ص -176-…والثاني تعبير المصنف بالنقيضين غير مستقيم فإنه نظر إلى وقوع التكليف بالإيمان وعدمه وهما نقيضان ولكن العدم غير مقدور عليه فلا يكلف به بل المكلف به على التقدير الذي أشار إليه كف النفس عن الإيمان والكف فعل وجودي فالصواب التعبير بالضدين كما فعل الإمام.
فائدة ناقش القرافي في التمثيل بأبي لهب وقال إنما يتوهم أن الله أخبر بعدم إيمانه من قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}1 ولا دليل فيه لأن التب هو الخسران وقد يخسر الإنسان ويدخل النار وهو مؤمن لمعاصيه وأما قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}2 فمخصوصة ولقائل أن يقول لا مشاحة في المثال ولا شك أنه تعالى أخبر عن أقوام أنهم لا يؤمنون من الآية التي ذكرها وإن كانت مخصوصة وذلك كاف في المثال فإن أولئك الذين أخبر عنهم أنهم لا يؤمنون مأمورون بالإيمان إجماعا بل لمن يشاحح القرافي أن يقول إخباره تعالى عن أبي لهب أنه سيصلى نارا أقل أحواله أن يكون صليه إياها بمعاص صدرت منه كما ذكرتم والآية نزلت وهو كافر فيكون العقاب على معاص تصدر منه في حال الكفر فنقول حينئذ إن قلنا إن الكافر غير مكلف بالفروع فهذا منتصف ولا بد أن تكون النار التي استوجبها بعدم الإيمان وإن قلنا أنه مكلف فلو قدر إسلامه بعد ذلك كما فرضتم لكان غير معاقب على تلك المعاصي التي صدرت منه في حال الكفر لأن الإسلام يجب ما قبله فتعين أن يكون العقاب على ترك الإيمان وهو المطلوب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المسد آية 1.
2 سورة البقرة آية 6.(11/260)
ص -177-…المسألة الثانية في تكليف الكفار
قال الثانية الكافر مكلف بالفروع خلافا للحنفية وفرق قوم بين الأمر والنهي.
أطبق المسلمون على أن الكفار بأصول الشرائع مخاطبون وباعتبارها مطالبون ولا اعتداد بخلاف مبتدع يشبب بأن العلم بالعقائد يقع اضطرارا فلا يكلف به وأجمعت الأمة كما نقله القاضي أبو بكر على تكليفهم بتصديق الرسل وبترك تكذيبهم وقتلهم وقتالهم ولم يقل أحد إن التكليف بذلك متوقف على معرفة الله تعالى.
وأما فروع الدين فقال الشافعي ومالك وأحمد إنهم مخاطبون بها وخالفت الحنفية وهو قول الشيخ أبي حامد الاسفرايني من أصحابنا وذهب قوم إلى أن النواهي متعلقة بهم دون الأوامر وربما ادعى بعضهم أنه لا خلاف في تعلق النواهي وإنما الخلاف في الأوامر قال والدي رحمه الله وهي طريقة جيدة وفي المسألة مذهب رابع أن المرتد مكلف دون غيره لالتزام المرتد أحكام الإسلام ولا معنى لذلك لأن مأخذ المنع فيهما سواء وهو جهله بالله تعالى وزعم القرافي أنه مر به في بعض الكتب حكاية قوم وأنهم مكلفون بما عدا الجهاد دون الجهاد لامتناع قتالهم أنفسهم.
واعلم أن هذه المسألة إنما ذكرت على صفة المثال لأصل وهو أنه هل حصول الشرط الشرعي شرط في صحة التكليف أم لا وهي مسألة مشهورة وهنا مباحثتان:(11/261)
ص -178-…احدهما: أن تكليف الكافر بالصلاة والصوم والحج ونحوها لا إشكال فيه لتمكنه من إزالة المانع والفعل بعده كالمحدث وحصول الشرط الشرعي غير مشروط في صحة التكليف على الرأي الصحيح أما الزكاة فقد يقال في تكليفهم بها إشكال لأن شرطها بعد ملك النصاب مضي الحول وإنما يجب بتمامه فإذا تم الحول وهو كافر كيف يكلف بزكاته وهو لا يمكنه فعلها في حال الكفر ولا بعده لأنه لا أسلم اشترط مضي حول من وقت إسلامه وهذا بخلاف الصلاة حيث يمكن فعلها في الوقت وجواب هذا الإشكال بأنه إذا تم الحول كلف بإخراجها بأن يسلم ويخرجها بعده فالتكليف بإخراجها بعد الإسلام الآن متحقق ولكنه إذا أسلم تسقط ويكون بمثابة نسخ الشيء قبل إمكان فعله وذلك جائز فما كلفناه بمستحيل بل بممكن فإن استمر على كفره كان التكليف مستمرا وإن أسلم سقط ويظهر بهذا معنى قول الأصوليين كما ستعرفه إن شاء الله.
الفائدة تضعيف العذاب في الآخرة ومضي الحول ليس من شرطه الإسلام والذي يستأنف حوله بعد الإسلام زكاة الحول الثاني.
أما الأول فقد استقر وجوبه وهو متمكن من الإخراج.
وفي الزكاة ثلاثة أشياء:
الخطاب بأدائها وهو حاصل لما بيناه.
والثاني: ثبوتها في الذمة وهو حاصل أيضا لا يفترق الحال بين المسلم والكفار فيه.
الثالث: تعلقها بالمال وهذا يظهر أنه في المسلم خاصة دون الكافر لما سنعرفه على الأثر إن شاء الله فنقول:
والمباحثة الثانية: أن إطلاق الخلاف بخطاب الكفار بالفروع ربما يتوهم منه أن من يقول بتكليفهم بالفروع يقول كل حكم ثبت في حق المسلمين ثبت في حقهم ومن لا يقول بذلك يقول لا يثبت في حقهم شيء من فروع الأحكام(11/262)
ص -179-…وليس الأمر على هذا التوهم وكشف الغطاء في ذلك أن الخطاب على قسمين:
خطاب تكليف وخطاب وضع فخطاب التكليف بالأمر والنهي هو محل الخلاف وليس كل تكليف أيضا بل ما لم نعلم اختصاصه بالمؤمنين أو ببعض المؤمنين وإنما المراد العامة التي شملهم لفظا هل يكون الكفر مانعا من تعلقها بهم.
أولا: وأما خطاب الوضع فمنه ما يكون سببا لأمر أو نهي مثل كون الطلاق سببا لتحريم الزوجة قال والدي رحمه الله فهذا من محل الخلاف أيضا والفريقان مختلفان في أنه هل هو سبب في حقهم أيضا وربما يقول المانع من التكليف هو سبب ولكن قارنه مانع والعبارتان إن وقع فيهما تشاجر فهو لفظي.
ومن خطاب الوضع كون اختلافهم وجناياتهم سببا في الضمان وهذا ثابت في حقهم إجماعا بل ثبوته في حقهم أولى من ثبوته في حق الصبي وكون و قوع العقد على الأوضاع الشرعية سببا فيه في البيع والنكاح وغيرهما فهذا لا نزاع فيه وفي ترتب الأحكام الشرعية عليه في حقهم كما في حق المسلم وكذا كون الطلاق سببا للفرقة فإن الفرقة تثبت إذا قلنا بصحة أنكحتهم ومن هذا القبيل الإرث والملك به ولولا ذلك لما شاع بيعهم لمواريثهم وما يشترونه ولا معاملتهم وكذا صحة أنكحتهم إذا صدرت على الأوضاع الشرعية والخلاف في ذلك لا وجه له.
قال والدي بل ما أظن أحدا يتحقق عنه القول بأن النكاح الصادر منهم على الأوضاع الشرعية يكون فاسدا والصحة حكم شرعي وهي ثابتة في حقهم ومن يقول بأن الصحة حكم عقلي مراده مطابقة الأمر فهي حاصلة في حقهم لمطابقة عقدهم الوجه المشروع وأوضح دليل على ثبوت الصحة في حقهم من غير نزاع أن أبا حنيفة قال بها في الأنكحة وهو صدر القائلين بعدم تكليفهم بالفروع وأما صحة البيع ونحوه إذا جرى على الوضع الشرعي فلا تعلم من يقول بفساده في حقهم.(11/263)
ص -180-…ومن خطاب الوضع ثبوت المال في ذمتهم في الديون وفي الكفارات عند حصول أسبابها ولا نزاع في ثبوت ذلك حقهم كما ثبتت في حق المسلمين و كذلك تعلق الحقوق التي يطالبون بأدائها فأموالهم مثل تعلق أروش الجنايات برقاب الجناة ونحوذلك وعكس هذا تعلق الزكاة بالمال تعلق رهن كما قاله بعض الفقهاء أو جناية كما قاله بعضهم أو شركة كما هو الأصح من مذهب الشافعي فظهر أنه لا يثبت في حقهم وإن قلنا إنهم مخاطبون بالزكاة لأمرين.
أحدهما: أن المقصود أنهم يأثمون بتركها وليس المقصود أنهم تؤخذ منهم في كفرهم والتعلق المذكور إنما يقصد به تأكيد الوجوب لأجل الأخذ ليصان الواجب عن الضياع فلا معنى لإثباته في حق الكافر لأنه إن دام على الكفر لم يوجد منه وإن أسلم سقطت وما كان كذلك لا معنى للتعلق الذي هو توثقة فيه والموجود في حق الكفار إنما هو الأمر بأدائها وهذا مشترك بينهم وبين المسلمين وثبوتها في الذمة قدر زائد على ذلك قد يقال به في الكافر أيضا وإثبات تعلقها بالدين أمر ثالث يختص بالمسلم لا وجه للقول به في الكافر.
الثاني: أن المعتمد في ثبوت الشركة قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}1 ولا مرية في أن الكافر لا يدخل في ذلك وكتاب أنس الذي كتبه له أبو بكر رضي الله عنه وفيه هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين وفيه كل خمس شاة ولا يلزم من إثبات هذا التعلق في حق المسلمين إثباته في حق الكافرين لظهور الفرق على ما قدمناه ولا شك أن الأدلة الواردة في أحكام الشريعة.
منها ما يتناول لفظه الكفار مثل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} ونحوه فيتعلق بهم حكمه على القول بتكليفهم بالفروع
ومنها ما لا يشملهم لفظه كما ذكرناه من الآية والحديث كالآيات التي فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ونحوه فلا تتناولهم لفظا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(11/264)
1 سورة التوبة: آية 103.(11/265)
ص -181-…قال والدي رحمه الله ولا يثبت حكمها لهم وإن قلنا إنهم مخاطبون بالفروع إلا بدليل منفصل أو تبين عدم الفرق بينهم وبين غيرهم والاكتفاء بعموم الشريعة لهم ولغيرهم وأما حيث يظهر الفرق أو يمكن معنى غير شامل لهم فلا يقال بثبوت ذلك الحكم لهم لأنه يكون إثبات حكم بغير دليل والتعلق قدر زائد على الوجوب فلا نثبته في حقهم بغير دليل ولا معنى.
ومن خطاب الوضع كون الزنا سببا لوجوب الحد وذلك ثابت في حقهم ولذلك رجم النبي صلى الله عليه وسلم اليهوديين1 ولا يحسن القول ببناء ذلك على تكليفهم بالفروع فإنه كيف يقال بإسقاط الإثم عنهم فيما يعتقدون تحريمه لكفرهم وهذا في الكتابي الذي يعتقد شرعا أما من لا يعتقد شيئا فيجري الخلاف في تعلق التحريم به في جميع المحرمات وقد قال الأستاذ أبو إسحق في أصوله لا خلاف أن خطاب الزواجر من الزنا والقذف يتوجه عليهم كما هو في المسلمين ونص الشافعي على أن حد الزنا لا يسقط بالإسلام.
فانظر هذه المواضع وتأملها ونزل كلام العلماء عليها ولا يظنن الظان مخالفة ما ذكرناه لعبارات الأصوليين لأنهم إنما قالوا التكليف بالفروع فلا يرد خطاب الوضع عليهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر أن اليهود جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا فقال لهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – "ما تجدون في التوراة؟" قالوا نفضحهم ويجلدون قال عبد الله بن سلام: كذبتم إن فيها الرجم فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها فقال عبد الله بن سلام: ارفع يدك فرفع يده فإذا آية الرجم قالوا صدق فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما.
فتح القدير للشوكاني 2/43, 44.(11/266)
ص -182-…أدلة القائلين بتكليف الكفار
قال لنا أن الآيات الآمرة بالعبادة تتناولهم والكفر غير مانع لإمكان إزالته وأيضا الآيات الموعدة بترك الفروع كثيرة مثل فويل للمشركين وأيضا فإنهم كلفوا بالنواهي لوجوب حد الزنا عليهم فيكونون مكلفين بالأمر قياسا.
استدل على المختار بأوجه.
الأول: أن المقتضى لتناول الكفار قائم مثل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}1 وغيرها والكفر لا يمنع من التناول للتمكن من إزالته فأشبه الحدث مانع من الصلاة إذ كل منهما مانع ممكن الزوال وما قال أحد من المسلمين إن المحدث لا يكلف بالصلاة حتى نبغ أبو هاشم2 وقال منكرا من القول وزورا قلت والاستدلال بنحو: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} مستقيم وأما ما حكى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال كل ما جاء في القرآن يا أيها الناس فالمراد المؤمنين فلم يصح عنه3.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة: آية 21.
2 هو عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجباني وإليه تنسب طائفة الهاشمية من المعتزلة ويقال لهم الذمية لقولهم باستحقاق الذم لا على فعل.
توفي ببغداد سنة 321 هـ.
ابن خلكان 1/367 البغداد 11/55.
3 يؤيد ذلك ما رواه الحافظ ابن كثير عند تفسير قوله تعالى في سورة البقرة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} قال: وقال مجمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} للفريقين جميعا من الكفار والمنافقين.
تفسير ابن كثير ج 1 ص 86 ط الشعب.(11/267)
ص -183-…الثاني: أن الآيات الموعدة بترك الفروع مثل قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ*الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}1 ومثل قوله: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ*قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ}2 دلت على أنهم كلفوا ببعض الفروع فيكونون مكلفين بالباقي إذ لا قائل بالفرق أو بالقياس.
الثالث: وهو دليل على من فصل وقال تتناولهم المناهي دون الأوامرولك أن تجعله دليلا على الفريقين وبه يشعر إيراد المصنف حيث استدل بتناول النهي ولو جعله دليلا على من وافق في النهي لم يحتج إلى الإستدلال وتقريره أن الدليل على أن النهي يتناولهم وجوب حد الزنا عليهم فيلحق به الأمر بجامع مطلق الطلب.
فإن قلت لانسلم بأنه يتناول الكافر النهي ولا يرد وجوب حد الزنا لأنه التزم أحكامنا بعقد الجزية أو غيرها ولذلك لا نحد الحربي.
قلت الالتزام بمجرده لا يوجب الحد.
فإن قلت قال أبو عبد الله بن خويد و منداذ المالكلي إنهم إنما يقطعون السرقة ويقتلون في الحرابة من باب الدفع فهو تعزيز لا حد لأن الحدود كفارات لأهلها وليست هذه كفارات ومقتضى ذلك ألآ يجب حد الزنا لما ذكره.
قلت مقالته هذه فاسدة فإن الحدود إنما تكون كفارة لأهلها إذا كانوا مسلمين كما صرح به الشافعي والكافر ليس من أهل الأجر ولا الثواب ولا الطهرة وإنما هي في حقه كالديون اللازمة ولذلك نلزمه بكفارة الطهار ونحوها ولا يزول عنه بها إثم.
قال قيل الانتهاء أبدا ممكن دون الامتثال وأجيب بأن مجرد الفعل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة فصلت: آية 6, 7.
2 سورة المدثر آية 42, 43.(11/268)
ص -184-…والترك لا يكفي فاستويا وفيه نظر قيل لا يصح مع الكفر ولا قضاء بعده.
قلنا الفائدة تضعيف العذاب.
لما قاس الأمر على النهي بالجامع الذي بينه اعترض الخصم وزعم ثبوت الفرق من جهة أن النهي من باب التروك فلا يحتاج إلى النية بخلاف الأمر وإذن يمكن للكافر الانتهاء عن المنهيات مع كفره ولا يمكنه الإتيان بالمأمورات وأجيب عن هذا الاعتراض بأنك إن عنيت بقولك يمكنه الانتهاء عن المنهيات أنه يتمكن من تركها من غير اعتبار النية فكذلك المأمورات وإن عنيت أنه متمكن من الانتهاء عن المنهي لغرض امتثال قول الشرع فهذا حالة الكفر متعذر فاستوى المأمور والمنهي في أن الإتيان بهما من حيث الصورة غير متوقف على الإيمان والإتيان بهما لغرض الامتثال متوقف على الإيمان فبطل الفرق قال صاحب الكتاب وفي هذا الجواب نظر ووجهه أن المكلف إذا ترك المنهي عنه سقط عنه العقاب ولم ينو بخلاف المأمور به فإنه لا يحصل الأجر إذا لم ينو.
واحتج من قال بعدم تكليف الكفار بالفروع بأنها لو وجبت عليهم لكانت إما في حال الكفر أو بعده والأول باطل لامتناع الإتيان بها في تلك الحالة وكذلك الثاني لإجماعنا على أن الكافر إذا أسلم لا يؤمن بالقضاء لقوله عليه السلام: "الإسلام يجب ما قبله"1 وأجاب المصنف بأن فائدة قولنا إنهم مكلفون بالفروع تضعيف العذاب عليهم يوم القيامة ولقائل أن يقول التعذيب في الآخرة متوقف على سبق التكليف لا محالة ويعود الكلام إلى أن التكليف بها إما في حالة الكفر أو بعده بل الجواب أنا نقول هو مكلف بإيقاع ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حديث الإمام أحمد في مسنده عن عمرو بن العاص 4/199, 204, 205.(11/269)
ويؤيده حديث ابن مسعود أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ لما عمل في الجاهلية ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر" صحيح البخاري كتاب استتابة المرتدين 9/17, 18 ومسلم كتاب الإيمان باب هل يؤاخذ بأعمال الجاهلية 1/77.
كما يؤيد ذلك كله قول الله تبارك وتعالى {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ} لأنفال:38(11/270)
ص -185-…بأن يسلم ويوقع وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يجب ما قبله" فحجة لنا لأن قوله يجب يقتضي سبق التكليف به ولكن يسقط ترغيبا في الإسلام ومن الدلائل الواضحة على أن الكافر مكلف بالفروع مطلقا ولم أر من ذكره قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ}1 إذ لا يمترى الفهم في أن زيادة هذا العذاب إنما هو بالافساد الذي هو قدر زائد على الكفر إما الصد أو غيره وأما قول الأصوليين الفائدة تضعيف العذاب في الآخرة فصحيح ولم يريدوا أنه لا يظهر فائدة الخلاف إلا في الآخرة وإن أفهمته عبارة طوائف منهم فينبغي أن يخصص كلامهم ويعلم أنه جواب عما ألزم به الخصوم في فروع خاصة لا يظهر فيها فائدة للخلاف فيها كالزكاة ونحوها وقد فرع الأصحاب على الخلاف الأصولي مسائل عديدة.
واعلم أن الأقوال الثلاثة في خطاب الكفار بالفروع أوجه للأصحاب حكاها النووي في أوائل الصلاة من شرح المهذب وسبقه الشيخ أبو إسحق في شرح اللمع فوضح وجه اختلافهم في المسائل التي بنوها حسب اختلافهم في الأصول.
منها ذهب الأستاذ أبو إسحق إلى أنه يجب على الحربي ضمان النفس والمال تخريجا من أن الكفار مخاطبون بالفروع وعزى هذا إلى المزني2 في المنثور.
ومنها إذا اغتسلت الذمية لتحل لمن يحل له وطؤها من المسلمين فهل يجب عليها إعادة الغسل إذا أسلمت فيه وجهان وفرق إمام الحرمين بين هذه وبين ما لو وجب على الذمي كفارة فأخرجها ثم أسلم لا يجب عليه الإعادة قطعا بأن الكفارة إنما تكون بالمال ولا تخلو الكفارة عن قصد شرعي من إطعام محتاج أو كسوة عار أو تخليص رقبة عن قيد رق وهذه المصلحة لا تختلف باختلاف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النحل آية 88.(11/271)
2 هو إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل المزني صاحب الإمام الشافعي من أهل مصر كان عالما مجتهدا قوي الحجة له الجامع الكبير والصغير.
توفي سنة 264 هـ الأعلام 1/115, 116 وفيات الأعيان 1/223.(11/272)
ص -186-…أحوال فاعليها فإذا وجدت لا حاجة إلى إعادتها بخلاف ما تعبد به في حق الشخص نفسه كمسألتنا وكالصوم.
ومنها لو اغتسل الكافر عن جناية أو توضأ أو تيمم ثم أسلم فالمذهب الصحيح وجوب الإعادة.
والثالث: الفرق بين الوضوء والغسل.
ومنها هل يمكث الكافر الجنب في المسجد فيه وجهان.
ومنها هل يؤخذ في الجزية وفي ثمن الشقص المشفوع مما تيقنا أنه من ثمن الخمر المذهب أنا لا نأخذه وفيه وجه.
ومنها التصرف في الخمر حرام عليهم خلافا لأبي حنيفة وصرح في التتمة ببناء المسألة على الأصل المذكور فإن قلت لم لا جرى فيها خلاف مذهبي؟
قلت شفاء الغليل في ذلك من وظائف كتابنا الأشباه والنظائر فعليك به.
ومنها إذا دخل الكافر الحرم وقتل صيدا لزمه الضمان وقال في المهذب يحتمل ألا يلزمه.
خاتمة قول المصنف وغيره الفائدة تضعيف العذاب قد يفهم أن الخلاف في تكليفهم بالفروع يختص بما يترتب عليه حرج من مأمور ومنهي ويقتضي أن الإباحة لا تتعلق بهم لاسيما على قولنا إنها ليست من التكليف والظاهر تعلق الإباحة بهم فيما هو مباح قال والدي وقد يقال إن أقدامهم على المباح وهم غير مستندين فيه إلى الشرع الذي يجب عليهم اتباعه حرام لقيام الإجماع على أن المكلف لا يحل له الإقدام على فعل حتى يعلم حكم الله فيه فإن صح هذا فهم آثمون على جملة أفعالهم وهذا البحث عام في الكتابيين والمشركين قال والدي وهو مما لم أره لغيري وفيه عندي توقف ولا ينافي القول به الحكم بصحة أنكحتهم ومعاملاتهم لأن أثرها في الدنيا والمقصود عقابهم في الآخرة.(11/273)
ص -187-…المسألة الثالثة امتثال الأمر يوجب الإجزاء
قال الثالثة امتثال الأمر يوجب الإجزاء لأنه إن بقي متعلقا به فيكون أمرا بتحصيل الحاصل أو بغيره فلم يمتثل بالكلية قال أبو هاشم لا يوجبه كما لا يوجب النهي الفساد والجواب طلب الجامع ثم الفرق.
إتيان المكلف بالمأمور بالمأمور به على الوجه المشروع موجب للإجزاء عند الجمهور وخالفهم أبو هاشم وعبد الجبار1 وحجة الجمهور أنه لو لم يكن الامتثال موجبا للإجزاء لكان الأمر بعد الامتثال مقتضيا إما لذلك المأتي به ويلزم تحصيل ا.لحاصل أو لغيره ويلزم ألا يكون الإتيان به بتمام المأمور به بل ببعضه والفرض خلافه
وأعلم أن الإجزاء له تفسيران:
أحدهما: سقوط التعبد به وهو الذي اختاره المصنف في أوائل الكتاب.
والثاني: سقوط القضاء وقد ضعفه ثم والخلاف في هذه المسألة إنما هو مبنى على تفسيره بسقوط القضاء أما إذا فسر بما اختاره المصنف فامتثال الأمر يكون محصلا للإجزاء من غير خلاف وإنما خالف أبو هاشم وأتباعه إذا بنى على ذلك التفسير فقالوا لايمتنع الأمر بالقضاء أيضا مع فعله فحاصل ما يقوله أبو هاشم أنه لا يدل على الإجزاء وإنما الإجزاء مستفاد من عدم دليل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو أبو الحسين عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمداني شيخ المعتزلة في زمانه.طج
من مؤلفاته تنزيه القرآن عن المطاعن العمد في أصول الفقه.
توفي بالري سنة 415 هـ الأعلام 2/476.(11/274)
ص -188-…يدل على وجوب الإعادة ولا خلاف بين أبي هاشم وغيره في براءة الذمة عند الإتيان بالمأمرو به1 وقد شبه القرافي هذا الخلاف في مفهوم الشرط كما إذا قال إن دخلت الدار فأنت حر فمن قال لا مفهوم للشرط قال عدم عقته ما لم يأت بالمشروط مستفاد من الملك السابق ومن قال له مفهوم قال هو مستفاد من ذلك ومن مفهوم الشرط أيضا وكذلك الخلاف الذي هنا وإذا عرفت ذلك أن أبا هاشم لا يقول ببقاء شغل الذمة بعد الفعل لأن الأمر بمجرده لا يدل عليه وحينئذ فدليل المصنف عليه دليل في محل الوفاق لا معترض به عليه وهذا هو التحرير في نقل مذهب أبي هاشم وكذلك نطق به جماعة منهم الشيخ تقي الدين بن دقيق العبد في شرح العنوان واحتج أبو هاشم على مذهبه بأن النهي لا يدل على الفساد بدليل البيع وقت النداء فكذلك الأمر لا يدل على الإجزاء وإليه الإشارة بقوله لا يوجبه أي لا يوجب الأمر الإجزاء كما لا يوجب النهي الفساد.
والجواب أولا طلب الجامع بين المقيس والمقيس عليه وهو الأمر والنهي فإن أتى به بأن قال الجامع أن كلا منهم طلب لا إشعار له بذلك أو أنهما متضادان والشيء محمول على ضده كما هو محمول على مثله أجبنا ثانيا بالفرق وهو أن مقتضى الأمر الإتيان بالمأمور به فلو لم يكن موجبا للإجزاء لم يكن للأمر فائدة لأنه حينئذ يكون كأنه قال افعل هذا وإن فعلت فكأنك لم تفعل بخلاف النهي فإن مقتضاه الانكفاف عن المنهي وقد يكون الانكفاف بحكم آخر كالنهي عن البيع وقت النداء مع مجامعته للصحة ولهذا يصح أن يقال لا تفعل هذا وإن فعلته يكون فعلك صحيحا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(11/275)
1 اتفق الجميع على أن الإتيان بالمأمور به على وجه الصحيح يدل على الإجزاء بمعنى امتثال الأمر واتفقوا على عدم الإجزاء بمعنى عدم سقوط القضاء إذا اختل شرط في المأمور به وإنما الخلاف في الإجزاء بمعنى القضاء فيما إذا أتى المكلف بالمأمور به على صفة الكمال فهل الإتيان به على الوجه المأمور به يستلزم سقوط القضاء؟ فالجمهور من الأصوليين والفقهاء على أنه يستلزمه وعليه أكثر المعتزلة وقال بعض المعتزلة ومنهم أبو هاشم لا يوجبه.
وانظر الإحكام للآمدي 2/162.(11/276)
ص -189-…فإن قلت الحاج إذا فسد فهو مأمور بالمضي في فاسد الحج وإذا مضى فيه كما أمر لزمه في مستقبل الزمان حج صحيح ولم يقع إذن مضيه مجزئا وإن كان مأمورا به.
قلت قال إمام الحرمين هذا قول من يتلقى الحقائق في الأصول من خيالات في مضطرب الظنون المتعلقة بالفروع فنقول إن كان ما خاض أولا حجا مفروضا فالخطاب بإيقاع حج صحيح قائم والإفساد مناف لحق الامتثال وليس المضي في الفاسد مقتضى الأمر بالحج الصحيح وإنما هو متلقى من أمر جديد يختص بالحج فيثبت الجريان في الفاسد بأمر جديد وبقي على المفسد حق القيام بالأمر الأول وإن كان الحج تطوعا فيجب القضاء على المفسد بأمر جديد وليس ذلك من مقتضى الأمر بالمضي قال وهذا لا غموض فيه وقد يتعارض على الفقيه الفرق بين الفساد والفوات والتحلل بعد الإحصار وحظ الأصولي من هذه المسائل تقرير أمر جديد في كل ما لا يتلقى من الأمر الأول وهذا ليس بالعسر بل هو مقطوع به والله أعلم وبه التوفيق.(11/277)
ص -190-…الكتاب الأول في الكتاب وهو القرآن الكريم
قال الكتاب الأول في الكتاب والاستدلال به يتوقف على معرفة اللغة وأقسامهما وهو ينقسم إلى أمر ونهي وعام وخاص ومجمل ومبين وناسخ ومنسوخ وبيان ذلك في أبواب.
الكتاب هو القرآن وهو الكلام المنزل للإعجاز بسورة منه وقد خرج بقولنا المنزل الكلام النفسي وكلام البشر وبالإعجاز الأخبار الربانية وسائر الكتب المنزلة كالتوراة والإنجيل والزبور إن لم يقل إنها معجزة وقولنا بسورة منه أي ببعض ولو ساوى أقصر سورة منه كالكوثر وخرج بذلك سائر الكتب المنزلة إن قيل بإعجازها فإنها حينئذ وإن أنزلت للإعجاز لكن لم يكن الإعجاز بسورة منها وهذا التعريف صادق على الآية وعلى بعضها أيضا لأنه يصدق عليها أن قدر سورة من نوعه معجزة ولما كان الكتاب منزلا على لغة العرب احتاج المستدل به إلى معرفتها والاستدلال به أيضا متوقف على معرفة أقسامه من جملة أقسام اللغة وهو ينقسم إلى خبر وإنشاء ولاحظ للأصولي في الخبر وإنما كلامه في الإنشاء وهو ينقسم باعتبارت ثلاث.
الأول: بالنظر إلى ذاته إلى أمر ونهي فنقول هذا القول أمر أونهي فيجعل مورد القسمة ذات القول.
والثاني: بالنظر إلى عوارضه ونعني بها متعلقاته وبهذا ينقسم إلى العام والخاص فنقول المعني بهذا القول جميع متعلقاته وهو العام أو بعضها وهو الخاص.(11/278)
ص -191-…والثالث: بالنظر إلى النسبة بين الذات والمتعلق وبهذا ينقسم إلى المجمل والمبين فنقول دلالة القول على متعلقاته إما ظاهرة غنية عن المبين وذلك المبين أو غير غنية وذلك المجمل ثم إن أحكام الله تعالى لما كانت تارة في جانب النفي وطورا في قالب الإثبات إما لكونها تابعة للمصالح تفضلا وإحسانا عند من يعلل أحكامه سبحانه وتعالى أو بحسب إرادته وقضاياه التي لا تعلل عندنا فيرد حكم يرفع حكما فالرافع ناسخ والمرفوع منسوخ.
فهذا وجه انقسام الإنشاء في الكتاب إلى هذه الأمور وليس التقسيم مختصا بالكتاب بل السنة كذلك وقد بين المصنف ذلك في كتاب السنة بقوله سبق مباحث القول.(11/279)
ص -192-…الباب الأول في اللغات وفيه فصول
الفصل الأول في الوضع
قال الباب الأول في اللغات وفيه فصول الفصل الأول في الوضع.
وجه تقديم باب اللغات على غيره أن معرفة ماهية الشيء سابقة على معرفة أقسامه وأحكامه واللغات جمع لغة وإنما جمعها وإن كان الغرض الكلام في لغة العرب وهي واحدة لاشتراك مباحثه بين جميع اللغات وقد أودع هذا الباب تسعة فصول أولها في الوضع وهو عبارة عن تخصيص الشيء بالشيء بحيث إذا أطلق الأول فهم منه الثاني وهذا تعريف سديد فإنك إذا أطلقت قولك قام زيد فهم منه صدور القيام منه.
فإن قلت مدلول قولنا قام زيد صدور قيامه سواء أطلقنا هذا اللفظ أم لم نطلقه فما وجه قولكم بحيث إذا أطلق.
قلت الكلام قد يخرج عن كونه كلاما بالزيادة والنقصان وقد لا يخرج عن كونه كلاما ولكن يتغير معناه بالتقييد فإنك إذا قلت قام الناس اقتضى إطلاق هذا اللفظ إخبارك بقيام جميعهم فإذا قلت إن قيام الناس خرج عن كونه كلاما بالكلية فإن قلت قام الناس إلا زيدا لم يخرج عن كونه كلاما ولكن خرج عن اقتضاء قيام جميعهم إلى قيام ما عدا زيدا فعلمت بهذا أن لإفادة قام الناس للإخبار بقيام جميعهم شرطين:
أحدهما: ألا يبتدئه بما يخالفه.(11/280)
ص -193-…والثاني: ألا يختمه بما يخالفه وله شرط ثالث أيضا وهو أن يكون صادرا عن قصد فلا اعتبار بكلام الساهي والنائم فهذه ثلاثة شروط لا بد منها وعلى السامع التنبه لها فوضح بهذا أنك لا تستفيد قيام الناس من قوله: قام الناس إلا بإطلاق هذا القول فلذلك اشترطنا ما ذكرناه.
فإن قلت من أين لنا اشتراط ذلك واللفظ وحده كلف في ذلك لأن الواضع وضعه لذلك؟
قلت وضع الواضع له معناه أنه جعله متهيئا لأن يفيد ذلك المعنى عند استعمال المتكلم له على الوجه المخصوص والمفيد في الحقيقة إنما هو المتكلم واللفظ كالآلة الموضوعة لذلك.
فإن قلت لو سمعنا قام الناس ولم يعلم من قائله هل قصده أو لا أو ابتداه وختمه بما يغيره أو لا هل لنا أن نخبر عنه بأنه قال قام الناس أو لا قلت فيه نظر يحتمل أن يقال بجوازه لأن الأصل عدم الابتداء والختم بما يغيره ويحتمل أن يقال لا يجوز لأن العمدة ليس هو اللفظ ولكن الكلام النفساني القائم بذات المتكلم وهو حكمه واللفظ دليل عليه مشروط بشروط ولم تتحقق ويحتمل أن يقال إن العلم بالقصد لا بد منه لأنه شرط والشك في الشرط يقتضي الشك في المشروط والعلم بعدم الإبتداء والختم بما يخالفه لا يشترط لأنهما مانعان والشك في المانع لا يقتضي الشك في الحكم لأن الأصل عدمه واختار والدي أيده الله أنه لا بد من أن يعلم الثلاثة ويؤيده ما حكاه الروياني عن صاحب الحاوي فيما إذا قال الرجل لزوجته طلقتك ثم قال سبق لساني وإنما أردت طلبتك أن المرأة إن ظنت صدقه بأمارة فلها أن تقبل قوله ولا تخاصمه وإن من عرف ذلك منه إذا عرف الحال يجوز أن يقبل قوله ولا يشهد عليه قال الروياني وهذا هو الاختيار وهذه الأسئلة من إيرادي في مجلس مباحثة على الشيخ الإمام والدي والأجوبة له.(11/281)
ص -194-…أسباب وضع اللغات
والموضوع والموضوع له وفائدة الوضع
قال لما مست الحاجة إلى التعاون والتعارف وكان اللفظ أفيد من الإشارة والمثال لعمومه وأيسر لأن الحروف كيفيات تعرض للنفس الضروروي وضع بإزاء المعاني الذهنية لدورانه معها.
يتعلق بالوضع أمور ستة:
أحدها: سببه وقد خلق الله نوع الإنسان وصيره محتاجا إلى أمور لا يستقل بها بل يفتقر إلى المعاونة عليها ولا بد في المعاونة من الاطلاع على مضمرات النفوس وذلك إما باللفظ أو بالإشارة أو بالمثال قوله وكان اللفظ هذا هو الأمر الثاني في الموضوع ومن لطف الله تعالى إحداث الموضوعات لأنها أفيد هذه الثلاثة وأيسرها أما كونها أفيد فلأنها تعم كل شيء معلوم موجود ومعدوم إلى غير ذلك لإمكان وضع اللفظ بإزاء ما أريد من تلك المعاني بخلاف الإشارة فإنها مخصوصة بالموجودات المحسوسة وبخلاف المثال وهو أن نجعل لما في الضمير شكلا فإنه أيضا كذلك لا يعسر بل يتعذر أن يجعل لكل شيء مثال يطابقه وأما كونها أيسر موافقة للأمر الطبيعي لأن الجروف كيفيات تعرض للنفس الضروري ولا شك في أن الموافق للأمر الطبيعي أسهل من غيره.
قوله وضع.
هذا هو الأمر الثالث الموضوع له وإذا ثبت ما ذكرناه فنقول وضع اللفظ بإزاء المعاني الذهنية وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي بل بإزاء الخارجية واستدل المصنف على الأول بدوران الألفاظ مع المعاني الذهنية فإن من رأى(11/282)
ص -195-…شبحا من بعيد واعتقده مثلا حيوانا مخصوصا أطلق عليه اسم ذلك الحيوان فإذا تغير ذلك الاعتقاد باعتقاد آخر أطلق عليه بحسب ذلك الاعتقاد اسما آخر وهذا الدليل أيضا يدل على بطلان القول بأنها موضوعة بإزاء الخارجية لأنها لو كانت موضوعة بإزاء المعاني الخارجية لامتنع تسمية ذلك بحيوان مخصوص وقد عرف أن ذلك لا يمتنع مع عدم الشعور بكونه إنسانا ولكان يمتنع اختلاف الألفاظ عند عدم اختلاف الأمر الخارجي وقد أجيب عن هذا الدليل بأن هذا الاختلاف إنما هو لاعتقاد أنها في الخارج كذلك لا لمجرد اختلافها في الذهن.
قال ليفيد النسب والمركبات دون المعاني المفردة وإلا فيدور.
اللام في قوله ليفيد متعلقة بقوله قبل ذلك وضع وهذا هو الأمر الرابع في فائدة الوضع فنقول ليس الغرض من وضع الألفاظ المفردة أن يفاد بها معانيها المفردة لأن إفادتها لها متوقفة على العلم بها ضرورة أن العلم بالنسبة يستدعي العلم بالمنتسبين فلو استفيد العلم بها منها لزم الدور بل الغرض منه التمكن من إفادة المعاني المركبة بتركيبها والدور غير لازم هنا إذ يكفي من تلك الإفادة العلم بوضع تلك الألفاظ المفردة وانتساب بعضها إلى بعض بالنسبة المخصوصة والحركات المختصة.(11/283)
ص -196-…الواضع للغات وآراء العلماء فيها
قال ولم يثبت تعيين الواضع والشيخ زعم أنه تعالى وضعه ووقف عباده عليه لقوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}، {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}، {وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ} ولأنها لو كانت اصطلاحية لاحتيج في تعريفها إلى اصطلاح آخر ويتسلسل ولجاز التغيير فيرتفع الأمان عن الشرع وأجيب بأن الأسماء سمات الأشياء وخصائصها أو ما سبق وضعها والذم للاعتقاد والتوقيف يعارضه الإقدار والتعليم بالترديد والقرائن كما للأطفال والتغيير لو وقع لاشتهر وقال أبو هاشم الكل مصطلح وإلا فالتوقيف إما بالوحي فيتقدم البعثة وهي متأخرة لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} أو بخلق علم ضروري في عاقل فيعرفه تعالى ضرورة فلا يكون مكلفا أو في غيره وهو بعيد وأجيب بأنه يلهم العاقل بأن واضعا وضعها وإن سلم لم يكن بالمعرفة فقط وقال الأستاذ ما وقع به التنبيه إلى الاصطلاح توقيفي والباقي مصطلح.
هذا الفصل باحث عن الوضع وهو الأمر الخامس فنقول ذهب عباد بن سليمان الصيمري ومن وافقه إلى أن دلالة اللفظ على المعنى لمناسبة طبيعية بينهما وهذا يحتمل وجهين:
أحدهما: وهو الذي اقتضاه نقل الآمدي عنه أن تلك المناسبة الطبيعية حاملة للواضع على الوضع وهو أقل نكيرا ولا يمكن ادعاؤه في كل الألفاظ واللغات إذ لو كان كذلك لما وقع المشترك بين الضدين ولما اختلفت دلالات الألفاظ على معانيها باختلاف الأمم والأزمنة إذ المناسبة الطبيعية لا تختلف باختلافها.(11/284)
ص -197-…والثاني: وهو أعظم نكيرا أن تلك المناسبة الطبيعية وحدها كافية في كون تلك الألفاظ دالة على تلك المعاني من غير احتياج إلى الوضع وهو معلوم الفساد هو الذي اقتضاه نقل الإمام عنه واحتج عباد بأنه لو لم يكن بين الأسماء والمسميات مناسبة بوجه ما لكان تخصيص الاسم المعين بالمسمى المعين ترجيحا لأحد طرفي الجائز على الآخر من غير مرجح والجواب أن الواضع إن كان هو الله تعالى كان تخصيص الاسم المعين بالمسمى المعين كتخصيص وجود العالم بوقت مقدر دون غيره وإن كان الناس فيحتمل أن يكون السبب حضور ذلك اللفظ بالبال في ذلك الوقت دون غيره إذا بطلت المناسبة الطبيعية وظهر أن مستند تخصيص بعض الألفاظ ببعض المعاني إنما هو الوضع الاختياري حان النظر في الكلام في الواضع وفيه كلام الكتاب فالواضع إن كان هو الله تعالى فهو مذهب الشيخ أبي الحسن ومن وافقه وهو المسمى بالتوقيف وإن كان هو العبد فهو مذهب الشيخ أبي هاشم وهو المسمى بالاصطلاح والتواطؤ وإن كان منهما فإما أن يكون ابتداء الوضع من الله والباقي من العبد وهو رأي الأستاذ أبي إسحاق أو العكس وهو مذهب ضعيف لم يذكره في الكتاب وأما جمهور المحققين كالقاضي فمن بعده فقد توقفوا في الكل وقالوا بإمكان كل واحد من هذه الاحتمالات الأربعة وهو الذي اختاره في الكتاب حيث قال ولم يثبت تعيين الواضع وقال ابن الحاجب الظاهر قول الأشعري ومعنى هذا القول بالوقف لعدم القطع بواحد من هذه الاحتمالات ويرجح مذهب الأشعري بغلبة الظن وقد كان بعض الضعفاء يقول إن هذا الذي قاله ابن الحاجب مذهب لم يقل به أحد لأن العلماء في المسألة بين متوقف وقاطع بمقالته فالقول بالظهور لا قائل به وهذا ضعيف فإن المتوقف لعدم قاطع قد يرجح بالظن ثم إن كانت المسألة ظنية اكتفى في العمل بها لذلك الترجيح وإلا توقف عن العمل بها.(11/285)
ص -198-…الأدلة
وقد احتج الشيخ رضوان الله عليه بأوجه
الأول: قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}1 الآية دلت على أن التعليم من الله تعالى وإذا ثبت هذا في الأسماء ثبت أيضا في الأفعال والحروف لأنه لا قائل بالفرق ولأن التكلم بالأسماء وحدها متعذر فلا بد مع تعليم الأسماء من تعليم الأفعال والحروف ولأن الاسم إنما سمي إسما لكونه علامة على مسماه والأفعال والحروف كذلك فهي أسماء وأما تخصيص لفظ الاسم ببعض الأقسام فهو اصطلاح محدث للنحاة واللغويين
الثاني: قوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}2 ذمهم على تسميتهم بعض الأسماء بما سموها به من تلقاء أنفسهم فلولا التوقيف في كلها لما استحقوا الذم بذلك ولقائل أن يقول في الاستدلال بهذا اعتراف بكون البعض اصطلاحا
الثالث قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ}3 ولا يجوز أن يكون المراد اختلاف تأليفات الألسنة وتركيبها لأن ذلك في غيرالألسن أبلغ وأكمل فلا يفيد تخصيص الألسنة بالذكر فبقي أن يكون المراد اختلاف اللغات إما بطريق حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أو إطلاق اسم العلة على المعلول أو اسم المحل على الحال وحينئذ فلولا أنها توقيفية لما امتن علينا بها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة: آية 31.
2 سورة النجم: آية 23.
3 سورة الروم: آية 22.(11/286)
ص -199-…الرابع: أنها لو كانت اصطلاحية لاحتاج الواضع في تعليمها إلى اصطلاح آخر بينه وبين من يعلمه ثم إن الفرض أن ذلك الطريق أيضا لا يفيد لذاته فلابد من اصطلاح آخر ويلزم التسلسل ولقائل أن يقول هذا الدليل يبطل مذهب أبي هاشم ولا يثبت مذهب الشيخ.
الخامس: وهو كالرابع أنها لو كانت اصطلاحية لجاز التغيير إذ لا حجر في الاصطلاح وحينئذ يرتفع الوثوق عن الشرع فإن كل لفظ شرعي يستعمله في معنى جاز والحالة هذه أن يكون مستعملا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في غير ذلك المعنى.
وأجاب في الكتاب عن الوجه الأول بأن المراد من الأسماء في قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ} علامات الأشياء وخصائصها فيعلمه مثلا أن الخيل تصلح للكر والفر والجمال للحمل والثيران للزرع وهذا لأن الاسم مشتق من السمة أو من السمو وعلى كل تقدير فكل ما يعرف ماهية ويكشف عن حقيقة اسما وتخصيص الاسم بهذه الألفاظ عرف حادث ولو سلمنا أن المراد بالأسماء ما ذكرتم فلا يلزم التوقيف إذ من الجائز أن يكون من الأسماء التي علمها الله لآدم قد وضعتها طائفة مخلوقة قبله وفي هذين الجوابين نظر.
أما الأول: فإنه خلاف الظاهر إذا الظاهر من الأسماء الألفاظ.
وأما الثاني: فالأصل عدم استعمال سابق ومنهم من أجاب بجواب آخر وهو أن المراد من التعليم أنه تعالى ألهمه الاحتياج إلى هذه الألفاظ وأعطاه من المعلوم ما لأجله قدر على الوضع قال الإمام وليس لأحد أن يقول التعليم إيجاد العلم بل التعليم فعل صالح لأن يترتب عليه حصول العلم ولذلك يقال علمته فلم يتعلم وهذا أيضا خلاف الظاهر إذ الظاهر من التعليم الإيجاد الأول للإلهام.
قال بعضهم وأصل التعليل لإثبات أثر الثلاثي المشتق يقال سودته فتسود وقول الأمام يقال علمته فلم يتعلم ممنوع.
قلت وهذا المنع غير منقدح وقد كان الإمام علاء الدين الباجي يقول أو لم يصح علمته فما تعلم لما صح علمته فتعلم لأنه إذا كان التعليم يقتضي(11/287)
ص -200-…إيجاد العلم وهو علة فيه فمعلوله وهو التعلم يوجد معه بناء على العلة مع المعلول والفاء في قولنا فتعلم تقتضي تعقيب التعلم وإن قلنا إن المعلول يتأخر فنقول لا فائدة في قولنا فتعلم لأن التعلم قد فهم من قولنا علمته فوضح أنه لو لم يصح علمته فما تعلم لكان أما ألا يصح علمته فتعلم بناء على أن العلة مع المعلول أو لا يكون في قولنا فتعلم فائدة بناء على تأخر المعلول.
فإن قلت أليس أنه يقال كسرته فما انكسر فما وجه صحة قولنا مع ذلك علمته فما تعلم؟(11/288)
قلت فرق والدي أحسن الله إليه بينهما بأن العلم في القلب من الله يتوقف على أمور من المعلم ومن المتعلم وكان علمته موضوعا للجزء الذي من المعلم فقط لعدم إمكان فعل من المخلوق يحصل به العلم ولا بد بخلاف الكسر فإن أثره لا واسطة بينه وبين الانكسار وهو جواب دقيق والإنصاف أن هذه ظاهرة فيما ادعاه الشيخ فالمتوقف إن توقف لعدم القطع فهو مصيب وإن ادعى عدم الظهور فغير مصيب هذا هو الحق الذي فاه به جماعة من المتأخرين منهم الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في شرح العنوان وأجاب عن الثاني وهو التمسك بقوله: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} بأنا لا نسلم أنه ذمهم على تسميتهم بعض الأشياء إنما ذمهم على اعتقادهم كونها آلهة وإليه أشار بقوله والذم للاعتقاد وعن الثالث وهو التمسك بقوله: {وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ } بأنه إذا انتفت الحقيقة وهي أن يكون المراد بها الجارحة وثبت العدول إلى المجاز فليس صرفك إياه إلى اللغات أولى من صرفنا إياه إلى الإقدار على اللغات أو مخارج اللغات وإليه أشار بقوله والتوقيف يعارضه الإقدار والقائل أن يقول مجاز المستدل أدنى لأنه أقل إضمارا وما ذكرتموه يلزم منه كثرة الإضمار والمجاز معا إذ يصير تقدير الآية واختلاف اقتدار ألسنتكم باللغات أو اختلاف اقتداركم باللغات على أنه أطلق اللسان وأراد الاقتدار كما في إطلاق اليد وإرادة القدرة فعلى الأول يلزم كثرة الإضماره وعلى الثاني يلزم المجاز والإضمار معا وأما على ما ذكره الشيخ فلا يلزم إلا الإضمار الذي هو أقل من إضماركم لأنه يصير تقدير الآية على ما ذكره واختلاف لغات ألسنتكم فكان أولى.(11/289)
ص -201-…فإن قلت لعله من إطلاق اسم العلة على المعلول أو المحل على المعلول أو المحل على الحال كما ذكرتم في تقرير الاستدلال.
قلت حينئذ يقع التعارض بين الإضمار والمجاز والمجاز أولى.
قال صفي الدين الهندي والأولى أن يجاب بأنا لا نسلم أن اختلاف اللغات إنما يكون آية أن لو كانت اللغات توقيفية وهذا لأن واضعها وإن كان هو العبد فهي مخلوقة لله تعالى على مذهب أهل الحق في أفعال العباد وأجاب المصنف عن الرابع بأنا لا نسلم أنه يحتاج في تعليمها إلى اصطلاح آخر بل يحصل العلم بترديد اللفظ وهو تكراره مرة أخرى مع القرائن كالإشارة إلى المسمى ونحوها وبهذا الطريق تعلمت الأطفال ولو سلمنا ذلك فما ذكرتم من الدلالة لا يقتضي أن جميعها بالتوقيف كما تدعون بل بعضها لأنه يمكن تعريف ما هو بالاصطلاح بذلك البعض كما هو قول الأستاذ وعن الخامس بأنا لا نسلم ارتفاع الأمان عن الشرع فإن التغيير لو وقع لاشتهر لكونه من مهمات الأمور وأما أبو هاشم فقد احتج على مذهبه بأنها لو لم تكن اصطلاحية لكانت توقيفية أو البعض والبعض لعدم الواسطة بينهما والقول بالتوقيف باطل مطلقا فثبت كونها اصطلاحية وإنما قلنا ببطلان التوقيف لأنه إما أن يكون بالوحي أو بخلق علم ضروري في عاقل أو في غير عاقل والكل باطل.
أما الأول: فلاقتضائه تقدم البعثة على اللغة وهي متأخرة عنها لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ}1.
وأما الثاني: فلأنه اقتضى ألا يكون ذلك العاقل مكلفا لأنه إذا علم بالضرورة أنه تعالى وضع ذلك اللفظ لذلك المعنى فلا بد وأن يعرف الله ضرورة وإذا عرفه ضرورة لم يكن مكلفا بالمعرفة لحصولها.
وأما الثالث فبعيد جدا أن يصير غير العاقل عالما بهذه الكيفيات العجيبة والجواب أن يجوز أنه يكون الله تعالى ألهم العاقل بأن واضعا ما وضع هذه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة إبراهيم عليه السلام آية 4.(11/290)
ص -202-…الألفاظ بإزاء هذه المعاني لا أن الله تعالى هو الواضع حتى يلزم عدم التكليف ولو سلمنا ما ذكرتم فإنما رفع التكليف بالمعرفة لا رفع التكليف مطلقا وهذا الجواب ضعيف لأن معرفة الله تعالى واجبة قطعا والتوقيف بخلق العلم الضروري مستبعد لكونه خلاف المعتاد فالأولى في الجواب أن يقال إنه حصل بطريق الوحي ولا يلزم ما ذكره لأن الآية وإن دلت على تقدم اللغة على بعثة الرسل بالرسالة فلا يدل على تقدمها على بعثة الأنبياء فيجوز تقدم نبوة آدم وإيحاء اللغات إليه ثم إن آدم عليه السلام يعلمها لغيره ثم يرسل إليهم باللسان الذي تعلموه منه وأما الأستاذ فذكر في الكتاب مقالته مجردة عن الدليل لإمكان استخراج دليله من حجيج الفريقين بأن يقال إذا بطل التوقيف والاصطلاح في الكل تعين أن يكون البعض والبعض فحينئذ فنقول القدر الذي وقع به التنبيه إلى الاصطلاح توقيفي وإلا يلزم التسلسل لاحتياج التعليم في كل اصطلاح إلى اصطلاح سابق عليه وأما الباقي فمصطلح وجوابه يعلم مما سبق وبتقرير الأجوبة عن أدلة الجازمين يتعين الوقف الذي اختاره صاحب الكتاب ويقال بظهور فائدة الخلاف في هذه المسألة في جواز قلب اللغة فعند الشيخ لا يجوز دون القائلين بالاصطلاح وبنى بعضهم على الخلاف فيها ما إذا اعتقد صداقا في السر وصداقا في العلانية المسألة المشهورة ويلتحق بذلك ما إذا استعملا لفظ المفاوضة وأراد شركة العنان حيث نص الشافعي على جوازه والحق أن بناء المسألتين على هذا الأصل غير صحيح فإن هذا الأصل في أن هذه اللغات الواقعة بين أظهرنا هل هي بالاصطلاح أو التوقيف لا في شخص خاص اصطلح مع صاحبه على إطلاق لفظ الثوب على الفرس أو الألف على الألفين مثلا.(11/291)
ص -203-…طريق معرفة اللغات
قال وطريق معرفتها النقل المتواتر والآحاد واستنباط العقل من النقل كما إذا نقل أن الجمع المعرف باللام يدخله الاستثناء وأنه إخراج بعض ما يتناوله اللفظ فيحكم بعمومه وأما العقل الصرف لا يجدي.
هذا هو الأمر السادس في بيان كيفية الطريق إلى معرفة وضع الألفاظ لمعانيها وذلك بطريق الحصر إما النقل الصرف أو العقل الصرف أو المركب منهما.
الأول: النقل وهو إما متواتر أو آحاد الأول المتواتر كالسماء والأرض والحر والبرد وهو مفيد للقطع.
الثاني: الآحاد كالفرس ونحوه وهو مفيد للظن الثاني العقل الصرف قال في الكتاب وهو لا يجدي أي لا ينفع إذ لا مجال للعقل في معرفة الموضوعات اللغوية.
الثالث: المركب منهما كما إذا نقل إلينا أن الجمع المعرف بالألف واللام يجوز أن يدخله الاستثناء ونقل إلينا أن الاستثناء إخراج ما يتناوله اللفظ فإن العقل يدرك بذلك أن الجمع المحلى بالألف واللام للعموم وقد بلغنا أن الإمام العلامة زين الدين بن الكتنامي رحمه الله اعترض على التمثيل بهذا وقال هاتان المقدمتان نقليتان وإذا تركب الدليل من مقدميتين نقليتين لم يصح أن يقال إنه مركب من العقل والنقل وهذا عجيب فإنه لولا العقل لما صح الاستنتاج من المقدمتين النقليتين وتركيبهما على الوجه المنتج وبيان صحة الإنتاج من فعل العقل والجزء الصوري القياس عقلي.(11/292)
ص -204-…الفصل الثاني في تقسيم الألفاظ
قال الفصل الثاني في تقسيم الألفاظ دلالة اللفظ على تمام مسماه مطابقة وعلى جزئه تضمن وعلى لازمه الذهني التزام.
تقسيم دلالة اللفظ تقسيم للفظ فلذلك صح ذكر تقاسيم دلالة الألفاظ في فصل تقاسيم الألفاظ والدلالة معنى يعرض للشيء بالقياس إلى غيره ومعناه كون الشيء يلزم من فهمه فهم شيء آخر وهي تنقسم إلى لفظية وغير اللفظية قد تكون وضعبة كدلالة وجود المشروط على وجود الشرط وقد تكون عقلية كدلالة الأثر على المؤثر والعكس مثل دلالة الدخان على النار وبالعكس وليس الكلام إلا في اللفظية وللإحتراز عن هذين القسمين أشار في الكتاب بقوله دلالة اللفظ ثم إن اللفظية تنقسم إلى أقسام ثلاثة عقلية كدلالة الصوت على حياة صاحبه وطبيعية كدلالة أح أح على وجع الصدر ووضعية وهي المرادة هنا فلو أن المصنف قال دلالة اللفظ الوضعية لكان أحسن على أن الإمام قال الوضعية هي دلالة المطابقة وأما الباقيتان فعقليتان لأن اللفظ إذا وضع للمسمى انتقل الذهن من المسمى إلى لازمه ولازمه إن كان داخلا فيه فهو التضمن أو خارجا فهو الالتزام وهذا واضح لا إشكال فيه وقال بعضهم دلالة التضمن لفظية أيضا وهو ضعيف فإن الحكم عليها بذلك إن استند إلى أن الجزء مفهوم من اللفظ ومتلقى بواسطته فدلالة الالتزام كذلك وإن كان لأجل أن اللفظ موضوع له بالوضع المختص بالحقيقة فهو باطل أو بالوضع المشترك بين الحقيقة والمجاز فكذلك اللازم وإن كان لأجل دخول الجزء في المسمى وخروج اللازم عنه فهو تحكم محض ثم هذه الدلالة عبارة عن(11/293)
ص -205-…كون اللفظ بحيث إذا أطلق فهم منه المعنى من كان عالما بالوضع وإنما قلنا إنها عبارة عن كون اللفظ بحيث إذا أطلق فهم منه ولم نقل إنها نفس الفهم كما قال ابن سينا1 لأن الدلالة نسبة مخصوصة بين اللفظ والمعنى ومعناها صفة تجعل اللفظ يفهم المعنى ولهذا يصح تعليل فهم المعنى من اللفظ بدلالة اللفظ عليه والعلة غير المعلول وإذا كانت الدلالة غير فهم المعنى من اللفظ لم يجز تفسيرها به إذا عرفت ذلك فنقول الدلالات اللفظية منحصرة في المطابقة والتضمن والالتزام لأن اللفظ إما أن يدل على تمام ما وضع له أو لا والأول المطابقة كدلالة البيت على المجموع المركب من السقف والجدار والأس.
والثاني: إما أن يكون على جزء مسماه أولا والأول دلالة التضمن كدلالة البيت على الجدار فقط والثاني أن يكون خارجا عن مسماه وهي دلالة الالتزام كدلالة الأسد على الشجاعة.
واعلم أن ذلك إنما يتصور في اللازم الذهني وهو الذي ينتقل الذهن إليه عند سماع اللفظ سواء كان لازما في الخارج أيضا كالسرير والارتفاع من الأرض إذ السرير مهما وجد في الخارج فهو مرتفع أم لم يكن لازما في الخارج كالسواد إذا أخذ بقيد كونه ضدا للبياض فإن تصوره من هذه الحيثية يلزم تصور البياض فهما متلازمان في الذهن وليسا بمتلازمين في الخارج بل متنافيين ولا يتصور ذلك في اللازم الخارجي فقط كالسرير مع الإمكان فإنه مهما وجد السرير في الخارج فهو ممكن ضرورة وقد يتصور السرير ويذهل عن إمكانه وإذا عرفت هذا علمت أن قوله: وعلى لازمه الذهني غير مستقيم لإيهامه وجود الدلالة مع اللزوم الخارجي وهو باطل وبهذا التقسيم تعرف حد كل واحد منها.
تنبيهات الأول قال الإمام هذا اللزوم شرط لا سبب وقرر القرافي هذا بأن الشرط يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(11/294)
1 هو أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسين بن علي بن سينا صاحب التصانيف المشهورة في الطب والفلسفة توفي في همذان سنة 428 هـ.
الأعلام للزركلي 1/250.(11/295)
ص -206-…فاحترز بالقيد الأول من المانع وبالثاني من السبب وبالثالث من مقارنة وجوده للسبب فإنه يحصل الوجود ولكن ليس لذات الشرط بل لوجود السبب والسبب ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته فالقيد الأول احتراز عن الشرط والثاني عن المانع والثالث عن مقارنة وجوده فقدان الشرط فلا يلزم الوجود أو مقارنة عدمه إخلاف سبب آخر فلا يلزم العدم وذلك ليس لذاته بل لأمر خارج والمانع ما يلزم من وجوده العدم ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم لذاته فالقيد الأول احتراز من السبب والثاني من الشرط والثالث من مقارنة عدمه عدم السبب فيلزم العدم لكن لا لذاته بل لعدم السبب وإذا اتضحت هذه الحقائق فالملازمة الذهنية يلزم من عدمها العدم لأن اللفظ إذا أفاد معنى غير مستلزم لآخر لا ينتقل الذهن لذلك الآخر إلا بسبب منفصل فيكون إفادته مضافة لذلك المنفصل لا للفظ فلا يكون فهمه دلالة للفظ بل أثرا للمنفصل فلا يلزم من وجود الملازمة وجود الدلالة عند عدم الإطلاق فإن الملازمة في نفس الأمر والفهم معدوم من اللفظ إذ اللفظ معدوم فهي حينئذ شرط والإطلاق هو السبب.
فإن قلت هذا التقرير بعينه يتقرر في اللفظ فإنه يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود الدلالة إذا فقدت الملازمة فيمكن أن يقال الإطلاق شرط والملازمة سبب فلم لا عكستم أو سويتم؟
قلت الإطلاق قد يستقل بالدلالة في المطايقة والتضمن فيثبت له السببية والملازمة لم تستقل في صورة فيترجح الإطلاق على الملازمة الذهنيه بوجوده في الصورتين.
الثاني: في التقسيم الذي ذكره مناقشات من وجوه:
منها أن قوله تمام ليس بجيد لأنه إن لم يحترز به عن شيء فهو زيادة بلا معنى وإن احترز به عن جزء المسمى فليس جزء المسمى نفس المسمى وكذا فعل ابن الحاجب حيث قال كمال مسماه وكان ينبغي أن يقول على مسماه.(11/296)
ص -207-…ومنها أن اللفظ جنس بعيد لدخول المستعمل والمهمل فيه وهو مجتنب في الحدود فكان ينبغي أن يقول دلالة القول كما فعله شيخنا أبو حيان في مختصراته في تعريف الكلمة معترضا على من ذكر اللفظ بما قلناه.
ومنها كان ينبغي أن يقول في المطابقة من حيث هو تمامه وفي التضمن من حيث هو جزؤه وفي الالتزام من حيث هو لازمه ليحترز به عن اللفظ المشترك بين الشيء وجزئه مثل وضع الممكن للعام والخاص فإنه يصير به للفظ المسمى علة جزئه دلالتان دلالة تضمن باعتبار الوضع الأول ومطابقة باعتبار الوضع الثاني فقد يدل على بعض المسمى دلالة مطابقة باعتبار الوضع الثاني فلا بد وأن يقول من حيث هو كذلك وليحترز به أيضا عن المشترك بين اللازم والملزوم كالشمس بين القرص والضوء المستفاد منه وهكذا فعل صاحب التحصيل وأما الإمام فلم يقيد دلالة المطابقة وقيد الباقيتين قال القرافي وهو قيد لم يذكره أحد ممن تقدمه وإنما اكتفى المتقدمون بقرينة التمامية والجزئية واللازمية قال فيقال له إن كانت هذه القرائن كافية فيلزم الاستغناء عن هذه القيود في الدلالات الثلاث وإلا فيلزم الاحتياج في الثلاث فما وجه تخصيص التضمن والالتزام فإنا نقول في المطابقة كما يمكن وضع العشرة للخمسة يمكن وضعها للخمسة عشر أيضا فيصير لها على العشرة دلالتان مطابقة باعتبار الوضع الأول وتضمن باعتبار الثاني الثالث جميع ما تقدم في دلالة اللفظ أما الدلالة باللفظ فهي استعمال اللفظ إما في موضوعه وهو الحقيقة أو غير موضوعه لعلاقة وهو المجاز والباء في قولنا الدلالة باللفظ للسببية والاستعانة لأن اللافظ يدلنا على ما في نفسه بإطلاقه اللفظ فإطلاق اللفظ آلة للدلالة كالقلم للكتابة والقدوم للنجارة والفرق بين الدلالة باللفظ ودلالة اللفظ من وجوه.
أحدها: المحل فمحل دلالة اللفظ القلب ومحل الدلالة باللفظ اللسان.(11/297)
وثانيها: من جهة الوجود فكلما وجدت دلالة اللفظ وجدت الدلالة باللفظ ولا يوجد دلالة اللفظ في الألفاظ المجملة والأعجمية.(11/298)
ص -208-…وثالثها: من جهة الأنواع فدلالة اللفظ ثلاثة أنواع المطابقة والتضمن والالتزام وللدلالة باللفظ نوعان الحقيقة والمجاز.
ورابعها: من جهة السببية فالدلالة باللفظ سبب ودلالة اللفظ مسبب عنها.
وخامسها: من جهة الموصوف فدلالة اللفظ صفة للسامع باللفظ صفة للمتكلم.
قال واللفظ إن دل جزؤه على جزء المعنى فمركب وإلا فمفرد.
هذا تقسيم آخر للفظ باعتبار التركيب والإفراد وذلك لأنه إن دل جزؤه على جزء المعنى المستفاد منه فهو المركب سواء كان التركيب إسناد مثل قام زيد وزيد قائم أو تركيب مزج مثل خمسة عشر أم تركيب إضافة مثل غلام زيد وقد أورد بعض الفضلاء على هذا حيوان ناطق إذا جعل علما لإنسان فإنه مفرد مع أن جزأه يدل على جزء معناه فمنهم من قبل هذا الإيراد وقال الصواب أن يزاد في الرسم المذكور حين هو جزء ومنهم من رده وقال دلالة اللفظ على المعنى متعلقة بإرادة اللافظ فيما يتلفظ به ويراد به معنى ما ويفهم عنه ذلك المعنى يقال إنه دال عليه وما سوى ذلك المعنى مما لا يتعلق به إرادة اللافظ لا يقال إنه دال عليه وإن كان ذلك اللفظ أو جزء منه موضوعا له بحسب تلك اللغة أو لغة أخرى وحينئذ لا يرد الحيوان الناطق نقضا لأن المتلفظ به حال كونه علما لا يقصد شيئا من جزأيه بقيد الوحدة وإنما يقصد بمجموع اللفظين الشخص المسمى به فلا فرق حينئذ بينه وبين عبد الله العلم في ذلك.
قوله وإلا فمفرد أي وإن لم يكن جزؤه على جزء المعنى فهو المفرد.
فإن قلت الزاي مثلا من زيد لا تدل على جزء المعنى فوجب ألا يكون زيد قائما مركبا.
قلت أجاب الجاربردي شارح الكتاب بأن جزأه لا يفيد العموم فلا(11/299)
ص -209-…يجب أن يدل كل جزء من أجزائه على جزء من أجزاء المعنى وهو ضعيف لأن جزأه مفرد مضاف والمختار في ذلك إفادة العموم بل الحق أن المراد بجزئه ما صار به اللفظ مركبا كزيد وحده وقائم وحده.
فإن قلت الزاي مثلا جزء الجزء وجزء الجزء جزء.
قلت صحيح ولكن المفهوم من إطلاق الجزء جزء الأصل الذي ليس هو جزء الجزء والأمر في مثل هذا قريب.
قال والمفرد إما ألا يستقل بمعناه وهو الحرف أو يستقل وهو الفعل إن دل بهيئته على أحد الأزمنة الثلاثة وإلا فاسم.
بدأ بعد تقسيم اللفظ إلى المفرد والمركب بأقسام المفرد لتقدمه على المركب بالطبع وتقسيم المفرد يقع من وجوه:
منها ما هو باعتبار أنواعه وهو تقسيمه إلى الاسم والفعل والحرف ووجه انحصاره في هذه الثلاثة أن اللفظ المفرد إما ألا يستقل بالمفهومية فهو الحرف أو يستقل فإما أن يدل بهيئته أي بحالته التصريفية على أحد الأزمنة الثلاثة الماضي والحال والاستقبال فهو الفعل أو لا يدل فهو الاسم سواء لم يدل على زمان أصلا كالسماء والأرض وزيد أو دل لكن لا بهيئته بل بذاته كالصبوح والغبوق وأمس والآن والمستقبل.
قال كلي إن اشترك معناه متواطيء إن استوى ومشكك إن تفاوت وجنس إن دل على ذات غير معينة كالفرس ومشتق إن دل على ذي صفة معينة كالفارس.
هذا تقسيم الاسم فنقول هو إما كلي وإما جزئي وذلك لأنه إما ألا يمنع نفس تصوره من اشتراك كثيرين فيه أو يمنع والأول الكلي وهو تارة يقع فيه الشركة كالحيوان وتارة لا يقع إما مع الإمكان كالشمس أو مع الاستحالة كالآلة وبهذا يعلم أن قول المصنف إن اشترك معناه ليس بجيد وأنه كان الأحسن أن يقول إن قبل معناه الشركة ثم الكلي يمكن تقسيمه من وجهين:(11/300)
ص -210-…أحدهما: وإليه أشار بقوله ومتواطئ أو مشكك لأنه إن كان حصول معناه في أفراده الدهنية والخارجية على التسوية كالإنسان إذ كل فرد من الأفراد لا يزيد على الآخر في الإنسانية فهو المتواطئ وإن لم يكن على السوية بل كان في بعض أفراده أقدم أو أولى أو أشد فهو المشكك وسمى بذلك لكونه يشكك الناظر هل هو متواطؤ لوحدة الحقيقة فيه أو مشترك لما بينهما من الاختلاف وذلك كالبياض الذي هو الثلج أشد منه في العاج وكالوجود فإن معناه واحد في أشياء كثيرة مع اختلافه في تلك الأشياء فإن وجود الجوهر أقدم من وجود العرض والموجود بالذات أولى من الموجود بالغير والوجود القار أقوى وأشد من غير القار كالحركة مثلا وتجتمع هذه الأنواع من الاختلاف بالنسبة إلى الخالق والمخلوق.
فإن قلت الأبيض مثلا إذا أطلق على الثلج فإما أن يكون استعماله فيه مع ضميمة تلك الزيادة أو لا فإن لم يكن فهو المتواطئ وإن كان فهو المشترك فإذن لا الحقيقة لهذا القسم المسمى بالمشكك.
قلت كذا أورده ابن التلمساني ونحن نقول المتواطئ أن يضع الواضع للقدر المشترك بقيد عدم الاختلاف في المحال مع اختلاف المحال في أمور من غير جنس المسمى كامتياز أفراد الإنسان بالذكورة والأنوثة وهذا معنى قولهم المتواطئ ما استوى محاله والمشكك أن يضع للقدر المشترك بقيد الاختلاف في المحال بأمور من جنس المسمى كأجزاء النور في الشمس واستحالة التغير في الواجب فاشترك القسمان في أن الوضع في كل منهما للقدر المشترك وافترقا بقيديهما.
الوجه الثاني الكلي إما جنس أي اسم جنس أو مشتق لأنه إما أن يدل على الماهية وهو اسم الجنس كالإنسان والفرس أو على موصوفية الماهية بصفة دون خصوصية الماهية وهو المشتق فإنه لا يدل على خصوصية الماهية بل على اتصافها بالمصدر كالأسود مثلا فإنه يدل على ذات متصفة بالسواد وأما على جسمية الذات فلا.(11/301)
ص -211-…هذا تقرير ما ذكر وقوله في اسم الجنس إنه ما يدل على ذات غير معينة كالفرس منتقض بعلم الجنس فإنه دال على ذات عين معينة فإنك تقول رأيت ثعالة أي ثعلبا مع أنه ليس باسم جنس بل علم جنس يعامل في اللفظ معاملة الأعلام.
فإن قلت وما الفرق بين اسم الجنس وعلم الجنس مع أن كلا منهما يصدق على ما لا يتناهى ومسماه كلي؟
قلت المختار في التفرقة بينهما أن علم الجنس هو الذي يقصد به تمييز الجنس من غيره من غير نظر إلى أفراده واسم الجنس ما يقصد به مسمى الجنس باعتبار وقوعه على أفراده حتى إذا أدخلت عليه الألف واللام الجنسية الدالة على الحقيقة ساوى علم الجنس كذا ذكره والدي أحسن الله إليه في الفرق بينهما.
قال ويستنتج منه أن علم الجنس لا يثنى ولا يجمع لأنه إنما يثنى ويجمع الأفراد.
فائدة اعلم أنا إذا قلنا على الإنسان حيوان وأنه كلي فهنا اعتبارات ثلاثة:
أحدها: أن يراد به الحصة من الحيوانية التي شارك باعتبارها الإنسان غيره وهذا يقال له الكلي الطبيعي وتارة يراد به أنه غير مانع من الشركة وهذا هو الكلي المنطقي وتارة يراد به الأمران أعني الحيوانية التي وقعت بها الشركة مع كونها غير مانعة وهذا هو الكلي العقلي فالأول موجود في الخارج لأنه جزء من الإنسان الموجود وجزء الموجود موجود.
والثاني: لا وجود له في الخارج لاشتماله على ما لا يتناهى ومنهم من زعم أنه موجود في الخارج.
والثالث: في وجوده في الخارج أيضا اختلاف والظاهر أنه لا وجود له أيضا لاشتماله على ما لا يتناهى وزعم أفلاطون أنه موجود في الأعيان وأن الإنسان الكلي موجود في الخارج.(11/302)
ص -212-…قال جزئي إن لم يشترك هذا مقابل لقوله كلي أي الذي لا يشترك في معناه كثيرون هو الجزيء.
وإن شئت قلت الجزيء ما يمنع نفس تصور معناه من وقوع الشركة فيه كزيد العلم مثلا.
قال علم إن استقل ومضمر إن لم يستقل الجزيء إما علم أو مضمر لأنه إما أن يستقل في دلالته على المعنى الجزئي فهو العلم كزيد وإما ألا يستقل في ذلك بل يحتاج إلى قرينة تكلم أو خطاب أو غيبة فهو المضمر كأنا وأنت وهو هذا شرح ما أورده وفيه مناقشات من وجوه.
أحدها: أن هذا التقسيم كله في الاسم وقد قدم أن الاسم هو الذي يستقل فكيف يقسم ما يستقل إلى ما لا يستقل.
الثاني: أن عجم الاستقلال موجود في أسماء الإشارة والأسماء الموصولة وغيرها وليست مضمرات.
الثالث: أن عدم الاستقلال قد جعله أولا رسما للحرف فإن أراد بالاستقلال ذاك فالاعتراض لائح وإن أراد غيره فليبينه.
الرابع: أنه أهمل في تقسيم الكلي إلى اسم جنس ومشتق ذكر علم الجنس كما عرفت.
الخامس: أنه جعل المضمر من أقسام الجزئي ولقائل أن يقول وحدة المضمر بالنوع لا بالشخص فإن أنت مثلا معناه المخاطب المذكر الفرد من غير تعين فيصح إطلاقه على من كان كذلك والناس مختلفون في أن المضمر جزئي أو كلي وحجة المصنف في جعله جزئيا أن الكلي نكرة والمضمرات أعرف المعارف.
قال تقسم آخر اللفظ والمعنى إما أن يتحدا وهو المنفرد أو يتكثرا وهي المتباينة تفاصلت معانيها كالسواد والبياض أو تواصلت كالسيف والصارم والناطق والفصيح أو تكثر اللفظ واتحد المعني وهي المترادفة أو بالعكس فإن(11/303)
ص -213-…وضع للكل كالعين فمشترك وإلا فإن نقل لعلاقة واشتهر في الثاني سمي بالنسبة إلى الأول منقولا عنه وإلى الثاني منقولا إليه وإلا فحقيقة ومجاز.
هذا تقسيم ثان للفظ وهو باعتبار وحدته ووحدة مدلوله وتعددهما وينقسم بهذا الاعتبار إلى أربعة أقسام وذلك لأنك إذا نسبت اللفظ إلى المعنى فإما أن يتحدا أو يتكثرا أو يتكثر اللفظ ويتحد المعنى أو بالعكس فأما الأول وهو أن يتحدا ومثاله لفظة الله فإنها واحدة ومدلولها واحد ويسمى هذا بالمنفرد لانفراد لفظه بمعناه وهو ينقسم إلى كلي وجزئي على ما مر في التقسيم السابق.
أو ما الثاني: وهو أن يتكثر اللفظ والمعنى فهي الألفاظ المتباينة كالإنسان والفرس وغير ذلك من الألفاظ المختلفة الموضوعة لمعان مختلفة وحينئذ إما أن يمتنع اجتماعها كالسواد والبياض أو لا يمتنع بأن يكون بعضها اسما للذات وبعضها اسما للذات إذا اتصفت بصفة خاصة كالسيف والصارم فإن السيف اسم للذات والصارم للسيف القاطع كما قاله الجوهري1 في الصحاح وغيره وقد يجتمعان في سيف واحد أو يكون بعضها اسما للصفة وبعضها اسما لصفة الصفة كالناطق بالفعل والفصيح فإن الناطق بالفعل صفة للإنسان وقد لا يكون فصيحا فالأولى التي لا يمكن اجتماعها هي المسماة بالمتباينة المتفاصلة لتفاصل معانيها بالذات.
والثانية: التي لا يمتنع اجتماعها هي المسماة بالمتابينة المتواصلة لتواصل معانيها وقد بينا أنها على نوعين.
وأما القسم الثالث وهو أن يكون اللفظ كثيرا والمعنى واحدا فهي الألفاظ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(11/304)
1 هو إسماعيل بن حماد الجوهري من أئمة اللغة أشهر كتبه الصحاح أصله من فاراب ودخل العراق صغيرا وسافر إلى الحجاز فطاف البادية وهو أول من حاول للطيران حيث صنع جناحين من خشب وربطهما بحبل وصعد سطح داره ونادى في الناس لقد صنعت ما لم أسبق إليه وسأطير الساعة فاجتمع الناس إليه فتأبط الجناحين ونهض بهما فخانه اختراعه فسقط إلى الأرض قتيلا.
وكان ذلك في سنة 393 هـ الأعلام 1/309, 310.(11/305)
ص -214-…المترادفة كالإنسان والبشر الواحد سواء كانت من لغة واحدة أو من لغات مختلفة على ما سيأتي إن شاء الله تعالى في فصل الترادف.
وأما الرابع: وهو أن يكون اللفظ واحدا والمعنى كثيرا فلا يخلو إما أن يكون قد وضع للكل أي لكل واحد من تلك المعاني أو لا والأول المشترك كالمعين لمدلولاتها المتعددة.
والثاني: وهو ألا يوضع لكل واحد بل لمعنى ثم ينقل إلى غيره فإما أن ينقل لعلاقة أو لا فإن لم ينقل لعلاقة وقد أهمله المصنف فهو المرتجل كذا قال الإمام.
قال القرافي وفيه نظر لأن المرتجل في الاصطلاح هو اللفظ المخترع الذي لم يتقدم له وضع وإن نقل لعلاقة فإما أن يشتهر في الثاني فإن اشتهر في الثاني كصلاة سمى بالنسبة إلى المعنى الأول منقولا عنه وبالنسبة إلى المعنى الثاني منقولا إليه إما شرعيا أو عرفيا عاما أو خاصا بحسب اختلاف الناقلين كما سيتبين لك إن شاء الله تعالى في حد المجاز وإن لم يشتهر في الثاني كالأسد فهو حقيقة بالنسبة إلى الأول أعني الحيوان المفترس مجاز بالنسبة إلى الثاني وهو الرجل الشجاع هذا تقرير ما في الكتاب والنظر فيه من وجوه:
منها اشتراطه المناسبة في المنقول وهو غير شرط ألا ترى أن كثيرا من المنقولات لا مناسبة بينها وبين المنقول عنها كالجوهر إذ هو في اللغة الشيء النفيس وفي اصطلاح المتكلمين قسيم العرض.
وأما قول الأصفهاني إن قيامه بنفسه نفاسة فهو إن صح ودفع صحة التمثيل بالجوهر لا يدفع أصل الدعوى.
ومنها أن كلامه يقتضي أن المجاز لا يشتهر وهو مردود بل رب مجاز أشهر من الحقيقة كما سيأتي إن شاء الله تعالى في الحقيقة المرجوحة والمجاز الراجح.
ومنها أن كلامه ناطق بأن المجاز موضوع وسوف يأتي ما يخالفوه إن شاء الله تعالى.(11/306)
ص -215-…ومنها أنه يقتضي أن المجاز يوضع لا لعلاقة إذ قال وإلا فحقيقة ومجاز أي وإن لم يوضع لعلاقة فحقيقة ومجاز وليس كذلك إذ لا بد من العلاقة في المجاز ويمكن أن يجاب عن هذا بأن قوله لعلاقة إنما ذكر لتحقيق معنى النقل لا لتنويعه أي لا يتحقق النقل ولا يعتبر إلا بالعلاقة لكن يتعين على هذا أن يكون قوله وإلا فحقيقة ومجاز معطوفا على قوله: واشتهر أي وإن لم يشتهر فمجاز ويجيء الإيراد الثاني.
قال والثلاثة الأول المتحدة المعنى نصوص وأما الباقية فالمتساوي الدلالة مجمل والراجح ظاهر والمرجوح مؤول.
الثلاثة الأول المتحدة اللفظ والمعنى والمتكثرة اللفظ والمعنى والمتكثرة اللفظ دون المعنى نصوص لأن لكل لفظ منها فردا معينا لا يحتمل غيره وهذا هو المعنى بالنص سمى به لارتفاعه على غيره من الألفاظ في الدلالة من قولهم نصت الظبية جيدها إذا رفعت ومنه منصة العروس وقد يطلق النص على ما يدل على معنى قطعا ويحتمل غيره كصيغ العموم في الجموع فإنه لا بد لها من ثلاثة ويحتمل الزيادة وقد جمع الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد رضي الله عنه في شرح العنوان الاصطلاحات في النص فقال هي ثلاث:
أحدها: ألا يحتمل اللفظ إلا معنى واحدا.
الثاني: اصطلاح الفقهاء وهو اللفظ الذي دلالته قوية الظهور.
قلت وهو الذي مشى عليه الإمام والمصنف في كتاب القياس كما سينتهي الشرح إليه إن شاء الله تعالى.
الثالث: اصطلاح الجدليين فإن كثيرا من متأخريهم يريدون بالنص مجرد لفظ الكتاب والسنة وقد احترز في الكتاب بقوله المتحدة المعنى عن العين والقرء فإنها متباينة مع أنها ليست بنصوص لأن كل لفظ منها مشترك بين معان وكذلك المترادفة الألفاظ قد تكون مشتركة كلفظة العين والناظر.
قوله وأما الباقية أي متحدة اللفظ متكثرة المعنى وإنما قال الباقية وأراد.(11/307)
ص -216-…القسم الرابع: لأن تحته أقساما عدة كالمشترك والمنقول عنه وإليه والحقيقة والمجاز وحاصل هذا أن هذا القسم إما أن تكون دلالته على كل واحد من المعاني على السوية فهو المجمل أو لا فإن كانت دلالته على بعض المعاني أرجح فالطرف الراجح ظاهر والمرجوح مؤول لأنه يؤول إلى الظهور عند مساعدة الدليل له.
قال والمشترك بين النص والظاهر المحكم وبين المجمل والمؤول المتشابه.
لا شك في اشتراك النص والظاهر في رجحان الإفادة وإنما النص راجح لا يحتمل غيره والظاهر راجح يحتمل والقدر المشترك بينهما من الرجحان يسمى المحكم لإحكام عبارته وإتقانه فالمحكم جنس لنوعين النص والظاهر ومقابلهما المجمل والمؤول فإنهما اشتركا في أن كلا منهما يفيد معناه إفادة غير راجحة إلا أن المؤول مرجوح والمجمل ليس مرجوحا بل مساويا والقدر المشترك بينما من عدم الرجحان يسمى بالمتشابه فالمتشابه جنس لنوعين المجمل والمؤول وأصل هذا الاصطلاح مأخوذ من قوله: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}1.
قال تقسيم آخر مدلول اللفظ إما معنى أو لفظ أو مركب مستعمل أو مهمل نحو الفرس والكلمة وأسماء الحروف والخبر والهذيان.
اللفظ المفرد باعتبار حقيقة مدلوله ينقسم إلى خمسة أقسام لأن مدلوله إما معنى أو لفظ والأول قد تقدم الكلام فيه من كونه كليا أو جزئيا.
والثاني: إما أن يكون اللفظ الذي هو مدلوله مفردا أو مركبا وكل منهما إما أن يكون مهملا أو مستعملا الأول كالفرس فإنه لفظ مدلوله معنى.
والثاني: نحو الكلمة فإنها مدلوله لفظ مفرد مستعمل وهو الاسم والفعل والحرف وقد عرفت في التقسيم السابق وجه انحصار انقسام الكلمة في الاسم والفعل والحرف وأجمعت النحاة على انحصارها في ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران: آية 7.(11/308)
ص -217-…قال شيخنا أبو حيان رحمه الله وحكى لنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير شيخنا عن صاحبه أبي جعفر بن صابر أنه كان يذهب إلى أن ثم رابعا وهو الذي نسميه نحن اسم فعل وكان يسميه خالفة إذ ليس هو عنده واحدا من هذه الثلاثة.
والثالث: كأسماء حروف التهجي فذلك مدلوله لفظ مفرد مهمل ألا ترى أن حروف جلس لم توضع لمعنى مع أن كلا منها قد وضع له اسم فللأول الجيم وللثاني اللام وللثالث السين.
فإن قلت فيكون قول الأستاذ لتلميذه قل أ ب ت عبثا إذ لا معنى لهذه الألفاظ.
قلت لما كانت آلة يتوصل باجتماعها على الترتيب المعتبر إلى الكلام المفيد لم يكن تعليمها عبثا.
والرابع: كلفظ الخبر فإن مدلوله لفظ مركب مستعمل نحو قام زيد.
والخامس: أن يكون المدلول لفظا مركبا مهملا.
قال الإمام والأشبه أنه غير موجود لأن التركيب إنما يصار إليه لغرض الإفادة فحيث لا إفادة لا تركيب قال صفي الدين الهندي وهذا حق إن عني بالمركب ما يكون جزؤه دالا على جزء المعنى حين هو جزؤه وإن عني به ما يكون لجزئه دلالة في الجملة ولو في غير معناه أو ما يكون مؤتلفا من لفظتين كيف كان التأليف وإن لم يكن لشيء من أجزائه دلالة فهو باطل.
أما الأول: فمثل عبد الله إذا كان علما فإن اسم العلم يدل عليه وهو لفظ مركب على هذا التقدير غير دال على المعنى المركب.
وأما الثاني: فكلفظ الهذيان فإنه يدل على المركب من مهملتين أو من لفظة مهملة ومستعملة وهو غير دال على المعنى المركب أما إن أراد أنه لا يدل على معنى أصلا وأراد باللفظ المركب المعنى فينتقض بالثاني دون الأول انتهى والمصنف حاول ذلك فخالف الإمام ومثل الهذيان كما قررناه فإنه لفظ موضوع للمهمل المركب كما عرفت.(11/309)
ص -218-…قال والمركب صيغ للإفهام شرع في تقسيم المركب ولا ريب فيما ذكر من أن المتكلم إنما صاغ المركب من المفردات ليفهم ما في ضميره.
قال فإن أفاد بالذات طلبا فالطلب للماهية استفهام وللتحصيل مع الاستعلاء أمر ومع التساوي التماس ومع التسفل سؤال وإلا فمحتمل التصديق والتكذيب خبر وغيره تنبيه ويندرج فيه الترجي والتمني والقسم والنداء.
المركب تارة يفيد طلبا بالذات أي بالوضع وإن شئت قلت إفادة أولية وطورا يفيد غير ذلك فإن أفاد طلبا بذاته فإن كان الطلب لماهية في الذهن وأحسن من هذه العبارة أن يقول طلب ذكر ماهية الشيء فهو الاستفهام كقولك ما هذا ومن هذا وإن كان لتحصيل أمر ما من الأمور فإن كان مع الاستعلاء فأمر كقول المتعاظم المستعلي لآخر افعل كذا سواء كان مع الاستعلاء عاليا في نفس الأمر أم لم يكن وإن كان مع التساوي كقول القائل لمماثله افعل كذا فهو التماس وتسمية التساوي بالالتماس اصطلاح خاص كما قال ابن دقيق العيد في شرح العنوان وإن كان من التسفل كقول من يجعل نفس دون المطلوب منه فهو سؤال سواء كان دونه في نفس الأمر كقول الداعي رب اغفر لي أو لم يكن وإن لم يفد بالذات طلبا فإما أن يحتمل التصديق والتكذيب أو لا.
القسم الأول: أن يحتملها فهو الخبر وزعم قوم أن تعبير المصنف ومن وافقه بالتصديق والتكذيب أحسن من قول غيره الصدق والكذب لأن من الأخبار ما لا يحتمل إلا الصدق كخبر الصادق وما لا يحتمل إلا الكذب كقول من قال الواحد نصف العشرة مع احتمال تصديق ذي المكابرة وقولنا الواحد نصف الإثنين ويحتمل التكذيب من الكفار والمعاند وهذا عندي غير مرضي فإن الحكم على الخبر من حيث هو والخبر من حيث هو خبر محتمل لذلك وسقوط أحد الاحتمالين في بعض الأفراد لخصوصية ومزية لا يخرج احتمال ماهية الخبر من حيث هي لمحتملاتها ثم إن التصديق والتكذيب عبارة عن الإخبار بكون الكلام صدقا أو كذبا فتعريفه به دور.(11/310)
ص -219-…فإن قلت التصديق والتكذيب والصدق والكذب نوعان للخبر والنوع إنما يعرف بعد معرفة الجنس فلو عرف الجنس به لزم الدور.
قلت أجاب القرافي بأن الحد هو شرح ما دل اللفظ الأول عليه بطريق الإجمال لأن من سمع لفظ إنسان وجهل مسماه يقال له هو الحيوان الناطق فإن كان جاهلا بالحيوان الناطق فسد الحد لأن الحد بالمجهول لا يصح فتعين أن يكونا معلومين له ومتى كانا معلومين فمن علم الحيوان والناطق فقد عرف الإنسان لأنه ليس شيئا غيرهما فعلمنا أن كان عارفا بحقيقة الإنسان وإنما كان جاهلا بمسمى اللفظ على التفصيل وكان يعلمها من حيث الإجمال جاز أن يكون السائل عالما بمدلول لفظ الصدق والكذب وجاهلا بمدلول لفظ الخبر فيبين له مدلول لفظ الخبر بمدلول لفظ الصدق والكذب.
قال ولا يقال العلم بالنوع يستلزم العلم بالجنس لاستلزام العلم بالمركب العلم بالمفرد لأن الجهل هنا إنما وقع من وضع لفظ الخبر للخبر لا في نفس الخبر ولا تنافي بين العلم بالخبر والجهل بوضع لفظه له فإن المرء قد يعلم حقيقة ولا يعلم اسمها.
فإن قلت الصدق والكذب ضدان يستحيل اجتماعهما فلا يقبل محلهما إلا أحدهما أم هما معا فلا وإذا كان المحل لا يقبل إلا أحدهما المتعين في الحد صيغة أو التي لأحد الشيئين دون الواو التي للشيئين معا هو الذي ارتضاه إمام الحرمين وقال من قال الصدق والكذب أوهم اتصالهما بخبر واحد فإذا ردد ونوع فقال ما يدخله الصدق أو الكذب فقد تحرز.
قلت ما ذكرناه هو الصواب وذلك لأنه لا يلزم من تنافي المقبولين تنافي القبولين ألا ترى أن الممكن قابل للوجود والعدم ولو وجد أحد القبولين دون الآخر للزم من نفي ذلك القبول ثبوت استحالة ذلك المقبول فإن كان ذلك المستحيل هو الوجود لزم كون الممكن مستحيلا وإن كان مستحيلا هو العدم(11/311)
ص -220-…لزم كون الممكن واجب الوجود فلا يتصور الإمكان إلا باجتماع القبولين وإن بتنافى القبولان فيتعين الواو وإنما الشبهة التي وقعت لإمام الحرمين التباس القبولين بالمقبولين وإنه يلزم من يقدر اجتماع المقبولين بقدر اجتماع القبولين وليس كذلك ولذلك نقول كل جسم قابل لجميع الأضداد وقبولاتها كلها مجتمعة له وإنما المتعاقبة على سبيل البدل هي المقبولات لا القبولات فتأمل ذلك.
فإن قلت لم سمى الأصوليون ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبارا معظمها أوامر ونواهي؟
قلت أجاب القاضي بوجهين:
أحدهما: أن حاصل جميعها آيل إلى الخبر فالمأمور به في حكم المخبر عن وجوبه وكذا القول في النواهي والسر فيه أنه صلى الله عليه وسلم ليس آمرا على سبيل الاستقلال وإنما الآمر حقا الله تعالى وصيغ الأمر من المصطفى عليه السلام في حكم الإخبار عن الله تعالى.
والثاني: أنها سميت أخبارا لنقل المتوسطين وهم يخبرون عمن يروي لهم ومن عاصر النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بلغه أمر لا يقول أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بل أمرنا نقلول فالمنقول إذا استجد اسم الخبر في المرتبة الثانية إلى حيث انتهى.
القسم الثاني: ألا يحتمل التصديق والتكذيب فهو تنبيه ويندرج في التنبيه لا على وجه الحصر التمني مثل ليت الشباب يعود.
والترجي والقسم والنداء وأمثلتهن معروفة.
فإن قلت ما الفرق بين الترجي والتمني؟
قلت الترجي لا يكون في المستحيلات والتمني يكون في المستحيلات وفي الممكنات وأما لفظ الكتاب فقوله بالذات احتراز عما يفيد الطلب باللازم كقولك أنا طالب منك أن تذكر لي حقيقة الإنسان فإنه لا يسمى استفهاما أو أن تسقيني الماء إذ لا يسمى أمرا أو ألا تفعل كذا فإنه لا يسمى نهيا بل هذه إخبارات وكذلك الأقسام الباقية من التمني والترجي القسم والنداء كلها(11/312)
ص -221-…تفيد الطلب باللازم وعلى كلامه اعتراضات منها أنه اشترط في حقيقة الأمر الاستعلاء وذلك مذهب زيفه في باب الأوامر كذا أورده بعض الشراح وسنبين في كتاب الأوامر إن شاء الله وجه صحة كلامه وعدم اضطرابه ومنها أنه جعل التساوي قسيما للاستعلاء والتسفل وإنما هو قسيم للعول والنزول لأن الاستعلاء جعل الطالب نفسه عاليا ولا يلزم من ذلك كونه عاليا في نفس الأمر والتسفل عكسه.
ومنها أن قوله: وللتحصيل مع الاستعلاء أمر وإن أراد به تحصيل الفعل الذي ليس بكف فالتقسيم غير حاصل لخروج طالب الكف بالنهي عنه وإن أراد تحصيل الفعل مطلقا كفا كان أو غيره لزم دخول النهي في حد الأمر وهما حقيقتان مختلفتان وقد يقول من ينصره بدخول النهي في حقيقة الأمر وأن مغايرتها مغايرة العام والخاص لا مغايرة المتباينين بناء على أن الأمر هو ما يطلب به فعل سواء كان الفعل كفا أم غير كف والنهي ما يطلب به فعل خاص وهو الكف.
خاتمة قال القرافي في الفروق اعتقد جماعة من الفقهاء من قولنا في حد الخبر إنه المحتمل للصدق والكذب أو هذين الاحتمالين مستفادان من الخبر بالوضع اللغوي وأن الوضع اللغوي اقتضى له ذلك قال وليس كذلك بل لا يحتمل الخبر من حيث الوضع إلا الصدق لإجماع ذوي اللسان على أن معنى قولنا قام زيد حصول القيام في الزمان الماضي ولم يقل أحد إن معناه صدور القيام أو عدمه ولقائل أن يقول لا نسلم أن مدلول قولنا قام زيد حصول القيام وإنما مدلوله الحكم بحصول القيام وذلك يحتمل الصدق والكذب والله أعلم.(11/313)
ص -222-…الفصل الثالث في الاشتقاق
قال الفصل الثالث في الاشتقاق له في حروفه الأصلية ومناسبته في المعنى.
الاشتقاق في اللغة الاقتطاع وفي الاصطلاح ما ذكره فقوله رد لفظ جنس وقول لموافقته في حروفه الأصلية فصل احترز به عن الألفاظ المترادفة كالإنسان والبشر إذ لا اشتراك فيها في الحروف كذا ذكر الشراح ولقائل أن يقول الألفاظ المترادفة لم تدخل في الكلام قبل ذلك حتى تخرج بهذا القيد فإن أحد المترادفين ليس مردود اللفظ إلى الآخر وقوله الأصلية إشارة إلى أن الاعتبار في موافقة الحروف إنما هو بالحروف الأصلية فقط ولا عبرة بالحروف الزائدة وقوله ومناسبته في المعنى احتراز عن المعدول لأن المناسبة تقتضي المغايرة ولا مغايرة بين المعدول والمعدول عنه في المعنى وهذا الحد الذي ذكره أسد من تعريف الميداني1 الذي ارتضاه الإمام وهو قوله أن تجد بين اللفظين تناسبا في المعنى والتركيب فترد أحدهما إلى الآخر أن يعترض على هذا بأن الاشتقاق ليس هو نفس الوجدان بل الرد عند الوجدان.
وأعلم أن الاشتقاق أربعة أركان ذكرها في الكتاب:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو أحمد بن محمد بن إبراهيم الميداني النيسابوري الأديب البحاث صاحب مجتمع الأمثال الذي لم يؤلف مثله في موضوعه.
ومن مؤلفاته نزهة الطرف في علم الصرف وشرح المفضليات والسامي في الأسامي وغير ذلك.
توفي سنة 518 هـ.
وفيات الأعيان 1/46 بغية الوعاة ص 155 الأعلام 1/208.(11/314)
ص -223-…المشتق والمشتق منه والموافقة في الحروف الأصلية مع المناسبة في المعنى والرابع التغيير فقوله رد لفظ هو الركن الأول ودخل فيه الاسم والفعل وقوله إلى لفظ آخر هو الركن الثاني وهو المشتق منه ويوجد منه الركن الرابع وهو التغيير لأنه لو انتفى التغيير بينهما لم يصدق عليه أنه لفظ آخر بل هو هو ودخل فيه أيضا الاسم والفعل وقوله لموافقته في حروفه الأصلية هو الركن الثالث واحترز به عما عرفت أولا.
قال ولا بد من تغيير بزيادة أو نقصان حرف أو حركة أو كليهما أو زيادة أحدهما ونقصانه أو نقصان الآخر أو بزيادته أو نقصانه بزيادة الآخر ونقصانه أو بزيادتهما ونقصانهما نحو كاذب ونصر و ضارب وخف وضرب على مذهب الكوفيين وغلا ومسمات وحذر وعاد ونبت واضرب وخاف وعد وكال وارم.
لا بد من تغيير بين اللفظين والتغيير المعنوي إنما يحصل بطريق التبع والإمام لم يذكر من أقسام التغيير غير تسع وليست الأقسام منحصرة في تلك وقد زاد المصنف عليه ستة أقسام فجعلها خمسة عشر وأورد لكل منها مثالا وفي أكثر أمثلته نظر وقد وضع والدي أطال الله بقاه في هذا الفصل أرجوزة حسنة.
قوله بزيادة أو نقصان حرف أو حركة أو كليهما دخل فيه ستة أقسما.
أربعة تغييرها فرادى واثنان ثنائيان فإن قوله بزيادة ليس منونا بل هو مضاف إلى حرف وحركة وكليهما وكذا نقصان مضاف إلى الثلاثة فكانت ستة أقسام زيادة الحرف وزيادة الحركة وزيادتهما معا وهكذا النقصان قوله أو بزيادة أحدهما ونقصانه أو نقصان الآخر يدخل فيه أربعة أقسام ثنائية أيضا زيادة أحدهما أو نقصانه يدخل فيه زيادة الحرف ونقصانه وزيادة الحركة ونقصانها ويدخل في زيادة أحدهما ونقصان الآخر قسمان:
زيادة الحرف ونقصان الحركة وعكسه قوله: أو بزيادته أونقصانه أو نقصان أحدهما مع زيادة الآخر ونقصانه بزيادة الآخر ونقصانه تقديره أو بزيادة(11/315)
ص -224-…أحدهما مع زيادة الآخر ونقصانه فيدخل فيه أربعة أقسام ثلاثية التغيير لأن زيادة أحدهما مع زيادة الآخر ونقصانه يدخل فيه صورتان زيادة الحرف مع زيادة الحركة ونقصانها والثانية زيادة الحركة مع زيادة الحرف ونقصانه.
ويدخل في نقصان أحدهما مع زيادة الآخر ونقصانه صورتان أيضا:
إحداهما: نقصان الحرف مع زيادة الحركة ونقصانها.
والثانية نقصان الحركة مع زيادة الحرف ونقصانه.
وقوله أو بزيادتهما ونقصانهما أي بزيادة الحرف والحركة معا ونقصانهما معا وهو قسم واحد رباعي التغيير وبه تكلمت الأقسام خمسة عشر.
قوله نحو كاذب شرع في المثل للأقسام المذكورة.
الأول: زيادة الحرف فقط نحو كاذب من الكذب زيدت الألف.
الثاني: زيادة الحركة نحو نصر الماضي من النصر زيدت حركة الصاد.
الثالث: زيادة الحرف والحركة معا مثل ضارب من الضرب زيد الألف وحركة الراء.
الرابع: نقصان الحرف نحو خف فعل أمر من الخوف نقصت الواو.
وقد اعترض على المصنف بأن الفاء صارت في هذا ساكنة بعد أن كانت متحركة فاجتمع في هذا المثال نقصان الحرف والحركة معا فإن اعتذر بأن مثل هذا لا يعتبر لكونه نقصانا لحركة الإعراب.
قلنا سيأتي إن شاء الله تعالى في القسم العاشر ما يخالفه فالأولى تمثيله بذهب من الذهاب أو حسب من الحساب.
الخامس: نقصان الحركة نحو ضرب المصدر من ضرب الماضي نقصت حركة الراء قال في الكتاب وهذا لا يتأتى إلا على مذهب الكوفيين يعني في اشتقاقهم المصدر من الفعل عكس مذهب البصريين وذهب أبو بكر بن أبي طلحة إلى مذهب ثالث وهو أن كلا من المصدر والفعل أصل بنفسه ليس أحدهما مشتقا من الآخر حكاه شيخنا أبو حيان في الارتشاف.(11/316)
ص -225-…السادس: نقصان الحركة والحرف معا نحو غلا ماضي غليان نقصت الألف والنون ونقصت فتحة الياء ومن أمثلته أيضا سر من السير نقصت الياء وحركة العين.
السابع: زيادة الحرف ونقصانه أي نقصان حرف آخر ومثل في الكتاب له بمسلمات زيدت الألف والتاء للجمع ونقصت منه تاء كانت في المفرد في قولك مسلمة ولك أن تقول الجمع غير مشتق من مفرده فلا يصح ما ذكره مثالا فالأولى التمثيل بقولك مدحرج من الدحرجة نقصت هاء التأنيث وزادت الميم وكذا مزخرف من الزخرفة نقصت التاء وزادت الميم.
الثامن: زيادة الحركة ونقصانها أي نقصان حركة أخرى نحو حذر من الحذر زيدت فيه كسرة الذال المعجمة ونقصت منه فتحته وكذلك رمى من الرمي نقصت حركت الياء من الرمي وزيدت حركة الميم وسعى من السعي.
التاسع: زيادة الحرف ونقصان الحركة نحو عاد بالتشديد من العدد زيدت الألف بعد العين ونقصت حركة الدال الأولى.
العاشر: زيادة الحركة ونقصان الحرف نحو نبت من النبات زيدت فيه فتحة الباء ونقصت منه الألف كذا ذكره في الكتاب ولك أن تقول فتحة الباء جاءت عوض الكسرة فليس ثم غير نقصان الألف وليس له أن يقول لا يعتد بالحركة الإعرابية إذ سبق منه في القسم الرابع ما يخالف ذلك.
الحادي عشر: زيادة الحرف الحركة جميعا مع نقصان حركة أخرى مثل أضرب من الضرب زيدت فيه ألف الوصل وكسرة الراء ونقصت منه حركة الضاد.
الثاني عشر: زيادة الحركة مع زيادة الحرف ونقصانه مثل خاب ماضي من الخوف زيدت الألف وحركة الفاء وحذفت الواو.
الثالث عشر: نقصان الحرف مع زيادة الحركة ونقصانها مثل عد فعل أمر من الوعد زيدت كسرة العين ونقصت الواو وحركت الدال.(11/317)
ص -226-…الرابع عشر: نقصان الحركة مع زيادة الحرف ونقصانه نحو كال بتشديد اللام وهو اسم فاعل من الكلال نقصت حركة اللام الأولى وكذا الألف التي بين اللامين وزيدت ألف قبل اللامين.
الخامس عشر: زيادة الحرف والحركة معا نحو ارم من الرمي زيدت الهمزة وحركة الميم ونقصت الياء وحركة الراء والله أعلم.(11/318)
ص -227-…أحكام الاشتقاق
قال وأحكامه في مسائل
الأولى شرط المشتق صدق أصله
خلافا لأبي علي وابنه فإنهما قالا بعالمية الله تعالى دون علمه وعلاها فينابه لنا أن الأصل جزؤه فلا يوجد دونه.
شرط صدق المشتق اسما كان أو فعلا صدق أصله المشتق منه فلا يصدق قائم على ذات إلا إذا صدق القيام على تلك الذات وسواء كان الصدق في الماضي أم في الحال أو في الاستقبال والكلام في أن صدق ذلك هل هو بطريق الحقيقة أو المجاز من وظائف المسألة التالية لهذه وهذا هو السر في قول المصنف صدق أصله دون وجود أصله كما قال غيره إذ لو قال وجود أصله لورد عليه إطلاقه باعتبار المستقبل إذ هو جائز مع عدم وجوده حالة الإطلاق والكلام في المسألة مع أبي علي الجبائي1 وابنه أبي هاشم وهما لم يصرحا بالمخالفة في ذلك ولكن وقع ذلك منهما ضمنا حيث ذهبا هما ومن تبعهما من المعتزلة إلى القول بعالمية الله تعالى دون علمه أي قالا إن الله تعالى عالم ولم يقولا بحصول العلم الذي اشتق منه العالم له والحاصل أن هذه الطائفة ينفون عن الله تعالى الصفات الحقيقية الزائدة على الذات كالعلم والقدرة والحياة وقد يجمعهما قول الشاطبي رحمه الله:
حي عليم قدير والكلام له…باق سميع بصير ما أراد جزاء
فرارا من أن تكون الذات قابلا وفاعلا من أشياء زعموها لازمة ويقولون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو أبو علي محمد بن عبد الوهاب بن عبد السلام بن خالد بن حمدان بن أبان الجبائي شيخ المعتزلة كان فقيها ورعا وإليه تنسب طائفة الجبائية من المعتزلة توفي سنة 303 هـ.
شذرات الذهب 2/241 الفرق بين الفرق ص 183.(11/319)
ص -228-…بثبوت العاملية والقادرية والحيية له وبناء على أنها نسب وإضافات لا وجود لها في الخارج بخلاف العلم والقدرة والحياة فإنها صفات حقيقية ويقولون عالمية الله غير معللة بالعلم لأن العالمية له واجبة والواجب لا يعلل بالغير بخلاف عالميتنا فإنها معللة بالعلم إذ هي غير واجبة.
وقال أهل السنة وقوم من المعتزلة إن لله سبحانه وتعالى صفات مغايرة لذاته تعالى وهي العلم والقدرة والحياة وغيرها من الصفات الثبوتية ثم قال الذين نفوا الحال العاملية والقادرية والحيية نفس العلم والقدرة والحياة وقال مثبتوها عالمية الله حالة معللة بمعنى قائم به وهو العلم وكذا القادرية بالقدرة والحيية بالحياة وإذا عرفت هذا ظهر أن الأشاعرة ومن وافقهم قالوا إن الله تعالى عالم بالعلم قادر بالقدرة حي بالحياة والجبائيان قالا إنه تعالى عالم بالذات لا بالعلم قادر بالذات لا بالقدرة هي بالذات بالحياة فقد جوزوا صدق المشتق الذي هو العالم بدون صدق المشتق منه الذي هو العلم واستدل في الكتاب على امتناع إطلاق المشتق بدون المشتق منه بأنه لو صح المشتق بدون صدق أصله للزم وجود الكل بدون الجزء لأن الأصل الذي هو المشتق منه جزء للمشتق لأن المشتق يدل على الأصل وعلى ذات متصفة به كالعالم مثلا فإن مدلوله ذات متصفة بالعلم فالعلم الذي هو أصل العالم جزء من مجموع معناه فلو صح العالم بدون العلم للزم ما ذكرناه ولا ينقض هذا بصحة إطلاق اسم الكل على الجزء لأن ذلك من باب المجاز والكلام في صحة الإطلاق الحقيقي.
قال الثانية شرط كونه حقيقة دوام أصله
خلافا لابن سينا وأبي هاشم لأنه يصدق نفيه عند زواله فلا يصدق إيجابه قيل مطلقتان فلا يتناقضان.
قلنا مؤقتتان بالحال فإن أهل العرف ترفع أحدهما بالآخر.
المسألة السابقة في اشتراط صدق المشتق منه في كون المشتق حقيقة سواء دام معنى المشتق منه إلى حالة الإطلاق أم لم يدم وهذه في اشتراط دوام معنى(11/320)
ص -229-…المشتق منه إلى حالة إطلاق المشتق فهي أخص من تلك فنقول إطلاق الاسم المشتق باعتبار الحال حقيقة بالإجماع وباعتبار المستقبل مجاز بالإجماع وأما إطلاقه باعتبار الماضي كإطلاق الضارب على من صدر منه الضرب وانتهى فقال الجمهور إنه غير حقيقة قال الإمام وهو الأقرب واختاره في الكتاب وقال ابن سينا وأبو هاشم ووالده أبو على إنه حقيقة وفي المسألة مذهب ثالث أن معنى المشتق منه إن كان مما يمكن بقاؤه كالقيام والقعود اشترط بقاؤه في كون المشتق حقيقة وإلا فلا حكاه الآمدي والإمام ذكره بحثا من جهة الخصم ثم أجاب عنه بأن أحدا من الأمة لم يقل بهذا الفرق فيكون باطلا.
وأعلم أن محل الخلاف في المسألة إنما هو في صدق الاسم فقط أعني هل يسمى من ضرب أمس الآن بضارب وهو أمر راجع إلى اللغة وليس النزاع في نسبة المعنى أعني في أن الضارب أمس هل هو الآن ضارب فإن ذلك لا يقوله عاقل وإذا تبين أن محل النزاع إنما هو في صدق الاسم فاعلم أيضا أن الذي يتجه أن الخلاف أيضا ليس في الصفات القارة المحسوسة كالبياض والسواد لأنا على قطع بأن اللغوي لا يطلق على الأبيض بعد اسوداده أنه أبيض وقد قال الإمام في آخر المسألة لا يصح أن يقال لليقظان إنه نائم اعتبارا بالنوم السابق وادعى الآمدي في ذلك الإجماع فقال لا يجوز تسمية النائم قاعدا والقاعد نائما بإجماع المسلمين وأهل اللسان وهذا واضح من اللغة وإنما الخلاف في الضرب ونحوه من الأفعال المقتضية فإطلاق المشتق على محلها من باب الأحكام فلا يبعد إطلاقه حال خلوه من مفهومه لأنه أمر حكمي وتبين من هنا وجه انفصال الماضي عن المستقبل حيث كان إطلاقه باعتبار الماضي أولى لأن من حصل منه الضرب في الماضي قد يستصحب حكمه وأما المستقبل فلم يثبت له حكم حتى يستصحب.(11/321)
إذا عرفت ذلك فنقول استدل المصنف على ما اختاره من أنه ليس بحقيقة بأنه يصدق نفي المشتق عند زوال المشتق منه فيقول زيد ليس بضارب فلو صدق في الإيجاب حقيقة وهو زيد ضارب للزم اجتماع(11/322)
ص -230-…النقيضين أهني صدق نفي الضرب وإثباته فتقرر أنه إنما يصدق مجازا لأن صحة النفي من أمارات المجاز واعترض على هذا بأن قولنا ضارب وليس بضارب قضيتان مطلقتان لم يتحد وقت الحكم فيهما فلا يتناقضان لجواز أن يكون وقت السلب غير وقت الإثبات وأجاب في الكتاب بأنهما مؤقتتان بحال التكلم.
وأغنى عن هذا التقييد فهم أهل العرف أن لو لم يكن كذلك لما جاز استعمال كل واحد منهما في تكذيب الآخر ورفعه لكن أهل العرف يستعملون ذلك فيكونان متناقضين وهو المطلوب.
فإن قلت سلمنا أنهما مؤقتتان بالحال وأنهما متناقضتان ولكن لا نسلم أنه حينئذ يصح إطلاقهما لأنه لا يصح ليس بضارب في الحال وهل قولكم إن ذلك يصح إلا مصادرة على المطلوب؟
قلت صدق ليس بضارب في الحال لا يقبل المنازعة إلا ممن لم يفهم معنى هذا الكلام وذلك لأنا لم نعن بذلك إطلاق الاسم حتى يقال إنه مصادرة على المطلوب بل إن المعنى غير ثابت في الحال وقد قدمنا أنه لا ينازع في ذلك عاقل ويقرر عندك أن المعنى بقولنا يصدق ليس بضارب في الحال تحقق المعنى لا صدق الإطلاق إذا الخصوم سلموا هذه المقدمة لما ذكرها الإمام وغيره وما اعترض أحد بهذا السؤال.
فإن قلت سلمنا أنه يصح ليس بضارب في الحال ولكن لا نسلم استلزامها صحة ليس بضارب.
قلت لأن ليس بضارب مطلقة وليس بضارب في الحال مؤقتة والمطلقة جزء من المؤقتة ولو صح ذلك فنقول إذا قيدت في الإيجاب أو في السلب بزمان ولم تجعل الزمان جزءا من المحمول كانت القضية موجهة مؤقتة وإن لم يقيد كانت القضية مطلقة وهي جزء من المؤقتة والقيد المذكور في المؤقتة كقولنا زيد ضارب الآن أو ليس بضارب الآن إذا جعلناه جهة معناه تقييد نسبة المحمول الذي هو ضارب إلى الموضوع الذي هو زيد إيجابا أو سلبا.
فإذا قلت زيد ضارب الآن فمعناه أن نسبة ضارب إلى زيد ثابتة الآن.(11/323)
ص -231-…وإذا قلت زيد ليس بضارب الآن فمعناه أن نسبة ضارب إلى زيد ممتنعة الآن والآن ظرف للنتفاء لا للتفي فإن النفي هو الحكم وهو حاصل الآن وانتفاء مدلوله وهو يحسبه قد يكون الآن كما في هذا المثال وقد يكون أمس أو غدا على حسب ما تأتي المؤقتة وقد يأتي الظرف جزءا من المحمول كقولك زيد ضارب الآن تريد أن ضربه الآن ثابت أو ليس بضارب الآن تريد ضربه الآن منتف فهذه ليست موجهة والمنفي فيها أخص من النفي في الموجهة والمثبت بأخص من المثبت ولنزد ذلك إيضاحا فنقول:
إذا قلت ليس زيد ضاربا الآن أو يوم الجمعة فلا يجوز أن يكون الآن أو يوم الجمعة ظرفا لحكمك ألا ترى أنك تقول يوم الجمعة وأنت غير حاكم فيه وبقي بعد هذا أن يوم الجمعة إما أن يكون ظرفا لانتفاء الضرب المقيد بذلك الوقت أو المطلق والمعنى أن زيدا يصدق يوم الجمعة أنه ليس بضارب ومن ضرورة انتفائه انتفاء المقيد وإذ وضح أن المطلقة جزء من المؤقتة صح تعبير الإمام في المحصول بالكل والجزء ودعواه استلزام الكل الجزء ليس مراده الجزء من حيث اللفظ بل من حيث المعنى.
فإن قلت المطلقة أعم من المؤقتة فكيف تستلزمها المؤقتة.
قلت أصل المطلقة كذلك ولكن قد يعرض لها تقييدها لغة أو عرفا وقد ادعيناه هنا حيث قلنا إن العرف يؤقتهما بحال التكلم ودللنا عليه فالمطلقة وإن كانت مطلقة في اللفظ فهي مقيدة بحسب العرف وكان ذلك منطوقا به فسارت المؤقتة وإنما دلالة المؤقتة صريحة في الوقت ودلالة المطلقة ظاهرة ولهذا المعنى لم يأت الإمام في المحصول بلفظ الأعم والأخص لأنه يضره فإنه يدعى تساويهما عرفا ولغة فكيف يقول إن أحدهما أعم من الآخر بل ترك ذلك وعدل إلى الكل والجزء فإنه صحيح على التقديرين أعني من حيث القل والأصل ومن حيث الاستعمال والجزء قد يكون مساويا في الوجود كالناطق فإنه جزء الانسان ومساو له بخلاف الأعم فإنه قد يوجد بدون الأخص.
فإن قلت قد فهم أصحاب الإمام أن مراده الأعم والأخص ومنهم(11/324)
ص -232-…صاحب التحصيل فقال يصدق ليس بضارب لصدق الأخص منه وهو ليس بضارب في الحال.
قلت قال والدي رضي الله عنه في كتابه الاتساق في مقاربة الاشتقاق وهو مختصر وضعه في هذه المسألة إنهم ما فهموا جيدا وأطال النفس في ذلك وأجاب عن سؤال لصاحب التحصيل ذكره على هذا وعظم خطبه ونحن لم نذكر السؤال لكونه مبنيا على ما فهمه صاحب التحصيل من أن الكل أعم والجزء أخص وقد بينا أن الإمام لم يرد بالكل والجزء الأعم والأخص وأن الجزء قد يكون مساويا.
قال وعورض بوجوه
الأول أن الضارب من له الضرب وهو أعم ورد بأنه أعم في المستقبل أيضا وهو مجاز اتفاقا.
الثاني: أن النحاة منعوا عمل النعت للماضي ونوقض بأنهم أعملوا المستقبل.
الثالث: أنه لو شرط لم يكن المتكلم ونحوه حقيقة وأجيب بأنه لما تعذر استعمال أجزائه اكتفى بآخر جزء.
الرابع: أن المؤمن يطلق حالة الخلو عن مفهومه وأجيب بأنه مجاز وإلا لأطلق الكافر على أكابر الصحابة حقيقة.
عارض الخصم دليلنا بأوجه زعم أنها تدل على مطلوبه.
الأول: أن الضارب عبارة عمن ثبت له الضرب وهو أعم من أن يكون دائما أو لا فيكون إطلاقه على أفراده على سبيل الحقيقة كإطلاق العام على أفراده وأجاب بأن ذلك منقوض بأنه أعم من المستقبل أيضا فيلزم أن يكون حقيقة فيه ولا قائل به ولقائل أن يقول إذا كان الضارب من ثبت له الضرب فهو غير صادق باعتبار المستقبل لأنه ما ثبت له فلا يتجه قولكم أنه أعم من المستقبل أيضا.
الثاني: أن جمهور النحاة قالوا النعت أي المشتق كاسم الفاعل واسم(11/325)
ص -233-…المفعول إذا كان بمعنى الماضي وليس معه ال فهو لا ينصب مفعوله بل يتعين أن يجر بالإضافة إليه تقول مررت برجل ضارب زيد أمس وهذا يدل على جواز استعماله بمعنى الماضي والأصل في الاستعمال الحقيقة وأجاب بأن هذا منتقض بإجماعهم على إعماله إذا كان بمعنى الاستقبال ما قلتموه في الماضي يأتي بعينه في المستقبل مع أنه مجاز اتفاقا.
الثالث: لو كان المشتق منه شرطا في صحة إطلاق المشتق حقيقة لاستحال إطلاق المتكلم والمخبر بطريق الحقيقة على شيء أصلا لأن المشتق وهو الكلام والخبر لا يمكن بقاؤهما لأنهما من الموجودات التي هي غير قارة الذات وأجاب بمنع الملازمة وذلك لأن الشرط أحد الأمرين أما بقاء المشتق منه وذلك فيما يمكن بقاؤه أو بقاء آخر جزء من أجزائه إن لم يكن بقاؤه بالكلية لأن وضع اللغة غير مبني على المضايقة في مثل هذه الأمور وهذا كإطلاقهم الحال على الزمان المعين مع أن الموجود منه ليس إلا جزءا واحدا.
الرابع: أنه لو اشترط بقاء المشتق منه في صحة إطلاق المشتق حقيقة للزم ألا يصح إطلاق المؤمن بطريق الحقيقة على من خلا عن مفهومه بالنوم مثلا ولكن ذلك باطل لأنهم يطلقونه عليه والأصل في الإطلاق الحقيقة وأجاب بأن إطلاقه ليس على سبيل الحقيقة بل هو مجاز وإلا لصح إطلاق الكافر على أكابر الصحابة حقيقة بسبب كفر تقدم إذ الإطلاق من لوازم الحقيقة ولقائل أن يقول إن الإيمان الطارئ بعد الكفر يضاده لذلك لم يصح إطلاق الكافر على من صدر منه في الماضي إذ هو وصف وجودي يصاد الأول فكان كإطلاقك على الأسود أنه أبيض باعتبار بياضه المتقدم وقد قدمنا أن ذلك ليس من محل النزاع.
فوائد أحدها اعلم أنا لا نعني بالحال حال نطقنا بل حال اتصافه بالمشتق منه.
فإذا قلت اقتلوا المشركين فمعناه الأمر بقتل من اتصف بالشرك وإن لم يكن وقت قولك اقتلوا المشركين متصفا به وقد خفى ذلك على بعض الفضلاء فظن أنه لا يشمل من يأتي بعد ذلك إلا مجازا.(11/326)
ص -234-…الثانية: الحقيقة والمجاز إنما هما باعتبار الاستعمال.
فإذا قلت زيد ضارب فهنا أمران.
أحدهما: استعمال ضارب في معناه أو غير معناه وهو محل الحقيقة والمجاز.
والثاني: حمل ضارب على زيد وهذا لا يوصف بحقيقة ولا مجاز ولا دلالة له على حال ولا مضي ولا استقبال بل هو مطلق بالنسبة إليها والقضية إن أطلقت احتملت الثلاثة إلا أنا نحمله عند الإطلاق على زمان النطق لغة وعرفا ولأنه ليس غيره أولى منه وأما المحمول الذي هو ضارب فإن أريد به معناه ممن هو متصف بالضرب في الحال كان حقيقة إما صدقا إن طابق أو كذبا إن لم يطابق وإن أريد به غير معناه كان مجازا والأمر في السلب في جميع ذلك على اقررناه لا يختلف.
الثالثة: إذا قلت زيد ضارب أمس أو غدا فقد يطلق المطلق أنه مجاز لأن اسم الفاعل حقيقة في الحال والتصريح بأمس أو غدا إنما هو قرينة لإرادة المجاز كقولك رأيت أسدا يرمي بالنشاب وقد يطلق أنه حقيقة لأنه اتصل بمعموله والحق خلاف الإطلاقين لأن الحمل لا حقيقة فيه ولا مجاز كما عرفت فحكمك على زيد الآن بأنه ضارب غذا لا حقيقة ولا مجاز والمحكوم به هو ضارب غدا إن أريد معناه وهو أن يحصل منه الضرب غذا كان حقيقة مثل زيد سيضرب غدا وإن أريد به غير معناه كان مجازا وهكذا ضارب أمس ولا يمكنك أن تريد أن الضرب الثابت الذي يقع غدا هو ثابت الآن فذلك مستحيل لكن تريد أنه الآن محكوم عليه بالضرب في غذ والحكم غير موصوف بحقيقة ولا مجاز فإن أردت أن تصفه الآن بضربه في غد كان مجازا والله أعلم.
فروع يتجه بناؤها على الأصل المذكور.
لو عزل القاضي فقال امرأة القاضي طالق هل يقع طلاقه فيه وجهان في فروع الطلاق من الرافعي.
لو قال إن كانت امرأتي في المأتم فأمتي حرة وإن كانت أمتي في الحمام(11/327)
ص -235-…فامرأتي طالق وكانتا عند التعليق كما ذكرنا عتقت الأمة ولم تطلق المرأة عتقت عند تمام التعليق الأول وخرجت عن أن تكون أمته فلم يحصل شرط الطلاق وهو الآن أمته لا تكون حقيقة إلا لمن يملكها في الحال ولو قدم ذكر الأمة فقال إن كانت أمتي في المأتم فامرأتي طالق وإن كانت امرأتي في الحمام فأمتي حرة وكانتا كما ذكر طلقت المرأة ثم إن كانت رجعية عتقت الأمة أيضا وإلا فلا والفرع مسطور في فروع الطلاق أيضا وإنما يعتق الأمة في هذه الحالة لصدق لفظ الزوجة على الرجعية.
لو حلف لا رأيت منكرا إلا رفعته إلى القاضي فلان ولم ينو أنه يرفعه إليه وهو قاض وتمكن من الرفع إليه فلم يرفع حتى عزل ثم رفع إليه ففي الحنث وجهان إذا مات ولم يرفع إليه إلا وهو معزول.
لو حلف لا يدخل مسكن فلان فدخل ملكا له لم يكن ساكنه فثلاثة أوجه ثالثها: إن كان سكنه في الماضي ساعة ما حنث وإلا فلا قال المتولي1 لو وقف على عبد فلان وقلنا العبد يملك صح وكان الاستحقاق متعلقا بكونه عبد فلان حتى لو باعه أو وهبه زال الاستحقاق.
قال الثالثة لا يشتق اسم الفاعل لشيء والفعل قائم بغيره للاستقراء
قالت المعتزلة الله متكلم بكلام يخلقه في جسم كما أنه الخالق والخلق المخلق قلنا الخلق هو التأثير.
لا يجوز إطلاق اسم الفاعل الذي هو المشتق على شيء والفعل الذي هو المشتق منه قائم بغيره واستدل الأصحاب على ذلك بالاستقراء فإنا تتبعنا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو عبد الرحمن بن مأمون النيسابوري المعروف بالمتولي فقيه مناظر عالم بالأصول تولى التدريس بالمدرسة النظامية ببغداد من مؤلفاته تتمة الإبانة للفوراتي في فقه الشافعية وله كتب أخرى في الفقه والأصول.
توفي ببغداد سنة 478 هـ.
وفيات الأعيان 1/277 الأعلام 4/98.(11/328)
ص -236-…مواقع استعمال المشتقات فلم نجد موقعا اشتق له اسم الفاعل والفعل المشتق منه قائم بغيره فدل على أن ذلك خارج عن كلام العرب فيكون ممنوعا وقد لزم المعتزلة الخلاف في ذلك حيث قالوا إن الله تعالى متلكم بكلام قائم بغيره لا بذاته وإلا لكانت ذاته محلا للحوادث وذلك على أصلهم في أن الكلام حادث لأنهم لا يعترفون بالكلام النفسي واحتجوا على ما ذهبوا إليه من أنه يجوز إطلاق المتكلم على الله بسبب كلام يخلقه في جسم بأنه يطلق عليه الخالق بالحقيقة والخالق مشتق من الخلق والخلق لم يقم بذاته سبحانه وتعالى لأن الخلق هو المخلوق وهو الأثر البائن عن ذات الله تعالى ومنه قوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} أي مخلوق الله وأجاب بأن الخلق لم يقم بذاته سبحانه وتعالى لأن الخلق هو المخلوق وهو الأثر البائن عن ذات الله تعالى ومنه قوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} أي مخلوق الله وأجاب بأن الخلق ليس هو المخلوق بل هو التأثير الله تعالى وأما الإطلاق الواقع في الآية فإنه مجاز.
قال قالوا قدم العالم وإلا لافتقر إلى خلق آخر وتسلسل قلنا هو نسبة فلم يحتج إلى تأثير آخر.(11/329)
قالت المعتزلة لو كان الخلق هو التأثير كما ذكرتم لزم أحد محالين إما قدم العالم أو التسلسل وذلك لأنه إما قديم أو حادث إذ كل مفهوم وجوديا كان أو عدميا لا يخلو عن أحدهما لأنه إن كان مسبوقا بالعدم سبقا زمانيا فهو الحادث وإلا فهو القديم فإن كان قديما لزم قدم العالم لأن المؤثر قديم والتأثير فرضناه قديما وإذا وجد المؤثر والتأثير استحال تخلف الأثر وهو العالم فيلزم من وجودهما في الأزل وجود العالم فيه ولأن التأثير نسبة بين الخالق والمخلوق وقدم النسبة يقتضي قدم المنتسبين ضرورة افتقارها إليهما ولأن العالم هو ما سوى الله تعالى والتأثير غير الله تعالى إذ التأثير غير المؤثر وإن كان حادثا افتقر في حدوثه إلى تاثير والكلام فيه كالكلام في الأول فيلزم التسلسل وأجاب المصنف بأنه نسبة إلى آخره أي يختار أنه حادث ويمنع لزوم التسلسل وذلك لأن التأثير نسبة والنسبة لكونها من الأمور الاعتبارية التي لا وجود لها في الخارج غير مفتقرة إلى تأثير مؤثر فيها ثم إن الأمور الاعتبارية لا يمتنع التسلسل فيها لذلك وهذا كما أن الواحد نصف الاثنين وثلث الثلاثة وربع الأربعة وهلم جرا إلى ما لا نهاية له من الأعداد(11/330)
ص -237-…واعلم أن الإمام لم يجب عن الشبهة المذكورة ثم قال ومما يدل على أنه ليس من شرط المشتق منه قيامه بمن له الاشقاق أن المفهوم من اسم المشتق ليس إلا أنه ذو ذلك المشتق منه ولفظة ذو لا يقتضي الحلول ولأن لفظ ملابن والتامر والمكي والمدني والحداد مشتق من الأمور التي يمتنع قيامها بمن له الاشقاق هذا كلامه وقد أوهم اختيار مذهب المعتزلة ومناقضته في ذلك لما اختاره في كتبه الكلامية حتى قال الشيخ شمس الدين الأصفهاني في شرح المحصول الحق مذهب الأشاعرة لا ما اختار المصنف تقريره ههنا من مذهب المعتزلة والذي نقوله إنه لا يلزم من عدم ذكر الجواب اختيار مذهبهم كيف وقد صرح بخلافه وأما ما قاله من أن المفهوم من الاسم المشتق ليس إلا ذو المشتق منه فهو مدخول لأنه اعترف بأن قولنا مكي ومدني مشتق من مكة والمدينة وليس المفهوم من المكي ذو مكة ولأنه يناقض ما التزمه سابقا من أن بقاء وجه الاشتقاق شرط لصدق الاسم المشتق فإن قولنا زيد قيسي أو تميمي يكون حينئذ مشتقا من قيس وتميم والمشتق منه غير باق والحق أن دعواه أن لفظة ذو لا تقتضي الحلول غير مسلمة له على الإطلاق لأن المفهوم من قولنا زيد ذو علم أو فهم قيامهما به وحلولهما فيه فلفظة ذو تقتضي الحلول في أسماء المعاني كما ذكرناه وكلامنا في المشتقات من المصادر التي هي أسماء المعاني ويخرج بهذا الجواب عن مثل مكي ومدني فإنها مشتقة من أسماء الذوات فليست في شيء مما نحن فيه.
فروع يتجه بناؤها على الأصل المذكور.
لو حلف لا يبيع أو لا يضارب فوكل فيه غيره حتى فعل لم يحنث في أظهر القولين لأنه لم يباشر والثاني إن كان ممن لا يتولى ذلك بنفسه كالسلطان حنث.
ولو حلف لا يحلق رأسه فأمر غيره فحلق فقد قيل في حنثه القولان وقيل يحنث قولا واحدا وبه أجاب الماوردي وطرده في كل ما جرت العادة فيه بالأمر دون المباشرة من جميع الناس كقوله والله لا احتجمت أولا اقتصدت أو لا بنيت داري.(11/331)
ص -238-…الفصل الرابع في الترادف
قال الفصل الرابع في الترادف وهو توالي الألفاظ المفردة الدالة على شيء واحد باعتبار واحد كالإنسان والبشر.
توالي الألفاظ هو تتابعها لأن اللفظ الثاني تبع الأول في مدلوله وقوله توالي الألفاظ جنس يشمل المترادف وقوله المفردة احتراز عن المركبة كالحد مع المحدود والرسم مع المرسوم فإن الحد والمحدود غير مترادفين على المذهب المختار إذ المحدود دال على الماهية من حيث هي والحد دال عليها باعتبار دلالته على أجزائها فالاعتباران مختلفان وقوله الدالة على شيء واحد احتراز عن توالي الألفاظ المتباينة المتفاصلة فإنها تدل على الأشياء المتعددة كالإنسان والفرس والحمار وقوله باعتبار واحد يمكن أن يحترز به عن الألفاظ المفردة الدالة على شيء واحد لا باعتبار واحد بل أحدهما بطريق الحقيقة والآخر بطريق المجاز كالأسد والشجاع لكن قال الإمام احترزنا به عن اللفظين المفردين إذا دلا على شيء واحد باعتبار صفتين كالصارم والمهند أو باعتبار الصفة وصفة الصفة كالفصيح والناطق فإنهما من المتباينة يعني أن كلا من المهند والصارم يدل على الشكل المعروف لكن المهند والسيف يدلان عليه سواء كان قاطعا أم لا والصارم لا يدل عليه إلا إذا كان قاطعا.
هذا شرح التعريف وفيه نظر فإنه أتى المفردة ليحترز عما أشرنا إليه وهو غير مضرور إلى ذلك فإن ذلك خرج بقوله باعتبار واحد إذ الحد والمحدود يدلان على معنى واحد لكن باعتبارين كما عرفت ثم إن هذه اللفظة أعني(11/332)
ص -239-…المفردة تصير الحد غير جامع إذ يخرج بها بعض المترادفات مثل خمسة ونصف العشرة وأيضا قوله: الألفاظ جمع وأقله على رأيه ثلاثة وقد يكون الترادف من لفظين ثم إنها جنس بعيد فلو أتى بالقول وقال توالي كلمتين فصاعدا لسلم من هذين الإيرادين وإنما قال توالي الألفاظ ولم يقل الألفاظ المتوالية لأنه شرع في حد المعنى وهو الترادف لا في حد اللفظ وهو المترداف وعبر الألفاظ ليشمل ترادف الأسماء كالبر والقمح والأفعال كجلس وقعد والحروف مثل في والباء في بعض المواضع كما في قوله تعالى: {مُصْبِحِينَ*وَبِاللَّيْلِ}1.
واعلم أن المصنف إنما ذكر حد الترادف مع تقدمه في تقسيم الألفاظ ليفرق بينه وبين التأكيد قوله كالإنسان والبشر هذا مثال للترادف من جهة اللغة فإن الإنسان يطلق على الواحد رجلا كان أو امرأة وكذلك البشر وأهمل المصنف التمثيل للمترادفين بحسب الشرع كالفرض والواجب عندنا2 وبحسب العرف.
قال والتأكيد يقوي الأول والتابع لا يفيد.
لما كان التأكيد والتابع فيهما شبه بالمترادف حتى ظن بعض الناس أن التابع من قبيل المترادف ذكر المصنف الفرق بينهما وحاصله أن المترادفين يفيدان فائدة واحدة من غير تفاوت والمؤكد لا يفيد غير فائدة الأول بل تقويته وهو على نوعين لفظي وهو ما يكون لفظه لفظ المؤكد ومعنوي وهو ما يكون بغير ذلك اللفظ مثل كلهم وأما الفرق بين المترادف والتابع مثل قولنا شيطان ليطان ونظائره فهو أن التابع لا يفيد كذا أطلقه في الكتاب وزاد الإمام فقال بل شرط كونه مفيدا تقدم الأول عليه وأما الآمدي فإنه قال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الصافات: آية 137 138.
2 أي عند الشافعية فإن الفرض والواجب لفظان مترادفان إلا في الحج فإن الفرض غير الواجب.
وذهب الحنفية إلى أن الفرض ما ثبت بدليل كوجوب الصلاة الخمس والواجب ما ثبت بدليل ظني كوجوب الوتر فإنه واجب لأنه ثابت بالسنة.(11/333)
راجع أصول السرخسي 1/110 تيسير التحرير 2/135.(11/334)
ص -240-…التابع قد لا يفيد معنى أصلا بإثبات قد قال ولهذا قال ابن دريد1 سألت أبا حاتم عن معنى قولهم بسن أي من قولهم حسن بسن فقال لا أدري ما هو والتحقيق أن التابع يفيد التقوية فإن العرب لا تضعه سدى وجهل أبي حاتم بمعناه لا يضر بل مقتضى قوله: إنه لا يدري معناه أن له معنى وهو لا يعرفه.
فإن قلت فصار كالتأكيد لأنه أيضا إنما يفيد قلت التأكيد يفيد مع التقوية نفي احتمال المجاز فإنك إذا قلت قام القوم احتمل أن يريد البعض مجازا وينتفي هذا الاحتمال بقولك بعد ذلك كلهم وأيضا فالتابع من شرطه أن يكون على زنه المتبوع والتأكيد لا يكون كذلك وقول المصنف التأكيد يقوي ليس بجيد بل كان ينبغي أن يقول التأكيد تقوية أو المؤكد يقوي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو محمد بن الحسن بن دريد الأزدي من أزد عمان من أئمة اللغة والأدب يقول: ابن دريد: أشعر العلماء وأعلم الشعراء وهو صاحب المقصورة الدريدية.
ومن كتبه الاشتقاق في الأنساب والمقصور والممدود وشرحه والجمهرة في اللغة وغير ذلك.
وفيات الأعيان 1/497 الأعلام 6/310.(11/335)
ص -241-…أحكام المترادف
قال وأحكامه في مسائل:
الأولى: في سببه المترادفان وإما من واضعين والتبسا أو واحد لتكثير الوسائل والتوسع في محل البديع.
ذهب بعض الناس إلى إنكار المترادف في اللغة العربية وزعم أن كل ما يظن من المترادفات فهو من المتباينات التي تتباين بالصفات كما في الإنسان والبشر فإن الأول موضوع باعتبار النسيان أو باعتبار أنه يؤنس.
والثاني: باعتبار أنه بادي البشرة وكذا الخندريس والعقار فإن الأول باعتبار الفتق والثاني باعتبار عقر الدن لشدتها وتكلف لأكثر المترادفات بمثل هذا المقال العجيب وقد اختار هذا المذهب أعني إنكار المترادف أبو الحسين أحمد بن فارس1 في كتابه الذي ألفه في فقه اللغة والعربية وسنن العرب وكلامها ونقله عن شيخه أبي العباس ثعلب2 وهذا الكتاب كتب منه ابن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو أحمد بن فارس بن زكريا القزويني الرازي من أئمة اللغة والأدب قرأ عليه البديع الهمذاني والصاحب بن عباد وغيرهما من أعيان البيان.
من تصانيفه مقاييس اللغة والصاحبي في علم العربية جامع التأويل في تفسير القرآن توفي سنة 395 هـ.
2 هو أحمد بن يحيى بن زيد سيار الشيباني الولاء أبو العباس المعروف بثعلب إمام الكوفيين في النحو واللغة كان راوية للشعر محدثا مشهورا بالحفظ وصدق اللهجة ثقة حجة ولد ومات في بغداد.
من كتبه الفصيح وقواعد الشعر وشرح ديوان الأعشى ومعاني القرآن توفي سنة 291 هـ.
تذكرة الحفاظ 3/214 الأعلام 1/252.(11/336)
ص -242-…الصلاح نكتا منها هذه وعلقت أنا ذلك من خط ابن الصلاح فيما علقته من خطه ونحن نقول أما الجواز فلا يظن بعاقل المنازعة فيه ضرورة أنه لا يلزم من فرض وقوعه محال وأما الوقوع ففي مسميات تخرج عن حد الحصر.
إذا عرفت ذلك فلوقوع المترادفة سببان:
أحدهما: أن تكون من واضعين.
قال الإمام ويشبه أن يكون هو السبب الأكثري مثل أن تضع إحدى القبيلتين أحد الاسمين والأخرى الاسم الآخر للمسمى الواحد من غير أن تشعر إحداهما بالأخرى ثم يشتهر الوضعان ويخفي الواضعان أو يلتبس وضع أحدهما بوضع الآخر ولا يخفى عليك أن هذا السبب مبني على كون اللغات اصطلاحية.
والثاني: أن يكون من واضع واحد وهو السبب الأقلي كما ذكر الإمام وله فوائد:
منها أن تكثر الوسائل أي الطرق إلى الإخبار عما في النفس فإنه ربما نسي أحد اللفظين أو عسر عليه النطق به وقد كان بعض الأذكياء في الزمن السالف ألثغ فلم يحفظ عليه أنه نطق بحرف الراء ولولا المترادفات تعينه على ما قصده لما قدر على ذلك.
ومنها التوسع في مجال البديع أي في سلوك طرق الفصاحة وأساليب البلاغة في النظم والنثر وذلك لأن اللفظ الواحد قد يتأني باستعماله مع لفظ آخر للسجع والقافية أو التجنيس والترصيع وغير ذلك من أصناف البديع ولا يتأنى ذلك باستعمال مرادفه مع ذلك اللفظ.
قال الثانية أنه خلاف الأصل لأنه تعريف المعرف ومحوج إلى حفظ الكل.
نقل الإمام أن من الناس من قال الترادف وإن كان واقعا لكنه على خلاف الأصل وبه جزم في الكتاب وحينئذ إذا دار اللفظ بين كونه مترادفا(11/337)
ص -243-…للفظ آخر ومباينا له فحمله على المباين له أولى واستدل على كونه على خلاف الأصل بوجهين:
أحدهما: أن المقصود لما حصل بأحد اللفظين فالأصل عدم الثاني لئلا يلزم تعريف المعرف.
والثاني: أنه موجب للمشقة لأنه يوجب حفظ جميع تلك الألفاظ إذ لو لم يحفظ جميعها احتمل أن يكون الذي اقتصر على حفظه خلاف ما اقتصر عليه الآخر فعند التخاطب يجهل كل واحد منها مراد صاحبه.
قال الثالثة اللفظ يقوم بدل مرادفه من لغته إذ التركيب يتعلق بالمعنى دون اللفظ.
هل يجب صحة إقامة كل واحد من المترادفين مكان الآخر فيه ثلاث مذاهب:
أحدها: أنه غير واجب قال الإمام وهو الحق.
والثاني: أنه واجب بمعنى أنه يصح مطلقا وهو اختيار ابن الحاجب وقال الإمام إنه الأظهر في أول النظر.
والثالث: وهو اختيار المصنف وصفي الدين الهندي إن كانا من لغة واحدة صح وإلا فلا أما صحته إذا كانا من لغة واحدة فلأن المقصود من التركيب إنما هو المعنى دون اللفظ فإذا صح المعنى مع أحد اللفظين وجب أن يصح مع الآخر لاتحاد معناهما وأما عدم صحته إذا كانا من لغتين فلأن اختلاط اللغتين يستلزم ضم مهمل إلى مستعمل فإن إحدى اللغتين بالنسبة إلى اللغة الأخرى بمثابة المهمل.
فإن قلت التركيب كما يتعلق بالمعنى كذلك يتعلق باللفظ كما في أنواع البلاغة من الترصيع والتجنيس وغير ذلك فإن رعاية هذه الأمور غرض يقصده اللبيب.
قلت رعاية هذه الأمور خارجة عن المقصود الأصلي من الكلام فإنها من(11/338)
ص -244-…محسنات الكلام لا من مصححاته وفي قول المصنف إذ التركيب إشارة إلى أن الخلاف إنما هو في حال التركيب وأما في حال الإفراد كما في تعديد الأشياء فلا خلاف في جواز ذلك هذا كلام الأصوليين في المسألة وأما الفقهاء فلا خلاف عندهم في إقامة كل واحد من المترادفين المختلفي اللغة مقام الآخر فيما تشترط فيه الألفاظ كعقود البيوعات وغيرها وأما ما وقع النظر في أن التعبد هل وقع بلفظه فليس من هذا الباب لأن المانع إذ ذاك من إقامة أحد المترادفين مقام الآخر ليس أنه لا يصح إقامة مرادف مقام صاحبه بل لما وقع من القيد لسبيله لفظه كالخلاف في أن لفظ النكاح كلي ينعقد بالعجمية واللغات للقادر على العربية ونظائر ذلك.
قال الرابعة التوكيد تقوية مدلول ما ذكر بلفظ ثان فإما أن يكون بنفسه مثل قوله عليه السلام: "والله لأغزون قريشا ثلاثا" أو بغيره للمفرد كالنفس والعين وكلا وكلتا وكل وأجمعين وإخواته والجملة كان.
لك أن تقول الفصل معقود للترادف فلا مدخل لأحكام التوكيد فيه فكان ينبغي أن يقول الفصل الرابع في أحكام الترادف والتأكيد كما فعل الإمام والخطب في ذلك يسير.
اعلم أن التوكيد عبارة عن تقوية مدلول اللفظ المذكور أولا بلفظ مذكور ثانيا هكذا قاله صاحب الحاصل وتبعه المصنف وقد أورد عليهما أن التابع يدخل في هذا لأنه يفيد تقوية الأول كما حررناه فكان من حقه أن يقول بلفظ ثان مستقل بالإفادة وأورد عليه أيضا القسم وإن واللام تؤكد الجملة وليس ذلك بلفظ ثان بل أول ولا يمكنه أن يقول بدل ثان بلفظ آخر لأنه يوهم أنه يشترط في المؤكد أن يكون بلفظ مغاير لذلك فيخرج التأكيد اللفظي ولك أن تجيب أولا بأن الثاني هنا بمعنى واحد كما في قوله: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ}1
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(11/339)
1 جاء في قوله تعالى في حق أبي بكر في هجر ته مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} التوبة: 40.(11/340)
ص -246-…والأكثر أن يكون مع المؤكد فاعل الأول أو ضميره نحو قام زيد قام زيد أو قام زيد قام وقد يكون فاعل المؤكد والمؤكد ضميرين كقولك صل, صل الصديق وقد يستغنى بفاعل أحدهما وقد اجتمع الأمران في قول الشاعر:
فأين إلى أين النجاة ببغلتي…أتاك أتاك اللاحقون احبس احبس1
أو حرفا كقول الشاعر:
فلا والله لا يلفى لما بي…ولا للما بهم أبدا دواه2
الثاني: التأكيد المعنوي وهو بغير ذلك اللفظ الأول وذلك قسمان:
أحدهما: أن يكون مؤكدا للمفرد فإما أن يكون مؤكدا للواحد مثل جاء زيد بنفسه ومحمد عينه أو للمثنى مثل جاء الزيدان كلاهما أو المرأتان كلتاهما أو المجمع مثل جاء القوم كلهم أو أجمعون قال الله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ}3 ومن ذلك أخوات أجمعين كأكتعين وأبصعين وأبتعين.
والثاني: أن يكون مؤكدا للجملة كأن نحو قوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}4 ولام الابتداء والجملة القسمية.
قال وجوازه ضروري ووقوعه في اللغات معلوم.
أنكر بعض الملاحدة التوكيد والخلاف معه إما في الجواز وهو ضروري أو في الوقوع لمن استقرأ لغة العرب وجدها مشحونة به وله فوائد تعرف من تتبع خواص تراكيب الكلام وأدناها بعد احتمال المجاز أو نفيه فإنك إن قلت إذا قلت قام زيد احتمل أن يريد غلامه مجازا فإذا قلت نفسه فإن لم يقتض ذلك انتفاء احتمال المجاز فلا أقل من اقتضائه ضرورة هذا الاحتمال مرجوحا ضعيفا ولذلك نقول زيد قائم لمن يكتفي بهذا الخبر فإن أردت أن تقرر عند ذلك لم تجد بدا من التأكيد بإن فتقول إن زيدا قائم فإذا توهمت منه نكيرا لم تلف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يذكرها النحويون من شواهد التوكيد اللفظي. شرح ابن عقيل ص 131.
2 ينسب هذا البيت لبعض بني أسد شرح الشواهد للعيني على الأشموني 3/83.
3 سورة الحجر آية:30.
4 سورة الأحزاب آية: 56.(11/341)
ص -247-…غنى عن الزيادة اللام فتقول إن زيدا لقائم ولذلك قال بعض أصحابنا إذا قال استأجرتك لكذا أو لتفعل كذا لم يكن الحاصل به إجارة عين بل ذمة وإن اقتضى ذلك الإضافة إلى المخاطب وأنه لا يحصل إجارة العين إلا إذا قال استأجرت عنك أو نفسك أو لتعمل بنفسك كذا.
فائدتان إحداهما: عن شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام1 رحمة الله أنه قال اتفق الأدباء على أن التأكيد في لسان العرب إذا وقع بالتكرار لا يزيد على ثلاث مرات قال وأما قوله تعالى في سورة المرسلات: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} في جميع السورة فذلك ليس تأكيدا بل كل آية قيل فيها: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} في هذه السورة فالمراد المكذبون بما تقدم ذكره قيل هذا القول ثم يذكر الله تعالى معنى آخر ويقول: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} أي بهذا فلا يجتمعان على معنى واحد فلا تأكيد وكذلك: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} في سورة الرحمن.
الثانية: سأل بعض الفضلاء فيما إذا قال الزوج أنت طالق انت طالق وقصد بالثانية التأكيد فإنه لا يقع إلا واحدة والحالة هذه فقال الجملة الثانية لا جائز أن تكون خبرية لأن الجملة الخبرية غير الإنشائية وشرط التأكيد أن يكون من جنس الأول ولا أن تكون إنشائية وإلا وقع طلقتان ويمكن أن يجاب باختيار أنها إنشائية ولا يلزم ما ذكر فإنها إنشاء للتأكيد ولا يقع بإنشاء التأكيد شيء وليست بإنشاء الإيقاع فاشتركت مع الأولى في أصل الإنشاء وافترقنا فيما أنشأه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو عبد العزيز عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن السلمي الدمشقي عز الدين الملقب بسلطان العلماء فقيه شافعي بلغ رتبة الاجتهاد.
ألف الكثير من الكتب منها: الإمام في أدلة الأحكام مختصر صحيح مسلم قواعد الأحكام في مصالح الأنام.(11/342)
توفي – رحمة الله عليه – في العاشر من جمادى الأولى سنة 660 هـ بالقاهرة ودفن بالقرافة الكبرى في سفح جبل المقطم.
فوات الوفيات 1/287 التجوم الزاهرة 7/208.(11/343)
ص -248-…الفصل الخامس في الاشتراك
قال الفصل الخامس في الاشتراك.
المشترك هو اللفظ الواحد الدال على معنيين مختلفين أو أكثر دلالة على السواء عند أهل تلك اللغة سواء كانت الدلالتان مستفادتين من الوضع الأول أو من كثرة الاستعمال أو كانت إحداهما مستفادة من الوضع الأول أو من كثرة الاستعمال أو كانت إحداهما مستفادة مع الوضع والأخرى من كثرة الاستعمال ومن قولنا الواحد احتراز عن الأسماء المتباينة والمترادفة فإنه يتناول الماهية وهي معنى واحد وإن اختلفت محالها وقولنا عند أهل تلك اللغة إلى آخره إشارة إلى أن المشترك قد يكون بين حقيقتين لغويتين أو عرفيتين أو عرفية ولغوية والمصنف قدم حد الاشتراك في تقسيم الألفاظ فلم يحتج إلى إعادته هنا.
قال وفيه مسائل:
المسألة الأولى في إثباته أوجبه قوم لوجهين:
أحدهما: أن المعاني غير متناهية والألفاظ متناهية فإذا وزع لزم الاشتراك ورد بعد تسليم المقدمتين بأن المقصود بالوضع متناه.
والثاني: أن الوجود يطلق على الواجب والممكن وجود الشيء عينه ورد بأن الوجود زائد مشترك وإن سلم فوقوعه لا يقتضي وجوبه وأحاله آخرون لأنه لا يفهم الغرض فيكون مفسدة ونوقض بأسماء الأجناس.
اختلف الناس في اللفظ المشترك هل هو واجب أم لا وبتقدير ألا يكون(11/344)
ص -249-…واجبا فهل هو ممتنع أم ممكن وبتقدير إمكانه فهل هو واقع فهذه احتمالات أربعة بحسب الانقسام العقلي وقد صار إلى كل منها صائر واحتج من قال بالوجوب بشيئين:
أحدهما: أن المعاني غير متناهية وهذا واضح فإن الأعداد وهي لا تصل إلى نهاية والألفاظ لأنها مركبة من الحروف المتناهية والمركب من المتناهي متناه وحينئذ فإذا وزعنا الألفاظ على المعاني فلا بد وأن يستوعبها وإلا يلزم خلو بعض المعاني المقصودة عن الألفاظ ومتى كانت مستوعبة لها لزم الاشتراك لأنه لا بد حينئذ من لفظ واحد بإزاء معان كثيرة وهو الاشتراك وأجاب المصنف أولا بمنع المقدمتين أي لا نسلم أن المعاني غير متناهية ولا أن الألفاظ متناهية وسند المنع الأول أن حصول ما لانهاية له في الوجود محال وأما قوله: الأعداد غير متناهية فمسلم لكن بمعنى أنه لا مرتبة من مراتبه إلا ويمكن أن يوجد بعدها مرتبة أخرى مع أن المراتب الداخلة في الوجود منه أبدا قد تكون متناهية لا بمعنى أن الحاصل منه في الوجود غير متناه ولا يلزم من كون الأعداد غير متناهية بالمعنى الذي تقدم ذكره أن تكون المعاني الموجودة غير متناهية وأيضا فأصولها متناهية وهي الآحاد والعشرات والمئات والآلاف والوضع للمفردات لا للمركبات ولمسند المنع الثاني وهو قولهم الألفاظ متناهية والمركب من المتناهي متناه أن كونها مركبة من الحروف المتناهية لا يقتضي أن تكون متناهية كما أن أسماء الأعداد غير متناهية وأصولها متناهية وأجاب ثانيا بأن المقصود بالوضع متناه أي ولئن سلمنا صحة المقدمتين فلا يلزم ما ذكرتم لأن المعاني التي يقصدها الواضع بالتسمية متناهية إذ الوضع للمعاني فرع تصورها وتصور ما لا يتناهى محال ويمكن أن يقرر على وجه آخر فيقال إنما يلزم الاشتراك أن لو حصل استيعاب جميع المعاني بالوضع ونحن نقول الوضع إنما هو لما يشتد الحاجة إليه وهو متناه وليس الوضع لكل معنى بل جاز خلو بعض المعاني عن الوضع ألا ترى ألا(11/345)
نجد لكثير من المعاني كأنواع الروائح أسماء مستقلة لا مشتركة ولا مفردة بعد الاستقراء والبحث التام(11/346)
ص -250-…الثاني: أن الوجود يطلق على وجود الواجب سبحانه وتعالى ووجود الممكن بطريق الحقيقة فيهما ووجود كل شيء عين ماهيته كما تقرر في علم الكلام وهو مذهب أبي الحسن ولا ريب في مخالفة حقيقة الواجب لحقيقة الممكن فيكون إطلاق الوجوب عليهما بطريق الاشتراك وأجاب أولا بأنا لا نسلم أن وجود كل شيء عين ماهيته بل هو زائد عليهما وذلك الزائد معنى واحد يشترك فيه الواجب والممكن فيكون متواطئا لا مشتركا وهذا المنع منه مبني على اختياره وقد نقله في كتابه الطوالع عن الجمهور والحق مذهب الشيخ وليس هذا موضع تقريره وأجاب ثانيا بأنا سلمنا أن وجود كل شيء عين ماهيته ولا يلزم مطلوبكم إذ لا يقتضي غير وقوع الاشتراك ووقوعه لا يقتضي وجوبه وأنتم ادعيتم وجوبه.
قوله وأحاله آخرون إلى آخره.
احتج ما أحاله وهم فرقة قليلون ومنهم ثعلب وأبو زيد البلخي1 والأبهري2 على ما حكاه ابن الفارض المعتزلي في كتابه النكت بأن وقوعه يقتضي المفسدة لأن المقصود من الألفاظ ووضعها إنما هو التفاهم حالة التخاطب والمشترك لو وقع وسمعه السامع لم يحصل له الفهم لأن المشترك متساوي الدلالة بالنسبة إلى معانيه فلو فهم منه المعنى الذي هو غرض المتكلم دون غيره لزم ترجيح أحد المتساويين على الآخر من غير مرجح ولو فهم غيره
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو أحمد بن سهل أبو زيد البلخي أحد علماء الإسلام الذين جمعوا بين الشريعة والفلسفة والأدب والفنون.
مؤلفاته أقام العلوم شرائع الأديان كتاب السياسة الكبير والصغير أدب السلطان والرعية. توفي سنة 322 هـ.
معجم الأدباء 3/65 – 86 الأعلام 1/131.
2 هو محمد بن عبد الله بن محمد بن صالح أبو بكر التميمي الأبهري شيخ المالكية في العراق له مؤلفات في مذهب الإمام مالك والرد على مخالفيه. توفي سنة 375 هـ.
تاريخ بغداد 5/462 الأعلام 7/97.(11/347)
ص -251-…لأدى إلى وقوع المفسدة ففعل ما لم يطلب منه وربما كان ممنوعا منه وأجاب بالنقض بأسماء الأجناس وتقريره أنه إن أردتم أنه لا يفهم الغرض على جهة التفصيل فمسلم لكن هذا لا يوجب عدم وضع المشترك فإن أسماء الأجناس أيضا لا تفهم الغرض على وجه التفصيل مع كونها موضوعة وإن أردتم أنه لا يفهم الغرض أصلا فممنوع فإن المشترك يفيد فهم الغرض على سبيل الإجمال وذلك مطلوب ليستعد السامع للامتثال قبل البيان.
فإن قلت اسم الجنس موضوع للقدر المشترك وهو مفهوم من اللفظ بخلاف المشترك إذ المقصود منه فرد معين وهو غير معلوم من اللفظ.
قلت اسم الجنس وإن دل على القدر المشترك إلا أنه لا دلالة على خصوصية الأفراد تساوي المشترك في عدم الدلالة التفصيلية.
قال والمختار إمكانه لجواز أن يقع من واحد من واضعين أو واحد لغرض الإبهام حيث يجعل التصريح سببا لمفسدة.
المذهب الثالث: وهو ما اختاره الأكثرون منهم المصنف أنه ممكن الوقوع لجواز أن يقع إما من واضعين بأن وضع أحدهما لفظا لمعنى ثم وضعه الآخر لمعنى آخر ثم اشتهر ذلك اللفظ ما بين الطائفتين في إفادته المعنيين ولا يخفى عليك أن هذا إنما يجيء إذا قلنا اللغات غير توقيفية وإما من واضع لواحد لغرض الإبهام على السامع حيث يكون التصريح سببا للمفسدة كما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقد سأله رجل عن النبي صلى الله عليه وسلم وقت ذهابهما إلى الغار من هذا قال هذا رجل يهديني السبيل.
قال ووقعه للتردد في المراد من القرء ونحوه ووقع في القرآن مثل ثلاثة قروء والليل إذا عسعس.
قوله ووقعه عطف على قوله والمختار إمكانه وهذا هو المذهب الرابع أنه واقع والخلاف فيه مع من سلم إمكان المشترك ومنع وقوعه لنا أنا نتردد في المراد من القرء ونحوه عند السماع بغير قرينة بين الطهر والحيض على السواء فلو كان حقيقة في أحدهما فقط أو في القدر المشترك لما كان ذلك وما يقال لعل(11/348)
ص -252-…التردد حصل بسبب عرف طارئ لكثرة الاستعمال في المجاز فهو وإن كان محتملا لكنه على خلاف الأصل إذ الأصل عدم التغيير ولأن التردد حاصل في مفهومات ألفاظ قل ما يستعملها أهل العرف كما في عسعس الليل فإنا لا نفهم منه الإقبال والإدبار على التعيين إلا بقرينه ولا يجوز إحالته إلى استعمال أهل العرف ثم إذا ثبت وقوعه فهل وقع في القرآن منهم من منع والمختار خلافه بدليل قوله تعالى: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}1 عند من يجعل القرء مشتركا بينهما كما هو مقتضى اللغة وهو الصحيح وكذلك قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ}2 أي أقبل وأدبر وإنما أتى المصنف بهذين المثالين لأن الأول من الأسماء والثاني من الأفعال ولأن أحدهما مفرد والآخر جمع ليفهم بذلك وقوع النوعين في القرآن وأنه مشحون بالمشترك على اختلاف أنواعه واحتج من منع وقوعه في القرآن بأنه إن وقع مبينا بذكر قرينة كان تطويلا من غير فائدة إذ يمكن التعبير عن المراد بلفظ مفرد وضع له فقط وإن وقع غير مبين كان غير مفيد وذلك عيب والجواب أنا نقول لا يذكر معه قرينة ولا نسلم أن غير المبين غير مفيد مطلقا بل هو مفيد لفهم المعنى على سبيل الإجمال والفهم الإجمالي أيضا مقصود في فهم الألفاظ لاشتماله على فوائد.
منها استعداد المكلف للبيان وغير ذلك وأيضا فإنه كأسماء الأجناس.
وأعلم أن المانع من وقوعه في كلام الله تعالى هو المانع من وقوعه في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وعلته المذكورة شاملة لذلك وإنما لم يذكر المصنف أن الخصم مانع في المكانين بل اكتفى بذكر أحدهما لأن لا قائل بالتفصيل كما صرح به صفي الدين الهندي وغيره.
قال الثانية أنه بخلاف الأصل وإلا لم يفهم ما لم يستفسر ولامتنع الاستدلال بالنصوص ولأنه أقل بالاستقراء ويتضمن مفسدة السامع لأنه ربما لم يفهم وهاب استفساره واستنكف أو فهم غير مراده وحكى لغيره
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة: آية: 228.(11/349)
2 سورة التكوير آية: 17.(11/350)
ص -253-…فيؤدي إلى جهل عظيم واللافظ لأنه قد يحوجه إلى الإفراد أيضا ويؤدي إلى الإضرار إذ يعتمد فهمه فيضيع غرضه فيكون مرجوحا.
هذه المسألة في تبيين أن الاشتراك على خلاف الأصل والمعنى به أن اللفظ إذا دار بين أن يكون مشتركا أو لا يكون كذلك كأن ظن عدم الاشتراك أغلب ويدل عليه وجوده.
أحدها: أنه لو كان احتمال الاشتراك مساويا لاحتمال الانفراد لما حصل التفاهم بين أرباب اللسان حال التخاطب في أغلب الأحوال من غير استفسار واستكشاف عما أراده المتكلم وقد علمناه حصول ذلك فإن الفهم يحصل بمجرد إطلاق اللفظ فكان الغالب على الظن حصول الانفراد.
الثاني: لو تساوى الاحتمالان لامتنع الاستدلال بالنصوص على إفادة الظن فضلا عن اليقين لاحتمال أن تكون الألفاظ مشتركة بين ما ظهر لنا وبين غيره وعلى هذا التقدير يحتمل أن يكون المراد غير ما ظهر لنا فلا يبقى التمسك بالأخبار والآثار مفيدا ظنا فضلا عن يقين.
الثالث: أن الاستقراء دل على أن الألفاظ في الأكثر مفردة لا مشتركة والكثرة تفيد ظن الرجحان.
الرابع: أن المشترك يتضمن مفسدة السامع واللافظ ومتضمن المفسدة على خلاف الأصل لأن الأصل عدمها والدليل على أنه يتضمن مفسدة السامع أنه ربما لم يفهم المقصود وهاب استفسار اللافظ مهيبا أو استنكف أي تعاظم السامع عن استفساره وحينئذ فربما يفهم من اللفظ غير مراد اللافظ ويحكى لغيره ويحكى ذلك الغير لآخر وهكذا فيؤدي إلى وقوع جمع كثير في الغلط وذلك جهل عظيم والدليل على أنه يتضمن مفسدة اللافظ أنه قد يحتاج في تفسير اللفظ المشترك إلى اللفظ المنفرد فيكون المشترك ضائعا وأيضا فإنه يؤدي إلى إضراره إذ يصير دائما مفتقرا إلى التفسير وأيضا فربما ظن اللافظ أن السامع فهم المعنى الذي أراده فيعتمد على ذلك فيضيع غرضه أي غرض اللافظ(11/351)
ص -254-…قوله فيكون مرجوحا أي إذا ثبت هذا كله كان المشترك مرجوحا أي على خلاف الأصل.
قال الثالثة مفهوما المشترك إما أن يتباينا كالقرء للطهر والحيض أو يتواصلا فيكون أحدهما جزء الآخر كالإمكان للعام والخاص أو لازمه كالشمس للكوكب وضوئه.
المشترك لا بد له من مفهومين فصاعدا فمفهوماه إما أن يتباين أو يتواصلا.
القسم الأول: أن يتباينا أي لا يمكن اجتمعاعهما في الصدق على شيء واحد كالحيض والطهر فإنهما مدلولا القرء ولا يجوز اجتماعهما أبدا في زمن واحد.
والثاني: أن يتواصلا فإما أن يكون أحد المعنيين جزءا للآخر أو لازما له.
الأول: كالإمكان العام مع الإمكان الخاص فإن لفظ الإمكان موضوع لهما والإمكان العام جزء للإمكان الخاص لأن الإمكان العام سلب الضرورة المطلقة عن الطرف المخالف للحكم والإمكان الخاص سلب الضرورة المطلقة عن الطرفين الموافق للحكم والمخالف له.
فإذا قلنا كل ج ب بالإمكان العام يكون معناه أن سلب المحمول الذي هو كل ج عن الموضوع الذي هو ب غير ضروري.
وإذا قلنا كل ج ب بالإمكان الخاص فمعناه أن ثبوت المحمول للموضوع وسلبه عنه غير ضروري وإذا عرفت ذلك علمت أن الإمكان العام جزء من الإمكان الخاص بالضرورة لأن سلب الضرورة عن أحد الطرفين جزء من سلب الضرورة عن الطرفين جميعا.
والثاني: أن يكون لازما له ومثل له في الكتاب بلفظ الشمس فإنه موضوع لجرم الكوكب ولضوئه وضوء الكوكب لازم لجرمه ومن أمثلته أيضا الكلام فإنه عند المحققين مشترك بين النفساني واللساني مع أن اللساني دليل على النفساني والدليل يستلزم المدلول فيصدق أنه مشترك بين الشيء ولازمه(11/352)
ص -255-…قال الرابعة جوز الشافعي رحمه الله والقاضيان وأبو علي إعمال المشترك في جميع مفهوماته الغير المتضادة ومنعه أبو هاشم والكرخي والبصري والإمام.
اختلف أهل العلم في صحة إطلاق اللفظة الواحدة من متكلم واحد في وقت واحد إذا كانت مشتركا بين معنيين على المعنيين معا فذهب الشافعي رضي الله عنه والقاضيان أبو بكر الباقلاني وعبد الجبار بن أحمد وأبو علي الجبائي إلى صحة ذلك بطريق الحقيقة بشرط ألا يمتنع الجمع لأمر خارج كما في الضدين والنقيضين وإلى هذا أشار المصنف بقوله الغير المتضادة أي أنه ليس محل الخلاف في المتضادة وإدخال الألف واللام على غير ليس بشائع ولم يتعرض المصنف للنقيضين لأن الإمام زعم أنه لا يجوز أن يكون اللفظ مشتركا بين الشيء ونقيضه وقد مثل لذلك بلفظة إلى على رأي من زعم أنها مشتركة بين إدخال الغاية وعدمه وما استدل به المانع من أن اللفظ المشترك لا يفيد إلا التردد بين مفهوميه والتردد حاصل قبل وضع اللفظ له وسماعه فيكون وضع اللفظ لهما عبثا ضعيف لأنا نمنع حصر الفائدة فيما ذكره من التردد بين هذا لأنه كما يفيد التردد [بين]1 مفهوميه يفيد أيضا إخراج ما عداهما عن أن يكون مراد المتكلم ألا ترى أن قوله تعالى: {إِلَى الْمَرَافِقِ}2 كما يفيد التردد بين دخول المرفق وعدمه على تقدير أن يكون مشتركا بينهما يفيد أيضا إخراج العضد عن الأمر بالغسل فدعوى أن الوضع لهما عبث عارية عن التحقيق ما لا يحصل قبله وهو تعين أحدهما بأدنى قرينة حالية أو مقالية بخلاف ما قبل الوضع فإنه لا يزول التردد بذلك سلمنا صحة الدليل لكن إن كان الواضع الله تعالى فلا تعلل ولعل فيه فائدة لم نطلع على غامض سرها وإن كان العباد فالدليل إنما ينفي ما يكون مشتركا بينهما بوضع قبيلة واحدة لا ما يحصل بوضع قبيلتين وأما المتضادة فمثل بعضهم لها بالقرء وهو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفين ساقط من الأصل.(11/353)
2 سورة المائدة آية: 6 وهي قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ....} الآية.(11/354)
ص -256-…فاسد لأن الشارع إذ قال اعتدى بقرء لم يمتنع أن تعتد بالطهر والحيضة وإن كان ضدين في نفسهما والمثال الصحيح لذلك صيغة أفعل عند من يجعلها حقيقة في الطلب وفي التهديد فإنها مشتركة إذن بين معنيين متضادين لا يمكن الجمع بينهما ولا الحمل عليهما وقد يمثل له بما إذا قال اعتدى بقرء في خمسة عشر يوما هذا أحد المذاهب في المسألة أعني أنه يجوز استعمال اللفظ المشترك في معنييه بشرط ألا يكون الضدين ولا نقيضين وهو المختار عند المصنف.
وذهب أبو هاشم والكرخي وأبو الحسين البصري والإمام فخر الدين وغيرهم إلى امتناع ذلك.
ثم اختلف المانعون في سبب المنع فمن قائل سبب المنع أمر يرجع إلى القصد أي لا يصح أن يقصد باللفظ المشترك جميع مفهوماته من حيث اللغة لا حقيقة ولا مجازا ولكنه يمكن أن يقصد باللفظ الدلالة على المعنيين جميعا بالمرة الواحدة ويكون قد خالف الوضع اللغوي وابتدأ بوضع جديد ولكل أحد أن يطلق لفظا ويريد به ما شاء.
وهذا ما ذهب إليه الغزالي وأبو الحسين البصري واختاره الإمام ومن قائل سببه الوضع الحقيقي أي أن الواضع لم يضع اللفظ المشترك على الجميع بل على البدل فلا يصح إطلاقه بطريق الحقيقة على الجميع ولكن يجوز أن يراد به جميع محامله على جهة مجاز إذا اتصل بقرينة مشيرة بذلك وهذا ما اختاره ابن الحاجب.
وقال إمام الحرمين ما نصه الذي أراه في اللفظ المشترك إذا ورد مطلقا لم يحمل في موجب الإطلاق على المحاصل فإنه صالح لإفادة آحاد المعاني على البدل ولم يوضع مشعرا بالاحتواء عليها وادعاء إشعاره بالجميع بعيد عن التحصيل وهذا القول يجري في الحقائق وجهات المجاز.
فإن قيل أيجوز أن يراد به جميع محامله؟.
قلنا لا يمتنع ذلك مع قرينة متصلة مشعرة بذلك مثل أن يذكر الذاكر محامل العين فيذكر بعض الحاضرين لفظ العين ويتبين من حاله أنه يريد(11/355)
ص -257-…تطبيقه على ما جرى انتهى وهو محتمل لكل من المقالتين المتقدمتين وسياقه إلى اختيار الغزالي وأبي الحسين أقرب ومنهم من منع من ذلك مطلقا وقال لا يجوز أن يراد باللفظ المشترك أكثر من معنى واحد في حالة واحدة لا لغة ولا وضعا جديدا ثم عند المجوزين لا فرق بين المفرد والمجموع والمثبت والمنفي ومنهم من فرق وسيأتي في كلام المصنف في آخر المسألة إن شاء الله تعالى وهنا كلامان نذكرهما قبل الخوض في الحجاج:
أحدهما: أن هذا الخلاف في استعمال اللفظ المشترك في معنييه جار في استعماله في مجازيه مثل أن يقول والله لا أشتري ويريد الصوم وشراء الوكيل كما صرح به الإمام أبو المظفر السمعاني1 في القواطع وغيره وفي حقيقته ومجازه مثل أن يطلق النكاح ويريد به العقد والوطء جميعا وقد جرى الشافعي على منوال واحد فجوز استعمال اللفظ في حقيقته وفي حقيقته ومجازه وحمله عند الإطلاق عليهما وأخرج ابن الرفعة نصه على ذلك من الأم عند الكلام فيما إذا عقد لرجلين على امرأة ولم يعلم السابق منهما ذكر ذلك في باب الوصية من المطلب.
وأما القاضي رحمه الله فعظم نكيره على من يرى الحمل على الحقيقة والمجاز جميعا وقال في تحقيق إنكاره اللفظ إنما يكون حقيقة إذا انطبقت على ما وضعت له في أهل اللسان وإنما يصير مجازا إذا تجوز بها عن مقتضى الوضع ويحيل الجمع بين الحقيقة والمجاز محاولة الجمع بين النقيضين وهذا من القاضي تصريح بأنه لا يجوز أن يراد باللفظ الواحد حقيقته ومجازه معا لما يلزم منه من الجمع بين النقيضين.
الثاني: أن محل الخلاف في استعمال اللفظ في كل معانيه إنما هو في الكلي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو منصور بن محمد بن عبد الجبار بن حمد المروزي السمعاني الحنفي ثم الشافعي أبو المظفر من العلماء بالتفسير والحديث.
من مؤلفاته تفسير القرآن الكريم القواطع في أصول الفقه. توفي سنة 389 هـ.
مفتاح السعادة 2/191 الأعلام 8/242.(11/356)
ص -258-…العددي أي في كل فرد فرد وذلك بأن يجعله يدل على كل منهما على حدته بالمطابقة في الحالة التي يدل على المعنى الآخر بها وليس المراد الكلي المجموعي أي يجعل مجموع المعنيين مدلولا مطابقيا كدلالة الخمسة على آحادها ولا الكلي البدلي أي يجعل كل واحد مدلولا مطابقيا على البدل ذكره صاحب التحصيل1.
وقال الأصفهاني في شرح المحصول أنه رأى في تصنيف آخر لصاحب التحصيل أن الأظهر من كلام الأئمة أن الخلاف في الكلي المجموعي فإن أكثرهم صرحوا بأن المشترك عند الشافعي كالعام كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
قال لنا الوقوع في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} وهي من الله مغفرة ومن غيره استغفار قيل الضمير متعدد فيتعدد الفعل قلنا معنى لا لفظا وهو المدعي.
استدل على جواز استعمال اللفظ المشترك في معنييه في وقوعه في آيتين إحداهما قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}2 فإن الصلاة من الله تعالى المغفرة بالاتفاق ومن الملائكة الاستغفار وهما مفهومان متغايران فيكون لفظ الصلاة مشتركا بينهما وقد أطلق عليهما دفعة واحدة فإنه أسندها إلى الله تعالى وإلى الملائكة.
فإن قلت لو كان معنى الصلاة المغفرة والاستغفار لم يعد بعلي لأنهما لا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صاحب التحصيل هو سراج الدين محمود بن أبي بكر الأرموي المتوفي سنة 582 هـ وكتابه التحصيل مختصر لكتاب المحصول في أصول الفقه للإمام فخر الدين بن عمر الرازي المتوفي سنة 606 هـ.
وعلى كتاب التحصيل شرح في ثلاثة مجلدات للإمام محمد بن يوسف الجزري المتوفى سنة 711 هـ مخطوط ولكني لم أعثر عليه بعد البحث والتدقيق.
بغية الوعاة 1/278 الدرر الكامنة 5/67.
2 سورة الأحزاب آية: 56.(11/357)
ص -259-…يعديان إلا باللام تقول غفرت لزيد واستغفرت له ولا تقول غفرت عليه واستغفرت عليه قلت لما وقعت موقع التعطف والتحنن حسن تعديتها بعلي.
وأعلم أن وقع في بعض نسخ المنهاج والصلاة من الله مغفرة كما أوردناه وهو الذي أورده الغزالي وفي بعضها رحمة وكذلك ذكر الإمام والتعبير بمغفرة أحسن لأن الصلاة في اللغة الدعاء بخير وهو محال من الله تعالى فحمل على المغفرة وأما حمله على الرحمة فغير ممكن لأن حقيقة الرحمة رقة القلب وهي مستحيلة في حق الله تعالى ولا يطلب عليه إلا مجازا ومن فسر الصلاة بالرحمة فرارا من تفسيرها بالدعاء وقع في هذا الخطأ العظيم وصار كمن فسر قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}1 بمعنى جلس فإنه فسر شيئا ظاهره محال بالمحال ولقائل أن يقول إذا كانت حقيقة الصلاة الدعاء فاستعمالها في المغفرة والرحمة مجاز فيكون الموجود في الآية استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه لا في حقيقته والمحتجون بالآية إنما ساقوها لاستعمال المشترك في معنييه نعم يلزم من جوازه في حقيقته ومجازه جوازه في حقيقته.
واعترض المانعون على هذا الاحتجاج بأن قوله يصلون فيه ضميران:
أحدهما: عائد على الله تعالى.(11/358)
والثاني: عائد إلى الملائكة وتعدد الضمائر بمنزلة تعدد الأفعال فكأنه قال إن الله يصلي والملائكة يصلون فلا يكون حينئذ استعمل اللفظ الواحد في معنييه بل استعمل لفظين في معنيين وليس النزاع فيه وأجاب في الكتاب بأن الفعل لم يتعدد في اللفظ قطعا وإنما تعدد في المعنى فاللفظ واحد والمعنى متعدد وذلك عين الدعوى واعترض الغزالي على هذا الاحتجاج بجواز أن يكون الصلاة استعملت في قدر مشترك بين المغفرة والاستغفار وهو الاعتناء وإظهار الشرف فقال الأظهر عندنا أن هذا إنما أطلق على المعنيين بإزاء معنى واحد مشترك بين المعنيين وهو العناية بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لشرفه وحرمته والعناية من الله تعالى مغفرة ومن الملائكة استغفار ودعاء قال وكذلك العذر عن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة طه آية: 5.(11/359)
ص -260-…السجود يعني في الآية الثانية التي سنذكرها إن شاء الله تعالى وقد أجيب عن هذا الاعتراض بأن إطلاق الصلاة على الاعتناء مجاز لعدم تبادر الذهن إليه والأصل عدم المجاز.
