف والرجاء, والنية, وقراءة القرآن, والأذكار ; لأنها متميزة بصورتها, نعم يجب في القراءة إذا كانت منذورة, لتمييز الفرض من غيره, نقله القمولي في الجواهر عن الروياني, وأقره.
وقياسه: إن نذر الذكر والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كذلك, نعم إن نذر الصلاة عليه كلما ذكر, فالذي يظهر لي أن ذلك لا يحتاج إلى نية لتميزه بسببه,.
وأما الأذان: فالمشهور أنه لا يحتاج إلى نية. وفيه وجه في البحر, وكأنه رأى أنه يستحب لغير الصلاة, كما سيأتي, فأوجب فيه النية للتمييز.(16/19)
وأما خطبة الجمعة: ففي اشتراط نيتها والتعرض للفرضية فيها خلاف في الشرح والروضة بلا ترجيح, وفي الكفاية: أنه مبني على أنها بمثابة ركعتين. ومقتضاه ترجيح أنها شرط, وجزم به الأذرعي في التوسط, وعندي خلافه, بل يجب أن لا يقصد غيرها. وأما التروك: كترك الزنا وغيره, فلم يحتج إلى نية لحصول المقصود منها وهو اجتناب المنهي بكونه لم يوجد, وإن يكن نية, نعم يحتاج إليها في حصول الثواب المترتب على الترك. ولما ترددت إزالة النجاسة بين أصلين: الأفعال من حيث إنها فعل, والتروك من حيث إنها قريبة منها جرى في اشتراط النية خلاف, ورجح الأكثرون عدمه تغليبا لمشابهة التروك.
ونظير ذلك أيضا: غسل الميت, والأصح فيه أيضا عدم الاشتراط ; لأن القصد منه التنظيف كإزالة النجاسة.
ونظيره أيضا نية الخروج من الصلاة ; هل تشترط؟ والأصح لا قال الإمام: لأن النية إنما تليق بالإقدام, لا بالترك.(16/20)
ص -13-…ونظيره أيضا: صوم التمتع والقران, هل يشترط فيه نية التفرقة؟ والأصح: لا ; لأنها حاصلة بدونها. ونظيره أيضا: نية التمتع هل تشترط في وجوب الدم؟ والأصح: لا ; لأنه متعلق بترك الإحرام للحج من الميقات, وذلك موجود بدونها.
ونظيره أيضا: نية الخلطة, هل تشترط؟ والأصح: لا ; لأنها إنما أثرت في الزكاة للاقتصار على مؤنة واحدة وذلك حاصل بدونها.
ومقابل الأصح في الكل راعى جانب العبادات, فقاس غسل الميت على غسل الجنابة, والتمتع على الجمع بين الصلاتين, فإنه جمع بين نسكين, ولهذا جرى في وقت نيته الخلاف في وقت نية الجمع, وفي الجمع وجه أنه لا يشترط فيه النية, واختاره البلقيني, قال: لأنه ليس بعمل, وإنما العمل الصلاة, وصورة الجمع حاصلة بدون نية ولهذا لا تجب في جمع التأخير, نعم يجب فيه أن يكون التأخير بنية الجمع ويشترط كون هذه النية في وقت الأولى بحيث يبقى من وقتها بقدر ما يسعها, فإن أخر بغير نية الجمع حتى خرج الوقت أو ضاق بحيث لا يسع الفرض عصى وصارت الأولى قضاء. هكذا جزم به الأصحاب ويقرب منه ما ذكر النووي في شرح المهذب. والتحقيق أن الأصح في الصلاة وفي كل واجب موسع إذا لم يفعل في أول الوقت أنه لا بد عند التأخير من العزم على فعله في أثناء الوقت والمعروف في الأصول خلاف ذلك, وقد جزم ابن السبكي في جمع الجوامع بأنه لا يجب العزم على المؤخر.
وأورد عليه ما ذكره النووي فيما تقدم.
فأجاب في منع الموانع: بأن مثل هذا لا يؤخذ من التحقيق ; ولا من شرح المهذب, وأن القول بالوجوب لا يعرف إلا عن القاضي ومن تبعه.(16/21)
قال: ولولا جلالة القاضي لقلت: إن هذا من أفحش الأقوال, ولولا أني وجدته منصوصا في كلامه, منقولا في كلام الإثبات عنه, لجوزت الزلل على الناقل لسفاهة هذا القول في نفسه, وهو قول مهجور في هذه الملة الإسلامية, أعتقد أنه خارق لإجماع المسلمين, ليس لقائله شبهة يرتضيها محقق, وهو معدود من هفوات القاضي, ومن العظائم في الدين, فإنه إيجاب بلا دليل. انتهى.
ضابط:
قال بعضهم: ليس لنا عبادة يجب العزم عليها ولا يجب فعلها سوى الفار من الزحف لا يجوز إلا بقصد التحيز إلي فئة, وإذا تحيز إليها لا يجب القتال معها في الأصح ; لأن العزم مرخص له في الانصراف لا موجب للرجوع.(16/22)
ص -14-…الأمر الثاني:
اشتراط التعيين فيما يلتبس دون غيره. قال في شرح المهذب: ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "وإنما لكل امرئ ما نوى" فهذا ظاهر في اشتراط التعيين, لأن أصل النية فهم من أول الحديث: "إنما الأعمال بالنيات".
فمن الأول: الصلاة, فيشترط التعيين في الفرائض, لتساوي الظهر والعصر فعلا وصورة, فلا يميز بينهما إلا التعيين, وفي النوافل غير المطلقة, كالرواتب, فيعينها بإضافتها إلى الظهر مثلا, وكونها التي قبلها أو التي بعدها, كما جزم به في شرح المهذب, والعيدين, فيعينهما بالفطر والنحر. وقال الشيخ عز الدين: ينبغي أن لا يجب التعرض لذلك ; لأنهما يستويان في جميع الصفات ; فيلحق بالكفارات والتراويح, والضحى, والوتر, والكسوف, والاستسقاء, فيعينها بما اشتهرت به هذا ما ذكر في الروضة, وأصلها وشرح المهذب, في باب صفة الصلاة.
وبقي نوافل أخر منها ركعتا الإحرام, والطواف. قال في المهمات: وقد نقل في الكفاية عن الأصحاب: اشتراط التعيين فيهما, وصرح بركعتي الطواف النووي في تصحيح التنبيه, وعدها فيما يجب فيه التعيين بلا خلاف.
قلت: وصرح بركعتي الإحرام في المناسك.
ومنها: التحية, فنقل في المهمات عن الكفاية أنها تحصل بمطلق الصلاة, ولا يشترط فيها التعيين بلا شك, وقال في شرح المنهاج: فيه نظر لأن أقلها ركعتان ولم ينوهما إلا أن يريد الإطلاق مع التقييد بركعتين. ومنها: سنة الوضوء, قال في المهمات: ويتجه إلحاقها بالتحية, وقد صرح بذلك الغزالي في الإحياء.
قلت: المجزوم به في الروضة في آخر باب الوضوء خلاف ذلك وأما الغزالي فإنه أنكر في الإحياء سنة الوضوء, أصلا ورأسا.
ومنها: صلاة الاستخارة والحاجة, ولا شك في اشتراط التعيين فيهما ولم أر من تعرض لذلك, لكن قال النووي في الأذكار: الظاهر أن الاستخارة تحصل بركعتين من السنن الرواتب, وبتحية المسجد, وبغيرها من النوافل.(16/23)
قلت: فعلى هذا يتجه إلحاقها بالتحية في عدم اشتراط التعيين, ومثلها صلاة الحاجة ومنها: سنة الزوال, وهي أربع ركعات: تصلى بعده لحديث ورد بها, وذكرها المحاملي في الكتاب وغيره, والمتجه أنها كسنة الوضوء فإن قلنا: باشتراط التعيين فيها, فكذا هنا وإلا فلا ; لأن المقصود إشغال ذلك الوقت بالعبادة. كما أشار إليه النبي(16/24)
ص -15-…صلى الله عليه وسلم حيث قال: "إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء فأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح".
ومنها: صلاة التسبيح والقتل, ولا شك في اشتراط التعيين في الأولى وإن كانت ليست ذات وقت ولا سبب, وأما الثانية فلها سبب متأخر كالإحرام, فيحتمل اشتراط التعيين فيها, ويحتمل خلافه.
ومنها: صلاة الغفلة, بين المغرب والعشاء, والصلاة في بيته, إذا أراد الخروج لسفر, والمسافر إذا نزل منزلا وأراد مفارقته, يستحب أن يودعه بركعتين, والظاهر في الكل عدم اشتراط التعيين ; لأن المقصود إشغال الوقت أو المكان بالصلاة, كالتحية ولم أر من تعرض لذلك كله.
ومن ذلك: الصوم, والمذهب المنصوص الذي قطع به الأصحاب اشتراط التعيين فيه, لتمييز رمضان من القضاء والنذر, والكفارة, والفدية, وعن الحليمي, وجه أنه لا يشترط في رمضان, قاله النووي, وهو شاذ مردود, نعم لا يشترط تعيين السنة على المذهب, ونظيره في الصلاة أنه لا يشترط تعيين اليوم, لا في الأداء ولا في القضاء, فيكفي فيه فائتة الظهر, ولا يشترط أن يقول يوم الخميس, وقياس ما تقدم في النوافل المرتبة اشتراط التعيين في رواتب الصوم, كصوم عرفة, وعاشوراء, وأيام البيض, وقد ذكره في شرح المهذب بحثا ولم يقف على نقل فيه, وهو ظاهر, إذا لم نقل بحصولها بأي صوم كان كالتحية كما سيأتي عن البارزي.
ومثل الرواتب في ذلك: الصوم ذو السبب, وهو الأيام المأمور بها في الاستسقاء ومن الثاني: أعني ما لا يشترط فيه التعيين: الطهارات, والحج والعمرة ; لأنه لو عين غيرها انصرف إليها, وكذا الزكاة والكفارات.
ضابط:
قال الشيخ في المهذب: كل موضع افتقر إلى نية الفريضة افتقر إلى تعيينها إلا التيمم للفرض في الأصح.
قاعدة:(16/25)
وما لا يشترط التعرض له جملة وتفصيلا إذا عينه وأخطأ لم يضر, كتعيين مكان الصلاة وزمانها, وكما إذا عين الإمام من يصلي خلفه, أو صلى في الغيم, أو صام الأسير, ونوى الأداء والقضاء فبان خلافه, وما يشترط فيه التعيين, فالخطأ فيه مبطل, كالخطأ من الصوم إلى الصلاة وعكسه, ومن صلاة الظهر إلى العصر. وما يجب التعرض له جملة لا يشترط تعيينه تفصيلا إذا عينه وأخطأ ضر. وفي ذلك فروع:(16/26)
ص -16-…أحدها: نوى الاقتداء بزيد, فبان عمرا لم يصح.
الثاني: نوى الصلاة على زيد فبان عمرا, أو على رجل فكان امرأة أو عكسه لم تصح, ومحله في الصورتين: ما لم يشر, كما سيأتي في مبحث الإشارة, وقال السبكي في الصورة الأولى: ينبغي بطلان نية الاقتداء لا نية الصلاة, ثم إذا تابعه خرج على متابعة من ليس بإمام, بل ينبغي هنا الصحة وجعل ظنه عذرا, وتابعه في المهمات على هذا البحث.
وأجيب بأنه قد يقال: فرض المسألة حصول المتابعة, فإن ذلك شأن من ينوي الاقتداء, والأصح في متابعة من ليس بإمام البطلان.
الثالث: لا يشترط تعيين عدد الركعات, فلو نوى الظهر خمسا أو ثلاثا, لم يصح لكن قال في المهمات: إنما فرض الرافعي في المسألة في العلم, فيؤخذ منه أنه لا يؤثر عند الغلط.
قلت: ذكر النووي المسألة في شرح المهذب في باب الوضوء, وفرضها في الغلط فقال: ولو غلط في عدد الركعات, فنوى الظهر ثلاثا أو خمسا, قال أصحابنا: لا يصح ظهره, هذه عبارته, ويؤيده تعليله البطلان في باب الصلاة بتقصيره.
ونظير هذه المسألة: من صلى على موتى, لا يجب تعيين عددهم ولا معرفته, فلو اعتقدهم عشرة فبانوا أكثر, أعاد الصلاة على الجميع لأن فيهم من لم يصل عليه, وهو غير معين, قاله في البحر. قال: وإن بانوا أقل, فالأظهر الصحة, ويحتمل خلافه لأن النية قد بطلت في الزائد لكونه معدوما, فتبطل في الباقي.
الرابع: نوى قضاء ظهر يوم الاثنين, وكان عليه ظهر يوم الثلاثاء, لم يجزئه.
الخامس: نوى ليلة الاثنين صوم يوم الثلاثاء, أو في سنة أربع صوم رمضان سنة ثلاث, لم يصح بلا خلاف.
السادس: عليه قضاء يوم الأول من رمضان, فنوى قضاء اليوم الثاني, لم يجزئه على الأصح.
السابع: عين زكاة ماله الغائب, فكان تالفا لم يجزئه عن الحاضر.
الثامن: نوى كفارة الظهار فكان عليه كفارة قتل لم يجزئه.
التاسع: نوى دينا, وبان أنه ليس عليه, لم يقع عن غيره, ذكره السبكي.
وخرج عن ذلك صور:(16/27)
منها: لو نوى رفع حدث النوم, مثلا, وكان حدثه غيره, أو رفع جنابة الجماع وجنابته باحتلام, أو عكسه, أو رفع حدث الحيض وحدثها الجنابة, أو عكسه, خطأ لم يضر وصح الوضوء والغسل في الأصح.
واعتذر عن خروج ذلك عن القاعدة بأن النية في الوضوء والغسل ليست للقربة, بل(16/28)
ص -17-…للتمييز, بخلاف تعيين الإمام والميت مثلا, وبأن الأحداث وإن تعددت أسبابها فالمقصود منها واحد وهو المنع من الصلاة, ولا أثر لأسبابها من نوم أو غيره.
ومنها: ما لو نوى المحدث رفع الأكبر غالطا فإنه يصح كما ذكره في شرح المهذب, ولم يستحضره الأسنوي ومن تابعه فنقلوه عن المحب الطبري وعبارة شرح المهذب لو نوى المحدث غسل أعضائه الأربعة عن الجنابة غلطا ظانا أنه جنب صح وضوءه, وأما عكسه, وهو أن ينوي الجنب رفع الأصغر غلطا فالأصح أنه يرتفع عن الوجه واليدين والرجلين فقط دون الرأس ; لأن فرضها في الأصغر المسح فيكون هو المنوي دون الغسل, والمسح لا يغني عن الغسل.
ومنها: إذا قلنا باشتراط نية الخروج من الصلاة, لا يشترط تعيين الصلاة التي يخرج منها, فلو عين غير التي هو فيها خطأ, لم يضر, بل يسجد للسهو ويسلم ثانيا, أو عمدا بطلت صلاته. وإن قلنا بعدم وجوبها, لم يضر الخطأ في التعيين مطلقا.
تنبيه:
أما لو وقع الخطأ في الاعتقاد دون التعيين فإنه لا يضر, كأن ينوي ليلة الاثنين صوم غد, وهو يعتقده الثلاثاء, أو ينوي صوم غد من رمضان هذه السنة وهو يعتقدها سنة ثلاث. فكانت سنة أربع, فإنه يصح صومه.
ونظيره في الاقتداء: أن ينوي الاقتداء بالحاضر مع اعتقاد أنه زيد, وهو عمرو فإنه يصح قطعا, صرح به الروياني في البحر. وفي الصلاة: لو أدى الظهر في وقتها, معتقدا أنه يوم الاثنين فكان الثلاثاء صح, نقله في شرح المهذب عن البغوي قال: ولو غلط في الأذان, فظن أنه يؤذن للظهر, وكانت العصر فلا أعلم فيه نقلا, وينبغي أن يصح ; لأن المقصود الإعلام ممن هو أهله, وقد حصل.
ولو تيمم معتقدا أن حدثه أصغر, فبان أكبر, أو عكسه يصح, ولو طاف الحاج معتقدا أنه محرم بعمرة, أو عكسه أجزأه.
تنبيه:(16/29)
من المشكل على ما قررناه ما صححوه من أن الذي أدرك الإمام في الجمعة بعد ركوع الثانية ينوي الجمعة مع أنه إنما يصلي الظهر, وعلله الرافعي بموافقة الإمام, قال الأسنوي: ولا يخفى ضعف هذا التعليل, بل الصواب ما ذكروه فيمن لا عذر له, إذا ترك الإحرام بالجمعة, حتى رفع الإمام من الركعة الثانية, ثم أراد الإحرام بالظهر قبل السلام, فإنهم قالوا: إن الأصح عدم انعقادها, وعللوه بأنا تيقنا انعقاد الجمعة وشككنا في فواتها ; إذ يحتمل أن يكون الإمام قد ترك ركنا من الركعة الأولى ويتذكره قبل السلام, فيأتي به, وعلى هذا فليس لنا من ينوي غير ما يؤدي إلا في هذه الصورة.(16/30)
ص -18-…الأمر الثالث: مما يترتب على ما شرعت النية لأجله. وهو التمييز اشتراط التعرض للفرضية
وفي وجوبها في الوضوء, والغسل, والصلاة, والزكاة, والصوم, والخطبة, وجهان, والأصح اشتراطها في الغسل دون الوضوء ; لأن الغسل قد يكون عادة, والوضوء لا يكون إلا عبادة.
ووجه اشتراطها في الوضوء أنه قد يكون تجديدا, فلا يكون فرضا, وهو قوي وفي الصلاة دون الصوم ; لأن الظهر تقع مثلا نفلا كالمعادة, وصلاة الصبي, ورمضان, لا يكون من البالغ إلا فرضا فلم يحتج إلى التقييد به.
وأما الزكاة, فالأصح الاشتراط فيها إن أتى بلفظ الصدقة, وعدمه إن أتى بلفظ الزكاة ; لأن الصدقة قد تكون فرضا وقد تكون نفلا فلا يكفي مجردها, والزكاة لا تكون إلا فرضا لأنها اسم للفرض المتعلق بالمال, فلا حاجة إلى تقييدها به.
وأما الحج والعمرة فلا يشترط فيهما بلا خلاف لأنه لو نوى النفل انصرف إلى الفرض, ويشترط في الكفارات بلا خلاف لأن العتق أو الصوم أو الإطعام يكون فرضا ونفلا.
إذا عرفت ذلك ; فقول ابن القاص في التلخيص: لا يجزي فرض بغير نية فرض إلا في ثلاثة: الحج, والعمرة, والزكاة. يزاد عليه: والوضوء والصوم فتصير خمسة, وسادس: وهو الجماعة فإنها فرض, ولا يشترط في نيتها الفرضية. وسابع وهو الخطبة إن قلنا باشتراط نيتها وبعدم فرضيتها.
وإن شئت قلت: العبادات في التعرض للفرضية على أربعة أقسام: ما يشترط فيه بلا خلاف, وهو الكفارات: ما لا يشترط فيه بلا خلاف, وهو الحج والعمرة والجماعة. وما يشترط فيه على الأصح, وهو الغسل والصلاة والزكاة بلفظ الصدقة. وما لا يشترط فيه على الأصح, وهو الوضوء والصوم والزكاة بلفظها والخطبة.
تنبيهات:
الأول: لا خلاف أن التعرض لنية الفرضية في الوضوء أكمل, إذا لم نوجبه, وفيه إشكال إذا وقع قبل الوقت, بناء على أن الوضوء لا يجب بالحدث.(16/31)
وجوابه: أن المراد بها فعل طهارة الحدث المشروطة في صحة الصلاة, وشرط الشيء يسمى فرضا من حيث إنه لا يصح إلا به, ولو كان المراد حقيقة الفرضية, لما صح وضوء الصبي بهذه النية.
الثاني: يختص وجوب نية الفرضية في الصلاة بالبالغ, أما الصبي فنقل في شرح المهذب عن الرافعي أنه كالبالغ, ثم قال إنه ضعيف والصواب أنه لا يشترط(16/32)
ص -19-…في حقه نية الفرضية وكيف ينويها وصلاته لا تقع فرضا؟
الثالث: من المشكل ما صححه الأكثرون في الصلاة المعادة أن ينوي بها الفرض مع قولهم بأن الفرض أولى, ولذلك اختار في زوائد الروضة وشرح المهذب قول إمام الحرمين: إنه ينوي للظهر أو العصر مثلا ولا يتعرض للفرض. قال في شرح المهذب: وهو الذي تقتضيه القواعد والأدلة. وقال السبكي: لعل مراد الأكثرين أنه ينوي إعادة الصلاة المفروضة, حتى لا يكون نفلا مبتدأ.
الرابع: لا يكفي في التيمم نية الفرضية في الأصح: فلو نوى فرض التيمم أو التيمم المفروض أو فرض الطهارة لم يصح, وفي وجه يصح كالوضوء, قال إمام الحرمين: والفرق أن الوضوء مقصود في نفسه ولهذا استحب تجديده, بخلاف التيمم.
قلت: والأولى أن يقال: إن التمييز لا يحصل بذلك ; لأن التيمم عن الحدث والجنابة فرض, وصورته واحدة, بخلاف الوضوء والغسل, فإنهما يتميزان بالصورة.
وإنما قلت هذا ليتخرج على قاعدة التمييز, كما قال الشيخ عز الدين: إنما شرعت النية في التيمم, وإن لم يكن متلبسا بالعادة, لتمييز رتبته, فإن التيمم عن الحدث الأصغر عين التيمم عن الأكبر, وهما مختلفان.
الخامس: لا يشترط في الفرائض تعيين فرض العين بلا خلاف وكذا صلاة الجنازة لا يشترط فيها نية فرض الكفاية على الأصح, والثاني يشترط, لتتميز عن فرض العين.
اشتراط الأداء والقضاء. وفيهما في الصلاة أوجه:
أحدها: الاشتراط, واختاره إمام الحرمين, طردا لقاعدة الحكمة التي شرعت لها النية ; لأن رتبة إقامة الفرض في وقته تخالف رتبة تدارك الفائت, فلا بد من التعرض في كل منهما للتمييز.
والثاني: تشترط نية القضاء دون الأداء ; لأن الأداء يتميز بالوقت, بخلاف القضاء.
والثالث: إن كان عليه فائتة اشترط في المؤداة نية الأداء, وإلا فلا, وبه قطع الماوردي.(16/33)
والرابع: وهو الأصح لا يشترطان مطلقا, لنص الشافعي على صحة صلاة المجتهد في يوم الغيم, وصوم الأسير إذا نوى الأداء, فبانا بعد الوقت. وللأولين أن يجيبوا بأنهما معذوران, وأما غير الصلاة فقل من تعرض له.
وقد بسط العلائي الكلام في ذلك في كتابه "فصل القضاء في الأداء والقضاء", فقال: ما لا يوصف من العبادات بأداء ولا قضاء, فلا ريب في أنه لا يحتاج إلى نية أداء ولا قضاء ويلحق بذلك ماله وقت محدود, ولكنه لا يقبل القضاء كالجمعة فلا يحتاج فيها إلى نية الأداء إذ لا يلتبس بها قضاء فتحتاج إلى نية مميزة, وأما سائر النوافل التي تقضى, فهي كبقية الصلوات في جريان الخلاف. وأما الصوم فالذي يظهر ترجيحه أن نية القضاء لا بد منها. وقد صرح به(16/34)
ص -20-…في التتمة, فجزم باشتراط التعرض فيه لنية القضاء دون الأداء, لتمييزه بالوقت. انتهى.
قلت: وقد ذكر الشيخان في الصوم الخلاف في نية الأداء, وبقي الحج والعمرة ولا شك أنهما لا يشترطان فيهما; إذ لو نوى بالقضاء الأداء لم يضره وانصرف إلى القضاء, ولو كان عليه قضاء حج أفسده في صباه أو رقه, ثم بلغ أو عتق فنوى القضاء, انصرف إلى حجة الإسلام وهي الأداء.
وأما صلاة الجنازة: فالذي يظهر أنه يتصور فيها الأداء والقضاء لأن وقتها محدود بالدفن, فإن صح أنها بعده قضاء فلا يبعد جريان الخلاف فيهما.
وأما الكفارة: فنص الشافعي في كفارة الظهار على أنها تصير قضاء إذا جامع قبل أدائها ولا شك في عدم الاشتراط فيها.
وأما الزكاة: فيتصور القضاء فيها في زكاة الفطر, والظاهر أيضا عدم الاشتراط, وإذا ترك رمي يوم النحر أو يوما آخر تداركه في باقي الأيام, ولا دم, وهل هو أداء أو قضاء؟ سيأتي الكلام فيه في مبحثه
الأمر الخامس: مما يترتب على التمييز: الإخلاص
ومن ثم لم تقبل النيابة ; لأن المقصود اختبار سر العبادة, قال ابن القاص وغيره: لا يجوز التوكيل في النية إلا فيما اقترنت بفعل, كتفرقة زكاة, وذبح أضحية, وصوم عن الميت وحج وقال بعض المتأخرين: الإخلاص أمر زائد على النية لا يحصل بدونها وقد تحصل بدونه, ونظر الفقهاء قاصر على النية, وأحكامهم إنما تجري عليها, وأما الإخلاص فأمره إلى الله, ومن ثم صححوا عدم وجوب الإضافة إلى الله في جميع العبادات.
ثم للتشريك في النية نظائر ; وضابطها أقسام:
الأول: أن ينوى مع العبادة ما ليس بعبادة فقد يبطلها, ويحضرني منه صورة:(16/35)
وهي ما إذا ذبح الأضحية لله ولغيره ; فانضمام غيره يوجب حرمة الذبيحة ; ويقرب من ذلك ما لو كبر للإحرام مرات ونوى بكل تكبيرة افتتاح الصلاة, فإنه يدخل في الصلاة بالأوتار ; ويخرج بالأشفاع ; لأن من افتتح صلاة ثم افتتح أخرى بطلت صلاته ; لأنه يتضمن قطع الأولى, فلو نوى الخروج بين التكبيرتين خرج بالنية ودخل بالتكبيرة, ولو لم ينو بالتكبيرات شيئا ; لا دخولا ولا خروجا: صح دخوله بالأولى ; والبواقي ذكر, وقد لا يبطلها, وفيه صور:
منها: ما لو نوى الوضوء أو الغسل والتبرد, ففي وجه لا يصح للتشريك ; والأصح الصحة ; لأن التبرد حاصل: قصده أم لا, فلم يجعل قصده تشريكا وتركا للإخلاص(16/36)
ص -21-…بل هو قصد للعبادة على حسب وقوعها ; لأن من ضرورتها حصول التبرد.
ومنها: ما لو نوى الصوم, أو الحمية أو التداوي, وفيه الخلاف المذكور.
ومنها: ما لو نوى الصلاة ودفع غريمه صحت صلاته لأن اشتغاله عن الغريم لا يفتقر إلى قصد, وفيه وجه خرجه ابن أخي صاحب الشامل من مسألة التبرد.
ومنها: لو نوى الطواف وملازمة غريمه, أو السعي خلفه, والأصح الصحة, لما ذكر, فلو لم يفرد الطواف بنية لم يصح ; لأنه إنما يصح بدونها, لانسحاب حكم النية في أصل النسك عليه. فإذا قصد ملازمة الغريم كان ذلك صارفا له ولم يبق للاندراج أثر كما سيأتي.
ونظير ذلك في الوضوء: أن تعزب نية رفع الحدث ثم ينوي التبرد أو التنظيف, والأصح أنه لا يحسب المغسول حينئذ من الوضوء.
ومنها: ماحكاه النووي عن جماعة من الأصحاب فيمن قال له إنسان: صل الظهر ولك دينار, فصلى بهذه النية أنه تجزئه صلاته, ولا يستحق الدينار, ولم يحك فيها خلافه.
ومنها: ما إذا قرأ في الصلاة آية وقصد بها القراءة والإفهام, فإنها لا تبطل.
ومنها ( 1 ):
تنبيه: ما صححوه من الصحة في هذه الصور هو بالنسبة إلى الإجزاء, وأما الثواب فصرح ابن الصباغ بعدم حصوله في مسألة التبرد, نقله في الخادم ولا شك أن مسألة الصلاة والطواف أولى بذلك.
ومن نظائر ذلك: مسألة السفر للحج والتجارة, والذي اختاره ابن عبد السلام أنه لا أجر له مطلقا, تساوى القصدان أم لا, واختار الغزالي اعتبار الباعث على العمل, فإن كان القصد الدنيوي هو الأغلب لم يكن فيه أجر, وإن كان الديني أغلب كان له الأجر بقدره, وإن تساويا تساقطا.
قلت: المختار قول الغزالي ; ففي الصحيح وغيره "أن الصحابة تأثموا أن يتجروا في الموسم بمنى فنزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} في مواسم الحج.
القسم الثاني: أن ينوى مع العبادة المفروضة عبادة أخرى مندوبة. وفيه صور:(16/37)
منها ما لا يقتضي البطلان ويحصلان معا, ومنها ما يحصل الفرض فقط, ومنها ما يحصل النفل فقط ومنها: ما يقتضي البطلان في الكل.
فمن الأول: أحرم بصلاة ونوى بها الفرض والتحية ; صحت, وحصلا معا, قال في شرح المهذب: اتفق عليه أصحابنا, ولم أر فيه خلافا بعد البحث الشديد سنين. وقال الرافعي وابن الصلاح: لا بد من جريان خلاف فيه كمسألة التبرد, قال النووي: والفرق(16/38)
ص -22-…ظاهر, فإن الذي اعتمده الأصحاب في تعليل البطلان في مسألة التبرد هو التشريك بين القربة وغيرها وهذا مفقود في مسألة التحية, فإن الفرض والتحية قربتان. إحداهما: تحصل بلا قصد, فلا يضر فيها القصد, كما لو رفع الإمام صوته بالتكبير ليسمع المأمومين, فإن صلاته صحيحة بالإجماع, وإن كان قصد أمرين, لكنهما قربتان. انتهى.
نوى بغسله غسل الجنابة والجمعة, حصلا جميعا على الصحيح, وفيه وجه.
والفرق بينه وبين التحية حيث لم يجر فيها أنها تحصل ضمنا ولو لم ينوها, وهذا بخلافها.
نوى بسلامه الخروج من الصلاة والسلام على الحاضرين حصلا.
نوى حج الفرض وقرنه بعمرة تطوع أو عكسه حصلا.
ولو نوى بصلاته الفرض وتعليم الناس جاز للحديث. ذكره السنجي في شرح التلخيص. صام في يوم عرفة مثلا قضاء أو نذرا, أو كفارة ; ونوى معه الصوم عن عرفة, فأفتى البارزي بالصحة, والحصول عنهما, قال: وكذا إن أطلق فألحقه بمسألة التحية, قال الأسنوي: وهو مردود والقياس أن لا يصلح في صورة التشريك واحد منهما, وأن يحصل الفرض فقط في صورة الإطلاق.
ومن الثاني: نوى بحجه الفرض والتطوع, وقع فرضا ; لأنه لو نوى التطوع انصرف إلى الفرض.
صلى الفائتة في ليالي رمضان, ونوى معها التراويح ففي فتاوى ابن الصلاح حصلت الفائتة دون التراويح. قال الأسنوي: وفيه نظر ; لأن التشريك مقتض للإبطال. ومن الثالث: أخرج خمسة دراهم, ونوى بها الزكاة وصدقة التطوع, لم تقع زكاة ووقعت صدقة تطوع بلا خلاف.
عجز عن القراءة فانتقل إلى الذكر, فأتى بالتعوذ ودعاء الاستفتاح, قاصدا به السنة والبدلية لم يحسب عن الفرض, جزم به الرافعي.
خطب بقصد الجمعة والكسوف لم يصح للجمعة ; لأنه تشريك بين فرض ونفل, جزم به الرافعي.(16/39)
ومن الرابع: كبر المسبوق والإمام راكع تكبيرة واحدة, ونوى بها التحريم والهوي إلى الركوع, لم تنعقد الصلاة أصلا, للتشريك. وفي وجه: تنعقد نفلا, كمسألة الزكاة, وفرق بأن الدراهم لم تجزئه عن الزكاة, فبقيت تبرعا وهذا معنى صدقة التطوع, وأما تكبيرة الإحرام فهي ركن لصلاة الفرض والنفل معا, ولم يتمحض هذا التكبير للإحرام فلم ينعقد فرضا, وكذا نفلا ; إذ لا فرق بينهما في اعتبار تكبيرة الإحرام.
نوى بصلاته الفرض والراتبة لم تنعقد أصلا(16/40)
ص -23-…القسم الثالث: أن ينوي مع المفروضة فرضا آخر. قال ابن السبكي: ولا يجزئ ذلك إلا في الحج والعمرة.
قلت: بل لهما نظير آخر وهو أن ينوى الغسل والوضوء معا, فإنهما يحصلان على الأصح, وفي قول نص عليه في الأمالي لا يحصلان ; لأنهما واجبان مختلفان, فلا يتداخلان, كالصلاتين.
ولو طاف بنية الفرض والوداع صح للفرض وهل يكفي للوداع؟ حتى لو خرج عقبه أجزأه ولا يلزمه دم؟ لم أر فيه نقلا صريحا, وهو محتمل, وربما يفهم من كلامهم أنه لا يكفي.
وما عدا ذلك إذا نوى فرضين بطلا, إلا إذا أحرم بحجتين أو عمرتين, فإنه ينعقد واحدة, وإذا تيمم لفرضين, صح لواحد على الأصح.
"تذنيب": يشبه ذلك ما قيل: هل يتصور وقوع حجتين في عام؟ وقد قال الأسنوي: إنه ممنوع, وما قيل في طريقه من أنه يدفع بعد نصف الليل فيرمي ويحلق ويطوف, ثم يحرم من مكة ويعود قبل الفجر إلى عرفات, مردود بأنهم قالوا: إن المقيم بمنى للرمي لا تنعقد عمرته, لاشتغاله بالرمي, والحاج بقي عليه رمي أيام منى قال: وقد صرح باستحالة وقوع حجتين في عام جماعة منهم الماوردي, وكذلك أبو الطيب وحكى فيه الإجماع, ونص عليه الشافعي في الأم
الرابع: أن ينوي مع النفل نفلا آخر: فلا يحصلان. قاله القفال ونقض عليه بنيته الغسل للجمعة والعيد, فإنهما يحصلان.
قلت: وكذا لو اجتمع عيد وكسوف, خطب لهما خطبتين, بقصدهما جميعا ذكره في أصل الروضة, وعلله بأنهما سنتان, بخلاف الجمعة والكسوف, وينبغي أن يلحق بها ما لو نوى صوم يوم عرفة والاثنين مثلا, فيصح, وإن لم نقل بما تقدم عن البارزي فيما لو نوى فيه فرضا لأنهما سنتان, لكن في شرح المهذب في مسألة اجتماع العيد والكسوف أن فيما قالوه نظرا, قال: لأن السنتين إذا لم تدخل إحداهما في الأخرى لا ينعقد عند التشريك بينهما, كسنة الضحى وقضاء سنة الفجر, بخلاف تحية المسجد وسنة الظهر مثلا ; لأن التحية تحصل ضمنا.(16/41)
الخامس: أن ينوي مع غير العبادة شيئا آخر غيرها, وهما مختلفان في الحكم.
ومن فروعه: أن يقول لزوجته: أنت علي حرام, وينوي الطلاق والظهار, فالأصح أنه يخير بينهما, فما اختاره ثبت وقيل: يثبت. الطلاق لقوته. وقيل: الظهار, لأن الأصل بقاء النكاح.(16/42)
ص -24-…المبحث الرابع: في وقت النية.
الأصل أن وقتها أول العبادات ونحوها. وخرج عن ذلك الصوم, فجوز تقديم نيته على أول الوقت, لعسر مراقبته ثم سرى ذلك إلى أن وجب. فلو نوى مع الفجر لم يصح في الأصح.
قلت: وعلى حده جواز تأخير نية صوم النفل عن أوله. وبقي نظائر يجوز فيها تقديم النية على أول العبادة.
منها: الزكاة, فالأصح فيها جواز التقديم للنية على الدفع للعسر, قياسا على الصوم, وفي وجه: لا يجوز, بل يجب حالة الدفع إلى الأصناف, أو الإمام, كالصلاة.
ومنها: الكفارة, وفيها الوجهان في الزكاة. وذكر في الفرق بين الزكاة والكفارة وبين الصلاة أنهما يجوز تقديمهما على وجوبهما فجاز تقديم نيتهما, بخلاف الصلاة, وأنهما تقبلان النيابة, بخلافها.
قلت: الأول ينتقض بالصوم, والثاني بالحج.
ومنها: الجمع, فإن نيته في الصلاة الأولى, ولو كان في أول العبادة لكان في أول الصلاة الثانية ; لأنها المجموعة. وإن جعلت الأولى أول العبادة فهو مما جاز فيه التأخير عن أولها ; لأن الأظهر جواز النية في أثنائها, ومع التحلل منها, وفي قول: لا يجوز إلا في أول الأولى, وفي وجه: لا يجوز مع التحلل, وفي آخر: يجوز بعده قبل الإحرام بالثانية قال في شرح المهذب: وهو قوي.
ومنها: نية التمتع على الوجه القائل به, وفيه الأوجه في الجمع, فالأصح أن وقتها ما لم يفرغ من العمرة, والثاني: حالة الإحرام بها, والثالث: بعد التحلل منها, ما لم يشرع في الحج.
ومنها: نية الأضحية, يجوز تقديمها على الذبح ولا يجب اقترانها في الأصح, ويجوز عند الدفع إلى الوكيل في الأصح.
ومنها: في غير العبادات نية الاستثناء في اليمين, فإنها تجب قبل فراغ اليمين مع وجوبها في الاستثناء أيضا.
فرع:(16/43)
مما جرى على هذا الأصل من اعتبار النية أول الفعل: ما نقله في الروضة وأصلها عن فتاوى البغوي, وأقره: أنه لو ضرب زوجته بالسوط عشر ضربات, فصاعدا متوالية فماتت ; فإن قصد في الابتداء العدد المهلك وجب القصاص, وإن قصد تأديبها بسوطين أو ثلاثة, ثم بدا له فجاوز فلا ; لأنه اختلط العمد بشبه العمد.(16/44)
ص -25-…تنبيهات
الأول: ما أوله من العبادات ذكر, وجب اقترانها بكل اللفظ. وقيل: يكفي بأوله, فمن ذلك الصلاة. ومعنى اقترانها بكل التكبير: أن يوجد جميع النية المعتبرة عند كل حرف منه, ومعنى الاكتفاء بأوله: أنه لا يجب استصحابها إلى آخره, واختاره الإمام والغزالي.
ونظير ذلك: نية كناية الطلاق. وفيها الوجهان, قال في المنهاج: وشرط نية الكناية اقترانها بكل اللفظ, وقيل: يكفي بأوله, ورجح في أصل الروضة خلافهما فقال: ولو اقترنت بأول اللفظ دون آخره, أو عكسه طلقت في الأصح. والذي في الشرح: نقل ترجيح الوقوع في اقترانها بأوله عن الإمام والغزالي. قال: وسكتا عن الترجيح في اقترانها بآخره خاصة. وهو يشعر بأنهما رأيا فيه البطلان. وفي الشرح الصغير: في الأولى الأظهر الوقوع, وميل الإمام في الثانية إلى ترجيح عدمه, ثم حكى الرافعي عن المتولي: أنه قرب الخلاف في الأولى من الخلاف فيما إذا اقترنت نية الصلاة بأول التكبير, دون آخره, والخلاف في الثانية من الخلاف في نية الجمع في أثناء الصلاة. قال الرافعي: وقضيته أنه إذا كان الوقوع في الأولى أظهر ففي الثانية أولى ; لأن الأظهر في اقتران النية بأول التكبير عدم الانعقاد, وفي الجمع الصحة. وهذا هو الذي حمل النووي على تصحيح الوقوع فيهما.
وهنا دقيقة: وهو أن الرافعي مثل اقترانها بأوله دون آخره: بأن توجد عند قوله "أنت", وقال في المهمات: المعتبر اقترانها بلفظ الكناية: إما كله وإما بعضه, لأن القصد منها تفسير إرادة الطلاق به, فلا عبرة باقترانها بلفظ "أنت", قال: وقد صرح بهذا البندنيجي والماوردي وغيرهما.(16/45)
قلت: ونظير ذلك في الصلاة أن يقال: المعتبر اقترانها باللفظ الذي يتوقف الانعقاد عليه, وهو "الله أكبر" فلو قال: الله الجليل أكبر, فهل يجب اقترانها بالجليل؟ محل نظر, ولم أر من ذكره, وفي الكواكب للأسنوي: إذا كتب: زوجتي طالق, ونوى وقع الطلاق في الأصح. قال: والقياس اشتراط النية في جميع اللفظ الذي لا بد منه, لا في لفظ الطلاق خاصة ; لأنا إنما اشترطنا النية فيه لكونه غير ملفوظ به, لا لانتفاء الصراحة فيه. وهذا المعنى موجود في الجميع, وحينئذ فينوي الزوجة حين يكتب "زوجتي" والطلاق حين يكتب "طالق" انتهى.
ونظير ذلك أيضا: كنايات البيع وسائر العقود, قال في الخادم: سكتوا عن وقتها, ويحتمل أن يأتي فيها ما في الطلاق, ويحتمل المنع, واشتراط وجودها في جميع اللفظ.(16/46)
ص -26-…ويفرق بأن الطلاق مستقل بنفسه, بخلاف البيع ونحوه.
ومن ذلك الوضوء والغسل, فيستحب اقتران النية فيهما بالتسمية, كما صرح به في شرح المهذب. وعبارته في باب الغسل: ويستحب أن يبتدئ بالنية مع التسمية, ولم يستحضره الأسنوي فنقله عن المحب الطبري, وعبارته: والأولى أن تقارنها النية ; لأن تقديم النية عليها يؤدي إلى خلو بعض الفرائض عن التسمية, والعكس يؤدي إلى خلو بعض السنن عن النية.
ومن ذلك: الإحرام, فينبغي أن يقال بمقارنة النية التلبية وهو ظاهر, كما يفهم من كلامهم وإن لم يصرحوا به.
ومن ذلك: الطواف, وينبغي اقتران نيته بقوله: "بسم الله والله أكبر".
ومن ذلك: الخطبة, إن أوجبنا نيتها, والظاهر وجوب اقترانها بقوله "الحمد لله" لأنه أول الأركان. التنبيه الثاني: قد يكون للعبادة أول حقيقي, وأول نسبي, فيجب اقتران النية بهما.
من ذلك: التيمم, فيجب اقتران نيته بالنقل ; لأنه أول المفعول من أركانه, وبمسح الوجه ; لأنه أول الأركان المقصودة, والنقل وسيلة إليه.
ومن ذلك: الوضوء والغسل, فيجب للصحة اقتران نيتهما بأول مغسول من الوجه والبدن, ويجب للثواب اقترانهما بأول السنن السابقة, ليثاب عليها, فلو لم يفعل لم يثب عليها في الأصح لأنه لم ينوها.
وفي نظيره من الصوم: لو نوى أثناء النهار حصل له ثواب الصوم من أوله, وخرج منه وجه في الوضوء ; لأنه من جملة طهارة منوية, ولكن فرق بأن الصوم خصلة واحدة فإذا صح بعضها صح كلها, والوضوء أفعال متغايرة, فالانعطاف فيها بعيد, وبأنه لا ارتباط لصحة الوضوء بما قبله, بخلاف إمساك أول النهار.
والوجهان جاريان فيمن أكل بعض الأضحية وتصدق ببعضها, هل يثاب على الكل أو على ما تصدق به؟ قال الرافعي: وينبغي أن يقال: له ثواب التضحية بالكل والتصدق بالبعض.(16/47)
ومن نظائر ذلك: نية الجماعة في الأثناء, أما في أثناء صلاة الإمام وفي أول صلاة المأموم فلا شك في حصول الفضيلة, لكن هل هي فضيلة الجماعة الكاملة أو لا؟ سيأتي تحرير القول في ذلك, فإن قلنا بالأول فقد عادت النية بالانعطاف, وبه صرح بعض شراح الحديث. وأما في أثناء صلاة المأموم, فإن الصلاة تصح في الأظهر, لكن تكره(16/48)
ص -27-…كما في شرح المهذب. وأخذ من ذلك بعض المحققين عدم حصول الفضيلة بالكلية, لا أصلا ولا انعطافا, وسيأتي.
ومن النظائر المهمة: وقت نية الإمامة, ولم يتعرض الشيخان لهذه المسألة, وفيها اختلاف. قال صاحب البيان: عند حضور من يريد الاقتداء به ; لأنه قبل ذلك ليس بإمام. وارتضاه ابن الفركاح, فعلى هذا: يأتي الانعطاف وقال الجويني: عند التحرم. قال الأذرعي وهو: الصواب, ومقتضى كلام الأصحاب.
قلت: صدق وبر, فإن الأصحاب صححوا اشتراطها في الجمعة, فلو لم يأت بها في التحرم لم تنعقد جمعته.
ومنها: وقت نية الاغتراف, هل هو عند وضع يده في الماء, أو عند انفصاله؟ قال في الخادم: ينبغي أن يتخرج على الوجهين المحكيين عن القاضي حسين: أن الماء هل يحكم باستعماله إذا لم ينوها من إدخال اليد, أو من انفصالها عن الماء؟ قال: والأشبه الثاني.
التنبيه الثالث: العبادات ذات الأفعال يكتفى بالنية في أولها, ولا يحتاج إليها في كل فعل, اكتفاء بانسحابها عليها كالوضوء والصلاة, وكذا الحج, فلا يحتاج إلى إفراد الطواف والسعي والوقوف بنية على الأصح.
ثم منها ما يمنع فيه ذلك, ومنها ما لا يمنع, ومنها ما يشترط أن لا يقصد غيره, ومنها ما لا يشترط.
من الأول الصلاة, فلا يجوز تفريق النية على أركانها. ومن الثاني: الحج فيجوز نية الطواف والسعي والوقوف, بل هو الأكمل, وفي الوضوء وجهان: أحدهما: لا يجوز كالصلاة, والأصح الجواز. والفرق أن الوضوء يجوز تفريق أفعاله, فجاز تفريق نيته بخلاف الصلاة.
ولتفريق النية فيه صور: الأولى أن ينوي عند كل عضو رفع حدثه. الثانية: أن ينوي رفع حدث المغسول دون غيره. الثالثة: أن ينوي رفع الحدث عند كل عضو ويطلق, صرح بها ابن الصلاح.(16/49)
ومن الثالث: الوضوء والصلاة والطواف والسعي, فلو عزبت نيته ثم نوى التبرد لم يحسب المفعول حتى يجدد النية, أو هوى لسجود تلاوة فجعله ركوعا, أو ركع ففزع من شيء, فرفع رأسه, أو سجد فشاكته شوكة فرفع رأسه, لم يجزه فعليه العود واستئناف الركوع والرفع, ولو طاف للحج بلا نية وقصد ملازمة غريمه لم يحسب عن الطواف.
ومن ذلك: مسألة الحامل فإذا حمل محرم عليه طواف محرما وطاف به وقصد الحامل الطواف عن المحمول فقط دون نفسه, وقع للمحمول فقط على الأصح ; لأنه(16/50)
ص -28-…صرف الطواف لغرض آخر, ولو قصد نفسه أو كليهما وقع للحامل فقط, وكذا لو لم يقصد شيئا, كما في شرح المهذب, ولو نام في الطواف على هيئة لا تنقض الوضوء قال إمام الحرمين: هذا يقرب من صرف النية إلى طلب الغريم. قال: ويجوز أن يقطع بصحة الطواف, لأنه لم يصرف الطواف إلى غير النسك, ولا يضر كونه غير ذاكرها. قال النووي: وهذا أصح.
قلت: ونظيره في الوضوء, لو نام قاعدا, ثم انتبه في مدة يسيرة, لم يجب تجديد النية في الأصح, كما في شرح المهذب, ولو أمر بصب الماء في وضوئه, فصب عليه ناسيا بعد ما غسل بعض أعضائه بنفسه فإنه يصح, ذكره فيه أيضا.
ومن الرابع: الوقوف, فالأصح أنه لا يضر صرفه إلى غيره, فلو مر بعرفات في طلب آبق أو ضالة, ولا يدري أنها عرفات صح وقوفه. قال الإمام: والفرق بينه وبين مسألة صرف الطواف أن الطواف قد يقع قربة مستقلة, بخلاف الوقوف, ولهذا لو حمله في الوقوف أجزأ عنهما مطلقا ; بخلاف الطواف.
"تنبيه" من مشكلات هذا الأصل: ما سمعته من بعض مشايخي, أن الأصح إيجاب نية سجود السهو دون نية سجود التلاوة في الصلاة, وعلل الأخير بأن نية الصلاة تشمله, وعندي: أن العكس كان أولى ; لأن سجود السهو أعلق بالصلاة من سجود التلاوة ; لأنه آكد, بدليل أنه يشرع للمأموم إذا سها الإمام ولم يسجد ; بخلاف ما إذا تلا الإمام ولم يسجد, والذي يظهر لي في توجيه ذلك, إن صح أن يقال: التلاوة من لوازم الصلاة, فكأن الناوي عند نيتها مستحضر لها, وفي ذكره تعرض لها, وليس السهو نفسه من لوازم الصلاة, بل وقوعه فيها خلاف الغالب, فلم يكن في النية إيماء إليه ولا ادكار.(16/51)
ونظير ذلك: فدية المحظورات في الحج والعمرة, فإنه لا بد لها من النية. ولا يقال: يكتفى بنية الإحرام ; لأنها ليست من لوازم الإحرام, ولا من ضرورياته. بخلاف طواف القدوم مثلا, فإنه وإن لم يكن من ماهية الحج, ولا أبعاضه, ولا هيئاته, بل هو أجنبي منه محض, لكنه من لوازمه فلذلك لا يشترط له نية, كما صرح به الشيخ أبو حامد. ونقله عنه ابن الرفعة: اكتفاء بنية الحج فهو نظير سجود التلاوة في الصلاة, ثم إني تتبعت كلام الشيخين وغيرهما فلم أر أحدا ذكر وجوب النية في سجود السهو إلا على القول القديم أن محله بعد السلام. أما على الجديد الأظهر فلم يذكروا ذلك أصلا, بل صرحوا بخلافه, فقالوا فيما إذا سلم ناسيا ثم عاد للسجود هل يكون عائدا إلى الصلاة؟ وجهان: أصحهما: نعم, والثاني: لا. فإن قلنا: نعم, لم يحتج إلى تحر, وإلا احتاج إليه, وهذا كلام لا غبار عليه, والتقليد آفة كبيرة.
ومن ذلك: الوضوء المسنون في الغسل. قال الرافعي: وإنما يعد الوضوء من مندوبات(16/52)
ص -29-…الغسل إذا كان جنبا غير محدث, أو قلنا بالاندراج, وإلا فلا, وعلى هذا يحتاج إلى إفراده بنية ; لأنه عبادة مستقلة. وعلى الأصح: لا. قال الأسنوي: ومقتضاه أن نية الغسل تكفي فيه, كما تكفي نية الوضوء في حصول المضمضة والاستنشاق, وبه صرح ابن الرفعة في الكفاية. ورأيته في شرح المفتاح لأبي خلف الطبري, قال: وهو عجيب, فإن نية الغسل على هذا التقدير لا بد أن تقارن أول هذا الوضوء ; إذ لو تأخرت عنه لم يكن المأتي به وضوءا, بل ولا عبادة. ونية الغسل فقط لا تكفي, بل لا بد أن ينوي الغسل من الجنابة أو نحوه. وإذا أتى بذلك ارتفعت الجنابة عن المغسول من أعضاء الوضوء بلا نزاع, لوجود الشرائط, فيكون المأتي به غسلا لا وضوءا, وليس ذلك كالمضمضة والاستنشاق فإن محلهما غير محل الواجب, فظهر اندفاع ما قالوه. قال: فالصواب ما ذكره النووي في الروضة وغيرها: أنه إن تجردت الجنابة عن الحدث نوى بوضوئه سنة الغسل, وإن اجتمعا نوى به رفع الحدث الأصغر, ليخرج من الخلاف ; وسبقه إليه ابن الصلاح.
ومن ذلك: الأغسال المسنونة في الحج. أما الغسل لدخول مكة, فصرح في التتمة بأنه لا يحتاج إلى نية ; لأن نية الحج تشمله, وقياسه أن يكون غسل الوقوف وما بعده كذلك. وأما غسل الإحرام فجزم الإمام بعدم احتياجه إلى النية أيضا, ثم قال: وفيه أدنى نظر. وفي الذخائر: في صحة غسل الإحرام من الحائض دليل أنه لا يحتاج إلى نية. قال: ويفرق بينه وبين غسل الجمعة بأن الإحرام من سننه, ونية الحج مشتملة على جميع أفعاله فرضا وسنة فلا يحتاج إلى نية, بخلاف غسل الجمعة فإنه سنة مستقلة وليس جزءا من الصلاة.
ورد هذا بأنه إنما يصح لو نوى الإحرام أولا والسنة تقديم الغسل, فلا تنعطف عليه النية.
ولهذا صحح في الروضة وأصلها احتياجه إلى النية, وإن كان فرض المسألة في الحائض فقط.(16/53)
وقال ابن الرفعة: ينبغي أن يبنى ذلك على انعطاف النية في الوضوء, فإن قلنا به فكذلك هنا, فلا يحتاج إلى النية وإلا فلا.
ومن ذلك: ركعتا الطواف يشترط فيهما النية قطعا, ولا ينسحب عليهما نية الإحرام لأنها محض صلاة, فافتقرت إليها بخلاف الطواف, فإنه بالوقوف أشبه, ولأنها تابعة للطواف وهو تابع للإحرام فلا تنسحب نيته على تابع التابع, وهذا تعليل حسن ظريف, له نظير في العربية.
ومن ذلك: طواف الوداع, وقد حكى السنجي في شرح التلخيص عن القفال أنه(16/54)
ص -30-…لا يحتاج إلى النية, كسائر الأركان. وجزم ابن الرفعة بأنه يحتاج إليها, لأنه يقع بعد التحلل التام.قال في الخادم: وينبغي أن يتخرج على الخلاف في أنه من المناسك أم لا؟
"تنبيه": تشترط النية في طواف النذر والتطوع, بلا خلاف لانتفاء العلة وهي الاندراج. وعلى هذا يقال: لنا عبادة تجب النية في نفلها دون فرضها, وهو الطواف ولا نظير لذلك.
خاتمة: من نظائر هذا الأصل: أن نية التجارة إذا اقترنت بالشراء صار المشترى مال تجارة, ولا تحتاج كل معاملة إلى نية جديدة ; لانسحاب حكم النية أولا عليه.
المبحث الخامس: في محل النية
محلها القلب في كل موضع ; لأن حقيقتها القصد مطلقا, وقيل: المقارن للفعل, وذلك عبارة عن فعل القلب. قال البيضاوي: النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا من جلب نفع أو دفع ضر, حالا أو مآلا, والشرع خصصه بالإرادة المتوجهة نحو الفعل لابتغاء رضا الله تعالى, وامتثال حكمه.
والحاصل أن هنا أصلين: الأول: أنه لا يكفي التلفظ باللسان دونه. والثاني: أنه لا يشترط مع القلب التلفظ.
أما الأول فمن فروعه: لو اختلف اللسان والقلب, فالعبرة بما في القلب, فلو نوى بقلبه الوضوء وبلسانه التبرد, صح الوضوء, أو عكسه فلا, وكذا لو نوى بقلبه الظهر وبلسانه العصر, أو بقلبه الحج وبلسانه العمرة, أو عكسه صح له ما في القلب.
ومنها: إن سبق لسانه إلى لفظ اليمين بلا قصد فلا تنعقد, ولا يتعلق به كفارة, أو قصد الحلف على شيء فسبق لسانه إلى غيره, هذا في الحلف بالله, فلو جرى مثل ذلك في الإيلاء أو الطلاق أو العتاق, لم يتعلق به شيء باطنا, ويدين, ولا يقبل في الظاهر لتعلق حق الغير به.
وذكر الإمام في الفرق: أن العادة جرت بإجراء ألفاظ اليمين بلا قصد, بخلاف الطلاق والعتاق, فدعواه فيهما تخالف الظاهر فلا يقبل.
قال: وكذا لو اقترن باليمين ما يدل على القصد.(16/55)
وفي البحر: أن الشافعي نص في البويطي على أن من صرح بالطلاق أو الظهار أو العتاق, ولم يكن له نية, لا يلزمه فيما بينه وبين الله تعالى طلاق ولا ظهار ولا عتق.
ومنها: أن يقصد لفظ الطلاق والعتق دون معناه الشرعي, بل يقصد معنى له آخر, أو يقصد ضم شيء إليه برفع حكمه, وفيه فروع بعضها يقبل فيه, وبعضها لا, وكلها لا تقتضي الوقوع في نفس الأمر ; لفقد القصد القلبي.
قال الفوراني في الإبانة: الأصل أن كل من أفصح بشيء وقبل منه, فإذا نواه قبل(16/56)
ص -31-…فيما بينه وبين الله تعالى دون الحكم, وقال نحوه القاضي حسين والبغوي, والإمام في النهاية وغيرهم.
وهذه أمثلته: قال: أنت طالق: ثم قال: أردت من وثاق, ولا قرينة, لم يقبل في الحكم ويدين, فإن كان قرينة, كأن كانت مربوطة فحلها, وقال ذلك, قبل ظاهرا. مر بعبد له على مكاس, فطالبه بمكسه, فقال: إنه حر وليس بعبد, وقصد التخليص لا العتق لم يعتق فيما بينه وبين الله تعالى, كذا في فتاوى الغزالي, قال الرافعي: وهو يشير إلى أنه لا يقبل ظاهرا. قال في المهمات: وقياس مسألة الوثاق أن يقبل ; لأن مطالبة المكاس قرينة ظاهرة في إرادة صرف اللفظ عن ظاهره,
ورد بأنه ليس قرينة دالة على ذلك, وإنما نظير مسألة الوثاق, أن يقال له: أمتك بغي, فيقول: بل حرة, فهو قرينة ظاهرة على إرادة العفة لا العتق. انتهى.
زاحمته امرأة, فقال تأخري يا حرة, وكانت أمته وهو لا يشعر, أفتى الغزالي بأنها لا تعتق. قال الرافعي: فإن أراده في الظاهر فيمكن أن يفرق بأنه لا يدري من يخاطب هاهنا, وعنده أنه يخاطب غير أمته وهناك خاطب العبد باللفظ الصريح.(16/57)
وفي البسيط أن بعض الوعاظ طلب من الحاضرين شيئا, فلم يعطوه, فقال متضجرا منهم: طلقتكم ثلاثا, وكانت زوجته فيهم, وهو لا يعلم. فأفتى إمام الحرمين بوقوع الطلاق, قال الغزالي وفي القلب منه شيء. قال الرافعي: ولك أن تقول: ينبغي أن لا تطلق ; لأن قوله "طلقتكم" لفظ عام, وهو يقبل الاستثناء بالنية, كما لو حلف لا يسلم على زيد, فسلم على قوم هو فيهم, واستثناه بقلبه لم يحنث, وإذا لم يعلم أن زوجته في القوم كان مقصوده غيرها. وقال النووي: ما قاله الإمام والرافعي عجيب, أما العجب من الرافعي فلأن هذه المسألة ليست كمسألة السلام على زيد ; لأنه هناك علم به واستثناه, وهنا لم يعلم بها ولم يستثنها, واللفظ يقتضي الجميع, إلا ما أخرجه ولم يخرجها. وأما العجب من الإمام فلأن الشرط قصد لفظ الطلاق بمعنى الطلاق, ولا يكفي قصد لفظ من غير قصد معناه, ومعلوم أن الواعظ لم يقصد معنى الطلاق, فينبغي أن لا تطلق لذلك لما ذكره الرافعي. وقال في المهمات: ونظير ذلك ما حكيناه, عن الغزالي في مسألة "تأخري يا حرة" أنها لا تعتق.
وقال البلقيني فتح الله بتخريجين آخرين, يقتضيان عدم وقوع الطلاق: أحدهما: أن يخرج ذلك على من حلف لا يسلم على زيد فسلم على قوم هو فيهم وهو لا يعلم أنه فيهم, والمذهب أنه لا يحنث, وهذا غير مسألة الرافعي التي قاس عليها, فإنه هناك علم واستثنى وهنا لم يعلم أصلا.
الثاني: أن الطلاق لغة: الهجر, وشرعا: حل قيد النكاح بوجه مخصوص, ولا يمكن حمل كلام الواعظ على المشترك ; لأنه هنا متعذر ; لأن شرط حمل المشترك على معنييه أن(16/58)
ص -32-…لا يتضادا, فتعينت اللغوية, وهو لا يفيد إيقاع الطلاق على زوجته ; بل لو صرح فقال: طلقتكم وزوجتي, لم يقع الطلاق عليها, كما قالوه في: "نساء العالمين طوالق وأنت يا فاطمة" من جهة أنه عطف على نسوة لم تطلق. انتهى.
قال يا طالق وهو اسمها ; ولم يقصد الطلاق لم تطلق, وكذا لو كان اسمها طارقا أو طالبا وقال قصدت النداء فالتف الحرف,
قال: أنت طالق, ثم قال: أردت إن شاء زيد أو إن دخلت الدار دين ولم يقبل ظاهرا. قال: كل امرأة لي طالق, وقال أردت غير فلانة دين, ولم يقبل ظاهرا إلا لقرينة ; بأن خاصمته وقالت تزوجت, فقال ذلك, وقال: أردت غير المخاصمة, ولو وقع ذلك في اليمين قبل مطلقا ; كأن يحلف لا يكلم أحدا ويريد زيدا, أو لا يأكل طعاما ويريد شيئا معينا. قال أنت طالق, ثم قال أردت غيرها فسبق لساني إليها دين.
قال: طلقتك, ثم قال, أردت طلبتك دين.
قال: أنت طالق إن كلمت زيدا, ثم قال: أردت إن كلمته شهرا. قال الإمام: نص الشافعي أنه لا يقع الطلاق باطنا بعد الشهر, فلو كان في الحلف بالله قبل ظاهرا أيضا.
قال: أنت طالق ثلاثا للسنة وقال نويت تفريقها على الأقراء ; دين ولم يقبل ظاهرا ; لأن اللفظ يقتضي وقوع الكل في الحال إلا لقرينة, بأن كان يعتقد تحريم الجمع في قرء واحد ولو لم يقل للسنة, ففي المنهاج أنه كما لو قال. والذي في الشرحين والمحرر: أنه لا يقبل مطلقا ولا ممن يعتقد التحريم.
قال: لامرأته وأجنبية: إحداكما طالق, وقال: أردت الأجنبية قبل, بخلاف ما لو قال: عمرة طالق ; وهو اسم امرأته, وقال: أردت أجنبية, فإنه يدين ولا يقبل.
تتمة:
استثنى مواضع يكتفى فيها باللفظ. على رأي ضعيف:(16/59)
منها: الزكاة: ففي وجه أو قول يكفي نيتها لفظا. واستدل بأنها تخرج من مال المرتد ولا تصح نيته, وتجوز النيابة فيها, ولو كانت نية القلب متعينة لوجب على المكلف بها مباشرتها لأن النيات سر العبادات والإخلاص فيها. قال: ولا يرد على ذلك الحج حيث تجري فيه النيابة وتشترط فيه نية القلب, لأنه لا ينوب فيه من ليس من أهل الحج. وفي الزكاة ينوب فيها من ليس من أهلها كالعبد والكافر.
ومنها: إذا لبى بحج أو عمرة ولم ينو, ففي قول: إنه ينعقد ويلزمه ما سمى لأنه التزمه بالتسمية, وعلى هذا لو لبى مطلقا انعقد الإحرام مطلقا.
ومنها إذا أحرم مطلقا, ففي وجه يصح صرفه إلى الحج والعمرة باللفظ, والأصح في الكل أنه لا أثر للفظ.(16/60)
ص -33-…وأما الأصل الثاني: وهو أنه لا يشترط مع نية القلب التلفظ فيه, ففيه فروع كثيرة منها كل العبادات. ومنها: إذا أحيا أرضا بنية جعلها مسجدا, فإنها تصير مسجدا بمجرد النية, ولا يحتاج إلى لفظ.
ومنها: من حلف لا يسلم على زيد, فسلم على قوم هو فيهم واستثناه بالنية, فإنه لا يحنث, بخلاف من حلف لا يدخل عليه ; فدخل على قوم هو فيهم واستثناه بقلبه, وقصد الدخول على غيره, فإنه يحنث في الأصح, والفرق أن الدخول فعل لا يدخله الاستثناء, ولا ينتظم أن يقول: دخلت عليكم إلا على فلان, ويصح أن يقال: سلمت عليكم إلا على فلان.
وخرج عن هذا الأصل صور, بعضها على رأي ضعيف.
منها: الإحرام, ففي وجه أو قول, أنه لا ينعقد بمجرد النية حتى يلبي, وفي آخر: يشترط التلبية أو سوق الهدي وتقليده, وفي آخر: أن التلبية واجبة, لا شرط للانعقاد فعليه دم, والأصح أنها لا شرط ولا واجبة, فينعقد الإحرام بدونها ولا يلزمه شيء.
ومنها: لو نوى النذر أو الطلاق بقلبه ولم يتلفظ, لم ينعقد النذر ولا يقع الطلاق.
ومنها: اشترى شاة بنية التضحية أو الإهداء, لم تصر كذلك على الصحيح حتى يتلفظ. ومنها: باع بألف وفي البلد نقود لا غالب فيها, فقبل ونويا نوعا لم يصح في الأصح حتى يبيناه لفظا, وفي نظيره من الخلع: يصح في الأصح لأنه يغتفر فيه ما لا يغتفر في البيع. وفي نظيره من النكاح لو قال من له بنات: زوجتك بنتي, ونويا واحدة صح على الأصح.
ومنها لو قال أنت طالق, ثم قال أردت إن شاء الله تعالى لم يقبل. قال الرافعي: والمشهور أنه لا يدين أيضا, بخلاف ما إذا قال: أردت إن دخلت ; أو إن شاء زيد فإنه يدين وإن لم يقبل ظاهرا, قال: والفرق بين إن شاء الله وبين سائر صور التعليق ; أن التعليق بمشيئة الله يرفع حكم الطلاق جملة فلا بد فيه من اللفظ, والتعليق بالدخول ونحوه لا يرفعه جملة, بل يخصصه بحال دون حال.(16/61)
ومنها: من عزم على المعصية ولم يفعلها أو لم يتلفظ بها لا يأثم لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به".
ووقع في فتاوى قاضي القضاة تقي الدين بن رزين أن الإنسان إذا عزم على معصية فإن كان قد فعلها ولم يتب منها فهو مؤاخذ بهذا العزم لأنه إصرار, وقد تكلم السبكي في الحلبيات على ذلك كلاما مبسوطا أحسن فيه جدا فقال: الذي يقع في النفس من قصد المعصية على خمس مراتب: الأولى: الهاجس: وهو ما يلقى فيها, ثم جريانه فيها وهو الخاطر, ثم حديث النفس: وهو ما يقع فيها من التردد هل يفعل أو لا؟ ثم الهم: وهو ترجيح قصد الفعل, ثم العزم: وهو قوة ذلك القصد والجزم به, فالهاجس لا يؤاخذ به إجماعا لأنه ليس(16/62)
ص -34-…من فعله ; وإنما هو شيء ورد عليه, لا قدرة له ولا صنع, والخاطر الذي بعده كان قادرا على دفعه بصرف الهاجس أول وروده, ولكنه هو وما بعده من حديث النفس مرفوعان بالحديث الصحيح, وإذا ارتفع حديث النفس ارتفع ما قبله بطريق الأولى. وهذه المراتب الثلاثة أيضا لو كانت في الحسنات لم يكتب له بها أجر. أما الأول فظاهر, وأما الثاني والثالث فلعدم القصد, وأما الهم فقد بين الحديث الصحيح: "إن الهم بالحسنة, يكتب حسنة, والهم بالسيئة لا يكتب سيئة, وينتظر فإن تركها لله كتبت حسنة, وإن فعلها كتبت سيئة واحدة" والأصح في معناه أنه يكتب عليه الفعل وحده ; وهو معنى قوله "واحدة", وأن الهم مرفوع.
ومن هذا يعلم أن قوله في حديث النفس: "ما لم يتكلم أو يعمل" ليس له مفهوم, حتى يقال: إنها إذا تكلمت أو عملت يكتب عليه حديث النفس ; لأنه إذا كان الهم لا يكتب, فحديث النفس أولى, هذا كلامه في الحلبيات.
وقد خالفه في شرح المنهاج فقال: إنه ظهر له المؤاخذة من إطلاق قوله - صلى الله عليه وسلم: "أو تعمل" ولم يقل أو تعمله, قال: فيؤخذ منه تحريم المشي إلى معصية, وإن كان المشي في نفسه مباحا, لكن لانضمام قصد الحرام إليه, فكل واحد من المشي والقصد لا يحرم عند انفراده, أما إذا اجتمعا فإن مع الهم عملا لما هو من أسباب المهموم به فاقتضى إطلاق "أو تعمل" المؤاخذة به. قال: فاشدد بهذه الفائدة يديك, واتخذها أصلا يعود نفعه عليك.
وقال ولده في منع الموانع: هنا دقيقة نبهنا عليها في جمع الجوامع وهي: أن عدم المؤاخذة بحديث النفس والهم ليس مطلقا بل بشرط عدم التكلم والعمل, وحتى إذا عمل يؤاخذ بشيئين همه وعمله, ولا يكون همه مغفورا, وحديث نفسه إلا إذا لم يتعقبه العمل, كما هو ظاهر الحديث, ثم حكى كلام أبيه الذي في شرح المنهاج, والذي في الحلبيات ورجح المؤاخذة,(16/63)
ثم قال في الحلبيات: وأما العزم فالمحققون على أنه يؤاخذ به, وخالف بعضهم وقال: إنه من الهم المرفوع, وربما تمسك بقول أهل اللغة, هم بالشيء عزم عليه, والتمسك بهذا غير سديد لأن اللغوي لا يتنزل إلى هذه الدقائق.
واحتج الأولون بحديث: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار". قالوا: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: "كان حريصا على قتل صاحبه", فعلل بالحرص, واحتجوا أيضا بالإجماع على المؤاخذة بأعمال القلوب كالحسد ونحوه, وبقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} على تفسير الإلحاد بالمعصية, ثم قال: إن التوبة واجبة على الفور, ومن ضرورتها العزم على عدم العود, فمتى عزم على العود(16/64)
ص -35-…قبل أن يتوب منها, فذلك مضاد للتوبة, فيؤاخذ به بلا إشكال, وهو الذي قاله ابن رزين, ثم قال في آخر جوابه: والعزم على الكبيرة, وإن كان سيئة, فهو دون الكبيرة المعزوم عليها.
المبحث السادس: في شروط النية.
الأول: الإسلام, ومن ثم لم تصح العبادات من الكافر, وقيل يصح غسله دون وضوئه وتيممه, وقيل يصح الوضوء أيضا, وقيل يصح التيمم أيضا, ومحل الخلاف في الأصلي, أما المرتد فلا يصح منه غسل ولا غيره, كذا قال الرافعي, لكن في شرح المهذب أن جماعة أجروا الخلاف في المرتد,
وخرج من ذلك صور:
الأولى: الكتابية تحت المسلم, يصح غسلها عن الحيض, ليحل وطؤها بلا خلاف للضرورة, ويشترط نيتها كما قطع به المتولي والرافعي في باب الوضوء وصححه في التحقيق, كما لا يجزي الكافر العتق عن الكفارة إلا بنية العتق, وادعى في المهمات أن المجزوم به في الروضة وأصلها, في النكاح عدم الاشتراط, وما ادعاه باطل, سببه سوء الفهم, فإن عبارة الروضة هناك, إذا طهرت الذمية من الحيض والنفاس ألزمها الزوج الاغتسال, فإن امتنعت أجبرها عليه واستباحها ; وإن لم تنو للضرورة, كما يجبر المسلمة المجنونة, فقوله "وإن لم تنو" بالتاء الفوقية, عائد إلى مسألة الامتناع, لا إلى أصل غسل الذمية, وحينئذ لا شك في أن نيتها لا تشترط, كالمسلمة المجنونة. وأما عدم اشتراط نية الزوج عند الامتناع والمجنون, أو عدم اشتراط نيتها في غير حال الإجبار, فلا تعرض له في الكلام لا نفيا ولا إثباتا, بل في قوله في مسألة الامتناع "استباحها وإن لم تنو للضرورة" ما يشعر بوجوب النية في غير حال الامتناع.
وعجبت للإسنوي كيف غفل عن هذا؟ وكيف حكاه متابعوه عنه ساكتين عليه؟ والفهم من خير ما أوتي العبد.(16/65)
الثانية: الكفارة تصح من الكافر, ويشترط منه نيتها, لأن المغلب فيها جانب الغرامات, والنية فيها للتمييز لا للقربة, وهي بالديون أشبه, وبهذا يعرف الفرق بين عدم وجوب إعادتها بعد الإسلام ووجوب إعادة الغسل بعده.
الثالثة: إذا أخرج المرتد الزكاة في حال الردة, تصح وتجزيه.
الرابعة: ذكر قاضي القضاة جلال الدين البلقيني: أنه يصح صوم الكافر في صورة, وذلك إذا أسلم مع طلوع الفجر, ثم إن وافق آخر إسلامه الطلوع فهو مسلم حقيقة ويصح منه النفل مطلقا, قال: ونظيرها من المنقول صورة المجامع, يحس وهو مجامع بالفجر فينزع بحيث يوافق آخر نزعه الطلوع, وإن وافق أول إسلامه الطلوع, فهذا إذا نوى(16/66)
ص -36-…النفل صح على الأرجح. ولا أثر لما وجد من موافقة أول الإسلام الطلوع, كما ذكره الأصحاب في صورة أن يطلع وهو مجامع ويعلم بالطلوع في أوله, فينزع في الحال أنه لا يبطل الصوم فيها على الأصح, فحينئذ تلك اللحظة التي كانت وقت الطلوع هي المرادة بالتصوير وذلك قبل الحكم بالإسلام, والأخذ في الإسلام ليس بقاء على الكفر, كما أن النزع ليس بقاء على الجماع, ولا يصح منه صوم الفرض والحالة هذه ; لأن التبييت شرط, فإن بيت وهو كافر, ثم أسلم كما صورنا. قال: فهل لهذه النية أثر؟ لم أر من تعرض لذلك, ويجوز أن يقال: الشروط لا تعتبر وقت النية كما قالوا في الحائض: تنوي من الليل قبل انقطاع دمها, ثم ينقطع الأكثر أو العادة, فلا يحتاج إلى التجديد, ويجوز أن يقال: يعتبر شرط الإسلام وقت النية ; لأن المعتادة على يقين من الانقطاع لأكثر الحيض, وعلى ظن قوي للعادة بظهورها, وليس في إسلام الكافر يقين ولا ظاهر, فكان مترددا حال النية, فيبطل الجزم, كما إذا لم يكن لها عادة أو لها عادة مختلفة, ولو اتفق الطهر بالليل لعدم الجزم.
قال: ومما يناظر ذلك: ما إذا نوى سفر القصر وهو كافر فإنه تعتبر نيته, فإذا أسلم في أثناء المسافة قصر على الأرجح. ا هـ.
الشرط الثاني: التمييز: فلا تصح عبادة صبي, لا يميز ولا مجنون: وخرج عن ذلك الطفل يوضئه الولي للطواف حيث يحرم عنه, والمجنونة يغسلها الزوج عن الحيض, وينوي على الأصح.
ومن فروع هذا الشرط: مسألة عمدها في الجنايات هل هو عمد أو لا؟ لأنه لا يتصور منهما القصد, وصححوا أن عمدهما عمد, وخص الأئمة الخلاف بمن له نوع تمييز, فغير المميز منهما عمده خطأ قطعا.
ونظير ذلك: السكران لا يقضى عليه بالحدث حتى يستغرق دون أول النشوة, وكذا حكم صلاته وسائر أفعاله.(16/67)
الشرط الثالث: العلم بالمنوي: قال البغوي وغيره: فمن جهل فرضية الوضوء أو الصلاة لم يصح منه فعلها, وكذا لو علم أن بعض الصلاة فرض ولم يعلم فرضية التي شرع فيها, وإن علم الفرضية وجهل الأركان, فإن اعتقد الكل سنة أو البعض فرضا والبعض سنة ولم يميزها لم تصح قطعا, أو الكل فرضا فوجهان: أصحهما الصحة لأنه ليس فيه أكثر من أنه أدى سنة باعتقاد الفرض وذلك لا يؤثر.
وقال الغزالي: الذي لا يميز الفرائض من السنن تصح عبادته, بشرط أن لا يقصد التنفل بما هو فرض, فإن قصده لم يعتد به, وإن غفل عن التفصيل فنية الجملة كافية, واختاره في الروضة.(16/68)
ص -37-…قال الأسنوي: وغير الوضوء والصلاة في معناهما, وقال في الخادم: الظاهر أنه لا يشترط ذلك في الحج, ويفارق الصلاة, فإنه لا يشترط فيه تعيين المنوي ; بل ينعقد مطلقا ويصرفه بخلاف الصلاة, ويمكن تعلم الأحكام بعد الإحرام بخلاف الصلاة, ولا يشترط العلم بالفرضية ; لأنه لو نوى النفل انصرف إلى الفرض.
ومن فروع هذا الشرط: ما لو نطق بكلمة الطلاق بلغة لا يعرفها وقال قصدت بها معناها بالعربية, فإنه لا يقع الطلاق في الأصح, وكذا لو قال: لم أعلم معناها ولكن نويت بها الطلاق وقطع النكاح فإنه لا يقع, كما لو خاطبها بكلمة لا معنى لها وقال: أردت الطلاق ونظير ذلك لو قال: أنت طالق طلقة في طلقتين وقال: أردت معناه عند أهل الحساب ; فإن عرفه وقع طلقتان, وإن جهله فواحدة في الأصح, لأن ما لا يعلم معناه لا يصح قصده.
ونظيره أيضا: أن يقول: طلقتك مثل ما طلق زيد, وهو لا يدري كم طلق زيد, وكذا لو نوى عدد طلاق زيد ولم يتلفظ.
ونظير أنت طالق طلقة في طلقتين قول المقر: له علي درهم في عشرة, فإنه إن قصد الحساب يلزمه عشرة, كذا أطلقه الشيخان هنا, وقيده في الكفاية بأن يعرفه, قال: فإن لم يعرفه فيشبه لزوم درهم فقط. وإن قال: أردت ما يريده الحساب, على قياس ما في الطلاق انتهى, وقد جزم به في الحاوي الصغير.
ونظير طلقتك مثل ما طلق زيد: بعتك بمثل ما باع به فلان فرسه, وهو لا يعلم قدره فإن البيع لا يصح.(16/69)
الشرط الرابع: أن لا يأتي بمناف فلو ارتد في أثناء الصلاة أو الصوم أو الحج أو التيمم بطل, أو الوضوء أو الغسل لم يبطلا ; لأن أفعالهما غير مرتبطة ببعضها, ولكن لا يحسب المغسول في زمن الردة ; ولو ارتد بعد الفراغ, فالأصح أنه لا يبطل الوضوء والغسل ويبطل التيمم لضعفه ; ولو وقع ذلك بعد فراغ الصلاة أو الصوم أو الحج أو أداء الزكاة لم يجب عليه الإعادة. وأما الأجر فإن لم يعد إلى الإسلام فلا يحصل له لأن الردة تحبط العمل وإن عاد فظاهر النص أنها تحبط أيضا ; والذي في كلام الرافعي أنها إنما تحبط إذا اتصلت بالموت ; بل في الأساليب لو مات مرتدا فحجه وعبادته باقية وتفيده المنع من العقاب ; فإنه لو لم يؤدها لعوقب على تركها ولكن لا تفيده ثوابا ; لأن دار الثواب الجنة وهو لا يدخلها وحكى الواحدي في تفسير سورة النساء خلافا في الكافر يؤمن ثم يرتد أنه يكون مطالبا بجميع كفره, وأن الردة تحبط الإيمان السابق. قال: وهو غلط لأنه صار بالإيمان كمن لم يكفر فلا يؤاخذ به بعد أن ارتفع حكمه قال. وهو نظير الخلاف في أن من تاب من المعصية ثم عاود الذنب, هل يقدح في صحة التوبة الماضية؟ والمشهور:لا.(16/70)
ص -38-…قلت: ليس بنظيره بل بينهما بون عظيم لفحش أمر الردة فقد نص الله تعالى على أنها تحبط العمل ; بخلاف الذنب فإنه لا يحبط عملا وقد صح في الحديث في الكافر يسلم "أنه إن أساء أوخذ بالأول والآخر".
ومن نظائر ذلك: أن من صحب النبي صلى الله عليه وسلم ثم ارتد ومات على الردة كابن خطل لا يطلق عليه اسم الصحابي وأما من ارتد بعده ثم أسلم ومات مسلما كالأشعث بن قيس فقال الحافظ أبو الفضل العراقي: في دخوله في الصحابة نظر ; فقد نص الشافعي وأبو حنيفة على أن الردة محبطة للعمل قال: والظاهر أنها محبطة للصحبة السابقة قال: أما من رجع إلى الإسلام في حياته كعبد الله بن أبي سرح فلا مانع من دخوله في الصحبة انتهى. وفي البحر لو اعتقد صبي - أبويه مسلمان - الكفر وهو في الصلاة بطلت. قال: والذي كنت أقول: صلاته صحيحة لأن ردته لم تصح ثم ظهر لي الآن بطلانها لأن اعتقاد الكفر إبطال لها فلو وقع ذلك في وضوء أو صوم فوجهان مبنيان على نية الخروج أو في حج أو عمرة لم يضر لأنه لا يبطل بنية الإبطال ; انتهى كلام صاحب البحر.
فصل
ومن المنافي: نية القطع, وفي ذلك فروع:
نوى قطع الإيمان - والعياذ بالله تعالى - صار مرتدا في الحال.
نوى قطع الصلاة بعد الفراغ منها, لم تبطل بالإجماع, وكذا سائر العبادات وفي الطهارة وجه لأن حكمها باق بعد الفراغ.
نوى قطع الصلاة أثناءها, بطلت بلا خلاف ; لأنها شبيهة بالإيمان.
نوى قطع الطهارة أثناءها, لم يبطل ما مضى في الأصح لكن يجب تجديد النية لما بقي. نوى قطع الصوم والاعتكاف,لم يبطلا في الأصح لأن الصلاة مخصوصة من بين سائر العبادات بوجوه من الربط ومناجاة العبد ربه.
نوى الأكل أو الجماع في الصوم, لم يضره.
نوى فعل مناف في الصلاة كالأكل والفعل الكثير, لم تبطل قبل فعله.
نوى الصوم من الليل ثم قطع النية قبل الفجر, سقط حكمها لأن ترك النية ضد النية بخلاف ما لو أكل بعدها لا تبطل, لأن الأكل ليس ضدها.(16/71)
نوى قطع الحج والعمرة لم يبطلا بلا خلاف ; لأنه لا يخرج منهما بالإفساد.
نوى قطع الجماعة بطلت, ثم في الصلاة قولان: إذا لم يكن عذر أصحهما لا تبطل وأما ثواب الجماعة لما سبق فيسقط, كما صرح به الشيخ أبو إسحاق الشيرازي واعتمده خاتمة المحققين الشيخ جلال الدين المحلي.
وأما الثواب في الصلاة والوضوء ونحوه إذا قلنا ببطلانه, ففي شرح المهذب عن البحر(16/72)
ص -39-…لو نوى نية صحيحة وغسل بعض أعضائه ثم بطل في أثنائه بحدث أو غيره فهل له ثواب المفعول منه, كالصلاة إذا بطلت في أثنائها أولا؟ لأنه مراد لغيره بخلاف الصلاة أو إن بطل بغير اختياره فله, وإلا فلا احتمالات, وظاهره: أن الحصول في الصلاة متفق عليه. نوى قطع الفاتحة, فإن كان مع سكوت يسير بطلت القراءة في الأصح وإلا فلا.
نوى قطع السفر والإقامة, فإن كان سائرا لم يؤثر لأن السير يكذبها, كما في شرح المهذب. وإن كان نازلا انقطع, وكذا لو كان في مفازة لا تصلح للإقامة على الأظهر. نوى الإتمام في أثناء الصلاة: امتنع عليه القصر.
نوى بمال التجارة القنية: انقطع حول التجارة ولو نوى بمال القنية التجارة لم يؤثر في الأصح.
نوى بالحلي المحرم استعمالا مباحا: بطل الحول.
نوى بالمباح محرما أو كنزا: ابتدأ حول الزكاة.
نوى الخيانة في الوديعة: لم يضمن على الصحيح إلا أن يتصل به نقل من الحرز, كما في قطع القراءة مع السكوت.
نوى أن لا يردها, وقد طلبها المالك, فيه الوجهان.
نوى الخيانة في اللقطة, فيه الوجهان.
فرع: ويقرب من نية القطع نية القلب, قال في شرح المهذب: قال الماوردي: نقل الصلاة إلى أخرى أقسام: أحدها: نقل فرض إلى فرض فلا يحصل واحد منهما. الثاني: نقل نفل راتب إلى نفل راتب كوتر إلى سنة الفجر, فلا يحصل واحد منهما. الثالث: نقل نفل إلى فرض فلا يحصل واحد منهما. الرابع: نقل فرض إلى نفل فهذا نوعان: نقل حكم كمن أحرم بالظهر قبل الزوال جاهلا فيقع نفلا. ونقل نية بأن ينوي قبله نفلا عامدا فتبطل صلاته, ولا ينقلب نفلا على الصحيح, فإن كان لعذر, كأن أحرم بفرض منفردا ثم أقيمت جماعة, فسلم من ركعتين ليدركها, صحت نفلا في الأصح.
فصل
ومن المنافي: عدم القدرة على المنوي, إما عقلا, وإما شرعا, وإما عادة, فمن الأول: نوى بوضوئه أن يصلي صلاة وأن لا يصليها: لم يصح لتناقضه.(16/73)
ومن الثاني: نوى به الصلاة في مكان نجس, قال في شرح المهذب عن البحر: ينبغي أن لا يصح.
ومن الثالث: نوى به صلاة العيد وهو في أول السنة أو الطواف وهو بالشام ففي صحته خلاف, حكاه في الأول الروياني, وفي الثاني بعض المصنفين, وقربه من الخلاف فيمن أحرم بالظهر قبل الزوال.(16/74)
ص -40-…قلت: لكن الأصح الصحة, كما جزم به في التحقيق, وحكاه في شرح المهذب عن البحر وأقره.
نوى العبد أو الزوجة أو الجندي مسافة القصر, وهم مع مالك أمرهم ولا يعرفون مقصده: لم يقصر العبد ولا الزوجة لأنهما لا يقدران على ذلك, إذ هما تحت قهر السيد والزوج, بخلاف الجندي ; لأنه ليس تحت يد الأمير وقهره.
فصل
ومن المنافي: التردد وعدم الجزم. وفيه فروع:
تردد: هل يقطع الصلاة أو لا, أو علق إبطالها على شيء بطلت, وكذا في الإيمان.
تردد: في أنه نوى القصر أو لا؟ وهل يتم, أو لا؟ لم يقصر.
تيقن الطهارة وشك في الحدث فاحتاط وتطهر, ثم بان أنه محدث لم يصح وعليه الإعادة في الأصح بخلاف ما لو شك في الطهارة, وقد تيقن الحدث لأن معه أصلا, وبخلاف ما لو شك في نجاسة فغسلها ; لأنها لا تحتاج إلى نية.
نوى ليلة الثلاثين من شعبان صوم غد عن رمضان, إن كان منه, فكان منه: لم يقع عنه بخلاف ما لو وقع ليلة الثلاثين من رمضان, لاستصحاب الأصل. عليه فائتة, فشك هل قضاها, أو لا فقضاها ثم تيقنها: لم تجزئه.
هجم فتوضأ بأحد الإناءين, لم يصح وضوءه وإن بان أنه توضأ بالطاهر.
شك في جواز المسح على الخف, فمسح ثم بان جوازه وجب إعادة المسح وقضى ما صلى به.
تيمم أو صلى أو صام شاكا في دخول الوقت, فبان في الوقت, لم تصح.
تيمم بلا طلب للماء, ثم بان أن لا ماء: لم يصح.
تيمم لفائتة ظنها عليه, أو لفائتة الظهر, فبانت العصر: لم يصح.
صلى إلى جهة شاكا أنها القبلة, فإذا هي هي: لم تصح.
قصر شاكا في جواز القصر: لم يصح وإن بان جوازه.
صلى على غائب ميت شاكا أنه من أهل الصلاة عليه, فبان أنه من أهلها: لم يصح.
صلى خلف خنثى, فبان رجلا: لم يسقط القضاء في الأظهر بخلاف ما لو عقد به النكاح فبان رجلا, مضى على الصحة في الأظهر, لأن المقصود فيه الحضور ولا نية يقع فيها التردد.
قال: هذه زكاة أو صدقة: لم تقع زكاة للتردد.(16/75)
هذا عن مالي الغائب إن كان سالما وإلا فعن الحاضر, أو صدقة فبان سالما أجزأه وإلا لم يجزه عن الحاضر للترديد فيه, بخلاف ما سيأتي.(16/76)
ص -41-…قال: إن كان مورثي مات وورثت ماله فهذه زكاته, فبان: لم يجزه بلا خلاف ; لأنه لم يستند إلى أصل, بخلاف مسألة الغائب ; لأن الأصل بقاؤه, وبخلاف البيع, فإنه لا يحتاج إلى نية.
عقب النية بالمشيئة, فإن نوى التعليق بطلت ; أو التبرك فلا أو أطلق. قال في الشافي تبطل ; لأن اللفظ موضوع للتعليق.
قال: أصوم غدا إن شاء زيد, لم يصح وإن شاء زيد, أو إن نشطت فكذلك ; لعدم الجزم, بخلاف ما لو قال: ما كنت صحيحا مقيما, فإنه يجزئه.
ذكر صور صحت فيها النية مع تردد أو تعليق
اشتبه عليه ماء وماء ورد: لا يجتهد, بل يتوضأ بكل مرة, ويغتفر التردد في النية للضرورة. قال الأسنوي: ويندفع التردد بأن يأخذ غرفة من هذا وغرفة من هذا, ويغسل شقي وجهه وينوي حينئذ, ثم يعكس المأخوذ والمغسول.
عليه صلاة من الخمس فنسيها فصلى الخمس ; ثم تذكرها قال في شرح المهذب: لم أر فيه نقلا ويحتمل أن يكون على الوجهين فيمن تيقن الطهارة وشك في الحدث, ويحتمل أن يقطع بأن لا تجب الإعادة ; لأنا أوجبناها عليه, ففعلها بنية الواجب, ولا نوجبها ثانيا, بخلاف مسألة الوضوء, فإنه تبرع به, ولا يسقط به الفرض قال: وهذا الاحتمال أظهر.
قلت: صرح بالثاني في البحر.
ونظيره: من صلى منفردا, ثم أعاد مع جماعة, ونوى الفرضية, كما هو المشهور ثم بان فساد الأولى, فإن الثانية تجزيه, ولا يلزم الإعادة, صرح به الغزالي في فتاويه. عليه صوم واجب, لا يدري هل هو من رمضان أو نذر, أو كفارة, فنوى صوما واجبا, أجزأه, كمن نسي صلاة من الخمس, ويعذر في عدم جزم النية للضرورة, نقله في شرح المهذب عن الصيمري, وصاحب البيان ; وأقرهما.
وأما التعليق ففيه صور: منها الحج, بأن يقول مريد الإحرام: إن كان زيد محرما فقد أحرمت, فإن كان زيد محرما انعقد إحرامه, وإلا فلا, ولو علقه بمستقبل, كقوله: إذا أحرم زيد, أو جاء رأس الشهر فقد أحرمت فالذي نقله البغوي وآخرون: أنه لا يصح.(16/77)
وذكر ابن القطان والدارمي والشاشي فيه وجهين: أصحهما, لا ينعقد, قال الرافعي وقياس تجويز تعليق أصل الإحرام بإحرام الغير تجويز هذا, لأن التعليق موجود في الحالين, إلا أن هذا تعليق بمستقبل وذاك تعليق بحاضر ; وما يقبل التعليق من العقود يقبلهما جميعا.(16/78)
ص -42-…قلت: ويؤيد ما ذكره القاضي أبو حامد: أنه لو قال في إحرامه: إن شاء الله. انعقد سواء قصد التعليق أم لا فقيل له: أليس لو قال لعبده: أنت حر إن شاء الله, صح استثناؤه فيه؟ فقال: الفرق أن الاستثناء يؤثر في النطق, ولا يؤثر في النيات, والعتق ينعقد بالنطق, فلذلك أثر الاستثناء فيه, والإحرام ينعقد بالنية, فلم يؤثر الاستثناء فيه فقيل له: أليس لو قال لزوجته: أنت خلية إن شاء الله, ونوى الطلاق أثر الاستثناء فيه؟ فقال: الفرق أن الكناية مع النية في الطلاق كالصريح فلهذا صح الاستثناء.
قال في شرح المهذب: والصواب أن الحكم فيه كسائر العبادات, إن نوى التبرك, انعقد وإلا فلا. ومن صور التعليق في الحج: لو أحرم يوم الثلاثين من رمضان, وهو شاك, فقال إن كان من رمضان فإحرامي بعمرة, أو من شوال فحج فكان شوالا, كان حجا صحيحا, نقله في شرح المهذب عن الدارمي, وأقره.
ونظيره في الطهارة: إن شك في الحدث, فنوى الوضوء إن كان محدثا, وإلا فتجديد صح, نقله في شرح المهذب عن البغوي, وأقره, أو ينوي بوضوئه القراءة إن صح الوضوء لها, وإلا فالصلاة. صح, نقله في شرح المهذب عن البحر.
وفي الصلاة: شك في قصر إمامه, فقال: إن قصر قصرت, وإلا أتممت, فبان قاصرا قصر, جزم به الأصحاب.
اختلط مسلمون بكفار, أو شهداء بغيرهم: صلى على كل واحد بنية الصلاة عليه, إن كان مسلما أو غير شهيد.
عليه فائتة, وشك في أدائها فقال: أصلي عنها إن كانت, وإلا فنافلة, فبانت: أجزأه. نقله في شرح المهذب عن الدارمي. قال: بخلاف ما لو شك في دخول وقت الصلاة, فنوى إن كانت دخلت فعنها وإلا فنافلة أو فائتة فإنه لا يجزيه بالاتفاق, وبخلاف ما لو قال: فائتة أو نافلة للترديد.
وفي الزكاة: نوى زكاة ماله الغائب, إن كان باقيا, وإلا فعن الحاضر, فبان باقيا أجزأه عنه, أو تالفا أجزأه عن الحاضر.
قال: إن كان سالما فعنه, وإلا فتطوع, فبان سالما: أجزأه بالاتفاق.(16/79)
وفي الصوم: نوى ليلة الثلاثين من شعبان صوم غد إن كان من رمضان فهو فرض, وإن لم يكن فتطوع صحح السبكي والأسنوي: أنه يصح ويجزيه, ولا يضر هذا التعليق. قلت: وهو المختار, والمرجح في أصل الروضة خلافه.
وفي الجمعة: أحرم بالصلاة في آخر وقتها, فقال: إن كان الوقت باقيا فجمعة, وإلا فظهر, فبان بقاؤه, ففي صحة الجمعة وجهان في شرح المهذب, بلا ترجيح.(16/80)
ص -43-…المبحث السابع: في أمور متفرقة
اختلف الأصحاب: هل النية ركن في العبادات, أو شرط؟ فاختار الأكثر أنها ركن ; لأنها داخل العبادة. وذلك شأن الأركان, والشرط ما يتقدم عليها, ويجب استمراره فيها, واختار القاضي أبو الطيب وابن الصباغ أنها شرط, وإلا لافتقرت إلى نية أخرى تندرج فيه. كما في أجزاء العبادات فوجب أن تكون شرطا خارجا عنها, والأولون انفصلوا عن ذلك بلزوم التسلسل. واختلف كلام الغزالي في ذلك, فعدها في الصوم ركنا وقال في الصلاة: هي بالشروط أشبه, ووقع العكس من ذلك في كلام الشيخين, فإنهما عداها في الصلاة ركنا, وقالا في الصوم: النية شرط الصوم. وهذا يمكن أن يكون له وجه من جهة أنها في الصوم متقدمة عليه. وقال العلائي: يمكن أن يقال: ما كانت النية معتبرة في صحته, فهي ركن فيه, وما يصح بدونها, ولكن يتوقف حصول الثواب عليها, كالمباحات, والكف عن المعاصي: فنية التقرب شرط في الثواب.
تنبيه: قال ابن دقيق العيد: كان الشيخ عز الدين بن عبد السلام يستشكل معرفة حقيقة الإحرام جدا, ويبحث فيه كثيرا, فإذا قيل له: إنه النية, اعترض عليه بأن النية شرط في الحج الذي الإحرام ركنه, وشرط الشيء بغيره. وإذا قيل له: إنه التلبية اعترض عليه بأنها ليست بركن.(16/81)
وعبارته في القواعد: ومن المشكل قولهم: إن الحج والعمرة ينعقدان بمجرد نية الإحرام, من غير قول ولا فعل, فإن أريد بالإحرام أفعال الحج, لم يصح, لأنه لم يتلبس بشيء منها وقت النية, وإن أريد الانكفاف عن المحظورات, لم يصح ; لأنه لو نوى الإحرام مع ملابسة المحظورات صح ; ولأنه لو كان كذلك لما صح إحرام من جهل وجوب الكف ; لأن الجهل به يمنع توجه النية إليه ; إذ لا يصح قصد ما يجهل حقيقته. وفي التلقين لابن سراقة: الإحرام النية بالحج والعزم على فعله, وقال ابن عبدان: الإحرام أن ينوي أنه قد أحرم. وغلط بعض أصحابنا فجعل النية غير الإحرام وأشار به إلى ابن سريج, حيث قال: لا يتم الحج إلا بالنية للإحرام, والإحرام
وعبارة التنبيه: وينوي الإحرام بقلبه, وهو يدل على أن النية غير الإحرام وذلك هو التحقيق, فإنه لو أحرم إحراما مطلقا فله صرفه إلى ما شاء, فالنية غير المنوي.
وقال النووي: الإحرام: نية الدخول في الحج أو العمرة. قال ابن الرفعة: وهذا التفسير يخرج الإحرام المطلق فالوجه أن يقال: هو نية حج أو عمرة أو هما أو ما يصح لأحدهما, وهو المطلق.
تنبيه آخر: أجروا النية مجرى الشروط في مسألة: وهي ما لو شك بعد الصلاة في تركها أو ترك الطهارة فإنه يجب الإعادة, بخلاف ما لو شك في ترك ركن. قال في شرح(16/82)
ص -44-…المهذب: والفرق أن الشك في الأركان يكثر لكثرتها, بخلاف الشروط. وقال في الروضة وشرح المهذب في الصوم: لو شك الصائم في النية بعد الغروب فلا أثر له.
قاعدة
قال الرافعي, وتبعه في الروضة: النية في اليمين تخصص اللفظ العام, ولا تعمم الخاص مثال الأول: أن يقول: والله لا أكلم أحدا, وينوي زيدا. ومثال الثاني: أن يمن عليه رجل بما نال منه فيقول: والله لا أشرب منه ماء من عطش, فإن اليمين تنعقد على الماء من عطش خاصة, ولا يحنث بطعامه وثيابه, ولو نوى أن لا ينتفع بشيء منه, ولو كانت المنازعة تقتضي ذلك ; لأن النية إنما تؤثر إذا احتمل اللفظ ما نوى, بجهة يتجوز بها قال الأسنوي: وفي ذلك نظر لأن فيه جهة صحيحة, وهي إطلاق اسم البعض على الكل.
قاعدة
مقاصد اللفظ على نية اللافظ, إلا في موضع واحد, وهو اليمين عند القاضي, فإنها على نية القاضي دون الحالف, إن كان موافقا له في الاعتقاد, فإن خالفه, كحنفي استحلف شافعيا في شفعة الجوار, ففيمن تعتبر نيته؟ وجهان: أصحهما: القاضي أيضا.
وهذه فروع منثورة ومع نظير فأكثر لكل فرع فرع
فرع: أدخل الجنب يده في الإناء بعد النية, أو المحدث بعد غسل الوجه, فإن نوى رفع الحدث صار مستعملا, أو الاغتراف فلا أو أطلق فوجهان: أصحهما يصير. وله نظائر:
منها: إذا عقب النية بالمشيئة, فإن نوى التعليق بطلت, أو التبرك فلا, أو أطلق فوجهان: أصحهما تبطل.
ومنها: لو كان اسمها طالق, أو حرة, فقال: يا طالق, أو يا حرة, فإن قصد الطلاق, أو العتق حصلا, أو النداء فلا, وإن أطلق, فوجهان, لكن الأصح هنا عدم الحصول.
ومنها: لو كرر لفظ الطلاق بلا عطف: فإن قصد الاستئناف وقع الثلاث, أو التأكيد فواحدة, أو أطلق فقولان, الأصح ثلاث.
ومنها: قال: أنت طالق طلقة في طلقتين, فإن قصد الظرف فواحدة, أو الحساب فثنتان, أو أطلق فقولان أصحهما واحدة وكذا في الإقرار.(16/83)
ومنها: لو قال: أنت طالق, وطالق وطالق وقصد الاستئناف, أو تأكيد الأول بالثاني, أو بالثالث: فثلاث, أو تأكيد الثاني بالثالث: فثنتان, أو أطلق فقولان: أصحهما ثلاث وكذا في الإقرار.(16/84)
ص -45-…ومنها: لو قال: والله لا أجامع واحدة منكن, فإن قصد الامتناع عن كل واحدة فمول من الكل, أو واحدة فمول منها, أو أطلق فوجهان أصحهما: الحمل على التعميم.
ومنها: لو قال: أنت علي كعين أمي فإن قصد الظهار فمظاهر, أو الكرامة فلا, أو أطلق فوجهان, أصحهما: لا شيء.
ومنها: لو قال لعلوي: لست ابن علي وقال: أردت: لست من صلبه, بل بينك وبينه آباء فلا حد أو قصد القذف حد, وإن أطلق وقال لم أرد به شيئا لم يحد جزم به في زوائد الروضة.
ومنها: إذا اتخذ الحلي بقصد استعماله في مباح, لم تجب فيه الزكاة, أو بقصد كنزه وجبت, أو لم يقصد استعمالا ولا كنزا, فوجهان: أصحهما في أصل الروضة: لا زكاة. ومنها: لو انكسر الحلي المباح, بحيث يمنع الاستعمال لكن لا يحتاج إلى صوغ, ويقبل الإصلاح بالإلحام, فإن قصد جعله تبرا أو دراهم, أو كنزه انعقد الحول عليه من يوم الانكسار. وإن قصد إصلاحه فلا زكاة, وإن تمادت عليه أحوال, وإن لم يقصد هذا ولا ذاك فوجهان: أرجحهما: الوجوب.
ومنها: مسح على الجرموق ووصل البلل إلى الأسفل, فإن كان بقصد الأسفل صح أو الأعلى فقط فلا, أو أطلق فوجهان الأصح: الصحة. وله حالة رابعة: أن يقصدهما والحكم الصحة.
وله في ذلك نظيران:
أحدهما: إذا نطق في الصلاة بنظم القرآن, ولم يقصد سواه, فواضح, وإن قصد به التفهيم فقط, بطلت, وإن قصدهما معا لم تبطل, وإن أطلق فوجهان: الأصح البطلان. الثاني: إذا تلفظ الجنب بأذكار القرآن ونحوها, فإن قصد القراءة فقط, حرم, أو الذكر فقط فلا, وإن قصدهما حرم, أو أطلق حرم أيضا, بلا خلاف, ويقرب من ذلك حمل المصحف في أمتعة, فإنه إن كان هو المقصود بالحمل حرم, وإن كان المقصود الأمتعة فقط, أو هما, فلا.(16/85)
فرع: إذا اقترنت نية الوضوء بالمضمضة أو الاستنشاق لم تصح إلا أن ينغسل معهما شيء من الوجه فتصح النية لكن لا يجزئ المغسول عن الوجه على الأصح ; لأنه لم يغسله بقصد أداء الفرض, فتجب إعادته كذا في الروضة من زوائده, وادعى في المهمات: أن القول بالصحة وعدم إجزاء المغسول عن الفرض غير معقول.
قلت: وجدت له نظيرا, وهو ما إذا أحرم بالحج في غير أشهره, فإنه ينعقد عمرة على الصحيح, ولا تجزيه عن عمرة الإسلام, على قول. وعلى هذا فقد صححنا نية أصل(16/86)
ص -46-…الإحرام, ولم نعتد بالمفعول عن الواجب, وهذا نظير حسن, لم أر من تفطن له. ومن هنا انجر بنا القول إلى تأدي الفرض بنية النفل, والأصل عدم إجزائه وفيه فروع:
أتى بالصلاة: معتقدا أن جميع أفعالها سنة.
عطس, فقال: الحمد لله وبنى عليه الفاتحة.
سلم الأولى على نية الثانية, ثم بان خلافه, لم تحسب, ولا خلاف في كل ذلك. توضأ الشاك احتياطا, ثم تيقن الحدث لم يجزئه في الأصح.
ترك لمعة, ثم جدد الوضوء, فانغسلت فيه. لم تجزئه في الأصح.
اغتسل بنية الجمعة لا تجزيه عن الجنابة في الأصح.
ترك سجدة, ثم سجد سجدة للتلاوة, لا تجزئ عن الفرض في الأصح.
ذكر صور خرجت عن هذا الأصل فتأدى فيها الفرض بنية النفل.
قال النووي في شرح الوسيط: ضابطها أن تسبق نية تشمل الفرض والنفل جميعا, ثم يأتي بشيء من تلك العبادات, ينوي به النفل, ويصادف بقاء الفرض عليه.
قلت: هذا الضابط منتقض طردا وعكسا, كما يعرف من الأمثلة السابقة والآتية.
من ذلك: جلس للتشهد الأخير, وهو يظنه الأول, ثم تذكر أجزأه.
نوى الحج, أو العمرة, أو الطواف تطوعا, وعليه الفرض: انصرف إليه, بلا خلاف.
تذكر في القيام ترك سجدة, وكان جلس بنية الاستراحة كفاه عن جلوس الركن في الأصح.
أغفل المتطهر لمعة, وانغسلت بنية التكرار في الثانية والثالثة: أجزأه في الأصح بخلاف ما لو انغسلت في التجديد لأن التجديد طهارة مستقلة, لم ينو فيه رفع الحدث أصلا, والثلاث طهارة واحدة, وقد تقدمت فيه نية الفرض والنفل جميعا. ومقتضى نيته: أن لا يقع شيء عن النفل حتى يرتفع الحدث بالفرض.(16/87)
قام في الصلاة الرباعية إلى ثالثة, ثم ظن في نفسه أنه سلم, وأن الذي يأتي به الآن صلاة نفل. ثم تذكر الحال. قال العلائي: لم أر هذه المسألة بعينها والظاهر: أن ذلك يجزيه عن الفرض, كما في مسألة التشهد. قال: والمسألة منقولة عن المالكية, وفيها عندهم قولان. وكذلك لو سلم من ركعتين سهوا, ثم قام, فصلى ركعتين بنية النفل, هل تتم الصلاة الأولى بذلك؟ وفيها عندهم قولان. قال: ولا شك أن الإجزاء في هذه أبعد من الأولى.
قلت: المسألة الثانية منقولة في الروضة وغيرها. قال في الروضة من زيادته: لو سلم من صلاة, وأحرم بأخرى, ثم تيقن أنه ترك ركنا من الأولى: لم تنعقد الثانية. وأما(16/88)
ص -47-…الأولى فإن قصر الفصل بنى عليها, وإن طال, وجب استئنافها وكذا في شرح المهذب.
ومن الفروع: ما قاله القاضي الحسين, ونقله القمولي في الجواهر: أنه لو قنت في سنة الصبح ظانا أنه الصبح, فسلم وبان. قال القاضي: يبطل لشكه في النية, وإتيان أفعال الصلاة على الشك يقتضي البطلان.
قلت: ولا يخلو ذلك من نظر. ثم رأيت صاحب الكافي توقف فيه: قال: فإن غايته أنه أخطأ وسها. والخطأ في الصلاة لا يفسدها.
فرع: لو دخل المسجد وقت الكراهة بقصد أن يصلي التحية كرهت له في الأصح.
ونظيره فيما ذكره النووي بحثا: أن يقرأ آية السجدة في الصلاة بقصد أن يسجد فعلى هذا إذا سجد بطلت الصلاة. ونازع في ذلك البلقيني وقال: لا ينهى في قراءة آية السجدة في الصلاة ليسجد. وذكر القاضي حسين أنه لا يستحب جمع آيات السجود وقراءتها دفعة واحدة من أجل السجود, وذلك يقتضي جوازه. ومنعه الشيخ عز الدين بن عبد السلام. وأفتى ببطلان الصلاة.
