ص -192-…فكره الخروج اليه فوضع احمد أصبعه في كفه فقال ليس المروزي ههنا وما يصنع المروزي ههنا وحضر سفيان الثوري مجلسا فلما أراد النهوض منعوه فحلف أنه يعود ثم خرج وترك نعله كالناسي لها فلما خرج عاد وأخذها وانصرف وقد كان لشريح في هذا الباب فقه دقيق كما أعجب رجل فرسه وأراد أخذها منه فقال له شريح إنها إذا أربضت لم تقم حتى تقام فقال الرجل أف أف وإنما أراد شريح أن الله هو الذي يقيمها وباع من رجل ناقة فقال له المشتري كم تحمل فقال احمل على الحائط ما شئت فقال كم تحلب قال: احلب في أى إناء شئت فقال كيف سيرها قال: الريح لا تلحق فلما قبضها المشتري لم يجد شيئا من ذلك فجاء إليه وقال ما وجدت شيئا من ذلك فقال ما كذبتك
قالوا ومن المعلوم أن الشارع جعل العقود وسائل وطرقا إلى إسقاط الحدود والمأثم ولهذا لو وطيء الإنسان امرأة أجنبية من غير عقد ولا شبهة لزمه الحد فإذا عقد عليها عقد النكاح ثم وطئها لم يلزمه الحد وكان العقد حيلة على إسقاط الحد بل قد جعل الله تعالى الأكل والشرب واللباس حيلة على دفع أذى الجوع والعطش والبرد والاكتفاء حيلة إلى دفع الصائل من الحيوان وغيره وعقد التبايع حيلة على حصول الانتفاع بملك الغير وسائر العقود حيلة على التوصل إلى مالا يباح إلا بها وشرع الرهن حيلة على رجوع صاحب الدين في ماله من عين الرهن إذا أفلس الراهن أو تعذر الاستيفاء منه
وقد روى سلمة بن صالح عن يزيد الواسطي عن عبد الكريم عن عبد الله ابن بريدة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أعظم آية في كتاب الله فقال لا أخرج من المسجد حتى اخبرك فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من مجلسه فلما أخرج إحدى رجليه أخبره بالآية قبل أن يخرج رجله الأخرى(9/224)
ص -193-…وقد بنى الخصاف كتابه في الحيل على هذا الحديث ووجه الاستدلال به أن من حلف أن لا يفعل شيئا فأراد التخلص من الحنث بفعل بعضه لم يكن حانثا فإذا حلف لا يأكل هذا الرغيف ولا يأخذ هذا المتاع فليدع بعضه ويأخذ الباقي ولا يحنث وهذا أصل في بابه في التخلص من الأيمان
وهذا السلف الطيب قد فتحوا لنا هذا الباب ونهجوا لنا هذا الطريق فروى قيس بن الربيع عن الأعمش عن إبراهيم في رجل أخذه رجل فقال إن لي معك حقا فقال لا فقال احلف لي بالمشي إلى بيت الله فقال يحلف له بالمشي إلى بيت الله ويعني به مسجد حيه وبهذا الإسناد أنه قال: له رجل إن فلانا امرني أن آتي مكان كذا وكذا وأنا لا أقدر على ذلك المكان فكيف الحيلة قال: يقول والله ما أبصر إلا ما سددني غيري
وذكر عبد الملك بن ميسرة عن النزالي بن سبرة قال: جعل حذيفة لعثمان ابن عفان على أشياء بالله ما قالها وقد سمعناه يقولها فقلنا يا أبا عبد الله سمعناك تحلف لعثمان على أشياء ما قلتها وقد سمعناك قلتها فقال: "إني أشترى ديني بعضه ببعض مخافة أن يذهب كله" وذكر قيس بن الربيع عن الأعمش عن إبراهيم أن رجلا قال: له إني أنال من رجل شيئا فيبلغه عني فكيف أعتذر إليه فقال له إبراهيم: "قل والله إن الله ليعلم ما قلت من ذلك من شيء" وكان إبراهيم يقول لأصحابه إذا خرجوا من عنده وهو مستخف من الحجاج: "إن سئلتم عني فاحلفوا بالله لا تدرون أين أنا ولا في أي موضع أنا وأعنوا لا تدرون اين انا من البيت وفى أي موضع منه وأنتم صادقون" وقال مجاهد عن ابن عباس: "ما يسرني بمعارض الكلام حمر النعم".
وقد ثبت في الصحيح من حديث حميد بن عبدالرحمن بن عوف عن امه(9/225)
ص -194-…أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وكانت من المهاجرات الأول: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في الكذب في ثلاث في الرجل يصلح بين الناس والرجل يكذب لامرأته والكذب في الحرب"
وقال معتمر بن سليمان التيمي عن أبيه حدثني نعيم بن أبي هند عن سويد ابن غفلة أن عليا كرم الله وجهه في الجنة لما قتل الزنادقة نظر في الارض ثم رفع رأسه إلى السماء ثم قال: صدق الله ورسوله ثم قام فدخل بيته فأكثر الناس في ذلك فدخلت عليه فقلت يا أمير المؤمنين أشيء عهد إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم أم شيء رأيته فقال هل على من بأس أن أنظر إلى السماء قلت لا قال: فهل على من بأس أن أنظر إلى الأرض قلت لا قال: فهل على من بأس أن أقول صدق الله ورسوله قلت لا قال: فإني رجل مكائد
وقال حجاج بن منهال ثنا أبو عوانة عن أبي مسكين قال: كنت عند إبراهيم وامرأته تعاتبه في جاريته وبيدها مروحة فقال أشهدكم بأنها لها فلما خرجنا قال: علام شهدتم قلنا أشهدتنا أنك جعلت الجارية لها قال: أما رأيتموني أشير إلى المروحة
وقال محمد بن الحسن عن عمرو بن دينار عن الشعبي لا بأس بالحيل فيما يحل ويجوز وإنما الحيل شيء يتخلص به الرجل من الحرام ويخرج به إلى الحلال فما كان من هذا ونحوه فلا بأس به وإنما يكره من ذلك أن يحتال الرجل في حق الرجل حتى يبطله أو يحتال في باطل حتى يوهم انه حق أو يحتال في شئ حتى يدخل فيه شبهة وأما ما كان على السبيل الذي قلنا فلا بأس بذلك
قالوا وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} قال: غير واحد(9/226)
ص -195-…من المفسرين: مخرجا مما ضاق على الناس ولا ريب أن هذه الحيل مخارج مما ضاق على الناس ألا ترى أن الحالف يضيق عليه إلزام ما حلف عليه فيكون له بالحيلة مخرج منه وكذلك الرجل تشتد به الضرورة إلى نفقة ولا يجد من يقرضه فيكون له من هذا الضيق مخرج بالعينة والتورق ونحوهما فلو لم يفعل ذلك لهلك ولهلكت عياله والله تعالى لا يشرع ذلك ولا يضيق عليه شرعه الذي وسع جميع خلقه فقد دار أمره بين ثلاثة لا بد له من واحد منها إما إضاعة نفسه وعياله وإما الربا صريحا وإما المخرج من هذا الضيق بهذه الحيلة فأوجدونا أمرا رابعا نصير إليه وكذلك الرجل ينزعه الشيطان فيقع به الطلاق فيضيق عليه جدا مفارقة امرأته وأولاده وخراب بيته فكيف ينكر في حكمة الله ورحمته أن نتحيل له بحيلة تخرجه من هذا الاصر والغل وهل الساعي في ذلك إلا مأجور غير مأزور كما قاله إمام الظاهرية في وقته أبو محمد بن حزم وأبو ثور وبعض أصحاب أبي حنيفة وحملوا أحاديث التحريم على ما إذا شرط في صلب العقد انه نكاح تحليل؟
قالوا وقد روى عبد الرزاق عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين قال: أرسلت امرأة إلى رجل فزوجته نفسها ليحلها لزوجها فأمره عمر بن الخطاب رضى الله عنه ان يقيم معها ولا يطلقها وأوعده ان يعاقبه ان طلقها فهذا امير المؤمنين قد صحح نكاحه ولم يأمره باستئنافه وهو حجة في صحة نكاح المحلل والنكاح بلا ولى
وذكر عبد الرزاق عن معمر عن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان لا يرى بأسا بالتحليل إذا لم يعلم أحد الزوجين قال: ابن حزم وهو قول سالم بن عبد الله والقاسم بن محمد
وصح عن عطاء فيمن نكح امرأة محللا ثم رغب فيها فأمكسها فقال لا بأس بذلك(9/227)
ص -196-…وقال الشعبي لا بأس بالتحليل إذا لم يأمر به الزوج
وقال الليث بن سعد إن تزوجها ثم فارقها لترجع إلى زوجها ولم يعلم المطلق ولا هي بذلك وإنما كان ذلك إحسانا منه فلا بأس ان ترجع إلى الأول فإن بين الثاني ذلك للأول بعد دخوله بها لم يضره
وقال الشافعي وأبو ثور المحلل الذي يفسد نكاحه هو الذي يعقد عليه في نفس عقد النكاح انه إنما يتزوجها ليحلها ثم يطلقها فأما من لم يشترط ذلك في عقد النكاح فعقده صحيح لا داخلة فيه سواء شرط ذلك عليه قبل العقد أو لم يشرط نوى ذلك أو لم ينوه قال: ابو ثور: وهو مأجور
وروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف وعن أبي حنيفة مثل هذا سواء وروى أيضا محمد وابو يوسف عن أبي حنيفة إذا نوى الثاني وهي تحليلها للأول لم تحل له بذلك
وروى الحسن بن زياد عن زفر وأبي حنيفة انه إن اشترط عليه في نفس العقد أنه إنما تزوجها ليحلها للأول فإنه نكاح صحيح ويبطل الشرط وله ان يقيم معها فهذه ثلاث روايات عن أبي حنيفة
قالوا وقد قال: الله تعالى: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} وهذا زوج وقد عقد بمهر وولى ورضاها وخلوها من الموانع الشرعية وهو راغب في ردها إلى الاول فيدخل في حديث ابن عباس ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نكاح إلا نكاح رغبة وهذا نكاح رغبة في تحليلها للمسلم" كما امر الله تعالى بقوله: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} والنبي صلى الله عليه وسلم إنما شرط في عودها إلى الأول مجرد ذوق العسيلة بينهما وغيا الحل بذلك فقال لا حتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها فإذا تذاوقا العسيلة حلت له بالنص(9/228)
ص -197-…قالوا وأما نكاح الدلسة فنعم هو باطل ولكن ما هو نكاح الدلسة فلعله أراد به أن تدلس له المرأة بغيرها أو تدلس له انها انقضت عدتها ولم تنقض لتستعجل عودها إلى الأول
وأما لعنه للمحلل فلا ريب انه صلى الله عليه وسلم لم يرد كل محلل ومحلل له فإن الولى محلل لما كان حراما قبل العقد والحاكم المزوج محلل بهذا الاعتبار والبائع لأمته محلل للمشتري وطأها فإن قلنا العام إذ خص صار مجملا بطل الاحتجاج بالحديث وإن قلنا هو حجة فيما عدا محل التخصيص فذلك مشروط ببيان المراد منه ولسنا ندري المحلل المراد من هذا النص أهو الذي نوى التحليل أو شرطه قبل العقد أو شرطه في صلب العقد أو الذي احل ما حرمه الله ورسوله ووجدنا كل من تزوج مطلقة ثلاثا فإنه محلل ولو لم يشترط التحليل ولم ينوه فإن الحل حصل بوطئه وعقده ومعلوم قطعا أنه لم يدخل في النص فعلم ان النص إنما أراد به من أحل الحرام بفعله أو عقده ونحن وكل مسلم لا نشك في أنه أهل للعنه الله وأما من قصد الاحسان إلى أخيه المسلم ورغب في جمع شمله بزوجته ولم شعثه وشعث أولاده وعياله فهو محسن وما على المحسنين من سبيل فضلا عن ان تلحقهم لعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثم قواعد الفقه وأدلته لا تحرم مثل ذلك فإن هذه العقود التي لم يشترط المحرم في صلبها عقود صدرت من أهلها في محلها مقرونة بشروطها فيجب الحكم بصحتها لأن السبب هو الايجاب والقبول وهما تامان وأهلية العاقد لا نزاع فيها ومحلية العقد قابلة فلم يبق إلا القصد المقرون بالعقد ولا تأثير له في بطلان الاسباب الظاهرة لوجوه أحدها أن المحتال مثلا إنما قصد الربح الذي وضعت له التجارة وإنما لكل امرئ ما نوى فإذا حصل له(9/229)
ص -198-…الربح حصل له مقصوده وقد سلك للطريق المفضية اليه في ظاهر الشرع والمحلل غايته انه قصد الطلاق ونواه اذا وطيء المرأة وهو مما ملكه الشارع إياه فهو كما لو نوى المشتري إخراج المبيع عن ملكه إذا اشتراه وسر ذلك أن السبب مقتض لتأبد الملك والنية لا تغير موجب السبب حتى يقال إن النية توجب تأقيت العقد وليست هي منافية لموجب العقد فإن له أن يطلق ولو نوى بعقد الشراء إتلاف المبيع وإحراقه أو إغراقه لم يقدح في صحة البيع فنية الطلاق اولى
وايضا فالقصد لا يقدح في اقتضاء السبب لحكمه لأنه خارج عما يتم به العقد ولهذا لو اشترى عصيرا ومن نيته ان يتخذه خمرا أو جارية ومن نيته ان يكرهها على البغاء أو يجعلها مغنية أو سلاحا ومن نيته ان يقتل به معصوما فكل ذلك لا أثر له في صحة البيع من جهة انه منقطع عن السبب فلا يخرج السبب عن اقتضاء حكمه
وقد ظهر بهذا الفرق بين هذا العقد وبين الاكراه فإن الرضا شرط في صحة العقد والإكراه ينافى الرضا وظهر أيضا الفرق بينه وبين الشرط المقارن فإن الشرط المقارن يقدح في مقصود العقد فغاية الأمر ان العاقد قصد محرما لكن ذلك لا يمنع ثبوت الملك كما لو تزوجها ليضار بها امرأة له أخرى ومما يؤيد ما ذكرناه ان النية إنما تعمل في اللفظ المحتمل للمنوى وغيره مثل الكنايات ومثل ان يقول اشتريت كذا فإنه يحتمل ان يشتريه لنفسه ولموكله فإذا نوى احدهما صح فاذا كان السبب ظاهرا متعينا لمسببه لم يكن للنية الباطنة أثر في تغيير حكمه
يوضحه ان النية لا تؤثر في اقتضاء الاسباب الحسية والعقلية المستلزمة لمسبباتها ولا تؤثر النية في تغييرها
يوضحه ان النية إما ان تكون بمنزلة الشرط أو لا تكون فإن كانت بمنزلة الشرط لزم انه اذا نوى ان لا يبيع ما اشتراه ولا يهبه ولا يتصرف فيه(9/230)
ص -199-…أو نوى ان يخرجه عن ملكه أو نوى ان لا يطلق الزوجة أو يبيت عندها كل ليلة أو لا يسافر عنها بمنزلة ان يشترط ذلك في العقد وهو خلاف الإجماع وان لم تكن بمنزلة الشرط فلا تأثير له حينئذ
وأيضا فنحن لنا ظواهر الامور والى الله سرائرها وبواطنها ولهذا يقول الرسل لربهم تعالى يوم القيامة إذ سألهم: {مَاذَا أُجِبْتُمْ} فيقولون: {لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوب} كان لنا ظواهرهم وأما ما انطوت عليه ضمائرهم وقلوبهم فأنت العالم به
قالوا فقد ظهر عذرنا وقامت حجتنا فتبين أنا لم نخرج فيما أصلناه من اعتبار الظاهر وعدم الالتفات إلى القصود في العقود وإلغاء الشروط المتقدمة الخالي عنها العقد والتحيل على التخلص من مضايق الايمان وما حرمه الله ورسوله من الربا وغيره عن كتاب ربنا وسنة نبينا وأقوال السلف الطيب
ادعاء ان في مذاهب الائمة تحويزا للحيل:
ولنا بهذه الاصول رهن عند كل طائفة من الطوائف المنكرة علينا
فلنا عند الشافعية رهون كثيرة في عدة مواضيع وقد سلموا لنا ان الشرط المتقدم على العقد ملغى وسلموا لنا ان القصود غير معبرة في العقود وسلموا لنا جواز التحيل على إسقاط الشفعة وقالوا يجوز التحيل على بيع المعدوم من الثمار فضلا عما لم يبد صلاحه بأن يؤجره الارض ويساقيه على الثمر من كل الف جزء على جزء وهذا نفس الحيلة على بيع الثمار قبل وجودها فكيف تنكرون علينا التحيل على بيعها قبل بدو صلاحها وهل مسألة العينة إلا ملك باب الحيل وهم يبطلون الشركة بالعروض ثم يقولون الحيلة في جوازها ان يبيع كل منهما نصف عرضه لصاحبه فيصيران شريكين حينئذ بالفعل ويقولون لا يصح تعليق الوكالة بالشرط والحيلة على جوازها ان يوكله الآن ويعلق تصرفه بالشرط(9/231)
ص -200-…وقولهم في الحيل على عدم الحنث بالمسألة السريجية معروف وكل حيلة سواه محلل بالنسبة اليه فإن هذه المسألة حيلة على ان يحلف دائما بالطلاق ويحنث ولا يقع عليه الطلاق ابدا
وأما المالكية فهم من أشد الناس إنكارا علينا للحيل وأصولهم تخالف أصولنا في ذلك إذ عندهم أن الشرط المتقدم كالمقارن والشرط العرفي كاللفظي والقصود في العقود معتبرة والذرائع يجب سدها والتغرير الفعلي كالتغرير القولى وهذه الاصول تسد باب الحيل سدا محكما ولكن قد علقنا لهم برهون نطالبهم بفكاكها أو بموافقتهم لنا على ما أنكروه علينا فجوزوا التحيل على إسقاط الشفعة وقالوا لو تزوجها ومن نيته ان يقيم معها سنة صح النكاح ولم تعمل هذه النية في فساده
وأما الحنابلة فبيننا وبينهم معترك النزال في هذه المسائل فإنهم هم الذين شنوا علينا الغارات ورمونا بكل سلاح من الاثر والنظر ولم يراعوا لنا حرمة ولم يرقبوا فينا إلا ذمة وقالوا لو نصب شباكا للصيد قبل الاحرام ثم اخذ ما وقع فيها حال الاحرام بعد الحل جاز ويالله العجب أي فرق بين هذه الحيلة وحيلة اصحاب السبت على الحيتان وقالوا لو نوى الزوج الثاني ان يحلها للأول ولم يشترط ذلك جاز وحلت له لأنه لم يشترط ذلك في العقد وهذا تصريح بأن النية لا تؤثر في العقد وقالوا لو تزوجها ومن نيته ان يقيم معها شهرا ثم يطلقها صح العقد ولم تكن نية التوقيت مؤثرة فيه وكلامهم في باب المخارج من الايمان بأنواع الحيل معروف وعنا تلقوه ومنا أخذوه وقالوا لو حلف ان لا يشتري منه ثوبا فاتهبه منه وشرط له العوض لا يحنث وقالوا بجواز مسألة التورق وهي شقيقة مسألة العينة فأي فرق بين مصير السلعة إلى البائع وبين مصيرها إلى غيره بل قد يكون عودها إلى البائع أرفق بالمشتري وأقل كلفة عليه وأرفع(9/232)
ص -201-…لخسارته وتعنيه فكيف تحرمون الضرر اليسير وتبيحون ما هو أعظم منه والحقيقة في الموضوعين واحدة وهي عشر وبينهما حريرة رجعت في إحدى الصورتين إلى مالكها وفي الثانية إلى غيره؟
وقالوا لو حلف بالطلاق لا يتزوج عبده بأمته أبدا ثم أراد تزويجه بها ولا يحنث فإنه يبيع العبد والجارية من رجل ثم يزوجهما المشتري ثم يستردهما منه قال القاضي: "وهذا غير ممتنع على اصلنا لان عقد النكاح قد وجد في حال زوال ملكه عنهما ولا يتعلق الحنث باستدامة العقد بعد ان ملكهما لان التزويج عبارة عن العقد وقد انقضى وإنما بقى حكمه فلم يحنث باستدامة حكمه"
وقالو لو كان له عليه مال وهو محتاج فأحب أن يدعه له من زكاته فالحيلة ان يتصدق عليه بذلك القدر ثم يقبضه منه ثم قالوا: فإن كان له شريك فيه فخاف ان يخاصمه فيه فالحيلة ان يهب المطلوب للطالب مالا بقدر حصة الطالب مما له عليه ويقبضه منه للطالب ثم يتصدق الطالب على المطلوب بما وهبه له ويحتسب بذلك من زكاته ثم يهب المطلوب ماله عليه من الدين ولا يضمن الطالب لشريكه شيئا لأن هبة الدين لمن في ذمته براءة واذا أبرأ احد الشريكين الغريم من نصيبه لم يضمن لشريكه شيئا وإنما يضمن إذا حصل الدين في ضمانه
وقالوا لو أجره الارض بأجرة معلومة وشرط عليه ان يؤدي خراجها لم يجز لان الخراج على المالك لا على المستأجر والحيلة في جوازه ان يؤجره إياها بمبلغ يكون زيادته بقدر الخراج ثم يأذن له أن يدفع في خراجها ذلك القدر الزائد على اجرتها قالوا: لانه متى زاد مقدار الخراج على الاجرة حصل ذلك دينا على المستأجر وقد أمره ان يدفعه إلى مستحق الخراج وهو جائز
وقالوا ونظير هذا أن يؤجره دابة ويشترط علفها على المستأجر لم يجز والحيلة في جوازه هكذا سواء يزيد الأجرة ويوكله ان يعلف الدابة بذلك القدر الزائد(9/233)
ص -202-…وقالوا لا يصح استئجار الشجرة للثمرة والحيلة في ذلك ان يؤجره الارض ويساقيه على الثمرة من كل الف جزء جزء مثلا
وقالوا لو وكله ان يشتري له جارية معينة بثمن معين دفعه اليه فلما رآها أراد شراءها لنفسه وخاف ان يحلفه انه انما اشتراها بمال الموكل له وهو وكيله فالوجه ان يعزل نفسه عن الوكالة ثم يشتريها بثمن في ذمته ثم ينقد ما معه من الثمن ويصير لموكله في ذمته نظيره
قالوا واما نحن فلا تأتي هذه الحيلة على أصولنا لأن الوكيل لا يملك عزل نفسه إلا بحضرة موكله
قالوا وقد قالت الحنابلة أيضا لو أراد إجارة أرض له فيها زرع لم يجز والحيلة في جوازه ان يبيعه الزرع ثم يؤجره الارض فإن أراد بعد ذلك ان يشتري منه الزرع جاز
وقالوا لو شرط رب المال على المضارب ضمان مال المضاربة لم يصح والحيلة في صحته ان يقرضه المال في ذمته ثم يقبضه المضارب منه فإذا قبضه دفعه إلى مالكه الأول مضاربة ثم يدفعه رب المال إلى المضارب بضاعة فإن نوى فهو من ضمان المضارب لأنه قد صار مضمونا عليه بالقرض فتسليمه إلى رب المال مضاربة كتسليم مال له آخر وحيلة أخرى وهي ان يقرض رب المال المضارب ما يريد دفعه اليه ثم يخرج من عنده درهما واحدا فيشاركه على ان يعملا بالمالين جميعا على ان ما رزقه الله فهو بينهما نصفين فإن عمل أحدهما بالمال بإذن صاحبه فربح كان الربح بينهما على ما شرطاه وان خسر كان الخسران على قدر المالين وعلى رب المال بقدر الدرهم وعلى المضارب بقدر رأس المال وإنما جاز ذلك لان المضارب هو الملزم نفسه الضمان بدخوله في القرض(9/234)
ص -203-…وقالوا لاتجوز المضاربة على العرض فإن كان عنده عرض فأراد ان يضارب عليه فالحيلة في جوازه ان يبيعه العرض ويقبض ثمنه فيدفعه اليه مضاربة ثم يشتري المضارب ذلك المتاع بالمال
وقالوا: لو حلفته امرأته ان كل جارية يشتريها فهى حرة فالحيلة في جواز الشراء ولا تعتق ان يعنى بالجارية السفينة ولا تعتق وان لم تحضره هذه النية وقت اليمين فالحيلة ان يشتريها صاحبه ويهبه اياها ثم يهبه نظير الثمن وقالوا لو حلفته ان كل امرأة يتزوجها عليها فهى طالق وخاف من هذه اليمين عند من يصحح هذا التعليق فالحيلة ان ينوي كل امرأة أتزوجها على طلاقك أي يكون طلاقك صداقها أو كل امرأة أتزوجها على رقبتك أي تكون رقبتك صداقها فهى طالق فلا يحنث بالتزويج على غير هذه الصفة
وقالوا لو أراد ان يصرف دنانير بدارهم ولم يكن عند الصيرفي مبلغ الدراهم وأراد ان يصبر عليها بالباقي لم يجز والحيلة فيه ان يأخذ ما عنده من الدراهم بقدر صرفه ثم يقرضه إياها فيصرف بها الباقي فإن لم يوف فعل ذلك مرارا حتى يستوفى صرفه ويصير ما أقرضه دينا عليه لا انه عوض الصرف
وقالوا لو أراد ان يبيعه دراهم بدنانير إلى اجل لم يجز والحيلة في ذلك ان يشتري منه متاعا وينقده ثمنه ويقبض المتاع ثم يشتري البائع منه ذلك المتاع بدنانيرالى أجل والتأجيل جائز في ثمن المتاع
وقالوا لو مات رب المال بعد ان قبض المضارب المال انتقل إلى ورثته فلو اشترى المضارب به بعد ذلك متاعا ضمن لانه تصرف بعد بطلان الشركة والحيلة في تخلص المضارب من ذلك ان يشهد رب المال ان حصته من المال الذي دفعه اليه مضاربة لولده وانه مقارض إلى هذا الشريك بجميع ما تركه وأمره ان يشتري لولده ما أحب في حياته وبعد وفاته فيجوز ذلك لان المانع منه كونه متصرفا في ملك الغير بغير وكالة ولا ولاية فإذا أذن له في(9/235)
ص -204-…التصرف برئ من الضمان وان كانت هذه الحيلة انما تتم اذا كان الورثة اولادا صغارا
وقالوا لو صالح عن المؤجل ببعضه حالا لم يصح والحيلة في تصحيحه ان يفسخا العقد الذي وقع على المؤجل ويجعلاه بذلك القدر الحال
وقالوا لو لبس المتوضيء أحد الخفين قبل غسل الرجل الاخرى ثم غسل الاخرى ولبس عليها لم يجز المسح لأنه لم يلبس على كمال الطهارة والحيلة في جواز المسح ان يخلع هذه الفردة الثانية ثم يلبسها.
قالوا: ولو أوصى لرجل بخدمة عبده أو بما في بطن أمته جاز فلو أراد الورثة شراء خدمة العبد أو ما في بطن الامة من الموصى له لم يجز والحيلة في جوازه ان يصالحوه عن الموصى به على ما يبذلونه له فيجوز وإن لم يجز البيع فإن الصلح يجوز فيه ما لا يجوز في البيع
قالوا ولا يجوز الشركة بالعروض فإن كان لاحدهما عرض يساوي خمسة آلاف درهم وللآخر عرض يساوي الفا فأحبا ان يشتركا في العرضين فالحيلة ان يشتري صاحب العرض الذي قيمته خمسة آلاف من الآخر خمسة أسداس عرضه بسدس عرضه هو فيصير للذي يساوي عرضه ألفا سدس جميع المال وللآخر خمسة أسداسه لأن جميع ماليهما ستة آلاف وقد حصل كل واحد من العرضين بهذه الشركة
بينهما أسداسا خمسة أسداسه لاحدهما وسدسه للآخر فإذا هلك احدهما هلك على الشركة قالوا: ولا تقبل شهادة الموكل لموكله فيما هو وكيله فيه فلو لم يكن له شاهد غيره وخاف ضياع حقه فالحيلة ان يعزله حتى يشهد له ثم يوكله بعد ذلك إن أراد
قالوا ولو أعتق عبده في مرضه وثلثه يحتمله وخاف عليه من الورثة(9/236)
ص -205-…ان يجحدوا المال ويرثوا ثلثيه فالحيلة ان يدفع اليه مالا يشتري نفسه منه بحضرة شهود ويشهدون انه قد اقبضه المال وصار العبد حرا
قالوا وكذلك الحيلة لو كان لاحد الورثة دين على الموروث وليست له به بينة فأراد بيعه العبد بدينه الذي له عليه فعل مثل ذلك سواء
قالو ولو قال: أوصيت إلى فلان وان لم يقبل فإلى فلان وخاف ان تبطل الوصية على مذهب من لا يرى جواز تعليق الولاية بالشرط فالحيلة أن يقول فلان وفلان وصيان فإن لم يقبل أحدهما وقبل الآخر فالذي قبل هو الوصي فيجوز على قول الجميع لانه لم يعلق الولاية بالشرط
قالوا ولو أراد ذمى ان يسلم وعنده حمر كثير فخاف ان يذهب عليه بالاسلام فالحيلة ان يبادر ببيعها من ذمى آخر ثم يسلم فإنه يملك تقاضيه بعد الاسلام فإن بادر الآخر وأسلم لم يسقط عنه ذلك وقد نص عليه الامام احمد في مجوسي باع مجوسيا خمرا ثم أسلما يأخذ الثمن قد وجب له يوم باعه
قال أرباب الحيل: فهذا رهن الفرق عندنا بأنهم قالوا: بالحيل وأوصوا بها فماذا تنكرون علينا بعد ذلك وتشنعون ومثالنا ومثالهم في ذلك كقوم وجدوا كنزا فأصاب كل منهم طائفة منه في يديه فمستقل ومستكثر ثم أقبل بعض الآخذين ينقم على بقيتهم وما أخذه من الكنز في يديه فليرم بما أخذ منه ثم لينكر على الباقين(9/237)
ص -206-…وحرم المحارم واوجب الحقوق رعاية لمصالح العباد في المعاش والمعاد وجعل شريعته الكاملة قياما للناس وغذاء لحفظ حياتهم ودواء لدفع أدوائهم وظله الظليل الذي من استظل به امن من الحرور وحصنه الحصين الذي من دخله نجا من الشرور فتعالى شارع هذه الشريعة الفائقة لكل شريعة ان يشرع فيها الحيل التي تسقط فرائضه وتحل محارمه وتبطل حقوق عباده ويفتح للناس ابواب الاحتيال وانواع المكر والخداع وان يبيح التوصل بالاسباب المشروعة إلى الامور المحرمة الممنوعة وان يجعلها مضغة لافواه المحتالين عرضة لاغراض المخادعين الذين يقولون مالا يفعلون ويظهرون خلاف ما يبطنون ويرتكبون العبث الذي لا فائدة فيه سوى ضحكة الضاحكين وسخرية الساخرين فيخادعون الله كما يخادعون الصبيان ويتلاعبون بحدوده كتلاعب المجان فيحرمون الشيء ثم يستحلونه إياه بعينه بأدنى الحيل ويسلكون إليه نفسه طريقا توهم أن المراد غيره وقد علموا أنه هو المراد لا غيره ويسقطون الحقوق التي وصى الله بحفظها وأدائها بأدنى شيء ويفرقون بين متماثلين من كل وجه لاختلافهما في الصورة أو الاسم أو الطريق الموصل اليهما ويستحلون بالحيل ما هو أعظم فسادا مما يحرمونه ويسقطون بها ما هو أعظم وجوبا مما يوجبونه(9/238)
والحمد لله الذي نزه شريعته عن هذا التناقض والفساد وجعلها كفيلة وافية بمصالح خلقه في المعاش والمعاد وجعلها من أعظم آياته الدالة عليه ونصبها طريقا مرشدا لمن سلكه اليه فهو نوره المبين وحصنه الحصين وظله الظليل وميزانه الذي لا يعول لقد تعرف بها إلى الباء عباده غاية التعرف وتحبب بها اليهم غاية الحبب فأنسوا بها منه حكمته البالغة وتمت بها عليهم منه نعمه السابغة ولا إله إلا الله الذي في شرعه أعظم آية تدل على تفرده بالإلهية وتوحده بالربوبية وانه الموصوف بصفات الكمال المستحق لنعوت الجلال الذي له الاسماء الحسنى والصفات العلى وله المثل الاعلى فلا يدخل السوء في أسمائه ولا النقص والعيب في صفاته ولا العبث ولا الجور في أفعاله بل هو منزه في(9/239)
ص -207-…ذاته واوصافه وافعاله وأسمائه عما يضاد كماله بوجه من الوجوه وتبارك اسمه وتعالى جده وبهرت حكمته وتمت نعمته وقامت على عباده حجته والله أكبر كبيرا أن يكون في شرعه تناقض واختلاف فلو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا بل هي شريعة مؤتلمة النظام متعادلة الاقسام مبرأة من كل نقص مطهرة من كل دنس مسلمة لا شية فيها مؤسسة على العدل والحكمة والمصلحة والرحمة قواعدها ومبانيها إذا حرمت فسادا حرمت ما هو أولى منه أو نظيره وإذا رعت صلاحا رعت ما هو فوقه أو شبهه فهى صراطه المستقيم الذي لا أمت فيه ولا عوج وملته الحنيفية السمحة التي لا ضيق فيها ولا حرج بل هي حنيفية التوحيد سمحة العمل لم تأمر بشيء فيقول العقل لو نهت عنه لكان أوفق ولم تنه عن شيء فيقول الحجى لو أباحته لكان أرفق بل أمرت بكل صلاح ونهت عن كل فساد وأباحت كل طيب وحرمت كل خبيث فأوامرها غذاء ودواء ونواهيها حمية وصيانة وظاهرها زينة لباطنها وباطنها أجمل من ظاهرها شعارها الصدق وقوامها الحق وميزانها العدل وحكمها الفضل لا حاجة بها ألبتة إلى ان تكمل بسياسة ملك أو رأي ذي رأي أو قياس فقيه أو ذوق ذي رياضة أو منام ذي دين وصلاح بل لهؤلاء كلهم أعظم الحاجة إليها ومن وفق منهم للصواب فلاعتماده وتعويله عليها فقد أكملها الذي أتم نعمته علينا بشرعها قبل سياسات الملوك وحيل المتحيلين وأقيسة القياسيين وطرائق الخلافيين وأين كانت هذه الحيل والاقيسة والقواعد المتناقضة والطرائق القدد وقت نزول قوله اليوم كملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا واين كانت يوم قوله صلى الله عليه وسلمك "لقد تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدى إلا هالك" ويم قوله صلى الله عليه وسلم: "ما تركت من شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم عن النار إلا أعلمتكموه وأين كانت"(9/240)
ص -208-…عند قول أبي ذر: "لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما" وعند قول القائل لسلمان لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة فقال أجل فأين علمهم الحيل والمخادعة والمكر وأرشدهم إليه ودلهم عليه كلا والله بل حذرهم أشد التحذير واوعدهم عليه أشد الوعيد وجعله منافيا للإيمان وأخبر عن لعنة اليهود لما أربتكبوه وقال لأمته لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله تعالى بأدنى الحيل وأغلق أبواب المكر والاحتيال وسد الذرائع وفصل الحلال من الحرام وبين الحدود وقسم شريعته إلى حلال بين وحرام بين وبرزخ بينهما فأباح الاول وحرم الثاني وحض الامة على اتقاء الثالث خشية الوقوع في الحرام وقد اخبر الله تعالى عن عقوبة المحتالين على حل ما حرمه عليهم وإسقاط ما فرضه عليهم في غير موضع من كتابه
قال ابو بكر الآجرى وقد ذكر بعض الحيل الربوية التي يفعلها الناس: "لقد مسخ اليهود قردة بدون هذا" وصدق والله لآكل حوت صيد يوم السبت أهون عند الله واقل جرما من آكل الربا الذي حرمه الله بالحيل والمخادعة ولكن كما قال: الحسن عجل لأولئك عقوبة تلك الاكلة الوخيمة وأرجئت عقوبة هؤلاء
وقال الامام ابو يعقوب الجوزجاني وهل اصاب الطائفة من بني إسرائيل المسخ إلا باحتيالهم على أمر الله بأن حفروا الحفائر على الحيتان في يوم سبتهم فمنعوها الانتشار يومها إلى الاحد فأخذوها وكذلك السلسلة التي كانت تأخذ بعنق الظالم فاحتال لها صاحب الدرة إذ صيرها في قصبة ثم دفع القصبة إلى خصمه وتقدم إلى السلسلة ليأخذها فرفعت(9/241)
ص -209-…وقال بعض الأئمة: في هذه القصة مزجرة عظيمة للمتعاطين الحيل على المناهى الشرعية ممن تلبس بعلم الفقه وليس بفقيه إذ الفقيه من يخشى الله عزوجل في الربويات واستعارة التيس الملعون لتحليل المطلقات وغير ذلك من العظائم والمصائب التي لو اعتمدها مخلوق مع مخلوق لكان في نهاية القبح فكيف بمن يعلم السر وأخفى الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وقال وإذا وازن اللبيب بين حيلة اصحاب السبت والحيل التي يتعاطاها أرباب الحيل في كثير من الابواب ظهر له التفاوت ومراتب المفسدة التي بينها وبين هذه الحيل فإذا عرف قدر الشرع وعظمة الشارع وحكمته وما اشتمل عليه شرعه من رعاية مصالح العباد تبين له حقيقة الحال وقطع بأن الله تعالى يتنزه ويتعالى ان يشرع لعباده نقض شرعه وحكمته بأنواع الخداع والاحتيال
فصل: الرد على مبطلى الحيل تفصيلا
قالوا ونحن نذكر ما تمسكتم به في تقرير الحيل والعمل بها ونبين ما فيه متحرين للعدل والانصاف منزهين لشريعة الله وكتابه وسنة رسوله عن المنكر والخداع والاحتيال المحرم ونبين انقسام الحيل والطرق إلى ما هو كفر محض وفسق ظاهر ومكروه وجائز ومستحب وواجب عقلا أو شرعا ثم نذكر فصلا نبين فيه التعويض بالطرق الشرعية عن الحيل الباطلة فنقول وبالله التوفيق وهو المستعان وعليه التكلان
قصة أيوب:
أما قوله تعالى لنبيه ايوب عليه السلام: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} فقال شيخنا الجواب ان هذا ليس مما نحن فيه فإن للفقهاء في موجب هذه اليمين في شرعنا قولين يعنى إذا حلف ليضربن عبده أو امرأته مائة ضربة احدهما قول من يقول موجبها الضرب مجموعا أو مفرقا ثم منهم(9/242)
ص -210-…من يشترط مع الجمع الوصول إلى المضروب فعلى هذا تكون هذه الفتيا موجب هذا اللفظ عند الإطلاق وليس هذا بحيلة إنما الحيلة ان يصرف اللفظ عن موجبه عند الاطلاق والقول الثاني أن موجبه الضرب المعروف وإذا كان هذا موجبه في شرعنا لم يصح الاحتجاج علينا بما يخالف شرعنا من شرائع من قبلنا لأنا إن قلنا ليس شرعا لنا مطلقا فظاهر وإن قلنا هو شرع لنا فهو مشروط بعدم مخالفته لشرعنا وقد انتفى الشرط
وأيضا: فمن تأمل الآية علم أن هذه الفتيا خاصة الحكم فإنها لو كانت عامة الحكم في حق كل أحد لم يخف على نبي كريم موجب يمينه ولم يكن في اقتصاصها علينا كبير عبرة فإنما يقص ما خرج عن نظائره لنعتبر به ونستدل به على حكمة الله فيما قصه علينا أما ما كان هو مقتضى العادة والقياس فلا يقص ويدل على الاختصاص قوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً} وهذه الجملة خرجب مخرج التعليل كما في نظائرها فعلم أن الله سبحانه وتعالى إنما أفتاه بهذا جزاء له على صبره وتخفيفا عن امرأته ورحمة بها لا ان هذا موجب هذه اليمين وايضا فإن الله سبحانه وتعالى إنما أفتاه بهذه الفتيا لئلا يحنث كما أخبر تعالى
وهذا يدل على ان كفارة الايمان لم تكن مشروعة بتلك الشريعة بل ليس في اليمين إلا البر والحنث كما هو ثابت في نذر التبرر في شريعتنا وكما كان في اول الاسلام قالت عائشة رضى الله عنه لم يكن ابو بكر يحنث في يمين حتى أنزل الله كفارة اليمين فدل على انها لم تكن مشروعة في اول الاسلام وإذا كان كذلك صار كأنه قد نذر ضربها وهو نذر لا يجب الوفاء به لما فيه من الضرر عليها ولا يغنى عنه كفارة يمين لان تكفير النذر فرع عن تكفير اليمين فإذا لم تكن كفارة النذر إذ ذاك مشروعة فكفارة اليمين أولى وقد علم ان الواجب بالنذر يحتذى به حذو الواجب بالشرع وإذا كان الضرب(9/243)
ص -211-…الواجب بالشرع يجب تفريقه إذا كان المضروب صحيحا ويجوز جمعه إذا كان المضروب مريضا مأيوسا منه عند الكل أو مريضا على الاطلاق عند بعضهم كما ثبتت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاز أن يقام الواجب بالنذر مقام ذلك عند العذر
وقد كانت امرأة ايوب عليه السلام ضعيفة عن احتمال مائة الضربة التي حلف ان يضربها إياها وكانت كريمة على ربها فخفف عنها برحمته الواجب باليمين بأن أفتاه بجمع الضربات بالضغث كما خفف عن المريض الا ترى ان السنة قد جاءت فيمن نذر الصدقة بجميع ماله أنه يجزيه الثلث فأقام الثلث في النذر مقام الجميع رحمة بالناذر وتخفيفا عنه كما اقيم مقامه في الوصية رحمة بالوارث ونظرا له وجاءت السنة فيمن نذرت الحج ماشية ان تركب وتهدى إقامة لترك بعض الواجب بالنذر مقام ترك الواجب بالشرع في المناسك عند العجز عنه كطواف الوداع عن الحائض وأفتى ابن عباس وغيره من نذر ذبح ابنه بشاة إقامة لذبح الشاة مقام ذبح الابن كما شرع ذلك للخليل وأفتى أيضا من نذر أن يطوف على أربع بأن يطوف أسبوعين إقامة لإحد الاسبوعين مقام طواف اليدين وأفتى أيضا هو وغيره من الصحابة رضى الله عنهم المريض الميئوس منه والشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصوم بأن يفطرا ويطعما كل يوم مسكينا إقامة للإطعام مقام الصيام وأفتى أيضا هو وغيره من الصحابة الحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما أن تفطرا وتطعما كل يوم مسكينا إقامة للإطعام مقام الصيام وهذا كثير جدا وغير مستنكر في واجبات الشريعة ان يخفف الله تعالى الشيء منها عند المشقة بفعل ما يشبهه من بعض الوجوه كما في الأبدال وغيرها.(9/244)
لكن مثل قصة أيوب لا يحتاج إليها في شرعنا لأن الرجل لو حلف ليضربن أمته أو أمرأته مائة ضربة أمكنه أن يكفر عن يمينه من غير احتياج إلى حيلة وتخفيف الضرب بحمعه ولو نذر ذلك فهو نذر معصية فلا شيء عليه عند طائفة وعند طائفة عليه كفارة يمين وايضا فإن المطلق من كلام الآدميين(9/245)
ص -212-…محمول على ما فسر به المطلق من كلام الشارع خصوصا في الايمان فإن الرجوع فيها إلى عرف الخطاب شرعا أو عادة أولى من الرجوع إلى موجب اللفظ في اصل اللغة والله سبحانه وتعالى قد قال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} وقال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} وفهم الصحابة والتابعون ومن بعدهم من ذلك أنه ضربات متعددة متفرقة لا مجموعة إلا أن يكون المضروب معذورا عذرا لا يرجى زواله فإنه يضرب ضربا مجموعا وإن كان يرجى زواله فهل يؤخر إلى الزوال أو يقام عليه مجموعا فيه خلاف بين الفقهاء فكيف يقال إن الحالف ليضربن موجب يمينه هو الضرب المجموع مع صحة المضروب وقوته فهذه الآية هي أقوى ما يعتمد عليه أرباب الحيل وعليها بنوا حيله وقد ظهر بحمد الله أنه لا متمسك لهم فيها ألبتة
فصل: قصة يوسف
وأما إخباره سبحانه وتعالى عن يوسف عليه السلام أنه جعل صواعه في رحل أخيه ليتوصل بذلك إلى أخذه وكيد إخوته فنقول لأرباب الحيل:
أولا هل تجوزون أنتم مثل هذا حتى يكون حجة لكم وإلا فكيف تحتجون بما لا تجوزون فعله فإن قلتم فقد كان جائزا في شريعته قلنا وما ينفعكم إذا لم يكن جائزا في شرعنا؟
قال شيخنا رضي الله عنه ومما قد يظن أنه من جنس الحيل التي بينا تحريمها وليس من جنسها قصة يوسف حين كاد الله له في أخذ اخيه كما قص ذلك تعالى في كتابه فإن فيه ضروبا من الحيل الحسنة(9/246)
ص -213-…أحدها قوله لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا أنقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون فإنه تسبب بذلك إلى رجوعهم وقد ذكروا في ذلك معاني منها أنه تخوف ان لا يكون عندهم ورق يرجعون بها ومنها أنه خشى ان يضر اخذ الثمن بهم ومنها انه رأى لوما أخذ الثمن منهم ومنها انه اراهم كرمه في رد البضاعة ليكون ادعى لهم إلى العود ومنها انه علم ان أمانتهم تحوجهم إلى العود ليردوها إليه فهذا المحتال به عمل صالح والمقصود رجوعهم ومجيء اخيه وذلك أمر فيه منفعة لهم ولأبيهم وله وهو مقصود صالح وإنما لم يعرفهم نفسه لأسباب أخر فيها أيضا منفعة لهم وله ولأبيهم وتمام لما أراده الله بهم من الخير في البلاء
الضرب الثاني انه في المرة الثانية لما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه وهذا القدر تضمن إيهام أن أخاه سارق وقد ذكروا ان هذا كان بمواطأة من أخيه ورضا منه بذلك والحق له في ذلك وقد دل على ذلك قوله تعالى: {وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قال: إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وفيه قولان احدهما أنه عرفه أنه يوسف ووطنه على عدم الابتئاس بالحيلة التي فعلها في أخذه منهم والثاني أنه لم يصرح له بأنه يوسف وانما أراد انى مكان اخيك المفقود فلا تبتئس بما يعاملك به إخوتك من الجفاء
ومن قال: هذا قال: إنه وضع السقاية في رحل أخيه والاخ لا يشعر ولكن هذا خلاف المفهوم من القرآن وخلاف ما عيله الاكثرون وفيه ترويع لمن لم يستوجب الترويع وأما على القول الأول فقد قال: كعب وغيره لما قال: له إنى أنا اخوك قال: فأنا لا أفارقك قال: يوسف فقد علمت اغتمام والدي بي فإذا حبستك ازداد غمه ولا يمكنني هذا إلا بعد أن اشهرك بأمر فظيع وأنسبك إلى ما لا يحتمل قال: لا أبالي فافعل ما بدا لك فإني لا أفارقك قال: فإنى أدس(9/247)
ص -214-…صواعى هذا في رحلك ثم أنادى عليك بالسرقة ليتهيأ لي ردك قال: فافعل وعلى هذا فهذا التصرف إنما كان بإذن الاخ ورضاه
ومثل هذا النوع ما ذكر أهل السير عن عدى بن حاتم أنه لما هم قومه بالردة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كفهم عن ذلك وأمرهم بالتربص وكان يأمر ابنه إذا رعى إبل الصدقة ان يبعد فإذ جاء خاصمه بين يدي قومه وهم بضربه فيقومون فيشفعون إليه فيه ويأمره كل ليلة أن يزداد بعدا فلما كان ذات ليلة أمره ان يبعد بها جدا وجعل ينتظره بعد ما دخل الليل وهو يلوم قومه على شفاعتهم ومنعهم إياه من ضربه وهم يعتذرون عن ابنه ولا ينكرون إبطاءه حتى اذا انهار الليل ركب في طلبه فلحقه واستاق الابل حتى قدم بها على أبي بكر رضى الله عنهما فكانت صدقات طئ مما استعان بها ابو بكر في قتال أهل الردة وكذلك في الحديث الصحيح ان عديا قال: لعمر رضي الله عنه أما تعرفني يا أمير المؤمنين قال: بلى اعرفك أسلمت إذ كفروا ووفيت إذ غدروا واقبلت إذ أدبروا وعرفت إذ أنكروا
ومثل هذا ما أذن فيه النبي صلى الله عليه وسلم للوفد الذين ارادوا قتل كعب ابن الاشرف ان يقولوا وأذن للحجاج بن علاط عام خيبر ان يقول وهذا كله من الاحتيال المباح لكون صاحب الحق قد أذن فيه ورضى به والامر المحتال عليه طاعة لله وامر مباح
الضرب الثالث أنه أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون قالوا: وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون قالوا: نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وانا به زعيم إلى قوله فما جزاؤه إن كنتم كاذبين قالوا: جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء اخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله وقد ذكروا في تسميتهم سارقين وجهين أحدهما أنه(9/248)
ص -215-…من باب المعاريض وان يوسف نوى بذلك انهم سرقوه من أبيه حيث غيبوه عنه بالحيلة التي احتالوا عليه وخانوه فيه والخائن يسمى سارقا وهو من الكلام المرموز ولهذا يسمى خونه الدواوين لصوصا والثاني أن المنادى هو الذي قال: ذلك من غير أمر يوسف قال: القاضي ابو يعلى وغيره أمر يوسف بعض أصحابه أن يجعل الصواع في رحل أخيه ثم قال: بعض الموكلين وقد فقدوه ولم يدر من أخذه أيتها الغير إنكم لسارقون على ظن منهم انهم كذلك من غير امر يوسف لهم بذلك أو لعل يوسف قد قال: للمنادى هؤلاء سرقوا وعنى أنهم سرقوه من أبيه والمنادى فهم سرقة الصواع فصدق يوسف في قوله وصدق المنادى وتأمل حذف المفعول في قوله إنكم لسارقون ليصح ان يضمن سرقتهم ليوسف فيتم التعريض ويكون الكلام صدقا وذكر المفعول في قوله نفقد صواع الملك وهو صادق في ذلك فصدق في الجملتين معا تعريضا وتصريحا وتأمل قول يوسف معاذ الله ان نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده ولم يقل إلا من سرق وهو أخصر لفظا تحريا للصدق فإن الاخ لم يكن سارقا بوجه وكان المتاع عنده حقا فالكلام من احسن المعاريض واصدقها
ومثل هذا قول الملكين لداود عليه السلام خصمان بغى بعضنا على بعض إلى قوله وعزني في الخطاب أي غلبني في الخطاب ولكن تخريج هذا الكلام على المعاريض لا يكاد يتأتى وإنما وجهه أنه كلام خرج على ضرب المثال أي إذا كان كذلك فكيف الحكم بيننا
ونظير هذا قول الملك للثلاثة الذين أراد الله ان يبليهم مسكين وغريب وعابر سبيل وقد تقطعت بي الحبال ولا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك فأسألك بالذي أعطاك هذا المال بعيرا أتبلغ به في سفري هذا وهذا ليس بتعريض(9/249)
ص -216-…وإنما هو تصريح على وجه ضرب المثال وإيهام أنى أنا صاحب هذه القضية كما أوهم الملكان داود أنهما صاحبا القصة ليتم الامتحان
ولهذا قال: نصر بن حاجب سئل ابن عيينة عن الرجل يعتذر إلى اخيه من الشيء الذي قد فعله ويحرف القول فيه ليرضيه لم يأثم في ذلك فقال ألم تسمع قوله ليس بكاذب من أصلح بين الناس يكذب فيه فإذا اصلح بينه وبين اخيه المسلم خير من أن يصلح بين الناس بعضهم من بعض وذلك إذا أراد به مرضاة الله وكره أذى المؤمن ويندم على ما كان منه ويدفع شره عن نفسه ولا يريد بالكذب اتخاذ المنزلة عندهم ولا طمعا في شيء يصيب منهم فإنه لم يرخص في ذلك ورخص له إذا كره موجدتهم وخاف عدواتهم
قال حذيفة إنى أشتري ديني بعضه ببعض مخافة ان أقدم على ما هو أعظم منه قال: سفيان وقال الملكان خصمان بغى بعضنا على بعض أرادا معنى شيء ولم يكونا خصمين فلم يصيرا بذلك كاذبين وقال ابراهيم إنى سقيم وقال بل فعله كبيرهم هذا وقال يوسف إنكم لسارقون فبين سفيان ان هذا من المعاريض المباحة
فصل: استنباط خاطيء من قصة يوسف
وقد احتج بعض الفقهاء بقصة يوسف على انه جائز للانسان التوصل إلى اخذ حقه من الغير بما يمكنه الوصول اليه بغير رضا من عليه الحق
قال شيخنا رضى الله عنه وهذ الحجة ضعيفة فإن يوسف لم يكن يملك حبس أخيه عنده بغير رضاه ولم يكن هذا الاخ ممن ظلم يوسف حتى يقال إنه قد اقتص منه وإنما سائر الإخوة هم الذين كانوا قد فعلوا ذلك نعم تخلفه عنده كان يؤذيهم من أجل تأذى أبيهم والميثاق الذي أخذه عليهم وقد استثنى(9/250)
ص -217-…في الميثاق بقوله إلا أن يحاط بكم وقد أحيط بهم ولم يكن قصد يوسف باحتباس أخيه الانتقام من إخوته فإنه كان أكرم من هذا وكان في ذلك من الإيذاء لأبيه أعظم مما فيه من إيذاء إخوته وإنما هو امر امره الله به ليبلغ الكتاب أجله ويتم البلاء الذي استحق به يعقوب ويوسف قصد القصاص منهم بذلك فليس هذا موضع الخلاف بين العلماء فإن الرجل له أن يعاقب بمثل ما عوقب به وإنما موضع الخلاف هل يجوز له أن يسرق أو يخون من سرقه أو خانه مثل ما سرق منه أو خانه إياه؟
وقصة يوسف لم تكن من هذا الضرب نعم لو كان يوسف أخذ اخاه بغير امره لكان لهذا المحتج شبهة مع أنه لا دلالة في ذلك على هذا التقدير أيضا فإن مثل هذا لا يجوز في شرعنا بالاتفاق وهو ان يحبس رجل برئ ويعتقل للانتقام من غيره من غير ان يكون له جرم ولو قدر ان ذلك وقع من يوسف فلا بد ان يكون بوحي من الله ابتلاء منه لذلك المعتقل كما ابتلى ابراهيم بذبح ابنه فيكون المبيع له على هذا التقدير وحيا خاصا كالوحي الذي جاء ابراهيم بذبح ابنه وتكون حكمته في حق المبتلى امتحانه وابتلاؤه لينال درجة الصبر على حكم الله والرضا بقضائه وتكون حاله في هذا كحال أبيه يعقوب في احتباس يوسف عنه وهذا معلوم من فقه القصة وسياقها ومن حال يوسف ولهذا قال: تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} فنسب الله تعالى هذا الكيد إلى نفسه كما نسبه إلى نفسه في قوله: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً} وفي قوله: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً} وفي قوله: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}
وقد قيل: إن تسمية ذلك مكرا وكيدا واستهزاء وخداعا من باب الاستعارة(9/251)
ص -218-…ومجاز المقابلة نحو وجزاء سيئة سيئة مثلها ونحو قوله فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم وقيل وهو اصوب بل تسميته ذلك حقيقة على بابه فإن المكر إيصال الشيء إلى الغير بطريق خفي وكذلك الكيد والمخادعة ولكنه نوعان قبيح وهو إيصال ذلك لمن لا يستحقه وحسن وهو إيصاله إلى مستحقه عقوبة له فالاول مذموم والثاني ممدوح والرب تعالى إنما يفعل من ذلك ما يحمد عليه عدلا منه وحكمة وهو تعالى ياخذ الظالم والفاجر من حيث لا يحتسب لا كما يفعل الظلمة بعباده واما السيئة فهى فيعلة مما يسوء ولا ريب ان العقوبة تسوء صاحبها فهى سيئة له حسنة من الحكم العدل
وإذا عرفت ذلك فيوسف الصديق كان قد كيد غير مرة أولها ان إخوته كادوا به كيدا حيث احتالوا به في التفريق بينه وبين أبيه ثم إن امرأة العزيز كادته بما أظهرت انه راودها عن نفسها ثم اودع السجن ثم إن النسوة كادوه حتى استعاذ بالله من كيدهن فصرفه عنه وقال له يعقوب لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا وقال الشاهد لامرأة العزيز إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم وقال تعالى في حق النسوة: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} وقال الرسول: {فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قال: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} فكاد الله له أحسن كيد وألطفه وأعدله بأن جمع بينه وبين اخيه واخرجه من أيدي إخوته بغير اختيارهم كما أخرجوا يوسف من يد أبيه بغير اختياره وكاد له عوض كيد المرأة بأن أخرجه من ضيق السجن إلى فضاء الملك ومكنه في الارض يتبوأ منها حيث يشاء وكاد له في تصديق النسوة اللاتي كذبنه وراودنه حتى شهدن ببراءته وعفته وكاد له في تكذيب امرأة العزيز لنفسها واعترافها بأنها هي التي راودته وانه من الصادقين فهذه عاقبة من صبر على كيد الكائد له بغيا وعدوانا(9/252)
ص -219-…فصل: كيد الله على نوعين:
وكيد الله تعالى لا يخرج عن نوعين:
النوع الاول:
احدهما وهو الاغلب: ان يفعل تعالى فعلا خارجا عن قدرة العبد الذي كاد له فيكون الكيد قدرا زائدا محضا ليس هو من باب لا يسوغ كما كاد أعداء الرسل بانتقامه منهم بأنواع العقوبات وكذلك كانت قصة يوسف فإن أكثر ما أمكنه ان يفعل ان القى الصواع في رحل اخيه وان أذن مؤذن بسرقتهم فلما انكروا قال: فما جزاؤه إن كنتم كاذبين أي جزاء السارق أو جزاء السرق قالوا: جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه أي جزاؤه نفس السارق يستعبده المسروق منه إما مطلقا وإما إلى مدة وهذه كانت شريعة آل يعقوب ثم في إعراب هذا الكلام وجهان أحدهما ان قوله جزاؤه من وجد في رحله جملة مستقلة قائمة من مبتدأ وخبر وقوله فهو جزاؤه جملة ثانية كذلك مؤكدة للاولى مقرره لها والفرق بين الجملتين ان الاولى إخبار عن استحقاق المسروق لرقبة السارق والثانية إخبار أن هذا جزاؤه في شرعنا وحكمنا فالأولى إخبار عن المحكوم عليه والثانية إخبار عن الحكم وإن كانا متلازمين وإن أفادت الثانية معنى الحصر فإنه لا جزاء له غيره والقول الثاني أن جزاؤه الاول مبتدأ وخبره الجملة الشرطية والمعنى جزاء السارق ان من وجد المسروق في رحله كان هو الجزاء كما تقول جزاء السرقة من سرق قطعت يده وجزاء الاعمال من عمل حسنة فبعشر أو سيئة فبواحدة ونظائره
قال شيخنا رضى الله عنه وإنما احتمل الوجهين لان الجزاء قد يراد به نفس الحكم باستحقاق العقوبة وقد يراد به نفس فعل العقوبه وقد يراد به(9/253)
ص -220-…نفس الألم الواصل إلى المعاقب والمقصود ان إلهام الله لهم هذا الكلام كيد كاده ليوسف خارج عن قدرته إذ قد كان يمكنهم أن يقولوا لا جزاء عليه حتى يثبت أنه هو الذي سرق فإن مجرد وجوده في رحله لا يوجب ثبوت السرقة وقد كان يوسف عادلا لا يأخذهم بغير حجة وقد كان يمكنهم ان يقولوا يفعل به ما يفعل بالسراق في دينكم وقد كان في دين ملك مصر كما قاله أهل التفسير أن يضرب السارق ويغرم قيمة المسروق مرتين ولو قالوا: ذلك لم يمكنه ان يلزمهم بما لا يلزم به غيرهم ولهذا قال: تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} أي ما كان يمكنه أخذه في دين ملك مصر إذ لم يكن في دينه طريق له إلى أخذه وعلى هذا فقوله إلا أن يشاء الله استثناء منقطع أي لكن إن شاء الله اخذه بطريق آخر أو يكون متصلا على بابه أي إلا أن يشاء الله ذلك فيهيء له سببا يؤخذ به في دين الملك من الاسباب التي كان الرجل يعتقل بها
ما يؤخذ من قصة يوسف:
فإذا كان المراد من الكيد فعلا من الله بأن ييسر لعبده المؤمن المظلوم المتوكل عليه أمورا يحصل بها مقصوده من الانتقام من الظالم كان هذا خارجا عن الحيل الفقهية فإن كلامنا في الحيل التي يفعلها العبد لا فيما يفعله الله تعالى بل في قصة يوسف تنبيه على بطلان الحيل وان من كاد كيدا محرما فإن الله يكيده ويعامله بنقيض قصده وبمثل عمله وهذه سنة الله في أرباب الحيل المحرمة انه لا يبارك لهم فيما نالوه بهذه الحيل ويهيء لهم كيدا على يد من يشاء من خلقه يجزون به من جنس كيدهم وحيلهم
وفيها تنبيه على ان المؤمن المتوكل على الله اذا كاده الخلق فان الله يكيد له وينتصر له بغير حول منه ولا قوة
وفيها دليل على ان وجود المسروق بيد السارق كاف في إقامة الحد عليه بل هو بمنزل إقراره وهو أقوى من البينة وغاية البينة أن يستفاد منها ظن(9/254)
ص -221-…وأما وجود المسروق بيد السارق فيستفاد منه اليقين وبهذا جاءت السنة في وجوب الحد بالحبل والرائحة في الخمر كما اتفق عليه الصحابة والاحتجاج بقصة يوسف على هذا احسن واوضح من الاحتجاج بها على الحيل
وفيها تنبيه على ان العلم الخفي الذي يتوصل به إلى المقاصد الحسنة مما يرفع الله به درجات العبد لقوله بعد ذلك نرفع درجات من نشاء قال: زيد بن أسلم وغيره بالعلم وقد اخبر تعالى عن رفعه درجات أهل العلم في ثلاثة مواضع من كتابه احدها قوله وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء فأخبر انه يرفع درجات من يشاء بعلم الحجة وقال في قصة يوسف كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا ان يشاء الله نرفع درجات من نشاء فأخبر انه يرفع درجات من يشاء بالعلم الخفي الذي يتوصل به صاحبه إلى المقاصد المحمودة وقال يا أيها الذين آمنوا إذا قيل: لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل: انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين اوتوا العلم درجات فأخبر انه يرفع درجات أهل العلم والايمان
فصل: النوع الثاني من كيد الله
النوع الثاني من كيده لعبده المؤمن: وان يلهمه تعالى امرا مباحا أو مستحبا أو واجبا يوصله به إلى المقصود الحسن فيكون على هذا إلهامه ليوسف ان يفعل ما فعل هو من كيده تعالى أيضا وقد دل على ذلك قوله نرفع درجات من نشاء فإن فيها تنبيها على ان العلم الدقيق الموصل إلى المقصود الشرعي صفة مدح كما ان العلم الذي يخصم به المبطل صفة مدح وعلى هذا فيكون من الكيد ما هو مشروع لكن لا يجوز ان يراد به الكيد الذي تستحل به المحرمات أو تسقط به الواجبات فإن هذا كيد الله والله هو الذي(9/255)
ص -222-…يكيد الكائد ومحال أن يشرع الله تعالى أن يكاد دينه وأيضا فإن هذا الكيد لا يتم إلا بفعل يقصد به غير مقصوده الشرعي ومحال ان يشرع الله لعبده ان يقصد بفعله ما لم يشرع الله ذلك الفعل له فهذا هو الجواب عن احتجاج المتحيلين بقصة يوسف عليه الصلاة والسلام وقد تبين أنها من أعظم الحجج عليهم وبالله التوفيق
فصل: لا دليل مع المحتالين من حديث أبي هريرة
وأما حديث أبي هريرة وأبي سعيد بع الجميع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا فما أصحه من حديث ونحن نتلقاه بالقبول والتسليم والكلام معكم فيه من مقامين احدهما إبطال استدلالكم به على جواز الحيل وثانيهما بيان دلالته على نقيض مطلوبكم إذ هذا شأن كل دليل صحيح احتج به محتج على باطل فإنه لا بد ان يكون فيه ما يدل على بطلان قوله ظاهرا أو إيماء مع عدم دلالته على قوله