فإن قلت لو لم تحمله على الاعتناء لزم إما الاشتراك أو المجاز وإذا دار اللفظ بين التواطئ وبين الاشتراك والمجاز فحمله على التواطئ أولى.
قلت إنما يكون التواطؤ أولى إذا دار اللفظ بين الثلاثة من غير دليل مقتض لأحدهما بخصوصه أما إذا دل دليل على الاشتراك أو المجاز بخصوصه فيتعين وقد دل الدليل هنا على أن الصلاة مشتركة بين المغفرة والاستغفار لتبادر الذهن إليه عند الإطلاق.
فإن قلت سلمنا أنه غير موضوع للاعتناء بإظهار الشرف وأن استعماله فيه إنما هو بطريق المجاز ولكن المجاز أولى من الاشتراك فليحمل عليه.
قلت هذه مغالطة فإن الحمل على الاعتناء لم يدفع الاشتراك إذ الاشتراك ثابت فيه لما بيناه سواء حملناه على الاعتناء أم لم نحمله نعم لو حملناه عليه لزم حمل اللفظ المشترك على مفهومه المجازي واعترض على الاحتجاج بالآية أبضا بأنه يجوز أن يكون قد حذف الخبر للقرينة كقوله نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف ويكون أصله أن الله يصلي وملائكته يصلون وأجيب بأن الإضمار خلاف الأصل وهذا الجواب لا يحسن ممن يقول الحمل على الجميع بطريق المجاز فإنه يعترض عليه بأن الحمل على المجموع مجاز وهذا مجاز فلم رجح أحد المجازين على الآخر.
قال وفي قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ} الآية قيل حرف العطف بمثابة العامل قلنا إن سلم فبمثابته في العمل بعينه.
الآية الثانية قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ}1 وجه الاحتجاج أنه أسند السجود إلى هؤلاء المذكورين والسجود(11/360)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحج آية: 18.(11/361)
ص -261-…مشترك بين وضع الجبهة والخضوع فإما أن يراد به معنى غيرهما أو وضع الجبهة وحده أو الخضوع وحده أو يرادا معا والكل باطل سوى القسم الرابع.
فالأول: لكونه خلاف الأصل إذ الأصل عدمه.
والثاني: كذلك لامتناع إسناده إلى كل واحد.
والثالث: كذلك لأنه حينئذ لا يبقى لتخصيص كثير من الناس بالذكر.
فائدة إذ الخضوع شامل لجميع المخلوقات فإنها خاضعة بلسان الحال لما فيها من الدلالة على الصانع والوحدانية فتعين الرابع وحينئذ يكون اللفظ الواحد مستعملا في مدلوليه المختلفين دفعة واحدة وهو المدعي واعترض الاحتجاج بهذا بأنا لا نسلم أن هذا استعمال للفظ الواحد في معانيه إنما هو استعمال ألفاظ متعددة لأن حرف العطف بمثابة تكرار العامل فيكون التقدير أن الله يسجد له من في السموات ويسجد له من في الأرض إلى آخره ولا نزاع في جواز ذلك وأجاب عنه المصنف بأنا أولا لا نسلم أن حرف العطف بمثابة العامل ولئن سلمنا أن العاطف بمثابة العامل فيلزم على هذا التقدير أن يكون بمثابة العامل الأزل بعينه وهو هنا باطل لأنه يلزم أن يكون المراد من سجود الشمس والقمر والجبال والشجر هو وضع الجبهة لأنه مدلول الأول وفي بعض النسخ بمثابته في العمل أي يقوم مقامه في الإعراب لا في المعنى.
قيل يحتمل وضعه للمجموع أيضا فالأعمال في البعض قلنا فيكون المجموع مستندا إلى كل واحد وهو باطل.
هذا اعتراض على الاحتجاج بالآيتين المذكورتين ووجهه أنه لا حجة فيما استدللتم به لأنه يحتمل أن يكون استعمال الصلاة والسجود في المجموع إنما هو لكون اللفظ قد وضع له أيضا كما وضع للآخر أو بل نقول لا بد من هذا وإلا فيكون اللفظ قد استعمل في غير ما وضع له وحينئذ فيكون السجود موضوعا لثلاثة معان للخضوع منفردا ولوضع الجهة منفردا ولمجموعها وعلى هذا التقدير يكون إعمال اللفظ في المجموع إعمالا له في بعض ما وضع له وهو(11/362)
ص -262-…خلاف المدعى وأجاب بأنه لو كان كذلك للزم أن يكون المغفرة والاستغفار مستندا إلى كل واحد من الله تعالى والملائكة وهو واضح البطلان ويلزم أيضا أن يكون معنى السجود الذي هو وضع الجهة على الأرض والخضوع مستندا إلى الداوب وهو باطب وفيه نظر فإن هذا الذي ذكره إنما يلزم أن لو أسند المجموع إلى واحد فقط أما إذا استعمل في بعض المعاني مع اتحاد المستند إليه مثل الطير يسجد بمعنى يخشع أو في المجموع مع تعدد المستند إليه ليرجع كل واحد إلى واحد فلا يلزم هذا المحذور والدليلان المذكوران من هذا القبيل.
فالأولى: الجواب أن يمنع وضعه للمجموع وسند المنع أنه خلاف الأصل إذ يلزم منه الاشتراك لأنه يكون موضوعا لكل فرد وللمجموع والاشتراك على خلاف الأصل.
قال احتج المانع بأن الواضع إن لم يضع للمجموع لم يجز استعماله فيه قلنا لم لا يكفي الوضع لكل واحد للاستعمال في الجميع.
احتج من منع استعمال اللفظ في حقيقتيه معا بأن اللفظ الموضوع لهما إما أن يكون موضوعا لمجموع المعنيين معا أيضا أولا.(11/363)
إن كان الأول فاستعمال اللفظ في المجموع يكون استعمالا له في جميع ما وضع له بل في البعض لأن مدلول اللفظ حينئذ هذا وهذا وحده ومجموعها من حيث هو مجموع بعض ما وضع له وإن كان الثاني لم يجز استعماله لأنه حينئذ يكون استعمالا للفظ في غير ما وضع له وأجاب في الكتاب بأنا لا نسلم أنه لو لم يكن موضوعا للمجموع لم يجز استعماله فيه بل يكون الوضع لكل واحد كافيا في الاستعمال في المجموع مجازا ولكن في هذا الجواب التزام أن استعمال المشترك في معنييه من باب المجاز فلا يحسن ممن يجعله حقيقة ويمكن تقدير الجواب على وجه آخر فيقال الوضع لكل واحد كاف لاستعماله في الجميع ويكون ذلك على الاستعمال استعمالا له فيما وضع له لأن كل واحد من تلك المعاني قد وضع له ذلك اللفظ ولا يلزم من استعماله في المجموع اشتراط الوضع للمجموع وإنما يشترط ذلك أن لو كان المراد أنه يكون مستعملا في(11/364)
ص -263-…المجموع بحيث يكون المجموع مدلولا مطابقيا واحدا كدلالة الخمسة على آحادها ولكن ليس ذلك المدعى وهذا التقرير بناء على ما قاله صاحب التحصيل من حصر الخلاف في الكلي العددي.
قال ومن المانعين من جوز في الجميع والسلب والفرق ضعيف.
ليس كل من منع استعمال المشترك في معنييه منع مطلقا بل منهم من أطلق منعه وقد تقدم البحث معه ومنهم من فرق وافترق هؤلاء إلى فرقتين:
الفرقة الأولى: فرقت بين النفي والإثبات فقالت يجوز استعمال المشترك في معنييه في السلب دون الإثبات واحتجوا بأن النكرة في سياق النفي تعم فيجوز أن يراد به مدلولاته المختلفة وأجيب بأن هذا الفرق ضعيف لأن السلب لا يرفع إلا ما هو مقتضى الإثبات ومقتضى الإثبات عند هذا القائل أحد المدلولات المختلفة فقط فحينئذ لا يعم السلب والجمع فإن أردتم بعمومه أنه يعم مدلولات اللفظ ففاسد لما ذكرناه وإن أردتم أنه يعم في إفراد مدلول واحد لا في إفراده المدلولات المختلفة فمسلم ولا يجديكم شيئا.
الفرقة الثانية: قالت بجوازه في الجمع دون المفرد واحتجوا بأن الجمع في حكم تعديد الأفراد فقولك ثلاثة عيون في قوة قولك عين وعين وعين فكلما يجوز أن تريد بالأول الجارية مثلا وبالثانية الباصرة وبالثالثة عين الشمس فكذا في الجمع وأجاب بأن هذا الفرق ضعيف لأنا لا نسلم أن الجمع في حكم تعديد الأفراد ولو سلمناه لكنه في حكم تعديد الأفراد نوع واحد كما علم من استقراء اللغة فكما لا يجوز استعمال تلك المفردات في المعاني المختلفة فكذلك استعمال الجمع.
واعلم أن التثنية عند هذا المفصل ملحقة بالجمع والله أعلم.
قال ونقل عن الشافعي والقاضي الوجوب حيث لا قرينة احتياطا.
الفرق بين الوضع والاستعمال والحمل بين وذلك أن الوضع يقال بالاشتراك على جعل اللفظ دليلا على المعنى كتسمية الولد زيدا وهذا هو(11/365)
ص -264-…الوضع اللغوي وعلى غلبة استعمال اللفظ في المعنى حتى يصير فيه أشهر من غيره وهذا هو وضع المنقولات الثلاثة الشرعية والعرفيين الخاص والعام والاستعمال إطلاق اللفظ وإرادة مسماه بالحكم وهو الحقيقة أو غير مسماة لعلاقة وهو المجاز والحمل اعتقاد السامع مراد المتكلم من لفظه أو ما اشتمل على مراده فالمراد كاعتقاد الشافعي أن الله تعالى أراد بالقرء الطهر واعتقاد أبي حنيفة أنه تعالى أراد الحيض المشتمل نحو حمل من يحمل المشترك على معانيه إذا تجرد عن القرائن لاشتماله على مراد المتكلم احتياطا.
إذا عرفت ذلك فالوضع أمر راجح إلى الواضع وقد سلفه الكلام في وضع المشترك والاستعمال من صفات المتكلم وهو الذي انتهينا من كلامه والحمل من صفات السامع وها نحن نتكلم فيه فنقول:
اختلف مستعملو المشترك في معنييه أنه هل يجب حمله على ذلك إذا تجرد عن قرينة صارفة فنقل عن الشافعي والقاضي وجوب ذلك ونقله الإمام في مناقب الشافعي عن القاضي عبد الجبار أيضا والمصنف في باب العموم في الكلام على الجمع عن الجبائي فافهم ذلك وحجتهم أن لو لم يجب فإما ألا يحتمل على واحد منها ويلزم تعطيل النص أو يحمل على واحد وهو ترجيح بدون مرجح.
وقال بعضهم: لا يجب الحمل ويكون مجملا وبه قال الإمام تفريعا على القول بجواز الاستعمال واحتج عليه بأنه إن لم يكن موضوعا للمجموع لم يجز استعماله فيه وإن كان موضوعا له فهو أيضا موضوعا لكل من الأفراد فاللفظ دائن بين كل واحد من الفردين وبين المجموع فيكون الجزم بإفادته للمجموع دون كل واحد من الفردين ترجيحا من غير مرجح.
فإن قلت حمله على المجموع أحوط فيجب الأخذ به.
قلت الأخذ بالاحتياط سنتكلم عليه هذا كلام الإمام واعترض عليه صاحب التحصيل بأن هذا ينفي جواز الاستعمال فالتمسك به على نفي الوجوب تفريعا على الجواز لا يستقيم بقي في المسألة أن وجوب الحمل عند القائل به هل(11/366)
ص -265-…هو للاحتياط أو لأنه عنده من باب العموم اضطرب النقل فيه فمن ناقل أنه من باب الاحتياط وعليه جرى في الكتاب ومن ناقل أنه عندهم من باب العموم وبه يشعر إيراد إمام الحرمين فإنه صدر كلامه بقوله ذهب ذاهبون من أصحاب العموم إلى أنه محمول على جميع معانيه وعليه جرى الغزالي فقال الإسم المشترك بين مسميين لا يمكن دعوى العموم فيه عندنا خلافا للشافعي والقاضي وتبعه الآمدي وقد قدمنا أن القاضي فصل بين الحقيقة والمجاز فلم يقل بالجملة فيها وبين المشترك فقال بالحمل فيه ويحصل بهذا التفصيل في الحمل مذاهب.
أحدها: حمل اللفظ على معنييه سواء كان أحدهما مجازا أم كانا حقيقتين وهو رأي الشافعي.
والثاني: عكسه.
والثالث: التفصيل وهو رأي القاضي وهل هو للاحتياطي أو للعموم فيه هذا الخلاف والمختار عندنا أنه للاحتياط وكيف يكون من باب العموم ومسمى العموم واحد والمشترك مسمياته متعددة وأيضا فالمشترك يجب أن يكون أفراده متناهية ولا كذلك العام وأما ما يقال كيف يحسن من القاضي جعل الحمل من باب العموم وهو من منكري صيغ العموم فجوابه أنه إنما ينكر وضعها للعموم ولا ينكر استعمالها والله أعلم ونختم المسألة بفوائد:
أحداها: قد علمت نقل الناقلين عن الشافعي في استعمال اللفظ معنييه وحمله عند الإطلاق عليهما.
وقد قال الرافعي في باب التدبير الأشبه أن اللفظ المشترك لا يراد به جميع معانيه ولا يحمل عند الإطلاق على جميعها ذكره في مسألة إن رأيت عينا فأنت حر.
وقال في أوائل الباب الثاني في أحكام الوصية الصحيحة من كتاب الوصايا في مسألة الوصايا بالعود في المسألة يعني هذه نظر للأصوليين فسياق(11/367)
ص -266-…كلامه لا يقتضي أن الشافعي رأى ذلك وكيف وقد جعل الأشبه خلاف ذلك.
وأعلم أن الخلاف في المسألة بين أصحابنا وقد حكى الماوردي في الحاوي في أوائل كتاب الأشربة في المسألة أوجها ثالثها: التفرقة بين الجمع والسلب وقد قدمنا أن الفقيه في المطلب أخرج نص الشافعي على الحقيقة والمجاز فليكن المشترك كذلك بطريق أولى.
الثانية: استدل الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في شرح الإمام لاستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه بحديث الأعرابي الذي بال في المسجد فزجره الناس فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم فلما قضى بوله أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذنوب من ماء فاهريق عليه وذلك بالرواية التي جاء فيها: "صبوا عليه بذنوب من ماء"1 ووجه بأن صيغة الأمر توجهت إلى صب الذنوب والقدر الذي يغمر النجاسة واجب في إزالتها فتناول الصيغة له استعمال اللفظ في حقيقته الوجوب والزائد على ذلك مستحب فتناول الصيغة له استعمال لها في الندب وهو مجاز فيه على الصحيح فقد استعملت صيغة الأمر في حقيقتها ومجازها وهذا بناء على زيادة الذنوب على القدر الواجب.
الثالثة: أطلق الأصوليون الخلاف في الحمل على الحقيقة والمجاز من غير تبين لمحله.
واعلم أن المتكلم إذا ذكر لفظا له حقيقة ومجاز فتارة يقصد الحقيقة فقط فيحمل على الحقيقة وحدها بلا نزاع وتارة يقصد بها المجاز فقط فيحمل عليه وحده بلا خلاف أيضا وكل هذا يظهر بدلائل تقوم عليه من قرائن وألفاظ وتارة يقصد المجاز ويسكت عن الحقيقة أو يقصدهما معا فهذا هو محل النزاع وقد أفهم كلام بعضهم أن الخلاف جار وإن لم يقصد المجاز ولم ينفه وهو في غاية البعد فإن اللفظ لا يحمل على المجاز إلا بقرينة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري وأبو داود وابن ماجه والنسائي وغيرهم.
تيسير الوصول 3/50.(11/368)
ص -267-…الرابعة: يضاهي الخلاف الأصولي في حمل المشترك على معنييه في الفقه صور:
منها لو وقف على مواليه وله موال من أعلى وموال من أسفل فأوجه أرجحها عند الغزالي بطلانه وهو منقدح على رأي من يمنع استعمال المشترك في معنييه.
والثاني: يصح ويصرف إلى الموالي من أعلى.
والثالث: يصح ويقسم بينهم وهو الأصح عند الشيخ أبي إسحاق وشيخه القاضي أي الطيب وفقا لقاعدة الشافعي.
والرابع: يصرف إلى الموالي من أسفل لاطراد العادة بالإحسان إلى العتقاء.
والخامس: الوقف إلى حين يصطلحوا وهو متجه على رأي من يجوز الاستعمال ويمنع الحمل ووجه مضاهاة هذا الفرع للمسألة التي انتهينا منها أن لفظ الموالي مشترك بين الموالي من أعلى والموالي من أسفل فإن قيل بما قاله بعض الأصحاب بأن صدقه عليهما من قبيل التواطؤ وهو الموالاة والمناصرة زالت المضاهاة.
ومنها قال الإمام في باب التدبير من النهاية ونقله الرافعي عنه الرجل إذا قال لعبده إن رأيت عينا فأنت حر والعين اسم مشترك بين الناظرة وعين الماء والدينار وأحد الإخوة من الأب والأم ولم ينو المعلق شيئا فهل يعتق العبد إذا رأى شيئا منها فيه تردد قال والوجه الحكم بأنه يعتق به.
فإن قلت هل لا قلنا لا يعتق إلا برؤية الجميع جزما لأن رأى صاحب المذهب حمل المشترك على معانيه.
قلت كان السبب في عدم الحمل على جميع معانيه أن الصفة في التعليق تتحقق بأول الأفراد فيقع العتق كما لو قال إن دخلت الدار فأنت حر يعتق بأول الدخول في بعضها وإن لم يدخل الجميع.
ومنها إذا أوصى بعود من عيدانه والعود مشترك بين الخشب والذي(11/369)
ص -268-…يضرب به والذي يبخر به فهل يحمل على الجميع بناه الرافعي على الخلاف الأصولي والمسألة تحتاج مزيد بسط ومحل ذلك كتابنا الأشباه والنظائر.
الخامسة: قال الأصحاب إذا قال لها أنت طالق في كل قرء طلقة طلقت في كل طهر طلقة وأصح الوجهين عندهم أن القرء حقيقة في الطهر والحيض.
والثاني: أنها مجاز في الحيض حقيقة في الطهر فقد يقال لم لا طلقت في الطهر واحدة وفي الحيض أخرى وفاء بالأصل المتقدم في حمل اللفظ المطلق على حقيقته أو على حقيقته ومجازه ويمكن أن يقال في جوابه إنه غلب استعماله في الطهر فلم يستعمل في الحيض إلا في قليل مثل قوله عليه السلام: "دعي الصلاة أيام أقرائك"1 فلم يكن اللفظ مع هذا الاستعمال الغالب مطلقا والله أعلم.
قال الخامسة المشترك إن تجرد عن القرينة فمجمل وإن قرن به ما يوجب اعتبار واحد تعين أو أكثر فكذا عند من يجوز الإعمال في معنيين وعند المانع مجمل أو إلغاء البعض فينحصر في الباقي أو الكل فيحمل على المجاز فإن تعارضت حمل على الراجح هو أصله فإن تساويا أو ترجح أحدهما واصل الآخر فمجمل.
اللفظ المشترك على قسمين:
الأول: إن تجرد عن القرينة فقال المصنف إنه مجمل وهذا واضح على رأي من يمنع حمل المشترك على معنييه وعليه نبه الإمام بقوله فهو مجمل لما بينا من امتناع حمله على الكل وأما من يرى الحمل فإن جعله من باب العموم لم يكن عنده مجملا بل محمولا على المعاني التي لا تتضاد وإن جعله من باب الاحتياط فقد يقال لا ينافي الحمل على معنيين لأجل الاحتياط كونه مجملا بالنسبة إلى الواحد المعين ويكون وجوب العمل به في الجميع لأجل الإتيان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي ولفظه: عن عدي بن ثابت عن جده عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال في المستحاضة: "تدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل وتتوضأ عند كل صلاة وتصوم وتصلي".(11/370)
ص -269-…بذلك المعين وهذا هو عين الاحتياط والغرض من هذا أنه لا يؤخذ من كلام المصنف هنا أنه لا يختار الحمل.
القسم الثاني: أن تقترن به قرينة فهو على أربعة أضرب:
الأول: أن توجب تلك القرينة اعتبار واحد معين مثل إن رأيت عينا ناظرة فيتعين حمل ذلك اللفظ على ذلك الواحد قطعا وهذا يناظر ما قال الأصحاب فيما إذا قال أعطوه رقيقا فإنه لا يتعين العبد ولا الأمة ويجزي كل منهما فلو قال رقيقا يقاتل أو يخدم في السفر تعين العبد أو رقيقا يستمع به أو يحضن ولده تعينت الأمة.
الثاني: أن توجب اعتبار أكثر من واحد فيتعين ذلك الأكثر عند من يجوز إعمال المشترك في معنييه وإن لم يوجب الحمل لأن القرينة هنا توجب الحمل قطعا عند من يجوزه والخلاف في أنه هل مجمل إنما هو إذا تجرد عن القرينة ويكون مجملا عند من لا يجوزه.
ومثاله إن رأيت عينا صافية فإن الصفاء مشترك بين الباصرة والجارية والشمس والنقد.
الثالث: أن توجب تلك القرينة إلغاء البعض فينحصر المراد في الباقي أي يتعين ذلك الباقي إن كان واحدا مثل دعي الصلاة أيام أقرائك فإن الأمر بتركها قرينة تلغي الطهر وتوجب الحمل على الحيض وكذا إن كان أكثر عند من يجوز الإعمال في معنيين وأما عند المانع فمجمل.
الرابع: وإليه الإشارة بقوله أو الكل فيحمل على مجازه فإن كان ذا مجازات كثيرة وتعارضت فهي إما متساوية أو بعضها راجح فإن كان بعضها راجحا فالحقائق إما متساوية أو بعضها أجلى فإن كانت متساوية حمل على المجاز الراجح وإليه أشار بقوله حمل على الراجح هو أو أصله ومثال هذا القرء فإنه حقيقة لغوية متساوية بالنسبة إلى مدلوليه اللذين هما الطهر والحيض والحيض لغة دم يسيل من رحم المرأة من غير ولادة والطهر ضده وفي الاصطلاح الحيض دم يسيل من الرحم بعد تسع سنين أقله يوم وليلة(11/371)
ص -270-…وأكثره خمسة عشر يوما وإطلاقه على ما عدا ذلك مجاز عن المعنى الاصطلاحي والطهر هو النقاء المحتوش بدمين وإطلاقه على الصغيرة والآيسة مجاز عن هذا فطهر أن إطلاق الحيض والطهر بالحقيقة اللغوية أعم منه بالاصطلاحية فلو قال لها أنت طالق في قرء وليس هو القرء الإصطلاحي انقدح أن يقال تطلق الآيسة والصغيرة دون المستحاضة ومن رأت دما دون يوم وليلة لغلبة إطلاق الطاهر عليهما وكثرته وقلة إطلاق الحيض على المستحاضة ومن رأت دما دون يوم وليلة والمجاز يرجح على نظيره بمثل هذا وإن لم تكن الحقائق متساوية بل كان بعضها أجلي فالأجلي إن كان حقيقة ذلك المجاز الراجح حمل عليه وهذا أيضا يفهم من قول المصنف حمل على الراجح هو أو من قوله: أو أصله ومثاله ما ذكرناه من القرء إذ قلنا بأنه أجلى بالنسبة إلى الطهر ولم نقل بأنهما متساويان فإنه إذا قال أنت طالق في قرء ليس بطهر ولا حيض بالحقيقة الإصطلاحية يقع التعارض بين مجازي الحقيقتين فيحمل على مجاز الطهر الاصطلاحي لرجحان أصله وإن لم يكن الأصلي حقيقة ذلك الراجح فهو مجمل لاختصاص كل واحد من المجازين بجهة ترجحه إذ أحدهما راجح وأصله غير جلي والآخر بالعكس وإلى هذا القسم أشار بقوله أو ترجح أحدهما وأصل الآخر فمجمل ومثاله لا يخفى مما تقدم وهذا على تقدير أن يكون بعض المجازات راجحا وأما إن تساوت المجازات فإن كان بعض الحقائق أجلى حمل عليه وإن لم يكن بعضها أجلى فمجمل وأشار إلى هذا بقوله فإن تساويا(11/372)
ص -271-…الفصل السادس في الحقيقة والمجاز
قال الفصل السادس في الحقيقة والمجاز:
الحقيقة فعلية من الحق بمعنى الثابت أو المثبت نقل إلى العقد المطابق ثم إلى القول المطابق ثم إلى اللفظ المستعمل فيما وضع له في اصطلاح التخاطب والتاء لنقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية.
قدم على الكلام في مسائل الفصل مقدمة في الكلام على لفظي الحقيقة والمجاز ومعناهما لغة واصطلاحا.
والمقصد الأعظم أن إطلاق لفظ الحقيقة والمجاز على المعنى المصطلح بين الأصوليين إنما هو على سبيل المجاز فأما الحقيقة فوزنها فعلية اشتقت من الحق إما بمعنى الفاعل من حق الشيء يحق بالضم والكسر إذا أوجب وثبت فمعناه الثابت وإما بمعنى المعقول من حققت الشيء أحقه إذا أثبته فمعناه المثبت ثم إن الحقيقة نقلت من معنى الثابت أو المثبت إلى الاعتقاد المطابق للواقع والعلاقة ثبوته وتقرره ثم نقلت من الاعتقاد المطابق إلى اللفظ المستعمل فيما وضع له في اصطلاح التخاطب.
قال الإمام لأن في استعماله فيما وضع له تحقيقا لذلك الوضع قال فظهر أن إطلاق لفظ الحقيقة على هذا المعنى المعروف ليس حقيقة لغوية بل مجازا واقعا في الرتبة الثالثة نعم هو حقيقة عرفية ولقائل أن يقول الحق في اللغة موضوع للقدر المشترك بين الجميع وهو الثبوت قال الله تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّتْ(11/373)
ص -272-…كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ}1 أي ثبتت وهو من أسمائه تعالى بهذا الاعتبار لأن الثابت أزلا وأبدا لذاته بخلاف غيره من الموجودات ويقال الحق لما يقابل الباطل لأنه جدير بالثبوت كما أن الباطل جدير بالزهوق وإذا كان موضوعا للقدر المشترك فهو موجود في الجميع سلمنا أنه ليس موضوعا للقدر المشترك لكنا لا نسلم أن كل مجاز مأخوذ مما قبله حتى يكون مجازا واقعا في الرتبة الثالثة بل كان مأخوذا من الحقيقة بعلاقة معتبرة وقد علمت تعريف الحقيقة فقوله اللفظ جنس.
وقد قلنا غير مرة إنه جنس بعيد وأن الأحسن أن يأتي بالقول.
وقوله المستعمل يخرج به اللفظ الموضوع قبل الاستعمال فإنه ليس بحقيقة ولا مجاز كما ستعرفه إن شاء الله تعالى.
ويخرج أيضا المهمل وقوله فيما وضع له يخرج به المجاز فإنه مستعمل في غير ما وضع له ولك أن تقول المجاز موضوع فلا يخرج بهذا الفصل وإنما يخرج لو قال وضعا أولا وهو لا يمكنه أن يزيد هذا القيد مخافة أن يورد عليه الحقيقة الشرعية والعرفية لأنهما من غير وضع أول.
وقوله في اصطلاح التخاطب يدخل الحقيقتين الشرعية والعرفية ولقائل أن يقول إن الفصول لا تكون للإدخال وأن الحد غير مانع لصدقه على العلم مع أنه ليس بحقيقة ولا مجاز لدخول المجاز فيه كما عرفت.
قوله والتاء إلى آخره هذا جواب عن سؤال مقدر وتقديره أن يقال إذا كانت الحقيقة بمعنى المثبت فينبغي أن تكون مجردة عن تاء التأنيث لأن فعيلا إذا كان بمعنى مفعول فقياسه أن يسوى فيه بين المذكر والمؤنث تقول رجل جريح وامرأة جريح ورجل قتيل وامرأة قتيل وجوابه أن الحقيقة وإن كانت صفة في الأصل إلا أن الاسمية غلبت عليها وتركت وصفيتها ألا ترى أنك تقول كلمة حقيقة ولفظة حقيقة فإنما جئ بالتاء لذلك وفعيل إنما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزمر آية: 71.(11/374)
ص -273-…يسوي فيه بين المذكر والمؤنث إذا كان باقيا على وصفيته مستعملا مع موصوفه استغناء بتأنيث الموصوف على تأنيثه وأما إذا غلبت عليها الاسمية وقطعت عن الموصوف فقياسه أن يدخل التاء فيه إذا قصد به المؤنث كما يقال أكيلة ونطيحة ويجوز أن يقال دخول التاء فيه علامة لنقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية وهو أقرب إلى لفظ الكتاب إلا أنه مدخول فإنه لا دلالة للتاء على النقل.
قال والمجاز مفعل من الجواز بمعنى العبور وهو المصدر أو المكان نقل إلى الفاعل ثم إلى اللفظ المستعمل في معنى غير موضوع له يناسب المصطلح.
إطلاق لفظ المجاز على المعنى المصطلح عليه بين إلا أنه مجاز لغوي حقيقة عرفية وذلك لأن المجاز مشتق من الجواز والجواز معناه التعدي والعبور تقول جزت الدار أي عبرتها ووزن المجاز مفعل لأن أصله مجوز فقلبت واوه ألفا بعد نقل حركتها إلى الجيم والمفعل يستعمل حقيقة في الزمان والمكان والمصدر تقول قعدت مقعد زيد وتريد قعوده أو زمان قعوده أو مكان قعوده فيكون لفظة المجاز في الأصل حقيقة إما في المصدر الذي هو الجواز وإما في مكان التجوز أو زمانه ونقل لفظ المجاز من ذلك إلى الفاعل وهو الجائز أعني المنتقل لما بينهما من العلاقة والعلاقة إن نقل من المصدر هي الجزئية لأن المشتق منه جزء من المشتق كقولك هذا رجل عدل أي عادل وإن نقل من المجاز المستعمل في المكان فهي إطلاق اسم المحل وإرادة الحال مثل سال الوادي.
وأما المجاز المستعمل في الزمان فقد ترك المصنف ذكره كأنه للجزم بأن الجازم غير مأخوذ منه إذ لا علاقة بينهما ثم الجائز حقيقة إنما يطلق على الأجسام إذ الجواز الانتقال من حين إلى حين وأما اللفظ فعرض يمتنع عليه الانتقال فنقل لفظ المجاز من معنى الجائز إلى المعنى المصطلح.
قال صاحب الكتاب وهو اللفظ المستعمل في معنى غير موضوع له يناسب المصطلح وإطلاقه على هذا المعنى على سبيل التشبيه فإن تعدية اللفظ من معنى(11/375)
ص -274-…إلى معنى كالجائز يتعدى من مكان إلى مكان فيكون إطلاق لفظ المجاز على المعنى للمصطلح مجازا في المرتبة الثانية حقيقة عرفية.
وقوله اللفظ المستعمل قد عرفت شرحهما فيما سبق.
وقوله في معنى غير موضوع له يخرج الحقيقة ويقتضي أن المجاز غير موضوع وكان الأحسن أن يزيد بوضع أول.
وقوله يناسب المصطلح أشار به إلى فوائد.
إحداها: أن يشمل الحد كل مجاز من شرعي وعرفي عام وخاص ولغوي فإن الاصطلاح أعم من أن يكون بالشرع أو العرف أو اللغة.
والثانية: أن ينبه على اشتراط العلاقة في المجاز.
والثالثة: أن يحترز عن العلم المنقول مثل بكر وكلب فإنه ليس بمجاز لأنه لم ينقل لعلاقة والله أعلم.
قال وفيه مسائل:
الأولى: الحقيقة اللغوية موجودة وكذا العرفية العامة كالدابة ونحوها والخاصة كالقلب والنقض والفرق والجمع.
الحقيقة متعددة بلا خلاف وإلى ما تتعدد فيه اختلاف فقال قائلون إلى ثلاثة اللغوية والعرفية بنوعيها والشرعية.
واقل آخرون الأوليين فقط وقد علمت من هذا الاتفاق على إمكان اللغوية والعرفية وأما الوجود فلا نزاع في وجود اللغوية وكيف ولا شك في وجود ألفاظ مستعملة في معان وذلك إن كان بالوضع فقد حصل الغرض وإلا فيلزم أن يكون مجازا فيها وهو باطل لأن شرط المجاز حصول المناسبة الخاصة بين الموضوع الأصلي والمعنى المجازي وذلك لا يمكن إلا بعد ثبوت الموضوع الأصلي.
وأما العرفية فاعلم أولا أن اللفظة العرفية هي التي نقلت عن موضوعها(11/376)
ص -275-…الأصلي إلى غيره بعرف الاستعمال وهي منقسمة إلى خاصة وعامة بحسب الناقلين فإن كان الناقل طائفة مخصوصة سميت خاصة وإن كانت عامة الناس سميت عامة وقد ذهب الأكثرون إلى وقوع العرفية العامة وهي على قسمين.
أحدهما: أن يكون الاسم قد وضع لمعنى عام لم يخصص بالعرف العام ببعض أنواعه كلفظ الدابة فإنه موضوع لكل ما يدب على وجه الأرض وخصصها العرف العام بذات الحوافر.
وثانيهما: أن يكون الاسم في أصل اللغة قد وضع لمعنى ثم كثر استعماله فيما له نوع مناسبة وملابسة بحيث لا يفهم المعنى الأول كالغائط فإنه موضوع في الأصل للمكان المطمئن من الأرض التي تقضى فيها الحاجة غالبا وأطلقه العرف على الخارج المستقذر من الإنسان كناية عنه باسم محله لنفرة الطباع عن التصريح به وأما الخاصة فلا نزاع في وقوعها إذ هو معلوم بالضرورة بعد استقراء كلام الطوائف من ذوي العلوم والصناعات التي لا يعرفها أهل اللغة كالقلب والنقض والجمع والفرق في اصطلاح النظار وستعرف معاني هذه الأمور في كتاب القياس إن شاء الله تعالى.
قال واختلف في الشرعية فمنع القاضي وأثبت المعتزلة مطلقا والحق أنها مجازات لغوية اشتهرت لا موضوعات مبتدأة وإلا لم تكن عربية فلا يكون القرآن عربيا وهو باطل لقوله تعالى: {وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا} ونحوه.
الحقيقة الشرعية هي اللفظة التي استفيد وضعها للمعنى من جهة الشرع وأقسامها الممكنة أربعة:
الأول: أن يكون اللفظ والمعنى معلومين لأهل اللغة لكنهم لم يضعوا ذلك الاسم لذلك المعنى.
والثاني: أن يكونا غير معلومين لهم.
الثالث: أن يكون اللفظ معلوما لهم والمعنى غير معلوم.(11/377)
ص -276-…الرابع: عكسه والمنقولة الشرعية من هذه الأقسام إنما هي الأول والثالث فالمنقولة الشرعية أخص من الحقيقة الشرعية ثم من المنقولة ما نقل إلى الدين وأصوله كالإيمان والإسلام والكفر والفسق ويخص بالدينية فهي إذن أخص من المنقولة الشرعية.
فإن قلت فهذه الأقسام الممكنة هل هي واقعة كلها تفريعا على القول بالحقيقة الشرعية؟
قلت قال صفي الدين الهندي الأشبه وقوعها أما الأول فهو كلفظ الرحمن لله فإن هذا اللفظ كان معلوما لهم وكذا صانع العالم كان معلوما لهم بدليل قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}1 لكن لم يضعوه لله تعالى ولذلك قالوا ما نعرف الرحمن إلى رحمان اليمامة حين نزل قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ}2.
وأما الثاني: فهو كأوائل السور عند من يجعلها اسما لهذا أو للقرآن فإنها ما كانت معلومة على هذا الترتيب ولا القرآن ولا السور.
وأما الثالث فكلفظ الصلاة والصوم وأمثالها فإن هذه الألفاظ كانت معلومة لهم ومستعملة عندهم في معانيها المعلومة ومعانيها الشرعية ما كانت معلومة لهم.
وأما الرابع: فهو كلفظ الأب فإنه قيل إن هذه الكلمة لم تعرفها العرب ولذلك قال عمر رضي الله عنه لما نزل قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً}3 هذه الفاكهة فما الأب ومعناه كان معلوما لهم بدليل أن له اسما آخر عندهم نحو العشب هذا كلام صفي الدين الهندي إذا عرفت الحقيقة الشرعية فنقول أما إمكانها فقد نقل جماعة الاتفاق عليه وأبو الحسين البصري لما حكى في المعتمد عن قوم من المرجئة أنهم نفوا الحقائق الشرعية قال ونقض عللهم يدل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزخرف آية: 87.
2 سورة الاسراء آية: 110.
3 سورة عبس آية: 31.(11/378)
ص -277-…على أنهم أحالوا ذلك وأما وقوعها فذهبت المعتزلة والخوارج وطائفة من الفقهاء إليه مطلقا وقالوا نقل الشارع هذه الألفاظ من الصلاة والصيام وغيرهما من مسمياتها اللغوية وابتدأ وضعها لهذه المعاني فليست حقائق لغوية ولا مجازات عنها وأنكره القاضي أبو بكر مطلقا وزعم أن لفظ الصلاة والصوم وغيرهما في الشرع مستعمل في المعنى اللغوي وهو الدعاء والإمساك لكن الشارع شرط في الاعتداد بهما أمورا أخر نحو الركوع والسجود والكف عن الجماع والنية فهو منصرف بوضع الشرط لا بتغير الوضع وشدد النكير على مخالفيه وقال قد تبعهم شرذمة من الفقهاء الحائدين عن التحقيق وما راموا مرامهم بيد أنهم زلوا عن سواء الطريق وذهب إمام الحرمين والغزالي والإمام وأتباعه منهم صاحب الكتاب إلى التفصيل فاثبتوا من المنقولات الشرعية ما كان مجازا لغويا كما في الحقائق العرفية دون ما ليس كذلك بل كان منقولا عنها بالكلية وهذا معنى قول المصنف مجازات لغوية اشتهرت لا موضوعات مبتدأة أي لم تستعمل في المعنى اللغوي ولم يقطع النظر عنه حالة الاستعمال بل استعملت في هذه المعاني لما بينها وبين المعاني اللغوية من العلاقة فالصلاة مثلا لما كانت في اللغة عبارة عن الدعاء بخير قال الشاعر:
تقول بنتي وقد قربت مرتحلا…يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا
عليك مثل الذي صليت فاعتمضي…نوما فإن لجنب المرء مضطجعا
كانت بالمعنى اللغوي جزءا منها بالمعنى الشرعي لاشتمال ذات الأركان على الدعاء فكان إطلاقها على المعنى الشرعي من باب التسمية للشيء باسم بعضه وهو مجاز لغوي اشتهر وصار بالاشتهار حقيقة شرعية وكذلك الصوم فإنه في اللغة الإمساك قال الشاعر:
خيل صيام وخيل غير صائمة…تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
وفي الشرع اسم للإمساك عن الطعام والشراب مع انضمام أمور أخر إليه وكذا الحج فإنه في اللغة القصد قال الشاعر:
واشهد من عرف حلولا كثيرة…يحجون سب الزبرقان المزعفرا(11/379)
ص -278-…فإن ابن السكيت1 يقول يكثرون الاختلاف إليه وهو في الشرع اسم للمناسك المعروفة من جملتها القصد وكذلك سائر الأسماء الشرعية وذهب الآمدي إلى التوقف في المسألة.
فائدة قال الشيخ أبو إسحاق هذه أول مسألة نشأت في الإعتزال وقالت المعتزلة بالمنزلة بين المنزلتين أي جعلوا الفسق منزلة متوسطة بين الكفران والإيمان لما علموا أن الإيمان في اللغة التصديق والفاسق موحد مصدق.
فقالوا هذه حقيقة الإيمان في اللغة ونقل في الشرع إلى من لم يرتكب شيئا من المعاصي فمن ارتكب شيئا منها خرج عن الإيمان ولم يبلغ الكفر ثم اختار الشيخ أبو إسحاق أن الإيمان يبقى على موضوعه في اللغة وأن الألفاظ التي ذكرناه من الصلاة والصيام والحج وغير ذلك منقولة قال وليس من ضرورة النقل أن يكون في جميع الألفاظ وإنما يكن على حسب ما يقوم عليه الدليل ورأيت في كتاب تعظيم قدر الصلاة للإمام الجليل محمد بن نصر عن أبي عبيد أنه استدل على أن الشارع نقل الإيمان عن معناه اللغوي إلى الشرعي بأنه نقل الصلاة والحج ونحوهما إلى معان أخر.
قال فما بال الإيمان وهذا يدل على تخصيص محل الخلاف بالإيمان وهو الذي وقع فيه النزاع في مبتدأ ظهور الاعتزال قوله: وإلا لم تكن عربية استدل على ما اختاره بأنه لو كانت تلك الألفاظ موضوعات مبتدأة لم تكن عربية والملازمة ظاهرة وإذا كانت غير عربية يلزم أن يكون القرآن غير عربي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو يعقوب بن إسحاق أبو يوسف ابن السكيت إمام في اللغة والأدب أصله من خوزستان بين البصرة وفارس.
من كتبه إصلاح المنطق الألفاظ والأضداد القلب والإبدال شرح المعلقات وغير ذلك كثير.
وفيات الأعيان 2/309 الأعلام 9/255.(11/380)
ص -279-…لوقوعها فيه وذلك باطل لقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً}1 ونحوه كقوله تعالى: {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ}2 فدل على أنها عربية أعني الصلاة والصيام والحج ونظائرها وهذا فيه نظر لأنه لا يبطل إلا مذهب المعتزلة فقط وقد رد إمام الحرمين على القاضي بأن حملة الشريعة مجمعون على أن الركوع والسجود من الصلاة ومساق ما ذكره أن المسمى بالصلاة الدعاء فحسب وليس الأمر كذلك.
قال قيل المراد بعضه فإن الحالف على ألا يقرأ القرآن يحنث بقراءة البعض قلنا معارض بما يقال أنه بعضه قيل تلك كلمات قلائل فلا تخرجه عن كونه عربيا كقصيدة فارسية فيها ألفاظ عربية قلنا يخرجه وإلا لما صح الاستثناء قيل يكفي في عربيتها استعمالها في لغتهم قلنا تخصيص ألفاظ باللغات بحسب الدلالة قيل منقوض بالمشكاة والقسطاس والإستبراق والسجيل قلنا وضع العرب فيها وافق لغة أخرى.
اعترضت المعتزلة على الدليل الذي أورده في الكتاب بأربعة وجه:
الأول: أن الآية لا تدل على أن القرآن كله عربي بل على أن بعضه عربي لأن القرآن يطلق على مجموعه وعلى كل جزء من أجزائه ويصدق صدق المواطئ على جزئياته ويدل على هذا أن الحالف على ألا يقرأ القرآن يحنث بقراءة بعضه وأجاب بأن ما استدللتم به من صورة الحلف وإن دل على أن المراد بالقرآن البعض فهو معارض بقولنا إلا آية والسورة بعض القرآن فإنه لو أطلق القرآن على ذلك حقيقة لم يكن لإدخال البعض معنى وأيضا فبعض الشيء غير الشيء وإذا تعارضا تساقطا وسلم ما ذكرناه من الدليل.
وأعلم أن ما ذكره المصنف من الحنث في هذه الصورة تبع فيه الإمام وليس كما ذكر فالذي نص عليه الشافعي رضي الله عنه في الأم ونقله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة يوسف عليه السلام آية: 2.
2 سورة فصلت آية: 44.(11/381)
ص -280-…الرافعي عنه خلاف ذلك وقد رأيت نصه في الأم في الجزء السابع من باب جامع الترتيب.
قال رضي الله عنه ما نصه ولو قال رجل لعبد له متى مت وأنت بمكة فأنت حر ومتى مت وقد قرأت القرآن فأنت حر فمات السيد والعبد بمكة وقد قرأ القرآن كله كان حرا وإن مات وليس العبد بمكة أو مات ولم يقرأ القرآن كله لم يعتق هذا لفظه.
وقال الشيخ أبو حامد في التعليقة إذا قال لعبده إذا قرأت القرآن فأنت حر لم يعتق إلا بقراءة الجميع وكذا قال المحاملي في التجريد هذا هو المذهب في المسألة ولا يعرف ما يخالفه.
الوجه الثاني: إنا لا نسلم أنه يلزم من كون تلك الألفاظ غير عربية ألا يكون القرآن عربيا فإن تلك كلمات قلائل فلا يخرج القرآن عن كونه عربيا كما أن الألفاظ العربية القليلة إذا وقعت في قصيد فارسية لا تخرجها عن كونها فارسية وأجاب بأنها تخرجه عن كونه عربيا والكلمات القلائل تخرج القصيدة عن أن تكون فارسية والدليل على ذلك صحة الاستثناء ذلك أن تقول القصيدة فارسية إلا موضع كذا منها.
الوجه الثالث: أنه يكفي في كون هذه الألفاظ عربية استعمال العرب لها من حيث الجملة وحينئذ فاستعمال الشارع لها في غير المعنى اللغوي لا يخرجها عن ذلك وأجاب بأن المقدار غير كاف في كونها عربية لأن تخصيص الألفاظ باللغات بحسب دلالتها على معانيها فإن كانت دلالتها من جهة لغة العرب كانت عربية وإلا فلا وشك أن تلك الألفاظ لا تدل على معانيها من تلك الحيثية.
واعلم أن المصنف لم يرتب هذه الاعتراضات الثلاث على الوجه اللائق فإن مقتضى النظم الطبيعي تقدم هذا الثالث ثم الإتيان بالثاني ثم بالأول فيقال لا نسلم أنها غير عربية بل يكفي استعمالها عندهم سلمنا لكن لا(11/382)
ص -281-…تخرج القرآن عن كونه عربيا لقلتها سلمنا ولكن ذلك غير ممتنع لأن المراد من قوله تعالى: {قُرْآناً عَرَبِيّاً} هو البعض.
الوجه الرابع: أنه لو صح ما ذكرتم لزم ألا يشتمل القرآن على لفظ غير عربي وليس كذلك فإن المشكاة فيه وهي عجمية وكذا القسطاس والإستبرق والسجيل والمشكاة الكوة التي لا تنفذ والقسطاس بالرومية الميزان والإستبرق بالفارسية الديباج الغليظ والسجيل الحجر من الطين وأجاب بأنا لا نسلم أن هذه الألفاظ غير عربية بل غايته أن وضع العرب فيها وافق لغة أخرى كالصابون والتنور وأن اللغات فيها متفقة.
تنبيه: عرفت من هذا أن المصنف يختار أن المعرب لم يقع في القرآن وقد تبع الإمام في ذلك وهو الذي نصره القاضي في كتاب التقريب ونص عليه الشافعي في الرسالة في باب البيان الخامس فقال ما نصه وقد تكلم في العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه منه لكان الإمساك أولى به وأقرب إلى السلامة فقال منهم قائل إن في القرآن عربيا وأعجميا والقرآن يدل على أنه ليس من كتاب الله شيء إلا بلسان العرب ووجدنا قائل هذا القول ومن قبل ذلك منه تقليدا له وتركا للمسألة له عن حجته ومسألة غيره ممن خالفه وبالتقليد أغفل من أغفل منهم والله يغفر لنا ولهم هذا نصه ونقل عن ابن عباس وعكرمة وقوعه وهو الذي اختاره ابن الحاجب واستدل عليه بإجماع النحاة على أن إبراهيم لا ينصرف للعلمية والعجمية وذلك لا يجديه شيئا إذا كان محل الخلاف مقصورا على أسماء الأجناس غير شامل للأعلام.
قال صفي الدين الهندي وهو الذي يجب أن يكون.
قال وعورض بأن الشارع اخترع معاني فلا بد لها من ألفاظ قلنا كفى التجوز.
قد عرفت ما طعنت به المعتزلة في مقدمات الدليل الذي احتج به المصنف وما أجيبوا به وقد انتقلوا الآن إلى المعارضة بوجهين:
أحدهما: وهو إجمالي أن الشارع اخترع معاني لم تكن متعلقة قبل الشرع(11/383)
ص -282-…بل حدث تعلقها بعده فوجب أن يوضع لها اسم لأنها من جملة المعاني التي تمس الحاجة إلى التعبير عنها وهي الأسامي التي تطلق عليها كالصلاة والحج لا مدخل للعرب في إطلاقها عليها إذ وضع الألفاظ مسبوق بتعلق المعاني وهم لم يتعلقوها قبل الشرع ولا خطرت لهم ببال.
وأجاب بأنه إن عنيتم بقولكم ما يعقلوها ولا خطرت لهم لا من حيث المجموع ولا من حيث الجزء فممنوع فإنهم تعقلوها من حيث الجزء كما في الصلاة وإن عنيتم أنه لم يخطر لهم من حيث المجموع فمسلم ولكن لا نسلم أنه لا مدخل للعرب حينئذ فيها فإنه يكون من باب إطلاق الجزء على الكل وهو أحد أنواع المجاز والتجوز كاف هنا لحصول المقصود الذي هو الإفهام به.
قال وبأن الإيمان لغة هو التصديق وفي الشرع فعل الواجب لأنه الإسلام وإلا لم يقل من مبتغيه لقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} ولم يجز استثناء المسلم من المؤمن وقد قال تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ*فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}1 والإسلام هو الدين لقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ}2 والدين فعل الواجبات لقوله تعالى: {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}3.
قلنا في الشرع تصديق خاص وهو غير الإسلام والدين فإنهما الانقياد والعمل الظاهر ولهذا قال تعالى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا}4 وإنما جاز الاستثناء لصدق المؤمن على المسلم بسبب أن التصديق شرط صحة الإسلام.
الوجه الثاني: من وجهي المعارضة وهو تفصيلي وتقريره أن الإيمان في اللغة هو التصديق وفي الشرع فعل الواجبات فتكون الحقيقة الشرعية بمعنى أنها حقائق مبتدأة واقعة وهو المدعى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الذريات آية: 35 36.
2 سورة آل عمران آية: 19.
3 سورة البينة آية: 5.
4 سورة الحجرات آية: 14.(11/384)
ص -283-…أما المقدمة الأولى: فبالنقل عن أئمة اللغة ومنه قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} أي بمصدق لنا
وأما الثانية فلأن الإيمان هو الإسلام والإسلام هو الدين والدين هو فعل الواجبات فالإيمان فعل الواجبات إنما قلنا إن الإيمان هو الإسلام لوجهين
أحدهما: أنه لو لم يكن كذلك لم يكن مقبولا من مبتغيه لقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}.
والثاني: أنه تعالى استثنى بعض المسلمين من المؤمنين في قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ*فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ولولا الاتحاد لما صح الاستثناء لأن الاستثناء إخراج بعض الأول.
فإن قلت أين الإستثناء وليس هنا إلا لفظة غير وهي ظاهر في الوصفية قلت هي هنا بمعنى إلا لأنه لو كانت على ظاهرها لكان التقدير فما وجدنا فيها المغاير لبيت المؤمنين أنه فيكون المنفي إذ ذاك بيوت الكفار وهو باطل لأنه وجد فيها بيوتهم فتقرر أنه استثناء مفرغ فيحتاج إلى تقدير شيء عام منفي يكون هو المسنثنى منه ولا بد من تقيد ذلك العام بكونه من المؤمنين وإلا يلزم انتفاء ثبوت الكفار وقد عرفت بطلانه فيكون تقدير الآية والله أعلم فما وجدنا فيها أحدا من المؤمنين إلا أهل بيت من المسلمين أي منهم ويكون قد أوقع الظاهر موقع المضمر وإنما قلنا الدين إن الإسلام هو الدين لقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} وإنما قلنا الدين فعل الواجبات لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} أي دين الملة المستقيمة وقوله ذلك عائد إلى جميع ما تقدم ذكره فوجب أن يكون الكل مسمى بالدين.(11/385)
قوله قلنا في الشرع إلى آخره هذا هو الجواب عن هذا الوجه الثاني وتقريره أن يقال لا نسلم أن الإيمان في الشرع هو الإسلام وإنما الإيمان في الشرع عبارة عن تصديق خاص وهو تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع ما علم مجيئه بالضرورة وهو بهذا الاعتبار غير الإسلام وغير الدين فإنهما في اللغة الانقياد(11/386)
ص -284-…وفي الشرع العمل الظاهر وهذا هو التحقيق في انفصال الإسلام عن الإيمان وإن كان كل منهما شرطه الشارع في الاعتبار بالآخر فإن الإسلام عبارة عن التلفظ ولا يعتبر به ما لم يساعده القلب بالاعتقاد والإيمان عبارة عن التصديق بالقلب ولا يكفي ما لم يتلفظ بالشهادتين إذا أمكنه ذلك ويدل على انفصال الإسلام عن الإيمان صريح قوله تعالى في حق المنافقين: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا}1 أي والله أعلم إن الذي وقع منكم ليس بإيمان حتى تقولوا نحن مؤمنون وإنما هو إسلام لأنه فعل ظاهر من غير تصديق بالقلب فلا تقولوا آمنا بل قولوا أسلمنا لأنه هو الذي وقع منكم
فإن قلت وقع من المنافقين إسلام(11/387)
قلت وقع منهم الإسلام باللسان الذي هو غير معتبر شرعا ويجوز أن يقال لم يقع منهم إسلام ويجعل تصديق القلب ركنا في الإسلام شرعا لا شرطا ولكن يعضد الأول قوله تعالى: {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} قوله: وإنما جاز الاستثناء جواب عن قولهم لو غاير الإيمان الإسلام لم يجز الاستثناء المسلم من المؤمنين وتوجيهه أن يقال استثناؤه منه لا يدل على أنه هو وإنما بدل على أنه يصدق عليه كقول القائل ملكت الحيوان إلا الفرس فالحيوان غير الفرس لأنه أعم والأعم من حيث هو مغاير للأخص ومع ذلك فقد استثنى منه لصدق الحيوان إذا عرفت هذا فالصدق حاصل في المؤمن مع المسلم لأن شرط صحة الإسلام الذي هو التصديق وهذا مسوغ لاستثناء المسلم من المؤمن لأنه كلما صدق المسلم صدق المؤمن لكونه شرطه ولا ينعكس بدليل من كان مؤمنا تاركا للأفعال الظاهرة فصحة الاستثناء ثابتة لصدق المؤمن على المسلم ولا يلزم كون المسلم مؤمنا أن يكون الإسلام هو الإيمان فإن الكاتب ضاحك والكتابة غير الضحك والنزاع إنما هو الإسلام مع الإيمان لا في المسلم مع المؤمن ولقائل أن يقول الإيمان على هذا شرط صحة الإسلام والاعتداد به لا شرط وجود الإسلام فلا يلزم أن ينتفي الإسلام بانتفاء الإيمان إلا أن يجعلوا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحجرات آية: 14.(11/388)
ص -285-…الإيمان شرطا في صدق الإسلام لا في صحته أو ركنا في الإسلام وما دللتم على شيء منهما وقد نجز القول في المسألة ولم يذكر المصنف متمسك القاضي أبي بكر ومن متمسكاته أن القرآن مشتمل على هذه الألفاظ فلو كانت حقائق شرعية لكانت غير عربية لفقدان وضع العرب إياها لهذه المعاني فيلزم خروج القرآن عن كونه عربيا بكليته وقد قررتم بطلانه وجواب هذا يعلم مما سبق ومنها لو كانت حقائق شرعية لفهمناها الشارع قبل تكليفنا بها وإلا يلزم أن يكون كلفنا بما لا نفهمه ولا آحاد تدل على وقوع ذلك فضلا عن التواتر.
وأجيب عن هذا بأنه لا يلزم من تفهيم الشارع أن ينقل بتواتر ولا آحاد لجواز حصول التفهم بالقرائن والله أعلم.
وقد علمت بما سبق أن الإيمان في الاصطلاح عبارة عن تصديق الرسول بكل ما جاء به وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن رضوان الله عليه وقال أكثر السلف وعليه بعض المعتزلة والخوارج إنه تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان وفيه مذاهب أخر كثيرة ليس هذا محلها ورام السهيلي التفرقة بين الإيمان والتصديق من وجهين قررهما:
أحدهما: أن التصديق لا بد وأن يكون في مقابله خبر صادق وقد يكون عن نظر وفكر فإذا نظرت في الصنعة وعرفت بها الصانع آمنت به لم تكن به مصدقا بخبر إذ لا خبر هناك فإذا جاء الخبر كنت به مصدقا ونحن نقول في جواب هذا إن الصنعة لما عرفتنا الصانع كانت مخبرة بلسان الحال فلم يكن التصديق إلا في مقابلة خبر واقع بلسان الحال فإن قال التصديق لا يكون إلا في مقابلة خبر بلسان المقال قلنا من أين لك هذا التقييد.(11/389)
الثاني: أن التصديق قد يكون بالقلب وأنت ساكت تقول سمعت الحديث فصدقته والإيمان لا بد من اجتماع اللفظ مع العقد لغة وشرعا لتعديه بالباء ونحو ذلك ونحن نجيب عن هذا بأن اللفظ شرط في صحة الإيمان لا ركن منه كما علمت فيما تقدم ويدل عليه مع قوله تعالى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} قولوا أسلمنا إجماع الأمة على أن من عرف الله بقلبه وعجز عن التلفظ بالشهادتين كان مؤمنا فائزا وبالله التوفيق.(11/390)
ص -286-…قال فروع الأول النقل خلاف الأصل إذ الأصل بقاء الأول ولأنه يتوقف على الأول ونسخه ووضع ثان فيكون مرجوحا.
هذه مسائل مفرعة على جواز النقل.
الأول: أنه على خلاف الأصل بمعنى أنه إذا دار اللفظ بين احتمال النقل واحتمال عدمه كان احتمال عدمه أرجح لوجهين:
أحدهما: أن الأصل في الوضع الأول المنقول عنه البقاء إذ الأصل بقاء ما كان على ما كان.
والثاني: أن النقل يتوقف على ثلاثة أشياء الوضع الأصلي ثم نسخه ثم وضع ثان وعدم النقل لا يتوقف إلا على واحد وما كان متوقفا على أمور كان مرجوحا بالنسبة إلى المتوقف على أمر واحد.
قال الثاني: الأسماء الشرعية الموجودة المتواطئة كالحج والمشترك كالصلاة الصادقة على ذات الأركان وصلاة المصلوب والجنازة والمعتزلة سموا أسماء الذوات دينية كالمؤمن والفاسق.
هذا الفرع في أن الشارع هل نقل الأسماء والأفعال والحروف أم نقل البعض دون البعض.
فنقول أما الأسماء فقد وجد النقل فيها وقد قدمنا انقسامها إلى متباينة ومترادفة ومتواطئة ومشتركة ومشككة فلينظر في واحد واحد أما المتباينة ة فقد وجدت كالصوم والصلاة وأهمل في الكتاب ذكر هذا القسم لوضوحه.
وأما المترادفة فقد أهمل ذكرها أيضا فقال الإمام الأظهر أنها لم توجد لأنها ثبتت على خلاف الأصل فتتقدر بقدر الحاجة وتابعه صاحب التحصيل.
وقال صفي الدين الهندي الأظهر أنها وجدت وهذا هو الصحيح لوجد أن الواجب والفرض وهما مترادفان عند الشافعي رضي الله عنه والإمام يوافق على ذلك والإنكاح والتزويج عند الشافعي أيضا وأما المتواطئة فموجودة أيضا ومثل لها المصنف بالحج فإنه يطلق على الإفراد والتمتع والقرآن وهذه الثلاثة(11/391)
ص -287-…مشتركة في الماهية وهي الإحرام والطواف والوقوف والسعي وأما المشترك فاختلفوا في وقوعها وجزم المصنف بوقوعها.
قال الإمام وهو الحق لأن لفظ الصلاة مستعمل في معاني شرعية لا يجمعها جامع لأن لفظها يتناول ما لا قراءة فيها كصلاة الأخرس وما لا سجود فيه ولا ركوع كصلاة الجنازة وما لا قيام فيه كصلاة القاعد والصلاة بالإيماء على مذهب الشافعي رضي الله عنه وهي التي عبر عنها في الكتاب بصلاة المصلوب فإنه لا شيء من ذلك فيها وليس بين هذه الأشياء قدر مشترك هذا كلام الإمام.
قال الهندي وهو ضعيف لأن كون الفعل واقعا بالتحرم والتحلل منه مشترك بين تلك الصلوات فلم لا يجوز أن يكون مدلولها قال والأقرب أنها متواطئة بالنسبة إلى الكل إذ التواطؤ خير من الاشتراك ثم ذكر الهندي أن الأشبه وقوع المشتركة ومثل لها بإطلاق الطهور على الماء والتراب وعلى ما يدبغ به كان ذلك ليس باشتراك معنوي إذ ليس بينها معنى مشترك يصلح أن يكون مدلول اللفظ ولقائل أن يقول لم اكتفيت بالتحلل والتحرم في الصلاة قدرا مشتركا ولم تكتف باشتراك الماء والتراب وآلة الدباغ في إزالة المانع قدرا مشتركا.
وأما المشككة فالظاهر وقوعها أيضا وقد أهملها المصنف في الكتاب وهي كالفاسق بالنسبة إلى من فعل الكبيرة الواحدة ومن فعل الكبائر العديدة فإن تناوله للثاني بطريق أولى.
قوله والمعتزلة أي أن المعتزلة لما أثبتوا الحقائق الشرعية قسموها إلى أسماء الأفعال وأسماء الذوات المشتقة من تلك الأفعال فالأول كالصوم والصلاة والثاني كاسم الفاعل مثل زيد مؤمن واسم المفعول مثل زيد مقروء عليه وأفعل التفضيل نحو أفضل من عمرو وسموا هذا القسم بالدينية تفرقة بينه وبين الأول وأن اشتراك الكل عندهم في كونه شرعيا هكذا نقل الإمام وتبعه صاحب الكتاب وفيه نظر فإن المنقول عن المعتزلة أن الدينية هي الأسماء المنقولة شرعا إلى أصل الدين كالإيمان والكفر.(11/392)
ص -288-…وأما الشرعية فكالصلاة والصوم كذا عزاه إليهم طائفة منهم القاضي وإمام الحرمين والغزالي فقال إمام الحرمين:
قالت المعتزلة الألفاظ تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
أحدها الألفاظ الدينية وهي الإيمان والكفر والفسق فهي عندهم منقولة إلى قضايا في الدين فالإيمان في اللسان التصديق والكفر من الكفر وهو الستر والفسق الخروج وهذا الذي ذكروه في قواعدهم في أن مرتكب الكبيرة ليس مؤمنا دينا وليس كافرا أيضا وإنما هو فاسق.
والقسم الثاني: الألفاظ اللغوية وهي القارة على قوانين اللسان.
والقسم الثالث: الألفاظ الشرعية وهي الصلاة والصوم وأخواتها فهي مستعملة في فروع الشرع هذا لفظه في البرهان وهو الذي ذكره في كتاب التلخيص الذي اختصره من التقريب والإرشاد للقاضي وكذلك أورده الغزالي وهذا هو التحقيق في نقل مذهب القوم.
قال والحروف لم توجد والفعل يوجد بالتبع تقدم الكلام في الاسم وأما الحرف فلم يوجد واستدل عليه الإمام بالاستقراء.
وأما الفعل فلم يوجد بطريق الأصالة للاستقراء ووجد بطريق التبعية لأن الفعل صغة تدل على صدور المصدر من الفاعل فالمصدر إن كان شرعيا كالصلاة كان الفعل أيضا كذلك كصلى وإن كان لغويا كان مثله فيكون الفعل شرعيا أمر حصل بالعرض لا بالأصالة وكلام المصنف مصرح بأن الحرف لم يوجد لا بطريق الأصالة ولا بطريق التبعية والحق مساواته للفعل فإن نقل متعلق معاني الحروف من المعاني اللغوية إلى المعاني الشرعية مستلزم لنقلها أيضا فلا فرق في ذلك بين الفعل والحرف كما في أنواع المجاز.
فائدة قد تقرر أن الألفاظ هي المستعملة من الشارع أما الأسماء وهي على قسمين منها ما وضعه بإزاء الماهيات الجعلية وذلك معروف كالصلاة وأمثالها ومنها الأسماء المتصلة بالأفعال وسنذكرها إن شاء الله مع الفعل.(11/393)
ص -289-…وأما الفعل والحرف فقد علمت أن التحقيق فيهما أنهما مستويان والفعل ينقسم إلى ماض وأمر ومضارع والأسماء المتصلة بالأفعال ثمانية المصدر واسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة وأفعل التفضيل واسم الزمان واسم المكان واسم الآلة أما الفعل المضارع فلم يستعمل في الشرعية في شيء أصلا إلا لفظ أشهد في الشهادة فإنها تعينت ولم يقم غيرها مقامها وكذا في اللعان سواء قلنا إنه يمين أو شهادة أو فيه شائبتان ويجوز في اليمين في أقسم بالله وأشهد ولا يتعين ولا مدخل له في الإنشاءات.
وأما الفعل الماضي فيعمل في الإنشاءات خلا الشهادة واللعان فمن الإنشاءات التي يعمل به فيها العقود كلها والطلاق وأما فعل الأمر فهو مسألة الإيجاب والاستحباب في العقود والطلاق وفي الوكالة لو أتى بصيغة أمر نحو بع واشتر.
قال بعض الأصحاب هنا لا يشترط القبول بخلاف ما إذا أتى بصيغة عند نحو وكلتك والصحيح لا فرق وفعل الأمر يعمل به في كل موضع يعمل بالماضي على الصحيح.
وأما اسم الفاعل ففي الطلاق في قوله: أنت طالق ويعمل به في الضمان.
وأما اسم المفعول فيستعمل الطلاق والعتق والوكالة ويقرب من هذا أنت حرام وأنت حر وأنت علي كظهر أمي.
وأما المصدر فقد استعمل في الطلاق في قوله: أنت الطلاق وهل هو صريح أو كناية فيه خلاف ولا يبعد جريان مثل ذلك في العتق والنظر في هذا الفصل طويل ولعلنا نستوعبه في كتابنا الأشباه والنظائر فإن الشيخ صدر الدين ابن المرحل رحمه الله تعالى ذكر هذا في كتابه الأشباه والنظائر وكتابنا كالتهذيب لكتابه أتمه الله تعالى.
قال الثالثة صيغ العقود كبعث إنشاء إذ لو كان إخبار وكان ماضيا أو حالا لم يقبل وإلا لم يقع وأيضا إن كذبت لم تعتبر وإن صدقت(11/394)
ص -290-…فصدقها أما بها فيدور أو بغيرها وهو باطل إجماعا وأيضا لو قال للرجعية طلقتك لم يقع كما لو نوى الإخبار.
صيغ العقود والفسوخ مثل بعت واشتريت وتزوجت وطلقت وفسخت ونحو ذلك لامرأته في أنها إخبارات عن أمور واقعة في الزمن الماضي وقد تستعمل في الشرع أيضا للإخبار كما لو صدر البيع من إنسان ثم قال بعت مريدا إخبار عما صدر منه في الزمان الماضي أما إذا استعملت هذه الألفاظ لإحداث أحكام لم تكن قبلها فهل هي إخبارات باقية على وضعها اللغوي أم إنشاءات نقلها الشارع إلى إنشاءات المخصوصة ذهب الأكثرون إلى الثاني وهو ما قطع به المصنف.
وقالت الحنفية إنها إخبارت عن ثبوت الأحكام فمعنى قولك بعت الإخبار عمار في قلبك فإن أصل البيع هو التراضي ووضعت لفظة بعت للدلالة على الرضا فكأنه أخبر بها عما في ضميره فيقدر وجودها قبيل اللفظ للضرورة وغاية ذلك أن يكون مجازا وهو أولى من النقل هذا تحرير مذهبهم فافهمه واستدل الأصحاب على كونه إنشاء بدلائل:
أحدها: أن اللفظ لو كان إخبارا لكان إما عن ماض أو حال أو مستقبل والأولان باطلان وإلا يلزم ألا يقبل الطلاق التعليق لأن التعليق توقف وجود الشيء على شيء آخر والماضي والحال قد وجدا فلا يقبله لكن اللازم منتف لقبوله التعليق إجمالا وإن كان عن مستقبل لم يقع لأن قوله: طلقتك إذن بمنزلة قوله: ستصيرين طالقا والطلاق لا يقع بذلك.
وثانيها: لو كانت هذه الصيغ إخبارات لكانت إما كاذبة أو صادقة فإن كانت كاذبة فلا اعتبار بها وإن كانت صادقة فصدقها إما أن يحصل بنفسها أي يتوقف حصوله على حصول الصيغة أو يحصل بغيرها إن كان الأول لزم الدور لأن كون الخبر صدقا وهو بعتك مثلا موقوف على الخبر عنه وهو وقوع البيع فلو توقف المخبر عنه وهو الوقوع وجود على المخبر وهو بعتك لزم الدور وإن كان الثاني وهو أن يحصل الصدق بغيرها فهو باطل بالإجماع منا ومنهم على عدم الوقوع عند عدم هذه الصيغة(11/395)
ص -291-…وثالثهما: ان الزوج لو قال لرجعيته في عدتها طلقتك ونوى الإخبار عما مضى لم يقع قطعا وإن لم ينو شيئا أو نوى الأشياء وقع بالاتفاق فلو كان إخبارا لم يقع كما نوى به الإخبار.
فائدتان إحداهما: قال القرافي في الفروق الإنشاء ينقسم إلى متفق عليه ومختلف فيه فالجمع عليه أربعة أقسام:
الأول: نحو قولنا أقسم بالله لقد قدم زيد ونحوه فإن مقتضى هذه الصيغة أنه أخبر بالفعل المضارع سيكون منه قسم في المستقبل فكان ينبغي ألا يلزمه كفارة بهذا القول لأنه وعد بالقسم لا قسم كقول القائل سأعطيك درهما لكن لما وقع الاتفاق على أنه بهذا اللفظ أقسم وأن موجب القسم يلزمه دل ذلك على أنه أنشأ به القسم لا أنه أخبر عن وقوعه في المستقبل وهذا أمر اتفق عليه في الجاهلية والإسلام ولذلك لا يحتمل التصديق والتكذيب ولا يدخله شيء من لوازم الخبر.
قال ولذلك نقول فيه من أحاط به من فضلاء النحاة الخبر القسم جملة إنشائية يؤيد بها جملة خبرية.
الثاني: الأوامر والنواهي.
الثالث: الترجي والتمني والعرض مثل ألا تنزل عندنا فتصيب خيرا.
والتحضيض وصيغته أربع هلا وألا ولوما ولولا.
الرابع: النداء نحو يا زيد اختلف النحاة فيه هل فيه فعل مضمر تقديره أنادي زيدا أو الحرف وحده مفيدا للنداء؟
قلت وقد خطأ الإمام في التفسير الكبير في أوائل البقرة من فسر قولنا يا زيد أنادي زيدا من وجوه:
منها أن أنادي زيدا خبر يحتمل التصديق والتكذيب ويا زيد لا يحتملها.(11/396)
ص -292-…ومنها أن قولنا يا زيد يقتضي صيرورة زيد مخاطبا منادى في الحال بخلاف أنادي زيدا.
ومنها أن يا زيد يقتضي صيرورة زيد مخاطبا بهذا الخطاب بخلاف أنادي زيدا فإنه لا يمتنع أن يخبر إنسانا آخر بأني أنادي زيدا.
ومنها أن أنادي زيدا إخبار عن النداء والإخبار عن النداء غير النداء والنداء هو قولنا يا زيد فإذا هو غيره.
ولقائل أن يقول حاصل هذه الأوجه ترجع إلى يا زيد إنشاء وقولنا أنادي زيدا خبر ونحن نمنع أن قولنا أنادي زيدا الذي هو بمعنى يا زيد خبر وإنما هو إنشاء.
نعم الخبر أنادي زيدا الذي ليس هو بهذا المعنى.
قال القرافي وأما المختلف فيه هل هو إنشاء أو خبر فهو صيغ العقود كما تقدم.
الثانية ذكر القرافي في التفرقة بين الإنشاء والإخبار وجوها:
أحدها: أن الخبر يقبل التصديق والتكذيب ولا كذلك الإنشاء.
والثاني: أن الخبر تابع لثبوت مخبره في زمانه كيف ما كان ماضيا أو حالا أو مستقبلا والإنشاء متبوع لمتعلقه فيترتب بعده.
والثالث: أن الإنشاء سبب لثبوت متعلقه الذي هو مسببه عقيب آخر حرف أو مع آخر حرف إلا أن يمنع مانع وليس الخبر سببا متعلقا بمخبره وإنما هو مظهر فقط.
خاتمة قال القرافي في الفروق مما يتوهم أنه إنشاء وليس كذلك الظهار في قول القائل لامرأته أنت علي كظهر أمي يعتق الفقهاء أنه إنشاء للظهار كقوله أنت طالق وأن البابين سواء في الإنشاء.
قال وليس كذلك ثم أطال في الدلالة على أنه خبر واستند إلى قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا(11/397)
ص -293-…اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ}1
فكذبهم الله تعالى في ثلاثة مواطن بقوله ما هن أمهاتهم وأن قولهم منكر وأنه زور والإنشاء لا يدخله التصديق والتكذيب واعتضد أيضا بالإجماع على تحريم الظهار.
قال ولا سبب لتحريمه إلا انه كذب وإنما يكون الكذب في الإخبار وأورد على نفسه الطلاق الثلاث حيث كان إنشاء مع كونه محرما وأجاب بأن المحرم إنما هو الجمع بين الطلقات الثلاث لا لفظ الطلاق وأمعن الكلام فيما حاوله والذي نقوله في ذلك إن القول القائل أنت علي كظهر أمي يحتمل أن يريد به الخبر المحض ويحتمل أن يريد به أن يجعلها كذلك والظاهر أن المراد الثاني وهو الإنشاء ولكن الشرع ألغي حكمه ولما ألغاه وكان مقصود الناطق به تحقيق معناه الخبري سماه الشرع زورا ويناظر هذا من بعض الوجوه.
قوله أنت علي حرام قصد به إنشاء التحريم والشرع لم يرتب مقتضاه من الحرمة فهذان الإنشاءان لم يرتب الشرع عليهما مقتضاهما الذي قصده المتكلم بل جعل المرتب على الأول أنه إن عاد وجبت الكفارة وحرم الوطء حتى يكفر والمرتب على الثاني حكم اليمين من التكفير وغير هذين الإنشاءين من الطلاق والبيع والنكاح ونحو ذلك إذا أنشأه المكلف رتب الشرع عليه المقتضى الذي اقتضاه كلام المكلف فصارت الإنشاءات على قسمين:
أحدهما: ما اعتبره الشرع وأذن فيه فيفيد كما أراده المنشيء ويترتب عليه حكمه.
والثاني: ما لم يأذن فيه الشرع ولم يعتبره ولكن رتب عليه حكما آخر وهو الظهار والتحريم.
قال والذي أيده الله تعالى وينبغي أن يسمى هذا الإنشاء الثاني باطلا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المجادلة آية: 2.(11/398)
ص -294-…وأما الإنشاء الأول فإن وقع شروطه الشرعية فصحيح وإلا فهو باطل أو فاسد والباطل لا يترتب عليه أثر أصلا بخلاف الباطل في القسم الثاني وهو الظهار والتحريم حيث ترتب عليهما حكم شرعي لأن البطلان فيهما لإلغاء الشارع إياهما لا لفوات شروط ووجود مفسد والبطلان في البيع والنكاح وغيرهما إما لفوات شرط أو لوجود مفسد.
قال الثانية المجاز إما في المفرد مثل الأسد للشجاع أو في المركب مثل:
أشاب الصغير وأفنى الكبير…كر الغداة ومر العشى.
أو فيما نحو أحياني اكتحالي بطلعتك.
لما تناهى القول في الحقيقة شرع في المجاز.
والشرح أن المجاز إما أن يقع في مفردات الألفاظ فقط أو في تركيبها أو فيهما جميعا والأول كإطلاق الأسد على الشجاع والثاني كقوله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً}1 {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ}2 {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا}3
ويسمى هذا النوع بالمجاز المركب والإسنادي والعقلي ومثل له في الكتاب بقول الشاعر:
أشاب الصغير وأفنى الكبير… كر الغداة ومر العشى4
فإن مفردات هذا النوع من المجاز كلها مستعملة في موضوعاتها وإنما التجوز في إسناد بعضها إلى بعض وذلك حكم عقلي ألا ترى أن أشاب والصغير مستعملان في موضوعيهما وكذلك أفنى والكبير لكن إسناد أشاب وأفنى إلى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنفال آية: 2.
2 سورة إبراهيم عليه السلام آية: 36.
3 سورة الزلزلة آية: 2.
4 البيت لكعب بن زهير بن أبي سلمى المزني شرح لامية كعب بن زهير ص 11.(11/399)
ص -295-…كر الغداة ومر العشي هو الذي وقع فيه التجوز لكونهما مسندين إلى الله تعالى في نفس الأمر ومثله أنبئت الربيع البقل.
والضابط فيه أنك متى نسبت إلى ما ليس بمنسوب إليه لذاته بضرب من الملاحظة بين الإسنادين كان ذلك مجازا في التركيب وخرج بهذا القيد الأخير قول الدهري أنبت الربيع البقل إذ ذلك ليس عنده لضرب من الكلابسة بل هو أصلي عنده منتسب إلى من ينتسب إليه حقيقة ولهذا اخترنا التمثيل لهذا النوع بآي الكتاب العزيز فإن الإثبات الذي يذكر والأمثلة التي تورد جاز أن يكون قائلهما دهريا على أن البيت المذكور في الكتاب للصلتان العبدي وهو مسلم في قصدته التي هذا البيت منها ما يدل على ذلك وبهذا القيد ينفصل عنه الكذب أيضا لأن الكاذب لم يسند الأثر إلى ما أسنده لمشابهة ذلك الإسناد إسنادا آخر الذي هو أصلي بل إما لأنه أصلي عنده أو وإن لم يكن كذلك إلا أنه لم يلاحظ الملاحظة والملاحظة قد تكون بأن يختص الشيء بأثر يوجد الأثر عند وجوده وينعدم عند عدمه وهو غير صادر عنه لكن الله تعالى أجرى العادة بأن يوجد الأثر عند وجوده ويعدمه عند عدمه كنبات البقل مع الربيع أو بأن يوجد وإن لم ينعدم عند عدمه كالهلاك مع أكل السم في قولهم أهلكه السم أو بأن يكون الشيء سبب التسبب كقولهم كسا الخليفة الكعبة وما أشبه ذلك.
وذهب ابن الحاجب إلى إنكار المجاز في التركيب وهو شاذ.
والثالث: وهو أن يقع المجاز فيها جميعا كقول القائل لمن سرته رؤيته أحياني اكتحالي بطلعتك فإنه استعمل الإحيا في السرور والاكتحال في الرؤية وذلك مجاز ثم أسند الإحيا إلى الاكتحال مع أن المحيي هو الله تعالى.
هذا شرح ما في الكتاب ولك هنا مناقشات:
أحدها على التمثيل بالبيت الذي ذكره من جهة أنه إنما يصلح مثالا للقسم الثالث: لأن المراد بالصغير من تقدم له الصغير.(11/400)
ص -296-…وثانيهما: أن هذا التقسيم إنما يصح عند من يقول إن المركبات موضوعة وقد اضطرب رأى المصنف في ذلك في هذا الكتاب.
وثالثهما: في تعبيره بالمركب فإن الصواب التعبير بالتركيب وذلك لأنك إذا قلت هلك الأسد تريد أن الشجاع مرض مرضا شديدا فهذا المجاز واقع في المركب لا في النسبة وليس هذا هو المراد بل كل مجاز في غير النسبة فهو مركب فإن الأسد مع قولك رأيت في قولك رأيت الأسد مركب لانضمام غيره إليه وهذا الإيراد إذا انقدح على التعبير بالمركب لدخوله فيه ورد على التعبير بالمفرد لخروجه منه.
قال ومنعه ابن داود في القرآن والحديث لنا قوله تعالى: {جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ}1.
قال فيه إلباس قلنا لا إلباس مع القرينة.
قال لا يقال لله تعالى إنه متجوز.
قلنا لعدم الإذن أو لإيهامه الاتساع فيما لا ينبغي.
اختلف أهل العلم في وقوع المجاز في اللغة العربية على مذاهب:
أحدها وهو المنسوب إلى الأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني المنع مطلقا.
قال إمام الحرمين في التخليص الذي اختصره من التقريب والإرشاد للقاضي والظن بالأستاذ أنه لا يصح عنه وفيما علقه من خط ابن الصلاح أن أبا القاسم ابن كج حكى عن أبي علي الفارسي إنكار المجاز كما هو المحكي عن الأستاذ.
والثاني: أنه غير واقع في القرآن وواقع في غيره وإليه ذهب بعض الحنابلة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الكهف آية: 77.(11/401)
ص -297-…وطائفة من الرفضة وحكى عن بعض المالكية وأما أبو بكر بن داود1 الأصفهاني الظاهري فالمشهور عنه أنه منع وقوعه في القرآن خاصة كما هو رأى هؤلاء وحكى عنه الإمام وشيعته منهم المصنف اختيار المنع في القرآن والحديث.
وعلى هذا في المسألة أقوال أربعة:
المنع مطلقا المنع في القرآن وحده المنع في القرآن والحديث دون ما عداهما والرابع أنه واقع مطلقا والحديث وغيرهما وعليه جماهير العلماء سلفا وخلفا.
والمصنف استدل على وقوعه في القرآن ليدل على ما عداه بطريق أولى وقد وقع المجاز في مواضع عديدة من الكتاب العزيز وصنف شيخ الإسلام عز الدين ابن عبد السلام في ذلك مصنفا حافلا اكتفى المصنف بذكر قوله تعالى: {جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} ووجه الحجة أن الإرادة هي الميل مع الشعور وهي ممتنعة في الجدار لكونه جمادا وقد أضافها إليه وأراد بذلك الإشراف على الوقوع وهو مجاز.
فإن قلت لا نسلم امتناع قيام الإرادة بالجدار لقدرة الله تعالى على خلق العلم والقدرة فيه.
قلت هذا من خرق العادات التي لا يكون إلا في زمن النبوة لقصد التحدي لا في عموم الأوقات وهذا لم يكن للتحدي.
قال الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع واستدل أبو العباس بن سريج على أبي بكر بن داود بقوله تعالى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} فقال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو محمد بن داود بن علي بن خلف الظاهري أبو بكر أديب مناظر قال عنه الصفدي: الإمام ابن الإمام من أذكياء العالم.
ولما توفي أبوه جلس مكانه في مجلسه وأخذ يدرس على مذهب والده.
من مؤلفاته كتاب الوصول إلى معرفة الأصول الإنذار الإنتصار وغير ذلك.
توفي في رمضان سنة 297 هـ.
النجوم الزاهرة 3/17 الأعلام 6/355.(11/402)
ص -298-…الصلوات لا تهدم وإنما أراد به مواضع الصلوات وعبر بالصلوات عنها على سبيل المجاز فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.
قال فلم يكن له عنه جواب ومن أنصف من نفسه ونفى العصبية عن كلامه أقر بأن القرآن مشحون بالمجاز وكيف لا وهو من توابع العصابة وبدائع كلمات العرب ولا يخلو القرآن من ذلك.
وقد قال القاضي في مختصر التقريب يلزم من إثبات المجاز في اللغة إثباته في القرآن.
واحتج ابن داود رحمه الله على مذهبه بوجهين:
أحدهما: أن المجاز لا يدل بمجرده لعدم وضعه له فلو ورد في القرآن لأدى إلى الإلباس وهو لا يقع من الله تعالى وأجاب في الكتاب بأن الإلباس ينتفي مع القرينة فإن قلت إذا كان مع القرينة ففيه تطويل قلت التطويل لا ينفي إلا كونه على خلاف الأصل ونحن مقرون بذلك نعم لقائل أن يقول هذا الجواب يقتضي أن المجاز لا يقع في القرآن إلا مع القرينة.
وثانيهما: أنه لو جاز وقوع المجاز في القرآن لجاز أن يطلق على الله أنه متجوز لأن المتجوز من يتكلم بالمجاز وأجاب بوجهين:
أحدهما: إن أسماء الله تعالى توقيفية عنه لا بد في إطلاقها من ورود الإذن وهذا لم يرد به إذن فلا نطلقه عليه.
والثاني: سلمنا أن أسماءه تعالى دائرة مع المعني لكن شرطه ألا يوهم نقصا وما نحن فيه يوهم النقص لأن التجوز يوهم تعاطي ما لا ينبغي لأنه مشتق من الجواز وهو التعدي وأما من أنكر المجاز في اللغة مطلقا فليس مراده أن العرب لم تنطق بمثل قولك للشجاع أنه أسد فإن ذلك مكابرة وعناد ولكن هو دائر بين أمرين.
أحدهما: أن يدعي أن جميع الألفاظ حقائق ويكتفي في كونها حقائق بالاستعمال في جميعها وهذا مسلم ويرجع البحث لفظيا فإنه حينئذ يطلق(11/403)
ص -299-…الحقيقة على المستعمل وإن لم يكن بأصل الوضع ونحن لا نطلق ذلك وإن أراد بذلك استواء الكل في أصل الوضع.
قال القاضي في مختصر التقريب فهذه مزاحمة للحقائق فإنا نعلم أن العرب ما وضعت اسم الحمار للبليد ولو قيل البليد حمار على الحقيقة كالدابة المعهودة وإن تناول الاسم لهما متساو في الوضع فهذا دنو من جحد الضرورة.
قال وكذلك من زعم أن الجدار له إرادة حقيقية تمسكا بقوله تعالى جدارا يريد أن ينقض عد ذلك من مستشنع الكلام.
قال الثالثة شرط المجاز
العلاقة المعتبر نوعها السببية القابلية
مثل سال الوادي والصورية كتسمية اليد قدرة والفاعلية مثل نزل السحاب والغائية كتسمية العنب خمرا.
لا بد في التجوز من لفظ الحقيقة إلى المجاز من علاقة بينهما ولا يكتفي بمجرد الاشتراك في أمر ما من الأمور والجار إطلاق اسم كل شيء على ما عداه لأنه ما من شيء إلا ويشارك كل ما عداه في أمر من الأمور بل لا بد من المناسبة والمشاركة في أمر خاص ظاهر وهل يكفي وجود تلك العلاقة في التجوز أم لا بد من اعتبار العرب لها أي بأن تستعملها فيه واختلفوا فيه على مذهبين:
اختار الإمام والمصنف أنه لا بد من ذلك وهذا ما أشار إليه بقوله المعتبر نوعها وصحح ابن الحاجب أنه لا يشترط ذلك والخلاف إنما هو في الأنواع لا في جزئيات النوع الواحد وإن أوهمه كلام بعضهم فالقائل بالاشتراط يقول لابد وأن تتجوز العرب بالتسبب عن المسبب مثلا وخصمه يقول يكفي وجود العلاقة وهذا معنى قول المصنف نوعها ومما ننبه عليه قبل الخوض في مقدارها أنا إذا أوردنا مثالا لجهة من الجهات للتجوز فلسنا قاضين عليه بأنه لا يشتمل على جهة أخرى من جهات التجوز بل يجوز اجتماع جهتين وثلاثة فلا نفهم من قولنا مثال الجهة الفلانية كذا الاختصاص بتلك الجهة بل شرطه أن يشتمل على تلك الجهة مع قطع النظر عن غيرها من الجهات وإن كان مشتملا على جهة أخرى فإنما لم ننبه عليها لأنا نذكر لها مثالا آخر(11/404)
ص -300-…الجهة الأولى السببية: وهي إطلاق اسم السبب على المسبب وإن شئت قلت العلة على المعلول وهي أربعة أقسام قابلية وقد يقال لهذا القسم مادة وعنصرا وصورية وفاعلية وغائية.
أعلم أن كل متكون في الوجود لا بد له من هذه الأسباب الأربعة نحو السرير مادته الخشب والحديد وفاعله النجار وصورته الانسطاح وغايته الاضطجاع عليه فسميت الثلاثة أسبابا لتأثيرها في الإضطجاع فلولا الخشب والحديد ما تماسك ولولا الفاعل ما ترتب ولولا الانسطاح لما تأتي عليه الاضطجاع وسمى الرابع سببا لأنه الباعث على هذه الثلاثة فلولا استشعار النفس راحة الاضطجاع لما وقع في الوجود هذه الثلاثة وهو معنى قولهم أول الفكر آخر العمل ومعنى قولهم العلة الغائية علة العلل الثلاثة في الأذهان ومعلولة العلل الثلاثة في الأعيان.
فإن قلت ما وجه انحصار الأسباب في هذه الأربعة؟
قلت لما كان السبب هنا ما يتوقف عليه وجود الشيء انحصرت في هذه الأقسام لأنه لا يخلو إما أن يكون داخلا في ذلك الشيء أو خارجا.
والأول: إما أن يكون الشيء معه بالقوة وهو القابل أو بالفعل وهو الصورة العارضة له بعد التركيب.
والثاني: إما أن يكون مؤثرا في وجود ذلك الشيء وهو الفاعل كالنجار أو لا يكون وهو الغاية الحاملة للمؤثر على التأثير أي الجلوس على السرير.
مثال الأول وهو تسميته الشيء باسم سببه القابلي قولهم سال الوادي أي ماء الوادي فعبروا عن الماء السائل بالوادي لأن الوادي سبب قابل له إطلاقا لاسم السبب على المسبب هكذا مثل به الإمام وأتباعه منهم المصنف وفيه نظر فإن الوادي ليس جزءا للماء فلا يكون سببا قابلا له والمادي في اصطلاحهم جنس ماهية الشيء كما عرفت في الخشب مع السرير.
مثال الثاني: وهو تسمية الشيء باسم سببه الصوري إطلاق اليد على(11/405)
ص -301-…القدرة كما في قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}1 أي قدرة الله فوق قدرتهم فإن اليد صورة خاصة يتأتى بها الاقتدار على الشيء فشكلها مع الاقتدار كشكل السرير مع الاضطجاع وهو سبب صوري فتكون اليد كذلك فإطلاقها على القدرة إطلاق لاسم السبب الصوري على المسبب.
وإذا تأملت هذا فاعلم أن المثال انعكس على الإمام وأتباعه إلا الشيخ صفي الدين الهندي فقالوا ومنهم المصنف كتسميته اليد قدرة والصواب كتسمية القدرة يدا وكذا وقع في الآية الكريمة.
مثال الثالث: وهو تسمية الشيء باسم سببه الفاعل قولهم نزل السحاب أي المطر فإن السحاب في العرف سبب فاعلي في المطر كما تقول النار تحرق الثوب.
مثال الرابع وهو تسمية الشيء باسم سببه الغائي تسميتهم العنب بالخمر كما في قوله تعالى حكاية: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} فأطلق العنب على الخمر لأن الخمر غاية مقصودة من زراعة العنب وعصره عند بعض الناس.
قال والمسببية كتسمية المرض المهلك بالموت والأول أولى للالتزام على التعيين ومنها الغائية لأنها علة في الذهن ومعلولة في الخارج.
العلاقة الثانية المسببية وهي إطلاق اسم المسبب على السبب مثل تسميتهم المرض المهلك موتا لأن الله تعالى جعل المرض الشديد في العادة سببا للموت وهنا بحثان أشار إليهما في الكتاب:
أحدهما: أن التجوز بلفظ السبب عن المسبب أولى من العكس لأن السبب المعين يستدعي مسببا معينا والمسبب المعين لا يستدعي سببا معينا بل سببا ما ألا ترى أن اللمس يدل على انتقاض الوضوء وانتقاض الوضوء لا يدل على اللمس لجواز أن يكون بمس أو بول أو غيرهما فلما كان فهم المسبب من السبب أسرع كان التجوز به في حالة الإطلاق أولى ولقائل أن يقول:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الفتح آية: 10.(11/406)
ص -302-…هذا واضح على رأي من يجوز تعليل المعلولين المتماثلين بعلتين مختلفتين لأن العلم بالمعلول حينئذ لا يستلزم العلم بالعلة وأما العلم بالعلة المعينة فإنه يستلزم العلم بالمعلول المعين وأما من لم يجوز ذلك فقد يمنع هذا البحث.
الثاني: قد عرفت انقسام العلة الأولى إلى أربع علل وأولاها العلة الغائية وهذا معنى قول المصنف ومنها الغائية أي وأولى منها الغائية لأنها حال كونها ذهنية علة العلل وحال كونها خارجية معلول العلل فقد حصل لها علاتنا العلية والمعلولية وكل واحدة منهما على تحسن التجوز.
قال والمشابهة كالأسد للشجاع والمنقوش ويسمى الاستعارة.
العلاقة الثانية المشابهة وهي تسمية الشيء باسم شبيهه إما في صفة ظاهرة خاصة بمحل الحقيقة كإطلاق اسم الأسد على الشجاع والحمار على البليد وإما في الصورة كإطلاق إسم الأسد أو الفرس مثلا على المنقوش المصور في الحائط بصورته قوله: وتسمى الاستعارة هذا يحتمل أن يعود إلى المنقوش وحده أي ويخص المنقوش الذي الذي هو أحد قسمي المشابهة بتسميته بالاستعارة وهذا لم نر أحدا ذكره ويحتمل أن يعود إلى المشابهة أي أن مجاز المشابهة مسمى بالمستعار.
وأما الإمام فإنه قال إن المسمى بالإستعارة ليس إلا المشابه المعنوي كتسمية الشجاع أسدا وتبعه عليه صفي الدين الهندي وعلى كل حال فالاستعارة بهذا الاصطلاح أخص من المجاز لأنها مختصة ببعض أنواعه وقيل هما متساويان لأن اللفظ إذا وضع لمعنى يستحقه ذلك المعنى بسبب الوضع فيكون استعماله في غيره على وجه العارية.
قال والمضادة وهي تسمية الشيء باسم ضده مثل قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} أطلق على الجزاء سيئة مع أنه ليس بسيئة ومثل قوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}.(11/407)
قال الإمام ويمكن جعل هذا من مجاز المشابهة لأن جزاء السيئة يشبهها في كونها سيئة بالنسبة إلى من وصل إليه ذلك الجزاء ومن أمثلته الفصل تسميتهم(11/408)
ص -303-…البرية المهلكة بالمفازة تفاؤلا واستعمالهم صيغة الدعاء على الإنسان بمعنى الدعاء له مثل فولهم قاتله الله ما أحسن ما قال ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "عليك بذات الدين تربت يداك" عند من يقول المقصود بها الدعاء له وبعضهم يقول إن لم تظفر بذات الدين سلبت البركة فافتقرت بذلك كذا حكاه الروياني في أوائل كتاب النكاح من البحر.
وحكى عن ابن شهاب الزهري قولا ثالثا وهو جعل اللفظ على حقيقته وأنه إنما قال ذلك لأنه رأى الفقر خيرا له من الغنى.
قال والكلية كالقرآن لبعضه.
العلاقة الخامسة الكلية وهي إطلاق اسم الكل على الجزء ومثل له الإمام باطلاق لفظ العام وإرادة الخاص وفيه نظر لأن دلالة العموم من باب الكلية لا من باب الكل والفرد منه من باب الجزئية لا من باب الجزء وتحقيق هذا يتلقى من فاتحة كتاب العموم والخصوص من هذا الشرح وسننتهي إليه إن شاء الله تعالى والمصنف مثل له بإطلاق لفظ القرآن على بعضه وليس بجيد أيضا لأن القرآن من الألفاظ المتواطئة يطلق بالحقيقة على كله وعلى بعضه عند التجرد من الألف واللام وعند الاقتران بها إذا أريد بها مطلق الماهية ويطلق على ما يراد منه إذا اقترن بالألف واللام وأريد بها معهود إما كله وإما بعضه فإن اقترن بالألف واللام ولم يكن معهودا ولا أريد مطلق الماهية كانت الألف واللام للعموم فيحمل على جميع القرآن لأنه جميع ما يصلح له اللفظ لأن لفظ القرآن لم يطلق على غير الكتاب العزيز بالحقيقة.
فإن قلت لو كان لفظ القرآن من الألفاظ المتواطئة لحنث الحالف على ألا يقرأ القرآن بقراءة بعضه كالحالف على ألا يشرب الماء والعسل يحنث بقليله وكثيره وقد ذكرتم في الحقيقة الشرعية المنصوص يقتضي خلاف ذلك.
قلت ليس هذا كالحالف على ألا يشرب الماء والعسل وغير ذلك من(11/409)
ص -304-…الألفاظ المتواطئة حيث يحنث فيها بالبعض لأن تلك الحقائق أفرادها كثيرة لا تتناهى فلا يمكن الحمل فيها على العموم بخلاف لفظ القرآن فإن أفراده سور القرآن وآياته والحمل على العموم فيها ممكن فوجب المصير إليه عند عدم العهد لما قدمنا من أنه لم يطلق على غير الكتاب العزيز وإذا تقرر هذا فنقول كان الأحسن أن يمثل لهذا النوع من المجاز بقوله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} أي أناملهم.
قال والجزئية كالأسود للزنجي والأول أقوى للاستلزام.
العلاقة السادسة الجزئية وهي إطلاق الجزء وإرادة الكل كقولهم للزنجي أسود ليس كله أسود ألا ترى إلى بياض عينيه وأسنانه فيكون إطلاق الأسود على المجموع المركب من أعضائه ومن الجلد وغيره من باب إطلاق اسم الجزء على الكل هكذا مثل به في الكتاب تبعا للإمام ولقائل أن يقول إطلاق الأسود على الزنجي إنما يكون مجازا أن لو كان المراد به وصف جميع أعضائه بالسواد وليس كذلك بل مفهوم الأسود من قام السواد بظاهر جلده فقط لا جميع أعضائه حتى العينين والأسنان لأن ما ثبت له المشتق شيء له المشتق منه وذلك أعم من كونه ثابتا لكله أو بعضه كما يقول لمكسور إحدى الرجلين أعرج والأولى أن يمثل لهذا النوع بقولهم فلأن يملك كذا رأسا من الغنم أو ذبح كذا رأسا من البقر.
قوله والأولى أي إذا تعارض القسم الخامس والسادس فالأول الذي هو الخامس أولى من السادس لأن الكل مستلزم للخبر والجزء لا يستلزم الكل فكانت دلالة الأول أقوى لذلك.
قال والاستعداد كالمسكر للخمر في الدن.
العلاقة السابعة الاستعداد وهي تسمية الشيء المستعد لأمر باسم ذلك الأمر مثل تسميته الخمر حال كونه في الدن بالمسكر ولقائل أن يقول إذا كان الخمسة اسما لما خامر العقل فلا يصدق حقيقة إلا حال مخامرته المعقل وهي حالة الإسكار فيكون إطلاق الخمر على عصير العنب المودع في الدن مجاز(11/410)
ص -305-…استعداد ويكون التمثيل بإطلاق الخمر على هذا العصير لا بإطلاق المسكر على الخمر وقد يمثل أيضا بإطلاق الكاتب على العارف بالكتابة عند مباشرته لها وكذا استعمال كل مشتق باعتبار الاستقبال.
قال والمجاورة كالرواية للقربة.
العلاقة الثامنة المجاوره وهي تسمية الشيء باسم ما يجاوره كإطلاق لفظ الرواية على القربة التي هي طرفا للماء فإن الرواية في اللغة اسم للجمل والبغل والحمار الذي يستقى عليه كما قاله الجوهري وأنشد لأبي النجم:
تمشي من الردة مشي الحفل…مشي الروايا بالمزاد الأثقل
ثم إنه أطلق على القربة لمجاورتها له.
قال وتسمية الشيء باسم ما كان عليه كالعبد.
هذه العلاقة وهي التاسعة ساقطة في كثير من النسخ لتقدمها في كلام المصنف في فصل الاشتقاق وحاصلها أن من المجازات تسمية الشيء باعتبار ما كان عليه كتسمية العبد الذي عتق بالعبد وتسمية من ضرب بعد انقضاء الضرب بالضارب على ما تقدم البحث فيه.
قال والزيادة والنقصان مثل ليس كمثله شيء وأسأل القرية.
العلاقة العاشرة الزيادة وهو أن يكون الكلام ينتظم بإسقاط شيء منه فيحكم بزيادة ذلك الشيء ومثاله قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}1.
فإن الكاف زائدة والتقدير ليس كمثله شيء والدليل على أنها زائدة أنه لو لم تكن كذلك لكنا التقدير ليس مثل مثله أن الكاف بمعنى مثل فيكون له تعالى مثل وهو محال والغرض بالكلام نفيه وقد اعترض الناس على هذا التمثيل بأن الكاف في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} غير زائدة وأجابوا عما ذكره بأجوبة عدة استحسن الأذكياء منها جواب من قال لا نسلم أن قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الشورى آية: 11.(11/411)
ص -306-…المراد منه نفي المثل بل هو محمول على حقيقته وهو نفي مثل مثله ويلزم من نفي مثل المثل نفي المثل ضرورة أن مثل المثل مثل إذ المماثلة لا تتحقق إلا من الجانبين فمتى كان زيد مثلا لعمرو كان عمرو مثلا له وقد نفى المثل وأورد على هذا الجواب وجهان:
أحدهما: أن يلزم ألا يكون النص مقيدا لنفي المثل ما لم يضم إليه هذه المقدمة والأمة قد عقلت منه نفي المثل بدونها.
وأجاب عنه صفي الدين الهندي بمنع أن الأمة بأسرها عقلت منه ذلك من غير اعتبار تلك المقدمة.
قال وكيف يقال ذلك وفي الأمة من ينكر أن يكون في كلام الله مجاز ومنهم من ينكر أن يكون فيه زيادة لا معنى لها ولا يمكن حمل الآية على نفي المثل إلا بعد الاعتراف بهذين الأصلين جاز أن يفهموا نفي المثل على سبيل الاستقلال وجاز أن يفهموا ذلك منه بواسطة ما ذكرنا من المقدمة.
والثاني: أنه إن كان قد نفى مثل المثل والذات من جملة مثل المثل لزم أن يكون الذات منفية وهو أقوى الإيرادين.
وأجاب بعضهم عن هذا بأن الذات لما كانت ثابتة قطعا بالبرهان القاطع الخارجي نفي ما عداهما منفيا وذكر القرافي في الجواب أنه إنما يلزم نفي الذات من جهة أنه مثل فإنها بقيد المثلية أخص منها من حيث هي ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم فهذا النفي حق ولا يلزم نفي واجب الوجود ثم إن القرافي اعترض على هذا الجواب بما لانطيل بذكره والتحقيق أن الجوابين خارجان عن صواب التحقيق وإنما الجواب الدقيق الذي ليس بعده شيء ما قرره لنا غير مرة والدي أطال الله بقاه فقال تقدير الكلام ليس شيء كمثله فشيء اسم ليس وهو المبتدأ وكمثله الخبر فالشيء الذي هو موضوع نفى عنه المثل الذي هو محمول فهو منفي عنه لا منفى فيكون ثابتا فلا يلزم أن تكون الذات المقدسة منفية وإنما المنفي مثل مثلها ولازمه نفي مثلها وكلاهما منفي عنها والله أعلم.(11/412)
ص -307-…العلاقة الحادية عشر النقصان أي المجاز بالنقصان في اللفظ مثل قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} تقديره واسأل أهل القرية إذ القرية عبارة عن الأبنية وهي لا تسأل ولقائل أن يقول يحتمل أن الله خلق في القرية قدرة الكلام ويكون ذلك معجزة لذلك النبي ويبقى اللفظ على حقيقته لا يقال الأصل عدم هذا الاحتمال لأنا نقول هذا معارض بأن الأصل عدم المجاز على أن هذا كله مفرع على أن القرية اسم للأبنية المجتمعة.
أما إن قلنا إنها مشتركة بينها وبين الناس المجتمعين إما باشتراك لفظي أو معنوي فلاستدلال ساقط بالكلية ثم الذي يدل على أن القرية حقيقة في الناس المجتمعين أيضا قوله تعالى: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً}1 {وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ}2 {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا}3 ولأن القرية مشتقة من القرء وهو الجمع ومنه قرأت الماء في الحوض أي جمعته ومنه القراء وهو الضيافة لاجتماع الناس لها وهذا كله حركة البحث والنظر.
والأول: هو المرتضى أعني أن المراد سؤال أهل القرية كيف والشافعي رضي الله عنه قد نص عليه في الرسالة ونقله عن أهل العلم باللسان وسمى هذه الآية وأمثالها بالصنف الذي يدل لفظه على باطنه دون ظاهره فقال ما نصه باب الصنف الذي يدل لفظه على باطنه دون ظاهره.
قال الشافعي قال الله جل ثناؤه وهو يحكي قول إخوة يوسف لأبيهم: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ*وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ}4 فهذه الآية في معنى الآيات قبلها لا يختلف أهل العلم باللسان أنهم إنما يخاطبون أباهم بمسألة أهل القرية وأهل العير لأن القرية والعير لا ينبئان عن صدقهم انتهى وهنا مباحثتان.(11/413)
أحداهما: أن العادين لهذين النوعين العاشر والحادي عشر ذكروه في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنبياء آية: 11.
2 سورة الحج آية: 48.
3 سورة القصص آية: 58.
4 سورة يوسف عليه السلام آية: 81 82.(11/414)
ص -308-…المجاز الإفرادي وكيف يكون ذلك في مجاز النقصان والمجاز في المفرد هو اللفظ المستعمل في غير موضوعه الأول والمحذوف لم يستعمل البتة والمجاز بالزيادة كذلك لأن الزائد لم يستعمل البتة في شيء وهذا السؤال قد شاع وذاع وأجاب عنه والدي رحمه الله بأن هذا لفظ مستعمل في غير ما وضع له فصدق عليه تعريف المجاز الإفرادي.
قال وذلك لأن قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} موضوع لسؤالها مستعمل في سؤال أهلها فكان مجازا وليس هو مجاز في التركيب فإن مجاز التركيب مثل قولك أنبت الربيع البقل لفظ مستعمل في مقتضاه إسناد الإنبات إلى البقل ولكنا علمنا بالعقل أنه ليس كذلك وإنما هو من الله تعالى فقلنا إنه مجاز عقلي ولم ترد بقولنا المجاز بالزيادة والنقصان أن اللفظة الزائدة وحدها أو الناقصة وحدها مجاز ومن تأمل قول الإسلام في قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} وفي قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فهم ذلك ولا يقال إنه حينئذ يصير مجازا في التركيب لأنا لا نعني بمجاز التركيب إلا إسناد الفعل إلى الفاعل وهو الذي يكون الإسناد فيه من جهة الموضوع اللغوي صحيحا وإنما جاء المجاز من جهة العقل حتى لو فرض هذا الكلام من كافر يعتقد حقيقته لم يكن مجازا وهذا جواب نفيس.(11/415)
الثانية: أن الأمام عد المجاز بالزيادة والمجاز بالنقصان مع تغايرهما وتقابلهما نوعا واحدا وبه أشعرت عبارة الكتاب وعليه جرى سائر أتباع الإمام إلا الشيخ صفي الدين الهندي فإنه عدهما نوعين كسائر المحققين وقد يعتذر عن الإمام بأنه لما كان مدار الأمر في هذين المجازين على شيء واحد وهو أن تستفيد الكلمة حركة لأجل إثبات مزيد مستغنى عنه أوحذف شيء لا بد منه جعلا نوعا واحدا لأن الكلمة نقلت عن حكم كان لها إلى حكم آخر لم يكن لها في الأصل وذلك كان في وضعها بالمجاز كما أنها توصف بالمجاز لنقلها عن معناها الأصلي إلى معنى آخر وبيان انتقالها عما كان لها من الحكم إلى غيره أن المثل في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} الجر بزيادة الكاف وكان حكمه في الأصل النصب فالجر فيه مجاز والقرية في قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} اكتسبت النصب(11/416)
ص -309-…لأجل حذف المضاف وإقامتها مقامه وكان واجبها في الأصل الجر فالنصب فيه مجاز وقد يلوح من هذا التقرير وجه عد هذين النوعين من مجاز الأفراد ويقال المجاز إنما وقع في الجر والنصب بسبب الزيادة والنقصان ولكن هذا بعيد ومع الجواب المتقدم لا يحتاج إلى التشنيع بمثل هذه التخيلات.
قال والتعلق كالخلق للمخلوق.
العلاقة الثانية عشر: التعلق الحاصل بين المصدر واسم المفعول أو اسم الفاعل ويدخل منه أقسام.
أحدها: إطلاق اسم المصدر على المفعول كقوله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} أي مخلوق آخر: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} أي مخلوق الله: {كِتَابٌ كَرِيمٌ} أي مكتوب وعلى ذكر هذا القسم اقتصر في الكتاب.
وثانيها: عكسه ومنه قوله تعالى: {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ}1 أي الفتنة وهذا على رأي من يقدر المصدر وأما من يقول الباء زائدة والتقدير أيكم المفتون فلا يصح له التمثيل له.
وثالثها: إطلاق إسم الفاعل على المفعول نحو: {مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} أي مدفوق وعيشة راضية أي مرضية.
ورابعها: عكسه مثل قوله تعالى: {حِجَاباً مَسْتُوراً} أي ساترا وقوله: {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً} أي آتيا.
وخامسها: إطلاق المصدر على اسم الفاعل نحو قولهم رجل عدل أي عادل وصوم أي صائم ومنهم من يقول التقدير ذو عدل وذو صوم فعلى هذا يكون من مجاز الحذف لا مما نحن فيه.
وسادسها: عكسه مثل قم قائما أي قياما واسكت ساكتا أي سكوتا وقد نجز شرح ما أورده المصنف من العلاقات وهي وإن كانت اثنتي عشر علاقة فهي أيضا في الحقيقة اثنان وعشرون قسما لأن العلاقة السببية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة القلم آية: 6.(11/417)
ص -310-…مشتملة على أربعة أقسام والمشابهة كما تقدم والاستعداد أيضا على قسمين لأن المستعد للشيء تارة يكون ذلك الشيء قريبا منه كالإسكار بالنسبة إلى العقار في الدن وتارة يكون بعيدا كتسمية الطفل بالكاتب والعالم ولا يخفى أن القريب أولى من البعيد عند التعارض والتعلق على ستة أقسام وأنت قريب العهد به ولتوصل الأقسام إلى ستة وثلاثين فنقول الثالث والعشرون اسم اللازم على الملزوم كالمس على الجماع الرابع والعشرين عكسه كقوله تعالى: {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ}1 أي يدل والدلالة لازم من لوازم الكلام الخامس والعشرون تسمية الحال باسم المحل كتسميته الخارج المستقذر بالغائط ومنه لا فض فوك أي أسنانك السادس والعشرين عكسه كقوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}2 أي في الجنة لأنها محل رحمته السابع والعشرون تسمية البدل باسم المبدل مثل يأكلن كل ليلة إكافا أي ثمن إكاف الثامن والعشرين عكسه كتسمية الأداء بالقضاء في قوله: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ} أي أديتم التاسع والعشرين إطلاق المنكر وإرادة المعين مثل: {أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} عند من يقول كانت معينة الثلاثون عكسه مثل: {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً} عند من زعم أن المأمور به دخول أي باب كان الحادي والثلاثون إطلاق النكرة وإرادة الجنس مثل قوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ}3 الثاني والثلاثون إطلاق الموت باللام وإرادة الجنس مثل الرجل خير من المرأة والدينار خير من الدرهم الثالث والثلاثون إطلاق اسم المقيد على المطلق كقول شريح القاضي أصبحت ونصف الناس على غضبان فإنه أراد بالنصف البعض المطلق لا المقيد بالتعديل والتسوية ومنه قول الشاعر:
إذا مت كان الناس نصفين…شامت وآخر مثن بالذي كنت أصنع4
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الروم آية: 35.(11/418)
2 سورة آل عمران آية: 107.
3 سورة الانفطار آية: 5.
4 قائل هذا البيت هو العجير بن عبد الله السلولي شرح المقدمة النحوية لابن بابشاذ بتحقيق الدكتور محمد أبو الفتوح شريف ص 306...............................==(11/419)
ص -311-…الرابع والثلاثون: عكسه كقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} عند من يقول المراد بها رقبة مؤمنة وهذا غير إطلاق المنكر وإرادة المعرف لأن المطلق غير المنكر نعم قد يقال إن المطلق من حيث كونه جزءا للمقيد مذكور فيما تقدم من إطلاق الجزء على الكل
الخامس والثلاثون: إطلاق آلة الشيء على الشيء كإطلاق اللسان على الكلام أو الذكر كما في قوله تعالى: {وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ}1 وقوله: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ}2 وكما يقال كتب العلم كيت وكيت وقد يقال برجوع ذلك إلى إطلاق اسم المحل على الحال والتحقيق أنه غيره لأن آلة الشيء قد تكون محلا له وقد لا تكون
السادس والثلاثون: تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه كتسمية المريض ميتا في قوله صلى الله عليه وسلم: "اقرءوا على موتاكم يس"3 ومنه: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} وهذا غير القسم الذي تقدم في كلام المصنف أعني مجاز الاستعداد لأن المستمد للشيء قد لا يؤول إليه بل هو مستعد له ولغيره كما أن القصير قد لا يؤول إلى الحمزية وإن كان مستعدا لها ولغيرها وابن الحاجب عبر عن مجاز الاستعداد بتسمية الشيء باسم ما يؤول إليه بدليل أنه مثل ب بالخمر وذلك يوهم اتحاد القسمين وكذلك الإمام فإنه عبر بتسمية إمكان الشيء باسم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ويروى:
إذا مت كان الناس صنفان…شامت وآخر مثن بالذي كنت أصنع.
1 سورة الروم آية: 22.
2 سورة الشعراء آية: 84.(11/420)
3 حديث صحيح رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث معقل بن يسار – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "اقرءوها على موتاكم" يعني يس كما رواه أبو داود والنسائي في اليوم والليلة وابن ماجه من حديث عبد الله بن المبارك ولهذا قال بعض العلماء: من خصائص هذه السورة أنها لا تقرأ عند أمر عسير إلا يسره الله تعالى وكأن قراءتها عند الميت لتنزل الرحمة والبركة وليسهل عليه خروج الروح.
تفسير ابن كثير 3/563.(11/421)
ص -312-…وجوده والحق افتراق القسمين والناظر إذا أمعن نظره في جزئيات هذه الأقسام ونظر إلى تفاوتها حصل على عدد كثير وفيما ذكرناه كفاية.
قال الرابعة المجاز بالذات لا يكون في الحرف لعدم الإفادة والفعل المشتق لأنهما يتبعان الأصول والعلم لأنه لم ينقل لعلاقة.
المجاز الواقع في الكلام قد يكون بالذات أي بالأصالة وقد يكون بالتبعية فالمجاز بالذات لا يدخل في أشياء.
أحدها: الحرف وذلك لأن مفهومه غير مستقل بنفسه بل ولا بد وأن يضم إلى شيء آخر ليحصل الفائدة.
قال الإمام فإن ضم إلى ما ينبغي ضمه إليه كان حقيقة وإلا فهم مجاز في التركيب لا في المفرد وقد اعترض عليه النقشواني بأن الحرف له مسمى في الجملة إذ ما ليس له مسمى فهو مهمل والكلام في اللفظ الموضوع وإذا كان له مسمى واستعمل في موضوعه الأصلي كان حقيقة سواء كان الاستعمال عند ضمه إلى غيره أو عند عدم الضم فإن الاستعمال أعم منها وقد ذكر في حد الحقيقة هذا القدر فكان حقيقة وأما إذا استعمله في غير موضوعه لعلاقة كان مجازا من غير تفاوت.
قال وأقرب مثال لذلك قوله تعالى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ} فإن الصلب مستعمل في موضوعه الأصلي وكذلك جذوع النخل ولم يقع المجاز إلا في حرف في فإنها للظرفية في الأصل وقد استعملت هنا لغير الظرفية.
قال وأيضا لو لم يدخل المجاز في الحرف بالذات لما دخلت فيه الحقيقة بالذات ولو كان كذلك لما صح ما ذكره في باب تفسير الحروف بيان الملازمة أنه لو تعذر دخول المجاز لكون الحرف غير مستقل فهو كما لا يفيد المعنى المجازي بالاستقلال لا يفيد المعنى الحقيقي بالاستقلال فإذا أوجب ذلك عدم دخول المجاز في الحرف وحده أوجب عدم دخول الحقيقة.
قال ثم نقول ما الدليل على أنه إن ضم إلى ما لا ينبغي ضمه إليه يكون مجازا في التركيب لا في المفرد بل الحق أن هذا الضم قرينة على مجاز الأفراد(11/422)
ص -313-…وهذا كما تقول في لفظة الأسد إذا ضم إلى ما ينبغي ضمه إليه بأن تقول رأيت أسدا يثب فهذا حقيقة وإن ضم إلى ما لا ينبغي بأن تقول رأيت أسدا يرمي بالنشاب صار ذلك قرينة دالة على أنه أراد بلفظ الأسد معناه المجازي وهذا مجاز في المفرد دون التركيب هذا آخر كلام النقشواني وكله منقدح حسن.
الثاني: الأفعال والمشتقات لأنهما يتبعان أصولهما وأصل كل منهم المصدر فإن كان حقيقة كانا كذلك وإلا فلا.
هذا كلام المصنف تبعا للإمام وقد اعترض عليه النقشواني بأن قولكم هذا لا يدخل المجاز في الفعل إلا بواسطة دخوله في المصدر يناقض قولكم استعمال المشتق بعد زوال المشتق منه مجاز.
فإذا قال القائل إن زيدا ضرب عمرا بعد انقضاء الضرب كان هذا مجازا وليس المجاز في الأسامي إذ كل واحد منهما مستعمل في موضوعه ولا في المصدر لأن المصدر لم يستعمل ههنا أيضا وما لم يستعمل أصلا يمتنع أن يقال استعمل مجازا أو حقيقة وليس أيضا مجازا في التركيب فتعين المجاز ههنا في الفعل فقد دخل في الفعل من غير دخوله في المصدر.
قال وهكذا يرد هذا النقض على المشتقات هذا اعتراضه ولقائل أن يقول إنما صح أن زيدا ضرب عمرا مجاز والحالة هذه لأنه يصح أن يقال زيد ذو ضرب لعمرو مجازا فما يجوز في الفعل إلا وقد صح إطلاق المصدر مجازا.
وقوله إن المصدر لم يستعمل ولا يوصف بحقيقة ولا مجاز.
قلنا صحة استعماله كافية في دخول المجاز في الفعل وليس المدعي غير ذلك أعني أن المجاز لا يدخل في الفعل إلا بواسطة صحة دخوله في المصدر لا بواسطة وقوع دخوله.
الثالث: العلم لأن الأعلام لم تنقل لعلاقة وشرط المجاز العلاقة وهذا فيما إذا كان العلم مرتجلا أو منقولا لغير علاقة وإن نقل لعلاقة كمن سمى ولده بالمبارك لما ظنه فيه من البركة فكذلك بدليل أنه لو كان مجازا لصح كذا في(11/423)
ص -314-…خط المصنف ولعله سبق قلم والصواب لما صح إطلاقه عند زوال العلاقة وبهذا التقرير يعلم أن قول المصنف لأنه لم ينقل لعلاقة غير كاف في الدليل على مطلوبه بل كان الأحسن أن يقول لأنه إن كان مرتجلا أو منقولا لغير علاقة فواضح وإلا فلصدقه عليه مع زوالها.
وقال الغزالي إن المجاز يدخل في الأعلام الموضوعة للصفة كالأسود والحرث دون الأعلام التي لم توضع إلا للفرق بين الذوات واعترض النقشواني على قولهم إن المجاز لا يدخل في الأعلام بأن القائل يقول جاني تميم أو قيس وهو يريد طائفة بني تميم وهذا مجاز لا حقيقة وتميم اسم علم فقد يطرق المجاز إلى العلم لما بين هؤلاء وبين المسمى بذلك العلم من التعلق وفي هذا الاعتراض نظر.
قال الخامسة المجاز خلاف الأصل لاحتياجه إلى الوضع الأول والمناسبة والنقل ولإخلاله بالفهم.
الأصل تارة يطلق ويراد به الغالي وتارة يراد به الدليل وقد ادعى المصنف أن المجاز خلاف الأصل إما بمعنى خلاف الغالب والخلاف في ذلك مع ابن جني1 حيث ادعى أن المجاز غالب على اللغات أو بالمعنى الثاني والغرض أن الأصل الحقيقة والمجاز على خلاف الأصل فإذا أراد اللفظ بين احتمال المجاز واحتمال الحقيقة فاحتمال الحقيقة أرجح لوجهين:
أحدهما: أن المجاز يحتاج إلى الوضع الأول وإلى العلاقة يعني المناسبة بين المعنيين وإلى النقل إلى المعنى الثاني والحقيقة محتاجة إلى الوضع الأول فقط وما يتوقف على أمر واحد كان راجحا بالنسبة إلى ما هو متوقف على أمور
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو عثمان بن جني الموصلي من أئمة الأدب والنحو كان أبوه مملوكا روميا لسليمان بن فهد الأزدي الموصلي من مؤلفاته شرح ديوان المتنبي والمنهج في اشتقاق أسماء رجال الحماسة المحتسب في شواذ القراءات الخصائص في اللغة المقتضب من كلام العرب. توفي سنة 392 هـ.
وفيات الأعيان 1/313 الأعلام 4/364.(11/424)
ص -315-…متعددة وقد أهمل صاحب الكتاب ذكر الاستعمال لأن الحقيقة والمجاز مشتركان في افتقارهما إليه.
والثاني: أن الحقيقة لا تخل بالفهم وذلك ظاهر والمجاز يخل بالفهم فيكون مرجوحا والدليل على أنه يخل بالفهم وجهان:
أحدهما: أن اللفظ إذا تجرد عن القرينة فلا جائز أن يحمل على المجاز لعدم القرينة ولا على الحقيقة وإلا لزم الترجيح بدون مرجح إذ الحقيقة والمجاز متساويان على هذا التقدير.
والثاني: أن الحمل على المجاز يتوقف على قرينة تدل على أنه المراد وقد تخفى هذه القرينة على السامع فيحمل اللفظ على المعنى الحقيقي مع إرادة المجاز أو يختبط عليه الحال فيحمل على الذي ليس بمراد.
قال فإن غلب كالاطلاق تساويا والأولى الحقيقة عند أبي حنيفة والمجاز عند أبي يوسف رحمه الله تعالى.
ما تقدم من رجحان الحقيقة على المجاز إنما هو فيما إذا لم يعارض أصالة الحقيقة غلبة المجاز أما إذا غلب المجاز في الاستعمال فقال أبو حنيفة الحقيقة أولى لأن الحقيقة بحسب الأصل راجحة وكونها مرجوحة أمر عارض لا عبرة به.
وقال أبو يوسف المجاز أولى لكونه راجحا في الحال ومن الناس من قال يحصل التعارض لأن كل واحد على الآخر من وجه فيتعادلان ولا يحمل على أحدهما إلا بالنية وهذا ما اختاره المصنف.
قال الهندي وعزى ذلك إلى الشافعي وقد مثل المصنف لذلك بالطلاق فإنه حقيقة في إزالة القيد سواء كان عن نكاح أم ملك يد أم غيرها وخصه العرف بإزالة قيد النكاح ولذلك كان كناية في باب العتق محتاجا إلى النية بخلاف الطلاق هذا كلام المصنف وهو فيما اختاره في هذه المسألة وفيما مثل به متابع للإمام في كتاب المعالم فإنه كذلك فعل ثم أورد على ما ذكر في الطلاق بأنه يلزم ألا يصر إلى المجاز الراجح إلا بالنية وليس كذلك بدليل(11/425)
ص -316-…أنه لو قال لزوجته أنت طالق طلقت من غير نية وأجاب بأن هذا غير لازم لأنه إذا قال لمنكوحته أنت طالق فإن عنى بهذا اللفظ الحقيقة المرجوحة وهو إزالة مطلق القيد وجب أن يزول مسمى القيد وإذا زال هذا المسمى فقد زال القيد المخصوص وإن عني به المجاز الراجح فقد زال قيد النكاح فلما كان يفيد الزوال على التقديرين استغنى عن النية هذا كلام الإمام في المعالم.
وقد اعترض عليه ابن التلمساني بأن السؤال لازم إذ الكلام مفروض فيما إذا ذكره ولم ينو شيئا ولا خلاف أنه يحمل على الطلاق فقوله إن نوى وإن نوى حيد عن السؤال ولك أن تعترض على الإمام أيضا بأنا لا نسلم أنه إن عنى بذلك الحقيقة المرجوحة يجب زوال القيد المخصوص وإنما يجب ذلك أن لو كان المطلق في سياق الإثبات للعموم الشمولي وإنما هو عموم بدلي فإذا عنى الحقيقة المرجوحة فإنما أراد حصول مطلق الحقيقة وهي أعم من القيد المخصوص فلا تحمل عليه إلا بدليل.
واعلم أن التمثيل بالطلاق من أصله فيه نظر متوقف على تحرير محل النزاع في المسألة وهو مهم وقد حرره المتأخرون من كتب الحنفية.
المجاز أقسام:
الأول: أن يكون مرجوحا.
والثاني: أن يساوي الحقيقة في الاستعمال فلا ريب في تقديم الحقيقة في هذين القسمين ولا خلاف بين أبي حنيفة وأبي يوسف في ذلك وإن حصل وهم من بعض المصنفين في نقل الخلاف عنهما في القسم الثاني فلا يعبأ به.
والثالث: أن تهجر الحقيقة بالكلية بحيث لا تراد في العرف فقد اتفقا على تقديم المجاز مثل من حلف لا يأكل من هذه النخلة فإنه يحنث بثمرها لا بخشبها وإن كان هو الحقيقة لأن المجاز حينئذ إما حقيقة شرعية كالصلاة أو عرفية كالدابة وإذا عرفت هذا فتقول لا يستقيم التمثيل بالطلاق لأنه صار حقيقة عرفية أو شرعية عامة في حل قيد النكاح وهاتان الحقيقتان مقدمتان على الحقيقة اللغوية.(11/426)
ص -317-…الرابع: أن يكون المجاز راجحا والحقيقة تتعاهد في بعض الأوقات نحو والله لأشربن من هذا النهر فإن شربه منه حقيقة في كرعه من النهر بفيه وإذا اغترف في الكوز وشرب فهو مجاز إذ شربه إنما هو من الكوز لا من النهر وإنما المجاز هنا راجح متبادر إلى الفهم وقد يراد الحقيقة فإن كثيرا من الناس يكرع بفيه فهذا هو محل النزاع.
خاتمة قد علمت أن الأصل في الإطلاق الحقيقة وقد يصرف اللفظ من حقيقته إلى مجازه لقرينة في مثل ما لو قال رهنت الخريطة ولم يتعرض لما فيها والخريطة لا يقصد رهنها في مثل هذا الدين فهل يجعل رهنا لما في الخريطة وإن كان مجازا للقرينة الحالية فيه وجهان.
قال السادسة يعدل إلى المجاز لثقل لفظ الحقيقة
كالخنفقيق أو حقارة معناه كقضاء الحاجة أو لبلاغة لفظ المجاز أو عظمه في معناه كالمجلس العالي أو زيارة بيان كالأسد.
هذه المسألة في السبب الداعي إلى التكلم بالمجاز وهو وجوه:
أحدها: ألا يكون للمعنى الذي عبر عنه بالمجاز لفظ حقيقي.
وثانيها: ألا يعرف المتكلم أو المخاطب لفظه الحقيقي.
وثالثها: أنه قد يكون معلوما لغير المتخاطبين كما هو معلوم لهما والمجاز قد لا يكون معلوما لغيرهما فيعبر عنه لئلا يطلع غيرهما على ذلك المعنى.
ورابعهما أن الإخفاء وإن كان غير مطلوب له لكن قد يثقل لفظه الحقيقة على اللسان سواء كان ذلك لمفردات حروفه أو لتنافر تركيب أو لثقل وزنه وقد ذكر في الكتاب من أمثلة هذا القسم الخنفقيق بفتح الخاء المعجمة وإسكان النون وفتح الفاء بعدها وكسر القاف بعدها ياء آخر الحروف ثم قاف وهو الداهية فلما كان هذا اللفظ أعني الخنفقيق ثقيلا على اللسان لاجتماع هذه الأمور الثلاثة فيه أعني ثقل الحروف والوزن وتنافر التركب حسن العدول عنه إلى المجاز بأن تقول وقع فلان في موت وما أشبهه.(11/427)
ص -318-…فإن قلت إذا كان موضع الخنفقيق في اللغة الداهية فلا يحسن العدول عنه إلى المجاز مع وجود هذه اللفظة التي ليس فيها شيء من الأشياء الثلاثة.
قلت لعل المجاز هو العدول إلى الداهية.
فإن قلت هذا ينفيه قول الجوهري وهو ما ذكرتموه أن الخنفقيق هو الداهية والداهية ما يصيب الإنسان من نوب الدهر فإن مقتضى هذا أن يكون كل واحد من لفظي الخنفقيق والداهية دالا على النائبة.
قلت لمعنى الداهية لفظان:
أحدهما: يدل عليها بالحقيقة وهو الخنفقيق.
والثاني: بالمجاز وهو الداهية ولعل قول الجوهري الخنفقيق الداهية معناه أن الخنفقيق هو المعنى الذي يطلق عليه الداهية بطريق المجاز.
وخامسها: أن يستحقر لفظ الحقيقة عن أن يتلفظ به لحقارة معناه كما يعبر بالغائط عن الخراة.
وسادسها: أنه قد لا يصلح لفظ الحقيقة للسجع والتجنيس وسائر أصناف البديع أو لإقامة الوزن والقافية بخلاف لفظ المجاز وهذا مراد التصنيف بقوله لبلاغة لفظ المجاز.
وسابعها: أن التعبير بالمجاز قد يكون أدخل في التعظيم وأبلغ في المعنى كالمجلس العالي والجناب الشريف وما أشبه هذه الألفاظ فإنها أبلغ من قولك فلان.
وثامنها: أن يكون لزيادة بيان حال المذكور مثل رأيت أسدا فإنه أبلغ في الدلالة على الشجاعة لمن حكمت عليه بها من قولك رأيت إنسانا كالأسد شجاعة.
وتاسعها: أن المجاز قد يكون أدخل في التحقير.
وعاشرها: أن يكون المجاز أعرف من الحقيقة ولم يذكر في الكتاب من هذه الوجوه غير الرابع والخامس والسادس والسابع والثامن.(11/428)
ص -319-…قال السابعة اللفظ قد لا يكون حقيقة ولا مجازا
كما في الوضع الأول والأعلام قد لا يكون حقيقة ومجاز باصطلاحين كالدابة.
اللفظ قد لا يكون حقيقة ولا مجازا لغويا وقد يكون حقيقة ومجازا.
أما الأول: فمن اللفظ في أول الوضع قبل استعماله فيما وضع له أو في غيره ليس بحقيقة ولا مجاز لأن شرط تحقق كل واحد من الحقيقة والمجاز الاستعمال كما تقدم في تعريفهما فحيث انتفى الاستعمال انتفيا ومنه الأعلام المتجددة بالنسبة إلى مسمياتها فإنها أيضا ليست بحقيقة لأن مستعملها لم يستعملها فيما وضعت له أو لا بل إما أنه اخترعها من غير سبق وضع كما في الأعلام المرتجلة أو نقلها عما وضعت له كالمنقولة وليست بمجاز لأنها لم تنقل لعلاقة كما مر في المسألة الربعة وقد ظهر أن المراد بالأعلام هنا الأعلام المتجددة دون الموضوعة بوضع أهل اللغة فإنها حقائق لغوية لأسماء الأجناس وعلى هذا لا فرق في ذلك بين الأعلام المنقولة والمرتجلة على خلاف ما ظن الجاريردي شارح الكتاب حيث قال الذي يدور في خلدي أن المراد الأعلام المنقولة.
وأما الثاني: وهو أن اللفظ قد يكون حقيقة ومجازا فذلك بالنسبة إلى معنى واحد باعتبار اصطلاحين لأن اللفظ الموضوع للمعنى العام كالدابة الموضوعة لكل ما دب على الأرض إذا خصه العرف العام أو الشرع ببعض أنواعه كان ذلك اللفظ بالنسبة إلى ذلك المعنى حقيقة العام لغوية ومجازا عرفيا أو شرعيا وبالنسبة إلى ذلك النوع بالعكس ومن هذا يعرف أن الحقيقة قد تصير مجازا وبالعكس.
وأما بالنسبة إلى معنى واحد باعتبار واحد فذلك ممتنع لاستحالة النفي والإثبات.
قال الثامنة علامة الحقيقة سبق الفهم والعراء عن القرينة.
اعلم أن الفرق بين الحقيقة والمجاز إما أن يقع بالتنصيص أو الاستدلال أما التنصيص فمن وجهين:(11/429)
ص -320-…أحدهما: أن يقول الواضع هذه حقيقة وذاك مجاز وتقول ذلك أئمة اللغة قال الهندي لأن الظاهر أنهم لم يقولوا ذلك إلا عن فقه.
والثاني: أن يقول الواضع هذه حقيقة أو هذا مجاز فيثبت بهذا أحدهما وهو ما نص عليه وزاد الإمام ثالثا وهو أن يذكروا خواصهما وفيه نظر فإنه يندرج في قسم الاستدلال ولا يعد من التنصيص وأما الاستدلال فبالعلامات وهذا القسم هو الذي ذكره المصنف وذكر فيه لكل من الحقيقة والمجاز علامتين:
العلامة الأولى: من علامتي الحقيقة تبادر الذهن إلى فهم المعنى من غير قرينة.
فإن قلت ماذكرتم منقوض طردا وعكسا أما الطرد فلأن المجاز المنقول والمجاز الراجح مما يتبادر معنى كل منهما المجازي من غير قرينة دون حقيقتيهما وأما العكس فلأن المشترك حقيقة في مدلولاته مع عدم تبادر شيء منها إلى فهم.
قلت أما المنقول فغير وارد لأن المنقول إليه إنما يتبادر لأنه حقيقة فيه وكونه مجاز فيه أيضا لا ينافي كونه حقيقة فيه لما عرفت من أن اللفظ الواحد قد يكون حقيقة ومجازا وأما عدم تبادر الحقيقة الأصلية فلصيرورتها الآن مجازا عرفيا وأما المجاز الراجح فقال صفي الدين الهندي هو نادر والتبادر في الأغلب يختص بالحقيقة وتخلف المدلول على الدليل الظني لا يقدح فيه ألا ترى أن الغيم الرطب في الشتاء دليل وجود المطر وتخلفه في بعض الأوقات لا يقدح في كونه دليلا عليه لا سيما في المباحث اللغوية والأمارات الإعرابية وأما اللفظ المشترك فأحسن ما يجب به عنه أن التعريف بالعلامة لا يشترط فيه الانعكاس.
والعلامة الثانية: العراء عن القرينة يعني أنا إذا سمعنا أهل اللغة يعبرون عن معنى واحد بعبارتين ويستعملون إحداهما بقرينة دون الأخرى(11/430)
ص -321-…فتعرف أن اللفظة في المستعمل حقيقة دول القرينة لأنه لولا استقرار أنفسهم على تعين ذلك اللفظ لذلك المعنى بالوضع لم يقتصروا عليه عادة قال وعلامة المجاز الإطلاق على المستحيل مثل وأسأل القرية والأعمال في المنسى كالدابة للحمار.
العلامة الأولى: من علامتي المجاز إطلاق اللفظ على ما يستحيل تعلقه به إذ الاستحالة تقتضي أنه غير موضوع له فيكون مجازا ومثل في الكتاب له بقوله تعالى {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} أي لأنه لما علم امتناع سؤال الأبنية المجتمعة المسماة بالقرية علم أنه مجاز والتقدير وأسأل أهل القرية وفي هذا المثال من النظر ما قدمته.
العلامة الثانية: أن يستعمل اللفظ في المعنى المنسي بأن يكون موضوعا لمعنى له أفراد فيترك أهل العرف استعماله في بعض تلك الأفراد بحيث يصير ذلك البعض منسيا ثم يستعمل اللفظ في ذلك المعنى المنسي فيكون مجازا عرفيا مثال ذلك لفظ الدابة فإنه موضوع لكل ما يدب على الأرض فيترك أهل بعض البلدان استعمالها في الحمار بحيث نسي إطلاقها عليه عندهم.
وأعلم أن إطلاقها على غير المنسي مجاز لغوي لا قصرها على الحمار ببلاد مصر وعلى الفرس بالعراق وضع غير الوضع الأول كذا ذكروه وقد يقال إن استعملها المتكلم ملاحظا للوضع الأول كان حقيقة وإلا مجازا فالوضع الثاني لا يخرج الأول عما وضع له(11/431)
ص -322-…الفصل السابع في تعارض ما يخل بالفهم
قال الفصل السابع في تعارض ما يخل بالفهم وهو الاشتراك والنقل والمجاز والإضمار والتخصيص وذلك على عشرة أوجه.
الأحوال اللفظية المخلة بالأفهام الاشتراك والنقل والمجاز والإضمار والتخصيص.
واعلم أن التعارض بين هذه الاحتمالات الخمسة يقع على عشرة أوجه فقد اشتمل كلامنا هذا على دعاء.
والأولى: أن هذه الخمسة مخلة بالأفهام وبيان ذلك أنه على تقدير الاشتراك يحتمل أن يكون المراد غير ما يعنيه وعلى تقدير النقل يحتمل أن يكون المراد الحقيقة وكذلك على تقدير الإضمار والتخصيص.
والثانية: أنه لا يخل بالفهم من الألفاظ سواها وبيانها حصر المخلات في هذه الأقسام بالدوران وذلك بأن يقال كلما حصل أحد هذه الخمسة حصل الإخلال لما ذكرناه وكلما انتفت الخمسة انتفى الإخلال لأن مع زوال الاشتراك والنقل يكون اللفظ حقيقة واحدة ومع انتفاء المجاز والإضمار يكون المراد تلك الحقيقة ومع زوال التخصيص يكون المراد كلها هذه طريقة تدلك على الحصر ولك على ذلك طريقة أخرى وهي الترديد الدائر بين النفي والإثبات وذلك بأن تقول إذا لم يتعين المعنى من اللفظ فلا يخلو إما أن يكون لاحتمال معنى آخر داخل في مفهوم اللفظ أو خارج عنه إن كان(11/432)
ص -323-…الأول فهو احتمال التخصيص وإن كان الثاني فإما أن يكون لاحتمال حقيقة أخرى أو لا.
والأول: إن كان مسبوقا بوضع آخر فهو احتمال النقل وإلا فاحتمال الاشتراك.
والثاني: إن كان المصير إليه لضرورة لفظية فهو احتمال الإضمار وإلا فاحتمال المجاز.
والثالثة: أن التعارض بينها يقع على عشرة أوجه وبيانها أنه إنما يقع التعارض بين الاشتراك وبين الأربعة الباقية ثم بين النقل وبين الثلاثة الباقية ثم بين المجاز وبين الوجهين الباقيين ثم بين الإضمار والتخصيص فكان المجموع عشرا.
وأعلم أنه هذه الدعوى غير محررة والاعتراض عليها من وجوه:
أحدها: أنه إن أريد أنه إذا انتفت الخمسة حصل الظن بالمدلول لا الجزم فليس بصحيح فإن الظن حاصل مع الاحتمالات وإن أريد أن الخمسة تخل بالجزم بالمدلول لا بظنه فنقول لا يلزم من انتفاء الخمسة انتفاء الاحتمال وحصول الجزم كيف وقد ذكر الإمام أن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين إلا بنفي عشرة احتمالات فذكر هذه الخمسة مع التقديم والتأخير والناسخ والمعارض العقلي وتغير الإعراب ومعلوم أنه هذه العشرة إنما تخل باليقين لا بالظن فكان حقه أن يذكر هاهنا العشرة بعينها فالحصر في الخمسة باطل.
فإن قلت لعل المراد أن انتفاء الخمسة يحصل غلبة الظن وتلك رتبة متوسطة بين اليقين وأصل الظن.
قلت هذه الغلبة لا ضابط لها وغلبة الظن لا تخرج عن باب الظن فإن الظنون تتفاوت وهي مشتركة في مشروع واحد.
والثاني: أن ما ذكر من أنه إذا انتفى المجاز والإضمار بقي اللفظ مستعملا فيما وضع له مفهومه أنه إذا وجد أحدهما لا يكون اللفظ مستعملا فيما وضع له وليس كذلك لأن الإضمار على قسمين:(11/433)
ص -324-…أحدهما: ما يوجب مجازا في اللفظ مثل: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} فإن إضمار الأهل هو الذي صير إسناد السؤال في الظاهر إلى القرية مجازا.
الثاني: هو ما لا يوجب مجازا في اللفظ كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}1 الآية فإذا أضمرنا فيها محدثين لا يتجدد في اللفظ مجاز وكذلك قوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فإذا أضمرنا فأفطرتم لا يتجدد في اللفظ مجاز.
الثالث: أن الكلام في هذه المحتملات إن كان في مطلقاتها وأجناسها دون أنواعها وأشخاصها فلا ينبغي أن يذكر الإضمار ولا التخصيص لأنهما نوعان للمجاز فيندرجان تحت مطلقه وعلى هذا يكون الاحتمالات المخلة ثلاثة فقط وإن كان الكلام في أنواعها دون مطلقاتها وأجناسها فلا ينحصر في خمسة لأن أنواع المجاز متعددة كما سبق وقد ذكر فيما تقدم اثني عشر نوعا وأنواع النقل ثلاثة فهذه خمسة عشر اثنين منها فعلم أن الحصر في الخمسة فاسد.
الرابع: أن من جملة الاحتمالات المخلة بالفهم النسخ لأن السامع إذا جوز على حكم اللفظ أنه منسوخ لم يجزم ثبوته ولم يذكروه مع الخمسة والإمام ذكره بعد ذلك وزعم أنه مندرج في التخصيص فلذلك لم يقرره بالذكر وتبعه المصنف في ذلك وهذا لا يستقيم لا على أصله ولا على الحق في نفس الأمر فإن أصله أن صيغة الأمر للقدر المشترك بين المرة والتكرار فلا عموم في الأزمان فلا نسخ وأما على الحق في نفس الأمر فلأنا إذا سيرنا الأوامر لا نجدها تقتضي بصيغتها فعل المأمور أبدا فكان الأحسن أن يعد النسخ وقد نظم بعضهم بيتين في هذه الأقسام وذكر النسخ فقال:
تجوز ثم إضمار وبعدهما…نقل تلاه اشتراك فهو يخلفه
وأرجح الكل تخصيص وآخرهم…نسخ فما بعده قسم يخلفه
قال الأول النقل أولى من الاشتراك لأفراده في الحالتين كالزكاة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(11/434)
1 سورة المائدة آية: 6.(11/435)
ص -325-…شرع في ذكر الوجوه العشرة على الترتيب المذكور فنقول النقل أولى من الاشتراك لأن المنقول مدلوله مقرر في الحالتين أي قبل النقل وبعده أما قبل النقل فلأن مدلوله المنقول عنه وهو اللغوي وأما بعده فلأن مدلوله المنقول إليه وهو الشرعي أو العرفي وإذا كان مدلوله مفردا لم يمتنع العمل به.
وأما المشترك فمدلوله متعدد في كل وقت فيكون المجمل لا يعمل به إلا بقرينة اللهم إلا أن يقال نحمله وما لا يمتنع العمل به أولى من عكسه مثال ذلك لفظ الزكاة فإنه يحتمل أن يكون مشتركا بين النماء والقدر المخرج من النصاب وأن يكون موضوعا للنماء فقط ثم نقله الشرع إلى القدر المخرج من النصاب فإذا تعارضا فالنقل أولى لما ذكرناه ومن أمثلته أن يقول الشافعي الفاتحة ركن في الصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم: "كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج"1 ولفظ الصلاة في عرف الشرع منقول إلى العبارة المخصوصة فوجب أن تكون الفاتحة ركنا فيقول الحنفي مذهب القاضي أن الشرع لم ينقل شيئا من الألفاظ بل الصلاة مشتركة بين الدعاء وبين المتابعة ومنه سمي الثاني في جلية السياق مصليا لكونه تابعا لصلوي الذي قبله وسميت هذه العبارة صلاة لما فيها من المتابعة للأئمة غالبا وذا كانت مشتركة كانت مجملة فيسقط الاستدلال بها حتى يدين الخصم رجحان اللفظ في أحدهما.
فنقول جعلها منقولة إلى العبارة المخصوصة أولى من الاشتراك لما تقرر.
ومنها أن يقول الشافعي الكلب نجس لقوله صلى الله عليه وسلم: "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبعا"2 والطهارة في عرف الشرع منقولة إلى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حديث صحيح رواه أحمد والبخاري ومسلم من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن" وفي رواية بفاتحة الكتاب – فهو خداج هي خداج غير تمام".(11/436)
2 ولفظه كما عند مسلم وأبو داود والبيهقي عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب".(11/437)
ص -326-…إزالة الحدث والخبث ولا حدث فيتعين الخبث فيقول المالكي لفظ الطهارة مشترك في اللغة بين إزالة الأقذار وبين الغسل على وجه التقرب إلى الله تعالى لأنه مستعمل فيهما حقيقة إجماعا والأصل عدم التغيير والتقرب إلى الله تعالى كان معلوما لهم لقوله تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}1 والمشترك مجمل فيسقط الاستدلال د به حتى بين الخصم الرجحان.
فنقول جعله منقولا إلى العبارة المخصوصة أولى من الاشتراك لما مر.
قال الثاني: المجاز خير منه لكثرته وإعمال اللفظ مع القرينة ودونها كذلك.
المجاز أولى من الاشتراك لوجهين:
أحدهما: أنه أكثر في اللغة والأكثرية دليل الرجحان.
والثاني: أنه على تقدير المجاز إن كان اللفظ مع القرينة وجب حمله على المجاز وإن كان مجردا عنها وجب حمله على الحقيقة فهو معمول به على التقديرين بخلاف الاشتراك فإن اللفظ المشترك إذا تجرد عن القرينة وجب التوقف على المختار عندهم وإن عمل به عند البعض احتياطا فليس العمل للاحتياط كالعمل مع التحقيق.
ومن أمثلة الفضل قولنا موطوءة الأب بالزنا يحل للإبن نكاحها لقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}2 وهذه طابت للإبن.
فإن قلت هذا معارض بقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ}3 والنكاح حقيقة في الوطء
قلت بل هو حقيقة في العقد لقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ}.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزمر آية: 3.
2 سورة النساء آية: 3.
3 سورة النساء آية: 22.(11/438)
ص -327-…وغيرها من الآيات وإذا كان حقيقة في العقد لا يكون حقيقة في الوطء وإلا يلزم الاشتراك.
فإن قلت لولا ذلك لزم المجاز.
قلت المجاز خير من الاشتراك لما ذكرناه.
ومنها قولنا لا يجوز التوضؤ بالنبيذ لأن الله تعالى نص على سبيله الماء فوجب حصر السبب فيه عملا بالأصل الثاني لسببية غيره.
وإنما قلنا إن الله تعالى نص على سببية الماء لقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً}1 والطهور هو الذي يتطهر به كالحنوط والسعوط الذي يتحنط به ويتسعط به فيقول الحنفي الأصل في فعول أن يكون تابعا لفاعل في القصر والتعدية وطاهر قاصر فطهور مثله فلو كان ههنا الذي يتطهر به للزم الاشتراك وعلى ما نقوله تكون صيغته هنا مجازا فإنه لا تكرار في طاهرية بماء السماء فالمجاز أولى من الاشتراك لما مر فتقول هو الترجيح مدفوع بقوله تعالى: {لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} والباء للسببية فيدل على أن المراد الذي يفعل به التطهير.
قال الثالث: الإضمار خير منه لأن احتياجه إلى القرينة في صورة احتياج الاشتراك إليها في صورتين.
الإضمار أولى من الاشتراك لأنه لا يحتاج إلى القرينة إلا في صورة واحدة وهي صورة إرادة المعنى الإضماري بخلاف المشترك فإنه مفتقر إلى القرينة في جميع صوره إذ ليس البعض فيه أولى من البعض وفي بعض نسخ الكتاب بعد قوله في صوريتن مثل: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} أي أن لفظ القرية يحتمل أن يكون منقولا بالاشتراك على الأهل والأبنية ويحتمل أن يكون حقيقة في الأبنية فقط والأهل مضمر فيقول المناظر الإضمار أولى لما قلناه ومن أمثلته قولنا لا يجوز للأب أن يتزوج بجارية ابنه لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} إلى قوله: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ}2 وجارية الابن حليلة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الفرقان آية: 48.
2 سورة النساء آية: 23.(11/439)
ص -328-…لأن الحليلة فعيلة من الحل وهي المرأة التي يحل وطؤها فحليلة الابن المرأة التي يحل وطؤها والجارية المملوكة للإبن كذلك فتكون حليلة له وإذا كانت حليلة للإبن اندرجت تحت الآية فتكون محرمة على الأب فيقول الحنفي حليلة الرجل هي المرأة التي تحل له بالنكاح وهي الزوجة ودليله النقل.
قال الجوهري الحليلة الزوجة فنقول لا نسلم أن إطلاق الحليلة على الزوجة بطريق الحقيقة.
فإن قلت الأصل في الإطلاق الحقيقة قلت نعم لكن لو جعلناه حقيقة فيما ذكرتم فإما أن يكون حقيقة فيما ذكرناه أيضا أو مجازا فيه والثاني باطل لأنه يلزم منه ترجيح الاستعمال في دلالته على الحقيقة على الإشتقاق في دلالته عليها وذلك لأن الظاهر أن الجوهري إنما أخذ أن الحليلة هي الزوجة من استعمال العرب والاستعمال أعم منه أن يكون على سبيل الحقيقة أو المجاز ونحن دللنا باشتقاق لفظ الحليلة المقتضي لما هو أعم من الزوجة فليكن أرجح لبعد الخطأ فيه والأول أيضا باطل لأنه يلزم منه الاشتراك.
فإن قلت لو لم يكن مشتركا بل كان حقيقة فيما ذكرتم مجازا فيما ذكرناه لزم الإضمار لأن جارية الإبن لا تحرم على الأب على التأييد بالإجماع بل ما دامت مملوكة والآية إنما سيقت لبيان المحرمات على التأييد فلا بد من إضمار ما يصح به تحريم جارية الإبن لا على التأييد لجواز أن يقال وحلائل أبنائكم بالنكاح وبملك اليمين مادامت حليلتهم والإضمار أيضا خلاف الأصل فوقع التعارض بين الاشتراك والإضمار.
قلت الإضمار أولى.
ومنها قراءة الفاتحة واجبة في صلاة الجنازة لقوله صلى الله عليه وسلم "كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج" وهذه صلاة فوجبت الفاتحة فيها فإن قال الخصم لفظ الصلاة مفهوم مشترك في عرف الشرع لإطلاقه على ما لا ركوع فيه ولا سجود كالجنازة وعلى ما لا تكبير فيه ولا سلام كالطواف وعلى ما لا قيام فيه كصلاة المريض وليس بينهما قدر مشترك فحعل اللفظ حقيقة فيه فيكون(11/440)
ص -329-…مشتركا مجملا يسقط الاستدلال به قلنا المشترك عندنا يحمل على جميع مسمياته عند عدم القرينة فتندرج صلاة الجنازة تحت عمومه.
فإن قلت وجب جعل اللفظ غير منقول حذرا من الاشتراك ويكون ههنا إضمار تقديره كل صلاة من الصلوات الخمس لم يقرأ فيها بأم القرآن ويكون إطلاق لفظ الصلاة على الصلوات الخمس مجازا لغويا والإضمار أولى من الاشتراك.
فنقول هذا الترجيح مدفوعا بالقياس على الصلوات الخمس.
قال الرابع التخصيص خير لأنه خير من المجاز كما سيأتي مثل ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم فإنه مشترك أو مختص بالعقد وخص عنه الفاسد.
التخصص خيرمن الاشتراك لأن التخصيص خير من المجاز والمجاز خير من الاشتراك ينتج ما ادعيناه.
أما الصغرى فلما سيأتي إنشاء الله تعالى وأما الكبرى فلما مر مثاله أن يقول الحنفي موطوءة الأب بالزنا محرمة على الابن لقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} وهو حقيقة في الوطء فنقول بل هو حقيقة في العقد لما قررناه كما في قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ}1 وإذا ثبت أنه موضوع للعقد فلم يبق إلا أن يكون مشتركا بين العقد والوطء أو أن يكون مختصا بالعقد وخص عنه الفاسد حتى إذا نكح الأب نكاحا فاسدا فللإبن أن ينكح تلك الموطوءة بالوطء الفاسد والتخصيص أولى من الاشتراك.
قال الخامس: المجاز خير من النقل لعدم استلزامه نسخ الأول كالصلاة.
المجاز الأول خير من النقل لأن النقل ستلزم نسخ الأول مثاله الصلاة فإن المعتزلة ادعت أنها منقولة إلى الأفعال الخاصة وجمهور الأصحاب قالوا إنها مجازات لغوية اشتهرت فمذهبهم أولى لأن المجاز أولى من النقل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النور آية: 32.(11/441)
ص -330-…ومن أمثلته أن يقول المالكي يجزى رمضان كله نية واحدة من أوله لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صيام لم يبيت الصيام من الليل"1 ووجه الاحتجاج أن الصيام منقول عن أصل الإمساك إلى الإمساك المخصوص والمعرف بأل يفيد العموم واستغراق الصوم إلى الأبد ورمضان من جملة ذلك فيكون مفهوم ذلك أن من بيت كان له الصوم وهذا قد ثبت فيقول الشافعي لا نسلم أنه منقول بل مجاز في إمساك جزء من الليل قبل الفجر ويكون من مجاز التعبير بالأعم عن الأخص فإن الشرع لم يصرح بتبييت الصوم وما ذكرناه محمل صالح له والمجاز أولى من النقل.
قال السادس: الإضمار خير منه لأنه مثل المجاز كقوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبا} فإن الأخذ مضمر والربا نقل إلى العقد.
الإضمار أولى من النقل لأن الإضمار مساو للمجاز لما سيأتي إن شاء الله تعالى والمجاز أولى من النقل لما مر مثاله قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبا} فإن الربا هو زيادة والزيادة بعينها لا توصف بحل ولا حرمة فلا بد من تأويل فأضمرت طائفة الأخذ وقالت التقدير حرم أخذ الربا فإذا توافق البايع والمشتري على إسقاط الزيادة صح وقالت طائفة الربا نقل إلى العقد المشتمل على الزيادة وذلك لقرينة قوله: {أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}2 فإذن المنهي عنه نفس العقد سواء اتفقا على خط الزيادة أم لا فالأول أولى لأن الإضمار أولي من النقل.
قال السابع: التخصيص أولى لما تقدم مثل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} فإنه المبادلة مطلقا وخص الفاسد أو نقل إلى المستجمع لشرائط الصحة.
التخصيص أولى من النقل لأن التخصيص خير من المجاز لما سيأتي إن شاء الله والمجاز خير من النقل لما مر والخير من الخير خير مثاله قوله تعالى: {أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} فمن قائل البيع موضوع للمبادلة مطلقا وخص عنه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه ابن ماجه من حديث حفصة – رضي الله عنها – بلفظ "لا صيام لمن لم يفرضه من الليل".(11/442)
2 سورة البقرة آية: 275.(11/443)
ص -331-…الفاسد لكونه غير حلال ومن قائل بل نقل إلى المعارضة المشتمل على الأركان والشرائط فالأول أولى لأن التخصيص أولى من امثلته أن يقول المالكي يلزم الظهار من الأمة وأم الولد لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} الآية وهما من جملة النساء فإذا قال الشافعي لفظ النساء صار منقولا في العرف للحرائر فوجب ألا يتناول محل النزاع ولو لم يكن منقولا للزم أن يكون مخصوصا بذوات المحارم فإنهن من نسائهم ولا يلزمهم فيهن ظهار كان للمالكي أن يقول إذا وتعارض النقل والتخصيص فالتخصيص أولى.
قال الثامن: الإضمار مثل المجاز لاستوائهما في القرينة مثل هذا ابني.
الإضمار مثل المجاز فلا يترجح أحدهما على الآخر إلا بدليل من خارج وإنما قلنا إنهما سيان لاستوائهما في الاحتياج إلى القرينة واحتمال خفائها وهذا ما جزم به في الكتاب تبعا للإمام في المحصول.
وقال الإمام في المعالم يترجح المجاز لكثرته وهذا ما اختاره صفي الدين الهندي وقيل بالعكس وقوله مثل هذا ابني.
أعلم أن هذا المثال لم يذكره الإمام ولا صاحب الحاصل والذي عندي في تقريره أن القائل لعبده هذا ابني والعبد لا يمكن أن يكون ابنه إما لكونه مشهور النسب من غيره أو لكونه أكبر سنا منه فههنا قد انتفت الحقيقة وبقي اللفظ دائرا بين مجازي الإضمار والمجاز إذ يحتمل أن يكون المراد مثل ابني في الحنو أو أنه ابني مجازا لذلك وأما أنه هل يترتب على هذا عتق أو لا يترتب فليس من وظيفة الأصولي التعرض له ولا إرادة المصنف وقد حكى الأصحاب وجهين فيما إذا كان مشهور النسب من غيره واستلحقه هل يعتق لكونه أقر بالنبوة التي لازمها العتق فيؤاخذ باللازم وإن لم يثبت الملزوم ولكن ليس مأخذ الوجهين الإضمار والمجاز كيف وهو إنما أراد باللفظ حقيقته ولكن لم تسمع منه وكذا لو قال أحد الوارثين فلانة بنت أبينا هل يحكم بعتقها وجهان وليس مأخذهما مجاز الإضمار والتخصيص بل شيء غيره وقد(11/444)
ص -332-…نبهان على ذلك لئلا يغتر به مغتر.
وأما ما ذكره الرافعي في الركن الأول من الباب الثاني في أركان الطلاق عن فتاوى القفال من أنه لو قال يا بنتي وقعت الفرقة بينهما عند احتمال السن كما لو قال لعبده أو أمته واختار النووي أنه لا يعتق بمجرد ذلك لأنه يذكر في العادة للاستيناس والتحنن فهذه المسألة غير المسألة التي نحن فيها وهي قوله: هذا ابني والفرق واضح بينهما وهو ما ذكره النووي من أن بنتي يذكر في العادة للاستيناس والتحنن وهذا ابني ليس كذلك فقد وضح أن مسألة هذا ابني على الوجه المذكور غير معروفة في المذهب فافهم ذلك ونظيرها ما لو قال أوصيت لزيد بنصيب ابني.
وقد اختلف الأصحاب في أن الوصية هل تبطل أو تحمل على مثل نصب ابنه ومن أمثلة تعارض المجاز والإضمار أن يقول الشافعي يجوز قتل الرهبان في الحرب لدخولهم في عموم قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} فإن قال المالكي يلزم على ما ذكرته أن يكون لفظ المشرك مجازا إذا المشترك من جعل الشريك وهذا يصدق على شركاء الزرع والعقار ويكون قد عبر بلفظ المشرك على الكافر بالشرك تعبيرا عن الأخص بلفظ الأعم بل ينبغي أن يكون في الآية إضمار تقديره اقتلوا محاربة المشركين صونا له عن المجاز ولا يندرج صورة النزاع حينئذ كان للشافعي أن يقول المجاز أولى ويتجاذبان أطراف الكلام(11/445)
ومنها أن يقول الشافعي النية شرط في الوضوء للصلاة لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية وجه التمسك أنه تعالى يأمر بغسل الأعضاء المذكورة لأجل الصلاة لأنه أمرنا بالغسل لأجل إرادة الصلاة لأن المراد من القيام إلى الصلاة إرادة الصلاة والأمر بالفعل بشرط إرادة فعل آخر يكون أمر بالفعل لأجل الفعل الآخر كما في قولهم إذا دخلت على الخليفة فتأدب أي لأجل الدخول عليه ومنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً}1 أي لأجل نجواكم فعلم أنه بغسل الأعضاء لأجل الصلاة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المجادلة آية: 12.(11/446)
ص -333-…وجوبا ولا يعني باشتراط النية سوى وجوب غسل الأعضاء الأربعة لأجل الصلاة فإن قال الحنفي لم قلت إن المراد هنا الوجوب.
قلنا ظاهر الأمر الوجوب فإن قال نعم ولكن لو حملناه على الوجوب لزم إضمار الحدث لأن الوضوء لا يجب إلا على المحدث ولو حملناه على الندب لم يلزم الإضمار وإنما يلزم المجاز في لفظ الأمر.
قلنا الإضمار أولى وهو منقول هنا عن عكرمة وابن مسعود ويقع النظر بينهما.
ومنها إذا تحقق الرجل من امرأته النشوز ولكنه لم يتكرر ولم يظهر إصرارها عليه فله مع الوعظ أن يهجرها في المضطجع وفي ضربها وجهان رجح الشيخ أبو حامد والمحاملي أن لايجوز ومال ابن الصباغ والشيخ أبو إسحاق الشيرازي إلى الجواز واختاره النووي والمأخذ قوله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ}1 فمن قال بالأول قال مجازا كما في قوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً}2 أي علم وفي الآية إضمار والمعنى واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن فإن نشزن فاهجروهن في المضاجع فإن أصررن فاضربوهن ومن قال بالثاني قال الخوف بمعنى العلم مجازا كما في قوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً} أي علم فتعارض المجاز والإضمار.
قال التاسع التخصيص خير لأن الباقي متعين والمجاز بما لم يتعين مثل: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} فإن أراد التلفظ وخص النسيان أو الذبح.
التخصيص أولى من المجاز لأن الباقي من أفراد العام بعد التخصيص متعين بخلاف المجاز فإنه ربما لم يتعين لأن اللفظ وضع ليدل على المعنى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية: 34.
2 سورة البقرة آية: 182.(11/447)
ص -334-…الحقيقي فإذا انتفى بقرينة افتقر صرف اللفظ إلى المجاز إلى تأمل لاحتمال تعدد المجازات ولا يقال اللفظ لا يصرف عن الحقيقة إلا بقرينة وتلك القرينة تهدي إلى المجاز فأين التأمل بعد القرينة لأنا نقول قد تجئ القرينة بصرف اللفظ عن ظاهره من غير تعرض إلى تبيين المقصود مثال تعارض التخصيص والمجاز قول الحنفي متروك التسمية عمدا لا يخل بقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}1 أي ولا تأكلوا مما لم يتلفظ عليه باسم الله.
وقول الشافعي المراد بذكر الله تعالى هو الذبح مجاز لأن الذبح غالبا لا يخلو عن التسمية فيكون نهيا عن أكل غير المذبوح لأنه لولا ذلك وأولنا كما قلتم للزم تخصيص اللفظ إذا سلمتم أن ذبيحة الناس حلال فللحنفي أن يقول التخصيص خير من المجاز ومن أمثلته أيضا أن يقول الشافعي العمرة فرض لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}2 وظاهر الأمر الوجوب فيقول المالكي تخصيص النص بالحج والعمرة المشروع فيهما لأن استعمال الإتمام في الابتداء مجاز والتخصيص أولى من المجاز للشافعي بعد هذا أن يقول هذا الترجيح معارض بأنهما قد استويا في السياق فوجب أن يستويا في الحكم والحج واجب إجماعا فيجب الآخر عملا بالأصل المستوي بينهما.
قال العاشر التخصيص خير من الإضمار لما مر مثل ولكم في القصاص حياة.
التخصيص خير من الإضمار لأن التخصيص خير من المجاز لما مر والمجاز مساو للإضمار والأولى من المساوي أولى مثاله قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}3 فإن الأئمة اختلفوا فيه فقال منهم قائل الخطاب عام اختص بالورثة لأنهم إذا اقتصوا حصلت لهم الحياة بدفع شر هذا القاتل الذي صار عدوا لهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية: 121.
2 سورة البقرة آية: 196.
3 سورة البقرة آية: 179.(11/448)
ص -335-…وقال قائل بل هو عام والمشروعية مضمرة أي ولكم في مشروعية القصاص حياة وذلك لأن الناس إذا سلموا أن القصاص مشروع كان أدعى لاندفاع القتل ما بينهم لأن من هم بالقتل واستحضر أنه يقتص منه انكف عن القتل غالبا.
واعلم أن هذا التأويل الثاني هو الصحيح وإن كان الأول مترجحا من جهة أولوية التخصيص وكذلك كل ما أوردناه من هذا الفصل من الأمثلة فإنا غير حاكمين عليه بالترجيح إلا من جهة ما أوردناه له مثالا ولا يشترط أن يكون مرجوحا من وجه آخر هو أقوى أو مساو لذلك ذكرنا في بعض الأمثلة أن الترجيح يندفع بالأمر الفلاني تنبيها على ما أشرنا إليه الآن ومن أمثلة هذا الوجه العاشر أن يقول المالكي الكلب طاهر لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}1 والضمير في أمسكن عام في جملة الجوارح فيندرج فيه الكلب فيجوز أكل موضع فمه عملا بالظاهر فيكون طاهرا فيقول الشافعي يلزم على ما ذكرتموه جواز أكل ما أمسك بعد القدرة عليه من غير ذكاة وليس كذلك فيلزم التخصيص بل ههنا إضمار تقديره كلوا من حلال ما أمسكن عليكم وكون موضع فمه من الحلال محل النزاع فللمالكي أن يقول على ما ذكرناه يلزم التخصيص وعلى ما ذكرتموه يلزم الإضمار والتخصيص أولى.
ومنها قولنا لا يصح صوم رمضان إلا بنية الفرض خلافا لأبي حنيفة حيث قال يصح بمطلق النية أو بنية النقل ونية واجب آخر لنا "إنما الأعمال بالنيات" ويقتضي توقف ذات الأعمال على نياتها كما يقال إنما الكتابة بالقلم ويلزم من توقف ذوات الأعمال توقف صحتها لاستحالة وجود الصحة بدون الذات والمراد بالنيات نيات الأعمال فاقتضى توقف صحة كل عمل على نيته فيتوقف الفرض على نية الفرض.
فإن قلت الكمال مضمر في الحديث إذ لو لم يضمر لزم التخصيص بالأعمال التي لا تتوقف على النية كرد الودائع والغصوب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة آية: 4.(11/449)
ص -336-…قلت التخصيص أولى.
قال تنبيه الاشتراك من النسخ لأنه لا يبطل.
التخصيص الذي سبق ترجيحه على الاشتراك وغيره هو التخصيص في الأعيان لا التخصيص في الأزمان الذي هو النسخ فإن الاشتراك خير منه وذلك لأن الاشتراك لا إبطال فيه بل غايته التوقف إلى القرينة عند من لا يحمله على معنييه بخلاف النسخ فإنه يبطل الحكم السابق بالكلية مثال التبييت شرط في صحة صوم رمضان خلافا لأبي حنيفة وساعدنا على القضاء والنذر فنقيس محل النزاع على محل الوفاق.
فإن عارض بما روي أنه عليه السلام قدم المدينة يوم عاشوراء فرأي اليهود صائمين فسأل عليه السلام عن صومهم ويومهم فقيل هذا يوم أنجى الله تعالى فيه موسى عليه السلام وأهلك عدوه فرعون وكان موسى عليه السلام يصومه شكرا ونحن نصومه اتباعا له فقال عليه السلام: "نحن أحق بموسى منهم" ثم أمر مناديا ينادي: "ألا من أكل فليمسك بقية النهار ومن لم يأكل فليصم"1 أمر بالصوم في أثناء النهار ومن المعلوم أن الصوم في أثناء النهار لا يكون إلا بنية من النهار.
قلنا لا نسلم وجوب ذلك اليوم.
فإن قال ظاهر الأمر الوجوب كان لمن يعتقد أن الأمر مشترك بين الوجوب والندب أن يقول كما هو في حقيقة في الوجوب فكذلك في الندب وإذا كان حقيقة فيهما لا يحمل على الوجوب إلا بقرينة زائدة وعندنا صوم النقل يصح بنية من النهار.
فإن قلت الاشتراك خلاف الأصل قلت لو لم يكن مشتركا لزم النسخ فإن صح يوم عاشوراء غير ثابت والاشتراك خير من النسخ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه البخاري ومسلم وأبو داود.
تيسير الوصول 2/304.(11/450)
ص -337-…قال والاشتراك بين علمين خير منه بين علم ومعنى وخير منه بين معنيين.
هذان فرعان:
الأول: أنه إذا تعارض المشترك بين علمين والمشترك بين علم ومعنى فالمشترك بين علمين أولى لأن الأعلام إنما بين علمين أولى لأن الأعلام إنما تطلق على الأشخاص المخصوصة كزيد وعمرو إذ المراد العلم الشخصي لا الجنسي وهذا بخلاف أسماء المعاني إذا تتناول المسمى في أي ذات كان فكان اختلال الفهم يجعله مشتركا بين علمين أقل الفرع.
الثاني: وإليه أشار بقوله وهو أي المشترك بين علم ومعنى أولى من المشترك بين معنيين لأن الاختلال الحاصل عند الاشتراك من الأول أقل من الثاني هذا ما ذكره المصنف تبعا للإمام في هذين الفرعين وأنت إذا نظرت إلى قولهما المشترك بين علمين وبين علم ومعنى وعلمت أن المشترك لا بد وأن يكون حقيقة في أفراده وتذكرت ما قالاه قبل ذلك من أن العلم ليس بحقيقة ولا مجاز علمت أن الغفلة تطرقت إليهما في ذلك وبالله التوفيق.(11/451)
ص -338-…الفصل الثامن في تفسير حروف يحتاج إليها
قال رحمه الله الفصل الثامن في تفسير حروف يحتاج إليها وفيه مسائل:
الأولى: الواو للجمع المطلق بإجماع النحاة ولأنها تستعمل حيث يمتنع الترتيب مثل تقابل زيد وعمرو وجاء زيد وعمرو قبله ولأنها كالجمع والتثنية وهما لا يوجبان الترتيب.
هذا الفصل معقود لتفسير حروف يشتد حاجة الفقيه إلى معرفتها لكثرة وقوعها في الدلائل وقد أودعه مسائل:
الأولى: في حكم الواو العاطفة وبدأ بها لأنها أصل الباب وفيها مذاهب:
أحدها: أنها للترتيب وهو الذي اشتهر من أصحاب الشافعي كما قال إمام الحرمين وهو قضية كلام الماوردي حيث استدل على الترتيب في الوضوء بآية الوضوء وقال قد عطف بحرف الواو ذلك موجب للترتيب لغة وشرعا.
الثاني: أنها للمعية وعلية الحنفية كما قال إمام الحرمين ثم قال وقد ذل الفريقان يعني القائلين بالترتيب والمعية.
والثالث: وهو المختار أنها لمطلق الجمع لا تدل على ترتيب ولا معية فإذا قلت جاء زيد وعمرو فقد أشركت بينهما في الحكم من غير تعرض لمجيئهما معا أو لمجيء أحدهما بعد الآخر فهي للقدر المشترك بين الترتيب والمعية وهذا ما نقله القاضي أبو الطيب في شرح الكفاية عن أكثر أصحابنا ونقل عن الفراء(11/452)
ص -339-…أنا للترتيب حيث يمتنع الجمع مثل اركعوا واسجدوا ويشبه ألا يكون هذا مذهبا رابعا مفصلا لأن الموضوع للقدر المشترك بين معنيين إذا تعذر حمله عليه للقرينة موضوعا له بل لتعذر الحمل على صاحبه وانحصار الأمر فيه ونقل بعضهم عن الفراء أنه للترتيب وقد استدل في الكتاب على المذهب المختار بثلاثة أوجه:
أحدها: إجماع النحاة قال أبو علي الفارسي أجمع نحاة البصرة والكوفة على أنها للجمع المطلق وذكر سيبويه في سبعة عشر موضعا من كتابه أنها للجمع المطلق.
الثاني: أنها تستعمل حيث يمتنع الترتيب فإنك تقول تقاتل زيد وعمر والتفاعل يقتضي صدور الفعل من الجانبين معا وذلك ينافي الترتيب وتقول جاء زيد وعمرو هنا أن تكون الواو للترتيب وإلا لزم التناقض وإذا استعملت في غير الترتيب وجب ألا تكون حقيقة في الترتيب رفعا للاشتراك وهذا الدليل لا يثبت المدعى وإنما ينفي كونها للترتيب.
والثالث: أن النحاة قالوا واو العطف في المختلفات بمثابة واو الجمع وياء التثنية في المتغقات ولذلك أنهم لما لم يتمكنوا من جمع الأسماء المختلفة وتثنيتها استعملوا واو العطف ثم إن واو الجمع والتثنية لا يوجبان الترتيب فكذلك واو العطف وهذا الدليل كالذي قبله لا ينفي القول بالمعية وهنا أمور:
أحدها: أنه أطلق الواو والصواب تقييده لواو العطف لتخرج واو مع واو الحال مثل سرت والنيل فإنهما يدلان على المعية بلا شك.
وثانيها: حكايته الإجماع قلد فيه الإمام والإمام حكاه عن الفارسي وكذلك نقله السيرافي والسهيلي وفيه نظر فإن الخلاف موجود عند النحويين في ذلك كما هو عندهم غيرهم.
وقد سبق النقل عن الفراء وكذلك قال شيخنا أبو حيان في الارتشاف(11/453)
ص -340-…ونقله السهيلي1 والسيرافي2 إجماع النحويين بصريهم وكوفيهم على ذلك غير صحيح.
وثالثها: وهو المقصود الأعظم والمهم الأكبر ذكر الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في شرح الإمام عن بعض الباحثين المتعلقين بعلم المعقول أنه فرق بين مطلق الماء والماء المطلق بما حاصله أن الحكم المعلق بمطلق الماء يترتب على حصول الحقيقة من غير قيد والمرتب على الماء المطلق مرتب على الحقيقة بقيد الإطلاق ولا يلزم من توقف الحكم على مطلق الحقيقة توقفه على الحقيقة المقيد بقيد الإطلاق قلت وقد جرى البحث مع والدي رحمه الله في قاعدة مطلق الشيء والشيء المطلق ولا شك أنه إذا أخذ المطلق قيدا في الشيء كان المراد بالأول حقيقة الماهية وبالثاني هي تقيد الإطلاق فالأول لا يقيد والثاني يقيد لا.
وقولنا يقيد لا يقيد التجرد عن جميع القيود إلا قيد لا وقد لا يراد ذلك بل يراد التجرد عن قيود معروفة ولذلك أمثلة منها مطلق الماء والماء المطلق.
فالأول: ينقسم إلى الطهور والطاهر غير الطهور والنجس وكل الطاهر غير الطهور والنجس ينقسم بحسب ما يتغير به ويخرجه ذلك عن أن يطلق عليه أسم الماء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو عبد الرحمن عبد الله أحمد الخثعمي السهيلي كان عالما باللغة والسير ضريرا.
من كتبه الروض الأنف في شرح السيرة النبوية لابن هشام والتعريف والإعلام في ما أبهم في القرآن من الأسماء والأعلام.
توفي سنة 581 هـ.
تذكرة الحفاظ 4/137 الأعلام 4/86.
2 هو الحسن بن عبد الله بن المرزبان السيرافي نحوي عالم بالأدب وكان معتزليا متعففا لا يأكل إلا من عمل يده.
من مؤلفاته الإقناع في النحو أكمله بعده ابنه يوسف وأخبار النحويين البصريين وصيغة الشعر وغير ذلك.
توفي سنة 368 هـ.
وفيات الأعيان 1/130 الأعلام 2/110, 111.(11/454)
ص -341-…والثاني: وهو الماء المطلق لا ينقسم إلى هذه الأقسام وإنما يصدق على أحدها وهو الطهور وذلك لأنه أخذ فيه قيد الإطلاق وهو التجرد عن القيود اللازمة التي يمتنع بها أن يقال له ماء إلا مقيدا كقولنا ماء متغير بزعفران أو أشنان أو نحوه وماء اللحم وماء الباقلا وما أشبه ذلك.
ومنها اسم الرقبة وحقيقتها يصدق على السليمة والمعيبة والمطلقة لا يصدق إلا على السليمة فلا يجزى في العتق عن الكفارة إلا رقبة سليمة لإطلاق الشارع إياها والرقبة المطلقة مقيدة بالإطلاق بخلاف مطلق الرقبة.
ومنها الدرهم المذكور في العقود قد يقيد بالناقص والكامل وحقيقية منقسمة إليهما وإذا أطلق يتقيد بالكامل المتعارف ونحوها في الرواج بين الناس.
ومنها الثمن والأجرة والصداق وغيرها من الأعراض المجعولة في الذمة ينقسم إلى الحال والمؤجل وإذا أطلقت إنما تحمل على الحال فالإطلاق قيد اقتضى ذلك.
ومنها حقيقة القرابة يدخل فيها الأب والإبن وغيرهما من القرابات وعند الإطلاق لا يدخل فيها الأب والإبن لأنهما أعلى من أن يطلق فيهما لفظ القرابة لما لهما من الخصوصية المقتضية لمزيد على بقية القرائب فيقال إنهما أقرب الأقارب وأفعل التفضيل يستدعي المشاركة فلولا ما قلناه من تحقق معنى القرابة فيهما لما صدق عليهما أنهما أقرب الأقارب وإنما امتنع إطلاق القرابة عليهما لما يقتضيه الإطلاق من التقييد بالقرابة العامة التي لا مزيد فيها على مجرد القرابة.
هذا ما حرره والدي أيده الله تعالى حال البحث وكان أصل البحث في مسألة القرابة فلذلك أوردناه وقد أوردت عليه إذ ذاك سؤالات وألف مختصرا لطيفا في ذلك وأجاب عنها فلنذكرها على وجه السؤال والجواب.