ونظيره أيضا: ما لو أخر الفائتة ليصليها في وقت الكراهة فإنه يحرم, وقاس عليه في المهمات: أن يؤخر قضاء الصوم, ليوقعه يوم الشك.
ونظيره أيضا: من سلك الطريق الأبعد, بقصد القصر لا غير, لا يقصر في الأصح. ولو أحرم مع الإمام, فلما قام إلى الثانية نوى مفارقته, واقتدى بآخر قد ركع بقصد إسقاط الفاتحة قال الزركشي: فيحتمل أن لا تصح القدوة لذلك. قال: وليس هذا كمن سافر لقصد القصر والفطر, فإن هذا قاصد أصل السفر, وذاك قاصد في أثناء السفر.
ونظير هذا: أن يقصد بأصل الاقتداء تحمل الفاتحة وسجود السهو فإنه يحصل له ذلك. وقد قال النووي وابن الصلاح, فيمن حلف ليطأن زوجته في نهار رمضان: الجواب فيها: ما قاله أبو حنيفة, لسائل سأله عن ذلك: أنه يسافر.(16/89)
فرع: المنقطع عن الجماعة لعذر من أعذارها, إذا كانت نيته حضورها لولا العذر يحصل له ثوابها, كما اختاره في الكفاية, ونقل عن التلخيص للروياني قال في المهمات ونقله في البحر عن القفال, وارتضاه, وجزم به الماوردي في الحاوي, والغزالي في الخلاصة, وهو الحق انتهى. واختار السبكي: أن معتاد الجماعة إذا تركها لعذر يحصل له أجرها قال ابنه في التوشيح: هذا أبلغ من قول الروياني من وجه, ودونه من وجه فأبلغ من أنه لم يشترط فيه القصد, بل اكتفى بالعادة السابقة, ودونه من جهة(16/90)
ص -48-…أنه اشترط فيه العادة, وممن اختار ذلك البلقيني أيضا. والمصحح في شرح المهذب: أنه لا يحصل له الأجر ولكن المختار الأول, والأحاديث الصحيحة تدل لذلك.
ونظيره: المعذور في ترك المبيت بمنى, لا يلزمه دم, ولو لا أنه نزل منزلة الحاضر لزمه الدم, ويلزم من ذلك حصول الأجر له بلا شك.
وخرج البلقيني من ذلك: أن الواقف لو شرط المبيت في خانقاه, مثلا, فبات من شرط مبيته خارجها لعذر: من خوف على نفس, أو زوجة, أو مال, أو نحوها لا يسقط من معلومه شيء ذكره في فتاويه. قال: وهو من القياس الحسن لم أسبق إليه. ومن نظائر ذلك: من حضر الوقعة وهو صحيح, فعرض له مرض لم يبطل حقه من الإسهام له, سواء كان مرجو الزوال أم لا, على الأصح, ومن تحيز إلى فئة قريبة ليستنجد بها يشارك الجيش فيما غنموه بعد مفارقته.
فرع: ذكر الرافعي في الطلاق: أنه إذا وطئ امرأتين واغتسل, عن الجنابة, وحلف أنه لم يغتسل عن الثانية لم يحنث.
ونظير ذلك: ما ذكره في الأوائل: أنه لو قال: والله لا أغتسل عنك. سألناه, فإن قال: أردت لا أجامعك فمول, وإن قال: أردت الامتناع من الغسل, أو أني أقدم على وطئها وطء غيرها فيكون الغسل عن الأولى بحصول الجنابة بها قبل, ولا يكون موليا.
وفي شرح التلخيص للسنجي: لو أجنبت المرأة ثم حاضت واغتسلت, وكانت حلفت أنها لا تغتسل عن الجنابة فالعبرة عندنا بالنية, فإن نوت الاغتسال, عنهما تكون مغتسلة عنهما وتحنث, وإن نوت عن الحيض وحده لم تحنث لأنها لم تغتسل عن الجنابة, وإن كان غسلها مجزيا عنهما معا.
فرع: تقدم أن الأصح: أن الطواف والسعي لا يشترط فيهما القصد وإنما يشترط عدم قصد غيرهما, ولذلك نظائر:
منها: هل يشترط قصد المشتري بقوله اشتريت: الجواب, أو الشرط أن لا يقصد الابتداء؟ فيه وجهان: أصحهما الثاني.(16/91)
ومنها: الخمر المحترمة: هي التي عصرت بقصد الخلية, أو لا بقصد الخمرية, عبارتان للرافعي, ذكر الأولى في الرهن, والثانية في الغصب, فلو عصرت بلا قصد, فمحترمة على الثانية, دون الأولى.
ومنها: هل يشترط في الوضوء الترتيب, أو الشرط عدم التنكيس؟ وجهان:
الأصح: الأول: فلو غسل أربعة أعضاء معا صح على الثاني دون الأول.
ومنها: هل يشترط الترتيب بين حجة الإسلام والنذر, أو الشرط عدم تقديم النذر خلاف. الأصح الثاني, فلو استناب المعضوب رجلين, فحجا في عام واحد, صح على الثاني دون الأول.(16/92)
ص -49-…ومنها: هل يشترط في الوقف ظهور القربة, أو الشرط انتفاء المعصية؟ وجهان, أصحهما: الثاني, فيصح على الأغنياء وأهل الذمة والفسقة على الثاني, دون الأول وجزم في الوصية بالثاني.
ومنها: هل يشترط في الوقف القبول, أو الشرط عدم الرد؟ وجهان, صحح الرافعي الأول, ووافقه النووي في كتاب الوقف, وصحح في السرقة من زوائد الروضة الثاني, ويجريان في الإبراء, والأصح فيه: الثاني على قول التمليك, أما على قول الإسقاط فلا يشترط جزما.
ومنها: إذا ضربت القرعة بين مستحقي القصاص, فخرجت لواحد لم يجز له الاستيفاء إلا بإذن جديد, وهل الإذن شرط, أو الشرط عدم المنع؟ وجهان, أصحهما الأول.
ومنها: المتصرف عن الغير شرطه أن يتصرف بالمصلحة أو الشرط عدم المفسدة؟ وجهان, أصحهما الأول فإذا استوت المصلحة والمفسدة لم يتصرف على الأول, ويتصرف على الثاني.
ومنها: المكره على الطلاق, هل يشترط قصد غيره بالتورية أو الشرط أن لا يقصده؟ وجهان أصحهما الثاني, وأجراهما الماوردي وغيره في الإكراه على كلمة الكفر.
ومنها: من أقر لغيره بشيء هل يشترط تصديقه, أو الشرط عدم تكذيبه؟ وجهان, والأصح في الروضة الثاني.
لطيفة:
لهذه النظائر نظائر في العربية ويحضرني منها مسألة في باب ما لا ينصرف, وهو أن "فعلان" الوصف. هل يشترط في منع صرفه وجود "فعلى" أو الشرط انتفاء "فعلانة؟ قولان, أصحهما الثاني, فعلى الأول يصرف نحو "رحمن, ولحيان" وعلى الثاني: لا.
تنبيه: اشتملت قاعدة "الأمور بمقاصدها" على عدة قواعد, كما تبين ذلك مشروحا وقد أتينا على عيون مسائلها وإلا فمسائلها لا تحصى, وفروعها لا تستقصى.
خاتمة:
تجري قاعدة "الأمور بمقاصدها" في علم العربية أيضا, فالأول ما اعتبر ذلك في الكلام, فقال سيبويه والجمهور: باشتراط القصد فيه, فلا يسمى كلاما ما نطق به النائم والساهي, وما تحكيه الحيوانات المعلمة. وخالفه بعضهم, فلم يشترطه, وسمى كل ذلك كلاما واختاره أبو حيان.(16/93)
وفرع على ذلك من الفقه: ما إذا حلف لا يكلمه, فكلمه نائما, أو مغمى عليه(16/94)
ص -50-…فإنه لا يحنث. كما جزم به الرافعي قال: وإن كلمة مجنونا ففيه خلاف والظاهر تخريجه على الجاهل ونحوه, وإن كان سكران, حنث في الأصح, إلا إذا انتهى إلى السكر الطافح: هذه عبارته.
ولو قرأ حيوان آية سجدة قال الأسنوي: فكلام الأصحاب مشعر بعدم استحباب السجود لقراءته, ولقراءة النائم والساهي أيضا.
ومن ذلك: المنادى النكرة إن قصد نداء واحد بعينه تعرف, ووجب بناؤه على الضم, وإن لم يقصد, لم يتعرف, وأعرب بالنصب. ومن ذلك: أن المنادى المنون للضرورة يجوز تنوينه بالنصب والضم فإن نون بالضم جاز ضم نعته ونصبه, أو بالنصب تعين نصبه لأنه تابع لمنصوب لفظا ومحلا فإن نون مقصور نحو "يا فتى" بني النعت على ما نوي في المنادى فإن نوي فيه الضم جاز الأمران, أو النصب تعين. ذكر هذه المسألة أبو حيان في كتابيه: الارتشاف, وشرح التسهيل.
ومن ذلك: قالوا: ما جاز إعرابه بيانا جاز إعرابه بدلا وقد استشكل: بأن البدل في نية سقوط الأول والبيان بخلافه: فكيف تجتمع نية سقوطه وتركها في تركيب واحد؟ فأجاب رضي الدين الشاطبي بأن المراد أنه مبني على قصد المتكلم, فإن قصد سقوطه وإحلال التابع محله, أعرب بدلا, وإن لم يقصد ذلك, أعرب بيانا.
ومن ذلك: العلم المنقول من صفة, إن قصد به لمح الصفة المنقول منها, أدخل فيه "أل" وإلا فلا.
وفروع ذلك كثيرة, بل أكثر مسائل علم النحو مبنية على القصد.
وتجري أيضا هذه القاعدة في العروض فإن الشعر عند أهله: كلام موزون مقصود به ذلك: أما ما يقع موزونا اتفاقا, لا عن قصد من المتكلم, فإنه لا يسمى شعرا, وعلى ذلك خرج ما وقع في كلام الله تعالى كقوله - تعالى -: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} أو رسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله: "هل أنت إلا إصبع دميت - وفي سبيل الله ما لقيت".
القاعدة الثانية: اليقين لا يزال بالشك(16/95)
ودليلها قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه, أخرج منه شيء أم لا؟ فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا" رواه مسلم من حديث أبي هريرة. وأصله في الصحيحين عن عبد الله بن زيد قال شكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة قال: "لا ينصرف حتى يسمع صوتا, أو يجد ريحا" وفي الباب عن أبي سعيد الخدري وابن عباس. وروى مسلم عن(16/96)
ص -51-…أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا شك أحدكم في صلاته, فلم يدر كم صلى أثلاثا أم أربعا؟ فليطرح الشك, وليبن على ما استيقن".
وروى الترمذي عن عبد الرحمن بن عوف قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سها أحدكم في صلاته, فلم يدر: واحدة صلى, أم اثنتين؟ فليبن على واحدة فإن لم يتيقن: صلى اثنتين, أم ثلاثا؟ فليبن على اثنتين, فإن لم يدر: أثلاثا صلى أم أربعا؟ فليبن على ثلاث, وليسجد سجدتين قبل أن يسلم".
اعلم أن هذه القاعدة تدخل في جميع أبواب الفقه, والمسائل المخرجة عليها تبلغ ثلاثة أرباع الفقه وأكثر, ولو سردتها هنا لطال الشرح ولكني أسوق منها جملة صالحة فأقول:
يندرج في هذه القاعدة عدة قواعد:
منها: قولهم: "الأصل بقاء ما كان على ما كان".
فمن أمثلة ذلك: من تيقن الطهارة, وشك في الحدث فهو متطهر. أو تيقن في الحدث وشك في الطهارة فهو محدث.
ومن فروع الشك في الحدث أن يشك هل نام أو نعس؟ أو ما رآه رؤيا, أو حديث نفس؟ أو لمس محرما أو غيره؟ أو رجلا أو امرأة؟ أو بشرا أو شعرا؟ أو هل نام ممكنا أو لا؟ أو زالت إحدى أليتيه, وشك: هل كان قبل اليقظة أو بعدها؟ أو مس الخنثى أحد فرجيه, ثم مس مرة ثانية وشك: هل الممسوس ثانيا: الأول, أو الآخر؟ ومن ذلك: عدم النقض بمس الخنثى, أو لمسه أو جماعه.
ومن ذلك: مسألة: من تيقن الطهارة أو الحدث, وشك في السابق: والأصح أنه يؤمر بالتذكر فيما قبلهما, فإن كان محدثا فهو الآن متطهر ; لأنه تيقن الطهارة بعد ذلك الحدث وشك في انتقاضها ; لأنه لا يدري: هل الحدث الثاني قبلها, أو بعدها؟ وإن كان متطهرا فإن كان يعتاد التجديد, فهو الآن محدث, لأنه تيقن حدثا بعد تلك الطهارة, وشك في زواله ; لأنه لا يدري: هل الطهارة الثانية متأخرة عنه, أم لا؟ بأن يكون والى بين الطهارتين.(16/97)
ونظير ذلك: ما لو علمنا لزيد على عمرو ألفا, فأقام عمرو بينة بالأداء أو الإبراء, فأقام زيد بينة أن عمرا أقر له بألف مطلقا, لم يثبت بهذه البينة شيء ; لاحتمال أن الألف الذي أقر به هو الألف الذي علمنا وجوبه, وقامت البينة بإبرائه, فلا نشغل ذمته بالاحتمال.
وفرع في البحر على قولنا: "يأخذ بالضد" فرعا حسنا: وهو ما إذا قال: عرفت قبل هاتين الحالتين حدثا وطهرا أيضا, ولا أدري أيهما السابق؟ قال: فيعتبر ما كان قبلهما(16/98)
ص -52-…أيضا, ونأخذ بمثله, بعكس ما تقدم, وهو في الحقيقة ضد هذه الحالة. قال في الخادم:
والحاصل أنه في الأوتار يأخذ بضد ما قبله, وفي الأشفاع يأخذ بمثله.
شك في الطاهر المغير للماء: هل هو قليل, أو كثير؟ فالأصل بقاء الطهورية.
أحرم بالعمرة, ثم بالحج, وشك: هل كان أحرم بالحج قبل طوافها, فيكون صحيحا, أو بعده فيكون باطلا؟ حكم بصحته.
قال الماوردي: لأن الأصل جواز الإحرام بالحج, حتى يتيقن أنه كان بعده قال وهو كمن تزوج وأحرم ولم يدر, هل أحرم قبل تزوجه أو بعده؟ فإن الشافعي نص على صحة نكاحه ; لأن الأصل عدم الإحرام ونص فيمن وكل في النكاح, ثم لم يدر: أكان وقع عقد النكاح بعد ما أحرم, أو قبله؟ أنه صحيح أيضا.
أحرم بالحج, ثم شك: هل كان في أشهر الحج, أو قبلها؟ كان حجا لأنه على يقين من هذا الزمان, وعلى شك من تقدمه, ذكره في شرح المهذب.
أكل آخر الليل, وشك في طلوع الفجر صح صومه لأن الأصل بقاء الليل, وكذا في الوقوف.
أكل آخر النهار, بلا اجتهاد وشك في الغروب بطل صومه لأن الأصل بقاء النهار.
نوى ثم شك: هل طلع الفجر أم لا؟ صح صومه بلا خلاف.
تعاشر الزوجان مدة مديدة ; ثم ادعت عدم الكسوة والنفقة, فالقول قولها لأن الأصل بقاؤهما في ذمته, وعدم أدائهما.
زوج الأب ابنته, معتقدا بكارتها, فشهد أربع نسوة بثبوتها عند العقد لم يبطل لجواز إزالتها بأصبع أو ظفر, والأصل البكارة.
اختلف الزوجان في التمكين, فقالت: سلمت نفسي إليك من وقت كذا, وأنكر, فالقول قوله لأن الأصل عدم التمكين.(16/99)
ولدت وطلقها, فقال: طلقت بعد الولادة, فلي الرجعة, وقالت: قبلها فلا رجعة. ولم يعينا وقتا للولادة ولا للطلاق فالقول قوله ; لأن الأصل بقاء سلطنة النكاح, فإن اتفقا على يوم الولادة, كيوم الجمعة وقال: طلقت يوم السبت وقالت: الخميس: فالقول قوله ; لأن الأصل بقاء النكاح يوم الخميس, وعدم الطلاق, أو على وقت الطلاق, واختلفا في وقت الولادة, فالقول قولها لأن الأصل عدم الولادة إذ ذاك.
أسلم إليه في لحم, فجاء به فقال المسلم: هذا لحم ميتة, أو مذكى مجوسي, وأنكر المسلم إليه, فالقول قول المسلم القابض قطع به الزبيري في المسكت والهروي في الإشراف والعبادي في آداب القضاء وقال: لأن الشاة في حال حياتها محرمة, فيتمسك بأصل التحريم إلى أن يتحقق زواله.(16/100)
ص -53-…اشترى ماء, وادعى نجاسته, ليرده فالقول قول البائع لأن الأصل طهارة الماء. ادعت الرجعية امتداد الطهر وعدم انقضاء العدة صدقت ولها النفقة لأن الأصل بقاؤها.
وكل شخصا في شراء جارية, ووصفها فاشترى الوكيل جارية بالصفة, ومات قبل أن يسلمها للموكل, لم يحل للموكل وطؤها ; لاحتمال أنه اشتراها لنفسه. وإن كان شراء الوكيل الجارية بالصفات الموكل بها ظاهرا في الحل, ولكن الأصل التحريم, ذكره في الإحياء.
قاعدة: الأصل براءة الذمة.
ولذلك لم يقبل في شغل الذمة شاهد واحد, ما لم يعتضد بآخر, أو يمين المدعي, ولذا أيضا كان القول قول المدعى عليه, لموافقته الأصل.
وفي ذلك فروع:
منها: اختلفا في قيمة المتلف, حيث تجب قيمته على متلفه, كالمستعير, والمستام, والغاصب, والمودع المتعدي فالقول قول الغارم, لأن الأصل براءة ذمته مما زاد.
ومنها: توجهت اليمين على المدعى عليه فنكل, لا يقضى بمجرد نكوله, لأن الأصل براءة ذمته بل تعرض على المدعي.
ومنها: من صيغ القرض: ملكتكه على أن ترد بدله, فلو اختلفا في ذكر البدل, فالقول قول الآخذ ; لأن الأصل براءة ذمته.
ومنها: لو قال الجاني: هكذا أوضحت, وقال المجني عليه بل أوضحت موضحتين وأنا رفعت الحاجز بينهما, صدق الجاني لأن الأصل براءة ذمته.
لطيفة:
قال ابن الصائغ فيما نقلته من خطه: نظير قول الفقهاء "إن الأصل براءة الذمة, فلا يقوى الشاهد على شغلها ما لم يعتضد بسبب آخر "قول النحاة ": الأصل في الأسماء الصرف فلا يقوى سبب واحد على خروجه عن أصله حتى يعتضد بسبب آخر.
قاعدة:
أصل ما انبنى عليه الإقرار إعمال اليقين وإطراح الشك وعدم استعمال الغلبة. قال الشافعي: رضي الله عنه: أصل ما انبنى عليه الإقرار أني أعمل اليقين وأطرح الشك ولا أستعمل الغلبة.(16/101)
وهذه قاعدة مطردة عند الأصحاب, ومرجعها إلى أن الأصل براءة الذمة, كقولهم فيما لو أقر أنه وهبه وملكه لم يكن مقرا بالقبض لأنه ربما اعتقد أن الهبة لا تتوقف على القبض, وأصل الإقرار البناء على اليقين.
فلو أقر لابنه بعين فيمكن تنزيل الإقرار على البيع وهو سبب قوي يمنع الرجوع, وعلى(16/102)
ص -54-…الهبة فلا يمنع الرجوع, فأفتى أبو سعيد الهروي بإثبات الرجوع, تنزيلا على أقل السببين وأضعف الملكين, وأفتى أبو عاصم العبادي بعدمه لأن الأصل بقاء الملك للمقر له. وحكى الرافعي عن الماوردي والقاضي أبي الطيب موافقة أبي سعيد ثم قال: ويمكن أن يتوسط فيقال إن أقر بانتقال الملك منه إلى الابن فالأمر كما قال القاضيان, وإن أقر بالملك المطلق فالأمر كما قال العبادي وقال النووي في فتاويه: الأصح المختار, قول الهروي وقبول تفسيره بالهبة ورجوعه مطلقا.
ومن الفروع:
أن إقرار الحاكم بالشيء إن كان على جهة الحكم كان حكما, وإن لم يكن بأن كان في معرض الحكايات والإخبار عن الأمور المتقدمة لم يكن حكما. قاله الرافعي في أواخر الإقرار. قال الأسنوي: وهذا من القواعد المهمة. قال: فإذا شككنا في ذلك لم يكن حكما لأن الأصل بقاؤه على الإخبار وعدم نقله إلى الإنشاء.
ومنها لو أقر بمال أو مال عظيم أو كثير أو كبير قبل تفسيره بما يتمول, وإن قل, ولو قال: له عندي سيف في غمد أو ثوب في صندوق, لا يلزمه الظرف, أو غمد فيه سيف, أو صندوق فيه ثوب, لزمه الظرف وحده, أو خاتم فيه فص لم يلزمه الفص, أو عبد على رأسه عمامة, لم تلزمه العمامة, أو دابة في حافرها نعل, أو جارية في بطنها حمل, لم يلزمه النعل والحمل.
ولو أقر له بألف ثم أقر له بألف في يوم آخر, لزمه ألف فقط أو بأكثر دخل الأقل في الأكثر, وفروع القاعدة كثيرة.
"تنبيه" سئل السبكي عن اتفاق الأصحاب على أن من قال: له علي دراهم, يلزمه ثلاثة, ولم يقل بلزوم درهمين مع أن بعض أصحابنا قال: إن أقل, الجمع اثنان وإن كان المشهور أنه ثلاثة, فلم لا قيل بلزوم درهمين على كلا القولين, بجواز أن يكون تجوز وأطلق الجمع على الاثنين, فإن ذلك مجاز شائع بالاتفاق من القائلين بالمنع, مع أن الإقرار مبني على اليقين؟.(16/103)
فأجاب بأن الإقرار إنما يحمل على الحقيقة, واحتمال المجاز لا يقتضي الحمل عليه ; إذ لو فتح هذا الباب لم يتمسك بإقرار. وقد قال الهروي: إن أصل, هذا ما قاله الشافعي أنه يلزم في الإقرار باليقين وظاهر المعلوم, وهو الظن القوي ولا يلزم بمجرد الظن, كما لا يلزم في حال الشك, إذ الأصل براءة الذمة. هذه عبارته قال: وهذا الذي قاله الهروي صحيح واحتمال إرادة المجاز دون الشك لأنه وهم, فكيف يعمل به. بل لو قال: أردت بقولي "دراهم" درهمين لم يقبل, لكن له تحليف غريمه, وكون الإقرار مبنيا على اليقين لا يقدح في هذا ; لأن هذا يقين فإنه موضوع اللفظ لغة, وليس المراد باليقين القطع(16/104)
ص -55-…ولو أريد القطع, فقد تقدم في كلام الهروي أنه يأخذ باليقين وبالظن القوي, وحمل اللفظ على المجاز إنما يكون لقرينة, أما بغير قرينة فيحمل على الحقيقة قطعا, وهذا هو المراد باليقين انتهى.
قاعدة: من شك هل فعل شيئا أولا؟ فالأصل أنه لم يفعله.
ويدخل فيها قاعدة أخرى: من تيقن الفعل وشك في القليل أو الكثير حمل على القليل لأنه المتيقن, اللهم إلا أن تشتغل الذمة بالأصل فلا تبرأ إلا بيقين.
وهذا الاستثناء راجع إلى قاعدة ثالثة, ذكرها الشافعي رضي الله عنه وهي: أن ما ثبت بيقين لا يرتفع إلا بيقين.
فمن فروع ذلك:
شك في ترك مأمور في الصلاة: سجد للسهو أو ارتكاب فعل منهي فلا يسجد ; لأن الأصل عدم فعلهما.
ومنها: سها وشك: هل سجد للسهو؟ يسجد.
ومنها: شك في أثناء الوضوء أو الصلاة أو غيرهما من العبادات في ترك ركن, وجبت إعادته, فلو علمه وشك في عينه أخذ بالأسوأ, فإن احتمل أنه النية وجب الاستئناف, فلو ترك سجدة وشك, هل هي من الركعة الأخيرة أو غيرها, لزمه ركعة لاحتمال أن تكون من غيرها, فتكمل بركعة تليها ويلغو باقيها.
ولو شك في محل سجدتين أو ثلاث, وجب ركعتان لاحتمال ترك سجدة من الأولى وسجدة من الثانية, فيكمل الأولى بالثانية والثالثة بالرابعة ويلغو الباقي, وكذا لو انضم إلى ذلك ترك سجدة أخرى, هكذا أطبق عليه الأصحاب.
وأورد على ذلك أن الصواب في الثلاث: لزوم ركعتين وسجدة, لأن أسوأ الأحوال أن يكون المتروك السجدة الأولى من الركعة الأولى, والثانية من الثانية, وواحدة من الرابعة فيبقى عليه من الركعة الأولى الجلوس بين السجدتين, والسجدة الثانية فلما قدرنا أنه ترك السجدة الثانية من الركعة الثانية, لم يمكن أن يكمل لسجدتها الأولى الركعة الأولى لفقدان الجلوس بين السجدتين قبلها. نعم بعدها جلوس محسوب, فيحصل له من الركعتين ركعة إلا سجدة فيكملها بسجدة من الثالثة ويلغو باقيها, ثم ترك واحدة من الرابعة فيبقى عليه ركعتان وسجدة.(16/105)
وقد اعتمد الأصفوني هذا الإيراد في مختصر الروضة, والأسنوي في تصحيح التنبيه, وقال في شرح المنهاج: إنه عمل عقلي واضح لا شك فيه.
وأجاب عنه النشائي: بأن هذا خلاف التصوير فإنهم حصروا المتروك في ثلاث(16/106)
ص -56-…سجدات, وهذا يستدعي ترك فرض آخر, واتفاقهم على أن المتروك من الأولى واحدة يبطل هذا الخيال.
وذكر ابن السبكي في التوشيح: أن والده وقف على رجز له في الفقه, وفيه اعتماد هذا الإيراد فكتب على الحاشية: لكنه مع حسنه لا يرد ; إذ الكلام في الذي لا يفقد إلا السجود فإذا ما انضم له ترك الجلوس, فليعامل عمله.
وإنما السجدة للجلوس…وذاك مثل الواضح المحسوس.
ولو شك في محل أربع سجدات لزمه سجدة وركعتان لاحتمال أن يكون ترك سجدتين من الأولى وسجدة من الثالثة وأخرى من الرابعة.
وعلى ما تقدم من الاستدراك يجب سجدتان وركعتان لاحتمال ترك الأولى من الأولى والثانية من الثانية وثنتين من الرابعة. فحصل من الثلاث ركعة ولا سجود في الرابعة,
ولو شك في محل خمس سجدات, لزمه ثلاث ركعات لاحتمال ترك سجدتين من الأولى وسجدتين من الثالثة, وسجدة من الرابعة.
ومنها لو شك, هل غسل ثنتين أو ثلاثة؟ بنى على الأقل وأتى بالثالثة, وقال الجويني: لا لأن ترك سنة أهون من فعل بدعة, ورد بأنها إنما تكون بدعة مع العلم بأنها رابعة. ومنها شك, هل أحرم بحج أو عمرة, نوى القران ثم لا يجزيه إلا الحج فقط لاحتمال أن يكون أحرم به, فلا يصح إدخال العمرة عليه.
ومنها شك, هل طلق واحدة أو أكثر, بنى على الأقل.
ومنها: عليه دين, وشك في قدره, لزمه إخراج القدر المتيقن كما قطع به الإمام, إلا أن تشتغل ذمته بالأصل, فلا يبرأ إلا مما تيقن أداءه, كما لو نسي صلاة من الخمس, تلزمه الخمس.(16/107)
ولو كان عليه زكاة بقرة وشاة وأخرج أحدهما وشك فيه وجوبا, قاله ابن عبد السلام قياسا على الصلاة, وصرح به القفال في فتاويه فقال: لو كانت له أموال من الإبل والبقر والغنم وشك في أن عليه كلها أو بعضها لزمه زكاة الكل لأن الأصل بقاء زكاته, كما لو شك في الصيام وقال: أنا شاك في العشر الأول هل علي صوم كله أو ثلاثة أيام منه وجب قضاء كله ولو اتخذ إناء من فضة وذهب, وجهل الأكثر ولم يميزه, وجب أن يزكي الأكثر ذهبا وفضة.
ولو كانت عليها عدة وشكت, هل هي عدة طلاق أو وفاة؟ لزمها الأكثر, وإنما وجب الأكثر في هذه الصورة لأن المكلف ينسب إلى القصير, بخلاف من شك في الخارج أمني أم مذي؟ حيث يتخير. ولو كان عليه نذر وشك: هل هو صلاة أو صوم أو عتق أو صدقة؟ قال البغوي(16/108)
ص -57-…في فتاويه: يحتمل أن يقال: عليه الإتيان بجميعها, كمن نسي صلاة من الخمس, ويحتمل أن يقال: يجتهد بخلاف الصلاة, لأنا تيقنا هناك وجوب الكل, فلا يسقط إلا بيقين وهنا لم يجب إلا شيء واحد واشتبه, فيجتهد كالقبلة والأواني.
ولو حلف وشك: هل حلف بالله تعالى, أو الطلاق أو العتق, قال الزركشي: ففي التبصرة للخمي المالكي: أن كل يمين لم يعتد الحلف بها لا تدخل في يمينه مع الشك. قال: وقياس مذهبنا أن يقال: إذا حنث لا يقع الطلاق لأنه لا يقع بالشك.
وأما الكفارة فيحتمل أن لا تجب في الحال لعدم تحقق شغل الذمة, ويحتمل أن تجب في الحال, فإذا أعتق برئ ; لأنها إن كانت بالله أو الظهار أو العتق, فالعتق تجزئ في كلها ولا يضر عدم التعيين بخلاف ما لو أطعم أو كسا.
قلت: الاحتمال الأول أرجح,
ونظيره ما لو شك في الحد, أرجم أو جلد, فإنه لا يحد بل يعزر كما قرره ابن المسلم: أن التردد بين جنسين من العقوبة إذا لم يكونا قتلا, يقتضي إسقاطهما والانتقال إلى التعزير,وسيأتي في أحكام الخنثى.
ومنها رجل فاتته صلاة يومين فصلى عشر صلوات, ثم علم ترك سجدة لا يدري من أيها. أفتى القاضي حسين بأنه يلزمه إعادة صلوات يوم وليلة, وهو قياس قوله فيمن ترك صلوات لا يدري عددها: أنه يجب القضاء إلى أن يتيقن إتيانه بالمتروك, وقال ابن القطان في المطارحات: الصحيح الاكتفاء بواحدة, فبإعادتها يصير شاكا في وجوب الباقي فلا يلزمه بالشك وجوب إعادة الباقي, وهو قياس قول القفال في تلك: يكتفي بقضاء ما يشك بعده: في أنه هل بقي في ذمته شيء.
قاعدة: الأصل العدم
فيها فروع:
منها: القول قول نافي الوطء غالبا ; لأن الأصل العدم.(16/109)
ومنها: القول قول عامل القراض في قوله: لم أربح ; لأن الأصل عدم الربح, أو لم أربح إلا كذا لأن الأصل عدم الزائد, وفي قوله: لم تنهني عن شراء كذا ; لأن الأصل عدم النهي ; ولأنه لو كان كما يزعمه المالك لكان خائنا, والأصل عدم الخيانة, وفي قدر رأس المال لأن الأصل عدم دفع الزيادة, وفي قوله بعد التلف: أخذت المال قراضا, وقال المالك قرضا كما قاله البغوي وابن الصلاح في فتاويهما, لأنهما اتفقا على جواز التصرف, والأصل عدم الضمان.
ولو قال المالك: قراضا وقال الآخر قرضا, وذلك عند بقاء المال وربحه, فلم أر فيها نقلا, والظاهر أن القول قول مدعي القرض أيضا لأمور: منها أنه أغلظ عليه(16/110)
ص -58-…لأنه بصدد أن يتلف المال أو يخسر, ومنها أن اليد له في المال والربح, ومنها: أنه قادر على جعل الربح له, بقوله: اشتريت هذا لي, فإنه يكون القول قوله, ولو اتفقا على أن المال قراض, فدعواه أن المال قرض يستلزم دعواه أنه اشتراه له, فيكون ربحه له. ومنها: لو ثبت عليه دين بإقرار أو بينة, فادعى الأداء والإبراء, فالقول قول غريمه ; لأن الأصل عدم ذلك.
ومنها: لو اختلفا في قدم العيب, فأنكره البائع, فالقول قوله, واختلف في تعليله فقيل: لأن الأصل عدمه في يد البائع وقيل: لأن الأصل لزوم العقد, وبهذا التعليل جزم الرافعي والنووي.
قال الماوردي: وينبني على الخلاف ما لو ادعى البائع قدمه والمشتري حدوثه ويتصور ذلك: بأن يبيعه بشرط البراءة, فيدعي المشتري الحدوث قبل القبض حتى يرد به لأنه لا يبرأ منه, فإن عللنا بكون الأصل عدمه في يد البائع, صدقنا المشتري ; لأن ذلك المعنى يقتضي الرد هنا, وإن عللنا بكون الأصل اللزوم صدقنا البائع. قال الأسنوي ومقتضى, ذلك تصحيح تصديق البائع.
ومنها: اختلف الجاني والولي في مضي زمن يمكن فيه الاندمال, فالمصدق الجاني ; لأن الأصل عدم المضي.
ومنها: أكل طعام غيره, وقال: كنت أبحته لي, وأنكر المالك, صدق المالك ; لأن الأصل عدم الإباحة. ومنها: سئل النووي عن مسلم له ابن ماتت أمه, فاسترضع له يهودية لها ولد يهودي ثم غاب الأب مدة وحضر, وقد ماتت اليهودية فلم يعرف ابنه من ابنها وليس لليهودية من يعرف ولدها, ولا قافة هناك.(16/111)
فأجاب: يبقى الولدان موقوفين حتى يبين الحال ببينة أو قافة أو يبلغا فينتسبان انتسابا مختلفا وفي الحال يوضعان في يد المسلم, فإن بلغا ولم توجد بينة ولا قافة ولا انتسبا, دام الوقف فيما يرجع إلى النسب. ويتلطف بهما إلى أن يسلما جميعا, فإن أصرا على الامتناع من الإسلام لم يكرها عليه ولا يطالب واحد منهما بالصلاة ولا غيرها من أحكام الإسلام ; لأن الأصل عدم إلزامهما به, وشككنا في الوجوب على كل واحد منهما بعينه, وهما كرجلين سمع من أحدهما صوت حدث وتناكراه لا يلزم واحدا منهما الوضوء, بل يحكم بصحة صلاتهما في الظاهر. وإن كانت إحداهما باطلة في نفس الأمر, وكما لو قال رجل: إن كان هذا الطائر غرابا فامرأتي طالق فقال آخر: إن لم يكن فامرأتي طالق, فطار ولم يعرف فإنه يباح لكل واحد منهما في الظاهر الاستمتاع بزوجته للبقاء على الأصل, وأما نفقتهما ومؤنتهما فإن كان لكل منهما مال كانت فيه, وإلا وجبت على أب المسلم نفقة ابن بشرطه(16/112)
ص -59-…وتجب نفقة آخر, وهو اليهودي في بيت المال بشرط كونه ذميا, وشرطه: أن لا يكون هناك أحد من أصوله ممن تلزمه نفقة القريب, وإن مات من أقارب الكافر أحد, وقف نصيبه حتى يتبين الحال أو يقع اصطلاح, وكذا إن مات من أقارب المسلم أحد. وإن مات الولدان أو أحدهما وقف ماله أيضا, وإن مات أحدهما قبل البلوغ غسل وصلي عليه ودفن بين مقابر المسلمين واليهود, أو بعد البلوغ والامتناع من الإسلام جاز غسله دون الصلاة عليه ; لأنه يهودي أو مرتد, ولا يصح نكاح واحد منهما ; لأنه يحتمل أنه يهودي أو مرتد فلا يصح نكاحه, كالخنثى المشكل.
قاعدة: الأصل في كل حادث تقديره بأقرب زمن.
ومن فروعها:
رأى في ثوبه منيا ولم يذكر احتلاما لزمه الغسل على الصحيح. قال في الأم: وتجب إعادة كل صلاة صلاها من آخر نومة نامها فيه.
ومنها: توضأ من بئر أياما وصلى ثم وجد فيها فأرة, لم يلزمه قضاء إلا ما تيقن أنه صلاه بالنجاسة. ومنها: ضرب بطن حامل فانفصل الولد حيا وبقي زمانا بلا ألم ثم مات, فلا ضمان ; لأن الظاهر أنه مات بسبب آخر.
ومنها: فتح قفصا عن طائر فطار في الحال ضمنه, وإن وقف ثم طار فلا إحالة على اختيار الطائر. ومنها: ابتاع عبدا ثم ظهر أنه كان مريضا ومات: فلا رجوع له في الأصح ; لأن المرض يتزايد فيحصل الموت بالزائد ولا يتحقق إضافته إلى السابق.
ومنها: تزوج أمة ثم اشتراها وأتت بولد, يحتمل أن يكون من ملك اليمين, وأن يكون من ملك النكاح, صارت أم ولد في الأصح, وقيل: لا لاحتمال كونه من النكاح.
وخرج عن ذلك صور:
منها: لو كان المرض مخوفا, فتبرع ثم قتله إنسان أو سقط من سطح فمات أو غرق حسب تبرعه من الثلث, كما لو مات بذلك المرض.
ومنها: لو ضرب يده فتورمت وسقطت بعد أيام, وجب القصاص.
قلت: هذه لا تستثنى ; لأن باب القصاص كله كذلك, لو ضربه أو جرحه وتألم إلى الموت وجب القصاص.(16/113)
ص -60-…قاعدة: الأصل في الأشياء الإباحة حتى يدل الدليل على التحريم.
هذا مذهبنا, وعند أبي حنيفة: الأصل فيها التحريم حتى يدل الدليل على الإباحة, ويظهر أثر الخلاف في المسكوت عنه,
ويعضد الأول قوله صلى الله عليه وسلم: "ما أحل الله فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو, فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى شيئا", أخرجه البزار والطبراني من حديث أبي الدرداء بسند حسن. وروى الطبراني أيضا من حديث أبي ثعلبة: "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها, ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها, وحد حدودا فلا تعتدوها, وسكت عن أشياء من غير نسيان, فلا تبحثوا عنها" وفي لفظ: "وسكت عن كثير من غير نسيان فلا تتكلفوها رحمة لكم فاقبلوها". وروى الترمذي وابن ماجه من حديث سلمان: أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الجبن والسمن والفراء فقال: "الحلال ما أحل الله في كتابه, والحرام ما حرم الله في كتابه, وما سكت عنه فهو مما عفا عنه" وللحديث طرق أخرى.
ويتخرج عن هذه كثير من المسائل المشكل حالها:
منها: الحيوان المشكل أمره, وفيه وجهان: أصحهما الحل كما قال الرافعي
ومنها: النبات المجهول تسميته قال المتولي يحرم أكله وخالفه النووي وقال الأقرب الموافق للمحكي عن الشافعي في التي قبلها الحل.
ومنها: إذا لم يعرف حال النهر هل هو مباح أو مملوك؟ هل يجري عليه حكم الإباحة أو الملك؟ حكى الماوردي فيه وجهين مبنيين على أن الأصل الإباحة أو الحظر.
ومنها: لو دخل حمام برجه وشك هل هو مباح أو مملوك؟ فهو أولى به وله التصرف فيه, جزم به في أصل الروضة لأن الأصل الإباحة.
ومنها: لو شك في كبر الضبة فالأصل الإباحة, ذكره في شرح المهذب.(16/114)
ومنها: مسألة الزرافة, قال السبكي: المختار أكلها: لأن الأصل الإباحة, وليس لها ناب كاسر, فلا تشملها أدلة التحريم, وأكثر الأصحاب لم يتعرضوا لها أصلا لا بحل ولا بحرمة, وصرح بحلها في فتاوى القاضي الحسين والغزالي, وتتمة القول وفروع ابن القطان وهو المنقول عن نص الإمام أحمد وجزم الشيخ في التنبيه بتحريمها, ونقل في شرح المهذب الاتفاق عليه, وبه قال أبو الخطاب من الحنابلة ولم يذكرها أحد من المالكية والحنفية وقواعدهم تقتضي حلها.(16/115)
ص -61-…قاعدة: الأصل في الأبضاع التحريم.
فإذا تقابل في المرأة حل وحرمة, غلبت الحرمة, ولهذا امتنع الاجتهاد فيما إذا اختلطت محرمة بنسوة قرية محصورات لأنه ليس أصلهن الإباحة حتى يتأيد الاجتهاد باستصحابه, وإنما جاز النكاح في صورة غير المحصورات, رخصة من الله كما صرح به الخطابي لئلا ينسد باب النكاح عليه.
ومن فروع هذه القاعدة:
ما ذكره الغزالي في الإحياء أنه لو وكل شخصا في شراء جارية ووصفها, فاشترى الوكيل جارية بالصفة, ومات قبل أن يسلمها للموكل. لم يحل للموكل وطؤها لاحتمال أنه اشتراها لنفسه, وإن كان شراء الوكيل الجارية بالصفات المذكورة ظاهرا في الحل ولكن الأصل التحريم, حتى يتيقن سبب الحل.
ومنها: ما ذكره الشيخ أبو محمد في التبصرة: أن وطء السراري اللائي يجلبن اليوم من الروم والهند والترك حرام, إلا أن ينتصب في المغانم من جهة الإمام من يحسن قسمتها فيقسمها من غير حيف ولا ظلم, أو تحصل قسمة من محكم, أو تزوج بعد العتق بإذن القاضي والمعتق, والاحتياط اجتنابهن مملوكات وحرائر.
قال السبكي في الحلبيات: ولا شك أن الذي قاله الورع وأما الحكم اللازم: فالجارية إما أن يعلم حالها أو يجهل, فإن جهل فالرجوع في ظاهر الشرع إلى اليد, إن كانت صغيرة وإلى اليد وإقرارها, إن كانت كبيرة, واليد حجة شرعية, كالإقرار, وإن علم فهي أنواع:
أحدها: من تحقق إسلامها في بلادها, وأنه لم يجر عليها رق قبل ذلك, فهذه لا تحل بوجه من الوجوه, إلا بنكاح بشروطه.
الثاني: كافرة ممن لهم ذمة وعهد فكذلك.
الثالث: كافرة من أهل الحرب, مملوكة لكافر حربي أو غيره, فباعها فهي حلال لمشتريها.
الرابع: كافرة من أهل الحرب, قهرها وقهر سيدها كافر آخر, فإنه يملكها كلها ويبيعها لمن يشاء, وتحل لمشتريها وهذان النوعان: الحل فيهما قطعي وليس محل الورع, كما أن النوعين الأولين الحرمة فيهما قطعية.(16/116)
النوع الخامس: كافرة من أهل الحرب, لم يجر عليها رق, وأخذها مسلم, فهذا أقسام:(16/117)
ص -62-…أحدها: أن يأخذها جيش من جيوش المسلمين بإيجاف خيل أو ركاب, فهي غنيمة أربعة أخماسها للغانمين, وخمسها لأهل الخمس, وهذا لا خلاف فيه, وغلط الشيخ تاج الدين الفزاري, فقال: إن حكم الفيء والغنيمة راجع إلى رأي الإمام يفعل فيه ما يراه مصلحة, وصنف في ذلك كراسة سماها "الرخصة العميمة في أحكام الغنيمة" وانتدب له الشيخ محيي الدين النووي, فرد عليه في كراسة أجاد فيها, والصواب معه قطعا, وقد تتبعت غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وسراياه, فكل ما حصل فيه غنيمة أو فيء قسم وخمس, وكذلك غنائم بدر. ومن تتبع السير وجد ذلك مفصلا, ولو قال الإمام: من أخذ شيئا فهو له, لم يصح.
القسم الثاني: أن ينجلي الكفار عنها بغير إيجاب من المسلمين, أو يموت عنها من لا وارث له من أهل الذمة, وما أشبه ذلك, فهذه فيء يصرف لأهله, فالجارية التي توجد من غنيمة أو فيء, لا تحل حتى تتملك من كل من يملكها من أهل الغنيمة أو الفيء, أو من المتولي عليهم, أو الوكيل عنهم, أو ممن انتقل الملك إليه من جهتهم, ولو بقي فيها قيراط لا تحل حتى يتملكه ممن هو له.
القسم الثالث: أن يغزو واحد, أو اثنان بإذن الإمام فما حصل لهما من الغنيمة يختصان بأربعة أخماسها والخمس لأهله. هذا مذهبنا ومذهب جمهور العلماء فلا فرق بين أن تكون السرية قليلة أو كثيرة.
الرابع: أن يغزو واحد, أو اثنان أو أكثر بغير إذن الإمام, فالحكم كذلك عندنا وعند جمهور العلماء. الخامس: أن يكون الواحد أو الاثنان ونحوهما ليسوا على صورة الغزاة, بل متلصصين فقد ذكر الأصحاب: أنهم إذا دخلوا يخمس ما أخذوه على الصحيح, وعللوه بأنهم غرروا بأنفسهم فكان كالقتال وهذا التعليل يقتضي أنه لم ينقطع في الجملة عن معنى الغزو.(16/118)
والإمام في موضع حكى هذا وضعفه, وقال: إن المشهور عدم التخميس وفي موضع ادعى إجماع الأصحاب على أنه يختص به, ولا يخمس وجعل مال الكفار على ثلاثة أقسام: غنيمة, وفيء, وغيرهما كالسرقة, فيتملكه من يأخذه, قياسا على المباحات ووافقه الغزالي على ذلك وهو مذهب أبي حنيفة وقال البغوي: إن الواحد إذا أخذ من حربي شيئا على جهة السوم فجحده أو هرب به, اختص به, وفيما قاله نظر يحتمل أن يقال: يجب رده ; لأنه كان ائتمنه فإن صح ما قاله البغوي وافق الغزالي بطريق الأولى. وقال أبو إسحاق: إن المأخوذ على جهة الاختلاس فيء وقال الماوردي غنيمة. وما قاله الماوردي موافق لكلام الأكثرين, وما قاله أبو إسحاق: إن أراد بالفيء(16/119)
ص -63-…الغنيمة حصل الوفاق, وإلا فلا وزعم أنه ينزع من المختلس, ويعطى جميعه لغيره من المقاتلة وأهل الخمس فبعيد.
فهذا القسم الخامس من النوع الخامس, قد اشتمل على صور, ولم يفردها الأصحاب. بل ذكروها مدرجة مع القسم الرابع, والجارية المأخوذة على هذه الصورة فيها هذا الخلاف, واجتنابها محل الورع انتهى.
قاعدة: الأصل في الكلام الحقيقة.
وفي ذلك فروع:
منها: إذا وقف على أولاده, أو أوصى لهم, لا يدخل في ذلك ولد الولد في الأصح لأن اسم الولد حقيقة في ولد الصلب, وفي وجه نعم, حملا له على الحقيقة والمجاز.
ومنها: لو حلف لا يبيع, أو لا يشتري, أولا يضرب عبده فوكل في ذلك, لم يحنث حملا للفظ على حقيقته وفي قول: إن كان ممن لا يتولاه بنفسه, كالسلطان, أو كان المحلوف عليه مما لا يعتاد الحالف فعله بنفسه, كالبناء ونحوه حنث إذا أمر بفعله.
ومنها: لو قال: وقفت على حفاظ القرآن لم يدخل فيه من كان حافظا ونسيه, لأنه لا يطلق عليه حافظ إلا مجازا باعتبار ما كان نقله الأسنوي عن البحر.
ومنها: وقف على ورثة زيد وهو حي, لم يصح لأن الحي لا ورثة له. قاله في البحر أيضا: قال الأسنوي: ولو قيل: يصح, حملا على المجاز: أي ورثته لو مات لكان محتملا.
ومنها: لو حلف لا يبيع أو لا يشتري, أو لا يستأجر, أو نحو ذلك لم يحنث إلا بالصحيح, دون الفاسد, بناء على أن الحقائق الشرعية إنما تتعلق بالصحيح, دون الفاسد.
ومنها: لو قال: هذه الدار لزيد كان إقرارا له بالملك, حتى لو قال أردت أنها مسكنه لم يسمع.
ومنها: لو حلف لا يدخل دار زيد لم يحنث إلا بدخول ما يملكها, دون ما يسكنها بإعارة أو إجارة ; لأن إضافتها إليه مجاز, إلا أن يريد مسكنه, ولو حلف لا يدخل مسكنه لم يحنث بدخول داره التي هي ملكه ولا يسكنها في الأصح ; لأنها ليست مسكنه حقيقة.(16/120)
ومنها: لو حلف لا يأكل من هذه الشاة, حنث بلحمها, لأنه الحقيقة, دون لبنها ونتاجها لأنه مجاز. نعم, إن هجرت الحقيقة تعين العمل بالمجاز الراجح, كأن حلف(16/121)
ص -64-…لا يأكل من هذه الشجرة, فإنه يحنث بثمرها, وإن كان مجازا دون ورقها وأغصانها وإن كان حقيقة.
"تنبيه" قد يشكل على هذا الأصل ما لو حلف لا يصلي, فالأصح في أصل الروضة أنه يحنث بالتحرم وفي وجه: لا يحنث إلا بالفراغ ; لأنها قد تفسد قبل تمامها, فلا يكون مصليا حقيقة وهذا هو قياس القاعدة, وفي ثالث: لا يحنث حتى يركع ; لأنه حينئذ يكون أتى بالمعظم, فيقوم مقام الجميع والرافعي حكى الأوجه في الشرح, ولم يصحح شيئا.
ذكر تعارض الأصل والظاهر.
قال النووي في شرح المهذب: ذكر جماعة من متأخري الخراسانيين: أن كل مسألة تعارض فيها أصل وظاهر أو أصلان ففيها قولان, وهذا الإطلاق ليس على ظاهره فإن لنا مسائل يعمل فيها بالظاهر بلا خلاف, كشهادة عدلين, فإنها تفيد الظن, ويعمل بها بالإجماع, ولا ينظر إلى أصل براءة الذمة, ومسألة بول الظبية وأشباهها, ومسائل يعمل فيها بالأصل بلا خلاف. كمن ظن حدثا, أو طلاقا, أو عتقا, أو صلى ثلاثا أم أربعا فإنه يعمل فيها بالأصل بلا خلاف,
قال: والصواب في الضابط ما حرره ابن الصلاح فقال: إذا تعارض أصلان أو أصل وظاهر, وجب النظر في الترجيح, كما في تعارض الدليلين, فإن تردد في الراجح فهي مسائل القولين, وإن ترجح دليل الظاهر حكم به بلا خلاف, وإن ترجح دليل أصلي حكم به بلا خلاف انتهى.
فالأقسام حينئذ أربعة:
الأول: ما يرجح فيه الأصل جزما, ومن أمثلته جميع ما تقدم من الفروع وضابطه أن يعارضه احتمال مجرد.(16/122)
الثاني: ما ترجح فيه الظاهر جزما وضابطه: أن يستند إلى سبب منصوب شرعا, كالشهادة تعارض الأصل, والرواية, واليد في الدعوى, وإخبار الثقة بدخول الوقت أو بنجاسة الماء, وإخبارها بالحيض, وانقضاء الأقراء, أو معروف عادة, كأرض على شط نهر الظاهر أنها تغرق وتنهار في الماء, فلا يجوز استئجارها, وجوز الرافعي تخريجه على تقابل الأصل والظاهر. ومثل الزركشي لذلك باستعمال السرجين في أواني الفخار, فيحكم بالنجاسة قطعا, ونقله عن الماوردي, وبالماء الهارب من الحمام لاطراد العادة بالبول فيه أو يكون معه ما يعتضد به كمسألة بول الصبية.
ومنه: لو أخذ المحرم بيض دجاجة وأحضنها صيدا ففسد بيضه, ضمنه لأن الظاهر أن الفساد نشأ من ضم بيض الدجاج إلى بيضه, ولم يحك الرافعي فيه خلافا.(16/123)
ص -65-…الثالث: ما يرجح فيه الأصل على الأصح وضابطه: أن يستند الاحتمال إلى سبب ضعيف وأمثلته لا تكاد تحصر.
منها: الشيء الذي لا يتيقن نجاسته, ولكن الغالب فيه النجاسة, كأواني وثياب مدمني الخمر, والقصابين والكفار المتدينين بها كالمجوس, ومن ظهر اختلاطه بالنجاسة وعدم احترازه منها, مسلما كان أو كافرا, كما في شرح المهذب عن الإمام, وطين الشارع والمقابر المنبوشة حيث لا تتيقن. والمعنى بها كما قال الإمام وغيره: التي جرى النبش في أطرافها والغالب على الظن انتشار النجاسة فيها وفي جميع ذلك قولان, أصحهما الحكم بالطهارة استصحابا للأصل.
ومن ذلك: ما لو أدخل الكلب رأسه في الإناء, وأخرجه وفمه رطب, ولم يعلم ولوغه, والأصح أنه لا يحكم بنجاسة الإناء, فإن أخرجه يابسا, فطاهر قطعا.
ومن ذلك: لو سقط في بئر فأرة, وأخذ دلو قبل أن ينزح إلى الحد المعتبر, وغلب على الظن أنه لا يخلو من شعر, ولم ير, ففيه القولان. والأظهر الطهارة.
ومنها: إذا تنحنح الإمام وظهر منه حرفان فهل يلزم المأموم المفارقة أم لا للظاهر الغالب المقتضي لبطلان الصلاة, أولا, لأن الأصل بقاء صلاته, ولعله معذور في التنحنح, فلا يزال الأصل إلا بيقين؟ قولان أصحهما: الثاني.
ومنها: لو امتشط المحرم فانفصلت من لحيته شعرات, ففيه وجهان, أصحهما: لا فدية ; لأن النتف لم يتحقق, والأصل براءة الذمة. والثاني: يجب لأن المشط سبب ظاهر, فيضاف إليه, كإضافة الإجهاض إلى الضرب.
ومنها: الدم الذي تراه الحامل, هل هو حيض؟ قولان, أصحهما: نعم ; لأن الأمر متردد بين كونه دم علة, أو دم جبلة, والأصل السلامة. والثاني: لا ; لأن الغالب في الحامل عدم الحيض.
ومنها: لو قذف مجهولا وادعى رقه, فقولان, أصحهما: أن القول قول القاذف, لأن الأصل براءة ذمته والثاني: قول المقذوف ; لأن الظاهر الحرية, فإنها الغالب في الناس.(16/124)
ومنها: لو جرت خلوة بين الزوجين, وادعت الإصابة فقولان أصحهما: تصديق المنكر ; لأن الأصل علمها. والثاني: تصديق مدعيها ; لأن الظاهر من الخلوة الإصابة غالبا.
ومنها: لو اختلف الزوجان الوثنيان قبل الدخول فقال الزوج: أسلمنا معا, فالنكاح باق وأنكرت, فالقول قوله في الأظهر, لأن الأصل بقاء النكاح, والثاني قولها لأن التساوي في الإسلام نادر فالظاهر خلافه.(16/125)
ص -66-…ومنها: دعوى المديون لا في مقابلة مال, الإعسار, فيه وجهان, أصحهما: القول قوله ; لأن الأصل العدم, والثاني: لا ; لأن الظاهر من حال الحر أنه يملك شيئا.
ومنها: إذا ادعى الغاصب عيبا خلقيا في المغصوب, كقوله: ولد أكمه أو أعرج أو فاقد اليد, فوجهان أصحهما: القول قوله ; لأن الأصل العدم, ويمكن المالك إقامة البينة. والثاني: تصديق المالك لأن الغالب السلامة بخلاف ما لو ادعى عيبا حادثا فإن الأظهر تصديق المالك ; لأن الأصل والغالب دوام السلامة والثاني الغاصب لأن الأصل براءة ذمته, فهذه الصورة تعارض فيها أصلان, واعتضد أحدهما بظاهر.
ونظير ذلك: ما لو جنى على طرف, وزعم نقصه, فإنه إن ادعى عيبا خلقيا في عضو ظاهر صدق الجاني في الأظهر لأن الأصل العدم وبراءة الذمة. والمالك يمكنه إقامة البينة, وإن ادعى عيبا حادثا أو أصليا في عضو باطن فالأظهر: تصديق المجني عليه ; لأن الأصل السلامة.
ومنها: لو ادعى المالك أنه كان كاتبا صدق الغاصب لأن الأصل العدم, وبراءة الذمة مما زاد. والقول الثاني: المالك لأن الغالب أن صفات العبد لا يعرفها إلا السيد. ومنها: لو قال: هذا ولدي من جاريتي هذه, لحقه عند الإمكان, وهل يثبت كون الجارية أم ولد لأنه الظاهر أولا لاحتمال أن يكون استولدها بالزوجية؟ فيه قولان رجح الرافعي الثاني, قال: ولهما خروج على تقابل الأصل والظاهر. ومنها: لو قال الراهن للمرتهن لم تقبض العين المرهونة عن الرهن بل أعرتكها فالأصح أن القول قوله لأن الأصل عدم اللزوم وعدم الإذن في القبض وقيل: قول المرتهن لأن الظاهر أنه قبضه عن الرهن.
ومنها: جاء المتبايعان معا, فقال أحدهما: لم أفارقه, فلي خيار المجلس, فالقول قوله لأن الأصل عدم التفرق, كذا أطلق الأصحاب قال الرافعي: وهو بين إن قصرت المدة. وأما إذا طالت فدوام الاجتماع خلاف الظاهر, فلا يبعد تخريجه على تعارض الأصل والظاهر. وتابعه ابن الرفعة.(16/126)
ومنها: طرح العصير في الدن, وأحكم رأسه ثم حلف أنه لم يستحل خمرا, ولم يفتح رأسه إلى مدة, ولما فتح وجده خلا فوجهان أحدهما لا يحنث لأن الأصل عدم الاستحالة وعدم الحنث, والثاني إن كان ظاهر الحال صيرورته خمرا وقت الحلف حنث وإلا فلا.
ومنها جرح المحرم صيدا وغاب ولم يعلم هل برئ أو مات؟ فالمذهب أن(16/127)
ص -67-…عليه ضمان ما نقص, لأن الأصل براءة الذمة من الزائد, وقيل: عليه الجزاء كاملا, لأنه قد صيره غير ممتنع, والظاهر بقاؤه على هذه الحالة, ولو غاب ووجده ميتا ولم يدر هل مات بجرحه أو بسبب آخر فهل يجب جزاء كامل, أو ضمان الجرح فقط؟ قولان قال في الروضة: أصحهما الثاني.
ونظيره في مسألة الظبية: أن لا يرى الماء عقب البول, بل تغيب ثم يجده متغيرا فإنه لا يحكم بأن التغير عن البول.
ونظيره أيضا: لو جرح الصيد وغاب ثم وجده ميتا فإنه لا يحل في الأظهر.
ومنها: لو رمى حصاة إلى المرمى وشك: هل وقعت فيه أو لا؟ فقولان أصحهما لا يجزيه لأن الأصل عدم الوقوع فيه وبقاء الرمي عليه, والثاني: يجزيه لأن الظاهر وقوعها في المرمى.
الرابع: ما ترجح فيه الظاهر على الأصل بأن كان سببا قويا منضبطا وفيه فروع: منها: من شك بعد الصلاة أو غيرها من العبادات, في ترك ركن غير النية, فالمشهور أنه لا يؤثر لأن الظاهر انقضاء العبادة على الصحة, والثاني يقول: الأصل عدم فعله, ومثله: ما لو قرأ الفاتحة ثم شك بعد الفراغ منها في حرف أو كلمة فلا أثر له. نقله في شرح المهذب عن الجويني.
وكذا لو استجمر وشك: هل استعمل حجرين أو ثلاثة كما في فتاوى البغوي قال الزركشي: وقياسه كذلك فيما لو غسل النجس وشك بعد ذلك: هل استوعبه؟
ومنها: اختلف المتعاقدان في الصحة والفساد فالأصح تصديق مدعي الصحة ; لأن الظاهر جريان العقود بين المسلمين على قانون الشرع, والثاني لا لقول الأصل عدمها. ومنها: لو جاء من قدام الإمام واقتدى وشك هل تقدم؟ فالأصح الصحة. وقيل: لا ; لأن الأصل عدم تأخره.
ومنها: لو وكل بتزويج ابنته ثم مات الموكل ولم يعلم: هل مات قبل العقد أو بعده؟ فالأصل عدم النكاح وصححه الروياني وقال القاضي حسين الأصح صحته لأن الظاهر بقاء الحياة.(16/128)
ومنها: لو ادعى الجاني رق المقتول صدق القريب في الأصح لأنه الظاهر. الغالب ومنها: شهد في واقعة وعدل ثم شهد في أخرى بعد زمان طويل فالأصح طلب تعديله ثانيا لأن طول الزمان يغير الأحوال, والثاني: لا لأن الأصل عدم التغيير. ومنها: إذا جومعت فقضت شهوتها ثم اغتسلت ثم خرج منها مني الرجل فالأصح وجوب إعادة الغسل, لأن الظاهر خروج منيها معه, والثاني لا ; لأن الأصل عدم خروجه.(16/129)
ص -68-…ومنها: قال المالك: أجرتك الدابة, وقال الراكب, بل أعرتني, ففي قول, يصدق الراكب ; لأن الأصل براءة ذمته من الأجرة, والأصح: تصديق المالك, إذا مضت مدة لمثلها أجرة, والدابة باقية, لأن الظاهر يقتضي الاعتماد على قوله في الإذن فكذلك في صفته.
ومنها: لو ألقاه في ماء أو نار, فمات, وقال الملقي: كان يمكنه الخروج, ففي, قول يصدق ; لأن الأصل براءة ذمته, والأصح عند النووي: يصدق الولي لأن الظاهر أنه لو تمكن لخرج.
ومنها: إذا رأت المرأة الدم لوقت يجوز أن يكون حيضا أمسكت عما تمسك عنه الحائض ; لأن الظاهر أنه حيض, وقيل: لا, عملا بالأصل.
فصل في تعارض الأصلين
قال الإمام, وليس المراد بتعارض الأصلين, تقابلهما, على وزن واحد في الترجيح فإن هذا كلام متناقض, بل المراد التعارض, بحيث يتخيل الناظر في ابتداء نظره لتساويهما فإذا حقق فكره رجح, ثم تارة يجزم بأحد الأصلين وتارة يجري الخلاف ويرجح بما عضده من ظاهر أو غيره, قال ابن الرفعة: ولو كان في جهة أصل, وفي جهة أصلان جزم لذي الأصلين. ولم يجر الخلاف.
فمن فروع ذلك:
إذا ادعى العنين الوطء في المدة, وهو سليم الذكر والأنثيين فالقول, قوله قطعا, مع أن الأصل عدم الوطء ; لأن الأصل بقاء النكاح. واعتضد بظاهره أن سليم ذلك لا يكون عنينا في الغالب فلو كان خصيا, أو مجبوبا جرى وجهان, والأصح تصديقه أيضا ; لأن إقامة البينة على الوطء تعسر, فكان الظاهر الرجوع إلى قوله فلو ثبتت بكارتها رجعنا إلى تصديقها قطعا ; لاعتضاد أحد الأصلين بظاهر قوي.
ومنها: قالت: سألتك الطلاق بعوض فطلقتني عليه متصلا فأنا منك بائن وقال بل يعد طول الفصل, فلي الرجعة فالمصدق الزوج. قال السبكي: ولم يخرجوه على تقابل الأصلين.
ومنها: قال: بعتك الشجرة بعد التأبير فالثمرة لي, وعاكسه المشتري صدق البائع لأن الأصل بقاء ملكه. جزم به في الروضة.(16/130)
ومنها: اختلفا في ولد المبيعة فقال البائع: وضعته قبل العقد. وقال المشتري: بل بعده قال الإمام: كتب الحليمي إلى الشيخ أبي حامد يسأله عن ذلك؟ فأجاب: بأن القول قول البائع ; لأن الأصل بقاء ملكه, وحكى الدارمي في المصدق وجهين.(16/131)
ص -69-…ومنها: اختلف مع مكاتبته. فقالت: ولدته بعد الكتابة, فمكاتب مثلي. وقال السيد: بل قبلها صدق السيد. قاله البغوي والرافعي. قالا: ولو زوج أمته بعبده, ثم باعها له, فولدت وقد كاتبه وقال السيد: ولدت قبل الكتابة, فهو لي, وقال المكاتب بل بعد الشراء فمكاتب صدق المكاتب, وفرقا بأن المكاتب هنا يدعي ملك الولد لأن ولد أمته ملكه, ويده مقرة على هذا الولد, وهي تدل على الملك, والمكاتب لا يدعي الملك, بل ثبوت حكم الكتابة فيه.
ومنها: لو وقع في الماء نجاسة وشك: هل هو قلتان, أو أقل؟ فوجهان: أحدهما يتنجس, وبه جزم صاحب الحاوي, وآخرون لتحقق النجاسة. والأصل عدم الكثرة. والثاني: لا, وصوبه النووي لأن الأصل: الطهارة, وقد شككنا في نجاسة منجسه ; ولا يلزم من النجاسة التنجيس. ورجح الشيخ زين الدين الكيناني مقالة صاحب الحاوي, وتبعه البلقيني ; لأن النجاسة محققة, وبلوغ القلتين شرط, والأصل عدمه, ولا يجوز الأخذ بالاستصحاب عند القائلين به, إلا أن يقطع بوجود المنافي, وأما السبكي فإنه رجح مقالة النووي.
وخرج ابن أبي الصيف على هذه المسألة فرعا, وهو:
قلتان متغيرتان بنجاسة, ثم غاب عنهما ثم عاد, ولا تغير, وشك في بقاء الكثرة, فقال: إن قلنا بالطهارة في الأولى فهنا أولى وإلا فوجهان ; لأن الأصل بقاء الكثرة, ونازعه المحب الطبري, فقال: لا وجه للبناء, ولا للخلاف لأن تلك تعارض فيها أصلان, فنشأ قولان, وهنا الأصل بقاء الكثرة بلا معارض.
ومنها: لو شككنا فيما أصاب من دم البراغيث أقليل, أم كثير؟ ففيه احتمالان للإمام ; لأن الأصل: اجتناب النجاسة, والأصل في هذه النجاسة العفو, وهذه المسألة نظير ما قبلها, وقد رجح في أصل الروضة: أن له حكم القليل.
ومنها: لو أدرك الإمام وهو راكع, وشك هل فارق حد الركوع قبل ركوعه فقولان: أحدهما: أنه مدرك, لأن الأصل بقاء ركوعه, والثاني: لا ; لأن الأصل عدم الإدراك, وهو الأصح.(16/132)
ومنها: لو نوى وشك هل كانت نيته قبل الفجر, أو بعده؟ لم يصح صومه لأن الأصل عدم النية. قال النووي: ويحتمل أن يجيء فيه وجه ; لأن الأصل بقاء الليل, كمن شك في إدراك الركوع.
ومنها: لو أصدقها تعليم قرآن, ووجدناها تحسنه فقال: أنا علمتها وقالت: بل غيره, فقولان ; لأن الأصل بقاء الصداق وبراءة ذمته والأصح تصديقها.
ومنها: إذا غاب العبد, وانقطعت أخباره: ففي قول: تجب فطرته وهو الأصح لأن(16/133)
ص -70-…الأصل بقاء حياته, وفي قول: لا ; لأن الأصل براءة ذمة السيد ورجح الأول بأنه ثبت اشتغال ذمة السيد قبل غيبة العبد بفطرته, فلا تزال إلا بيقين موته, ويجري القولان في إجزاء عتقه عن الكفارة, والأصح أنه لا تجزيه لأن الأصل اشتغال ذمته بالكفارة فلا تبرأ إلا بيقين ونظيره في إعمال كل من الأصلين في حالة ما إذا أدخل رجله الخف وأحدث قبل وصول القدم إلى مستقرها لا يجوز المسح ولو أخرجها إلى الساق ثم أدخلها, لا يضر, عملا بالأصل في الموضعين.
ولو أراد جماعة إنشاء قرية لا للسكن فأقيم بها الجمعة لم يجز, ولو كانت قرية وانهدمت وأقام أهلها لبنائها وأقيم بها الجمعة صح عملا بالأصل في الموضعين,
ولو وجد لحما ملقى, وشك هل هو ميتة, أو مذكى؟ لا يحل أكله, ولو لاقى شيئا لم ينجسه, عملا بالأصل فيهما.
ومنها: أذن المرتهن في البيع ورجع, ثم ادعى الرجوع قبل البيع فوجهان ; لأن الأصل عدم البيع, وعدم الرجوع, والأصح تصديق المرتهن.
ومنها: لو شك: هل رضع في الحولين أم بعدهما, فقولان لأن الأصل الحل وبقاء الحولين, والأصح لا تحريم:
ولو شك: هل رضع خمسا أو أقل, فلا تحريم قطعا لعدم معارضة أصل الإباحة بأصل آخر.
ومنها: باعه عصيرا وأقبضه ووجد خمرا, فقال البائع تخمر عندك وقال المشتري بل عندك, فالأصل عدم التخمر وعدم قبض الصحيح, وصحح النووي تصديق البائع ترجيحا لأصل استمرار البيع, ويجري القولان فيما لو كان رهنا مشروطا في بيع.(16/134)
ومنها: لو قبض المسلم فيه فجاء بمعيب وقال: هذا الذي قبضته, وأنكر المسلم إليه فالأصح: تصديق المسلم لأن الأصل اشتغال ذمة المسلم إليه, ولم يتيقن البراءة والثاني يصدق المسلم إليه لأن الأصل السلامة واستقرار العقد, ولهذا يصدق البائع قطعا فيما لو جاء المشتري بمعيب, وقال: هذا المبيع, لأنه لم يعارضه أصل اشتغال الذمة, وفارق المسلم لأنهما اتفقا على قبض ما ورد عليه الشراء وتنازعا في عيب الفسخ, والأصل عدمه, والثمن المعين كالبيع, وفي الذمة فيه الوجهان في السلم.
ومنها: لو رأى المبيع قبل العقد, ثم قال البائع: هو بحاله, وقال المشتري: بل تغير فوجهان, أحدهما يصدق البائع ; لأن الأصل عدم التغيير, والأصح المشتري لأن البائع يدعي عليه الاطلاع على المبيع على هذه الصفة والمشتري ينكر ذلك.
ومنها: إذا سلم الدار المستأجرة ثم ادعى المستأجر أنها غصبت, فالأصح أن القول قول المكري ; لأن الأصل عدم الغصب ووجه الآخر أن الأصل عدم الانتفاع, لكن اعتضد(16/135)
ص -71-…الأول بأنه بعد التسليم بقي الأصل: وجوب الأجرة عليه إلى أن يتبين ما يسقطها.
ومنها: لو أعطاه ثوبا ليخيطه فخاطه قباء وقال: أمرتني بقطعه قباء, فقال: بل قميصا فالأظهر تصديق المالك لأن الأصل عدم الإذن في ذلك, والثاني المستأجر ; لأن الأصل براءة ذمته, والظاهر: أنه لا يتجاوز إذنه.
ومنها: قد ملفوفا وزعم موته, ففي قول يصدق القاد لأن الأصل براءة ذمته والأصح يصدق الولي ; لأن الأصل بقاء الحياة.
ومنها: لو زعم الولي سراية والجاني سببا آخر, فالأصح تصديق الولي لأن الأصل عدم السبب. والثاني الجاني لأن الأصل براءة الذمة.
ولو عكس بأن قطع يديه ورجليه, وزعم الولي سببا آخر, والجاني سراية فالأصح تصديق الولي ; لأن الأصل بقاء الديتين الواجبتين, والثاني: الجاني, لأن الأصل براءة ذمته.
ومنها: لو قلع سن صغير ومات قبل العود فقيل: يجب الأرش ; لأن الجناية قد تحققت, والأصل عدم العود, والأصح: لا, لأن الأصل براءة الذمة, والظاهر أنه لو عاش لعادت.
ومنها: ادعى أحد الزوجين التفويض والآخر التسمية, فالأصل عدم التسمية من جانب وعدم التفويض من جانب, كذا في أصل الروضة. قال البلقيني: لم يبين فيه الحكم وكأنه أحاله على ما إذا اختلفا في عقدين فإن كلا يحلف على نفي دعوى الآخر.
ومنها: إذا قال: كان له علي كذا, ففي كونه مقرا به خلاف ; لأن الأصل الاستمرار والأصل براءة الذمة, والأصح أنه ليس بإقرار.
ومنها: اطلعنا على كافر في دارنا فقال: دخلت بأمان مسلم, ففي مطالبته بالبينة وجهان لأن الأصل عدم الأمان, ويعضده: أن الغالب على من يستأمن الاستئناس بالإشهاد, والأصل حقن الدماء, ويعضده: أن الظاهر أن الحربي لا يقدم على هذا إلا بأمان وهذا هو الأصح.
ومنها: لو شهد عليه بكلمة الكفر فادعى الإكراه, فليجدد الإسلام فإن قتله مبادرا قبل التجديد, ففي الضمان وجهان. قال في الوسيط: مأخوذان من تقابل الأصلين: عدم الإكراه وبراءة الذمة.(16/136)
ومنها: طار طائر فقال, إن لم أصد هذا الطائر اليوم فأنت طالق, ثم اصطاد ذلك اليوم طائرا وجهل: هل هو ذلك أو غيره, ففي وقوع الطلاق تردد لتعارض أصلين: بقاء النكاح, وعدم اصطياده, ورجح النووي من زوائده عدم الوقوع.
ومنها: زاد المقتص في الموضحة وقال: حصلت الزيادة باضطراب الجاني وأنكر(16/137)
ص -72-…ففي المصدق وجهان في الروضة بلا ترجيح, لأن الأصل براءة الذمة وعدم الاضطراب:
قال ابن الرفعة: وينبغي القطع بتصديق المشجوج, يعني وهو المقتص لأنه وجد في حقه أصلان: براءة الذمة وعدم الارتعاش, ولم يوجد في حق الآخر إلا أصل واحد, بل والظاهر أيضا أن من مسه آلة القصاص يتحرك بالطبع.
ومنها: ضربها الزوج وادعى نشوزها, وادعت هي أن الضرب ظلم, فقد تعارض أصلان: عدم ظلمه, وعدم نشوزها, قال ابن الرفعة: لم أر فيها نقلا. قال: والذي يقوى في ظني أن القول قوله ; لأن الشارع جعله وليا في ذلك.
"تذنيب":
لهم أيضا تعارض الظاهرين
ومن أمثلته: إذا أقرت بالنكاح وصدقها المقر له بالزوجية, فالجديد قبول الإقرار لأن الظاهر صدقهما فيما تصادقا عليه, والقديم إن كانا بلديين طولبا بالبينة, لمعارضة هذا الظاهر بظاهر آخر, وهو أن البلديين يعرف حالهما غالبا, ويسهل عليهما إقامة البينة.
فوائد نختم بها الكلام على هذه القاعدة
الأولى: قال ابن القاص في التلخيص لا يزال حكم اليقين بالشك إلا في إحدى عشرة مسألة:
إحداها: شك ماسح الخف هل انقضت المدة أم لا؟
الثانية: شك هل مسح في الحضر أو السفر, ويحكم في المسألتين بانقضاء المدة.
الثالثة: إذا أحرم المسافر بنية القصر خلف من لا يدري: أمسافر هو, أم مقيم؟ لم يجز القصر.
الرابعة: بال حيوان في ماء كثير ثم وجده متغيرا ولم يدر, أتغير بالبول أم بغيره فهو نجس.
الخامسة: المستحاضة المتحيرة, يلزمها الغسل عند كل صلاة, يشك في انقطاع الدم قبلها.
السادسة: من أصابته نجاسة في ثوبه أو بدنه وجهل موضعها يجب غسله كله.
السابعة: شك مسافر أوصل بلده أم لا؟ لا يجوز له الترخص.
الثامنة: شك مسافر هل نوى الإقامة أم لا؟ لا يجوز له الترخص
التاسعة: المستحاضة وسلس البول إذا توضأ ثم شك: هل انقطع حدثه أم لا؟ فصلى بطهارته لم تصح صلاته.(16/138)
ص -73-…العاشرة: تيمم, ثم رأى شيئا لا يدري: أسراب هو, أم ماء بطل تيممه, وإن بان سرابا
الحادية عشرة, رمى صيدا فجرحه, ثم غاب فوجده ميتا, وشك هل أصابته رمية أخرى من حجر أو غيره لم يحل أكله, وكذا لو أرسل عليه كلبا.
هذا ما ذكره ابن القاص.
وقد نازعه القفال وغيره في استثنائها بأنه لم يترك اليقين فيها بالشك, وإنما عمل فيها بالأصل الذي لم يتحقق شرط العدول عنه ; لأن الأصل في الأولى والثانية غسل الرجلين. وشرط المسح: بقاء المدة وشككنا فيه, فعمل بأصل الغسل, وفي الثالثة والسابعة والثامنة القصر رخصة بشرط, فإذا لم يتحقق رجع إلى الأصل, وهو الإتمام ; وفي الخامسة الأصل وجوب الصلاة, فإذا شكت في الانقطاع فصلت بلا غسل, لم تتيقن البراءة منها. وفي السادسة: الأصل أنه ممنوع من الصلاة إلا بطهارة عن هذه النجاسة, فلما لم يغسل الجميع فهو شاك في زوال منعه من الصلاة, وفي العاشرة: إنما بطل التيمم لأنه توجه الطلب عليه, وفي الحادية عشرة في حل الصيد قولان, فإن قلنا لا يحل فليس ترك يقين بشك لأن الأصل التحريم, وقد شككنا في الإباحة, وقد نقل النووي ذلك في شرح المهذب وقال ما قاله القفال فيه نظر.
والصواب في أكثر هذه المسائل مع ابن القاص.
قال: وقد استثنى إمام الحرمين أيضا والغزالي ما إذا شك الناس في انقضاء وقت الجمعة فإنهم لا يصلون الجمعة, وإن كان الأصل بقاء الوقت.
قال: ومما يستثنى: إذا توضأ وشك, هل مسح رأسه أم لا؟ وفيه وجهان الأصح صحة وضوئه, ولا يقال الأصل عدم المسح.
ومثله لو سلم من صلاته, وشك هل صلى ثلاثا أو أربعا؟, والأظهر أن صلاته مضت على الصحة. قال: فإن تكلف متكلف, وقال: المسألتان داخلتان في القاعدة, فإنه شك هل ترك أو لا, والأصل عدمه, فليس بشيء لأن الترك عدم باق على ما كان عليه, وإنما المشكوك فيه الفعل, والأصل عدمه ولم يعمل بالأصل.(16/139)
قال: وأما إذا سلم من صلاته فرأى عليه نجاسة, واحتمل وقوعها في الصلاة وحدوثها بعدها, فلا تلزمه إعادة الصلاة بل مضت على الصحة, فيحتمل أن يقال الأصل عدم النجاسة فلا يحتاج إلى استثنائها لدخولها في القاعدة, ويحتمل أن يقال: تحقق النجاسة وشك في انعقاد الصلاة ; والأصل عدمه, وبقاؤها في الذمة, فيحتاج إلى استثنائها. انتهى كلام النووي,(16/140)
ص -74-…وزاد ابن السبكي في نظائره صورا أخرى:
منها: إذا جاء من قدام الإمام واقتدى به وشك هل هو متقدم عليه؟, فالصحيح في التحقيق وشرح المهذب أنه تصح صلاته.
فهذا ترك أصل من غير معارض, ولذلك رجح ابن الرفعة مقابله: أنه لا يصح عملا بالأصل السالم عن المعارض, ولو كان جاء من خلف الإمام صحت, قطعا ; لأن الأصل عدم تقديمه.
وفي نظير هذه المسألة لو صلى وشك, هل تقدم على الإمام بالتكبير أو لا؟, لا تصح صلاته, وفرق بأن الصحة في التقديم أكثر وقوعا, فإنها تصح في صورتين: التأخير والمساواة, وتبطل في التقدم خاصة, والصحة في التكبير أقل وقوعا, فإنها تبطل بالمقارنة والتقدم, وتصح في صورة واحدة, وهي التأخر.
ومنها: من له كفان عاملتان أو غير عاملتين, فبأيهما مس انتقض وضوءه مع الشك في أنها أصلية أو زائدة, والزائدة لا تنقض, ولهذا لو كانت إحداهما عاملة فقط انتقض بها وحدها على الصحيح.
ومنها: إذا ادعى الغاصب تلف المغصوب صدق بيمينه على الصحيح وإلا لتخلد الحبس عليه إذا كان صادقا وعجز عن البينة, والثاني يصدق المالك ; لأن الأصل البقاء. وزاد الزركشي في قواعده صورا أخرى.
منها: مسألة الهرة, فإن الأصل نجاسة فمها, فترك ; لاحتمال ولوغها في ماء كثير وهو شك.
ومنها: من رأى منيا في ثوبه أو فراشه الذي لا ينام فيه غيره ولم يذكر احتلاما, لزمه الغسل في الأصح, مع أن الأصل عدمه.
ومنها: من شك بعد صوم يوم من الكفارة, هل نوى؟ لم يؤثر على الصحيح مع أن الأصل عدم النية.
ومنها: من عليه فائتة شك في قضائها لا يلزمه, مع أن الأصل بقاؤها. ذكره الشيخ عز الدين في مختصر النهاية.
الفائدة الثانية:
قال الشيخ أبو حامد الإسفراييني: الشك على ثلاثة أضرب, شك طرأ على أصل حرام, وشك طرأ على أصل مباح, وشك لا يعرف أصله.(16/141)
فالأول: مثل أن يجد شاة في بلد فيها مسلمون ومجوس فلا يحل حتى يعلم أنها ذكاة مسلم لأنها أصلها حرام, وشككنا في الذكاة المبيحة, فلو كان الغالب فيها المسلمون جاز الأكل عملا بالغالب المفيد للظهور.(16/142)
ص -75-…والثاني: أن يجد ماء متغيرا, واحتمل تغيره بنجاسة, أو بطول المكث يجوز التطهر به عملا بالغالب عملا بأصل الطهارة.
والثالث: مثل معاملة من أكثر ماله حرام ولم يتحقق أن المأخوذ من ماله عين الحرام فلا تحرم مبايعته لإمكان الحلال وعدم تحقق التحريم, ولكن يكره خوفا من الوقوع في الحرام. انتهى.
الثالثة:
قال النووي: اعلم أن مراد أصحابنا بالشك في الماء والحدث والنجاسة والصلاة والعتق والطلاق وغيرها: هو التردد بين وجود الشيء وعدمه, سواء كان الطرفان في التردد سواء أو أحدهما راجحا فهذا معناه في استعمال الفقهاء وكتب الفقه.
أما أصحاب الأصول: فإنهم فرقوا بين ذلك وقالوا: التردد إن كان على السواء فهو شك, وإن كان أحدهما راجحا فالراجح ظن والمرجوح وهم.
ووقع للرافعي: أنه فرق بينهما في الحدث فقال: إنه يرفع بظن الطهر, لا بالشك فيه وتبعه في الحاوي الصغير وقيل: إنه غلط معدود من أفراده قال ابن الرفعة: لم أره لغيره قال في المهمات: وفي الشامل إنما قلنا بنقض الوضوء بالنوم مضطجعا ; لأن الظاهر خروج الحدث فصدق أن يقال: رفعنا يقين الطهارة بظن الحدث بخلاف عكسه فكأن الرافعي أراد ما ذكره ابن الصباغ فانعكس عليه ولمجلي احتمال فيما إذا ظن الحدث بأسباب عارضة في تخريجه على قولي الأصل والغالب.
قال الزركشي: وما زعمه النووي من أنه في سائر الأبواب لا فرق فيه بين المساوي والراجح يرد عليه أنهم فرقوا في مواضع كثيرة.
منها: في الإيلاء لو قيد بمستبعد الحصول في الأربعة, كنزول عيسى فمؤول, وإن ظن حصوله قبلها فلا, وإن شك فوجهان.
ومنها: شك في المذبوح, هل فيه حياة مستقرة, حرم للشك في المبيح. وإن غلب على ظنه بقاؤها حل.
ومنها: في الأكل من مال الغير إذا غلب على ظنه الرضا جاز, وإن شك فلا.
ومنها: وجوب ركوب البحر في الحج إذا غلبت السلامة وإن شك فلا.(16/143)
ومنها: المرض إذا غلب على ظنه كونه مخوفا, نفذ التصرف من الثلث وإن شككنا في كونه مخوفا لم ينفذ إلا بقول أهل الخبرة.
ومنها: قال الرافعي في كتاب الاعتكاف: قولهم: "لا يقع الطلاق بالشك" مسلم لكنه يقع بالظن الغالب انتهى.(16/144)
ص -76-…ويشهد له لو قال: إن كنت حاملا فأنت طالق فإذا مضت ثلاثة أقراء من وقت التعليق وقع الطلاق, مع أن الأقراء لا تفيد إلا الظن ولهذا أيد الإمام احتمالا بعدم الوقوع.
الرابعة
يعبر عن الأصل في جميع ما تقدم بالاستصحاب, وهو استصحاب الماضي في الحاضر وأما استصحاب الحاضر في الماضي فهو الاستصحاب المقلوب.
قال الشيخ تقي الدين السبكي: ولم يقل به الأصحاب إلا في مسألة واحدة وهو ما إذا اشترى شيئا فادعاه مدع وانتزعه منه بحجة مطلقة, فإنهم أطبقوا على ثبوت الرجوع له على البائع, بل لو باع المشتري أو وهب, وانتزع من المشتري منه أو الموهوب له كان للمشتري الأول الرجوع أيضا, فهذا استصحاب الحال في الماضي فإن البينة لا تنشئ الملك ولكن تظهره, والملك سابق على إقامتها, لا بد من تقدير زمان لطيف له, ويحتمل انتقال الملك من المشتري إلى المدعي ولكنهم استصحبوا مقلوبا, وهو عدم الانتقال عنه فيما مضى. قال ابنه تاج الدين: وقيل به أيضا على وجه ضعيف فيما إذا وجدنا ركازا, ولم ندر هل هو جاهلي أو إسلامي أنه يحكم بأنه جاهلي ولو كان المغصوب باقيا, وهو أعور مثلا فقال الغاصب: هكذا غصبته فالقول قول الغاصب صرح به الشيخ أبو حامد وغيره فهذا استصحاب مقلوب.
ونظيره لو قال المالك: كان طعامي جديدا, وقال الغاصب عتيقا فالمصدق الغاصب.
القاعدة الثالثة: المشقة: تجلب التيسير
الأصل في هذه القاعدة قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وقوله صلى الله عليه وسلم: "بعثت بالحنيفية السمحة" أخرجه أحمد في مسنده من حديث جابر بن عبد الله, ومن حديث أبي أمامة والديلمي, وفي مسند الفردوس من حديث عائشة رضي الله عنها.(16/145)
وأخرج أحمد في مسنده والطبراني والبزار وغيرهما عن ابن عباس قال قيل: يا رسول الله, أي الأديان أحب إلى الله, قال: "الحنيفية السمحة" وأخرجه البزار من وجه آخر بلفظ: "أي الإسلام".
وروى الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "إن أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة".
وروى الشيخان وغيرهما من حديث أبي هريرة وغيره: "إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين" وحديث: "يسروا ولا تعسروا".(16/146)
ص -77-…وروى أحمد من حديث أبي هريرة مرفوعا: "إن دين الله يسر – ثلاثا".
وروى أيضا من حديث الأعرابي بسند صحيح: "إن خير دينكم أيسره, إن خير دينكم أيسره".
وروى ابن مردويه من حديث محجن بن الأدرع مرفوعا: "إن الله إنما أراد بهذه الأمة اليسر ولم يرد بهم العسر".
وروى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها: "ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين, إلا اختار أيسرهما, ما لم يكن إثما".
وروى الطبراني عن ابن عباس مرفوعا: "إن الله شرع الدين فجعله سهلا سمحا واسعا ولم يجعله ضيقا".
قال العلماء: يتخرج على هذه القاعدة جميع رخص الشرع وتخفيفاته.
واعلم أن أسباب التخفيف في العبادات وغيرها سبعة:
الأول: السفر.
قال النووي: ورخصه ثمانية.
منها: ما يختص بالطويل قطعا وهو القصر والفطر والمسح أكثر من يوم وليلة.
ومنها: ما لا يختص به قطعا, وهو ترك الجمعة وأكل الميتة.
ومنها: ما فيه خلاف, والأصح اختصاصه به وهو الجمع.
ومنها: ما فيه خلاف, والأصح عدم اختصاصه به, وهو التنفل على الدابة وإسقاط الفرض بالتيمم. واستدرك ابن الوكيل رخصة تاسعة, صرح بها الغزالي وهي:
ما إذا كان له نسوة وأراد السفر, فإنه يقرع بينهن. ويأخذ من خرجت لها القرعة, ولا يلزمه القضاء لضراتها إذا رجع. وهل يختص ذلك بالطويل؟ وجهان, أصحهما: لا.(16/147)
الثاني: المرض. ورخصه كثيرة, التيمم عند مشقة استعمال الماء, وعدم الكراهة في الاستعانة بمن يصب عليه أو يغسل أعضاءه, والقعود في صلاة الفرض. وخطبة الجمعة والاضطجاع في الصلاة, والإيماء والجمع بين الصلاتين على وجه اختاره النووي والسبكي والأسنوي والبلقيني, ونقل عن النص, وصح فيه الحديث وهو المختار, والتخلف عن الجماعة والجمعة مع حصول الفضيلة كما تقدم, والفطر في رمضان وترك الصوم للشيخ الهرم مع الفدية, والانتقال من الصوم إلى الإطعام في الكفارة, والخروج من المعتكف وعدم قطع التتابع المشروط في الاعتكاف, والاستنابة في الحج وفي رمي الجمار ; وإباحة محظورات الإحرام مع الفدية, والتحلل على وجه. فإن شرطه فعلى المشهور, والتداوي بالنجاسات وبالخمر على وجه, وإساغة اللقمة بها إذا غص بالاتفاق, وإباحة النظر حتى للعورة والسوأتين.(16/148)
ص -78-…الثالث: الإكراه.
الرابع: النسيان
الخامس: الجهل وسيأتي لها مباحث.
السادس: العسر وعموم البلوى. كالصلاة مع النجاسة المعفو عنها, كدم القروح والدمامل والبراغيث, والقيح والصديد, وقليل دم الأجنبي وطين الشارع, وأثر نجاسة عسر زواله, وذرق الطيور إذا عم في المساجد والمطاف وما يصيب الحب في الدوس من روث البقر وبوله.
ومن ذلك العفو عما لا يدركه الطرف وما لا نفس له سائلة, وريق النائم, وفم الهرة.
ومن ثم لا يتعدى إلى حيوان لا يعم اختلاطه بالناس كما قال الغزالي وأفواه الصبيان.
وغبار السرجين ونحوه وقليل الدخان أو الشعر النجس, ومنفذ الحيوان.
ومن ثم لا يعفى عن منفذ الآدمي, لإمكان صونه عن الماء ونحوه, وروث ما نشؤه في الماء والمائع, وما في جوف السمك الصغار على وجه اختاره الروياني.
ومن ذلك: مشروعية الاستجمار بالحجر وإباحة الاستقبال والاستدبار في قضاء الحاجة في البنيان ومس المصحف للصبي المحدث.
ومن ثم لا يباح له إذا لم يكن متعلما كما نقله في المهمات عن مفهوم كلامهم, وجواز المسح على العمامة لمشقة استيعاب الرأس, ومسح الخف في الحضر لمشقة نزعه في كل وضوء ومن ثم وجب نزعه في الغسل لعدم تكرره.
وأنه لا يحكم على الماء بالاستعمال ما دام مترددا على العضو, ولا يضره التغيير بالمكث والطين والطحلب وكل ما يعسر صونه عنه, وإباحة الأفعال الكثيرة والاستدبار في صلاة شدة الخوف, وإباحة النافلة على الدابة في السفر وفي الحضر على وجه, وإباحة القعود فيهما مع القدرة, وكذا الاضطجاع والإبراد بالظهر في شدة الحر.
ومن ثم لا إبراد بالجمعة لاستحباب التبكير إليها.(16/149)
والجمع في المطر وترك الجماعة والجمعة بالأعذار المعروفة وعدم وجوب قضاء الصلاة على الحائض لتكررها بخلاف الصوم وبخلاف المستحاضة لندرة ذلك, وأكل الميتة ومال الغير مع ضمان البدل إذا اضطر, وأكل الولي من مال اليتيم بقدر أجرة عمله إذا احتاج وجواز تقديم نية الصوم على أوله, ونية صوم النفل بالنهار, وإباحة التحلل من الحج بالإحصار والفوات, ولبس الحرير للحكة والقتال وبيع نحو الرمان والبيض في قشرة والموصوف في الذمة وهو السلم, مع النهي عن بيع الغرر, والاكتفاء برؤية ظاهر الصبرة وأنموذج المتماثل, وبارز الدار عن أسها. ومشروعية الخيار لما كان البيع يقع غالبا من غير ترو ويحصل فيه الندم فيشق على العاقد, فسهل الشارع ذلك عليه بجواز الفسخ في مجلسه(16/150)
ص -79-…وشرع له أيضا شرطه ثلاثة أيام, ومشروعية الرد بالعيب ; والتحالف, والإقالة والحوالة, والرهن, والضمان والإبراء, والقرض, والشركة, والصلح, والحجر, والوكالة, والإجارة, والمساقاة, والمزارعة, والقراض, والعارية, الوديعة للمشقة العظيمة في أن كل أحد لا ينتفع إلا بما هو ملكه, ولا يستوفي إلا ممن عليه حقه, ولا يأخذه إلا بكماله, ولا يتعاطى أموره إلا بنفسه ; فسهل الأمر بإباحة الانتفاع بملك الغير, بطريق الإجارة أو الإعارة أو القراض, وبالاستعانة بالغير وكالة, وإيداعا, وشركة وقراضا ومساقاة, وبالاستيفاء من غير المديون حوالة, وبالتوثق على الدين برهن وضامن وكفيل وحجر, وبإسقاط بعض الدين صلحا, أو كله إبراء.
ومن التخفيف: جواز العقود الجائزة ; لأن لزومها يشق, ويكون سببا لعدم تعاطيها ولزوم اللازم, وإلا لم يستقر بيع ولا غيره.
ومنه: إباحة النظر عند الخطبة, وللتعليم, والإشهاد والمعاملة والمعالجة وللسيد.
ومنه: جواز العقد على المنكوحة من غير نظر, لما في اشتراطه من المشقة التي لا يحتملها كثير من الناس في بناتهم وأخواتهم من نظر كل خاطب فناسب التيسير لعدم اشتراطه بخلاف المبيع فإن اشتراط الرؤية فيه لا يفضي إلى عسر ومشقة.
ومنه: إباحة أربع نسوة فلم يقتصر على واحدة تيسيرا على الرجال وعلى النساء أيضا لكثرتهن ولم يزد على أربع لما فيه من المشقة على الزوجين في القسم وغيره.
ومنه: مشروعية الطلاق, لما في البقاء على الزوجية من المشقة عند التنافر, وكذا مشروعية الخلع والافتداء والفسخ بالعيب ونحوه, والرجعة في العدة لما كان الطلاق يقع غالبا بغتة في الخصام والجرح ويشق عليه التزامه فشرعت له الرجعة في تطليقتين: ولم تشرع دائما لما فيه من المشقة على الزوجة إذا قصد إضرارها بالرجعة والطلاق كما كان ذلك في أول الإسلام ثم نسخ.
ومنه: مشروعية الإجبار على الوطء أو الطلاق في المولي.(16/151)
ومنه: مشروعية الكفارة في الظهار واليمين تيسيرا على المكلفين لما في التزام موجب ذلك من المشقة عند الندم.
وكذا مشروعية التخيير في كفارة اليمين لتكرره بخلاف كفارة الظهار والقتل والجماع لندرة وقوعها ; ولأن المقصود الزجر عنها.
ومشروعية التخيير في نذر اللجاج: بين ما التزم والكفارة لما في الالتزام بالنذور لجاجا من المشقة.
ومنه: مشروعية التخيير بين القصاص والدية تيسيرا على هذه الأمة على الجاني والمجني عليه, وكان في شرع موسى صلى الله عليه وآله القصاص متحتما ولا دية.(16/152)
ص -80-…وفي شرع عيسى عليه السلام الدية ولا قصاص.
ومنه: مشروعية الكتابة, ليتخلص العبد من دوام الرق لما فيه من العسر, فيرغب السيد الذي لا يسمح بالعتق مجانا, بما يبذل له من النجوم.
ومنه: مشروعية الوصية عند الموت ليتدارك الإنسان ما فرط منه في حال الحياة وفسح له في الثلث دون ما زاد عليه دفعا لضرر الورثة, فحصل التيسير ودفع المشقة في الجانبين ومنه: إسقاط الإثم عن المجتهدين في الخطأ والتيسير عليهم بالاكتفاء بالظن ولو كلفوا الأخذ باليقين لشق وعسر الوصول إليه.
فقد بان بهذا أن هذه القاعدة يرجع إليها غالب أبواب الفقه.
السبب السابع: النقص
فإنه نوع من المشقة إذ النفوس مجبولة على حب الكمال, فناسبه التخفيف في التكليفات.
فمن ذلك: عدم تكليف الصبي, والمجنون, وعدم تكليف النساء بكثير مما يجب على الرجال: كالجماعة, والجمعة, والجهاد والجزية, وتحمل العقل, وغير ذلك وإباحة لبس الحرير, وحل الذهب, وعدم تكليف الأرقاء بكثير, مما على الأحرار, ككونه على النصف من الحر في الحدود والعدد وغير ذلك مما سيأتي في الكتاب الرابع.
وهذه فوائد مهمة نختم بها الكلام على هذه القاعدة.
الأولى: في ضبط المشاق المقتضية للتخفيف.
المشاق على قسمين: مشقة لا تنفك عنها العبادة غالبا, كمشقة البرد في الوضوء, والغسل. ومشقة الصوم في شدة الحر وطول النهار ومشقة السفر, التي لا انفكاك للحج والجهاد عنها. ومشقة ألم الحدود, ورجم الزناة, وقتل الجناة, فلا أثر لهذه في إسقاط العبادات في كل الأوقات.
ومن استثنى من ذلك جواز التيمم للخوف من شدة البرد فلم يصب لأن المراد أن يخاف من شدة البرد حصول مرض من الأمراض التي تبيح التيمم, وهذا أمر ينفك عنه الاغتسال في الغالب, أما ألم البرد الذي لا يخاف معه المرض المذكور, فلا يبيح التيمم بحال وهو الذي لا يبيح الانتقال إلى التيمم.
وأما المشقة التي لا تنفك عنها العبادات غالبا, فعلى مراتب:(16/153)
الأولى: مشقة عظيمة فادحة: كمشقة الخوف على النفوس, والأطراف ومنافع الأعضاء فهي موجبة للتخفيف والترخيص قطعا لأن حفظ النفوس, والأطراف(16/154)
ص -81-…لإقامة مصالح الدين أولى من تعريضها للفوات في عبادة, أو عبادات يفوت بها أمثالها. الثانية: مشقة خفيفة لا وقع لها كأدنى وجع في إصبع, وأدنى صداع في الرأس, أو سوء مزاج خفيف, فهذه لا أثر لها, ولا التفات إليها ; لأن تحصيل مصالح العبادات أولى من دفع مثل هذه المفسدة التي لا أثر لها.
الثالثة: متوسطة بين هاتين المرتبتين. فما دنا من المرتبة العليا, أوجب التخفيف, أو من الدنيا, لم يوجبه كحمى خفيفة ووجع الضرس اليسير, وما تردد في إلحاقه بأيهما اختلف فيه ولا ضبط لهذه المراتب, إلا بالتقرب.
وقد أشار الشيخ عز الدين إلى أن الأولى في ضبط مشاق العبادات: أن تضبط مشقة كل عبادة بأدنى المشاق المعتبرة في تخفيف تلك العبادة فإن كانت مثلها, أو أزيد, ثبتت الرخصة, ولذلك اعتبر في مشقة المرض المبيح للفطر في الصوم: أن يكون كزيادة مشقة الصوم في السفر عليه في الحضر وفي إباحة محظورات الإحرام: أن يحصل بتركها, مثل مشقة القمل الوارد فيه الرخصة.
وأما أصل الحج, فلا يكتفى في تركه بذلك, بل لا بد من مشقة لا يحتمل مثلها, كالخوف على النفس, والمال وعدم الزاد والراحلة.
وفي إباحة ترك القيام إلى القعود: أن يحصل به ما يشوش الخشوع, وإلى الاضطجاع أشق لأنه مناف لتعظيم العبادات بخلاف القعود, فإنه مباح بلا عذر كما في التشهد فلم يشترط فيه العجز بالكلية. وكذلك اكتفى في إباحة النظر إلى الوجه والكفين بأصل الحاجة, واشترط في سائر الأعضاء تأكدها. وضبطه الإمام بالقدر الذي يجوز الانتقال معه إلى التيمم, واشترط في السوأتين مزيد التأكيد, وضبطه الغزالي بما لا يعد التكشف بسببه هتكا للمروءة, ويعذر فيه في العادة.
تنبيه:
من المشكل على هذا الضابط: التيمم. فإنهم اشترطوا في المرض المبيح له: أن يخاف معه تلف نفس, أو عضو, أو منفعة, أو حدوث مرض مخوف, أو بطء البرء, أو شين فاحش في عضو ظاهر, ومشقة السفر دون ذلك بكثير.(16/155)
قال العلائي: ولعل الفارق بين السفر والمرض: أن المقصود أن لا ينقطع المسافر عن رفقته, ولا يحصل له ما يعوق عليه التقلب في السفر بالمعايش, فاغتفر فيه أخف مما يلحق المريض. أشار إلى ذلك إمام الحرمين.
وأشكل من هذا: أنهم لم يوجبوا شراء الماء بزيادة يسيرة على ثمن المثل, وجوزوا التيمم, ومنعوه فيما إذا خاف شيئا فاحشا في عضو باطن مع أن ضرره أشد من ضرر(16/156)
ص -82-…بذل الزيادة اليسيرة جدا, خصوصا إذا كان رقيقا, فإنه ينقص بذلك قيمته أضعاف قدر الزيادة المذكورة, وقد استشكله الشيخ عز الدين وغيره ولا جواب عنه.
تنبيه:
ضبط في الروضة, وأصلها, نقلا عن الأصحاب: المرض المبيح للفطر, ولأكل الميتة: بالمبيح للتيمم.
الفائدة الثانية:
قال الشيخ عز الدين: تخفيفات الشرع ستة أنواع:
الأول: تخفيف إسقاط, كإسقاط الجمعة والحج, والعمرة, والجهاد بالأعذار.
الثاني: تخفيف تنقيص, كالقصر.
الثالث: تخفيف إبدال, كإبدال الوضوء, والغسل بالتيمم, والقيام في الصلاة بالقعود والاضطجاع, أو الإيماء, والصيام بالإطعام.
الرابع: تخفيف تقديم, كالجمع, وتقديم الزكاة على الحول, وزكاة الفطر في رمضان, والكفارة على الحنث.
الخامس: تخفيف تأخير, كالجمع, وتأخير رمضان للمريض والمسافر ; وتأخير الصلاة في حق مشتغل بإنقاذ غريق, أو نحوه من الأعذار الآتية:
السادس: تخفيف ترخيص, كصلاة المستجمر, مع بقية النجو, وشرب الخمر للغصة, وأكل النجاسة للتداوي, ونحو ذلك.
واستدرك العلائي سابعا, وهو: تخفيف تغيير, كتغير نظم الصلاة في الخوف.
الفائدة الثالثة:
الرخص أقسام:
ما يجب فعلها, كأكل الميتة للمضطر, والفطر لمن خاف الهلاك بغلبة الجوع والعطش وإن كان مقيما صحيحا, وإساغة الغصة بالخمر.
وما يندب كالقصر في السفر والفطر لمن يشق عليه الصوم في سفر, أو مرض, والإبراد بالظهر, والنظر إلى المخطوبة.
وما يباح, كالسلم.
وما الأولى تركها: كالمسح على الخف, والجمع والفطر لمن لا يتضرر, والتيمم لمن وجد الماء يباع بأكثر من ثمن المثل, وهو قادر عليه.
وما يكره فعلها, كالقصر في أقل من ثلاثة مراحل.(16/157)
ص -83-…الفائدة الرابعة:
تعاطي سبب الرخصة, لقصد الترخيص فقط, هل يبيحه؟ فيه صور تقدمت في أواخر القاعدة الأولى.
الفائدة الخامسة:
بمعنى هذه القاعدة: قول الشافعي رضي الله عنه: ( إذا ضاق الأمر اتسع ) وقد أجاب بها في ثلاثة مواضع:
أحدها: فيما إذا فقدت المرأة وليها في سفر, فولت أمرها رجلا يجوز.
قال يونس بن عبد الأعلى: قلت له: كيف هذا؟ قال: إذا ضاق الأمر اتسع.
الثاني: في أواني الخزف المعمولة بالسرجين؟ أيجوز الوضوء منها؟ فقال: إذ ضاق الأمر اتسع حكاه في البحر.
الثالث: حكى بعض شراح المختصر أن الشافعي, سئل عن الذباب يجلس على غائط ثم يقع على الثوب فقال: إن كان في طيرانه ما يجف فيه رجلاه وإلا فالشيء إذا ضاق اتسع.
ولهم عكس هذه القاعدة: إذا اتسع الأمر ضاق.
قال ابن أبي هريرة في تعليقه: وضعت الأشياء في الأصول على أنها إذا ضاقت اتسعت وإذا اتسعت ضاقت.
ألا ترى أن قليل العمل في الصلاة لما اضطر إليه سومح به وكثيره لما لم يكن به حاجة لم يسامح به. وكذلك قليل البراغيث وكثيره.
وجمع الغزالي في الإحياء بين القاعدتين بقوله: كل ما تجاوز عن حده انعكس إلى ضده.
ونظير هاتين القاعدتين في التعاكس قولهم: يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء. وقولهم: يغتفر في الابتداء ما لا يغتفر في الدوام وسيأتي ذكر فروعها.
القاعدة الرابعة: الضرر يزال.
أصلها قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار".
أخرجه مالك في الموطأ عن عمرو بن يحيى عن أبيه مرسلا وأخرجه الحاكم في المستدرك والبيهقي والدارقطني, ومن حديث أبي سعيد الخدري وأخرجه ابن ماجه من حديث ابن عباس وعبادة بن الصامت.(16/158)
ص -84-…اعلم أن هذه القاعدة ينبني عليها كثير من أبواب الفقه.
من ذلك: الرد بالعيب, وجميع أنواع الخيار: من اختلاف الوصف المشروط, والتعزير, وإفلاس المشتري, وغير ذلك, والحجر بأنواعه, والشفعة, لأنها شرعت لدفع ضرر القسمة. والقصاص, والحدود, والكفارات, وضمان المتلف, والقسمة, ونصب الأئمة, والقضاة, ودفع الصائل, وقتال المشركين, والبغاة, وفسخ النكاح بالعيوب, أو الإعسار, أو غير ذلك, وهي مع القاعدة التي قبلها متحدة, أو متداخلة.
ويتعلق بهذه القاعدة قواعد:
الأولى: الضروريات تبيح المحظورات بشرط عدم نقصانها عنها.
ومن ثم جاز أكل الميتة عند المخمصة, وإساغة اللقمة بالخمر, والتلفظ بكلمة الكفر للإكراه, وكذا إتلاف المال, وأخذ مال الممتنع من أداء الدين بغير إذنه, ودفع الصائل ولو أدى إلى قتله, ولو عم الحرام قطرا, بحيث لا يوجد فيه حلال إلا نادرا فإنه يجوز استعمال ما يحتاج إليه, ولا يقتصر على الضرورة.
قال الإمام: ولا يرتقي إلى التبسط, وأكل الملاذ بل يقتصر على قدر الحاجة. قال ابن عبد السلام: وفرض المسألة: أن يتوقع معرفة صاحب المال في المستقبل. فأما عند اليأس فالمال حينئذ للمصالح ; لأن من جملة أموال بيت المال: ما جهل مالكه. ويجوز إتلاف شجر الكفار وبنائهم لحاجة القتال, والظفر بهم, وكذا الحيوان الذي يقاتلون عليه, ونبش الميت بعد دفنه للضرورة بأن دفن بلا غسل, أو لغير القبلة أو في أرض أو ثوب مغصوب. وغصب الخيط لخياطة جرح حيوان محترم.
وقولنا: "بشرط عدم نقصانها عنها" ليخرج ما لو كان الميت نبيا فإنه لا يحل أكله للمضطر لأن حرمته أعظم في نظر الشرع من مهجة المضطر. وما لو أكره على القتل أو الزنا, فلا يباح واحد منهما بالإكراه لما فيهما من المفسدة التي تقابل حفظ مهجة المكره, أو تزيد عليها. وما لو دفن بلا تكفين فلا ينبش, فإن مفسدة هتك حرمته أشد من عدم تكفينه الذي قام الستر بالتراب مقامه.(16/159)
الثانية: ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها.