المطلق والفرق بينه وبين العام:
فأما المقام الاول فنقول غاية ما دل الحديث عليه ان النبي صلى الله عليه وسلم أمره ان يبيع سلعته الاولى بثمن ثم يبتاع بثمنها تمرا آخر ومعلوم قطعا أن ذلك إنما يقتضى البيع الصحيح فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يأذن في العقد الباطل فلا بد ان يكون العقد الذي أذن فيه صحيحا والشأن كل الشأن في العقد المتنازع فيه فلو سلم لكم المنازع صحته لاستغنيتم عن الاستدلال بالحديث ولا يمكن الاستدلال بالحديث على صحته لانه ليس بعام فإن قوله بع مطلق لا عام فهذا البيع لو كان صحيحا متفقا على صحته لم يكن هناك لفظ عام يحتج به على تناوله فكيف وهذا البيع مما قد دلت السنة الصحيحة وأقوال الصحابة والقياس الصحيح على بطلانه كما تقدم؟ ولو اختلف(9/256)
ص -223-…رجلان في بيع هل هو صحيح أو فاسد وأراد كل واحد منهما إدخاله في هذا اللفظ لم يمكنه ذلك حتى يثبت أنه بيع صحيح ومتى أثبت انه بيع صحيح لم يحتج إلى الاستدلال بهذا المطلق فتبين انه لا حجة فيه على صورة من صور النزاع ألبتة
ونكتة الجواب أن يقال الامر المطلق بالبيع إنما يقتضي البيع الصحيح ومن سلم لكم ان هذه الصورة التي تواطأ فيها البائع والمشتري على الربا وجعل السلعة الدخيلة محللا له غير مقصودة بالبيع بيع صحيح وإذا كان الحديث ليس فيه عموم وإنما هو مطلق والامر بالحقيقة المطلقة ليس امر بشيء من صورها لأن الحقيقة مشتركة بين الافراد والقدر المشترك ليس هو مما يميز به كل واحد من الافراد عن الآخر ولا هو مستلزما له فلا يكون الامر بالمشترك امرا بالمميز بحال وإن كان مستلزما لبعض تلك القيود لا بعينه فيكون عاما لها على سبيل البدل لكن ذلك لا يقتضى العموم للأفراد على سبيل الجمع وهو المطلق في قوله بع هذا الثوب لا يقتضى الامر ببيعه من زيد أو عمرو ولابكذا أو كذا ولا بهذه السوق أو هذه فإن اللفظ لا دلالة له على شئ من شئ من ذلك إذا أتى بالمسمى حصل ممتثلا من جهة وجود تلك الحقيقة لا من جهة تلك القيود وهذا الامر لا خلاف فيه لكن بعض الناس يعتقد ان عدم الامر بالقيود يستلزم عدم الاجزاء إذا اتى بها إلا بقرينة وهو خطأ والصواب ان القيود لا تنافى الامر ولا تستلزمه وإن كان لزوم بعضها لزوما عقليا ضرورة وقوع القدر المشترك في ضمن قيد من تلك القيود وإذا تبين هذا فليس في الحديث أمره أن يبيع التمر لبائع النوع الآخر ولا لغيره ولا بحلول ولا تأجيل ولا بنقد البلد ولا غيره ولا بثمن المثل أو غيره وكل هذه القيود خارجة عن مفهوم اللفظ ولو زعم زاعم ان اللفظ يعم هذا كله كان مبطلا لكن اللفظ لا يمنع الإجزاء إذا أتى بها وإنما استفيد عدم الامتثال إذا بيع بدون ثمن المثل أو بثمن مؤجل أو بغير نقد البلد من العرف الذي ثبت للبيع(9/257)
المطلق وكذلك ليس في اللفظ ما يدل على أنه يبيعه من البائع(9/258)
ص -224-…بعينه ولا غيره كما ليس فيه ما يمنعه بل كل واحد من الطرفين يحتاج إلى دليل خارج عن اللفظ المطلق فما قام الدليل على إباحته أبيح فعله بالدليل الدال على جوازه لا بهذا اللفظ وما قام دليل على المنع منه لم يعارض دليل المنع بهذا اللفظ المطلق حتى يطلب الترجيح بل يكون دليل المنع سالما عن المعارضة بهذا فإن عورض بلفظ عام متناول لإباحته بوضع اللفظ له أو بدليل خاص صحت المعارضة فتأمل هذا الموضع الذي كثيرا ما يغلط فيه الناظر والمناظر وبالله التوفيق(9/259)
وقد ظهر بهذا جواب من قال: لو كان الابتياع من المشتري حراما لنهى عنه فإن مقصوده صلى الله عليه وسلم إنما كان لبيان الطريق التي بها يحصل اشتراء التمر الجيد لمن عنده رديء وهو ان يبيع الرديء بثمن ثم يبتاع بالثمن جيدا ولم يتعرض لشروط البيع وموانعه لأن المقصود ذكر الحكم على وجه الجملة ولأن المخاطب أحيل على فهمه وعلمه بأنه إنما أذن له في بيع يتعارفه الناس وهو البيع المقصود في نفسه ولم يؤذن له في بيع يكون وسيلة وذريعة ظاهرة إلى ما هو ربا صريح وكان القوم أعلم بالله ورسوله وشريعته من أن يفهموا عنه أنه اذن لهم في الحيل الربوية التي ظاهرها بيع وباطنها ربا ونحن نشهد بالله أنه كما لم يأذن فيها بوجه لم يفهمها عنه اصحابه بخطابه بوجه وما نظير هذا الاستدلال إلا استدلال بعضهم على جواز أكل ذي الناب والمخلب بقوله وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود واستدلال آخر بقوله وأحل لكم ما وراء ذلكم على جواز نكاح الزانية المصرة على الزنا واستدلال آخر على ذلك بقوله وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم واستدلال غيره به على صحة نكاح التحليل بذلك وعلى صحة نكاح المتعة واستدلال آخر على جواز نكاح المخلوقة من مائه إذا كان زانيا ولو ان رجلا استدل بذلك على جواز نكاح المرأة على عمتها وخالتها وأخذ يعارض به السنة لم يكن فرق بينه وبين هذا الاستدلال بل لو استدل به على كل نكاح حرمته السنة لم يكن فرق بينه وبين هذا الاستدلال وكذلك قوله بع الجميع لو استدل به مستدل(9/260)
ص -225-…على بيع من البيوع المتنازع فيها لم يكن فيه حجة وليس بالغالب ان بائع التمر بدراهم يبتاع بها من المشتري حتى يقال هذه الصورة غالبة فيحمل اللفظ عليها ولا هو المتعارف عند الاطلاق عرفا وشرعا وبالجملة فإرادة هذه الصورة وحدها من اللفظ ممتنع وإرادتها مع غيرها فرع على عمومه ولا عموم له وإرادة القدر المشترك بين أفراد البيع إنما تنصرف إلى البيع المعهود عرفا وشرعا وعلى التقديرات كلها لا تدخل هذه الصورة
ومما يدل على ذلك ان هذه الصورة لا تدخل في امر الرجل لعبده وولده ووكيله ان يشتري له كذا فلو قال: بع هذه الحنطة العتيقة واشتر لنا جديدة لم يفهم السامع إلا بيعا مقصودا أو شراء مقصودا فثبت ان الحديث ليس فيه إشعار بالحيلة الربوية ألبتة
يوضحه ان قوله بع كذا واشتر كذا أو بعت واشتريت لا يفهم منه إلا البيع الذي يقصد به نقل ملك المبيع نقلا مستقرا ولهذا لا يفهم منه بيع الهازل ولا المكره ولا بيع الحيلة ولا بيع العينة ولا يعد الناس من اتخذ خرزة أو عرضا يحلل به الربا ويبيعه ويشتريه صورة خالية عن حقيقة البيع ومقصوده تاجرا وإنما يسمونه مرابيا ومتحيا فكيف يدخل هذا تحت لفظ النبي صلى الله عليه وسلم
يزيده إيضاحا ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من باع بيعتين في بيعة فله اوكسهما أو الربا" ونهى عن بيعتين في بيعة ومعلوم انهما متى تواطئا على أن يبيعه بالثمن ثم يبتاع به منه فهو بيعتان في بيعة فلا يكون ما نهى عنه داخلا تحت ما أذن فيه
يوضحه أيضا انه قال: لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع وتواطؤهما على أن يبيعه السلعة بثمن ثم يشتري منه غيرها بذلك الثمن منطبق على لفظ الحديث فلا يدخل ما أخبر أنه لا يحل تحت ما أذن فيه(9/261)
ص -226-…يوضحه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بع الجميع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا" وهذا يقتضى بيعا ينشئه ويبتدئه بعد انقضاء البيع الاول ومتى واطأه في أول الامر على ان ابيعك وأبتاع منك فقد اتفقا على العقدين معا فلا يكون الثاني عقدا مستقلا مبتدأ بل هو من تتمة العقد الاول عندهما وفي اتفاقهما وظاهر الحديث انه امر بعقدين مستقلين لا يرتبط احدهما بالآخر ولا ينبنى عليه
ولو نزلنا عن ذلك كله وسلمنا أن الحديث عام عموما لفظيا يدخل تحته صورة الحيلة فهو لا ريب مخصوص بصور كثيرة فنخص منه هذه الصورة المذكورة بالادلة المتقدمة على بطلان الحيل واضعافها والعام يخص بدون مثلها بكثير فكم قد خص العموم بالمفهوم وخبر الواحد والقياس وغير ذلك فتخصيصه لو فرض عمومه بالنصوص والاقيسة وإجماع الصحابة على تحريم الحيل اولى واحرى بل واحد من تلك الادلة التي ذكرناها على المنع من الحيل وتحريمها كاف في التخصيص وإذا كنتم قد خصصتم قوله صلى الله عليه وسلم لعن الله المحلل والمحلل له مع أنه عام عموما لفظيا فخصصتموه بصورة واحدة وهي ما اشترطا في صلب العقد أنه إنما تزوجها ليحلها ومتى أحلها فهى طالق مع ان هذه الصورة نادرة جدا لا يفعلها المحلل والصور الواقعة في التحليل اضعاف هذه فحملتم اللفظ العام عموما لفظيا ومعنويا على أندر صورة تكون لو قدر وقوعها وأخليتموه عن الصور الواقعة المستعملة بين المحللين فقوله صلى الله عليه وسلم: "بع الجميع بالدراهم" أولى بالتقييد بالنصوص الكثيرة والآثار والاقيسة الصحيحة التي هي في معنى الاصل وحمله على البيع المتعارف المعهود عرفا وشرعا وهذا بحمد الله تعالى في غاية الوضوح ولا يخفى على منصف يريد الله ورسوله والدار الآخرة وبالله التوفيق(9/262)
ص -227-…فصل: توضيح المقصود من حديث أبي هريرة
ومما يوضح فساد حمل الحديث على صورة الحيلة وان كلام الرسول ومنصبه العالى منزه عن ذلك ان المقصود الذي شرع الله تعالى له البيع واحله لاجله هو ان يحصل ملك الثمن للبائع ويحصل ملك المبيع للمشتري فيكون كل منهما قد حصل له مقصوده بالبيع هذا ينتفع بالثمن وهذا بالسلعة وهذا إنما يكون إذا قصد المشتري نفس السلعة للانتفاع بها أو التجارة فيها وقصد البائع نفس الثمن ولهذا يحتاط كل واحد منهما فيما يصير اليه من العرض هذا في وزن الثمن ونقده ورواجه وهذا في سلامة السلعة من العيب وأنها تساوي الثمن الذي بذله فيها فإذا كان مقصود كل منهما ذلك فقد قصدا بالسبب ما شرعه الله له وأتى بالسبب حقيقة وحكما وسواء حصل مقصوده بعقد أو توقف على عقود مثل أن يكون بيده سلعة وهو يريد ان يبتاع سلعة اخرى لا تباع سلعته بها لمانع شرعي أو عرفي أو غيرهما فيبيع سلعته ليملك ثمنها وهذا بيع مقصود وعوضه مقصود ثم يبتاع بالثمن سلعة اخرى وهذه قصة بلال في تمر خيبر سواه فإنه إذا باع الجميع بالدراهم فقد اراد بالبيع ملك الثمن وهذا مقصود مشروع ثم إذا ابتاع بالدراهم جنيبا فقد عقد عقدا مقصودا مشروعا فلما كان بائعا قصد تملك الثمن حقيقة ولما كان مبتاعا قصد تملك السلعة حقيقة فإن ابتاع بالثمن من غير المشتري منه فهذا لا محذور فيه إذ كل من العقدين مقصود مشروع ولهذا يستوفيان حكم العقد الاول من النقد والقبض وغيرهما وأما إذا ابتاع بالثمن من مبتاعه من جنس ما باعه فهذا يخشى منه ان لا يكون العقد الاول مقصودا لهما بل قصدهما بيع السلعة الاولى بالثانية فيكون ربا بعينه ويظهر هذا القصد بأنهما يتفقان على صاع بصاعين أولا ثم يتوصلان إلى ذلك ببيع الصاع بدرهم ويشتري به صاعين ولا يبالي البائع بنقد ذلك الثمن ولا بقبضه ولا بعيب فيه ولا بعدم رواجه ولا(9/263)
ص -228-…يحتاط لنفسه فيه احتياط من قصده تملك الثمن إذ قد علم هو الآخر ان الثمن بعينه خارج منه عائد اليه فنقده وقبضه والاحتياط فيه يكون عبثا وتأمل حال باعة الحلى عينة كيف يخرج كل حلقة من غير جنسه أو قطعة ما ويبيعك إياها بذلك الثمن ثم يبتعاعها منك فكيف لا تسأل عن قيمتها ولا عن وزنها ولا مساواتها للثمن بل قد تساوي اضعافه وقد تساوى بعضه إذ ليست هي القصد وانما القصد أمر وراءها وجعلت هي محللا لذلك المقصود وإذا عرف هذا فهو إنما عقد معه العقد الاول ليعيد اليه الثمن بعينه ويأخذ العوض الآخر وهذا تواطؤ منهما حين عقداه على فسخه والعقد اذا قصد به فسخه لم يكن مقصودا وإذا لم يكن مقصودا كان وجوده كعدمه وكان توسطه عبثا
ومما يوضح الامر في ذلك انه اذا جاءه بتمر أو زبيب أو حنطة ليبتاعه به من جنسه فإنهما يتشارطان ويتراضيان على سعر أحدهما من الآخر وأنه مد بمد ونصف مثلا ثم بعد ذلك يقول بعتك هذا بكذا وكذا درهما ثم يقول بعنى بهذه الدراهم كذا و كذا صاعا من النوع الآخر وكذلك في الصرف وليس للبائع ولا للمشتري غرض في الدراهم والغرض معروف فأين من يبيعه السلعة بثمن ليشتري به منه من جنسها إلى من يبيعه اياها بثمن له غرض في تملكه وقبضه وتوسط الثمن في الاول عبث محض لا فائدة فيه فكيف يأمر به الشارع الحكيم مع زيادة التعب والكلفة فيه ولو كان هذا سائغا لم يكن في تحريم الربا حكمة سوى تضييع الزمان واتعاب النفوس بلا فائدة فإنه لا يشاء احد ان يبتاع ربويا بأكثر منه من جنسه الاول الا قال: بعتك هذا بكذا وابتعت منك هذا بهذا الثمن فلا يعجز احد استحلال ما حرمه الله قط بأدنى الحيل
يوضحه ان الربا نوعان: ربا الفضل وربا النسيئة فأما ربا الفضل فيمكنه في كل مال ربوى ان يقول بعتك هذا المال بكذا ويسمى ما شاء ثم يقول(9/264)
ص -229-…اشتريت منك هذا للذي هو من جنسه بذلك الذي سماه ولا حقيقة له مقصودة واما ربا النسيئة فيمكنه ان يقول بعتك هذه الحريرة بألف درهم أو عشرين صاعا إلى سنة وابتعتها منك بخمسمائة حاله أو خمسة عشر صاعا ويمكنه ربا الفضل فلا يشاء مراب إلا أقرضه ثم حاباه في بيع أو إجارة أو غيرهما ويحصل مقصوده من الزيادة فيا سبحان الله أيعود الربا الذي قد عظم الله شأنه في القرآن وأوجب محاربة مستحله ولعن آكله موكله وشاهديه وكاتبه وجاء فيه من الوعيد ما لم يجيء في غيره إلى ان يستحل نوعاه بأدنى حيلة لا كلفة فيها أصلا إلا بصورة عقد هي عبث ولعب يضحك منها ويستهزأ بها فكيف يستحسن ان ينسب إلى نبي من الانبياء فضلا عن سد الانبياء بل ان ينسب رب العالمين إلى ان يحرم هذه المحرمات العظيمة ويوعد عليها بأغلظ العقوبات وأنواع الوعيد ثم يبيحها بضرب من الحيل والعبث والخداع الذي ليس له حقيقة مقصودة ألبتة في نفسه للمتعاقدين وترى كثيرا من المرابين لما علم ان هذا العقد ليس له حقيقة مقصودة ألبتة قد جعل عنده خرزة ذهب فكل من جاءه يريد ان يبيعه جنسا بجنسه اكثر منه أو اقل ابتاع منه ذلك الجنس بتلك الخرزة ثم ابتاع الخرزة بالجنس الذي يريد ان يعطيه إياه افيستجيز عاقل ان يقول إن الذي حرم بيع الفضة بالفضة متفاضلا أحلها بهذه الخرزة وكذلك كثير من الفجار قد أعد سلعة لتحليل ربا النساء فإذا جاءه من يريد الفا بألف ومائتين أدخل تلك السلعة محللا ولهذا كانت أكثر حيل الربا في بابها أغلظ من حيل التحليل ولهذا حرمها أو بعضها من لم يحرم التحليل لان القصد في البيع معتبر في فطر الناس ولأن الاحتيال في الربا غالبا إنما يتم بالمواطأة اللفظية أو العرفية ولايفتقر إلى شهادة ولكن يتعاقدان ثم يشهدان ان له في ذمته دينا ولهذا إنما لعن شاهداه إذا علما به والتحليل لا يمكن إظهاره وقت العقد لكون الشهادة(9/265)
ص -230-…شرطا فيه والشروط المتقدمة تؤثر كالمقارنة كما تقدم تقريره إذ تقديم الشرط ومقارنته لا يخرجه عن كونه عقد تحليل ويدخله في نكاح الرغبة والقصود معتبرة في العقود
فصل: آراء بعض الفقهاء في الحيل الربوية
وجماع الامر انه اذا ربويا بثمن وهو يريد ان يشتري منه بثمنه من جنسه فإما أن يواطئه على الشراء منه لفظا أو يكون العرف بينهما قد جرى بذلك أو لا يكون فإن كان الاول فهو باطل كما تقدم تقريره فإن هذا لم يقصد ملك الثمن ولا قصد هذا تمليكه وإنما قصد تمليك المثمن بالمثمن وجعلا تسمية الثمن تلبيسا وخداعا ووسيلة إلى الربا فهو في هذا العقد بمنزلة التيس الملعون في عقد التحليل وان لم تجر بينهما مواطأة لكن قد علم المشتري ان البائع يريد ان يشترى منه ربويا بربوي فكذلك لان علمه بذلك ضرب من المواطأة وهو يمنع قصد الثمن الذي يخرجان به عن قصد الربا وان قصد البائع الشراء منه بعد البيع ولم يعلم المشترى فقد قال: الإمام احمد ههنا لو باع من رجل دنانير بدارهم لم يجز ان يشترى بالدراهم منه ذهبا إلا أن يمضى ويبتاع بالورق من غيره ذهبا فلا يستقيم فيجوز ان يرجع إلى الذي ابتاع منه الدنانير فيشترى منه ذهبا وكذلك كره مالك ان تصرف دراهمك من رجل بدنانير ثم تبتاع منه بتلك الدنانير دراهم غير دراهمك في الوقت أو بعد يوم أو يومين قال: ابن القاسم فإن طال الزمان وصح أمرهما فلا بأس به فوجه ما منعه الإمام احمد رضى الله عنه انه متى قصد المشتري منه تلك الدنانير لم يقصد تملك الثمن ولهذا لا يحتاط في النقد والوزن ولهذا يقول إنه متى بدا له بعد القبض والمفارقة ان يشترى منه بأن يطلب من غيره فلا يجد لم يكن في العقد الاول خلل والمتقدمون من أصحاب حملوا هذا المنع منه على التحريم(9/266)
ص -231-…وقال القاضي وابن عقيل وغيرهما: "اذا لم يكن شرطا ومواطأة بينهما لم يحرم" وقد اوما اليه الامام احمد في رواية حرب فإنه قال: قلت لأحمد اشترى من رجل ذهبا ثم ابتاعه منه قال: "بيعه من غيره احب إلي" وذكر ابن عقيل ان احمد لم يكرهه في رواية اخرى وكره ابن سيرين للرجل ان يبتاع من الرجل الدراهم بالدنانير ثم يشتري منه بالدراهم دنانير وهذه المسألة في ربا الفضل كمسائل العينة في ربا النساء ولهذا عدها من الربا الفقهاء السبعة وأكثر العلماء وهو قول أهل المدينة كمالك وأصحابه وأهل الحديث كأحمد وأصحابه وهو مأثور عن ابن عمر ففي هذه المسأله قد عاد الثمن إلى المشترى وحصلا على ربا الفضل أو النساء وفي العينة قد عاد المبيع إلى البائع وافضى إلى ربا الفضل والنساء جميعا ثم إن كان في الموضعين لم يقصد الثمن ولا المبيع وإنما جعل وصلة إلى الربا فهذا الذي لاريب في تحريمه والعقد الاول ههنا باطل بلا توقف عند من يبطل الحيل وقد صرح به القاضي في مسألة العينة في غير موضع وحكى ابو الخطاب في صحته وجهين
قال شيخنا والاول هو الصواب وانما تردد من تردد من الاصحاب في العقد الاول في مسألة العينة لان هذه المسألة انما ينسب الخلاف فيها في العقد الثاني بناء على ان الاول صحيح وعلى هذا التقدير فليست من مسائل الحيل وإنما هي من مسائل الذرائع ولها مأخذ آخر يقتضى التحريم عند أبي حنيفة وأصحابه فإنهم لا يحرمون الحيل ويحرمون مسألة العينة وهو أن الثمن إذا لم يستوف لم يتم العقد الاول فيصير الثاني مبنيا عليه وهذا تعليل خارج عن قاعدة الحيل والذرائع فصار للمسألة ثلاثة مآخذ فلما لم يتمحض تحريمها على قاعدة الحيل توقف في العقد الاول من توقف
قال شيخنا والتحقيق أنها إذا كانت من الحيل أعطيت حكم الحيل وإلا اعتبر فيها المأخذان الآخران هذا إذا لم يقصد الاول فإن قصد حقيقته(9/267)
ص -232-…فهو صحيح لكن ما دام الثمن في ذمة المشتري لم يجز ان يشترى منه المبيع بأقل منه من جنسه ولا يجوز ان يبتاع منه بالثمن ربويا لا يباع بالآول نساء لان احكام العقد الاول لا تتم إلا بالتقابض فإذا لم يحصل كان ذريعة إلى الربا وان تقابضا وكان العقد مقصودا فله يشتري منه كما يشتري من غيره وإذا كان الطريق إلى الحلال هي العقود المقصودة المشروعة التي لا خداع فيها ولا تحريم لم يصح ان تلحق بها صورة عقد لم تقصد حقيقته وإنما قصد التوصل به إلى استحلال ما حرمه الله والله الموفق
وانما اطلنا الكلام على هذه الحجة لأنها عمدة أرباب الحيل من السنة كما وان عمدتم من الكتاب وخذ بيدك ضغثا
فصل: حديث أبي هريرة على تحريم الحيل
فهذا تمام الكلام على المقام الاول وهو عدم دلالة الحديث على الحيل الربوية بوجه من الوجوه
وأما المقام الثاني وهو دلالته على تحريمها وفسادها فلأنه صلى الله عليه وسلم نهاه أن يشتري الصاع بالصاعين ومن المعلوم ان الصفة التي في الحيل مقصودة يرتفع سعره لاجلها والعاقل لا يخرج صاعين ويأخذ صاعا إلا لتميز ما يأخذه بصفة أو لغرض له في المأخوذ ليس في المبذول والشارع حكيم لا يمنع المكلف مما هو مصلحة له ويحتاج اليه إلا لتضمنه أو لاستلزامه مفسدة أرجح من تلك المصلحة وقد خفيت هذه المفسدة على كثير من الناس حتى قال: بعض المتأخرين لا يتبين لى ما وجه تحريم ربا الفضل والحكمة فيه وقد تقدم أن هذا من أعظم حكمة الشريعة ومراعاة مصالح الخلق وان الربا نوعان ربا نسيئة وتحريمه تحريم المقاصد وربا فضل وتحريمه تحريم الذرائع(9/268)
ص -233-…والوسائل فإن النفوس متى ذاقت الربح فيه عاجلا تسورت منه إلى الربح الآجل فسندت عليها بالذريعة وحمى جانب الحمى وأي حكمة وحكم احسن من ذلك واذا كان كذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم منع بلالا من أخذ مد بمدين لئلا يقع في الربا ومعلوم انه لو جوز له ذلك بحيلة لم يكن في منعه من بيع مدين بمد فائدة اصلا بل كان بيعه كذلك اسهل واقل مفسدة من توسط الحيلة الباردة التي لا تغنى من المفسدة شيئا وقد نبه على هذا بقوله في الحديث لا تفعل اوه عين الربا فنهاه عن الفعل والنهي يقتضي المنع بحيلة أو غير حيلة لان المنهي عنه لا بد ان يشتمل على مفسدة لاجلها ينهى عنه وتلك المفسدة لا تزول بالتحيل عليها بل تزيد واشار إلى المنع بقول اوه عين الربا فدل على ان المنع إنما كان لوجود حقيقة الربا وعينه وانه لا تأثير للصورة المجردة مع قيام الحقيقة فلا يهمل قوله عين الربا فتحت هذه اللفظة ما يشير إلى ان الاعتبار بالحقائق وانها هي التي عليها المعول وهي محل التحليل والتحريم والله تعالى لا ينظر إلى صورها وعباراتها التي يكسوها إياها العبد وإنما ينظر إلى حقائقها وذواتها والله الموفق
فصل: لا تجوز المعاريض في استباحة الحرام
وأما تمسكهم بجواز المعاريض وقولهم إن الحيل معاريض فعلية على وزان المعاريض القولية فالجواب من وجوه
احدها: ان يقال ومن سلم لكم ان المعاريض اذا تضمنت استباحة الحرام وإسقاط الواجبات وإبطال الحقوق كانت جائزة بل هي من الحيل القولية وإنما تجوز المعاريض اذا كان فيها تخلص من ظالم كما عرض الخليل بقوله هذه أختي فإذا تضمنت نصر حق أو إبطال باطل كما عرض الخليل بقوله إني سقيم وقوله بل فعله كبيرهم هذا وكما عرض الملكان لداود بما ضرباه له من(9/269)
ص -234-…المثال الذي نسباه إلى انفسهما وكما عرض النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "ونحن من ماء" وكما كان يروى عن الغزوة بغيرها لمصلحة الاسلام والمسلمين إذا لم تتضمن مفسدة في دين ولا دنيا كما عرض صلى الله عليه وسلم بقوله: "إنا حاملوك على ولد الناقة" وبقوله: "إن الجنة لا تدخلها العجز" وبقوله: "من يشترى منى هذا العبد يريد عبد الله" وبقوله: "لتلك المرأة زوجك الذي في عينيه بياض" وإنما اراد به البياض الذي خلقه الله في عيون بين آدم وهذه المعاريض ونحوها من اصدق الكلام فأين في جواز هذه ما يدل على جواز الحيل المذكورة
رأي ابن تيمية في المعاريض:
وقال شيخنا رضى الله عنه: "والذي قيست عليه الحيل الربويه وليست مثله نوعان احدهما المعاريض وهي ان يتكلم الرجل بكلام جائز يقصد به معنى صحيحا ويوهم غيره انه يقصد به معنى آخر فيكون سبب ذلك الوهم كون اللفظ مشتركا بين حقيقتين لغويتين أو عرفيتين أو شرعيتين أو لغوية مع إحداهما أو عرفية مع إحداهما أو شرعية مع أحداهما فيعنى احد معنييه ويوهم السامع له أنه إنما على الآخر إما لكونه لم يعرف إلا ذلك وإما لكون دلالة الحال تقتضيه واما لقرينة حالية أو مقالية يضمها إلى اللفظ أو يكون سبب التوهم كون اللفظ ظاهرا في معنى فيعنى به معنى يحتمله باطنا بأن ينوى مجاز اللفظ دون حقيقته أو ينوي بالعام الخاص أو بالمطلق المقيد أو يكون سبب التوهم كون المخاطب إنما يفهم من اللفظ غير حقيقته لعرف خاص به أو غفلة منه أو جهل أو غير ذلك من الاسباب مع كون المتكلم إنما قصد حقيقته فهذا كله إذا كان المقصود به رفع ضرر غير مستحق فهو جائز كقول الخليل هذه اختي وقول النبي صلى الله عليه وسلم نحن من ماء وقول الصديق رضى الله عنه هاد يهديني السبيل ومنه قول عبدالله بن رواحة(9/270)
ص -235-… شهدت بأن وعد الله حق الابيات
أوهم امرأته القرآن وقد يكون واجبا إذا تضمن دفع ضرر يجب دفعه ولا يندفع إلا بذلك
وهذا الضرب وان كان نوع حيلة في الخطاب لكنه يفارق الحيل المحرمة من الوجه المحتال عليه والوجه المحتال به أما الاول فلكونه دفع ضرر غير مستحق فلو تضمن كتمان ما يجب إظهاره من شهادة أو إقرار أو علم أو نصيحة مسلم أو التعريف بصفة معقود عليه في بيع أو نكاح أو أجارة فإنه غش محرم بالنص.
قال مثنى الانباري: "قلت لاحمد بن حنبل كيف الحديث الذي جاء في المعاريض فقال المعاريض لا تكون في الشراء والبيع تكون في الرجل يصلح بين الناس أو نحو هذا"
قال شيخنا: والضابط ان كل ما وجب بيانه فالتعريض فيه حرام لأنه كتمان وتدليس ويدخل في هذا الاقرار بالحق والتعريض في الحلف عليه والشهادة على العقود ووصف المعقود عليه والفتيا والحديث والقضاء وكل ما حرم بيانه فالتعريض فيه جائز بل واجب إذا أمكن ووجب الخطاب كالتعريض لسائل عن مال معصوم أو نفسه يريد ان يعتدى عليه وإن كان بيانه جائزا أو كتمانه جائزا فإما ان تكون المصلحة في كتمانه أو في إظهاره أو كلاهما متضمن للمصلحة فإن كان الاول فالتعريض مستحب كتورية الغازي عن الوجه الذي يريده وتورية الممتنع عن الخروج والاجتماع بمن يصده عن طاعة أو مصلحة راجحة كتورية احمد عن المروزي وتورية الحالف لظالم له أو لمن استحلفه يمينا لا تجب عليه ونحو ذلك وان كان الثاني فالتورية فيه مكروهة والاظهار مستحب وهذا في كل موضع يكون البيان فيه مستحبا وإن تساوي الامران وكان كل منهما طريقا إلى المقصود لكون ذلك المخاطب التعريض والتصريح بالنسبة إليه سواء جاز الأمران كما لو كان يعرف بعدة ألسن وخطايه بكل لسان منها يحصل مقصوده ومثل هذا ما لو كان له غرض مباح(9/271)
ص -236-…في التعريض ولا حذر عليه في التصريح والمخاطب لا يفهم مقصوده وفي هذا ثلاثة اقوال للفقهاء وهي في مذهب الامام احمد أحدها له التعريض إذ لا يتضمن كتمان حق ولا إضرار بغير مستحق والثاني ليس له ذلك فإنه إيهام للمخاطب من غير حاجة اليه وذلك تغرير وربما أوقع السامع في الخبر الكاذب وقد يترتب عليه ضرر به والثالث له التعريض في غير اليمين
وقال الفضيل بن زياد سألت احمد عن الرجل يعارض في كلامه يسألني عن الشيء أكره أن أخبره به قال: إذا لم يكن يمينا فلا بأس في المعاريض مندوحة عن الكذب وهذا عند الحاجة إلى الجواب فأما الابتداء فالمنع فيه ظاهر كما دل عليه حديث ام كلثوم انه لم يرخص فيما يقول الناس إنه كذب إلا في ثلاث وكلها مما يحتاج اليه المتكلم وبكل حال فغاية هذا القسم تجهيل السامع بأن يوقعه المتكلم في اعتقاد ما لم يرده بكلامه وهذا التجهيل قد تكون مصلحته أرجح من مفسدته وقد تكون مفسدته أرجع من مصلحته وقد يتعارض الامران ولا ريب ان من كان علمه بالشيء يحمله على ما يكرهه الله ورسوله كان تجهيله به وكتمانه عنه اصلح له وللمتكلم وكذلك ما كان في علمه مضرة على القائل أو تفوت عليه مصلحة هي ارجح من مصلحة البيان فله ان يكتمه عن السامع فان أبي الا استنطاقه فله أن يعرض له
فالمقصود بالمعاريض فعل واجب أو مستحب أو مباح اباح الشارع السعي في حصوله ونصب له سببا يفضى اليه فلا يقاس بهذه الحيل التي تتضمن سقوط ما أوجبه الشارع وتحليل ما حرمه فأين احد البابين من الآخر وهل هذا إلا من أفسد القياس وهو كقياس الربا على البيع والميتة على المذكى(9/272)
ص -237-…فصل: جواز المعاريض فيما لا يضر
فهذا الفرق من جهة المحتال عليه وأما الفرق من جهة المحتال به فإن المعرض إنما تكلم بحق ونطق بصدق فيما بينه وبين الله لا سيما إن لم ينو باللفظ خلاف ظاهره في نفسه وإنما كان عدم الظهور من ضعف فهم السامع وقصوره في فهم دلالة اللفظ ومعاريض النبي صلى الله عليه وسلم ومزاحه كان من هذا النوع كقوله نحن من ماء وقوله إنا حاملوك على ولد الناقة ولا يدخل الجنة العجز وزوجك الذي في عينيه بياض وأكثر معاريض السلف كانت من هذا ومن هذا الباب التدليس في الإسناد لكن هذا مكروه لتعلقه بالدين وكون البيان في العلم واجبا بخلاف ما قصد به دفع ظالم أو دفع ضرر عن المتكلم
المعاريض نوعان:
والمعاريض نوعان أحدهما ان يستعمل اللفظ في حقيقته وما وضع له فلا يخرج به عن ظاهره ويقصد فردا من أفراد حقيقته فيتوهم السامع انه قصد غيره إما لقصور فهمه وأما لظهور ذلك الفرد عنده أكثر من غيره وإما لشاهد الحال عنده وإما لكيفية المخبر وقت التكلم من ضحك أو غضب أو إشارة ونحو ذلك وإذا تأملت المعاريض النبوية والسلفيه وجدت عامتها من هذا النوع والثاني ان يستعمل العام في الخاص والمطلق العام في الخاص والمطلق في المقيد وهو الذي يسميه المتأخرون الحقيقة والمجاز وليس يفهم أكثر من المطلق والمقيد فإن لفظ الاسد والبحر والشمس عند الاطلاق له معنى وعند التقييد له معنى يسمونه المجاز ولم يفرقوا بين مقيد ومقيد ولابين قيد وقيد فإن قالوا: كل مقيد مجاز لزمهم ان يكون كل كلام مركب مجازا فإن التركيب يقيده بقيود زائدة على اللفظ المطلق وإن قالوا: بعض القيود بجعله مجازا دون بعض سئلوا عن الضابظ ما هو ولن يجدوا اليه سبيلا وإن قالوا: يعتبر اللفظ الفرد من حيث هو مفرد قبل التركيب وهناك يحكم عليه بالحقيقة والمجاز(9/273)
ص -238-…قيل لهم: هذا أبعد وأشد فسادا فإن اللفظ قبل العقد والتركيب بمنزلة الاصوات التي ينعق بها ولا تفيد شيئا وإنما إفادتها بعد تركيبها وأنتم قلتم الحقيقة هي اللفظ المستعمل وأكثركم يقول استعمال اللفظ فيما وضع له اولا والمجاز بالعكس فلا بد في الحقيقة والمجازم من استعمال اللفظ فيما وضع له وهو إنما يستعمل بعد تركيبه وحيئذ فتركيبه بعده يفهم منها مراد المتكلم فما الذي جعله مع بعض تلك القيود حقيقة ومع بعضها مجازا(9/274)
وليس الغرض إبطال هذا التقسيم الحادث المبتدع المتناقض فإنه باطل من اكثر من أربعين وجها وإنما الغرض التنبيه على نوعى التعريض وأنه تارة يكون مع استعمال اللفظ في ظاهره وتارة يكون اخراجه عن ظاهره ولا يذكر المعرض قرينة تبين مراده ومن هذا النوع عامة التعريض في الايمان والطلاق كقوله كل امرأة له فهى طالق وينوى في بلد كذا وكذا أو ينوى فلانة أو قوله أنت طالق وينوي من زوج كان قبله ونحو ذلك فهذا القسم شيء والذي قبله شيء فأين هذا من قصد المحتال بلفظ العقد أو صورته ما لم يجعله الشارع مقتضيا له بوجه بل جعله مقتضيا لضده ولا يلزم من صلاحية اللفظ له إخبارا صلاحيته له إنشاء فإنه لو قال: تزوجت في المعاريض وعنى نكاحا فاسدا كان صادقا كما لو بينه ولو قال: تزوجت إنشاء وكان فاسدا لم ينعقد وكذلك في جميع الحيل فإن الشارع لم يشرع القرض إلا لمن قصد ان يسترجع مثل قرضه ولم يشرعه لمن قصد ان يأخذ اكثر منه لا بحيلة ولا بغيرها وكذلك إنما شرع البيع لمن له غرض في تمليك الثمن وتمليك السلعة ولم يشرعه قط لمن قصد به ربا الفضل أو النساء ولا غرض له في الثمن ولا في المثمن ولا في السلعة وإنما غرضهما الربا وكذلك النكاح لم يشرعه إلا لراغب في المرأة لم يشرعه للمحلل وكذلك الخلع لم يشرعه إلا للمفتدية نفسها من الزوج تتخلص منه من سوء العشرة ولم يشرعه للتحيل على الحنث قط وكذلك التمليك لم يشرعه الله سبحانه وتعالى إلا لمن قصد نفع الغير والاحسان اليه بتمليكه(9/275)
ص -239-…سواء كان محتاجا أو غير محتاج ولم يشرعه لاسقاط فرض من زكاة أو حج أو غيرهما قط وكذلك المعاريض لم يشرعها إلا لمحتاج إليها أو لمن لا يسقط بها حقا ولا يضربها احدا ولم يشرعها إذا تضمنت إسقاط حق أو إضرار لغير مستحق
متى تباح المعاريض ومتى تحرم:
فثبت ان التعريض المباح ليس من المخادمة لله في شيء وغايته انه مخادعة لمخلوق اباح الشارع مخادعته لظلمه ولا يلزم من جواز مخادعه الظالم المبطل جواز مخادعة المحق فما كان من التعريض مخالفا لظاهر اللفظ كان قبيحا إلا عند الحاجة وما لم يكن منها مخالفا لظاهر اللفظ كان جائزا إلا عند تضمن مفسدة
والمعاريض كما تكون بالقول تكون بالفعل وتكون بالقول والفعل معا مثال ذلك أن يظهر المحارب انه يريد وجها من الوجوه ويسافر اليه ليحسب العدو أنه لا يريده ثم يكر عليه وهو آمن من قصده أو يستطرد المبارز بين يدي خصمه ليظن هزيمته ثم يعطف عليه وهذا من خداعات الحرب
فصل: النوع الآخر من المعاريض
فهذا أحد النوعين الذي قيست عليه الحيل المحرمة والنوع الثاني الكيد الذي شرعه الله للمظلوم أن يكيد به ظالمه ويخدعه به إما للتوصل إلى أخذ حقه منه أو عقوبة له أو لكف شره وعدوانه عنه كما روى الإمام احمد في مسنده ان رجلا شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من جاره أنه يؤذيه فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يطرح متاعه في الطريق ففعل فجعل كل من مر عليه يسأل عن شأن المتاع فيخبر بأن جار صاحبه يؤذيه فيسبه ويلعنه فجاء اليه وقال رد متاعك إلى مكانه فوالله لا أوذيك بعد ذلك ابدا فهذا من أحسن المعاريض الفعليه والطف الحيل التي يتوصل بها إلى دفع ظلم الظالم.
ونحن لا ننكر هذا الجنس وإنما الكلام في الحيل على استحلال محارم(9/276)
ص -240-…الله وإسقاط فرائضه وإبطال حقوق عباده فهذا النوع هو الذي يفوت أفراد الادلة على تحريمه الحصر
فصل: ليس كل الحيل حراما
وأما قولكم جعل العقود حيلا على التوصل إلى مالا يباح إلا بها إلى آخره فهذا موضع الكلام في الحيل وانقسامها إلى احكامها الخمسة فنقول ليس كل ما يسمى حيلة حراما قال: الله تعالى الا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا اراد بالحيلة التحيل على التخلص من بين الكفار وهذه حيلة محمودة يثاب عليها وكذلك الحيلة على هزيمة الكفار كما فعل نعيم بن مسعود يوم الخندق أو على تخليص ماله منهم كما فعل الحجاج بن علاط بإمرأته وكذلك الحيلة على قتل راس من رؤوس اعداء الله كما فعل الذين قتلوا ابن أبي الحقيق اليهودي وكعب بن الأشرف وابا رافع وغيرهم فكل هذه حيل محمودة محبوبة لله ومرضية له
الحيلة اشتقاقها ومعناها والحيلة مشتقة من التحول وهي النوع والحالة كالجلسة والقعدة والركبة فإنها بالكسر للحالة وبالفتح للمرة كما قيل:
الفعلة للمرة والفعلة للحالة… والمفعل للموضع والمفعل للآلة
وهي من ذوات الواو فإنها من التحول من حال يحول وانما انقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها وهو قلب مقيس مطرد في كلامهم نحو ميزان وميقات وميعاد فإنها مفعال من الوزن والوقت والوعد فالحيلة هي نوع مخصوص من التصرف والعمل الذي يتحول به فاعله من حال إلى حال ثم غلب عليها بالعرف استعمالها في سلوك الطرق الخفية التي يتوصل بها الرجل إلى حصول غرضه بحيث لا يتفطن له الا بنوع من الذكاء والفطنة فهذا اخص من موضوعها في اصل اللغة وسواء كان المقصود امرا جائزا أو محرما أو خص من هذا استعمالها في التوصل إلى الغرض الممنوع منه شرعا أو عقلا أو عادة(9/277)
ص -241-…فهذا هو الغالب عليها في عرف الناس فإنهم يقولون فلان من ارباب الحيل ولا تعاملوه فإنه متحيل وفلان يعلم الناس الحيل وهذا من استعمال المطلق في بعض انواعه كالدابة والحيوان وغيرهما
تقسيم الحيلة إلى الأحكام الخمسة:
وإذا قسمت باعتبارها لغة انقسمت إلى الاحكام الخمسة فإن مباشرة الاسباب الواجبة حيلة على الحصول مسبباتها فالأكل والشرب واللبس والسفر الواجب حيلة على المقصود منه والعقود الشرعية واجبها ومستحبها ومباحها كلها حيلة على حصول المعقود عليه والاسباب المحرمة كلها حيلة على حصول مقاصدها منها وليس كلامنا في الحيلة بهذا الاعتبار العام الذي هو مورد التقسيم إلى مباح ومحظور فالحيلة جنس تحته التوصل إلى فعل الواجب وترك المحرم وتخليص الحق ونصر المظلوم وقهر الظالم وعقوبة المعتدي وتحته التوصل إلى استحلال المحرم وإبطال الحقوق وإسقاط الواجبات ولما قال: النبي صلى الله عليه وسلم لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل غلب استعمال الحيل في عرف الفقهاء على النوع المذموم وكما يذم الناس ارباب الحيل فهم يذمون أيضا العاجز الذي لا حيلة عنده لعجزه وجهله بطرق تحصيل مصالحه فالأول ماكر مخادع والثاني عاجر مفرط والممدوح غيرهما وهو من له خبرة بطرق الخير والشر خفيها وظاهرها فيحسن التوصل إلى مقاصده المحمودة التي يحبها الله ورسوله بأنواع الحيل ويعرف طرق الشر الظاهرة والخفية التي يتوصل بها إلى خداعه والمكر به فيحترز منها ولا يفعلها ولا يدل عليها وهذه كانت حال سادت الصحابة رضي الله عنهم فإنهم كانوا ابر الناس قلوبا واعلم الخلق بطرق الشر ووجوه الخداع واتقى لله من ان يرتكبوا منها شيئا أو يدخلوه في الدين كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لست بخب ولا يخدعني الخب" وكان حذيفة اعلم الناس بالشر والفتن وكان الناس يسألون صلى الله عليه وسلم عن الخير وكان هو يسأله عن الشر والقلب السليم ليس هو(9/278)
ص -242-…الجاهل بالشر الذي لا يعرفه بل الذي يعرفه ولا يريده بل يريد الخير والبر والنبي صلى الله عليه وسلم قد سمى الحرب خدعة ولا ريب في انقسام الخداع إلى ما يحبه الله ورسوله والى ما يبغضه وينهى عنه وكذلك المكر ينقسم إلى قسمين محمود ومذموم فالحيلة والمكر والخديعة تنقسم إلى محمود ومذموم فالحيل المحرمة منها ما هو كفر ومنها ما هو كبيرة ومنها ما هو صغيرة وغير المحرمة منها ما هو مكروه ومنها ما هو جائز ومنها ما هو مستحب ومنها ما هو واجب فالحيلة بالردة على الفسخ النكاح كفر ثم انها لا تتأتى الا على قول من يقول بتعجيل الفسخ بالردة فأما من وقفه على انقضاء العده فإنها لا يتم لها غرضها حتى تنقضى عدتها فإنها متى علم بردتها قتلت إلا على قول من يقول لا تقتل المرتدة بل يحبسها حتى تسلم أو تموت وكذلك التحيل بالردة على حرمان الوارث كفر والافتاء بها كفر ولا تتم إلا على قول من يرى ان مال المرتد لبيت المال فأما على القول الراجح انه لورثته من المسلمين فلا تتم الحيلة وهذا القول هو الصواب فان ارتداده اعظم من مرض الموت المخوف وهو في هذه الحال قد تعلق حق الورثة بماله فليس له ان يسقط هذا التعلق بتبرع فهكذا المرتد بردته تعلق حق الورثة بماله إذ صار مستحقا للقتل
فصل: الحيلة التي تعد من الكبائر
وأما الحيل التي هي من الكبائر فمثل قتل امرأته إذا قتل حماته وله من امرأته ولد والصواب ان هذه الحيلة لا تسقط عنه القود وقولهم إنه ورث ابنه بعض دم ابيه فسقط عنه القود ممنوع فان القود وجب عليه اولا بقتل أم المرأة وكان لها ان تستوفيه ولها أن تسقطه فلما قتلها قام وليها في هذه الحال مقامها بالنسبة إليها وبالنسبة إلى امها ولو كان ابن القاتل فإنه لم يدل كتاب(9/279)
ص -243-…ولا سنة ولا إجماع ولا ميزان عادل على ان الولد لا يستوفي القصاص من والده لغيره وغاية ما يدل عليه الحديث انه لا يقاد الوالد بولده على ما فيه من الضعف وفي حكمه من النزاع ولم يدل على انه لا يقاد بالاجنبي إذا كان الولد هو مستحق القود والفرق بينهما ظاهر فإنه في مسألة المنع قد أقيد بابنه وفي هذه الصورة إنما أقيد بالاجنبي وكيف تأتي شريعة أو سياسة عادلة بوجوب القود على من قتل نفسا بغير حق فإن عاد فقتل نفسا أخرى بغير حق وتضاعف إثمه وجرمه سقط عنه القود بل لو قيل: بتحتم قتله ولا بد إذا قصد هذا لكان أقرب إلى العقول والقياس
فصل: الحيلة المحرمة
ومن الحيل المحرمة التي يكفر من أفتى بها تمكين المرأة ابن زوجها من نفسها لينفسخ نكاحها حيث صارت موطوءة ابنه وكذا بالعكس أو وطئه حماته لينفسخ نكاح امرأته مع ان هذه الحيلة لا تتمشى إلا على قول من يرى أن حرمة المصاهرة تثبت بالزنا كما تثبت بالنكاح كما يقوله ابو حنيفة واحمد في المشهور من مذهبه والقول الراجح ان ذلك لا يحرم كما هو قول الشافعي وإحدى الروايتين عن مالك فإن التحريم بذلك موقوف على الدليل ولا دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح وقياس السفاح على النكاح في ذلك لا يصح لما بينهما من الفروق والله تعالى جعل الصهر قسيم النسب وجعل ذلك من نعمة التي امتن بها على عباده فكلاهما من نعمه وإحسانه فلا يكون الصهر من آثار الحرام وموجباته كما لا يكون النسب من آثاره بل إذا كان النسب الذي هو اصل لا يحصل بوطء الحرام فالصهر الذي هو فرع عليه ومشبه به اولى ألا يحصل بوطء الحرام وأيضا فإنه لو ثبت تحريم المصاهرة لا تثبت المحرمية التي هي من أحكامه فإذا لم تثبت المحرمية لم تثبت الحرمة وايضا فإن الله تعالى إنما قال: وحلائل ابنائكم ومن زنا بها الابن لا تسمى حليلة لغة ولا شرعا ولا عرفا وكذلك قوله ولا تنكحوا ما نكح(9/280)
ص -244-…
آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنما المراد به النكاح الذي هو ضد السفاح ولم يأت في القرآن النكاح المراد به الزنا قط ولا الوطء المجرد عن عقد
وقد تناظر الشافعي هو وبعض العراقيين في هذه المسألة ونحن نذكر مناظرته بلفظها
مناظرة بين الشافعي ومن يرى حرمة المصاهرة بالزنا:
قال الشافعي: الزنا لا يحرم الحلال وقال به ابن عباس قال الشافعي: "لان الحرام ضد الحلال ولا يقاس شيء على ضده" فقال لي قائل: ما تقول لو قبلت امرأة الرجل ابنه بشهوة حرمت على زوجها أبدا فقلت: لم قلت ذا والله تعالى إنما حرم أمهات نسائكم ونحو هذا بالنكاح فلم يجز أن يقاس الحرام بالحلال فقال: أجد جماعا وجماعا قلت جماعا حمدت به وأحصنت وجماعا رجمت به احدهما نقمة والآخر نعمة وجعله الله نسبا وصهرا وأوجب به حقوقا وجعلك محرما لام امرأتك وابنتها تسافر بهما وجعل على الزنا نقمة في الدينا بالحد وفي الآخرة بالنار إلا ان يعفو الله فتقيس الحرام الذي هو نقمة على الحلال الذي هو نعمة وقلت له فلو قال: لك وجدت المطلقة ثلاثا تحل بجماع زوج وإصابة فاحلها بالزنا لانه جماع كجماع قال: إذا اخطيء لأن الله تعالى أحلها بنكاح زوج قلت وكذلك ما حرم الله في كتابه بنكاح زوج واصابة زوج قال: أفيكون شيء يحرمه الحلال ولا يحرمه الحرام اقول به قلت نعم ينكح اربعا فيحرم عليه ان ينكح من النساء خامسة أفيحرم عليه إذا زنا باربع شيء من النساء قال: لا يمنعه الحرام مما يمنعه الحلال قال: فقد ترتد فتحرم على زوجها قلت نعم وعلى جميع الخلق وأقتلها وأجعل ما لها فيئا قال: فقد نجد الحرام يحرم الحلال قلت أما في مثل ما اختلفنا فيه من امر النساء فلا انتهى
ومما يدل على صحة هذا القول ان احكام النكاح التي رتبها الله تعالى عليه من العدة والاحداد والميراث والحل والحرمة ولحوق النسب(9/281)
ص -245-…ووجوب النفقة والمهر وصحة الخلع والطلاق والظهار والايلاء والقصر على أربع ووجوب القسم والعدل بين الزوجات وملك الرجعة وثبوت الاحصان والاحلال للزوج الاول وغير ذلك من الاحكام لا يتعلق شيء منها بالزنا وان اختلف في العدة والمهر والصواب انه لا مهر لبغى كما دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكما فطر الله عقول الناس على استقباحه فكيف يثبت تحريم المصاهرة من بين هذه الاحكام والمقصود ان هذه الحيلة باطلة شرعا كما هي محرمة في الدين
إبطال حيلة لاسقاط الحد في السرقة:
وكذلك الحيلة على إسقاط حد السرقة بقول السارق هذا ملكي وهذه داري وصاحبها عبدي من الحيل التي هي إلى المضحكة والسخرية والاستهزاء بها أقرب منها إلى الشرع ونحن نقول معاذ الله ان يجعل في فطر الناس وعقولهم قبول مثل هذا الهذيان البارد المناقض للعقول والمصالح فضلا عن أن يشرع لهم قبوله وكيف يظن بالله وشرعه ظن السوء انه شرع رد الحق بالباطل الذي يقطع كل احد ببطلانه وبالبهتان الذي يجزم كل حاضر ببهتانه ومتى كان البهتان والوقاحة والمجاهرة بالزور والكذب مقبولا في دين من الاديان أو شريعة من الشرائع أو سياسة أحد من الناس ومن له مسكة من عقل وان بلى بالسرقة فإنه لا يرضى لنفسه بدعوى هذا البهت والزور ويالله وياللعقول ايعجز سارق قط عن التكلم بهذا البهتان ويتخلص من قطع اليد فما معنى شرع قطع يد السارق ثم إسقاطه بهذا الزور والبهتان
إبطال حيلة لاسقاط اليمين عن الغاصب:
وكذلك إذا غصب شيئا فادعاه المغصوب منه فأنكر فطلب تحليفه.
قالوا: فالحيلة في إسقاط اليمين عنه أن يقر به لولده الصغير فيسقط عنه اليمين ويفوز بالمغصوب وهذه حيلة باطلة في الشرع كما هي محرمة في الدين بل المقر له إن كان كبيرا صارهو الخصم في ذلك وتوجهت عليه اليمين وإن كان صغيرا(9/282)
ص -246-…توجهت اليمين على المدعي عليه فإن نكل قضى به للمدعي وغرم قيمته لمن أقر له به لأنه بنكوله قد فوته عليه.
إبطال حيلة لاسقاط القصاص:
وكذلك إذا جرح رجلا فخشى أن يموت من الجرح فدفع عليه دواء مسموما فقتله.
قال أرباب الحيل: يسقط عنه القصاص وهذا خطأ عظيم بل يجب عليه القصاص بقتله بالسم كما يجب عليه بقتله بالسيف ولو أسقط الشارع القتل عمن قتل بالسم لما عجز قاتل عن قتل من يريد قتله به آمنا إذ قد علم أنه لا يجب عليه القود وفي هذا من فساد العالم مالا تأتى به شريعة.
ابطال حيلة لاخراج الزوجة من الميراث:
وكذلك إذا أراد إخراج زوجته من الميراث في مرضه وخاف ان الحاكم يورث المبتوتة قالوا: فالحيلة ان يقر انه كان طلقها ثلاثا وهذه حيلة محرمة باطلة لا يحل تعليمها ويفسق من علمها المريض ويستحق عقوبة الله ومع ذلك فلا تنفذ فإنه كما هو متهم بطلاقها فهو متهم بالإقرار بتقدم الطلاق على المرض وإذا كان الطلاق لا يمنع الميراث للتهمة فالإقرار لا يمنعه للتهمة ولا فرق بينهما فالحيلة باطلة محرمة
إبطال حيلة لاسقاط الزكاة:
وكذلك إذا كان في يده نصاب فباعه أو وهبه قبل الحول ثم استرده قال: ارباب الحيل تسقط عنه الزكاة بل لو ادعى ذلك لم يأخذ العامل زكاته وهذه حيلة محرمة باطلة ولا يسقط ذلك عنه فرض الله الذي فرضه وأوعد بالعقوبة الشديدة من ضيعه واهله فلو جاز إبطاله بالحيلة التي هي مكر وخداع لم يكن في إيجابه والوعيد على تركه فائدة.
وقد استقرت سنة الله في خلقه شرعا وقدرا على معاقبة العبد بنقيض قصده كما حرم القاتل الميراث وورث المطلقة في مرض الموت وكذلك الفار من(9/283)
ص -247-…الزكاة لايسقطها عنه فراره ولا يعان على قصده الباطل فيتم مقصود ويسقط مقصود الرب تعالى وكذلك عامة الحيل إنما يساعد فيها المتحيل على بلوغ غرضه ويبطل غرض الشارع.
إبطال حيلتين لاسقاط الكفارة:
وكذلك المجامع في نهار رمضان إذا تغدى أو شرب الخمر اولا ثم جامع قالوا: لا تجب عليه الكفارة وهذا ليس بصحيح فإن إضمامه إلى إثم الجماع إثم الاكل والشرب لا يناسب التخفيف عنه بل يناسب تغليظ الكفارة عليه ولو كان هذا يسقط الكفارة لم تجب كفارة على واطيء اهتدى لجرعة ماء أو ابتلاع لبابة أو أكل زبيبة فسبحان الله هل أوجب الشارع الكفارة لكون الوطء لم يتقدمه مفطر قبله أو للجناية على زمن الصوم الذي لم يجعله الله محلا للوطء أفترى بالأكل والشرب قبله صار الزمان محلا للوطء فانقلبت كراهة الشارع له محبة ومنعه إذنا هذا من المحال وأفسد من هذا قولهم الحيلة في إسقاط الكفارة أن ينوي قبل الجماع قطع الصوم فإذا أتى بهذه النية فليجامع آمنا من وجوب الكفارة ولازم هذا القول الباطل انه لا تجب كفارة على مجامع أبدا وإبطال هذه الشريعة رأسا فإن المجامع لا بد ان يعزم على الجماع قبل فعله وإذا عزم على الجماع فقد تضمنت نيته قطع الصوم فأفطر قبل الفعل بالنية الجازمة للإفطار فصادفه الجماع وهو مفطر بنية الإفطار السابقة على الفعل فلم يفطر به فلا تجب الكفارة فتأمل كيف تضمن الحيل المحرمة مناقضة الدين وإبطال الشرائع.
إبطال حيلة لإسقاط وجوب القضاء في الحج:
وكذلك قالوا: لو ان محرما خاف الفوت وخشى القضاء من قابل فالحيلة في إسقاط القضاء أن يكفر بالله ورسوله في حال إحرامه فيبطل إحرامه فإذا عاد إلى الاسلام لم يلزمه القضاء من قابل بناء على ان المرتد كالكافر الاصلي فقد اسلم إسلاما مستأنفا لا يجب عليه فيه قضاء ما مضى ومن له مسكة من علم ودين(9/284)
ص -248-…يعلم ان هذه الحيلة مناقضة لدين الاسلام اشد مناقضة فهو في شق.الاسلام في شق
إبطال حيلة في إسقاط الحق:
وكذلك لو وكل رجلا في استيفاء حقه فرفعه إلى الحاكم فأراد ان يحلفه بالطلاق أنه لا حق لوكيله قبله فالحيلة في حلفه صادقا ان يحضر الموكل إلى منزله ويدفع اليه حقه ثم يغلق عليه الباب ويمضي مع الوكيل فإذا حلف أنه لا حق لوكيله قبله حلف صادقا فإذا رجع إلى البيت فشأنه وشأن صاحب الحق.
وهذه شر من حيلة اليهود اصحاب الحيتان وهذه وأمثالها انما هي من حيل اللصوص وقطاع الطريق فما لدين الله ورسوله وإدخالها فيه ولا يجدي عليه هذا الفعل في بره باليمين شيئا بل هو حانث كل الحنث إذ لم يتمكن صاحب الحق من الظفر بحقه فهو في ذمة الحالف كما هو وإنما يبرأ منه إذا تمكن صاحبه من قبضه وعد نفسه مستوفيا لحقه.
ابطال بعض الحيل لإسقاط الزكاة:
وكذلك لو كان له عروض للتجارة فأراد ان يسقط زكاتها قالوا: فالحيلة ان ينوي بها القنية في آخر الحول يوما أو أقل ثم ينقض هذه النية ويعيدها للتجارة فيستأنف بها حولا ثم يفعل هكذا في آخر كل حول فلا تجب عليه زكاتها أبدا.
فيالله العجب أيروج هذا الخداع والمكر والتلبيس على احكم الحاكمين الذي يعلم خائنة الاعين وما تخفي الصدور ثم إن هذه الحيلة كما هي مخادعة لله ومكر بدين الاسلام فهي باطلة في نفسها فإنها إنما تصير للقنية إذا لم يكن من نيته إعادتها للتجارة فأما وهو يعلم أنه لا يقتنيها ألبتة ولا له حاجة باقتنائها وإنما أعدها للتجارة فكيف تتصور منه النية الجازمة للقنية وهو يعلم قطعا أنه لا يقتنيهما ولا يريد اقتناءها وإنما هو مجرد حديث النفس أو خاطر أجراه على قلبه بمنزلة من(9/285)
ص -249-…يقول بلسانه أعددتها للقنية وليس ذلك في قلبه أفلا يستحي من الله من يسقط فرائضه بهذا الهوس وحديث النفس؟
وأعجب من هذا انه لو كان عنده عين من الذهب والفضة فأراد إسقاط زكاتها في جميع عمره فالحيلة أن يدفعها إلى محتال مثله أو غيره في آخر الحول ويأخذ منه نظيرها فيستأنف له الحول ثم في آخره يعود فيستبدل بها مثلها فإذا هو فعل مثل ذلك لم تجب عليه زكاته ما عاش وأعظم من هذه البلية إضافة هذا المكر والخداع إلى الرسول وان هذا من الدين الذي جاء به
ومثل هذا وأمثاله منع كثيرا من أهل الكتاب من الدخول في الاسلام وقالوا كيف يأتي رسول الله بمثل هذه الحيل وأساءوا ظنهم به وبدينه وتواصوا بالتمسك بما هم عليه وظنوا ان هذا هو الشرع الذي جاء به وقالوا كيف تأتى بهذا شريعة أو تقوم به مصلحة أو يكون من عند الله ولو ان ملكا من الملوك ساس رعيته بهذه السياسة لقدح ذلك في ملكه قالوا: وكيف يشرع الحكيم الشيء لما في شرعه من المصلحة ويحرم لما في فعله من المفسدة ثم يبيح إبطال ذلك بأدنى حيلة تكون وترى الواحد منهم إذا ناظره المسلم في صحة دين الاسلام إنما يحتج عليه بهذه الحيل كما هو في كتبهم وكما نسمعه من لفظهم عند المناظرة فالله المستعان.
وكذلك قالوا: لو كان له نصاب من السائمة فأراد إسقاط زكاتها فالحيلة في ذلك أن يعلفها يوما واحدا ثم تعود إلى السوم وكذلك يفعل في كل حول وهذه حيلة باطلة لا تسقط عنه وجوب الزكاة بل وكذلك كل حيلة يتحيل بها على إسقاط فرض من فرائض الله أو حق من حقوق عباده لا يزيد ذلك الفرض إلا تأكيدا وذلك الحق إلا إثباتا.
إبطال حيلة لإبطال الشهادة
وكذلك قالوا: إذا علم أن شاهدين يشهدان عليه فأراد ان يبطل شهادتها(9/286)
ص -250-…فليخاصمهما قبل الرفع إلى الحاكم وهذه الحيلة حسنة إذا كانا يشهدان عليه بالباطل فإذا علم أنهما يشهدان بحق لم تحل له مخاصمتهما ولا تسقط هذه المخاصمة شهادتهما.
إبطال حيلة لضمان البساتين:
وكذلك قالوا: لا يجوز ضمان البساتين والحيلة على ذلك ان يؤجره الارض ويساقيه على الثمر من كل ألف جزء على جزء وهذه الحيلة لا تتم إذا كان البستان وقفا وهو ناظره أو كان ليتيم فإن هذه المحاباة في المسقاة تقدح في نظره ووصيته.
فإن قيل: إنها تغتفر لأجل العقد الآخر وما فيه من محاباة المستأجر له فهذا لا يجوز له أن يحابى في المساقاة لما حصل للوقف واليتيم من محاباة اخرى وهو نظير ان يبيع له سلعة بربح ثم يشترى له سلعة بخسارة توازن ذلك الربح هذا إذا لم يبن احد العقدين على الآخر فإن بنى عليه كانا عقدين في عقد وكانا بمنزلة سلف وبيع وشرطين في بيع وإن شرط أحد العقدين في الآخر فسدا مع ان هذه الحيلة لا تتم إلا على أصل من لم ير جواز المساقاة أو من حصها بالتحيل وحده ثم فيها مفسدة اخرى وهي أن المساقاة عقد جائز فمتى أراد أحدهما فسخها فسخها وتضرر الآخر ومفسدة ثانية وهي انه يجب عليه تسليم هذا الجزء من ألف جزء من جميع ثمرة البستان من كل نوع من انواعه وقد يتعذر عليه ذلك أو يتعسر إما بأن يأكل الثمرة أو يهديها كلها أو يبيعها على أصولها فلا يمكنه تسليم ذلك الجزء وهكذا يقع سواء ثم قد يكون ذلك الجزء من الالف يسيرا جدا فلا يطالب به عادة فيبقى في ذمته لليتيم وجهه الوقف إلى غير ذلك من المفاسد التي في هذه الحيلة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أفقه من ذلك وأعمق علما وأقل تكلفا وأبر قلوبا فكانوا يرون ضمان الحدائق بدون هذه الحيلة كما فعله عمر بن الخطاب رضى الله عنه بحديقة أسيد بن حضير(9/287)
ص -251-…ووافقه عليه جميع الصحابة فلم ينكره منهم رجل واحد وضمان البساتين كما هو إجماع الصحابة فهو مقتضى القياس الصحيح كما تضمن الارض لمغل الزرع فكذلك تضمن الشجر لمغل الثمر ولا فرق بينهما ألبتة إذ الاصل هنا كالأرض هناك والمغل يحصل بخدعة المستأجر والقيام على الشجر كما يحصل بخدمته والقيام على الارض ولو استأجر أرضا ليحرثها ويسقيها ويستغل ما ينبته الله تعالى فيها من غير بذر منه كان بمنزلة استئجار الشجر من كل وجه لا فرق بينهما ألبتة فهذا من هذه الحيلة وأبعد من الفساد وأصلح للناس واوفق للقياس وهو أختيار أبي الوفاء ابن عقيل وشيخ الاسلام ابن تيمية رضى الله عنهما وهو الصواب.
فصل: الحيلة السريجية لسد باب الطلاق
ومن هذا الباب الحيلة السريجية التي حدثت في الاسلام بعد المائة الثالثة وهي تمنع الرجل من القدرة على الطلاق ألبتة بل تسد عليه باب الطلاق بكل وجه فلا يبقى له سبيل إلى التخلص منها ولا يمكنه مخالعتها عند من يجعل الخلع طلاقا وهي نظير سد الانسان على نفسه باب النكاح بقوله كل امرأة أتزوجها فهى طالق فهذا لو صح تعليقه لم يمكنه في الاسلام ان يتزوج امرأة ما عاش وذلك لو صح شرعه لم يمكنه أن يطلق امرأة أبدا.