فإن قلت اللفظ إنما وضع لمطلق الحقيقة لا للحقيقة المطلقة فتقييدكم إياه(11/455)
ص -342-…عند الإطلاق بالحقيقة المطلقة من أين قلت من جهة إطلاق المتكلم فصار إطلاقه قيدا في اللفظ.
فإن قلت من المعلوم أنه ليس في اللفظ فهل يقولون إن ذلك قرينة حالية أو لفظية وهي متوسطة بين القرائن الملفوظ بها والقرائن الحالية وهي هيئة صادرة من المتكلم عند كلامه وذلك أن الكلام قد يخرج عن كونه كلاما بالزيادة والنقصان وقد لا يخرج عن كونه كلاما ولكن يتغير معناه بالتقييد.
فإنك إذا قلت قام الناس كان كلاما يقتضي إخبارك بقيام جميع الناس فإذا قلت إن قام الناس خرج عن كونه كلاما بالكلية فإذا قلت قام الناس إلا زيدا لم يخرج عن كونه كلاما ولكن خرج عن اقتضاء قيام جميعهم إلى قيام ما عدا زيدا وقد علمت أن لإفادة قام الناس الإخبار بقيام جميعهم شرطين:
أحدهما: ألا يبتدئه بما يخالفه وله شرط ثالث أيضا وهو أن يكون صادرا عن قصد فلا عبرة بكلام الساهي والنائم فهذه ثلاثة شروط.
فإن قلت من أين لنا اشتراط ذلك واللفظ وحده كاف في الإفادة لأن الواضع وضعه لذلك؟
قلت وضع الواضع له معناه أنه جعله متهيأ لأن يفيد ذلك المعنى عند استعمال المتكلم له على الوجه المخصوص والمقيد في الحقيقة إنما هو المتكلم واللفظ كالآلة الموضوعة لذلك.
فإن قلت لو سمعنا قام الناس ولم تعلم من قائله هل قصده وهل ابتدأه أو ختمه بما يغيره هل لنا أن نخبر عنه بأنه قال قام الناس؟
قلت قد تقدم الجواب عن هذا في أول باب اللغات وكذلك ما قبله وبالله التوفيق.
وإنما دعا إلى ذكر هذا البحث جميعه الاعتراض على قول المصنف الجمع المطلق وأنه كان الأسد أن يقول مطلق الجمع فساق النظر إلى ذكر هذه المباحث الجليلة.(11/456)
ص -343-…قال قيل أنكر ومن عصاهما ملقنا ومن عصى الله ورسوله.
قلنا ذلك لأن الأفراد أشد تعظيما قيل لو قال لغير المدخول بها أنت طالق وطالق طلقت واحدة بخلاف أنت طالق طلقتين.
قلنا الإنشاءات مترتبة بترتيب اللفظ وقوله طلقتين تفسير لطالق.
احتج القائلون بأن الواو للترتيب بوجهين:
الأول: ما روى مسلم في صحيحه أن رجلا خطب عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بئس الخطيب أنت قل ومن يعص الله ورسوله"1 وهذا يدل على أنها للترتيب إذ لو كانت للجمع لما حسن الذم.
أجاب بأن ذلك ليس لأنها للترتيب بل لأن الإفراد بالذكر أشد في التعظيم ومما يدل على هذا أنه لا يترتب بين عصيان الله وعصيان نبيه صلى الله عليه وسلم بل معصية الله معصية الرسول صلى الله عليه وسلم لتلازمهما.
فإن قلت ما الجمع بين إنكاره صلى الله عليه وسلم على هذا الخطيب مع قوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما"2.
وقال في حديث آخر: "فإن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم" فقد جمع بينهما في ضمير واحد وقد قلت أجيب بوجهين:
أحدهما: النبي صلى الله عليه وسلم أنكر ذلك على الخطيب لكونه عدل عن الأولى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه مسلم كتاب الجمعة 6/158 بشرح النووي من حديث عدي بن حاتم منفردا به وذكره الحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط الشيخين كما رواه أبو داود والنسائي 6/71 شرح السيوطي.(11/457)
2 حديث صحيح رواه البخاري ومسلم وأبو داود وأحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث أنس – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار" الفتح الكبير 2/49.(11/458)
ص -344-…والأفضل لا سيما وهو في مقام الخطابة المقتضى للتعليم وأما النبي صلى الله عليه وسلم فلم لا يفعل إلا الأولى فإنه في مقام تشريع وتبيين ففعل الأولى له بتبيينه الأولى ليدل على الجواز.
والثاني: أن حسن الكلام إيجازا وإطنابا مما يختلف باختلاف المقام فرب مقام يقتضي الإطناب وبسط العبارة ورب آخر لا يقتضي ذلك والخطيب كان في مقام الترغيب والدعاء إلى طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فناسب بسط العبارة والمبالغة في الإيضاح.
الوجه الثاني: للقائلين بأن الواو للترتيب أن الرجل إن قال لزوجته التي لم يدخل بها أنت طالق طالق طلقت واحدة على المذهب الصحيح ولو كانت الواو لمطلق الجمع لكان مثل قوله: أنت طالق طلقتين حتى يقعا.
أجاب بأن قوله: وطالق معطوف على الإنشاء فكان إنشاء آخر أتى به بعد تمام الأول وعمله عمله لأن معاني الإنشاء مقاربة لألفاظها فيكون قول ثانيا وطالق إنشاء لإيقاع طلقة أخرى في غير وقت قابل للطلاق لأنها بالأولى بانت إذ هي غير مدخول بها بخلاف قوله: طلقتين أو ثلاثا فإنه تفسير للكلام الأول وبيان لما قصد به لا إنشاء ثان.
خاتمة قد عرفت دعوى إمام الحرمين أن المشتهر في أصحاب الشافعي أن الواو للترتيب وما قاله الماوردي وهذا لعله أخذ من مسألة الترتيب في الوضوء وإن كان ذلك فهو لا يكفي في تسويغ النقل على هذه الصورة فإن للأصحاب مستندا آخر غير كون الواو للترتيب وقد قيل إن الناقلين لكون الواو للترتيب عن الشافعي إنما هم قوم من الحنفية من غير ثبت بل بمجرد ظن من مسألة الترتيب في الوضوء ولذلك قال الأستاذ أبو منصور البغدادي معاذ الله أن يصح هذا النقل عن الشافعي بل الواو عنده لمطلق الجمع.
قلت وهو اللائق بقواعد مذهبه وعليه تدل الفروع وقد اتفق الأصحاب قاطبة على أن قول القائل وقفت على أولادي وأولاد أولادي مقتض للتسوية والتشريك بينهم دون الترتيب ولا نعلم أحدا قال بالترتيب وإن أتى في بعض(11/459)
ص -345-…وثانيا بأن ما يؤكد الجملة مما ذكر وأن به التأكيد لم يصطلح النحاة على تسميته تأكيدا ولم يدخله في باب التأكيد وليس كل ما يحصل به التأكيد يكون تأكيدا في الاصطلاح بل لو قال القائل أؤكد عليك لم يكن تأكيدا مع صراحته فيه واشتماله على لفظه.
إذا عرفت ذلك فقالت النحاة التوكيد على نوعين لفظي ومعنوي الأول اللفظي قال في الكتاب وهو أن يؤكد بنفسه أي بتكرار ذلك اللفظ الأول ومثل له بقوله صلى الله عليه وسلم "والله لأغزون قريشا" ثلاثا والحديث مروي في سنن أبي داود من حديث مسعر عن سماك عن عكرمة مرفوعا واللفظ "والله لأغزون قريشا" ثم قال "إن شاء الله" ثم قال "والله لأغزون قريشا إن شاء الله" ثم قال "والله لأغزون قريشا" ثم سكت ثم قال "إن شاء الله" ورواه أبو داود من طريق أخرى مرسلا وهو بهذا اللفظ غير صريح في التأكيد لاحتمال أن كل جملة مقصودة بإنشاء الحلف في نفسها ألا ترى إلى استثنائه في كل منها وسكوته في البعض وقد ذكر النحاة من شواهده قول الشاعر:
أيا من لست أقلاه…ولا في البعد أنساه
لك الله علي ذاك…لك الله لك الله1
هذا شرح ما ذكره المصنف في اللفظي وقد قال النحويون إن إعادة اللفظ بعينه على ضربين:
الأول أن يكون ذلك في الجمل وهو إما مقرون بعاطف كقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ*ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ}2 وقوله تعالى: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى*ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى}3 وإما مجرد منه كالبيت الذي ذكرناه.
والضرب الثاني أن يكون في المفردات وهو إما أن يكون اسما كقولك قام زيد زيد وقوله تعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً}4 أو فعلا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لم تنسب هذه الأبيات إلى قائل معين.
2 سورة الانفطار آية 17 18.
3 سورة القيامة آية 34 35.
4 سورة الفجر آية 21.(11/460)
الفروع خلاف فمنشأة اختيار من صاحب ذلك الوجه أن الواو للترتيب ومن ذلك قول الأصحاب فيما يقال إن دخلت الدار وكلمت زيدا فأنت طالق لا بد من وجودهما في وقوع الطلاق ولا يقع بهما إلا طلقة ولا فرق بين أن يتقدم الكلام أو يتأخر وفي التتمة ما يقتضي إثبات خلاف فيه لأنه قال من جعل الواو للترتيب فلا بد عنده من أن يتقدم الدخول على الكلام.
قال االرافعي ومن الأصحاب من جعل الواو للترتيب وذكر الرافعي في آخر باب القسم والنشوز أنه لو قال لوكيله خذ مالي ثم طلقها لم يجز تقديم الطلاق ولو قال خذ مالي وطلق فهل يشترط تقديم أخذ المال أو لا يشترط ويجوز تقديم الطلاق كما لو قال طلقها وخذ مالي فيه وجهان:
رجح صاحب التهذيب منهما الأول.
قلت وليس الوجهان في المسألة ناظرين إلى ما نحن ناظرين فيه من اقتضاء الواو للترتيب وإنما القائل بوجوب تقديم المال ناظر إلى أن الموكل قدمه في كلامه والوكيل يراعي المصلحة فليقدم أخذ المال والمخالف ناظر إلى عدم اقتضاء الواو للترتيب ويدل على هذا أنه لا خلاف أنه يجوز تقديم المال في عكسه وهو ما إذا قال طلقها وخذ مالي بل لو صرح بثم التي وضعت للتراخي لجاز له تقديم أخذ المال على الطلاق قال الرافعي لأنه زيادة خير.
فإن قلت قد نقل الرافعي في التدبير عن صاحب التهذيب فيما إذا قال لعبده إن مت ودخلت الدار فأنت حر لا بد أن يقع دخوله الدار بعد موت السيد ولم يحك ما يخالفه فقد جعلوها هنا للترتيب.
قلت هذا مشكل والظاهر أنه مبنى على أن الواو للترتيب وإلا فأي فرق بين هذه المسألة والمسألة التي قدمناها فيما إذا قال إذا دخلت الدار وكلمت زيدا ولم يقل أحد بالترتيب إلا ما أخرجه صاحب التتمة.
وعلى الجملة إن وضح معنى في هذه المسألة فقد حصل الغرض من أن الفرع غير مبني على اقتضاء الواو للترتيب وإلا فما قاله الأصحاب في مسألة إن دخلت الدار وكلمت زيدا يناقضها وهو أصح.(11/461)
ص -346-…قال الثانية الفاء للتعقيب إجماعا ولهذا ربط به الجزاء إذا لم يكن فعلا.
وقوله لا تفتروا على الله كذبا فيستحكم مجاز..
الفاء للتعقيب أي يدل على وقوع الثاني عقيب الأول من غير مهلة ولكن في كل بحبسه كقولك دخلت بغداد فالبصرة وقولك قمت فمشيت فالأول أفاد التعقيب على ما يمكن والثاني أفاده على الأثر إذ هو ممكن واستدل في الكتاب على أنها للتعقيب بإجماع أهل اللغة على ذلك وقد قلد في نقل هذا الإجماع الإمام وليس بجيد فقد ذهب الجرمي إلى أنها للترتيب إلا في الأماكن والمطر فلا ترتيب تقول.
عفا مكان كذا فكان كذا وإن كانت عفاهما في وقت واحد ونزل المطر مكان كذا فمكان هكذا وإن كان نزولهما في وقت واحد وزعم الفراء أن ما بعد الفاء يكون سابقا إذا كان في الكلام ما يدل عليه وجعل من ذك قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ}1 ومعلوم أن مجيء البأس سابق للهلاك وزعم الفراء أيضا أن الفعلين إذا كان وقوعهما في وقت واحد ويؤولان إلى معنى واحد فإنك مخير في عطف أيهما شئت على الآخر بالفاء تقول أحسنت إلي فأعطيتني وأعطيتني فأحسنت إلي.
قوله ولهذا أعلم أن الإمام نقل أن منهم من احتج على أن الفاء للتعقيب بأنها لو لم تكن للتعقيب لما دخلت على الجزاء إذا لم تكن بلفظ الماضي والمضارع لكنها تدخل فهي للتعقيب بيان الملازمة أن جزاء الشرط قد يكون بلفظ الماضي كقولك من دخل داري أكرمته أو بلفظ المضارع من دخل يكرم وقد يكون لا بهاتين اللفظتين وحينئذ لا بد من ذكر الفاء كقولك من دخل داري فله درهم.
وأما قول الشاعر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية: 4.(11/462)
ص -347-…من يفعل الحسنات الله يشكرها…والشر بالشر عند الله سيان1
فقد أنكره المبرد وزعم أن الرواية الصحيحة من يفعل الخير فالرحمن يشكره وإذا أوجب دخول الفاء على الجزاء وثبت أن الجزاء لا بد وأن يحصل عقيب الشرط علمنا أن الفاء للتعقيب قوله وقوله: {لا تَفْتَرُوا} جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال قد جاءت الفاء بمعنى التعقيب في قوله: {لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ}2 والإسحات لا يقع عقيب الافتراء بل يتراخى إلى الآخره وجوابه أن الفاء قد ثبت بما قررناه من الدليلين أنها حقيقة في التعقيب فوجب حمل ما ذكرتموه على المجاز وذلك لأن الإسحات لما كان متحقق الوقوع جزاء للافتراء نزل منزلة الواقع عقيبه.
فرع قضية اقتضاء الفاء التعقيب أنه إذا قال مثلا إن دخلت الدار فكلمت زيدا فأنت طالق فلا بد من وقوع الطلاق من وقوع كلامها لزيد عقيب دخولها.
وحكى الأصحاب وجهين فيما إذا قال لعبده إذا مت فشئت فأنت حر أصحها عند الأكثرين اشتراط اتصال المشيئة بالموت لكون الفاء تقتضي التعقيب وهما جاريان في سائر التعليقات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قاله كعب بن مالك ويروى:
من يفعل الحسنات الله يشكرها
والشر بالشر عند الله مثلان
2 سورة طه آية: 61.
قال الثالثة في الظرفية ولو تقديرا مثل: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} ولم يثبت مجيئها للسببية.
لفظة في للظرفية تحقيقا نحو الماء في الكوز أو تقديرا مثل قوله تعالى حكاية: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} لتمكن المطلوب على الجذع تمكن الشيء في المكان ومن النحاة من يقول في هنا بمعنى على واختاره الشيخ جمال(11/463)
ص -348-…الدين بن مالك1 لكن الذي عليه الجمهور وهو مذهب سيبويه الأول.
وقول المصنف في للظرفية ولو تقديرا يحتمل أمورا:
أحدها: أنها تكون حقيقة في للظرفية محققة مجازا في المقدرة وهذا مذهب سيبويه والمحققين.
والثاني: أن تكون مشتركة بينهما.
والثالث: وهو الأقرب إلى الصواب أن تكون حقيقة في القدر المشترك دفعا للاشتراك والمجاز وحينئذ تكون من قبيل المشكك أن معنى الظرفية في المحققة أوضح.
قوله ولم يثبت مجيئها للسببية.
اعلم أن الإمام نقل عن بعض الفقهاء أنها للسببية لقوله عليه السلام في النفس المؤمنة مائة من الإبل وضعفه بأن أحدا من أهل اللغة ما ذكر ذلك مع أن المرجح في هذه المباحث إليهم وهذا الذي ذكره الإمام ضعيف من وجهين:
أحدهما: أنه شهادة نفي وقد رد هو على ابن جني في مسألة الباء بذلك فكيف يرد به هنا.
والثاني: أن ذلك شائع ذائع في لسان العرب في القرآن والسنة وشعر العرب أما القرآن ففي قوله تعالى: {لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ}2 و {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ}3.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو محمد بن عبد الله بن مالك الطائي أبو عبد الله جمال الدين أحد الأئمة في علوم العربية وصاحب الألفية المشهورة.
ولد في جيان بالأندلس ونتقل إلى دمشق حتى توفي بها سنة 672 هـ
بغية الوعاة ص 53 الأعيان 7/111.
2 سورة النور آية: 14.
3 سورة الأنفال آية: 68.(11/464)
ص -349-…وأما السنة فالحديث الذي أورده وما روي أيضا من قوله صلى الله عليه وسلم: "دخلت امرأة النار في هرة"1.
وأما العرب فقال الشاعر:
بكرت باللوم تلحانا…في بعير ضل أو حانا
ومثله:
لوى رأسه عني ومال بوده…أغاينج خود كان فينابزورها
أغاينج بالغين المعجمة والنون المكسورة والخود بفتح الخاء المعجمة المرأة الجميلة.
وهذا هو الذي اختاره ابن مالك والإنصاف في لفظه في أنها حقيقة في الظرفية مجاز في السببية وقد ذكر بعضهم للفظة في موارد أخرى.
قال الشيخ أبو حيان وتأول أصحابنا كل ذلك وردوه إلى معنى الوعاء.
قال الرابعة من لابتداء الغاية والتبيين والتبعيض وهي حقيقة في التبيين دفعا للاشتراك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم وابن وأحمد في مسنده من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "دخلت امرأة النار في هرة ربطها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت" الفتح الكبير 2/110.
لفظة من ترد لابتداء الغاية وللتبيين وللتعيض فأما ورودهما لابتداء الغاية فهو إما في المكان وهو مجمع عليه ومنه قوله تعالى: {مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى}1 وأما في الزمان مثل: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ}2 {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ}3 وفي الحديث: "فمنظرنا من الجمعة إلى الجمعة وفيه من نصف النهار إلى صلاة العصر".
وقال الثانية تخيرن من أزمان يوم حليمة إلى اليوم قد جربن كل التجارب وقال الراجز:
تنتهض الرعدة في ظهري من لدن الظهر إلى العصر
وهذا قد أثبته الكوفيون وصححه ابن مالك وشيخنا أبو حيان منعه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مفتتح سورة الاسراء.
2 سورة التوبة آية: 108.
3 سورة الروم آية: 4.(11/465)
ص -350-…البصريون قال شيخنا وتأولهم مجيئها لذلك مع كثرته في لسان العرب نثرها ونظمها كثرة تسوغ القياس ليس لشيء.
واعلم أن من قد تدخل لابتداء الغاية في غير المكان والزما ن نحو قرأن من أول سورة البقرة إلى آخرها وفي الحديث "من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم" وأما ورودها للتبيين فكقوله سبحانه وتعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ}1 وقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ}2.
وبهذا قال ابن بابشاذ وابن النحاس وعبد الدايم القيرواني وابن ملك.
قال شيخنا أبو حيان وقد أنكر ذلك أكثر أصحابنا وزعموا أنها لم ترد لهذا المعنى وقالوا هي في قوله: {مِنَ الْأَوْثَانِ} لابتداء الغاية وانتهائها لأن الأوثان نحاس مصوغ أو ذهب أو غير ذلك فليس الرجس ذاتها ولا النجس الذي صنعت منه وإنما وقع الاجتناب على عبادتها ووصف الرجس المعبود منها ومن في الآية كهي في قولك أخذته من التابوت ألا ترى أن اجتناب عبادة الوثن ابتداؤه وانتهاؤه وأما وعد الله الذين آمنوا فنقدر أن الخطاب عام للمؤمنين وأما ورودها للتبعيض فنحو أخذت من الدراهم ومنه قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ}3 وهو كثير وقد زعم الأخفش الصغير4 والمبرد5 وابن السراج6 والسهيلي وطائفة أن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحج آية: 30.
2 سورة النور آية: 55.
3 سورة البقرة آية: 253.
4 هو علي بن سليمان بن الفضل أبو المحاسن المعروف بالأخفش الأصغر نحوي من العلماء من أهل بغداد أقام بمصر مدة ثم قدم حلب ثم رجع إلى بغداد حتى توفي بها سنة 315 هـ.
وفيات الأعيان 1/332 الأعلام 5/103.
5 هو محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الثمالي الأزجي أبو العباس المعروف بالمبرد إمام العربية ببغداد في زمنه وأحد أئمة الأدب والأخبار ولد بالبصرة سنة 210 هـ(11/466)
من مؤلفاته الكامل في اللغة والأدب شرح لامية العرب طبقات النحاة البصريين توفي ببغداد سنة 286 هـ
وفيات الأعيان 1/495 الأعلام 8/15.
6 هو محمد بن السري بن سهل أبو بكر أحد أئمة الأدب والعربية من أهل بغداد ويقال ما................=(11/467)
ص -351-…من لا تكون إلا لابتداء الغاية وصححه ابن عصفور ويعرف كونها لابتداء الغاية بصحة وضع الذي مكانها وكونها للتبعيض بصحة وضع البعض.
ثم قال المصنف تبعا للإمام إنها حقيقة في التبيين لأنه مشترك بين المعاني المتقدمة كلها إذ يتبين في الأول ابتداء الخروج.
وفي الثاني: في مثل: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} تبين المجتنب.
وفي الثالث: مثل أخذت من الدراهم تبيين المأخوذ منه فيكون متواطئا حقيقة في القدر المشترك وإلا فإن كان حقيقة في كل واحد يلزم الاشتراك أو في البعض دون البعض يلزم المجاز فليكن حقيقة في القدر المشترك دفعا للاشتراك ودفعا للمجاز ولم يذكر المصنف المجاز ولا بد منه وقد ذكروا ل من موارد أخرى لا نطيل بتعدادها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= زال النحو مجنونا حتى عقله ابن السراج بأصوله من مؤلفاته الأصول في النحو والشعراء شرح كتاب سيبويه توفي سنة 361 هـ.
الوافي بالوفيات 3/86 الأعلام 7/6.
قال الخامسة الباء تعدي اللازم وتجزي المتعدي لما نعلم من الفرق بين مسحت المنديل بالمنديل ونقل إنكاره عن ابن جني ورد بأنه شهادة نفي.
للباء حالتان إحداهما أن تدخل على فعل لا يتعدى بنفسه كقولك كتبت بالقلم ومرت بزيد فلا تقتضي إلا مجرد الإلصاق وهذه الحالة هي التي عبر عنها في الكتاب بقوله الباء تعدي اللازم والتعبير بالإلصاق أحسن ولم يذكر لها سيبويه1 معنى غيره وأما التعبير بتعدية اللازم فليس بجيد فإنها قد لاتكون كذلك كما في المثالين المذكورين وقد تكون كذلك كما قوله تعالى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ}2.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدمت ترجمته.
2 سورة البقرة آية: 17.(11/468)
ص -352-…وكذلك: {بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} فيصير الفاعل مفعولا به فتكون الباء بمعنى الهمزة في قولك أذهب.
الثانية: أن تدخل على فعل يتعدى بنفسه وهو مراد المصنف بقوله تجزي المتعدي أن تقضي التبعيض كقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} وخالفت الحنفية في ذلك لنا أنا نعلم بالضرورة الفرق بين أن يقال مسحت يدي بالمنديل ومسحت المنديل بيدي فإن الأول يفيد التبعيض والثاني يفيد الشمول وهذا الاستدلال ضعيف.
أما أولا فلأنه مناقض لما ذكره في المجمل والمبين كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وأما ثانيا فلأن مسح يتعدى إلى المفعول بنفسه وإلى ما يمسح به بالباء فتقدير مسحت المنديل مسحت المنديل بيدي فالمنديل ممسوح فيه واليد آلة وتقدير مسحت بالمنديل مسحت وجهي المنديل فالوجه ممسوح والمنديل آلة فلا تكون الباء فيه للتبعيض وإنما هي للتعدية وفهم التبعيض منه إن سلم إنما هو لكون المنديل فيه آلة والعمل في جاري العوائد إنما يكون ببعض الآلة كما تقول أخذت بثوب زيد وإنما أخذت ببعض ثوبه ومنه: {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ}.
وقد ذكرنا أن سيبويه لم يذكر لها معنى غير الإلصاق.
قال البصريون لا يكون إلا بمعنى الإلصاق والاختلاط حقيقة أو مجازا إذا لم تكن زائدة وقد يتجرد الإلصاق وقد ينجر معها معان أخر فالإلصاق حقيقة وصلت هذا بهذا أو مجازا مررت بزيد والتصق المرور بمكان بقرب زيد وذكروا أن المعاني التي تنجر مع الإلصاق ستة أنواع النقل ويعبر عنه بالتعدية كما سبق في قول: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} ويكون الفعل قبلها لازما ومتعديا نحو صككت الحجر بالحجر أصله صك الحجر الحجر والإلصاق في هذا واضح والسببية نحو مات زيد بالجوع والاستعانة نحو كتبت بالقلم.
وأدرج ابن مالك هذا في السببية والمصاحبة ويصلح معها مع نحو جاءكم الرسول بالحق والحال نحو وهبتك الفرس بسرجه أي مسرجا(11/469)
ص -353-…والظرفية وهي التي يصلح مكانها في نحو زيد بالبصرة والقسمية نحو بالله لأقومن ألصقت فعل القسم المحذوف بالقسم به.
هذا كلام شيخنا في الارتشاف وهذه الأقسام سبعة وقد ذكر أنها ستة فما أدرى ما أراد وذكر ابن مالك أنها تأتي للتعليل قال وهو يحسن غالبا في موضع اللام كقوله تعالى: {إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ}1.
قال شيخنا أبو حيان ولم يذكر أصحابنا هذا وكأن السبب والتعليل عندهم واحد وذكر ابن مالك أيضا أنه تكون للبدل قال وهي التي يصلح مكانها بدل نحو قوله:
فليت لي بهم قوما إذا ركبوا… شنوا الإغارة فرسانا وركبانا2
أي بدلهم وللمقابلة وهي الداخلة على الأثمان والأعواض نحو اشتريت الفرس بألف وقد يسمى باء العوض وذهب الكوفيون إلى أن الباء قد تأتي بمعنى عن وذلك بعد السؤال نحو:
وإن تسألوني بالنساء فإنني…خبير بأحوال النساء طبيب3
أي عن النساء.
وقال الأخفش ومثله فاسأل به خبيرا واستدل ابن مالك لهذا القول بقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ}4 أي عن الغمام وكان الأستاذ أبو علي يقول اسأل بسببه خبيرا وسبب النساء أي لتعلموا حالهن.
وذهب الكوفيون أيضا إلى أن الباء تكون بمعنى على وهو الذي عزاه إمام الحرمين إلى الشافعي واستدل عليه بقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية: 54.
2 قائلة: قريظ بن أنف أحد بني العنبر.
حماسة أبي تمام ص 4.
3 قائل هذا البيت هو عبدة بن الطبيب في معلقته.
المعلقات العشر للتبريزي.
4 سورة الفرقان آية: 25.(11/470)
ص -354-…إِلَيْكَ} أي على دينار وزعم بعض النحاة أن الباء تدخل على الاسم حيث يراد الشبيه نحو لقيت بزيد الأسد ورأيت به القمر أي لقيت بلقائي إياه الأسد أي شبهه
والصحيح أنها للسبب أي بسبب لقائه وبسبب رؤيته وزعم أيضا أنها تدخل على ما ظاهره أن المراد به غير ذات الفاعل أو ما أضيف إلى ذات الفاعل نحو قول طفيل الغنوي:
إذا ما غزا لم يسقط الروع رمحه…ولم يشهد الهيجاء بالموت معصم
الألوث الضعيف ويقال الرجل الذي يمسك بعرف فرسه خوف السقوط معصم بضم الميم بعدها عين مهملة ساكنة ثم صار مهملة مكسورة وقيل المعصم الذي يتحصن بالجبال فيمتنع فيها فظاهره أن فاعل يشهد غير الوث معصم والفاعل في الحقيقة هو ألوث معصم وتكون الباء زائدة كما في قوله تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ}1 {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ} و {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} و {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} فهذا من أجمع ما ذكره النحاة من موارد الباء.
وأما ورودها للتبعيض فقد ذكره ابن مالك ومن شواهده شرب التريف ببرد ماء الحشرج أي من برد وقال ذلك في التذكرة الفارسي وهو مذهب الكوفيين تبعهم فيه الأصمعي والقتبي في قوله: شربن بماء البحر وتأوله ابن مالك على التضمين أي روين بماء البحر.
وقال إمام الحرمين ذهب بعض فقهائنا إلى أن الباء إذا اتصل بالكلام مع الاستغناء عنه اقتضى تبعيضا وزعموا أنه في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} يتضمن ذلك وهذا خلاف من الكلام لا حاصل له وقد اشتد نكير ابن جني في سر الصناعة على من قال ذلك فلا فرق بين أن نقول مسحت رأسي ومسحت برأسي والتبعيض يتلقى من غير الباء كما ذكرته في الأساليب انتهى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة مريم آية: 25.(11/471)
ص -355-…قوله ونقل أي احتج من زعم أنها ليست للتبعيض بأن أبا الفتح بن جني من أئمة اللغة وقد اشتد نكيره على من قال إنها للتبعيض وقال إنه شيء لا يعرف في اللغة وأجاب المصنف تبعا للإمام بأن ما ذكره ابن جني شهادة على النفي فلا تقبل وهو حيد عن سبيله الإنصاف إذ الواصل في فن إلى نهايته والبالغ فيه إلى أقصى غاياته يقبل قوله: فيه نفيا وإثباتا وقد وافق ابن جني على ذلك صاحب البسيط فقال لم يذكر أحد من النحويين أن الباء للتبعيض.
وقال بعضهم لو كانت للتبعيض لقلت زيد بالقوم تريد من القوم وقبضت بالدراهم أي منها ثم إن المصنف تبعا للإمام أيضا شهد على النفي في مسألة في حيث قال ولم يثبت مجيئها للسببية فليست شهادتهما في لغة العرب على النفي أولى بالقبول من شهادة أبي الفتح بن جني وصاحب البسيط معاذ الله أن يكون ذلك نعم كان الطريق في الرد على ابن جني أن يعرض عليه مواضع من كلامهم ورد ذلك فيها كما في قوله تعالى: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} أي منها.
وقال عمر بن أبي ربيعة:
فلثمت فاها آخذا بقرونها…شرب التريف ببرد ماء الحشرج1
وقال غيره:
شربت بماء الدحرضين فأصبحت…زوراء تنفر عن حياض الديلم2
الدحرضان بضم الدال بعدها حاء مهملة ساكنة ثم راء مهملة مضمومة ثم ضاد معجمة مفتوحة وهما ماءان يقال لأحدهما وسيع وللآخر الدحرض وهما مما غلب فيه أحد القرينين على الآخر كالقمرين والعمرين وقال الآخر:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قائله عمر بن أبي ربيعة وقيل لجميل بن معمر.
لسان العرب مادة حشرج.
2 قائله عنترة بن شداد راجع لسان العرب مادة دحرض.(11/472)
ص -356-…شربن بماء البحر ثم ترفعت…متى لحج خضر لهن تثيج
وقد ذكرنا أن الكوفيين والأصمعي والقتبي وابن مالك ذكروا ذلك.
قال السادسة إنما للحصر لأن إن للإثبات وما للفي فيجب الجمع على ما أمكن.
وقد قال الأعشى وإنما العزة للكاثر وقال الفرزدق.
وإنما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي.
وعورض بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} قلنا المراد الكاملون.
تقييد الحكم بإنما مثل إنما قام زيد هل يفيد حصر الأول في الثاني بمعنى أنه تفيد إثبات الحكم في المحكوم عليه ونفيه عن غيره فيه مذهبان:
أحدهما: تفيد الحصر وبه قال القاضي وأبو إسحاق الشيرازي والغزالي وعليه الإمام وأتباعه منهم صاحب الكتاب.
والثاني: لا بل تفيد الإثبات واختاره الآمدي واحتج الأولون بوجهين:
أحدهما: أن كلمة أن تقتضي الإثبات وما تقتضي النفي فعند تركيبهما يجب بقاء كل منهما على أصله لأن الأصل عدم التغيير وحينئذ يجب الجمع بينهما بقدر الإمكان فلا بد من إثبات شيء ونفي آخر لامتناع اجتماع النفي والإثبات على شيء واحد وحينئذ إما أن نقول كلمة إن تقتضي ثبوت غير المذكور وكلمة ما تقتضي نفي غير المذكور وهو باطل إجماعا أو نقول كلمة إن تقتضي ثبوت المذكور وكلمة ما تقتضي نفي غير المذكور وهذا هو الحصر وهو المراد وقد ضعف هذا الوجه بأن المعروف عند النحويين أن ما ليست نافية بل زائدة كافة موطئة لدخول الفعل وذكر في إفادتها الحصر وجه آخر(11/473)
ص -357-…أسند إلى علي بن عيسى الربعي1 وهو أن كلمة أن لتأكيد إثبات المسند للمسند إليه ثم لما اتصلت بها ما المؤكدة لا النافية لما ذكرنا تضاعف تأكيدها فناسب أن تضمن معنى القصد لأن قصر الشيء على الشيء ليس إلا تأكيدا للحكم على تأكيد ألا ترى إلى قولك جاء زيد لا عمرو وكيف يكون جاء زيد إثباتا للمجيء صريحا وقولك لا عمرو إثباتا ثانيا لمجيئه ضمنا وهذا الوجه أشد من الأول إلا أن للمعترض عليه أن يقول وجه مناسبة إضمار معنى القصر لائحة ولكن ذلك إنما يقال بعد ثبوت كونها للحصر والكلام فيه ومجرد هذه المناسبة لا يدل عليه.
الوجه الثاني: من الوجهين المذكورين في الكتاب أن العرب استعملتها في الحصر كقول الأعشى عبد الله بن الأعور المازني الصحابي رضي الله عنه:
ولست بالأكثر منهم حصى…وإنما العزة للكاثر2
ولست بفتح التاء ضبطه الجوهري وقال الفرزدق وهو همام بن غالب التابعي رحمه الله:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو علي بن عيسى بن الفرج بن صالح أو الحسن الربعي عالم بالعربية أصله من شيراز له مؤلفات في النحو منها كتاب البديع وشرح مختصر الجرمي وشرح الإيضاح لأبي علي الفارسي. توفي ببغداد 420 هـ.
وفيات الأعيان 1/343 الأعلام 5/134.
2 ما قاله الشارح عن قائل هذا البيت ليس بصحيح فإن قائله هو الأعشى ميمون بن قيس بن جندل بن سراحيل من الطبقة الأولى في الجاهلية وأحد أصحاب المعلقات أدرك الرسول – صلى الله عليه وسلم – توفي سنة 7 هـ.
وهذا البيت من قصيدة له يهجو بها علقمة بن علامة ويمدح عامر بن الطفيل مطلعها:
شاقك من قتلة أطلالها…بالشط فالوتر إلى حاجر
الصبح المنير في شعر أبي بصير الأعلام 3/1090.(11/474)
ص -358-…أنا الذائد الحامي الذمار…وإنما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي1
قوله وعورض إشارة إلى حجة الخصم وهو قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}2 قالوا فلو أفادت الحصر لكان من لا يحصل له الوجل عند ذكر الله تعالى لا يكون مؤمنا وأجاب بأن المراد بالمؤمنين الكاملون في الإيمان جمعا بين الأدلة وعلى هذا يكون قد أفادت الحصر كما هو المدعي.
واعلم أن الذي نقله شيخنا أبو حيان عن البصريين المذهب الثاني وكان مصمما عليه ويتغالى في الرد على من يقول بإفادتها الحصر الذي اختاره والدي أبقاه الله.
الأول: وله كلام مبسوط في المسألة اشتد فيه نكيره على الشيخ أبي حيان وقال إنه استمر على لجاج وأن اللبيب لا يقدر أن يدفع عن نفسه فهم أن إنما للحصر ومن أحسن ما وقع له في الاستدلال على أنها للحصر قوله تعالى: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ}3 فقال هذه الآية تفيد أن إنما للحصر فإنها لو لم تكن للحصر لكانت بمنزلة قولك وإن تولوا فعليك البلاغ وهو عليه البلاغ تولوا أو لم يتولوا أو إنما الذي رتب على توليهم نفي غير البلاغ ليكون تسلية له ويعلم أن توليهم لا يضر.
قال وهكذا أمثال هذه الآية مما يقطع الناظر بفهم الحصر منها كقوله: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ} {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} {إنما أنت منذر} {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ} {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً} {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ} {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} {إِنَّمَا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(11/475)
1 قائله فرزدق همام بن غالب بن صعصعة التميمي من شعراء الطبقة الأولى الإسلاميين توفي بالبصرة سنة 110 هـ.
معجم الشعراء للمرزباني ص 465.
2 سورة الأنفال آية: 2.
3 سورة آل عمران آية: 20.(11/476)
ص -359-…السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ} {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} {إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ} {وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ}.
قال فيكاد فهم الحصر من جميع هذه الآيات يسبق إلى القلب قبل السمع لا يرتاب فيه ولا يتمارى.
فائدة إذا قلنا إنما للحصر فهل ذلك للمنطوق أو بالمفهوم فيه مذهبان:
والأول: هو قضية كلام من استدل على ذلك بالوجه المركب من العقل والنقل الذي تقدم ذكره ومنهم صاحب الكتاب والله أعلم.(11/477)
ص -360-…الباب التاسعفي كيفية الاستدلال بالألفاظ
قال الفصل التاسع في كيفية الاستدلال بالألفاظ وفيه مسائل
الأولى لايخاطبنا الله بالمهمل لأنه هذيان احتجت الحشوية بأوائل السور قلنا أسماء وبأن الوقف على قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} واجب وإلا يتخصص المعطوف بالحال قلنا يجوز حيث لا لبس مثل ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وبقوله تعالى كأنه رؤوس قلنا مثل في الاستقباح.
هذا الفصل معقود لبيان كيفية الاستدلال بخطاب الله تعالى وخطاب رسوله صلى الله عليه وسلم على الأحكام وفيه مسائل الأولى والثانية منها يجريان محرى المبادئ للمقصود أما الأولى فنقول لا يجوز أن يخاطبنا الله تعالى بالمهمل أي بما ليس له معنى لأنه نقص والنقص محال على الله تعالى هذا كلام المصنف.
وأما الإمام ففي عبارته قلق وذلك أنه قال لا يجوز أن يتكلم الله بشيء ولا يعني به شيئا والخلاف فيه مع الحشوية لنا وجهان:
أحدهما: أن التكلم بما لا يفيد شيئا هذيان وهو نقص والنقص محال على الله تعالى.
والثاني: أن الله تعالى وصف القرآن بكونه هدى وشفاء وبيانا وذلك لا يحصل فيما لا يفهم معناه انتهى.
ووجه القلق أن أول كلامه يدل على أن الخلاف في جواز التكلم بشيء لا يعني به شيئا وإن كان ذلك الذي تكلم به له معنى يفهم منه وثانيه وثالثه وهما دليلاه يدلان على أن الخلاف في جواز التكلم بما لا يفيد شيئا(11/478)
ص -361-…وعبارة المصنف توافق ما أدته عبارة الإمام ثانيا وثالثا لا ما اقتضته أولا وبها صرح الآمدي إذ قال لا يتصور اشتمال القرآن الكريم على ما لا معنى له أصلا وقد عرفت أن الخلاف في المسألة نع الحشوية وهم طائفة ضلوا عن سواء السبيل وعميت أبصارهم يجرون آيات الصفات على ظاهرها ويعتقدون أنه المراد سموا بذلك لأنهم كانوا في حلقة الحسن البصري رحمه الله تعالى فوجدهم يتكلمون كلاما ساقطا فقال ردوا هؤلاء إلى حشا الحلقة وقيل سموا بذلك لأن منهم المجسمة أو هم هم والجسم محشو فعلى هذا القياس فيه الحشوية بسكون الشين إذ النسبة إلى الحشو وقيل المراد بالحشوية الطائفة الذين لا يرون البحث في آيات الصفات التي يتعدد إجراؤها على ظاهرها بل يؤمنون بما أراده الله مع جزمهم المعتقد بأن الظاهر غير مراد ولكنهم يفوضون التأويل إلى الله سبحانه وتعالى وعلى هذا فإطلاق الحشوية عليهم غير مستحسن لعدم مناسبته لمعتقدهم1 ولأن ذلك مذهب طوائف السلف من أهل السنة رضي الله عنهم.
إذا عرفت ذلك فقد استدل المصنف على امتناع ذلك بأنه هذيان.
قال الجاريردي شارح الكتاب وهو مصادرة على المطلوب لأن الهذيان هو اللفظ المركب المهمل وهو الذي ادعى امتناعه وهذا اعتراض منقدح ولكن المصنف أخذ هذا الدليل من الإمام والأمام إنما استدل به على ما صدر به المسألة من قوله: لا يتكلم الله بشيء ولا يعني به شيئا وقد بينا أن هذه الدعوى في الحقيق غير دعوى المصنف فليس استدلال الإمام بكونه هذيانا مصادرة على المطلوب نعم هو ضعيف من جهة أنه قد يقال لا نسلم أن الكلام المفيد بالوضع الذي فاه به الناطق إذا لم يعن به شيئا هذيان وإنما يكون هذيانا إذا لم يكن له مدلول في نفسه وقد يقال إن قصد المتكلم بالكلام معناه شرط في كونه كلاما مفيدا وقد سبق البحث في هذا.
واحتجت الحشوية على ما ذهبوا إليه بثلاثة وجه:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(11/479)
1 راجع في ذلك الإرشاد ص 39 – 128.(11/480)
ص -362-…الأول: زعموا أنه ورد في القرآن الكريم في قوله تعالى "آلم المص كهيعص طه حم" وأمثالها فإنا لا نفهم لها معنى والجواب أن أقوال أئمة التفسير في ذلك كثيرة مشهورة قال الإمام والحق أنها السماء للسور وتبعه المصنف وهو ما عليه جماعة من المفسرين.
الثاني: قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}1 وجه الاحتجاج أن الوقف على قوله: {إِلَّا اللَّهَ} واجب وحينئذ فالراسخون مبتدأ ويقولون خبر عنه والدليل على أن يجب الوقف على ذلك أنه لو لم يجب لكان الراسخون معطوفا عليه وحينئذ يتعين أن يكون قوله تعالى: {يَقُولُونَ} جملة حالية والمعنى قائلين وإذا كانت حالية وفإما أن يكون حالا من المعطوف والمعطوف عليه أو من المعطوف فقط والأول باطل لامتناع أن يقول الله تعالى آمنا به والثاني خلاف الأصل لأن الأصل اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في المتعلقات وإذا انتفى هذا تعين ما ادعيناه من وجوب الوقف على قوله: {إِلَّا اللَّهَ} وإذا وجب الوقف على ذلك لزم أنه تكلم بما لا يعلم تأويله إلا هو وهو المدعى.
واعلم أن هذا الدليل لا يوافق دعوىالمصنف لأنه يقتضي أن الخلاف في الخطاب بلفظ له معنى لا نفهمه ودعواه فيما ليس له معنى مطلقا ثم إن هذا أعني كون القرآن يشتمل على ما لا يقدر على فهمه مما لا ينازع فيه فالناس في كتاب الله تعالى على مراتب ودرجات بحسب تفاوتهم في الأفهام والتضلع من العلوم فرب مكان يشترك في فهمه الخاص والعام وآخر لا يفهمه إلا الراسخون ويتفاوت العلماء إلى ما لا نهاية له على حسب استعدادهم وأقدارهم إلى أن يصل الأمر إلى ما لا يفهمه أحد غير النبي صلى الله عليه وسلم الذي وقع معه الخطاب فهو يفهم ما خوطب به لا يخفى منه خافية.
وقد أجاب المصنف عن هذا الوجه بأنه إنما يمتنع تخصيص المعطوف بالحال إذا لم تقم قرينة تدل عليه(11/481)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية: 7.(11/482)
ص -363-…وأما عند قيام القرينة الدافعة للبس فلا يمتنع حينئذ وذلك قوله: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً}1 فإن نافلة حال من يعقوب فقط لأن النافلة ولد الولد وما نحن فيه كذلك إذ العقل قاض بأنه سبحانه وتعالى لا يقول آمنا به.
الثالث: قوله تعالى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ}2 فإن العرب لا تعلم ما هي رؤوس الشياطين وأجاب بأنا لا نسلم أنه مهمل وإنما هو مثل كانت العرب العرباء تتمثل به في الاستقباح وهو مقيد بهذا الاعتبار.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنبياء آية: 72.
2 سورة الصافات آية: 65.
قال الثانية لا يعني خلاف الظاهر من غير بيان
لأن اللفظ بالنسبة إليه مهمل قالت المرجئة يفيد إحجاما.
قلنا فيرتفع الوثوق عن قوله تعالى.
قد يريد الله بكلامه خلاف ظاهره إذا كانت هناك قرينة يحصل بها البيان ولا يمكن أن يعني لكلامه خلاف ظاهره من غير بيان والخلاف في المسألة مع المرجئة قوم جوزوا ذلك وقالوا:
المراد بظواهر الآيات والأخبار الدالة على عقاب الفاسقين ووعيد العصاة والمذنبين الترهيب فقط كيلا يختل نظام العالم بناء على معتقدهم أن المعصية لا تضر مع الإيمان كما أن الطاعة لا تنفع مع الكفر وإنما سموا مرجئة لأنهم يرجئون العمل أي يؤخرونه ويسقطونه عن الاعتبار والإرجاء التأخير قال الله تعالى: {أَرْجِهْ وَأَخَاهُ}1.
وقد احتج المصنف بأن اللفظ بالنسبة إلى المعنى الذي لا يفهم مهمل لعدم إفادته له من غير بيان وقد تبين أن الخطاب بالمهمل ممتنع.
وقالت المرجئة لا نسلم أنه بالنسبة إليه مهمل إذ المهمل ما لا يفيد وهذا ليس كذلك لأنه يفيد الإحجام عن المعاصي والإقدام على الطاعة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة لأعراف آية: 111 والشعراء آية: 36.(11/483)
ص -364-…وأجاب بأنا لو فتحنا هذا الباب لارتفع الوثوق من جميع أخبار الله تعالى وأخبار رسوله صلى الله عليه وسلم لأنه لا خبر إلا ويحتمل أن يكون منه أمرا وراء الأفهام ومعلوم أن ذلك ظاهر الفساد.
قال الثالثة الخطاب إما أن يدل على الحكم بمنطوقه فيحمل على الشرعي ثم العرفي ثم اللغوي ثم المجازي.
هذه المسألة في بيان كيفية دلالة الخطاب على الحكم الشرعي وأقسام دلالته عليه فالخطاب الدال على الحكم إما أن يدل عليه بمنطوقه أي بصيغته أو بمفهومه.
الحالة الأولى أن يدل عليه بمنطوقه فإما أن يكون له مسمى شرعي أو لا.
الأول: يحمل على المسمى الشرعي ما لم يصرف عنه صارف لأن عرف الشارع يعرف المعاني الشرعية لا اللغوية ولأنه مبعوث لبيان الشرعيات وقيل إذا دار بين الشرعي واللغوي فهو مجمل لصلاحيته لكل منهما.
وقال الغزالي إن ورد في الإثبات حمل على الشرعي كقوله صلى الله عليه وسلم "إني إذن أصوم" فإنه إذا حمل على الشرعي يدل على صحة الصوم بنيته من النهار وإن ورد في النهي كان مجملا وذلك مثل لنهيه صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم النحس فإنه لا يمكن حمله على الشرعي وإلا كان دالا على صحته لأنه يستحيل النهي عما لا يتصور وقوعه.
وقال الآمدي في الإثبات يحمل الشرعي وفي النهي على اللغوي والصحيح الذي عليه الجمهور ما ذهب إليه المصنف وقول الغزالي والآمدي إن النهي مستلزم للصحة غير صحيح.
والثاني: وهو الذي ليس له مسمى شرعي إما أن يكون له مسمى عرفي أو لا.
والأول: يحمل على العرفي إن علم اطراد ذلك العرف في زمن ورود(11/484)
ص -365-…الخطاب لأن الظاهر من حال الخطاب أن يكون مما يتبادر إلى أذهان المخاطبين.
والثاني: يحمل على اللغوي الحقيقي لتعينه حينئذ وكذا إذا كان له مسمى عرفي ولم يمكن حمله عليه لمانع وإن لم يمكن حمله على اللغوي لقرينة صارفة عنه فيتعين حينئذ حمله على المعني المجازي ويكون الترتيب المذكور في الحقائق جاريا في مجازاتها.
واعلم أن من القواعد المشتهرة على ألسنة الفقهاء أن ما ليس له حد في الشرع ولا في اللغة يرجع فيه إلى العرف قال والدي في شرح المهذب وليس مخالفا لما يقوله الأصوليون من أن لفظ الشارع يحمل على المعنى الشرعي ثم العرفي ثم اللغوي.
قال والجمع بين الكلامين أن مراد الأصوليين إذا تعارض معناه في العرف ومعناه في اللغة قدمنا العرف ومراد الفقهاء إذا لم يعرف حده في اللغة فإنا نرجع فيه إلى العرف ولهذا قالوا كل ما ليس له حد في اللغة ولم يقولوا ليس له معنى فالمراد أن معناه في اللغة لم ينصوا على حده بما يبينه فيستدل بالعرف عليه.
فائدة تنزيل اللفظ على المعنى الشرعي قبل العرفي في مسائل:
منها لو حلف لا يبيع الخمر أو المستولدة فإن أراد أنه لا يتلفظ بلفظ العقد مضافا إليها فإذا باعه حنث وإن أطلق لم يحنث لأن البيع الشرعي لا يتصور فيها وفيه وجه أنه يحنث قال به المزني قال الرافعي هنا وسيأتي خلاف في أنه هل يتعين حمل لفظ العبادات كالصوم والصلاة على الصحيح منها وهذا الخلاف الذي وعد بذكره لم أره حكاه بعد ولا خلاف أنه لو حلف لا يحج يحنث بالفاسد لأنه منعقد يجب المضي فيه كالصحيح.
ومنها لو حلف لا يركب دابة عبد زيد لا يحنث بالدابة المجعولة باسمه إلا أن يريد فإن ملكه السيد دابة فالصحيح أنه يتخرج على أنه هل يملك وقال ابن كج لا يحنث وإن قلنا يملك لأن ملكه ناقص السيد متمكن من إزالته.(11/485)
ص -366-…وأما الرجوع إلى العرف ففي مسائل تخرج عن حد الحصر وقد أتينا في كتابنا الأشباه والنظائر منها بالعد الكثير.
قال أو بمفهومه وهو إما أن يلزم عن مفرد لوقف عليه عقلا أو شرعا مثل ارم واعتق عبدك عني ويسمى اقتضاء أو مركب موافق وهو فحوى الخطاب كدلالة تحريم التأفيف على تحريم الضرب وجواز المباشرة إلى الصبح على جواز الصوم جنبا أو مخالف كلزوم نفي الحكم عما عدا المذكور ويسمى ذلك دليل الخطاب.
الحالة الثانية أن يدل الخطاب على الحكم بمفهومه فإن أن يكون ما دل عليه بالمفهوم لازما عن مفرده أو عن مركب واللازم عن المفرد قد يكون المقتضي لكونه لازما هو العقل وقد يكون الشرع واللازم عن المركب قد يكون موافقا للمنطوق فيما اقتضاه من الحكم وقد يكون مخالفا فهذه أقسام.
الأول: اللازم عن المفرد الذي اقتضى العقل كونه لازما عن المفرد بأن يكون شرطا للمعنى المدلول عليه بالمطابقة مثل قولك ارم فإنه يدل بمفهومه على لزوم تحصيل القوس والمرمى لتوقف الرمي الذي هو مفرد عليهما عقلا إذ يحيل العقل الرمي بدونهما:
الثاني: اللازم عن المفرد باقتضاء الشرع كونه لازما كقولك لمالك العبد اعتق عبدك عني فإنه يدل على استدعاء تمليك العبد إياه لأن العتق شرعا لا يكون إلا في مملوك.
وهذان القسمان اللازمان عن المفرد يسميان في اصطلاح الأصوليين بدلالة الاقتضاء وإليه أشار بقوله ويسمى اقتضاء.
ومن الأصوليين من جعل دلالة اللفظ على مقدر يتوقف عليه صدق الكلام داخلا في قسم الاقتضاء أيضا كدلالة قوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ(11/486)
ص -367-…والنسان1" على رفع الإثم وعبارة لا تنافي ذلك ولا تقتضيه لأنها لا تقتضي انحصار الافتضاء في المذكور فيه.
نعم تقتضي أن يكون ذلك من قبيل ما دل عليه اللفظ بمنطوقه لأنه لم يعده في أقسام المفهوم بل في المنطوق الغزالي على الاقتضاء بجملة أقسامه من المفهوم.
الثالث: اللازم عن اللفظ المركب وهو موافق لمدلول ذلك المركب في الحكم ويسمى فحوى الخطاب لأن فحوى الكلام ما يفهم منه قطعا وهذا كذلك ويسمى أيضا لحن الخطاب لأن لحن الكلام عبارة عن معناه ومنه قوله تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}2 أي معناه وربما سماه الشافعي رضي الله عنه بالجلي واختلفوا في أن دلالة النص عليه هل هي لفظية أم قياسية والذي عليه الجمهور أنها قياسية قال الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع وهو الصحيح لأن الشافعي سماه القياس الجلي.
وهذا الثالث: أعني مفهوم الموافقة تارة يكون أولى بالحكم من المنطوق كدلالة تحريم التأفيف من قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} على تحريم الضرب وسائر أنواع الأذى الذي هو أبلغ من التأفيف وتارة يكون مساويا له كدلالة جواز المباشرة من قوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}3 على جواز أن يصبح الرجل صائما جنبا لأن لو لم يجز ذلك لما جاز للصائم مد المباشرة إلى طلوع الفجر بل كان يجب قطعها مقدار ما يسع فيه الغسل قبل طلوع الفجر وإنما ذكر المصنفين مثالين ليعلم أن مفهوم الموافقة قد يكون أولى بالحكم كالمثال الأول وقد يكون مساويا كالثاني وهذا هو المختار.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه ابن ماجه في كتاب الطلاق باب طلاق المكره والناسي 1/659 بلفظ "إن الله تجوز عن أمتي الخطأ والنسيان" وصححه ابن حبان والحاكم وقال: على شرط الشيخين.(11/487)
سبل السلام 3/176, 177.
2 سورة محمد آية: 30.
3 سورة البقرة آية: 187.(11/488)
ص -368-…ومنهم من اشترط الأولوية في مفهوم الموافقة وهو قضية ما نقله إمام الحرمين عن كلام الشافعي رضي الله عنه في الرسالة حيث قال في البرهان نحن نسرد معاني ككلامه في الرسالة ثم قال أما مفهوم الموافقة فهو ما يدل على أن الحكم في المسكوت عنه موافق الحكم في المنطوق من جهة الأولى انتهى وهو مقتضى كلام الشيخ أبي إسحاق في شرح اللمع وغيره وعليه جرى ابن الحاجب لكنه قال بعد ذلك في مفهوم المخالفة شرطه ألا يظهر أولوية ولا مساواة في المسكوت عنه فيكون موافقة فاضطرب كلامه.
الرابع: اللازم عن المركب وهو مخالف لمدلول المركب في الحكم وهذا هو مفهوم المخالفة ويسمى دليل الخطاب وهو أصناف ذكر المصنف منها أربعة وذهب أبو حنيفة إلى نفس القول بمفهوم المخالفة مطلقا ووافقه جمع من الأصوليين.
قال إمام الحرمين وأما منكروا الصيغ لما يتطرق إليها من تقابل الظنون فلا شك أنهم ينكرون المفهوم فإن تقابل الظنون فيه أوضح فهو بالتوفيق أولى وشيخنا أبو الحسن مقدم الموافقة وقد فعل النقلة عنه رد الصيغة والمفهوم وفي كلامه ما يدل على المفهوم والقول به فإن تعلق في مسألة الرؤية بقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}1 وقال لما ذكر الحجاب في إذلال الأشقياء أشعر ذلك بنقيضه في السعداء وقد تحققت على طول بحثي عن كلام أبي الحسن أنه ليس من منكري الصيغ على ما اعتقده معظم النقلة ولكنه قال في مفاوضاته مع أصحاب الوعيد بإنكار الصيغ وآل سر مذهبه إلى إنكار التعلق بالظواهر فيما ينبغي القطع فيه ولا نرى له المنع من العمل بقضايا الظوهر في مظان الظنون وقد باح القاضي رضي الله عنه بجحد الصيغ وصرح بنفي المفهوم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المطففين آية: 15.
قال الرابعة تعليق الحكم بالاسم
لا يدل على نفيه عن غيره وإلا لما جاز القياس خلافا لأبي بكر الدقاق.(11/489)
هذه المسألة في مفهوم الاسم ومفهوم الصفة اللذين هما من جملة أصناف(11/490)
ص -369-…دليل الخطاب أما مفهوم الاسم فنقول تقييد الحكم أو الخبر بالاسم علما كان أو اسم جنس مثل قولك قام زيد أو قام الناس لا يدل على نفي الحكم عما عداه خلافا لأبي بكر الدقاق والحنابلة وقد سفه علماء الأصول الدقاق ومن قال بمقالته وقالوا هذا خروج عن حكم اللسان والسلال عن مفاوضات الكلام فإن من قال رأيت زيدا لم يقتض ذلك أنه لم ير غيره قطعا.
قال إمام الحرمين وعندي أن المبالغة في الرد عليه صرف لأنه لا يظن بذي العقل الذي لا ينحرف كلامه عن سنن الصواب أن يخصص بالذكر ملقيا من غير غرض وحاصل ما اختاره إمام الحرمين أن التخصيص يتضمن غرضا مبهما ولا يتعين انتفاء غير المذكور ثم قال وأنا أقول وراء ذلك لا يجوز أن يكون من غرض المتكلم في التخصيص نفي ما عدي المسمى بلقبه فإن الإنسان لا يقول رأيت زيدا وهو يريد الإشعار بأنه لم ير غيره فإن هو أراد ذلك قال إنما رأيت زيدا أو ما رأيت زيدا هذا كلامه وحكى ابن برهان في كتابه في أثناء المسألة مذهبا ثالثا عن بعض علمائنا وهو التفرقة بين أسماء الأنواع وأسماء الأشخاص فقال إن تخصيص اسم النوع بالذكر دل على نفي الحكم عن غيره ومثل له ابن برهان بما إذا قال في السود من الغنم زكاة وإن تخصيص اسم الشخص مثل قام زيد فلا يدل ثم قال ابن برهان وهذا ليس بصحيح لأن أسماء الأنواع نازلة في الدلالة منزلة أسماء الأشخاص إلا أن مدلول أسماء الأنواع أكثر وهما في الدلالة متساويان إذا عرفت هذا فقد استدل في الكتاب على مذهب الجمهور بأن تعليق الحكم على الاسم لو دل لكان الدليل على ثبوت الحكم في الأصل المقيس عليه كالنص الدال على أن البر ربوي مثالا وإلا على نفي الحكم عن الفرع المقيس كالأرز في مثالنا والفرض أن القياس قاض بإلحاقه فمتى عمل بالمفهوم بطل القياس وقد ضعف هذا الدليل بأن التعارض بين مفهوم اللقب والقياس غير متصور لأن من شرط القياس مساواة الفرع للأصل وشرط مفهوم المخالفة ألا يكون المسكوت(11/491)
عنه أولى ولا مساويا فلا مفهوم إذا مع المساواة ولا قياس مع عدم(11/492)
ص -370-…المساواة وأبدى والدي رحمه الله في تضعيفه وجها أحسن من هذا لا مزيد على بلاغته فقال للدقاق أن يقول المفهوم يدل على الإباحة فيما عدا البر والقياس إنما يدل على التحريم فيما شارك البر في المعنى كالأرز والحمص دون ما لم يشاركه من الرصاص والنحاس وغيرهما فغاية ما يفعل القياس حينئذ أن يخصص المفهوم ولا بدع في تخصيص المفهوم بالقياس بل ولا في تخصيص المنطوق.
فائدة في كتاب الأستاذ أبي إ سحاق في أصول الفقه أن شيخه ابن الدقاق هذا ادعى في بعض مجالس النظر ببغداد صحة ما قاله من مفهوم اللقب فألزم وجوب الصلاة فإن الباري تعالى أوجب الصلاة فهل له دليل يدل على نفي وجوب الزكاة والصوم وغيرهما قال فبان له غلطة وتوقف فيه.
قال وبإحدى صفتي الذات مثل في سائمة الغنم زكاة يدل ما لم يظهر للتخصيص فائدة أخرى خلافا لأبي حنيفة وابن سريج والقاضي وإمام الحرمين والغزالي.
هذا مفهوم الصفة وهو مقدم المفاهيم ورأسها وقد قال إمام الحرمين ولو عبر معبر عن جميع المفاهيم بالصفة لكان ذلك منقدحا فإن المعدود والمحدود موصوفان بعددهما وحدهما وكذا سائر المفاهيم وقول المصنف وبإحدى هو معطوف على قوله تعليق الحكم بالاسم أي وتعليق الحكم بإحدى صفتي الذات أو أحد أوصافها يدل على نفي الحكم عن الصفة الأخرى مثال مفهوم الصفة قوله صلى الله عليه وسلم: "في سائمة الغنم زكاة"1 وهو حديث معناه ثابت في الصحيح فإن الغنم ذات والسوم والعلف وصفان يعتورانها وقد علق الحكم بأحدهما وهو السوم وكذلك قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ}2 وقد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(11/493)
1 رواه البخاري بمعناه في كتاب أبي بكر الصديق في كتاب الزكاة باب زكاة الغنم 2/146. ولفظه "في صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة"
كما رواه أبو داود – كتاب الزكاة باب في زكاة السائمة 1/358.
2 سورة النساء آية: 25.(11/494)
ص -371-…اختلفوا في هذا المفهوم فذهب الجمهور وكبيرهم الشافعي وأبو الحسن وأبو عبيدة معمر بن المثنى وجمع كثير من الفقهاء والمتكلمين إلى أنه يدل على النفي واختباره المصنف ثم اختلاف هؤلاء في أنه هل يدل على نفي الحكم عما عداه مطلقا سواء كان من جنس المثبت فيه أم لم يكن أو يختص بما إذا كان من جنسه مثاله إذا قلنا في الغنم السائمة زكاة هل يدل على نفي الزكاة عن المعلوفة مطلقا سواء كانت معلوفة الغنم أم الإبل والبقر أو يختص بالنفي عن معلوفة الغنم وهذا الخلاف حكاه الشبخ أبو حامد في كتابه في أصول الفقه عن أصحابنا وقال الصحيح تخصيصه بالنفي عن معلوفة الغنم فحسب وذهب أبو حنيفة والقاضي وأبو بكر وأبو العباس بن سريج إمام أصحابنا والقفال الشاشي والغزالي وجماعة إلى أنه لا يدل واختاره الآمدي وفرق أبو عبد الله البصري فقال بالمفهوم في الخطاب الوارد لبيان المجمل كقوله عليه السلام زكوا عن سائمة الغنم فإنه ورد بيانا لقوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} والوارد للتعليم كقوله عليه السلام: "إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة"1 الحديث والوارد فيما انتفى عنه الصفة إذا كان داخلا تحت المتصف بها نحو الحكم بالشاهدين والشاهد الواحد فإن الشاهد الواحد داخل تحت الشاهدين وفرق إمام الحرمين بين الوصف المناسب وغير المناسب فقال بمفهوم الأول دونه.
الثاني: وقد اطلعه في الكتاب تبعا للإمام النقل عنه في إنكار مفهوم الصفة وليس بجيد.
وقال الإمام أنه لا يدل على النفي بحسب وضع اللغة لكنه يدل عليه بحسب العرف العام هذا تحرير الخلاف في المسألة وأما محل النزاع فهو كما أشار إليه المصنف بقوله ما لم يظهر أي إنما يدل على القائلين به إذا لم يظهر لتعليق الحكم بالصفة المذكورة فائدة أخرى مغايرة لنفي الحكم عما عداها ككونه جوابا عن سؤال سائل عن حكم إحدى الصفتين أو خارج مخرج الغالب أو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(11/495)
1 رواه أحمد وأبو داود والنسائي ولفظ ابن ماجه "والمبيع قائم بعينه" وفي رواية لأحمد "والسلعة كما هي".
المنتقى من أحاديث الأحكام لابن تيمية ص 457, 458.(11/496)
ص -372-…غير ذلك مثل قوله: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} فإن قوله: {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} لا مفهوم له لأن النهي عن موالاة الكافرين عام فيمن وإلى المؤمنين ومن لم يوالهم وإنما معنى قوله: {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} أن لكم في موالاة المؤمنين مندوحة عن موالاة الكافرين فلا تؤثروهم عليهم ففي هذه الأشياء لا يدل على نفي الحكم عما عدا الصفة المذكورة كما نقله المتأخرون من الأصوليين وقد نازع إمام الحرمين فيما إذا خرج مخرج الغالب بعد أن عن الشافعي ما قلناه من أنه لا مفهوم حينئذ وأطال الكلام فيه والشيخ عز الدين ابن عبد السلام قال القاعدة تقتضي العكس وهو أن الوصف إذا خرج مخرج الغالب يكون له مفهوم بخلاف ما إذا لم يكن غالبا وذلك لأن الوصف الغالب على ثبوته لها عن ذكر اسمه فإذا أتى بها مع أن العادة كافية فيها دل على أنه إنما أتى لتدل على سلب الحكم عما عداه لانحصار غرضه فيه وأما إذا لم يكن عادة فقد يقال إن غرض المتكلم بتلك الصفة أن يفهم السامع أن هذه الصفة ثابتة لهذه الحقيقة.
وقد أجاب القرافي عن هذا بأن الوصف إذا كان غالبا لازما لتلك الحقيقة في الذهن بسبب الشهرة والغلبة فذكره إياه مع الحقيقة عند الحكم عليها لعله لحضوره في ذهنه لا لتخصيص الحكم به وأما إذا لم يكن غالبا فالظاهر أنه لا يذكر مع الحقيقة إلا لتقييد الحكم به لعدم مقارنته للحقيقة في الذهن حينئذ فاستحضاره معه واستجلابه لذكره عند الحقيقة عند الحكم إنما يكون لفائدة والغرض عدم ظهور فائدة أخرى فيتعين التخصيص وهذا الجواب الصحيح.
فإن قلت هذا لا يتضح بالنسبة إلى كلام الله تعالى لعلمه بالغالب وغير الغالب على حد سواء.(11/497)
قلت هذا السؤال أورده الشيخ صدر الدين بن المرجل في كتابه الأشباه والنظائر وقد ذكر اختلاف الأصوليين في أن العام هل يشمل الصورة النادرة فقال هذا الخلاف لا يبين لي حرمانه في كلام الله تعالى لأنه لا يخفى عليه خافية فهو يعلم ذلك النادر وقال وإنما يتبين لي دخوله في كلام الآدميين وقد(11/498)
ص -373-…أجبت عنه في كتابي الأشباه والنظائر بما لو عرض على ذوي التحقيق لتلقوه بالقبول.
فقلت الخلاف جار في كلام الله تعالى لا للمعنى الذي ذكره ابن المرحل بل لأن كلام الله تعالى منزل على لسان العرب وقانونهم وأسلوبهم فإذا جاء فيه لفظ عام تحته صورة نادرة وعادة العرب إذا أطلقت ذلك اللفظ لا تمر تلك الصورة ببالها يقول هذه الصورة ليست داخلة في مراد الله تعالى من هذا اللفظ وإن كان عالما بها لأن هذا اللفظ يطلق عند العرب ولا يراد هذه الصورة كما يجيء في القرآن ألفاظ كثيرة يستحيل وقوع معانيها من الله تعالى كالترجي والتمني وألفاظ التشكيك ولك ذلك منتف في جانبه تعالى وإنما تجيء ليكون القرآن على أسلوب كلام العرب.
قال لنا أنه المتبادر من قوله عليه السلام: "مطل الغنى ظلم" ومن قولهم الميت اليهودي لا يبصر وإن ظاهر التخصيص يستدعي فائدة وتخصيص الحكم فائدة وغيرها منتف بالأصل فيتعين وإن الترتيب يشعر بالعلية كما ستعرفه والأصل ينفي علة أخرى فينتفي بانتفائها قيل لو دل لدل إما مطابقة أو التزاما قلنا دل التزاما لما ثبت أن الترتيب يدل على العلية وانتفاء العلة يستلزم انتفاء معلولها المساوي قيل ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق ليس كذلك قلنا غير المدعى.
استدل على أن مفهوم الصفة حجة بثلاثة أوجه:
الأول: أن يتبادر إلى الفهم حيث كان كما أن من سمع ما رواه البخاري ومسلم من قوله صلى الله عليه وسلم: "مطل الغنى ظلم"1 فهم أن مطل من ليس بغنى ليس ظلما وقد فهم ذلك من الحديث أبو عبيدة وهو من أئمة اللغة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه البخاري في كتاب الحوالات باب في الحوالة 3/123 ومسلم 5/34 باب تحريم مطل الغني وصحة الحوالة وأبو داود كتاب البيوع باب في المطل 2/222 كما رواه الترمذي تحفة الأحوذي 4/535 والنسائي 7/278 كتاب البيوع باب مطل الغني.(11/499)
ص -374-…وكذلك الشافعي وهو إمام اللغة وابن بجدتها والتسمك بقول الشافعي وأبي عبيدة أولى من التمسك بقول أعرابي جلف وكذلك أهل العرف يتبادر إلى فهمهم من قول القائل الميت اليهودي لا يبصر أن الميت الذي ليس هو بيهودي يبصر بدليل أنهم يسخرون من هذا الكلام ويضحكون منه وإنما ذكر المصنف هذين المثالين ليبين أن المتبادر إلى الفهم في الأول عند أهل اللغة وفي الثاني عند أهل العرف فيجتمع التبادر من الجهتين وهذا من محاسنه.
وقد اعترض إمام الحرمين على التمسك بفهم الشافعي وأبي عبيدة فقال هذا المسلك فيه نظر فإن الأئمة قد يحكمون على اللسان عن نظر واستنباط وهم في مسالكهم في محل النزاع مطالبون بالدليل والأعرابي الجلف طبعه فيقع التمسك بمنظومه ومنثوره.
الوجه الثاني: أن ظاهر تخصيص الحكم بالصفة يستدعي فائدة صونا للكلام عن اللغو وتلك الفائدة ليست لا نفي الحكم عما عداه لأن غيرها منتف بالأصل فتتعين هي ولأن الكلام فيما إذا لم يظهر للتخصيص فالذكر فائدة أخرى.
فإن قلت هذا يلزمكم في مفهوم اللقب.
قلت اللقب له فائدة تصحيح الكلام إذ الكلام بدونه غير مفيد بخلاف الصفة.
الثالث: أن الحكم المرتب على الخطاب المقيد بالصفة معلول تلك الصفة كما ستعرفه إن شاء الله تعالى في كتاب القياس من أن تريتب الحكم على الوصف يشعر بالعلية والأصل عدم علة أخرى لأنا لز جوزنا التعليل بعليتين فلا شك أن الأصل عدمه وإذا لم يكن له علة غير الوصف لزم انتفاء الحكم فيما انتفى عنه الوصف لأن انتفاء العلة يستلزم انتفاء المعلول.
قال قيل إن احتج الخصم بوجهين:
أحدهما: أنه لو دل تخصيص الحكم بإحدى الصفتين على نفيه عما عداها(11/500)
ص -375-…لدل عليه إما بالمطابقة او بالالتزام ضرورة انحصار الدلالة فيهما فإن المراد بدلالة الالتزام هنا دلالة اللفظ على لازم مسماه واللازم أعم من الجزء والوصف فيشتمل دلالة التضمن لكنه لا يدل بالمطابقة لأن ثبوت الحكم في إحدى الصفتين ليس عين ثبوته في الأخرى لأن قوله: "زكوا عن الغنم السائمة" غير موضوع لنفي الزكاة عن المعلوفة فالدال على أحدهما بالمطابقة لا يدل على الآخر بها وإنما قلنا إنه لا يدل بالالتزام لأنه إن كان التضمن فواضح لأن نفي الحكم عما عدا المذكور ليس جزءا لثبوته في المذكور وإن كان الالتزام المعرف في تقسيم الألفاظ فلأن شرطه سبق الذهن من المسمى إليه والسامع قد يتصور وجوب الزكاة بنفي أو إثبات بل قد يغفل عن تصور المعلوفة.
وأجاب في الكتاب بأنه يدل عليه بالالتزام لما ثبت من أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية وأن الأصل عدم علة أخرى فانتفاء الحكم عما عدا تلك الصفة من لوازم ثبوته لها لأن انتفاء العلة يستلزم انتفاء معلولها المساوي فالدال على ثبوت الحكم للصفة المخصوصة بالذكر مطابقة يدل على نفيه عما عداها التزاما.
قوله المساوي أراد به ألا يكون له علة أخرى احترازا عما يكون له علة أخرى كالحرارة فإنها معلولة للنار وللشمس فلو كانت له علة أخرى لم يلزم من انتفاء هذه العلة انتفاء المعلول لجواز ثبوته بالعلة الأخرى هذا تقرير الجواب ولقائل أن يقول إنما يتأتى هذا عند من لا يشترط في دلالة الالتزام اللزوم البين ويكتفي باللازم الخارجي سواء كان لزومه بواسطة أو بغير واسطة.
الوجه الثاني: أنه لو دل لما كان حكم المنطوق به ثابتا مع عدم الصفة لكنه ثابت كما في قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ}1 فإن قتل الأولاد محرم في الحالتين.
وأجاب بأن هذا غير المدعى لأنا لم ندع أن مفهوم الصفة حجة إلا فيما إذا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الاسراء آية: 31.(12/1)
ص -376-…لم يظهر له فائدة أخرى كما تقدم وهنا قد ظهرت له فائدة وهي خروجه مخرج الغالب لأن غالب أحوالهم أنهم لا يقتلون أولادهم إلا عند خشية الفقر.
هذا جواب المصنف والحق أن هذا ليس مما نحن فيه لأن دلالته على حرمة القتل عند انتفاء خشية الإملاق من باب الأولى فهو من فحوى الخطاب لا من دليله.
فإن قلت هب أن هذه الآية لا تدل لما ذكرناه ولكن آية أخرى مؤيده ة له وهي قوله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ}1 فلو كان مفهوم الصفة حجة للزمكم القول بأن لهم شفيعا لا يطاع.
قلت هذا الصفة لها فائدة أخرى غير التخصيص فلا يكون من محل النزاع وقال والدي أيده الله في تفسيره هذه الآية ست فوائد لهذه الصفة
احداها: أنها الذي يتشوق إليه نفوس من يقصد أن يشفع فيه فكان التصريح بنفيها نفيا قاطعا لأطماع الظالمين ومظالمهم ليقطعوا إياسهم لأن من كان متشوقا إلى شيء فصرح له بأنه لا يبلغه كان أنكى له من أن يدل عليه بلفظ عام شامل له أو مستلزم إياه فلم يقصد بهذه الصفة التخصيص وإنما قصد ما ذكرناه.
الثانية: أن من الشفعاء من لا يقبل شفاعته فلا غرض فيه أصلا ومنهم مقبول الشفاعة وهو المقصود فنص عليه تحقيقا لمن قصد نفيه وهي صفة مخصصة وقدم هذه الفرض على ما يقتضيه مفهوم الصفة من وجود غيره لقيام الدليل على عدمه وهذه الفائدة مغايرة للأولى لأن هذه في آحاد الشفعاء وتلك في صفة شفاعتهم.
الثالثة: ما يدل عليه مادة يطاع والغالب في الشفاعة استعمال لفظ القبول والنفع وما أشبههما أما الطاعة فإنما تقال في الأمر فكان ذكرها ههنا لنكتة بديعة وهي أنه لما ذكر الظالمين وشأن الظالمين في الدنيا القوة والمتكلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة غافر آية: 18.(12/2)
ص -377-…لهم بمنلة من يأمر فيطاع نفى عنهم ذلك في الآخرة تبكيتا وحسرة فإن النفس إذا ذكرت ما كان عليه وزال عنها وخوطبت به كان أشد عليها.
الرابعة: أنه أشارة إلى قول ذلك اليوم العصيب وأن شدته بلغت مبلغا لا ينفع إلا شفيع له قوة ورتبة أن يطاع لو وجد وهو لا يوجد وهذه قريبة من التي قبلها إلا أنها بحسب الحاضر وتلك بحسب الماضي.
الخامسة: التنبيه على ما فضل الشفيع لأجله كقول المغلوب الذي ليس عنده أحد ما عندي أحد ينصرني تنبيها على أن مقصوده النصرة.
السادسة: فائدة ذكرها الزمخشري وفهمها يتوقف على تحرير كلامه وفيه نظر طويل وقد تكلم عليه الشيخ الإمام والدي أبلغ كلام وأحسنه ولولا خشية التطويل والخروج عن مقصد الشرح لاستوعبنا ذكره فإنه مما يشح به اللبيب ويثبط به ذو الذهن السليم.
قاعدة أصل وضع الصفة أن تجيء إما للتخصيص أو للتوضيح ويكثر مجيئها للتخصيص في النكرات وللتوضيح في المعارف نحو مررت برجل عاقل وبزيد العالم وقد تجيء لمجرد الثناء كصفات الله تعالى أو لمجرد الذم نحو الشيطان الرجيم أو للتوكيد مثل نفخة واحدة أو للتحنن مثل زيد المسكين.
وهذه الأقسام لا مفهوم لها وقد يعبر عن التخصيص بالشرط عن التوضيح بالتعريف والمعنى واحد ولما احتمل كون كل منهما مرادا وقع في مواضع كثيرة من الكتاب والسنة أماكن اختلف فيها العلماء وفي الحكم المرتب عليها لأجل اختلافهم فيها فمن تلك قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ}1 فقوله: {لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} متردد بين أن يكون للتوضيح أو للتخصيص فإن كان فيه دلالة لمذهب الشافعي رضي الله عنه أن العبد لا يملك شيئا ويكون معنى الآية أن هذا شأن العبد كما في قوله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النحل آية: 75.(12/3)
ص -378-…مملوكا قبل ذلك فإنه للتوضيح لا محالة وإن كان قوله: {لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} للتخصيص كان فيه دلالة مذهب مالك.
والقديم عندنا أن العبد يملك بالتمليك لأن معنى الآية أن العبد قد يملك وقد لا يملك والوصف خصص المثال بمن لا يملك شيئا ولا يقدر عليه.
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم لصفوان بن أمية لما استعار منه: "بل عارية مضمونة" ن كان للتوضيح كان فيه دليل المذهب الشافعي أن العارية مضمونة وأن هذا شأنها وإن كان للتخصيص كان مستندا لأبي حنيفة في أنها غير مضمونة ما لم يشترط.
ومنها إذا قال لزوجته إذ تظاهرت من فلانة الأجنبية فأنت علي كظهر أمي ثم تزوجها فظاهر منها فهل يصير مظاهرا من الزوجة الأولى فيه وجهان:
أحدهما: أنه يصير مظاهرا ويكون لفظ الأجنبية للشرط وهو للتخصيص فكأنه علق ظهاره من الزوجة على ظهاره من تلك في حال كونها أجنبية وذلك تعليق على ما لا يكون ظهارا شرعيا فلا يصح من الأولى.
ومنها إذا حلف لا يأكل من لحم هذا الجمل فصار كبشا فأكله ففيه خلاف منهم من خرجه على هذه القاعدة ومنهم من خرجه على تغليب الإشارة والعبارة ومن هنا ينعرج القول إلى مسائل الإشارة والعبارة.
وقد ذكرنا في كتبابنا الأشباه والنظائر عند ذكر هذه القاعدة من مسائلها ما تقر به عين ناظره والله أعلم.
قال الخامسة التخصيص لاشرط مثل: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} فإنه ينتفي المشروط بانتفائه قيل تسيمة إن حرف شرط اصطلاح قلنا الأصل عدم النقل قيل يلزم ذلك لو لم يكن الشرط بدل قلنا حينئذ يكون أحدهما وهو غير المدعي قيل: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} ليس كذلك قلنا لا نسلم بل انتفاء الحرمة لامتناع الإكراه.
هذا مفهوم الشرط وهو أقوى من مفهوم الصفة ولذلك قال به بعض من(12/4)
ص -379-…لا يقول بمفهوم الصفة كابن سريج وبالغ إمام الحرمين في الرد على منكريه وأما الفزاني فإنه صمم على إنكاره فقال الصحيح عندنا ما ذهب إليه القاضي من إنكاره.
واعلم أن محل الخلاف في مفهوم الشرط فيما إذا قال من جاءني أكرمته وأمثالها من صيغ الشرط نحو متى وإذا أن هذه الصيغة الدالة بمنطوقها على إلزام من يجيء هل هي دالة بمفهومها على عدم إكرام من لم يجيء هذا محل النزاع وكذلك في مفهوم الصفة وغيره فالخلاف إنما هو في دلالة حرف الشرط على العدم عند العدم لا على أصل العدم عند العدم فإن ذلك ثابت بالأصل قبل أن ينطق الناطق بكلامه وكذا في سائر المفاهيم مثال مفهوم الشرط قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ}1 دل بالمنطوق على وجوب النفقة على أولات الأحمال فهل يدل بالمفهوم على العدم عند العدم حتى يستدل به على منع وجوب النفقة للمعتدة الحائل.
والذي اختاره المصنف تبعا للإمام والجماهير وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه أنه يدل ودليله أن النحويين قالوا إن كلمة إن حرف شرط ويلزم من انتفاء الشرط انتفاء المشروط واعترض الخصم على هذا الدليل بثلاثة وجه
أحدها: أن تسمية إن حرف شرط من الاصطلاحات المجازية كتسميتهم الحركات المخصوصة بالرفع والجر والنصب وإن لم يكن هذه الأسماء موجودة في أصل اللغة وأجاب بأن الأصل أن تكون تسميتهم له حرف شرط مطابقته للوضع اللغوي وألا يلزم النقل وهو خلاف الأصل وهذا الجواب ذكره الإمام وغيره وفي النفس منه شيء فإن المصنف لا يكابر في أن هذه الاصطلاحات حادثة بعد أصل الوضع ولكن سبيل الانفصال عن السؤال أن يقال نحن إنما كلامنا في المعلق على شيء بأداة يفهم منها العرب ما يطلق عليه المصطلحون الشرط وهذا الذي يفهم من الشرط ليس مكسبا من تسميته شرطا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الطلاق آية: 6.(12/5)
ص -380-…والحاصل أن المصطلح إنما هو للتسمية للمعنى السابق المفهوم عند العرب والخلاف في مفهوم الشرط إنما هو في ذلك المعنى الذي كانت العرب إذا أطلقت أداة الشرط تفهمه هل هو الحصول عند الحصول والعدم عند العدم أو مجرد الحصول عند الحصول.
الاعتراض الثاني: أنا لا نسلم أنه يلزم من انتفاء الشرط انتفاء المشروط على الإطلاق وإنما يلزم ذلك إذا لم يكن للشرط بدل يقوم مقامه أما إذا كان ذا بدل فلا يلزم ذلك كالوضوء فإنه شرط في الصلاة ولا يلزم من انتفائه انتفاؤها لجواز أن توجد بالتيمم وأجاب بأن المدعى أن الشرط يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم وما ذكرتموه لا ينقض هذه الدعوى لأن الشرط في الحالة التي ذكرتموها وهي الصلاة أحد الأمرين وأحد الأمرين لا ينتفي إلا بانتفائهما جميعا وما لم ينتفيا لا ينتفي الشرط لأن مسمى أحدهما باق وهذا غير مدعانا إذ المدعي فيما هو شرط بعينه ويمكن أن يقال وهذا غير مدعانا أي أن الشرط يلزم من انتفائه انتفاء المشروط لأن الشرط والحالة هذه أحدهما ولم ينتف ولو انتفى لم تصح الصلاة وهذا حسن من تقريره على لفظه غير ونسخ الكتاب مختلفة لأن غيرا تصحف بعين.
الاعتراض الثالث: أنه لم لو كان مفهوم الشرط حجة لكنا قوله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً}1 دالا على أنهن إذا لم يردن التحصن يجوز إكراههن على البغاء وأجاب بأنا لا نسلم أنه ليس كذلك أي لا نسلم عدم انتفاء الحرمة عند عدم إرادة التحصن بل حرمة الإكراه عند عدم إرادة التحصن منتفية لامتناع تصور الإكراه حينئذ فإن الإكراه إنما يتصور على ما يريده الإنسان المكره لأنه حمل الشخص على مقابل مراده فإذا لم يتصور الإكراه جاز أن يقول ليس بحرام لأنه ليس بمتصور والحرمة فرع كونه متصورا.
فإن قلت ما فائدة قوله: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً}حينئذ قلت لعل المراد(12/6)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النور آية: 33.(12/7)
ص -381-…التنصيص على قبح فعلهم والنداء بتشنيع أمرهم واعلم أن الشرط قد يأتي ولا مفهوم له وهو فيما إذا ظهرت له فائدة غير تخصيص الحكم كما قلنا في مفهوم الصفة وكما في قوله: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} فإن له فائدة وهي ما أشرنا إليه وكما في قوله تعالى: {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} وقول القائل لابنه: أطعني إن كنت ابني والمراد التنبيه على السبب الباعث للمأمور به لا تقييد الحكم فكل هذا ليس من محل النزاع.
قال السادسة التخصيص بالعدد لا يدل على الزائد والناقص.
اختلفوا في أن تعليق الحكم بعدد مخصوص هل يدل على انتفاء الحكم فيما عدا ذلك العدد زائدا كان أم ناقصا فذهب طوائف إلى أنه يدل وهو المنقول عن الشافعي مما نقله الماوردي في باب بيع الطعام قبل أن يستوفي وإمام الحرمين والغزالي.
وقال آخرون إنه لا يدل وهو رأي القاضي وإمام الحرمين وبه قطع المصنف وأما الإمام فاختار أن الحكم المقيد بعدد إن كان معلول ذلك العدد ثبت في الزائد لوجوده فيه كما لو حرم جلد مائة أو حكم بأن القلتين يدفعان حكم النجاسة وإلا لم يلزم كما لو أوجب جلد مائة والناقص عن ذلك العدد إن كان داخلا فيه وكان الحكم إيجابا أو إباحة ثبت فيه كما لو أوجب أو أباح جلد مائة وإن كان تحريما فلا يلزم وإن لم يكن داخلا فيه كالحكم بشهادة شاهدين واحد فإنه لا يدخل في الحكم بشهادة شاهدين فالتحريم قد ثبت فيه بطريق الأولى والإيجاب والإباحة لا يلزمان.
قال فثبت أن قصر الحكم على العدد لا يدل على نفيه عما زاد أو نقص إلا بدليل منفصل ومن حجج القائلين بهذا المفهوم أنه لما نزل قوله تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}1 قال النبي صلى الله عليه وسلم: "والله لأزيدن على السبعين" فقد فهم سيد العرب العرباء من الآية حكم ما زاد على السبعين بخلافه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(12/8)
1 سورة التوبة آية: 80.(12/9)
ص -382-…ومن الناس من أجاب عن هذا بأن العدد كما لا يدل على نفي الحكم عما عداه لا يدل على إثباته بل هو مسكوت عنه فلعل النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك رجاء لحصول الغفران لهم بناء على حكم الأصل إذ كان جواز المغفرة ثابتا قبل نزول هذه الآية.
قال الغزالي الأظهر أن الخبر غير صحيح لأنه صلى الله عليه وسلم أعرف الخلق بمعاني الكلام ولفظ السبعين إنما جرى مبالغة في اليأس وقطعا للطمع في الغفران فإن العرب تستعمله في ذلك كقول القائل اشفع أو لا تشفع لو شفعت سبعين مرة لما أفاد.
وقول الغزالي إن الأظهر أن هذا الخبر غير صحيح متلقى من إمام الحرمين فإنه قال هذا لم يصححه أهل الحديث وإمام الحرمين تلقى ذلك من القاضي أبي بكر فإنه قال في مختصر التقريب هذا الحديث ضعيف غير مدون في الصحاح وهذا باطل فإن الحديث ثابت صحيح مدون في البخاري ومسلم.
وقل الغزالي السبعين للمبالغة في قطع اليأس متلقى من القاضي أيضا فإنه قال من شد طرفا من العربية لم يخف عليه أن المقصود منه قطع موارد الرجاء دون التعليق على السبعين وكيف يخفى مدرك هذا وهو مقطوع به عن أفصح من نطق بالضاد والحق أن الجواب الأول أسد من هذا وقد ذكره القاضي أيضا في مختصر التقريب وأما ما تعلق به القاضي في إنكار للحديث فغير معتصم لأن السبعين وإن نطقت العرب بها للمبالغة تارة فقد نطقت بها للتقيد بالعدد المخصوص تارة أخرى بل العدد المخصوص هو حقيقتها وقول القاضي المقصود قطع موارد الرجاء دون التعليق على السبعين لا يصح مع ثبوت الحديث.
خاتمة قال والدي رحمه الله التحقيق عندي أن مفهوم العدد إنما يكون حجة عند القائل به عند ذكر نفس العدد كاثنين وعشرة أما المعدود فلا يكون مفهومه حجة كقوله صلى الله عليه وسلم أحلت لنا ميتتان ودمان فلا يكون عدم تحريم ميتة ثالثة مأخوذا من مفهوم العدد لكن الناس يمثلون لمفهوم العدد بقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا(12/10)
ص -383-…بلغ الماء قلتين"1 والذي لا يتجه غيره هو ما ذكرناه وذلك لأن العدد شبه الصفة لأن قولك في خمس من الإبل في قوة قولك في إبل خمس تجعل الخمس صفة للإبل وهي إحدى صفتي الذات لأن الإبل قد تكون خمسا وقد تكون أقل أو أكثر فلما قيدت وجوب الشاة بالخمس فهم أن غيرها بخلاف فإذا قدمت لفظ العدد كان الحكم كذلك والمعدود لم يذكر معه أمر زائد يفهم منهم انتفاء الحكم عما عداه فصار كاللقب واللقب لم لا فرق فيه أن يكون واحدا أو مثنى ألا ترى أنك لو قلت رجال لم يتوهم أن صيغة الجمع عدد ولا يفهم منها ما يفهم من التخصيص بالعدد فكذلك المثنى لأنه اسم موضوع لاثنين كما أن الرجال اسم موضوع لما زاد فمن ثم لم يكن قوله: "ميتتان" يدل على نفي ميتة ثالثة كما أنه لو قال أحلت لنا ميتة لم يدل على عدم حل ميتة أخرى نعم هنا بحث ينشأ منه تفصيل وهو أن المثنى من جنس تارة يراد به ذلك الجنس ويكون جانب العدد مغمورا معه وتارة يراد العدد من ذلك الجنس ويظهر هذا بأنك إذا أردت الأول تقول جاءني رجلان لا امرأتان فلا ينافي أن يكون جاءه رجال ثلاثة وإذا أردت الثاني تقول جاءني رجلان لا ثلاثة فلا ينافي ذلك أنه جاءه نسوة وكذلك المفرد تقول جاءني رجل لا امرأة و جاءني رجل لا رجلان فإن كان في الكلام قرينة لفظية أو حالة تبين المراد اتبعت وعمل بحسبها وإلا فلا دليل فيه لواحد منها وقوله أحلت لنا ميتتان سبق لبيان حل هاتين الميتتين وليس فيه إشعار لحكم ما سوى ذلك وقوله: "إذا بلغ الماء فلتين لم يحمل الخبث" فيه شرط يستغنى به عن التمسك بمفهوم العدد لكن الإمام وغيره مثلوا به في العدد وكان لما ذكرته من البحث لأن قرينة الكلام بقوله إذا بلغ يقتضي أنه أراد التقييد بهذا القدر المخصوص فكانت صفة العدد فيه هي المقصودة فلذلك صح التمسك به
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(12/11)
1 حديث صحيح رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب ما ينجس الماء 1/15 والنسائي في كتاب المياه باب التوقيت في الماء 1/142 وابن ماجه في كتاب الطهارة باب مقدار الماء الذي لا ينجسه شيء ولفظه "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث"
وفي بعض الروايات "لم يحمل خبثا".(12/12)
ص -384-…قال السابعة النص إما أن يستقل بإفادة الحكم أو لا والمقارن له إما نص آخر
مثل دلالة قوله: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} مع دلالة: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} على أن تارك الأمر يستحق العقاب كدلالة قوله: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} مع قوله: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر أو إجماع كلالة ما دل على أن الخال بمثابة الخالة في إرثها إذا دل نص عليه.
النص المستدل به على حكم قد يدل بمنطوقه وقد يدل بمفهومه وهذان القسمان تقدما وهما داخلان تحت قول المصنف يستقل فإفادة الحكم وذلك كقوله: "زكوا عن الغنم السائمة" فإن منطوقه مستقل بإيجاب زكاتها ومفهومه مستقل بعدم إيجاب زكاة المعلوفة وقد يدل لا بمنطوقه ولا بمفهومه بل بانضمامه إلى آخر وهذا هو الذي لا يستقل بل يحتاج إلى مقارن فتقول ذلك الآخر المقارن إما أن يكون نصا أو إجماعا أو قياسا أو قرينة حال التكلم واقتصر في الكتاب على ذكر القسمين الأولين أعني النص والإجماع الأول النص وهو على وجهين:
أحدهما: أن يدل أحد النصين على مقدمة من مقدمتي الدليل والآخر على مقدمة أخرى منه فيتم بهما الدليل مثاله قوله تعالى: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي}1 فإنه يدل على أن تارك الأمر عاص فإذا ضمه المستدل إلى قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ}2 فإن هذا يدل على أن العاصي يستحق العقاب وقد دلت الأولى على أن تارك المأمور به يستحق العقاب وثانيهما يدل أحدهما على ثبوت حكم لشيئين والآخر على ثبوت بعض ذلك لأحدهما على التعيين فيتعين الباقي للآخر مثاله قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً}3 مع قوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ(12/13)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة طه آية: 93.
2 سورة الجن آية: 23.
3 سورة الأحقاف آية: 15.(12/14)
ص -385-…الرَّضَاعَةَ} يدل على أن مدة الفصال حولان فيتعين أن يكون الباقي وهو ستة أشهر مدة الحمل فعلم من مجموع النصين أن أقل مدة الحمل ستة أشهر.
الثاني: الإجماع كدلالة ما روى من قوله صلى الله عليه وسلم: "الخال وارث من لا وارث له" على أن الخال يرث في بعض الأحوال وانعقد الإجماع على أن الخالة بمثابته في الإرث والحرمان فيدل هذا النص بواسطة انضمام الإجماع إليه على أن الخالة أيضا ترث في حالة يرث الخال
الثالث: القياس كإثبات الربا في الأرز بواسطة ثبوته بالنص في البر
الرابع: شهادة حال المتكلم كما إذا جاء في الشرع لفظ تردد بين الشرع وغيره فإنا نحمله على الشرعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث لبيان الشرعيات مثل ما روي من قوله صلى الله عليه وسلم: "الاثنان فما فوقهما جماعة" فإنه يحمل على جماعة الصلاة لا على أقل الجمع لأن الأول أمر شرعي وهذا لغوي وقرائن حاله صلى الله عليه وسلم يرجع الحمل على الشرعي لما ذكرناه من كونه مبعوثا لبيان الشرعيات والله أعلم وبه التوفيق.
تم الجزء الأول ويليه الجزء الثاني وأوله الباب الثاني في الأوامر والنواهي.(12/15)
عنوان الكتاب:
الإبهاج في شرح المنهاج – الجزء الثاني
تأليف:
تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي و ولده تاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي
756هـ
الناشر:
دار الكتب العلمية -بيروت
1416هـ - 1995 م(13/1)
ص -3-…الباب الثاني في الأوامر والنواهي
الباب الثاني: في الأوامر والنواهي وفيه فصول:
الأول: في لفظ الأمر وفيه مسئلتان:
الأولى: أنه حقيقة في القول الطالب للفعل واعتبرت1 المعتزلة العلو وأبو الحسين الاستعلاء و يفسدهما قوله تعالى حكاية عن فرعون: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}.
الكلام عند أصحابنا يطلق على اللساني والنفساني واختلفوا هل هو حقيقة فيهما أو في أحدهما على مذاهب قيل في اللساني فقط وذهب المحققون منا كما نقله الإمام في أول اللغات إلى أنه مشترك بينهما وذهب آخرون إلى أنه حقيقة في النفساني فقط وكلا القولين منقول عن الشيخ ويدل على أنه حقيقة في النفساني قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ}2 وقوله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ }3 وقال عمر يوم السقيفة كنت زورت في نفسي كلاما.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في بعض نسخ المتن واعتبر بدون تاء وكلاهما صحيح فإن الفعل إذا أسند إلى جمع التكثير جاز تأنيثه وتذكيره فإثبات التاء لتأوله بالجماعة وحذفها لتأوله بالجمع.
شرح ابن عقيل 1/409,408.
2 سورة المجادلة آية: 8 .
3 سورة الملك آية:13 .(13/2)
ص -4-…وقال الأخطل1:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما…جعل اللسان على الفؤاد دليلا
قال أصحابنا ولسنا نستدل بهذه الأدلة على إثبات الكلام النفسي فان هذه الأدلة قابلة للتأويل ولكنا لما دللنا بالبراهين القاطعة المودعة في الكتب الكلامية على إثبات معنى في النفس يزيد على العلوم والقدر والإرادات دللنا بهذه الألفاظ على أنه سمي كلاما فهي أدلة على إثبات التسمية لا على إثبات الحقيقة.
وأما قول الإمام هنا المختار أنه حقيقة في اللساني فقط فغير مغاير لما نقله في اللغات عن المحققين لأنه قال هناك الكلام بالمعنى القائم في النفس مما لا حاجة في أصول الفقه إلى البحث عنه وإنما الذي يبحث عنه اللساني وقوله هنا فقط أي ولا يكون حقيقة في الشيء والقصة والشأن والطريق كما ذهب إليه أبو الحسين وحاصل الأمر أن الكلام هنا ليس إلا في اللساني قوله في لفظ الأمر أي لفظ أمر لا في مدلولها الذي هو افعل ولا في نفس الطلب وهذا اللفظ يطلق مجازا على الفعل وغيره مما سيأتي ان شاء الله تعالى فسمي الأمر لفظ وهو صيغة افعل ومسمى صيغة افعل هو الوجوب أو غيره على الاختلاف فيه فقوله القول جنس يدخل فيه الأمر وغيره نفسانيا كان أو غيره ويستفاد من هذه العبارة أن الطلب بالإشارة والقرائن المفهمة لا يكون أمرا حقيقة وقوله الطالب فصل يخرج به الخبر وشبهه وقوله للفعل فصل ثان يخرج به النهي إذ هو طالب للترك وهذا مدخول من جهة أن النهي طلب فعل أيضا ولكن فعل هو كف فلو قال فعل غير كف كما فعل ابن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو غياث بن غوث بن الصلت بن طارقة بن عمرو من بني تغلب شاعر مصقول الألفاظ حسن الديباجة في شعره إبداع اشتهر في عهد بني أمية وأكثر من مدح ملوكهم وهو أحد الثلاثة المتفق على أنهم أشعر اهل عصرهم :جرير والفرزدق والأ خطل.
توفي سنة 90هـ.
دائرة المعارف الإسلامية 1/515 الإعلام للزركلي 5/318.(13/3)
ص -5-…الحاجب لسلم من هذا الاعتراض ويعترض عليه أيضا بقول القائل أوجبت عليك كذا وأنا طالب منك كذا فإنه يصدق عليه التعريف مع كونه خبرا فكان ينبغي أن يقول بالذات كما فعل في تقسيم الألفاظ.
واعلم أن هذا التعريف يدخل فيه النفساني فكان ينبغي أن يأتي بفصل يخرجه وليس لقائل أن يقول النفسانى نفس الطلب لا الطالب فقد خرج بقوله الطالب لأنا نقول يصدق على النفساني أنه طالب.
ولئن قلت: إنه ليس بطالب حقيقة.
قلت: وكذا اللساني إنما الطالب حقيقة المتكلم وقد زاد الإمام في الحد قيدا آخر عند قوله إن الحق أن الأمر اسم لمطلق اللفظ الدال على الطلب لا اللفظ العربي الدال على الطلب بدليل أن الفارسي إذا طلب من عبده شيئا يلقنه يسميه العربي أمرا وأنه لو حلف لا يأمر فأمر بالفارسية حنث فقال الحق أنه اسم لمطلق اللفظ الدال على الطلب المانع من النقيض لا لمطلق اللفظ الدال على مطلق الطلب.
قال: وذلك إنما يظهر ببيان أن الأمر للوجوب وهذا ماش على ما اقتضته طريقته من أن لفظ الأمر هو صيغة افعل والتحقيق أنهما مسألتان كما سبق ومما يدل عليه ذهاب الجمهور ومنهم القاضي إلى أن المندوب مأمور به مع قول الجمهور إن صيغة افعل حقيقة في الوجوب وقول القاضي إنها مترددة بين الوجوب والندب والإباحة والتهديد صرح به في مختصر التقريب بل صرح في مختصر التقريب بما قلناه.
وهذه عبارته: الأمر الحقيقي معنى قائم بالنفس وحقيقة اقتضاء الطاعة ثم ذلك ينقسم إلى ندب ووجوب لتحقيق الاقتضاء فيهما.
وأما العبارة الدالة على المعنى القائم بالنفس نحو قول القائل افعل فمترددة بين الدلالة على الوجوب والندب والإباحة والتهديد فيتوقف فيها حتى يثبت بقيود المقال أو قرائن الحال تخصصها ببعض المقتضيات هذا ما نرتضيه من المذهب انتهى قوله.(13/4)
ص -6-…واعتبرت شرطت المعتزلة في الأمر العلو وقالوا لا يصدق إلا به أي بأن يكون الطالب أعلى مرتبة من المطلوب منه فآما إن كان مساويا له فهو إلتماس وإن كان دونه فهو سؤال.
وقد تابعهم على ذلك من أصحابنا الشيخان أبو إسحاق الشيرازي1 وأبو نصر بن الصباغ2 كما نص عليه في عدة العالم وشرط أبو الحسين من المعتزلة الاستعلاء دونه العلو والفرق بين الاستعلاء والعلو واضح فالعلو أن يكون الآمر في نفسه أعلى درجة والاستعلاء أن يجعل نفسه عاليا بكبرياء أو غيره وقد لا يكون في نفس الأمر كذلك فالعلو من الصفات العارضة للناطق والاستعلاء من صفات كلامه
وهذا الذي قاله أبو الحسين صححه الآمدي وابن الحاجب وكذلك الإمام إلا أنه في أوائل المسألة الخامسة قال وقال أصحابنا لا يشترط العلو ولا الاستعلاء لنا قوله حكاية عن فرعون وأخذ يستدل للأصحاب بهذه الصيغة فظن ظانون الاضطراب في كلامهم والظاهر أن صيغة لنا إنما أتى بها من أصحابه
تنبيه ما نقله المصنف هنا عن أبي حيان لا يناقض ما اختاره في تقسيم الألفاظ لأن الكلام هنا في مدلوله اللغوي وأما هناك فالكلام في مدلوله الاصطلاحي ألا ترى إلى ذكره هناك المتواطىء والمشكك والاسم والفعل والحرف وكل هذه أسماء مصطلح عليها بين العلماء
وقد رد المصنف على المذهبين أعني مذهب المعتزلة وأبى الحسين بأنه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدمت ترجمته في الجزء الأول.
2 هو عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد بن أحمد: كنيته أبو نصر وعرف بابن الصباغ لأن أحد أجداده كان صباغا كان بارعا في الفقه والأصول ثقة حجة صالحا ورعا حتى فضله بعض العلماء على أبي اسحاق الشيرازي.
من مؤلفاته: الكامل في الخلاف بين الحنفية والشافعية و العمدة في أصول الفقه.
توفي ببغداد سنة 477هـ.
طبقات ابن السبكي 3/23 الفتح المبين 1/371.(13/5)
ص -7-…يفسرهما قوله تعالي حكاية عن قول فرعون لقومه:{فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}1 فأطلق الأمر على ما يقولونه في مجلس المشاورة ومن المعلوم انتفاء العلو إذا كان فرعون في تلك الحالة أعلى رتبة منهم وقد جعلهم آمرين له وانتفاء الاستعلاء إذ لم يكونوا مستعلين عليه والأصل في الإطلاق الحقيقة فدل ذلك على عدم اعتبار كل واحد من العلو والاستعلاء ومما يدل على ذلك قول عمرو بن العاص لمعاوية رضي الله عنهما:
أمرتك أمرا جازما فعصيتني…وكان من التوفيق قتل ابن هاشم
وابن هاشم هذا رجل من بني هاشم خرج من العراق على معاوية رضي الله عنه فامسكه فأشار عليه عمرو بقتله فخالفه معاوية لشدة حلمه وكثرة عفوه فأطلقه فخرج عليه مرة أخرى فأنشده عمرو البيت في ذلك لا في علي رضي الله عنه وإنما نبهنا على ذلك مخافة أن يتوهمه متوهم.
وقال دريد بن الصمة2 لنظرائه ولمن هو فوقه:
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى …وهل يستبان الرشد إلا ضحى الغد
وقال الآخر مخاطبا يزيد بن المهلب أمير خراسان والعراق:
أمرتك أمرا جازما فعصيتني… فأصبحت مسلوب الإمارة نادما
وقد قيل في إبطال مذهب أبي الحسين على الخصوص في الكتاب العزيز في غاية التلطف ونهاية الاستجلاب بتذكير النعم والوعيد بالنقم كما في قوله تعالى: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}3 وقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي}4 إلى غير ذلك من الآيات
المنافية لاشتراط الاستعلاء وإلا يلزم أبا الحسين أن يخرجها عن كونها أوامر بل يلزمه أن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف 110 والشعراء 35.(13/6)
2 هو: دريد بن الصمة الجشمي البكري من هوازن ومن الشعراء المعمرين في الجاهلية كان السيد بني جشم وقائدهم غزا نحو مائة غزوة لم يهزم في واحدة منها أدرك الإسلام ولم يسلم قتل على دين الجاهلية في غزوة حنين سنة 8هـ. الأغاني 10/3-40 طبعة دار الكتب الأعلام للزركلي 3/16, 17.
3 سورة البقرة آية 21.
4 سورة آل عمران آية 31.(13/7)
ص -8-…يخرج كل صيغة لا يدل معها دليل على وجود الاستعلاء الذي هو هيئة قائمة بالأمر وأكثر الأوامر لا يوجد فيها ذلك.
قال: وليس حقيقة في غيره دفعا للإشتراك وقال بعض الفقهاء إنه مشترك بينه وبين الفعل أيضا لأنه يطلق عليه مثل وما أمرنا وما أمر فرعون
الأصل في الإطلاق الحقيقة قلنا المراد الشأن مجازا.
قال البصري: إذا قيل أمر فلان ترددنا بين القول والفعل والشيء والشأن والصفة وهو آية الاشتراك قلنا لا بل بتبادر القول.
قد عرفت أن لفظ الأمر حقيقة في القول المخصوص وذلك باتفاق.
قال المصنف: فلا يكون حقيقة في غيره دفعا للاشتراك وقال بعض الفقهاء إنه مشترك بين القول المخصوص والفعل ونقل الأصفهاني في شرح المحصول عن ابن برهان أنه قال كافة العلماء ذهبوا إلى أنه حقيقة في الفعل والشأن والقصة والمقصود والغرض ولم أر ذلك في كلام ابن برهان واستدل القائل بأنه حقيقة في الفعل بأنه يطلق عليه كما في قوله تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ}1 أي فعلنا وقوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ}2 أي فعله والأصل في الإطلاق الحقيقة وأجاب في الكتاب بأن المراد بالأمر هنا هو الشأن الشامل للقول والفعل ويكون مجازا من باب إطلاق الخاص وإرادة العام والمجاز خير من الاشتراك وهذا الجواب وان كان صحيحا فلا يحتاج إليه من يقول المراد بالأمر في هاتين الآيتين هو القول.
أما الأولى فلأنه لو أريد الفعل للزم أن يكون فعله سحابة واحدة وهو في السرعة كلمح البصر وذلك باطل ضرورة ثبوت تعدد أفعاله وحدوث بعضها بالرفق والتدريج وإذا حمل على القول لا يلزم منه محذور.
وأما الثانية فإرادة القول فيها ظاهرة يدل عليها قوله: {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ } وأبو الحسين وهو المشار إليه بقول البصري زعم ان لفظ الأمر مشترك بين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة القمر آية 50.
2 سورة هود آية 97.(13/8)
ص -9-…القول المخصوص كما سبق وبين الشيء كقولنا تحرك هذا الجسم لأمر أي لشيء والصفة كقول الشاعر:
لأمر ما يسود من يسود
أي لصفة من صفات الكمال والشأن والطريق كذا نص عليه في المعتمد إذ قال ما نصه وأنا اذهب إلى أن قول القائل أمر مشترك بين الشيء والصفة والشأن والطريق وبين جملة الشأن والطريق وبين القول المخصوص انتهى ومقتضى ذلك أنه مشترك عنده بين خمسة أشياء لكنه في شرح المعتمد فسر الشأن والطريق بمعنى واحد فيكون الأقسام عنده أربعة فلذلك حذف المصنف الطريق وذلك من محاسنه.
واستدل البصري على ما ذهب إليه بأن من سمع قول القائل هذا أمر فلان تردد ذهنه بين هذه المعاني ما لم يضف إلى قرينة معينة لواحد منها تعين المراد منه وذلك أنه الاشتراك أي علامته.
وأجاب عنه المصنف بمنع تردد الذهن عن عدم القرينة بل يتبادر فهم القول المخصوص منه إلى الذهن وقوله في الكتاب إذا قيل أمر فلان أمر هنا بإسكان الميم لا غير وما نقله المصنف عن أبي الحسين من أن الأمر موضوع للفعل بخصوصه حتى يكون مشتركا غلط فالذي نص أبو الحسين عليه أنه غير موضوع له وانما يدخل في الشأن فقال مجيبا عن اعتراض لخصومه ما نصه اسم الأمر ليس يقع على الفعل من حيث هو فعل لا على سبيل المجاز ولا على سبيل الحقيقة وإنما يقع على جملة الشان حقيقة وهو المراد بقول الناس أمور فلان مستقيمة انتهى.
قال: الثانية: الطلب بديهي التصور وهو غير العبارات المختلفة وغير الإرادة خلافا للمعتزلة.
لنا: أن الإيمان من الكافر مطلوب وليس بمراد لما عرفت وأن الممهد لعذره في ضرب عبده يأمره ولا يريد.
ولما ذكر أن مدلول الأمر القول الطالب للفعل احتاج إلى بيان الطلب تتميما لإيضاح مدلول الأمر فقال الطلب بديهي التصور وهذا قد صار إليه(13/9)
ص -10-…الجمهور واستدلوا عليه بأن كل عاقل مارس الحدود والرسوم أو لم يمارس شيئا البتة يأمر وينهى ويفرق بالبديهة بين طلب الفعل وطلب الترك وبينهما وبين المفهوم من الخبر وهذا الدليل قد أكثر الإمام التعويل عليه وهو مدخول من وجوه:
أحدها: أنه لا يلزم من الحكم بالتفرقة بين الشيئين بالبديهة معرفة كنه حقيقتهما بل قد لا يعرف الحكم بالتفرقة ماهية ذلك الشيء فضلا عن أن يعرفه بالبديهة ألا ترى أن كل أحد يعلم من نفسه أنه موجود بالبديهة ويفرق بين الإنسان والملك والطائر والفرس ولا يدري ماهية نفسه ولا ماهية الملك ولا الطائر والفرس معرفة خاصيته بالجنس والفصل.
الثاني: أن قوله يفرق بين طلب الفعل وطلب الترك بالبديهة وكذا بينهما وبين الخبر يلزم منه أن تكون هذه الأشياء بديهة على ما قرر وإذا كان كذلك فلم حد ماهية الأمر قبل ذلك.
الثالث: أن بحثه عن هذا المعنى هو بحث عن هذا الكلام وهذا متناقض ثم هو اعني الطلب مغاير للعبارات المختلفة باختلاف النواحي والأمم ومغاير للإرادة أما مغايرته للعبارات فواضح فإن ماهية الطلب معنى قائم بقلب المتكلم لا يختلف بذلك بخلاف العبارات المختلفة.
هذا شرح قول المصنف.
وقوله: المختلفة ليس لإخراج شيء صفة جاءت للتوضيح أي أن شأن العبارات أنها مختلفة ولو قال بدل ذلك لاختلافها لكان أصرح وأحسن وأما مغايرته للإرادة والخلاف فيه مع المعتزلة فلوجهين:
أحدهما: أن الإيمان من الكفار مطلوب بالإجماع ومنهم من أخبر الله تعالى بأنه لا يؤمن فكان إيمانه ممتنعا لإخبار الله تعالى بعدمه كما عرفت في مسألة تكليف المحال والممتنع لا يكون مرادا لله تعالى لأن الإرادة صفة مخصصة لحدوث الفعل بوقت حدوثه والشيء إذا لم يوجد لكونه ممتنعا امتنعت إرادته لعدم تخصصه بوقت الحدوث ويلزم من هذا مغايرة الطلب الذي هو مدلول(13/10)
ص -11-…الأمر للإرادة لتحققه دونها هذا تقريره وهو ضعيف لأن حاصله الاستدلال على عدم الإرادة بعدم الوقوع وذلك مصادرة على المطلوب.
والوجه الثاني: أن الطلب قد يتحقق بدون الإرادة وذلك لأنه قد يجتمع مع كراهيته ويستحيل أن تجتمع إرادته مع كراهته فالأمر غير الإرادة وبيان ذلك أن السيد الذي لامه السلطان على ضرب عبده إذا اعتذر إلى السلطان عنه بتمرد العبد وعصيانه عن امتثال أوامره وكذبه السلطان فأراد إظهار صدقه بالتجربة فإنه إذا أمره بشيء عند السلطان لا يريد ذلك الفعل قطعا لاستحالة ألا يريد تمهيد عذره حالة كونه مريدا له فإنه ما أمره إلا لتمهيد عذره وفي إرادة فعله عدم إرادة تمهيد عذره فيستحيل إرادته ولأن العاقل لا يريد ما فيه مضرة من غير ضرورة ملجئة إليه.
وهذا الدليل كما يدل على أن الأمر غير الإرادة كذلك يدل على أنه غير مشروط بها.
وقد اعترض على هذا الدليل بوجهين:
أحدهما: أنا لا نسلم أنه وجد الأمر في الصورة المذكورة وان كانت صورته صورة الأمر والصورة لا توجب أن يكون أمرا حقيقيا كما في التهديد.
وأجيب عنه بأن تمهيد العذر إنما يحصل بالأمر لا بغيره فدل على أنه أمر وهذا جواب ضعيف فإن قوله التمهيد إنما يحصل بالأمر إن أراد النفسي فممنوع لأن مجرد سماع العبد اللساني يحصل التجربة وإن أراد اللساني فالفرق بينه وبين الإرادة مسلم.
وثانيهما: ذكره الآمدي فقال هذا لازم على أصحابنا في تفسيرهم الأمر بأنه طلب الفعل من جهة أن السيد أيضا أمر في مثل هذه الصورة لعبده مع علمنا بأنه يستحيل منه طلب الفعل من عبده لما فيه من تحقيق عقابه وكذبه والعاقل لا يطلب ما فيه مضرته وإظهار كذبه.
قال صفي الدين الهندي وهو اعتراض ضعيف لأنا لا نسلم أنه يستحيل من العاقل أن يطلب ما فيه مضرته إذا لم يكن مريدا له.(13/11)
ص -12-…قال: وهذا لأن طلب المضرة لا ينافي غرضه بل قد يوافقه كما هو واقع فيما ذكرنا من الصورة وإنما المنافي لغرضه وقوع المضرة والطلب لا يوجبه فالحاصل أن طلب المضرة من حيث إنه طلب لا ينافي غرض العاقل لا بالذات ولا بالغرض بخلاف الإرادة فإنها وان لم تنافه بالذات لكنها منافية له بالغرض لكونها توجب وقوع المضرة ضرورة أن الإرادة صفة تقتضي وقوع المراد نعم الطلب والإرادة في الأكثر يتلازمان فيظن أنه يستحيل أن تجتمع مع الكراهة كما يستحيل أن تجتمع الإرادة معها.
فائدة استدل القاضي أبو الطيب الطبري في شرح الكفاية وتبعه الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع على أن الأمر مغاير للإرادة بأن من حلف ليقضين زيدا دينه غدا وقال إن شاء الله ولم يقضه لا يحنث في يمينه مع كونه مأمورا بقضاء دينه فلو كان الله تعالى قد شاء ما أمره به وجب أن يحنث في يمينه وهذا ظاهر إذا كان الدين حالا وصاحبه مطالب به أما إن كان مؤجلا فإنا لا نسلم وجوب الوفاء في غد إذا لم يكن عند محل الأجل وأما إذا كان حالا وصاحبه غير مطالب له ففي وجوب الوفاء على الفور إختلاف معروف في المذهب مذكور في صدر كتاب التفليس من ابن الرفعة عن الروياني وإمام الحرمين فان لم نوجبه فقد يمنع الوجوب أيضا فينبغي أن يقتصر على الاستدلال بمن عليه دين حال وصاحبه مطالب به والمديون متمكن من الإيفاء ليخرج أيضا ما إذا لم يتمكن كالمعسر فإنه لا يجب عليه مع عدم التمكن.
قال: واعترف أبو علي وابنه بالتغاير وشرطا الإرادة في الدلالة ليتميز عن التهديد. قلنا: كونه مجازا كاف.
اعترف أبو على وابنه أبو هاشم وتابعهما القاضي عبد الجبار وأبو الحسين بأن الأمر مغاير لإرادة المأمور به ولكن شرطوا إرادة المأمور به في دلالة الأمر عليه وقالوا لا ينفك الأمر عن الإرادة محتجين بأن الصيغة كما ترد للطلب ترد للتهديد مع خلوه عن الطلب فلا بد من مميز بينهما ولا مميز سوى الإرادة(13/12)
ص -13-…والجواب أن المميز حاصل بدون الإرادة لأن صيغة الأمر حقيقة في القول المخصوص ومجاز في غيره وهذا كاف في التمييز لأنها إن وجدت بغير قرينة حملت على مدلولها الحقيقي أو بقرينة حملت على ما دلت القرينة عليه.
واعلم أن محل الخلاف إنما هو في إرادة الامتثال واما إرادة الدلالة الصيغة على الأمر احتراز عن التهديد والتسخير وغيرهما من المحامل فالنزاع فيها ليس مع المعتزلة بل مع غيرهم من المتكلمين والفقهاء وأما إرادة إحداث الصيغة احترازا عن النائم ومن جرى لسانه إليه من غير قصد فتلك شرط من غير توقف وقد حكى قوم فيها الاتفاق ولكن حكى ابن المطهر هذا المتأخر المنسوب إلى الرفض في كتاب له مبسوط في أصول الفقه وقفت عليه من مدة ولم يحضرني حالة التصنيف عن بعضهم أنه لم يشترط إرادة إيجاد الصيغة وهذا شيء ضعيف لا يعتمد عليه وكيف يجعل ما يجري على لسان النائم والساهي أمرا يترتب عليه مقتضاه اللهم أن يلتزم أن مقتضاه لا يترتب عليه وحينئذ يجيء الخلاف النحوي في أنه هل من شرط الكلام القصد فابن مالك يشترطه وشيخنا أبو حيان لا يشترطه.(13/13)
ص -15-…الفصل الثاني: في صيغة أفعل
قال: الفصل الثاني في صيغته وفيه مسائل:
الأولى: أن صيغة أفعل ترد لستة عشر معنى
الأول: الإيجاب أقيموا الصلاة.
الثاني: الندب: فكاتبوهم ومنه: كل مما يليك.
الثالث: الإرشاد: واستشهدوا.
الرابع: الإباحة: كلوا.
الخامس: التهديد: اعملوا ما شئتم ومنه: قل تمتعوا.
السادس: الامتنان: كلوا مما رزقكم الله.
السابع: الإكرام: ادخلوها.
الثامن: التسخير: كونوا قردة.
التاسع: التعجيز: فأتوا بسورة.
العاشر: الإهانة: ذق.
الحادي عشر: التسوية: اصبروا أو لا تصبروا.
الثاني عشر: الدعاء: اللهم اغفر لي.
الثالث عشر: التمني:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلى.(13/14)
ص -16-…الرابع عشر: الاحتقار: بل ألقوا
الخامس عشر: التكوين: كن فيكون
السادس عشر: الخبر: فاصنع ما شئت وعكسه: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} "لا تنكح المرأة المرأة".
تقدم أن الأمر اسم للقول للطالب للفعل وهذا شروع في ذكر صيغته وهي أفعل ويقوم مقامها اسم الفعل كصه والمضارع المقرون باللام مثل ليقم زيد.
وقد نقل عن الشيخ أبي الحسن أنه لا صيغة للأمر تخص به وأن قول القائل افعل متردد بين الأمر والنهي وإن فرض حمله على غير النهي فهو متردد بين جميع محتملاته ثم اختلف أصحابه في تنزيل مذهبه فقال قائلون اللفظ صالح لجميع المحامل صلاح اللفظ المشترك للمعاني التي هيئت اللفظة لها.
وقال آخرون ليس المعنى بتوقف أبي الحسن في المسألة إلا أنا لا ندري على أي وضع جرى قول القائل افعل في اللسان فهو مشكوك فيه على هذا الرأي ثم نقل عن أبى الحسن ناقلون انه يستمر على القول بالوقف مع فرض القرائن.
قال إمام الحرمين وهو زلل بين في النقل ثم قال إمام الحرمين الذي أراه في ذلك قاطعا به أن أبا الحسن لا ينكر صيغة مشعرة بالوجوب الذي هو مقتضى الكلام القائم بالنفس نحو قول القائل أوجبت أو ألزمت أو ما شاكل ذلك وإنما الذي تردد فيه مجرد قول القائل افعل من حيث ألقاه في وضع اللسان مترددا وإذا كان كذلك في الظن به إذا اقترن بقول القائل افعل لفظا وألفاظ من القبيل الذي ذكرناه مثل أن يقول افعل حتما أو افعل واجبا نعم قد يتردد المتردد في الصيغة التي فيها الكلام إذا اقترنت بالألفاظ التي ذكرناها فالمشعر بالأمر النفسي الألفاظ المقترنة بقول القائل أفعل أم هي في حكم التفسير لقول القائل افعل وهذا تردد قريب ثم ما نقله النقلة يختص بقرائن المقال على مافيه من الخبط فأما قرائن الأحوال فلا ينكرها أحد.(13/15)
ص -17-…وهذا هو التنبيه على سر مذهب أبى الحسين والقاضي وطبقة الواقفية1.
هذا كلام إمام الحرمين ثم قال المصنف صيغة افعل ترد لستة عشر معنى:
الأول: الإيجاب كقوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ}2.
الثاني: الندب كقوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً}3 فإن الكتابة مستحبة لهذه الآية وحكى صاحب التقريب قولا للشافعي أنها واجبة إذا طلبها قوله ومنه أي ومن المندوب التأديب كقوله صلى الله عليه وسلم لعمر بي أبى سلمة: "كل مما يليك" رواه البخاري ومسلم فإن الأدب مندوب إليه وقد جعله بعضهم قسيما للمندوب والحق أن افتراقها افتراق العام والخاص لما ذكرناه.
واعلم أن التمثيل بالأكل مما يليه ليس بجيد فان الذي نص عليه الشافعي رضي الله عنه في غير موضع أن من أكل مما لا يليه عالما بنهي النبي صلى الله عليه وسلم كان آثما عاصيا وذكره شارح الرسالة أبو بكر الصيرفي وأقره عليه والشافعي نص عليه على هذه المسألة في أخوات لها غريبات أخرجهن والدي رحمه الله وأطال الله بقاه وصف فيهن كتابه المسمى بكشف اللبس عن المسائل الخمس ونص المنصوص وقد ذكرنا عيون ذلك المختصر في ترجمة البويطي من كتابنا طبقات الفقهاء.
الثالث: الإرشاد: كقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}4والفرق بين الندب والإرشاد أن المندوب مطلوب لثواب الآخرة والإرشاد لمنافع الدنيا ولا يتعلق به ثواب البتة لأنه فعل متعلق بغرض الفاعل ومصلحة نفسه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الواقفة: فرقة من فرق الخوارج ينتمون إلى فرقة تسمى العجاردة.
انظر: الفرق بين الفرق للبغدادي ص24وما بعدها طبعة صبيح بتحقيق الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد.
2 سورة البقرة آية 43.
3 سورة النور آية 33.
4 سورة البقرة آية 282.(13/16)
ص -18-…وقد يقال إنه يثاب عليه لكونه ممتثلا ولكن يكون ثوابه أنقص من ثواب الندب لأن امتثاله مشوب بحظ نفسه ويكون الفارق إذا بين الندب والإرشاد إنما هو مجرد أن أحدهما مطلوب لثواب الآخرة والآخر لمنافع الدنيا والتحقيق أن الذي فعل ما أمر به إرشادا إن أتى به لمجرد غرضه فلا ثواب له وإن أتى به لمجرد الامتثال غير ناظر إلى مصلحته ولا قاصد سوى مجرد الانقياد لأمر ربه فيثاب وإن قصد الأمرين أثيب على أحدهما دون الآخر ولكن ثوابا أنقص من ثواب من لم يقصد غير مجرد الامتثال.
واعلم أن صيغة افعل حقيقة في الوجوب مجاز في غيرها على الصحيح كما ستعرفه إن شاء الله تعالى والعلاقة التي بين الواجب والمندوب والإرشاد حتى أطلقت عليهما صيغة افعل هي المشابهة المعنوية.
الرابع: الإباحة كقوله تعالى: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ}1
الخامس: التهديد: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ}2. ومن التهديد الإنذار كقوله تعالى: {قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ}3 وقد جعله جماعة قسما آخر ولا شك في ثبوت الفرق بينهما إذ التهديد هو التخويف والإنذار هو الإبلاغ لكن لا يكون إلا في التخويف فقوله تعالى: {قُلْ تَمَتَّعُوا} أمر بإبلاغ هذا الكلام المخوف الذي عبر عنه بالأمر وقال صفي الدين الهندي وغيره الفرق بينهما أن الإنذار يجب أن يكون مقرونا بالوعيد كما في الآية المذكورة والتهديد لا يجب فيه ذلك بل قد يكون مقرونا وقد لا يكون وقيل في الفرق بينهما إن التهديد في العرف أبلغ من الوعيد والغضب من الإنذار وكلها فروق صحيحة والعلاقة بين التهديد والوجوب المضادة لأن المهدد عليه إما حرام أو مكروه كذا قيل وعندي أن المهدد عليه لا يكون إلا حراما وكذلك الإنذار وكيف وهو مقترن بالوعيد بل قد ذهب قوم إلى أن الكبائر هي المتوعد عليها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المؤمنون آية 51.
2 سورة فصلت آية 40.
3 سورة إبراهيم آية 30.(13/17)
ص -19-…السادس: الامتنان: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ}1 والفرق بينه وبين الإباحة أن الإباحة مجرد إذن وأنه لا بد من اقتران الامتنان بذكر احتياج الخلق إليه وعدم قدرتهم عليه ونحو ذلك كالتعرض في هذه الآية إلى أن الله تعالى هو الذي رزقه والعلاقة بين الامتنان والوجوب المشابهة في الإذن أن الممنون لا يكون إلا مأذونا فيه.
السابع: الإكرام: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ}2 فإن قرينة قوله بسلام آمنين يدل عليه والعلاقة أيضا الإذن.
الثامن: التسخير: مثل: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}3 والفرق بينه وبين التكوين أن التكوين سرعة الوجود عن العدم وليس فيها انتقال إلى حالة ممتهنة بخلاف التسخير فإنه لغة الذلة والامتهان في العمل والعلاقة فيه وفي التكوين المشابهة المعنوية وهي تحتم الوقوع وقد سمى الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وإمام الحرمين هذا القسم بالتكوين.
التاسع: التعجيز: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ}4 والعلاقة المضادة إذ لا يكون التعجيز إلا في الممتنع
العاشر: الإهانة: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}5
الحادي عشر: التسوية: {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا}6
الثاني عشر: الدعاء: مثل القائل: اللهم اغفر لي وقوله تعالى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا}7
الثالث عشر: التمني: مثل قول امرىء القيس:
ألا أيها الليل الطويل ألا أنجلي8
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة آية 88.
2 سورة الحجر آية46.
3 سورة البقرة آية 65.
4 سورة البقرة آية 23.
5 سورة الدخان آية 49.
6 سورة الطور آية 16.
7 سورة الأعراف آية 89.
8 البيت لامرئ القيس – حندج – بضم الحاء والدال بينهما نون سا كنة – بن حجر بن الحارث=(13/18)
ص -20-…وقد يقال لم جعل المصنف هذا الشاعر متمنيا ولم يجعله مترجيا مع أن التمني مختص بالمستحيل وانجلاء الليل غير مستحيل والجواب أن المحب ينزل ليله لطوله منزلة ما يستحيل انجلاؤه ولهذا قال الشاعر:
ليل المحب بلا آخر
الرابع عشر: الإحتقار: كقوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام يخاطب السحرة:{أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ}1 يعني أن السحر وإن عظم ففي مقابلة ما أتى به موسى عليه السلام حقير والفرق بينه وبين الإهانة أن الإهانة إنما تكون بالقول أو الفعل أو بتركهما دون مجرد الاعتقاد والاحتقار إما مختص بمجرد الاعتقاد أو لا بد من الاعتقاد بدليل أن من اعتقد في شيء أنه لا يعبأ به ولا يلتفت إليه يقال إنه احتقره ولا يقال أهانه ما لم يصدر منه قول أو فعل ينبي عن ذلك.
الخامس عشر: التكوين: كن فيكون. وقد سما الغزالي إلى هذا القسم بكمال القدرة وتبعه الآمدي.
السادس عشر: الخبر مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت"2
أي صنعت ما شئت.
وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام هو هذا تهكم إذ معناه اعرضه على نفسك فإن استحيت منه لو اطلع عليه فلا تفعله وإن لم تستح فاصنع ما شئت من هذا الجنس وعلى هذا التفسير يحتاج هذا القسم إلى مثال وأمثلة كثيرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= بن عمر المتوفى سنة 80 ق.هـ وهو من معلقته المشهورة التي مطلعها:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
1 سورة الأعراف 116, ويونس 80 والشعراء 43 وفي الأصل بل ألقوا وهو زائد عن النص القرآني لذا حذفته من الأصل. 1هـ. محققة.
2 رواه البخاري كتاب الأدب باب: إذا لم تستح فاصنع ماشئت 8/35 وأبو داود في كتاب الأدب باب في الحياء 2/552.(13/19)
ص -21-…قوله وعكسه أي قد يستعمل الخبر ويراد به الأمر مثل قوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ}1 المعنى والله أعلم ليرضع الوالدات أولادهن وهذا أبلغ من عكسه لأن الناطق بالخبر مريدا به الأمر كأنه نزل المأمور به منزلة الواقع قوله: "لا تنكح المرأة المرأة"2 يعني أن الخبر قد يأتي مرادا به النهي كما قد يقع مرادا به الأمر وذلك أعني مجيئه مرادا به النهي كما في الحديث الذي رواه ابن ماجة بإسناد جيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"لا تزوج المرأة المرأة ولا تزوج المرأة نفسها" فإن صيغته خبر لوروده مضموم الجيم ولو كان نهيا لكان مجزوما مكسورا لالتقاء الساكنين والمراد به النهي فهذا شرح الأقسام الستة عشر التي في الكتاب وهي في الحقيقة أكثر لاشتمال بعض أقسامها على نوعين كما عرفت وقد زاد إمام الحرمين في البرهان الأمر بمعنى الإنعام كقوله تعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}3 قال هذا وإن كان فيه معنى الإباحة فان الظاهر منه تذكير النعمة وزاد أيضا الأمر بمعنى التعويض كقوله: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ}4 وزاد صفي الدين الهندي تاسع عشر وهو التعجب ومثل له بقوله تعالى: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً}5 وهذا المثال جعله الآمدي وابن برهان من قسم التعجيز ورأيت في طبقات الفقهاء لأبى عاصم العبادي في ترجمة أبى إسحاق إبراهيم بن محمد الفارسي زيادات أخر منها التعجب كما قال الشيخ الهندي لكن مثل له بقوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ}6 ومنها الأمر بمعنى التكذيب مثل قوله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}7 وقوله: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا}8 ومنها الأمر بمعنى المشورة مثل:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة 233.(13/20)
2 رواه ابن ماجة في كتاب النكاح باب: لانكاح إلا بولي 1/605 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه – بلفظ لا تزوج بإسناد ضعيف كما رواه الدار قطني بإسناد على شرط مسلم انظر: سبل السلام 3/119-121.
3 سورة البقرة آية 172.
4 سورة طه آية 72.
5 سورة الإسراء آية 50.
6 سورة الإسراء آية 48.
7 سورة آل عمران آية 93.
8 سورة الأنعام آية 150.(13/21)
ص -22-…{فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى}1 وزاد أبو عاصم أيضا في غير هذه الترجمة الأمر بمعنى الاعتبار مثل قوله: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ}2 والأمر بمعنى التسليم مثل:
{فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} وهذا قد تقدم عن إمام الحرمين وقد وصلت الأقسام بزيادات أبى عاصم وإمام الحرمين والقسم الذي ذكره الهندي إلى اثنين وعشرين.
قال: الثانية: أنها حقيقة في الوجوب مجاز في البواقي وقال أبو هاشم:
إنه للندب وقيل للإباحة وقيل مشترك بين الوجوب والندب وقيل للقدر المشترك بين الوجوب والندب وقيل للقدر المشترك بينهما وقيل لأحدهما ولا نعرفه وهو قول الحجة وقيل مشترك بين الثلاثة وقيل بين الخمسة.
أجمعوا على أن صيغة أفعل ليست حقيقة في جميع المعاني التي أوردناها وإنما الخلاف في بعضها وقد اختلفوا فيه على مذاهب:
أحدها: أنه حقيقة في الوجوب فقط مجاز في البواقي وهو المحكي عن الشافعي رضي الله عنه.
وقال إمام الحرمين: في التلخيص المختصر من التقريب والإرشاد وأما الشافعي فقد أدعى كل من أهل المذاهب أنه على وفاقه وتمسكوا بعبارات متفرقة له في كتبه حتى اعتصم القاضي بألفاظ له من كتبه واستنبط منها مصيره إلى الوقف وهذا عدول عن سنن الإنصاف فان الظاهر والمأثور من مذهبه حمل مطلق الأمر على الوجوب انتهى ونقله الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع وابن برهان في الوجيز عن الفقهاء واختاره الإمام واتباعه منهم المصنف.
قال الشيخ أبو اسحاق وهو الذي أملاه الشيخ أبو الحسن على أصحاب أبى إسحاق يعني المروزي ببغداد ثم اختلف القائلون بهذا المذهب في أن اقتضاها الوجوب هل هو بوضع اللغة أم بالشرع على مذهبين وصحح الشيخ أبو إسحاق أنه بوضع اللغة ونقله إمام الحرمين عن الشافعي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الصا فات آية 102.
2 سورة الأنعام آية 199.(13/22)
ص -23-…والثاني: أنها حقيقة في الندب. قال الغزالي ومنهم من نقله عن الشافعي وقد نقله في الكتاب عن أبي هاشم والغزالي نقله عن كثير من المتكلمين دهماؤهم المعتزلة أي دهماء الكثير من المتكلمين وجماعة من الفقهاء.
قال الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع الذي تحكي الفقهاء عن المعتزلة أنها تقتضي الندب وليس هذا مذهبهم على الاطلاق بل ذلك بواسطة أن الأمر عندهم يقتضي الإرادة والحاكم لا يريد الا الحسن والحسن ينقسم إلى واجب ومندوب فيحمل على المحقق من الاسم وهو الندب فليست الصيغة عندهم مقتضية للندب الا على هذا التقدير.
قلت: ويلزمهم أو أكثرهم على هذا التقدير القول بالإباحة لأن المباح عند أكثرهم حسن كما سبق في أوائل الكتاب.
الثالث: أنها حقيقة في الإباحة التي هي أدنى المراتب.
الرابع: أنها مشتركة بالاشتراك اللفظي بين الوجوب والندب وهو المحكي عن المرتضى من الشيعة وقال الغزالي صرح الشافعي في كتاب أحكام القرآن بتردد الأمر بين الوجوب الندب.
الخامس: أنها حقيقة في القدر المشترك بينهما وهو الطلب فيكون متواطئا وهو رأي الإمام أبى منصور الماتريدي.
السادس: حقيقة إما في الوجوب وإما في الندب وإما فيهما جميعا بالاشتراك اللفظي لكنا لا ندري ما هو الواقع من هذه الأقسام الثلاثة:
ويعرفون ان لا رابع وهذا محكي عن طائفة من الواقعية كالشيخ والقاضي واختاره الغزالي والآمدي هذا هو تحرير هذا المذهب وقول المصنف في حكايته وقيل لأحدهما ولا نعرفه غير مرضي بوجهين:
أحدهما: تصريحه يتردد هذا المذهب بين شيئين وليس كذلك بل بين ثلاثة كما سقناه.
وثانيهما: أنه على تقدير صحة هذا بأن يكون بعض الناس ذهب إلى تردد بين(13/23)
ص -24-…شيئين فليس قول الغزالي إنما اختار الغزالي ما أوردناه وهذه عبارة المستصفي وقد ذهب ذاهبون إلى أن وضعه للوجوب وقال قوم بل للندب وقال قوم يتوقف فيه ثم منهم من قال هو مشترك كلفظ العين ومنهم من قال لا ندري أيضا أنه مشترك أو وضع لأحدهما واستعمل في الثاني مجازا والمختار أنه يتوقف فيه انتهى.
وقد حكى الشيخ الهندي عن الشيخ والقاضي وإمام الحرمين والغزالي التوقف في أنه حقيقة في الوجوب فقط أو الندب فقط أو فيهما بالاشتراك اللفظي أو المعنوي وهذا مغاير لهذا الذي سقناه عن الغزالي لتردده بين أربعة لا ثلاثة والذي في المستصفي ما رأيته وأما الشيخ والقاضي فقد ذكرنا النقل عنهما في أول هذا الفصل من كلام إمام الحرمين وأما إمام الحرمين فالذي صرح باختياره ما نصه من أنكر أن العرب ما فصلت بين قول القائل افعل وبين قوله لا تفعل فليس من التحقيق في شيء فإنا على اضطرار نعلم الفصل في ذلك كما نعلم الفصل بين قول القائل فعل وبين قوله ما فعل ولا معنى لبسط ذلك مع وضوحه فإذا سقط هذا رددنا القول إلى الإباحة التي هي تخيير ولا اقتضاء فيها ولا طلب وقلنا لا شك في فصل العرب بين قول من يقول لا حرج عليك فعلت أو تركت وبين قول افعل فان الصيغة الأخيرة مقتضاها طلب لا محالة وليس في الإباحة من الطلب شيء فقد لاح سقوط الإباحة عن متضمن الصيغة ولم يبق الا الندب والندب من ضرورة معناه التخيير في الترك وليس في قول القائل افعل تخيير في الترك أصلا وقد تعين الآن أن نبوح بالغرض الحق ونقول افعل طلب محض لا مساغ له لتقدير الترك فهذا مقتضى اللفظ المجرد عن القرائن فان قيل هذا مذهب الشافعي واتباعه وهو المصير إلى اقتضاء اللفظ إيجابا قلنا ليس كذلك فان الوجوب عندنا لا يعقل دون التقييد بالوعد على الترك وليس ذلك مقتضى تمحيص الطلب فإذا الصيغة لتمحيص الطلب والوجوب مدرك من الوعيد هذا لفظه ثم قال وأنا أبني على منتهى الكلام شيئا يقرب ما اخترته من(13/24)
مذهب الشافعي فأقول ثبت في موضوع الشرع أن التمحص في الطلب موعد على تركه وكلما يكون كذلك فلا يكون إلا واجبا انتهى.(13/25)
ص -25-…وحاصل هذا الذي اختاره حمل الصيغة على الاقتضاء والطلب وقصار المستفاد منها من جهة اللسان الطلب الجازم وكون هذا الطلب موعدا عليه شيء آخر ثابت في أوامر الشرع بالدليل الخارجي فالوجوب مستفاد بهذا التركيب من اللغة والشرع فقد وافق القائلين بالوجوب وإن كان قد خالفهم في هذا التركيب ونقل المازري في شرح البرهان هذا الذي اختاره إمام الحرمين عن الشيخ أبى حامد الإسفرايني وقال إنه صرح به وسبقه إلى اختياره فأشار إلى أن الأمر يقتضي حصر المأمور على الفعل فاقتضاه منه اقتضاء جزما ولكن إذا ثبت هذا من جهة اللسان ثبت بعده الوعيد وهذا هو الذي اختاره الشيخ أبو حامد وإمام الحرمين هو المختار عندنا فان الوعيد لا يستفاد من اللفظ بل هو أمر خارجي عنه ولكننا نقول المنقول عن الشافعي أن الصيغة تقتضي الوجوب ومراده الصيغة الواردة فى الشرع إذ لا غرض له في الكلام في شيء غيرها ولم يصرح الشافعي بأن اقتضاها للوجوب مستفاد منها فلعله يرتضي هذا التركيب ويقول به ويكون ما ذهب إليه الشيخ أبو حامد وإمام الحرمين هو الذي ذهب إليه إمامهما.
واعلم أن هذا المذهب المختار مغاير للمذهبين اللذين حكياهما عند حكاية القول بالوجوب في ان ذلك هل هو بالشرع أو اللغة فتصير المذاهب أربعة:
الوجوب بالشرع والوجوب باللغة والوجوب بضم الشرع إلى اللغة وعدم الوجوب.
فان قلت: كيف يقال بأن الوجوب مستفاد من وضع اللغة؟
قلت: هو بعيد كما أشرنا إليه ولكنه هو مذهب مصرح به كما عرفت وممن ذكره الشيخ أبو اسحاق والقاضي أبو بكر في مختصر التقريب لإمام الحرمين وقال إن الأكثرين من القائلين بأن الصيغة تقتضي الوجوب عليه وأنه كذلك بأصل الوضع لأنه قد ثبت في إطلاق أهل اللغة تسمية من خالف مطلق الأمر عاصيا وتقريعه وتوبيخه بالعصيان عند مجرد ذكر الأمر ولا يستوجب التوبيخ لا بترك واجب فاقتضى ذلك دلالة الأمر المطلق على الوجوب وقال المازري:(13/26)
ص -26-…صرح بعض أصحابنا بأن الوعيد مستفاد من اللفظ كما يستفاد منه الاقتضاء الجازم فقد ثبت هذا المذهب إلا أنه عندنا ساقط.
قال القاضي في مختصر التقريب: ولسنا نسلم أن في إطلاق اللغة ما يقتضي ان مخالف الصيغة المطلقة المعراة عن القرائن يسمى عاصيا ويستوجب التوبيخ ويقول لهم بم تنكرون على من يزعم أنهم وإن وبخوا تارك الامتثال بسمة العصيان فإنما وبخوه عند تركه امتثال أمر شاهد قرائن أحوال الأمر به دالة على اقتضاء الوجوب فليس يمكنكم أن تزعموا أنهم يوبخون بالعصيان في الأمر المجرد عن القرائن.
قال واسم الأمر يصدق على المجرد والمقترن فمن أين لكم أن ما أطلقوه ينصرف إلى الصيغة المطلقة.
قال ثم نقول على وجه التنزل لسنا نسلم أن يثبت سمة العصيان وصف ذم على الاطلاق إذ قد يرد ذلك في غير موضع استحقاق الذم فإنك تقول أشرت على فلان بكذا فعصاني وعصى مشورتي وإن لم يكن لمشورتك موجبا على من أشرت عليه المذهب.
السابع: أنها بين الثلاثة أعني الوجوب والندب والإباحة واختلف القائلون به فقالت طائفة بالاشتراك اللفظي وقال آخرون بالمعنوي وكلام المصنف محتمل للأمرين.
الثامن أنها مشتركة من الخمسة أعني الوجوب والندب والإباحة والكراهة والتحريم وهو المشار إليه بقول المصنف وقيل بين الخمسة ومراده الأحكام الخمسة فإن الإمام في المحصول هكذا حكى هذه المذاهب المذكوره في الكتاب.
التاسع: أنه أمر مشترك بين الوجوب والندب والإباحة والإرشاد والتهديد حكاه الغزالي.
العاشر: أن أمر الله تعالى للوجوب وأمر النبي صلى الله عليه وسلم للندب إلا ما كان موافقا لنص أو مبينا لمجمل حكاه القاضي عبد الوهاب في الملخص عن شيخه(13/27)
ص -27-…أبى بكر الأبهري وكذلك حكاه عنه المازري في شرح البرهان وقال إن النقل اختلف عنه فروي عنه هذا وروي عنه موافقة من قال إنه للندب على الإطلاق هذا ما حضرنا من المذاهب في هذه المسألة.
وقد ادعى الإمام إذ حكى الاتفاق على أن صيغة افعل ليست حقيقة في جميع المحامل المتقدمة أن الخلاف إنما وقع في أمور خمسة الوجوب والندب والإباحة والتنزيه والتحريم وأنت إذا تأملت ما حكيناه من المذاهب علمت أن حصر الخلاف في ذلك ليس بجيد.(13/28)
ص -28-…أدلة القائلين بأن صيغة "افعل" حقيقة في الوجوب
قال: لنا وجوه: الأول قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} ذم على ترك المأمور فيكون واجبا.
استدل على ما ذهب إليه من أن صيغة أفعل حقيقة في الوجوب لوجوه خمسة:
الأول: قوله تعالى لإبليس:{مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} 1 ووجه الحجة منه أن الصيغة وإن كانت صيغة استفهام لكن الاستفهام غير مراد منها لاستحالته على من يستحيل عليه الجهل بل المراد منها الذم والتوبيخ وأنه لا عذر له في الإخلال بالسجود بعد ورود الأمر به ولو لم يكن الأمر للوجوب لما حسن الذم والتوبيخ ورد الآمدي هذا الدليل بأنه لا يلزم من كون هذا الأمر اقتضى الوجوب أن يكون كل أمر كذلك والجواب: أنه لا قائل بالفصل.
واعلم أن الشيخ أبا إسحاق في شرح اللمع أورد من جهة المعتزلة أن ما ذكرتموه من الآيات يدل على أوامر الله ورسوله يدلان على الوجوب ونحن لا ننازع في ذلك إنما ننازع في مقتضى اللفظ لغة وأجاب بأنهم متى سلموا ذلك حصل المقصود إذ المطلوب معرفة مقتضى أوامر الله وأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم وغرضنا من ايراد هذا السؤال أنه قد يؤخذ منه أن المعتزلة أو ان الشيخ أبا إسحاق اعتقد انهم لا يخالفون في أن أوامر الله وأوامر رسوله عليه السلام يقتضي الوجوب وذلك عجيب فإن النقل عنه بخلاف ذلك.
قال: الثاني: {ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} قيل: ذم على التكذيب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية 12.(13/29)
ص -29-…قلنا: الظاهر أنه للترك والويل للتكذيب. قيل: لعل قرينة أوجبت.
قلنا: رتب الذم على ترك مجرد افعل.
الدليل الثاني قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ}1 ووجه التمسك انه تعالى ذم أقواما على ترك ما قيل لهم فيه افعلوا إذ الآية بسياقها تدل على الذم فلو لم تكن الصيغة للوجوب لما حسن ذلك وانما قلنا إن سياق الآية يدل على الذم لأنه ليس المراد من قوله لا يركعون الإعلام والإخبار لأن ترك الركوع من المكذبين معلوم لكل أحد فيكون ذما لهم واعترض عليه بوجهين.
أحدهما: أنا لا نسلم أن الذم على ترك مقتضى الأمر بل على تكذيب الرسل ويؤيده قوله: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} أجاب عنه بأن الظاهر أن الذم على ترك مقتضى الأمر ان رتب الذم على الترك والترتيب يشعر بالغلبة والويل على التكذيب فحينئذ إما ان يكون المكذبون هم التاركين فلهم الويل بسبب التكذيب ولهم العقاب بترك المأمور به إذ الكفار مأمورون بالفروع وإما ان يكونوا غيرهم فيجوز ان يستحق قوم الويل بسبب التكذيب وآخرون العقاب بسبب ترك المأمور به.
هذا تقرير الجواب واعترض النقشواني على الاستدلال بالآية من وجه آخر فقال لا نسلم انه ذمهم على ترك الركوع فقط بل ذمهم على كونهم بحيث لو قيل لهم اركعوا لا يركعون والمراد به انهم غير قابلين للإنذار ونصح الأنبياء وغير ملتفتين إلى دعوتهم قد انطوت جبلتهم على ما يمنعهم من ذلك والرجل قد يتصف بهذه السجية قبل ان يقال له اركع فلا يركع ونحن معترفون بأن هذه الملكة مما يوجب العذاب.
هذا اعتراضه وهو ضعيف وجوابه ما ذكرناه من ان الظاهر ان الذم على ترك مدلول قوله: {ارْكَعُوا} وما ذكره خروج عن حقيقة اللفظ من غير دليل.
والوجه الثاني: وهو يتجه على الدليلين المذكورين هذا الذي نحن فيه والذي تقدم وتوجيهه سلمنا ان الذم على الترك لكن فعل الأمر اقترنت به
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(13/30)
1 سورة المرسلات آية 48.(13/31)
ص -30-…قرينة تقتضي إيجابه فان الصيغة إذا اقترنت بها قرينة صرفتها إلى ما دلت عليه اجماعا أجاب عنه بأنه رتب الذم على مجرد ترك المأمور به وترتيب الحكم على الوصف يشعر بالغلبة فيكون نفس الترك علة وما ادعيتم من القرينة الأصل عدمه.
فإن قلت: هذا الاحتمال وان كان على خلاف الأصل فهو قادح في القطع والمسألة قطعية.
قلت: أما من قال ان المسألة ظنية كأبي الحسين البصري وغيره فيجب بمنع كونها قطعية واما من قال بأنها قطعية فيجب بأن كل واحد مما يذكر من الأدلة وإن كان لا يفيد القطع لكن المجموع يفيده.
قال: الثالث: تارك المأمور به مخالف له كما أن الآتي به موافق على صدد العذاب لقوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قيل الموافقة اعتقاد حقيقة الأمر والمخالفة اعتقاد فساده.
قلنا: ذلك دليل الأمر لأنه قبل الفاعل ضمير والذين مفعول.
قلنا: الإضمار خلاف الأصل ومع هذا فلا بد من مرجع قيل الذين يتسللون.
قلنا: هم المخالفون فكيف يؤمرون بالحذر عن أنفسهم وإن سلم فيضيع قوله: {أَنْ تُصِيبَهُمْ}.
قيل: فليحذر لا يوجب.
قلنا: يحسن وهو دليل قيام المقتضى.
قيل: عن أمره لا يعم.
قلنا: عام لجواز الاستثناء.
الدليل الثالث: أن تارك المأمور به مخالف لذلك الأمر ومخالف ذلك الأمر على صدد العذاب فبارك المأمور به على صدد العذاب إنما قلنا تارك المأمور به مخالف للأمر لأن موافقة الأمر هي الإيمان بمقتضى الأمر والمخالفة ضد(13/32)
ص -31-…الموافقة فكانت مخالفة الأمر عبارة عن الإخلال بمقتضاه فثبت أن تارك المأمور به مخالف وإنما قلنا مخالف الأمر على صدد العذاب لقوله تعالى:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}1 أمر مخالف الأمر بالحذر عن العذاب والحذر عنه إنما يكون بعد قيام المقتضى لوقوعه بدليل أنه يصح الأمر بالحذر عن الشيء بدون وجود المقتضى له ألا ترى أنه يقبح أن يقال لمن جلس تحت سقف قوي غير مائل إحذر أن يقع عليك ولا يقبح أن يقال ذلك لمن جلس تحت سقف مائل في معرض الوقوع وما ذلك إلا لأن المقتضي للوقوع قائم فيه فلولم يكن ترك المأمور به مقتضيا لوقوع العذاب لما حسن الأمر بالحذر عن العقاب ولا معنى لقولنا: إن الأمر يقتضي الوجوب إلا ذلك.
وفي هذا التقدير نظر سيأتي إن شاء الله تعالى.
واعترض الخصم بأربعة اوجه:
أحدها: منع المقدمة الأولى أي لا نسلم ان موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه وإنما هي اعتقاد حقيقته كونه حقا مستوجب القبول فالمخالفة هي إنكار حقيقته يعني اعتقاد أنه فاسد.
قلنا: هذا ليس موافقة للأمر بل موافقة للدليل الدال على حقيقة ذلك الأمر وهو المعجزة الدالة على صدق الرسول فاعتقاد حقية الأمر موافقة الدليل لا موافقة الأمر فإن موافقة الشيء عبارة عما يستلزم تقرير مقتضاه فإذا دل الدليل على حقية الأمر كان الاعتراف بحقيته مستلزما لتقرير مقتضى ذلك الدليل والأمر لما اقتضى دخول فعل المأمور به في الوجود كانت موافقته عبارة عما يقرر دخوله وإدخاله في الوجود يقرر دخوله فكانت موافقة الأمر عبارة عن فعل مقتضاه.
وثانيها: منع المقدمة الثانية وتقريره لا نسلم أنه تعالى أمر المخالف بالحذر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النور آية 63.(13/33)
ص -32-…بل أمر بالحذر عن المخالف فيكون فاعل فليحذر ضميرا والذين في محل النصب بأنه مفعوله أجاب عنه بوجهين:
أحدهما: أن الإضمار خلاف الأصل.
والثاني: أن الضمير لا بد له من اسم ظاهر يعود إليه وهو مفقود هنا قال الخصم لما لا يعود على الذين يتسللون والتقدير فليحذر الذين يتسللون منكم لواذا عن الذين يخالفون عن أمره.
أجاب المصنف عنه بوجهين:
أحدهما: أن الذين يتسللون هم المخالفون وذلك أن المخالفين لما ثقل عليهم المقام في المسجد وسماع الخطبة لاذوا بمن يستأذن للخروج حتى إذا أذن له خرجوا معه من غير إذن فنزل قوله: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً} وإذا كان كذلك فلو أمر المتسللون بالحذر عن المخالفين لكانوا قد أمروا بالحذر عن أنفسهم وذلك غير ممكن.
الثاني: انا ولو سلمنا ان مرجع الضمير الذين يتسللون كما ادعوه لكان أمرا للمتسللين بالحذر عن المخالفين ويصير تقدير الآية حينئذ فليحذر الذين يتسلون منكم لواذا الذين يخالفون عن أمره فيضيع إذ ذاك قوله: {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} لأن فاعل {فَلْيَحْذَرِ} حينئذ الضمير والذين مفعوله والحذر لا يتعدى إلى مفعولين حتى يكون ان تصيبهم مفعولا له ثانيا له فيصير حينئذ ضائعا لا تعلق له بما قبله ولا بما بعده.
فإن قلت: لم لا يكون لأجله إذا الحذر لأجل إصابة الفتنة أو العذاب الأليم؟
قلت: لو كان كذلك لكان مجامعا للحذر لأن الفعل يجب ان يجامع علته واجتماعهما محال كذا أجاب به الشيرازي شارح الكتاب وقد قال الجاريردي الشارح أيضا يمكن ان يجاب عن قولهم:
أولا: ان الفاعل ضمير يعود على المتسللين بأنه لو كان كذلك لوجب اظهاره فيقال فليحذروا لأنه عائد على جمع.(13/34)
ص -33-…وثالثها: وهو اعتراض على المقدمة الثانية أيضا وتقريره سلمنا أن قوله فليحذر أمر المخالفين بالحذر وأنه لا ضمير في الآية لكن لم قلتم انه يوجب الحذر وهل غاية ذلك الا ورود الأمر به واقتضاء الأمر الوجوب هو محل النزاع والاستدلال بما ذكرتموه مصادرة على المطلوب.
أجاب: انا لا ندعي وجوب الحذر من قوله فليحذر وإنما ندعي أنه يفيد حسن الحذر عن مخالفة الأمر وحسن الحذر دليل على قيام المقتضى للوقوع في المحذور وإلا لكان الحذر عبثا ولقائل أن نقول قد يحسن الحذر مع التردد في قيام المقتضى لمجرد ذلك التردد عملا بالأحوط كالدائر بين أمرين يتردد في قيام اقتضاء أحدهما وقوع الضرر ولا يتوقع ضررا من الآخر فانه يحسن أن يحذر من الأول والأمر ستردد بين الوجوب وعدمه فيحسن التحذير منه ولو لمجرد التنازع في مقتضاه.
ورابعها: أنا سلمنا صحة ما ذكرتم من المقدمتين إلا أن قوله تعالى: {عَنْ أَمْرِهِ} في الآية المذكورة لفظ مجرد فيفيد أن أمرا واحدا للوجوب لا إن كل أمر للوجوب أجاب بأنه عام لجواز الاستثناء إذ يصح أن يقال ليحذر الذين يخالفون عن أمره إلا في الأمر الفلاني ومعيار العموم جواز الاستثناء كما ستعرفه إن شاء الله تعالى هذا شرح ما في الكتاب.(13/35)
وقد اعترض النقشواني على الاحتجاج بالآية فقال الأمر هنا بمعنى الشأن وهو الاجتماع على محاربة الكفار لأنه مذكور معرف بالإضافة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكر قبل هذا منكرا في قوله تعالى: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} وذلك الأمر هو الشأن وهو الاجتماع على المحاربة وهو الذي دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إليه وكان بعضهم يتسلل لواذا فأراد بالمخالفة ههنا الانحراف وهو التسلل لواذا في المعنى وإذا كان ذلك محمولا على الانحراف استقام دخول عن فيه فيقال انحراف عن كذا ولا يقال ترك عن كذا فإذا كان الأمر محمولا على الشأن والمخالفة على الانحراف لم يبق في الآية احتجاج على المقصود والإنصاف يوجب حمل الأمر والمخالفة على ما ذكرنا اتساقا للكلام ورعاية على أصول العربية.(13/36)
ص -34-…قال: الرابع: تارك المأمور به عاص لقوله تعالى: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي}- {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} والعاصي يستحق النار لقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} قيل: لو كان العصيان ترك الأمر لتكرر قوله: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}.
قلنا: الأول: ماض أو حال.
والثاني: مستقبل قيل: المراد الكفار بقرينة الخلود.
قلنا الخلود: المكث الطويل.
الدليل الرابع: تارك المأمور به عاص وكل عاص يستحق العقاب فتارك المأمور به يستحق العقاب ولا معنى للوجوب إلا ذلك.
بيان الأول: بقوله تعالى: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي}1 وقوله: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ}2 وكذا قوله: {وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً}3 وما قدمناه من شعر العرب.
وبيان الثاني بقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً}4 ومن من صيغ العموم.
واعلم ان المصنف جعل الكبرى مهملة ان قال والعاصي يستحق النار فلم يسورها بكل وشرطها ان تكون كلية فالصواب في مصطلح القوم ان يقول وكل عاص كما أوردناه وبه عبر الإمام واعترض الخصم بوجهين:
أحدهما: أنا لا نعلم الصغرى وهي ان تارك المأمور به عاص وبيانه قوله تعالى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} فلو كان العصيان عبارة عن ترك المأمور به لكان قوله: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} معناه انهم يفعلون ما يؤمرون وكان قوله ويفعلون ما يؤمرون تكريرا أجاب عنه بان التكرار إنما يلزم ان لو كان لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون بالنسبة إلى زمان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة طه آية 94.
2 سورة الطلاق آية 6.
3 سورة الكهف آية 96.
4 سورة الجن آية 23.(13/37)
ص -35-…واحد وليس كذلك بل لا يعصون للزمان الماضي والحال لقرينة قوله ما أمرهم ويفعلون للمستقبل لقرينة قوله ما يؤمرون فتقدير الآية لا يعصون الله ما أمرهم في الماضي والحال ويفعلون ما يأمرهم به في المستقبل هذا تقرير الاعتراض وجوابه وهنا مناقشتان:
إحداهما: في قوله: لو كان العصيان ترك الأمر وذلك لان النزاع إنما هو في ان تارك الأمر عاص أم لا لا في ان العصيان هل هو ترك الأمر أم لا وكيف يقال ذلك والعصيان قد يقع بترك الفعل الذي يجب اتباعه فكان الصواب ان يقول قيل لو كان تارك الأمر عاصيا.
والثانية: قوله معنى الآية لا يعصون الله ما أمرهم في الماضي قال القرا في بعيد من جهة ان النحاة نصوا على ان لا لنفي المستقبل واستعمالهما بمعنى لم قليل مجاز فيجتمع المجاز في الفعل المضارع وفي لا ايضا فكان الأحسن في الجواب ان يقال لا نسلم التكرار بل قال بعض العلماء: ان قوله تعالى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} إخبار عن الواقع منهم أي عدم المعصية دائما وقوله تعالى: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} إخبار عن سجياتهم التي طبعوا عليها يعني ان سجيتهم الطاعة فيكون أحدهما خبرا عن الواقع مهم والآخر خبر عن السجية التي فطروا عليها فلا تكرار والفعل المضارع قد كثر استعماله في الحالة المستمرة كقولهم زيد يعطي ويمنع ويصل ويقطع وقول خديجة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم انك لتصل الرحم وتحمل الكل وتعين على نوائب الدهر أي ذلك شانك في كل وقت وهو مجاز واحد في المضارع مشهور فيكون أولى من مجازين في الفعل والحرف وأحدهما قليل جدا.(13/38)
الوجه الثاني: انا لا نسلم كلية المقدمة الثانية ونقول ليس المراد بقوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} كل عاص بل للكفار فقط ويدل على ذلك قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} فان غير الكافر لا يخلد في النار أجاب عنه بأن الخلود في اللغة المكث الطويل الصادق على الدائم وغيره وليس هو الدائم فقط بل هو حقيقة في القدر المشترك حذرا من الاشتراك والمجاز.(13/39)
ص -36-…فان قلت فما تفعل في قوله أبدا.
قلت: لا ينافي إذ قد يطلق ويراد به المدة الطويلة كما في قوله: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} والكفار يتمنون الموت في جهنم الا ترى إلى قولهم فيها يا مالك ليقض علينا ربك ولقائل ان يقول أما تقسيم الخلود بالمكث الطويل بخلاف الغالب من استعمال الشرع وعلى اللفظ على الغالب أولا لا سيما وقد أردفه بقوله أبدا وقولكم أن أبدا قد يستعمل في الزمن الطويل قلنا صحيح ولكن قرينة اجتماعها مع الخلود ينفي ذلك هنا وإلا فكأنه قال قاطنين فيها مكثا طويلا زمنا طويلا فيكون قد قرر اللفظ لمجرد التأكيد الذي هو غير محتاج إليه هنا.
فإن قلت التأكيد لا بد منه على التقديرين لأنه إن أراد بالخلود الدائم كما ذكرتم فما أتى بقوله أبدا إلا للتأكيد.(13/40)
قلت: التأكيد على تقدير إرادة الدائم مناسب مناسبة شديدة لأن المحكوم به أولا أعنى المكث الدائم شيء عظيم يليق بخطبة التأكيد فكان التأكيد دليلا على ما قلناه من أن المراد بالخلود الدائم للاحتجاج إلى التأكيد والحالة هذه ويدل ذلك أيضا من الآية قوله: {فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} ولم يقل فإنه يدخل نار جهنم بل أتى بلام الاختصاص والملك بالموضوع للدوام والبقاء وصدر الجزاء بأن المؤكدة للجزاء حيث قال فان له ولم يقل فله ثم أكد ثانيا عند ختام ذكر الجزاء بقوله أبدا ولم يبق علينا إلا أن الدائم لا يستحقه غير الكافر والآية في المعاصي وهو أعم ألا أن يكون هذا العام قد أريد به الخاص وأما النقشواني فقال ليس العصيان عبارة عن ترك الأمر فقط بل عن ذلك مع زعم بطلان مقتضاه وهو ترجيح جانب العقب على الترك أو عدم الإيمان بمقتضاه وهو معنى قوله تعالى في الملائكة: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} أي يجزمون بمقتضاه ويمتثلون ويمتنع منهم عدم الإتيان بمقتضاه قال وكذلك في قوله تعالى: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} معناه ما ذكرنا لأن موسى عليه السلام يقول أزعمت أن ما أشرت به عليك وأمرتك به باطل غير سديد حتى تركته وأراد أن يعاقبه فكان جواب(13/41)
ص -37-…هارون عليه السلام بان تركي لم يكن بناء على زعم البطلان بل بناء على مصلحة أخرى ثم ان موسى عليه السلام لما سمع ذلك قبل معذرته وعلم انه ليس بعاص ما أمره مع انه كان تاركا لما أمره قال ولو كان العصيان باقيا لكان سبب العقارب باقيا ولما كان يمتنع عن عقابه بالقدر الذي ذكره قال وبهذا استحق العاصي الخلود في النار بهذه الآية وكان ضالا ضلالا مبينا بدليل قوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} وترك المأمور به مع زعم بصحة مقتضاه لا يوجب ذلك هذا كلامه وهو مدخول أما قوله العصيان ترك الأمر مع زعم بطلان مقتضاه قلنا هذا خلاف الشائع الذائع في اللغة العربية ويلزم على هذا ان لا يطلق على من خالف أوامر الله ورسوله انه عاص ما لم ينضم إلى ذلك هذا القيد وهو واضح البطلان واما قوله: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ} فليس معناه الا انهم يمتثلون أوامره واما قضية هارون عليه السلام فهو لم يعص أخاه موسى عليه السلام وانما موسى استفهمه لما رآه لم يفعل ما أشار به كان يقول ما كان يمنعك من ذلك هل عصيت أمري فقال هارون لا ولكن المانع اني خشيت ان تقول فرقت بين بني إسرائيل فقبل موسى عليه السلام عذره وعلم أنه لم يعصه لا باعتقاده بطلان مقتضى أمره ولا بالمخالفة لأن أمره لم يكن مطلقا بل مقيدا بعدم المانع وإن لم يكن التقييد موجودا في اللفظ كما تقول لوكيلك اشتري اللحم ثم تقول ما منعك من شرائه هل عصيت أمري فيقول لك لا بل كان السوق غير قائم أو اللحم غير موجود والله اعلم.
قال: الخامس: أنه عليه السلام احتج لذم أبي سعيد الخدري على ترك استجابته وهو يصلي بقوله تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ}.(13/42)
الدليل الخامس: ما رواه البخاري من أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا أبا سعيد وهو في الصلاة فلم يجبه فقال: "ما منعك ان تجيب وقد سمعت الله يقول" {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} وهذا الاستفهام ليس على حقيقة لأنه عليه السلام كان يعلم أنه في الصلاة فدل على أنه لمجرد الذم والتوبيخ ولولا اقتضاء الامر للوجوب لما كان ذلك وقد وقع في الكتاب ان أبي سعيد(13/43)
ص -38-…هذا هو الخدري وكذا وقع في المحصول وغيره من كتب الأصول ظنا من مصنفها أنه لا أبو سعيد في الصحابة إلا الخدري وهذا الظن نشأ لهم من شهرة الخدري وعدم ظروف ذكر غيره على أسماعهم وأبو سعيد هذا إنما هو أبن المعلي وليس هو بخدري1 والقرافي رحمه الله نبه على ذلك ومن كتبه إستفدناه وهو صحيح وقد سألت شيخنا الحافظ الذهبي رحمه الله هل روى هذا الحديث من طريق الخدري في شيء من الكتب والأجزاء فقال لا ووقع الحديث في بعض الكتب منسوبا إلى أبي بن كعب وليس بجيد ايضا وقد نجزت الدلائل الخمس وهي إنما تفيد ثبوتها أن الأوامر الصادرة من الشارع للوجوب لأنها حقيقة الوجوب بأصل الوضع كما هو المدعي فلا بد من إقامة الدليل على أنها في اللغة كذلك لكن لما كان الغرض المهم معرفة مدلولان أوامر الشارع خص الاستدلال بها وقد قدمنا أن المختار عندنا ما ذهب إليه امام الحرمين وليس الشرح موضع تقريره والذب عنه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الخدري هو: سعد بن سنان الخدري الأنصاري الخزرجي صحابي جليل كان من الملازمين للنبي صلى الله عليه وسلم – وشهد معه كثيرا من الغزوات.توفي سنة 74هـ بالمدينة المنورة خلاصة تهذيب الكمال 1/371.
أما أبو سعيد بن المعلى: فهو: رافع بن المعلى بن لوذان بن حبيب بن عدي الأنصاري. مات سنة 73هـ
خلاصة تهذيب الكمال 3/99.
وهذا الحديث رواه البخاري عن أبي سعيد بن المعلى في تفسير سورة الفاتحة والأنفال. فتح الباري 9/244- 377 كما رواه الإمام أحمد في مسنده 2/412 -413.والترمذي في فضائل القرآن والطبري في تفسير سورة الأنفال 11/466.(13/44)
ص -39-…أدلة القائلين بالندب
قال: احتج المخالف بأن الفارق بين السؤال والندب هو الرتبة والسؤال للندب فكذا الأمر.
قلنا: السؤال وان لم يتحقق.
ذكر المصنف لبعض المخالفين دلائل.
أولها لأبى هاشم القائل بأن الأمر للندب لا جرم إن في بعض النسخ احتج أبو هشام لكن ذلك غير مستقيم لان الثالث والثاني عن أحد التقريرين كما سيأتي ان شاء الله تعالى لا تعلق لها لأبي هاشم وتقرير ما احتج به أبو هاشم أنه لا فرق بين السؤال والأمر إلا الرتبة فإن رتبة الأمر أعلى من رتبة السائل والسؤال للندب فكذلك الأمر لأن الأمر لو دل على شيء غير الندب من إيجاب أو غيره لكان بينهما فرق آخر وهو خلاف ما نقوله.
هذا تقرير الاحتجاج يعبر بعض الشارحين بأن الأمر لو دل على الإيجاب وهي عبارة صحيحة في الرد على القائلين بالوجوب إلا أن أبا هاشم لم يأت بهذا الوجه لإبطال مذهب الوجوب بل لتقرير مذهبه فكان الأحسن أن يقال بأن الأمر لو دل على شيء غير الندب كما أوردناه ولا يخص الوجوب بالذكر.
وأجاب المصنف: أن السؤال من حيث الوضع يدل على الإيجاب أيضا لأن صيغة أفعل عند القائل لأنها للإيجاب موضوعة لوجوب الفعل مع المنع من الترك وقد استعملها السائل لكان لا يلزم من السؤال الوجوب أن الوجوب حكم شرعي يستدعي إيجاب الشبع ولذا لا يلزم المسؤول القبول.
فان قلت: إذا دل السؤال على الإيجاب لزم افتراقهما من وجه آخر إذ إيجاب الأمر يدل على الوجوب بخلاف إيجاب السؤال.(13/45)
ص -40-…قلت: إيجاب الأمر أيضا غير مستلزم للوجوب لجواز أن يوجد بدون الوجوب كما إذا أمر السيد عبده بما لا يقدر عليه حسا وشرعا.
وقد أجاب الأسفرايني أحد شراح هذا الكتاب عن السؤال بأن المعنى تكون الفارق بينهما الرتبة هو كون إيجاب الأمر يقتضي الوجوب بخلاف السؤال وهذا فيه نظر إذ هما مدلولان متغايران على ان هذه المباحث كلها إنما هي على تقدير ثبوت اعتبار الرتبة حتى يكون فارقه لكنها عند المصنف غير معتبرة أن العلو والاستعلال لا يعتبران كما تقدم فلدي أجاب به المصنف على تسليم ثبوت الفرق نعم الفرق بين السؤال والأمر عنده فرق ما بين العام والخاص فإن السؤال أمر صادر يتذلن والأمر أعم.
وأما قول بعض الشارحين قد يترتب الوجوب على السؤال كسؤال المضطر وقد لا يترتب وقد يترتب على الأمر وهو ما إذا كان صادرا ممن هو له وكان مقدورا للمكلف وقد لا يترتب وفي تمثيله لترتيب الوجوب على السؤال بحالة الاضطرار نظر لان وجوب إطعام المضطر ليس لسؤاله بل لكونه مضطرا حتى لو لم يسأل وعرف انه مضطر وجب إطعامه من غير سؤال.(13/46)
ص -41-…أدلة القائلين بأنها للقدر المشترك
قال: بأن الصيغة لما استعملت فيهما والاشتراك والمجاز خلاف الأصل فيكون حقيقة في القدر المشترك.
قلنا: يجب المصير إلى المجاز لما بيننا من الدليل.
احتج من ذهب إلى أن الصيغة موضوعة للقدر المشترك بين الوجوب والندب بأنها وردت للوجوب تارة وللندب أخرى فوجب ان تكون حقيقة في القدر المشترك بينهما وهو رجحان الفعل عن الترك وإلا فان كان حقيقة فيها لزم الاشتراك أو في أحدهما لزم المجاز فيهما على خلاف الأصل ويمكن ان يقرر هذا الدليل على وجه آخر يصير به دليلا لأبي هاشم على أنه حقيقة في الندب وذلك بان تزيد على ما ذكرنا أن هذه الصيغة دالة على أصل الرجحان وجواز الترك ثابت بمقتضى البراءة الأصلية التي لم يوجد ما يزيلها في رجحان وجود العقل مع جواز الترك ثابت حينئذ ولا نعني بالندب إلا ذلك.
والجواب إنا قد بينا أن الامر حقيقة في الوجوب كما سبق فالمصير إلى كونه مجازا في الندب وغيره من الوارد واجب لئلا يلزم الاشتراك والمجاز أولى به.
واعلم أن التقرير الأول هو الأقرب إلى كلام صاحب الكتاب والثاني هو ما أورده الإمام وفيه نظر لأن كوننا لا نحكم عليه بالوجوب للبراءة الأصلية غير جعلنا إياه حقيقة في الندب وحكمنا عليه بعد الوجوب لا يقتضي أنه حقيقة في الندب.(13/47)
ص -42-…أدلة القائلين بالتوقف
قال: بأن تعرف مفهوما لا يكون بالعقل ولا بالنقل لأنه لم يتواتر والآحاد لا تفيد القطع قلنا المسألة وسيلة إلى العمل فيكفي فيها الظن وأيضا يتعرف بتركيب عقلي من مقدمات نقلية كما سبق.
احتج من ذهب إلي الوقف بأنه لو ثبت في إحداهما لثبت بدليل الامتناع إثبات اللغة بالتشهي وذلك الدليل إما عقلي أو نقلي والأول لا يمكن إذ لا محال للعقل في اللغة والثاني إما متواتر وهو منتف وإلا لكان ضروريا حاملا لكل أحد من هذه الطوائف وكان النزاع يرتفع من بينهم واما الآحاد وهي لا تفيد القطع إنما تفيد الظن وهو في المسائل العلمية غير كان والمسألة علمية إذ هي من قواعد أصول الفقه ولم يجر الشارع العمل بالظن في أصول الفقه كما نقله عن العلماء قاطبة الابياري شارح البرهان حكاه عنه القرافي وانما ذلك للاهتمام بالقواعد وإذا انتفت طرق المعرفة تعين أوقف وهذا الذي نقله الأبياري رأيته في كلام القاضي في مختصر التقريب والإرشاد في غير موضعين أجاب بوجهين.
أحدهما: ان هذه المسألة وسيلة إلى العمل فيكفي فيها حصول الظن كما يكفي حصول الظن في مقاصدها في العمليات وحاصل هذا الجواب منع كون المسألة علمية وقد اختلف الأصوليون في أن هذه ظنية يقينية.
الثاني: أن هذا الحصر ممنوع وسند المنع أنه يجوز ان يعرف بدليل مركب من العقلي والنقلي كما سبق في الدليل الرابع أن تارك المأمور به عاص وكل يستحق النار ينتج العقل من هاتين الثقليتين أن تارك المأمور به يستحق العقاب ولا معنى للوجوب إلا ذلك وكما سبق أيضا في الدليل الثالث وهو تارك المأمور(13/48)
ص -43-…به مخالف وكل مخالف معذب فتارك المأمور به معذب وكما سبق في باب اللغات الجمع المحلي بالألف واللام يدخله الاستثناء والاستثناء ما لولاه لدخل فيدل على أن الجمع المحلي للعموم فقول المصنف كما سبق يحتمل عوده إلى كل واحد من هذه الثلاث وقد أجيب عن هذا الدليل بجواب ثالث وهو التزام حصوله بالتواتر ولا يلزم منه رفع الخلاف لأنه إنما يلزم ذلك أن لو كان العقلي هنا ضروريا لكنه نظري فيحتمل أن يصل إلى بعضهم بكثرة المطالعة في كلامهم وتواريخهم ولا يصل إلى الآخر لعدم أو قلة اشتغاله بذلك وأجاب بعضهم بأن مات ذكره المتوقف من الدليل لازم عليه وذلك لأن العقل لا يقتضى الوقف والنقل القطعي غير متحقق والظني لا يفيد فما كان جوابه فهو جوابنا لكن في هذا نظر إذ المتوقف لم يحكم بشيء فلا دليل عليه واعلم أن المنع الثاني ذكره المصنف قدمه الإمام على الأول وهو أولى على قاعدة أهل النظر مما فعله المصنف فكان ينبغي أن يقول لا نسلم الحصر سلمنا نختار معرفته بالآحاد والجدليون يعللون مثل ذلك بأن الثاني هنا مثلا فيه تسليم للحصر فلا يحسن منعه بعد ذلك والله اعلم.