ومن فروعه:
المضطر: لا يأكل من الميتة, إلا قدر سد الرمق ومن استشير في خاطب, واكتفى بالتعريض كقوله: لا يصلح لك. لم يعدل إلى التصريح, ويجوز أخذ نبات الحرم لعلف البهائم. ولا يجوز أخذه لبيعه لمن يعلف. والطعام في دار الحرب يؤخذ على سبيل الحاجة لأنه أبيح للضرورة, فإذا وصل عمران الإسلام امتنع, ومن معه بقية ردها.
ويعفى: عن محل استجماره ولو حمل مستجمرا في الصلاة بطلت. ويعفى عن(16/160)
ص -85-…الطحلب في الماء فلو أخذ ورق, وطرح فيه وغيره ضر.
ويعفى عن ميت لا نفس له سائلة فإن طرح ضر.
ولو فصد أجنبي امرأة: وجب أن تستر جميع ساعدها ولا يكشف إلا ما لا بد منه للفصد.
والجبيرة يجب أن لا تستر من الصحيح إلا ما لا بد منه للاستمساك.
والمجنون لا يجوز تزويجه أكثر من واحدة لاندفاع الحاجة بها.
وإذا قلنا: يجوز تعدد الجمعة لعسر الاجتماع في مكان واحد لم يجز إلا بقدر ما يندفع فلو اندفع بجمعتين لم يجز بالثالثة, صرح به الإمام وجزم به السبكي والأسنوي.
ومن جاز له اقتناء الكلب للصيد لم يجز له أن يقتني زيادة على القدر الذي يصطاد به, صرح به بعضهم, وخرجه في الخادم على هذه القاعدة.
تنبيه:
خرج عن هذا الأصل صور:
منها: العرايا فإنها أبيحت للفقراء, ثم جازت للأغنياء في الأصح.
ومنها: الخلع, فإنه أبيح مع المرأة على سبيل الرخصة, ثم جاز مع الأجنبي.
ومنها: اللعان جوز حيث تعسر إقامة البينة على زناها, ثم جاز حيث يمكن على الأصح.
فائدة:
قال بعضهم: المراتب خمسة: ضرورة, وحاجة, ومنفعة, وزينة, وفضول.
فالضرورة: بلوغه حدا إن لم يتناوله الممنوع هلك, أو قارب وهذا يبيح تناول الحرام.
والحاجة: كالجائع الذي لو لم يجد ما يأكله لم يهلك غير أنه يكون في جهد ومشقة. وهذا لا يبيح الحرام, ويبيح الفطر في الصوم.
والمنفعة: كالذي يشتهي خبز البر, ولحم الغنم, والطعام الدسم.
والزينة: كالمشتهي الحلوى, والسكر, والثوب المنسوج من حرير, وكتان.
والفضول: التوسع بأكل الحرام, والشبهة.
تذنيب
قريب من هذه القاعدة: ما جاز لعذر بطل بزواله, كالتيمم يبطل بوجود الماء قبل الدخول في الصلاة. ونظيره: الشهادة على الشهادة لمرض, ونحوه يبطل إذا حضر الأصل عند الحاكم قبل الحكم.(16/161)
ص -86-…الثالثة: الضرر: لا يزال بالضرر
قال ابن السبكي: وهو كعائد يعود على قولهم: "الضرر يزال, ولكن لا بضرر" فشأنهما شأن الأخص مع الأعم بل هما سواء ; لأنه لو أزيل بالضرر لما صدق "الضرر يزال".
ومن فروع هذه القاعدة:
عدم وجوب العمارة على الشريك في الجديد, وعدم إجبار الجار على وضع الجذوع, وعدم إجبار السيد على نكاح العبد والأمة التي لا تحل له.
ولا يأكل المضطر طعام مضطر آخر, إلا أن يكون نبيا, فإنه يجوز له أخذه, ويجب على من معه بذله له, ولا قطع فلذة من فخذه, ولا قتل ولده, أو عبده, ولا قطع فلذة من نفسه: إن كان الخوف من القطع, كالخوف من ترك الأكل, أو أكثر, وكذا قطع السلعة المخوفة.
ولو مال حائط إلى الشارع, أو ملك غيره لم يجب إصلاحه.
ولو سقطت جرة, ولم تندفع عنه إلا بكسرها ضمنها في الأصح.
ولو وقع دينار في محبرة, ولم يخرج إلا بكسرها كسرت وعلى صاحبه الأرش, فلو كان بفعل صاحب المحبرة فلا شيء,
ولو أدخلت بهيمة رأسها في قدر, ولم يخرج إلا بكسرها, فإن كان صاحبها معها, فهو مفرط بترك الحفظ, فإن كانت غير مأكولة كسرت القدر, وعليه أرش النقص, أو مأكولة, ففي ذبحها وجهان. وإن لم يكن معها, فإن فرط صاحب القدر كسرت, ولا أرش, وإلا فله الأرش.
ولو التقت دابتان على شاهق, ولم يمكن تخليص واحدة إلا بإتلاف الأخرى, لم يفت واحد منهما, بل من ألقى دابة صاحبه وخلص دابته ضمن.
ولو سقط على جريح, فإن استمر قتله, وإن انتقل قتل غيره, فقيل: يستمر لأن الضرر لا يزال بالضرر, وقيل: يتخير للاستواء. وقال الإمام: لا حكم فيه في هذه المسألة.
ولو كانت ضيقة الفرج لا يمكن وطؤها إلا بإفضائها, فليس له الوطء.
ولو رهن المفلس المبيع, أو غرس, أو بنى فيه, فليس للبائع الرجوع في صورة صحة الرهن. لأن فيه إضرارا بالمرتهن, ولا في صورة الغرس, ويبقى الغرس والبناء للمفلس لأنه ينقص قيمتها, ويضر بالمفلس والغرماء.(16/162)
ص -87-…تنبيه:
قال ابن السبكي: يستثنى من ذلك: ما لو كان أحدهما أعظم ضررا.
وعبارة ابن الكتاني: لا بد من النظر لأخفهما وأغلظهما: ولهذا شرع القصاص, والحدود, وقتال البغاة, وقاطع الطريق, ودفع الصائل, والشفعة والفسخ بعيب المبيع والنكاح, والإعسار, والإجبار على قضاء الديون, والنفقة الواجبة, ومسألة الظفر, وأخذ المضطر طعام غيره, وقتاله عليه, وقطع شجرة الغير إذا حصلت في هواء داره ; وشق بطن الميت إذا بلع مالا, أو كان في بطنها ولو ترجى حياته: ورمي الكفار إذا تترسوا بنساء وصبيان, أو بأسرى المسلمين.
ولو كان له عشر دار لا يصلح للسكنى, والباقي لآخر, وطلب صاحب الأكثر القسمة أجيب في الأصح, وإن كان فيه ضرر شريكه.
ولو أحاط الكفار بالمسلمين, ولا مقاومة بهم: جاز دفع المال إليهم, وكذا استنقاذ الأسرى منهم بالمال إذا لم يمكن بغيره ; لأن مفسدة بقائهم في أيديهم, واصطلامهم للمسلمين أعظم من بذل المال.
والخلع في الحيض لا يحرم ; لأن إنقاذها منه مقدم على مفسدة تطويل العدة عليها, ولو وقع في نار تحرقه, ولم يخلص إلا بماء يغرقه ; ورآه أهون عليه من الصبر على لفحات النار, فله الانتقال إليه في الأصح.
ولو وجد المضطر ميتة وطعام غائب فالأصح أنه يأكل الميتة لأنها مباحة بالنص وطعام الغير بالاجتهاد.
أو المحرم ميتة وصيدا: فالأصح كذلك. لأنه يرتكب في الصيد محظورين: القتل والأكل.(16/163)
ص -88-…المبالغة في المضمضة والاستنشاق مسنونة. وتكره للصائم.
تخليل الشعر سنة في الطهارة, ويكره للمحرم.
وقد يراعى المصلحة, لغلبتها على المفسدة.
من ذلك: الصلاة, مع اختلال شرط من شروطها من الطهارة, والستر, والاستقبال فإن في كل ذلك مفسدة ; لما فيه من الإخلال بجلال الله في أن لا يناجى إلا على أكمل الأحوال, ومتى تعذر شيء من ذلك جازت الصلاة بدونه, تقديما لمصلحة الصلاة على هذه المفسدة.
ومنه: الكذب مفسدة محرمة ومتى تضمن جلب مصلحة تربو عليه جاز: كالكذب للإصلاح بين الناس, وعلى الزوجة لإصلاحها.
وهذا النوع راجع إلى ارتكاب أخف المفسدتين في الحقيقة.
القاعدة الخامسة: الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة
من الأولى: مشروعية الإجارة, والجعالة, والحوالة, ونحوها, جوزت على خلاف القياس لما في الأولى من ورود العقد على منافع معدومة, وفي الثانية من الجهالة, وفي الثالثة من بيع الدين بالدين لعموم الحاجة إلى ذلك, والحاجة إذا عمت كانت كالضرورة.
ومنها: ضمان الدرك, جوز على خلاف القياس إذ البائع إذا باع ملك نفسه, ليس ما أخذه من الثمن دينا عليه حتى يضمن. لكن لاحتياج الناس إلى معاملة. من لا يعرفونه ولا يؤمن خروج المبيع مستحقا.
ومنها: مسألة الصلح وإباحة النظر, للمعاملة, ونحوها, وغير ذلك.
ومن الثانية: تضبيب الإناء بالفضة: يجوز للحاجة ولا يعتبر العجز عن غير الفضة, لأنه يبيح أصل الإناء من النقدين قطعا بل المراد الأغراض المتعلقة بالتضبيب سوى التزيين: كإصلاح موضع الكسر والشد والتوثق.
ومنها: الأكل من الغنيمة في دار الحرب, جائز للحاجة ولا يشترط للآكل أن لا يكون معه غيره.
تنبيه:
من المشكل قول المنهاج: ويباح النظر لتعليم, مع قولهم في الصداق: ولو أصدقها تعليم قرآن, فطلق قبله, تعذر تعليمه في الأصح.
وأجاب السبكي: بأنه إنما تعذر ; لأن القرآن, وإن أمكن تنصيفه من جهة(16/164)
ص -89-…الحروف, والكلمات, لكنه يختلف سهولة, وصعوبة, وتابعه في المهمات فقال: لأن القيام بتعليم نصف مشاع, لا يمكن. والقول باستحقاق نصف معين: تحكم لا دليل عليه ويؤدي إلى النزاع: فإن السورة الواحدة مختلفة الآيات, في الطول, والقصر, والصعوبة, والسهولة, فتعين البدل.
واعترض هذا الجواب: بأنه خاص بالطلاق, قبل الدخول, وقد صرحوا بتعذر التعليم, ولو طلق بعد الدخول والمستحق بعد الدخول: تعليم الكل.
وأجاب الشيخ الإمام جلال الدين المحلي ; في شرح المنهاج: بأن ما ذكره النووي من إباحة النظر للتعليم: تفرد به, وهو خاص بالأمرد ; لأنه لما حرم النظر إليه مطلقا, ولو بلا شهوة, استشعر أن يورد عليه أن الأمرد يحتاج إلى مخالطة الرجال للتعليم, ويشق عليه الاحتجاب والتستر. وما زال السلف, والعلماء على مخالطة المرد ومجالستهم وتعليمهم فاستثني النظر للتعليم لذلك.
وأما المرأة: فلا تحتاج إلى التعليم: كاحتياج الأمرد.
وأما الواجبات: فلا تعدم من يعلمها إياها: من محرم أو زوج أو غيره من وراء حجاب.
وكان شيخنا قاضي القضاة: شرف الدين المناوي يأبى هذا الجواب ويقول بعموم الإباحة للمرأة أيضا ; ويجيب عن مسألة الصداق: بأن المطلقة امتدت إليها الأطماع, فناسب أن لا يؤذن في النظر إليها, بخلاف غيرها.
والتحقيق ما قاله الشيخ جلال الدين.
وقد أشار إلى نحو ما قاله السبكي, فقال: قد كشفت كتب المذهب ; فإنما يظهر منها جواز النظر للتعليم, فيما يجب تعلمه وتعليمه ; كالفاتحة ; وما يتعين من الصنائع بشرط التعذر من وراء حجاب. وأما غير ذلك ; فإن كلامهم يقتضي المنع ثم استشهد بالمذكور في الصداق.
القاعدة السادسة: العادة محكمة.
قال القاضي: أصلها قوله صلى الله عليه وسلم: "ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن".(16/165)
قال العلائي: ولم أجده مرفوعا في شيء من كتب الحديث أصلا ولا بسند ضعيف بعد طول البحث وكثرة الكشف والسؤال, وإنما هو من قول عبد الله بن مسعود موقوفا عليه أخرجه أحمد في مسنده.(16/166)
ص -90-…اعلم أن اعتبار العادة والعرف رجع إليه في الفقه, في مسائل لا تعد كثرة.
فمن ذلك: سن الحيض, والبلوغ, والإنزال, وأقل الحيض, والنفاس, والطهر وغالبها وأكثرها, وضابط القلة والكثرة في الضبة, والأفعال المنافية للصلاة, والنجاسات المعفو عن قليلها, وطول الزمان وقصره في موالاة الوضوء, في وجه والبناء على الصلاة في الجمع, والخطبة, والجمعة, وبين الإيجاب والقبول, والسلام ورده, والتأخير المانع من الرد بالعيب, وفي الشرب وسقي الدواب من الجداول, والأنهار المملوكة, إقامة له مقام الإذن اللفظي, وتناول الثمار الساقطة, وفي إحراز المال المسروق, وفي المعاطاة على ما اختاره النووي, وفي عمل الصناع على ما استحسنه الرافعي وفي وجوب السرج والإكاف في استئجار دابة للركوب, والحبر, والخيط, والكحل على من جرت العادة بكونها عليه, وفي الاستيلاء في الغصب, وفي رد ظرف الهدية وعدمه, وفي وزن أو كيل ما جهل حاله في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الأصح أنه يراعى فيه عادة بلد البيع, وفي إرسال المواشي نهارا وحفظها ليلا,
ولو اطردت عادة بلد بعكس ذلك, اعتبرت العادة في الأصح.
وفي صوم يوم الشك, لمن له عادة, وفي قبول القاضي الهدية ممن له عادة, وفي القبض, والإقباض, ودخول الحمام, ودور القضاة, والولاة, والأكل من الطعام المقدم ضيافة بلا لفظ, وفي المسابقة, والمناضلة إذا كانت للرماة عادة في مسافة تنزل المطلق عليها, وفيما إذا اطردت عادة المتبارزين بالأمان, ولم يجر بينهما شرط فالأصح أنها تنزل منزلة الشرط. وفي ألفاظ الواقف والموصي, وفي الأيمان وسيأتي ذكر أمثلة من ذلك:
ويتعلق بهذه القاعدة مباحث:
الأول: فيما تثبت به العادة,
وفي ذلك فروع:
أحدها: الحيض. قال الإمام والغزالي وغيرهما: العادة في باب الحيض, أربعة أقسام:(16/167)
أحدها: ما تثبت فيه بمرة بلا خلاف وهو الاستحاضة لأنها علة مزمنة فإذا وقعت فالظاهر دوامها, وسواء في ذلك المبتدئة, والمعتادة, والمتحيرة.
الثاني: ما لا يثبت فيه بالمرة, ولا بالمرات المتكررة, بلا خلاف, وهي المستحاضة إذا انقطع دمها فرأت يوما دما ويوما نقاء واستمر لها أدوار هكذا ثم أطبق الدم على لون واحد, فإنه لا يلتقط لها قدر أيام الدم بلا خلاف, وإن قلنا باللقط بل نحيضها بما كنا نجعله حيضا بالتلفيق, وكذا لو ولدت مرارا ولم تر نفاسا ثم ولدت وأطبق الدم(16/168)
ص -91-…وجاوز ستين يوما فإن عدم النفاس لا يصير عادة لها, بلا خلاف بل هذه مبتدأة في النفاس.
الثالث: ما لا يثبت بمرة ولا بمرات, على الأصح, وهو التوقف عن الصلاة, ونحوها بسبب تقطع الدم إذا كانت ترى يوما دماء ويوما نقاء.
الرابع: ما يثبت بالثلاث وفي ثبوته بالمرة والمرتين خلاف, والأصح الثبوت وهو قدر الحيض والطهر. الثاني: الجارحة في الصيد لا بد من تكرار يغلب على الظن أنه عادة, ولا يكفي مرة واحدة قطعا, وفي المرتين والثلاث خلاف.
الثالث: القائف لا خلاف في اشتراط التكرار فيه, وهل يكتفى بمرتين, أو لا بد من ثلاث؟ وجهان رجح الشيخ أبو حامد وأصحابه اعتبار الثلاث.
وقال إمام الحرمين: لا بد من تكرار يغلب على الظن به أنه عارف.
الرابع: اختبار الصبي قبل البلوغ بالمماكسة, قالوا: يختبر مرتين, فصاعدا, حتى يغلب على الظن رشده.
الخامس: عيوب البيع, فالزنا يثبت الرد بمرة واحدة لأن تهمة الزنا لا تزول, وإن تاب, ولذلك لا يحد قاذفه والإباق كذلك.
قال القاضي حسين وغيره: يكفي المرة الواحدة منه في يد البائع وإن لم يأبق في يد المشتري, قال الرافعي: والسرقة قريب من هذين. وأما البول في الفراش فالأظهر اعتبار الاعتياد فيه.
السادس: العادة في صوم الشك, كما إذا كان له عادة بصوم يوم الاثنين أو الخميس فصادف يوم الشك أحدهما, بماذا تثبت العادة؟
قال الشيخ تاج الدين السبكي: لم أر فيه نقلا, وقال الإمام في الخادم: لم يتعرضوا لضابط العادة فيحتمل ثبوتها بمرة, أو بقدر يعد في العرف متكررا.
السابع: العادة في الإهداء للقاضي قبل الولاية. قال ابن السبكي: لم أر فيه نقلا بماذا تثبت به؟
قال: وكلام الأصحاب يلوح بثبوتها بمرة واحدة. ولذلك عبر الرافعي بقوله: تعهد منه الهدية, والعهد صادق بمرة.
الثامن: العادة في تجديد الطهر لمن يتيقن طهرا وحدثا وكان قبلهما متطهرا, فإنه يأخذ بالضد, إن اعتاد التجديد, وبالمثل إن لم يعتده.(16/169)
لم يبينوا بم تثبت به العادة؟.
لكن ذكر السبكي في شرح المنهاج: أن من ثبتت له عادة محققة, كمن اعتاده(16/170)
ص -92-…فيأخذ بالضد. وظاهر هذا الاكتفاء فيه بالمرة ونحوها.
التاسع: إنما يستدل بحيض الخنثى وإمنائه على الأنوثة والذكورة بشرط التكرار ليتأكد الظن, ويندفع توهم كونه اتفاقيا. قال الأسنوي: وجزم في التهذيب, بأنه لا يكفي مرتان: بل لا بد أن يصير عادة. قال: ونظير التحاقه بما قيل في كلب الصيد.
المبحث الثاني: إنما تعتبر العادة إذا اطردت,
فإن اضطربت فلا. وإن تعارضت الظنون في اعتبارها فخلاف.
قال الإمام, في باب الأصول والثمار: كل ما يتضح فيه اطراد العادة, فهو المحكم, ومضمره كالمذكور صريحا, وكل ما تعارض الظنون بعض التعارض في حكم العادة فيه فهو مثار الخلاف. انتهى.
وفي ذلك فروع:
منها: باع شيئا بدراهم وأطلق, نزل على النقد الغالب, فلو اضطربت العادة في البلد وجب البيان, وإلا يبطل البيع.
ومنها: غلبت المعاملة بجنس من العروض, أو نوع منه انصرف الثمن إليه عند الإطلاق في الأصح. كالنقد.
ومنها: استأجر للخياطة, والنسخ, والكحل, فالخيط, والحبر, والكحل على من؟ خلاف, صحح الرافعي في الشرح الرجوع فيه إلى العادة, فإن اضطربت وجب البيان, وإلا فتبطل الإجارة.
ومنها: البطالة في المدارس, سئل عنها ابن الصلاح, فأجاب بأن ما وقع منها في رمضان ونصف شعبان لا يمنع من الاستحقاق. حيث لا نص فيه من الواقف على اشتراط الاشتغال في المدة المذكورة, وما يقع منها قبلهما يمنع لأنه ليس فيها عرف مستمر. ولا وجود لها قطعا في أكثر المدارس, والأماكن فإن سبق بها عرف في بعض البلاد واشتهر غير مضطرب فيجري فيها في ذلك البلد الخلاف: في أن العرف الخاص هل ينزل في التأثير منزلة العرف العام. والظاهر تنزيله في أهله بتلك المنزلة. انتهى.(16/171)
ومنها: المدارس الموقوفة على درس الحديث, ولا يعلم مراد الواقف فيها, هل يدرس فيها علم الحديث, الذي هو معرفة المصطلح كمختصر ابن الصلاح, ونحوه, أو يقرأ متن الحديثين؟ كالبخاري, ومسلم, ونحوهما, ويتكلم على ما في الحديث: من فقه, وغريب, ولغة, ومشكل, واختلاف. كما هو عرف الناس الآن, وهو شرط المدرسة الشيخونية, كما رأيته في شرط واقفها.(16/172)
ص -93-…وقد سأل شيخ الإسلام أبو الفضل بن حجر شيخه الحافظ أبا الفضل العراقي عن ذلك فأجاب: بأن الظاهر اتباع شروط الواقفين, فإنهم يختلفون في الشروط, وكذلك اصطلاح أهل كل بلد, والشام يلقون دروس الحديث, كالشيخ المدرس في بعض الأوقات. بخلاف المصريين فإن العادة جرت بينهم في هذه الأعصار بالجمع بين الأمرين بحسب ما يقرأ فيه من الحديث.
فصل: في تعارض العرف مع الشرع.
هو نوعان:
أحدهما: أن لا يتعلق بالشرع حكم, فيقدم عليه عرف الاستعمال,
فلو حلف لا يأكل لحما ; لم يحنث بالسمك, وإن سماه الله لحما,
أو لا يجلس على بساط أو تحت سقف أو في ضوء سراج, لم يحنث بالجلوس على الأرض وإن سماها الله بساطا, ولا تحت السماء, وإن سماها الله سقفا, ولا في الشمس, وإن سماها الله سراجا,
أو لا يضع رأسه على وتد, لم يحنث بوضعها على جبل,
أو لا يأكل ميتة أو دما, لم يحنث بالسمك والجراد والكبد والطحال, فقدم العرف في جميع ذلك ; لأنها استعملت في الشرع تسمية بلا تعلق حكم وتكليف. والثاني: أن يتعلق به حكم فيقدم على عرف الاستعمال
فلو حلف لا يصلي ; لم يحنث إلا بذات الركوع والسجود أو لا يصوم, لم يحنث بمطلق الإمساك, أو لا ينكح حنث بالعقد لا بالوطء.
أو قال: إن رأيت الهلال فأنت طالق, فرآه غيرها, وعلمت به, طلقت, حملا له على الشرع فإنها فيه بمعنى العلم لقوله: "إذا رأيتموه فصوموا".
ولو كان اللفظ يقتضي العموم, والشرع يقتضي التخصيص, اعتبر خصوص الشرع في الأصح.
فلو حلف لا يأكل لحما لم يحنث بالميتة, أو لا يطأ لم يحنث بالوطء في الدبر على ما رجحه في كتاب الأيمان, أو أوصى لأقاربه لم تدخل ورثته عملا بتخصيص الشرع إذ لا وصية لوارث أو حلف لا يشرب ماء, لم يحنث بالمتغير كثيرا بزعفران ونحوه.
فصل: في تعارض العرف مع اللغة
حكى صاحب الكافي وجهين في المقدم.
أحدهما - وإليه ذهب القاضي حسين -: الحقيقة اللفظية عملا بالوضع اللغوي.(16/173)
ص -94-…والثاني - وعليه البغوي -: الدلالة العرفية لأن العرف يحكم في التصرفات سيما في الأيمان.
قال: فلو دخل دار صديقه, فقدم إليه طعاما فامتنع. فقال إن لم تأكل فامرأتي طالق فخرج ولم يأكل, ثم قدم اليوم الثاني, فقدم إليه ذلك الطعام فأكل فعلى الأول لا يحنث, وعلى الثاني يحنث, انتهى.
وقال الرافعي في الطلاق: إن تطابق العرف والوضع فذاك. وإن اختلفا فكلام الأصحاب يميل إلى الوضع, والإمام والغزالي يريان اعتبار العرف. وقال في الأيمان ما معناه إن عمت اللغة قدمت على العرف.
وقال غيره: إن كان العرف ليس له في اللغة وجه البتة, فالمعتبر اللغة, وإن كان له فيه استعمال, ففيه خلاف وإن هجرت اللغة حتى صارت نسيا منسيا, قدم العرف.
ومن الفروع المخرجة على ذلك:
حلف لا يسكن بيتا, فإن كان بدويا حنث بالمبني وغيره لأنه قد تظاهر فيه العرف الكل واللغة لأن يسمونه بيتا, وإن كان من أهل القرى: فوجهان, بناء على الأصل المذكور إن اعتبرنا العرف لم يحنث والأصح الحنث.
ومنها: حلف لا يشرب ماء حنث بالمالح, وإن لم يعتد شربه, اعتبارا بالإطلاق, والاستعمال اللغوي.
ومنها: حلف لا يأكل الخبز حنث بخبز الأرز, وإن كان من قوم لا يتعارفون ذلك لإطلاق الاسم عليه لغة.
ومنها: قال أعطوه بعيرا, لا يعطى ناقة على المنصوص, وقال ابن شريح: نعم لاندراجه فيها لغة.
ومنها, قال أعطوه دابة, أعطي فرسا أو بغلا أو حمارا على المنصوص, لا الإبل والبقر ; إذ لا يطلق عليها عرفا وإن كان يطلق عليه لغة, وقال ابن شريح: إن كان ذلك في غير مصر لم يدفع إليه إلا الفرس.
ومنها: حلف لا يأكل البيض أو الرءوس ; لم يحنث ببيض, السمك والجراد, ولا برءوس العصافير والحيتان لعدم إطلاقها عليها عرفا.
ومنها قال: زوجتي طالق, لم تطلق سائر زوجاته عملا بالعرف وإن كان وضع اللغة يقتضي ذلك ; لأن اسم الجنس إذا أضيف عم, وكذلك قوله: الطلاق يلزمني لا يحمل على الثلاث وإن كانت الألف واللام للعموم.(16/174)
ومنها: أوصى للقراء, فهل يدخل من لا يحفظ ويقرأ في المصحف, أو لا؟ وجهان ينظر في أحدهما إلى الوضع, وفي الثاني إلى العرف وهو الأظهر.
ومنها: أوصى للفقهاء فهل يدخل الخلافيون والمناظرون. قال في الكافي: يحتمل وجهين لتعارض العرف والحقيقة.(16/175)
ص -95-…تنبيه:
قال الشيخ أبو زيد: لا أدري ماذا بنى الشافعي مسائل الأيمان, إن اتبع اللغة؟ فمن حلف: لا يأكل الرءوس, فينبغي أن يحنث برءوس الطير, والسمك. وإن اتبع العرف, فأهل القرى لا يعدون الخيام بيوتا.
قال الرافعي: يتبع مقتضى اللغة تارة, وذلك عند ظهورها وشمولها, وهو الأصل. وتارة يتبع العرف إذا استمر واطرد.
وقال ابن عبد السلام: قاعدة الأيمان: البناء على العرف إذا لم يضطرب, فإن اضطرب فالرجوع إلى اللغة.
تنبيه:
إنما يتجاذب الوضع والعرف في العربي, أما الأعجمي فيعتبر عرفه قطعا ; إذ لا وضع يحمل عليه.
فلو حلف على البيت بالفارسية, لم يحنث ببيت الشعر, ولو أوصى لأقاربه لم يدخل قرابة الأم في وصية العرب ويدخل في وصية العجم.
ولو قال: إن رأيت الهلال فأنت طالق, فرآه غيرها, قال القفال: إن علق بالعجمية حمل على المعاينة. سواء فيه البصير والأعمى.
قال: والعرف الشرعي في حمل الرؤية على العلم, لم يثبت إلا في اللغة العربية, ومنع الإمام الفرق بين اللغتين.
ولو حلف لا يدخل دار زيد, فدخل ما سكنه بإجارة لم يحنث. وقال القاضي حسين: إن حلف على ذلك بالفارسية, حمل على المسكن.
قال الرافعي: ولا يكاد يظهر فرق بين اللغتين.
فصل: في تعارض العرف العام والخاص.
والضابط: أنه إن كان المخصوص محصورا لم يؤثر, كما لو كانت عادة امرأة في الحيض أقل مما استقر من عادات النساء ردت إلى الغالب في الأصح. وقيل: تعتبر عادتها, وإن كان غير محصور اعتبر كما لو جرت عادة قوم بحفظ زرعهم ليلا ومواشيهم نهارا فهل ينزل ذلك منزلة العرف العام في العكس؟ وجهان الأصح: نعم.(16/176)
ص -96-…المبحث الثالث: العادة المطردة في ناحية, هل تنزل عادتهم منزلة الشرط؟
فيه صور.
منها: لو جرت عادة قوم بقطع الحصرم قبل النضج, فهل تنزل عادتهم منزلة الشرط حتى يصح بيعه من غير شرط القطع. وجهان, أصحهما: لا وقال القفال: نعم.
ومنها: لو عم في الناس اعتياد إباحة منافع الرهن للمرتهن فهل ينزل منزلة شرطه حتى يفسد الرهن, قال الجمهور: لا, وقال القفال: نعم.
ومنها: لو جرت عادة المقترض برد أزيد مما اقترض, فهل ينزل منزلة الشرط, فيحرم إقراضه وجهان, أصحهما: لا.
ومنها: لو اعتاد بيع العينة بأن يشتري مؤجلا بأقل مما باعه نقدا, فهل يحرم ذلك, وجهان, أصحهما: لا. ومنها: لو بارز كافر مسلما وشرط الأمان, لم يجز للمسلم إعانة المسلم فلو لم يشرط ولكن اطردت العادة بالمبارزة بالأمان, فهل هو كالمشروط, وجهان, أصحهما: نعم, فهذه الصور مستثناة.
ومنها: لو دفع ثوبا - مثلا - إلى خياط ليخيطه ولم يذكر أجرة وجرت عادته بالعمل بالأجرة فهل ينزل منزلة شرط الأجرة. خلاف, والأصح في المذهب: لا, واستحسن الرافعي مقابله.
المبحث الرابع: العرف الذي تحمل عليه الألفاظ, إنما هو المقارن السابق دون المتأخر.
قال الرافعي: العادة الغالبة إنما تؤثر في المعاملات, لكثرة وقوعها ورغبة الناس فيما يروج في النفقة غالبا ولا يؤثر في التعليق والإقرار, بل يبقى اللفظ على عمومه فيها. أما في التعليق فلقلة وقوعه. وأما في الإقرار: فلأنه إخبار عن وجوب سابق, وربما يقدم الوجوب على العرف الغالب, فلو أقر بدراهم وفسرها بغير سكة البلد, قبل.
قال الإمام: وكذا الدعوى بالدراهم لا تنزل على العادة كما أن الإقرار بها لا ينزل على العادة بل لا بد من الوصف, وكذا قال الشيخ أبو حامد والماوردي والروياني وغيرهم, وفرقوا بما سبق أن الدعوى والإقرار إخبار عما تقدم, فلا يفيده العرف المتأخر بخلاف العقد فإنه أمر باشره في الحال, فقيده العرف.(16/177)
ولو أقر بألف مطلقة في بلد دراهمه ناقصة, لزمه الناقصة في الأصح وقيل يلزمه وافية لعرف الشرع, ولا خلاف أنه لو اشترى بألف في هذه البلد لزمه الناقصة لأن البيع معاملة والغالب: أن المعاملة تقع بما يروج فيها بخلاف الإقرار.(16/178)
ص -97-…ومن الفروع المخرجة على هذا الأصل ما سبق في مسألة البطالة, فإذا استمر عرف بها في أشهر مخصوصة حمل عليه ما وقف بعد ذلك لا ما وقف قبل هذه العادة.
ومنها: كسوة الكعبة. نقل الرافعي عن ابن عبدان أنه منع من بيعها وشرائها, وقال ابن الصلاح: الأمر فيها إلى رأي الإمام ; واستحسنه النووي وقال العلائي وغيره: الذي يقتضيه القياس أن العادة استمرت بأنها تبدل كل سنة وتؤخذ تلك العتيقة فيتصرف فيها بيعا وغيره, ويقرهم الأئمة على ذلك في كل عصر فلا تردد في جوازه.
وأما بعد ما اتفق في هذا القرن: من وقف الإمام ضيعة معينة على أن يصرف ريعها في كسوة الكعبة, فلا يتردد في جواز ذلك لأن الوقف بعد استقرار هذه العادة والعلم بها فينزل لفظ الواقف عليها.
ومنها: الأوقاف القديمة المشروط نظرها للحاكم, وكان الحاكم إذ ذاك شافعيا ثم إن الملك الظاهر أحدث القضاة الأربعة, سنة أربع وستين وستمائة, فما كان موقوفا قبل ذلك اختص نظره بالشافعي فلا يشاركه غيره, وما أطلق من النظر بعد ذلك فمحمول عليه أيضا لأن أهل العرف غالبا لا يفهمون من إطلاق الحاكم غير الشافعي.
قال السبكي في فتاويه: ذكر الشيخ برهان الدين بن الفركاح قال: وقفت على فتيا صورتها: أنه جعل النظر لحاكم دمشق وكان حينئذ في دمشق حاكم واحد على مذهب معين, ثم ولى السلطان في دمشق أربع قضاة ومات القاضي الذي كان موجودا حين الوقف. وبعد ذلك ولي القضاة الأربعة وأحدهم على مذهب الذي كان حين الوقف أولا. وقد كتب عليها جماعة, منهم الشيخ زين الدين الفارقي والصفي الهندي وآخرون: أنه يختص بذلك الذي هو على مذهب الموجود حين الوقف.(16/179)
قال السبكي: ومستند ذلك أنه لما حصلت التولية في زمن الملك الظاهر حصلت لثلاثة مع القاضي الذي كان حين الوقف, وذلك القاضي لم ينعزل عن نظره, ولا جعل الثلاثة مزاحمين له في كل ما يستحق, بل أفرد هو بالأوقاف, والأيتام والنواب وبيت المال وجعل الثلاثة مشاركين في الباقي, كأنهم نواب له في بعض الأشياء, وفصل الحكومات على مذهبهم, لا في الأنظار, ثم لما مات ذلك القاضي تولى واحد مكانه على عادته فينتقل إليه كل ما كان بيد الذي قبله, ولا يشاركه فيه واحد من الثلاثة.
قال: وأيضا فإن قول الواقف: النظر للحاكم إن حمل على العموم اقتضى دخول النواب والعرف بخلافه, فإنما يحمل على المعهود, والمعهود هو ذلك الشخص والحمل عليه بعيد لأنه لا يدوم فوجب أن يحمل عليه وعلى من كان مكانه, فكأنه هو بالنوع, لا بالشخص والذي ولي معه ليس مكانه ولا هو من نوعه, وإنما أريد بولايته إقامة من يحكم بذلك المذهب المتجدد, فيما لا يمكن الحاكم المستمر الحكم به, لكونه خلاف مذهبه, فلا مدخل للأنظار في ذلك.(16/180)
ص -98-…قال: فإن قلت: لو قال: لا رأيت منكرا إلا رفعته إلى القاضي فالأصح أنه لا يتعين ذلك القاضي, بل قاضي تلك البلد من كان حالة اليمين أو بعدها.
قلت: نعم. وكذا أقول: لا يتعين قاضي حالة الوقف, بل هو أو من تولى مكانه والثلاثة لم يولوا مكانه.
قال: فإن قلت: لو كان حال اليمين في البلد قاضيان, بر بالرفع إلى من شاء منهما فقياسه إذا شرط النظر للقاضي, وهناك قاضيان أن يشتركا فيه.
قلت: المقصود في اليمين: الرفع إلى من يغير المنكر, وكلاهما يغير المنكر فكل منهما يحصل به الغرض, والمقصود باشتراط النظر فعل مصلحة الوقف والاشتراك يؤدي إلى المفسدة باختلاف الآراء, فوجب الصرف إلى واحد وهو الكبير.
قال: وقد وقع في بعض الأوقاف وقف بلد على الحرم وشرط النظر فيه للقاضي وأطلق ففيه احتمالات.
أحدها: أنه قاضي الحرم.
والثاني: أنه قاضي البلد الموقوفة.
قال: وهذان الاحتمالان يشبهان الوجهين في أنه كان اليتيم في بلد وماله في بلد آخر. والأصح عند الرافعي: أن النظر لقاضي بلد اليتيم, وعند الغزالي أنه لقاضي بلد المال فعلى ما قال الرافعي: يكون لقاضي الحرم. والثاني أن يكون لقاضي بلد السلطان, كما في اليمين.
فعلى هذا: هل يكون قاضي بلد السلطان الأصلية التي هي مصر, أو قاضي البلد التي كان السلطان بها حين الوقف.
قال: والذي يترجح أن يكون النظر لقاضي البلد الموقوفة ; لأنه أعرف بمصالحها, فالظاهر أن الواقف قصده وبه تحصل المصلحة, لا سيما إذا كان السلطان حين الوقف فيها. قلت: الظاهر احتمال رابع, وهو أن يكون لقاضي البلد التي جرى الوقف بها, والظاهر أنه مراد السبكي ببلد السلطان بقرينة تشبيهه بمسألة اليتيم, والله أعلم.
المبحث الخامس: قال الفقهاء: كل ما ورد به الشرع مطلقا, ولا ضابط له فيه, ولا في اللغة, يرجع فيه إلى العرف.(16/181)
ومثلوه بالحرز في السرقة, والتفرق في البيع, والقبض ووقت الحيض وقدره والإحياء والاستيلاء في الغصب, والاكتفاء في نية الصلاة بالمقارنة العرفية, بحيث يعد مستحضرا للصلاة على ما اختاره النووي وغيره.
وقالوا في الأيمان: أنها تبنى أولا على اللغة, ثم على العرف.(16/182)
ص -99-…وخرجوا عن ذلك في مواضع لم يعتبروا فيها العرف, مع أنها لا ضابط لها في الشرع ولا في اللغة.
منها: المعاطاة المذهب, لا يصح البيع بها, ولو اعتيدت لا جرم أن النووي قال: المختار الراجح دليلا الصحة ; لأنه لم يصح في الشرع اعتبار لفظ فوجب الرجوع إلى العرف كغيره من الألفاظ.
ومنها: مسألة استصناع الصناع الجارية عادتهم بالعمل بالأجرة لا يستحقون شيئا, إذا لم يشرطوه في الأصح.
ومن أمثلة ذلك: أن يدفع ثوبا إلى خياط ليخيطه أو قصار ليقصره أو جلس بين يدي حلاق فحلق رأسه, أو دلاك فدلكه, أو دخل سفينة بإذن وسار إلى الساحل. وأما دخول الحمام فإنه يوجب الأجرة, وإن لم يجر لها ذكر قطعا لأن الداخل مستوف منفعة الحمام بسكوته, وهنا صاحب المنفعة صرفها.
ومنها: لم يرجعوا في ضبط موالاة الوضوء وخفة الشعر وكثافته, للعرف في الأصح ولا في ضابط التحذير.
فرع:
سئل الغزالي عن اليهودي إذا أجر نفسه مدة معلومة ما حكم السبوت التي تتخللها إذا لم يستثنها فإن استثناها فهل تصح الإجارة لأنه يؤدي إلى تأخير التسليم عن العقد, فأجاب: إذا اطرد عرفهم بذلك كان إطلاق العقد كالتصريح بالاستثناء, كاستثناء الليل في عمل لا يتولى إلا بالنهار.
وحكمه: أنه لو أنشأ الإجارة في أول الليل مصرحا بالإضافة إلى أول الغد, لم يصح, وإن أطلق صح وإن كان الحال يقتضي تأخير العمل كما لو أجر أرضا للزراعة وفي وقت لا يتصور المبادرة إلى زرعها أو أجر دارا مشحونة بالأمتعة, لا تفرغ إلا في يوم أو يومين, انتهى.
وقد نقله عنه الرافعي والنووي ولم ينقلاه عن غيره.
قال السبكي: ولا ينبغي أن يؤخذ مسلم بل ينظر فيه.
قال: وقد سئل عنه قاضي القضاة أبو بكر الشامي فقال: يجبر على العمل فيها لأن الاعتبار بشرعنا في ذلك, فذكر له كلام الغزالي فقال: ليس بصحيح,
ثم قال: يحتمل أن يقال ذلك ويستثنى بالعرف.(16/183)
قال السبكي: وكلام الغزالي متين وقويم وفيه فوائد وهو أولى من قول أبي بكر الشامي لأن العرف وإن لم يكن عاما, لكنه موجود فيه فينزل منزلة العرف في أوقات الراحة, ونحوها.(16/184)
ص -100-…قال: وقوله إذا اطرد عرفهم بذلك, فينبغي أن يحمل على عرف المستأجر والمؤجر جميعا, سواء كان المستأجر مسلما أم لا, فلو كان عرف اليهود مطردا بذلك ولكن المستأجر المسلم لم يعرف ذلك, لم يكن إطلاق العقد في حقه منزلا منزلة الاستثناء والقول قول المسلم في ذلك إذا لم يكن من أهل تلك البلدة, ولم يعلم من حاله ما يقتضي معرفته بذلك العرف. وحينئذ هل يقول العقد باطل, أو يصح ويثبت له الخيار أو يلزم اليهودي بالعمل؟ فيه نظر, والأقرب الثالث ; لأن اليهودي مفرط بالإطلاق مع من ليس من أهل العرف
قال: وإذا اقتضى الحال استثناءها, وأسلم الذمي في مدة الإجارة, وأتى عليه بعد إسلامه يوم سبت, وجب العمل فيه لأنا نقول عند الاستثناء أنه خارج عن عقد الإجارة ; فإنه لو كان كذلك لجرى في الإجارة خلاف, كإجارة العقب ولجاز له أن يؤجر نفسه يوم السبت لآخر, وتجويز ذلك بعيد, فإنه يلزم منه عقد الإجارة على العين لشخصين على الكمال في مدة واحدة. وكلام الفقهاء يأباه, وصرحوا بأنه إذا ورد عقد على عين لا يجوز أن يعقد عليها مثله.
وهكذا نقول في استثناء أوقات الصلوات ونحوها ليس معناه أن تلك الأوقات متخللة بين أزمان الإجارة, كإجارة العقب, بل يقول في كل ذلك إن منفعة ذلك الشخص في جميع تلك المدة مستحقة للمستأجر, مملوكة بمقتضى العقد ومع هذا يجب عليه توفيره من العمل في تلك الأوقات, كما أن السيد يستحق منفعة عبده في جميع الأوقات ومع ذلك يجب توفيره في أوقات الصلوات والراحة بالليل ونحوها.
فهذا هو معنى الاستثناء, وهو استثناء من الاستيفاء, لا من الاستحقاق.
وإن شئت قلت: من استيفاء المملوك, لا من الملك ; وإن شئت قلت: العقد مقتض لاستحقاقها, ولكن منع مانع فاستثناها.(16/185)
وحينئذ فالسبوت داخلة في الإجارة وملك المستأجر منفعته فيها وإنما امتنع عليه الاستيفاء لأمر عرفي مشروط ببقاء اليهودية, فإذا أسلم لم يبق مانع والاستحقاق ثابت لعموم العقد فيستوفيه, ويجب عليه بعد ما أسلم أن يؤدي الصلوات في أوقاتها ويزول استحقاق المستأجر لاستيفائها بالإسلام وإن كانت مملوكة له بالعقد, كما لم يستحق استيفاءها في استئجار المسلم وإن كانت مملوكة له, بالعقد, وإنما وجب استحقاق صرفها قبل الإسلام إلى العمل ; لعدم المانع من استيفائها مع استحقاقها.
ونظيره: لو استأجر امرأة لعمل مدة فحاضت في بعضها, فأوقات الصلاة في زمن الحيض غير مستثناة وفي غيره مستثناة ولا ينظر في ذلك إلى حال العقد بل حال الاستيفاء وهكذا اكتراء الإبل إلى الحج وسيرها محمول على العادة والمنازل المعتادة فلو اتفق في مدة الإجارة تغيير العادة وسار الناس على خلاف ما كانوا يسيرون فيما لا يضر بالأجير(16/186)
ص -101-…والمستأجر, وجب الرجوع إلى ما صار عادة للناس, ولا نقول بانفساخ العقد واعتبار العادة الأولى. هذا مقتضى الفقه, وإن لم أجده منقولا.
قال: ولو استعمل المستأجر اليهودي يوم السبت ظالما أو ألزم المسلم العمل في أوقات الصلاة ونحوها, لم يلزمه أجرة المثل.
وقد قال البغوي في فتاويه: إنه لو استأجر عبدا فاستعمله في أوقات الراحة, لم يجب عليه أجرة زائدة لأن جملة الزمان مستحقة وترك الراحة ليتوفر عليه عمله, فإن دخله نقص وجب عليه أرش نقصه, كما لو استعمله في أوقات الصلاة لا يجب عليه زيادة أجرة وعليه تركه لقضاء الصلاة, هذه عبارته انتهى. ونظير مسألة إسلام الذمي ما لو أجر دارا, ثم باعها لغير المستأجر, ثم تقابل البائع والمستأجر الإجارة, والذي ذكره المتولي أن المنافع تعود إلى البائع سواء قلنا إن الإقالة بيع أو على فسخ الصحيح لأنها ترفع العقد من حينها قطعا, فلم يوجد عند الرد ما يوجب الحق للمشتري, وحكى فيما لو فسخت الإجارة بعيب أو طروء ما يقتضي ذلك وجهين, مبنيين على أن الرد بالعيب يرفع العقد من أصله أو حينه إن قلنا بالأول فللمشتري ; وكأن الإجارة لم تكن, أو بالثاني فللبائع لما تقدم.
الكتاب الثاني: في قواعد كلية يتخرج عليها ما لا ينحصر من الصور الجزئية.
القاعدة الأولى: الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد.
الأصل في ذلك إجماع الصحابة رضي الله عنهم نقله ابن الصباغ وأن أبا بكر حكم في مسائل خالفه عمر فيها ولم ينقض حكمه, وحكم عمر في المشركة بعدم المشاركة ثم بالمشاركة وقال ذلك على ما قضينا وهذا على ما قضينا, وقضى في الجد قضايا مختلفة.
وعلته أنه ليس الاجتهاد الثاني بأقوى من الأول فإنه يؤدي إلى أنه لا يستقر حكم وفي ذلك مشقة شديدة فإنه إذا نقض هذا الحكم نقض ذلك النقض وهلم جرا.
ومن فروع ذلك:
لو تغير اجتهاده في القبلة عمل بالثاني ولا قضاء حتى لو صلى أربع ركعات لأربع جهات بالاجتهاد فلا قضاء.(16/187)
ص -102-…ومنها لو اجتهد فظن طهارة أحد الإناءين فاستعمله وترك الآخر, ثم تغير ظنه لا يعمل بالثاني, بل يتيمم.
ومنها لو شهد الفاسق فردت شهادته فتاب وأعادها لم تقبل ; لأن قبول شهادته بعد التوبة يتضمن نقض الاجتهاد بالاجتهاد, كذا علله في التتمة.
ومنها لو ألحقه القائف بأحد المتداعيين ثم رجع وألحقه بالآخر لم يقبل.
ومنها لو ألحقه قائف بأحدهما, فجاء قائف آخر فألحقه بالآخر لم يلحق به ; لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد.
ومنها لو حكم الحاكم بشيء ثم تغير اجتهاده لم ينقض الأول وإن كان الثاني أقوى, غير أنه في واقعة جديدة لا يحكم إلا بالثاني بخلاف ما لو تيقن الخطأ.
ومنها حكم الحاكم في المسائل المجتهد فيها لا ينقض. ولذلك أمثلة.
منها: الحكم بحصول الفرقة في اللعان بأكثر الكلمات الخمس وببطلان خيار المجلس والعرايا ومنع القصاص في المثقل, وصحة النكاح بلا ولي أو بشهادة فاسقين, وبيع أم الولد وثبوت الرضاع بعد حولين, وصحة نكاح الشغار والمتعة, وأنه لا قصاص بين الرجل والمرأة في الأطراف ورد الزوائد مع الأصل في الرد بالعيب, وجريان التوارث بين المسلم والكافر وقتل الوالد بالولد والحر بالعبد والمسلم بالذمي, على ما صححه في أصل الروضة في الجميع وإن كان الصواب في الأخير النقض بمخالفته النص الصحيح الصريح.
ومنها لو خالع زوجته ثلاثا ثم تزوجها الرابعة بلا محلل, لاعتقاده أن الخلع فسخ, ثم تغير اجتهاده وهو باق معها بذلك النكاح, قال الغزالي: إن حكم حاكم بصحته لم تجب عليه مفارقتها, وإن تغير اجتهاده لما يلزم في فراقها من تغير حكم الحاكم في المجتهدات. قال: وإن لم يحكم حاكم ففيه تردد, والمختار وجوب المفارقة لما يلزم في إمساكها من الوطء الحرام على معتقده.(16/188)
الثاني: قالوا: وما ذكره في حكم الحاكم مبني على أن حكمه ينفذ باطنا وإلا فلا يلزم من فراقه إياها نقض حكم الحاكم لأن هذا بالنسبة إلى أخذه في خاصة نفسه وامتناع نقض الحكم في المجتهدات لما تقدم, ليظهر أثره في المتنازعين.
وعلى ذلك أيضا نبني ما حكاه ابن أبي الدم في أدب القضاء عن الأصحاب أن الحنفي إذا خلل خمرا فأتلفها عليه شافعي لا يعتقد طهارتها بالتخليل فترافعا إلى حنفي وثبت ذلك عنده بطريقه فقضى على الشافعي بضمانها لزمه ذلك قولا واحدا حتى لو لم يكن للمدعي بينة وطالبه بعد ذلك بأداء ضمانها, لم يجز للمدعى عليه أن يحلف أنه لا يلزمه شيء لأنه على خلاف ما حكم به الحاكم والاعتبار في الحكم باعتقاد القاضي دون اعتقاده وكأن هذا مفرع على نفوذ الحكم باطنا وإلا فيسوغ له الحلف ويؤيده الخلاف فيما إذا حكم الحنفي للشافعي بشفعة الجوار هل تحل له.(16/189)
ص -103-…تنبيهات:
الأول: وقع في فتاوى السبكي أن [امرأة وقفت دارا ذكرت أنها بيدها وملكها وتصرفها على ذريتها ] وشرطت النظر لنفسها ثم لولدها وأشهد حاكم شافعي على نفسه بالحكم بموجب الإقرار المذكور وبثبوت ذلك عنده وبالحكم به وبعده شافعي آخر فأراد حاكم مالكي إبطال هذا الوقف بمقتضى شرطها النظر لنفسها واستمرار يدها عليها وبمقتضى كون الحاكم لم يحكم بصحته وأن حكمه بالموجب لا يمنع النقض وأفتاه بعض الشافعية بذلك تعلقا بما ذكره الرافعي عن أبي سعيد الهروي في قول الحاكم صح ورود هذا الكتاب علي فقبلته قبول مثله وألزمت العمل بموجبه أنه ليس بحكم وتصويب الرافعي ذلك.
قال السبكي: والصواب عندي أنه لا يجوز نقضه سواء اقتصر على الحكم بالموجب أم لا لأن كل شيء حكم فيه حاكم حكما صحيحا لا ينقض حكمه وأما من خص ذلك في الحكم بالصحة فلا.
وليس هذا اللفظ في شيء من كتب العلم فليس من شرط امتناع النقض أن يأتي الحاكم. بلفظ الحكم بالصحة.
قال ولأن الحكم بموجب الإقرار مستلزم للحكم بصحة الإقرار وصحة المقر به في حق المقر, فإذا حكم المالكي ببطلان الوقف استلزم الحكم ببطلان الإقرار وببطلان المقر به في حق المقر.
قال ولأن الاختلاف بين الحكم بالصحة والموجب إنما يظهر فيما يكون الحكم فيه بالصحة مطلقا على كل أحد. أما الإقرار فالحكم بصحته إنما هو على المقر والحكم بموجبه كذلك.
قال: وأما ما نقله الرافعي عن الهروي فالضمير في قوله "بموجبه" عائد على الكتاب وموجب الكتاب صدور ما تضمه من إقرار أو تصرف أو غير ذلك. وقبوله, وإلزام العمل به هو أنه ليس بزور, وأنه مثبت الحجة غير مردود, ثم يتوقف الحكم بها على أمور أخر.(16/190)
منها عدم معارضة بينة أخرى كما صرح به الهروي في بقية كلامه وغير ذلك ولذلك قال الرافعي الصواب أنه ليس بحكم ونحن نوافقه على ذلك في تلك المسألة. أما مسألتنا هذه فالحكم بموجب الإقرار الذي هو مضمون الكتاب ولم يتكلم الرافعي ولا الهروي فيه بشيء فزال التعلق بكلامهما, انتهى.
الثاني: معنى قولهم "الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد"
أي في الماضي ولكن بغير الحكم في المستقبل لانتفاء الترجيح الآن ولهذا يعمل بالاجتهاد الثاني في القبلة ولا ينقض ما مضى.(16/191)
ص -104-…وفي المطلب ما قاله الأصحاب في الخنثى إذا تعارض البول مع الحيض فلا دلالة تقتضي أنه لو بال من فرج الرجل وحكمنا بذكورته ثم حاض في أوانه حكمنا بإشكاله إذ البول يتقدم إمكان الحيض.
قال وما اقتضاه كلامهم مشكل لأنه نقض للاجتهاد بالاجتهاد.
قال الأسنوي: والجواب عنه أن النقض الممتنع إنما هو في الأحكام الماضية ونحن لا نتعرض لها وإنما غيرنا الحكم لانتفاء المرجح الآن وصار كالمجتهد في القبلة وغيرها إذا غلب على ظنه دليل فأخذ به ثم عارضه دليل آخر فإنه يتوقف عن الأخذ به في المستقبل ولا ينقض ما مضى.
الثالث: استثني من القاعدة صور:
الأولى: للإمام الحمى ولو أراد من بعده نقضه فله ذلك في الأصح لأنه للمصلحة وقد تتغير ومنع الإمام الاستثناء وقال ليس مأخذ التجويز هذا ولكن حمى الأول كان للمصلحة وهي المتبع في كل عصر. الثانية: لو قسم في قسمة إجبار ثم قامت بينة بغلط القاسم أو حيفه نقضت مع أن القاسم قسم باجتهاده فنقض القسمة بقول مثله والمشهود به مجتهد فيه مشكل وقد استشكله صاحب المطلب لذلك.
الثالثة: إذا قوم المقومون ثم اطلع على صفة زيادة أو نقص بطل تقويم الأول لكن هذا يشبه نقض الاجتهاد بالنص لا بالاجتهاد.
الرابعة لو أقام الخارج بينة وحكم له بها وصارت الدار في يده ثم أقام الداخل بينة حكم له بها ونقض الحكم الأول لأنه إنما قضى للخارج لعدم حجة صاحب اليد هذا هو الأصح في الرافعي.
وقال الهروي: في الإشراف. قال القاضي حسين: أشكلت علي هذه المسألة منذ نيف وعشرين سنة, لما فيها من نقض الاجتهاد بالاجتهاد, وتردد جوابي, ثم استقر رأيي على أنه لا ينقض.
فائدة:(16/192)
قال السبكي: إذا كان للحاكم أهلية الترجيح ورجح قولا منقولا بدليل جيد جاز, ونفذ حكمه. وإن كان مرجوحا عند أكثر الأصحاب ما لم يخرج عن مذهبه, وليس له أن يحكم بالشاذ الغريب في مذهبه, وإن ترجح عنده ; لأنه كالخارج عن مذهبه فلو حكم بقول خارج عن مذهبه وقد ظهر له رجحانه, فإن لم يشرط عليه الإمام في التولية التزام(16/193)
ص -105-…مذهب جاز, وإن شرط عليه باللفظ أو العرف كقوله: "على قاعدة من تقدمه" ونحو ذلك لم يصح الحكم لأن التولية لم تشمله.
وأفتى ابن عبد السلام بأن الحاكم المعلوم المذهب إذا حكم بخلاف مذهبه وكان له رتبة الاجتهاد, أو وقع الشك فيه. فالظاهر أنه لا يحكم بخلاف مذهبه فينقض حكمه.
وقال الماوردي: إذا كان الحاكم شافعيا وأداه اجتهاده في قضية أن يحكم بمذهب أبي حنيفة جاز.
ومنع منه بعض أصحابنا لتوجه التهمة إليه, ولأن السياسة تقتضي مدافعة استقرار المذاهب وتمييز أهلها. وقال ابن الصلاح: لا يجوز لأحد أن يحكم في هذا الزمان بغير مذهبه, فإن فعل نقض لفقد الاجتهاد في أهل هذا الزمان.
خاتمة:
ينقض قضاء القاضي إذا خالف نصا, أو إجماعا, أو قياسا جليا.
قال القرافي: أو خالف القواعد الكلية. قال الحنفية: أو كان حكما لا دليل عليه, نقله السبكي في فتاويه.
قال: وما خالف شرط الواقف فهو مخالف للنص. وهو حكم لا دليل عليه, سواء كان نصه في الوقف نصا, أو ظاهرا.
قال: وما خالف المذاهب الأربعة, فهو كالمخالف للإجماع.
قال: وإنما ينقض حكم الحاكم لتبين خطئه, والخطأ قد يكون في نفس الحكم بكونه خالف نصا أو شيئا مما تقدم, وقد يكون الخطأ في السبب كأن يحكم ببينة مزورة ثم يتبين خلافه, فيكون الخطأ في السبب لا في الحكم, وقد يكون الخطأ في الطريق, كما إذا حكم ببينة ثم بان فسقها.
وفي هذه الثلاثة ينقض الحكم بمعنى أنا تبينا بطلانه, فلو لم يتعين الخطأ, بل حصل مجرد التعارض: كقيام بينة بعد الحكم بخلاف البينة التي ترتب الحكم عليها, فلا نقل في المسألة.
والذي يترجح: أنه لا ينقض, لعدم تبين الخطأ.
القاعدة الثانية: إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام
وأورده جماعة حديثا بلفظ: "ما اجتمع الحلال والحرام إلا غلب الحرام الحلال". قال الحافظ أبو الفضل العراقي: ولا أصل له, وقال السبكي في الأشباه والنظائر(16/194)
ص -106-…نقلا عن البيهقي: هو حديث رواه جابر الجعفي, رجل ضعيف, عن الشعبي عن ابن مسعود, وهو منقطع.
قلت: وأخرجه من هذا الطريق عبد الرزاق في مصنفه. وهو موقوف على ابن مسعود لا مرفوع.
ثم قال ابن السبكي: غير أن القاعدة في نفسها صحيحة. قال الجويني في السلسلة: لم يخرج عنها إلا ما ندر.
فمن فروعها:
إذا تعارض دليلان: أحدهما يقتضي التحريم والآخر الإباحة قدم التحريم في الأصح ومن ثم قال عثمان, لما سئل عن الجمع بين أختين بملك اليمين: "أحلتهما آية وحرمتهما آية. والتحريم أحب إلينا" وكذلك تعارض حديث: "لك من الحائض ما فوق الإزار", وحديث: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح", فإن الأول يقتضي تحريم ما بين السرة والركبة. والثاني يقتضي إباحة ما عدا الوطء, فيرجح التحريم احتياطا.
قال الأئمة: وإنما كان التحريم أحب لأن فيه ترك مباح لاجتناب محرم. وذلك أولى من عكسه.
ومنها: لو اشتبهت محرم بأجنبيات محصورات لم تحل.
ومنها: قاعدة مد عجوة ودرهم.
ومنها: من أحد أبويها كتابي, والآخر مجوسي. أو وثني: لا يحل نكاحها ولا ذبيحتها, ولو كان الكتابي الأب في الأظهر, تغليبا لجانب التحريم.
ومنها: من أحد أبويه مأكول, والآخر غير مأكول. لا يحل أكله, ولو قتله محرم ففيه الجزاء تغليبا للتحريم في الجانبين.
ومنها: لو كان بعض الضبة للحاجة, وبعضها للزينة: حرمت.
ومنها: لو كان بعض الشجرة في الحل, وبعضها في الحرم: حرم قطعها.
ومنها: لو اشترك في الذبح مسلم ومجوسي, أو في قتل الصيد سهم وبندقة: لم يحل. ومنها: عدم جواز وطء الجارية المشتركة.
ومنها: لو اشتبه مذكى بميتة, أو لبن بقر بلبن أتان أو ماء وبول: لم يجز تناول شيء منها ولا بالاجتهاد, ما لم تكثر الأواني كاشتباه المحرم.
ومنها: لو اختلطت زوجته بغيرها, فليس له الوطء, ولا باجتهاد, سواء كن محصورات أم لا بلا خلاف, قاله في شرح المهذب.(16/195)
ومن صوره: أن يطلق إحدى زوجتيه مبهما, فيحرم الوطء قبل التعيين أو يسلم على أكثر من أربع, فيحرم قبل الاختيار.(16/196)
ص -107-…ومنها: ما ذكره النووي في فتاويه: إذا أخذ المكاس من إنسان دراهم فخلطها بدراهم المكس, ثم رد عليه قدر درهمه من ذلك المختلط. لا يحل له إلا أن يقسم بينه وبين الذي أخذت منهم.
وفي فتاوى ابن الصلاح: لو اختلط درهم حلال بدراهم حرام. ولم يتميز فطريقه: أن يعزل قدر الحرام بنية القسمة. ويتصرف في الباقي, والذي عزله إن علم صاحبه سلمه إليه, وإلا تصدق به عنه, وذكر مثله النووي وقال: اتفق أصحابنا, ونصوص الشافعي على مثله فيما إذا غصب زيتا أو حنطة. وخلط بمثله, قالوا: يدفع إليه من المختلط قدر حقه. ويحل الباقي للغاصب.
قال: فأما ما يقوله العوام: إن اختلاط ماله بغيره يحرمه, فباطل, لا أصل له. ومنها: لو انتشر الخارج فوق العادة, وجاوز الحشفة أو الصفحة, فإنه لا يجزي الحجر في غير المجاوز أيضا.
ومنها: لو تلفظ الجنب بالقرآن. بقصد القراءة والذكر معا: فإنه يحرم.
ومنها: لو وقف جزءا من أرض مشاعا مسجدا: صح. ووجب القسمة, ولا يجوز قبل القسمة للجنب المكث في شيء من أجزائها, ولا الاعتكاف تغليبا للتحريم في الجانبين ذكره ابن الصلاح في فتاويه.
ومنها: لو رمى الصيد فوقع بأرض, أو جبل, ثم سقط منه, حرم لحصول الموت بالسهم والسقطة. وخرج عن هذه القاعدة فروع:
منها: الاجتهاد في الأواني والثياب, والثوب المنسوخ من حرير وغيره يحل إن كان الحرير أقل وزنا, وكذا إن استويا في الأصح, بخلاف ما إذا زاد وزنا.
ونظيره: التفسير, يجوز مسه للمحدث إن كان أكثر من القرآن, وكذا إن استويا في الأصح, إلا إن كان القرآن أكثر.
ومنها: لو رمى سهما إلى طائر فجرحه, ووقع على الأرض فمات, فإنه يحل وإن أمكن إحالة الموت على الوقوع على الأرض ; لأن ذلك لا بد منه, فعفي عنه.(16/197)
ومنها: معاملة من أكثر ماله حرام إذا لم يعرف عينه لا يحرم في الأصح, لكن يكره وكذا الأخذ من عطايا السلطان إذا غلب الحرام في يده كما قال في شرح المهذب إن المشهور فيه الكراهة, لا التحريم, خلافا للغزالي.
ومنها: لو اعتلفت الشاة علفا حراما لم يحرم لبنها ولحمها, ولكن تركه أورع. نقله في شرح المهذب عن الغزالي.
ومنها: أن يكون الحرام مستهلكا أو قريبا منه ; فلو أكل المحرم شيئا قد استهلك فيه(16/198)
ص -108-…الطيب فلا فدية, ولو خالط المائع الماء بحيث استهلك فيه جاز استعماله كله في الطهارة ولو مزج لبن المرأة بماء بحيث استهلك فيه, لم يحرم, وكذا لو لم يستهلك, ولكن لم يشرب الكل, ولا يجوز القراض على المغشوش. قال الجرجاني: ما لم يكن مستهلكا.
ومنها: لو اختلطت محرمه بنسوة قرية كبيرة: فله النكاح منهن.
ولو اختلط حمام مملوك بمباح لا ينحصر. جاز الصيد ولو كان المملوك غير محصور أيضا في الأصح. قال في زوائد الروضة: ومن المهم: ضبط العدد المحصور. فإنه يتكرر في أبواب الفقه وقل من بينه.
قال الغزالي: وإنما يضبط بالتقريب, فكل عدد لو اجتمع في صعيد واحد, لعسر على الناظرين عده بمجرد النظر. كالألف ونحوه, فهو غير محصور. وما سهل, كالعشرة والعشرين فهو محصور, وبين الطرفين أوساط متشابهة, تلحق بأحد الطرفين بالظن, وما وقع فيه الشك استفتي فيه القلب.
ولو ملك الماء بالاستسقاء, ثم انصب في نهر, لم يزل ملكه عنه ولا يمنع الناس من الاستقاء. وهو في حكم الاختلاط بغير المحصور.
قال في الإحياء: ولو اختلط في البلد حرام لا ينحصر. لم يحرم الشراء منه, بل يجوز الأخذ منه, إلا أن يقترن به علامة على أنه من الحرام.
فصل: يدخل في هذه القاعدة: تفريق الصفقة.
وهي أن يجمع في عقدين حرام وحلال.
ويجري في أبواب وفيها غالبا قولان, أو وجهان: أصحهما الصحة في الحلال,
والثاني: البطلان في الكل. وادعى في المهمات: أنه المذهب
واختلف في علته. فالصحيح: أنها الجمع بين الحلال والحرام فغلب الحرام وقيل: الجهالة بما يخص الملك من العوض.
ومن أمثلة ذلك في البيع: أن يبيع خلا وخمرا, أو شاة وخنزيرا, أو عبدا وحرا, أو عبده وعبد غيره, أو مشتركا بغير إذن شريكه, أو مال الزكاة قبل إخراجها, أو الماء الجاري مع قراره, أو غير الجاري, وقلنا: الماء لا يملك. والأظهر الصحة في القدر المملوك بحصته من المسمى.(16/199)
ومنها: أن يهب ذلك, كما صرح به في التتمة, فيما إذا وهب عبدا فخرج بعضه مستحقا أن يرهنه, أو يصدقه, أو يخالع عليه.
وفي النكاح: أن يجمع من لا تحل, له الأمة: بين حرة وأمة في عقد, فالأظهر: صحة النكاح في الحرة. وكذا لو جمع في عقد بين مسلمة ووثنية, أو أجنبية ومحرم أو خلية.(16/200)
ص -109-…ومعتدة, أو مزوجة. وكذا لو جمع من تحل له الأمة بين أمة وأختين, فإنه يبطل في الأختين وفي الأمة: القولان.
وفي الهدنة: إذا زادت على القدر الجائز. بطلت في الزائد: وفي الباقي: القولان أظهرهما: الصحة. وفي المناضلة: إذا كانت بين حزبين, فظهر في أحدهما من لا يحسن الرمي, بطل العقد فيه. وسقط من الحزب الآخر مقابله وهل يبطل العقد في الباقي: فيه القولان. أصحهما: لا.
وفي الضمان والإبراء: لو قال: ضمنت لك الدراهم التي على فلان, أو أبرأتك من الدراهم التي عليك, وهو لا يعلم قدرها, فهل يصح في ثلاثة ; لأنها القدر المستيقن:
وجهان من تفريق الصفقة. كذا في الروضة وأصلها في الصداق ومقتضاه الصحة.
وذكر المسألة في باب الضمان, وقالا: وجهان, كما لو أجر كل شهر بدرهم. وهل يصح في الشهر الأول ومقتضاه تصحيح البطلان, فإنه الأصح في مسألة الإجارة.
ولو أهدى من له عادة بالإهداء للقاضي, وزاد على المعتاد قبل الولاية, ففي أصل الروضة: صارت هديته كهدية من لم تعهد منه الهدية, ومقتضاه: تحريم الكل.
قال في المهمات: والقياس تخصيص ذلك بما زاد, وتخريج الباقي على تفريق الصفقة. وحينئذ فتصير الهدية مشتركة على الصحيح, فإن زاد في المعنى, كأن أهدى الحرير بعد أن كان يهدي الكتان, فهل يبطل في الجميع, أو يصح فيها بقدر قيمة العادة فيه نظر, والأوجه: الأول انتهى.
وقال البلقيني: المعتمد اختصاص التحريم بالزيادة, فإن تميزت, وإلا حرم الكل. وفي إحياء الموات: لو تحجر الشخص فأكثر مما يقدر على إحيائه, فقيل: يبطل في الجميع ; لأنه لا يتميز ما يقدر عليه من غيره. وقال المتولي. يصح فيما يقدر عليه. قال في الروضة: وهو قوي.
وفي الوصية: لو أوصى بثلثه لوارث وأجنبي, بطلت في الوارث. وفي الآخر: وجهان: أصحهما: الصحة.
وألحق بعضهم بذلك: ما إذا أوصى بأكثر من الثلث, ولا وارث له, فالمعروف فيه الجزم بالصحة في الثلث.(16/201)
وفي الشهادات: لو جمع في شهادته بين ما يجوز, وما لا يجوز, هل تبطل في الكل, أو فيما لا يجوز خاصة, ويقبل فيما يجوز فيه قولا تفريق الصفقة.
ومن أمثلته:
لو ادعى بألف: فشهد له بألفين. بطلت في الزائد, وفي الألف المدعى بها قولا تفريق الصفقة أصحهما: الصحة.(16/202)
ص -110-…تنبيه:
ذكروا لجريان الخلاف في تفريق الصفقة شروطا:
الأول: أن لا يكون في العبادات, فإن كانت فيها, صح فيما يصح فيه قطعا.
فلو عجل زكاة سنتين, صح لسنة قطعا.
ولو نوى حجتين: انعقدت واحدة قطعا.
ولو نوى في النفل: أربع ركعات بتسليمتين. انعقدت بركعتين قطعا, دون الأخيرتين لأنه لما سلم منهما خرج عن الصلاة فلا يصير شارعا في الأخيرتين, إلا بنية وتكبيرة.
ذكره القاضي حسين في فتاويه.
ويستثنى صور:
الأولى: لو نوى في رمضان صوم جميع الشهر, بطل فيما عدا اليوم الأول, وفيه وجهان, أصحهما: الصحة.
الثانية: لو نوى التيمم لفرضين, بطل في أحدهما, وفي الآخر وجهان. أصحهما: الصحة.
وقد انعكست هذه المسألة على الزركشي, فقال, في قواعده: صح لواحد قطعا. وفي الآخر خلاف, وهو غلط.
الثالثة: ادعى على الخارص الغلط بما يبعد, لم يقبل فيما زاد على القدر المحتمل. وفي المحتمل: وجهان. أصحهما: القبول فيه.
الرابعة: نوى قطع الوضوء في أثنائه. بطل ما صادف النية قطعا ; وفي الماضي وجهان أصحهما: لا.
قال في الخادم: وهي من مسائل تفريق الصفقة في العبادات.
الخامسة: مسح أعلى الخفين, وهو ضعيف, ووصل البلل إلى أسفل القوي, وقصدهما, لم يصح في الأعلى, وفي الأسفل وجهان أصحهما: الصحة.
السادسة: صلى على موتى, واعتقدهم أحد عشر, فبانوا عشرة فوجهان في البحر.
أصحهما: الصحة والثاني: البطلان ; لأن النية قد بطلت في الحادي عشر, لكونه معدوما, فتبطل في الباقي.
السابعة: صلى على حي وميت, فالذي يظهر أن يكون فيه وجهان من تفريق الصفقة, لكن في البحر: إن جهل الحال صحت, وإلا فلا. كمن صلى الظهر قبل الزوال, وفيما قاله نظر.
الثامنة: ولم أر من تعرض لها - إذا جاوز الغائط الأليتين, أو البول الحشفة, وتقطع فإن الماء يتعين في المجاوز قطعا, وفي غيره وجهان أصحهما: يجزي فيه الحجر. ذكره(16/203)
ص -111-…في شرح المهذب, وجزم به في الكفاية. ونقله القاضي حسين عن النص, والروياني عن الأصحاب والثاني: يجب غسل الجميع, حكاه في الحاوي.
الشرط الثاني:
أن لا يكون مبنيا على السراية, والتغليب, فإن كان, كالطلاق, والعتق بأن طلق زوجته وغيرها, أو أعتق عبده وغيره, أو طلقها أربعا, نفذ فيما يملكه إجماعا.
الثالث:
أن يكون الذي يبطل فيه معينا بالشخص, أوالجزئية, ليخرج ما إذا اشترط الخيار أربعة أيام, فإنه يبطل في الكل, ولم يقل أحد بأنه يصح في الثلاثة: وغلط البالسي, في شرح التنبيه, حيث خرجها على القولين, وما إذا عقد على خمس نسوة, أو أختين معا, فإنه يبطل في الجميع: ولم يقل أحد بالصحة في البعض ; لأنه ليست هذه بأولى من هذه,
وغلط صاحب الذخائر بتخريجها.
ولو جمع من تحل له الأمة لإعساره بين حرة وأمة في عقد فطريقان: أظهرهما عند الإمام, وابن القاص أنه على القولين. وقال ابن الحداد وأبو زيد وآخرون: يبطل قطعا لأنه جمع بين امرأتين, يجوز إفراد كل منهما, ولا يجوز الجمع, فأشبه الأختين. والأول فرق بأن الأختين ليس فيهما أقوى. والحرة أقوى.
واستثني من هذا الشرط مسألتا المناضلة, والتحجر السابقتان فإن الأصح فيهما: الصحة. تخريجا على القولين, مع أنه لا يتعين الذي يبطل فيه.
الرابع:
إمكان التوزيع, ليخرج ما لو باع مجهولا ومعلوما
ومن ذلك: ما لو باع أرضا مع بذر, أو زرع. لا يفرد بالبيع, فإنه يبطل في الجميع على المذهب. وقيل: في الأرض القولان.
واستثني من ذلك مسألة بيع الماء مع قراره, فإن الماء الجاري مجهول القدر.
الخامس:
أن لا يخالف الإذن, ليخرج ما لو استعار شيئا ليرهنه على عشرة فرهنه بأكثر فالمذهب: البطلان في الكل, لمخالفة الإذن. وقيل: تخرج على تفريق الصفقة ولو استأجره لينسج له ثوبا, طوله عشرة أذرع, في عرض معين, فنسج أحد عشر لم يستحق شيئا من الأجرة, أو تسعة فإن كان طول السدى عشرة, استحق من الأجرة(16/204)
ص -112-…بقدره, لأنه لو أراد أن ينسج عشرة لتمكن منه: وإن كان طوله تسعة, لم يستحق شيئا حكاه الرافعي عن التتمة.
ولو أجر الراهن العين المرهونة مدة تزيد على محل الدين: بطل في الكل على الصحيح. وقيل: بل في القدر الزائد, وفي الباقي قولا تفريق الصفقة, واختاره السبكي.
ونظير ذلك: أن يشرط الواقف: أن لا يؤجر الوقف أكثر من سنة مثلا فيزاد, فأفتى الشيخ ولي الدين العراقي بالبطلان في الكل, قياسا على مسألة الرهن.
وأفتى قاضي القضاة: جلال الدين البلقيني بالصحة, في القدر الذي شرطه الواقف.
قال له الشيخ ولي الدين: أنت تقول بقول الماوردي في الرهن قال: لا. قال: فافرق. قال: حتى أعطي المسألة كتفا.
قلت: والمسألة ذكرها الزركشي في قواعده. وقال: لم أر فيها نقلا, والظاهر أنها على خلاف تفريق الصفقة, حتى يصح في المشروط وحده: وذكرها أيضا الغزي, في أدب القضاء, وقال: لا نقل فيها والمتجه: التخريج على تفريق الصفقة, انتهى.
فائدة:
قال الزركشي: مخالفة الإذن على ثلاثة أقسام: مخالفة إذن وصفي, كمسألة الإعارة للرهن, ومخالفة إذن شرعي, كمسألة إجارة المرهون. ومخالفة إذن شرطي, كمسألة إجارة الوقف المذكورة.
السادس:
أن لا يبنى على الاحتياط, فلو زاد في العرايا على القدر الجائز. فالمذهب: البطلان في الكل: وفي المطلب عن الجويني: تخريجه على القولين.
ولو أصدق الولي عن الطفل أو المجنون, عينا من ماله أكثر من مهر المثل, فالمجزوم به في الصداق في أصل الروضة فساد الصداق, والذي في التنبيه: أنه يبطل الزائد فقط, ويصح في قدر مهر المثل من المسمى وأقره في التصحيح, وصححه في أصل الروضة, في نكاح السفيه.
ثم حكي عن ابن الصباغ: أن القياس بطلان المسمى ووجوب مهر المثل من المسمى, وأن الفرق أنه على قوله: يجب مهر المثل في الذمة, وعلى الأول: تستحق الزوجة مهر المثل من المسمى.
قال ابن الرفعة: فهذا تناقض, إذ لا فرق بين ولي الطفل, وولي السفيه.(16/205)
وقال السبكي: في تصوير المسألة بين الأصحاب, وابن الصباغ: نظر: فإن الولي(16/206)
ص -113-…إن لم يتعرض للمهر, فالعقد إنما يكون على الذمة, ولا يصح إلا بمهر المثل, لا بمسمى غيره, فلا يتحقق الخلاف.
وإن أذن في عين هي أكثر من مهر المثل فينبغي أن يبطل في الزائد. وفي الباقي خلاف تفريق الصفقة, أو هو كبيعه بالإذن عينا من ماله.
قال: ويمكن أن يصور بقوله: انكح فلانة, وأصدقها من هذا المال, فأصدق منه أكثر من مهر مثلها, لكن يأتي فيه الخلاف في إذنه في البيع.
قال: وقد تصور بما إذا لم ينص على المهر, وعقد على زائد من غير نقد البلد, فعند ابن الصباغ: يرجع إلى مهر المثل من نقد البلد. وعند غيره: يصح في قدر مهر المثل مما سمي. انتهى.
السابع:
أن يورد على الجملة ليخرج ما لو قال: أجرتك كل شهر بدرهم, فإنه لا يصح في سائر الشهور قطعا, ولا في الشهر الأول على الأصح.
ولو قال: ضمنت نفقة الزوجة, فالضمان في الغد, وما بعده فاسد, وهل يصح في يوم الضمان؟ وجهان. أصحهما: لا, بناء على مسألة الإجارة.
الثامن:
أن يكون المضموم إلى الجائز يقبل العقد في الجملة
فلو قال: زوجتك بنتي وابني, أو وفرسي: صح نكاح البنت على المذهب ; لأن المضموم لا يقبل النكاح, فلغا. وقيل: بطرد القولين.
تنبيه:
كما تفرق الصفقة في المثمن تفرق في الثمن
ومثاله: ما قالوه في الشفعة: لو خرج بعض المسمى مستحقا بطل البيع في ذلك القدر, وفي الباقي خلاف تفريق الصفقة في الابتداء.
فصل: ويدخل في هذه القاعدة أيضا: قاعدة: "إذا اجتمع في العبادة جانب الحضر, وجانب السفر غلب جانب الحضر"
لأنه اجتمع المبيح, والمحرم فغلب المحرم.
فلو مسح حضرا, ثم سافر, أو عكس. أتم مسح مقيم.
ولو مسح إحدى الخفين حضرا, والأخرى سفرا, فكذلك على الأصح عند النووي طردا للقاعدة.(16/207)
ص -114-…ولو أحرم قاصرا, فبلغت سفينته دار إقامته أتم.
ولو شرع في الصلاة في دار الإقامة, فسافرت سفينته, فليس له القصر.
واستشكل تصويره ; لأن القصر شرطه النية في الإحرام. ولا يصح بنيته في الإقامة فامتناع القصر إذا سافر أثناءها, لفقد نيته, لا لتغليب حكم الحضر.
وأجيب: بأنا نعلل وجوب الإتمام بعلتين. إحداهما: اجتماع حكم الحضر, والسفر والأخرى: فقد نية القصر.
ولو قضى فائتة سفر في الحضر, أو عكسه: امتنع القصر.
ولو أصبح صائما في الإقامة, فسافر أثناء النهار, أو في السفر, فأقام أثناءه: حرم الفطر على الصحيح. ولو ابتدأ النافلة على الأرض, ثم أراد السفر فأراد ترك الاستقبال: لم يجز له بلا خلاف قاله في شرح المهذب.
ولو أقام بين الصلاتين: بطل الجمع, أو قبل فراغهما في جمع التأخير: صارت الأولى قضاء.
ولو شرع المسافر في الصلاة بالتيمم, فرأى الماء: لم تبطل, فإن نوى الإقامة بعده بطلت على الصحيح.
ولو نوى الإقامة, ولم ير ماء: أتمها. وهل تجب الإعادة؟ وجهان. أحدهما: نعم لأنه صار مقيما, والمقيم تلزمه الإعادة والثاني: لا وبه قطع الروياني, واختاره ابن الصباغ.
قال البغوي: ولو اتصلت السفينة التي يصلي فيها بدار الإقامة في أثناء صلاته بالتيمم لم تبطل. ولم تجب الإعادة في الأصح, كما لو وجد الماء. نقل ذلك في شرح المهذب. وأقره, فعلى ما ذكره الروياني, والبغوي. يستثنى ذلك من القاعدة.
فرع:
ولدته, ولم أره منقولا
لو أحرم بالجمعة في سفينة بدار الإقامة على الشط ; بأن اتصلت الصفوف إليه, فصلى مع الإمام ركعة, ثم نوى المفارقة جاز وصح إتمامه الجمعة.(16/208)
فلو سارت السفينة, والحالة هذه, وفارقت عمران البلد, فيحتمل أن يتم الجمعة ; لأنه أدركها بإدراك ركعة مع الإمام, والوقت باق. ويحتمل أن تنقلب ظهرا ; لأن الجمعة شرطها دار الإقامة, فلما فارقها أشبه ما لو خرج الوقت في أثنائها. ويحتمل أن تبطل الصلاة بالكلية لأنه طرأ مانع من إتمامها جمعة والوقت باق. وفرضه الجمعة, وهو عاص بمفارقته بلد الجمعة قبل انقضائها, ومتمكن من العود إليها لإدراكها, ومن(16/209)
ص -115-…فرضه الجمعة لا يصح منه الظهر قبل اليأس منها. وهذا الاحتمال أوجه عندي, ولم أر المسألة مسطورة.
فصل: ويدخل في هذه القاعدة أيضا, قاعدة "إذا تعارض المانع والمقتضي, قدم المانع".
ومن فروعها:
لو استشهد الجنب, فالأصح أنه لا يغسل.
ولو ضاق الوقت أو الماء عن سنن الطهارة: حرم فعلها.
ولو ارتد الزوجان معا تشطر الصداق في الأصح, كما لو ارتد وحده.
ولو جرحه جرحين: عمدا, وخطأ, أو مضمونا, وهدرا, ومات بهما: لا قصاص.
ولو كان ابن الجاني ابن ابن عم لم يعقل, وفي قول: نعم, كما يلي النكاح, في هذه الصورة. وأجاب الأول: بأن البنوة في العقل مانعة, فلا يعمل معها المقتضي, وفي ولاية النكاح ليست بمانعة, بل غير مقتضية, فإذا وجد مقتض, عمل.
ونظير ذلك: ما ذكره ابن المسلم في استحقاق الخنثى السلب إن قلنا: المرأة لا تستحقه. قال: يحتمل وجهين, منشؤهما التردد في أن الذكورة مقتضية, أم الأنوثة مانعة؟
قال: والأظهر الاستحقاق,
ولو تغير فم الصائم بسبب غير الصوم, كأن نام بعد الزوال. فهل يكره له السواك؟ قال الزركشي: قياس هذه القاعدة الكراهة. وصرح المحب الطبري: بأنه لا يكره وخرج عن هذه القاعدة صور:
منها: اختلاط موتى المسلمين بالكفار, أو الشهداء بغيرهم. يوجب غسل الجميع والصلاة وإن كان الصلاة على الكفار والشهداء حراما. واحتج له البيهقي: بأن النبي صلى الله عليه وسلم : "مر بمجلس, فيه أخلاط من المسلمين والمشركين, فسلم عليهم".
ومنها: يحرم على المرأة ستر جزء من وجهها في الإحرام, ويجب ستر جزء منه مع الرأس للصلاة, فتجب مراعاة الصلاة.
ومنها: الهجرة على المرأة من بلاد الكفر واجبة. وإن كان سفرها وحدها حراما.
خاتمة:
لهم قاعدة عكس هذه القاعدة, وهي: "الحرام لا يحرم الحلال" وهو لفظ حديث أخرجه ابن ماجه والدارقطني عن ابن عمر, مرفوعا.(16/210)
ص -116-…قال ابن السبكي: وقد عورض به حديث: "إذا اجتمع الحلال والحرام, غلب الحرام" وليس بمعارض ; لأن المحكوم به ثم إعطاء الحلال حكم الحرام تغليبا واحتياطا لا صيرورته في نفسه حراما.
ومن فروع ذلك: ما تقدم في خلط الدرهم الحرام بالمباح. وخلط الحمام المملوك بالمباح غير المحصور. وكذا المحرم بالأجانب, وغير ذلك.
ومنها: لو ملك أختين فوطئ واحدة, حرمت عليه الأخرى. فلو وطئ الثانية لم تحرم عليه الأولى, لأن الحرام لا يحرم الحلال.
وفي وجه. إذا أحبل الثانية حلت, وحرمت الأولى, قال في الروضة: وهو غريب.
القاعدة الثالثة: الإيثار في القرب مكروه. وفي غيرها محبوب.
قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}.
قال الشيخ عز الدين: لا إيثار في القربات, فلا إيثار بماء الطهارة, ولا بستر العورة ولا بالصف الأول ; لأن الغرض بالعبادات: التعظيم, والإجلال. فمن آثر به, فقد ترك إجلال الإله وتعظيمه.
وقال الإمام: لو دخل الوقت ومعه ماء يتوضأ به فوهبه لغيره ليتوضأ به, لم يجز, لا أعرف فيه خلافا ; لأن الإيثار: إنما يكون فيما يتعلق بالنفوس, لا فيما يتعلق بالقرب, والعبادات.
وقال في شرح المهذب, في باب الجمعة: لا يقام أحد من مجلسه ليجلس في موضعه, فإن قام باختياره, لم يكره, فإن انتقل إلى أبعد من الإمام كره.
قال أصحابنا: لأنه آثر بالقربة.
وقال الشيخ أبو محمد, في الفروق: من دخل عليه وقت الصلاة, ومعه ما يكفيه لطهارته, وهناك من يحتاجه للطهارة, لم يجز له الإيثار.
ولو أراد المضطر: إيثار غيره بالطعام, لاستبقاء مهجته, كان له ذلك, وإن خاف فوات مهجته. والفرق: أن الحق في الطهارة لله, فلا يسوغ فيه الإيثار, والحق في حال المخمصة لنفسه.
وقد علم أن المهجتين على شرف التلف, إلا واحدة تستدرك بذلك الطعام, فحسن إيثار غيره على نفسه.
قال: ويقوي هذا الفرق مسألة المدافعة ; وهي: أن الرجل إذا قصد قتله ظلما(16/211)
ص -117-…وهو قادر على الدفع, غير أنه يعلم أن الدفع ربما يقتل القاصد, فله الاستسلام.
وقال الخطيب في الجامع: كره قوم إيثار الطالب غيره بنوبته في القراءة, لأن قراءة العلم والمسارعة إليه قربة, والإيثار بالقرب مكروه, انتهى.
وقد جزم بذلك النووي في شرح المهذب ; وقال في شرح مسلم: الإيثار بالقرب مكروه, أو خلاف الأولى, وإنما يستحب في حظوظ النفس, وأمور الدنيا.
قال الزركشي: وكلام الإمام ووالده السابق: يقتضي أن الإيثار بالقرب حرام, فحصل ثلاثة أوجه. قلت: ليس كذلك, بل الإيثار إن أدى إلى ترك واجب فهو حرام: كالماء, وساتر العورة, والمكان في جماعة لا يمكن أن يصلي فيه أكثر من واحد, ولا تنتهي النوبة, لآخرهم إلا بعد الوقت, وأشباه ذلك, وإن أدى إلى ترك سنة, أو ارتكاب مكروه فمكروه, أو لارتكاب خلاف الأولى, مما ليس فيه نهي مخصوص, فخلاف الأولى وبهذا يرتفع الخلاف.
تنبيه:
من المشكل على هذه القاعدة: من جاء ولم يجد في الصف فرجة, فإنه يجر شخصا بعد الإحرام, ويندب للمجرور أن يساعده, فهذا يفوت على نفسه قربة, وهو أجر الصف الأول.
القاعدة الرابعة: التابع تابع.
يدخل في هذه العبارة قواعد:
الأولى: أنه لا يفرد بالحكم ; لأنه إنما جعل تبعا.
ومن فروعه:
لو أحيا شيئا له حريم, ملك الحريم في الأصح, تبعا فلو باع الحريم دون الملك, لم يصح.
ومنها: الحمل يدخل في بيع الأم تبعا لها, فلا يفرد بالبيع.
ومنها: الدود المتولد في الطعام يجوز أكله معه, تبعا لا منفردا في الأصح.
ومنها: لو نقض السوقة العهد, ولم يعلم الرئيس والأشراف, ففي انتقاض العهد في حق السوقة وجهان: أحدهما: المنع, كما لا اعتبار بعهدهم. حكاه الرافعي عن ابن كج.(16/212)
ص -118-…ومنها قولهم: صفات الحقوق لا تفرد بالإسقاط ; لأنها تابعة,
فلو أسقط من عليه الدين المؤجل الأجل ; لم يسقط, ولا يتمكن المستحق من مطالبته في الحال, في الأصح لأنه صفة تابعة والصفة لا تفرد بالإسقاط, وكذا لو أسقط الجودة أو الصحة لا تسقط, جزم به الرافعي.
ولو أسقط الرهن, أو الكفيل سقط في الأصح.
وقال الجويني: لا كالأجل, وفرق غيره بأن شرط القاعدة: أن لا يكون الوصف مما يفرد بالعقد, كالرهن والكفيل, بخلاف الأجل, فإنه وصف لازم لا يمكن إنشاؤه بعقد مستقل.
الثانية: التابع يسقط بسقوط المتبوع.
ومن فروعه:
من فاتته صلاة في أيام الجنون, لا يستحب قضاء رواتبها ; لأن الفرض سقط, فكذا تابعه.
ومنها: من فاته الحج فتحلل بالطواف, والسعي, والحلق, لا يتحلل بالرمي, والمبيت لأنها من توابع الوقوف, وقد سقط فيسقط التابع.
ومنها: إذا بطل أمان رجال, أو أشراف, ففي وجه: يبطل الأمان في الصبيان والنساء, والسوقة ; لأنهم إنما دخلوا في الأمان تبعا, ولكن الأصح خلافه.
ومنها: لو مات الفارس سقط سهم الفرس لأنه تابع: فإذا فات الأصل سقط. ولو مات الفرس استحق الفارس سهم الفرس ; لأنه متبوع.
ومنها: لو مات الغازي, ففي قول: لا يصرف لأولاده وزوجته من الديوان لأن تبعيتهم زالت بموته, والأصح خلافه, ترغيبا في الجهاد.
ومنها: لو امتنع غسل الوجه في الوضوء لعلة به, وما جاوره صحيح, لم يستحب غسله للغرة كما صرح به الإمام, ونقله في المطلب وأقره ; لأنه تابع لغسل الوجه, فسقط لسقوطه لكن جزموا بأنه لو قطع من فوق الذراع ندب غسل باقي عضده, محافظة على التحجيل.(16/213)
قال الجويني: وإنما لم يسقط التابع في هذه الصورة لسقوط المتبوع, كمن فاتتها صلاة زمن الحيض والجنون فإنها لا تقضي رواتبها, كما لا يقضى الفرض ; لأن سقوط القضاء فيما ذكر رخصة مع إمكانه, فإذا سقط الأصل مع إمكانه, فالتابع أولى. وسقوط الأصل هنا لتعذره, والتعذر مختص بالذراع, فبقي العضد على ما كان من الاستحباب, وصار كالمحرم الذي لا شعر على رأسه, يندب إمرار الموسى عليه. كذا فرق الجويني, وجزم به الشيخان.(16/214)
ص -119-…وفرق ابن الرفعة بأن السنة شهدت بأن تلك النوافل مكملة لنقص الفرائض, فإذا لم يكن فريضة, فلا تكملة, وليس تطويل التحجيل مأمورا به لتكملة غسل اليدين والرجلين, لأنه كامل بالمشاهدة, فتعين أن يكون مطلوبا لنفسه.
وفي هذا الفرق منع كونه تابعا, وإليه مال الأسنوي. وفرق بين مسألة اليد والوجه: بأن فرض الرأس المسح, وهو باق عند تعذر غسل الوجه. واستحباب مسح العنق والأذنين باق بحاله, فإذا لم يستحب غسل ذلك, لم يخل المحل المطلوب عن الطهارة, ولا كذلك في مسألة اليد.
تنبيه:
يقرب من ذلك قولهم: "الفرع يسقط إذا سقط الأصل".
ومن فروعه:
إذا برئ الأصيل برئ الضامن لأنه فرعه, فإذا سقط الأصيل, سقط بخلاف العكس, وقد يثبت الفرع, وإن لم يثبت الأصل, ولذلك صور:
منها: لو قال شخص: لزيد على عمرو ألف, وأنا ضامن به فأنكر عمرو, ففي مطالبة الضامن وجهان أصحهما: نعم.
ومنها: ادعى الزوج الخلع, وأنكرت: ثبتت البينونة, وإن لم يثبت المال الذي هو الأصل.
ومنها قال: بعت عبدي من زيد, وأعتقه زيد. فأنكر زيد, أو قال: بعته من نفسه فأنكر العبد, عتق فيهما, ولم يثبت العوض.
ومنها: قال أحد الابنين فلانة بنت أبانا, وأنكر الآخر ففي حلها للمقر وجهان. والمجزوم به في النهاية: التحريم, وهو المعمول به, فقد ثبت الفرع دون الأصل:
ومنه: قال لزوجته أنت أختي من النسب, وهي معروفة النسب من غير أبيه ففي تحريمها عليه وجهان, أو مجهولة النسب, وكذبته: انفسخ نكاحها في الأصح.
ومنها: ادعت زوجية رجل, فأنكر, ففي تحريم النكاح عليها وجهان.
ومنها: ادعت الإصابة, قبل الطلاق, وأنكر, ففي وجوب العدة عليها وجهان الأصح: نعم.
الثالثة: التابع لا يتقدم على المتبوع.
ومن فروعه:
المزارعة على البياض بين النخل والعنب جائزة تبعا لها بشروط.(16/215)
ص -120-…منها: أن يتقدم لفظ المساقاة, فلو قدم لفظ المزارعة, فقال: زارعتك على البياض, وساقيتك على النخل على كذا. لم يصح ; لأن التابع لا يتقدم على المتبوع.
ومنها: لو باع بشرط الرهن فقدم لفظ الرهن على البيع, لم يصح.
ومنها: لا يصح تقدم المأموم على إمامه في الموقف. ولا في تكبيرة الإحرام والسلام ولا في سائر الأفعال في وجه.
ومنها: لو كان بينه وبين الإمام شخص يحصل به الاتصال ولولا هو لم تصح قدوته لم يصح أن يحرم قبله ; لأنه تابع له, كما أنه تابع لإمامه, ذكره القاضي حسين.
ومنها: ذكر القاضي أيضا أنه لو حضر الجمعة من لا تنعقد به, كالمسافر والعبد والمرأة لم يصح إحرامهم بها إلا بعد إحرام أربعين من أهل الكمال لأنهم تبع لهم كما في أهل الكمال مع الإمام.
الرابعة: يغتفر في التوابع ما لا يغتفر في غيرها
وقريب منها: يغتفر في الشيء ضمنا ما لا يغتفر فيه قصدا.
وربما يقال: يغتفر في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل.
وقد يقال: أوائل العقود تؤكد بما لا يؤكد به أواخرها,
والعبارة الأولى أحسن وأعم.
ومن فروعها:
سجود التلاوة في الصلاة, يجوز على الراحلة قطعا تبعا, وجرى فيه خارجها خلاف لاستقلاله.
ومنها: المستعمل في الوضوء, لا يستعمل في الجنابة اتفاقا, ويستتبع غسل الجنابة الوضوء على الأصح, ويندرج فيه الترتيب والمسح.
ومنها: المستعمل في الحدث, لا يستعمل في الخبث, وعكسه على الأصح.
ولو كان على محل نجاسة فغسله عنها وعن الحدث طهرا في الأصح.
ومنها: لا يثبت شوال إلا بشهادة اثنين قطعا.
ولو صاموا بشهادة واحد ثلاثين يوما ولم يروا الهلال, أفطروا في الأصح لحصوله ضمنا وتبعا.
ومنها: لا يثبت النسب بشهادة النساء, فلو شهدن بالولادة على الفراش ثبت النسب تبعا.
ومنها: البيع الضمني, يغتفر فيه ترك الإيجاب والقبول, ولا يغتفر ذلك في البيع المستقل.(16/216)
ص -121-…ومنها: الصور التي يصح فيها ملك الكافر المسلم, لكونه تبعا له ولا يصح استقلالا وستأتي في الكتاب الخامس.
ومنها: لا يصح بيع الزرع الأخضر إلا بشرط القطع, فإن باعه مع الأرض جاز تبعا ومنها:
لا يجوز تعليق الإبراء. ولو علق عتق المكاتب جاز وإن كان متضمنا للإبراء.
ومنها: لا يجوز تعليق الاختيار, وله تعليق طلاق أربع منهن مثلا, فيقع الاختيار. معلقا ضمنا, فإن الطلاق اختيار للمطلقة.
ومنها: الوقف على نفسه, لا يصح.
ولو وقف على الفقراء ثم صار منهم استحق في الأصح تبعا.
القاعدة الخامسة: تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة
هذه القاعدة نص عليها الشافعي وقال: "منزلة الإمام من الرعية منزلة الولي من اليتيم". قلت: وأصل ذلك: ما أخرجه سعيد بن منصور في سننه. قال: حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق, عن البراء بن عازب قال: قال عمر رضي الله عنه: "إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة والي اليتيم, إن احتجت أخذت منه فإذا أيسرت رددته فإن استغنيت استعففت".
ومن فروع ذلك:
أنه إذا قسم الزكاة على الأصناف يحرم عليه التفضيل, مع تساوي الحاجات.
ومنها: إذا أراد إسقاط بعض الجند من الديوان بسبب: جاز, وبغير سبب لا يجوز حكاه في الروضة.
ومنها: ما ذكره الماوردي أنه لا يجوز لأحد من ولاة الأمور أن ينصب إماما للصلاة فاسقا, وإن صححنا الصلاة خلفه ; لأنها مكروهة. وولي الأمر مأمور بمراعاة المصلحة, ولا مصلحة في حمل الناس على فعل المكروه.
ومنها: أنه إذا تخير في الأسرى بين القتل, والرق, والمن والفداء, لم يكن له ذلك بالتشهي بل بالمصلحة. حتى إذا لم يظهر وجه المصلحة يحبسهم إلى أن يظهر.
ومنها: أنه ليس له العفو عن القصاص مجانا ; لأنه خلاف المصلحة, بل إن رأى المصلحة في القصاص اقتص, أو في الدية أخذها.
ومنها: أنه ليس له أن يزوج امرأة بغير كفء, وإن رضيت ; لأن حق الكفاءة للمسلمين, وهو كالنائب عنهم, فلا يقدر على إسقاطه.(16/217)
ومنها: أنه لا يجيز وصية من لا وارث له بأكثر من الثلث.
ومنها: أنه لا يجوز له أن يقدم في مال بيت المال غير الأحوج على الأحوج.(16/218)
ص -122-…قال السبكي في فتاويه, فلو لم يكن إمام, فهل لغير الأحوج أن يتقدم بنفسه فيما بينه وبين الله تعالى, إذا قدر على ذلك, ملت إلى أنه لا يجوز.
واستنبطت ذلك من حديث: "إنما أنا قاسم, والله المعطي".
قال: ووجه الدلالة: أن التمليك والإعطاء إنما هو من الله تعالى لا من الإمام, فليس للإمام أن يملك أحدا إلا ما ملكه الله. وإنما وظيفة الإمام القسمة. والقسمة لا بد أن تكون بالعدل.
ومن العدل: تقدم الأحوج والتسوية بين متساوي الحاجات فإذا قسم بينهما, ودفعه إليهما علمنا أن الله ملكهما قبل الدفع. وأن القسمة إنما هي معينة لما كان مبهما, كما هو بين الشريكين, فإذا لم يكن إمام وبدر أحدهما واستأثر به, كان كما لو استأثر بعض الشركاء بالماء المشترك, ليس له ذلك.
قال: ونظير ذلك ما ذكره الماوردي في باب التيمم: أنه لو ورد اثنان على ماء مباح وأحدهما أحوج, فبدر الآخر وأخذ منه: أنه يكون مسيئا.
ومنها: وقع بعد السبعمائة ببلاد الصعيد أن عبدا انتهى الملك فيه لبيت المال فاشترى نفسه من وكيل بيت المال, فأفتى جلال الدين الدشناوي بالصحة فرفعت الواقعة إلى القاضي شمس الدين الأصبهاني فقال: لا يصح ; لأنه عقد عتاقة, وليس لوكيل بيت المال أن يعتق عبد بيت المال.
قال ابن السبكي في التوشيح: والصواب ما أفتى به الدشناوي, فإن هذا العتق إنما وقع بعوض, فلا تضييع فيه على بيت المال.
القاعدة السادسة: الحدود: تسقط بالشبهات
قال صلى الله عليه وسلم: "ادرءوا الحدود بالشبهات" أخرجه ابن عدي ; في جزء له من حديث ابن عباس.
وأخرج ابن ماجه من حديث أبي هريرة: "ادفعوا الحدود ما استطعتم".
وأخرج الترمذي والحاكم والبيهقي وغيرهم من حديث عائشة: "ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم, فإن وجدتم للمسلم مخرجا, فخلوا سبيله, فإن الإمام لأن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة".
وأخرجه البيهقي عن عمر, وعقبة بن عامر, ومعاذ بن جبل موقوفا.(16/219)
وأخرج من حديث علي مرفوعا: "ادرءوا الحدود" فقط.
وقال مسدد في مسنده: حدثنا يحيى القطان, عن شعبة, عن عاصم, عن أبي وائل(16/220)
ص -123-…عن ابن مسعود قال: "ادرءوا الحدود بالشبهة" وهو موقوف, حسن الإسناد.
وأخرج الطبراني عنه موقوفا: "ادرءوا الحدود, والقتل عن عباد الله ما استطعتم".
الشبهة تسقط الحد
سواء كانت في الفاعل, كمن وطئ امرأة ظنها حليلته أو في المحل, بأن يكون للواطئ فيها ملك أو شبهة, كالأمة المشتركة, والمكاتبة. وأمة ولده ومملوكته المحرم أو في الطريق بأن يكون حلالا عند قوم, حراما عند آخرين, كنكاح المتعة, والنكاح بلا ولي أو بلا شهود, وكل نكاح مختلف فيه, وشرب الخمر للتداوي. وإن كان الأصح تحريمه, لشبهة الخلاف.
وكذا يسقط الحد بقذف من شهد أربعة بزناها, وأربع أنها عذراء, لاحتمال صدق بينة الزنا, وأنها عذراء لم تزل بكارتها بالزنا. وسقط عنها الحد لشبهة الشهادة بالبكارة. ولا قطع بسرقة مال أصله, وفرعه وسيده, وأصل سيده وفرعه, لشبهة استحقاق النفقة وسرقة ما ظنه ملكه, أو ملك أبيه أو ابنه.
ولو ادعى كون المسروق ملكه. سقط القطع, نص عليه للشبهة. وهو اللص الظريف ونظيره: أن يزني بمن لا يعرف أنها زوجته. فيدعي أنها زوجته, فلا يحد.
ولا يقتل فاقد الطهورين بترك الصلاة متعمدا, لأنه مختلف فيه. وكذا من مس أو لمس وصلى متعمدا وهو شافعي, أو توضأ ولم ينو. ذكره القفال في فتاويه.
ويسقط القصاص أيضا بالشبهة,
فلو قد ملفوفا وزعم موته, صدق الولي ولكن تجب الدية دون القصاص للشبهة ولو قتل الحر المسلم: من لا يدرى أمسلم أو كافر؟ وحر أو عبد؟ فلا قصاص للشبهة نقله في أصل الروضة, عن البحر.
تنبيه:
الشبهة: لا تسقط التعزير, وتسقط الكفارة
فلو جامع ناسيا في الصوم أو الحج, فلا كفارة للشبهة.
وكذا لو وطئ على ظن أن الشمس غربت, أو أن الليل باق, وبان خلافه, فإنه يفطر, ولا كفارة. قال القفال: ولا تسقط الفدية بالشبهة ; لأنها تضمنت غرامة بخلاف الكفارة فإنها تضمنت عقوبة, فالتحقت في الإسقاط بالحد, وتسقط الإثم والتحريم, إن كانت في الفاعل دون المحل.(16/221)
ص -124-…تنبيه:
شرط الشبهة: أن تكون قوية, وإلا فلا أثر لها
ولهذا يحد بوطء أمة أباحها السيد, ولا يراعى خلاف عطاء في إباحة الجواري للوطء وفي سرقة مباح الأصل, كالحطب ونحوه. وفي القذف على صورة الشهادة.
ولو قتل مسلم ذميا, فقتله ولي الذمي: قتل به وإن كان موافقا لرأي أبي حنيفة.
ومن شرب النبيذ يحد, ولا يراعى خلاف أبي حنيفة.
القاعدة السابعة: الحر: لا يدخل تحت اليد
ولهذا: لو حبس حرا, ولم يمنعه الطعام حتى مات حتف أنفه, أو بانهدام حائط ونحوه, لم يضمنه. ولو كان عبدا ضمنه, ولا يضمن منافعه ما دام في حبسه. إذا لم يستوفها ويضمن منافع العبد.
ولو وطئ حرة بشبهة فأحبلها, وماتت بالولادة: لم تجب ديتها في الأصح.
ولو كانت أمة وجب القيمة.
ولو طاوعته حرة على الزنا ; فلا مهر لها بالإجماع.
ولو طاوعته أمة: فلها المهر, في رأي لأن الحق للسيد ; فلا يؤثر إسقاطها, وإن كان الأصح خلافه. ولو نام عبد على بعير فقاده, وأخرجه عن القافلة, قطع ; أو حر فلا في الأصح.
ولو وضع صبيا حرا في مسبعة, فأكله السبع ; فلا ضمان في الأصح, بخلاف ما لو كان عبدا,
ولو كانت امرأة تحت رجل وادعى أنها زوجته, فالصحيح أن هذه الدعوى عليها, لا على الرجل ; لأن الحرة لا تدخل تحت اليد.
ولو أقام كل بينة: أنها زوجته, لم تقدم بينة من هي تحته, لما ذكرنا, بل لو أقاما بينتين على خلية, سقطتا.
ولو كان في يد المدبر مال, فقال: كسبته بعد موت السيد فهو لي, وقال الوارث: بل قبله فهو لي, صدق المدبر بيمينه لأن اليد له بخلاف دعواهما الولد ; لأنها تزعم أنه حر والحر لا يدخل تحت اليد, وثياب الحر وما في يده من المال لا يدخل في ضمان الغاصب لأنها في يد الحر حقيقة, وكذا لو كان صغيرا أو مجنونا على الأصح.(16/222)
ص -125-…القاعدة الثامنة: الحريم له حكم ما هو حريم له.
الأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات, فقد استبرأ لدينه وعرضه, ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام, كالراعي يرعى حول الحمى, يوشك أن يرتع فيه", الحديث, أخرجه الشيخان.
قال الزركشي: الحريم يدخل في الواجب, والحرام والمكروه وكل محرم له حريم يحيط به, والحريم: هو المحيط بالحرام, كالفخذين فإنهما حريم للعورة الكبرى.
وحريم الواجب: ما لا يتم الواجب إلا به.