وصورة هذه الحيلة ان يقول كلما طلقتك أو كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا قالوا: فلا يتصور وقوع الطلاق بعد ذلك إذ لو وقع لزم وقوع ما علق به وهو الثلاث فإذا وقعت الثلاث امتنع وقوع هذا المنجز فوقوعه يفضى إلى عدم وقوعه وما أفضى وجوده إلى عدم وجوده لم يوجد هذا اختيار ابى العباس ابن سريج ووافقه عليه جماعة من أصحاب الشافعي(9/288)
ص -252-…وأبى ذلك جمهور الفقهاء من المالكية والحنفية والحنبلية وكثير من الشافعية ثم اختلفوا في وجه إبطال هذا التعليق فقال الاكثرون هذا التعليق لغو وباطل من القول فإنه يتضمن المحال وهو وقوع طلقة مسبوقه بثلاث وهذا محال فما تضمنه فهو باطل من القول فهو بمنزلة قوله إذا وقع عليك طلاقي لم يقع وإذا طلقتك لم يقع عليك طلاقي ونحو هذا من الكلام الباطل بل قوله إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا أدخل في الاحالة والتناقض فإنه في الكلام الاول جعل وقوع الطلاق مانعا ومن وقوعه مع قيام الطلاق وهنا جعل وقوعه مانعا ومن وقوعه مع زيادة محال عقلا وعادة فالمتكلم به يتكلم بالمحال قاصدا للمحال فوجود هذا التعليق وعدمه سواء فإذا طلقها بعد ذلك نفذ طلاقها ولم يمنع منه مانع وهذا اختيار أبي الوفاء بن عقيل وغيره من أصحاب احمد وابي العباس بن القاص من اصحاب الشافعي وقالت فرقة اخرى بل المحال إنما جاء من تعليق الثلاث على المنجز وهذا محال ان يقع المنجز ويقع جميع ما علق به فالصواب ان يقع المنجز ويقع جميع ما علق به أو تمام الثلاث من المعلق وهذا اختيار القاضي وابي بكر وبعض الشافعية ومذهب أبي حنيفة والذين منعوا وقوع الطلاق جملة قالوا: هو ظاهر كلام الشافعي فهذا تلخيص الاقوال في هذا التعليق
قال المصححون للتعليق صدر من هذا الزوج طلاقان منجز ومعلق والمحل قابل وهو ممن يملك التنجيز والتعليق والجمع بينهما ممتنع ولامزية لاحدهما على الآخر فتمانعا وتساقطا وبقيت الزوجية بحالها وصار كما لو تزوج اختين في عقد واحد فإنه يبطل نكاحهما لهذا الدليل بعينه
وكذلك إذا أعتق امته في مرض موته وزوجها عبده ولم يدخل بها وقيمتها مائة ومهرها مائة وباقي التركة مائة لم يثبت لها الخيار لان إثبات الخيار يقتضي(9/289)
ص -253-…سقوط المهر وسقوط المهر يقتضي نفي الخيار والجمع بينهما لا يمكن وليس احدهما اولى من الآخر لان طريق ثبوتهما الشرع فأبقينا النكاح ورفضنا الخيار ولم يسقط المهر وكل ما افضى وقوعه إلى عدم وقوعه فهذه سبيله.
ومثاله في الحس إذا تشاح اثنان في دخول دار وهما سواء في القوة وليس لأحدهما على الآخر مزية توجب تقديمه فإنهما يتمانعان فلا يدخل واحد منهما وهذا مشتق من دليل التمانع على التوحيد وهو ان يستحيل ان يكون للعالم فاعلان مستقلان بالفعل فإن استقلال كل منهما ينفى استقلال الآخر فاستقلالهما يمنع استقلالهما ووزانه في هذه المسألة ان وقوعهما يمنع وقوعهما.
قالوا: وغاية ما في هذا الباب استلزام هذا التعليق لدور حكمى يمنع وقوع المعلق والمنجز ونحن نريكم من مسائل الدور التي يفضى وقوعها إلى عدم وقوعها كثيرا ومنها ما ذكرناه ومنها ما لو وجد من أحدهما ريح وشك كل واحد منهما هل هي منه أو من صاحبه لم يجز اقتداء احدهما بالآخر لان اقتداءه به يبطل اقتداءه وكذلك لو كان معهما إناءان أحدهما نجس فأدى اجتهاد كل منهما إلى إناء لم تجز القدوة بينهما لانها تفضى إلى ابطال القدرة وكذلك إذا اجتهد في الثوبين والمكانين ومنها لو زوج عبده حرة وضمن السيد مهرها ثم باعه لزوجه قبل الدخول بها فالبيع باطل لان صحته تؤدي إلى فساده إذ لو صح لبطل النكاح لانها إذا ملكت زوجها بطل نكاحها وإذا بطل سقط مهرها لان الفرقة من جهتها وإذا سقط مهرها وهو الثمن بطل البيع والعتق ألبتة بل إما أن يصح البيع ولا يقع العتق إذ لو وقع العتق لبطل البيع وإذا بطل بطل العتق فوقوعه يؤدي إلى عدم وقوعه وهذا قول المزني وقال ابن سريج لا يصح بيعه لانه لو صح لوقع العتق قبله ووقوع العتق قبله يمنع صحة البيع فصحة البيع تمنع صحته وكذلك لو قال: له: "إذا رهنتك(9/290)
ص -254-…فأنت حر قبله بساعة وكذلك لو قال: لعبيده ولا مال له سواهم وقد أفلس إن حجر الحاكم على فانتم أحرار قبل الحجر بيوم لم يصح الحجر لان صحته تمنع صحته ومثاله لو قال: لعبده متى صالحت عليك فأنت حر قبل الصلح ومثله لو قال: لامرأته إن صالحت فلانا وانت امرأتي فأنت طالق قبله بساعة لم يصح الصلح لان صحته تمنع صحته ومثل لو قال: لعبده متى ضمنت عنك صداق امرأتك فأنت حر قبله إن كنت في حال الضمان مملوكي ثم ضمن عنه الصداق لم يصح لانه لو صح لعتق قبله واذا عتق قبله لم يصادف الضمان شرطه وهو كونه مملوكه وقت الضمان وكذلك لا يقع العتق لان وقوعه يؤدي إلى ان لا يصح الضمان عنه وإذا لم يصح الضمان عنه لم يصح العتق فكل من الضمان والعتق تؤدي صحته إلى بطلانه فلا يصح واحد منهما ومثله ما لو قال: إن شاركني في هذا العبد شريك فهو حر قبله بساعة لم تصح الشركة فيه بعد ذلك لانها لو ضحت لعتق العبد وبطلت الشركة فصحتها تفضى إلى بطلانها ومثله لو قال: إن وكلت إنسانا ببيع هذا العبد أو رهنه أو هبته وكالة صحيحة فهو قبله بساعة حر لم تصح الوكالة لان صحتها تؤدي إلى بطلانها ومثله ما لو قال: لامرأته إن وكلت وكيلا في طلاقك فأنت طالق قبله أو معه ثلاثا لم يصح توكيله في طلاقها إذ لو صحت الوكالة لطلقت في حال الوكالة أو قبلها فتبطل الوكالة فصحتها تؤدي إلى بطلانها وكذلك لو خلف الميت ابنا فاقر بابن آخر للميت فقال المقربه أنا ابنه وأما انت فلست بابنه لم يقبل إنكار المقربه لأن قبول قوله يبطل قوله ومن هنا قال: الشافعي لو ترك أخا لأب وأم فأقر الاخ بابن للميت ثبت نسبه ولم يرث لأنه لو ورث لخرج المقر عن ان يكون وارثا وإذا لم يكن وارثا لم يقبل إقراره بوارث آخر فتوريث الابن يفضى إلى عدم توريثه ونازعه الجمهور في ذلك وقالوا إذا ثبت نسبه ترتب عليه أحكام النسب ومنها الميراث ولا يفضى(9/291)
ص -255-…توريثه إلى عدم توريثه لانه بمجرد الإقرار يثبت النسب ويترتب عليه الميراث والاخ كان وارثا في الظاهر فحين أقر كان هو كل الورثة وإنما خرج عن الميراث بعد الإقرار وثبوت النسب فلم يكن توريث الابن مبطلا لكون المقر وارثا حين الاقرار وان بطل كونه وارثا بعد الاقرار وثبوت النسب وأيضا فالميراث تابع لثبوت النسب والتابع اضعف من المتبوع فإذا ثبت المتبوع الأقوى فالتابع أولى ألا ترى ان النساء تقبل شهادتهن منفردات في الولادة ثم في النسب ونظائر ذلك كثيرة
ومن المسائل التي يفضى ثبوتها إلى إبطالها لو أعتقت المرأة في مرضها عبدا فتزوجها وقيمته تخرج من الثلث صح النكاح ولا ميراث له إذ لو ورثها لبطل تبرعها له بالعتق لأنه يكون تبرعا لوارث وإذا بطل العتق بطل النكاح وإذا بطل بطل الميراث وكان توريثه يؤدي إلى ابطال توريثه وهذا على اصل الشافعي وأما على قول الجمهور فلا يبطل ميراثه ولا عتقه ولا نكاحه لانه حين العتق لم يكن وارثا فالتبرع نزل في غير وارث والعتق المنجز يتنجز من حينه ثم صار وارثا بعد ثبوت عتقه وذلك لا يضره شيئا
ومن ذلك لو أوصى له بابنه فمات قبل قبول الوصية وخلف إخوة لابيه فقبلوا الوصية عتق على الموصى له ولم يصح ميراثه منه إذ لو ورث لاسقط ميراث الاخوة وإذا سقط ميراثهم بطل قبولهم للوصية فيبطل عتقه لأنه مرتب على القبول وكان توريثه مفضيا إلى عدم توريثه
والصواب قول الجمهور أنه يرث ولا دور لان العتق حصل حال القبول وهم ورثة ثم ترتب على العتق تابعه وهو الميراث وذلك بعد القبول فلم يكن الميراث مع القبول ليلزم الدور وإنما ترتب على القبول العتق وعلى العتق الميراث فهو مترتب عليه بدرجتين(9/292)
ص -256-…ومن المسائل التي يفضى ثبوتها إلى بطلانها لو زوج عبده امرأة وجعل رقبته صداقها لم يصح إذا لو صح لملكته وانفسخ النكاح ومنها لو قال: لأمته متى أكرهتك فأنت حرة حال النكاح أو قبله فأكرهها على النكاح لم يصح إذ لو صح النكاح عتقت ولو عتقت بطل إكراهها فيبطل نكاحها ومنها لو قال: لامرأته قبل الدخول متى استقر مهرك على فأنت طالق قبله ثلاثا ثم وطئها لم يستقر مهرها بالوطء لأنه لو استقر لبطل النكاح قبله ولو بطل النكاح قبله لكان المستقر نصف المهر لاجميعه فاستقراره يؤدي إلى بطلان استقراره هذا على قول ابن سريج وأما على قول المزني فإنه يستقر المهر بالوطء ولا يقع الطلاق لانه معلق على صفة تقتضي حكما مستحيلا
فصل: المجيزون للحيل يؤيدون رأيهم
ومن المسائل التي يؤدي ثبوتها إلى نفيها لو قال: لامرأته إن لم أطلقك اليوم فأنت طالق اليوم ومضى اليوم ولم يطلقها لم تطلق إذ لو طلقت بمضي اليوم لكان طلاقها مستندا إلى وجود الصفة وهي عدم طلاقها اليوم وإذا مضى اليوم ولم يطلقها لم يقع الطلاق المعلق باليوم
ومنها لو تزوج أمة ثم قال: لها إن مات مولاك وورثتك فأنت طالق أو قال: إن ملكتك فأنت طالق ثم ورثها أو ملكها بغير إرث لا يقع الطلاق إذ لو وقع لم تكن الزوجة في حال وقوعه ملكا له لاستحالة وقوع الطلاق في ملكه فكان وقوعه مفضيا إلى عدم وقوعه
ومنها لو كان العبد بين موسرين فقال كل منهما لصاحبه متى اعتقت نصيبك فنصيبي حر قبل ذلك فأعتق احدهما نصيبه لم ينفذ عتقه لانه لو نفذ(9/293)
ص -257-…لوجب عتق نصيب صاحبه قبله وذلك يوجب السراية إلى نصيبه فلا يصادف إعتاقه محلا فنفوذ عتقه يؤدي إلى عدم نفوذه والصواب في هذه المسألة بطلان هذا التعليق لتضمنه المحال وأيهما عتق نصيبه صح وسرى إلى نصيب شريكه
ومنها لو قال: لعبده إن دبرتك فأنت حر قبله ثم دبره صح التدبير ولم يقع العتق لأن وقوعه يمنع صحة التدبير وعدم صحته يمنع وقوع العتق وكانت صحته تفضى إلى بطلانه هذا على قول المزنى وعلى قول ابن سريج لايصح التدبير لأنه لو صح لوقع العتق قبله وذلك يمنع التدبير وكان وقوعه يمنع وقوعه
ونظيره ان يقول لمدبره متى ابطلت تدبيرك فأنت حر قبله ثم ابطله بطل ولم يقع العتق على قول المزنى إذ لو وقع لم يصادف إبطال التدبير محلا وعلى قول ابن سريج لايصح إبطال التدبير لأنه لو صح إبطاله لوقع العتق ولو وقع العتق لم يصح إبطال التدبير ومثله لو قال: لمدبره إن بعتك فأنت حر قبله ومثله لو قال: لعبده إن كاتبتك غدا فأنت اليوم حر ثم كاتبه من الغد ومثله لو قال: لمكاتبه إن عجزت عن كتابتك فأنت حر قبله ومثله لو قال: متى زنيت أو سرقت أو وجب عليك حد وانت مملوك فأنت حر قبله ثم وجد الوصف وجب الحد ولم يقع العتق المعلق به إذ لو وقع لم توجد الصفة فلم يصح وكان مستلزما لعدم وقوعه ومثله ان يقول له متى جنيت جناية وانت مملوكي فأنت حر قبله ثم جنى لم يعتق ومثله ان يقول له متى بعتك وتم البيع فأنت حر قبله ثم باعه فعلى قول المزنى يصح البيع ولا يقع العتق لأن وقوعه يستلزم عدم وقوعه وعلى قول ابن سريج لايصح البيع لأنه يعتق قبله وعتقه يمنع صحة بيعه ومثله لو قال: لأمته إن صليت ركعتين مكشوفة الرأس فأنت حرة قبل ذلك فصلت مكشوفة الرأس فعلى قول المزنى تصح الصلاة دون العتق وعلى قول ابن سريج لا تصح الصلاة لأنها لو صحت عتقت قبل ذلك واذا عتقت بطلت صلاتها(9/294)
ص -258-…وكانت صحة صلاتها مستلزمة لبطلانها ومنها لو زوج أمته بحر وادعى عليه مهرها قبل الدخول وادعى الزوج الاعسار وادعى سيد الامة يساره قبل نكاحه الامة بميراث أو غيره لم تسمع دعواه إذ لو ثبتت دعواه لبطل النكاح لانه لا يصح نكاح الامة مع وجود الطول وإذا بطل النكاح بطل دعوى المهر
وكذلك لو تزوج بأمة فادعت ان الزوج عنين لم تسمع دعواها إذ لو ثبتت دعواها لزال خوف العنت الذي شرط في نكاح الامة وذلك يبطل النكاح وبطلانه يوجب بطلان الدعوى منها فلما كانت صحة دعواها تؤدي إلى إفسادها أفسدناها
وكذلك المرأة إذا ادعت على سيد زوجها أنه باعه إياها بمهرها قبل الدخول لم تصح دعواها لأنها لو صحت لسقط نصف المهر وبطل البيع في العبد
وكذلك لو شهد شاهدان على عتق عبد فحكم بعتقه ثم ادعى العبد بعد الحكم بحريته على احد الشاهدين انه مملوكه لم تسمع دعواه لأن تحقيقها يؤدي إلى بطلان الشهادة على العتق فتبطل دعوى ملكة للشاهد وكذلك لو سبى مراهق من أهل الحرب ولم يعلم بلوغه فأنكر البلوغ لم يستحلف لأن إحلافه يؤدي إلى إبطال استحلافه فإنا لو حلفناه لحكمنا بصغره والحكم بالصغر يمنع الاستحلاف
ونظيره لو ادى على أم مراهق ما يوجب القصاص أو قذفا يوجب الحد أو مالا من مبايعة أو ضمان أو غير ذلك وادعى انه بالغ وانه يلزمه الحكم بذلك فأنكر الغلام ذلك فالقول قوله ولا يمين عليه إذ لو حلفناه لحكمنا بصغره والحكم بالصغر يسقط اليمين عنه وإذا لم يكن هنا يمين لم يكن رد يمين لان رد اليمين إنما يكون عند نكول من هو من أهلها وكذلك لو أعتق المريض جارية له(9/295)
ص -259-…قيمتها مائة وتزوج بها في مرض موته ومهرها مائة وترك مائتي درهم فالنكاح صحيح ولا مهر لها ولا ميراث أما الميراث فلأنها لو ورثت لبطلت الوصية بعتقها لان العتق في المرض وصية وفي بطلان الوصية بطلان الحرية وفيه بطلان الميراث واما سقوط المهر فلأنه لو ثبت لركب السيد دين ولم تخرج قيمتها من الثلث فيبطل عتقها كلها فلم يكن للزوج ان ينكحها وبعضها رقيق فيبطل المهر فكان ثبوت المهر مؤديا إلى بطلانه
فالحكم بإبطالها مستفاد من قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً} فعير تعالى من نقض شيئا بعد ان اثبته فدل على ان كل ما كان إثباته مؤديا إلى نفيه وإبطاله كان باطلا فهذا ما احتج به السريجيون
الرد على السرجيين:
قال الآخرون لقد أطلتم الخطب في هذه المسألة ولم تأتوا بطائل وقلتم ولكن تركتم مقالا لقائل وتأبى قواعد اللغة والشرع والعقل لهذة المسائل تصحيحا والميزان العادل لها عند الوزن ترجيحا وهيهات أن تكون شريعتنا في هذه المسألة مشابهة لشريعة اهل الكتاب إذ يستحيل وقوع الطلاق وتسد دونه الابواب وهل هذا إلا تغيير لما علم بالضرورة من الشريعة وإلزام لها بالاقوال الشنيعة وهذا أشنع من سد باب النكاح بتصحيح تعليق الطلاق لكل من تزوجها في مدة عمره فإنه وإن كان نظير سد باب الطلاق لكن قد ذهب إليه بعض السلف وأما هذه المسألة فمهما حدث في الاسلام بعد انقراض الاعصار المفضلة
ونحن نبين مناقضة هذه المسألة للشرع واللغة والعقل ثم نجيب عن شبهكم شبهة شبهة
أما مناقضتها للشرع فإن الله تعالى شرع للأزواج إذا أرادوا استبدال(9/296)
ص -260-…زوج مكان زوج والتخلص من المرأة الطلاق وجعله بحكمته ثلاثا توسعة على الزوج إذ لعله يبدو له ويندم فيراجعها وهذا من تمام حكمته ورأفته ورحمته بهذه الامة ولم يجعل انكحتهم كأنكحة النصارى تكون المرأة غلا في عنق الرجل إلى الموت ولا يخفى ما بين الشريعتين من التفاوت وان هذه المسألة منافية لإحداهما منافاة ظاهرة ومشتقة من الاخرى اشتقاقا ظاهرا ويكفى هذا الوجه وحده في إبطالها
وأما مناقضتها للغة فإنها تضمنت كلاما ينقض بعضه بعضا ومضمونه إذا وجد الشيء لم يوجد وإذا وجد الشيء اليوم فهو موجود قبل اليوم وإذا فعلت الشيء اليوم فقد وقع منى قبل اليوم ونحو هذا من الكلام المتناقض في نفسه الذي هو إلى المحال أقرب منه إلى الصحيح من المقال
وأما مناقضتها قضايا العقول فلأن الشرط يستحيل ان يتأخر وجوده عن وجود المشروط ويتقدم المشروط عليه في الوجود هذا ممالا يعقل عند احد من العقلاء فإن رتبة الشرط التقدم أو المقارنة والفقهاء وسائر العقلاء معهم مجمعون على ذلك فلو صح تعليق المشروط بشرط متأخر بعده لكان ذلك إخراجا له عن كونه شرطا أو جزء شرط أو علة أو سببا فإن الحكم لا يسبق شرطه ولا سببه ولا علته إذ في ذلك إخراج الشروط والاسباب والعلل عن حقائقها وأحكامها ولو جاز تقديم الحكم على شرطه لجاز تقديم وقوع الطلاق على إيقاعه فإن الايقاع سبب والاسباب تتقدم مسبباتها كما ان الشروط رتبتها التقدم فإذا جاز إخراج هذا عن رتبته جاز إخراج الآخر عن رتبته فجوزوا حينئذ تقدم الطلاق على التطليق والعتق على الاعتاق والملك على البيع وحل المنكوحة على عقد النكاح وهل هذا في الشرعيات إلا بمنزلة تقدم الانكسار على الكسر والسيل على المطر والشبع على الاكل والولد على الوطء وأمثال(9/297)
ص -261-…ذلك ولا سيما على أصل من يجعل هذه العلل والاسباب علامات محضة ولا تأثير لها بل هي معرفات والمعرف يجوز تأخيره عن المعرف
وبهذا يخرج الجواب عن قولكم إن الشروط الشرعية معرفات وأمارات وعلامات والعلامة يجوز تأخرها فإن هذا وهم وإيهام من وجهين
الشروط وأحكامها:
أحدهما: أن الفقهاء مجمعون على ان الشرائط الشرعية لا يجوز تأخرها عن المشروط ولو تأخرت لم تكن شروطا
الثاني: أن هذا شرط لغوي كقوله إن كلمت زيدا فأنت طالق ونحو ذلك وإن خرجت بغير إذنى فأنت طالق ونحو ذلك والشروط اللغوية أسباب وعلل مقتضية لاحكامها اقتضاء المسببات لاسبابها ألا ترى أن قوله إن دخلت الدار فأنت طالق سبب ومؤثر وأثر ولهذا يقع جوابا عن العلة فإذا قال: لم أطلقها قال: لوجود الشرط الذي علقت عليه الطلاق فلولا أن وجوده مؤثر في الايقاع لما صح هذا الجواب ولهذا يصح ان يخرجه بصيغة القسم فيقول الطلاق يلزمني لا تدخلين الدار فيجعل إلزامه للطلاق في المستقبل مسببا عن دخولها الدار بالقسم والشرط وقد غلط في هذا طائفة من الناس حيث قسموا الشرط إلى شرعي ولغوي وعقلي ثم حكموا عليه بحكم شامل فقالوا الشرط يجب تقديمه على المشروط ولا يلزم من وجوده وجود المشروط ويلزم من انتفائه انتفاء المشروط كالطهارة للصلاة والحياة للعلم ثم أوردوا على نفسهم الشرط اللغوي فإنه يلزم من وجوده وجود المشروط ولا يلزم من انتفائه انتفاؤه لجواز وقوعه بسبب آخر ولم يجيبوا عن هذا الإيراد بطائل والتحقيق ان الشروط اللغوية اسباب عقلية والسبب إذا تم لزم من وجوده وجود مسببه وإذا انتفى لم يلزم نفى المسبب مطلقا لجواز خلف سبب اخر بل يلزم انتفاء السبب المعين عن هذا المسبب(9/298)
ص -262-…وأما قولكم إنه صدر من هذا الزوج طلاقان منجز ومعلق والمحل قابل لهما فجوابه بالمنع فإن الحل ليس بقابل فإنه يتضمن المحال والمحل لا يقبل المحال نعم هو قابل للمنجز وحده فلا مانع من وقوعه وكيف تصح دعواكم ان المحل قابل للمعلق ومنازعكم إنما نازعكم فيه وقال ليس المحل بقابل للمعلق فجعلتم نفس الدعوى مقدمة في الدليل
وقولكم: إن الزوج ممن يملك التنجيز والتعليق جوابه إنما يملك التعليق الممكن فأما التعليق المستحيل فلم يملكه شرعا ولا عرفا ولا عادة وقولكم لا مزية لاحدهما على الاخر باطل بل المزية كل المزية لاحدهما على الآخر فإن المنجز له مزية الامكان في نفسه والمعلق له مزية الاستحالة والامتناع فلم يتمانعا ولم يتساقطا فلم يمنع من وقوع المنجز مانع وقولكم إنه نظير ما لو تزوج أختين في عقد جوابه أنه تنظير باطل فإنه ليس نكاح إحداهما شرطا في نكاح الاخرى بخلاف مسألتنا فإن المنجز شرط في وقوع المعلق وذلك عين المحال
وقولكم إنه لا مزية لأحد الطلاقين على الآخر باطل بل للمنجز مزية من عدة وجوه أحدها قوة التنجيز على التعليق الثاني ان التنجيز لا خلاف في وقوع الطلاق به واما التعليق ففيه نزاع مشهور بين الفقهاء والموقعون لم يقيموا على المانعين حجة توجب المصير اليها مع تناقضهم فيما يقبل التعليق ومالا يقبله فمنازعوهم يقولون الطلاق لا يقبل كما قلتم أنتم في الاسقاط والوقف والنكاح والبيع ولم يفرق هؤلاء بفرق صحيح وليس الغرض ذكر تناقضهم بل الغرض ان للمنجز مزية على المعلق الثالث ان المشروط هو المقصود لذاته والشرط تابع ووسيلة الرابع أن المنجز لا مانع من وقوعه لأهلية الفاعل وقبول المحل والتعليق المحال لا يصلح ان يكون مانعا من اقتضاء السبب الصحيح اثره(9/299)
ص -263-…الخامس أن صحة التعليق فرع على ملك التنجيز فإذا انتفى ملكه للمنجز في هذه المسألة انتفى صحة التعليق فصحة التعليق تمنع من صحته وهذه معارضة صحيحة في أصل المسألة فتأملها السادس انه لو قال: في مرضه إذا اعتقت سالما فغانم حر ثم اعتق سالما ولا يخرجان من الثلث قدم عتق المنجز على المعلق لقوته يوضحه الوجه السابع أنه لو قال: لغيره ادخل الدار فإذا دخلت أخرجتك وهو نظيره في القوة فإذا دخل لم يمكنه إخراجه وهذا المثال وزان مسألتنا فإن المعلق هو الاخراج والمنجز هو الدخول الثامن ان المنجز في حيز الامكان والمعلق قد قارنه ما جعله مستحيلا التاسع ان وقوع المنجز يتوقف على امر واحد وهو التكلم باللفظ اختيارا ووقوع المعلق يتوقف على التكلم باللفظ ووجود الشرط وما توقف على شيء واحد أقرب وجودا مما توقف على أمرين العاشر أن وقوع المنجز موافق لتصرف الشارع وملك المالك ووقوع المعلق بخلافه لان الزوج لم يملكه الشارع ذلك فهذه عشرة اوجه تدل على مزية المنجز وتبطل قولكم إنه لا مزية له والله أعلم
فصل: ردود على المسألة السريجية
وأما سائر الصور التي ذكرتموها من صور الدور التي يفضى ثبوتها إلى إبطالها فمنها ما هو ممنوع الحكم لا يسلمه لكم منازعكم وإنما هي مسائل مذهبية يحتج لها ولا يحتج بها وهم يفكون الدور تارة بوقوع الحكمين معا وعدم إبطال احدهما للآخر ويجعلونهما معلولى علة واحدة ولا دور وتارة يسبق احد الحكمين للآخر سبق السبب لمسببه ثم يترتب الآخر عليه ومنها ما هو مسلم الحكم وثبوت الشيء فيه يقتضي إبطاله
ولكن لهذا حجة لهم في إبطال هذا التعليق فإنه لو صح لأفضى ثبوته إلى(9/300)
ص -264-…بطلانه فإنه لو صح لزم منه وقوع طلقة مسبوقة بثلاث وسبقها بثلاث يمنع وقوعها فبطل التعليق من أصله للزوم المحال فهذه الصور التي استشهدتم بها من أقوى حججهم عليكم على بطلان التعليق
وأدلتكم في هذه المسألة نوعان أدلة صحيحة وهي إنما تقتضي بطلان التعليق
وأما الادلة التي تقتضى بطلان المنجز فليس منها دليل صحيح فإنه طلاق صدر من أهله في محله فوجب الحكم بوقوعه أما أهلية المطلق فلأنه زوج مكلف مختار وأما محلية المطلقة فلأنها زوجة والنكاح صحيح فيدخل في قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} وفي سائر نصوص الطلاق إذ لو لم يلحقها طلاق لزم واحد من ثلاثة وكلها منتفية إما عدم أهلية المطلق وإما عدم قبول المحل وإما قيام مانع يمنع من نفوذ الطلاق والمانع مفقود إذ ليس مع مدعى قيامه إلا التعليق المحال الباطل شرعا وعقلا وذلك لا يصح ان يكون مانعا
يوضحه ان المانع من اقتضاء السبب لمسببه انما هو وصف ثابت يعارض سببيته فيوقفها عن اقتضائها فأما المستحيل فلا يصح ان يكون مانعا معارضا للوصف الثابت وهذا في غاية الوضوح ولله الحمد
فصل: السريجيون يعترضون
قال السريجيون لقد ارتقيتم مرتقى صعبا وأسأتم الظن بمن قال: بهذه المسألة وهم أئمة علماء لا يشق غبارهم ولا تغمز قناتهم كيف وقد أخذوها من نص الشافعي رحمه الله تعالى وبنوها على اصوله ونظروا لها النظائر واتوا لها بالشواهد فنص الشافعي على انه إذا قال: أنت طالق قبل موتي بشهر ثم مات لأكثر من شهر بعد هذا التعليق وقع الطلاق قبل موته بشهر وهذا إيقاع(9/301)
ص -265-…طلاق في زمن ماض سابق لوجود الشرط وهو موته فإذا وجد الشرط تبينا وقوع الطلاق قبله وايضاح ذلك بإخراج الكلام مخرج الشرط كقوله إن مت أو إذا مت فأنت طالق قبل موتي بشهر ونحن نلزمكم بهذه المسألة على هذا الأصل فإنكم موافقون عليه وكذا قوله قبل دخوله أنت طالق طلقة قبلها طلقة فإنه يقع بها طلقتان وإحداهما وقعت في زمن ماض سابق على التطليق وبهذا خرج الجواب عن قوله إن الوقوع كما لم يسبق الايقاع فلا يسبق الطلاق التطليق فكذا لا يسبق شرطه فإن الحكم لا يتقدم عليه ويجوز تقدمه على شرطه واحد سببيه أو أسبابه فإن الشرط معرف محض ولا يمتنع تقديم المعرف عليه وأما تقديمه على أحد سببيه فكتقدم الكفارة على الحنث بعد اليمين وتقديم الزكاة على الحول بعد ملك النصاب وتقديم الكفارة على الجرح قبل الزهوق ونظائرها
وأما قولكم إن الشرط يجب تقديمه على المشروط فممنوع بل مقتضى الشرع توقف المشروط على وجوده وأنه لا يوجد بدونه وليس مقتضاه تأخر المشروط عنه وهذا يتعلق باللغة والعقل والشرع ولا سبيل لكم إلى نص عن أهل اللغة في ذلك ولا إلى دليل شرعي ولا عقلي فدعواه غير مسموعة ونحن لا ننكر ان من الشروط ما يتقدم مشروطه ولكن دعوى ان ذلك حقيقة الشرط وأنه إن لم يتقدم خرج عن أن يكون شرطا دعوى لا دليل عليها وحتى لو جاء عن أهل اللغة ذلك لم يلزم مثله في الاحكام الشرعية لان الشروط في كلامهم تتعلق بالافعال كقوله إن زرتني أكرمتك وإذا طلعت الشمس جئتك فيقتضى الشرط ارتباطا بين الاول والثاني فلا يتقدم المتأخر ولا يتأخر المتقدم وأما الاحكام فتقبل التقدم والتأخر والانتقال كما لو قال: إذا مت فأنت طالق قبل موتي بشهر ومعلوم انه لو قال: مثل هذا في الحسيات كان محالا فلو قال: إذا زرتني أكرمتك قبل ان تزورني بشهر كان محالا إلا ان يحمل كلامه على معنى صحيح وهو إذا أردت أو عزمت على زيارتي أكرمتك قبلها(9/302)
ص -266-…وسر المسألة ان نقل الحقائق عن مواضعها ممتنع والاحكام قابلة للنقل والتحويل والتقديم والتأخير ولهذا لو قال: اعتق عبدك عنى ففعل وقع العتق عن القائل وجعل الملك متقدما على العتق حكما وإن لم يتقدم عليه حقيقة
وقولكم يلزمنا تجويز تقديم الطلاق على التطليق فذلك غير لازم فإنه انما يقع بإيقاعه فلا يسبق إيقاعه بخلاف الشرط فانه لا يوجب وجود المشروط وإنما يرتبط به والارتباط أعم من السابق والمقارن والمتأخر والاعم لا يستلزم الاخص
ونكتة الفرق أن الايقاع موجب للوقوع فلا يجوز ان يسبقه أثره وموجبه والشرط علامة على المشروط فيجوز ان يكون قبله وبعده فوزان الشرط وزان الدليل ووازن الايقاع وزان العلة فافترقا
وأما قولكم إن هذا التعليق يتضمن المحال إلى آخره فجوابه ان هذا التعليق تضمن شرطا ومشروطا وقد تعقد القضية الشرطية في ذلك للوقوع وقد تعقد للإبطال فلا يوجد فيها الشرط ولا الجزاء بل تعليق ممتنع بممتنع فتصدق الشرطية وإن انتفى كل من جزئيها كما تقول لو كان مع الله إله آخر لفسد العالم وكما في قوله إن كنت قلته فقد علمته ومعلوم انه لم يقله ولم يعلمه الله وهكذا قوله ان وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا فقضية عقدت لامتناع وقوع طرفيها وهما المنجز والمعلق
ثم نذكر في ذلك قياسا آخر حرره الشيخ ابو إسحاق رحمه الله تعالى فقال طلاقان متعارضان يسبق أحدهما الآخر فوجب ان ينفى السابق منهما المتأخر نظيره ان يقول لامرأته إن قدم زيد فانت طالق ثلاثا وإن قدم عمرو فأنت طالق طلقة فقدم زيد بكرة وعمرو عشية ونكتة المسألة أنا لو أوقعنا(9/303)
ص -267-…الطلاق المباشر لزمنا ان نوقع قبله ثلاثا ولو أوقعنا قبله ثلاثا لامتنع وقوعه في نفسه فقد أدى الحكم بوقوعه الحكم بعدم وقوعه فلا يقع
وقولكم إن هذه اليمين تفضى إلى سد باب الطلاق وذلك تغيير لشرع الله فإن الله ملك الزوج الطلاق رحمة به إلى آخره جوابه ان هذا ليس فيه تغيير للشرع وإنما هو إتيان بالسبب الذي ضيق به على نفسه ما وسعه الله عليه وهو هذه اليمين وهذا ليس تغيير للشرع ألا ترى ان الله تعالى وسع عليه أمر الطلاق فجعلة واحده بعد واحدة ثلاث مرات لئلا يندم فإذا ضيق على نفسه وأوقعها بفم واحد حصر نفسه وضيق عليها ومنعها ما كان حلالا لها وربما لم يبق له سبيل إلى عودها اليه ولذلك جعل الله تعالى الطلاق إلى الرجال ولم يجعل للنساء فيه حظا لنقصان عقولهن وأديانهن فلو جعله إليهن لكان فيه فساد كبير تأباه حكمة الرب تعالى ورحمته بعباده فكانت المرأة لا تشاء ان تتبدل بالزوج الا استبدلت به بخلاف الرجال فانهم اكمل عقولا واثبت فلا يستبدل بالزوجة إلا إذا عيل صبره ثم إن الزوج قد يجعل طلاق امرأته بيدها بأن يملكها ذلك أو يحلف عليها ان لا تفعل كذا فتختار طلاقه متى شاءت ويبقى الطلاق بيدها وليس في هذا تغيير للشرع لأنه هو الذي ألزم نفسه هذا الحرج بيمينه وتمليكه ونظير هذا ما قاله فقهاء الكوفة قديما وحديثا إنه لو قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق لم يمكنه ان يتزوج بعد ذلك امرأة حتى قيل: إن اهل الكوفة أطبقوا على هذا القول ولم يكن في ذلك تغيير للشريعة فإنه هو الذي ضيق على نفسه ما وسع الله عليه ونظير هذا لو قال: كل عبد وأمة أملكها فهما حران لم يكن له سبيل بعد هذا إلى ملك رقيق اصلا وليس في هذا تغيير للشرع بل هو المضيق على نفسه والضيق والحرج الذي يدخله المكلف على نفسه لا يلزم ان يكون الشارع قد شرعه له وإن الزمه به بعد ان ألزم نفسه ألا ترى ان(9/304)
ص -268-…من كان معه الف دينار فاشترى بها جارية فأولدها ثم ساءت العشرة بينهما لم يبق له طريق إلى الاستبدال بها وعليه ضرر في إعتاقها أو تزويجها أو إمساكها ولا بد له من أحدها
ثم نقول في معارضة ما ذكرتم بل يكون في هذه اليمين مصلحة له وغرض صحيح بأن يكون محبا لزوجته شديد الإلف بها وهو مشفق من ان ينزع الشيطان بينهما فيقع منه طلاقها من غضبة أو موجدة أو يحلف يمينا بالطلاق أو يبلى بمن يستحلفه بالطلاق ويضطر إلى الحنث أو يبلى بظالم يكرهه على الطلاق ويرفعه إلى حاكم ينفذه أو يبلى بشاهدي زور يشهدان عليه بالطلاق وفي ذلك ضرر عظيم به وكان من محاسن الشريعة ان يجعل له طريقا إلى الامن من ذلك كله ولا طريق احسن من هذه فلا ينكر من محاسن هذه الشريعة الكاملة أن تأتى بمثل ذلك ونحن لا ننكر ان في ذلك نوع ضرر عليه لكن رأى احتماله لدفع ضرر الفراق الذي هو أعظم من ضرر البقاء وما ينكر في الشريعة من دفع أعلى الضررين باحتمال أدناهما
فصل: الجواب على الشبه السريجية
قال الموقعون لقد دعوتم الشبه الجفلي إلى وليمة هذه المسألة فلم تدعوا منها داعيا ولا مجيبا واجتهدتم في تقريرها ظانين إصابة الاجتهاد وليس كل مجتهد مصيبا ونثرتم عليها ما لا يصلح مثله للنثار وزينتموها بأنواع الحلي ولكنه حلى مستعار فإذا استردت العارية زال الالتباس والاشتباه وهناك تسمع بالمعيدي خير من أن تراه(9/305)
ص -269-…فأما قولكم إنا ارتقينا مرتقي صعبا وأسأنا الظن بمن قال: بهذه المسألة فإن أردتم بإساءة الظن بهم تأثيما أو تبديعا فمعاذ الله بل انتم أسأتم بنا الظن وإن أردتم بإساءة الظن أنا لم نصوبهم في هذه المسألة ورأينا الصواب في خلافهم فيها فهذا قدر مشترك بيننا وبينكم في كل ما تنازعنا فيه بل سائر المتنازعين بهذه المثابة وقد صرح الاربعة الائمة بأن الحق في واحد من الاقوال المختلفة وليست كلها صوابا
وأما قولكم إن هذه المسألة مأخوذة من نص الشافعي لجوابه من وجهين:
أحدهما أنها لوكانت منصوصة له فقوله بمنزلة قول غيره من الائمة يحتج له ولا يحتج به وقد نازعه الجمهور فيها والحجة تفصل ما بين المتنازعين
الثاني: ان الشافعي رضي الله تعالى عنه لم ينص عليها ولا على ما يستلزمها وغاية ما ذكرتم نصه على صحة قوله انت طالق قبل موتي بشهر فإذا مات لأكثر من شهر من وقت هذا التعليق تبينا وقوع الطلاق وهذا قد وافقه عليه من يبطل هذه المسألة وليس فيه ما يدل على صحة هذه المسألة ولا هو نظيرها وليس فيه سبق الطلاق لشرطه ولا هو متضمن للمحال إذ حقيقته إذا بقى من حياتي شهر فأنت طالق.
وهذا الكلام معقول غير متناقض ليس فيه تقديم الطلاق على زمن التطليق ولا على شرط وقوعه وانما نظير المسألة المتنازع فيها ان يقول إذا مت فأنت طالق قبل موتي بشهر وهذا المحال بعينه وهو نظير قوله إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا أو يقول انت طالق عام الاول فمسألة الشافعي شيء ومسألة ابن سريج شيء ويدل عليه ان الشافعي إنما أوقع عليه الطلاق إذا مات لأكثر من شهر من حين التعليق فلو مات عقيب اليمين لم تطلق وكانت بمنزلة قوله انت طالق في الشهر الماضي وبمنزلة قوله أنت طالق قبل ان(9/306)
ص -270-…أنكحك فإن كلا الوقتين ليس بقابل للطلاق لأنها في أحدهما لم تكن محلا وفي الثاني لم تكن فيه طالقا قطعا فقوله انت طالق في وقت قد مضى ولم تكن فيه طالقا إما إخبار كاذب أو إنشاء باطل وقد قيل: يقع عليه الطلاق ويلغو قوله أمس لأنه أتى بلفظ الطلاق ثم وصل به ما يمنع وقوعه أو يرفعه فلا يصلح ويقع لغوا وكذلك قوله انت طالق طلقة قبلها طلقة ليس فيه إيقاع الطلقة الموصوفة بالقبلية في الزمن الماضي ولا تقدمها على الايقاع وإنما فيه إيقاع طلقتين احداهما قبل الاخرى فمن ضرورة قوله قبلها طلقة إيقاع هذه السابقة أولا ثم إيقاع الثانية بعدها فالطلقتان إنما وقعتا بقوله انت طالق لم تتقدم إحداهما على زمن الايقاع وإن تقدمت على الاخرى تقديرا فأين هذا من التعليق المستحيل فان أبيتم وقلتم قد وصل الطلقة المنجزة بتقدم مثلها عليها والسبب هو قوله انت طالق فقد تقدم وقوع الطلقة المعلقة بالقبلية على المنجزة ولما كان هذا نكاحا صح وهكذا قوله إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا اكثر ما فيه تقدم الطلاق السابق على المنجز ولكن المحل لا يحتملهما فتدافعا وبقيت الزوجية بحالها ولهذا لو قال: إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله واحدة صح لاحتمال المحل لهما
فالجواب أنه أوقع طلقتين واحدة قبل واحدة ولم تسبق إحداهما إيقاعه ولم يتقدم شرط الايقاع فلا محذور وهو كما لو قال: بعدها طلقة أو معها طلقة وكأنه قال: أنت طالق طلقتين معا أو واحدة بعد واحدة ويلزم من تأخر واحدة عن الأخرى سبق إحداهما للأخرى فلا إحالة اما وقوع طلقة مسبوقة بثلاث فهو محال وقصده باطل والتعبير عنه إن كان خبرا فهو كذب وإن كان إنشاء فهو منكر فالتكلم به منكر من القول وزور في إخباره منكر في إنشائه وأما كون المعلق تمام الثلاث فههنا لمنازعيكم قولان تقدم حكايتهما وهما وجهان في مذهب احمد والشافعي(9/307)
ص -271-…أحدهما يصح هذا التعليق ويقع المنجز والمعلق وتصير المسألة على وزان ما نص عليه الشافعي من قوله إذا مات زيد فأنت صالق قبله بشهر فمات بعد شهر فهكذا إذا قال: إذا وقع عليك طلاقي فانت طالق قبله واحدة ثم مضى زمن تمكن فيه القبيلة ثم طلقها تبينا وقوع المعلق في ذلك الزمان وهو متأخر عن الايقاع فكأنه قال: أنت طالق في الوقت السابق على تنجيز الطلاق أو وقوعه معلقا فهو تطليق في زمن متأخر
والقول الثاني أن هذا محال أيضا ولا يقع المعلق إذ حقيقته انت طالق الزمن السابق على تطليقك تنجيزا أو تعليقا فيعود إلى سبق الطلاق للتطليق وسبق الوقوع للإيقاع وهو حكم بتقديم المعلول على علته
يوضحه ان قوله إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله إما ان يريد طالق قبله بهذا الايقاع أو بإيقاع متقدم والثاني ممتنع لانه لم يسبق هذا الكلام منه شيئا والثاني كذلك لانه لا يتضمن انت طالق قبل ان اطلقك وهذا عين المحال فهذا كشف حجاب هذه المسألة وسر ما اخذها وقد تبين ان مسالة الشافعي لون وهذه لون آخر
وأما قولكم إن الحكم لا يجوز تقدمه على علته ويجوز تقدمه على شرطه كما يجوز تقدمه على احد سببيه إلى آخره فجوابه ان الشرط إما ان يوجد جزءا من المقتضى أو يوجد خارجا عنه وهما قولان للنظار والنزاع لفظي فإن اريد بالمقتضى التام فالشرط جزء منه وان اريد به المقتضى الذي يتوقف اقتضاؤه على وجود شرطه وعدم مانعه فالشرط ليس جزءا منه ولكن اقتضاؤه يتوقف عليه والطريقة الثانية طريقة القائلين بتخصيص العلة والاولى طريقة المانعين من التخصيص وعلى التقديرين فيمتنع تأخر الشرط عن وقوع المشروط لانه يستلزم(9/308)
ص -272-…وقوع الحكم بدون سببه التام فإن الشرط ان كان جزءا من المقتضى فظاهر وان كان شرطا لاقتضائه فالمعلق على الشرط لا يوجد عند عدمه وإلا لم يكن شرطا فإنه لوكان يوجد بدونه لم يكن شرطا فلو ثبت الحكم قبله لثبت بدون سببه التام فإن سببه لا يتم إلا بالشرط فعاد الامر إلى سبق الاثر لمؤثره والمعلول لعلته وهذا محال ولهذا لما لم يكن لكم حيلة في دفعه وعلمتم لزومه فررتم إلى ما لا يجدى عليكم شيئا وهو جعل الشرط مجرد علامة ودليل ومعرف وهذا إخراج للشرط عن كونه شرطا وإبطال لحقيقته فإن العلامة والدليل والمعرف ليست شروطا في المدلول المعرف ولا يلزم من نفيها نفيه فإن الشيء يثبت بدون علامة ومعرف له والمشروط ينتفى لانتقاء شرطه وان لم يوجد لوجوده وكل العقلاء متفقون على الفرق بين الشرط والامارة المحضة وان حقيقة احدهما وحكمه دون حقيقة الآخر وحكمه وإن كان قد يقال إن العلامة شرط في العلم بالمعلم والدليل شرط في العلم بالمدلول فذاك امر وراء الشرط في الوجود الخارجي فهذا شئ وذلك شئ آخر وهذا حق ولهذا ينتفى العلم بالمدلول عند انتفاء دليله ولكن هل يقول أحد أن المدلول ينتفي لانتفاء دليله؟
فإن قيل: نعم قد قاله غير واحد وهو انتفاء الحكم الشرعي لانتفاء دليله
قيل نعم فإن الحكم الشرعي لا يثبت بدون دليله فدليله موجب لثبوته فإذا انتفى الموجب انتفى الموجب ولهذا يقال لا موجب فلا موجب أما شرط اقتضاء السبب لحكمه فلا يجوز اقتضاؤه بدون شرطه ولو تأخر الشرط عنه لكان مقتضيا بدون شرطه وذلك يستلزم إخراج الشرط عن حقيقته وهو محال
وأما تقديم الحكم على احد سببيه في الصور التي ذكرتموها على إحدى الطريقتين أو تقديمه على شرط بعد وجود سببه على الطريقة الاخرى فالتنظير به(9/309)
ص -273-…مغلطة فإن الحكم لم يتقدم على سببه ولا شرطه وهذا محال وإن وقع تسامح في عبارة الفقهاء فإن انقضاء الحول مثلا والحنث والموت بعد الجرح شرط للوجوب ونحن لم نقدم الوجوب على شرطه ولا سببه وإنما قدمنا فعل الواجب والفرق بين تقدم الحكم بالوجوب وبين تقدم اداء الواجب فظهر ان هذا وهم أو إيهام وقد ظهر ان تقديم شرط علة الحكم وموجبه على الحكم امر ثابت عقلا وشرعا ونحن لم نأخذ ذلك عن نص اهل اللغة حتى تطالبونا بنقله بل ذلك أمر ثابت لذات الشرط وحكم من احكامه وليس ذلك متلقى من اللغة بل هو ثابت في نفس الامر لا يختلف بتقدم لفظ ولا تأخره حتى لو قال: انت طالق إن دخلت الدار أو قال: يبعثك الله إذا مت أو تجب عليك الصلاة اذا دخل وقتها ونحو ذلك فالشرط متقدم عقلا وطبعا وشرعا وإن تأخر لفظا
وأما قولكم إن الاحكام تقبل النقل عن مواضعها فتتقدم وتتأخر فتطويل بلا تحصيل وتهويل بلا تفصيل فهل تقبل النقل عن ترتيبها على أسبابها وموجباتها بحيث يثبت الحكم بدون سببه ومقتضيه نعم قد يتقدم ويتأخر وينتقل لقيام سبب آخر يقتضى ذلك فيكون مرتبا على سببه الثاني بعد انتقاله كما كان مرتبا على الاول قبل انتقاله وفي كل من الموضعين هو مرتب على سببه هذا في حكمه وذاك في محله وأما تنظيركم بنقل الاحكام وتقدمها على أسبابها بقوله انت طالق قبل موتي بشهر وقولكم إن نظيره في الحسيات ان تقول إن زرتني أكرمتك قبل زيارتك بشهر فوهم أيضا أو إيهام فإن قوله أنت طالق قبل موتى بشهر إنما تطلق إذا مضى شهر بعد هذه اليمين حتى يتبين وقوع الطلاق بعد إيقاعه فلو مات قبل مضي شهر لم تطلق على الصحيح لانه يصير بمنزلة انت طالق عام الاول وليس كذلك قوله إن زرتني أكرمتك قبله بشهر فإن الطلاق حكم يمكن تقدير وقوعه قبل الموت والإكرام فعل حتى(9/310)
ص -274-…لا يكون إكراما بالتقدير وإنما يكون إكراما بالوقوع وأما استشهادكم بقوله اعتق عبدك عني فهو حجة عليكم فإنه يستلزم تقدم الملك التقديري على العتق الذي هو اثره وموجبه والملك شرطه ولو جاز تأخر الشرط لقدر الملك له بعد العتق وهذا محال فعلم ان الاسباب والشروط يجب تقدمها سواء كانت محققة أو مقدرة
وقولكم إن هذا التعليق يتصمن شرطا ومشروطا والقضية الشرطية قد تعقد للوقوع وقد تعقد لنفي الشرط والجزاء إلى آخره فجوابه أيضا ان هذا من الوهم أو الايهام فإن القضية الشرطية هي التي يصح الارتباط بين جزءيها سواء كانا ممكنين أو ممتنعين ولا يلزم من صدقها شرطية صدق جزءيها جملتين فالاعتبار إنما هو بصدقها في نفسها ولهذا كان قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} من أصدق الكلام وجزاء الشرطية ممتنعان لكن أحدهما ملزوم للآخر فقامت القضية الشرطية من التلازم الذي بينهما فإن تعدد الآلهة مستلزم لفساد السموات والارض فوجود آلهة مع الله ملزوم لفساد السموات والارض والفساد لازم فإذا انتفى اللازم انتفى ملزومه فصدقت الشرطية دون مفرديها وأما الشرطية في مسألتنا فهي كاذبة في نفسها لانها عقدت للتلازم بين وقوع الطلاق المنجز وسبق الطلاق الثلاث عليه وهذا كذب في الإخبار باطل في الانشاء فالشرطية نفسها باطلة لا تصح بوجه فظهر ان تنظيرها بالشرطية الصادقة الممتنعة الجزءين وهم أو إيهام ظاهر لاخفاء به
وأما قياسكم المحرر وهو قولكم طلاقان متعارضان يسبق أحدهما الآخر فوجب ان ينفى السابق منهما المتأخر كقوله إن قدم زيد إلى آخره فجوابه أنه لما قدم زيد طلقت ثلاثا فقدم عمرو بعده وهي أجنبية فلم يصادف الطلاق الثاني محلا فهذا معقول شرعا ولغة وعرفا فأين هذا من تعلق مستحيل(9/311)
ص -275-…شرعا ولغة وعرفا فأين هذا من تعلق مستحيل شرعا وعرفا ولقد وهنت كل الوهن مسألة إلى مثل هذا القياس استنادها وعليه اعتمادها
وأما قولكم نكتة المسألة انا لو أوقعنا المنجز لزمنا ان نوقع قبله ثلاثا إلى آخره فجوابه ان يقال هذا كلام باطل في نفسه فلا يلزم من إيقاع المنجز ايقاع الثلاث قبله لا لغة ولا عقلا ولا شرعا ولا عرفا فإن قلتم لانه شرط للمعلق قبله فقد تبين فساد المعلق بما فيه كفاية ثم نقلب عليكم هذه النكتة قلبا أصح منها شرعا وعقلا ولغة فنقول إذا أوقعنا المنجز لم يمكنا ان نوقع قبله ثلاثا قطعا وقد وجد سبب وقوع المنجز وهو الايقاع فيستلزم موجبه وهو الوقوع وإذا وقع موجبه استحال وقوع الثلاث فهذه النكتة اصح واقرب إلى الشرع والعقل واللغة وبالله التوفيق.
وأما قولكم إن المكلف أتى بالسبب الذي ضيق به على نفسه فألزمناه حكمه إلى آخره فجوابه ان هذا إنما يصح فيما يملكه من الاسباب شرعا فلا بد ان يكون السبب مقدورا ومشروعا وهذا السبب الذي أتى به غير مقدور ولا مشروع فإن الله تعالى لم يملكه طلاقا ينجزه تسبقه ثلاث قبله ولا ذلك مقدور له فالسبب لا مقدور ولا مأمور بل هو كلام متناقض فاسد فلا يترتب عليه تغيير أحكام الشرع وبهذا خرج الجواب عما نظرتم به من المسائل أما المسألة الاولى وهي إذا طلق أمراته ثلاثا جملة فهذة مما يحتج لها ولا يحتج بها وللناس فيها أربعة أقوال أحدها الالزام بها والثاني إلغاءها جملة وإن كان هذا إنما يعرف عن الفقهاء الشيعة والثالث إنها واحدة وهذا قول أبى بكر الصديق وجميع الصحابة في زمانه وإحدى الروايتين عن ابن عباس واختيار أعلم الناس بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم محمد بن إسحاق والحارث العكلى وغيره وهو احد القولين في مذهب مالك حكاه التلمساني في شرح تفريع ابن الجلاب واحد القولين في مذهب احمد اختاره شيخ الاسلام ابن تيمية(9/312)
ص -276-…والرابع: أنها واحدة في حق التي لم يدخل بها وثلاث في حق المدخول بها وهذا مذهب امام اهل خراسان في وقته إسحاق بن راهويه نظير الامام احمد والشافعي ومذهب جماعة من السلف وفيها مذهب خامس وهو انها إن كانت منجزة وقعت وإن كانت معلقة لم تقع وهو مذهب حافظ الغرب وامام أهل الظاهر في وقته محمد بن حزم ولو طولبتم بإيطال هذه الاقوال وتصحيح قولكم بالدليل الذي يركن إليه العالم لم يمكنكم ذلك والمقصود أنكم ستدلون بما يحتاج إلى اقامة الدليل عليه والذين يسلمون لكم وقوع الثلاث جملة واحدة فريقان فريق يقول بجواز إيقاع الثلاث فقد أتى المكلف عنده بالسبب المشروع المقدور فترتب عليه سببه وفريق يقول تقع وإن كان إيقاعها محرما كما يقع الطلاق في الحيض والطهر الذي أصابها فيه وإن كان محرما لانه ممكن بخلاف وقوع طلقة مسبوقة بثلاث فإنه محال فأين أحدهما من الآخر؟.
فصل: أجوبة أخرى على المسألة السريجية
وأما نقضكم الثاني بتمليك الرجل امرأته الطلاق وتضييعه على نفسه بما وسع الله عليه من جعله بيده فجراية من وجوه:
أحدهما: أنه بالتمليك لم يخرج الطلاق عن يده بل هو في يده كما هو هذا إن قيل: إنه تمليك وإن قيل: إنه توكيل فله عزلها متى شاء
الثاني: ان هذه المسألة فيها نزاع معروف بين السلف والخلف فمنهم من قال: لا يصح تملك المرأة الطلاق ولا توكيلها فيه ولا يقع الطلاق إلا ممن أخذ بالساق وهذا مذهب اهل الظاهر وهو مأثور عن بعض السلف فالنقض بهذه الصورة يستلزم إقامة الدليل عليها والأول لا يكون دليلا ومن هنا قال: بعض أصحاب مالك إنه إذا علق اليمين بفعل الزوجة لم تطلق إذا حنث(9/313)
ص -277-…قال: لأن الله تعالى ملك الزوج الطلاق وجعله بيده رحمة منه ولم يجعله إلى المرأة فلو وقع الطلاق بفعلها لكان إليها إن شاءت أن تفارقه وإن شاءت ان تقيم معه وهذا خلاف شرع الله وهذا حد الاقوال في مسألة تعليق الطلاق بالشروط كما تقدم
والثاني: أنه لغو وباطل وهذا اختيار أبي عبدالرحمن ابن بنت الشافعي ومذهب اهل الظاهر
والثالث: انه موجب لوقوع الطلاق عند وقوع الصفة سواء كان يمينا أو تعليقا محضا وهذا المشهور عند الائمة الاربعة واتباعهم
والرابع: أنه إن كان بصيغة التعليق لزم وإن كان بصيغة القسم والالتزام لم يلزم إلا ان ينويه وهذا احتيار أبي المحاسن الروياني وغيره
والخامس: أن إن كان بصيغة التعليق وقع وإن كان بصيغة القسم والالتزام لم يقع وإن نواه وهذا اختيار القفال في فتاويه
والسادس: أنه إن كان الشرط والجزاء مقصودين وقع وإن كانا غير مقصودين وإنما حلف به قاصدا منع الشرط والجزاء لم يقع ولا كفارة فيه وهذا اختيار بعض أصحاب احمد
والسابع: كذلك إلا ان فيه الكفارة اذا مخرج مخرج اليمين وهذا اختيار شيخ الاسلام ابن تيمية والذي قبله اختيار اخيه وقد تقدم حكاية قول من حكى إجماع الصحابة أنه إذا حنث فيه لم يلزمه الطلاق وحكينا لفظه والمقصود الجواب عن النقض بتمليك المرأة الطلاق أو توكيلها فيه.