قال: الثالثة: الأمر بعد التحريم للموجوب
وقيل للإباحة لنا أن الأمر يفيده ووروده بعد الحرمة لا يدفعه قيل: إذا حللتم فاصطادوا قلنا: معارض بقوله: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}.
هذه المسألة مفرعة على ثبوت أن صيغة افعل تقتضي الوجوب فاختلف القائلون بذلك فيما إذا أوردت بعد الخطر هل هي باقية على دلالتها أو ورودها بعد الخطر قرينة للإباحة أم كيف الحال على أربعة مذاهب.(13/49)
الأول: أنها على حالها في اقتضاء الوجوب وهو اختيار الإمام وأتباعه منهم المصنف وبه قالت المعتزلة وصححه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في شرح اللمع والإمام أبو المظفر بن السمعاني في القواطع ونقله ابن الصباغ في عدة العالم عن اختيار القاضي أبي الطيب ونقله ابن برهان في الوجيز عن القاضي لكن لم يقل لذلك مطلقا وإنما الذي قاله كما حكاه عنه إمام الحرمين في البرهان لو كنت من القائلين بالصيغة لقطعت بان الصيغة(13/50)
ص -44-…المطلقة بعد الخطر مجراه على الوجوب وكذا قال في مختصر التقريب الذي نختاره أن الأمر بعد سبق الخطر كالأمر من غير سبقه وإن فرضنا الكلام في العبارة فهي بعد الحظر كهي من غير خطر يسبق وقد فرط من أصلنا المصير إلى الوقف وها نحن عليه في صوره التنازع كما ارتضيناه في صورة الاطلاق من غير تقدم خطر انتهى.
والثاني: أنها تكون للإباحة ورجحه ابن الحاجب ونقله ابن برهان في وجيزه عن أكثر الفقهاء والمتكلمين واين التلمساني في شرح المعالم عن نص الشافعي وكذا نقل عن نصه عبد العزيز بن عبد الجبار الكوفي كما نقله الاصبهاني في شرح المحصول وقال القاضي في مختصر التقريب أنه أظهر أجوبة الشافعي وحكاه الشيخ أبو حامد الاسفرايني في باب الكتابة من تعليقته عن الشافعي وقال الشيخ أبو اسحاق للشافعي كلام بدل عليه وقال ابن السمعاني عليه دل ظاهر قول الشافعي في أحكام القرآن.
والثالث: اختاره الغزالي وهو إن كان الخطر الشائق عارضا بعلة وعلق صيغة افعل بزواله مثل فإذا حللتم فاصطادوا فعرف الاستعمال يدل على انه لرفع الذم فقط حتى يرجع حكمه إلى ما قبله وان احتمل ان يكون رفع هذا الخطر بندب أو إيجاب لكن هذا هو الأغلب كقوله عليه السلام: "كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فادخروا" وأما إذا لم يكن الخطر عارضا بعلة ولا صيغة افعل علق بزوالها فيبقى موجب الصيغة على اصل التردد بين الإيجاب والندب وتريد ههنا احتمال الإباحة وتكون هذه قرينة تروح هذا الاحتمال وإن لم تعينه وأما إذا لم ترد صيغة افعل ولكن قال إذا حللتم فأنتم مأمورون بالاصطياد فهذا يحتمل الوجوب والندب ولا يحتمل الإباحة قال وقوله أمرتكم بكذا يضاهي قوله افعل في جميع المواضع إلا في هذه الصورة وما يقال بها وهذا المذهب أخذه الغزالي مما حكاه إمامه البرهان وفي التلخيص عن بعضهم أنه إن ورد الخطر مؤقتا وكان منتهاه صيغة في الاقتضاء فهي للإباحة قال والغرض من مساق الكلام رد الخطر إلى غاية وهي(13/51)
ص -45-…كقوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} ثم زاد الغزالي ما ذكره وقد قال في التلخيص عن هذا المذهب أنه أسد مذهب لهؤلاء.
والرابع: الوقف وهو مذهب امام الحرمين واختاره جماعة واستدل المصنف على ما اختاره بأن الأمر يفيد الوجوب إذ التفريع على القول بذلك ووروده بعد الحرمة غير صالح لأن يكون معارضا فإنه كما لا يمتنع الانتقال من التحريم إلى الإباحة لا يمتنع الانتقال منه إلى الوجوب لمنافاة كل واحد منهما للتحريم فإذا جاز الانتقال إلى أحد المتنافين جاز الانتقال إلى الآخر واحتج القائل بالإباحة بأنها وردت لذلك مثل قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}1 وقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا}2 وقوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ}3 وفي الحديث: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها"4 "كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فكلوا وادخروا"5 وأجاب في الكتاب بأن هذه الأدلة معارضة بقوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}6 فإنه يفيد الوجوب لأن الجهاد وأجب وكذلك قوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}7 وحلق الرأس نسك وليس بمباح محض كذا ذكره الإمام وكذلك قوله عليه السلام: "فإذا أدبرت الحيضة فاغسلي عنك الدم وصلي"8 وإذا تعارضا من هذه الجهة بقي دليلنا على اصله ولمن يقول:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة آية 2.
2 سورة الجمعة آية 10.
3 سورة البقرة آية 222.
4 رواه الحاكم عن أنس وابن ماجة عن ابن مسعود الفتح الكبير 2/334.
5 رواه الترمذي من حديث بريدة بلفظ" كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث ليتسع ذوو الطول على من لاطول له فكلوا مابدا لكم وأطعموا وادخروا".
6 سورة التوبة آية 5.
7 سورة البقرة آية 196.(13/52)
8 حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وأبو داود من حديث عائشة قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم – فقالت يارسول الله إني أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم "إنما ذلك عرق وليس بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي" المغني لابن قدامة 1/312.(13/53)
ص -46-…بالإباحة أن يمنع استفادة الوجوب في هذه السور من الصيغة الواردة بعد الخطر ويقول أن الوجوب مستفاد من خارج فان قتال المشركين واجب وكذلك الصلاة بالنسبة إلى المرأة ثم لما منع منه حصل الإحجام عنه فكان ورود الأمر مفيدا أن نسبب الأحجام زائل وأن هذا الأمر صار مباحا ومتى صار مباحا لزم ان يعود إلى ما كان عليه من الوجوب.
فائدة: قد عرفت الخلاف في الامر الوارد بعد الخطر هل يدل على الوجوب أو الإباحة ويضاهيه مسائل منها الكتابة فهي مستحبة وإن كانت واردة بعد خطر وعن صاحب التقريب حكاية قول أنها تجب بطلب العبد.
ومنها: النظر إلى المخطوبة بعد العزم على نكاحها مستحب وفي وجه هو مباح مجرد والأمر به في قوله صلى الله عليه وسلم للمغيرة بن شعبة: "لا أنظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما"1 أي يجعل بينكما المودة وارد بعد الخطر وهو تحريم النظر إلى الأجنبيات عند خوف الفتنة.
ومنها: إذا قال لعبده اتجر صار مأذونا ويجب عليه امتثال أمر سيده وهو أمر وارد بعد خطر وهو الحجر على العبد في التصرف في مال سيده والله اعلم.
تنبيه: صرح الأمام هنا بأن حكم الأمر بعد الاستئذان حكمه بعد التحريم حتى يقع فيه الخلاف في إفادة الوجوب ومثال ذلك ان يستأذن على فعل شيء فيقول افعله وهذا حسن متجه ينفع في الاستدلال على وجوب التشهد بقوله صلى الله عليه وسلم إذ سألوه كيف نصلى عليك قال: "قولوا" الحديث.
قال: واختلف القائلون: بالإباحة في النهي بعد الوجوب.
الذين قالوا: بان الأمر الوارد بعد الخطر يفيد الوجوب جزموا القول: بأن النهي بعد الوجوب يفيد التحريم.
وأما الذين قالوا: هناك بأنه يفيد الإباحة فاختلفوا في النهي الوارد بعد الوجوب فمنهم من طرد فيه الخلاف وحكم بالإباحة ومنهم من قال لا تأثير
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه الترمذي وحسنه والحاكم صححه. نيل الأوطار 6/10.(13/54)
ص -47-…ههنا للوجوب المتقدم بل النهي يفيد التحريم وبه قال الأستاذ وقال لا ينتهض الوجوب السابق قرينة في حمل النهي على رفع الوجوب وادعى الوفاق في ذلك وفي التلخيص مختصر التقريب والإرشاد للقاضي دعوى الوفاق كما ذكر الاستاد فانه قال في أثناء الحجاج لو صح ما قلتموه للزم ان تقولوا إذا فرط الإيجاب وسبق التحتم ثم تعقبته لفظا تقتضي تحريما بما لو قدرت مطلقة أنها لا تحمل على التحريم وقد قلتم جميعا أنها محمولة على التحريم انتهى ولكن الخلاف ثابت مصرح به وقال أمام الحرمين أما أنا فسأجب ذيل الوقف عليه كما قدمته في صيغة الأمر بعد الخطر وقد فرق القائلون بأن النهي بعد الوجوب للتحريم مع قولهم: بأن الأمر بعد الخطر للإباحة بوجوه.
أحدها: أن النهي لرفع المفاسد المتعلقة بالمنهي والأمر لتحصيل المصالح المتعلقة بالمأمور واعتناء الشارع بدفع المفاسد أشد من اعتنائه بجلب المصالح.
والثاني: أن النهي عن الشيء موافق للأصل الذي هو عدم الفعل ولا كذلك الأمر لاقتضائه الفعل.
الثالث: أن القائل بالإباحة ثم إنما دعاه إليها ورود الصيغة كثيرا في الآيات والأخبار بمعنى الإباحة كما سبق بخلاف النهي بعد الوجوب.
والرابع: أن دلالة النهي على التحريم أقوى من دلالة الأمر على الوجوب لأنه إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام والله اعلم.(13/55)
فائدة: تقدم ما ذكره الإمام في الامر عقيب الاستئذان واما النهي عقيب الاستئذان مثل قوله صلى الله عليه وسلم لسعد وقد قال له: أوصي بمالي كله قال: "لا" ومثل أيسلم بعضنا على بعض نعم أيصافح بعضنا البعض قال: "نعم" أينحني بعضنا لبعض؟ قال: "لا" ووقع في الستة كثير من ذلك فهذا الاستفهام الأصل فيه انه استفهام عن الخير كأنه يقول أيقع هذا أو لا وجوابه في الأصل خبر أيضا يقول يقع أو لا كقولك يقوم زيد فيجيب نعم أو لا ثم قد تأتي قرينة تدل على أن المراد بذلك الإستفهام عن الحكم الشرعي كما في هذين الحديثين وأشباههما فان القرينة تدل على ان المراد الاستفهام على الحكم الشرعي أما الوجوب أو(13/56)
ص -48-…الجواز أو الاستحباب وقد يكون استرشادا أيضا فيكون الجواب بلا أو نعم وارد على ما فهم من السؤال والظاهر في الحديث.
الثاني: أن المراد الإستفهام عن الجواز ولذلك كان الانحناء حراما وقوله نعم: في السلام و المصافحه فيه جواز ذلك خاصة واستحبابه من دليل آخر ولا نقدره أمرا بل خبرا وكذا في حديث سعد الظاهر فيه أنه استفهام عن الجواز ولذلك في الثلث قال الثلث والثلث كثير فإن نعم مقدرة فيه ولا نقدره أمرا لأنه ليس مستحبا لقوله إنه كثير وليس بنا ضرورة إلى تقديره أمرا وصرفه عن ظاهره فهذا هو القاعدة في ذلك قررها والدي رحمه وينبني عليها مباحث في مواضع كثيرة فافهمها.
قال: الرابعة: الأمر المطلق لا يفيد التكرار ولا يدفعه وقيل للتكرار وقيل للمرة وقيل بالتوقف للاشتراك أو للجهل بالحقيقة.
الأمر: إما أن يرد مقيدا وهو نوعان:
أحدهما: أن يرد مقيدا بالمرة أو بالتكرار فيحمل عليه قطعا.
والثاني: ان يرد مقيدا بصفة أو شرط وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله وأما إن يرد مطلقا عاريا من القيود وهو مسألة الكتاب وفيه مذاهب.
أحدهما: أنه لا يدل بذاته لا على التكرار ولا على المرة وانما يفيد طلب الماهية من غير إشعار بالوحدة والكثرة نعم لا يمكن إدخال الماهية في الوجود بأقل من مرة فصارت المرة من ضروريات الإتيان بالمأمور به لا أن الأمر يدل عليها بذاته واختاره الإمام واتباعه منهم المصنف والآمدي وابن الحاجب ونص على اختيار القول به القاضي في التلخيص لإمام الحرمين.
وقد عبر المصنف عن المرة بقوله ولا يدفعه فانه إذا لم يدفع التكرار لا يكون للمرة فإنه لو كان للمرة يدفع التكرار إذ هما متقاربان.
والثاني: أنه يدل على التكرار المستوعب لزمان العمر ونقل الشيخ أبو اسحاق في شرح اللمع عن شيخه أبي حاتم القزويني وعن القاضي أبي بكر(13/57)
ص -49-…وهو مذهب الأستاذ وجماعة من الفقهاء والمتكلمين وذكر الاصفهاني ان العالمي نقله عن اكثر أصحاب الشافعي لكن شرط هذا القول الإمكان دون أزمنة قضاء الحاجة والنوم وضروريات الإنسان كما صرح به اكثر الاصوليين منهم الشيخ أبو اسحاق وإمام الحرمين وابن الصباغ في عدة العالم والآمدي وغيرهم.
قال صفي الدين الهندي ثم لا يخفي عليك أنه ليس المراد من التكرار هنا معناه الحقيقي وهو إعادة الفعل الأول فان ذلك غير ممكن من المكلف وإنما المراد مثله ولك أن تقول ما تريد بقولك ليس المراد إعادة ذلك الفعل الأول أتريد الماهية مع قيد التشخيص في الأول أم الماهية وحدها الأول مسلم والثاني ممنوع لان الماهية الموجودة في الأول موجودة في الثاني بعينها.
والثالث: انه يدل على المرة ولا يحتمل التكرار وإنما يحمل عليه بدليل ونقله الشيخ أبو اسحاق عن اكثر أصحابنا وأبي حنيفة واكثر الفقهاء وعن اختيار شيخه القاضي أبي الطيب والشيخ أبى حامد ونقل بعض الشارحين تبعا للأصفهاني في شرح المحصول عن الآمدي أنه قال وإليه ميل إمام الحرمين والواقفية ثم خطا هذا الشارح والآمدي بأن إمام الحرمين إنما يرى الوقف ولا يقضي في الزيادة بنفي ولا إثبات.
واعلم أن الآمدي لم ينقل في الأحكام عن إمام الحرمين إلا الوقف كما هو الواقع وهذه عبارة الآمدي ومنهم من نفى احتمال التكرار وهو اختيار أبى الحسين البصري وكثير من الاصوليين ومنهم من توقف في الزيادة ولم يقض فيها نفي ولا إثبات وإليه ميل إمام الحرمين والوقفية انتهى والظاهر أن نسخة الاصفهاني وكذلك هذا الشارع من الأحكام سقيمة منها من قوله ومنهم إلى قوله وإليه وهذه النسخة التي عندي صحيحة مقروءة على الآمدي وعليها خطه.
واعلم أن صفي الدين الهندي نقل عن أبي الحسين وكثير من الاصوليين المذهب المختار وهو خلاف ما نقله عنه الآمدي كما رأيت والذي رأيته في(13/58)
ص -50-…المعتمد يقتضي موافقة ما نقله الهندي أو يصرح بل لم يحك هذا القول الذي نقله عن الآمدي بالأصالة.
والرابع: التوقف قالوا وهو محتمل لشيئين.
أحدهما: أن يكون مشتركا بين التكرار والمرة فيتوقف إعماله في أحدهما على قرينة وهذا قد صرح بحكايته صاحب الكتاب في كتابه المرصاد الذي وضعه على مختصر ابن الحاجب.
والثاني: أنه لاحدهما ولا نعرفه فيتوقف لجهلنا بالواقع ولقائل أن يقول وضعه للمرة وللتكرار كل منهما على حدته وضع للنقيضين لأن التكرار وحده مع المرة وحدها مما لا يجتمعان إذ لا تجتمع الوحدة بقيد الوحدة مع الكثرة ولا يرتفعان إذا هو مأمور بشيء لا يخرج ذلك الشيء عن أحدهما ثم إن الوضع للنقيضين على رأي الإمام ومن نحا نحوه ممتنع فكيف يتجه ممن يعتقد اعتقاده أن يجعل التوقف محتملا وفي المسألة مذهب خامس حكاه صفي الدين الهندي عن عيسى بن إبان أنه إن كان فعلا له غاية يمكن إيقاعه في جميع المدة فيلزمه في جميعها وإلا فيلزمه الأقل.
قال: لنا تقييده بالمرة والمرات من غير تكرير ولا نقض وأنه ورد مع التكرار وعدمه فيجعل حقيقة في القدر المشترك وهو طلب الإتيان به دفعا للاشتراك والمجاز وأيضا لو كان للتكرار لعم الأوقات فيكون تكليفا بما لا يطاق وينسخه كل تكليف بعده لا يجامعه.
استدل على المختار بأوجه:
أحدهما: أنه لو كان الأمر المطلق دالا على المرة لكان تقييده بها تكرارا وبالمرات نقضا ولو كان دالا على التكرار لكان تقييده بالمرات تكرارا بالمرة نقصا والمرازمة بينة والملازمة باطل الصحة قولنا افعل ذلك مرات وليس فيه تكرار ولا نقض ولا يخفى عليك أن هذا الوجه ليس حجة الا على من يدعي أنه نص بالمرة الواحدة ولا يحتمل التكرار ومن يدعي العكس أما من يدعي التوقف والظهور في أحدهما فلا يصلح حجة عليه.(13/59)
ص -51-…الثاني: أنه ورد للتكرار شرعا مثل قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} و {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} وعرفا مثل قول القائل لغيره احفظ دابتي واحسن إلى الناس وورد للمرة شرعا كآية الحج والعمرة وعرفا مثل ادخل الدار وقول السيد لعبده اشتر اللحم فحينئذ إما أن يكون حقيقة فيهما فيلزم الاشتراك أو في أحدهما فيلزم المجاز والمجاز والاشتراك على خلاف الأصل فيكون للقدر المشترك بينهما وهو طلب الإتيان بالمأمور وذلك أعم من أن يكون في المرة الواحدة أو المرات وحينئذ لا يدل على أحدهما بخصوصه إلا بقرينة.
وهذا الدليل قد استعملوه في مواضع عديدة وبعض المتأخرين من الاصوليين كالنقشواني وغيره قد ضعفوه فقالوا إذا كان موضوعا للقدر المشترك الذي هو مطلق الطلب ثم استعمل في طلب خاص فقد استعمل في غير ما وضع له لأن الأعم مغاير للأخص لكنه مشتمل على ما وضع له فيجوز مجازا وأيضا فان الالفاظ موضوعة بازاء المعاني الذهنية على رأي الإمام واتباعه فإذا استعمل فيما تشخص منهما في الخارج يكون مجازا لأنه غير ما وضع له فتقرر أن استعمال الأمر في المقيد بالتكرار وبالمرة مجاز لما قلناه وهذا بحث صحيح مطرد في كل أعم استعمل في أخص وبعضهم يفصل فيه فيقول إن استعمل فيه باعتبار ما فيه من القدر الأعم فهو حقيقة وإن استعمل فيه اعتبار خصوصه فهو مجاز وهذا التفصيل لا حاجة إليه لأنه إذا استعمل فيه باعتبار ما فيه من القدر الأعم لا يخرج عن كونه استعمل العام في الخاص وقوله باعتبار سبب في الإستعمال فهو كاستعمال الأسد الشجاع باعتبار الشجاعة وإن أراد بقوله باعتبار أنه لم يستعمل إلا في الأعم فذلك إحالة لفرض المسألة لأن فرض المسألة أنه استعمل في الأخص.
الثالث: وهو دليل على ضعف القول بالتكرار لأنه لو كان مقتضيا للتكرار نعم جميع الأوقات حتى يجب فعل المأمور به فيها وذلك لعدم أولوية وقت دون وقت لكنه لا يعم جميع الأوقات لوجهين.(13/60)
ص -52-…أحدهما: أنه لو عمها للزم وقوع التكليف بما لا يطاق.
والثاني: أنه يلزم أن ينسخه كل تكليف يأتي بعده لا يمكن مجامعته له في الوجود وذلك لأن الأمر الأول قد استوعب جميع الأوقات بفعل المأمور به والثاني يقتضي الإتيان بالمأمور به والإتيان بالمأمور به أولا لا يمكن مع الإتيان به ثانيا فيرتفع وجوبه لعدم إمكان فعله فيلزم النسخ وهو يأكل قطعا لأن الأمر ببعض الصلوات ليس نسخا لغيرها والأمر بالحج ليس نسخا للصلاة فثبت ما قلناه من انه لا يعم كل الأوقات وحينئذ لا يكون مقتضيا وانما قيد المصنف بقوله لا يجامعه ليحترز عما يجتمع معه كالصوم مع الصلاة وفي هذين الوجهين نظر.
أما الأول: فلأن القائل بالتكرار يشترط الإمكان كما تقدم.
وأما الثاني: فلأن النسخ إنما يلزم إذا كان الأمر الثاني مطلقا غير مخصص ببعض الأوقات شرعا أو عقلا ومثل هذا غير واقع في الشرع ولو وقع لالتزم الخصم وقوع النسخ وأما إذا كان الامر الثاني مخصوصا ببعض الأوقات فلا يلزم منه نسخ الأول بل تخصيصه ولا امتناع في ذلك على أنه غير واقع على الوجه المفروض.
قال: تمسك الصديق رضي الله عنه على التكرار بقوله: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} ولم ينكر عليه قلنا لعله عليه الصلاة والسلام بين تكراره قبل النهي يقتضي التكرار فكذا الأمر قلنا الانتهاء أبدا ممكن دون الامتثال قيل لو لم يتكرر لم يرد النسخ. قلنا: وروده قرينة التكرار.
احتج من ذهب إلى أن الأمر يفيد التكرار بثلاثة اوجه.
أحدها: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه تمسك على أهل الردة من وجوب تكرار الزكاة بقوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} ولم ينكر عليه أحد من الصحابة فدل على انعقاد الإجماع على أن الأمر للتكرار والجواب بعد تسليم أن الإجماع السكوتي إجماع أنه لعل النبي صلى الله عليه وسلم بين للصحابة رضي الله عنهم أن قوله: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} يفيد التكرار فتمسك الصديق رضوان الله عليه بها(13/61)
ص -53-…مستندا إلى ما بينه عليه السلام وهذا وإن كان خلاف الأصل إذ الأصل أنه لم يبين لكن يجب المصير إليه جمعا بين الأدلة وقد يجاب بأن أمر الصلاة والزكاة والصوم معلوم التكرار بالضرورة من دين محمد عليه السلام أو بأن ههنا مع صيغة الأمر غيرها وهو أن القاعدة تكرر الحكم بتكرر سببه وسبب وجوب الزكاة نعمة من الملك فلما تكررت تكرر وجوب الزكاة وهذا مقتضى للتكرار غير الامر.
وثانيها: أن النهي يقتضى التكرار فكذلك الأمر قياسا عليه والجامع كون كل منهما للطلب و الجواب أنه يمكن الانتهاء عن الشيء دائما لأن فيه بقاء على العدم وأما امتثاله أبدا اعني استعماله دائما فغير ممكن وهذا الجواب من المصنف ربما يفهم اختياره أن النهي يقتضي التكرار بلا خلاف وقد صرح بعد ذلك بأن النهي كالأمر في التكرار وعدمه ثم لك أن تقول في هذا الجواب نظر لأن من قال الأمر يقتضي التكرار اشترط الإمكان كما سبق فامتثال الأمر أبدا حينئذ كالانتهاء أبدا من حيث الإمكان فالصواب في الجواب أن يقال هذا إثبات اللغة بالقياس وليس بصحيح سلمنا صحته لكن لا نسلم أن النهي يقتضي التكرار بل هو على وزان الأمر سلمنا أن يقتضي التكرار لكن مقتضى الأمر اتحاد المأمور به وذلك يصدق مرة واحدة بخلاف النهي فإنه لما كان مقتضاه الكف عن المنهي عنه لم يتحقق ذلك إلا بالإمتناع المستمر.
وثالثها: أنه لو لم يدل على التكرار ودل على المرة لم يرد النسخ لأن وروده إما بعد فعلها وذلك محال إذ لا تكليف واما قبله وهو يدل على البداء أي ظهور المصلحة بعد خفائها وذلك محال على الله سبحانه وتعالى وورود النسخ جائز فدل على أنه للتكرار والجواب أن النسخ لا يجوز وروده عليه فإن ورد صار بذلك قرينة في أنه كان المراد به التكرار وحمل الأمر على التكرار لقرينة جائز.
قال: قيل: حسن الاستفسار دليل الاشتراك.
قلنا: فقد يستفسر عن إفراد المتواطئ .(13/62)
ص -54-…احتج من قال باشتراك الأمر بين التكرار والمرة بأنه يحسن الاستفهام فيه فيقال أردت بأمرك فعل مرة واحدة أو اكثر وحسن الاستفهام دليل الاشتراك والجواب ان مدعانا للتواطؤ ويجوز الإستفسار عن إفراد المتواطىء كما إذا قلت اضرب إنسانا فإنه يحسن أن يقال عمرا أم زيدا وأعتق رقبة فإنه يجوز أن يقال مؤمنة أم كافرة وقد تم شرح ما في الكتاب وليس فيه تعرض لشيء من شبه القائلين بالمرة ومنها أن من قال لغيره ادخل الدار فدخل مرة عد ممتثلا ومنها لو قال لوكليه طلق زوجتي لم يملك اكثر من واحدة ومنها لو قيل صار زيد صدق بمرة فليكن مثله في الأمر.
والجواب عن الأول: أن ذلك إنما يدل على أن الأمر غير ظاهر في التكرار لا على امتناع احتماله ولهذا لو قيل ادخل مرارا اصح ولو عدم الاحتمال لم يصح هذا التفسير وهو الجواب عن طلق زوجتي وذلك لعدم ظهور الأمر فيما عدا الواحدة لا لعدم الاحتمال لغة الجواب عن الثالث: أنه قياس في اللغة فلا يقبل.
فائدة: استحباب إجابة المؤذن هل هو مختص بالمؤذن الأول حتى لو سمع ثانيا فلا يستحب إجابته يظهر تخريج المسالة على أن الأمر هل يقتضي التكرار.
وقد حكى النووي في شرح مسلم عن حكاية القاضي عياض اختلاف العلماء في هذه المسألة وحكى بعضهم عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام أنه قال يجيب كل واحد لتعدد السبب.
قال: الخامسة: المعلق بشرط أو صفة
مثل: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} لا يقتضي التكرار لفظا ويقتضيه قياسا.
أما الأول: فلأن ثبوت الحكم مع الصفة أو الشرط يحتمل التكرار وعدمه ولأنه لو قال إن دخلت الدار فأنت طالق لم يتكرر.
وأما الثاني: فلأن الترتيب يفيد العلية فيتكرر الحكم بتكرارها وإنما لم يتكرر الطلاق لعدم اعتبار تعليله.(13/63)
ص -55-…الأمر المعلق بشرط أو صفة هل يقتضي تكرار المأمور به بتكرارهما من قال الامر المطلق يقتضي التكرار فهو هنا أولى ومن قال لا يقتضيه اختلفوا هنا ولا بد من تحرير محل النزاع قبل الكلام فيها فنقول:
قال الآمدي ومن تبعه ما علق المأمور به من الشرط أو الصفة إما أن يكون ثبت كونه علة لوجوب الفعل مثل: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} وقولنا ان كان هذا المانع خمرا فهو حرام فان الحكم يتكرر اتفاقا وان لم يثبت كونه علة بل توقف الحكم عليه من غير تأثير له كالإحصان الذي يتوقف عليه الرجم فهو محل الخلاف انتهى وهو مقتضى كلام ابن برهان في الوجيز ووافق عليه صفي الدين الهندي مع تمسكه للصفة بالسارق والسارقة.
واعلم أنه مناف لكلام الإمام والمصنف ان مقتضى كلامهما أن الخلاف جار مطلقا الا تراهما وقد مثلا للصفة بقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} مع ثبوت كون السرقة علة القطع وكذلك قولهما في الدليل الآتي ان شاء الله تعالى.
الترتيب يفيد العلية فيتكرر بتكررها فعندهما أن المانع هنا مانع لإفادة ترتيب الحكم على الوصف للعلية وينتجه أن يقال في الجمع بين الطريقتين أن الآمدي ومن سلك طريقه فرضوا الكلام مع من يعترف بأن ترتيب الحكم على الوصف يفيد العلية والإمام تكلم في اصل المسالة مع المخالفين في الموضعين وأما ما في شرح هذا الكتاب للاسفرايني من تخصيص محل الخلاف بما إذا كان لكل من الشرط والصفة صلاحية العلية فغير سديد إذا عرفت هذا ففي المسألة مذاهب:
أحدها: أنه لا يقتضي التكرار وهو الصحيح عند الشيخ أبي اسحاق الشيرازي واختاره الآمدي وابن الحاجب.
والثاني: أنه يقتضيه ولم يزد الآمدي على حكاية هذين المذهبين لأن الثالث يخالف لما قرره من تخصيص محل النزاع بما ذكر.
والثالث: مذهب اقتضاه كلام القاضي في التلخيص مختصر التقريب والإرشاد وهو أن المعلق بشرط لا يقتضي التكرار دون المعلق بصفة.(13/64)
ص -56-…قال إمام الحرمين في هذا الكتاب: وهو الذي يضح وارتضاه القاضي.
فإن قلت: هذا مذهب لا يعرف في كتب المتأخرين فما ذلك من كتاب التلخيص على وجوده.
قلت: دل على ذلك أن القاضي لما ذكر أن المعلق بشرط لا يقتضى التكرار وحكى خلاف الخصوم فيه قال ومما ذكروه في هذه المسالة إن قالوا الحكم يتعلق بالعلة والشرط ثم إذا علق بالعلة تكرر بتكررها فكذلك إذا علق بالشرط وهذا الذي ذكروه اجتراء منهم بدعوى مجردة فإننا نقول لهم خلافنا يؤول إلى صيغة غريبة وقضية مفهومة وقد أوضحنا منع إثبات اللغة بالمقاييس ومعظم كلامهم يتردد على القياس فلم قلتم ان الصيغة المبنية على التعليل يضاهيها الصيغة المبنية على الشرط فاكتفت بذلك وسنفرق بين العلة والشرط في أبواب القياس انتهي كلامه وهو صريح فيما ذكرناه وإلا ما كان يلتزم المخالفة في العلة كما فعل الغزالي فانه فرض المسالة في الشرط واختار عدم التكرار ثم أورد من جهة الخصم ان الحكم يتكرر بتكرر العلة والشرط مثلها فان علل الشرع إمارات و أجاب بان العلة إذا كانت شرعية فلا نسلم تكرر الحكم بمجرد إضافة الحكم إليها ما لم تعترف به قرينة التعبد بالقياس.
وهذا المذهب الذي ارتضاه القاضي هو المختار لما سنذكره ان شاء الله تعالى.
المذهب الرابع: واختاره الإمام وبه جزم المصنف أنه لا يقتضيه من جهة اللفظ ويقتضيه من جهة القياس فهنا مقامان:
الأول: أنه لا يفيد لفظا واستدل عليه بوجهين:
أحدهما: أن ثبوت الحكم مع الصفة والشرط يحتمل التكرار ويحتمل عدمه فان اللفظ إنما دل على تعليق شيء على شيء وذلك اعم من تعليقه عليه في كل الصور أو في صورة واحدة والدليل عليه صحة تقسيم ذلك المفهوم إلى هذين القسمين وموود التقسيم مشترك بين القسمين والمشترك بين الشيئين لا إشعار له بواحد منهما فإذا تعلق الشيء على شيء لا يدل على تكرار التعليق(13/65)
ص -57-…واعترض القرافي على هذا بان الخصم قد لا يسلم صحة التقسيم فدعواها مصادرة على المطلوب.
والثاني: أنه لو قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق لم يتكرر الدخول ولو دل عليه لفظا لتكرر كما لو قال لها كلما دخلت ثم إذا لم يدل عليه في الإنشاء فلا يدل عليه في الأمر لأنه إنشاء معلق مثله واقرب من هذا المثال أن يمثل بقول الرجل لوكيله وكلتك في طلاق زوجتي ولا تطلقها إلا إذا دخلت الدار.
المقام الثاني: أنه يفيده من جهة القياس والدليل عليه أن ترتيب الحكم على الشرط أو الصفة يفيد عليه ذلك الشرط وتلك الصفة لذلك الحكم كما ستعرفه إن شاء الله تعالى في كتاب القياس فيلزم أنه يتكرر الحكم بتكرر ذلك لتكرر المعلوم بتكرار علته هكذا قرره هذا المقام شراح الكتاب ولم أر من صرح في كتاب القياس بمساواة ترتيب الحكم على الشرط لترتيب الحكم على الوصف وإنما المذكور هناك ترتيب الحكم على الوصف فقط فإن كان ترتيب الحكم على الشرط مثله فهذا الدليل منقدح الا انا نمنع ذلك ولهذا كان المختار عندنا ما نقلناه عن القاضي من التفرقة بين المعلق بشرط فلا يدل على التكرار والمعلق بوصف فيدل بطريق القياس.
فإن قلت: علل الشرع علامات والشروط علامات فما وجه التفرقة.(13/66)
قلت: لا نسلم أن الشروط علامات بالاعتبار الذي به العلل علامات فان المعنى من كون العلة علامة جعل الشارع إياها علامة وجود الحكم وان كان الحكم صادرا من الشارع ومعلوم ان الشرط ليس علامة بهذا الاعتبار فان وجوده لا يدل على وجود المشروط أصلا وانما الشرط علامة باعتبار الانتفاء فلا يلزم من كونهما علامتين باعتبارين مختلفين اتحاد الحكم سلمنا كونهما علامتين باعتبار واحد لكن بالاعتبار الذي في الشرط لا بالاعتبار الذي في العلة والعلة تتميز عنه حينئذ بالاعتبار الذي فيها فلا يلزم من اشتراكهما في وجهة واحدة من جهة العلامة اشتراكهما في اقتضاء الحكم وتكرره عند تكررهما لجواز أن يكون ذلك من لوازم ما به الامتياز قوله وإنما لم يتكرر(13/67)
ص -58-…جواب عن سؤال مقدر تقديره لو صح ما ذكرتم للزم تكرير وقوع الطلاق المعلق على دخول الدار بتكرر الدخول وليس كذلك والملازمة بينة أجاب قولكم رتب الطلاق على الدخول قلنا مسلم يكون علة قلنا مسلم قولكم فيتكرر قلنا إنما يتكرر التعليل المعتبر وهو تعليل الشارع لا تعليل آحاد الناس فإنما لم يتكرر الوقوع لعدم اعتبار تعليله حتى لو صرح بالتعليل بأن قال طلقتك لأجل دخولك الدار وكانت له امرأة أخرى لا تطلق وان وجدت منها هذه الصفة.
قال: السادسة الأمر لا يفيد الفور خلافا للحنفية ولا التراخي خلافا لقوم وقيل مشترك لنا ما تقدم.
الأمر المطلق هل يفيد الفور بمعنى ان تجب المبادرة عقيبه إلى الإتيان بالمأمور به أما القائل بأنه يفيد التكرار فلا يحتاج إلى قوله أنه يفيد الفور لأنه من ضرورياته وإنما الكلام الآن بين القائلين بأنه لا يفيد التكرار وقد اختلف المسلمون لذلك على مذاهب.
أحدها: أنه لا يفيد الفور ولا يدفعه وهو قول معظم الشافعية ينسب الى الشافعية نفسه قال إمام الحرمين وهو اللائق بتصريحاته في الفقه وإن لم يصرح به في مجموعاته في الأصول وعليه أبو علي وابنه وأبو الحسين واختاره الغزالي والامام واتباعه منهم المصنف والآمدي وابن الحاجب وهو المنقول عن القاضي قال امام الحرمين في البرهان وهذا بديع من قياس مذهبه مع استمساكه بالوقف وتجهيله من لا يراه وهذا الذي قال أنه بديع من مذهب القاضي قال في التلخيص أنه الأصح وقال قطع القاضي رحمه الله بإبطال المصير إلى الوقف في هذا الباب وهو الأصح إذ المصير إلى الوقف في هذا الباب يعود إلى خرق الاجماع أو يلزم ضربا من التناقض.(13/68)
المذهب الثاني: أنه يفيد الفور وبه قالت الحنفية وقد عزى كما ذكر في البرهان إلى أبي حنيفة نفسه وقال ابن برهان في الوجيز لم ينقل عن الشافعي ولا أبي حنيفة في نقل المسالة وانما فروعها تدل على ما نقل عنهما قال وهذا خطأ في نقل المذاهب إذ الفروع تبنى على الأصول لا العكس.(13/69)
ص -59-…قلت وفي هذا الكلام نظر فان المطلع على مذهب إمام إذا استقرأ من كلامه في فروع شيء المصير إلى ما ليس له مأخذ إلا القول بأصل من أصول جزم الاعتقاد بأن ذلك الأصل مختاره ونسبه إليه وهذا صنيع أصحابنا على طبقاتهم يقولون مذهب الشافعي كذا وإنما استنبطوا ذلك من قواعده من غير اطلاع على نصه.
ومنهم: من ينسب إليه القول المخرج مع كونه نص على خلافه وقد أختار هذا المذهب من أصحابنا القاضي أبو حامد المروزي وأبو بكر الصيرفي وهو مذهب داود ومعظم الحنابلة.
والمذهب الثالث: انه يفيد التراخي كذا أطلقه جماعة منهم المصنف وقال الشيخ أبو اسحاق في شرح اللمع وإمام الحرمين في التلخيص والبرهان ان هذا الاطلاق مدخول إذ مقتضاه ان الصيغة المطلقة تقتضي التراخي حتى لو فرض الامتثال على البدار لم يعتبر به وليس هذا معتقد أحد هذا كلامهما ورأيت ابن الصباغ في عدة العالم قال أن من الواقفية في هذه المسالة من قال لا يجوز فعله على الفور لكن قال إن القائل بهذا خالف الاجماع قبله وعلى الجملة هو مذهب ثابت منسوب إلى خرق الإجماع ونقل ابن السمعاني في القواطع القول بأنه على التراخي عن ابن أبي هريرة وأبي بكر القفال وابن خيران وأبي على الطبري صاحب الإفصاح وصححه ثم قال إن معنى قولنا أنه على التراخي أنه ليس على التعجيل قال والجملة أن قوله افعل ليس فيه عندنا دليل إلا على طلب الفعل فحسب من غير تعرض الوقت.
قلت: وعلى هذا التفسير فهذا المذهب هو المذهب الأول بعينه.
والمذهب الرابع: الوقف إما لعدم العلم بمدلوله أو لأنه مشترك بينهما وهو الذي عبر عنه المصنف بقوله وقيل مشترك وكان الأحسن أن يقول وقيل بالوقف ليشمل هذين الاحتمالين على أن صفي الدين الهندي نقل أن منهم من توقف فيه توقف الاشتراك ثم افترقت الواقفية فمن قائل إذا أتى بالمأمور به في أول الوقت كان ممتثلا قطعا وإن أخر عن الوقت الأول لا يقطع بخروجه عن(13/70)
ص -60-…العهدة واختاره إمام الحرمين في البرهان ومن قائل إنه وإن بادر إلى فعله في أول الوقت لا يقطع بكونه ممتثلا وخروجه عن العهدة لجواز إرادة التراخي نقله الآمدي وابن الحاجب وغيرهما.
قوله لنا: أي الدليل على أن الأمر لا يقتضي الفور ما تقدم في الكلام على أنه لا يقتضي التكرار وأشار إلى دليلين.
أحدهما: صحة تقييده بالفور والتراخي من غير تكرير ولا نقض كصحة تقييده بالمرة والمرات من غيرهما.
والثاني: وروده مع الفور وعدمه فيجعل حقيقة في القدر المشترك وهر طلب الإتيان به دفعا للاشتراك والمجاز كما ورد بالتكرار والمرة وعدمهما وجعل حقيقة في القدر المشترك وقد تقدم الكلام في هذين الدليلين مبسوطا وتقدم دليل ثالث لا يأتي هنا.
قال: قيل: أنه تعالى ذم إبليس على الترك ولولم يقتض الفور لما استحق الذم.
قلنا: لعل هناك قرينة عينت الفورية قيل سارعوا يوجب الفورية.
قلنا: فمنه لا من الأمر قيل لو جاز التأخير فإما مع بدل فيسقط أولا معه فلا يكون واجبا وأيضا إما أن يكون للتأخير أمد وهو إذا ظن فواته وهو غير شامل لأن كثيرا من الشباب يموتون فجأة أولا فلا يكون واجبا.
قلنا: منقوض بما إذا صرح به قيل النهي يفيد الفور فكذا الأمر. قلنا: يفيد التكرار.
احتج القائلون بالفور بأوجه:
أحدها: قوله تعالى لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}1 عابه على كونه لم يأت في الحال بالمأمور به وهو يدل على أنه واجب الإتيان بالفعل حين أمر به إذ لو لم يجب لكان لإبليس أن يقول ما أوجبت على في الحال فكيف استحق الذم بتركه في الحال أجاب تبعا للإمام بأنه يحتمل ان يكون ذلك الأمر مقرونا بما يدل على أنه على الفور.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية 12.(13/71)
ص -61-…قال الهندي وهو ضعيف لأن ظاهره يدل على ترتيب الذم بمجرد ترك المأمور به فتخصيصه بأمر آخر غير خلاف للظاهر.
قال: وهذا وإن كان لازما على كل من يجب بهذا الجواب إلا أن الملام فيه على الإمام اشد لأنه أجاب عن هذا الجواب لما اعترض به على استدلاله بهذا النص على ان الآمر للوجوب والمصنف تبعه في الموضعين قال الهندي ثم.
والأولى: أن يقال في جوابه أن هذا الامر كان مقرونا بما يدل على أنه للفور بدليل قوله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}1 فانه جعل الامر بالسجود جزاء لشرط التسوية والنفخ والجزاء يحصل عقيب الشرط وإنما أفاد الأمر هنا الفور بهذه القرينة وهذا الجواب إن صح فلك أن تقول هذه القرينة هي التي أوجبت للإمام أن يقول هنا لعل قرينة أوجبت وأما في مسالة الأمر هل يقتضي الوجوب فلا قرينة فكان ما ادعاه الإمام من القرينة موجودا دون ما ادعاه الخصم ثم والحاصل أن كلا منهما ادعى قرينة والاصل عدمها وتأيدت دعوى الإمام والمصنف بهذه الآية فصح ما قالاه وفي صحة الجواب نظر من جهة أنه قد يمنع أن الجزاء يحصل عقيب الشرط وليس هنا ما يتخيل دلالته عليه إلا الفاء في قوله: {فَقَعُوا} وهي لا تدل عليه إلا إن كانت للتعقيب وقد نص النجاة أو على أنها إذا وقعت جوابا للشرط لا تقتضي تعقيدا.
وقال بعضهم: إن في الآية قرينة أخرى وهي فعل الأمر في قوله: {فَقَعُوا} إذ هو العامل في إذا لأنها ظرف والعامل فيها جوابها فصار التقدير: {فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} وقت تسويتي إياه وهذا صحيح على رأي الجمهور القائلين بأن العامل في إذا جوابهما ولكن قال بعض البصريين أن العامل فيها ما يليها حكاه شيخنا أبو حيان في البحر المحيط عند قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا} وهو متجه في هذه الآية لأن ما بعد الفاء لا يجوز أن يعمل فيما قبلها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(13/72)
1 سورة ص آية 72.(13/73)
ص -62-…فكيف يتجه في مثل: {فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} أن يقال العامل في إذا جوابها بل هذا وأمثاله تصلح اعتراضا على الجمهور القائلين بهذه المقالة.
الوجه الثاني قوله: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}1 فانه يوجب أن الأمر للفور لأنه بالمسارعة وهي التعجيل بالمأمور به والأمر للوجوب والمسارعة واجبة ولا معنى لان الأمر يقتضي الفور الا ذلك وحمل المغفرة على حقيقتها في الآية ممتنع لان المغفرة من فعل الله تعالى والعبد لا يسارع إلى فعله محمول على المجاز وهو المأمور به وفي معنى هذه الآية قوله: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} وأجاب بأن الفورية لم تستفد من الأمر بل من قوله سارعوا يعني من جوهر اللفظ لأن لفظ المسارعة دال عليه كيف ما تصرف بل لمباحث أن يقلب هذا الدليل ويستدل به على عدم الفور لأن المسارعة مباشرة الفعل في وقت مع جواز الإتيان به في غيره ولقائل أن يقول لا نسلم تفسير المصارعة بما ذكرتم بل المسارعة عبارة عن التعجيل بالفعل المطلوب كما تقول سارعت إلى إنقاذ الغريق وإن كانت المبادرة إلي ذلك واجبة وذلك أعم من أن يجوز مع ذلك فعله في وقت آخر أم لا ثم قولكم الفورية لم تستفد من الأمر بل من مادة سارعوا فيه تسليم لوجوب فعل المأمورات الشرعية على الفور بما دل على ذلك من قوله سارعوا فحاصل ما أجبتم به أنكم سلمتم ثبوت الفور في المأمورات ولكن قلتم ان ذلك ليس من مدلول الامر بل من دليل منفصل وهذا يحصل به معظم مقصود الخصم أن الفرض الأعظم إنما هو الأوامر الشرعية.
وقد يقال: دلالته على وجوب المسارعة إلى أسباب المغفرة بطريق الاقتضاء فلا يلزم منه وجوب المسارعة إلى جميع أسباب المغفرة بناء على المقتضى وهو ما اضمر ضرورة صدق المتكلم لا عموم له فيختص ذلك بما اتفق على وجوب تعجيله ولا يعم كل مأمور.
الثالث: لو لم يكن الأمر للفور لكان التأخير جائزا وجوازه إما مع بدل أو لا معه والضمان باطلان:(13/74)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية 123.(13/75)
ص -63-…أما الأول فلأن البدل هو الذي يقوم مقام المبدل من كل الوجوه فإذا أتى بهذا البدل وجب أن يسقط عنه هذا التكليف ليس كذلك بالاتفاق.
وأما الثاني فلأن ذلك يمنع من كونه واجبا لأنه لا يفهم من قولنا ليس بواجب إلا أنه يجوز تركه من غير بدل.
الرابع: أنه لم يكن الفور وجاز التأخير لكان إما إلى أمد أي غاية معينة بحيث إذا وصل المكلف إليها لا يجوز له التأخر عنها أو لا يكون له أمد أي بأن يجوز له التأخير أبدا والقسمان باطلان فالقول بجواز التأخير باطل.
أما الأول: فلأن ذلك الأمد لا بد له من أمارة يعرفه المكلف بها لئلا يلزم وقوع التكليف بما لا يطاق ولذلك لم يكن للخصم أن يقول يجوز أن يكون الأمد غاية مجهولة عند المكلف لأنه يصير مكلفا بأن لا يؤخر الفعل عن وقت معين مع عدم معرفته به وهو تكليف بما لا يطاق وإذا كان لا بد له من أمارة يعرفها المكلف فتلك الأمارة هي بالاتفاق ظن الفوات على تقرير الترك إما لكبر السن أو الفرض الشديد وذلك الأمر غير شامل للمكلفين لأن كثيرا من الناس يموتون فجأة ويقتلون بغتة من غير حصول إمارات للموت فيلزم أن لا يشملهم الأمر وليس كذلك.
وأما الثاني: فلأن التأخير أبدا يجوز الترك أبدا وتجويز أبدا ينافي الوجوب وأجاب عن هذين الوجهين بالنقض بما إذا صرح للمكلف بجواز التأخير مثل أن يقال له أوجبت عليك أن تفعل كذا في أي وقت شئت أو ولك التأخير فإن هذين الوجهين يطردان فيه مع جواز التأخير بالإتفاق.
قال الإمام: فكل ما جعلوه عذرا في هذه الصورة فهو عندنا عما ذكروه وسنذكر ما تحصل به المناقشة في هذا الجواب إن شاء الله تعالى وأجيب عنه أيضا بالتزام أن الأمد غير معين ولا يلزم التكليف بما لا يطاق لأنه إنما يلزم إذ لو لم يجز الإتيان به على الفور أما إذا جاز فعله على الفور فلا يلزم تمكن المكلف من الامتثال في الحال والتكليف بالمحال هو التكليف بالمتعذر امتثاله من كل وجه.(13/76)
ص -64-…الخامس: أن النهي يفيد الفور فكذا الأمر بالقياس عليه بجامع الطلب فيهما وأجاب بأن النهي يفيد التكرار ويلزم من ذلك وقت الحال فأفاد النهي الفور بضرورة دخول وقت الحال في الأوقات لا لذاته وهذا الجواب قد تقدم مثله وقد ناقضه بعد هنا حيث يقول النهي كالأمر في التكرار والفور فكان الأولى ان يجيب أما بأن النهي لا يفيد الفور أو بأن هذا قياس في اللغة فلا تقبل وقد استدل القائلون بالفور أيضا بوجه سادس لم يذكره في الكتاب وهو طريقة الاحتياط فانا اجمعنا على أنه لو فعل عقيبه وقع الموقع ولا عبرة بالمذهب الضعيف المتقدم إن ثبت لمصادمته للإجماع.
واختلفا في أنه فعل بعد ذلك هل يخرج عن العهدة فطريقة الإحتياط تقضي وجوب الإتيان به على الفور ليحصل الخروج عن العهدة بيقين.
وأجاب الإمام: بأنه ينتقض بقوله افعل في أي وقت شئت واعترض صاحب التحصيل على هذا الجواب بأن طريقة الاحتياط غير منقوضة إذ لا خوف ثمة قال الشيخ شمس الدين بن الجزري في شرح أسئلة التحصيل1 إنما قال ذلك لوجهين:
أحدهما: أن الكلام فيما إذا كان الأمر مطلقا واحتمل أن يكون المراد الفور.
ثانيهما: أن الفعل على تقدير قوله: افعل في أي وقت شئت لا خرق في قول على الفور ولا على التراخي حتى تنتقض طريقة الاحتياط قال واعلم أن الوجه الأول من وجهي الاعتراض على جواب الإمام في طريقة الاحتياط لم يذكره صاحب التحصيل فعلى هذا ينقدح مناقشة ترد كلامه فيقول إما أن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الإمام الجزري تقدمت ترجمته في الجزء الأول ومن كتبه أجوبة على أسئلة التحصيل في أصول الفقه – مفقود- والتحصيل كتاب ملخص لكتاب المحصول للإمام فخر الدين الرازي – ألفه سراج الدين محمود بن أبي بكر الأرموي المتوفى سنة 682هـ. ووضع فيه أسئلة واعتراضات على الإمام الرازي وجاء شمس الدين الجزري المتوفى 711هـ فشرح هذه الأسئلة وأجاب عنها.(13/77)
البدر السافرص176.الدرر الكامنة 5/67 ,بغية الوعاء 1/278, معجم المؤلفين 12/138.(13/78)
ص -65-…يريد أن طريقة الإحتياط غير منقوضة على تقدير اعتبار قوله في أي وقت شئت أو لا فإن أراد الأول لم يبق احتياط ضرورة استواء الفعل على الفور والتأخير فلا يقال طريقة الاحتياط باقية وإن أراد الثاني فليس الجواب أن طريقة الاحتياط غير منقوضة إذ لا خوف ثمنه ضرورة قيام الخوف على تقدير عدم اعتبار ذلك الفور بل الجواب أن ذلك بقوله افعل في أي وقت شئت والكلام في الأمر بمجرده قال والإشارة بقوله ثمة إلى الصورة التي أوردها الإمام وهي الصورة الأخيرة خارج عن وضع اللغة فالأولى به أن يقول: ألا خوف هنا.(13/79)
واعلم أن المنتصر لكلام الإمام أن يقول: مراد الإمام بقوله افعل في أي وقت شئت ان هذا القول لا يعد منافيا لقوله افعل بل يكون موافقا لمقتضاه فلا يتصور طريقة الإحتياط إلا إذا كان الفور راجحا أو مساويا أما إذا كان الراجح التوسعة فلا تأتي طريقة الاحتياط وإلا فالإمام ما يجهل أن قوله افعل في أي وقت شئت غير قوله افعل من غير ضميمة هذا كله كلام ابن الجزري وفيه نظر يحتاج إلى تطويل وقال الترمذي التمسك على الفور بطريقة الاحتياط ضعيف لأن الاحتياط ليس من أمارات الوضع ولا مقتضيات الوجوب بل هو من باب الأصلح ثم قوله افعل الآن يعد تأكيدا وفي أي وقت شئت يعد تخفيفا ومسامحة قال القرافي ويرد عليه أن ههنا قاعدة خفية عادة الفضلاء يوردون بسبب إهمالها سؤالا فيقولون في كلما يقول المستدل فيه هذا ارجح فيجب المصير إليه ان الرجحان يقتضي أنه أحسن أما أنه المتعين فلا الندب هو اللازم في هذه المواطن التي فيها الرجحان بالاحتياط ونحو ذلك أن فعل الأحسن مستحب ولا يصل إلى الوجوب قال وأهملت قاعدة وهي إن الرجحان إن كان في أفعال المكلفين فكما قالوه وإن كان في مدارك المجتهدين وأدلة المناظرين اقتضى ذلك الوجوب والتحتم والروم بل العقد الاجماع على أن المجتهد عليه اتباع الراجح من غير رخصة في تركه بخلاف الراجح في حق المكلف إنما هو مندوب وكذلك الراجح في الاجتهاد في طلب القبلة وطهورة الماء من باب الوجوب إجماعا ومنه قيد المتعلقات وأروش الجنايات قال فتأمل هذه القاعدة فهي ظاهرة وهي خفية وبها يظهر بطلان(13/80)
ص -66-…قوله: إن الإحتياط ليس من مقتضيات الوجوب لأن هذا رجحان في ذلك لا في فعل المكلف وأما قوله افعل الآن تأكيد وفي أي وقت مسامحة فهو مصادرة على مذهب الخصم بغير دليل هذا كلام القرافي والقاعدة التي ذكرها من وجوب اتباع الراجح على المجتهد صحيحة لكن الكلام في أن الأخذ بالاحتياط هل هو راجح ولو صح ما قاله لكنا نلزم المجتهدين بالأخذ بجميع المآخذ وإن لم يثبت عندهم صحتها ونقول للشافعي يجب عليك العمل بالاستحسان احتياطا فالمجتهد الناظر في أن الأمر هل يقتضي الفور ما لم يقم عنده دليل على ذلك ليس له أن يقول بذلك للاحتياط نعم المكلف الذي توجه الأمر نحوه يستحب له المبادرة احتياطا أو يجب عليه بحسب ما يؤدي إليه قواعد الاحتياط وهذا قد قاله هو حيث قال إن كان في أفعال المكلفين فكما ذكروه وما نحن فيه من أفعال المكلفين وأحسن من دليل الاحتياط في الدلالة على أن الأمر يقتضي الفور أن تقول من توجه الأمر المطلق نحوه فقد تحققنا وجوب الفعل عليه وشككنا هل يخرج من العهدة بالتراضي مع القطع بأنه يخرج عنها بالمبادرة لأنه مأمور بأمر فلا يخرج عن عهدته الا بيقين وهذا إنما تم إذا قطعنا بأن المبادرة خارج عن العهدة وفيه ما سلف ثم أنه أيضا يرد في التكرار فيقال للمستدل به يلزمك بهذه الطريقة أن تقول أن الأمر للتكرار إلا أن تبين دليلا قائما على نفي التكرار بخصوصه.
فائدة: القبول في الوكالة بمعنى الرضا وعدم الرد معتبر بلا خلاف ولا يجب فيه التعجيل بحال قال الرافعي ولو خرج على أن الأمر هل يقتضي الفور لما بعد وأن شرطنا القبول باللفظ ففي اشتراط الفور خلاف مشهور يتجه تخريجه على هذه القاعدة فيما إذا كانت للصيغة صيغة أمر مثل بع واشتر وما أشبه ذلك.
قال: الفصل الثالث: في النواهي وفيه مسائل الأولى النهي يقتضي التحريم لقوله تعالى: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}.(13/81)
لم يذكر المصنف حد النهي لكونه معلوما من حد الأمر فكل ما قيل في حد الأمر من تعريف ومختار فقد قيل مقابلة في النهي وصيغة النهي عند القائلين:(13/82)
ص -67-…بالصيغة ترد لسبعة محامل: التحريم مثل: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} والتنزيه مثل قوله عليه السلام: "ولا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول" والدعاء: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} والإرشاد: {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} وبيان العاقبة: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ} والتحقير: {لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} واليأس: {لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ}.
والكلام أن صيغة النهي هل هي حقيقة التحريم أو الكراهة أن مشتركة بينهما أو موقوفة على ما سبق في الأمر فالخلاف في اكثر المسائل على وزان الخلاف في مقابلتها من مسائل النهي والمآخذ كالمآخذ وقد سبق أن الأمر المجرد عن القرينة يقتضي الوجوب فالمختار ان النهي المجرد عن القرينة يقتضي التحريم.(13/83)
واعلم أنه إذا ثبت أن الامر للوجوب والنهي نقيضه فلا يثبت ان النهي للتحريم بل أنه ليس للوجوب لأن نقيض الوجوب لا وجوب ولما كان في الرأي المختار زيادة وهو ان النهي للتحريم استدل عليه بقوله تعالى: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ووجه الاحتجاج انه أمر بالانتهاء عن المنهى والأمر للوجوب فكان الانتهاء عن المنهى واجبا وذلك هو المراد من قولنا النهي للتحريم ولقائل أن يقول هذا أولا لا يتم إلا بعد تسليم أن الأمر للوجوب وثانيا أن التحريم حينئذ لا يكون مستفادا من صيغة النهي بل بما دل من خارج وهو قوله: {فَانْتَهُوا} بل قد يقال لو كان النهي للتحريم لما احتيج إلى الأمر باجتناب المنهي عنه فكان الأمر بذلك دليلا على أن التحريم غير مكتسب منه وبهذا يظهر لك أن التحريم مستفاد من الشرع لا من اللغة ولم ترد الصيغة المطلقة من حيث اللغة على تضمن جزم الاقتضاء في الإنكفاف عن المنهي عنه كما قدمناه في الأمر إذا قلنا الصيغة المطلقة تتضمن جزم الاقتضاء في المأمور به وهذا هو مذهب إمام الحرمين الذي اخترناه كما علمت ثم قال:
وهو كالأمر في التكرار والفور.
حكم النهي حكم الأمر في عدم دلالته على التكرار وعلى الفور وقد اختار(13/84)
ص -68-…الإمام أن النهي لا يقتضي التكرار مع قوله في مسألة الفور أن النهي يقتضه وإبهامه عدم الخلاف فيه ولذلك وقع للمصنف كما نبهنا عليه واستدل الإمام على أن النهي لا يقتضي التكرار بأنه يرد للمرة كقول الطبيب للمريض الذي يشرب الدواء لا تشرب الماء ولا تأكل اللحم أي في هذه الساعة ويرد للتكرار مثل: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} فوجب جعله حقيقة في القدر المشترك وأما الآمدي فإنه قال اتفق العقلاء على أن النهي يقتضي الانتهاء عن المنهى عنه وإنما خلافا لبعض الشاذين وزعم ابن برهان كما نقله عنه الاصفهاني انعقاد الاجماع عليه وهذا ما جزم به الشيخ أبو اسحاق في شرح اللمع وهو المختار عند ابن الحاجب ونحن نوافق القائلين بأنه التكرار في المعنى دون العبارة فتقول إذا قلت مثلا لا تضرب فلا ريب أنك منعت المكلف من إدخال ماهية الضرب في الوجود ولا يحصل ذلك إلا بالإمتناع عن إدخال كل الأفراد ولا يتحقق الإمتثال إلا بالإمتناع فكان التكرار من لوازم الإمتثال لا من مدلول اللفظ وينبغي أن يرد كلام القائل أنه يقتضي التكرار إلى ما قررناه وما استدل به الإمام مردود لأن قول الطبيب للمريض لا تأكل اللحم ولا تشرب الماء إنما جاء فيه التكرار لقرينة المرض والكلام في النهي المجرد وكان يمكننا أن نحمل كلام الإمام على ما قررناه لولا الإستدلال بهذا ثم إن المصنف اختار ان النهي لا يقتضي الفور جريا على قاعدته ونحن لا نختار ذلك إذ من ضرورات ما قررناه وجوب الترك على الفور.
قال: الثانية النهي شرعا يدل على الفساد في العبارات
لأن المنهي بعينه لا يكون مأمورا به وفي المعاملات إذا رجح إلى نفس العقد أو أمر داخل فيه أو لازم له كبيع الحصاة والملاقيح والربا لأن الأولين تمسكوا على فساد الربا بمجرد النهي من غير نكير وإن رجع إلى أمر مقارن كالبيع وقت النداء فلا.
هذه المسألة في النهي عن الشيء هل يدل على فساده وقد اختلفوا فيه على مذاهب.(13/85)
أحدها: أنه يدل عليه مطلقا قال الأصفهاني ونقله أبو بكر بن فورك الأصبهاني عن أكثر أصحاب الشافعي وأبي حنيفة.(13/86)
ص -69-…قلت: ونقله القاضي في التخليص لإمام الحرمين عن الجمهور من أصحاب الشافعي ومالك وأبى حنيفة وأهل الظاهر وطائفة من المتكلمين وقال ابن السمعاني أنه الظاهر من مذهب الشافعي وأن عليه اكثر الأصحاب.
والثاني: أنه لا يدل عليه ونقله في مختصر التقريب عن جمهور المتكلمين والامام عن اكثر الفقهاء قال الشيخ أبو اسحاق وللشافعي كلام يدل عليه.
والثالث: أنه يدل على الفساد في العبادات دون المعاملات وهو مذهب أبي الحسين واختاره الإمام وبعض اتباعه.
والرابع: أن النهي إن كان يختص بالمنهي عنه كالصلاة في السترة النجسة دل على فساده وإن كان لا يختص بالمنهي عنه كالصلاة في الدار المغصوبة والثوب الحرير والبيع وقت النداء فلا يدل على الفساد حكاه الشيخ أبو اسحاق في شرح اللمع عن بعض أصحابنا.
والخامس: وهو اختيار المصنف واليه يرجع س م جمع من المحققين أنه يدل على فساده في العبادات سواء نهى عنها لعينها أم لأمر قارئها لأن الشيء الواحد يمتنع أن يكون مأمورا به منهيا عنه كالصلاة المنهي عنها مثلا فإنها لو صحت لوقعت مأمورا بها أمر ندب لعموم الدلائل الطالبة للعبادات والآمر بها يقتضي طلب فعلها والنهي عنها يقتضي طلب تركها والجمع بينهما غير ممكن وأما المعاملات فالنهي أما أن يرجع إلى نفس العقد أو إلى أمر داخل فيه أو خارج عنه لازم له أو إلى أمر مقارن غير لازم له هذه أقسام.
أولها: بأن يرجع إلى العقد فيبطل أيضا وذلك كبيع الحصاة وهو أن قول: بعتك من هذه الأثواب مما وقعت عليه الحصاة التي أرميها أو بعتك هذه الأرض من هنا ما انتهت إليه هذه الحصاة وقيل بيع الحصاة أن يقول بيعك على أنك بالخيار إلى أن ارمي الحصاة وقيل أن يجعلا نفس الرمي بيعا فتقول إذا رميت هذه الحصاة فهذا التوكل مبيع بنك بكذا وعلى الصور كلها البيع باطل.(13/87)
وثانيها: أن يرجع إلى أمر داخل فيه فيبطل أيضا وذلك كبيع الملاقيح وهي ما في بطون الأمهات من الأجنة فإن النهي راجع إلى نفس المبيع الذي(13/88)
ص -70-…هو ركن من أركان العقد والركن داخل في الماهية فيكون راجعا إلى أمر داخل في الماهية.
وثالثها: أن يرجع إلى أمر خارج عنه لازم له فيفسد أيضا وذلك كالربا فإن النهي فيه راجع إلى أمر خارج عن العقد أما في ربا النسيئة والتفوق قبل التقابض فكون النهي فيه لمعنى خارج ظاهر وأما في ربا الفضل فلأن النهي عن بيع درهم بدرهمين إنما هو للزيادة وهو معنى خارج عن نفس العقد لأن المعقود عليه من حيث هو قال للبيع وكونه زائدا أم ناقصا من جملة أوصافه واحتج المصنف على أنه يدل على الفساد بأن الأولين تمسكوا على فساد الربا بمجرد النهي من غير تكبر عليهم من أحد فكان ذلك إجماعا ولك أن تقول هذا سكوتي وليس عند المصنف بإجماع ولا حجة فكيف يستقيم منه الإحتجاج به.
ورابعها: أن يرجع إلى أمر مقارن للعقد غير لازم له في جميع الصور وذلك كالنهي عن البيع وقت نداء الجمعة فإنه راجع إلى أمر خارج عن العقد وهو تفويت صلاة الجمعة لا لخصوص البيع بدليل أن جميع الأعمال المفوتة للصلاة كذلك والتفويت أمر مقارن غير لازم فهذا القسم لا يدل على الفساد فقد عرفت أن جميع الاقسام سوى هذا عند المصنف تدل على الفساد اختلفوا فمن قائل يدل شرعا لا لغة وهو اختيار المصنف حيث قال يدل شرعا فافهم ذلك لكن دليله هذا الذي قررناه إنما يدل على الفساد من حيث هو وأما كونه من جهة الشرع فلا يدل وقال قوم يدل لغة وقال ابن السمعاني وأما القائلون بأنه لا يدل على الفساد فافترقوا فمن قائل يدل على الصحة ونقله أبو زيد عن أبي حنيفة ومحمد ومن قائل لا يدل وقوله في الكتاب بعينه هو بالباء الموحدة من تحت أي بنفسه وهو متعلق بيكون والله اعلم.
قال: الثالثة: مقتضى النهي فعل الضد
لأن العدم غير مقدور وقال: أبو هاشم: من دعي إلى زنا فلم يفعل مدح قلنا: المدح على الكف.(13/89)
هذه المسألة في بيان مقتضى النهي فالمطلوب عندنا بالنهي فعل ضد المنهى عنه فإذا قال لا يتحرك فمعناه ما يضاد الحركة وعند أبي هاشم هو نفس أن(13/90)
ص -71-…لا تفعل وهو عدم الحركة في هذا المثال وقد وافقه بعض المتكلمين وتقله التبريزي عن الغزالي وأما قول إمام الحرمين في الرد على الكعبي في مسألة المباح الفرض من النهي عن الزنا أن لا يكون ضد من أضداده فلا ينبغي أن يفهم منه موافقة أبي هاشم بل هو حق لا شك فيه والفرق بينه وبين رأي أبي هاشم أن قولها الفرض يعني به المقصود من التكليف ولم يقل انه المكلف به كما قال أبو هاشم والمكلف به هو المحصل لذلك الغرض فالغرض هو غاية الشيء الذي طلب لأجلها واحتج المصنف على ما ذهب إليه بأن النهي تكليف والتكليف إنما يرد بما كان مقدورا للمكلف والعدم الأصلي يمتنع أن يكون مقدورا للمكلف وذلك لأن المقدور ما للقدرة فيه تأثير ما والعدم الصرف يستحيل أن يكون أثرا للقدرة وبتقدير ان يكون العدم أثرا يمكن إسناده إلى القدرة لكن العدم الأصلي لا يمكن إسناده إلى القدرة لان الحاصل لا يمكن تحصيله ثانيا وإذا تقرر هذا فمتعلق النهي أمر وجودي ينافي المنهي عنه وهو المطلوب وهذا الدليل متوقف على قاعدة وهي ان اللغات لم يوضع الطلب فيها الا للمقدور دون المعجوز عنه ونحن وان قلنا بجواز تكليف ما لا يطاق فإنما نقول به في أحكام الربوبية لا في الموضوعات اللغوية لتحصيل المقاصد العادية والمحال لا يحصل عادة واعترض على هذا الدليل بأنكم ان عنيتم بالقدرة ماله اثر يستند ذلك إليه فلا نسلم ان التكليف يعتمد هذه القدرة بل ذلك من الفعل واما في الترك فلا وان عنيتم بالقدرة ما يجده من نفسه كل أحد وهو ان سليم الأعضاء القوي يدرك من نفسه انه متى أراد الفعل فعل ومتى أراد الترك ترك ويجد من نفسه التمكن فنحن نسلم ذلك ونمنع انه غير قادر بهذا الاعتبار واعترض أيضا بأن ترك الزنا مثلا ليس بعد محض وانما هو عدم مضاف فيكون مقدورا واحتج أبو هاشم بأن من دعي إلى الزنا فلم يفعله فان العقلاء يمدحونه على أنه لم يزن من غير ان يخطر ببالهم فعل ضد الزنا فعلمنا أن هذا العدم(13/91)
يصلح أن يكون متعلق التكليف وأجاب المصنف بأن المدح ليس على شيء لا يكون في وسعه والعدم الأصلي يمتنع أن يكون في وسعه وطاقته كما عرفت وإنما يمدح على كفه عن ذلك الفعل وذلك الكف أمر(13/92)
ص -72-…وجودي وهو فعل ضد الزنا وإلى هذا أشار بقوله قلنا على الكف أي المدح على فعل الكف هذا شرح ما ذكره ونختم المسألة بفائدتين.
أحدهما: فقد عرفت ان الكف فعل على المختار وفي فروع الطلاق عن الرافعي عن القفال لو قال ان فعلت ما ليس لله فيه رضى فأنت طالق فتركت صلاة أو صوما لا تطلق لأنه ينبغي أنه ترك وليس بفعل فلو سرقت أو زنت طلقت الثانية وهي المقصود الأهم قد يقال ما الفرق بين هذه المسألة التي انتهينا منها وبين المسألة المتقدمة في أن النهي عن الشيء هل هو أمر بقصده وتقرير السؤال أنك قد علمت أن الجمهور قالوا المطلوب بالنهي فعل عند المنهى عنه أي الكف عنه وقال أبو هاشم إغفاء الفعل واختلفوا أيضا في النهي عن الشيء هل هو أمر بضده كما سلف في مكانه فإذا قيل معنى قولنا النهي عن الشيء أمر بضده هو ان مطلوب النهي فعل الضد وهو أحد القولين في المسالة الأولى ومعنى انه ليس أمرا بضده هو ان المطلوب انتقاء المنهي عنه وهو القول الثاني فالمسألتان حينئذ واحدة وإلا فما الفرق قلنا قد كنا وعدنا في الكلام على تلك المسألة بالجواب عن هذا السؤال ضيق المحل هناك عما لورده هنا وقد أجيب بأوجه.
أحدها: أن الكلام في تلك المسألة بحث لفظي وفي هذه معنوي ذكره الأصفهاني في شارح المحصول.
والثاني: أن قولنا: النهي عن الشيء أمر بضده بحث في المتعلقات بكسر اللام فإن النهي فنعلق بالمنهي عنه والأمر متعلق بأمور وقولنا المطلوب بالنهي فعل ضد المنهي عنه بحث في المتعلقات بفتح اللام.
والثالث: أن البحث في تلك المسألة في دلالة الالتزام على المنهى عنه فتقول متى نهى عن الشيء مطابقة دلت على طلب ضده التزاما والبحث في هذه في دلالة المطابقة ما مدلولها المطابق هل العدم أو هذه ذكرهما القرافي.
وأعلم أنه قد وقع النظر في هذا السؤال وهذه الأجوبة عندي غير مرة(13/93)
ص -73-…وطال الحجاج والذي قلته انا في مفرق أنه إذا انهي عن شيء كالزنا مثلا فهناك ثلاثة أمور.
أحدها: انتفاء الزنا.
والثاني: الكف.
والثالث: فعل عند من أضداده لا يتم الكف أو الانتفاء الا به كالوطىء المباح أو غيره مما لا يجامع الزنا في آن واحد إذا تقرر ذلك فنقول كون المطلوب في النهي أو الانتفاء هو مسالة أبي هاشم والخلاف فيها قد ينبني على أن شرط المطلوب الإمكان أم لا وعلى ان الانتفاء مقدور أم لا وهما مسألتان مختلف فيهما فان قلنا ليس من شرط المطلوب الإمكان جاز أن يكون متعلق النهي الانتفاء كرأي أبى هاشم وان قلنا شرط التكليف الإمكان وان الانتفاء مقدور فكذلك ايضا وإلا يقين ان يكون المطلوب في النهي هو الكف.
واما كون النهي يقتضي الامر بضده أو فمعناه ان طلب الكف عن المنهي عنه أو طلب انتفائه على اختلاف القولين:
هل يستلزم الأمر بضده الذي لا يتم الكف أو الانتفاء الا به كما لوطيء المباح مثلا أم لا وهذه هي المسالة الأخرى والخلاف فيها مبني على ان ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب لا على ما أثبتت عليه المسألة الأولى فالمسالتان مختلفتان ليست إحداهما عين الأخرى ولا مستلزمه لها ليس القولان القولين فإن القائلين بأن مطلوب أمر بالضد الذي هو لا يتم الكف الا به أمر وكذلك القائلون بان مطلوب النهي الذي انتفاء الفعل ويمكن ان يخلفوا في ان طلب الانتفاء هل هو أمر بالضد الذي لا يتم انتفاء الفعل الا به هذا فرعنا على ان النهي عن الشيء يستلزم الأمر بضده.
أما إذا فرعنا على ان النهي نفس الأمر بالضد وأريد بالضد الكف أو الانتفاء فهي غيرها ايضا لان خلاف مسالة أبى هاشم هو في ان مطلوب النهي هل هو الكف أو الانتفاء وخلاف هذه في ان هذا النهي الذي هو طلب الانتفاء أو الكف أمر أم لا نعم الخلاف في هذه على هذا التفريع مرتب على الخلاف في مسالة أبى هاشم حتى إذا قلنا بمذهب أبى هاشم لم يكن النهي أمرا(13/94)
ص -74-…بلا خلاف لان الامر طلب فعل لا طلب انتفاء اتفاقا وإذا قلنا بمذهب غير أبى هاشم أمكن الخلاف في ان النهي الذي هو طلب الكف أمر بذلك الكف أم لا لأن الكف فعل لكن يلزم القائلين بأن النهي أمر بالكف ان يكون النهي نوعا من الامر وان فرعنا على ان النهي عن الشيء نفس الامر بضده لكن أريد بالضد ما لا يتم الكف أو الانتفاء الا به كالوطء المباح مثلا صارت المسألتان واحدة الا ان المبحوث عنه في مسألة أبى هاشم هو ان مطلوب النهي الكف أو الانتفاء والمبحوث عنه في ان مطلوب النهي فعل الضد الذي لا يتم الكف أو الانتفاء الا به أم لا ويتلخص من البحثين ان في المسألة حينئذ ثلاثة مذاهب:
أحدها: مذهب أبى هاشم:
الثاني: أن مطلوب النهي هو الكف:
الثالث: ان المقصود في النهي فعل ضد ليس بكف ولا انتفاء والله اعلم.
ويتضح به ما قررناه من الفرق بأن الكف فعل اعم من جميع الأضداد لأنه لا ضد الا وهو مشتمل على الكف فإذا قلنا في هذه المسألة المطلوب بالنهي الكف أوردنا الضد الأعم.
وقولنا: في المسألة الأخرى النهي عن الشيء أمر بأحد أضداده المراد به الضد الخاص الذي لا يتم الكف أو الانتفاء إلا به ويكون من نهى عن شيء حينئذ عند القائل بان النهي عن الشيء أمر بضده مأمورا بشيئين اعم وأخص الكف وفعل يحصل في ضمنه الكف فالمنهي عن الزنا مأمور بالكف عنه وبفعل يشتمل على ذلك الكف ويلزم على ذلك الكف ويلزم على هذا ان يثاب على شيئين الأعم والأخص لتعلق الأمر بهما وان يصح نذره فلو قال لله على ان افعل فلا يضاد الزنا وهو الفعل الفعلاني وعين فعلا لم يطلبه الشرع بخصوصه كالنوم مثلا لزمه الوفاء لكونه مأمورا به في ضمن النهي عن الزنا هذا ما كنت اقرره في الفرق ثم حضر عندي في الحلقة بعض الفضلاء وحصل البحث في هذا الجواب وفي الأجوبة المتقدمة اعني جواب شارح وجواب(13/95)
ص -75-…القرافي وأنها على هي صحيحة فكتبت أسأل والدي رحمه الله عن السؤال من اصله وذكرت الأجوبة وانه هل يحصل الجواب بشيء منها وهل يمكن ان يقال في الجواب هذا الوجه الرابع الذي قررته وانه هل يمكن الاعتراض على هذا الجواب الرابع بأن الكف على الزنا مثلا وإذا كان فعلا يغاير الزنا كان ضدا له ويكون حينئذ أخص من مطلق ضده فلا يحسن.
أولا: هناك ثلاثة أمور الانتفاء والكف وفعل الضد لان الكف حينئذ فعل ضد والمغايرة بينهما مغايرة العام والخاص أو يقال الكف اعم لان كل فعل غاير الزنا فقد اشتمل على الكف عن الزنا أو يقال هما متباينان وإذا لم يثبت انهما متباينان وكانت مغايرتهما مغايرة العام والخاص انقدح الاعتراض على هذا الجواب.(13/96)
ثانيا: بأنهم في تلك المسألة قالوا النهي عن الشيء أمر بأحد أضداده والكف الذي جعل مطلوب النهي في هذه المسألة يصدق عليه انه أحد الأضداد فحصل الأمر انهم قالوا هناك المطلوب واحد بهم من أمور متعددة وهي الاضطهاد وهنا شخصوه في الكف المسؤول الجواب عن هذا كله والمسؤول ايضا النظر في وجه الصواب في مسألة أبى هاشم هل هو معه أو مع الجماهير فكتب احسن إليه ما نصه الخلاف بين الجمهور وأبى هاشم فالجمهور على المطلوب بالنهي فعل عند المنهي عنه وعند أبى هاشم نفس ان لا يفعل وما يضمنه آخر السؤال هل الصواب معه أو مع الجماهير فالجواب ان قول الجمهور المطلوب بالنهي فعل ضد النهى عنه ليس بجيد من حيث اللفظ وقد يكونه الخلل في ذلك من جهة من عبر عنهم فإن النهي قسيم الأمر طلب الفعل فلو كان النهي طلب فعل الضد لكان أمرا وكان النهي من الأمر وقسم الشيء لا يكون قسيما منه ولا شك ان كل متلبس بفعل هو تارك لضده وكل من الفعلين الفعل والترك يصح ان يؤمر به وان ينهي عنده مثاله السفر والإقامة ضدان والتارك للسفر متلبسين بالإقامة قبل الترك للسفر نفس الإقامة أو معنى آخر فيه بحيث يشبه البحث في الحركة هل هي الحصول في حيز مسبوق بالحصول في غيره أو هي نفس لانتقال من حين إلى حين وفيه قولان للمتكلمين(13/97)
ص -76-…وإن كان كل منهما يلزم الآخر فمتى انتقل من حيز فقد حصل في غيره ومتى حصل في غيره بعد حصوله فيه فقد انتقل بكل من المحصولين أمر ثبوتي يمكن ان يعقل وحده والانتقال أمر نسبي لا يعقل بينهما فكذلك المنهي عنه ارتكابه شيء لا يحتاج في تصوره إلى غيره وفعل ضده شيء لا يحتاج في تصوره إلى غيره والانتهاء شيء.
ثالثا: وهو عندي هو المطلوب بالنهي لا كما قاله الجمهور ولا كما قاله أبو هاشم وعندي ان الجمهور إنما أرادوا ما قلته ولكن العبارة عنهم لم نحرر فإذا قلت لا تسافر فقد نهيته عن السفر وانهي يقتضي الانتهاء لأنه مطاوعة نقول نهيته فانتهى والانتهاء هو الانصراف عن المنهى عنه وهو الترك وهو الإنزجار المطاوع لزجر والإنكفاف وما أشبه ذلك ولغة العرب تشهد لهذا والمعقول ايضا يشهد له ويفرق في العقل وفي اللغة بين قولنا لا تسافر وبين قولنا أقم وإن أقم أمر بالإقامة من حيث هي فقد لا يستحضر معها السفر وان لا تسافر نهي وزجر عن السفر فمن أقام قاصدا ترك السفر يقال فيه انتهى عن السفر ومن لم يخطر له السفر بالكلية الا يقال له انتهى عن السفر لا ويقال له مقيم والانتهاء أمر معقول وهو فعل ويصح التكليف به وكذلك في جميع المناهي الشرعية كالزنا والسرقة الشرب ونحوها المقصود في جميعها الانتهاء عن تلك الزوائل ولا يفهم في وضع اللسان وتصور العقل غير ذلك ومن لازم ذلك الانتهاء التلبس بفعل ضد أضداد المنهي عنه فالعبارة المحررة ان يقال ان المطلوب بالنهي الانتهاء ويلزم من الانتهاء فعل ضد المنهي عنه ولا يعكس فيقال المطلوب ضد المنهي عنه ويلزم به الانتهاء متقدم في الرتبة في العقل على فعل الضد فكان معه كالسبب مع المسبب فالكافر إذا اسلم فقد وجد منه ثلاثة أشياء كفره أولا المنهى عنه ثم انتهاؤه عنه والترتيب بينهما في الزمان تم تلبسه بالإيمان الترتيب بينه وبين الانتهاء عن الكفر ليس في الزمان وانما هو في الرتبة ترتب المعلولية على العلية(13/98)
وهما في زمان واحد كذلك الانتهاء وفعل الضد في زمان واحد والانتهاء متقدم بالرتبة نقسم العلية عن المعلولية على العلية وهما في زمان واحد كذلك الانتهاء وفعل الضد في زمان واحد والانتهاء متقدم(13/99)
ص -77-…بالرتبة تقدم العلية عن المعلولية حتى لو فرض ان الانتهاء يحصل دون فعل الضد حصل المطلوب به ولم يكن حاجة إلى فعل الضد لكن ذلك فرض غير ممكن وهذا المعنى حاصل في الأفعال وكل ما يتلبس به الإنسان والمقصود بالذات هو الانتهاء واما فعل الضد فلا يقصد الا بالالتزام بل قد لا يقصد أصلا ولا يستحضره المتكلم ومتى قصد فعل الضد وطلبه من حيث هو كان أمرا لا نهيا عن ضده ومتى أتى بصيغة أمر في مبنى الانتهاء كقوله اترك فهذا لفظه لفظ أمر ومعناه معنى النهي وبينهما فرق وهو انا قلنا ان الانتهاء له طرفان.
أحدهما: من جانب المنهي عنه.(13/100)
والثاني: من جانب ضده الذي به يحصل الانتهاء فقوله لا نفعل جانب المنهي عنه أقوى وقوله اترك الجانب الآخر فيه أقوى ولا مانع أن يترجح أحد الجانبين على الآخر وان كانا جميعا مقصودين أما إذا محض الأمر بهذا الضد أو بذلك فلا نهي البتة وقد لا يستحضر معه الطرفان الآخر فعلى ما قلناه ينبغي أن يجعل كلام الجمهور ومن عبر عنهم بتلك العبارة فإما غير مقابل لمعناها ولها قصده تقريب المعاني إلى الطالب المبتدي فان التعمق في المعاني يضر المبتدي ومن آداب المعلم أن يربي الناس بصغار العلم قبل كباره واما قول أبى هاشم أن المطلوب نفس أن نفعل فهو وان كان يبتدر إلى الذهن في الأول لأن حرف النهي ورد على الفعل فقد طلب منه عدمه لكن نفس أن لا يفعل عدم محض فلا يكلف به ولا يطلب وانما يطلب من المكلف ماله قدرة على تحصيله فلعل مراد أبي هاشم العدم الذي هو من الانتهاء والانتهاء فعل فان أراد ذلك تقارب المذهبان ويكون الجمهور نظروا إلى حقيقة ما هو مكلف به وأبو هاشم نظر إلى المقصود به وهو إعدام دخول النهي عنه في الوجود وان لم يرد أبو هاشم ذلك أراد أن العدم المحض الذي لا صنع للمكلف في تحصيله فهو باطل إذا عرف هذا فقول خارج المحصول أن هذه المسالة لا يشتبه بأن النهي عن الشيء أمر بضده لان الكلام في ذلك لفظي وفي هذه معنوي ليس بجيد أما أولا فلأنه ليس الكلام في تلك لفظيا فقط بل لفظيا ومعنويا وحقيقة(13/101)
ص -78-…النهي والأثر أمران نفسانيان يعبر عنهما بلفظ الكلام في حقائقهما وأما ثانيا فلان الأمر بالشيء لفظا يقتضي أن المطلوب المعنوي مأمور به على ما قال فيحصل الاشتباه واما الذي قاله القرافي فالوجه الأول صحيح ولكنه لا يفيده بجواب ولا شك أن المتعلق بكسر اللام غير المتعلق بفتحها والفرق بينهما صوري ولا يلزم منه عدم تداخل إحدى المسالتين في الأخرى.
وأما الوجه الثاني: فقوله أن النهي عن الشيء أمر بضده التزاما صحيح وقوله المطلوب بالنهي فعل الضد مطابقة ليس بصحيح لما قدمناه لكنه موافق لظاهر كلام الأصوليين فحينئذ هذا الجواب الثاني من كلام القرافي ينبغي أن يكون هو العمدة عل ظاهر كلام الأصوليين لكنا لا نوافق عليه لما قدمناه فالمختار عنده في المسألتين أن الكلام في الالتزام لا في المطابقة وحينئذ نقول وأقدم على زيادة في بيان ما كنا فيه أن النفي له في اللغة معنيان.
أحدهما: فعل الفاعل النفي تقول نفيت الشيء فانتفى وهذا هو اظهر المعنيين.(13/102)
الثاني: نفس الإعفاء تقول: نفي الشيء هكذا سمع من اللغة وعلى هذا المعنى الثاني يكون النفي والإثبات نقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان ويكون المراد بالإثبات الثبوت كما أن المراد بالنفي الانتفاء واما إذا أردت بالنفي نفيك الشيء وبالإثبات إثباتك له فيكونان ضدين لا نقيضين لأن قد لا تنفى ولا تثبت وهذا البحث ليس مما نحن فيه ولكنه يحتاج إلى تصوره بحث آخر منه وهو العدم تارة يكون عنده الشيء في نفسه من حيث هو هو من غير نظر إلى معدم وتارة يكون عدما غير والعدمان في حقيقتهما سواء ولكن الأول بلا فاعل والثاني بفاعل وفعل ضده كذلك فأبو هاشم يرى ان المطلوب بالنهي الأول والجمهور يرون ان المطلوب بالنهي الثاني والحق معهم لأنه الذي يصح به التكليف فالعدم من حيث هو أمر وعدم الزنا من حيث هو أخص منه ولا فعل معه البته وهو الذي يقول أبو هاشم انه مطلوب وعدم الزنا بفعل فاعل وهو كف النفس عنه شيء ثالث أخص من الثاني أي هو أخص من الأول وفيه أمران(13/103)
ص -79-…أحدهما: طرف العدم.
والثاني: طرف الفعل المحصل له وهو من الطرف الأول ليس بشيء لانه عدم ولا يكلف به من الطرف الثاني ثبوت لذلك اطلقنا في كلامنا عليه اسم الشيء فيصح التكليف به وهو مراد الجمهور وفعل الفاعل من حيث هو مع قطع النظر عن العدم الحاصل به أمر رابع وهو أمر وجودي لا عدم معه وهو الذي يراد غالبا بالضد فهذا هو المراد بقولنا الامر بالشيء نهي عن ضده والنهي عن الشيء أمر بضده أو بأحد اضداده وإذا علمت هذه الاربعة فاعتبرها تجدها في سائر الأمور فكل أمر لك إقبال عليه وانصراف عنه وتلبس بفعل غيره وفي الانصراف عنه نسبتان والامام فخر الدين لما كان يرى ان الحركة هي الحصول في الخبر الثاني لاجرام قال ان المطلوب بالنهي فعل ضده ونخن نرى ان الحركة هي الانتقال من الخبر الأول إلى الخبر الثاني لا جرام قلنا ان المطلوب بالنهي الانتهاء وهو الانصراف عن المنهي عنه إلى غيره لا يقصد غيره بل يقصد عدم الأول فإن فعل غيره قاصدا له الانتهاء كان متمثلا وان فعل غير قاصد الانتهاء لم يكن ممتثلا ولكنه لم يأثم لأنه لم يرتكب المنهى والمقصود هنا في الحقيقة إنما هو عدم المنهى عنه ولو كان المقصود ان يضم إلى العدم شيئا آخر لكان من لم يزن ولا قصد الامتثال ولا ونقول عدم الذم بكونه عاملا عن النهي فإنا نعرضه فمن استحضر النهي ولم يفعل المنهى عنه ولا قصد شيئا فإنه لا يذم ولا يحمد وهذا يبين لنا الفرق بين تحريم الشيء وإيجاب الكف عنه فإن إيجاب الكف عنه يقضي أنه لا يخرج عن العهدة إلا بتحصيل الكف الذي من شرطه إقبال النفس عليه ثم كفها عنه وليس كذلك وانما الفعل هو المحرم فلا يأثم الا به وقد أطلنا في ذلك فلنرجع إلى غرضنا ونقول قولهم المطلوب بالنهي فعل ضد المنهى عنه مرادهم به الضد العام وهو الانتهاء الحاصل بواحد من اضداده المنهى عنه وقولهم النهي عن الشيء أمر بضده قد بينوا انه بطريق الالتزام مرادهم به الضد الخاص وهو أحد(13/104)
الأضداد الذي يحصل الانتهاء به وبغيره فان أرادوا الضد العام لزم من كل من المسألتين الأخرى لكنه لا يكون تكرارا فلا يكون مسألة واحدة بل هما(13/105)
ص -80-…مسألتان وان لزم من معرفة حكم إحداهما معرفة حكم الأخرى فلا يضرنا ذلك وانما يحسن السؤال لو كانوا وضعوا مسألة ان النهي عن الشيء هل هو أمر بضده أو لا وليس ذلك في المحصول وانما في المحصول ان الامر بالشيء هل هو نهي عن ضده وتكلم غيره في النهي عن الشيء وهل هو أمر بضده فلو جعلنا مسألتين مترجما عنهما ربما كان يرد السؤال ولكنا نعمل لذلك بل نبهنا على هذا في أثناء مسألة ولا مانع ان ننبه في أثناء مسالة على ما تضمنه مسألة أخرى ولا يقال انهما مسالة واحدة متكررة والحاصل انه ان أريد بالضد الضد العام فالكف والانتفاء ضد عام فيلزم مع إحدى المسألتين الأخرى ولكن الإمام لم يضعها مسألتين فلا سؤال عليه وهذا التقرير هو الحق وان أريد بالضد الخامس فيصح ما قاله السائل في قوله هل يمكن أن يقال إلى آخره والحق المراد بالضد الضد العام فر يمكن ان يقال وانما الجواب ما قاله القرافي في الوجه الثاني من كلامه مع ما فيه مما قدمناه وأما القول إن نفس النهي عن الشيء نفس الامر بضده فهو قول ضعيف وقول السائل إنه يتلخص قول الثالث ان مقصود النهي فعل ضد ليس بكف ولا انتفاء عجيب لان الكف أو الانتفاء أعم فكيف يوجد الأخص بدونه وتصحيح كلام السائل في ذلك ان يقول ليس بكف فقط وانتفاء فقط والله اعلم.
هذا آخر ما ذكره والدي أيده الله ولا ينبغي ان يمل التطويل في هذه المسالة ففيه من الفوائد ما لا يوجد في سواه.
قال: الرابعة النهي عن أشياء إما عن الجمع كنكاح الأختين أو عن الجميع كالزنا والسرقة.
النهي عن متعدد ولا أقول عن أشياء لأنها جمع قلة ثلاثة والمثال الذي أورده في اثنين إما أن يكون نهيا عن الجمع اعني الهيئة الاجتماعية دون المفرد ان على سبيل الانفراد كالنهي عن نكاح الأختين وكالحرام المخبر عند الأشاعرة فانه يجوز عندنا أن يحرم واحد لا يعنيه وخالفت المعتزلة وأما(13/106)
ص -81-…عكسه ولم يذكره في الكتاب ولا رأيت من ذكره ومثاله ما جاء في الحديث الصحيح من النهي أن يلبس نعلا واحدا بل أما ان يلبس نعلين أو ينزعهما فهذا نهي عن كل فرد يفيد عدم الاحتجاج واما ان يكون نهيا عن الجمع أي عن كل واحد سواء كان مع صاحبه ومنفردا وذلك كالزنا والسرقة والله اعلم.(13/107)
ص -82-…الباب الثالث: في العموم الخصوص
الفصل الأول في العموم. العام لفظ يستغرق جميع ما يصلح له بوضع واحد وفيه فصول الفصل الأول في العموم العام لفظ يستغرق جميع ما يصلح له بوضع واحد.
نفتح الباب بعد حمد الله تعالى بمقدمات ثم نلتفت إلى ما ذكره.
المقدمة الأولى: العموم هو لغة الشمول وهو من عوارض الألفاظ حقيقة بلا خلاف وأما المعاني فأتوا وأبعدها انه لا يصدق عليها لا حقيقة ولا مجازا وثانيها أنه يصدق عليها مجازا وهو المختار ونقله الآمدي عن الأكثرين واختاره وثالثها وصححه ابن الحاجب ان يصدق عليها حقيقة أيضا واحتج الأكثرون بأنه لو كان حقيقة لاطرد لكنه غير مطرد بدليل المعاني الخاصة الواقعة في امتداد الإشارة إليها كزيد وعمر فإنها لا توصف بحقيقة ولا مجاز واحتج من قال يصدق عليه حقيقة بأن العموم هو شمول أمر واحد لمتعدد وذلك موجود بعينه في المعنى نقول نظر عام وحاجة عامة وعم المطر الأرض والأمير بالعطايا والاصل في الاطلاق الحقيقة وأجيب بأن من لوازم العام ان يكون متحدا.
ويكون مع اتحاده يتناول أمورا متعددة من جهة واحدة والعطاء الخاص لكل واحد من الناس غير الخاص بالآخر وكذلك المطر فإن كل جزء اختص منه بجزء من الأرض لا وجود له بالنسبة إلى الجزء الآخر منها وكذلك الكلام في النظر العام والحاجة العامة وغاية الأمر تعارض الاشتراك والمجاز أولى من الاشتراك لما مر.(13/108)
ص -83-…المقدمة الثانية: اصطلحوا على ان المعنى يقال له اعم وأخص واللفظ يقال له:عام وخاص ووجه المناسبة ان اعم صيغة افعل التفضيل والمعاني افضل من الألفاظ فخصت بصيغة افعل التفضيل قال القرافي ومنهم من يقول فيهما عام وخاص ايضا.
المقدمة الثالثة: مدلول العموم كلية لا كل ولا كلي وبيان يتوقف على معرفة الكل والكلي والكلية الجزء الجزئية أما الكل فهو المجموع الذي لا يبقى بعده فرد والحكم فيه كالخمسة مع العشرة فالجزء بعض الكل.
كقولنا:كل رجل يحمل الصخرة فهذا صادق.
وأما الكلي: فهو الذي يشترك في مفهومه كثيرون وان شئت قلت القدر المشترك بين جميع الأفراد كمفهوم الحيوان في أنواعه والإنسان في أنواعه فان الحيوان صادق على جميع أفراده ويقابله الجزئي كزيد وحاصله ان الكلي مع قيد زائد وهو تشخيصه فلك ان تقول: الكلي بعض الجزئي.
وأما الكلية: فهي التي يكون الحكم فيها على كل فرد فرد بحيث لا يبقى فرد مثل قولنا: كل رجل يشبعه رغيفان غالبا فإنه يصدق باعتبار الكلية أي كل رجل على حدته يشبعه رغيفان غالبا ولا يصدق باعتبار الكل أي المجموع من حيث هو مجموع فانه لا يكفيه رغيفان ولا قناطير عديدة لأن الكل والكلية يتدرج فيهما الأشخاص الحاضرة والماضية والمستقبلة وجميع ما في مادة الإمكان وانما الفرق بينهما ان الكل يصدق من حيث المجموع والكلية يصدق من حيث الجميع وفرق بين المجموع والجميع فإن المجموع الحكم على الهيئة الاجتماعية لا على الأفراد والجميع الحكم على كل فرد فرد ويقابلها الجزئية وهي الحكم على أفراد حقيقة من غير تعيين كقولك بعض الحيوان إنسان فالجزئية بعض الكلية إذا عرفت ذلك فمسمى العموم كلية لا كل وإلا لتعذر الاستدلال به في النفي والنهي على ثبوت حكمه لفرد من أفراده.(13/109)
ص -84-…كما عرفت فلا يصح الاستدلال به على ثبوت حكمه للفرد المعين في النفي والنهي الا إذا كان معناه الكلية التي يحكم فيها على كل فرد بحيث لا يبقى فرد كما عرفت وحينئذ يستدل بها على أي فرد شئنا من الأفراد في النفي والنهي فإنما يختلف الحال بين الكل والكلية في النفي والنهي لا في الامر وحين الثبوت فمدلول العموم كلية لا كل لصحة الاستدلال به على ثبوت حكمه لكل فرد من أفراده عند القائلين به اجماعا فإن قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} دال على تحريم قتل فرد من أفراد النفوس بالاجماع وليس معناه ولا تقتلوا مجموع النفوس وإلا لم يدل على كل فرد فرد فلا يكون عاصيا بقتل الواحد ألانه لم يقتل المجموع إذا تقرر هذا فهنا سؤال قوي شغف به الشيخ أبو العباس القرافي وهو ان دلالة العموم على كل فرد من أفراده نحو زيد المشترك مثلا من المشتركين.
لا يمكن ان يكون بالمطابقة ولا بالتضمين ولا بالالتزام وإذا بطل ان يدل لفظ العموم على زيد مطابقة وتضمنا والتزاما بطل ان يدل لفظ العموم مطلقا لانحصار الدلالة في الاقسام الثلاثة إنما قلنا لا يدل عليه بطريق المطابقة لأنها دلالة اللفظ على مسماه بكماله ولفظ العموم لم يوضع لزيد فقط حتى تكون الدلالة عليه مطابقة.
وإنما قلنا: لا يدل بالالتزام لان الدلالة الالتزام هي دلالة اللفظ على لازم مسماه ولازم المسمى لا بد وان يكون خارجا عن المسمى وزيد ليس بخارج عن مسمى العموم لأنه لو خرج لخرج عمرو وخالد وحينئذ لا يبقى في المسمى شيء فدل على انه لا يدل بالمطابقة ولا الالتزام وانما قلنا لا يدل بالتضمي لان دلالة التضمن هي دلالة اللفظ على جزء مسماه والجزء إنما يصدق إذا كان المسمى كلا لأنه مقابلة ومدلول لفظ العموم ليس كلا كما عرفت فلا يكون زيد جزءه فلا يدل عليه تضمنا.(13/110)
فتبين بطلان دلالة لفظ العموم على زيد بشيء من هذه الثلالة والدلالات القاصرة فيها تبطل ان يدل لفظ العموم مطلقا وقد سار هذا السؤال غورا ونجدا ولم أر من أجاب عنه الا الشيخ شمس الدين الاصفهاني في شرح المحصول(13/111)
ص -85-…فقال: أنا حيث قلنا إن اللفظ إما أن يكون دالا بالمطابقة والتضمن أو الالتزام فذلك في لفظ مفرد دال على معنى ليس ذلك المعنى هو نسبة بين مفردين.
وذلك لإثباتي ههنا فلا ينبغي أن يطلب ذلك.
وإذا عرفت هذا فاعلم أن قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} في قوة جملة من القضايا وذلك لأن مدلوله اقتل هذا المشرك واقتل هذا المشرك إلى آخر الأفراد وهذه الصيغ إذا اعتبرت بجملتها فهي لا تدل على قتل زيد المشرك ولكنها تتضمن ما يدل على قتل زيد المشرك لا بخصوص كونه زيدا بل بعموم كونه فردا ضرورة تضمنه لقتل زيد المشرك فان من جملة هذه القضايا وهي جزء من مجموع تلك القضايا فتكون دلالة هذه الصيغة على وجهين قتل زيد المشرك لتضمنها ما يدل على ذلك الوجوب والذي هو في ضمن ذلك المجموع هو دال على ذلك مطابقة قال فافهم ذلك فانه من دقيق الكلام وليس ذلك من قبيل دلالة التضمن بل هو من قبيل دلالة المطابقة.
فائدة: إذا ثبت ان مدلول صيغ العموم كلية لا كل فافهم ذلك في الضمائر بأسرها وصيغ المجموع النكرات فإذا قال السيد لعبيده لا تخرجوا ليس المراد لا يخرج كلكم من حيث هو كل بل المراد بهذه الواو التي هي ضمير في اخرجوا كل واحد على حالة وكذلك الخبر بالنفي مثل لا اغضب عليكم فالمراد ثبوت الحكم لكل فرد مما دلت عليه هذه الكاف وكذلك جموع النكرات فإذا قال لأكرمن رجالا اليوم فالمراد أكراما كل واحد واحد مما دل عليه رجال ومنه قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} أي على كل واحد واحد بنفسه وليس المراد المجموع وإذا تقرر ذلك فنقول إذا قال القائل اقتلوا زيدا فقد أمر كل فرد فرد بقتل زيد لأن في اقتلوا ضميرا يعود على كل فرد فرد كما قلناه وإذا عرفت هذا فهنا سؤال وتقريره في قوله مثلا: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} عموما احدهما في المشركين.(13/112)
والثاني: في المأمورين بقتلهم ودلالة العموم كلية كما عرفت فيكون أمر كل فرد من المؤمنين بقتل كل فرد من المشركين والفرد الواحد لا يقدر ان يقتل كل(13/113)
ص -86-…فرد من المشركين فيكون ذلك تكليفا بالمستحيل وهو غير واقع وقد قال الاصفهاني شارح المحصول في جوابه ان هذا وان كان ظاهر اللفظ الا ان العقل دل على خلافه فيحمل على الممكن دون المستحيل قال والدي أيده الله وعندي ان السؤال لا يستحق جوابا لان الفرد الواحد من المسلمين يقدر ان يقتل جميع المشركين.
المقدمة الرابعة: المتأخرون أو من قال منهم زعموا ان العام في الأشخاص مطلق باعتبار الأزمان والبقاع والأحوال والمتعلقات وقالوا لا يدخلها العموم الا بصيغة وضعت لها فإذا قال اقتلو المشركين عم كل مشرك بحيث لا ينفي فرد ولا يعم الأحوال حتى يقتل في حال الهدنة والذمة ولا خصوص المكان حتى يدل على المشركين في ارض الهند مثلا ولا الزمان حتى يدل على يوم السبت أو الأحد مثلا وقد شغف الشيخ أبو العباس القرافي بهذا البحث وظن انه يلزم من هذه القاعدة انه لا يعمل بجميع العمومات في هذا الزمان لأنه قد عمل بها في زمان ما والمطلق يخرج عن عهدته بالعمل به في صورة وقد وافق على هذه القاعدة الآمدي فانه قال في الكلام على قول الصحابي هل هو حجة جوابا عن الاحتجاج بقوله عليه السلام: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" ما نصه الخبر الأول يعني هذا وان كان عاما في أشخاص الصحابة فلا دلالة فيه على عموم الاهتداء به في كل ما يقتدي فيه انتهى وردها جماعة منهم الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في شرح العمدة واستدل بحديث أبي أيوب لما قدم الشام فوجد مراحيض قد بنيت قبل القبلة على ان أبا أيوب وهو من أهل اللسان والشرح فهم المعموم في الأمكنة يعني فيكون العام في الأشخاص عاما في الأمكنة على خلاف ما قرره القرافي وهذا هو الذي اقتضاه كلام الإمام فانه قال في كتاب القياس جوابا عن سؤال سائل قلنا لما كان أمرا بجميع الاقيسة كان متناولا لا محالة لجميع الأوقات والأقدح ذلك في كونه متناولا لجميع الاقيسة وقد وقع لي مرة في التمسك لردها بحديث ابن المعلى(13/114)
حيث دعاه النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فلم يجبه فقال عليه الصلاة والسلام: "ألم يقل الله" الحديث فقد جعله صلى الله عليه وسلم عاما في الأحوال لأنه احتج عليه بالآخر هو في حالة(13/115)
ص -87-…الصلاة لكن ظهر لي الآن ان العموم في الأحوال إنما جاء في هذه الآية من صيغة إذا فإنها ظرف والأمر معلق بها وهي شرط ايضا والمعلق على شرط يقتضي التكرار والظرف يشمل جميع الأوقات ويلزمها الأحوال وقررت مرة أخرى ان هذه القاعدة إنما تنقدح في سياق الإثبات كقوله:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} لا فيما إذا كان فعلا في سياق النفي كما لو قيل لا نقتل مسلما فإن الفعل يدل على الزمان إذ هو أحد جزئيه وقد دخل عليه حرف النفي فعمم كل زمان فصار العام في الأشخاص في سياق النفي عاما في الأزمان لأن حكم الفعل حكم النكرة وهي في سياق النفي للعموم والذي نقوله الآن في هذه القاعدة أنها حق لا سبيل إلى المصادمة بمنعها ولكن ما جعله القرافي لازما عليها غير مسلم له وذلك لان المقصود ان العام في الأشخاص مطلق في الأحوال والأزمنة والبقاع بمعنى انه إذا عمل به في الأشخاص في حالة ما في زمان ما في مكان ما لا يعمل به في تلك الأشخاص مرة أخرى أما في أشخاص أخر فيعمل به لأنه لو لم يعمل به لزم التخصيص في الأشخاص فالتوفية بعموم الأشخاص ان لا يبقى شخص ما في أي زمان ومكان وحال الا حكم عليه والتوفيه بإطلاق ان لا يتكرر ذلك الحكم فكل زان يجلد إذا جلدناه لا نجلده مرة ثانية في مكان آخر أو زمان آخر أو حالة أخرى الا إذا زنا مرة أخرى لان تكرر جلده لا دليل عليه والفصل مطلق هذا ما قرره الإمام الجليل علاء الدين الباجي ونقله عنه والدي أطال الله بقاءه في كتابه أحكام كل وهو من انفس مختصراته.(13/116)
قال وقال الباجي هذا معنى القاعدة وبه يظهر ان لا إشكال عليها ولم يلزم من الاطلاق في شيء منع التعميم في غيره قلت وغالب ظني أن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في شرح الإمام ذكر هذا التقرير بعينه ثم قال الشيخ الإمام والدي أيده الله وقد يعترض على هذا التقرير بان عدم تكرار الجلد مثلا معلوم من كون الامر لا يقتضي التكرار وبان المطلق هو الحكم والعام هو المحكوم عليه وهما غير ان فلا يصلح ان يكون ذلك تأويلا لقولهم العام مطلق قال فينبغي ان يهذب هذا الجواب ويجعل العموم والإطلاق في لفظ واحد بأن يقال المحكوم عليه هو الزاني مثلا أو المشرك فيه أمران.(13/117)
ص -88-…أحدهما: الشخص.
والثاني: الصفة كالزنا مثلا وأداة العموم لما دخلت عليه أفادت عموم الشخص لا عموم الصفة والصفة باقية على إطلاقها فهذا معنى قولهم العام في الأشخاص مطلق في الأحوال والأزمنة والبقاع أي كل شخص حصل منه مطلق زنا حد وكل شخص حصل منه مطلق شرك قتل بشرطه ورجع العموم والاطلاق إلى لفظة واحدة باعتباره مدلوليها من الصفة والشخص المتصف بها فافهم ذلك ثم انه مع هذا لا نقول كون الصفة مطلقة يحمل على بعض مسماها لأنه يلزم منه إخراج بعض الأشخاص نعم لو حصل استغراق الأشخاص لم يحافظ مع ذلك على عموم الصفة لا طلاقها وهكذا الحديث الذي تمسك به الشيخ تقي الدين وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول" الاستقبال مطلق وبدخول النهي عليه صار عاما فكل استقبال منهي عنه والاستقبال في الشام أو غيره لو أخرج لبطل العموم فأدرجه في النهي من جهة إرادة العموم لا من جهة عموم موضوعه.
المقدمة الخامسة: اتفقت النحاة على ان أربع صيغ من جموع التكسير وان جموع السلامة مذكرا كان أو مؤنثا للعلة وهي العشرة فما دونها وهي التي يجمعها قول الشاعر:
بأفعل وبأفعال وأفعلة…وفعلة يعرف الأدنى من العدد
وسالم الجمع أيضا داخل معها…فهذه الخمس فاحفظها ولا تزد
نحو أفلس وأحمال وأرغفة وصبية ومسلمين ومسلمات.
واتفق الأصوليون القائلون بالعموم وهم اكثر حملة الشريعة على ان صيغة المشركين وما شابهها للعموم وكذلك الأحمال والأرغفة فقد يقال هذان فرقتان عظيمتان تنقل عن العرب وكل واحدة نقلت عكس ما نقلته الأخرى فأين العموم الذي هو غير متناهي الأفراد من العشرة فما دونها ولا سبيل إلى تكذيب كل واحدة من هاتين الفرقتين العظيمتين فما وجه الجمع بين كلاميهما والجواب ما ذكره امام الحرمين وقال انه الذي استقر عليه نظره في(13/118)
ص -89-…محاولة الجمع بين مسالك الأئمة في ذلك وهو ان قول النحاة إنها للعشرة فما دونها إنما هو فيما إذا كان الجمع منكرا نحو مشركين وأحمال ونقل الاصوليين إنما هو حال التعريف بالألف واللام فإنه حينئذ يعم كل جمع وذلك بمنزلة رجل المنكر فإنه للواحد من بني آدم وبالتعريف يعم كل فرد واما الجمع حال التنكير فلا يقول فيه بالتعميم الا من شذ كالجبائي أو ممن حمل المشترك على معنييه وجعل ذلك من باب العموم فالسؤال عليه منقدح يحتاج إلى جواب.
ولقائل ان يقول: الفقهاء على أن من أقر بدراهم قبل منه تفسيرها بثلاثة وهي جمع كثرة واقله باتفاق النحاة أحد عشر فما الجمع بين الكلامين اللهم الا ان يدعي الفقيه ان العرف شاع في إطلاق دراهم على ثلاثة واشتهر فصار حقيقة عرفية وهي مقدمة على اللغوية ولا يكفيه ان يقول إطلاق جمع الكثرة على القلة يصح مجازا والاصل برآة عما زاد فقبلناه تفسيره بثلاثة لذلك لانا نقول لا يقبل من اللافظ بحقائق الالفاظ في الأقارير التفسير بالمجاز الا ترى ان من أقر بأفلس لا يقبل منه التفسير بفلس واحد وإن صح إطلاق الجمع على الواحد مجازا.
المقدمة السادسة: دلالة العموم قطعية عند جماعة وظنية عند آخرين.
واشتهر قول الشافعي: إنها ظنية.
وقال إمام الحرمين: في أوائل العموم الذي صح عندي من مذهب الشافعي ان الصيغ العامة لو صح تجردها عن القرائن لكانت نصا في الاستغراق وانما التردد فيما عدا الأقل من جهة عدم القطع بانتفاء القرائن المخصصة وكذلك ذكر الكيال في تعليقه في الأصول وقد نجز ما قصدنا إيراده من المقدمات فلنلتفت إلى شرح الحد الذي اورده في الكتاب فنقول قوله لفظ جنس ويؤخذ من التعبير به ان العموم عنده من عوارض الالفاظ فقط.
فإن قلت: فقد نص بعد ذلك على جواز تخصيص العلة والمفهوم والتخصيص فرع العموم.(13/119)
ص -90-…قلت: أجاب الإسفرايني شارح الكتاب بأنه أطلق العموم هناك على سبيل المجاز وكلامه هنا في مدلوله الحقيقي وقوله يستغرق فصل يخرج به النكرة في سياق الاثبات سواء كانت مفردة كرجل أو مثناة كرجلين أو مجموعة كرجال أو عددا لخمسة فإنها لا تستغرق جميع ما يصلح له وانما تتناوله على سبيل البدل قلنا عمومان عموم استغراق وهو الذي تتكلم في تعريفه وعموم بدل كما ذكرناه يصدق على كل واحد بطريق البدلية وخرج بهذا الفصل ايضا المطلق فإنه لا يدل على شيء من الأفراد فضلا عن ان يستغرقها وقوله جميع ما يصلح له احترازا عن ما لا يصلح فإن عدم استغراق ما لمن يعقل إنما هو لعدم صلاحيتها له اعني لعدم صدقها عليه وقوله بوضع واحد احتراز عن اللفظ المشترك وماله حقيقة ومجاز وتقرير ذلك ان العين وضعت مرة للباصرة وأخرى للذهب فهي صالحة لهما فإذا قال رأيت العيون وأراد الباصرة دون الذهب أو عكسه فإنها لم تستغرق جميع ما يصلح لها مع كونها عامة لان الشرط هو استغراق الأفراد الخاصة من شخص واحد وقد وجدوا الذي لم يدخل فيها هو افراد وضع آخر فلا يضر وما له حقيقة ومجاز يعمل فيه هذا العمل فالمقصود بهذا القيد إدخال بعض الأفراد فالإخراج هكذا قرره الاسفرايني شارح هذا الكتاب وهو تقرير حسن اجتنب غيره هذا شرح الحد وقد أورد عليه أمورا:
أحدها: انه اخذ فيه لفظه جميع وكذلك لفظة ما وهما من جملة المعرف واخذ المعرف قيدا في المعرف باطل أورده الاصفهاني وادعى ان جوابه متعذر.(13/120)
والثاني: ان الاستغراق هو العموم والمستغرق والعام لفظان مترادفان فلا يحصل بما ذكره الا تعريف لفظي وهو تبديل لفظ بلفظ آخر وليس ذلك بتعريف حقيقي لا حدى ولا رسمي واجيب عنه بانا لا نسلم ترادف العموم والاستغراق فان العموم لغة هو الشمول والشمول والاستغراق غير مترادفين وان اشتركا في بعض اللوازم سلمنا لكن يجوز تعريف العام المصطلح عليه بالمستغرق اللغوي وحينئذ فهما غير مترادفين لان الكلام في معنى المستغرق(13/121)
ص -91-…لغة وفي معنى العام اصطلاحا.
والثالث: انه ينتقض بالفعل الذي ذكر معه مفعولا به كقولنا ضرب زيد عمرا فإنه لفظ يستغرق جميع ما يصلح له وليس بعام وهذا ضعيف جدا لأنه لم يستغرق جميع ما يصلح له إذ ليس شاملا لجميع أنواع الضرب الصادر من زيد الواقع على عمرو وانما دل على مطلق صدور ضرب من زيد ووقوعه على عمرو.
والرابع: انه ينتقض بأسماء الأعداد لان لفظ المئة لفظ مستغرق لجميع ما يصلح وهو أفراد العدد وليس بعام.
واجيب عنه بأن قولنا ما يصلح له يدفعه فان لفظ المائة لا يتناول الا بعض ما صلح له و هو المئة الواحدة ليس متناولا لكل واحدا من أفراد المئتين على سبيل الاستغراق.
والخامس: ان مراده بقوله المستغرق لفظ العموم بلا شك وهو غير جائز لان لفظ العموم لا يصلح لواحد واحد من آحاده فانه لم يوضع لواحد ولا لاثنين وانما يصلح للجميع أورده النقشواني قال الاصفهاني وهو مندفع بتفسير الصلاحية فمن أورده لم يفهم معناها فانه ليس المراد بالصلاحية الا ان الرجال يصلح لأفراد هذا الصنف ولا يصلح لغيرهم والله اعلم.
قال: وفيه مسائل:الأولى: أن لكل شيء حقيقة هو بها هو فالدال عليها المطلق وعليها بوحدة معينة المعرفة وغير معينة النكرة ومع وحدات معدودة العدد مع كل جزئيها العام.
هذه المسالة في الفرق بين العام والمطلق والنكرة والمعرفة والعدد فنقول لكل شيء حقيقة بها هو وهو تلك الحقيقة مغايرة لكل ما عداها من الأمور اللازمة لها والمفارقة كالإنسانية فإنها من حيث هي حقيقة مغايرة للوحدة والكثرة وإن لم تنقل عن أحدهما إذا عرفت هذا فاللفظ الدال على تلك الحقيقة(13/122)
ص -92-…من حيث هي من غير اعتبار من عارض عوارضها هو المطلق كقولنا الرجل خير من المرأة والدال على تلك الحقيقة مع وحدة معينة شخصية أو نوعية أو جنسية المعرفة والدال عليها مع وحدة غير معينة النكرة مثل رأيت رجلا والدال عليها مع وحدات أي مع كثرة أما ان تكون تلك الكثرة معدودة أي محصورة أولا فان كانت محصورة فهي العدد كمائة وعشرة وان لم تكن معدودة بل استوعبت جميع جزئيات تلك الحقيقة فهو العام كالرجال والمسلمين وقد عرفت من هذا التقسيم الفرق بين المطلق والنكرة ومن الناس من زعم انه لا فرق بينهما وعليه جرى الآمدي وهذا التقسيم فيه مناقشات.
أحدها: أنه غير حاصل وذلك لان الماهية على ثلاثة أقسام ماهية بلا شرط شيء وهي المطلقة وماهية الشرط لا شيء وهي المجردة عن جميع الأعراض واللواحق كالوحدة والكثرة وغيرهما والتقسيم المذكور لا يشمل إلا الماهية المطلقة وأهمل الآخرتين.
والثاني: أنه يقتضي وقوع التماثل بين العدد والمعرفة والعام أي لا يصدق احدهما على الآخر لأن هذا شأن التقسيم وليس كذلك فان العام قد يكون معرفة كالرجالة وقد يكون نكرة نحو كل رجل والعدد قد يكون معرفة نحو الخمسة أو نكرة كخمسة.
الثالث: انه اعتبر الوحدة في مدلول المعرفة ومدلول النكرة وذلك يوجب خروج نحو الرجلين والرجال عن حد المعرفة لأنه اعتبر الأحدة فيها وهذا متعدد وهو باطل ويوجب خروج نحو رجلين ورجال عن حد النكرة وهو باطل.(13/123)
ص -93-…قال الثانية: العموم إما لغة بنفسه كأي للكل ومن للعالمين وما لغيرهم وأين للمكان ومتى للزمان.
الذي يفيد العموم إما أن يفيده من جهة اللغة أو العرف أو العقل.
القسم الأول: المفيد لغة وهو على ضربين لأنه أما ان يدل عليه بنفسه لكونه موضوعا له أو بواسطة اقتران قرينة به الضرب الأول ما يدل عليه بنفسه وهو نوعان لأنه إما أن يكون شاملا للكل أي لجميع المفهومات أو لا يكون.(13/124)
ص -94-…معرفة نحو هات ما رأيت فيفيد العموم فيما عدا العالمين من الزمان والمكان والجماد والذات وقد تتناول أولى العلم ايضا.
الثاني: ان يختص عمومه ببعضهم فأما ان يختص بالأمكنة نحو ان تجلس اجلس ومنه حيث وأني أو بالأزمنة متى تقول متى تقم أقم.
فإن قلت قد جعلتم هذه الصيغ للعموم في الأصول وخالفتم ذلك في الفروع بدليل ان من قال لامرأته متى قمت أو حيث أراني قمت فأنت طالق لا يقع عليه الا واحدة ويقتضي ما قررتم تكرار الوقوع بتكرار القيام كما لو قال كلما قلت ليس من لازم العموم التكرار في كلما فلخصوصية كل لدلالتها على كل فرد فيتعلق به الحكم وليس ذلك في شيء من صيغ العموم غيرها وهنا مهمات نبه عليها والدي رحمه الله في كتابه الموضوع في أحكام كل وهو كتاب جليل ونحن نورد هنا مما يتعلق به صيغة الأصول منها ما يتهذب به النظر فتقول أطلق الأصوليون هذه الصيغ وأن مدلولها كل فرد فأما كل فلا يدخل الا على ذي جزئيات وأجزاء ومدلولها في الموضعين الإحاطة بكل فرد من الجزئيات أو الأجزاء أو قد تضاف لفظا إلى نكره مثل: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}1 {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ}2 وقال لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل…وكل نعيم لا محالة زائل
وقال كعب بن زهير:
كل ابن أنثى وان طالت سلامته…يوما على آلة حدباء محمول
ومعنى العموم في هذا القسم كل فرد لا المجموع وكل لا دلالة لها الا على كل فرد وهي نص في كل فرد مما دلت عليه تلك النكرة مفردا كان أو تثنية أو جمعا ويكون الاستغراق للجزئيات بمعنى ان الحكم لكل جزء من جزئيات النكرة وقد يكون مع ذلك الحكم على المجموع لازما كقولنا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الطور الآية 52.
2 سورة الإسراء آية 13.(13/125)
ص -95-…كل مشرك مقتول وقد لا يلزم كقولنا كل رجل يشبعه رغيف وكلا الأمرين ليس من لفظ كل بل يظهر ذلك من معنى الكلام وقد يضاف كل لفظ إلى معرفة لقوله تعالى: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً}1 وقوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن ربه: "يا عبادي كلكم جائع الا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عار الا من كسوته فاستكسوني اكسكم" وكلام اكثر الأصوليين يقتضي ان كلا في هذه الحالة مثلها حالة الإضافة إلى نكرة في الدلالة على كل فرد واقتضى كلام بعض الاصوليين وابن مالك من النحاة ان مدلولها في هذه الحالة المجموع قال الشيخ الإمام والدي أطال الله بقاه والذي يظهر أنها إذا أضيفت إلى معرفة فإن كان مفردا كانت لاستغراق أجزائه ويلزم منه المجموع ولذلك يصدق قولنا كل رمان مأكول ولا يصدق كل الرمان مأكول لدخول قشره وبعبارة أخرى يصدق كل رجل مضروب إذا ضربت كلما واحد ضربا ما ولا يصدق كل الرجل مضروب الا إذا أضربت جميع أجزائه وان كانت المعرفة المضاف إليها جمعا احتمل ان يراد المجموع كما في قولنا كلكم بينكم درهم وان يراد كل فرد كقوله صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع" ولذلك فصله بعد ذلك فقال لسلطان راع والرجل راع والمرأة راعية والاحتمال الثاني: اكثر فيحمل عليه عند الإمكان ولا يعدل الأول الا بقرينة ومن أمثلة بعض الاصوليين كل أعضاء البدن حيوان والمراد المجموع كما في كلكم بينكم درهم وهذا يحتاج إلى سماع من العرب لكن كلام النحو بين منطبق عليه قال ابن السراج يقول ان خيرهم كلهم زيد وان لي قبلكم كلكم خمسين درهما والمراد الجمع لا كل فرد.(13/126)
واعلم انك إذا اثبت حكما لجزء أو أجزاء ثم أخذت جملة من تلك الأجزاء أو الجزئيات لا يلزم ان يثبت لها ذلك الحكم بل قد يثبت بحسب ما يدل عليه الدليل إذا أدخلت كلا على ما فيه الألف واللام وأريد الحكم على كل فرد فهل نقول ان الألف واللام هنا يفيد العموم وكل تأكيدها أو أنها هنا لبيان الحقيقة حتى يكون ناسيا كل من الأمرين محتمل قال الشيخ الإمام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة مريم الآية 95.(13/127)
ص -96-…والدي أعزه الله وقد يقال بأن الألف واللام تفيد العموم في مراتب ما دخلت عليه وكل تفيد العموم في أجزاء كل من المراتب.
فإذا قلت كل الرجال أفادت الألف واللام استغراق كل مرتبة من مراتب الرجل وأفادت كل استغراق الا آحاد فيصير لكل منهما معنى وهو أولى من التأكيد ومن هنا يظهر أنها لا تدخل على المفرد المعرف بالألف واللام إذا أريد بكل منهما العموم.
فإن قلت: فقوله صلى الله عليه وسلم: "كل ذلك لم يكن" هل يفيد نفي كل واحد والمجموع.
قلت قد ظهر لك بما أنه يفيد نفي كل واحد فإن ذلك إشارة إلى المذكور وهو قول ذي اليدين أقصرت الصلاة أم نسيت فالمذكور القصر والنسيان وعاد اسم الإشارة المفرد عليه فيفيد نفي كل واحد لأن دلالة العموم إذا أضيفت كل إلى مفرد نكره أو معرفه نص في واحد لما سبق وههنا التقدير كل المذكور لم يكن وهو مفرد فلذلك لا يحتمل نفي المجموع فقط ولو كان موضعه جمع معرف لاحتمل نفي كل واحد ونفي المجموع وإن كان الأظهر نفي كل واحد لما سبق ونظير ذلك مما يفيد لفي كل واحد قول الشاعر:
قد أصبحت أم الخيار تدعى…علي ذنبا كله لم أصنع
فمدلوله ايضا نفي كل واحد ويعبر عن هذا بعموم السلب عام لكل الأفراد من انه حكم بالسلب على كل فرد وهذا فيما إذا تقدمت كل على النفي واما إذا تقدم النفي على كل كقول المتنبي.
ما كل ما يتمنى المرء يدركه
وقول الآخر:
وقولنا: ما جاء كل القوم وما جاء القوم كلهم وليس كل بيع حلالا فإنه لا يفيد العموم وهو المسمى بسلب العموم أي يفيد سلب العموم لا عموم لسلب وذكروا في سببه طرقالم يرتضها والدي الشيخ الإمام واختار طريقا(13/128)
ص -97-…غيرها قررها في أحكام كل وهي ان قولنا مثلا ما كل ما يتمنى المرء يدركه سالبة محصلة نقيض الموجبة المحصلة والموجبة المحصلة تقتضي العموم فلا يقتضيه نقيضها وكذلك قولك لم يقم كل إنسان سالبة محصلة معناها نقيض لمعنى الموجبة المحصلة وهي قولك قام كل إنسان وقولك قام كل إنسان معناه الحكم على كل فرد بالقيام فيكون المحكوم به في السالبة المحصلة نقيض قيام كل فرد ونقيض الكلي جزئي فيكون مدلوله سلب القيام عن بعضهم لأنه النقيض وهذا بخلاف ما إذا تأخر السلب عن كل كما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: "كل ذلك لم يكن". وقول الشاعر: كله لم اصنع, فقد بان الفرق بين سلب العموم وعموم السلب.
واعلم ان النهي والنفي من واد واحد ومقتضى ذلك ان يطرد حكم النفي في النهي.
فإذا قلت لا تضرب كل رجل أو كل الرجال يكون النهي عن المجموع لا عن كل واحد ويتعدى هذا إلى سائر صيغ العموم كقولك لا تضرب الرجال الا ان يكون هناك قرينة تقتضي ثبوت النهي لكل فرد الأصوليون قالوا:
دلالة العموم كلية ولذلك يستدل بها في النفي والنهي وما ذكرناه يرد عليهم.
قلت: وهذا الذي أوردناه من التفرقة بين تقدم النفي على كل وتأخره عنها هو الذي ذكره البيانيون وارتضاه الشيخ الإمام والدي أيده الله وهو ان كان في غاية الظهور الا ان لقائل ان يقول ما برحت العلماء سلفا وخلفا تستدل بقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ}1{وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ}2 ونظائر ذلك على إثبات الحكم لكل فرد ولم يقل أحد ان ذلك نهي عن المجموع وقال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام 151, والإسراء آية 31.
2 سورة الأنعام 151, والإسراء آية 33.(13/129)
ص -98-…الله تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}1 والمراد كل واحد وكذلك فإن أصحابنا لو قال والله لأوطئت كل واحدة منكن يكون موليا من كل واحدة ويتعلق بوطء كل واحدة الحنث ولزوم الكفارة وهذا كله يشهد لعدم التفرقة بين النفي وتأخره.
ثم اعلم ان ما قدمناه من انه إذا تقدم النفي على كل لا يدل على الاستغراق شرطه ان لا ينتقض النفي بالا فلو انتقض قبل المحمول فالاستغراق باق كما لو لم يدخل النفي قال الله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الآية فالمراد ان كل واحد آنيه عبد وان كان النفي متقدما لكن لأجل الاستثناء وسببه ان النفي إنما هو المحمول وتسلطه عليه وما بعد الا لا تسلط للمنفي عليه فما بعد الا مثبت وهو في الاستثناء المفرغ مسند إلى ما قبلها وهو كل فرد كما كان في الجملة.
قيل: دخول النفي والاستثناء فهذا ما أوردنا إيراده من الكلام على صيغة كل.
قال الشيخ الإمام ومن لطيف القول فيها أنها للاستغراق سواء كانت للتأكيد أم لا والاستغراق لأجزاء ما دخلت عليه ان كان معرفة ولجزيئاته ان كان نكرة فانك إذا قلت رأيت زيدا كله كانت لاستيعاب أجزائه وكذلك أخذت العشرة كلها.
وقولك: رأيت كلهم وكلهم قائم وكل القوم ضارب ونحوه من سائر الصور دخولها على المعرفة من هذا القبيل لأنك لو حذفتها لكان الشمول حاصلا فكانت لاستغراق تلك الأفراد التي استغرقها المعرفة كما هي لاستغراق أجزاء العشرة وزيد.
وإذا قلت: كل رجل قائم وما أشبهه من دخولها على النكرة كانت لاستغراق جزئيات تلك الحقيقة التي أضاف إليه واحد منهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحديد آية 23.(13/130)
ص -99-…قلت: وما ذكرناه من التفرقة بين إضافة كل إلى معرفة فيكون لاستغراق أجزاء ما دخلت عليه أضافتها إلى نكرة فيكون لجزيئاته هو ما ذكروه وقرره والدي رضي الله عنه وارتضاه ولمعترض ان يقول: قال الله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ}1 والمراد الجزئيات لا الأجزاء وقال صلى الله عليه وسلم: "كل الطلاق واقع الا طلاق المعتوه"2.
الحديث هذا القول في كل وأما جميع فمثل كل إذا أضيفت إلى معرفة فتكون لإحاطة الأجزاء ومما يستفاد في جميع ان ابن الفارض في كتابه النكت قال جميع وان كانت مثل كل في إفادة الاستغراق الا أنها تفارقها فينا عدا ذلك فان الزجاج حكى عن المبرد ان قوله: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ} يفيد وقوع السجود منهم فقط.
وقوله: {أَجْمَعُونَ} يفيد انهم سجدوا مجتمعين ويؤيده انه جعل الافتراق في مقابلة في قوله: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى}3.
قلت: والقول بان لفظ جميع بدل على اتحاد الزمن غريب لم أره في غير هذا الكتاب وانما يعرف ذلك في لفظ مجموع واما الألف واللام والموصولات كلها فمثل كل وكذلك من وما الشرطيتان والاستفهاميتان مثل كل ايضا تعم كل فرد وتحيط به.
هذا ما ذكره والدي في من ولقائل ان يقول من صالحة للمذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والمجموع هذا حظ منها وحظ النحوي منها وحظ الأصولي أنها للعموم فهل العموم في جميع هذه المراتب أو في الآحاد ويظهر فائدة إذا قال من دخل داري من هذين فاعطه درهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية 93.
2 ولفظ الحديث: عن أبي هريرة رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم- قال: "كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه المغلوب على عقله".
قال التلرمذي: لا تعرفه إلا من حديث عطاء بن عجلان وهو ذاهب الحديث وروي بإسناده عن علي مثل ذلك. المغني لابن قدامة 7/113 – 114 طمكتبة الرياض.
3 سورة الحشر آية 14.(13/131)
ص -100-…فان قلنا: بالأول أعطينا كل واحد درهما.
وان قلنا بالثاني: أعطينا كل واحد درهما بدخوله ونصف درهم بدخوله مع الآخر وان دخل ثلاثة فعلى الثاني نعطيهم ثلاثة بدخول الآحاد كل واحد درهما ودرهما بدخول الثلاثة لكل واحد منه الثلث وثلاثة لان صيغة الأثنينية فيهم ثلاثة فيستحقون بها ثلاثة لكل درهم فمجموع ما يستحقون تسعة وعلى هذا القياس وفيه احتمال آخر وهو انه لا يعطي المجموع الا درهما ومأخذه ان من لا تدل على الإفراد واحدا واحدا وانما تستغرق ما صلحت له.
وهذا البحث سمعته من والدي ولم يذكره في أحكام كل ولم أره منقولا ولا ملخص عنه فيما يظهر الا ان يقال لا عموم لها الا في مراتب الأفراد لكن الأسبق إلى الفهم أنها عامة فيما يصلح وهو يصلح للأفراد ومجموع الأفراد و ان كانوا لا يتناهون ولكل مرتبة من مراتب المثنى والمجموع دون النهاية فليبحث عن ذلك واما أي ومتى ومهما وأين فمدلولها كل فرد لا على سبيل الإحاطة فهي تخالف كلا في هذا المعنى والدليل على ذلك انك تقول أي الرجال عندك أزيد أم عمرو بأم لا بالواو ويقول أكل الرجال عندك زيد وعمر وخالد بالواو ولا بأم فدل على الفرق بين مدلوليها فكل تفيد شمول الحكم لكل ما دخلت عليه وأي لا تقتضيه ومن هنا جاء التكرار في كل وكلما ولم يجيء في أي ونحوها حتى لو قال أي وقت دخلت الدار فأنت طالق فدخلت مرة بعد أخرى لم يتكرر الطلاق ولو قال كلما دخلت أو كل وقت دخلت فدخلت مرة بعد أخري تكرر.
فإن قلت: فإذا كانت أي لا تدل على التكرار وانما تدل على أحد ما دخلت عليه لا بعينه فهي والمطلق سواء وكل منهما عمومه على البدل لا على الشمول والكلام إنما هو في عموم الشمول.
قلت: المطلق والنكرة التي لا عموم فيها لا تعرض لها للأفراد وانما يدل المطلق على الماهية وان دلت النكرة مع ذلك على وحدة فلا عموم فيها فمطلق(13/132)
ص -101-…هذا في النفي إذا قلت لا تشتم من شتمك فالظاهر أن المراد الحقيقة ومعناه مخالف لمعنى لا تشتم كل من شتمك.
والثالث: أي وهي مثل كل في إقامة الأفراد لكن يفارقها في اقتضاء كل الاستغراق الشمولي وأي لا تقتضي الا الاستغراق البدلي والله أعلم.
قال أو بقرينة في الاثبات كالجمع المحلى بالألف واللام والمضاف وكذا اسم الجنس أو النفي كالنكرة في سياق.
هذا هو الضرب الثاني: هو ما يفيد العموم من جهة اللغة لا من جهة وضعه له بل بواسطة اقتران قرينة وهو على وجهين.
أحدهما: أن يكون في الاثبات وذلك كالجمع المحلى بالألف واللام من غير عهد مثل أن الله بريء من المشركين والجمع المضاف نحو عبيدي أحرار وكذا المفرد إذا دخلت عليه الألف واللام أو الإضافة وهو الذي عبر عنه المصنف باسم الجنس كقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وقوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} كما سبق ومما يدل على أن المفرد المضاف يعم ولم نر من ذكره قوله تعالى: {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ}1 فان المراد موسى المرسل إلى فرعون ومعه هارون ولوط المرسل إلى المؤتفكات وهنا تنبيهان.(13/133)
أحدهما: ان العموم فيما ذكر مختلف فالداخل على اسم الجنس يعم الأفراد أعنى كل فرد فرد والداخل على الجمع يعم المجموع لان الألف واللام والإضافة يعمان افراد ما دخلا عليه وقد دخلا على جمع فانظر في هذا وفائدته انه يتعذر الاستدلال به في النفي والنهي على ثبوت الحكم لفرد لأنه إنما حصل النفي أو النهي عن افراد المجموع وليس الواحد جمعا وهذا معنى قولهم لا يلزم من النهي عن المجموع النهي عن كل فرد ولا من نفيه نفي كل فرد وهذا لا يعارض ما تقدم من ان العموم من باب الكلية وان معناه ثبوته لكل فرد سواء كان نفيا أو نهيا أم لا لانا في حالة الجمع أثبتناه ايضا في النفي والنهي لكل فرد من أفراد ما دخل عليه وهي الجموع وينبغي على مساق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحلقة آية 9.(13/134)
ص -102-…هذا في النفي إذا قلت لا تشتم من شتمك فالظاهر أن المراد الحقيقة ومعناه مخالف لمعنى لا تشتم كل من شتمك.
والثالث: أي وهي مثل كل في إقامة الأفراد لكن يفارقها في اقتضاء كل الاستغراق الشمولي وأي لا تقتضي الا الاستغراق البدلي والله أعلم.
قال أو بقرينة في الاثبات كالجمع المحلى بالألف واللام والمضاف وكذا اسم الجنس أو النفي كالنكرة في سياق.
هذا هو الضرب الثاني: هو ما يفيد العموم من جهة اللغة لا من جهة وضعه له بل بواسطة اقتران قرينة وهو على وجهين.
أحدهما: أن يكون في الاثبات وذلك كالجمع المحلى بالألف واللام من غير عهد مثل أن الله بريء من المشركين والجمع المضاف نحو عبيدي أحرار وكذا المفرد إذا دخلت عليه الألف واللام أو الإضافة وهو الذي عبر عنه المصنف باسم الجنس كقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وقوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} كما سبق ومما يدل على أن المفرد المضاف يعم ولم نر من ذكره قوله تعالى: {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ}1 فان المراد موسى المرسل إلى فرعون ومعه هارون ولوط المرسل إلى المؤتفكات وهنا تنبيهان.(13/135)
أحدهما: ان العموم فيما ذكر مختلف فالداخل على اسم الجنس يعم الأفراد أعنى كل فرد فرد والداخل على الجمع يعم المجموع لان الألف واللام والإضافة يعمان افراد ما دخلا عليه وقد دخلا على جمع فانظر في هذا وفائدته انه يتعذر الاستدلال به في النفي والنهي على ثبوت الحكم لفرد لأنه إنما حصل النفي أو النهي عن افراد المجموع وليس الواحد جمعا وهذا معنى قولهم لا يلزم من النهي عن المجموع النهي عن كل فرد ولا من نفيه نفي كل فرد وهذا لا يعارض ما تقدم من ان العموم من باب الكلية وان معناه ثبوته لكل فرد سواء كان نفيا أو نهيا أم لا لانا في حالة الجمع أثبتناه ايضا في النفي والنهي لكل فرد من أفراد ما دخل عليه وهي الجموع وينبغي على مساق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحلقة آية 9.(13/136)
ص -103-…هذا التقرير أن تختلف الجموع تشمل جموع القلة ثلاثة ثلاثة ولا يشمل جموع الكثرة وإلا أحد عشر أحد عشر.
الثاني: علمت اختيار المصنف ان المفرد المعرف بأن يعم وهو قول أبى اسحاق الشيرازي وابن برهان والجبائي والمبرد وصححه ابن الحاجب وهو المنقول عن الشافعي واما الإمام واكثر اتباعه فقالوا لا يفيد العموم والمختار الأول.
فان قلت لم لا قال الشافعي رضي الله عنه بوقوع الثلاث على من حلف بالطلاق المعروف وحيث قلت:
هذا سؤال سأله القرافي الشيخ عز الدين بن عبد السلام وأجابه كما ذكر في شرح المحصول بأن هذا يمين فيراعي فيهما العرف دون الأوضاع اللغوية قال الشيخ الإمام الوالد رحمه الله في الأجوبة عن الأسئلة التي سألته عنها وقد يقال في الجواب ان الطلاق حقيقة واحدة وهي قطع عصمة النكاح وليس له أفراد حتى يقال أنها تندرج في العموم ولكن مراتبه مختلفة منها ما يحصل به تشعيب النكاح وهو الرجعي وجوز الشارع فيه ان يكون مرة بعد أخرى والتشعيب الحاصل من الثانية اكثر من الحاصل بالأولى وان اشتركا في جواز الرجعة ومنها ما يحصل به البينونة مع إمكان الرد بغير محلل وهو إذا كان بعوض ومنها ما يحصل به البينونة الكبرى وهو الثلاث فهذه مراتب وليست إفرادا ولكن إذا قال أنت طالق ثلاثا فقد استوعب جملة الطلاق فإذا لم يذكر الثلاث ولا نواها لم يحمل الا على اقل المراتب لان الألف واللام لا دلالة لها على قوة مرتبة أو ضعفها فلا يحمل الا على الماهية وليست آحاد المراتب بمنزلة أحاد العموم حتى نقول بالاستغراق وأيضا فلو قال القائل العنق يلزمني أو المشي ان مكة ونحو ذلك وقلنا:
يجب عليه الوفاء لم يلزمه الا المسمى فكذلك هذا قال وهذا شيء يمكن ان يقال والأدب مع الشيخ عز الدين الاقتصار على جوابه.
والثاني: مما يدل بواسطة اقتران قرينة ان يكون في النفي وذلك كالنكرة(13/137)
ص -104-…في سياقه إما بما أو بلن أو ليس أو لم فإنها تعم سواء باشرها النفي نحو ما أحد قائم أم باشر عاملها نحو ما قام أحد ومما استدل به الإمام على النكرة في سياق النفي تعم انه لو لم يكن للنفي لما كان قولنا لا اله الا الله نفيا لدعوى من ادعى الها سوى الله تعالى.
واعلم ان النكرة ان كانت صادقة على القليل والكثير أو واقعة بعد لا العاملة عملان أعني لا التي لنفي الجنس مثل لا رجل في الدار ببناء رجل على الفتح أو داخلا عليها من مثل ما جاءني من رجل فإن كونها العموم من الواضحات ولكن هل استفيد العموم في قولك ما جاءني من رجل من لفظه أو كان مستفادا من النفي قبل دخولها هي لتأكيده الحق الثاني وهو ما قرره والدي أيده الله غير مرة ولهذا قال الشيخ جمال الدين بن مالك وتزاد لتخصيص العموم بعد نفي أو شبهة وأراد بتنصيص العموم تقويته كما.
ذكرناه وان كان هو حاصلا قبلها وقد اعترض عليه شيخنا أبو حيان فقال تقسيم المصنف وغيره من هذه الزائدة إلى أنها تكون لاستغراق الجنس ولتأكيد الجنس ليس هو مذهب سيبويه رحمه الله بل قولك ما جاءني من أحد وما جاءني من رجل من في الموضعين لتأكيد استغراق الجنس وهذا هو الصحيح انتهى وانما حمل شيخنا أبا حيان على ذلك انه لم يفرق بين العموم وتنصيص العموم ففهم كلام ابن مالك على خلاف ما أراد ثم اعترض عليه والحق ما ذكرناه وان العموم قبل دخول من ظاهر لا نص واحتماله للخصوص احتمال كبير وان كان مرجوحا وبعد دخول من العموم نص واحتمال الخصوص ضعيف جدا بحيث لا يكاد يوجد في كلام العرب ولا ينبغي ان يكون في ذلك خلاف بل ينزل اختلاف كلام العلماء على هذا التنزيل الذي ذكرناه وانه متى قلت ما جاءني رجل أفاد الاستغراق مع جواز إرادة الوحدة جواز منكر.
وإذا قلت ما جاءني من رجل كان الاستغراق فصار إرادة الخصوص مستنكرة.(13/138)
ص -105-…وإذا قلت ما جاءني أحد كان نصا في العموم لان أحد لا يدخل الا في النفي الا إذا كانت همزتها مبدلة من واو فإنها تدخل في الاثبات فلذلك يحتمل الخصوص ايضا فإذا دخلت عليه من كقوله تعالى: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}1لم يبق الاحتمال الخصوص وجه وقد تمسك القرافي في ان ما جاءني رجل لا يفيد العموم بقوله الزمخشري في قوله تعالى:{مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ }2 إنما استفيد العموم من لفظه من ولو قال مالكم اله غيره لم يعم مع ان لفظه اله نكرة وقد حكم بأنه لا يعم وكذلك قوله: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ}3 قال إنما استفيد العموم من لفظه من تكون لإرادة العموم نحو ما تقدم وتارة تؤكد العموم كقولك ما جاءني من أحد وهذا الذي قاله الزمخشري يمكن تأويله على أنها أربع مراتب كما أشرنا إليه أدناها في إفادة العموم ما جاءني رجل لعدم دخول من ولعدم اختصاص رجل بالنفي وأعلاها ما جاءني من ديار لانتفاء الأمرين والمرتبة المتوسطة ما جاءني من رجل وما جاءني أحد كما أشرنا إليه من قبل فان أراد الزمخشري ذلك صح كلامه وإلا فهو ممنوع لان قوله تعالى: {لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً}4 وقوله: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} ونظائرهما مما لا شك في إفادته العموم وليس فيه من ولا لفظ مختص بالنفي وأيضا فان النكرة تدل على المساهمة ولا دلالة لها على قيد الوحدة وان كانت محتملة له والاصل عدمه فدخول النفي عليها بنفي معناها بطريق الأصالة وهو مطلق الماهية ويلزم منه العموم واما احتمال قيد الوحدة فهو سابع ولكنه خلاف الأصل والظاهر فلا يجعل هو الأصل في الدلالة ولا مساويا لما هو الأصل وإذا تؤمل كلام العرب حصل القطع بذلك ولم يثبت في هذه المسالة خلاف ومن ادعى فيها خلافا يحتاج إلى بيان ورد لما قلناه ومع كون من هذه تفيد نصية العموم أو تأكيده في محتملة لان يكون للتبعيض أولا ابتداء الغاية.(13/139)
وقال ابن مالك ان في كلام سيبويه إشارة إلى أنها للتبعيض وهو كما قال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحاقة آية 47.
2 سورة هود آية 50.
3 سورة يس آية 46.
4 سورة البقرة آية 48.(13/140)
ص -106-…لأن سيبويه قال بعد تمثيله بما أتاني من رجل أدخلت من لأن هذا موضع تبعيض فأراد أنه لم يأت بعض الرجال وقال شيخنا أبو حيان ان هذا غير مرضي من ابن مالك لأنه يلزم منه ان تكون ألفاظ العموم للتبعيض وانما المقصود بزيادة من في نحو ما أتاني من رجل جعل المجرور بها نصا في العموم وانما تكون للتبعيض فيما إذا لم يقصد عموم وحسن في موضعها بعض نحو من الناس من يقول وهذا الذي قاله شيخنا غير مرضي والحق ما قاله ابن مالك وقد وافق شيخنا في آخر كلامه على جواز إرادة ذلك وعجب قوله انه يلزم ان يكون ألفاظ العموم للتبعيض وانما حمله على ذلك توهمه ان اصل العموم مستفاد من لفظة من وقد بينا خلافه فيما تقدم والله اعلم.
فائدتان: الاولى صرح امام الحرمين بأن النكرة في سياق الشرط تعم في قول القائل من يأتني بمال أجازه فلا يختص هذا بمال هذا كلامه ومراد العموم البدلي لا الشمولي وهو صحيح.
الثانية: اختلف في ان النكرة في سياق النفي هل عمت لذاتها والنفي المشترك منهما.
والثاني: هو قول الحنفية واختاره والدي أيده الله فلم يحصل العموم عندهم الا لأن حرف النفي اقتضى نفي الماهية الكلية ونفي الأعم يلزم منه نفي الأخص فحصلت السالبة الكلية بطريق اللزوم لا لأن اللفظ موضوع في اللغة للسالبة الكلية وظاهر كلام غيرهم من الشافعية الأول وهو ان اللفظ وضع لسلب كل فرد من افراد الكلية وان سلب الكلي حصل بطريق اللزوم لنفي الكلية عكس تلك المقالة فإنه يلزم من نفي كل فرد نفي الكلي ومن نفي الكلي نفي كل فرد فهما متلازمات وهذا المذهب هو الظاهر عند القرافي وينبني على الخلاف التخصيص بالنية فإن قلنا يقول الحنفية من أنه نفي للكلي فلا يؤثر حتى لو قال لا أكلت ونوى معينا لا يسمع وإن قلنا بالقول الآخر من انه نفي للكلية فيؤثر تخصيص بعض الأفراد بالنية.
قال أو عرفا مثل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} فإنه يوجب حرمة جميع الاستمتاعات.(13/141)
ص -107-…هذا هو القسم الثاني: وهو تقيد العموم من جهة العرف مثل قوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} فإن أهل العرف نقلوا تحريم العين إلى تحريم جميع الاستمتاعات المقصودة من النساء فيفيد حرمة جمع الاستمتاعات من الوطء ومقدماته ومنهم من يقول.
المقصود في هذه الآية تحريم الوطء خاصة ومنهم من تدعي إجمالها كما ستعرفه في باب المجمل والمبين لأن المصنف ذكر قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} فإنا حملناه على الأكل للعرف
والخلاف في هذه الآية هو الذي في تلك.
قال أو عقلا كترتب الحكم على الوصف.
هذا هو القسم الثالث: وهو ما يدل عليه بالعقل وهو ثلاثة.
الأول: وعليه اقتصر في الكتاب ترتيب الحكم على الوصف فإن ترتيبه يشعر بكونه علة له وذلك يفيد بالعقل على معنى أنه كلما وجدت العلة وجد المعلول وكلما انتفت انتفي فهذا القسم إنما دل بالعقل ولم يدل باللغة ولا بالعرف أما العرف فواضح وأما اللغة فلأنه لو دل بها لكان أما المنطوق أو المفهوم وانتفاء المفهوم ظاهر ولا يدل بالمنطوق لان تعليق الشيء بالوصف لا يدل على التكرار لفظا.
والثاني: ما يذكر جوابا عن سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عمن افطر فقال عليه الكفارة فيعلم أنه يعم كل مفطر.
والثالث: مفهوم المخالفة عند القائلين به كقوله صلى الله عليه وسلم: "مطل الغني ظلم" فانه بمفهومه يدل على أن مطل غير الغني لا يكون ظلما وأما مفهوم فداخل في القسم الأول إذا الحكم إنما ثبت فيه بطريق الأولى لأجل أن العلة فيه أولى أو لكونه مساويا لأجل ان العلة اقتضت ذلك فكان من جملة أصناف القسم الأول.(13/142)
ص -108-…قال ومعيار العموم جواز الاستثناء فانه يخرج ما يجب اندراجه لولاه وإلا لجاز من الجمع المنكر قيل لو تناوله لامتنع الاستثناء لكونه نقضا قلنا: منقوض بالاستثناء من العدد.
ذهب قوم وهم الملقبون بأرباب الخصوم إلى انه ليس للعموم صيغة تخصه وان ما سبق ذكره من الصيغ موضوع في الخصوص وهو اقل الجمع أما إثنان أو ثلاثة على الخلاف فيه واستعمل في العموم مجازا وذهب الشافعي وسائر المحققين إلى أن له صيغا مخصوصة به بالوضع ويستعمل مجازا في الخصوص وذهب آخرون الى الوقف ونقله القاضي في مختصر التقريب عن الشيخ ومعظم المحققين وذهب إليه قال وحقيقة ذلك انهم قالوا سبرنا اللغة ووضعها فلم نجد في وضع اللغة صيغة دالة على العموم سواء وردت مطلقة أو مقيدة بضروب من التأكيد واقفية مذهب آخر وهو دعوى الاشتراك.
ونقل عن الشيخ ايضا وعليه الاكثرون من الواقفية ومنهم من فصل بين الاخبار والوعيد والأمر والنهي.
فقال: بالوقف في الاخبار والوعد والوعيد دون الامر والنهي هذه مذاهب خمسة وحكى القاضي في تختصر التقريب سادسا وهو تسليم العموم حالة التقييد بضروب من التقييد فلفظ الناس مثلا إذا قلنا انه لا يعم حالة الاطلاق فنسلم انه عام في مثل قوله القائل الناس أجمعون عن آخرهم صغيرهم وكبيرهم لا يشذ منهم أحد إلى غير ذلك.
قال القاضي والمحققون من الواقفية يقولون:
وان قيدت بهذه القيود فليست موضوعة للاستغراق في اللغة ولكن قد يعرف عمومها بقرائن الأحوال المقترنة بالمقال وهي مما لا تنحصر بالعبارة كما يعرف بالقرائن وجل الرجل وان كانت القرائن لا توجب معرفتها ولكن أجرى الله العادة بخلق العلم الضروري عندها.(13/143)
ص -109-…وسابعا: عن بعض الواقفية ان الخير إذا انطوى على وعيد العصاة من أهل الملة لزم التوقف فيه ولا يتوقف في غيره.
وثامنا: وهو التوقف في الوعيد دون الوعد قال وفرق بينهما بما يليق بالشطح والبرهان دون الحقائق.
وتاسعا: عن بعض المنتمين إلى الواقفية وهو ان الاخبار إذا وردت ومخرجها مخرج العموم عند القائلين به وسمعها السامع وكانت وعدا أو وعيدا ولم يسمع من آي الكتاب وسنن الرسول صلى الله عليه وسلم ومواقع أدلة السمع شيئا فيعلم ان المراد بها العموم وان كان قد سمع قبل اتصالها به أدلة الشرع وعلم انقسامها للخصوص والعموم فلا يعلم حينئذ العموم في الاخبار اتصلت به.
قال: واعلم ان هذه الفئة بالنسبة إلى القائلين بالعموم أولى منهم بالنسبة إلى الواقفية هذا ما حكاه القاضي في هذا الكتاب ثم أطنب في الاستدلال على مذهبه والرد على خصومه وهذه المذاهب التي حكاها ذكرها غيره وانما أردت سردها من كلام القاضي.
واعلم ان هذا الكتاب قد أكثرنا النقل عنه في هذا الشرح وهو كتاب التلخيص لامام الحرمين اختصر من كتاب التقريب والإرشاد للقاضي فلذلك أغزو النقل تارة إلى التلخيص لامام الحرمين وذلك حيث يظهر لي ان الكلام من أمام الحرمين فإنه زاد من قبل نفسه أشياء على طريقة المتقدمين في الاختصار وتارة أعزوه إلى مختصر التقريب وهو حيث لا يظهر لي ذلك والذي أقوله ليستفاد اني على كثرة مطالعتي في الكتب الأصولية للمتقدمين والمتأخرين وتنقيبي عنها على ثقة بأني لم أر كتابا اجل من هذا التلخيص لا لمتقدم ولا لمتأخر ومن طالعة مع نظره الى ما عداه من المصنفات علم قدر هذا الكتاب وفي المسألة قوله.
عاشرا: حكاه المازري في شرح البرهان فقال أشار بعض المتأخرين في بعض الفاظه إلى طريقة مستغربة لا يكاد يصغي إليها أحد من أهل هذه الصناعة فقال ان لفظة المؤمنين والكافرين حيث ما وقعت في الشرع أفادت(13/144)
ص -110-…العموم ويمكن ان يكون هذا من أحكام الشرع في بعض الالفاظ اللغوية كاحتكامه في لفظ الصلاة والحج والصوم وهنا تنبيهات.
أحدها: أن الواقفية وإن قالت لم يوضع اللفظ لخصوص ولا عموم.
قالت: بانا نعلم أن اقل الجمع لا بد منه ليجوز إطلاقه قال امام الحرمين ومما دل الناقلون فيه انهم نقلوا عن أبي الحسن ومتبعيه ان الصيغة وان تقيدت بالقرائن فإنها لا تشعر بالحج بل تبقى على التردد.
قال: وهذا وان صح النقل فيه فهو مخصوص عندي بالتوابع المؤكدة لمعنى الجمع كقول القائل رأيت القوم أجمعين اكثعين ابصعين فأما ألفاظ صريحة تعرض مقيدة فلا يظن بذي عقل أنه يتوقف فيها.
الثاني: قال امام الحرمين لا ينكر أحد من الواقفية أمكان وأيضا استدلال الصحابة بعموم ذلك مثل: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي}.
التعبير عن معنى الجميع بترديد ألفاظ مشعرة به كقول القائل رأيت القوم واحدا واحدا لم يغتن منهم أحدا وإنما كرر هذه الالفاظ قاطعا لوهم من يحسبه خصوصا الى غير ذلك.
قال: وانما انكر الواقفية لفظة واحدة مشعرة بمعنى الجمع انتهى وقد علمت فيما تقدم من كلامه في التلخيص أن الذي ادعى فيه الوفاق محل خلاف ولا يتوهم ان مراده بالجمع القدر المخصوص الذي هو ثلاثة أو اثنان وانما مراده العموم يدل عليه.
قوله: إنما كرر هذه الالفاظ قطعا لوهم من يحسبه خصوصا.
وقوله: رأيت القوم واحدا واحدا لم يغتني منهم أحد وقد أطلنا في حكاية المذاهب فلنعد الى الشرح فنقول الذي ذهب إليه المصنف تبعا لامام مذهب الشافعي وهو المختار ونقله القاضي عبد الوهاب في الملخص عن الفقهاء بأسرهم والآمدي قال المختار إنما هو صحة الاحتجاج بهذه الالفاظ في الخصوص لكونه مرارا من اللفظ يقينا سواء أريد به الكل أو البعض والوقف(13/145)
ص -111-…فيما زاد على ذلك هذا كلامه وهو قريب من مذهب الواقفية الا انه لم يصرح بأنه متردد في ان العموم هل له صيغة أو هل الصيغة مشتركة وانما ذكر الاحتجاج فقط وابن الحاجب لم يتابعه على هذا بل اختار مذهب الشافعي رضي الله عنه واستدل المصنف عليه بوجهين.
أحدهما: انه لو لم تكن هذه الصيغ للعموم لما جاز دخول الاستثناء لكنه يجوز أن يستثني منها ما يشاء من الأفراد بالاتفاق فدل على أنها للعموم وبيان الملازمة ان الاستثناء وإخراج ما لولاه لوجب دخوله في المستثنى منه فلزم ان يكون كل الأفراد واجبة الإندراج ولا معنى للعموم الا ذلك وانما قلنا لولا الاستثناء لوجب اندراج المستثنى في المستثنى منه ولان الاندراج جائز بالاتفاق فلو لم يكن واجبا ايضا لكان يجوز الاستثناء من الجمع المنكر لاشتراكهما في إمكان اندراج كل فرد من أفرادهما تحته فتقول جاء رجال الا زيدا وقد نص النحاة على منعه وأجاب بأن ما ذكرتموه منقوض بالاستثناء من العدد فانه يجوز وهذا الجواب أولا ضعيف لان للخصم أن يمنع صحة الاستثناء من تعدد كما هو أحد المذاهب للنحاة وصححه إبن عصفور.(13/146)
وثانيا: لا يحتاج إليه لأنه لم يدع وجوب الاندراج مع كونه مستثنى وانما ادعاه عند عدمه ولهذا قال ما يجب اندراجه لولاه وعلى هذا الفرض فالمستثنى ليس داخلا في المستثنى منه نية وإنما هو داخل لغة لأن المختار أن الحكم على المستثنى منه إنما هو بعد إخراج المستثنى فلا تناقض واعترض القرافي على الدليل بان الاستثناء أربعة أقسام ما لولاه لعلم دخوله نحو عشرة الا اثنين وما لولاه لظن دخوله وهو الاستثناء من العمومات نحو اقتلوا المشركين الا زيدا وما لولاه لجاز دخوله من غير علم ولا ظن وهو أربعة الاستثناء من المحال نحو اكرم رجلا الا زيدا فان كل أخص محل لأعمه والأزمنة نحو صل الا عند الاستواء والأمكنة نحو صل الا في الحمام والأحوال كقوله تعالى: {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ}1 أي في كل حالة من الأحوال الا في حالة الإحاطة بكم وما لولاه لامتنع دخوله نحو الاستثناء المنقطع في قولك قام القوم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة يوسف آية 66.(13/147)
ص -112-…الا حمارهم وإذا كان الاستثناء اعم من كل واحد من هذه الاقسام امتنع الاستدلال به على الوجوب فان الخصم لا يعتقد الا الجواز في هذه الصورة هذا اعتراضه والجواب ان لا ندعى ان امتنع الاستدلال به على فإن الخصم لا يعتقد الا الجواز في هذه الصورة هذا اعتراضه والجواب ان لا ندعي ان مطلق الاستثناء لإخراج ما لولاه لوجب دخوله وانما ندعي ذلك في صيغة من وما والمجموع المعرفة والدليل عليه اجماع أئمة العربية على ان الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل تحت اللفظ والاتفاق على انه يصح الاستثناء من هذه الصيغ وهاتان المقدمتان يفيدان كون هذه الصيغة للعموم والمقدمة الإجماعية لا تمنع ولا تعارض سواء قلنا تفيد العلم أم لا وأيضا فالاستثناء إخراج ما لولاه لدخل سواء كان معلوم الدخول أو مظنون الدخول وذلك هو القدر المشترك وإلا يلزم الاشتراك أو المجاز وهما على خلاف الأصل واما استثناء الجائز فممنوع وقوله المحال نحو أكرم رجلا الا زيدا.
قلنا: قال النحاة لا يستثنى المعرفة من النكرة الا ان عمت نحو ما قام رجال كانوا في دارك الا زيد منهم وليس في قولكم اكرم رجلا الا زيدا واحدا الأمرين واما الأزمنة والأمكنة والأحوال فإنما ذلك لتقدير لأنك تقدر صل كل وقت وصل في كل مكان ولتاتنني به في كل حاله فالاستثناء بعد ذلك إنما ورد على داخل في اللفظ والله اعلم قال وأيضا استدلال الصحابة بعموم ذلك مثل: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} أمرت ان أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله الا الله الأئمة من قريش نحن معاشر الأنبياء لا نورث شائعا من غير نكير.
الوجه الثاني: من الاستدلال أن الصحابة رضي الله عنهم استدلت بعموم بعض هذه الصيغ أو بعضهم وشاع ولم ينكر فكان اجماعا وبيان ذلك انهم استدلوا لعموم اسم الجنس المحلى بالألف واللام على العموم وذلك نحو قوله تعالى:(13/148)
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا}1وعملوا بمضمون ذلك واستدلوا بعموم الجمع المضاف نحو تعالى:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النور آية 2.(13/149)
ص -113-…{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}1 واستدل أبو بكر رضي الله عنه ايضا بعمومه فانه رد على فاطمة رضي الله عنها لما طلبت منه ميراثها من النبي صلى الله عليه وسلم بقوله صلى الله عليه وسلم:
"نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة"2 وهذه الواقعة على هذا النسق لا اعرفها وانما اخرج البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها ان فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثها من الرسول صلى الله عليه وسلم يطلبان سهمه من فدك وسهمه من خيبر فقال لهما أبو بكر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا نورث ما تركنا صدقة".
وروى الترمذي في غير الجامع: "إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة" قال شيخنا الذهبي3 وفي صحته نظر واستدل عمر رضي الله عنه بعموم اسم الجمع المحلى فانه قال لأبي بكر رضي الله عنه حين عزم على قتال مانعي الزكاة كيف تقاتلهم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله الا الله فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم" فقال له أبو بكر أليس قد قال: "إلا بحقها" وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وتمسك به أيضا أبو بكر رضي الله عنه بقوله صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش"4 وحديث الائمة من قريش رواه العام احمد والنسائي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية 11.
2 روى هذا الحديث البخاري في كتاب فضل الجهاد باب فرض الخمس 4/98وكتاب الفرائض باب: لانورث ماتركناه صدقة 8/185 كما رواه مسلم في باب حكم الفيء5/153- 154 كذا رواه النسائي في سننه الكبرى بلفظ إنا بدلا من نحن. ولا تعارض بين الحديث وبين قوله: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ}النمل آية 16فإن المقصود في الآية الكريمة هو وارثة العلم أو النبوة والملك. والله أعلم.اهـ محققة.
3 هو محمد بن أحمد بن عثمان قايماز الذهبي حافظ مؤرخ تركماني الأصل من أهل ميا فارقين.(13/150)
مولده ووفاته في دمشق رحل إلى القاهرة وطاف كثيرا من البلدان تصانيفه تفوق الحصر.منها: دول الإسلام: وتاريخ الإسلام الكبير: وسير النبلاء و تذكرة الحفاظ وغير ذلك.
توفي سنة 748هـ. وفوات الوفيات 2/3/183, الإعلام 6/222- 223.
4 رواه البخاري – فتح الباري 13/93 , والنسائي وأبو يعلى من طريق بكير الجزري عن أنس كما رواه أحمد في مسنده 1/93, 3/129, 183, 4/421.(13/151)
ص -114-…قال الثالثة: الجمع المنكر لا يقتضي العموم لأنه يحتمل كل أنواع العدد قال الجبائي انه حقيقة في كل أنواع العدد فيحمل على الجميع حقائقه قلنا لا بل في القدر المشترك.
الجمع المنكر إذا لم يكن مضافا لا يقتضي العموم عند الجمهور بل يحمل على ثلاثة أو اثنين على الخلاف في اقل الجمع وذهب أبو على الجبائي إلى انه يقتضيه قال صفي الدين الهندي والذي أظنه ان الخلاف في غير جمع القلة وإلا فالخلاف فيه بعيدا جدا إذ هو مخالف لنصهم على انه للعشرة مما دونها انتهى لكن الحكايات في غالب المصنفات عن الجبائي ناطقة فانه يجمع الجمع المنكر بمنزلة الجمع المعرف والقاضي في مختصر التقريب صرح بحكاية ذلك عنه وقضية ذلك عدم التفرقة بين جموع القلة والكثرة لنا ان لفظ رجال يحتمل جميع أنواع العدد لأنه يصح لغة بأي جمع شئنا فنقول رجال ثلاثة وأربعة وخمسة فصح نقسمه الى ذلك ومورد التقسيم اعم من كل واحد من تلك الاقسام الخاصة والأعم لا يدل على الأخص فاللفظ الدال على ذلك المورد لا يكون له أشعار بتلك الاقسام فلا يكون الا عليها وفي قول المصنف في كل أنواع العدد مناقشة إذ يقال الاثنان عدد باتفاق لحساب وليس ذلك بجمع على رأيك لأنه اقل الجمع ثلاثة واحتج الجبائي بأن جملة على الاستغراق حمل له على كل حقائقه لأنه يطلق على كل نوع منها والاصل في الإطلاق الحقيقه مشتركا بينهما فيحمل عليها.
أجاب بأنا لا نسلم انه حقيقة في القدر المشترك بين الكل وهو مطلق الجمع الصادق على الثلاثة والأربعة فما فوقهما وقد بينا ان الدال على ما به الاشتراك غير دال على ما به الاحتياز.
واعلم ان هذا الدليل الذي أورده الجبائي يستفاد منه انه عنده من المشتركات وانه يحمل المشترك على معاينة وسبق التنبيه على ذلك في مسالة المشترك وللجبائي دليل آخر يغاير هذه الطريقة وهو صحة الاستثناء من الجمع المنكر حكاه عنه الأصوليون على طبقاتهم القاضي فمن بعده وهو مغايرته لهذه(13/152)
ص -115-…الطريقة ممنوع فقد أتفقت النحاة على ان ذلك لا يصح واما جعل الإمام هنا اقل رجال ثلاثة ففيه نظر لان جمع كثرة والأقل في مدلوله إنما هو أحد عشر باتفاق النحاة وهو المشترك بين جموع الكثرة كلها الا ان ما ذكره ماش على ما قاله الفقهاء فإنهم قالوا له عندي دراهم قبل تفسيره ثلاثة مع أن دراهم جمع كثرة.
قال الرابعة قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ}1 يحتمل نفي الاستواء من كل وجه ومن بعضه فلا ينبغي الاستواء من كل وجه لان الأعم لا يستلزم نفي الأخص بخلاف لا آكل فانه عام فيحتمل التخصيص كما لو قيل لآكل أكلا وفرق أبو حنيفة بان أكلا يدل على الوحدة وهو ضعيف.
هذه المسالة مشتملة على بحثين:
الأول: ان نفي المساواة بين الشيئين هل يقتضى العموم اعني نفي الاستواء من كل وجه أم لا وذهبت الشافعية رضي الله عنهم وجماعة آخرون إلى الأول وتمسك بها أصحابنا على ان المسلم لا يقتل بالكافر لان القصاص مبني على المساواة.
وذهب الحنفية إلى الثاني واختاره المصنف تبعا للإمام والخلاف في المسالة دائر على حرف واحد وهو ان لفظ ساوى واستوى وما مثل زيدا عمرا أو زيد مثل عمرو والمماثلات كلها والاستواءات هل مدلولها في اللغة المشاركة في جميع الوجوه حتى يكون مدلولها كلا شاملا ومجموعا محيطا أو مدلولها المساواة في شيء ما حتى يصدق بأي وصف كان واحتج المصنف بأن نفي الاستواء اعم من نفي الاستواء من كل الوجوه أو من بعضها والدال على القدر المشترك بين القسمين لا إشعار له فيه بهما وهذا معنى قولهم الأعم لا يستلزم نفي الأخص فحينئذ نفي الاستواء لمطلق لا يحتمل نفي الإستواء من كل وجه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحشر آية 20.(13/153)
ص -116-…فإن قلت هذا ضعيف لأن الأعم إنما لا يدل على الأخص في ظرف الاثبات أما في ظرف النفي فيدل لأن نفي العام يدل عل نفي الخاص وهذا نفي للحقيقة التي هي أعم فينبغي جزئياتها الا ترى إلى تكذيبك من قال لم أر حيوانا وكان قد رأى إنسانا وهذا يصلح ابتداء دليل لنا فإن لا استوى نكرة دخل عليها حرف النفي فيكون العموم لموافقتكم إيانا على ان النكرة في سياق النفي للعموم.
قلت: هذا بحث صحيح حقا من جهة قولنا ان الاستواء اعم وكل فرد من أفراده أخص ونحن إنما قلنا ذلك جريا على متن الكتاب والذي عندنا ان الاستواء شيء واحد مدلوله واحد وهو الاستواء من جميع الوجوه وما يحصل بين زيد وعمرو من المساواة في بعض الوجوه فليست المساواة المطلقة بل مساواة خاصة فإذا نفيت تلك المساواة التي موضوعها جميع الوجوه لم يلزم ان لا يثبت مساواة أخرى مقيدة ببعض الوجوه وانما يلزم ذلك ان لو كان ثم أعم وأخص.
فإن قلت: هل هذا في حال النفي على الوجه الذي قررتم سلب للعموم فان مدلول المساواة على ما ذكرتم جميع الوجوه فلا يلزم من انتفائها أن لا يثبت من بعض الوجوه:
قلت: لو كان مدلوله متعددا لكان كذلك ولكنا نجعله شيئا واحدا وهو المساواة المتعلقة بجميع الوجوه فإذا نفيته انتفت تلك المساواة إذ هي التي كانت مشتبهة ولا يلزم أن لا يثبت مساواة أخرى مقيدة لم يتعرض لها إثباتك ولا نفيك.
البحث الثاني: واليه أشار بقوله بخلاف لا آكل تقريره أنه إذا حلف لا يأكل وتلفظ بشيء معين مثل والله لا آكل التمر أو لم يتلفظ لكن أتى بمصدر ونوى شيئا معينا فلا خلاف بين الإمامين الشافعي وأبى حنيفة انه لا يحنث بغيره وأما إذا لم يتلفف بالمأكول ولا أتى بالمصدر ولكن خصصه بالنية كما إذا قال والله لا أكلت في النفي ونوى شيئا معينا ففي تخصيص الحنث بالمنوي مذهبان مأخذهما ان قولك لا آكل هل هو سلب الكلي وهو(13/154)
ص -117-…القدر المشترك في الأكل أو ان حرف النفي الداخل على النكرة عم لذاته وقد تقدم هذا فان قلنا:
بالأول: كما هو قول الحنفية فلا يقبل التخصيص لأنه نفي الحقيقة وهو شيء واحد ليس بعام والتخصيص فرع العموم وان قلنا: بالثاني: عم لكونه نكرة في سياق النفي وإذا ثبت كونه عاما قبل التخصيص كسائر العمومات والمصنف في هذا البحث اختار مذهب الشافعي رضي الله عنه واستدل بالقياس على ما لو قال لا آكل أكلا فان أبا حنيفة سلم قبوله للتخصيص بالنية قال المصنف فكذلك لا آكل فان المصدر موجود فيه لكونه مشتقا منه وقد فرق من اختيار مذهب أبي حنيفة بأن آكل يتضمن الصدر والمصدر إنما يدل على الماهية من حيث هي والماهية من حيث هي لا نعدد فيها فليست بعامة فلا يقبل التخصيص فيحنث بالجميع قال واما آكل فليس بمصدر لأنه يدل على المرة الواحدة وحينئذ يصح تفسير ذلك الواحد بالنية فلهذا لا يحنث بغيره قال صاحب الكتاب وهو ضعيف لان هذا مصدر مؤكد بلا نزاع والمصدر المؤكد يطلق على الواحد والجميع ولا يفيد فائدة سوى تقوية المؤكد فلا فرق حينئذ بين الأول والثاني.(13/155)
واعلم ان الأمام مال في هذه المسالة على أصحابنا وقال نظر أبى حنيفة فيها دقيق لان النية لصحت أما في الملفوظ أو غيره والأول باطل لان الملفوظ هو الأكل وهو ماهية واحدة لا يقبل التعدد فلا تقبل التخصيص فان أخذت مع قيود زائدة عليها تعددت وحينئذ تصير محتملة للتخصيص لكن تلك زوائد غير ملفوظة بها فالمجموع الحاصل من الماهية ومنها غير ملفوظ فيكون القابل لنية التخصيص غير ملفوظ وهذا هو وان جاز عقلا الا ان نبطله بالدليل الشرعي فنقول إضافة ماهية الأكل إلى الخير تارة والى اللحم أخرى إضافات تعرض لها بحسب اختلاف المفعول به وإضافتها إلى هذا اليوم وذاك وهذا الموضوع وذاك إضافات عارضة بحسب اختلاف المفعول فيه ثم اجمعنا على انه لو نوى التخصيص بالمكان والزمان لم يصح فكذا التخصيص بالمفعول به والجامع رعاية لاحتياط في تعظيم اليمين هذا(13/156)
ص -118-…كلامه والنظر الدقيق إنما هو نظر أصحابنا وما ذكره الإمام مدخول لا يتبين به دقة نظر الخصم وقوله الأكل ماهية واحدة لا يقبل التعدد قلنا صحيح ولكن مع قرينه دخول حرف النفي لا نسلم انه لا دلالة له على التعدد ولو سلمنا ان الملفوظ لا يقبل التخصيص فغير الملفوظ يقبله والجواب عما ذكره من القياس.
أما أولا: فبالمنع فانا لا نعرف خلافا في المذهب انه يجوز تخصيص النية بالمكان والزمان كما يجوز بالمأكول المعين.
واما الثانية: فقياس المفعول به على المفعول فيه واضح التعسف لأن المفعول به من مقدمات الفعل في الوجود لأن أكلا بلا مأكول محال وكذا في الذهن فهم ماهية الأكل دون المأكول مستحيل فالتزام الأكل للمأكول واضح واما الزمان والمكان فليسا من لوازم ماهية الفعل ولا من مقدماته بل هما من لوازم الفاعل المحدث ولهذا ينفك فعلى الله تعالى عن الزمان والمكان ولا ينفك أكل عن مأكول فالزمان اتفاقي ليس يلازم والحاصل ان دلالة الفعل على المفعول به أقوى من دلالته على المفعول فيه.
ثم إن الإمام قال: ان أكلا غير مصدر في الحقيقة وهذا مخالف لإجماع أهل اللسان على انه مصدر وان إعرابه النصب على المصدر ولكن عذر الإمام انه يدعي انه يشعر بالوحدة فليس المراد به الحقيقة من حيث هي والمصدر للحقيقة من حيث هي ونحن لا نسلم له الاشعار بالوحدة.
خاتمة: صورة هذه المسألة ان يكون الفعل متعديا غير متقيد بشيء مثلناه وهو الذي ذكره إمام الحرمين والغزالي والآمدي وغيرهم وعلى هذا لا تتناول هذه المسألة الأفعال القاصرة والقاضي عبد الوهاب في كتاب الإفادة قال الفعل في سياق النفي هل يقتضي العموم كالنكرة في سياق النفي لأن نفي الفعل لمصدره فإذا قلنا لا يقوم كأنا قلنا لا قيام وعلى هذا التفسير تعم المسألة القاصرة والمتعدي.(13/157)
ص -119-…الفصل الثاني: في الخصوص
وفيه مسائل الاولى: التخصيص إخراج بعض ما يتناوله اللفظ والفرق بينه وبين النسخ انه يكون للبعض والنسخ قد يكون عن الكل والمخصص والمخرج عنه والمخصص المخرج وهو إرادة اللافظ ويقال للدال عليها مجازا.
بدأ في هذا الفصل بتعريف التخصيص والمخصص أما التخصيص فقد قال أبو الحسن والامام انه إخراج بعض ما يتناوله الخطاب وتبعهما المصنف لكنه أبدل الخطاب باللفظ فالإخراج جنس يشمل المحدد وغيره وباقي الحد فصل والمراد بالإخراج الإخراج عما يقتضيه ظاهر اللفظ من الإرادة والحكم لا عن الإرادة نفسها ولا عن الحكم نفسه فان ذلك الفرد لم يدخل فيهما حتى يخرج عنهما ولا عن الدلالة فإن الدلالة هي الإفهام عند التجرد وهذا الامر لا يبطل بالمخصص واللفظ يدخل فيه العام وغيره كالاستثناء من العدد فإنه ايضا من المخصصات كما سيأتي ان شاء الله تعالى وكذا بدل البعض كما صرح به ابن الحاجب مثل أكلت الرغيف ثلثه.