ومن ثم وجب غسل جزء من الرقبة والرأس مع الوجه ليتحقق غسله وغسل جزء من العضد, والساق مع الذراع وستر جزء من السرة والركبة مع العورة, وجزء من الوجه مع الرأس للمرأة, وحرم الاستمتاع بما بين السرة والركبة في الحيض لحرمة الفرج.
ضابط:
كل محرم فحريمه حرام إلا صورة واحدة, لم أر من تفطن لاستثنائها, وهي دبر الزوجة, فإنه حرام, وصرحوا بجواز التلذذ بحريمه, وهو ما بين الأليتين.
فصل:
ويدخل في هذه القاعدة حريم المعمور, فهو مملوك لمالك المعمور في الأصح ولا يملك بالإحياء قطعا. وحريم المسجد, فحكمه حكم المسجد, ولا يجوز الجلوس فيه للبيع ولا للجنب, ويجوز الاقتداء فيه بمن في المسجد, والاعتكاف فيه.
وضابط حريم المعمور: تعرضوا له في باب إحياء الموات.
وأما رحبة المسجد فقال في شرح المهذب, قال صاحب الشامل والبيان: هي ما كان مضافا إلى المسجد, وعبارة المحاملي: هي المتصلة به خارجه.
قال النووي: وهو الصحيح خلافا لقول ابن الصلاح إنها صحنه وقال البندنيجي: هي البناء المبني بجواره متصلا به, وقال القاضي أبو الطيب: هو ما حواليه, وقال الرافعي الأكثرون على عد الرحبة منه ; ولم يفرقوا بين أن تكون بينها وبين المسجد طريق أم لا, وهو المذهب وقال ابن كج: إن انفصلت عنه فلا.(16/223)
ص -126-…القاعدة التاسعة: إذا اجتمع أمران من جنس واحد, ولم يختلف مقصودهما, دخل أحدهما في الآخر غالبا.
فمن فروع ذلك.
إذا اجتمع حدث وجنابة, كفى الغسل على المذهب, كما لو اجتمع جنابة وحيض, ولو باشر المحرم فيما دون الفرج, لزمته الفدية.
فلو جامع دخلت في الكفارة على الأصح, بناء على تداخل الحدث في الجنابة.
ولو اجتمع حدث ونجاسة حكمية كفت لهما غسلة واحدة في الأصح, عند النووي. ولو جامع بلا حائل, فعن المسعودي: أنه لا يوجب غير الجنابة واللمس الذي يتضمنه يصير مغمورا به كخروج الخارج الذي يتضمنه الإنزال.
والأكثرون قالوا: يحصل الحدثان ; لأن اللمس يسبق حقيقة الجماع بخلاف الخروج فإنه مع الإنزال.
ولو دخل المسجد وصلى الفرض دخلت فيه التحية.
ولو دخل الحرم محرما, بحج فرض أو عمرة. دخل فيه الإحرام لدخول مكة.
ولو طاف القادم عن فرض أو نذر, دخل فيه طواف القدوم, بخلاف ما لو طاف للإفاضة لا يدخل فيه طواف الوداع لأن كلا منهما مقصود في نفسه, ومقصودهما مختلف وبخلاف ما لو دخل المسجد الحرام, فوجدهم يصلون جماعة فصلاها, فإنه لا يحصل له تحية البيت, وهو الطواف, لأنه ليس من جنس الصلاة.
ولو صلى: عقيب الطواف فريضة, حسبت عن ركعتي الطواف ; اعتبارا بتحية المسجد نص عليه في القديم, وليس في الجديد ما يخالفه. وقال النووي: إنه المذهب. ولو تعدد السهو في الصلاة: لم يتعدد السجود بخلاف جبرانات الإحرام, لا تتداخل لأن القصد بسجود السهو رغم أنف الشيطان. وقد حصل بالسجدتين آخر الصلاة.
والمقصود بجبرانات الإحرام: جبر هتك الحرمة, فلكل هتك جبر فاختلف المقصود, ولو زنى بكر, أو شرب خمرا, أو سرق مرارا ; كفى حد واحد.
قال الرافعي: وهل يقال وجب لها حدود, ثم عادت إلى حد واحد, أو لم يجب إلا حد واحد ; وجعلت الزنيات كالحركات في زنية واحدة؟ ذكروا فيه احتمالين.
ولو زنى أو شرب, فأقيم عليه بعض الحد. فعاد إلى الجريمة, دخل الباقي في الحد الثاني.(16/224)
وكذا لو زنى في مدة التغريب. غرب ثانيا ودخلت فيه بقية المدة.
ولو قذفه مرات: كفى حد واحد أيضا في الأصح.
ولو زنى وهو بكر, ثم زنى وهو ثيب, فهل يكتفى بالرجم؟ وجهان في أصل الروضة(16/225)
ص -127-…بلا ترجيح. وجه المنع: اختلاف جنسهما, لكن صحح البارزي في التمييز. التداخل. بخلاف ما لو سرق, وزنى, وشرب وارتد. فلا تداخل لاختلاف الجنس.
ولو سرق وقتل في المحاربة, فهل يقطع, ثم يقتل, أو يقتصر على القتل والصلب. ويندرج حد السرقة في حد المحاربة؟ وجهان, في الروضة بلا ترجيح.
ولو وطئ في نهار رمضان مرتين, لم تلزمه بالثاني كفارة ; لأنه لم يصادف صوما. بخلاف ما لو وطئ في الإحرام ثانيا, فإن عليه شاة. ولا تدخل في الكفارة لمصادفته إحراما لم يحل منه.
ولو لبس ثوبا مطيبا, فرجح الرافعي لزوم فديتين. وصحح النووي واحدة لاتحاد الفعل وتبعية الطيب. ولو قتل المحرم صيدا في الحرم لزمه جزاء واحد, وتداخلت الحرمتان في حقه لأنهما من جنس واحد, كالقارن إذا قتل صيدا, لزمه جزاء واحد, وإن كان قد هتك به حرمة الحج والعمرة.
ولو أحرم المتمتع بالعمرة, فجرح صيدا ثم أحرم بالحج, فجرحه جرحا آخر, ثم مات, فهل يلزمه جزاءان؟.
قال الشيخ أبو إسحاق في الملخص: هذه المسألة لا يعرف فيها نقل.
فلو كشط جلدة الرأس, فلا فدية, والشعر تابع.
قال الرافعي: وشبهوه بما لو أرضعت أم الزوج زوجته. يجب المهر, ولو قتلها لم يجب.
ولو تكرر الوطء بشبهة واحدة, تداخل المهر بخلاف ما إذا تعدد جنس الشبهة.
ولو وطئ بشبهة بكرا وجب أرش البكارة ولا تداخل لاختلاف الجنس والمقصود فإن أرش البكارة يجب إبلا. والمهر: نقدا, والأرش: للجناية والمهر للاستمتاع.
ولو قطع كامل الأصابع يدا ناقصة إصبعا ; فإن لقط أصابعه الأربعة, فله حكومة أربعة أخماس الكف ولا يتداخل, لأنها ليست من جنس القصاص وله حكومة خمس الكف أيضا, وإن أخذ دية الأصابع الأربع, فلا حكومة لمنابتها من الكف ; لأنها من جنس الدية فدخلت فيها, وله حكومة خمس الكف لاختلاف الجهة.
ولو أزال أطرافا ولطائف, ثم مات سراية, أو حز: دخلت في دية النفس.(16/226)
ولو كان أحد الفعلين عمدا والآخر خطأ, فلا تداخل للاختلاف فإن دية العمد مثلثة حالة على الجاني, ودية الخطأ مخمسة مؤجلة على العاقلة.
ولو قطع الأجفان وعليها أهداب, دخلت حكومتها في ديتها, وكذا تدخل حكومة الشعر في دية الموضحة, والشارب في دية الشفة. والأظفار والكف في دية الأصابع.(16/227)
ص -128-…والسنخ في دية السن والذكر في دية الحشفة, والثدي في دية الحلمة, على الأصح في الكل.
وكذا حكومة قصبة الأنف في دية المارن, على ما قاله الإمام إنه الظاهر وصححه في أصل الروضة. وقال في المهمات: الفتوى على خلافه.
ولا يدخل أرش الجرح في دية العقل, ولا الأسنان في اللحيين ولا الموضحة في الأذنين, ولا حكومة جرح الصدر في دية الثدي, ولا العانة في دية الذكر والشفرين لاختلاف محل الجناية فيها.
ولو لزمها عدتا شخص من جنس, بأن طلق, ثم وطئ في العدة. تداخلتا. بخلاف ما إذا كانتا لشخصين, بأن وطئ غيره بشبهة, فلا تداخل.
ولو كانتا لواحد, واختلف الجنس, بأن كانت الأولى بغير الحمل. والثانية به, فوجهان, أصحهما: التداخل. وقيل: لا لاختلاف الجنس.
والوجهان مبنيان على أن التداخل في العدد هل هو سقوط الأولى, والاكتفاء بالثاني أو انضمام الأولى للثاني, فيؤديان بانقضاء مدة واحدة؟, وفيه وجهان, فعلى الأول: يتداخل. وعلى الثاني: لا.
وقد علمت ما أوردناه من الفروع. مع احترازنا عنه بقولنا "من جنس واحد" وبقولنا "ولم يختلف مقصودهما" وبقولنا "غالبا".
القاعدة العاشرة: إعمال الكلام أولى من إهماله
من فروعه:
ما لو أوصى بطبل, وله طبل لهو, وطبل حرب صح, وحمل على الجائز, نص عليه.
وألحق به القاضي حسين: ما لو كان له زق خمر, وزق خل, فأوصى بأحدهما صح, وحمل على الخل.
ومنها: لو قال لزوجته وحمار: أحدكما طالق, فإنها تطلق, بخلاف ما لو قال ذلك لها, ولأجنبية. وقصد الأجنبية. يقبل في الأصح. لكون الأجنبية من حيث الجملة قابلة.
ومنها: لو وقف على أولاده, وليس له إلا أولاد أولاد. حمل عليهم. كما جزم به الرافعي. لتعذر الحقيقة. وصونا للفظ عن الإهمال.
ونظيره: ما لو قال: زوجاتي طوالق. وليس له إلا رجعيات طلقن قطعا, وإن كان في دخول الرجعية في ذلك مع الزوجات خلاف.(16/228)
ص -129-…ومنها: قال لزوجته: إن دخلت الدار أنت طالق, بحذف الفاء, فإن الطلاق لا يقع قبل الدخول. صونا للفظ عن الإهمال.
وقال محمد بن الحسن, صاحب أبي حنيفة: يقع, لعدم صلاحية اللفظ للجزاء, بسبب عدم الفاء, فحمل على الاستئناف. ونقل الرافعي: عدم الوقوع عن جماعة, ثم نقل عن البوشنجي: أنه يسأل, فإن قال: أردت التنجيز, حكم به.
قال الأسنوي: وما قاله البوشنجي لا إشكال فيه, إلا أنه يشعر بوجوب سؤاله. ومنها: قال لزوجته في مصر: أنت طالق في مكة, ففي الرافعي, عن البويطي: أنها تطلق في الحال, وتبعه في الروضة. قال الأسنوي: وسببه: أن المطلقة في بلد مطلقة في باقي البلاد.
قال: لكن رأيت في طبقات العبادي, عن البويطي: أنها لا تطلق, حتى تدخل مكة.
قال: وهو متجه, فإن حمل الكلام على فائدة أولى من إلغائه.
قال: وقد ذكر الرافعي قبل ذلك بقليل, عن إسماعيل البوشنجي مثله, وأقره عليه. ومنها: وقع في فتاوى السبكي: أن رجلا وقف عليه, ثم على أولاده, ثم على أولادهم ونسله, وعقبه, ذكرا وأنثى {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} على أن من توفي منهم عن ولد أو نسل, عاد ما كان جاريا عليه من ذلك على ولده, ثم على ولد ولده, ثم على نسله على الفريضة, وعلى أن من توفي من غير نسل, عاد ما كان جاريا عليه ; على من في درجته من أهل الوقف المذكور, يقدم الأقرب إليه فالأقرب, ويستوي الأخ الشقيق والأخ من الأب. ومن مات من أهل الوقف قبل استحقاقه لشيء من منافع الوقف, وترك ولدا, أو أسفل منه استحق ما كان يستحقه المتوفى, لو بقي حيا إلى أن يصير إليه شيء من منافع الوقف المذكور, وقام في الاستحقاق مقام المتوفى, فإذا انقرضوا, فعلى الفقراء.
وتوفي الموقوف عليه وانتقل الوقف. إلى ولديه: أحمد, وعبد القادر, ثم توفي عبد القادر, وترك ثلاثة أولاد, هم علي, وعمر ولطيفة, وولدي ابنه محمد, المتوفى في حياة والده. وهما: عبد الرحمن, وملكة.(16/229)
ثم توفي عمر عن غير نسل, ثم توفيت لطيفة, وتركت بنتا. تسمى فاطمة, ثم توفي علي وترك بنتا تسمى: زينب, ثم توفيت فاطمة بنت لطيفة من غير نسل, فإلى من ينتقل نصيب فاطمة المذكورة؟ فأجاب: الذي يظهر لي الآن أن نصيب عبد القادر جميعه, يقسم هذا الوقف على ستين جزءا لعبد الرحمن منه: اثنان وعشرون ; ولملكة: أحد عشر ولزينب:(16/230)
ص -130-…سبعة وعشرون, ولا يستمر هذا الحكم في أعقابهما, بل كل وقت بحسبه.
قال: وبيان ذلك: أن عبد القادر لما توفي انتقل نصيبه إلى أولاده الثلاثة وهم: عمر وعلي ولطيفة. {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}: لعلي: خمساه, ولعمر: خمساه, وللطيفة خمسه, هذا هو الظاهر عندنا.
ويحتمل أن يقال: يشاركهم عبد الرحمن, وملكة "ولدا محمد المتوفى في حياة أبيه, ونزلا منزلة أبيهما" فيكون لهما: السبعان. ولعلي: السبعان. ولعمر السبعان, وللطيفة سبع.
وهذا وإن كان محتملا, فهو مرجوح عندنا ; لأن الممكن في مأخذه ثلاثة أمور: أحدها: أن مقصود الواقف: أن لا يحرم أحد من ذريته, وهذا ضعيف لأن المقاصد إذا لم يدل عليها اللفظ, لا يعتبر.
الثاني: إدخالهم في الحكم, وجعل الترتيب بين كل أصل وفرعه, لا بين الطبقتين جميعا. وهذا محتمل, لكنه خلاف الظاهر.
وقد كنت ملت إليه مرة في وقف, للفظ اقتضاه فيه, لست أعمه في كل ترتيب.
الثالث: الاستناد إلى قول الواقف "إن مات من أهل الوقف قبل استحقاقه لشيء, قام ولده مقامه" وهذا أقوى. لكنه إنما يتم لو صدق على المتوفى في حياة والده: أنه من أهل الوقف.
وهذه مسألة كان قد وقع مثلها في الشام قبل التسعين وستمائة, وطلبوا فيها نقلا. فلم يجدوه, فأرسلوا إلى الديار المصرية يسألون عنها.
ولا أدري ما أجابوهم. لكني رأيت بعد ذلك في كلام الأصحاب: فيما إذا وقف على أولاده. على أن من مات منهم انتقل نصيبه إلى أولاده. ومن مات, ولا ولد له, انتقل إلى الباقين من أهل الوقف, فمات واحد عن ولد انتقل نصيبه إليه, فإذا مات آخر عن غير ولد انتقل نصيبه إلى أخيه, وابن أخيه ; لأنه صار من أهل الوقف.
فهذا التعليل يقتضي: أنه إنما صار من أهل الوقف بعد موت والده فيقتضي أن ابن عبد القادر, المتوفى في حياة والده, ليس من أهل الوقف, وأنه إنما يصدق عليه اسم أهل الوقف, إذا آل إليه الاستحقاق.(16/231)
قال: ومما يتنبه له أن بين" أهل الوقف" و "الموقوف عليه" عموما وخصوصا من وجه, فإذا وقف مثلا على زيد, ثم عمرو, ثم أولاده, فعمرو موقوف عليه في حياة زيد لأنه معين قصده الواقف بخصوصه. وسماه وعينه. وليس من أهل الوقف, حتى يوجد شرط استحقاقه, وهو موت زيد. وأولاده إذا آل إليهم الاستحقاق: كل واحد منهم من أهل الوقف, ولا يقال في كل واحد منهم: إنه موقوف عليه بخصوصه لأنه لم(16/232)
ص -131-…يعينه الواقف, وإنما الموقوف عليه: جهة الأولاد, كالفقراء.
قال: فتبين بذلك أن ابن عبد القادر, والد عبد الرحمن, لم يكن من أهل الوقف أصلا ; ولا موقوفا عليه, لأن الواقف لم ينص على اسمه.
قال: وقد يقال: إن المتوفى في حياة أبيه يستحق أنه لو مات أبوه جرى عليه الوقف فينتقل هذا الاستحقاق إلى أولاده.
قال: وهذا قد كنت في وقت أبحته, ثم رجعت عنه.
فإن قلت: قد قال الواقف "إن من مات من أهل الوقف قبل استحقاقه لشيء" فقد سماه من أهل الوقف, مع عدم استحقاقه, فيدل على أنه أطلق "أهل الوقف" على من لم يصل إليه الوقف, فيدخل محمد والد عبد الرحمن, وملكة في ذلك, فيستحقان. ونحن إنما نرجع في الأوقاف إلى ما يدل عليه لفظ واقفها, سواء وافق ذلك عرف الفقهاء أم لا.
قلت: لا نسلم مخالفة ذلك لما قلناه.
أما أولا فلأنه لم يقل "قبل استحقاقه" وإنما قال قبل استحقاقه لشيء, فيجوز أن يكون قد استحق شيئا صار به من أهل الوقف, ويترقب استحقاقا من آخر فيموت قبله, فنص الواقف على أن ولده يقوم مقامه في ذلك الشيء الذي لم يصل إليه.
ولو سلمنا أنه قال: "قبل استحقاقه" فيحتمل أن يقال: إن الموقوف عليه, أو البطن الذي بعده, وإن وصل إليه الاستحقاق. أعني أنه صار من أهل الوقف: قد يتأخر استحقاقه, إما لأنه مشروط بمدة: كقوله: في كل سنة كذا, فيموت في أثنائها أو ما أشبه ذلك فيصح أن يقال: إن هذا من أهل الوقف, وإلى الآن ما استحق من الغلة شيئا. إما لعدمها, أو لعدم شرط الاستحقاق, بمضي زمان, أو غيره, فهذا حكم الوقف بعد موت عبد القادر.
فلما توفي عمر عن غير نسل انتقل نصيبه إلى أخويه, عملا بشرط الواقف لمن في درجته فيصير نصيب عبد القادر كله بينهما أثلاثا لعلي: الثلثان, وللطيفة: الثلث ويستمر حرمان عبد الرحمن وملكة.(16/233)
فلما ماتت لطيفة انتقل نصيبها, وهو: الثلث إلى بنتها. ولم ينتقل لعبد الرحمن, وملكة شيء, لوجود أولاد عبد القادر, وهم يحجبونهم ; لأنهم أولاده. وقد قدمهم على أولاد الأولاد, الذين هم منهم.
فلما توفي علي بن عبد القادر. وخلف بنته زينب. احتمل أن يقال: نصيبه كله, وهو: ثلثا نصيب عبد القادر لها. عملا بقول الواقف: "من مات منهم عن ولد انتقل نصيبه لولده". وتبقى هي وبنت عمتها مستوعبتين لنصيب جدهما. لزينب: ثلثاه. ولفاطمة.ثلثه.(16/234)
ص -132-…واحتمل أن يقال: إن نصيب عبد القادر كله يقسم الآن على أولاده, عملا بقول الواقف: "ثم على أولاده ثم على أولاد أولاده" فقد أثبت لجميع أولاد الأولاد استحقاقا بعد الأولاد. وإنما حجبنا عبد الرحمن وملكة, وهما من أولاد الأولاد: بالأولاد, فإذا انقرض الأولاد زال الحجب, فيستحقان. ويقسم نصيب عبد القادر بين جميع أولاد أولاده, فلا يحصل لزينب جميع نصيب أبيها. وينقص ما كان بيد فاطمة, بنت لطيفة وهذا أمر اقتضاه النزول الحادث بانقراض طبقة الأولاد "المستفاد من شرط الواقف: أن أولاد الأولاد بعدهم.
ولا شك أن فيه مخالفة لظاهر قوله "إن من مات فنصيبه لولده" فإن ظاهره يقتضي أن نصيب علي لبنته زينب. واستمرار نصيب لطيفة لبنتها فاطمة, فخالفناه بهذا العمل فيهما جميعا, ولو لم نخالف ذلك, لزمنا مخالفة قول الواقف: "إن بعد الأولاد يكون لأولاد الأولاد", وظاهره يشمل الجميع.
فهذان الظاهران تعارضا, وهو تعارض قوي صعب. ليس في هذا الوقف محز أصعب منه. وليس الترجيح فيه بالهين بل هو محل نظر الفقيه. وخطر لي فيه طرق:
منها: أن الشرط المقتضي لاستحقاق أولاد الأولاد جميعهم متقدم في كلام الواقف, والشرط المقتضي لإخراجهم بقوله "من مات انتقل نصيبه لولده" متأخر, فالعمل بالمتقدم أولى ; لأن هذا ليس من باب النسخ, حتى يقال: العمل بالمتأخر أولى.
ومنها ; أن ترتيب الطبقات أصل, وذكر انتقال نصيب الوالد إلى ولده فرع وتفصيل لذلك الأصل, فكان التمسك بالأصل أولى.
ومنها: أن "من" صيغة عامة, فقوله "من مات وله ولد" صالح لكل فرد منهم, ولمجموعهم, وإذا أريد مجموعهم, كان انتقال نصيب مجموعهم إلى مجموع الأولاد من مقتضيات هذا الشرط, فكان إعمالا له من وجه, مع إعمال الأول, وإن لم نعمل بذلك كان إلغاء للأول من كل وجه وهو مرجوح.
ومنها: إذا تعارض الأمر بين إعطاء بعض الذرية وحرمانهم, تعارضا لا ترجيح فيه فالإعطاء أولى ; لأنه لا شك أقرب إلى غرض الواقفين.(16/235)
ومنها: أن استحقاق زينب لأقل الأمرين وهو الذي يخصها إذا شرك بينها وبين بقية أولاد الأولاد: محقق. وكذا فاطمة, والزائد على المحقق في حقها: مشكوك فيه, ومشكوك في استحقاق عبد الرحمن, وملكة له, فإذا لم يحصل ترجيح في التعارض بين اللفظين, يقسم بينهم, فيقسم بين عبد الرحمن, وملكة, وزينب. وفاطمة.
وهل يقسم للذكر مثل حظ الأنثيين, فيكون لعبد الرحمن: خمساه. ولكل من الإناث: خمسه, نظرا إليهم, دون أصولهم, أو ينظر إلى أصولهم, فينزلون منزلتهم(16/236)
ص -133-…لو كانوا موجودين, فيكون لفاطمة: خمسه, ولزينب: خمساه, ولعبد الرحمن وملكة خمساه؟ فيه احتمال.
وأنا إلى الثاني أميل. حتى لا يفضل فخذ على فخذ في المقدار, بعد ثبوت الاستحقاق.
فلما توفيت فاطمة من غير نسل, والباقون من أهل الوقف: زينب بنت خالها, وعبد الرحمن وملكة, ولدا عمها, وكلهم في درجتها. وجب قسم نصيبها بينهم, لعبد الرحمن: نصفه, ولملكة: ربعه, ولزينب: ربعه.
ولا نقول هنا: ننظر إلى أصولهم ; لأن الانتقال من مساويهم, ومن هو في درجتهم فكان اعتبارهم بأنفسهم أولى. فاجتمع لعبد الرحمن, وملكة: الخمسان, حصلا لهما بموت علي. ونصف وربع الخمس, الذي لفاطمة, بينهما بالفريضة, فلعبد الرحمن خمس, ونصف خمس, وثلث خمس. ولملكة: ثلثا خمس وربع خمس. واجتمع لزينب: الخمسان بموت والدها, وربع خمس فاطمة, فاحتجنا إلى عدد يكون له خمس. ولخمسه ثلث وربع. وهو ستون, فقسمنا نصيب عبد القادر عليه. لزينب خمساه وربع خمسه. وهو سبعة وعشرون ولعبد الرحمن: اثنان وعشرون. وهي خمس ونصف خمس وثلث خمس. ولملكة: إحدى عشر وهي ثلثا خمس وربع خمس.
فهذا ما ظهر لي, ولا أشتهي أحدا من الفقهاء يقلدني. بل ينظر لنفسه, انتهى كلام السبكي.
قلت: الذي يظهر لي اختياره أولا, دخول عبد الرحمن وملكة, بعد موت عبد القادر عملا بقوله: "ومن مات من أهل الوقف إلخ".
وما ذكره السبكي: من أنه لا يطلق عليه أنه من أهل الوقف: ممنوع. وما ذكره في تأويل قوله: "قبل استحقاقه" خلاف الظاهر من اللفظ. وخلاف المتبادر إلى الأفهام.
بل صريح كلام الواقف: أنه أراد بأهل الوقف: الذي مات قبل استحقاقه, لا الذي لم يدخل في الاستحقاق بالكلية. ولكنه بصدد أن يصل إليه. وقوله: "لشيء من منافع الوقف" دليل قوي لذلك, فإنه نكرة في سياق الشرط. وفي سياق كلام معناه النفي, فيعم ; لأن المعنى لم يستحق شيئا من منافع الوقف. وهذا صريح في رد التأويل الذي قاله.(16/237)
ويؤيده أيضا, قوله: "استحق ما كان يستحقه المتوفى, لو بقي حيا إلى أن يصير إليه شيء من منافع الوقف" فهذه الألفاظ كلها صريحة في أنه مات قبل الاستحقاق. وأيضا: لو كان المراد ما قاله السبكي, لاستغني عنه بقوله أولا "على أن من مات عن(16/238)
ص -134-…ولد عاد ما كان جاريا عليه على ولده "فإنه يغني عنه ولا ينافي هذا اشتراطه الترتيب في الطبقات بثم ; لأن ذاك عام, خصصه هذا. كما خصصه أيضا قوله: "على أن من مات عن ولد" إلى آخره.
وأيضا: فإنا إذا عملنا بعموم اشتراط الترتيب لزم منه إلغاء هذا الكلام بالكلية. وأن لا يعمل في صورة ; لأنه على هذا التقدير: إنما استحق عبد الرحمن وملكة لما استووا في الدرجة, أخذا من قوله: "عاد على من في درجته" فبقي قوله: "ومن مات قبل استحقاقه إلخ" مهملا لا يظهر أثره في صورة. بخلاف ما إذا أعملناه, وخصصنا به عموم الترتيب, فإن فيه إعمالا للكلامين, وجمعا بينهما وهذا أمر ينبغي أن يقطع به.
وحينئذ, فنقول: لما مات عبد القادر قسم نصيبه بين أولاده الثلاثة, وولدي ولده أسباعا: لعبد الرحمن وملكة: السبعان أثلاثا, فلما مات عمر, عن غير نسل, انتقل نصيبه إلى أخويه وولدي أخيه, فيصير نصيب عبد القادر كلهم بينهم. لعلي: خمسان وللطيفة: خمس, ولعبد الرحمن, وملكة خمسان, أثلاثا. ولما توفيت لطيفة انتقل نصيبها بكماله لبنتها فاطمة ولما مات علي انتقل نصيبه بكماله لبنته زينب ولما توفيت فاطمة بنت لطيفة والباقون في درجتها زينب وعبد الرحمن وملكة. قسم نصيبها بينهم: "للذكر مثل حظ الأنثيين" اعتبارا بهم, لا بأصولهم. لما ذكر السبكي: لعبد الرحمن: نصف ولكل بنت ربع, فاجتمع لعبد الرحمن بموت عمر: خمس وثلث, وبموت فاطمة: نصف خمس. ولملكة, بموت عمر: ثلثا خمس, وبموت فاطمة: ربع خمس. ولزينب بموت علي: خمسان, وبموت فاطمة: ربع خمس, فيقسم نصيب عبد القادر ستين جزءا. لزينب: سبعة وعشرون, وهي خمسان وربع خمس, ولعبد الرحمن: اثنان وعشرون, وهي خمس ونصف وثلث. ولملكة: أحد عشر, وهي ثلثا خمس وربع.(16/239)
فصحت مما قاله السبكي, لكن الفرق تقدم استحقاق عبد الرحمن, وملكة. والجزم حينئذ بصحة هذه القسمة, والسبكي تردد فيها, وجعلها من باب قسمة المشكوك في استحقاقه ونحن لا نتردد في ذلك. وسئل السبكي أيضا: عن رجل وقف على حمزة, ثم أولاده, ثم أولادهم وشرط أن من مات من أولاده انتقل نصيبه للمستحقين من إخوته ومن مات قبل استحقاقه. لشيء من منافع الوقف, وله ولد, استحق ولده ما كان يستحقه المتوفى, لو كان حيا.
فمات حمزة, وخلف ولدين, وهما عماد الدين, وخديجة. وولد ولد, مات أبوه في حياة والده, وهو: نجم الدين بن مؤيد الدين بن حمزة, فأخذ الوالدان نصيبهما, وولد الولد: النصيب الذي لو كان أبوه حيا لأخذه, ثم ماتت خديجة, فهل يختص أخوها بالباقي, أو يشاركه ولد أخيه نجم الدين؟.(16/240)
ص -135-…فأجاب: تعارض فيه اللفظان, فيحتمل المشاركة. ولكن الأرجح اختصاص الأخ ويرجحه: أن التنصيص على الإخوة وعلى المستحقين منهم: كالخاص. وقوله: "ومن مات قبل الاستحقاق" كالعام فيقدم الخاص على العام.
تنبيه:
قال السبكي, وولده: محل هذه القاعدة: أن يستوي الإعمال والإهمال بالنسبة إلى الكلام. أما إذا بعد الإعمال عن اللفظ, وصار بالنسبة إليه كاللغز فلا يصير راجحا ومن ثم: لو أوصى بعود من عيدانه: وله عيدان لهو, وعيدان قسي, وبناء. فالأصح بطلان الوصية, تنزيلا على عيدان اللهو ; لأن اسم العود عند الإطلاق له.
واستعماله في غيره مرجوح وليس كالطبل لوقوعه على الجميع وقوعا واحدا. كذا فرق الأصحاب بين المسألتين.
ولو قال: زوجتك فاطمة, ولم يقل: بنتي: لم يصح على الأصح. لكثرة الفواطم.
فصل:
يدخل في هذه القاعدة: قاعدة "التأسيس أولى من التأكيد.
فإذا دار اللفظ بينهما ; تعين على التأسيس.
وفيه فروع:
منها: قال: أنت طالق. أنت طالق, ولم ينو شيئا, فالأصح الحمل على الاستئناف.
ومنها: إذا قال لزوجته: إن ظاهرت من فلانة الأجنبية, فأنت علي كظهر أمي, ثم تزوج تلك, وظاهر. فهل يصير مظاهرا من الزوجة الأولى؟ وجهان: أصحهما في التنبيه: لا. حملا للصفة على الشرط. فكأنه علق ظهاره على ظهاره من تلك, حال كونها أجنبية, وذلك تعليق على ما لا يكون ظهارا شرعيا. والثاني: نعم. ويجعل الوصف بقوله "الأجنبية", توضيحا, لا تخصيصا ; وهذا هو الأصح عند النووي.
القاعدة الحادية عشرة: "الخراج بالضمان"
هو حديث صحيح. أخرجه الشافعي, وأحمد, وأبو داود, والترمذي, والنسائي وابن ماجه, وابن حبان. من حديث عائشة. وفي بعض طرقه ذكر السبب. وهو أن رجلا ابتاع عبدا, فأقام عنده ما شاء الله أن يقيم, ثم وجد به عيبا, فخاصمه إلى النبي(16/241)
ص -136-…صلى الله عليه وسلم ; فرده عليه, فقال الرجل: يا رسول الله, قد استعمل غلامي. فقال: "الخراج بالضمان".
قال أبو عبيد: الخراج في هذا الحديث غلة العبد يشتريه الرجل فيستغله زمانا, ثم يعثر منه على عيب دلسه البائع, فيرده, ويأخذ جميع الثمن. ويفوز بغلته كلها ; لأنه كان في ضمانه, ولو هلك هلك من ماله, انتهى.
وكذا قال الفقهاء: معناه ما خرج من الشيء: من غلة, ومنفعة, وعين, فهو للمشتري عوض ما كان عليه من ضمان الملك, فإنه لو تلف المبيع كان من ضمانه, فالغلة له, ليكون الغنم في مقابلة الغرم.
وقد ذكروا هنا سؤالين:
أحدهما: لو كان الخراج في مقابلة الضمان ; لكانت الزوائد قبل القبض للبائع, ثم العقد, أو انفسخ, لكونه من ضمانه, ولا قائل به.
وأجيب: بأن الخراج معلل قبل القبض بالملك وبعده به, وبالضمان معا: واقتصر في الحديث على التعليل بالضمان ; لأنه أظهر عند البائع, وأقطع لطلبه, واستبعاده أن الخراج للمشتري.
الثاني: لو كانت العلة: الضمان, لزم أن يكون الزوائد للغاصب, لأن ضمانه أشد من ضمان غيره. وبهذا احتج لأبي حنيفة في قوله: "إن الغاصب لا يضمن منافع المغصوب". وأجيب: بأنه صلى الله عليه وسلم قضى بذلك في ضمان الملك, وجعل الخراج لمن هو مالكه, إذا تلف تلف على ملكه, وهو المشتري, والغاصب لا يملك المغصوب. وبأن الخراج: هو المنافع, جعلها لمن عليه الضمان. ولا خلاف أن الغاصب لا يملك المغصوب بل إذا أتلفها, فالخلاف في ضمانها عليه, فلا يتناول موضع الخلاف.
نعم: خرج عن هذا مسألة, وهي ما لو أعتقت المرأة عبدا, فإن ولاءه يكون لابنها ولو جنى جناية خطأ, فالعقل على عصبتها, دونه, وقد يجيء مثله في بعض العصبات, يعقل ولا يرث.
القاعدة الثانية عشرة: الخروج من الخلاف مستحب.
فروعها كثيرة جدا لا تكاد تحصى:(16/242)
فمنها: استحباب الدلك في الطهارة, واستيعاب الرأس بالمسح, وغسل المني بالماء, والترتيب في قضاء الصلوات, وترك صلاة الأداء خلف القضاء, وعكسه, والقصر في سفر يبلغ ثلاث مراحل, وتركه فيما دون ذلك, وللملاح الذي يسافر بأهله وأولاده, وترك الجمع. وكتابة العبد القوي الكسوب, ونية الإمامة. واجتناب استقبال القبلة(16/243)
ص -137-…واستدبارها مع الساتر, وقطع المتيمم الصلاة إذا رأى الماء ; خروجا من خلاف من أوجب الجميع. وكراهة الحيل في باب الربا. ونكاح المحلل خروجا من خلاف من حرمه.
وكراهة صلاة المنفرد خلف الصف, خروجا من خلاف من أبطلها. وكذا كراهة مفارقة الإمام بلا عذر, والاقتداء في خلال الصلاة ; خروجا من خلاف من لم يجز ذلك.
تنبيه:
لمراعاة الخلاف شروط:
أحدها: أن لا يوقع مراعاته في خلاف آخر,
ومن ثم كان فصل الوتر أفضل من وصله, ولم يراع خلاف أبي حنيفة لأن من العلماء من لا يجيز الوصل.
الثاني: أن لا يخالف سنة ثابتة ; ومن ثم سن رفع اليدين في الصلاة, ولم يبال برأي من قال بإبطاله الصلاة من الحنفية ; لأنه ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية نحو خمسين صحابيا.
الثالث: أن يقوى مدركه ; بحيث لا يعد هفوة.
ومن ثم كان الصوم في السفر أفضل لمن قوي عليه ; ولم يبال بقول داود: إنه لا يصح.
وقد قال إمام الحرمين في هذه المسألة: إن المحققين لا يقيمون لخلاف أهل الظاهر وزنا.
تنبيه:
شكك بعض المحققين على قولنا بأفضلية الخروج من الخلاف فقال: الأولوية والأفضلية, إنما تكون حيث سنة ثابتة. وإذا اختلفت الأمة على قولين: قول بالحل ; وقول بالتحريم, واحتاط المستبرئ لدينه, وجرى على الترك ; حذرا من ورطات الحرمة لا يكون فعله ذلك سنة ; لأن القول بأن هذا الفعل يتعلق به الثواب من غير عقاب على الترك, لم يقل به أحد, والأئمة كما ترى بين قائل بالإباحة, وقائل بالتحريم. فمن أين الأفضلية؟
وأجاب ابن السبكي: بأن أفضليته ليست لثبوت سنة خاصة فيه, بل لعموم الاحتياط والاستبراء للدين, وهو مطلوب شرعا مطلقا, فكان القول بأن الخروج من الخلاف أفضل, ثابتا من حيث العموم, واعتماده من الورع المطلوب شرعا.(16/244)
ص -138-…خاتمة:
من فروع هذه القاعدة, في العربية:
إذا دار الأمر في ضرورة الشعر, أو التناسب, بين قصر الممدود ومد المقصور. فالأول أولى ; لأنه متفق على جوازه, والثاني مختلف فيه.
القاعدة الثالثة عشرة: "الدفع أقوى من الرفع"
ولهذا: الماء المستعمل, إذا بلغ قلتين, في عوده طهورا, وجهان.
ولو استعمل القلتين ابتداء لم يصر مستعملا, بلا خلاف.
والفرق أن الكثرة في الابتداء دافعة, وفي الأثناء رافعة. والدفع أقوى من الرفع.
ومن ذلك: للزوج منع زوجته من حج الفرض, ولو شرعت فيه بغير إذنه, ففي جواز تحليلها قولان. ووجود الماء قبل الصلاة للمتيمم, يمنع الدخول فيها, وفي أثنائها لا يبطلها, حيث تسقط به. واختلاف الدين المانع من النكاح يدفعه ابتداء, ولا يرفعه في الأثناء, بل يوقف على انقضاء العدة. والفسق: يمنع انعقاد الإمامة ابتداء, ولو عرض في الأثناء, لم ينعزل.
القاعدة الرابعة عشرة: الرخص لا تناط بالمعاصي.
ومن ثم لا يستبيح العاصي بسفره شيئا من رخص السفر: من القصر والجمع والفطر والمسح ثلاثا, والتنقل على الراحلة, وترك الجمعة, وأكل الميتة ; وكذا التيمم, على وجه اختاره السبكي, ويأثم بترك الصلاة إثم تارك لها, مع إمكان الطهارة ; لأنه قادر على استباحة التيمم بالتوبة. والصحيح أنه يلزمه التيمم لحرمة الوقت, ويلزمه الإعادة لتقصيره بترك التوبة.
ولو وجد العاصي بسفره ماء, واحتاج إليه للعطش, لم يجز له التيمم بلا خلاف. وكذا من به مرض وهو عاص بسفره ; لأنه قادر على التوبة.
قال القفال في شرح التلخيص ; فإن قيل: كيف حرمتم أكل الميتة على العاصي بسفره مع أنه مباح للحاضر في حال الضرورة, وكذا من به مرض يجوز له التيمم في الحضر؟ فالجواب: أن ذلك وإن كان مباحا في الحضر عند الضرورة لكن سفره سبب لهذه الضرورة, وهو معصية, فحرمت عليه الميتة في الضرورة, كما لو سافر لقطع الطريق(16/245)
ص -139-…فجرح لا يجوز له التيمم لذلك الجرح, مع أن الحاضر الجريح يجوز له.
فإن قيل: تحريم الميتة والتيمم يؤدي إلى الهلاك؟.
فالجواب: أنه قادر على استباحته بالتوبة, انتهى.
وهل يجوز للعاصي بسفره: مسح المقيم؟ وجهان: أصحهما: نعم لأن ذلك جائز بلا سفر.
والثاني: لا, تغليظا عليه, كأكل الميتة.
وحكي الوجهان في العاصي بالإقامة كعبد أمره سيده بالسفر, فأقام.
قال في شرح المهذب: والمشهور: القطع بالجواز.
وطرد الإصطخري القاعدة في سائر الرخص, فقال: إن العاصي بالإقامة لا يستبيح شيئا منها.
وفرق الأكثرون بأن الإقامة نفسها ليست معصية ; لأنها كف, وإنما الفعل الذي يوقعه في الإقامة معصية. والسفر في نفسه معصية.
ومن فروع القاعدة:
لو استنجى بمحترم أو مطعوم, لا يجزئه في الأصح ; لأن الاقتصار على الحجر رخصة فلا يناط بمعصية. ومنها: لو استنجى بذهب أو فضة, ففي وجه لا يجزيه ; لأنه رخصة واستعمال النقد حرام, والصحيح الإجزاء.
ومنها: لو لبس خفا مغصوبا. ففي وجه لا يمسح عليه ; لأنه رخصة لمشقة النزع, وهذا عاص بالترك واستدامة اللبس, والصحيح الجواز كالتيمم بتراب مغصوب, فإنه يجوز, مع أن التيمم رخصة.
قال البلقيني: ونظيره المسح على خف مغصوب: غسل الرجل المغصوبة في الوضوء. وصورته: أن يجب عليه التمكين من قطعها في قصاص أو سرقة, فلا يمكن من ذلك ولو لبس خفا من ذهب أو فضة, ففيه الوجهان في المغصوب.
وقطع المتولي هنا بالمنع, لأن التحريم هنا لمعنى في نفس الخف, فصار كالذي لا يمكن متابعة المشي عليه.
قال في شرح المهذب: وينبغي أن يكون الحرير مثله.
ولو لبس المحرم الخف, فلا نقل فيه عندنا, والمصحح عند المالكية: أنه ليس له المسح وهو ظاهر, فإن المعصية هنا في نفس اللبس,
ثم رأيت الأسنوي ذكر المسألة في ألغازه وقال: إن المتجه المنع جزما, ولا يتخرج(16/246)
ص -140-…على الخلاف في المغصوب ونحوه ; فإن المنع هناك بطريق العرض, لا لمعنى في اللبس, ولهذا يلبس غيره, ويمسح عليه.
وأما المحرم: فقام به معنى آخر, أخرجه عن أهلية المسح لامتناع اللبس مطلقا.
ومنها: لو جن المرتد, وجب عليه قضاء صلوات أيام الجنون أيضا, بخلاف ما إذا حاضت المرتدة لا تقضي صلوات أيام الحيض ; لأن سقوط القضاء عن الحائض عزيمة وعن المجنون رخصة, والمرتد ليس من أهل الرخصة.
ومنها: لو شربت دواء فأسقطت, ففي وجه تقضي صلوات أيام النفاس ; لأنها عاصية, والأصح: لا, لأن سقوط القضاء عن النفساء عزيمة لا رخصة.
ومنها: لو ألقى نفسه, فانكسرت رجله وصلى قاعدا, ففي وجه: يجب القضاء لعصيانه, والأصح: لا.
ومنها: يجوز تقديم الكفارة على الحنث رخصة, فلو كان الحنث بمعصية فوجهان ; لأن الرخص لا تناط بالمعاصي.
ومنها: لو صب الماء بعد الوقت لغير غرض وتيمم, ففي وجه: تجب الإعادة لعصيانه والأصح: لا ; لأنه فاقد.
ومنها: إذا حكمنا بنجاسة جلد الآدمي بالموت ; ففي وجه: لا يطهر بالدباغ, لأن استعماله معصية, والرخص لا تناط بالمعاصي, والأصح: أنه يطهر كغيره وتحريمه ليس لعينه, بل للامتهان على أي وجه كان ; ولأنه يحرم استعماله, وإن قلنا بطهارته.
تنبيه:
معنى قولنا: "الرخص: لا تناط بالمعاصي"
أن فعل الرخصة متى توقف على وجود شيء, نظر في ذلك الشيء, فإن كان تعاطيه في نفسه حراما, امتنع معه فعل الرخصة, وإلا فلا, وبهذا يظهر الفرق بين المعصية بالسفر والمعصية فيه.
فالعبد الآبق, والناشزة, والمسافر للمكس, ونحوه. عاص بالسفر: فالسفر نفسه معصية والرخصة منوطة به مع دوامه, ومعلقة, ومترتبة عليه ترتب المسبب على السبب, فلا يباح.(16/247)
ومن سافر مباحا, فشرب الخمر في سفره, فهو عاص فيه, أي مرتكب المعصية في السفر المباح ; فنفس السفر: ليس معصية, ولا آثما به فتباح فيه الرخص ; لأنها منوطة بالسفر, وهو في نفسه مباح. ولهذا جاز المسح على, الخف المغصوب, بخلاف المحرم ; لأن الرخصة منوطة باللبس, وهو للمحرم معصية ; وفي المغصوب ليس معصية لذاته, أي لكونه لبسا, بل للاستيلاء على حق الغير, ولذا لو ترك اللبس, لم تزل المعصية, بخلاف المحرم.(16/248)
ص -141-…القاعدة الخامسة عشرة: "الرخصة لا تناط بالشك"
ذكرها الشيخ تقي الدين السبكي وفرع عليها:
أنه إذا غسل إحدى رجليه وأدخلها, لا يستبيح ; لأنه لم يدخلهما طاهرتين.
ومن فروعها:
وجوب الغسل: لمن شك في جواز المسح.
ووجوب الإتمام لمن شك في جواز القصر, وذلك في صور متعددة.
القاعدة السادسة عشرة: "الرضا بالشيء رضا بما يتولد منه"
وقريب منها القاعدة "المتولد من مأذون فيه لا أثر له"
ومن فروعها:
رضي أحد الزوجين بعيب صاحبه ; فزاد: فلا خيار له على الصحيح.
ومنها: أذن المرتهن للراهن في ضرب العبد المرهون, فهلك في الضرب. فلا ضمان لأنه تولد من مأذون فيه, كما لو أذن في الوطء فأحبل.
ومنها: قال مالك أمره: اقطع يدي, ففعل, فسرى, فهدر, على الأظهر,
ومنها: لو قطع قصاصا, أو حدا, فسرى: فلا ضمان,
ومنها: تطيب قبل الإحرام, فسرى إلى موضع آخر بعد الإحرام فلا فدية فيه.
ومنها: محل الاستجمار معفو عنه, فلو عرق فتلوث منه. فالأصح العفو.
ومنها: لو سبق ماء المضمضة, أو الاستنشاق إلى جوفه, ولم يبالغ. لم يفطر في الأصح بخلاف ما إذا بالغ, لأنه تولد من منهي عنه,
ويستثنى من القاعدة:
ما كان مشروطا بسلامة العاقبة, كضرب المعلم, والزوج, والولي, وتعزير الحاكم وإخراج الجناح, ونحو ذلك.
القاعدة السابعة عشرة: "السؤال معاد في الجواب"
فلو قيل له على وجه الاستخبار: أطلقت زوجتك؟ فقال: نعم كان إقرارا به, يؤاخذ به في الظاهر. ولو كان كاذبا.
ولو قيل ذلك على وجه التماس الإنشاء, فاقتصر على قوله: نعم, فقولان: أحدهما: أنه كناية لا يقع إلا بالنية.(16/249)
ص -142-…والثاني وهو الأصح صريح ; لأن السؤال معاد في الجواب, فكأنه قال: طلقتها وحينئذ: لا يقدح كونه صريحا في حصرهم ألفاظ الصريح في الطلاق, والفراق, والسراح, ولو قالت: أبني بألف, فقال: أبنتك ونوى الزوج الطلاق دونها, فوجهان:
أحدهما: لا يقع الطلاق ; لأن كلامه جواب على سؤالها, فكأن السؤال معاد في الجواب, وهي لم يوجد منها القبول لعدم نية الفراق, وهو إنما رضي بعوض. وهذا ما صححه الإمام.
والثاني: أنه يقع رجعيا. ويحمل ذلك على ابتداء خطاب منه ; لأنه مستقل بنفسه, ورجحه البغوي. ومن فروع القاعدة: مسائل الإقرار كلها.
إذا قال: لي عندك كذا ; فقال: نعم, أو ليس عليك كذا, فقال أجل في الصورتين, فهو إقرار بما سأله عنه.
ولو قال: لي عليك مائة, فقال: إلا درهما, ففي كونه مقرا بما عدا المستثنى وجهان أصحهما: المنع ; لأن الإقرار لا يثبت بالمفهوم.
القاعدة الثامنة عشرة: "لا ينسب للساكت قول"
هذه عبارة الشافعي رضي الله عنه ولهذا لو سكت عن وطء أمته لا يسقط المهر قطعا, أو عن قطع عضو منه, أو إتلاف شيء من ماله مع القدرة على الدفع لم يسقط ضمانه, بلا خلاف, بخلاف ما لو أذن في ذلك.
ولو سكتت الثيب عند الاستئذان في النكاح. لم يقم مقام الإذن قطعا.
ولو علم البائع بوطء المشتري الجارية في مقدار مدة الخيار. لا يكون إجازة في الأصح.
ولو حمل من مجلس الخيار, ولم يمنع من الكلام. لم يبطل خياره في الأصح.
وخرج عن القاعدة صور:
منها: البكر سكوتها في النكاح إذن للأب والجد قطعا, ولسائر العصبة والحاكم في الأصح.
ومنها سكوت المدعى عليه عن الجواب, بعد عرض اليمين عليه, يجعله كالمنكر الناكل. وترد اليمين على المدعي.
ومنها: لو نقض بعض أهل الذمة. ولم ينكر الباقون بقول, ولا فعل, بل سكتوا انتقض فيهم أيضا.(16/250)
ص -143-…ومنها: لو رأى السيد عبده يتلف مالا لغيره, وسكت عنه ضمنه.
ومنها: إذا سكت المحرم, وقد حلقه الحلال مع القدرة على منعه لزمه الفدية على الأصح.
ومنها: لو باع العبد البالغ, وهو ساكت. صح البيع, ولا يشترط أن يعترف بأن البائع سيده في الأصح.
ومنها: القراءة على الشيخ وهو ساكت ينزل منزلة نطقه في الأصح.
ومنها: مسائل أخر. ذكرها القاضي جلال الدين البلقيني, أكثرها على ضعيف, وبعضها اقترن به فعل قام مقام النطق, وبعضها فيه نظر.
القاعدة التاسعة عشرة: "ما كان أكثر فعلا, كان أكثر فضلا"
أصله قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة: "أجرك على قدر نصبك" رواه مسلم.
ومن ثم كان فصل الوتر أفضل من وصله ; لزيادة النية, والتكبير, والسلام. وصلاة النفل قاعدا على النصف من صلاة القائم. ومضطجعا على النصف من القاعد.
وإفراد النسكين أفضل من القران.
وخرج عن ذلك الصور:
الأولى: القصر أفضل من الإتمام بشرطه.
الثانية: الضحى أفضلها ثمان, وأكثرها: اثنتا عشر. والأول أفضل, تأسيا بفعله. صلى الله عليه وسلم:
الثالثة: الوتر بثلاث. أفضل منه بخمس, أو سبع, أو تسع, على ما قاله في البسيط تبعا لشيخه إمام الحرمين, وهو ضعيف, والمجزوم به في شرح المهذب خلافه, وإن كان الأكثر أفضل منه, ونقله ابن الرفعة عن الروياني, وأبي الطيب.
وقال ابن الأستاذ: ينبغي القطع به.
الرابعة: قراءة سورة قصيرة في الصلاة أفضل من بعض سورة, وإن طال, كما قاله المتولي ; لأنه المعهود من فعله صلى الله عليه وسلم غالبا.
الخامسة: الصلاة مرة في الجماعة أفضل من فعلها وحده خمسا وعشرين مرة.
السادسة: صلاة الصبح أفضل من سائر الصلوات, مع أنها أقصر من غيرها.
السابعة: ركعة الوتر أفضل من ركعتي الفجر, على الجديد, بل من التهجد في الليل, وإن كثرت ركعاته. ذكره في المطلب.
قال: ولعل سببه انسحاب حكمها على ما تقدمها.
الثامنة: تخفيف ركعتي الفجر, أفضل من تطويلهما.(16/251)
التاسعة: صلاة العيد, أفضل من صلاة الكسوف, مع كونها أشق, وأكثر عملا.(16/252)
ص -144-…العاشرة: الجمع بين المضمضة والاستنشاق بثلاث غرفات, والفصل بغرفتين أفضل منه بست.
الحادية عشرة: التصدق بالأضحية بعد أكل لقم يتبرك بها أفضل من التصدق بجميعها.
الثانية عشرة: الإحرام من الميقات أفضل منه من دويرة أهله في الأظهر.
الثالثة عشرة: الحج, والوقوف راكبا أفضل منه ماشيا, تأسيا بفعله صلى الله عليه وسلم في الصورتين.
تنبيه:
أنكر الشيخ عز الدين كون الشاق أفضل. وقال: إن تساوى العملان من كل وجه في الشرف, والشرائط, والسنن, كان الثواب على أشقهما أكثر, كاغتسال في الصيف والشتاء, سواء في الأفعال, ويزيد أجر الاغتسال في الشتاء بتحمل مشقة البرد, فليس التفاوت في نفس العملين, بل فيما لزم عنهما.
وكذلك مشاق الوسائل, كقاصد المساجد, أو الحج أو العمرة من مسافة قريبة, وآخر من بعيد, فإن ثوابهما يتفاوت بتفاوت الوسيلة, ويتساويان من جهة القيام بأصل العبادة, وإن لم يتساو العملان, فلا يطلق القول بتفضيل أشقهما. بدليل أن الإيمان أفضل الأعمال, مع سهولته وخفته على اللسان, وكذلك الذكر, على ما شهدت به الأخبار, وكذلك إعطاء الزكاة مع طيب النفس, أفضل من إعطائها مع البخل, ومجاهدة النفس, وكذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة, وجعل الذي يقرؤه ويتتعتع فيه, وهو عليه شاق له أجران.
القاعدة العشرون: "المتعدي أفضل من القاصر".
ومن ثم قال الأستاذ أبو إسحاق, وإمام الحرمين وأبوه: للقائم بفرض الكفاية مزية على العين ; لأنه أسقط الحرج عن الأمة.
وقال الشافعي: طلب العلم, أفضل من صلاة النافلة.
وأنكر الشيخ عز الدين هذا الإطلاق أيضا. وقال: قد يكون القاصر أفضل كالإيمان.
وقد قدم النبي صلى الله عليه وسلم. التسبيح عقب الصلاة على الصدقة: وقال: "خير أعمالكم الصلاة".(16/253)
وسئل أي الأعمال أفضل؟ فقال: "إيمان بالله, ثم جهاد في سبيل الله, ثم حج مبرور", وهذه كلها قاصرة. ثم اختار تبعا للغزالي في الإحياء: أن أفضل الطاعات على قدر المصالح الناشئة عنها.(16/254)
ص -145-…القاعدة الحادية والعشرون:"الفرض أفضل من النفل"
قال صلى الله عليه وسلم فيما يحكيه عن ربه: "وما تقرب إلي المتقربون بمثل أداء ما افترضت عليهم" رواه البخاري.
قال إمام الحرمين: قال الأئمة: خص الله نبيه صلى الله عليه وسلم بإيجاب أشياء لتعظيم ثوابه, فإن ثواب الفرائض يزيد على ثواب المندوبات بسبعين درجة.
وتمسكوا بما رواه سلمان الفارسي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في شهر رمضان: "من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه, ومن أدى فريضة فيه, كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه" فقابل النفل فيه بالفرض في غيره, وقابل الفرض فيه بسبعين فرضا في غيره, فأشعر هذا بطريق الفحوى أن الفرض يزيد على النفل سبعين درجة ا هـ.
قال ابن السبكي: وهذا أصل مطرد لا سبيل إلى نقضه بشيء من الصور, وقد استثني:
فروع:
أحدها: إبراء المعسر فإنه أفضل من إنظاره, وإنظاره واجب, وإبراؤه مستحب.
وقد انفصل عنه التقي السبكي بأن الإبراء يشتمل على الإنظار اشتمال الأخص على الأعم, لكونه تأخيرا للمطالبة, فلم يفضل ندب واجبا ; وإنما فضل واجب. وهو الإنظار الذي تضمنه الإبراء, وزيادة "وهو خصوص الإبراء" واجبا آخر. وهو مجرد الإنظار.
قال ابنه: أو يقال: إن الإبراء محصل لمقصود الإنظار وزيادة من غير اشتماله عليه.
قال: وهذا على تقدير تسليم أن الإبراء أفضل, وغاية ما استدلوا عليه بقوله تعالى: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} وهذا يحتمل أن يكون افتتاح كلام, فلا يكون دليلا على أن الإبراء أفضل, ويتطرق من هذا إلى أن الإنظار أفضل: لشدة ما ينال المنظر من ألم الصبر, مع تشويف القلب. وهذا فضل ليس في الإبراء الذي انقطع فيه اليأس.
الثاني: ابتداء السلام, فإنه سنة: والرد واجب, والابتداء أفضل, لقوله صلى الله عليه وسلم: "وخيرهما الذي يبدأ صاحبه بالسلام".(16/255)
ص -146-…وحكى القاضي حسين في تعليقه وجهين: في أن الابتداء أفضل أو الجواب.
ونوزع في ذلك بأنه ليس في الحديث: أن الابتداء أفضل من الجواب, بل إن المبتدئ خير من المجيب. وذلك لأن المبتدئ فعل حسنة وتسبب إلى فعل حسنة. وهي الجواب مع ما دل عليه الابتداء من حسن الطوية, وترك الهجر والجفاء, الذي كرهه الشارع.
الثالث: قال ابن عبد السلام: صلاة نافلة واحدة أفضل من إحدى الخمس الواجب فعلها على من ترك واحدة منها, ونسي عينها.
قلت: لم أر من تعقبه, وهو أولى بالتعقب من الأولين. وما ذكره من أن صلاة نافلة واحدة أفضل من إحدى الخمس المذكورة, فيه نظر. والذي يظهر: أنها إن لم تزد عليها في الثواب لا تنقص عنها. الرابع: الأذان سنة وهو على ما رجحه الإمام النووي: أفضل من الإمامة, وهي فرض كفاية, أو عين.
وقد سئل عن ذلك السبكي في الحلبيات,
فأجاب بوجوه:
منها: أنه لا يلزم من كون الجماعة فرضا كون الإمامة فرضا. لأن الجماعة: تتحقق بنية المأموم الائتمام, دون نية الإمام.
ولو نوى الإمام فنيته محصلة لجزء الجماعة. والجزء هنا: ليس مما يتوقف عليه الكل لما بيناه, فلم يلزم وجوبه, وإذا لم يلزم ذلك لم يلزم القول بأن الإمامة فرض كفاية, فلم يحصل تفضيل نفل على فرض, وإنما نية الإمام شرط في حصول الثواب له.
ومنها: أن الجماعة صفة للصلاة المفروضة, والأذان عبادة مستقلة, والقاعدة المستقرة في أن الفرض أفضل من النفل في العبادتين المستقلتين أو في الصفتين.
أما في عبادة, وصفة, فقد تختلف.
ومنها: أن الأذان والجماعة جنسان, والقاعدة المستقرة في أن الفرض أفضل من النفل في الجنس الواحد.
أما في الجنسين: فقد تختلف, فإن الصنائع والحرف فروض كفايات, ويبعد أن يقال: إن واحدة من رذائلها أفضل من تطوع الصلاة, وإن سلم أنه أفضل من جهة أن فيه خروجا من الإثم, ففي تطوع الصلاة من الفضائل ما قد يجبر ذلك, أو يزيد عليه, وجنس الفرض أفضل من جنس النفل.(16/256)
وقد يكون في بعض الجنس المفضول ما يربو على بعض أفراد الجنس الفاضل, كتفضيل بعض النساء على بعض الرجال.(16/257)
ص -147-…وإذا تؤمل ما جمعه الأذان من الكلمات العظيمة ومعانيها ودعوتها ظهر تفضيله وأنى يدانيه صناعة؟ قيل: إنها فرض كفاية.
الخامس: الوضوء قبل الوقت سنة وهو أفضل منه في الوقت صرح به القمولي في الجواهر وإنما يجب بعد الوقت,
وقلت قديما:
الفرض أفضل من تطوع عابد…حتى ولو قد جاء منه بأكثر
إلا التطهر قبل وقت وابتدا …للسلام كذاك إبرا معسر
القاعدة الثانية والعشرون: "الفضيلة المتعلقة بنفس العبادة أولى من المتعلقة بمكانها".
قال في شرح المهذب: هذه قاعدة مهمة صرح بها جماعة من أصحابنا وهي مفهومة من كلام الباقين. ويتخرج عليها مسائل مشهورة:
منها: الصلاة في جوف الكعبة أفضل من الصلاة خارجها فإن لم يرج فيها الجماعة وكانت خارجها فالجماعة خارجها أفضل.
ومنها: صلاة الفرض في المسجد أفضل منه في غيره.
فلو كان مسجد لا جماعة فيه وهناك جماعة في غيره فصلاتها مع الجماعة خارجه أفضل من الانفراد في المسجد.
ومنها: صلاة النفل في البيت أفضل منها في المسجد لأن فعلها في البيت فضيلة تتعلق بها, فإنه سبب لتمام الخشوع والإخلاص. وأبعد من الرياء وشبهه حتى أن صلاة النفل في بيته أفضل منها في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لذلك.
ومنها: القرب من الكعبة في الطواف مستحب والرمل مستحب, فلو منعته الزحمة من الجمع بينهما ولم يمكنه الرمل مع القرب, وأمكنه مع البعد, فالمحافظة على الرمل مع البعد أولى من المحافظة على القرب بلا رمل, لذلك.
وخرج عن ذلك صور:
منها: الجماعة القليلة في المسجد القريب إذا خشي التعطيل لو لم يحضر فيه. أفضل من الكثيرة في غيره.
ومنها الجماعة في المسجد أفضل منها في غيره وإن كثرت, صرح به الماوردي, لكن خالفه أبو الطيب.(16/258)
ص -148-…القاعدة الثالثة والعشرون: "الواجب لا يترك إلا لواجب".
وعبر عنها قوم بقولهم: "الواجب لا يترك لسنة" وقوم بقولهم "ما لا بد منه لا يترك إلا لما لا بد منه" وقوم بقولهم "جواز ما لو لم يشرع لم يجز. دليل على وجوبه", وقوم بقولهم: ما كان ممنوعا إذا جاز وجب.
وفيها فروع:
منها: قطع اليد في السرقة, لو لم يجب لكان حراما.
ومنها: إقامة الحدود على ذوي الجرائم.
ومنها: وجوب أكل الميتة للمضطر.
ومنها: الختان, لو لم يجب لكان حراما لما فيه من قطع عضو وكشف العورة, والنظر إليها.
ومنها: العود من قيام الثالثة إلى التشهد الأول, يجب لمتابعة الإمام لأنها واجبة, ولا يجوز للإمام والمنفرد ; لأنه ترك فرض لسنة وكذا العود إلى القنوت.
ومنها: التنحنح بحيث يظهر حرفان, إن كان لأجل القراءة فعذر ; لأنه لواجب أو للجهر فلا ; لأنه سنة.
وخرج عن هذه القاعدة صور:
منها: سجود السهو, وسجود التلاوة. لا يجبان, ولو لم يشرعا لم يجوزا.
ومنها: النظر إلى المخطوبة, لا يجب, ولو لم يشرع, لم يجز.
ومنها: الكتابة لا تجب إذا طلبها الرقيق الكسوب, وقد كانت المعاملة قبلها ممنوعة لأن السيد لا يعامل عبده.
ومنها: رفع اليدين على التوالي في تكبيرات العيد.
ومنها: قتل الحية في الصلاة: لا يجب, ولو لم يشرع لكان مبطلا للصلاة.
ومنها: زيادة ركوع في صلاة الكسوف: لا يجب, ولو لم يشرع لم يجز.
ومن المشكل هنا قول المنهاج: ولا يجوز زيادة ركوع ثالث, لتمادي الكسوف, ولا نقصه للانجلاء, في الأصح فإنه يشعر بوجوبه, وهو مخالف لما في شرح المهذب: من أنه لو صلاها ركعتين كسنة الظهر صحت, وكان تاركا للأفضل.
وقد جمع بينهما الشيخ جلال الدين المحلي, بأن ذاك حيث نوى في الإحرام أداءها على تلك الكيفية, فلا يجوز له التغيير.(16/259)
ص -149-…تنبيه:
استنبطت من هذه القاعدة دليلا لما أفتيت به, من أن الصلاة في صف شرع فيه قبل إتمام صف أمامه, لا يحصل فضيلة الجماعة لأمرهم بالتخطي, إذا كان أمامه فرجة لأنهم مقصرون بتركها. وأصل التخطي مكروه أو حرام, كما اختاره النووي.
فلولا أنه واجب لإتمام الصف لم يجز, وليس هو واجبا لصحة الصلاة, فتعين أن يكون لحصول الفضيلة.
القاعدة الرابعة والعشرون: ما أوجب أعظم الأمرين بخصوصه لا يوجب أهونهما بعمومه
ذكرها الرافعي. وفيها فروع:
منها: لا يجب على الزاني التعزير بالملامسة والمفاخذة فإن أعظم الأمرين وهو الحد قد وجب.
ومنها: زنا المحصن. لم يوجب أهون الأمرين وهو الجلد بعموم كونه زنا خلافا لابن المنذر.
ومنها: خروج المني, لا يوجب الوضوء على الصحيح بعموم كونه خارجا, فإنه قد أوجب الغسل, الذي هو أعظم الأمرين.
ونقضت هذه القاعدة بصور:
منها: الحيض والنفاس والولادة. فإنها توجب الغسل, مع إيجابها الوضوء أيضا. ومنها: من اشترى فاسدا ووطئ: لزمه المهر وأرش البكارة ولا يندرج في المهر. ومنها: لو شهدوا على محصن بالزنا فرجم, ثم رجعوا: اقتص منهم, ويحدون للقذف أولا.
ومنها: من قاتل من أهل الكمال أكثر من غيره يرضخ له مع السهم, ذكره الرافعي عن البغوي وغيره.
القاعدة الخامسة والعشرون: ما ثبت بالشرع مقدم على ما ثبت بالشرط.
ولهذا لا يصح نذر الواجب.
ولو قال: طلقتك بألف على أن لي الرجعة. سقط قوله "بألف" ويقع رجعيا ; لأن المال ثبت بالشرط, والرجعة بالشرع ; فكان أقوى,
ونحوه: تدبير المستولدة, لا يصح ; لأن عتقها بالموت ثابت بالشرع, فلا يحتاج معه إلى التدبير.(16/260)
ص -150-…ولو اشترى قريبه ونوى عتقه عن الكفارة, لا يقع عنها ; لأن عتقه بالقرابة حكم قهري والعتق عن الكفارة يتعلق بإيقاعه واختياره.
ومن لم يحج إذا أحرم بتطوع أو نذر. وقع عن حجة الإسلام ; لأنه يتعلق بالشرع, ووقوعه عن التطوع والنذر, متعلق بإيقاعه عنهما, والأول, أقوى.
ولو نكح أمة مورثة ثم قال: إذا مات سيدك فأنت طالق. فمات السيد والزوج يرثه فالأصح أنه لا يقع الطلاق ; لأنه اجتمع المقتضي للانفساخ, ووقوع الطلاق في حالة واحدة. والجمع بينهما ممتنع فقدم أقواهما, والانفساخ أقوى ; لأنه حكم ثبت بالقهر شرعا, ووقوع الطلاق حكم تعلق باختياره, والأول أقوى.
ولو شرط مقتضى العقد ; لم يضره ولم ينفعه. ومقتضى العقد مستفاد منه بجعل الشارع لا من الشرط. تنبيه:
قال ابن السبكي: هذه الفروع تدل لأنه إذا اجتمع خيار المجلس, وخيار الشرط: يكون ابتداء خيار الشرط من التفرق, وهو وجه. لأن ما قبله ثابت بالشرع, فلا يحتاج إلى الشرط.
قال: وقد يقال لا معارضة بينهما, عند من يجوز اجتماع علتين.
القاعدة السادسة والعشرون: ماحرم استعماله حرم اتخاذه.
ومن ثم حرم اتخاذ آلات الملاهي وأواني النقدين والكلب لمن لايصيد والخنزير والفواسق والخمر والحرير والحلي للرجل.
ونقضت هذه القاعدة بمسألة الباب في الصلح فإن الأصح أن له فتحه إذا سمره.
وأجيب عنها: بأن أهل الدرب يمنعونه من الاستعمال فإن ماتوا فورثتهم.
وأما متخذ الإناء ونحوه فليس عنده من يمنعه فربما جره اتخاذه إلى استعماله.
القاعدة السابعة والعشرون: ما حرم أخذه حرم إعطاؤه.
كالربا ومهر البغي, وحلوان الكاهن والرشوة, وأجرة النائحة والزامر. ويستثنى صور:
منها: الرشوة للحاكم, ليصل إلى حقه, وفك الأسير وإعطاء شيء لمن يخاف هجوه, ولو خاف الوصي أن يستولي غاصب على المال فله أن يؤدي شيئا ليخلصه وللقاضي بذل المال على التولية, ويحرم على السلطان أخذه.(16/261)
ص -151-…تنبيه:
يقرب من هذه القاعدة: قاعدة: "ما حرم فعله حرم طلبه" إلا في مسألتين:
الأولى: إذا ادعى دعوة صادقة, فأنكر الغريم, فله تحليفه.
الثانية: الجزية يجوز طلبها من الذمي, مع أنه يحرم عليه إعطاؤها ; لأنه متمكن من إزالة الكفر بالإسلام, فإعطاؤه إياها إنما هو على استمراره على الكفر وهو حرام.
القاعدة الثامنة والعشرون: المشغول لا يشغل.
ولهذا لو رهن رهنا بدين, ثم رهنه بآخر: لم يجز في الجديد.
ومن نظائره: لا يجوز الإحرام بالعمرة للعاكف بمنى, لاشتغاله بالرمي والمبيت.
ومنها: لا يجوز إيراد عقدين على عين في محل واحد.
واعلم أن إيراد العقد على العقد ضربان:
أحدهما: أن يكون قبل لزوم الأول وإتمامه, فهو إبطال للأول إن صدر من البائع كما لو باع المبيع في زمن الخيار, أو أجره أو أعتقه فهو فسخ وإمضاء للأول إن صدر من المشتري بعد القبض.
الثاني: أن يكون بعد لزومه, وهو ضربان:
الأول: أن يكون مع غير العاقد الأول, فإن كان فيه إبطال الحق الأول. لغا, كما لو رهن داره ثم باعها بغير إذن المرتهن, أو آجرها مدة يحل الدين قبلها, وإن لم يكن فيه إبطال للأول صح, كما لو أجر داره ثم باعها لآخر, فإنه يصح لأن مورد البيع: العين, والإجارة المنفعة. وكذا لو زوج أمته ثم باعها.
الثاني: أن يكون مع العاقد الأول, فإن اختلف المورد صح قطعا, كما لو أجر داره ثم باعها من المستأجر, صح ولا تنفسخ الإجارة في الأصح, بخلاف ما لو تزوج بأمة ثم اشتراها فإنه يصح, وينفسخ النكاح ; لأن ملك اليمين أقوى من ملك النكاح, فسقط الأضعف بالأقوى, كذا عللوه. واستشكله الرافعي بأن هذا موجود في الإجارة.
ولو رهنه دارا, ثم أجرها منه. جاز, ولا يبطل الرهن, جزم به الرافعي.(16/262)
قال: وهكذا لو أجرها, ثم رهنها منه. يجوز ; لأن أحدهما ورد على محل الآخر فإن الإجارة على المنفعة, والرهن على الرقبة, وإن اتحد المورد, كما لو استأجر زوجته لإرضاع ولده, فقال العراقيون: لا يجوز ; لأنه يستحق الانتفاع بها في تلك الحالة, فلا يجوز أن يعقد عليها عقدا آخر يمنع استيفاء الحق والأصح: أنه يجوز, ويكون الاستئجار من حين يترك الاستمتاع.(16/263)
ص -152-…ولو استأجر إنسانا للخدمة شهرا, لم يجز أن يستأجر تلك المدة لخياطة ثوب, أو عمل آخر. ذكره الرافعي, في النفقات.
قال الزركشي: ومنه يؤخذ امتناع استئجار العكامين للحج.
قال: وهذا من قاعدة "شغل المشغول لا يجوز" بخلاف شغل الفارغ.
القاعدة التاسعة والعشرون: "المكبر لا يكبر"
ومن ثم لا يشرع التثليث في غسلات الكلب, خلافا لما وقع في الشامل الصغير, ولا التغليظ في أيمان القسامة: ولا دية العمد, وشبهه, ولا الخطأ إذا غلظت بسبب, فلا يزداد التغليظ بسبب آخر في الأصح. وإذا أخذت الجزية باسم زكاة ; وضعفت لا يضعف الجبران في الأصح ; لأنا لو ضعفناه لكان ضعف الضعف. والزيادة على الضعف لا تجوز.
تنبيه:
تجري هذه القاعدة في العربية.
ومن فروعها:
الجمع يجوز جمعه مرة ثانية, بشرط أن لا يكون على صيغة منتهى الجموع.
ونظيره في العربية أيضا قاعدة: المصغر لا يصغر. وقاعدة المعرف لا يعرف.
ومن ثم امتنع دخول اللام المعرفة على العلم والمضاف.
القاعدة الثلاثون: من استعجل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه.
من فروعها:
إذا خللت الخمرة بطرح شيء فيها, لم تطهر.
ونظيره: إذا ذبح الحمار ليؤخذ جلده ; لم يجز. كما جزم به في الروضة.
قال بعضهم: وقياسه: أنه لو دبغ لم يطهر, لكن صرح القمولي في الجواهر بخلافه.
ومنها: حرمان القاتل الإرث.
ومنها: ذكر الطحاوي, في مشكل الآثار: أن المكاتب إذا كانت له قدرة على الأداء فأخره ليدوم له النظر إلى سيدته, لم يجز له ذلك ; لأنه منع واجبا عليه, ليبقى له ما يحرم عليه إذا أداه, ونقله عنه السبكي, في شرح المنهاج. وقال: إنه تخريج حسن, لا يبعد من جهة الفقه.(16/264)
ص -153-…وخرج عن القاعدة صور:
منها: لو قتلت أم الولد سيدها عتقت قطعا ; لئلا تختل قاعدة "أن أم الولد تعتق بالموت" وكذا لو قتل المدبر سيده.
ولو قتل صاحب الدين المؤجل المديون: حل في الأصح.
ولو قتل الموصى له الموصي: استحق الموصى به في الأصح.
ولو أمسك زوجته مسيئا عشرتها, لأجل إرثها: ورثها في الأصح, أو لأجل الخلع, نفذ في الأصح. ولو شربت دواء فحاضت ; لم يجب عليها قضاء الصلاة قطعا: وكذا لو نفست به, أو رمى نفسه من شاهق ليصلي قاعدا, لا يجب القضاء في الأصح.
ولو طلق في مرضه, فرارا من الإرث ; نفذ. ولا ترثه في الجديد ; لئلا يلزم التوريث بلا سبب, ولا نسب.
أو باع المال قبل الحول, فرارا من الزكاة, صح. جزما. ولم تجب الزكاة, لئلا يلزم إيجابها في مال لم يحل عليه الحول في ملكه, فتختل قاعدة الزكاة.
أو شرب شيئا ليمرض قبل الفجر. فأصبح مريضا: جاز له الفطر. قاله الروياني, أو أفطر بالأكل متعديا ليجامع, فلا كفارة.
ولو جبت ذكر زوجها أو هدم المستأجر الدار المستأجرة, ثبت لهما الخيار في الأصح.
ولو خلل الخمر بغير طرح شيء فيها, كنقلها من الشمس إلى الظل, وعكسه: طهرت في الأصح. ولو قتلت الحرة نفسها قبل الدخول, استقر المهر في الأصح.
تنبيه:
إذا تأملت ما أوردناه علمت أن الصور الخارجة عن القاعدة أكثر من الداخلة فيها. بل في الحقيقة, لم يدخل فيها غير حرمان القاتل الإرث.
وأما تخليل الخمر, فليست العلة في الاستعجال على الأصح, بل تنجيس الملاقي له ثم عوده عليه بالتنجيس.
وأما مسألة الطحاوي, فليست من الاستعجال في شيء.
وكنت أسمع شيخنا قاضي القضاة علم الدين البلقيني يذكر عن والده: أنه زاد في القاعدة لفظا لا يحتاج معه إلى الاستثناء.
فقال: من استعجل شيئا قبل أوانه, ولم تكن المصلحة في ثبوته, عوقب بحرمانه.
لطيفة:(16/265)
رأيت لهذه القاعدة مثلا في العربية, وهو: أن اسم الفاعل يجوز أن ينعت بعد استيفاء. معموله, فإن نعت قبله, امتنع عمله من أصله.(16/266)
ص -154-…القاعدة الحادية والثلاثون: النفل أوسع من الفرض
ولهذا لا يجب فيه القيام, ولا الاستقبال في السفر, ولا تجديد الاجتهاد في القبلة. ولا تكرير التيمم, ولا تبييت النية, ولا يلزم بالشروع.
وقد يضيق النفل عن الفرض في صور ترجع إلى قاعدة: "ما جاز للضرورة يتقدر بقدرها".
من ذلك: التيمم لا يشرع للنفل في وجه, وسجود السهو لا يشرع في النفل في قول غريب.
والنيابة عن المعضوب, لا تجزئ في حج التطوع, في قول.
القاعدة الثانية والثلاثون: الولاية الخاصة أقوى من الولاية العامة.
ولهذا لا يتصرف القاضي مع وجود الولي الخاص وأهليته.
ولو أذنت للولي الخاص أن يزوجها بغير كفء ففعل. صح, أو للحاكم. لم يصح في الأصح.
وللولي الخاص استيفاء القصاص, والعفو على الدية, ومجانا, وليس للإمام العفو مجانا.
ولو زوج الإمام لغيبة الولي, وزوجها الولي الغائب بآخر في وقت واحد, وثبت ذلك بالبينة, قدم الولي. إن قلنا: إن تزويجه بطريق النيابة عن الغائب. وإن قلنا: إنه بطريق الولاية, فهل يبطل؟ كما لو زوج الوليان معا, أو تقدم ولاية الحاكم لقوة ولايته وعمومها كما لو قال الولي: كنت زوجتها في الغيبة, فإن نكاح الحاكم يقدم, كما صرحوا به. تردد فيه صاحب الكفاية, والأصح: أن تزويجه بالنيابة. بدليل عدم الانتقال إلى الأبعد, فعلى هذا يقدم نكاح الولي.
ضابط:
الولي قد يكون وليا في المال والنكاح, كالأب, والجد وقد يكون في النكاح فقط, كسائر العصبة, وكالأب فيمن طرأ سفهها, وقد يكون في المال فقط, كالوصي.(16/267)
ص -155-…فائدة:
قال السبكي: مراتب الولاية أربعة:
الأولى: ولاية الأب والجد, وهي شرعية. بمعنى أن الشارع فوض لهما التصرف في مال الولد لوفور شفقتهما. وذلك وصف ذاتي لهما, فلو عزلا أنفسهما, لم ينعزلا بالإجماع ; لأن المقتضي للولاية: الأبوة, والجدودة, وهي موجودة مستمرة لا يقدح العزل فيها, لكن إذا امتنعا من التصرف تصرف القاضي, وهكذا ولاية النكاح لسائر العصبات.
الثانية: وهي السفلى. الوكيل, تصرفه مستفاد من الإذن, مقيد بامتثال أمر الموكل فلكل منهما العزل. وحقيقته: أنه فسخ عقد الوكالة, أو قطعه. والوكالة: عقد من العقود قابل للفسخ.
واختلف الأصحاب فيما إذا كانت بلفظ الإذن, هل هي عقد ; فيقبل الفسخ, أو إباحة, فلا تقبله؟ لأن الإباحة لا ترتد بالرد, والمشهور: الأول. وفي الفرق بين الوكالة والإذن غموض.
الثالثة: الوصية. وهي بين المرتبتين, فإنها من جهة كونها تفويضا تشبه الوكالة. ومن جهة كون الموصي لا يملك التصرف بعد موته, وإنما جوزت وصيته للحاجة, لشفقته على الأولاد, وعلمه بمن هو أشفق عليهم تشبه الولاية. وأبو حنيفة لاحظ الثاني, فلم يجوز له عزل نفسه, والشافعي لاحظ الأول, فجوز له عزل نفسه على المشهور من مذهبه. ولنا وجه كمذهب أبي حنيفة.
الرابعة: ناظر الوقف يشبه الوصي من جهة كون ولايته ثابتة بالتفويض, ويشبه الأب من جهة أنه ليس لغيره تسلط على عزله, والوصي يتسلط الموصي على عزله في حياته بعد التفويض: بالرجوع عن الوصية. ومن جهة أنه يتصرف في مال الله تعالى, فالتفويض أصله أن يكون منه. ولكنه أذن فيه للواقف, فهي ولاية شرعية. ومن جهة أنه إما منوط بصفة, كالرشد ونحوه, وهي مستمرة, كالأبوة. وإما منوط بذاته, كشرط النظر لزيد ; وهو مستمر, فلا يفيد العزل. كما لا يفيد في الأب, بخلاف الوكيل والوصي, فإنه يقطع ذلك العقد, أو يرفعه.(16/268)
قال: فلذلك أقول: إن الذي شرط له الواقف النظر معينا, أو موصوفا بصفة. إذا عزل نفسه. لا ينفذ عزله لنفسه, لكن إن امتنع من النظر, أقام الحاكم مقامه, وإن لم نجد ذلك مصرحا به في كلام الأصحاب, إلا ابن الصلاح. قال في فتاويه: لو عزل الناظر نفسه, فليس للواقف نصب غيره, فإنه لا نظر له, بل ينصب الحاكم ناظرا, وهذا يوهم أنه إذا عزل نفسه انعزل, ويمكن تأويله.(16/269)
ص -156-…قال: ويوضح ذلك أن شرط النظر من الواقف: إما تمليك, أو توكيل. فإن كان توكيلا لم يصح أن يكون توكيلا عنه ; لأنه لا نظر له, فكيف يوكل؟ ولأنه لو كان وكيلا عنه لجاز له عزله, وهو لو عزله لم ينفذ. ولا عن الموقوف عليه, للأمرين, فلم يبق إلا أنه تمليك, أو توكيل عن الله تعالى, أو إثبات حق في الوقف ابتداء, فإن رقبة الموقوف تنتقل إلى الله تعالى, ولا بد لها من متصرف, واعتبر الشارع حكم الواقف في الصرف, وفي تعيين المتصرف, وهو الناظر, فعلم أن استحقاق الناظر النظر بالشرط كاستحقاق الموقوف عليه الغلة, والموقوف عليه لو أسقط حقه من الغلة, لم يسقط, فكذلك إسقاط النظر.
ثم إن جعلناه تمليكا منه, حسن اشتراط القبول باللفظ, كسائر التمليكات. وإن جعلناه استخلافا عن الله تعالى لم يشترط.
قال: ويحتمل أن لا يشترط أيضا على التمليك ; لأنه ليس بعقد مستقل, بل وصف في الوقف, كسائر شروطه.
قال: وهذا هو الأقوى.
قال: بل أزيد أنه لو رد, لا يرتد, بخلاف الوقف على معين, حيث يرتد بالرد, لما قلناه: من أن النظر ليس مستقلا, بل وصف في الوقف تابع له, كسائر شروطه. إلا أنا لا نضره بإلزام النظر. بل إن شاء نظر, وإن شاء لم ينظر ; فينظر الحاكم.
قال: ثم هذا كله إذا كان المشروط له النظر معينا. أما إذا كان موصوفا, فينبغي أن لا يشترط القبول قطعا كالأوقاف العامة.
ثم قال: فإن قيل: النظر حق من الحقوق, فيتمكن صاحبه من إسقاطه, فإن كل من ملك شيئا. له أن يخرجه عن ملكه, عينا كان أو منفعة, أو دينا, فكيف لا يتمكن الناظر من إسقاط حقه من النظر؟ فالجواب: أن ذاك فيما هو في حكم خصلة واحدة. وحق النظر في كل وقت يتجدد بحسب صفة فيه, وهو الرشد مثلا إن علقه الواقف بها, أو بحسب ذاته, إن شروطه له بعينه, فلا يصح إسقاطه, كما لو أسقط الأب أو الجد حق الولاية من مال ولده, أو التزويج, ونحوه انتهى كلام السبكي ملخصا من كتابه "تسريح الناظر في انعزال الناظر".(16/270)
ص -157-…القاعدة الثالثة والثلاثون: لا عبرة بالظن البين خطؤه.
من فروعها:
لو ظن المكلف, في الواجب الموسع أنه لا يعيش إلى آخر الوقت. تضيق عليه, فلو لم يفعله, ثم عاش وفعله: فأداء على الصحيح.
ولو ظن أنه متطهر, فصلى, ثم بان حدثه.
أو ظن دخول الوقت, فصلى, ثم بان أنه لم يدخل.
أو طهارة الماء, فتوضأ به, ثم بان نجاسته.
أو ظن أن إمامه مسلم, أو رجل قارئ, فبان كافرا, أو امرأة, أو أميا. أو بقاء الليل, أو غروب الشمس, فأكل, ثم بان خلافه.
أو دفع الزكاة إلى من ظنه من أهلها, فبان خلافه.
أو رأوا سوادا فظنوه عدوا فصلوا صلاة شدة الخوف, فبان خلافه, أو بان أن هناك خندقا.
أو استناب على الحج, ظانا أنه لا يرجى برؤه, فبرئ: لم يجز في الصور كلها.
فلو أنفق على البائن ظانا حملها, فبانت حائلا: استرد.
وشبهه الرافعي: بما إذا ظن أن عليه دينا فأداه. ثم بان خلافه. وما إذا أنفق على ظن إعساره, ثم بان يساره.
ولو سرق دنانير ظنها فلوسا, قطع. بخلاف ما لو سرق مالا يظنه ملكه, أو ملك أبيه, فلا قطع, كما لو وطئ امرأة يظنها زوجته, أو أمته.
ويستثنى صور:
منها لو صلى خلف من يظنه متطهرا, فبان حدثه: صحت صلاته.
ولو رأى المتيمم ركبا, فظن أن معهم ماء: توجه عليه الطلب.
ولو خاطب امرأته بالطلاق. وهو يظنها أجنبية, أو عبده بالعتق, وهو يظنه لغيره ; نفذ.
ولو وطئ أجنبي أجنبية حرة يظنها زوجته الرقيقة: فالأصح أنها تعتد بقرأين, اعتبارا بظنه, أو أمة يظنها زوجته الحرة. فالأصح أنها تعتد بثلاثة أقراء لذلك.(16/271)
ص -158-…القاعدة الرابعة والثلاثون: الاشتغال بغير المقصود إعراض عن المقصود.
ولهذا لو حلف: لا يسكن هذه الدار, ولا يقيم فيها, فتردد ساعة: حنث, وإن اشتغل بجمع متاعه, والتهيؤ لأسباب النقلة: فلا.
ولو قال طالب الشفعة للمشتري, عند لقائه: بكم اشتريت؟ أو اشتريت رخيصا؟ بطل حقه.
ولو كتب: أنت طالق, ثم استمد. فكتب: إذا جاءك كتابي, فإن لم يحتج إلى الاستمداد طلقت, وإلا فلا.
القاعدة الخامسة والثلاثون: لا ينكر المختلف فيه, وإنما ينكر المجمع عليه.
ويستثنى صور, ينكر فيها المختلف فيه:
إحداها: أن يكون ذلك المذهب بعيد المأخذ, بحيث ينقص.
ومن ثم وجب الحد على المرتهن بوطئه المرهونة, ولم ينظر لخلاف عطاء.
الثانية: أن يترافع فيه الحاكم, فيحكم بعقيدته, ولهذا يحد الحنفي بشرب النبيذ ; إذ لا يجوز للحاكم أن يحكم بخلاف معتقده.
الثالثة: أن يكون للمنكر فيه حق, كالزوج يمنع زوجته من شرب النبيذ, إذا كانت تعتقد إباحته, وكذلك الذمية على الصحيح.
القاعدة السادسة والثلاثون: يدخل القوي على الضعيف, ولا عكس.
ولهذا يجوز إدخال الحج على العمرة قطعا, لا عكسه على الأظهر.
ولو وطئ أمة, ثم تزوج أختها, ثبت نكاحها وحرمت الأمة ; لأن الوطء بفراش النكاح أقوى من ملك اليمين, ولو تقدم النكاح, حرم عليه الوطء بالملك ; لأنه أضعف الفراشين.(16/272)
ص -159-…القاعدة الثامنة والثلاثون: الميسور لا يسقط بالمعسور.
قال ابن السبكي: وهي من أشهر القواعد المستنبطة من قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم".
وبها رد أصحابنا على أبي حنيفة قوله: "إن العريان يصلي قاعدا". فقالوا: إذا لم يتيسر ستر العورة, فلم يسقط القيام المفروض؟
وذكر الإمام: أن هذه القاعدة من الأصول الشائعة التي لا تكاد تنسى ما أقيمت أصول الشريعة.
وفروعها كثيرة:
منها: إذا كان مقطوع بعض الأطراف, يجب غسل الباقي جزما.
ومنها: القادر على بعض السترة, يستر به القدر الممكن جزما.
ومنها: القادر على بعض الفاتحة, يأتي به بلا خلاف.
ومنها: إذا لم يمكنه رفع اليدين في الصلاة إلا بالزيادة على القدر المشروع, أو نقص أتى بالممكن. ومنها: إذا كان محدثا وعليه نجاسة, ولم يجد إلا ما يكفي أحدهما, عليه غسل النجاسة قطعا.
ومنها: لو عجز عن الركوع والسجود دون القيام لزمه بلا خلاف عندنا.
ومنها: نقل العراقيون عن نص الشافعي: أن الأخرس يلزمه أن يحرك لسانه بدلا عن تحريكه إياه بالقراءة كالإيماء بالركوع والسجود.
ومنها: لو خاف الجنب من الخروج من المسجد, ووجد غير تراب المسجد, وجب عليه التيمم كما صرح به في الروضة ووجه بأن أحد الطهورين التراب: وهو ميسور فلا يسقط بالمعسور.
ومنها: واجد ماء لا يكفيه لحدثه أو نجاسته, فالأظهر وجوب استعماله.
ومنها: واجد تراب لا يكفيه, فالمذهب القطع بوجوب استعماله.
ومنها: من بجسده جرح يمنعه استيعاب الماء, والمذهب القطع بوجوب غسل الصحيح مع التيمم عن الجريح.
ومنها: المقطوع العضد من المرفق, يجب غسل رأس عظم العضد على المشهور. ومنها: واجد بعض الصاع في الفطرة يلزمه إخراجه في الأصح.
ومنها: لو أعتق نصيبه وهو موسر ببعض نصيب شريكه, فالأصح السراية إلى القدر الذي أيسر به.(16/273)
ص -160-…ومنها: لو انتهى في الكفارة إلى الإطعام فلم يجد إلا إطعام ثلاثين مسكينا: فالأصح وجوب إطعامهم, وقطع به الإمام.
ومنها: لو قدر على الانتصاب وهو في حد الراكعين, فالصحيح أنه يقف كذلك. ومنها: من ملك نصابا بعضه عنده وبعضه غائب, فالأصح أنه يخرج عما في يده. في الحال.
ومنها: المحدث الفاقد للماء إذا وجد ثلجا أو بردا, قيل: يجب استعماله, فيتيمم عن الوجه واليدين, ثم يمسح به الرأس, ثم يتيمم عن الرجلين, ورجحه النووي في شرح المهذب, نظرا للقاعدة, والمذهب أنه لا يجب.
ومنها: إذا أوصى بعتق رقاب, فلم يوجد إلا اثنان وشقص, ففي شراء الشقص, وجهان أصحهما عند الشيخين: لا, وخالفهما ابن الرفعة والسبكي نظرا للقاعدة.
تنبيه:
خرج عن هذه القاعدة مسائل:
منها: واجد بعض الرقبة في الكفارة, لا يعتقها, بل ينتقل إلى البدل بلا خلاف. ووجه بأن إيجاب بعض الرقبة مع صوم الشهرين, جمع بين البدل والمبدل, وصيام شهر مع عتق نصف الرقبة فيه تبعيض الكفارة, وهو ممتنع, وبأن الشارع قال: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} وواجد بعض الرقبة لم يجد رقبة.
فلو قدر على البعض, ولم يقدر على الصيام ولا الإطعام, فثلاثة أوجه لابن القطان:
أحدها: يخرجه ويكفيه.
والثاني: يخرجه ويبقى الباقي في ذمته.
والثالث: لا يخرجه.
ومنها: القادر على صوم بعض يوم دون كله, لا يلزمه إمساكه.
ومنها: إذا وجد الشفيع بعض ثمن الشقص, لا يأخذ قسطه من الشقص.
ومنها: إذا أوصى بثلثه يشترى به رقبة, فلم يف بها, لا يشترى شقص.
ومنها: إذا اطلع على عيب, ولم يتيسر له الرد ولا الإشهاد, لا يلزمه التلفظ بالفسخ, في الأصح.
القاعدة التاسعة والثلاثون: ما لا يقبل التبعيض, فاختيار بعضه كاختيار كله, وإسقاط بعضه كإسقاط كله.
ومن فروعها:
إذا قال: أنت طالق نصف طلقة أو بعضك طالق, طلقت طلقة.(16/274)
ص -161-…ومنها: إذا عفا مستحق القصاص عن بعضه, أو عفا بعض المستحقين, سقط كله. ومنها إذا عفا الشفيع عن بعض حقه, فالأصح سقوط كله, والثاني لا يسقط شيء لأن التبعيض تعذر, وليست الشفعة مما يسقط بالشبهة, ففارقت القصاص والطلاق.
ومنها: عتق بعض الرقبة, أو عتق بعض المالكين نصيبه وهو موسر.
ومنها: هل للإمام إرقاق بعض الأسير؟ فيه وجهان, فإن قلنا لا, فضرب الرق على بعضه رق كله. قال الرافعي: وكان يجوز أن يقال: لا يرق شيء, وضعفه ابن الرفعة بأن في إرقاق كله درء القتل, وهو يسقط بالشبهة كالقصاص, ثم وجهه بنظيره من الشفعة.
ومنها: إذا قال: أحرمت بنصف نسك, انعقد بنسك كالطلاق, كما في زوائد الروضة, ولا نظير لها في العبادات.
ومنها: إذا اشترى عبدين فوجد بأحدهما عيبا, لم يجز إفراده بالرد, فلو قال رددت المعيب منهما, فالأصح لا يكون ردا لهما, وقيل يكون.
ومنها: حد القذف, ذكر الرافعي في باب الشفعة: أن بالعفو عن بعضه لا يسقط شيء عنه, واستشهد به للوجه القائل بمثله في الشفعة, وتبعه جماعة آخرهم السبكي.
قال ولده, ولم يذكر المسألة في باب حد القاذف, وإنما ذكر فيه مسألة عفو بعض الورثة, وفيها الأوجه المشهورة أصحها: أن لمن بقي استيفاء جميعه, وهو يؤيد أن حد القذف لا يتبعض.
قال: وفيه نظر فإنه جلدات معروفة العدد, ولا ريب في أن الشخص لو عفا بعد جلد بعضها سقط ما بقي منها, فكذلك إذا أسقط منها في الابتداء قدرا معلوما.
تنبيه:
حيث جعلنا اختيار البعض اختيارا للكل, فهل هو بطريق السراية أو لا, بل اختياره للبعض نفس اختياره للكل؟ فيه خلاف مشهور في تبعيض الطلاق وطلاق البعض وعتق البعض وإرقاق البعض.
ضابط:
لا يزيد البعض على الكل إلا في مسألة واحدة وهي:
إذا قال: أنت علي كظهر أمي فإنه صريح, ولو قال: أنت علي كأمي لم يكن صريحا.(16/275)
ص -162-…القاعدة الأربعون: إذا اجتمع السبب أو الغرور والمباشرة, قدمت المباشرة
من فروعها:
لو أكل المالك طعامه المغصوب جاهلا به, فلا ضمان على الغاصب في الأظهر.
وكذا لو قدمه الغاصب للمالك على أنه ضيافة فأكله, فإن الغاصب يبرأ.
ولو حفر بئرا فرداه فيها آخر أو أمسكه, فقتله آخر, أو ألقاه من شاهق فتلقاه آخر فقده, فالقصاص على المردي والقاتل والقاد فقط.
تنبيه:
يستثنى من القاعدة صور:
منها: إذا غصب شاة, وأمر قصابا بذبحها, وهو جاهل بالحال, فقرار الضمان على الغاصب قطعا, قاله في الروضة.
ومنها: إذا استأجره لحمل طعام فسلمه زائدا, فحمله المؤجر جاهلا, فتلفت, الدابة, ضمنها المستأجر في الأصح.
ومنها: إذا أفتاه أهل للفتوى بإتلاف ثم تبين خطؤه, فالضمان على المفتي.
ومنها: قتل الجلاد بأمر الإمام ظلما وهو جاهل, فالضمان على الإمام.
ومنها: وقف ضيعة على قوم, فصرفت غلتها إليهم, فخرجت مستحقة, ضمن الواقف, لتغريره.
الكتاب الثالث: في القواعد المختلف فيها ولا يطلق الترجيح لاختلافه في الفرع.
وهي عشرون قاعدة:
القاعدة الأولى: الجمعة: ظهر مقصورة, أو صلاة على حيالها؟
قولان: ويقال: وجهان.
قال في شرح المهذب: ولعلهما مستنبطان من كلام الشافعي, فيصح تسميتهما قولين ووجهين. والترجيح فيهما مختلف في الفروع المبنية عليهما.
منها: لو نوى بالجمعة الظهر المقصورة. قال صاحب التقريب: إن قلنا: هي صلاة على حيالها, لم يصح: بل لا بد من نية الجمعة, وإن قلنا: ظهر مقصورة ; فوجهان:(16/276)
ص -163-…أحدهما: تصح جمعته ; لأنه نوى الصلاة على حقيقتها.
والثاني: لا ; لأن مقصود النيات التمييز, فوجب التمييز بما يخص الجمعة.
ولو نوى الجمعة, فإن قلنا: صلاة مستقلة أجزأته, وإن قلنا: ظهر مقصورة, فهل يشترط نية القصر؟ فيه وجهان. الصحيح: لا, انتهى.
والأصح في هذا الفرع أنها صلاة مستقلة.
ومنها: لو اقتدى مسافر في الظهر بمن يصلي الجمعة, فإن قلنا: ظهر مقصورة فله القصر, وإلا لزمه الإتمام, وهو الأصح.
ومنها: هل له جمع العصر إليها, لو صلاها وهو مسافر؟
قال العلائي: يحتمل تخريجه على هذا الأصل. فإن قلنا: صلاة مستقلة, لم يجز, وإلا جاز.
قلت: ينبغي أن يكون الأصح: الجواز.
ومنها: إذا خرج الوقت فيها, فهل يتمونها ظهرا, بناء, أو يلزم الاستئناف؟ قولان. قال الرافعي: مبنيان على الخلاف, في أن الجمعة ظهر مقصورة, أو صلاة على حيالها. إن قلنا: بالأول, جاز البناء, وإلا فلا, والأصح جواز البناء.
فقد رجح في هذا الفرع أنها ظهر مقصورة.
ومنها: لو صلوا الجمعة خلف مسافر, نوى الظهر قاصرا, فإن قلنا: هي ظهر مقصورة, صحت قطعا, وإن قلنا: صلاة مستقلة, جرى في الصحة خلاف.
القاعدة الثانية: الصلاة خلف المحدث المجهول الحال.
إذا قلنا بالصحة, هل هي صلاة جماعة أو انفراد؟ وجهان. والترجيح مختلف ; فرجح الأول في فروع:
منها: لو كان في الجمعة, وتم العدد بغيره, إن قلنا: صلاتهم جماعة صحت, وإلا فلا. والأصح الصحة.
ومنها: حصول فضيلة الجماعة, والأصح: تحصل.
ومنها: لو سها, أو سهوا ثم علموا حدثه قبل الفراغ, وفارقوه. إن قلنا: صلاتهم جماعة سجدوا لسهو الإمام لا لسهوهم, وإلا فبالعكس. والأصح: الأول.
ورجح الثاني في فروع:
منها: إذا أدركه المسبوق في الركوع, إن قلنا: صلاة جماعة, حسبت له الركعة وإلا فلا. والصحيح: عدم الحسبان.(16/277)
ص -164-…القاعدة الثالثة: قال الأصحاب: من أتى بما ينافي الفرض دون النفل, في أول فرض, أو أثنائه بطل فرضه,
وهل تبقى صلاته نفلا, أو تبطل؟ فيه قولان. والترجيح مختلف, فرجح الأول في فروع:
منها إذا أحرم بفرض فأقيمت جماعة, فسلم من ركعتين, ليدركها, فالأصح: صحتها نفلا.
ومنها: إذا أحرم بالفرض قبل وقته جاهلا, فالأصح: الانعقاد نفلا.
ومنها: إذا أتى بتكبيرة الإحرام, أو بعضها في الركوع جاهلا فالأصح: الانعقاد نفلا.
ورجح الثاني في الصورتين إذا كان عالما, وفيما إذا قلب فرضه إلى فرض آخر, أو إلى نفل بلا سبب. وفيما إذا وجد المصلي قاعدا خفة في صلاته, وقدر على القيام, فلم يقم, وفيما إذا أحرم القادر على القيام بالفرض قاعدا.
القاعدة الرابعة: النذر, هل يسلك به مسلك الواجب, أو الجائز؟
قولان: والترجيح مختلف في الفروع:
فمنها: نذر الصلاة, والأصح فيه الأول ; فيلزمه ركعتان. ولا يجوز القعود مع القدرة ولا فعلهما على الراحلة, ولا يجمع بينها وبين فرض, أو نذر آخر بتيمم.
ولو نذر بعض ركعة, أو سجدة: لم ينعقد نذره, على الأصح, في الجميع.
ومنها: نذر الصوم, والأصح فيه: الأول. فيجب التثبيت, ولا يجزي إمساك بعض يوم, ولا ينعقد نذر بعض يوم.
ومنها: إذا نذر الخطبة في الاستسقاء, ونحوه, والأصح فيها: الأول, حتى يجب فيها القيام عند القدرة.
ومنها: نذر أن يكسو يتيما, والأصح فيه: الأول, فلا يخرج عن نذره بيتيم ذمي.
ومنها: نذر الأضحية, والأصح فيها: الأول فيشترط فيها السن, والسلامة من العيوب.
ومنها: نذر الهدي, ولم يسم شيئا, والأصح فيه: الأول, فلا يجزئ إلا ما يجزئ في الهدي الشرعي, ويجب إيصاله إلى الحرم.(16/278)
ص -165-…ومنها: الحج, والأصح فيه: الأول, فلو نذره معضوب, لم يجز أن يستنيب صبيا أو عبدا, أو سفيها بعد الحجر, لم يجز للولي منعه.
ومنها: نذر إتيان المسجد الحرام, والأصح فيه: الأول, فلزم إتيانه بحج, أو عمرة.
ومنها: الأكل من المنذورة, والأصح فيه: أنه إن كان في معينة, فله الأكل, أو في الذمة فلا.
ومنها: العتق, والأصح فيه: الثاني, فيجزئ عتق كافر, ومعيب.
ومنها: لو نذر أن يصلي ركعتين, فصلى أربعا بتسليمة بتشهد, أو تشهدين, والأصح: فيه: الثاني, فيجزيه.
ومنها: لو نذر أربع ركعات, فأداها بتسليمتين, والأصح فيه: الثاني, فتجزيه.
قال في زوائد الروضة: والفرق بينهما وبين سائر المسائل المخرجة على الأصل غلبة وقوع الصلاة, وزيادة فضلها.
ومنها: نذر القربات التي لم توضع لتكون عبادة, وإنما هي أعمال, وأخلاق مستحسنة, رغب الشرع فيها, لعموم فائدتها, كعيادة المريض, وإفشاء السلام, وزيارة القادمين, وتشميت العاطس, وتشييع الجنائز, والأصح فيها: الثاني, فتلزم بالنذر, وعلى مقابله: لا تلزم لأن هذه الأمور لا يجب جنسها بالشرع.
ومنها: لو نذر صوم يوم معين, والأصح فيه الثاني, فلا يثبت له خواص رمضان من الكفارة بالجماع فيه, ووجوب الإمساك لو أفطر فيه, وعدم قبول صوم آخر من قضاء, أو كفارة, بل لو صامه عن قضاء أو كفارة: صح.
وفي التهذيب وجه: أنه لا ينعقد, كأيام رمضان.
ومنها: نذر الصلاة قاعدا, الأصح فيه الثاني: فلا يلزمه القيام عند القدرة:
قال الإمام: وقد جزم الأصحاب فيما لو قال: علي أن أصلي ركعة واحدة بأنه لا يلزمه إلا ركعة, ولم يخرجوه على الخلاف, وتكلفوا بينهما فرقا.
قال ولا فرق, فيجب تنزيله, على الخلاف.(16/279)
ومثله: لو أصبح ممسكا, فنذر الصوم يومه ففي لزوم الوفاء قولان بناء على الأصل المذكور, فإنه بالإضافة إلى واجب الشرع بمنزلة الركعة بالإضافة إلى أقل واجب الصلاة. قال الإمام: والذي أراه اللزوم, وأقره الشيخان, فعلى هذا يكون المصحح فيه الثاني ومنها: إذا نذر صوم الدهر فلزمته كفارة, والأصح فيه: الثاني. فيصوم عنها ويفدي عن النذر وعلى الآخر: لا. بل هو كالعاجز عن جميع الخصال.
ومما يصلح أن يعد من فروع القاعدة:
لو نذر الطواف لم يجزه إلا سبعة أشواط, ولا يكفي طوفة واحدة, وإن كان يجوز التطوع بها كما ذكر في الخادم: تنزيلا لها منزلة الركعة لا السجدة منها.(16/280)
ص -166-…ومما سلك بالنذر فيه مسلك الجائز: الطواف المنذور, فإنه تجب فيه النية, كما تجب في النفل, ولا تجب في الفرض لشمول نية الحج والعمرة له, وهذا المعنى منتف في النفل والنذر ولو نذر صلاة: لم يؤذن لها, ولا يقيم. ولم يحكوا فيه خلافا, وكأن السبب فيه أن الأذان حق الوقت على الجديد, وحق المكتوبة على القديم, وحق الجماعة على رأيه, في الإملاء والثلاثة منتفية في المنذورة.
على أن صاحب الذخائر قال: إن المنذورة يؤذن لها ويقيم إذا قلنا: سلك بالمنذور واجب الشرع لكن قال في شرح المهذب: إنه غلط منه وأن الأصحاب اتفقوا على خلافه, وخرج النذر عن الفرض والنفل معا, في صورة, وهي:
ما إذا نذر القراءة, فإنه تجب نيتها, كما نقله القمولي في الجواهر, مع أن قراءة النفل لا نية لها, وكذا القراءة المفروضة في الصلاة.
القاعدة الخامسة: هل العبرة بصيغ العقود, أو بمعانيها؟
خلاف: والترجيح مختلف في الفروع:
فمنها: إذا قال: اشتريت منك ثوبا, صفته كذا بهذه الدراهم. فقال: بعتك ; فرجح الشيخان: أنه ينعقد بيعا, اعتبارا باللفظ, والثاني ورجحه السبكي سلما, اعتبارا بالمعنى ومنها: إذا وهب بشرط الثواب, فهل يكون بيعا اعتبارا بالمعنى, أو هبة اعتبارا باللفظ؟ الأصح الأول.
ومنها: بعتك بلا ثمن, أو لا ثمن لي عليك فقال: اشتريت وقبضه, فليس بيعا, وفي انعقاده هبة قولا تعارض اللفظ, والمعنى.
ومنها: إذا قال: بعتك, ولم يذكر ثمنا, فإن راعينا المعنى انعقد هبة, أو اللفظ, فهو بيع فاسد. ومنها: إذا قال: بعتك: إن شئت, إن نظرنا إلى المعنى صح, فإنه لو لم يشأ لم يشتر, وهو الأصح, وإن نظرنا إلى لفظ التعليق بطل.
ومنها: لو قال أسلمت إليك هذا الثوب في هذا العبد, فليس بسلم قطعا, ولا ينعقد بيعا على الأظهر. لاختلال اللفظ, والثاني: نعم, نظرا إلى المعنى.
ومنها: إذا قال لمن عليه الدين: وهبته منك, ففي اشتراط القبول وجهان:
أحدهما: يشترط اعتبارا بلفظ الهبة.(16/281)
والثاني: لا اعتبارا بمعنى الإبراء وصححه الرافعي في كتاب الصداق.
ومنها: لو صالحه من ألف في الذمة على خمسمائة في الذمة, صح وفي اشتراط القبول وجهان.(16/282)
ص -167-…قال الرافعي: الأظهر اشتراطه.
قيل وقد يقال: إنه مخالف لما صححه في الهبة, وليس كذلك فقد قال السبكي, إن اعتبرنا اللفظ اشترط القبول في الهبة والصلح, وإن اعتبرنا المعنى اشترط في الهبة دون الصلح. ومنها: إذا قال: أعتق عبدك عني بألف هل هو بيع أو عتق بعوض؟ وجهان.