وأما قولكم في النقض الثالث إن فقهاء الكوفة صححوا تعليق الطلاق بالنكاح وهو يسد باب النكاح فهذا القول مما أنكره عليهم سائر الفقهاء وقالوا هو سد لباب النكاح حتى قال: الشافعي نفسه أنكره عليهم بذلك وبغيره من الادلة
ومن العجب أنكم قلتم في الرد عليهم لا يصح هذا التعليق لانه لم يصادف(9/314)
ص -278-…محلا وهو لا يملك الطلاق المنجز فلا يملك المعلق إذ كلاهما مستدع لقيام محله ولا محل فهلا قبلتم منهم احتجاجهم عليكم في المسألة السريجية بمثل هذه الحجة وهي ان المحل غير قابل لطلقة مسبقوقة بثلاث وكان هذا الكلام لغوا وباطلا فلا ينعقد
كما قلتم أنتم في تعليق النكاح بالطلاق إنه لغو وباطل فلا ينعقد فصل تعليق عتق العبد على ملكه وأما النقض الرابع بقوله كل عبد أو امة املكه فهو حر فهذا للفقهاء فيه قولان وهما روايتان عن الامام احمد
إحداهما: أنه لا يصح كتعليق الطلاق
والثاني: أنه يصح والفرق بينه وبين تعليق الطلاق أن ملك العبد قد شرع طريقا إلى زوال ملكه عنه بالعتق إما بنفس الملك كمن ملك ذا رحم محرم وإما باختيار الاعتاق كمن اشترى عبدا ليعتقه عن كفارته أو ليتقرب به إلى الله ولم يشرع الله النكاح طريقا إلى زوال ملك البضع ووقوع الطلاق بل هذا يترتب عليه ضد مقصوده شرعا وعقلا وعرفا والعتق المترتب على الشراء ترتيب لمقصوده عليه شرعا وعرفا فأين أحدهما من الآخر؟
وكونه قد سد على نفسه باب ملك الرقيق فلا يخلو إما ان يعلق ذلك تعليقا مقصودا أو تعليقا قسميا فإن كان مقصودا فهو قد قصد التقرب إلى الله بذلك فهو كما لو التزم صوم الدهر وسد على نفسه باب الفطر وإن كان تعليقا قسميا فله سعة بما وسع الله عليه من الكفارة كما أفتى به الصحابة رضى الله عنهم وقد تقدم
فصل: نقض دليل آخر للسريجيين
وأما النقض الخامس بمن معه الف دينار فاشترى بها جارية واولدها فهذا(9/315)
ص -279-…أيضا نقض فاسد فإنه بمنزلة من أنفقها في شهواته وملاذه وقعد ملوما محسورا أو تزوج بها امرأة وقضى وطره منها ونحو ذلك فأين هذا من سد باب الطلاق وبقاء المرأة كالغل في عنقه إلى ان يموت احدهما
فصل: الشرائع العامة لا تبنى على الصور النادرة
وقولكم قد يكون له في هذه اليمين مصلحة وغرض صحيح بأن يكون محبا لزوجته ويخشى وقوع الطلاق بالحلف أو غيره فيسرحها جوابه ان الشرائع العامة لم تبن على الصور النادرة ولو كان لعموم المطلقين في هذا مصلحة لكانت حكمة احكم الحاكمين تمنع الرجال من الطلاق بالكلية وتجعل الزوج في ذلك بمنزلة المرأة لا تتمكن من فراق زوجها ولكن حكمته تعالى أولى وأليق من مراعاة هذه المصلحة الجزئية التي في مراعاتها تعطيل مصلحة اكبر منها واهم وقاعدة الشرع والقدر تحصيل أعلى المصلحتين وإن مات أدناهما ودفع أعلى المفسدتين وإن وقع أدناهما وهكذا ما نحن فيه سواء فإن مصلحة تمليك الرجال الطلاق أعلى وأكثر من مصلحة سده عليهم ومفسدة سده عليهم اكبر من مفسدة فتحه لهم المفضية إلى ما ذكرتم وشرائع الرب تعالى كلها حكم ومصالح وعدل ورحمة وإنما العبث والجور والشدة في خلافها وبالله التوفيق
وانما أطلنا الكلام في هذه المسألة لانها من امهات الحيل وقواعدها والمقصود بيان بطلان الحيل فإنها لا تتمشى على قواعد الشريعة ولا أصول الائمة وكثير منها بل اكثرها من توليدات المنتسبين إلى الائمة وتفريعهم والائمة براء منها(9/316)
ص -280-…فصل: إبطال الحيلة بالخلع لفعل المحلوف عليه
ومن الحيل الباطلة الحيلة على التخلص من الحنث بالخلع ثم يفعل المحلوف عليه في حال البينونة ثم يعود إلى النكاح وهذه الحيلة باطلة شرعا وباطله على اصول ائمة الامصار أما بطلانها شرعا فإن هذا خلع لم يشرعه الله ولا رسوله وهو تعالى لم يمكن الزوج من فسخ النكاح متى شاء فإنه لازم وإنما مكنه من الطلاق ولم يجعل له فسخه الا عند التشاجر والتباغض إذا خافا ان لا يقيما حدود الله فشرع لهما التخلص بالافتداء وبذلك جاءت السنة ولم يقع في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا زمن أصحابه خلع حيلة ولا في زمن التابعين ولا تابعيهم ولا نص عليه احد من الائمة الاربعة وجعله طريقا للتخلص من الحنث وهذا من كمال فقههم رضى الله عنهم فإن الخلع انما جعله الشارع مقتضيا للبينونة ليحصل مقصود المرأة من الافتداء من زوجها وانما يكون ذلك مقصودها اذا قصدت ان تفارقه على وجه لا يكون له عليها سبيل فاذا حصل هذا ثم فعل المحلوف عليه وقع وليست زوجته فلا يحنث وهذا انما حصل تبعا للبينونة التابعة لقصدهما فإذا خالعها ليفعل المحلوف عليه لم يكن قصدهما البينونة بل حل اليمين وحل اليمين إنما يحصل تبعا للبينونة لا أنه المقصود بالخلع الذي شرعه الله ورسوله وأما خلع الحيلة فجاءت البينونة في لأجل حل اليمين وحل اليمين جاء لأجل البينونة فليس عقد الخلع بمقصود في نفسه للرجل ولا للمرأة والله تعالى لا يشرع عقدا ولا يقصد واحد من المتعاقدين حقيقته وانما يقصدان به ضد ما شرعه الله له فإنه شرع لتخلص المرأة من الزوج والمتحيل يفعله لبقاء النكاح فالشارع شرعه لقطع النكاح والمتحيل يفعله لدوام النكاح(9/317)
ص -281-…فصل: الائمة منزهون عن إحداث الحيل
والمتأخرون أحدثوا حيلا لم يصح القول بها عن احد من الائمة ونسبوها إلى الائمة وهم مخطئون في نسبتها إليهم ولهم مع الائمة موقف بين يدى الله ومن عرف سيرة الشافعي وفضله ومكانه من الإسلام علم انه لم يكن معروفا بفعل الحيل ولا بالدلالة عليها ولا كان يشير على مسلم بها واكثر الحيل التي ذكرها المتأخرون المنتسبون إلى مذهبه من تصرفاتهم تلقوها عن المشرقيين وادخلوها في مذهبه وإن كان رحمه الله تعالى يجري العقود على ظاهرها ولا ينظر إلى قصد العاقد ونيته كما تقدم حكاية كلامه فحاشاه ثم حاشاه ان يأمر الناس بالكذب والخداع والمكر والاحتيال وما لا حقيقة له بل ما يتيقن ان باطنه خلاف ظاهره ولا يظن بمن دون الشافعي من اهل العلم والدين انه يأمر أو يبيح ذلك فالفرق اذا واضح بين ان لا يعتبر القصد في العقد ويجريه على ظاهره وبين ان يسوغ عقدا قد علم بناؤه على المكر و الخداع وقد علم ان باطنه خلاف ظاهره
فو الله ما سوغ الشافعي ولا امام من الائمة هذا العقد قط ومن نسب ذلك اليهم فهم خصماؤه عند الله فالذى سوغه الائمة بمنزلة الحاكم يجري الاحكام على ظاهر عدالة الشهود وان كانوا في الباطن شهود زور والذي سوغه اصحاب الحيل بمنزلة الحاكم يعلم أنهم في الباطن شهود زور كذبة وان ما شهدوا به لا حقيقة له ثم يحكم بظاهر عدالتهم وهكذا في مسألة العينة انما جوز الشافعي ان يبيع السلعة ممن اشتراها منه جريا على ظاهر عقود المسلمين وسلامتها من المكر والخداع ولو قيل: للشافعي ان المتعاقدين قد تواطئا على الف بالف ومائتين وترواضا على ذلك وجعلا السلعة محللا للربا لم يجون ذلك ولانكره غابة الانكار(9/318)
ص -282-…ولقد كان الائمة من اصحاب الشافعي ينكرون على من يحكي عنه الافتاء بالحيل قال: الامام ابو عبد الله بن بطة سألت ابا بكر الآجرى وانا وهو بمنزلة بمكة عن هذا الخلع الذي يفتى به الناس وهو ان يحلف رجل ان لايفعل شيئا ولا بدله من فعله فيقال له اخلع زوجتك وافعل ما حلفت عليه ثم راجعها واليمين بالطلاق ثلاثا وقلت له ان قوما يفتون هذا الرجل الذي يحلف بأيمان البيعة ويحنث ان لا شيء عليه ويذكرون ان الشافعي لم ير على من حلف بأيمان البيعة شيئا فجعل ابو بكر يعجب من سؤالي عن هاتين المسألتين في وقت واحد ثم قال: لي منذ كتبت العلم وجلست للكلام فيه وللفتوى ما افتيت في هاتين المسألتين بحرف ولقد سألت ابا عبد الله الزبيري عن هاتين المسألتين كما سألتني عن التعجب ممن يقدم على الفتوى فيهما فأجابني فيهما بجواب كتبته عنه ثم قام فأخرج لي كتاب احكام الرجعة والنشوز من كتاب الشافعي واذا مكتوب على ظهره بخط أبي بكر سألت ابا عبد الله الزبيري فقلت له الرجل يحلف بالطلاق ثلاثا ان لايفعل شيئا ثم يريد ان يفعله وقلت له ان اصحاب الشافعي يفتون فيها بالخلع يخالع ثم يفعل فقال الزبيري ما اعرف هذا من قول الشافعي ولا بلغني ان له في هذا قولا معروفا ولا ارى من يذكر هذا عنه الا محيلا والزبيري احد الائمة الكبار من الشافعية فإذا كان هذا قوله وتنزيهه للشافعي عن خلع اليمين فكيف بحيل الربا الصريح وحيل التحليل وحيل اسقاط الزكاة والحقوق وغيرها من الحيل المحرمة
فصل: لا قول مع قول الله وقول الرسول
ولابد من أمرين أحدهما أعظم من الآخر وهو النصيحة لله ولرسوله وكتابه ودينه وتنزيهه عن الأقوال الباطلة المناقضة لما بعث الله به رسوله من الهدى والبينات التي هي خلاف الحكمة والمصلحة والرحمة(9/319)
ص -283-…والعدل وبيان نفيها عن الدين وإخراجها منه وإن أدخلها فيه من أدخلها بنوع تأويل
والثاني معرفة فضل أئمة الإسلام ومقاديرهم وحقوقهم ومراتبهم وأن فضلهم وعلمهم ونصحهم لله ورسوله لا يوجب قبول كل ما قالوه وما وقع في فتاويهم من المسائل التي خفى عليهم فيها ما جاء به الرسول فقالوا بمبلغ علمهم والحق في خلافها لا يوجب اطراح أقوالهم جملة وتنقصهم والوقيعة فيهم فهذان طرفان جائران عن القصد وقصد السبيل بينهما فلا نؤثم ولا نعصم ولانسلك بهم مسلك الرافضة في علي ولا مسلكهم في الشيخين بل نسلك مسلكهم أنفسهم فيمن قبلهم من الصحابة فإنهم لا يؤثمونهم ولا يعصمونهم ولا يقبلون كل أقوالهم ولا يهدرونها فكيف ينكرون علينا في الأئمة الأربعة مسلكا يسلكونه هم في الخلفاء الأربعة وسائر الصحابة ولا منافاة بين هذين الأمرين لمن شرح الله صدره للأسلام وإنما يتنافيان عند أحد رجلين جاهل بمقدار الأئمة وفضلهم أو جاهل بحقيقة الشريعة التي بعث الله بها رسوله ومن له علم بالشرع والواقع يعلم قطعا أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة وهو من الإسلام وأهله بمكان قد تكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور بل ومأجور لاجتهاده فلا يجوز أن يتبع فيها ولايجوز أن تهدر مكانته وإمامته ومنزلته من قلوب المسلمين
قال عبد الله المبارك كنت بالكوفة فناظروني في النبيذ المختلف فيه فقلت لهم تعالوا فليحتج المحتج منكم عمن شاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالرخصة فإن لم يبين الرد عليه عن ذلك الرجل بسند صحت عنه فاحتجوا فما جاءوا عن أحد برخصة إلا جئناهم بسند فلما لم يبق في يد أحد منهم إلا عبد الله ابن مسعود وليس احتجاجهم عنه في شدة النبيذ بشيء يصح عنه إنما يصح(9/320)
ص -284-…عنه أنه لم ينتبذ له في الجر الأخضر قال: ابن المبارك فقلت للمحتج عنه في الرخصة يا أحمق عد أن ابن مسعود لو كان ههنا جالسا فقال هو لك حلال وما وصفنا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الشدة كان ينبغي لك أن تحذر وتخشى فقال قائل ياأبا عبد الرحمن فالنخعى والشعبي وسمى عدة معهما كانوا يشربون الحرام فقلت لهم دعوا عند المناظرة تسمية الرجال فرب رجل في الإسلام مناقبه كذا وكذا وعسى أن تكون منه زلة أفيجوز لأحد أن يحتج بها فإن أبيتم فما قولكم في عطاء وطاوس وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وعكرمة قالوا: كانوا خيارا قلت فما قولكم في الدرهم بالدرهمين يدا بيد قالوا: حرام فقلت إن هؤلاء رأوه حلالا أفماتوا وهم يأكلون الحرام فبهتوا وانقطعت حجتهم قال: ابن المبارك: ولقد أخبرني المعتمر بن سليمان قال: رآني أبي وأنا أنشد الشعر فقال يا بني لا تنشد الشعر فقلت يا ابت كان الحسن ينشد الشعر وكان ابن سيرين ينشد فقال أي بني إن أخذت بشر ما في الحسن وبشر ما في ابن سيرين اجتمع فيك الشر كله
قال شيخ الإسلام: وهذا الذي ذكره ابن المبارك متفق عليه بين العلماء فإنه ما من أحد من أعيان الأئمة من السابقين الأولين ومن بعدهم إلا وله أقوال وأفعال خفي عليهم فيها السنة
قلت: وقد قال: أبو عمر بن عبد البر في أول استذكاره
قال شيخ الإسلام: وهذا باب واسع لا يحصى مع أن ذلك لا يغض من أقدارهم ولا يسوغ اتباعهم فيها قال: تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} قال: مجاهد والحكم بن عتيبة ومالك وغيرهم ليس أحد من(9/321)
ص -285-…خلق الله إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم وقال سليمان التيمي إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله قال: ابن عبد البر هذا إجماع لا أعلم فيه خلافا وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في هذا المعنى ما ينبغي تأمله فروى كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنى لأخاف على أمتي من بعدى من اعمال ثلاثة" قالوا: وما هي يا رسول الله قال: "إنى أخاف عليهم من زلة العالم ومن حكم الجائر ومن هوى متبع "
وقال زياد بن حدير قال: عمر ثلاث يهدمن الدين زلة عالم وجدال منافق بالقرآن وأئمة مضلون
وقال الحسن قال: ابو الدرداء إن مما أخشى عليكم زلة العالم وجدال المنافق بالقرآن والقرآن حق وعلى القرآن منار كأعلام الطريق
وكان معاذ بن جبل يقول في خطبته كل يوم قلما يخطئه ان يقول ذلك الله حكم قسط هلك المرتابون إن وراءكم فتنا يكثر فيها المال ويفتح فيها القرآن حتى يقرأه المؤمن والمنافق والمرأة والصبي والاسود والاحمر فيوشك أحدهم ان يقول قد قرأت القرآن فما أظن أن يتبعوني حتى ابتدع لهم غيره فإياكم وما ابتدع فإن كل بدعة ضلالة وإياكم وزيغة الحكيم فإن الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة وإن المنافق قد يقول كلمة الحق فتلقوا الحق عمن جاء به فإن على الحق نورا قالوا: كيف زيغة الحكيم قال: هي كلمة تروعكم وتنكرونها وتقولون ما هذه فاحذروا زيغته ولا تصدنكم عنه فانه يوشك ان يفيء ويراجع الحق وان العلم والايمان مكانهما إلى يوم القيامة فمن ابتغاهما وجدهما
وقال سلمان الفارسي كيف أنتم عند ثلاث زلة عالم وجدال منافق(9/322)
ص -286-…بالقرآن ودنيا تقطع أعناقكم فأما زلة العالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم وتقولون نصنع مثل ما يصنع فلان وإن أخطأ فلا تقطعوا إياسكم منه فتعينوا عليه الشيطان وأما مجادلة منافق بالقرآن فإن للقرآن منارا كمنار الطريق فما عرفتم منه فخذوا وما لم تعرفوا افكلوه إلى الله تعالى وأما دنيا تقطع أعناقكم فانظروا إلى من هو دونكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم
وعن ابن عباس ويل للأتباع من عثرات العالم قيل: كيف ذلك قال: يقول العالم شيئا برأيه ثم يجد من هو أعلم منه برسول الله صلى الله عليه وسلم فيترك قوله ثم يمضي الأتباع ذكر ابو عمر هذه الآثار كلها وغيره
فإذا كنا قد حذر نازلة العالم وقيل لنا إنها من أخوف ما يخاف علينا وأمرنا مع ذلك أن لا نرجع عنه فالواجب على من شرح الله صدره للإسلام إذا بلغته مقالة ضعيفة عن بعض الأئمة أن لا يحكيها لمن يتقلدها بل يسكت عن ذكرها إن تيقن صحتها وإلا توقف في قبولها فكثيرا ما يحكى عن الائمة ما لا حقيقة له وكثير من المسائل يخرجها بعض الاتباع على قاعدة متبوعه مع ان ذلك الامام لو رأى انها تفضى إلى ذلك لما التزمها وايضا فلازم المذهب ليس بمذهب وإن كان لازم النص حقا لان الشارع لا يجوز عليه التناقض فلازم قوله حق وأما من عداه فلا يمتنع عليه ان يقول الشيء ويخفى عليه لازمه ولو علم ان هذا لازمه لما قاله فلا يجوز ان يقال هذا مذهبه ويقول ما لم يقله وكل من له علم بالشريعة وقدرها وبفضل الائمة ومقاديرهم وعلمهم وورعهم ونصيحتهم للدين تيقن انهم لو شاهدوا امر هذه الحيل وما أفضت اليه من التلاعب بالدين لقطعوا بتحريمها
ومما يوضح ذلك ان الذين أفتوا من العلماء ببعض مسائل الحيل واخذوا ذلك من بعض قواعدهم لو بلغهم ما جاء في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه(9/323)
ص -287-…لرجعوا عن ذلك يقينا فإنهم كانوا في غاية الانصاف وكان احدهم يرجع عن رأيه بدون ذلك وقد صرح بذلك غير واحد منهم وإن كانوا كلهم مجمعين على ذلك قال: الشافعي إذا صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضربوا بقولى الحائط وهذا وإن كان لسان الشافعي فإنه لسان الجماعة كلهم ومن الاصول التي أتفق عليها الائمة ان اقوال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المنتشرة لا تترك إلا بمثلها
يوضح ذلك ان القول بتحريم الحيل قطعي ليس من مسالك الاجتهاد إذ لو كان من مسالك الاجتهاد لم يتكلم الصحابة والتابعون والائمة في ارباب الحيل بذلك الكلام الغليظ الذي ذكرنا منه اليسير من الكثير وقد اتفق السلف على انها بدعة محدثة فلا يجوز تقليد من يفتي بها ويجب نقض حكمه ولا يجوز الدلالة للمقلد على من يفتى بها وقد نص الإمام احمد على ذلك كله ولا خلاف في ذلك بين الائمة كما ان المكيين والكوفيين لا يجوز تقليدهم في مسألة المتعة والصرف والنبيذ ولا يجوز تقليد بعض المدنيين في مسألة الحشوش وإتيان النساء في أدبارهن بل عند فقهاء الحديث ان من شرب النبيذ المختلف فيه حد وهذا فوق الانكار باللسان بل عند فقهاء أهل المدينة يفسق ولا تقبل شهادته وهذا يرد قول من قال: لا إنكار في المسائل المختلف فيها وهذا خلاف إجماع الائمة و لا يعلم إمام من أئمة الاسلام قال: ذلك وقد نص الامام احمد على ان من تزوج ابنته من الزنا يقتل والشافعي واحمد ومالك لا يرون خلاف أبي حنيفة فيمن تزوج امه وابنته انه يدرأ عنه الحد بشبهة دارئه للحد بل عند الامام احمد رضى الله عنه يقتل وعند الشافعي ومالك بحد حد الزنا في هذا مع أن القائلين المتعة والصرف معهم سنة وان كانت منسوخة وارباب الحيل ليس معهم وسنة ولا اثر عن صاحب ولا قياس صحيح(9/324)
ص -288-…خطأ من يقول لا إنكار في مسائل الخلاف:
وقولهم: إن مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح فإن الانكار إما ان يتوجه إلى القول والفتوى أو العمل أما الاول فإذا كان القول يخالف سنة أو إجماعا شائعا وجب إنكاره اتفاقا إن لم يكن كذلك فإن بيان ضعفه ومخالفته للدليل إنكار مثله وأما العمل فإذا كان على خلاف سنة أو اجماع وجب إنكاره بحسب درجات الانكار وكيف يقول فقيه لا إنكار في المسائل المختلف فيها والفقهاء من سائر الطوائف قد صرحوا بنقص حكم الحاكم إذا خالف كتابا أو سنة وإن كان قد وافق فيه بعض العلماء وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم تنكر على من عمل بها مجتهدا أو مقلدا
وإنما دخل هذا اللبس من جهة ان القائل يعتقد ان مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد كما اعتقد ذلك طوائف من الناس ممن ليس لهم تحقيق في العلم
والصواب ما عليه الائمة ان مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوبا ظاهرا مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه فيسوغ فيها إذا عدم فيها الدليل الظاهر الذي يجب العمل به الاجتهاد لتعارض الادلة أو لخفاء الادلة فيها وليس في قول العالم إن هذه المسألة قطعية أو يقينية ولا يسوغ فيها الاجتهاد طعن على من خالفها ولا نسبة له إلى تعمد خلاف الصواب والمسائل التي اختلف فيها السلف والخلف وقد تيقنا صحة احد القولين فيها كثير مثل كون الحامل تعتد بوضع الحمل وان اصابة الزوج الثاني شرط في حلها للاول وان الغسل يجب بمجرد الايلاج وان لم ينزل وان ربا الفضل حرام وان المتعة حرام وان النبيذ المسكر حرام وان المسلم لا يقتل بكافر وان المسح على الخفين جائز حضرا وسفرا وان السنة في الركوع وضع اليدين على الركبتين دون التطبيق(9/325)
ص -289-…وأن رفع اليدين عند الركوع والرفع منه سنة وان الشفعة ثابتة في الارض والعقار وان الوقف صحيح لازم وأن دية الاصابع سواء وأن يد السارق تقطع في ثلاثة دراهم وان الخاتم من حديد يجوز أن يكون صداقا وأن التيمم إلى الكوعين بضربة واحدة جائز وان صيام الولي عن الميت يجزيء عنه وان الحاج يلبي حتى يرمي جمرة العقبة وان المحرم له استدامة الطيب دون ابتدائه وان السنة ان يسلم في الصلاة عن يمينه وعن يساره السلام عليكم ورحمة الله السلام عليكم ورحمة الله وان خيار المجلس ثابت في البيع وان المصراة يرد معها عوض اللبن صاعا من تمر وأن صلاة الكسوف بركوعين في كل ركعة وان القضاء جائز بشاهد ويمين إلى أضعاف أضعاف ذلك من المسائل ولهذا صرح الائمة بنقض حكم من حكم بخلاف كثير من هذه المسائل من غير طعن منهم على من قال: بها
وعلى كل حال فلا عذر عند الله يوم القيامة لمن بلغه ما في المسألة من هذا الباب وغيره من الاحاديث والاثار التي لا معارض لها إذا نبذها وراء ظهره وقلد من نهاه عن تقليده وقال له لا يحل لك ان تقول بقولى إذا خالف السنة وإذا صح الحديث فلا تعبأ بقولى وحتى لو لم يقل له ذلك كان هذا هو الواجب عليه وجوبا لا فسحة له فيه وحتى لو قال: له خلاف ذلك لم يسعه إلا اتباع الحجة ولو لم يكن في هذا الباب شئ من الاحاديث والآثار ألبتة فإن المؤمن يعلم بالاضطرار ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم اصحابه هذه الحيل ولا يدلهم عليها ولو بلغه عن أحد فعل شيئا منها لأنكر عليه ولم يكن أحد من أصحابه يفتى بها ولا يعلمها وذلك مما يقطع به كل من له أدنى اطلاع على أحوال القوم وسيرتهم وفتاويهم وهذا القدر لا يحتاج إلى دليل اكثر من معرفة حقيقة الدين الذي بعث الله به رسوله(9/326)
ص -290-…فصل: بيان تفصيلي لتحريم التحيل
فلنرجع إلى المقصود وهو بيان بطلان هذه الحيل على التفصيل وانها لا تتمشى لا على قواعد الشرع ومصالحه وحكمه على اصول الائمة
حيلة باطلة في تصحيح الوقف على النفس:
قال شيخنا ومن الحيل الجديدة التي لا أعلم بين فقهاء الطوائف خلافا في تحريمها أن يريد الرجل ان يقف على نفسه بعد موته على جهات متصلة فيقول له أرباب الحيل أقر أن هذا المكان الذي بيدك وقف عليك من غيرك ويعلمونه الشروط التي يريد إنشاءها فيجعلها إقرارا فيعملونه الكذب في الاقرار ويشهدون على الكذب وهم يعلمون ويحكمون بصحته ولا يستريب مسلم في ان هذا حرام فإن الاقرار شهادة من الانسان على نفسه فكيف يلقن شهادة الزور ويشهد عليه بصحتها ثم ان كان وقف الانسان على نفسه باطلا في دين الله فقد علمتموه حقيقة الباطل فإن الله تعالى قد علم ان هذا لم يكن وقفا قبل الاقرار ولا صار وقفا بالاقرار الكاذب فيصير المال حراما على من يتناوله إلى يوم القيامة وإن كان وقف الانسان على نفسه صحيحا فقد أغنى الله تعالى عن تكلف الكذب
قلت ولو قيل: إنه مسألة خلاف يسوغ فيها الاجتهاد فإذا وقفه على نفسه كان لصحته مساغ لما فيه من الاختلاف لساغ واما الاقرار بوقفه من غير إنشاء متقدم فكذب بحت ولا يجعله ذلك وقفا اتفاقا إذا أخذ الاقرار على حقيقته ومعلوم قطعا ان تقليد الانسان لمن يفتى بهذا القول ويذهب اليه اقرب إلى الشرع والعقل من توصيله اليه بالكذب والزور والاقرار الباطل فتقليد عالم من علماء المسلمين اعذر عند الله من تلقين الكذب والشهادة عليه(9/327)
ص -291-…فصل: حيلة أخرى في الوقف على النفس
ولهم حيلة أخرى وهي ان الذي يريد الوقف يملكه لبعض من يثق به ثم يقفه المملك عليه بحسب اقتراحه وهذا لا شك في قبحه وبطلانه فإن التمليك المشروع المعقول ان يرضى المملك بنقل الملك إلى المملك بحيث يتصرف فيه بما يحب من وجوه التصرفات وهنا قد علم الله تعالى والحفظة الموكلون بالعبد ومن يشاهدهم من بني آدم من هذا المملك انه لم يرض بنقل الملك إلى هذا ولا خطر له على بال ولو سأله درهما واحدا فلعله كان لم يسمح به عليه ولم يرض بتصرفه فيه إلا بوقفه على المملك خاصة بل قد ملكه إياه بشرط ان يتبرع عليه به وقفا إما بشرط مذكور وإما بشرط معهود متواطأ عليه وهذا تمليك فاسد قطعا وليس بهبة ولا صدقة ولا هدية ولا وصية ولا إباحة وليس هذا بمنزلة العمري والرقبي المشروط فيها العود إلى المعمر فإن هناك ملكه التصرف فيه وشرط العود وهنا لم يملكه شيئا وإنما تكلم بلفظ التمليك غير قاصد معناه والموهوب له يصدقه أنهما لم يقصدا حقيقة الملك بل هو استهزاء بآيات الله وتلاعب بحدوده وسنذكر ان شاء الله في الفصل الذي بعد هذا الطريق الشرعية المغنية عن هذه الحيلة الباطلة.
فصل: حيلة باطلة في مخالفة شرط الواقف
ومن الحيل الباطلة تحيلهم على إيجار الوقف مائة سنة مثلا وقد شرط الواقف ألا يؤجر أكثر من سنتين أو ثلاثا فيؤجر المدة الطويلة في عقود متفرقة في مجلس واحد وهذه الحيلة باطلة قطعا فإنه إنما قصد بذلك دفع المفاسد المترتبة على طول مدة الاجارة فإنها مفاسد كثيرة جدا وكم قد ملك من الوقوف بهذه الطرق وخرج عن الوقفية بطول المدة واستيلاء المستأجر فيها على الوقف هو(9/328)
ص -292-…وذريته وورثته سنينا بعد سنين وكم فات البطون اللواحق من منفعة الوقف بالايجار الطويل وكم أوجر الوقف بدون إجارة مثله لطول المدة وقبض الاجرة وكم زادت أجرة الارض أو العقار اضعاف ما كانت ولم يتمكن الموقوف عليه من استيفائها وبالجملة فمفاسد هذه الاجارة تفوت العد والواقف إنما قصد دفعها وخشى منها بالاجارة الطويلة فصرح بأنه لا يؤجر اكثر من تلك المدة التي شرطها فإيجاره أكثر منها سواء كان في عقد أو عقود مخالفة صريحة لشرطه مع ما فيها من المفسدة بل المفاسد العظيمة
ويالله العجب هل تزول هذه المفاسد بتعدد العقود في مجلس واحد وأي غرض للعاقل ان يمنع الاجارة لأكثر من تلك المدة ثم يجوزها في ساعة واحدة في عقود متفرقة وإذا اجره في عقود متفرقة اكثر من ثلاث سنين ايصح أن يقال وفي بشرط الواقف ولم يخالفه هذا من أبطل الباطل وأقبح الحيل وهو مخالف لشرط الواقف ومصلحة الموقوف عليه وتعرض لابطال هذه الصدقة وان لا يستمر نفعها والا يصل إلى من بعد الطبقة الاولى وما قاربها فلا يحل لمفت ان يفتى بذلك ولا لحاكم ان يحكم به ومتى حكم به نقض حكمه اللهم إلا ان يكون فيه مصلحة الوقف بأن يخرب ويتعطل نفعه فتدعو الحاجة إلى إيجاره مدة طويلة يعمر فيها بتلك الاجرة فهنا يتعين مخالفة شرط الواقف تصحيحا لوقفه واستمرارا لصدقته وقد يكون هذا خيرا من بيعه والاستبدال به وقد يكون البيع أو الاستبدال خيرا من الاجارة والله يعلم المفسد من المصلح
والذي يقضى منه العجب التحيل على مخالفة شرط الواقف وقصده الذي يقطع بأنه قصده مع ظهور المفسدة والوقوف مع ظاهر شرطه ولفظه المخالف القصده والكتاب والسنة ومصلحة الموقوف عليه بحيث يكون مرضاة الله ورسوله ومصلحة الواقف وزيادة اجره ومصلحة الموقوف عليه وحصول الرفق به(9/329)
ص -293-…مع كون العمل احب إلى الله ورسوله لا يغير شرط الواقف ويجرى مع ظاهر لفظه وإن ظهر قصده بخلافه وهل هذا إلا من قلة الفقه بل من عدمه فإذا تحيلتم على إبطال مقصود الواقف حيث يتضمن المفاسد العظيمة فهلا تحيلتم على مقصوده ومقصود الشارع حيث يتضمن المصالح الراجحة بتخصيص لفظه أو تقييده أو تقديم شرط الله عليه فإن شرط الله أحق وأوثق بل يقولون ههنا نصوص الواقف كنصوص الشارع وهذه جملة من أبطل الكلام وليس لنصوص الشارع نظير من كلام غيره أبدا بل نصوص الواقف يتطرق اليها التناقض والاختلاف ويجب إبطالها اذا خالفت نصوص الشارع وإلغاؤها ولا حرمة لها حينئذ ألبتة ويجوز بل يترجح مخالفتها إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله منها وانفع للواقف والموقوف عليه ويجوز اعتبارها والعدول عنها مع تساوي الامرين ولا يتعين الوقوف معها وسنذكر إن شاء الله فيما بعد ونبين ما يحل الإفتاء به وما يحل من شروط الواقفين إذ القصد بيان بطلان هذه الحيلة شرعا وعرفا ولغة
فصل: حيلة باطلة لإبرار من حلف لا يفعل شيئا ومثله لا يفعله بنفسه عادة
ومن الحيل الباطلة ما لو حلف ان لا يفعل شيئا ومثله لا يفعله بنفسه اصلا كما لو حلف السلطان ان لا يبيع كذا ولا يحرث هذه الارض ولا يزرعها ولا يخرج هذا من بلده ونحو ذلك فالحيلة ان يامر غيره ان يفعل ذلك ويبر في يمينه إذا لم يفعله بنفسه وهذا من أبرد الحيل وأسمجها وأقبحها وفعل ذلك هو الحنث الذي حلف عليه بعينه ولا يشك في انه حانث ولا احد من العقلاء وقد علم الله ورسوله والحفظة بل والحالف نفسه أنه إنما حلف على نفي الامر والتمكين من ذلك لا على مباشرته والحيل إذا افضت إلى مثل هذا سمجت غاية السماجة ويلزم أرباب الحيل والظاهر انهم يقولون:(9/330)
ص -294-…إنه إذا حلف ان لا يكتب لفلان توقيعا ولا عهدا ثم امر كتابه ان يكتبوه له فإنه لا يحنث سواء كان أميا أو كاتبا وكذلك إذا حلف ان لا يحفر هذا البئر ولا يكرى هذا النهر فامر غيره بحفره وإكرائه انه لا يحنث
فصل: حيلة باطلة لمن حلف ألا يفعل شيئا ففعل بعضه
ومن الحيل الباطلة لو حلف لا يأكل هذا الرغيف أو لا يسكن في الدار هذه السنة أو لا يأكل هذا الطعام قالوا: يأكل الرغيف ويدع منه لقمة واحدة ويسكن السنة كلها إلا يوما واحدا ويأكل الطعام كله إلا القد اليسير منه ولو انه لقمة
وهذه حيلة باطلة باردة ومتى فعل ذلك فقد أتى بحقيقة الحنث وفعل نفس ما حلف عليه وهذه الحيلة لا تتأتى على قول من يقول يحنث بفعل بعض المحلوف عليه ولا على قول من يقول لا يحنث لانه لم يرد مثل هذه الصورة قطعا وإنما اراد به اذا اكل لقمة مثلا من الطعام الذي حلف انه لا يأكله أو حبة من القطف الذي حلف على تركه ولم يرد انه يأكل القطف إلا حبة واحدة منه وعالم لا يقول هذا
ثم يلزم هذا المتحيل ان يجوز المكلف فعل كل ما نهى الشارع عن جملته فيفعله إلا القدر اليسير منه فإن البر والحنث في الايمان نظير الطاعة والمعصية في الامر والنهي ولذلك لا يبر إلا بفعل المحلوف عليه جميعه لا بفعل بعضه كما لا يكون مطيعا إلا بفعله جميعه ويحنث بفعل بعضه كما يعصى بفعل بعضه فيلزم هذا القائل ان يجوز للمحرم في الاحرام حلق تسعة اعشار رأسه بل وتسعة اعشار العشر الباقي لان الله تعالى إنما نهاه عن حلق رأسه كله لا عن بعضه كما يفتى لمن حلف لا يحلق رأسه ان يحلقه إلا القدر اليسير منه(9/331)
ص -295-…وتأمل لو فعل المريض هذا فيما نهاه الطبيب عن تناوله هل يعد قابلا منه أو لو فعل مملوك الرجل أو زوجته أو ولده ذلك فيما نهاهم عنه هل يكونون مطيعين له ام مخالفين واذا تحيل احدهم على نقض غرض الآمر وإبطاله بأدنى الحيل هل كان يقبل ذلك منه ويحمده عليه أو يعذره وهل يعذر احدا من الناس يعامله بهذه الحيل فكيف يعامل هو بهذا من لاتخفى عليه خافية
فصل: حيلة باطلة في اسقاط حق الحضانة للأم
ومن الحيل الباطلة المحرمة ما لو اراد الأب إسقاط حضانة الأم ان يسافر إلى غير بلدها فيتبعه الولد
وهذه الحيلة مناقضة لما قصده الشارع فإنه جعل الأم احق بالولد من الأب مع قرب الدار وإمكان اللقاء كل وقت لو قضى به للأب وقضى ان لا توله والدة على ولدها واخبر ان من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين احبته يوم القيامة ومنع ان تباع الأم دون ولدها والولد دونها وإن كانا في بلد واحد فكيف يجوز مع هذا التحيل على التفريق بينها وبين ولدها تفريقا تعز معه رؤيته ولقاؤه ويعز عليها الصبر عنه وفقده وهذا من امحل المحال بل قضاء الله ورسوله احق ان الولد للأم سافر الأب أو اقام والنبي صلى الله عليه وسلم قال: للأم انت احق به ما لم تنكحي فكيف يقال انت احق به ما لم يسافر الأب واين هذا في كتاب الله أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو فتاوي اصحابه أو القياس الصحيح فلا نص ولا قياس ولا مصلحة(9/332)
ص -296-…فصل: حيلة باطلة في نفاذ تصرفات المريض
ومن الحيل المحرمة اذا اراد حرمان امرأته من الميراث أو كانت تركته كلها عبيدا وإماء فأراد جعل تدبيرهم من رأس المال ان يقول في الصورة الأولى اذا مت من مرضي هذا فأنت طالق قبل مرضي بساعة ثلاثا ويقول في الصورة الثانية اذا مت في مرضي هذا فأنتم عتقاء قبله بساعة وحينئذ فيقع الطلاق والعتق في الصحة
وهذه حيلة باطلة فإن التعليق إنما وقع منه في حال مرض موته ولم يقارنه اثره وهو في هذه الحال لو نجز العتق والطلاق لكان العتق من الثلث والطلاق غير مانع للميراث مع مقارنة اثره له وقوة المنجز وضعف المعلق وايضا فالشرط هو موته في مرضه والجزاء المعلق عليه هو العتق والطلاق والجزاء يستحيل ان يسبق شرطه إذ في ذلك اخراج الشرط عن حقيقته وحكمه وقد تقدم تقرير ذلك في الحيلة السريجية
فصل: حيلة باطلة لتأخير قبض رأس مال السلم
ومن الحيل الباطلة المحرمة إذا كان مع احدهما دينار رديء ومع الآخر نصف دينار جيد فأراد بيع أحدهما بالآخر قال: أرباب الحيل الحيلة ان يبيعه دينارا بدينار في الذمة ثم يأخذ البائع الدينار الذي يريد شراءه بالنصف فيريد الآخر دينارا عوضه فيدفع اليه نصف الدينار وفاء ثم يستقرضه منه فيبقى له في ذمته نصف دينار ثم يعيده اليه وفاء عن قرضه فيبرأ منه ويفوز كل منهما بما كان مع الآخر ومثل هذه الحيلة لو اراد ان يجعل بعض رأس مال السلم دينارا يوفيه اياه في وقت آخر بأن يكون معه نصف دينار ويريد ان يسلم اليه دينارا في كر حنطة فالحيلة ان يسلم اليه دينارا غير معين ثم يوفيه نصف الدينار(9/333)
ص -297-…ثم يعود فيستقرضه منه ثم يوفيه إياه عما له عليه من الدين فيتفرقان وقد بقى له في ذمته نصف دينار
وهذه الحيلة من أقبح الحيل فإنهما لا يخرجان بها عن بيع دينار بنصف دينار ولا عن تأخير رأس مال السلم عن مجلس العقد ولكن توصلا إلى ذلك بالقرض الذي جعلا صورته مبيحة لصريح الربا ولتأخير قبض رأس مال السلم وهذا غير القرض الذي جاءت به الشريعة وهو قرض لم يشرعه الله وإنما اتخذه المتعاقدان تلاعبا بحدود الله وأحكامه واتخاذا لآياته هزوا واذا كان القرض الذي يجر النفع ربا عند صاحب الشرع فكيف بالقرض الذي يجر صريح الربا وتأخير قبض رأس مال السلم؟
فصل: حيل باطلة لإسقاط حق الشفعة
ومن الحيل الباطلة المحرمة التحيل على اسقاط ما جعله الله حقا للشريك على شريكه من استحقاق الشفعة دفعا للضرر والتحيل لإبطالها مناقض لهذا الغرض وإبطال لهذا الحكم بطريق التحيل وقد ذكروا وجوها من الحيل
منها ان يتفقا على مقدار الثمن ثم عند العقد يصبره صبرة غير موزونة فلا يعرف الشفيع ما يدفع فإذا فعلا ذلك فللشفيع ان يستحلف المشتري انه لا يعرف قدر الثمن فإن نكل قضى عليه بنكوله وان حلف فللشفيع اخذ الشقص بقيمته
ومنها ان يهب الشقص للمشتري ثم يهبه المشتري ما يرضيه وهذا لا يسقط الشفعة وهذا بيع وإن لم يتلفظا به فله ان يأخذ الشقص بنظير الموهوب(9/334)
ص -298-…ومنها ان يشتري الشقص ويضم اليه سكينا أو منديلا بألف درهم فيصير حصة الشقص من الثمن مجهولة وهذا لايسقط الشفعة بل يأخذ الشفيع الشقص بقيمته كما لو استحق احد العوضين واراد المشتري اخذ الآخر فإنه يأخذه بحصته من الثمن إن انقسم الثمن عليهما بالأجزاء وإلا فبقيمته وهذا الشقص مستحق شرعا فإن الشارع جعل الشفيع احق به من المشتري بثمنه فلا يسقط حقه منه بالحيلة والمكر والخداع
ومنها ان يشتري الشقص بألف دينار ثم يصارفه عن كل دينار بدرهمين فإذا اراد اخذه أخذه بالثمن الذي وقع عليه العقد وهذه الحيلة لاتسقط الشفعة واذا أراد أخذه أخذه بالثمن الذي استقر عليه العقد وتواطأ عليه البائع والمشتري فإنه هو الذي انعقد به العقد ولا عبرة بما أظهراه من الكذب والزور والبهتان الذي لا حقيقة له ولهذا لو استحق المبيع فإن المشتري لا يرجع على البائع بألف دينار وإنما يرجع بالثمن الذي تواطأ عليه واستقر عليه العقد فالذي يرجع به عند الاستحقاق هو الذي يدفعه الشفيع عند الأخذ هذا محض العدل الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه ولا تحتمل الشريعة سواه
ومنها أن يشتري بائع الشقص من المشتري عبدا قيمته مائة درهم بألف درهم في ذمته ثم يبيعه الشقص بالألف وهذه الحيلة لا تبطل الشفعة ويأخذ الشفيع الشقص بالثمن الذي يرجع به المشتري على البائع إذا استحق المبيع وهو قيمة العبد
ومنها أن يشتري الشقص بألف وهو يساوي مائة ثم يبرئه البائع من تسعمائة وهذا لا يسقط الشفعة ويأخذه الشفيع بما بقي من الثمن بعد الإسقاط وهو الذي يرجع به إذا استحق البيع(9/335)
ص -299-…ومنها أن يشتري جزءا من الشقص بالثمن كله ثم يهب له بقية الشقص وهذا لا يسقطها ويأخذ الشفيع الشقص كله بالثمن فإن هذه الهبة لا حقيقة لها والموهوب هو المبيع بعينه ولا تغير حقائق العقود وأحكامها التي شرعت فيها بتغير العبارة
وليس للمكلف ان يغير حكم العقد بتغيير عبارته فقط مع قيام حقيقته وهذا لو أراد من البائع ان يهبه جزءا من ألف جزء من الشقص بغير عوض لما سمحت نفسه بذلك ألبتة فكيف يهبه ما يساوي مائة الف بلا عوض وكيف يشتري منه الآخر مائة درهم بمائة الف وهل هذا إلا سفه يقدح في صحة العقد
قال الامام احمد في رواية اسماعيل بن سعيد وقد سأله عن الحيلة في إبطال الشفعة فقال لا يجوز شيء من الحيل في ذلك ولا في ابطال حق مسلم
وقال عبدالله بن عمر رضى الله عنهما في هذه الحيل وأشباهها من يخدع الله يخدعه والحيلة خديعة
وقد قال: النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تحل الخديعة لمسلم" والله تعالى ذم المخادعين والمتحيل مخادع لان الشفعة شرعت لدفع الضرر فلو شرع التحيل لابطالها لكان عودا على مقصود الشريعة بالابطال وللحق الضرر الذي قصد إبطاله
فصل: حيلة باطلة لتفويت حق القسمة
ومن الحيل الباطلة التحيل على إبطال القسمة في الارض القابله لها بأن يقف الشريك منها سهما من الف سهم مثلا على من يريد فيصير الشريك شريكا في الوقف والقسمة بيع فتبطل(9/336)
ص -300-…وهذه حيلة فاسدة باردة لا تبطل حق الشريك من القسمة وتجوز القسمة ولو وقف حصته كلها فإن القسمة إفراز حق وإن تضمنت معاوضة وهي غير البيع حقيقة واسما وحكما وعرفا ولا يسمى القاسم بائعا لا لغة ولا شرعا ولا عرفا ولا يقال للشريكين اذا تقاسما تبايعا ولا يقال لواحد منهما إنه قد باع ملكه ولا يدخل المتقاسمان تحت نص واحد من النصوص المتناولة للبيع ولا يقال لناظر الوقف إذا أفرز الوقف وقسمه من غيره إنه قد باع الوقف وللآخر إنه قد اشترى الوقف وكيف ينعقد البيع بلفظ القسمة ولو كانت بيعا لوجبت فيها الشفعة ولو كانت بيعا لما أجبر الشريك عليها إذا طلبها شريكه فإن أحدا لا يجبر على بيع ماله ويلزم بإخراج القرعة بخلاف البيع ويتقدر أحد النصيبين فيها بقدر النصيب الآخر إذا تساويا وبالجملة فهى منفردة عن البيع باسمها وحقيقتها وحكمها
فصل : حيلة باطلة لتصحيح المزارعة لمن يعتقد فسادها
ومن الحيل الباطلة التحيل على تصحيح المزارعة لمن يعتقد فسادها بأن يدفع الارض إلى المزارع ويؤجره نصفها مشاعا مدة معلومة يزرعها ببذره على ان يزرع للمؤجر النصف الآخر ببذره تلك المدة ويحفظه ويسقيه ويحصده ويذريه فإذا فعلا ذلك أخرج البذر منهما نصفين نصفا من المالك ونصفا من المزارع ثم خلطاه فتكون الغلة بينهما نصفين فإن اراد صاحب الارض ان يعود اليه ثلثا الغلة آجره ثلث الارض مدة معلومة على ان يزرع له مدة الاجارة ثلثي الارض ويخرجان البذر منهما أثلاثا ويخلطانه وإن أراد المزارع أن يكون له ثلثا البذر استأجر ثلثى الارض برزع الثلث الآخر كما تقدم
فتأمل هذه الطويلة الباردة المتعبة وترك الطريق المشروعه التي فعلها(9/337)
ص -301-…رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كأنها رأى عين واتفق عليها الصحابة وصح فعلها عن الخلفاء الراشدين صحة لا يشك فيها كما حكاه البخاري في صحيحه فما مثل هذا العدول عن طريقة القوم إلى هذه الحيلة الطويلة السمجة إلا بمنزلة من أراد الحج من المدينة على الطريق التي حج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم واصحابه فقيل له هذه الطريق مسدودة وإذا اردت أن تحج فاذهب إلى الشام ثم منها إلى العراق ثم حج على درب العراق وقد وصلت
فيالله العجب كيف تسد عليه الطريق القريبة السهلة القليلة الخطر التي سلكها رسول الله صلى الله عليه وسلم واصحابه ويدل على الطريق الطويلة الصعبة المشقة الخطرة التي لم يسلكها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من اصحابه؟
فلله العظيم عظيم حمد… كما أهدى لنا نعما غزارا
وهذا شأن جميع الحيل إذا كانت صحيحة جائزة واما إذا كانت باطلة محرمة فتلك لها شأن آخر وهي طريق إلى مقصد آخر غير الكعبة البيت الحرام وبالله التوفيق
فصل: حيلة باطلة في إسقاط حق الاب في الرجوع في الهبة وحق الزوج في الرجوع في نصف الصداق
ومن الحيل الباطلة التي لا تسقط الحق اذا اراد الابن منع الاب الرجوع فيما وهبه إياه أن يبيعه لغيره ثم يستقيله إياه وكذلك المرأة إذا أرادت منع الزوج من الرجوع في نصف الصداق باعته ثم استقالته
وهذا لا يمنع الرجوع فإن المحذور إبطال حق الغير من العين وهذا لا يبطل للغير حقا والزائل العائد كالذي لم يزل ولا سيما إذا كان زواله إنما جعل ذريعة وصورة إلى ابطال حق الغير فإنه لا يبطل بذلك(9/338)
ص -302-…يوضحه ان الحق كان متعلقا بالعين تعلقا قدم الشارع مستحقه على المالك لقوته ولا يكون صورة إخراجه عن يد المالك إخراجا لا حقيقة له اقوى من الاستحقاق الذي اثبت الشارع به انتزاعه من يد المالك بل لو كان الاخراج حقيقة ثم عاد لعاد حق الاول من الاخذ لوجود مقتضيه وزوال مانعه والحكم إذا كان له مقتض فمنع مانع من إعماله ثم زال المانع اقتضى المقتضى عمله
فصل: حيلة باطلة لتجويز الوصية للوارث
ومن الحيل الباطلة المحرمة إذا أراد ان يخص بعض ورثته ببعض الميراث وقد علم ان الوصية لا تجوز وان عطيته في مرضه وصية فالحيلة ان يقول كنت وهبت له كذا وكذا في صحتى أو يقر له بدين فيتقدم به
وهذا باطل والاقرار للوارث في مرض الموت لا يصح للتهمة عند الجمهور بل مالك يرده للأجنبي إذا ظهرت التهمة وقوله هو الصحيح وأما إقراره أنه كان وهبه إياه في صحته فلا يقبل أيضا كما لا يقبل إقراره له بالدين ولا فرق بين إقراره له بالدين أو بالعين وأيضا المريض لا يملك إنشاء عقد التبرع المذكور فلا يملك الإقرار به لاتحاد المعنى الموجب لبطلان الإنشاء فإنه بعينه قائم في الإقرار وبهذا يزول النقض بالصور التي يملك فيها الإقرار دون الإنشاء فإن المعنى الذي منع من الإنشاء هناك لم يوجد في الإقرار فتأمل هذا الفرق
فصل: حيلة باطلة في محاباة وارث
ومن الحيل الباطلة المحرمة إذا أراد أن يحابى وارثه في مرضه أن يبيع أجنبيا شفيعه وارثه شقصا بدون ثمنه ليأخذه وارثه بالشفعة(9/339)
ص -303-…فمتى قصد ذلك حرمت المحاباة المذكورة وكان للورثة إبطالها إذا كانت حيلة على محاباة الوارث وهذا كما يبطل الإقرار له لأنه قد يتخذ حيلة لتخصيصه
وقال اصحابنا: له الاخذ بالشفعة وهذا لا يستقيم على أصول المذهب إلا اذا لم يكن حيلة فأما إذا كان حيلة فأصول المذهب تقتضي ما ذكرناه ومن اعتبر سد الذرائع فأصله يقتضى عدم الاخذ بها وان لم يقصد الحيلة فإن قصد التحيل امتنع الاخذ لذلك وإن لم يقصده امتنع سدا للذريعة
فصل: حيلة باطلة لإسقاط أرش الجنايات
ومن الحيل الباطلة إذا أوضح رأسه في موضعين وجب عليه عشرة أبعرة من الابل فإذا أراد جعلها خمسة فليوضحه ثالثة تخرق ما بينهما
وهذه الحيلة مع أنها محرمة فإنها لا تسقط ما وجب عليه فإن العشر لا يجب عليه إلا بالاندمال فإذا فعل ذلك بعد الاندمال فهى موضحة ثالثة وعليه ديتها فإن كان قبل الاندمال ولم يستقر ارش الموضحتين الاوليين حتى صار الكل واحدة من جان واحد فهو كما لو سرت الجناية حتى خرقت ما بينهما فإنها تصير واحدة
وهكذا لو قطع أصبعا بعد أصبع من امرأة حتى قطع اربعا فإنه يجب عشرون ولو اقتصر على الثلاث وجب ثلاثون وهذا بخلاف ما لو قطع الرابعة بعد الاندمال فإنه يجب فيها عشر كما لو تعدد الجاني فإنه يجب على كل واحد ارش جنايته قبل الاندمال وبعده وكذلك لو قطع أطراف رجل وجب عليه ديات فان اندملت ثم قتله بعد ذلك فعليه مع تلك الديات دية النفس ولو قتله قبل الاندمال فدية واحدة كما لو قطعه عضوا عضوا حتى مات(9/340)
ص -304-…حيل باطلة لاسقاط حد السرقة
ومن الحيل الباطلة الحيل التي فتحت للسراق واللصوص التي لو صحت لم تقطع يد سارق أبدا ولعم الفساد وتتابع السراق في السرقة
فمنها ان ينقب احدهما السطح ولا يدخل ثم يدخل عبده أو شريكه فيخرج المتاع من السطح
ومنها ان ينزل احدهما من السطح فيفتح الباب من داخل ويدخل الآخر فيخرج المتاع
ومنها ان يدعى انه ملكه وان رب البيت عبده فبمجرد ما يدعى ذلك يسقط عنه القطع ولو كان رب البيت معروف النسب والناس تعرف ان المال ماله وأبلغ من هذا انه لو أدعى العبد السارق ان المسروق لسيده وكذبه السيد قالوا: فلا قطع عليه بل يسقط عنه القطع بهذه الدعوى
ومنها أن يبلع الجوهرة أو الدنانير ويخرج بها
ومنها أن يغير هيئة المسروق بالحرز ثم يخرج به
ومنها ان يدعى ان رب الدار أدخله داره وفتح له باب داره فيسقط عنه القطع وإن كذبه إلى أمثال ذلك من الاقوال التي حقيقتها أنه لا يجب القطع على سارق ألبتة
وكل هذه حيل باطلة لا تسقط القطع ولا تثير أدنى شبهة ومحال أن تأتي شريعة بإسقاط عقوبة هذه الجريمة بها بل ولا سياسة عادلة فإن الشرائع مبنية على مصالح العباد وفي هذه الحيل أعظم الفساد ولو ان ملكا من الملوك وضع عقوبة على جريمة من الجرائم لمصلحة رعيته ثم أسقطها بأمثال هذه الحيل عد متلاعبا(9/341)
ص -305-…فصل: حيل باطلة لاسقاط حد الزنا
ومن الحيل الباطلة الحيلة التي تتصمن إسقاط حد الزنا بالكلية وترفع هذه الشريعة من الارض بأن يستأجر المرأة لتطوي له ثيابه أو تحول له متاعا من جانب الدار إلى جانب آخر أو يستأجرها لنفس الزنا ثم يزني بها فلا يجب عليه الحد
وأعظم من هذا كله انه إذا اراد ان يزني بأمه أو اخته أو ابنته أو خالته أو عمته ولا يجب عليه الحد فليعقد عليها عقد النكاح بشهادة فاسقين ثم يطؤها ولا حد عليه
وأعظم من ذلك ان الرجل المحصن إذا اراد ان يزني ولا يحد فليرتد ثم يسلم فإنه إذا زني بعد ذلك فلا حد عليه أبدا حتى يستأنف نكاحا أو وطئا جديدا
وأعظم من هذا كله انه اذا زنى بأمه وخاف من إقامة الحد عليه فليقتلها فإذا فعل ذلك سقط عنه الحد وإذا شهد عليه الشهود بالزنا ولم يمكنه القدح فيهم فليصدقهم فإذا صدقهم سقط عنه الحد
ولا يخفى امر هذه الحيل ونسبتها إلى دين الاسلام وهل هي نسبة موافقة أو هي نسبة مناقضة
فصل: حيلة باطلة لإبرار يمين
ومن الحيل الباطلة انه إذا حلف لا يأكل من هذا القمح فالحيلة ان يطحنه ويعجنه ويأكله خبزا وطرد هذه الحيلة الباردة انه اذا حلف لا يأكل هذه الشاة فليذبحها وليطبخها ثم يأكلها وإذا حلف انه لا ياكل من هذه النخلة فليجد ثمرها ثم يأكلها فإن طردوا ذلك فمن الفضائح الشنيعة وإن فرقوا(9/342)
ص -306-…تناقضوا فإن قالوا: الحنطة يمكن أكلها صحاحا بخلاف الشاة والنخلة فإنه لا يمكن فيها ذلك قيل: والعادة ان الحنطة لا يأكلها صحاحا إلا الدواب والطير وإنما تؤكل خبزا فكلاهما سواء عند الحالف وكل عاقل
فصل: حيلة أشنع من الحيلة اليهودية
ومن الحيل الباطلة المحرمة المضاهية للحيلة اليهودية ما لو حلف انه لا يأكل هذا الشحم فالحيلة ان يذيبه ثم يأكله
وهذا كله تصديق لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة" قالوا: اليهود والنصارى قال: "فمن وتصديق" قوله: "لتأخذن امتي ما أخذ الامم قبلها شبرا بشبر وذراعا بذارع حتى لو كان منهم من أتى امه علانية لكان فيهم من يفعله"
وهذه الحيلة في الشحوم هي حيلة اليهود بعينها بل أبلغ منها فإن اولئك لم يأكلوا الشحم بعد إذابته وإنما أكلوا ثمنه فصل حيلة باطلة لتجويز نكاح الامة مع الطول ومن الحيل الباطلة المحرمة لمن أراد ان يتزوج بأمة وهو قادر على نكاح حرة ان يملك ماله لولده ثم يعقد على الامة ثم يسترد المال منه وهذه الحيلة لا ترفع المفسدة التي حرم لاجلها نكاح الامة ولا تخففها ولا تجعله عادما للطول فلا تدخل في قوله ومن لم يستطع منكم طولا ان ينكح المحصنات المؤمنات وهذه الحيلة حيلة على استباحة نفس ما حرم الله تعالى(9/343)
ص -307-…فصل: حيلة باطلة لتجويز تعلية بناء الكافر على بناء المسلم
ومنها لو على كافر بناءه على مسلم منع من ذلك فالحيلة على جوازه ان يعليها مسلم ما شاء ثم يشتريها الكافر منه فيسكنها
وهذه الحيلة وإن ذكرها بعض الاصحاب فهى مما أدخلت في المذهب غلطا محضا ولا توافق اصوله ولا فروعه فالصواب المقطوع به عدم تمكينه من سكناها فإن المفسدة لم تكن في نفس البناء وإنما كانت في ترفعة على المسلمين ومعلوم قطعا ان هذه المفسدة في الموضعين واحدة
فصل: حيلة باطلة لاسقاط الضمان عن الغاصب
ومن الحيل الباطلة اذا غصبه طعاما ثم اراد ان يبرأ منه ولا يعلمه به فليدعه إلى داره ثم يقدم له ذلك الطعام فإذا أكله بريء الغاصب
وهذه الحيلة باطلة فإنه لم يملكه إياه ولا مكنه من التصرف فيه فلم يكن بذلك رادا لعين ماله اليه
فإن قيل: فما تقولون لو أهداه اليه فقبله وتصرف فيه وهو لا يعلم انه ماله قيل: ان خاف من إعلامه به ضررا يلحقه منه برئ بذلك وان لم يخف ضررا وإنما أراد المنة عليه ونحو ذلك لم يبرأ ولا سيما إن كافأه على الهدية فقبل فهذا لا يبرأ قطعا
فصل: حيل باطلة في الايمان
ومن الحيل الباطلة بلا شك الحيل التي يفتى بها من حلف لا يفعل الشيء ثم حلف ليفعلنه فيتحيل له حتى يفعله بلا حنث وذكروا لها صورا(9/344)
ص -308-…احدها: أن يحلف لا يأكل هذا الطعام ثم يحلف هو أو غيره ليأكلنه فالحيلة أن يأكله إلا لقمة منه فلا يحنث
ومنها لو حلف ان لا يأكل هذا الجبن ثم حلف ليأكلنه قالوا: فالحيلة ان يأكله بالخبز ويبر ولا يحنث
ومنها لو حلف لا يلبس هذا الثوب ثم حلف هو أو غيره ليلبسنه فالحيلة ان يقطع منه شيئا يسيرا ثم يلبسه فلا يحنث
وطرد قوله ان ينسل منه خيطا ثم يلبسه
ولا يخفى امر هذه الحيلة وبطلانها وانها من اقبح الخداع واسمجه ولا يتمشى على قواعد الفقه ولا فروعه ولا اصول الائمة فإنه إن كان بترك البعض لا يعد آكلا ولا لابسا فإنه لا يبرأ بالحلف ليفعلن فإنه إن عد فاعلا وجب ان يحنث في جانب النفي وإن لم يعد فاعلا وجب ان يحنث في جانب الثبوت فأما ان يعد فاعلا بالنسبة إلى الثبوت وغير فاعل بالنسبة إلى النفي فتلاعب
فصل: حيلة باطلة مشتقة من الحيلة السريجية
ومنها الحيل التي تبطل الظهار والايلاء والطلاق والعتق بالكلية وهي مشتقة من الحيلة السريجية كقوله إن تظاهرت منك أو آليت منك فأنت طالق قبله ثلاثا فلا يمكنه بعد ذلك ظهار ولا إيلاء وكذلك يقول إن أعتقتك فأنت حر قبل الاعتاق وكذلك لو قال: إن بعتك فأنت حر قبل البيع وقد تقدم بطلان هذه الحيل كلها
فصل: حيلة باطلة لحسبان الدين من الزكاة
ومن الحيل الباطلة المحرمة ان يكون له على رجل مال وقد افلس غريمه وايس من اخذ منه وأراد ان يحسبه من الزكاة فالحيلة ان يعطيه من الزكاة(9/345)
ص -309-…بقدر ما عليه فيصير مالكا للوفاء فيطالبه حينئذ بالوفاء فإذا أوفاه بريء وسقطت الزكاة عن الدافع
وهذه حيلة باطلة سواء شرط عليه الوفاء أو منعه من التصرف فيما دفعه اليه أو ملكه إياه بنية ان يستوفيه من دينه فكل هذا لا يسقط عنه الزكاة ولا يعد مخرجا لها لا شرعا ولا عرفا كما لو أسقط دينه وحسبه من الزكاة
قال مهنا: سألت أبا عبدالله عن رجل له على رجل دين برهن وليس عنده قضاؤه ولهذا الرجل زكاة مال قال: يفرقه على المساكين فيدفع اليه رهنه ويقول له الدين الذي لي عليك هو لك ويحسبه من زكاة ماله قال: لا يجزئه ذلك فقلت له فيدفع إليه زكاته فإن رده إليه قضى مما أخذه من ماله قال: نعم وقال في موضع آخر وقيل له فإن أعطاه ثم رده إليه قال: إذا كان بحيلة فلا يعجبني قيل: له فإن استقرض الذي عليه الدين دراهم فقضاه إياها ثم ردها عليه وحسبها من الزكاة قال: إذا أراد بهذا إحياء ماله فلا يجوز ومطلق كلامه ينصرف إلى هذا المقيد فيحصل من مذهبه أن دفع الزكاة إلى الغريم جائز سواء دفعها ابتداء أو استوفى حقه ثم دفع ما استوفاه إليه إلا أنه متى قصد بالدفع إحياء ماله واستيفاء دينه لم يجز لأن الزكاة حق لله وللمستحق فلا يجوز صرفها إلى الدافع ويفوز بنفعها العاجل
ومما يوضح ذلك أن الشارع منعه من أخذها من المستحق بعوضها فقال لا تشترها ولا تعد في صدقتك فجعله بشرائها منه بثمنها عائدا فكيف إذا دفعها إليه بنية أخذها منه قال: جابر بن عبدالله إذا جاء المصدق فادفع إليه صدقتك ولا تشترها فإنهم كانوا يقولون ابتعها فأقول إنما هي لله وقال ابن عمر لا تشتر طهور مالك
وللمنع من شرائه علتان إحداهما أنه يتخذ ذريعة وحيلة إلى استرجاع(9/346)
ص -310-…شيء منها لأن الفقير يستحي منه فلا يماسكه في ثمنها وربما أرخصها ليطمع أن يدفع إليه صدقة أخرى وربما علم أو توهم أنه إن لم يبعه إياها استرجعها منه فيقول ظفري بهذا الثمن خير من الحرمان
العلة الثانية قطع طمع نفسه عن العود في شيء أخرجه لله بكل طريق فإن النفس متى طمعت في عوده بوجه ما فآمالها بعد متعلقة به فلم تطب به نفسا لله وهي متعلقة به فقطع عليها طمعها في العود ولو بالثمن ليتمحض الإخراج لله وهذا شأن النفوس الشريفة ذوات الأقدار والهمم أنها إذا أعطت عطاء لم تسمح بالعود فيه بوجه لا بشراء ولا بغيره وتعد ذلك دناءة ولهذا مثل النبي صلى الله عليه وسلم العائد في هبته بالكلب يعود في قيئه لخسته ودناءة نفسه وشحه بما قاءه أن يفوته
فمن محاسن الشريعة منع المتصدق من شراء صدقته ولهذا منع من سكنى بلاده التي هاجر منها لله وإن صارت بعد ذلك دار إسلام كما منع النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين بعد الفتح من الاقامة بمكة فوق ثلاثة أيام لانهم خرجوا عن ديارهم لله فلا ينبغى ان يعودوا في شيء تركوه لله وان زال المعنى الذي تركوها لاجله
فإن قيل: فأنتم تجوزون له أن يقضى بها دين المدين إذا كان المستحق له غيره فما الفرق بين ان يكون الدين له أو لغيره ويحصل للغريم براءة ذمته وراحة من ثقل الدين في الدنيا ومن حمله في الآخرة فمنفعته ببراءة ذمته خير له من منفعة الأكل والشرب واللباس فقد انتفع هو بخلاصه من رق الدين وانتنفع رب المال بتوصله إلى أخذ حقه وصار هذا كما لو أقرضه مالا ليعمل فيه ويوفيه دينه من كسبه
قيل هذه المسألة فيها روايتان منصوصتان عن الامام احمد رحمه الله إحداهما انه لا يجوز له ان يقضى دينه من زكاته بل يدفع اليه الزكاة ويؤديها هو عن نفسه والثانية يجوز له ان يقضى دينه من الزكاة قال: ابو الحارث قلت للإمام احمد(9/347)
ص -311-…رجل عليه ألف وكان على رجل زكاة ماله الف فأداها عن هذا الذي عليه الدين يجوز هذا من زكاته قال: نعم ما أرى بذلك بأسا وعلى هذا فالفرق ظاهر لان الدافع لم ينتفع ههنا بما دفعه إلى الغريم ولم يرجع اليه بخلاف ما اذا دفعه اليه ليستوفيه منه فإنه قد أحيا ماله بماله ووجه القول بالمنع انه قد يتخذ ذريعة إلى انتفاعه بالقضاء مثل ان يكون الدين لولده أو لامرأته أو لمن يلزمه نفقته فيستغنى عن الانفاق عليه فلهذا قال: الامام احمد احب إلى ان يدفعه إليه حتى يقضى هو عن نفسه قيل: هو محتاج يخاف ان يدفع اليه فيأكله ولا يقضى دينه قال: فقل له يوكله حتى يقضيه والمقصود انه متى فعل ذلك حيلة لم تسقط عنه الزكاة بما دفعة فإنه لا يحل له مطالبة المعسر وقد أسقط الله عنه المطالبة فإذا توصل إلى وجوبها بما يدفعه اليه فقد دفع اليه شيئا ثم اخذه فلم يخرج منه شيء فإنه لو أراد الآخذ التصرف في المأخود وسد خلته منه لما مكنه فهذا هو الذي لا تسقط عنه الزكاة فأما لو أعطاه عطاء قطع طمعه من عوده اليه وملكه ظاهرا وباطنا ثم دفع اليه الآخذ دينه من الزكاة فهذا جائز كما لو أخذ الزكاة من غيره ثم دفعها اليه والله اعلم
فصل: حيلة باطلة لتجويز بيع الثمرة قبل بدو صلاحها
ومن الحيل الباطلة التحيل على نفس ما نهى عنه الشارع من بيع الثمرة قبل بدو صلاحها والحب قبل اشتداده بأن يبيعه ولا يذكر تبقيته ثم يخليه إلى وقت كماله فيصح البيع ويأخذه وقت إدراكه وهذا هو نفس ما نهى عنه الشارع إن لم يكن فعله بأدنى الحيل ووجه هذه الحيلة ان موجب العقد القطع فيصح وينصرف إلى موجبه كما لو باعها بشرط القطع ثم القطع حق لهما لا يعدوهما فإذا اتفقا على تركه جاز ووجه بطلان هذه الحيلة ان هذا هو الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينه للمفسدة التي يفضى اليها من التشاجر والتشاحن(9/348)
ص -312-…فإن الثمار تصيبها العاهات كثيرا فيفضى بيعها قبل كمالها إلى اكل مال المشتري بالباطل كما علل به صاحب الشرع ومن المعلوم قطعا ان هذه الحيلة لا ترفع المفسدة ولا تزيل بعضها وايضا فإن الله وملائكته والناس قد علموا ان من اشترى الثمار وهي شيص لم يمكن احدا ان يأكل منها فإنه لا يشتريها للقطع ولو اشتراها لهذا الغرض لكان سفها وبيعه مردود وكذلك الجوز والخوخ والاجاص وما أشبهها من الثمار التي لا ينتفع بها قبل إدراكها لا يشتريها احد إلا بشرط التبقية وان سكت عن ذكر الشرط بلسانه فهو قائم بقلبه وقلب البائع وفي هذا تعطيل للنص وللحكمة التي نهى الشارع لأجلها أما تعطيل الحكمة فظاهر وأما تعطيل النص فإنه إنما يحمله على ما إذا باعها بشرط التبقية لفظا فلو سكت عن التلفظ بذلك وهو مراده ومراد البائع جاز وهذا تعطيل لما دل عليه النص وإسقاط لحكمته
فصل: حيلة اخرى باطلة في الايمان
ومن الحيل الباطلة انه إذا حلف لا يبيعه هذه الجارية ثم أراد ان يبيعها منه فليبعه منها تسعمائة وتسعة وتسعين سهما ثم يهبه السهم الباقي وقد تقدم نظير هذه الحيلة الباطلة وكذلك لو حلف لا يبيعه ولا يهبه إياها ففعل ذلك لم يحنث
ولو وقعت هذه الحيلة في جارية قد وطئها الحالف اليوم فأراد المالك ان يطأها بلا استبراء فله حيلتان على إسقاط الاستبراء إحداهما أن يعتقها ثم يتزوجها والثانية ان يملكها لرجل ثم يزوجه إياها فإذا قضى وطره منها ثم أراد بيعها أو وطأها بملك فليشترها من المملك فينفسخ نكاحه فإن شاء باعها وإن شاء أقام على وطئها
وتقدم أن نظير هذه الحيلة لو حلف ان لا يلبس هذا الثوب فلينسل(9/349)
ص -313-…منه خيطا ثم يلبسه أو لا يأكل هذا الرغيف فليخرج منه لبابة ثم يأكله
قال غير واحد من السلف لو فعل المحلوف عليه على وجهه لكان أخف وأسهل من هذا الخداع ولو قابل العبد أمر الله ونهيه بهذه المقابلة لعد عاصيا مخادعا بل لو قابل احد الرعية امر الملك ونهيه أو العبد امر سيده ونهيه أو المريض امر الطبيب ونهيه بهذه المقابلة لما عذره احد قط ولعده كل احد عاصيا وإذا تدبر العالم في الشريعة امر هذه الحيل لم يخف عليه نسبتها اليها ومحلها منها والله المستعان
فصل: حيلة أخرى باطلة في الايمان
ومن الحيل الباطلة لو حلف لا يبيع هذه السلعة بمائة دينار أو زاد عليها فلم يجد من يشتريها بذلك فليبعها بتسعة وتسعين دينارا أو مائة جزء من دينار أو اقل من ذلك أو يبيعها بدراهم تساوي ذلك أو يبيعها بتسعين دينارا ومنديلا أو ثوبا أو نحو ذلك
وكل هذه حيل باطلة فإنها تتضمن نفس مخالفته لما نواه وقصده وعقد قلبه عليه وإذا كانت يمين الحالف على ما يصدقه عليه صاحبه كما قال: النبي صلى الله عليه وسلم فيمينه على ما يعلمه الله من قلبه كائنا ما كان فليقل ما شاء وليتحيل ما شاء فليست يمينه إلا على ما علمه الله من قلبه قال: الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} فأخبر تعالى انه إنما يعتبر في الايمان قصد القلب وكسبه لا مجرد اللفظ الذي لم يقصده أو لم يقصد معناه على التفسيرين في اللغو فكيف اذا كان قاصدا لضد ما يتحيل عليه(9/350)
ص -314-…فصل: حيلة باطلة لتجويز بيع أم الولد
ومن الحيل الباطلة على ان يطأ أمته وإذا حبلت منه لم تصر أم ولد فله بيعها أن يملكها لولده الصغير ثم يتزوجها ويطؤها فإذا ولدت منه عتق الاولاد على الولد لانهم إخوته ومن ملك أخاه عتق عليه
قالوا: فإن خاف ان لا تتمشى هذه الحيلة على قول الجمهور الذين لا يجوزون للرجل ان يتزوج بجارية ابنه وهو قول الامام احمد ومالك والشافعي فالحيلة ان يملكها لذي رحم محرم منه ثم يزوجه إياها فإذا ولدت عتق الولد على ملك ذي الرحم فإذا أراد بيع الجارية فليهبها له فينفسخ النكاح وإن لم يكن له ذو رحم محرم فليملكها أجنبيا ثم يزوجها به فإن خاف من رق الولد فليعلق الاجنبي عتقهم بشرط الولادة فيقول كل ولد تلدينه فهو حر فيكون الاولاد كلهم أحرارا فاذا اراد بيعها بعد ذلك فليتهبها من الاجنبي ثم يبيعها
وهذه الحيلة أيضا باطلة فإن حقيقة التمليك لم توجد إذ حقيقته نقل الملك إلى المملك يتصرف فيه كما أحب هذا هو الملك المشروع المعقول المتعارف فأما تمليك لا يتمكن فيه المملك من التصرف إلا بالتزويج وحده فهو تلبيس لا تمليك فإن المملك لو أراد وطأها أو الخلوة بها أو النظر إليها بشهوة أو التصرف فيها كما يتصرف المالك في مملوكه لما امكنه ذلك فإن هذا تمليك تلبيس وخداع ومكر لا تمليك حقيقة بل قد علم الله والمملك والمملك ان الجارية لسيدها ظاهرا وباطنا وأنه لم يطلب قلبه بإخراجها عن ملكة بوجه من الوجوه وهذا التمليك بمنزلة تمليك الاجنبي ماله كله ليسقط عنه زكاته ثم يسترده منه ومعلوم قطعا انه لا حقيقة لهذا التمليك عرفا ولا شرعا ولا يعد(9/351)
ص -315-…المملك له على هذا الوجه غنيا به ولا يجب عليه به الحج والزكاة والنفقة وأداء الديون ولا يكون به واجدا للطول معدودا في جملة الاغنياء فهذا هو الحقيقة لا التمليك الباطل الذي هو مكر وخداع وتلبيس
فصل: حيلة باطلة لرجعة البائن دون علمها
ومن الحيل الباطلة التحيل على رد امرأته بعد ان بانت منه وهي لا تشعر بذلك وقد ذكر ارباب الحيل وجوها كلها باطله فمنها ان يقول لها حلفت يمينا واستفتيت فقيل لي جدد نكاحك فإن كان الطلاق قد وقع وإلا لم يضرك فإذا أجابته قال: اجعلى الامر إلى في تزويجك ثم يحضر الولى والشهود ويتزوجها فتصير امرأته بعد البينونة وهي لا تشعر فإن لم يتمكن من هذا الوجه فلينتقل إلى وجه ثان وهو ان يظهر انه يريد سفرا ويقول لا آمن الموت وانا اريد ان اكتب لك هذه الدار واجعل لك هذا المتاع صداقا بحيث لا يمكن إبطاله وأريد ان اشهد على ذلك فاجعلى أمرك إلى حتى اجعله صداقا فإذا فعلت عقد نكاحها على ذلك وتم الامر فإن لم يرد السفر فليظهر انه مريض ثم يقول لها اريد ان اجعل لك ذلك وأخاف ان اقر لك به فلا يقبل فاجعلى امرك إلى حتى اجعله صداقا فإذا فعلت احضر وليها وتزوجها فإن حذرت المرأة من ذلك كله ولم يتمكن منه لم يبق له إلا حيلة واحدة وهي ان يحلف بطلاقها أو يقول قد حلفت بطلاقك اني اتزوج عليك في هذا اليوم أو هذا الاسبوع أو اسافر بك وانا اريد ان اتمسك بك ولا ادخل عليك ضرة ولا تسافرين فأجعلى امرك إلى حتى اخالعك وأردك بعد انقضاء اليوم وتتخلص من الضرة والسفر فإذا فعلت احضر الشهود والولى ثم يردها
وهذه الحيلة باطلة فإن المرأة إذا بانت صارت اجنبية منه فلا يجوز(9/352)
ص -316-…نكاحها إلا بإذنها ورضاها وهي لم تأذن في هذا النكاح الثاني ولا رضيت به ولو علمت انها قد ملكت نفسها وبانت منه فلعلها لا ترغب في نكاحه فليس له ان يخدعها على نفسها ويجعلها له زوجة بغير رضاها
فإن قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل جد النكاح كهزله وغاية هذا انه هازل
قيل: هذا ليس بصحيح وليس هذا كالهازل فإن الهازل لم يظهر امرا يريد خلافه بل تكلم باللفظ قاصدا انه لا يلزمه موجبه وذلك ليس اليه بل إلى الشارع وأما هذا فماكر مخادع للمرأة على نفسها مظهر انها زوجته وان الزوجية بينهما باقية وهي اجنبية محضة فهو يمكر بها ويخادعها بإظهار انها زوجته وهي في الباطن اجنبية فهو كمن يمكر برجل ويخادعه على أخذ ماله بإظهار انه يحفظه له ويصونه ممن يذهب به بل هذا أفحش لان حرمة البضع أعظم من حرمة المال والمخادعة عليه أعظم من المخادعة على المال والله أعلم
فصل: حيلة باطلة لوطء مكاتبته
ومن الحيل الباطلة الحيلة على وطء مكاتبته بعد عقد الكتابة قال: ارباب الحيل الحيلة في ذلك أن يهبها لولده الصغير ثم يتزوجها وهي على ملك ابنه ثم يكاتبها لابنه ثم يطؤها بحكم النكاح فإن اتت بولد كانوا احرارا إذ ولده قد ملكهم فإن عجزت عن الكتابة عادت قنا لولده والنكاح بحاله.