واعترض القرافي على هذا الحد بوجهين:
أحدهما: أنه يندرج فيه إخراج بعض العام بعد العمل به وهو النسخ لا تخصيص
والثاني: ان التخصيص قد يكون من مفهوم كما سيأتي ان شاء الله قوله والفرق التخصيص شديد الشبه بالنسخ وقد فرق بينهما المصنف بأن(13/158)
ص -120-…التخصيص دائما لبعض الأفراد والنسخ قد يكون لكل الأفراد وقضية هذه التفرقة ان يكون النسخ اعم من التخصيص وفي بعض نسخ الكتاب والنسخ عن الكل يحذف قد يكون ويرد على هذه النسخة ان إخراج البعض بعد العمل نسخ واما جعل النسخ اعم فهو مغاير لما اختاره الإمام فإنه قال النسخ لا معنى له الا تخصيص الحكم بزمان معين بطريق خاص فيكون الفرق بين التخصيص والنسخ فرق ما بين العام والخاص وما ذكره الإمام في النسخ قد ساعده عليه الأستاذ1 فإن إمام الحرمين قال في كتاب النسخ صرح لأستاذ بأن النسخ تخصيص في الزمان واعترض على هذا بأن صور النسخ عندنا النسخ قبل التمكن وقيل إتيان زمان الفعل وحينئذ يكون النسخ إبطالا للحكم بالكلية فلا يقال ان ذبح الذبيح اختص ببعض الأزمنة بل ما وقع واعترض على قوله التخصيص اعم بان التخصيص ايضا قد يقع في الأزمنة كما في قول القائل والله لا أكلمه الأيام وأراد أياما معدودة والنسخ قد يقع في غير الأزمنة كما في النسخ قبل العمل ويتطرق إلى كل الأحكام بأي طريق يثبت والتخصيص لا يتطرق الا إلى ما ثبت بالألفاظ والأصوليون ذكروا الفرق بينهما من وجوه.
أحدها: أن التخصيص مخصوص بالأعيان والنسخ مخصوص بالأزمان بدليل انهما المتبادران إلى الإفهام عند إطلاقهما.
والثاني: أن التخصيص لا يكون الا فيما تناوله اللفظ والنسخ اعم من ذلك كما عرفت.
الثالث: ان النسخ يتطرق إلى حكم سواء كان ثابتا في حق شخص واحد أم أشخاص كثيرة والتخصيص لا يتطرق إلا إلى النوع الأول.
الرابع: أنهم يعدون النسخ إبطالا وكذلك يشترطون في التخصيص بخلاف التخصيص فانهم يعدونه بيانا.
الخامس: أنه يجوز تأخير النسخ عن وقت العمل بالمنسوخ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: أحمد بن محمد الإسفراييني من أعلام الشافعية. من مؤلفاته كتاب الرونق في الفقه والأصولتوفي ببغداد سنة 401هـ. الاعلام 1/203.(13/159)
ص -121-…واما التخصيص فلا يجوز تأخيره عن وقت العمل بالتخصيص وفاقا.
السادس: انه يجوز نسخ شريعه بشريعة أخرى ولا يجوز التخصيص قال القرافي وفي هذا الاطلاق وقع في كتب العلماء كثيرا والمراد ان الشريعة المتأخرة قد تنسخ بعض أحكام الشريعة المتقدمة أما كلها فلا لان قواعد العقائد لم تنسخ وكذلك حفظ الكليات الخمسة فحينئذ النسخ إنما يقع في بعض الأحكام الفرعية وإن جاز نسخ شريعة بشريعة عقلا.
السابع: ان النسخ رفع الحكم بعد ثبوته والتخصيص ليس كذلك وهو على رأي القاضي واما غيره فينبغي ان يقول هو انتهاء حكم كان أما ثابتا والتخصيص ليس كذلك.
الثامن: ان الناسخ يجب ان يكون متراخيا والمخصص لا يجب فيه ذلك بل يجوز كونه مقارنا ومتقدما.
العاشر: أن التخصيص للمقطوع بالمظنون دافع ونسخه لا يقع به.
الحادي عشر: أنه يجوز تخصيص الخير والخلاف فيه ضعيف ولا يجوز نسخه وهذا على رأي طائفة وهذه الفروق يحتمل أكثرها المناقشة والتطويل في ذلك مما لا يتعلق به كبير غرض قوله والمخصص هو بكسر الصاد والمخرج بعده بكسر الراء قوله وهو إرادة اللافظ أي انه حقيقة إرادة المتكلم لأنه لما جاز ان يرد الخطاب خاصا وعاما لم يترجح أحدهما على الآخر لا بالإرادة ويطلق المخصص أيضا على الدال على الإرادة مجازا والدال على الإرادة يحتمل ان يكون من صفات المتكلم وهو المريد بنفسه تسمية للمحل باسم الحال أو المجتهد لأنه يدل على الإرادة دليل التخصيص لفظيا كان أو عقليا أو حسيا كل ذلك يحتمل ان يكون هو المراد بقوله ويقال الدال عليه مجازا.
قال الثانية: القابل للتخصيص حكم ثبت لمتعدد لفظا مثل اقتلوا المشركين أو معنى وهو ثلاثة.
الأول: العلة وجواز تخصيصها كما في العرايا.
والثاني: مفهوم الموافقة فيخصص بشرط بقاء الملفوظ مثل جواز حبس الوالد بحق الولد.(13/160)
ص -122-…والثالث: مفهوم المخالفة فيخصص بدليل ارجح كتخصيص مفهوم إذا بلغ الماء بالراكد.
هذه المسألة فيما يجوز تخصيصه فالقابل التخصيص حكم ثبت لمتعدد فالواحد لا يجوز تخصيصه لان التخصيص إخراج بعض من كل ولا يعقل ذلك في الواحد واعترض القرافي بأن الواحد بالشخص وهو يصح إخراج بعض أجزائه لصحة قولك رأيت زيدا وتريد بعضه وان تعذر إخراج الجزئيات فينبغي التفضيل والذي يقبل التخصيص إما أن يكون عمومه من جهة اللفظ أو من المعنى أي الاستنباط.
فالأول: مثل اقتلوا المشركين فان الحكم يشمل كل مشرك وخص عنه الذمي والمستأمن والمعاهد والمهادن.
والثاني: ثلاثة أشياء:
الأولى: العلة واختلف في تخصيصها كما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى في كتاب القياس فإن هذه المسألة المسماة هناك بالنقض مثل نهي الشارع عن بيع الرطب بالثمر وتعليله إياه بالنقصان عند الجفاف ووجدنا هذه العلة في العرايا أعني بيع الرطب على رؤوس النخل بالثمر على وجه الأرض مع أن الشارع جوزه فيها.
والثاني: مفهوم الموافقة كدلالة حرمة التأفيف على حرمة الضرب وغيره من أنواع الأذى فالتخصيص فيه جائز بشرط بقاء الملفوظ وهو التأفيف في مثالنا هذا ومنع الشيخ أبو إسحاق الشيرازي من جواز تخصيص مفهوم الموافقة محتجا بأن التخصيص من عوارض الألفاظ وعلى الأول يجوز تخصيص حبس الوالد في دين الولد فإنه مبق للملفوظ وقد صحح الغزالي جواز حبس الوالد في دين الولد سواء كان دين نفقة أو غيرها صغيرا كان أو كبيرا وتبعه عليه المنصف في الغاية قصوى ويصحح صاحب التهذيب وغيره خلافه.
الثالث: مفهوم المخالفة وقد قال الشيخ ابو إسحاق يحتمل أن يجوز تخصيصه وان لا يجوز وجزم المتأخرون منهم المصنف بجواز فيجوز أن تقدم(13/161)
ص -123-…الدلالة على ثبوت مثل حكم المذكور لبعض المسكوت عنه الذي ثبت فيه بالمفهوم خلاف ما ثبت للمنطوق ويعمل بذلك جمعا بين الدليل وقد شرط المصنف تبعا لصاحب الحاصل في هذا القسم ان يكون المخصص راجحا وهو شرط لم يذكره الإمام والظاهر عدم إشتراطه أن لا يشترط في المخصص الرجحان مثاله:
روي الشافعي واحمد وابن جزيمة وابن حيان في صحيحهما والحاكم في المستدرك وقال على شرط الشيخين من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث"1 ومفهوم هذا قاض انه إذا لم يبلغهما يحمل الخبث.
وروى الدارقطني أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن الماء لا ينجسه شيء إلا ما غير ريحه أو طعمه"2 فيجتمع بينهما ويقصر مفهوم إذا بلغ الماء على الراكد وهذا على الجاري فنقول:
إذا لم يبلغ الماء قلتين وكان جاريا لم ينجس إلا بالتغير وهذا هو القول القديم قال الرافعي واختاره طائفة من الأصحاب.
قال: قيل: يوهم البداء والكذب قلنا يندفع بالمخصص.
ذهبت شرذمة قليلون إلى امتناع التخصيص معتلين بأنه إن كان في الأمر اوهم البداء أي ظهور المصلحة بعد خفائها وهو بالدال المهملة والمد وان كان في الاخبار وهم الكذب وهما ممتنعان على الله عز وجل أجاب بأنه يندفع بالمخصص أي بالإرادة أو بالدليل الدال لانا إذا علمنا أن الكلام في الأصل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه ابن ماجة من حديث ابن عكر- رضي الله عنهما-.
2 رواه أبو داود والترمذي والنسائي.
ولا تعارض بين الحيثين قال ابن قتيبة: وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- "الماء لاينجسه شيء"على الأغلب والأكثر لأن الأغلب على الآبار والغدران- الأنهار- أن يكثر ماؤها فأخرج الكلام مخرج الخصوص.
ثم قال: ثم بين لنا بعد هذا القلتين. مقدار ماتقوى عليه النجاسة من الماء الكثير لاينجسه شيء.
أنظر: تأويل مختلف الحديث ص 336-337.(13/162)
ص -124-…محتمل للتخصيص فقيام الدلالة على وقوعه لا يوجب الكذب ولا البداء إنما يوجبهما ان لو كان المخرج مرارا ثنية كلام الإمام واتباعه كالمصنف وغيره يقتضي ان الخلاف في الامر والخبر ومقتض ايراد الشيخ أبي اسحاق الشيرازي وأبي نصر بن الصباغ وابي الحسين البصري في المعتمد والآمدي ان الخلاف إنما هو في تخصيص الخبر وانه لا خلاف في جواز تخصيص الامر.
قال الثالثة: يجوز التخصيص ما بقي غير محصور لسماحة أكلت كل رمان ولم يأكل غير واحدة وجوز القفال إلى أقل المراتب فيجوز في الجمع ما بقي ثلاثة فإنه الأقل عند الشافعي وابي حنيفة بدليل تفاوت الضمائر وتفضيل أهل اللغة واثنان عند القاضي والأستاذ بدليل قوله تعالى:{وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} فقيل: أضاف إلى المعمولين وقوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} فقيل المراد به الميول وقوله عليه السلام: "الاثنان فما فوقهما جماعة" فقيل أراد به جواز السفر وفي غيره إلى الواحد مطلقا.
هذه المسألة في الغاية التي يجوز أن ينتهي إليها التخصيص وقد اشتملت على مسألة أخرى وهي الكلام في أقل الجمع.
المسألة الأولى: في ضابط المقدار الذي لا بد من بقائه بعد التخصيص وفيها مذاهب.
الأول: وهو ما ذهب إليه أبو الحسين وصححه الإمام وقال به أكثر أصحابنا أنه لا بد من بقاء جمع كثير واختلف في تفسير هذا الكثير فقيل لا بد أن يقرب من مدلوله قبل التخصيص وقال المصنف لا بد أن يكون غير محصور وإليه أشار بقوله ما بقي غير محصور أي ما بقي المخرج عنه غير محصور وما هنا مصدرية التقدير مدة عدد غير محصور والدليل عليه انه لو قال أكلت كل رمان موجود ولم تأكل غير واحدة لكان ذلك سمجا أي رديئا من الكلام قبيحا ولك ان تقول هذا الدليل وانما ينفي الواحد فقط فلا يحصل به المدعي.(13/163)
والثاني: أنه إن كان بلفظ من جاز التخصيص إلى أقل المراتب وهو الواحد أو في غيرها من ألفاظ الجموع كالمسلمين فيجوز إلى أقل الجمع وذلك إما(13/164)
ص -125-…ثلاثة أو أقل على ما سيأتي بقائه إن شاء الله تعالى وهذا هو السبب الذي دعا المصنف إلى ذكر مسألة أقل الجمع في هذه المسألة والى هذا القول ذهب القفال الشاشي رضي الله عنه وما أظن القائل بهذا الرأي يقول به في كل تخصيص ولا يخالف في صحة استثناء الأكثر إلى الواحد بل الظاهر ان قوله مقصور على ما عدا الاستثناء من المخصصات بدليل احتجاج بعض أصحابنا عليه بقول القائل على عشرة الا تسعة ويحتمل ان يعم الخلاف الا ان الظاهر خلافه لان المنقول عنه المخالفة هنا لم ينقل عنه ثم.
الثالث: انه يجوز في جميع ألفاظ العموم إلى الواحد واليه أشار بقوله في ذيل المسالة وقوم إلى الواحد مطلقا وهو رأي الشيخ إبى اسحاق الشيرازي واستدل عليه بقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ}1 قال بعض المفسرين وكثير من الأصوليين المراد نعيم بن مسعود الاشجعي2 وقوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ}3 قيل في التفسير المراد يحسدون نعم رسول الله صلى الله عليه وسلم4
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية 173.
2 وهو قول مجاهد ومقاتل وعكرمة اللفظ عام ومعناه خاص وقال ابن اسحاق وجماعة: يريد بالناس ركب عبد القيس مروا بأبي سفيان فدسهم إلى المسلمين ليثبطوهم.
قال السدي: لما تجهز النبي – صلى الله عليه وسلم وأصحابه للسير إلى بدر الصغرى لميعاد أبي سفيان أتاهم المنافقون وقالوا نحن أصحابكم الذين نهيناكم عن الخروج إليهم وعصيتمونا وقد قاتلوكم في دياركم وظفروا فإن أتيتموهم في ديارهم فلا يرجع منكم أحد فقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل وقال أبو معشر: دخل ناس من هذيل من أهل تهامة المدينة فسألهم أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم عن أبي سفيان فقالوا: قد جمعوا لكم جموعا كثيرة فاخشوهم أي فخافوهم واحذروهم فإنه لاطاقة لكم بهم. فالناس على هذه الاقوال على بابه من الجمع. والله اعلم.(13/165)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/279- 280.
3 سورة النساء آية 54.
4 فالمراد بلفظ الناس هنا هو سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم -.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/279.(13/166)
ص -126-…والرابع: شيء اختاره ابن الحاجب ولا نعرفه بغيره وهو ان التخصيص ان كان بمتصل فان كان بالاستثناء أو بالبدل جاز الى الواحد نحو أكرم الناس الا الزنادقة وأكرم الناس الا تميما وان كان بالصيغة أو الشرط فيجوز الى اثنين نحو أكرم القوم الفضلاء أو إذا كانوا فضلاء وان كان التخصيص بمنفصل وكان في العلم المحصور القليل كقولك قتلت كل زنديق وكانوا ثلاثة ولم يقتل سوى اثنين جاز الى اثنين وإن كان غير محصور او محصورا كثيرا جاز بشرط كون الباقي قريبا من مدلول العام.
المسألة الثانية: اختلفوا في أقل الجمع على مذاهب وليس محل الخلاف فيما هو المفهوم من لفظ الجمع لغة وهو ضم شيء الى شيء فإن ذلك في الاثنين والثلاثة وما زاد بلا خلاف وقد افهم كلام ابن برهان في الوجيز خلاف ذلك وليس كما افهم وانما محل الخلاف في اللفظ المسمى بالجمع في اللغة مثل مسلمين وغيره من جموع القلة لا جموع الكثرة فان اقلها أحد عشر باجماع النحاة.
المذهب الأول: ان اقله اثنان وهو المنقول عن عمر وزيد بن ثابت رضي الله عنهما وبه قال مالك وداود القاضي والأستاذ والغزالي.
والثاني: ثلاثة ولا يطلق على ما دونها الا مجازا وهو المنقول عن ابن عباس والشافعي وأبى حنيفة واختاره الإمام واتباعه.
والثالث: الوقف وهذا لم أره مصرحا بحكايته في كتاب يعتمد عليه وانما اشعر به كلام الآمدي فانه قال في آخر المسألة وأن اعرف مأخذ الجمع من الجانبين فعلى الناظر بالاجتهاد في الترجح وإلا فالوقف لازم كلامه ورأيت بعض المتأخرين بعده حكاه قولا ثالثا ومجرد هذا لا يكفي في حكايته مذهبا.
والرابع: ان اقله واحد أخذه بعضهم من قول امام الحرمين في البرهان والذي أراه ان الرد الى واحد ليس بدعا ولكنه ابعد من الرد الى اثنين وعندي في هذا نظر الظاهر انه أراد ان الرد الى واحد ليس بدعا بطريق المجاز وعند هذا يقدح المعترض ان يقول ليس الكلام في إطلاق ذلك مجازا(13/167)
ص -127-…وان أراد إطلاقه حقيقة فبعيد ولقائل ان يقول أنت قد قلت لا يدع فيه ثم قلت وهو ابعد من الرد الى اثنين وما نرى الحقائق مختلفة المراتب في آحادها بل لو كان حقيقة لتساوى هو والاثنين والثلاثة.
والخامس: حكاه ابن عمر وابن الحاجب انه لا يطلق على اثنين لا حقيقة ولا مجازا وعندي في ثبوت هذا القول نظر فانه لا نزاع عند القائلين بالمجاز في صحة اطلاق الكل وارادة الجزء وقد يجاب بان الثلاثة ليست كلا فالكل ماهية يتجزأ منها أجزاء والثالثة لا يتجزأ منها اجزاء بدليل أنه لا يصح اطلاق لفظ واحد عليها ولو كانت كلا لصح لان اطلاق البعض وارادة الكل جائز كالعكس إذا عرفت هذا فقد استدل أصحابنا بوجوه منها ان الضمائر مختلفة فالضمير في الجمع الراجع الى التثنية فدل على تغايرهما فلا يكون حقيقة في اثنين إذ لو كان لصح اطلاقه عليه ومنها ان اهل اللغة يفصلون بينهما ويجعلون كل منهما قسما للآخر فقالوا الاسم قد يكون مفردا وقد يكون مثنى وقد يكون مجموعا فدل على التغاير.
واحتج القاضي أبو بكر في إصحاحه بأوجه:
أحدها: قوله تعالى: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ}1 وأراد داود وسليمان عليهما السلام فثبت صحة إطلاق الجمع وارادة الاثنين والاصل في الاطلاق الحقيقة واجيب كما ذكر في الكتاب بأن الحكم مصدر فيصح إضافته الى معمولية اعني الفاعل والمفعول وهما هنا الحكم والمحكوم عليه وهذا الجواب ضعيف لان المصدر إنما يضاف إليهما على البدل ولا يجوز ان يضاف إليهما جميعا واضعف منه قول الشيرازي شارح الكتاب في تصحيحه الرد عليه بأن العرب لا تضيف المصدر إليهما جميعا ضعيف لأنه شهادة نفي وقد علمت في فصل الحروف ان مثل هذا ساقط الكلام غير معدود من صنيع العلماء وإنما هو استرواح بما لا يعصم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنبياء آية 78.(13/168)
ص -128-…وثانيها: قوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}1 والمراد عائشة وحفصة رضي الله عنهما فاطلق القلوب وأراد قلبين والاصل في الاطلاق الحقيقة قال امام الحرمين في التلخيص وهذه الآية أقوى الآيات في الدلالة على الخصوم وقد أجيب عن الاحتجاج بها كما ذكره في الكتاب بأن حقيقة القلب الجرم الحال في الجانب الأيسر ومجازه ميوله ومنه قولهم لا قلب له الى فلان أي لا ميل والمجاز هو المراد هنا والتقدير فقد صفت ميولكما يدل على هذا ان الجرم لا يوصف بالصفو وهذا الجواب ايضا ساقط لأن القاعدة عند النحاة انه إذا أضيف شيئان الى ما تضمنها جاز فيه ثلاثة اوجه نحو قطعت رأسي الكبشين وراس الكبشين ورؤوس الكبشين.
وثالثها: قوله صلى الله عليه وسلم: "الاثنان فما فوقهما جماعة"2 رواه الدارقطني من حديث عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مشهور وحاصل ما فيه بعد ان يعرف انه عمر بن شعيب محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص ان قوله جده يحتمل ان يكون جده الأدنى الحقيقي وهو محمد فيكون حديثه مرسلا فان محمدا تابعي ويحتمل ان يكون جده الأعلى المجازي وهو عبد الله فيكون متصلا وقد اختلف العلماء في الاحتجاج به إذا كان هذا فاحتج به اكثر من لا يحتج المرسل حملا له على جده الأعلى ورواه ابن ماجة من حديث الربيع بن بدر المعروف بعليلة وهو ايضا ضعيف وأجاب الإمام بأنه إذا أمكن حمل كلام النبي صلى الله عليه وسلم على حكم شرعي ولغوي فالشرعي أولى لكونه مبعوثا لبيان الشرعيات فيحمل هنا على إدراك فضيلة الجماعة وبأنه نهى عن السفر الا في جماعة فبين بهذا الحديث ان الاثنين فما فوقهما جماعة في جواز السفر وهذا ما اقتصر في الكتاب على ذكره ولقائل ان يقول سفر الواحد منفردا ليس بحرام إنما هو مكروه بل الجواب ان الخلاف ليس في لفظ الجمع ولا لفظ الجماعة كما تقدم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(13/169)
1 سورة التحريم آية 4.
2 رواه البخاري في كتاب الصلاة, باب الإثنان فما فوقهما جماعة,والنسائي في كتاب الإقامة,باب: الجماعة إذا كانوا اثنين ..
كما رواه ابن ماجة من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه .(13/170)
ص -129-…فائدة الخلاف في هذه المسالة فائدة أصولية وفوائد فروعية أما الأصولية فهي النظر في الغاية التي ينتهي التخصيص إليها وهي المسألة المتقدمة.
وقال الأستاذ أبو اسحاق في أصوله بعد ان عزا ما ذكره الى بعض الأصحاب هذه فائدة مريعة فان ائمتنا يجمعون على جواز تخصيص الجمع والعموم بما هو دليل الى ان يبقى تحته واحد انتهى وهو فائدة وقد عرفت الخلاف المتقدم واما الفوائد الفروعية فمنها لو قال له على دراهم لزمه ثلاثة وحكى وجه انه يلزمه درهمان ومنها قليل يكتفي في الصلاة على الميت باثنين حكاه الرافعي عن التهذيب وقال انه بناء على أن اقل الجمع اثنان ومنها:
لو أوصى لأقاربه وليس له الا قريب واحد فوجهان في انه هل يصرف إليه الكل أو الثلث وحكى الأستاذ أبو منصور وجها انه يكون له النصف حكاه الرافعي عنه ولم يعلله قال ابن الرفعة في المطلب ولم افهم له معنى وان تخيل انه بناء على ان اقل الجمع اثنان لزمه ان يقول فيما إذا أوصى للفقراء بجواز الاقتصار عليهما ايضا ولم نر من قال به ومنها في الرافعي في فروع الطلاق انه لو قال ان تزوجت النساء أو اشتريت العبيد فهي طالق لم يحنث الا إذا تزوج ثلاث نسوة واشترى ثلاثة عبيد وقياس الخلاف الأصولي جريان وجه تحنيثة باثنين.
فإن قلت: ولم لا يقال في هذه الصورة انه لا يحنث بشيء لأنه علق على جميع نساء العالمين وعبيدهم بدليل إدخاله الألف واللام المقتضية للعموم وهو تعليق على مستحيل والصحيح في التعليق على المستحيل انه لا يقع.
قلت: لما كان أعمال الكلام أولى من اهماله حمل على جنس الجمع في ذلك وقال الرافعي في كتاب الإيمان فيما إذا حلف لا يكلم الناس ذكر ابن الصباغ وغيره انه يحنث إذا كلم واحد كما إذا قال لا آكل الخبز ولو حلف لا يكلم ناسا حمل على ثلاثة انتهى.
فإن قلت: هذا عجيب ناس للمنكر يحمل على الجمع فإذا دخلت الألف واللام المعممة تخرجه عن ذلك.(13/171)
قلت: كان الألف واللام والحالة هذه المراد بها الجنس من حيث هو(13/172)
ص -130-…بخلاف ما إذا كان منكرا واما قياس لا يكلم الناس على لا آكل الخبز ففيه نظر لصدق الخبز على القليل والكثير صدقا واحدا كالماء والعسل.
قال: الرابعة العام المخصوص مجاز وإلا لاشتراك وقال بعض الفقهاء انه حقيقة وفرق الإمام بين المخصص بالمتصل والمنفصل لان المقيد بالصفة لم يتناول غيرا قلنا المركب لم يوضع والمفرد متناول.
واختلفوا في العام انه إذا خص هل يكون في الباقي حقيقة على مذاهب.
أحدها: انه مجاز وذهب إليه أصحابنا والمعتزلة كأبي على وابنه واختاره المصنف وصفي الدين وابن الحاجب لأنه حقيقة في الاستغراق فلو كان حقيقة في البعض لزم الاشتراك والمجاز خير من الاشتراك.
والثاني: أنه حقيقة وهو مذهب كثير من أصحابنا وجمهور الحنفية والحنابلة.
والثالث: أن المخصص ان كان مستقلا سواء كان عقليا كالدليل الدال على ان غير القادر غير مراد من الخطاب في العبادات أو لفظيا كما إذا قال المتكلم بالعام أردت به الفلاني فهو مجاز وان لم يكن مستقلا فهو حقيقة وذلك كالاستثناء مثل قول القائل من دخل داري يكرم الا زيدا والشرط من دخل أكرمته ان كان عالما والتقيد بالصفة من دخل داري من الطوال قال صفي الدين الهندي والتقيد بالعام لعلة الغاية وان لم يذكروه في هذا المقام حكمه حكم إخوانه من المتصلات ظاهرا إذ لا يظهر فرق بينهما على هذا الرأي وهذا ما اختاره الكرخي وأبو الحسين البصري والامام وعلى حكاية هذه الثلاثة اقتصر المصنف.
والرابع: ان خص بمتصل من شرط او استثناء فهو حقيقة وإلا فهو مجاز وهو المنقول عن القاضي وقد رايته في مختصر التقريب الا انه لم يصرح بذكر الشرط وهذه عبارته ولو قررنا القول بالعموم فالصحيح عندنا من هذه المذاهب ان نقول إذا تقدر التخصيص باستثناء متصل فاللفظ حقيقة في بقية المسميات وان تقدر التخصيص بدلالة منفصلة فاللفظ مجاز لكن يستدل به في بقية المسميات انتهى.(13/173)
ص -131-…والخامس: ان خص بالشرط والتقييد بالصفة فهو حقيقة وإلا فهو مجاز حتى في الاستثناء.
والسادس: ان خص بدليل لفظي سواء كان متصلا أم منفصلا فهو حقيقة وإلا فهو مجاز
والسابع: ان بقي بعد التخصيص جمع فهو حقيقة فيه وإلا فهو مجاز.
وصرح الغزالي بأنه لا خلاف في انه مجاز إذا لم يبق بعد التخصيص جمع وهذا فيه نظر فقد صرح امام الحرمين في التلخيص بحكاية الخلاف في ذلك فقال ذكر القاضي عن بعض أصحابنا ان اللفظ حقيقة فيما يبقى وان كان اقل من الجمع هذا بعيد جدا انتهى.
والثامن: انه حقيقة في تناول ما بقي مجاز في الاقتصار عليه وهو اختيار امام الحرمين قوله لان المقيد هذا دليل الإمام وتقريره ان العام المقيد بالصفة لم يتناول غير الموصوف لأنه لو تناوله لضاعت فائدة الصفة وإذا انحصر تناوله فيه وقد استعمل فيه فيكون حقيقة وهذا بخلاف المخصوص بمنفصل فان لفظه متناول للخارج بحسب اللغة مع كونه لم يستعمل فيه فيكون مجازا او مشتركا والمجاز أولى فيكون مجازا.
وأجاب المصنف بأن المركب من الموصوف والصفة مثلا غير موضوع فلا يكون حقيقة فيه فلم يبق الا المفرد والمفرد الذي هو العام متناول لكل فرد لغة وقد استعمل في البعض فيكون مجازا وهذا الجواب مبني على ان المركبات غير موضوعة وفيه نزاع فالأولى الجواب بأنه لو لم يكن الموصوف ونحوه متناولا لم يكن المتصل من المخصصات لان التخصيص إخراج بعض ما تناوله اللفظ هذا شرح ما في الكتاب ونختم المسالة بشيئين.
احدهما: قال الإمام إذا قال الله اقتلوا المشركين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحال الا زيدا فهل هو تخصيص بمنفصل أو متصل فيه احتمال.
قال صفي الدين الهندي والأظهر انه منفصل.(13/174)
ص -132-…قلت: وقد ذكر القاضي المسالة في مختصر التقريب وقال ان من الاصوليين من نزله منزلة الاستثناء المصرح به كلام الله تعالى قال القاضي والذي نرتضيه انه صلى الله عليه وسلم ان ابتدأ من تلقاء نفسه كلام ولم يصفه الى كلام الله تعالى فيلتحق ذلك في المنفصل ولا يجعل كلامه صلى الله عليه وسلم استثناء حقيقيا بل هو تخصيص سواء قدر متصلا أو منفصلا.
والثاني: اعلم ان الاصوليين لم يذكروا التفرقة بين العام المخصوص والعام الذي أريد به الخصوص وهو تحرير منهم والشافعي رضي الله عنه له أقوال في قوله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} منها انه عام مخصوص ومنها انه عام مراد به الخصوص وقد كثر الكلام في ذلك وتشعب النظر ولوالدي أيده الله تعالى في ذلك كلام نفيس ونحن نذكر جميع ما ذكره فانه مما ينبغي ان يغتبط به الفطن قال احسن الله إليه كثر الكلام في العام المخصوص والعام الذي أريد به الخصوص في الفرق بينهما وفي ان العام المخصوص مجاز أولا وظن جماعة ان هذا الخلاف في ان العام المخصوص مجاز أو لا يجري في العام المراد به الخصوص والذي أراه في ذلك وبالله العون والتوفيق أما العام الذي أريد به الخصوص فهو العام إذا أطلق وأريد به بعض ما يتناوله فهو لفظ مستعمل في بعض مدلوله وبعض الشيء غيره فالذي يظهر أنه مجاز قطعا إلا أن قيل ان العام دلالته على كل فرد من أفراده دلالة مطابقة.(13/175)
فقد يقال حينئذ على هذا بأنه حقيقة في كل فرد فان جاء خلاف فيه فإنما يجيء من هذه الجهة وشرط الإرادة في هذا النوع على ما ظهر لنا أن تكون مقارنة لأول اللفظ ولا يكتفي بطريانها في أثنائه لأن المقصود فيها نقل اللفظ عن معناه الى غيره واستعماله في غير موضوعه وليس إرادة إخراج لبعض المدلول إرادة استعماله اللفظ في شيء آخر غير موضوعه كما يراد باللفظ مجازه الخارج عنه لا فرق بينهما الا ان ذاك خارج هذا داخل لأن البعض داخل في الكل ومن يجعل الدلالة على كل فرد دلالة مطابقة لا يناسبه ان يقول انه استعمال اللفظ في غير موضوعه بل يصير كاستعمال المشترك في أحد معنييه وهو استعمال حقيقي وارادة أحد معنيي المشترك عند مانع استعمال المشترك(13/176)
ص -133-…في معنييه لا شك أنها لا تخرجه عن موضوعه ولا تجعله مجازا بل هي مصححه لاستعماله.
وأما عند من يجوز استعماله في معنييه فهم مختلفون إذا استعمل في معنييه هل هو مجاز أم لا فمن جعله مجازا فكذلك لأن الاستعمال الحقيقي عنده هو استعماله في أحد المعنيين ومن جعله حقيقة كالعام كما هي طريقة الشيخ الآمدي في النقل عن الشافعي رضي الله عنه فيصير البحث فيه كالبحث في العام المراد به الخصوصي وفيه نظر لأنا نعلم ان المشترك وضعه الواضع لكل من المعنيين وحده بخلاف العام ولكن أدى مساق البحث على طريقة الآمدي الى ما قلناه ويؤنسك الى اشتراط مقارنة الإرادة في هذا النوع لأول اللفظ ما ذكره الفقهاء في تكبيرة الاحرام وفي كنايات الطلاق وإذا حققت هذا المعنى اضبطه وأما العام المخصوص فهو العام إذا أريد به معناه مخرجا منه بعض أفراده فالإرادة فيه إرادة الإخراج لإرادة الاستعمال في تشبه الاستثناء فلا يشترط مقارنتها لأول اللفظ ولا يجوز تأخرها عن آخرها عن آخره بل يشترط ان لم توحد في أوله ان تكون في أثنائه ويؤنسك في هذا ما قاله الفقهاء في مشيئة الطلاق فإنه يشترط اقتران النية ببعض اللفظ قبل فراغه فالتخصيص إخراج كما ان الاستثناء إخراج ولهذا نقول المخصصات المتصلة أربعة الاستثناء والغاية والشرط والصفة والمخصص في الحقيقة هو الإرادة المخرجة وهذه الأربعة والمخصص المنفصل خمستها داله على تلك الإرادة وتلك الإرادة ليست إرادة استعمال اللفظ في غير موضوعه فلذلك لم يقطع بكونه مجازا بل حصل التردد ومنشأ التردد أن إرادة إخراج بعض المدلول هل يصير اللفظ مرادا به الباقي به أو لا والحق لا وهو يشبه الخلاف في الاستثناء وهذا يقوي العام المخصوص حقيقة لكن الأكثرين على انه مجاز ووجهه انه يجعل موضوعا استعمل في معناه بتمامه غير مخرج منه شيء فمتى استعمله مخرجا منه شيء كان مجازا لاستعماله على غير الوجه الذي وضعه الواضع عند الاطلاق.(13/177)
وهذا فيما يحتمل المجاز وهو ما كان ظاهرا كالعام.
أما ما كان نصا كالعدم فالمجاز فيه وليس الا الإخراج المحض ويظهر أثر هذا في(13/178)
ص -134-…أن المخصص المنفصل يأتي في العام ولا يأتي في العدد والاستثناء في العام كاشف عن الإرادة المخصصة والاستثناء في العدد هو المخرج بنفسه لا بدلالته على إرادة متقدمة ولهذا لو أراد فقط ولم يوجد لفظ الاستثناء لم يصح في العدد.
ويصح في العام ولو قال: أنت طالق ثلاثا ونوي بقلبه إلا واحدة وماتت قبل نطقه بقوله الا واحدة يقع الثلاث نعم يشترط نية الاستثناء قبل فراغ اللفظ لأجل الربط فالنية فيه شرط لاعتبار الاستثناء بعده وليست مؤثرة والنية في التخصيص مؤثرة في الإخراج وحدها ويدل عليها تارة بمخصص منفصل وتارة بمتصل والنية في العام المراد به الخصوص مؤثرة في نقل اللفظ عن معناه الى غيره ومن هنا يعرف ان عد ابن الحاجب البدل في المخصصات ليست بجيد لان الأول في قولنا أكلت الرغيف ثلثه يشبه العام المراد به المخصوص لا العام المخصوص فانظر هذه المعاني وتفهمها ثم تذكر ما قدمته في العام المراد به الخصوص تعرف الفرق بينهما وحكمها هذا ما ذكره والدي رحمه الله وهو في غاية النفاسة والذي تحصلت عليه ان العام أنواع.
أحدها: العام الذي أريد به العام حقيقة.
والثاني: العام الذي أريد به غالب الأفراد ونزل الأكثر فيه منزلة الكل فهو مراد به العموم أيضا.
والثالث: ما لم ينزل الأكثر فيه منزلة الكل ولكن الكثرة فيه موجودة.
والرابع: ما المراد به القليل كقوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} وهذا أخذته من كلام الشافعي رضي الله عنه في الرسالة فإنه قال باب ما نزل من الكتاب عاما يراد به العام أي الكثرة الغالبة فلا يناقضه قوله ويدخله الخصوص ومثاله القرية الظالم أهلها وقد ذكره الشافعي في أثناء الباب فكأنه جعلهم كل أهل القرية وقال الشافعي رضي الله عنه في أول الباب قال الله تعالى: جل ثناؤه {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}1 وقال:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية 11.(13/179)
ص -135-…{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}1وقال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}2فهذا عام لا خاص فيه انتهى.
وهو كما صرح به الشافعي وإنما ذكره توطئة لما بعده وليس مما بوب له الا في كونه أريد به العموم فالمراد به العموم قسمان:
أحدهما: حقيقة لا خصوص فيه وهو خالق كل شيء.
والثاني: مجاز فيه خصوص وهو ما ذكره الشافعي بعد مثل القرية الظالم أهلها ولم يلتفت الشافعي الى ما يقوله الأصوليون من ان خالق كل شيء مخصوص بالعقل وكأنه لأن العقل لما دل على المراد به جعله هو المقصود به في كلام العرب لأنها إنما تضع لما يعقل ثم قال الشافعي وقال الله: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ}3 الآية قال الشافعي وهكذا قول الله عز وجل: {حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا}4 ففي هذه الآية دلالة على انه لم يستطعما كل أهل قرية فهي في معناها وفيها وفي القرية الظالم أهلها خصوص لأن كل أهل القرية لم يكن ظالما قد كان فيهم المسلم ولكنهم كانوا فيها مكثورين فكانوا فيها اقل انتهى.
فهذا عام أريد به العام ودخله الخصوص وليس المعنى هنا من إرادة العام جميع الأفراد بل الكثرة المنزلة منزلة الكل ويظهر انه مجاز وليس من مجاز استعمال لفظ الكل في البعض لأن ذلك لا يفترق الحال فيه بين بعض وبعض وهذا في بعض كثير غالب على الباقي فهو أقوى لأنه اجتمع فيه مجاز البعض ومجاز المشابهة إذا الأكثر يشبه الكل في الكثرة وهو مع ذلك قد دخله التخصيص فمن جعل العام المخصوص مجازا يكون قد اجتمع فيه نوع آخر من المجاز ايضا وهذا غريب ينبغي ان يتفطن له ومن لم يجعل العام المخصوص مجازا يقتصر على المجاز من الجهة الأولى وهذا من نفائس البحث وبه يظهر أن العام المراد به العموم قسمان:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النحل آية 3.(13/180)
2 سورة هود آية 6.
3 سورة النساء آية 75.
4 سورة الكهف آية 77.(13/181)
ص -136-…أحدهما: الحقيقي كقوله وهو بكل شيء عليم خالق كل شيء على ما قاله الشافعي.
والثاني: المجازي كقوله استطعما أهلها والظالم أهلها وهذا القسم لا يكون في الأمر والنهي وإنما يكون في الخبر لأن الأمر والنهي لا يتجوز فيهما بل يقصد بيان حكم التكليف والعام المخصوص قسمان.
أحدهما: ما يراد به العموم كما تقدم وفيه مجاز كما بيناه.
والثاني: ما ليس كذلك كقوله: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ}1وتخصيصه بالقاتل والكافر.
فهذا عام مخصوص وقد أطلق الشافعي عليه بعد ذلك انه عام يراد به الخصوص كما سنذكره وقد عرفت ان الجمهور على انه مجاز وقد قرر والدي انه حقيقة كما سبق والشافعي لم يتعرض للفرق بين العام المخصوص والعام المراد به الخصوص وبما ذكرناه يكون العام المخصوص أنواعا:
أحدها: ما نزل الأكثر فيه منزلة الجميع فهو مراد به العموم.
والثاني ما ليس كذلك ولكن الكثرة فيه موجودة وهو مراد به الخصوص ومخصوص كقوله: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ}.
والثالث: لا المراد يه القليل كقوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} وهذا مراد به الخصوص ومخصوص والفرق بينه وبين الثاني ان هذا تقول فيه إنه مجاز والثاني محتمل لأن يكون مجازا وهو محل خلاف الأصوليين السابق في ان العام المخصوص هل هو حقيقة أو مجاز.
واعلم أن في كلام الشافعي في الرسالة ايضا ما يمكن ان يتمسك به منه على ان كل عام مخصوص مراد به الخصوص وذلك لأنه قال باب ما نزل عاما دلت السنة على انه يراد به الخاص قال الشافعي قال الله جل ثناؤه: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} الى قوله: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ}2 وقال: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} الى قوله:{فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ}3 فأبان ان الوالدين والأزواج ما سمي في الحالات وكل عام(13/182)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية 11.
2 , 2 سورة النساء آية 12.(13/183)
ص -137-…المخرج فدل بنسبة رسول الله صلى الله عليه وسلم انه إنما أريد بعض الوالدين والأزواج دون بعض وذلك ان يكون دين الوالدين والمولودين والزوجين واحدا ولا يكون الوارث منهما قاتلا ولا مملوكا انتهى فيمكن التمسك بهذا على ما ذكرناه لأن السنة إنما دلت على عدم وريث القاتل والكافر وهو تخصيص مقتض لأن يكون هذا العام مخصصا وقد قال الشافعي ان السنة دلت انه إنما أريد به الخصوص فدل على ان كل عام مخصوص مراد به الخصوص إذا كان المراد غير منزل منزلة الكل الذي تقدم إطلاق الشافعي عليه انه اريد به العموم وبهذا يتبين ان البحث الذي قرره والدي رحمة الله عليه في ان العام المخصوص حقيقة لأنه الذي قصد عمومه مخرجا منه بعض الأفراد كاستثناء ليس ذلك وإن كان البحث فيه محال فإنه نوع يصح إرادته.
وقد وقف الله والدي أيده الله تعالى على ما أوردته من كلام الشافعي وقال ان لم يصح ذلك البحث الذي قررناه فالأمر كما قال الشافعي وان صح احتمل في التخصيص بالقاتل والكافر ان يكون عاما مخصوصا وان يكون مراد به الخصوص ولا يمكن الوصول الى العلم بحقيقته أو يعلمه الا الله تعالى والمتكلم به وقد أطلنا الكلام في هذه المسألة وأنا من عادتي في هذا الشرح الاطناب فيما لا يوجد في غيره ولا يتلقي إلا منه بحث مخترع او نقل غريب أو غير ذلك والاختصار في المشهور في الكتب إذ لا فائدة في التطويل فيما سبقنا من هم سادتنا وكبراؤنا الى جمعه وهل ذلك الا مجرد جمع من كتب متفرقة لا يصدق اسم المصنف على فاعله.
قال الخامسة: المخصص بمعين حجة ومنعها عيسى بن أبان وأبو ثور وفصل الكرخي.(13/184)
يشبه ان تكون هذه المسألة مفرعة على قول من يقول العام المخصوص مجاز فإن من قال غير ذلك احتج به هنا لا محالة وحاصل هذه المسالة ان العام إن خص بمبهم كما لو قيل واقتلوا المشركين الا بعضهم فلا يحتج به على شيء من الأفراد إذ ما من فرد الا ويجوز ان يكون هو المخرج وهذا قد ادعى جماعة فيه الانفاق وهي دعوى غير مسموعة فقد صرح ابن برهان في الوجيز بان محل(13/185)
ص -138-…الخلاف فيم إذا خص بمبهم فان عبارته العام إذا دخله التخصيص لم يصر مجملا.
وقال عيسى بن أبان إذا كان التخصيص بدليل مجهول صار مجملا انتهى وهو مصرح بخلاف الدعوى مع زيادة ان المختار عنده خلافها وهو قضية ايراد المحصول والقاضي في مختصر التقريب ذكر الخلاف في العموم إذا خص هل يصير مجملا ولم يقيد بمبهم ولا معين ونقل مذهب ابن أبان عن كثير من الفقهاء من أصحاب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وطائفة من المتكلمين منهم الجبائي وابنه انتهى ووجه هذه الطريقة التي ذكرها ابن برهان كما ذكرنا إذا نظرنا الى فرد من الأفراد شككنا فيه هل هو المخرج والاصل عدمه فيبقى على الأصل ويعمل به الى ان لا يبقى فرد لكن الهندي رد هذا البحث بأن المسألة مفروضة في الاحتجاج بالعام المخصوص فيما عدا المخصوص وهذا البحث يقتضي صحة الاحتجاج في الجميع المخصص وغيره ولا قائل به انتهى ويتجه عندي ان يقال يحتج به الى ان يبقى فرد واحد فلا يحتج هذا إذا خص بمبهم أما إذا خص بمعين وهي مسألة الكتاب كما لو قيل اقتلوا المشركين الا المستأمن أو أهل الذمة ففيه مذاهب.
أصحها عند الإمام واتباعه منهم بمصنف انه حجة في الباطن مطلقا وهو قول معظم الفقهاء واختاره الآمدي وابن الحاجب.
الثاني: أنه ليس بحجة وهو قول عيسى ابن أبان1وأبي ثور2وهو مراد كالمصنف بقوله منعها أي منع حجته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: أبو موسى عيسى بن أبان بن صدفة من فقهاء الحنفية وعلمائهم المبرزين تولى القضاء بقم والبصرة وله مؤلفات كثيرة منها: إثبات القياس توفي بالبصرة سنة 221هـ.
الفوئد البهية ص 151, الإعلام 2/749.
2 هو: ابراهيم بن خالد الكلبي البغدادي صاحب المذهب الفقهي المعروف صاحب الإمام الشافعي توفي سنة 240هـ.
تذكرة الحفاظ 2/87, الإعلام 1/ 12.(13/186)
ص -139-…الثالث: وبه قال الكرخي1 والبلخي2 ان خص بمتصل كالشرط والإسناد والصفة فهو حجة وان خص بمنفصل فلا وهذا التفصيل يفهم من مسألة السابقة فلذلك أهمل المصنف بتبيينه واقتصر على حكاية هذه الثلاثة.
والرابع: ان التخصيص ان كان قد منع تعلق الحكم بالاسم العام وأوجب تعلقه بشرط لا ينبىء عنه الظاهر لم يجز التعلق به كما في قوله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}3 لأن قيام الدلالة على اعتبار النصاب والحرز وكون المسروق لا شبهة فيه للسارق يمنع من تعلق الحكم وهو القطع بعموم اسم السارق وموجب لتعلقه بشرط لا ينبىء عن ظاهر اللفظ وان كان التخصيص لا يمنع من تعلق الحكم به جاز التعلق به كما في قوله تعالى اقتلوا المشركين لأن قيام الدلالة على المنع من قتل أهل الذمة لا يمنع من تعلق الحكم وهو القتل باسم المشركين وهو قول أبي عبد الله البصري4.
والخامس: أن العام المخصوص إن كان بحيث لو تركناه وظاهره من غيرة بيان التخصيص لكنا نتمثل ما أريد هنا ونضم إليه شيئا آخر لم يرد هنا كقوله تعالى اقتلوا المشركين فإنا لو خلينا وظاهره لكنا نقتل كل من صدق عليه الاسم من الحربي والذمي والمستأمن فكنا قد امتثلنا في ذلك ما أريد منا وما لم يرد جاز التمسك به وإن كان العام بحيث لو تركناه وظاهره من غير بيان التخصيص لم يمكنا ان نمتثل ما أريد منا لم يجز التمسك به وهو كقوله تعالى أقيموا الصلاة لأنه لو لم يبين مراده لم يمكنا فعل ما أراده من الصلاة الشرعية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدمت ترجمته في الجزء الأول من هذا الكتاب.
2 هو أحمد بن سهل أبو زيد البلخي أحد الكبار الأفذاذ الذين جمعوا بين علوم الشريعة والفلسفة والأدب والفنون ,
من مؤلفاته: صور الأقاليم الإسلامية, و أقسام العلوم, وشرائع الأديان, وأدب السلطان والرعية, توفي ببلخ سنة 322.(13/187)
معجم الأدباء 3/65- 86, لسان الميزان 1/183, الأعلام 7/131.
3 سورة المائدة آية 38.
4 هو: الحسين بن علي أبو عبد الله البصري أخذ عن أبي هاشم الجبائي برع في شتى العلوم من الفقه والأصول وعلم الكلام توفي سنة 368هـ.
فرق وطبقات المعتزلة ص111- 113.(13/188)
ص -140-…أصلا بخلاف آية السرقة فإنا لو خلينا وظاهرها لكنا فطعنا كل سارق وفي ذلك امتثال ما أريد منا ولم يرد وهذا قول القاضي عبد الجبار.
والسادس: انه يجوز التمسك به في اقل الجمع ولا يجوز فيما زاد عليه قال الهندي وهذا يشبه أو يكون قول من لا يجوز التخصيص الى اقل من اقل الجمع.
قلت: وإذا تقرر ان الخلاف جار في العام المخصوص مطلقا سواء كان مبهما أو معينا جاء مذهب سابع وهو التفصيل بين المعين والمبهم كما أورده الإمام:
قال: لنا ان دلالته على فرد لا تتوقف دلالته على الآخر لاستحالة الدور فلا يلزم من زوالها زوالها.
استدل على ما اختاره بأن دلالة العام على فرد من أفراده لا تتوقف على دلالته على الآخر لأن دلالته مثلا على الباقي لو توقفت دلالته على البعض المخرج فإن لم تتوقف دلالته على المخرج على الباقي كان ذلك تحكما إذ دلالته العام على كل أفراده متساوية وإن توقف عليه لزم الدور لتوقف كل منهما على الآخر والدور مستحيل فدلالته على كل فرد لا تتوقف على دلالة على غيره من الأفراد وإذن لا يلزم من زوال الدلالة عن بعض الأفراد زوالها عن البعض الآخر فلا يكون حجة وهذا الدليل ضعيف من وجهين.
أحدهما ان هذا دور معية لا سبق فلا استحالة فيه ويظهر هذا بمعرفة دور السبق والمعية فنقول كل واحد من الشيئين على الآخر ان كان توقف قبله وبعده فهو الدور السبقي الذي يستحيل وقوعه ومثاله إذا قال زيد لا اخرج من الدار حتى يخرج عمرو قبلي وقال عمرو لا اخرج منها حتى يخرج زيد قبلي وإن لم يكن سبقا كان إذا قال كل منهما لا ادخل حتى يدخل الآخر فلا استحالة فيه لجواز دخولهما معا وهذا هو المعنى وهو الموجود في دلالة العام.
والثاني ان دلالة العام على كل فرد مشروطة باستعماله في الموضوع وهو الاستغراق فإذا لم يستعمل فيه جاز في كل واحد ان يكون حجة في شيء منه(13/189)
ص -141-…والأولى التمسك بما درج عليه السالفون من الصحابة والتابعين فانهم استدلوا بأكثر العمومات المخصوصة من غير نكير بل لو صح ما ذكروه باب التمسك باللفظ العام إذ ما من عام في حكم شرعي الا وهو مخصوص وعلى ما قالوه يمتنع الاستدلال به.
قال السادسة يستدل بالعام ما لم يظهر مخصص وابن سريج أوجب طلبه أولا هل يجوز ان يستدل بالعام قبل البحث عن المخصص فيه مذهبان.
أحدهما: الجواز وهو قول الصيرفي واليه مال الإمام.
والثاني: المنع وهو قول أبي العباس بن سريج.(13/190)
واعلم ان إثبات الخلاف في هذه المسألة على هذا الوجه هو ايراد الإمام وجمهور اتباعه وادعى جمع من المتأخرين ان ذلك غير معروف بل باطل محتجين بأن الذي قاله الغزالي فمن بعده كالآمدي وغيره أنه لا يجوز التمسك بالعام قبل البحث عن المخصص اجماعا ثم اختلفوا فمن قائل يبحث ومن قائل لا يكفي الظن ولا يشترط القطع بل لا بد من اعتقاد جازم تسكن النفس إليه ومن قائل لا بد من القطع وعليه القاضي قال ويحصل ذلك بتكرير النظر والبحث واشتهار كلام الأئمة قالوا وليس خلاف الصيرفي إلا في اعتقاد عمومه قبل دخول وقت العمل به وإذا ظهر مخصص تغير الاعتقاد هكذا نقله إمام الحرمين ثم الآمدي وغيره واشتهرت هذه المقالة حتى تولعت الألسن بأن هذا كان من غلطات الإمام وأنا أقول قد سبق الإمام بهذا النقل الثقة أثبت الشيخ أبو إسحاق الشيرازي فقال في شرح اللمع ما نصه إذ أوردت هذه الألفاظ الموضوعة للعموم هل يجب اعتقاد عمومها في الحال عند سماعها العمل بموجبها انتهى وكذلك الأستاذ أبو إسحاق في أصوله الذي انتخبه والده أيده الله ولفظه قيل يلزم وقيل لا يلزم ويعرض على الأصول الممهدة لجواز ان يكون فيها ما يخصصه وأفاد الأستاذ في هذه المسألة فائدة جليلة وهي ان الخلاف ليس إلا فيما إذا ورد الخطاب العام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أما إذا ورد في عهده وجبت المبادرة الى الفعل على عمومه لأن أصول الشريعة لم تكن متقرره قد بان لك بهذين النقلين ان ما نقله الإمام(13/191)
ص -142-…غير مستنكر وهو أولى واوجه من القول بإيجاب اعتقاد العموم على جزم حين ظهور المخصص يتغير الاعتقاد فإن مذهبه في غاية السقوط لا وجه له ولا حاصل تحته وقال امام الحرمين انه عنده غير معدود من مباحث العقلاء ومضطرب العلماء قال وإنما هو قول صدر عن عبادة واستمرار في عناد انتهى وهذا بخلاف القول بالعمل بالعام ابتداء فإنه ذو وجه ظاهر وجيه.
قال: لنا لو وجب لوجب طلب المجاز للتحرز عن الخطأ واللازم منتف قال عارض دلالته احتمال المخصص قلنا: الأصل يدفعه.
هذا دليل على ما اختاره من وجوب العمل بالعام ابتداء وتقريره لو وجب طلب المخصص والبحث عنه قبل التمسك بالعام لوجب طلب المجاز عند استعمال اللفظ في حقيقته واللازم منتف فالملزوم مثله أما وجه الملازمة فلأن الطلب في الصورة الأولى إنما هو الاحتراز على المفسدة واحتمال ضرر الخطأ وهذا المعنى موجود في الحقيقة وأما انتفاء اللازم فظاهر إذ لم يزل العلماء خلفا عن سلف على ممر الدهور وتعاقب الأزمنة يحملون اللفظ على حقيقته من غير بحث عن المجاز ومنهم من ادعى الاجماع على انه لا يجب طلب المجاز ولكن فيه نظر فقد نقل الثقات ابن سريج الى وجوبه وصرح القرافي بأن المسألتين على السواء على تقدير صحة الإجماع فالفرق واضح وذلك لأن احتمال وجود المخصص أقوى إذ ما من عام إلا وقد تطرق إليه التخصيص كما قال امام الحرمين قال والدي رحمه الله ويوضح هذا التفريق ان في العام دلالتين.
إحداهما: على اصل المعنى هي نص والأخرى على استغراق الأفراد وهي ظاهرة واحتمال المجاز حاصل في الأولى وفي كل حقيقة يدل اللفظ فيها على معنى والدلالة الإفرادية عليه قطعية فلذلك لم يطلب المجاز واحتمال التخصيص إنما هو في الثانية قال ومن تأمل هذا الكلام على ان إيراد الحقيقة على العام ساقط لأن في العام حقيقة ومجازا شارك فيهما وفيه تخصيص ينفرد به لا يوجد مثله في الحقيقة قال وهذا نفيس جدا.(13/192)
قلت: ونظيره على العكس قلنا لا رجل بالفتح نص في الاستغراق وان كان محتمل المجاز لإراده لا غلام رجل لا رجل بالرفع ظاهر في الاستغراق لا(13/193)
ص -143-…نص فهذا نظير العام والأول نظير الحقيقة وانما قلنا على العكس لأن قضية الاستغراق في الأول لا في الثاني فلا رجل بالفتح عمومه نص مقطوع به وحقيقة ظاهرة عكس العام ولا رجل بالرفع عمومه ظاهر وحقيقته محتملة للمجاز كغيرها من الحقائق قوله قال عارض أي احتج ابن سريج على مذهبه بأن العام وان دل على ثبوت الحكم في جميع الأفراد فاحتمال المخصص يعارضه لأن العام قبل طلب المخصص يحتمل التخصيص ويحتمل عدمه احتمالا على السواء وأجاب بأن الأصل عدم المخصص والإحتمال بمجرده لا يصلح معارضا لهذا الأصل فيكون مرجوحا.
فائدة: إذا اقتضى اللفظ العام عملا مؤقتا وضاق الوقت عن طلب الخصوص فهل يعمل بالعموم أو يتوقف فيه اختلف أصحابنا في ذلك كما حكاه ابن الصباغ في كتابه عده العالم في آخر مسألة إسماع الله المكلف اللفظ العام دون مخصصه وللخلاف نظائر كثيرة في المذهب منها هل للمجتهد التقليد عند ضيق الوقت ليعمل به أم لا فيه وجهان:
الأول: منهما وهو الجواز قول ابن سريج قال ولا يجوز له ان يفتى قال الرافعي وقياسه ان لا يجوز القضاء وأولى ومنهم من طرد قول ابن سريج في القضاء قال الرافعي ومن قال به فقياسه طرده في الفتوى ومنها لا يجوز للقادر عل الاجتهاد في القبلة ان يقلد غيره فإن ضاق عليه الوقت وظن ان وقت الصلاة ينتهي قبل اجتهاده فهل يقلد ويصلى في الوقت أو يتمادى في نظره الى تمام الاجتهاد فيه وجهان ومنها واستيقظ قبيل الوقت وكان بحيث لو اشتغل بالوضوء لخرج الوقت فهل يباح له التيمم أو يتوضأ أو يصلي خارج الوقت فيه وجهان.(13/194)
ص -144-…الفصل الثالث في المخصص
قال: الفصل الثالث في المخصص وهو متصل ومنفصل فالمتصل أربعة الأول الإستثناء وهو الإخراج بإلا غير الصفة ونحوها والمنقطع مجاز.
المخصص في الحقيقة هو إرادة المتكلم كما سبق ويطلق على الدال على الإرادة مجازا وهو المراد هنا ثم هو إما متصل أو منفصل لأنه إما أن يستقل بنفسه فالمنفصل أولا بل يتعلق معناه باللفظ الذي قبله فالمتصل وقسمه تبعا للأكثر الى أربعة والإستثناء والشرط والصفة والغاية وزاد ابن الحاجب خامسا وهو بدل البعض من الكل مثل قولك اكرم الناس عالمهم ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ}.
الأول: الاستثناء وعرفه بما ذكر فقوله إخراج جنس يندرج تحته كل المخصصات وقوله بالإخراج به ما عدا الاستثناء قوله ونحوها يعنى مثل خلا وعدا وحاشا وسوى ثم أنه شرط في إلا ان تكون غير صفة يعنى بمعنى غيركما في قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}1 أي غير الله فإنها ليست للإستثناء ومثله جاءني رجال الا زيد فإنه ليس باستثناء ايضا إذا لا يمكن ان يكون متصلا لأن شرط المتصل ان يكون لولا الاستثناء لوجب دخوله وليس كذلك ها هنا لأن بتقدير عدم الاستثناء لا يجب دخول زيد في رجال لأنه لا يعم كما سبق ولا أن يكون منفصلا لأن شرط المنفصل ان لا يكون المستثنى داخلا وهنا يجوز ان يكون داخلا وقد أورد على هذا التعريف أنه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنبياء آية 22.(13/195)
ص -145-…غير جامع لخروج الاستثناء المنقطع عنه وذلك لأن المستثنى في الاستثناء المنقطع مثل قال القوم إلا حمارا غير داخل في المستثنى منه ومنه قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ}1 قال القاضي في مختصر التقريب والأصح أنه ليس من الملائكة وكذلك قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً}2 ومالهم به والحد للإستثناء الحقيقي والى الاعتراض وجوابه أشار بقوله والمنقطع مجاز على ان منهم من يقول المنقطع حقيقة ووارد على التعريف ايضا ان لفظه الا أخذت في لفظه وهي من أدوات الاستثناء فيكون تعريفا للشيء بنفسه وبأن أتى في التعريف بالواو في قوله ونحوها وهو غير سديد والصواب الآتيان بأو.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحجر 30-31.
2 سورة النساء آية 92.
قال: وفيه مسائل الأولى: شرطه الاتصال عادة بإجماع الأدباء وعن ابن عباس خلافه قياسا على التخصيص بغيره والجواب النقض بالصفة والغاية.
يشترط في الاستثناء شيئان:(13/196)
أحدهما: ان يكون متصلا بالمستثنى منه عادة واحترز بقوله عادة عما إذا طال الكلام فإن ذلك لا يمنح صحة الإستثناء كما قاله الإمام وكذلك قطع الكلام بالتنفس والسعال لا يمنع الاتصال والدليل على ما قلناه من اشتراط الاتصال إجماع أهل اللغة وهم الأدباء عل ذلك وهذا الدليل ليس بجيد فإن ابن عباس من أخبر الناس بلغة العرب فلا يتجه هذا ان صح المنقول عنه ويمكن على بعد ان يجعل قوله بإجماع الأدباء متعلقا بقوله عاده أي لا يضر ما يمنع الاتصال في العادة كالسعال والتنفس باجماعهم ونقل عن ابن عباس رضي الله عنه جوز الاستثناء المنفصل ولم يصح عنه ثم اختلف النقلة عنه فنقل عنه انه يجوز الاستثناء الى شهر ونقل الشيخ أبو اسحاق عنه الجواز إلى سنة ونقل الجواز ابدا فهذه ثلاث روايات فلما لم يصح النقل عنه عبر المصنف بقوله ونقل ولما لم يعرف أقيده أم أطلقه وعلى تقدير التقييد بماذا هو عبر المصنف بقوله:(13/197)
ص -146-…خلافه وقال القاضي في مختصر التقريب فمن بعده لعل مراده ان صح النقل ما إذا نوى الاستثناء متصلا بالكلام ثم اظهر نيته بعده فإنه يدين1 واحتج للمنقول عن ابن عباس بالقياس على التخصيص بغير الاستثناء بجامع ان كلا منهما مخصص واجيب بالنقض بالصفة والغاية وكذا الشرط فإن هذا يقتضي انفصالها وهو باطل اتفاقا وقد نقل الشيخ ابو اسحاق عن الحسن وعطاء أنهما جوازا الاستثناء ما دام في المجلس وقال: قوم بصحة الاستثناء المنفصل في كتاب الله دون غيره.
فوائد: إحداها ذكر ابن النجار في تاريخ بغداد في أثناء حرف الثين المعجمة ان أبا إسحاق المروزي أراد الخروج مرة من بغداد فاجتاز في بعض الطرق وإذا برجل على رأسه سلة فيها بقل وهو بمصل على ثيابه وهو يقول لآخر معه مذهب ابن عباس في الإستثناء غير صحيح إذ لو كان صحيحا لما قال الله تعالى لأيوب عليه السلام: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ}2 بل كان يقول له استثن ولا حاجة الى هذا التحيل في البر قال فقال الشيخ ابو اسحاق بلدة فيها رجل يحمل البقل وهو يرد على ابن عباس لا تستحق ان يخرج منها.
الثانية: قال القرافي في المنقول عن ابن عباس إنما هو في التعليق على مشيئة الله تعالى خالصة كمن حلف وقال ان شاء الله وليس هو في الإخراج
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الإمام الغزالي: والوجه تكذيب الناقل فلا يظن به ذلك أو يقال: أراد به إذا اضمره في وقت الإثبات وأبداه بعد ذلك فقد نقول: إنه يدين ومذهبه أن مايدين الرجل فيه يقبل منه إبداؤه أبدا. وقيل: وقيل إنه أراد به استثناءات القرآن.
أنظر: المتحول ص157, والمستصقى 2/37.(13/198)
وفي حصول المأمول ص99: ومن قال بأن هذه المقالة لم تصح عن ابن عباس لعله لم يعلم أنها ثابتة في مستدرك الحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين بلفظ: إذا حلف الرجل على يمين فله أن يستثنى إلى سنة ومثله عند أبي موسى المدني وسعيد بن منصور وغيرها من طرق انتهى.
وأقول إن الذي نستطيع أن نستخلصه من هذه الروايات أن هذا الرأي منقول عن ابن عباس- رضي الله عنهما- ولكن الجمهورمن العلماء يخالفونه في ذلك والله أعلم.1هـ محققة.
2 سورة ص آية 44.(13/199)
ص -147-…بإلا وأخواتها قال ونقل العلماء ان مدركه في ذلك قوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}1 قالوا المعنى إذا نسيت قول إن شاء الله فقل بعد ذلك ولم يخصص وقتا.
الثالثة: قوله: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} التقدير ولا تقولن لشيء قولا جازما إلا أن تعلم مشيئة الله تعالى وهي لا تعلم فلا تقل هذا القول الجازم فالنهي حالة عدم العلم إنما هو جزم القول باني فاعل ذلك غدا ولا يلزم منه ان لا يقول ذلك غير جازم به بل يعلقه على مشيئة الله فافهم فمن قال افعل غدا ان شاء الله غير آت بالمنهي عنه فافهم هذا فهو حسن.
فإن قلت من قال: إني فاعل مع قوله إن شاء الله هو قائل إني فاعل فيكون آتيا بالمنهي عنه وإن أتى بلفظ إن شاء الله قلت لا نسلم أن من قال ذلك مع قول إن شاء الله يكون بالمنهي عنه وذلك لأن الكلام المركب من أجزاء لا يصدق أنه ذلك الكلام إلا من جميع أجزائه وكذلك من اقر لرجل بخمسة وعشرين لا يصدق أنه أقر بخمسة لأن الضمير العائد على الخمسة غير العائد على الخمسة والعشرين.
قال: وعدم الاستغراق الشرط الثاني عدم الاستغراق فان المستغرق مثل عشرة إلا عشرة باطل اتفاقا كما نقله الأئمة لكن قال القرافي نقل ابن طلحة في مختصره المعروف بالمدخل فما إذا قال لامرأته أنت طالق ثلاثا إلا ثلثا قولين.
أحدهما: انه استثناء وينفعه وهذا غريب قال وشرط الحنابلة ان لا يزيد على النصف والقاضي ان ينقص منه لنا لو قيل له على عشرة الا تسعة لزم واحد اجماعا وعلى القاضي استثناء الغاوين من المخلصين وبالعكس قال: الأقل ينسى فيستدرك ونوقص بما ذكرناه.
ذهب الأكثرون الى صحة استثناء الأكثر حتى لو قال له على عشرة الا تسعة لم يلزمه سوى درهم واحد وقالت الحنابلة يشترط ان لا يزيد على(13/200)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الكهف آية 24.(13/201)
ص -148-…النصف وقال القاضي يشترط ان ينقص عنه هذا المنقول في الكتاب ونقل الشيخ أبو اس الشيرازي والآمدي عن الحنابلة امتناع المساوي ايضا كالمنقول عن القاضي ولم تختلف النقلة فيما اسندوه الى القاضي من امتناع المساوي والذي في مختصر التقريب كنا على تجويز الاستثناء الأكثر دهرا والذي صح عندنا آنفا منع ذلك ولم بتعرض لاشتراط الأقلية وقال قوم ان كان العدد صريحا لم يجز الاستثناء الأكثر مثل عشرة الا تسعة والإجاز مثل خذ هذه الدراهم الا ما في الكيس الفلاني اكثر من الباقي وقال آخرون بمنع استثناء اكثر الجملة منها إذا كان المستثنى جملة نحو جاء أخوتك العشره الا سبعة وتجويزا استثنائهم تفصيلا وتعديدا نحو الا زيدا منهم وبكرا وخالدا الى ان يأتي السبعة حكاه الأستاذ أبو محمد الحسن بن عيسى العارص المعتزلي في كتابه النكت في أصول الفقه عن بعض شيوخ النحو من أهل عصره.
واعلم ان الكلام في الاستثناء من العدد مبنى على صحته وللنحاة فيه مذاهب.
أحدها: أنه لا يجوز وصححه ابن عصفور.
الثاني: وهو المشهور الجواز.
الثالث: ان كان المستثنى عقدا من العقود لم يجز نحو عشرين الا عشرة وان لم يكن عقدا جاز نحو مائة الا ثلاث واستدل المصنف على المختار بوجهين.
أحدهما: وهو احتجاج على الفريقين أعني من اشترط ان لا يزيد عن النصف ومن اشترط ان ينقص عنه ان الفقهاء اجمعوا على ان من قال لفلان على عشرة إلا تسعة يلزمه واحد فقط ولولا صحة هذا الاستثناء لما كان كذلك ونقل الإجماع مردود فقد حكاه احمد بن حنبل وبعض المالكية.
والثاني: وهو مختص بمن اشترط الأقل على ان القاضي أورده في مختصر التقريب ولم يذكر اشتراط الأقلية وإنما أورده من جهة الرادين على من اشترط ان لا يكون اكثر وقال هذا امثل ما يستدلون به مع ان للقول فيه مجالا ولم يذكر عنه جوابا والشيخ أبو اسحاق قال انه دليل قاطع لا جواب(13/202)
ص -149-…للخصم عنه وتقريره ان الله تعالى استثنى الغاوين من المخلصين في قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}1 وبالعكس أي استثنى جل وعز المخلصين من الغاوين في قوله حكاية عن إبليس: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}2 فلو كان المستثنى منه لزم أن يكون كل واحد من الغاوين والمخلصين أقل من الآخر وهو محال واحتج القائل باشتراط الأقل وهو القاضي على ما ذكر في الكتاب بأن الاستثناء خلاف الأصل لكونه بمنزلة الإنكار بعد الإقرار وخالفنا هذا اصل في الأقل لكونه قليل الخطور بالبال فربما نسيه المقر فيستدركه في الاستثناء وهذا بخلاف الأكثر فلذلك جوزنا في الأقل دون الأكثر وأجاب بأنه منقوص بما ذكرناه وهذا يحتمل وجهين.
أحدهما: أنه منقوص بما ذكرنا من الإجماع فيما إذا قال له على عشرة إلا تسعة وقد ذكرنا أنه غير ثابت.(13/203)
والثاني: أنه منقوص بما ذكرناه من استثناء الغاوين من المخلصين وبالعكس فإن النسيان محال في جانب الباري وهذا الدليل أجيب عنه بأنا لا نسلم إلا أن في قوله إلا من اتبعك من الغاوين للاستثناء لكنا إنما نمتنع من استثناء إلا كثر إذا كان عدد المستثنى والمستثني منه مصرحا به مثل عشرة إلا تسعة أما إذا لم يكن مصرحا به مثل خذ ما في الكيس من الدراهم سوى الزيوف فإنه يصح وإن كانت الزيوف أكثر سلمنا ولكنا نقول المستثنى إلا في الإثنين أقل أما قوله إلا عبادك منهم المخلصين فيشمل كل العباد المخلصين من بني آدم لقوله منهم إشارة لبني آدم اقل واما قوله الا من اتبعك من الغاوين فالمستثنى اقل ايضا لأن قوله عبادي يشمل الملائكة لكونه إسم جنس أضيف ومعلوم ان كل الغاوين أقل من الملائكة وحدهم فكيف إذن أضيف إليهم صالحة بني آدم فيجوز ان استثناء الغاوين من كل عباده وهم اقل من مخلصين بدخول الملائكة في المخلصين ومعلوم انهم اكثر من غيرهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحجر آية 42.
2 سورة الحجر 39-40.(13/204)
ص -150-…قال: عليه السلام: "أطت السماء وحق لها ان تئط ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك يسبح الله"ولقائل أن يقول الجواب عن الأول ان جعل إلا بمعنى لكن فيه خروج من حقيقته بلا دليل وعن الثاني إن الدعوى فيما إذا كان عدد المستثنى والمستثنى منه مصرحا به وفيما إذا لم يكن وعن الثالث بأنه تعالى قال في سورة الحجر حكاية عن إبليس: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}1 فاستثناء الأول لأنه استثنى المخلصين من بني آدم وهم أقل ثم قال: {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}2 والمراد بعباده هنا المعهودون الذين تقدم ذكرهم وفيهم وقع الكلام وهم المخلصون من بني آدم وليس المراد العموم حتى تدخل الملائكة لأن العهد على العموم والآية وقعت في الحجر مبينة والقصة واحدة والله أعلم.
ومنهم من استدل مع التمسك بقوله: {إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} بقوله: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}3 ولم يتعرض للآية الأخرى وفيه نظر فإن قوله وما أكثر الناس إنما يدل على الأكثرين من الذين بعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم والألف واللام في الناس للعهد ولا يلزم من كون الغاوين أكثر في هذه الطائفة أن يكونوا أكثر بالنسبة إلي كل الطوائف من لدن آدم عليه السلام إلى يوم القيامة والله اعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحجر 39-40.
2 سورة الحجر 41- 42.
3 سورة يوسف 103.
قال: الثانية: الإستثناء من الإثبات نفي وبالعكس خلافا لأبي حنيفة لنا لو لم يكن كذلك لم يكف لا إله إلا الله احتج بقوله عليه الصلاة والسلام: "لا صلاة إلا بطهور" قلنا للمبالغة.(13/205)
الاستثناء من الإثبات نحو قام القوم إلا زيدا نفي للقيام عن زيد بالاتفاق وزعم بعضهم ان الخلاف جار فيه أيضا.(13/206)
ص -151-…قال الهندي وهو الحق وبه صرح بعضهم وأما الإستثناء من النفي هل هو إثبات فقال أصحابنا نعم وخالفت الحنفية فقالت لا يدل إلا على الحكم المستثنى مسكوت عنه واحتج أصحابنا بأنه لم يكن إثباتا لم يكف قول القائل لا إله إلا الله في توحيده لأن اللفظ حينئذ ليس إلا نفي الإلهية عما عدا الله وهو ساكت عن إثباتها لله فيفوت أحد شرطي التوحيد فلا يكفي ذلك ولا قائل بهذا كيف والنبي صلى الله عليه وسلم يقول أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله واحتج أبو حنيفة بقوله عليه السلام: "لا صلاة إلا بطهور" فإن تقديره لا صحة للصلاة إلا بطهور فلو كان الاستثناء من النفي إثباتا لكان حيث وجد الطهور وجدت صحة الصلاة وليس كذلك لجواز فواتها لفقدان شرط آخر وأجاب المصنف بأن الحصر قد يؤتي به للمبالغة لا للنفي عن الغير مثل: "الحج عرفه"1 والطهارة لما كانت أعظم الشروط صيرت كأن لا شرط إلا هي وأحسن من هذا الجواب ما ذكره صاحب التحصيل من ان قولنا الاستثناء من النفي إثبات يصدق بإثبات صورة في كل استثناء لأن دعوى الإثبات لا عموم ما فيها بل هي مطلقة فيقتضي صحة الصلاة عند وجود الطهارة بصفة الإطلاق لا بصفة العموم وان شئت قلت لا صلاة نفي كلي وقوله: "إلا بطهور"2 إثبات جزئي لأن نقيض الكلي جزئي ونحن نقول به إذ قد يوجد الطهور ومعه بقية الشروط والصلاة
واعلم ان هذا الحديث لا يعرف بهذا اللفظ والأولى أن يغير بحديث لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب
قلت وقد وقع في بعض المجالس الاستدلال على صحة مذهب أبي حنيفة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1رواه أحمد في مسنده وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة كما رواه الحاكم في مستدركه الكبير الفتح الكبير 782.
2 رواه البخاري,كتاب الوضوء, باب لاتقبل صلاة بغير طهور ولفظه: "لاتقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ" كما رواه الترمذي وابن ماجة في كتاب الطهارة باب: "لايقبل الله صلاة بغير طهور".(13/207)
ص -152-…بقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا}1 إلا وسعها وجه الحجة انه لو كان الاستثناء من النفي إثباتا لكان المرء مكلفا بكل ما تسعه نفسه لأن الوسع مستثنى في قوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً} وقد أضيف بقوله وسعها فيقتضي العموم بناء على ان المفرد المضاف يعم والتقدير لا يكلف الله نفسا بشيء إلا بكل ما تسعه فتكون كل ما تسعه مكلفة به وليس كذلك وكان البحث بين يدي والدي أيده الله فاستحسن ذلك2.
فرع: لو قال: لا أجامعك سنة إلا مرة فمضت سنة ولم يطأ فهل يلزمه كفارة لاقتضاء اللفظ الوطىء أم لا لأن المقصود منع الزيادة وجهان يتجه تخريجهما على هذا الأصل قال النواوي أصحهما إلا كفارة.
قال: الثالثة: المتعددة إن تعارضت أو استغرق الأخير الأول عادت إلى المتقدم عليها وألا يعود الثاني إلى الأول لأنه أقرب.
الاستثناء من الاستثناء جائز وحكي عن بعضهم خلافه وهو ضعيف قال الله تعالى: {إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ}3 وإذا ثبت جواز الاستثناء من الاستثناء فنقول إلا الاستثناءات المتعددة إما أن يكون بعضها معطوفا على بعض أولا إن كان الأول المستثنى منه نحوله على عشره إلا أربعة وإلا ثلاثة وإلا اثنين فإن الكل يرجع إلى الأولي فلا يلزم المقر إلا واحدا وإن كان الثاني مستغرقا للأول أو لا فإن كان مستغرقا قال الإمام أو مساويا له
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البفرة آية 286.(13/208)
2 ونقل عن الإمام أبي حنيفة أنه يخالف في المسألتين: أي يقول: إن الإستثناء من الإثبات ليس بنفي ومن النفي ليس بإثبات لكن الصحيح هو الأول الذي حكاه الشارح قال الإمام الرازي: اتفق العلماء: وأبو حنيفة وغيره على أن إلا للإخراج وأن المستثنى مخرج, وأن كل شيء خرج من نقيض دخل في النقيض الآخر فهذه ثلاثة أمور متفق عليها وبقي أمر رابع مختلف فيه أنا إذا قلنا. قلنا القوم فهناك أمران: القيام والحكم فاختلفوا هل المستثنى مخرج من القيام أو من الحكم به؟فنحن نقول: من القيام فيدخل في نقيضه وهو عدم القيام والحنفية يقولون: هو مخرج من الحكم فيدخل في نقيضه وهو عدم الحكم فيكون غير محكوم عليه فأمكن أن يكون قائما والا يكون . حاشية البناني على جمع الجوامع 1512.
3 سورة الحجر آية 59.(13/209)
ص -153-…عاد الكل إلى المتقدم أيضا مثل على عشرة إلا اثنين إلا ثلاثة إلا أربعة فلا يلزم غير واحد وإلي هذين القسمين أشار بقوله عادت إلى المتقدم عليها وإن لم يكن مستغرقا عاد الاستثناء الثاني إلى الأول مثل عشرة إلا ثمانية إلا سبعة حتى يلزم تسعة وإلى هذا أشار بقوله وألا يعود الثاني إلى الأول أي دون المستثنى منه وعلله بان الأول لقربه إليه من المستثنى منه والقرب يدل على الرجحان عند البصريين فإنهم في تنازع العاملين في العمل اختاروا الأقرب ولذلك أن نقول الأقربية لا تدل على اللزوم وانما تدل على الرجحان كما في تنازع العاملين فإنه لا نزاع بين البصريين والكوفيين في جواز أعمال كل منهما وإنما الخلاف في الأولوية فينبغي أن يقرر بوجه آخر فيقال إما أن يعود إلى الثاني أو إلى الأول منتف للزوم الترجيح من غير مرجح في اللزوم لأنهما فيه سواء فيعود إلى الأولوية ونقول لا يعود إلى الأول لأنه مرجوع فرع لو كان الاستثناء الأول مستغرقا للمستثنى منه دون الثاني.
الثاني: كقوله. عشرة إلا عشرة إلا أربعة ففيه أوجه للأصحاب.
أحدهما: يلزمه عشرة ويبطل الأول لاستغراقه.
والثاني: لأنه باطل.
والثاني: يلزمه أربعة ويصح الإستثناءان لأن الكلام إنما يتم بآخره قال ابن الصباغ وهو أقيس.
والثالث: يلزم ستة لأن الأول باطل والثاني يرجع إلي أول الكلام.
قال: الرابعة: قال الشافعي رضي الله عنه المتعقب للجمل كقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} يعود إليها وخص أبو حنيفة بالأخيرة وتوقف القاضي والمرتضي وقيل ان كان بينهما تعلق فللجميع مثل اكرم الفقهاء والزهاد وأنفق عليهم إلا المبتدعة فالأخيرة.
هذه المسألة في حكم الاستثناء الواقع عقيب جمل عطف بعضها على بعض مثل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ(13/210)
ص -154-…جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا}1فإن هذا استثناء وقع بعد ثلاث جمل الأولى أمرهم بجلدهم والثانية ناهية عن قبول شهادتهم والثالثة مخبرة بفسقهم وقد اختلف العلماء فيها على مذاهب.
الأول: وهو مذهبنا أنه يعود إلى الجميع لكن بشروط.
أحدها: أن تكون الجمل معطوفة.
والثاني: أن يكون العطف بالواو الجامعة فأما إن كان بثم اختص بالأخيرة ذكره الآمدي قال الأصفهاني ولم أر من تقدمه به.
قلت وقد نقدمه إمام الحرمين كما نص عليه في النهاية وفي مختصر له في أصول الفقه ونقل الرافعي في كتاب الوقف عنه.
والثالث: نقله الرافعي عن رأى إمام الحرمين أيضا ان لا يتخلل بين الجملتين كلام طويل فإن تخلل اختص بالآخرة قال الرافعي كما لو قال وقفت على أولادي على ان من مات منهم وأعقبت فنصيبه بين أولاده للذكر مثل حظ الاثنين وإن لم يعقب فنصيبه للذين في درجته فإذا انقرضوا فهو مصروف إلى اخوتي إلا أن يفسق واحد منهم فيختص الاستثناء بالأخوة.
المذهب الثاني: وإليه ذهب أبو حنيفة أنه يعود إلى الأخيرة خاصة حتى لا يقبل شهادة القاذف وإن تاب وصار من الأبرار والثلث التوقف وإليه ذهب القاضي والغزالي منا والمرتضى2 من الشيعة إلا أن القاضي توقف لعدم العلم بمدلوله لغة وقال الإمام أنه الذي نختاره في المناظرة والمرتضى توقف لكونه عنده مشتركا بين عوده إلى الكل وعوده إلى الأخيرة فقط.
واعلم ان القول بالإشتراك إنما يكون من باب الاشتراك في المركبات لا في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النور 4-5.
2 هو الشريف المرتضى أبو القاسم علي بن الحسين الطاهر بن موسى من أحفاد سيدنا الحسين بن علي رضي الله عنهما وأحد الأئمة في علم الكلام والأدب والشعر.
توفي سنة 436هـ ببغداد.
الأعلام للزركلي 66712.(13/211)
ص -155-…المفردات ويكون مبنيا على وضع المركبات ولا يمكن أن يقال العود من المفردات ذكره القرافي ولما تغاير توقف القاضي والمرتضى حصلنا من الموقف على مذهبين فنقول والمذهب الخامس واليه ذهب الحسين وقال الإمام انه داخل في التحقيق وانه حق انه ان كان بين تعلق الجمل تعلق عاد الاستثناء إليها والتعلق ان يكون حكم الأولى أو اسمها مضمرا في الثانية في الحكم نحو اكرم الفقهاء والزهاد إلا المبتدعة تقديره وأكرم الزهاد وفي الإسم نحو أكرم الفقهاء وانفق عليهم إلا المبتدعة أي على الفقهاء وقد أشار المصنف إلى المثالين فقط لذلك ان لم يكن بين الجمل تعلق اختص بالأخيرة لأن الظاهر أنه ما انتقل عن جملة مستقلة بنفسها إلى جملة أخرى إلا وقد تم غرضه من الأولى فلو رجع الإستثناء إلى الجميع لم يكن مقصود من الأولى قد تم.
قال: لنا ما تقدم الأصل اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في المتعلقات كالحال والشرط وغيرهما فلذلك الاستثناء قيل خلاف الدليل خولف في الأخيرة للضرورة فبقيت الأولى على عمومها قلنا منقوض بالصفة والشرط.(13/212)
احتج الشافعي رضوان الله عليه بأن الأصل اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في جميع المتعلقات كالحال والشرط وكالصفة وكالجار والمجرور والظرف فيجب أن يكون الاستثناء كذلك والجامع أن كلا غير مستقل بنفسه ومثال اشتراط المعطوف والمعطوف عليه في الحال أكرم ربيعة وأعط مضر نازلين بك وفي الصفة الطوال وفي الشرط أن نزلوا بك في الجار والمجرور اضرب زيدا واهن عمرا في الدار وفي الظرف صم وصل يوم الخميس وقد نقل الإمام عن الحنفية موافقتنا على عود الشرط إلى الكل وأما الحال والظرف والمجرور فقال ان نخصهما بالأخيرة وعلى قول أبى حنيفة وحينئذ لا يحسن استدلال المصنف بها على الحنفية في الدليل نظر آخر وهو أنه لا يلزم من اشتراك لشيئين من بعض الوجوه اشتراكهما في جميع الأحكام واللغة لا تثبت قياسا مع أن الفرق ثابت فإن الشرط متقدم على المشروط من جهة المعنى وإن تأخر من جهة اللفظ بخلاف الإستثناء فإنه مؤخر من الجهتين واحتج أبو حنيفة بأن الاستثناء خلاف الأصل لتنزله منزلة الإنكار بعد الإقرار كما سبق وإذا كان على(13/213)
ص -156-…خلاف الدليل كان مرجوحا لكن خالفنا مقتضى الدليل في الجملة الأخيرة للضرورة لأن الاستثناء غير مستقل ولا يمكن إلغاؤه وإنما جعلناه للجملة الأخيرة لأنها اقرب فبقى ما عداها على الأصل أجاب بأن هذا الدليل منقوض بالصفة والشرط فإنهما عائدان إلى الكل مع وجود المعنى الذي قلتموه بعينه فيهما وفي النقض بالصفة نظر فان أبا حنيفة رحمه الله لا يقول بالشرط.
فإن قلت لأبى حنيفة أن يعتذر على الشرط بأن له صدر الكلام كما تقدم.
قلت: سلمنا أن رتبته التقدم ولكن على الجملة الأخيرة التي هي مشروطة لا على جميع الجمل.
فإن قلت: لما حصل في ان الشرط هل هو شرط للجميع أو للأخيرة فقط بمقتضى اختلاف الأئمة والشك في الشرط يوجب الشك في المشروط لم يرتب الحكم في المشروط إلا بعد وجوده فالمشروط مشكوك فيه.
قلت قد يمنع هذا ويقال في الأصل عدم كونه شرطا فترتب الحكم ما لم يثبت شرطيته للجميع.(13/214)
فائدة: الخلاف المتقدم في ان الاستثناء هل يختص بالأخيرة أو يعود إلى الجميع أو غير ذلك إنما هو فيما إذا لم يقم دليل على واحد بعينه وقد وقع استثناء بعد جملتين وهو عائد إلى الجملة الأولى وحدها في قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ}1 فإن هذا الاستثناء مختص بالجملة الأولى أعني قوله: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} ولا يجوز أن يكون عائدا إلى الأخيرة أعني إلى قوله ومن لم يطعمه فانه مني إذ التقدير حينئذ إلا من اغترف غرفة بيده فليس مني والمعنى على خلاف ذلك لأن المقصود ان لم يطعمه مطلقا من اغترف منه وغرفة بيده على حد سواء ولا يمكن ان يكون التقدير إلا من اغترف غرفة بيده فإنه مني على هذا التقدير لأنه لا يعقل استثناء حينئذ إذ المستثنى لا بد ان يغاير حكمه حكم المستثنى منه وكذلك في قوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية 249.(13/215)
ص -157-…أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ}1 فان هذا الاستثناء مختص بالجملة الأولى أي والله إعلم لا يحل لك النساء والنساء اعم من الزوجات والإماء واستثنى ما يملكه اليمين وجزم أيضا أن يتبدل بالأزواج ولا يمكن عود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة إذ تصير الإماء قد استثنين من الأزواج وهن لا يمكن كونهن أزواجا له صلى الله عليه وسلم ووقع استثناء وهو عائد إلى الجميع بلا اختلاف في قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا}2 وهذا يصلح نقضا على أبى حنيفة ومعتصما لأصحابنا ووقع استثناء وهو راجع إلى الجملة الأخيرة بلا خلاف غير راجع إلى الأولى الصحيح وفي المتوسطة اختلاف وذلك في آية القاذف المتقدمة فان الجلد ثابت اتاب القاذف أم لم يتب وإنما الخلاف في قبول الشهادة فإن قلت فهذه الآية والآية الأولى ينقضان مذهبكم كما نقضت آية قطاع الطريق رأي أبى حنيفة قلت قد قلنا ان الأصل عندنا ان الاستثناء يعود على الجميع وقد يختلف ذلك لدليل في الآية الأولى تخلف لعدم الإمكان وفي آية القاذف لأنه حق آدمي لا يسقط بالتوبة وأما الحنفية فلا عذر لهم في مخالفة أصلهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأحزاب آية 52.
2 سورة المائدة آية 33.
قال الثاني: الشرط هو ما يتوقف عليه تأثير المؤثر لا وجود له كالإحصان.(13/216)
القسم الثاني من أقسام المخصصات المتصلة بالشرط وهو في اللغة العلامة ومنه أشراط الساعة أي علاماتها وفي الاصطلاح هو الذي يتوقف عليه تأثير المؤثر لا وجود المؤثر كالإحصان لوجوب الرجم فإن تأثير المؤثر وجوب الرجم هو الزنا متوقف عليه دون وجوده لأنه قد يوجد الزنا ولا يوجد الإحصان وإنما قال لا وجوده ولم يقل لا ذاته كما فعل الإمام لئلا يرد على طرده العلة التامة وهي المركبة من المقتضى والشرط وانتفاء المانع فان تأثيرها متوقف على ذاتها(13/217)
ص -158-…بالضرورة فالشرط جزاؤها وذاتها لا يتوقف عليها لأن الشيء لا يتوقف على نفسه وهذا بخلاف الوجود فإنه على رأي المصنف وصف عارض للماهية كما تقدم في الاشتراك فلا يدخل تحت الحد فافهم ذلك فهو في محاسن المصنف وهنا فائدتان:
إحداهما: ان الشرط قد يكون شرعيا كما مثلنا في الإحصان وقد يكون عقليا الحياة شرط للعلم وقد يكون لغويا نحو ان كلمت زيدا فأنت طالق وقد يكون عاديا كالسلم مع صعود السطح والكلام ليس إلا في الشرعي ويدل على ذلك تمثيل المصنف بالإحصان.(13/218)
الثانية: أن الشروط اللغوية أسباب بخلاف غيرها من الشروط وقاعدتها مباينة لقاعدة الشروط الأخرى ونظير الفرق بين القاعدتين يتبين حقيقة السبب والشرط المانع والسبب هو الذي يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته والشرط هو الذي يلزم العدم ولا يلزم من وجوده لا علم لذاته والمانع هو الذي يلزم من وجوده العدم ولا يلزم من عدم وجوده والعدم لذاته وقد أوضحنا ذلك في أوائل تقسيم الألفاظ فعاوده فإذا راجعته وتقرر ذلك فلنعتبر من المانع وجوده ومن الشرط عدمه ومن السبب وجوده وعدمه ولك ان تمثل ذلك بالزكاة فالسبب النصاب والحول شرط والدين مانع عند من يراه مانعا فإذا ظهرت حقيقة كل واحد من السبب والشرط والمانع وضح ان الشروط اللغوية أسباب بخلاف غيرها من الشروط الفعلية كالحياة مع العلم والشرعية كالإحصان مع الرجم والعادية كالسلم مع الصعود فإن هذه الشروط يلزم من عدمها العدم في المشروط ولا يلزم من وجودها وجود ولا عدم فقد يوجد المشروط عند وجودها كوجوب الزكاة عند الحول الذي هو شرط وقد يقارن الدين فيمتنع الوجوب وأما الشروط اللغوية التي هي التعليق كقوله إن دخلت الدار فأنت طالق يلزم من الدخول الطلاق ومن عدمه عدمه إلا أن يخلفه سبب آخر كالإنشاء أو تعليق آخر بعد التعليق وهذا هو شأن السبب أن يلزم من عدمه العدم إلا أن يخلفه سبب آخر فإذا ظهر ان الشروط اللغوية أسباب دون غيرها فإطلاق لفظ الشرط عليها وعلى ما عداها أما بالاشتراك أو بالحقيقة في واحد والمجاز في البواقي(13/219)
ص -159-…أو بالتواطؤ إذ بينهما قدر مشترك وهو مجرد توقف الوجود على الوجود فان الشرط العقلي وغيره يتوقف دخول شروطه في الوجود على وجوده وإن وجوده لا يقتضيه والمشروط اللغوي يتوقف وجوده على وجود شرطه ووجود شرطه يقتضيه ثم الشرط اللغوي يمكن التعويض عنه ولا خلاف والبدل كما قال لها إن دخلت الدار فأنت طالق ثلاثا ثم يقول لها أنت طالق ثلاثا فيقع الثلاث بالإنشاء بدلا من المعلقة وكقولك ان رددت عبدي فلك هذا الدرهم ولك ان تعطيه إياه قبل ان يأتيك بالعبد هبة فتختلف الهبة إستحقاقه إياه بالإتيان بالعبد ويمكن إبطال شرطيته كما إذا أنجز الطلاق او اتفقتما على فسخ العجالة والشروط الشرعية لا يقتضي وجودها وجود او لا تقبل البدل ولا الإخلاف ولا تقبل الإبطال إلا الشرعية خاصة فإن المشرع قد يبطل شرطية الطهارة الستارة عند معارضة التعذر أو غيره فهذه ثلاث فروق إقتضاء الوجود والبدل والإبطال والله اعلم.
قال: وفيه مسألتان الأولى الشرط إن وجد دفعه فذاك وإلا فيوجد المشروط عند تكامل أجزائه وارتفاع جزء منه ان شرط عدمه الثانية ان كان زانيا ومحصنا فارجم يحتاج إليهما وإن كان سارقا او نباشا فاقطع يكفي احدهما وإن شفيت فسالم وغانم حر فشفي عتقا وإن قال او فيعتق أحدهما او بعين.
ذكر في هذا القسم مسألتين:(13/220)
إحداهما: في وقت وجود المشروط اعلم ان الشرط إما ان يوجد أو على التدريج ان وجد دفعة كالتعليق على وقوع طلاق وغير ذلك مما يستحيل ان يدخل في الوجود الا دفعة واحدة فانه يوجد المشروط عند أول أزمنة الوجود ان علق عليه او العدم ان علق عليه مثل ان لم أطلقك فأنت طالق والى هذين القسمين أشار بقوله فذاك وان وجد على التدريج كالتعليق على قراءة سورة مثلا فإن كان على الوجود كقوله ان قرأت الفاتحة فأنت طالق فيوجد المشروط وهو الطلاق عند تكامل أجزاء الفاتحة وان كان على العدم كقوله ان لم تقرئي الفاتحة فأنت طالق فيوجد المشروط وهو الطلاق عند ارتفاع جزء من الفاتحة حتى لو قرأت الجميع الا حرفا واحدا تطلق لأن المركب ينفى بانتفاء أجزائه وانتفاء الجزء يستلزم انتفاء الكل(13/221)
ص -160-…المسألة الثانية: في تعدد الشرط والمشروط أما الشرط فاعلم ان الشرطين إن دخلا على جزء واحد فإما ان يكونا على الجميع او على البدل فإن كانا على الجمع مثل إن كان زانيا ومحصنا فارجم فلا يوجد المشروط الذي هو الرجم الا عند وجودهما معا وإن كان على البدل كفى أيهما وجد في ترتب الحكم نحو إن كان سارقا او نباشا فاقطع وأما المشروط فاعلم أن الجزائين ان دخلا على شرط واحد فإن كانا على الجميع وجد عند وجوده مثل ان شفيت فسالم وغانم حر فأيهما يعتقان عند شفائه أحدهما والخيرة في التعيين إليه هذا ما ذكره في هذه المسألة ولم يذكر اتحاد الشرط والمشروط مثل ان دخلت الدار فأنت طالق بل وضع المسألة في التعدد فقط.
فائدة: اتفقوا على وجوب اتصال الشرط بالكلام لا نعلم في ذلك نزاعا وعلى أنه يجوز تقييد الكلام بشرط يكون الخارج به أكثر من الباقي قال الشيخ صفي الدين الهندي وهذا ما يجب تنزيله على ما علم أنه كذلك وأما ما يجهل الحال فيه فإنه يجوز ان يقيد ولو بشرط لا يبقى من مدلولاته شيئا كقولك اكرم من يدخل الدار إن أكرمك وان اتفق أن أحدا منهم لم يكرمه.
قال الثالث الصفة مثل فتحرير رقبة مؤمنة وهي الاستثناء.(13/222)
القسم الثاني من المخصصات المتصلة للصفة نحو أكرم بني تميم الطوال ومثل له المصنف تبعا للإمام بقوله فتحرير رقبة لأن رقبة عام والتقييد بالمؤمنة يخرج الكافرة وفيه تجوز لأن رقبة مطلق وعمومه يدل والكلام في العموم الشمولي قوله وهي الاستثناء أي الصفة كالاستثناء في وجوب الإيصال وعودها إلى الجمل فقط لا في جميع أحكام الاستثناء حتى يجيء فيها الخلاف في جواز إخراج الأكثر والمساوي ويحتمل أن يجري الخلاف في هذا أيضا وإطلاق الكتاب يقتضيه وقال الإمام إذا تعقبت الصفة شيئين فإما أن يتعلق أحدهما بالأخرى مثل اكرم العرب والعجم المؤمنين فتكون عائدة إليهما وإما ان لا يكون كذلك مثل اكرم العلماء وجالس الفقهاء الزهاد فهاهنا الصفة عائدة الى الجملة الأخيرة قال وللبحث فيه مجال كما في الاستثناء.
قال الرابع الغاية وهي طرفه وحكم ما بعدها خلاف ما قبلها مثل: {ثُمَّ(13/223)
ص -161-…أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}.
غاية الشيء طرفه ومنتهاه وإنما أعاد المصنف الضمير في طرفه على الشيء وهو غير مذكور للعلم به وألفاظ الغاية حتى وإلى كقوله تعالى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} وحكم ما بعد الغاية مخالف ما قبلها وإلا لم تكن الغاية غاية بل وسطا هذا خلف وأما الغاية نفسها هل تدخل كقولك أكلت حتى قمت هل يكون القيام محلا للأكل فيه مذاهب.
أحدها: أن حكمه يخالف حكم ما قبله.
والثاني: أنه لا يدل على شيء واختاره الآمدي.
والثالث: إن كان من جنسه دخل وإلا فلو نحو بعتك التفاح إلي هذه الشجرة أهي من التفاح فتدخل أم لا فلا تدخل.
والرابع: إن كان معه لفظ من دخل نحو من هذه النخلة أو هذه وإلا لم يدخل.
والخامس: قال الإمام وهو الأول أن يميز عما قبله بالحسن مثل: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} كان حكم ما بعدها خلاف ما قبلها وان لم يتميز حسا استمر ذلك الحكم على ما بعده مثل: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} فإن المرفق غير منفصل عن اليد بمفصل محسوس قال العراقي وقول الإمام يكون ما بعدها مخالفا لما قبلها من مدخول من جهة أنا لا نعلم خلافا فيما بعد الغاية وهذا يقتضي أنه محل خلاف والخلاف ليس هو في الغاية نفسها.
والسادس: إن اقترن بمن دخل وإلا فاحتمل ان يدخل وألا يدخل ويكون بمعنى مع كقوله: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} أي مع أموالكم وهذا كله في غاية الانتهاء أما غاية الابتداء ففيها مذهبان وهنا فوائد.
أحدها: قول الاصوليين ان الغاية من جملة المخصصات قال والدي أيده الله إنما هو فيما تقدمها عموم يشملها لولم يؤت بها وقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ}1 ولم يقله لقاتلنا المشركين أعطوا الجزية أولم يعطوها ولا يأتي ذلك(13/224)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية 29.(13/225)
ص -162-…في مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق"1 لأن حالة النائم خارجة عن الصبي وحالة الإفاقة خارجة عن الجنون والاستيقاظ خارج عن منوم فلو قال عن الصبي والمجنون والنائم ولم يذكر الغايات المذكورة لم يشملها فإن قلت فما يقصد بالغاية في مثل هذا قلت تارة يقصد بها تأكيد العموم فيما قبلها وهذا المعنى هو المقصود في الحديث فان عدم التكليف في جميع أزمنة الصبي تعمها بحيث لا يستثني منها شيء وهكذا أزمنه الجنون والنوم فالمقصود بهذه الغاية من هذا الوجه تحقيق التعميم لا التخصيص ومن ذلك قوله تعالى: {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}2 وطلوعه وزمن طلوعه ليسا من الليل حتى يشملها قوله سلام وتارة يقصد بها ارتفاع ذلك الحكم عند الغاية فإن اللفظ لو اقتصر على قوله رفع القلم عن الصبي شمل حالة الصبي ولم يتعرض لحالة البلوغ إثبات التكليف فيها ولا نفيه عنها بل كان ساكتا عن حكمها فلما قال حتى يبلغ وقد علم مخالفة ما بعد الغاية لما قبلها فهم إثبات التكليف في حالة البلوغ فقصد بالغاية المذكورة هذا الحكم أيضا وهذا يقوله من يقول بالمفهوم وقال والدي أعزه الله تعالى وهو إن قيل به في نحو قوله حتى يعطوا الجزية فهو أقوى من القول به هنا لأن هناك لو لم يقل به لم يكن للغاية فائدة وهنا فائدتها المقصد الأول كما بيناه فلم يكن دليل على الثاني الثانية قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}3 يحتمل ان يكون مثل قوله حتى يعطوا الجزية فإن الصيام لغة تشمل الليل والنهار فخص هذا العموم بقوله إلى الليل ويصح تمثيل المصنف حينئذ بهذه الآية للتخصيص بالغاية ويحتمل ان يكون مثل قوله حتى مطلع الفجر وهو الظاهر فإن الصيام شرعا لا يكون إلا نهارا وأيضا عموم قوله وأتموا الصيام إنما هو في أفراد الصيام أي أتموا كل صيام ولا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(13/226)
1 حديث صحيح أخرجه ابن ماجه والترمذي والحاكم من حديث علي رضي الله عنه بلفظ: رفع القلم عن ثلاث عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يشب وعن المعتوه حتى يعقل, الفتح الكبير 2512. كما رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث علي وعمر وعائشة رضي الله عنه.
2 سورة القدر آية 4.
3 سورة البقرة آية 187.(13/227)
ص -163-…تعرض فيه للوقت نعم لو قال قائل أتموا الصوم في الزمان الى الليل كان تخصيصا راجعا إلى العموم في الأوقات المستفاد من قوله الزمان.
الثالثة: قد عرفت الخلاف في انتهاء الغاية هل يدخل قال والدي أحسن الله إليه ولا بد ان يستثنى من هذا الطلاق شيئان:
أحدهما: ما تقدم وهي الغاية التي لو سكت عنها لم يدل عليها اللفظ كالغايات المذكورة في الحديث وكطلوع الفجر وكقوله: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}. وإن حالة الطهر لا يشملها اسم المحيض .
الثاني: ما يكون اللفظ الأول شاملا لها مثل قولنا قطعت أصابعه كلها من الخنصر إلى الإبهام لأنه لو اقتصر على قوله قطعت أصابعه كلها لأفاد الاستغراق فكان قوله من الخنصر إلى الإبهام تأكيدا وكذلك قوله قرأت القرآن من فاتحته إلى خاتمته وهو في الحقيقة راجع إلى الأول لأن المقصود فيهما تحقيق العموم واستغراقه لا تخصيصه وان افترقا في ان الذي جعل غاية في الثاني طرف المغيا وفي الأول ما بعده ففي هذين الموضعين الغاية لا خلا ف فيها بل هي في الأول خارجة قطعا وفي الثاني داخلة قطعا وكذا بعتك هذه الأشجار من هذه إلى هذه وانما اختلف الأصحاب فيما إذا قال بعتك من هذه النخلة إلى هذه النخلة هل يدخل الابتداء أو الإنتهاء ولا يدخل واحد منهما ومحل القطع بدخول الغاية في قولنا قطعت أصابعه كلها من الخنصر إلى الإبهام فإن اللفظ الأول صريح في الدخول فلو كان ظاهرا غير صريح كقولنا ضربت القوم حتى زيدا فالحكم كذلك ظاهر مع احتمال أن يكون انتهاء الضرب إليه ولم يضر به.(13/228)
الرابعة: من شرط المغيا أن يثبت قبل الغاية ويتكرر حتى يصل إليها كقولك سرت من البصرة إلى الكوفة فإن السير الذي هو المغيا ثابت قبل الكوفة ومتكرر في طريقها وعلى هذا يمتنع أن يكون قوله إلى المرافق غاية لغسل اليد لأن غسل اليد إنما يحصل بعد الوصول إلى الإبط فليس ثابتا قبل المرفق الذي هو الغاية فلا ينتظم غاية له نعم لو قيل اغسلوا إلى المرافق ولم يقل أيديكم انتظم لأن مطلق الغسل ثابت إلى المرافق ومتكرر قال بعض الحنفية فيتعين(13/229)
ص -164-…أن يكون المغيا غير الغسل ويكون التقدير اتركوا من اباطكم إلى المرفق فيكون مطلق الترك ثابتا قبل المرفق ومتكررا إليه ويكون الغسل نفسه لم يغيا وفي هذا المقام يتعارض المجاز واضمر فإن لنا ان نتجوز بلفظ اليد إلى جزئها حتى يثبت المغيا قبل الغاية ولا يضمر لنا ان المضمر كم قال هذا الحنفي ومن هذا قوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} يقتضي ثبوت الصيام بوصف التمام قبل غروب الشمس ويتحرر إلى غروبها وليس كذلك فيشكل كون الليل غاية للصوم التام نعم لو قيل صوموا إلى الليل انتظم لأن الصوم الشرعي ثابت قبل الليل ومتكرر إليه بخلاف الصوم بوصف التمام قال القرافي وهذا السؤال أورده الشيخ عز الدين بن عبد السلام وأجاب عنه بأن المراد أتموا كل جزء من أجزاء الصوم سنته وفضائله وكرروا ذلك إلى الليل والكمال في الصوم قد يحصل في جزء من أجزاء الليل دون جزء من جهة اجتناب الكذب والغيبة والنميمة وغير ذلك مما يأباه الصوم وكذلك آدابه الخاصة كترك السواك والتفكر في أمور النساء وغير ذلك فامرنا بتكرير هذا إلى غروب الشمس.
الخامسة: إذا قال له من درهم إلى عشرة وقال ضمنت مالك على فلان من درهم إلى عشرة صححناه كما هو الصحيح لزمه تسعة على الأصح عند العراقيين والغزالي والنووي وقضيته القول بأن غاية الانتهاء لا تدخل دون غاية الابتداء وقيل عشرة وصححه.(13/230)
الثاني: كتخصيص قوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} فإنا نخصص الطفل والمجنون لعدم فهمهما الخطاب واعلم أن منهم من خالف في التخصيص بالعقل ونقله إمام الحرمين عن بعض الناشئة أي الذين نشأوا أبوا أن يسموا هذا الفيء تخصيصا ونحن نقول أولا هذا هو ظاهر نص الشافعي رضي الله عنه فإنه قال في الرسالة باب ما نزل من الكتاب عاما يراد به العام ويدخله الخصوص توطئة لما ذكره بعدها مما يدخله الخصوص وكذلك كانت ترجمة الباب في بعض نسخ الرسالة كما ذكر شرحها أبو بكر الصيرفي ما ترك عاما يراد به العام وعاما يدخله الخصوص قال الشافعي رضي الله عنه قال الله عز وجل: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وذكر قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي(13/231)
ص -165-…الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا}1 ثم قال وهذا عام لا خاص فيه كل شيء من سماء وأرض وذي روح وشجر وغير ذلك فالله خالقه وكل دابة فعلى الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها انتهى.
ثانيا: كما قال إمام الحرمين في هذه المسألة قليلة الفائدة نزرة الخدوي والفائدة فإن تلقى الخصوص من مأخذ العقل غير منكر لو كون اللفظ موضوعا للعموم على اصل اللسان لا خلاف فيه مع من يعترف ببطلان مذهب الواقفية وإن امتنع ممتنع من تسمية ذلك تخصيصا فليس في إطلاقه مخالفة عقل أو شرع والخلاف في المسألة عند التحقيق لفظي فان مقتضى اللفظ العام غير ثابت فيما دل العقل على امتناعه فيه ثم نقول يمكن ان يقال ان الآيتين اللتين أوردهما الشافعي رضي الله عنه على عمومها ودعوى تخصيص العقل فيها باطلة أما قوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} فهو عز وجل غير داخل وهذا الخطاب لوجهين:
أحدهما: أن المخاطب لا يدخل في عموم خطابه عند جماعة الأصوليين ولعله البغوي والرافعي في المحرر في الضمان ووالدي وقيل ثمانية ولو قال بيتك من هذا الجدار إلى هذا الجدار لم يدخل الجداران في البيع ولو قال له من هذه النخلة إلى هذه النخلة قال للشيخ أبو حامد تدخل الأولى في الإقرار دون الأخيرة وقال الرافعي ينبغي أن لا تدخل الأولى أيضا كقوله بعتك من هذا الجدار إلى هذا الجدار ولو شرط في البيع الخيار إلى الليل انقطع الخيار بغروب الشمس خلافا لأبي حنيفة حيث قال يثبت والخيار إلى طلوع الفجر وكذا إذا باعه بثمن إلى شهر لم يدخله الشهر الثاني في الأجل.
قال ووجوب غسل المرافق للاحتياط.(13/232)
وهذا جواب عن سؤال مقدر تقديره لو صح ما ذكرتم من مخالفة حكم ما بعد الغاية لما قبلها لم يجب غسل المرافق وجوابه إنما وجب للاحتياط فان النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فأدار الماء على مرفقه فاحتمل أن يكون غسله واجبا فاخذ بالاحتياط وقد تم القول في المخصصات المتصلة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة هود آية 6.(13/233)
ص -166-…قال والمنفصل ثلاثة الأول العقل مثل: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}.
المنفصل هو الذي يستقل بنفسه ولا يحتاج في ثبوته إلى ذكر لفظ العام معه بخلاف المتصل قال المصنف وهو ثلاثة العقل والحس والدليل السمعي قال القرافي والحصر غير ثابت فقد نفي التخصيص بالعوائد كقولك رأيت الناس فما رأيت افضل من زيد والعادة تقتضي أنك لم تركل الناس وكذا التخصيص بقرائن الأحوال كقولك لغلامك أتيتني بمن يحدثني فإن ذلك لمن يصلح لحديثه في مثل حاله والتخصيص بدليل العقل ضروريا كان أو نظريا.
فالأول:كتخصيص قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} فأنا نعلم بالضرورة انه ليس خالقا لنفسه.
أحدهما: عدم الإذن ويتجه على هذا ما ذكرت.(13/234)
وثانيهما: وهو الذي عول عليه ان لفظة شيء مأخوذه من مشاء والمشاء المحدث الذي ليس بقديم والله تعالى قديم فلا يصدق عليه ذلك لما ذكرناه فان قلت فما تصنع في قوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ}1 قلت لعله لا يرى الوقف على قول قل الله فإن قلت لا يخلو المانع من التخصيص بالعقل في هذه الآية من ان يقول أن الله علما أو لا علم فإن كان ممن ينفيه فكتاب الله شاهد عليه إذ يقول: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} وقوله: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} وإن كان يثبته وجب عليه أن يقول علم الله مخلوق ويلزمه أيضا ان يقول القرآن مخلوق قلت قد أورد ابن داود هذا على الشافعي رضي الله عنه وسفه الأئمة مقاله وقالوا هو اعتراض غير سديد لأن صفات الله عز وجل من العلم والقدرة والكمال ليست بأعيان له لأن الصفة ليست هي الموصوف ولا هي غيره وأما قوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} فهي أيضا على عمومها فكل دابة تدب على وجه الأرض أو في قعر البحار أو تحت أطباق الثرى فالله رازقها دون غيره ويعلم مستقرها ومستودعها واعترض ابن داود بقوله من الدواب من أفناه الله تعالى قبل أن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية 19.(13/235)
ص -167-…يرزقه خطأ كما قال أبو بكر الصيرفي بل لا بد أن يرزقه إلى أن يغنيه بما يقيم حياته وله نفس ثابتة وقد جعل الله غذاء طائفة من الطير التنفس إلى مدة يصلح فيها للمأكل وليس في قوله عز وجل: {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ} ما يوجب انه لا يرزق بعض الدواب قال الصيرفي لأن هذا رزق التفضيل بقوله: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ}1 والتفضيل وقع كما رأينا الموسر والمعسر واما الرزق الذي يقيم الأبدان للعبادة أو الحياة فلا بد منه كما قال الله عز وجل وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الروح الأمين قد ألقى في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب"2 قال الصيرفي فهذا نص من السنة إن كل نفس لا بد من استيفائها رزقها واعلم أن الشافعي إنما قال كل شيء من سماء وأرض إلى آخره ليذكر أفرادا مما دخل تحت اللفظ العام يتبين بها أن الداخل تحته من جنسها ولم يتعرض للأشياء التي ذكرت من العلم والقدرة والكلام لكراهية الكلام وتجنبه ترك الخوض فيه.
فرع: قال الإمام النسخ بالنسخ بالعقل واحتج بأن من سقط رجلاه نسخ عنه غسلهما وهو مدخول فإن ساقط الرجلين لم ينسخ عنه غسلهما بل زال الوجوب لعدم القدرة لا غير ثم أن ما ذكره مخالف لما قاله في النسخ من أنه لا بد وأن يكون بطريق شرعي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النحل آية 71.
2 حديث صحيح, رواه أبو نعيم في الحلية من حديث أبي أمامة بلفظ "أن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها وتستوعب رزقها فاتقوا الله واجملوا في الطلب ولا يحملن أحدكم استبطاء أن يطلبه بمعصية الله فإن الله تعالى لاينال ماعنده إلا بطاعته.
الفتح الكبير 1/393.
قال الثاني الحس مثل: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ}.(13/236)
المخصص الثاني: من المخصصات المنفصلة الحس مثل قوله تعالى حكاية عن بلقيس: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ}3 فإن مقتضاه أنها أوتيت من كل شيء بعضه ونحن نعلم أنها لم تؤت شيئا مما كنا نشاهده في يد سليمان صلى الله عليه وسلم وكذلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة النمل آية 23(13/237)
ص -168-…قوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ}1 ونحن نشاهد أشياء كثيرة لا تدمير فيها كالسماء ونحوها وقوله تعالى: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ}2 ونحن نرى الجبال أتت عليها وما جعلتها كالرميم وقوله: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ}3 وما كان مختصا من الثمار بأقصى المشرق والمغرب لم تر أنه يجيء إليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأحقاف آية 25.
2 سورة الذاريات آية 42.
3 سورة القصص آية 57.
قال الثالث الدليل السمعي وفيه مسائل الأول الخاص إذا عارض العام خصصه علم تأخيره أم لا وأبو حنيفة يجعل المتقدم منسوخا وتوقف حيث جهل لنا أعمال الدليلين أولى.
الثالث من المخصصات المنفصلة الدليل السمعي وفيه مسائل(13/238)
الأولى في بناء العام على الخاص اعلم انه إذا ورد عام وخاص يدل كل واحد منهما على خلاف ما يدل عليه الآخر فرأى الشافعي رضي الله عنه أن الخاص يخصص العام سواء علم أن الخاص متأخر عن العام أم لم يعلم أم علم تأخره عن الخاص وبه قال أبو الحسين واختاره الإمام واتباعه منهم المصنف واختاره ابن الحاجب وذهب أبو حنيفة إلى الأخذ المتأخر سواء كان هو الخاص أم العام فعلى هذا ان تأخر الخاص نسخ من العام بقدر ما يدل عليه وان تأخر العام نسخ الخاص وان جهل وجب التوقف إلا أن يترجح أحدهما على الآخر بمرجح وذهب ابن العارض إلى التوقف في المسألة وابن العارض هذا بالعين المهملة بعدها ألف ثم راء ثم ضاد معجمة واسمه الحسين بن عيسى معتزلي قدري له كتاب في أصول الفقه سماه انكت ورأيت عبارته تعابه عبارة المحصول فعلمت أن الإمام كان كثير المراجعة له وقد انتخب ابن الصلاح هذا الكتاب ووقفت عليه بخط ابن الصلاح وكتبت منه فوائد وقد وهم القرافي فظن أن ابن العارض قد وقع في المحصول مصحفا قال وانما هو ابن القاص بالقاف والصاد المهملة المشددة وهو الشيخ أبو العباس أحد أئمة أصحاب الشافعي4 هذا كلام القرافي(13/239)
ص -169-…وهو وهم وحجتنا ان العام والخاص قد اجتمعنا فأما أن يعمل بهما أو لا يعمل بواحد منهما أو يعمل بالعام دون الخاص أو بالعكس والأقسام الثلاثة الأولى باطلة فتعين الرابع أما الأول والثاني فلاستحالة الجمع بين النقيضين ولاستحالة الخلو عنهما ويراد الثاني انه يستلزم ترك الدليلين من غير ضرورة وهو باطل وأما الثالث فلأنه يستلزم إبطال أحدهما بالكلية بخلاف عكسه فإنه لا يستلزم إبطال العام بالكلية بل من وجه فكان العمل به متعينا لأن أعمال الدليلين أولى من إبطال أحدهما بالكلية واحتج أصحابنا بأن الخاص أقوى دلالة على ما يتناوله من العام واحتج أبو حنيفة بما روى أن ابن عباس رضي الله عنه قال كنا نأخذ بالأحدث فالأحدث من أمور رسول الله وأجيب بأنه يجب حمل الأحدث على غير صورة النزاع جمعا بين الدليلين والله اعلم ولا يخفى عليك أن الخاص المتأخر إنما يكون مخصصا للعام المتقدم إذا ورد وقت العمل بالعام أو قبله أما إذا ورد بعده فكذلك عند من يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة وعند المانعين يكون الخاص ناسخا للعام إن كان مما يصلح لنسخه وإلا فلا يعبأ به.
قال الثانية يجوز تخصيص الكتاب به وبالسنة المتواترة والإجماع كتخصيص: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} بقوله: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ} وقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} بقوله القاتل لا يرث: و{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} برجمه عليه السلام المحصن وتنصيف حد القذف على العبد.
هذه المسألة في تخصيص المقطوع بالمقطوع وذكر فيها ثلاثة مباحث:(13/240)
الأول: أنه يجوز تخصيص الكتاب به أن بالكتاب خلافا لبعض أهل الظاهر لنا أنه وقع لأن الله تعالى قال: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}1 وهذا عام في أولات الأحمال بقوله: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} ووقوعه دليل جوازه وزيادة لا يقال لعل التخصيص وقع بغير هذه الآية لأنا نقول الأصل عدم غيرها واحتج الخصم بقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ}2 فوض البيان إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فوجب أن لا يحصل البيان إلا بقوله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية 228.
2سورة النحل آية 44.(13/241)
ص -170-…والجواب أن قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ}1 يدل على أن الكتاب هو المبين والجمع بين الآيتين أن البيان يحصل من رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أعم من أن يكون منه أو على لسانه واعلم أنه يجوز تخصيص السنة المتواترة بها كالكتاب به
البحث الثاني: يجوز تخصيص القرآن بالسنة المتواترة قال الآمدي لا أعرف فيه خلافا وصرح الهندي بقيام الإجماع عليه ومنهم من حكى خلافا في السنة الفعلية وقد مثل المصنف للقولية بأنهم خصصوا عموم قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ}2 بما روى الترمذي وابن ماجة والدارقطني والبيهقي من حديث إسحاق بن عبد الله بن أبى فروة وهو رجل متروك عند بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "القاتل لا يرث" قال الترمذي لا يصح هذا الحديث ولا نعرفه إلا من هذا الوجه وقال البيهقي شواهده تقويه3 فإن قلت هذا الحديث على تقدير صحته من أخبار الآحاد والكلام في المتواترة قلت قال القرافي هذا السؤال إنما يرد لو كان زماننا زمان النسخ والتخصيص وإنما ذلك زمن الصحابة رضي الله عنهم وهذا الحديث وأمثاله كان متواترا في ذلك الزمان والمتواتر قد يصير آحادا وكم من قضية كانت متواترة في الزمن الماضي ثم صارت آحادا بل ربما نسيت بالكلية ومثل للسنة الفعلية بأنهم حكموا بأن قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}4 مخصوص بما تواتر عندهم عن النبي صلى الله عليه وسلم من رجمه المحصن والحديث في الصحيحين5 ولك أن تقول لعل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النحل آية 89.
2 سورة النساء آية 11.
3 قال يحيى بن معين. رجاله كلهم ثقات إلا اسحاق هذا وجود ابن عبد البر عمر بن شعيب عن أبيه عن جده قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس للقاتل من الميراث شيء" رواه النسائي.(13/242)
وانظر: نيل الأوطار 9516-86, سبل السلام 3/101.
4 سورة النور آية 2.
5 روى البخاري هذا الحديث في صحيحه كتاب الحدود باب: رجم المحصن. فتح الباري 2/98. كما رواه الإمام مسلم باب حد الزنا , وأحمد في مسنده وأبو داود باب: رجم ماعز.(13/243)
ص -171-…التخصيص إنما هو بالآية التي نسخت تلاوتها ويبقى حكمها وهي الشيخ والشيخة اذا زنيا فارجموهما كما سيأتي في النسخ ان شاء الله تعالى والمراد بالشيخ والشيخة الشيب والشيبة ثم أن رجمه صلى الله عليه وسلم المحصن ليس فعلا وإنما هو قول فإن عليه السلام قال اذهبوا به فارجموه فلا يصح مثالا للفعلية.
فرع: يجوز تخصيص السنة المتواترة بالكتاب وعن بعض فقهاء أصحابنا أنه لا يجوز البحث.
الثالث: يجوز تخصيص الكتاب بالإجماع وكذا السنة المتواترة يجوز تخصيصها بالإجماع قال الآمدي لا اعرف فيها خلافا واستدل في الكتاب او مثل بأن الإجماع خصص العبد من آية الجلد يعني قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}1 لأنه قام على ان ينصف على العبد وإما عكس ذلك وهو تخصيص الإجماع بالكتاب والسنة المتواترة فلم يذكره كم الكتاب وهو غير جائز بالإجماع ولأن إجماعهم على الحكم العام مع سبق المخصص خطأ ولا يجوز الإجماع على الخطأ.
تنبيه: معنى قولنا تخصيص الكتاب بالإجماع أنهم يجمعون على تخصيص العام بدليل آخر فالمخصص سند الاجماع ثم يلزم من بعدهم متابعتهم وان جهلوا المخصص وليس معناه انهم خصوا العام بالاجماع لأن الكتاب والسنة المتواترة موجودان في عهده عليه السلام وانعقاد الاجماع بعد ذلك على خلافه خطأ فالذي جوزناه اجماع على التخصيص لا تخصيص بالإجماع والله اعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النور آية 4.
قال الثالثة يجوز تخصيص الكتاب والسنة المتواترة بخبر الواحد ومنع قوم وابن أبان فيما لم يخصص بمقطوع والكرخي بمنفصل.
هذه المسألة في تخصيص المقطوع بالمظنون وفيها بحثان:
الأول: في جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد وفيه مذاهب.
أحدها: الجواز مطلقا وهو المنقول عن الأئمة الأربعة واختاره الإمام(13/244)
ص -172-…وأتباعه منهم المصنف وبه قال امام الحرمين وطوائف وتبعهم الآمدي قال إمام الحرمين ومن شك ان الصديق لو روى خبرا عن المصطفى صلى الله عليه وسلم في تخصيص عموم الكتاب لا بتدره الصحابة قاطبة بالقبول فليس على دراية من قاعدة الاخبار.
والثاني: المنع مطلقا ونقله ابن برهان في الوجيز عن طائفة من المتكلمين وشرذمة من الفقهاء.
والثالث: قال عيسى بن أبان إنه لا يجوز في العام الذي لم يخصص ويجوز فيما خصص لأن دلالته تضعف وشرط ان يكون الذي خصص به دليلا قطعيا.
والرابع: إن كان التخصيص بدليل منفصل جاز وإن يخص أو كان بمتصل فلا يجوز قاله أبو الحسن الكرخي وشبهته أن تخصيصه بمنفصل يصيره مجازا كما هو رأيه وإذا كان مجازا ضعف فيتسلط عليه التخصيص فمدار ابن ابان والكرخي على والضعف غير ان مدرك الكرخي في القوة الحقيقية والمجاز ومدرك الأخر القطع بالمجاز وعدم القطع وقوله والكرخي بمنفصل أي ومنع الكرخي فيما لم يخصص بمنفصل وقد اقتصر في الكتاب على الأربعة.
وفي المسألة مذهب خامس وهو الوقف في المحل الذي يتعارض فيه الخبر ومقتضى لفظ الكتاب وأجرى اللفظ العام من الكتاب في بقية مسمياته.
وذهب إليه القاضي كما نقله عن إمام الحرمين والغزالي والامام والآمدي نقل عنه ابن برهان في الوجهين أنهما يتعارضان ويتساقطان ويجب الرجوع إلى دليل آخر وهو عند التحقيق غير القول بالوقف وكلامه في مختصر التقريب محتمل لكل من النقلين إلا أنه لما نقله ابن برهان أقرب فانه قال إذا تقابلا يتعارضان القدر الذي يختلفان فيه ولا يتمسك بواحد منهما ويتمسك بالصفة العامة في بقية المسميات التي لم يتناولها الخبر الخاص فينزل الخبر مع العموم فيما يختلف فيه ظاهرهما منزلة خبرين مختلفي الظاهر نقلا مطلقين انتهى وحكى في مختصر التقريب مذهب سادسا وهو أنه يجوز التعبد بتخصيص العموم بخبر الواحد وعدمه عقلا لكن لم يدل على أحد القسمين وهذا أيضا قول بالوقف وهنا فوائد.(13/245)
ص -173-…أحدها: ان هذا الخلاف الذي في تجوير تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد هل هو جار في تخصيص السنة المتواترة به الظاهر وهو الذي صرح به في الكتاب نعم والمصنف وإن كان منسوبا في ذلك الى التقرير عن الإمام وأصحابه وغيرهم من المتأخرين فهو آت بحق فقد سبقه بذلك القاضي رضي الله عنه فقال في مختصر التقريب القول في تخصيص الكتاب والسنة المقطوع بها بأخبار الآحاد اعلم وفقك الله ان هذا باب عظيم.
خلاف العلماء فيه ثم ساق المذاهب المذكورة.
الثانية: لعلك تقول قد سبق أن ابن أبان يرى أن العام المخصوص ليس بحجة فكيف الجمع بينه وبين ما ذكره هنا والجواب أن الجمع بينهما أنه لا يحتج بالعام المخصوص لكونه صار مجازا وليس بعض المحامل أولى من البعض بالعام المخصوص لكونه صار مجازا وليس بعض المحامل أولى من البعض فيصير مجملا عنده فإذا جاء مخصص بعد ذلك جزمنا بإخراج ما دل عليه بعد أن كنا لا نحكم عليه بشيء ويبقى الباقي على ما كان عليه لا يحتج به ولا يجزم لعدم إرادته فالمخصص مبني لكون ذلك الفرد غير مراد وساكت عن الباقي فلا منافاة بين الكلامين وهذا الجمع قرره والدي أحسن الله إليه ورأيت أنا بعد ذلك القاضي في مختصر التقريب قال بعد حكاية مذهب ابن أبان هذا مبني على أصل له قدمناه وهو أن العموم إذا خص بعضه صار مجملا في بقية المسميات لا يسوغ الاستدلال باللفظ المجمل في عموم ولا خصوص قبل ورود الخبر وبعده انتهى وهذا حسن نفيس.
الثالثة: قال القرافي المحدثون والنحاة على عدم صرف أبان قال ونقله ابن يعيش في شرح المفصل عن الجمهور وقال إنه بناء على أن وزنه أفعل واصله أبين صيغه مبالغة في الظهور الذي هو البيان والابانه فيقول هذا أبين من هذا أي أظهر منه وأوضح فلوحظ أصله مع العلمية التي فيها فلم يصرف.(13/246)
قال: لنا أعمال الدليلين ولو من وجه أولى قيل قال عليه الصلاة والسلام: "إذا روي عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فإن وافقه فاقبلوه وإن خالفه فردوه" قلنا منقوض بالمتواتر قيل الظن لا يعارض القطع قلنا العام مقطوع المتن مظنون الدلالة والخاص بالعكس فتعادلا قيل لو خصص لنسخ قلنا التخصيص أهون(13/247)
ص -174-…احتج على الجواز مطلقا بأن فيه إعمالا للدليلين أما الخاص ففي جميع ما دل عليه وأما العام فمن وجه وهو الإفراد التي لم تخصص دون وجه وهو ما خصص ومنع التخصيص يفضي إلى إلغاء أحد الدليلين وهو الخاص وأعمال الدليلين ولو من وجه أولى من إلغاء أحدهما وقد سبق مثل هذا واحتج المانع مطلقا بثلاثة أوجه.
أحدها: ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا روى عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فإن وافقه فاقبلوه وإن خالفه فردوه"1 وهذا الحديث مخصوص بالكتاب فلا يدل على السنة المتواترة كما هي طريقة المصنف وقد رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده موصولا من حديث أبي هريرة واللفظ أنه ستأتيكم عني أحاديث مختلفة فما أتاكم عني موافقا لكتاب الله وسنتي فليس مني وفي سنده مقال ورواه البيهقي في المدخل من طريق الشافعي رضي الله عنه عن طريق منقطعة وأجاب المصنف بأن هذا منقوض بالسنة المتواترة فإنها مخالفة ويجوز التخصيص بها اتفاقا كما سبق وقال الشافعي رضوان الله عليه ما هو أحسن من هذا الجواب وهو ما نصه وليس يخالف الحديث القرآن ولكنه مبين معنى ما أراد خاصا وعاما وناسخا ومنسوخا ثم يلزم الناس ما بين يفرضه الله عز وجل فمن قيل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن الله قيل قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}2 انتهى.
الثاني: إن الكتاب مقطوع به وكذا السنة المتواترة والآحاد مظنونة والمقطوع أولى من المظنون.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(13/248)
1 قال الإمام الشافعي- رضي الله عنه: هذا الحديث رواه رجل مجهول وهو منقطع ولم يروه أحد يثبت حديثه الرسالة ص 224-225 بتحقيق الشيخ أحمد شاكر وفي عون المعبود 4/329: فأما مارواه بعضهم أنه قال: "إذا جاءكم الحديث فأعرضوه على كتاب الله فإن وافقه فخذوه ... فإنه حديث باطل لأصل له.وينقل العلامة الفتني في تذكرة الموضوعات ص28 عن الخطابي أنه قال: ضعفه الزنادقة. وقد عقد الإمام أبو محمد بن حزم لهذا المعنى فصلا نفيسا في كتابه الإحكام 2/86- 82 فراجعه هناك والله أعلم.
2 سورة الحشر آية 7.(13/249)
ص -175-…وأجاب بأن العام الذي فيه الكلام وهو الكتاب والسنة المتواترة مقطوع في متنه إذ لا شك في كونه من القرآن إن كان من الكتاب ولا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله ان كان من السنة المتواترة وأما الخاص فبالعكس متنه مظنون لأنه من رواية الآحاد فلا يقطع بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله ودلالته مقطوع بها لأنه لا يحتمل إلا ما يعرض له فكل منهما مقطوع به من وجه مظنون من آخر فتساويا فان قلت إذا تعادلا فلا ينبغي ان يرجح احدهما على الآخر إذ هو حينئذ ترجيح من غير مرجح قلت يرجح الخاص بأن فيه أعمالا للدليلين وقد ضعف الأصفهاني شارح المحصول هذا الدليل بأن خبر الواحد يحتمل المجاز والنقل وغيرهما مما يمنع القطع غاية ما في الباب أنه لا يحتمل التخصيص وذلك لا ينفع نعم يمكن ان يدعي قوة دلالة الخاص على مدلوله فإنها أقوى من دلالة العام عليه.
الثالث: انه لو جاز تخصيص الكتاب والسنة المتواترة بخبر الواحد لجاز نسخهما به واللازم منتف بالاتفاق على أنه لا يجوز نسخ المتواترة بخبر الواحد وبيان الملازمة ان كل واحد منهما تخصيص لكن أحدهما وهو النسخ تخصيص في الأزمان والآخر تخصيص في الأعيان وأجاب بأن التخصيص أهون من النسخ لأن النسخ يرفع الحكم بالكلية بخلاف التخصيص ولا يلزم من تأثير الشيء في الأضعف ان يكون مؤثرا في الأقوى قلت وهذا الدليل وجوابه يمشيان على طريق المصنف فإنه قال لا ينسخ المتواترة بالآحاد وهي طريقة فيها كلام لأن جماعة ينفلوا الاتفاق على الجواز وجعلوا محل الخلاف في الوقوع وجماعة جزموا بالجواز من غير حكاية خلاف كالإمام وغيره كما ستعرف ذلك إن شاء الله في النسخ فالعجب ليس من المصنف لأنه مشى على طريقته وهي صحيحة سنبين ذلك في كتاب النسخ بل من الإمام حيث لم ينبه على ذلك إذ ذكر الدليل والجواب.(13/250)
قال: وبالقياس ومنع أبو على وشرط ابن ابان التخصيص والكرخي بمنفصل وابن سريج الجلاء في القياس واعتبر حجة الإسلام ارجح الظنين وتوقف القاضي وإمام الحرمين.(13/251)
ص -176-…المبحث الثاني في جواز تخصيص الكتاب والسنة المتواترة بالقياس أي بقياس نص خاص كذا صرح الغزالي وقوله بالقياس معطوف على قوله بخبر الواحد أي يجوز تخصيص الكتاب والسنة المتواترة بخبر الواحد وبالقياس والخلاف في هذه المسألة على مذاهب.
أحدها: الجواز مطلقا وبه قال الأئمة الأربعة والشيخ أبو الحسن وأبو هاشم بعد أن كان يوافق وهو المختار في الكتاب.
والثاني: المنع مطلقا قال أبو علي الجبائي ونقله القاضي عن طائفة من المتكلمين منهم ابن مجاهد من أصحابنا.
والثالث: أن تطرق إليهما التخصيص بغير القياس جاز تخصيصهما به وإلا فلا قاله ابن أبان ونقله ابن برهان في الوجيز عن أصحاب أبي حنيفة.
والرابع: أن تطرق إليهما التخصيص بمنفصل جاز وإلا فلا قاله الكرخي.
والخامس: يجوز تخصيصهما بالقياس الجلي دون الخفي وهو رأي ابن سريع وجماعة من أصحابنا واختلف هؤلاء في تفسير الجلي والخفي فقيل الجلي قياس العلة والخفي قياس الشبه وقيل الجلي ما تتبادر علته إلى الفهم عن سماع الحكم نحو تعظيم الأبوين عند سماع قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} ونحو اندهاش العقل عقل عند تمام الفكر عند سماع قوله عليه السلام: "لا يقضي القاضي وهو غضبان"1 والخفي ما ليس كذلك وقيل الجلي ما ينقض قضاء القاضي بخلافه والخفي ما ليس كذلك.
والسادس: ان تفاوت العام والقياس في إفادة غلبية الظن رجحنا الأقوى و أن تساويا فالتوفيق وهو مذهب حجة الاسلام الغزالي واعترف الإمام في بناء المسألة بأنه حق واستحسنه القرافي وقال الأصفهاني انه حق واضح وكذلك قال الهندي في أثناء المسألة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(13/252)
1 حديث صحيح رواه الإمام أحمد في مسنده والبخاري وأبو داود وابن ماجة من حديث أبي بكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: "لايقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان". كما رواه النسائي بلفظ: "لايقضين أحد في قضاء بقضاءين ولا يقضين أحد بين خصمين وهو غضبان".
الفتح الكبير 3/368.(13/253)
ص -177-…والسابع: الوقف ذهب إليه القاضي وإمام الحرمين واقتصر المصنف على حكاية هذه المذاهب السبعة.
والثامن: قال الآمدي ان كانت العلة منصوصة او مجمعا عليها جاز التخصيص به وإلا فلا.
والتاسع: ان كان الأصل المقيس عليه مخرجا من عام جاز التخصيصي وإلا فلا وهنا الخلاف كله في القياس المستنبط من الكتاب او عمومها او عموم خبر الواحد بالنسبة الى خبر الواحد فعلى الخلاف ايضا واما بالنسبة الى عموم الكتاب فيرتب على جواز تخصيصه بخبر الواحد فمن لا يجوز ذلك لا يجوز تخصيصه بالقياس المستنبط منه بطريق الأولى واما من يجوز قال الهندي فيحتمل ان لا يجيز ذلك لزيادة الضعف ويحتمل أن يجوز ذلك كما في القياس المستنبط من الكتاب إذ قد يكون قياسه أكثر قوة من ذلك العموم بأن يكون قد قياسة أكثر قوة من ذلك العموم بأن يكون قد تطرق إليه تخصيصيات كثيرة ويحتمل ان يتوقف فيه لتعادلهما إذ قد يظهر له ذلك.
قال: لنا ما تقدم قيل القياس فرع فلا يقدم قلنا على اصله قيل مقدماته أكثر قلنا قد يكون بالعكس ومع هذا فاعمال الكل أحرى.
استدل على ما اختاره بأن فيه اعمالا للدليلين وأعمال الدليلين ولو من وجه أولى وهذا هو الذي تقدم وقد مضى تقريره قال الغزالي وهو فاسد لأن القدر وقع فيه التقاتل ليس فيه جمع بين الدليلين بل هو رفع للعموم وتجريد للعمل بالقياس وهذا حسن وهو مأخوذ من القاضي فإنه أجاب به عن هذه الشبه في مختصر التقريب قال والمقصود من ذلك ان القدر الذي تحقق اجتماع القياس واللفظ فيه توهم فيه قضية اللفظ والقدر الذي بقي من اللفظ لم يمانعه القياس فينزل اللفظ باقي المسميات في منزلة اللفظة الأخرى فبطل ادعائه استعمال الدليلين في محل الاجتماع في الدليلين واحتج الجبائي على المنع مطلقا بوجهين.
أحدهما: أن القياس فرع النص فلو خصصنا العموم به لقدمنا الفرع على(13/254)
ص -178-…أصله لا على أصل آخر وإذا خصصنا العموم به لم نقدمه على أصله وإنما قدمناه على أصل آخر وهو بالنسبة الى الأصل الآخر ليس فرعا بل هو دليل مثله.
والثاني: ان مقدمات القياس اكثر من مقدمات النص لأنه فرعه وكل مقدمة توقف النص عليها من غير عكس لاختصاص القياس بتوقفه على مقدمات آخر وبيان ذلك ان جهة الضعف في العام المقطوع المتن منحصرة في أمرين:
أحدهما: احتمال التخصيص.
وثانيهما: احتمال التجوز وفي غيره الاحتمالان المذكوران مع احتمال كذب الناقل وأما في القياس فهذه الثلاثه أو الاثنان لأن الأصل في القياس لا بد وأن يكون نصا ورابع وهو احتمال ان لا يكون الحكم معللا بعلة أصلا وخامس وهو احتمال ان تكون العلة غير ما ظنه القائس عله لأنه ربما لم يستكمل أوصاف الاجتهاد وربما قصر في الاجتهاد عامدا او مخطأ وسادس وقد ذكره القاضي في مختصر التقريب انه وان كان ما ظنه علة فيحتمل ان يكون قد زل في طريقة قرب مخطىء في الطرق التي ثبتت بها العلل وسابع وهو انه وان لم يزل في الطريق فيحتمل ان لا تكون موجودة في الفرع مع انه ظن وجودها فيه وثامن وهو أنها وإن وجدت في الفرع لكن ربما لم توجد فيه شرط الحكم أو فقد صانع وإذا كان كذلك كان القياس اضعف من العام لا سيما من المقطوع متنه فلم يجز تقديمه عليه لامتناع العمل بالمرجوح مع معارضة الراجح وقال القاضي في مختصر التقريب فإن قالوا إن كلامنا في قياس يصح قلنا فلا يتصور في المجتهدات قياس يقطع بصحته ثم ان صورتم قياسا قاطعا فصوروا صيغة تقطع بعمومها هذا تقرير الوجه الثاني من الوجهين اللذين اعتصم بهما الجبائي وأجاب في الكتاب عن هذا الثاني بوجهين.
أحدهما: لا نسلم أن مقدمات القياس أكثر مطلقا بل يكون بالعكس أي يكون مقدمات العام اكثر من مقدمات القياس فإن فيه احتمال التجوز والنسخ وخطأ الراوي وغير ذلك والقياس لا يحتمل شيء من ذلك.(13/255)
ص -179-…وثانيهما: إنا سلمنا ان مقدمات القياس اكثر مطلقا لكن في العمل فيهما عمل بالدليلين وهو أحرى أي أحوط وأولى كما سبق وقد عرفت ما فيه من النظر والحق ان الوجهين ضعيفان أما هذا فلما عرفت واما الذي قبله فلأن القياس لا بد وأن يستند إلى أصل وذلك الأصل ان لم يكن مقطوع المتن تطرقت إليه هذه الإحتمالات وينضم إليها ما يختص به القياس من المحتملات فيكون الاحتمال فيه اكثر وان كان مقطوع المتن فدلالته ظنية وهي تقبل القوة والضعف كالقياس وعند ذلك نقول الحق في الجواب ان يقال كميات المقدمات قد تعارض كيفياتها بمقدمات القياس وإن كانت كثيرة لكنها قد تكون أقوى من مقدمات العام القليلة التي للعام او أرجح ومن أمثلة ذلك أنه لا يخفى على ذي لب أن إلحاق النبيذ بالخمر بالقياس بعلة الإسكار اغلب على الظن من بقائه تحت قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً}1 وكذلك دلالة قياس الأرز على البر في الربا أقوى بالنسبة الى الدلالة المأخوذة من قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}2 على جواز بيعه متفاضلا وإذا فهم هذا لاح وجه الحق مع الغزالي ووضح ان مذهبه هو المرتضى الذي نختاره فإذا قلت ما ذكره الغزالي من الأخذ بأرجح الظنين يلزمه في خبر الواحد مع العموم فإن المرجحات المتجهة هنا متجهة ثم من جهة غلبة المجاز على أحدهما وقلته في الآخر وكثرة الأفراد وقلتها ونحو ذلك قلت أجاب الأصفهاني شارح المحصول بأن ذلك لا يلزمه فإنه يرى ان خبر الواحد في دلالته على مورده الخاص كالنص او هو نص فيه ودلالة العموم على مورده الخاص ضعيفة لاحتمال الإجمال في صيغة العموم بسبب الاشتراك على رأي قدم ولا كذلك القياس مع العمومات فإن قلت الخلاف في اصل هذه المسألة من جنس الخلاف في القطعيات او المجتهدات قلت قال الغزالي يدل سياق كلام القاضي على ان القول في تقديم خبر الواحد على عموم الكتاب وفي تقديم القياس على العموم مما يجب(13/256)
القطع فيه بخطأ المخالف ما به من مسائل الأصول قال وعندي إلحاق هذا بالمجتهدات أولى فإن الأدلة فيه من الجوانب متفاوتة غير بالغة مبلغ القطع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية 145.
2 سورة البقرة آية 275.(13/257)
ص -180-…قال الرابعة: يجوز تخصيص المنطوق بالمفهوم لأنه دليل كتخصيص خلق الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو ريحه أو لونه بمفهوم إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا.
قال الآمدي لا نعرف خلافا بين القائلين بالعموم والمفهوم أنه يجوز تخصيص العموم بالمفهوم وسواء كان من قبيل مفهوم الموافقة أم المخالفة أما الإمام فتوقف في ذلك ولم يختر شيئا وقال سراج الدين في جوازه نظر وجزم في المنتخب بأنه لا يجوز ونقله أبو الخطاب الحنبلي عن بعضهم كما ذكر الاصفهاني.
وقال ابن دقيق العيد في الكلام على الحديث الثاني في شرح الإمام أنه رأى في كلام بعض المتأخرين ما يقتضي أنه لا تخصيص بالمفهوم وقد حصلنا من هذا القول على أن الخلاف في تخصيص العموم بالمفهوم موجود وقال صفي الدين لا يستراب في جواز التخصيص بمفهوم الموافقة وهذا حسن وينبغي ان يجعل محل الخلاف في مفهوم المخالفة ويؤيده ان الإمام صرح في آخر الناسخ والمنسوخ قبل القسم الثالث فيما يظن أنه ناسخ بأن الفحوى يكون ناسخا بالاتفاق وكذلك الآمدي فأدعى الإتفاق ايضا واحتج المصنف على الجواز مطلقا بأنه دليل شرعي إذ القول بجواز التخصيص بأنه حجة وإذا كان كذلك فيخصص به جمعا بين الدليلين ومثل له المصنف بقوله عليه السلام: "خلق الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه او ريحه"1 مع قوله عليه السلام: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث" فإن الأول دل بمنطوقه على ان الماء لا ينجس عند عدم التغيير وإن لم يكن قلتين والثاني دل بمفهومه الذي هو مفهوم شرط وهو حجة على ان القليل ينجس وإن لم يتغير فيكون هذا المفهوم تخصيصا لمنطوق الأول وقد سبق الكلام على الحدثين ولم يمثل لمفهوم الموافقة لظهوره ومثاله ان يقول من أساء إليك فعاقبه ثم يقول ان أساء إليك زيد فلا تقل له أف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه قريبا.(13/258)
قال الخامسة: العادة التي قررها رسول الله صلى الله عليه وسلم تخصيص وتقريره عليه الصلاة والسلام على مخالفة العام تخصيص له فان ثبت حكمي على الواحد حكمي على الجماعة يرفع عن الباقين.(13/259)
ص -181-…هذه المسألة مشتملة على بحثين الأول أن العادة هل تخصص العموم وأعلم أن كلام من أطلق القول في أن العادة هل تخصص يحتمل نصين:
أحدهما: ان يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أوجب أو حرم أشياء بلفظ عام يشملها ثم رأينا العادة جارية بترك بعضها او بفعل بعضها فهل تؤثر تلك العادة في تخصيص ذلك العام حتى يقال المراد من ذلك العام ما عدا ذلك البعض الذي جرت به العادة او هو باق على عمومه وهذا القسم هو الذي تكلم فيه الإمام وأتباعه كالمصنف قال الإمام والحق ان نقول العادة إما أن تعلم من حالها أنها كانت حاصلة في زمانه عليه السلام مع عدم منعه عليه السلام إياهم منها أو يعلم أنها ما كانت حاصلة او لا يعلم واحد من الأمرين فإن كان الأول صح التخصيص وهو في الحقيقة تقريره عليه الصلاة والسلام وإن كان الثاني لم يجز التخصيص بها لأن أفعال الناس لا تكون حجة على الشرع اللهم الا ان يجمعوا عليه فيصح حينئذ والمخصص هو الإجماع لا العادة وإن كان الثالث واحتمل وتابعه المصنف على ذلك.
فرع: إذا باع شجرة وأطلق دخل في بيعها أغصانها الا اليابس لأن العادة فيه القطع وقال صاحب التهذيب يحتمل ألا يدخل كالصفوف على ظهر الغنم يعنى إذا بيع وقد استحق الجز لاحتمال الثاني ان تكون العادة جارية بفعل معين كأكل طعام معين مثلا ثم انه عليه السلام ينهاهم عنه بلفظ يتناوله كما لو قال نهيتكم عن أكل الطعام ومنه نهيه عليه السلام عن بيع الطعام بجنسه فهل يكون النهي مقتصرا على ذلك الطعام فقط أم يجري على عمومه ولا تأثير للعادة في ذلك؟(13/260)
وهذا الاحتمال هو الذي تكلم فيه الآمدي وتابعه ابن الحاجب وهما مسألتان لا تعلق لأحدهما على الأخرى ولم يتعرض الآمدي لتلك وقد عرفت حكمها أولا والإمام لهذه ومن قال إن العادة تخصيص حمل النهي فنها على ذلك المعتاد لا غير ومن قال لا تخصيص وهو المختار أجراه على عمومه هذا تمام القول في التخصيص بالعادة وقد أورده الهندي كما ذكرناه فلا يعدل به فإن(13/261)
ص -182-…بعض الضعفاء حاول الجمع بين كلام الإمام والآمدي ظنا منه لأنهما تواردا على محل واحد فوقع في خبط كبير البحث.
الثاني: في تقرير النبي صلى الله عليه وسلم واحد من المكلفين على خلاف مقتضى العام قد يكون مخصصا وأما في حق ذلك الشخص الذي أقر فلا شأن فيه ضرورة أنه عليه السلام يقر على باطل وأما في حق غيره فإن يثبت المروي من قوله- صلى الله عليه وسلم- "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة" فيرتفع حكم العام عن الباقين ايضا وعلى هذا يكون نسخا لا تخصيصا ان خالف ذلك الواحد جميع ما دل عليه العام ويكون تخصيصا ان خالف في فرد كما لو قال لا تقتلوا المسلمين وقدرنا أن شخصا قتل مسلما وأقره عليه السلام على ذلك فيعلم ان ذلك المقتول كان يجوز قتله لكل أحد وهذا الحديث وهو حكمي على الواحد حكمي على الجماعة لا اعرف له أصلا وسألت عنه شيخنا الحافظ أبا عبد الله الذهبي فلم يعرفه وأعلم أنه يشترط في تقريره عليه السلام أن لا يعلم من الفاعل اعتقاده ذلك الفعل كتردد اليهود كنائسهم فإن سكوته عن ذلك لا يقتضي إباحته للعلم بتقدير أهل الذمة على ذلك.
ونختم البحث في التقرير بسؤال وهو ان الاستدلال بالتقرير على الإباحة كيف يتم مع انه يحتمل ان يكون التقرير قبل نزول الوحي؟
ينبغي ان يقال يستدل به على عدم التحريم أما إن شاء الإباحة فلا وهذا السؤال أورده والدي احسن الله إليه قديما على الشيخ صدر الدين بن المرحل ولم يحصل عنه جواب إذ ذاك قال والدي أيده الله تعالى وقد ظهر لي بعد ذلك جوابه وهو ان التقرير إنما يكون على فعل قد وقع او هو واقع ولنا قاعدة قد نقلوها وهي انه لا يجوز الإقدام على فعل حتى يعرف حكمه فلذلك الفعل الذي اقر عليه لو لم يكن مباحا لكان حراما عليه فلا علم يحكمه.(13/262)
فمن هنا دل التقرير على الإباحة بخلاف السكوت عند السؤال فإنه يحمل على عدم نزول الحكم لأن السؤال عما لم يقع او عما وقع والسائل ينتظر حكمه فيفهم من السكوت عدم الحكم فيبقى واقفا بخلاف المقيم على الفعل قد يعتقد(13/263)
ص -183-…إباحته فهذا فرق بين المقامين فان قلت يكفي في تسويغ الفعل البرآة الأصلية قلت هذا كاف في الإباحة لأن إبقاء الشارع بحكم البرآة الأصلية حكم وهو دليل شرعي وإنما يقول بالتحريم إذا قدم بلا سبب فهذا ينكر عليه سواء كان هناك حكم أم لا فإذا لم ينكر دل على الإباحة ويحمل على ان فاعله اقدم عن علم بخلاف السائل فإن ظاهر حاله انه واقف عن الاعتقاد منتظر الجواب فلا يحصل مفسدة والله اعلم.
قال: السادسة خصوص السبب لا يخص لأنه لا يعارضه.
هذه المسألة مشتملة على بحثين:
الأولى: في أن خصوص السبب لا يخصص عموم اللفظ ومن الناس من أطلق الكلام في هذه المسألة كالمصنف والتحبيق تفصيل وهو ان الخطاب إما ان يكون لسؤال سائل او لا فان كان جوابا فاما أن يستقل بنفسه أولا فإن لم يستقل فلا خلاف انه على حسب الجواب ان كان عاما فعام وان كان خاصا فخاص وان استقل فهو أقسام لأنه وإما ان يكون أمضى أو مساويا أو اعم والأخص مثل قول القائل من جامع في نهار رمضان فعليه ما على المظاهر في جواب من سأله عمن افطر في نهار رمضان وهذا جائز بشرائط:
أحدها: ان يكون فيما خرج من الجواب ينبه على ما لم يخرج منه.
والثاني: ان يكون السائل مجتهدا او لا لم يفد التنبيه.
والثالث: ان لا تفوت المصلحة بأشغال السائل بالاجتهاد وأما المساوي فلا إشكال فيه وأما الأعم فهو منقسم إلى قسمين لأنه إما ان يكون اعم منه فيما سئل عنه كقوله عليه السلام: لما سئل عن ماء بئر بضاعة: "أن الماء طهور لا ينجسه شيء"1 رواه أبو داود والترمذي وقال حسن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه أبو داود, كتاب الطهارة, باب: ماجاء في بئر بضاعة.
والترمذي, باب: ماجاء في الماء لاينجسه شيء.
كما رواه النسائي وابن ماجة.(13/264)
ص -184-…وإما أن يكون عاما في غير ما سئل عنه كقوله عليه السلام حين سئل عن التوضؤ بماء البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته"1 وحكم هذا القسم التعميم بالنسبة الى ما سئل عنه والى غيره من غير خلاف.
وأما القسم الأول فقد جعلوه من محل الخلاف الذي يستقصي القول فيه إن شاء الله تعالى وقال والدي أيده الله تعالى الذي يتجه القطع بأن العبرة بعموم اللفظ لأن عدول المجيب عن الخاص المسئول عنه الى العام دليل على إرادة العموم.
وإما الخطاب الذي لا يرد جوابا لسؤال بل واقعة فإما ان يرد في اللفظ قرينه تشعر بالتعميم كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ}2 والسبب رجل سرق رداء صفوان فالإتيان معه قرينة تدل على الاقتصار على المعهود وكذلك العدول عن الإفراد الى الجمع كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}3 نزلت في عثمان بن طلحة اخذ مفتاح الكعبة وتغيب به وأبى ان يدفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقيل ان عليا رضي الله عنه أخذه منه وأبى ان يدفعه إليه ونزلت فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم اياه وقال "خذوها يا بني طلحة خالده مخلدة فيكم أبدا لا ينزعها منكم إلا ظالم" وإن لم يكن ثم قرينة وكان معرفا بالألف واللام فمقتضى كلامهم الحمل على المعهود إلا ان يفهم من نفس الشرع تأسيس قاعدة فيكون دليلا على العموم وإن كان العموم لفظ آخر غير
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه ابن ماجة من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – الفتح الكبير2/18.
2 سورة المائدة 38.
3 سورة النساء آية 58.(13/265)
نزلت هذه الآية – كما قال المفسرون -: في شأن مفتاح الكعبة لما أخذه علي- رضي الله عنه – من عثمان بن طلحة قهرا بأمر النبي – صلى الله عليه وسلم – يوم الفتح ليصلي فيها فصلى فيها ركعتين ثم خرج فسأله العباس المفتاح ليضم السدانة إلى السقاية فنزلت الآية فرده علي لعثمان بلطف بأمر- النبي صلى الله عليه وسلم – فتعجب عثمان في ذلك فقرأ له علي الآية {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها....} فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم.
شرح جلال الدين المحلي على جمع الجوامع 2/39.(13/266)
ص -185-…الألف واللام فيحسن ان يكون ذلك هو محل الخلاف إذا عرفت ذلك فالصحيح الذي عليه الجمهور وبه جزم في الكتاب ان العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وخالف في ذلك مالك والمزني وأبو ثور فقالوا ان خصوص السبب يكون مخصصا لعموم اللفظ قال إمام الحرمين وهو الذي صح عندنا من مذهب الشافعي وكذلك قال الغزالي في المنخول.
وقال في مختصر التقريب والإرشاد نقل المذهبان جميعا عنه واعلم ان الذي صح من مذهب الشافعي رضي الله عنه موافقة الجمهور خلاف ما ذكره امام الحرمين.
قال الإمام في كتابه الموضوع في مناقب الشافعي رحمه الله ومعاذ الله ان يصح هذا النقل وكيف وكثير من الآيات نزلت في أسباب خاصة ثم لم يقل الشافعي رحمه الله أنها مقصورة على تلك الأسباب قال والسبب في وقوع هذا النقل الفاسد عنه انه يقول ان دلالته على سبب أقوى لأنه لما وقع السؤال عن تلك الصورة لم يجز ان لا يكون اللفظ جوابا عنه وإلا تأخر البيان عن وقت الحاجة وأبو حنيفة عكس ذلك وقال دلالته على سبب النزول اضعف وحكم بأن الرجل لا يلحقه ولد أمته وان وطئها ما لم يقم بالولد مع أن قوله صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش وللعاهر الحجر"1 إنما ورد في أمة والقصة مشهورة في قضية عبد بن زمعه فبالغ الشافعي في الرد على من يجوز إخراج السبب وأطنب في ان الدلالة عليه قطعية كدلالة للعام عليه بطريقين.
أحدهما: العموم .
وثانيهما: كونه واردا لبيان حكمه فتوهم المتوهم انه يقول ان العبرة بخصوص السبب هذا حاصل ما ذكره الإمام وهو بليغ واما ما ذكره إمام الحرمين فلعله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجة والنسائي من حديث عائشة – رضي الله عنها- .
كما رواه الإمام أحمد في مسنده. والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -. الفتح الكبير3/308.(13/267)
ص -186-…اطلع على نص مرجوح عنه او غير ذلك فإن الخلاف فيه غير بعيد عن المذهب ولذلك اختلف الأصحاب في ان العرايا هل يختص بالفقر أم يشترك فيها الأغنياء والفقراء والصحيح والتعميم مع أنها وردت على سبب خاص وهو الحاجة والفرص أن الصحيح من مذهبه موافقة الجمهور وفروعه تدل على ذلك.
قال الأصحاب في من دخل عليه صديقه فقال تغد معي فقال أن لم تتغد معي فامرأتي طالق لا يقع الطلاق ولو تغدا بعد ذلك معه ان طال الزمان انحلت اليمين فإن نوى الحال فلم يفعل وقع الطلاق وهو يخالف قول الأصوليين ان الجواب الذي يستقل بنفسه الا ان الفرق يقتضي عدم استقلاله مثل هذه الصورة في حكم الذي لا يستقل بوضعه فيكون على حسب السؤال.
ورأى البغوي حمل المطلق على إكمال العادة وهو يوفق قول الأصوليين هذا وأفتى القاضي الحسن في امرأة صعدت بالمفتاح الى السطح فقال: زوجها ان لم تلق بالمفتاح فأنت طالق فلم تلقه ونزلت انه لا يقع ويحمل قوله ان لم تلقه على التأييد واخذ ذلك مما قاله الأصحاب في المسألة المذكورة وفي الرافعي عن المبتدأ في الفقه للقاضي الروباني انه لو قيل له وكلم زيدا فقال والله لا كلمته انعقدت اليمين على الأبد الا ان ينوي اليوم فإن كان ذلك في طلاق وقال أردت اليوم لم يقبل في الحكم وهذه الصور كلها شاهدة لأن العبرة بعموم اللفظ ومخالفة لما قال الأصوليون في الجواب الذي يقتضي العرف عدم استقلاله دون الوضع.(13/268)
والحق مع الفقهاء لأن اللفظ عام والعادة لا تخصص وأما ما وقع في كتابي طبقات الفقهاء في ترجمة الإمام الشافعي في الأم في الجزء الرابع من أجزاء تسعة في كتاب ما يقع به الطلاق من الكلام وما لا يقع وهو بعد الطلاق الذي يملك فيه الرجعة وقبل الحجة في النية وما أشبهها نص على ما ذكره الإمام عنه من ان العبرة بعموم اللفظ فذلك خطا مني في الفهم وأردت ان انبه على ذلك هنا لئلا يغتر به فإن حذفه من ذلك الكتاب تعذر لانتشار النسخ به وبيان ذلك انه قال ما نصه ما يقع به الطلاق من الكلام ومالا يقع.(13/269)
ص -187-…قال الشافعي رضي الله عنه ذكر الله تعالى في كتابه الطلاق والفراق والسراح فقال عز وجل: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ}1 وقال تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوف}2 وقال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم في أزواجه: {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} الآية.
قال الشافعي فمن خاطب امرأته فأفرد لها اسما من هذه الأسماء فقال أنت طالق أو أطلقتك أو فارقتك أو سرحتك لزمه الطلاق وان لم ينوه في الحكم ونويناه فيما بينه وبين الله عز وجل ويسعه إن لم يرد شيئا منه طلاقا ان يمسكها ولا يسعها ان يقيم لأنها لا تعرف من صدقه ما يعرف من صدق نفسه وسواء فيما يلزم من الطلاق ولا يلزم تكلم به الزوج عند غضب او مسألة طلاقا او رضا وغير مسألة طلاق ولا تصنع الأسباب شيئا إنما تصنعه الألفاظ لأن السبب قد يكون ويحدث الكلام على غير السبب ولا يكون مبتدأ الكلام الذي له حكم فيقع فإذا لم يصنع السبب بنفسه شيئا لم يصنعه ما بعده ولم يمتنع ما بعده ان يصنع ما له حكم إذا قيل انتهى فتوهمت انا ما توهمت من قوله ولا تصنع الأسباب شيئا الى آخر وهو وهم وانما مراده ان الغضب وغيره من الأسباب التي يرد عليها الطلاق لا تدفع وقوع الطلاق ولا تعلق لذلك بالمسألة الأصولية وقد احتج المصنف على ان العبره بعموم اللفظ بأن اللفظ صالح لتناول الأفراد إذ هو عام وكونه ورد على سبب لا يعارضه لأنه لا منافاة بينهما بدليل ان المجيب لو قال احمل اللفظ على عمومه ولا تخصيصه بخصوص سببه كان ذلك جائزا.(13/270)
واعترض على هذا بأنه لا ينافي كون السبب يدل بطريق الظهور على تخصيص العام لأن الذي ذكر احتمال والإحتمال لا ينافي الظهور كما أنه لو صرح بإرادة الخصوص في العمومات من غير سبب جاز ذلك مع كون هذا الاحتمال لا ينافي ظهور صيغة العموم في الاستغراق وذكر الإمام دليلا آخر وهو اجماع الأمة على ان آية اللعان والظهار وغيرهما إنما نزلت في أقوام معينين مع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية 231.
2 سورة البقرة آية 231.(13/271)
ص -188-…تعميم الأمة حكمها وما قال أحد ان ذلك التعميم خلاف الأصل واحتج الخصم بأن الجواب لو عم لم يكن مطابقا للسؤال والمطابقة بين السؤال والجواب شرط ولهذا لم يجز ان يكون الجواب خاصا وبأن السبب لو لم يكن مخصصا لما نقله الراوي لعدم فائدته.
واجيب عن الأول بأنك ان أردت بمطابقة الجواب ان تستوعب السؤال ولا تغادر منه شيئا فمسلم وإلا علم يحصل فيه المطابقة بهذا المعنى بخلاف الأخص وإن أردت بالمطابقة اختصاص الجواب بالسؤال فلا نسلم اشتراطها بهذا المعنى.
وعن الثاني: بأن فائدته معرفة السبب وقد صنف بعض المتأخرين في معرفة أسباب الحديث كما صنفت العلماء في معرفة أسباب النزول ومن فوائد ذلك امتناع إخراج صورة السبب عن العموم بالإجتهاد فمنه لا يجوز إخراج تلك الصورة التي ورد عليه السبب بالاجماع نص عليه القاضي في مختصر التقريب والآمدي في الأحكام وطائفة.
وحكى عن أبي حنيفة انه يجوز إخراجها وقد عرفت ذلك من قبل وقد قال العلماء ان دخول السبب قطعي لأن العام يدل عليه بطريقتين كما مر ومن ذلك استثناء كونه لا يخرج بالإجتهاد.
وقال والدي رحمه الله وهذا عندي ينبغي ان يكون إذا دلت قرائن حالية ومقالية على ذلك او على ان اللفظ العام يشمله بطريق الوضع لا محالة وإلا فقد تنازع الخصم في دخوله وضعا تحت اللفظ العام ويدعي انه قد يقصد المتكلم بالعام إخراج السبب وبيانه انه ليس داخلا في الحكم فإن للحنفية أن يقولوا في حديث عبد بن زمعة أن قوله صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش" وإن كان واردا في أمة فهو وارد لبيان حكم ذلك الولد وبيان حكمه إما بالثبوت أو بالانتفاء فإذا ثبت ان الفراش هي الزوجة لأنها الذي يتخذ لها الفراش غالبا.
وقال الولد للفراش كان فيه حصرا كالولد للحرة وبمقتضى ذلك لا يكون للأمة فكان فيه بيان للحكمين جميعا نفي السبب عن مسبب وإثباته لغيره ولا يليق دعوى القطع هنا وذلك من جهة اللفظ وهذا في الحقيقة نزاع في ان اسم(13/272)
ص -189-…الفراش هل هو موضوع للحرة والأمة الموطؤة أو للحرة فقط والحنفية يدعون الثاني فلا عموم عندهم في الآية فتخرج المسالة من باب ان العبرة بعموم اللفظ وبخصوص السبب تعم قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد بن زمعة هو لك يا عبد وللعاهر الحجر فهذا التركيب يقتضي انه ألحقه به على حكم السبب فيلزم ان يكون مرادا من قوله للفراش فلينتبه لهذا البحث فإنه نفيس جدا ولا يقال ان الكلام إنما هو حيث تحقق دخوله في اللفظ العام وضعا لأنا نقول قد يتوهم ان كون اللفظ جوابا للسؤال يقتضي دخوله فأردنا أن ننبه على أن الأمر ليس كذلك والجواب إنما يقتضي بيان الحكم وانما أردنا ان دعوى من ادعى انه دلالة العموم على سببه قطعية يمكن المنازعة فيها النزاع في دخوله تحت اللفظ العام وضعا لا مطلقا والمقطوع به انه لا بد فيه من بيان حكم السبب إما كونه يقطع بدخوله فى ذلك أو بخروجه عنه فلا يدل على تعيين واحد من الأمرين وتختم المسألة بعد ذكر هذا البحث النفيس بمثلين.(13/273)
فأحدهما: أن جميع ما تقدم في السبب وبقية الأفراد التي دل اللفظ العام بلا وضع عليها وبين ذينك الشيئين رتبة متوسطة فنقول قد تنزل الآيات على الأسباب الخاصة وتوضع كل واحدة منها مع ما يناسبها من الأي رعاية لنظم القرآن وحسن اتساقه فلذلك الذي وضعت معه الآية النازلة على سبب خاص للمناسبة إذا كان مسوقا لما نزل في معنى يدخل تحت ذلك اللفظ العام او كان من جملة الأفراد الداخلة وضعا تحت اللفظ العام فدلالة اللفظ عليه يحتمل ان يقال انه كالسبب فلا يخرج ويكون من الآية قطعا ويحتمل ان يقال انه لا ينتهي في القوة الى ذلك لأنه قد يراد غيره وتكون المناسبة لشبهيته به والحق ان ذلك رتبة متوسطة دون السبب وفوق العموم المجرد ومثال ذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}1 فإن مناسبتها للآية التي قبلها وهي قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} 2 إن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية 58.
2 سورة النساء آية 51.(13/274)
ص -190-…ذلك إشارة الى كعب بن الأشرف كان قدم الى مكة وشاهد قتلى بدر وحرض الكفار على الأخذ بثأرهم وغزو النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه من أهدى سبيلا النبي صلى الله عليه وسلم أم هم فقال انتم كذبا منه وضلالة لعنه الله فتلك الآية في حقه وحق من يشاركه في تلك المقالة وهم أهل كتاب يجدون عندهم في كتابهم نعت النبي صلى الله عليه وسلم وصفته وقد أخذت عليهم المواثيق ان لا يكتموا ذلك وإن ينصروه كان ذلك أمانة لازمة لهم فلم يؤدوها وخانوا فيها وذلك مناسب لقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}.
ولا يرد على هذا ان قصة كعب بن الأشرف كانت عقب بدر ونزول ان الله يأمركم في الفتح او قريبا منه وبينهما نحو ست سنين لأن اتحاد الزمن إنما يشترط في سبب النزول ولا يشترط في المناسبة لأن المقصود منها وضع الآية موضع يناسبها.
والآيات كانت تنزل على أسبابها ويأمر النبي صلى الله عليه وسلم بوضعها في المواضع التي يعلم من الله مواضعها وثانيها سؤال عظيم أورده والدي احسن الله إليه في تفسيره في آية الظهار وهو قوله: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ}.
الآية وتقريره يتوقف على اعراب الآية فنقول الذين مبتدأ وخبره فتحرير أو فكفارتهم تحرير وجاز حذف ذلك لدلالة الكلام عليه وجاز دخول الفاء في الخبر لتضمين المبتدأ معنى الشرط وتضمين الخبر معنى الجزاء.
فإذا أريد التنصيص على ان الخبر مستحق بالصلة دخلت الفاء حتما للدلالة على ذلك فإذا لم تدخل احتمل ان يكون مستحقا به او بغيره كما لو قيل الذين يظاهرون عليهم تحرير رقبة وان كنا نقول ان ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية ولكن ليس بنص ودخول الفاء نص وهذا المواضع المتفق عليه جواز دخول الفاء لعموم الموصول فلو أريد بالموصول خاص بحيث لا يكون فيه عموم.(13/275)
فالصحيح عدم جواز دخول الفاء وكذلك لو وصل بماض لم يجز دخول الفاء على الصحيح إذا عرفت هذا فالآية على ذلك لا تشمل الا من وجد من الظهار بعد نزولها لأن معنى الشرط متقبل فلا يدخل فيه الماضي والنبي صلى(13/276)
ص -191-…الله عليه وسلم قد أوجب الكفارة على أوس بن الصامت وذلك لا يشك فيه من جهة ما عرفت من كونه هو السبب الا ان هذا الإشكال يعتوره من جهة عدم شمول اللفظ على ما تقرره من قاعدة دخول الفاء ومن جهة أخرى وهي ان الحكم إنما يثبت من حين نزول الآية وأوس ظاهر قبل نزولها فكيف يعطف حكمها على ما سبق لا سيما إذا كان الحكم قبل نزولها انه طلاق كما ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال:"ما أراك الا قد حرمت عليه" فكيف يرتفع التحريم أو الطلاق بعد وقوعه.
وهذا الإشكال وارد في أية اللعان من الجهتين كما هو وارد هنا ووارد في آية السرقة وآية حد الزنا ونحوهما من الجهة الثانية لإثبات أحكامها لمن صدر منه السبب المتقدم على نزولها وان لم نجعل الفاء فيها داخلة في خبر المبتدأ هذا تقرير السؤال وهو قوي وأجاب عنه بما لا يقاومه فقال أما إثبات أحكام هذه الآية لمن وجد منه السبب قبل نزولها فنقول ان السرقة والزنا ونحوهما من الأفعال التي كانت معلومة التحريم عندهم وجوب الحد فيها لا يتوقف على العلم والفاعل لها قبل نزول الآية إذا كان هو السبب في نزولها في حكم المقارن لها لأنها نزلت مبنية لحكمه فلذلك يثبت حكمها فيه دون غيره ممن تقدمه واما دخول الفاء في الخبر فيستدعي العموم في كل من يتظاهر من امرأته مثلا وذلك ويشمل الحاضر والمستقبل وسبب النزول حاضرا وفي حكم الحاضر واما دلالة الفاء على الاختصاص بالمستقبل فقد يمنع واما كون الظهار كان طلاقا فلم يكن ذلك شرع واما قول النبي صلى الله عليه وسلم ما أراك الا قد حرمت عليه فلم يثبت وقال بعض الناس انه منسوخ بالآية فإن ثبت ان النبي صلى الله عليه وسلم قاله فالأمر كذلك ويكون من نسخ السنة بالكتاب1.
قال: وكذلك مذهب الراوي كحديث أبي هريرة في الولوغ وعمله لأنه ليس بدليل قيل خالف الدليل وإلا انقدحت روايته قلنا ربما ظنه دليلا ولم يكن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(13/277)
1 راجع أسباب النزولللسيوطي ص 164ط التحرير تفسير ابن كثير 8/60وما بعدها طبعة الشعب.(13/278)
ص -192-…البحث الثاني: فيما أن أعمل الراوي بخلاف العموم هل يكون ذلك تخصيصا للعموم وقد اختلفوا فيه الاكثرون منهم الإمام والآمدي الا انه لا يخصص وعزاه الإمام الى الشافعي قال لأنه قال ان حمل الراوي الخبر على أحد محمليه صرت إلى قوله وإلا فلا أصير إليه.
هذا كلام الإمام وهو صريح في ان صورة اختياره في المسألة التفصيل الذي ذكره ومنهم من يطلق القول في المسألة ويجعل هذا قولا مفصلا.
وذهبت الحنفية والحنابلة الى ان يكون مخصصا وفصل بعضهم فقال ان وجد ما يقتضي تخصيصه به لم يخصص بمذهب الراوي بل به ان اقتضى نظر الناظر فيه ذلك والأخص بمذهب الراوي وهو مذهب القاضي عبد الجبار وقال امام الحرمين إن علم من حاله أنه فعل ما يخالف الحديث نسيانا فلا ينبغي ان يكون فيه خلاف إذ لا يظن بعاقل انه يرجح فعله إذ ذاك ولو احتمل ان يكون فعله احتياطا كما لو روى ما يقتضي رفع الحرج عن الفعل فيما يظن به التحريم رأيناه متحرجا عنه غير ملابس له فالتعويل على الحديث ويحمل فعله على الورع والتعليق بالأفضل وإن لم يحتمل شيئا من ذلك لم يجز التعليق بالحديث قلت وعندي ان محل الخلاف مخصوص بالقسم الثالث إذ لا يتجه في القسمين الأولين.(13/279)
وقد مثل المصنف تبعا للإمام هذه المسألة بما روى عن مسلم عن أبي هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب ان يغسل سبع مرات أولاهن بالتراب رواه البخاري ولفظه إذا شرب مع ان أبا هريرة كما روى قال يغسل ثلاثا فلا نأخذ بمذهبه لأن قول الصحابي ليس بدليل إذ نحن مفرعون على ان قوله غير حجة وهذا المثال على هذا الوجه غير مطابق لأن التخصيص فرع العموم وسبع مرات من أسماء الأعداد التي هي نصوص في مسمياتها لا عامة نعم قد يحسن ايراد ذلك مثالا إذا صدرت المسألة هكذا الراوي الصحابي إذا خالف الحديث وفعل ما يضاده فهل يعول على الحديث او على فعله نحو خبر أبي هريرة واما لما نحن فيه فلا يحسن إيراده مثلا ومثل له صفي الدين الهندي وكذا ابن برهان كما نقل القرافي عنه بمثال اقرب من هذا وهو ابن عباس رضي الله عنه روى من بدل دينه فاقتلوه وهذا عام في(13/280)
ص -193-…الرجال والنساء وذهب هو الى ان المرتدة لا تقتل قلت وفي هذا المثال ايضا نظر وهو ان من الشرطية على رأي لا تدخل فيها النساء فلعل ابن عباس يختار ذلك الرأي.
على ان كل هذا عدول عن التحقيق والتمثيل بحديث أبي هريرة وعمله صحيح وانما جاء الفساد فيه من جهة تقريره على الوجه المتقدم وكان الإمام الناظر علاء الدين البابجي1 يقرره على الوجه الصحيح وهو ان الكلب من حيث انه مفرد معروف للعموم يشمل كلب الزرع وغيره وأبو هريرة يرى ان كلب الزرع لا يغسل منه الا ثلاثا وغيره يغسل فقد أخرج بعض أفراد الكلب.
هذا هو معنى التخصيص في الحديث وهذه فائدة حسنة لكن ما ادري من أين كان له ان أبا هريرة كان يغسل من كلب الزرع ثلاثا فإن المعروف اختلاف الرواية عن أبي هريرة في انه هل كان يرى ان الغسل من ولوغ الكلب سبع او ثلاث فروى الدارقطني بسنده الى عبد الملك عن عطاء عن أبي هريرة قال إذا ولغ الكلب في الإناء فأهرقه ثم اغسله ثلاث مرات ثم قال الدارقطني يرويه غير عبد الملك عن عطاء عنه سبع مرات قلت فإن صح ان أبا هريرة كان يفصل بين كلب الزرع وغيره يكون في ذلك جمعا بين اختلاف الروايات فمن روى عنه السبع يكون كلامه في غير كلب الزرع ومن روى الثلاث يكون مراده كلب الزرع.
واحتج من جعل مذهب الراوي مخصصا بأنه إنما خالف لدليل لأنه لو خالف لا لدليل لفسق فلا تقبل روايته وإذا كانت مخالفته مشاره الى دليل تحتم اتباعه والجواب انه ربما خالف لشيء ظن في نفسه بما اداه اليه نظره كونه دليلا ولم يكن كذلك في نفس الامر فلا يلزم القدح في روايته لأنه لم يقدح الا على حسب تأدية اجتهاده ولا الاتباع لعدم صحة المظنون بل ولو احتمل ان ما ظنه حق في نفسه فليس لنا الانقياد له بمجرد التقليد ما لم يتضح لنا وجه الحق في ذلك والفرض ان الذي يتضح لنا خلاف ما عمله لقيام الدليل الذي رواه معارضا بحق لما رآه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(13/281)
1 تقدمت ترجمته في الجزء الأول من هذا الكتاب.(13/282)
ص -194-…خاتمة اضطرب النظر في انه هل صورة هذه المسألة مخصوصة بما إذا كان الراوي صحابيا أم الأمر اعم من ذلك الذي صح عندي ويجوز ان الأمر اعم من ذلك ولكن الخلاف في من ليس بصحابي اضعف فليكن القول في المسألة هكذا ان كان الراوي صحابيا وقلنا قول الصحابي حجة خص على المختار.
قال القاضي في مختصر التقريب وقد ينسب ذلك إلى الشافعي في قوله الذي يقلد الصحابي فيه ونقل عنه انه لا يخصص به الا إذا انتشر في أهل العصر ولم ينكره وجعل ذلك نازلا منزلة الإجماع وان قلنا قوله غير حجة ففيه الخلاف المتقدم وان كان غير صحابي ترتب الخلاف على الصحابي فإن قلنا لا يخص بقول الصحابي الراوي لم يخصص بقول الراوي الذي ليس بصحابي جزما وان قلنا يخصص ففي هذا خلاف.