فائدتهما إذا قال: أنت حر غدا على ألف, إن قلنا: بيع فسد, ولا تجب قيمة العبد, وإن قلنا عتق بعوض صح ووجب المسمى, ذكرها الهروي وشريح في أدب القضاء.
ومنها: إذا قال خالعتك ولم يذكر عوضا, قال الهروي فيه قولان بناء على القاعدة أحدهما: لا شيء. والثاني: خلع فاسد يوجب مهر المثل, وهو المصحح في المنهاج, على كلام فيه سيأتي في مبحث التصريح والكناية.
ومنها: لو قال: خذ هذه الألف مضاربة, ففي قول إبضاع لا يجب فيه شيء, وفي آخر مضاربة فاسدة توجب المثل.
ومنها: الرجعة بلفظ النكاح, فيها خلاف خرجه الهروي على القاعدة والأصح صحتها به.
ومنها: لو باع المبيع للبائع قبل قبضه بمثل الثمن الأول, فهو إقالة بلفظ البيع, ذكره صاحب التتمة وخرجه السبكي على القاعدة.
قال: ثم رأيت التخريج للقاضي حسين. قال: إن اعتبرنا اللفظ لم يصح, وإن اعتبرنا المعنى فإقالة. ومنها: إذا قال: استأجرتك لتتعهد نخلي بكذا من ثمرتها, فالأصح أنه إجارة فاسدة. نظرا إلى اللفظ وعدم وجود شرط الإجارة, والثاني أنه يصح مساقاة, نظرا إلى المعنى ومنها: لو تعاقدا في الإجارة بلفظ المساقاة فقال: ساقيتك على هذه النخيل مدة كذا بدراهم معلومة, فالأصح أنه مساقاة فاسدة نظرا إلى اللفظ وعدم وجود شرط المساقاة, إذ من شرطها أن لا تكون بدراهم, والثاني: تصح إجارة نظرا إلى المعنى.
ومنها: إذا عقد بلفظ الإجارة على عمل في الذمة, فالصحيح اعتبار قبض الأجرة في المجلس ; لأن معناه معنى السلم, وقيل: لا, نظرا إلى لفظ الإجارة.(16/283)
ومنها: لو عقد الإجارة بلفظ البيع فقال: بعتك منفعة هذه الدار شهرا, فالأصح لا ينعقد نظرا إلى اللفظ. وقيل ينعقد نظرا إلى المعنى
ومنها: إذا قال: قارضتك على أن كل الربح لك فالأصح أنه قراض فاسد رعاية للفظ, والثاني قراض صحيح رعاية للمعنى.
وكذا لو قال: على أن كله لي, فهل هو قراض فاسد أو إبضاع؟ الأصح الأول.(16/284)
ص -168-…وكذا لو قال: أبضعتك على أن نصف الربح لك ; فهل هو إبضاع, أو قراض؟ فيه الوجهان.
ومنها: إذا وكله أن يطلق زوجته طلاقا منجزا وكانت قد دخلت الدار فقال لها: إن كنت دخلت الدار فأنت طالق فهل يقع الطلاق؟ فيه وجهان, لأنه منجز من حيث المعنى, معلق من حيث اللفظ. ومنها: إذا اشترى جارية بعشرين, وزعم أن الموكل أمره فأنكر, يتلطف الحاكم بالموكل ليبيعها له, فلو قال إن كنت أمرتك بعشرين فقد بعتكها بها, فالأصح الصحة نظرا إلى المعنى ; لأنه مقتضى الشرع. والثاني لا, نظرا إلى صيغة التعليق.
ومنها: إذا قال لعبد بعتك نفسك بكذا, صح, وعتق في الحال, ولزمه المال في ذمته نظرا للمعنى, وفي قول لا يصح نظرا إلى اللفظ.
ومنها: إذا قال: إن أديت لي ألفا فأنت حر, فقيل: كتابة فاسدة, وقيل معاملة صحيحة.
ومنها: إذا قصد بلفظ الإقالة البيع, فقيل يصح بيعا نظرا للمعنى, وقيل لا يصح نظرا إلى اختلال اللفظ.
ومنها: إذا قال ضمنت ما لك على فلان بشرط أنه بريء, ففي قول أنه ضمان فاسد نظرا إلى اللفظ وفي قول, حوالة بلفظ الضمان نظرا إلى المعنى والأصح الأول.
ومنها: لو قال أحلتك بشرط أن لا أبرأ, ففيه القولان والأصح: فساده.
ومنها: البيع من البائع قبل القبض, قيل يصح ويكون فسخا اعتبارا بالمعنى والأصح لا, نظرا إلى اللفظ.
ومنها: إذا وقف على قبيلة غير منحصرة, كبني تميم مثلا, وأوصى لهم, فالأصح الصحة اعتبارا بالمعنى, ويكون المقصود الجهة لا الاستيعاب كالفقراء والمساكين.
والثاني لا يصح اعتبارا باللفظ, فإنه تمليك لمجهول.
ومنها: إذا قال: خذ هذا البعير ببعيرين, فهل يكون قرضا فاسدا نظرا إلى اللفظ أو بيعا نظرا إلى المعنى وجهان.
ومنها لو ادعى الإبراء فشهد له شاهدان أنه وهبه ذلك, أو تصدق عليه, فهل يقبل نظرا إلى المعنى أو لا نظرا إلى اللفظ؟ وجهان.(16/285)
ومنها: هبة منافع الدار هل تصح وتكون إعارة نظرا إلى المعنى أو لا؟ وجهان حكاهما الرافعي في الهبة من غير ترجيح, ورجح البلقيني: أنه تمليك منافع الدار, وأنه لا يلزم إلا ما استهلك من المنافع.
ومنها: لو قال: إذا دخلت الدار فأنت طالق, فهل هو حلف نظرا إلى المعنى ; لأنه(16/286)
ص -169-…تعلق به منع أو لا, نظرا إلى اللفظ لكون "إذا" ليست من ألفاظه لما فيه من التأقيت بخلاف "إن" وجهان, الأصح الأول.
ومنها: لو وقف على دابة فلان, فالأصح البطلان نظرا إلى اللفظ, والثاني يصح نظرا إلى المعنى ويصرف في علفها.
فلو لم يكن لها مالك بأن كانت وقفا, فهل يبطل نظرا للفظ, أو يصح نظرا للمعنى, وهو الإنفاق عليها إذ هو من جملة القرب؟ وجهان, حكاهما ابن الوكيل.
القاعدة السادسة: العين المستعارة للرهن, هل المغلب فيها جانب الضمان أو جانب العارية؟
قولان قال في شرح المهذب: والترجيح مختلف في الفروع.
فمنها: هل للمعير الرجوع بعد قبض المرتهن؟ إن قلنا عارية: نعم أو ضمان: فلا وهو الأصح.
ومنها: الأصح اشتراط معرفة المعير جنس الدين وقدره وصفته بناء على الضمان. والثاني: لا بناء على العارية.
ومنها: هل له إجبار المستعير على فك الرهن إن قلنا له الرجوع فلا وإن قلنا لا فله ذلك على القول بالعارية, وكذا على القول بالضمان إن كان حالا بخلاف المؤجل, كمن ضمن دينا مؤجلا لا يطالب الأصيل بتعجيله لتبرأ ذمته.
ومنها: إذا حل الدين وبيع فيه فإن قلنا عارية, رجع المالك بقيمته, أو ضمان, رجع بما بيع به سواء كان أقل أو أكثر, وهو الأصح.
ومنها: لو تلف تحت يد المرتهن ضمنه الراهن على قول العارية, ولا شيء على قول الضمان لا على الراهن ولا على المرتهن.
والأصح في هذا الفرع: أن الراهن يضمنه, كذا قال النووي: إنه المذهب فقد صحح هنا. قول العارية.
ومنها: لو جنى فبيع في الجناية فعلى قول الضمان: لا شيء على الراهن: وعلى قول العارية: يضمن. ومنها: لو أعتقه المالك, فإن قلنا: ضمان فهو كإعتاق المرهون. قاله في التهذيب, وإن قلنا عارية: صح وكان رجوعا.
ومنها: لو قال: ضمنت ما لك عليه في رقبة عبدي هذا. قال القاضي حسين: يصح ذلك على قول الضمان, ويكون كالإعارة للرهن.(16/287)
ص -170-…تنبيه:
عبر كثيرون بقولهم: هل هو ضمان أو عارية, وقال الإمام: العقد فيه شائبة من هذا. وشائبة من هذا. وليس القولان في تمحض كل منهما, بل هما في أن المغلب منهما ما هو فلذلك عبرت به, وكذا في القواعد الآتية.
القاعدة السابعة: "الحوالة هل هي بيع أو استيفاء؟ خلاف".
قال في شرح المهذب: والترجيح مختلف في الفروع:
فمنها: ثبوت الخيار فيها, الأصح: لا, بناء على أنها استيفاء, وقيل: نعم, بناء على أنها بيع.
ومنها: لو اشترى عبدا بمائة, وأحال البائع بالثمن على رجل, ثم رد العبد بعيب, أو تحالف أو إقالة ونحوها, فالأظهر البطلان, بناء على أنها استيفاء. والثاني: لا, بناء على أنها بيع.
ومنها: الثمن في مدة الخيار في جواز الحوالة به وعليه, وجهان: قال في التتمة: إن قلنا: استيفاء جاز, أو بيع: فلا كالتصرف في البيع في زمن الخيار, والأصح: الجواز.
ومنها: لو احتال, بشرط أن يعطيه المحال عليه رهنا أو يقيم له ضامنا فوجهان, إن قلنا: بأنها بيع, جاز, أو استيفاء, فلا والأصح: الثاني.
ومنها: لو أحال على من لا دين عليه برضاه, فالأصح: بطلانها, بناء على أنها بيع والثاني: يصح, بناء على أنها استيفاء.
ومنها: في اشتراط رضى المحال عليه, إذا كان عليه دين: وجهان. إن قلنا: بيع, لم يشترط ; لأنه حق المحيل, فلا يحتاج إلى رضى الغير, وإن قلنا: استيفاء اشترط, لتعذر إقراضه من غير رضاه. والأصح: عدم الاشتراط.
ومنها: نجوم الكتابة في صحة الحوالة بها, وعليها أوجه.
أحدهما: الصحة, بناء على أنها استيفاء.
والثاني: المنع, بناء على أنها بيع.
والأصح: وجه ثالث, وهو الصحة بها, لا عليها ; لأن للمكاتب أن يقضي حقه باختياره, والحوالة عليه: تؤدي إلى إيجاب القضاء عليه بغير اختياره. وفي الوسيط: وجه بعكس هذا, والأوجه جارية في المسلم فيه.(16/288)
ومنها: قال المتولي: لو أحال من عليه الزكاة للساعي: جاز إن قلنا: استيفاء. وإن قلنا: بيع, فلا ; لامتناع أخذ العوض عن الزكاة.(16/289)
ص -171-…ومنها: لو خرج المحال عليه مفلسا, وقد شرط يساره, فالأصح: لا رجوع له, بناء على أنها استيفاء, والثاني: نعم, بناء على أنها بيع.
ومنها: لو قال رجل لمستحق الدين: احتل علي بدينك الذي في ذمة فلان, على أن تبرئه, فرضي واحتال, وأبرأ المدين, فقيل: يصح. وقيل: لا, بناء على أنها استيفاء إذ ليس للأصيل دين في ذمة المحال عليه, ذكره في السلسلة.
ومنها: لو أحال أحد المتعاقدين الآخر في عقد الربا, وقبض في المجلس, فإن قلنا: استيفاء: جاز, أو بيع: فلا, والأصح المنع, كما نقله ألسبكي في تكملة شرح المهذب عن النص والأصحاب.
القاعدة الثامنة: الإبراء, هل هو إسقاط, أو تمليك؟ قولان.
والترجيح مختلف في الفروع:
فمنها: الإبراء مما يجهله المبرئ, والأصح فيه التمليك, فلا يصح.
ومنها: إبراء المبهم. كقوله لمدينيه: أبرأت أحدكما. والأصح فيه التمليك, فلا يصح كما لو كان له في يد كل واحد عبد, فقال: ملكت أحدكما العبد الذي في يده, لا يصح.
ومنها: تعليقه, والأصح فيه التمليك فلا يصح.
ومنها: لو عرف المبرئ قدر الدين, ولم يعرفه المبرأ. والأصح فيه: الإسقاط. كما في الشرح الصغير, وأصل الروضة في الوكالة, فيصح.
ومنها: اشتراط القبول, والأصح فيه الإسقاط, فلا يشترط.
ومنها: ارتداده بالرد, والأصح فيه الإسقاط, فلا يصح.
ومنها: لو كان لأبيه دين على رجل, فأبرأه منه, وهو لا يعلم موت الأب, فبان ميتا. فإن قلنا: إسقاط صح جزما, أو تمليك, ففيه الخلاف فيمن باع مال مورثه, ظانا حياته, فبان ميتا.
ومنها: إذا وكل في الإبراء, فالأصح اشتراط علم الموكل بقدره, دون الوكيل بناء على أنه إسقاط, وعلى التمليك عكسه, كما لو قال: بع بما باع به فلان فرسه, فإنه يشترط لصحة البيع علم الوكيل, دون الموكل.(16/290)
ومنها: لو وكل المدين ليبرئ نفسه, صح على قول الإسقاط, وهو الأصح, وجزم به الغزالي, كما لو وكل العبد في العتق, والمرأة في طلاق نفسها. ولا يصح على قول التمليك, كما لو وكله ليبيع من نفسه.(16/291)
ص -172-…ومنها: لو أبرأ ابنه عن دينه, فليس له الرجوع على قول الإسقاط. وله, على التمليك: ذكره الرافعي. وقال النووي: ينبغي أن لا يكون له رجوع على القولين, كما لا يرجع إذا زال الملك عن الموهوب.
القاعدة التاسعة: الإقالة, هل هي فسخ, أو بيع؟ قولان:
والترجيح مختلف في الفروع:
فمنها: لو اشترى عبدا كافرا من كافر فأسلم, ثم أراد الإقالة, فإن قلنا: بيع ; لم يجز, أو فسخ, جاز, كالرد بالعيب في الأصح.
ومنها: الأصح عدم ثبوت الخيارين فيها, بناء على أنها فسخ. والثاني: نعم, بناء على أنها بيع.
ومنها: الأصح لا يتجدد حق الشفعة, بناء على أنها فسخ, والثاني: نعم, بناء على أنها بيع.
ومنها: إذا تقايلا في عقود الربا, يجب التقابض في المجلس, بناء على أنها بيع, ولا يجب, بناء على أنها فسخ, وهو الأصح.
ومنها: تجوز الإقالة قبل القبض, إن قلنا: فسخ, وهو الأصح وإن قلنا: بيع فلا.
ومنها: تجوز في السلم قبل القبض, إن قلنا فسخ, وهو الأصح. وإن قلنا: بيع فلا.
ومنها: لو تقايلا بعد تلف المبيع جاز, إن قلنا: فسخ, وهو الأصح. ويرد مثل المبيع أو قيمته. وإن قلنا: بيع, فلا.
ومنها: لو اشترى عبدين, فتلف أحدهما: جازت الإقالة في الباقي, ويستتبع التالف على قول الفسخ, وهو الأصح, وعلى مقابله: لا.
ومنها: إذا تقايلا واستمر في يد المشتري. نفذ تصرف البائع فيه, على قول الفسخ وهو الأصح, ولا ينفذ على قول البيع.
ومنها: لو تلف في يده بعد التقايل. انفسخت, إن كانت بيعا, وبقي البيع الأصلي بحاله وإن قلنا: فسخ ضمنه المشتري, كالمستام, وهو الأصح.
ومنها: لو تعيب في يده غرم الأرش, على قول الفسخ, وهو الأصح: وعلى الآخر يتخير البائع بين أن يجيز, ولا أرش له, أو يفسخ ويأخذ الثمن.
ومنها: لو استعمله بعد الإقالة, فإن قلنا: فسخ, فعليه الأجرة, وهو الأصح, أو بيع, فلا.(16/292)
ومنها: لو اطلع البائع على عيب حدث عند المشتري, فلا رد له, إن قلنا: فسخ وهو الأصح, وإن قلنا: بيع ; فله الرد.(16/293)
ص -173-…القاعدة العاشرة: الصداق المعين في يد الزوج قبل القبض مضمون ضمان عقد, أو ضمان يد؟ قولان.
والترجيح مختلف في الفروع:
فمنها: الأصح, لا يصح بيعه قبل قبضه, بناء على ضمان العقد.
والثاني: يصح, بناء على ضمان اليد.
ومنها: الأصح انفساخ الصداق إذا تلف, أو أتلفه الزوج, قبل قبضه, والرجوع إلى مهر المثل, بناء على ضمان العقد, والثاني: لا. ويلزم مثله, أو قيمته, بناء على ضمان اليد.
ومنها: لو تلف بعضه, انفسخ فيه, لا في الباقي. بل لها الخيار فإن فسخت رجعت إلى مهر المثل, على قول ضمان العقد. وهو الأصح, وإلى قيمة العبدين على مقابله. وإن أجازت رجعت إلى حصة التالف من مهر المثل, على الأصح, وإلى قيمته على الآخر.
ومنها: لو تعيب فلها الخيار على الصحيح وفي وجه: لا خيار على ضمان العقد. فإن فسخت رجعت إلى مهر المثل على الأصح والبدل على الآخر. وإن أجازت: فلا شيء لها على الأصح كالمبيع قبل القبض. وعلى ضمان اليد لها الأرش.
ومنها: المنافع الثابتة في يده لا يضمنها على الأصح بناء على ضمان العقد. ويضمنها بناء على ضمان اليد.
ومنها: لو زاد في يده زيادة منفصلة فللمرأة قطعا بناء على ضمان اليد, وعلى ضمان العقد وجهان: كالمبيع.
ومنها: لو أصدقها نصابا, ولم تقبضه حتى حال الحول, وجبت عليها الزكاة في الأصح, كالمغصوب, ونحوه, وفي وجه: لا, بناء على ضمان العقد, كالمبيع قبل القبض.
فقد صحح هنا قول ضمان اليد.
ومنها: لو كان دينا, جاز الاعتياض عنه على الأصح, بناء على ضمان اليد, وعلى ضمان العقد لا يجوز, كالمسلم فيه.
فهذه صورة أخرى صحح فيها قول ضمان اليد.(16/294)
ص -174-…القاعدة الحادية عشرة: الطلاق الرجعي, هل يقطع النكاح, أو لا؟ قولان:
قال الرافعي: والتحقيق أنه لا يطلق ترجيح واحد منهما, لاختلاف الترجيح في فروعه.
فمنها: لو وطئها في العدة وراجع, فالأصح: وجوب المهر, بناء على أنه ينقطع. ومنها: لو مات عن رجعية, فالأصح: أنها لا تغسله, والثاني: تغسله, كالزوجة.
ومنها: لو خالعها, فالأصح: الصحة, بناء على أنها زوجه.
ومنها: لو قال: نسائي, أو زوجاتي: طوالق, فالأصح: دخول الرجعية فيهن.
تنبيهات:
الأول: جزم بالأول, في تحريم الوطء والاستمتاعات كلها, والنظر, والخلوة, ووجوب استبرائها, لو كانت رقيقة واشتراها.
وجزم بالثاني في الإرث, ولحوق الطلاق, وصحة الظهار والإيلاء, واللعان, ووجوب النفقة.
الثاني: في أصل القاعدة قول ثالث, وهو الوقف, فإن لم يراجعها حتى انقضت العدة, تبينا انقطاع النكاح بالطلاق, وإن راجع, تبينا أنه لم ينقطع.
ونظير ذلك: الأقوال في الملك زمن الخيار.
الثالث: يعبر عن القاعدة بعبارة أخرى, فيقال: الرجعة, هل هي ابتداء النكاح أو استدامته؟ فصحح الأول فيما إذا طلق المولي في المدة, ثم راجع, فإنها تستأنف, ولا تبني. وصحح الثاني, في أن العبد يراجع بغير إذن سيده, وأنه لا يشترط فيها الإشهاد, وأنها تصح في الإحرام.
القاعدة الثانية عشرة: الظهار, هل المغلب فيه مشابهة الطلاق, أو مشابهة اليمين؟ فيه خلاف.
والترجيح مختلف, فرجح الأول في فروع:
منها: إذا ظاهر من أربع نساء بكلمة واحدة, فقال: أنتن علي كظهر أمي, فإذا أمسكهن لزمه أربع كفارات, على الجديد, فإن الطلاق, لا يفرق فيه بين أن يطلقهن بكلمة, أو كلمات, والقديم: كفارة, تشبيها باليمين, كما لو حلف لا يكلم جماعة, لا يلزمه إلا كفارة واحدة.(16/295)
ص -175-…ونظير هذا: الخلاف فيمن قذف جماعة بكلمة واحدة, فيحد لكل واحد حدا في الأظهر والثاني حدا واحدا.
ومنها: هل يصح بالخط؟ الأصح: نعم, كالطلاق, صرح به الماوردي, وأفهمه كلام الأصحاب, حيث قالوا: كل ما استقل به الشخص, فالخلاف فيه, كوقوع الطلاق بالخط, وجزم القاضي حسين بعدم الصحة في الظهار, كاليمين, فإنها لا تصح إلا باللفظ.
ومنها: إذا كرر لفظ الظهار في امرأة واحدة على الاتصال, ونوى الاستئناف. فالجديد يلزمه بكل كفارة, كالطلاق. والثاني: كفارة واحدة, كاليمين.
ولو تفاصلت, وقال: أردت التأكيد, فهل يقبل منه؟ الأصح: لا, تشبيها بالطلاق. والثاني: نعم, كاليمين.
ورجح الثاني في فروع:
منها: لو ظاهر مؤقتا, فالأصح الصحة مؤقتا كاليمين, والثاني: لا, كالطلاق ومنها: التوكيل فيه, والأصح المنع, كاليمين, والثاني: الجواز, كالطلاق.
ومنها: لو ظاهر من إحدى زوجتيه, ثم قال للأخرى: أشركتك معها, ونوى الظهار, فقولان, أحدهما: يصير مظاهرا منها أيضا, كما لو طلقها, ثم قال للأخرى أشركتك معها. ونوى الطلاق, والثاني: لا, كاليمين.
القاعدة الثالثة عشرة: فرض الكفاية. هل يتعين بالشروع, أو لا؟ فيه خلاف.
رجح في المطلب: الأول, والبارزي في التمييز: الثاني.
قال في الخادم: ولم يرجح الرافعي والنووي شيئا ; لأنها عندهما من القواعد التي لا يطلق فيها الترجيح, لاختلاف الترجيح في فروعها:
فمنها: صلاة الجنازة, الأصح تعيينها بالشروع, لما في الإعراض عنها من هتك حرمة الميت.
ومنها: الجهاد, ولا خلاف أنه يتعين بالشروع. نعم جرى خلاف في صورة منه وهي: ما إذا بلغه رجوع من يتوقف غزوه على إذنه. والأصح: أنه تجب المصابرة, ولا يجوز الرجوع.
ومنها: العلم, فمن اشتغل به وحصل منه طرفا وآنس منه الأهلية, هل يجوز له تركه أو يجب عليه الاستمرار؟ وجهان. الأصح: الأول: ووجه بأن كل مسألة مستقلة برأسها منقطعة عن غيرها.(16/296)
ص -176-…قال العلائي: مقتضى كلام الغزالي: أن الأصح فيما سوى القتال, وصلاة الجنازة من فروض الكفاية: أنها لا تتعين بالشروع, وينبغي أن يلحق بها غسل الميت وتجهيزه.
قلت: صرح بما اقتضاه كلام الغزالي البارزي في التمييز.
ولك أنت تبدل هذه القاعدة بقاعدة أعم منها, فتقول: فرض الكفاية, هل يعطى حكم فرض العين, أو حكم النفل؟ فيه خلاف, والترجيح مختلف في الفروع:
فمنها: الجمع بينه وبين فرض آخر بتيمم. فيه وجهان. والأصح: الجواز.
ومنها: صلاة الجنازة قاعدا مع القدرة. وعلى الراحلة. فيه خلاف. والأصح: المنع وفرق بأن القيام معظم أركانها, فلم يجز تركه مع القدرة, بخلاف الجمع بينها وبين غيرها بالتيمم.
ومنها: هل يجبر عليه تاركه, حيث لم يتعين؟ فيه صور مختلفة, فالأصح الإجبار في صورة الولي والشاهد إذا دعي للأداء, مع وجود غيره, وعدمه فيما إذا دعي للتحمل. وفيما إذا امتنع من الخروج معها للتغريب, وفيما إذا طلب للقضاء, فامتنع.
القاعدة الرابعة عشرة: الزائل العائد, هل هو كالذي لم يزل, أو كالذي لم يعد؟
فيه خلاف. والترجيح مختلف, فرجح الأول في فروع:
منها: إذا طلق قبل الدخول, وقد زال ملكها عن الصداق وعاد, تعلق بالعين في الأصح.
ومنها: إذا طلقت رجعيا. عاد حقها في الحضانة في الأصح.
ومنها: إذا تخمر المرهون بعد القبض, ثم عاد خلا, يعود رهنا في الأصح.
ومنها: إذا باع ما اشتراه, ثم علم به عيبا, ثم عاد إليه بغير رد: فله رده, في الأصح.
ومنها: إذا خرج المعجل له الزكاة في أثناء الحول عن الاستحقاق, ثم عاد. تجزئ في الأصح.
ومنها: إذا فاتته صلاة في السفر, ثم أقام, ثم سافر. يقصرها, في الأصح.
ومنها: إذا زال ضوء إنسان, أو كلامه, أو سمعه, أو ذوقه, أو شمه, أو أفضاها ثم عاد. يسقط القصاص, والضمان, في الأصح.
ورجح الثاني في فروع:(16/297)
منها: لو زال الموهوب عن ملك الفرع, ثم عاد, فلا رجوع للأصل في الأصح. ومنها: لو زال ملك المشتري, ثم عاد وهو مفلس, فلا رجوع للبائع في الأصح.(16/298)
ص -177-…ومنها: لو أعرض عن جلد ميتة, أو خمر, فتحول بيد غيره, فلا يعود الملك في الأصح.
ومنها: لو رهن شاة, فماتت, فدبغ الجلد, لم يعد رهنا في الأصح.
ومنها: لو جن قاض, أو خرج عن الأهلية, ثم عاد. لم تعد ولايته في الأصح.
ومنها: لو قلع سن مثغور, أو قطع لسانه, أو أليته فنبتت, أو أوضحه ; أو أجافه, فالتأمت. لم يسقط القصاص, والضمان في الأصح.
ومنها: لو عادت الصفة المحلوف عليها, لم تعد اليمين في الأصح.
ومنها: لو هزلت المغصوبة عند الغاصب, ثم سمنت. لم يجبر. ولم يسقط الضمان في الأصح.
ومنها: إذا قلنا: للمقرض الرجوع في عين القرض, ما دام باقيا بحاله. فلو زال وعاد فهل يرجع في عينه؟ وجهان في الحاوي.
قلت: ينبغي أن يكون الأصح: لا.
تنبيه:
جزم بالأول في صور:
منها: إذا اشترى معيبا وباعه, ثم علم العيب ورد عليه به, فله رده قطعا.
ومنها: إذا فسق الناظر, ثم صار عدلا, وولايته بشرط الواقف منصوصا عليه. عادت ولايته, وإلا فلا. أفتى به النووي, ووافقه ابن الرفعة.
وجزم بالثاني في صور:
منها: إذا تغير الماء الكثير بنجاسة, ثم زال التغير. عاد طهورا, فلو عاد التغير بعد زواله والنجاسة غير جامدة, لم يعد التنجيس قطعا. قاله في شرح المهذب.
ولو زال الملك عن العبد قبل هلال شوال, ثم ملكه بعد الغروب. لا تجب عليه فطرته قطعا.
ولو سمع بينته ثم عزل قبل الحكم ثم عادت ولايته فلا بد من إعادتها قطعا. ولو قال: إن دخلت دار فلان ما دام فيها, فأنت طالق فتحول, ثم عاد إليها, لا يقع الطلاق قطعا ; لأن إدامة المقام, التي انعقدت عليها اليمين قد انقطعت. وهذا عود جديد, وإدامته إقامة مستأنفة, نقله الرافعي.
فرع:
وقع في الفتاوى: أن رجلا وقف على امرأته ما دامت عزبا, يعني بعد وفاته. فتزوجت ثم عادت عزبا, فهل يعود الاستحقاق أو لا؟. وقد اختلف فيه مشايخنا. فأفتى شيخنا(16/299)
ص -178-…قاضي القضاة شرف الدين المناوي, وبعض الحنفية: بالعود. وأفتى شيخنا البلقيني, وكثير: بعدمه. وهو المتجه.
ثم رأيت في تنزيه النواظر, في رياض الناظر للأسنوي ما نصه: الحكم المعلق على قوله: "ما دام كذا وكذا" ينقطع بزوال ذلك, وإن عاد.
مثاله: إذا حلف لا يصطاد ما دام الأمير في البلد. فخرج الأمير, ثم عاد, فاصطاد الحالف فإنه لا يحنث ; لأن الدوام, قد انقطع بخروجه, كذا نقله الرافعي.
قال الأسنوي: وقياسه: أنه إذا وقف على زيد ; ما دام فقيرا, فاستغنى, ثم افتقر لم يستحق شيئا.
القاعدة الخامسة عشرة: هل العبرة بالحال أو بالمآل؟
فيه خلاف, والترجيح مختلف.
ويعبر عن هذه القاعدة بعبارات:
منها: ما قارب الشيء, هل يعطى حكمه؟
والمشرف على الزوال, هل يعطى حكم الزائل؟
والمتوقع, هل يجعل كالواقع؟.
وفيها فروع:
منها: إذا حلف ليأكلن هذا الرغيف غدا, فأتلفه قبل الغد, فهل يحنث في الحال أو حتى يجيء الغد؟ وجهان, أصحهما: الثاني.
ومنها: لو كان القميص, بحيث تظهر منه العورة عند الركوع, ولا تظهر عند القيام فهل تنعقد صلاته ثم إذا ركع تبطل, أو لا تنعقد أصلا؟ وجهان, أصحهما: الأول.
ونظيرها: لو لم يبق من مدة الخف ما يسع الصلاة, فأحرم بها, فهل تنعقد؟ فيه وجهان, الأصح: نعم.
وفائدة الصحة في المسألتين: صحة الاقتداء به ثم مفارقته.
وفي المسألة الأولى: صحتها إذا ألقى على عاتقه ثوبا قبل الركوع.
قال صاحب المعين: وينبغي القطع بالصحة فيما إذا صلى على جنازة ; إذ لا ركوع فيها.
ومنها: من عليه عشرة أيام من رمضان, فلم يقضها حتى بقي من شعبان خمسة أيام فهل يجب فدية ما لا يسعه الوقت في الحال, أو لا يجب, حتى يدخل رمضان؟ فيه وجهان وشبههما الرافعي وغيره, بما إذا حلف ليشربن ماء هذا الكوز غدا, فانصب قبل الغد.(16/300)
ص -179-…قال السبكي: وفي هذا التشبيه نظر ; لأن الصحيح فيما إذا انصب بنفسه. عدم الحنث.
ونظيره هنا: إذا لم يزل عذره إلا ذلك الوقت. ولا شك أنه لا يجب عليه شيء. فيجب فرض المسألة فيما إذا كان التمكن سابقا, وحينئذ فنظيره: أن يصب هو الماء, فإنه يحنث, وفي وقت حنثه: الوجهان.
قال الرافعي: الذي أورده ابن كج: أنه لا يحنث إلا عند مجيء الغد, وعلى قياسه هنا: لا يلزم إلا بعد مجيء رمضان.
ومنها: لو أسلم فيما يعم وجوده عند المحل, فانقطع قبل الحلول, فهل يتنجز حكم الانقطاع. وهو ثبوت الخيار في الحال, أو يتأخر إلى المحل وجهان. أصحهما: الثاني.
ومنها: لو نوى في الركعة الأولى الخروج من الصلاة في الثانية, أو علق الخروج بشيء يحتمل حصوله في الصلاة, فهل تبطل في الحال, أو حتى توجد الصفة؟ وجهان. أصحهما: الأول.
ومنها: من عليه دين مؤجل يحل قبل رجوعه, فهل له السفر ; إذ لا مطالبة في الحال أولا, إلا بإذن الدائن ; لأنه يجب في غيبته؟ وجهان. أصحهما: الأول.
ومنها: إذا استأجر امرأة أشرفت على الحيض لكنس المسجد. جاز, وإن ظن طروءه, وللقاضي حسين: احتمال بالمنع, كالسن الوجيعة, إذا احتمل زوال الألم.
والفرق على الأصح: أن الكنس في الجملة جائز, والأصل عدم طروء الحيض.
ومنها: هل العبرة في مكافأة القصاص بحال الجرح, أو الزهوق؟
ومنها: هل العبرة في الإقرار للوارث بكونه وارثا حال الإقرار, أو الموت؟ وجهان أصحهما: الثاني, كالوصية.
ومنها: هل العبرة بالثلث الذي يتصرف فيه المريض بحال الوصية أو الموت؟ وجهان أصحهما: الثاني. ومقابله, قاسه على ما لو نذر التصدق بماله.
ومنها: هل العبرة في الصلاة المقضية بحال الأداء, أو القضاء؟ وجهان يأتيان في بحثه.
ومنها, هل العبرة في تعجيل الزكاة بحال الحول أو التعجيل.
ومنها, هل العبرة في الكفارة المرتبة بحال الوجوب أو الأداء؟ قولان أصحهما: الثاني.(16/301)
ومنها: هل العبرة في طلاق السنة, أو البدعة بحال الوقوع أو التعليق؟
ومنها: تربية جرو الكلب لما يباح تربية الكبير له.(16/302)
ص -180-…ومنها: الجارية المبيعة, هل يجوز وطؤها بعد الترافع إلى مجلس الحكم قبل التحالف؟ وجهان, أصحهما: نعم, وبعد التحالف وجهان مرتبان, وأولى بالمنع.
ومنها: لو حدث في المغصوب نقص يسري إلى التلف, بأن جعل الحنطة هريسة, فهل هو كالتالف أو لا؟ بل يرده مع أرش النقص؟ قولان أصحهما: الأول.
تنبيه:
جزم باعتبار الحال في مسائل:
منها: إذا وهب للطفل من يعتق عليه وهو معسر وجب على الولي قبوله, لأنه لا يلزمه نفقته في الحال, فكان قبول هذه الهبة تحصيل خير, وهو العتق بلا ضرر, ولا ينظر إلى ما لعله يتوقع من حصول يسار للصبي, وإعسار لهذا القريب ; لأنه غير متحقق أنه آيل.
وجزم باعتبار المآل في مسائل:
منها: بيع الجحش الصغير جائز, وإن لم ينتفع به حالا لتوقع النفع به مآلا.
ومنها: جواز التيمم لمن معه ماء يحتاج إلى شربه في المآل, لا في الحال.
ومنها: المساقاة على ما لا يثمر في السنة, ويثمر بعدها جائز بخلاف إجارة الجحش الصغير ; لأن موضوع الإجارة تعجيل المنفعة, ولا كذلك المساقاة, إذ تأخر الثمار محتمل فيها.
كذا فرق الرافعي.
قال ابن السبكي: وبه يظهر لك أن المنفعة المشترطة في البيع غير المشترطة في الإجارة, إذ تلك أعم من كونها حالا أو مآلا, ولا كذلك الإجارة.
تنبيه:
يلتحق بهذه القاعدة قاعدة "تنزيل الاكتساب منزلة المال الحاضر"
وفيها فروع:
منها: في الفقر والمسكنة, قطعوا بأن القادر على الكسب كواجد المال.
ومنها: في سهم الغارمين, هل ينزل الاكتساب منزلة المال؟ فيه وجهان, الأشبه: لا وفارق الفقير والمسكين بأن الحاجة تتجدد كل وقت, والكسب يتجدد كذلك, والغارم محتاج إلى وفاء دينه الآن, وكسبه متوقع في المستقبل.
ومنها: المكاتب إذا كان كسوبا, هل يعطى من الزكاة؟ فيه وجهان. الأصح: نعم, كالغارم. ومنها: إذا حجر عليه بالفلس, أنفق على من تلزمه نفقته من ماله إلى أن يقسم, إلا أن يكون كسوبا.(16/303)
ص -181-…ومنها: إذا قسم ماله بين غرمائه وبقي عليه شيء وكان كسوبا, لم يجب عليه الكسب لوفاء الدين.
قال الفراوي: إلا أن يكون الدين لزمه بسبب هو عاص به, كإتلاف مال إنسان عدوانا, فإنه يجب عليه أن يكتسب لوفائه ; لأن التوبة منه واجبة ومن شروطها:
إيصال الحق إلى مستحقه فيلزمه التوصل إليه, حكاه عنه ابن الصلاح في فوائد رحلته ومنها: من له أصل وفرع ولا مال له, هل يلزمه الاكتساب للإنفاق عليهما؟ وجهان, أحدهما: لا, كما لا يجب لوفاء الدين, والأصح: نعم ; لأنه يلزمه إحياء نفسه بالكسب, فكذلك إحياء بعضه.
وفي التتمة: أن محل الخلاف بالنسبة إلى نفقة الأصول, أما بالنسبة إلى نفقة الفروع فيجب الاكتساب قطعا ; لأن نفقة الأصول سبيلها سبيل المواساة, فلا تكلف أن يكتسب ليصير من أهل المواساة, ونفقة الفروع بسبب حصول الاستمتاع, فألحقت بالنفقة الواجبة للاستمتاع وهي نفقة الزوجة.
قال الرافعي: هذا ذهاب إلى القطع بوجوب الاكتساب لنفقة الزوجة ; وهو الظاهر لكن في كلام الإمام وغيره: أن فيها وجهين مرتبين على وجوب الاكتساب لنفقة القريب, وهي أولى بالمنع ; لالتحاقها بالديون.
ومنها: المتفق عليه من أصل وفرع لو كان قادرا على الاكتساب فهل يكلف به, ولا تجب نفقته؟ أقوال. أصحها: لا يكلفها الأصل ; لعظم حرمة الأبوة فتجب نفقته, بخلاف الفرع.
والثاني: يكلفان ; لأن القادر على الكسب مستغن عن أن يحمل غيره كله.
والثالث: لا يكلفان, وتجب نفقتهما إذ يقبح أن يكلف الإنسان قريبه الكسب مع اتساع ماله. ومنها: إذا كان الأب قادرا على كسب مهر حرة, أو ثمن سرية لا يجب إعفافه. وينزل منزلة المال الحاضر. قاله الشيخ أبو علي.
قال الرافعي: وينبغي أن يجيء فيه الخلاف المذكور في النفقة.
ومنها: لو أجر السفيه نفسه, هل يبطل, كبيعه شيئا من أمواله؟.(16/304)
حكى القاضي حسين العبادي فيه وجهين وفي الحاوي: إن آجر نفسه فيما هو مقصود من عمله, مثل أن يكون صانعا, وعمله مقصود في كسبه لم يصح, ويتولى العقد عليه, وإن كان غير مقصود, مثل أن يؤجر نفسه في حج, أو وكالة في عمل صح ; لأنه إذا جاز أن يتطوع عن غيره بعمله, فأولى أن يجوز بعوض, كما قالوا: يصح خلعه ; لأن له أن يطلق مجانا, فبالعوض أولى انتهى.(16/305)
ص -182-…تنبيه:
وأعم من هذه القاعدة: قاعدة "ما قارب الشيء هل يعطى حكمه؟"
وفيه فروع:
منها - غير ما تقدم - الديون المساوية لمال المفلس: هل توجب الحجر عليه؟ وجهان, الأصح: لا وفي المقاربة للمساواة الوجهان, وأولى بالمنع.
ومنها: الدم الذي تراه الحامل حال الطلق, ليس بنفاس على الصحيح.
ومنها: لا يملك المكاتب ما في يده على الأصح, ووجه مقابله أنه قارب العتق.
القاعدة السادسة عشرة: إذا بطل الخصوص هل يبقى العموم؟
فيه خلاف. والترجيح مختلف في الفروع:
فمنها: إذا تحرم بالفرض, فبان عدم دخول الوقت, بطل خصوص كونها ظهرا مثلا. وتبقى نفلا في الأصح.
ومنها: لو نوى بوضوئه الطواف - وهو بغير مكة - فالأصح: الصحة, إلغاء للصفة.
ومنها: لو أحرم بالحج في غير أشهره بطل, وبقي أصل الإحرام, فينعقد عمرة في الأصح.
ومنها: لو علق الوكالة بشرط فسدت, وجاز له التصرف, لعموم الإذن في الأصح.
ومنها: لو تيمم لفرض قبل وقته: فالأصح البطلان, وعدم استباحة النفل به.
ومنها: لو وجد القاعد خفة في أثناء الصلاة, فلم يقم بطلت. ولا يتم نفلا في الأظهر.
تنبيه:
جزم ببقائه في صور:
منها: إذا أعتق معيبا عن كفارة, بطل كونه كفارة, وعتق جزما.
ومنها: لو أخرج زكاة ماله الغائب, فبان تالفا, وقعت تطوعا قطعا.
وجزم بعدمه في صور:
منها: لو وكله ببيع فاسد, فليس له البيع قطعا, لا صحيحا ; لأنه لم يأذن فيه, ولا فاسدا ; لعدم إذن الشرع فيه.
ومنها: لو أحرم بصلاة الكسوف, ثم تبين الانجلاء قبل تحرمه بها. لم تنعقد نفلا قطعا, لعدم نفل على هيئتها, حتى يندرج في نيته.
ومنها: لو أشار إلى ظبية. وقال: هذه أضحية لغا ولا يلزمه التصدق بها قطعا, قاله في شرح المهذب.(16/306)
ص -183-…القاعدة السابعة عشرة: الحمل, هل يعطى حكم المعلوم أو المجهول؟
فيه خلاف: والترجيح مختلف في الفروع:
فمنها: بيع الحامل إلا حملها, فيه قولان. أظهرهما: لا يصح, بناء على أنه مجهول. واستثناء المجهول من المعلوم يصير الكل مجهولا.
ومنها: بيع الحامل بحر, وفيه وجهان. أصحهما: البطلان ; لأنه مستثنى شرعا, وهو مجهول.
ومنها: لو قال: بعتك الجارية أو الدابة أو حملها أو بحملها أو مع حملها, وفيه وجهان. الأصح: البطلان أيضا لما تقدم.
ومنها: لو باعها بشرط أنها حامل, ففيه قولان: أحدهما البطلان ; لأنه شرط معها شيئا مجهولا وأصحهما: الصحة بناء على أنه معلوم ; لأن الشارع أوجب الحوامل في الدية.
ومنها: هل للبائع حبس الولد إلى استيفاء الثمن؟ وهل يسقط من الثمن حصته, لو تلف قبل القبض؟ وهل للمشتري بيع الولد قبل القبض؟ الأصح نعم في الأوليين, ولا في الثالثة, بناء على أنه يعلم, ويقابله قسط من الثمن.
ومنها: لو حملت أمة الكافر الكافرة من كافر فأسلم فالحمل مسلم, فيحتمل أن يؤمر مالك الأمة الكافرة بإزالة ملكه عن الأم إن قلنا, الحمل يعطى حكم المعلوم, قاله في البحر ومنها: الإجازة للحمل والأظهر كما قال العراقي الجواز ; بناء على أنه معلوم.
تنبيه:
جزم بإعطائه حكم المجهول فيما إذا بيع وحده, فلا يصح قطعا وبإعطائه حكم المعلوم في الوصية له, أو الوقف عليه فيصحان قطعا.
القاعدة الثامنة عشرة: النادر. هل يلحق بجنسه أو بنفسه؟
فيه خلاف, والترجيح مختلف في الفروع:
فمنها: مس الذكر المبان فيه وجهان, أصحهما أنه ينقض ; لأنه يسمى ذكرا.
ومنها: لمس العضو المبان من المرأة, فيه وجهان: أصحهما عدم النقض ; لأنه لا يسمى امرأة, والنقض منوط بلمس المرأة.
ومنها: النظر إلى العضو المبان من الأجنبية, وفيه وجهان أصحهما: التحريم. ووجه مقابله: ندور كونه محل فتنة, والخلاف جار في قلامة الظفر.(16/307)
ص -184-…ومنها: لو حلف لا يأكل اللحم, فأكل الميتة ففيه وجهان, أصحهما عند النووي: عدم الحنث. ويجريان فيما لو أكل ما لا يؤكل, كذئب وحمار.
ومنها: الاكتساب النادر, كالوصية واللقطة والهبة: هل تدخل في المهايأة في العبد المشترك, وجهان: الأصح نعم.
ومنها: جماع الميتة يوجب عليه الغسل, والكفارة عن إفساد الصوم والحج, ولا يوجب الحد, ولا إعادة غسلها, على الأصح فيهما, ولا المهر.
ومنها: يجزئ الحجر في المذي والودي على الأصح.
ومنها: يبقى الخيار للمتبايعين إذا داما أياما على الأصح.
ومنها: في جريان الربا في الفلوس إذا راجت رواج النقود. وجهان أصحهما: لا.
ومنها: ما يتسارع إليه الفساد في شرط الخيار. فيه وجهان أصحهما لا يجوز.
تنبيه:
جزم بالأول في صور:
منها: من خلق له وجهان لم يتميز الزائد منهما, يجب غسلهما قطعا.
ومن خلقت بلا بكارة, لها حكم الأبكار, قطعا.
ومن أتت بولد لستة أشهر ولحظتين من الوطء يلحق قطعا, وإن كان نادرا.
وجزم بالثاني في صور:
منها: الأصبع الزائدة, لا تلحق بالأصلية في الدية قطعا, وكذا سائر الأعضاء.
القاعدة التاسعة عشرة: القادر على اليقين هل له الاجتهاد والأخذ بالظن؟
فيه خلاف, والترجيح مختلف في الفروع:
فمنها: من معه إناءان, أحدهما نجس, وهو قادر على يقين الطهارة بكونه على البحر, أو عنده ثالث طاهر, أو يقدر على خلطهما وهما قلتان. والأصح: أن له الاجتهاد.
ومنها: لو كان معه ثوبان, أحدهما نجس, وهو قادر على طاهر بيقين, والأصح أن له الاجتهاد. ومنها: من شك في دخول الوقت, وهو قادر على تمكين الوقت, أو الخروج من البيت المظلم لرؤية الشمس, والأصح أن له الاجتهاد.
ومنها: الصلاة إلى الحجر, الأصح: عدم صحتها إلى القدر الذي ورد فيه أنه من البيت.(16/308)
ص -185-…وسببه: اختلاف الروايات, ففي لفظ. "الحجر من البيت" وفي لفظ."سبعة أذرع"وفي آخر"ستة" وفي آخر."خمسة" والكل في صحيح مسلم, فعدلنا عنه إلى اليقين, وهو الكعبة.
وذكر من فروعها أيضا: الاجتهاد بحضرته صلى الله عليه وسلم وفي زمانه, والأصح جوازه.
تنبيه:
جزم بالمنع فيما إذا وجد المجتهد نصا, فلا يعدل عنه إلى الاجتهاد جزما, وفي المكي لا يجتهد في القبلة جزما.
وفرق بين القبلة والأواني: بأن في الإعراض عن الاجتهاد في الآنية إضاعة مال, وبأن القبلة في جهة واحدة, فطلبها مع القدرة عليها في غيرها عبث, والماء جهاته متعددة.
وجزم بالجواز, فيمن اشتبه عليه لبن طاهر ومتنجس, ومعه ثالث طاهر بيقين, ولا اضطرار, فإنه مجتهد بلا خلاف, نقله في شرح المهذب.
القاعدة العشرون: المانع الطارئ هل هو كالمقارن؟
فيه خلاف, والترجيح مختلف في الفروع:
فمنها: طريان الكثرة على الاستعمال والشفاء على المستحاضة في أثناء الصلاة والردة على الإحرام, وقصد المعصية على سفر الطاعة وعكسه, والإحرام على ملك الصيد وأحد العيوب على الزوجة, والحلول على دين المفلس الذي كان مؤجلا, وملك المكاتب زوجة سيده, والوقف على الزوجة, أعني إذا وقفت زوجته عليه.
والأصح في الكل: أن الطارئ كالمقارن, فيحكم للماء بالطهورية وللصلاة والإحرام بالإبطال, وللمسافر بعدم الترخص في الأولى, وبالترخص في الثانية, وبإزالة الملك عن الصيد, وبإثبات الخيار للزوج, وبرجوع البائع في عين ماله, وبانفساخ النكاح في شراء المكاتب والموقوفة, كما لا يجوز له نكاح من وقفت عليه ابتداء.(16/309)
ومنها: طريان القدرة على الماء في أثناء الصلاة, ونية التجارة بعد الشراء, وملك الابن على زوجة الأب, والعتق على من نكح جارية ولده, واليسار ونكاح الحرة على حر نكح أمة, وملك الزوجة لزوجها بعد الدخول قبل قبض المهر, وملك الإنسان عبدا له في ذمته دين, والإحرام على الوكيل في النكاح, والاسترقاق على حربي استأجره مسلم, والعتق على عبد آجره سيده مدة.
والأصح في الكل أن الطارئ ليس كالمقارن, فلا تبطل الصلاة ولا تجب الزكاة, ولا(16/310)
ص -186-…ينفسخ النكاح في الصور الأربع, ولا يسقط المهر والدين عن ذمة العبد, ولا تبطل الوكالة, ولا تنفسخ الإجارة في الصورتين.
تنبيه:
جزم بأن الطارئ كالمقارن, في صور:
منها: طريان الكثرة على الماء النجس, والرضاع المحرم, والردة على النكاح, ووطء الأب أو الابن أو الأم أو البنت بشبهة, وملك الزوج الزوجة أو عكسه, والحدث العمد على الصلاة, ونية القنية على عروض التجارة وأحد العيوب على الزوج.
وجزم بخلافه في صور:
منها: طريان الإحرام, وعدة الشبهة, وأمن العنت على النكاح, والإسلام على السبي, فلا يزيل الملك, ووجدان الرقبة في أثناء الصوم, والإباق, وموجب الفساد على الرهن, والإغماء على الاعتكاف, والإسلام على عبد الكافر فلا يزيل الملك, بل يؤمر بإزالته, ودخول وقت الكراهة على التيمم لا يبطله بلا خلاف ; ولو تيمم فيه للنفل لم يصح.
خاتمة:
يعبر عن أحد شقي هذه القاعدة بقاعدة:
يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء.
ولهم قاعدة عكس هذه, وهي:
يغتفر في الابتداء ما لا يغتفر في الدوام.
ومن فروعها:
إذا طلع الفجر وهو مجامع, فنزع في الحال صح صومه.
ولو وقع مثل ذلك في أثناء الصوم أبطله.
ومنها: لو أحرم مجامعا بحج أو عمرة, فأوجه:
أحدها: ينعقد صحيحا.
وبه جزم الرافعي في باب الإحرام, وأقره في الروضة.
فإن نزع في الحال استمر, وإلا فسد نسكه, وعليه البدنة والقضاء والمضي في الفاسد.
فعلى هذا اغتفر الجماع في ابتداء الإحرام. ولم يغتفر في أثنائه.
والوجه الثاني: لا ينعقد أصلا وهو الأصح في زوائد الروضة.
والثالث, وهو الأصح ينعقد فاسدا, فإن نزع في الحال لم تجب البدنة, وإن مكث وجبت.
والفرق بينه وبين الصوم أن طلوع الفجر ليس من فعله بخلاف إنشاء الإحرام.(16/311)
ص -187-…ومنها: الجنون, لا يمنع ابتداء الأجل, فيجوز لوليه أن يشتري له شيئا بثمن مؤجل, ويمنع دوامه على قول, صححه في الروضة فيحل عليه الدين المؤجل إذا جن.
ولكن المعتمد خلافه.
ومنها - وهي أجل مما تقدم -: الفطرة, لا يباع فيها المسكن والخادم.
قال الأصحاب: هذا في الابتداء, فلو ثبتت الفطرة في ذمة إنسان بعنا خادمه ومسكنه فيها ; لأنها بعد الثبوت التحقت بالديون.
ومنها: إذا مات للمحرم قريب وفي ملكه صيد, ورثه على الأصح, ثم يزول ملكه عنه على الفور. ومنها: الوصية بملك الغير, الراجح صحتها حتى إذا ملكه بعد ذلك أخذه الموصى له. ولو أوصى بما يملكه ثم أزال الملك فيه, بطلت الوصية, كذا جزموا به.
قال الأسنوي: وكان القياس أن تبقى الوصية بحالها, فإن عاد إلى ملكه أعطيناه الموصى له, كما لو لم يكن في ملكه حال الوصية, بل الصحة هنا أولى. انتهى.
وعلى ما جزموا به, قد اغتفر في الابتداء ما لم يغتفر في الدوام.
ومنها: إذا حلف بالطلاق لا يجامع زوجته, لم يمنع من إيلاج الحشفة على الصحيح, ويمنع من الاستمرار لأنها صارت أجنبية.
الكتاب الرابع: في أحكام يكثر دورها ويقبح بالفقيه جهلها.
القول في الناسي, والجاهل, والمكره.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".
هذا حديث حسن. أخرجه ابن ماجه, وابن حبان في صحيحه, والحاكم في مستدركه بهذا اللفظ من حديث ابن عباس:
وأخرجه الطبراني والدار قطني من حديثه بلفظ: "تجاوز"بدل"وضع".
وأخرجه أبو القاسم الفضل بن جعفر التميمي في فوائده من حديثه, بلفظ: "رفع". وأخرجه ابن ماجه أيضا من طريق أبي بكر الهذلي عن شهر عن أبي ذر قال: قال رسول الله: صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". وأخرجه بهذا اللفظ الطبراني في الكبير من حديث ثوبان.(16/312)
ص -188-…وأخرجه في الأوسط من حديث ابن عمر, وعقبة بن عامر, بلفظ: "وضع عن أمتي" إلى آخره. وإسناد حديث ابن عمر صحيح.
وأخرجه ابن عدي في الكامل, وأبو نعيم في التاريخ من حديث أبي بكرة, بلفظ: "رفع الله عن هذه الأمة الخطأ, والنسيان, والأمر يكرهون عليه".
وأخرجه ابن أبي حاتم, في تفسيره من طريق أبي بكر الهذلي, عن شهر بن حوشب, عن أم الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تجاوز لأمتي عن ثلاث: الخطأ, والنسيان, والاستكراه".
قال أبو بكر: فذكرت ذلك للحسن, فقال: أجل, أما تقرأ بذلك قرآنا: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}.
وأبو بكر ضعيف, وكذا شهر. وأم الدرداء إن كانت الصغرى, فالحديث مرسل وإن كانت الكبرى فهو منقطع.
وقال سعيد بن منصور في سننه: حدثنا خالد بن عبد الله, عن هشام, عن الحسن, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عفا لكم عن ثلاث: عن الخطأ, والنسيان, وما استكرهتم عليه".
وقال أيضا: حدثني إسماعيل بن عياش, حدثني جعفر بن حبان العطاردي. عن الحسن قال سمعته يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تجاوز الله لابن آدم عما أخطأ, وعما نسي, وعما أكره, وعما غلب عليه".
وأخرج ابن ماجه من حديث أبي هريرة: "إن الله تجاوز لأمتي عما توسوس به صدورها ما لم تعمل, أو تتكلم به, وما استكرهوا عليه".
فهذه شواهد قوية تقضي للحديث بالصحة:
اعلم أن قاعدة الفقه: أن النسيان والجهل, مسقط للإثم مطلقا.
وأما الحكم: فإن وقعا في ترك مأمور لم يسقط. بل يجب تداركه. ولا يحصل الثواب لمترتب عليه لعدم الائتمار, أو فعل منهي, ليس من باب الإتلاف فلا شيء فيه, أو فيه إتلاف لم يسقط الضمان. فإن كان يوجب عقوبة كان شبهة في إسقاطها.
وخرج عن ذلك صور نادرة, فهذه أقسام.
فمن فروع القسم الأول:
من نسي صلاة, أو صوما أو حجا, أو زكاة, أو كفارة, أو نذرا: وجب تداركه بالقضاء بلا خلاف.(16/313)
وكذا لو وقف بغير عرفة يجب القضاء اتفاقا.
ومنها: من نسي الترتيب في الوضوء.(16/314)
ص -189-…أو نسي الماء في رحله, فتيمم وصلى ثم ذكره.
أو صلى بنجاسة لا يعفى عنها ناسيا, أو جاهلا بها.
أو نسي قراءة الفاتحة في الصلاة.
أو تيقن الخطأ في الاجتهاد في الماء, والقبلة, والثوب وقت الصلاة, والصوم, والوقوف, بأن بان وقوعها قبله.
أو صلوا لسواد ظنوه عدوا, فبان خلافه.
أو دفع الزكاة إلى من ظنه فقيرا فبان غنيا.
أو استناب في الحج لكونه معضوبا. فبرأ.
وفي هذه الصور كلها خلاف:
قال في شرح المهذب: بعضه كبعض, وبعضه مرتب على بعض, أو أقوى من بعض. والصحيح في الجميع: عدم الإجزاء, ووجوب الإعادة.
ومأخذ الخلاف: أن هذه الأشياء, هل هي من قبيل المأمورات التي هي شروط, كالطهارة عن الحدث, فلا يكون النسيان والجهل عذرا في تركها ; لفوات المصلحة منها, أو أنها من قبيل المناهي: كالأكل, والكلام, فيكون ذلك عذرا؟ والأول أظهر.
ولذلك تجب الإعادة بلا خلاف, فيما لو نسي نية الصوم ; لأنها من قبيل المأمورات.
وفيما لو صادف صوم الأسير, ونحوه: الليل, دون النهار ; لأنه ليس وقتا للصوم كيوم العيد, ذكره في شرح المهذب.
ولو صادف الصلاة أو الصوم, بعد الوقت, أجزأ بلا خلاف, لكن هل يكون أداء للضرورة, أو قضاء ; لأنه خارج عن وقته؟ قولان, أو وجهان. أصحهما: الثاني.
ويتفرع عليه:
ما لو كان الشهر ناقصا ورمضان تاما.
وأما الوقوف: إذا صادف ما بعد الوقت, فإن صادف الحادي عشر. لم يجز, بلا خلاف, كما لو صادف السابع, وإن صادف العاشر. أجزأ, ولا قضاء ; لأنهم لو كلفوا به لم يأمنوا الغلط في العام الآتي أيضا.
ويستثنى: ما إذا قل الحجيج, على خلاف العادة, فإنه يلزمهم القضاء, في الأصح ; لأن ذلك نادر. وفرق بين الغلط في الثامن والعاشر بوجهين:(16/315)
ص -190-…أحدهما: أن تأخير العبادة عن الوقت, أقرب إلى الاحتساب من تقديمها عليه.
والثاني: أن الغلط بالتقديم يمكن الاحتراز عنه, فإنما يقع لغلط في الحساب, أو لخلل في الشهود, الذين شهدوا بتقديم الهلال.
والغلط بالتأخير قد يكون بالغيم المانع من الرؤية, ومثل ذلك لا يمكن الاحتراز عنه.
ثم صورة المسألة كما قال الرافعي: أن يكون الهلال غم, فأكملوا ذا القعدة ثلاثين, ثم قامت بينة برؤيته ليلة الثلاثين.
أما لو وقع الغلط, بسبب الحساب, فإنه لا يجزئ, بلا شك, لتفريطهم, وسواء تبين لهم ذلك بعد العاشر, أو فيه, في أثناء الوقوف, أو قبل الزوال, فوقفوا عالمين. كما نقله الرافعي عن عامة الأصحاب, وصححه في شرح المهذب.
ولو أخطأ الاجتهاد في أشهر الحج. فأحرم النفير العام في غير أشهره. ففي انعقاده حجا وجهان: أحدهما: نعم, كالخطأ في الوقوف العاشر.
والثاني: لا.
والفرق: أنا لو أبطلنا الوقوف في العاشر, أبطلناه من أصله, وفيه إضرار.
وأما هنا: فينعقد عمرة, كذا في شرح المهذب, بلا ترجيح.
ومن فروع هذا القسم, في غير العبادات:
ما لو فاضل في الربويات جاهلا, فإن العقد يبطل اتفاقا, فهو من باب ترك المأمورات ; لأن المماثلة شرط, بل العلم بها أيضا.
وكذا لو عقد البيع, أو غيره على عين يظنها ملكه فبانت بخلافه, أو النكاح على محرم, أو غيرها من المحرمات جاهلا, لا يصح.
ومن فروع القسم الثاني:
من شرب خمرا جاهلا, فلا حد, ولا تعزير.
ومنها: لو قال: أنت أزنى من فلان, ولم يصرح في لفظه بزنا فلان, لكنه كان ثبت زناه بإقرار, أو بينة. والقائل جاهل, فليس بقاذف, بخلاف ما لو علم به, فيكون قاذفا لهما.(16/316)
ومنها: الإتيان بمفسدات العبادة ناسيا, أو جاهلا, كالأكل في الصلاة, والصوم وفعل ما ينافي الصلاة: من كلام, وغيره. والجماع في الصوم. والاعتكاف, والإحرام والخروج من المعتكف, والعود من قيام الثالثة إلى التشهد ومن السجود إلى القنوت, والاقتداء بمحدث, وذي نجاسة, وسبق الإمام بركنين ومراعاة المزحوم ترتيب نفسه إذا ركع الإمام في الثانية, وارتكاب محظورات الإحرام, التي ليست بإتلاف.(16/317)
ص -191-…كاللبس. والاستمتاع, والدهن, والطيب. سواء جهل التحريم, أو كونه طيبا.
والحكم في الجميع: عدم الإفساد, وعدم الكفارة, والفدية. وفي أكثرها خلاف.
واستثني من ذلك:
الفعل الكثير في الصلاة, كالأكل, فإنه يبطلها في الأصح لندوره.
وألحق بعضهم الصوم بالصلاة في ذلك. والأصح: أنه لا يبطل بالكثير ; لأنه لا يندر فيه, بخلاف الصلاة ; لأن فيه هيئة مذكرة.
ومنها: لو سلم عن ركعتين ناسيا, وتكلم عامدا "لظنه إكمال الصلاة" لا تبطل صلاته لظنه أنه ليس في صلاة.
ونظيره: ما لو تحلل من الإحرام وجامع, ثم بان أنه لم يتحلل, لكون رميه وقع قبل نصف الليل والمذهب: أنه لا يفسد حجه.
ومن نظائره أيضا:
لو أكل ناسيا, فظن بطلان صومه, فجامع, ففي وجه: لا يفطر قياسا عليه. والأصح: الفطر ; كما لو جامع على ظن أن الصبح لم يطلع, فبان خلافه, ولكن لا تجب الكفارة ; لأنه وطئ وهو يعتقد أنه غير صائم.
ونظيره أيضا:
لو ظن طلاق زوجته بما وقع منه فأشهد عليه بطلاقها.
ومن فروع هذا القسم أيضا:
ما لو اشترى الوكيل معيبا جاهلا به. فإنه يقع عن الموكل, إن ساوى ما اشتراه به, وكذا إن لم يساو في الأصح, فإنه بخلاف ما إذا علم.
تنبيه:
من المشكل: تصوير الجهل بتحريم الأكل في الصوم, فإن ذلك جهل بحقيقة الصوم. فإن من جهل الفطر جهل الإمساك عنه, الذي هو حقيقة الصوم, فلا تصح نيته.
قال السبكي: فلا مخلص إلا بأحد أمرين: إما أن يفرض في مفطر خاص من الأشياء النادرة, كالتراب, فإنه قد يخفى, ويكون الصوم الإمساك عن المعتاد, وما عداه شرط في صحته, "وإما أن يفرض" كما صوره بعض المتأخرين فيمن احتجم أو أكل ناسيا ; فظن أنه أفطر, فأكل بعد ذلك, جاهلا بوجوب الإمساك, فإنه لا يفطر على وجه. لكن الأصح فيه: الفطر.
انتهى.وقال القاضي حسين: كل مسألة تدق, ويغمض معرفتها, هل يعذر فيها العامي؟ وجهان, أصحهما: نعم.(16/318)
ص -192-…ومن فروع القسم الثالث: إتلاف مال الغير:
فلو قدم له غاصب طعاما ضيافة, فأكله جاهلا, فقرار الضمان عليه في أظهر القولين, ويجريان في إتلاف مال نفسه جاهلا.
وفيه صور:
منها: لو قدم له الغاصب المغصوب منه, فأكله ضيافة جاهلا, برئ الغاصب في الأظهر.
ومنها: لو أتلف المشتري المبيع قبل القبض جاهلا, فهو قابض في الأظهر.
ومنها: لو خاطب زوجته بالطلاق جاهلا بأنها زوجته, بأن كان في ظلمة, أو نكحها له وليه, أو وكيله, ولم يعلم. وقع, وفيه احتمال للإمام.
ومنها: لو خاطب أمته بالعتق, كذلك قال الرافعي.
ومن نظائرها: ما إذا نسي أن له زوجة, فقال: زوجتي طالق.
ومنها: كما قال ابن عبد السلام: ما إذا وكل وكيلا في إعتاق عبد, فأعتقه ظنا منه أنه عبد الموكل, فإذا هو عبد الوكيل, نفذ عتقه.
قال العلائي: ولا يجيء فيه احتمال الإمام ; لأن هذا قصد قطع الملك, فنفذ.
ومنها: إذا قال الغاصب, لمالك العبد المغصوب: أعتق عبدي هذا, فأعتقه جاهلا, عتق على الصحيح. وفي وجه: لا ; لأنه لم يقصد قطع ملك نفسه.
قلت: خرج عن هذه النظائر مسألة, وهي:
ما إذا استحق القصاص على رجل, فقتله خطأ, فالأصح: أنه لا يقع الموقع.
ومن فروع هذا القسم أيضا:
محظورات الإحرام, التي هي إتلاف, كإزالة الشعر, والظفر, وقتل الصيد. لا تسقط فديتها بالجهل والنسيان.
ومنها: يمين الناسي والجاهل, فإذا حلف على شيء بالله, أو الطلاق, أو العتق: أن يفعله, فتركه ناسيا, أو لا يفعله, ففعله ناسيا للحلف, أو جاهلا أنه المحلوف عليه, أو على غيره, ممن يبالي بيمينه, ووقع ذلك منه جاهلا, أو ناسيا, فقولان في الحنث, رجح كلا المرجحون. ورجح الرافعي في المحرر عدم الحنث مطلقا, واختاره في زوائد الروضة والفتاوى.
قال: لحديث: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" وهو عام, فيعمل بعمومه, إلا ما دل دليل على تخصيصه كغرامة المتلفات.(16/319)
ثم استثني من ذلك: ما لو حلف لا يفعل عامدا, ولا ناسيا, فإنه يحنث بالفعل ناسيا بلا خلاف, لالتزام حكمه. هذا في الحلف على المستقبل.
أما على الماضي, كأن حلف أنه لم يفعل, ثم تبين أنه فعله فالذي تلقفناه من مشايخنا أنه يحنث.(16/320)
ص -193-…ويدل له قول النووي في فتاويه: صورة المسألة أن يعلق الطلاق على فعل شيء, فيفعله ناسيا لليمين, أو جاهلا بأنه المحلوف عليه.
ولابن رزين: فيه كلام مبسوط, سأذكره.
والذي في الشرح والروضة: أن فيه القولين. في الناسي ومقتضاه, عدم الحنث.
وعبارة الروضة: لو جلس مع جماعة, فقام ولبس خف غيره, فقالت له امرأته: استبدلت بخفك, ولبست خف غيرك, فحلف بالطلاق: أنه لم يفعل, إن قصد أني لم آخذ بدله كان كاذبا, فإن كان عالما طلقت. وإن كان ساهيا, فعلى قولي طلاق الناسي انتهى.
ولك أن تقول: لا يلزم من إجراء القولين الاستواء في التصحيح, وابن رزين أبسط من تكلم على المسألة.
وها أنا أورد عبارته بنصها, لما فيها من الفوائد.
قال: للجهل والنسيان والإكراه حالتان:
إحداهما: أن يكون ذلك واقعا في نفس اليمين أو الطلاق, فمذهب الشافعي أن المكره على الطلاق, لا يقع طلاقه, إذا كان غير مختار لذلك من جهة غير الإكراه, بل طاوع المكره, فيما أكرهه عليه بعينه وصفته.
ويستوي في ذلك: الإكراه على اليمين, وعلى التعليق.
ويلتحق بالإكراه في ذلك: الجهل الذي يفقد معه القصد إلى اللفظ, مع عدم فهم معناه والنسيان, وذلك بأن يتلفظ بالطلاق من لا يعرف معناه أصلا, أو عرفه, ثم نسيه فهذان نظير المكره, فلا يقع بذلك طلاق, ولا ينعقد بمثله يمين.
وذلك إذا حلف باسم من أسماء الله تعالى, وهو لا يعرف أنه اسمه.(16/321)
أما إذا جهل المحلوف عليه, أو نسيه, كما إذا دخل زيد الدار, وجهل ذلك الحالف أو علمه, ثم نسيه فحلف بالله أو بالطلاق: أنه ليس في الدار فهذه يمين ظاهرها تصديق نفسه في النفي, وقد يعرض فيها أن يقصد أن الأمر كذلك "في اعتقاده أو فيما انتهى إليه علمه أي: لم يعلم خلافه, ولا يكون قصده الجزم بأن الأمر كذلك" في الحقيقة, بل ترجع يمينه إلى أنه حلف أنه يعتقد كذا, أو يظنه, وهو صادق في أنه يعتقد ذلك, أو ظان له, فإن قصد الحالف ذلك حالة اليمين أو تلفظ به متصلا بها لم يحنث, وإن قصد المعنى الأول, أو أطلق ففي وقوع الطلاق, ووجوب الكفارة قولان مشهوران:
مأخذهما: أن النسيان, والجهل هل يكونان عذرا له في ذلك, كما كانا عذرا في باب الأوامر والنواهي, أم لا يكونان عذرا, كما لم يكونا عذرا في غرامات المتلفات؟
ويقوي إلحاقهما بالإتلافات, بأن الحالف بالله أن زيدا في الدار, إذا لم يكن فيها.(16/322)
ص -194-…قد انتهك حرمة الاسم الأعظم جاهلا, أو ناسيا, فهو كالجاني خطأ. والحالف بالطلاق إن كانت يمينه بصيغة التعليق, كقوله: إن لم يكن زيد في الدار, فزوجتي طالق, إذا تبين أنه لم يكن فيها, فقد تحقق الشرط, الذي علق الطلاق عليه, فإنه لم يتعرض إلا لتعليق الطلاق على عدم كونه في الدار, ولا أثر لكونه جاهلا, أو ناسيا في عدم كونه في الدار.
وأما إذا كان بغير صيغة التعليق, كقوله لزوجته: أنت طالق, لقد خرج زيد من الدار. وكقوله: الطلاق يلزمني ليس زيد في الدار. فهذا إذا قصد به اليمين, جرى مجرى التعليق وإلا لوقع الطلاق في الحال, وإذا جرى مجرى التعليق, كان حكمه حكمه.
والحالة الثانية: الجهل, والنسيان, والإكراه, أن يعلق الطلاق على دخول الدار أو دخول زيد الدار, أو يحلف بالله لا يفعل ذلك, فإذا دخلها المحلوف عليه ناسيا, أو جاهلا, أو مكرها, فإن جرد قصده عن التعليق المحض, كما إذا حلف لا يدخل السلطان البلد اليوم, أو لا يحج الناس في هذا العام. فظاهر المذهب: وقوع الطلاق, والحنث في مثل هذه الصورة. وقع ذلك عمدا, أو نسيانا, اختيارا, أو مع إكراه, أو جهل. وإن قصد باليمين تكليف المحلوف عليه ذلك, لكونه يعلم أنه لا يرى مخالفته مع حلفه أو قصد باليمين على فعل نفسه, أن تكون يمينه رادعة عن الفعل, فالمذهب في هاتين الصورتين أنه لا يحنث إذا فعل المحلوف عليه ناسيا أو جاهلا إذ رجعت حقيقة هذه اليمين إلى تكليف نفسه ذلك, أو تكليف المحلوف عليه ذلك, والناسي لا يجوز تكليفه, وكذلك الجاهل.
وأما إن فعله مكرها فالإكراه لا ينافي التكليف, فإنا نحرم على المكره القتل ونبيح له الفطر في الصوم, وإذا كان مكلفا - وقد فعل المحلوف عليه - فيظهر وقوع الطلاق والحنث كما تقدم في المسألة الأولى إلحاقا بالإتلاف, لتحقق وجود الشرط المعلق عليه.(16/323)
إذ لفظ التعليق عام يشمل فعل المعلق عليه مختارا, ومكرها وناسيا وجاهلا وذاكرا ليمين وعالما, وبهذا تمسك من مال إلى الحنث, ووقوع الطلاق في صورة النسيان والجهل. لكنا إنما اخترنا عدم وقوع الطلاق فيهما ; لأن قصد التكليف يخصهما, ويخرجهما عن الدخول تحت عموم اللفظ, فلا ينهض ; لأن مخرج الإكراه لكونه لا ينافي التكليف, كما ذكرنا.
هذا ما ترجح عندي في الصورة التي فصلتها.
وبقي صورة واحدة وهي:
ما إذا أطلق التعليق ولم يقصد تكليفا ولا قصد التعليق المحض بل أخرجه مخرج اليمين.(16/324)
ص -195-…فهذه الصورة: هي التي أطلق معظم الأصحاب فيها القولين.
واختار صاحب المهذب والانتصار والرافعي, عدم الحنث وعدم وقوع الطلاق.
وكان شيخنا ابن الصلاح: يختار وقوعه ويعلله بكونه مذهب أكثر العلماء, وبعموم لفظ التعليق ظاهرا, لكن قرينة الحث والمنع تصلح للتخصيص وفيها بعض الضعف.
ومن ثم توقف صاحب الحاوي, ومن حكى عنه التوقف من أشياخه في ذلك.
فالذي يقوي التخصيص: أن ينضم إلى قرينة الحث, والمنع: القصد للحث, والمنع, فيقوي حينئذ التخصيص كما اخترناه.
والغالب: أن الحالف على فعل مستقبل من أفعال من يعلم أنه يرتدع منه يقصد الحث أو المنع فيختار أيضا: أن لا يقع طلاقه بالفعل مع الجهل والنسيان, إلا أن يصرفه عن الحث أو المنع بقصد التعليق على الفعل مطلقا, فيقع في الصور كلها بوجود الفعل.
وأما من حلف على فعل نفسه, فلا يمتنع وقوع طلاقه بالنسيان أو الجهل إلا عند قصد الحث أو المنع, انتهى كلامه بحروفه.
وما جزم به من الحنث في الحالة الأولى وهي: الحلف على الماضي ناسيا أو جاهلا: ذكره بحروفه القمولي في شرح الوسيط جازما به, ونقله عنه الأذرعي في القوت.
وقال: إنه أخذه من كلام ابن رزين ونقل غير واحد أن ابن الصلاح صرح بتصحيحه وبتصحيح الحنث في المستقبل أيضا, فإذا جمعت بين المسألتين حصلت ثلاثة أقوال.
ثالثها: الحنث في الماضي دون المستقبل, وهو الذي قرره ابن رزين, ومتابعوه, وهو المختار.
تنبيه:
من المشكل قول المنهاج: ولو علق بفعله ففعل ناسيا للتعليق أو مكرها, لم تطلق في الأظهر أو بفعل غيره ممن يبالي بتعليقه وعلم به ; فكذلك وإلا فيقع قطعا.
ووجه الإشكال أن قوله: "وأن لا يدخل فيه" ما إذا لم يبال بتعليقه ولم يعلم به.
وما إذا علم به ولم يبال, وما إذا بالى ولم يعلم, والقطع بالوقوع في الثالثة مردود.
وقد استشكله السبكي وقال: كيف يقع بفعل الجاهل قطعا, ولا يقع بفعل الناسي على الأظهر, مع أن الجاهل أولى بالمعذرة من الناسي؟(16/325)
وقد بحث الشيخ علاء الدين الباجي في ذلك هو والشيخ زين الدين الكتاني في درس ابن بنت الأعز, وكان ابن الكتاني مصمما على ما اقتضته عبارة المنهاج والباجي في مقابله.
قال السبكي: والصواب أن كلام المنهاج محمول على ما إذا قصد الزوج مجرد التعليق, ولم يقصد إعلامه ليمتنع.
وقد أرشد الرافعي إلى ذلك, فإن عبارته وعبارة النووي في الروضة: ولو علق بفعل(16/326)
ص -196-…الزوجة أو أجنبي, فإن لم يكن للمعلق بفعله شعور بالتعليق, ولم يقصد الزوج إعلامه.
ففي قوله: "ولم يقصد إعلامه" ما يرشد إلى ذلك.
وقال في المهمات: أشار بقوله: "ولم يقصد إعلامه" إلى قصد الحث والمنع, وعبر عنه به ; لأن قاصده يقصد إعلام الحالف بذلك ليمتنع منه.
ولهذا لما تكلم على القيود, ذكر الحث والمنع عوضا عن الإعلام.
قال: والظاهر أنه معطوف بأو, لا بالواو, حتى لا يكون المجموع شرطا, فإن الرافعي شرط بعد ذلك, لعدم الوقوع شروطا ثلاثة: شعوره, وأن يبالي, وأن يقصد الزوج الحث والمنع.
قال: وما اقتضاه كلام الرافعي من الحنث, إذا لم يعلم المحلوف عليه, رجحه الصيدلاني, فيما جمعه من طريقة شيخه القفال فقال: فإن قصد منعه, فإن لم يعلم القادم حتى قدم, حنث الحالف وإن علم به ثم نسي فعلى قولين.
ومنهم من قال: على قولين بكل حال, وكذلك الغزالي في البسيط فقال: إذا علق بفعلها في غيبتها فلا أثر لنسيانها, وإن كانت مكرهة فالظاهر الوقوع ; لأن هذا في حكم التعليق لا قصد المنع, ومنهم من طرد فيه الخلاف, انتهى.
وخالف الجمهور فخرجوه على القولين: الشيخ أبو حامد والمحاملي وصاحبا المهذب والتهذيب والجرجاني والخوارزمي انتهى.
وقال ابن النقيب: القسم الثالث وهو:
ما إذا بالى, ولم يعلم, ليس في الشرح والروضة هنا, ويقتضي المنهاج: الوقوع فيه قطعا, فليحرر.
فرع:
في المسائل المبنية على الخلاف في حنث الناسي والمكره.
قال: لأقتلن فلانا, وهو يظنه حيا فكان ميتا, ففي الكفارة خلاف الناسي.
قال: لا أسكن هذه الدار, فمرض وعجز عن الخروج, ففي الحنث خلاف المكره.
قال: لأشربن ماء هذا الكوز, فانصب, أو شربه غيره أو مات الحالف قبل الإمكان, ففيه خلاف المكره.
قال: لا أبيع لزيد مالا, فوكل زيد وكيلا وأذن له في التوكيل, فوكل الحالف فباع وهو لا يعلم, ففيه خلاف الناسي.
قال: لأقضين حقك غدا, فمات الحالف قبله أو أبرأه أو عجز, ففيه خلاف المكره.(16/327)
قال: لأقضين عند رأس الهلال, فأخره عن الليلة الأولى للشك فيه, فبان كونها من الشهر, ففيه خلاف الناسي.(16/328)
ص -197-…قال: لا رأيت منكرا إلا رفعته إلى القاضي فلم يتمكن من الرفع لمرض أو حبس أو جاء إلى باب القاضي فحجب, أو مات القاضي قبل وصوله إليه, ففيه خلاف المكره. قال: لا أفارقك حتى أستوفي حقي, ففر منه الغريم, ففيه خلاف المكره. فإن قال لا تفارقني ففر الغريم, حنث مطلقا ; لأنها يمين على فعل غيره, بخلاف الأولى ولا يحنث مطلقا إن فر الحالف, فإن أفلس في الصورة الأولى فمنعه الحاكم من ملازمته, ففيه خلاف المكره, وإن استوفى فبان ناقصا ففيه خلاف الجاهل.
فرع:
خرج عن هذا القسم صور عذر فيها بالجهل في الضمان.
منها: إذا أخرج الوديعة من الحرز على ظن أنها ملكه فتلفت, فلا ضمان عليه ولو كان عالما ضمن, ذكره الرافعي.
قال الأسنوي: ومثله الاستعمال والخلط ونحوهما.
ومنها: إذا استعمل المستعير العارية, بعد رجوع المعير جاهلا فلا أجرة عليه نقله الرافعي عن القفال وارتضاه.
ومنها: إذا أباح له ثمرة بستان ثم رجع فإن الآكل لا يغرم ما أكله بعد الرجوع, وقبل العلم كما ذكره في الحاوي الصغير.
وحكى الرافعي: فيه وجهين من غير تصريح بترجيح.
ومنها: إذا وهبت المرأة نوبتها من القسم لضرتها ثم رجعت فإنها لا تعود إلى الدور من الرجوع على الصحيح بل من حين العلم به.
ومن فروع القسم الرابع.
الواطئ بشبهة فيه مهر المثل ; لإتلاف منفعة البضع دون الحد.
منها: من قتل جاهلا بتحريم القتل, فلا قصاص عليه.
ومنها: قتل الخطأ, فيه الدية والكفارة دون القصاص.
ومن ذلك مسألة الوكيل: إذا اقتص بعد عفو موكله جاهلا فلا قصاص عليه على المنصوص, وعليه الدية في ماله والكفارة ولا رجوع له على العافي ; لأنه محسن بالعفو وقيل لا دية, وقيل هي على العاقلة وقيل يرجع على العافي ; لأنه غره بالعفو.
ونظير هذه المسألة: ما لو أذن الإمام للولي في قتل الجانية, ثم علم حملها فرجع ولم يعلم الولي رجوعه فقتل, فالضمان على الولي.
ومن ذلك: بعد أقسام مسألة الدهشة ولنلخصها فنقول:(16/329)
إذا قال مستحق اليمين للجاني: أخرجها, فأخرج يساره فقطعت فله أحوال.(16/330)
ص -198-…أحدها: أن يقصد إباحتها, فهي مهدرة لا قصاص ولا دية سواء علم القاطع أنها اليسار وأنها لا تجزئ أو لا ; لأن صاحبها بذلها مجانا ; ولأن فعل الإخراج اقترن بقصد الإباحة فقام مقام النطق, كتقديم الطعام إلى الضيف ; ولأن الفعل بعد السؤال والطلب, كالإذن كما لو قال: ناولني يدك لأقطعها, فأخرجها أو ناولني متاعك لألقيه في البحر فناوله, فلا ضمان. نعم, يعزر القاطع إذا علم ويبقى قصاص اليمين كما كان.
فإن قال: ظننت أنها تجزئ أو علمت أنها لا تجزئ ولكن جعلتها عوضا عنها سقط وعدل إلى دية اليمين لرضاه بسقوط قصاصها اكتفاء باليسار.
الحال الثاني: أن يقصد المخرج إجزاءها عن اليمين, فيسأل المقتص.
فإن قال: ظننت أنه أباحها بالإخراج أو أنها اليمين, أو علمت أنها اليسار, وأنها لا تجزئ ولا تجعل بدلا, فلا قصاص فيها في الصور الثلاث في الأصح لتسليط المخرج له عليها, ولكن تجب ديتها ويبقى قصاص اليمين.
وإن قال: علمت أنها اليسار وظننت أنها تجزئ, سقط قصاص اليمين وتجب لكل الدية على الآخر. الحال الثالث: أن يقول: دهشت فأخرجت اليسار, وظني أني أخرج اليمين فيسأل المقتص, فإن قال ظننت أنه أباحها.
قال الرافعي: فقياس المذكور في الحال الثاني, أن لا يجب القصاص في اليسار.
قال الأذرعي: وصرح به الكافي لوجود صورة البدل, قال البلقيني هو السديد.
قال البغوي: تجب كمن قتل رجلا وقال ظننته أذن لي في القتل ; لأن الظنون البعيدة لا تدرأ القصاص. وإن قال: ظننتها اليمين أو علمت أنها اليسار وظننتها تجزئ, فلا قصاص في الأصح أما في الأولى, فلأن الاشتباه فيهما قريب.
وأما في الثانية, فلعذره بالظن.
وإن قال: علمت أنها اليسار وأنها لا تجزئ وجب القصاص في الأصح ; لأنه لم يوجد من المخرج بذل وتسليط.
وفي الصور كلها يبقى قصاص اليمين, إلا في قوله: ظننت أن اليسار تجزئ.(16/331)
وإن قال: دهشت أيضا, لم يقبل منه ويجب القصاص ; لأن الدهشة لا تليق بحاله وإن قال: قطعتها عدوانا وجب أيضا.
وإن قال المخرج: لم أسمع أخرج يمينك وإنما وقع في سمعي يسارك.
أو قال: قصدت فعل شيء يختص بي أو كان مجنونا, فهو كالمد هوش.
هذا تحرير أحكام هذه المسألة.(16/332)
ص -199-…وفي نظيرها من الحد يجزئ, ويسقط قطع اليمين بكل حال.
والفرق أن المقصود في الحد التنكيل, وقد حصل, والقصاص مبني على التماثل وأن الحدود مبنية على التخفيف, وأن اليسار تقطع في السرقة في بعض الأحوال, ولا تقطع في القصاص عن اليمين بحال.
فرع:
خرج عن هذا القسم صور, لم يعذر فيها بالجهل.
منها: ما إذا بادر أحد الأولياء, فقتل الجاني بعد عفو بعض الأولياء, جاهلا به فإن الأظهر وجوب القصاص عليه ; لأنه متعد بالانفراد.
ومنها: إذا قتل من علمه مرتدا أو ظن أنه لم يسلم, فالمذهب: وجوب القصاص لأن ظن الردة لا يفيد إباحة القتل, فإن قتل المرتد إلى الإمام, لا إلى الآحاد.
ومنها: ما إذا قتل من عهده ذميا أو عبدا, وجهل إسلامه وحريته فالمذهب وجوب القصاص ; لأن جهل الإسلام والحرية لا يبيح القتل.
ومنها: ما إذا قتل من ظنه قاتل أبيه, فبان خلافه, فالأظهر وجوب القصاص ; لأنه كان من حقه التثبت.
ومنها: ما إذا ضرب مريضا جهل مرضه ضربا يقتل المريض دون الصحيح فمات فالأصح: وجوب القصاص ; لأن جهل المرض لا يبيح الضرب.
وعلم من ذلك: أن الكلام فيمن لا يجوز له الضرب.
أما من يجوز له للتأديب, فلا يجب القصاص قطعا, وصرح به في الوسيط وخرج عنه صور عذر فيها بالجهل.حتى في الضمان.
منها: ما إذا قتل مسلما بدار الحرب, ظانا كفره, فلا قصاص قطعا, ولا دية في الأظهر.
ومنها: إذا رمى إلى مسلم تترس به المشركون فإن علم إسلامه: وجبت الدية وإلا فلا ومنها: إذا أمر السلطان رجلا بقتل رجل ظلما, والمأمور لا يعلم, فلا قصاص عليه ولا دية, ولا كفارة.
ومنها: إذا قتل الحامل في القصاص ; فانفصل الجنين ميتا, ففيه غرة وكفارة. أو حيا فمات, فدية.
ثم إذا استقل الولي بالاستيفاء, فالضمان عليه. وإن أذن له الإمام, فإن علما أو جهلا أو علم الإمام دون الولي, اختص الضمان بالإمام على الصحيح ; لأن البحث عليه, وهو الآمر به.(16/333)
ص -200-…وفي وجه: على الولي ; لأنه المباشر.
وفي آخر: عليهما.
وإن علم الولي, دون الإمام, اختص بالولي على الصحيح لاجتماع العلم والمباشر.
وفي وجه: بالإمام لتقصيره.
ولو باشر القتل جلاد الإمام ; فإن جهل, فلا ضمان عليه بحال ; لأنه آلة الإمام, وليس عليه البحث عما يأمره به, وإن كان عالما, فكالولي إن علم الإمام, فلا شيء عليه وإلا اختص به.
ولو علم الولي مع الجلاد, ففي أصل الروضة: الأصح أنه يؤثر, حتى إذا كانوا عالمين ضمنوا أثلاثا. قال في المهمات: وهذا غير مستقيم ; لأن الأصح فيما إذا علما, أو جهلا: أن الضمان على الإمام خاصة, فكيف يستقيم ذلك هنا؟.
قال: قال: فالصواب تفريع المسألة على القول بالوجوب عليهما إذا علما.
ثم من المشكل: أنهما صححا هنا اختصاص الضمان بالإمام, إذا علم هو والولي ; وصححا فيما إذا رجع الشهود, واقتص الولي بعد حكم الحاكم, بأن القصاص واجب على الكل, بل لم يقل أحد بأن الضمان في هذه الصورة يختص بالحاكم.
وصححا فيما إذا أمر السلطان بقتل رجل ظلما وكان هو والمأمور عالمين اختصاصه بالمأمور, إذا لم يكن إكراه.
فهذه ثلاث نظائر مختلفة.
قال في ميدان الفرسان: وكأن الفرق: أن الإحاطة بسبب المنع من الإقدام على القتل في غير مسألة الحامل لا يتوقف على اختيار الحاكم به بخلاف فيها, فإن مناط المنع فيها الظن الناشئ من شهادة النسوة بالحمل. ومنصب سماع الشهادة يختص بالحاكم, فإذا أمكن من القتل بعد أدائها. آذن ذلك بضعف السبب عنده, فأثر في ظن الولي, فلذلك أحيل الضمان على تفريط الحاكم, ولم يقل به عند رجوع الولي والقاضي, لعدم ذلك فيه. انتهى.
من يقبل منه دعوى الجهل ومن لايقبل.(16/334)
كل من جهل تحريم شيء مما يشترك فيه غالب الناس. لم يقبل, إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام, أو نشأ ببادية بعيدة يخفى فيها مثل ذلك: كتحريم الزنا, والقتل, والسرقة والخمر, والكلام في الصلاة, والأكل في الصوم, والقتل بالشهادة إذا رجعا, وقالا تعمدنا, ولم نعلم أنه يقتل بشهادتنا. ووطء المغصوبة, والمرهونة بدون إذن الراهن, فإن كان بإذنه قبل مطلقا ; لأن ذلك يخفى على العوام.(16/335)
ص -201-…ومن هذا القبيل أعني الذي يقبل فيه دعوى الجهل مطلقا لخفائه كون التنحنح مبطلا للصلاة, أو كون القدر الذي أتى به من الكلام محرما, أو النوع الذي تناوله مفطرا فالأصح في الصور الثلاث: عدم البطلان.
ولو علم تحريم الطيب, واعتقد في بعض أنواع الطيب أنه ليس بحرام, فالصحيح وجوب الفدية لتقصيره, كذا في كتب الشيخين.
فقد يقال: إنه مخالف لمسألتي الصلاة, والصوم. ولا يقبل دعوى الجهل, بثبوت الرد بالعيب. والأخذ بالشفعة من قديم الإسلام لاشتهاره, وتقبل في ثبوت خيار العتق, وفي نفي الولد في الأظهر ; لأنه لا يعرفه إلا الخواص.
قاعدة: كل من علم تحريم شيء, وجهل ما يترتب عليه, لم يفده ذلك.
كمن علم تحريم الزنا, والخمر, وجهل وجوب الحد. يحد بالاتفاق ; لأنه كان حقه الامتناع.
وكذا لو علم تحريم القتل, وجهل وجوب القصاص: يجب القصاص.
أو علم تحريم الكلام, وجهل كونه مبطلا: يبطل.
وتحريم الطيب, وجهل وجوب الفدية: تجب.
فرع:
علم بثبوت الخيار, وقال: لم أعلم أنه على الفور. قالوا: في الرد بالعيب, والأخذ بالشفعة. يقبل ; لأن ذلك مما يخفى. كذا أطلقه الرافعي, واستدركه النووي, فقال: شرطه أن يكون مثله ممن يخفى عليه.
وفي عتق الأمة نقل الرافعي عن الغزالي: أنها لا تقبل. وجزم به في الحاوي الصغير ; لأن من علم ثبوت أصل الخيار علم كونه على الفور.
ثم قال الرافعي: ولم أر لهذه الصورة تعرضا في سائر كتب الأصحاب. نعم: صورها العبادي في الرقم: بأن تكون قديمة عهد بالإسلام, وخالطت أهله: فإن كانت حديثة عهد, ولم تخالط أهله, فقولان.
وفي نفي الولد: سوى في التنبيه بينه وبين دعوى الجهل بأصل الخيار, فيفصل فيه بين قديم الإسلام وقريبه. وأقره النووي في التصحيح ولا ذكر للمسألة في الروضة وأصلها.(16/336)
ص -202-…تذنيب:
في نظائر متعلقة بالجهل.
منها: عزل الوكيل قبل علمه. فيه وجهان, والأصح: انعزاله, وعدم نفوذ تصرفه.
ومنها: عزل القاضي قبل علمه. والأصح فيه: عدم الانعزال, حتى يبلغه. والفرق: عسر تتبع أحكامه بالإبطال, بخلاف الوكيل.
ومنها: الواهبة نوبتها في القسم إذا رجعت ولم يعلم الزوج: لا يلزمه القضاء, وقيل: فيه خلاف الوكيل.
ومنها: لو قسم للحرة ليلتين, والأمة ليلة فعتقت ولم يعلم. قال الماوردي: لا قضاء وقال ابن الرفعة: القياس أن يقضي لها.
ومنها: لو أباح ثمار بستانه, ثم رجع, ولم يعلم المباح له. ففي ضمان ما أكل خلاف الوكيل.
ومنها: النسخ قبل بلوغ المكلف, فيه خلاف الوكيل, قاله الروياني.
ومنها: لو عفا الولي, ولم يعلم الجلاد. فاقتص, ففي وجوب الدية قولان مخرجان من عزل الوكيل. أصحهما: الوجوب.
ومنها: لو أذن لعبده في الإحرام. ثم رجع, ولم يعلم العبد, فله تحليله في الأصح.
ومنها: لو أذن المرتهن في بيع المرهونة. ثم رجع, ولم يعلم الراهن ففي نفوذ تصرفه وجهان. أصحهما:لا ينفذ.
ومنها: إذا خرج الأقرب عن الولاية, فهي للأبعد, فلو زال المانع من الأقرب, وزوج الأبعد وهو لا يعلم ففي الصحة: الوجهان.
ومنها: لو عتقت الأمة, ولم تعلم, فصلت مكشوفة الرأس فقولان. أصحهما: تجب الإعادة.
ومنها: لو وكله وهو غائب, فهل يكون وكيلا من حين التوكيل, أو من حين بلوغ الخبر؟ وجهان: مقتضى ما في الروضة: تصحيح الأول.
ومنها: لو أذن لعبده في النكاح, ثم رجع ولم يعلم العبد, ففي صحة نكاحه. وجهان.
ومنها: لو استأذنها غير المجبر, فأذنت, ثم رجعت, ولم يعلم حتى زوج: ففي صحته خلاف الوكيل(16/337)
ص -203-…فصل: وأما المكره: فقد اختلف أهل الأصول في تكليفه على قولين:
وفصل الإمام فخر الدين وأتباعه, فقالوا: إن انتهى الإكراه إلى حد الإلجاء, لم يتعلق به وإن لم ينته إلى ذلك, فهو مختار. وتكليفه جائز شرعا وعقلا.
وقال الغزالي في البسيط: الإكراه يسقط أثر التصرف عندنا, إلا في خمسة مواضع, وذكر إسلام الحربي والقتل, والإرضاع, والزنا, والطلاق, إذا أكره على فعل المعلق عليه.
وزاد عليه غيره مواضع.
وذكر النووي في تهذيبه: أنه يستثنى مائة مسألة لا أثر للإكراه فيها, ولم يعددها, وطالما أمعنت النظر في تتبعها, حتى جمعت منها جملة كثيرة, وقد رأيت الإكراه يساوي النسيان, فإن المواضع المذكورة: إما من باب ترك المأمور, فلا يسقط تداركه ولا يحصل الثواب المرتب عليه, وإما من باب الإتلاف, فلا يسقط الحكم المترتب عليه وتسقط العقوبة المتعلقة به, إلا القتل على الأظهر.
وها أنا أسرد ما يحضرني من ذلك:
الأول: الإكراه عن الحدث, وهو من باب الإتلاف فإنه الإتلاف للطهارة, ولهذا لو أحدث ناسيا انتقض, وفي مس الفرج وجه ضعيف: أنه لا ينقض ناسيا.
وإذا نوعت هذه الصورة إلى أسباب الحدث الأربعة والجماع كثرت الصور.
الثاني: الإكراه على إفساد الماء بالاستعمال أو النجاسة أو مغير طاهر, فإنه يفسد وهو أيضا من باب الإتلاف, إذ لا فرق فيه بين العمد وغيره.
الثالث: قال في الروضة: لو ألقي إنسان في نهر مكرها, فنوى فيه رفع الحدث. صح وضوءه.
وقال في شرح المهذب: قال الشيخ أبو علي: أطلق الأصحاب صحة وضوئه ; ولا بد فيه من تفصيل. فإن نوى رفع الحدث, وهو يريد المقام فيه, ولو لحظة. صح ; لأنه فعل يتصور قصده.
وإن كره المقام, وتحقق الاضطرار من كل وجه. لم يصح وضوءه. إذ لا تتحقق النية به.
الرابع, والخامس: الإكراه على غسل النجاسة, ودبغ الجلد.
السادس: الإكراه على التحول عن القبلة في الصلاة, فتبطل.
السابع: الإكراه على الكلام فيها: فتبطل في الأظهر, لندوره.(16/338)
ص -204-…الثامن: الإكراه على فعل ينافي الصلاة, فتبطل قطعا, لندوره.
التاسع: الإكراه على ترك القيام, في الفرض.
العاشر: الإكراه على تأخير الصلاة عن الوقت, فتصير قضاء.
الحادي عشر: الإكراه على تفرق المتصارفين قبل القبض فيبطل, كما ذكره في الاستقصاء وغيره, وكذلك يبطل مع النسيان, كما نص عليه, والجهل, كما صرح به الماوردي.
قال الزركشي: وقياسه في رأس مال السلم كذلك.
الثاني عشر: لو ضربا في خيار المجلس حتى تفرقا ففي انقطاع الخيار قولا حنث المكره.
الثالث عشر: الإكراه على إتلاف مال الغير, فإنه يطالب بالضمان. وإن كان القرار على المكره في الأصح.
الرابع عشر: الإكراه على إتلاف الصيد كذلك, بخلاف ما لو حلق شعر محرم مكرها لا يكون للمحرم طريقا في الضمان على الأظهر ; لأنه لم يباشر.
الخامس عشر: الإكراه على الأكل في الصوم, فإنه يفطر في أحد القولين, وصححه الرافعي في المحرر. السادس عشر: الإكراه على الجماع في الصوم فيه الطريقان الآتيان.
السابع عشر: الإكراه على الجماع في الإحرام فيه طريقان في أصل الروضة, بلا ترجيح. أحدهما: يفسد قطعا, بناء على أن إكراه الرجل على الوطء لا يتصور. والثاني: فيه وجهان, بناء على الناسي.
الثامن عشر: الإكراه على الخروج من المعتكف فإنه يبطل في أحد القولين, كالأكل في الصوم.
التاسع عشر: الإكراه على إعطاء الوديعة لظالم, فإنه يضمن في الأصح, ثم يرجع على من أخذ منه. العشرون: الإكراه على الذبح, أو الرمي من محرم, ومجوسي, لحلال ومسلم.
الحادي والعشرون: إكراه الحربي, على الإسلام.
الثاني والعشرون: إكراه المرتد عليه.
الثالث والعشرون: إكراه الذمي على وجه, الأصح: خلافه.
الرابع والعشرون: الإكراه على تخليل الخمر بلا عين.
قال الأسنوي: يحتمل إلحاقه بالمختار, ويحتمل القطع بالطهارة.(16/339)
ص -205-…الخامس والعشرون - إلى الثلاثين: الإكراه على الوطء, فيحصل الإحصان, ويستقر المهر, وتحل للمطلق ثلاثا, ويلحقه الولد, وتصير أمته به مستولدة, ويلزمه المهر في غير الزوجة.
قلته تخريجا, ثم رأيت الإسنوي ذكر بحثا أنه كإتلاف المال.
الحادي والثلاثون: الإكراه على القتل, فيجب القصاص على المكره في الأظهر.
الثاني والثلاثون: الإكراه على الزنا لا يبيحه.
الثالث والثلاثون: وعلى اللواط.
الرابع والثلاثون: ويوجب الحد في قول.
الخامس والثلاثون: الإكراه على شهادة الزور, والحكم بالباطل في قتل, أو قطع, أو جلد.
السادس والثلاثون: الإكراه على فعل المحلوف عليه, في أحد القولين.
السابع والثلاثون والثامن والتاسع والثلاثون: الإكراه على طلاق زوجة المكره أو بيع ماله, أو عتق عبده لأنه أبلغ في الإذن.
أما لو أكره أجنبي الوكيل على بيع ما وكل فيه, ففي نظيره من الطلاق احتمالان للروياني حكاهما عنه في الروضة وأصلها, أصحهما عنده: عدم الصحة ; لأنه المباشر.
الأربعون: الإكراه على ولاية القضاء.
الحادي والأربعون: لو أكره المحرم, أو الصائم على الزنا.
قال الأسنوي: لا يحضرني فيها نقل, والمتجه: أنه يفسد عبادته ; لأنه لا يباح بالإكراه.
قال: إلا أن عدم وجوب الحد, قد يرجح عدم الإفساد.
الثاني والأربعون: لو أكره على ترك الوضوء, فتيمم.
قال الروياني: لا قضاء. قال النووي: وفيه نظر.
قال: لكن الراجح ما ذكره ; لأنه في معنى من غصب ماؤه.
قال الأسنوي: والمتجه خلافه ; لأن الغصب كثير معهود, بخلاف الإكراه على ترك الوضوء, فعلى هذا يستثنى.
الثالث والأربعون: الإكراه على السرقة: لا يسقط الحد في قول.
الرابع والأربعون: لا يرث القاتل مكرها, على الصحيح.
الخامس والسادس والأربعون: الإكراه على الإرضاع: يحرم اتفاقا, ويوجب المهر إذا انفسخ به النكاح على المرضعة, على الأصح.(16/340)
ص -206-…قال الأسنوي: وفيه نظر.
السابع والأربعون: الإكراه على القذف: يوجب الحد في وجه.
الثامن والأربعون: الإكراه بحق له, وتحت ذلك صور:
الإكراه على الأذان, وعلى فعل الصلاة, والوضوء وأركان الطهارة, والصلاة, والحج, وأداء الزكاة والكفارة, والدين, وبيع ما له فيه, والصوم, والاستئجار للحج, والإنفاق على رقيقه, وبهيمته, وقريبه, وإقامة الحدود, وإعتاق المنذور عتقه كما صرح به في البحر, والمشتري بشرط العتق, وطلاق المولى, إذا لم يطأ, واختيار من أسلم على أكثر من أربع, وغسل الميت والجهاد.
فكل ذلك يصح مع الإكراه.
فهذه أكثر من عشرين صورة في ضابط الإكراه بحق.
ومنه فيما ذكر الأسنوي: أن يأذن أجنبي للعبد في بيع ماله. فيمتنع, فيكرهه السيد, فلا شك في الصحة لأن للسيد غرضا صحيحا في ذلك: إما لتقليد إمامه, أو أخذ أجرة.
فهذه أكثر من سبعين صورة, لا أثر للإكراه فيها.
وفي بعض صورها ما يقتضي التعدد باعتبار أنواعه, فيبلغ بذلك المائة.
وفيها نحو عشر صور على رأي ضعيف.
تنبيه:
من المشكل, قول المنهاج في الخلع: وإن قال: أقبضتني, فقيل: كالإعطاء.
والأصح كسائر التعليق, فلا يملكه: ولا يشترط للإقباض مجلس. ويشترط لتحقق الصفة أخذه بيده منها ولو مكرهة.
ووجه الإشكال: أن المعلق عليه إقباضها, والإقباض مع الإكراه ملغي شرعا, فلا اعتبار به.
قال السبكي: فذكره في المنهاج لا مخرج له إلا الحمل على السهو. ولم يذكر ذلك في الروضة والشرح, إلا فيما إذا قال: إن قبضت منك, لا في قوله: إن أقبضتني.
قال البلقيني: فما وقع في المنهاج وهم, انتقل من مسألة "إن قبضت" إلى مسألة "إن أقبضتني".
ما يباح بالإكراه وما لا يباح
فيه فروع:
الأول: التلفظ بكلمة الكفر, فيباح به, للآية. ولا يجب, بل الأفضل: الامتناع(16/341)
ص -207-…مصابرة, على الدين, واقتداء بالسلف. وقيل: الأفضل التلفظ, صيانة لنفسه. وقيل: إن كان ممن يتوقع منه النكاية في العدو, والقيام بأحكام الشرع فالأفضل التلفظ, لمصلحة نقائه, وإلا فالأفضل الامتناع.
الثاني: القتال المحرم لحق الله, يباح به, بلا خلاف. بخلاف المحرم للمالية, كنساء الحرب. وصبيانهم فيباح به.
الثالث: الزنا, ولا يباح به بالاتفاق أيضا ; لأن مفسدته أفحش من الصبر على القتل وسواء كان المكره رجلا, أو امرأة.
الرابع: اللواط, ولا يباح به أيضا. صرح به في الروضة.
الخامس: القذف. قال العلائي: لم أر من تعرض له. وفي كتب الحنفية: أنه يباح بالإكراه. ولا يجب به حد, وهو الذي تقتضيه قواعد المذهب. انتهى.
قلت: قد تعرض له ابن الرفعة في المطلب, فقال: يشبه أن يلتحق بالتلفظ بكلمة الكفر ولا نظر إلى تعلقه بالمقذوف ; لأنه لم يتضرر به.
السادس: السرقة, قال في المطلب: يظهر أن تلتحق بإتلاف المال ; لأنها دون الإتلاف.
قال في الخادم: وقد صرح جماعة بإباحتها, منهم القاضي حسين ; في تعليقه.
قلت: وجزم به الأسنوي في التمهيد.
السابع: شرب الخمر ويباح به قطعا استبقاء للمهجة, كما يباح لمن غص بلقمة أن يسيغها به, ولكن لا يجب على الصحيح, كما في أصل الروضة.
الثامن: شرب البول, وأكل الميتة, ويباحان. وفي الوجوب: احتمالان للقاضي حسين.
قلت: ينبغي أن يكون أصحهما الوجوب.
التاسع: إتلاف مال الغير, ويباح به, بل يجب قطعا, كما يجب على المضطر أكل طعام غيره.
العاشر: شهادة الزور, فإن كانت تقتضي قتلا, أو قطعا ألحقت به, أو إتلاف مال ألحقت به, أو جلدا, فهو محل نظر, إذ يفضي إلى القتل, كذا في المطلب.
وقال الشيخ عز الدين: لو أكره على شهادة زور, أو حكم باطل في قتل, أو قطع, أو إحلال بضع, استسلم للقتل, وإن كان يتضمن إتلاف مال, لزمه ذلك حفظا للمهجة.
الحادي عشر: الفطر في رمضان, يباح به, بل يجب على الصحيح.(16/342)
الثاني عشر: الخروج من صلاة الفرض: وهو كالفطر.(16/343)
ص -208-…فائدة:
ضبط الأودني هذه الصور: بأن ما يسقط بالتوبة, يسقط حكمه بالإكراه, وما لا فلا, نقله في الروضة وأصلها.
قال في الخادم: وقد أورد عليه شرب الخمر, فإنه يباح بالإكراه, ولا يسقط حده بالتوبة وكذلك القذف.
ما يتصور فيه الإكراه, وما لا.
قال العلماء: لا يتصور الإكراه على شيء من أفعال القلوب.
وفي الزنا: وجهان: أصحهما: أنه يتصور ; لأنه منوط بالإيلاج.
والثاني: لا ; لأن الإيلاج, إنما يكون مع الانتشار, وذلك راجع إلى الاختيار والشهوة.
وفي التنبيه: ولا يعذر أحد من أهل فرض الصلاة في تأخيرها عن الوقت, إلا نائم أو ناس, أو من أكره على تأخيرها.
واستشكل تصور الإكراه على تأخير الصلاة, فإن كل حالة تنتقل لما دونها إلى إمرار الأفعال على القلب وهو شيء لا يمكن الإكراه على تأخيره. وهو يفعله غير مؤخر.
وصوره في شرح المهذب بالإكراه على التلبس بمناف.
وقال القاضي زين الدين البلغيائي: المراد أكره على أن يأتي بها على غير الوجه المجزئ من الطهارة ونحوها. ولا يكون الإكراه عذرا في الإجزاء لندوره, أو يكره المحدث على تأخيرها عن الوقت. ويمنع من الوضوء في الوقت.
وقال الشيخ تاج الدين السبكي, في التوشيح: قد يقال: المكره قد يدهش, حتى عن الإيماء بالطرف. ويكون مؤخرا معذورا, كالمكره على الطلاق. لا يلزمه التورية إذا اندهش قطعا.