وهذه الحيلة باطلة على قول الجمهور وهي باطلة في نفسها لأنه لم يملكها لولده تمليكا حقيقيا ولا كاتبها له حقيقة بل خداعا ومكرا وهو يعلم أنها امته ومكاتبته في الباطن وحقيقة الامر وإنما أظهر خلاف ذلك توصلا إلى وطء(9/353)
ص -317-…الفرج الذي حرم عليه بعقد الكتابة فأظهر تمليكا لا حقيقة له وكتابه عن غيره وفي الحقيقة انما هي عن نفسه والله يعلم ما تخفي الصدور
فصل: إبطال حيلة العقارب
ومن الحيل المحرمة الباطلة الحيلة التي تسمى حيلة العقارب ولها صور منها ان يوقف داره أو أرضه ويشهد على وقفها ويكتمه ثم يبيعها فإذا علم ان المشتري قد سكنها أو استغلها بمقدار ثمنها أظهر كتاب الوقف وادعى على المشتري بأجره المنفعة فإذا قال: له المشتري أنا وزنت الثمن قال: وانتفعت بالدار والارض فلا تذهب المنفعة مجانا ومنها أن يملكها لولده أو امرأته ويكتم ذلك ثم يبيعها ثم يدعى بعد ذلك من ملكها على المشتري ويعامله تلك المعاملة وضمنه المنافع تضمين الغاصب ومنها ان يؤجرها لولده أو امرأته ويكتم ذلك ثم يؤجرها من شخص آخر فإن ارتفع الكرى اخرج الاجارة الاولى وفسخ إجارة الثاني وإن نقص الكرى أو استمر ابقاها ومنها أن يرهن داره أو ارضه ثم يبيعها ويأخذ الثمن فينتفع به مدة فمتى اراد فسخ البيع واسترجاع المبيع أظهر كتاب الرهن
وأمثال هذه العقارب التي يأكل بها أشباه العقارب أموال الناس بالباطل ويمشيها لهم من رق علمه ودينه ولم يراقب الله ولم يخف مقامه تقليدا لمن قلد قوله في تضمن المقبوض بالعقد الفاسد تضمين الغاصب فيجعل قوله إعانة لهذا الظالم المعتدى على الاثم والعدوان ولا يجعل القول الذي قاله غيره إعانة للمظلوم على البر والتقوى وكأنه اخذ بشق الحديث وهو انصر أخاك ظالما أو مظلوما واكتفى بهذه الكلمة دون ما بعدها وقد أعاذ الله احدا من الائمة من تجويز الاعانة على الاثم والعدوان ونصر الظالم وإضاعة حق المظلوم جهارا وذلك الامام وان قال: إن المقبوض بالعقد الفاسد يضمن ضمان المغصوب فإنه لم يقل:(9/354)
ص -318-…إن المقبوض به على هذا الوجه الذي هو حيلة ومكر وخداع وظلم محض للمشتري وغرور له يوجب تضمينه وضياع حقه وأخذ ماله كله وإيداعه في الحبس على ما بقى وإخراج الملك من يده فإن الرجل قد يشتري الارض أو العقار وتبقى في يده مدة طويلة تزيد اجراتها على ثمنها اضعافا مضاعفة فيؤخذ منه العقار ويحسب عليه ثمنه من الاجرة ويبقى الباقي بقدر الثمن مرارا فربما أخذ ما فوقه وما تحته وفضلت عليه فضله فيجتاح الظالم الماكر ماله ويدعه على الارض الخالية
فحاشا إماما واحدا من أئمة الاسلام ان يكون عونا لهذا العقرب الخبيث على هذا الظلم والعدوان والواجب عقوبة مثل هذا العقوبة التي تردعه عن لدغ الناس والتحيل على استهلاك اموال الناس وان لا يمكن من طلب عوض المنفعة إما على أصل من لا يضمن منافع الغصب وهم الجمهور كأبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه وهي أصحها دليلا فظاهر وأما من يضمن الغاصب كالشافعي وأحمد في الرواية الثانية فلا يتأتى تضمين هذا على قاعدته فإنه ليس بغاصب وإنما استوفى المنفعة بحكم العقد فإذا تبين ان القعد باطل وان البائع غره لم يجب عليه ضمان فإنه إنما دخل على ان ينتفع بلا عوض وان يضمن المبيع بثمنه لا بقيمته فإذا تلف المبيع بعد القبض تلف من ضمانه بثمنه فإذا انتفع به انتفع بلا عوض لأنه على ذلك دخل ولو قدر وجوب الضمان فإن الغار هو الذي يضمن لانه تسبب إلى إتلاف مال الغير بغروره وكل من أتلف مال غيره بمباشرة أو سبب فإنه يضمنه ولا بد ولا يقال المشتري هو الذي باشر الإتلاف وقد وجد متسبب ومباشر فيحال الحكم على المباشر فإن هذا غلط محض ههنا فإن المضمون هو مال المشتري الذي تلف عليه بالتضمين وإنما تلف بتسبب الغار وليس ههنا مباشر يحال عليه الضمان
فإن قيل: فهذا إنما يدل على أنا إذا ضمنا المغرور فهو يرجع على الغار ولا يدل على تضمين الغار ابتداء(9/355)
ص -319-…قيل: هذا فيه قولان للسلف والخلف وقد نص الامام احمد على ان من اشترى ارضا فبنى فيها أو غرس ثم استحقت فللمستحق قلع ذلك قلع ذلك ثم يرجع المشتري على البائع بما نقص ونص في موضع آخر انه ليس للمستحق قلعه إلا ان يضمن نقصه ثم يرجع به على البائع وهذا افقه النصين وأقربهما إلى العدل فإن المشتري غرس وبنى غرسا وبناء مأذونا فيه وليس ظالما به فالعرق ليس بظالم فلا يجوز للمستحق قلعه حتى يضمن له نقصه والبائع هو الذي ظلم المستحق ببيعه ماله وغر المشتري ببنائه وغراسه فإذا أراد المستحق الرجوع في عين ماله ضمن للمغرور ما نقص بقلعه ثم يرجع به على الظالم وكان تضمينه له اولى من تضمين المغرور ثم تمكينه من الرجوع على الغار(9/356)
ونظير هذه المسألة ما لو قبض مغصوبا من غاصبه ببيع أو عارية أو اتهاب أو إجارة وهو يظن انه مالك لذلك أو مأذون له فيه ففيه قولان احدهما أن المالك مخير بين تضمين أيهما شاء وهذا المشهور عند أصحاب الشافعي واحمد ثم قال: أصحاب الشافعي إن ضمن المشتري وكان عالما بالغصب لم يرجع بما ضمن على الغاصب وان لم يعلم نظرت فيما ضمن فإن التزام ضمانه بالعقد كبدل العين وما نقص منها لم يرجع به على الغاصب لان الغاصب لم يغره بل دخل معه على ان يضمنه وهذا التعليل يوجب ان يرجع بما زاد على ثمن المبيع إذا ضمنه لأنه إنما التزم ضمانه بالثمن لا بالقيمة فإذا ضمنه إياه بقيمته رجع بما بينهما من التفاوت قالوا: وإن لم يلتزم ضمانه نظرت فإن لم يحصل له في مقابلته منفعة كقيمة الولد ونقصان الجارية بالولادة رجع به على الغاصب لانه غره ودخل معه على انه لا يضمنه وإن حصلت له به في مقابلته منفعة كالأجرة والمهر وأرش البكارة ففيه قولان احدهما يرجع به لانه غره ولم يدخل معه على أن يضمنه والثاني لا يرجع لانه حصل له في مقابلته منفعة وهذا التعليل أيضا يوجب على هذا القول ان يرجع بالتفاوت الذي بين المسمى ومهر المثل واجرة المثل اللذين ضمنهما فإنه إنما دخل على الضمان بالمسمى لا بعوض المثل والمنفعة التي حصلت(9/357)
ص -320-…له إنما هي بما التزمه من المسمي ومذهب الامام احمد واصحابه نحو ذلك
وعقد الباب عندهم انه يرجع اذا غره على الغاصب بما لم يلتزم ضمانه خاصة فإذا غرم وهو مودع أو متهب قيمة العين والمنفعة رجع بهما لأنه لم يلتزم ضمانا وان ضمن وهو مستأجر قيمة العين والمنفعة رجع بقيمة العين والقدر الزائد على ما بذله من عوض المنفعة وقال اصحابنا لا يرجع بما ضمنه من عوض المنفعة لأنه دخل على ضمانه فيقال لهم نعم دخل على ضمانه بالمسمى لا يعوض المثل وان كان مشتريا وضمن قيمة العين والمنفعة فقالوا يرجع بقيمة المنفعة دون قيمة العين لانه التزم ضمان العين ودخل على استيفاء المنفعة بلا عوض والصحيح انه يرجع بما زاد من قيمة العين على الثمن الذي بذله وان كان مستعيرا وضمن قيمة العين والمنفعة رجع بما غرمه من ضمان المنفعة لأنه دخل على استيفائها مجانا ولم يرجع بما ضمنه من قيمة العين لأنه دخل على ضمانها بقيمتها
وعن الإمام أحمد رواية أخرى ان ما حصل له منفعة تقابل ما غرم كالمهر والاجرة في المبيع وفي الهبة وفي العارية وكقيمة الطعام اذا قدم له أو وهب منه فأكله فإنه لا يرجع به لانه استوفى العوض فإذا غرم عوضه لم يرجع به والصحيح قوله الاول لانه لم يدخل على استيفائه بعوض ولو علم انه يستوفيه بعوضه لم يدخل على ذلك ولو علم الضيف ان صاحب البيت أو غيره يغرمه الطعام لم يأكله ولو ضمن المالك ذلك كله للغاصب جاز ولم يرجع على القابض إلا بما يرجع به عليه فيرجع عليه اذا كان مستأجرا بما غرمه من الاجرة وعلى القول الذي اخترناه إنما يرجع عليه بما التزمه من الاجرة خاصة ويرجع عليه اذا كان مشتريا بما غرمه من قيمة العين وعلى القول الآخر انما يرجع عليه بما بذله من الثمن ويرجع عليه اذا كان مستعيرا بما غرمه من قيمة العين إذ لا مسمى هناك(9/358)
ص -321-…وإذا كان متهبا أو مودعا لم يرجع عليه بشيء فإن كان القابض من الغاصب هو المالك فلا شيء له بما استقر عليه لو كان أجنبيا وما سواه فعلى الغاصب لانه لا يجب له على نفسه شيء وأما مالا يستقر عليه لو كان اجنبيا بل يكون قراره على الغاصب فهو على الغاصب أيضا ههنا
والقول الثاني انه ليس للمالك مطالبة المغرور ابتداء كما ليس له مطالبته قرارا وهذا هو الصحيح ونص عليه الامام احمد في المودع اذا أودعها يعنى الوديعة عند غيره من غير حاجة فتلفت فإنه لا يضمن الثاني اذا لم يعلم وذلك لانه مغرور
وطرد هذا النص انه لا يطالب المغرور في جميع هذه الصور وهو الصحيح فإنه مغرور ولم يدخل على انه مطالب فلا هو التزم المطالبة ولا الشارع الزمه بها وكيف يطالب المظلوم المغرور ويترك الظالم الغار ولا سيما ان كان محسنا بأخذه الوديعة وما على المحسنين من سبيل انما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الارض بغير الحق وهذا شأن الغار الظالم
وقد قضى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ان المشتري المغرور بالامة اذا وطئها ثم خرجت مستحقة واخذ منه سيدها المهر رجع به على البائع لانه غره وقضى علي كرم الله وجهه انه لا يرجع به لانه استوفي عوضه
وهاتان الروايتان عن الصحابة هما قولان للشافعي وروايتان عن الامام احمد ومالك اخذ بقول عمر وابو حنيفة اخذ بقول على كرم الله وجهه وقول عمر افقه لانه لم يدخل على انه يستمتع بالمهر وانما دخل على الاستمتاع بالثمن وقد بذله وايضا فالبائع ضمن له بعقد البيع سلامة الوطء كما ضمن له سلامة الولد فكما يرجع عليه بقيمة الولد يرجع عليه بالمهر
فإن قيل: فما تقولون في اجرة الاستخدام اذا ضمنه اياها المستحق هل يرجع بها على الغار(9/359)
ص -322-…قلنا نعم يرجع بها وقد صرح بذلك القاضي واصحابه وقد قضى امير المؤمنين على كرم الله وجهه أيضا بأن الرجل اذا وجد امرأته برصاء أو عمياء أو مجنونة فدخل بها فلها الصداق ويرجع به على من غره وهذا محض القياس والميزان الصحيح لان الولى لما لم يعلمه وأتلف عليه المهر لزمه غرمه
فإن قيل: هو الذي أتلفه على نفسه بالدخول
قيل: لو علم أنها كذلك لم يدخل بها وإنما دخل بها بناء على السلامة التي غره بها الولى ولهذا لو علم العيب ورضى به ودخل بها لم يكن هناك فسخ ولا رجوع ولو كانت المرأة هي التي غرته سقط مهرها
ونكتة المسألة ان المغرور إما محسن وإما معذور وكلاهما لا سبيل عليه بل ما يلزم المغرور باستلزامه له لا يسقط عنه كالثمن في المبيع والاجرة في عقد الاجارة
فإن قيل: فالمهر قد التزمه فكيف يرجع به؟
قيل: إنما التزامه في محل سليم ولم يلتزمه في معيبة ولا أمة مستحقة فلا يجوز ان يلزم به
فإن قيل: فهذا ينتقض عليكم بالنكاح الفاسد فإن النبي صلى الله عليه وسلم ألزمه فيه بالصداق بما استحل من فرجها وهو لم يلتزمه إلا في نكاح صحيح
قيل لما أقدم على الباطل لم يكن هناك من غره بل كان هو الغار لنفسه فلا يذهب استيفاء المنفعة فيه مجانا وليس هناك من يرجع عليه بل لو فسد النكاح بغرور المرأة سقط مهرها أو بغرور الولى رجع عليه(9/360)
ص -323-…فصل: حيل باطلة لتجويز العينة
ومن الحيل المحرمة الباطلة التحيل على جواز مسألة العينة مع انها حيلة في نفسها على الربا وجمهور الائمة على تحريمها
وقد ذكر أرباب الحيل لاستباحتها عدة حيل منها ان يحدث المشتري في السلعة حدثا ما تنقص به أو تتعيب فحينئذ يجوز لبائعها ان يشتريها بأقل مما باعها ومنها ان تكون السلعة قابلة للتجزيء فيمسك منها جزءا ما ويبيعه بقيتها ومنها ان يضم البائع إلى السلعة سكينا أو منديلا أو حلقة حديدا أو نحو ذلك فيملكه المشتري ويبيعه السلعة بما يتفقان عليه من الثمن ومنها ان يهبها المشتري لولده أو زوجته أو من يثق به فيبيعها الموهوب له من بائعها فإذا قبض الثمن اعطاه للواهب ومنها ان يبيعه إياها نفسه من غير إحداث شيء ولا هبة لغيره لكن يضم إلى ثمنها خاتما من حديد أو منديلا أو سكينا ونحو ذلك
ولا ريب ان العينة على وجهها أسهل من هذا التكلف واقل مفسدة وان كان الشارع قد حرم مسألة العينة لمفسدة فيها فإن المفسدة لا تزول بهذه الحيلة بل هي بحالها وانضم اليها مفسدة أخرى اعظم منها وهي مفسدة المكر والخداع واتخاذ أحكام الله هزوا وهي أعظم المفسدتين وكذلك سائر الحيل لا تزيل المفسدة التي حرم لاجلها وإنما يضم اليها مفسدة الخداع والمكر وإن كانت العينة لا مفسدة فيها فلا حاجة إلى الاحتيال عليها ثم ان العينة في نفسها من ادنى الحيل إلى الربا فإذا تحيل عليها المحتال صارت حيلا متضاعفة ومفاسد متنوعة والحقيقة والقصد معلومان لله وللملائكة وللمتعاقدين ولمن حضرهما من الناس فليصنع أرباب الحيل ما شاءوا وليسلكوا أية طريق سلكوا فإنهم لا يخرجون(9/361)
ص -324-…بذلك عن بيع مائة بمائة وخمسين إلى سنة فليدخلوا محلل الربا أو يخرجوه فليس هو المقصود والمقصود معلوم والله لا يخادع ولا تروج عليه الحيل ولا تلبس عليه الامور
فصل: حيلة باطلة في البيع
ومن الحيل المحرمة الباطلة إذا اراد ان يبيع سلعة بالبراءة من كل عيب ولم يأمن ان يردها عليه المشتري ويقول لم يعين لي عيب كذا وكذا أن يوكل رجلا غريبا لا يعرف في بيعها ويضمن للمشتري درك المبيع فإذا باعها قبض منه رب السلعة الثمن فلا يجد المشتري من يرد عليه السلعة
وهذا غش حرام وحيلة لا تسقط المأثم فإن علم المشتري بصورة الحال فله الرد وإن لم يعلم فهو المفرط حيث لم يضمن الدرك المعروف الذي يتمكن من مخاصمته فالتفريط من هذا والمكر والخداع من ذلك
فصل: حيل باطلة لاسقاط الاستبراء
ومن الحيل المحرمة الباطلة ان يشتري جارية ويريد وطأها بملك اليمين في الحال من غير استبراء فله عدة حيل منها أن يزوجه إياها البائع قبل ان يبيعها منه فتصير زوجته ثم يبيعه إياها فينفسخ النكاح ولا يجب عليه استبراء لأنه ملك زوجته وقد كان وطؤها حلالا له بعقد النكاح فصار حلالا بملك اليمين ومنها أن يزوجها غيره ثم يبيعها من الرجل الذي يريد شراءها فيملكها مزوجة وفرجها عليه حرام فيؤمر الزوج بطلاقها فإذا فعل حلت للمشتري ومنها أن مشتريها لا يقبضها حتى يزوجها من عبده أو غيره ثم يقبضها بعد التزويج فإذا قبضها طلقها الزوج فيطؤها سيده بلا استبراء(9/362)
ص -325-…قالوا: فإن خاف المشتري ان لا يطلقها الزوج استوثق بأن يجعل الزوج أمرها بيد السيد فإذا فعل طلقها هو ثم وطئها بلا استبراء
ولا يخفى نسبة هذه الحيل إلى الشرع ومحلها منه وتضمنها ان بائعها يطؤها بكرة ويطؤها المشتري عشية وان هذا مناقض لما قصده الشارع من الاستبراء ومبطل لفائدة الاستبراء بالكلية
ثم إن هذه الحيل كما هي محرمة فهي باطلة قطعا فإن السيد لا يحل له ان يزوج موطوأته حتى يستبرئها وإلا فكيف يزوجها لمن يطؤها ورحمها مشغول بمائه وكذلك إن اراد بيعها وجب عليه استبراؤها على أصح القولين صيانة لمائه ولا سيما إن لم يأمن من وطء المشتري لها بلا استبراء فههنا يتعين عليه الاستبراء قطعا فإذا أراد زوجها حيلة على إسقاط حكم الله وتعطيل أمره كان نكاحا باطلا لإسقاط ما اوجبه الله من الاستبراء وإذا طلقها الزوج بناء على صحة هذا النكاح الذي هو مكر وخداع واتخاذ لآيات الله هزوا لم يحل للسيد أن يطأها بدون الاستبراء فإن الاستبراء وجب عليه بحكم الملك المتجدد والنكاح العارض حال بينه وبينه لانه لم يكن يحل له وطؤها فإذا زال المانع عمل المقتضى عمله وزوال المانع لا يزيل اقتضاء المقتضى مع قيام سبب الاقتضاء منه وأيضا فلا يجوز تعطيل الوصف عن موجبه ومقتضاه من غير فوات شرط أو قيام مانع وبالجملة فالمفسدة التي منع الشارع المشتري لأجلها من الوطء بدون الاستبراء لم تزل بالتحيل والمكر بل انضم اليها مفاسد المكر والخداع والتحيل
فيالله العجب من شيء حرم لمفسدة فإذا انضم اليه مفسدة اخرى هي اكبر من مفسدته بكثير صار حالا فهو بمنزلة لحم الخنزير إذا ذبح كان حراما فإن مات حتف أنفه أو خنق حتى يموت صار حلالا لأنه لم يذبح قال: الامام احمد:(9/363)
ص -326-…هو حرام من وجهين وهكذا هذه المحرمات اذا احتيل عليها صارت حراما من وجهين وتأكد تحريمها
والذي يقضى منه العجب انهم يجمعون بين سقوط الاستبراء بهذة الحيل وبين وجوب استبراء الصغيرة التي لم توطأ ولا يوطأ مثلها وبين استبراء البكر التي لم يقرعها فحل واستبراء العجوز الهرمة التي قد أيست من الحبل والولادة واستبراء الامة التي يقطع ببراءة رحمها ثم يسقطون مع العلم بان رحمها مشغول فأوجبتموه حيث لم يوجبه الشارع وأسقطتموه حيث اوجبه
قالوا: وليس هذا بعجيب من تناقضكم بل واعجب منه إنكار كون القرعة طريقا لإثبات الحكم مع ورود السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه بها وإثبات حل الوطء بشهادة شاهدي زور يعلم الزوج الواطيء انهما شهدا بالزور على طلاقها حتى يجوز لاحد الشاهدين ان يتزوجها فيثبت الحل بشهادتهما
واعجب من ذلك انه لو كان له امة هي سرية يطؤها كل وقت لم تكن فراشا له ولو ولدت لم يلحقه الولد ولو تزوج امرأة ثم قال: بحضرة الحاكم والشهود في مجلس العقد هي طالق ثلاثا وكانت بأقصى المشرق وهو بأقصى المغرب صارت فراشا بالعقد فلو أتت بعد ذلك بولد لأكثر من ستة أشهر لحقه نسبه
واعجب من ذلك قولكم لو منع الذمى دينارا واحدا من الجزية وقال لا أؤديه انتقض عهده وحل ماله ودمه ولو سب الله ورسوله وكتابه على رؤوسنا أقبح سب وحرق أفضل المساجد على الاطلاق واستهان بالمصحف بين أيدينا أعظم استهانة وبذل ذلك الدينار فعهده باق ودمه معصوم
ومن العجيب تجويز قراءة القرآن بالفارسية ومنع رواية الحديث بالمعنى(9/364)
ص -327-…ومن العجب إخراج الاعمال عن مسمى الايمان وإنه مجرد التصديق والناس فيه سواء وتكفير من يقول مسيجد أو فقيه أو يصلى بلا وضوء أو يلتذ بآلات الملاهى ونحو ذلك
ومن العجب إسقاط الحد عمن استأجر امرأة للزنا أو لكنس بيته فزنا بها وإيجابه على من وجد امرأة اجنبية على فراشه في الظلمة فجامعها يظنها امرأته ومن العجب التشديد في المياه حتى تنجس القناطير المقنطرة منها بقطرة بول أو قطرة دم وتجويز الصلاة في ثوب ربعه مضمخ بالنجاسة فإن كانت مغلظة فبقدر راحة الكف
ومن العجب انه لو شهد عليه اربعة بالزنا فكذب الشهود حد وإن صدقهم سقط عنه الحد
ومن العجب انه لا يصح استئجار دار لتتخذ مسجدا يعبد الله فيه ويصبح استئجارها لتجعل كنيسة يعبد فيها الصليب أو بيت نار تعبد فيها النار
ومن العجب انه لوضحك في صلاة فقهقه بطل وضوءه ولو غنى في صلاته أو قذف المحصنات أو شهد الزور ونحو ذلك فوضوءه بحاله
ومن العجب انه لو وقع في البئر نجاسة نزح منها أدلاء معدودة فإذا حصل الدلو في البئر تنجس وغرف الماء نجسا وما اصاب حيطان البئر من ذلك الماء نجسها وكذلك فما بعده من الدلاء إلى ان تنتهي النوبة إلى الدلو الاخير فإنه ينزل نجسا ثم يصعد طاهرا فيقشقش النجاسة كلها من قعر البئر إلى رأسه قال: بعض المتكلمين ما رأيت اكرم من هذا الدلو ولا أعقل
ومن العجب انه لو حلف انه لا يأكل فاكهة حنث بأكل الجوز واللوز(9/365)
ص -328-…والفستق ولو كان يابسا قد أتت عليه السنون ولا يحنث بأكل الرطب والعنب والرمان
وأعجب من ذلك تعليل هذا بأن هذه الثلاثة من خيار الفاكهة وأعلى أنواعها فلا تدخل في الاسم المطلق
ومن العجب انه لو حلف ان لا يشرب من النيل أو الفرات أو دجلة فشرب بكفه أو بكوز أو دلو من هذه الانهار لم يحنث فإذا شرب بفيه مثل البهائم حنث
ومن العجب انه لو نام في المسجد وأغلقت عليه الابواب ودعته الضرورة إلى الخلاء فطاق القبلة ومحراب المسجد اولى بذلك من مؤخر المسجد
ومن العجب امر هذه الحيل التي لا يزداد بها المنهى عنه إلا فسادا مضاعفا كيف تباح مع تلك المفسدة الزائدة بالمكر والخداع وتحرم بدونها وكيف تنقلب مفاسدها بالحيل صلاحا وتصير خمرتها خلا وخبثها طيبا
قالوا: فهذا فصل في الاشارة إلى بيان فساد هذه الحيل على وجه التفصيل كما تقدم الاشارة إلى فسادها وتحريمها على وجه الاجمال ولو تتبعناها حيلة حيلة لطال الكتاب ولكن هذه امثلة يحتذى عليها والله الموفق للصواب
فصل: رأى لأصحاب الحيل والرد عليه
قال أرباب الحيل قال: الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} والحيل مخارج من المضائق
والجواب انما بذكر قاعدة في اقسام الحيل ومراتبها فنقول وبالله التوفيق هي أقسام
الطرق الخفية التي يتوصل بها إلى المحرم:
القسم الاول الطرق الخفية التي يتوصل بها إلى ما هو محرم في نفسه بحيث لا يحل بمثل ذلك السبب بحال فمتى كان المقصود بها محرما في نفسه فهى حرام باتفاق المسلمين وذلك كالحيل على أخذ اموال الناس وظلمهم في نفوسهم وسفك دمائهم وابطال حقوقهم وإفساد ذات بينهم وهي من جنس حيل الشياطين(9/366)
ص -329-…على إغواء بني آدم بكل طريق وهم يتحيلون عليهم ليوقعوهم في واحدة من ستة ولابد فيتحيلون عليهم بكل طريق أن يوقعوهم في الكفر والنفاق على اختلاف انواعه فإذا عملت حيلهم في ذلك قرت عيونهم فإن عجزت حيلهم عن من صحت فطرته وتلاها شاهد الايمان من ربه بالوحي الذي انزله على رسوله أعملوا الحيلة في إلقائه في البدعة على اختلاف انواعها وقبول القلب لها وتهيئته واستعداده فإن تمت حيلهم كان ذلك احب اليهم من المعصية وان كانت كبيرة ثم ينظرون في حال من استجاب لهم إلى البدعة فإن كان مطاعا متبوعا في الناس أمروه بالزهد والتعبد ومحاسن الاخلاق والشيم ثم أطاروا له الثناء بين الناس ليصطادوا عليه الجهال ومن لا علم عنده بالسنة وإن لم يكن كذلك جعلوا بدعته عونا له على ظلمه اهل السنة وأذاهم والنيل منهم وزينوا له ان هذا انتصار لما هم عليه من الحق فإن أعجزتهم هذه الحيلة ومن الله على العبد بتحكيم السنة ومعرفتها والتمييز بينها وبين البدعة ألقوه في الكبائر وزينوا له فعلها بكل طريق وقالوا له انت على السنة وفساق اهل السنة اولياء الله وعباد أهل البدعة أعداء الله وقبور فساق أهل السنة روضة من رياض الجنة وقبور عباد أهل البدع حفرة من حفر النار والتمسك بالسنة يكفر الكبائر كما ان مخالفة السنة تحبط الحسنات واهل السنة إن قعدت بهم اعمالهم قامت بهم عقائدهم واهل البدع إذا قامت بهم أعمالهم قعدت بهم عقائدهم واهل السنة هم الذين احسنوا الظن بربهم إذ وصفوه بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله ووصفوه بكل كمال وجلال ونزهوه عن كل نقص والله تعالى عند ظن عبده به واهل البدع هم الذين يظنون بربهم ظن السوء إذ يعطلونه عن صفات كماله وينزهونه عنها وإذ عطلوه عنها لزم اتصافه باضدادها ضرورة ولهذا قال: الله تعالى في حق من أنكر صفة واحدة من صفاته وهي صفة العمل ببعض الجزئيات: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ(9/367)
فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وأخبرهم عن الظانين بالله ظن السوء أن: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ(9/368)
ص -330-…السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} فلم يتوعد بالعقاب أحدا أعظم ممن ظن به ظن السوء وأنت لاتظن به ظن السوء فمالك وللعقاب وأمثال هذا من الحق الذي يجعلونه وصلة لهم وحيلة إلى الاستهانة بالكبائر وأخذه الأمن لنفسه
وهذه حيلة لا ينجو منها إلا الراسخ في العلم العارف بأسماء الله وصفاته فإنه كلما كان بالله أعرف كان له أشد خشية وكلما كان به أجهل كان أشد غرورا به وأقل خشية
فإن أعجزتهم هذه الحيلة وعظم وقار الله في قلب العبد هونوا عليه الصغائر وقالوا له إنها تقع مكفرة باجتناب الكبائر حتى كأنها لم تكن وربما متوه انه إذا تاب منها كبائر كانت أو صغائر كتب له مكان كل سيئة حسنة فيقولون له كثر منها ما استطعت ثم اربح مكان كل سيئة حسنة بالتوبة ولو قبل الموت بساعة فإن أعجزتهم هذه الحيلة وخلص الله عبده منها نقلوه إلى الفضول من انواع المباحات والتوسع فيها وقالوا له قد كان لداود مائة امرأة إلا واحدة ثم أراد تكميلها بالمائة وكان لسليمان ابنه مائة امرأة وكان للزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان من الاموال ما هو معروف وكان لعبد الله بن المبارك والليث بن سعد من الدنيا وسعة المال ما لا يجهل وينسوه ما كان لهؤلاء من الفضل وأنهم لم ينقطعوا عن الله بدنياهم بل ساروا بها اليه فكانت طريقا لهم إلى الله فإن اعجزتهم هذه الحيلة بأن تفتح بصيرة قلب العبد حتى كأنه يشاهد بها الآخرة وما اعد الله فيها لاهل طاعته وأهل معصيته فأخذ حذره وتأهب للقاء ربه واستقصر مدة هذه الحياة الدنيا في جنب الحياة الباقية الدائمة نقلوه إلى الطاعات المفضولة الصغيرة الثواب ليشغلوه بها عن الطاعات الفاضلة الكثيرة الثواب فيعمل حيلته في تركه كل طاعة كبيرة إلى ما هو دونها فيعمل حيلته في تفويت الفضيلة عليه فإن أعجزتهم هذه الحيلة وهيهات لم يبق لهم إلا حيلة(9/369)
ص -331-…واحدة وهي تسليط اهل الباطل والبدع والظلمة عليه يؤذونه وينفرون الناس عنه ويمنعونهم من الاقتداء به ليموتوا عليه مصلحة الدعوة إلى الله وعليهم مصلحة الإجابة
فهذه مجامع انواع حيل الشيطان ولا يحصى افرادها إلا الله ومن له مسكة من العقل يعرف الحيلة التي تمت عليه من هذه الحيل فإن كانت له همة إلى التخلص منها وإلا فيسأل من تمت عليه والله المستعان
وهذه الحيل من شياطين الجن نظير حيل شياطين الانس المجادلين بالباطل ليدحضوا به الحق ويتوصلوا به إلى أغراضهم الفاسدة في الامور الدينية والدنيوية وذلك كحيل القرامطة الباطنية على إفساد الشرائع وحيل الرهبان على اشباه الحمير من عابدي الصليب بما يموهون به عليهم من المخاريق والحيل كالنور المصنوع وغيره مما هو معروف عند الناس وكحيل ارباب الاشارات من الاذن والتسيير والتغيير وإمساك الحيات ودخول النار في الدنيا قبل الاخرة وامثال ذلك من حيل اشباه النصارى التي تروج على أشباه الانعام وكحيل أرباب الدك وخفة اليد التي يخفى على الناظرين أسبابها ولا يتفطنون لها وكحيل السحرة على اختلاف أنواع السحر فإن سحر البيان هو من أنواع التحيل إما لكونه بلغ في اللطف والحسن إلى حد استمالة القلوب فأشبه السحر من هذا الوجه وإما لكون القادر على البيان يكون قادرا على تحسين القبيح وتقبيح الحسن فهو أيضا يشبه السحر من هذا الوجه أيضا وكذلك سحر الوهم أيضا هو حيلة وهمية والواقع شاهد بتأثير الوهم والايهام الا ترى ان الخشبة التي يتمكن الانسان من المشيء عليها اذا كانت قريبة من الارض لا يمكن المشي عليها اذا كانت على مهواة بعيدة القعر والاطباء تنهى صاحب الرعاف عن النظر إلى الشيء الاحمر وتنهى المصروع عن النظر إلى الاشياء القوية اللمعان أو الدوران فإن النفوس خلقت(9/370)
ص -332-…مطيعة الاوهام والطبيعة فعالة والاحوال الجسمانية تابعة للاحوال النفسانيه وكذلك السحر بالاستعانة بالارواح الخبيثة إنما هو بالتحيل على استخدامها بالاشراك بها والاتصاف بهيآتها الخبيثة ولهذا لا يعمل السحر إلا مع الانفس الخبيثة المناسبة لتلك الارواح وكلما كانت النفس اخبث كان سحرها اقوى وكذلك سحر التمزيجات وهو أقوى ما يكون من السحر أن يمزج بين القوى النفسانية الخبيثة الفعالة والقوى الطبيعية المنفعلة والمقصود ان السحر من أعظم انواع الحيل التي ينال بها الساحر غرضه وحيل الساحر من أضعف الحيل وأقواها ولكن لا تؤثر تأثيرا مستقرا إلا في الانفس الباطلة المنفعلة للشهوات الضعيفة تعلقها بفاطر الارض والسموات المنقطعة عن التوجه اليه والاقبال عليه فهذه النفوس محل تأثير السحر وكحيل ارباب الملاهي والطرب على استمالة النفوس إلى محبة الصور والوصول إلى الالتذاذ بها فحيلة السماع الشيطاني على ذلك من أدنى الحيل عليه حتى قيل: أول ما وقع الزنا في العالم فإنما كان بحيلة اليراع والغناء لما اراد الشيطان ذلك لم يجد عليه حيلة ادنى من الملاهي وكحيل اللصوص والسراق على اخذ اموال الناس وهم انواع لا تحصى فمنهم السراق بأيديهم ومنهم السراق بأقلامهم ومنهم السراق بأمانتهم ومنهم السراق بما يظهرونه من الدين والفقر والصلاح والزهد وهم في الباطن بخلافه ومنهم السراق بمكرهم وخداهم وغشهم وبالجملة فحيل هذا الضرب من الناس من اكثر الحيل وتليها حيل عشاق الصور على الوصول إلى أغراضهم فإنها تقع في الغالب خفية وإنما تتم غالبا على النفوس القابلة المنفعلة الشهوانية وكحيل التتار التي ملكوا بها البلاد وقهروا بها العباد وسفكوا بها الدماء واستباحوا بها الاموال وكحيل اليهود وإخوانهم من الرافضة فإنهم بيت المكر والاحتيال ولهذا ضربت على الطائفتين الذلة وهذه سنة الله في كل مخادع محتال بالباطل(9/371)
ص -333-…ارباب الحيل نوعان:
ثم أرباب هذه الحيل نوعان نوع يقصد به حصول مقصوده ولا يظهر انه حلال كحيل اللصوص وعشاق الصور المحرمة ونحوهما ونوع يظهر صاحبه ان مقصوده خير وصلاح ويبطن خلافه
وأرباب النوع الاول أسلم عاقبة من هؤلاء فإنهم أتوا البيوت من أبوابها والامر من طريقه ووجهه وأما هؤلاء فقلبوا موضوع الشرع والدين ولما كان ارباب هذا النوع إنما يباشرون الاسباب الجائزة ولا يظهرون مقاصدهم أعضل امرهم وعظم الخطب بهم وصعب الاحتراز منهم وعز على العالم استنقاذ قتلاهم فاستبيحت بحيلهم الفروج واخذت بها الاموال من اربابها فأعطيت لغير اهلها وعطت بها الواجبات وضيعت بها الحقوق وعجت الفروج والاموال والحقوق إلى ربها عجيجا وضجت مما حل بها اليه ضجيجا ولا يختلف المسلمون ان تعليم هذه الحيل حرام والافتاء بها حرام والشهادة على مضمونها حرام والحكم بها مع العلم بحالها حرام
والذين جوزوا منها ما جوزوا من الائمة لا يجوز ان يظن بهم انهم جوزوه على وجه الحيلة إلى المحرم وإنما جوزوا صورة ذلك الفعل ثم إن المتحيل المخادع المكار اخذ صورة ما افتوا به فتوسل به إلى ما منعوا منه وركب ذلك على اقوالهم وفتواهم وهذا فيه الكذب عليهم وعلى الشارع مثاله ان الشافعي رحمه الله تعالى يجوز إقرار المريض لوارثه فيتخذه من يريد ان يوصى لوارثه وسيلة إلى الوصية له بصورة الاقرار ويقول هذا جائز عند الشافعي وهذا كذب على الشافعي فإنه لا يجوز الوصية للوارث بالتحيل عليها بالاقرار فكذلك الشافعي يجوز للرجل اذا اشترى من غيره سلعة بثمن ان يبيعه إياها بأقل مما اشتراها منه بناء على ظاهر السلامة ولا يجوز ذلك حيلة على بيع مائة بمائة وخمسين إلى سنة فالذي يسد الذرائع يمنع ذلك ويقول هو يتخذ حيلة إلى ما حرمه الله ورسوله(9/372)
ص -334-…فلا يقبل إقرار المريض لوارثه ولا يصح هذا البيع ولا سيما فإن إقرار المرء شهادة على نفسه فإذا تطرق اليها التهمة بطلب كالشهادة على غيره والشافعي يقول أقبل إقراره إحسانا للظن بالمقر وحملا لإقراره على السلامة ولا سيما عند الخاتمة ومن هذا الباب احتيال المراة على فسخ نكاح الزوج بما يعلمه إياها أرباب المكر والاحتيال بأن تنكر ان تكون أذنت للولى أو بان النكاح لم يصح لان الولى أو الشهود جلسوا وقت العقد على فراش حرير أو استندوا إلى وسادة حرير وقد رأيت من يستعمل هذه الحيلة إذا طلق الزوج امرأته ثلاثا وأراد تخليصه من عار التحليل وشناره أرشده إلى القدح في صحة النكاح بفسق الولى أو الشهود فلا يصح الطلاق في النكاح الفاسد وقد كان النكاح صحيحا لما كان مقيما معها عدة سنين فلما اوقع الطلاق الثلاث فسد النكاح
ومن هذا احتيال البائع على فسخ البيع بدعواه انه لم يكن بالغا وقت العقد أو لم يكن رشيدا أو كان محجورا عليه أو لم يكن المبيع ملكا له ولا مأذونا له في بيعه
أنواع الحيل المحرمة:
فهذه الحيل وامثالها لا يستريب مسلم في أنها من كبائر الاثم واقبح المحرمات وهي من التلاعب بدين الله واتخاذ آياته هزوا وهي حرام من جهتها في نفسها لكونها كذبا وزورا وحرام من جهة المقصود بها وهو إبطال حق وإثبات باطل فهذه ثلاثة اقسام:
أحدها ان تكون الحيلة محرمة ويقصد بها المحرم
الثاني أن تكون مباحة في نفسها ويقصد بها المحرم فيصير حراما تجريم الوسائل كالسفر لقطع الطريق وقتل النفس المعصومة
وهذان قسمان تكون الحيلة فيهما موضوعة للمقصود الباطل المحرم ومفضية اليه كما هي موضوعة للمقصود الصحيح الجائز ومفضية اليه فإن السفر طريق صالح لهذا وهذا(9/373)
ص -335-…الثالث أن تكون الطريق لم توضع للإفضاء إلى المحرم وإنما وضعت مفضية إلى المشروع كالإقرار والبيع والنكاح والهبة ونحو ذلك فيتخذها المتحيل سلما وطريقا إلى الحرام وهذا معترك الكلام في هذا الباب وهو الذي قصدنا الكلام فيه بالقصد الاول
القسم الرابع أن يقصد بالحيلة اخذ حق أو دفع باطل وهذا القسم ينقسم إلى ثلاثة اقسام أيضا
أحدها أن يكون الطريق محرما في نفسه وان كان المقصود بها حقا مثل ان يكون له على رجل حق فيجحده ولا بينة له فيقيم صاحبه شاهدي زور يشهدان به ولا يعلمان ثبوت هذا الحق ومثل ان يطلق الرجل امرأته ثلاثا ويجحد الطلاق ولا بينة لها فتقيم شاهدين يشهدان انه طلقها ولم يسمعا الطلاق منه ومثل ان يكون له على رجل دين وله عنده وديعة فيجحد الوديعة فيجحد هو الدين أو بالعكس ويحلف ما له عندي حق أو ما اودعني شيئا وان كان يجيز هذا من يجيز مسألة الظفر ومثل ان تدعى عليه المرأة كسوة أو نفقة ماضية كذبا باطلا فينكر ان تكون مكنته من نفسها أو سلمت نفسها اليه أو يقيم شاهدي زور انها كانت ناشزا فلا نفقة لها ولا كسوة ومثل ان يقتل الرجل وليه فيقيم شاهدي زور ولم يشهدا القتل فيشهدا انه قتله ومثل ان يموت موروثه فيقيم شاهدي زور انه مات وانه وارثه وهما لا يعلمان ذلك ونظائره ممن له حق لا شاهد له به فيقيم شاهدي زور يشهدان له به فهذا يأثم على الوسيلة دون المقصود وفي مثل هذا جاء الحديث: "أد الامانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك"
فصل: انواع من الحيل المباحة
القسم الثاني ان يكون الطريق مشروعة وما يفضى اليه مشروع وهذه(9/374)
ص -336-…هي الاسباب التي نصبها الشارع مفضية إلى مسبباتها كالبيع والاجارة والمساقاة والمزارعة والوكالة بل الاسباب محل حكم الله ورسوله وهي في اقتضائها لمسبباتهم شرعا على وزان الاسباب الحسية في اقتضائها لمسبباتها قدرا فهذا شرع الرب تعالى وذلك قدره وهما خلقه وامره والله له الخلق والامر ولا تبديل لخلق الله ولا تغيير لحكمه فكما لا يخالف سبحانه بالاسباب القدرية احكامها بل يجريها على اسبابها وما خلقت له فهكذا الاسباب الشرعية لا يخرجها عن سببها وما شرعت له بل هذه سنته شرعا وامرا وتلك سنته قضاء وقدرا وسنته الأمرية قد تبدل وتتغير كما يعصى امره ويخالف واما سنته القدرية فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا كما لا يعصى امره الكوني القدري
ويدخل في هذا القسم التحيل على جلب المنافع وعلى دفع المضار وقد ألهم الله تعالى ذلك لكل حيوان فلأنواع الحيوانات من انواع الحيل والمكر ما لا يهتدى اليه بنو آدم
وليس كلامنا ولا كلام السلف في ذم الحيل متناولا لهذا القسم بل العاجز من عجز عنه والكيس من كان به أفطن وعليه أقدر ولا سيما في الحرب فإنها خدعة والعجز كل العجز ترك هذه الحيلة والانسان مندوب إلى استعاذته بالله تعالى من العجز والكسل فالعجز عدم القدرة على الحيلة النافعة والكسل عدم الارادة لفعلها فالعاجز لا يستطيع الحيلة والكسلان لا يريدها ومن لم يحتل وقد امكنته هذه الحيلة أضاع فرصته وفرط في مصالحه كما قال: إذا المرأ لم يحتل وقد جد جده أضاع وقاسى امره وهو مدبر
وفي هذا قال: بعض السلف الامر امران امر فيه حيلة فلا يعجز عنه وامر لا حيلة فيه فلا يجزع منه(9/375)
ص -337-…فصل: قسم آخر من أقسام الحيل المباحة
القسم الثالث ان يحتال على التوصل إلى الحق أو على دفع الظلم بطريق مباحة لم توضع موصلة إلى ذلك بل وضعت لغيره فيتخذها هو طريقا إلى هذا المقصود الصحيح أو قد يكون قد وضعت له لكن تكون خفية ولا يفطن لها والفرق بين هذا القسم والذي قبله ان الطريق في الذي قبله نصبت مفضية إلى مقصودها ظاهرا فسالكها سالك للطريق المعهود والطريق في هذا القسم نصبت مفضية إلى غيره فيتوصل بها إلى ما لم توضع له فهي في الفعال كالتعريض الجائز في المقال أو تكون مفضية اليه لكن بخفاء ونذكر لذلك امثلة ينتفع بها في هذا الباب
المثال الاول: اذا استأجر منه دارا مدة سنين بأجرة معلومة فخاف ان يغدر به المكرى في آخر المدة ويتسبب إلى فسخ الاجارة بأن يظهر انه لم تكن له ولاية الايجار أو ان المؤجر ملك لابنه أو امرأته أو انه كان مؤجرا قبل ايجاره ويتبين ان المقبوض اجرة المثل لما استوفاه من المدة وينتزع المؤجر له منه فالحيلة في التخلص من هذه الحيلة ان يضمنه المستأجر درك العين المؤجرة له أو لغيره فإذا استحقت أو ظهرت الاجارة فاسدة رجع عليه بما قبضه منه أو يأخذ إقرار من يخاف منه بأنه لا حق له في العين وان كل دعوى يدعيها بسببها فهى باطلة أو يستأجرها منه بمائة دينار مثلا ثم يصارفه كل دينار بعشرة دراهم فإذا طالبه بأجرة المثل طالبه هو بالدنانير التي وقع عليها العقد فإنه لم يخف من ذلك ولكن يخاف ان يغدر به في آخر المدة فليقسط مبلغ الاجرة على عدد السنين ويجعل معظمها للسنة التي يخشى غدره فيها وكذلك إذا خاف المؤجر ان يغدر المستأجر ويرحل في اخر المدة فليجعل معظم الاجرة على المدة التي يأمن فيها من رحيله والقدر اليسير منها لآخر المدة(9/376)
ص -338-…المثال الثاني: ان يخاف رب الدار غيبة المستأجر ويحتاج إلى داره فلا يسلمها أهله اليه فالحيلة في التخلص من ذلك ان يؤجر هاربها من امرأة المستأجر ويضمن الزوج ان ترد اليه المرأة الدار وتفرغها متى انقضت المدة أو تضمن المرأة ذلك إذا استأجرها الزوج فمتى استأجر احدهم وضمن الاخر الرد لم يتمكن احدهما من الامتناع وكذلك إن مات المستأجر فجحد ورثته الاجارة وادعوا ان الدار لهم نفع رب الدار كفالة الورثة وضمانهم رد الدار إلى المؤجر فإن خاف المؤجر إفلاس المستأجر وعدم تمكنه من قبض الاجرة فالحيلة ان يأخذ منه كفيلا بأجره ما سكن ابدا ويسمى اجرة كل شهر للضمين ويشهد عليه بضمانه
المثال الثالث: ان يأذن رب الدار للمستأجر ان يكون في الدار ما يحتاج اليه أو يعلف الدابة بقدر حاجتها وخاف ان لا يحتسب له ذلك من الاجرة فالحيلة في اعتداده به عليه ان يقدر ما يحتاج اليه الدابة أو الدار ويسمى له قدرا معلوما ويحسبه من الاجرة ويشهد على المؤجر انه قد وكله في صرف ذلك القدر فيما تحتاج اليه الدار أو الدابة
فإن قيل: فهل تجوزون لمن له دين على رجل ان يوكله في المضاربة به أو الصدقة به أو إبراء نفسه منه أو ان يشتري له شيئا ويبرأ المدين إذا فعل ذلك؟
قيل: هذا مما اختلف فيه وفي صورة المضاربة بالدين قولان في مذهب الامام احمد احدهما انه لا يجوز ذلك وهو المشهور لانه يتضمن قبض الانسان من نفسه وابراءه لنفسه من دين الغريم بفعل نفسه لانه متى اخرج الدين وضارب به فقد صار المال أمانة وبريء منه وكذلك اذا اشترى به شيئا أو تصدق به(9/377)
ص -339-…والقول الثاني: انه لا يجوز وهو الراجح في الدليل وليس في الادلة الشرعية ما يمنع من جواز ذلك ولا يقتضى تجويزه مخالفة قاعدة من قواعد الشرع ولا وقوعا في محظور من ربا ولا قمار ولا بيع غرر ولا مفسدة في ذلك بوجه ما فلا يليق بمحاسن الشريعة المنع منه وتجويزه من محاسنها ومقتضاها
وقولهم إنه يتضمن ابراء الانسان لنفسه بفعل نفسه كلام فيه إجمال يوهم انه هو المستقل بإبراء نفسه وبالفعل الذي به يبرأ وهذا إيهام فإنه إنما برء بما أذن له رب الدين من مباشرة الفعل الذي تضمن براءته من الدين فأي محذور في ان يفعل فعلا اذن له فيه رب الدين ومستحقه يتضمن براءته فكيف ينكر ان يقع في الاحكام الضمنية التبعية مالا يقع مثله في المتبوعات ونظائر ذلك اكثر من ان تذكر حتى لو وكله أو أذن له ان يبريء نفسه من الدين جاز وملك ذلك كما لو وكل المرأة ان تطلق نفسها فأي فرق بين ان يقول طلقي نفسك إن شئت أو يقول لغريمه ابرئ نفسك إن شئت وقد قالوا: لو أذن لعبده في التكفير بالمال ملك ذلك على الصحيح فلو أذن له في الاعتاق ملكه فلو اعتق نفسه صح على احد القولين والقول الآخر لا يصح لمانع آخر وهو ان الولاء للمعتق والعبد ليس من اهل الولاء نعم المحذور ان يملك إبراء نفسه من الدين بغير رضا ربه وبغير إذنه فهذا هو المخالف لقواعد الشرع
فإن قيل: فالدين لا يتعين بل هو مطلق كلى ثابت في الذمة فإذا اخرج مالا واشترى به أو تصدق به لم يتعين ان يكون هوالدين ورب الدين لم يعينه فهو باق على إطلاقه
قيل: هو في الذمة مطلق وكل فرد من أفراده طابقه صح ان يعين عنه ويجزئ وهذا كإيجاب الرب تعالى الرقبة المطلقة في الكفارة فإنها غير معينة ولكن أي رقبة عينها المكلف وكانت مطابقة لذلك المطلق تأدى بها الواجب ونظيره(9/378)
ص -340-…ههنا ان أي فرد عينه وكان مطابقا لما في الذمة تعين وتأدى به الواجب وهذا كما يتعين عند الاداء إلى ربه وكما يتعين عند التوكيل في قبضه فهكذا يتعين عند توكيله لمن هو في ذمته ان يعينه ثم يضارب به أو يتصدق أو يشتري به شيئا وهذا محض الفقه وموجب القياس وإلا فما الفرق بين تعيينه إذا وكل الغير في قبضه والشراء أو التصدق به وبين تعيينه اذا وكل هو في ذمته ان يعينه ويضارب أو يتصدق به فهل يوجب التفريق فقه أو مصلحة لهما أو لاحدهما أو حكمة للشارع فيجب مراعاتها
فإن قيل: تجوزوا على هذا ان يقول له اجعل الدين الذي عليك رأس مال السلم في كذا وكذا
قيل: شرط صحة النقض امران احدهما ان تكون الصورة التي تنقض بها مساوية لسائر الصور في المعنى الموجب للحكم الثاني ان يكون الحكم فيها معلوما بنص أو اجماع وكلا الامرين منتف ههنا فلا اجماع معلوم في المسألة وإن كان قد حكى وليس مما نحن فيه فإن المانع من جوازها رأى انها من باب بيع الدين بالدين بخلاف ما نحن فيه والمجوز له يقول ليس عن الشارع نص عام في المنع من بيع الدين بالدين وغاية ما ورد فيه حديث ما فيه انه نهى عن بيع الكاليء بالكاليء والكالئ هو المؤخر وهذا كما اذا كان رأس مال السلم دينا في ذمة المسلم فهذا هو الممنوع منه بالاتفاق لانه يتضمن شغل الذمتين بغير مصلحة لهما وأما إذا كان الدين في ذمة المسلم اليه فاشترى به شيئا في ذمته فقد سقط الدين من ذمته وخلفه دين آخر واجب فهذا من باب بيع الساقط بالواجب فيجوز كما يجوز بيع الساقط بالساقط في باب المقاصة فإن بنى المستأجر أو انفق على الدابة وقال انفقت كذا وكذا وانكر المؤجر فالقول قول المؤجر لان المستأجر يدعى براءة نفسه من الحق الثابت عليه والقول قول المنكر(9/379)
ص -341-…فإن قيل: فهل ينفعه إشهاد رب الدار أو الدابة على نفسه انه مصدق فيما يدعى إنفاقه
قيل: لا ينفعه ذلك وليس بشيء ولا يصدق انه انفق شيئا إلا ببينة لان مقتضى العقد الا يقبل قوله في الانفاق ولكن ينتفع بعد الانفاق بإشهاد المؤجر انه صادق فيما يدعى انه انفقه والفرق بين الموضعين انه بعد الانفاق مدع فإذا صدقه المدعى عليه نفعه ذلك وقبل الانفاق ليس مدعيا ولا ينفعه اشهاد المؤجر بتصديقه فيما سوف يدعيه في المستقل فهذا شيء وذاك شيء آخر
فإن قيل: فما الحيلة على ان يصدق المؤجر المستأجر فما يدعيه من النفقة؟
قيل: الحيلة ان يسلف المستأجر رب الدار أو الحيوان من الاجرة ما يعلم انه بقدر الحاجة ويشهد عليه بقبضه ثم يدفع رب الدار إلى المستأجر ذلك الذي قبضه منه ويوكله في الانفاق على داره أو دابته فيصير امينة فيصدق على ما يدعيه إذا كان ذلك نفقة مثله عرفا فإن خرج من العادة لم يصدق به وهذه حيلة لا يدفع بها حقا ولا يتوصل بها لمحرم ولا يقيم بها باطلا
المثال الرابع إذا خاف رب الدار أو الدابة ان يعوقها عليه المستأجر بعد المدة فالحيلة في أمنه من ذلك ان يقول متى حبستها بعد انقضاء المدة فأجرتها كل يوم كذا وكذا فإنه يخاف من حبسها ان يلزمه بذلك
المثال الخامس لا يجوز استئجار الشمع ليشعله لذهاب عين المستأجر والحيلة في تجويز هذا العقد ان يبيعه من الشمعة أواقي معلومة ثم يؤجره إياها فإن كان الذي أشعل منها ذلك القدر وإلا احتسب له بما اذهبه منها واحسن من هذه الحيلة ان يقول بعتك من هذه الشمعة كل اوقية فيها بدرهم قل(9/380)
ص -342-…المأخوذ منها أو كثر وهذا جائز على احد القولين في مذهب الامام احمد واختاره شيخنا وهو الصواب المقطوع به وهو مخرج على نص الامام احمد في جواز إجارة الدار كل شهر بدرهم وقد اجر على كرم الله وجهه في الجنة نفسه كل دلو بتمرة ولا محذور في هذا اصلا ولا يفضى إلى تنازع ولا تشاحن بل عمل الناس في اكثر بياعاتهم عليه ولا يضره جهالة كمية المعقود عليه عند البيع لان الجهالة المانعة من صحة العقد هي التي تؤدي إلى القمار والغرر ولا يدري العاقد على أي شيء يدخل وهذه لا تؤدي إلى شيء من ذلك بل إن أراد قليلا أخذ والبائع راض وإن اراد كثيرا أخذ والبائع راض والشريعة لا تحرم مثل هذا ولا تمنع مه بل هي اسمح من ذلك واحكم
فان قيل: لكن في العقد على هذا الوجه محذوران احدهما تضمنه للجمع بين البيع والاجارة والثاني ان مورد عقد الاجارة يذهب عينه أو بعضه بالإشعال
قيل: لا محذور في الجمع بين عقدين كل منهما جائز بمفرده كما لو باعه سلعة وأجره داره شهرا بمائة درهم وأما ذهاب أجزاء المستأجر بالانتفاع فإنما لم يجز لانه لم يتعوض عنه المؤجر وعقد الاجارة يقتضي رد العين بعد الانتفاع واما هذا العقد فهو عقد بيع يقتضى ضمان المتلف بثمنه الذي قدر له وأجرة انتفاعه بالعين قبل الاتلاف فالاجرة في مقابلة انتفاعه بها مدة بقائها والثمن في مقابلة ما أذهب منها فدعونا من تقليد آراء الرجال ما الذي حرم هذا واين هو في كتاب الله وسنة رسوله أو اقوال الصحابة أو القياس الصحيح الذي يكون فيه الفرع مساويا للأصل ويكون حكم الاصل ثابتا بالكتاب أو السنة أو الاجماع وليس كلامنا في هذا الكتاب مع المقلد المتعصب المقر(9/381)
ص -343-…على نفسه بما شهد عليه به جميع اهل العلم انه ليس من جملتهم فذاك وما اختار لنفسه وبالله التوفيق
المثال السادس ان تشترط المرأة دارها أو بلدها أو ان لا يتزوج عليها ولا يكون هناك حاكم يصحح هذا الشرط أو تخاف ان يرفعها إلى حاكم يبطله فالحيلة في تصحيحه ان تلزمه عند العقد بإن يقول إن تزوجت عليك امرأة فهى طالق وهذا الشرط يصح وان قلنا لا يصح تعليق الطلاق بالنكاح نص عليه احمد لان هذا الشرط لما وجب الوفاء به من منع التزويج بحيث لو تزوج فلها الخيار بين المقام معه ومفارقته جاز اشتراط طلاق من يتزوجها عليها كما جاز اشتراط عدم نكاحها
فإن لم تتم لها هذه الحيلة فلتأخذ شرطه انه ان تزوج عليها فأمرها بيدها أو امر الضرة بيدها ويصح تعليق ذلك بالشرط لانه توكيل على الصحيح ويصح تعليق الوكالة على الشرط على الصحيح من قولى العلماء وهو قول الجمهور ومالك وأبي حنيفة واحمد كما يصح تعليق الولاية على الشرط بالسنة الصحيحة الصريحة ولو قيل: لا يصح تعليق الوكالة بالشرط لصح تعليق هذا التوكيل الخاص لانه يتضمن الاسقاط فهو كتعليق الطلاق والعتق بالشرط ولا ينتقض هذا بالبراءة فإنه يصح تعليقها بالشرط وقد فعله الامام احمد واصوله تقتضي صحته وليس عنه نص بالمنع ولو سلم انه تمليك لم يمنع تعليقه بالشرط كا تعلق الوصية واولى بالجواز فإن الوصية تمليك مال وهذا ليس كذلك
فإن لم تتم لها هذه الحيلة فليتزوجها على مهر مسمى على انه ان اخرجها من دارها فلها مهر مثلها وهو اضعاف ذلك المسمى ويقر الزوج بأنه مهر مثلها وهذا الشرط صحيح لانها لم ترض بالمسمى إلا بناء على إقرارها في دارها فإذا لم يسلم لها ذلك وقد شرطت في مقابلته زيادة جاز وتكون تلك الزيادة في مقابلة ما فاتها من الغرض الذي إنما ارخصت المهر ليسلم لها فإذا لم يسلم لها انتقلت إلى المهر(9/382)
ص -344-…الزائد وقد صرح اصحاب أبي حنيفة بجواز مثل ذلك مع قولهم لا يصح اشتراط دارها ولا ان لا يتزوج عليها
وقد أغنى الله عن هذه الحيلة بوجوب الوفاء بهذا الشرط الذي هو احق الشروط ان يوفى به وهو مقتضى الشرع والعقل والقياس الصحيح فان المرأة لم ترض ببذل بضعها للزوج إلا على هذا الشرط ولو لم يجب الوفاء به لم يكن العقد عن تراض وكان إلزاما لها بما لم تلتزمه وبما لم يلزمها الله تعالى ورسوله به فلا نص ولا قياس والله الموفق
المثال السابع إذا خاصمته امرأته وقالت قل كل جارية اشتريها فهى حرة وكل امرأة أتزوجها فهى طالق فالحيلة في خلاصه ان يقول ذلك ويعنى بالجارية السفينة لقوله إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية ويمسك بيده حصاة أو خرقه ويقول فهى طالق فيرد الكناية اليها فإن تفقهت عليه الزوجة وقالت قل كل رقيقة أو أمة فليقل ذلك وليعن فهى حرة الخصال غير فاجرة فإنه لو قال: ذلك لم تعتق كما لو قال: له رجل غلامك فاجر زان فقال ما أعرفه إلا حرا عفيفا ولم يرد العتق لم يعتق وإن تفقهت عليه وقالت قل فهى عتيقة فليقل ذلك ولينو ضد الجديدة أي عتيقة في الرق فإن تفقهت وقالت قل فهى معتوقة وقد أعتقتها إن ملكتها فليرد الكناية إلى حصاة في يده أو خرقة فإن لم تدعه ان يمسك شيئا فليردها إلى نفسه ويعنى ان قد أعتقها من النار بالاسلام أو فهى حرة ليست رقيقة لأحد ويجعل الكلام جملتين فإن حصرته وقالت قل فالجارية التي أشتريها معتوقة فليقيد ذلك بزمن معين أو مكان معين في نيته ولا يحنث بغيره فإن حصرته وقالت من غير تورية ولا كناية ولا نية تخالف قولى وهذا آخر التشديد فلا يمنعه ذلك من التورية والكناية وان قال: بلسانه لا أورى ولا أكنى والتورية والكناية في قلبه كما لو قال: لا أستثنى بلسانه ومن نيته الاستثناء ثم(9/383)
ص -345-…استثنى فإنه ينفعه حتى لو لم ينو الاستثناء ثم عزم عليه واستثنى نفعه ذلك بالسنة الصحيحة الصريحة التي لا معارض لها بوجه في غير حديث كقول الملك لسليمان قل إن شاء الله وقول النبي صلى الله عليه وسلم إلا الإذخر بعد ان ذكره به العباس وقوله إن شاء الله بعد ان قال: لأغزون قريشا ثلاث مرات ثم قال: بعد الثالثة وسكوته إن شاء الله والقرآن صريح في نفع الاستثناء إذا نسيه ولم ينوه في أول كلامه ولا أثناءه في قوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيت} وهذا إما ان يختص بالاستثناء إذا نسيه كما فسره به جمهور المفسرين أو يعمه ويعم غيره وهو الصواب فأما ان يخرج منه الاستثناء الذي سيق الكلام لاجله ويرد إلى غيره فلا يجوز ولان الكلام الواحد لا يعتبر في صحته نية كل جملة من جملة وبعض من أبعاضه فالنص والقياس يقتضى نفع الاستثناء وان خطر له بعد انقضاء الكلام وهذا هو الصواب المقطوع به
المثال الثامن لا تصح إجارة الارض المشغولة بالزرع فإن اراد ذلك فله حيلتان جائزتان إحداهما ان يبيعه الزرع ثم يؤجره الارض فتكون الارض مشغولة بملك المستأجر فلا يقدح في صحة الاجارة فان لم يتمكن من هذه الحيلة لكون الزرع لم يشتد أو كان زرعا للغير انتقل إلى الحيلة الثانية وهي ان يؤجره إياها لمدة تكون بعد اخذ الزرع ويصح هذا بناء على صحة الاجارة المضافة
المثال التاسع لا تصح إجارة الارض على ان يقوم المستأجر بالخراج مع الاجرة أو يكون قيامه به هو أجرتها ذكره القاضي لان الخراج مؤنة تلزم المالك بسبب تمكنه من الانتفاع فلا يجوز نقله إلى المستأجر والحيلة في جوازه ان يسمى مقدار الخراج ويضيفه إلى الاجرة قلت ولا يمنع ان يؤجره الارض بما عليها من الخراج اذا كان مقدارا معلوما لا جهالة فيه فيقول(9/384)
ص -346-…أجرتكها بخراجها تقوم به عنى فلا محذور في ذلك ولا جهالة ولا غرر وأي فرق بين ان يقول آجرتك كل سنة بمائة أو بالمائة التي عليها كل سنة خراجا فإن قيل: الاجرة تدفع إلى المؤجر والخراج إلى السلطان
قيل: بل تدفع الاجرة إلى المؤجر أو إلى من اذن له بالدفع اليه فيصير وكيله في الدفع
المثال العاشر لا يصح ان يستأجر الدابة بعلفها لانه مجهول والحيلة في جوازه ان يسمى ما يعلم انها تحتاج اليه من العلف فيجعله أجرة ثم يوكله في إنفاق ذلك عليها وهذه الحيلة غير محتاج اليها على أصلنا فإنا نجوز ان يستأجر الظئر بطعامها وكسوتها والاجير بطعامه وكسوته فكذلك إجارة الدابة بعلفها وسقيها