وأما قول القرافي صورة المسألة ان يكون صحابيا واما غير الصحابي فلا يخصص قطعا فليس بجيد والمعتمد ما قلناه ويشهد له الدليل الذي ذكر من أنه إنما يخالف الدليل وإلا انقدحت روايته فان هذا يشمل الصحابي وغيره وبما ذكرناه صرح امام الحرمين في البرهان فقال وما ذكرناه يعني من هذه المسألة غير المختص بالصحابي فلو روى بعض الأئمة حديثا وعمل بخلافه فالأمر على ما فصلناه انتهى.
قال السابعة: أفراد فرد لا يخصص مثل قوله عليه السلام: "أيما إهاب دبغ فقد طهر" مع قوله في شاة ميمونة: "دباغها طهورها" لأنه غير مناف قيل المفهوم قلنا مفهوم اللقب مردود.
إذا افرد الشارع فردا من افراد العام بالذكر وحكم عليه بما حكم على العام لا يكون مخصصا للعموم خلافا لأبي ثور مثاله ما روى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيما إهاب دبغ فقد طهر"1 وقال عليه السلام وقد مر بشاة ميتة لمولاة ميمونة كما رواه مسلم: "ألا أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(13/283)
1 حديث صحيح رواه الترمذي باب: جلود الميتة إذا دبغت وابن ماجة في كتاب اللباس باب لبس جلود الميتة إذا دبغت كما رواه الإمام الشافعي ومسلم في صحيحه بلفظ "إذا دبغ الإهاب فقد طهر".(13/284)
ص -195-…والدليل على ان العام لا يختص ببعضه إذا افرد بالذكر ان المخصص لا بد وان يكون بينه وبين العام منافاة ولا منافاة بين كل الشيء وبعضه واحتج أبو ثور بأن تخصيص الشيء بالذكر يفهم منه نفي الحكم عما عداه وإلا فلا تظهر فائدة التخصيص ذلك الفرد بالذكر.
وأجاب المصنف بأن المفهوم هنا مفهوم اسم وهو غير حجة كما سبق وعندي في ترتيب المسألة على هذا الوجه نظر وما أظن أبا ثور يستند في ذلك الى مفهوم اللقب فإن الظاهر انه لا يقوم به فإنا لم نر أحدا حكاه عنه مع انه اجل واقدم من الدقاق وأولى ان تودع الاؤه بطون الأوراق ولعله يقول بهذا المفهوم إذ أورد خاصا بعد عام تقدمه ونقول ان ذلك قرينة في المراد بذلك العام هذا الخاص ويجعل العام كالمطلق والخاص كالمقيد ولا يكون ذلك قولا منه بمفهوم اللقب الذي قال به الدقاق وحينئذ ترتيب المسألة على انه استند فيها الى مفهوم اللقب غير سديد والرد عليه كذلك.
قال: الثامنة عطف الخاص لا يخصص مثل لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده وقال بعض الحنفية بالتخصيص تسوية بين المعطوف والمعطوف عليه قلنا التسوية في جميع الأحكام غير واجبة.
عطف الخاص على العام لا يوجب تخصيص العام خلافا لأبي حنيفة وأصحابه وتوقف فيه بعض المتكلمين مثاله ان أصحابنا لما احتجوا على ان المسلم لا يقتل بالذمي بما روى أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده"1.
الحنفية او بعضهم انه عليه السلام عطف عليه قوله ولا ذو عهد في عهده فيكون معناه ولا ذو عهد في عهده بكافر ثم ان الكافر الذي لا يقتل به ذو العهد هو الحربي فيجب ان يكون الكافر الذي لا يقتل به المسلم ايضا هو الحربي تسوية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما رواه البخاري في كتاب الديات باب: لايقتل مسلم بكافر وابن ماجة والترمذي تحفة الأحوذي 4/668- 670.(13/285)
ص -196-…بين المعطوف والمعطوف عليه أجاب المصنف بأن التسوية بين المعطوف والمعطوف غير واجبة في جميع الأحكام وهو جواب ضعيف لأن الحنفية لا يقولون باشتراك المعطوف والمعطوف عليه في جميع الأحكام بل باشتراكهما في المتعلقات كالحال والشرط والمصنف يوافق على ذلك.
كما نص عليه في الاستثناء المتعقب للجمل بل الجواب الصحيح ان قوله ولا ذو عهد في عهده كلام تام لأنه لو قال ولا يقتل ذو عهد لكان من الجائز ان يتوهم منه متوهم ان من وجد منه العهد ثم خرج عن عهده لا يجوز قتله فلما قال في عهده علمنا ان هذا النهي مختص بكونه في حال العهد وإذا ثبت كونه كلاما تاما فلا يجوز إضمار تلك الزيادة اعني لفظة بكافر لأن الإضمار على خلاف الأصل.
فإن قلت: ما وجه الارتباط بين هاتين الجملتين حينئذ أعنى قوله لا يقتل مسلم بكافر ولا يقتل ذو عهد في عهده إذ لا يظهر لأحداهما تعلق بالأخرى.
قلت: ظني ان أبا اسحق المروزي أحد أئمة أصحابنا أجاب عنه في التعليقة بأن عداوة الصحابة رضي الله عنهم للكفار في ذلك الوقت كانت شديدة جدا فنبه صلى الله عليه وسلم على ان صاحب العهد إذا كان في عهده لا يقتل لئلا يتجرد اللفظ الدال على ان المسلم لا يقتل بالكافر اعني قوله لا يقتل مسلم بكافر فتحمل العداوة الشديدة على الإقدام على قتل كل كافر من معاهد وغيره وهذا الجواب جدير بأن يغتبط ولا يقال حرمة وان انتفى القصاص باقية وهي تحمل الصحابة الذين هم أهل الورع الشديد على الإحجام لأنا نقول كان ذلك في صدر الاسلام فلا يلزم من كون المسلم لا يقتل بالكافر ان يكون قتل المعاهد حراما بل حكم ولا بنفي القصاص بين المسلم والكافر مطلقا والدليل على جواز قتل الكافر في الجملة قائم فبين تخصيص ذلك الدليل عن نهيه قتل المعاهد في عهده.
قال: التاسعة عود ضمير خاص لا يخصص مثل والمطلقات مع وبعولتهن لأنه لا يزيد على إعادته.(13/286)
ص -197-…عود الضمير الى بعض العام المتقدم هل يوجب تخصيص العام وإن شئت قلت إذا عقب اللفظ العام باستثناء او تقييد بصيغة او حكم خاص لا يتأتى في كل مدلوله بل في بعضه فهل يوجه ذلك تخصيصه اختلفوا فيه فذهب الأكثر من أصحابنا إلى أن ذلك لا يوجب تخصيصه وبه جزء في الكتاب واختاره الغزالي والآمدي وابن الحاجب وصفي الدين الهندي.
وذهب أكثر الحنفية الى انه يخصصه ولذلك قالوا في قوله عليه السلام: "لا تبيعوا البر بالبر الا كيلا بكيل"1 ان المراد منه ما يكال من البر فيجوز بيع الحفنة بالحفنتين لأن ذلك القدر مما لا يكال.
وذهب جماعة منهم إمام الحرمين وأبو الحسين والإمام إلى التوقف ومثل في الكتاب لذلك بقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}2 ثم أنه تعالى قال: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} وهذا اختص بالمطلقة بالطلاق الرجعي دون البائن فيقول الأولون ان ذلك لا يقتضي إن المراد من المطلقات الرجعيات وتقول الحنفية يقتضيه ومثال الإستثناء قوله تعالى: {لَاجُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ}3 الى قوله: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} فإستثناء العفو عنه الكناية راجعة الى النساء ومعلوم أن العفو لا يصح الا من البالغات العاقلات دون الصبية والمجنونة فهل يوجب ذلك ان يقال ان المراد من النساء أو أول الكلام البالغات العاقلات فقط ومثال التقييد بالصفة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} ثم قال: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} يعنى الرغبة في مراجعتهن ولا ريب في ان ذلك لا يتأتى في الطلاق البائن فهل يقتضي بعد ذلك تخصيص المذكور في أول الكلام بالرجعي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(13/287)
1 روي هذا الحديث بروايات متعددة منها مارواه مسلم عن أبي الأشعث أن معاوية أمر ببيع آنية من فضة في أعطيات الناس فقال: سمعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهي عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر والشعير والملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين فمن زاد أو ازداد فقد أربى المغني لابن قدامة 4/11ط مكتبة الجمهورة والرياضة الحديثة.
2 سورة البقرة آية 228.
3 سورة البقرة آية 236.(13/288)
ص -198-…ومثال ذلك التقييد بحكم آخر ما أورده المصنف وقد شرحناه واحتج المصنف بأن عود الضمير لا يزيد على إعادة ذلك البعض أو صرح بالإعادة فقيل وبعولة المطلقات أحق بردهن في المثال الأول وإلا أن يعفو العاقلات والبالغات في المثال الثاني او يحدث أمرا في الرجعيات في المثال الثالث لم يكن ذلك مخصصا اتفاقا فكذلك هنا.
واحتج المتوقف بأن ظاهر العموم يقتضي الاستغراق وظاهر الكناية تقتضي مطابقتها للمكني في العموم والخصوص وليست مراعاة ظاهر العموم بأولى من مراعاة ظاهر الكناية فوجب التوقف.
واجيب عنه بأنا لا نسلم انه ليست مراعاة احدهما بأولى من مراعاة الآخر بل مراعاة إجراء العام على عمومه أولى من مراعاة مطابقة الكناية للمكنى لأن المكنى اصل والكناية تابعة لأنها تفتقر في دلالتها على مسماها إليه من غير عكس ومراعاة دلالة المتبوع أولى من مراعاة دلالة التابع ومنه اكثر فائدة وأظهر دلالة فكان بالرعاية اجدر.
فائدة سألت والدي رحمه الله في قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}1 وقول الشافعي رضي الله عنه ان ذلك في الأحرار بدليل ان العبد لا يملك فقلت هذا من عطف الضمير الخاص على العام فلا يقتضي التخصيص على الصحيح فقال ليس هذا من ذلك القبيل لأن ذلك في لفظ عام يتقدم ويأتي بعده ضمير لا يستقل بنفسه بل يعود على ذلك اللفظ المتقدم العام.
وهنا خطاب والمخاطب لم يتحقق فيه عموم ولا خصوص والمرجع فيه الى قصد المتكلم وما يدل عليه فقوله فأنكحوا خطاب لمخاطبين لم يتحقق دخول العبيد فى موضوعه بل بحسب ما يريد المتكلم من مخاطبه.
فإذا دل في آخر الكلام او في أوله على المراد حمل عليه وهنا قد دل دليل في آخره وهو قوله او ما ملكت أيمانكم وفي أوله وهو: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا(13/289)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية 3.(13/290)
ص -199-…تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} فإنه إنما يخاطب به من يلي أمر اليتيم والعبد لا يلي أمر اليتيم فقلت الخطاب الأول لجميع الناس الأحرار والعبيد بدليل قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ}1فقال لنا في الجواب طريقان.
أحدهما: ما قررناه غير مرة من أن أيا نكرة وهي المنادى وصف بالناس فالألف واللام في الناس للعهد والمعهود هي النكرة المقصودة وهو الذي ناداه المتكلم والعهد مقدم على العموم.
والثاني: أن يسلم أنها للعموم ويقوم دليل على ان الخطاب بعدها لبعضهم مثاله ان يقول لعشرة افعلوا كذا ثم يقول لبعضهم افعلوا كذا فليس تخصيصا للأول وإنما هو خطاب لغير من خوطب أولا وهو بعض منه وهو يشبه الإلتفات فليس من باب عود الضمير المقتضي للتخصيص على خلاف فيه بل هذا لا يقتضي التخصيص قولا واحدا لأن كل الكلامين مستقل بنفسه وان كان بينهما التئام والله اعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مفتتح سورة النساء والحج.
قال تذنيب. المطلق والمقيد ان اتحد سببهما حمل المطلق عليه عملا بالدليلين وإلا فإن اقتضى القياس تقييده قيد وإلا فلا.
المطلق والمقيد كالعام والخاص وكل ما يجوز فيه تخصيص العام من الأدلة أما على الوفاق الخلاف فإنه يجوز به تقييد المطلق من غير تفاوت.
ولذلك جعل المصنف الكلام فيه ذنابة وتتمة للعام والخاص والأخذ في شرح ما أورده يستدعي تقديم مقدمة فنقول المطلق منقسم الى حقيقي وإضافي أما الحقيقي فهو طلق من كل وجه وقد يقال المطلق على الإطلاق وهو المجرد عن جميع القيود الدالة على ماهية الشيء من غير ان يدل على شيء من أحوالها وعوارضها على ما ذكرنا في باب العام والخاص.
أما الإضافي مثل قولك اعتق رقبه واضرب رجلا فليس هو مطلقا من كل وجه بل هو دال على واحد شائع في الجنس وهما قيدان زائدان على الماهية.(13/291)
ص -200-…وهذا مطلق بالنسبة الى قولنا رقبة مؤمنة ومقيد بالنسبة الى اللفظ الدال على ماهية الرقبة من غير ان يكون فيها دلالة على كونها واحدة أو كثيرة شائعا في الجنس او معينا وإذا عرفت انقسام المطلق الى قسمين فاعلم ان المقيد ينقسم ايضا الى قسمين مقابليهما فالمقيد من كل وجه او على الإطلاق هو اللفظ الذي لا اشتراك فيه أصلا كأماء الاعلام.
وأما المقيد من وجه دون وجه فنحو رقبة مؤمنة ورجل عالم وإذا عرفت ذلك فلنعد الى الشرح والمقصود الكلام في حمل المطلق على المقيد اعلم ان متعلق حكم المطلق أما أن يكون غير متعلق حكم المقيد او لا يكون.
فإن كان الثاني فلا يحمل المطلق على المقيد وفاقا لأنه لا مناسبة بينهما ولا تعلق لأحدهما بالآخر أصلا ومثلوا هذا بتقييد الشهادة بالعدالة وجريان ذكر الرقبة فى الكفارة مطلقا مجرى العدالة.
وإن كان الأول فأما أن يتحد السبب او يختلف وعلى التقديرين إما ان يكون كل واحد من المطلق والمقيد أمرا أو نهيا أو أحدهما أمرا والآخر نهيا فهذه أقسام ستة.
أحدهما: ان يكون السبب واحدا وكل واحد منهما أمرا نحو ان نقول اعتقوا رقبة مؤمنة إذا أحسنتم ثم نقول مرة أخرى اعتقوا رقبة إذا أحسنتم فها هنا لا خلاف ان المطلق محمول على المقيد وكذا لو قال أولا اعتقوا رقبة ثم قال اعتقوا رقبة مؤمنة وكذا لو لم يعلم التاريخ بينهما لأن من عمل بالمقيد فقد عمل بالمطلق ضرورة ان المطلق جزء من المقيد والآتي بالكل آت بالجزء فيكون العمل بالمقيد عملا بالدليلين.
وأما العمل بالمطلق فليس عملا بالمقيد لأن الآتي بالجزء لا يكون آتيا بالكل بل تاركا له فيكون العمل بالمطلق يستلزم الترك لأحد الدليلين بالكلية فإذا كان الجمع بين الدليلين واجبا مع إستلزامه الترك لشيء من مدلولات.
أحدها: فليجب حيث لا يستلزم ذلك بطريق أولى ولا يخرج ذلك على الخلاف في تقابل المتأخر والخاص المتقدم بهذا الذي ذكرناه.(13/292)
فإن قلت فمقتضى الإطلاق التمكن من أي فرد شاء المكلف والتقييد يزيل(13/293)
ص -201-…التمكن من ذلك فلم كان هذا أولى من حمل الأمر بالمقيد على الندب قلت هذا الحكم الذي هو التمكن حالة الإطلاق غير مدلول عليه باللفظ وهو اعتق رقبة مثلا إنما دل على اتحاد عتق رقبه وكون الكافرة في حالة الاطلاق مجزئة.
إنما جاء من تركيب العقل مع النقل لأنك تقول هذه الكافرة تجزىء لأنها رقبة والرقبة تجزي لقوله اعتق رقبة فكون الكافرة تجزي غير مدلول عليه باللفظ فكان أولى بالرعاية المطلق عاما والمقيد غير المدلول عليه لفظا والمقيد وهو اعتق رقبة مؤمنة مدلول عليه باللفظ فكان أولى بالرعاية.
الثاني: ان يكون كل واحد من المطلق والمقيد نهيا نحو ان تقول لا تعتق رقبة ثم تقول مرة أخرى لا تعتق رقبة كافرة فمن يقول بمفهوم الخطاب يلزمه ان يخصص النهي العام بالكافرة لأن النهي الثاني عنده يدل على أجزاء من ليست كافرة.
ولقائل ان يقول وجود المطلق والمقيد في جانب النهي والنفي يصير المطلق عاما والمقيد خاصا لأن ذلك نكرة في سياق النفي فلا يتصوران في هذين الجانبين.
الثالث: أن يكون أحدهما أمرا والآخر نهيا وهو قسمان لأنه إما ان يكون المطلق أمرا والمقيد نهيا نحو ان تقول اعتق رقبة كافرة ثم تقول لا تعتق رقبة او بالعكس نحو لا تعتق رقبة ثم تقول اعتق رقبة مؤمنة ففي هاتين الصورتين يوجب المقيد تقييد المطلق بضده بلا خلاف.
الرابع: ان يكون كل واحد منهما أمرا ولكن السبب مختلف نحو قوله تعالى في كفارة الظهار: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وقوله في كفارة القتل: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} فها هنا اختلفوا على ثلاثة مذاهب.
أحدها: ان يحمل عليه من غير حاجة الى دليل آخر فان تقييد أحدها يوجب تقييد الآخر لفظا وبه قال بعض أصحابنا قال امام الحرمين واقرب طريق لهؤلاء ان كلام الله تعالى في حكم الخطاب وحق الخطاب الواحد ان يترتب المطلق فيه على المقيد قال وهذا من فنون الهذيان فان قضايا الألفاظ في(13/294)
ص -202-…كتاب الله تعالى مختلفة متباينة لبعضها حكم التعليق والإختصاص ولبعضها حكم الإستفلال والإنقطاع.
فمن ادعى تنزيل جهات الخطاب على حكم كلام واحد مع العلم بأن في كتاب الله النفي والإثبات والأمر والزجر والأحكام المتغايرة فقد أدعى أمرا عظيما ولا يعني في مثل ذلك الإشارة الا اتحاد الكلام الأزلي ومضطرب المتكلمين في الألفاظ وقضايا الصيغ وهي مختلفة لامراء في اختلافها فسقط هذا الكلام.
والمذهب الثاني: وعليه الحنفية انه لا يجوز الحمل عليه بحال لأن ذلك الدليل ان كان دون المطلق في القوة لم يصلح لنسخه وان كان مثله فمن علم شرط النسخ كان نسخا له وإلا كان تعارضا فهو غير محمول على المقيد بحال.
والثالث: وهو قول الشافعي وجمهور الأصحاب أنه إن وجد قياس وكان دليل يقتضي تقييده قيد وإلا فلا وهذا ما جزم به في الكتاب.
الرابع: ان يكون كل واحد منهما نهيا والسبب مختلف نحو لا تعتق رقبة في كفارة الظهار مثلا ثم نقول لا تعتق رقبة مؤمنة في كفارة القتل فالقائل بالمفهوم وتقييد المطلق بالمقيد ان وجد دليل تخصيص النهي العام بالكافرة ان وجد دليل.
الخامس: ان يكون احدهما أمرا والآخر نهيا والسبب مختلف وهو قسمان لأنه إما ان يكون المطلق أمرا نحو اعتق رقبة في كفارة الظهار والمفيد نهيا نحو لا تعتق رقبة كافرة في كفارة القتل او بالعكس نحو لا تعتق رقبة في كفارة الظهار ثم يقول اعتق رقبة مسلمة في كفارة القتل وحكمهما واحد ولا يخفي عليك مما سبق وقد ذكر المصنف ما إذا اتحد السبب وما إذا اختلف.
ولا يعسر عليك فهم كلامه بعد الصفو الى ما ألقيته لك من الشرع ومما أهمله المصنف ما إذا أطلق الحكم في موضع ثم قيد في موضعين بقيدين متضادين فمن زعم إن التقييد باللفظ قال ببقاء المطلق على إطلاقه إذ ليس تقييده بأحدهما أولى من تقييده بالآخر ومن حمل المطلق على المقيد بالقياس حمله على ما كان حمله(13/295)
ص -203-…عليه أولا وقد مثل لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم في الغسلات من ولوغ الكلب إحداهن بالتراب وفي رواية أولاهن وفي رواية فعفروه الثامنة فلا يحمل على إحدى الروايتين دون الأخرى للترجيح من غير مرجح ان القياس هنا متعذر بل يرجح الى أصل الإطلاق ونقول يجوز التغفير في كل واحدة من المرات عملا برواية إحداهن المطلقة هكذا ذكروه وبه أجاب الشيخ أبو العباس القرافي عن الاعتراض وأورده بعض قضاة الحنفية على الشافعية بان قاعدتهم حمل المطلق على المقيد فكان ينبغي او يوجبوا أولاهن لورود إحداهن وأولاهن فأجابه القرافي بأنه قد عارض رواية أولاهن رواية أخراهن يريد بذلك فعفروه الثامنة فيرجع الى اصل الإطلاق.
قال بعض المتأخرين وعلى هذا ينبغي الوجوب في الأولى والثامنة يخير فيها واعلم ان هذا هو الذي نص عليه الشافعي في الأم فقال ما نصه وإذا غسلهن سبع مرات جعل أولاهن ترابا لا يطهر الا بذلك انتهى.
وفي مختصر البويطي فقال في أثناء باب غسل الجمعة وهو بعد باب التيمم كيف هو وقبل كتاب الصلاة ما نصه وإذا ولغ الكلب في الإناء غسل سبعا أولاهن أو أخراهن بالتراب لا يطهر غير ذلك.
وكذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والخنزير قياسا عليه يغسل سبعا انتهى وهو في غاية الغرابة وعليه جرى المرعشي من أصحابنا في كتابه ترتيب الأقسام وعبارته ما أصاب الكلب أو بعضو من أعضاءه من الماء القليل نجسه ولم يطهر الإناء إلا ان يغسل سبع مرات أولاهن أو أخراهن بالتراب لكن في هذا البحث نظر ذكره والدي وهو انه إنما ينبغي حينئذ ان يوجب كليهما الاولى والأخيرة لورود الحديث فيهما ولا تنافي في الجمع بينهما اللهم إلا ان يراد بالثامنة ثامنة العدد لا الأخيرة فإنه حينئذ يكون مطلقا كإحداهن ويكون رواية إحداهن والثامنة واحدة ومعنى رواية أولاهن فيعود اصل السؤال ويناظر هذا السؤال سؤالان آخران.(13/296)
أحدهما: أن أبا حنيفة قال لا يجري التخالف بين المتبايعين الا إذا كانت السلعة قائمة أما إذا كانت تالفة فالقول قول المشتري والشافعي رضي(13/297)
ص -204-…الله عنه قال إذا اختلف المتبايعان تحالفا سواء كانت السلعة قائمة او تالفة مع أنه روى أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اختلف المتبايعان تحالفا"1 وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة تحالفا" فلم لا حمل مطلق على المقيد مع إعادة القاعدة.
والثاني إن في كتاب فريضة الصدقة في فريضة الإبل فان زادت على عشرين ومائة وهو المطلق في الزيادة وجاء مقيدا في حديث ابن عمر فإن زادت واحدة فلا ينبغي ان يجب في مائة وعشرين وبعض واحدة الى ما يجب في مائة وعشرين فقط والجواب عن الأول من وجوه.
أحدها: أنه روى من حديث أبي وائل عن عبد الله ان النبي صلى عليه وسلم قال: "إذا اختلف المتبايعان والمبيع مستهلك فالقول قول البائع" رواه الدارقطني والخصوم رووا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اختلف المتبايعان فالقول ما قال البائع فإن استهلك فالقول قول المشتري".
وهذا يوافق الحديث المفيد بكون السلعة قائمة وهما قيدان متضادان فرجعنا الى اصل الإطلاق ثم ان هذا الحديث يقتضي عدم جريان التحالف مطلقا وهم لا يقولون به ثم انه يرويه الحسن بن عمارة وهو متروك رديء الحفظ.
والثاني: أن الحديث المشتمل على التقييد بكون السلعة قائمة يرويه القاسم ابن عبد الرحمن عن ابن مسعود ولم يلقه فيكون مرسلا ونحن لا نقول بالمراسيل والحق ان الحديث الذي رواه من التقييد بقيام السلعة ضعيف والذي رويناه من التقييد بهلاكها ضعيف ايضا ولا حاجة الى التطويل في بيان ذلك2.
وضعف التقييدين يكفي في الرجوع الى اصل الإطلاق وقول الغزالي في المآخذ فيما يرويه أصحابنا من التقييد بالهلاك أجمع أهل الحديث على صحته باطل نبهنا عليه لئلا يقع الاغترار به.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(13/298)
1 روي هذا الحديث بعدة طرق كلها صحيحة. منها مارواه ابن مسعود أن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة ولا بينة لأحدهما تحالفا".
المغني لابن قدامة 4/212.
2 راجع أقوال العلماء في هذه المسألة في كتاب المغني لابن قدامة المقدس 4/210 بعدها طبعة مكتبة الجمهورية والرياض الحديثة.(13/299)
ص -205-…والثالث أن التنصيص على قيام السلعة إنما كان تنبيها على حالة تلفها لأنه إذا كان التحالف ثابتا عند حالة قيام السلعة مع انه يمكن الاستظهار بالرجوع الى القيمة وتعرف صفاتها فلأن يتحالفا مع تلفها ولا يمكن الرجوع الى صفاتها أولى وعن الثاني انه إنما يرد على الاصطخري من أصحابنا القائل بأنه يجب ثلاث بنات لبون فيما إذا زادت بعض واحدة والصحيح انه إنما تجب حقتان وفاء بحمل المطلق على المقيد فاندفع السؤال.(13/300)
ص -206-…الباب الرابع في المجمل و المبين
وفيه فصول الأول في المجمل وفيه مسائل المجمل مأخوذ من الجمل بفتح الجيم واسكان الميم وهو الخلط ومنه قوله عليه السلام: "لعن الله اليهود حرم الله عليهم شحوم الميتة فجملوها أي خلطوها وباعوها فأكلوا ثمنها"1 فسمي اللفظ مجملا لاختلاط المراد بغيره والمبين بفتح الياء أخر الحروف في البيان يقال لفظ مبين وإذا كان نصا في معناه بمعنى ان واضعه ومستعمله وصلابه الى نهاية البيان فهو مبين وإذا كان اللفظ مجملا ثم بين يقال له مبين وبينت الشيء بيانا أي أوضحته ايضاحا وأما تعريفه اصطلاحا فقد سبق في تقسيم الألفاظ.
قال الأول: اللفظ أما ان يكون مجملا بين حقائقه كقوله تعالى: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} او افراد حقيقة مثل ان تذبحوا بقرة او مجازاته إذا انتفت الحقيقة وتكافأت فإن ترجح واحد لأنه اقرب الى الحقيقة كنفي الصحة من قوله لا صلاة لا صيام او لأنه اظهر عرفا وأعظم مقصودا كرفع الحرج وتحريم الأكل من رفع عن امتي الخطأ والنسيان: و {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} حمل عليه.
اللفظ المجمل إما ان يكون مجملا بالنسبة الى خصائصه ان كان ذا حقائق أولا والأول هو المشترك كقوله تعالى ثلاثة قروء فإنه مجمل بالنسبة الى حقيقته اعني الطهر والحيض عند من يقول ان القرء موضوع لهما وضعا أوليا وهو الصحيح.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حديث صحيح رواه مسلم كتاب البيوع باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام والبخاري , كتاب البيوع باب بيع الميتة والأصنام, كما رواه أبو داود والقرنوي وانظر تفسير ابن كثير 3/350,ط الشعب.(13/301)
ص -207-…والثاني: إما ان يكون بالنسبة الى افراد حقيقة واحدة أولا والأول مثل قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً}1 فإن لفظ البقرة موضوع لحقيقة واحدة معلومة ولها افراد والمراد واحد منها معين على كلام فيه سيأتي ان شاء الله في الفصل الثاني هذا.
والثاني ان يكون الإجمال في الخارج عما وضع له اللفظ وإنما يكون ذلك بأن تنتفي الحقيقة أي يظهر إرادة عدمها وتتكافأ مجازاتها أي تتساوى وأما إذا ترجح أحد المجازاة فيتعين العمل به ولا يكون اللفظ مجملا وللترجيح أسباب ذكرها في الكتاب.
أحدها: ان يكون اقرب الى الحقيقة من المجاز الآخر كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة الا بطهور".
وقد تقدم الكلام على هذا الحديث وقوله لا صيام لمن لم يبيت الصيام قبل الفجر وهذا الحديث لفظه هكذا غير معروف ولكن رواه عبد الله بن أبي بكر ابن عمرو بن حزم عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه عن حفصة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له"2.
وهذا إسناد صحيح قال الحاكم أبو عبد الله على شرط البخاري فحقيقة هذين الخبرين نفي الصلاة عند عدم الطهارة وذات الصوم عند عدم النية المبيتة.
وهذه الحقيقة غير مرادة لأنا نشاهد الذات قد يقع بدون هذين الشرطين فتعين الحمل على المجاز وهو إضمار الصحة والكمال وإضمار الصحة ارجح لكونه اقرب الى الحقيقة لأن نفي الذات يستلزم كل الصفات ونفي الصحة اقرب بهذا المعنى إذ لا يبقى البتة بخلاف نفي الكمال فان الصحة تبقى معه وهي وصف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية 67.
2 حديث صحيح رواه البخاري كتاب الصيام باب إذا نوى الصيام بالنهار والنسائي باب النية في الصيام وابن ماجة باب ماجاء في الصوم من الليل والترمذي باب لا صيام لمن لم يعزم من الليل. تحفة الأحوذي 43613.(13/302)
ص -208-…ولك ان تقول ما ذكرتموه في هذين الحديثين منقدح إذا قلنا ان الصحة والفساد مما يعتوران الماهية الجعلية أما إذا قلنا الفساد يزيل اسمها فنفي الحقيقة موجود.
الثاني: ان يكون أحد المجازيين أظهر عرفا أشهر كقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن امتي الخطأ والنسيان" فإن ظاهره رفع نفس الحرج ونفس النسيان وليس بمراد فتعيين حمله على المجاز بإضمار الحكم أي حكم الخطأ والنسيان والحرج يعني الإثم أي اثمهما والحمل على الإثم اظهر من جهة العرف لتبادره الى الذهن من قول السيد لعبده رفعت عنك الخطأ والنسيان ولأنه لو قال ذلك ثم اخذ يعاقبه على ما اخطأ فيه أو نسيه عد مناقضا.
واعلم ان الحديث الذي أورده المصنف رواه الحافظ أبو القاسم التيمي من حديث ابن عباس وروى ابن ماجه معناه وصححه ابن حبان وقال احمد لا يثبت.
والثالث: ان يكون اعظم مقصودا من غيره كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} وقوله عليه السلام في البحر: "الحل ميتته" فان حقيقة اللفظ إضافة الحرمة والحل الى نفس العين كما ذهب إليه الكرخي وهو عندنا باطل لأن الأحكام عندنا إنما تتعلق بالأفعال المقدورة للمكلف وليست العين كذلك فلا تتعلق بها حل ولا حرمة فيتعين المجاز بالإضمار فيضمر أما الأكل أو البيع أو نحوهما والأكل أولى لأنه اعظم المقصود من تلك الأشياء عرفا فيحمل اللفظ عليه.
وقد ذهب جماعة من الأصوليين الى دعوى الإجمال في الأمثلة المذكورة متمسكين بأن الحقيقة غير مرادة والمجازات متعددة فلا يضمر الجميع لأن الضرورة تندفع بالبعض وليس بعضها من بعض فيترجح الإجمال والجواب لنا نضمر البعض ولا نسلم عدد الأولوية فإن بعضها أرجح وأولى لما تقدم.
واعلم ان المجمل ليس منحصرا فيما ذكره بل بقيت أشياء أهملها:
أحدها: الإجمال العارض للفظ بواسطة الإعلال كالمختار فإنه صالح لاسم الفاعل واسم المفعول.(13/303)
ص -209-…والثاني: بواسطة جمع الصفات واردافها بما يصلح ان يرجع الى كلها او الى بعضها نحو قولك زيد طبيب أديب ماهر فقولك ماهر يصلح ان يكون راجعا الى الكل او الى البعض فقط وذلك البعض يصح أن يكون هو الأخير أو غيره.
الثالث: المجمل بواسطة الاستثناء المجهول كما تقدم في العام إذا خص بمجهول كما في قوله تعالى: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ}.
والرابع: المجمل بواسطة التركيب كقوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}1 فإن من بيده العقدة يحتمل أن يكون هو الزوج او الولي.
ولذلك اختلف العلماء فيه فأخذ بالأول الشافعي وبالثاني مالك رحمهما الله.
والخامس: المجمل بسبب التردد في عود الضمير الى ما تقدمه كقولك كلمة علمه الفقيه فهو كما علمه فإن الضمير في هو متردد بين العود الى الفقيه والى معلوم الفقيه والمعنى يكون مختلفا حتى انه قيل بعوده الى الفقيه كان معناه فالفقيه كمعلومه وان عاد الى معلومه كان المعنى فمعلومه على الوجه الذي علم.
والسادس: المجمل بسبب تردد اللفظ بين جمع الأجزاء وبين جمع الصفات نظرا إلى اللفظ وان كان احدهما يتعين بدليل من خارج وذلك نحو قولك الثلاثة زوج وفرد فإنه بالنظر الى دلالة اللفظ لا يتعين احدهما وبالنظر الى صدق القائل يتعين ان يكون المراد منه جمع الأجزاء فإن حمله على جميع الصفات أو على جمعها يوجب كذبه.
والسابع: الإجمال بسبب الوقف والإبتداء كما في قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ} فالواو في قوله والراسخون مترددة بين العطف والإبتداء ويختلف المعنى بذلك.
الثامن: الإجمال بصلاحية اللفظ المتشابهين بوجه كالنور للعول ونور الشمس.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية 237.(13/304)
ص -210-…التاسع: بصلاحية للمتماثلين كالجسم للسماء والأرض والرجل لزيد وعمرو قال الغزالي وقد يكون موضوعا لهما من غير تقدم وتأخر وقد يكون مستعارا لأحدهما من الآخر كقولك الأرض أم البشر والأم إنما وضعت للوالدة وهذا كله في الإجمال في اللفظ والمصنف جعل اللفظ مورد التقسيم فأفهم بذلك أن الإجمال لا يكون في الفعل وليس بجيد بل قد يكون فيه فوائد:
الأولى: لتصحيح جواز المجمل في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والدليل عليه ما تكونا من الآيات وفي مسألة ورود المشترك في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
الثانية: اختلفوا في جواز إبقاء الإجمال بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم واختار امام الحرمين في البرهان في أثناء بحث ان كل ما يثبت التكليف في العلم به فيسجل استمرار الإجمال وما لا يتعلق به تكليف لا يستحيل ذلك فيه ولا يبعد.
والثالثة: لقائل ان يقول يجوز التمسك بعموم: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} إذا الاستثناء وقع بقوله الا ما يتلى عليكم والتقدير فإنه ليس بحلال وعدم الحل لا يوجب الحرمة فيبقى على البراءة الأصلية ولا يقال هذا استثناء مجهول فيصير الباقي من العام مجملا لأنه يكون كذلك ان لو حرم ما يتلى علينا والله أعلم.
قال الثانية: قالت الحنفية وامسحوا برؤوسكم مجمل وقالت المالكية يقتضي الكل والحق انه حقيقة فيما ينطلق عليه الاسم دفعا للاشتراك والمجاز.
ذهبت الحنفية او بعضهم كما في المحصول جميع الرأس لأن قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ}1 مجمل لأنه يحتمل مسح جميع الرأس ومسح بعضه وإذا قام الاحتمال ثبت الإجمال في الآية ثم افترقوا فرقتين فقالت المالكية يقتضي مسح لأن الرأس حقيقة في جميعها والباء دخلت للالصاق وقالت طائفة إنها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة آية 6.(13/305)
ص -211-…حقيقة فيما ينطلق عليه الاسم وهو القدر المشترك بين الرأس وبعضها لأنها تأتي تارة لمسح الكل وتارة للبعض كما تقول مسحت برأس اليتيم ولم يمسح منها الا البعض قد جعلناه حقيقة فيهما لزم الاشتراك او في احدهما لزم المجاز في الآخر فنجعله حقيقة في القدر المشترك دفعا للاشتراك والمجاز الذين هما على خلاف الأصل.
ونقل الإمام هذا المذهب عن الشافعي قال المصنف هنا وهو الحق والذي جزم به في تغيير الحروف تبعا للإمام أنها للتبعيض تفيد مسح بعض الرأس وهو المحكي عن بعض الشافعية.
قال الثالثة:قيل آية السرقة مجملة لأن اليد تحتمل الكل والبعض والقطع الشق والإبانة والحق ان اليد للكل وتذكر للبعض مجازا والقطع والإبانة والشق إبانة.
قال بعضهم آية السرقة يعنى قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}1 مجملة في اليد والقطع أما اليد فلأنها تطلق على العضو من اصل المنكب وعليه من الكوع وعليه من أصول الأناملة وإذا أطلقت على الكل والبعض ولم يعلم المراد فتكون مجملة واما القطع فلأنه قد يراد به الشق أي الجرح فقط كما يقال برى فلان قلمه فقطع يده وقد يراد به الإبانة.
وقال الجمهور لا إجمال فيها بل حقيقة اليد للكل وهو العضو من المنكب وانما يذكر للبعض مجازا ولهذا يصح ما قطعت يده بل بعضها وحقيقة القطع الإبانة والشق إبانة ايضا لأن فيه إبانة لأجزاء اللحم بعضها عن بعض فيكون موضوعا للقدر المشترك بينهما وهو مطلق الإبانة واما لفظ السارق والسارقة للإجمال فيه وذلك متفق عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة آية 38.(13/306)
ص -212-…الباب الرابع في المبين
وهو الواضح بنفسه أو بعين مثل: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} وذلك الغير يسمى مبينا.
المبين بفتح الباء هو ما اتضحت دلالته بالنسبة الى معناه وهو على قسمين:
أحدهما: الواضح بنفسه وهو الكافي في إفادة معناه وذلك إما لأمر راجع الى اللغة مثل قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أو بالعقل مثل قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} فإن حقيقة هذا اللفظ طلب السؤال من الجدران لكن العقل صرفنا عن ذلك وقضى بان المراد به الأهل وهذا على كلام في القرية تقدم في المجاز بالنقصان هذا ما ذكره المصنف في الواضح بنفسه وأهمل ما يكون بسبب القليل وهو ضربان.
أحدهما: ان يكون الحكم في المسكوت عنه أولى.
وثانيهما: كما في قوله عليه السلام: "إنها من الطوافين عليكم والطوافات"1 وأهمل مما لا يكون تعليلا ان الأمر بالشيء أمر بما لا يتم إلا به.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حديث صحيح رواه الإمام مالك في الموطأ وأحمد في مسنده وأبو داود والترمذي والنسائي: كتاب الطهارة باب:سؤال الهجرة. لفظه:
عن كبشة بنت كعب بن مالك وكانت تحت أبي قتادة أن قتادة دخل عليها فسكبت له وضوءا فجاءت هرة تشرب منه فأصغى لها الإناء حتى شربت قالت كبشة: فرآني أنظر إليه فقال: أتعجبين يابنة أخي؟ قالت: قلت نعم. فقال: إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم-قال: "إنها ليست بنجس, إنها من الطوافين عليكم أو الطوافات".
شرح السنة للإمام البغوي 2/69.(13/307)
ص -213-…الثاني: الواضح بغيره وهو ما يتوقف فهم المعنى منه على انضمام غيره إليه وذلك الغير أي الدليل الذي حصل به البيان يسمى مبينا بكسر الياء وله أقسام تأتي ان شاء الله تعالى على الأثر بأمثلتها.
تنبيهات: أحدها: اطلاق المبين بفتح الباء على الواضح بنفسه صحيح لأن المتكلم أوضحه حيث لم يأت بحمل نبه عليه الجار بردى.
الثاني: جعل العبري والجار بردى والاسفرايني وغيرهم من الشارحين قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} مثالا للواضح بغيره وهو وهم لأنه قسم ذلك الغير في المسألة الآتية الى القول والفعل وظاهر كلامه حصره فيهما فلو كان هذا من أقسامه لم ينحصر في ذينك القسمين إذا المبين فيه ليس الى العقل وهو غير القول والفعل والذي حملهم على ذلك أنهم لما رأوه قد مر قوله وبغيره فوهموا أنه من باب اللف والنشر كذلك.
قال: وفيه مسائل الأولى انه يكون قولا من الله والرسول وفعلا منه كقوله تعالى: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ} وقوله عليه السلام: "فيما سقت السماء العشر" وصلاته وحجه فإنه دل فإن اجتمعا وتوافقا فالسابق وان اختلفا فالقول لأنه يدل بنفسه.
المبين بكسر الياء قد يكون بالقول وذلك بالإتفاق وقد يكون بالفعل وخالف في ذلك: شرذمة قليلون والقول إما ان يكون من الله تعالى كقوله: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} فإنه مبين لقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} وهذا المثال جار على المشهور من ان البقرة المأمور بذبحها كانت معينة في نفس الأمر وقد حكى ابن عباس خلاف ذلك وانه قال لو ذبحوا أي بقرة كانت لأجزأهم ذلك ولكنهم شددوا فسألوا فشدد الله عليهم.(13/308)
وأما ان يكون من الرسول صلى الله عليه وسلم كقوله: "فيما سقت السماء وكان عشريا العشر وما سقى بالنضج نصف العشر" رواه البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنه ولمسلم عن جابر نحوه وهو مبين لقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} واستفدنا من هذا المثال ان السنة تبين مجمل الكتاب وهو الصحيح والفعل لا يكون إلا من الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك كصلاته فإنها مبينة لقوله تعالى: {أَقِيمُوا(13/309)
ص -214-…الصَّلاةَ} بواسطة قوله عليه السلام: "صلوا كما رأيتموني اصلي" وكحجه فإنه مبين لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} بواسطة قوله عليه السلام "خذوا عني مناسككم" قوله فإنه أدل أي علة جواز البيان بالفعل أنه أدل من القول على المقصود لأن فيه مشاهدة ومن الأمثال ليس الخبر كالمعاينة وهو مروي رواه احمد ابن محمد الملجمي وهو ضعيف عن علي بن الجعد عن شعبه عن قتادة عن انس ان النبي صلى الله عليه وسلم قاله ورواه احمد بن حنبل من حديث ابن عباس بإسناد صحيح والطبراني من حديث ابن عباس بإسناد صحيح والطبراني من حديث انس والخطيب في التاريخ من وجه آخره موضوع.(13/310)
تنبيه: الترك منه عليه السلام كالفعل وذلك كتركه التشهد الأول بعد فعله إياه يبين انه غير واجب وإنما لم يذكر المصنف الترك لدخوله في قسم الفعل على الرأي المرتضى قوله فإن ثبت انه يجوز البيان بكل واحد من القول والفعل فورد بعد المجمل قول وفعل وكل منهما صالح لبيانه فبماذا يكون البيان الحق التفصيل وهو انهما ان اتفقا في غرض البيان وعلم ان احدهما سابق فهو المبين قولا كان أم فعلا ويكون الثاني تأكيدا له وان لم يعلم فلا يقضي على واحد منهما بأنه المبين بعينه بل يقتضي بحصول البيان بواحد لم يطلع عليه وهو الأول في نفس الأمر والتأكيد بالثاني وهذا القسم أهمله في الكتاب لوضوحه وحكم القسمين في الحقيقة واحد بالنسبة الى نفس الأمر وإن اختلفا كما روي انه صلى الله عليه وسلم أمر بعد نزول آية الحج في القرآن بطواف واحد وروي انه طاف قارنا طوافين فالمختار عند الجمهور منهم الإمام وأتباعه وابن الحاجب ان المبين هو القول سواء كان متقدما على الفعل أو متأخرا أو يحمل الفعل على الندب أو على الواجب المختص به صلى الله عليه وسلم وذلك لأن القول يدل على البيان بنفسه بخلاف الفعل فإنه لا يدل الا بواسطة انضمام القول إليه والدال بنفسه أدل وقال أبو الحسين المتقدم هو البيان.
فائدة: قد ذكر المصنف هنا ان الفعل أدل من القول وان القول يدل بنفسه يعني فيكون أدل وظاهر هذا التنافي بين الكلمتين والتحقيق ان الفعل أدل على الكيفية والقول أدل على الحكم ففعل الصلاة أدل من وصفها بالقول(13/311)
ص -215-…لأن فيه المشاهدة واستفادة وقوعها على جهة معينة من واجب أو ندب وغيرهما بالقول أقوى وأوضح من الفعل لصراحته.
قال الثانية لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة لأنه تكليف بما لا يطاق ويجوز عن وقت الخطاب ومنعت المعتزلة وجوز البصري ومنا القفال والدقاق وأبو اسحاق بالبيان الإجمالي فيما عدا المشترك.
هذه المسألة تشتمل على بحثين الأول في تأخير البيان عن وقت الحاجة والثاني في تأخير وقت الخطاب.
أما الأول فاعلم لا يجوز تأخير بيان المجمل عن وقت الحاجة عن وقت الحاجة أي الوقت الذي قام الدليل على إيقاع العمل بالمجمل فيه على التضييق من غير فسحة في التأخير لأن الإتيان بالشيء مع عدم العلم به ممتنع والتكليف بذلك تكليف بما لا يطاق وقد نقل القاضي في مختصر التقريب إجماع أرباب الشرائع على ذلك ولقائل ان يقول التكليف بالمحال جائز عند المصنف فكان ينبغي ان يفعل الإمام فيقول إنا منعنا التكليف بما لا يطاق فلا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة والإيجاد لكن لا يقع لأن التكليف بالمحال غير واقع واخصر من هذا أن يقول لا يقع تأخير للبيان عن وقت الحاجة.
وأما الثاني: وهو تأخيره عن وقت الخطاب الى وقت الحاجة فيقدم عليه أن الخطاب المحتاج الى البيان ضربان.
أحدهما: ما له ظاهر وقد استعمل في خلافه كتأخير بيان التخصيص وتأخير بيان النسخ وتأخير بيان الأسماء الشرعية إذا استعملت في المسميات الشرعية كالصلاة إذا أريد بها الدعاء ونحو ذلك بيان اسم النكرة إذا أريد بها شيء معين.
والثاني: ما لا ظاهر له كالأسماء المتواطئة والمشتركة إذا عرفت هذا فنقول في جواز تأخيره عن وقت الخطاب مذاهب.
أحدهما: يجوز في جميع هذه الأقسام واليه ذهب اكثر أصحابنا وجماعة من أصحاب أبي حنيفة ونقله القاضي في مختصر التقريب عن الشافعي نفسه واختاره الإمام وأتباعه وابن الحاجب.(13/312)
ص -216-…والثاني: وإليه ذهب اكثر متقدمي المعتزلة انه لا يجوز الا في النسخ فإنهم جوزوا تأخير بيانه كذا استثناه الإمام وهو مأخوذ من الغزالي فإنه ادعى الاتفاق على انه يجوز تأخير بيان النسخ قال بل يجب تأخيره لا سيما عند المعتزلة فإن النسخ عندهم بيان لوقت العبادة ويجوز ان يرد لفظ يدل على تكرر الأفعال على الدوام ثم ينسخ ويقطع الحكم بعد حصول الاعتقاد بلزوم الفعل على الدوام لكن بشرط ان لا يرد نسخ وما ادعاه الغزالي ادعاه ابن برهان في الوجيز أيضا.
وهذا الكلام من الغزالي مأخوذ من امام الحرمين فإنه قال ناقضت المعتزلة أصولهم إذ النسخ عندهم بيان مدة التكليف ولم يكن هذا البيان مقترنا بمورد الخطاب الأول قال وليس لهم عن هذا جواب والقاضي في مختصر التقريب ذكر ذلك ايضا فقال ومما إستدل به أصحابنا ان قالوا النسخ تخصيص في الزمان والتخصيص في الأعيان ثم يجوز ان ترد اللفظة مغلقة في الأزمان والمراد بعضها فإن لم يبعد ذلك في الأزمان لم يبعد في الأعيان قال القاضي ولا يستقيم هنا الاستدلال بذلك فإن النسخ ليس بتخصيص في الأزمان عند معظم المحققين من أصحابي وإنما هو رفع والمصنف أهمل إستثناء النسخ وكذا الشيخ أبو اسحاق في شرح اللمع وابن برهان في الوجيز والغزالي الا انه نقل الاتفاق على النسخ بعد ذلك.
كما عرفت ولعل من أطلق القول ترك الاستثناء اكتفاء بالعلم بالاتفاق على النسخ وانه خارج عن صور النزاع الا ان كلام جماعة يقتضي ان النزاع في النسخ موجود والذي يظهر من جهة النقل ان النزاع فيه موجود ولكن ليس من القائلين بامتناع تأخير البيان كلهم من بعضهم:(13/313)
والثالث: أن المجمل ان لم يكن له ظاهر كالمشترك قال الإمام والأسماء المتواطئة جاز تأخير بيانه لأنه لا يلزم محذور من تأخيره وان كان له ظاهر جاز تأخير البيان التفصيلي دون الإجمالي فانه يشترط وجوده عند الخطاب حتى يكون مانعا من الوقوع في الخطأ فنقول مثلا المراد من هذا العام هو الخاص أو بالمطلق المقيد أو بالنكرة المعين.
قال الإمام والآمدي ان هذا الحكم ينسخ وهذا يدل على ان النسخ من(13/314)
ص -217-…محل الخلاف وأما البيان التفصيلي وهو تشخيص بكذا مثلا فليس بشرط وقد نقل المصنف تبعا للإمام هذا المذهب عن أبي الحسين البصري من المعتزلة والدقاق والقفال وأبي اسحاق فأما أبو الحسين فالنقل عنه صحيح وأما الدقاق فقد نقل عنه الأستاذ أبو اسحاق في أصوله موافقة المعتزلة وأما القفال فالظاهر أن المراد الشاشي وفي النقل عنه نظر فقد نقل عنه القاضي في مختصر التقريب والشيخ أبو اسحاق في شرح اللمع وغيرهما موافقة سائر الأصحاب على المذاهب المختار وأما أبو اسحاق فإن كان هو المروزي كما صرح به الإمام ففي النقل نظر إذ نقل عنه القاضي في مختصر التقريب والشيخ أبو اسحاق والغزالي والآمدي القول بمذهب المعتزلة وان كان مراد المصنف الشرازي فالنقل أيضا ليس بجيد لأنه قد صرح في شرح اللمع الجواز مطلقا وكذلك الأستاذ لا يصح ان يكون هو المراد لتصريحه في كتابه بموافقة الأصحاب وقد اقتصر في الكتاب تبعا للإمام على حكاية هذه المذاهب.
والرابع: أنه يجوز تأخير بيان المجمل دون غيره كتخصيص العموم.
والخامس: يجوز التأخير في الأمر وكذا النهي كما قاله القاضي في مختصر التقريب والشيخ أبو اسحاق والإمام أو الظفر بن السمعاني وغيرهم ولا يجوز في الخبر قال ابن السمعاني قال الماوردي ولم يقل بهذا القول أحد من أصحاب الشافعي.
والسادس: عكسه يجوز في الخبر ولا يجوز في الامر والنهي حكاه الشيخ أبو اسحاق.
والسابع: واليه ذهب الجبائي ونقله الآمدي عن عبد الجبار يجوز تأخير بيان النسخ دون غيره وبحكاية هذا المذهب يعلم ان النسخ من محل الخلاف وابن برهان حكى عن عبد الجبار تجويز تأخير التخصيص دون المجمل والقرافي قال قد يجمع بين هذا وبين من نقل الاتفاق ان لا نفاق إنما هو على جواز تأخير البيان التفصيلي والخلاف في الإجمال قال وكذلك حكاه صاحب العمد في المعتمد.
فائدتان: إحداهما: قال الأستاذ في كتابه هذه العبارة مزيفة يعنى تأخير البيان(13/315)
ص -218-…إلى وقت الحاجة قيل وهي لائقة بمذهب المعتزلة دون مذهبنا لأن عندهم المؤمنون بهم حاجة الى التكليف نحو العبادات لينالوا بها الدرجات الرفيعة ويستحقونها على طريق المعارضة وعندنا للباري تعالى ينزل المؤمنين الجنة فضلا ويدخل الكافرين النار.
عدلا فالعبادة الصحيحة على مذهبنا ان نقول تأخير البيان عن وقت وجوب الفعل بالخطاب والى وقت وجوب الفعل.
الثانية: نقل الجماهير عن أبي بكر الصيرفي موافقة المعتزلة على المنع من تأخير البيان مطلقا قال الأستاذ في كتابه وهذا مذهب كان يذهب إليه الصيرفي قديما فنزل به أبو الحسن الأشعري ضيفا فناظره في هذا واستنزله عن هذه المقالة ورجع الى مذهب الشافعي وسائر المتسننة.
قلنا لنا مطلقا قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} قيل البيان التفصيلي قلنا تقييد بلا دليل وخصوصا ان المراد من قوله: {أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} معينة بدليل: {مَا هِيَ} {مَا لَوْنُهَا} والبيان تأخير قيل يوجب التأخير عن وقت الحاجة قلنا الأمر لا يوجب الفور قيل لو كانت معينة لما عنفهم قلنا للتواني بعد البيان وأنه تعالى انزل: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} فنقض ابن الزبعري بالملائكة والمسيح فنزل: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ} الآية قبل ما لا تتناولهم وان سلم لكن خصوا بالفعل واجيب بقوله: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} وأن عدم رضاهم لا يعرف الا بالنقل.(13/316)
احتج على المذهب المختار بأدلة ثلاثة أولها مطلق أي يدل على جواز التأخير مطلقا والآخران مقيدان احدهما يدل على جواز التأخير في صورة النكرة والآخر في صورة العام الدليل الأول الدال على جواز التأخير مطلقا قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}1 وثم في اللغة للتراخي أي والله أعلم علينا بيانه بعد القراءة وقوله مطلقا عبارة ركيكة وليس المراد حقيقة المطلق بل انه عام يتطلق على الصور ولو قال يدل مطلقا عموما لكان احسن لا سيما وقد قال بعد ذلك خصوصا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة القيامة 18- 19.(13/317)
ص -219-…واعترض أبو الحسين ومن وافقه بأن المراد البيان التفصيلي دون الإجمالي وأجاب المصنف بأن هذا تقييد بلا دليل ولقائل ان يقول قوله بيانه مفرد مضاف فيعم البيانين الإجمالي والتفصيلي وحينئذ فليس القول بان المراد البيان التفصيلي تقييدا بلا دليل بل تقييدا على خلاف الدليل وفرق بين كون الشيء على خلافه وبين كونه بلا دليل أي لم يدل عليه دليل وهذا الجواب احسن من جواب المصنف وبه يظهر ضعف قوله الآمدي البيان يراد به الإظهار لغة تقول تبين الحق وتبين الكوكب معنى الآية ان علينا بيانه للخلق وإظهاره فيهم واشتهاره في الآفاق فلا يكون فيها حجة على صورة النزاع لأنا نقول البيان من حيث تعميمه بالإضافة كل ما يصدق عليه انه بيان قوله وخصوصا هذا معطوف على قوله مطلقا.
وقد قلنا انه يظهر به ان مراده بالمطلق العام لأن الخصوص إنما يقابله العموم ولو أراد الاطلاق لقال وتقييدا وهذا الدليل هو الثاني المختص بالنكرة اعني الدال على جواز تأخير البيان في النكرة وتقريره ان شاء الله تعالى أمر بني إسرائيل بذبح بقرة في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} وأراد معينة بدليل سؤالهم عن صفتها ولونها في قوله: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} الى آخر الآيات ثم لم يبينها لهم حتى سألوا هذه السؤالات فدل على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب.
واعترض الخصم على هذا الاستدلال بوجهين.
أحدهما: أن بني إسرائيل أمروا بالذبح وقت الخطاب فكانوا محتاجين الى البيان في ذلك الوقت فتأخيره عن ذلك الوقت تأخير عن وقت الحاجة وهو ممتنع.
قال الخصم فحاصل الأمر انك لم تفعل بما تقتضيه الآية بل بما لا تقتضيه أجاب بأن الأمر لا يوجب الفور كما سبق فإن قلت هذا الجواب مبني على ان الأمر لا يقتضي الفور فلا يعم المذاهب بل يختص بمن يرى رأي المصنف ثم ان الامر بذلك إنما وقع للفصل بين الخصمين اللذين تنازعا في القتل والفصل واجب على الفور.(13/318)
ص -220-…قلت أجاب القرافي بأن الآية إذا دلت على جواز التأخير عن وقت الخطاب دلت على جواز التأخير عن وقت الخطاب لأن كل من قال بجواز الأول قال بجواز الثاني من غير عكس.
ولأنه إذا ثبت في الأول ثبت في الثاني بطريق أولى وأما قول القرافي هنا انا لم نقل بما تقتضيه الآية بل قلنا به وهذا الصحيح من مذهبنا بناء على تجويز بما لا يطاق فضعيف لأنه عندنا غير واقع الكلام إنما هو في هذا الواقع.
والثاني: إنما ذكرتم وان دل على ان البقرة كانت معينة لكن عندنا ما يدل على أنها لم تكن معينة وبسببه يمنع كونها معينة وهو أنها لو كانت معينة لما عنفهم على السؤال عنها لكنه عنفهم بقوله فذبحوها وما كادوا يفعلون ومما يدل على أنها لم تكن معينة ما سلف من كلام ابن عباس وهو قوله شددوا فشدد الله عليهم.
وأجاب المصنف بأنا لا نسلم انه عنفهم على السؤال وإنما عنفهم على التواني أي التقصير بعد البيان هذا هو الأقرب.
واحتمال كون التعنيف على السؤال بعيد لأنه لو وجب المعينة بعد إيجاب خلافه لكان نسخا قبل الفعل وهو لا يجوز عند الخصم.
قوله: {وَأَنَّهُ تَعَالَى} هو معطوف على قوله وخصوصا ان المراد تقديره ولنا خصوصا في النكرة كذا وفي جواز تأخير بيان التخصيص انه تعالى انزل وتقريره إن الله تعالى لما أنزل قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} قال عبد الله الزبعري1 قد عبدت الملائكة وعبد عيسى وليس هؤلاء من حصب جهنم فتأخر بيان ذلك حتى نزل.
قوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}2فإن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(13/319)
1 هو أبو سعيد عبد الله بن الزبعري بن قيس السهمي القرشي شاعر قريش في الجاهلية.كان شديدا على المسلمين إلى أن فتحت مكة فهرب إلى نجران. فقال فيه حسان بن ثابت أبياتا. فلما بلغته عاد إلى مكة وأسلم توفي نحو سنة 15هـ الأغاني 1/14, الأعلام 2/556.
2 سورة الانبياء آية 101.(13/320)
ص -221-…قيل لا نسلم ان قوله وما تعبدون مندرج فيها الملائكة والمسيح وبيانه من وجهين.
أحدهما: ان لفظة ما تتناولهم لكونها مخصصة بمن لا يعقل فلا يتوجه نقض ابن الزبعري ولا يحتاج الى تخصيص قل كيف يمكن والتخصيص فرع الشمول ويدل على ذلك ما رواه الأصوليون في كتبهم من قوله صلى الله عليه وسلم لابن الزبعري حين قال ما قال: "ما أجهلك بلغة قومك" أما علمت أن ما لمن لا يعقل ومن لمن يعقل.
والثاني: وهو المشار إليه بقوله في الكتاب ولو سلم انا سلمنا ان لفظة من تتناولهم لكن خص الملائكة والمسيح من هذه الآية بالعقل لا بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} وذلك التعذيب إنما يقع على جريمة وأي جريمة لهؤلاء بعبادة غيرهم إياهم وهذا الدليل العقلي كان حاضرا في عقولهم قبل نزول: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ}.
قلنا الجواب عن الأول انا لا نسلم ان صفة ما مختصة بغير العقلاء بل هي شاملة للجميع ويدل على ذلك إطلاقها على الله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا}.
وكذلك قوله: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى}.
وقوله: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} وأنها تأتي بمعنى الذي لا اتفاقا وكلمة الذي تتناول العقلاء فكذلك صيغة ما والحديث المذكور من قوله صلى الله عليه وسلم: "إن ما مختصة بمن لا يعقل" غير معروف لو ثبت لسمعنا واطعنا.
وعن الثاني إن العقل إنما يجعل ترك تعذيبهم إذا علم بالعقل ايضا أنهم غير راضين بالعبادة لأنهم ان رضوا بالعبادة لكان ذلك الرضا موجبا للسخط وعدم رضاهم إنما علم بالنقل وهذان الجوابان ضعيفان أما الأول فما وجهين.
أحدهما: ان المصنف قدم في باب العموم إن ما مختصة بما لا يعقل.(13/321)
وثانيهما: ان ما في هذه الآيات مصدرية تقديره وخلق الذكر والأنثى والسماء وما بناها ولا أنتم عابدون عبادتي ذكره القرافي وأما قوله ترد بمعنى الذي فتتناول العقلاء كما يتناول الذي فساقط لأن الذي وضعت للقدر المشترك بين(13/322)
ص -222-…العقلاء وغيرهم ولا نسلم أنها تقوم مقامها ان استعملت في غير العقلاء وما ذلك إلا أول النزاع.
واما الثاني فإنه غير مستقيم على مذهب من يقول عصمة ذوي العصمة ثابتة بالعقل وهم المعتزلة ولا على من يقول إنها ثابتة بالسمع لأنها قد اشتهرت وصار العقل يحيل عدمها وان كان الأصل في إحالة هذا العقل لذلك إنما هو السمع لأنا بالضرورة من العقول ندرك ان الملائكة وعيسى عليهم السلام غير راضين بعبادة هؤلاء إياهم.
فائدة ابن الزبعري بكسر الزاي المعجمة وفتح الباء الموحدة من تحت بعدها وقد تكسر ايضا بعدها عين مهملة ساكنة ثم راء مهملة مفتوحة كان من اشد الناس على الإسلام وأكثرهم أذى بلسانه فحشا وهجاء وبنفسه مكايدة وعنادا ثم اسلم عام الفتح وحسن إسلامه وهذا المذكور عنه مشهور في كتب التفسير والسير وروى الحاكم أبو عبد الله في المستدرك عن الحسن بن واقد عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال لما نزلت: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ}.
قال المشركون فالملائكة وعيسى وعزير يعبدون من دون الله.
قوله: {لوكان هؤلاء آلهة ما وردوها}1.
قال فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} وهذا مسند صحيح لكن ليس فيه ذكر ابن الزبعري بخصوصه.
قال قيل تأخير البيان أعز قلنا كذلك ما يوجب الظنون الكاذبة قيل كالخطاب بلغة لا تفهم قلنا هذا غرضا إجماليا بخلاف الأول.
احتج أبو الحسن على اشتراط البيان الإجمالي فيما له ظاهر بأن العموم خطاب لنا في الحال اجماعا فالمخاطب إما أن لا يقصد إفهامنا في الحال وهو باطل لأنه إذا لم يقصد إفهامنا في الحال مع أن ظاهره يقتضي كونه خطابا لنا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنبياء آية 99.(13/323)
ص -223-…في الحال يكون قد أغوانا بأن نعتقد انه قصد إفهامنا في الحال فيكون قصد ان نجهل لأن من خاطب قوما بلغتهم فقد أغواهم بأن يعتقدوا فيه انه يعني ما يفهمونه منه فثبت بطلانه.
وإما ان يقصد وحينئذ فإما ان يريد ان نفهم ان المراد ظاهره فقد أراد منا الجهل وهو باطل أو غير مظاهره فقد أراد ما لا سبيل إليه وهو تكليف بالمحال وهذا التقرير على هذا الوجه هو الذي أورده الإمام وهو الصواب فاعتمده.
وأجاب المصنف بأنا لا نسلم ان ذلك ممتنع وقد ورد ما أوجب ظاهره الظنون الكاذبة فدل على الجواز أما وروده فكثير قال الله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}1 وقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}2 وقال: {وَجَاءَ رَبُّكَ} فلو صح ما ذكرتم لزم ان يكون هذه الخطابات للإغواء لأنه أطلق وأراد خلاف الظاهر ومن ها هنا عميت بصائر الحشوية وصمموا على فساد عقد لو نشر الواحد منهم بالمباشر لم يكن ولم يرجع وهو معتقد لا يعود وباله الا عليه ولا يرجع نكاله الا إليه ولقائل ان يقول هذه الأشياء يحتويها براهين عقلية ترشد الى الصواب بخلاف تأخير البيان.
وأعلم أن ظاهر ايراد المصنف يفهم ان هذا الدليل الذي أجاب عنه دليل للمانع مطلقا وعلى ذلك قرره العبري والجار بردي وليس كذلك بل هو حجة أبي الحسين كما قلناه وبه صرح الإمام وكيف يتجه أن يكون حجة للمانع مطلقا والمشترك ليس فيه إيقاع في الجهل فإن نسبته عند عدم القرينة الى كل معانيه على السوية وقد تنبه الاسفرايني لهذا وذكر ما أوردناه واحتج من منع تأخير البيان عن وقت الخطاب مطلقا بأنه كالخطاب بلغة لا نفهم مثل خطابك العربي باللغة الزنجية والخطاب بلغة لا تفهم ممنوع.
والجامع بينهما كون كل واحد منهما لا يفيد المقصود حالة الخطاب.
وأجاب في الكتاب بالفرق وهو ان الخطاب بما لا يفهمه المخاطب لا يفيد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الفتح آية 10.
2 سورة طه آية 5.(13/324)
ص -224-…شيئا بخلاف الخطاب بالمشترك ونحوه فإنه يفهم غرضا إجماليا يستعد المكلف من اجله لما يراد منه فان قيل مثلا اعتدى بثلاثة أقراء أفاد ان المراد إما الإظهار أو الحيض وان العدة وجبت بأحدها.
وأما الخطاب بما لا يفهم فلا يفيد لا غرضا جماليا ولا تفصيليا وقد أجاب القاضي في مختصر التقريب ان النبي صلى الله عليه وسلم مبعوث الى العرب والعجم وكان ما يندر منه من الألفاظ العربية إلزاما للفريقين وفاقا وإذا شاع مخاطبة العجم بلغة العرب لم يبعد عكسه قلت وهذا حسن والتحقيق أن خطاب الغير اضراب.
الأول: أن يخاطب بما يفهمه هو لغيره وهو جائز اجماعا.
والثاني: عكسه وفيه الخلاف المتقدم في مسألة ان الله لا يخاطبنا بالمهمل.
والثالث: ان يفهمه المخاطب بفتح الطاء دون غيره فيجوز اتفاقا سواء تعلق بخاصة نفسه أم بغيره ويصير فيما إذا تعلق بغيره كالترجمان والمبلغ.
والرابع: ان يفهمه غيره ولا يفهمه هو وهذا هو الذي تكلم فيه القاضي ويظهر انه جائز اتفاقا لاطلاع المخاطب على مدلول الخطاب من غيره.
والخامس: ان يخاطب جميعا بلغة يفهمها بعضهم دون بعض وهذا أيضا لا نزاع في جوازه كيف والقرآن للعرب والعجم.
قال تنبيه يجوز تأخير التبليغ الى وقت الحاجة وقوله تعالى: { بَلِّغْ} لا يوجب الفور.
الذين منعوا تأخير البيان عن وقت الخطاب اختلفوا في جواز تأخير تبليغ ما أوحي به الى النبي صلى الله عليه وسلم من الأحكام والجمهور على جوازه لأن امتناعه لا جائز ان يكون لذاته إذ لا يلزم من فرض وقوعه محال ولا لأمر خارج إذ الأصل عدمه كيف ويحتمل ان يكون في التأخير مصلحة لا نعلمها نحن واحتج الممانع بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}1 والجواب ان الامر لا يقتضي الفور كما سبق قال الإمام والآمدي ولو سلمناه لكن المراد هو القرآن إذ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة آية 67.(13/325)
ص -225-…هو الذي يطلق عليه القول بأنه منزل قلت وفي الفرق بين تبليغ القرآن وغيره نظر وقد يقال قال المصنف في أول الفصل وفيه مسائل ولم يورد سوى اثنتين وهذا التنبيه هو الثالثة وليس بشرط ان تصدر المسألة بلفظ الثالثة أو انه ذكر في الثانية مسألتين تأخير البيان عن وقت الحاجة وعن وقت الخطاب والاشتغال بمثل هذا مما يضيع الوقت ولا تحصل فائدة.
قال الفصل الثالث في المبين له إنما يجب البيان لمن أريد فهمه للعمل كالصلاة أو الفتوى كأحكام الحيض.
يجب البيان لمن أريد فهمه لأن تكليفه بالفهم بدون البيان تكليف بالمحال ولا يجب بيانه لغيره إذا لا تعلق له به ثم إرادة الفهم قد تكون للعمل بما يضمه المجمل كآية الصلاة وقد تكون للإفتاء كآية الحيض فإن تفهيم المجتهدين ذلك إنما هو لإفتاء النساء به هذا ما ذكره المصنف تبعا للإمام والإمام تبعا فيه لأبي الحسين وفيه نظر من وجهين.
أحدهما: اطلاق قوله يجب البيان لمن أريد فهمه يشعر بأنه يجب على الله تعالى وهذا إنما يقوله المعتزلة فهي عبارة ردية والأولى التعبير بأن البيان لمن أريد فهمه لا بد من وقوعه.
والثاني: ان فيه إشعارا بأنه لا يجب على النساء تحصيل العلم بما كلفن به وليس كذلك بل النساء والرجال سواء في ذلك.(13/326)
ص -226-…الباب الخامس في الناسخ والمنسوخ
الفصل الأول في تعريف النسخ
قال الباب الخامس في الناسخ والمنسوخ وفيه فصلان الأول في النسخ وهو بيان حكم شرعي بطريق شرعي متراخ وقال القاضي برفع الحكم ورد بأن الحادث ضد السابق فليس رفعه بأولى من رفعه.
النسخ في اللغة يطلق على الإزالة نسخت الريح اثر القدم أي أزالته وعلى النقل والتحويل ومنه نسخت الكتاب أي نقلته وهو المعنى بقوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ومنه المناسخات وهي انتقال المال من وارث الى وارث ثم قال القاضي والغزالي انه مشترك بينهما وقال أبو الحسين حقيقة في الإزالة وقال القفال حقيقة في النقل.
وأما في الإصطلاح فقال صاحب الكتاب هو بيان انتهاء حكم شرعي متراخ فقوله بيان جنس يدخل فيه المحدود وغيره وبإضافته الى الانتهاء حكم عقلي كالمباح الثابت بالبراءة الأصلية عند القائل به فإنه لو حرم فرد من تلك الأفراد لم يسم نسخا وقوله بطريق شرعي يحترز به عن الطريق العقلي كالموت فإنه إذا وقع تبين به انتهاء الحكم الشرعي ولا يسمى نسخا في الإصطلاح ولمن سقط رجلاه لا يقال نسخ عند غسل الرجلين.
وما قاله الإمام في المخصصات من انه نسخ واه بلا ريب وقوله متراخ يخرج البيان المتصل بالحكم كالاستثناء والشرط والصفة وغير ذلك وقال(13/327)
ص -227-…الأولى: وانه واقع واحالته اليهود لنا ان تبع المصالح فيتغير بتغيرها وإلا فله ان يفعل ما يشاء وان نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ثبتت بالدليل القاطع وقد نقل قوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} وأن آدم عليه السلام زوج بناته من بنيه والآن محرم اتفاقا.
أجمع المسلمون على جواز النسخ وذهبت فئة من المنتمين الى الإسلام منهم(13/328)
ص -228-…أبو مسلم الأصفهاني الى منع النسخ هربا من البدء واعتقادا منهم ان النسخ يؤدي إليه واما لليهود لعنهم الله فمنهم من انكر جوازه عقلا ووقوعه شرعا ومنهم من انكر وقوعه فقط وذهبت العسوية منهم وهم أصحاب أبي عيسى الاصفهاني المعترفون بصحة نبوة نبينا عليه افضل الصلاة والسلام لكن الى بني إسماعيل عليه السلام وهم العرب خاصة الى جوازه عقلا ووقوعه سمعا واعلم انه لا يحسن ذكر هؤلاء المبدعين في وفاق ولا خلاق ولكن السبب في تحمل المشقة بذكرهم التنبيه على انهم لم يخالفوا جميعا فى ذلك وإما من أنكره من المسلمين فهو معترف بمخالفة شرع من قبلنا لشرعنا في كثير من الأحكام ولكنه يقول ان الشرع من قبلنا كان مغيا الى غاية ظهوره عليه السلام وعند ظهوره صلى الله عليه وسلم زال التعبد بشرع من قبله لانتهاء الغاية وليس ذلك من النسخ في شيء بل هو جار مجرى قوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} وحينئذ لا يلزم من انكار نبوة صلى الله عليه وسلم وقد ذكر في الكتاب من أدلتنا على النسخ أوجها ثلاثة:
الأول: وهو دليل على الجواز فقط ان حكم الله تعالى أما أن يتبع المصالح كما هو رأي المعتزلة فيلزم ان يتغير بتغير المصالح فانا على قطع بأن المصلحة قد تتغير بحسب الأشخاص والأوقات والأحوال واما ان لا يتبع المصالح فله سبحانه وتعالى ان يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد.(13/329)
والثاني: أن نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ثبتت بالبراهين القاطعة التي لا يقبلها شك ولا يدخلها ريب وقد نقل لنا عن الله تعالى أنه قال: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}1وصحة التمسك بالقرآن ان توقفت على صحة النسخ عاد الأمر الى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إنما تصح مع القول بالنسخ ونبوته صحيحة قطعا فدل على صحة النسخ وان لم يتوقف عليها صح الاستدلال بهذه الآية على جواز النسخ وفي هذا الاستدلال نظر ذكره الإمام في التفسير وتقريره ان ما ننسخ جملة شرطية معناها ان ننسخ وصدق الملازمة بين الشيئين لا يقتضي وقوع أحدهما ولا صحة وقوعه ومنه قوله تعالى: {لَوْكَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية 106.(13/330)
ص -229-…وذكر القاضي في مختصر التقريب مع قوله تعالى ما ننسخ وان أبدلنا آية مكان آية وهذه الآية سالمة عن النظر الذي ذكره الإمام لأن إذا تدخل الإعلى المحقق وقوعه وذكر أيضا قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ}1 وقال لهم على هذه الآيات أسئلة وتمويهات يسهل مدركها قلت ومن التمويهات في ذلك قول قائلهم اليهود لا تعتقد بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فالاستدلال عليهم بذلك الاستدلال على الخصم بدليل لا يسلم مقدماته وهذا ساقط فان الخصم إنما لا يعترض عليه بما لا يعتقده إذا كان شبهة فيه واما ما لبس فيه كمشكك بل هو ثبات بثبوت المحسوسات بل يلتفت إلى عدم اعتقاده فيه.
والثالث: مما يدل على وقوع النسخ انه ورد في التوراة ان آدم عليه السلام كان مأمورا بتزويج بناته من بنيه وهو الآن محرم بالنسخ الا ذلك فإن قلت يجوز ان يكون هذا شرع لبني آدم أي غاية معلومة وهي ظهور شريعة أخرى ومثل هذا لا يكون نسخا قلت أمر آدم كان مطلقا وتقييده في علم الله لا ينافي النسخ فانه تعالى ان أمر بالفعل مطلقا فهو عالم بأنه سينسخه والوقت الذي فيه بنسخه فتقييده في علم الله تعالى لا يخرجه عن حقيقة النسخ ولقائل ان يقول تحريم ذلك في حقنا إنما يكون نسخا ان لو ثبتت الإباحة قبل ذلك وهي لم تثبت الا في حق بني آدم لصلبه وثبوتها في حق أولئك لا يوجب ثبوتها في حقنا وهي لم ترفع في حق أولئك فأين النسخ.
قال قيل الفعل الواحد لا يحسن ويقبح قلنا مبنى فاسد ومع هذا فيحتمل ان يحسن لواحد أو في وقت ويقبح لآخر أو في آخر احتج مانعو النسخ بأن الأمر بالشيء يقتضي حسنه والنهي عنه يقتضى قبحه فيلزم من وقوع النسخ اجتماع الضدين اعني الحسن والقبح وهو محال.
أجاب أن هذا مبني على فاسد وهو قاعدة التحسن والتقبيح ومع هذا أي ولو سلمنا صحة تلك القاعدة فيحتمل ان يحسن لواحد ويقبح لآخر أو يحسن له(13/331)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية 160.(13/332)
ص -230-…في وقت ويقبح عنده في وقت آخر وذلك لأن المصلحة كما تقدم تتغير بتغير الأوقات والأشخاص.
قال الثانية يجوز نسخ بعض القرآن ومنع أبو مسلم الأصبهاني لنا أن قوله تعالى: {مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ} نسخت بقوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} قال قد تعتد الحامل بسنة قلنا لا بل تعتد بالحمل وخصوص السنة لاغ وأيضا تقديم الصدقة على نجوى الرسول واجب بقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول الآية ثم نسخ قال زال الزوال بسببه وهو التمييز بين المنافقين وغيرهم قلنا زال كيف كان احتج بقوله تعالى لا يأتيه الباطل قلنا الضمير للمجموع.
اللائق بهذه المسألة ان تذكر في الفصل التالي لهذا الفصل الذي أودعه ما ينسخ وما نسخ أو حاصلها ان نسخ جميع القرآن اجماعا كما صرح به بعضهم وأشار إليه المصنف في آخر المسألة وكذا الإمام في أثنائها واما بعضه فجائز ومنع منه أبو مسلم الأصفهاني كما نقله عنه الإمام وأتباعه منهم المصنف وقد تقدم النقل عنه انه منع وقوعه مطلقا واحتج في الكتاب بوجهين.
أحدهما: أن الله تعالى أمر المتوفى عنها زوجها بالاعتداد حولا في قوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ}1 ثم نسخ ذلك:ب {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً}2 وقال أبو مسلم3 الاعتداد بالحول لم يزل بالكلية لأنها لو كانت حاملا ومدة حملها حول كامل لكانت عدتها حولا كاملا وإذا بقي هذا الحكم في بعض الصور كان تخصيصا لا نسخا وأجاب في الكتاب انا نمنع ان الحامل قد تعتد بسنة بل إنما تعتد بوضع الحمل سواء حصل لسنة أم اقل أم أكثر وخصوص السنة إن وقع لاغ لا عبرة به وهو جواب صحيح.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية 240.
2 وذلك في قوله تعالى {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشر}البقرة 234.(13/333)
3 هو: محمد بن بحر الأصفهاني كان نحويا كاتبا بليغا متكلما معتزليا عالما بالتفسير وغيره, ولد سنة 254هـ وتوفي سنة 322هـ.
معجم الأدباء 18/35, الفهرست لإبن النديم ص202.(13/334)
ص -231-…إلا أن أبا مسلم لم يدع عدم النسخ في الآية بهذا التقرير المذكور بل بتقرير غيره فنقول اختلف العلماء في هذه الآية فذهب جمهور المفسرين إلى أنها منسوخة بقوله: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} كما ادعاه الأصوليون وهو الذي رواه البخاري بسنده إليه الى أنها غير منسوخة وإنها ان لم تختر السكنى كانت عدتها: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} كما في إحدى الآيتين وإن اختارت اعتدت بحول كما في الآية الأخرى فحمل الآيتين على حالتين وذهب أبو مسلم الاصبهاني الى قول ثالث وهو ان معنى الآية ان الذين يتوفون ان كانوا قد وصوا وصية لأزواجهم بنفقة الحول وسكنى الحول فالعدة بالحول فإن خرجن قبل ذلك وخالفن وصية الزوج بعد المدة التي ضربها الله تعالى لهن فلا حرج فيما فعلن في أنفسهن من معروف أي نكاح صحيح لأن إقامتهن بهذه الوصية غير لازمة قال والسبب في ذلك انهم كانوا في زمان الجاهلية يوصون بالنفقة والسكنى حولا كاملا وكان يجب على المرأة الإعتداد بالحول فبين الله تعالى في هذه الآية ان ذلك غير واجب وعلى هذا التقدير فالنسخ زائل عند أبي مسلم ولكن ليس بالطريقة المتقدمة من ان الحامل قد تعتد بسنة وحينئذ لا يصلح الاستدلال بالآية عليه.
وقوله هذا هو الذي اختاره الإمام في التفسير وقال انه في غاية الصحة وقد وافق والدي احسن الله إليه مجاهدا وأبا مسلم على ان الآية غير منسوخة وذهب الى رأي رابع ارتضاه وهو ان الله تعالى انزل في المتوفى عنها زوجها آيتين:
إحداهما: آية العدة بأربعة أشهر وعشرا.
والثانية: آية الوصية ومعناها انه تعالى جعل للأزواج وصية منه سبحانه وتعالى سكنى حول كامل بعد وفاة أزواجهن سواء أوصى الزوج بذلك أم لم يوص وهذا هو ظاهر الآية فلا يخرج عنه بلا دليل.(13/335)
الوجه الثاني: انه تعالى أمر بتقديم الصدقة بين يدي نجوى الرسول في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً}1 ثم نسخ ذلك بقوله: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المجادلة آية 12.(13/336)
ص -232-…صَدَقَاتٍ}1 الآية قال الواحدي اجمعوا على أنها منسوخة الحكم واعترض أبو مسلم بأن ذلك إنما زال لزوال سببه وهو التمييز بين المنافق وغيره لأن المؤمن يمتثل والمنافق يخالف فلما حصل بعد ذلك التمييز سقط الوجوب وأجاب بأن المدعي إنما هو زوال الحكم بعد ثبوته سواء لزوال سببه أم لم يكن لأن ذلك معنى النسخ وهو جواب ضعيف من وجهين:
أحدهما: انه سيأتي في كلامه ان شاء الله تعلى ان زوال الشيء لزوال سببه أو شرطه ليس بناسخ.
الثاني: انه ان أراد التمييز للنبي صلى الله عليه وسلم فهو عليه السلام كان عالما بأعيانهم وسماهم لحذيفة بن اليمان صاحب سره وإن أراد التمييز للصحابة فلا نسلم حصول التمييز لهم وكيف وقد قيل ما كانت الا ساعة من نهار حتى نسخت ومن البعيد حصول التمييز في ساعة واحدة بل الجواب ان الإجماع قد قام على أنها منسوخة كما حكيناه عن الواحدي وان التمييز لا يحصل في ساعة من نهار كما ذكرناه.
واما قول الإمام في الجواب لو كان ذلك لكان من لم يتصدق منافقا وهو باطل لأنه روي انه لم يتصدق غير على رضي الله عنه ويدل عليه قوله تعالى: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} فهو ضعيف لأن عدم الصدقة إنما يدل على النفاق لو وجدت النجوى معه وذلك لم يوجد لأنه لم يناج أحد من الصحابة بدون التصدق بل لم يصح أن أحدا ناجاه غير علي رضي الله عنه.
وأما علي فقيل لم يصح انه ناجاه واحتج بذلك على جواز نسخ الحكم قبل العمل به وهذا يشهد له قوله تعالى: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا} إذا جعلت إذ على بابها والمعنى أنكم تركتم ذلك فيما مضى ولكن روى ليث عن مجاهد قال قال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلى ولا يعمل بها أحد بعدي آية النجوى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المجادلة آية 13.(13/337)
ص -233-…كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم فناجيت النبي صلى الله عليه وسلم قدمت بين يدي نجواي درهما ثم نسخت فلم يعمل بها أحد وعلى هذا يجب إخراج إذ عن بابها وإما ان تكون بمعنى إذا كما قيل في إذا الإعتلال وإما ان تكون بمعنى ان الشرطية وسواء صح المنقول عن علي أم لم يصح فعدم الصدقة إنما كان لعدم النجوى فلا يصح الجواب بما ذكره الإمام فإن قلت كيف لم يعمل غير علي من أكابر الصحابة بالآية قبل نسخها كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم.
قلت إن صح أنهم لم يعملوا بها فإما لسرعة نسخها وإما لأنهم فهموا ان المقصود الكف عن المناجاة تعظيما للرسول صلى الله عليه وسلم لأن سبب نزول الآية ان المسلمين اكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه وأراد الله ان يخفف عن نبيه كذا ذكره حبر الامة ابن عباس رضي الله عنهما فيكون كفهم عن المناجاة مبالغة في التعظيم فإن قلت لم لافعل علي رضي الله عنه ما فعلوه مبالغة في التعظيم.
قلت لعل الضرورة ألجأته الى المناجاة وذلك غير مستبعد لأنه كان قريب الأقرب وزوج ابنته والعادة تقضي بأن يكون أحوج الى مناجاته صلى الله عليه وسلم واحتج أبو مسلم بأنه تعالى وصف كتابه بأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فلو نسخ لأتاه الباطل وأجاب المصنف بان الضمير يأتيه عائد على مجموع القرآن أعني الهيئة الاجتماعية لا الجمعية اعني كل فرد سواء كان مجتمعا مع غيره أم لم يكن وإذا كان عائدا الى المجموع لم يكن دليلا على محل النزاع لأن مجموع القرآن لا ينسخ اتفاقا كما سلف وإنما الكلام في بعضه وفي هذا الجواب نظر من وجهين.
أحدهما: أنك لم قلت بعوده لمجموعه دون جميعه ولم لا كان العكس.
والثاني: ان الضمير في يأتيه عائد الى القرآن والقرآن من الالفاظ المتواطئة يطلق على كله وعلى بعضه كما تقدم في الحقيقة والمجاز فليس حمله على الكل بأولى من حمله على البعض.(13/338)
فإن قلت: ولا حمله على البعض ايضا بأولى من العكس وحينئذ يبطل(13/339)
ص -234-…استدلال أبي مسلم بالآية لما ذكر من ان الحمل على واحد يقتضي الترجيح من غير مرجح.
قلت: الحمل على البعض أولى لوقوع الاتفاق عليه اذ من حمل على الكل حمل البعض من غير عكس وقد أجاب الإمام بأن المراد ان هذا الكتاب لم يتقدمه من كتب الله تعالى ما يبطله ولا يأتيه من بعده وأجاب غيره بأن النسخ ليس باطلا إذ هو حق والباطل يضاد الحق فوجب حمل الباطل على غير النسخ وكلا الجوابين صحيح حسن قال الثالثة يجوز نسخ الوجوب قبل العمل خلافا للمعتزلة.
كل نسخ على التحقيق فهو واقع قبل الفعل فإنه إنما يرد على مستقبل الزمان دون ماضيه وهذا واضح وإنما الخلاف في انه هل يجوز ان يقال صل غدا ركعتين ثم انه ينسخه قبل مجيء الغد فجوز ذلك الجماهير من أصحابنا وخالفت المعتزلة وكثير من الحنفية والحنابلة وهذه هي المسألة الملقبة بنسخ الشيء قبل حضور وقت العمل به والمصنف عبر عنها بنسخ الوجوب قبل العمل وهذا يوهم اختصاص المسألة بالوجوب وليس كذلك.
والتعبير الأول غير واف بالمقصود ايضا لأنه قد يقال انه لا يتناول ما إذا حضر وقت العمل به لكنه لم يمض مقدار ما يسعه وهذه الصورة من صور النزاع وقد يعتذر المعبر بهذه العبارة بأنه لا يتصور حضور وقت العمل به الا إذا مضى ما يسعه ولو عبر عنها بنسخ الشيء قبل مضي مقدار ما يسعه من وقته لتناول جميع صور النزاع من غير شك وعلى هذا يجوز النسخ بعد مضي مقدار ما يسعه وان لم يكن قد فعل المأمور به قال الهندي وفي بعض المؤلفات القديمة أن بعضهم كالكرخي خالف فيه أيضا وقال لا يجوز النسخ قبل الفعل سواء مضى من الوقت مقدار ما يسعه أم لم يمض والمصنف أطلق قوله قبل العمل وهو يقتضي ان الخلاف جار من غير فرق بين الوقت وما قبله وما بعده فأما قبله وفي معناه ما إذا دخل ولكن لم يمض زمن يسع الفعل فقد عرفت انه محل النزاع وأما بعد(13/340)
ص -235-…خروج الوقت قال الآمدي فقد انفق القائلون بجواز النسخ على تجويزه وأما وقوع النسخ في الوقت ولكن بعد التمكن من فعله فقد عرفت انه داخل تحت صور النزاع بما حكاه الهندي عن الكرخي ولكن صرح ابن برهان في الوجيز في آخر المسألة بأن النزاع لم يقع في جواز النسخ بعد التمكن من الفعل وإنما وقع في النسخ قبل التمكن من الفعل وكذلك الآمدي في أثناء الإستدلال فإنه قال والخلاف إنما هو قبل التمكن لا بعده.
تنبيه: ذكره الهندي اعلم ان كل من قال ان المأمور لا يعلم كونه مأمورا قبل التمكن من الامتثال يلزمه ان يقول بعدم جواز النسخ قبل التمكن من الامتثال إذ النسخ قبله على هذا التقدير تبين ان الامر في نفس الأمر وإن كنا نتوهم وجوده والنسخ يستدعي تحقق الامر السابق فيستحيل النسخ عند عدمه.
وأما من لم يقل بذلك فجاز ان يقول بجوازه وان لا يقول بذلك لما يظهر له من دليل يخصه ويتضح عند هذا ان هذه المسألة ليست فرع تلك المسألة على الإطلاق اعني في الجواز وعدم الجواز كما وقعت إليه الإشارة في كلام الغزالي بل في عدم الجواز فقط.
قال لنا ان ابراهيم عليه السلام أمر بذبح ولده بدليل افعل ما تؤمر ان هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم فنسخ قبله قيله تلك بناء على ظنه قلنا لا يخطىء ظنه قيل امتثل فإنه قطع فوصل قلنا لو كان كذلك لم يحتج الى الفدا قيل الواحد بالواحد في الواحد لا يؤمر وينهي قلنا يجوز للابتلاء.
استدل أصحابنا على الجواز بالوقوع في قصة الذبيح عليه السلام قالوا وذلك ان الله تعالى أمر ابراهيم عليه السلام بذبح ولده ثم نسخ ذلك قبل الفعل أما انه أمره بالذبح فلثلاثة اوجه.
أحدها: قول ولده: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} جوابا لقوله: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} فإن قوله ما تؤمر لا بد وان تعود الى شيء وليس ثم غير اني أذبحك فوجب صرفه إليه.(13/341)
والثاني: قوله تعالى حكاية عن ابراهيم عليه السلام: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} يدل على أن المأمور به هو الذبح لأن مقدمات الذبح لا توصف بذلك.(13/342)
ص -236-…فإن قلت متى لا توصف بذلك مع العلم بعدم وجوب الذبح أو مطلقا والأول مسلم والثاني ممنوع وهذا لأن الامر باضجاع الولد واخذ المدية المستفاد من الامر بالذبح مع غلبة الظن بأن الذبح سيؤمر به بلاء مبين قلت متى غلب على ظنه بشيء فهو الواقع في نفس الامر إذ هو نبي فلا يخطىء ظنه.
والثالث: قوله تعالى: {وفديناه بذبح عظيم}1 ولولم يؤمر بالذبح لما احتاج الى الفداء.
وأما كونه نسخ قبل الفعل فلأنه لو لم ينسخ لذبح ضرورة انه عليه السلام لا يخل بأمر ربه لكنه لم يذبح فدل على انه نسخ ولم يستدل المصنف على هذا لظهوره واعترض الخصم أولا بأنا لا نسلم انه كان مأمورا بالذبح وإنما كان مأمورا بالمقدمات فظن انه أمر به والدلائل التي تمسكتم بها إنما هي بناء على ظنه.
وأجاب في الكتاب بأن ظنون الأنبياء مطابقة يستحيل فيها الخطأ واعترض ثانيا بأنا سلمنا انه أمر بذبح لكن لا نسلم انه نسخ قبل العمل وبيانه ان ابراهيم عليه السلام كان كلما قطع موضعا من الخلق وتعداه الى غيره أوصل الله تعالى ما تقدم قطعه.
وأجاب بأنه لو كان كذلك لم يحتج الى الفداء لأن الفداء بدل والبدل لا يحتاج إليه مع وجود المبدل ولقائل ان يقول لعل الفداء إنما كان للحياة التي من الله تعالى عليه بها مع حصول الذبح لا لنفس الذبح واستدل الخصم بأن قوله صل غدا ركعتين ليس موضوعا إلا للأمر بالصلاة في ذلك الوقت لغة وشرعا.
وقوله لا تصل غدا ركعتين ليس موضوعا إلا للنهي عنها في ذلك الوقت لغة وشرعا فلو جاز ان يرد الامر بشيء ثم النهي عن فعله في ذلك الوقت الواحد مأمورا ومنهيا أجاب بان ذلك لا يستحيل الا إذا كان المقصود حصول الفعل وأما إذا كان الغرض ابتلاء المأمور أي اختياره وامتحانه فيجوز
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الصافات آية 107.(13/343)
ص -237-…فإن السيد قد يقول للعبد اذهب غدا الى موضع كذا ولا يريد الفعل بل امتحان العبد ليتبين رياضته ثم يقول لا تذهب قلت ولا يخفى ان هذه الشبهة إنما ترد إذا كان الوجوب قد نسخ بالتحريم أما إذا نسخ بالجواز فليس الشيء مأمورا به ومنهيا عنه فان قلت الله تعالى يعلم من يمتثل ممن لا يمتثل والاختيار إنما يكون مما يستدعي خبرا يستفيد منه ما لم يكن عالما به قلت المراد إظهار ذلك للخلق والتنبيه بذكر العبد الممتثل بين العالم.
ألا ترى ان ابراهيم عليه السلام صار له بذلك لسان صدق في الآخرين وربما ان بعض من كان لا يؤمن به رآه قد بادر الى امتثال هذا الامر المدبر فصدق به وآمن وعرف انه على الحق المبين ومنهم من أجاب عن هذه الشبهة بأنه لم يجتمع الامر النهي في وقت واحد بل بورود النهي انقطع تعلق الامر وذكر القاضي في مختصر التقريب.
هذا وطريقة أخرى وهي ان نقول كان الرب تعالى قال افعل الفعل الفلاني تقربا منك الى ما دام الامر متصلا بك فإذا نهيتك عنه فلا تفعله تقربا الى ولا تقربا الى غيري ليتبين للعبد انه عند النهي منهي عن قصد التقرب بما أمر به أولا الى الله تعالى وهو منهي عن اصل فعله ايضا من غير قصد التقرب.
فائدة الصحيح عن جمهور العلماء ان الذبيح هو إسماعيل عليه السلام واحتجوا له بأمور كلها ظاهرة غير قطعية واستنبط والدي رضي الله عنه من القرآن دليلا على ذلك يقارب القطع أو يقتضي القطع بذلك لم يسبقه إليه أحد وهو ان البشارة التي وقعت لإبراهيم عليه السلام بالولد من الله تعالى كانت مرتين مرة في قوله: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} فهذه الآية قاطعة في أن هذا المبشر به هو الذبيح.(13/344)
وقوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ}1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة هود آية 71.(13/345)
ص -238-…فقد صرح في هذه الآية ان المبشر به فيها اسحاق ولم يكن سؤال من ابراهيم عليه السلام بل قالت امرأته أنها عجوز وانه شيخ وكان ذلك في الشام لما جاءت الملائكة إليه بسبب قوم لوط وهو في أواخر أمره واما للبشارة الاولى لما انتقل من العراق الى الشام حين كان سنه لا يستغرب فيه الولد ولذلك سأله فعلمنا بذلك أنهما بشارتان في وقتين بغلامين احدهما بغير سؤال وهو اسحاق صريحا والثانية قبل ذلك بسؤال وهو غيره فقطعنا بأنه إسماعيل وهو الذبيح ولا يرد على هذا قوله: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً}1 ووجه الإيراد ذكر هبة اسحاق بعد الإنجاء لأنا نقول لما ذكر لوطا واسحاق هو المباشر به في قضية لوط ناسب ذكره ولم يذكره ولم يكن في الآية ما يدل على التعقيب والبشارة الأولى ولم يكن للوط فيها ذكر والله أعلم.
واعلم ان هذه الفائدة ليس لها كبير تعلق بما نحن فيه من الشرح ولكن لما عظم موقعها حسن إيرادها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنبياء آية 71- 72.
قال الرابعة يجوز النسخ بلا بدل أو ببدل أثقل كنسخ وجوب تقديم النجوى والكف عن الكفار بالقتال استدل بقوله تعالى نأت بخير منها قلنا ربما يكون عدم الحكم أو الأثقل خيرا.
المسألة مشتملة على بحثين:
أحدهما: في جواز نسخ الشيء لا إلى بدل ذهب إليه الجمهور.
وخالف فيه قوم من أهل الظاهر. وكذلك المعتزلة كما قال القاضي في مختصر التقريب واستدل الجمهور بأن وجوب تقديم الصدقة بين يدي مناجاته عليه السلام نسخ بلا بدل واعلم ان الأصوليين صدروا المسالة بالخلاف في الجواز وهذا الدليل يدل على انهم يختارون الوقوع وهو صحيح إذ الظاهر ان نسخ الصدقة قبل النجوى لا إلى بدل وقول من قال وجوب الزكاة هو الناسخ وهو البدل ضعيف من وجهين.(13/346)
أحدهما: أنه تعالى قال: { فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا(13/347)
ص -239-…الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فلو كانت الزكاة ناسخة لزم مساواة الصلاة والطاعة لها وأقام الصلاة وطاعة الله ورسوله واجبان قبل ذلك.
وثانيها: أنه يحتاج الى نقل التاريخ في ذلك وهو يعيد بل الظاهر انه لما نسخ عنهم وجوب الصدقة أمروا بلزوم الواجبات التي هي عليهم باقية تنبيها على أنها هي ذروة الامر وسنامه واستدل القاضي في مختصر التقريب على تجويز نسخ الشيء لا الى بدل بانا يجوز ارتفاع التكليف عن المخاطبين جملة فلأن يجوز ارتفاع عبادة بعينها لا الى بدل أولى قال والمخالفون في ذلك وهم المعتزلة لا يجوزون ارتفاع التكليف فلهذا خالفونا في هذه المسألة فهذا هو مثار الخلاف في هذه المسألة.
فائدة: قال الشافعي في الرسالة في ابتداء الناسخ والمنسوخ وليس بنسخ فرض أبدا الا اثبت مكانه فرض كما نسخت قبله بيت المقدس فأثبت مكانها الكعبة انتهى وظاهر هذه العبارة انه لا يقع النسخ الا ببدل وليس ذلك مراده بل هو موافق للجماهير على ان النسخ قد يقع بلا بدل وانما أراد الشافعي بهذه كما نبه عليه أبو بكر الصيرفي في شرح الرسالة انه ينقل من حظر الى إباحة أو إباحة الى حظر وتخيير على حسب أحوال الفروض قال ومثل ذلك مثل المناجاة كان يناجي النبي صلى الله عليه وسلم بلا تقديم صدقه ثم فرض الله تقديم الصدقة ثم أزال ذلك فردهم الى ما كانوا عليه فان شاءوا وتقربوا بالصدقة الى الله وان شاءوا ناجوه من غير صدقة قال فهذا معنى قول الشافعي فرض مكان فتفهمه انتهى وهذا لا يخالفه فيه الأصوليون فانهم يقولون إذا نسخ الامر بقوله رفعت الوجوب أو التحريم مثلا عاد الامر الى ما كان عليه وهو حكم أيضا.
البحث الثاني: يجوز عند الجمهور نسخ الشيء والإتيان ببدل اثقل منه وخالف بعض أهل الظاهر قال ابن برهان في الوجيز ونقل ناقلون ذلك عن الشافعي وليس بصحيح وانتهى وليس بصحيح عنه.(13/348)
ومنهم من أجاز ذلك عقلا ومنع منه سمعا لنا ان الكف عن الكفار كان واجبا بقوله تعالى {ودع أذاهم} ونحوه ثم نسخ بإيجاب القتال وهو أثقل أي(13/349)
ص -240-…أكبر مشقة واستدل الخصم على منعها أعني النسخ بلا بدل والنسخ ببدل أثقل بقوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} فدل على أنه لا بد أن يأتي بالبدل وهو المدعي أولا وعلى ان البدل منحصر في الأول والمساوي وهو المدعي ثانيا وأجاب بأن عدم الحكم قد يكون خير للمكلف منه في ذلك الوقت واعترض الهندي على هذا بان العدم الصرف لا يوصف بقوله نأت لأن ما أتى به فهو شيء وهو صحيح الا ان نقول النسخ يزيل الحكم ويعيد الامر الى ما كان عليه فكان مشتملا على الإتيان بالحكم الذي كان من قبل ومن هذا يظهر انه أتى بشيء.
وهذا إنما استفاد من كلام الصيرفي والأصل فيه كلام الشافعي رضي الله عنه وهذا تقرير الجواب عنهم قولهم لا يكون النسخ الا ببدل والقاضي في مختصر التقريب قال الجواب عن هذه الآية هذا إخبار عن أن النسخ يقع على هذا الوجه وليس فيه ما يدل على انه لا يجوز وقوع النسخ على غير هذا الوجه.
قال هذا واضح عند التأمل.
قلت: وهذا من القاضي يفهم ان محل الخلاف في الجواز وانه يسلم ان النسخ لا يقع إلا على هذا الوجه وهذا ما اقتضاه كلام الآمدي في آخر المسالة إذ قال ان سلم امتناع وقوع ذلك شرعا لكنه لا يدل على عدم الجواز العقلي وقد قدمنا ان الاستدلال بآية النجوى يدل على ان الخلاف في الوقوع ايضا وبذلك صرح الهندي إذ قال الآية وان لم تدل الا على عدم الوقوع فذلك كاف لأنه إذا ثبت عدم الوقوع ثبت عدم الجواز لأن كل من يقول بالجواز قال بالوقوع فالقول بعدم الوقوع من الجواز قول لم يقل به أحد والأظهر ان ما قال بالجواز قال بالوقوع كما ذكره الهندي وكلام الآمدي إنما هو على سبيل النزل إذ صدر المسالة بالجواز وقد صرح الآمدي بدليلين وقال احدهما يدل على الجواز العقلي والثاني على الجواز الشرعي وكلام القاضي ليس بالصريح في ذلك ان قال بعد ذلك أو يقول يعني في الجواز.(13/350)
قوله ما ننسخ من آية يحمل على بعض الأحكام دون بعض قال ويقوى ذلك على منع صيغ العموم قلت ومن هنا يؤخذ من كلام القاضي أن النكرة في(13/351)
ص -241-…سياق الشرط تعم كما قدمناه في باب العموم عن امام الحرمين لقوله ويقوى ذلك على منع صيغة العموم ومفهوم هذا انه لا يقوى عند تسليمها واما الجواب عند استدلالهم بقوله بخير منها أو مثلها على ان البدل منحصر في الأخف والمساوي.
فقد أجاب في الكتاب عنه بقوله أو الأثقل خيرا يعني ان الخير يصدق على ما هو اجزل ثوابا وأصلح لنا في المعاد وإن كان أثقل في الحال ومن الخصوم من استدل بقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}1 واقتصر المتأخرون في الجواب عن الاستدلال بهذه الآية على قولهم ان ذلك محمول على اليسر في الآخرة ومناسب هذا الجواب والحق في الجواب عن ذلك ما ذكره القاضي في مختصر التقريب من ان ذلك إنما ورد في مخاطبة المرضى من المسلمين لما خفف الصيام عنهم ولا تعلق له بمسألتنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية 185.
قال الخامسة ينسخ الحكم دون التلاوة مثل قوله تعالى: {مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ} آية وبالعكس مثل ما نقل الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة وينسخان معا كما روي عن عائشة قالت كان فيما انزل عشر رضعات معلومات فنسخن بخمس(13/352)
يجوز نسخ الحكم دون التلاوة وبالعكس ونسخهما معا وخالف في ذلك كله بعض الشاذين واستدل في الكتاب لكل من الصور بالوقوع أما نسخ الحكم دون التلاوة فكنسخ الاعتداد بالحول من قوله تعالى: {مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ} بقوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} وقد سبق الكلام في آية الحول فكان الأولى التمثيل بغير هذه الآية المختلف في أنها هل هي منسوخة والآيات في هذا القسم كثيرة وأما عكسه اعني نسخ التلاوة دون الحكم فكما روى سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم أن يقول قائل لا نجد حديثا في كتاب الله فلقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوالذي نفسي بيده لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة فإنا قد قرأناها رواه الشافعي وهذا لفظه(13/353)
ص -242-…وروى الترمذي نحوه والبخاري ومسلم ما يقرب منه وروى النسائي عن أبي أمامة اسعد بن سهل بن حنيف عن خالته قالت لقد أقرأناها رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الرجم والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البته بما قضينا من لديهما وإسناده جيد والمراد بالشيخ والشيخة المحصن والمحصنة قلت وأنا لا يبين لي معنى قول عمر رضي الله عنه لولا ان يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها إذ ظاهر هذا ان كتابتها جائزة وإنما منعه من ذلك قول الناس والجائز في نفسه قد يقوم من خارج ما يمنعه.
وإذا كانت كتابتها جائزة لزم ان تكون التلاوة باقية لأن هذا شأن المكتوب وقد يقول القائل في مقابلة هذا لو كانت التلاوة باقية لبادر عمر رضي الله عنه الى كتابتها ولم يعرج على مقال الناس لأن مقال الناس لا يصلح مانعا من فعل هذا الواجب وبالجملة لا يبين لي هذه الملازمة اعني لولا قول الناس لكتبت ولعل الله ان ييسر علينا حل هذا الأثر بمنه وكرمه فانا لا نشك في ان عمر رضوان الله عليه إنما نطق بالصواب ولكنا نتهم فهمنا واما نسخهما معا فكما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كان فيما انزل عشر رضعات معلومات فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي فيما يقرأ من القرآن رواه مسلم ونحن نعلم انه ليس في القرآن اليوم وان حكمه غير ثابت وقد تكلم العلماء في قولها وهي فيما يقرا من القرآن فإن ظاهره يقتضي ان التلاوة باقية وليس كذلك فمنهم من أجاب بان المراد قارب الوفاة والأظهر في الجواب ان التلاوة نسخت ايضا ولم يبلغ ذلك كل الناس الا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوفي وبعض الناس يقرأها فيصدق انه توفي وهي فيما يقرأ.(13/354)
واعترض الهندي بأن ثبوت نسخ تلاوة ما هو من القرآن وحكمه يتوقف على كونه من القرآن وكونه من القرآن لا يثبت بخبر الواحد فلا يثبت به تلاوة ما هو من القرآن وحكمه معا قلت والاعتراض وارد ايضا في منسوخ التلاوة دون الحكم فلا ينبغي ان يقصره على هذا القسم ثم قال الهندي ممكن ان يجاب بان القرآن المثبت بين الدفتين هو الذي لا بد في نقله من التواتر وأما المنسوخ فلا نسلم أنه لا يثبت بخبر الواحد سلمنا لكن الشيء قد يثبت ضمنا بما لا يثبت به استقلالا كما قال بعض الأصوليين(13/355)
ص -243-…إذا قال الصحابي في أحد الخبرين المتواترين إنه كان قبل الآخر قبل ولزم منه نسخ المتأخر وان لم يقبل قوله في نسخ المعلوم ولقائل ان يقول لا يندفع السؤال بواحد من الجوابين أما الأول فأنا لا نعقل كونه منسوخا حتى نعقل كونه قبل ذلك من القرآن وكونه من القرآن لا يثبت بخبر الواحد قلنا وقوله لا نسلم ان القرآن المنسوخ لا يثبت بخبر الواحد لأن نسخه لا يكون الا بعد ثبوت كونه من القرآن ثم يرد النسخ بعد ذلك متأخرا في الزمان فيصدق إثبات قرآن غير منسوخ بخبر الواحد ثم إثبات نسخه بخبر الواحد ويوضح هذا ان قول الراوي كانت الكلمة الفلانية من القرآن ثم نسخت تلاوة وحكما في قوة خبرين احدهما أنها من القرآن ثم نسخت تلاوة وحكما في قوة خبرين احدهما أنها من القرآن والثاني أنها منسوخة وكلا الخبرين لا يكفي فيه خبر الواحد واما الثاني ففيما نحن فيه لم يتعارض وليلان وفيما استشهد به تعارض دليلان فلذلك رجحنا في موضع التعارض بمرجح ما وهو قول الصحابي هذا متقدم وإنما الذي يظهر في الجواب عن هذا السؤال أن زماننا هذا ليس زمان النسخ وفي زمان النسخ لم يقع النسخ بخبر الواحد.
فرع: قال الآمدي هل يجوز بعد نسخ تلاوة الآية ان يمسها المحدث ويتلوها الجنب تردد فيه الأصوليون والأشبه المنع من ذلك قلت الخلاف وجهان لأصحابنا والصحيح جواز المس والحمل وقول الآمدي ان المنع أشبه ممنوع وذكر الرافعي في أول باب خلافه حد الزنا ان القاضي ابن كج حكى عن بعض الأصحاب وجها انه قرأ قارىء آية الرجم في الصلاة لم تفسد والصحيح خلافه.
قال السادسة يجوز نسخ الخبر المستقبل خلافا لأبي هاشم لنا انه يحمل ان يقال لأعاقبن الزاني أبدا ثم يقول أردت سنة قيل يوهم الكذب قلنا ونسخ الامر يوهم البداية.(13/356)
هذه المسالة في نسخ الأخبار والنسخ أما ان يكون لنفس الخبر أو لمدلوله وثمرته فإن كان الأول فأما ان تنسخ تلاوته أو تكليفنا بالأخبار به إذا كنا قد كلفنا بأن نخبر بشيء فهذان جائزان من غير نزاع سواء كان ما نسخت(13/357)
ص -244-…تلاوته ماضيا أو مستقبلا وسواء كان مما لا يتغير كالأخبار بوجود الله تعالى وحدوث العالم أو كالأخبار بكفر زيد وإيمانه لأن جميع ذلك حكم من الأحكام الشرعية فجاز كونه مصلحة في وقت ومفسدة في آخر لكن هل يجوز ان ينسخ تكليفنا بالاخبار عما لا يتغير تكليفنا بالاخبار بنقيضه قال الآمدي قالت المعتزلة لا يجوز لأنه كذب والتكليف به قبيح وهذا مبني على قاعدة الحسن والقبيح الباطلة عندنا وعلى هذا فلا مانع من التكليف بالخبر بنقيض الحق هذا كلام الآمدي ولا يقال عليه ان الكذب نقض ونحن نوافق على ان قبحه عقلي لأنا نقول هو في هذه الصورة نقص في المكلف بفتح اللام وهو المخير لا المكلف بكسرها وهو الله تعالى الآمر بالأخبار ويجوز التكليف بما هو نقص في حق العبد لأن له تعالى ان يفعل ما يشاء واما ان كان النسخ لمدلول الخبر فإن كان لا يتغير فلا خلاف في امتناع نسخه وان كان مما يتغير فهي مسإلة الكتاب ومذهب اكثر المتقدمين منهم أبو هاشم فيها المنع سواء كان الخبر ماضيا أو مستقبلا أو وعيدا أو خبرا عن حكم كالخبر عن وجوب الحج واختاره ابن الحاجب وقال عبد الجبار وأبو عبد الله وأبو الحسين والإمام والآمدي يجوز مطلقا وفصل بعضهم.(13/358)
فقال ان كان مدلوله مستقبلا جاز وإلا فلا وهذا هو الذي اختاره المنصف وليعلم ان محل الخلاف فيما إذا لم يكن بمعنى الامر أو النهي كقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} وقوله: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} فإن هذا يجوز نسخه ولا نعرف فيه خلافا ولا يتجه لأنه بمعنى الأمر والنهي قال الهندي وما نقل الإمام وغيره من الخلاف في الخبر عن حكم شرعي ليس هو هذا لأن ذلك محمول على ما هو خبر في هذا اللفظ والمعنى مدلوله حكم شرعي وما نحن فيه ليس الا صيغة الخبر استعملت في الامر على وجه التجوز فهو في معنى الامر ونحن على جزم بأن الصيغة لا مدخل لها في تجويز النسخ وعدمه فهو في معنى الامر وقد استدل المصنف على ما اختاره بأنه يصح ان يقال لأعاقبن الزاني أبدا ان لا يلزم من وقوعه محال ثم يقال أردت سنة واحدة ولا نعنى بالنسخ الا هذا فإن النسخ إخراج بعض الزمان وهو موجود هنا واستدل المانع بأن نسخه يوهم(13/359)
ص -245-…الكذب إذ المتبادر منه الى الفهم ليس الا استيعاب المدة المخبر بها وإيهام الكذب قبيح أجاب بأن نسخ الأمر ايضا يقتضي ان يظن الظان ظهور الشيء بعد خفائه أي فلو امتنع نسخ الخبر للإيهام لامتنع نسخ الأمر ولا قائل به من المنازعين في هذه المسألة هذا ما في الكتاب والحق في المسألة ما ذكره القاضي في مختصر التقريب من بناء المسألة على ان النصح بيان أو رفع فمن قال بالأول جوز ذلك فقال إذا اخبر الله سبحانه عن ثبوت شريعة فيجوز ان يخبر بعدها فيقول أردت ثبوتها بأخباري الأول الى هذا الوقت ولم أرد أولا الا ذلك وهذا لا يقضي الا تجويز خلف ولاوقوع خبر بخلاف مخبر وأما من قال بالثاني كالقاضي فلا يجوز ذلك كيف ونسخ الخبر حينئذ يستلزم الكذب قطعا لأن الخبر ان كان صادقا كان الناسخ المقتضي رفع بعض مدلوله كاذبا ضرورة أنه صدق وإلا فهو كاذب وبهذا يظهر لك ان من وافق القاضي على ان النسخ رفع لا يحسن منه الذهاب إلى تجويز نسخ الأخبار.(13/360)
ص -247-…الفصل الثاني: في الناسخ والمنسوخ
قال الفصل الثاني في الناسخ والمنسوخ:
وفيه مسائل الأولى الأكثر على جواز نسخ الكتاب بالنسبة كنسخ الجلد في حق المحصن وبالعكس كنسخ القبلة وللشافعي رضي الله عنه قول بخلافها دليله في الأول قوله تعالى:{نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا}بأن السنة وحي ايضا وفيهما بقوله لتبين للناس وأجيب الأول بان النسخ بيان وعورض الثاني بقوله تبيانا.
المراد هنا بالناسخ والمنسوخ ما ينسخ وما ينسخ به من الأدلة اعلم انه يجوز نسخ الكتاب به والسنة المتواترة بها والآحاد بمثله وبالمتواتر وأما نسخ الكتاب بالسنة والسنة بالكتاب فالجمهور على جوازه ووقوعه وذهب ابن سريح كما نقل القاضي عنه في مختصر التقريب الى جائز ولكن لم يرد وذهب قوم الى امتناعها ونقل عن الشافعي رضي الله عنه وقد استنكر جماعة من العلماء ذلك من الشافعي حتى قال الكيا الهراسي هفوات الكبار على أقدارهم ومن عن خطأوه عظم قدره وقد كان عبد الجبار بن احمد كثيرا ما ينصر مذهب الشافعي في الأصول والفروع فلما وصل الى هذا الموضع قال هذا الرجل كبير لكن الحق اكبر منه قال والمغالون في حب الشافعي لما رأوا هذا القول لا يليق بعلو قدره كيف وهو الذي مهد هذا الفن ورتبه وأول من أخرجه قالوا لا بد وان يكون لهذا القول من هذا العظيم محمل فتعمقوا في محامل ذكروها وأورد الكيان بعضها واعلم انهم صعبوا أمرا سهلا وبالغوا في غير عظيم وهذا ان صح عن الشافعي(13/361)
ص -248-…فهو غير منكر وان جبن جماعة من الأصحاب عن نصرة هذا المذهب فذلك لا يوجب ضعفه.
ولقد صنف شيخ الدنيا الشيخ الجليل أبو الطيب سهل بن الإمام الكبير المتفق على جلالته وعظمته وبلوغه في العلم المبلغ الذي يتضاءل عنده جماعة من المجتهدين أبي سهل الصعلوكي كتابا في نصرة هذا القول وكذلك الأستاذان الكبيران أبو اسحق الاسفرايني وتلميذه أبو منصور البغدادي وهما من أئمة الأصول والفقه وكانا من الناصرين لهذا الرأي قال القاضي في مختصر التقريب.
واختلف الذين منعوا نسخ القرآن بالسنة فمنهم من منعه عقلا ومنهم من قال يجوز سمعا وانما امتنع بأدلة السمع.
قال القاضي وهذا هو الظن بالشافعي مع علو مرتبته في هذا الفن ومنهم من نقل للشافعي في كل من نسخ الكتاب بالسنة وعكسه قولين وهو ما أورده في الكتاب والرافعي حكى في باب الهدية وجهين في نسخ السنة بالقرآن أو قولين التردد منه.
قال وينسب المنع الى اكثر الأصحاب فإن جرى الخلاف في نسخ السنة بالقرآن فليكن من العكس بطريق أولى.
وقال امام الحرمين قطع الشافعي جوابه بأن الكتاب لا ينسخ بالسنة وتردد في قوله في نسخ السنة بالكتاب قلت وهنا هو الذي قاله في الرسالة فانه قال في باب ابتدأ سمي الناسخ والمنسوخ ما نصه ولا ينسخ كتاب الله الا كتابه كما كان المبتدي بفرضه فهو المزيل المثبت لما شاء منه جل ثناؤه ولا يكون ذلك لأحد من خلقه انتهى.
ثم قال ما نصه وهكذا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينسخها إلا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو أحدث الله لرسوله في أمر سن فيه غير ما سن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لسن فيما حدث الله إليه حتى يبين للناس أن له سنة ناسخة للتي قبلها مما يخالفها انتهى ومن صدر هذا الكلام أخذ من نقل عن الشافعي رحمه الله أن(13/362)
ص -249-…النبي صلى الله عليه وسلم إذا سن سنة ثم انزل الله في كتابه ما ينسخ ذلك الحكم فلا بد ان يسن النبي صلى الله عليه وسلم سنة أخرى موافقة للكتاب تنسخ سنته الاولى لتقوم الحجة على الناس في كل حكم بالكتاب والسنة جميعا ولا تكون سنة منفردة تخالف الكتاب.
وقوله ولو احدث الله الى آخره صريح في ذلك قوله بعد ذلك ما نصه فان قال هل تنسخ السنة بالقرآن قيل له لو نسخت السنة بالقرآن كانت للنبي صلى الله عليه وسلم سنة تبين ان سنته الاولى منسوخة لسنة الأخيره حتى تقوم الحجة على الناس بأن الشيء ينسخ بمثله انتهى.
وكذلك ما ذكره بعد ذلك في باب جمل الفرائض التي احكم الله فرضها بكتابه وبين كيف فرضها على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فإنه قال لما تكلم على صلاة ذات الرقاع ما نصه.
وفي هذا دلالة على ما وصفت قبل في هذا الكتاب من ان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سن سنة فأحدث الله في تلك السنة نسخا أو مخرجا الى سنة منها سن رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنة تقوم الحجة على الناس بها حتى يكونوا إنما صاروا من سنته الى سنته التي بعدها انتهى.
فهذا هو معنى القول المنسوب الى الشافعي أعني انه لا بد ان يسن النبي صلى الله عليه وسلم سنة أخرى واكثر الأصوليين الذين تكلموا في ذلك لم يفهموا مراد الشافعي وليس مراده الا ما ذكرناه.
واستدل المصنف على كون السنة المتواترة تنسخ الكتاب بان النبي صلى الله عليه وسلم رجم المحصن مع شمول آية الجلد له وفيه نظر فإن هذا تخصيص والمصنف قد ذكره بعينه مثالا لتخصيص الكتاب بالسنة ثم إنه ثابت بالقرآن الذي نسخت تلاوته وهو الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما.
واستدل على أن الكتاب ينسخ السنة بأن التوجيه الى بيت المقدس كان ثابتا بالسنة ثم نسخ بقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}1 قوله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية 144.(13/363)
ص -250-…دليله في الاول أي دليل الشافعي في امتناع نسخ الكتاب بالسنة قوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} وقد استدل بها الشافعي رحمه الله في الرسالة ويمكن تقرير وجه الدلالة منها بطريقين.
أحدهما: أنه تعالى اسند للأنبياء بالخبر أو المثل الى نفسه وانما يكون ذلك إذا كان الناسخ القرآن.
والثاني: أنه تعالى قال نأت بالخبر أو المثل والسنة ليست خيرا من الكتاب ولا مثله فدل على ان الإتيان إنما هو بالقرآن.
والجواب ان السنة منزلة إذ هي حاصلة بالوحي كقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} فالآتي بها هو الله واما الخبر أو المثل فالمراد بهما الأكثر ثوابا والمساوي ودليل الشافعي فيهما اي في نسخ الكتاب بالسنة وفي عكسه قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ}1 فإما نسخ الكتاب بالسنة فلأن الآية دلت على ان السنة تبين جميع القرآن بدليل قوله: {مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} فلو كانت ناسخة كانت رافعة لا مبينة.(13/364)
وأما نسخ السنة بالكتاب فلأنها تدل على ان السنة تبين القرآن فلو كان القرآن ناسخا بالسنة لكان القرآن بيانا للسنة فيلزم كون كل واحد منهما بيانا للآخر أجيب عن الأول بأن النسخ لا ينافي البيان بل هو عينه بناء على بيان انتهاء الحكم وعن الثاني بقوله تعالى في صفة القرآن تبيانا لكل شيء فإنه يقتضي ان يكون الكتاب تبيانا للسنة كما في قوله لتبين يقتضي أن تكون السنة مبينة للكتاب فلما تعارض مقتضاهما لم يكن الاستدلال بواحد منهما ارجح من عكسه وفي الاستدلال بقوله لتبين على المقامين معا نظر آخر لأن البيان ان لم يكن مغايرا للنسخ لم يتجه الاستدلال به على امتناع نسخ الكتاب بالسنة وإن كان مغايرا لم يتجه ان يستدل به على العكس وأورد القرافي عل الشافعي بأن قوله تعالى: {مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} عام في الكتاب وفي السنة لأن السنة منزلة ايضا فقد يفهم ان الآية انه عليه السلام يبين القرآن والسنة بغيرهما وهو خلاف الإجماع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سةرة النحل آية 44.(13/365)
ص -251-…فما تدل عليه الآية وقد يجاب عن هذا بأن الآية إنما تدل على أنه بينهما لا تعارض لها للمبين به ولعل المبين به منهما أو من احدهما على ان هذا كله خلاف ما يقتضيه ظاهر الآية وسياقها فان المفهوم منها ان التبيين هو التفهيم لا النسخ.
نسخ المتواتر بالآحاد
قال لا ينسخ المتواتر بالآحاد لأن القاطع لا يدفع بالظن قيل لا أجد منسوخا بما روي انه عليه السلام نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع قلت لا أجد للحال فلا نسخ.
نسخ المتواتر بالآحاد جائز في النقل ونقل قوم الاتفاق على ذلك وليس بجيد فقد حكى القاضي في مختصر التقريب عن بعضهم انه ذهب الى منع ذلك عقلا وعبارة المصنف وهكذا ابن الحاجب توهم ان الخلاف فيه وعلى ذلك جرى الجار بردي في شرحه وهو صحيح لما حكاه القاضي الا انه ليس مقصود المصنف غير الجواز السمعي بدليل انه اختار انه لا ينسخ ولو نصب المسألة في الجواز العقلي لكان الظن به ان لا يختار ذلك وإذا عرفت وقوع الاختلاف في الجواز فاعلم ان الجماهير وان قالوا بالجواز الا انهم اختلفوا في الوقوع فذهب الأكثرون الى انه غير واقع وذهب جماعة من أهل الظاهر الى وقوعه وفصل القاضي في مختصر التقريب والغزالي بين زمان الرسول وما بعده فقالا بوقوعه في زمانه عليه السلام دون ما بعده.
ونقل القاضي اجماع الامة على منعه بعد الرسول صلى الله عليه وسلم قال وإنما اختلفوا في زمانه وكذا امام الحرمين قال اجمع العلماء على ان الثابت قطعا لا ينسخه مظنون ولم ينقرض لزمان الرسول صلى الله عليه وسلم.
واعلم ان المراد المتواتر في هذه المسألة القرآن والسنة المتواترة واستدل المصنف على المنع بأن المتواتر قطعي وخبر الواحد ظني والظني لا يعارض القطعي لأن ترجيح الأضعف على الأقوى غير جائز وهذا الدليل إنما يتمشى إذا كان(13/366)
ص -252-…محل النزاع في الجواز العقلي كذا اعترض به الهندي ظنا منه وقوع الاتفاق على انه يجوز عقلا فإنه ممن نقل الاتفاق عليه.
وقد عرفت انه محل خلاف الا انا نقول قد قررنا ان المصنف إنما تكلم في الوقوع ودليله هذا يقتضي عدم الجواز وهو لا يقول به فيكون منقوضا ثم أنه ضعيف من اوجه أخر:
أحدها: ما ذكره القاضي في مختصر التقريب من انا نقول وجوب العمل بخبر الواحد مقطوع به فما يضرنا التردد في اصل الحديث مع انا نعلم قطعا وجوب العمل به فكان صاحب الشريعة قال إذا نقل من ظاهره العدالة فاقطعوا بأن حكم الله تعالى عليكم العمل بظاهره وصدق الناقل.
والثاني: انا لا نسلم ان المقطوع لا يدفع بالمظنون الا ترى ان انتفاء الأحكام قبل ورود الشرائع مقطوع به عندنا وثبوت الحظر أو الإباحة مقطوع به عند آخرين ثم إذا نقل خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم أحادا يثبت العمل به ويرتفع ما نقرر قبل ورود الشرائع ذكره القاضي أيضا.
والثالث: أنا مهما جوزنا نسخ النص بخبر الواحد فلا نسلم مع ورود خبر الواحد كون النص مقطوعا به فإنا لو قلنا ذلك لزمنا ان نقطع بكذب الراوي وهذا ما لا سبيل إليه ذكره القاضي ايضا ومراده ان المقطوع به إنما هو اصل الحكم لا دوامه والنسخ لم يرد على اصل الحكم وانما قطع دوامه ومنهم من ضعف هذا الدليل بوجهين آخرين.
أحدهما: منع لزوم ترجيح الأضعف على الأقوى وسنده ان الكتاب والسنة المتواترة وان كان مقطوعي المتن لكنهما مظنونا الدلالة وخبر الواحد بالعكس لكونه خاصا فتعادلا بل خبر الواحد الخاص أقوى دلالة على مدلوله لأن تطرق الضعف إلى مدلول الخبر الواحد الخاص إنما هو احتمال الكذب والغلط وتطرق الضعف الى مدلول الكتاب العام إنما هو من جهة تخصيصه وارادة بعض مدلولاته دون بعض ومعلوم ان تطرق التخصيص الى العام اكثر من تطرق الكذب والغلط الى العدل المتحفظ وضعفه الشيخ صفي الدين الهندي بأنه ليس(13/367)
ص -253-…من شرط المنسوخ من الكتاب والسنة المتواترة ان يكون عاما وناسخه من خبر الواحد خاصا حتى يتأتى ما ذكر بل قد يكون عامين أو خاصين والمنسوخ خاصا والناسخ عاما على رأي من يرى ان العام المتأخر ينسخ الخاص المتقدم.
وإذالم يتأت ما ذكر من المنع لزم ترجيح الأضعف على الأقوى فلم يجز النسخ في هذه الصور وإذا لم يجز في هذه الصور ولم يجز في تلك الصورة لعدم القائل بالفصل في ولا تعارض بمثله بان يقال إذا جاز النسخ في تلك الصورة لتساويهما جاز في هذه الصورة لعدم القائل بالفصل لأن إلحاق الفرد بالأكثر أولى ولأن تحقق المفسدة فى صور عديده اشد محذورا من تحققها في صوره واحدة.
وثانيهما: النقض يجوزان تخصيصهما به ولقائل ان يقول التخصيص أهون فلا يلزم من جوازه جواز النسخ وأيضا فالتخصيص لا يلزم منه ترجيح الأضعف على الأقوى لما ذكر من المعنى فلا يلزم النقض واستدل الخضم بقوله تعالى:
{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً}1 الآية فإنه يقتضي حصر التحريم فيما ذكر في الآية وقد نسخ ذلك بما روت الأئمة الستة من نهيه صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع فقد نسخ الكتاب بعد هذا الخبر الظني وأجاب في الكتاب بأن الآية إنما دلت على الرسول صلى الله عليه وسلم لم يجد في ذلك الوقت من المحرم الا الأربعة المذكورة في الآية ولذا قال أوحى بلفظ الماضي وبقي ما عداها على الأصل الحل ونهيه صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب وجد بعد ذلك فلا نسخ لأن الآية دلت الحال ولم تتعرض للاستقبال والحديث إنما دل على الاستقبال ولو قدر تناول الآية للاستقبال فالحديث مخصص لعموم ليس غير هذه الاربعة بمجرد وهو عموم المفهوم من حصر التحريم في الاربعة بناء على ان للمفهوم عموما وحينئذ فهو مخصص لا ناسخ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية 145.(13/368)
قال الثالثة الاجماع لا ينسخ لأن النص يتقدمه ولا ينعقد الاجماع ولا ينسخ به أما النص والإجماع فظاهران وأما القياس فلزواله بزوال شرطه.(13/369)
ص -254-…هذه المسألة تشتمل على بحثين:
الأول: في ان الحكم الثابت بالاجماع لا ينسخ وان الحكم الثابت باجماع هذا هو رأي الجماهير اعني ان الاجماع لا ينسخ ولا ينسخ به وبه جزم في الكتاب ودليله انه لو انتسخ لكان انتساخه إما بالكتاب والسنة أو الاجماع أو القياس والكل باطل أما بطلانه بالأوليين فلأن نص الكتاب والسنة متقدم على الاجماع لأن جميع النصوص متلقاة من النبي صلى الله عليه وسلم ولا ينعقد الاجماع في زمنه لأنهم ان اجمعوا دونه لم يصح وان كان معهم أو علم بهم وسكت فالعبرة بقوله أو تقريره واما بالاجماع فلاستحالة انعقاده على خلاف الاجماع للزوم خطا أحد الاجماعين والى هذا أشار بقوله ولا ينعقد الاجماع بخلافه واما القياس فلأن شرط صحته ان لا يخالف الاجماع فإذا قام القياس على خلاف الاجماع لم يكن معتبرا لزوال شرطه واما ان الاجماع لا ينسخ به فلأن المنسوخ به إما النص أو الاجماع او القياس والأولان باطلان لما عرفت وكذا القياس لزواله بزوال شرطه كما عرفت أيضا وأعلم أن ما ذكرناه من أن الإجماع لا ينعقد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم هو ما ذكره الأصوليون على طبقاتهم القاضي في مختصر التقريب لمن بعده ولقائل ان يقول إذا كانت الأمة لا تجتمع على خطا انعقد الإجماع بقولها ولا سيما إذا جوزنا الاجتهاد في زمانه وهو الصحيح فلعلهم اجتهدوا في مسألة واجمعوا عليها ولم يعلم هو صلى الله عليه وسلم بهم والامام وان جرى هنا على ما ذكره الأصوليون من ان الاجماع لا ينعقد في زمانه صلى الله عليه وسلم فقد ذكر ما يناقضه بعد ذلك.
قال والقياس إنما ينسخ مقياس أجلي منه.(13/370)
البحث الثاني: في نسخ القياس والنسخ به وقد اختلفوا في ذلك والذي ذهب إليه المصنفون ان القياس إنما ينسخ بقياس اجلي من القياس الأول وأظهر ويعرف قوة أحد القياسين بما سيأتي ان شاء الله في ترجيح الأقيسة وإنما حصر الذي ينسخ في القياس الأجلي دون غيره لأن غيره أما نص أو إجماع ويمتنع النسخ بهما لزوال شرطه حينئذ كما تقدم واما قياس مساو للأول ويمتنع الترجيح من غير مرجح واما قياس أخفى ويمتنع لتقديم المرجوح على الراجح فقد تحرر من كلام المصنف هذا ان القياس قد يكون منسوخا وقد يكون ناسخا لأن(13/371)
ص -255-…في نسخ القياس بالقياس ذلك ومنهم من منع نسخه والنسخ به مطلقا ومنهم من جوز نسخه بسائر الأدلة ونسخ جميع الأدلة وقال الإمام نسخ القياس إما ان يكون في زمان حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته فإن كان حال حياته فلا يمتنع رفعه بالنص والإجماع والقياس أما بالنص فبأن ينص الرسول صلى الله عليه وسلم في الفرع على خلاف الحكم الذي يقتضيه القياس بعد استقرار التعبد بالقياس.
واما بالاجماع فلأنه ان اختلفت الامة على قولين قياسا ثم اجمعوا على أحد القولين رافعا لحكم القياس الذي اقتضى القول واما بالقياس فبأن ينص في صورة بخلاف ذلك الحكم ويجعله معللا بعلة موجودة في ذلك الفرع ويكون إمارة عليتها أقوى من امارة علية الوصف للحكم الأول في الأصل الأول ويكون كل ذلك بعد التعبد بالقياس الأول.
وأما بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يجوز نسخه في المعنى وان كان ذلك لا يسمى نسخا في اللفظ أما بالنص إذا اجتهد إنسان في طلب النصوص ثم لم نظفر بشيء أصلا ثم اجتهد فخرج شيئا بالقياس ثم ظفر بعد ذلك بنص أو اجماع أو قياس أقوى من القياس الأول على خلافه فان قلنا كل مجتهد مصيب كان هذا الوجدان ناسخا لحكم الأول من القياس لكنه لا يسمى ناسخا لأن القياس إنما يكون معمولا به بشرط ان لا يعارضه شيء من ذلك وان قلنا المصيب واحد لم يكن القياس الأول معتدا به فلم يكن النص الذي وجده آخر ناسخا لذلك القياس واما ان يكون القياس ناسخا فهو أما ان ينسخ كتابا أو سنة أو اجماعا أو قياسا والأقسام الثلاثة الأول باطلة بالإجماع.
واما الرابع وهو كونه ناسخا لقياس آخر فقد تقدم الكلام فيه هذا كلام الإمام قال صاحب التحصيل ولقائل ان يقول في هذه الاقسام نظر فليتأمله الناظر وما ذكره صاحب التحصيل صحيح فان النظر من أوجه.(13/372)
أحدها: قوله يجوز نسخ القياس حال حياة النبي صلى الله عليه وسلم بالاجماع يناقض قوله قبل ذلك أن الاجماع لا ينعقد في زمنه وأنه يمتنع نسخ القياس به أيضا.
والثاني: بناء ذلك على ان كل مجتهد مصيب غير سديد فان ذلك النص(13/373)
ص -256-…الذي يطلع عليه المجتهد بعد ذلك لا بدوران يكون كان موجودا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ضرورة ان النصوص لا تنشا بعده ولكنه كان قد خفى عليه فإذا بان له تبين إذ ذاك ان حكم القياس مرتفع من اصله وليس هو من النسخ في شيء لا في اللفظ ولا في المعنى سواء قيل كل مجتهد مصيب أم لم يقل بذلك.
والثالث: ان بناء ذلك على ان كل مجتهد مصيب ان صح لم يختص بما بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.
والرابع: أنه نقل الاجماع على بطلان الاقسام الثلاثة الأول وليس يجيد لما نقله جماعة من تجويز نسخ الكتاب بالسنة وبالقياس عن طائفة.
والخامس: في قوله ان قلنا المصيب واحد لم يكن القياس الأول متعبدا به قلنا لا نسلم فإن المصيب وان اتحد فقد انعقد الاجماع على انه يجب على كل مجتهد ان يعمل به ومن قلده بما اداه إليه اجتهاده من قياس أو غيره وإن كان قد اخطأ الحكم المقرر في نفس الأمل كما يقول فيمن اجتهد ثم اخطأ الكعبة يجب ان يصلي الى الجهة التي استقبلها وان كانت خطأ في نفس الأمر واعلم ان الإمام لم يخترع هذا التفصيل بل سبقه إليه أبو الحسين في المعتمد.
وقال الآمدي العلة الجامعة في القياس ان كانت منصوصة فهي في معنى النص ويمكن نسخه بنص أو قياس في معناه لو ذهب إليه ذاهب بعد النبي صلى الله عليه وسلم لعدم اطلاعه على ناسخه بعد البحث فانه وان وجب عليه اتباع ما ظنه فوقع حكمه في حقه بعد اطلاعه على الناسخ لا يكون نسخا متجددا بل يتبين انه كان منسوخا وان كانت مستنبطة فحكمها في حقه غير ثابت بالخطاب فرفعه في حقه عند الظفر بدليل يعارضه ويترجح عليه لا يكون نسخا لكونه ليس بخطاب لأن النسخ هو الخطاب.(13/374)
أما النسخ بالقياس فاختار فيه انه يصح ان كانت العلة منصوصة وإلا فإن كان القياس قطعيا كقياس الامة على العبد في السراية فانه وان كان مقدما لكن ليس نسخا لكونه ليس بخطاب والنسخ عنده هو الخطاب وان كان ظنيا بان تكون العلة مستنبطة فلا يكون نسخا.(13/375)
ص -257-…قال الرابعة نسخ الأصل يستلزم نسخ الفحوى وبالعكس لأن نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم والفحوى يكون ناسخا.
فحوى الخطاب هو مفهوم الموافقة كما سبق واختلف في ان نسخ الأصل كتحريم التأفيف مثلا هل يستلزم نسخ الفحوى كتحريم الضرب وفي عكسه وهو ان نسخ الفحوى وهو تحريم تضرب هل يستلزم نسخ الأصل وهو تحريم التأفيف على مذاهب.
أحدها: ان نسخ كل منهما يستلزم نسخ الآخر واختاره صاحب الكتاب واستدل على ان نسخ الفحوى يستلزم بان الفحوى لازم للأصل ونفي اللازم يستلزم نفي الملزوم ولم يستدل على عكسه وسيأتي ان شاء الله تعالى.
والثاني: أنه لا يلزم من نسخ الآخر.
والثالث: ان نسخ الأصل يستلزم لأن الفحوى تابع له ولا يتصور بقاء التابع مع ارتفاع المتبوع ونسخ الفحوى لا يستلزم وجزم الإمام بنسخ الأصل يستلزم واما نسخ الفحوى هل يستلزم فنقله عن اختيار أبي الحسين وسكت عليه وقال الآمدي المختام ان تحريم الضرب فى محل السكوت ان جعلناه من باب القياس فنسخ الاصل يوجب نسخ الفرع لاستحالة بقاء الفرع دون اصله وان جعلناه ثابتا بدلالة اللفظ فلا شك ان دلالة اللفظ على تحريم التأفيف بجهة صريح اللفظ وعلى الضرب بجهة الفحوى وهما دلالتان مختلفتان غير ان دلالة الفحوى تابعة فيمكن حينئذ ان يقال لا يلزم من رفع إحدى الدلالتين رفع الأخرى.
فإن قلت الفحوى تابع فكيف يحتمل بقاؤه مع ارتفاع المتبوع قلت نسخ حكم المنطق ليس نسخا لدلالته بل نسخا لحكمه ودلالة الفحوى تابعة لدلالة المنطوق على حكمه لا تابعة لحكمه ودلالته باقية بعد نسخ حكمه كما كانت قبل ذلك فما هو اصل لدلالة الفحوى غير مرتفع وما هو مرتفع ليس أصلا للفحوى قوله والفحوى تكون ناسخا قد ادعى الإمام والآمدي في ذلك الاتفاق وفيه نظر حجاجا ونقلا أما الحجاج فوقوع الاختلاف في أنه هل هو من باب القياس(13/376)
ص -258-…وإذا كان من باب القياس وفي النسخ بالقياس ما تقدم من الخلاف فلا ينفك عن خلاف وأما النقل.
قال الشيخ أبو اسحاق الشيرازي في شرح اللمع ما ذكرناه إذ قال من أصحابنا من جعله بالقياس فعلى هذا لا يجوز النسخ به انتهى أي بناء على أنه لا يجوز النسخ بالقياس وذلك هو المختار عند الشيخ أبي اسحاق وكذلك القاضي كما نص عليه في مختصر التقريب وفاتنا ان نحكي ذلك فيما تقدم ولكن العهد به قريب.
واستدل الإمام على ان الفحوى ينسخ بأن دلالته ان كانت لفظية فظاهر وان كانت عقلية قال القرافي يعنى قياسية أي أدرك العقل الحكمة التي لأجلها ورد الحكم فالحق المسكوت بالمنطوق قياسا.
قال الإمام فهي يقينية فيقتضي النسخ لا محالة ولقائل ان يقول القياس ليس يقينيا لاحتمال غلطنا في ان ذلك الحكم في الأصل معلل وان العلة هي ما ذكرنا فلعل العلة غيرها ولعلها تقضي نفي ما يريد ثباته والمسالة خلافية بين العلماء ولا قاطع مع الخلاف والله أعلم.
وهذا تمام القول في مفهوم الموافقة واما مفهوم المخالفة فيجوز نسخه مع نسخ الأصل وبدونه وذلك واضح كقوله عليه السلام: "الماء من الماء" فإنه نسخ مفهومه بقوله عليه السلام: "إذا التقى الختانان" وبقي أصله وهو وجوب الغسل من الإنزال ذكره صفي الدين الهندي قال واما نسخ الأصل بدونه فأظهر الاحتمالين انه لا يجوز لأنه إنما يدل على العدم باعتبار ذلك القدر المذكور فإذا بطل تأثير ذلك القيد بطل ما يبنى عليه فعلى هذا نسخ الاصل نسخ للمفهوم وليس المعنى منه ان يرتفع العدم ويحصل الحكم الثبوتي بل المعنى منه ان يرتفع العدم الذي كان شرعيا ويرجع الى ما كان عليه من قبل.
قال الخامسة زيادة صلاة ليس بنسخ قبل تغير الوسط قلنا وكذا زيادة العبادة.
اتفق العلماء على أن زيادة عبادة من غير جنس ما سبق وجوبه كزيادة(13/377)
ص -259-…وجوب الزكاة مثلا على الصلاة ليس بنسخ واختلفوا في ان زيادة صلاة على الصلوات الخمس هل يكون نسخا فذهب الجماهير الى أنه ليس بنسخ.
وقال بعض أهل العراق انه نسخ لأن زيادة هذه السادسة بغير الوسط أي أنها تجعل ما كان وسطا غير وسط فيكون ذلك نسخا للأمر بالمحافظة على الصلاة الوسطى.
وأجاب بان هذا غير سديد إذ يلزم عليه ان تكون زيادة عبادة على آخر العبادات نسخا لأنه يجعل العبادة الأخيرة غير الآخرة فلو كان عدد كل الواجبات قبل الزيادة عشرة فبعد الزيادة لا يبقى ذلك فيكون نسخا واعلم ان هذا الجواب غير سديد لأن غير الصلاة من العبادات لم يرد فيه الامر فالمحافظة على الوسطى ليقال مثله فيها بل الحق عندي أنهم ان أرادوا بكونها تغير الوسط أنها تجعل المتوسط بين الشيئين غير وسط فذلك غير سديد لأن كون العبادة وسط أمر حقيقي ليس بشرعي والنسخ إنما يتطرق الى الحكم الشرعي وان أرادوا به ما ذكر من نسخ الامر بالمحافظة على الوسطى فنقول ان كانت الوسطى علما على صلاة بعينها أما الصبح أو العصر وليست فعلى من المتوسط بين الشيئين فما ذكرتموه ساقط إذ لا يلزم من زيادة صلاة ان يرتفع الامر بالمحافظة على تلك الصلاة الفاضلة لعدم منافاته له وان كانت الوسطى المتوسطة بين الصلوات فالقول حينئذ الذي يظهر ان الامر يختلف بما يزيد والحالة هذه فان زيدت واحدة فهي ترفع الوسط بالكلية ويتجه ما ذكروه اتجاها واضحا لأن الوسط حينئذ وان كان أمرا حقيقيا الا ان الشرع ورد عليه وقرره فيكون نسخا للحكم الشرعي وان زيدت ثنتين ونحوهما مما لا يرفع الوسط فلا نسخ إذ لم يرفع للوسط وانما خرجت الظهر مثلا عن ان يكون وسطا وكونها كانت الوسط إنما هو امر حقيقي اتفاقي لا يرد النسخ عليه والأمر بالمحافظة على الوسط شيء وراء ذلك وهو لم يزل بل هو باق.(13/378)
قال: أما زيادة ركعة ونحوها فذلك عند الشافعي رضي الله عنه ونسخ عند ابي حنيفة رحمه الله وفرق قوم بين ما نفاه المفهوم وما لم ينفه والقاضي عبد الجبار بين ما ينفي اعتداد الاصل وبين ما لم ينفه وقال البصري إن نفي ما(13/379)
ص -260-…ثبت شرعا كان نسخا وإلا فلا زيادة ركعة على ركعتين نسخ لاستعقابهما التشهد وزيادة التغريب على الحد ليس بنسخ.
مضى الكلام في زيادة العبادة المستقلة كزيادة ركعة أوركوع ففيه مذاهب:
أحدها: أنها ليست نسخا وهو مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه وقول ابي علي وأبي هاشم.
الثاني: أنها نسخ وهو قول الحنفية.
الثالث: التفصيل فقال قوم ان كانت الزيادة قد نفاها المفهوم فيكون نسخا وإلا فلا كما قال في سائمة الغنم زكاة ثم قال في المعلومة زكاة وقال القاضي عبد الجبار بن احمد إن كانت الزيادة قد غيرت المزيد عليه تغيرا شديدا حتى صار المزيد عليه لو فعل بعد الزيادة على ما كان يفعل قبلها لم يعتد به بل وجوده كعدمه ويجب استئنافه فانه يكون نسخا كزيادة ركعة على ركعتين وإن كان المزيد عليه لو فعل على نحو ما كان يفعل قبل الزيادة لصح لم تكن نسخا كزيادة التغريب على حد القاذف.
وقال أبو الحسين البصري ان كان الزائد رافعا لحكم ثابت 2بدليل شرعي كان نسخا سواء ثبت بالمنطوق أم بالمفهوم وان كان ثابتا بدليل عقلي كالبرآة الأصلية فلا وهذا هو الأحسن عند الإمام والمختار عند الآمدي وابن الحاجب قوله فزيادة أي فعل ما ذكره أبو الحسين زيادة ركعة على ركعتين يكون حينئذ نسخا لأنها رفعت حكما شرعيا وهو وجوب التشهد عقيب الركعتين وزيادة التغريب على الحد في حق الزاني لا يكون نسخا لأن عدم التقريب كان ثابتا بالبرآة الأصلية وكلام المصنف يوهم ان هذين المثالين من تتمة كلام أبو الحسين وليس كذلك فقد نقل عنه الآمدي في الفرع الثاني من فروع المسالة أن المثالين جميعا ليسا بنسخ.
أما الثاني فظاهر واما الأول فلأن التشهد ليس محله بعد الركعتين بخصوصهما بل آخر الصلاة وذلك غير مرتفع وقال بعضهم واختاره الغزالي إن(13/380)
ص -261-…كانت الزيادة متصلة بالمزيد عليه اتصال اتحاد رافع للتعدد والانفصال كزيادة ركعتين على ركعتي الصبح فهو نسخ وان لم يكن كذلك كزيادة عشرين على حد القاذف فلا ولم يذكر في الكتاب هذا المذهب والله اعلم.
قال: خاتمة النسخ يعرف بالتاريخ فلو قال الراوي هذا سابق قبل بخلاف ما لو قال هذا منسوخ لجواز ان يقوله عن اجتهاد ولا يراه.
المقصود من هذه الخاتمة بيان الطرق التي بها يعرف الناسخ من المنسوخ وإنما ذكر ذلك آخر الباب وجعله خاتمة لنقله بجميع أنواع النسخ وجملة القول فيه ان النسخ يعرف إما بأن ينص عليه الشارع ولم يتعرض المصنف لهذا القسم لوضوحه وإما بالتاريخ بأن يعلم بطريق صحيح ان أحد الدليلين المتنافيين متأخر عن الآخر فيحكم بأنه ناسخ له فلو قال الراوي هذه الآية نزلت قبل تلك الآية أو في سنة كذا والأخرى في السنة التي بعدها وهذا الحديث سابق على ذلك الحديث أو كان في سنة كذا وكذا وهذا في السنة التي بعده قبل قوله في ذلك وان كان قبوله يقتضي نسخ المتواتر وذلك لأن النسخ حصل بطريق للتبع والشيء يغتفر إذا كان تابعا ولا يغتفر أصلا في مسائل كثيرة أصولية وفقهية كما ان الشفعة لا تثبت في الأشجار والأبنية بطريق الأصالة وتثبت تبعا للأرض إذا بيعت معها وكما إذا قطعت يد المحرم فانه لا فدية عليه للشعر الذي عليها والظفر لأنهما هنا تابعان غير مقصودين بالإبانة وعلى قياس هذا لو كشط جلدة الرأس فلا فدية ويشبه هذا بما لو كان تحته امرأتان صغيرة وكبيرة فأرضعت الكبيرة الصغيرة فإنه يبطل النكاح ويجب المهر ولو قتلتها لا يجب المهر لأن البضع تابع عند القتل غير مقصود ويلتحق به ايضا ما في الرافعي عن التتمة من انه لا يجوز توكيل المرأة في الاختيار في النكاح ان اسلم الكافر على اكثر من أربع نسوة لأن الفروج لا تستباح بقول النساء.(13/381)
وفي الاختيار للفراق وجهان لأنه وان تضمن اختيار الأربع للنكاح فليس أصلا فيه بل تابعا فاغتفر وكذلك إذا أذن السيد للعبد في النكاح وأطلق فزاد على مهر المثل فإن الزيادة تجب في ذمته يتبع بها إذا عتق بلا خلاف ولا يقال هل الأخرى في ثبوت هذه الزيادة في ذمة العبد بغير إذن السيد خلاف كما(13/382)
ص -262-…جرى في ضمان العبد بغير إذن السيد لأن الالتزام ها هنا جرى في ضمن عقد مأذون فيه.
وقد يمتنع الشيء مقصودا وان حصل في ضمن عقد لم يمتنع ونظيره يصح خلع العبد قولا واحدا ويمتنع من تمليك السيد بعقد الهبة على اصح الوجهين ومسائل هذا الفصل تخرج عن حد العد.
أما لو قال الراوي هذا منسوخ لم يقبل لجواز ان يقوله عن اجتهاد منه ولا يلزمنا ذلك الاجتهاد أو لا يقتضيه رأينا وقال الكرخي ان عين الراوي الناسخ كقوله هذا نسخ هذا فالأمر كذلك لجواز ان يقوله عن اجتهاد وان لم يعينه بل اقتصر على قوله هذا منسوخ قبل لأنه لولا ظهور النسخ فيه لما أطلق النسخ إطلاقا.
قال الإمام هذا ضعيف فلعله قاله لقوة ظنه في أول الامر كذلك وليس كذلك وبالله التوفيق والعون تم الجزء الأول ومن تجزئة المصنف فسح الله في مدته.(13/383)
ص -263-…الكتاب الثاني في السنة
قال رحمه الله الكتاب الثاني في السنة وهي قول الرسول صلى الله عليه وسلم أو فعله قد سبق مباحث القول والكلام في الأفعال وطريق ثبوتها وذلك في بابين الباب الأول في أفعاله وفيه مسائل الاولى أن الأنبياء عليهم السلام معصومون لا يصدر عنهم ذنب الا الصغائر سهوا والتقرير مذكور في كتاب المصباح.
السنة في اللغة الطريقة والسيرة وفي الاصطلاح ما ترجح جانب وجوده على عدمه ترجيحا ليس معه المنع من النقيض وتطلق السنة على ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال التي ليست للإعجاز وهذا هو المراد هنا ويدخل في الأفعال التقرير لأنه كف عن الإنكار والكف فعل على المختار كما سبق فإذا أردنا تعريف السنة التي عقد لها هذا الكتاب قلنا هي الشيء الصادر عن محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم لا على وجه الإعجاز وقد سبقت مباحث القول بأقسامها والأمر والنهي والعام والخاص والمجمل والمبين والناسخ والمنسوخ وكلامنا الآن في الأفعال والباب الأول معقود لها وفي الطريق التي يتوصل بها الى ثبوت الأفعال والباب الثاني معقود لذلك وفي الباب الأول مسائل.
الأولى: في عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام واعلم ان الكلام في هذه المسألة محلة علم الكلام واختيار المصنف قد عرفته وهو رأي جماعات ويشترط عند من يقول بوقوع ذلك بطريق السهو ان يحصل الذكر والذي نختاره نحن وندين الله تعالى عليه انه لا يصدر عنهم ذنب لا صغير ولا كبير لا عمدا ولا سهوا وان الله تعالى نزه ذواتهم الشريفة عن صدور النقائص وهذا هو(13/384)
ص -264-…اعتقاد الشيخ الإمام الوالد أيده الله وعليه جماعة منهم القاضي عياض بن محمد اليحصبي ونص على القول به الأستاذ أبو اسحاق في كتابه في أصول الفقه وزاد انه يمتنع عليهم النسيان ايضا واما دعوى الإمام في الكلام على الطرق الدالة على القطع بصحة الخبر مما عدا المتواتر في الكلام على خبر الرسول صلى الله عليه وسلم انه وقع الاتفاق على جواز السهو والنسيان فهي دعوى غير سديدة لما حكاه الأستاذ وذهب إليه والمصنف أحال الكلام في هذه المسالة على كتابه مصباح الأرواح.
قال الثانية: فعله المجرد على الإباحة عند مالك والندب عند الشافعي والوجوب عند ابن سريج وأبي سعيد الاصطخري وتوقف الصيرفي وهو المختار لاحتمالها واحتمال ان تكون من خصائصه.
فعل النبي صلى الله عليه وسلم على أقسام.
الأول: ان يدل آخر أو قرينة معه على انه لوجوب كقوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني اصلي" وقوله عليه السلام: "خذوا عني مناسككم" فان هذين الحديثين يدلان على وجوب اتباعه في أفعال الصلاة وأفعال الحج إلا ما خصه الدليل والقول في هذا القسم متضح فانه على حسب ما يقوم الدليل والقرينة عليه وفاقا.
الثاني: ما علم انه صلى الله عليه وسلم فعله بيانا لشيء نحو قطعه يد السارق من الكوع إذ فعله بيانا لقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}.
الثالث: ما عرف بالقرينة انه للإباحة كالأفعال الجلية نحو القيام والقعود والأكل والشرب وغير ذلك وأمره واضح الا أن التأسي مستحب وقد كان ابن عمر رضي الله عنه لما حج يجر خطام ناقته حتى يبركها في موضع بركت فيه ناقة النبي صلى الله عليه وسلم تبركا بآثاره الظاهرة ومواطن نعاله الشريفة.
والرابع: ما عرف أنه مخصوص به كالضحى والأضحى.
الخامس: ما عرف انه غير مخصوص به كأكثر التكاليف فهذه الاقسام(13/385)
ص -265-…كلها ليس فيها شيء من الخلاف وأمرها واضح وكل هذه الاقسام خرجت بقول المصنف فعله المجرد فافهم ذلك.
السادس: ما تجري عن جميع ما ذكرناه الا ان قصد القربة ظاهر فيه فهذا ليس أيضا مجردا من كل وجه ولك ان تقول انه يخرج ايضا بقول المصنف المجرد وفي هذا القسم اختلاف لنا غرض في تأخير حكايته الى سابع الأحكام.
السابع: ما لم يظهر فيه قصد القربة بل كان مجردا مطلقا فهذا أمر دائر بين الوجوب والندب والإباحة لأن المحرم يمتنع صدوره عنه لما تقرر في مسألة عصمة الأنبياء والمكروه يندر وقوعه من أحاد عدول المسلمين فكيف من سيد المتقين وإمام المرسلين والذي نراه انه لا يصدر منه وانه من جملة ما عصم عنه وإذا دار الامر بين هذه الأمور فهل يدل على واحد منها مسألة الكتاب وفيها مذاهب.
أحدها: انه يدل على الإباحة وهو مذهب مالك وتابعه في ذلك جماعة من الأئمة وجزم به الآمدي.
والثاني: انه يدل على الندب وهو المنسوب الى الشافعي واختاره امام الحرمين وبه قالت طوائف من الأئمة ونقله القاضي أبو الطيب عن ابي بكر القفال وعن الصيرفي وسيأتي النقل عن الصيرفي بالوقف.
الثالث: أنه يدل على الوجوب وبه قال ابن سريج وأبو سعيد الاصطخري وابن خيران وابن أبي هريرة والحنابلة وكثير من المعتزلة ونقله القاضي في مختصر التقريب عن مالك قال القرافي وهو الذي نقله أئمة المالكية في كتبهم الأصولية والفروعية وفروع المذهب مبنية عليه ثم قال القاضي واختلف القائلون بالوجوب على طريقين فذهب بعضهم الى انا ندرك الوجوب بالعقل وذهب بعضهم إلى أنا ندركه بأدلة السمع.
الرابع: التوقف وعليه جمهور المحققين منا كالصيرفي والواقفية واختاره الغزالي والامام واتباعه منهم المصنف وصححه القاضي أبو الطيب في الكفاية عن اكثر الأصحاب وأبي بكر الدقاق وأبي القاسم بن كج وقالوا لا ندري أنه(13/386)
ص -266-…للوجوب أو الندب أو للإباحة لاحتمال هذه الأمور كلها واحتمال ان يكون ايضا من خصائصه.
والخامس: انه على الخطر في حقنا حكاه الغزالي قال الآمدي وهو قول بعض من جوز على الأنبياء المعاصي قلت وليس مستندا لقائل بهذه المقالة تجويز المعاصي بل ما ذكره القاضي في مختصر التقريب فقال ذهب قوم الى انه يحرم اتباعه وهذا من هؤلاء الانباء على أصلهم في الأحكام قبل ورود الشرائع فانهم زعموا أنها على الخطر ولم يجعل فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم علما في تثبت حكم فبقي الحكم على ما كان عليه في قضية العقل قبل ورود الشرائع انتهى وكذلك ذكر الغزالي وقال لقد صدق هذا القائل في قوله بقي على ما كان وأخطأ في قوله.
إن الأحكام قبل الشرع على الخطر لما قررناه في موضعه فان قلت فهل قصد القربة في الفعل قرينة الوجوب أو الندب حتى لا يتأتى فيه الخلاف المذكور قلت لا لتصريح بعضهم بجريان الخلاف في القسمين جميعا اعني ما ظهر فيه قصد القربة وما لم يظهر غير ان القول بالوجوب والندب يقوي في القسم الأول بالإباحة والتوقف يضعف فيه.
واما القسم الثاني فبالعكس منه فإن قلت فكيف يتجه جريان قول بالإباحة فيما يظهر فيه قصد القربة فإن القربة لا بجامع استواء الطرفين قلت النبي صلى الله عليه وسلم قد يقدم على ما هو مستوى الطرفين ليبين للامة جواز الاقدام عليه ويثاب صلى الله عليه وسلم بهذا القصد وهذا الفعل وان كان مستوى الطرفين فيظهر في المباح قصد القربة هذا الاعتبار ولا يتجه جريان القول بالإباحة الا بهذا التقريب على انا لم نر من المتقدمين من صرح بحكايته في هذا القسم أعني السادس وهو ما ظهر فيه قصد القربة نعم حكاه الآمدي ومن تلقاه منه ولا مساعد للآمدي على حكايته وأنا قد وقفت على كلام القاضي فمن بعده.(13/387)
الثامن: ما دار الأمر فيه بين ان يكون جبليا ان يكون شرعيا وهذا القسم لم يذكره الأصوليون فهل يحمل على الجبلي لأن الاصل عدم التشريع أو على الشرعي لأنه صلى الله عليه وسلم تعث لبيان الشرعيات.(13/388)
ص -267-…وهذا القسم قاعدة جليلة وهي مفتتح كتابنا الأشباه والنظائر وقد ذكرت في كتاب الأشباه والنظائر انه قد يخرج فيها قولان من القولين في تعارض الاصل والظاهر ان الاصل عدم التشريع والظاهر أنه شرعي لكونه مبعوثا لبيان الشرعيات.
ومن صور هذا القسم أنه صلى الله عليه وسلم دخل من ثنية كداء وخرج من ثنية كداء فهل كان ذلك لأنه صادف طريقة أو لأنه سنة فيه وجهان ومنها جلسة الاستراحة عندما حمل اللحم فقيل ذلك جبلي فلا يستحب وقيل شرعي ومنها انه صلى الله عليه وسلم طاف راكبا فهل يحمل على الجبلي فلا يستجيب أو على الشرعي ومنها حجه راكبا ومنها ذهابه في العيد في طريق وإيابه في آخر القاعدة مستوفاة في كتابنا الأشباه والنظائر كمله الله.
قال احتج القائل بالإباحة بأن فعله لا يكره ولا يحرم والأصل عدم الوجوب والندب فبقي الإباحة ورد بأن الغالب من فعله الوجوب أو الندب.
احتج القائل بالإباحة بأن فعله صلى الله عليه وسلم لا يكون حراما لما تقرر في مسألة العصمة ولا مكروها لما قدمناه من انه نادر بالنسبة الى آحاد العدول فكيف الى اشرف المرسلين وهذا عند من يجوز وقوع المكروه وقد قدمناه في ذلك في المكروه الذي لا يقصد بفعله بيان جوازه.
أما ما فعله ليبين انه جائز فقد يقال لم لا يقع الاقدام ويكون مستحبا أو واجبا بالنسبة إليه لما في أقدامه عليه من تبيين الجواز كما قدمناه والذي يظهر انه لا يقدم على فعله إذ في القول مندوحة عن الفعل وإذا انتفى المحرم والمكروه انحصر الامر في الواجب والمندوب والمباح والاصل عدم الوجوب والندب فلم يبق إلا الإباحة.
وأجاب بأن الغالب على فعله الوجوب والندب فيكون الحمل على احدهما أولى لأن إلحاق الفرد بالأعم الأغلب ارجح وأولى من إلحاقه بخلاف ذلك ولقائل ان يقول الوجوب والندب وان كانا غالبا الا انا لا نسلم انه يقاوم الاصل الذي اشرنا إليه بل الاصل أولى قال وبالندب بأن قوله تعالى: {لَقَدْ(13/389)
ص -268-…كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}1 يدل على الرجحان والاصل عدم الوجوب.
واحتج القائل بالندب بقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} والاستدلال بهذه الآية يقرر على أربعة اوجه ثلاثة منها تدل على الندبية والرابع يدل على الوجوب.
الأول: التمسك بقوله لكم ووجهه انه قال عليكم وذلك يفيد انه مندوب إليه إذ المباح لا نفع فيه واللام للاختصاص بجهة النفع والظاهر من جهة الشرع اعتبار النفع الأخروي لا الدنيوي.
والثاني: هو ما أورده الإمام التمسك بقوله أسوة وتقريره ان التأسي لو كان واجبا لقال عليكم كما عرفت فلما قال لكم دل على عدم الوجوب ولما اثبت الأسوة دل على رجحان جانب الفعل على الترك فلم يكن مباحا.
الثالث: وهو ما أورده في الكتاب التمسك بقوله حسنة ووجهه ان قوله حسنة تدل على الرجحان والوجوب منتف بالأصل فتعين الندب ولم يجب عن هذا بل جمع بينه وبين دليل الإيجاب.
وأجاب عنهما بأن الأسوة والمتابعة من شرطهما العلم بصفة الفعل.
والرابع: الدال على الوجوب وتقريره أنه تعالى قال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} وهذا جار مجرى التهديد على ترك التأسي به لأن معنى الآية ان يرجو الله واليوم الآخر فله فيه الأسوة الحسنة ومن لا يرجو الله واليوم الآخر فليس له فيه الأسوة الحسنة فيكون وعيدا على ترك التأسي به أو نقول بعبارة أخرى انه جعل التأسي به لازما لرجاء الله واليوم الآخر فيلزم من عدم التأسي به عدم رجاء الله واليوم الآخر وهو محرم فكذلك ما يستلزمه والتأسي به في الفعل إنما هو بإتيان مثل فعله فيكون الإتيان بمثل فعله واجبا هذا تقرير الأوجه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأحزاب آية 21.(13/390)
ص -269-…واعلم أن الذي يظهر في الآية أن الله تعالى جعل للمؤمنين في النبي صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة وتلك الأسوة هي الاقتداء به وليست عامة في كل شيء إذ هي نكرة في سياق الاثبات فلا تقتضي العموم فلا يلزم دخول الفعل المجرد تحتها هذا من حيث اللفظ وسواء قرر على الوجه المقتضي للوجوب أم للندب والحق من الدلائل الخارجية والبراهين القاطعة ان الاقتداء به في كل شيء مشروع محبوب لأن الله تعالى جعله قدوة الخليقة ولكن الاقتداء به يستدعي العلم بصفة الفعل والفعل المجرد لم تعلم صفته فلا يدل وجوب الاقتداء ولا استحبابه عليه.
وأما تمسك الإمام بلفظ الأسوة ففيه نظر إذ المعنى ان لكم فيه قدوة وانه شرع الاقتداء به وذلك اعم من ان يكون على سبيل الوجوب أو الندب أو الإباحة كما تقول زيد قدمه وليس المعنى انه يجب الاقتداء به ولا يستحب بل ما هو أعم من ذلك.
واما تمسك المصنف بقوله حسنة فقد أورد عليه ان الحسنة لا تدل على الرجحان لما تقرر في أوائل الكتاب من ان المباح حسن وهذا ايراد لائح في مباديء النظر الا ان الذهن يسابق في هذه الآية الى فهم الرجحان من قوله حسنة لا يكاد يتمارى فيه.
ولعل سبب ذلك انه قال لكم أسوة فأفاد ذلك مشروعية الاقتداء فلما قال حسنة بعد ذلك اقتضى زيادة على المشروعية وليست تلك الزيادة الا الرجحان كما تقول زيد إنسان فان هذا كلام مفيد يفهم اللبيب منه بقولك إنسان فوق ما يفهم من مدلول إنسان من حيث هو وهو انه حلو الخصال الإنسانية الشريفة ولو لم يفهم زيادة على مدلول الإنسان لم يعد الكلام مفيدا إذ كل زيد إنسان.(13/391)
قال والوجوب بقوله تعالى: {فَاتَّبِعُوهُ} {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} وإجماع الصحابة على وجوب الغسل بالتقاء الختانين لقول عائشة رضي الله عنها فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا وأجيب بأن المتابعة هي الإتيان بمثل ما فعل على وجهه وما آتاكم معناه وما أمركم بدليل: {وَمَا نَهَاكُمْ} واستدلال الصحابة بقوله: "خذوا عنى مناسككم".(13/392)
ص -270-…واحتج القائل بالوجوب بالنص والإجماع أما النصف ففي مواضع.
أحدها: قوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ}1 وظاهر الأمر الوجوب.
وثانيها: قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} دلت على أن محبة الله تعالى التي هي واجبة إجماعا مستلزما لمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ولازم الواجب واجب فمتابعته واجبة.
وثالثها: قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}2 فإذا فعل فقد أتانا بفعل فوجب علينا أن نأخذه وأما الإجماع فإن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في وجوب الغسل من التقاء الختانين فقالت عائشة رضي الله عنها: "إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل فعلته انا ورسول الله صلى الله عليه وسلم: فاغتسلنا" رواه الإمام احمد والترمذي وقال حسن صحيح3 فرجعوا لقول عائشة واتفقوا على وجوب الغسل بالتقاء الختانين.
والجواب عن الدليلين الأولين بان المتابعة هي الإتيان بمثل فعله عل الوجه الذي اتى به من الندب أو غيره حتى لو فعله على جهة الوجوب ففعلناه على جهة الندب لم تحصل المتابعة.
وحينئذ فيلزم توقف الامر بالمتابعة على معرفة الجهة وإذا لم نعلم بها لم نؤمر بالمتابعة واعلم ان المتابعة والتأسي بمعنى واحد فلذلك جعل المصنف جواب المتابعة جوابا على التأسي الذي احتج به الذاهب إلى الندب كما عرفت.
وللمتابعة والتأسي شرط آخر مع ما ذكر وهو أن يقع الفعل لكونه فعل ومن هنا يغايران الموافقة فانه لا يشترط فيها ان تكون علة إياه كونه فعله وعن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف 158.
2 سورة الحشر آية 7.(13/393)
3 كما رواه البخاري, كتاب الغسل باب التقاء الختانان وابن ماجة, كتاب الطهارة, باب ماجاء في وجوب الغسل إذا التقى الختانان ورواية أحمد ومسلم " إذا قعد بين شعبها الأربع ثم مس الختان الختان فقد وجب الغسل".
وانظر نيل الأوطار 1/160- 161.(13/394)
ص -271-…الآية الثالثة: أن معنى قوله: آتاكم أمركم يدل على ذلك أنه قال في مقابلة: {وَمَا نَهَاكُمْ} وأما الإجماع على وجوب الغسل فليس لمجرد الفعل بل لأنه فعل في باب المناسك وقد كانوا مأمورين بأخذ المناسك عنه بقوله: "خذوا عنى مناسككم"
واللفظ وان ورد في الحج فهو عام في كل نسك أي كل عبادة قلت وفي الجواب نظر فان في الحديث بعد قوله خذوا عني مناسككم فإني لا ادري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه كذا رواه مسلم واحمد والنسائي وعامة من رواه ويتعين بهذا اللفظ حمله على أعمال الحج دون غيرها.
ويمكن ان يقال في الجواب عن الاجماع انهم لم يجمعوا بمجرد فعله عليه السلام بل لفعل عائشة رضي الله عنها معه فان بفعلها يتبين ان الحكم فيها فينا واحد بخلافه لاحتمال الخصوصية فيه ثم لقائل ان يقول هذا القسم مما ظهر فيه قصد القربة والمصنف إنما تكلم في المتجرد.
قال الثالثة جهة فعله أما بتنصيصه أو تسويته بما علم جهته وبما علم انه امتثال آية دلت على أحدها أو بيانها وخصوصا الوجوب بإمارته كالصلاة بأذان وإقامة وكونه موافقة نذر أو ممنوعا لو لم يجب كالركوعين في الخسوف والندب بقصد القربة مجردا وكونه قضاء لمندوب.
تقدم أن المتابعة مأمور بها وأن من شرطها العلم بجهة الفعل وهذه المسألة في بيان الطرق التي يعرف بها الجهة وقد عرفت ان فعله صلى الله عليه وسلم منحصر في الواجب والمندوب والمباح فالطريق حينئذ قد يعم هذه الأمور وقد يخص البعض منها فالعام أربعة.
أحدها: أن ينص على كونه من القسم الفلاني.
الثانية: أن يسويه بفعل علمت جهته كما إذا قال هذا الفعل مساو للفعل الفلاني وكان ذلك الفعل المساوي إليه معلوم الجهة.
والثالث: أن يقع امتثالا لآية دلت على أحد هذه الثلاثة.
والرابع: أن يقع بيانا لآية مجملة دلت على أحدها والى هذا القسم أشار بقول أو بيانها وهو مرفوع عطفا على قوله امتثال أي ويعلم جهة فعله بسبب أن(13/395)
ص -272-…علم ذلك الفعل امتثال آية أو بيان قوله وخصوصا أي ويعلم خصوصا الوجوب بالعلامات الدالة عليه وذلك في أشياء.
أحدها: ان يقع صفة تقرر في الشريعة أنها امارة الوجوب كالصلاة بأذان وإقامة.
والثاني: أن يكون جزاء شرط كفعل ما وجب بالنذر بأن يقول مثلا لله على إن جرى الأمر الفلاني صوم غد ثم نرى جريان ذلك الامر وصومه في غد واعلم ان وقوع النذر من النبي صلى الله عليه وسلم غير متصور ان قلنا بكراهته وهو الذي حكاه الشيخ أبو علي السبخي عن نص الشافعي كما نقل ابن أبي الدم.
الثالث: أن يكون ممنوعا لو لم يجب كالإتيان بالركوعين في صلاة الخسوف والكسوف وكالختان ولقائل ان يقول هذا لا ينتقض بسجود السهو وسجود التلاوة فإنهما شيئان وممنوع منهما لولا المقتضى لهما ويعرف الوجوب ايضا بكون قضاء الواجب هذا قد ذكره المصنف في المندوب ومن العجب إخلاله به هنا ويعرف ايضا بالمداومة على الفعل مع عدم ما يدل على عدم الوجوب وهذا دليل ظاهر على الوجوب كأنه لو كان غير واجب لنص عليه دليلا أو لأدخل بتركه لئلا يوهم إيجاب ما ليس بواجب.
وقوله والندب أي ويختص معرفته الندب بشيئين.
أحدهما: قصد القربة مجردا عن امارة دالة على الوجوب فانه يدل على انه مندوب لأن الرجحان ثبت بقصد القربة والاصل عدم الوجوب وفي هذا ما تقدم من الخلاف.
والثاني: كون الفعل قضاء لمندوب وبعرف الوجوب والندب كلاهما بالدلالة على انه كان مخيرا بينه وبين فعل آخر نبت وجوبه لأن التخيير لا يقع بين الواجب وما ليس بواجب هذا أهمله المصنف.
قال الرابعة: الفعلان لا يتعارضان فإن عارض فعله الواجب اتباعه قولا متقدما نسخه وان عارض متأخرا عاما فبالعكس وان اختص بنا خصنا قبل الفعل ونسخ عنا بعده وان جعل التاريخ فالأخذ بالقول في حقنا لاستبداده.(13/396)
ص -273-…التعارض بين الشيئين هو تقابلهما على وجه يمنع منهما مقتضى صاحبه والتعارض بين الفعلين غير متصور لأنهما وان تناقض حكمهما فيجوز ان يكون الفعل في ذلك واجبا وفي مثل ذلك الوقت بخلافه لأن الأفعال لا عموم لها ولو فرض مع الفعل الأول قول مقتض الوجوب تكراره فالفعل الثاني قد يكون ناسخا أو مخصصا لكن ذلك القول لا للفعل فالمتعارض بين الفعلين ممتنع بل أما ان يقع بين قولين أو قول وفعل ومحل الكلام في الأول كتاب التعادل والتراجيح.
وأما الثاني: فذكره هنا وله أحوال لأنه إما ان يكون القول متقدما أو متأخرا أو يجهل الحال.
قوله قولا متقدما هذا هو الحال الأول وجملة القول فيه انه عليه السلام إذا فعل فعلا وقام الدليل على وجوب اتباعه فيه فإنه يكون ناسخا للقول المتقدم عليه سواء كان ذلك القول عاما كقوله مثلا صوم يوم عاشوراء واجب علينا ثم انا نراه افطر فيه وأقام الدليل على اتباعه فيه أم كان خاصا به أم خاصا بنا.
قوله فإن عارض متأخرا هذا هو الحال الثاني فإذا كان القول متأخرا عن الفعل الذي دل الدليل على وجوب اتباعه فيه فإن لم يدل دليل على وجوب تكرر الفعل فلا تعارض وتركه المصنف لوضوحه وان دل على وجوب تكرره عليه وعلى أمته فالقول المتأخر إما ان يكون عاما يشمله يشمل أمته فيكون ناسخا للفعل المتقدم كما إذا صام عاشوراء وقام الدليل على وجوب اتباعه فيه وجوب تكرره ثم قال لا يجب علينا صومه هذا شرح قوله فإن عارض متأخرا عاما فبالعكس أي يكون الفعل منسوخا عكس حالته الأولى التي كان فيها ناسخا للقول.
وإما أن يكون خاصا به عليه السلام كقوله في المثال المذكور: "لا يجب علي صيامه" فلا تعارض بالنسبة إلى الأمة لعدم تعلق القول بهم فيستمر حكم الفعل الأول عليهم وينسخ في حقه صلوات الله وسلامه عليه وإما أن يكون خاصا بنا كقوله: "لا يجب عليكم صومه" فلا تعارض أيضا وحكمه صلى الله عليه وسلم مستمر.(13/397)
ص -274-…وأما نحن فيرتفع عنا التكليف به ثم ان ورد ذلك قبل صدور الفعل منا كان مخصصا مبينا لعدم الوجوب وهذا يتجه ان يكون بناء على انه يجوز التخصيص في اللفظ العام الى ان يبقى واحد وان ورد بعد صدور الفعل كان ناسخا لفعلنا المتقدم ولا يكون تخصيصا لإستلزامه تأخير البيان عن وقت الحاجة.
واعلم ان هذا التفصيل إنما يأتي إذا كانت دلالة الدليل الدال على وجوب اتباع الفعل ظاهرة كالإتيان بلفظ عام مثل هذا الفعل واجب على المكلفين ان قلنا المخاطب داخل في عموم خطابه أو علينا معاشر الناس واما إذا كانت قطعية فلا يمكن حمل القول المتأخر على التخصيص أصلا بل يتعين حمله على النسخ مطلقا ثم هذا كله فيما إذا كان الفعل المتقدم بما يجب علينا اتباعه كما عرفت واما ان لم يكن كذلك فلا تعارض بالنسبة إلينا لعدم تعلق الحكم بنا.
وأما بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم فإن الدليل على وجوب تكرر الفعل وكان القول المتأخر خاصا به أو متناولا له بطريق النص فيكون القول ناسخا للفعل وان كان بطريق الظهور فيكون الفعل السابق مخصصا لهذا العموم لأن المخصص عندنا لا يشترط تأخره عن العام.
ولم يذكر المصنف ذلك لظهور قوله فإن جهل هذا هو الحال الثالث وهو ان يكون المتأخر منهما اعني من القول والفعل مجهولا فان أمكن الجمع بينهما بالتخصيص أو غيره جمع لأن الجمع ما بين الدليلين ولو من وجه أولى من خلافه وان لم يكن الجمع بوجه ما وفيه تكلم المصنف ففيه مذاهب.