ما يحصل به الإكراه.
قال الرافعي: الذي مال إليه المعتبرون: أن الإكراه على القتل لا يحصل إلا بالتخويف بالقتل, أو ما يخاف منه القتل.
وأما غيره, ففيه سبعة أوجه:
أحدها: لا يحصل إلا بالقتل.
الثاني: القتل, أو القطع, أو ضرب يخاف منه الهلاك.(16/344)
ص -209-…الثالث: ما يسلب الاختيار, ويجعله كالهارب من الأسد الذي يتخطى الشوك والنار ولا يبالي, فيخرج عنه الحبس.
الرابع: اشتراط عقوبة بدنية, يتعلق بها قود.
الخامس: اشتراط عقوبة شديدة تتعلق ببدنه, كالحبس الطويل.
السادس: أنه يحصل بما ذكر وبأخذ المال, أو إتلافه, والاستخفاف بالأماثل, وإهانتهم, كالصفع بالملأ وتسويد الوجه. وهذا اختيار جمهور العراقيين, وصححه الرافعي.
السابع: وهو اختيار النووي في الروضة -: أنه يحصل بكل ما يؤثر العاقل الإقدام عليه, حذرا ما هدد به وذاك يختلف باختلاف الأشخاص, والأفعال المطلوبة, والأمور المخوف بها فقد يكون الشيء إكراها في شيء دون غيره, وفي حق شخص دون آخر.
فالإكراه على الطلاق يكون بالتخويف بالقتل, والقطع, والحبس الطويل والضرب الكثير والمتوسط لمن لا يحتمله بدنه ولم يعتده, وبتخويف ذي المروءة بالصفع في الملإ وتسويد الوجه, ونحوه, وكذا بقتل الوالد وإن علا والولد, وإن سفل على الصحيح. لا سائر المحارم. وإتلاف المال على الأصح.
وإن كان الإكراه على القتل, فالتخويف بالحبس, وقتل الولد ليس إكراها. وإن كان على إتلاف مال فالتخويف بجميع ذلك إكراه.
قال النووي: وهذا الوجه أصح لكن في بعض تفصيله المذكور نظر.
والتهديد بالنفي عن البلد إكراه على الأصح ; لأن مفارقة الوطن شديدة, ولهذا جعلت عقوبة للزاني. وكذا تهديد المرأة بالزنا, والرجل باللواط.
ولا بد في كل ذلك من أمور:
أحدها: قدرة المكره على تحقيق ما هدد به بولاية, أو تغلب, أو فرط هجوم.
ثانيها: عجز المكره عن دفعه بهرب, أو استغاثة, أو مقاومة.
ثالثها: ظنه أنه إن امتنع عما أكره عليه أوقع به المتوعد.
رابعها: كون المتوعد مما يحرم تعاطيه على المكره.
فلو قال ولي القصاص للجاني: طلق امرأتك, وإلا اقتصصت منك. لم يكن إكراها.
خامسها: أن يكون عاجلا.
فلو قال: طلقها وإلا قتلتك غدا, فليس بإكراه.(16/345)
ص -210-…سادسها: أن يكون معينا.
فلو قال: اقتل زيدا, أو عمرا, فليس بإكراه.
سابعها: أن يحصل بفعل المكره عليه التخلص من المتوعد به.
فلو قال: اقتل نفسك ; وإلا قتلتك, فليس بإكراه.
ولا يحصل الإكراه بقوله: وإلا قتلت نفسي, أو كفرت, أو أبطلت صومي, أو صلاتي.
ويشترط في الإكراه على كلمة الكفر طمأنينة القلب بالإيمان.
فلو نطق معتقدا بها كفر, ولو نطق غافلا عن الكفر والإيمان ففي ردته وجهان في الحاوي. قال في المطلب: والآية تدل على أنه مرتد.
قال الماوردي: والأحوال الثلاثة يأتي مثلها في الطلاق, ولا يشترط في الطلاق التورية, بأن ينوي غيرها على الأصح.
وفي شرح المهذب: نص الشافعي على أن من أكره على شرب الخمر, أو أكل محرم يجب أن يتقيأ إذا قدر.
أمر السلطان, هل يكون إكراها؟
اختلف في أمر السلطان, هل ينزل منزلة الإكراه؟ على وجهين, أو قولين:
أحدهما: لا, وإنما الإكراه بالتهديد صريحا, كغير السلطان.
والثاني: نعم, لعلتين:
إحداهما: أن الغالب من حاله السطوة عند المخالفة.
والثاني: أن طاعته واجبة في الجملة, فينتهض ذلك شبهة.
قال الرافعي: ومقتضى ما ذكره الجمهور صريحا ودلالة: أنه لا ينزل منزلة الإكراه.
قال: ومثل السلطان في إجراء الخلاف: الزعيم, والمتغلب ; لأن المدار على خوف المحذور من مخالفته.
وأما حكم الحاكم وحكم الشرع فهل ينزلان منزلته؟
فيه فروع:
منها: لو حلف لا يفارقه, حتى يستوفي حقه فأفلس. ومنعه الحاكم من ملازمته, ففيه قولا المكره. ومنها: لو حلف ليطأن زوجته الليلة: فوجدها حائضا, لم يحنث, كما لو أكره على ترك الوطء.(16/346)
ص -211-…ومنها: قال: إن لم تصومي غدا فأنت طالق, فحاضت فوقوع الطلاق على الخلاف في المكره, ذكره الرافعي.
ومنها: من ابتلع طرف خيط ليلا, وبقي طرفه خارجا, ثم أصبح صائما, فإن نزعه أفطر, وإن تركه لم تصح صلاته ; لأنه متصل بنجاسة.
وقال في الخادم: فطريقه أن يجبره الحاكم على نزعه, ولا يفطر ; لأنه كالمكره.
قال: بل لو قيل: لا يفطر بالنزع باختياره لم يبعد تنزيلا لإيجاب الشرع منزلة الإكراه, كما إذا حلف: أن يطأها في هذه الليلة, فوجدها حائضا لا يحنث.
ومنها: لو حلف لا يحلف يمينا مغلظة, فوجب عليه يمين وقلنا: بوجوب التغليظ حلف, وحنث.
ومنها: لو كان له عبد مقيد, فحلف بعتقه أن في قيده عشرة أرطال. وحلف بعتقه لا يحله هو ولا غيره فشهد عند القاضي عدلان أن في قيده خمسة أرطال, فحكم بعتقه, ثم حل القيد, فوجده عشرة أرطال. قال ابن الصباغ: لا شيء على الشاهدين ; لأن العتق حصل بحل القيد, دون الشهادة لتحقق كذبهما. حكاه الرافعي في أواخر العتق.
تنبيه:
يقع في الفتاوى كثيرا أن رجلا حلف بالطلاق لا يؤدي الحق الذي عليه فيفتى في خلاصه بأن يرفع إلى الحاكم, فيحكم عليه بالأداء. وأنه لا يحنث, تنزيلا للحكم منزلة الإكراه.
وعندي في هذه وقفة:
أما أولا: فلأن الشيخين: لم ينزلا الحكم منزلة الإكراه في كل صورة, ولا قررا ذلك قاعدة عامة, بل ذكراها في بعض الصور وذكرا خلافها في بعضها كما تراه, فليس إلحاق هذه الصورة بالصورة التي حكما فيها بعدم الحنث أولى من إلحاقها بالتي حكما فيها بالحنث. أما ثانيا: فلأن الإكراه بحق لا أثر له في عدم النفوذ, بدليل صحة بيع من أكرهه الحاكم على بيع ماله لوفاء دينه وطلاق المولى إذا أكرهه الحاكم ; لأن الإكراه فيهما بحق. فالذي ينشرح له الصدر فيما نحن فيه: القول بالحنث, ولا أثر للحكم في منعه.(16/347)
هذا إذا كان معترفا بالحق, فإن كان منكرا له, وثبت بالبينة قوي في هذه الحالة عدم الحنث ; لأنه يزعم أنه مظلوم في هذا الحكم, فلم يكن الإكراه بحق في دعواه. والطلاق لا يقع بالشك, وقولي في هذه الحالة: بعدم الحنث: أي ظاهرا.
فلو كانت البينة صادقة في الواقع, وهو عالم بأن عليه ما شهدت به. وقع باطنا. والله أعلم.(16/348)
ص -212-…ثم رأيت الزركشي قال في قواعده: ذكر الرافعي في كتاب الطلاق: أنه لو قال: إن أخذت مني حقك فأنت طالق. فأكرهه السلطان, حتى أعطى بنفسه فعلى القولين في فعل المكره.
وقضيته: ترجيح عدم الحنث, والمتجه خلافه ; لأنه إكراه بحق هذه عبارته.
القول في النائم, والمجنون, والمغمى عليه.
قال رسول الله: صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاث: عن النائم, حتى يستيقظ, وعن المبتلى حتى يبرأ, وعن الصبي حتى يكبر".
هذا حديث صحيح, أخرجه أبو داود بهذا اللفظ. من حديث عائشة رضي الله عنها. وأخرجه من حديث علي وعمر بلفظ: "عن المجنون حتى يبرأ, وعن النائم حتى يعقل" وأخرجه أيضا عنهما بلفظ: "عن المجنون حتى يفيق" وبلفظ: "عن الصبي, حتى يحتلم",وبلفظ: "حتى يبلغ".
وذكر أبو داود: أن ابن جريج رواه عن القاسم بن يزيد عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم فزاد فيه "والخرف".
وأخرجه الطبراني من حديث ابن عباس, وشداد بن أوس, وثوبان والبزار من حديث أبي هريرة.
قلت: قد ألف السبكي في شرح هذا الحديث كتابا, سماه "إبراز الحكم من حديث: "رفع القلم" ذكر فيه ثمانية وثلاثين فائدة تتعلق به.
وأنا أنقل منه هنا في مبحث الصبي ما تراه إن شاء الله تعالى.
وأول ما نبه عليه: أن الذي وقع في جميع روايات الحديث: في سنن أبو داود, وابن ماجه والنسائي, والدارقطني "عن ثلاثة" بإثبات الهاء ويقع في بعض كتب الفقهاء "ثلاث" بغير هاء.
قال: ولم أجد لها أصلا.
قال الشيخ أبو إسحاق: "العقل" صفة يميز بها الحسن والقبيح.
قال بعضهم: ويزيله الجنون والإغماء والنوم.
وقال الغزالي: الجنون يزيله والإغماء يغمره والنوم يستره.
قال السبكي: وإنما لم يذكر المغمى عليه في الحديث ; لأنه في معنى النائم وذكر الخرف في بعض الروايات, وإن كان في معنى المجنون ; لأنه عبارة عن اختلاط العقل بالكبر, ولا يسمى جنونا ; لأن الجنون يعرض من أمراض سوداوية ويقبل العلاج, والخرف خلاف ذلك.(16/349)
ص -213-…ولهذا لم يقل في الحديث "حتى يعقل", لأن الغالب أنه لا يبرأ منه إلى الموت.
قال: ويظهر أن الخرف رتبة بين الإغماء والجنون, وهي إلى الإغماء أقرب انتهى. واعلم: أن الثلاثة قد يشتركون في أحكام, وقد ينفرد النائم عن المجنون. والمغمى عليه تارة يلحق بالنائم, وتارة يلحق بالمجنون.
وبيان ذلك بفروع.
الأول: الحدث يشترك فيه الثلاثة.
الثاني: استحباب الغسل عند الإفاقة للمجنون, ومثله المغمى عليه.
الثالث: قضاء الصلاة إذا استغرق ذلك الوقت, يجب على النائم, دون المجنون, والمغمى عليه كالمجنون.
الرابع: قضاء الصوم إذا استغرق النهار, يجب على المغمى عليه بخلاف المجنون. والفرق بينه وبين الصلاة كثرة تكررها.
ونظيره: وجوب قضاء الصوم على الحائض والنفساء, دون الصلاة.
وأما النائم: إذا استغرق النهار وكان نوى من الليل, فإنه يصح صومه على المذهب. والفرق بينه وبين المغمى عليه: أنه ثابت العقل ; لأنه إذا نبه انتبه بخلافه.
وفي النوم وجه أنه يضر كالإغماء.
وفي الإغماء وجه: أنه لا يضر كالنوم, ولا خلاف في الجنون.
وأما غير المستغرق من الثلاثة, فالنوم لا يضر بالإجماع, وفي الجنون قولان: الجديد البطلان ; لأنه مناف للصوم, كالحيض وقطع به بعضهم.
وفي الإغماء طرق:
أحدها: لا يضر إن أفاق جزءا من النهار, سواء كان في أوله أو آخره.
والثاني: القطع بأنه إن أفاق في أوله صح, وإلا فلا.
والثالث: وهو الأصح فيه أربعة أقوال أظهرها لا يضر إن أفاق لحظة ما.
والثاني: في أوله خاصة.
والثالث: في طرفيه.
والرابع: يضر مطلقا فيه, فتشترط الإفاقة جميع النهار.
والفرع الخامس: الأذان.
لو نام أو أغمي عليه أثناءه, ثم أفاق, إن لم يطل الفصل بنى, وإن طال, وجب والاستئناف على المذهب.
قال في شرح المهذب, قال أصحابنا: والجنون هنا كالإغماء.
السادس: لو لبس الخف, ثم نام حتى مضى يوم وليلة انقضت المدة.(16/350)
ص -214-…قال البلقيني: ولو جن أو أغمي عليه, فالقياس أنه لا تحتسب عليه المدة ; لأنه لا تجب عليه الصلاة, بخلاف النوم لوجوب القضاء.
قال: ولم أر من تعرض لذلك.
السابع: إذا نام المعتكف حسب زمن النوم من الاعتكاف قطعا ; لأنه كالمستيقظ. وفي زمان الإغماء وجهان: أصحهما يحسب. ولا يحسب زمن الجنون قطعا ; لأن العبادات البدنية لا يصح أداؤها في حال الجنون.
الثامن: يجوز للولي أن يحرم عن المجنون بخلاف المغمى عليه كما جزم به الرافعي.
التاسع: الوقوف بعرفة لا يصح من المجنون ; والمغمى عليه مثله في الأصح, بخلاف النائم المستغرق في الأصح.
وحكى الرافعي عن المتولي - وأقره -: أنه إذا لم يجزه في المجنون يقع نفلا, كحج الصبي.
وكذا المغمى عليه, كما في شرح المهذب.
العاشر: يصح الرمي عن المغمى عليه, ممن أذن له قبل الإغماء, في حال تجوز فيه الاستنابة.
قال في شرح المهذب: والمجنون مثله, صرح به المتولي وغيره.
الحادي عشر: يبطل بالجنون كل عقد جائز, كالوكالة إلا في رمي الجمار, والإيداع والعارية والكتابة الفاسدة, ولا يبطل بالنوم. وفي الإغماء وجهان: أصحهما كالمجنون.
الثاني عشر: ينعزل القاضي بجنونه وبإغمائه بخلاف النوم.
الثالث عشر: ينعزل الإمام الأعظم بالجنون: ولا ينعزل بالإغماء ; لأنه متوقع الزوال.
الرابع عشر: إذا جن ولي النكاح, انتقلت الولاية للأبعد, والإغماء إن دام أياما ففي وجه: كالجنون, والأصح لا, بل ينتظر كما لو كان سريع الزوال.
الخامس عشر: يزوج المجنون وليه بشرطه المعروف ولا يزوج المغمى عليه كما يفهم من كلامهم, وهو نظير الإحرام بالحج.
السادس عشر: قال الأصحاب: لا يجوز الجنون على الأنبياء ; لأنه نقص ويجوز عليهم الإغماء ; لأنه مرض, ونبه السبكي على أن الإغماء الذي يحصل لهم ليس كالإغماء الذي يحصل لآحاد الناس, وإنما هو لغلبة الأوجاع للحواس الظاهرة فقط دون القلب.(16/351)
قال: لأنه قد ورد أنه إنما تنام أعينهم دون قلوبهم, فإذا حفظت قلوبهم وعصمت من النوم الذي هو أخف من الإغماء, فمن الإغماء بطريق الأولى, انتهى. وهو نفيس جدا.(16/352)
ص -215-…السابع عشر: الجنون يقتضي الحجر, وأما الإغماء فالظاهر أنه مثله, كما يفهم من كلامهم.
الثامن عشر: يشترك الثلاثة في عدم صحة مباشرة العبادة والبيع والشراء, وجميع التصرفات من العقود والفسوخ كالطلاق والعتق, وفي غرامة المتلفات وأروش الجنايات. التاسع عشر: لا ينقطع خيار المجلس بالجنون والإغماء على الصحيح.
ولم أر من تعرض للنوم.
العشرون: لو قال إن كلمت فلانا فأنت طالق, فكلمته وهو نائم أو مغمى عليه أو هذت بكلامه في نومها وإغمائها, أو كلمته وهو مجنون طلقت أو وهي مجنونة ; قال ابن الصباغ: لا تطلق, وقال القاضي حسين: تطلق.
قال الرافعي: والظاهر تخريجه على حنث الناسي.
الحادي والعشرون: لو وطئ المجنون زوجة ابنه حرمت عليه, قاله القاضي حسين. الثاني والعشرون: ذهب القاضي والفوراني إلى أن المجنون لا يتزوج الأمة ; لأنه لا يخاف من وطء يوجب الحد والإثم, ولكن الأصح خلافه, كذا في الأشباه والنظائر لابن الوكيل.
ثم ذكر أن الشافعي نص على أن المجنون لا يزوج منه أمة.
فرع:
قال النووي في شرح المهذب: يسن إيقاظ النائم للصلاة, لا سيما إن ضاق وقتها. وقال السبكي في كتابه المتقدم ذكره: إذا دخل على المكلف وقت الصلاة وتمكن من فعلها وأراد أن ينام قبل فعلها, فإن وثق من نفسه أنه يستيقظ قبل خروج الوقت بما يمكنه أن يصلي فيه جاز, وإلا لم يجز, وكذا لو لم يتمكن ولكن بمجرد دخول الوقت قصد أن ينام, فإن نام حيث لم يثق من نفسه بالاستيقاظ أثم إثمين ; أحدهما إثم ترك الصلاة, والثاني إثم التسبب إليه, وهو معنى قولنا: يأثم بالنوم.
وإن استيقظ على خلاف ظنه ; وصلى في الوقت لم يحصل له إثم ترك الصلاة وأما ذلك الإثم الذي حصل, فلا يرتفع إلا بالاستغفار.(16/353)
ولو أراد أن ينام قبل الوقت وغلب على ظنه أن نومه يستغرق الوقت, لم يمتنع عليه ذلك ; لأن التكليف لم يتعلق به بعد, ويشهد له ما ورد في الحديث أن امرأة عابت زوجها بأنه ينام حتى تطلع الشمس, فلا يصلي الصبح إلا ذلك الوقت فقال: إنا أهل بيت معروف لنا ذلك - أي ينامون من الليل حتى تطلع الشمس - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا استيقظت فصل".(16/354)
ص -216-…وأما إيقاظ النائم الذي لم يصل, فالأول - وهو الذي نام بعد الوجوب - يجب إيقاظه من باب النهي عن المنكر.
وأما الذي نام قبل الوقت فلا ; لأن التكليف لم يتعلق به, لكن إذا لم يخش عليه ضرر فالأولى إيقاظه ; لينال الصلاة في الوقت انتهى ملخصا.
القول في السكران.
اختلف في تكليفه على قولين:
والأصح المنصوص في الأم: أنه مكلف.
قال الرافعي: وفي محل القولين أربع طرق أصحها: أنهما جاريان في أقواله وأفعاله كلها, ما له وما عليه.
والثاني: أنهما في أقواله كلها, كالطلاق والعتاق والإسلام والردة, والبيع والشراء وغيرها, وأما أفعاله.
كالقتل والقطع وغيرها, فكأفعال الصاحي بلا خلاف لقوة الأفعال.
الثالث: أنهما في الطلاق والعتاق والجنايات.
وأما بيعه وشراؤه وغيرهما من المعاوضات, فلا يصح بلا خلاف ; لأنه لا يعلم ما يعقد عليه والعلم شرط في المعاملات.
الرابع: أنهما فيما له, كالنكاح والإسلام.
أما ما عليه كالإقرار والطلاق والضمان, فينفذ قطعا تغليظا.
وعلى هذا لو كان له من وجه, وعليه من وجه, كالبيع والإجارة نفذ تغليبا بطريق التغليظ.
هذا ما أورده الرافعي.
وقد اغتر به بعضهم فقال تفريعا على الأصل:
السكران في كل أحكامه كالصاحي, إلا في نقض الوضوء.
قلت: وفيه نظر, فالصواب تقييد ذلك بغير العبادات.
ويستثنى منه الإسلام.
أما العبادات, فليس فيها كالصاحي كما تبين ذلك.
فمنها الأذان, فلا يصح أذانه على الصحيح ; كالمجنون والمغمى عليه ; لأن كلامه لغو وليس من أهل العبادة, وفيه وجه أنه يصح بناء على صحة تصرفاته.
قال في شرح المهذب: وليس بشيء, قال: أما من هو في أول النشوة, فيصح أذانه بلا خلاف.(16/355)
ص -217-…ومنها, لو شرب المسكر ليلا وبقي سكره جميع النهار, لم يصح صومه, وعليه القضاء, وإن صحا في بعضه فهو كالإغماء في بعض النهار.
ومنها لو سكر المعتكف, بطل اعتكافه ونتابعه أيضا.
واعلم: أن في بطلان الاعتكاف بالسكر والردة, ستة طرق, نظير مسألة العفو عما لا يدركه الطرف في الماء والثوب.
الأول وهو الأصح: يبطل بهما قطعا ; لأنهما أفحش من الخروج من المسجد.
والثاني: لا ; قطعا.
والثالث فيهما قولان.
والرابع: يبطل في السكر دون الردة ; لأن السكران ليس من أهل المقام في المسجد ; لأنه لا يجوز إقراره فيه, فصار كما لو خرج من المسجد, والمرتد من أهل المقام فيه ; لأنه يجوز إقراره فيه.
والخامس: يبطل في الردة دون السكر ; لأنه كالنوم بخلافها ; لأنها تنافي العبادات.
والسادس, يبطل في السكر لامتداد زمانه, وكذا الردة إن طال زمانها, وإلا فلا.
قال الرافعي, ولا خلاف أنه لا يحسب زمانها.
ومنها: لا يصح وقوف السكران بعرفة, سواء كان متعديا أم لا, كالمغمى عليه, ذكره في شرح المهذب.
ومنها: في وجوب الرد عليه إذا سلم, وكذا المجنون, وجهان في الروضة بلا ترجيح, قال في شرح المهذب: والأصح أنه لا يجب الرد عليهما, ولا يسن ابتداؤهما. فهذه فروع ليس السكران فيها كالصاحي.
وبقي فرع, لم أر من ذكره وهو:
لو بان إمامه سكران, فهل تجب الإعادة كما لو بان مجنونا ; لأنه لا يخفى حاله أولا, كما لو بان محدثا؟ الظاهر: الأول.
حد السكر:
فيه عبارات.
قال الشافعي: السكران هو الذي اختلط كلامه المنظوم وانكشف سره المكتوم.
وقال المزني: هو الذي لا يفرق بين السماء والأرض ولا بين أمه وامرأته.
وقيل: هو الذي يفصح بما كان يحتشم منه.
وقيل: الذي يتمايل في مشيه ويهذي في كلامه.
وقيل: الذي لا يعلم ما يقول.
وقال ابن سريج: الرجوع فيه إلى العادة, فإذا انتهى تغيره إلى حالة يقع عليه اسم(16/356)
ص -218-…السكران, فهو المراد بالسكران.
قال الرافعي: وهو الأقرب, ولم يرتض الإمام شيئا من هذه العبارات, وقال: الشارب له ثلاثة أحوال:
أولها: هزة ونشاط, يأخذه إذا دبت الخمر فيه ولم تستول عليه بعد, ولا يزول العقل في هذه الحالة بلا خلاف, فهذا ينفذ طلاقه وتصرفاته لبقاء عقله.
الثانية: نهاية السكر: وهو أن يصير طافحا ويسقط كالمغشي عليه, لا يتكلم ولا يكاد يتحرك, فلا ينفذ طلاقه ولا غيره ; لأنه لا عقل له.
الثالثة: حالة متوسطة بينهما: وهو أن تختلط أحواله ولا تنتظم أقواله وأفعاله ويبقى تمييز وفهم وكلام, فهذه الثلاثة سكر, وفيها القولان.
وما ذكره في الحالة الثانية تابعه عليه الغزالي, وجعلا لفظه كلفظ النائم.
قال الرافعي في الطلاق: ومن الأصحاب من جعله على الخلاف, لتعديه بالتسبب إلى هذه الحالة.
قال: وهو أوفق لإطلاق الأكثرين.
قال الأسنوي: وقد خالف في مواضع, فجزم بأن الطافح الذي سقط تمييزه بالكلية كلامه لغو.
ومنها: في ولاية النكاح فقال: السكر إن حصل بسبب يفسق به, فإن قلنا: الفاسق لا يلي, فذاك, وإن قلنا: يلي أو حصل بسبب لا يفسق, فإن لم ينفذ تصرف السكران فالسكر كالإغماء, وإن جعلنا تصرفه كتصرف الصاحي, فمنهم من صحح تزويجه ومنهم من منع لاختلال نظره.
ثم الخلاف فيما إذا بقي له تمييز ونظر.
فأما الطافح الذي سقط تمييزه بالكلية فكلامه لغو.
ومنها: في أواخر الطلاق قال: إن كلمت فلانا فأنت طالق فكلمته وهو سكران, أو مجنون طلقت. قال ابن الصباغ: يشترط أن السكران بحيث يسمع ويتكلم.
وأما كلامها في سكرها, فتطلق به على الأصح إلا إذا انتهت إلى السكر الطافح.
وذكر مثله في الأيمان.(16/357)
ص -219-…تنبيه:
من المشكل: قول المنهاج في عدة مواضع:
منها: في الطلاق يشترط لنفوذه: التكليف إلا السكران.
وقال في الدقائق وغيرها: إن قوله: "إلا السكران" زيادة على المحرر, لا بد منها, فإنه غير مكلف, مع أنه يقع طلاقه.
قال الأسنوي: وهذا كلام غير مستقيم, فإن الصواب: أنه مكلف.
وحكمه كحكم الصاحي فيما له وعليه, غير أن الأصوليين قالوا: إنه غير مكلف, وأبطلوا تصرفاته مطلقا, فخلط النووي طريقة الفقهاء بطريقة الأصوليين, فإنه نفى عنه التكليف ومع ذلك حكم بصحة تصرفاته, وهما طريقتان لا يمكن الجمع بينهما.
وقال في الخادم: ما ذكره الأسنوي مردود, بل الأصوليون قالوا: إنه غير مكلف مع قولهم بنفوذ تصرفاته صرح بذلك الإمام والغزالي, وغيرهما. وأجابوا عن نفوذ تصرفاته بأنه من قبيل ربط الأحكام بالأسباب الذي هو خطاب الوضع وليس من باب التكليف.
وعن ابن سريج: أنه أجاب بجواب آخر, وهو أنه لما كان سكره لا يعلم إلا من جهته, وهو متهم في دعوى السكر لفسقه. ألزمناه حكم أقواله, وأفعاله وطردنا ما لزمه في حال الصحة.
القول في أحكام الصبي.
قال في كفاية المتحفظ: الولد ما دام في بطن أمه فهو جنين, فإذا ولدته سمي صبيا, فإذا فطم سمي غلاما, إلى سبع سنين, ثم يصير يافعا, إلى عشر, ثم يصير حزورا, إلى خمسة عشر. انتهى.
والفقهاء يطلقون الصبي على من لم يبلغ, وهو في الأحكام على أربعة أقسام:
الأول: ما لا يلحق فيه بالبالغ, بلا خلاف, وذلك في التكاليف الشرعية: من الواجبات والمحرمات, والحدود. والتصرفات: من العقود, والفسوخ, والولايات.
ومنها: تحمل العقل.
الثاني: ما يلحق فيه بالبالغ, بلا خلاف عندنا.
وفي ذلك فروع:
منها وجوب الزكاة في ماله, والإنفاق على قريبه منه, وبطلان عبادته بتعمد المبطل لا خلاف في ذلك: في الطهارة, والصلاة, والصوم, وصحة العبادات منه, وترتب الثواب عليها, وإمامته في غير الجمعة ووجوب تبييت النية في صوم رمضان.(16/358)
ص -220-…قال في الروضة, في باب الغصب: الرجل, والمرأة, والعبد, والفاسق, والصبي المميز يشتركون في جواز الإقدام على إزالة المنكرات, ويثاب الصبي عليه كما يثاب البالغ, وليس لأحد منعه من كسر الملاهي, وإراقة الخمر, وغيرهما من المنكرات, كما ليس له منع البالغ, فإن الصبي - وإن لم يكن مكلفا - فهو من أهل القرب, وليس هذا من الولايات.
وقال السبكي: خطاب الندب ثابت في حق الصبي, فإنه مأمور بالصلاة من جهة الشارع أمر ندب, مثاب عليها, وكذلك يوجد في حقه خطاب الإباحة, والكراهة, حيث يوجد خطاب الندب, وهو ما إذا كان مميزا. انتهى.
الثالث: ما فيه خلاف, والأصح أنه كالبالغ.
وفيه فروع:
الأول: إذا أحدث الصبي, أو أجنب, وتطهر, فطهارته كاملة, فلو بلغ صلى بها, ولم تجب إعادتها. وفي وجه, حكاه المتولي عن المزني: أنها ناقصة, فتلزمه الإعادة إذا بلغ.
ولو تيمم, ثم بلغ, لم يبطل تيممه في الأصح, ويصلي به الفرض في الأصح.
وفي وجه: يبطل, وفي آخر: يصلي به النفل, دون الفرض.
الثاني: في صحة أذانه وجهان: الصحيح - وبه قطع الجمهور -: صحته, لكن يكره.
الثالث: القيام في صلاة الفرض. هل يجب في صلاة الصبي, أو يجوز له القعود؟ وجهان في الكفاية, بلا ترجيح.
قال الأذرعي: والأصح عند صاحب البحر: المنع.
قال الأسنوي: ويجريان في الصلاة المعادة.
قال: وكلام الأكثرين مشعر بالمنع.
قلت: ولا ينبغي أن يجريا فيما إذا خطب الصبي للجمعة بل يقطع بمنع القعود.
الرابع في صحة إمامته في الجمعة قولان أصحهما: الصحة بشرط أن يتم العدد بغيره.
الخامس في سقوط فرض صلاة الجنازة به وجهان: أصحهما السقوط ; لأنه تصح إمامته فأشبه البالغ. وفي نظيره من رد السلام وجهان أصحهما: عدم السقوط.
والفرق: أن المقصود هناك الدعاء وهو حاصل, وهنا الأمان.
وفي سقوط فرض صلاة الجماعة بالصبيان احتمالان للمحب الطبري.
السادس: في جواز توكيله في دفع الزكاة وجهان: الأصح الجواز.(16/359)
ص -221-…السابع: يجوز اعتماد قوله في الإذن ودخول دار وإيصال هدية في الأصح.
ومحل الوجهين: ما إذا لم تكن قرينة وإلا فيعتمد قطعا.
الثامن: يحصل بوطئه التحليل على المشهور, إذا كان ممن يتأتى منه الجماع.
أما الصغيرة المطلقة ثلاثا إذا وطئت ففيها طريقان, أصحهما: الحل قطعا.
والثاني: في التي لا تشتهى الوجهان في الصبي.
التاسع: التقاطه صحيح على المذهب, كاحتطابه واصطياده.
العاشر: في وجوب الرد عليه إذا سلم, وجهان أصحهما الوجوب.
الحادي عشر: في حل ما ذبحه, قولان أصحهما الحل, فإن كان مميزا حل قطعا.
الثاني عشر في صحة إسلام الصبي المميز استقلالا, وجهان المرجح منهما: البطلان والمختار عند البلقيني الصحة, وهو الذي أعتقده.
ثم رأيت السبكي مال إليه فقال في كتابه "إبراز الحكم ": استدل من قال ببطلانه بالحديث بمثل ما احتج به لبطلان بيعه.
ووجه الدلالة في البيع: أنه لو صح لاستلزم المؤاخذة بالتسليم, والمطالبة بالعهدة, والحديث دل على عدم المؤاخذة.
ولو صح أيضا لكلف أحكام البيع, وهو لا يكلف شيئا, وكذا في الإسلام: لو صح لكلف أحكامه واللازم منتف بالحديث.(16/360)
قال: وهذا استدلال ضعيف ; لأنه يكفي في ترتيب أحكامه ظهور أثرها بعد البلوغ. والقائل بصحة إسلامه يقول: إنه إذا بلغ ووصف الكفر صار مرتدا, وهذا لا ينفيه الحديث, إنما ينفي المؤاخذة حين الصبا والإسلام كالعبادات, فكما يصح منه الصوم والصلاة والحج وغيرها, يصح منه الإسلام انتهى. قلت: ومما يدل لصحته من الحديث: ما رواه أبو داود في سننه عن مسلم التميمي. قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية, فلما هجمنا على القوم تقدمت أصحابي على فرس, فاستقبلنا النساء والصبيان يضجون, فقلت لهم: تريدون أن تحرزوا أنفسكم؟ قالوا: نعم, قلت قولوا: نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله, فقالوها فجاء أصحابي فلاموني وقالوا: أشرفنا على الغنيمة فمنعتنا, ثم انصرفنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أتدرون ما صنع؟ لقد كتب الله له بكل إنسان كذا وكذا, ثم أدناني منه".
الثالث عشر: في كونه كالبالغ في تحريم النظر, حتى يجب على المرأة الاحتجاب منه وجهان. أصحهما نعم.
الرابع عشر: في استحقاق سلب القتيل الذي يقتله, وجهان أصحهما: نعم. الخامس عشر: في جواز القصر والجمع له: رأيان.(16/361)
ص -222-…قال صاحب البيان: لا يجوز ; لأنهما إنما يكونان في الفرائض, والأصح الجواز.
قال العبادي: فلو جمع تقديما ثم بلغ, لم تلزمه الإعادة.
السادس عشر: في كون عمده في الجنايات عمدا, قولان الأظهر: نعم.
وينبني على ذلك فروع:
منها: وجوب القصاص على شريكه بجرح أو إكراه.
ومنها: تغليظ الدية عليه.
ومنها: فساد الحج بجماعه, ووجوب الكفارة والقضاء.
ومنها: وجوب الفدية إذا ارتكب باقي المحظورات.
ومنها: إذا وطئ أجنبية, فهو زنا إلا أنه لا حد فيه لعدم التكليف, وعلى القول الآخر: هو كالواطئ بشبهة, فيترتب عليه تحريم المصاهرة.
الرابع: ما فيه خلاف, والأصح: أنه ليس كالبالغ.
وفيه فروع:
الأول: سقوط السلام برده كما مر.
الثاني: وجوب نية الفرضية في الصلاة. الأصح: لا يشترط في حقه, كما صوبه في شرح المهذب. الثالث: قبول روايته, فيه وجهان, والأصح: المنع.
الرابع والخامس في وصيته, وتدبيره, قولان, والأظهر: بطلانهما.
السادس: في منعه من مس المصحف, وهو محدث: وجهان, والأصح: لا.
قال الأسنوي: ولم أر تصريحا بتمكينه في حال الجنابة, والقياس: المنع ; لأنها نادرة وحكمها أغلظ. قلت: صرح النووي بالمسألة في فتاويه, وسوى فيه بين الجنابة, والحدث.
قال في الخادم: وفيه نظر ; لأنها لا تتكرر, فلا يشق.
قال: وعلى قياسه: يجوز المكث في المسجد, وهو بعيد, إذ لا ضرورة.
السابع: في منعه من لبس الحرير: وجهان أصحهما: لا يمنع.
الثامن: إذا بطل أمان رجال, لا يبطل أمان الصبيان, في الأصح.
التاسع: هل يجوز أن يلتقط المميز؟ وجهان. الصحيح: نعم, كغيره.
العاشر: إذا انفرد الصبيان بغزوة وغنموا, خمست. وفي الباقي أوجه: أصحها: تقسم بينهم كما يقسم الرضخ, على ما يقتضيه الرأي من تسوية, وتفضيل.
الثاني: يقسم كالغنيمة. للفارس: ثلاثة أسهم, وللراجل: سهم.
والثالث: يرضخ لهم منه ; ويجعل الباقي لبيت المال.
الحادي عشر: في صحة الأمان منه ; وجهان. أصحهما: لا يصح.(16/362)
ص -223-…ضابط:
حاصل المواضع التي يقبل فيها خبر المميز: الإذن في دخول الدار, وإيصال الهدية, وإخباره بطلب صاحب الدعوة, واختياره أحد أبويه في الحضانة, ودعواه: استعجال الإنبات بالدواء, وشراؤه المحقرات, نقل ابن الجوزي الإجماع عليه.
ما يحصل به البلوغ.
هو أشياء.
الأول: الإنزال, وسواء فيه الذكر والأنثى.
وفي وجه: لا يكون بلوغا في النساء ; لأنه نادر فيهن.
ووقت إمكانه: استكمال تسع سنين, وفي وجه: مضي نصف العاشرة. وفي آخر استكمالها.
قال الأسنوي: وهذان الوجهان في الصبي.
أما الصبية: فقيل: أول التاسعة. وقيل: نصفها, صرح به في التتمة.
وتعليل الرافعي يرشد إليه.
ونظيره: الحيض, والأصح فيه: الأول, وفيه وجه: مضي نصف التاسعة. وفي آخر: الشروع فيها, واللبن. وجزم فيه بالأول.
الثاني: السن, وهو استكمال خمسة عشر سنة.
وفي وجه: بالطعن في الخامسة عشرة.
وفي آخر: حكاه السبكي: مضي ستة أشهر منها.
قال السبكي: والحكمة في تعليق التكليف بخمس عشرة سنة: أن عندها بلوغ النكاح وهيجان الشهوة, والتوقان, وتتسع معها الشهوات في الأكل, والتبسط, ودواعي ذلك ويدعوه إلى ارتكاب ما لا ينبغي ولا يحجره عن ذلك ويرد النفس عن جماحها, إلا رابطة التقوى, وتسديد المواثيق عليه والوعيد, وكان مع ذلك قد كمل عقله, واشتد أسره, وقوته, فاقتضت الحكمة الإلهية توجه التكليف إليه, لقوة الدواعي الشهوانية, والصوارف العقلية, واحتمال القوة للعقوبات على المخالفة.
وقد جعل الحكماء للإنسان أطوارا, كل طور سبع سنين, وأنه إذا تكمل الأسبوع الثاني, تقوى مادة الدماغ, لاتساع المجاري, وقوة الهضم فيعتدل الدماغ, وتقوى الفكرة, والذكر, وتتفرق الأرنبة ; وتتسع الحنجرة فيغلظ الصوت, لنقصان الرطوبة وقوة الحرارة. وينبت الشعر لتوليد الأبخرة, ويحصل الإنزال, بسبب الحرارة.
وتمام الأسبوع الثاني: هو في أواخر الخامسة عشر لأن الحكماء يحسبون بالشمسية.(16/363)
ص -224-…والمشرعون يعتبرون الهلالية وتمام الخامسة عشرة) متأخر عن ذلك شهرا, فإما أن تكون الشريعة حكمت بتمامها, لكونه أمرا مضبوطا, أو لأن هناك دقائق اطلع الشرع عليها, ولم يصل الحكماء إليها اقتضت تمام السنة.
قال: وقد اشتملت الروايات الثلاث في حديث: "رفع القلم" وهو قوله: "حتى يكبر" و "حتى يعقل" و "حتى يحتلم": على المعاني الثلاثة التي ذكرنا أنها تحصل عند خمس عشرة سنة.
فالكبر: إشارة إلى قوته وشدته, واحتماله التكاليف الشاقة, والعقوبات على تركها.
والعقل: المراد به فكره, فإنه وإن ميز قبل ذلك, لم يكن فكره تاما, وتمامه عند هذا السن, وبذلك يتأهل للمخاطبة, وفهم كلام الشارع, والوقوف مع الأوامر, والنواهي.
والاحتلام: إشارة إلى انفتاح باب الشهوة العظيمة, التي توقع في الموبقات, وتجذبه إلى الهوي في الدركات.
وجاء التكليف كالحكمة في رأس البهيمة يمنعها من السقوط, انتهى كلام السبكي.
ثم قال: وأنا أقول: إن البلوغ في الحقيقة المقتضي للتكليف: هو بلوغ وقت النكاح للآية, والمراد ببلوغ وقته بالاشتداد, والقوة, والتوقان, وأشباه ذلك.
فهذا في الحقيقة: هو البلوغ المشار إليه في الآية الكريمة.
وضبطه الشارع بأنواع:
أظهرها: الإنزال.
وإذا أنزل تحققنا حصول تلك الحالة: إما قبيل الإنزال, وإما مقارنه.
الثالث: إنبات العانة, وهو يقتضي الحكم بالبلوغ في الكفار. وفي وجه: والمسلمين أيضا.
ومبنى الخلاف: على أنه بلوغ حقيقة, أو دليل عليه, وفيه قولان. أظهرهما: الثاني.
فلو قامت بينة على أنه لم يكمل خمس عشرة سنة, لم يحكم ببلوغه.
الرابع: نبات الإبط, واللحية, والشارب, فيه طريقان.
أحدهما: أنه لا أثر لها قطعا.
والثاني: أنها كالعانة, وألحق صاحب التهذيب الإبط بها, دون اللحية, والشارب. الخامس: انفراق الأرنبة, وغلظ الصوت, ونهود الثدي, ولا أثر لها على المذهب, وتختص المرأة بالحيض والحبل.(16/364)
ص -225-…فرع:
إذا بلغ في أثناء العبادة, فإن كانت صلاة, أو صوما: وجب إتمامها, وأجزأت على الصحيح.
والثاني: يستحب الإتمام, وتجب الإعادة ; لأنه شرع فيها ناقصا.
أو حجا, أو عمرة, فإن كان قبل الوقوف في الحج, والطواف في العمرة: أجزأته عن فرض الإسلام, وإلا فلا. وفي الحال الأول: تجب إعادة السعي, إن كان قدمه. فلو بلغ بعد فعلها, أجزأته الصلاة دون الحج, والعمرة.
والفرق: أنه مأمور بالصلاة, مضروب عليها بخلاف الحج, وأن الحج لما كان وجوبه مرة واحدة في العمر: اشترط وقوعه في حال الكمال, بخلاف الصلاة وعتق العبد, وإفاقة المجنون, كبلوغ الصبي.
فائدة:
ذكر السبكي في الحديث السابق سؤالين:
أحدهما: أن قوله: "حتى يبلغ" و "حتى يستيقظ" و "حتى يفيق" غايات مستقبلة, والفعل المغيا بها, هو رفع ماض, والماضي لا يجوز أن تكون غايته مستقبلة ; لأن مقتضى كون الفعل ماضيا: كون أجزاء المغيا جميعها ماضية, والغاية طرف المغيا. ويستحيل أن يكون المستقبل طرفا للماضي ; لأن الآن فاصل بينهما.
والغاية: إما داخلة في المغيا فتكون ماضية أيضا, وإما خارجة مجاورة, فيصح أن يكون الآن: غاية للماضي. وإما أن تكون منفصلة, حتى يكون المستقبل المنفصل عن الماضي غاية له: فيستحيل.
الثاني: أن الرفع قد يقال: إنه يقتضي سبق وضع. ولم يكن القلم موضوعا على الصبي.
وأجاب عن الأول: بالتزام حذف, أو مجاز, حتى يصح الكلام, فيقدر: رفع القلم: فلا يزال مرتفعا حتى يبلغ, أو فهو مرتفع.
وعن الثاني: بأن الرفع لا يستدعي تقديم وضع, وبأن البيهقي قال: إن الأحكام ; إنما نيطت بخمس عشرة سنة, ومن عام الخندق, وقبل ذلك كانت تتعلق بالتمييز.(16/365)
فإن ثبت هذا احتمل أن يكون المراد بهذا الحديث انقطاع ذلك الحكم, وبيان أنه ارتفع التكليف عن الصبي, وإن ميز حتى يبلغ, فيصح فيه: أنه رفع بعد الوضع, وهو الصحيح في النائم, بلا إشكال, باعتبار وضعه عليه قبل نومه. وفي المجنون قبل جنونه, إذا سبق له حال تكليف.(16/366)
ص -226-…القول في أحكام العبد.
قال أبو حامد في الرونق: يفارق العبد الحر في خمسين مسألة:
لا جهاد عليه, ولا تجب عليه الجمعة, ولا تنعقد به, ولا حج عليه, ولا عمرة إلا بالنذر, وعورة الأمة كعورة الرجل, ويجوز النظر إلى وجهها لغير محرم, ولا يكون شاهدا, ولا ترجمانا ولا قائفا, ولا قاسما, ولا خارصا, ولا مقوما, ولا كاتبا للحاكم, ولا أمينا للحاكم ولا قاضيا ولا يقلد أمرا عاما ولا يملك ولا يطأ بالتسري ولا تجب عليه الزكاة إلا زكاة الفطر, ولا يعطى في الحج في الكفارات مالا ولا يأخذ من الزكاة والكفارة شيئا إلا سهم المكاتبين, ولا يصوم غير الفرض إلا بإذن سيده, ولا يلزم سيده إقراره بالمال, ولا يكون وليا في النكاح, ولا في قصاص, ولا حد, ولا يرث, ولا يورث, وحده النصف من حد الحر, ولا يرجم في الزنا. وتجب في إتلافه قيمته, وما نقص منه بقيمة, ولا يتحمل الدية, ولا يتحمل عنه, ولا تتحمل العاقلة قيمته, ولا يتزوج بامرأتين, سواء كانتا حرتين أم أمتين, وطلاقه اثنتان. وعدة الأمة قرءان ولا لعان بينها وبين سيدها في أحد القولين, ولا ينفى في الزنا في أحد القولين, ولا يقتل به الحر, ولا من فيه بعض الحرية, ولا يؤدى به فروض الكفارة ولا يتزوج بنفسه ويكره على التزويج, وقسم الأمة على النصف من قسم الحرة, ولا يحد قاذفه, ولا يسهم له من الغنيمة, ويأخذ اللقطة على حكم سيده, ولا يكون وصيا, ولا تصح كفالته إلا بإذن سيده, ويجعل صداقا ويجعل نذرا, ويكون رهنا. انتهى.
قلت: لقد جمع أبو حامد فأحسن, وبقي عليه أشياء, أذكرها بعد أن أتكلم على ما ذكره.
فقوله: ولا حج, ولا عمرة إلا بالنذر, فيه أمران:
أحدهما: أنه لا يلزمه الحج والعمرة بغير طريق النذر وهو الإفساد, إذا أحرم ثم جامع فإنه يلزمه القضاء على المذهب, وبه قطع جماهير الأصحاب ; لأنه مكلف, وهل يجزيه في حال رقه؟ قولان أصحهما: نعم.(16/367)
والأمر الثاني: إذا لزمه ذلك بالنذر, فهل يصح منه في حال رقه؟ قال الروياني: فيه وجهان. كما في قضاء الحجة التي أفسدها. كذا في شرح المهذب عنه.
وصرح في زوائد الروضة بتصحيح الإجزاء.
وقوله: وعورة الأمة كعورة الرجل, هو الأصح. وفي وجه: أنها كالحرة, إلا الرأس, وفي آخر: إلا الرأس والساق. وفي ثالث: إلا ما يبدو في حال الخدمة, وهما المذكوران, والرقبة, والساعد.(16/368)
ص -227-…وقوله: ويجوز النظر إلى وجهها, هو وجه صححه الرافعي, وصحح النووي أنها في ذلك كالحرة.
وقوله: ولا يكون شاهدا. استثني منه صورتان على رأي ضعيف.
الأولى: هلال رمضان إذا اكتفينا فيه بواحد. في جواز كونه عبدا وجهان أصحهما: المنع.
والثانية: إسماع القاضي الأصم إذا لم يشترط فيه العدد في جواز كون المسمع عبدا: وجهان, كالهلال أصحهما المنع.
وقوله: ولا قائفا, هو الأصح وفيه وجه.
وقوله: ولا كاتبا لحاكم, هو الصحيح. وقال القفال في شرح التخليص: يجوز كونه كاتبا ; لأن الكتابة لا يتعلق بها حكم ; لأن القاضي لا يمضي ما كتبه حتى يقف عليه, والمعتمد إنما هو شهادة الشهود الذين يشهدون بما تضمنه المكتوب.
وقوله: ولا يملك, هو الأظهر وفي قول قديم: أنه يملك بتمليك السيد ملكا ضعيفا. للسيد الرجوع فيه متى شاء وفي احتياجه إلى القبول وجهان, بناء على إجباره في النكاح. قال الرافعي: ولا يجري الخلاف في تمليك الأجنبي.
وفي المطلب: أن جماعة أجروه فيه منهم القاضي حسين والماوردي.
وقوله: ولا تجب عليه الزكاة إلا زكاة الفطر إن أراد الوجوب بسببه, فيجب فيه زكاة التجارة أيضا, وإن أراد أن الوجوب يلاقيه, وهو مبني على الخلاف في زكاة الفطر هل الوجوب يلاقي المؤدى عنه ثم يتحملها المؤدي, أو لا؟ فيه قولان: أصحهما الأول. قال: وتظهر فائدته فيما إذا لم يخرج السيد عنه ثم عتق, هل يخرج ما مضى؟.
قوله: ولا يورث, قد يستثنى منه مسألة وهو ما لو وجب له تعزير بقذف ومات, فإن الأصح أن حقه ينتقل إلى سيده ; لأنها عقوبة وجبت بالقذف, فلم تسقط بالموت كالحد. قال الأصحاب: وليس ذلك على سبيل الإرث ولكنه أخص الناس به.
فما ثبت له في حياته يكون لسيده بعد موته بحق المال.
وفي وجه: يستوفيه أقاربه ; لأن العار يعود عليهم.
وفي ثالث: يستوفيه السلطان, كحر لا وارث له.
وفي رابع: يسقط فعلى هذا يفارق الحر.(16/369)
قوله: ولا تتحمل العاقلة قيمته هو قول, والأظهر خلافه وعلى الأول لا يجري فيه القسامة وتجري على الثاني.
وعجبت لأبي حامد, كيف جزم بذلك القول, ولم يذكر مسألة القسامة؟,. قوله: وطلاقه, اثنتان.(16/370)
ص -228-…قوله: وعدة الأمة قرءان, بقي عليه ذات الأشهر ولها شهر ونصف في الأظهر.
والثاني: شهران. والثالث: ثلاثة كالحرة, والمتوفى عنها ولها شهران وخمسة أيام.
قوله: ولا لعان بينها وبين سيدها في أحد القولين وهو الأظهر.
قوله: ولا ينفى في الزنا في أحد القولين, والأظهر أنه ينفى نصف سنة, وفي قول: سنة, كالحر. قوله: ويكره على التزويج هو في الأمة كذلك, وفي العبد قول, والأظهر أنه لا يجبر سواء كان كبيرا أو صغيرا.
قال ابن الرفعة: القياس أن إحرام السيد عن عبده كتزويجه.
قوله: ولا يسهم له من الغنيمة, هذا إن كان في المقاتلة حر, فإن كانوا كلهم عبيدا فأوجه, أصحها يقسم بينهم أربعة أخماس ما غنموه كما يقسم الرضخ على ما يقتضيه الرأي من تسوية وتفضيل.
والثاني: يقسم كالغنيمة. والثالث يرضخ لهم منه ويجعل الباقي لبيت المال.
قوله: ويأخذ اللقطة, الأظهر أنه لا يصح التقاطه ولا يعتد بتعريفه.
قوله: ولا تصح كفالته إلا بإذن سيده كذلك ضمانه.
هذا ما يتعلق بما ذكره.
وبقي عليه أنه لا يؤذن لجماعة ولا يحضرها إلا بإذن سيده, ذكر الأول في شرح المهذب والثاني: القاضي حسين, والحر أولى منه في الأذان كما في شرح المهذب.
والإمامة والجنازة ونذره للحج صحيح بلا إذن كما في الروضة وأصلها, وللصلاة والصوم.
قال في الجواهر: ينبغي صحتها.
وللقرب المالية في الذمة. قال في الكفاية: كضمانه فيتوقف على الإذن.
ولا يصح منه بيع ولا غيره من العقود إلا بإذن السيد ولا يكون وكيلا في إيجاب النكاح ولا عاملا في الزكاة, إلا إذا عين له الإمام قوما يأخذ منهم قدرا معينا وهل يعطى حينئذ من سهم العاملين؟.
وفي استحقاقه: سلب القتيل الذي يقتله وجهان: أصحهما نعم.
وفي قبول الوصية والهبة وتملك المباحات بلا إذن, وجهان.(16/371)
ولا جزية عليه ولا فطرة عن امرأته, بل تجب على سيدها إن كانت أمة, ونفقته نفقة المعسرين ولا تنكح الأمة إلا بشروط ولا على الحرة ولا تخدم وإن كانت جميلة في الأصح لنقص الرق.
فإذا نكحها العبد على الحرة, ففي استحقاقها السبع والثلاث وجهان: أصحهما نعم(16/372)
ص -229-…كالحرة ; لأنه شرع لارتفاع الحشمة وحصول المباسطة, وهو يتعلق بالطبع فلا يختلف بالرق والحرية. وفي وجه: تستحق الشطر كالقسم, وفي وجه يكمل المنكسر كالأقراء والطلاق والأشبه لا ; لأن التنصيف فيه ممكن.
ولا تصير الأمة فراشا. بمجرد الملك حتى توطأ, وتصير الحرة فراشا بمجرد العقد.
وإذا زوجها السيد استخدمها نهارا وسلمها للزوج ليلا, ولا نفقة على الزوج حينئذ في الأصح ويسافر بها السيد بدون إذنه.
ويضمن العبد باليد ويقطع سارقه ويضمن منافعه بالفوات بخلاف الحر في الثلاث ويصح وقفه, ولا يصح وقف الحر نفسه, ولا تصح وصيته وقيل إن عتق ثم مات صحت.
ولا يصح الوقوف عليه. لنفسه ولا الإيصاء له.
ولا توطأ الأمة بمجرد الملك حتى تستبرأ وتوطأ الحرة بمجرد العقد ويحصل استبراؤها بوضع حمل زنا ولا يتصور انقضاء عدة الحرة بحمل زنا.
وتجب نفقة العبد والأمة وفطرتهما, وإن عصيا وأبقا بخلاف الزوجة لأنها في الرقيق للملك, وهو باق مع الإباق والعصيان. وفي الزوجة للاستمتاع وهو منتف مع النشوز, ونفقة الزوجة مقدرة ولا تسقط بمضي الزمان ونفقة الرقيق للكفاية وتسقط بمضيه.
ويفضل بعض الإماء على بعض في النفقة والكسوة بخلاف الزوجات, ولا حصر لمدد التسري ولا يجب لهن قسم, ويجوز جمعهن في مسكن بغير رضاهن, ولا يجري فيهن ظهار ولا إيلاء ولا تطالب سيدها العنين بوطء ولا تمنع منه إن كان به عيب.
ولا تجب نفقة الرقيق على قريبه, ولا حضانة له ولا يحضنه أقاربه, بل سيده, ولا عقيقة له كما ذكره البلقيني تخريجا, ولو كان أبوه غنيا ; لأنه لا نفقة له عليه وإنما يخاطب بالعقيقة من عليه النفقة ولا يسن للسيد أن يعق عن رقيقه وفي ذلك قلت ملغزا:(16/373)
ص -230-…تنبيه:
الجناية على العبد تارة تكون من غير إثبات يد وتارة بإثبات اليد فقط وتارة بهما.
فالأول تجب فيه القيمة في نفسه وفي أطرافه من القيمة ما في أطراف الحر من الدية وفي غير المقدرة ما نقص منها.
والثاني فيه أرش النقص فقط.
والثالث فيه أكثر الأمرين منهما.
حكم إقراره
يقبل فيما أوجب حدا أو قصاصا لانتفاء التهمة.
فلو أقر بالقصاص فعفا على مال فالأصح تعلقه برقبته وإن كذبه السيد ; لأنه إنما أقر بالعقوبة واحتمال المواطأة فيها بعيد, وإن أقر بسرقة قطع ولا يقبل في المال إذا كان تالفا في الأظهر, بل يتعلق بذمته كما لو أقر به ابتداء, وإن كان باقيا, وهو في يد السيد لم ينزع منه إلا ببينة أو في يد العبد فقيل: يقبل قطعا وقيل: لا قطعا وقيل قولان والأظهر: لا يقبل مطلقا, وإن أقر بدين جناية أو غصب أو سرقة لا يوجب القطع أو إتلاف وصدقه السيد تعلق برقبته, وإلا فبذمته أو معاملة ولم يكن مأذونا له لم تتعلق برقبته بل بذمته أو مأذونا قبل وأدى من كسبه.
الأموال المتعلقة بالعبد.
هي أقسام:
الأول: ما يتعلق برقبته فيباع فيه, وذلك أرش الجناية وبدل المتلفات سواء كان بإذن السيد أم لا لوجوبه بغير رضى المستحق.
ويستثنى:
ما إذا كان العبد صغيرا لا يميز أو مجنونا أو أعجميا يرى وجوب طاعة الأمر في كل شيء, فلا يتعلق برقبته ضمان على الأصح ; لأنه كالآلة, فأشبه البهيمة والثاني: نعم لأنه بدل متلف.
الثاني: ما يتعلق بذمته فيتبع به إذا عتق وهو ما وجب برضى المستحق دون السيد كبدل المبيع والقرض إذا أتلفهما, وكذا لو نكح وزاد على ما قدره له السيد, فالزائد في ذمته أو امتثل وليس مكتسبا ولا مأذونا له.
وفي قول هو في هذه الحالة على السيد وفي آخر في رقبته.
ولو نكح بغير إذن سيده ووطئ فهل يتعلق مهر المثل بذمته لكونه وجب برضى مستحقه أو برقبته ; لأنه إتلاف قولان أظهرهما: الأول.(16/374)
ص -231-…فإن كان بغير رضاه كأن نكح أمة بغير إذن سيدها ووطئها فطريقان:
أحدهما: طرد القولين.
والثاني: القطع بتعلقه بالرقبة وبه قال ابن الحداد كما لو أكره أمة أو حرة على الزنا.
ولو أذن سيده في النكاح فنكح فاسدا ووطئ, فهل يتعلق بذمته أو رقبته أو سنه؟ أقوال أظهرها الأول.
ولو أفطرت في رمضان لحمل أو رضاع خوفا على الولد فالفدية في ذمتها قاله القفال.
الثالث: ما يتعلق بكسبه وهو ما ثبت برضاهما وذلك المهر والنفقة إذا أذن له السيد في النكاح, وهو كسوب أو مأذون له في التجارة, وكذا إذا نكح صحيحا وفسد المهر أو أذن له في نكاح فاسد ووجب مهر المثل كما ذكره الرافعي قياسا, أو ضمن بإذن السيد أولزمه دين تجارة. وحيث قلنا يتعلق بالكسب فسواء المعتاد والنادر على الصحيح, ويختص بالحادث بعد الإذن دون ما قبله.
وحيث كان مأذونا تعلق بالربح الحاصل بعد الإذن وقبله وبرأس المال في الأصح.
وحيث لم يوف في الصور تعلق الفاضل بذمته ولا يتعلق بكسبه بعد الحجر في الأصح, وفي وجه أن المال في الضمان متعلق بذمته وفي آخر برقبته.
الرابع: ما يتعلق بالسيد وذلك جناية المستولدة والعبد الأعجمي وغير المميز كما مر, والمهر والنفقة إذا أذن في النكاح على القديم.
تنبيه:
من المشكل قول المنهاج فإن باع مأذون له وقبض الثمن فتلف في يده فخرجت السلعة مستحقة رجع المشتري ببدلها على العبد وله مطالبة السيد أيضا, وقيل: لا, وقيل: إن كان في يد العبد وفاء, فلا. ولو اشترى سلعة, ففي مطالبة السيد بثمنها هذا الخلاف, ثم قال: ولا يتعلق دين التجارة برقبته ولا ذمة سيده, بل يؤدى من مال التجارة.
وكذا من كسبه.
فما ذكره: من أن دين التجارة لا يتعلق بذمة السيد, مخالف لقوله قبل: إن السيد يطالب ببدل الثمن التالف في يد العبد وبثمن السلعة التي اشتراها أيضا.
وقد وقع الموضعان كذلك في المحرر والروضة وأصلها.(16/375)
قال في المطلب: ولا يجمع بينهما بحمل الأول على مجرد المطالبة والثاني على بيان محل الدفع, فإن الوجه الثالث المفصل يأبى ذلك.
قال السبكي والأسنوي: وسبب وقوع هذا التناقض أن المذكور أولا هو طريقة(16/376)
ص -232-…الإمام, وأشار في المطلب إلى تضعيفها, وثانيا هو طريقة الأكثرين فجمع الرافعي بينهما فلزم منه ما لزم.
وحمل البلقيني قولهم: إن دين التجارة لا يتعلق بذمة السيد على أن المراد بسائر أمواله.
القول في أحكام المبعض.
هي أقسام:
الأول: ما ألحق فيه بالأحرار بلا خلاف.
وفي ذلك فروع:
منها: صحة البيع والشراء, والسلم, والإجارة, والرهن, والهبة, والوقف, وكل تبرع إلا العتق, والإقرار, بأن لا يضر المالك.
ويقبل فيما يضره في حقه, دون سيده ويقضى مما في يده.
ومنها: ثبوت خيار المجلس, والشرط والشفعة.
ومنها: صحة خلعها, وفسخ النكاح بالإعسار, وأن السيد لا يطؤها ولا يجبرها على النكاح, ولا يقيم عليها الحد.
الثاني: ما ألحق فيه بالأرقاء, بلا خلاف.
وفيه فروع:
منها: أنه لا تنعقد به الجمعة, ولا تجب عليه في غير نوبته, ولا يجب عليه الحج, ولا يسقط حجه حجة الإسلام.
ولا ضمان إن لم يكن مهايأة, أو ضمن في نوبة السيد.
ولا يقطع بسرقة مال سيده, ويقطع سارقه.
ولا ينكح بلا إذن, وينكح الأمة ولو كان موسرا, نقل الإمام الاتفاق عليه كما ذكره في المهمات, ولا ينكح الحر مبعضة ولا من يملك بعضها, أو تملك بعضه, ولا يثبت لها الخيار تحت عبد ويثبت بعتق كلها تحت مبعض.
ولا يقتل به الحر ولو كافرا.
ولا يكون واليا, ولا وليا, ولا شاهدا, ولا خارصا, ولا قاسما, ولا مترجما, ولا وصيا, ولا قائفا. ولا يحمل العقل. ولا يكون محصنا في الزنا, ولا في القذف. ولا يجزئ في الكفارة, ولا يرث, ولا يحكم لبعضه ولا يشهد له, ولا يجب عليه الجهاد, وطلاقه طلقتان, وعدتها قرءان.(16/377)
ص -233-…الثالث: ما فيه خلاف, والأصح أنه كالأحرار.
وفيه فروع:
منها: وجوب الزكاة فيما ملكه, ويورث ويكفر بالطعام والكسوة, ويصح التقاطه, ويدخل في ملكه إن كان في نوبته, وكذا زكاة الفطر.
ولو اشترى زوجته بالمال المشترك بإذن سيده ملك جزأها, وانفسخ النكاح, وكذا بغير إذنه في الأظهر أو بخالص ماله فكذلك, أو مال السيد فلا.
ولو أوصى لنصفه الحر خاصة أو الرقيق خاصة, ففي الصحة وجهان أصحهما: في زوائد الروضة: يصح ويكون له خاصة في الأولى, ولسيده خاصة في الثانية والثاني: لا, كما لا يرث. ولو أوصى - له وبعضه ملك وارث الموصي - فإن كان مهايأة ومات في نوبته. صحت, أو نوبة السيد فوصية لوارث, وكذا إن لم يكن مهايأة.
قال الإمام: يحتمل أن تبعض الوصية.
الرابع: ما فيه خلاف, والأصح أنه كالأرقاء.
وفيه فروع:
منها: أنه لا تجب عليه الجمعة في نوبته. ولا يقتل به مبعض, سواء كان أزيد حرية منه أم لا, ونفقته نفقة المعسرين, ويحد في الزنا, والقذف حد العبد ويمنع من التسري, ولا تجب عليه نفقة القريب ولا الجزية. وعورتها في الصلاة كالأمة, واشتراط النجوم, إذا كوتب.
الخامس: ما وزع فيه الحكم وفيه فروع منها: زكاة الفطر, حيث لا مهايأة على كل منه ومن سيده نصف صاع, والكسب النادر كذلك.
وتجب على قريبه من نفقته بقدر حريته.
وتحمل عاقلته نصف الدية في قتله الخطإ.
وفي قتله, والجناية عليه ; وغرته من الدية بقدر الحرية, وبقدر الرق من القيمة, ويزوج المبعضة السيد مع قريبها. فإن لم يكن, فمع معتقها, فإن لم يكن, فمع الحاكم. وقيل: لا يزوج.
ويعتكف في نوبته, دون نوبة السيد.(16/378)
ص -234-…من غرائب هذا القسم.
ما ذكره الروياني.
لو ملك المبعض مالا بحريته, فاقترضه منه السيد, ورهن عنده نصيبه الرقيق صح.
قال العلائي: وهذه من مسائل المعاياة ; لأنه يقال فيها: مبعض لا يملك مالك النصف عتق نصيبه إلا بإذن المبعض ; لأن هذا النصف إذا كان مرهونا عنده لم يتمكن السيد من عتقه إذا كان معسرا إلا بإذنه انتهى.
وبقي فروع لا ترجيح فيها.
منها: ما لا نقل فيه.
ومنها: لو قدر على مبعضه, هل ينكح الأمة؟ فيه تردد للإمام ; لأن إرقاق بعض الولد أهون من إرقاق كله, كذا في أصل الروضة, بلا ترجيح.
ومنها: إذا التقط لقيطا في نوبته, هل يستحق كفالته؟ وجهان, نقلهما الرافعي عن صاحب المعتمد. ومنها: لو سرق سيده ما ملك بحريته. قال القفال: لا يقطع.
وقال أبو علي: يقطع.
ومنها: لو قبل الوصية, بلا إذن فهل يصح في حصته؟ وجهان.
ومنها: القسم للمبعضة. هل تعطى حكم الحرائر, أو الإماء, أو يوزع؟.
قال العلائي: لا نقل فيه.
قلت: بل صرح الماوردي, بأنها كالأمة, وجزم به الأذرعي في القوت, ثم ذكر التوزيع بحثا.
ومنها: هل له نكاح أربع, كالحر, أو لا, كالعبد. أو يوزع؟.
قال العلائي: الظاهر الثاني ; لأن النصف الرقيق منه غير منفصل, فيؤدي إلى أن ينكح به أكثر من اثنتين.
قلت: ويؤيده مسألتا الطلاق, والعدة.
ثم رأيت الحكم المذكور مصرحا به. منقولا عن الماوردي. وصاحب الكافي, والرونق, واللباب. وبحث الزركشي فيه التوزيع, تخريجا من وجه في الحد.
ونظيره: ما لو سقي الزرع بمطر, أو ماء اشتراه, سواء, فإن فيه ثلاثة أرباع العشر.
ومنها هل يصح الوقف عليه, أو لا, كالعبد؟, قال العلائي: لا نقل فيه.
قلت: بل هو منقول, صرح بصحته ابن خيران في اللطيف.(16/379)
ص -235-…قال الزركشي: فلو أراد سيده أن يقف عليه نصفه - الرقيق, فالظاهر الصحة, كالوصية.
ومنها: لو اجتمع رقيق ومبعض قال العلائي: الظاهر: أن المبعض أولى بالإمامة. ومنها: يغسل الرجل أمته بخلاف المبعضة. فيما يظهر ; لأنها أجنبية, قاله العلائي. قال: وهي أولى من المكاتبة. وقد جزموا بأنها لا تغسل السيد.
ومنها: يجوز توكيل مكاتب الراهن في قبض المرهون ; لأنه أجنبي, لا عبده, وفي المبعض نظر.
قال العلائي: يحتمل أن يكون كالمكاتب.
ومنها: هل يسهم له من الغنيمة, قال العلائي: فيه نظر.
ويقوى ذلك: إذا كان في نوبته وقاتل بإذن سيده, ويكون ذلك كما لو اكتسب. ولا يخرج على الأكساب النادرة ; لأن إذنه في القتال لا يجعل الغنيمة نادرة.
وليس له أن يقاتل بلا إذن قطعا, ولم يتعرضوا له. وإن لم يكن مهايأة بعد الإسهام. ومنها: هل يرى سيدته, إذا قلنا بجوازه للعبد.
قال العلائي: فيه نظر. وينبغي أن لا يراها.
قلت: صرح الماوردي بمنعه, وقال: لا يختلف فيه أصحابنا.
ومنها: هل يرى من نصفها له, والباقي حر.
قال العلائي: يحتمل أن يكون فيه الخلاف في الصلاة, وقد رجح الماوردي أنها كالحرة.
ورجح ابن الصباغ, وطائفة أنها كالأمة.
ومنها: لو اعتدت عن الوفاة, أو بالأشهر.
قال العلائي: لم أر فيه نقلا.
وقد قالوا: إن عدتها قرءان, فالظاهر أنها في الأشهر على النصف كالأمة. وكذا قال الأذرعي وغيره بحثا.
تنبيه:
ويدخل في المهايأة: الكسب, والمؤن المعتادة قطعا.
وفي النادر من الأكساب: كاللقطة, والوصية, والمؤن, كأجرة الحجام, والطبيب قولان, أو وجهان. أصحهما: الدخول.
ولا يدخل أرش الجناية بالاتفاق ; لأنها متعلقة بالرقبة, وهي مشتركة. كذا(16/380)
ص -236-…في الروضة نقلا عن الإمام, وهو صريح في أن فرض المسألة في جنايته هو, وبه صرح الإمام.
أما لو جني عليه, فالظاهر أيضا: أنه كذلك قاله.
فائدة:
التبعيض, يقع ابتداء في صور:
الأولى: ولد المبعضة من زوج أو زنا, سئل عنه القاضي حسين فقال: يمكن تخريجه على الوجهين: في الجارية المشتركة إذا وطئها الشريك وهو معسر, ثم استقر جوابه على أنها كالأم حرية ورقا.
قال الإمام: وهذا هو الوجه ; لأنه لا سبب لحريته إلا الأم, فيقدر بقدرها.
الثانية: الولد من الجارية المشتركة إذا وطئها الشريك المعسر. اختلف فيه التصحيح.
ففي المكاتبة بين اثنين يطؤها أحدهما, وهو معسر قال الرافعي: وتبعه في الروضة في الولد وجهان. أصحهما: نصفه حر, ونصفه رقيق. والثاني: كله حر للشبهة.
وقال في استيلاد أحد الغانمين المحصورين, أنه إذا أثبتنا الاستيلاد: أنه إذا كان معسرا هل ينعقد الولد حرا أو بقدر حصته, والباقي رقيق. وجهان. وقيل: قولان.
أحدهما: كله حر ; لأن الشبهة تعم الجارية. وحرية الولد تثبت بالشبهة, وإن لم تثبت الاستيلاد. ووجه الثاني: أنه تبع للاستيلاد, وهو متبعض.
قالا: وهذا الخلاف يجري فيما إذا أولد أحد الشريكين المشتركة, وهو معسر.
فإن قلنا: كله حر لزم المستولد قيمة حصة الشركاء في الولد, وهذا هو الأصح.
كذا قاله القاضي أبو الطيب, والروياني, وغيرهما.
قال البلقيني: والصحيح أنه يتبعض.
الثالثة: إذا استولد الأب الحر جارية مشتركة بين ابنه وبين غيره - وهو معسر - فيكون نصف الولد حرا, ونصفه رقيقا على الأظهر.
الرابعة: العتيق الكافر بين المسلم والذمي: إذا نقض العهد, والتحق بدار الحرب, فسبي, فإنه يسترق نصيب الذمي على الأصح, ولا يسترق نصيب المسلم, على المشهور.
الخامسة: ضرب الإمام الرق على بعض شخص, ففي جوازه وجهان أصحهما في الروضة وأصلها: الجواز.
قال البغوي: فإن منعناه, فإن ضرب الرق على بعضه رق كله.(16/381)
وهذه صورة يسري فيها الرق, ولا نظير لها, وإياها عنيت بقولي:(16/382)
ص -237-…أيها الفقيه, أيدك الله…ولا زلت في أمان ويسر
هل لنا معتق نصيبا فيلغي…ولنا صورة بها الرق يسري
السادسة: إذا أوصى بنصف حمل الجارية, ثم أعتق الوارث الجارية بعد الموت, ثم حدث ولد, فإن نصفه حر, ونصفه رقيق للموصى له.
وأما التبعيض في عبده الخالص: فلا يقع إلا في ثلاث صور:
الأولى: رهن بعض عبده وأقبضه, ثم أعتق غير المرهون وهو معسر, فإنه يعتق ذلك البعض فقط. الثانية: جنى عبد بين اثنين, ففداه أحدهما, ثم اشترى الذي لم يفد ذلك النصف المفدى وأعتقه - وهو معسر عتق فقط.
الثالثة: وكل وكيلا في عتق عبده, فأعتق الوكيل نصفه, فأوجه. أصحها في الروضة وأصلها: يعتق ذلك النصف فقط.
والثاني: يعتق كله, ورجحه البلقيني, تنزيلا لعبارة الوكيل منزلة عبارة الموكل.
والثالث: لا يعتق شيء لمخالفة الوكيل.
القول في أحكام الأنثى تخالف الذكور في أحكام.
لا يجزئ في بولها النضح, ولا الحجر, إن كانت بنتا.
والسنة في عانتها: النتف. ولا يجب ختانها في وجه.
ويجب عليها غسل باطن لحيتها. ويسن حلقها. وتمنع من حلق رأسها.
ولبنها طاهر على الصحيح.
وفي لبن الرجل كلام, سنذكره.
ومنيها نجس في وجه: وتزيد في أسباب البلوغ: بالحيض, والحمل.
ولا تؤذن مطلقا, ولا تقيم للرجال.
وعورتها تخالف عورة الرجل, وصوتها عورة في وجه, ويكره لها الحمام. وقيل يحرم.
ولا تجهر بالصلاة في حضرة الأجانب. وفي وجه مطلقا, وتضم بعضها إلى بعض في الركوع والسجود, وإذا نابها شيء في صلاتها صفقت. والرجل يسبح, ولا تجب عليها الجماعة.
ويكره حضورها للشابة ولا يجوز إلا بإذن الزوج, وهي في بيتها أفضل من المسجد.(16/383)
ص -238-…ولا يجوز اقتداء الرجل, والخنثى بها. وتقف إذا أمت النساء وسطهن.
ولها لبس الحرير, وكذا افتراشه في الأصح, وحلي الذهب والفضة.
ولا جمعة عليها. ولا تنعقد بها.
ولا ترفع صوتها بتكبير العيد, ولا تلبية الحج, ولا تخطب بحال.
والأفضل: تكفينها في خمسة أثواب, وللرجال ثلاثة. ويقف المصلي عليها عند عجزها وفي الرجل عند رأسه. ويندب لها, نحو القبة في التابوت.
ولا يسقط بها فرض الجنازة مع وجود الرجال في الأصح.
ولا تحمل الجنازة, وإن كان الميت أنثى.
ولا تأخذ من سهم العاملين, ولا سبيل الله, ولا المؤلفة في وجه.
ولا تقبل في الشهادات: إلا في الأموال وما لا يطلع عليه الرجال. ولا كفارة عليها بالجماع في رمضان.
ويصح اعتكافها في مسجد بيتها في القديم. ويكره لها الاعتكاف, حيث كرهت الجماعة.
ولا تسافر إلا مع زوج, أو محرم, فيشترط لها ذلك في وجوب الحج عليها. ويشترط لها أيضا: المحمل, لأنه أستر. ويندب لها عند الإحرام: خضب يديها, ووجهها.
ويباح لها: الخضب بالحناء مطلقا, ولا يجوز للرجل إلا لضرورة, ولا يحرم عليها في الإحرام المخيط, وستر الرأس, بل الوجه والقفازان. ولا تقبل الحجر, ولا تستلمه ولا تقرب من البيت: إلا عند خلو المطاف من الأجانب. ولا ترمل في الطواف, ولا تضطبع, ولا ترقى على الصفا والمروة, ولا تعدو بين الميلين. ولا تطوف, ولا تسعى إلا بالليل وتقف في حاشية الموقف والرجل عند الصخرات وقاعدة, والرجل راكب. ولا تؤمر بالحلق. ولا ترفع يدها عند الرمي.
والتضحية بالذكر أفضل منها في المشهور.
ويعق عنها بشاة, وعن الذكر بشاتين, والذكر في الذبح أولى منها.
ويجوز بيع لبنها سواء كانت أمة أم حرة, على الأصح. بخلاف لبن الرجل.
ولا يجوز قرضها. والتقاطها للتملك لغير المحرم في الأصح, بخلاف العبد.
ولا تكون وليا في النكاح, ولا وكيلا في إيجابه, ولا قبوله. ولا في الطلاق في وجه.
والغناء منها غير متقوم, ومن العبد متقوم.(16/384)
ولا تصح معها المسابقة ; لأنها ليست من أهل الحرب.
ولا يقبل قولها في استلحاق الولد إلا ببينة في الأصح, بخلاف الرجل.(16/385)
ص -239-…وهي على النصف من الرجل. في الإرث, والشهادة, والغرم عند الرجوع, والدية نفسا, وجرحا. وفي هبة الوالد في وجه. وفي النفقة على القريب في أحد الوجهين.
ولا تلي القضاء, ولا الوصاية في وجه.
وتجبر الأمة على النكاح, بخلاف العبد في الأظهر. ولا تجبر سيدها على تزويجها قطعا إذا كانت تحل له ويجبر على تزويج العبد في قول, ويحرم عليها ولدها من زنا, بخلاف الرجل.
ويحل لها نكاح الرقيق مطلقا.
وبضعها يقابل بالمهر, دون الرجل.
ويحرم لبنها, دون لبن الرجل على الصحيح.
وتقدم على الرجال في الحضانة, والنفقة, والدعوى ; والنفر من مزدلفة إلى منى, والانصراف من الصلاة.
وتؤخر في الفطرة والموقف في الجماعة, وفي اجتماع الجنائز عند الإمام. وفي اللحد.
وتقطع حلمة الرجل بحلمتها لا عكسه, وفي حلمتها الدية. وفي حلمته الحكومة على الأصح.
وفي استرسال نهدها: الحكومة, بخلاف الرجل.
ولا تباشر استيفاء القصاص.
ولا تدخل في القرعة, على الأصح في الشرح والروضة.
ولا تحمل الدية, ولا ترمي لو نظرت في الدار, في وجه.
ولا جهاد عليها, ولا جزية. ولا تقتل في الحرب, ما لم تقاتل.
وفي جواز عقد الأمان لها استقلالا من غير إدخال رجل في العقد. فيه وجهان.
في الشرح, بلا ترجيح, ولا يسهم لها, ولا تستحق السلب, في وجه.
ولا تقيم الحد على رقيقها, في وجه.
ويحفر لها في الرجم إن ثبت زناها ببينة, بخلاف الرجل, وتجلد جالسة, والرجل قائما.
ولا تكلف الحضور للدعوى إذا كانت مخدرة, ولا إذا توجه عليها اليمين, بل يحضر إليها القاضي فيحلفها, أو يبعث إليها نائبة.
تنبيه:
في مواضع مهمة, تقدمت الإشارة إليها.
منها: تقدم أن لبنها طاهر.
وأما لبن الرجل: فلم يتعرض له الشيخان. وصرح الصيمري في شرح الكفاية بطهارته. وصححه البلقيني. وصرح ابن الصباغ بأنه نجس.(16/386)
ص -240-…ومنها: المرأة في العورة. لها أحوال:
حالة مع الزوج, ولا عورة بينهما, وفي الفرج وجه.
وحالة مع الأجانب, وعورتها: كل البدن, حتى الوجه والكفين في الأصح.
وحالة مع المحارم والنساء, وعورتها: ما بين السرة والركبة.
وحالة في الصلاة, وعورتها: كل البدن, إلا الوجه والكفين. وصرح الإمام في النهاية: بأن الذي يجب ستره منها في الخلوة: هي العورة الصغرى, وهو المستور من عورة الرجل.
ومنها: المجزوم به, وهو الوارد في الحديث: "إن المرأة إذا نابها شيء في صلاتها تصفق. ولا تسبح".
قال الأسنوي: وقد صححوا أنها تجهر في الصلاة بحضرة زوج, أو محرم, أو نسوة أو وحدها: وقياس ذلك: أن تسبح في هذه الأحوال. كالرجل. ويحمل الحديث على غير ذلك, لأن التسبيح في الصلاة أليق من الفعل, خصوصا التصفيق.
ومنها: هل يحرم على الأجانب تعزية الشابة؟ لا تصريح بذلك في كتب الرافعي, والنووي, وابن الرفعة.
وذكر أبو الفتوح في أحكام الخناثى: أن المحارم يعزونها, وغير المحارم يعزون العجوز دون الشابة.
قال الأسنوي: ومقتضاه التحريم.
ومنها: هل يجوز أن تكون المرأة نبية؟ اختلف في ذلك.
وممن قيل بنبوتها: مريم.
قال السبكي في الحلبيات: ويشهد لنبوتها ذكرها في سورة مريم, مع الأنبياء. وهو قرينة.
قال: وقد اختلف في نبوة نسوة غير مريم, كأم موسى, وآسية, وحواء, وسارة ولم يصح عندنا في ذلك شيء انتهى.
القول في أحكام الخنثى.
قال الأصحاب: الأصل في الخنثى بما روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في مولود له ما للرجال, وما للنساء: "يورث من حيث يبول" أخرجه البيهقي وهو ضعيف جدا.
ولكن روي ذلك عن علي رضي الله عنه وغيره.
وقال سعيد بن منصور في سننه: حدثنا هشيم عن مغيرة عن الشعبي عن علي أنه(16/387)
ص -241-…قال: الحمد لله الذي جعل عدونا يسألنا عما نزل به من أمر دينه: إن معاوية كتب إلي يسألني عن الخنثى فكتبت إليه: أن يورثه من قبل مباله.
قال النووي: الخنثى ضربان: ضرب له فرج المرأة, وذكر الرجال. وضرب ليس له واحد منهما. بل له ثقبة يخرج منها الخارج, ولا تشبه فرج واحد منهما.
فالأول: يتبين أمره بأمور:
أحدها: البول, فإن بال بذكر الرجال وحده: فرجل, أو بفرج النساء: فامرأة أو بهما اعتبر بالسابق, إن انقطعا معا. وبالمتأخر إن ابتدآ معا, فإن سبق واحد, وتأخر آخر: اعتبر بالسابق, فإن اتفقا فيهما فلا دلالة في الأصح, ولا ينظر إلى كثرة البول من أحدهما, ولا إلى التزريق بهما, أو الترشيش. الثاني, والثالث: خروج المني والحيض في وقت الإمكان. فإن أمنى بالذكر, فرجل أو الفرج أو حاض فامرأة.
بشرط أن يتكرر خروجه ليتأكد الظن به, ولا يتوهم كونه اتفاقيا. كذا جزم به الشيخان.
قال الأسنوي: وسكوتهما عن ذلك في البول يقتضي عدم اشتراطه فيه. والمتجه: استواء الجميع في ذلك.
قال: وأما العدد المعتبر في التكرار. فالمتجه: إلحاقه بما قيل في كلب الصيد: بأن يصير عادة له. فإن أمنى بهما, فالأصح أنه يستدل به.
فإن أمنى نصفه مني الرجال فرجل, أو نصفه مني النساء, فامرأة.
فإن أمنى من فرج الرجال نصفه منيهم. ومن فرج النساء نصفه منيهن, أو من فرج النساء نصفه مني الرجال, أو عكسه, فلا دلالة.
وكذا إذا تعارض بول وحيض, أو مني. بأن بال بفرج الرجال, وحاض أو أمنى بفرج النساء. وكذا إذا تعارض المني والحيض في الأصح.
الرابع: الولادة. وهي تفيد القطع بأنوثته, وتقدم على جميع العلامات المعارضة لها.
قال في شرح المهذب: ولو ألقى مضغة. وقال القوابل: إنه مبدأ خلق آدمي: حكم به. وإن شككن دام الإشكال.
قال: ولو انتفخ بطنه, وظهرت أمارة حمل: لم يحكم بأنه امرأة, حتى يتحقق الحمل.(16/388)
قال الأسنوي: والصواب الاكتفاء بظهور الأمارة فقد جزم به الرافعي في آخر الكلام على الخنثى. وتبعه عليه في الروضة. كذا في شرح المهذب في موضع آخر وهو(16/389)
ص -242-…الموافق, الجاري على القواعد المذكورة في الرد بالعيب, وتحريم الطلاق, واستحقاق المطلقة النفقة, وغير ذلك.
الخامس: عدم الحيض في وقته علامة على الذكورة, يستدل بها عند التساوي في البول: نقله الأسنوي عن الماوردي.
قال: وهي مسألة حسنة, قل من تعرض لها.
السادس: إحباله لغيره, نقله الأسنوي عن العدة, لأبي عبد الله الطبري, وابن أبي الفتوح وابن المسلم. قال: ولو عارضه حبله قدم على إحباله, حتى لو وطئ كل من المشكلين صاحبه فأحبله, حكمنا بأنهما أنثيان, ونفينا نسب كل منهما عن الآخر.
السابع: الميل ويستدل به عند العجز, عن الأمارات, السابقة, فإنها مقدمة عليه, فإن مال إلى الرجل فامرأة, أو إلى النساء فرجل.
فإن قال: أميل إليهما ميلا واحدا, ولا أميل إلى واحد منهما, فمشكل.
الثامن: ظهور الشجاعة, والفروسية, ومصابرة العدو, كما ذكره الأسنوي تبعا لابن المسلم.
التاسع إلى الثاني عشر: نبات اللحية, ونهود الثدي, ونزول اللبن, وتفاوت الأضلاع في وجه. والأصح أنها لا دلالة لها.
وأما الضرب الثاني:
ففي شرح المهذب عن البغوي: أنه لا يتبين إلا بالميل.
قال الأسنوي: ويتبين أيضا بالمني المتصف بأحد النوعين, فإنه لا مانع منه.
قال: وأما الحيض, فيتجه اعتباره أيضا. ويحتمل خلافه ; لأن الدم لا يستلزم أن يكون حيضا, وإن كان بصفة الحيض, لجواز أن يكون دم فساد بخلاف المني.
وأما أحكام الخنثى الذي لم يبن فأقسام.
والضابط أنه يؤخذ في حقه بالاحتياط, وطرح الشك.
القسم الأول:
ما هو فيه كالأنثى.
ذلك في نتف العانة, ودخول الحمام, وحلق الرأس ; ونضح البول, والأذان والإقامة, والعورة, والجهر في الصلاة, والتصفيق فيما إذا نابه شيء, والجماعة, والاقتداء والجمعة, ورفع الصوت بالتكبير والتلبية, والتكفين, ووقوف المصلي عند عجزها.(16/390)
ص -243-…وعدم سقوط فرض الجنازة بها, وكونها لا تأخذ من سهم العاملين ولا سبيل الله, ولا المؤلفة. وشرط وجوب الحج, ولبس المخيط, والقرب من البيت, والرمل, والاضطباع والرقي, والعدو, والوقوف والتقديم من مزدلفة, والعقيقة, والذبح, والتوكيل في النكاح وغيره, والقضاء, والشهادة, والدية, وعدم تحمل العقل. وفي الجهاد, والسلب والرضخ, والجزية. والسفر بلا محرم. ولا يحل وطؤه.
القسم الثاني:
ما هو فيه كالذكر.
وذلك في لبس الحرير, وحلي الذهب, والوقوف أمام النساء إذا أمهن, لا أوسطهن لاحتمال كونه رجلا, فيؤدي وقوفه وسطهن إلى مساواة الرجل للمرأة, وفي الزكاة, وليس وطؤه في زمن الخيار فسخا, ولا إجازة. ويقبل قوله في استلحاق الولد, كما صححه أبو الفتوح, ونقله الأسنوي احتياطا للنسب, ولا يحرم رضاعه, ولا دية في حلمته, ولا حكومة في إرسال ثديه, أو جفاف لبنه.
القسم الثالث:
ما وزع فيه الحكم.
وفي ذلك فروع:
الأول: لحيته, لا يستحب حلقها. لاحتمال أن تتبين ذكورته, فيتشوه. ويجب في الوضوء غسل باطنها لاحتمال كونه امرأة, كما جزم به الشيخان وغيرهما.
وذكر صاحب التعجيز في شرحه: أنه كالرجل ; لأن الأصل: عدم الوجوب.
الثاني:: لا ينتقض وضوءه لا بالخروج من فرجيه, أو مسهما, أو لمسه رجلا وامرأة ولا غسله إلا بالإنزال منهما, أو بإيلاجه, والإيلاج فيه.
قال البغوي: وكل موضع لا يجب فيه الغسل على الخنثى المولج. لا يبطل صومه, ولا حجه, ولا يجب على المرأة التي أولج فيها عدة, ولا مهر لها.
وأما الحد: فلا يجب على المولج فيه, ولا المولج. ويجب على الخنثى الجلد والتغريب ولو أولج فيه رجل, وأولج الخنثى في دبره, فعلى الخنثى الجلد. وكذا الرجل إن لم يكن محصنا, فإن كان محصنا, فإن حده بتقدير أنوثة الخنثى: الرجم, وبتقدير ذكورته: الجلد.(16/391)
والقاعدة: أن التردد بين جنسين من العقوبة, إذا لم يشتركا في الفعل, يقتضي إسقاطهما بالكلية, والانتقال إلى التعزير ; لأنه لا يمكن الجمع بينهما, وليس أحدهما بأولى من الآخر كذا ذكره ابن المسلم في أحكام الخناثى.(16/392)
ص -244-…وقال الأسنوي: إنه حسن متجه, وحينئذ فيجب على الرجل التعزير.
وهذه من غرائب المسائل: شخص أتى ما يوجب الحد. فإن كان محصنا عزر, وإن كان غير محصن: جلد, وعزر. وإياها عنيت بقولي ملغزا:
قل للفقيه, إذا لقيت…محاجيا ومغربا
فرع بدا في حكمه…لأولي النهى مستغربا
شخص أتى ما حده…قطعا غدا مستوجبا
إن تلفه بكر اجلد…ت مائة تتم وغربا
وإذا تراه محصنا…عزرته مترقبا
قد أصبح النحرير…مما قلته متعجبا
فأبنه دمت موضحا…للمشكلات مهذبا.
الثالث: إذا حاض من الفرج ; حكم بأنوثته وبلوغه, ولا يحرم عليه محرمات الحيض لجواز كونه رجلا والخارج دم فاسد.
الرابع: يجب عليه ستر كل بدنه ; لاحتمال كونه امرأة ; فلو اقتصر على ستر عورة الرجل وصلى. فوجهان: أصحهما في التحقيق: الصحة, للشك في وجوبه.
قال الأسنوي: والفتوى عليه, فإنه الذي يقتضيه كلام الأكثرين.
وصحح في شرح المهذب وزوائد الروضة: البطلان ; لأن الستر شرط وقد شككنا في حصوله. الخامس: لا تجب عليه الفدية في الحج إلا لستر رأسه ووجهه معا, والأحوط له. أن يستر رأسه دون وجهه وبدنه بغير المخيط كما قال القفال ونقله الأسنوي.
السادس: الإرث. يعامل في حقه كالمرأة, وفي حق سائر الورثة كالرجل, ويوقف القدر الفاضل للبيان فإن مات, فلا بد من الاصطلاح على المذهب.
القسم الرابع:
ما خالف فيه النوعين.
فيه فروع:
منها: ختانه والأصح تحريمه ; لأن الجرح لا يجوز بالشك.
ومنها: لا يجوز له الاستنجاء بالحجر, لا في ذكره, ولا في فرجه, لالتباس الأصلي بالزائد.
والحجر: لا يجزئ, إلا في الأصلي.
ومنها: إذا مات لا يغسله الرجال, ولا النساء الأجانب كما اقتضاه كلام الرافعي. وصحح في شرح المهذب: أنه يغسله كل منهما.
ومنها: أنه في النظر والخلوة مع الرجال كامرأة ومع النساء كرجل.(16/393)
ص -245-…ومنها: أنه لا يباح له من الفضة كما يباح للنساء, ولا يباح للرجال.
ومنها: لا يصح السلم فيه لندوره. ولا يصح قبضه عن السلم في جارية, أو عبد ; لاحتمال كونه عكس ما أسلم فيه.
ومنها: لا يصح نكاحه.
القسم الخامس:
ما وسط فيه الذكر والأنثى.
وفي ذلك فروع:
منها: أوصى بثوب لأولى الناس به, قدمت المرأة, ثم الخنثى, ثم الرجل.
ومنها: يقف خلف الإمام. الذكور, ثم الخناثى, ثم النساء.
ومنها: ينصرف بعد الصلاة: النساء, ثم الخناثى ثم الرجال.
ومنها: يقدم في الجنائز: إلى الأمام وإلى اللحد الذكور ثم الخناثى ثم النساء.
ومنها: الأولى بحمل الجنازة الرجال, ثم الخناثى ثم النساء.
ومنها: - التضحية بالذكر أفضل, ثم الخنثى ثم الأنثى.
ومنها: الأولى في الذبح: الرجل, ثم الخنثى ثم الأنثى.
فرع:
إذا فعل شيئا في حال إشكاله, ثم بان ما يقتضي ترتب الحكم عليه. هل يعتد به؟ فيه نظائر:
الأول: إذا اقتدى بخنثى: فبان رجلا, ففي الإجزاء: قولان. أظهرهما: عدم الإجزاء.
الثاني: إذا عقد النكاح بخنثيين, فبانا ذكرين, ففي صحته وجهان, بناء على مسألة الاقتداء.
قال النووي: لكن الأصح هنا: الصحة ; لأن عدم جزم النية يؤثر في الصلاة.
الثالث: لو تزوج رجل بخنثى, ثم بان امرأة, أو عكسه. جزم الروياني في البحر: بأنه لا يصح. واقتضى كلام ابن الرفعة الاتفاق عليه, وأنهم لم يجروا فيه خلاف الاقتداء.
ثم فرق بين النكاح, والصلاة. بأن احتياط الشرع في النكاح أكثر من احتياطه في الصلاة, لأن أمر النكاح غير قاصر على الزوجين, وأمر الصلاة قاصر على المصلي.
ولهذا لا يجوز الإقدام على النكاح بالاجتهاد, عند اشتباه من تحل بمن لا تحل, ويجوز ذلك فيما يتعلق بالصلاة: من طهارة, وسترة, واستقبال.
قال الأسنوي: الصواب إلحاقه إذا كان شاهدا, لاستواء الجميع في الركنية, وقد صرح به ابن المسلم.(16/394)
ص -246-…قال: ويؤيد الصحة ما في البحر: أنه لو تزوج امرأة, وهما يعتقدان بينهما أخوة من الرضاع ثم تبين خلاف ذلك, صح النكاح على الصحيح.
الرابع: إذا توضأ, أو اغتسل حيث لم يحكم باستعمال الماء فلو بان فهل يتبين الحكم باستعماله؟ ينبني على طهارة الاحتياط هل ترفع الحدث الواقع في نفس الأمر, أم لا؟ والأصح: لا, فلا يحكم عليه بالاستعمال.
ذكره الأسنوي تخريجا.
الخامس: لو صلى الظهر ثم بان رجلا وأمكنه إدراك. الجمعة, لزمه السعي إليها فإن لم يفعل لزمه إعادة الظهر, بناء على أن من صلى الظهر قبل فواتها لم يصح, قاله في شرح المهذب.
السادس: لو خطب في الجمعة أو كان أحد الأربعين ثم بان رجلا, لم يجز في أصح الوجهين.
السابع: لو صلى على الجنازة مع وجود الرجل, ثم بان رجلا لم يسقط الفرض على أصح الوجهين. وهما مبنيان على مسألة الاقتداء.
قال الأسنوي: ووجهه أن نية الفرضية واجبة وهو متردد فيها.
الثامن: إذا قلنا بجواز بيع لبن المرأة دون الرجل, فبيع لبن الخنثى ثم بان امرأة ففيه القولان, فيمن باع مال مورثه ظانا حياته فبان ميتا.
التاسع: أسلم في عبد أو جارية, فسلمه خنثى لم يصح.
فلو قبضه فبان بالصفة التي أسلم فيها فوجهان: كالمسألة التي قبلها ذكره ابن المسلم ويجريان أيضا: فيما لو نذر أن يهدي ناقة أو جملا, فأهدى خنثى وبان أو أن يعتق عبدا أو أمة, فأعتق خنثى وبان.
قاله ابن المسلم أيضا.
العاشر: وكل خنثى في إيجاب النكاح أو قبوله فبان رجلا, ففي صحة ذلك وجهان كالمسألة قبلها, قاله ابن المسلم.
الحادي عشر: رضع منه طفل ثم بان أنثى, ثبت التحريم جزما.
الثاني عشر: وجبت الدية على العاقلة, لم يحمل الخنثى فإن بان ذكرا فهل يغرم حصته التي أداها غيره؟ قال الرافعي, فيه وجهان في التهذيب.
وصحح في الروضة من زوائده: الغرم بحثا ونقله الأسنوي عن أبي الفتوح وصاحب البيان.(16/395)
ص -247-…الثالث عشر: لا جزية على الخنثى, فلو بان ذكرا فهل يؤخذ منه جزية السنين الماضية؟ وجهان في الشرح.
قال في الروضة: ينبغي أن يكون الأصح الأخذ.
وقال الأسنوي: بل ينبغي تصحيح العكس, فإن الرافعي ذكر أنه إذا دخل حربي دارنا وبقي مدة ثم اطلعنا عليه, لا نأخذ منه شيئا لما مضى على الصحيح ; لأن عماد الجزية القبول, وهذا حربي لم يلتزم شيئا وهذا موجود هنا, بل أولى لأنا لم نتحقق الأهلية في الخنثى.
وقال ابن المسلم: إن كان الخنثى حربيا ودخل بأمان, ثم تبين أنه رجل فلا جزية لعدم العقد وإن كان ولد ذمي فإن قلنا إن من بلغ من ذكورهم يحتاج إلى عقد جديد فلا شيء عليه وإلا وجبت.
قال الأسنوي: والذي قاله مدرك حسن.
الرابع عشر: لو ولي القضاء ثم بان رجلا, لم ينفذ حكمه الواقع في حال الإشكال على المذهب وقيل فيه وجهان وهل يحتاج إلى تولية جديدة.
قال الأسنوي: القياس نعم, فقد جزم الرافعي بأن الإمام لو ولى القضاء من لا يعرف حاله لم تصح ولايته وإن بان أهلا.
الخامس عشر: لو لم يحكم بانتقاض طهره بلمس أو إيلاج أو غيرهما, فصلى ثم بان خلافه, ففي وجوب القضاء طريقان:
أحدهما: أنه على القولين فيمن تيقن الخطأ في القبلة, والأصح القطع بالإعادة كما لو بان محدثا. والفرق: أن أمر القبلة مبني على التخفيف بدليل تركها في نافلة السفر بخلاف الطهارة.
فرع:
لا يجوز اقتداء الخنثى بمثله لاحتمال كون الإمام امرأة والمأموم رجلا.
ونظيره: لو اجتمع أربعون من الخناثى في قرية لم تصح إقامتهم الجمعة ذكره أبو الفتوح ولو كان له أربعون من الغنم خناثى, قال الأسنوي: فالمتجه أنه لا يجزيه واحد منها لجواز أن يكون المخرج ذكرا والباقي إناث, بل يشتري أنثى بقيمة واحد منها.
قال: ويحتمل أن يجزي لأنه على صفة المال, فلا يكلف المالك سواه.
فرع:
الخنثى: إما ذكر أو أنثى, هذا هو الصحيح المعروف.
وقيل: إنه نوع ثالث.(16/396)
ص -248-…وتفرع على ذلك فروع:
منها: إذا قال: إن أعطيتني غلاما أو جارية فأنت طالق طلقت بالخنثى على الصحيح ولا تطلق على الآخر.
ومنها: لو حلف لا يكلم ذكرا ولا أنثى, فكلم الخنثى حنث على الصحيح ولا يحنث على الآخر. ومنها: وقف على الأولاد, دخل الخنثى أو البنين أو البنات لم يدخل ولكن يوقف نصيبه كالإرث, أو البنين والبنات دخل على الصحيح لأنه إما ذكر أو أنثى, وقيل لا لأنه لا يعدو واحدا منهما.
فرع:
في أحكام الخنثى الواضح.
منها: أن فرجه الزائد له حكم المنفتح تحت المعدة مع انفتاح الأصلي.
ومنها: أنه لا يجوز له قطع ذكره وأنثييه لأن الجرح لا يجوز بالشك ذكره أبو الفتوح.
قال: ولا يتجه تخريجه على قطع السلعة, نقله الأسنوي.
ومنها: لو اشترى رقيقا فوجده خنثى واضحا ثبت الخيار في الأصح كما لو بان مشكلا وكذا لو بان أحد الزوجين في قول.
ولو اشتراه عالما به فوجده يبول بفرجيه معا ثبت الخيار أيضا ; لأن ذلك لاسترخاء المثانة.
فائدة
حيث أطلق الخنثى في الفقه, فالمراد به المشكل.
القول في أحكام المتحيرة.
إنما يطلق هذا الاسم على ناسية عادتها في الحيض قدرا ووقتا, وتسمى أيضا محيرة - بكسر الياء - لأنها حيرت الفقيه في أمرها.
وقد ألف الدارمي في أحكامها مجلدة واختصرها النووي.
فالأصح - وبه قطع الجمهور - أنها تؤمر بالاحتياط.
وبيان ذلك بفروع:
الأول: يحرم على زوجها وسيدها وطؤها بكل حال لاحتمال الحيض.
في وجه: لا يحرم ; لأنه يستحق الاستمتاع فلا نحرمه بالشك.(16/397)
ص -249-…فعلى الأول: لو وطئ عصى ولا يلزمه التصدق بدينار على القديم ; لأنا لم نتيقن الوطء في الحيض وما بين سرتها وركبتها كحائض, وعلى الزوج نفقتها ويقسم لها, ولا خيار له في فسخ النكاح لأن جماعها ليس ميئوسا عنه بخلاف الرتقاء.
قال الأذرعي: ولو اعتقد الزوج إباحة الوطء, فالظاهر أنه ليس لها المنع.
الثاني: يحرم عليها المسجد كالحائض.
قال في شرح المهذب: إلا المسجد الحرام فإنه يجوز دخوله للطواف المفروض وكذا المسنون في الأصح ولا يجوز لغيرها.
الثالث: يحرم عليها قراءة القرآن خارج الصلاة, واختار الدارمي جوازها, وأما في الصلاة: فقراءة الفاتحة وكذا غيرها في الأصح.
الرابع: يجوز تطوعها بالصلاة والصوم والطواف في الأصح ; لأن النوافل من مهمات الدين وفي منعها تضييق عليها ولأنها مبنية على التخفيف وقيل: يحرم لأن حكمها كالحائض وإنما جوز لها الفرض للضرورة ولا ضرورة هنا وقيل يجوز الراتبة وطواف القدوم دون النفل المطلق.
الخامس: يجب عليها الغسل لكل فرض إذا لم تعلم وقت انقطاعه, فإن علمته كعند الغروب, وجب كل يوم عقب الغروب.
وبشرط وقوع الغسل في وقت الصلاة لأنها طهارة ضرورة ولا يشترط المبادرة بالصلاة بعده على الصحيح فيهما.
السادس: يجب عليها أداء الصلاة والصوم لوقتهما, مع قضاء الصوم أيضا, اتفاقا ومع قضاء الصلاة, على ما صححه الشيخان وصحح الأسنوي خلافه ونقله عن نص الشافعي وتقضي الطواف أيضا إذا فعلته.
السابع: لا يجوز أن يقتدى بها طاهرة ولا متحيرة لاحتمال مصادفة الحيض, فأشبه صلاة الرجل خلف الخنثى.
الثامن: ليس لها الجمع بين الصلاتين تقديما ; لأن شرطه تقدم الأولى وهي صحيحة يقينا, أو بناء على أصل ولم يوجد هنا.
التاسع: لو أفطرت لحمل أو رضاع خوفا على الولد, فلا فدية على الصحيح لاحتمال الحيض, والأصل براءتها.
العاشر: يجب عليها طواف الوداع ولو تركته فلا دم عليها لما ذكر, قاله الروياني.(16/398)
الحادي عشر: عدتها بثلاثة أشهر في الحال ولا تؤمر بانتظار سن اليأس على الصحيح هذا إذا لم تحفظ دورها, فإن حفظته اعتدت بثلاثة أدوار سواء كانت أكثر من ثلاثة أشهر أم أقل.(16/399)
ص -250-…الثاني عشر: استبراؤها, قال البلقيني لم يتعرضوا له في الاستبراء وتعرضوا له في العدة وهو من المشكلات فإنها وإن كان لها حيض وطهر, إلا أن ذلك غير معلوم فنظر إلى الزمان والاحتياط المعروف في عدتها فإذا مضت, خمسة وأربعون يوما, فقد حصل الاستبراء.
وبيان ذلك: أن يقدر ابتداء حيضها في أول الشهر مثلا, فلا يحسب الحيض فإذا مضت خمسة عشر يوما طهرا ثم بعد ذلك خمسة عشر يوما حيضة كاملة, فقد حصل الاستبراء. الثالث عشر: هل يجوز نكاحها لخائف العنت إذا كانت أمة, لم أر من تعرض له والظاهر المنع لأن وطأها ممتنع شرعا فلا تندفع الحاجة بها.
وهل يجوز نكاح الأمة لمن عنده متحيرة ; الظاهر المنع أيضا لأنها ليست ميئوسا من جماعها بخلاف الرتقاء ويحتمل الجواز.
القول في أحكام الأعمى.
قال أبو حامد في الرونق: يفارق الأعمى البصير في سبع مسائل:
لا جهاد عليه, ولا يجتهد في القبلة, ولا تجوز إمامته على رأي ضعيف, ولا يصح بيعه ولا شراؤه ولا دية في عينيه, ولا تقبل شهادته إلا في أربع مسائل:
الترجمة والنسب وما تحمل وهو بصير وإذا أقر في أذنه رجل فتعلق به حتى شهد عليه عند الحاكم انتهى. قلت: وبقي أشياء أخر:
لا يلي الإمامة العظمى ولا القضاء ولا تجب عليه الجمعة ولا الحج إلا إن وجد قائدا.
قال القاضي الحسين في الجمعة إن أحسن المشي بالعصا من غير قائد لزمته.
قال في الخادم وينبغي جريانه في الحج, بل أولى لعدم تكرره.
ولا تصح إجارته ولا رهنه ولا هبته ولا مساقاته ولا قبضه ما ورث, أو وهب له أو اشتراه سلما أو قبل العمى أو دينه.
نعم يصح أن يشتري نفسه أو يؤجرها ; لأنه لا يجهلها أو أن يشتري ما رآه قبل العمى ولم يتغير.
ويحرم صيده برمي أو كلب في الأصح.
ولا يجزئ عتقه في الكفارة.
ويكره ذبحه وكونه مؤذنا راتبا وحده والبصير أولى منه بغسل الميت.
ولا يكون محرما في المسافرة بقريبته ; ذكره العبادي في الزيادات.(16/400)
وهل له حضانة, قال ابن الرفعة: لم أر لأصحابنا فيه شيئا غير أن في كلام الإمام(16/401)
ص -251-…ما يؤخذ منه أن العمى مانع فإنه قال: إن حفظ الأم للولد الذي لا يستقل ليس مما يقبل القرائن فإن المولود في حركاته وسكناته لو لم يكن ملحوظا من مراقب لا يسهو ولا يغفل لأوشك أن يهلك. ومقتضى هذا أن العمى يمنع, فإن الملاحظة معه كما وصف لا تتأتى.
قال الأذرعي في القوت ورأيت في فتاوى ابن البزري أنه سئل عن حضانة العمياء فقال: لم أر فيها مسطورا, والذي أراه أنه يختلف باختلاف أحوالها فإن كانت ناهضة بحفظ الصغير وتدبيره والنهوض بمصلحته, وأن تقيه من الأسواء والمضار فلها الحضانة وإلا فلا وأفتى قاضي قضاة حماة, بأن العمى ليس بقادح في الحضانة بشرط أن يكون الحاضن قائما بمصالح المحضون, إما بنفسه أو بمن يستعين به.
وفي فتاوى عبد الملك بن إبراهيم المقدسي الهمداني شارح المفتاح من أقران ابن الصباغ أنه لا حضانة لها.