فإن قيل: علف الدابة على مالكها فإذا شرطه على المستأجر فقد شرط ما ينافي مقتضى العقد فأشبه ما لو شرط في عقد النكاح ان تكون نفقة الزوجة على نفسها
قيل: هذا من أفسد القياس لان العلف قد جعل في مقابلة الانتفاع فهو نفسه أجرة مغتفرة جهالتها اليسيرة للحاجة بل الحاجة إلى ذلك أعظم من حاجة استئجار الاجير بطعامه وكسوته إذ يمكن الاجير ان يشتري له بالاجرة ذلك فأما الدابة فإن كلف ربها ان يصحبها ليعلفها شق عليه ذلك فتدعو الحاجة إلى قيام المستأجر عليها ولا يظن به تفريطه في علفها لحاجته إلى ظهرها فهو يعلفها لحاجته وان لم يمكنها مخاصمته
المثال الحادي عشر إذا اراد ان يستأجر دارا أو حانوتا ولا يدري مدة مقامه فإن استأجره سنة فقد يحتاج إلى التحول قبلها فالحيلة ان يستأجر كل شهر بكذا وكذا فتصح الاجارة وتلزم في الشهر الاول وتصير جائزة فيما(9/385)
ص -347-…بعده من الشهور فلكل واحد منهما الفسخ عقيب كل شهر إلى تمام يوم وهذا قول أبي حنيفة وقال الشافعي الاجارة فاسدة وعن احمد نحوه والصحيح الاول فإذا خاف المستأجر ان يتحول قبل تمام الشهر الثاني فيلزمه اجرته فالحيلة ان يستأجرها كل اسبوع بكذا فإن خاف التحول قبل الاسبوع استأجرها كل يوم بكذا ويصح ويكون حكم اليوم كحكم الشهر المثال الثاني عشر: لو وكله ان يشترى له جارية معينة فلما رآها الوكيل أعجبته واراد شراءها لنفسه من غير إثم يدخل عليه ولا غدر بالموكل جاز ذلك لان شراءه إياها لنفسه عزل لنفسه وإخراج لها من الوكالة والوكيل يملك عزل نفسه في حضور الموكل وغيبته وإذا عزل نفسه واشترى الجارية لنفسه بماله ملكها وليس في ذلك بيع على بيع اخيه أو شراء على شراء اخيه إلا ان يكون سيدها قد ركن إلى الموكل وعزم على إمضاء البيع له فيكون شراء الوكيل لنفسه حينئذ حراما لأنه شراء على شراء أخيه ولا يقال العقد لم يتم والشراء على شرائه هو ان يطلب من البائع فسخ العقد في مدة الخيار ويعقد معه هو لعدة أوجه أحدها ان هذا حمل للحديث على الصورة النادرة والاكثر خلافها الثاني ان النبي صلى الله عليه وسلم قرن ذلك بخطبته على خطبة اخيه وذلك إنما يكون قبل عقد النكاح الثالث انه نهى ان يسوم على سوم اخيه وذلك أيضا قبل العقد الرابع ان المعنى الذي حرم الشارع لأجله ذلك لا يختص بحالة الخيار بل هو قائم بعد الركون والتراضي وإن لم يعقداه كما هو قائم بعد العقد الخامس ان هذا تخصيص لعموم الحديث بلا موجب فيكون فاسدا فإن شراءه على شراء اخيه متناول لحال الشراء وما بعده والذي غر من خصه بحالة الخيار ظنه ان هذا اللفظ إنما يصدق على من اشترى بعد شراء اخيه وليس كذلك بل اللفظ صادق على القسمين السادس انه لو اختص اللفظ بما بعد الشراء لوجب تعديته بتعدية علته إلى حالة السوم(9/386)
ص -348-…أما على اصل أبي حنيفة فلا يتأتى ذلك لان الوكيل لا يملك عزل نفسه في غيبة الموكل فلو اشتراها لنفسه لكان عزلا لنفسه في غيبة موكله وهو لا يملكه
قالوا: فالحيلة في شرائها لنفسه ان يشتريها بغير جنس الثمن الذي وكل ان يشتري به وحينئذ فيملكها لأن هذا العقد غير الذي وكل فيه فهو بمنزلة ما لو وكله في شراء شاة فاشترى فرسا فإن العقد يكون للوكيل دون الموكل فإن أراد الموكل الاحتراز من هذه الحيلة وان لا يمكن الوكيل من شرائها لنفسه فليشهد عليه انه متى اشتراها لنفسه فهى حرة فإن وكل الوكيل من يشتريها له انبنى ذلك على أصلين احدهما ان الوكيل هل له ان يوكل ام لا والثاني ان من حلف لا يفعل شيئا فوكل في فعله هل يحنث ام لا وفي الاصلين نزاع معروف
فإن وكله رجل في بيع جارية ووكله آخر في شرائها وأراد هو شراءها لنفسه فالحكم على ما تقدم غير ان ههنا اصلا آخر وهو ان الوكيل في بيع الشيء هل يملك بيعه لنفسه فيه روايتان عن الامام احمد إحداهما لا يملك ذلك سدا للذريعة لانه لا يستقصى في الثمن والثانية يجوز إذا زاد على ثمنها في النداء لتزول التهمة فعلى هذه الرواية يفعل ذلك من غير حاجة إلى حيلة والثانية لا يجوز فعل هذا وهل يجوز له التحيل على ذلك فقيل له ان يتحيل عليه بأن يدفع إلى غيره دراهم ويقول له اشترها لنفسك ثم يتملكها منه والذي تقتضيه قواعد المذهب ان هذا لا يجوز لانه تحيل على التوصل إلى فعل محرم ولان ذلك ذريعة إلى عدم استقصائه واحتياطه في البيع بل يسامح في ذلك لعلمه انها تصير اليه وانه هو الذي يزن الثمن ولانه يعرض نفسه للتهمة ولان الناس يرون ذلك نوع غدر ومكر فمحاسن الشريعة تأبى الجواز
فإن قيل: فلو وكله أحدهما في بيعها والآخر في شرائها ولم يرد ان يشتريها لنفسه فهل يجوز ذلك(9/387)
ص -349-…قيل: هذا ينبنى على شراء الوكيل في البيع لنفسه فإن اجزناه هناك جاز ههنا بطريق الاولى وإن منعناه هناك فقال القاضي لا يجوز أيضا ههنا لتضاد الغرضين لان وكيل البيع يستقصى في زيادة الثمن ووكيل الشراء يستقصى في نقصانه فيتضادان ولم يذكر غير ذلك ويتخرج الجواز وإن منعنا الوكيل من الشراء لنفسه من نص احمد على جواز كون الوكيل في النكاح وكيلا من الطرفين وكونه أيضا وليا من الطرفين وانه يلي بذلك على إيجاب العقد وقبوله ولا ريب ان التهمة التي تلحقه في الشراء لنفسه اظهر من التهمة التي تلحقه في الشراء لموكله
والحيلة الصحيحة في ذلك كله ان يبيعها بيعا بتاتا ظاهرا لأجنبي يثق به ثم يشتريها منه شراء مستقلا فهذا لا بأس به والله أعلم
المثال الثالث عشر:إذا قال: الرجل لامرأته الطلاق يلزمني لا تقولين لي شيئا إلا قلت لك مثله فقالت له انت طالق ثلاثا فالحيلة في التخلص من ان يقول لها مثل ذلك ان يقول لها قلت لي انت طالق ثلاثا
قال: اصحاب الشافعي وفي هذه الحيلة نظر لا يخفى لانه لم يقل لها مثل ما قالت له وانما حكى كلامها من غير ان يقول لها نظيره ولو ان رجلا سب رجلا فقال له المسبوب انت قلت لي كذا وكذا لم يكن قد رد عليه عند أحد لا لغة ولا عرفا فهذه الحيلة ليست بشيء
وقالت طائفة اخرى الحيلة ان يقول لها انت طالق ثلاثا بفتح التاء فلا تطلق وهذا نظير ما قالت له سواء وهذه إن كانت أقرب من الاولى فإن المفهوم المتعارف لغة وعقلا وعرفا من الرد على المرأة ان يخاطبها خطاب المؤنث فإذا خاطبها خطاب المذكر لم يكن ذلك ردا ولا جوابا ولو فرض أنه رد لم يمنع وقوع الطلاق بالمواجهة وإن فتح التاء كأنه قال: ايها الشخص أو الانسان(9/388)
ص -350-…وقال طائفة اخرى الحيلة في ذلك ان يقول انت طالق ثلاثا ان شاء الله أو ان كلمت السلطان أو إن سافرت ونحو ذلك فيكون قد قال: لها نظير ما قالت ولا يضره زيادة الشرط وهذه الحيلة اقرب من التي قبلها ولكن في كون المتكلم بها رادا أو مجيبا نظر لا يخفى لان الشرط وان تضمن زيادة في الكلام لكنه يخرجه عن كونه نظيرا لكلامها ومثلا له وهو إنما حلف أن يقول لها مثل ما قالت له والجملة الشرطية ليست مثل الجملة الخبرية بل الشرط يدخل على الكلام التام فيصيره ناقصا يحتاج إلى الجواب ويدخل على الخبر فيقلبه إنشاء ويغير صورة الجملة الخبرية ومعناها ولو قال: رجل لغيره لعنك الله فقال له لعنك الله إن بدلت دينك أو ارتددت عن الاسلام لم يكن سابا له ولو قال: له يا زان فقال بل انت زان إن وطئت فرجا حراما لم يكن الثاني قاذفا له ولو بذلت له مالا على ان يطلقها فقال انت طالق إن كلمت السلطان لم يستحق المال ولم يكن مطلقا
وقالت طائفة اخرى لا حاجة إلى شيء من ذلك والحالف لم تدخل هذه الصورة في عموم كلامه وان دخلت فهى من المخصوص بالعرف والعادة والعقل فإنه لم يرد هذه الصورة قطعا ولا خطرت بباله ولا تناولها لفظه فإنه انما تناول لفظه القول الذي يصح ان يقال له وقولها انت طالق ثلاثا ليس من القول الذي يصح ان يواجه به فهو لغو محض وباطل وهو بمنزلة قولها انت امرأتي وبمنزلة قول الأمة لسيدها انت امتي وجاريتي ونحو هذا من الكلام اللغو الذي لم يدخل تحت لفظ الحالف ولا إرادته اما عدم دخوله تحت إرادته فلا اشكال فيه واما عدم تناول لفظه له فان اللفظ العام انما يكون عاما فيما يصلح له وفيما سيق لأجله
وهذا اقوى من جميع ما تقدم وغايته تخصيص العام بالعرف والعادة وهذا اقرب لغة وعرفا وعقلا وشرعا من جعل ما تقدم مطابقا ومماثلا لكلامها مثله فتأمله والله الموفق(9/389)
ص -351-…المثال الرابع عشر:اذا خاف الرجل لضيق الوقت ان يحرم بالحج فيفوته فيلزمه القضاء ودم الفوات فالحيلة ان يحرم إحراما مطلقا ولا يعينه فإن اتسع له الوقت جعله حجا أو قرانا أو تمتعا وإن ضاق عليه الوقت جعله عمرة ولا يلزمه غيرها
المثال الخامس عشر: ذا جاوز الميقات غير محرم لزمه الاحرام ودم لمجاوزته للميقات غير محرم فالحيلة في سقوط الدم عنه ان لا يحرم من موضعه بل يرجع إلى الميقات فيحرم منه فإن أحرم من موضعه لزمه الدم ولا يسقط برجوعه إلى الميقات
المثال السادس عشر إذا سرق له متاع فقال لامرأته ان لم تخبريني من أخذه فأنت طالق ثلاثا والمرأة لا تعلم من أخذه فالحيلة في التخلص من هذه اليمين ان تذكر الاشخاص التي لا يخرج المأخوذ عنهم ثم تفرد كل واحد واحد وتقول هو اخذه فإنها تكون مخبرة عن الآخذ وعن غيره فيبر في يمينه ولا تطلق
المثال السابع عشر إذا ادعت المرأة النفقة والكسوة لمدة ماضية فقد اختلف في قبول دعواها فمالك وابو حنيفة لا يقبلان دعواها ثم اختلفا في مأخذ الرد فأبو حنيفة يسقطها بمضي الزمان كما يقوله منازعوه في نفقة القريب ومالك لا يسمع الدعوى التي يكذبها العرف والعادة ولا يحلف عنده فيها ولا يقبل فيها بينة كما لو كان رجل حائزا دارا متصرفا فيها مدة السنين الطويلة بالبناء والهدم والاجارة والعمارة وينسبها إلى نفسه ويضيفها إلى ملكه وانسان حاضر يراه ويشاهد أفعاله فيها طول هذه المدة ومع ذلك لا يعارضه فيها ولا يذكر ان له فيها حقا ولا مانع يمنعه من خوف أو شركة في ميراث ونحو ذلك ثم جاء بعد تلك المدة فادعاها لنفسه فدعواه غير مسموعة فضلا(9/390)
ص -352-…عن إقامة بينته قالوا: وكذلك إذا كانت المرأة مع الزوج مدة سنين يشاهده الناس والجيران داخلا بيته بالطعام والفاكهة واللحم والخبز ثم ادعت بعد ذلك انه لم ينفق عليها في هذه المدة فدعواها غير مسموعة فضلا عن ان يحلف لها أو يسمع لها بينة قالوا: وكل دعوى ينفيها العرف وتكذبها العادة فإنها مرفوضة غير مسموعة
وهذا المذهب هو الذي ندين الله به ولا يليق بهذه الشريعة الكاملة سواه وكيف يليق بالشريعة ان تسمع مثل هذه الدعوى التي قد علم الله وملائكته والناس انها كذب وزور وكيف تدعى المرأة انها اقامت مع الزوج ستين سنة أو اكثر لم ينفق عليها فيها يوما واحدا ولا كساها فيها ثوبا ويقبل قولها عليه ويلزم بذلك كله ويقال الاصل معها وكيف يعتمد على أصل يكذبه العرف والعادة والظاهر الذي بلغ في القوة إلى حد القطع والمسائل التي يقدم فيها الظاهر القوى على الاصل اكثر من ان تحصى ومثل هذا المذهب في القوة مذهب أبي حنيفة وهو سقوطها بمضي الزمان فإن البينة قد قامت بدونها فهى كحق المبيت والوطء
ولا يعرف احد من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع انهم ائمة الناس في الورع والتخلص من الحقوق والمظالم قضى لامرأة بنفقة ماضية أو استحل امرأة منها ولا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك امرأة واحدة منهن ولا قال: لها ما مضى من النفقة حق لك عند الزوج فإن شئت فطالبيه وإن شئت حللتيه وقد كان صلى الله عليه وسلم يتعذر عليه نفقة اهله اياما حتى سألنه إياها ولم يقل لهن هي باقية في ذمتي حتى يوسع الله وأقضيكن ولما وسع الله عليه لم يقض لامرأة منهن ذلك ولا قال: لها هذا عوض عما فاتك من الانفاق ولا سمع الصحابة لهذه المسألة خبرا وقول عمر رضي الله(9/391)
ص -353-…عنه للغياب إما ان تطلقوا وإما ان تبعثوا بنفقة ما مضى في ثبوته نظر فإن قال: ابن المنذر ثبت عن عمر فإن في إسناده ما يمنع ثبوته ولو قدر صحته فهو حجة عليهم ودليل على انهم اذا طلقوا لم يلزمهم بنفقة ما مضى
فإن قيل: وحجة عليكم في الزامه لهم بها وانتم لا تقولون بذلك
قيل: بل نقول به وان الازواج اذا امتنعوا من الواجب عليهم مع قدرتهم عليه لم يسقط بالامتناع ولزمهم ذلك وأما المعذور العاجز فلا يحفظ عن احد من الصحابة انه جعل النفقة دينا في ذمته أبدا وهذا التفصيل هو أحسن ما يقال في هذه المسألة
والمقصود ان على هذين المذهبين لا تسمع هذه الدعوى ويسمعها الشافعي واحمد بناء على قاعدة الدعاوي وان الحق قد ثبت ومستحقه ينكر قبضه يقبل قول الدافع عليه إلا ببينة فعلى قولهما يحتاج الزوج إلى طريق تخلصه من هذه الدعوى ولا ينفعه دعوى النشوز فإن القول فيه قول المرأة ولا يخلصه دعوى عدم التسليم الموجب للانفاق لتمكن المرأة من إقامة البينة عليه فله حيلتان إحداهما أن يقيم البينة على نفقته وكسوته لتلك المدة وللبينة ان تشهد على ذلك بناء على ما علمته وتحققته بالاستفاضة والقرائن المفيدة للقطع فإن الشاهد يشهد بما علمه بأي طريق علمه وليس على الحاكم ان يسأل البينة عن مستند التحمل ولا يجب على الشاهد ان يبين مستنده في الشهادة والحيلة الثانية ان ينكر التمكين الموجب لثبوت المدعى به في ذمته ويكون صادقا في هذا الانكار فإن التمكين الماضي لا يوجب عليه ما ادعت به الزوجة اذا كان قد اداه اليها والتمكين الذي يوجب ما ادعت به لا حقيقة له فهو صادق في إنكاره
المثال الثامن عشر اذا اشترى ربويا بمثله فتعيب عنده ثم وجد به عيبا فإنه لا يمكنه رده للعيب الحادث ولا يمكنه اخذ الارش لدخول التفاضل فالحيلة في استدراك ظلامته ان يدفع إلى البائع ربويا معيبا بنظير العيب الذي وجده(9/392)
ص -354-…بالمبيع ثم يسترجع منه الذي دفعه اليه فإن استهلكه استرد منه نظيره وهذه الحيلة على اصل الشافعي واما على اصل أبي حنيفة فالحيلة في الاستدراك ان يأخذ عوض العيب من غير جنسه بناء على اصله في تجويز مسألة مد عجوة واما على اصل الإمام احمد فإن كان البائع علم بالبيع فكتمه لم يمنع العيب الحادث عند المشتري رده عليه بل لو تلف جميعه رجع عليه بالثمن عنده وان لم يكن من البائع تدليس فإنه يرد عليه المبيع ومعه أرش العيب الحادث عنده ويسترد العوض وليس في ذلك محذور فإنه يبطل العقد فالزيادة ليست زيادة في عوض فلا يكون ربا
المثال التاسع عشر: ذا أبرأ الغريم من دينه في مرض موته ودينه يخرج من الثلث وهو غير وارث فخاف المبرأ ان تقول الورثة لم يخلف مالا سوى الدين ويطالبون بثلثيه فالحيلة ان يخرج المريض إلى الغريم مالا بقدر دينه فيهبه إياه ثم يستوفيه منه من دينه فإن عجز عن ذلك ولم تغب عنه الورثة فالحيلة ان يقر بأنه شريكه بقدر الدين الذي عليه فإن عجز عن ذلك فالحيلة ان يقر بأنه كان قبضه منه أو أبرأه منه في صحته فان خاف ان يتعذر عليه مطالبته به إذا توفى فالحيلة ان يشهد عليه انه ان ادعى عليه أو أي وقت ادعى عليه أو متى ادعى عليه بكذا وكذا فهو صادق في دعواه فان لم يدع عليه بذلك لم يلزمه وليس لوارثه بعده ان يدعى به فإنه انما صدق الموروث ان ادعى ولم تحصل دعواه وانما ينتقل إلى الورثة ما ادعى به الموروث وصدقه المدعى عليه ولم يتحقق ذلك
المثال العشرون إذا اراد ان يعتق عبده وخاف ان يجحد الورثة المال ويرقوا ثلثيه فالحيلة ان يبيعه لاجنبي ويقبض ثمنه منه ثم يهب الثمن للمشتري ويسأله إعتاق العبد ولا ينفعه ان يأخذ إقرار الورثه ان العبد يخرج من الثلث لان الثلث انما يعتبر عند الموت لا قبله فان لم يرد تنجيز عتقه واحب تدبيره(9/393)
ص -355-…وخاف عليه من ذلك فالحيلة ان يملكه لرجل يثق به ويعلق المشتري عتقه بموت السيد المملك فلا يجد الورثة اليه سبيلا
المثال الحادي والعشرون إذا كان لأحد الورثة دين على الموروث واحب ان يوفيه اياه ولا بينة له به فان اقر له به ابطلنا إقراره وان اعطاه عوضه كان تبرعا في الظاهر فلباقي الورثة رده فالحيلة في خلاصه من دينه ان يقبض الوارث ماله عليه في السر ثم يبيعه سلعة أو دارا أو عبدا بذلك الثمن فيسترد منه المال ويدفع اليه تلك السلعة التي هي بقدر دينه فإن قيل: وأي حاجة له إلى ذلك اذا امكنه ان يعطيه ماله عليه في السر قيل: بل في ذلك خلاص الوارث من دعوى بقية الورثة واتهامهم له وشكواهم إياه انه استولى على مال موروثنا أو صار اليه بغير الحق فإذا لم يخرج المال الذي عاينوه عند الموروث عن التركة سلم من تطرق التهمة والاذى والشكوى
المثال الثاني والعشرون اذا زوج عبده من ابنته صح فإن خاف من انفساخ النكاح بموته حيث تملكه أو بعضه فالحيلة في ابقاء النكاح ان يبيعه من اجنبي ويقبض ثمنه أو يهبه اياه فإن مات بعد ذلك هو أو الاجنبي لم ينفسخ النكاح المثال الثالث والعشرون اذا كان موليه سفيها إن زوجه طلق وإن سراه اعتق وإن اهمله فسق فالحيلة ان يشتري جارية من مال نفسه ويزوجه اياها فإن اعتقها لم ينفذ عتقه وان طلقها رجعت إلى سيدها فلا يطالبه بمهرها المثال الرابع والعشرون اذا طلب عبده منه ان يزوجه جاريته فحلف بالطلاق الا يزوجه إياها فالحيلة على جواز تزويجه بها ولا يحنث ان يبيعهما جميعا أو يملكهما(9/394)
ص -356-…لمن يثق به ثم يزوجها المشتري فإذا فعل ذلك استردهما ولا يحنث لانه لم يزوج احدهما الآخر وإنما فعل ذلك غيره وقال القاضي ابو يعلى وهذا غير ممتنع على أصلنا لان الصفة قد وجدت في حال وجدت في حال زوال ملكه فلا يتعلق به حنث ولا يتعلق الحنث باستدامة العقد بعد ان ملكهما لان التزويج عبارة عن العقد وقد تقضى وإنما بقى حكمه فلم يحنث باستدامته قال: ويفارق هذا اذا حلف على عبده لا ادخل هذه الدار فباعه ودخلها ثم ملكه ودخلها بعد ذلك فإنه يحنث لان الدخول عبارة عن الكون وذلك موجود بعد الملك كما كان موجودا في الملك الاول قال: وقد علق احمد القول في رواية مهنا في رجل قال: لامرأته انت طالق إن رهنت كذا وكذا فإذا هي قد رهنته قبل اليمين فقال اخاف ان يكون قد حنث قال: وهذا محمول على انه قال: إن كنت رهنتيه فيحنث لانه حلف على ماض
ولا يخفى ما في هذا الحمل من مخالفة ظاهر كلام السائل وكلام الامام احمد اما كلام السائل فظاهر في انه انما اراد رهنا تنشئه بعد اليمين فإن أداة الشرط تخلص الفعل الماضي للاستقبال فهذا الفعل مستقبل بوضع اللغة والعرف والاستعمال وأما كلام الامام احمد فإنه لو فهم من السائل ما حمله عليه القاضي لجزم بالحنث ولم يقل اخاف فهو انما يطلق هذه اللفظة فيما عنده فيه نوع توقف واستقراء اجوبته يدل على ذلك وانما وجه هذا انه جعل استدامة الرهن رهنا كاستدامة اللبس والركوب والسكنى والجماع والاكل والشرب ونحو ذلك ولما كان لها شبه بهذا وشبه باستدامة النكاح والطيب ونحوهما لم يجزم بالحنث بل قال: أخاف ان يكون قد حنث والله أعلم
المثال الخامس والعشرون هل تصح الشركة بالعروض والفلوس إن قلنا هي عروض والنقود المغشوشة على قولين هما روايتان عن الامام احمد فإن جوزنا الشركة بها لم يحتج إلى حيلة بل يكون رأس المال قيمتها وقت العقد وان لم(9/395)
ص -357-…نجوز الشركة بها فالحيلة على ان يصيرا شريكين فيها ان يبيع كل واحد منها صاحبه نصف عرضه بنصف عرضه مشاعا فيصير كل منهما شريكا لصاحبه في عرضه ويصير عرض كل واحد منهما بينهما نصفين ثم يأذن كل واحد منهما لصاحبه في التصرف هذا إذا كان قيمة العرضين سواء فإذا كانا متفاوتين بأن يساوي أحدهما مائة والاخر مائتين فالحيلة ان يبيع صاحب العرض الادنى ثلثي عرضه بثلث عرض صاحبه كما تقدم فيكون العرضان بينهما اثلاثا والربح على قدر الملكين عند الشافعي وعند احمد على ما شرطاه ولا تمتنع هذه الحيلة على أصلنا فإنها لا تبطل حقا ولا تثبت باطلا ولا توقع في محرم
المثال السادس والعشرون:اذا كان له عليه الف درهم فأراد ان يصالحه على بعضها فلها ثمان صور فإنه إما يكون مقرا أو منكرا وعلى التقديرين فإما ان تكون حالة أو مؤجلة ثم الحلول والتأجيل إما ان يقع في المصالح عنه أو في المصالح به وانما تتبين احكام هذه المسائل بذكر صورها وأصولها
الصورة الاولى ان يصالحه عن الف حالة قد اقر بها على خمسمائة حالة فهذا صلح على الاقرار وهو صحيح على احد القولين باطل على القول الاخر فإن الشافعي لا يصحح الصلح إلا على الاقرار والخرقى ومن وافقه من اصحاب الامام احمد لا يصححه إلا على الانكار وابن أبي موسى وغيره يصححونه على الاقرار والانكار وهو ظاهر النص وهو الصحيح فالمبطلون له مع الاقرار يقولون هو هضم للحق لانه إذا اقر له فقد لزمه ما اقر به فإذا بذل له دونه فقد هضمه حقه بخلاف المنكر فإنه يقول إنما افتديت يمينى والدعوى على بما بذلته والآخذ يقول اخذت بعض حقى والمصححون له يقولون إنما يمكن الصلح مع الاقرار لثبوت الحق به فتمكن المصالحة على بعضه أما مع الانكار فأي شيء ثبت حتى يصالح عليه فإن قلتم صالحه عن الدعوى واليمين(9/396)
ص -358-…وتوابعهما فإن هذا لا تجوز المعاوضة عليه ولا هو مما يقابل بالاعواض فهذا اصل والصواب جواز الامرين للنص والقياس والمصلحة فإن الله تعالى امرنا بالوفاء بالعقود ومراعاة العهود واخبر النبي صلى الله عليه وسلم ان المسلمين على شروطهم وأخبر ان الصلح بين المسلمين جائز إلا صلحا احل حراما أو حرم حلالا وقول من منع الصلح على الاقرار انه هضم للحق ليس كذلك وانما الهضم ان يقول لا اقر لك حتى تهب لي كذا وتضع عنى كذا واما اذا اقر له ثم صالحه ببعض ما اقر به فأي هضم هناك وقول من منع الصلح على الانكار انه يتضمن المعاوضة عما لا تصح المعاوضة عليه فجوابه انه افتداء لنفسه من الدعوى واليمين وتكليف اقامة البينة كما تفتدى المرأة نفسها من الزوج بما تبذله له وليس هذا بمخالف لقواعد الشرع بل حكمة الشرع واصوله وقواعده ومصالح المكلفين تقتضي ذلك
فهاتان صورتان صلح عن الدين الحال ببعضه حالا مع الاقرار ومع الانكار
الصورة الثالثة ان يصالح عنه ببعضه مؤجلا مع الاقرار والانكار فهاتان صورتان أيضا فإن كان مع الانكار ثبت التأجيل ولم تكن له المطالبة به قبل الاجل لانه لم يثبت له قبله دين حال فيقال لا يقبل التأجيل وان كان مع الاقرار ففيه ثلاثة اقوال للعلماء وهي في مذهب الامام احمد
أحدها لا يصح الاسقاط ولا التأجيل بناء على ان الصلح لا يصح مع الاقرار وعلى ان الحال لا يتأجل والثاني انه يصح الاسقاط دون التأجيل بناء على صحة الصلح مع الاقرار
والثالث انه يصح الاسقاط والتأجيل وهو الصواب بناء على تأجيل القرض والعارية وهو مذهب اهل المدينة واختيار شيخنا وإن كان الدين مؤجلا فتارة يصالحه على بعضه مؤجلا مع الاقرار والانكار فحكمه ما تقدم وتارة يصالحه ببعضه حالا مع الاقرار والانكار فهذا للناس فيه ثلاثة اقوال ايضا(9/397)
ص -359-…احدها انه لا يصح مطلقا وهو المشهور عن مالك لانه يتضمن بيع المؤجل ببعضه حالا وهو عين الربا وفي الانكار المدعى يقول هذه المائة الحالة عوض عن مائتين مؤجل وذلك لا يجوز وهذا قول ابن عمر
والقول الثاني انه يجوز وهو قول ابن عباس واحدى الروايتين عن الامام احمد حكاها ابن أبي موسى وغيره واختار شيخنا لان هذا عكس الربا فإن الربا يتضمن الزيادة في احد العوضين في مقابلة الاجل وهذا يتضمن براءة ذمته من بعض العوض في مقابلة سقوط الاجل فسقط بعض العوض في مقابلة سقوط بعض الاجل فانتفع به كل واحد منهما ولم يكن هنا ربا لا حقيقة ولا لغة ولا عرفا فإن الربا الزيادة وهي منتفية ههنا والذين حرموا ذلك إنما قاسوه على الربا ولا يخفى الفرق الواضح بين قوله إما أن تربي وإما أن تقضي وبين قوله عجل لي وأهب لك مائة فأين احدهما من الاخر فلا نص في تحريم ذلك ولا اجماع ولا قياس صحيح
والقول الثالث يجوز ذلك في دين الكتابة ولا يجوز في غيره وهو قول الشافعي وابي حنيفة قالوا: لان ذلك يتضمن تعجيل العتق المحبوب إلى الله والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم ولا ربا بين العبد وبين سيده فالمكاتب وكسبه للسيد فكأنه اخذ بعض كسبه وترك له بعضه ثم تناقضوا فقالوا لا يجوز ان يبيعه درهما بدرهمين لانه في المعاملات معه كالاجنبي سواء
فيالله العجب ما الذي جعله معه كالاجنبي في هذا الباب من ابواب الربا وجعله معه بمنزلة العبد القن في الباب الآخر؟
هذه صورة هذه المسائل واصولها ومذاهب العلماء فيها وقد تبين ان الصواب جوازها كلها فالحيلة على التوصل اليها حيلة على امر جائز ليست على حرام(9/398)
ص -360-…فصل: الحيلة على الصلح على الانكار
فالحيلة على الصلح على الانكار عند من يمنعه ان يجيء رجل اجنبي فيقول للمدعى انا اعلم ان ما في يد المدعى عليه لك وهو يعلم انك صادق في دعواك وانا وكيله فصالحني على كذا فينقلب حينئذ صلحا على الانكار ثم ينظر فإن كان فعل ذلك بإذن المدعى عليه رجع بما دفعه إلى المدعى وان كان بغير إذنه لم يرجع عليه وان دفع المدعى عليه المال إلى الاجنبي وقال صالح عنى بذلك جاز أيضا
فصل: الحيلة على الصلح على الاقرار
والحيلة في جواز الصلح على الاقرار عند من يمنعه ان يبيعه سلعة ويحابيه فيها بالقدر الذي اتفقا على إسقاطه بالصلح
فصل: الحيلة في الصلح عن الحال ببعضه مؤجلا
والحيلة في الصلح عن الحال ببعضه مؤجلا حتى يلزمه التأجيل ان يبرئه من الحال ويقر انه لا يستحق عليه إلا المؤجل والحيلة في الصلح عن المؤجل ببعضه حالا ان يتفاسخا العقد الاول ثم يجعلانه بذلك القدر الحال فإذا اشترى منه سلعة أو استأجر منه دابة أو خالعته على عوض مؤجل فسخا العقد ثم جعلا عوضه ذلك القدر الحال فإن لم يكن فيه الفسخ كالدية وغيرها فالحيلة في جواز ذلك ان يعاوض على الدين بسلعة أو بشيء غير جنسه وذلك جائز لان غاية ما فيه بيع الدين ممن هو في ذمته فان أتلف له مثليا لزمه مثله دينا عليه فإن صالح عليه بأكثر من جنسه لم يجز لانه ربا وإن كان المتلف متقوما لزمه قيمته فإن صالح عليه بأكثر من قيمته فإن كان من جنسها(9/399)
ص -361-…لم يجز ذلك وان كان من غير جنسها جاز إذ هو بيع للقيمة وهي دين بذلك العوض وهو جائز
المثال السابع والعشرون إذا وكله في شراء جارية بألف فاشتراها الوكيل وقال أذنت لي في شرائها بألفين وقد فعلت فالقول قول الوكيل ولا يلزمه الالفان ولا يملك الجارية والوكيل مقر انها للموكل فإنه لا يحل له وطؤها والالف الزائدة دين عليه ولا يمكن الوكيل بيعها ولا التصرف فيها لانه معترف انها ملك للموكل وان الالف الاخرى في ذمته والوكيل ضامن لها فالحيلة في ملك الوكيل لها ان يقول له الموكل ان كنت أذنت لك في شرائها بالفين فقد بعتكها بالالفين فيقول قد اشتريتها منك فيملكها حينئذ ويتصرف فيها وهذا قول المزنى واكثر اصحاب الشافعي ولا يضر تعليق البيع بصورة الشرط فإنه لا يملك صحته إلا على هذا الشرط فهو كما لو قال: إن كانت ملكى فقد بعتكها بالفين ولا يلتفت إلى نصف فقيه يقول هذا تعليق للبيع بالشرط فيبطل كما لو قال: إن قدم زيد فقد بعتك كذا بكذا بل هذا نظير قوله إن كنت جائز التصرف فقد بعتك كذا وان اعطيتني ثمن هذا المبيع فقد بعتكه ونحو ذلك
المثال الثامن والعشرون إذا اودعه وديعة واشهد عليها فتلفت من غير تفريطه لم يضمن فإن ادعى عليه قبض الوديعة فأنكر فأقام البينة عليه ضمن فإن ادعى التلف بعد ذلك لم يقبل منه لانه معترف انه غير امين له وقد قامت البينة على قبضه ماله فيضمنه ولا ينفعه تكذيب البينة فالحيلة في سقوط الضمان ان يقول مالك عندي شيء فإن حلفه حلف حلفا صادقا فإن أقام البينة بالوديعة فليصدق البينة ويقول صدقت فيما شهدت به ويدعى التلف بغير تفريط فإن كذب البينة لزمه الضمان ولا ينفعه دعوى التلف(9/400)
ص -362-…المثال التاسع والعشرون إذا رهن عنده رهنا ولم يثق بأمانته وخاف ان يدعى هلاكه ويذهب به فالحيلة في ان يجعله مضمونا عليه ان يعيره إياه أولا فإذا قبضه رهنه منه بعد ذلك فإذا تلف كان في ضمانه لان طريان الرهن على العارية لا يبطل حكمها لان المرتهن يجوز له الانتفاع بها بعد الرهن كما كان ينتفع بها قبله ولو بطل لم يجز له الانتفاع
المثال الثلاثون اختلف الناس في العارية هل توجب الضمان اذا لم يفرط المستعير على أربعة أقوال احدها يوجب الضمان مطلقا وهو قول الشافعي واحمد في المشهور عنه الثاني لا يوجب الضمان ويد المستعير يد امانه وهو قول أبي حنيفة الثالث انه ان كان التلف بأمر ظاهر كالحريق وأخذ السيل وموت الحيوان وخراب الدار لم يضمن وان كان بأمر لا يطلع عليه كدعوى سرقة الجوهرة والمنديل والسكين ونحو ذلك ضمن وهو قول مالك الرابع أنه إن شرط نفى ضمانها لم يضمن وإن أطلق ضمن وهذا إحدى الروايتين عن احمد والقول بعدم الضمان قوى متجه وان كنا لا نقبل قوله في دعوى التلف لانه ليس بأمينه لكن إذا صدقه المالك في التلف بأمر لا ينسب فيه إلى تفريط فعدم التضمين اقوى
فالحيلة في سقوط الضمان ان يشترط نفيه فإن خاف أن لا يفى له بالشرط فله حيلة أخرى وهي ان يشهد عليه انه متى ادعى عليه بسبب هذه العين ما يوجب الضمان فدعواك باطلة فإن لم تصعد معه هذه الحيلة أو خاف من ورثته بعده الدعوى فله حيلة ثالثة وهي ان يستأجر العين منه بأقل شيء للمدة التي يريد الانتفاع بها أو يستأجرها منه بأجره مثلها ويشهد عليه أنه قبض الاجرة أو ابرأه منها فإن تلفت بعد ذلك لم يضمنها وليست هذه الحيلة مما تحلل حراما أو تحرم حلالا
المثال الحادي والثلاثون اختلف الناس في تأجيل القرض والعارية إذا أجلها(9/401)
ص -363-…فقال الشافعي واحمد في ظاهر مذهبه وابو حنيفة لا يتأجل شيء من ذلك بالتأجيل وله المطالبة به متى شاء وقال مالك يتأجل بالتأجيل فإن اطلق ولم يؤجل ضرب له أجل مثله وهذا هو الصحيح لأدلة كثيرة مذكورة في موضعها
وعلى هذا القول فالمستقرض والمستعير آمن من غدر المقرض غنى عن الحيلة للزوم الاجل وعلى القول الاول فالحيلة في لزوم التأجيل ان يشهد عليه انه لا يستحق ما عليه من الدين إلى مدة كذا وكذا ولا يستحق المطالبة بتسليم العين إلى مدة كذا وكذا فإن أراد حيلة غير هذه فليستأجر منه العين إلى تلك المدة ثم يبرئه من الاجرة كما تقدم واما القرض فالحيلة في تأجيله ان يشتري من المقرض شيئا ما بمبلغ القرض ثم يكتبه مؤجلا من ثمن مبيع قبضه المشتري فإنه لا يتمكن من المطالبة به قبل الاجل وهذه حيلة على امر جائز لا يبطل بها حق فلا تكره
المثل الثاني والثلاثون إذا رهنه رهنا بدين وقال إن وفيتك الدين إلى كذا وكذا وإلا فالرهن لك بما عليه صح ذلك وفعله الامام احمد وقال اصحابنا لا يصح وهو المشهور من مذاهب الائمة الثلاثة واحتجوا بقوله لا يغلق الرهن ولا حجة لهم فيه فإن هذا كان موجبه في الجاهلية ان المرتهن يتملك الرهن بغير إذن المالك إذا لم يوفه فهذا هو غلق الرهن الذي ابطله النبي صلى الله عليه وسلم وأما بيعه للمرتهن بما عليه عند الحلول فلم يبطله كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح ولا مفسدة ظاهرة وغاية ما فيه انه بيع علق على شرط ونعم فكان ماذا وقد تدعو الحاجة والمصلحة إلى هذا من المرتهنين ولا يحرم عليهما ما لم يحرمه الله ورسوله ولا ريب ان هذا خير للراهن والمرتهن من تكليفه الرفع إلى الحاكم وإثباته الرهن واستئذانه في بيعه والتعب الطويل الذي لا مصلحة فيه سوى الخسارة والمشقة فإذا اتفقا على(9/402)
ص -364-…أنه له بالدين عند الحلول كان اصلح لهما وأنفع وابعد من الضرر والمشقة والخسارة فالحيلة في جواز ذلك بحيث لا يحتاج إلى حاكم ان يملكه العين التي يريد ان يرهنها منه ثم يشتريها منه بالمبلغ الذي يريد استدانته ثم يقول إن وفيتك الثمن إلى كذا وكذا وإلا فلا بيع بيننا فإن وفاه وإلا انفسخ البيع وعادت السلعة إلى ملكه وهذه حيلة حسنة مخلصة لغرضها من غير مفسدة ولا تضمن لتحريم ما احل الله ولا لتحليل ما حرم الله(9/403)
المثال الثالث والثلاثون إذا كان عليه دين مؤجل فادعى به صاحبه وأقر به فالصحيح المقطوع به انه لا يؤاخذ به قبل أجله لانه انما اقر به على هذه الصفة فالزامه به على غير ما اقر به الزام بما لم يقر به وقال بعض اصحاب احمد والشافعي يكون مقرا بالحق مدعيا لتأجيله فيؤاخذ بما أقر به ولا تسمع منه دعواه الاجل الا ببينة وهذا في غاية الضعف فإنه إنما أقر به إقرارا مقيدا لا مطلقا فلا يجوز ان يلغى التقيد ويحكم عليه بحكم الاقرار المطلق كما لو قال: له على الف إلا خمسين أو له على الف من ثمن مبيع لم اقبضه أو له على الف من نقد كذا وكذا أو معاملة كذا وكذا فيلزمهم في هذا ونحوه ان يبطلوا هذه التقييدات كلها ويلزموه بالف كاملة من النقد الغالب ولا يقبل قوله إنها من ثمن مبيع لم أقبضه ومما يبين بطلان هذا القول ان إقرار المرء على نفسه شهادة منه على نفسه كما قال: تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} ولو شهد عليه شاهدان بالف مؤجلة لم يحكم عليها بها قبل الاجل اتفاقا فهكذا اذا اقر بها مؤجلة فالحيلة في خلاصه من الالزام بهذا القول الباطل ان يقول لا يلزمني توفية ما تدعي على أداءه إليك إلى مدة كذا وكذا ولا يزيد على هذا فإن الح عليه وقال لي عليك كذا ام ليس لي عليك شيء ولابد من ان يجيب بأحد الجوابين فالحيلة في خلاصه ان يقول إن ادعيتها مؤجلة فأنا مقر بها وان ادعيتها حالة فأنا منكر(9/404)
ص -365-…وكذلك لو كان قد قضاه الدين وخاف ان يقول كان له على وقضيته فيجعله الحاكم مقرا بالحق مدعيا لقضائه فالحيلة ان يقول ليس له على شيء ولا يلزمني اداء ما يدعيه فان الح عليه لم يكن له جواب غير هذا على ان القول الصحيح انه لا يكون مقرا بالحق مدعيا لقضائه بل منكرا الآن لثبوته في ذمته فكيف يلزم به؟
فإن قيل: لم يقر بثبوت سابق وادعى قضاء طارئا عليه
قيل: لم يقر بثبوت مطلق بل بثبوت مقيد بقيد وهو الزمن الماضي ولم يقر بأنه ثابث الآن في ذمته فلا يجوز إلزامه به الآن استنادا إلى إقراره به في الزمن الماضي لانه غير منكر ثبوته في الماضي وإنما هو منكر لثبوته الآن فكيف يجعل مقرا بما هو منكر له وقياسهم هذا الاقرار على قوله له على الف لا يلزمني أو لا يثبت في ذمتي قياس باطل فإنه كلام متناقض لا يعقل وأما هذا فكلام معقول وصدقة فيه ممكن ولم يقر بشغل ذمته الآن بالمدعى به فلا يجوز شغل ذمته به بناء على إقراره بشغلها في الماضي وما نظير هذا إلا قول الزوج كنت طلقت امرأتي وراجعتها فهل يجعل بهذا الكلام مطلقا الآن وقول القائل كنت فيما مضى كافرا ثم أسلمت فهل يجعل بهذا الكلام كافرا الآن وقول القائل كنت عبدا فأعتقنى مولاى هل يجعل بهذا الكلام رقيقا فإن طردوا الحكم في هذا كله وطلقوا الزوج وكفروا المعترف بنعمة الله عليه وانه كان كافرا فهداه الله وامروه ان يجدد اسلامه وجعلوا هذا قنا قيل: لهم فاطردوا ذلك فيمن قال: كانت هذه الدار أو هذا البستان أو هذه الارض أو هذه الدابة لفلان ثم اشتريتها منه فأخرجوها من ملكه بهذا الكلام وقولوا قد أقر بها فلان ثم ادعى اشتراءها فيقبل إقراره ولا تقبل دعواه فمن جرت هذه الكلمة على لسانه وقال الواقع فأخرجوا ملكه من يده وكذلك إذا قالت المرأة كنت مزوجة بفلان ثم طلقني اجعلوها بمجرد هذا الكلام(9/405)
ص -366-…زوجته والكلام بآخره فلا يجوز ان يؤخذ منه بعضه ويلغى بعضه ويقال قد لزمك حكم ذلك البعض وليس علينا من بقية كلامك فإن هذا يرفع حكم الاستثناء والتقيدات جميعها وهذا لا يخفي فساده ثم ان هذا على اصل من لا يقبل الجواب الا على وفق الدعوى يحول بين الرجل وبين التخلص من ظلم المدعي ويلجئه إلى ان يقر له بما يتوصل به إلى الاضرار به وظلمه أو إلى ان يكذب بيانه انه اذا استدان منه ووفاه فإن قال: ليس له على شيء لم يقبلوا منه لانه لم يجب على نفي الدعوى وان قال: كنت استدنت منه ووفيته لم تسمعوا منه آخر كلامه وسمعتم منه اوله وان قال: لم استدن منه وكان كاذبا فقد الجأتموه إلى ان يظلم أو يكذب ولا بد فالحيلة لمن بلى بهذا القول ان يستعمل التورية ويحلف ما استدان منه وينوي ان تكون ما موصولة فإذا قال: والله اني ما استدنت منه أي اني الذي استدنت منه وينفعه تأويله بالاتفاق اذا كان مظلوما كما لا ينفعه اذا كان ظالما بالاتفاق
المثال الرابع والثلاثون اذا كان عليه دين فأعسر به فأدعى عليه به فإن انكره كان كاذبا وان اقر له به الزمه اياه وان جحده اقام به البينة فإن ادعى الاعسار بعد ذلك فإن المدعي قد ظهر للحاكم كذبه في جحده الحق فهكذا هو كاذب في دعوى الاعسار فالحيلة في تخليصه ان يقول لا يلزمني توفية ما يدعيه على ولا اداؤه فإن طالبه الحاكم بجواب يطابق السؤال فله ان يوري كما تقدم ويحلف على ذلك فإن خشى من اقامة البينة فهنا تعز عليه الحيلة ولم يبق له الا تحليف المدعي انه لا يعلم عجزه عن الوفاء أو عن اقامة البينة بإنه عاجز عن الوفاء فإن حلف المدعي ولم تقم له بينة بالعجز لم يبق له حيلة غير الصبر
المثال الخامس والثلاثون إذا تداعيا عينا هي في يد أحدهما فهي لصاحب(9/406)
ص -367-…اليد فإن اقام الآخر بينة حكم له ببينته فإن اقام كل واحد منهما بينة فقال الشافعي بينة صاحب اليد اولى لان البينتين قد تعارضتا وسلمت اليد عن معارض وقال الامام احمد في ظاهر مذهبه بينة الخارج اولى لان معها زيادة علم خفيت على بينة صاحب اليد فإنها تستند إلى ظاهر اليد وبينة الخارج تستند أيضا إلى سبب خفي على بينة الداخل فتكون اولى فالحيلة في تقديم بينة الخارج عند من يقدم بينة الداخل ان يدعى الخارج انه في يد الداخل غصبا أو عارية أو وديعة أو ببيع فاسد ثم تشهد البينة على وفق ما ادعاه فحينئذ تقدم بينة الخارج على الصحيح عندهم
المثال السادس والثلاثون الحيلة المخلصة من لدغ العقارب وذلك اذا اشتري الماكر المخادع من رجل دار أو بستانا أو سلعة واشهد عليه بالبيع ثم مضي إلى البيت أو الحانوت ليأتيه بالثمن فأقر بجميع ما في يده لولده أو لامرأته فلا يصل البائع إلى اخذ الثمن فالحيلة له ان يبيعه بحضرة الحاكم أو يمضي بعد البيع معه اليه ليثبت له التبايع ثم يسأله قبل مفارقته ان يحجر على المشتري في ماله ويقفه حتى يسلم اليه الثمن لئلا يتلف ماله أو يتبرع به فيتعذر عليه الوصول إلى حقه ويلزم الحاكم اجابته اذا خشى ذلك من المشتري لان فيه اعانة لصاحب الحق على التوصل إلى حقه فإن تعذرت عليه هذه الحيلة ولدغته العقرب وادعى الاعسار عند الجمهور سأل الحاكم الحجر عليه فإن فعل ذلك رجع عليه في عين ماله فإن كانت العقرب داهية بأن غير العين المبيعة أو ملكها لولده أو زوجته أو كان الحاكم لا يرى رجوع البائع في عين المبيع اذا افلس المشتري فالحيلة ان يتوصل إلى ابطال العقد بإقرار سابق على المبيع ان المبيع لولده أو لزوجته أو يرهنه أو يبيعه لمن يثق به ويقدم تاريخ ذلك على بيع العقرب وله ان يتوصل بهذه(9/407)
ص -368-…الحيلة وان كانت مكرا أو خداعا فإن المكر والخداع حسن اذا كان على وجه المقابلة لا على وجه الظلم كما قال: تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} وقال: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} وقال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} واخبر تعالى انه كاد ليوسف في مقابلة كيد إخوته وقد تقدم ذلك
المثال السابع والثلاثون اذا تحيل المكار المخادع على سقوط نفقة القريب بالمماطلة وقال انها تسقط بمضى الزمان فلا يبقى دينا على فتركها آمنا من الزامه بها لما مضى فالحيلة للمنفق عليه ان يرفعه إلى الحاكم ليفرضها عليه ثم يستأذنه في الاستدانة عليه بقدرها فإذا فعل الزمه الحاكم بقضاء ما استدانه المنفق عليه فإن فرضها عليه ولم يستأذنه في الاستدانة ومضى الزمان فهل تستقر عليه بذلك فيه وجهان لاصحاب الشافعي والاكثرون منهم صرحوا بسقوطها مطلقا فرضت أو لم تفرض ومنهم من قال: ان فرضت لم تسقط فإن لم يمكنه الرفع إلى الحاكم فليقل له اشفع لى إلى فلان لينفق على أو يعطيني ما احتاج اليه فإذا فعل فقد لزم الشافع لان ذلك حق اداه إلى المشفوع عنده عن الشفيع بإذنه فإن انفق عليه الغير بغير اذنه ناويا للرجوع فله الرجوع في اصح المذهبين وهو مذهب مالك واحمد في احدى الروايتين وهكذا كل من ادى عن غيره واجبا بغير اذنه بشرط ان يكون واجبا على المنصوص من مذهب مالك واحمد فإن احمد نص في رواية الجوزجاني على رجوع من عمر قناة غيره بغير اذنه وهو مذهب مالك ولو ان القريب استدان وانفق على نفسه ثم احال بالدين على من تلزمه نفقته لزمه ان يقوم له به لانه احال على من له عليه حق ولا يقال قد سقطت بمضى الزمان فلم تصادف الحوالة محلا لانها انما تسقط بمضى الزمان اذا لم يكن المنفق عليه قد استدان على المنفق بل تبرع له غيره أو تكلف(9/408)
ص -369-…أو صبر فإما اذا استدان عليه بقدر نفقته الواجبة عليه فهنا لا وجه لسقوطها وان كان الاصحاب وغيرهم قد اطلقوا السقوط فتعليلهم يدل على ما قلناه فتأمله
المثال الثامن والثلاثون اذا استنبط في ملكه أو ارض استأجرها عين ماء ملكه ولم يملك بيعه لمن يسوقه إلى ارضه أو يسقي به بهائمه بل يكون اولى به من كل احد وما فضل منه لزمه بذله لبهائم غيره وزرعه فالحيلة على جواز المعاوضة ان يبيعه نصف العين أو ثلثها أو يؤجره ذلك فيكون الماء بينه وبينه على حسب ذلك ويدخل الماء تبعا لملك العين أو منفعتها ولا تدخل هذه الحيلة تحت النهى عن بيع الماء فإنه لم يبعه وانما باع العين ودخل الماء تبعا والشيء قد يستتبع مالا يجوز ان يفرد وحده
المثال التاسع والثلاثون اذا باع عبده من رجل وله غرض ان لايكون الا عنده أو عند بائعه فالحيلة في ذلك ان يشهد عليه انه ان باعه فهو احق به بالثمن وهذا يجوز على نص احمد وهو قول عبد الله بن مسعود ولا محذور في ذلك وقول المانعين انه يخالف مقتضى العقد فنعم يخالف مقتضى العقد المطلق وجميع الشروط اللازمة تخالف مقتضى العقد المطلق ولا تخالف مقتضى العقد المقيد بل هي مقتضاه فإن لم تسعد معه هذه الحيلة فله حيلة اخرى وهي ان يقول له في مدة الخيار اما ان تقول متى بعته فهو حر والا فسخت البيع فإذا قال: ذلك فمتى باعه عتق عليه بمجرد الايجاب قبل قبول المشتري على ظاهر المذهب فإن الذي علق عليه العتق هو الذي يملكه البائع وهو الايجاب وذلك بيع حقيقة ولهذا يقال بعته العبد فاشتراه فكما ان الشراء هو قبول المشتري فكذلك البيع هو ايجاب البائع ولهذا يقال البائع والمشتري قال الشاعر:
وإذا تباع كريمة أو تشترى… فسواك بائعها وانت المشتري(9/409)
ص -370-…هذا منصوص احمد فإن لم تسعد معه هذه الحيلة فليقل له في مدة الخيار إما ان تقول متى بعتك فأنت حر قبله بساعة واما ان افسخ فمتى قال: ذلك لم يمكنه بيعه ألبتة
المثال الاربعون إذا كان للموكل عند وكيله شهادة تتعلق بما هو وكيله فيه لم تقبل فإن اراد قبولها فليعزله أو ليعزل نفسه قبل الخصومة ثم يقيم الشهادة فإذا تمت عاد توكله به وليس في هذه الحيلة محذور فلا تكون محرمة
المثال الحادي والاربعون اذا توضأ ولبس إحدى خفيه قبل غسل رجله الاخرى ثم غسل رجله الاخرى وادخلها في الخف جاز له المسح على أصح القولين وفيه قول آخر انه لا يجوز لانه لم يلبس الاولى على طهارة كاملة فالحيلة في جواز المسح ان ينزع خف الرجل الاولى ثم يلبسه وهذا نوع عبث لاغرض للشارع فيه ولا مصلحة للمكلف فالشرع لا يأمره به
المثال الثاني والاربعون إذا استحلف على شيء فاحب ان يحلف ولا يحنث فالحيلة ان يحرك لسانه بقول إن شاء الله وهل يشترط ان يسمعها نفسه فقيل لا بد ان يسمع نفسه وقال شيخنا هذا لا دليل عليه بل متى حرك لسانه بذلك كان متكلما وان لم يسمع نفسه وهكذا حكم الاقوال الواجبة والقراءة الواجبة قلت وكان بعض السلف يطبق شفتيه ويحرك لسانه بلا إله إلا الله ذاكرا وإن لم يسمع نفسه فإنه لاحظ للشفتين في حروف هذه الكلمة بل كلها حلقية لسانية فيمكن الذاكر ان يحرك لسانه بها ولا يسمع نفسه ولا أحدا من الناس ولا تراه العين يتكلم وهكذا التكلم بقول إن شاء الله يمكن مع إطباق الفم فلا يسمعه احد ولا يراه وإن اطبق اسنانه وفتح شفتيه أدنى شيء سمعته أذناه بجملته(9/410)
ص -371-…المثال الثالث والاربعون إذا لا عن امرأته وانتفى من ولدها ثم قتل الولد لزمه القصاص وكذلك إن قتلها فلولدها القصاص إذا بلغ فان اراد إسقاط القصاص عن نفسه فالحيلة ان يكذب نفسه ويقر بأنه ابنه فيسقط القصاص في الموضعين وفي جواز هذه الحيلة نظر
المثال الرابع والاربعون إذا كان له عليه حق وقد أبراه ولا بينة له بالابراء ثم عاد فادعاه فإن قال: قد أبراني منه لم يكن مقرا به كما لو قال: كان له على وقضيته وعلى القول الآخر يكون مقرا به مدعيا للابراء فيكلف البينة فالحيلة على التخلص ان يقول قد أبرأتني من هذه الدعوى فإذا قال: ذلك لم يكن مقرا بالمدعى به فإذا سأل إحلاف خصمه انه لم يبرئه من الدعوى ملك ذلك فإن لم يحلف صرفهما الحاكم وإن حلف طولب بالجواب ولا يسمع منه بعد ذلك انه ابرأه من الدعوى فإن قال: أبرأتني من الحق ففيه الخلاف المذكور وإن قال: لا شيء عندي اكتفى منه بهذا الجواب عند الجمهور فإن طالبه الحاكم بالجواب على وفق الدعوى فالحيلة ان يجيب ويورى كما تقدم
المثال الخامس والاربعون إذا خاف المضارب ان يسترجع رب المال منه المال فقال قد ربحت الفا لم يكن له الاسترجاع لانه قد صار شريكا فإن قال: ذلك حيلة ولم يربح فقال بعد ذلك كذبت لم يسمع منه فالحيلة في تخلصه ان يدعى خسارتها بعد ذلك أو تلفها فيقبل قوله مع يمينه
المثال السادس والاربعون إذا وقف وقفا وجعل النظر فيه لنفسه مدة حياته ثم من بعده لغيره صح ذلك عند الجمهور وهو اتفاق من الصحابة فإن عمر رضى الله عنه كان يلى صدقته وكذلك الخلفاء الراشدون وغيرهم من الصحابة والنبي صلى الله عليه وسلم لما أشار على عمر بوقف أرضه لم يقل له لا يصح ذلك(9/411)
ص -372-…حتى تخرجها عن يدك ولا تلى نظرها واي غرض للشارع في ذلك واي مصلحة للواقف أو الموقوف عليه بل المصلحة خلاف ذلك لانه اخبر بماله واقوم بعمارته ومصالحه وحفظه من الغريب الذي ليست خبرته وشفقته كخبرة صاحبه وشفقته ويكفى في صحة الوقف إخراجه عن ملكه وثبوت نظره ويده عليه كثبوت نظر الاجنبي ويده ولا سيما ان كان متبرعا فأي مصلحة في ان يقال له لا يصح وقفك حتى تجعله في يد من لست على ثقة من حفظه والقيام بمصالحه وإخراج نظرك عنه
فان قيل: اخراجه لله يقتضى رفع يده عنه بالكلية كالعتق
قيل: بالعتق خرج العبد عن ان يكون مالا وصار محررا محضا فلا تثبت عليه يد أحد وأما الوقف فإنه لا بد من ثبوت اليد عليه لحفظه والقيام بمصالحه واحق ما يثبت عليه يد اشفق الناس عليه واقومهم بمصالحه وثبوت يده ونظره لا ينافى وقفه لله فإنه وقفه لله وجعل نظره عليه ويده لله فكلاهما قربة وطاعة فكيف يحرم ثواب هذه القربة ويقال له لا يصح لك قربة الوقف إلا بحرمان قربة النظر والقيام بمصالح الوقف فأي نص واي قياس واي مصلحة واي غرض للشارع اوجب ذلك بل أي صاحب قال: ذلك فإن احتاج الواقف إلى ذلك في موضع لا يحكم فيه الا بقول من يبطل الوقف اذا لم يخرجه عن يده واذا شرط النظر بنفسه فالحيلة في ذلك ان يفوض النظر إلى من يثق به ويجعل اليه تفويض النظر لمن شاء فيقبل الناظر ذلك ويصح الوقف ويلزم ثم يفوضه الناظر اليه فإنه قد صار اجنبيا بمنزلة سائر الناس فهذه حيلة صحيحة يتوصل بها إلى حق فهي جائزة وكذلك لو جعل النظر فيه للحاكم ثم فوضه الحاكم اليه فإن خاف ان لا يفوضه الحاكم اليه فليملكه لمن يثق به ويقفه ذلك على ما يريد المملك ويشترط ان يكون نظره له وان يكون تحت يده(9/412)
ص -373-…المثال السابع والاربعون اذا وقف على نفسه ثم على غيره صح في احدى الروايتين عن الامام احمد وهو قول أبي يوسف وعليه عمل الحنفية وقول بعض الشافعية وممن اختاره ابو عبد الله الزبيري وعند الفقهاء الثلاثة لا يصح
والمانعون من صحته قالوا: يمتنع كون الانسان معطيا من نفسه لنفسه ولهذا لا يصح ان يبيع نفسه ولا يهب نفسه ولا يؤجر ماله من نفسه فكذا لا يصح وقفه على نفسه
قال: المجوزون الوقف شبيه العتق والتحرير من حيث انه يمتنع نقل الملك في رقبته ولهذا لا يفتقر إلى قبول اذا كان على غير معين اتفاقا ولا اذا كان على معين على احد القولين واشبه شيء به ام الولد واذا كان مثل التحرير لم يكن الواقف مملكا لنفسه بل يكون مخرجا للملك عن نفسه ومانعا لها من التصرف في رقبته مع انتفاعه بالعين كأم الولد وهذا اذا قلنا بانتقال رقبة الوقف إلى الله تعالى ظاهر فإن الواقف اخرج رقبة الوقف لله وجعل نفسه احد المستحقين للمنفعة مدة حياته فإن لم يكن اولى من البطون المرتبة فلا يكون دون بعضهم فهذا محض القياس وان قلنا الوقف ينتقل إلى الموقوف عليهم بطنا بعد بطن يتلقونه من الواقف فالطبقة الاولى احد الموقوف عليهم ومعلوم ان احد الشريكين اذا اشترى لنفسه أو باع من الشركة جاز على المختار لاختلاف حكم الملكين فلأن يجوز ان ينقل ملكه المختص إلى طبقات موقوف عليها هو احدها اولى لانه في كلا الموضعين نقل ملكه المختص إلى ملك مشترك له فيه نصيب بل في الشركة الملك الثاني من جنس الاول يملك به التصرف في الرقبة وفي الوقف ليس من جنسه فيكون اولى بالجواز
يؤيده انه لو وقف على جهة عامة جاز ان يكون كواحد من تلك الجهة كما(9/413)
ص -374-…وقف عثمان بئر رومة وجعل دلوه فيها كدلاء المسلمين وكما يصلي المرء في المسجد الذي وقفه ويشرب من السقاية التي وقفها ويدفن في المقبرة التي سبلها أو يمر في الطريق التي فتحها وينتفع بالكتاب الذي وقفه ويجلس على البساط والحصير اللذين وقفهما وامثال ذلك فإذا جاز للواقف ان يكون موقوفا عليه في الجهة العامة جاز مثله في الجهة الخاصة لا تفاقهما في المعنى بل الجواز هنا اولى من حيث انه موقوف عليه بالتعيين وهناك دخل في الوقف بشمول له الاسم
وتقليد هذا القول خير من الحيلة الباردة التي يملك الرجل فيها ماله لمن لا تطيب له نفسه ان يعطيه درهما ثم يقفه ذلك المملك على المملك فإن هذه الحيلة تضمنت امرين احدهما لا حقيقة له وهو انتقال الملك إلى الملك والثاني اشتراطه عليه ان يقف على هذا الوجه أو اذنه له فيه وهذا في المعنى توكيل له في الوقف كما ان اشتراطه حجر عليه في التصرف بغير الوقف فصار وجود هذا التمليك وعدمه سواء لم يملكه المملك ولا يمكنه وجود التصرف فيه ولو مات قبل وقفه لم يحل لورثته اخذه ولو انه اخذه ولم يقفه على صاحبه ولم يرده اليه عد ظالما غاصبا ولو تصرف فيه صاحبه بعد هذا التمليك لكان تصرفه فيه نافذا كنفوذه قبله هذا فيما بينه وبين الله تعالى وكذلك في الحكم ان قامت بينة بأنهما تواطئا على ذلك وانه انما وهبه اياه بشرط ان يقفه عليه أو اقر له بذلك
فإن قيل: فهل عندكم احسن من هذه الحيلة؟
قيل: نعم ان يقفه على الجهات التي يريد ويستثنى غلته ومنفعته لنفسه مدة حياته أو مدة معلومة وهذا جائز بالسنة الصحيحة والقياس الصحيح وهو مذهب فقهاء اهل الحديث فإنهم يجوزون ان يبيع الرجل الشيء أو يهبه أو يعتق العبد ويستثنى بعض منفعة ذلك مدة ويجوزون ان يقف(9/414)
ص -375-…الشيء على غيره ويستثنى بعض منفعته مدة معلومة أو إلى حين موته ويستدلون بحديث جابر وبحديث عتق ام سلمة سفينة وبحديث عتق صفية وبآثار صحاح كثيرة عن الصحابة لم يعلم فيهم من خالفها ولهذا القول قوة القياس
فإن قيل: فلو عدل إلى الحيلة الاولى فما حكمها في نفس الامر وما حكم الموقوف عليه اذا علم بالحال هل يطيب له تناول الوقف
ام لا قيل: لا يمنع ذلك صحة الوقف ونفوذه ويطيب للموقوف عليه تناول الوقف فإن المقصود صحيح شرعي وان كانت الطريق اليه غير مشروعة وهذا كما اذا اعتق العبد أو طلق المرأة وجحد ذلك فأقام العبد أو المرأة شاهدين لم يعلما ذلك فشهدا به وسع العبد ان يتصرف لنفسه والمرأة ان تتزوج وفقه المسألة ان هذا الاذن والتوكيل في الوقف وان حصل في ضمن عقد فاسد فإنه لا يفسد بفساد العقد كما لو فسدت الشركة أو المضاربة لم يفسد تصرف الشريك والعامل لما تضمنه العقد الفاسد من الاذن بل هذا اولى من وجهين احدهما ان الاتفاق يلزمهما قبل التمليك اذن صحيح ووكالة صحيحة في الباطن لم يرد بعدها ما ينافيها وايضا فإنما بطل عقد الهبة لكونه شرط على الموهوب له ان لا يتصرف فيه الا بالوقف على الواهب ومعلوم ان التصرف في العين لا يتوقف على الملك بل يصح بالوكالة وبطريق الولاية فلا يلزم من ابطال الملك بطلان الاذن الذي تضمنه الشرط لان الاذن مستند غير الملك