أحدها: ان الأخذ بالقول لأنه مستقل بالدلالة موضوع لها بخلاف الفعل فإنه لم يوضع لها وإن دل فإنما يدل بواسطة القول فيقلد القول لاستلزامه وهذا ما جزم به الإمام وأتباعه واختاره الآمدي.
والثاني: أنه يقدم الفعل لأنه أوضح الدلالة ألا ترى أنه يبين به القول كالصلاة والحج.(13/398)
والثالث: الوقوف الى ظهور التاريخ لتساويهما في الدلالة واختار ابن الحاجب قولا رابعا من هذه الثلاثة وهو الوقف بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم والقول بالنسبة(13/399)
ص -275-…ترجح القول فيعمل به في حقنا لا في حقه بشيء وهذا هو الذي اشعر به اختيار صاحب الكتاب لأنه قال فالأخذ بالقول في حقنا وسكت عن حقه صلى الله عليه وسلم.
قال الخامسة: إنه عليه السلام قبل النبوة تعبد بشرع وقيل لا.
المسالة مشتملة على بحثين.
الأول: فيما كان صلى الله عليه وسلم عليه قبل ان يبعثه الله تعالى برسالته قال امام الحرمين وهذا ترجع فائدته الى ما يجري مجرى التواريخ وقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب.
الأول: انه كان قبل النبوة متعبدا بشرع واختاره ابن الحاجب والمصنف وعلى هذا فقيل كان على شريعة آدم وقيل ابراهيم وقيل نوح وقيل موسى وقيل عيسى عليهم وعليه صلوات الله وسلامه وقال بعضهم ما ثبت انه تشرع من غير تخصيص.
والمذهب الثاني: أنه عليه السلام لم يكن قبل المبعث متعبدا بشيء قطعا.
قال القاضي في مختصر التقريب وهذا هو الذي صار إليه جماهير المتكلمين ثم اختلف القائلون بهذا المذهب فقالت المعتزلة بإحالة ذلك عقلا وذهب عصيبة أهل الحق الى انه لم يقع ولكنه غير ممتنع عقلا قال القاضي وهذا ما نرتضيه وننصره.
والمذهب الثالث: التوقف وبه قال امام الحرمين والغزالي والآمدي وهو المختار وقد اعتمد القاضي على ما ذهب إليه بأنه لو كان على ملة لاقتضى العرف ذكره لها لما بعثه نبيا ولتحدث بذلك أحد في زمانه وبعده وعارض امام الحرمين ذلك بأنه لو لم يكن على دين أصلا لنقل فإن ذلك أبدع وابعد عن المعتاد مما ذكره القاضي.
قال فقد تعارض الأمران والوجهان يقال كانت العادة انخرقت للرسول صلى الله عليه وسلم في أمور منها انصراف همم الناس عن أمر دينه والبحث عنه قال وبعدها الأكثر على المنع وقيل أمر بالاقتباس ويكذبه انتظار الوحي وعدم مراجعته ومراجعتنا.(13/400)
ص -276-…قيل راجع في الرجم قلنا للإلزام واستدل بآيات أمر فيها فاقتفاء الأنبياء السالفة عليهم السلام قلنا في أصول الشريعة وكلياتها.
البحث الثاني في أنه صلى الله عليه وسلم هل تعبد بشرع بعد النبوة من قبله والكلام في ذلك مع من لم ينف التعبد قبل النبوة.
واما من نفاة قبل النبوة فقد نفاه بعده بطريق أولى.
وقد ذهب الاكثرون من المعتزلة وأصحابنا الى انه لم يكن متعبدا بشرع أصلا ثم افترقوا فقالت معتزلتهم ان التعبد بشرع من قبلنا غير جائز عقلا زاعمين ان ذلك لو قدر لأشعر بحطيطة ونقيصة في شرعنا ولتضمن ذلك ايضا إثبات الحاجة الى مراجعة من قبلنا وهذا حط من رتبة الشريعة.
وقال الآخرون إن العقل لا يحيل ذلك ولكنه ممنوع شرعا واختاره الإمام والآمدي.
وقال قوم من الفقهاء انه كان متعبدا أي مأمورا بالاقتباس من كتبهم كما أشار إليه المصنف.
وهذا هو اختيار ابن الحاجب وهو معنى قولهم إذا وجدنا حكما في شرع من قبلنا ولم يرد في شرعنا ناسخ له لزمنا التعلق به.
قال امام الحرمين وللشافعي ميل الى هذا وبنا عليه أصلا من أصوله في كتاب الأطعمة وتابعه معظم أصحابه.
قال في الكتاب ويكذب هذا المذهب أي يبطل ما ذهب إليه بعض الفقهاء انه صلى الله عليه وسلم كان ينتظر الوحي ولا يقتبس من كتبهم ولا يراجعها إذ لو فعل ذلك لاشتهر ويكذبه ايضا عدم مراجعتنا إذ لو كان متعبدا لوجب على علمائنا الرجوع الى كتبهم بأسبابه وهذا الوجه هو الذي اعتمد عليه القاضي رضي الله عنه وكذلك إمام الحرمين.
وقال هو المسلك القاطع فان الصحابة كانوا يترددون في الوقائع بين الكتاب والسنة والاجتهاد إذ لم يجدوا متعلقا فيهما وكانوا لا يبحثون على أحكام(13/401)
ص -277-…الكتب المنزلة على من قبل نبينا صلى الله عليه وسلم وكذلك من بعدهم من التابعين وتابع التابعين لم يفتقروا قط في جزئية ولا كلية الى النصارى واليهود ولا التفتوا نحو التوراة والإنجيل بشفة ولا إيماء مع تقابل الإمارات وتزاحم المشكلات ولقد كانوا يجتزون بقياس الشبه وطرق التلويح والترجيع فكان ذلك اجماعا قاطعا وبرهانا واضحا على عدم الرجوع إلى ذلك.
إذ لو كانوا مخاطبين بشرائع من قبلنا لبحث علماؤنا عنها كما بحثوا عن مصادر الشريعة ومواردها.
قال القاضي فإن قال الخصوم بأن ذلك امتنع عليهم من جهة ان أهل الأديان السالفة حرفوا وبدلوا ولم يبق من نقلة كتبهم من يوثق به حتى قال أهل التواريخ لم يبق من يقوم بالتوراة بعد عزير ولا الإنجيل بعد برخيا قيل لهم الجمع بين هذا السؤال والمصير الى الأخذ بشرع من قبلنا تصريح بالتناقض لأن سياقه بحر الى انه لا يجب تتبع الشرائع المتقدمة لمكان التباسها واندراسها وصيرورة التكليف بها تكليفا بالمستحيل لعدم التمكن من الوصول إليه فكأنكم وافقتم المذهب وخالفتم العلة وإيضا فلو كان لنا تعلق في شرع من قبلنا لنبهنا الشرع على مواقع اللبس حتى لا يتعطل علينا مراجعة الأحكام.
وأيضا فأنا نقول من أحكام الأوائل ما نقل إلينا نقلا يقع به العلم فهل اخذ أهل الاعصار به وإيضا فان من أهل الكتاب من اسلم وحسن إسلامه وبلغ من الأمانة والثقة أعلى الرتبة كعبد الله بن سلام وكعب الاحبار فهلا رجع للصحابة الى قولهما في الاخبار عما لم يبدل من التوارة واعتذر القرافي عن هذا الجواب الأخير بأن الذين اسلموا من الاخبار وان كانوا عدولا عظماء في الدين غير أنهم ليس لهم رواية بالتوراة ولا سند متصل وليس الا انهم وجدوا آباءهم يقرؤون هذا الكتاب والجميع في ذلك الوقت كفار فلا رواية.
ولو وقعت كانت عن الكفار والرواية عن الكفار لا تصح ومن اطلع على أهل الكتاب في شرائعهم ومطالعة أحوالهم حصل على جزم بذلك.(13/402)
واعترض الخصم بأنه صلى الله عليه وسلم رجع الى التوراة في قصة الرجم ففي الصحيحين(13/403)
ص -278-…من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال ان اليهود جاؤوا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له ان إمرأه منهم ورجلا زنيا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "ا تجدون في التوارة في شأن الرجم"قالوا نفضحهم ويجلدون فقال عبد الله بن سلام كذبتم فيها آية الرجم فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرا ما قبلها وما بعدها فقال له عبد الله بن سلام إرفع يدك فرفع يده فإذا فيها آية الرجم فقال صدق يا محمد فأمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم فرجما الحديث وهذا اعتراض ضعيف لأن الرجوع إليها إنما كان لإلزام اليهود حيث أنكروا ان وجد وجوب الرجم في التوراة فأقيمت الحجة عليهم بوجود ذلك فيما بين أيديهم وان الحكم فيه موافق لشريعتنا ووضح بهتهم وعنادهم ولم يكن ذلك رجوعا من النبي صلى الله عليه وسلم الى التوراة بل يتعين اعتقاد ان ذلك كان بوحي إليه لتعذر الوصول الى ما في التوراة لعدم اتصال السند عن الثقاة كما ذكره القرافي.(13/404)
واحتج الخصم بآيات من الكتاب العزيز يدل على انه صلى الله عليه وسلم كان مأمورا باقتفاء الأنبياء السالفة عليهم السلام كقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً}1 وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}2 وقوله: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ}3 وقوله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ}4 وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ}5 وهو عليه السلام سيد النبيين والجواب ان المراد بذلك إنما هو وجوب المتابعة في الأشياء التي لم تختلف باختلاف الشرائع وتلك أصول الديانات وكلياتها كقواعد العقائد المتعلقة بذات الله تعالى وصفاته والقواعد العملية المشتركة بين جميع الشرائع لحفظ العقول والنفوس والأموال والأنساب والأغراض فان قلت ألستم تقولون ان هذه الكليات لا تجب عقلا وانما تجب سمعا وإذا ثبت وجوب الاتباع فهو المقصد قلت أجاب القاضي في مختصر التقريب بانا نقول انه تعالى ما أوجب إن نبيه التوحيد الا ابتداء ثم نبه على انه كلفه بمثل ما كلف من قبله قال القاضي رضي الله عنه وأقوى ما يتمسك به في إبطال استدلالهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الشورى آية 13.
2 سورة الأنعام آية 90.
3 سورة البقرة آية 130.
4 سورة النحل آية 124.
5 سورة المائدة آية 44.(13/405)
ص -279-…أنه صلى الله عليه وسلم ما بحث عن دين واحد من الأنبياء المغيبين قط لا نوح ولا ابراهيم ولا غيرهما ولو كان مأمورا باتباع شريعة لبحث عنها فوضح انه ليس المعنى بأنه شرع لنا من الدين ما وصى به نوحا وأمثال ذلك الا النهي عن الإشراك وما تابعه من الكليات.
وأما قوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} فالمراد به افعل مثل فعلهم واعتقد في التوحيد مثل ما اعتقدوه.
قال القاضي ويدل عليه انه جمع الأنبياء عليهم السلام في هذه الجملة ونحن نعلم انهم لا يجتمعون قضية الشريعة والذي اجتمعوا عليه هو التوحيد ومعرفة الله تعالى وأمثال ذلك فان قلت لئن استقام لكم ذلك في الآية المنطوية عل تخصيص ابراهيم عليه السلام بالاتباع قلت أجاب القاضي بأنه كما خص إبراهيم خصص نوحا.
ونحن نعلم اختلاف ملتيهما واستحالة الجمع بينهما جملة فدل ذلك على أنه لم يرد اتباع الشريعة وانما خصص من خصص بالذكر تكريما له وتعظيما قال وهذا كقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ}1 مع اندراجهما في اسم النبيين ونظائر ذلك يكثر في الكتاب العزيز فروع.
الأول: ان قلنا ان شرع من قبلنا شرع لنا فالاختلاف السابق في البحث الأول انه هل هو شرع آدم أو نوح أو ابراهيم أو موسى أو عيسى عليهم السلام جل ههنا بعينا.
والثاني: إذا وجدنا حيوانا لا يمكن معرفة حكمه من كتاب ولا سنة ولا استطابة ولا استحباب ولا غير ذلك مما قرره علماء شريعتنا من المأخذ وثبت تحريمه في شرع من قبلنا فهل يستجب تحريمه فيه قولان الأظهر انا لا نستصحب وهو قضية كلام عامة الأصحاب فان استصحبناه فشرطه ان يثبت تحريمه في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأحزاب آية 7.(13/406)
ص -280-…شرعهم بالكتاب أو السنة ويشهد به عدلان اسلما منهم يعرفان المبدل من غيره كذا ذكره أصحابنا ويخدشه ما سلف عن القرافي.
والثالث: ختلف الفقهاء في ان الاسلام هل هو شرط في الإحصان أم لا ومذهبنا انه ليس بشرط فإذا حكم الحاكم على الذمي المحصن رجمه ومذهب أبي حنيفة ان الاسلام شرط في الإحصان واستدل أصحابنا بحديث رجم اليهوديين المتقدم واعتذر الحنفية عنه رجمهما بحكم التوراة وهذا ضعيف يظهر بما تقدم.
فائدة الشرائع المتقدمة ثلاثة أقسام:
الأول: تعلمه لا من كتبهم ونقل أخبارهم الكفار ولا خلاف أن التكليف به علينا.
والثاني: ما انعقد الاجماع على التكليف به وهو ما علمناه بشرعنا انه كان شرعا لهم وامرنا في شرعنا بمثاله كقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} وقد قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} وقام دليل الشرع على القصاص.
الثالث: ما ثبت انه من شرعهم بطريق صحيح نقبله ولم نؤمن به في شريعتنا فهذا هو موضوع الخلاف فاضبط ذلك وبالله التوفيق.(13/407)
ص -281-…الباب الثاني في الأخبار
قال الباب الثاني في الاخبار وفيه فصول:
الأول: فيما علم صدقه وهو سبعة.
الأول: ما علم وجود مخبره بالضرورة أو الاستدلال.
والثاني: خبر الله تعالى وإلا لكنا في بعض الأوقات اكمل منه تعالى ونزه.
الثالث: خبر الرسول صلى الله عليه وسلم والمعتمد دعواه الصدق وظهور المعجزة على وفقه.
الرابع: خبر كل الامة لان الاجماع حجة.
الخامس: خبر جمع عظيم عن أحوالهم.
السادس: الخبر المحفوف بالقرائن.
الخبر قسم من أقسام الكلام والقول في انه حقيقة في اللساني أو النفساني أو مشترك على الخلاف السابق وقد يستعمل الخبر في غير القول كقوله:
تخبرني العينات ما القلب كاتم لكنه مجاز لعدم تبادره الى الذهن.
وقد سبق الكلام على حد الخبر في باب تقسيم الالفاظ واعلم ان الخبر وان كان من حيث هو يحتمل الصدق والكذب لكنه قد يقطع بصدقه أو بكذبه لأمور خارجة أو لا يقطع بواحد منهما لفقدان ما يوجب القطع وحينئذ فقد يظن الصدق وقد يظن الكذب وقد يستوي الأمران والمصنف تكلم في فصول فيما(13/408)
ص -282-…يقطع بصدقه والثاني فيما يقطع بكذبه والثالث فيما يظن بصدقه واقتصر على هذه الفصول وقد علمت مما ذكرناه ان الخبر منحصر في الصدق والكذب لأنه إما مطابق للواقع وهو الصدق أو لا وهو الكذب وجعل الجاحظ بينهما واسطة فقال الصادق وهو المطابق للواقع مع اعتقاد كونه مطابقا والكاذب غير المطابق مع اعتقاد كونه غير مطابق قال وأما الذي لا اعتقاد يصحبه فليس بصدق ولا كذب سواء طابق الواقع أم لا يطابق وهذا قول مزيف عند الجماهير.
الفصل الأول: فيما يقطع بصدقه وهو سبعة أقسام:
الأول: الخبر الذي علم وجود مخبره أي المخبر به وهو بفتح الباء وحصول العلم به قد يكون بالضرورة كقولنا الواحد نصف الاثنين وقد يكون بالاستدلال كقولنا العالم حادث.
الثاني: خبر الله تعالى لأنه لو جاز الكذب عليه لكنا في بعض الأوقات وهو وقت صدقنا وكذبه اكمل منه من جهة الصدق والكذب ان الصدق صفة كمال والكذب صفة نقص وتنزه الله تعالى وتبارك عن ذلك علوا كبيرا.
والثالث: خبر الرسول في الدليل على إفادته العلم انه ادعى الصدق وظهرت المعجزات على في فقه وذلك داليل صدقه لامتناع ظهور المعجزة على يد الكافر وإذا ثبتت نبوته فكل ما يخبر به صحيح قطعا لامتناع الكذب على الأنبياء أما إن فيما كان يتعلق بالتبليغ والتشريع فبإجماع الأمة واما إذا لم يكن متعلقا بالتبليغ فلأنه معصية عندنا وكل معصية من صغيرة أو كبيرة فهي ممتنعة على الأنبياء عليهم السلام.
والرابع: خبر كل الأمة لأن الاجماع حجة كما سيأتي ان شاء الله تعالى وهذا إنما يتم عند من يقول ان الاجماع قطعي واما من يقول انه ظني فهو ينازع في إفادته العلم.
الخامس: خبر العدد والجم الغفير عن الصفات القائمة بقلوبهم من الشهوة والنفرة والجوع والعطش كقول زيد انا جائع وعمرو انا ظاميء وخالد أنا(13/409)
ص -283-…شاكر وبكر انا داع وهلم جرا فانا نقطع بأنه لا بد فيه من الصدق وانه ليس كذبا ولكنا نجهل الصحيح منه كما انا لا نشك في ان بعض المروي عنه صلى الله عليه وسلم صدق وان جهل عينه ولا يتوهمن المتوهم ان هذا هو التواتر الآتي ان شاء الله تعالى في آخر الفصل.
وذلك لأن الجمع الذي يستحيل تواطؤهم على الكذب إذا اخبروا فتارة يتفقون في اللفظ وهو المتواتر وتارة يختلفون في اللفظ والمعنى مع وجود معنى كان فيما اخبروا به وقع عليه اتفاق كما إذا اخبر واحد عن حاتم انه اعطى دينارا وآخر انه اعطى جملا وآخر فرسا وهلم جرا فان المخبرين وان اختلفوا في اللفظ والمعنى فقد اتفقوا على معنى كلي وهو الاعطاء.
وهذا هو التواتر المعنوي وتارة تتغاير الالفاظ والمعاني ولا يقع الاتفاق على معنى كلي ولا جزئي بل كل أحد يخبر عن شان نفسه بخبر يغاير ما اخبر به الآخر وهم جمع عظيم تقتضي العادة بأنه لا بد فيهم من صادق في مقاله وهذا هو القسم الذي يتكلم فيه.
فالثابت في المتواتر ذلك الشيء اخبر به أهل المتواتر وفي المعنوي القدر المشترك وهو كل أمر وقع الاتفاق عليه ضمنا وفي هذا القسم أمر جزئي لم يتفقوا عليه.
السادس: الخبر المحفوف بالقرائن ذهب النظام وإمام الحرمين والغزالي والامام واتباعه منهم المصنف والآمدي وابن الحاجب انه يفيد العلم وهو المختار وذهب الباقون الى انه لا يفيد.
واحتج الأولون بان الإنسان إذا سمع ان السلطان غضب على وزيره وأهانه ثم رأى الوزير خارجا من باب داره على وجهه الذلة والانكسار والخوف باد على أعطافه والوجل يلوح من حركاته وسكناته وحواليه الأعوان كالمرسمين عليه وكلامهم له كلام النظير بعد ان كانوا خدما بين يديه وهم ذاهبون به نحو حبس السلطان وعدوه يتصرف فيما كان يتصرف فيه فإنه يقطع بصدق ما سمعه لا يداخله في ذلك شك ولا ريب.(13/410)
ص -284-…بل لو ظهر مع هذه القرائن شكا لعد أحمق ورشقته سهام الملام وكذلك إذا وجدنا رجلا مرموقا عظيم الشان معروفا بالمحافظة على رعاية المروءات خاسرا رأسه شاقا جيبه حافيا وهو يصيح بالويل والثبور ويذكر أنه أصيب بولد أو والده وشهدت الجنازة ورؤى الغسال مشمرا يدخل ويخرج فهذه القرائن وأمثالها تفيد العلم بصدق المخبر وإن كان واحدا.
واعلم ان هذه العلوم الحاصلة على حكم العادات وجدناها مترتبة على قرائن الأحوال وهي لا تنضبط انضباط المحدودات بحدودها.
وقد قلنا انه لا سبيل إلى جحدها إذا وقعت وهذا كالعلم يخجل الخجل ووجل الوجل وبسط الثمل وغضب الغضبان ونحوها مما لا يعد ولا يحصى.
واذا ثبتت هذه القرائن ترتبت عليها بديهية لا يأباها لا جاحد ولو رام امرؤ العلم بضبط القرائن ووضعها بما يميزها عن غيرها لم يجد الى ذلك سبيلا وكأنها تدق عن العبارات وتأبى عن من يحاول ضبطها بها.
وقد قال الشافعي رضي الله عنه من شاهد رضيعا قد ألقم ثديا من موضع وراى فيه آثار الامتصاص وحركات الغلصمة وجرجرة المتجرع لم يسترب في وصول اللبن الى جوف الصبي وحل له ان يشهد له شهادة بأنه بالرضاع ولو انه لم يثبت شهادته في بيان الرضاع ولكنه شهد على ما رأى من القرائن في وصفها واستعان بالواصفين معرفين فبلغ ذكر القرائن مجلس القضاء لم يثبت الرضاع بذلك.
وذلك ان ما سمعه القاضي وصفا لا يبلغ مبلغ العيان والذي يقضي بالمعاين الى درك اليقين يدق مدركه عن عبارة الواصفين.
قال امام الحرمين ولو قيل لا زكى خلق الله قريحة وأحدهم ذهنا أفضل بين حمرة وجه الغضبان وبين حمرة المرعوب لم تساعده عبارة في محاولة الفصل فان القرائن لا تبلغها غايات العبارات.
وبهذا يتمهد ما قلناه من أن حصول العلم بصدق المخبر لن يتوقف على حد محدود ولا عدد معدود والله اعلم.(13/411)
ص -285-…قال السابع المتواتر وهو خبر بلغت رواته في الكثرة مبلغا أحالت العادة تواطؤهم على الكذب وفيه مسائل الاولى انه يفيد العلم مطلقا خلافا للسمنية وقيل يفيد عن الموجود لا عن الماضي لنا انا نعلم بالضرورة وجود البلاد النائية.
والأشخاص الماضية وقيل نجد التفاوت بينه وبين قولنا الواحد نصف الاثنين قلنا للاستئناس.
التواتر لغة هو التتابع وتواتر مجيء القوم أي جاؤوا واحدا بعد واحد بفترة بينهما ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا}1 أي واحدا بعد واحد بفترة بينهما وفي الاصطلاح ما ذكره المصنف وفي الفصل مسائل أحدها أكثر العقلاء على انه إذا تواتر الخبر أفاد العلم اليقين سواء كان خبرا عن أمور موجودة في زماننا كالإخبار عن البلدان البعيدة أو عن أمور ماضية كالأخبار عن وجود الأنبياء عليهم السلام وغيرهم في القرون الماضية.
وقال السمنية بضم السين المهملة وفتح الميم المشددة بعدها نون ثم باء آخر الحروف وهم قوم من عبدة الأوثان أنه لا يفيد العلم.
قال القاضي في مختصر التقريب وهؤلاء قوم من الأوائل ولا فرق عندهم بين المتواتر والمستفيض والآحاد.
وفصل قوم فقالوا ان كان خبرا عن موجود أفاد العلم وان كان عن ماض فلا يفيده لنا أنا بالضرورة نعالم وجود البلاد النائية كنيسابور وخوارزم والأشخاص الماضية كالشافعي وأبي حنيفة ونجزم بذلك جزما يجري مجرى جزمنا بالمشاهدات فيكون المنكر لها كالمنكر للمشاهدات ومن انكر ذلك فقط سقطت مكالمته ووضحت مجاحدته.
قال القاضي فان قالوا المحسوسات لما كانت معلومة ضرورية لم نجحدها وانما جحدنا ما تواترت عنه الاخبار قلنا وقد جحد المحسوسات السفسطائية وزعموا ان كل ما يسمى محسوسا فلا حقيقة له وانما رؤيتنا له تخييل كحكم النائم.
فان قيل هذا المذهب يؤثر عنهم ولم تر طائفة منهم تقوم بهم حجة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المؤمنون آية 144.(13/412)
ص -286-…قال القاضي فيقول كذلك لانزال ننقل مذهب السمنية ولم نر حزبا وفئة يكثر بهم.
واعترض الخصم بأنا نجد التفاوت بين خبر التواتر وغيره من المحسوسات والبديهات كقولنا الواحد نصف الاثنين وقيام التفاوت دليل احتمال يخرج عن كونه يقينيا.
والجواب ان سبب التفاوت الحاصل كثرة استعمال بعض القضايا وتصور طرفها بخلاف غيرها فلهذا يستأنس العقل ببعضها دون بعض وهذا الجواب مبنى على ان العلوم لا تتفاوت والذي اختاره كثيرون خلافه.
قال الثانية إذا تواتر الخبر أفاد العلم ولا حاجة الى نظر خلافا لامام الحرمين والحجة والكعبي والبصري وتوقف المرتضى أما لو كان نظريا لم يحصل لمن لا يتأتى له كالبله والصبيان قيل يتوقف على العلم بامتناع تواطئهم على الكذب وان لا داعي لهم الى الكذب قلنا حاصل بقوة قريبة من الفعل فلا حاجة الى نظر.
الجمهور على انه إذا تواتر الخبر أفاد العلم ولا حاجة معه الى كسب وهو رأي الإمام واتباعه منهم المصنف واختاره ابن الحاجب وذهب أبو القاسم الكعبي من المعتزلة.
وقال الشيخ أبو اسحاق الشيرازي هنا أنه البلخي وكناه أبا مسلم الى انه كسبي ووافقه ابو بكر الدقاق وأبو الحسين ونقله المصنف تبعا للإمام عن حجة الاسلام الغزالي وفيه نظر فالذي نص عليه في المستصفى ان تحقيق القول فيه انه ضروري بمعنى انه لا يحتاج في حصوله الى الشعور بتوسط واسطة مفضية إليه مع ان الواسطة حاضرة في الذهن وليس ضروريا بمعنى انه حاصل من غير واسطة كقولنا القديم لا يكون محدثا والموجود لا يكون معدوما فانه لا بد فيه من حصول مقدمتين في النفس عدم اجتماع هذا الجمع على الكذب واتفاقهم على الاخبار عن هذه الواقعة وهذا الذي ذكره الغزالي هو الحق وهو الذي اختاره الإمام واتباعه.(13/413)
ص -287-…أما امام الحرمين فقد نقل المصنف عنه ايضا انه نظري وهو صرح في البرهان بموافقة الكعبي كما نقل المصنف لكنه نزل مذهب الكعبي على محمل يقارب ما ذكره الغزالي وهذه عبارته.
ذهب الكعبي الى ان العلم بصدق المخبرين تواترا نظري وقد كثرت المطاعن عليه من أصحابه ومن عصبة الحق والذي أراه تنزيل مذهبه عند كثرة المخبرين على النظر في ثبوت اياه جامعة وانتفائها فلم يعن الرجل نظرا عقليا وفكر اسبريا على مقدمات ونتائج فليس ما ذكره الا الحق انتهى.
وإذا اتحد رأي امام الحرمين والغزالي وكان هوى رأي الإمام والجمهور ونزل مذهب الكعبي عليه كما صنع امام الحرمين لم يكن بينهم اختلاف وهذا التنزيل هو الذي ينبغي ان يكون ولا يجعل المسائلة نزاع وتوقف الشريف المرتضى والآمدي واحتج الجمهور بأنه لو كان نظريا لما حصل لمن ليس هو من أهل النظر كالبله والصبيان قال الإمام ولما حصل علمنا انه ليس بنظري وفي الدليلين نظر.
أما الأول فقال النقشواني نمنع حصول العلم بالمتواتر للصبيان حال طفوليتهم وعدم حصول النظر والتمييز لهم حال كونهم مراهقين قال وكذلك نقول في البلة باعتبار الحالتين.
واما الثاني فلأنه يلزم من كونه ضروري العلم بإنه ضروري ضرورة إذ العلم بالشيء لا يستلزم العلم بصفته واحتج القائل بأنه نظري بان العام بمقتضاه متوقف على العلم بامتناع تواطؤ المخبرين عن الكذب عادة وانه لا داعي لهم إليه من غرض ديني أو دنيوي واما إذا كان متوقفا على حصول الغير كان نظريا والمتوقف على النظري الى ان يكون نظريا والجواب ان هذه المقدمات حاصلة بقوة قريبه من الفعل أعني أنه إذا حصل طرفا المطلوب في الذهن فمن غير نظر يحصل لضرورة عقيبة.
قال الثالثة ضابطة إفادة العلم وشرطه ان لا يعلمه السامع ضرورة وان لا يعتقد خلافه لشبهة دليل أو تقليد وأن يكون سند الخبرين إحساسا به.(13/414)
ص -288-…ضابط الخبر المتواتر إفادة العلم فمتى اخبر هذا الجمع وأفاد خبرهم العلم علمنا انه متواتر ومتى لم يفد تبين لنا انه غير متواتر أما لفقدان شرط من شروط المتواتر أو لوجود مانع وعند هذا يظهر انه يتعذر الاستدلال بالتواتر على من لم يعترف بحصول العلم له ضرورة أنه لا مرجع في حصول شرائطه الا حصول العلم به فمن لم يحصل له العلم لا يمكن الاستدلال به عليه ومن قال لم يحصل لي العلم لا يقال له بل حصل لك العلم وشروط المتواتر أربعة.
أحدها: ان يكون السامع له غير عالم بمدلوله ضرورة لأن تحصيل الحاصل منزل في الاستحالة منزلة تحصيل الممتنع ونحن نضرب لذلك مثالا قائلين ذو العلم بأن النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان لو اخبر بذلك لم يزدد علما ولم يستفد الثاني.
الثاني: ان لا يكون السامع معتقدا خلافه إما لشبهة دليل أو تقليد امام ان كان عاميا وهذا الشرط اعتبره الشريف المرتضى واختاره المصنف واحتج الشريف على اشتراطه بأن حصول العلم عقيب التواتر إنما هو بالعادة لا بطريق التقليد فإنه ربما يتوهم حينئذ انه لا مدخل لما ذكر من الشرط حتى يختلف فعله بحسب اختلافه فجاز ان يختلف ذلك باختلاف أحوال المسلمين فيحصل للسامع إذا لم يكن قد اعتقد نقيض ذلك ولا يحصل له إذا اعتقد نقيضه ثم أورد على نفسه بإنه يلزمكم على هذا أن يجوزوا.
واصدق من أخبركم بأنه لم يعلم وجود البلدان الكبيرة والحوادث العظام بالأخبار المتواترة لأجل تقليد أو شبهة اعتقدها في نفي تلك الأشياء وأجاب عنه بأنه لا داعي يدعو العقلاء الى سبق اعتقاد نفي هذه الأمور ولا شبهة في نفي تلك الأشياء والتقليد لابد وأن ينتهي إلى ما ليس بتقليد دفعا للتسلسل والدور فلا يتصور فيه اعتقاد نفي موجب الخبر فلا جرم انه لا يجوز صدقه وهذا باطل بانا قد نجد أنفسنا جازمة بما اخبر به أهل التواتر وإن سبق لنا اعتقاد نفي موجبه.(13/415)
واعلم ان الشريف رام بهذا الاشتراط مراما بعيدا فانه اتخذ ذلك ذريعة الى معتقده فقال وهذا كما انه النص الدال على إمامة علي رضي الله عنه متواترا ثم(13/416)
ص -289-…لم يحصل العلم به لبعض السامعين لاعتقادهم نفي النص لشبهة أو تقليد ولقد رمى الغرض من أمد بعيد وأوقع اللبيب في أمر عجاب ما ادري أيتعجب المرء من ذي علم يميل الى معتقد فيدخل في الدين أمورا شامخة وقواعد كلية يتوصل الى إثبات المعتقد الحري بها ولا داعي له الى ذلك سوى غرضه الحري أو يدعي التواتر في أمر إذا عرضه على اهل الخبرة بالحديث في الأثر وذوي المعرفة بفنون السبر لم يلب منهم قائلا ان ذلك خبر يعد في الآحاد فضلا عن الحاقه بالمتوترات وهذا من بهت الروافض فانه لو كان لما خفي على أهل بيعة السقيفة ولتحدثت به امراة على مغزلها ولأبداه مخالف أو مواقف ولخرجه من رواة الحديث ولو حافظ واحد.(13/417)
الثالث: ان يكون مستند المخبرين في الاخبار وهو الإحساس بالمخبر عنه الحواس الخمس لأن ما لا يكون كذلك يجوز دخول الغلط والالتباس فيه فلا جرمه انه يحصل العلم به وقال امام الحرمين لا معنى لاشتراط الحس فإن المطلوب صدور الخبر عن العلم الضروري ثم قد يترتب على الحواس ودركها وقد يحصل عن قرائن الأحوال ولا اثر للحس فيها على الاختصار فان الحس لا يميز احمرار الخجل والغضبان عن اصفرار المخوف والمرعوب وانما العقل يدرك تميز هذه الأحوال قال فالوجه اشتراط صدور الاخبار عن البديهة والاضطرار هذا كلام امام وفيه نظر لأن ما ذكره راجع الى الحس ايضا لأن القرائن التي تفيد العلم الضروري مستندة الى الحس ضرورة أنها لا تخلو عن ان تكون حالية أو مقالية وهما محسوسان وأما القرائن العقلية فهي نظرية لا محالة فلا يتصور التواتر فيها ولا تفيد الا علما نظريا فلو اخبر الزائدون على عدد أهل التواتر بما لا يحصى عدمها عما علموه نظرا لم يفد خبرهم علما وكانت طلبات العقل قائمة الى قيام البرهان قال امام الحرمين والسبب في ذلك ان النظر مضطرب العقول ولهذا يتصور الاختلاف فيه نفيا وإثباتا فلا يستقل بجميع وجوه النظر عاقل والعقلاء ينقسمون الى راكن في الدعة والهوينا من برجاء كذا النظر والى ناظر ثم النظار ينقسمون ويتحزبون أحزابا لا ينضبط على أقدام القرائح في ذكائها وأنقاذها وبلادتها واقتصادها ومن اعظم أسباب اختلافهم اعتراض(13/418)
ص -290-…القواطع والموانع قبل استكمال النظر فلا يتضمن أخبار المخبرين في صحارى النظر صدقا ولا كذبا.
قال وعددهم مبلغا يمتنع تواطؤهم على الكذب وقال القاضي لا يكفي الاربعة وإلا لأفاد قول كل أربعة فلا يجب تزكية شهود الزنا لحصول العلم بالصدق او الكذب وتوقف في الخمسة ورد بان حصول العلم بفعل الله تعالى فلا يجب الاطراد وبالفرق بين الرواية والشهادة وشرط اثنا عشر كنقباء موسى وعشرون لقوله تعالى ان يكن منكم عشرون صابرون وأربعون لقوله تعالى ومن اتبعك من المؤمنين وكانوا أربعين وسبعون لقوله واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا وثلاثمائة وبضعة عشر عدد أهل بدر والكل ضعيف.
الشرط الرابع: ان يبلغ عدد المخبرين الى مبلغ يمتنع عادة تواطؤهم على الكذب وذلك يختلف باختلاف الوقائع والقرائن والمخبرين ولا يتقيد ذلك بعدد معين بل هذا القدر كاف عند الجماهير لأنه لا عدد يفرض ألف وألفين الا والكذب منهم غير مستعبد لذي العقل بل المرجع في حصول هذا الشرط وغيره إلى الوجدان فإن وجد السامع نفسه عالما بما اخبره به على التواتر علم وجود هذا الشرط وغيره وإلا علم اختلال غيره من الشرائط.(13/419)
وهذا قد تقدم ذكره لكن من هؤلاء الجماهير من قطع في جانب النفي ولم يقطع في جانب الاثبات فقال بعدم إفادة عدد معين له وتوقف في بعضه وهو القاضي رضي الله عنه حيث قال اقطع بأن قول الاربعة لا يفيد العلم وأتوقف في الخمسة واحتج على ذلك بأنه لو حصل العلم بخبر أربعة صادقين لحصل بخبر كل أربعة صادقين لأنه لو لم يكن كذلك مع تساوي الأحوال والقائلين والسامعين في جميع الشروط لزم الترجيح من غير مرجح ولأنه لو جاز ذلك لجاز ان يحصل العلم بأحد الخبرين الصادرين عن جمع لا يمكن تواطؤهم على الكذب دون الآخر ولو حصل العلم بخبر كل أربعة صادقين لوجب ان يستغني الحاكم فيما إذا شهد عنده أربعة ان فلانا زنا بفلانة عن تزكيتهم لأنهم ان كانوا صادقين وجب حصول العلم بقولهم فاستغنى عن التزكية وان لم يحصل القطع بصدقهم وجب ان يحصل العلم بكونهم كاذبين لأن الغرض ان حصول العلم بالصدق من لوازم قول كل أربعة صادقين.(13/420)
ص -291-…فمتى لم يحصل العلم بالصدق فقد انتفى اللازم وإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم ولا يمكن انتفاء حصول العلم لانتفاء كونهم شهدوا ولا كونهم أربعة إذ هو خلاف الفرض فتعين ان يكون لانتفاء الصدق ومتى انتفى الصدق تعين الكذب إذ لا واسطة بينهما وحينئذ لا يجب تزكيتهم ايضا للعلم بكذبهم فيخلو عن الفائدة فوضح انه لو أفادت الاربعة تزكية شهود الزنا وطلب تزكيتهم واجب باجماع الامة فبطل الأول.
قال واما الخمسة فأتوقف فيها إذ لا يخفي عدم تأتي هذه الدلالة فيها لأنه ان لم يضطر الى العلم بصدقهم قطع بعدم صدقهم ولا يلزم من القطع بعدم صدقهم عدم صدق الاربعة منهم لجواز ان يكون الاربعة منهم شاهد دون الخامس فجاز ان تطلب تزكيتهم لبقاء النصاب وهذا بخلاف الاربعة لأن كذب أحدهم مسقط للحجة هذا تقرير حجة القاضي ونحن نقول له ان عنيت بقولك أتوقف في الخمسة في حصول العلم بقولهم وعدم حصوله فهو صحيح.
لكن لاختصاص الوقفة بالخمسة بل يتأتى ذلك في الألف والألفين إذ لا نقطع بحصول العلم بصدقهم ولا بعدمه فكان يجب ان نتوقف في الكل بهذا المعنى وان عنيت به التوقف في جواز العلم بقولهم كما في سائر الأعداد وعدم جوازه كما في الأربعة فهو غير صحيح.
لأنه إذا لم يثبت فيهم الدليل الدال على عدم جواز حصول العلم بقولهم يجب إلحاقهم بسائر الأعداد التي يجوز ان يحصل العلم بقولهم قوله وزاد أي رد قول القاضي بوجهين:(13/421)
أحدهما: منع الملازمة وأما قوله يلزم الترجيح من غير مرجح فممنوع لأنه منسوب الى الفاعل المختار على مذهبنا ومذهبه فالعلم الحاصل بخبر المتواتر إنما هو بخلق الله تعالى لا بطريق التوليد حتى يكون الترجيح من غير ومرجح ممتنعا واما قوله الجاز في أحد الخبرين عن الجمع الكثير دون الآخر فممنوع لأنه يجوز ان يختلف في ذلك عادة الله تعالى فاطرد عادته بخلق العلم الضروري عقيب أخبار الجمع الكثير ولم يطرد ذلك عقيب أخبار الجمع القليل بل تختلف فيه عادته فتارة يخلق وتارة لا يخلق.(13/422)
ص -292-…كما ان عادته مطردة بخلق الحفظ عقيب التكرار على البيت الواحد من الشعر ألف مرة ولم تطرد عادته بخلقه عقيب التكرار عليه مرة أو مرتين.
وثانيهما: الفرق بين الرواية والشهادة وذلك ان الشهادة تقتضي شرعا خاصا فتواطؤ الشهود على الكذب في المشهود عليه غير مستبعد بخلاف الرواية.
وكذلك يشترط في الشهادة ما لا يشترط في الرواية.
قوله وشرط علمت مذهب الجماهير وقد ذهب من سواهم من الخائضين فيه هذا الغزالي اشتراط العدد ثم تضايقت مذاهبهم فيه فلم يغادروا فيه على اختلاف الآراء عددا من الشرع هو مربط حكمه أو جار وفقا في حكاية حال الا مال إليه منهم مائل منهم مائل فذهب ذاهبون الى اشتراط اثني عشر كعدد نقباء موسى عليه السلام لأن موسى عليه السلام نصبهم ليعرفوه أحوال بني إسرائيل قال الله تعالى: {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً}1 وانما خصهم بذلك المدد لحصول العلم بقولهم وبعضهم شرط عشرين لقوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}2 وعلى هذا المذهب العلاف وأبو هشام بن عمر والغوطي لكنهما كما ذكر القاضي في مختصر التقريب شرطا مع ذلك ان يكونوا من المؤمنين الذين هم أولياء الله ونقل الإمام اشتراط العشرين عن أبي الهذيل وبعضهم شرط أربعين مصيرا الى عدد الجمعة ذهابا الى ان العدد هو الذي نزل فيه قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}3 فنزلت هذه الآية لما آمن أربعون من الرجال.(13/423)
وشرط آخرون من سبعين تمسكا بقوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ} وشرط آخرون من سبعين تمسكا بقوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا}4 وقال قوم ثلثمائة وبضعة عشر عدد أهل بدر والبضع بكسر الباء هو ما بين الثلاث الى التسع والذي مختصر التقريب القاضي والبرهان لامام الحرمين والوجيز لابن برهان والأحكام للآمدي تقييدا هذا العدد بثلاثمائة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة آية 12.
2 سورة الأنفال آية 65.
3 سورة الأنفال آية64.
4 سورة الاعراف آية 154.(13/424)
ص -293-…وثلاثة عشر وهو لا يبان ما نقل المصنف ولعل الناظر في كتب المحدثين يجد انهم كانوا ثلاثمائة رجل وخمسة رجال.
وهو ايضا غير مباين وذلك لأن الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر للمقاتلة ثلثمائة رجل وخمسة رجال ولم يحضر الغزوة ثمانية من المؤمنين أدخلهم النبي صلى الله عليه وسلم في حكم عداد الحاضرين وأجرى عليهم حكمهم فكانت الجملة ثلاثمائة وثلاثة عشر فاستفد هذا فان جماعة من المحدثين ذهلوا عنه حتى حكاه بعضهم خلافا فقال قيل ثلثمائة وقيل ثلثمائة وخمس رجال كالحافظ شرف الدين الدمياطي وغيره والجمع بين القولين ما أشرنا إليه.
قال المصنف تبعا للجماهير والكل ضعيف وهو كذلك لأنا نعارض بعض هذه المذاهب ببعض ولا يتجه عند تعارضها ترجيح بعض على بعض.
قال امام الحرمين وإن عن ترجيح فليس من مدلول الحق المقطوع به فان الترجيحات ثمراتها غلبان الظنون في مطرد العادة وأيضا فإنه لا تعلق لشيء من هذه الأعداد بالأخبار.
وانما هي في قضايا غايات جرت في حكاية أحوال وليس في العقل ما يقتضي بمناسبة شيء منها لاقتضاء العلم فلا وجه لاعتبار شيء منها وأيضا فما من عدد مما ذكروه الا ويمكن فرض تواطؤهم على الكذب وبالجملة فالأعداد التي تمسكوا بها منقسمة الى واقع في أقاصيص وحكايات أحوال جرت وفاقا فكان لا يمتنع ان يقع اقل من تلك المبالغ واكثر وهي واردة في أحكام لا تعلق لها بالصدق والكذب فلا معنى للتمسك بها ويلتحق بهذه المذاهب قول بعضهم باشتراط عدد بيعة الرضوان قال إمام الحرمين وهم ألف وتسعمائة.(13/425)
وقال ضرار بن عمرو لا بد من خبر كل الامة وهو الاجماع حكاه القاضي في مختصر التقريب وحكي عن صاحب أبي الهذيل المعروف بأبي عبد الرحمن انه اشترط خمسة من المؤمنين الذين هم أولياء الله شرط عصمتهم عن الكذب قال ولا بد معهم من السادس ليس من الأولياء لتلتبس أعيانهم فلا يشر الى واحد منهم أو لا يجوز ان يكون هو السادس قال القاضي وهو مذهب خالف فيه(13/426)
ص -294-…سائر المذاهب ومنهم من شرط خمسة وأطلق حكاه الآمدي وابن برهان في وجيزه وقال طوائف من الفقهاء ينبغي أن يبلغوا مبلغا لا تحويهم بلد ولا يحصرهم عدد قال إمام الحرمين وهو سرف ومجاورة حد وذهول عن مدرك الحق.
قال ثم إن اخبروا عن عيان فذاك وإلا فيشترط ذلك في كل الطبقات.
عدد التواتر أن اخبروا عن معاينه فذاك وان لم يخبروا عن معاينه اشترط وجود هذا العدد اعني الجمع الذي يستحيل تواطؤهم على الكذب في كل الطبقات وهو معنى قول الاصوليين لا بد فيه من استواء الطرفين والواسطة وبهذا يتبين أن المتواتر قد ينقلب آحادا وربما اندرس دهرا فالمتواتر من أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم ما اطردت الشرائع فيه عصرا بعد عصر حتى انتهى إلينا وهذا الإخفاء فيه قال إمام الحرمين ولكنه ليس من شرط التواتر قال بل حاصل ذلك أن المتواتر قد ينقلب آحادا وليس من شرائط وقوع التواتر فلا يصح تعبيرهم باشتراط استواء الطرفين والواسطة.
قال: الرابعة مثلا لو اخبر واحدا بأن حاتما أعطى دينارا وآخر انه أعطى فرسا وآخر انه اعطى جملا وهلم جرا تواتر القدر المشترك لوجوده في الكل.
التواتر قد يكون لفظيا وهو ما سبق وقد يكون معنويا وهو أن يجتمع من يمتنع تواطؤهم على الكذب على الأخبار عن شيء وتتباين أقوالهم فيما يخبرون به ولكن يكون بينها قدر مشترك فيحصل له التواتر لوجوده في خبر كل واحد ووقوع الاتفاق عليه ضمنا إذ الكل مخبرون عن ذلك المعنى المشترك ضرورة إخباراتهم عن جزئياته.
ومثال ذلك ما إذا قال زيد أعطى حاتم دينارا وقال عمر وأعطى فرسا وقال خالد أعطي جملا وهلم جرا حتى يبلغ حد التواتر فإن يثبت بهذه الأخبارات القدر المشترك وهو صدور الاعطاء منه ولو ان زيدا ذكر انه اعطى وتصدق ووهب مرارا وعمرو قال أضاف ووقف وانعم بالمال مرارا وهلم جرا لتواتر في نحو هذه الصورة شأن مجرد الاعطاء والكرم.(13/427)
ص -295-…الفصل الثاني فيما علم كذبه
قال الفصل الثاني فيما علم كذبه وهو قسمان الأول ما علم خلافه ضرورة أو استدلالا.
الخبر المقطوع بكذبه ذكر المصنف انه قسمان الأول ما علم بالضرورة خلافه كالأخبار باجتماع النقيضين أو ارتفاعهما أو بالاستدلال بأخبار الفيلسوف بقدم العالم.
قال: الثاني ما لو صح لتوفير الدواعي على نقله كما نعلم انه لا بلدة بين مكة والمدينة اكبر منهما إذ لو كان لنقل وادعت الشيعة ان النص دل على إمامة على ولم تتواتر كما لم تتواتر الإقامة والتسمية ومعجزات الرسول صلى الله عليه وسلم قلنا الاولان من الفروع ولا كفر ولا بدعة في مخالفتهما بخلاف الإمامة واما تلك المعجزات فلقلة المشاهدين.
القسم الثاني الخبر الذي لو كان صحيحا لكانت الدواعي متوفرة على نقله أما لكونه أمرا غريبا كسقوط الخطيب عن المنبر وقت الخطبة أو لتعلق اصل الدين به كالنص الذي تزعم الروافض انه دل على إمامة علي بن أبي طالب رضي الله عنه فعدم تواتره دليل على عدم صحته ولهذا انا نقطع بأنه لا بلدة بين مكة والمدينة اكبر منهما وليس مستند هذا القطع الا انه لو كان لتواتر وقالت الشيعة ما ندعيه من النص الدال على إمامة على رضي الله عنه لم يتواتر كما لو يتواتر كلمات الإقامة من أنها مثنى أو فرادى والتسمية في الصلاة ومعجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لم تتوافر كحنين الجذع إليه وتسليم الحجر عليه ووقوف(13/428)
ص -296-…الشجر بين يديه وتسبيح الحصى في يمينه مع توافر الدواعي على نقلها فدل ذلك على عدم تواتر ما توافر الدواعي على نقله ليس دليلا على عدم صحته وأجاب عن الأولين اعني الإقامة والتسمية بأنهما من مسائل الفروع ولا كفر ولا بدعة في مخالفتهما فلم تتوافر الدواعي على نقلها لذلك بخلاف الإمامة فإنها من الأصول ومخالفتها بدعة ومؤثرة في الفتن فتتوافر الدواعي على نقلها فلما لم تتواف-ر دل على عدم صحته.
وعن الثالث ان تلك المعجزات التي لم تتواتر لم تكن بحضرة جمع عظيم فعدم تواترها إنما هو لقلة المشاهدين فان قلت يعارض هذا بمثله فنقول إنما لم يتواتر النص الدال على إمامة على رضي الله عنه لقلة السامعين قلت ما تدعون من النص لا نعرفه بنقل في الآحاد الصحاح فضلا عن المتواترات ولو كان له وجود لما خفي على أهل بيعة السقيفة وتحدثت به امرأة في خدرها ولا ابدات معاضد أو معاند وقد كان الأمر إذ ذاك معضلا إذنا يحتاج إلى التلويح فضلا عن النص الصريح ولم يكن عن ابدائه غنى بخلاف سائر معجزات النبي صلى الله عليه وسلم فانه ربما اكتفى بنقل القرآن الذي هو اشهرها وأعظمها عن نقلها وخلافه إبي بكر رضوان الله عليه لم يكن مؤيدة شوكة قاهرة وانما كان الامر فوضى.
ومن المعلوم ان أمر الولايات من اخطر الأشياء في العادات ولا نتسق النفوس إلى شيء تشوقها إلى نقل ما يتعلق بالولايات ففيها تطير الجماجم عن الغلاصم وتهلك النفوس ويلوح من هذا فرق آخر واضح بين ما سألوه من أمر الإقامة وبين الإمامة.(13/429)
قال إمام الحرمين وهو من اغمض الأسئلة فان بلال كان يقيم بعد الهجرة الى انقلاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رضوانه في اليوم والليلة خمس مرات ثم لم يقع التواتر واختلفت النقلة فنقول الإقامة شعار مسنون ليس بالعظيم الموقع في العرب والشرع قال إمام الحرمين والمعتمد عندي ان الصحابة هونت أمر الإفراد والتثنية فلم يعتنوا بالأشاعة وأشاعوا أفضى إلى الدروس وليس ذلك بدعا فيما ليس من العزائم وهذا ينضم اليه بدع ثارت مع تواتر وأصحاب سلطنة واستيلاء وقهر فانه جرى في آخر أيام علي رضي الله عنه قريب من مائة سنة(13/430)
ص -297-…دواهي تشيب النواصي واستقر على تغيير ما كان منوطا بالأمر اذ كانت الجماعة واقامة شعارها من أهم ما يهتم به الأمر ثم الهي الناس عنه ما حدث فقد تقرر واضحا من المقطوع بكذبه خبر لو صح لتوفرت الدواعي على نقله ويتبين به بطلان ما ادعاه الروافض من النص وفساد قول العيسوية ان في التوراة ان موسى بن عمران عليه السلام آخر مبعوث فان هذا لو كان لذكره أخبار اليهود في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما آثروا عنه معدلا إلى تحريف نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبديلهم الذي خانوا به وخسروا واعلم ان المصنف لم يذكر من المقطوع بكذبه غير قسمين.
وذكر الإمام ثالثا وهو ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد استقرار الاخبار ثم فتش عنه فلم يوجد في بطون الكتب ولا في صدور الرواة ولقائل ان يقول غاية منتهى المنقب الجلد والمتفحص الألد عدم الوجدان فكيف ينتهض ذلك قاطعا في عدم الوجود وانما قصاراه ظن غالب يوجب ان لا يلتفت إلى ذلك الخبر وان فرض دليل عقلي او شرعي او توفر الدواعي على نقله عاد إلى القسمين المذكورين في الكتاب.
وذكر إمام الحرمين قسما رابعا فقال مما يذكر من أقسام الكذب ان يتنبأ متنبىء من غير معجزة فيقطع بكذبه قال وهذا معضل عندي فأقول ان تنبأ وزعم ان الخلق كلفوا متابعته وتصديقه من غير آية فهذا كذب فان مساقه يفضي إلى تكليف ما لا يطلق وهو العلم بصدقه من غير سبيل مؤد إلى العلم فأما إذا قال ما أكلف الخلق اتباعي ولكن أوحى إلى فلا يقطع بكذبه قلت وهذا كله يجب أن أكون فيما إذا كان من ادعى النبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
وأما بعده فيقطع بكذبه لقيام القاطع على ان لا نبي بعده وهذا راجع إلى القسم الأول وهو ما علم خلافه استدلالا.
قال مسالة بعض ما نسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كذب لقوله سيكذب على ولأن منها ما لا يقبل التأويل فيمتنع صدوره عنه.(13/431)
بعض الأخبار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم بطريق الآحاد مقطوع بكذبه لوجهين.(13/432)
ص -298-…أحدهما: أنه روي عنه صلى الله عليه وسلم انه قال سيكذب علي فان صح هذا الحديث لزم وقوع الكذب عليه ضرورة صدقه فيما يقوله به وان لم يصح مع كونه روي عنه فقد حصل الكذب فيما روي عنه ضرورة ان هذا الخبر من جملة ما روي عنه لكن على هذا التقدير يتعين الموضوع عليه وهو هذا الخبر والدعوى كانت مبهمة في بعض غير معين فان قلت تلزم صحته ولا يلزم وقوع الكذب في الماضي الذي هو المدعي لأنه قال سيكذب بصيغة المضارع فيجوز ان يقع في المستقبل قلت السين الداخلة على يكذب وان دلت على الاستقبال فإنما تدل على استقبال قليل بخلاف سوف كما نصوا عليه وقد حصل هذا الاستقبال القليل بزيادة واعلم ان هذا الحديث لا يعرف ويشبه ان يكون موضوعا.
الثاني: ان من جملة ما روي عنه صلى الله عليه وسلم ما لا يقبل التأويل إما لمعارضة الدليل العقلي أو غير ذلك مما يوجب عدم قبوله للتأويل فيمتنع صدوره عنه عليه السلام قطعا.(13/433)
قال وسببه نسيان الراوي أو غلطة أو افتراء الملاحدة لننفير العلل سبب وقوع الكذب عليه صلى الله عليه وسلم اما نسيان الراوي لطول عهد بالخبر المسموع أو غير ذلك فربما لحمل النسيان على نقص ما يخل بالمعنى أو رفع ما هو موقوف أو غير ذلك من آفات النسيان واما غلطة بأن أراد النطق بلفظ فسبق لسانه إلى سواه أو وضع لفظا مكان آخر ظانا انه يؤدي معناه واما افتراء الزنادقة وغيرهم من أعداء الدين الذين وضعوا أحاديث تخالف العقول ونسبوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم تنفيرا للعقلاء عن شريعته المطهرة وقد يقع الوضع من متهالك على حب الجاه كما وضعوا في دولة بني العباس رضي الله عنه نصوصا دالة على إمامة العباس وذريته ومن الغواة المتعصبين من وضع أحاديث لتقرير مذهبه ودفع خصومه ومنهم من جوز وضع الأحاديث للترغيب في الطاعة والترهيب عن المعصية فوقع منه الوضع في ذلك وأسباب الوضع كثيرة لأنها تختلف باختلاف أغراض الفسقة المتمردين والزنادقة المبتدعين والله اعلم.(13/434)
ص -299-…الفصل الثالث فيما ظن صدقه
فيما ظن صدقه وهو خبر للعدل الواحد والنظر في طرفين الأول في وجوب العمل به دل عليه السمع وقال ابن سريج والقفال والبصري دل الفعل ايضا أنكره قوم لعدم الدليل او للدليل على عدمه شرعا أو عقلا وأحاله آخرون واتفقوا على الوجوب في الفتوى والشهادة والأمور الدنياوية.
القسم الثالث من أقسام الخير ما لا يقطع بصدقه ولا يصدقه ولا يكذبه وله احوال لأنه اما ان يترجح احتمال صدقه او كذبه كخبر العدل والفاسق او يتساوى كخبر المجهول وانما يجب العمل بالقسم الأول فلذلك اقتصر على ذكره هنا فقوله العدل احترازا عن القسمين الآخرين وقوله الواحد احتراز عن المتواتر فان المراد بخبر الواحد عند الاصوليين ما لم يبلغ حد التوتر مما لا سبيل الى القطع بصدقه او كذبه سواء نقله واحد ام جمع منحصرون وقد يخبر واحد فيعلم صدقه كالنبي ولا يعد ذلك من أخبار الاحد ويدخل في خبر الواحد المستفيض قال الآمدي وهو ما نقله جماعة يزيد على الثلاثة والأربعة وقيل المستفيض وما تلقته الامة بالقبول وقال الاستاذ ابو بكر بن فورك الخبر الذي تلقته الامة بالقبول محكوم بصدقه قال إمام الحرمين وفصل ذلك في مصنفاته فقال ان اتفقوا على العمل به لم يقطع بصدقه وحمل الامر على اعتقاد وجوب العمل بخبر الواحد وان تلقوه بالقبول قولا ونطقا فان تصحيح الائمة للخبر يجري على حكم الظاهر فإذا اجتمع شروط الصحة اطلق عليه المحدثون الصحة فلا وجه للقطع والحالة هذه قال إمام الحرمين ثم لو قيل للقاضي لو رفعوا هذا الظن وباحوا بالصدق فماذا تقول لقال مجيبا لا يتصور هذا فانهم لا يصلون الى العلم بصدقه ولو قطعوا(13/435)
ص -300-…لكانوا مجازفين واهل الاجماع لا يجتمعون على باطل وقال الاستاذ ابو اسحاق المستفيض ما تتفق عليه ائمة الحديث وزعم انه يقتضي العلم نظرا والمتواتر يقتضيه ضرورة وضعف إمام الحرمين ما قاله الاستاذ بأن العرف واطراد الاعتبار لايقتضي الصدق قطعا بل قصاراه غلبه الظن و المختار ان المستفيض ما يعده الناس شائعا وقد صدر عن اصل ليخرج الشائع لا عن اصل واقل والمستفيض اثنان وقد حصر المصنف مقصود هذا الفصل في طرفين.
أحدهما: في وجوب العمل بخبر الواحد قال الجمهور يجب العمل به سمعا.
وقال احمد بن حنبل والقفال وابو العباس بن سريج منا وابو الحسين دل عليه العقل مع السمع وقد عرفت في اوائل الشرح اعتذار القاضي والاستاذ عمن قضى بدلالة العقل على ذلك من اصحابنا اهل السنة كأحمد وابن سريج والقفال ومن الناس من انكر التعبد به وقد انقسموا ما بينهم إلى مذاهب.
الأول: أنه لم يوجد ما يدل على انه حجة فوجب القطع بانه ليس بحجة وهذا معنى قول المصنف لعدم الدليل عليه.
والثاني: أن الدليل السمعي قام على أنه غير حجة وهو رأي القاساني وابن داود والرافضة.
والثالث: أن الدليل العقلي قام على امتناع العمل به وعليه جماعة من المتكلمين منهم الجبائي فإن قلت ما وجه الجمع بين منع الجبائي هنا التعبد به عقلا واشتراطه العدد كما سيأتي ان شاء الله تعالى النقل عنه فان قضية اشتراطه العدد القول به قلت قد يجاب بوجهين اقربهما انه اراد بخبر الواحد الذي انكره هنا ما نقله العدل منفردا به دون خبر الواحد المصطلح اعني الشامل لكل خبر لم يبلغ حد التواتر ولهذا كانت عبارة إمام الحرمين ذهب الجبائي الى ان خبر الواحد لا يقبل بل لا بد من العدد واقله اثنان والثاني انه يجعله من باب الشهادة واعلم ان القائلين بهذا المذهب احالوا وقد صرح المصنف بالمغايرة بين مذهب من منعه عقلا ومن احاله حيث قال بعد قوله عقلا وأحاله(13/436)
ص -301-…آخرون وهو وهم ثم أن المصنف أشار الى تحرير محل النزاع بأنه ليس من الفتوى والشهادة والامور الدنياوية كلها بل اطبق علماء الامة على العمل بخبر الواحد في تلك الامور.
قال لنا وجوه الاول انه تعالى اوجب الحذر بانذار طائفة من الفرقة والانذار الخبر المخوف والفرقة ثلاثة والطائفة واحدا واثنان قيل لعل للترجي قلنا تعذر فيحمل على الايجاب بمشاركته للتوقع قبل الانذار للفتوى قلنا يلزم تخصيص الانذار والقوم بغير المجتهدين والرواية ينتفع بها المجتهد وغيره قيل فيلزم ان يخرج من كل ثلاثة واحد قلنا خص النص فيه اقامة البرهان على وجوب العمل بخبر الواحد صريحة في الرد على من قاله انه لم يقم دليل على ذلك واستنه الى ما لا يعصم فقال ليس في العقل ما يوجب ذلك وليس في كتاب الله نص عليه ولا سنة متواترة ترشد اليه ولا مطمع في الاجماع مع قيام النزاع ويستحيل ان يثبت خبر الواحد واذا انحسم المسلك العقلي والسمعي فقد حصل الغرض وقدمنا هذا القائل كلامه على امور هو فيها منازع بحق واضح وهي قوله ان العمل به غير مستند الى نص كتاب ومانورده من الآي رادا عليه ولا إلى سنة متوترة ولا إجماع.
وهو ايضا باطل فانهما قائمان وهما المسلك الذي يختار الاعتماد عليه في اثبات العمل بخبر الواحد والراي الكلام على تقرير ما في الكتاب ثم ايضاحهما فنقول استدل على وجوب العمل بخبر الواحد باوجه.
الأول: قوله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}1 وجه الاحتجاج انه تعالى اوجب الحذر باخبار طائفة لأنه اوجبه بانذار الطائفة في قوله:
{وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} وكلمة لعل للترجي وهو محال في حقه تعالى فوجب حمله على المجاز وهو طلب الحذر لأن من لازم(13/437)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية 122.(13/438)
ص -302-…الترجي الطلب وطلب الله هو الامر فثبت الامر بالحذر عنه انذار الطائفة والانذار هو الاخبار لأنه عبارة عن الخبر المخوف والخبر داخل في الخبر المخوف والطائفة ها هنا عدد لا يفيد قولهم العلم لأن كل ثلاثة فرقة.
وقد أوجب الله تعالى ان يخرج من كل فرقة طائفة والطائفة من الثلاثة واحدا واثنان.
وقول الواحد او الاثنين لا يفيد العلم وقد اوجب به الحذر فاثبت وجوب العمل بالخبر الذي لا يقطع بصدقه ولكن يظن صدقه وذلك هو خبر الواحد واعلم ان هذا التقرير مبني على ان المتفقهة هم الطائفة النافرة وأن الضمير في قوله ليتفقهوا ولينذروا راجع إليها وهذا قول لبعض المفسرين والصحيح ان المتفقهة الفرق المقيمة والمراد ان الفرق التي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفر من كل فرقة منهم طائفة الى الجهاد وتبقى بقيتهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتفقهوا في الدين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} من الجهاد فالطائفة النافرة ليست المتفقهة بل هي التي تنذر.
ومما يوضح هذا المتفقهة هو المقيم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع منه ويتلقى عنه والآية نزلت لأن المؤمنين لما نزلت الآيات في المختلفين بعد تبوك صار المؤمنون كلما جهز النبي صلى الله عليه وسلم فرقة للغزو بادروا الى الخروج واستبقوا اليه فانزل الله هذه الآية والمعنى والله اعلم: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} فلا نفرت طائفة من كل فرقة منهم لتحصيل التفقه للباقين عند النبي صلى الله عليه وسلم.
واعترض الخصم على الاحتجاج بهذه الآية على التقرير المذكور في الكتاب بثلاثة أوجه.
أحدهما: ان مدلول لعل الترجي لا الايجاب والجواب ما سبق من انه لما تعذر الحمل على الترجي حمل على الايجاب لمشاركته للترجي في الطلب.(13/439)
وقال في الكتاب بمشاركته له في التوقع وليس ذلك بمستقيم اذ يلزم من حمل لعل على حقيقتها بعينه لأن التوقع في حقه تعالى محال.(13/440)
ص -303-…والثاني: لا نسلم أن المراد بالانذار في الآية الخبر المخوف مطلقا بل المراد به التخويف الحاصل من الفتوى وقول الواحد فيها مقبول اتفاقا كما عرف ويؤيد ذلك انه اوجب التفقه من اجل الفتوى والتفقه انما يفتقر اليه في الفتوى لا الرواية.
والجواب انه يلزم من حمله على الفتوى تخصيص الانذار المذكور في الآية وهو عام فيه وفي الرواية وتخصيص القوم المنذرين بغير المجتهدين اذ المجتهد لا يقلد مجتهدا فيما افتى به بخلاف ما اذا حمل على ماهو اعم من الفتوى فانه لا يلزمه التخصيص أما الانذار فلأنه الخبر المخوف وهو اعم من ان يكون بالفتوى او بغيرها فانتفاء التخصيص منه اذا حمل على ما هو اعم واضح واما القوم فلأن الرواية ينتفع بها المقلد والمجتهد.
اما المجتهد ففي الاستدلال على الاحكام واما المقلد ففي الانزجار وحصول الثواب لو نقلها لغيره بل يلزم من انتفاع المجتهد بها انتفاع العامي بها لأنها اصله الثالث لو كان المراد من الفرقة ثلاثة للزم منه ان يجب على كل ثلاثة ان يخرج منهم واحد للتفقه وذلك باطل بالإجماع.
وأجاب بان ذلك هو ظاهر الآية الا ان النص في ذلك خص بالإجماع لانعقاده على ان لا يجب على كل ثلاثة ان يخرج منهم واحد بل يكفي فقيه واحد في خلق كثير لإرشادهم الى ما تعبدوا به وإذا خص من هذا الوجه بقي على عمومه فيما عداه.
قال: الثاني: انه لو لم يقبل لما علل بالفسق لأن ما بالذات لا يكون بالغير والثاني باطل لقوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} الثالث القياس على الفتوى والشهادة قيل يقتضيان شرعا خاصا والرواية عاما ورد باصل الفتوى.
الدليل الثاني: على وجوب العمل بخبر الواحد انه لو لم يجز قبول خبر الواحد في الجملة لما كان عدم قبول خبر الواحد الفاسق معللا بكونه فاسقا والتالي باطل فالمقدم مثله اما بيان الملازمة فإن كون الراوي الواحد واحدا او(13/441)
ص -304-…لازم لشخصه المعين يمتنع انفكاكه عنه عقلا واما كونه فاسقا فهو وصف عرضي يطرأ ويزول وان اجتمع في المحل وصفان احدهما لازم والآخر عرضي مفارق وكان كل واحد منهما مستقلا باقتضاء الحكم كان الحكم مضافا الى اللازم لا محالة لأنه كان حاصلا قبل حصول المفارق وموجبا لذلك.
وحين حال العرض المفارق كان ذلك الحكم حاصلا بسبب ذلك اللازم وتحصيل الحاصل مرة اخرى محال فيستحيل اسناد ذلك الحكم الى ذلك المفارق مثاله الميت يستحيل ويستهجن ان يقال لا يكتب لعدم الدواة والقلم عنده لأن الموت لما كان وصفا لازما له الى حين يبعث وكان مستقلا بامتناع صدور الكناية عنه لم يجز تعليل امتناع الكتابة بالوصف العرضي وهو عدم الدواة والقلم.
وإذا أردت اعتبار ذلك مثالا بالجزئيات الفقهية قلت خيار المجلس ثابت لقوله صلى الله عليه وسلم: "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا"1 وهو اسم مشتق من معنى الحكم مهما نيط باسم مشتق من معنى كان معللا به فكأنه قيل المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا لكونهما متبايعين.
فإن قال الخصم نحمل الخيار على خيار القبول فإنه اذا صدر الايجاب من البائع ولم يتصل به القبول من المشتري فإن المشتري بالخيار بين ان يقبل وان لا يقبل فكذلك البائع بالخيار بين ان يثبت على الايجاب وان يرجع قلنا له هذا فاسد لأن قبول البيع حق ثابت له بكونه آدميا لا بمقتضى البيع فهو مستفاد بالذات اعني كونه آدميا فلا يجوز ان يستند الى الوصف العرضي وهو البيع.
وأما بيان بطلان التالي فإن الله تعالى علل عدم قبول خبر الفاسق بكونه فاسقا في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا}2 امر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(13/442)
1 حديث صحيح رواه أبو داود والنسائي من حديث عبد الله بن عمرو, وابن عمر رضي الله عنهما ولفظه: "المتبايعان بالخيار مالم يتفرقا " إلا أن يكون البيع كان عن خيار فإن كان البيع عن خيار فقد وجب البيع, الفتح الكبير 3/253.
2 سورة الحجرات آية 6.(13/443)
ص -305-…بالتبين اذا كان خبر المخبر فاسقا والحكم المعلق على الوصف المشتق المناسب يقتضي كونه معللا بما منه الاشتقاق ولا مراء في أن الفسق وصف يناسب عدم القبول فثبت بما ذكرناه ان خبر الواحد لو وجب ان لا يقبل لامتنع تعليل عدم القبول فثبت بما ذكرناه ان خبر الواحد لو وجب ان لا يقبل لامتنع تعليل عدم قبول نبأ الواحد بكونه فاسقا.
ولكنه قد علل به فوضح ان خبر الواحد لا يجب ان لا يقبل فهو اذا غير مردود فيكون مقبولا في الجملة وهو الغرض ومن الناس من تمسك بالآية على وجه آخر وهو ان الامر بالتبين مشروط بمجيء الفاسق والمفهوم حجة وهو قاض بانه اذا لم يكن فاسقا يعمل به واعترض الآمدي بان المفهوم وان كان حجة لكنه ظني فلا يكفي في باب الاصول ومن المتمسكين بهذا الوجه الشيخ ابو الحسن رضي الله عنه كما نقله القاضي في مختصر التقريب في الكلام على مفهوم الصفة وذلك يقتضي ان يقول بالمفهوم وقد تقدم الكلام فيه في مكانه.
والمفهوم هنا شرط وصفه فالشرط مستفاد من صيغة ان الصفة مكتسبة من لفظة فاسق.
واعترض على هذا الاستدلال بان ما ذكرتم وان دل على ان عدم القبول معلل بكون الراوي فاسقا لكن قوله تعالى ان تصيبوا قوما بجهالة يدل على انه معلل بعدم افادته العلم اذ الجهالة هنا عبارة عن عدم القطع بالشيء لا القطع بالشيء مع كونه ليس كذلك فإن خبر الفاسق لا يفيد ذلك حتى يحسن ان يقال ان تصيبوا قوما بجهالة بل انما يفيد النوع الاول وخبر الواحد العدل يشاركه في ذلك فوجب أن لا يقبل.
وأجيب بأن الظن كثيرا ما يطلق على العلم والعلم على الظن فالجهالة والجهل يستعمل فيما يقابل هذين المعنيين فالمعنى من الجهالة هنا ضد العلم الذي بمعنى الظن فتكون عبارة عن عدم الظن فالعمل بخبر الفاسق تحمل بجهاله لأنه ليس فيه علم أي ظن واما العمل بخبر الواحد العدل ليس كذلك.(13/444)
الدليل الثالث: قياس خبر الواحد على الفتوى والشهادة بجامع تحصيل المصلحة المظنونة او دفع المفسدة المظنونة واعترض الخصم فقال الفرق أن(13/445)
ص -306-…الفتوى والشهادة يقتضيان شرعا خاصا ببعض الناس وهو المستفتي والمشهود له او عليه بخلاف الرواية فانها تقتضي شرعا عاما لكل الناس فلا يلزم من تجويز العمل بالظن الذي هو معرض الخطأ والصواب في حق الواحد تجويز العمل به في حق كافة الناس.
وأجيب بان هذا مردود شرعية اصل الفتوى فإنه امر لكل الخلق باتباع الظن وفيه نظر فإن عموم شرع الفتوى ليس كعموم شرع الرواية لأن الرواية تشمل المكلفين أجمعين والفتوى ليست حجة على المجتهدين فكان العموم فيها دون العموم في الرواية وايضا فالمسألة علمية والقياس غير كاف فيها وقد ذكر القاضي في مختصر التقريب هذا الوجه اعني القياس على الفتوى والشهادة.
وقال لست اختار لك التمسك به فانك تكون في ذلك طاردا ولا تستمر ولا تلك على سير الاصوليين وقصاراه ان يقول لك الخصم قد ثبت الفتوى والشهادة بدلالة قاطعة لم يثبت الخبر فتلجئك الضرورة الى ذكر الأدلة على وجوب العمل بخبر الواحد هنا تقرير الاوجه المذكورة في هذا الكتاب.
والمختار عندي في ذلك طريقة القاضي وعصبته كإمام الحرمين والغزالي وغيرهما وهي الاستدلال على وجوب العمل بخبر الواحد بمسلكين قاطعين لا يماري فيهما منصف.
أحدهما: إجماع الصحابة رضي الله عنهم على قبول خبر الواحد وذلك في وقائع شتى لا تنحصر واحادها ان لم تتواتر فالمجموع منها متواتر ولو اردنا استيعابها لطالت الانفاس وانتهى القرطاس فلا وجه لتعدادها اذ نحن على قطع بالقدر المشترك منها وهو رجوع الصحابة الى خبر الواحد اذا نزلت بهم المعضلات واستكشافهم عن أخبار النبي صلى الله عليه وسلم عند وقوع الحادثات واذا روى لهم تشرعوا الى العمل به فهذا ما لا سبيل إلى جحده ولا إلى حصر الأمر فيه.
فإن قيل لئن ثبت عنهم العمل بأخبار الآحاد فقد ثبت عنهم ردها فأول من ردها رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لما سلم من اثنين فقال له ذو اليدين اقصرت الصلاة(13/446)
ص -307-…أم نسيت فلم يعول رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوله وسأل ابا بكر وعمر ورد ابو بكر الصديق رضوان الله عليه خبر المغيرة بن شعبة فيما رواه من ميراث الجد الى غير ذلك من وقائع كثيرة.
قلنا قال القاضي ليس في شيء معتصم فأما قصة ذي اليدين فدليل على الخصم فانه صلى الله عليه وسلم قبل فيها خبر ابي بكر وعمر.
والخصم اذا انكر خبر الآحاد ينكر خبر الثلاثة كما ينكر خبر الواحد هذا جواب القاضي في مختصر التقريب.
وبمثله يجاب عن قضية المغيرة لأن ابا بكر قبله لما وافقه عليها محمد بن مسلمة ولقائل ان يقول خبر هؤلاء الثلاثة وان لم يفد العلم فقد افاد الظن واذا ظن النبي صلى الله عليه وسلم صدقهم حصل القطع بكونهم صادقين ضرورة اذ ظنه عليه السلام لا يخطيء فيجب العمل بهذا الظن ولا يقاس عليه ظن من عداه وهذا بحث حسن يختص بقضية ذي اليدين واشبهها ويستفاد منه التفرقة بين ظان وظان ولا يقال على هذا ليس ان خبر ذي اليدين بقيد الظن بمجرده لأنا نقول من اين لكم الظن حصل للنبي صلى الله عليه وسلم بخبره بل نقول لو حصل له الظن لا نبعه لما ذكرناه ثم قال القاضي ان ما استروح اليه الخصم لا يبلغ ان يكون استفاضة بخلاف ما اعتمدنا نحن عليه فلا يكون مقاوما له وهذا صحيح والانصاف عدم الاعتراض بشيء من هذه الوقائع فما من واحدة الا وفيها جواب يخصها بل لو لم يعلم الجواب الخاص بها لقلنا قضية الجمع بين ما رويناه ورويتموه ان تم لكم انه يعارضه ان نقول ردوا خبر الواحد حيث فقد شرطا من شروطه او حصل الشك فيه بطريق من الطرق وقبلوه حيث سلم عن ذلك ونحن انما ندعي قبوله حالة السلامة عن معارض او قادح.(13/447)
المسلك الثاني: السنة وذلك انا نعلم باضطرار من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرسل الرسل ويحملهم تبليغ الاحكام وتفصيل الحلال والحرام وربما كان يصحبهم الكتب وكان نقلهم اوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل الآحاد ولم تكن العصمة لازمة لهم بل كان خبرهم في مظنة الظنون.(13/448)
ص -308-…قال إمام الحرمين وجرى هذا مقطوعا به متواتر الإندفاع له إلا بدفع التواتر إلا مباهت.
قال وهذا مسلك لا يتمادى فيه الأجاحد ولا يدفعه إلا معاند واعترض على هذا المسلك بأنا سلمنا انه صلى الله عليه وسلم كان ينفذ الآحاد ولكن لم قلتم ذلك لتبليغ الأخبار التي هي مدارك الأحكام الشرعية بل إنما كان ذلك بطريق الرسالة والقضاء واخذ الزكاة والفتوى وتعليم الأحكام.
سلمنا صحة التنفيذ بالأخبار التي هي مدارك للأحكام ولكن لا نسلم دلالة ذلك على ان خبر الواحد حجة بل جاز أن يكون ذلك لفائدة حصول العلم المبعوث إليهم بما تواتر بضم خبر ذلك غير الواحد إليه فان بعث عدد التواتر دفعة واحدة متعذر ومتعسر ومع هذه الاحتمالات لا يثبت كون خبر الواحد حجة والجواب ان المصنف المطلع على الأخبار والسير لا يمتري في أن الآحاد الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يرسلهم كان منهم الذاهب للقضاء والخارج لتبليغ الأحكام والسائر لغير ذلك كإرساله معاذ إلى اليمن وعتاب بن أسيد إلى أهل مكة وعثمان بن العاص إلى الطائف ودحية إلى قصر ملك الروم وعبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى وعمرو بن أمية الضميري إلى الحبشة وبعث إلى المقوقس صاحب الإسكندرية والي هوزه بن علي الحنفية وغيرهم وانما بعث هؤلاء ليدعوا إلى دينه وليقيموا الحجة وعلى هذا جرت عادته صلى الله عليه وسلم وليس يخفى ذلك على العلماء المبرزين بل على الجهال الذين لا خبرة لهم بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم ولا يمتري في انهم بلغوا أخبارا تلقنها سامعها بالقبول غير ناظر إلى خبر آخر يعضدها ويصيرها تواترا ولا ملتفت إلى قرينة تساعدها وتصير للظن الحاصل بها علما بل لا يمتري المحدث في ان أهل بقاع كثيرة وقرى متفرقة لم تبلغهم الأحكام إلا مع الآحاد وعملوا بها ممتلئين مكلفين بما بلغهم على يد الآحاد منها هذا ما عندنا في جواب هذين السؤالين وهو جواب يقبله المصنف ولا يرده إلا متعسف وقال صفي الدين(13/449)
الهندي يمكن أن يجيب عن الأول بان الإفتاء في الزمان الأول في الأغلب إنما هو برواية الأخبار لاشتراكهم في العلم بما يتوقف عليه استنباط الأحكام من النصوص كالعلم باللغات والنحو والتصريف ولهذا كانوا يسألون(13/450)
ص -309-…عن وقوع الواقعة من النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ويبادرون إلى امتثال الخبر عند سماعه ولو كان ذلك بطريق الإفتاء لما كان ذلك:
وعن الثاني أنه لو كان كما ذكرتم لكان ينبغي أن لا ينكر عليهم عدم الإمتثال ما لم يتواتر لكن ذلك خلاف المعلوم منه عليه السلام ومن المبعوث.
قال قيل لو جاز اتباع المتبني والاعتقاد بالظن قلنا ما لجامع قيل الشرع يتبع المصلحة والشرع لا يجعل ما ليس بمصلحة مصلحة قلنا منقوض بالفتوى والأمور الدنيوية.
قد علمت أن المنكرين لخبر الواحد فريقان.
قال فريق لا ننكره لدليل قائم على منعه بل لعدم دليل على وجوب العمل به وقد ذكرنا ان هؤلاء تقوم الحجة عليهم بما قررناه من الوجوه الدالة على وجوب العمل به.
وقال فريق أن الدليل قام على منعه واحتجوا بأنه لو جاز العمل بخبر الواحد لمجرد إفادة الظن لجاز اتباع من ادعى نبوة أو رسالة بمجرد ظن صدقه من دون ابداء معجزة ولجاز إثبات الاعتقاد كمعرفة الله تعالى وصفاته بمجرد الظن وليس كذلك بالاتفاق والملازمة ثابتة بالقياس.
والجواب ان القياس لا بد فيه من ابداء الجامع بين المقيس والمقيس عليه وما الجامع هنا بين خبر الواحد والاعتقاد واتباع المتنبيء فإن ابدوا جامعا بان قالوا الجامع دفع ضرر المظنون وتقريره أنكم أيها القائلون بالآحاد قلتم إذا اخبر الواحد عن النبي صلى الله عليه وسلم انه أمر بهذا الفعل مثلا حصل ظن وجدان الأمر وعندنا مقدمة يقينية وهي ان المخالفة سبب العقاب فيحصل الظن بأنا لو تركنا لصرنا مستحقين للعقاب فوجب العمل به لأنه إذا حصل الظن الراجح والتجويز المرجوح قدم الأول.
وهذا بعينه موجود في الصورتين اللتين ذكرناهما فنقول الفارق قائم وهو أن الاعتقاد والنبوة من أصول الدين والخطأ فيهما يوجب الكفر والضلال.(13/451)
ص -310-…فلذلك اشترطنا القطع فيهما بخلاف الروايات المتعلقة بالفروع.
واحتجوا أيضا بأن الشرع على وفق مصالح العباد بالإجماع منا ومنكم وإن اختلفنا في أنه بطريق الوجوب أو بطريق الاختيار.
والظن الحاصل من خبر الواحد لا يجعل ما ليس بمصلحة مصلحة فإن الظن عرضة للخطأ والصواب فلا يعول عليه:
والجواب أن هذا موجود في الفتوى والأمور الدنيوية مع قيام الإجماع على قبول الواحد فيهما.(13/452)
ص -311-…الباب الثالث في شرائط العمل بالخبر
قال الباب الثاني في شرائط العمل به وهي إما في المخبر أو المخبر عنه أو الخبر أما الأول فصفات تغلب.
ظن الصدق وهي خمس:
الأول: التكليف فإن غير المكلف لا يمنعه خشية الله تعالى قيل يصح الاقتداء بالصبي اعتمادا على خبره بطهره.
قلنا: لعدم توقف صحة صلاة المأموم على طهره.
للعمل بخبر الواحد شرائط منها ما هو في المخبر بكسر الباء وهو الراوي ومنها ما هو في المخبر عنه وهو مدلول الخبر ومنها ما هو في الخبر نفسه وهو اللفظ.
فأما الأول: وهو شروط الراوي فالضابط فيه كونه بحيث يكون ظن صدقه راجحا على ظن كذبه وشرائطه عند التفصيل.
ذكر المصنف أنها خمس وهو تساهل في العبارة فإن الخامس ليس شرطا على المختار عنده وعند الجماهير.
الأول: التكليف فلا تقبل رواية المجنون والصبي مراهقا كان أو لم يكن مميزا كان أو لم يكن أما المجنون والصبي الذي لا يميز فلعدم الضبط وعدم التمكن من الاحتراز عن الخلل وأما المميز فلأن الفاسق إذا لم تقبل روايته مع كونه يخاف الله ويخشى عقابه فالصبي الذي لا يمنعه خشية الله ولا يردعه رادع ديني لعدم تعلق التكليف به أولى بأن لا تقبل وقد اعتمد القاضي في رد رواية(13/453)
ص -312-…الصبي على الإجماع وفاء بادعاء قيامه على ذلك في كتاب التلخيص.
وقال المعلق في التلخيص بعد هذه الدعوى وقد كان الإمام يحكي وجها في صحة رواية الصبي فلعله أسقطه.
قلت: والوجه المشار إليه موجود والخلاف معروف مشهور وقد ظهر اختلاف الفقهاء في قبول روايته في هلال رمضان فلم يجعلوه مسلوب العبارة بالكلية وستزيد فروعا من المذهب دالة على ذلك ان شاء الله تعالى.
فإن قيل أليس يقبل قول المميز في اخباره عن كونه متطهرا حتى يجوز الاقتداء به في الصلاة.
قلنا: ذلك لأن صحة صلاة المأموم لا تتوقف على صحة صلاة الإمام فإن صلاة المأموم ما لم يظن حدث الإمام صحيحة وان تبين بعد ذلك حدثه ففي الحقيقة لم يقبل قول الصبي.
فإن قلت: أتجعلون الصبي مسلوب العبارة بالكلية لا فرق ما بينه وبين المجنون والبهيمة قلت هذا هو القاعدة في أمره.
وفي البذهب فروع ترد نقضا على ذلك وكلها مختلف فيها ومنها ما هو على وجه ضعيف فمنها قبول قوله في روايه هلال رمضان ومنها إذا اخبر الصبي المميز بنجاسة أحد الأناءين فأصح الوجهين لا يقبل خبره ومنها إذا شهد صبيان بان فلان قتل فلانا فهل يكون ذلك لوثا فيه وجهان ومأخذ القبول أنهم جماعة كثيرة والغالب أن اتفاقهم يورث الظن ومنها صحة بيع الاختبار على وجه ومنها وصيته وفيها قولك ومنها تدبيره وفيه قولان ومنها أمانه وفيه طريقان ومنها إسلامه وأظهر الأقوال المنع ولو سلم على قوم ففي وجوب إجابته وجهان مبنيان على صحة إسلامه ومنها إذا قلنا يؤذن له في الأذن في دخول الدار وحمل الهدية.
قال الرافعي: فقد جعل وكيلا وقضية جعله وكيلا أن يكون له أن يوكل على خلاف فيه لغيره ومنها قال الروياني في البحر.
قال الزبيدي يجوز توكيل الصبي في طلاق زوجته وغلطه فيه ومنها إذا أعتق في مرض موته منجزا على نفوذه وجهان في الكفاية لابن الرفعة قال فإن(13/454)
ص -313-…تحمل ثم بلغ وأدى قبل قياسا على الشهادة والإجماع على إحضار الصبيان مجالس الحديث ما تقدم فيما إذا أدى في حالة صباه أما إذا تحمل في صباه وأدى بعد بلوغه ففيه مذهبان محكيان في شرح اللمع للشيخ أبى إسحاق ومختصر التقريب للقاضي أصحهما وعليه الجمهور أن يقبل والدليل على ذلك الإجماع على قبول رواية ابن عباس وابن الزبير والنعمان بن بشير رضي الله عنهم من غير تفرقة بين ما تحملوه قبل البلوغ أو بعده.
قال القاضي في مختصر التقريب ثم أن عباس كان ابن سبع لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما بلغ ابن الزبير أيضا حلمه في حياته صلى الله عليه وسلم قلت هذا وهم كان ابن عباس لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن ثلاث عشر سنة وقيل ابن عشر وهو ضعيف وقيل ابن خمس عشرة ورجحه أحمد بن حنبل وأما ابن الزبير فإنه ولد بعد عشرين شهرا من الهجرة فيصح ما ذكره القاضي من أنه لم يبلغ الحلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم والمصنف استدل على مذهب الجمهور بوجهين:
أحدهما: القياس على الشهادة إذا تحملها وهو صغير فإنها تقبل بإجماعنا والجامع أنه حال الأداء مسلم بالغ عاقل يحترز عن الكذب واعترض عليه بان الرواية تقتضي شرعا عاما فأحتيط فيها بخلاف الشهادة وقد يجاب بان باب الشهادة أضيق فكانت بالاحتياط أجدر.
والثاني: إجماع الكل على إحضار الصبيان مجالس الحديث وفيه نظر فإن الإحضار لعله لقصد البركة.
فائدة: الكافر إذا تحمل في حال كفره ثم أدى في الإسلام قبل على الصحيح وممن ذكر المسألة من الاصوليين القاضي في مختصر التقريب والإرشاد.
قال الثاني كونه من أهل القبلة فنقبل رواية الكافر الموافق كالمجسمة إن اعتقدوا حرمة الكذب فإنه يمنعه عنه وقاسه القاضيان بالفاسق والمخالف ورد بالفريق.(13/455)
الكافر إما أن لا يكون منتميا إلى الملة الإسلامية كاليهودي والنصراني فلا تقبل روايته بالإجماع وإما أن يكون منتميا إليها وهو معنى قولنا من أهل القبلة وذلك كالمجسمة إذا قلنا بتكفيرهم.(13/456)
ص -314-…فإن علمنا من مذهبهم جواز الكذب أما لنصرة رأيهم أو غير ذلك لم تقبل روايتهم وقد ادعى الاتفاق على ذلك مدعون وهذا عندي فيه تفصيل فإن اعتقدوا جواز الكذب مطلقا فالأمر كذلك وإن اعتقدوا جوازه في أمر خاص كالكذب فيما يتعلق بنصرة العقيدة أو الترغيب في الطاعة والترهيب عن المعصية لم يتجه الاتفاق إلا على رد رواياتهم فيما هو متعلق بذلك الأمر الخاص فقط وإن اعتقدوا حرمة الكذب ففيه مذهبان:
أحدهما: أنه لا يقبل وهو مذهب القاضي أبي بكر والقاضي عبد الجبار والغزالي والآمدي والأكثرين.
والثاني: يقبل وهو رأي الإمام وأتباعه وأبي الحسين البصري واستدلوا عليه بأن اعتقادهم حرمة الكذب بزجرهم عن الإقدام عليه فيحصل ظن صدقه فيجب العمل به.
قال القرافي وفيه نظر فإن من أهل الكتاب من يستقبح الكذب غاية الاستقباح ومع ذلك لا تقبل روايته بالإجماع واحتج القاضيان أبو بكر وعبد الجبار بقياسه على الفاسق قالا فإنه أعظم من الفاسق نكرا والفاسق مردود الرواية فليكن هذا هكذا بطريق الأولى وبالقياس على الكافر والمخالف في الملة بجامع الكفر والجواب أن الفرق بينه وبين الفاسق جهله بفسق نفسه فيحترز عن الكذب لذلك بخلاف الفاسق وأن الفرق بينه وبين المخالف أن كفر المخالف اغلظ.
وقد فرق الشرع بينهما في أمور كثيرة ولك أن تقيم هذا جوابا عن اعتراض القرافي الذي أوردنا فنقول إنما لم تقبل رواية أهل الكتاب وأن استقبحوا الكذب غاية لأن كفرهم اغلظ فكانوا بزيادة الإهانة أجدر والله أعلم.
قال الثالث: العدالة وهي ملكة في النفس تمنعها عن اقتراف الكبائر والرذائل المباحة.
ومن شروطه أن يكون عدلا ومعرفة كون الراوي عدلا يتوقف على معرفة العدالة عندنا عبارة عن استقامة السيرة والدين وحاصلها يرجع إلى أنها ملكة في(13/457)
ص -315-…النفس تمنعها عن إقتراف الكبائر واقتراف الرذائل المباحة كالأكل في الطريق والبول في الشارع.
والضابط أن كل ما لا يؤمن معه الجراء على الكذب ويرد به الرواية ومالا فلا فإن قلت تعاطي الكبيرة الواحدة والرذيلة الواحدة تقدح وتعبيره بالكبائر والرذائل ينفي ذلك والإصرار على الصغيرة قادح ولا ذكر له في التعريف قلت أما الأول فالمراد جنس الكبائر والرذائل الصادق بواحدة.
وأما الثاني فقد قيل هذا من محاسن الكلام لأن الصغيرة بالإصرار تصير كبيرة فلو ذكر الإصرار على الصغيرة لأطال وكرر من غير فائدة فإن قلت التوقي عن الرذائل المباحة من المروءة التي هي شرط في قبول الشهادة وليست شرطا في العدالة وكلامكم أنها هو في العدالة ولرواية نفسها قلت صحيح ولكن لما كان الغرض الكلام في مقبول الرواية أخذ في وصف العدالة شرط القبول وهو تساهل ولو كانت العبارة مقبول الرواية ! ذلو الملكة النفسية التي يحمل على ملازمة التقوى والمروءة لكانت أشد وأوضح.
ثم أعلم أن المروءة التي هي شرط في قبول الشهادة هي الترقي عن الأدناس ومنها ما هو مشترط في اصل العدالة.(13/458)
ومن مجامع القول في ذلك ما ذكره القاضي الماوردي إذ قال المروءة على ثلاثة أضرب ضرب شرط في العدالة قال وهو مجانبة ما سخف من الكلام المؤدي إلى الضحك وترك ما قبح من الفعل الذي يلهو به أو يستقبح فمجانبة ذلك من المروءة المشترطة في العدالة وارتكابها مفسق وضرب لا يكون شرطا فيها وهو الإفضال بالمال والطعام والمساعدة بالنفس والجاه وضرب مختلف فيه وهو على ضربين عادات وصنائع فأما العادات فهو أن يقتدي فيها بأهل الصيانة دون أهل البذلة في أكله وملبسه وتصرفه فلا يتعرى من بلد يلبس فيه أهل الصيانة ثيابهم ولا يتزع سراويله في بلد يلبس فيه أهله السراويلات ولا يأكل على قوارع الطرق ولا يخرج عن العرف في مضغه ولا يغالي بكسرة أكله ولا يباشر ابتياع مأكوله ومشروبه وحمله بنفسه في بلد تتحاماه أهل الصيانة.(13/459)
ص -316-…وفي إعتبار هذا الضرب من المروءة في شرط العدالة أربعة أوجه.
أحدها: أنه خير معتبر فيها.
والثاني: أنه معتبر فيها وإن لم يفسق.
والثالث: إن كان قد نشأ عليها من صغره لم يقدح في عدالته وأن استحدثها في كبره قدحت.
والرابع: إن اختصت بالدين قدحت كالبول قائما وفي الماء الراكد وكشف عورته إذا خلا وأن يتحدث بمساوئ الناس وأن اختصت بالدنيا لم يقدح كالأكل في الطريق وكشف الرأس بين الناس هذا كلام الماوردي وتحصلنا منه على أن المروءة شرط في أصل العدالة في الضرب الأول وفي الضرب الثاني عند بعضهم فيصبح قول المصنف أن المروءة ركن في أصل العدالة فإن قلت في حد الكبيرة أوجه:
أحدها: أنها المعصية الموجبة الحد.
والثاني: ما لحق صاحبها وعد شديد بنص كتاب أو سنة.
والثالث: كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة.
والرابع: كل فعل نص الكتاب على تحريمه أوجب في جنسه حد هذا ما ذكروه في الضبط والتفصيل مستوعب في الفقهيات.
فإن قلت وما المراد بالصغائر وبالاصرار عليها قلت أما الصغيرة فالمعصية التي ليست كبيرة.
وأما الاصرار فقال ابن الرفعة لم أظفر فيه بما يثلج الصدر وقد عبر عند بعضهم بالمداومة وحينئذ هل المعتبر المداومة على نوع واحد من الصغائر أم الإكثار من الصغائر سواء كانت من نوع أو أنواع قال الرافعي منهم من يميل كلامه إلى الأول ومنهم من يفهم كلامه الثاني ويوافقه قول الجمهور من تغلب معاصيه طاعته كان مردود طاعته كان مردود الشهادة قال وإذا قلنا به تضر المداومة على نوع(13/460)
ص -317-…واحد من الصغائر إذا غلبت الطاعات وعلى الأول تضر قال ابن الرفعة وقضية كلامه أن مداومة النفوع تضر على الوجهين.
أما على الأول فظاهر.
وأما على الثاني فلأنه في ضمن حكايته قال إن الإكثار من النوع الواحد كالإكثار من الأنواع وحينئذ لا يحسن معه التفصيل نعم يظهر أثرهما فيم إذا أتى بأنواع من الصغائر إن قلنا بالأول لم تضر وإن قلنا بالثاني ضر.
واعلم أن الصغائر كما تصير بالإصرار كبيرة كذلك بعض المباحات تصير بالإصرار صغيرة.
قال الغزالي في أثناء كتاب التوبة من إحياء علوم الدين وهو الكتاب الأول من ربع المنجيات الصغيرة تكبر بالمواظبة كما أن المباح يصير صغيرة بالمواظبة كاللعب بالشطرنج والترنم بالغناء على الدوام وغيره.
فإن قلت: هذا التعريف الذي قدمتموه في العدالة قضيته أن من لم يقدم على كبيرة ولا رذيلة ولم يكن في نفسه ملكة تمنعه عن اقتراف هذين وانما كف عنهما كفا من غير أن يكون في نفسه ملكة تدعوه إلى ذلك لا يكون عدلا فهل في هذا مخالفه لكلام الفقهاء فانهم يقولون إن العدل من لا يقدم على كبيرة ولا يصر على صغيرة فلا يقدم على ما يحرم المروءة وذلك اعم من أن يكون بداعية الملكة النفسية أولا قلت ظاهره المخالفة ولكنا نقول متى حصلت تلك الملكة لم يحصل الاقدام على ما يخل بالعدالة ومتى أقدم علمنا أن الملكة حاصلة فإن الملكة مستقلة بالمنع فمتى حصلت لا بد وأن يحصل الامتناع.
فإن قلت: هل يحرم تعاطي المباحات التي ترد بها الشهادة لاخلالها بالمروءة.
قلت: قد حكى ابن الرفعة أن سمع قاضي القضاة تقي الدين أبي عبد الله محمد بن الحسن بن رزين يقول بعض من لقيه بالشام من المشايخ كان يحكي في ذلك ثلاثة أوجه:(13/461)
ص -318-…ثالثها: إن تعلقت به شهادة حرمت وإلا فلا لكن في البسيط والنهاية الجزم وبعدم التحريم وهو الظاهر.
قال: ولا تقبل رواية من أقدم على الفسق عالما وإن جهل قبل.
قال القاضي ضم جهل إلى فسق.
قلنا الفرق عدم الجراءة.
لما كانت العدالة شرطالم يجز قبول رواية من أقدم على الفسق عالما بكونه فسقا.
وقد حكى الإجماع على هذا وهذا واضح إن كان ما أقدم عليه مقطوعا بكونه فسقا واما إن كان مظنونا فيتجه تخريج خلاف فيه ان حكى وجه فيمن شرب النبيذ وهو يعتقد تحريمه أن شهادته لا ترد.
قال صاحب البحر وهو الذي مال إلى ترجيحه المتأخرون من الأصحاب ولا فرق بين الرواية والشهادة فيما يتعلق بالعدالة وان افترقا في أمور أخر وأما الجاهل بكونه فسقا فقد يجهل الحال بالكلية ويكون ساذجا والأمر من المظنونات كما لو شرب النبيذ ساذج لا يعتقد الحل ولا التحريم ففي فسقه ورد شهادته بعد إقامة الحد عليه وجهان حكاهما الماوردي في الحاوي لا بد من جريان مثلهما في رد روايته على أن الوجهين المذكورين لا بد من فرضهما في رجل جاهل بالقاعدة المشهورة وهي أن المكلف لا يجوز له أن يقدم على فعل حتى يعرف حكم الله فيه.
وقد حكى الشافعي في الرسالة الإجماع على هذه القاعدة وكذلك حكاه الغزالي ثم أنهما أعني الوجهين لا يتجهان إلا تخريجا على حكم الأشياء قبل ورود الشرع والمارودي كثيرا ما يخرج على ذلك وقد يكون ظانا الحل فتقبل روايته إما ان كان ما اقدم عليه من المظنونات فقد حكى الإمام فيه الاتفاق.
قال الهندي وإلا ظهر أن فيه خلافا كما في الشهادة اذ نقل وجه في الشهادة أنها ترد به ولكن الصحيح أنها لا ترد.(13/462)
ص -319-…قال الشافعي رضي الله عنه اقبل شهادة الحنفي وأحده إذا شرب النبيذ وإن كان من القطعيات فكذلك على المختار خلافا للقاضي أبي بكر والجبائي وأبي هاشم وتبعهم الآمدي.
قال الشافعي أقبل شهادة أهل الاهواء إلا الخطابية من الرافضة لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم لنا إن ظن صدقه راجح والعمل بالظن واجب واحتج القاضي ومن نحا نحوه بأن الاقدام على الفسق من العالم قبيح موجب للرد والجاهل إذا قدم عليه كان أولى بالرد إذ زاد قبيحا آخر على الفسق وهو الجهل فإذا منع الفسق بمجرده من القبول فلأن يمنع والجهل مضاف إليه أولى.
وأجاب المصنف بأن الفرق بين من أقدم عالما ومن أقدم جاهلا أن إقدام الأول يدل على الجراءة وقلة المبالاة بالمعصية فيغلب على الظن كذبه بخلاف الجاهل قلت ولعل القاضي رحمه الله يقول ترك استرشاده في التشبهات تهاون بالدين فصار فاسقا وبهذه الكلمة اعتل من ذهب إلى تفسيق الساذج الذي لا يعتقد الحل ولا التحريم كما تقدمت حكايته آنفا وهو هنا ابلغ بخلاف الأمر الظني المجتهد فيه.
قال ومن لا تعرف عدالته لا تقبل روايته لأن الفسق مانع ولا بد من تحقق عدمه كالصبا والكفر والعدالة تعرف بالتزكية وفيها مسائل:
مجهول العدالة لا تقبل روايته عند الشافعي وأحمد وأكثر أهل العلم بل لابد من البحث عن سيرته باطنا وعليه الإمام وأتباعه منهم المصنف.
وقال أبو حنيفة يكتفى في قبول الرواية بظهور الإسلام والسلامة عن الفسق ظاهر أمثاله ما روى المخالف عن أم سلمة أنها قالت كانت النفساء تقعد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين يوما وهذا ما رواه أبو سهل عن مسة الأذرية عن أم سلمة وأبو سهل ومسة مجهولان ذكره القاضي أبو الطيب ومثل ذلك كثير.
فإن قيل: قد قبلتم المجهول وذلك أن عبد الرحمن بن وعلة المصري رجل(13/463)
ص -320-…مجهول وقد روى عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما أهاب دبغ فقد طهر"1.
ونقل عن أحمد بن حنبل أنه ذكر له حديثه هذا فقال ومن أبن وعلة قلنا ليس ابن وعلة مجهولا بل هو ثقة روى عنه زيد بن اسلم ويحيى بن سعيد وغيرهما ووثقه ابن معين والعجلي والنسائي وروى له مسلم والأربعة.
فإن قيل روى خالد بن أبى الصلت عن عراك بن مالك عن عائشة أنها قالت بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ناسخا يكرهون أن يستقبلوا القبلة بفروجهم فقال أو قد فعلوها تحولوا بمقدتي إلى القبلة وخالد مجهول.
وحكى أبو بكر بن المنذر في كتابه هذا عن أبي ثور قلنا خالد معروف روى له ابن ماجة وروى عنه سفيان بن حسين ومبارك بن فضالة وغيرهما ذكره ابن حبان في الثقات.
قال شيخنا الذهبي وما علمت أحدا تعرض إلى لينه.
وقال القاضي أبو الطيب ان أبا بكر بن المنذر أجاب عن هذا بأن أحمد بن حنبل قال مخرج هذا الحديث حسن قال.
وقال غيره روى عنه خالد الحذاء ومبارك بن فضالة وواصل مولى بن عيينة وهؤلاء ثقات فوجب أن يكون خالد معروفا وقد استدل المصنف على المختار بأن الفسق مانع من القبول باتفاق فلا بد من تحقق ظن عدمه قياسا على الصبي والكفر بجامع رفع احتمال المفسدة وهذا الدليل فيه نظر لأنا إذا شككنا في المنافع فالأصل عدمه فقد حصل ظن عدمه بدليل الأصل لأن عدم المانع ليس شرطا حتى يشترط تحقق عدمه وكثير من الفقهاء يتخيل انه شرط وليس كذلك بل عدم المانع ليس بشرط وعدم الشرط ليس بمانع ودليله أن الشك في عدم الشرط يمنع ترتب الحكم لأن القاعدة أن المشكوكات كالمعدومات فكل شيء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حديث صحيح رواه الترمذي باب جلود الميتة إذا دبغت وابن ماجة كتاب اللباس باب جلود الميتة إذا دبغت كما رواه الإمام الشافعي ومسلم في صحبحه بلفظ إذا د بغ الإهاب فقد طهر.(13/464)
ص -321-…شككنا في وجوده أو عدمه جعلنا معدوما فلو كان عدم الشرط مانعا أو عدم المانع شرطا لزم من الشك فيه أن ترتب الحكم لأنه مانع وأن لا نرتبه لأنه شرط فنرتبه ولا نرتبه وهذا يوضع بين النقيضين واعلم ان أبا حنيفة إنما يقبل رواية المجهول إذا كان في صدر الإسلام حيث الغالب على الناس العدالة أما في هذا الزمان فلا صرح به بعض المتأخرين من أصحابه ثم ذكر صاحب الكتاب من الطريق التي تعرف بها العدالة التزكية واخل بذكر الاختبار وإن كان هو الأصل إذ ليس مستند التزكية إلا هو إما بمرتبة أو مراتب دفعا للتسلسل لأن مقصود الفصل الكلام في أحكام التزكية وقد ذكر المصنف فيه أربع مسائل:
قال: الأولى: في شرط العدالة في الرواية والشهادة ومنع القاضي فيهما والحق الفرق كالأصل.
في اشتراط العدد وفي الرواية والشهادة مذاهب:
أحدها: يشترط فيهما وهو رأي بعض المحدثين.
والثاني: لا يشترط بل يكفي فيهما واحد وهو قول القاضي.
والثالث: وبه قال الأكثرون أن العدد يشترط في التزكية في الشهادة دون التزكية في الرواية وحجته أن الشهادة نفسها لا بد فيها من العدد فكذلك ما هو شرط فيها والرواية لا يشترط فيها العدد فكذا شرطها واليه أشار بقوله كالأصل ويؤخذ منه قبول تزكية المرأة والعبد في الرواية وهو كذلك.
قال: الثانية: قال الشافعي رضي الله عنه يذكر سبب الجرح وقيل سبب التعديل وقيل سببهما قال القاضي لا فيهما.
قال الشافعي رضي الله عنه يجب ذكر سبب الجرح دون التعديل إذ قد يجرح بما لا يكون جارحا لا اختلاف المذاهب فيه بخلاف العدالة إذ ليس لها إلا سبب واحد ولأن الجرح يحصل بخصلة واحدة بخلاف التعديل وقيل عكسه لأن مطلق الجرح يبطل الثقة ومطلق التعديل لا يحصل الثقة لتسارع الناس إلى الثناء اعتمادا على الظاهر فلا بد من سببه وقيل لا بد من تبيين السبب فيهما جميعا أخذا بمجامع كلام الفريقين وقال القاضي لا يجب ذكر السبب(13/465)
ص -322-…فيهما لأنه ان لم يكن بصيرا بهذا الشأن لم يصلح للتزكية وإن كان بصيرا به فلا معنى للسؤال كذا نص عليه في مختصر التقريب ونقله عنه الآمدي والغزالي والإمام واتباعه منهم المصنف ونقل إمام الحرمين في البرهان عنه المذهب الثاني وهو اشتراط بيان السبب في التعديل دون الجرح وقال انه أوقع في مأخذ الأصول وقال إمام الحرمين والإمام وغيرهما أن كان المزكي عالما بأسباب الجرح والتعديل اكتفينا بإطلاقه فيهما وإن لم يعرف اطلاعه على شرائطهما إستخبرناه عن أسبابهما ويشبه أن لا يكون هذا مذهبا خامسا لأنه إذا لم يكن عارفا بشروط العدالة لم يصلح للتزكية.
قال الثالثة: الجرح مقدم على التعديل لأن فيه زيادة.
الجرح يقدم عند التعارض على التعديل أن كان فيه اطلاع على زيادة لم يطل عليها المعدل اللهم إلا إذا جرحه بقتل إنسان وقت كذا فقال المزكي رأيته حيا بعد ذلك فهنا يتعارضان وهذا إذا كان المعدل والجارح في العدد سواء وقد حكى ابن الحاجب مذهبا أنهما يتعارضان ولا يترجح أحدهما بمرجح واعلم أن الاستدلال بالإجماع إذا كان قد قام كما حكاه القاضي أقوى الحجج على المدعي لأن الزيادة التي ذكرها الجارح قد ينفيها المعدل.
فإن قلت لو نفاها كان شاهدا على النفي فلا تقبل شهادته قلت إنما كلامنا في الرواية فهو مخبر عن النفي والأخبار نفيا وإثباتا مقبولا بخلاف الشهادة فلا يقاس أحدهما بالآخر نعم قال القاضي الاخبار عن النفي يضعف وأما إن كثر عدد المعدلين وقل عدد الجارحين فقد صار بعض العلماء إلى أن العدالة في مثل هذه الصورة أولى والحق التسوية فإن كل واحد من الجرح والتعديل يستقل بنفسه لو قدر مفرد فالزيادة لا تقضي بغير ذلك.
قال القاضي ونوضحه أن عشرة من الشهود لو شهدوا على ثبوت دين وشهد علان على ابراء مستحقه عنه فيقضي بالابراء فإنهما أخبرا عما أخبر الشهود عنه وانفراد بزيادة علم وهذا شأن الجارح مع المعدلين.(13/466)
قال الرابعة: التزكية أن يحكم بشهادته أو يثني عليه أن يروي عن غير العدل أو يعمل بخبره.(13/467)
ص -323-…للتزكية أربع مراتب أعلاها أن يحكم بشهادته وثانيها أن يثني عليه بأن يقول هو عدل وما أشبهه وقال بعض الشافعية لا بد وأن يقول هو عدل على ولي وثالثها إذا روى عنه من لا يروي عن غير العدل فإنه يكون تعديلا على المختار عند الإمام والآمدي كالبخاري ومسلم في صحيحهما وقيل الرواية تعديل مطلقا وقيل عكسه كما أن تركها ليس بجرح ورابعها إذا عمل بمدلول ما أخبر به ولم يمكن حمله على العمل بدليل آخر فهو تعديل وقد نقل الآمدي الاتفاق على ذلك وليس بجيد فإن الخلاف محكي في مختصر التقريب للقاضي وأما ترك العمل بما رواه هل يكون جرحا.
فقال القاضي في مختصر التقريب ان تحقق تركه للعمل بالخبر مع ارتفاع الروافع والموانع وتقرر عندنا تركه موجب الخبر مع أنه لو كان ثابتا للزم العمل به فيكون ذلك جرحا وإن كان مضمون الخبر مما يسوغ تركه ولم يتبين قصده إلى مخالفة الخبر فلا يكون جرحا.
فائدة: أطلق الإمام أن الحكم بالشهادة تزكية كما في الكتاب.
وقيده الآمدي إذا لم يكن الحاكم ممن يرى قبول الفاسق الذي لا يكذب وهو قيد صحيح إلا أنه لا يختص بهذا القسم.
فإن القسم الرابع كذلك.
قال: الرابع: الضبط وعدم المساهلة في الحديث وشرط أبو على العدد ورد بقبول الصحابة خبر الواحد قال طلبوا العدد قلنا عند التهمة.
الشرط الرابع: من شروط الراوي أن يكون بحيث يؤمن من الكذب والخطأ فيما رواه وذلك يستدعي حصول أمرين.
أحدهما: الضبط فمن يكون مختل الطبع لا يقدر على الحفظ أصلا لا يقبل خبره البتة وكذا يعتريه السهو غالبا ورب من يضبط قصار الأحاديث دون طوالها لقدرته على ضبط تلك دون هذه فتقبل روايته فيما علم ضبطه إياه.
الثاني: ولعله يدخل في الأول عدم التساهل فلو روى الحديث وهو غير(13/468)
ص -324-…واثق به لم يقبله وإن كان التساهل في غير الحديث ويحتاط في الحديث قبلت روايته على الأظهر وإلى ذلك أشار المصنف بقوله في الحديث.
وشرط أبو علي الجبائي العدد في كل خبر.
وقال كما حكى عنه القاضي عبد الجبار لا يقبل في الزنا إلا خبر أربعة كالشهادة عليه.
ونقل القرافي عن كتاب المحصول في الأصول لابن العربي أن الجبائي اشترط في قبول الخبر اثنين وشرط على الإثنين إثنين إلى أن ينتهي الخبر إلى التاسع وهذا الذي قاله مردود بقبول الصحابة خبر العدل الواحد كعمل علي بخبر المقداد وتعويلهم على خبر عائشة في التقاء الختانين وغير ذلك.
واحتج بانهم طلبوا العدد في أماكن فإن ابا بكر رضي الله عنه لم يقبل المغيرة في الجدة حتى رواه معه محمد بن مسلمة ولم يعمل عمر بخبر أبي موسى في الاستئذان1 حتى رواه أبو سعيد الخدري وغير ذلك.
والجواب أنهم لم يطلبوا العدد إلا عند الريبة في صحة الرواية أما لاحتمال نسيان من رواه أو غير ذلك.
وبهذا يحصل الجمع بين قبولهم تارة وردهم أخرى وحكى ابن الأثير في جامع الأصول أن بعضهم اشترط أربعة عن أربعة إلى أن ينتهي الإسناد.
قال: الخامس: شرط أبو حنيفة فقه الراوي ان خالف القياس ورد بأن العدالة تغلب ظن الصدق فيكفي.
الراوي لا يشترط أن يكون فقيها عند الأكثرين سواء كانت روايته مخالفة للقياس أم لم تكن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار من بني الأشعر ويكنى بأبي موسى صحابي جليل ولد سنة 21 ق هـ وتوفي سنة 44هـ أسد الغابة 3/367.وخبره في الاستئذان هو قوله صلى الله عليه وسلم: "أأستأذن أحدكم على صاحبه فلم يؤذن له فلينصرف" أخرجهالبخاري ومسلم وأبو داود ومالك وأحمد كما في الفتح الكبير 1/77 فلم يقبله عمر حتى شهد معه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه تقدمت ترجمته.(13/469)
ص -325-…وقال أبو حنيفة رضي الله عنه يشترط فقهه ان خالفه القياس لأن الدليل نحو قوله: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} ينفي جواز العمل بخبر الواحد خالفناه فيما إذا كان الراوي فقيها لأن الاعتماد على روايته أوثق فوجب بقاء ما عداه على الأصل رد بأن عدالة الراوي تغلب ظن صدقه والعمل بالظن واجب كما تقرر وبقوله صلى الله عليه وسلم: "نضر الله أمرءا سمع مقالتي فوعاها فأداها" إلى قوله: "فرب حامل فقه ليس بفقيه"1 فهذا صريح في الباب.
واما الثاني: فلا يخالفه قاطع ولا يقبل التأويل ولا يضره مخالفة القياس ما لم يكن قطعي المقدمات بل يقدم لقلة مقدماته وعمل الأكثر والراوي.
انقضت شروط المخبر بكسر الباء والكلام الآن في شرط المخبر عنه وشرطه أن لا يخالفه دليل قاطع لقيام الإجماع على تقديم المقطوع على المظنون فإن خالفه دليل قاطع فذلك القاطع إما عقلي أو سمعي فإن كان عقليا نظر فإن كان ذلك الخبر قابلا للتأويل القريب الذي طرق أذن من هو أهل اللسان سمعه ولم ينب عنه طبعه وجب تأويله جمعا بين الدليلين.
وإلا قطعنا بأنه لم يصدر من الشارع لأن الدليل القطعي لا يحتمل الصرف عما دل عليه بوجه من الوجوه لا بالتخصيص ولا بالتأويل إلا بغيرهما فيجب القطع بأنه مكذوب على الشارع ضرورة أن الشارع لا يصدر عنه الكذب ولو صدر عنه هذا للزم صدور الكذب وهو محال وإن كان سمعيا فإن لم يكن الجمع بينهما فالحكم كما سبق.
هذا إذا علم تأخير المظنون عن المقطوع أو جهل التاريخ إذ لا يجوز الحمل على النسخ فان نسخ المقطوع بالمظنون غير جائز شرعا فإن علم تأخير المقطوع عنه حمل على أنه منسوخ ولا يقطع بكذبه وإن كان الجمع غير ممكن لتحقق شرط النسخ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(13/470)
1 حديث صحيح رواه الترمذي من حديث زيد بن ثابت كما رواه أحمد والترمذي وابن حبان من حديث ابن مسعود بلفظ " نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها. ثم بلغها عني فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" وللحديث روايات أخر.
أنظر الفتح الكبير 3/262.(13/471)
ص -326-…وبهذا يفارق ما نحن فيه الصورة التي تجهل التاريخ فيها فإنه وإن أمكن في تلك الصورة أن يحمل على أن المظنون منسوخ بالمقطوع لكن لم يتحقق شرط النسخ فلا يقطع به بمجرد الاحتمال فإن الآفات العارضة للراوي من كذب ونسيان وغيرهما محتملة بل ربما يكون الحمل عليها أهون من الحمل على النسخ مع عدم تحقيق شرطه هذا شرط خبر الواحد.
وأما ما ظن أنه شرط له وليس كذلك فمنه إذا عارض خبر الواحد القياس فأما أن يقتضي أحدهما تخصيص الآخر لأن فيخصيص العلة وخبر الواحد بالقياس جائز وأن تباينا من كل وجه وفيه كلام المصنف فينظر في مقدمات القياس فان ثبت بدليل قطعي قدمنا القياس على خبر الواحد وذلك واضح.
وإن لم تكن مقدمات القياس قطعية فإن كانت كلها ظنية قدم الخبر لقلة مقدماته ولا يتجه أن يكون هذا محل خلاف وإن كان كلام بعضهم وهو طريقة الآمدي يقتضي أنه من صور الخلاف لكنه بعيد وإن كان البعض قطعيا والبعض ظنيا فمفهوم كلام المصنف أن خبر الواحد مقدم أيضا وهو قول الشافعي رضي الله عنه واختيار الإمام وجماعة وقال مالك القياس راجح.
وقال عيسى بن ابان إن كان الراوي ضابطا عالما قدم خبره وإلا كان في محل الاجتهاد وتوقف قوم المختار عندنا ما ذهب إليه أبو الحسين وهو أنه يجتهد فإن كانت إمارة القياس أقوى وجب المصير إليها وإلا فبالعكس وإن استويا في إفادة الظن فالوجه ما ذهب إليه الشافعي ومنه عمل أكثر الأمة بعض الأمة بخلاف خبر الواحد أي لا يوجب رده لأن أكثر الأمة بعض الأمة.
وقول بعض ليس بحجة ومن يقول اتفاق الأكثر إجماع ولا عبرة بالمخالف إذا ندر فاللائق بمذهبه أن يرد به الخبر واما عندنا فلا لكن قول الأكثر من المرجحات فيقدم عند التعارض بمعنى أنه إذا عارض خبر الواحد خبر آخر مثله متعضد بعمل الأكثر قدم على الآخر الذي ليس معه عمل الأكثر ومنه عمل راوي الخبر بخلافه أي بخلاف ظاهر الخبر لا يوجب رده.(13/472)
ص -327-…كما أشار إليه بقوله والراوي عطفا على عمل الأكثر أي ولا يضره مخالفة الراوي وهل المراد بالراوي الصحابي أو أعم من ذلك فيه الكلام المتقدم في أثناء الخصوص وذهب أكثر الحنفية إلى أن عمل الراوي بخلاف الخبر يقدح في الخبر ولا يجوز الأخذ إلا بعمل الراوي وقال عبد الجبار وأبو الحسين إن لم يكن لمذهبه وتأويله وجه إلا أنه علم بالضرورة أنه عليه السلام أراد ذلك الذي ذهب إليه من ذلك الخبر وجب المصير إليه إن لم يعلم ذلك بل جوزنا أن يكون قد صار إليه لنص أو قياس وجب النظر في ذلك.
فإن اقتضى ما ذهب إليه وجب المصير إليه وان لم يقتض ذلك لم يطلع على مأخذه وجب المصير إلى ظاهر الخبر.
وذلك لأن الحجة إنما هي في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لا مذهب الراوي وظاهر كلامه صلى الله عليه وسلم يدل على معنى غير ما ذهب إليه الراوي فوجب المصير إليه وعدم الالتفات إلى مذهب الراوي.
قال: وأما الثالث: ففيه مسائل الأولى لألفاظ الصحابي سبع درجات:
الأولى: حدثني ونحوه.
الثانية: قال الاحتمال التوسط.
الثالثة: أمر لاحتمال اعتقاده ما ليس بأمر أمرا والعموم والخصوص والدوام واللادوام.
الرابعة: أمرنا وهو حجة عند الشافعي لأن من طاوع أمرا إذا قاله فهم منه أمره ولأن غرضه بيان الشرع.
الخامسة: من السنة وعن النبي عليه السلام.
السادسة: قيل للتوسط.
السابعة: كنا نفعل في عهده.
هذا هو الثالث من شرائط العمل بخبر الواحد وهو الكلام في الخبر وفيه مسائل.(13/473)
ص -328-…الأولى: في بيان ألفاظ الصحابي ومراتبها وقد أتى المصنف رحمه الله بلفظ جامع لها وهو قوله درجات الدرجة الأولى أن يقول حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحوه مثل سمعت وأخبرني أو شافهني فهذا خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم واجب القبول انفاقا.
الثانية: أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا فهذا ظاهرة النقل فيكون حجة لكنه ليس نصا صريحا لاحتمال أن يكون قد وصل إليه بواسطة فتكون مرتبته دون الأولى.
الثالثة: أن يقول أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكذا ونهى عن كذا فهذا يتطرق إليه هذا الاحتمال مع احتمال آخر وهو احتمال ظنه ما ليس بأمر أمرا وأيضا فليس فيه أنه أمر الكل أو البعض ولأن الأمر به يدوم أولا فربما اعتقد شيئا لا يوافق اجتهادنا وقول المصنف لاحتمال تعليل لكونه دون الدرجة الثانية لكن الظاهر من حال الصحابي أنه إنما يطلق هذه اللفظة إذا تيقن المراد لذلك ذهب الأكثرون إلى أنه حجة وخالف داود الظاهري وبعض المتكلمين والقاضي في مختصر التقريب حكى عن داود أنه صار إلى التوقف في ذلك وإلى التوقف مال الإمام.
الرابعة: ان يبني الصيغة للمفعول فيقول أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا أو وجب علينا كذا وما أشبه ذلك والذي عليه الشافعي رضوان الله عليه وأكثر الأئمة وهو اختيار الإمام والآمدي أن ذلك يفيد أن الآمر والناهي هو الرسول صلى الله عليه وسلم فيكون حجة وذهب الصيرفي والكرخي وغيرهما إلى أن ذلك متردد بين أمر الله الذي اشتمل عليه كتابه المنزل وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأمر كل الأمة أو بعض الولاة وبين أن يكون قال ذلك استنباطا لقياس أو غيره بحسب تأدية اجتهاده فلا يكون حجة وأصبح الأولون بوجهين.
أحدهما: أن من لزم طاعة رئيس فإنه إذا قال أمرنا بكذا فهم منه أمر ذلك الرئيس لا يفهم ممن يقول في دار السلطان أمرنا بكذا إلا أن الأمر السلطان.(13/474)
ص -329-…والثاني: أن غرض الصحابي تعليمنا الشرع فيجب حمله على من صدر الشرع عنه دون الائحة والولاة وأما حمله على أمر الله فمنتف لأن أمر الله تعالى ظاهر للكل لا يستفاد من قول الصحابي وحمله على الإجماع متعذر لأن ذلك الصحابي من الأمة وهو لا يأمر نفسه وانما قلنا إن هذه المرتبة دون الثالثة لاحتمالها ما تحتمل تلك مع زيادة ما ذكرناه.
الخامس: أن يقرر من السنة كذا وهو حجة عند جماعة يجب حمله على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهذا ما عليه الإمام والآمدي والمتأخرون وخالف الكرخي والصيرفي والمحققون كما ذكر إمام الحرمين في البرهان:
وقال المازري أحد قولي الشافعي أنه ليس بحجة وحكى القاضي في مختصر التقريب اختلاف أصحابنا في ذلك وقد قال الشافعي في القديم إن المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية أي تساوي في العقل.
فإن زاد الواجب على الثلث صارت على النصف وذكر أن هذا القول القديم مرجوع عنه وأن الشافعي رضي الله عنه قال كان مالك يذكر أنه السنة وكنت أتابعه عليه وفي نفس منه شبهة حتى علمت انه يريد سنة أهل المدينة فرجعت عنه وهذا من الشافعي يدل على أن قوله من السنة ظاهر في أن المراد به سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ما لم يقم دليل على أن المراد سنة البلد أو غير ذلك.
ويدل أيضا على أن هذا لا يختص بالصحابي بل يعم كل متكلم على لسان الشرع كمالك وغيره وحجة الأولين ما تقدم في أمرنا ونهينا وهذه الدرجة دون الرابعة لاحتمالها ما نحتمل تلك مع زيادة احتمال سنة البلد أي طريقتها أو غير ذلك.
وإمام الحرمين قال إنها بمثابة تلك وكأنه رأى هذا الأحتمال مرجوحا لبعده من المتكلم على لسان الشريعة ومالك رضي الله عنه وإن كان قد وقع منه قوله من السنة مع إرادته سنة البلد فما ذلك إلا لأن إجماع المدينة عنده حجة فكانت(13/475)
ص -330-…طريقها عنده من السنة فلذلك أطلق قوله من السنة وأراد سنة المدينة ولا يقع منه ذلك في بلد غيرها.
السادسة: أن يقول عن النبي صلى الله عليه وسلم واختلفوا فيه فقال قوم بظهوره في إنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم فيكون حجة وهو رأي المصنف وصفي الدين الهندي وأما الإمام وغيرهما من اتباعه فلم يرجح أحد منهم شيئا.
السابعة: أن يقول كنا نفعل في عهده صلى الله عليه وسلم كذا وكانوا يفعلون كذا ومنه قول عائشة رضي الله عنها كانوا لا يقطعون في الشيء التافه والأكثرون على أنه حجة وهو اختيار الآمدي.
ومقتضى اختيار الإمام هنا إلا أنه جعله مرتبة سابعة كما فعل المصنف ولم يصرح في السادسة بترجيح وقضية تقديمها ترجيحها وحجة الاكثرين أن قوله كنا نفعل وكانوا يفعلون ظاهر في فعل الجماعة وتقرير النبي صلى الله عليه وسلم لأن قصد الصحابي بيان الشريعة وهذه الدرجة دون التي قبلها لاختصاصها باحتمال أن يكون فعل بعضهم ولم يطلع عليه النبي صلى الله عليه وسلم لأن قصد الصحابي واعلم أن كلام المصنف ربما يوهم توقف الاحتجاج بقول الصحابي كنا نفعل على تقييده بعهد النبي صلى الله عليه وسلم وفيه مخالفة لكلام غيره والذي عندي في ذلك أن لهذه الدرجة ألفاظا.
أعلاها: أن يقول كنا معاشر الناس أو كانت الناس تفعل ذلك في عهده صلى الله عليه وسلم.
وهذا ما لا يتجه في القول بكونه حجة خلافا لتصريحه بنقل الاجماع المتعضد بتقرير النبي.
والثانية: كنا نفعل في عهده صلى الله عليه وسلم ولا يصرح بجميع الناس فهذه دون ذلك لأن الضمير في قوله كنا يحتمل أن يعود على طائفة مخصوصة.(13/476)
والثالثة أن يقول كان الناس يفعلون كذا ولا يصرح بعهد النبي صلى الله عليه وسلم فهذه دون الثانية من جهة عدم التصريح بعده صلى الله عليه وسلم وفوقها من جهة تصريحه بجميع الناس فيحتمل أن يقال لتساويها وإلا ظهر رجحان تلك لأن التقييد بعهد النبي صلى الله عليه وسلم ظاهر في أنه قرر عليه وتقريره تشريع سواء كان لواحد أو لجماعة.(13/477)
ص -331-…وأما هذه فغايتها أنها ظاهرة في نقل الاجماع بخبر الواحد فيه من الخلاف ما هو معروف.
والرابعة: أن يقول كنا نفعل كذا وكانوا يفعلون كذا وهي دون الكلام لعدم التصريح بالنبي صلى الله عليه وسلم ومما يعود عليه ضمير قوله كنا وكانوا فهذه طرق الصحابي في نقل الحديث النبوي والصحابي عند الأكثرين هو من رأي النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه ولحظة سواء روي عنه أو لم يرو وقيل من طالت صحبته وإن لم يرو وقيل من طالت صحبته وأخذ عنه العلم وروي وتثبت الصحة بالنقل أو بالتواتر أو الآحاد وبقول المعاصر العدل أنا صحابي أو رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وصحبته ومن الناس من توقف في ثبوتها بقوله لما في ذلك من دعواه رتبة لنفسه وهو توقف ظاهر فإن المرء لو قال أنا عدل لم يلتفت إلى مقاله لدعواه لنفسه خصلة شريفة فكيف إذا ادعى الصحبة التي هي فوق منصب العدالة بأضعاف مضاعفة فهذا ما يجب التوقف فيه.
قال: الثانية لغير الصحابي أن يروي إذا سمع الشيخ أو قرأ عليه ويقول له هل سمعت فيقول نعم أو أشار أو سكت وظن إجابته عند المحدثين أو كتب الشيخ أو قال سمعت ما في هذا الكتاب أو يجيز له.
هذه المسألة في رواية غير الصحابي وذلك أيضا على سبع مراتب.
الأولى: أن يسمع من لفظ الشيخ فيلزمه العمل بالخبر ثم هو ينقسم إلى أملا وتحديث من غير أملا وسواء كان من حفظه أو من كتابه وهذا القسم أرفع الأقسام عند الجماهير.
وللسامع في هذا القسم أن يقول أخبرني وحدثني او سمعت أو أخبرنا أو حدثنا وهذا إن قصد الراوي إسماعه إما خاصة أو كان في جمع قصد الراوي إسماعهم وإن لم يقصد الشيخ إسماعه لا في وحدة فليس له أن يقول ألا سمعته يحدث عن فلان سأل الخطيب أبو بكر الحافظ شيخه الحافظ أبي بكر اليرقاني عن السر في كونه يقول فيما رواه لهم عن أبي القاسم عبد الله بن إبراهيم الجرجاني الابتذوبي سمت سمعت ولا يقول حدثنا ولا أخبرنا فذكر له أبا(13/478)
ص -332-…القاسم كان مع علو قدره عسرا في الرواية وكان البرقاني يجلس بحيث لا يراه أبو القاسم ولا يعلم بحضوره فيسمع منه ما يحدث به الشخص الداخل عليه وحده.
الثانية: أن يقرأ عليه وأكثر المحدثين يسمعون القراءة على الشيخ عرضا من حيث أن القارئ يعرض على الشيخ ما يقرأه ويقول له بعد الفراغ من القراءة أو قبلها هل سمعت.
فيقول الشيخ نعم أو يقول بعد الفراغ الأمر كما قرىء علي ولا خلاف أنها رواية صحيحة إلا ما كحى عن بعض من لا يعتد بخلافه واختلفوا في أنها مثل السماع من لفظ الشيخ في المرتبة أو دونه أو فوقه والصحيح ترجيح السماع من لفظ الشيخ والحكم بأن القراءة علته مرتبة ثانية.
وهو مذهب جمهور أهل المشرق وللقارئ هنا أن يقول قرأت على فلان وللسامع أن يقول قريء عليه وأنا أسمع فأقر به وله أن يقول حديثا قراءة عليه أو أخبرنا قراءة عليه وأما إطلاق حدثنا وأخبرنا ففيه مذاهب.
أحدهما: المنع منهما جميعا وبه قال ابن المبارك ويحيى بن يحيى وأحمد بن حنبل والنسائي.
والثاني: التجويز وأنه كالسماع من لفظ الشيخ في جواز إطلاق حدثنا وأخبرنا.
وبه قال الزهري ومالك وسفيان بن عيينة ويحيى بن سعيد القطان والبخاري ومن هؤلاء من أجاز فيها أيضا أن يقول سمعت فلانا حكاه ابن الصلاح.
والثالث: المنع من إطلاق حدثنا ويجوز أخبرنا وهو قول الشافعي وأصحابه ومسلم بن الحجاج وجمهور أهل المشرق والاحتجاج له ليس بأمر لغوي وإنما هو اصطلاح منهم أرادوا به التمييز بين النوعين وصار هو الشائع الغالب على أهل الحديث وقد قرأ ابو حاتم محمد بن يعقوب الهروي صحيح البخاري على بعض الشيوخ عن الفريري وكان يقول له في كل حديث حدثكم الفريري فلما فرغ(13/479)
ص -333-…من الكتاب سمع الشيخ يذكر أنه سمع الكتاب من الفريري قراءة عليه فأعاد أبو حاتم قراءة جميع الكتاب عليه وقال له في جيعه أخبركم الفريري.
الثالثة: أن يقرأ على الشيخ ويقول له هل سمعته فيشير الشيخ بإصبعه أو رأسه فالإشارة ههنا كالعبارة في وجوب العمل بذلك الخبر وكذا في جواز الرواية عنه على الصحيح.
الرابعة: أن يقرأ على الشيخ ويقول بقوله هل سمعته فيسكت الشيخ ويغلب على ظن القارئ بقرينة الحال إجابته له فيجب العمل به بلا خلاف وأما جواز الرواية فالجمهور من المحدثين وغيرهم عليها لأن سكوته نازل منزلة تصريحه بتصديق القارئ وشرط قوم إقرار الشيخ نطقا وبه قطع الشيخ أبو اسحاق الشيرازي وسليم الرازي وأبو نصر الصباغ.
الخامسة: يكتب الشيخ الى شخص سمعت كذا من فلان فللمكتوب إليه إذا علم خط الشيخ أو ظنه أنه يعمل به وله أن يروي عنه إذا اقترنت المكاتبة بلفظ الأجازة بأن يقول أجزت لك ما كتبته إليك أو نحو ذلك وأما إن تجردت المكاتبة فقد أجاز الرواية بها كثير من المتقدمين والمتأخرين منهم أيوب السختياني1 ومنصور والليث بن سعد وجماعة من أصحابنا وغلا أبو المظفر السمعاني من أصحابنا فقال إنها أقوى من الإجازة إليه مصير جمع من الأصوليين وهو قضية ترتيب المصنف حيث أخر ذكر الإجازة في التعداد ومنع قوم من الرواية بها منهم الماوردي في الحاوي وجوز الليث بن سعد ومنصور واطلاق حديثا وأخبرنا في الرواية بالمكاتبة والمختار خلافه وأنه إنما يقول كتب إلى فلان.
السادسة: أن يشير الشيخ إلى كتاب فيقول سمعت ما في هذا الكتاب من فلان وهو مسموعي من فلان فيعمل السامع به وإما أنه هل يرويه عنه فله أحوال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: أيوب بن أبي تيمية كيسان السختياني البصري سيد فقهاء عصره تابعي من النساك الزهاد من حفاظ الحديث روي عنه نحو ثمانمائة حديث. توفي سنة 131هـ.
حلية الأولياء 3/3, الأعلام 1/382.(13/480)
ص -334-…إحداها: أن يقرن ذلك بالمناولة والإجازة وهذه الحالة أعلى من الأحوال ومن صورها أن يدفع الشيخ إلى الطالب أصل سماعه أو فرعا مقابلا له ويقول هذا سماعي أو روايتي عن فلان فأروه عني أو أجزت لك روايته عني ثم يهبه إياه أو يقول خذه وانسخه وقابل به ونحو هذا ومنها أن يجيء الطالب إلى الشيخ بكتاب أو جزء من حديثه فيعرضه عليه فيتأمله الشيخ العارف المتيقظ ثم يعيده إليه ويقول وقفت على ما فيه وهو حدثني عن فلان فاروه عني وهذا يسمى عرض المتأولة كما أن القراءة على الشيخ تسمى عرض القراءة وهذه المناولة المقرونة بالإجازة حاله محل السماع عند الزهري وربيعة الراوي ويحيى بن سعيد ومالك بن أنس ومجاهد وابن عيينة وقتادة وأبي العالية وابن وهب وآخرين والصحيح أن ذلك غير محال محل السماع وأنه منحط عن درجة التحديث لفظا والأخبار قراءة.
قال الحاكم أما فقهاء الاسلام الذين أفتوا في الحلال والحرام فإنهم لم يروه سماعا ويه قال الشافعي والأوزاعي والبوطي والمزني وأبو حنيفة وسفيان الثوري واحمد بن حنبل وابن المبارك يحيى واسحاق بن راهويه قال عليه عهدنا أئمتنا وإليه ذهبوا وإليه نذهب.
وثانيها: ان يناوله الكتاب مناولة مجردة عن الإجازة فيقتصر على قوله هذا من حديثي أو من سماعي ولا يقول أروه عني فهذه مناولة مختلة لا يجوز الرواية بها وعابها غير واحد من الفقهاء والأصوليين على شر ذمة من المحدثين سوغوا الرواية بها.
وثالثها: أن لا يناوله ولا يجيزه بل يقتصر على أعلامه بأن هذا من سماعي من فلان فهذه أولى بالمنع من الثانية ونقل ابن جريج أن ذلك طريق مجوز لرواية ذلك عنه وبه قطع ابن الصباغ من أصحابنا والصحيح خلافه لأنه قد يكون ذلك مسموعه ثم لا يأذن في روايته عنه لكونه لا يجوز روايته لخلل يعرفه فيه.(13/481)
وبهذا يفارق هذه الصورة ما إذا قرأ عليه وهو يستمع ويقر به حيث يجوز لكل سامع أن يرويه عنه بالطريق المقدمة فإن هناك من وجد منه تحديث واقرار فدل على أنه لا خلل عنده فيه من التحديث به وانما هذا كالشاهد(13/482)
ص -335-…إذا ذكر في غير مجلس الحكم شهادته بشيء فليس لمن سمعه إن يشهد على شهادته إذا لم يأذن له ولم يشهده على شهادته وذلك أمر تساوت فيه الشهادة والرواية لأن المعنى يجمع بينهما في ذلك وإن افترقنا في غيره.
السابعة: الاجازة وقد ذهب جمهور العلماء إلى أنه يجب العمل بالمروي بها وخالف بعض أهل الظاهر وهو خلاف ضعيف لأنه ليس في الاجازة ما يقدح في اتصال المنقول بها وفي الثقة به.
وأما الرواية بالاجازة فقد اختلف العلماء فيها والذي استقر عليه العمل وقال به جماهير أهل العلم من المحدثين وغيرهم القول بتجويز الاجازة وإباحة الرواية بها وخالفهم جماعة منهم إبراهيم بن اسحاق الحربي وأبو محمد عبد الله الأصبهاني الملقب بأبي الشيخ وهو رواية عن الشافعي واختار القاضي الحسين والماوردي من أصحابنا وقال لو جازت الاجازة لبطلت المرحلة.
واعلم أن في الاحتجاج لصحة الاجازة غموض قال أبو طاهر الدباس من أئمة الحنفية من قال لغيره أجزت لك أن تروي عنى فكأنه يقول أجزت لك أن تكذب علي.
وكذا قال غيره تقدير أجزت لك ابحت لك ما لا يجوز في الشرع لأن الشرع لا يبيح رواية ما لم يسمع واحتج ابن الصلاح للاجازة بأنه إذا أجاز له أن يروي عنه مروياته فقد اخبره بها جملة فهو كما لو أخبره تفصيلا وأخباره بها غير متوقف على التصريح نطقا كما في القراة على الشيخ على ما سبق.
قلت: وتقدير قوله أجزت لك أنى أجزتك اني أروي هذا الكتاب وأذنت لك أن تنقله عنى.
وقول الراوي اخبرنا فلان إجازة ليس معناه إلا هذا كأنه يقول اخبرني انه يروي الكتاب الفلاني واذن لي في نقله عنه بهذا الطريق.
هذا هو الذي يتجه في الاجازة ولا يتضح غيره وقد يشبه هذا بما إذا كتب وصيته وقال لشخص اشهد علي بما في هذا المكتوب.(13/483)
ص -336-…قال محمد بن نصر من أئمة صحابنا له أن يشهد عليه بما فيه والرواية أولى من الشهادة وإذا تقرر جواز الاجازة من حيث الجملة فتقول هي عند التفصيل أنواع.
الأول: أن يجيز لمعين في معين مثل أن يقول أجزت لك الكتاب الفلاني أو ما اشتملت عليه فهرستي هذه فهذا أعلى أنواع الاجازة وزعم بعضهم أنه لا خلاف في جوازها وأن الخلاف إنما هو في غير هذا النوع من الاجازة والصحيح ان الخلاف بطرقها أيضا.
الثاني: أن يجيز لمعين في غير معين مثل أجزت لك أو لكم جميع مسموعاتي فالخلاف في هذا النوع أقوى وأكثر والجمهور على تجويزه.
الثالث: أن يجيز لغير معين بوصف العموم مثل أجزت المسلمين أو لمن أدرك حياتي فقد منعه جماعة وجوزه الخطيب وغيره وجوز القاضي أبو الطيب الاجازة لجميع المسلمين من كان منهم موجودا عند الاجازة والاجازة لغير معين بمعين مثل أجزت جميع المسلمين أن يرووا عنى الكتاب الفلاني أقوى من الاجازة لغير معين بغير معين مثل أجزت جميع المسلمين أن يرووا عنى جميع مروياتي.
الرابع: الاجازة المجهول أو بالمجهول مثل أجزت لمحمد بن خالد الدمشق وفي وقته ذلك جماعة مشتركون في هذا الاسم والنسب ثم لا يعين المجاز له منهم أو يقول أجزت لفلان أن يروي عني كتاب السنن وهو يروي عن جماعة من كتب السنن المعروفة بذلك وليس ثم قرينة عهد ولا غيرها ترشد إلى المراد من ذلك فهذه إجازة فاسدة لا فائدة لها وليس ومن هذا القبيل ما إذا أجاز جماعة مسمين معينين بانسابهم والمجيز جاهل بأعيانهم فإن هذا غير قادح كما لا يقدح عدم معرفته به إذا حضر شخصه في السماع منه وإن أجاز للمسلمين المنتسبين في الاجازة ولم يعرفهم بأعيانهم ولا بأنسابهم ولم يعرف عددهم ولا تصفح أسماءهم واحدا فواحدا.
قال ابن الصلاح فينبغي أن يصح ذلك أيضا كما يصح سماع من حضر(13/484)
ص -337-…مجلسه للسماع منه وإن لم يعرفهم أصلا ولا عددهم ولا تصفح أشخاصهم.
الخامس: الاجازة المعلقة بشرط مثل أجزت لمن شاء فلان أو نحو ذلك وهو كالنوع الرابع ففيه جهالة وتعليق شرط.
وقد أفتى القاضي ابو الطيب بأنه لا يصح وعلل بأنه اجازة لمجهول فصار كقوله أجزت بعض الناس.
وقال أبو يعلي ابن الفرار وأبو الفضل بن عمروس المالكي يجوز ذلك وإذا قال أجزت لمن شاء فهو مثل أجزت لمن شاء فلان بل هذه أكثر جهالة وانتشارا من جهة تعليقها بمشيئة من لا يحصر عددهم ثم هذا فيما إذا جاز لمن شاء الاجازة منه له فإن أجاز لمن شاء الرواية عنه فهذا أولى بالجواز من حيث أن قضية كل إجازة تفويض الرواية بها إلى مشيئة الجواز له فكان هذا مع كونه بصيغة التعليق تصريحا بما يقتضيه الاطلاق وحكاية المحال لا تعليقا في الحقيقة.
ولهذا أجاز بعض أصحابنا في البيع أن يقول بعتك بكذا ان شئت فيقول قبلت.
السادس: الإجازة للطفل الصغير.
قال الخطيب سألت القاضي أبا الطيب هل يعتبر في صحة الاجازة للطفل الصغير سنه أو تمييزه كما يعتبر ذلك في صحة سماعه فقال لا يعتبر ذلك.
قال: فقلت له إن بعض أصحابنا قال لا تصح الاجازة لمن لا يصح سماعه فقال قد يصح أن يجيز للغائب عنه ولا يصح السماع له واحتج الخطيب للصحة بأن الاجازة إنما هي إباحة المجيز للمجاز له أن يروي عنه والإباحة تصح للعاقل وغير العاقل.
السابع: الاجازة للمعلوم ابتداء مثل أن يقول أجزت لمن يولد لفلان وقد أجازها أبو يعلي بن الفرا من الحنابلة وأبو الفضل بن عمروس من المالكية والخطيب من أصحابنا.
قال ابن الصباغ ومأخذ من أجازها اعتقاده أن الإجازة إذن في الرواية لا(13/485)
ص -338-…محادثة والصحيح وهو الذي استقر عليه رأي القاضي أبي الطيب أنها لا تصح لأن الاجازة في حكم الاخبار جملة بالمجاز كما تقدم فكما لا يصح الاخبار للمعدوم لا يصح إجازته.
الثامن: الاجازة للمعدوم عطفا على الموجود مثل أجزت لك ولولدك وعقبك ما تناسلوا وهو أقرب إلى الجواز من الأول ولهذا أجازه الأصحاب في الوقف ولم يجيزوا الأول وقد فعل هذا أبو بكر بن أبي داود السجستاني فانه سئل عن الاجازة فقال قد أجزت لك ولأولادك ولحبل الحبلة يعنى من يولد بعد.
التاسع: الاجازة بما لم يسمعه المجيز ولم يتحمله فيما مضى ليرويه المجاز له إذا تحمله المجيز بعد ذلك.
قال ابن الصلاح ينبغي أن يبنى ذلك على أن الاجازة في حكم الاخبار بالمجاز جملة أو هي إذن فلا يصح إن جعلت في حكم الاخبار إذ كيف يخبر بما لا خبر عنده منه وإن جعلت إذنا بني علي الخلاف في تصحيح الاذن في باب الوكالة فيما لم يملكه الأذن الموكل بعد مثل أن يوكل في بيع العبد الذي يريد أن يشتريه وقد أجاز ذلك بعض أصحابنا والصحيح بطلان هذه الإجازة.
العاشر: اجازة المجاز مثل أجزت لك مجازاتي أو رواية ما أجيز لي روايته وقد منع من ذلك بعض المتأخرين والصحيح جوازه.
وقد كان الفقيه الزاهد نصر المقدسي يروي بالاجازة عن الاجازة حتى ربما والى بين اجازات ثلاث في روايته.
الحادي عشر: الاذن في الاجازة مثل أن يقول له أذنت لك أن تخبر عني من شئت وهذا نوع لم أر من ذكره ولكنه وقع في عصرنا هذا وسألني بعض المحدثين عنه والذي يتجه أنه يصح كما لو قال وكل عني ويكون مجازا من جهة الاذن وينعزل المأذون له في أن يخبر بموت الآذن كما ينعزل الوكيل بموت الموكل.
وإذا قال أذنت لك أن تجيز عني فلانا كان أولى بالجواز من أذنت أن تجيز عني من شئت.(13/486)
ص -339-…قال: الثالثة: لا يقبل المرسل خلافا لأبي حنيفة ومالك.
المرسل عند جمهور المحدثين هو أن يترك الراوي ذكر الواسطة بينه وبين المروى عنه مثل أن يترك التابعي ذكر الواسطة بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم كقول سعيد بن المسيب.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إذا سقط واحد قبل التابعي كقول من يروي" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فيسمي منقطعا وإن سقط أكثر سمي معضلا" وعند الاصوليين المرسل قول من لم يلحق النبي صلى الله عليه وسلم سواء كان تابعيا أم من تابع التابعين.
وإلى يومنا هذا فتفسير الأصوليين أعم من تفسير المحدثين إذا عرفت ذلك فقد اختلف في المرسل والذي استقر عليه آراء جماهير الحفاظ الجهابذة الحكم بضعفه وسقوط الاحتجاج به ونقله مسلم رضي الله عنه في صدر الصحيح عن قول أهل العلم بالاخبار وقال بقوله مالك وأبو حنيفة وكذا أحمد في أشهر الروايتين عنه وجمهور المعتزلة واختاره الآمدي ثم غلا بعض القائلين بكونه حجة فزعم أنه أقوى من المستند.
والشافعي رضي الله عنه صدر القائلين برد المراسيل إلا أنه نقل عنه أنه قبل بعضها في أماكن قال القاضي رحمه الله ونحن لا نقبل المراسلين مطلقا ولا في الأماكن التي قبلها فيها الشافعي حسم للباب والقول بمذهب الشافعي هو اختيار الإمام وصاحب الكتاب.
قال الآمدي وفصل عيسى بن أبان فقبل مراسيل الصحابة والتابعين وتابعي التابعين ومن هو من أئمة النقل مطلقا وهذا هو اختيار ابن الحاجب حيث قال:
إن كان من أئمة النقل قبل وإلا فلا وأئمة النقل يدخل فيهم الصحابة والتابعون وتابعو التابعين وهو اختصار حسن وليس مذهبنا لرأي ابن أبان كما توهمه بعض الشارحين.
ومن أمثلة المرسل احتجاج المخالفين بحديث أبي العالية ان ضريرا دخل المسجد فوقع في حفرة في المسجد فضحك بعض من كان خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال(13/487)
ص -340-…من ضحك منكم فليعد الوضوء والصلاة فنقول أبو العالية تابعي والمرسل عندنا لا حجة فيه فإن قلت روى الشافعي عن مالك عن الزهري عن سعيد وأبي سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الشفعة فيما لم ينقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة"1 وهذا قد احتج به الشافعي وهو سيد المنكرين للمراسيل.
قلت ستعرف أن مراسيل سعيد عندنا مقبولة لكونها مسانيد وكذا مراسيل أبي سلمة بن عبد الرحمن وهذا الحديث قد روى بهذا الإسناد مسندا فروى أبو عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني وابن أبي قتيلة وعبد الملك الماجشون عن مالك عن الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
قال لنا: إن عدالة الأصل لم تعلم فلا تقبل الرواية تعديل قلنا قد يروى عن غير العدل قيل إسناده إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يقتضي الصدق قلنا بل السماع قيل الصحابة أرسلوا وقبلت قلنا الظن السماع.
الدليل على رد المرسل أن عدالة الأصل غير معلومة فلا تكون روايته مقبولة لأن رواية المجهول مردودة فإن قيل روايته عنه مع إخفاء اسمه تعديل وإلا يكون ملبسا غاشا قلنا لا نسلم وسند هذا المنع ان العدل قد يروى عن غير العدل كذا أجاب في الكتاب.
ولقائل أن يقول إنما يروي عن غير العدل إذا صرح به ليعرف أما إذا أبهمه فذلك تلبيس لا يجوز الأولى الجواب باحتمال ظنه عدالته وليس في نفس الأمر كذلك ويجوز أنه لو أظهره لاقتضى نظرنا أنه غير عدل بخلاف ما اقتضاه الأمر تظره فإن قيل قول هذا العدل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتضي أنه علم أو ظن أنه قال وإلا لم يسنده إليه وإذا صح أنه قال تعين قبوله قلنا قول الفرع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقتضي الجزم بأن الرسول عليه السلام قال ولا شك في ثبوت احتمال أنه لم يقله والجزم بالشيء مع تجويز نقيضه كذب فادح في عدالة الراوي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(13/488)
1 رواه الطبراني من حديث ابن عمر- رضي الله عنهما- الفتح الكبير 2/182.(13/489)
ص -341-…قال وإلا لم يسنده إليه وإذا صح تعين قبوله قول الفرع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الجزم بأن الرسول عليه السلام قال" ولا شك في ثبوت احتمال أنه لم يقله والجزم بالشيء مع تجويزه نقيضه كذب فادح في عدالة الراوي.
فإذن لا بد من صرف هذا اللفظ عن ظاهره وليس قولهم المراد أني أظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله بأولى من قولنا نحن المراد أنى سمعت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله.
ومعلوم أنه لو صرح بهذا القدر لم يكن تعديلا هذا جواب المصنف ولقائل أن يقول لا نسلم أن قوله قال يقتضي الجزم ولم قلتم أنه لا يكفي الظن مسوغا لإطلاق هذه اللفظة ثم لا نسلم أنه ليس أحدهما أولى لأن قوله قال تقتضي إسناد القول لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حمله على أنه يظن ذلك تبقية لذلك الإسناد بخلاف حمله على السماع إذ قد يسمع ويقطع بكذب من سمع منه ولا يجوز له والحالة هذه أن يقول قال فحمله على ظن القول أقرب وأولى من حمله على السماع والحاصل أن مجرد السماع لا يسوغ له أن يقول.
قال فلا بد من ضم الظن إليه قوله قيل الصحابة احتج القائلون بالمراسيل بأن الصحابة رضي الله عنهم أرسلوا عدة أحاديث لم يصرحوا فيها بالسماع من النبي صلى الله عليه وسلم بل قالوا قال وقبلها كل واحد منهم والجواب أنها إنما قبلت الظن الغالب القاضي بأن الصحابي سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم والعمل بالظن واجب وهذا في الحقيقة ليس بمرسل لأن المرسل كما عرفت قول من لم يلق زيدا قال زيد والصحابي لقي النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: فرعان الأول المرسل يقبل إذا تأكد بقول الصحابي أو فتوى أكثر أهل العلم.(13/490)
قال إمام الحرمين في البرهان أن الشافعي لا يقول بشيء من المراسيل وقال القاضي في مختصر التقريب أنه قبل المرسل في بعض الأماكن والحاصل ان قاعدة الشافعي رد المراسيل والمواضع المستثناة لم يقبلها لكونها مراسيل بل لظن عضدها وقضى بكونها مسندة فكلام إمام الحرمين صحيح وما ذكره القاضي أيضا صحيح والمواضع المستثناة منها.(13/491)
ص -342-…وقد ذكره في الكتاب أن يعضده قول صحابي قال القاضي في مختصر التقريب وفيه نظر فإن الصحابي لا يحتج بقوله لغيره ومنها أن يعضده مذهب العامة وهو المشار إليه في الكتاب فتوى أكثر أهل العلم قال القاضي فأقول له إن عنيت بالعامة الأمة فكأنك شرطت الإجماع في قبول المرسل وإذا ثبت الإجماع استغنى عن المرسل.
وإن أردت مذهب العوام فأنت أجل قدرا من ذلك إذ لا عبرة بخلافهم ولا وفاقهم وإن أردت معظم العلماء فمصير المعظم مع وجود الخلاف لا يصير ما ليس بحجة حجة قلت والشافعي لم يرد الإجماع ولا قول العوام وإنما أراد أكثر أهل العلم ولا شك أن الظن يقوى عنده وكذلك قول الصحابي وإذا قوى الظن وجب العمل به.
فالمرسل بمجرده ضعيف وكذا قول أكثر أهل العلم وحالة الإجتماع قد يقوم ظن غالب وهذا شأن كل ضعيفين اجتمعا ومنها أن يرسله راو آخر يروي عن غير شيوخ الأول وضعفه القاضي بأن كثرة المرسلين لا يدل على الصحة كما إذا روى عن كثير من الضعفاء قلت وهو كالأول فإن ما أتفق جماعة من الضعفاء على روايته أقوى مما انفرد بروايته ضعيف واحد وكذلك الظن الحاصل بصدق المرسل الذي عضده مرسل آخر أقوى منه حالة التجرد فلا يلزم من عدم الاحتجاج بأضعف الظنين عدم الاحتجاج بأقواهما ومنها أن يسنده غير مرسله وكلام القاضي يقتضي أن الشافعي يقول ذلك.
وإن كان المسند في تلك الرواية الموافقة للمرسل حجة لأنه رد على الشافعي بأن العمل حينئذ بالمسند دون المرسل والإمام في المحصول قال ان هذا فيما إذا لم تقم حجة بإسناده لكن في كلامه بعد ذلك ما يخالف هذا فإنه ذكر عن الحنفية ما اعترض به القاضي وعلى التقديرين فيه نظر.
أما الأول: فلما ذكره القاضي.
وأما الثاني: فلأن الضعيف إذا إنضم إلى الضعيف لا يوجب العمل به كذا ذكروه ولك أن تقول قد يحصل الظن بالضعيفين حالة إجتماعهما كما عرفت.(13/492)
ص -343-…ومنها أن يعلم من المرسل أنه لو نص لنص على من يسوغ قبول خبره قال واقبل مراسيل سعيد بن السيب لأني اعتبرتها فوجدتها كذلك قال ومن هذا حاله احسب مراسيله ولا أستطيع أن أقول إن الحجة ثبتت بها في ثبوتها بالمتصل قلت أنظر ما أحسن كلام الشافعي حيث صرح بأن المرسل لا يبلغ درجة المتصل وإنما هذه الأمور المستثناة توجب ظنا فوق الظن المستفاد من المرسل المجرد قد تقوم به الحجة ولكن تكون حجة دون حجة المسند.
وقال الماوردي في باب الشفعة من الحاوي أن مرسل أبى سلمة عبد الرحمن عند الشافعي حسن.
قال الثاني إن أرسل ثم أسند قبل وقيل لا لأن إهماله يدل على الضعف من أسند حديثا أرسله غيره فلا شبهة في قبوله.
وهذا مما تكاد الفطر الزكية أن تدعي فيه القطع.
لكن القاضي في مختصر التقريب حكى عن بعض الغلاة في رد المراسيل أنه قال لا يجب العمل به وهذا مما ذكره القاضي ساقط من القول واما أن أرسله هو مرة وأسنده أخرى فعبارة المصنف كالصريحة في أن الكلام فيه وأن فيه خلافا وعليه الشارحون والخلاف فيه ثابت عن بعض المحدثين ولكن الذي جزم به الإمام وأتباعه أنه يقبل.
وما نرى المصنف يخرج عن طريقهم ولا نعلم أنه وقف على هذا الخلاف والذين عندنا أن مراده من شأنه إرسال الاخبار إذا أسند خبرا هل يعتل أو يرد وهي مسألة ذات خلاف مشهور.
واحتج من قال لا يقبل بان اهماله ذكر الرواة في الغالب يدل على ضعف الراوي فيكون ستره له خيانة وتدليسا فلا تقبل روايته ولك أن تمنع دلالة الاهمال على الضعف ونقول لعله آثر الإختصار أو طرقه النسيان.
وإذا قلنا بالقبول وهو الراجح فقال الشافعي إنما يقبل من حديثه ما قال فيه حدثني أو سمعت ولا يقبل ما يأتي فيه بلفظ موهم.
وقال بعض المحدثين لا يقبل إلا إذا قال سمعت فلانا.(13/493)
ص -344-…قال الرابعة يجوز نقل الحديث بالمعنى خلافا لابن سيرين لنا أن الترجمة بالفارسية جائزة بالعربية أولى قيد يؤدي إلى طمس الحديث قلنا لما تطابقا لم يكن ذلك.
اتفق الأئمة الأربعة والحسن البصري وعدة من العلماء على جواز نقل الحديث بالمعنى إذا لم يزد في المعنى ولا ينقص وساوى الأصل في الجلاء والخفاء لأن الخطاب تارة يقع بالمحكم وأخرى بالمتشابه وغير ذلك مما لله تعالى فيه حكمة فلا يجوز تغيرها عن وصفها.
قال الأئمة والأولى خلافه وهذا ما نقله الآمدي وغيره ونقل الماذري أن مالكا قال لا ينقل حديث النبي صلى الله عليه وسلم بالمعنى بخلاف حديث الناس وذهب محمد بن سيرين1 وجماعة من السلف إلى وجوب نقل اللفظ على صورته وهو اختيار ابي بكر الرازي ونقله إمام الحرمين في البرهان عن معظم المحدثين وشرذمة من الاصوليين ووهم صاحب التحصيل فعزاه إلى الشافعي رضي الله عنه.
ونقله ابن السمعاني عن عبد الله بن عمر وجماعة من التابعين وعن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب.
وفصل قوم فقالوا يجوز إبدال اللفظ بما يرادفه دون غيره والأول هو المختار وعليه الإمام والآمدي والمتأخرون جميعا واحتج الجمهور بأوجه.
أحدها: أنه يجوز شرح الشريعة للعجم بلسانها فإذا جاز إبدال العربية بالعجمية فإبدالها بعربية أخرى أولى بالجواز ولا شك أن التعاون بالعربية وترجمتها بالعربية أقل مما بينها وبين العجمية.
قلت وفيه نظر لأن الترجمة بالفارسية جوزت للحاجة وذلك مما لا يتعلق به استنباط واجتهاد بل هو من قبيل بيان المشروع بخلاف تبديل لفظ الحديث إذ هو مناط اجتهاد واختلاف الالفاظ فيه مظنة اختلاف المعاني.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو محمد بن سيرين الأنصاري أبو بكر البصري إمام وقته روى عن أنس وزيد بن ثابت وأبي هريرة وعائشة – رضي الله عنهم- وروى عنه الشعبي وقتادة والأوزاعي. توفي سنة 110هـ
خلاصة تهذيب الكمال 2/412- 413.(13/494)
ص -345-…والوجه الثاني: قال الإمام وهو الأقوى أنا نعلم بالضرورة ان الصحابة الذين رووا هذه الاخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم ما كانوا يكتبونها في ذلك المجلس ولا يكررون عليها فيه بل كما سمعوها تركوها وما رووها إلا بعد الاعصار والسنين وذلك يوجب القطع بتعذر روايتها على تلك الألفاظ.
والثالث: أن الصحابة رضي الله عنهم ربما نقلوا القصة الواحدة بألفاظ مختلفة وكتب الحديث تشهد بذلك ومن الظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر تلك القصة بجميع تلك الألفاظ بل نحن في بعضها قاطعون بذلك وكان هذا شائعا بينهم ذائعا غير منكر من أحد فكان إجماعا على نقل الحديث بالمعنى.
قال أبو المظفر بن السمعاني ومما يدل على ذلك رواية الصحابي المناهي عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل نهيه عن بيعتين في بيعة ونهيه عن المحاقلة والمزانية وحبل الحبلة والنجش وبيع حاضر لباد وغير ذلك وقوله قضى بالشاهد واليمين والشفعة فيما لم ينقسم فمعلوم أن الرواة لم يقصدوا الفاظه في هذه الاخبار وإنما حكوا المعنى.
والرابع: أنا نعلم أن الالفاظ خدم للمعاني وليست مقصودة بالذات إلا في القرآن العزيز لكونه معجزا والمعنى هو المقصود فإذا حصل تاما لم يضر اختلاف الالفاظ وليس للفقيه أن يعترض على هذا بكلمات الأذان والتشهد والتكبير ولفظي النكاح والتزويج وغير ذلك مما تعبدنا فيه بالألفاظ لأن الألفاظ مقصودة فيه مع المعاني وكلامنا حيث لا يكون اللفظ مقصود أو احتج من منع نقل الحديث بالمعنى بأن ذلك مؤد إلى طمسه واندراسه لأن الراوي إذا أراد النقل بالمعنى كان غايته الاجتهاد في طلب ألفاظ توافق ألفاظ الحديث وتؤدي معناه.(13/495)
وأهل العلم على أشد اختلاف في معاني الألفاظ وفهم دقائقها والوقوع على أشد اختلاف في معاني الألفاظ وفهم دقائقها والوقوع على مواقعها فيجوز أن يغفل عن بعض تلك الدقائق وينقله إلى لفظ آخر غير دال على تلك الدقيقة ثم يتصل الخبر بالطبقة الثانية وهو خال من تلك الدقيقة فينقلوه أيضا بالمعنى ويدعون منه نحو ما ترك الأول منه وهلم جرا حتى يقع التفاوت الكثير.(13/496)
ص -346-…والجواب أنه متى أخل بأدنى شيء لم يجر وتخرج المسألة عن صورتها لأن الغرض أنه لم يخل بشيء بل أتى بالمطابق من كل وجه.
فائدة: سأل بعضهم عن الفرق بين هذه المسألة والمسألة المتقدمة في فصل الترادف في جوازه إقامة أحد المترادفين مقام الآخر وزعم أن لا فرق وغره أن الآمدي لم يذكر تلك المسألة فظن اكتفاء بهذه عن تلك وهذا عندي سؤال من لم يترو من الأصول وما الجامع بين المسألتين وأن يحيل أن الراوي بالمعنى إذا أقام أحد المترادفين مقام الآخر تتحد المسألة من هذه الجهة.
فنقول تلك المسألة في أمر لغوي وهي أعم من أن يقع في كلام راو للحديث أو غيره فالمانع في تلك نقول اللغة تمنع منه مطلقا ولا يتعرض إلى أن الشرع هل يمنع منه أولا وهذه في أمر شرعي خاص وهو رواية حديث النبي صلى الله عليه وسلم والمانع منه يقول لا يجوز للاحتياط فيه وهذا سواء جوزته اللغة أم منعته.
قال الخامسة إذ زاد أحد الرواة وتعدد المجلس قبلت وكذا من اتحد وجاز الذهول عن الباقين ولم يغير اعراب الباقي وإن لم يجر الذهول لم يقبل وان غير الاعراب مثل في أربعين شاة شاة أو نصف شاة طلب الترجيح فان زاد مرة وحذف أخرى فالإعتبار بكثرة المرات.
والروايتان فصاعدا إذا اتفقا على رواية خبر وانفرد أحدهما بزيادة فأما أن يكون المجلس متعددا أو متحدا.
فإن كان متغايرا قيلت الزيادة إذ لامتناع في ذكره صلى الله عليه وسلم الكلام في أحد المجلسين بدون زيادة وفي الآخر بها والراوي مقبول القول وإن كان المجلس متحدا فالذين لم يرووا الزيادة.
أما أن يكونوا عددا لا يجوز أن يذهلوا عما يضبطه الواحد أو ليسوا كذلك فإن كان الأول لم يقبل الزيادة وشرط ابن السمعاني في عدم القبول أن يقول الجماعة أنهم لم يسمعوه.
قال: فإنهم إذا لم يقولوا ذلك يجوز أن يكونوا رووا بعض الحديث ولم يرووا البعض لغرض لهم قلت وهذا هو المختار إلا أن تكون الزيادة مما توفر الدواعي على نقلها.(13/497)
ص -347-…وإن كان الثاني فتلك الزيادة إما أن لا تغير إعراب الباقي أو تغير فإن لم تغير قبلت عند المصنف والآمدي وقال الإمام تقبل إلا أن يكون الممسك عن الزيادة اضبط من الراوي لها وأن لا يصرح بنفيها فإن صرح وقع التعارض وقال بعضهم لا يقبل مطلقا وإن غيرت الاعراب كما لو روى راو في أربعين شاة شاة.
وروى الآخر نصف شاة فالحق عند الجمهور منهم الإمام واتباعه أنها لا تقبل ويتعارضان وخالف أبو عبد الله البصري لنا أنه حصل التعارض لأن أحدهما إذا روي شاة فقد رواه بالرفع والآخر إذا روى نصف شاة فقد رواه بالجر والرفع والجر ضدان فوجب المصير إلى الترجيح.
ونقل إمام الحرمين في البرهان من غير تعرض لهذه الشروط عن الشافعي وسائر المحققين قبول الزيادة من الراوي الموثوق به.
وقال بعضهم إن تساوي الساكت وراوي الزيادة في العدد قبلت وإن كان الساكت أكثر فلا وقد سكت المصنف عما إذا لم يعلم هل تعدد المجلس أو اتحد.
قال الآمدي وحكمه حكم المتحدد وأولى بالقبول نظرا إلى احتمال التعدد ومن أمثلة ذلك حديث ابن عمر في صدقة الفطر رواه جماعة من الثقاة أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تخرج صدقة الفطر صاعا من شعير أو صاعا من تمر.
وروى سعيد بن عبد الرحمن الجمحي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر وزاد أو صاعا من قمح.
وحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من شرب في إناء من ذهب أو فضة فإنما يجرجر في جوفه نار جهنم"1 ثم روى يحيى بن محمد الحارثي حدثنا زكريا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه ابن ماجة من حديث عائشة – رضي الله عنها- كما رواه مسلم من حديث أم سلمة – رضي الله عنها.
الفتح الكبير 3/202.(13/498)
ص -348-…ابن إبراهيم بن عبد الله بن مطيع عن أبيه عن جده عن ابن عمر هذا الخبر وزاد فيه أو فيه شيء من ذلك.
وهذا كله فيما إذا كان راوي الزيادة ثقة أما إذا كان ضعيفا فذاك مردود الرواية إن صاحب الكتاب ذكر فرعا في ذيل المسألة وهو ما إذا زاد الراوي الواحد مرة ولم يرو تلك الزيادة غير تلك المرة أي وكان المجلس الذي أسند إليه الزيادة والنقصان متحدا.
فالاعتبار بكثرة المرات لأن حمل الأقل على السهو أولى من حمل الأكثر عليه قال الإمام وان تساويا قبلت الزيادة ومثال الأول أن سفيان بن عيينة روى عن طلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله عن عمته عائشة بنت طلحة عن عائشة رضي الله عنها:
قالت دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت أنا خبأنا لك حيسا فقال أما أني كنت أريد الصوم ولكن قريبه أسنده عنه هكذا الشافعي رضي الله عنه ورواه شيخ يقال له محمد بن عمر وابن العباس الباهلي عن سفيان وزاد فيه وأصوم يوما مكانه قال أحمد هذه لفظة كان ابن عيينة زادها في الحديث آخر عمره لا يدري أهي محفوظة أو شيء وقع في لفظه.
وقال الشافعي سمعت سفيان عامة مجالسة لا يذكر فيه سأصوم يوما مكانه ثم عرضته عليه قبل موته بسنة فأجاب فيه سأصوم يوما مكانه آخر كتاب السنة والله تعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.(13/499)
ص -349-…الكتاب الثالث في الإجماع
قال رحمه الله في الكتاب الثالث في الاجماع وهو اتفاق أهل الحل والعقد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أمر من الأمور.
الإجماع لغة العزم قال الله تعالى:{فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} وقال صلى الله عليه وسلم: "لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل" والاتفاق أيضا يقال أجمعوا على كذا أي صاروا ذا جمع كما يقال البن والتمر إذا صار ذا لبن وتمر وفي الاصلاح ما ذكره المصنف فقوله اتفاق حسن والمراد به الاشتراك في الاعتقاد أو القول أو الفعل أو في الكل.
وقوله أهل الحل والعقد والمراد به المجتهدين فصل يخرج منه من ليس كذلك كالعوام إذ لا عبرة بوفاقهم ولا خلافهم ويخرج أيضا اتفاق بعض أهل الحل والعقد وقوله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم اختراز عن اتفاق المجتهدين من الأمم السالفة فإنه وان قيل بأن إجماعهم حجة كما هو أحد المذهبين للاصوليين واختيار الاسناد أبي اسحق كما حكاه عنه أبو اسحاق في شرح اللمع فليس الكلام إلا في الإجماع الذي هو دليل شرعي يجب العمل به الآن وذلك وان وجب العمل به فيما مضى لكن انتسخ حكمه منذ مبعث النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله على أمر من الأمور يشمل الأحكام الشرعية كحل النكاح وحرمة قتل النفس بغير حق واللغوية ككون إلقاء للتعقيب ولا نزاع في هذين ويشمل أيضا العقليات كحدث العالم وهو كذلك خلافا لامام الحرمين وخلافا للشيخ أبي اسحاق الشيرازي في كليات أصول الدين كحدث العالم واثبات النبوة لا(13/500)
ص -350-…جزئياته كجواز الرؤية فإنه وافق على أن الإجماع في مثلها حجة ويشمل الدنياويات أيضا كالآراء والحروب وتدبير أمور الرعية وفيه مذهبان المختار منها وجوب العمل فيه بالإجماع.
وفي التعريف نظر من جهة اشعاره بعدم انعقاد الاجماع إلى يوم القيامة فإن أمة محمد صلى الله عليه وسلم جملة من اتبعه إلا يوم القيامة ولم يقل بذلك أحد من المعترفين بالإجماع فكان ينبغي تقييده بعصر من الأعصار.
ومن جهة أنه لو لم يكن في العصر إلا مجتهد واحد فقوله اجماع وتعبير المصنف بالاتفاق ينبغي ذلك إذ حقيقة الاتفاق أن يكون من اثنين فصاعدا ولعل المصنف يختار أن ذلك ليس باجماع وهو مذهب مشهور منقدح لأن الأدلة إنما دلت على عصمة الامة فيما أجمعوا عليه فلا بد من صدق.(14/1)
ص -351-…الباب الأول في حجية الإجماع
قال وفيه ثلاثة أبواب:
الباب الأول: في بيان كونه حجة وفيه مسائل.
الأولى: قيل محال كاجماع الناس في وقت واحد على مأكول واحد وأجيب بأن الدواعي مختلفة ثم وقيل يتعذر الوقوف عليه لانتشارهم وجواز خفاء واحد وخموله وكذبه خوفا ورجوعه قبل فتوى الآخر وأجيب بأنه لا يتعذر في أيام الصحابة فانهم كانوا محصورين قليلين.
إنما بدا الكلام على إمكانه وإمكان الاطلاع عليه لتوقف الاحتجاج به على ذلك.
وقد ذهب بعضهم إلى أن الاجماع محال لأن اجتماع الخلق على شيء واحد يمتنع عادة كما يمتنع عادة اجتماعهم على مأكول واحد في وقت واحد وربما قال بعضهم كما أن اختلاف العلماء في الضروريات محال كذلك اتفاقهم في النظريات محال.
والجواب أن الدواعي مختلفة ثم أي في المواكيل بخلاف الأحكام لامكان اجتماعهم على معرفة برهان أو إمارة.
وذهبت طائفة من المعترفين بامكان الإجماع إلى تعذر الاطلاع عليه وهو رواية عن الإمام أحمد حكاها الآمدي وغيره وقيل إنما استعبد وقوعه ولم يقل بتعذر الاطلاع عليه واحتجوا بانتشار العلماء شرقا ومغربا قالوا فكيف يعرف موافقة من في أقاصي المشرق من في أطراف المغرب قالوا وأيضا يجوز خفاء واحد(14/2)
ص -352-…وخمول ذكره حيث لا يعرف أنه مجتهد قالوا ويحتمل أيضا كذبه أيضا مخالفة من سلطان جائر أو مجتهد ذي منصب وبطش أفتى بخلاف معتقده قالوا ويحتمل أيضا أن يرجع قبل فتوى الآخر فلا يبرحان مختلفين فلا يقع الإتفاق.
قالوا فاحتمال الخفاء والخمول بنفي معرفة أعيانهم ولا بد منها واحتمال الكذب ينفي معرفة ما غلب على ظنه ولا بد منه والاحتمال الأخير ينفي معرفة اجتماعهم في وقت واحد ولا بد منه ايضا.
وأجاب في الكتاب بأن ذلك لا يتعذر في أيام الصحابة فإنهم كانوا محصورين قليلين وقضية هذا الجواب أنه لا طريق إلى معرفته في زمن غيرهم.
قال الإمام وهو الإنصاف ومنهم من أجاب بأنهم وإن كانوا كثيرين بحيث لا يمكن الواحد أن يعرفهم بأعيانهم فإنه يعرف بمشافهة بعضهم والنقل المتواتر عن الباقين بأن ينقل من أهل كل قطر من يحصل التواتر بقولهم عمن فيه من المجتهدين مذاهبهم وخمول المجتهدين بحيث لا يعرفه أهل بلدته مستحيل عادة فوضح إمكان الاطلاع على إجماع من عدا الصحابة وحكم اجماع من عدا الصحابة حكم اجماع الصحابة في كونه حجة.
هذا قول الجمهور وقالت الظاهرية أن الإجماع مختص بالصحابة وهو رواية عن أحمد.
قال الثانية: أنه حجة خلافا للنظام والشيعة والخوارج لنا وجوه.
الأول: أنه تعالى جمع بين مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد حيث قال ومن يشاقق الرسول الآية فتكون محرمة فيجب اتباع سبيلهم اذ لا مخرج عنها قيل رتب الوعيد على الكل.
قلنا: لا بل على كل واحد وإلا لغي ذكر المخالفة قيل الشرط في المعطوف عليه شرط في المعطوف قلنا لا وإن سلم لم يضر لأن الهدى دليل التوحيد والنبوة.
قيل: لا يوجب تحريم كل ما غير قلنا يقتضي لجواز الاستثناء.(14/3)
ص -353-…قيل السبيل دليل الإجماع قلنا حمله على الإجماع أولى لعمومه.
قيل يجب اتباعهم فيما صاروا به مؤمنين قلنا حينئذ تكون المخالفة المشاقة قيل بترك الاتباع رأسا قلنا الترك غير سبيلهم قيل لا يجب اتباعهم في فعل المباح قلنا: كاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم.
قيل المجمعون اثبتوا الحكم بالدليل قلنا خص النص فيه كل المؤمنين الموجودون إلى يوم القيامة بل في كل عصر لأن المقصود العمل ولا عمل في القيامة.
اتفق أكثر المسلمين على أن الإجماع حجة شرعية يجب العمل به على كل مسلم وخالف في ذلك الشيعة والخوارج والنظام ونقل ابن الحاجب أن النظام يحيل الاجماع وهو خلاف نقل الجمهور عنه.
وقد صرح الشيخ أبو اسحاق في شرح اللمع بأنه لا يحيله وهو أصح النقلين واعلم ان النظام المذكور هو أبو اسحاق ابراهيم بن سيار النظام كان ينظم الخرز بسوق البصرة وكان يظهر الاعتزال وهو الذي ينسب إليه الفرقة النظامية من المعتزلة لكنه كان زنديقا وإنما أنكر الإجماع لقصده الطعن في الشريعة وكذلك أنكر الخبر المتواتر مع خروج رواته عن حد الحصر هذا مع قوله بأن خبر الواحد قد يفيد العلم فاعجب لهذا الخذلان وأنكر القياس كما سيأتي وكل ذلك زندقة لعنه الله وله كتاب نصر التثليث على التوحيد.