قال الأذرعي ولعله أشبه, وقد قلت قديما:
يخالف الأعمى غيره, في مسائل…فدونكها نظما, وأفرغ لها فكرا
إمامته العظمى, قضاء, شهادة…وعقد, وقبض منه, أبطلهما طرا
سوى السلم التوكيل, لا إنكاح عتقه…ولا يتحرى قط في القبلة الغرا
وكره أذان وحده, وذكاته…وأولى اصطياد منه, أو رميه حظرا
ولا جمعة, أو حج ; إذ ليس قائد…ولا عتقه يجزي, لفرض خلا النذرا
وليس له في نجله من حضانة…وفي غسل ميت غيره منه قل أحرى
ولا دية في عينه, بل حكومة…ولا يكف في الأسفار مع امرأة خدرا
فهذا الذي استثني وقد زاد بعضهم…أمورا على رأي ضعيف فطب ذكرا
وبقي مسائل فيها خلاف, والراجح أنه كالبصير.
منها: الإمامة في الصلاة فيها أوجه, قيل البصير أولى لأنه أشد تحفظا من النجاسات وقيل الأعمى لأنه أخشع والأصح أنهما سواء.(16/402)
ومنها: هل يجوز اعتماد صوت المؤذن العارف في الغيم والصحو, فيه أوجه أصحها الجواز للبصير والأعمى, وثالثها يجوز للأعمى دون البصير, ورابعها يجوز للأعمى مطلقا وللبصير في الصحو دون الغيم ; لأن فرض البصير الاجتهاد والمؤذن في الغيم مجتهد فلا يقلده من فرضه الاجتهاد, وصححه الرافعي.
ومنها: في صحة السلم منه: وجهان, الأصح: نعم. والثاني: إن عمي قبل تمييزه لم يصح.(16/403)
ص -252-…ومنها: في إجزاء عتقه, في النذر: القولان المشهوران. أصحهما: الإجزاء.
ومنها: هل يجوز أن يكون وصيا؟ وجهان. الأصح: نعم ; لأنه من أهل التصرف في الجملة, وما لا يصح منه يوكل فيه.
ومنها: في كونه وليا في النكاح وجهان. الأصح: يلي.
ومنها: في قتله إذا كان حربيا: قولان: الأظهر: يقتل, والثاني: يرق بنفس الأسر, كالنساء.
ومنها: في ضرب الجزية عليه طريقان. المذهب: الضرب.
ومنها: في كونه مترجما للقاضي: وجهان. أصحهما: الجواز ; لأن الحاكم يرى المترجم عنه, والأعمى يحكي كلاما يسمعه.
ومنها: في قبول روايته ما تحمله بعد العمى. وجهان. أصحهما: القبول إذا كان ذلك بخط موثوق به واختار الإمام, والغزالي المنع.
ومنها: في قبول شهادته بالاستفاضة, وجهان. الأصح: نعم, إذا كان المشهود به وله وعليه معروفين لا يحتاج واحد منهم إلى إشارة.
ومنها: هل يكافئ البصير؟ وجهان. الأصح: نعم.
ومنها: هل يصح أن يكاتب عبده؟ وجهان. الأصح: نعم, تغليبا لجانب العتق.
أما قبول الكتابة من سيده, فيصح جزما.
وأما مسائل اجتهاده.
فلا خلاف أنه يجتهد في أوقات الصلاة ; لأن مدركها الأوراد والأذكار, وشبهها وهو يشارك البصير في ذلك.
ولا خلاف: أنه لا يجتهد في القبلة ; لأن غالب أدلتها بصرية.
وفي الأواني قولان: أظهرهما, يجتهد ; لأنه يمكنه الوقوف على الأمارات, باللمس والشم, واعوجاج الإناء, واضطراب الغطاء, وغير ذلك. والثاني: لا ; لأن للنظر أثرا في حصول الظن بالمجتهد فيه, لكنه في الوقت مخير بين الاجتهاد والتقليد, وفي الأواني لا يجوز له التقليد.
والفرق: أن الاجتهاد في الأوقات, إنما يتأتى بأعمال مستغرقة للوقت, وفي ذلك مشقة ظاهرة, بخلافه في الأواني.
فإن تخير في الأواني: قلد ولا يقلد البصير إن تخير, بل يتيمم.
وأما اجتهاده في الثياب, ففيه القولان, في الأواني, كما ذكره في الكفاية.(16/404)
ص -253-…أما أوقات الصوم والفطر فقال العلائي: لم أظفر بها منقولة, فيحتمل أن يكون كأوقات الصلاة.
ويمكن الفرق بينهما, بما في مراعاة طلوع الفجر وغروب الشمس دائما من المشقة فالظاهر: جواز التقليد, فإن لم يجد من يقلده: خمن وأخذ بالأحوط.
قلت: هذا كلام غير منتهض ; لأنه يشعر بأنه ليس له التقليد في أوقات الصلاة, والمنقول خلافه, فإذن أوقات الصلاة والصوم سواء, في جواز الاجتهاد والتقليد وهو مقتضى عموم كلام الأصحاب, والله أعلم.
ومن مسائل الأعمى.
أنه يجوز له وطء زوجته اعتمادا على صوتها.
وفي جفنه: الدية ويقطع به جفن البصير.
القول في أحكام الكافر.
اختلف: هل الكفار مكلفون بفروع الشريعة على مذاهب. أصحها: نعم.
قال في البرهان: وهو ظاهر مذهب الشافعي فعلى هذا يكون مكلفا بفعل الواجب وترك الحرام, وبالاعتقاد في المندوب, والمكروه, والمباح.
والثاني: لا, واختاره أبو إسحاق الإسفراييني.
والثالث: مكلفون بالنواهي, دون الأوامر.
والرابع: مكلفون, بما عدا الجهاد, أما الجهاد: فلا, لامتناع قتالهم أنفسهم.
والخامس: المرتد مكلف دون الكافر الأصلي.
وقال النووي في شرح المهذب: اتفق أصحابنا على أن الكافر الأصلي, لا يجب عليه الصلاة, والزكاة, والحج, وغيرها من فروع الإسلام, والصحيح في كتب الأصول أنه مخاطب بالفروع, كما هو مخاطب بأصل الإيمان.
وليس مخالفا لما تقدم ; لأن المراد هنا غير المراد هناك, فالمراد هناك أنهم لا يطالبون بها في الدنيا, مع كفرهم وإذا أسلم أحدهم لم يلزمه قضاء الماضي ولم يتعرضوا لعقوبة الآخرة.
ومرادهم في كتب الأصول: أنهم يعذبون عليها في الآخرة زيادة على عذاب الكفر, فيعذبون عليها, وعلى الكفر جميعا, لا على الكفر وحده.
ولم يتعرضوا للمطالبة في الدنيا, فذكروا في الأصول حكم طرف وفي الفروع حكم الطرف الآخر.(16/405)
ص -254-…قال: وإذا فعل الكافر الأصلي قربة, يشترط النية لصحتها, كالصدقة, والضيافة والإعتاق, والقرض, وصلة الرحم, وأشباه ذلك فإن مات على كفره, فلا ثواب له عليها في الآخرة, لكن يطعم بها في الدنيا, ويوسع في رزقه, وعيشه, فإذا أسلم, فالصواب المختار أنه يثاب عليها في الآخرة للحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أسلم العبد, فحسن إسلامه كتب الله له كل حسنة كان أزلفها" أي قدمها.
وفي الصحيحين عن حكيم بن حزام قال: قلت: يا رسول الله: أرأيت أمورا كنت أتحنث بها في الجاهلية من صداقة, أو عتاقة, أو صلة رحم, أفيها أجر؟ فقال: "أسلمت على ما أسلفت من خير".
فهذان حديثان صحيحان لا يمنعهما عقل, ولم يرد الشرع بخلافهما فوجب العمل بهما وقد نقل الإجماع على ما ذكرته من إثبات ثوابه إذا أسلم.
وأما قول أصحابنا وغيرهم: لا تصح من كافر عبادة, ولو أسلم لم يعتد بها, فمرادهم لا يعتد بها في أحكام الدنيا, وليس فيه تعرض لثواب الآخرة.
فإن أطلق مطلق أنه لا يثاب عليها في الآخرة وصرح بذلك, فهو مجازف غالط, مخالف للسنة الصحيحة التي لا معارض لها.
وقد قال الشافعي, والأصحاب, وغيرهم من العلماء: إذا لزم الكافر كفارة ظهار أو قتل, أو غيرها, فكفر في حال كفره أجزأه, وإذا أسلم لا تلزمه إعادتها. ا هـ كلام شرح المهذب.
قاعدة: تجري على الذمي أحكام المسلمين.
إلا ما يستثنى من ذلك.
لا يؤمر بالعبادات ولا تصح منه ولا يمنع من المكث في المسجد جنبا بخلافه حائضا وليس له دخوله بلا إذن ويعزر إن فعله ولا يؤذن له لنوم أو أكل, بل لسماع قرآن أو علم ولا يصح نذره.
وللإمام استئجاره على الجهاد.
ولا يحد لشرب الخمر ولا تراق عليه, بل ترد إذا غصبت منه إلا أن يظهر شربها أو بيعها.
ولا يمنع من لبس الحرير والذهب ولا من تعظيم المسلم بحني الظهر عند الرافعي.
وينكح الأمة بلا شرط.(16/406)
ص -255-…ولا تلزمه إجابة من دعاه لوليمة.
ولو تناكحوا فاسدا أو تبايعوا فاسدا أو تقابضوا وأسلموا لم يتعرض لهم.
والأمة الكتابية لا تحل لمسلم ولو كان عبدا في المشهور.
ومما يجري عليه في أحكام المسلمين:
وجوب كفارة القتل والظهار واليمين والصيد في الحرم وحد الزنا والسرقة.
ضابط:
الإسلام يجب ما قبله في حقوق الله, دون ما تعلق به حق آدمي, كالقصاص وضمان المال.
ويستثنى من الأول صور:
منها: أجنب ثم أسلم, لا يسقط الغسل خلافا للإصطخري.
ومنها: لو جاوز الميقات مريدا للنسك, ثم أسلم وأحرم دونه وجب الدم خلافا للمزني.
ومنها: أسلم وعليه كفارة يمين أو ظهار أو قتل, لم يسقط في الأصح.
ولو زنى ثم أسلم, فعن نص الشافعي أن حد الزنا يسقط عنه بالإسلام.
فرع:
اختص اليهود والنصارى بالإقرار بالجزية, وحل المناكحة والذبائح, ودياتهم ثلث دية المسلمين. ويشاركهم المجوس في الأول فقط, ودياتهم ثلثا عشر دية المسلمين. ومن له أمان من وثني ونحوه, له الأخير فقط.
فرع:
لا توارث بين المسلم والكافر, وكذا العقل وولاية النكاح.
ويرث اليهودي النصراني, وعكسه إلا الحربي والذمي وعكسه.
وينبني على ذلك, العقل وولاية النكاح.
القول في أحكام الجان.
قل من تعرض لها من أصحابنا.
وقد ألف فيها من الحنفية القاضي بدر الدين الشبلي كتابه. آكام المرجان: في أحكام الجان.(16/407)
ص -256-…قال السبكي في فتاويه:
وقال ابن عبد البر: الجن عند الجماعة مكلفون مخاطبون.
وقال القاضي عبد الجبار: لا نعلم خلافا بين أهل النظر في ذلك, والقرآن ناطق بذلك في آيات كثيرة.
وهذه فروع:
الأول: هل يجوز للإنسي نكاح الجنية قال العماد بن يونس في شرح الوجيز: نعم وفي المسائل التي سأل الشيخ جمال الدين الأسنوي عنها قاضي القضاة شرف الدين البارزي إذا أراد أن يتزوج بامرأة من الجن عند فرض إمكانه - فهل يجوز ذلك أو يمتنع فإن الله تعالى قال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} فامتن الباري تعالى بأن جعل ذلك من جنس ما يؤلف.
فإن جوزنا ذلك - وهو المذكور في شرح الوجيز لابن يونس - فهل يجبرها على ملازمة المسكن أو لا؟ وهل له منعها من التشكل في غير صور الآدميين عند القدرة عليه, لأنه قد تحصل النفرة أو لا, وهل يعتمد عليها فيما يتعلق بشروط صحة النكاح من أمر وليها وخلوها عن الموانع أو لا, وهل يجوز قبول ذلك من قاضيهم أو لا, وهل إذا رآها في صورة غير التي ألفها وادعت أنها هي, فهل يعتمد عليها ويجوز له وطؤها أو لا, وهل يكلف الإتيان بما يألفونه من قوتهم, كالعظم وغيره إذا أمكن الاقتيات بغيره أو لا.
فأجاب: لا يجوز له أن يتزوج بامرأة من الجن, لمفهوم الآيتين الكريمتين, قوله تعالى في سورة النحل: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} وقوله في سورة الروم: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً}.(16/408)
قال المفسرون في معنى الآيتين: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} أي من جنسكم ونوعكم وعلى خلقكم, كما قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} أي من الآدميين ; ولأن اللاتي يحل نكاحهن: بنات العمومة وبنات الخؤولة, فدخل في ذلك من هي في نهاية البعد كما هو المفهوم من آية الأحزاب: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ} والمحرمات غيرهن, وهن الأصول والفروع, وفروع أول الأصول وأول الفروع من باقي الأصول, كما في آية التحريم في النساء, فهذا كله في النسب, وليس بين الآدميين والجن نسب.
هذا جواب البارزي.
فإن قلت: ما عندك من ذلك.
قلت: الذي أعتقده التحريم, لوجوه:
منها: ما تقدم من الآيتين.(16/409)
ص -257-…ومنها: ما روى حرب الكرماني في مسائله عن أحمد وإسحاق قالا: حدثنا محمد بن يحيى القطيعي حدثنا بشر بن عمر حدثنا ابن لهيعة عن يونس بن يزيد عن الزهري قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح الجن".
والحديث وإن كان مرسلا فقد اعتضد بأقوال العلماء.
فروي المنع منه عن الحسن البصري, وقتادة, والحكم بن عيينة وإسحاق بن راهويه, وعقبة الأصم. وقال الجمال السجستاني من الحنفية. في كتاب "منية المفتي عن الفتاوى السراجية" لا يجوز المناكحة بين الإنس والجن, وإنسان الماء لاختلاف الجنس.
ومنها: أن النكاح شرع للألفة, والسكون, والاستئناس, والمودة, وذلك مفقود في الجن, بل الموجود فيهم ضد ذلك, وهو العداوة التي لا تزول.
ومنها: أنه لم يرد الإذن من الشرع في ذلك, فإن الله تعالى قال: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} والنساء: اسم لإناث بني آدم خاصة, فبقي ما عداهن على التحريم ; لأن الأصل في الأبضاع الحرمة حتى يرد دليل على الحل.
ومنها: أنه قد منع من نكاح الحر للأمة ; لما يحصل للولد من الضرر بالإرقاق, ولا شك أن الضرر بكونه من جنية وفيه شائبة من الجن خلقا وخلقا, وله بهم اتصال ومخالطة أشد من ضرر الإرقاق الذي هو مرجو الزوال بكثير, فإذا منع من نكاح الأمة مع الاتحاد في الجنس للاختلاف في النوع, فلأن يمنع من نكاح ما ليس من الجنس من باب أولى.
وهذا تخريج قوي, لم أر من تنبه له.
ويقويه أيضا أنه نهى عن إنزاء الحمر على الخيل, وعلة ذلك: اختلاف الجنس وكون المتولد منها يخرج عن جنس الخيل, فيلزم منه قلتها, وفي حديث النهي: "إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون", فالمنع من ذلك فيما نحن فيه أولى. وإذا تقرر المنع, فالمنع من نكاح الجني الإنسية أولى وأحرى.(16/410)
لكن روى أبو عثمان سعيد بن العباس الرازي, في كتاب: الإلهام والوسوسة, فقال: حدثنا مقاتل, حدثني سعيد بن داود الزبيدي قال: كتب قوم من أهل اليمن إلى مالك يسألونه عن نكاح الجن, وقالوا: إن ههنا رجلا من الجن يخطب إلينا جارية يزعم أنه يريد الحلال, فقال: "ما أرى بذلك بأسا في الدين ولكن أكره إذا وجدت امرأة حامل, قيل لها: من زوجك؟ قالت: من الجن, فيكثر الفساد في الإسلام بذلك" انتهى.(16/411)
ص -258-…الفرع الثاني: لو وطئ الجني الإنسية, فهل يجب عليها الغسل لم يذكر ذلك أصحابنا.
وعن بعض الحنفية والحنابلة: أنه لا غسل عليها, لعدم تحقق الإيلاج, والإنزال, فهو كالمنام بغير إنزال.
قلت: وهو الجاري على قواعدنا.
الثالث: هل تنعقد الجماعة بالجن؟.
قال صاحب آكام المرجان: نعم. ونقله عن ابن الصيرفي الحنبلي. واستدل بحديث أحمد عن ابن مسعود في قصة الجن. وفيه فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي أدركه شخصان منهم فقالا: يا رسول الله إنا نحب أن تؤمنا في صلاتنا: قال: "فصففنا خلفه, ثم صلى بنا, ثم انصرف".
وروى سفيان الثوري في تفسيره عن إسماعيل البجلي عن سعيد بن جبير. قال: قالت الجن للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف لنا بمسجدك أن نشهد الصلاة معك, ونحن ناءون عنك؟ فنزلت: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً}.
قلت: ونظير ذلك ما في الحلبيات للسبكي: أن الجماعة تحصل بالملائكة, كما تحصل بالآدميين.
قال: وبعد أن قلت ذلك بحثا رأيته منقولا.
ففي فتاوى الحناطي من أصحابنا: فيمن صلى في فضاء من الأرض بأذان وإقامة, وكان منفردا, ثم حلف أنه صلى بالجماعة. هل يحنث أم لا؟.
قال: يكون بارا في يمينه, ولا كفارة عليه, لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أذن وأقام في فضاء من الأرض, وصلى وحده, صلت الملائكة خلفه صفوفا".
فإذا حلف على هذا المعنى, لا يحنث ا هـ.
قال السبكي: وينبني على ذلك أن من ترك الجماعة لعذر, وقلنا بأنها فرض عين هل نقول: يجب القضاء كمن صلى فاقد الطهورين, فإن كان كذلك, فصلاة الملائكة إن قلنا: بأنها كصلاة الآدميين, وأنها تصير بها جماعة, فقد يقال إنها تكفي لسقوط القضاء.
قلت: وعلى هذا يندب نية الجماعة للمصلي, أو الإمامة.(16/412)
الرابع: قال في آكام المرجان: نقل ابن الصيرفي عن شيخه أبي البقاء العكبري الحنبلي: أنه سئل عن الجني هل تصح الصلاة خلفه: فقال نعم لأنهم مكلفون والنبي صلى الله عليه وسلم مرسل إليهم.(16/413)
ص -259-…الخامس: إذا مر الجني بين يدي المصلي, فهل يقطع صلاته؟ فيه روايتان, عن أحمد.
قلت أما مذهبنا: فالصلاة لا يقطعها مرور شيء لكن يقاتل, كما يقاتل الإنس.
السادس: قال ابن تيمية: لا يجوز قتل الجني بغير حق, كما لا يجوز قتل الإنسي بغير حق والظلم محرم في كل حال.
فلا يحل لأحد أن يظلم أحدا, ولو كان كافرا, والجن يتصورون في صور شتى, فإذا كانت حيات البيوت قد تكون جنيا فيؤذن ثلاثا, كما في الحديث, فإن ذهبت فبها, وإلا قتلت, فإنها إن كانت حية أصلية قتلت, وإن كانت جنية, فقد أصرت على العدوان بظهورها للإنس في صورة حية تفزعهم بذلك, والعادي: هو الصائل الذي يجوز دفعه بما يدفع ضرره: ولو كان قتلا. ا هـ.
وقد روى ابن أبي الدنيا أن عائشة رأت في بيتها حية, فأمرت بقتلها, فقتلت, فأتيت في تلك الليلة, فقيل لها: إنها من النفر الذين استمعوا الوحي من النبي صلى الله عليه وسلم فأرسلت إلى اليمن, فابتيع لها أربعين رأسا, فأعتقتهم.
وروى ابن أبي شيبة في مصنفه, نحوه وفيه "فلما أصبحت أمرت باثني عشر ألف درهم, ففرقت على المساكين.
وكيفية الإيذان - كما في الحديث - "نسألك بعهد نوح, وسليمان بن داود: أن لا تؤذينا",
السابع: في رواية الجن للحديث: أورد فيه صاحب آكام المرجان آثارا مما رووه, فكأنه رأى بذلك قبول روايتهم.
والذي أقول: إن الكلام في مقامين: روايتهم عن الإنس, ورواية الإنس عنهم.
فأما الأول: فلا شك في جواز روايتهم عن الإنس ما سمعوه منهم, أو قرئ عليهم وهم يسمعون, سواء علم الإنسي بحضورهم أم لا, وكذا إذا أجاز الشيخ من حضر, أو سمع, دخلوا في إجازته, وإن لم يعلم به, كما في نظير ذلك من الإنس.
وأما رواية الإنس عنهم. فالظاهر: منعها, لعدم حصول الثقة بعدالتهم.
وقد ورد في الحديث: "يوشك أن تخرج شياطين كان أوثقها سليمان بن داود, فيقولون حدثنا وأخبرنا"(16/414)
وأما الآثار التي أوردها صاحب آكام المرجان, وهي: ما أخرجه الحافظ أبو نعيم حدثنا الحسن بن إسحاق بن إبراهيم. حدثنا أحمد بن عمرو بن جابر الرملي. حدثنا أحمد بن محمد بن طريف. حدثنا محمد بن كثير عن الأعمش, حدثني وهب بن جابر عن(16/415)
ص -260-…أبي بن كعب قال: خرج قوم يريدون مكة, فأضلوا الطريق, فلما عاينوا الموت, أو كادوا أن يموتوا, لبسوا أكفانهم, وتضجعوا للموت, فخرج عليهم جني يتخلل الشجر. وقال أنا بقية النفر الذين استمعوا على محمد صلى الله عليه وسلم سمعته يقول: "المؤمن أخو المؤمن ودليله لا يخذله" هذا الماء, وهذا الطريق.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثني أبي حدثنا عبد العزيز القرشي أخبرنا إسرائيل عن السدي عن مولى عبد الرحمن بن بشر قال: خرج قوم حجاجا في إمرة عثمان فأصابهم عطش, فانتهوا إلى ماء ملح, فقال بعضهم: لو تقدمتم فإنا نخاف أن يهلكنا هذا الماء فساروا حتى أمسوا, فلم يصيبوا ماء, فأدلجوا إلى شجرة سمر, فخرج عليهم رجل أسود شديد السواد جسيم, فقال: يا معشر الركب, إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحب للمسلمين ما يحب لنفسه, ويكره للمسلمين ما يكره لنفسه, فسيروا حتى تنتهوا إلى أكمة, فخذوا عن يسارها, فإن الماء ثم".
وقال أيضا: حدثني محمد بن الحسين حدثنا يوسف بن الحكم الرقي حدثنا فياض بن محمد أن عمر بن عبد العزيز بينا هو يسير على بغلة إذا هو بجان ميت على قارعة الطريق فنزل فأمر به, فعدل عن الطريق ثم حفر له, فدفنه وواراه, ثم مضى, فإذا هو بصوت عال, يسمعونه, ولا يرون أحدا: ليهنك البشارة من الله يا أمير المؤمنين, أنا وصاحبي هذا الذي دفنته من الجن الذين قال الله فيهم: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} فلما أسلمنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبي هذا: "ستموت في أرض غربة يدفنك فيه يومئذ خير أهل الأرض".
فالجواب عنها: أن رواتها ممن سمع من النبي صلى الله عليه وسلم فالظاهر أن لهم حكم الصحابة في عدم البحث عن عدالتهم.
وقد ذكر حفاظ الحديث, ممن صنف في الصحابة, مؤمني الجن فيهم.(16/416)
قال الحافظ أبو الفضل العراقي: وقد استشكل ابن الأثير ذكر مؤمني الجن في الصحابة دون من رآه من الملائكة, وهم أولى بالذكر.
قال: وليس كما زعم, لأن الجن من جملة المكلفين الذين شملتهم الرسالة والبعثة فكان ذكر من عرف اسمه, ممن رآه حسنا, بخلاف الملائكة. انتهى.
الثامن: لا يجوز الاستنجاء بزاد الجن. وهو العظم, كما ثبت في الحديث.
فوائد:
الأولى: الجمهور على أنه لم يكن من الجن نبي, وأما قوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ(16/417)
ص -261-…وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} فتأولوه على أنهم رسل عن الرسل, سمعوا كلامهم, فأنذروا قومهم, لا عن الله.
وذهب الضحاك, وابن حزم إلى أنه كان منهم أنبياء. واستدل بحديث: "وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة".
قال: وليس الجن من قومه, ولا شك أنهم قد أنذروا, فصح أنهم. جاءهم أنبياء منهم.
الثانية: لا خلاف في أن كفار الجن في النار.
واختلف: هل يدخل مؤمنهم الجنة, ويثابون على الطاعة؟ على أقوال, أحسنها: نعم, وينسب للجمهور.
ومن أدلته: قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} إلى آخر السورة, والخطاب للجن والإنس, فامتن عليهم بجزاء الجنة ووصفها لهم, وشوقهم إليها, فدل على أنهم ينالون ما امتن به عليهم إذا آمنوا.
وقيل: لا يدخلونها, وثوابهم النجاة من النار.
وقيل: يكونون في الأعراف.
الثالثة: ذهب الحارث المحاسبي إلى أن الجن الذين يدخلون الجنة يكونون يوم القيامة نراهم ولا يرونا, عكس ما كانوا عليه في الدنيا.
الرابعة: صرح ابن عبد السلام, بأن الملائكة في الجنة لا يرون الله تعالى.
قال: لأن الله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} وقد استثني منه مؤمنو البشر, فبقي على عمومه في الملائكة.
قال في آكام المرجان: ومقتضى هذا أن الجن لا يرونه ; لأن الآية باقية على العموم فيهم أيضا.
القول في أحكام المحارم.
قال الأصحاب: المحرم من حرم نكاحها على التأبيد, بنسب أو بسبب مباح لحرمتها فخرج بالأول: ولد العمومة, والخؤولة.
وبقولنا: على التأبيد. أخت الزوجة وعمتها, وخالتها.
وبقولنا: بسبب مباح. أم الموطوءة بشبهة, وبنتها, فإنها محرمة النكاح, وليست محرما ; إذ وطء الشبهة لا يوصف بالإباحة.
وبقولنا: لحرمتها. الملاعنة فإنها حرمت تغليظا عليه.
والأحكام التي للمحرم مطلقا, سواء كان من نسب أو رضاع, أو مصاهرة:(16/418)
ص -262-…تحريم النكاح وجواز النظر, والخلوة, والمسافرة, وعدم نقض الوضوء.
أما تحريم النكاح فلا يشاركه فيه على التأبيد إلا الملائكة, وسائر المحرمات, فليست على التأبيد.
فأخت الزوجة, وعمتها, وخالتها: تحل بمفارقتها.
والأمة: تحل إذا عتقت, أو أعسر.
والمجوسية: تحل إذا أسلمت.
والمطلقة ثلاثا: تحل إذا نكحت زوجا غيره.
وأما جواز النظر فهل يشاركه فيه العبد؟ وجهان صحح الرافعي منهما: الجواز ووافقه النووي في المنهاج.
وقال في الروضة من زوائده: فيه نظر.
وصحح في مجموع له على المهذب: التحريم. وبالغ فيه, وعبارته: هذه المسألة مما تعم بها البلوى. ويكثر الاحتياج إليها, والخلاف فيها مشهور.
والصحيح عند أكثر أصحابنا: أنه محرم لها, كما نص عليه الشافعي. ونقل عن جماعة تصحيحه. وقال الشيخ أبو حامد: الصحيح عند أصحابنا أن لا يكون محرما لها. لأن الحرمة إنما تثبت بين الشخصين لم تخلق بينهما شهوة, كالأخ, والأخت, وغيرهما.
وأما العبد, وسيدته: فشخصان خلقت بينهما الشهوة.
قال: وأما الآية, وهي قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} فقال أهل التفسير فيها: المراد بها: الإماء دون العبيد.
وأما الخبر: وهو ما رواه أبو داود والبيهقي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبد, وقد وهبه لها, وعلى فاطمة ثوب إذا قنعت به رأسها, لم يبلغ رجليها, وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما تلقى قال: "إنه ليس عليك بأس, إنما هو أبوك, وغلامك", فيحتمل أن يكون الغلام صغيرا.(16/419)
قال: وهذا الذي صححه الشيخ أبو حامد: هو الصواب, بل لا ينبغي أن يجري فيه خلاف بل يقطع بتحريمه, وكيف يفتح هذا الباب للنسوة الفاسقات؟ مع حسان المماليك, الذين الغالب من أحوالهم الفسق, بل العدالة فيهم في غاية القلة؟ وكيف يستجيز الإنسان الإفتاء بأن هذا المملوك يبيت ويقيل مع سيدته, مكررا ذلك, مع ما هما عليه من التقصير في الدين؟ وكل منصف يقطع بأن أصول الشريعة تستقبح هذا تحرمه أشد تحريم.(16/420)
ص -263-…ثم القول بأنه محرم: ليس له دليل ظاهر, فإن الصواب في الآية أنها في الإماء, والخبر محمول على أنه كان صغيرا. انتهى كلام النووي.
وقد اختار التحريم أيضا: السبكي في تكملة شرح المهذب. وفي الحلبيات.
وقال: إن تأويل الحديث على أنه كان صغيرا جدا, لا سيما والغلام في اللغة إنما يطلق على الصبي. وهي واقعة حال, ولم يعلم بلوغه, فلا حجة فيها للجواز. ولم يحصل مع ذلك خلوة, ولا معرفة ما حصل النظر إليه, وإنما فيه نفي البأس عن تلك الحالة التي علمت حقيقتها. ولم تجد فاطمة ما يحصل به كمال الستر الذي قصدته.
وغايته: التعليل باسم الغلام, وهو اسم للصبي, أو محتمل له, والاحتمال في وقائع الأحوال يسقط الاستدلال. انتهى.
واختاره أيضا الأذرعي وغيره من المتأخرين, وأفتيت به مرات. ولا أعتقد سواه. وأما الخلوة, والمسافرة فالعبد فيهما مبني على النظر إن شاركه المحرم فيه شاركه فيهما, وإلا فلا. ويشاركه الزوج فيهما لا محالة. بل يزيد في النظر, ويكتفى في سفر حج الفرض بنسوة ثقات, على ما سيأتي تحريره, في أحكام السفر.
وأما عدم نقض الوضوء فلا يشاركه فيه غيره.
ومن أحكام المحرم.
جواز إعارة الأمة, وإجارتها, ورهنها عنده, وإقراضها.
ومن اطلع إلى دار غيره, وبها محرم له, لم يجز رميه.
ويجوز أن يساكن الرجل مطلقته مع محرم له, أو لها, ولو عاشرها في عدة الرجعية كزوج مع وجود محرم: لم يمنع انقضاء العدة.
ويختص المحرم النسيب بأحكام.
منها: تغليظ الدية في قتله خطأ, فلا تغلظ في المحرم بالرضاع, والمصاهرة قطعا, ولا في القريب غير المحرم على الصحيح.
ومنها: يكره قتله في جهاد الكفار, وقتال البغاة, وللجلاد.
قال ابن النقيب: وأما غير القريب من المحارم فلم أر من ذكر المنع من قتله.
ومنها: غسل الميت, فيقدم في المرأة نساء المحارم على نساء الأجانب.
ويجوز لرجال المحارم التغسيل.
ويختص الأصول والفروع من بين سائر المحارم بأحكام:(16/421)
الأول: عدم الاجتماع في الملك:
فمن ملك أبوه, أو أمه, أو أحد أصوله من الأجداد والجدات. من جهة الأب(16/422)
ص -264-…أو الأم, أو أحد أولاده وأولادهم, وإن سفلوا, عتق عليه, سواء ملكه قهرا بالإرث, أم اختيارا بالشراء, أو غيره.
الثاني: جواز بيع المسلم منهم للكافر ; لأنه يستعقب العتق, فلا يبقى في الملك.
وفي وجه: لا يصح, لما فيه من ثبوت الملك.
الثالث: وجوب النفقة عند العجز, والفطرة.
الرابع: لا يقطع أحدهما بسرقة مال الآخر. لشبهة استحقاق النفقة.
الخامس: لا يعقل أحدهما عن الآخر ; لأن الأصل والفرع بعض الجاني, فكما لا يحتمل الجاني, لا يحتمل أبعاضه.
السادس: لا يحكم, ولا يشهد أحدهما للآخر.
السابع: يدخلون في الوصية للأقارب.
الثامن: تحريم موطوءة كل منهما, ومنكوحته على الآخر.
ويختص الأصول فقط بأحكام.
الأول: لا يقتلون بالفرع, ولا له. سواء الأب, والأم, والأجداد والجدات, وإن علوا من قبل الأب والأم.
وحكي في الأجداد والجدات قول شاذ, ولو حكم بالقتل حاكم نقض حكمه بخلاف ما لو حكم بقتل الحر بالعبد.
الثاني: لا يحدون بقذف الفرع, ولا له كالقتل.
الثالث: لا تقبل شهادة الفرع عليهم بما يوجب قتلا في وجه.
الرابع: لا يجوز المسافرة, إلا بإذنهم, إلا ما يستثنى. وسواء الكافر, والمسلم, والحر, والرقيق. الخامس: لا يجوز الجهاد إلا بإذنهم. بشرط الإسلام. وقيل, لا يشترط إذن الجد, مع وجود الأب. ولا الجدة, مع وجود الأم, والأصح خلافه.
السادس: لا يجوز التفريق بينهم بالبيع حتى يميز الفرع, وفي قول حتى يبلغ, فإن فعل لم يصح البيع, ومثله الهبة, والقسمة. وكذا الإقالة والرد بالعيب, كما صححه ابن الرفعة, والسبكي والأسنوي.
وليس في الروضة ترجيح في السفر, كما نقله ابن الرفعة, والأسنوي عن فتاوى الغزالي. وأقراه. بخلاف العتق, والوصية.
وإنما يعتبر الأب والجد للأم, عند فقد الأم, فلو فرق بينهما, وهو مع الأم.
جاز. وفي الأجداد والجدات للأب: أوجه.
يجوز بين الأجداد, لا الجدات.(16/423)
ص -265-…والمجنون, كالطفل في ذلك. قاله في الكفاية.
السابع: إذا دعاه أحد الأبوين, وهو في الصلاة, ففيه أوجه. حكاها في البحر.
أحدها: تجب الإجابة, ولا تبطل الصلاة.
وثانيها تجب ولكن تبطل وصححه الروياني.
وثالثها: لا تجب, وتبطل.
قال السبكي, في كتاب بر الوالدين: المختار: القطع بأنه لا يجب إن كانت الصلاة فرضا, سواء ضاق الوقت أم لا ; لأنها تلزم بالشروع, وإن كانت نفلا. وجبت الإجابة, إن علم تأذيهما بتركها. ولكن تبطل.
قال القاضي جلال الدين البلقيني: والظاهر: أن الأصول كلهم في هذا المعنى كالأبوين.
الثامن: للأبوين منع الولد من الإحرام بحج التطوع.
قال الجلال البلقيني: والظاهر: أنه يتعدى للأجداد والجدات أيضا.
التاسع: لهم تأديب الفرع وتعزيره, وهذا, وإن فرضه الشيخان في الأب, فقد قال الجلال البلقيني: يشبه أن تكون الأم - إذا كان الصبي في حضانتها كذلك, فقد صرحوا في الأمر بالصلاة, والضرب عليها: بأن الأمهات كالآباء في ذلك.
قلت: وكذا الأجداد والجدات.
العاشر: لهم الرجوع فيما وهبوه للفروع بشرطه.
والمذهب: أن الأب, والأم, والأجداد, والجدات, في ذلك سواء.
الحادي عشر: تبعية الفرع في الإسلام إذا كان صغيرا.
الثاني عشر: لا يحتسبون بدين الولد في وجه, جزم به في الحاوي الصغير.
الثالث عشر: يسن أن يهنأ كل من الأصول بالمولود, واختص الأصول الذكور بوجوب الإعفاف, سواء الأب والجد له والجد للأم.
واختص الأب والجد للأب بأحكام:
منها: ولاية المال. وقيل: تلي الأم أيضا.
وتولي طرفي العقد في البيع ونحوه.
وولاية الإجبار في النكاح: للبنت, والابن.
والصلاة في الجنازة, والعفو عن الصداق, على القديم.
والإحرام عن الطفل والمجنون. وقيل: يجوز للأم أيضا.
وقطع السلعة, واليد المتآكلة إذا كان الخطر في الترك أكثر.(16/424)
ص -266-…واعلم أن الجد في كل ذلك معتبر بفقد الأب, وقيل: له الإحرام مع وجوده. واختص الأب بأن فقده شرط في اليتم, ولا أثر لوجود الجد.
واختص الجد للأب بأنه يتولى طرفي العقد في تزويج بنت ابنه بابن ابنه الآخر. واختصت الأم بامتناع التفريق كما تقدم.
قاعدة:
كل موضع كان للأم فيه مدخل فالشقيق مقدم فيه قطعا, كالإرث, ومهر المثل.
وكل موضع لا مدخل لها فيه, ففي تقديمه خلاف. والأصح أيضا: تقديمه. كصلاة الجنازة, وولاية النكاح.
قاعدة أخرى:
لا يقدم أخ لأم, وابنه على الجد إلا في الوصية, أو الوقف لأقرب الأقارب. ولا أخ شقيق, أو لأب على الجد إلا في ذلك, وفي الولاء.
فائدة:
قال البلقيني: الجد أبو الأب ينقسم في تنزيله منزلة الأب, وعدم تنزيله منزلة الأب إلى أربعة أقسام: منها: ما هو كالأب, قطعا.
وذلك: في صلاة الجنازة بولاية النسب, وولاية المال, وولاية النكاح بالنسب, وأنه لا يجوز للأب أن يوصي على الأولاد, مع وجود أبي أبيه, كما لا يجوز أن يوصي عليهم, مع وجود أبيه, وفي الإجبار للبكر الصغيرة, والحضانة, والإعفاف, والإنفاق وعدم التحمل في العقل, والعتق بالملك, وعدم قبول الشهادة له, والعفو عن الصداق إن قلنا به.
وليس كالأب قطعا في أنه لا يرد الأم إلى ثلث ما يبقى في صورة: زوج, وأبوين, أو زوجة وأبوين, فلو كان بدل الأب جد أخذت الأم الثلث كاملا.
وأن الأب يسقط أم نفسه, ولا يسقطها الجد.
وكالأب على الأصح في أنه يجمع بين الفرض والتعصيب وأنه يجبر البكر البالغة وأن له الرجوع في هبته له, وأنه لا يقتل بقتله.
وليس على الأصح في أنه لا يسقط الإخوة والأخوات لأبوين أو لأب, بل يشاركهم ويقدم أخ المعتق العاصب على جده في الإرث والتزويج وصلاة الجنازة والوصية(16/425)
ص -267-…لأقرب الأقارب ويدخل في الوصية للأقارب ولا يحتاج إلى فقده في الوصية لليتامى, ولا في قسم الفيء والغنيمة.
فائدة:
قال في اللباب: يترتب على النسب اثنا عشر حكما:
توريث المال, والولاية وتحريم الوصية, وتحمل الدية, وولاية التزويج, وولاية غسل الميت, والصلاة عليه, وولاية المال, وولاية الحضانة, وطلب الحد, وسقوط القصاص, وتغليظ الدية.
القول في أحكام الولد.
قال الأصحاب: الولد يتبع أباه في النسب وأمه في الرق والحرية, وأشرفهما دينا وأخسهما نجاسة وأخلفهما زكاة وأغلظهما فدية.
ويقال أيضا أحكام الولد أقسام:
أحدها: ما يعتبر بالأبوين معا.
وذلك فيه فروع:
منها: حل الأكل, فلا بد فيه من كون أبويه مأكولين.
ومنها: ما يجزئ في الأضحية كذلك.
ومنها: ما يجزئ في جزاء الصيد.
ومنها: الزكاة, فلا تجب في المتولد بين النعم والظباء.
ومنها: استحقاق سهم الغنيمة, فلا يسهم للبغل المتولد بين الفرس والحمار.
ومنها: المناكحة والذبيحة, وفيهما قولان والأظهر الاعتبار بهما. والثاني: الاعتبار بالأب.
الثاني: يعتبر بالأب خاصة.
وذلك: النسب وتوابعه من استحقاق سهم ذوي القربى والكفارة ومهر المثل والولاء فإنه يكون لموالي الأب.
وقدر الجزية: إذا كان لأبيه جزية, وأمه من قوم لهم جزية أخرى, فالمعتبر: جزية أبيه.
الثالث: ما يعتبر بالأم خاصة وذلك الحرية والرق, ويستثنى من الرق صور:(16/426)
ص -268-…منها إذا كانت مملوكة للواطئ أو لابنه فإن الولد ينعقد حرا.
ومنها: أن يظنها حرة, إما بأن يغتر بحريتها في تزويجها أو يطأها بشبهة ظانا أنها أمته أو زوجته الحرة, ولو كان الواطئ رقيقا, وحينئذ فهذا حر تولد بين رقيقين.
ومنها: إذا نكح مسلم حربية ثم غلب المسلمون على ديارهم واسترقت بالأسر بعد ما حملت منه, فإن ولدها لا يتبعها في الرق لأنه مسلم في الحكم.
الرابع: ما يعتبر بأحدهما غير معين.
وذلك في الدين وضرب الجزية والنجاسة وتحريم الأكل, والأكثر في قدر الغرة تغليبا لجانب التغليظ في الضمان والتحريم, وفي وجه أن الجنين يعتبر بالأقل, وفي آخر بالأب. وأما في الدية فقال المتولي: إنه كالمناكحة والذبح, ومقتضاه اعتبار الأخس وجزم في الانتصار باعتبار الأغلظ, كما يجب الجزاء في المتولد من مأكول وغيره, ونقله في الحاوي عن النص.
وقد قلت قديما:
يتبع الابن في انتساب أباه…ولأم في الرق والحرية
والزكاة الأخف والدين الأعلى…والذي اشتد في جزاء وديه
وأخس الأصلين رجسا وذبحا…ونكاحا والأكل والأضحيه.
ما يتعدى حكمه إلى الولد الحادث وما لا يتعدى.
فيه فروع:
الأول: إذا أتت المستولدة بولد من نكاح أو زنا, تعدى حكمها إليه قطعا فيعتق بموت السيد.
الثاني: نذر أضحية, فأتت بعد ذلك بولد فحكمه مثلها قطعا.
الثالث: ولد المغصوبة مضمون مثلها قطعا.
الرابع: عين شاة عما في ذمته بالنذر فأتت بولد, تبعها في الأصح كولد المعينة ابتداء وفي وجه: لا, وفي وجه آخر: إن ذبحت لزم ذبحه معها, وإن ماتت فلا.
الخامس: ولد المشتراة قبل القبض للمشتري على الصحيح, وهو في يد البائع أمانة. فلو مات دون الأم, فلا خيار للمشتري لأن العقد لم يرد عليه.
السادس: ولد الأمة المنذور عتقها إذا حدث بعد النذر, فيه طريقان الأصح القطع بالتبعية, والثاني فيه الخلاف في المدبرة.
السابع: ولد المدبرة من نكاح أو زنا, فيه قولان: أظهرهما يسري حكمها إليه حتى(16/427)
ص -269-…لو ماتت قبل السيد أو فرق بينهما حيث يجوز, أو رجع عنه إن جوزناه لم يبطل فيه, أو لم يف الثلث إلا بأحدهما, أقرع في الأصح.
والثاني: يوزع العتق عليهما لئلا تخرج القرعة على الولد فيعتق ويرق الأصل. الثامن: ولد المكاتبة الحادث بعد الكتابة من أجنبي, فيه القولان, والأظهر التبعية فيعتق بعتقها ما دامت الكتابة باقية, ثم حق الملك فيه للسيد كولد المستولدة, وقيل: للأم, لأنه مكاتب عليها.
التاسع: ولد المعلق عتقها بصفة, هل يتبعها؟ فيه القولان في المدبرة لكن المنع هنا: أظهر, وصححه النووي, والفرق: أن التدبير يشابه الاستيلاد في العتق بالموت.
العاشر: إذا قال لأمته: أنت حرة بعد موتي بسنة, فأتت بولد قبل موت السيد, ففيه القولان في المدبرة أو بعده فطريقان:
أحدهما القطع بالتبعية ; لأن سبب العتق تأكد.
والثاني: أنه على القولين.
الحادي عشر: ولد الموصى بها, فيه طريقان أصحهما القطع بعدم التبعية.
الثاني عشر: ولد العارية, والمأخوذة بالسوم, فيه وجهان أصحهما أنه غير مضمون.
الثالث عشر: ولد الوديعة الحادث في يد المودع, فيه وجهان:
أحدهما: أنه وديعة كالأم.
والثاني أمانة, كالثوب تلقيه الريح, يجب رده في الحال حتى لو لم يرده كان ضامنا له.
الرابع عشر: ولد الموقوفة يملكه الموقوف عليه كالدور والثمر ونحوها. سواء البهيمة والجارية على الأصح وقيل إنه وقف تبعا لأمه كالأضحية.
الخامس عشر: ولد المرهونة الحادث بعد الرهن, ليس برهن في الأظهر فإن الفصل قبل البيع لم يتبعها اتفاقا.
فائدة:
قال ابن الوكيل: قد يظن أن الولد لا يلحق إلا بستة أشهر وهو خطأ, فإن الولد يلحق لدون ذلك فيما إذا جني على حامل, فألقت جنينا لدون ستة أشهر فإنه يلحق أبويه وتكون العبرة بهما وكذا لو أجهضته بغير جناية كان مؤنة تجهيزه وتكفينه على أبيه وإنما يتقيد بالستة الأشهر, الولد الكامل دون الناقص.(16/428)
ص -270-…تنبيه:
اختلف كلام الأصحاب في مسائل الحمل, هل يعتبر فيه الانفصال التام أو لا, فاعتبروا الانفصال التام في انقضاء العدة ووقوع الطلاق المعلق بالولادة والإرث, واستحقاق الوصية, والدية.
فلو خرج نصفه فضربها ضارب ثم انفصل ميتا, فالواجب الغرة دون الدية, فلو كانت الصورة بحالها وصاح, فحز رجل رقبته, ففيه القصاص أو الدية على الأصح.
ولا يعتبر في وجوب الغرة أيضا: الانفصال التام على الأصح.
القول في أحكام تغييب الحشفة.
يترتب عليها مائة وخمسون حكما:(16/429)
وجوب الغسل والوضوء, وتحريم الصلاة والسجود والخطبة, والطواف وقراءة القرآن, وحمل المصحف ومسه, وكتابته على وجه والمكث في المسجد, وكراهة الأكل والشرب والنوم والجماع, حتى يغسل فرجه ويتوضأ, ووجوب نزع الخف والكفارة وجوبا أو ندبا في أول الحيض بدينار وآخره بنصفه وفساد الصوم ووجوب قضائه, والتعزير والكفارة. وعدم انعقاده إذا طلع الفجر حينئذ وقطع التتابع المشروط فيه, وفي الاعتكاف, وفساد الاعتكاف, والحج, والعمرة, ووجوب المضي في فاسدهما, وقضائهما والبدنة فيهما, والشاة بتكرره أو وقوعه بعد التحلل الأول, أو بعد فوته, وحجه بامرأته التي وطئها في الحج والعمرة والنفقة عليها ذهابا وإيابا, والتفريق بينهما على قول وعدم انعقادهما إذا أحرم حالة الإيلاج, وقطع خيار البائع والمشتري في المجلس والشرط أو سقوط الرد إذا فعله بعد ظهور العيب أو قبله وكانت بكرا. وكونه رجوعا عند الفلس أو في هبة الفرع أو الوصية في وجه في الثلاث, ووجوب مهر المثل للمكرهة حرة أو مرهونة أو مغصوبة أو مشتراة من الغاصب أو شراء فاسدا أو مكاتبة, وللموطوءة بشبهة أو في نكاح فاسد أو عدة التخلف أو الرجعة, ولحوق الولد بالسيد وسقوط الاختيار والولاية, فلا يتزوج حتى يبلغ, ويحرم التعريض بالخطبة لمن طلقت بعده لا بائنا وبيع العبد فيه إذا نكح بغير إذن سيده, أو بإذنه نكاحا فاسدا, على قول وتحريم الربيبة. وتحريم الموطوءة إذا كانت بشبهة أو أمة على آبائه وأبنائه, وأصولها وفروعها عليه, وتحريم أمته عليه إذا كان الواطئ أصلا, وحلها للزوج الأول ولسيدها الذي طلقها ثلاثا قبل الملك وتحريم وطء أختها أو عمتها أو خالتها إذا كانت أمة, وكونه اختيارا ممن أسلم على أكثر من أربع في قول, ومنع اختيار الأمة فيما إذا أسلم على حرة وطئها وأمة فتأخرت وأسلمت(16/430)
ص -271-…الأمة ومنع نكاح أختها إذا أسلم على مجوسية تخلفت حتى تنقضي العدة. وكذا أربع سواها ومنع تنجيز الفرقة فيمن تخلفت عن الإسلام أو ارتدت أو ارتدا معا أو متعاقبا وزوال العنة وإبطال خيار العتيقة, أو زوجة المعيب أو زوج المعيبة حيث فعل مع العلم وزوال العنت, وثبوت المسمى, ووجوب مهر المثل للمفوضة ومنع الفسخ إذا أعسر بالصداق بعده, ومنع الحبس بعده حتى تقبض الصداق وعدم عفو الولي بعده إن قلنا له العفو, وسقوط المتعة في قول ووقوع الطلاق المعلق به, وثبوت السنة والبدعة فيه وكونه تعيينا للمبهم طلاقها على وجه. وثبوت الرجعة والفيئة من الإيلاء ووجوب كفارة اليمين حينئذ ومصير كفارة المظاهر قضاء, ووجوب كفارة الظهار المؤقت في المدة واللعان وسقوط حصانة الفاعل والمفعول به بشرطه, ووجوب العدة بأقسامها, وكون الأمة به فراشا, ومنع تزويجها قبل الاستبراء وتحريم لبن شاربه ووجوب النفقة والسكنى للمطلقة بعده, والحد بأنواعه: في الزنا واللواط وقتل البهيمة في قول, ووجوب ثمنها عليه حينئذ ووجوب التعزير إن كان في ميتة, أو مشتركة أو موصى بمنفعتها أو محرم مملوكة أو بهيمة أو دبر زوجة بعد أن نهاه الحاكم, وثبوت الإحصان وعدم قطع نكاح الأسيرة بعده على وجه, وانتقاض عهد الذمي إن فعله بمسلمة بشرطه, وإبطال الإمامة العظمى على وجه والعزل عن القضاء والولاية والوصية والأمانة, ورد الشهادة, وحصول التسري به مع النية على وجه, ووقوع العتق المعلق بالوطء.
قواعد عشرة:
الأولى: قال البغوي في فتاويه: حكم الذكر الأشل حكم الصحيح إلا أنه لا يثبت النسب ولا الإحصان ولا التحليل, ولا يوجب مهرا ولا عدة ولا تحريم بالمصاهرة, ولا يبطل الإحرام.
قال: وهكذا القول في الذكر المبان.
الثانية: لا فرق في الإيلاج بين أن يكون بخرقة أو لا, إلا في نقض الوضوء.(16/431)
الثالثة: ما ثبت للحشفة من الأحكام ثابت لمقطوعها إن بقي منه قدرها. ولا يشترط تغييب الباقي في الأصح, وإن لم يبق قدرها لم يتعلق به شيء من الأحكام, إلا فطر الصائمة في الأصح.
الرابعة: قال في الروضة: الواطئ في الدبر كهو في القبل, إلا في سبعة مواضع:
التحصين والتحليل والخروج من الفيئة ومن العنة, ولا يغير إذن البكر على الصحيح وإذا وطئت الكبيرة في فرجها وقضت وطرها واغتسلت ثم خرج منها المني, وجب إعادة الغسل في الأصح, وإن كان ذلك في دبرها لم يعد ولا يحل بحال.
والقبل: يحل في الزوجة والأمة.(16/432)
ص -272-…واستدرك عليه صور:
منها: لو وطئ بهيمة في دبرها لا يقتل إن قلنا تقتل في القبل.
ومنها: وطئ أمته في دبرها فأتت بولد, لا يلحق السيد في الأصح, كذا في الروضة وأصلها في باب الاستبراء, وخالفاه في باب النكاح والطلاق فصححا اللحوق.
ومنها: وطئ زوجته في دبرها فأتت بولد, فله نفيه باللعان.
ومنها: وطئ البائع في زمن الخيار, فسخ على الصحيح, لا في الدبر على الأصح.
ومنها: أن المفعول به يجلد مطلقا وإن كان محصنا.
ومنها: أن الفاعل يصير به جنبا لا محدثا بخلاف فرج المرأة.
ومنها: لا كفارة على المفعول به في الصوم بلا خلاف, رجلا كان أو امرأة, وفي القبل الخلاف المشهور.
ومنها: قال البلقيني تخريجا: وطء الأمة في دبرها عيب يرد به, ويمنعه من الرد القهري بالقديم.
ومنها: على رأي ضعيف - أن الطلاق في طهر وطئها في الدبر لا يكون بدعيا. وأن المفعول به لا تسقط حصانته ولا يوجب العدة ولا المصاهرة, والأصح في الأربعة: أنه كالقبل.
الخامسة: قال ابن عبدان, الأحكام الموجبة للوطء في النكاح الفاسد سبعة:
مهر المثل ولحوق الولد وسقوط الحد, وتحريم الأصول والفروع وتحريمها عليهم, وتصير فراشا, ويملك به اللعان.
وفي ملك اليمين سبعة:
تحريمها على أصوله وفروعه, وتحريم أصولها وفروعها, ووجوب الاستبراء وتصير فراشا, وتحريم ضم أختها إليها.
السادسة: كل حكم تعلق بالوطء لا يعتبر فيه الإنزال إلا في مسألة واحدة وهي:
ما لو حلف لا يتسرى, لا يحنث إلا بتحصين الجارية والوطء والإنزال.
السابعة: قال الأصحاب لا يخلو الوطء في غير ملك اليمين عن مهر, أو عقوبة إلا في صور:
الأولى: في الذمية إذا نكحت في الشرك على التفويض, وكانوا يرون سقوط المهر عند المسيس.
الثانية: إذا زوج أمته بعبده.
الثالثة: إذا وطئ البائع الجارية المبيعة قبل الإقباض.
الرابعة: السفيه إذا تزوج رشيدة بغير إذن الولي ووطئ.(16/433)
ص -273-…الخامسة: المريض إذا عتق أمته وتزوجها ووطئ ومات, وهي ثلث ماله وخيرت فاختارت بقاء النكاح. السادسة: أذن الراهن للمرتهن في الوطء, فوطئ ظانا للحل.
السابعة: وطئت المرتدة والحربية بشبهة.
الثامنة: العبد إذا وطئ سيدته بشبهة.
التاسعة: بحثها الرافعي فيما لو أصدق الحربي امرأته مسلما استرقوه, وأقبضها. ثم أسلما وانتزع من يدها أنه لا يجب مهر كما لو أصدقها خمرا وأقبضها, ثم أسلما.
العاشرة: الموقوف عليه إذا وطئ الموقوفة.
القاعدة الثامنة:
قال العلائي: الذي يحرم على الرجل وطء زوجته مع بقاء النكاح,الحيض والنفاس والصوم الواجب والصلاة لضيق وقتها والاعتكاف والإحرام والإيلاء والظهار قبل التكفير وعدة الشبهة وإذا أفضاها حتى تبرأ وعدم احتمالها الوطء لصغر أو مرض أو عبالته والطلاق الرجعي والحبس قبل توفية الصداق ونوبة غيرها في القسم.
قلت: ومن غرائب مايلحق بذلك ماذكره الشيخ ولي الدين في نكته أن في كلام الإمام مايقتضي منع الزوج من وطء زوجته التي وجب عليها القصاص وليس بها حمل ظاهر لئلا يحدث منه حمل يمنع من استيفاء ماوجب عليها.
ويقرب من ذلك:من مات ولد زوجته من غيره يكره له الوطء حتى يعلم هل كانت عند موته حاملا ليرث منه أم لا؟.
فائدة:
قال الإمام: الجماع مع دواعيه أقسام:
الأول: ما يحرم فيه دون دواعيه. وهو: الحيض, والنفاس, والمستبرأة, والمسببة.
الثاني: ما يحرم فيه, ولا يحرم دواعيه, بشرط أن لا يحرك الشهوة, وهو الصوم.
الثالث: ما يحرم فيه, وفي دواعيه قولان. وهو: الاعتكاف.
الرابع: ما يحرمان فيه كالحج, والعمرة والمستبرأة, والرجعية.
القاعدة التاسعة:
إذا اختلف الزوجان في الوطء, فالقول قول نافيه. عملا بأصل العدم إلا في مسائل:
الأولى: إذا ادعى العنين الإصابة, فالقول قوله بيمينه سواء كان قبل المدة, أو بعدها, ولو كان خصيا ومقطوع بعض الذكر, على الصحيح.
الثانية: المولى إذا ادعى الوطء يصدق بيمينه, لاستدامة النكاح.(16/434)
ص -274-…الثالثة: إذا قالت: طلقتني بعد الدخول فلي المهر, وأنكر فالقول قوله للأصل, وعليها العدة مؤاخذة بقولها ولا نفقة لها ولا سكنى, وله نكاح بنتها وأربع سواها في الحال, فإذا أتت بولد لزمن محتمل, ولم يلاعن, ثبت النسب وقوي به جانبها فيرجع إلى تصديقها بيمينها ويطالب الزوج بالنصف الثاني, فإن لاعن زال المرجح, وعدنا إلى تصديقه كما كان.
الرابعة: إذا تزوجها بشرط البكارة فقالت زالت بوطئك. فالقول قولها بيمينها لدفع الفسخ. وقوله: بيمينه لدفع كمال المهر حكاه الرافعي عن البغوي وأقره.
الخامسة: إذا ادعت المطلقة ثلاثا أن الزوج الثاني أصابها قبلت لتحل للمطلق لا لاستقرار المهر. ذكره الرافعي في التحليل.
السادسة: إذا قال لطاهرة: أنت طالق للسنة, ثم قال: لم يقع, لأني جامعتك فيه فأنكرت. قال إسماعيل البوشنجي: مقتضى المذهب قبول قوله ; لبقاء النكاح, حكاه عنه الرافعي.
وأجاب بمثله القاضي حسين في فتاويه فيما إذا قال إن لم أنفق عليك اليوم فأنت طالق, ثم ادعى الإنفاق فيقبل ; لعدم الطلاق, لا لسقوط النفقة.
لكن في فتاوى ابن الصلاح: أن الظاهر الوقوع في هذه المسألة.
السابعة: إذا جرت خلوة بثيب, فإنها تصدق على قول. ولكن الأظهر خلافه.
الثامنة: - وهي على رأي ضعيف أيضا - إذا عتقت تحت عبد, وقلنا: يثبت الخيار إلى الوطء فادعاه وأنكرت, ففي المصدق وجهان في الشرح, بلا ترجيح لتعارض الأصلين بقاء النكاح وعدم الوطء. وقد نظمت الصور الستة التي على المرجح في أبيات فقلت:
يا طالبا ما فيه قولا مثبت وطء…نقبله ونافيه لا يئول مقالا
من أنكر وطئا حليلها, وأتته…بابن ولعانا أبى وقال محالا
أو طلق في الطهر سنة ونفاه…إذ قال: بوطء ومن يعن وآلى
أو زوج بكرا بشرطها فأزيلت…قالت: هو منه, وعند زوجي زالا
أو زوجت البت وادعته بوطء…صارت وإن الزوج قد نفاه حلالا
هذاك جوابي بحسب مبلغ علمي…والله له العلم ذو الجلال تعالى.
القاعدة العاشرة:(16/435)
لا يقوم الوطء مقام اللفظ, إلا مسألة واحدة.
وهي: الوطء في زمن الخيار, فإنه فسخ من البائع. وإجازة من المشتري.
وأما وطء الموصى بها, فإن اتصل به إحبال فرجوع, وإلا فلا في الأصح, فإن عزل, فلا, قطعا.(16/436)
ص -275-…القول في العقود:
قال الدارمي في جامع الجوامع, ومن خطه نقلت: إذا كان المبيع غير الذهب والفضة بواحد منهما, فالنقد ثمن, وغيره مثمن. ويسمى هذا العقد بيعا.
وإذا كان غير نقد سمي هذا العقد معاوضة, ومقايضة, ومناقلة. ومبادلة.
وإن كان نقدا سمي صرفا, ومصارفة.
وإن كان الثمن مؤخرا, سمي نسيئة.
وإن كان المثمن مؤخرا سمي سلما, أو سلفا.
وإن كان المبيع منفعة: سمي إجارة.
أو رقبة العبد له, سمي كتابة.
أو بضعا, سمي صداقا, أو خلعا انتهى.
قلت: ويزاد عليه: إن كان كل منهما دينا, سمي حوالة.
أو المبيع دينا, والثمن عينا ممن هو عليه سمي استبدالا.
وإن كان يمثل الثمن الأول لغير البائع الأول سمي تولية.
أو بزيادة, سمي مرابحة, أو نقص. سمي محاطة.
أو إدخالا في بعض المبيع, سمي إشراكا.
أو بمثل الثمن الأول للبائع الأول, سمي إقالة.
تقسيم ثان: العقود الواقعة بين اثنين, على أقسام:
الأول: لازم من الطرفين قطعا كالبيع, والصرف, والسلم, والتولية, والتشريك وصلح المعاوضة, والحوالة, والإجارة, والمساقاة, والهبة للأجنبي بعد القبض, والصداق وعوض الخلع.
الثاني: جائز من الطرفين قطعا كالشركة والوكالة, والقراض, والوصية, والعارية الوديعة والقرض, والجعالة قبل الفراغ, والقضاء, والوصايا, وسائر الولايات غير الإمامة.
الثالث: ما فيه خلاف: والأصح أنه لازم منهما وهو: المسابقة, والمناضلة, بناء على أنها كالإجارة, ومقابله يقول: إنها كالجعالة, والنكاح لازم من المرأة قطعا ومن الزوج على الأصح كالبيع, وقيل: جائز منه لقدرته على الطلاق.
الرابع: ما هو جائز ويئول إلى اللزوم وهو الهبة, والرهن قبل القبض, والوصية قبل الموت.(16/437)
ص -276-…الخامس: ما هو لازم من الموجب, جائز من القابل: كالرهن, والكتابة, والضمان والكفالة, وعقد الأمان, والإمامة العظمى.
السادس: عكسه, كالهبة للأولاد.
تنبيه:
صرح العلائي, في قواعده, بأن من الحائز من الجانبين ولاية القضاء, والتولية على الأوقاف, وغير ذلك من جهة الحكام.
هذه عبارته, فأما القضاء: فواضح, فلكل من المولي والمولى: العزل.
وأما الولاية على الأيتام, فظاهر ما ذكره: أن الحاكم إذا نصب قيما على يتيم فله عزله وكذا لمن يلي بعده من الحكام, وهو ظاهر, فإنه نائب الحاكم في أمر خاص, وللحاكم عزل نائبه, وإن لم يفسق. وقد كنت أجبت بذلك مرة في أيام شيخنا, قاضي القضاة, شيخ الإسلام شرف الدين المناوي, فاستفتى, فأفتى بخلافه, وأنه ليس للحاكم عزله, ولم يتضح لي ذلك إلى الآن, وكأنه رأى واقعة الحال تقتضي ذلك, فإن الحاكم الذي أراد عزل القيم, إنما كان غرضه أخذ مال اليتيم منه يستعين به فيما غرمه على الولاية لجهة السلطنة.
ولا ينافي هذا ما في الروضة كأصلها من أن المذهب الذي قطع به الأصحاب أن القوام على الأيتام والأوقاف لا ينعزلون بموت القاضي وانعزاله, لئلا تتعطل أبواب المصالح وهم كالمتولي من جهة الواقف لأن هذا في الانعزال بلا عزل.
وأما التولية على الأوقاف فقد ذكر الأصحاب أن للواقف "على الصحيح" عزل من ولاه النظر, أو التدريس, ونصب غيره.
قال الرافعي: ويشبه أن تكون المسألة مفروضة في التولية بعد تمام الوقف, دون ما إذا أوقف بشرط التولية لفلان, لأن في فتاوى البغوي أنه لو وقف مدرسة, ثم قال لعالم فوضت إليك تدريسها, أو اذهب ودرس فيها, كان له تبديله بغيره.
ولو وقف بشرط أن يكون هو مدرسها, أو قال حال الوقف, فوضت تدريسها إلى فلان فهو لازم لا يجوز تبديله كما لو وقف على أولاده الفقراء لا يجوز التبديل بالأغنياء.(16/438)
قال الرافعي: وهذا حسن في صيغة الشرط, وغير متضح في قوله: وقفتها, وفوضت التدريس إليه. زاد النووي في الروضة: هذا الذي استحسنه الرافعي: هو الأصح أو الصحيح.(16/439)
ص -277-…ويتعين أن يكون صورة المسألة. كما ذكروا, ومن أطلقها, فكلامه محمول على هذا التأويل.
وفي فتاوى ابن الصلاح: ليس للواقف تبديل من شرط له النظر حال إنشاء الوقف إن رأى المصلحة في تبديله.
ولو عزل الناظر المعين حال إنشاء الوقف نفسه, فليس للواقف نصب غيره, فإنه لا نظر له بعد أن جعل النظر في حال الوقف لغيره, بل ينصب الحاكم ناظرا انتهى.
واختار السبكي في هذه الصورة "أعني إذا عزل الناظر المعين نفسه" أنه لا ينعزل, وضم إلى ذلك المدرس الذي شرط تدريسه في الوقف, أنه لا ينعزل بعزل نفسه: وألف في ذلك مؤلفا, فعلى هذا يكون لازما من الجانبين, فيضم إلى القسم الأول.
وقيل: إن منشأ الخلاف فيه أنه تردد بين أصلين:
أحدهما: الوكالة ; لأنه تفويض, فينعزل.
والثاني: ولاية النكاح ; لأنه شرط في الأصل, فلا ينعزل.
وفي الروضة وأصلها, عن فتاوى البغوي وأقره: أن القيم الذي نصبه الواقف لا يبدل بعد موته, تنزيلا له منزلة الوصي, فيكون هذا من القسم الرابع.
وكأن هذا الفرع مستند ما أفتى به شيخنا فيما تقدم, لكن الفرق واضح, لأن الحاكم ليس له عزل الأوصياء بلا سبب, بخلاف القوام ; لأنهم نوابه.
وفي الروضة قبيل الغنيمة, عن الماوردي, وأقره: أنه إذا أراد ولي الأمر إسقاط بعض الأجناد المثبتين في الديوان بسبب جاز, أو بغير سبب فلا يجوز.
قال المتأخرون: فيقيد بهذا ما أطلقناه في الوقف: من جواز عزل الناظر والمدرس فلا يجوز إلا بسبب. نعم أفتى جمع من المتأخرين: منهم العز الفاروني, والصدر بن الوكيل والبرهان ابن الفركاح, والبلقيني, بأنه حيث جعلنا للناظر العزل, لم يلزمه بيان مستنده.
ووافقهم الشيخ شهاب الدين المقدسي, لكن قيده بما إذا كان الناظر موثوقا بعلمه ودينه.
وقال في التوشيح: لا حاصل لهذا القيد, فإنه إن لم يكن كذلك لم يكن ناظرا, وإن أراد علما ودينا زائدين على ما يحتاج إليه الناظر فلا يصح.(16/440)
ثم قال: في أصل الفتيا نظر من جهة أن الناظر ليس كالقاضي العام الولاية, فلم لا يطالب بالمستند. وقد صرح شريح في أدب القضاء: بأن متولي الوقف إذا ادعى صرفه على المستحقين(16/441)
ص -278-…وهم معينون وأنكروا, فالقول قولهم ولهم المطالبة بالحساب.
وقال الشيخ ولي الدين العراقي في نكته: الحق تقييد المقدسي وله حاصل, فليس كل ناظر يقبل قوله في عزل المستحقين من وظائفهم من غير إبداء مستند في ذلك إذا نازعه المستحق, فإن عدالته ليست قطعية فيجوز أن يقع له الخلل, وعلمه قد يحتمل أيضا بظن ما ليس بقادح قادحا, بخلاف من تمكن في العلم والدين وكان فيه قدر زائد على ما يكفي في مطلق النظار: من تمييز بين ما يقدح وما لا يقدح, ومن ورع وتقوى يحولان بينه وبين متابعة الهوى.
وقد قال البلقيني في حاشية الروضة, مع فتواه بما تقدم: إن عزل الناظر للمدرس وغيره تهورا من غير طريق تسوغ: لا ينفذ. ويكون قادحا في نظره.
فيحمل كل من جوابيه على حالة انتهى.
هذا حكم ولايات الوقف.
وأما أصل الوقف, فإنه لازم من الواقف, ومن الموقوف عليه أيضا, إذا قبل. حيث شرطنا القبول, فلو رد بعد القبول. لم يسقط حقه, ولم يبطل الوقف.
وفي الأشباه والنظائر لابن السبكي: كثيرا ما يقع أن شخصا يقر بأنه لا حق له في هذا الوقف, أو أن زيدا هو المستحق دونه, ويخرج شرط الواقف مكذبا للمقر, مقتضيا لاستحقاقه, فيظن بعض الأغنياء أن المقر يؤاخذ بإقراره, فالصواب أنه لا يؤاخذ, سواء علم شرط الواقف, وكذب في إقراره, أم لم يعلم. فإن ثبوت هذا الحق له لا ينتقل بكذبه.
ضابط:
ليس لنا في العقود اللازمة ما يحتاج إلى استقرار للمعقود عليه إلا البيع, والسلم, والإجارة والمسابقة, والصداق, وعوض الخلع.
تقسيم ثالث: من العقود ما لا يفتقر إلى الإيجاب, والقبول لفظا.
ومنها: ما يفتقر إلى الإيجاب والقبول لفظا.
ومنها: ما يفتقر إلى الإيجاب لفظا, ولا يفتقر إلى القبول لفظا. بل يكفي الفعل.
ومنها: ما لا يفتقر إليه أصلا, بل شرطه: عدم الرد.
ومنها: ما لا يرتد بالرد.
فهذه خمسة أقسام:
فالأول منه: الهدية, فالصحيح أنه لا يشترط فيها الإيجاب والقبول لفظا, بل يكفي.(16/442)
ص -279-…البعث من المهدي, والقبض من المهدى إليه, وفي وجه: يشترطان, وفي ثالث: لا يشترط في المأكولات ويشترط في غيرها, وفي رابع: لا يشترط في الانتفاع, ويشترطان في التصرف.
ومنه: الصدقة قال الرافعي: وهي كالهدية, بلا فرق.
ومنه: ما يخلعه السلطان على العادة.
ومنه: ما قلنا بصحة المعاطاة فيه: من البيع, والهبة, والإجارة, والرهن, ونحوها على ما اختاره في الروضة, وشرح المهذب: من الرجوع فيه إلى العرف.
وقيل: يختص بالمحقرات, كرطل خبز, ونحوه, وقيل: بما دون نصاب السرقة.
والثاني: البيع, والصرف, والسلم, والتولية, والتشريك, وصلح المعاوضة, والصلح عن الدم, على غير جنس الدية, والرهن, والإقالة, والحوالة, والشركة, والإجارة, والمساقاة, والهبة, والنكاح, والصداق, وعوض الخلع, إن بدأ الزوج, أو الزوجة بصفة معاوضة, والخطبة. فلو لم يصرح بالإجابة لم تحرم الخطبة عليه, والكتابة وعقد الإمامة, والوصاية: وعقد الجزية, وكذا القرض في الأصح, والوصية لمعين, وكذا الوقف على معين, في الأصح. كما ذكره الشيخان في بابه.
واختار في الروضة في السرقة: عدم اشتراطه, وصححه ابن الصلاح, والسبكي, والأسنوي.
وقال في المهمات: المختار في الروضة, ليس في مقابلة الأكثرين, بل بمعنى الصحيح والراجح.
وأما ولاية القضاء: فنقل الرافعي عن الماوردي أنه يشترط فيها القبول, وقال: ينبغي أن تكون كالوكالة.
والثالث: الوكالة, والقراض, الوديعة, والعارية, والجعالة, ولو عين العامل والخلع إن بدأ بصيغة تعليق, كمتى أعطيتني ألفا فأنت طالق. والأمان, فإنه يشترط قبوله, في الأصح, ويكفي فيه إشارة مفهمة.
والرابع: الوقف, على ما اختاره النووي.
والخامس: الضمان, وكذا الوقف في وجه, والإبراء والصلح عن دم العمد على الدية, وإجازة الحديث. صرح البلقيني: بأنه لا يشترط فيها القبول, والظاهر أيضا: أنها لا ترتد بالرد.(16/443)
ص -280-…ضابط:
اتحاد الموجب, والقابل ممنوع, إلا في صور:
الأولى: الأب والجد في بيع مال الطفل لنفسه, وبيع ماله للطفل, وكذا في الهبة والرهن.
الثانية: في تزويج الجد بنت ابنه بابن ابنه الآخر, على الأصح.
الثالثة: إذا زوج عبده الصغير بأمته, على قول الإجبار.
الرابعة: الإمام الأعظم, إذا تزوج من لا ولي لها, على وجه, يجري في القاضي, وابن العم والمعتق. الخامسة: إذا وكله, وأذن له في البيع من نفسه وقدر الثمن, ونهاه عن الزيادة ففي المطلب: ينبغي أن يجوز ; لانتفاء التهمة.
فائدة:
الإيجاب والقبول, هل هما أصلان في العقد أو الإيجاب أصل, والقبول فرع؟ قال ابن السبكي: رأيت في كلام ابن عدلان حكاية خلاف في ذلك, وبنى عليه بعضهم: ما إذا قال المشتري: بعني. فقال البائع: بعتك. هل ينعقد إن قلنا بالأول صح وإلا فلا, لأن الفرع لا يتقدم على أصله.
ضابط:
ليس لنا عقد يختص بصيغة, إلا النكاح, والسلم.
ضابط:
كل إيجاب افتقر إلى القبول, فقبوله بعد موت الموجب لا يفيد, إلا في الوصية. وكل من ثبت له قبول. فات بموته, إلا الموصى له, فإنه إذا مات قام وارثه فيه مقامه.
تقسيم رابع: من العقود ما لا يشترط فيها القبض, لا في صحته, ولا في لزومه, ولا استقراره.
ومنها: ما يشترط في صحته.
ومنها: ما يشترط في لزومه.
ومنها: ما يشترط في استقراره.
فالأول: النكاح, لا يشترط قبض المنكوحة.
والحوالة: فلو أفلس المحال عليه, أو جحد, فلا رجوع للمحتال, والوكالة, والوصية(16/444)
ص -281-…والجعالة, وكذا الوقف على المشهور, وقيل: يشترط في المعين.
والثاني: الصرف, وبيع الربوي, ورأس مال السلم, وأجرة إجارة الذمة.
والثالث: الرهن, والهبة.
والرابع: البيع, والسلم, والإجارة, والصداق, والقرض. يشترط القبض فيه للملك لكنه لا يفيد اللزوم: لأن للمقرض الرجوع, مادام باقيا بحاله.
ضابط:
اتحاد القابض, والمقبض ممنوع لأنه إذا كان قابضا لنفسه احتاط لها, وإذا كان مقبضا, وجب عليه وفاء الحق من غير زيادة, فلما تخالف الغرضان والطباع لا تنضبط امتنع الجمع, ولهذا لو وكل الراهن المرتهن في بيع الرهن لأجل وفاء دينه لم يجز ; لأجل التهمة, واستعجال البيع.
ولو قال لمستحق الحنطة من دينه: اقبض من زيد مالي عليك لنفسك, ففعل, لم يصح.
ويستثنى صور:
الأولى: الوالد يتولى طرفي القبض في البيع, لأن القبض لا يزيد على العقد, وهو يملك الانفراد به. الثانية: وفي النكاح إذا أصدق في ذمته, أو في مال ولد ولده لبنت ابنه.
الثالثة: إذا خالعها على طعام في ذمتها, بصيغة السلم, وأذن لها في صرفه لولده منها فصرفته له, بلا قبض, برئت.
الرابعة: مسألة الظفر إذا ظفر بغير جنس حقه, أو بجنسه, وتعذر استيفاؤه من المستحق عليه طوعا, فأخذه يكون قبضا منه لحق نفسه, فهو قابض مقبض.
الخامسة: لو أجر دارا, وأذن له في صرف الأجرة في العمارة, جاز.
السادسة: لو وكل الموهوب له الغاصب, أو المستعير, أو المستأجر: في قبض ما في يده من نفسه وقيل صح, وبرئ الغاصب, والمستعير إذا مضت مدة يتأتى فيها القبض, كما نقله الرافعي في باب الهبة عن الشيخ أبي حامد, وغيره, ثم قال: وهذا يخالف الأصل المشهور: أن الواحد لا يكون قابضا ومقبضا. السابعة: نقل الجوري, عن الشافعي: أن الساعي يأخذ من نفسه لنفسه.
الثامنة: أكل الوصي الفقير مال اليتيم.
قال الشيخ عز الدين: إن جعلناه قرضا, اتحد المقرض, والمقترض, وإن لم نجعله قرضا, فقد قبض من نفسه لنفسه.(16/445)
التاسعة: لو امتنع المشتري من قبض المبيع, ناب القاضي عنه, فإن فقد, ففي(16/446)
ص -282-…وجه: أن البائع يقبض من نفسه للمشتري, فيكون قابضا مقبضا والمشهور خلافه, وأنه من ضمان البائع, كما كان.
قال الإمام: ولو صح ذلك الوجه لكان من عليه دين حال, وأحضره إلى مستحقه وامتنع من قبضه, يقبض من نفسه, ويصير في يده أمانة, وتبرأ ذمته, ولم يقل بذلك أحد.
العاشرة: لو أعطاه ثوبا, وقال: بع هذا واستوف حقك من ثمنه, فهو في يده أمانة. لا يضمنه لو تلف وهل يصح أن يقبض من نفسه في وجهان.
قلت وسئلت عن رجل أذن لزوجته: أن تقترض عليه كل يوم مائة درهم, تنفقها على نفسها, فهل يصح ذلك فأجبت: نعم, وبلغني أن بعض من لا علم عنده ولا تحقيق أنكره لأنه يلزم منه: اتحاد القابض والمقبض.
تذنيب
يقرب من قاعدة اتحاد القابض والمقبض: ما لو قطع من عليه السرقة نفسه أو جلد الزاني نفسه بإذن الإمام أو قطع من عليه القصاص نفسه بإذن المستحق, أو وكله في قتل نفسه, أو جلده في القذف. والأصح: المنع في صورتي القصاص, وجلد القذف, والزنا والإجزاء في صورة السرقة لحصول الغرض, وهو التنكيل بذلك, بخلاف الجلد ; لأنه قد لا يؤلم نفسه, ويوهم الإيلام فلا يتحقق حصول المقصود.
وبخلاف صورتي القصاص, قياسا على مسألة الجلد, وعلى مسألة قبض المشتري المبيع من نفسه بإذن البائع, فإنه لا يعتد به.(16/447)
ص -283-…تقسيم خامس: قال البلقيني: كل عقد كانت المدة ركنا فيه لا يكون إلا مؤقتا كالإجارة, والمساقاة والهدنة.
وكل عقد لا يكون كذلك, لا يكون إلا مطلقا, وقد يعرض له التأقيت حيث لا ينافيه كالقراض يذكر فيه مدة ويمنع من الشراء بعدها فقط. وكالإذن المقيد بالزمان, في أبوابه وكالوصاية.
ومما لا يقبل التأقيت: الجزية في الأصح.
ومما يقبله: الإيلاء, والظهار, والنذر, واليمين, ونحوها انتهى.
والحاصل: أن ما لا يقبل التوقيت بحال, ومتى أقت بطل البيع بأنواعه, والنكاح, والوقف قطعا, والجزية.
ويقبله, وهو شرط في صحته الإجارة, وكذا المساقاة, والهدنة على الأصح ويقبله, وليس شرطا في صحته: الوكالة, والوصاية.
تقسيم سادس: قال الإمام: الوثائق المتعلقة بالأعيان ثلاثة: الرهن, والكفيل, والشهادة
فمن العقود: ما يدخله الثلاثة كالبيع, والسلم, والقرض.
ومنها: ما يدخله الشهادة دونها, وهو المساقاة, جزم به الماوردي, ونجوم الكتابة.
ومنها: ما تدخله الشهادة, والكفالة, دون الرهن, وهو الجعالة.
ومنها: ما يدخله الكفالة, دونهما, وهو ضمان الدرك.
ضابط:
ليس لنا عقد يجب فيه الإشهاد من غير تقييد الموكل إلا النكاح قطعا, والرجعة على قول, وعقد الخلافة, على وجه.
ومما قيل بوجوب الإشهاد فيه, من غير العقود: اللقطة على وجه, واللقيط على الأصح لخوف إرقاقه.
قواعد:
الأولى: قال الأصحاب: كل عقد اقتضى صحيحه الضمان, فكذلك فاسده وما لا يقتضي صحيحه الضمان, فكذلك فاسده.
أما الأول: فلأن الصحيح إذا أوجب الضمان, فالفاسد أولى.
وأما الثاني: فلأن إثبات اليد عليه بإذن المالك, ولم يلتزم بالعقد ضمانا.
واستثنى من الأول مسائل:
الأولى: إذا قال: قارضتك على أن الربح كله لي فالصحيح: أنه قراض فاسد ومع ذلك لا يستحق العامل أجرة على الصحيح.
الثانية: إذا ساقاه على أن الثمرة كلها له فهي كالقراض.(16/448)
الثالثة: ساقاه على ودي ليغرسه, ويكون الشجر بينهما, أو ليغرسه ويتعهده مدة والثمرة بينهما, فسد, ولا أجر.
وكذا إذا ساقاه على ودي مغروس وقدر مدة, لا يثمر فيها في العادة.
الرابعة: إذا فسد عقد الذمة من غير الإمام لم يصح على الصحيح ولا جزية فيه على الذمي, على الأصح.(16/449)
ص -284-…الخامسة: إذا استؤجر المسلم للجهاد لم يصح, ولا شيء.
السادسة: إذا استأجر أبو الطفل أمه لإرضاعه, وقلنا: لا يجوز, فلا تستحق أجرة المثل, في الأصح.
السابعة: قال الإمام لمسلم: إن دللتني على القلعة الفلانية, فلك منها جارية, ولم يعين الجارية, فالصحيح: الصحة, كما لو جرى من كافر, فإن قلنا: لا يصح, لم يستحق أجرة.
الثامنة: المسابقة إذا صحت فالعمل فيها مضمون, وإذا فسدت لا يضمن في وجه. التاسعة: النكاح الصحيح يوجب المهر, بخلاف الفاسد.
ويستثنى من الثاني مسائل:
الأولى: الشركة, فإنها إذا صحت لا يكون عمل كل منهما في مال صاحبه مضمونا عليه.
وإذا فسدت يكون مضمونا بأجرة المثل.
الثانية: إذا صدر الرهن, والإجارة من الغاصب, فتلفت العين في يد المرتهن أو المستأجر فللمالك تضمينه على الصحيح, وإن كان القرار على الغاصب, مع أنه لا ضمان في صحيح الرهن والإجارة.
الثالثة: لا ضمان في صحيح الهبة وفي المقبوض بالهبة الفاسدة وجه: أنه يضمن, كالبيع الفاسد.
الرابعة: ما صدر من السفيه والصبي مما لا يقتضي صحيحه الضمان فإنه يكون مضمونا على قابضه منه مع فساده.
تنبيه:
المراد من القاعدة الأولى: استواء الصحيح والفاسد في أصل الضمان, لا في الضامن ولا في المقدار, فإنهما لا يستويان.
أما الضامن: فلأن الولي إذا استأجر على عمل للصبي إجارة فاسدة. تكون الأجرة على الولي, لا في مال الصبي, كما صرح به البغوي في فتاويه, بخلاف الصحيحة.
وأما المقدار: فلأن صحيح البيع: مضمون بالثمن, وفاسده بالقيمة, أو المثل: وصحيح القرض: مضمون بالمثل مطلقا, وفاسده بالمثل, أو القيمة. وصحيح المساقاة والقراض, والإجارة, والمسابقة, والجعالة: مضمون بالمسمى, وفاسدها بأجرة المثل والوطء في النكاح الصحيح: مضمون بالمسمى, وفي الفاسد: بمهر المثل.(16/450)
ص -285-…ضابط:
كل عقد بمسمى فاسد, يسقط المسمى, إلا في مسألة.
وهي: ما إذا عقد الإمام مع أهل الذمة السكنى بالحجاز على مال فهي إجارة فاسدة, فلو سكنوا أو مضت المدة وجب المسمى ; لتعذر إيجاب عوض المثل, فإن منفعة دار الإسلام سنة لا يمكن أن تقابل بأجرة مثلها.
تذنيب:
لا يلحق فاسد العبادات بصحيحها, ولا يمضي فيه, إلا الحج والعمرة.
القاعدة الثانية:
كل تصرف تقاعد عن تحصيل مقصوده فهو باطل.
فلذلك لم يصح بيع الحر, وأم الولد ولا نكاح المحرم, ولا المحرم, ولا الإجارة على عمل محرم, وأشباه ذلك.
واختلف في شرط نفي خيار المجلس في البيع فمن أبطل العقد, أو الشرط نظر إلى أن مقصود العقد: إثبات الخيار فيه للتروي فاشتراط نفيه يخل بمقصوده.
ومن صححه نظر إلى أن لزوم العقد: هو المقصود, والخيار دخيل فيه.
القاعدة الثالثة:
في وقف العقود.
قال الرافعي: أصل وقف العقود ثلاث مسائل:
إحداها: بيع الفضولي وفيه قولان أصحهما وهو المنصوص في الجديد: أنه باطل.
والثاني: أنه موقوف, إن أجازه المالك, أو المشتري له, نفذ, وإلا بطل.
ويجريان في سائر التصرفات كتزويج موليته, وطلاق زوجته, وعتق عبده, وهبته, وإجارة داره, وغير ذلك.
الثانية: إذا غصب أموالا, ثم باعها وتصرف في أثمانها مرة بعد أخرى وفيه قولان أصحهما: بطلان الكل.
والثاني. أن للمالك أن يجيزها, ويأخذ الحاصل منها.
الثالثة: إذا باع مال أبيه, على ظن أنه حي وأن البائع فضولي, فكان ميتا حالة العقد, وفيه قولان, أصحهما: صحة البيع لمصادفته ملكه.
والثاني: المنع ; لأنه لم يقصد قطع الملك.(16/451)
ص -286-…وقد تحرر من إضافتهم قول الوقف إلى هذه المسائل الثلاث: أن الوقف نوعان: وقف تبيين, ووقف انعقاد.
ففي الثالثة: العقد في نفسه صحيح, أو باطل ونحن لا نعلم ذلك ثم تبين في ثاني الحال.
وفي الأوليين: الصحة أو نفوذ الملك, موقوف على الإجازة, على القول بذلك فتكون الإجازة مع الإيجاب, والقبول ثلاثتها: أركان العقد وهو في مسألة الغصب أقوى منه في بيع الفضولي, لما فيها من عسر تتبع العقود الكثيرة بالنقض.
ثم هنا مراتب أخر قيل بالوقف فيها أيضا.
منها: تصرف الراهن في المرهون بما يزيل الملك: كبيع, وهبة أو بما يقلل الرغبة كالتزويج بغير إذن المرتهن. والمشهور: بطلان ذلك.
وعلى وقف العقود تكون موقوفة, إن أجاز المرتهن, أو فك الرهن تبين نفوذها وإلا فلا, وهي به أولى من بيع الفضولي ; لوجود الملك المقتضي لصحة التصرف في الجملة ومنها: تصرف المفلس في شيء من أعيان ماله المحجور عليه فيه بغير إذن الغرماء والأصح البطلان.
والثاني: أنه موقوف, فإن فضل ذلك عن الدين, بارتفاع سعر أو إبراء, بان نفوذه من حين التصرف, وإلا بان بطلانه, هكذا عبر كثيرون.
وظاهره: أن الوقف وقف تبيين, ومال الرافعي إلى أنه وقف انعقاد.
ومنها: تصرف المريض بالمحاباة فيما زاد على الثلث, وفيه قولان: أحدهما: بطلانه والأصح: وقفه, فإن أجازها الوارث صحت, وإلا بطلت.
وهذه أولى بالصحة من تصرفات المفلس, لأن ضيق الثلث أمر مستقبل, والمانع من تصرف المفلس والراهن قائم حالة التصرف.
القاعدة الرابعة:
الباطل, والفاسد عندنا مترادفان.
إلا في الكتابة والخلع, والعارية, والوكالة, والشركة, والقراض, وفي العبادات: في الحج, فإنه يبطل بالردة, ويفسد بالجماع ولا يبطل.
قال الإمام في الخلع: كل ما أوجب البينونة وأثبت المسمى, فهو الخلع الصحيح. وكل ما أسقط الطلاق بالكلية, أو أسقط البينونة, فهو الخلع الباطل, وكل ما أوجب البينونة من حيث كونه خلعا, وأفسد المسمى, فهو الخلع الفاسد.(16/452)
وفي الكتابة الصحيحة: ما أوقعت العتق, وأوجبت المسمى. بأن انتظمت بأركانها وشروطها(16/453)
ص -287-…والباطلة: ما لا توجب عتقا بالكلية, بأن اختل بعض أركانها.
والفاسدة: ما أوقعت العتق, وتوجب عوضا في الجملة, بأن وجدت أركانها ممن تصح عبارته ووقع الخلل في العوض, أو اقترن بها شرط مفسد.
تذنيب:
نظير هذه القاعدة: الواجب, والفرض عندنا مترادفان إلا في الحج فإن الواجب يجبر بدم. ولا يتوقف التحلل عليه, والفرض بخلافه.
ضابط:
قال الروياني, في الفروق والتصرفات بالشراء الفاسد كلها كتصرفات الغاصب إلا في وجوب الحد عليه وانعقاد الولد حرا, وكونها أم ولد على قول.
القاعدة الخامسة:
تعاطي العقود الفاسدة حرام.
كما يؤخذ من كلام الأصحاب في عدة مواضع.
قال الأسنوي وخرج عن ذلك صورة:
وهي المضطر إذا لم يجد الطعام إلا بزيادة على ثمن المثل فقد قال الأصحاب: ينبغي أن يحتال في أخذ الطعام من صاحبه ببيع فاسد, ليكون الواجب عليه القيمة. كذا نقله الرافعي.
القول في الفسوخ:
قال ابن السبكي: الفسخ: حل ارتباط العقد.
فسوخ البيع:
قال في الروضة: قال أصحابنا: إذا انعقد البيع, لم يتطرق إليه فسخ, إلا بأحد سبعة أسباب.
خيار المجلس: والشرط, والعيب, وحلف, المشروط, والإقالة, والتخالف وهلاك المبيع قبل القبض.
وزيد عليه أمور:
خيار تلقي الركبان وتفريق الصفقة دواما وابتداء وفلس المشتري وما رآه قبل العقد إذا تغير عن وصفه, وما لم يره, على قول والتغرير الفعلي من التصرية ونحوها وجهل الدكة تحت الصبرة وجهل الغصب مع القدرة على الانتزاع وطريان العجز مع العلم به وجهل كون المبيع مستأجرا والامتناع من المشروط غير المعتق. ومن العتق(16/454)
ص -288-…على رأي وتعذر قبض المبيع لغصب ونحوه وتعذر قبض الثمن, لغيبة مال المشتري إلى مسافة القصر وظهور الزيادة في الثمن في المرابحة, وظهور الأحجار المدفونة في الأرض المبيعة إذا ضر القلع والترك, أو القلع فقط, ولم يترك البائع الأحجار واختلاط الثمرة والمبيع قبل القبض بغيره, إن لم يسمح البائع وتعييب الثمرة, بترك البائع السقي والتنازع في السقي إذا ضر الثمرة, وضر تركه الشجرة, وتعذر الفداء, بعد بيع الجاني والخيار في الأخير لأجنبي لا للبائع, ولا للمشتري.
فهذه نحو ثلاثين سببا وكلها يباشرها العاقد دون الحاكم إلا فسخ التخالف.
ففي وجه: إنما يباشره الحاكم, والأصح لا يتعين, بل هو أو أحدهما.
وكلها تحتاج إلى فسخ, ولا ينفسخ شيء منها بنفسه إلا التخالف في وجه واختلاط المبيع قبل القبض على قول.
وكلها تحتاج إلى لفظ, إلا الفسخ في خيار المجلس والشرط, فيحصل بوطء البائع وإعتاقه.
وكذا ببيعه وإجارته وتزويجه ورهنه وهبته في الأصح وإلا الفسخ بالفلس فيحصل بهذه الأمور في رأي.
السلم:
يتطرق إليه: الفسخ بالإقالة وانقطاع السلم فيه عند الحلول ووجود المسلم إليه في مكان غير محل التسليم ولنقله مؤنة.
القرض:
يتطرق إليه الفسخ بالرجوع قبل التصرف فيه.
الرهن:
يتطرق إليه الفسخ بالإقالة وهو معنى قولهم: وينفك بفسخ المرتهن وبتلف المرهون وبتعليق حق الجناية برقبته وباختلاط الثمرة المرهونة.
الحوالة:
يتطرق إليها الفسخ فيما لو أحال بثمن مبيع ثبت بطلانه ببينة أو بإقرارهما والمحتال.
الضمان:
يتطرق إليه الفسخ بإبراء الأصيل الضامن.(16/455)
ص -289-…الشركة والوكالة والعارية والوديعة والقراض.
كلها تنفسخ بالعزل من المتعاقدين أو أحدهما, وبجنون كل منهما وإغمائه, وتزيد الوكالة ببطلانها بالإنكار, حيث لا غرض فيه.
الهبة:
يتطرق إليها الفسخ بالرجوع في هبة الأصل للفرع. ولا يحصل بالإقالة.
الإجارة:
يتطرق إليها الفسخ بالإقالة وتلف المستأجر المعين: كموت الدابة, وانهدام الدار, وغصبه في أثناء المدة, واستمر حتى انقضت وقيل: بل يثبت الخيار كما لو لم يستمر وموت مؤجر دار أوصى له بها مدة عمره أو هي وقف عليه فانتقلت إلى البطن الثاني, ومضت المدة قبل التسليم, وشفاء سن وجعة استؤجر لقلعها ويد متآكلة استؤجر لقطعها والعفو عن قصاص استؤجر لاستيفائه, فيما أطلقه الجمهور.
ويثبت فيها خيار الفسخ بظهور عيب تتفاوت به الأجرة, قديم أو حادث ومنه: انقطاع ماء أرض استؤجرت للزرع والغصب, والإباق حيث لم يستمر وموت المؤجر في الذمة, حيث لا وفاء في التركة ولا في الوارث, وهرب الجمال بجماله حيث يتعذر الاكتراء عليه.
تنبيه:
أجر الولي الطفل مدة لا يبلغ فيها بالسن, فبلغ باحتلام لم تنفسخ الإجارة على الأصح وعلى هذا لا خيار له على الأصح, كالصغيرة إذا زوجت فبلغت.
ويجري ذلك فيما لو أجر المجنون فأفاق, أو العبد ثم أعتقه, أو استأجر المسلم دارا من حربي في دار الحرب, ثم غنمها المسلمون أو استأجر حربيا فاسترق.
النكاح: فرقته أنواع.
فرقة طلاق وخلع وإيلاء, وإعسار بمهر وإعسار بنفقة, وفرقة الحكمين وفرقة عنة وفرقة غرور, وفرقة عيب وفرقة عتق تحت رقيق وفرقة رضاع وفرقة طروء محرمية, وفرقة سبي أحد الزوجين وفرقة إسلام وفرقة ردة, وفرقة لعان وفرقة ملك أحد الزوجين الآخر, وفرقة جهل سبق أحد العقدين وفرقة تبين فسق الشاهدين, وفرقة موت وكلها فسخ إلا الطلاق.(16/456)
ص -290-…وفرقة الحكمين والخلع على الجديد, وفرقة الإيلاء على الأصح, وفي الإعسار وجه أنه طلاق.
وكلها لا تحتاج إلى حضور حاكم حال الفرقة إلا اللعان, فإنه لا يكون إلا بحضوره, ولا يقوم المحكم فيه مقام الحاكم, على الصحيح.
وأما ما لا يحتاج إليه أصلا, فالطلاق والخلع والعتق.
وما لا يحتاج إلى إنشاء وهو: الإسلام والردة وطروء المحرمية, والسبي والرضاع وكلها يقوم الحاكم فيها مقامه, إذا امتنع إلا لاختيار, وكذا الإيلاء في قول.
ضابط:
ليس لنا موضع تملك فيه المرأة فسخ النكاح, ولا تملك إجازته إلا فيما إذا عتقت تحت رقيق, فطلقها رجعيا, أو ارتد, فلها الفسخ والتأخير إلى الرجعة والإسلام, وليس لها الإجازة قبل ذلك.
تذنيب:
قال النووي في تهذيبه: العيوب ستة: عيب المبيع, ورقبة الكفارة والغرة والأضحية والهدي والعقيقة والإجارة والنكاح.
وحدودها مختلفة.
ففي المبيع: ما ينقص المالية, أو الرغبة, أو العين, إذا كان الغالب في جنس المبيع عدمه.
وفي الكفارة: ما يضر بالعمل إضرارا بينا.
وفي الأضحية والهدي والعقيقة: ما ينقض اللحم.
وفي الإجارة: ما يؤثر في المنفعة تأثيرا يظهر به تفاوت في قيمة الرقبة ; لأن العقد على المنفعة.
وفي النكاح: ما ينفر عن الوطء ويكسر ثورة التوقان.
وفي الغرة: كالبيع, انتهى.
وبقي عيب الدية وهي: كالبيع, وعيب الزكاة, كذلك على الأصح: وقيل: كالأضحية.
وعيب الصداق إذا تشطر وهو: ما فات به غرض صحيح, سواء كان في أمثاله عدمه أم لا.
وعيب المرهون وهو: ما نقص القيمة فقط.(16/457)
ص -291-…خاتمة:
الخيار في هذه الفسوخ وغيرها على أربعة أقسام:
أحدها: ما هو على الفور بلا خلاف, كخيار العيب إلا في صورتين:
إحداهما: إذا استأجر أرضا لزراعة, فانقطع ماؤها ثبت الخيار للعيب قال الماوردي: على التراخي, وجزم به الرافعي.
والأخرى: كل مقبوض عما في الذمة من سلم, أو كتابة إذا وجده معيبا فله الرد, وهو على التراخي إن قلنا يملكه بالرضى, وكذا إن قلنا بالقبض على الأوجه قاله الإمام. الثاني: ما هو على التراخي بلا خلاف كخيار الوالد في الرجوع.
ومن أبهم الطلاق أو العتق أو أسلم على أكثر من أربع, أو امرأة المولى وامرأة المعسر بالنفقة, وأحد الزوجين إذا تشطر لصداق وهو زائد أو ناقص, والمشتري إذا أبق العبد قبل قبضه, وولي الدم بين العفو والقصاص.
الثالث: ما فيه خلاف, والأصح أنه على الفور, كخيار تلقي الركبان, والبائع في الرجوع فيما باعه للمفلس, والأخذ بالشفعة والفسخ بعيب النكاح, والخلف فيه وخيار العتق, والمغرور والإعسار بالمهر.
الرابع: ما فيه خلاف, والأصح أنه على التراخي, كخيار المسلم إذا انقطع المسلم فيه عند محله, وخيار الرؤية إذا جوزنا بيع الغائب.
الصداق:
يتطرق إليه الفسخ بتلفه قبل القبض, وتعييبه وبالإقالة.
الكتابة:
يتطرق الفسخ إلى الصحيحة بعجز المكاتب عن الأداء أو غيبته عند الحلول, ولو كان ماله حاضرا وامتناعه من الأداء مع القدرة, وبجنون العبد حيث لا مال له, فللسيد الفسخ في الصور الأربع.
وللعبد أيضا: في غير الأخيرة, وبموت المكاتب قبل تمام الأداء, فتنفسخ من غير فسخ.
وإلى الفاسدة بجنون السيد وإغمائه والحجر عليه.
ضابط:
ليس لنا عقد يرتفع بالإنكار إلا الوكالة مع العلم حيث لا غرض ولا إنكار الوصية على ما رجحه في الشرح والروضة في بابها.(16/458)
ص -292-…الفسخ:
هل يرفع العقد من أصله أو من حينه؟.
فيه فروع:
الأول: فسخ البيع بخيار المجلس أو الشرط فيه وجهان أصحهما في شرح المهذب من حينه.
الثاني: الفسخ بخيار العيب, والتصرية ونحوها والأصح أنه من حينه وقيل: من أصله, وقيل إن كان قبل القبض, فمن أصله وإلا من حينه.
الثالث: تلف المبيع قبل القبض والأصح الانفساخ من حين التلف.
الرابع: الفسخ بالتخالف والأصح من حينه.
الخامس: إذا كان رأس مال السلم في الذمة, وعين في المجلس ثم انفسخ السلم بسبب يقتضيه ورأس المال باق, فهل يرجع إلى عينه أو بدله, وجهان: الأصح, الأول قال الغزالي: والخلاف يلتفت إلى أن المسلم فيه إذا ردها بالعيب: هل يكون نقضا للملك في الحال أو هو مبين لعدم جريان الملك؟
ومقتضى هذا التفريع: أن الأصح هنا أنه رفع للعقد من أصله.
ويجري ذلك أيضا في نجوم الكتابة, وبدل الخلع إذا وجد به عيبا فرده لكن في الكتابة: يرتد العتق لعدم القبض المعلق عليه وفي الخلع: لا يرتد الطلاق, بل يرجع إلى بدل البضع.
السادس: الفسخ بالفلس من حينه قطعا.
السابع: الرجوع في الهبة من حينه قطعا.
الثامن: فسخ النكاح بأحد العيوب والأصح أنه من حينه.
التاسع: الإقالة على القول بأنها فسخ الأصح أنها من حينه.
العاشر: إذا قلنا, يصح قبول العبد الهبة بدون إذن السيد, وللسيد الرد فهل يكون الرد قطعا للملك من حينه, أو أصله؟ وجهان ذكرهما ابن القاص. ويظهر أثرهما في وجوب الفطرة, واستبراء الجارية الموهوبة.
الحادي عشر: إذا وهب المريض ما يحتاج إلى الإجازة, فنقضه الوارث بعد الموت فهل هو رفع من أصله أو حينه؟ وجهان.
الثاني عشر: إذا كانت الشجرة تحمل حملين في السنة, فرهن الثمرة الأولى بشرط القطع, فلم تقطع حتى اختلطت بالحادث, وعسر التمييز فإن كان قبل القبض انفسخ الرهن أو بعده, فقولان كالبيع.(16/459)
ص -293-…فإن قلنا: يبطل فهل هو من حين الاختلاط, كتلف المرهون, أو من أصله, ويكون حدوث الاختلاط دالا على الجهالة في العقد, وجهان حكاهما الماوردي.
فلو كان مشروطا في بيع, فللبائع الخيار في فسخه على الثاني دون الأول.
الثالث عشر: فسخ الحوالة, انقطاع من حينه.
قاعدة:
يغتفر في الفسوخ ما لا يغتفر في العقود.
ومن ثم لم يحتج إلى قبول, وقبلت الفسوخ: التعليقات, دون العقود. ولم يصح تعليق اختيار من أسلم على أكثر من أربع لأنه في معنى العقد ولا فسخه ; لأنه يتضمن اختيار الباقي وجاز توكيل الكافر في طلاق المسلمة, لا في نكاحها.
القول في الصريح والكناية والتعريض.
قال العلماء: الصريح: اللفظ الموضوع لمعنى لا يفهم منه غيره عند الإطلاق ويقابله: الكناية.
تنبيه:
اشتهر أن مأخذ الصراحة هل هو ورود الشرع به أو شهرة الاستعمال خلاف وقال السبكي: الذي أقوله: إنها مراتب:
أحدها: ما تكرر قرآنا وسنة مع الشياع عند العلماء والعامة فهو صريح قطعا كلفظ الطلاق.
الثانية: المنكر غير الشائع كلفظ الفراق: والسراح فيه خلاف.
الثالثة: الوارد غير الشائع كالافتداء وفيه خلاف أيضا.
الرابعة: وروده دون ورود الثالثة ولكنه شائع على لسان حملة الشرع كالخلع.
والمشهور: أنه صريح.
الخامسة: ما لم يرد ولم يشع عند العلماء ولكنه عند العامة مثل: حلال الله علي حرام والأصح: أنه كناية.
قاعدة:
الصريح: لا يحتاج إلى نية, والكناية: لا تلزم إلا بنية.
أما الأول: فيستثنى منه ما في الروضة وأصلها: أنه لو قصد المكره إيقاع الطلاق فوجهان:(16/460)
ص -294-…أحدهما: لا يقع ; لأن اللفظ ساقط بالإكراه: والنية لا تعمل وحدها والأصح: يقع, لقصده بلفظه. وعلى هذا فصريح لفظ الطلاق عند الإكراه: كناية إن نوى وقع, وإلا فلا.
وأما الثاني: فاستثنى منه ابن القاص صورة, وهي: ما إذا قيل له: طلقت؟ فقال نعم فقيل: يلزمه وإن لم ينو طلاقا, وقيل: يحتاج إلى نية.
واعترض بأن مقتضاه: الاتفاق على أن "نعم" كناية, وأن القولين في احتياجه إلى النية.
والمعروف: أن القولين في صراحته, والأصح: أنه صريح, فلم تسلم كناية عن الافتقار إلى النية.
تنبيهات.
الأول: قد يشكل على قولهم "الصريح لا يحتاج إلى نية" قولهم "يشترط في وقوع الطلاق قصد حروف الطلاق بمعناه" وليس بمشكل, فإن المراد في الكناية: قصد إيقاع الطلاق, وفي الصريح قصد معنى اللفظ بحروفه, لا الإيقاع ليخرج ما إذا سبق لسانه, وما إذا نوى غير معنى الطلاق الذي هو قطع العصمة كالحل من وثاق. ويدخل ما إذا قصد المعنى ولم يقصد الإيقاع, كالهازل.
الثاني: من المشكل, قول المنهاج في الوقف: وقوله "تصدقت" فقط: ليس بصريح, وإن نوى, إلا أن يضيف إلى جهة عامة وينوي, فإن ظاهره أن النية تصيره صريحا, وهو عجيب, فإنه ليس لنا صريح يحتاج إلى نية.
وعبارة المحرر: ولو نوى لم يحصل الوقف, إلا أن يضيف, وهي حسنة, فإنه من الكنايات كما عده في الحاوي الصغير.
وعبارة الروضة والشرح نحو عبارة المحرر.
الثالث: قال الرافعي في الإقرار: اللفظ, وإن كان صريحا في التصديق فقد ينضم إليه قرائن تصرفه عن موضوعه إلى الاستهزاء, والكذب كحركة الرأس الدالة على شدة التعجب والإنكار, فيشبه أن لا تجعل إقرارا أو يجعل فيه خلاف لتعارض اللفظ والقرينة.
الرابع ذكر الرافعي في أواخر مسألة "أنت علي حرام" فيما لو قال: أنت علي كالميتة أو الدم, وقال: أردت أنها حرام: أن الشيخ أبا حامد قال: إن جعلناه صريحا وجبت الكفارة, أو كناية, فلا لأنه لا يكون للكناية كناية.(16/461)
قال الرافعي وتبعه على هذا جماعة: لكن لا يكاد يتحقق هذا التصوير ; لأنه ينوي(16/462)
ص -295-…باللفظ معنى لفظ آخر, لا صورة اللفظ, وإذا كان المنوي المعنى, فلا فرق بين أن يقال نوى التحريم, أو نوى: أنت علي حرام.
وقال ابن السبكي: وقد يقال: من نوى باللفظ, معنى لفظ آخر, فلا بد أن يكون تجوز به عن لفظه, وإلا فلا تعلق للفظ بالنية, وتصير النية مجردة مع لفظ غير صالح, فلا تؤثر, ومتى تجوز به عنه كان هو الكناية عن الكناية, فهي كالمجاز عن المجاز والمجاز لا يكون له مجاز.
ومن فروع ذلك.
لو قال أنا منك بائن ونوى الطلاق.
قال بعضهم: لا يقع لأنه كناية عن الكتابة.
ولو كتب: الطلاق فهو كناية فلو كتب كناية من كناياته فكما لو كتب الصريح فهذا كناية عن الكناية.
قاعدة:
ما كان صريحا في بابه ووجد نفاذا في موضوعه لا يكون كناية في غيره.
ومن فروع ذلك.
الطلاق: لا يكون كناية ظهار ولا عكسه.
وقوله: أبحتك كذا بألف لا يكون كناية في البيع بلا خلاف كما في شرح المهذب.
قال: لأنه صريح في الإباحة مجانا فلا يكون كناية في غيره.