فإن قيل: فإذا بطل الملك ينبغي ان يبطل التصرف الذي هو من توابعه قيل: لا يلزم ذلك لان التصرف في مثل هذه الصورة ليس من توابع الملك الحقيقي وانما هو من توابع الاذن والتوكيل
يوضحه ان هذه الحيل التي لا حقيقة لها يجب ان تسلب الاسماء التي اعيرتها وتعطى الاسماء الحقيقية كما سلب منها ما يسمى بيعا ونكاحا وهدية هذه الاسماء(9/415)
ص -376-…واعطى اسم الربا والسفاح والرشوة فكذلك هذه الهبة تسلب اسم الهبة وتسمى اذنا وتوكيلا ولا سيما فإن صحة الوكالة لا يتوقف على لفظ مخصوص بل تصح بكل لفظ يدل على الوكالة فهذه الحيلة في الحقيقة توكيل للغير في ان يقف علىالموكل فمن اعتقد صحة وقف الانسان على نفسه اعتقد جواز هذا الوقف ومن اعتقد بطلانه وبطلان الحيل المفضية إلى الباطل فأنه عنده يكون منقطع الابتداء وفيه من الخلاف ما هو مشهور فمن ابطله راى ان الطبقة الثانية ومن بعدها تبع للأولى فإذا لم يصح في المتبوع ففي التابع اولى ان لا يصح ولأن الواقف لم يرض به اذ لابد في صحة التصرف من رضا فلا يجوز ان يلزم بما لم يرض به اذ لابد في صحة التصرف من رضا المتصرف وموافقة الشرع فعلى هذا هو باق على ملك الواقف فإذا مات فهل يصح الوقف حينئذ يحتمل وجهين ويكون مأخذهما ذلك كما لو قال: هو وقف بعد موتي فيصح أو انه وقف معلق على شرط وفيه وجهان فإن قيل: بصحته كان من الثلث وفي الزائد يقف على اجازة الورثة وان قيل: ببطلانه كان ميراثا ومن رأى صحته قال: قد امكن تصحيح تصرف العاقل الرشيد بأن يصحح الوقف ويصرفه في الحال إلى جهته التي يصح الوقف عليها وتلغي الجهة التي لا تصح فتجعل كالمعدومة وقيل على هذا القول بل تصرف مصرف الوقف المنقطع فإذا مات الواقف صرف مصرف الجهة الصحيحة
فإن قيل: فما تقولون لو سلك حيلة غير هذا كله واسهل منه واقرب وهي ان يقرأن ما في يده من العقار وقف عليه انتقل اليه من جائز الملك جائز الوقف ثم بعده على كذا وكذا فما حكم هذه الحيلة في الباطن وحكم من علم بها من الموقوف عليهم
قيل: هذه الحيلة إنما قصد المتكلم بها إنشاء الوقف وان أظهر انه قصد(9/416)
ص -377-…بها الاخبار فهى انشاء في الباطن اخبار في الظاهر فهى كمن اقر بطلاق أو عتاق ينوى به الانشاء والوقف ينعقد بالصريح والكناية مع النية وبالفعل مع النية عند الاكثرين واذا كان مقصوده الوقف على نفسه وتكلم بقوله هذا وقف على وميزه بفعله عن ملكه صار وقفا فإن الاقرار يصح ان يكون كناية عن الانشاء مع النية فإذا قصده به صح كما ان لفظ الانشاء يجوز ان يقصد به الاخبار وإذا اراد به الاخبار دين فكل من الامرين صالح لاستعماله في الاخر فقد يقصد بالاقرار الاخبار عما مضى وقد يقصد به الانشاء وانما ذكر بصيغة الاخبار لغرض من الاغراض
يوضح ذلك ان صيغ العقود قد قيل: هي انشاءات وقيل إخبارات والتحقيق انها متضمنه للأمرين فهى إخبار عن المعاني التي في القلب وقصد تلك المعاني انشاء فاللفظ خبر والمعنى إنشاء فإذا أخبر ان هذا وقف عليه وهو يعلم ان غيره لم يقفه عليه وانما مقصوده ان يصير وقفا بهذا الاخبار فقد اجتمع لفظ الاخبار وإرادة الانشاء فلو كان اخبر عن هذه الارداة لم يكن هناك ريب انه أنشأ الوقف لكن لما كان لفظه إخبارا عن غير ما عناه والذي عناه لم ينشيء له لفظا صارت المسألة ونشأت الشبهة ولكن هذه النية مع هذا اللفظ الصالح للكناية مع الفعل الدال على الوقف يقوم مقام التكلم باللفظ الذي ينشأ به الوقف والله أعلم
المثال الثامن والاربعون لو باع غيره دارا أو عبدا أو سلعة واستثنى منفعة المبيع مدة معلومة جاز كما دلت عليه النصوص والاثار والمصلحة والقياس الصحيح فإن خاف ان يرفعه إلى حاكم يرى بطلان هذا الشرط فيبطله عليه فالحيلة في تخليصه من ذلك ان يواطئه قبل البيع على ان يؤجره إياه تلك المدة بمبلغ معين ويقر بقبض الاجرة ثم يبيعه إياه ثم يستأجره كما اتفقا(9/417)
ص -378-…عليه ويقر له بقبض الاجرة وهذه حيلة صحيحة جائزة لا تتضمن تحليل حرام ولا تحريم حلال
المثال التاسع والاربعون المطلقة البائنة لا نفقة لها ولا سكنى بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة الصريحة التي لا معارض لها بل هي موافقة لكتاب الله وهي مقتضى القياس وهي مذهب فقهاء اهل الحديث فإن خاف المطلق ان ترفعه إلى حاكم يرى وجوب النفقة والسكنى أو السكنى وحدها فالحيلة في تخليصه ان يعلق طلاقها على البراءة الصحيحة من ذلك فيقول إن صحت براءتك لى من النفقة والسكنى أو من دعوى ذلك فأنت طالق فلا يمكنها بعد ذلك ان تدعى بهما ألبتة وله حيلة اخرى وهي ان يخالعها على نظير ما يعلم انه يفرض عليه للنفقة والسكنى أو اكثر منه فإذا ادعت بذلك وفرضه عليه الحاكم صار لها عليه مثل الذي له عليها فإما ان يأخذ منها ويعطيها واما ان يتقاصا
المثال الخمسون إذا اشترى سلعة من رجل غريب فخاف ان يستحق أو تظهر معيبة ولا يعرفه فالحيلة ان يقيم له وكيلا يخاصمه ان ظهر ذلك فإن خاف ان يعزل البائع الوكيل فالحيلة ان يشتريها من الوكيل نفسه ويضمنه درك المبيع
المثال الحادي والخمسون إذا دفع اليه مالا يشترى به متاعا من بلد غير بلده فاشتراه واراد تسليمه اليه وإقامته في تلك البلدة فان اودعه غيره ضمن لانه لم يأذن له ربه وان وكل غيره في دفعه اليه ضمن أيضا وان استاجر من يوصله اليه ضمن لانه لم يكن يامن غيره عليه فالحيلة في ايصاله إلى ربه ان يشهد عليه قبل الشراء أو بعده ان يعمل في المال برأيه وان يوكل فيه أو ان يودع اذا راى المصلحة في ذلك كله فإن أبى ذلك الموكل وقال لا يوافيني به غيرك فقد ضاقت عليه الحيلة فليخرج نفسه من الوكالة فتصير يده يد مودع فلا يلزمه مؤنة رد الوديعة بل مؤنة ردها على صاحبها فإن احب اخذ ماله ارسل من يأخذه أو جاء هو في طلبه(9/418)
ص -379-…فإن قيل: فلو لم يعزل نفسه كان مؤنة الرد عليه؟
قيل: لما دخل معه في عقد الوكالة فقد التزم له ان يسلم اليه المال فيلزمه ما التزم به فإذا اخرج نفسه من الوكالة بقى كالمودع المحض فإن كان وكيلا يجعل فهو كالاجير فمؤنة الرد عليه ولا يملك اخراج نفسه من الوكالة قبل توفية العمل كالاجير
المثال الثاني والخمسون اذا اراد الذمى ان يسلم وعنده خمر فخاف ان اسلم يجب عليه إراقتها ولا يجوز له بيعها فالحيلة ان يبيعها من ذمى آخر بثمن معين أو في ذمته ثم يسلم ويتقاضاه الثمن ولا حرج عليه في ذلك فإن تحريمها عليه بالاسلام كتحريمها بالكتاب بعد ان لم تكن حراما وفي الحديث ان الله يعرض بالخمر فمن كان عنده منها شيء فليبعه
فان قيل: فلو اسلم من اشتراها ولم يؤد ثمنها هل يسقط عنه
قيل: لا يسقط لثبوته في ذمته قبل الاسلام فإن
قيل: فلو اسلم اليه في خمر ثم أسلما أو احدهما
قيل: ينفسخ العقد ويرد اليه رأس ماله فان
قيل: فلو اراد ان يشتري خمرا ثم عزم على الاسلام وخاف ان يلزمه بثمنها فهل له حيلة في التخلص من ذلك
قيل: الحلة ان لا يملكها بالشراء بل بالقرض فإذا اقترضها منه ثم اسلما أو احدهما لم يجب عليه رد بدل القرض فإن موجب القرض رد المثل وقد تعذر بالاسلام
المثال الثالث والخمسون اذا اشترى دارا أو ارضا وقد وقعت الحدود وصرفت الطرق بينه وبين جاره فلا شفعة فيها وان كانت الحدود لم تقع ولم تصرف الطرق بل طريقها واحدة ففيها الشفعة هذا الاقوال في شفعة الجوار وهو مذهب(9/419)
ص -380-…أهل البصرة واحد الوجهين في مذهب الامام احمد واختاره شيخ الاسلام وغيره فان خاف المشترى ان يرفعه الجار إلى حاكم يرى الشفعة وان صرفت الطرق فله التحيل على ابطالها بضروب من الحيل احدها ان يشتريها منه بألف دينار ويكاتبه على ذلك ثم يعطيه عوض كل دينار درهمين أو نحو ذلك وثانيها ان يهب منه الدار والارض ثم يهبه ثمنها وثالثها ان يقول المشتري للشفيع ان شئت بعتكها بما اشتريتها به أو باقل من ذلك أو اصبر عليك بالثمن فيجيبه إلى ذلك فتسقط شفعته ورابعها ان يتصادق البائع والمشتري على شرط أو صفة تفسد البيع كأجل مجهول أو خيار مجهول أو إكراه أو تلجئة ونحو ذلك ثم يقرها البائع في يد المشترى ولا يكون للشفيع سبيل عليها وخامسها ان يشترط الخيار مدة طويلة فإن صح لم يكن له ان يأخذ قبل انقضائه وان بطل لم يكن له ان ياخذ ببيع فاسد وسادسها ان يهب له تسعة اعشار الدار أو الارض ويبيعه العشر الباقي بجميع الثمن وسابعها ان يوكل الشفيع في بيع داره أو ارضه فيقبل الوكالة فيبيع أو يوكله المشتري في الشراء له وثامنها ان يزن له الثمن الذي اتفقا عليه سرا ثم يجعله صبرة غير معلومة ويبيعه الدار وتاسعها ان يقر البائع بسهم من الف سهم للمشتري فيصير شريكه ثم يبيعه باقي الدار فلا يجد جاره اليها سبيلا لان حق الشريك مقدم على حق الجار وعاشرها ان يتصدق عليه ببيت من الدار ثم يبيعه باقيها بجميع الثمن فيصير شريكا فلا شفعة لجاره وحادى عشرها ان يأمر غريبا أو مسافرا بشرائها فاذا فعل دفعها اليه ثم وكله بحفظها ثم يشهد على الدفع اليه وتوكيله حتى لا يخاصمه الشفيع وثاني عشرها ان يجيء المشتري إلى الجار قبل البيع فيشترى منه داره ويرغبه في الثمن اضعاف ما تساوي ويشترط الخيار لنفسه ثلاثة ايام ثم في مدة الخيار يمضي ويشترى تلك الدار التي يريد شراءها فإذا تم العقد بينهما فسخ البيع الاول ولا يستحق(9/420)
ص -381-…جاره عليه شفعة لانه حين البيع لم يكن جارا وانما طرأ له الجوار بعد البيع وثالث عشرها ان يؤجر المشتري لبائع الدار عبده أو ثوبه شهرا بسهم من الدار فيصير شريكه ثم بعد يومين أو ثلاثة يشترى منه بقيتها فلا يكون لجاره عليه سبيل ورابع عشرها ان يشتريها بثمن مؤجل اضعاف ما تساوي فإن الجار لا يأخذها بذلك الثمن فإذا رغب صالحه من ذلك الثمن على ما يساويه حالا من غير جنسه
فإن قيل: فأنتم قد بالغتم في الانكار على من احتال ببعض هذه الوجوه على اسقاط الشفعة وذكرتم تلك الاثار فنكيل لكم بالكيل الذي كلتم به لنا
قلنا لا سواء نحن وانتم في ذلك فإنا ذكرنا هذه الوجوه تحيلا على إبطال ما أبطله رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة فلما ابطل الشفعة تحيلنا على تنفيذ حكمه وامره بكل طريق فكنا فى هذه الحيل منفذين لامره واما انتم فأبطلتم بها ما اثبته بحكمه وقضائه بالشفعة فيما لم يقسم وانه لا يحل له ان يبيع حتى يؤذن شريكه فإذا حرم عليه البيع قبل استئذانه فما الظن بالتحيل على اسقاط شفعته فتوصلتم انتم بهذه الحيل إلى اسقاط ما اثبته وتوصلنا نحن بها إلى اسقاط ما اسقطه وابطله فأى الفريقين احق بالصواب واتبع لمقصود الرسول صلى الله عليه وسلم والله المستعان
المثال الرابع والخمسون يصح تعليق الوكالة بالشرط كما يصح تعليق الولاية بالشرط كما صحت به السنة بل تعليق الوكالة اولى بالجواز فإن الولي وكيل وكالة عامة فانه انما يتصرف نيابة عن المولى فوكالته اعم من وكالة الوكيل في الشيء المعين فإذا صح تعليقها فتعليق الوكالة الخاصة اولى بالصحة وقال الشافعي لاتصح فإذا دعت الحاجة إلى ذلك فالحيلة في جوازه ان يوكله مطلقا ثم يعلق التصرف على شرط فيصح ولا يظهر فرق فقهى بين امتناع هذا(9/421)
ص -382-…وجواز هذا والمقصود من التوكيل التصرف والتوكيل وسيلة اليه فاذا صح تعليق الغاية فتعليق الوسيلة اولى بالصحة
المثال الخامس والخمسون اذا رفع إلى الامام وادعى عليه زنى فخاف ان انكر ان تقوم عليه البينة فيحد فالحيلة في ابطال شهادتهم انه يقر اذا سئل مرة واحدة ولايزيد عليها فلا تسمع البينة مع الاقرار وليس للحاكم ولا للامام ان يقرره تمام النصاب بل اذا سكت لم يتعرض له فإن كان الامام ممن يرى وجوب الحد بالمرة الواحدة فالحيلة ان يرجع عن اقراره فيسقط عند الحد فاذا خاف من اقامة البينة عليه اقر أيضا ثم رجع وهكذا ابدا وهذه الحيلة جائزة فانه يجوز له دفع الحد عن نفسه وان يخلد إلى التوبة كما قال: النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة لما فر ما عن من الحد هلاتركتموه يتوب فيتوب الله عليه فإذا فر من الحد إلى التوبة فقد أحسن
المثال السادس والخمسون اذا حلف لغادر أو جاسوس أو سارق ان لا يخبر به احدا ولا يدل عليه فأراد التخلص من هذه اليمين وان لا يخفيه فالحيلة ان يسأل عن أقوام هو من جملتهم فإذا سئل عن غيره قال: لا فاذا انتهت التوبة اليه سكت فإنه لا يحنث ولايأثم بالستر عليه وإيوائه وسئل ابو حنيفة رحمه الله عن هذه المسألة بعينها قال: له السائل نزل بي اللصوص فأخذوا مالي واستحلفوني بالطلاق الا أخبر احدا بهم فخرجت فرايتهم يبيعون متاعي في السوق جهرة فقال له اذهب إلى الوالي فقل له يجمع اهل المحلة أو السكة الذين هم فيهم ثم يحضرهم ثم يسألك عنهم واحدا فإذا واحدا سألك عمن ليس منهم فقل ليس منهم واذا سألك عمن هو منهم فاسكت ففعل الرجل فأخذ الولي متاعه منهم وسلمه اليه فلو عملت هذه الحيلة مع مظلوم لم تنفع وحنث الحالف فإن المقصود الدفع عنه وبالسكوت قد اعان عليه ولم يدفع عنه(9/422)
ص -383-…المثال السابع والخمسون ما سئل عنه ابو حنيفة رحمه الله عن امرأة قال: لها زوجها انت طالق اذا سألتني الخلع ان لم اخلعك وقالت المرأة كل مملوك لي حر ان لم اسألك الخلع اليوم فجاء الزوج إلى أبي حنيفة فقال احضر المرأة فأحضرها فقال لها ابو حنيفة سليه الخلع فقالت سألتك ان تخلعني فقال ابو حنيفة قل لها قد خلعتك على الف درهم تعطينها فقال لها ذلك فقال لها قولي لا اقبل فقالت لا اقبل فقال قومي مع زوجك فقد بر كل واحد منكما ولم يحنث في شيء ذكرها محمد بن الحسن في كتاب الحيل له
وانما تتم هذه الحيلة على الوجه الذي ذكره فلو قالت له اسألك الخلع على الف درهم حالة أو إلى شهر فقال قد خلعتك على ذلك وقع الخلع بخلاف ما اذا قالت له اخلعني قال: خلعتك على الف فإن هذا لا يكون خلعا حتى تقبل وترضى وهي لم ترض بالألف فلا يقع الخلع
فإن قيل: فكيف اذا لم يقع الخلع
قيل: هو انما حلف على فعله لا على قبولها فإذا قال: قد خلعتك على الف فقد وجد الخلع من جهته فانحلت يمينه ولم يقف حل اليمين على قبولها كما اذا حلف لا يبيع فباع ولم يقبل المشتري ولا بينه له فإنه يحنث
المثال الثامن والخمسون ما ذكره محمد في كتابه أيضا عنه اتاه اخوان قد تزوجا بأختين فزفت كل امرأة منهما إلى زوج اختها فدخل بها ولم يعلم ثم علم الحال لما اصبحا فذكرا له ذلك وسألاه المخرج فقال لهما كل منكما راض بالتي دخل بها فقالا نعم فقال ليطلق كل منكما امرأته التي عقد عليها تطليقة ففعلا فقال ليعقد كل منكما على المرأة التي دخل بها(9/423)
ص -384-…ففعلا فقال ليمض كل منكما إلى اهله وهذه الحيلة في غاية اللطف فإن المرأة التي دخل بها كل منهما قد وطئها بشبهة فله ان ينكحها في عدتها فإنه لا يصان ماؤه عن مائه وأمره ان يطلق واحدة فإنه لم يدخل بالتي طلقها فالواحدة تبينها ولا عدة عليها منه فللآخر ان يتزوجها
المثال التاسع والخمسون اذا تزوجت المرأة وخافت ان يسافر عنها الزوج ويدعها أو يسافر بها ولا تريد الخروج من دارها أو ان يتزوج عليها أو يتسرى أو يشرب المسكر أو يضربها من غير جرم أو يتبين فقيرا وقد ظنته غنيا أو معيبا وقد ظنته سليما أو اميا وقد ظنته قارئا أو جاهلا وقد ظنته عالما أو نحو ذلك فلا يمكنها التخلص فالحيلة لها في ذلك كله ان تشترط عليه انه متى وجد شيء من ذلك فأمرها بيدها ان شاءت اقامت معه وان شاءت فارقته وتشهد عليه بذلك فإن خافت ان لاتشترط ذلك بعد لزوم العقد فلا يمكنها الزامه بالشرط فلا تأذن لوليها ان يزوجها منه الا على هذا الشرط فيقول زوجتكما على ان امرها بيدها ان كان الامر كيت وكيت فمتى كان الامر كذلك ملكت تطليق نفسها ولا بأس بهذه الحيلة فإن المرأة تتخلص بها من نكاح من لم ترض بنكاحه وتستغني بها عن رفع امرها إلى الحاكم ليفسخ نكاحها بالغيبة والاعسار ونحوهما
المثال الستون يصح ضمان مالا يجب كقوله ما اعطيت لفلان فهو علي عند الاكثرين كما دل عليه القرآن في قول مؤذن يوسف ولمن جاء به حمل بعير وانا به زعيم والمصلحة تقتضى ذلك بل قد تدعو اليه الحاجة أو الضرورة وعند الشافعي لا يجوز وسلم جوازه اذا تبين سبب وجوبه كدرك المبيع والحيلة في جوازه على هذا القول انه اذا رضى بأن يلتزم عنه مقدارا له يجب عليه بعد ان يقر المضمون عنه به للدافع ثم يضمنه عنه الضامن فإن خشى المقر ان يطالبه المقر له بذلك ولا يدفعه اليه فالحيلة ان يقول هو على من ثمن مبيع لم اقبضه فإن تحرج من الاخبار بالكذب فالحيلة ان يبيعه ما يريد اخذه منه بالمبلغ الذي التزم(9/424)
ص -385-…الضامن اداءه فإذا صار في ذمته ضمنه عنه وهذا الحكم اذا زوج ابنه أو عبده أو اجيره وضمن للمرأة نفقتها وكسوتها فالصحيح في هذا كله جواز الضمان والحاجة تدعو اليه ولا محذور فيه وليس بعقد معاوضة فتؤثر فيه الجهالة وعقود الالتزام لا يؤثر فيها الجهالة كالنذر ثم يمكن رفع الجهالة بأن يحد له حدا فيقول من درهم إلى كذا وكذا
فإن قيل: ما بين الدرهم والغاية مجهول لا يدري كم يلزمه منه
قيل: لا يقدح ذلك في جواز الالتزام لانه يتبين في الآخر كم هو الواجب منه ثم لو اقر بذلك فقال له على ما بين درهم إلى الف صح فهكذا اذا قال: ضمنت عنه ما بين درهم إلى الف
فإن قيل: الضامن فرع على المضمون عنه فإذا كان الاصل لم يثبت في ذمته شيء فعلى أي شيء الضمان ينبني الضمان ويتفرع؟
قيل: انما يصير ضامنا اذا ثبت في ذمة المضمون عنه والا في الحال فليس هو ضامنا وان صح ان يقال هو ضامن بالقوة ففي الحقيقة هو ضمان معلق على شرط وذلك جائز والله اعلم
المثال الحادي والستون إذا سبق لسانه بما يؤاخذ به في الظاهر ولم يرد معناه أو اراده ثم رجع عنه وتاب منه أو خاف ان يشهد عليه به شهود زور ولم يتكلم به فرفع إلى الحاكم وادعى عليه به فإن انكر شهدوا عليه وان اقر حكم عليه ولا سيما ان كان لا يرى قبول التوبة من ذلك فالحيلة في الخلاص أن لا يقر به ولا ينكر فيشهد عليه الشهود بل يكفيه في الجواب ان يقول إن كنت قلته فقد رجعت عنه وأنا تائب إلى الله منه وليس للحاكم بعد ذلك ان يقول لا اكتفى منك بهذا الجواب بل لا بد من الاقرار أو الانكار فان هذا جواب كاف في مثل هذه الدعوى وتكليفه بعد ذلك خطة الخسف(9/425)
ص -386-…بالاقرار وقد يكون كاذبا فيه أو الانكار وقد تاب منه بينه وبين الله تعالى فيشهد عليه الشهود ظلم وباطل فلا يحل للحاكم ان يسأله بعد هذا هل وقع منك ذلك أو لم يقع بل أبلغ من هذا لو شهد عليه بالردة فقال لم ازل اشهد ان لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله منذ عقلت والى الآن لم يستكشف عن شيء ولم يسأل لا هو ولا الشهود عن سبب ردته كما ذكره الخرقي في مختصره وغيره من اصحاب الشافعي فإذا ادعى عليه بانه قال: كذا وكذا فقال إن كنت قلته فأنا تائب إلى الله منه أو قد تبت منه فقد اكتفى منه بهذا الجواب ولم يكشف عن شيء منه بعد ذلك
فإن قيل: هذا تعليق للتوبة أو الاسلام بالشرط ولا يصح تعليقه بشرط
قيل: هذا من قلة فقه مورده فإن التوبة لا تصح إلا على هذا الشرط تلفظ به أو لم يتلفظ به وكذلك تجديد الاسلام لا يصح إلا بشرط ان يوجد ما يناقضه فتلفظه بالشرط تأكيد لمقتضى عقد التوبة والاسلام وهذا كما اذا قال: إن كان هذا ملكى فقد بعتك إياه فهل يقول احد إن هذا بيع معلق بشرط فلا يصح وكذلك اذا قال: ان كانت هذه امرأتي فهى طالق لا يقول احد إنه طلاق معلق ونظائره اكثر من ان تذكر
وقد شرع الله لعباده التعليق بالشروط في كل موضع يحتاج اليه العبد حتى بينه وبين ربه كما قال: النبي صلى الله عليه وسلم لضباعة بنت الزبير وقد شكت اليه وقت الاحرام فقال حجى واشترطى على ربك فقولى ان حبسني حابس فمحلى حيث حبستني فإن لك ما اشترطت على ربك فهذا شرط مع الله في العبادة وقد شرعه على لسان رسوله لحاجة الامة اليه ويفيد شيئين جواز التحلل وسقوط الهدى وكذلك الداعى بالخيرة يشترط على ربه في دعائه فيقول اللهم ان كان هذا الامر خيرا لى في دينى ومعاشى وعاقبة امرى عاجله وآجله فاقدره لي ويسره لي فيعلق طلب(9/426)
ص -387-…الاجابة بالشرط لحاجته إلى ذلك لخفاء المصلحة عليه وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم اشترط على ربه أيما رجل سبه أو لعنه وليس لذلك بأهل ان يجعلها كفارة له وقربة يقربه بها اليه وهذا تعليق للمدعو به بشرط الاستحقاق وكذلك المصلى على الميت شرع له تعليق الدعاء بالشرط فيقول اللهم انت أعلم بسره وعلانيته إن كان محسنا فتقبل حسناته وان كان مسيئا فتجاوز عن سيئاته فهذا طلب للتجاوز عنه بشرط فكيف يمنع تعليق التوبة بالشرط؟
وقال شيخنا كان يشكل على احيانا حال من اصلي عليه الجنائر هل هو مؤمن أو منافق فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فسألته عن مسائل عديدة منها هذه المسألة فقال يا أحمد الشرط الشرط أو قال: علق الدعاء بالشرط وكذلك ارشد امته صلى الله عليه وسلم إلى تعليق الدعاء بالحياة والموت بالشرط فقال لا يتمنى احدكم الموت لضر نزل به ولكن ليقل اللهم احينى اذا كانت الحياة خيرا لى وتوفنى اذا كانت الوفاة خيرا لى وكذلك قوله في الحديث الآخر واذا اردت بعبادك فتنة فتوفنى اليك غير مفتون وقال المسلمون عند شروطهم إلا شرطا احل حراما وحرم حلالا
وتعليق العقود والفسوخ والتبرعات والالتزامات وغيرها بالشروط امر قد يدعو اليه الضرورة أو الحاجة أو المصلحة فلا يستغنى عنه المكلف وقد صح تعليق النظر بالشرط بالاجماع ونص الكتاب وتعليق الضمان بالشرط بنص القرآن وتعليق النكاح بالشرط في تزويج موسى بابنة صاحب مدين وهو من أصح نكاح على وجه الارض ولم يأت في شريعتنا ما ينسخه بل اتت مقررة له كقوله صلى الله عليه وسلم إن احق الشروط ان توفوا به ما استحللتم به الفروج فهذا صريح في ان حل الفروج بالنكاح قد يعلق على شرط ونص الامام احمد على جواز تعليق النكاح بالشرط وهذا هو الصحيح كما يعلق الطلاق والجعالة والنذر وغيرها من العقود وعلق امير المؤمنين عمر رضى الله عنه عقد المزارعة بالشرط فكان(9/427)
ص -388-…يدفع ارضه إلى من يعمل عليها على انه ان جاء عمر بالبذر فله كدا وان جاء العامل بالبذر فله كذا ذكره البخاري ولم يخالفه صاحب ونص الامام احمد على جواز تعليق البيع بالشرط في قوله إن بعت هذه الجارية فأنا احق بها بالثمن واحتج بأنه قول ابن مسعود ورهن الامام احمد نعله وقال للمرتهن إن جئتك بالحق إلى كذا وإلا فهو لك وهذا بيع بشرط فقد فعله وافتى به وكذلك تعليق الابراء بالشرط نص على جوازه فعلا منه فقال لمن اغتابه ثم استحله انت في حل ان لم تعد فقال له الميموني قد اغتابك وتحلله فقال الم ترنى قد اشترطت عليه ان لا يعود والمتأخرون من اصحابه يقولون لا يصح تعليق الابراء بالشرط وليس ذلك موافقا لنصوصه ولا لأصوله(9/428)
وقد علق النبي صلى الله عليه وسلم ولاية الامارة بالشرط وهذا تنبيه على تعليق الحكم في كل ولاية وعلى تعليق الوكالة الخاصة والعامة وقد علق ابو بكر تولية عمر رضى الله عنه بالشرط ووافقه عليه سائر الصحابة فلم ينكره منهم رجل واحد وقال النبي صلى الله عليه وسلم من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا ان يشترطها المبتاع فهذا الشرط خلاف مقتضى العقد المطلق وقد جوزه الشارع وقال من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا ان يشترطه المبتاع وفي السنن عنه من اعتق عبدا وله مال فمال العبد له إلا ان يشترطه السيد وفي المسند والسنن عن سفينة قال: كنت مملوكا لأم سلمة فقالت اعتقتك واشترطت عليك ان تخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عشت فقلت ولو لم تشترطي على ما فارقت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عشت فأعتقتني واشترطت على وذكر البخاري في صحيحه عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه قال: مقاطع الحقوق عند الشروط ولك ما شرطت وقال البخاري في باب الشروط في القرض وقال ابن عمر وعطاء إذا احله في القرض جاز وقال في باب ما يجوز من الاشتراط والثنيا في الاقرار والشروط التي يتعارفها الناس بينهم وقال ابن عوف عن ابن سيرين قال: قال رجل لكريه ارحل ركابك فإن لم أرحل معك في يوم كذا وكذا فلك مائة درهم فلم يخرج فقال(9/429)
ص -389-…شريح من شرط على نفسه طائعا غير مكره فهو عليه وقال ايوب عن ابن سيرين ان رجلا باع طعاما فقال ان لم آتك الاربعاء فليس بيني وبينك بيع فقال للمشتري انت أخلفته فقضى عليه وقال في باب الشروط في المهر وقال المسور سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر صهرا فأثنى عليه في مصاهرته فأحسن فقال حدثني فصدقني ووعدني فوفاني ثم ذكر فيه حديث احق الشروط ان توفوا به ما استحللتم به الفروج وقال في كتاب الحرث وعامل عمر الناس على انه إن جاء عمر بالبذر من عنده فلهم الشطر وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا وهذا صريح في جواز إن خطته اليوم فلك كذا وإن خطته غدا فلك كذا وفي جواز بعتكه بعشرة نقدا أو بعشرين نسيئة فالصواب جواز هذا كله للنص والآثار والقياس وقال جابر بعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيرا واشترطت حملانه إلى اهلى وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عبدالرحمن بن فروخ عن نافع بن عبدالحارث عامل عمر على مكة انه اشترى من صفوان بن امية دارا لعمر بن الخطاب بأربعة آلاف درهم واشترط عليه نافع ان رضى عمر فالبيع له وان لم يرض فلصفوان اربعمائة درهم ومن ههنا قال: الامام احمد لا بأس ببيع العربون لان عمر فعله واجاز هذا البيع والشرط فيه مجاهد ومحمد بن سيرين وزيد بن اسلم ونافع ابن عبدالحارث وقال ابو عمر وكان زيد بن اسلم يقول أجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الامام احمد ان محمد بن مسلمة الانصاري اشترى من نبطى حزمة حطب واشترط عليه حملها إلى قصر سعد واشترى عبد الله ابن مسعود جارية من امرأته وشرطت عليه انه إن باعها فهى لها بالثمن وفي ذلك اتفاقهما على صحة البيع والشرط ذكره الامام احمد وافتى به
والمقصود أن للشروط عند الشارع شأنا ليس عند كثير من الفقهاء فإنهم يلغون شروطا لم يلغها الشارع ويفسدون بها العقد من غير مفسدة تقتضى فساده وهم متناقضون فيما يقبل التعليق بالشروط من العقود وما لا يقبله فليس(9/430)
ص -390-…لهم ضابط مطرد منعكس يقوم عليه دليل فالصواب الضابط الشرعي الذي دل عليه النص ان كل شرط خالف حكم الله وكتابه فهو باطل وما لم يخالفه حكمه فهو لازم
يوضحه ان الالتزام بالشروط كالالتزام بالنذر والنذر لا يبطل منه إلا ما خالف حكم الله وكتابه بل الشروط في حقوق العباد أوسع من النذر في حق الله والالتزام به أوفي من الالتزام بالنذر
وإنما بسطت القول في هذا لان باب الشرط يدفع حيل اكثر المتحيلين ويجعل للرجل مخرجا مما يخاف منه ومما يضيق عليه فالشرط الجائز بمنزلة العقد بل هو عقد وعهد وقد قال: الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وقال: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا}
وههنا قضيتان كليتان من قضايا الشرع الذي بعث الله به رسوله احداهما ان كل شرط خالف حكم الله وناقض كتابه فهو باطل كائنا ما كان والثانية ان كل شرط لا يخالف حكمه ولا يناقض كتابه وهو ما يجوز تركه وفعله بدون الشرط فهو لازم بالشرط ولا يستثنى من هاتين القضيتين شيء وقد دل عليهما كتاب الله وسنة رسول واتفاق الصحابة ولا تعبأ بالنقض بالمسائل المذهبية والاقوال الآرائية فإنها لا تهدم قاعدة من قواعد الشرع فالشروط في حق المكلفين كالنذر في حقوق رب العالمين فكل طاعة جاز فعلها قبل النذر لزمت بالنذر وكذلك كل شرط قد جاز بذله بدون الاشتراط لزم بالشرط فمقاطع الحقوق عند الشروط واذا كان من علامات النفاق اخلاف الوعد وليس بمشروط فكيف الوعد المؤكد بالشرط بل ترك الوفاء بالشرط يدخل في الكذب والخلف والخيانة والغدر وبالله التوفيق
المثال الثاني والستون اذا باعه جارية معيبة وخاف ردها عليه بالعيب فليبين له من عيبها ويشهد انه دخل عليه فإن خاف ردها بعيب آخر لا يعلمه(9/431)
ص -391-…البائع فليعين له عيوبا يدخل في جملتها وانه رضى بها كذلك فإن كان العيب غير متصور ولا داخل في جملة تلك العيوب فليقل وانك رضيت بها بحملة ما فيها من العيوب التي توجب الرد مقتصرا على ذلك ولا يقول وانك اسقطت حقك من الرد ولا أبرأتني من كل دعوى توجب الرد ولا يبيعها بشرط البراءة من كل عيب فإن هذا لا يسقط الرد عند كثير من الفقهاء وهي مسألة البيع بالبراءة من العيوب وللشافعي فيها ثلاثة اقوال احدها صحة البيع والشرط والثاني صحة البيع وفساد الشرط وانه لا يبرأ من شيء من العيوب والثالث انه يبرأ من العيوب الباطنة في الحيوان خاصة دون غيرها
والمشهور من مذهب مالك جواز العقد والشرط وانه يبرأ من جميع العيوب وهل يعم ذلك جميع المبيعات أو يخص بعضها فذكر ابن حبيب عن مالك وابن وهب انه يعم جميع المبيعات عرضا كان المبيع أو حيوانا وعنه انه يختص ببعض المبيعات واختلف عنه في تعيينه فالذي في الموطأ عنه انه يختص بالحيوان ناطقا كان أو بهما والذي في التهذيب اختصاصه بناطق الحيوان قالوا: وعلى هذا المذهب في صحة ذلك مطلقا فبيع السلطان وبيع الميراث اذا علم انه ميراث جار مجري بيع البراءة وان لم يشترط وعلى هذا فإذا قال: ابيعك بيع الميراث لا قيام بعيب صح ذلك ويكون بيع براءة وفي الميراث لا يحتاج إلى ذكره قالوا: واذا قلنا ان البراءة تنفع فإنما منفعتها في امتناع الرد بعيب لم يعلم به البائع واما ما علم به البائع فإن شرط البراءة لا يمنع رد المشتري به اذا لم يكن عالما به وقت العقد فإذا ادعى المشتري علم البائع فأقر أو نكل بعد توجه اليمين عليه توجه الرد عليه(9/432)
قالوا: ولو ملك شيئا ثم باعه قبل ان يستعمله بشرط البراءة لم ينفعه ذلك حتى يستعمله ويستبرئه ثم يبيعه بشرط البراءة قال: في التهذيب في التجار يقدمون بالرقيق فيبيعونه بالبراءة ولم تطل اقامة الرقيق عندهم هؤلاء يريدون ان يذهبوا بأموال الناس باطلا لا تنفعهم البراءة وقال عبد الملك وغيره لا يشترط(9/433)
ص -392-…استعماله ولا طول مقامه عنده بل تنفعه البراءة كما تنفعه مع الطول والاستعمال قالوا: واذا كان في المبيع عيب يعلمه البائع بعينه فأدخله في جملة عيوب ليست موجودة وتبرا منها كلها لم يبرأ منه حتى يفرده بالبراءة ويعين موضعه وجنسه ومقدار بحيث لا يبقى للمبتاع فيه قول قالوا: وكذلك لو اراه العيب وشاهده لم يبرا منه اذا كان ظاهره لا يستلزم الاحاطة بباطنه وباطنه فيه فساد آخر كما اذا اراه دبرة البعير وشاهدها وهي منغلة مفسدة فلم يذكر له ما فيها من نغل وغيره ونظائر ذلك قالوا: وكذلك لو اخبره ان به اباقا أو سرقة وهو اباق بعيد أو سرقة عظيمة والمشتري يظنه يسيرا لم يبرأ حتى يبين له ذلك
قال: ابو القاسم ابن الكاتب لا يختلف قول مالك في ان بيع السلطان بيع براءة على المفلس أو لقضاء ديون من تركة ميت براءة أيضا وان لم يشترطها قال: وانما كان كذلك لانه حكم منه بالمبيع وبيع البراءة مختلف فيه فإذا حكم السلطان بأحد اقوال العلماء لم ترد قضيته عند من يرى خلاف رأيه فيما حكم به ورد ذلك عليه المازري وغيره وقالوا السلطان لم يتعرض في البيع إلى خلاف ولا وفاق ولا قصد إلى حكم به يرفع النزاع وقد حكى بعض الشيوخ الخلاف في بيع البراءة ولو تولاه السلطان بنفسه قال: وذلك لان سحنون قال: وكان قول مالك القديم ان بيع السلطان وبيع الوارث لا قيام فيه بعيب ولا بعهدة قال: وهذا يدل على ان له قولا آخر خلاف هذا وقال ويدل عليه ان ابن القاسم قال: اذا بيع عبد على مفلس فإن للمشتري ان يرده بالعيب قال: فالصواب ان بيع السلطان وبيع الورثة كغيرهما قال: المازري اما بيع الورثة لقضاء ديونه وتنفيذ وصاياه فإن فيه الخلاف المشهور قال: واما ما باعوه لانفسهم للانفصال من شركة بعضهم لبعض فملتحق ببيع الرجل مال نفسه بالبراءة وكذلك من باع للانفاق على من في ولايته قلت وقول المازري ان بيع السلطان لا تعرض فيه لحكم مبني على اصل وهو ان الحاكم اذا عقد(9/434)
ص -393-…بنفسه عقدا مختلفا فيه هل يكون بمنزلة حكمه به فيسوغ تنفيذه ولا يسوغ رده أو لا يكون حكما منه به فيسوغ لحاكم اخر خلافه وفي هذا الاصل قولان للفقهاء وهما في مذهب الامام احمد وغيره فهذا تقرير مذلك في هذه المسألة
وأما مذهب أبي حنيفة فإنه يصحح البيع والشرط ولا يمكن المشتري من الرد بعد اشتراط البراءة العامة سواء علم البائع العيب أو لو يعلمه حيوانا كان المبيع أو غيره وتناضر في هذه المسألة أبو حنيفة وابن أبي ليل فقال ابن أبي ليلى لا يبرأ إلا من عيب اشار اليه ووضع يده عليه فقال ابو حنيفة فلو ان امرأة من قريش باعت عبدا زنجيا على ذكره عيب افتضع اصبعها على ذكره فسكت ابن أبي ليلى
وأما مذهب الامام احمد فعنه ثلاث روايات إحداهن انه لا يبرأ بذلك ولا يسقط حق المشتري من الرد بالعيب الا من عيب عنه وعلم به المشتري والثانية انه يبرأ مطلقا والثالثة انه يبرأ من كل عيب لم يعلمه ولا يبرأ من كل عيب علمه حتى يعلم به المشتري
فإن صححنا البيع والشرط فلا إشكال وإن أبطلنا الشرط فهل يبطل البيع أو يصح ويثبت الرد فيه وجهان فإذا اثبتنا الرد وابطلنا الشرط فللبائع الرجوع بالتفاوت الذي نقص من ثمن السلعة بالشرط الذي لم يسلم له فإنه انما باعها بذلك الثمن بناء على ان المشتري لا يردها عليه بعيب ولو علم ان المشتري يتمكن من ردها لم يبعها بذلك الثمن فله الرجوع بالتفاوت وهذا هو العدل وقياس اصول الشريعة فان المشتري كما يرجع بالارش عند فوات غرضه من سلامة المبيع فكذا البائع يرجع بالتفاوت عند فوات غرضه من الشرط الذي ابطلناه عليه
والصحيح في هذه المسألة ما جاء عن الصحابة فإن عبدالله بن عمر باع(9/435)
ص -394-…زيد بن ثابت عبدا بشرط البراءة بثمانمائة درهم فأصاب به زيد عيبا فأراد رده على ابن عمر فلم يقبله فترافعا إلى عثمان فقال عثمان لابن عمر تحلف انك لم تعلم بهذا العيب فقال لا فرده عليه فباعه ابن عمر بألف درهم ذكره الامام احمد وغيره وهذا اتفاق منهم على صحة البيع وجواز شرط البراءة واتفاق من عثمان وزيد على ان البائع اذا علم بالعيب لم ينفعه شرط البراءة وعلى ان المدعى عليه متى نكل عن اليمين قضى عليه بالنكول ولم ترد اليمين على المدعى لكن هذا فيما اذا كان المدعى عليه منفردا بمعرفة الحال فاذا لم يحلف مع كونه عالما بصورة الحال قضى عليه بالنكول واما اذا كان المدعى هو المنفرد بالعلم بالحال أو كان مما لا يخفى عليه علمها ردت عليه اليمين فمثال الاول قضية ابن عمر هذه فانه هو العالم بانه هل كان يعلم الغيب أو لا يعلمه بخلاف زيد بن ثابت فإنه لا يعلم علم ابن عمر بذلك ولا عدم علمه فلا يشرع رد اليمين عليه ومثال الثاني اذا ادعى على وارث ميت انه اقرض مورثه مائة درهم أو باعه سلعة ولم يقبضه ثمنها أو اودعه وديعة والوارث غائب لا يعلم ذلك وسأل إحلافه فنكل عن اليمين لم يقض عليه بالنكول وردت اليمين على المدعى لانه منفرد بعلم ذلك فاذا لم يحلف لم يقض له ومثال الثالث اذا ادعى عليه انه باعه أو اجره فنكل عن اليمين حلف المدعى وقضى له فإن لم يحلف لم يقض له بنكول المدعى عليه لانه عالم بصحة ما ادعاه فإذا لم يحلف ولم يقم له بينه لم يكن مجرد نكول خصمه مصححا لدعواه
فهذا التحقيق احسن ما قيل: في مسألة النكول ورد اليمين وعليه تدل آثار الصحابة ويزول عنها الاختلاف ويكون هذا في موضعه وهذا في موضعه
وعرف حذيفة جملا له فادعاه فنكل المدعى عليه وتوجهت اليمن على حذيفة فقال أتراني اترك جملى فحلف بالله انه ما باع ولا هب(9/436)
ص -395-…فقد ثبت تحليف المدعى اذا اقام شاهدا واحدا والشاهد اقوى من النكول فتحليفه مع النكول اولى وقد شرع الله ورسوله تحليف المدعى في ايمان القسامة لقوة جانبه باللوث فتحليفه مع النكول اولى وكذلك شرع تحليف الزوج في اللعان وكذلك شرع تحليف المدعى اذا كان شاهد الحال يصدقه كما اذا تداعيا متاع البيت أو تداعى النجار والخياط آلة كل منهما فإنه يقضى لمن تدل الحال على صحة دعواه مع يمينه وقد روى في حديث مرفوع ان النبي صلى الله عليه وسلم رد اليمين على طالب الحق ذكره الدارقطني وغيره وهذا محض الفقه والقياس فأنه اذا نكل قوى جانب المدعى فظن صدقه فشرع اليمين في حقه فإن اليمين إنما شرعت في جانب المدعى عليه لقوة جانبه بالاصل فإذا شهد الشاهد الواحد ضعف هذا الاصل ولم يتمكن قوته من الاستقلال وقوى جانب المدعى باليمين وهكذا اذا نكل ضعف اصل البراءة ولم يكن النكول مستقلا بإثبات الدعوى لجواز ان يكون لجهله بالحال أو لتورعه عن اليمين أو للخوف من عاقبة اليمين أو لموافقة قضاء وقدر فيظن الظان انه بسبب اليمين أو لترفعه عن ابتذاله باستحلاف خصمه له مع علمه بأنه لو حلف كان صادقا واذا احتمل نكوله هذه الوجوه لم يكن مستقلا بل غايته ان يكون مقويا لجنبة المدعى فترد اليمين عليه ولم تكن هذه المسألة مقصودة وانما جر اليها الكلام في اثر ابن عمر وزيد في مسألة البراءة
وقد علم حكم هذا الشرط واين ينتفع به البار واين لا ينتفع به
وإن قيل: فهل ينفعه ان يشترط على المشتري انه متى رده فهو حر ام لا ينفعه واذا خاف توكيله في الرد استوثق منه بقوله متى رددته أو وكلت في رده فان خاف من رد الحاكم عليه حيث يرده بالشرع فلا يكون المشتري هو الراد ولا وكيله بل الحاكم المنفذ للشرع فاستوثق منه بقوله إذا دعيت رده فهو حر فهنا تصعب الحيلة على الرد إلا على مذهب أبي ثور واحد الوجهين في مذهب الامام احمد وهو(9/437)
ص -396-…إجماع الصحابة ان تعليق العتق متى قصد به الحض أو المنع فهو يمين حكمه حكم اليمين بالحج والصوم والصدقة وحكم ما لو قال: ان رددته فعلى ان اعتقه بل اولى بعدم العتق فإن هذا نذر قربة ولكن اخراجه مخرج اليمين منع لزوم الوفاء به مع ان الالتزام به اكثر من الالتزام بقوله فهو حر فكل ما في التزام قوله فهو حر فهو داخل في التزام فعلى ان اعتقه ولا ينعكس فإن قوله فعلى ان اعتقه يتضمن وجوب الاعتاق وفعل العتق ووقوع الحرية فإذا منع قصد الحض أو المنع وقوع ثلاثة اشياء فلأن يمنع وقوع واحد منها اولى واحرى وهذا لا جواب عنه وهو مما يبين فضل فقه الصحابة وان بين فقههم وفقه من بعدهم كما بينه وبينهم وحتى لو لم يصح ذلك عنهم لكان هذا محض القياس ومقتضى قواعد الشرع واصوله من اكثر من عشرين وجها لا تخفي على متبحر تتبعها ويكفي قول فقيه الامة وحبرها وترجمان القرآن ابن عباس العتق ما ابتغى به وجه الله والطلاق ما كان عن وطر فتأمل هاتين الكلمتين الشريفتين الصادرتين عن علم قد رسخ اسفله وبسق اعلاه واينعت ثمرته وذللت للطالب قطوفه ثم احكم بالكلمتين على ايمان الحالفين بالعتق والطلاق هل تجد الحالف بهذا ممن يبتغي به وجه الله والتقرب اليه باعتاق هذا العبد وهل تجد الحالف بالطلاق ممن له وطرفي طلاق زوجته فرضى الله عن جبر هذه الامه لقد شفت كلمتاه هاتان الصدور وطبقتا المفصل واصابتا المحز وكانتا برهانا على استجابة دعوة صلى الله عليه وسلم ان يعلمه الله التأويل ويفقهه في الدين ولا يوحشنك من قد اقر على نفسه هو و جميع اهل العلم انه ليس من اولى العلم فإذا ظفرت برجل واحد من اولى العلم طالب للدليل محكم له متبع للحق حيث كان واين كان ومع من كان زالت الوحشة وحصلت الالفة ولو خالفك فإنه يخالفك ويعذرك والجاهل الظالم يخالفك بلا حجة ويكفرك أو يبدعك بلا حجة وذنبك رغبتك عن طريقته الوخيمة وسيرته الذميمة فلا تغتر بكثرة هذا الضرب وفإن الآلاف(9/438)
المؤلفة منهم لا يعدلون بشخص واحد من اهل العلم والواحد من اهل العلم يعدل بملء الارض منهم(9/439)
ص -397-…واعلم أن الإجماع والحجة والسواد الأعظم هو العالم صاحب الحق وإن كان وحده وإن خالفه أهل الأرض قال: عمرو بن ميمون الاودى صحبت معاذا باليمن فما فارقته حتى واريته في التراب بالشام ثم صبحت من بعده افقه الناس عبد الله ابن مسعود فسمعته يقول عليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ثم سمعته يوما من الأيام وهو يقول سيولى عليكم ولاة يؤخرون الصلاة عن مواقيتها فصلوا الصلاة لميقاتها فهى الفريضة وصلوا معهم فإنها لكم نافلة قال: قلت يا أصحاب محمد ما ادري ما تحدثون قال: وما ذاك قلت تأمرني بالجماعة وتحضني عليها ثم تقول لي صل الصلاة وحدك وهي الفريضة وصل مع الجماعة وهي نافلة قال: يا عمرو بن ميمون قد كنت أظنك من أفقه أهل هذه القرية أتدري ما الجماعة قلت لا قال: إن جمهور الجماعة هم الذين فارقوا الجماعة الجماعة ما وافق الحق وان كنت وحدك وفي لفظ آخر فضرب على فخذي وقال ويحك أن جمهور الناس فارقوا الجماعة وان الجماعة ما وافق طاعة الله تعالى
وقال نعيم بن حماد إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد وان كنت وحدك فإنك أنت الجماعة حينئذ ذكرهما البيهقى وغيره(9/440)
وقال بعض أئمة الحديث وقد ذكر له السواد الأعظم فقال أتدرى ما السواد الأعظم هو محمد بن أسلم الطوسي واصحابه فمسخ المختلفون الذين جعلوا السواد الأعظم والحجة والجماعة هم الجمهور وجعلوهم عيارا على السنة وجعلوا السنة بدعة والمعروف منكرا لقلة أهله وتفردهم في الإعصار والأمصار وقالوا من شذ شذ الله به في النار وما عرف المختلفون أن الشاذ ما خالف الحق وان كان الناس كلهم عليه إلا واحدا منهم فهم الشاذون وقد شد الناس كلهم زمن احمد بن حنبل إلا نفرا يسيرا فكانوا هم الجماعة وكانت القضاة حينئذ والمفتون والخليفة وأتباعه كلهم هم الشاذون وكان الإمام احمد وحده هو الجماعة ولما لم يتحمل هذا عقول الناس قالوا: للخليفة يا أمير المؤمنين أتكون أنت وقضاتك وولاتك والفقهاء والمفتون كلهم على الباطل واحمد وحده هو على الحق(9/441)
ص -398-…فلم يتسع علمه لذلك فأخذه بالسياط والعقوبة بعد الحبس الطويل فلا إله إلا الله ما أشبه الليلة بالبارحة وهي السبيل المهيع لأهل السنة والجماعة حتى يلقوا ربهم مضى عليها سلفهم وينتظرها خلفهم من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم
المثال الثالث والستون إذا وقعت الفرقة البائنة بين الزوجين لم تجب لها عليه نفقة ولا سكنى بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة الصريحة فإن خاف أن ترفعه إلى حاكم يرى وجوب ذلك عليه فالحيلة أن يتغيب مدة العدة فإذا رفعته بعد ذلك لم يحكم بها عليه لأنها تسقط عنه بمضي الزمان كما يقوله الاكثرون في نفقة القريب وكما هو متفق عليه في نفقة العبد والحيوان البهيم ولا كراهة في هذه الحيلة لأنها وسيلة إلى اسقاط ما أسقطه الله ورسوله بخلاف الحيلة على إسقاط ما أوجبه الله ورسوله فهذه لون وتلك لون فإن لم تمكنه الغيبة وأمكنه أن يرفعها إلى حاكم يحكم بسقوط ذلك فعل والحيلة في أن يتوصل إلى حكم حاكم بذلك أن ينشيء الطلاق أو يقر به بحضرته ثم يسأله الحكم بما يراه من سقوط النفقة والسكنى بهذه الفرقة مع علمه باختلاف العلماء في ذلك فإن بدرته إلى حاكم يرى وجوبها فقد ضاقت عليه وجوه الحيل ولم يبق له إلا حيلة واحدة وهي دعواه أنها كانت بانت منه قبل ذلك بمدة تزيد على انقضاء عدتها وانه نسى البينونة وهذه الحيلة تدخل في قسم التوصل إلى الجائز بالمحظور كما تقدم نظائره
المثال الرابع والستون اختلف الفقهاء في الضمان هل هو تعدد لمحل الحق وقيام للضمين مقام المضمون عنه أو هو استيثاق بمنزلة الرهن على قولين وهما روايتان عن مالك يظهر أثرهما في مطالبة الضامن مع التمكن من مطالبة المضمون عنه فمن قال: بالقول الأول وهم الجمهور قالوا: لصاحب الحق مطالبة من شاء(9/442)
ص -399-…منهما على السواء ومن قال: بالقول الثاني قال: ليس له مطالبة الضامن إلا إذا تعذر عليه مطالبة المضمون عنه واحتج هؤلاء بثلاث حجج إحداها أن الضامن فرع والمضمون عنه اصل وقاعدة الشريعة أن الفروع والأبدال لا يصار إليها إلا عند تعذر الأصول كالتراب في الطهارة والصوم في كفارة اليمين وشاهد الفرع مع شاهد الأصل وقد اطرد هذا في ولاية النكاح واستحقاق الميراث لا يلى فرع مع أصله ولا يرث معه الحجة الثانية أن الكفالة توثقه وحفظ للحق فهى جارية مجرى الرهن ولكن ذاك رهن عين وهي رهن ذمة أقامها الشارع مقام رهن الأعيان للحاجة إليها واستدعاء المصلحة لها والرهن لا يستوفي منه إلا مع تعذر الاستيفاء من الراهن فكذا الضمين ولهذا كثيرا ما يقترن الرهن والضمين لتواخيهما وتشابههما وحصول الاستيثاق بكل منهما الحجة الثالثة أن الضامن في الأصل لم يوضع لتعدد محل الحق كما لم يوضع لنقله وإنما وضع ليحفظ صاحب الحق حقه من التوى والهلاك ويكون له محل يرجع إليه عند تعذر الاستيفاء من محله الأصلي ولم ينصب الضامن نفسه لان يطالبه المضمون له مع وجود الأصيل ويسرته والتمكن من مطالبته والناس يستقبحون هذا ويعدون فاعله متعديا ولا يعذرونه بالمطالبة حتى إذا تعذر عليه مطالبة الأصيل عذروه بمطالبة الضامن وكانوا عونا له عليه وهذا أمر مستقر في فطر الناس ومعاملاتهم بحيث لو طالب الضامن والمضمون عنده إلى جانبه والدراهم في كمه وهو متمكن من مطالبته لاستقبحوا ذلك غاية الاستقباح وهذا القول في القوة كما ترى وهو رواية ابن القاسم في الكتاب عن مالك ولا ينافى هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم الزعيم غارم فإنه لا عموم له ولا يدل على انه غارم في جميع الأحوال ولهذا لو أدى الأصيل لم يكن غارما ولحديث أبى قتادة في ضمان دين الميت لتعذر مطالبة الأصيل ولا يصح الاحتجاج بأن الضمان مشتق من الضم فاقتضى لفظه ضم إحدى الذمتين إلى الأخرى لوجهين أحدهما أن الضم من(9/443)
المضاعف(9/444)
ص -400-…والضمان من الضمين فمادتهما مختلفة ومعناهما مختلف وان تشابها لفظا ومعنى في بعض الأمور الثاني انه لو كان مشتقا من الضم فالضم قدر مشترك بين ضم يطالب معه استقلالا وبدلا والأعم لا يستلزم الأخص
وإذا عرف هذا و أراد الضامن الدخول عليه فالحيلة أن يعلق الضمان بالشرط فيقول إن توى المال على الأصيل فأنا ضامن له ولا يمنع تعليق الضمان بالشرط وقد صرح القرآن بتعليقه بالشرط وهو محض القياس فإنه التزام فجاز تعليقه بالشرط كالنذور والمؤمنون عند شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا وهذا ليس واحدا منهما ومقاطع الحقوق عند الشروط فإن خاف من قاصر في الفقه غير راسخ في حقائقه فليقل ضمنت لك هذا الدين عند تعذر استيفائه ممن هو عليه فهذا ضمان مخصوص بحاله مخصوصة فلا يجوز إلزامه به في غيرها كما لو ضمن الحال مؤجلا أو ضمنه في مكان دون مكان فإن خاف من إفساد هذا أيضا فليشهد عليه أنه لا يستحق المطالبة له به إلا عند تعذر مطالبة الأصيل وأنه متى طالبه أو ادعى عليه به مع قدرته على الأصيل كانت دعواه باطلة والله اعلم
المثال الخامس والستون قد تدعو الحاجة إلى أن يكون عقد الإجارة مبهما غير معين فمثاله أن يقول له إن ركبت هذه الدابة إلى أرض كذا فلك عشرة وإن ركبتها إلى أرض كذا فلك خمسة عشر أو يقول إن خطت هذا القميص اليوم فلك درهم وإن خطته غدا فنصف درهم وإن زرعت هذه الأرض حنطة فأجرتها مائة أو شعيرا فأجرتها خمسون ونحو ذلك فهذا كله جائز صحيح لا يدل على بطلانه كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس بل هذه الأدلة تقتضي صحته وان كان فيه نزاع متأخر فالثابت عن الصحابة الذي لا يعلم عنهم فيه نزاع جوازه كما ذكره البخاري في صحيحه عن عمر انه دفع أرضه إلى من يزرعها وقال ان جاء عمر بالبذر من عنده فله كذا وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا ولم(9/445)
ص -401-…يخالفه صحابي واحد ولا محذور في ذلك ولا خطر ولا غرر ولا أكل مال بالباطل ولا جهالة تعود إلى العمل ولا إلى العوض فإنه لا يقع إلا معينا والخيرة إلى الأجير أي ذلك احب أن يستوفي فعل فهو كما لو قال: له أي ثوب أخذته من هذا الثياب فقيمته كذا أو أي دابة ركبتها فأجرتها كذا أو أجرة هذه الفرس كذا وأجرة هذا الحمار كذا فأيها شئت فخذه أو ثمن هذا الثوب مائة وثمن هذا مائتان ونحو ذلك مما ليس فيه غرر ولا جهالة ولا ربا ولا ظلم فكيف تأتى الشريعة بتحريمه وعلى هذا فلا يحتاج إلى حيلة على فعله وكثير من المتأخرين من أتباع الأئمة يبطل هذا العقد فالحيلة على جوازه أن يقول استأجرتك لتخيطه اليوم بدرهم فإن خطته غدا فلك أجرة مثله نصف درهم وكذا يقول أجرتك هذه الدابة إلى ارض كذا بعشرة فإن ركبتها إلى ارض كذاو كذا فعليك أجرة مثلها كذا وكذا فإن خاف أن يكون يده يد عدوان ضمنه فليقل فإذا انقضت المسافة الأولى فهى أمانة عندك هذا عند من لم يصحح الإجارة المضافة ومن صححها فالحيلة عنده أن يقول فإذا قطعت هذه المسافة فقد آجرتكها إلى مسافة كذا وكذا فإذا انتهت آجرتكها إلى مسافة كذا وكذا فإن خشى المستأجر أن ينقضى شغله قبل ذلك فيبقى عقد الإجارة لازما له وقد فرغ شغله فالحيلة أن يقول إذا انقضت المسافة أو المدة فقد وكلتك في إجارتها لمن شئت فليؤجرها لغيره ثم يستأجرها منه فإن خاف أن لا تتم هذه الحيلة على اصل من لا يجوز تعليق الوكالة بالشرط فليوكله في الحال وكالة غير معلقة ثم يعلق تصرفه بالشرط فيقول أنت وكيلي في إجارتها فإذا انقضت المدة فقد أذنت لك في إجارتها
وقال القاضي أبو يعلى في كتاب إبطال الحيل إن احتال في إجازة هذا الشرط فقال استأجرها إلى دمشق بكذا ومن دمشق إلى الرملة بكذا ومن الرملة إلى مصر بكذا جاز له لأنه إذا سمى لكل من المسافتين أجرة معلومة فكل واحدة منهما كالمعقود عليه على حاله فلا يمنع صحة العقد(9/446)
ص -402-…قلت ولكن لا تنفعه هذه الحيلة إذا انقضى غرضه عند المسافة الأولى ويبقى عقد الإجارة لازما له فيما وراءها فتصير كما لو استأجرها إلى مصر فانقضى غرضه في الرملة فما الذي أفاده تعدد العقود فوجود هذه الحيلة وعدمها سواء فالوجه ما ذكرناه والله أعلم
المثال السادس والستون يجوز بيع المقاثي والباذنجان ونحوها بعد أن يبدو صلاحها كما تباع الثمار في رؤوس الأشجار ولا يمنع من صحة البيع تلاحق المبيع شيئا بعد شيء كما لم يمنع ذلك صحة بيع التوت والتين وسائر ما يخرج شيئا بعد شيء هذا محض القياس وعليه تقوم مصالح بني آدم ولا بد لهم منه ومن منع بيع ذلك إلا لقطة لقطة فمع أن ذلك متعذر في الغالب لا سبيل إليه إذ هو في غاية الحرج والعسر فهو مجهول لا ينضبط ولا ما هي اللقطة المبيعة أهي الكبار أو الصغار أو المتوسط أو بعض ذلك وتكون المقثأة كبيرة جدا لا يمكن اخذ اللقطة الواحدة إلا في أيام متعددة فيحدث كل يوم لقطة أخرى تختلط بالمبيع ولا يمكن تميزها منه ولا سبيل إلى الاحتراز من ذلك إلا أن يجمع دواب المصر كلها في يوم واحد ومن أمكنه من القطافين ثم يقطع الجميع في يوم واحد ويعرضه للتلف والضياع وحاشا أكمل الشرائع بل غيرها من الشرائع أن تأتى بمثل هذا وإنما هذا من الاغلاط الواقعة بالاجتهاد وأين حرم الله ورسوله على الأمة ما هم أحوج الناس إليه ثم أباح لهم نظيره فإن كان هذا غررا فبيع الثمار المتلاحقة الأجزاء غرر وإن لم يكن ذلك غررا فهذا مثله والصواب أن كليهما ليس غررا لا لغة ولا عرفا ولا شرعا ودعوى أن ذلك غرر دعوى بلا برهان فإن ادعى ذلك على اللغة طولب بالنقل ولن يجد إليه سبيلا وإن ادعى ذلك على العرف فالعرف شاهد بخلافه واهل العرف لا يعدون ذلك غررا وإن ادعاه على الشرع طولب بالدليل الشرعي فإن بلى بمن يقول هكذا في الكتاب وهكذا قالوا: فالحيلة في الجواز أن يشتري ذلك بعروقه فإذا استوفى ثمرته تصرف في العروق بما يريد(9/447)
والمانعون يجوزون هذه الحيلة ومن المعلوم أن العروق غير مقصودة وإنما المقصود الثمرة(9/448)