وإنما أظهر الاعتزال خوفا من سيف الشرع وله فضائح عديدة واكثرها طعن في الشريعة المطهرة وليس هذا موضوع بسطها.
واستدل المصنف على حجية الإجماع من ثلاثة أوجه:
الأول: الآية وأول من تمسك بها إمامنا الشافعي رضي الله عنه قال الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع روي أن الشافعي قرا القرآن ثلاث مرات حتى وجد هذه الآية وهي قوله: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً}1 وجه الحجة أنه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية 115.(14/4)
ص -354-…تعالى جمع بين مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد في قوله: {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} فيلزم تحريم اتباع غير سبيل المؤمنين لأنه لو لم يكن محرما لما جمع بينه وبين المحرم الذي هو مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم ان الجمع بين حرام ونقيضه لا يحسن في وعيد ولأجله يستقبح إن زنيت وشربت الماء عاقبتك فدل على حرمة اتباع غير سبيلهم وإذا حرم اتباع غير سبيلهم وجب اتباع سبيلهم لأنه لا يخرج عنهما أي لا واسطة بينهما وإن لزم اتباع سبيلهم ثبت حجية الإجماع لأن سبيل الشخص ما يختار من قول أو فعل واعتقاد.
وقد اعترض الخصم على هذا الدليل بوجوه:
الأول: أنه رتب الوعيد على الكل أي على المجموع فليست متابعة سبيل غير المؤمنين محرمة على الاطلاق بل كونها محرمة مشروطة بمشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم وخرج عن هذا مثل ان زنيت وشربت الماء عاقبتك لأن شربت الماء غير محظور لا مطلقا ولا شرط الزنا.
وجوابه أن الوعيد إنما رتب على كل واحد منهما كما ادعيناه وإلا يلزم أن يكون ذكر المخالفة وهو قوله: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} لغو لأمرين.
أحدهما: المشاقة مستلزمة لمخالفة سبيل المؤمنين وحينئذ فلا يحتاج إلى المخالفة.
والثاني: أن المشاقة وحدها مستقلة في ترتيب الوعيد واللغو محال في كلام الله عز وجل.
الوجه الثاني: سلمنا ان الآية تقتضي أن المنع من اتباع غير سبيل المؤمنين لا يشترط المشاقة لكن لا بد فيها من شرط آخر وهو تبين الهدى لأنه تعالى شرط في مشاقة الرسول تبين الهدى ثم عطف عليها متابعة غير سبيل المؤمنين فيجب أن يكون تبين الهدى شرطا فيها أيضا لأن ما كان شرطا في المعطوف عليه يجب أن يكون شرطا في المعطوف والألف واللام في الهدى للعموم فيلزم أن لا يحصل التوعد على اتباع غير سبيل المؤمنين إلا عند تبين جميع أنواع الهدى ومن جملة أنواع الهدى دليل الاجماع.(14/5)
ص -355-…وعلى هذا التقدير لا ينفي في التمسك بالاجماع فائدة إذ يستغنى بحصول دليل الإجماع عن الإجماع وجوابه منع كون جميع ما كان شرطا في المعطوف عليه شرطا في المعطوف والعطف إنما يقتضي التشريك في بعض الأحكام دون بعض.
ولو سلمنا أن الشرط في المعطوف عليه شرط في المعطوف لم يضر لأن الهدى المشروط في حصول الوعيد عند مشاقة الرسول هو الدليل الدال على التوحيد والنبوة لأدلة الأحكام الفرعية وإن لم يشترط تبين دلائل المسائل الفرعية في لحوق الوعيد على مشاقة الرسول لم يشترط في لحوقه على اتباع غير سبيل المؤمنين وإلا لم تكن الجملة الثانية مشروطة بما شرط في الأولى بل بشرط لم يدل عليه الدليل أصلا.
الوجه الثالث: سلمنا حرمة المخالفة في الجملة لكن لا نسلم أن قوله ويتبع غير سبيل المؤمنين يوجب تحريم جمع ما غاير سبيلهم بل يوجب حرمة البعض ودليل ذلك أن كلا من لفظ غير ولفظ سبيل مفرد لا عموم له ولا يلزم حرمة بعض ما يغاير سبيلهم حجية الإجماع لجواز أن يكون ذلك البعض هو الإيمان وشبهه مما لا خلاف في حرمة المخالفة فيه.
الجواب: إنهما يقتضيان العموم لما فيهما من الإضافة وقد تقرر أن المفرد المضاف يعم ويدل عليه هنا صحة الاستثناء فتقول الا سبيل كذا وجواز الاستثناء من لوازم العام كذا قرروه ولكن أن تنازع في عموم غير وأمثالها كبعض وجزء إذا أضفن مع تسليم أن المفرد المضاف يعم وذلك لأن إضافة غير ليست للتعريف وقد يقال إن العموم تابع للتعريف ويبعد كل البعد أن يفهم من قول القائل أخذت جزء المال أو بعضه انه أخذ جميعه بل يقال أو أخذه المال جميعه يكون مناقضا لهذا اللفظ لأن الجزء أو البعض صريحان في خلافه وللبحث فيما نبهنا عليه محال.
وقد أجاب الإمام بجوابين آخرين:
أحدهما: أنه لوحملنا الآية على سبيل واحد وهو غير مذكور في الآية صارت(14/6)
ص -356-…مجملة بخلاف ما إذا حملناه على العموم وحمل كلام الله تعالى على ما هو أكثر فائدة أولى.
والثاني: أن ترتب الحكم على الاسم مشعر بكون المسمى علة له فكانت علة التوعد كونه اتباعا لغير سبيل المؤمنين فيلزم عموم الحكم لعموم هذا المقتضى.
الوجه الرابع: إن السبيل حقيقة في الطريق الذي يحصل فيه المشي ولا شك أنه غير مراد هنا فتعين حمله على المجاز وهو إما الدليل الذي أجمعوا على الحكم لأجله وبقي الاجماع والأول أولى فإن بين الدليل الذي يدل على ثبوت الحكم وبين الطريق الذي يحصل فيه المشي مشابهة قوية فإنه كما أن الحركة البدنية في الطريق المسلوك توصل البدن إلى المطلوب فكذا الحركة الذهنية في مقدمات ذلك الدليل توصل الذهن إلى المطلوب والمشابهة إحدى جهات حسن المجاز وإذا كان كذلك فإنما يجب الأخذ بالدليل الذي لأجله أجمعوا لا بإجماعهم.
وجوابه أن السبيل يطلق على الإجماع أيضا إذ لا نزاع في أن أهل اللغة يطلقون لفظ السبيل على ما يختاره الإنسان لنفسه من قول أو عمل وقد قال تعالى:
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} وقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ}.
وإذا كان مجازا ظاهرا في الإجماع حمل عليه دون غيره من مجازاته لظهوره فيه ولعموم فائدة الإجماع يعمل به المجتهد والمقلد والدليل إنما يعمل به المجتهد.
الوجه الخامس: سلمنا دلالة الآية على وجوب اتباع سبيل المؤمنين لكن لا في كل شيء لأن المؤمنين إذا اتفقوا على فعل شيء من المباحات فلو وجب اتباع سبيلهم في كل الأمور لزم التناقض لأنه يجب عليهم فعله من حيث أنهم فعلوه ولا يجب لحكمهم بعدم وجوبه وإذا لم يكن إتباعهم واجبا في كل شيء فإنما يجب في السبيل الذي صاروا به مؤمنين يدل عليه أن القائل إذا قال اتبع سبيل الصالحين فهم منه الأمر باتباعهم فيما صاروا به صالحين.(14/7)
ص -357-…وجوابه أنها تدل على اتباعهم في كل شيء لجواز الاستثناء كما عرفت وقولك يلزم اتباعهم في فعل المباحثات قلنا هب أن هذه صورة خصت لما ذكرت من الضرورة فتبقى حجة فيما عداها ويلزم من قولك إنما يجب إتباعهم فيما صاروا به مؤمنين أن يكون مخالفة سبيل المؤمنين هي المشاقة فانه لا معنى لمشاقة الرسول عليه السلام إلا أن يترك الإيمان فلو حمل على ما ذكرت لزم التكرار.
الوجه السادس: سلمنا خطر إتباع غير سبيلهم لكن لا نسلم وجوب إتباع سبيلهم وقولكم لا واسطة بينهما غير مسلم فبينهما واسطة وهي ترك الاتباع أصلا فلا يتبع لا سبيل غيرهم ولا سبيلهم.
والجواب: إن ترك الاتباع أيضا مطلقا إتباع لغير سبيلهم لأن سبيلهم الأخذ بمقالتهم وترك الأخذ غير سبيلهم فثبت حرمة متابعة غير سبيل المؤمنين ويلزم منه وجوب المتابعة وهو المدعي.
الوجه السابع: سلمنا أنه يجب اتباعهم لكن لا في كل شيء بدليل أنه لا يجب في فعل المباح كالأكل والشرب وقد تقدم هذا لكن في كلام صاحب الكتاب.
والجواب: أنه كقيام الدليل على وجوب متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه كما أخرج منه المباح يخرج من متابعة سبيل المؤمنين أيضا.
الوجه الثامن: الدليل على أنه لا يجب المتابعة في كل الأمور أن إجماعهم إنما يكون عن دليل فسبيلهم ليس إثباته باجماعهم بل بذلك الدليل وهذا واضح فالآخذ بإجماعهم مخالفة لسبيلهم فوجب أن لا يجوز وظهر أنه لا يجب المتابعة في كل الأمور.
والجواب: أنهم لما اثبتوا الحكم بدليل غير الإجماع فقد فعلوا أمرين إثباته بالدليل وتمسكهم بالإجماع والآية لما دلت على وجوب المتابعة في كل الأمور تناولت الصورتين لكن ترك العمل بمقتضاها في إحدى الصورتين لإنعقاد الإجماع على أنه لا يجب علينا الإستدلال بما استدل به أهل الإجماع فبقي العمل بها في الباقي.(14/8)
ص -358-…الوجه التاسع: سلمنا وجوب إتباعهم في جميع الأمور ولا يلزم حجية إجماع أهل العصر لأن المؤمنين كل الموجودين إلى يوم القيامة بدليل أنه جمع محلى بالألف واللام وحينئذ الحجة في إجماع كل المؤمنين لا مؤمني العصر الواحد.
والجواب: أنه إنما المراد مؤمنو العصر لأن المقصود من الإجماع إنما هو العمل به وإذا كان المراد كل المؤمنين إلى يوم القيامة تعذر العمل به لأنه لا عمل يوم القيامة لانتفاء التكليف إذ ذاك.
قال الثاني قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} عدلهم فيجب عصمتهم عن الخطأ قولا وفعلا كبيرة وصغيرة بخلاف تعديلنا قيل العدالة فعل العبد والوسط فعل الله تعالى قلنا الكل فعل الله تعالى على مذهبنا قيل عدول وقت الشهادة قلنا حينئذ لا مزية لهم فإن الكل يكونون كذلك.
الوجه الثاني: من الأوجه الدالة على حجية الإجماع قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} أخبر تعالى بأن هذه الأمة وسط والوسط من كل شيء خياره وأعدله فيكون الله تعالى قد عدل هذه الأمة وأخبر عن خيرتها فلو أقدموا على شيء من المحظورات لا تنفي عنهم هذا الوصف فيجب عصمتهم عن الخطأ كبيرة وصغيرة.
في قول وفعل لأن تعديلهم من الله تعالى وهو عليم بالسر والعلانية فلو كان فيهم عاص لما عدله بخلاف تعديلنا فإنه مبني على ظننا وما أدى إليه نظرنا مع احتمال خلافه في نفس الأمر.
فإن قلت الآية متروكة الظاهر لأن وصف الأمة بالعدالة يقتضي إتصاف كل واحد منهم بها وخلاف ذلك معلوم بالضرورة فلا بد من حملها على البعض ونحن نحملها على الإمام المعصوم قلت لا نسلم أنها متروكة الظاهر قوله لأنها تقتضي كون كل واحد منهم عدلا قلنا لما ثبت أنه لا يجوز إجراؤه على ظاهره وجب أن يكون المراد إمتناع خلو الأمة عن العدول.(14/9)
وقوله: يحمله على الإمام المعصوم قلنا قوله جعلناكم أمة وسطا صيغة جمع فحمله على الواحد خلاف الظاهر هذا كلام الإمام سؤالا وجوابا وقد يقال لا يجمع قول الإمام لا نسلم أنها متروكة الظاهر.(14/10)
ص -359-…قوله: لما ثبت أنه لا يجوز إجراء اللفظ على ظاهره إلى آخره وهو سؤال قوي.
ويمكن أن يقال في جوابه أن الخصم المدعي أن ظاهر الآية موضوع اللفظ وهو تعديل كل واحد وهو غير مراد.
والإمام أجاب بمنع كونها متروكة الظاهر ومراد الإمام بظاهرها غير مراد الخصم فقوله لا نسلم أنها متروكة الظاهر يعنى بالمعنى الذي نعنيه نحن بالظاهر وقوله لما ثبت أنه لا يجوز إجراء اللفظ على ظاهره يعني ظاهره الذي عينتموه أنتم وظاهرها عند الإمام أن الأمة لا تخلو عن العدول وهو غير موضوع اللفظ وظاهرها عند الخصم موضوع اللفظ وهذا أقصى ما يقال في الجواب.
وقد قيل مثله في آيات الصافات فادعى بعض الباحثين المتأولين أهل السنة أن ظاهرها هو المعنى الذي أولت عليه لأنه لما ثبت ان إجراء اللفظ على موضوعه ممتنع وجب حمله على ذلك المعنى.
وكان هو الظاهر ومثل هذا يقول الملك المتغلب في حال قهره وسطوته على عدوه الخسيس أنا فوقك ويدي عليك قال فإن ظاهر هذا اللفظ المتبادر إلى الفهم غير ما هو موضوعه فليس كل ما هو موضوع اللفظ يكون ظاهره وكذلك قولك رأيت أسدا يرمي بالنشاب ليس ظاهره إلا المجاوز وهو غير الموضوع الحقيقي فقد تقرر كلام الإمام.
فإن قلت سلمنا أن الآية ليست متروكة الظاهر لكن لا نسلم ان الوسط من كل شيء خياره ويدل عليه وجهان.
الأول: أن العدالة من فعل العبد إذ هي عبارة عن أداء الواجبات واجتناب الموبقات وقد أخبر الله تعالى أنه جعلهم أمة وسطا فاقتضى أن كونهم وسطا من فعل الله تعالى فظهر أن العدالة غير الوسط.
الثاني: سلمنا أنه تعالى عدلهم لكن تعديلهم ليشهدوا على الناس يوم القيامة فيلزم وجوب تحقق عدالتهم يومئذ لأن عدالة الشهود إنما تعتبر حالة الآداء(14/11)
ص -360-…لا حالة التحمل وذلك مما لا نزاع فيه فإن الأمة تصير معصومة في الآخرة وأما في الدنيا فلم قلتم إنها كذلك.
قلت: أما أن الوسط من كل شيء خياره فقال تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ} أي أعدلهم.
وقال عليه السلام: "خير الأمور أوسطها" أي أعدلها.
وقال أهل اللغة الوسط العدل قال الجوهري: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطا} أي عدولا.
وأما ما ذكرتموه فالجواب عن الأول انه باطل على مذهبنا بل الكل من فعل الله تعالى.
قلت: إن العدالة كما مر في تعريفها ليست عبارة عما ذكر بل هي ملكة في النفس وما ذكر تحقق تلك الملكة به والملكة من فعل الله تعالى.
وعن الثاني وإليه أشار في الكتاب بقوله قلنا حينئذ لا مزية لهم أن جميع الامم عدول في الآخرة فلو كان المراد صيرورتهم عدولا في الآخرة لم يبق في هذه الآية تخصيص لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بهذه المزية والفضيلة وأيضا فكان يقول سنجعلكم لا جعلناكم وقد عرض للإعتراض كلامان.
إحداهما: لا نسلم أنه يلزم من عدم صدور المحظور عنهم كون قولهم حجة فرب صالح لا يرتكب معصية جاهل لا يمنع بقول في الشريعة ولا يعطى.
والثاني: أن العدالة لأننا في صدور الخطأ غلطا وقد يرد هذا بان العدالة التي لا تنافي صدور الخطأ هي تعديلنا أما العدالة من الله تعالى فتنافي ذلك والله أعلم.
قال الثالث: قال عليه السلام: "لا تجتمع أمتي على خطأ" ونظائره فإنها إن لم تتواتر لكن القدر المشترك بينهما متواتر.
هذا الدليل ساقط في كثير من النسخ ولذلك لا تجده مشروحا في بعض الشروح وهو اعتماد على السنة وقد قال الآمدي السنة أقرب الطرق في إثبات(14/12)
ص -361-…كون الاجماع قاطعا وتقريره أنه روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجتمع أمتي على خطأ" وأنه قال: "لا تجتمع على ضلالة" وهذان اللفظان لا تجدهما عند المحدثين نعم روى أبو داود من حديث أبي مالك الأشعري قال.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أجاركم من ثلاث أن لا يدعو عليكم نبيكم فتهلكوا جميعا وأن لا يظهر أهل الباطل على أهل الحق وأن لا تجتمعوا على ضلالة" وسنده جيد وروى معاذ بن رفاعة عن أبي خلف الأعمى عن أنس سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أن أمتي لا تجتمع على ضلالة" الحديث أخرجه ابن ماجه ومعاذ ضعفه ابن معين وغيره قال السعدي وابو حاتم الرازي ليس بحجة وقال ابن حبان استحق الترك وقال الأزدي لا يحتج بحديثه ولا يكتب وأما أبو خلف فكذبه ابن معين وقال أبو حاتم منكر الحديث ليس بالقوي وروي عن عبد الله بن عمر قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجمع الله هذه الأمة عل ضلالة أبدا" رواه الترمذي وقال غريب ممن هذا الوجه.
قلت: وفي إسناده سليمان بن سفيان وهو ضعيف عند المحدثين وقد اختلف أصحابنا في كيفية التمسك بالسنة على الإجماع فقالت طائفة هذه الأخبار وإن لم يتواتر واحد منها لكن القدر المشترك منها متواتر وهو عصمة الأمة عن الخطأ وهذه طريقة المصنف.
والامام استبعد إدعاء التواتر المعنوي من هذا الخبر وقال لا نسلم بلوغ مجموع هذه الأخبار إلى حد التواتر ولو سلم فالتواتر إنما وقع في مطلق تعظيم الأمة ينافي الإقدام على الخطأ وما ذكره الإمام أولا صحيح وهو الذي ارتضاه القاضي في مختصر التقريب.(14/13)
فقال أدعاء الإضطرار في هذه المسألة يقربك من الحيد عن الإنصاف ويوسع دعوى الضرورة في كثير من المعاني وأما قوله التواتر إنما وقع في مطلق التعظيم لأني التعظيم الخاص فلقائل أن يقول من تأمل الأحاديث واحدا واحدا عرف أن كلامنا يدل على هذا التعظيم الخاص وأنها كلها مشتركة في المتن مختلفة الأسانيد وسلكت طائفة أخرى.(14/14)
ص -362-…قال القاضي وهي الأولى وهي أنا قد علمنا قطعا وانتشار أحتجاج السلف في الحث على موافقة الأمة واتباعها والزجر عن مخالفاتها بهذه الأخبار التي ذكرناها قال القاضي وما أبدع مبدع في العصر الخالية بدعة إلا وبخه علماء عصره على ترك الأتباع وإثار الإبتداع.
واحتجوا عليه بالألفاظ التي قدمناها وهذا مالا سبيل إلى جحده وقد تحقق ذلك في زمن الصحابة والتابعين ومن بعدهم ولم يظهر أحد قبل النظام مطعنا في الأحاديث فلولا أنهم علموا قطعا صدق الرواة لوجب في مستقر العادة أن يبدوا ضربا من المطاعن في الأخبار.
هذا كلام القاضي ولقائل ان يقول أما أن السلف كانوا يوبخون على ترك الاتباع وإيثار الابتداع فمسلم وإما أنهم كانوا يحتجون على ذلك بالألفاظ المتقدمة فغير مسلم ولم تكن هذه الطريقة سالمة عن الإعتراض.
وقال الإمام لم يقل أحد أن الإجماع المنعقد بصريح القول دليل ظني بل منهم من نفى كونه دليلا بالأصالة ومنهم من جعله قاطعا وأما إمام الحرمين فقد أعترف بأنه ليس في السمعيات قاطع على أن الإجماع الاتباع وسلك طريقا آخر عقليا فقال القاطع على أنه حجة قاطعة أنا نقول للإجماع فيه صورتان نذكرهما ونذكر السبيل المرضي في اثبات الإجماع في كل واحدة منهما.
إحداهما: أن يصادف علماء العصر على توافرهم في أطراف الخطة وأوساطها مجمعون على حكم مظنون والرأي فيه مضطر فيعلم والحالة هذه أن اتفاقهم إن وقع فلا يحمل على وفاق اعتقادهم وجريانها على منهاج واحد فإن ذلك مع تطرق وجوه الإمكان واطراد الاعتياد مستحيل بل يستحيل اجتماع العقلاء على مقطوع به في أساليب العقول إذا كان لا يتطرق إليه إلا بانضمام نظر وسبر فكر وذلك لاختلاف الناظرين في نظرهم.(14/15)
فإذا كان حكم العادة هذا في النظري القطعي في الظن بالنظري الظني الذي لا يفرض فيه قطع فإذا تقرر أن اطراد الاعتياد يحيل اجتماعهم على قول الظن فإذا الفيناهم قاطعين بالحكم لا يرجعون فيه رأيا ولا يرددون قولا فيعلم(14/16)
ص -363-…قطعا أنهم أسندوا الحكم إلى شيء سمعي قطعي عندهم ثم لا يبعد سقوط النقل فيه.
والصورة الثانية: إذا أجمعوا على حكم واسندوه إلى الظن وصرحوا به فهذا أيضا حجة قاطعة والدليل عليه أنا وجدنا العصبة الماضين والأئمة المنقرضين متفقين على تبكيت من يخالف إجماع علماء الدهر فلم يزالوا ينسبون المخالف إلى الممروق والمحاداة والعقوق ولا يعدون ذلك أمرا هينا بل يرون الاستجواء على مخالفة العلماء ضلالا بينا.
وإجماعم هذا مع الإنصاف كالقطع في محل الظن عند نظر العقل فإذا التحق هذا بإجماعهم قطعا في حكم مظنون قطع به المجتمعون من غير ترديد ظن فليكن الإجماع على تبكيت المخالف وتعنيفه مستند قاطع ولا يبعد أن يكون ذلك بعض الأخبار التي ذكرناها من تلقاها من رسول الله صلى الله عليه وسلم بقرائن الأحوال قصد النبي صلى الله عليه وسلم في انتصاب الإجماع حجة ثم عملوا ذلك وعملوا به واستجروا على القطع بموجبه ولم يهتموا بنقل سبب قطعهم فقد تقرر انتصاب الإجماع دليلا قاطعا وبرهانا ساطعا هذا كلام إمام الحرمين.
وحاصله أن يقول انفاق الجمع العظيم على الحكم الواحد يستحيل ان لا يكون لدلالة وأمارة فإن كان لدلالة كان الإجماع كاشفا عن ذلك الدليل وحينئذ يجب اتباع الاجماع لأن مخالفته تكون مخالفة لذلك الدليل وإن كان لأمارة فقد رأينا الأولين قاطعين بالمنع عن مخالفة هذا الإجماع فلولا اطلاعهم على قاطع يمنع من مخالفة هذا الإجماع لاستحال اتفاقهم على المنع من مخالفته.
قال الإمام وهذه الدلالة ضعيفة جدا لاحتمال أن يقال أنهم اتفقوا على الحكم لا لدلالة ولا امارة بل الشبهة وكم من المبطلين مع كثرتهم وتفرقهم شرقا وغربا قد اتفقت كلمتهم لأجل الشبهة سلمنا الحصر فلم يجوز أن يكون لإمارة تفيد الظن قوله رأينا السلف مجمعين على المنع من مخالفة هذا الإجماع.(14/17)
قلنا لا نسلم اتفاق السلف على ذلك سلمناه لكنك لما جاوزت حصول الإجماع لأجل الامارة فلعلهم أجمعوا على المنع من مخالفة الإجماع للصادر عن(14/18)
ص -364-…الامارة لامارة أخرى فإن قلت إنهم لا يتعصبون في الإجماع الصادر عن الإمارة وقد تعصبوا في هذا الإجماع فدل على أن هذا الإجماع لم يكن عن إمارة.
قلت: إذا سلمت أنهم لا يتعصبون في الإجماع الصادر عن إمارة فقد بطل قولك إنهم منعوا من مخالفة هذا الإجماع هذا اعتراض الإمام وهو واضح والنظر فيه يطول والذي يظهر لي وهو معتمدي فيما بينى وبين الله أن الظنون الناشئة عن الإمارات المزدحمة إذا تعاضدت مع كثرتها تؤدي إلى القطع وأن على الإجماع آيات كثيرة من الكتاب وأحاديث عديدة من السنة وإمارات قوية من المعقول انتج المجموع من ذلك ان الأمة لا تجمع على خطأ وحصل القطع به من المجموع لا واحد بعينه.
قال: والشيعة عولوا عليه لاشتماله على قول الإمام المعصوم.
تقدم أن الشيعة أنكروا كون الإجماع الذي هو اتفاق المجتهدين من الأمة حجة واعلم أنهم مع ذلك عولوا عليه واحتجوا به ولكن لا لكونه قول المجتهدين من الأمة وإلا لتناقض قولهم بل لكونه مشتملا على قول الإمام المعصوم إذ عندهم أن كل زمان لا يخلو عن إمام معصوم يجب نصبه وعلى التقدير فمتى اتفق المجتهدون فلا بد من موافقة الإمام لهم وإلا لم يوجد اتفاق أهل الحل والعقد.
وإذا وجد اتفاق قول الإمام معهم كان حجة لا من حيث هو بل بواسطة قول الإمام المعصوم ولما كان مذهبهم في أن كل زمان لا يخلو عن إمام معصوم يجب نصبه ظاهر السخافة واضح الفساد والإشتغال يتبين بطلانه من وظائف علم الكلام لم يشتغل صاحب الكتاب برده.
قال: الثالثة: قال مالك: إجماع أهل المدينة حجة لقوله عليه الصلاة والسلام: "إن المدينة لتنفي خبثها" وهو ضعيف.(14/19)
ذهب الأكثرون إلى أن البقاع لا تؤثر في كون الأقوال حجة وذهب مالك ابن أنس رحمه الله إلى أن إجماع أهل المدينة حجة فمنهم من قال إنما أراد بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ابن الحاجب والصحابة والتابعين وقيل محمول على المنقولات المشتهرة كالأذان والإقامة دون غيرها وذهب إلى الحمل على هذا(14/20)
ص -365-…القرافي في شرح المنتخب وقرر الإمام مذهب مالك وقال ليس يستبعد كما أعتقده جمهور الأصول ولا ينبغي أن يخالف مالك في ذلك إن أراد به ترجيح روايتهم على رواية غيرهم وكانوا من الصحابة لأنهم شاهدوا التنزيل وسمعوا التأويل ولا ريب في أنهم أخبر بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم وهذا ضرب من الترجيح لا يدفع ولا ينبغي أن يظن ظان أن مالكا رضي الله عنه يقول باجماع أهل المدينة لذاتها في كل زمان وإنما هي من زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زمان مالك لم تبرح دار العلم وأثار النبي صلى الله عليه وسلم بها أكثر وأهلها بها أعرف إذا عرف هذا فقد استدل على حجية إجماع أهل المدينة بما صح وثبت من قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها"1 والإستدلال بهذا كما ذكره المصنف ضعيف لأهل الحمل على الخطأ متعذر لأنا نشاهد صدور الخطأ من بعض سكانها وكونها من أشرف البقاع لا يوجب عصمة ساكنيها وإذا تقرر أنه لا أثر للبقاع علم أن إجماع أهل الحرمين مكة والمدينة والمصرين البصرة والكوفة غير حجة خلافا لمن زعم ذلك من الأصوليين قال القاضي في مختصر التقريب وإنما صاروا إلى ذلك لاعتقادهم تخصيص الاجماع بالصحابة وكانت هذه البلاد مواطن الصحابة ما خرج منها إلا الشذوذ منهم انتهى فلا يظن الظان أن القائل بذلك قال به في كل عصر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري كتاب الحج باب "إن المدينة تنفي خبثها " ومسلم شرح النووي 3/530.كما رواه الترمذي عن جابر رضي الله عنه تحفة الاحوذي 10/419.
قال: الرابعة: قالت: الشيعة إجماع العترة حجة لقوله تعالى إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا وهم على وفاطمة وابناءهما رضي الله عنهم لأنها لما نزلت لف عليه السلام كساء وقال هؤلاء أهل بيتي ولقوله عليه السلام: "إني تارك فيكم ما ان تمسكتم به أن تضلوا كتاب الله وعترتي".(14/21)
قالت الشيعة إجماع أهل البيت حجة وقالوا أيضا كما نقله الشيخ أبو اسحاق في شرح اللمع قول على وحده حجة واستدلوا على الأول بالكتاب والسنة والمعنى أما الكتاب فقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ(14/22)
ص -366-…أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}1 فقد نفا عنهم الرجس والخطأ رجس فيكون منفيا عنهم وأهل البيت هم علي وفاطمة وابناؤهما الحسن والحسين رضي الله عنهم كأنهم كما روى الترمذي لما نزلت هذه الآية لف النبي صلى الله عليه وسلم كساء وقال: "هؤلاء أهل بيتي وخاصتي اللهم اذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا".
وأما السنة فما روى الترمذي وأخرج مسلم في صحيحه معناه من قوله صلى الله عليه وسلم: "إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي"2 وأما المعنى ولم يذكره المصنف فإن أهل البيت مهبط الوحي والنبي منهم وفيهم فالخطأ عليهم أبعد ولم يذكر المصنف الجواب عما استدلوا به والجواب عن الآية أنا وإن سلمنا انتفاء الرجس في الدنيا فلا نسلم أن الخطأ رجس ومنهم من أجاب بأن ظاهر الآية في أزواجه عليهم السلام لأن ما قبلها وما بعدها خطاب معهن لقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}.
قال الإمام ويجري هذا مجرى قول الواحد لابنه تعلم واطعني إنما أريد لك الخير ومعلوم أن هذا القول إنما يتناوله ابنه فكذلك ها منا.
وهذا الجواب وإن اتضح المعنى واعتضد بما في المحصول والأحكام وغيرهما من كتب الأصول من أم سلمة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم الست من أهل البيت؟ فقال: "بلى إن شاء الله" فيبعده من جهة الخير ما في صحيح مسلم من أن أم سلمة قالت وقد لف صلى الله عليه وسلم عليهم الكساء فانا معهم يا رسول الله قال: "إنك إلى خير" وفي الترمذي قال: "أنت على مكانك وأنت إلى خير" ومن المعنى أن الكاف والميم لا يكون إلا للمذكر.
والجواب: عن الحديث أنه من باب الأحاد ولا يجوز عندهم العمل بها في الفروع فضلا عن الأصول ولو كان قطعيا فإنما تقتضي وجوب التمسك بمجموع الكتاب والعترة لا بقول العترة وحدهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأحزاب آية 33.(14/23)
2 رواه الإمام أحمد في مسنده عن بريدة بن حبان التميمي, كما رواه مسلم والترمذي , الفتح الكبير 1/45.(14/24)
ص -367-…والجواب عن المعنى إنه باطل بزوجاته صلى الله عليه وسلم فانهن شاهدن أكثر أحواله مع أن قولهن وحده غير حجة والله أعلم وقد يقال قدم المصنف ان الشيعة من منكري الإجماع ثم نقل عنهم أن اجماع العترة حجة ومن اعترف بشيء من الإجماع لا يقال أنكر أصل الإجماع.
والجواب: أن الإجماع المصطلح انكروه من أصله وما اعترفوا به ليس منه وان حصل وفاق بقية الأمة بل لأجل العترة فما قلناه لم يعترفوا بشيء منه وما قالوه لم نوافقهم عليه وقد سبقت الإشارة إلى هذا في قوله والشيعة عولوا عليه.
قال الخامسة: قال القاضي أبو حازم اجماع الخلفاء الأربعة حجة لقوله عليه السلام "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي" وقيل اجماع الشيخين لقوله "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر"
ذهب القاضي أبو حازم في الحنفية بالحاء المعجمة وكذا أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين إلى أن اجماع الخلفاء الأربعة أبي بكر وعثمان وعلي حجة المسترك بما رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وصححه الترمذي والحاكم في المستدرك وقال على شرطهما من قوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ"1 الحديث فإن قيل هذا عام في كل الخلفاء الراشدين قيل المراد الأربعة لقوله عليه الصلاة والسلام: "الخلافة من بعدي ثلاثون سنة ثم تصير ملكا عضوضا" وكانت مده الأربعة هذه قيل والصحيح إن المكمل لهذه المدة الحسن بن علي وكانت مدة خلافته ستة أشهر بها تكملت الثلاثون ولكن الحسن رضي الله عنه لم تتسع مهلته ولم تبرز أوامره ولا عرفت طريقته لقلة المدة.
وذهب إلى بعضهم أن اجماع الشيخين وحدهما حجة لقوله عليه السلام: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر"2 رواه أحمد بن حنبل وابن ماجة والترمذي وقال حسن وذكره ابن حبان في صحيحه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(14/25)
1رواه الإمام أحمد في مسنده وابن ماجة , باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين, كما رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح .
2 رواه ابن ماجة والترمذي من رواية حذيفة كما صححه ابن حبان الفتح الكبير 1/215.(14/26)
ص -368-…وأجاب الإمام وغيره عن الخبرين بالمعارضة بقوله أصحابي كالنجوم بايهم اقتديتم اهتديتم وهو حديث ضعيف.
وأجاب الشيخ أبو اسحاق في شرح اللمع بأن ابن عباس خالف جميع الصحابة في خمس مسائل انفرد بها وابن مسعود انفرد باربع مسائل ولم يحتج عليهم أحد بإجماع الاربعة.
قال السادسة: يستدل بالإجماع لما لا يتوقف عليه كوحدة الصانع وحدوث العالم لا كإثباته.
الإجماع وإن كان حجة لكن لا يستدل به على جميع الأحكام بل على بعضها وهو ما لا يتوقف ثبوت حجية الإجماع على ثبوته سواء كان من الفروع أو الأصول أما يتوقف ثبوت الإجماع على ثبوته فلا يستدل بالإجماع عليه وإلا فيلزم الدور وقد مثل صاحب الكتاب الأول بحدوث العالم ووحدة الصانع أي ثبوت الإجماع لا يتوقف على هذين لجواز معرفة الإجماع قبل معرفة حدوث العالم ووحده الصانع.
وقد قال الاسفرايني وغيره من الشراح ان المثال غير صحيح لأن كون الإجماع المصطلح حجة متوقف على وجود المجمعين الذين هم المجتهدون من الأمة المحمدية ولا يصير الشخص من هذه الأمة إلا بعد معرفة وحدة الصانع وحدوث العالم فوضح أن الإجماع متوقف على معرفة هذين ولك أن تمنع توقف حجية الإجماع على وجود المجمعين إذ هو حجة وإن لم يجمعوا.
ومثال الثاني وإليه الإشارة بقوله لا كاثباته اثبات الصانع واثبات كونه متكلما والنبوة فإن الإجماع يتوقف على ذلك إذ ثبوته بالكتاب والسنة صحة الاستدلال بها موقوفة على وجود الصانع وعلى كونه متكلما وعلى النبوة فلو اثبتنا وجود الصانع والنبوة بالإجماع لزم الدور لتوقف ثبوت المدلول على ثبوت الدليل.(14/27)
ص -369-…الباب الثاني في أنواع الإجماع
قال الباب الثاني في أنواع الإجماع وفيه مسائل
الأولى إذا اختلفوا على قولين فهل لمن بعدهم احداث الثالث والحق أن الثالث ان لم يرفع مجمعا عليه جاز وإلا فلا مثاله قيل في الجد مع الأخ الميراث للجد وقيل لهما فلا سبيل إلى حرمانه.
لك هنا مناقشتان.
إحداهما: كان من جنس الوضع تأخير هذا الباب عن الذي بعده وهو الثالث في شرائط الإجماع.
والثانية: أن الإجماع شيء واحد ليس تحته أنواع لكنه أراد الأنواع ما لا يكون إجماعا عند طائفة دون الآخرين وهو إجماع بالإتفاق ثم عرض الفصل أنه اختلف أهل العصر في المسألة على قولين هل يجوز لمن بعدهم احداث قول ثالث وفيه ثلاثة مذاهب.
الأول: المنع مطلقا وعليه الجمهور.
والثاني: الجواز مطلقا وعليه طائفة من الحنفية والشيعة وأهل الظاهر.
والثالث: وهو الحق عند المتأخرين وعليه الإمام وأتباعه الآمدي أن الثالث ان لزم رفع ما أجمعوا عليه لم يجز أحداثه والإجاز مثال الأمل إذا مات رجل وخلف جدا وأخوة ذهب بعض العلماء إلى الاشتراك وذهب الباقون إلى سقوط الأخوة بالجد فلو قال باسقاط الجد بالأخوة لم يجز لأنه رافع لأمر مجمع عليه مستفاد من القولين المتقدمين وهو أن الجد إما منفردا أو مشاركا للأخوة فإذا أسقطنا(14/28)
ص -370-…الجد فقد رفعنا أمرا مجمعا عليه وهذا المثال سبق المصنف بذكره الإمام والآمدي وغيرهما وهو صحيح.
وإن صح ما نقله ابن حزم الظاهري من ذهاب بعضهم إلى انفراد الأخ بالمال لأن الإجماع وقع بعد ذلك على خلافة ومن أمثلته أيضا الجارية الثيب إذا وطئها المشتري ثم وجد عيبا قديما.
قال بعضهم تمنع الرد وقال آخرون بالرد مع العقد فالقول بالرد مجانا ثالث كذا صوره الآمدي في الثيب وابن الحاجب في البكر فإن قلت كيف.
قال الشافعي رضي الله عنه ومالك والليث بالرد مجانا قلت لم يثبت تكلم جميع الصحابة في المسألة بل كان القولان ممن يتكلم فيها فقط ولو فرض كلام جميعهم فلا نسلم استقرار رأيهم على قولين
وهذا الفرض على تقرير صحة اختلاف الصحابة بل قد روي عن زيد بن ثابت مثل قولنا ثم أن المنقول عن علي وعمر لم يصح.
قال والدي رحمه الله أيده الله وقد وقعت على أسانيد وردت في ذلك عنهما فرأيتها كلها ضعيفة وأمثلها الرواية عن علي وهي منقطعة لأنها من رواية علي بن الحسين وهو لم يدرك جده.
ومثال الثاني: وهو ما لم يرفع مجمعا عليه ولم يمثل له في الكتاب قيل يجوز فسخ النكاح بأحد العيوب الخمسة وقيل لا يجوز بشيء منها فالقول بالفسخ بالبعض دون بعض ليس رافعا لما أجمعوا عليه بل هو موافق لكل من القولين في بعض مقالته ومثاله أيضا قيل يحل أكل متروك التسمية سهوا وعمدا وقيل لا يحل لا سهوا ولا عمدا فالقول بالحل في السهو دون العمد جائز.
قال قيل: اتفقوا على عدم الثالث قلنا كان مشروطا بعدمه فزال بزواله قيل وارد على الوحداني قلنا لم يعتبر فيه إجماعا.
احتج الجمهور وهم المانعون مطلقا بوجهين.
أحدهما: أن اختلافهم على قولين إجماعا على أنه يجب الأخذ بأحدهما ولا يجوز العدول عنهما وتجويز القول الثالث مبطل فكان مبطلا للإجماع وذلك باطل.(14/29)
ص -371-…والجواب الأخذ بأحد القولين وعدم جواز غيرهما مشروط بعدم حدوث ثالث فإذا حدث ثالث انتفى شرط الإتفاق على وجوب هذا الأخذ بأحد القولين وامتناع الثالث.
وأعترض الخصم على هذا الجواب بأنه وارد على الوحداني إذا الشبهة قائمة بعينها فيقال إنما اوجبوا التمسك بالإجماع على القول الواحد بشرط أن لا يظهر الثاني فإذا ظهر فقد زال شرطه فيجوز القول بخلافه.
واجيب عنه بأن الإحتمال وإن كان قائما في الإجماع على القول الواحد لكنهم منعوا فيه من إحداث ما يخالفه وجزموا بوجوب الأخذ به دائما بخلاف ما إذا إختلفوا على قولين فلم يعطلوا بنفي الإحتمال المذكور فليس لنا أن نحكم عليه بالتسوية وهنا كلامان.
أحدهما: أن في صحة وقوع اشتراط عدم إحداث الثالث في الإجماع على أحد القولين نظرا ومن نقل ذلك.
والثاني: أنه مبني على أنه لا يجوز حدوث إجماع بعد اجماع سبق على خلافه وقد ذهب أبو عبد الله إلى أنه يجوز لكن لا يقع وقال الإمام أنه الاولى كما سيأتي.
قال قيل اظهاره يستلزم تخطئة الأولين وأجيب بأن المحظور هو التخطئة في واحد وفيه نظر.
والوجه الثاني: أن الذهاب إلى الثالث إنما يجوز لو أمكن كونه حقا ولم يكن ذلك إلا أن يكون القولان باطلين ضرورة أن الحق واحد.
وحينئذ يلزم إجماع الأمة على الخطأ.
وأجيب بأن المحظور وهو تخطئة الأمة في حكم واحد أجمعوا عليه كثبوت حظ الجد مثلا في الميراث.
أما تخطئة كل فريق في حكم فلا محذور فيه.
قال صاحب الكتاب وفيه نظر ووجهه أنه إذا أخطأت كل الأمة في(14/30)
ص -372-…شيئين كل شطر في شيء دخل تحت عموم قوله لا تجتمع امتي على خطأ ومن خطأ كل فريق في قوله فقد خطأ كل الأمة وهذا النظر له أصل مختلف فيه وهو أنه هل يجوز إنقسام الأمة إلى شطرين كل شطر مخطيء في مسألة.
والأكثر على أنه يجوز.
واختار الآمدي خلافه وأعلم أن الجواب من أصله لم يذكره الإمام بل قال هذا الإشكال غير الوارد على القول بأن كل مجتهد مصيب فإنه لا يلزم من حقية أحد الأقسام فساد الباقي سلمنا لكن لا يلزم الذهاب إلى القول الثالث كونه حقا لأن المجتهد يعمل بما أداه إليه اجتهاده وإن كان خطأ في نفس الأمر ولك أن تقول على هذا إذا كان الذهاب إلى الثالث يستلزم الخطيئة وإنها ممتنعة فقد علم أن الذهاب إلى الثالث خطأ فلا يذهب إليه.
قال الثانية: إذ لم يفصلوا بين مسألتين فهل لمن بعدهم التفصيل والحق والحق أن نصوا بعدم الفرق أو اتحاد الجامع كتوريث العمة والخالة لم يجز لأنه رفع مجمع عليه وإلا جاز ولا يجب على من ساعد مجتهدا في حكم مساعدته في جميع الأحكام.
لعلك تقول ما الفرق بين هذه المسألة والتي قبلها مع أن القول بالتفصيل إحداث لقول ثالث ويعتضد بأن الآمدي لم يفرد هذه المسألة بالذكر بل ذكرها في ضمن تلك.
وحاصل ما ذكره القرافي في الفرق أن هذه المسألة مخصوصة بما إذا كان محل الحكم متعددا والأولى مخصوصة بما إذا كان محمله متحدا ان أهل العصر لم يفصلوا بين مسألتين بأن ذهب بعضهم إلى الحل فيهما والآخرون إلى التحريم فيهما وأراد من بعدهم الفصل فهذا يقع على أوجه.
أحدهما: أن ينصوا على عدم الفرق بأن يقولوا لا فصل بين هاتين المسألتين في كل الأحكام أو في الحكم الفلاني فإنه يجوز الفصل بينهما وكلام الكتاب يوهم أن الخلاف جار فيه وصرح فيه الجار بردي وهو صحيح وإن أنكره طوائف من شارحي الكتاب.(14/31)
ص -373-…فقد حكاه القاضي أبو بكر في مختصر التقريب والإرشاد.
قال واحتج قائله بإن الاجماع على منع التفرقة ليس باجماع على حكم من الأحكام فلا معول عليه لكنه كما قال القاضي غلط ومراغمة لما قاله الأمة صريحا.
وقوله ليس من الأحكام باطل لأنهم إذا أجمعوا على منع الفصل فقد أجمعوا على منع التحريم في إحداهما مع التحليل في الأخرى أو بالعكس.
وهذا تعرض لحكم نفيا وإثباتا.
والثاني: أن لا ينصوا على ما ذكرنا بل يعلم اتحاد الجامع بين المسألتين لذلك جار مجرى النص على عدم الفرق مثاله من ورث العمة ورث الخالة ومن منع إحداهما منع الأخرى.
وإنما جمعوا بينهما من حيث أنه انتظمهما حكم ذي الارحام قال الإمام فهذا ومما لا يسوغ خلافهم فيه بتفريق ما جمعوا بينهما إلا أن هذا الإجماع متأخر عن سائر الإجماعات في القوة وذهب بعض الناس إلى خلاف فيه.
والثالث: وإليه الإشارة بقوله وإلا جاز ان لا يكون كذلك فقيل لا يجوز الفرق والحق جوازه وقوله وألا يجب إشارة إلى الدليل عليه أي لو لم يجز لكان الدليل هو أنه وافقه في مسألة ويلزم على ذلك أن من وافق مجتهدا في مسألة لدليل أن يوافقه في كل المسائل وهو باطل ويلزم منه سد باب الإجتهاد.
فائدة: ظاهر كلام الإمام والمصنف أن نحو قول بعضهم لا يقتل المسلم بالذمي ولا يصح بيع الغائب وقول بعضهم يقتل ويصح جريان خلاف في أنه هل يجوز الفصل فيقال يقتل المسلم بالذمي ولا يصح بيع الغائب أو العكس وبه يشعر إيراد القاضي في مختصر التقريب.
وصرح الآمدي بنفي الخلاف في ذلك وما اقتضاه كلام الإمام غير بعيد لأن التفصيل فيه يؤدي إلى تخطئة كل الأمة إذ يلزم خطأ شطرهم في جواز قتل المسلم بالذمي وخطأ الشطر الآخر في منع الغائب.(14/32)
ص -374-…وقد تقدم أن الأكثرين منعوا إنقسام الأمة إلى فرقتين كل فرقة خاطئة في مسألة وقد يقال لا يلزم من الذهاب إلى التفصيل كونه حقا في نفس الأمر بل يكفي أن يكون في ظن المجتهد كذلك وقد سبق هذا.
قال: قيل أجمعوا على الاتحاد قلنا عين الدعوى قيل قال الثوري الجماع ناسيا يفطر الصائم والأكل لا قلنا ليس بدليل.
احتج من منع الفصل مطلقا بأن الأمة إذا قال نصفها بالحرمة في المسألتين وقال النصف الآخر بالحل فيهما فقد اتفقوا على اتحاد الحكم في المسألتين وأنه لا فصل بينهما فيكون الفصل ردا للإجماع.
وجوابه أنه إن عنى بقوله اتفقوا على أنه لا فصل بينهما أنهم نصوا على استوائهما في الحكم وهما مستويان في علة الحكم فليس كذلك لأن النزاع ليس في هذا وان أراد أن ذلك لازمه فليس كذلك لأنه لا يلزم من عدم التعرض لتحريم التفصيل الحكم بتحريمه واتحاد الحكم وهذا عين الدعوى وأول المسألة واحتج من أجاز الفصل مطلقا بأنه وقع الا ترى إلى ذهاب بعض العلماء إلى أن الجماع ناسيا يفطر والأكل ناسيا لا يفطر.
وقال بعضهم لا يفطر واحد منهما ثم فرق سفيان الثوري رضي الله عنه فقال الجماع ناسيا يفطر والأكل لا لبعد النسيان في الجماع دون الأكل وأضرب الإمام عن الجواب عن هذا لوضوحه وأجاب المصنف بأن قول الثوري ليس حجة علينا وقد يجاب أيضا بانهم ينصون في هذه الصورة على عدم الفرق أو اتحاد الجامع وبأن فتيا الثوري بتلك لعلها قبل إستقرار المجمعين على القولين المطلقين.
قال: الثالثة يجوز الاتفاق بعد الاختلاف خلافا للصيرفي لنا الإجماع على الخلافة بعد الاختلاف وله ما سبق.
للمسألة تشعب في النظر وشفا الغليل فيها أن يقال هل يجوز أن يجمع على شيء سبق خلافه وذلك على حالتين.
الأولى: ولا تعرض لها في الكتاب أنه هل يجوز انعقاد الإجماع بعد إجماع على خلافه ذهب الأكثرون إلى المنع وذهب أبو عبد الله البصري إلى الجواز قال الإمام(14/33)
ص -375-…وهو الأولى لأنه لا إمتناع في إجماع الأمة على قول بشر أن لا يطرأ عليه إجماع آخر ولكن إتفق أهل الإجماع على أن كل أجمعوا عليه فإنه يجب العمل به في كل الأعصار أمنا من وقوع هذا الجائز.
الثانية: ان يختلف أهل العصر على قولين في مسألة ثم يقع الإجماع على أحدهما فللخلاف حالتان.
إحداهما: أن يستقروا ولم يتعرض لها الآمدي في الأحكام فالجمهور على جواز وقوع الإجماع بعده وخالف أبو بكر الصيرفي كما اقتضاه إطلاق الإمام وشيعته.
والثانية: ان يستقر ويمضي أصحاب الخلاف عليه مدة وفيه مسألتان.
إحداهما: إذا اختلف أهل العصر على قولين فهل يجوز لأهل ذلك العصر بعينهم بعد استقرار الخلاف الإتفاق على أحد القولين والمنع من المصير إلى القول الآخر فيه خلاف ينبني على اشتراط إنقراض العصر في الإجماع فإن إشترطنا جاز بلا نظر وإلا ففيه مذاهب.
أحدهما: وهو إختيار الإمام أنه لا يجوز مطلقا.
والثاني: وهو اختيار الآمدي عكسه.
والثالث: يجوز إن كان مستند اتفاقهم على الخلاف القياس والإجتهاد لا دليل قاطع.
المسألة الثانية: إذا اختلفوا على قولين ومضوا على ذلك فهل يتصور انعقاد إجماع العصر الثاني بعدم على أحدهما حتى يمتنع المصير إلى القول الآخر ذهب الشيخ أبو الحسن الأشعري وأحمد بن حنبل والصيرفي وإمام الحرمين والغزالي إلى امتناعه واختاره الآمدي.
وذهب الجمهور إلى الجواز وتبعهم ابن الحاجب إذا عرفت فاستدلال المصنف على جواز وقوع الإجماع بعد الاختلاف باتفاق الصحابة على إمامة أبي بكر بعد اختلافهم فيها وهو دليل على المسألة الأولى ومثله الاستدلال بأجمعهم(14/34)
ص -376-…على دفنه صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة بعد خلافهم ولك أن تمنع أن كلا منهما كان جازما بمقالته ونقول إنما كان إختلافهم على سبيل المشورة ولم يستقر لأحد منهم الجزم بشيء.
واستدل للمسألة الثانية باتفاق التابعين على المنع من بيع أمهات الأولاد بعد اختلاف الصحابة.
قوله وله ما سبق أي وللصيرفي ما سبق في منع أحداث قول ثالث وتقريره أن إختلافهم إجماع على جواز الأخذ بأي قول كان.
فلو انعقد الإجماع لامتنع الأخذ بما أجمعوا على جواز الأخذ به فلزم رفع الإجماع بالإجماع.
وجوابه ما سبق أنهم إنما جوزوا بشرط أن لا يحصل إجماع والله أعلم.
وأنت إذا إنتهى بك التفهم فيما أوردناه إلى هنا علمت أن المسألة في كلام صاحب الكتاب غير مختصة بما إذا أجمع أهل ذلك العصر الذي اجمعوا بعينهم بل هي أعم من المسألتين ولم تغتر بتخصيص بعض الشارحين لها بالمسألة الأولى مغترا باقتصار المصنف من الدليل على مثال وقع الإجماع في صورته بعد الاختلاف ممن حصل منهم الاختلاف.
قال: الرابعة الاتفاق على أحد قولي الأولين كالاتفاق على حرمة بيع أم الولد والمتعة إجماع خلافا لبعض المتكلمين والفقهاء لنا سبيل المؤمنين قيل فإن تنازعتم أوجب الرد إلى الله قلنا زال الشرط قيل أصحابي كالنجوم قلنا الخطاب مع العوام الذين عصرهم قيل اختلافهم إجماع على التخبير قلنا زال لزوال شرطه.
مضى الكلام في تصور وقوع الإجماع بعد الإختلاف والنظر الآن في أنه إذا هل يكون حجة ولوقوعه حالتان:
إحداهما: أن يقع من أهل العصر الثاني الإجماع على إحدى مقالتي أهل العصر الأول كوقوع الإجماع عل منع بيع أم الولد من البائعين بعد اختلاف(14/35)
ص -377-…الصحابة فيها وعلى أن نكاح المتعة باطل مع أن ابن عباس رضي الله عنه كان يفتي بالجواز قال بعض الشارحين وفي المثالين نظرا أما الأول فلمخالفة بعض الشيعة وكونه قولا للشافعي ولك أن تقول أما مخالفة بعض الشيعة فلا اعتداد بها وأما كونه قولا للشافعي فليس كذلك إذ لم ينص على ذلك لا في القديم ولا في الجديد وإنما قيل إن في كلامه ميلا إليه.
وذهب معظم الأصحاب إلى أن هذا إختلاق قول قال وأما الثاني فلبقاء المخالفة فيه من ذفر ولك أن تقول إن صح عنه فلا اعتداد بخلافه بعد قيام الإجماع قبله وبعد أن قاس على خلافه وفي شرح الجاربردي أن مراد المصنف بالمتعة التمتع شرحه بأن عثمان كان ينهى عنه ثم صار إجماعا أنه جائز إذا عرفت ذلك فهذه الحالة هي مسألة الكتاب والذي عليه المصنف تبعا للإمام والجمهور أنه إجماع تقوم به الحجة وتحرم مخالفته.
وذهب كثير من الشافعية ومن المتكلمين والحنفية إلى خلافه لنا إذ ما أجمع عليه أهل العصر الثاني سبيل المؤمنين فيجب أتباعه لقوله تعالى ويتبع غير سبيل المؤمنين احتجوا بثلاثة أوجه.
أحدها: قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}1أوجب الرد إلى كتاب الله والرسول عند التنازع فيجب أن يرد إليهما دون الإجماع وأجيب بوجهين.
أحدهما: وهو المذكور في الكتاب أن وجوب الرد مشروط بالتنازع والتنازع قد زال بخصوص الإجماع فزال وجوب الرد لزوال شرطه وهو النزاع ولك أن تقول لاخفاء في وجود النزاع قبل حصول الإجماع فكان يجب رده ولا يجوز الإجماع.
الثاني: وهو حسن الرد أن الإجماع رد إلى الله والرسول صلى الله عليه وسلم.
وثانيها: ما روي من قوله صلى الله عليه وسلم: "أصحابي كالنجوم بأيهم إقتديتم إهتديتم" جوز
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية 59.(14/36)
ص -378-…الأخذ بقول كل منهم ولم يفصل بين ما يكون بعده إجماع أو لا فلو وجب الأخذ بقول أهل الإجماع للزم التخصيص وأعلم أن هذا الحديث رواه ابن منده أن أبا الإمام أبا عبد الله محمد بن إسحاق بن منده أن أبا الحسين عمر بن الحسن بن علي حدثنا عبد الله بن روح المدايني حدثنا سلام بن سليمان حدثنا الحارث بن عصين عن الأعمش عن ابن أبي سفيان عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل أصحابي في أمتي مثل النجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" وروى نعيم بن حماد الخزاعي عن عبد الرحيم بن زيد العمى عن أبيه عن سعيد ابن المسيب عن عمر مرفوعا سألت ربي فيما اختلف فيه أصحابي من بعدي فاوحى إلي يا محمد أن أصحابك عندي بمنزلة النجوم بعضها أضوأ من بعض فمن أخذ بشيء مما هم عليه على اختلافهم عندي على هدى.
وهذا حديث قال فيه أحمد لا يصح ثم أنه منقطع قال ابن المسيب لم يسمع من عمر شيئا.
وأجاب بأن الخطأ ليس لجميع الصحابة ولا للمجتهدين منهم إذ ليس إتباع واحد منهم للآخر أولى من العكس فتعين أن يكون الخطاب مشافهة للعوام الذين في عصر الصحابة وإذا كان كذلك وقد انفرضوا فعوام العصر الثاني وخواصهم غير مخاطبين بهذا الحديث ولم يذكر الإمام هذا الجواب بل أجاب بتخصيص الحديث بتوقف الصحابة في الحكم حال الاستغلال مع عدم جواز الاقتداء في ذلك بعد انعقاد الاجماع فوجب تخصيص الإجماع عنه والجامع بينهما تصحيح الاجماع المنعقد أخيرا ولك أن تقول على جواب المصنف خطاب المشافهة يعم كل العوام وإلا لزم أن يكونوا كذا يكون مخاطبين وليس كذلك على جواب الإمام أنه إذا خص من العموم صورة لا يلزم تخصيص غيرها وهذا ذكره القرافي.
وقد يقول من ينصر الإمام إذا خصت صورة لمعنى وجد في صورة أخرى قيست على المخصوصة وأخرجت من العموم ويفرق من يعضد القرافي لأن(14/37)
ص -379-…الاقتداء بهم في التوقف مخل بمقصود التكليف فلذلك امتنع بخلاف الاقتداء بهم في القول الآخر.
وثالثها: وإليه الإشارة بقوله إجماع على التخيير أن في ضمن اختلاف أهل العصر الأول الاتفاق على جواز الأخذ بايهما أريد فلو انعقد الإجماع الثاني لتدافع الاجماعان وأجاب بأن إجماعهم على التخيير بين القولين مشروط بأن لا يحدث إجماع فلما زال الشرط بحصول الإجماع زال المشروط وهو التخيير.
الحالة الثانية: وليست في الكتاب أن يختلف أهل العصر ثم يقع الرجوع منهم بأعيانهم فقيل ليس بحجة وقيل حجة يحرم مخالفته وهو مختار الإمام ولقوله: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} وعليك باعتبار الأجوبة المتقدمة وأجوبتها هنا.
وقال الخامسة: إن اختلفت الأمة على قولين فماتت إحدى الطائفتين يصير قول الباقين حجة لأنهم محل الأمة.
إذا اختلفت الأمة على قولين ثم ماتت إحدى الطائفتين أو كفرت قال الإمام وأتباعه يصير القول الآخر مجمعا عليه لأنه عند الموت أو الكفر بتبين باندراج قول تلك الطائفة الأخرى تحت أدلة الإجماع لصيرورتهم حينئذ كل الأمة وإنما قلت عند الموت ولم أقل بالموت لسؤال يرد فيقال يلزم أن يكون قول الباقين حجة لأجل موت أولئك وليس موتهم مناسبا لكون قول الباقين حجة وجوابه أن قولهم صار حجة عند الموت لأنه إذ ذاك قول كل المؤمنين لا بالموت.
وقال الآمدي: إنه لا يكون إجماعا ذكره في آخر المسألة الثانية والعشرين.
قال السادسة: إذا قال البعض وسكت الباقون فليس بإجماع ولا حجة وقال أبو علي إجماع بعدهم وقال إنه هو حجة لنا ربما سكت لتوقف او خوف أو تصويب كل مجتهد قيل يتمسك بالقول المنتشر ما لم يعرف له مخالفا وجوابه المنع وأنه إثبات الشيء بنفسه.
إذا قال بعض المجتهدين قولا في المسائل التكليفية الاجتهادية وعرفه الباقون وسكتوا عن الإنكار فإن ظهرت عليهم أمارات الرضا بما ذهبوا إليه فهو إجماع بلا خلاف.(14/38)
ص -380-…قال القاضي عبد الوهاب من المالكية والقاضي الروياني من أصحابنا وقضية ذلك أنه إن ظهرت عليهم أمارات السخط لا يكون إجماعا بلا نزاع وكلام الإمام كالصريح في أن الخلاف جار وإن ظهرت أمارات السخط فإنه قال السكوت يحتمل وجوها سوى الرضا وعد منها أن يكون في باطنه مانع من إظهار القول قال وقد يظهر عليه قرائن السخط وإلا شبه أن هذا ليس من محل الخلاف وإن لم يظهر عليهم شيء سوى السكوت ففيه مذاهب.
أحدها: أنه ليس باجماع ولا حجة وبه قال الغزالي والامام وأتباعه ونقله هو والآمدي عن الشافعي لكن قال الرافعي المشهور عند الأصحاب أن الإجماع السكوتي حجة لأنهم لو لم يساعدوه لاعترضوا عليه وهل هو إجماع أو لا فيه وجهان وقال الشيخ أبو إسحاق في اللمع أنه إجماع على المذهب.
والثاني: أنه إجماع بعد انقراض العصر وبه قال أبو علي الجبائي والإمام أحمد وهو أحد الوجهين عندما نقله الرافعي.
الثالث: أنه حجة وليس إجماعا وذهب إليه أبو هاشم بن أبي علي وهو المشهور عند أصحابنا كما نقله الرافعي وهل المراد بذلك أنه دليل آخر من أدلة الشرع غير الإجماع أو أنه ليس إجماع قطعي بل ظني النظر مضطرب في ذلك ويؤيد الأول قول الماوردي والقول والثاني أنه لا يكون إجماعا قال الشافعي من نسب إلى ساكت قولا فقد كذب عليه فاقتضى أن الساكت لا ينسب إليه قول لا ظنا ولا قطعا ويعضد الثاني قول أبي عمرو بن الحاجب في المختصر الكبير هو حجة وليس بإجماع قطعي.
والرابع: ذهب إليه أبو علي بن أبي هريرة إن كان هذا القول من حاكم لم يكن إجماعا ولا حجة وإلا فإجماع لأن الاعتراض على الحاكم ليس من الأدب فلعل السكوت صلى الله عليه وسلم لذلك وأيضا فالحكم في المختلف فيه لا ينكر ويصير مجمعا عليه بخلاف الفتيا.
والخامس: عكس ذلك لأن الحكم إنما يصدر بعد بحث واتقان بعد الكلام مع العلماء وتصويبهم لذلك فإذا سكتوا عن الحكم جعل ذلك إجماعا وأما الفتيا(14/39)
ص -381-…فلا يحتاط فيها كالحكم وذهب إلى هذا أبو إسحاق المروزي ثم استدل صاحب الكتاب على ما ذهب إليه هو وإمامه من أنه ليس بإجماع ولا حجة بأن السكوت يحتمل وجودها سوى الرضا وهي كثيرة.
أحدها: أنه كان في مهلة النظر.
الثاني: أن يكون في باطنه مانع من إظهار القول وهو الخوف.
والثالث: أن يعتقد أن كل مجتهد مصيب فلا يرى الإنكار فرضا وقد ذكر هذه الأوجه في الكتاب.
والرابع: ربما رآه قولا شائعا لمن أداه إليه اجتهاده وإن لم يكن موافقا عليه
الخامس: ربما أراد الإنكار ولكنه ينتهز فرصة التمكن منه ولا يرى المبادرة اليه مصلحة.
والسادس: أنه لو أنكر لم يلتفت إليه.
والسابع: ربما سكت لظنه أن غيره قام مقامه في ذلك وإن كان قد غلط فيه.
والثامن: ربما رأى ذلك الخطأ من الصغائر فلم ينكر وإن احتمل السكوت هذه الجهات كما احتمل الرضا علمنا أنه لا يدل على الرضا لا قطعا ولا ظنا هذا وهذا معنى قول الشافعي لا ينسب إلى ساكت قول ولقائل أن يقول ما انها لا تدل على الرضا قطعا فمسلم وأما ظاهر فممنوع أن هذه الاحتمالات مرجوحة بالنسبة إلى احتمال الرضا وذلك ما هو ظاهر الفساد كالثامن فإن الصغيرة يجب إنكارها كما يجب انكار الكبيرة قال القرافي وقد اختلف الناس في المندوبات والمكروهات هل يدخلها الأمر والإنكار أم لا وأما الواجبات والمحرمات صغائر كانت أم كبائر فيدخلها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إجماعا واحتج أبو هاشم بما ذكره في الكتاب من أن الناس في كل عصر يحتجون بالقول المنتشر في الصحابة إذا لم يعرف له مخالف وجوابه أن ذلك ممنوع ولو سلم فالاستدلال به إنما يتم أن لو كان الإجماع السكوتي حجة إذ هو عينه فلو شئتم الإجماع به لأثبتم الشيء بنفسه.(14/40)
ص -382-…وفي عبارة المصنف كما قال الجاربردي تساهل لأنه إثبات للشيء بفرد من أفراده لا بنفسه ولم يذكر المصنف حجة أبي علي والرد عليها لأنه إذا بطل كونه حجة بطل كونه إجماعا وهذا من حسن الاختصار رحمه الله.
قال: فرع قول البعض فيما تعم به البلوني كقول البعض وسكوت الباقين.
هذه المسألة فيما إذا قال بعض أهل العصر قولا ولم يعلم له مخالف ولا أنه بلغ جميع أهل العصر وليست مختصة بعصر الصحابة على خلاف ما صوره الإمام وتلك المسألة فيما إذا نقل أنه بلغ جميعهم وسكتوا عليه.
وفي هذه المسألة ثلاثة مذاهب.
أحدها: أنه ليس بإجماع ولا حجة لأن الإجماع السكوتي إنما كان حجة إجماعا لأن بعضهم قال الحكم وسكت الباقون مع العلم به فلو كان ذلك الحكم خطأ لحرم عليهم السكوت عن الإبتكار فالسكوت دليل الرضا وهذا لا يمكن حمل السكوت على الرضا لاحتمال أن يكون ذلك لعدم العلم به.
وثانيها: أنه كالسكوتي حتى يجري فيه الخلاف المتقدم لأنه الظاهر مع الاشتهار وصوله إليهم.
وثالثها: وهو الحق عند الإمام وأتباعه وبه جزم منهم المصنف أن هذا القول إن كان فيما يعم البلوى كنقض الوضوء بمس الذكر كان كالسكوت إذ لا بد لمن انتشر فيهم من قول لكنه لم يظهر وإلا لم يكن إجماعا ولا حجة لاحتمال ذهول البعض عنه.
واعلم أن الآمدي صور المسألة بما إذا ذهب واحد من أهل العصر إلى حكم ولم ينتشر بين أهل العصر لكنه لم يعرف له مخالف وتبعه ابن الحاجب في شرطه عدم الانتشار وظاهر كلام الإمام وصرح به صفي الدين الهندي وتصوبه المسألة بما إذا انتشر.
واعلم أنه لا مخالفة بين الكلامين فإن الانتشار في كلام الآمدي محمول على الشهرة وإن لم يعلم أنه بلغ الجميع والانتشار المنفي في كلام الآمدي هو الانتشار بحيث يبلغ الجميع وسكتوا عنه.(14/41)
ص -383-…الباب الثالث في شرائطه
قال: الباب الثالث في شرائطه وفيه مسائل:
الأولى: أن يكون فيه قول كل عالمي ذلك الفن فإن قول غيرهم بلا دليل فيكون خطأ فلو خالف واحد لم يكن سبيل الكل.
قال الخياط وابن جرير وأبو بكر الرازي المؤمنون يصدق على الأكثر قلنا مجاز قالوا عليكم بالسواد الأعظم.
قلنا: يجب عدم الالتفات إلى مخالفة الثالث.
يشترط في الإجماع في كل فن من الفنون أن يكون فيه قول كل العارفين بذلك الفن في ذلك العصر فإن قول غيرهم فيه يكون بلا دليل لجهلهم به فيكون خطأ فيشترط في الإجماع على المسألة الفقهية قول جميع الفقهاء والأصولية قول الأصوليين وهكذا ولا عبرة بقول العوام وفاقا ولا خلافا عند الأكثرين.
وقال الأقلون يعتبر قولهم لأن قول الأمة إنما كان حجة لعصمتها عن الخطأ ولا يمتنع أن تكون العصمة من صفات الهيئة الاجتماعية من الخاصة والعامة وحينئذ لا يلزم من ثبوت العصمة للكل ثبوتها للبعض الآخر.
وهذا ما اختاره الآمدي وهو مشهور عن القاضي نقله الإمام وغيره وينبغي أن يتمهل في هذه المسألة فإن الذي قاله القاضي في مختصر التقريب ما نصه الاعتبار في الاجماع بعلماء الأمة حتى لو خالف واحد من العوام ما عليه العلماء لم يكترث بخلافه وهذا ثابت اتفاقا وأطباقا إذ لو قلنا أن خلاف العوام يقدح(14/42)
ص -384-…في الإجماع مع أن قولهم ليس إلا عن جهل أفضى هذا إلى اعتبار خلاف من يعلم أنه قال عن غير أصل على أن الأمة اجتمعت علماؤها وعوامها أن خلاف العوام لا يعتبر به وقد مر على هذا الإجماع عصر فثبت بما قلناه أن لا يعتبر بخلاف العوام.
فقد صرح القاضي بقيام الإجماع على عدم الاعتبار بخلاف العوام وقال في هذا الكتاب في الكلام على الخبر المرسل لا عبرة بقول العوام وفاقا ولا خلافا انتهى.
فإن قلت فما هذا الخلاف المحكى من أن قول العام هل يعتبر في الإجماع.
قلت: هو اختلاف في أن المجتهدين إذا أجمعوا هل يصدق اجمعت الأمة ويحكم بدخول العوام معهم تبعا وهو خلاف لفظي في الحقيقة وليس خلافا في أن مخالفتهم تقدح في قيام الإجماع وكلام القاضي في مختصر التقريب ناطق بذلك فإنه حكى هذا الخلاف بعد كلامه المتقدم فقال ما نصه فإن قال قائل فإذا أجمع علماء الأمة على حكم من الأحكام فهل يطلقون القول بأن الأمة مجمعة عليه.
قلنا: من الأحكام ما يحصل فيه اتفاق الخاص والعام نحو وجوب الصلاة والزكاة والحج والصوم وغيرها من أصول الشريعة فما هذا سبيله فيطلق القول بأن الأمة أجمعت عليه.
وأما ما أجمع عليه العلماء من أحكام الفروع التي تشذ عن العوام فقد اختلف أصحابنا في ذلك فقال بعضهم العوام يدخلون في حكم الإجماع وذلك أنهم وإن لم يعرفوا تفصيل الأحكام فقد عرفوا على الجملة أن ما أجمع عليه علماء الأمة في تفاصيل الأحكام فهو حق مقطوع فهذا مساهمة منهم في الإجماع وإن لم يعلموا مواقعه على التفصيل ومن أصحابنا من زعم أنهم لا يكونون مساهمين في الإجماع فإنه إنما يتحقق الإجماع في التفاصيل بعد العلم بها فإذا لم يكونوا عالمين بها فلا يستحق كونهم أهل الإجماع.
واعلم أن هذا اختلاف يهون أمره ويؤول إلى عبارة مخصوصة والجملة فيه انا إذا أدرجنا للعوام في حكم الإجماع فيطلق القول بإجماع الأمة وإن لم(14/43)
ص -385-…ندرجهم بإجماع الأمة أو بدر من بعض طوائف العوام خلاف فلا يطلق القول بإجماع الأمة فإن العوام معظم الأمة وكثيرها بل اجمع علماء الأمة انتهى كلام القاضي.
وكلام الغزالي في المستصغى لا ينافيه فليتأمل وليضبط ذلك فهو مكان حسن ولا ينبغي أن يعتقد أن مخالفة العوام تقادح وموافقهم تفتقر الحجة إليها وكيف ذلك وهم يقولون لا عن دليل فيكون قولهم خطأ.
والخطأ لا يفتقر قيام الحجة إليه وان سبب مسبب بما سلف من أن العصمة إنما تثبت لجموع الأمة قلت فماذا تقول في البله والأطفال أليس هم من الأمة وهذا إلزام لا محيص له عنه هذا في العوام وقد قلنا إن الخلاف فيهم لفظي ويمكن أن يقال ينبني عليه إذا لم يكن في العصر إلا مجتهد واحد.
فإن قلنا: إن العوام داخلون تبعا فهم داخلون معه فيكون إجماعا وإلا فلا يكون قوله اجماعا لما قدمناه في أول كتاب الإجماع من أن الإجماع لا يصدق إلا من اثنين فصاعدا.
وأما الأصولي الماهر المتصرف في الفقه فذهب القاضي إلى أن خلافه معتبر.
قال الإمام وهو الحق وذهب معظم الأصوليين إلى خلافه لأنه ليس من المفتين ولو وقعت له واقعة للزمه أن يستفتي المفتي فيها واحتج القاضي بأنه من أهل التصرف في الشريعة يستضاء برأيه ويستهدي بنصحه ويحضر مجلس الأشوار وإذا كان كذلك فخلافه يشير إلى وجه من الرأي معتبر وإذا ظهر اعتبار في الخلاف انبنى عليه اعتباره في الوفاق واستبعد امام الحرمين مذهب القاضي وقال إذا أجمع المفتون وسكت المتصرفون فبعد أن يتوقف انعقاد الإجماع على مراجعتهم فإن الذين لا يستقلون بأنفسهم في جواب مسألة ويتعين عليهم تقليد غيرهم من المحال وجوب مراجعتهم وان فرض أنهم أبدوا وجها في التصرف فإن كان سالما فهو محمول على إرشادهم وتهديتهم إلى سواء السبيل.
وإن أبدوا قولهم أبدى من يراع الإجماع فالإنكار يشتد عليهم.(14/44)
قال والقول المغني في ذلك إنه لا قول لمن لم يبلغ مبلغ المجتهدين وليس بين من يقلد ومن يقلد مرتبة ثالثة.(14/45)
ص -386-…ثم قال والنظر السديد يتخطى كلام القاضي وعصره ويترقى المتقدم ويفضي إلى مدرك الحق قبل ظهور هذا الخلاف ولتحقيق خالف القاضي إذا وافق أن المجتهدين إذا أطبقوا لم لخلاف يعد المتصرفين مذهبا محتفلا به فإن المذهب لأهل الفتوى فإن ثبت بأن المتصرف الذي ذكره من أهل الفتوى فالقول فيه يشرح في كتاب الفتوى.
والكلام الكافي في ذلك أنه إن كان مقتبسا اعتبر خلافه وأما المبتدع فإن كفرناه ببدعته فلا خلاف في أنه غير داخل في الإجماع لعدم دخوله في مسمى الأمة المشهود لهم بالعصمة وإن لم يعلم هو كفر نفسه وعلى هذا فلو خالف هو في مسألة وبقي مصرا على المخالفة حتى تاب عن بدعته فلا اثر لمخالفته لانعقاد إجماع جميع الأمة الإسلامية قبل إسلامه كما لو أسلم ثم خالف الأعلى رأي من يشترط في الإجماع انقراض المجمعين وإن لم نكفره فالمختار أنه لا ينعقد الإجماع دونه لكونه من أهل الحل والعقد ومن الداخلين في مفهوم لفظ الأمة.
وقيل ينعقد دونه وقيل لا ينعقد عليه بل على غيره فيجوز له مخالفة إجماع من عداه ولا يجوز ذلك لغيره وفيه نظر فإنه إذا تعذر إنعقاد الإجماع من وجه لم ينعقد من وجه وسيأتي إن شاء الله كلام إمام الحرمين فيه وأما أهل الفسقة من أهل القبلة البالغون في العلم مبلغ المجتهدين فذهب معظم الأصوليين كما ذكر امام الحرمين إلى أنه لا يعتبر وفاقهم ولا خلافهم والمختار خلاف ذلك لأن المعصية لا تزيل اسم الإيمان فيكون قول من عداهم قول بعض المؤمنين لا كلهم فلا يكون حجة.
وهذا ما مال إليه امام الحرمين فقال الفاسق المجتهد لا يلزمه أن يقلد غيره بل يلزم أن يتتبع في وقائعه ما يؤدي إليه اجتهاده وليس له أن يقلد غيره فكيف ينعقد الإجماع عليه في حقه واجتهاده يخالف اجتهاد من سواه.(14/46)
قال وإن بعد انعقاد الإجماع من وجه لم ينعقد من وجه قال فإن قيل هو عالم في حق نفسه باجتهاده فيصدق عليه بينه وبين ربه وهو يكذب في حق غيره فلا يمتنع لانقسام أمره على هذا الوجه أن ينقسم حكم الإجماع قلنا هذا(14/47)
ص -387-…محال فإن الفاسق غير مقطوع بصدقه ولا بكذبه فهو كالعالم في غيبته فإن تاب فهو كما لو أتى الغائب.
وأعلم أن الأولين اختلفوا في تعليل عدم اعتبار قول الفاسق على وجهين:
أحدهما: وعليه يقوم هذا السؤال إن اخباره عن نفسه لا يوثق به لفسقه فربما أخبر بالوفاق وهو مخالف أو بالخلاف وهو موافق فلما تعذر الوصول إلى معرفة قوله سقط أثره.
وشبه بعض المتأخرين ذلك بسقوط أثر قول الخضر عليه السلام على القول بأنه حي لتعذر الوصول إليه.
والثاني: أن العدالة ركن في الاجتهاد كالعلم فإذا فاتت العدالة فأتت أهلية الاجتهاد وهذا فيه نظر إذ أهلية الاجتهاد الذي هو استنباط الأحكام وتصحيح المقاييس وترتيب المقدمات إلى غير ذلك مما لا تعلق لها بالديانة أصلا فإن قلت فهذا يرد عليكم في الكافر فإنه قد يجري على علوم الشرع والاجتهاد لا تعلق له بالديانة قلت الكافر لا يرد فإن الحجة في إجماع المسلمين والفاسق منهم دون الكافر ويتفرع على هذين التعليلين أن الفاسق إذا اداه اجتهاده في مسألة إلى حكم هل يأخذ بقوله من علم صدقه في فتواه بقرائن.
وإذا ثبت اشتراط قول جميع المجتهدين في الاجماع قال صاحب الكتاب فلو خالف واحد لم يكن قول غيره اجماعا لأن قوله سبيل المؤمنين يتناول الكل وليسوا دون الواحد كل المؤمنين هذا مذهب الجمهور.
وقال الإمام الجليل محمد بن جرير وأبو الحسين بن أبي عمر والخياط المعتزلي وأبو بكر الرازي وكذا أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه ينعقد اجماع الأكثر مع مخالفة الأقل كذا أطلق النقل عنهم الآمدي وهو قضية إيراد المصنف وخصص الإمام النقل عنهم بالواحد والاثنين قال الآمدي وذهب قوم إلى أن عدد الأقل إن بلغ عدد التواتر لم يعتد بالإجماع دونه وإلا اعتد به قلت وهذا ما ذكر القاضي في مختصر التقريب أنه الذي يصح عن ابن جرير.
وقال أبو عبد الله الجرجاني أن سوغت الجماعة الاجتهاد في مذهب المخالف(14/48)
ص -388-…كان خلافه معتدا به وإلا فلا ومنهم من قال اتباع الأكثر أولى ويجوز خلافه وهو مذهب لا تحرير فيه لانا نسلم أنه إذا تعادل الرأيان وكان القائلون بأحدهما أكثر رجح جانب الكثرة وانما الكلام في التحتم ومنهم من قال هو حجة وليس باجماع ورجحه ابن الحاجب فإنه قال لو نذر المخالف مع كثرة المجمعين لم يكن اجماعا قطعا قال والظاهر أنه حجة لبعد أن يكون الراجح متمسك المخالف.
قال صفي الدين الهندي والظاهر أن من قال إنه إجماع فإنما نجعله إجماعا ظنيا لا قطعيا وبه يشعر إيراد بعضهم لنا أن الصحابة اجمعوا على ترك قتال مانعي الزكاة إلا أبو بكر رضي الله عنه ولم يقل أحد أن خلافه غير معتد به بل رجعوا إليه حين المناظر واحتج ابن جرير ورفقته بوجهين ذكرهما في الكتاب.
أحدهما: أن لفظي المؤمنين والأمة يصدق على الأكثر كما يقال على البقرة أنها سوداء وإن كان فيها شعرات بيض وللزنجي أنه أسود مع بياض حدقته وأسنانه.
والجواب: أن صدق إطلاق ألفاظ العموم على الأكثر إنما هو على سبيل المجاز وليس حقيقة لأنه يجوز أن يقال لمن عدا الواحد من الأمة ليسوا كل الأمة ويصح استثناؤه منهم وهذا واضح.
الثاني قوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالسواد الأعظم أو باتباع السواد الأعظم" ويعم الاكثرين فيكون قولهم حجة.
والجواب أن السواد الأعظم يعم كل الأمة لأن من عدا الكل فالكل الأعظم منه ولو لم يقصد هذا بل ما صدق أنه أعظم من غيره لدخل تحته النصف الزائد بفرد واحد على النصف الآخر وإلى هذا أشار بقوله في الكتاب مخالفة الثلث وهو بضم الثاء واللام أي حمله على ما صدق عليه أنه أعظم يوجب عدم الالتفات إلى ثلث الأمة إذا خالفوا الثلثين وقد قرره الجار بردي والاسفرايني على أن الثاء مفتوحة وأن المراد الثلاث اسم العدد الخاص وان ابن جرير ورفقته يسلمون أن مخالفة الثلاثة قادحة.
وهذا ماش على ما اقتضاه ايراد الإمام كما سبق وما ذكرناه من التقرير أحسن وأسلم.(14/49)
ص -389-…واعلم أن السواد الأعظم وقع مفسرا في الحديث على خلاف ما استدل به الخصم فروى ابن ماجة من حديث معاذ بن رفاعة عن أبي خلف الأعمى عن أنس رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أمتي لا تجتمع على ضلالة فإذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم للحق وأهله"1 هذا لفظه وأهل الحق هم جميع الأمة ولا أعلم لهذا الحديث طريقا غير الذي ذكرت ومعاذ وأبو خلف ضعيفان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 روي هذا الحديث من عدة طرق في كلها نظر كما قال الحافظ العراقي, أحدهما: عن أنس بن مالك, رواه عنه ا بن ماجة بإسناد ضعيف, كتاب الفتن, باب: السواد الأعظم.
كمارواه الإمام في مسنده 4/278 واطبراني في الكبير.
وانظر: تخريج أحاديث المنهاج للحافظ العراقي ورقة 43 مخطوط بمكتبة الأزهر 868 أصول الفقه.
قال الثانية لا بد له من سند لأن الفتوى بدونه خطأ قيل لو كان فهو الحجة قلنا قد يكونان دليلان قيل صححوا بيع المراضاة بلا دليل قلنا لا بل ترك اكتفاء بالاجماع.
رب متراشق في اللفظ يعبر عن المسألة بأن الإجماع لا بد فيه من توقيف وقيل قد يقع عن توقيف واشتراط السند في الإجماع هو الذي عليه الجماهير.
وقال قوم يجوز أن يوفقهم الله تعالى لاختيار الصواب من غير توقف على مستند لكن سلموا إن ذلك غير واقع كما ذكر الآمدي لنا أن الفتوى في الدين بغير دلالة أو إمارة خطأ فلو اتفقوا عليه كانوا مجمعين على الخطأ.
وذلك يقدح في الإجماع واعترض الآمدي على هذا الدليل بأنه إنما يكون خطأ إذا لم تتفق الأمة عليه.
أما إن اتفقت عليه فلا نسلم أنه خطأ وذلك لأن من يجوز ذلك مع القول بعصمة الأمة عن الخطأ يمنع أن يكون ذلك خطأ عند الاتفاق.
وحاول الشيخ صفي الدين الهندي رد هذا الاعتراض فقال القول في الدين بغير دليل وأمارة باطل في الأصل وكذلك لو لم يحصل الإجماع عليه كان ذلك باطلا وفاقا.(14/50)
ص -390-…والإجماع لا يصير الباطل حقا بل غاية تأثيره أن يصير المظنون حقا قلت وفيه نظر فقد يقال يتبين بحصول الإجماع بعد ذلك أن القول في الأصل كان حقا هذا إذا وقع قولهم مترتبا لو إن وقع دفعة واحدة فلم يقع إلا حقا.
ثم إن القائل بغير اجتهاد قبل حصول الإجماع على قوله لا يقول إنه مخطئ فيما قاله ولا مصيب بل مخطيء في كونه قال بدون اجتهاد وهذا الخطأ لا يزول بإجماعهم بعد ذلك على قوله.
وأما المقول فيحتمل أنه خطأ فيه ويحتمل أنه أصاب وهذا التردد يزول بالإجماع بعد ذلك على قوله ويعلم أنه كان مصيبا.
فإن قلت: إذا كان كل فرد منهم أخطأ في كونه قال فيلزم خطأ المجموع في كونهم قالوا وهو محظور قلت القائل الأخير منهم الذي بقوله يحصل الاتفاق ويتكل الإجماع ليس مخطئا في كونه قال وهذا إذا وقع مترتبا فإن وقع دفعة واحدة فلا نسلم خطأهم في كونهم قالوا بل نقول إنما يخطئ من أقدم على القول وحده بغير مستند.
أما إذا حصل اتفاق من الأمة على القول فلا واحتج من قال يجوز أن يوفقوا الاختيار الصواب بأمرين:
أحدهما: أنه لو لم ينعقد الإجماع إلا عن مستند لكان ذلك المستند هو الحجة وحينئذ فلا يبقى في الإجماع فائدة وأجاب المصنف بأن الإجماع وأصله يكونان دليلين واجتماع دليلين على مدلول واحد جائز حسن.
والثاني: أنه وقع بدليل إجماعهم على بيع المراضاة بلا دليل وأجاب بأن له دليلا لكن ترك ذكره لما وقع الإجماع عليه اكتفاء بالإجماع.
قلت: وقد الآمدي في أثناء المسألة أن الخلاف ليس في وقوعه وتقدم نقل هذا عنه فاحتجاج الخصم ضعيف لذلك أيضا وأيضا فإن أريد ببيع المراضاة المعاطاة التي يذكرها الفقهاء فالمذهب الصحيح أنها باطلة فأين الإجماع وإن كان كما ذكره الشراح أنه إذا تحقق التراضي من الجانبين فالإجماع منعقد على صحة هذا البيع لكن اختلفوا في الدليل على التراضي.(14/51)
ص -391-…فقال الشافعي ومن وافقه لا بد من صيغة تدل عليه وقال مالك وبعض أصحاب الشافعي يكفي المعاطاة فهذا فيه نظر إذ سند الإجماع أشهر من أن يذكر وأكثر من أن يحصر.
قال فرعان الأول يجوز الإجماع عن الإمارة لأنها مبدأ الحكم قيل الإجماع على جواز مخالفتها قلنا قبل الإجماع قيل اختلف فيها قلنا منقوض بالعموم وخبر الواحد.
علمت أن الإجماع لا بد له من مستند ويجوز أن يكون ذلك المستند نصا بالاتفاق وكذلك دليلا ظاهرا وهل يجوز أن يكون امارة أي قياسا فيه مذاهب.
أحدها: أنه جائز واقع وعليه الجمهور.
والثاني: جائز غير واقع.
والثالث: أنه غير ممكن وذهب إليه إبن جرير الطبري كذلك داود الظاهري لكنه بناه على أصله في منع القياس.
والرابع: إن كانت الإمارة خلية جاز وإلا فلا ثم اختلف القائلون بالوقوع في أنه هل يحرم مخالفته إذا وقع مع أطباقهم على أنه حجة والحق أنه تحرم مخالفته.
واستدل المصنف على جوازه بأن الإمارة مبدأ الحكم أي تصلح أن يكون طريقا للحكم فيجوز الإجماع عليها قياسا على الدليل ولم يتكلم في الوقوع وقد إستدل عليه الإمام بأن الصحابة أجمعت في زمان عمر رضي الله عنه على أن حد الشارب ثمانون وهو بطريق الإجتهاد لما روى أن عمر رضي الله عنه شاور الصحابة في ذلك فقال علي رضي الله عنه أراه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى وحد المفتري ثمانون.
وقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه هذا حد وأقل الحد ثمانون وهذا تصريح منهم بأنهم إنما أثبتوا الحكم بالإجتهاد وضرب من القياس لأنه مع وجدان النص لا يتعلق بمثله.(14/52)
ص -392-…ومن هذا يعرف اندفاع ما يورد من أنه لعلهم أجمعوا عليه لنص لكنه لم ينقل إستغناء الإجماع
وإستدل عليه قوم أيضا بإجماعهم على تحريم شحم الخنزير قياسا على لحمه وعلى اراقة الشيرج والدبس السيال إذا وقعت فيه فارة ماتت قياسا على السمن واستدل المانعون بوجهين.
أحدهما: أن الإجماع قائم على جواز مخالفة الإمارة والحكم الصادر عن الإجتهاد فلو صدر إجماع عنها لكان يجوز مخالفته وذلك ممتنع.
والجواب أن مخالفتها إنما يجوز إذا لم يجمع على الحكم المثبت بها أما بعد الإجماع فلا يجوز مخالفتها.
والثاني:أن الإمارة مختلف فيها إذ من الأمة من يعتقد بطلان الحكم بها والجواب وذلك يصرفه عن الحكم بها والجواب أن ذلك منقوض بالعموم وخبر الواحد إذ وقع الخلاف فيهما كما مر ويجوز صدور الإجماع عنها اتفاقا.
قال: الثاني: الموافق لحديث لا يجب أن يكون منه خلافا لأبي حنيفة وأبي عبد الله لجواز اجتماع دليلين.
الإجماع الموافق لمقتضى دليل إذا لم يعلم له دليل آخر لا يجب أن يكون مستندا إلى ذلك الدليل لاحتمال أن يكون له دليل آخر وهو مستنده ولم ينقل إلينا استغناء بالإجماع.
وقال أبو عبد الله البصري أن يكون مستندا إليه والأصناف أن أبا عبد الله إن أراد أنه كذلك على سبيل غلبات للظنون فهو حق إذ الأصل عدم دليل غيره والاستصحاب حجة وينبغي أن يحمل على ذلك ما نقله ابن برهان عن الشافعي من موافقة مذهبه لرأي أبي عبد الله البصري.
وقد فصل أبو الحسين في المعتمد فقال إن كان الخبر نصا متواترا لا يحتاج معه إلى استدلال طويل واجتهاد.
فيعلم أنهم أجمعوا لأجله وإن أحتاج في الإستدلال به إلى استدلال طويل(14/53)
ص -393-…وبحث لم يجب أن يكون هو المستند وكذلك إن كان من أخبار الآحاد ولم يرو لنا أنه ظهر فيهم أو روى أنه ظهر فيهم لكن يخبر واحد أيضا وإن روي بالتواتر وجب أن يكون عنه.
قال الثالثة: لا يشترط انقراض المجمعين لأن الدليل قام بدونه قيل وافق الصحابة على منع بيع المستولدة ثم رجع ورد بالمنع.
إختلفوا في إنقراض العصر هل هو شرط في اعتباره الإجماع على مذاهب.
أحدها: وعليه أكثر الشافعية والحنفية انه لا يشترط واختاره الإمام واتباعه وابن الحاجب.
والثاني: يشترط وهو رأي أحمد وإبن فورك.
والثالث: أنه يشترط في السكوتي دون القول وهو مذهب الأستاذ واختاره الآمدي.
والرابع: نقل إبن الحاجب عن إمام الحرمين إن كان عن قياس اشترط وإلا فلا والذي قاله في البرهان ما ملخصه أن المرضى عنده ان الإجماع ينقسم إلى مقطوع به وإن كان في مظنة الظن فلا يشترط فيه الانقراض ولا طول المكث بعد قوله وإلى حكم مطلق يسنده المجمعون إلى الظن بزعمهم فلا بد فيه من أن يطول عليه الزمان فإذا طال ولم ينقدح على طوله لواحد منهم خلاف فهذا يلتحق بقاعدة الإجماع فإن امتداد الأيام تبين التحاقهم بالمجمعين وترفعهم عن رتبة المترددين فالمعتبر ظهور الإصرار بتطاول الزمان.
حتى لو قالوا عن ظن ثم ماتوا على الفور قال فلست أرى ذلك إجماعا من جهة أنهم أبدوا وجها من الظن ثم لم يتضح اصرارهم عليه انتهى وعرفت من كلامه أن الانقراض في نفسه عنده غير مشروط ولا معتبر في حالة من الأحوال وهو خلاف مقتضى نقل ابن الحاجب عنه.
والخامس: أنه إذا لم يبق من المجتمعين إلا عدد ينقص عن أقل عدد التواتر فلا تكترث ببقائهم وتحكم بانعقاد الإجماع حكاه القاضي في مختصر التقريب.(14/54)
ص -394-…وأشار إليه ابن برهان في الوجيز واستدل المصنف على ما اختاره بأن دليل الإجماع ليس مقيدا بالإنقراض فلا يكون شرطا فيه واحتج الخصم بأن عليا رضي الله عنه سأل عن بيع أمهات الأولاد فقال كان رأي ورأى عمر أن لا يبعن وقد رأيت الآن بيعهن فقال له عبيدة السلماني رأيك في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك فدل قول عبيدة على أن الإجماع كان حاصلا مع أن عليا خالفه والجواب أن منع ثبوت الإجماع قبل الرجوع فإن قول عبيدة رأيك في الجماعة يدل على منع بيعهن كان رأي الجماعة ولا يدل على أنه كان رأي كل الأمة وأنما أراد أن ينضم قول علي إلى قول عمر لأنه رجح قول الأكثر على الأقل.
هذا تقرير قوله ورد بليغ وقد يقال المراد الرد بمنع رجوع علي والتقرير الأول هو الذي في المحصول.(14/55)
عنوان الكتاب:
الإبهاج في شرح المنهاج – الجزء الثالث
تأليف:
تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي و ولده تاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي
756هـ
الناشر:
دار الكتب العلمية -بيروت
1416هـ - 1995 م(15/1)
ص -3-…الكتاب الرابع في القياس
وهو إثبات حكم معلوم في معلوم آخر لاشتراكهما في علة الحكم عند المثبت أقول القياس في اللغة التقدير ومنه قست الأرض بالخشبة أي قدرتها بها والتسوية ومنه قاس النعل بالنعل أي حاذاه وفلان لا يقاس بفلان أي لا يساويه قال الشاعر1
خف يا كريم على عرض يدنسه …مقال كل سفيه لا يقاس بكا
وبهذا المعنى يطلق على القياس المسطلح لأن الفرع يساوي الأصلي في الحكم وأما تعريفه في الاصطلاح بين العلماء فقد ذكروا فيه أمور أقربها ما ذكره المصنف وهو الذي أبداه الإمام في العالم وهو إثبات مثل حكم معلوم في معلوم آخر لاشتراكهما في علة الحكم عند المثبت2 قال الإمام ونعني بالإثبات القدر المشترك بين العلم والإعتقاد والظن سواء أتعلقت هذه الثلاثة بثبوت الحكم أم بعدمه وأما المثال فبديهي التصور لأن كل عاقل يعرف بالضرورة كون الحار مثلا للحار في كونه حارا ومخالفا للبارد في ذلك وإنما قلنا إثبات مثل حكم ولم نقل إثبات حكم لأن عين الحكم الثابت في الأصل ليس هو عين الثابت في الفرع بل مثله وأما الحكم فسبق تفسيره في أول الأصول وأما المعلوم فلسنا نعني به مطلق متعلق العلم فقط بل ومتعلق الإعتقاد والظن والفقهاء يطلقون لفظ العلم على هذه الأمور وإنما قلنا معلوم ولم نقل موجود ولا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لم أقف له علي قائل
2 وقد عرفه بعضهم بأنه :"حمل معلوم في إثبات حكم أو نفيه بالإشتراك في صفة أو انتفاء صفة أو حكم أو انتفاء حكم" وهو إختيار الإمام الغزالي أنظر المستصفي"3/628" الإحكام للآمدي "3/261"فواتح الرحوت "2/246"(15/2)
ص -4-…شيء لجريان القياس في المعدوم والموجود والشيء عند الأشاعرة لا يطلق على المعدوم وإنما لم يذكره بدل المعلومين الأصل والفرع لرفع إيهام كون الفرع والأصل وجوديين وذلك لأن الأصل ما يتولد منه شيء والفرع ما تولد عن شيء وإنما قلنا في معلوم آخر لأن القياس كما عرفت هو التسوية بين الأمرين فيستدعي وجود المنتسبين وإنما قلنا لاشتراكهما في علة الحكم لأن القياس لا يوجد بدون العلة وإنما قلنا عند المثبت ليشمل الصحيح والفاسد في نفس الأمر وإنما لم يقل بدل المثبت المجتهد ليعم كل مثبت من مجتهد وغيره وقوله مثل حكم كلاهما مضاف بغير تنوين أعني مثل وحكم ومعلوم مضاف إليه منون ولهذا قال في المعالم إثبات مثل حكم صورة لصورة أخرى وهو أوضح
قال "قيل الحكمان غير متماثلين في قولنا لو لم يشترط الصوم في صحة الاعتكاف لما وجب بالنذر كالصلاة قلنا تلازم والقياس لبيان الملازمة والتماثل حاصل على التقدير والتلازم والاقتران لا نسميها قياسا"(15/3)
اعترض على حد القياس هذا بأنه غير جامع لأنه ينتقض بقياس العكس وهو تحصيل نقيض حكم معلوم في غيره لافتراقهما في علة الحكم وقياس التلازم والمقدمتين والنتيجة أما قياس العكس فكقول الحنفي لو لم يكن الصوم شرطا لصحة الاعتكاف مطلقا لم يصر شرطا بالنذر قياسا على الصلاة فإنها لما لم تكن شرطا لحصة الاعتكاف في الأصل لم تكن شرطا له بالنذر إذ لو نذر أن يعتكف مصليا لم يلزمه الجمع بخلاف ما لو نذر أن يعكتف صائما والثابت في الأصل نفي كون الصلاة شرطا لها وفي الفرع إثبات كون الصوم شرطا فحكم الفرع ليس حكم الأصل بل يقتضيه ونظير هذا المثال أيضا من مذهبنا قولنا أن المفوضة يجب لها المهر بالوطئ وعلى أصح القولين والقول الآخر أنه يجب بالقصد واتفق القولان على أن الوطئ في هذا النكاح لا بد له من مهر إنما الخلاف في أنه بماذا يجب وخرج القاضي الحسين وجها أنه لا يجب مهر أصلا فيما إذا وطئ المرتهن الجارية المرهونة بإذن الراهن ظانا أنها تباح بالإذن حيث لا يجب المهر في أحد القولين بجامع حصول الملك من مالك(15/4)
ص -5-…البضع فنقول في الدليل على أنه لا بد من مهر ردا على هذا التخريج الزنا لو شرط فيه مال لم يثبت لأن المال لا يتعلق به شرعا أصلا فلم يتعلق به شرعا فكذلك الوطئ المحترم إذا نفى عنه وجب أن لا ينتفي لأنه يتعلق به المال أصلا شرعا فلم ينتف عنه بالشرط فالثابت في الأصل كون المال لا يجب أصلا وفي الفرع الوجوب والجواب أن هذا في الحقيقة تمسك بنظم التلازم بالقياس وإثبات لإحدى مقدمتي التلازم بالقياس فإنك تقول في المثال الأول لو لم يكن الصوم شرطا للاعتكاف لم يصر شرطا له بالنذر فهو شرط له مطلقا فهذا تمسك بنظم التلازم واستثناء لنقيض اللازم لإثبات نقيض الملزوم ثم أنك تثبت المقدمة الشرطية بالقياس وهو أن ما لا يكون شرطا للشيء في نفسه لا يصير شرطا له بالنذر كما في الصلاة وقيس عدم شرطية الصوم بالنذر على عدم شرطية الصلاة بالنذر بجامع كونهما غير شرطين أحدهما في الوقائع بالإتفاق والثاني على تقدير أن يكون الصوم ليس شرطا في الواقع فوضح أن هذا قياس الطرد لا قياس العكس وظهر دخوله في الحد وهذا الجواب هو المعنى بقوله قلنا تلازم إلى آخره وأما قوله والتلازم والإقتراني لا نسميهما قياسا فهو جواب عن سؤال مقدر وهو ما أشرنا إليه من أنه ينتقض بقياس التلازم والمتقدمين والنتيجة وتقريره أما قياس التلازم وهو القياس الإستثنائي فهو كقولنا إن كان هذا إنسانا فهو حيوان لكنه إنسان فهو حيوان لكنه ليس بحيوان فليس بإنسان وأما المقدمتان والنتيجة وهو القياس الإقتراني فكقولنا وكل جسم مؤلف وكل مؤلف محدث وكل جسم محدث فحكم النتيجة ليس حكم المقدمتين وأجاب بأن ما ذكرتموه من الاستثنائي والاقتراني لا نسميهما قياسا في اصطلاحنا وإن كان المنطقيون يسمونها قياسا وإنما لا نسميهما قياسا لأن القياس هو التسوية وهي لا تحصل إلا عند تشبيه صورة بصورة وليس الأمر كذلك في التلازم وفي المقدمتين والنتيجة فإن قلت بل هي حاصلة في هذين الموضوعين لأن(15/5)
الحكم في كل واحدة من المقدمتين معلوم وفي النتيجة مجهول فاستلزام المطلوب من هاتين المقدمتين يوجب صيرورة الحكم المطلوب مساويا للحكم في المقدمتين في الصفة المعلومة قلت لو كفى هذا الوجه في إطلاق اسم القياس لوجب أن يسمى كل(15/6)
ص -6-…دليل قياسا لأن التمسك بالنص جعل مطلوبه مساويا لذلك النص في المعلومية فلو صح ذلك لامتنع أن يقال ثبت الحكم في محل النص بالنص لا بالقياس والله أعلم قال الإمام فإن أردنا أن نذكر عبارة في تعريف القياس شاملة لجميع هذه الصورة نقول القياس قول مؤلف من أقوال إذا سلمت لزم عنها لذاتها قول آخر وقد تم شرح التعريف المذكور في الكتاب للقياس المصطلح وما أورد عليه مما أشار إليه صاحب الكتاب
ولقائل أن يقول يرد عليه أمران أحدهما قياس الشبه فإنه خارج عنه إذ لا علة فيه معينة لا سيما الشبه الصوري عند من اعتبره وثانيهما قياس لا فارق فإنه ليس فيه علة عند المجتهد وأورد الآمدي اعتراضا وقال إنه مشكل لا محيص عنه وهو أن الحكم في الفرع متفرع على القياس وليس ركنا في القياس لأن نتيجة الدليل لا تكون ركنا في الدليل لما فيه من الدور وعند ذلك فيلزم منه أخذ إثبات الحكم في الفرع في حد القياس وهو دور قال الهندي وهذا الإشكال ضعيف جدا لأن المأخوذ في حد القياس إنما هو الإثبات لا الثبوت الذي يترتب عليه ونتيجة القياس هو الثبوت لا الإثبات قلت وهذا حق والعجب من الآمدي أنه لما ذكر حد القاضي وهو قول القياس حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما من إثبات حكم أو صفة لهما أو نفيهما عنهما قال حمل الفرع على الأصل معناه التشريك في الحكم ثم اعترض بهذا الإشكال الذي فخم أمره وقال المختار في حده أن يقال أنه عبارة عن الاستواء بين الفرع والأصل في حكم الأصل بناء على جامع بينهما في نظر المجتهد قال وهذه العبارة جامعة مانعة وافية بالغرض عارية عما يعترضها من التشكيكات العارضة لغيرها ونحن نقول إن كان الاستواء هو التسوية والتسوية هي الحمل فهي موافقة لحد القاضي سواء من غير فرق وقد تم قوله فإن قوله في إثبات حكم لهما إلى آخره شرح لمعنى الحمل وكذا هو شرح لمعنى الاستواء إذ هو مستلزم لثبوت الحكم في الفرع فلم(15/7)
يخرج بذلك عن كونه جعل حكم الفرع ركنا في القياس فيرد عليه ما أورده وإن كان الاستواء غير التسوية فيرد عليه ما ذكرناه مع اختلاف التسوية والاستواء في(15/8)
ص -7-…المعنى فالعجب من اختياره لهذا الحد بعد اعتراضه على الأول بما زعم أنه لا محيص عنه وهو لازم له إن كان ما أورده صحيحا وينفرد ما قاله هو بأنه وضع الاستواء موضع التسوية وهما غيران
قال "وفيه بابان الباب الأول في بيان أنه حجة
وفيه مسائل الأولى في الدليل عليه يجب العمل به شرعا وقال القفال والبصري عقلا والقاساني1 والنهرواني2 حيث العلة منصوصة أو الفرع بالحكم أولى كتحريم الضرب على تحريم التأفيف وداود أنكر التعبد به وإحالة الشيعة والنظام"
يجوز التعبد بالقياس في الشرعيات عقلا ويجب العمل به شرعا وبه قال السلف وجمهور الخلف وزاد القفال من أصحابنا وأبو الحسين البصري فزعما أن العقل موجب لورود التقييد بالقياس ووافقهما أبو بكر الدقاق من أصحابنا كما نقله الشيخ أبو اسحاق في شرح اللمع ومن الناس من أنكر التعبد به وقد نقله في الكتاب عن داود وهو قضية نقل غيره ونقل الإمام عن داود أنه أحاله عقلا وفي كل من النقلين نظر فقد قال أبو محمد ابن حزم والآمدي أن داود يقول بالقياس إذا كانت العلة منصوصة كمذهب القاساني والنهرواني الآتي ذكره إن شاء الله تعالى قال ابن حزم وأما نحن فلا نقول بشيء من القياس وأما النظام والشيعة فأحالوه عقلا كذا نقل المصنف والنقل عن النظام ليس بجيد لأنه خصص المنع من التعبد بشرعنا خاصة قال لأن مبناها على الجمع بين المختلفات والفرق بين المتماثلات وذلك يمنع من التعبد بالقياس وأما ما ذكره المصنف بعد من أن القياس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو أبوبكر محمد بن إسحاق القاساني – بالسين المهملة – نسبة إلي "قاسان" "قم" بلدة عند إيران كما حرره ابن حجر وإن كان في بعض النسخ بالشين المعجمة كان داوديا ثم ضار شافعيا له كتاب "الرد علي داود في إبطال القياس" "الفهرست ص 324 تبصير المنتبه ص1146"(15/9)
2 هو أبو الفرج المعافي بن زكريا النهرواني كان أعلم الناس في زمانه ويعرف كل أنواع العلوم العقلية والنقلية توفي سنة 390ه "اللباب3/249"(15/10)
ص -8-…الجلي لم ينكره أحد فمدخول ولو صح لكان وجها يرد عليه هنا وأما القاشاني والنهرواني فقالا يجب العمل بالقياس في صورتين
إحداهما أن تكون العلة منصوصة قالا وذلك أما بصريح اللفظ أو بما يماثله كذا نقله عنهما القاضي في مختصر التقريب وإمام الحرمين والغزالي والإمام والآمدي وغيرهم
والثانية أن يكون الفرع أولى بالحكم من الأصل ومثل له في الكتاب بقياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف وقد سبق منه أن هذا من باب المفهوم وسيأتي النظر في أن ذلك هل هو متناف إن شاء الله تعالى وهذا إيضاح ما في الكتاب مما يتعلق بمذهب القاشاني والنهرواني وهو في النقل عنهما تابع لأصحابه وقد نقل عنهما الآمدي أنهما لم يقضيا بوقوع القياس إلا فيما كانت عليه منصوصة أو مومأ إليها فقط والذي نقله الغزالي أنهما خصصاه بموضعين
أحدهما النص والإيماء كما عرفت
والثاني الأحكام المعلقة بالأسباب كرجم ماعز لزناه والمعلق باسم مشتق كالسارق والسارقة قال الغزالي وكليهما يعنيان بهذا القسم تنقيح المناط ويعترفان به وكلام إمام الحرمين في البرهان قريب من ذلك فإنه قال المقبول عندهما من مسالك النظر في مواقع الظنون شيئان أحدهما ما دل من كلام الشارع على التعليل به ولهذا صيغ منها ربطه الحكم بالأسماء المشتقة كالزانية والزاني ومن هذا القبيل سها فسجد زنى ماعز فرجم فالفاء تقتضي ربطا وتسبيبا وذلك مشعر بالتعليل قال وربما يلحقون به الفحوى في مثل قوله تعالى {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ1} والأمر الثاني ما يكون في معنى المنصوص عليه بالمنصوص عليه كقوله عليه السلام :"لا يبولن أحدكم في الماء الراكد2" قالا لو جمع جامع بولا في وعاء وصبه في الماء الراكد كان في معنى البول في الماء انتهى وكذلك كلامه في مختصر التقريب والإرشاد للقاضي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الإسراء آية "23"(15/11)
2 أخرجه البخاري ومسلم بلفظ :"لايبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه(15/12)
ص -9-…أبي بكر وقال إن القياسين اختلفوا فذهب قوم إلى أن ما صاروا إليه ليس قولا بالقياس وإنما هو تتبع منهما للنص وقال آخرون وهو الحق هو قول ببعض القياس وقال إمام الحرمين في البرهان إن أبا هاشم قال بهذين الوجهين وزاد ثالثا وهو ما إذا طولب المكلف بشيء واعتاص1 عليه الوصول إليه يقينا فيتمسك بالإمارات المفضية إلى الظن ومثل أبو هاشم هذا بوجوب استقبال القبلة عند أشكال جهاتها انتهى وهذا من أبي هاشم يحتمل أن يكون منعا من القياس إلا في الأماكن الثلاثة ويكون حينئذ مذهبا آخر في القياس لم يتقدم له ذكر ويحتمل أن يكون منعا من العمل بالظن مطلقا إلا فيها وفي الباب مذهب آخر ذهب إليه أبو الفضل بن عبدان من أصحابنا أن من شرط صحة القياس حدوث حادثة تؤدي الضرورة إلى معرفة حكمها
"تنبيه" ذهب الأكثرون إلى أن دلالة الدليل السمعي عليه قطعية وقال بعضهم بل ظنية
قال "استدل أصحابنا بوجوه الأول أنه مجاوزة عن الأصل إلى الفرع والمجاوزة اعتبار وهو مأمور به في قوله تعالى فاعتبروا قيل المراد الألفاظ فإن القياس الشرعي لا يناسب صدر الآية قلنا المراد قدر مشترك قيل الدال على الكلي لا يدل على الجزئي قلنا بلى ولكن ههنا جواز الاستثناء دليل العموم قيل الدلالة ظنية قلنا المقصود العمل فيكفي الظن"
استدل أصحابنا على حجية القياس بوجوه أربعة:
أحداها أن القياس مجاوزة اعتبار والاعتبار مأمور به فالقياس مأمور به أما المقدمة الأولى فلأنه مجاوزة عن الأصل إلى الفرع
وأما الثانية فلأن الاعتبار مشتق من العبور وهو المجاوزة والعبور تقول عبرت عليه وعبرت النهر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في لسان العرب :فصل العين وخرف الصاد ":اعتاض علي هذا الأمر يعتاص فهو معتاص :إذا التأث عليه أمره فلم يهتد لجهة الصواب فيه(15/13)
ص -10-…وأما الثالثة فقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} أمر بماهية الاعتبار وهو أمر شامل لجميع أنواع الاعتبار ومن جملة أفراده القياس فوجب أن يكون الاعتبار مأمورا به واعترض الخصم أولا بأنا لا نسلم أن الاعتبار المجاوزة بل المراد من المأمور به الاتعاظ ودليل ذلك أن القياس الشرعي لا يناسب صدر الآية وهو قوله تعالى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ1} فإنه لا يقال بعد ذلك فقيسوا الذرة على البر إذ هو حينئذ ركيك من الكلام ولا يليق بالشرع وأجاب عنه بأن المراد بالاعتبار القدر المشترك بين الاتعاظ والقياس وهو المجاوزة إذ في كل منهما معناها بخلاف ما لو جعلناه مختصا بالاتعاظ فإنه يلزم إما الاشتراك أو المجاز على خلاف الأصل وإذا حملنا الاعتبار على مطلق المجاوزة لا تلزم الركاكة لأنها إنما تلزم أن لو خصصنا الاعتبار بالقياس الشرعي وليس كذلك ثم اعترض الخصم ثانيا بأنا سلمنا أن الاعتبار المجاوزة لكن لا يلزم منه الأمر بالقياس لأن الآية دالة على وجوب مطلق الاعتبار والدال على ما به الاشتراك غير دال على ما به الامتياز وغير ملتزم له وهو معنى قوله الدال على الكلي لا يدل على الجزئي ولا يلزم الأمر بالقياس الذي هو جزئي للكلي الذي هو مطلق الاعتبار وأجيب بأن ما ذكر صحيح ولكن هنا يقتضي العموم لوجهين
أحدهما وهو المذكور في الكتاب أنه يحسن أن يقول اعتبروا إلا الاعتبار الفلاني وقد بينا في العموم أن الاستثناء يخرج ما لولاه لدخل فوضح أن كل اعتبار داخل تحت هذه اللفظ:
الثاني أن ترتيب الحكم على المسمى يقتضي أن يكون علة ذلك الحكم هو ذلك المسمى وذلك يقتضي أن علة الأمر بالاعتبار كونه اعتبار فيلزم أن يكون كل الاعتبار مأمورا به(15/14)
ولقائل أن يقول على الأول لا نسلم جواز الاستثناء إذا فسر بالتفسير المذكور وهو ما لولاه لوجب دخوله إذ النكرة في سياق الإثبات لا تعم ثم ولو فسر الاستثناء بأنه ما لولاه لصح دخوله لم يأت ما ذكر أيضا لأنه ينتقض
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحشر آبة "2"(15/15)
ص -11-…بالأمر بكل ماهية كلية إذ يجوز فيه هذا النوع من الاستثناء نحو صل الصلاة الفلانية مع أن الأمر بالماهية الكلية ليس أمرا بجزئياتها كذا قاله صفي الدين الهندي وهو صحيح وعلى الثاني أن هذا إثبات للقياس بالقياس أو أن كون ترتيب الحكم على الوصف مشعرا بالعلية قياس فيتوقف ثبوته على ثبوت أصل القياس فلا يثبت به أصل القياس وإلا يلزم الدور فإن قلت قد قال بحجية هذا النوع من القياس بعض من أنكر أصل القياس" لكون العلة فيه معلومة بالإيماء فيصح إثباته به بالنسبة إليه قلت صحيح "لكن لا يصح إثباته بالنسبة إلى منكر أصل القياس والكلام في هذا المقام ليس إلا معه قال صفي الدين الهندي ويمكن أن يجاب عن اعتراض الخصم بوجه ثالث وهو أن الأمر بالماهية والكلية وإن لم يقتض الأمر بجزئياتها لكن يقتضي تخيير المكلف بالإتيان بكل واحد من تلك الجزئيات بدلا عن الآخر عند عدم القرينة المعينة لواحد منها أو لجميعها ثم التخيير بينها يقتضي جواز فعلى كل واحد منهما ويلزم من جواز فعلى القياس وجوبه لأن القول بجوازه مع عدم وجوبه خارق للإجماع ثم اعترض الخصم ثالثا بأنا ولو سلمنا أن الآية الدالة على الأمر بالقياس لكن التمسك بها ممتنع لأن الاستدلال بالعموم إنما يفيد الظن والتمسك بالظن في المسائل العلمية التي هي الأصول لا يجوز وأجاب المصنف بأن المقصود من حجية القياس العمل به لا مجرد اعتقاده لأصول الدين والعمليات يكفى فيها الظن فكذلك وسائلها والله أعلم ولم يجب الإمام عن هذا السؤال بل قال إنه عام في كل السمعيات فلا تعلق له بخاصية هذه المسألة وأجاب الهندي بمنع أن تكون المسألة علمية وجعلها ظنية وهذا واضح على أحد الرأيين الذي حكيناهما في أول الباب
قال "الثاني خبر معاذ وأبي موسى قيل كان ذلك قبل نزول أكملت قلنا المراد الأصول لعدم النص على جميع الفروع"(15/16)
الوجه الثاني من الوجوه الدالة على حجية القياس من السنة وتلك في قصتين قصة أبي موسى وقصة معاذ أما قصة معاذ فروى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن قال له :"كيف تقضي إذا عرض لك قضاء" قال أقضي بكتاب الله قال(15/17)
ص -12-…"فإن لم تجد في كتاب الله" قال فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"فإن لم تجد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال أجتهد رأيي ولا آلو قال فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره وقال "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي1 رسول الله" والمراد بالرأي القياس قال إمام الحرمين ولا يجوز أن يقال أراد بالرأي الاستنباط من الكتاب والسنة فإن ذلك لو كان على هذه الوجه لكان تمسكا بالكتاب والسنة وقد قال في البرهان أيضا أن الشافعي رضي الله عنه احتج ابتداء على إثبات القياس بحديث معاذ يعني هذه قال والحديث مدون في الصحاح متفق على صحته لا يتطرق إليه تأويل قلت وهذا عجيب من إمام الحرمين فقد قال إمام الصناعة أبو عبد الله البخاري لا يصح هذا الحديث وقال الترمذي ليس إسناده عندي بمتصل وأما قصة أبي موسى وقد جمع في المحصول وغيره بين القصتين وجعلهما واحدة ولا أعرف ذلك بل روى البيهقي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إليه كتابا بليغا وفيه ثم قايس الأمور وأعرف الأمثال والأشباه رواه البيهقي وقال هو كتاب معروف مشهور لا بد للقضاة من معرفته والعدل به وقد اعترض الخصم على هذا الدليل الثاني فإنه وإن دل على حجية القياس وقت تقريره عليه السلام فلا يدل على حجيته دائما في جميع الأزمنة بل ذلك قبل نزول قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ2} فإن إكمال الدين إنما يكون بالتنصيص على الأحكام فما نزلت هذه الآية استغنى عن القياس والجواب أن الأصل عدم التخصيص بوقت دون وقت وأيضا فلم يقل أحد أن القياس كان حجة إلى حين نزول هذه الآية ثم زال والمراد بقوله أكملت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه أبو داود وانرمذي "تحفة الأحوذي باب القاضي كيف يقضي 4/556- 557"وضعفه الترمذي والبخاري وابن حزم لكن الإمام الشافعي رضي الله عنه صححه واحتجة به علي صحة القياس(15/18)
أنظر :"تخريج أحاديث المنهاج للعراقي ورقة 43- ب وابن الملقن ورقة 43 – وقد روي البخاري عن أبي بردة رضي الله عنه قال:يعث رسول الله صلي الله عليه وسلم – أبا موسي ومعاذ بن جبل إلي اليمن وبعث كل واحد منهما علي مخلاف ثم قال: "يسرا ولا تعسرا ويسرا ولا تنفرا" الحديث التاج "4/441"
2 سورة المائدة 3(15/19)
ص -13-…لكم دينكم الأصول أما التفاريع فالآية مخصوصة بالنسبة إليها لعدم شمول النص الصريح لجميع الجزئيات هذا تقرير ما في الكتاب ولك أن تجيب عن هذا الاعتراض بما هو أحسن من هذا الجواب فتقول المراد من قوله أكملت لكم دينكم بيان جميع ما يحتاج إليه في الدين والآية عامة على هذا التقدير ثم للبيان قد يكون بلا واسطة كما في التخصيص وقد يكون بواسطة كما إذا بين المدارك للأحكام فلم قلتم أنه لا يحصل ذلك إلا إذا كان البيان بلا واسطة وحينئذ لا ينافي إكمال الدين العمل بالقياس بل يكون من إكمال شرعه ولا يحتاج على هذا التقرير إلى تخصيص الآية بل تكون باقية على عمومها
قال الثالث أن أبا بكر رضي الله عنه قال في الكلالة أقول برأي أبي الكلالة ما عدا الوالد والولد والرأي هو القياس إجماعا وأمر عمر أبا موسى في عهده بالقياس وقال في الجد أقضي برأيي وقال له عثمان إن اتبعت رأيك في الإجماع فسديد وقال علي اجتمع رأيي ورأي عمر في أم الولد وقاس ابن عباس الجد على ابن الابن في الحجب ولم ينكر عليهم وإلا لاشتهر قيل ذموا أيضا قلنا حيث فقد شرطه توفيقا(15/20)
الوجه الثالث مما يدل على أن القياس حجة وهو معتمد الجمهور الإجماع وتقريره أن العمل بالقياس مجتمع عليه بين الصحابة لصدوره من طوائف منهم من غير إنكار وكلما كان كذلك كان إجماعا لما تقدم في كتاب الإجماع وأما صدوره عن طوائف منهم فلما روى أن أفضل الصحابة الصديق رضي الله عنه قال حين سئل عن الكلالة أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والرأي هو القياس لأنه يقال أقلت هذا برأيك أم بالنص فدلت مقابلته للنص على أنه للاستدلال وادعى المنصف في ذلك الإجماع وكذا ادعى صفي الدين الهندي في النهاية واستدل عليه بأن أصحابنا رووا عن السلف كلاما كثيرا أنهم عملوا بالرأي وقالوا الرأي هو القياس وساعدناهم على ذلك فدل على أن الرأي هو القياس وفاقا فإن قلت هل ذلك باعتبار أصل وضعه أو باعتبار النقلي قلت ألا ظهر أنه بطريق النقل مع أن ذلك مما لا حاجة لنا إليه مع ثبوت ما ذكرناه وأمر عمر رضي(15/21)
ص -14-…الله عنه أبا موسى في عهده بالقياس حيث قال أعرف الأشباه والنظائر ثم قايس بين الأمور وقد تقدم هذا وقال عمر أيضا في الحد أقضي برأيي وقال عثمان لعمر إن اتبعت رأيك فسديد وإن تتبع رأي من قبلك يعني أبا بكر فنعم الرأي وقال علي اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد على أن لا يبعن وقد رأيت الآن بيعهن وقال ابن عباس الجد على ابن الابن في حجب الأخوة وقال ألا يتقي الله زيد بن ثابت أن يجعلوا ابن الابن ابنا ولا يجعل أب الأب أبا فثبت صدور القياس بما قلنا وبعيره من الآثار الكثيرة التي ينكرها إلا معاند وقد تواتر القدر المشترك منها قال القاضي في كتاب التقريب والإرشاد وقد صار تمسكهم بالرأي وتسويغهم التعلق بطريق الاجتهاد مدرك اختلافهم على الجملة ضرورة وإن كانت صورة الاختلاف نقلت آحادا واعترض الخصم على هذا الدليل بأنه معارض بمثله فإنه نقل عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم ذموه أيضا وأنكروه كما روي عن أبي بكر رضوان الله عليه أنه قال أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي وقوله تضلني وأي أرض تقلني معناه تحملني وعن عمر رضي الله عنه إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء الدين وعن علي رضي الله عنه لو كان الدين بالقياس لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظهره إلى غير ذلك من آثار كثيرة والجواب أن معارضة هذا الذم لما ذكرناه أيضا عنهم من العمل به إن ثبتت فالجمع بين الدليلين أولى فيحمل هذا على ما إذا كان القياس غير مستجمع لشرائط وذلك على القياس المستجمع لشرائطه توفيقا بين الدليلين وهذا ما ذكره في الكتاب وهو جواب إجمالي وقد قيل إن المعارضة غير ثابتة وأجيب بوجه تفصيلي أما نقل عن أبي بكر فإنما أراد به قوله في تفسير القرآن ونحن نسلم أنه لا مجال للرأي في ذلك لكونه مستندا إلى محض السمع عن النبي صلى الله عليه وسلم وأهل اللغة بخلاف الفروع الشرعية وأما قول عمر رضي الله عنه فإنما قصد به ذم من ترك الموجود من(15/22)
الأحاديث وعدل إلى الرأي مع أن العمل به مشروطا بعدم النصوص ولذلك سماهم بأصحاب الرأي وإلا فمن قال بالكتاب والسنة والرأي ويقال له صاحب الرأي لأنه لم يتمحض قوله بالرأي وأما قول علي رضي الله عنه لو كان الدين بالقياس إلى آخره فيجب(15/23)
ص -15-…حمله على أنه لو كان جميع الدين بالقياس ويكون المقصود منه أنه ليس كلما أتت به السنن على ما تقتضيه القياس
قال الرابع إن ظن تعليل الحكم في الأصل بعلة توجد في الفرع يوجب ظن الحكم في الفرع والنقيضان لا يمكن العمل بهما ولا الترك لهما والعمل بالرجوع ممنوع فيبقى الراجح
هذا وجه عقلي وتقريره أن المجتهد إذا ظن أن الحكم في الأصل معلل بعلة موجودة في الفرع حصل له ظن الثبوت الحكم في الفرع والظن بوجود الشيء يستلزم الوهم بعدمه لعدم انفكاك كل من الظن أو الوهم عن الآخر والعمل بهم أو الترك لهم يستلزم اجتماع النقيضين أو ارتفاعهما والعمل بالوهم المرجوح خلاف المعقول والمشروع فتعين العمل بالراجح لأنا استقرينا أمور الشرع كلها جزئية وكلية فوجدنا الراجح يجب العمل به لقوله صلى الله عليه وسلم :"نحن نحكم بالظاهر" وما أشبه ذلك وهذا معنى قولنا يتعين العمل بالراجح وليس المراد منه أن كونه راجحا صفة يقتضي الثواب على فعله والعقاب على تركه حتى يقال عليه الأحكام عندنا إنما هي من جهة الشرع دون العقل وإنما المراد بتعينه أن الشرع تقرر منه ذلك فالعقل أدرك كونه راجحا والشرع حكم بالعمل بالراجح وللعقل أهلية الإدراك بلا نزاع بين العقلاء وقد قيل إن في هذا الدليل نظرا لجواز ارتفاعها بارتفاع محل الحكم وذلك بأن لا يكون في الواقعة حكم شرعي البتة ويكون الأمر فيها محالا على البراءة الأصلية بناء على أنه لا يجب أن يكون في كل حادثة حكم شرعي
قال "احتجوا بوجوه الأولى قوله تعالى لا تقدموا وإن تقولوا ولا نقف ولا رطب إن الظن قلنا الحكم مقطوع والظن في طريقه"
ذكر من شبه الخصوم ستة أولها ما تعلقوا به من الكتاب وذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ1} والقول بالقياس تقديم بين يدي الله ورسوله إذ هو قول بغير الكتاب والسنة وأيضا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(15/24)
1 وفتتح سورة الحجرات(15/25)
ص -16-…فالقياس إنما يفيد الظن والظن منهي عنه لقوله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ1} وقوله: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ2} أي ولا تتبع ما لا تعلم فهي نهي عما ليس بعلم ومن جملته الظن وأيضا قوله تعالى: {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ3} يقتضي الاستغناء عن القياس وأيضا قوله: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً4} وأجاب في الكتاب بأن الحكم مقطوع به لا مظنون والظن وقع في طريقه كما تقرر في أول الكتاب فإن قلت هذا يشعر بأنه سلم أن الظن مذموما لكنه وقع في طريق الحكم لا فيه وعلى هذا يكون الطريق مذموما ويكون الحكم كذلك لأنه مستفاد من الطريق المذموم قلت حاصل جوابه أنه منع كون الحكم مظنونا حتى لا يستدل الخصم عليه بما استدل ولا يلزم من هذا المنع تسليم أن الظن مذموم ولا إشعار له به ولو سلمنا أنه يشعر بذلك فقال الشيرازي شارح هذا الكتاب لا نسلم أن المستفاد عن المذموم مذموم ألا ترى إلى جواز كذب المقدمتين مع صدق النتيجة مثل قولك كل إنسان حجر وكل حجر حيوان ينتج كل إنسان حيوان وهو صحيح من كذب مقدمتيه ولقائل أن يقول كل انسان حيوان في هذا المثال صورة نتيجة لا نتيجة في نفسه وصدقه لنفسه لا لكون نتيجة فلا نسلم أن هاتين المقدمتين ينتجان هذا القول الصادق واعلم أن هذا الذي أجاب به المضيف ليس شاملا للآية الأولى ولا للآية الرابعة والجواب عن الآية الأولى أنا لا نسلم أن العمل بالقياس تقديم بين يدي الله ورسوله لأنه ثبت بالكتاب والسنة كما تقدم وعن الرابعة بأنه عام مخصوص لعدم اشتمال الكتاب على جميع الجزئيات وقد أجيب عما استدل به الخصم على المنع من الظن بوجهين آخرين لم يذكرهما في الكتاب أحدهما أنه حجة عليه فإن القول ببطلان القياس ليس معلوما عندك بل مظنون ضرورة أنه لا قاطع على فساده والذاتي أنه يجب تخصيصه بالأصول دون الفروع لوجوب العمل(15/26)
بشهادة الشهود وحكم القاضي وفتوى المفتي واجتهاد المجتهد في الماء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف "33"
2 سورة الإسراء "36"
3 سورة الأنعام "59"
4 سورة النجم "28"(15/27)
ص -17-…والتراب والقبلة وقت الصلاة وهلال رمضان وقيم المتلفات وغلبة السلامة في ركوب البحر وخبر الواحد أو العموم وقول القدر في أرش الجنايات والنفقات وجزاء الصيد وصدق الحالف في مجلس الحكم كل ذلك مظنون ويرفع به النص في الأصل
قال الثاني وقوله صلى الله عليه وسلم :"تعمل هذه الأمة برهة بالكتاب وبرهة بالسنة وبرهة بالقياس فإذا فعلوا ذلك فقد ضلوا" الثالث ذم بعض الصحابة له من غير نكير قلنا معارضان بمثليهما فيجب التوفيق الرابع نقل الإمامية إنكاره عن العترة قلنا معارض بنقل الزيدية الخامس أنه يؤدي إلى الخلاف والمنازعة وقد قال تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا} قلنا الآية في الآراء والحروب لقوله عليه السلام :"اختلاف أمتي رحمة"(15/28)
الشبهة الثانية للخصوم ما روى من قوله صلى الله عليه وسلم :"تعمل هذه الأمة برهة أي قطعة من الزمان بكتاب الله ثم تعمل برهة بسنة رسول الله ثم تعمل برهة بالرأي فإذا قالوا بالرأي فقد ضلوا وأضلوا" الثالثة الإجماع فإنه قد نقل عن بعض الصحابة ذم الرأي من غير نكير فكان إجماعا والجواب عن هذين الدليلين بأنهما معارضان بمثليهما سنة وإجماعا كما سلف فيجب الجمع بين الدليلين بأن يحمل الذم على القياس الفاسد دون الصحيح كما سبق هذا ما في الكتاب والحديث المشار إليه لا تقوم به الحجة ولا يصلح معارضا لأن رواية جبارة بن المفلس وهو ضعيف حماد بن يحيى الأبح وقد قال فيه البخاري يهم في الشيء بعض الشيء قال ابن عدي وسمعت ابن حماد يقول قال السعد بن الأبح روي عن الزهري حديثا معضلا يعني هذا الحديث ورواه حماد عن الزهري كما ذكر عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعا فإن قلت سلمنا ضعف الحديث ومعارضته لما تقدم ومعارضة الإجماع أيضا وأنه يجب التوفيق بينهما ولكن لا نسلم أن التوفيق متعين بما ذكرت من الطرق بل جاز أن بعضهم كان قائلا بالقياس حين كان البعض الآخر منكرا ثم لما انقلب المنكر مقرا انقلب المقر منكرا وحينئذ يكون كل واحد منهم قائلا بالقياس ومنكرا باعتبار حالتين فلا تناقض وتكون الروايتان صحيحتين مع أنه لا(15/29)
ص -18-…يحصل الإجماع على صحته ولا على بطلانه فلا يصح لك ولا لنا الاستدلال بالإجماع قلت ما ذكرناه من التوفيق أولى لأنه يقتضي بقاء ما كان على ما كان من استمرار كل ذي قول على قوله وتوفيقكم يقتضي التعبير وأيضا فلو وقع ما ذكرتموه لاشتهر لغرابته أو كان في لفظ أحد منهم إشعار بالرجوع الرابعة نقل الإمامية من الشيعة إجماع العترة على أنه لا يجوز العمل بالقياس والجواب أن ذلك معارض بنقل الزيدية منهم حيث نقلوا إجماع العترة على أنه لا يجوز العمل بالقياس والجواب أن ذلك معارض بنقل الزيدية منهم حيث نقلوا إجماع العترة على وجوب العمل به مع أن إجماع العترة غير حجة كما سبق الخامس أن القياس يؤدي إلى الخلاف والمنازعة وكل ما كان كذلك فهو منهي عنه أما الصغرى فلأن القياس مبني على الظن وهو مختلف باختلاف القياسيين وأما بيان الكبرى فلقوله تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا1} نهى عن النزاع فاستلزم ذلك النهي عما يفضي إليه والجواب أن الآية إنما وردت في مصالح الحروب لقرينة قوله فتفشلوا وتذهب ريحكم أو أنها محمولة على النزاع فيما يتعين فيه الحق كمسائل الأصول وأما التنازع فيما عدا ذلك فجائز لما روي من قوله صلى الله عليه وسلم : "اختلاف أمتي رحمة"2 فيحمل الحديث على ما عدا ذلك واعلم أن الحديث المشار إليه غير معروف ولم أقف له على سند ولا رأيت أحدا من الحفاظ ذكره إلى البيهقي في رسالته إلى الشيخ العميد عميد الملك بسبب الأشعري وقد ساقها الحافظ ابن عساكر في التبيين إلا أن البيهقي لم يذكر له إسنادا بل قال روى النبي صلى الله عليه وسلم كذا ولو لم يكن له أصل لما ذكره البيهقي ثم قال البيهقي سمعت الإمام ناصر العمري يقول سمعت القفال المروزي يقول معناه اختلاف هممهم فبهمة واحد في الفقه وآخر في الكلام كاختلاف همم أصحاب الحروف في حرفهم بما فيه مصالح العباد قلت وهذا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنفال ىية "46"(15/30)
2 قال السيوطي كط أخرجه نصر المقدسي في الحجة والبيهقي في الرسالة الأشعرية بغير سند واورده الىحليمي والقاضي حسين وإمام الحرمين وغيرهم ولعله خرج في بعض الكتب الحفاظ التي لم تصل غلينا "الجامع الصغير 1/13 وأري أن الحديث محمول علي الإختلاف في الفروع وهذا شيء فيه وإنما يدل علي اتساع الشريعة الإسلامية وشمولها لكل ما يجد من حوادث ونوازل والله أعلم(15/31)
ص -19-…تأويل حسن وهو أحسن مما نقله إمام الحرمين في النهاية عن الحليمي من أن معناه اختلافهم في الدرجات والمراتب والمناصب وكلا التأويلين على أنه ليس المراد اختلافهم في الحلال والحرام قال والدي أيده الله القرآن دال على أن الرحمة تقتضي عدم الاختلاف قال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ1} وقال تعالى: {وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ2} وكذا السنة قال عليه السلام :"إنما هلكت بنو إسرائيل بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم3" والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة والاختلاف على ثلاثة أقسام
أحدها في الأصول وهو المشار إليه في القرآن ولا شك أنه بدعة وضلالة
والثاني في الآراء والحروب هو حرام أيضا لما فيه من تضييع المصالح
والثالث في الفروع كالاختلاف في الحل والحرمة ونحوهما قال والدي أيده الله والذي يظهر لنا ويكاد أن يقطع به أن الاتفاق فيه خير من الاختلاف لكن هل نقلوا الاختلاف ضلال كالقسمين المذكورين ولا كلام ابن حزم ومن سلك مسلكه ممن منع التقليد يقتضي أنه مثلهما وأما نحن فإنه يجوز التقليد للجاهل والأخذ بالرخصة من أقوال العلماء بعض الأوقات عند مسيس الحاجة من غير تتبع الرخص ومن هذا الوجه يصح أن يقال الاختلاف رحمة إذ الرخص رحمة
قال السادس الشارع فصل بين الأزمنة والأمكنة في الشرف والصلوات في القصر وجمع بين الماء والتراب في التطهير وأوجب التعفف على الحرة الشوهاء دون الأمة الحسناء وقطع السارق القليل دون غاصب الكثير وجلد في الزنا وشرط فيه شهادة أربعة دون الكفر وذلك ينافي القياس قلنا القياس حيث عرف المعنى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة هود "118- 119"
2 سورة ابقرة "253"
3 حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم وأحمد بن حنبل والنسائي وابن ماجة "صحيح الجامع الصغير للالباني "3/156"(15/32)
ص -20-…الوجه السادس وعليه اعتمد النظام أن مدار شرعنا على الجمع بين المختلفات الإسراء وليلة الجمعة ويومها وشهر رمضان والأشهر الحرم ويومي العيدين ويوم عرفة وكذلك بين الأمكنة كمكة والمدينة والمسجد الأقصى مع الاستواء في الحقيقة وفرق بين الصلوات في القصر فرخص في قصر الرباعيات دون الثنائية والثلاثية وجمع بين الماء والتراب في استباحة الصلاة بهما مع أن الماء ينظف والتراب بضده وجعل الحرة الشوهاء تحصن ويحرم النظر إليها دون الجارية الحسناء وعبارة المصنف أوجب التعفف على الحرة الشوهاء فيحتمل أن يريد ما ذكرناه وأن يريد أنه أوجب عليها الستر دون الأمة الحسناء التي يميل الطبع إليها وقطع السارق القليل ما لم ينقص عن ربع دينار دون غاصب الكثير مع أن غاصب الكثير أبلغ في الفحش لأنه يأخذ المال جهرا على تغلب والسارق يأخذه سرا على تخوف وأعظم في الأذى لكثرته وجلد في القذف بالزنا بخلاف القذف بالكفر مع كونه أبلغ وشرط فيه شهادة أربعة وأكتفي في الشهادة على القتيل والكفر باثنين وإذا ثبت هذا وجب أن لا يصح القياس لأن مبناه على أن الصورتين لما اشتركا في الحكمة وجب اشتراكهما في الحكم وهو باطل والجواب أن القياس إنما يجوز حيث عرف أن الحكم في الأصل معلل بعلة معلومة موجودة في الفرع وامتناع القياس في صور معدودة لا يقتضي امتناعه من أصله وأعلم أن ما ذكره النظام من أن الشريعة مبنية على الجمع بين المختلفات والفرق بين المتماثلات كذب وافتراء وإنما حمله على ذلك زندقته وقصده الطعن في الشريعة المطهرة وقد كان زندقيا يبطن الكفر ويظهر الاعتزال صنف كتابا في ترجيح التثليث على التوحيد لعنه الله وقد نبهنا على ذلك في أول كتاب الإجماع وما ذكره من الصور وكذلك ما يناسبها لها معان والفرق بين المتماثلات فإنه فرق بين الأزمنة في الشرف كليلة القدر وليلة يعلمها الشارع لا إطلاع لنا عليها وحكم خفية لا ندركها على أن الصور المذكورة قد ذكرت(15/33)
معانيها(15/34)
ص -21-…قال الثانية قال النظام والبصري وبعض الفقهاء التنصيص على العلة أمر بالقياس
وفرق أبو عبيد الله بين الفعل والترك.
النص على علة الحكم هل يفيد الأمر بالقياس فيه مذاهب.
إحداها وإليه ذهب المحققون كالأستاذ والغزالي والإمام وأتباعه ومنهم المصنف وجماعة من أهل الظاهر وجماعة من المعتزلة واختاره الآمدي ومن تبعه أنه لا يفيد الأمر بالقياس سواء كان في الفعل مثل أكرم زيدا لعلمه أم الترك مثل الخمر حرام لإسكارها
والثاني أنه يفيده وبه قال أحمد بن حنبل والرازي أي أبو بكر والكرخي والقاشاني والنهرواني وأبو إسحاق الشيرازي وأبو الحسين البصري ونقله الأكثرون عن النظام
والثالث قاله أبو عبد الله البصري إن كانت العلة علة للتحريم وترك الفعل كان التنصيص عليها كافيا في ترك الفعل بها أين وجدت وإن كان علة لوجوب الفعل أو ندبيته لم يكن ذلك كافيا في إيجابه ولا ندبيته ما لم يرد التعبد بالقياس من خارج(15/35)
"تنبيه" قد عرفت نقل الأكثرين عن النظام ومنهم صاحب الكتاب وكلام الغزالي في النقل عنه صريح في أنه يرى تعميم الحكم في جميع موارد العلة بطريق اللفظ والعموم وبه صرح الآمدي في أثناء المسألة وهو مناف لنقل الأكثر فإن التعميم بالقياس لا يجامع التعميم باللفظ فحينئذ لا يكون أمرا بالقياس عنده وإن ثبت الحكم عنده في غير الصورة المنصوص عليها فإن قلت الجامع بين إنكار النظام التعبد بالقياس وبين مقالته التي نقلتموها عنه هنا قلت أما على ما نقله الغزالي فواضح لأنه جعله من باب العموم وقال الغزالي قد ظن النظام أنه منكر للقياس وقد زاد علينا إذ قاس حيث لا نقيس لكنه أنكر اسم القياس وأما على ما نقله الأكثرون فإنه هنا يقول إذا وقع التنصيص على العلة كان مدلول اللفظ الأمر بالقياس ولم يتعرض لوقوعه من الشارع أو غيره بل لمدلوله لغة وهناك أحال وروده من الشارع فعنده حينئذ أن الشارع لا يقع منه التنصيص على العلة من حيث هو مدلوله ما ذكرناه فأفهم هذا فإن بعض الشراح ظن مناقضته في مقالته وذلك سوء فهم فإن الكلام في مدلول اللفظ إن ورد غير الكلام في أنه هل يرد(15/36)
ص -22-…قال "لنا أنه لو قال حرمت الخمر لإسكارها يحتمل علة الإسكار مطلقا وعلة إسكارها قيل الأغلب عدم التقيد قلنا فالتنصيص وحده لا يفيد قيل لو قال علة الحرمة الإسكار لا يدفع الاحتمال قلنا أثبت الحكم في كل الصور بالنص"
استدل صاحب الكتاب على المذهب المختار بأن قوله حرمت الخمر لكونها مسكرة محتمل لأن تكون العلة مطلق الإسكار ولأن تكون العلة إسكارها وهذا لأن الله تعالى أن يجعل إسكار الخمر بخصوصه هو العلة لما يعلم فيه من المفسدة الخاصة التي لا وجود لها في غيره وإذا احتمل واحتمل لم يجز التعبد به إلا بأمر مستأنف بالقياس وإذا وضح هذا في جانب الترك ثبت في الفعل بطريق أولى فإن قلت يقتضي ما قررتم بعينه امتناع القياس عند النص على العلة مع ورود الأمر به أيضا قلت لعل ورود الأمر بالقياس عند النص على علة حكم قرينة تقضي بترجيح أحد الاحتمالين وهو مطلق الإسكار في المثال الذي ذكرناه واعترض الخصم من وجهين
أحدهما أن الأغلب على الظن عدم كون خصوص المحل قيدا في العلة وإلا لما صح قياس أصلا ويحتمل أن الأغلب في العلل التعدية والجواب أنه حينئذ لا يكون النص على العلة وحده هو المفيد الأمر بالقياس بل التنصيص مع كون الأغلب عدم التقييد والنزاع إنما هو في أن التنصيص وحده هل هو كاف
وثانيهما أنه لو قال الشارع علة الحكم الإسكار لاندفع الاحتمال وثبت الحكم في كل الصور التي يوجد فيها الإسكار وأجاب بأن الحرمة حينئذ تثبت في كل الصور لا بالقياس بل بالنص أي بطريق الاستدلال من النص حيث أنه جعل مطلق الإسكار علة تحريم الخمر وهو حاصل في كل مسكر فيلزم ثبوت الحرمة في كل مسكر وعبارة التحصيل لو قال ذلك لم يكن قياسا إذا العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول أي من غير أن يتأخر العلم ببعض الأفراد عن العلم بالآخر فلم يتميز الأصل عن الفرع حتى يقاس أحدهما على الآخر وهذه العبارة نحو عبارة الإمام وعبارة صاحب الكتاب قريبة منهما إلا(15/37)
ص -23-…أنه لم يقل علة حرمة الخمر بل علة الحرمة وهو واحد فإن المقصود حرمة الخمر إذ ليس الإسكار علة لكل حرمة وهذا واضح ولم يصرح الإمام وسراج الدين بأن ذلك بالنص ولكن بطريق العلم بالعلة وهو الاستدلال بالنص وإياه أراد المصنف رحمه الله وعبارة الآمدي نحو عبارة المصنف فإنه قال يكون التحريم ثابتا في كل الصور بجهة العموم ولقائل أن يقول لا نسلم أن ذلك ليس بقياس وقولكم لم يتميز الأصل عن الفرع مندفع فإنه إذا قال علة حرمة الخمر الإسكار فالحرمة في الخمر أصل وحصل العلم بها حال ورود النص ثم بعد ذلك يحصل العلم بحرمة كل مسكر وكل ما كان غير الخمر يكون فرعا والعلم بحرمته متأخر عن العلم بحرمة الخمر وربما لا يعلم كون الشيء مسكرا إلا بعد حين فلا يعلم حرمته فإذا جرت ووجد مسكرا علم تحريمه فكيف لا يكون العلم به متأخرا فإن قلت نحن ندعي عدم تأخر العلم بحرمة كل مسكر حكما كليا لا العلم بواحد واحد من الجزئيات المندرجة فإنها داخلة في الحكم المعلوم فالعلم بحرمة الجزئيات المخصوصة لا يستفاد من الأصل الذي هو الخمر بل من المقدمة الكلية التي هي العلم بتحريم كل مسكر والعلم بهذه المقدمة لا يتأخر قلت لا نسلم أن العلم بها غير متأخر لأنا نعلم أولا حرمة الخمر ثم كون الإسكار علة بتنصيص الشارع ثم نحكم بتحريم كل مسكر حكما مترتبا على هذا العلم بالعلية والحكم في كل قياس كذلك فإن المجتهد يعلم حكم الأصل ثم يستنبط العلة ثم يحكم بمقدمة كلية شاملة لجميع صور تلك العلة هذا شرح ما في الكتاب وأما الدليل على أن التنصيص على العلة لا يفيد الحكم في جميع الصور باللفظ خلاف ما نقله الغزالي والآمدي عن النظام فإنا نعلم بالضرورة من اللغة أن قوله حرمت الخمر لإسكارها لا يدل على تحريم كل مسكر لدلالة قوله حرمت كل مسكر وأنه غير موضوع لذلك بل هو موضوع لتحريم الخمر لعلة إسكاره وحرمة ما عدا الخمر من المسكرات ليس جزءا من المفهوم ضرورة فيجب أن لا(15/38)
يكون دلالته على تحريم كل مسكر لفظية لأن الدلالة منحصرة في هذين النوعين عند قوم وفي دلالة المطابقة عند آخرين ولهذا لو قال الرجل أعتقت غانما لسواده لم يعتق من عداه من عبيده السود ولو قام ذلك مقام عتقت عبيدي السود لعتقوا عليه من(15/39)
ص -24-…غير اعتبار نية ولا علم بمقصد وكذا لو قال لوكيله بع سالما لسوء خلقه واحتج أبو عبد الله على مذهبه بأن من ترك أكل رمانة حامضة لحموضتها وجب عليه أن يترك أكل كل رمانة حامضة بخلاف من أكلها لحموضتها وأجيب بأنا لا نسلم أنه يجب عليه ترك الكل وذلك لاحتمال أن يكون الداعي لا مطلق حموضة الرمانة بل حموضة هذه الرمانة الخاصة سلمناه ولكن لا فرق في ذلك بين الفعل والترك وإنما لم يجب أكل رمانة حامضة على من أكل رمانة حامضة لأنه لم يأكلها لمجرد حموضتها بل لحموضتها مع قيام الاشتهاء الصادق بها وخلاء المعدة عن الرمان وعلمه أو ظنه بعدم تضرره بها وهذه القيود غير موجودة في أكل الرمانة الثانية وهذا ما ذكره الإمام ولقائل أن يقول التفرقة بين الفعل والترك ثابتة فإن جانب النهي يدل على كون المشترك مفسدة مطلوبة العدم ولا يحصل هذا الغرض إلا بالامتناع عن كل الأفراد وأما في طرف الفعل فالغرض متعلق بالمصلحة المشتركة بين الأفراد وذلك يحصل بأي فرد كان كذا ذكره النقشواني وهو حسن وهو وجه التفرقة بين اقتضاء النهي التكرار دون الأمر كما قررناه في موضعه قال وقول الإمام مع الاشتهاء الصادق وخلا المعدة عين الفرق
قال "الثالثة القياس أما قطعي أو ظني"(15/40)
هذه المسألة تشتمل على بحثين الأول أن القياس ينقسم إلى قطعي وظني الأول القطعي وهو الذي يتوقف على العلم بعلة الحكم في الأصل ثم العلم بحصول مثل تلك العلة في الفرع فإذا علمها المجتهد تيقن إلحاق ذلك الفرع بالأصل في حكمه ومساواته له وهذا القياس قطعي كما قال المصنف وإليه أشار الإمام في المحصول بقوله قد يكون ظاهرا جليا ثم صرح من بعد في أثناء المسألة بأنه يقيني وأما حكمه فقد يكون قطعيا وقد يكون ظنيا ومثال ذلك من لظى قياس التأفيف على الضرب لأنا نعلم أن العلة الأذى ويعلم وجودها في الضرب مع أن ثبوت الحكم في التأفيف ظني لأنه مستعاد من دلالة اللفظ وقد قرر الإمام أن الإنصاف أنه لا سبيل إلى استفادة اليقين منها لتوقفها على الاحتمالات العشرة وهيهات أن توجد ذلك والثاني ظني كما(15/41)
ص -25-…إذا كانت إحدى المقدمتين أو كلتاهما مظنونة كقياس التفاح على البر في الربا فإن الحكم بأن الطعم هو العلة ليس قطعيا لاحتمال أن يكون الكيل أو القوت
قال "فيكون الفرع بالحكم أولى التحريم الضرب على تحريم التأفيف أو مساويا كقياس الأمة على العبد في السراية أو أدون كقياس البطيخ على البر في الربا"
البحث الثاني في حكم الأصل فثبوت حكم الأصل أما أن يكون يقينا قال الإمام فيستحيل أن يكون الحكم في الفرع أقوى منه لأنه ليس فوق اليقين درجة واعترض عليه النقشواني بأن اليقين قابل للاستبداد والضعف وهذا الاعتراض بناء على أن العلوم تتفاوت وإن لم يكن يقينيا فثبوت الحكم في الفرع قد يكون أقوى من ثبوته في الأصل وذلك في النفي كقياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف الذي هو الأصل وفي الإثبات كقوله: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ1} فهذا يفيد تأدية ما دون القنطار بطريق أولى وقد يكون مساويا كقياس الأمة على العبد في السراية في قوله صلى الله عليه وسلم : "من أعتق شركا له في عبد قوم عليه نصيب شريكه2" إذ لا تفاوت بين الأصل والفرع في هذا الحكم وهذا هو المسمى بالقياس في معنى الأصل وقد يكون أدون قال الإمام وذلك كجميع الأقيسة التي يتمسك بها الفقهاء في مباحثهم قال وأما مراتب التفاوت فهي بحسب مراتب الظنون فلا ينحصر ومثل المصنف لهذا القسم بإلحاق البطيخ بالبر في الربا بجامع الطعم مع احتمال كون العلة الكيل أو القوت هذا تقرير ما ذكره الإمام وهو الذي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة ىل عمران آية "57"(15/42)
2 رواه الجماعة والدار قطني بلفظ : "من أعتق شركا في عبد وكان له مال يبلغ ثمن قوم العبد عليه قيمة عدل فأعطي شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد وإلا فقد عتق عليه ما عليه" وفي رواية للبخاري : "من أعتق شركا له في مملوك وجب عليه أن يعتق كله إن كان له مال قدر ثمنه يقام قيمة عدل ويعطي شركاءه حصصهم ويخلي سبيل المعتق" "نيل الأوطار6/207" ط بيروت(15/43)
ص -26-…أورده المصنف وسائر أتباع الإمام وقد علمت به سداد كلام الإمام وأتباعه وخطأ من اعتقد تناقض كلامه حيث جعل في البحث الأول قياس الضرب على التأفيف مقدماته قطعية وجعله هنا ظنيا كالنقشواني وغيره وسبب الخطأ أن القياس إنما يكون قطعيا إذا كان الحكم في الأصل كذلك وهذا ليس بشيء فقد تقطع بمساواة الشيء للشيء في حكمه المظنون كما عرفت في البحث الأول ولك أن تنظر ذلك بإجماعهم على إلحاق الخالة بالخال في الإرث مع اختلافهم فيه وإذا وضح هذا فإن قلت تقسيم القياس إلى أدون أن أردتم به أن يكون ما في العلة الموجودة في الفرع من المصلحة دون ما في الأصل فلا نسلم حينئذ جواز القياس لأن شرطه وجود العلة بكمالها في الفرع وإن أردتم شيئا آخر فعليكم بيانه قلت أردنا شيئا آخر وهو عدم القطع بأن ما ظن عليته علة كالطعم فإن القائل بعليته في الربويات ليس قاطعا بمقالته لاحتمال أن تكون العلة الكيل أو القوت فإذ جئنا إلى قياس التفاح على البر قلنا هو مساواته في الطعم وثبوت الحكم فيه أدون من ثبوته في البر لأن البر مكيل مقتات مطعوم فهو ربوي على كل الاحتمالات والتفاح ربوي على احتمال واحد وهو كون العلة الطعم والثابت على كل الاحتمالات أقوى من الثابت على احتمال واحد
قال "قيل تحريم التأفيف يدل على تحريم أنواع الأذى عرفا ويكذبه قول الملك للجلاد اقتله ولا تستخف به قيل لو ثبت قياسا لما قال به منكره قلنا القطعي لم ينكر قبل نفي الأدنى يدل على نفي الأعلى كقولهم فلان لا يملك الحبة ولا النقير ولا القطمير قلنا أما الأول فلأن نفي الجزء يستلزم نفي الكل وأما الثاني فلأن النقل فيه ضرورة ولا ضرورة ههنا"(15/44)
تقدم على الشرح ما ينبغي تقديمه ثم نلتفت إليه فنقول اتفق الأصوليون على أنه لا مستند لثبوت الحكم في القسم الثالث وهو القياس الأدون إلا القياس وأما القسم الثاني وهو قياس المساواة فذهب أكثرهم إلى أنه ثابت بالقياس أيضا وذهب الحنفية إلى أنه غير ثابت به بل الاستدلال أي هو استدلال على تحرير مناط للحكم وحذف الحشو منه على درجة الإعداد ولهذا(15/45)
ص -27-…أوجبوه على من أفطر في رمضان في الأكل والشرب والكفارة اعتبار بالمجامع فيه لكن لا لطريق القياس عليه إذا القياس لا يجري عندهم في الكفارات ولكن لطريق الاستدلال
"وأما القسم الثالث" وهو قياس الأولى وفيه كلام المنصف وفيه مذهبان أحدهما
أنه ثابت فيه بالدلالات اللفظية ثم اختلف القائلون بذلك على مذهبين أحدهما أنه من باب المنطوق وهو المشار إليه يقول صاحب الكتاب قيل تحريم التأفيف إلى آخره والثاني أنه من باب المفهوم الموافقة واختاره المصنف في الفصل التاسع من الكتاب الأول وكذلك الإمام(15/46)
وثانيهما أنه ثابت فيه بالقياس القطعي واختاره المصنف هنا تبعا للإمام وقد نقل إمام الحرمين في البرهان القول بأنه من باب المفهوم عند معظم الأصوليين وعبارته صار معظم الأصوليين أن هذا ليس معدودا من أقسام الأقيسة بلى هو متلقى من مضمون اللفظ المستفاد من تنبيه اللفظ وفحواه كالمستفاد من صيغته ومعناه ومن يسمي ذلك قياسيا فمتعلقه أنه ليس مصرحا به والأمر في ذلك قريب انتهى وإنما نقلنا هذه العبارة بنصها لوقوع غلط بعض الشارحين في النقل عين البرهان وكلام الغزالي نحو من كلام البرهان لكن استبعد تسمية قياسا قال لأنه لا يحتاج إلى فكر واستنباط علة وصرح بأنه مقطوع عند من سماه قياسا ومن لم يسمه وقد حكى بعض الشراح قولا رابعا أنه ثابت بالقياس الظني وهذا وهم سببه ما تقدم فإن قلت هل من تناف بين ثبوته بالمفهوم وثبوته بالقياس ولم لا يكون إلحاق الضرب بالتأفيف ثابتا بهما جميعا قلت قد يظن ظان عدم تنافيهما لكون المفهوم مسكوتا عنه والقياس إلحاق مسكوت عنه بمنطوق وهذا ما زعم صفي الدين الهندي أنه حق وقال الدلالة اللفظية إذا لم يرد بها المطابقة ولا التضمن وينافي القياس وقد يقول قائل هما متنافيان معتضدا بأن المفهوم ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق والمقيس ما لا يدل عليه اللفظ البتة وما قاله الهندي ممنوع غير أن هذا إن كان قياسا فهو من الأقيسة الظاهرة التي تحتاج إلى فكر واستنباط ولكونه كذلك ظن الخصم خروجه عن أبواب والقياس ألحقه بالمفاهيم وهو لعمري(15/47)
ص -28-…مصيب ولكن مستند المصنف وأمامه من جعله قياسا ما فيه من الأصل والفرع والعلة الجامعة1 جئنا إلى كلام المصنف فنقول احتج القائل بأن تحريم لا لذ التأفيف يدل لفظا على تحريم أنواع الأذى بثلاثة أوجه أحدها أن ولا تقل لها أف وأن كان موضوعا في اللغة للمنع من التكلم بلفظ أف ولكن نقل عرف إلى المنع من أنواع الأذى لتبادر الفهم إليه فيدل بالعرف على تحريم أنواع الأذى ويكذب ذلك قوله الملك للجلاد حيث أمره بقتل عدوه اقتله ولا تستخف به ولو دل نفي الأدنى على نفي الأعلى عرفا للزم من قوله ولا تستخف به النهي عن قتله وذلك مناقض لصريح قوله ولقائل أن يقول إن كان بقتله من ذي الأنفة والأنفس الأبية فالاستخفاف عنده أشد وقعا من القتل وكذلك قتل كثير من الملوك أنفسهم حيث أيقنوا بالأسر في يد العدو مخافة الاستخفاف فهو حينئذ ناه عن الأعلى آمر بالأدنى سلمنا ذلك النهي عن الاستخفاف إنما يدل على النهي عن القتل عرفا إذا لم يتقدم ما يناقضه كما في محل النزاع وهو صورة التأفيف وجاز أن يتقدم التصريح بخلاف الظاهر فقد وضح بطلان هذا الجواب وأجيب أيضا بأن النقل خلاف الأصل وضعفه النقشواني معتلا بأنه إذا ثبت كثرة الاستعمال والتبادر إلى الفهم فلا يفيد التمسك بهذا الأصل الوجه الثاني أن لو كان مستفادا من القياس لما وافق عليه منكر القياس وأجاب بأن هذا قياس جلي ومن أنكر القياس إنما أنكر الخفي وهو جواب ضعيف فإن بعضهم أنكر القياس مطلقا جليا كان أم خفيا كما تقدم أول الباب بل الجواب الصحيح أن يقال إنما قال به منكر القياس لكونه عنده مفهوم موافقة لا لكونه قياسا الثالث أن نفي الأدنى يدل على نفي الأعلى كقولهم فلان لا يملك الحبة فإنه يدل على أنه لا يملك أكثر منها وكذا قولهم لا يملك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(15/48)
1 إطلاق القياس علي مفهوم الموافقة يبطل اشتراطهم عدم كون دليل حكم الأصلي شاملا لحكم الفرع في القياس لأن دليل حكم المنصوص عليه شامل لحكم مفهوم الموافقة فيكون هذا الشرط مخرجا له وقد فرض أنه منه بيطل إطباقهم علي تقسيم دلالة اللفظ إلي منطوق ومفهوم لأن القياس ليس من دلالة اللفظ والتحقيق أن الخلاف لفظي لأن مراد الشافعية تعدية الحكم إلي الفرع باعتبار وصف مناسب وإن كان ذالك الوصف المناسب في المفهوم شرطة لتناوله لغة لا أن يثبت به الحكم حتي يكون قياسا شرعيا هامش الطبعة الأولي ص 20(15/49)
ص -29-…النقير والقطمير يدل على أنه لا يملك شيئا البتة من غير نظر إلى القياس فكذا نفي التأفيف وأجاب بأن دلالة ذلك في كل المثالين إنما هو لأمر خارجي أما الأول فلأن الحبة جزء للأعلى ونفي الجزء يستلزم نفي الكل ولك أن تقول إن كانت الحبة إسما للواحد مما يزرع فليست جزءا لكل ما هو أعلى منها وأما الثاني فإنا نعلم ضرورة أن ليس المراد نفي النقير والقطمير بل نفي ما له قيمته فدعوى النقل فيهما ضرورية وأما فيما نحن فيه فلا ضرورة بنا إلى ذلك لجواز الحمل على المعنى اللغوي ولك أن تقول ما بك ضرورة إلى النقل مع جواز أن يكون نفي ما عدا النقير والقطمير من فحوى الخطاب
"تنبيه" النقير النقرة التي على ظهر النواة القطمير ما في النواة كذا قاله في المحصول والمعروف وهو الذي في الصحاح أن القشرة الرقيقة هي القطمير وما في شق النواة الفتيل ا ه
قال "الرابعة القياس يجري في الشرعيات حتى الحدود والكفارات"
هذه المسألة معقود لبيان ما يجري فيه القياس وما لا يجري وفيها أبحاث(15/50)
"الأول" أنه يجري في الشرعيات بمعنى أنه موجود فيها ويصح ذلك بوجوده في بعضها وتكون الألف واللام في قول المصنف الشرعيات للجنس دون العموم قال الغزالي فكل حكم شرعي أمكن تعليله فالقياس جار فيه وليس المراد أنه يجوز إثبات جميع الشرعيات به فإن ذلك ممتنع خلافا لبعض الشاذين لنا أن القياس لا يتحقق إلا بعد ثبوت الحكم في الأصل فحكم الأصل إن كان بغير القياس صح المدعى وهو أنها لم تثبت كلها بالقياس وإن كان بالقياس فالكلام فيه كالأول ويلزم إما الدور أو التسلسل وإن ثبت من الأحكام ما لا يعقل معناه كضرب الدية على العاقلة والقياس فرع تعقل المعنى قالوا الأحكام متماثلة لدخولها تحت الحكم الشرعي فيجب تساويها فيما جاز على بعضها من القياس قلنا قد يمتنع أو يجوز في بعض أفراد النوع أمر لأجل أمر اختص بذلك البعض ويكون المشترك بين جميع الأفراد بخلاف ذلك البعض في امتناع ذلك الأمر وجوازه(15/51)
ص -30-…"فرع" قال الجبائي والكرخي ومن تبعهما لا يجوز إثبات أصول العبادات بالقياس وبنوا عليه أنه لا يجوز الصلاة بإيماء الحاجب بالقياس والحق خلافه
"البحث الثاني" أنه يجري في الحدود والكفارات والرخص والتقديرات خلافا لأبي حنيفة لنا أن أدلة القياس دالة على جريانه في الأحكام الشرعية مطلقا من غير فصل بين باب وباب ويخص المسألة ما روى الصحابة اجتهدوا في حد شارب الخمر فقال علي أراه ثمانين لأنه إذا شرب سكر وإذا هذى افترى وحد المفتري ثمانون وهذا قياس في الحدود ثم لم ينكر عليه فكان إجماعا فإن قلت إن أردتم أن أدلة القياس تدل على جريانه في الأحكام الشرعية مطلقا سواء أوجدت الأركان والشرائط أم لم توجد فهو ممنوع ظاهر الفساد وإن قلتم إن دلالتها عليه إنما هي عند حصول الشرائط فسلم لكن لا نسلم إمكان حصولها فيما نحن فيه سلمناه لكن لا نسلم حصولها فيما نحن فيه لأن الحدود والكفارات والتقدير أمور مقدرة لا يهتدي العقل إلى تعقل المعنى الموجب لتقديرها فلا نعقل فيها العلة والقياس فرع تعقل العلة وأما الرخص فهي منح من الله تعالى فلا يتعدى بها عن مواردها والجواب أنا نريد جريان القياس فيها عند حصول الأركان والشرائط قوله لا نسلم إمكان حصولها فيما نحن فيه قلنا الدليل عليه أن صريح العقل حاكم بأنه لا امتناع في أن شرع الشارع الحد أو الكفارة في صورة لأمر مناسب ثم إنه يوجد ذلك المناسب في صورة أخرى فليس وضع الحد والكفارة منافيا لهذا المعنى حتى يمتنع لأجله قوله سلمنا الإمكان لكن لا نسلم حصوله قلنا حينئذ ارتفع النزاع الأصولي ويكون الامتناع إنما هو بعدم حصول الشرائط والأركان ونحن لا نجوز القياس في شيء بدون حصول شرائطه وأركانه فأما ادعاؤكم بعد ذلك عدم حصوله فيها فذلك إنما يثبت بعد البحث والاستقراء عن كل واحدة من مسائلها فإن وجدت العلة صح القياس فيها وإلا فلا كغيرها من المسائل فلا فرق حينئذ بين مسائل هذا الباب وغيره من(15/52)
هذا الوجه فيجب التسوية في جريان القياس قوله الرخص منح من الله تعالى قلنا قال إمام الحرمين هذا هذيان فإن كلما تتقلب فيه العباد من المنافع فهي(15/53)
ص -31-…منح من الله تعالى عز وجل ولا يختص هذا بالرخص بل يعمم الشرائع بأسرها فكان ينبغي أن لا يجري القياس في شيء من أحكامها وأعلم أن الشافعي رضي الله عنه ذكر مناقضتهم في هذا الباب فقال أما الحدود فقد كثرت أقيستهم فيها حتى عدوها إلى الاستحسان فأوجبوا الرجم بشهود الزوايا بالاستحسان مع مخالفته للعقل وأما الكفارات فقاسوا الإفطار بالأكل على الإفطار بالوقاع
وقتل الصيد ناسيا على قتله عامدا فإن قالوا إنما أثبتنا بالاستدلال على موضع الحكم بحذف الفوارق قلنا فالاستدلال قياس إذ يجب فيه أن يقال حكم الأصل إما غير معلل أو معلل بالفارق أو المشترك والأولان باطلان وهذا هو القياس واستخراج العلة بالتقسيم وأما المقدرات فهو كتقدير النصب والزكاة والمواقيت في الصلاة فقد قاسوا فيها أيضا كما في تقديراتهم في الدلو والبئر حيث قالوا إذا ماتت الدجاجة في البئر تنزح كذا وفي الفأرة كذا وليس هذا التقدير عن نص ولا إجماع ولا أثر فيكون عن قياس ولو صح في البعض منها أثر كما يزعمه القوم فلا شك في أن ذلك لم يصح في جميع مسائلها فيكون القول بذلك في البعض الآخر قياسا وأما الرخص فبالغوا في القياس بأن الاقتصار على الأحجار في الاستنجاء من أظهر الرخص ثم حكموا بذلك في كل النجاسات وانتهوا فيها إلى إيجاب استعمال الأحجار وقاسوا العاصي بسفره على المطيع مع أن القياس ينفي ترخصه إذ الرخصة إعانة والمعصية غير مناسبة لها
قال "وفي العقليات عند أكثر المتكلمين"
البحث الثالث القياس في العقليات وقد ذهب إلى صحته أكثر المتكلمين وأنكره طائفة ومنه نوع يسمى إلحاق الغائب بالشاهد وبناء الغائب على الشاهد وما يجري مجراهما واتفق القائلون به على أنه لا بد فيه جامع عقلي وإلا لكان الجمع تحكما محضا ثم حصروا الجامع في العلة والحقيقة والشرط والدليل(15/54)
ص -32-…فالأول كقول أصحابنا كون الشيء يصح أن يكون مرئيا في الشاهد معللا بالوجود فكذا في الغائب ومثل إمام الحرمين والإمام له بقول أصحابنا إذا كانت العالمية شاهدا فيمن له العلم معللة بالعلم كانت في الغائب كذلك وهو غير مطابق لأن هذا جمع بالمعلول لا بالعلة فإنه جمع فيه بين الشاهد والغائب بالكون عالما وهو معلول العلم لا علته
والثاني كقولهم حقيقة العالم في الشاهد من له العلم فكذا في الغائب
والثالث كقول المعتزلة شرط صحة كون الشيء مرئيا في الشاهد أن يكون مقابلا أو في حكم المقابل فكذا في الغائب وفيه نظر لأن هذا جمع بالمشروط لا بالشرط فإن كونه عالما وهو الذي وقع به الجمع مشروط لا شرط والرابع مثل الإتقان والتخصيص يدلان على العلم والإرادة في الشاهد فكذا في الغائب وادعى إمام الحرمين أنه باطل لأن الجمع بالعلة والحقيقة أقوى من الآخرين وهما باطلان لأن الجمع بهما مبني على القول بالحال فإن القائل به يقول كل صفة قامت بمحل فإنها توجب له حالا والحال صفة لموجود لا توصف بوجود ولا عدم فيجعلون الصفة القائمة بالمحل علة للحال والقول بالحال باطل عند جماهير أصحابنا والمعتزلة ووافقنا على بطلانه إمام الحرمين أخيرا وبسط ذلك في كتاب الكلام ثم المحققون على أن هذا القياس ظني قال الإمام الجمع بالعلة أقوى وهو غير مفيد للقطع لأن إفادته للقطع تتوقف على حصول القطع بأن علة الحكم في الأصل موجودة بتمامها في الفرع وهو صعب فإن الموجود في الفرع مع الموجود في الأصل لا بد وأن تغايرا بالتعين والهوية وإلا فهذا عين ذاك وذاك عين هذا فيكون كل واحد منهما عين الآخر فالاثنان واحد هذا خلف وإذا حصل التغاير بالتعين والهوية فلعل ذلك التعين في أحد الجانبين جزء العلة أو شرط العلة وفي الجانب الآخر يكون مانعا من العلية ومع هذا الاحتمال لا يحصل القطع نعم لو دل على أن ما به الامتياز لا مدخل له في اقتضاء العلة للحكم حصل القطع بثبوت الحكم(15/55)
لكن لا يكاد يوجد ذلك إلا في العقليات الحقيقية التي لا(15/56)
ص -33-…نختلف باختلاف تفسير اللفظ مثل العالم شاهدا من له العلم فكذا غائبا لأنا لا نعني بالعالم وهذا لا يختلف موجبه بحسب الواجب والممكن
قال "واللغات عند أكثر"
البحث الرابع القياس في اللغات وقد أثبته القاضي أبو بكر وابن سريج وابن أبي هريرة وأبو إسحاق الشيرازي والإمام وكثير في فقهائنا وأهل العربية كالمازني والفارسي وابن جنى وذهب إمام الحرمين والغزالي ومعظم أصحابنا والحنفية إلى امتناعه وتبعهم الآمدي وابن الحاجب واتفق الكل على امتناع جريان القياس في أسماء الأعلام لأنها غير معقولة المعاني ولا هي دائرة بدوران وصف في محالها والقياس فروعهما فهي كالحكم تعبدي لا يعقل معناه فإن قلت قد شاع قولهم في العرف هذا سيبويه وهذا جالينوس وليس إلا بطريق القياس وإلا لم يحصل المدح بذلك
قلت جاز أن يكون ذلك بطريق حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه والتقدير حافظ الكتاب سيبويه وعلم جالينوس واتفقوا على امتناعه أيضا في أسماء الفاعلين والمفعولين وأسماء الصفات كالعالم والقادر لأنها واجبة الاطراد نظرا إلى تحقق معنى الاسم فإن العالم من قام به العلم فإطلاقه على كل من قام به العلم بالوضع لا بالقياس إذ ليس قياس أحد المسلمين المتمثلين في المسمى على الآخر بأولى من العكس وإنما النزاع في الأسماء الموضوعة للمعاني المخصوصة الدائرة مع الصفات الموجودة فيها وجودا وعدما كالخمر فإنه اسم للمسكر المعتصر من العنب وهذا الاسم دائر مع الإسكار وجودا وعدما فهل يقاس عليه النبيذ في كونه مسمى بذلك الوصف لمشاركته في وصف الإسكار وكإطلاق اسم السارق النباش بواسطة مشاركته للسارق من الإخفاء في أخذا المال على سبيل الخفية
واسم الزاني على اللائط لمشاركته بإيلاج فرج في فرج واحتج المجوزون بدوران تسمية المعتصر من العنب بالخمر مع الشدة المطربة فإنه يفيد ظن عليتها له فالعلم بوجودها في النبيذ يفيد كون ظنه مسمى بالخمر وحينئذ يلزم(15/57)
ص -34-…أن يثبت للنبيذ من الأحكام ما ثبت للخمر والجواب أن إفادة الدوران العلة إنما هو بمعنى الإمارة والعلامة لا بمعنى الداعي إذ لا مناسبة بين الاسم والمسمى وحينئذ لا يخلو الدوران عن المزاحم لأنه كما دار مع ما ذكرتم من الوصف فكذا مع خصوصية إسكار المعتصر من العنب والدوران لا يفيد الظن مع معارضة المزاحم فإن قلت لو كان لا يقعد معارضة مثل هذا الواجب أن لا يفيد في الشرعيات أيضا لعدم خلوه عنه قلت القاطع دل على جواز القياس في الشرعيات فعلمنا بذلك أن تلك الخصوصيات لا مدخل لها في إثبات تلك الأحكام ولا قاطع في اللغات يدل على جريان القياس فيها ولأن سلمنا أنه يظن العلية فما يجعله العبد علة لا يفيد الحكم أينما وجد كقول القائل أعتقت غانما لسواده لا يطرد في عبيده السود فلعل الواضع هو العبد وقول الإمام هنا بينا أن اللغات توقيفية مدخول باختياره التوقف واحتجوا أيضا بعموم قوله فاعتبروا وأجاب صفي الدين الهندي بأنه يقتضي وجوب القياس في اللغات ولا قائل به إنما الاختلاف في الجواز وفيه نظر لأنه إذا ثبت الجواز وجاء تحريم الخمر مثلا لزم من يقول بالقياس في اللغة أن النبيذ داخل تحت هذا المسمى فيجب عليه أن يعممها بالحكم الواحد الوارد على لفظ الخمر وبذلك صرح الإمام بقوله يلزم أن يثبت للنبيذ من الأحكام ما يثبت للخمر
قال "دون الأسباب والعادات كأقل الحيض وأكثره"(15/58)
البحث الخامس القياس في الأسباب وفيه مذهبان أحدهما وهو الذي زعم الإمام أنه المشهور وجزم به صاحب الكتاب واختاره الآمدي وابن الحاجب أنه لا يجري القياس فيها والثاني وبه قال أكثر الشافعية جريانه فيها مثاله قياس اللواط على الزنا في إيجاب الحد بجامع كونه إيلاج فرج في فرج محرم شرعا مشتهى طبعا فجعل اللواط سببا وإن كان لا يسمى زنا واحتج الأولون بأن قياس الشيء على الشيء يقتضي أن يكون بينهما وصف مشترك وهو العلة فلو قسنا اللوط مثلا على الزنا فلا بد بينهما من وصف مشترك هو علة الموجبية والسببية وحينئذ يكون السبب ذلك المشترك لا ذلك الزنا على سبيل الخصوصية فلا يكون كل واحد من الزنا واللوط موجبا وسببا لأن الحكم(15/59)
ص -35-…باستناده إلى المشترك بينهما استحال أن يكون معه مستندا إلى خصوصية كل واحد منهما
ومن شرط القياس بقاء حكم الأصل وهو زائل لأن المقيس عليه حينئذ يخرج أن يكون مقيسا عليه فإذن جريان القياس في الأسباب يقتضي أن لا يكون السبب الذي هو أصل سببا هذا خلف ولا ينتقض هذا بالقياس في الأحكام لأن الأصل فيه غير موجب للحكم فإضافة الموجب إلى القدر المشترك بينه وبين الفرع لا ينافي كونه أصلا بخلاف السبب فإنه موجب للحكم فإضافة الموجب إلى القدر المشترك لا يجامع الإضافة إلى السبب الذي هو الأصل على سبيل الخصوصية فإن قلت الجامع بين الموضعين لا يكون له تأثير في الحكم بل في علية الوصف وأما الحكم فإنما يحصل من الوصف قلت ما صلح لعلية العلة كان صالحا لعلة الحكم فلا حاجة حينئذ إلى الواسطة وقد أجاب النقشواني عن هذا الاحتجاج بما تقريره أن يقال العلة الحقيقية هي الحكمة والحاجة كما هو مقرر في مكانه لكنها لما كانت غير مضبوطة وغير مقدرة في ذاتها جعل الوصف علة بمعنى أنه يعرف العلة المؤثرة فصلاحية الوصف للضبط وتعريف العلة المؤثرة بهذا المعنى هي العلة في جعله علة وبهذا لا تصلح الحكمة لعلية الحكم من غير واسطة الحكم والوصف معا(15/60)
ويظهر حينئذ قوة السؤال الذي أورده وضعف الجواب فيقال نقيس اللواط على الزنا ونقول إن الزنا إنما أوجب الحد للوصف المشترك بينهما فعندي الموجبة من الزنا إلى اللواط وذلك لأن الزنا إنما صار موجبا وعلة لكونه معرفا للحكمة الموجبة للحد وهي الحاجة المناسبة إلى شرعيته واللواط يشارك الزنى في هذا المعنى فيلزم من كون الزنا علة معرفة كون اللواط كذلك وقوله على هذا التقدير يكون الموجب للحد إنما هو المشترك قلنا ممنوع فإن هذا المشترك الذي ذكرنا يصلح أن يكون علة لعلية الوصف لكن لا يصلح أن يكون علة للحكم على ما وضح ولأن سلمنا أن ذلك المشترك يكون علة للحكم لكن لم لا يجوز أن يكون علة لعلية الوصف أيضا فإنها تكون علة مؤثرة للحكم وعلة مؤثرة لصيرورة الوصف علة معرفة ويكون الحكم مستندا(15/61)