وخرج عن ذلك صور ذكرها الزركشي في قواعده:
الأولى: قال لزوجته: أنت علي حرام ونوى الطلاق وقع مع أن التحريم صريح في إيجاب الكفارة. الثانية: الخلع. إذا قلنا: فسخ, يكون كناية في الطلاق.
الثالثة: قال السيد لعبده: أعتق نفسك فكناية تنجيز عتق مع أنه صريح في التفويض.
الرابعة: أتى بلفظ الحوالة: وقال: أردت التوكيل: قبل عند الأكثرين.
الخامسة: راجع بلفظ التزويج أو النكاح فكناية.
السادسة: قال لعبده: وهبتك نفسك فكناية عتق.
السابعة: قال: من ثبت له الفسخ: فسخت نكاحك ونوى الطلاق طلقت في الأصح.(16/463)
ص -296-…الثامنة: قال: آجرتك حماري لتعيرني فرسك, فإجارة فاسدة غير مضمونة, فوقعت الإعارة كناية في عقد الإجارة.
التاسعة: قال: بعتك نفسك, فقالت: اشتريت, فكناية خلع.
قلت: لا تستثنى هذه, فإن البيع لم يجد نفاذا في موضوعه.
العاشرة: صرائح الطلاق: كناية في العتق, وعكسه.
قلت: لا تستثنى الأخرى, لما ذكرناه.
الحادية عشرة: قال: مالي طالق, ونوى الصدقة لزمه.
قلت: لا يستثنى أيضا, لذلك.
فالثلاثة أمثلة, لما كان صريحا في بابه, ولم يجد نفاذا في موضوعه, فإنه يكون كناية في غيره.
قاعدة:
كل ترجمة تنصب على باب من أبواب الشريعة, فالمشتق منها صريح, بلا خلاف إلا في أبواب: أحدها: التيمم, لا يكفي "نويت التيمم" في الأصح.
الثاني: الشركة, لا يكفي مجرد اشتركنا.
الثالث: الخلع, لا يكون صريحا إلا بذكر المال, كما سيأتي.
الرابع: الكتابة لا يكفي: "كاتبتك" حتى يقول: وأنت حر إذا أديت.
الخامس: الوضوء على وجه.
السادس: التدبير على قول.
قاعدة:
قال الأصحاب: كل تصرف يستقل به الشخص, كالطلاق, والعتاق, والإبراء ينعقد بالكناية مع النية كانعقاده بالصريح وما لا يستقل به, بل يفتقر إلى إيجاب وقبول: ضربان:
ما يشترط فيه الإشهاد, كالنكاح, وبيع الوكيل المشروط فيه.
فهذا لا ينعقد بالكناية, لأن الشاهد لا يعلم النية.
وما لا يشترط فيه, وهو نوعان:
ما يقبل مقصوده التعليق بالغرر, كالكتابة والخلع, فينعقد بالكناية مع النية.
وما لا يقبل كالإجارة, والبيع, وغيرهما.
وفي انعقاد هذه التصرفات بالكناية مع النية, وجهان: أصحهما: الانعقاد.(16/464)
ص -297-…سرد صرائح الأبواب وكناياتها.
اعلم أن الصريح وقع في الأبواب كلها وكذا الكناية إلا في الخطبة فلم يذكروا فيها كناية بل ذكروا التعريض ولا في النكاح فلم يذكروها للاتفاق على عدم انعقاده بالكناية.
ووقع الصريح والكناية والتعريض جميعا: في القذف.
صرائح البيع:
ففي الإيجاب: بعتك ملكتك وفي ملكتك وجه ضعيف: أنه كناية كأدخلته في ملكك.
وفرق الأول: بأن أدخلته في ملكك يحتمل الإدخال الحسي في شيء مملوك له بخلاف "ملكتك" و "شريت" بوزن ضربت صرح به الرافعي والنووي في شرح المهذب.
وفي التولية والإشراك: وليتك وأشركتك.
وفي بيع أحد النقدين بالآخر: صارفتك.
وفي الصلح: صالحتك.
قال الأسنوي: ومنها عوضتك كما اقتضاه كلامهم في مواضع.
ومنها: التقرير والترك بعد الانفساخ بأن يقول البائع بعد انفساخ البيع: قررتك على موجب العقد الأول فيقبل صاحبه كما اقتضاه كلام الشيخين في القراض ويؤيده صحة الكفالة أيضا بذلك فإنه لو تكفل فأبرأه المستحق ثم وجده ملازما للخصم فقال: اتركه وأنا على ما كنت عليه من الكفالة صار كفيلا.
وفي القبول: قبلت, ابتعت, اشتريت, تملكت, وفيه الوجه السابق: شريت, صارفت, توليت, اشتركت, تقررت.
قال الأسنوي: ومنها: بعت على ما نقله في شرح المهذب عن أهل اللغة والفقهاء.
ومنها: "نعم" صرح بها الرافعي في مسألة المتوسط غير أنه لا يلزم منه الجواز فيما إذا قال: بعتك؟ فقال: نعم لأن مدلولها حينئذ وهي حالة عدم الاستفهام -: تصديق المتكلم في مدلول كلامه فكأنه قال: إنك صادق في إيجاب البيع بخلاف ما إذا كانت في جواب الاستفهام.
وقد صرح بالبطلان في وقوعها في جواب "بعتك" العبادي في الزيادات والإمام ناقلا عن الأئمة.(16/465)
ص -298-…لكن الرافعي جزم بالصحة في وقوعها بعد "بعت" ذكره في النكاح, وفيه نظر انتهى كلام الأسنوي.
ومن صرائح القبول.
فعلت صرح بها الرافعي في جواب اشتر مني والعبادي في الزيادات, في جواب بعتك.
ومنها: رضيت صرح بها الروياني, والقاضي حسين.
تنبيه:
ظاهر كلامهم أن "قبلت" وحدها من الصرائح: أعني إذا لم يقل معها البيع ونحوه.
قال في المهمات: وقد ذكر الرافعي في النكاح ما يدل على أنها كناية فقال, فيما إذا قال: "قبلت", ولم يقل "نكاحها" ولا تزويجها ما نصه:
وأصح الطرق: أن المسألة على قولين:
أحدهما: الصحة ; لأن القبول ينصرف إلى ما أوجبه, فكان كالمعتاد لفظا, وأظهرهما المنع ; لأنه لم يوجد التصريح بواحد من لفظي: الإنكاح, والتزويج, والنكاح لا ينعقد بالكنايات.
هذا لفظه, وهو صريح في أن التقدير الواقع بعد "قبلت" ألحقه هنا بالكنايات, فيكون أيضا كناية في البيع.
قال: فإن قيل: بل هو صريح لأن التقدير: قبلت البيع والمقدر كالملفوظ به.
قلنا: فيكون أيضا صريحا في النكاح ; لأن التقدير: قبلت النكاح, فينعقد به.
قال: فالقول بأنه كناية في أحد البابين دون الآخر تحكم لا دليل عليه.
قلت: الذي يظهر: أنه صريح في البابين, وإنما لم يصح به النكاح ; لأنه لا ينعقد بكل صريح, للتعبد فيه بلفظ التزويج والإنكاح, وليس في كلام الرافعي ما يدل على أنه كناية, وإنما مراده: أن لفظ التزويج أو الإنكاح: مقدر فيه, ومكني, ومضمر, فصار ملحقا بالكنايات باعتبار تقديره.
فالكناية راجعة إلى لفظ النكاح أو التزويج, والمعتبر وجوده في صحة العقد باعتبار تقديره لا إلى لفظ. "قبلت" فتأمل.(16/466)
ص -299-…الكنايات.
جعلته لك بكذا خذه بكذا تسلمه بكذا أدخلته في ملكك وكذا سلطتك عليه بكذا على الأصح, وفي زوائد الروضة.
وفي وجه لا, كقوله: أبحتك بألف: وكذا باعك الله: وبارك الله لك فيه, فيما نقله في زوائد الروضة عن فتاوى الغزالي, وضم إليه: أقالك الله, ورده الله عليك, في الإقالة, وزوجك الله, في النكاح. ونقل الرافعي في الطلاق, في: طلقك الله, وأعتقك الله, وقول رب الدين للمدين: أبرأك الله وجهين بلا ترجيح.
أحدهما: أنه كناية, وبه قال البوشنجي.
والثاني: أنه صريح, وهو قول العبادي.
قال في المهمات: وهذه المسألة أعني مسألة البيع, والإقالة - مثلها الخيار جزم الرافعي بأن قول المتعاقدين "تخايرنا" صريح في قطع الخيار.
وكذا اخترنا إمضاء العقد: أمضيناه أجزناه ألزمناه.
وكذا قول أحدهما لصاحبه: اختر.
القرض.
ذكر في الروضة وأصلها: أن صيغته: أقرضتك أسلفتك خذ هذا بمثله خذه واصرفه في حوائجك. ورد بدله. ملكته على أن ترد بدله.
قال السبكي والأسنوي: وظاهر كلامه: أن هذه الألفاظ كلها صرائح.
لكن سبق في البيع أن "خذه بمثله" كناية فينبغي أن يكون هنا كذلك.
ولو اقتصر على قوله: واصرفه في حوائجك ففي كونه قرضا وجهان في المطلب. والظاهر المنع ; لاحتماله الهبة.
الوقف:
الصحيح الذي قطع به الجمهور: أن: وقفت, وحبست, وسبلت: صرائح وقيل: كنايات وقيل: وقفت فقط صريح وقيل: هو, وحبست.
والمذهب: أن حرمت هذه البقعة للمساكين وأبدتها كنايتان وأن: تصدقت فقط لا صريح ولا كناية.
فإن أضافه إلى جهة عامة كقوله: على المساكين: فكناية وإن ضم إليه أن قال صدقة محرمة أو محبسة أو موقوفة أو لا تباع أو لا توهب أو لا تورث, فصريح.(16/467)
ص -300-…قال السبكي: جاء في هذا الباب نوع غريب لم يأت مثله إلا قليلا وهو انقسام الصريح إلى ما هو صريح بنفسه, وإلى ما هو صريح مع غيره.
ومن الصرائح:
جعلت هذا المكان مسجدا لله تعالى, وكذا جعلتها مسجدا فقط في الأصح, وقوله: وقفتها على صلاة المصلين: كناية, يحتاج إلى قصد جعلها مسجدا.
فرع:
وقع السؤال عن رجل, قال: هذا العبد, أو الدابة خرج عن ذمتي لله تعالى.
فقلت: يؤاخذ بإقراره في الخروج عن ملكه ثم هو في العبد يحتمل العتق والوقف فإن فسره بأحدهما, قبل وإن لم يفسر, فالحمل على العتق أظهر ; لأنه لا يحتاج إلى تعيين ولا قبول, والوقف يحتاج إلى تعيين الجهة الموقوف عليها, وقبول الموقوف عليه إذا كان معينا.
وأما الدابة: فإن كانت من النعم, احتملت الوقف, والأضحية, والهدي ويرجع إليه, فإن لم يفسره, فالحمل على الأضحية أظهر من الوقف, لما قلناه ومن الهدي ; لأنه يحتاج إلى نقل فإن كان قائل ذلك بمكة, أو محرما استوى الهدي والأضحية.
ويحتمل أيضا أمرا رابعا, وهو النذر.
وخامسا: وهو مطلق ذبحها, والصدقة بها على الفقراء.
وإن كانت من غيرها وهي مأكولة احتملت الوقف والنذر, والصدقة, أو غير مأكولة لم يحتمل إلا الوقف فإن فسره بوقف باطل, كعدم تعيين الجهة, وهو عامي قبل منه, وإن قال قصدت أنها سائبة, ففي قبول ذلك منه نظر.
قلت ذلك تخريجا:
الخطبة:
صريحها: أريد نكاحك إذا انقضت عدتك نكحتك.
التعريض:
رب راغب فيك, من يجد مثلك, أنت جميلة, إذا حللت فآذنيني لا تبقين أيما, لست بمرغوب عنك, إن الله سائق إليك خيرا.
النكاح:
صريحه في الإيجاب: لفظ التزويج, والإنكاح, ولا يصح بغيرهما وفي القبول قبلت نكاحها أو تزويجها أو تزوجت أو نكحت.(16/468)
ص -301-…ولا يكفي: قبلت فقط, ولا قد فعلت ولا نعم, في الأصح, بخلاف البيع وحكى ابن هبيرة إجماع الأئمة الأربعة على الصحة في "رضيت نكاحها" قال السبكي: ويجب التوقف في هذا النقل, والذي يظهر أنه لا يصح.
الخلع:
إن قلنا: إنه طلاق "وهو الأظهر" فلفظ الفسخ كناية فيه.
قال في أصل الروضة: وأما لفظ الخلع ففيه قولان:
قال في الأم: كناية, وفي الإملاء: صريح.
قال الروياني وغيره: الأول أظهر, واختار الإمام, والغزالي والبغوي الثاني ولفظ المفاداة: كلفظ الخلع في الأصح. وقيل: كناية قطعا.
وإذا قلنا: لفظ الخلع صريح, فذاك إذا ذكر المال, فإن لم يذكره فكناية على الأصح. وقيل: على القولين.
وهل يقتضي الخلع المطلق الجاري بغير ذكر المال ثبوت المال؟ أصحهما عند الإمام والغزالي, والروياني: نعم للعرف, والثاني: لا لعدم الالتزام.
هذه عبارة الروضة.
وعبارة المنهاج: ولفظ الخلع صريح, وفي قول: كناية.
فعلى الأول: فلو جرى بغير ذكر مال وجب مهر المثل في الأصح.
وهي صريحة في أن لفظ الخلع صريح. وإن لم يذكر معه المال, وهو خلاف ما في الروضة.
قال الشيخ ولي الدين في نكته: والحق أنه لا منافاة بينهما, فإنه ليس في المنهاج أنه صريح مع عدم ذكر المال, فلعل مراده: أنه جرى بغير ذكر مال, مع وجود مصحح له, وهو: اقتران النية به, انتهى.
فالحاصل: أن لفظ الخلع والمفاداة, صريحان, مع ذكر المال, كنايتان إن لم يذكر.
ويصح بجميع كنايات الطلاق, سواء قلنا إنه طلاق, أو فسخ في الأصح.
ومن كناياته: لفظ البيع والشراء, نحو: بعتك نفسك فتقول: اشتريت, أو قبلت والإقالة, وبيع الطلاق بالمهر من جهته, وبيع المهر بالطلاق, من جهتها.(16/469)
ص -302-…الطلاق:
صرائحه:
الطلاق, وكذا الفراق والسراح على المشهور.
كطلقتك, وأنت طالق, ويا طالق, ونصف طالق, وكل طلقة, وأوقعت عليك طلاقي وأنت مطلقة ويا مطلقة, وفيهما وجه.
وأما أنت مطلقة, وأنت طلاق, أو الطلاق, أو طلقة, أو أطلقتك, فالأصح:
أنها كنايات.
وفي: لك طلقة ووضعت عليك طلقة وجهان.
ويجري ذلك في الفراق, والسراح أيضا.
والكنايات:
أنت خلية, برية, بتة, بتلة, بائن, حرام, حرة, واحدة, اعتدي, استبرئي رحمك, الحقي بأهلك حبلك على غاربك, لا أنده سربك, اغربي, اعزبي, اخرجي, اذهبي, سافري, تجردي, تقنعي, تستري, الزمي الطريق, بيني, ابعدي, دعيني, ودعيني, برئت منك لا حاجة لي فيك, أنت وشأنك لعل الله يسوق إليك خيرا, بارك الله لك, بخلاف بارك الله فيك, تجرعي, ذوقي, تزودي, وكذا كلي واشربي, وانكحي, ولم يبق بيني وبينك شيء, ولست زوجة لي في الأصح لا أغناك الله, وقومي واقعدي, وأحسن الله جزاءك, زوديني على الصحيح.
تنبيه:
تقدم أن "نعم" كناية في قبول النكاح فلا ينعقد به وفي قبول البيع, فينعقد على الأصح وينعقد به البيع في جواب الاستفهام جزما وكأنه صريح.
وأما في الطلاق: فلو قيل له: أطلقت زوجتك أو فارقتها, أو زوجتك طالق؟ فقال: نعم فإن كان على وجه الاستخبار, فهو إقرار يؤاخذ به فإن كان كاذبا لم تطلق في الباطن, وإن كان على وجه التماس الإنشاء, فهل هو صريح, أو كناية؟ قولان أظهرهما: الأول, وقطع به بعضهم.
فرع:
الأصح: أن ما اشتهر في الطلاق, سوى الألفاظ الثلاثة الصريحة كحلال الله علي حرام, أنت علي حرام, أو الحل علي حرام كناية لا يلتحق بالصريح.(16/470)
ص -303-…فلو قال لزوجته: أنت علي حرام, أو حرمتك: فإن نوى الطلاق وقع رجعيا: أو نوى عددا وقع ما نواه: أو نوى الظهار فهو ظهار: وإن نواهما معا فهل يكون طلاقا لقوته, أو ظهارا ; لأن الأصل بقاء النكاح, أو يتخير, ويثبت ما اختاره؟ أوجه أصحها الثالث.
وإن نوى أحدهما قبل الآخر. قال ابن الحداد: إن أراد الظهار, ثم أراد الطلاق صحا: وإن أراد الطلاق أولا, فإن كان بائنا, فلا معنى للظهار بعده. وإن كان رجعيا فالظهار موقوف, إن راجعها, فهو صحيح. والرجعة: عود, وإلا فهو لغو.
وقال الشيخ أبو علي: هذا التفصيل فاسد عندي ; لأن اللفظ الواحد: إذا لم يجز أن يراد به التصرفات
لم يختلف الحكم بإرادتهما معا, أو متعاقبين.
كذا في الروضة وأصلها من غير ترجيح.
والراجح مقالة أبي علي, لإطلاقه في الشرح الصغير, والمحرر, والمنهاج: التخيير.
وإن نوى تحريم عينها, أو فرجها, أو وطئها. لم تحرم. وعليه كفارة ; ككفارة اليمين في الحال, وإن لم يطأ في الأصح.
وكذا إن أطلق, ولم ينو شيئا في الأظهر.
فلفظ "أنت علي حرام" صريح في لزوم الكفارة.
ولو قال هذا اللفظ لأمته, ونوى العتق: عتقت, أو الطلاق, أو الظهار فلغو, أو تحريم عينها, لم تحرم وعليه الكفارة.
وكذا إن أطلق في الأظهر.
فإن كانت محرما, فلا كفارة, أو معتدة, أو مرتدة, أو مجوسية, أو مزوجة, أو الزوجة معتدة عن شبهة, أو محرمة, فوجهان ; لأنها محل الاستباحة في الجملة.
أو حائضا, أو نفساء: أو صائمة: وجبت على المذهب ; لأنها عوارض, أو رجعية فلا على المذهب. ولو قال لعبد, أو ثوب ونحوه فلغو لا كفارة فيه, ولا غيرها.
الرجعة:
صرائحها:
رجعتك, وارتجعتك, وراجعتك, وكذا أمسكتك, ورددتك في الأصح. وتزوجتك ونكحتك: كنايتان.
وقيل: صريحان: وقيل: لغو.(16/471)
ص -304-…واخترت رجعتك كناية, وقيل: لغو.
وقيل: إن كل لفظ أدى معنى الصريح في الرجعة, صريح. نحو: رفعت تحريمك وأعدت حلك. والأصح: أن صرائحها منحصرة ; لأن الطلاق صرائحه, محصورة, فالرجعة التي تحصل إباحة أولى.
الإيلاء:
صريحه:
آليتك. وتغييب ذكر أو حشفة بفرج, والجماع بذكر, والافتضاض بذكر للبكر.
وكذا مطلق الجماع, والوطء, والإصابة, والافتضاض للبكر, من غير ذكره, على الصحيح.
والكنايات:
المباشرة, والمباضعة, والملامسة, والمس, والإفضاء, والمباعلة, والدخول بها, والمضي إليها, والغشيان, والقربان, والإتيان.
والقديم: أنها كلها صرائح.
واتفق على أن: لأبعدن عنك, ولا يجمع رأسي ورأسك وسادة, ولا نجتمع تحت سقف. ولتطولن غيبتي عنك. ولأسوأنك ولأغيظنك: كنايات في الجماع, والمدة معا.
وقوله: ليطولن تركي لجماعك, أو لأسوأنك في الجماع صريح فيه, كناية في المدة.
الظهار:
صريحه: أنت علي أو معي, أو عندي, أو مني, أو لي: كظهر أمي, وكذا: أنت كظهر أمي: بلا صلة وقيل: إنه كناية.
وكذا: جملتك, أو نفسك, أو ذاتك, أو جسمك: كظهر أمي, وكذا كبدن أمي أو جسمها, أو جملتها أو ذاتها, وكذا كيدها أو رجلها أو صدرها, أو بطنها أو فرجها, أو شعرها على الأظهر. وكعينها: كناية. إن قصد ظهارا فظهار أو كرامة فلا.
وكذا إن أطلق في الأصح.
وقوله: كروحها كناية, وقيل: لغو.
وكرأسها: صريح قطع به العراقيون, وقيل: كناية.(16/472)
ص -305-…قال في أصل الروضة: وهو أقرب.
وقوله: كأمي, أو مثل أمي: كناية, كعينها.
القذف:
صريحه:
لفظ الزنا: كقوله: زنيت, أو زنيت, أو يا زان, أو يا زانية, والنيك وإيلاج الحشفة, أو الذكر, مع الوصف بتحريم ; أو دبر. وسائر الألفاظ المذكورة في الإيلاج أنها صريحة هنا إذا انضم إليها الوصف بالتحريم. ولطت, ولاط بك وزنيت في الجبل. وفيه وجه: أنه كناية, وزنا فرجك, أو ذكرك, أو قبلك, أو دبرك.
ولامرأة: زنيت في قبلك. ولرجل: بقبلك ولخنثى: ذكرك وفرجك معا ولولد غيره الذي لم ينف بلعان: لست ابن فلان.
والكنايات
يا فاجر, يا فاسق, يا خبيث يا خبيثة, يا سفيه أنت تحبين الخلوة لا تردين يد لامس ولقرشي: يا نبطي, أو لست من قريش.
ولولده: لست ابني.
وللمنفي باللعان لست ابن فلان.
ولزوجته: لم أجدك عذراء, في الجديد ولأجنبية: قطعا وأنت أزنى الناس أو أزنى من الناس, أو يا أزنى الناس أو أزنى من فلان على الصحيح في الكل.
وزنأت في الحبل. على الصحيح, وكذا: زنأت فقط, أو يا زانئ بالهمزة في الأصح ويا زانية في الجبل بالياء على المنصوص. ولرجل: زنيت في قبلك. وزنت يدك أو رجلك أو عينك أو أحد قبلي المشكل ويا لوطي. على المعروف في المذهب.
واختار في زوائد الروضة: أنه صريح ; لأن احتمال إرادة أنه على دين لوط لا يفهمه العوام أصلا ولا يسبق إلى ذهن غيرهم.
ومن الكنايات:
يا قواد يا مؤاجر, وفيهما وجه: أنهما صريحان.
ويا مأبون: كما في فتاوى النووي, يا قحبة ويا علق, كما في فتاوى الشاشي وفروع ابن القطان. وجزم ابن الصباغ والشيخ عز الدين بأن: يا قحبة صريح.
وأفتى الشيخ عز الدين بأن: يا مخنث صريح للعرف.
وفي فروع ابن القطان بأن: يا بغي كناية.(16/473)
ص -306-…والتعريض:
يا ابن الحلال, أما أنا فلست بزان, وأمي ليست بزانية, ما أحسن اسمك في الجيران ما أنا ابن خباز ولا إسكاف.
فلا أثر لذلك وإن نوى به القذف ; لأن النية إنما تؤثر إذا احتمل اللفظ المنوي, ولا دلالة في هذا اللفظ ولا احتمال وما يفهم منه مستنده: قرائن الأحوال. وفي وجه: أنه كناية لحصول الفهم والإيذاء.
ضابط:
قال الحليمي: كل ما حرم التصريح به لعينه, فالتعريض به حرام كالكفر والقذف. وما حل التصريح به أو حرم, لا لعينه. بل لعارض, فالتعريض به جائز, كخطبة المعتدة.
العتق:
صريحه:
التحرير والإعتاق.
نحو: أنت حر أو محرر أو حررتك, أو عتيق أو معتق أو أعتقتك, وكذا فك الرقبة في الأصح. والكنايات:
لا ملك لي عليك, لا سبيل, لا سلطان, لا يد, لا أمر لا خدمة, أزلت ملكي عنك, حرمتك, أنت سائبة أنت بتة أنت لله, وهبتك نفسي
وكل صرائح الطلاق وكناياته: كنايات فيه وكذا أنت علي كظهر أمي في الأصح.
فرعان:
الأول: لا أثر للخطأ في التذكير والتأنيث, في الطلاق والعتق والقذف.
فلو قال لها: أنت طالق أو أنت حر أو زان أو زنيت أو له, أنت حرة أو زانية, أو زنيت فهو صريح. الثاني: لو قال لعبده أنت ابني - ومثله يجوز أن يكون ابنا له - ثبت نسبه وعتق إن كان صغيرا أو بالغا وصدقه, وإن كذبه عتق أيضا ولا نسب.
فإن لم يمكن كونه ابنه - بأن كان أصغر منه, على حد لا يتصور كونه ابنه - لغا قوله ولم يعتق ; لأنه ذكر محالا.
فإن كان معروف النسب من غيره, لم يلحقه.(16/474)
ص -307-…لكن يعتق في الأصح, لتضمنه الإقرار بحريته.
وفي نظيره, في المرأة: لو قال لها: أنت بنتي.
قال الإمام: الحكم في حصول الفراق وثبوت النسب كما في العتق.
قال في الروضة من زوائده: والمختار أنه لا يقع به فرقة, إذا لم تكن نية ; لأنه إنما يستعمل في العادة للملاطفة وحسن المعاشرة.
التدبير:
صريحه:
أنت حر بعد موتي, أعتقتك حررتك بعد موتي, إذا مت فأنت حر أو عتيق.
والكناية:
خليت سبيلك بعد موتي.
ولو قال: دبرتك أو أنت مدبر, فالنص: أنه صريح فيعتق به إذا مات السيد.
ونص في الكتابة أن قوله: كاتبتك على كذا, لا يكفي حتى يقول: فإذا أديت فأنت حر, أو ينويه فقيل: فيهما قولان:
أحدهما: صريحان لاشتهارهما في معناهما, كالبيع والهبة.
والثاني: كنايتان لخلوهما عن لفظ الحرية والعتق, والمذهب: تقرير النصين والفرق: أن التدبير مشهور بين الخواص والعوام, والكناية لا يعرفها العوام.
عقد الأمان:
صريحه:
أجرتك, أنت مجار, أنت آمن, أمنتك, أنت في أماني, لا بأس عليك, لا خوف عليك, لا تخف لا تفزع.
والكناية:
أنت على ما تحب, كن كيف شئت.
ولاية القضاء:
صريحه:
وليتك القضاء, قلدتك, استنبتك, استخلفتك, اقض بين الناس, احكم ببلد كذا.
والكناية:
اعتمدت عليك في القضاء, رددته إليك, فوضته إليك, أسندته.(16/475)
ص -308-…قال الرافعي: ولا يكاد يتضح فرق بين وليتك القضاء وفوضته إليك وقال النووي: الفرق واضح, فإن وليتك متعين لجعله قاضيا وفوضت إليك محتمل لأن يراد توكيله في نصب قاض.
ومن الكنايات, كما في أدب القضاء لابن أبي الدم:
عولت عليك, عهدت إليك, وكلت إليك.
القول في الكتابة:
فيها مسائل:
الأولى: في الطلاق فإن كتبه الأخرس فأوجه, أصحها أنه كناية, فيقع الطلاق إن نوى, ولم يشر. والثاني: لا بد من الإشارة.
والثالث: صريح.
وأما الناطق: فإن تلفظ بما كتبه, حال الكتابة أو بعدها طلقت, وإن لم يتلفظ فإن لم ينو إيقاع الطلاق لم يقع على الصحيح, وقيل يقع فيكون صريحا.
وإن نوى فأقوال أظهرها تطلق والثاني لا والثالث إن كانت غائبة عن المجلس طلقت وإلا فلا.
قال في أصل الروضة: وهذا الخلاف جار في سائر التصرفات التي لا تحتاج إلى قبول كالإعتاق والإبراء والعفو عن القصاص وغيرها.
وأما ما يحتاج إلى قبول فهو نكاح وغيره, فغير النكاح كالبيع والهبة والإجارة ففي انعقادها بالكتابة خلاف مرتب على الطلاق وما في معناه إن لم يصح بها فهنا أولى, وإلا فوجهان للخلاف في انعقاد هذه التصرفات بالكنايات ; ولأن القبول شرط فيها فيتأخر عن الإيجاب, والمذهب الانعقاد.
ثم المكتوب إليه: له أن يقبل بالقول وهو أقوى وله أن يكتب القبول.
وأما النكاح: ففيه خلاف مرتب, والمذهب منعه بسبب الشهادة فلا اطلاع للشهود على النية.
ولو قالا بعد الكتابة: نوينا: كان شهادة على إقرارهما, لا على نفس العقد, ومن جوز, اعتمد الحاجة.
وحيث جوزنا انعقاد البيع ونحوه بالكتابة, فذلك في حال الغيبة.
فأما عند الحضور: فخلاف مرتب, والأصح الانعقاد.(16/476)
ص -309-…وحيث جوزنا انعقاد النكاح بها فيكتب: زوجتك بنتي, ويحضر الكتاب عدلان ; ولا يشترط أن يحضرهما ولا أن يقول: اشهدا, فإذا بلغه يقبل لفظا أو يكتب القبول ويحضره شاهدا الإيجاب, ولا يكفي غيرهما في الأصح.
ولو كتب إليه بالوكالة فإن قلنا: لا يحتاج إلى القبول فهو ككتابة الطلاق وإلا فكالبيع ونحوه.
وولاية القضاء كالوكالة, فالمذهب صحتها بالكتابة, وكذا يقع العزل بالكتابة. وإن كتب إليه: إذا أتاك كتابي فأنت معزول, لم ينعزل قبل أن يصل إليه الكتاب قطعا قاضيا كان أو وكيلا, وكذا في الطلاق.
وإن كتب: أنت معزول أو عزلتك, فالأظهر العزل في الحال في الوكيل دون القاضي لعظم الضرر في نقض أقضيته.
ولا خلاف في وقوع الطلاق في نظير ذلك, في الحال.
وإن كتب: إذا قرأت كتابي فأنت معزول أو طالق, لم يحصل العزل والطلاق بمجرد البلوغ, بل بالقراءة.
فإن قرئ عليه أو عليها - وهما أميان - وقع الطلاق والعزل.
وإن كانا قارئين, فالأصح انعزال القاضي ; لأن الغرض إعلامه وعدم وقوع الطلاق لعدم قراءتها مع الإمكان, وقيل: لا ينعزل القاضي أيضا. وقيل: يقع الطلاق كالعزل.
والفرق: أن منصب القاضي يقتضي القراءة عليه دون المرأة.
تنبيه:
قال ابن الصلاح: ينبغي للمجيز في الرواية كتابة أن يتلفظ بالإجازة أيضا, فإن اقتصر على الكتابة ولم يتلفظ مع قصد الإجازة صحت, وإن لم يقصد الإجازة. قال ابن الصلاح: فغير مستبعد تصحيح ذلك في هذا الباب كما أن القراءة على الشيخ - إذا لم يتلفظ بما قرأ عليه - جعلت إخبارا منه بذلك وقال الحافظ أبو الفضل العراقي: الظاهر عدم الصحة.
المسألة الثانية:
قال النووي في الأذكار: من كتب سلاما في كتاب, وجب على المكتوب إليه رد السلام إذا بلغه الكتاب, قاله المتولي وغيره, وزاد في شرح المهذب أنه يجب الرد على الفور.
الثالثة:
هل يجوز الاعتماد على الكتابة والخط؟.(16/477)
ص -310-…فيه فروع:
الأول: الرواية, فإذا كتب الشيخ بالحديث إلى حاضر أو غائب أو أمر من كتب فإن قرن بذلك إجازة ; جاز الاعتماد عليه والرواية قطعا ; وإن تجردت عن الإجازة فكذلك على الصحيح المشهور.
ويكفي معرفة خط الكاتب وعدالته, وقيل لا بد من إقامة البينة عليه.
الثاني: أصح الوجهين في الروضة والشرح والمنهاج والمحرر, جواز رواية الحديث اعتمادا على خط محفوظ عنده, وإن لم يذكر سماعه.
الثالث: يجوز اعتماد الراوي على سماع جزء وجد اسمه مكتوبا فيه: أنه سمعه إذا ظن ذلك بالمعاصرة واللقي ونحوهما مما يغلب على الظن وإن لم يتذكر وتوقف فيه القاضي حسين. الرابع: عمل الناس اليوم على النقل من الكتب ونسبة ما فيها إلى مصنفيها.
قال ابن الصلاح: فإن وثق بصحة النسخة فله أن يقول: قال فلان وإلا فلا يأتي بصيغة الجزم.
وقال الزركشي في جزء له: حكى الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني, الإجماع على جواز النقل من الكتب المعتمدة ولا يشترط اتصال السند إلى مصنفيها.
وقال: إلكيا الطبري في تعليقه, من وجد حديثا في كتاب صحيح جاز له أن يرويه ويحتج به.
وقال قوم من أصحاب الحديث: لا يجوز ; لأنه لم يسمعه وهذا غلط.
وقال ابن عبد السلام: أما الاعتماد على كتب الفقه الصحيحة الموثوق بها, فقد اتفق العلماء في هذا العصر على جواز الاعتماد عليها والاستناد إليها ; لأن الثقة قد حصلت بها كما تحصل بالرواية, ولذلك اعتمد الناس على الكتب المشهورة في النحو, واللغة, والطب وسائر العلوم لحصول الثقة بها وبعد التدليس.
ومن اعتقد أن الناس قد اتفقوا على الخطإ في ذلك, فهو أولى بالخطأ منهم:
ولولا جواز الاعتماد على ذلك لتعطل كثير من المصالح المتعلقة بها.
وقد رجع الشارع إلى قول الأطباء في صور.
وليست كتبهم مأخوذة في الأصل إلا عن قوم كفار.
ولكن لما بعد التدليس فيها اعتمد عليها, كما اعتمد في اللغة على أشعار العرب وهم كفار لبعد التدليس, انتهى.(16/478)
الخامس: إذا ولى الإمام رجلا كتب له عهدا وأشهد عليه عدلين, فإن لم يشهد, فهل يلزم الناس طاعته ويجوز لهم الاعتماد على الكتاب؟ خلاف.(16/479)
ص -311-…والمذهب: أنه لا يجوز اعتماد مجرد الكتاب من غير إشهاد ولا استفاضة.
السادس: إذا رأى القاضي ورقة فيها حكمه لرجل, وطالب عنه إمضاءه والعمل به ولم يتذكره, لم يعتمده قطعا لإمكان التزوير.
وكذا الشاهد: لا يشهد بمضمون خطه إذا لم يتذكر, فلو كان الكتاب محفوظا عنده وبعد احتمال التزوير والتحريف, كالمحضر والسجل الذي يحتاط فيه, فوجهان الصحيح أيضا: أنه لا يقضي به ولا يشهد, ما لا يتذكر بخلاف ما تقدم في الرواية ; لأن بابها على التوسعة.
السابع: إذا رأى بخط أبيه أن لي على فلان كذا أو أديت إلى فلان كذا:
قال الأصحاب: فله أن يحلف على الاستحقاق والأداء اعتمادا على خط أبيه, إذا وثق بخطه وأمانته. قال القفال وضابط وثوقه أن يكون بحيث لو وجد في تلك التذكرة لفلان علي كذا لا يجد من نفسه أن يحلف على نفي العلم به, بل يؤديه من التركة.
وفرقوا بينه وبين القضاء والشهادة بأن خطرهما عظيم ولأنهما يتعلقان به, ويمكن التذكر فيهما, وخط المورث لا يتوقع فيه يقين, فجاز اعتماد الظن فيه, حتى لو وجد ذلك بخط نفسه, لم يجز له الحلف حتى يتذكر.
قاله في الشامل, وأقره في أصل الروضة في باب القضاء.
الثامن: يجوز الاعتماد على خط المفتي.
التاسع: قال الماوردي والروياني: لو كتب له في ورقة بلفظ الحوالة, ووردت على المكتوب إليه, لزمه أداؤها إذا اعترف بدين الكاتب وأنه خطه وأراد به الحوالة وبدين المكتوب له فإن أنكر شيئا من ذلك لم يلزمه.
ومن أصحابنا: من ألزمه إذا اعترف بالكتاب والدين اعتمادا على العرف ولتعذر الوصول إلى الإرادة. العاشر: شهادة الشهود على ما كتب في وصية, لم يطلعا عليها.
قال الجمهور: لا يكفي. وفي وجه: يكفي, واختاره السبكي.
الحادي عشر: إذا وجد مع اللقيط رقعة فيها, أن تحته دفينا وأنه له, ففي اعتمادها وجهان. أصحهما عند الغزالي: نعم. والثاني: لا, وهو الموافق لكلام الأكثرين.
تنبيه:(16/480)
حكم الكتابة على القرطاس, والرق ; واللوح, والأرض, والنقش على الحجر والخشب: واحد ; ولا أثر لرسم الأحرف على الماء والهواء.(16/481)
ص -312-…القول في الإشارة:
الإشارة من الأخرس معتبرة, وقائمة مقام عبارة الناطق, في جميع العقود, كالبيع والإجارة والهبة, والرهن, والنكاح, والرجعة, والظهار.
والحلول: كالطلاق, والعتاق, والإبراء, وغيرهما, كالأقارير ; والدعاوى, واللعان, والقذف والإسلام.
ويستثنى صور:
الأولى: شهادته لا تقبل بالإشارة في الأصح.
الثانية: يمينه لا ينعقد بها, إلا اللعان.
الثالثة: إذا خاطب بالإشارة في الصلاة لا تبطل على الصحيح.
الرابعة: حلف لا يكلمه, فأشار إليه, لا يحنث.
الخامسة: لا يصح إسلام الأخرس بالإشارة في قول, حتى يصلي بعدها والصحيح صحته.
وحمل النص المذكور على ما إذا لم تكن الإشارة مفهمة.
وإذا قلنا باعتبارها, فمنهم من أراد الحكم على إشارته المفهومة, نوى أم لا, وعليه البغوي.
وقال الإمام, وآخرون: إشارته منقسمة إلى صريحة مغنية عن النية, وهي التي يفهم منها المقصود كل واقف عليها, وإلى كناية مفتقرة إلى النية, وهي التي تختص بفهم المقصود بها المخصوص بالفطنة, والذكاء, كذا حكاه في أصل الروضة: والشرحين من غير تصريح بترجيح. وجزم بمقالة الإمام في المحرر والمنهاج.
قال الإمام: ولو بالغ في الإشارة, ثم ادعى أنه لم يرد الطلاق, وأفهم هذه الدعوى فهو كما لو فسر اللفظ الشائع في الطلاق بغيره, وسواء في اعتبارها: قدر على الكتابة أم لا كما أطلقه الجمهور, وصرح به الإمام.
وشرط المتولي عجزه عن كتابة مفهمة, فإن قدر عليها, فهي المعتبرة ; لأنها أضبط.
وينبغي أن يكتب مع ذلك: إني قصدت الطلاق, ونحوه:
وأما القادر على النطق, فإشارته لغو. إلا في صور:
الأولى: إشارة الشيخ في رواية الحديث, كنطقه, وكذا المفتي.
الثانية: أمان الكفار, ينعقد بالإشارة: تغليبا لحقن الدم. كأن يشير مسلم إلى كافر فينحاز إلى صف المسلمين وقالا: أردنا بالإشارة: الأمان.(16/482)
ص -313-…الثالثة: إذا سلم عليه في الصلاة, يرد بالإشارة.
الرابعة: قال: أنت طالق, وأشار بأصبعين ; أو ثلاث وقصد وقع ما أشار به.
فإن قال: مع ذلك, هكذا: وقع بلا نية.
ولو قال: أنت هكذا ; ولم يقل "طالق" ففي تعليق القاضي حسين: لا يقع شيء.
وفي فتاوى القفال: إن نوى الطلاق طلقت, كما أشار.
وإن لم ينو أصل الطلاق: لم يقع شيء.
وحكي وجه: أنه يقع ما أشار من غير نية, وما قاله القفال أظهر.
ولو قال: أنت, ولم يزد, وأشار: لم يقع شيء أصلا ; لأنه ليس من ألفاظ الكنايات.
فلو اعتبر: كان اعتبار النية وحدها بلا لفظ.
الخامسة:
الإشارة بالطلاق: نية كناية في وجه لكن الأصح خلافه.
ولو قال لإحدى زوجتيه: أنت طالق وهذه, ففي افتقار طلاق الثانية إلى نية:
وجهان:
ولو قال: امرأتي طالق, وأشار إلى إحداهما, ثم قال: أردت الأخرى, قبل في الأصح.
السادسة:
لو أشار المحرم إلى صيد, فصيد: حرم عليه الأكل منه, لحديث: "هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها, أو أشار إليها؟" فلو أكل, فهل يلزمه الجزاء؟ قولان, أظهرهما: لا.
فرع:
من المشكل, ما نقله الرافعي عن التهذيب: أن ذبيحة الأخرس تحل إن كانت له إشارة مفهمة وإلا فقولان كالمجنون.
والذي ينبغي القطع بحل ذبيحته, سواء كانت له إشارة مفهمة أم لا ; إذ لا مدخل لذلك في قطع الحلقوم والمريء.
وقد قال الشافعي في المختصر: ولا بأس بذبيحة الأخرس.(16/483)
ص -314-…فرع:
قال الأسنوي: إشارة الأخرس بالقراءة - وهو جنب - كالنطق, صرح به القاضي حسين في فتاويه, وعموم كلام الرافعي في الصلاة يدل عليه.
وفي المطلب: ذكروا في صفة الصلاة: "والأخرس يجب عليه تحريك لسانه". قال: فليحرم عليه إذا كان جنبا تحريك اللسان بالقرآن.
فرع:
المعتقل لسانه, واسطة بين الناطق والأخرس.
فلو أوصى في هذه الحالة بإشارة مفهمة, أو قرئ كتاب الوصية, فأشار برأسه, أن نعم: صحت. فرع:
اشترط النطق في الإمام الأعظم, والقاضي, والشاهد. وفيهما وجه.
فرع:
علق الطلاق بمشيئة أخرس, فأشار بالمشيئة, وقع.
فإن كان حال التعليق ناطقا, فخرس بعد ذلك. ثم أشار بالمشيئة. وقع أيضا في الأصح إقامة لإشارته مقام النطق المعهود في حقه.
ولو أشار - وهو ناطق - لم يقع على الأصح.
تنبيه:
حيث طلبت الإشارة من الناطق وغيره. لم يقم مقامها شيء, كالإشارة بالمسبحة في التشهد, والإشارة إلى الحجر الأسود. والركن اليماني عند العجز عن الاستلام.
قاعدة:
إذا اجتمعت الإشارة والعبارة, واختلف موجبهما: غلبت الإشارة.
وفي ذلك فروع:
منها: ما لو قال أصلي خلف زيد, أو على زيد هذا. فبان عمرا. فالأصح: الصحة وكذا: على هذا الرجل, فبان امرأة.
ولو قال: زوجتك فلانة هذه, وسماها بغير اسمها: صح قطعا: وحكي فيه وجه ولو قال: زوجتك هذا الغلام. وأشار إلى بنته. نقل الروياني عن الأصحاب صحة النكاح ; تعويلا على الإشارة.(16/484)
ص -315-…ولو قال: زوجتك هذه العربية. فكانت عجمية. أو هذه العجوز, فكانت شابة أو هذه البيضاء, فكانت سوداء, أو عكسه. وكذا المخالفة في جميع وجوه النسب, والصفات. والعلو. والنزول, ففي صحة النكاح قولان. والأصح: الصحة.
ولو قال: بعتك داري هذه, وحددها, وغلط في حدودها. صح البيع. بخلاف ما لو قال: بعتك الدار التي في المحلة الفلانية. وحددها, وغلط ; لأن التعويل هناك على الإشارة.
ولو قال: بعتك هذا الفرس. فكان بغلا, أو عكسه فوجهان, والأصح هنا: البطلان.
قال في شرح المهذب: إنما صحح البطلان هنا ; تغليبا لاختلاف غرض المالية. وصحح الصحة في الباقي تغليبا للإشارة.
وحينئذ فتستثنى هذه الصورة من القاعدة:
ويضم إليها: من حلف لا يكلم هذا الصبي فكلمه شيخا أو لا يأكل هذا الرطب فأكله تمرا, أو لا يدخل هذه الدار, فدخلها عرصة. فالأصح: أنه لا يحنث.
ولو خالعها على هذا الثوب الكتان: فبان قطنا, أو عكسه فالأصح: فساد الخلع ويرجع بمهر المثل.
ولو قال: خالعتك على هذا الثوب الهروي, أو وهو هروي. فبان خلافه.
صح. ولا رد له, بخلاف ما لو قال: على أنه هروي, فبان مرويا. فإنه يصح, ويملكه. وله الخيار, فإن رده رجع إلى مهر المثل. وفي قول: قيمته.
ولو قال: إن أعطيتني هذا الثوب - وهو هروي - فأنت طالق. فأعطته. فبان مرويا, لم يقع الطلاق ; لأنه علقه بإعطائه, بشرط أن يكون هرويا, ولم يكن كذلك. فكأنه قال: إن كان هرويا.
ولو قال: إن أعطيتني هذا الهروي, فأعطته, فبان مرويا, فوجهان:
أحدهما: لا تطلق, تنزيلا له على الاشتراط. كما سبق.
والثاني: تقع البينونة ; تغليبا للإشارة.
قال الرافعي: وهذا أشبه, وصححه في أصل الروضة.
ثم فرق بين قوله: وهو هروي, في "إن أعطيتني" حيث أفاد الاشتراط, فلم يقع الطلاق.
وفي "خالعتك" حيث لم يفده, فلا رد له بأنه دخل في "إن أعطيتني" على كلام غير مستقل, فيتقيد بما دخل عليه.
وتمامه بالفراغ من قوله: "فأنت طالق"(16/485)
ص -316-…وأما قوله: خالعتك على هذا الثوب, فكلام مستقل, فجعل قوله بعده "وهو هروي" جملة مستقلة. فلم تتقيد بها الأولى.
ولو قال: لا آكل من هذه البقرة, وأشار إلى شاة حنث بأكل لحمها. ولا تخرج على الخلاف في البيع ونحوه ; لأن العقود يراعى فيها شروط وتقييدات لا تعتبر مثلها في الأيمان, فاعتبر هنا الإشارة, وجها واحدا.
ولو قال: إن اشتريت هذه الشاة, فلله علي أن أجعلها أضحية, فاشتراها. فوجهان:
أحدهما: لا يجب ; تغليبا للإشارة, فإنه أوجب المعينة قبل الملك.
والثاني: يجب تغليبا لحكم العبارة, فإنها عبارة نذر, وهو متعلق بالذمة, كما لو قال: إن اشتريت شاة فلله علي جعلها أضحية, فإنه نذر مضمون في الذمة. فإذا اشترى شاة لزمه جعلها أضحية.
القول في الملك:
وفيه مسائل:
الأولى في تفسيره.
قال ابن السبكي: هو حكم شرعي يقدر في عين أو منفعة. يقتضي تمكن من ينسب إليه, من انتفاعه, والعوض عنه من حيث هو كذلك.
فقولنا "حكم شرعي" ; لأنه يتبع الأسباب الشرعية.
وقولنا "يقدر" ; لأنه يرجع إلى تعلق إذن الشرع, والتعلق عدمي, ليس وصفا حقيقيا بل يقدر في العين أو المنفعة, عند تحقق الأسباب المفيدة للملك.
وقولنا: في عين, أو منفعة لأن المنافع تملك كالأعيان.
وقولنا: "يقتضي انتفاعه" يخرج تصرف القضاة, والأوصياء, فإنه في أعيان أو منافع لا يقتضي انتفاعهم ولأنهم لا يتصرفون لانتفاع أنفسهم, بل لانتفاع المالكين.
وقولنا: "والعوض عنه" يخرج الإباحات في الضيافات, فإن الضيافة مأذون فيها, ولا تملك.
ويخرج أيضا: الاختصاص بالمساجد, والربط ; ومقاعد الأسواق ; إذ لا ملك فيها مع التمكن من التصرف.
وقولنا: "من حيث هو كذلك", إشارة إلى أنه قد يتخلف لمانع لعرض, كالمحجور عليهم, لهم الملك وليس لهم التمكن من التصرف, لأمر خارجي.(16/486)
ص -317-…الثانية:
قال في الكفاية: أسباب التملك ثمانية:
المعاوضات. والميراث. والهبات. والوصايا. والوقف. والغنيمة. والإحياء. والصدقات.
قال ابن السبكي: وبقيت أسباب أخر.
منها, تملك اللقطة بشرطه.
ومنها: دية القتيل, يملكها أولا, ثم تنقل لورثته, على الأصح.
ومنها: الجنين. الأصح: أنه يملك الغرة.
ومنها: خلط الغاصب المغصوب بماله, أو بمال آخر لا يتميز, فإنه يوجب ملكه إياه.
ومنها: الصحيح: أن الضيف يملك ما يأكله. وهل يملك بالوضع بين يديه, أو في الفم أو بالأخذ, أو بالازدراد يتبين حصول الملك قبيله؟ أوجه.
ومنها: الوضع بين يدي الزوج المخالع على الإعطاء.
ومنها: ما ذكره الجرجاني في المعاياة: أن السابي إذا وطئ المسبية كان متملكا لها, وهو غريب عجيب.
قلت: الأخير - إن صح - داخل في الغنيمة, والذي قبله داخل في المعاوضات كسائر صور الخلع, وكذا الصداق.
وأما مسألة الضيف: فينبغي أن يعبر عنها بالإباحة: لتدخل هي وغيرها من الإباحات التي ليست بهبة, ولا صدقة. ويعبر عن الدية والغرة بالجناية. ليشمل أيضا دية الأطراف والمنافع والجرح والحكومات. وقد قلت قديما:
وفي الكفاية أسباب التملك خذ…ثمانيا, وعليها زاد من لحقه
الإرث, والهبة, الإحيا, الغنيمه والمـ…ـعاوضات, الوصايا, الوقف, والصدقه
والوضع بين يدى زوج يخالعها…والضيف, والخلع للمغصوب والسرقه
كذا الجناية مع تمليك لقطته…والوطء للسبي فيما قال من سبقه
قلت: الأخيرة إن صحت فداخلة…في الغنم. والخلع في التعويض كالصدقه
الثالثة:
قال العلائي: لا يدخل في ملك الإنسان شيء بغير اختياره, إلا في الإرث اتفاقا, والوصية. إذا قيل: إنها تملك بالموت, لا بالقبول. والعبد, إذا ملك شيئا, فإنه يصح قبوله بغير إذن السيد في أحد الوجهين فيدخل في ملك السيد بغير اختياره وكذلك غلة(16/487)
ص -318-…الموقوف عليه, ونصف الصداق إذا طلق قبل الدخول ; والمعيب إذا رد على البائع به. وأرش الجناية, وثمن النقص إذا تملكه الشفيع. والمبيع إذا تلف قبل القبض, دخل الثمن في ملك المشتري, وكذلك بما ملكه من الثمار, والماء النابع في ملكه. وما يسقط فيه من الثلج, أو ينبت فيه من الكلإ ; ونحوه.
قلت: وما يقع فيه من صيد, وصار مقدورا عليه, بتوحيل وغيره, على وجه. والإبراء من الدين, إذا قلنا: إنه تمليك لا يحتاج إلى قبول, في الأصح المنصوص, ولا يرتد بالرد على الأصح في زوائد الروضة.
الرابعة: المبيع ونحوه من المعاوضات يملك بتمام العقد.
فلو كان خيار مجلس, أو شرط. فهل الملك في زمن الخيار للبائع, استصحابا لما كان أو المشتري, لتمام البيع بالإيجاب والقبول, أو موقوف إن تم البيع, بان أنه للمشتري من حين العقد, وإلا فللبائع؟ أقوال.
وصحح الأول فيما إذا كان الخيار للبائع وحده.
والثاني: إذا كان للمشتري وحده.
والثالث: إذا كان لهما.
وهذه المسألة من غرائب الفقه, فإن لها ثلاثة أحوال, وفي كل حال ثلاثة أقوال, وصحح في كل حال من الثلاثة.
ويقرب منها: الأقوال في ملك المرتد.
فالأظهر: أنه موقوف إن مات مرتدا بان زواله من الردة وإن أسلم بان أنه لم يزل ; لأن بطلان أعماله: يتوقف على موته مرتدا, فكذلك ملكه.
والثاني: أنه يزول بنفس الردة ; لزوال عصمة الإسلام, وقياسا على النكاح.
والثالث: لا, كالزاني المحصن.
قال الرافعي: والخلاف في زوال ملكه يجري أيضا في ابتداء التملك إذا اصطاد, واحتطب, فعلى الزوال لا يدخل في ملكه, ولا يثبت الملك فيه لأهل الفيء, بل يبقى على الإباحة, كما لا يملك المحرم الصيد إذا اصطاده, ويبقى على الإباحة, وعلى مقابله يملكه, كالحربي, وعلى الوقف موقوف.
ويقرب من ذلك أيضا: ملك الموصى له والموصى به, وفيه أقوال.
أحدها: يملك بالموت.
والثاني: بالقبول, والملك قبله للورثة, وفي وجه: للميت.(16/488)
ص -319-…والثالث: - وهو الأظهر - موقوف. إن قبل, بان أنه ملكه بالموت, وإلا بان أنه كان للوارث. ويقرب من ذلك أيضا: الموهوب, وفيه أقوال.
أظهرها: يملك بالقبض, وفي القديم بالعقد, كالبيع.
والثالث: موقوف. إن قبضه, بان أنه ملكه بالعقد.
ويقرب من ذلك أيضا:
الأقوال في أن الطلاق الرجعي, هل يقطع النكاح؟
ففي قول: نعم, وفي قول: لا.
وفي قول موقوف, إن راجع بان بقاء النكاح, وإلا بان زواله من حين الطلاق.
فوائد:
الخلاف ينبني عليه في المبيع, والموصى به: كسب العبد, وما في معناه, كاللبن, والبيض, والثمرة, ومهر الجارية الموطوءة بشبهة, وسائر الزوائد, فهي مملوكة لمن له الملك. وموقوفة عند الوقف.
وينبني عليه أيضا: النفقة. والفطرة, وسائر المؤن, كما صرح به الرافعي في الموصى به, وابن الرفعة في المبيع, خلافا لقول الجيلي: إنها على قول الوقف عليهما, أو ينبني على الخلاف في المرتد صحة تصرفاته.
فعلى الزوال: لا يصح منه بيع, ولا شراء, ولا إعتاق, ولا وصية, ولا غيرها. وعلى مقابله: هو ممنوع من التصرف, محجور عليه كحجر المفلس, فيصح منه ما يصح من المفلس, دون غيره.
وعلى الوقف: يوقف كل تصرف يحتمل الوقف, كالعتق والتدبير والوصية. وما لا يقبله: كالبيع والهبة والكتابة ونحوها باطلة.
ولا يصح نكاحه ولا إنكاحه لسقوط ولايته.
وفي وجه: أنه يجوز أن يزوج أمته, بناء على بقاء الملك.
وعلى الأقوال كلها: يقضى منه دين لزمه قبلها.
وقال الإصطخري: لا ; بناء على الزوال وينفق عليه منه.
وفي وجه: لا ; بناء على الزوال وينفق على زوجات وقف نكاحهن, وقريب ويقضى منه غرامة ما أتلفه في الردة.
وفي وجه: لا بناء على الزوال.(16/489)
ص -320-…تنبيه:
دخل فيما ذكرناه.
أولا: الإجارة, فتملك الأجرة أيضا بنفس العقد, سواء كانت معينة أو في الذمة. كما صرح به القاضي حسين وغيره.
ويملك المستأجر المنفعة في الحال أيضا, وتحدث على ملكه.
وفي البحر: وجه غريب أنها تحدث على ملك المؤجر.
وبنى على ذلك: إجارة العين من مؤجرها بعد القبض.
فإن قلنا: تحدث على ملك المؤجر, لم يجز لئلا يؤدي إلى أنه يملك منفعة ملكه كما لا يتزوج بأمته, وإن قلنا: يحدث على ملك المستأجر, جاز.
فصل:
وفيما يملك به القرض قولان مستنبطان, لا منصوصان.
أظهرهما: بالقبض والثاني: بالتصرف.
قال الرافعي: ومعناه أنه إذا تصرف تبين ثبوت ملكه قبله, كذا جزم به.
وفي البسيط وجه: أنه يستند الملك إلى العقد.
قلت: فعلى هذا فيه أيضا ثلاثة أقوال:
ثالثها الوقف فإن تصرف, بان أنه ملكه بالعقد وإلا فلا.
ثم المراد كل تصرف يزيل الملك, وقيل يتعلق بالرقبة, وقيل: يستدعي الملك, وقيل: يمنع رجوع البائع عند الإفلاس والواهب.
فعلى الأوجه: يكفي البيع والهبة والإعتاق والإتلاف, ولا يكفي الرهن والتزويج, والإجارة والطحن والخبز والذبح على الأول.
ويكفي ما سوى الإجارة على الثاني ويكفي ما سوى الرهن على الثالث.
فصل:
يملك العامل حصته في المساقاة, بالظهور على المذهب, وفي القراض قولان:
أحدهما: كذلك, والأظهر بالقسمة.
والفرق: أن الربح في القراض وقاية لرأس المال بخلاف الثمرة, وينبني على القولين:
الزكاة.
فعلى الثاني: يلزم المالك زكاة الجميع, فإن أخرجها من ماله حسبت من الربح.
وعلى الأول: يلزم المالك زكاة رأس المال, وحصته من الربح. ويلزم العامل زكاة حصته للخلطة.(16/490)
ص -321-…ولو كان في المال جارية فوطئها العامل وأحبلها, فعلى الثاني لا يثبت الاستيلاد وعلى الأول يثبت في نصيبه ويقوم عليه الباقي إن كان موسرا.
فصل:
ما يملك بالإحياء باب واسع, والكتاب الخامس به أجدر.
فصل:
في الملك, في رقبة الموقوف أقوال:
أصحها: أنه انتقل إلى الله.
والثاني: أنه للموقوف عليه.
والثالث: باق على ملك الواقف.
وقيل: إن كان الوقف على معين, فهو ملكه قطعا.
فصل:
دية القتل, هل تثبت لورثته ابتداء عقب هلاك المقتول, أو بقدر دخولها في ملكه في آخر جزء من حياته, ثم تنتقل إلى الورثة؟ قولان. أظهرهما الثاني.
قال الرافعي: لأنها تنفذ منها وصاياه وديونه, ولو كانت للورثة لم يكن كذلك.
قال الشيخ برهان الدين بن الفركاح: وكلامه يقتضي الاتفاق على أنه يقضى منها الديون والوصايا. وفي البيان: أن الشيخ أبا إسحاق صرح بذلك: أي الاتفاق, وأن الذي يقتضي المذهب أنه ينبني على القولين متى تجب الدية.
ومن الفروع المبنية عليهما:
ما لو أذن له في قتله, فقتله أو في قطعه, فسرى.
فإن قلنا: يجب للورثة ابتداء: وجبت الدية وإلا فلا.
ولو جنى المرهون على نفس من يرثه السيد خطأ أو عفا على مال. فإن قلنا: يجب للورثة ابتداء, لم يثبت مال فيبقى رهنا وإلا فوجهان يجريان فيما لو جنى على طرفه وانتقل إلى سيده بالإرث.
وقد نقل في الشرح والروضة: أن أصحهما عند الصيدلاني والإمام, أنه لا يثبت كما لا يثبت ابتداء, وأن العراقيين قطعوا بالثبوت, ويباع فيه.
وصحح الرافعي في النكاح الثاني.
وفي الشرح الصغير الأول.(16/491)
ص -322-…فصل:
ويملك الإرث بمجرد الموت, ولو كان على التركة دين على الصحيح.
والقديم: أن الدين يمنع انتقال التركة إلى ملك الوارث.
وهل يمنع انتقال قدره أو كلها؟ قولان: في الشرح بلا ترجيح.
وينبني على القولين: ما لو حدث في التركة زوائد, فعلى الصحيح: لا يتعلق بها حق الغرماء, وعلى الآخر يتعلق.
وينبني عليهما أيضا.
مسألة:
وقعت في أيام ابن عدلان وابن اللبان وابن القماح والسبكي والسنكلوي. وابن الكتاني, وابن الأنصاري وابن البلغيائي.
وهي: ما لو كان الدين للوارث, فهل يسقط منه بقدر ما يلزمه أداؤه من ذلك الدين لو كان لأجنبي؟ حتى لو كان جائزا والدين بقدر التركة سقط كله.
فأفتى جماعة: بأن لا سقوط وبأنه أخذ التركة إرثا, والدين باق في ذمة الميت ; لأن التركة دخلت في ملكه بمجرد الموت ; إذ الدين لا يمنع الإرث فلا يثبت له في ملكه شيء.
وأفتى جماعة بالسقوط وقالوا: إنه يؤثر في نقصان مجموع المأخوذ, فيكون أخذ قدر الدين عن دينه لا إرثا, والباقي إرث.
وهؤلاء استندوا إلى تقديم الدين على الإرث, مع القول بأنه يمنع الإرث.
وأفتى السبكي بالسقوط وعدم التأثير بالنقصان وألف في ذلك كتابا سماه ( منية الباحث عن دين الوارث ولخصه في فتاويه.
فقال: يسقط من دين الوارث ما يلزم أداؤه من ذلك الدين, لو كان لأجنبي, وهو نسبة إرثه من الدين إن لم يزد الدين على التركة, ومما يلزم الورثة أداؤه منه إن زاد. ويرجع على بقية الورثة ببقية ما يجب أداؤه منه على قدر حصصهم.
وقد يقضي الأمر إلى التقاص إذا كان الدين لوارثين, فإذا كان الوارث حائزا أو لا دين لغيره ودينه مساو للتركة أو أقل سقط وإن زاد سقط مقدارها ويبقى الزائد ويأخذ التركة في الأحوال إرثا, ويقدر أنه أخذها دينا ; لأن جهة الملك أقوى ولا تتوقف على شيء, وجهة الدين تتوقف على إقباض أو تعويض, وهما متعذران ; لأن التركة ملكه.
لكنا نقدر أحدهما, وإلا لما برئت ذمة الميت, تقديرا محضا لا وجود له.(16/492)
ولو كان مع دين الحائز دين أجنبي, قدرنا الدينين الأجنبيين, فما خص دين الوارث سقط واستقر نظيره, كدينارين له ودينار لأجنبي, والتركة ديناران, فله دينار وثلث(16/493)
ص -323-…إرثا, وسقط نظيره وبقي له في ذمة الميت ثلثا دينار, ويأخذ الأجنبي ثلثي دينار ويبقى له ثلث دينار.
ولو كان الوارث اثنين لأحدهما ديناران ولآخر دينار, فلصاحب الدينارين من ديناره الموروث ثلثاه, ومن دينار أخيه ثلثه, والثلث الباقي من ديناره مقاصص به أخاه فيجتمع له دينار وثلث, ولأخيه ثلثان ومجموعهما ديناران, وهو اللازم لهما ; لأن الذي يلزم الورثة أداؤه أقل الأمرين: من الدين ومقدار التركة.
ولو كان زوجة وأخا والتركة أربعين والصداق عشرة,, فلها عشرة إرثا وسبعة ونصف من نصيب الأخ دينا, وسقط لها ديناران ونصف نظير ربع إرثها, ازدحم عليه جهتا الإرث والدين.
ولو قلنا: بأن السبعة ونصفا من أصل التركة, لسقط ربعها المختص بها, وهلم جرا إلى أن لا يبقى شيء ولأنه لو عاد له ثلاثة أرباع الاثنين ونصف لكان بغير سبب ولزاد إرثه ونقص إرثها عما هو لها. وقد بان بهذا: أنه لا يختلف المأخوذ, وسواء أعطيت الدين أولا, أم بعد القسمة. والحاصل لها على التقديرين سبعة عشر ونصف.
والطريق الأول: هو الذي عليه عمل الناس, وهو أوضح وأسهل يتمشى على قول من يقول: إن التركة لا تنتقل قبل وفاء الدين.
والطريق الثاني: أدق, وهو مبني على أن التركة تنتقل قبل وفاء الدين, وهو الصحيح.
ويترتب عليه: أنه لا يجوز لها أن تدعي, ولا تحلف إلا على النصف والربع, وكذا لا تتعوض ولا تقبض ولا تبرأ إلا من ذلك.
قال: وأما ما زاد على قدر التركة, فلا يسقط ومن تخيل ذلك فهو غالط.
فإن قلت: ما ادعيته من السقوط لا بد فيه من الاستناد إلى شيء من كلام الأصحاب وإلا فقد ظن بعض الناس أن بالسقوط يتفاوت المأخوذ, وظن آخرون أن لا سقوط أصلا قلت: أما من ظن أن لا سقوط أصلا, فكلامه متجه إذا قلنا: التركة لا تنتقل, فإن قلنا بالانتقال, فلا.
وأما من ظن التفاوت, فليس بشيء.
وأما كلام الأصحاب الدال على ما قلناه, ففي موضعين:(16/494)
أحدهما: في الجراح, إذا خلف زوجته حاملا وأخا لأب, وعبدا, فجنى عليها فأجهضت.
قالوا: يسقط من حق كل واحد من الغرة ما يقابل ملكه ; لأنه لا يثبت للإنسان على ملكه حق.(16/495)
ص -324-…وذكروا طريقين في كيفية السقوط:
أحدهما: طريقة الإمام والرافعي: أنه يسقط نصيب الأخ كله ; لأنه أقل من ملكه. ومن نصيب الأم ما يقابل ملكها, وهو الربع ويبقى لها نصف سدس الغرة, يرجع به على الأصح.
وأصحهما طريقة الغزالي: أنه يسقط من حقها من الغرة ربعه ; لأنه المقابل لملكها ومن حقه ثلاثة أرباعه ويبقى لها سدس الغرة, ولها عليه نصف سدسها, والواجب في الفداء أقل الأمرين, وربما لا تفي حصتها بأرشها وتفي حصته بأرشه, فإذا سلمت تعطل عليه ما زاد ولم يتعطل عليها.
مثاله: الغرة ستون وقيمة العبد عشرون, وسلما. ضاع عليه خمسة وصار له خمسة ولها خمسة عشر.
الموضع الثاني:
في الإجارة.
آجر دارا من ابنه بأجرة قبضها واستنفقها ومات عقب ذلك عنه وعن ابن آخر, وقلنا تنفسخ الإجارة في نصيب المستأجر, فمقتضى الانفساخ فيه الرجوع بنصف الأجرة يسقط منه نسبة إرثه, وهو الربع ويرجع على أخيه بالربع في هذين الموضعين يؤخذ ما ذكرناه من السقوط, انتهى كلام السبكي في فتاويه.
فصل:
يملك الصداق بالعقد.
لا أعلم في ذلك خلافا عندنا.
فلو مات, أو أفلس, وعليه صداق لزوجة دخل بها, وصداق لأخرى, لم يدخل بها لم تقدم المدخول بها بل يستويان كما أفتيت به تخريجا من هذه القاعدة. وأما النصف العائد بالطلاق, ففيه أوجه. أصحها: أنه يملكه بنفس الطلاق.
والثاني: أنه لا يملكه, إلا باختيار التملك.
والثالث: لا يملك, إلا بقضاء القاضي.
وينبني على الأوجه: الزوائد الحادثة بعد الطلاق.
فصل:
في ملك الغانمين.
الغنيمة: أوجه أصحها: لا يملكون إلا بالقسمة أو اختيار التملك ; لأنهم لو ملكوا. لم يصح إعراضهم ولا إبطال حقهم عن نوع بغير رضاهم.(16/496)
ص -325-…ولا شك أن للإمام: أن يخص كل طائفة بنوع من المال.
والثاني: يملكون بالحيازة, والاستيلاء التام ; لأن الاستيلاء على ما ليس بمعصوم من المال سبب للملك ولأن ملك الكفار زال بالاستيلاء, ولو لم يملكوا لزال الملك إلى غير مالك. لكنه ملك ضعيف, يسقط بالإعراض.
الثالث: موقوف إن سلمت الغنيمة, حتى قسموها. بان أنهم ملكوا بالاستيلاء وإن تلفت, أو أعرضوا تبينا عدم الملك.
وحينئذ فهذه المسألة من نظائر المسائل المتقدمة.
المسألة الخامسة: في الاستقرار.
يستقر الملك في المبيع, ونحوه, من المسلم فيه, والمصالح عليه, والصداق المعين بالتسليم.
وتستقر الأجرة في الإجارة: بالاستيفاء, وبقبض العين المستأجرة, وإمساكها حتى مضت مدة الإجارة أو مدة إمكان السير إلى الموضع الذي استأجر للركوب إليه وإن لم ينتفع. وسواء إجارة العين والذمة. وتستقر في الإجارة الفاسدة: أجرة المثل بذلك.
قال الأصحاب: ويستقر الصداق بواحد من شيئين: الوطء, والموت.
وأورد في المهمات عليهم: أنه لا بد من القبض في المعين أيضا ; لأن المشهور أن الصداق قبل القبض مضمون ضمان عقد, كالبيع, فكما قالوا: إن المبيع قبل القبض, غير مستقر وإن كان الثمن قد قبض فكذلك الصداق.
وأجيب: بأن المراد بالاستقرار هنا: الأمن من سقوط المهر, أو بعضه بالتشطر.
وفي المبيع: الأمن من الانفساخ.
فالمبيع: إذا تلف. انفسخ البيع.
والصداق المعين, إذا تلف قبل القبض: لم يسقط المهر, بل يجب بدل البضع, فاقترن البابان.
ذكره الشيخ ولي الدين في نكته.
وقال القاضي جلال الدين البلقيني: لم يبين الأصحاب معنى الاستقرار في باب الصداق, حتى خفي معناه على بعض المتأخرين, فما ورد عليهم أنه لا بد من قبض المعين.(16/497)
ص -326-…وليس الأمر كذلك ; فإن معنى الاستقرار في الصداق: عينا كان, أو دينا. الأمن من تشطره بالفراق قبل الدخول, ومن سقوطه كله بالفرقة من جهتها قبله.
وهذا الاستقرار يكون في الصداق المعين, والذي في الذمة, وجميع الديون التي في الذمة بعد لزومها وقبض المقابل لها: مستقرة إلا دينا واحدا: هو دين السلم فإنه وإن كان لازما فهو غير مستقر وإنما كان غير مستقر ; لأنه بصدد أن يطرأ انقطاع المسلم فيه. فينفسخ العقد.
فمعنى الاستقرار في الديون اللازمة من الجانبين: الأمن من فسخ العقد, بسبب تعذر حصول الدين المذكور ; لعدم وجود جنسه: وامتناع الاعتياض عنه. وذلك مخصوص بدين السلم: دون بقية الديون.
وأما دين الثمن بعد قبض المبيع, فإنه أمن فيه الفسخ المذكور, وإن تعذر حصوله بانقطاع جنسه جاز الاعتياض عنه, وكذا الفسخ بسبب رد بعيب, أو إقالة, أو تحالف ا هـ.
المسألة السادسة: الملك: إما للعين والمنفعة معا, وهو الغالب أو للعين فقط
كالعبد الموصى بمنفعته أبدا رقبته ملك للوارث. وليس له شيء من منافعه, وعليه نفقته ومؤنته. ولا يصح بيعه لغير الموصى له, ويصح له إعتاقه, لا عن الكفارة, ولا كتابته. وله وطؤها إن كانت ممن لا تحبل, وإلا فلا.
وفي كل من ذلك خلاف.
وإما للمنفعة فقط, كمنافع العبد الموصى بمنفعته أبدا, وكالمستأجر, والموقوف على معين.
وقد يملك الانتفاع دون المنفعة كالمستعير. والعبد الذي أوصي بمنفعته مدة حياة الموصى له. وكالموصى بخدمته وسكناها. فإن ذلك إباحة له, لا تمليك.
وكذا الموقوف على غير معين كالربط والطعام المقدم للضيف.
وكل من ملك المنفعة, فله الإجارة, والإعارة.
ومن ملك الانتفاع, فليس له الإجارة قطعا, ولا الإعارة في الأصح.
ونظير ذلك: الأمة المزوجة: إذا وطئت بشبهة, أو إكراه, فإن مهرها للسيد ; لأنه مالك البضع, لا للزوج ; لأنه لم يملكه, بل ملك الانتفاع به.(16/498)
وكذا الحرة: إذا وطئت بشبهة: مهرها لها, لا لزوجها, فإنه ملك الانتفاع ببعضها دونه.(16/499)
ص -327-…قال العلائي: ومن ذلك أيضا: الإقطاع "على الرأي المختار" فإن المقطع لم يملك إلا أن ينتفع, بدليل الاسترجاع منه, متى شاء الإمام, فليس له الإجارة, إلا أن يأذن له الإمام أو يستقر العرف بذلك. كما في الإقطاعات بديار مصر.
قال: وهذا هو الذي كان يفتي به شيخنا برهان الدين, وكمال الدين, وهو اختيار شيخهما تاج الدين الفزاري.
والذي أفتى به النووي: صحة إجارة الأقطاع, وشبهه بالصداق قبل الدخول.
قال العلائي: وفي ذلك نظر ; لأن الزوجة ملكت الصداق بالعقد ملكا تاما, وإذا قبضته كان لها التصرف فيه بالبيع وغيره, والإقطاع ليس كذلك.
وقد قال الرافعي: إن الوصية بالمنافع إذا كانت مطلقة أو مقيدة بالتأبيد أو بمدة معينة كالسنة مثلا يكون تمليكا لها بعد الموت, فتصح إجارتها وإعارتها, والوصية بها وتنتقل عن الموصى له بموته إلى ورثته.
ثم قال: أما إذا قال أوصيت لك بمنافعه مدة حياتك فهو إباحة وليس بتمليك وليس له الإجارة, وفي الإعارة وجهان.
وإذا مات الموصى له رجع الحق إلى ورثة الموصي.
وهذه المسألة أشبه شيء بالإقطاع ; لأنه مقيد عرفا بحياة المقطع, وإذا مات بطل بل هو أضعف من الوصية ; لأنه قد يسترجع منه في حياته بخلاف الوصية ا هـ.
خاتمة:
في ضبط المال والمتمول.
أما المال, فقال الشافعي: لا يقع اسم مال إلا على ما له قيمة يباع بها وتلزم متلفه, وإن قلت وما لا يطرحه الناس, مثل الفلس وما أشبه ذلك انتهى. وأما المتمول: فذكر الإمام له في باب اللقطة ضابطين:
أحدهما: أن كل ما يقدر له أثر في النفع فهو متمول, وكل ما لا يظهر له أثر في الانتفاع فهو لقلته خارج عما يتمول.
الثاني: أن المتمول هو الذي تعرض له قيمة عند غلاء الأسعار.
والخارج عن المتمول: هو الذي لا يعرض فيه ذلك.
القول في الدين:
اختص بأحكام.(16/500)
الأول: جواز الرهن به فلا يصح بالأعيان المضمونة بحكم العقد كالمبيع والصداق أو بحكم اليد, كالمغصوب والمستعار والمأخوذ على جهة السوم أو بالبيع الفاسد.(17/1)
ص -328-…وفي وجه ضعيف: يجوز كل ذلك.
لكن في فتاوى القفال: لو وقف كتابا وشرط أن لا يعار إلا برهن اتبع شرطه وقال السبكي في تكملة شرح المهذب:
فرع:
حدث في الأعصار القريبة وقف كتب, يشترط الواقف أن لا تعار إلا برهن أو لا تخرج من مكان تحبيسها إلا برهن, أو لا تخرج أصلا.
والذي أقول في هذا أن الرهن لا يصح بها ; لأنها عين مأمونة في يد موقوف عليه.
ولا يقال لها عارية أيضا, بل الآخذ لها إن كان من الوقف استحق الانتفاع ويده عليها يد أمانة, فشرط أخذ الرهن عليها فاسد, وإن أعطاه كان رهنا فاسدا ويكون في يد خازن الكتب أمانة ; لأن فاسد العقود في الضمان كصحيحها, والرهن أمانة.
هذا إذا أريد الرهن الشرعي, وإن أريد مدلوله لغة, وأن يكون تذكرة فيصح الشرط ; لأنه غرض صحيح, وإذا لم يعلم مراد الواقف, فيحتمل أن يقال بالبطلان في الشرط المذكور حملا على المعنى الشرعي ويحتمل أن يقال بالصحة حملا على اللغوي وهو الأقرب تصحيحا للكلام ما أمكن.
وحينئذ لا يجوز إخراجها بدونه, وإن قلنا: ببطلانه لم يجز إخراجها به لتعذره ولا بدونه, إما ; لأنه خلاف شرط الواقف وإما لفساد الاستثناء فكأنه قال: لا تخرج مطلقا, ولو قال ذلك, صح ; لأنه شرط فيه غرض صحيح ; لأن إخراجها مظنة ضياعها.
بل يجب على ناظر الوقف أن يمكن كل من يقصد الانتفاع بتلك الكتب في مكانها وفي بعض الأوقات يقول: لا تخرج إلا بتذكرة وهذا لا بأس به ولا وجه لبطلانه وهو كما حملنا عليه قوله "إلا برهن" في المدلول اللغوي, فيصح.
ويكون المقصود: أن تجويز الواقف الانتفاع لمن يخرج به مشروط بأن يضع في خزانة الوقف ما يتذكر هو به إعادة الموقوف, ويتذكر الخازن به مطالبته فينبغي أن يصح هذا. ومتى أخذه على غير هذا الوجه الذي شرطه الواقف, فيمتنع ولا نقول: بأن تلك التذكرة تبقى رهنا, بل له أن يأخذها, فإذا أخذها طالبه الخازن برد الكتاب, ويجب عليه أن يرده أيضا بغير طلب.(17/2)
ولا يبعد أن يحمل قول الواقف "الرهن" على هذا المعنى حتى يصحح إذا ذكره بلفظ الرهن ; تنزيلا للفظ على الصحة ما أمكن.
وحينئذ يجوز إخراجه بالشرط المذكور ويمتنع بغيره ولكن لا يثبت له أحكام الرهن ولا يستحق منعه, ولا بدل الكتاب الموقوف, إذا تلف بغير تفريط, ولو تلف بتفريط(17/3)
ص -329-…ضمنه ولكن لا يتعين ذلك المرهون لوفائه, ولا يمتنع على صاحبه التصرف فيه انتهى.
الثاني: صحة الضمان بها أداء.
فأما الأعيان, فإن لم تكن مضمونة على من هي في يده, كالوديعة والمال في يد الشريك والوصي والوكيل, فلا يصح ضمانها قطعا وإن كانت مضمونة صح ضمان ردها على المذهب ولا يصح ضمان قيمتها لو تلفت على الصحيح ; لأنها قبل التلف غير واجبة.
الثالث: قبول الأجل فلا يصح تأجيل الأعيان.
ولو قال: اشتريت بهذه الدراهم على أن أسلمها في وقت كذا: لم يصح ; لأن الأجل شرع رفقا للتحصيل, والمعين حاصل.
فوائد:
الأولى:
ليس في الشرع دين لا يكون إلا حالا, إلا رأس مال السلم وعقد الصرف, والربا في الذمة, والقرض وكل مال متلف قهري والأجرة في إجارة الذمة, وفرض القاضي مهر المثل على الممتنع في المفوضة, وعقد كل نائب أو ولي لم يؤذن له في التأجيل لفظا أو شرعا, وليس فيه دين لا يكون إلا مؤجلا, إلا الكتابة والدية.
وليس فيه دين يتأجل ابتداء بغير عقد إلا في الفرض للمفوضة إذا تراضيا.
الثانية:
ما في الذمة لا يتعين إلا بقبض مكلف بصير, إلا في صورتين:
الأولى: إذا خالعها على طعام في الذمة وأذن في صرفه لولده منها.
والأخرى: النفقة التي في الذمة, إذا أنفق على زوجة صغيرة أو مجنونة بإذن الولي, برئ, وإن لم يقبض المكلف.
الثالثة:
الأجل: لا يحل قبل وقته إلا بموت المديون.
ومنه: موت العبد المأذون وقتل المرتد وباسترقاقه إذا كان حربيا وبالجنون على ما وقع في الروضة, والأصح خلافه.
ويستثنى من الموت: المسلم الجاني ولا عاقلة له, تؤخذ الدية من بيت المال مؤجلة ولا تحل بموته.
ولو اعترف وأنكرت العاقلة, أخذت منه مؤجلة فلو مات لم تحل في وجه.
ولو ضمن الدين مؤجلا ومات, لم يحل في وجه والأصح فيهما الحلول.(17/4)
ص -330-…ولا تحل بموت الدائن بلا خلاف, إلا في صورة على وجه.
وهي: ما إذا خالعها على إرضاع ولده منها, وعلى طعام وصفه في ذمتها, وذكر تأجيله وأذن في صرفه للصبي, ثم مات المختلع وكذا يحل بموت الصبي على وجه.
ولا يحل بموت ثالث غير الدائن والمدين, على وجه إلا في هذه الصورة.
الرابعة:
الحال لا يتأجل إلا في مدة الخيار, وأما بعد اللزوم فلا.
واستثنى الروياني والمتولي: ما إذا نذر أن لا يطالبه إلا بعد شهر أو أوصى بذلك.
قال البلقيني: والتحقيق لا استثناء, فالحلول مستمر, ولكن امتنع الطلب لعارض, كالإعسار.
على أن صورة النذر استشكلت, فإنه إن كان معسرا فالإنظار واجب.
والواجب: لا يصح نذره, أو موسرا قاصدا للأداء لم يصح ; لأن أخذه منه واجب. ولا يصح إبطال الواجب بالنذر.
وقيد في المطلب مسألة الوصية بأن تخرج من الثلث, لقولهم في البيع بمؤجل: يحسب كله من الثلث إذا لم يحل منه شيء قبل موته.
تذنيب:
قال في الرونق: الأجل ضربان: أجل مضروب بالشرع وأجل مضروب بالعقد.
فالأول: العدة والاستبراء والهدنة واللقطة والزكاة والعنة والإيلاء والحمل والرضاع والخيار والحيض والطهر والنفاس واليأس والبلوغ ومسح الخف والقصر.
والثاني أقسام:
أحدها: ما لا يصح إلا بالأجل, وهو الإجارة والكتابة.
والثاني: ما يصح حالا ومؤجلا.
والثالث: ما يصح بأجل مجهول ولا يصح بمعلوم, وهو الرهن والقراض والرقبى, والعمرى.
والرابع: ما يصح بهما, وهو العارية الوديعة.
الحكم الرابع:
لا يصح بيع الدين بالدين قطعا.
واستثني منه: الحوالة للحاجة.
وأما بيعه لمن هو عليه, فهو الاستبدال وسيأتي.(17/5)
ص -331-…وأما لغير من هو عليه بالعين, كأن يشتري عبد زيد بمائة له على عمرو, ففيه قولان أظهرهما في الشرحين والمحرر والمنهاج: البطلان ; لأنه لا يقدر على تسليمه.
والثاني: يجوز كالاستبدال, وصححه في الروضة من زوائده.
وشرطه على ما قال البغوي ثم الرافعي: أن يقبض كل منهما في مجلس العقد ما انتقل إليه فلو تفرقا قبل قبض أحدهما, بطل العقد.
قال في المطلب: ومقتضى كلام الأكثرين خلافه, ثم ذكر فيه أن بيع الدين الحال على معسر أو منكر - ولا بينة له عليه - لا يصح جزما.
وكما لا يصح بيع الدين, لا يصح رهنه ولا هبته على الصحيح.
ما يجوز فيه الاستبدال, وما لا يجوز.
لا يجوز الاستبدال عن دين السلم لامتناع الاعتياض عنه ويجوز عن دين القرض وبدل المتلف مثلا, وقيمته وثمن المبيع والأجرة والصداق وعوض الخلع وبدل الدم قال الأسنوي: وكذا الدين الموصى به والواجب بتقدير الحاكم في المتعة أو بسبب الضمان وكذا زكاة الفطرة إذا كان الفقراء محصورين وغير ذلك.
قال: وفي الدين الثابت بالحوالة: نظر يحتمل تخريجه على أنها بيع أم لا, ويحتمل أن ينظر إلى أصله, وهو المحال به فيعطى حكمه.
وحيث جاز الاستبدال, جاز عن المؤجل حالا, لا عكسه.
ثم إن استبدل موافقا في علة الربا, شرط قبضه في المجلس لا تعيينه في العقد أو غيره, شرط تعيينه في المجلس لا في العقد ولا قبضه.
قال في المطلب: وعلى هذا فقولهم, إن ما في الذمة لا يتعين إلا بالقبض, محمول على ما بعد اللزوم. أما قبله: فيتعين برضاهما وينزل ذلك منزلة الزيادة والحط.
قال الأسنوي: وهذا الذي قاله جيد, وهو يقتضي إلحاق زمن خيار الشرط في ذلك بخيار المجلس.
الخامس:
لا تجب فيه الزكاة إن كان ماشية, وعللوه بأن السوم شرط وما في الذمة لا يوصف به. واستشكله الرافعي: بأن المسلم في اللحم يذكر أنه من راعية أو معلوفة, فكما يثبت في الذمة لحم راعية, فلتثبت الراعية نفسها.(17/6)
وأجاب القونوي: بأن المدعى اتصافه بالسوم المحقق وثبوتها في الذمة سائمة أمر تقديري ولا يجب فيه أيضا إن كان معسرا ; لأن شرطه الزهو في ملكه ولم يوجد, ولا إن كان دين(17/7)
ص -332-…كتابة أو دينا آخر على المكاتب لعدم لزومه.
وأما إن كان عرضا, ففي كتب الشيخين: أنه كالنقد.
وسوى في التتمة بينه وبين الماشية ; لأن ما في الذمة: لا يتصور فيه التجارة وادعى نفي الخلاف. وبذلك أفتى البرهان الفزاري: أنه لو أسلم في عرض, بنية التجارة لم تجب فيه الزكاة قال: لأنه لم يتملكه ملكا مستقرا.
أما كونه غير مستقر, فواضح.
وأما كون الاستقرار شرط وجوب الزكاة, فقولهم في الأجرة: لا يلزمه أن يخرج إلا زكاة ما استقر. قال: والسلم أولى بعدم الوجوب من الأجرة ; لأنها مقبوضة, يملك التصرف فيها بخلافه.
قال: وقول الرافعي: إن العرض تجب فيه الزكاة محمول على ما إذا ثبت في الذمة بالقرض انتهى.
وفي البحر, والحاوي: المسلم فيه للتجارة, لا تجب زكاته, قولا واحدا, فإذا قبضه استأنف الحول. قال في الخادم: وإذا قلنا بوجوبه, فلا يدفع حتى يقبض. وهل يقوم بحالة الوجوب أو القبض؟ فيه نظر.
والصواب: اعتبار أقل القيمتين كالأرش, فإن الزكاة مواساة انتهى.
وأما النقد: فالجديد: وجوب الزكاة فيه, ثم إن كان حالا وتيسر أخذه - بأن كان على مليء مقر حاضر باذل وجب إخراجها في الحال وإن كان مؤجلا أو على معسر أو منكر, أو مماطل, لم تجب حتى يقبض.
قال الزركشي: وهل يتعلق به تعلق شركة, كالأعيان, أو لا؟.
لم أر من صرح به.
فإن قلنا به, فهل يسمع دعوى المالك بالكل ; لأن له ولاية القبض, لأجل أداء الزكاة؟ وإذا حلف, فهل يحلف على الكل؟ أو يقول: إنه باق في ذمته, وإنه يستحق قبضه؟ ينبغي الثاني.
ما يمنع الدين وجوبه وما لا يمنع.
فيه فروع:
الأول: الماء في الطهارة, يمنع الدين وجوب شرائه.
قال في الكفاية: ولا فرق بين الحال, والمؤجل.(17/8)
ص -333-…الثاني: السترة, كذلك.
الثالث: الزكاة, وفيها أقوال. أصحها: لا يمنع وجوبها ; لأنها تتعلق بالعين, والدين بالذمة.
فلا يمنع أحدهما الآخر, كالدين, وأرش الجناية.
والثاني: يمنع ; لأن ملكه غير مستقر, لتسلط المستحق على أخذه, وقيل: لأن مستحق الدين تلزمه الزكاة.
فلو أوجبنا على المديون أيضا, لزم منه تثنية الزكاة في المال الواحد.
والثالث: يمنع في الأموال الباطنة, وهي: النقد, وعروض التجارة, دون الظاهرة.
وهي: الزروع. والثمار. والمواشي. والمعادن ; لأنها تامة بنفسها, وسواء كان الدين حالا أو مؤجلا من جنس المال, أو غيره, لآدمي, أو لله. كالزكاة السابقة, والكفارة والنذر.
الرابع: زكاة الفطر. نقل الإمام الاتفاق على أن الدين يمنع وجوبها, كما أن الحاجة إلى صرفه في نفقة القريب تمنعه.
قال: ولو ظن ظان أنه لا يمنعه, كما لا يمنع وجوب الزكاة ما كان مبعدا.
ونقل النووي في نكته على التنبيه: منع الوجوب عن الأصحاب: ومشى عليه في الحاوي الصغير, لكن صحح الرافعي في الشرح الصغير أنه لا يمنع, وهو مقتضى كلامه في الكبير.
الخامس: الحج يمنع الدين وجوبه حالا. كان, أو مؤجلا.
وفي وجه: إن كان الأجل ينقضي بعد رجوعه من الحج. لزمه, وهو شاذ.
السادس: الكفارة, والظاهر أن الدين يمنع وجوب الإعتاق.
ولم أر من صرح به, إلا أن الأذرعي في القوت قال: ينبغي أن تكون كالحج. السابع: العقل, ويمنع تحمله أيضا فيما يظهر.
الثامن: نفقة القريب.
التاسع: سراية الإعتاق, لا يمنعها الدين في الأظهر.
فلو كان عليه دين بقدر ما في يده, وهو قيمة الباقي, قوم عليه ; لأنه مالك له نافذ تصرفه, ولهذا لو اشترى به عبدا وأعتقه نفذ.
والثاني: لا ; لأنه غير موسر.(17/9)
ص -334-…تتمة:
والأصح: أن لا يمنع ملك الوارث التركة كما تقدم, ولا صحة الوصية, ولا شراء القريب.
ويمنع نفوذ الوصية والتبرع وتصرف الوارث في التركة حتى يقبضه وجواز الصدقة, ما لم يرج وفاء.
ما ثبت في الذمة بالإعسار, وما لا يثبت.
قال في شرح المهذب: الحقوق المالية الواجبة لله تعالى ثلاثة أضرب.
ضرب يجب, لا بسبب مباشرة من العبد: كزكاة الفطر, فإذا عجز عنه وقت الوجوب: لم يثبت في ذمته, فلو أيسر بعد ذلك, لم يجب.
وضرب: يجب بسبب من جهته, على جهة البدل. كجزاء الصيد, وفدية الحلق, والطيب, واللباس في الحج, فإذا عجز عنه وقت وجوبه وجب في ذمته, تغليبا لمعنى الغرامة ; لأنه إتلاف محض.
وضرب يجب بسبب مباشرة. لا على جهة البدل, ككفارة الجماع في رمضان, وكفارة اليمين, والظهار, والقتل, ودم التمتع, والقران, والنذر, وكفارة قوله "أنت علي حرام" ففيها قولان مشهوران. أصحهما: يثبت في الذمة, فمتى قدر عليه: لزمه.
والثاني: لا, وتشبيهها بجزاء الصيد أولى من الفطرة ; لأن الكفارة مؤاخذة على فعله, كجزاء الصيد, بخلاف الفطرة. انتهى.
قلت: ولو لزمت الفدية الشيخ الهرم عن الصوم, وكان معسرا, ففي الروضة وأصلها: قولان في ثبوتها في ذمته, كالكفارة.
قال في شرح المهذب: وينبغي أن يكون الأصح هنا: أنها تسقط. ولا تلزمه إذا أيسر كالفطرة لأنه عاجز حال التكليف بالفدية وليست في مقابلة جناية بخلاف الكفارة.
فالأقسام على هذا أربعة.
وفي الجواهر للقمولي: لو نذر الصدقة كل يوم بكذا. فمرت أيام وهو معسر. ثبتت في ذمته.
ولو ماتت زوجته وهو غائب, فجهزت من مالها. لم يثبت في ذمة الزوج.
أفتى به القاضي جلال الدين البلقيني.(17/10)
ص -335-…تذنيب:
من الغريب قول القاضي حسين: إن الطلاق يثبت في الذمة.
قال السبكي: حكيت مرة لابن الرفعة, فقال: عمري ما سمعت ثبوت طلاق في الذمة.
قال: ولا شك أن ابن الرفعة سمعه, وكتبه مرات.
لكنه لغرابته ونكارته, لم يبق على ذهنه.
ويتفرع على ذلك فروع:
ما يقدم على الدين, وما يؤخر عنه.
قال في الروضة وأصلها في الأيمان: إذا وفت التركة بحقوق الله, وحقوق الآدميين قضيت جميعا. وإن لم تف, وتعلق بعضها بالعين, وبعضها بالذمة: قدم المتعلق بالعين سواء اجتمع النوعان, أو انفرد أحدهما. وإن اجتمعا, وتعلق الجميع بالعين, أو الذمة فهل يقدم حق الله تعالى, أو الآدمي, أو يستويان؟ فيه أقوال. أظهرها: الأول. ولا تجري هذه الأقوال في المحجور عليه بفلس, إذا اجتمع النوعان. بل تقدم حقوق الآدمي, وتؤخر حقوق الله تعالى ما دام حيا ا هـ.
ومن أمثلة ما تجري فيه الأقوال.
اجتماع الدين مع الزكاة, أو الفطرة, أو الكفارة, أو النذر, أو جزاء الصيد, أو الحج. كما صرح به في شرح المهذب.
والأصح في الكل: تقديمها على الدين.
وكذا: سراية العتق, مع الدين.
وصححا في اجتماع الجزية, مع الدين: التسوية ; لأنها في معنى الأجرة. فالتحقت بدين الآدمي.
ومن اجتماع حقوق الله تعالى فقط.
الزكاة. والكفارة. والحج.
قال السبكي: والوجه أن يقال: إن كان النصاب موجودا قدمت الزكاة, وإلا فيستويان.
تذنيب:
فيما تقدم عند الاجتماع من غير الديون.
اجتمع محدث. وجنب. وحائض. وذو نجاسة. وميت, وهناك ماء مباح. أو موصى(17/11)
ص -336-…به لأحوج الناس إليه, ولا يكفي إلا أحدهم. قدم الميت على الجميع ; لأنه خاتمة أمره, فخص بأكمل الطهارتين ; ولأن القصد من غسله تنظيفه, ولا يحصل بالتراب.
والقصد من طهارة الأحياء: استباحة الصلاة, وهو حاصل بالتيمم.
ويقدم بعده من عليه نجاسة ; لأنه لا بدل لطهارته, ثم الحائض ; لأن حدثها أغلظ. وفي وجه: يقدم الجنب عليها ; لأن غسله منصوص عليه في القرآن, ولاختلاف الصحابة في صحة تيمم الجنب دونها. وفي وجه: يستويان, فيقرع بينهما. وقيل: يقسم.
ويقدم الجنب على المحدث إن لم يكف الماء واحدا منهما أو كفى كلا منهما أو كفى الجنب فقط, وإن كفى المحدث فقط: قدم.
فإن كان معهم ظامئ, قدم على الميت لبقاء الروح.
اجتمع مغتسل لجمعة, وغسل الميت فإن قلنا: غسل الجمعة آكد. قدم, أو غسل الميت قدم.
اجتمع حدث, وطيب: وهو محرم, فإن أمكن غسل الطيب بعد الوضوء, فذاك وإلا قدم غسل الطيب لأنه لا بدل له, والوضوء له بدل.
ولو كان نجاسة, وطيب: قدمت النجاسة ; لأنها أغلظ, وتبطل الصلاة بخلافه.
اجتمع كسوف, وجمعة. أو فرض آخر فإن خيف فوت الفرض قدم ; لأنه أهم وإلا قدم الكسوف في الأظهر ; لأنه يخشى فواته بالانجلاء, ثم يخطب للجمعة متعرضا للكسوف: ثم يصلي الجمعة, ولا يحتاج إلى أربع خطب.
اجتمع عيد, وكسوف, وجنازة قدمت الجنازة, خوفا من تغير الميت.
ولو اجتمع جمعة, وجنازة, فكذلك, إن لم يضق الوقت, فإن ضاق, قدمت الجمعة ; لأنها فرض عين, وقيل: الجنازة ; لأن للجمعة بدلا.
اجتمع كسوف, ووتر, أو تراويح. قدم الكسوف مطلقا.
أو كسوف, وعيد, وخيف فوت العيد قدم, وإلا فالكسوف.
اجتمع في زكاة الفطر: رجل, وزوجته, وولده الصغير, والكبير, والأب, والأم, ولم يجد إلا بعض الصيعان, ففي المسألة عشرة أوجه, حكاها في شرح المهذب أصحها: تقديم نفسه ثم زوجته ثم ولده الصغير ثم الأب ثم الأم ثم ولده الكبير.
والثاني: يقدم الزوجة على نفسه ; لأن فطرتها تجب بحكم المعاوضة.(17/12)
والثالث: يبدأ بنفسه, ثم بمن شاء.
والرابع: يتخير.(17/13)
ص -337-…والخامس: يخرجه موزعا على الجميع.
والسادس: يخرجه عن أحدهم, لا بعينه.
والسابع: يقدم الأم على الأب.
والثامن: يستويان, فيخير بينهما.
والتاسع: يقدم الابن الكبير على الأبوين ; لأن النص ورد بنفقته, والفطرة تتبعها.
والعاشر: يقدم الأقارب على الزوجة ; لأنه قادر على إزالة سبب الزوجية بالطلاق, بخلاف القرابة.
ولو اجتمع المذكورون في النفقة, قدموا على ما ذكر, إلا أن الأم تقدم فيها على الأب, في الأصح ; لأن النفقة شرعت لسد الخلة, ودفع الحاجة, والأم أكثر حاجة, وأقل حيلة, والفطرة لم تشرع لدفع ضرر المخرج عنه. بل لتشريفه, وتطهيره. والأب أحق بهذا, فإنه منسوب إليه, ويشرف بشرفه.
ولو اجتمع في الفطرة اثنان في مرتبة: تخير.
وقال الرافعي: ولم يتعرضوا للإقراع, وله فيه مجال كنظائره.
اجتمع على رجل حدود, فإن كانت لله تعالى, قدم الأخف فالأخف, فيقدم حد الشرب, ثم جلد الزنا, ثم قطع السرقة, أو المحاربة, ثم قتل الردة.
وإن كانت لآدمي فكذلك: فيقدم حد القذف ثم القطع ثم القتل.
فلو اجتمع مستحقا قطع, أو قتل: قدم من سبقت جنايته.
فإن جهل, أو جني عليهم معا أقرع.
وإن اجتمع الصنفان, قدم حد القذف على جلد الزنا ; لأنه حق آدمي, وقيل: لأنه أخف.
وينبني عليها: اجتماع حد الشرب والقذف, فعلى الأصح: يقام القذف, وعلى الثاني: الشرب. ويجريان في اجتماع القطع, والقتل قصاصا مع جلد الزنا.
فعلى الأصح: يقدمان عليه.
ولو اجتمع قتل القصاص, والردة, والزنا قدم القصاص قطعا وقيل في الزنا: يقتل رجما بإذن الولي, ليتأدى الحقان.
ولو اجتمع قتل الزنا, والردة, لم يحضرني فيه نقل.
والذي يظهر: أنه يرجم ; لأنه مقصودهما, بخلاف ما لو قتل بالسيف, فإنه محصل قتل الردة, دون الزنا.(17/14)
ص -338-…فرع:
ويقرب من هذه المسائل: مسائل اجتماع الفضيلة, والنقيصة.
فمنها: الصلاة أول الوقت بالتيمم, وآخره بالوضوء, والأظهر: استحباب التأخير إن تيقن الوضوء, والتقديم إن ظنه, أو جوز وجوده, أو توهمه.
قال إمام الحرمين: والخلاف فيمن أراد الاقتصار على صلاة واحدة, فإن صلى أوله بالتيمم وآخره بالوضوء فهو النهاية في تحصيل الفضيلة.
ومنها: الصلاة أول الوقت منفردا, وآخره جماعة, وفي الأفضل طرق.
قطع أكثر العراقيين: باستحباب التأخير وأكثر الخراسانيين باستحباب التقديم.
وقال آخرون: حكمه حكم الماء, فإن تيقن الجماعة آخره فالتأخير أفضل, وإلا فالتقديم.
قال النووي: وقد ثبت في صحيح مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه ستجيء أئمة, يؤخرون الصلاة عن أول وقتها قال:" فصلوا الصلاة لوقتها, واجعلوا صلاتكم معهم نافلة".
قال: فالذي نختاره: أن يصلي مرتين, فإن اقتصر على واحدة, فإن تيقن حصول الجماعة فالتأخير أفضل لتحصيل شعارها الظاهر ; ولأنها فرض كفاية.
وفي وجه: فرض عين, ففي تحصيلها: خروج من الخلاف.
قال: ويحتمل أن يقال: إن فحش التأخير, فالتقديم أفضل. وإن خف, فالانتظار أفضل.
ومنها: الصلاة أول الوقت عاريا, أو قاعدا, وآخره مستورا, أو قائما. وفيها الخلاف في المتيمم. ومنها: الصلاة أول الوقت قاصرا, وآخره مقيما, يصلي قاصرا بلا خلاف. نقله في شرح المهذب, عن صاحب البيان.
ومنها: لو خاف فوت الجماعة إن أسبغ الوضوء, فإدراكها أولى من الانحباس لإكماله نقله النووي عن صاحب الفروع. وقال: فيه نظر.
ومنها: لو خاف فوت الركعة إن مشى إلى الصف الأول. قال في شرح المهذب: لم أر فيه لأصحابنا, ولا لغيرهم شيئا.
والظاهر: أنه إن خاف فوت الركعة الأخيرة حافظ عليها, وإن خاف فوت غيرها مشى إلى الصف الأول للأحاديث الصحيحة في الأمر بإتمامه والازدحام عليه.(17/15)
ص -339-…ومنها: لو قدر أن يصلي في بيته قائما منفردا. ولو صلى مع الجماعة احتاج أن يقعد في بعضها فالأفضل الانفراد, محافظة على القيام ذكره الشافعي والأصحاب.
ومنها: لو ضاق الوقت على سنن الصلاة.
قال البغوي في فتاويه, ما حاصله: إن السنن التي تجبر بالسجود يأتي بها, بلا إشكال.
وأما غيرها, فالظاهر: الإتيان بها أيضا ; لأن الصديق كان يطول القراءة في الصبح حتى تطلع الشمس. قال: ويحتمل أن لا يأتي بها, إلا إذا أدرك الركعة.
قال الأسنوي: وفيما قاله نظر.
ومنها: لو ضاق الماء والوقت, عن استيعاب سنن الوضوء وجب الاقتصار على الواجبات, صرح به النووي في شرح التنبيه.
ومنها: لو اجتمع في الإمامة الأفقه, والأقرأ, والأورع الأصح: تقديم الأفقه عليهما, لاحتياج الصلاة إلى مزيد الفقه, لكثرة عوارضها, وقيل: بالتساوي لتعادل الفضيلتين.
ولو اجتمع السن والنسب, فالأظهر: تقديم السن ; لأنه صفة في نفسه, والنسب صفة في آبائه.
ولو اجتمعا مع الهجرة, فالجديد: تقديمهما. واختار النووي: تقديم الهجرة عليهما وصححه في المهذب.
ولو اجتمع الأعمى والبصير, فقيل: الأعمى أولى ; لأنه أخشع ; إذ لا ينظر إلى ما يلهيه وقيل البصير لأنه أكثر تحفظا من النجاسات والأصح: أنهما سواء ; لتعادلهما.
ولو اجتمع في صلاة الجنازة الحر البعيد, والعبد القريب, والحر غير الفقيه, والعبد الفقيه فالأصح فيهما تقديم الحر.
والثالث: يستويان ; لتعادلهما.
وقريب من هذه المسائل: الخصال المعتبرة في الكفاءة, هل يقابل بعضها ببعض؟ الأصح: المنع, فلا يكافئ رقيق عفيف: حرة فاسقة, ولا حر معيب: رقيقة سليمة, ولا عفيف دنيء النسب: فاسقة شريفة.(17/16)
ص -340-…وفي نظير المسألة من القصاص: لا تقابل جزما, فلا يقاد عبد مسلم بكافر حر, بلا خلاف.
خاتمة:
لا يقدم في التزاحم على الحقوق أحد, إلا بمرجح.
وله أسباب:
أحدها: السبق, كجماعة ماتوا, وهناك ما يكفي أحدهم, قدم أسبقهم موتا. والمستحاضة: ترى الدم بصفتين مستويتين, فيرجح الأسبق.
وكالازدحام في الدعوى, والإحياء, والدرس.
ولو وكل رجلا في بيع عبده, وآخر في عتقه, قال الدبيلي: من سبق فله الحكم.
ثانيها: القوة, فلو أقر الوارث بدين, وأقام الآخر بينة بدين, والتركة لا تفي بهما قال صاحب الإشراف: يقدم دين البينة.
ثالثها: القرعة في مواضع كثيرة, كازدحام الأولياء في النكاح, والعبيد في العتق, والمقتصين في الجاني عليهم معا.
القول في ثمن المثل وأجرة المثل, ومهر المثل, وتوابعها.
أما ثمن المثل: فقد ذكر في مواضع:
في شراء الماء في التيمم, وشراء الزاد, ونحوه في الحج, وفي بيع مال المحجور, والمفلس والموكل, والممتنع من أداء الدين, وتحصيل المسلم فيه, ومثل المغصوب, وإبل الدية, وغيرها.
ويلحق بها, كل موضع اعتبرت فيه القيمة, فإنها عبارة عن ثمن المثل.
ونبدأ بذكر حقيقته, فنقول:
يختلف باختلاف المواضع. والتحقيق أنه راجع إلى الاختلاف في وقت اعتباره, أو مكانه.
الموضع الأول: التيمم:
فذكروا فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه أجرة نقل الماء إلى الموضع الذي هذا المشترى فيه.
ويختلف ذلك ببعد المسافة وقربها.
الثاني: أنه قيمة مثله في ذلك الموضع, في غالب الأوقات, فإن الشربة الواحدة في وقت عزة الماء: يرغب فيها بدنانير.(17/17)
ص -341-…فلو كلفناه شراءه بقيمته في الحال, لحقته المشقة والحرج.
الثالث: أنه قيمة مثله في ذلك الموضع في تلك الحالة, فإن ثمن المثل يعتبر حالة التقويم.
وهذا هو الصحيح عند جمهور الأصحاب, وبه قطع الدارمي وجماعة من العراقيين ونقله الإمام, عن الأكثرين.
قال: والوجه الأول بناه قائلوه على أن الماء لا يملك, وهو وجه ضعيف قال: والثاني أيضا ليس بشيء.
قال: وعلى طريقة الأكثرين: الأقرب, أن يقال. لا يعتبر ثمن الماء عند الحاجة إلى سد الرمق, فإن ذلك لا ينضبط, وربما رغب في الشربة حينئذ بدنانير, ويبعد في الرخص.
والتحقيقات: أن يوجب ذلك على المسافر, ولكن يعتبر الزمان والمكان من غير انتهاء الأمر إلى سد الرمق.
الموضع الثاني الحج:
جزم الأصحاب بأن ثمن المثل للزاد والماء: القدر اللائق به في ذلك المكان, والزمان.
هكذا: أطلقه عنهم الشيخان.
قال ابن الرفعة: وهذا الإطلاق إنما يستمر في الزاد.
أما الماء: فينبغي جريان الأوجه المذكورة في التيمم فيه.
قال: ويحتمل أن لا يجري الوجه القائل بقيمة الماء في غالب الأحوال فيه, وإنما جرى في التيمم لتكرره.
وفي الوافي: ينبغي اعتبار ثمن المثل بما جرت به غالب العادة من ماضي السنين, فإن وجد بمثله لزمه, وإلا فلا, وإن عرض في الطريق غلاء, وبيع بأكثر من ثمن مثله, فله الرجوع.
أما إذا كانت العادة: غلاء ثمن الماء والزاد, فيلزمه الحج.
قال: ويمكن أن يقال: كل سنة تعتبر بنفسها, لكن يعسر معرفة مقدار الثمن والزيادة قبل البلوغ إلى المنهل.
الموضع الثالث:
الطعام والشراب حال المخمصة.
وثمن المثل فيه: هو القدر اللائق به في ذلك الزمان والمكان قطعا, وكذا ثمن مثل(17/18)