ص -403-…فان امتنع البيع لأجل الغرر لم يزل بملك العروق وهذا في غاية الظهور وبيع ذلك كبيع الثمار وهو قول أهل المدينة واحد الوجهين في مذهب الإمام احمد واختاره شيخنا(9/449)
عنوان الكتاب:
إعلام الموقعين عن رب العالمين – الجزء الرابع
تأليف:
محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية
751هـ
دراسة وتحقيق:
طه عبد الرؤوف سعد
الناشر:
مكتبة الكليات الأزهرية، مصر، القاهرة
1388هـ/1968م(10/1)
ص -3-…المثال السابع والستون: تجوز قسمة الدين المشترك بميراث أو عقد أو إتلاف فينفرد كل من الشريكين بحصته ويختص بما قبضه سواء كان في ذمة واحدة أوفي ذمم متعددة فإن الحق لهما فيجوز أن يتفقا على قسمته أو على بقائه مشتركا ولا محذور في ذلك بل هذه أولى بالجواز من قسمة المنافع بالمهايأة بالزمان أو بالمكان ولا سيما فان المهايأة بالزمان تقتضي تقدم أحدهما على الأخر وقد تسلم المنفعة إلى نوبة الشريك وقد تتوى والدين في الذمة يقوم مقام العين ولهذا تصح المعاوضة عليه من الغريم وغيره وتجب على صاحبه زكاته إذا تمكن من قبضه ويجب عليه الإنفاق على أهله وولده ورقيقه منه ولا يعد فقيرا معدما فاقتسامه يجري مجرى اقتسام الأعيان والمنافع
فإذا رضى كل من الشريكين أن يختص بما يخصه من الدين فينفرد هذا برجل يطالبه وهذا برجل يطالبه أو ينفرد هذا بالمطالبة بحصته وهذا بالمطالبة بحصته لم يهدما بذلك قاعدة من قواعد الشريعة ولا استحلا ما حرم الله ولا خالفا نص كتاب الله ولا سنة رسوله ولا قول صاحب ولا قياسا شهد له الشرع بالاعتبار وغاية ما يقدر عدم تكافؤ الذمم ووقوع التفاوت فيها وأن ما في الذمة لم يتعين فلا يمكن قسمته وهذا لا يمنع تراضيهما بالقسمة مع التفاوت فإن الحق لا يعدوهما وعدم تعين ما في الذمة لا يمنع القسمة فإنه يتعين تقديرا ويكفي في إمكان القسمة التعين بوجه فهو معين تقديرا ويتعين بالقبض تحقيقا
وأما قول أبي الوفاء ابن عقيل لا تختلف الرواية عن احمد في عدم جواز(10/2)
ص -4-…قسمة الدين في الذمة الواحدة واختلفت الرواية عنه في جواز قسمته إذا كان في الذمتين فعنه فيه روايتان فليس كذلك بل عنه في كل من الصورتين روايتان وليس في أصوله ما يمنع جواز القسمة كما ليس في أصول الشريعة ما يمنعها وعلى هذا فلا يحتاج إلى حيلة على الجواز وأما من منع من القسمة فقد تشتد الحاجة إليها فيحتاج إلى التحليل عليها فالحيلة أن يأذن لشريكه أن يقبض من الغريم ما يخصه فإذا فعل لم يكن لشريكه أن يخاصمه فيه بعد الاذن على الصحيح من المذهب كما صرح به الأصحاب وكذلك لو قبض حصته ثم استهلكها قبل المحاصة لم يضمن لشريكه شيئا وكان المقبوض من ضمانه خاصة وذلك أنه لما أذن لشريكه في قبض ما يخصه فقد أسقط حقه من المحاصة فيختص الشريك بالمقبوض وأما إذا استهلك الشريك ما قبضه فإنه لا يضمن لشريكه حصته منه من قبل المحاصة لأنه لم يدخل في ملكه ولم يتعين له بمجرد قبض الشريك له ولهذا لو وفى شريكه نظيره لم يقل انتقل إلى القابض الأول ما كان ملكا للشريك فدل على أنه إنما بصير ملكا له بالمحاصة لا بمجرد قبض الشريك
ومن الأصحاب من فرق بين كون الدين بعقد وبين كونه بإتلاف أو إرث ووجه الفرق أنه إذا كان بعقد فكأنه عقد مع الشريكين فلكل منهما أن يطالب بما يخصه بخلاف دين الإرث والإتلاف والله أعلم
المثال الثامن والستون اختلف الفقهاء في جواز بيع المغيبات في الأرض من البصل والثوم والجزر واللفت والفجل والقلقاس ونحوها على قولين أحدهما المنع من بيعه كذلك لأنه مجهول غير مشاهد والورق لا يدل على باطنه بخلاف ظاهر الصبرة وعند أصحاب هذا القول لا يباع حتى يقلع والقول الثاني يجوز بيعه كذلك على ما جرت به عادة أصحاب الحقول وهذا قول أهل المدينة وهو أحد الوجهين في مذهب الإمام أحمد اختاره شيخنا وهو الصواب المقطوع به فإن في المنع من بيع ذلك حتى يقلع أعظم الضرر(10/3)
ص -5-…والحرج والمشقة مع ما فيه من الفساد الذي لا تأتي به شريعة فإنه إن قلعه كله في وقت واحد تعرض للتلف والفساد وإن قيل كلما أردت بيع شيء منه فاقلعه كان فيه من الحرج والعسر ما هو معلوم وإن قيل اتركه في الأرض حتى يفسد ولاتبعه فيها فهذا لا تأتي به شريعة وبالجمله فالمفتون بهذا القول لو بلوا بذلك في حقولهم أو ما هو وقف عليهم ونحو ذلك لم يمكنهم إلا بيعه في الأرض ولابد أو أتلافه وعدم الانتفاع به وقول القائل إن هذا غرر ومجهول فهذا ليس حظ الفقيه ولا هو من شأنه وإنما هذا من شأن أهل الخبرة بذلك فإن عدوه قمارا أو غررا فهم أعلم بذلك وإنما حظ الفقيه يحل كذا لأن الله أباحه ويحرم كذا لأن الله حرمه وقال الله وقال رسوله وقال الصحابة وأما أن يرى هذا خطرا وقمارأ أو غررا فليس من شأنه بل أربابه أخبر بهذا منه والمرجع إليهم فيه كما يرجع إليهم في كون هذا الوصف عيبا أم لا وكون هذا البيع مربحا أم لا وكون هذه السلعة نافقة في وقت كذا وبلد كذا ونحو ذلك من الأوصاف الحسية والأمور العرفية فالفقهاء بالنسبة إليهم فيها مثلهم بالنسبة إلى ما في الأحكام الشرعية
فإن بليت بمن يقول هكذا في الكتاب وهكذا قالوا فالحيلة في الجواز أن تستأجر منه الأرض المشغولة بذلك مدة يعلم فراغه منها ويقر له إقرارا مشهودا له به أن ما في باطن الأرض له لاحق للمؤجر فيه ولكن عكس هذه الحيلة لو أصابته آفة لم يتمكن من وضع الجائحة عنه بخلاف ما إذا اشتراه بعد بدو صلاحه فإنه كالثمرة على رءوس الشجر إن أصابته آفة وضعت عنه الجائحة وهذا الصواب في المسألتين جواز بيعه ووضع الجوائح فيه والله أعلم
المثال التاسع والستون اختلفت الفقهاء في جواز البيع بما ينقطع به السعر من غير تقدير الثمن وقت العقد وصورتها البيع ممن يعامله من خباز أو لحام أو سمان(10/4)
ص -6-…أو غيرهم يأخذ منه كل يوم شيئا معلوما ثم يحاسبه عند رأس الشهر أو السنة على الجميع ويعطيه ثمنه فمنعه الأكثرون وجعلو القبض به غير ناقل للملك وهو قبض فاسد يجري مجرى المقبوض بالغصب لأنه مقبوض بعقد فاسد هذا وكلهم إلا شدد على نفسه يفعل ذلك ولا يجد منه بدا وهو يفتي ببطلانه وأنه باق على ملك البائع ولا يمكنه التخلص من ذلك إلا بمساومته له عند كل حاجة يأخذها قل ثمنها أو كثر وإن كان ممن شرط الإيجاب والقبول لفظا فلا بد مع المساوة أن يقرن بها الإيجاب والقبول لفظا والقول الثاني وهو الصواب المقطوع به وهو عمل الناس في كل عصر ومصر جواز البيع بما ينقطع به السعر وهو منصوص الإمام أحمد واختاره شيخنا وسمعته يقول هو أطيب لقلب المشتري من المساومة يقول لي أسوة بالناس اخذ بما يأخذ به غيري قال والذين يمنعون من ذلك لا يمكنهم تركه بل هم واقعون فيه وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا إجماع الأمة ولا قول صاحب ولا قياس صحيح ما يحرمه
وقد أجمعت الأمة على صحة النكاح بمهر المثل وأكثرهم يجوزون عقد الإجارة بأجرة المثل كالنكاح والغسال والخباز والملاح وقيم الحمام والمكاري والبيع بثمن المثل كبيع ماء الحمام فغاية البيع بالسعر أن يكون بيعه بثمن المثل فيجوز كما تجوز المعاوضة بثمن المثل في هذه الصورة وغيرها فهذا هو القياس الصحيح ولا تقوم مصالح الناس إلا به
فإن بليت بالقائل هكذا في الكتاب وهكذا قالوا فالحيلة في الجواز أن يأخذ ذلك قرضا في ذمته ذمته فيجب عليه للدافع مثله ثم يعاوضه عليه بثمن معلوم فإنه بيع للدين من الغريم وهو جائز ولكن في هذه الحيلة افة وهو أنه قد يرتفع السعر فيطالبه بالمثل فيتضرر الأخذ وقد ينخفض فيعطيه المثل فيتضرر الأول فالطريق الشرعية التي لم يحرمها الله ورسوله أولى بهما والله أعلم(10/5)
ص -7-…المثال السبعون: إذا كان عليه دين وله وقف من غلة دار أو بستان فوكل صاحب الدين أن يستوفي ذلك من دينه جاز فإن خاف أن يحتال عليه ويعزله عن الوكالة فليجعلها حوالة على من في ذمته عوض ذلك المغل فإن لم يكن قد وآجر الدار أو الأرض لأحد فالحيلة أن يستأجرها منه صاحب الدين بعوض في ذمته ثم يعاوضه بدينه من ذلك العوض فإن أراد أن يكون هو وكيله في استيفاء دينه من تلك المنافع لا بطريق الإجارة ولا بطريق الحوالة بل بطريق الوكالة في قبض ما يصير إليه من غلة ذلك الوقف وخاف عزله فالحيلة أن يأخذ إقراره أن الواقف شرط أن يقضي ما عليه من الدين أولا ثم يصرف إليه بعد الدين كذا و كذا وأنه وجب لفلان وهو الغريم عليه من الدين كذا وكذا وأنه يستحقه من مغل هذا الوقف مقدما به على سائر مصارف الوقف وأنه لا ينتقل من الموقوف شيء قبل قضاء الدين وأن ولاية أمر هذا الوقف إلى فلان حتى يستوفي ينه فإذا استوفاه فلا ولاية له عليه وإن حكم حاكم بذلك كان أوفق
المثال الحادي و السبعون: إذا كان له عليه دين فقال إن مت قبلي فأنت في حل وإن مت قبلك فأنت في حل صح و برىء في الصورتين فإن إحداهما وصية والأخرى إبراء معلق بالشرط ويصح تعليق الإبراء بالشرط لأنه إسقاط كما يصح تعليق العتق والطلاق وقد نص عليه الإمام أحمد في الإحلال من العرض والمال مثله
وقال أصحابنا وأصحاب الشافعي: إذا قال إن مت قبلك فأنت في حل هو إبراء صحيح لأنه وصية وإن قال إن مت قبلي فأنت في حل لم يصح لأنه تعليق للإبراء بالشرط ولم يقيموا شبهة فضلا عن دليل صحيح على امتناع تعليق الإبراء بالشرط ولا يدفعه نص ولا قياس ولاقول صاحب فالصواب صحة الإبراء في الموضعين وعلى هذا فلا يحتاج إلى حيلة(10/6)
ص -8-…فإن بلى من يقول هكذا في الكتاب وهكذا قالوا فالحيلة أن يشهد عليه أنه لا يستحق عليه شيئا بعد موته من هذا الدين ولا في تركته وإن شاء كتب الفصلين في سجل واحد وضمنه الوصية له به إن مات رب الدين وإن مات المدين فلا حق له به قبله فيصح حينئذ مستندا إلى ظاهر الإقرار وهو إبراء في المعنى
المثال الثاني والسبعون: لو غلظ المضارب أو الشريك وقال ربحت ألفا ثم أراد الرجوع لم يقبل منه لأنه إنكار بعد إقرار ولو أقام بينة على الغلط فالصحيح أنها تقبل وقيل لا تقبل لأنه مكذب لها فالحيلة في استدراكه ما غلط فيه بحيث تقبل منه أن يقول خسرتها بعد أن ربحتها فالقول قوله في ذلك ولا يلزمه الألف وهكذا الحيلة في استدراك كل أمين لظلامته كالمودع إذا رد الوديعة التي دفعت إليه ببينة ولم يشهد على ردها فهل يقبل قوله في الرد فيه قولان روايتان عن الإمام أحمد فإذا خاف أن لا يقبل قوله فالحيلة في تخلصه أن يدعى تلفها من غير تفريط فإن حلفه على ذلك فليحلف موريا متأولا من عنده خروجها من تحت يده ونظائر ذلك والله أعلم(10/7)
المثال الثالث والسبعون: إن استغرقت الديون ماله لم يصح تبرعه بما يضر بأرباب الديون سواء حجر عليه الحاكم أولم يحجر عليه هذا مذهب مالك واختيار شيخنا وعند الثلاثة يصح تصرفه في ماله قبل الحجر بأنواع التصرف والصحيح هو القول الأول هو الذي لا يليق بأصول المذهب غيره بل هو مقتضى أصول الشرع وقواعده لأن حق الغرماء قد تعلق بماله ولهذا يحجر عليها الحاكم ولو تعلق حق الغرماء بما له لم يسع الحاكم الحجر عليه فصار كالمريض مرض الموت لما تعلق حق الورثة بماله منعه الشارع من التبرع بما زاد على الثلث فإن في تمكينه من التبرع بماله إبطال حق الورثة منه وفي تمكين هذا المديان من التبرع إبطال حقوق الغرماء والشريعة لا تأتي بمثل هذا فإنها إنما جاءت بحفظ حقوق أرباب الحقوق بكل طريق وسد الطرق المفضية إلى إضاعتها وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها(10/8)
ص -9-…أداها الله عنه ومن أخذها يريد أتلافها أتلفه الله" ولا ريب أن هذا التبرع إتلاف لها فكيف ينفذ تبرع من دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على فاعله
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يحكى عن بعض علماء عصره من أصحاب احمد انه كان ينكر هذا المذهب و يضعفه قال إلى أن بلى بغريم تبرع قبل الحجر عليه فقال: والله مذهب مالك هو الحق في هذه المسألة و تبويب البخارى و ترجمتة و استدلاله يدل على اختياره هذا المذهب فانه قال في باب من رد أمر السفيه والضعيف وإن لم يكن حجر عليه الإمام ويذكر عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم رد على المتصدق قبل النهي ثم نهاه فتأمل هذا الاستدلال قال عبد الحق أراد به والله أعلم حديث جابر في بيع المدبر ثم قال البخاري في هذا الباب نفسه وقال مالك: "إذا كان لرجل على رجل مال وله عبد لا شيء له غيره فأعتقه لم يجز عتقه" ثم ذكر حديث: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أداها الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله" وهذا الذي حكاه عن مالك هو في كتب أصحابه
وقال ابن الجلاب: "ولا تجوز هبة المفلس ولا عتقه ولا صدقته إلا بإذن غرمائه وكذلك المديان الذي لم يفلسه غرماؤه في عتقه وهبته وصدقته" وهذا القول هو الذي لا نختار غيره
وعلى هذا فالحيلة لمن تبرع غريمه بهبة أو صدقة أو وقف أو عتق وليس في ماله سعة له ولدائنه أن يرفعه إلى حاكم يرى بطلان هذا التبرع ويسأله الحكم ببطلانه فإن لم يكن في بلده حاكم يحكم بذلك فالحيلة أن يأخذ عليه إذا خاف منه ذلك الضمين أو الرهن فإن بادر الغريم وتبرع قبل ذلك فقد ضاقت الحيلة على صاحب الحق ولم يبق غير أمر واحد وهو التوصل إلى إقراره بأن ما في يده أعيان أموال الغرماء فيمتنع التبرع بعد الإقرار فإن قدم تاريخ الإقرار بطل التبرع المتقدم أيضا وليست هذه حيلة على إبطال حق ولا تحقيق باطل بل على جور وظلم فلا بأس بها والله أعلم(10/9)
ص -10-…المثال الرابع والسبعون: إذا كان له عليه دين ولا بينة له به وخاف أن يجحده أوله بينة به ويخاف أن يمطله فالحيلة أن يستدين منه بقدر دينه إن أمكن ولا يضره أن يعطيه به رهنا أو كفيلا فإذا ثبت له في ذمته نظير دينه قاصه به وإن لم يرض على أصح المذاهب فإن حذر غريمه من ذلك وأمكنه أن يشتري منه سلعة ولا يعين الثمن ويخرج النقد فيضعه بين يديه فإذا قبض السلعة وطلب منه الثمن قاصه بالدين الذي عليه وبكل حال فطريق الحيلة أن يجعل له عليه من الدين نظير ماله
المثال الخامس والسبعون: إذا خاف العنت ولم يجد طول حرة وكره رق أولاده فالحيلة في عتقهم أن يشترط على السيد أن ما ولدته زوجته منه من الولد فهم أحرار فكل ولد تلده بعد ذلك منه فهو حر ويصح تعليق العتق بالولادة كما لو قال لأمته كل ولد تلدينه فهو حر قال ابن المنذر ولا أحفظ فيه خلافا فإن قيل فهل تجوزون نكاح الأمة بدون الشرطين إذا امن رق ولده بهذا التعليق قيل هذا محل اجتهاد ولا تأباه أصول الشريعة وليس فيه إلا أن الولد يثبت عليه الولاء للسيد وهو شعبة من الرق ومثل هذا هل ينتهض سببا لتحريم نكاح الأمة أو يقال وهو أظهر إن الله تعالى منع من نكاح الإماء لأنهن في الغالب لا يحجبن حجب الحرائر وهن في مهنة ساداتهن وحوائجهن وهن برزات لا مخدرات وهذه كانت عادة العرب في إمائهن وإلى اليوم فصان الله تعالى الأزواج أن تكون زوجاتهم بهذه المثابة مع ما يتبع ذلك من رق الولد وأباحه لهم عند الضرورة إليه كما أباح الميتة والدم ولحم الخنزير عند المخصمة وكل هذا منع منه تعالى كنكاح غير المحصنة ولهذا شرط تعالى في نكاحهن أن(10/10)
ص -11-…يكن محصنات غير مسافحات ولا ولا متخذات أخدان أي غير زانية مع من كان ولا زانية مع خدينها وعشيقها دون غيره فلم يبح لهم نكاح الإماء إلا بأربعة شروط عدم الطول وخوف العنت وإذن سيدها وأن تكون عفيفة غير فاجرة فجورا عاما ولا خاصا والله أعلم
والمثال السادس والسبعون: إذا لم تمكنه أمته من نفسها حتى يعتقها ويتزوجها ولا يريد إخراجها عن ملكه ولا تبصر نفسه عنها فالحيلة أن يبيعها أو يهبها لمن يثق به ويشهد عليه من حيث لا تعلم هي والبيع أجود لأنه لا يحتاج إلى قبض ثم يعتقها ثم يتزوجها فإذا فعل استردها من المشتري من حيث لا تعلم الجارية فانفسخ النكاح فيطؤها بملك اليمين ولا عدة عليها المثال السابع والسبعون إذا أراده من لا يملك رده على بيع جاريته منه فالحيلة في خلاصه أن يفعل ما ذكرناه سواء ويشهد على عتقها أو نكاحها ثم يستقيله البيع فيطؤها بملك اليمين في الباطن وهي زوجته في الظاهر ويجوز هذا لأنه يدفع به عن نفسه ولا يسقط به حق ذي حق وإن شاء احتال بحيلة أخرى وهى إ قراره بأنها وضعت منه ما يتبين به خلق الإنسان فصارت بذلك أم ولد لا يمكن نقل الملك فيها فإن أحب دفع التهمة عنه وأنه قصد بذلك التحيل فليبعها لمن يثق به ثم يواطىء المشترى على أن يدعى عليه أنها وضعت في ملكه ما فيه صورة إنسان ويقر بذلك فينفسخ البيع ويكتب بذلك محضرا فإنه يمتنع بيعها بعد ذلك
المثال الثامن والسبعون: إذا أراد أن يبيع الجارية من رجل بعينه ولم تطب نفسه بأن تكون عند غيره فله في ذلك أنواع من الحيل إحداها أن يشترط عليه أنه إن باعها فهو أحق بها بالثمن كما اشترطت ذلك امرأة(10/11)
ص -12-…عبد الله بن مسعود عليه ونص الإمام أحمد: على جواز البيع والشرط في رواية على بن سعيد وهو الصحيح فإن لم تتم له هذه الحيلة لعدم من ينفذها له فليشترط عليه أنك إن بعتها لغيري فهي حرة ويصح هذا الشرط وتعتق عليه إن باعها لغيره إما بمجرد الإيجاب عند صاحب المغنى وغيره وإما بالقبول فيقع العتق عقيبه وينفسخ البيع عند صاحب المحرر وهذه طريقة القاضي
قال في كتاب إبطال الحيل: "إذا قال إن بعتك هذا العبد فهو حر وقال المشتري إن اشتريته فهو حر فباعه عتق على البائع لأنه ليس له عند دخوله في ملك الآخر حال استقرار حتى يعتق عليه بنيته التابعة لأن خيار المجلس ثابت للبائع فملك المشتري غير مستقر" وقول صاحب المحرر وانفسخ البيع تقرير لهذه الطريقة وأنه إنما يعتق بالقبول ويعتق في مدة الخيار على أحد الوجوه الثلاثة
فإن لم تتم له هذه الحيلة عند من لا يصحح هذا التعليق ويقول إذا اشتراها ملكها ولا تعتق بالشرط في ملك الغير كما يقوله أبو حنيفه فله حيلة أخرى وهي أن يقول إذا بعتها فهي حرة قبل البيع فيصح هذا التعليق فإذا باعها حكمنا بوقوع العتق قبل البيع على أحد الوجهين في مذهب الشافعي وأحمد رضى الله عنهما فإذا لم تتم له هذه الحيلة عند من لا يصحح هذا التعليق فله حيلة أخرى وهي أن يقول إذا اشتريتها فهي مدبرة فيصح هذا التعليق ويمتنع بيعها عند أبي حنيفة فإن التدبير عنده جار مجرى العتق المعلق بصفة فإذا اشتراها صارت مدبرة ولم يمكنه بيعها عنده
فإن لم تتم له هذه الحيلة على قول من لا يجوز تعليق التدبير بصفة فالحيلة أن يأخذ البائع إقرار المشتري بأنه دبر هذه الجارية بعد ما اشتراها وأنه جعلها حرة بعد موته
فإن لم تتم له هذه الحيلة على قول من يجوز بيع المدبر وهو الإمام أحمد(10/12)
ص -13-…ومن قال بقوله فالحيلة أن يشهد عليه قبل أن يبيعها منه أنه كان من سيدها تزويجا صحيحا وأنها ولدت منه ولدا ثم اشتراها بعد ذلك فصارت أم ولده فلا يمكنه بيعها
فإن لم تتم هذه الحيلة على قول من يعتبر في كونها أم ولد أن تحمل وتضع في ملكه ولا يكفي أن تلد منه في غير ملكه كما هو ظاهر مذهب أحمد والشافعي فقد ضاقت عليه وجوه الحيل ولم يبق له إلا حيلة واحدة وهي أن يتراضى سيد الجارية والمشتري برجل ثقة عدل بينهما فيبيعها هذا العدل بطريق الوكالة عن سيدها بزيادة على ثمنها الذي اتفقا عليه ويزيد ما شاء ويقبض منه الثمن الذي اتفقا عليه فإن أراد المشتري بيعها طالبه بباقي الثمن الذي أظهره ولو لم يدخلا بينهما ثالثا بل اتفقا على ذلك فقال: أبيعكها بمائة دينار وآخذ منك أربعين فإن بعتها طالبتك بباقي الثمن وإن لم تبعها لم أطالبك جاز لكن في توسط العدل الذي يثق به المشتري كأبيه وصاحبه تطييب لقلبه وأمان له من مطالبة البائع له بالثمن الكثير
المثال التاسع والسبعون: إذا طلب منه ولده أو عبده أن يزوجه وخاف أن يلحقه ضرر بالزوجة ويأمره بطلاقها فلا يقبل فالحيلة أن يقول له لا أزوجك إلا أن تجعل أمر الزوجة بيدي فإن وثق منه بذلك الوعد قال له بعد التزويج أمرها بيدك وإن لم يثق منه به وخاف أنه إذا قبل العقد لا يفي له بما وعده فالحيلة أن لا يأذن له حتى يعلق ذلك بالنكاح فيقول إن تزوجتها فأمرها بيدك ويصح هذا التعليق على مذهب أهل المدينة وأهل العراق فإن أراد أن يكون ذلك مجمعا عليه فليكتب في كتاب الصداق وأقر الزوج المذكور أن أمر الزوجة المذكورة بيد السيد أو الأب فإذا وقع ما يحذره منها تمكن حينئذ من التطليق عليه والله أعلم لكن قد يخرجه عن الوكالة بعد ذلك فلا يتم مراده فالحيلة أن يشترط عليه أنه متى أخرجه عن الوكالة فهي طالق(10/13)
المثال الثمانون إذا دبر عبده أو أمته جاز له بيعه ويبطل تدبيره فإن خاف أن يرفعه العبد إلى حاكم لا يرى بيع المدبر فيحكم عليه بالمنع من(10/14)
ص -14-…بيعه فالحيلة أن يقول إن مت وأنت في ملكي فأنت حر بعد موتي فإذا قال ذلك تم له الأمر كما أراد فإن أراد بيعه مادام حيا فله ذلك وإن مات وهو في ملكه عتق عليه والفرق بين أن يقول أنت حر بعد موتي وبين أن يقول إن مت وأنت في ملكي فأنت حر بعد موتي أن هذا تعليق للعتق بصفة وذلك لا يمنع بيع العبد كما لو قال إن دخلت الدار فأنت حر فله بيعه قبل وجود الصفة بخلاف قوله أنت حر بعد موتي فإنه جزم بحريته في ذلك الوقت ونظير هذا أنه لو قال إن مت قبلي فأنت في حل من الدين الذي عليك فهو إبراء معلق بصفة ولو قال له أنت في حل بعد موتي صح ولم يكن تعليقا للإبراء بالشرط ونظيره لو قال إن مت فداري وقف فإنه تعليق للوقف بالشرط ولو قال هي وقف بعد موتي صح والله أعلم المثال الحادي والثمانون: لو أن رجلين ضمنا رجلا بنفسه فدفعه أحدهما الى الطالب برىء الذي لم يدفع وهذا بمنزلة رجلين ضمنا لرجل مالا فدفعه إليه أحدهما فإنهما يبرءان جميعا لأن المضمون هو إحضار واحد فإذا سلمه أحدهما فقد وجد الإحضار المضمون فبرئا جميعا قال القاضي وربما ألزمه بعض القضاة الضمان بنفس المطلوب ولا يجعل دفع الآخر براءة للذي لم يدفع فالحيلة أن يضمنا للطالب هذا الرجل بنفسه على أنه إذا دفعه أحدهما فهما جميعا بريئان فيتخلص على قول الكل أو يشهدا أن كل واحد منهما وكيل صاحبه في دفع هذا الرجل إلى الطالب والتبرى إليه فإذا دفعه أحدهما برئا جميعا منه لأنه إذا كان كل منهما وكيل صاحبه كان تسليمه كتسليم موكله
المثال الثاني والثمانون قال القاضي في كتاب إبطال الحيل إذا كان لرجلين على امرأة مال وهما شريكان فتزوجها أحدهما على نصيبه من المال الذي عليها لم يضمن لصاحبه شيئا من المهر لأنه لم يجعل نصيبه في ضمانه فصار كما لو أبرأه وربما ضمنه بعض الفقهاء فالحيلة فيه أن يهب لها نصيبه مما(10/15)
ص -15-…عليها ثم يتزوجها بعد ذلك على مقدار ما وهبها ثم تهب المرأة للزوج المهر الذي تزوجها عليه لأن أحد الشريكين إذا وهب نصيبه من المال المشترك لا يضمن لكونه متبرعا فإذا تزوجها بعد ذلك على مهر ووهبته له حصل مقصوده وتخلص من أقاويل المختلفين
المثال الثالث والثمانون: لو حلف رجل بالطلاق أنه لا يضمن عن أحد شيئا فحلف آخر بالطلاق أن لابد أن تضمن عني فالحيلة في أن يضمن عنه ولا يحنث أن يشاركه ويشتري متاعا بينه وبين شريكه قال القاضي: فإنه يضمن عن شريكه نصف الثمن ولا يحنث الحالف في يمينه لأن المحلوف عليه عقد الضمان وما يلزمه في مسألتنا لا يلزمه بعقد الضمان وإنما يلزمه بالوكالة لأن كل واحد من الشريكين وكيل صاحبه فيما يشتريه فلهذا لم يحنث في يمينه فإن كانت بحالها ولم يكن بينه وبين المحلوف عليه شركة لكنه وكله المحلوف عليه فاشتراها لم يحنث أيضا لم بينا
المثال الرابع والثمانون: شريكان شركة عنان ضمنا عن رجل مالا بأمره على أنه إن أدى المال أحد الشريكين رجع به على شريكه وإن أداه الآخر فشريكه منه برىء وللمسألة أربع صور إحداها أن يقولا أيانا أداه رجع به على شريكه الثانية عكسه الثالثة أن يقول إن أديته أنا رجعت به عليك ولا ترجع به على إن أديته الرابعة عكسه فالصورة الأولى والثانية لا تحتاج إلى حيلة وأما الثالثة والرابعة فالحيلة في جوازهما أن يضمن أحد الشريكين عن المدين ما عليه لصاحبه ثم يجىء شريكه فيضمن ما لصاحب الحق عليهما فإذا أدى هذا الشريك المال رجع به على شريكه والأصيل وإذا أداه شريكه والأصيل لم يرجعا على الشريك بشيء لأن شريكه قد صار صاحب الأصل ههنا فلو رجع عليه لرجع هو عليه بشيء فمن حيث يثبت يسقط فلا معنى للرجوع عليه(10/16)
ص -16-…المثال الخامس والثمانون لا بأس للمظلوم أن يتحيل على مسبة الناس لظالمه والدعاء عليه والأخذ من عرضه وإن لم يفعل ذلك بنفسه إذ لعل ذلك يردعه ويمنعه من الإقامة على ظلمه وهذا كما لو أخذ ماله فلبس أرث الثياب بعد أحسنها وأظهر البكاء والنحيب والتأوه أو آذاه في جواره فخرج من داره وطرح متاعه على الطريق أو أخذ دابته فطرح حمله على الطريق وجلس يبكي ونحو ذلك فكل هذا مما يدعو الناس إلى لعن الظالم له وسبه والدعاء عليه وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم المظلوم بأذى جاره له إلى نحو ذلك ففي السنن ومسند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة أن رجلا شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من جاره فقال: "اذهب فاصبر فأتاه مرتين أو ثلاثا فقال: اذهب فاطرح متاعك في الطريق فطرح متاعه في الطريق" فجعل الناس يسألونه فيخبرهم خبره فجعل الناس يلعنونه فعل الله به وفعل فجاء إليه جاره فقال له: ارجع لا ترى مني شيئا تكرهه" هذا لفظ أبي داود
المثال السادس والثمانون: ما ذكره في مناقب أبي حنيفة رحمة الله تعالى: أن رجلا أتاه بالليل فقال أدركني قبل الفجر وإلا طلقت امرأتي فقال وما ذاك قال تركت الليلة كلامي فقلت لها إن طلع الفجر ولم تكلميني فأنت طالق ثلاثا وقد توسلت إليها بكل أمر أن تكلمني فلم تفعل فقال له: اذهب فمر مؤذن المسجد أن ينزل فيؤذن قبل الفجر فلعلها إذا سمعته أن تكلمك واذهب إليها وناشدها أن تكلمك قبل أن يؤذن المؤذن ففعل الرجل وجلس يناشدها وأذن المؤذن فقالت: قد طلع الفجر وتخلصت منك فقال: قد كلمتني قبل الفجر وتخلصت من اليمين وهذا من أحسن الحيل
المثال السابع والثمانون: قال بشر بن الوليد كان في جوار أبي حنيفة فتى يغشى مجلسه فقال له يوما إني أريد التزوج بامرأة وقد طلبوا مني من المهر فوق طاقتي وقد تعلقت بالمرأة فقال: له اعطهم ما طلبوا منك ففعل فلما عقد العقد جاء إليه فقال قد طلبوا مني المهر فقال: احتل واقترض وأعطهم(10/17)
ص -17-…ففعل فلما دخل بأهله قال إني أخاف المطالبين بالدين وليس عندي ما أوفيهم فقال أظهر أنك تريد سفرا بعيدا وأنك تريد الخروج بأهلك ففعل واكترى جمالا فاشتد ذلك على المرأة وأوليائها فجاءوا إلي أبى حنيفة رحمه الله فسألوه فقال له أن يذهب بأهله حيث شاء فقالوا نحن نرضيه ونرد إليه ما أخذناه منه ولا يسافر فلما سمع الزوج طمع فقال لا والله حتى يزيدوني فقال له إن رضيت بهذا وإلا أقرت المرأة أن عليها دينا لرجل فلا يمكنك أن تخرجها حتى توفيه فقال بالله لا يسمع أهل المرأة ذلك منك أنا أرضى بالذي أعطيتهم
المثال الثامن والثمانون: قال القاضي أبو يعلى: إذا كان لرجل على رجل ألف درهم فصالحه منها على مائة درهم يؤديها إليه في شهر كذا فإن لم يفعل وأخرها إلى شهر آخر فعليه مائتان فهو جائز وقد أبطله قوم آخرون قال أما جواز الصلح من ألف على مائة فالوجه فيه أن التسعمائة لا يستفيدها بعقد الصلح وإنما استفادها بعقد المداينة وهو العقد السابق فعلم أنها ليست مأخوذة على وجه المعاوضة وإنما هي على طريق الإبراء عن بعض حقه قال ويفارق هذا إذا كانت له ألف مؤجلة فصالحه على تسعمائة حالة انه لا يجوز لأنه استفاد هذه التسعمائة بعقد الصلح لأنه لم يكن مالكا لها حالة وإنما كان يملكها مؤجلة فلهذا لم يصح
وأما جوازه على الشرط المذكور وهو انه إن لم يفعل فعليه مائتان فلأن المصالح إنما علق فسخ البراءة بالشرط والفسخ يجوز تعليقه بالشرط وإن لم يجز تعليق البراءة بالشرط ألا ترى انه لو قال أبيعك هذا الثوب بشرط أن تنقدني الثمن اليوم فإن لم تنقدني الثمن اليوم فلا بيع بيننا إذا لم ينقد الثمن في يومه انفسخ العقد بينهما كذلك ههنا ومن لم يجز ذلك يقول هذا تعليق براءة المال بالشرط وذلك لا يجوز قال والوجه في جواز هذا الصلح على مذهب الجميع(10/18)
ص -18-…أن يعجل رب المال حط ثمانمائة يحطها على كل حال ثم يصالح المطلوب من المائتين الباقيتين على مائة يؤديها إليه في شهر كذا على أنه إن أخرها عن هذا الوقت فلا صلح بينهما فإذا فعل هذا فقد استوثق في قول الجميع لأنه متى صالحه على مائتين وقد حط عنه الباقي يصير كأنه لم يكن عليه من الدين إلا مائتا درهم ثم صالحه عن المائتين الباقيتين على مائة يؤديها إليه في شهر كذا فإن أخرها فلا صلح بينهما فيكون على قول الجميع مخ العقد معلقا بترك النقد وذلك جائز على ما بيناه في البيع
فإن أراد أن يكاتب عبده على ألف درهم يؤديها إليه في سنتين فإن لم يفعل فعليه ألف أخرى فهى كتابة فاسدة لأنه علق إيجاب المال بخطر وتعليق المال بالأخطار لا يجوز والحيلة في جوازه أن يكاتبه على ألفي درهم ويكتب عليه بذلك كتابا ثم يصالحه بعد ذلك على آلف درهم يؤديها إليه في سنتين فإن لم يفعل فلا صلح بينهما فيكون تعليقا للفسخ بخطر وذلك جائز على ما قدمناه من مسألة البيع فإن كان السيد كاتب عبده على ألفي درهم إلى سنتين فأراد العبد أن يصالح سيده على النصف يعجلها له فإن ذلك جائز عندنا ويبطله غيرنا انتهى كلامه
المثال التاسع والثمانون: قال القاضي: إذا اشترى رجل من رجل دارا بألف درهم فجاء الشفيع يطلب الشفعة فصالحه المشتري على أن أعطاه نصف الدار بنصف الثمن جاز لأن الشفيع صالح على بعض حقه وذلك جائز كما لو صالح من آلف على خمسمائة فإن صالحه على بيت من الدار بحصته من الثمن لم يجز لأنه صالح على شئ مجهول لأن ما يأخذه الشفيع يأخذه على وجه المعاوضة وحصة المبيع من الثمن مجهولة وجهالة العوض تمنع صحة العقد فالحيلة حتى يسلم البيت للشفيع والدار للمشتري أن يشتري الشفيع هذا البيت من المشتري بثمن مسمى ثم يسلم الشفيع للمشتري ما بقى من الدار وشراء الشفيع لهذا البيت تسليم(10/19)
ص -19-…للشفعة ومساومته بالبيت تسليم للشفعة لأنه إذا اشتراه بثمن مسمى كان عوض البيت معلوما ودخوله في شراء البيت تسليم للشفعة فيما بقى من الدار وذلك جائز فالحيلة أن يأخذ البيت بهذا الثمن المسمى من غير أن يكون مسلما للشفعة حتى يجب له البيت أن يبدأ المشتري فيقول للشفيع هذا البيت ابتعته لك بكذا وكذا درهما فيقول الشفيع قد رضيت واستوجبت لأن المشتري متى ابتدأ بقوله هذا البيت لك بكذا لم يكن الشفيع مسلما للشفعة
المثال التسعون: تجوز المغارسة عندنا على شجر الجوز وغيره بأن يدفع إليه أرضه ويقول اغرسها من الأشجار كذا وكذا والغرس بيننا نصفان وهذا كما يجوز أن يدفع إليه ماله يتجر فيه والربح بينهما نصفان وكما يدفع إليه أرضه يزرعها والزرع بينهما وكما يدفع إليه شجره يقوم عليه والثمر بينهما وكما يدفع إليه بقره أو غنمه أو إبله يقوم عليها والدر والنسل بينهما وكما يدفع إليه زيتونه يعصره والزيت بينهما وكما يدفع إليه دابته يعمل عليها والأجرة بينهما وكما يدفع إليه فرسه يغزو عليها وسهمها بينهما وكما يدفع إليه قناة يستنبط ماءها والماء بينهما ونظائر ذلك فكل ذلك شركة صحيحة قد دل على جوازها النص والقياس واتفاق الصحابة ومصالح الناس وليس فيها ما يوجب تحريمها من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس ولا مصلحة ولا معنى صحيح يوجب فسادها والذين منعوا ذلك عذرهم أنهم ظنوا ذلك كله من باب الإجارة فالعوض مجهول فيفسد ثم منهم من أجاز المساقاة والمزارعة للنص الوارد فيهما والمضاربة للإجماع دون ما عدا ذلك ومنهم من خص الجواز بالمضاربة ومنهم من جوز بعض أنواع المساقاة والمزارعة ومنهم من منع الجواز فيما إذا كان بعض الأصل يرجع إلى العامل كقفيز الطحان وجوزه فيما إذا رجعت إليه الثمرة مع بقاء الأصل كالدر والنسل
والصواب جواز ذلك كله وهو مقتضى أصول الشريعة وقواعدها(10/20)
ص -20-…فإنه من باب المشاركة التي يكون العامل فيها شريك المالك هذا بماله وهذا بعمله وما رزق الله فهو بينهما وهذا عند طائفة من أصحابنا أولى بالجواز من الإجارة حتى قال شيخ الإسلام: هذه المشاركات أحل من الإجارة قال لان المستأجر يدفع ماله وقد يحصل له مقصوده وقد لا يحصل فيفوز المؤجر بالمال والمستأجر على الخطر إذ قد يكمل الزرع وقد لا يكمل بخلاف المشاركة فإن الشريكين في الفوز وعدمه على السواء إن رزق الله الفائدة كانت بينهما وإن منعها استويا في الحرمان وهذا غاية العدل فلا تأتى الشريعة بحل الإجارة وتحريم هذه المشاركات
وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم المضاربة على ما كانت عليه قبل الإسلام فضارب أصحابه في حياته وبعد موته وأجمعت عليها الأمة ودفع خيبر إلى اليهود يقومون عليها ويعمرونها من أموالهم بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع وهذا كأنه رأى عين ثم لم ينسخه ولم ينه عنه ولا امتنع منه خلفاؤه الراشدون وأصحابه بعده بل كانوا يفعلون ذلك بأراضيهم وأموالهم يدفعونها إلى من يقوم عليها بجزء مما يخرج منها وهم مشغولون بالجهاد وغيره ولم ينقل عن رجل واحد منهم المنع إلا فيما منع منه النبي صلى الله عليه وسلم وهو ما قال الليث بن سعد: إذا نظر ذو البصر بالحلال والحرام علم انه لا يجوز ولو لم تأت هذه النصوص والآثار فلا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله والله ورسوله لم يحرم شيئا من ذلك وكثير من الفقهاء يمنعون ذلك
فإذا بلى الرجل بمن يحتج في التحريم بأنه هكذا في الكتاب وهكذا قالوا ولا بد له من فعل ذلك إذ لا تقوم مصلحة الأمة إلا به فله أن يحتال على ذلك بكل حيلة تؤدي إليه فإنها حيل تؤدي إلى فعل ما أباحه الله ورسوله ولم يحرمه على الأمة وقد تقدم ذكر الحيلة على جواز المساقاة والمزارعة ونظيرها في الاحتيال على المغارسة أن يؤجره الأرض يغرس فيها ما شاء من الأشجار لمدة كذا وكذا(10/21)
ص -21-…سنة بخدمتها وغرس كذا وكذا من الأشجار فيها فإن اتفقا بعد ذلك أن يجعلا لكل منها غراسا معينا مقررا جاز وإن أحب أن يكون الجميع شائعا بينهما فالحيلة أن يقر كل منهما للآخر أن جميع ما في هذه الأرض من الغراس فهو بينهما نصفين أو غير ذلك
والحيلة في جواز المشاركة على البقر والغنم بجزء من درها ونسلها أن يستأجره للقيام عليها كذا وكذا سنة للمدة التي يتفقان عليها بنصف الماشية أو ثلثها على حسب ما يجعل له من الدر والنسل ويقر له بأن هذه الماشية بينهما نصفين أو أثلاثا فيصير درها ونسلها على حسب ملكهما فإن خاف رب الماشية أن يدعى عليه العامل بملك نصفها حيث أقر له به فالحيلة أن يبيعه ذلك النصف بثمن في ذمته ثم يسترهنه على ذلك الثمن فإن ادعى الملك بعد هذا طالبه بالثمن فإن ادعى الاعسار اقتضاه من الرهن
والحيلة في جواز قفيز الطحان أن يملكه جزءا من الحب أو الزيتون إما ربعه أو ثلثه أو نصفه فيصير شريكه فيه ثم يطحنه أو يعصره فيكون بينهما على حسب ملكيهما فيه فإن خاف أن يملكه ذلك فيملكه عليه ولا يحدث فيه عملا فالحيلة أن يبيعه إياه بثمن في ذمته فيصير شريكه فيه فإذا عمل فيه سلم إليه حصته أو أبرأه من الثمن فإن خاف الأجير أن يطالبه بالثمن ويتسلم الجميع ولا يعطيه أجرته فالحيلة في أمنه من ذلك أن يشهد عليه أن الأصل مشترك بينهما قبل العمل فإذا أحدث فيه العمل فهو على الشركة
وهكذا الحيلة في جميع هذا الباب وهي حيلة جائزة فإنها لا تتضمن إسقاط حق ولا تحريم حلال ولا تحليل حرام
المثال الحادي والتسعون: إذا خرج المتسابقان في النضال معا جاز في اصح القولين والمشهور من مذهب مالك انه لا يجوز وعلى القول بجوازه فأصح القولين انه لا يحتاج إلى محلل كما هو المنقول عن الصديق وأبي عبيده بن الجراح واختيار شيخنا وغيره والمشهور من أقوال الأئمة الثلاثة انه لا يجوز إلا بمحلل(10/22)
ص -22-…على تفاصيل لهم في المحلل وحكمه وقد ذكرناها في كتابنا الكبير في الفروسية الشرعية وذكرنا فيه وفي كتاب بيان الاستدلال على بطلان اشتراط محلل السباق والنضال بيان بطلانه من أكثر من خمسين وجها وبينا ضعف الحديث الذي احتج به من اشترطه وكلام الأئمة في ضعفه وعدم الدلالة منه على تقدير صحته
والمقصود هنا بيان وجه الحيلة على الاستغناء عنه عند من يقنع بهذا قالوا وهكذا في الكتاب فالحيلة على تخلص المتسابقين المخرجين منه أن يملكا العوضين لثالث يثقان به ويقول الثالث أيكما سبق فالعوضان له وإن جئتما معا فالعوضان بينكما فيجوز هذا العقد وهذه الحيلة ليست حيلة على جواز أمر محرم ولا تتضمن إسقاط حق ولا تدخل في مأثم فلا بأس بها والله أعلم
المثال الثاني والتسعون: يجوز اشتراط الخيار في البيع فوق ثلاث على أصح قول العلماء وهو مذهب الإمام احمد ومالك على تفاصيل عند مالك وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يجوز وقد تدعو الحاجة إلى جوازه لكون المبيع لا يمكنه استعلامه في ثلاثة أيام أو لغيبة من يشاوره ويثق برأيه أو لغير ذلك والقياس المحض جوازه تأجيل الثمن فوق ثلاث والشارع لم يمنع من الزيادة على الثلاثة ولم يجعلها حدا فاصلا بين ما يجوز من المدة ومالا يجوز وإنما ذكرها في حديث حبان بن منقذ وجعلها له بمجرد البيع وإن لم يشترطه لأنه كان يغلب في البيوع فجعل له ثلاثا في كل سلعة يشتريها سواء شرط ذلك أولم يشترطه هذا ظاهر الحديث فلم يتعرض للمنع من الزيادة على الثلاثة بوجه من الوجوه فإن أراد الجواز على قول الجميع فالمخرج أن يشترط الخيار ثلاثا فإذا قارب انقضاء الأجل فسخه ثم اشترط ثلاثا وهكذا حتى تنقضي المدة التي اتفقا عليها وليست هذه الحيلة محرمة لأنها لا تدخل في باطل ولا تخرج من حق وهذا بخلاف الحيلة على إيجار الوقف مائة سنة وقد(10/23)
ص -23-…شرط الواقف أن لا يؤجر اكثر من سنة واحدة فتحيل على إيجاره أكثر منها بعقود متفرقة في ساعة واحدة كما تقدم
المثال الثالث والتسعون: إذا أراد أن يقرض رجلا مالا ويأخذ منه رهنا فخاف أن يهلك الرهن فيسقط من دينه بقدره عند حاكم يرى ذلك فالمخرج له أن يشتري العين التي يريد ارتهانها بالمال الذي يفرضه ويشهد عليه انه لم يقبضه فإن وثق بكونه عند البائع تركه عنده فإن تلف تلف من ضمانه وان بقى تمكن من أخذه منه متى شاء وإن رد عليه المال أقاله البائع
وأحسن من هذه الحيلة ان يستودع العين قبل القرض ثم يقرضه وهي عنده فهي في الظاهر وديعة وفي الباطن رهن فإن تلفت لم يسقط بهلا كها شئ من حقه
فإن خاف الراهن انه إذا وفاه حقه لم يقله البيع فالمخرج له ان يشترط عليه الخيار الى المدة التي يعلم انه يوفيه فيها على قول ابي يوسف ومحمد ومالك واحمد
فإن خاف المرتهن ان يستحق الرهن أو بعضه فالمخرج له ان يضمن درك الرهن غير الراهن أو يشهد على من يخشى دعواه الاستحقاق بأنه متى ادعاه كانت دعواه باطلة أو يضمنه الدرك لنفسه
المثال الرابع والتسعون: إذا بدا الصلاح في بعض الشجرة جاز بيع جميعها وكذلك يجوز بيع ذلك النوع كله في البستان وقال شيخنا: يجوز بيع البستان كله تبعا لما بدا صلاحه سواء كان من نوعه أولم يكن تقارب إدراكه وتلاحق أم تباعد وهو مذهب الليث بن سعد وعلى هذا فلا حاجة الى الاحتيال على الجواز
وقالت الحنفية: إذا خرج بعض الثمرة دون بقيتها أو خرج الجميع وبعضه قد بدا صلاحه دون بعض لا يجوز البيع للجمع بين الموجود والمعدوم والمتقوم وغيره فتصير حصة الموجود المتقوم مجهولة فيفسد البيع وبعض الشيوخ كان(10/24)
ص -24-…يفتى بجوازه في الثمار والباذنجان ونحوهما جعلا المعدوم تبعا للموجود وأفتى محمد بن الحسن بجوازه في الورد لسرعة تلاحقه قال شمس الأئمة السرخسي: والأصح المنع فالحيلة في الجواز أن يشتري الأصول وهذا قد لا يتأتى غالبا قالوا فالحيلة أيضا أن يشتري الموجود الذي بدا صلاحه بجميع الثمن ويشهد عليه انه قد أباح له ما يحدث من بعد وهذه الحيلة ايضا قد تتعذر إذ قد يرجع في الإباحة وإن جعلت هبة فهبة المعدوم لا تصح وإن ساقاه على الثمرة من كل الف جزء على جزء مثلا لم تصح المساقاه عندهم وتصح عند أبى يوسف ومحمد وإن آجره الشجرة لأخذ ثمرتها لم تصح الإجارة عندهم وعند غيرهم
فالحيلة إذا أن يبيعه الثمرة الموجودة ويشهد عليه أن ما يحدث بعدها فهو حادث على ملك المشتري لا حق للبائع فيه ولا يذكر سبب الحدوث
ولهم حيلة أخرى فيما إذا بدت الثمار أن يشتريها بشرط القطع أو يشتريها ويطلق ويكون القطع هو موجب العقد ثم يتفقان على التبقية الى وقت الكمال ولا ريب ان المخرج ببيعها إذا بدا صلاح بعضها أو بإجارة الشجر أو بالمساقاة أقرب إلى النص والقياس وقواعد الشرع من ذلك كما تقدم تقريره
المثال الخامس والتسعون إذا وكله ان يشترى له بضاعة وتلك البضاعة عند الوكيل وهي رخيصة نساوي أكثر مما اشتراها به ولا تسمح نفسه ان يبيعها بما اشتراها به فالحيلة أن يبيعها بما تساويه بيعا تاما صحيحا لأجنبي ثم إن شاء اشتراها من الأجنبي لموكله ولكن تدخل هذه الحيلة سدا للذرائع إذ قد يتخذ ذلك ذريعة إلى أن يبيعها بأكثر مما تساوي فيكون قد غش الموكل ويظهر هذا إذا اشتراها بعينها دون غيرها فيكون قد غر الموكل فإن كان الموكل لو اطلع على الحال لم يكره ذلك ولم يره غرورا فلا بأس به وإن كان لو اطلع عليه لم يرضه لم يجز والله أعلم
المثال السادس والتسعون: إذا اشترى منه دارا وخاف احتيال البائع عليه(10/25)
ص -25-…بأن يكون قد ملكها لبعض ولده فيتركها في يده مدة ثم يدعيها عليه ويحسب سكناها بثمنها كما يفعله المخادعون الماكرون فالحيلة أن يحتال لنفسه بأنواع من الحيل منها أن يضمن من يخاف منه الدرك ومنها أن يشهد عليه أنه إن ادعى هو أو وكيله في الدار كانت دعوى باطلة وكل بينة يقيمها زور ومنها أن يضمن الدرك لرجل معروف يتمكن من مطالبته ومنها أن يجعل ثمنها أضعاف ما اشتراها به فإن استحقت رجع عليه بالثمن الذي أشهد به
مثاله أن يتفقا على أن الثمن ألف فيشتريها بعشرة آلاف ثم يبيعه بالعشرة آلاف سلعة ثم يشتريها منه بالألف وهي الثمن فيأخذ الألف ويشهد عليه أن الثمن عشرة آلاف وأنه قبضه وبرئ منه المشتري فإن استحقت رجع عليه بالعشرة آلاف وبالجملة فمقابلة الفاسد بالفاسد والمكر بالمكر والخداع بالخداع وقد يكون حسنا بل مأمورا به وأقل درجاته أن يكون جائزا كما تقدم بيانه
المثال السابع والتسعون: إذا اشترى العبد نفسه من سيده بمال يؤديه إليه فأدى إليه معظمه ثم جحد السيد أن يكون باعه نفسه وللسيد في يد العبد مال أذن له في التجارة به فالحيلة ان يشهد العبد في السر أن المال الذي في يده لرجل أجنبي فإن وفي له سيده بما عاقده عليه وفي له العبد وسلمه ماله وإن غدر به تمكن العبد من الغدر به وإخراج المال عن يده وهذه الحيلة لا تتأنى على أصل من يمنع مسالة الظفر ولا على قول من يجيزها فإن السيد إذا ظلمه بجحده حقه لم يكن له أن يظلمه بمنعه ماله وان يحول بينه وبينه فيقابل الظلم بالظلم ولا يرجع إليه منه فائدة ولكن فائدة هذه الحيلة أن السيد متى علم بصورة الحال وأنه متى جحده البيع حال بينه وبين ماله بالإقرار الذي يظهره منعه ذلك من جحود البيع فيكون بمنزلة رجل أمسك ولد غيره ليقتله فظفر هو بولده قبل القتل فأمسكه وأراه انه إن قتل ولده قتل هو ولده أيضا ونظائر ذلك(10/26)
ص -26-…وكذلك إن كان السيد هو الذي يخاف من العبد أن لا يقر له بالمال ويقر به لغيره يتواطان عليه فالحيلة أن يبدأ السيد فيبيع العبد لأجنبي في السر ويشهد على بيعه ثم يبيع العبد من نفسه فإذا قبض المال فأظهر العبد إقرارا بأن ما في يده لأجنبي أظهر السيد أن بيعه لنفسه كان باطلا وأن فلانا الأجنبي قد اشتراه فإذا علم العبد أن عتقه يبطل ولا يحصل مقصوده امتنع من التحيل على إخراج مال السيد عنه إلى أجنبي
ونظير هذه الحيلة إذا أراد ظالم أخذ داره بشراء أو غيره فالحيلة أن يملكها لمن يثق به ثم يشهد على ذلك وأنها خرجت عن ملكه ثم يظهر انه وقفها على الفقراء والمساكين ولو كان في بلده حاكم يرى صحة وقف الإنسان على نفسه وصحة استثناء الغلة له وحده مدة حياته وصحة وقفه لها بعد موته فحكم له بذلك استغنى عن هذه الحيلة
وحيل هذا الباب ثلاثة أنواع حيلة على دفع الظلم والمكر حتى لا يقع وحيلة على رفعه بعد وقوعه وحيلة على مقابلته بمثله حيث لا يمكن رفعه فالنوعان الأولان جائزان وفي الثالث تفصيل فلا يمكن القول بجوازه على الإطلاق ولا بالمنع منه على الإطلاق بل إن كان المتحيل به حراما لحق الله لم يجز مقابلته بمثله كما لو جرعه الخمر أو زنى بحرمته وإن كان حراما لكونه ظلما له في ماله وقدر على ظلمه بمثل ذلك فهي مسألة الظفر وقد توسع فيها قوم حتى أفرطوا وجوزوا قلع الباب ونقب الحائط وخرق السقف ونحو ذلك لمقابلته بأخذ نظير ماله ومنعها قوم بالكلية وقالوا لو كان عنده وديعة أوله عليه دين لم يجز له أن يستوفي منه قدر حقه إلا بإعلامه به وتوسط آخرون وقالوا إن كان سبب الحق ظاهرا كالزوجية والأبوة والبنوة وملك اليمين الموجب للإنفاق فله أن يأخذ قدر حقه من غير إعلامه وإن لم يكن ظاهرا كالقرض وثمن المبيع(10/27)
ص -27-…ونحو ذلك لم يكن له الأخذ إلا بإعلامه وهذا اعدل الأقوال في المسألة وعليه تدل السنة دلالة صريحة والقائلون به أسعد بها وبالله التوفيق
وإن كان بهتا له وكذبا عليه أو قذفا له أو شهادة عليه بالزور لم يجز له مقابلته بمثله وإن كان دعاء عليه أولعنا أو مسبة فله مقابلته بمثله على أصح القولين وأن منعه كثير من الناس وإن كان إتلاف مال له فإن كان محترما كالعبد والحيوان لم يجز له مقابلته بمثله وإن كان غير محترم فإن خاف تعديه فيه لم يجز له مقابلته بمثله كما لو حرق داره لم يجز له أن يحرق داره وإن لم يتعد فيه بل كان يفعل به نظير ما فعل به سواء كما لو قطع شجرته أو كسر إناءه أو فتح قفصا عن طائره أوحل وكاء مائع له أو أرسل الماء على مسطاحه فذهب بما فيه ونحو ذلك وأمكنه مقابلته بمثل ما فعل سواء فهذا محل اجتهاد لم يدل على المنع منه كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح بل الادلة المذكورة تقتضى جوازه كما تقدم بيانه في أول الكتاب وكان شيخنا رضى الله عنه يرجح هذا ويقول هو أولى بالجواز من إتلاف طرفه بطرفه والله اعلم
المثال الثامن والتسعون: الضمان والكفالة من العقود اللازمة ولا يمكن الضامن والكفيل أن يتخلص متى شاء ولا سيما عند من يقول ان الكفالة توجب وإن المال إذا تعذر إحضار المكفول به مع بقائه كما هو مذهب الإمام احمد ومن وافقه وطريق التخلص من وجوه أحدها أن يؤقتها بمدة فيقول ضمنته أو تكفلت به شهرا أو جمعة ونحو ذلك فيصح الثاني أن يقيدها بمكان دون مكان فيقول ضمنته أو تكفلت به ما دام في هذا البلد أوفي هذا السوق الثالث ان يعلقها على شرط فيقول ضمنت أو كفلت إن رضى فلان أو يقول ضمنت ما عليه إن كفل فلان بوجهه ونحو ذلك الرابع ان يشترط في الضمان أنه لا يطالبه حتى يتعذر مطالبة الأصيل فيجوز هذا الشرط بل هو حكم الضمان في اشهر الروايتين(10/28)
ص -28-…عن مالك فلا يطالب الضامن حتى يتعذر مطالبة الأصيل وإن لم يشترطه حتى لو شرط ان يأخذ من أيهما شاء كان الشرط باطلا عند ابن القاسم وأصبغ الخامس أن يقول كفك بوجهه على أني برئ مما عليه فلا يلزمه ما عليه إذا لم يحضره بل يلزم بإحضاره إذا تمكن منه السادس أن يطالب المضمون عنه بأداء المال الى ربه ليبرأ هو من الضمان إذا كان قد ضمن بإذنه ويكون خصما في المطالبة وهذا مذهب مالك فإن ضمنه بغير إذنه لم يكن له عليه مطالبته بأداء المال إلى ربه فإن اداه عنه فله مطالبته به حينئذ
المثال التاسع والتسعون إذا كان له داران فاشترى منه إحداهما على أنه إن استحقت فالدار الأخرى له بالثمن فهذا جائز إذ غايته تعليق البيع بالشرط وليس في شئ من الأدلة الشرعية ما يمنع صحته وقد نص الإمام احمد على جوازه فيمن باع جارية وشرط على المشتري انه إن باعها فهو أحق بها بالثمن وفعله بنفسه كما رهن نعله وشرط للمرتهن أنه إن جاءه بفكاكها إلى وقت كذا وإلا فهي له بما عليها ونص على جواز تعليق النكاح بالشرط فالبيع أولى ونص على جواز تعليق التولية بالشرط كما نص عليه صاحب الشرع نصا لا يجوز مخالفته وقد تقدم تقرير ذلك
وكثير من الفقهاء يبطل البيع المذكور فالحيلة في جوازه عند الكل أن يشتري منه المشتري الدار الأخرى التي لا يريد شراءها ويقبضها منه ثم يشتري بها الدار التي يريد شراءها ويسلمها إليه ويتسلم داره فإن استحقت هذه الدار عليه رجع في ثمنها وهو الدار الأخرى وهذه حيلة لطيفة جائزة لا تتضمن إبطال حق ولا دخول في باطل وهي مثال لما كان من جنسها من هذا النوع مما يخالف استحقاقه ويشترط على البائع أخذ ما يقابله من حيوان أو دقيق أو غير ذلك
المثال الموفى المائة رجل أراد أن يشتري جارية أو سلعة من رجل غريب فلم يأمن أن تستحق أو تخرج معيبة فلا يمكنه الرجوع ولا الرد فإن قال(10/29)
ص -29-…له البائع أنا أوكل من تعرفه فيما تدعى به من عيب أورجوع لم يأمن أن يحتال عليه ويعزله فيذهب حقه فالحيلة في التوثق ان يكون الوكيل هو الذي يتولى البيع بنفسه ويضمن له صاحب السلعة الدرك ويكون وكيلا لهذا الذي تولى البيع فيمكن المشتري حينئذ مطالبة هذا الذي تولى البيع بنفسه ويأمن ما يحذره
المثال الحادي بعد المائة: رجل قال لغيره اشتر هذه الدار أو هذه السلعة من فلان بكذا وكذا وأنا أربحك فيها كذا وكذا فخاف إن اشتراها أن يبدو للآمر فلا يريدها ولا يتمكن من الرد فالحيلة أن يشتريها على انه بالخيار ثلاثة أيام أوأكثر ثم يقول للآمر قد اشتريتها بما ذكرت فإن أخذها منه وإلا تمكن من ردها على البائع بالخيار فإن لم يشترها الآمر إلا بالخيار فالحيلة أن يشترط له خيارا أنقص من مدة الخيار التي أشترطها هو على البائع ليتسع له زمن الرد إن ردت عليه المثال الثاني بعد المائة: إذا اشترى منه جارية أوسلعة ثم اطلع على عيب بها فخاف إن ادعى انه اشتراها بكذا وكذا ان ينكر البائع قبض الثمن ويسأل الحاكم الحكم عليه بإقراره أوينكر البيع ويسأله تسليم الجارية اليه فالحيلة التي تخلصه أن يردها عليه أولا فيما بينه وبينه ثم يدعى عليه عند الحاكم باستحقاق ثمنها ولا يعين السبب فإن أقر فلا إشكال وإن أنكر لم يلزم المشتري الثمن فإما أن يقيم عليه بينة أويحلفه
المثال الثالث بعد المائة: إذا كان له عليه مال حال فأبى أن يقر له به حتى يصالحه على بعضه أو يؤجله ولا بينة له فأراد حيلة يتوسل بها الى أخذ ماله كله حالا ويبطل الصلح والتأجيل فالحيلة له أن يواطئ رجلا يدعى عليه بالمال الذي له على فلان عند حاكم فيقر له به ويصح إقراره بالدين الذي له على الغير(10/30)
ص -30-…فإنه قد يكون المال مضاربة فيصير ديونا على الناس فلو لم يصح إقراره به له لضاع ماله وأما قول ابى عبد الله بن احمد إن في الرعاية ولو قال ديني الذي على زيد العمرو احتمل الصحة والبطلان أظهر فهذا إنما هو فيما إذا أضاف الدين إليه ثم قال هو لعمرو فيصير ما لو قال ملكى كله لعمرو أو دارى هذه له فإن هذا لا يصح إقرارا على أحد الوجهين للتناقض ويصح هبة فأما إذا قال هذا الدين الذي على زيد لعمرو يستحقه دونى صح ذلك قولا واحدا كما لو قال هذه الدار له أو هذا الثوب له على أن الصحيح صحة الإقرار ولو أضاف الدين أو العين إلى نفسه ولا تناقض لأن الإضافة تصدق مع كونه ملكا للمقر له فإنه يصح أن يقال هذه دار فلان إذا كان ساكنها بالأجرة ويقول المضارب ديني على فلان وهذا الدين لفلان يعني أنه يستحق المطالبة به والمخاصمة فيه فالإضافة تصدق بدون هذا ثم يأتي صاحب المال إلى من هو في ذمته فيصالحه على بعضه أو يؤجله ثم يجيء المقر له فيدعى على من عليه المال بجملتة حالا فإذا أظهر كتاب الصلح والتأجيل قال المقر له هذا باطل فإنه تصرف فيما لا يملك المصالح فإن كان الغريم إنما أقر باستحقاق غريمه الدين مؤجلا أو بذلك القدر منه فقط بطلت هذه الحيلة
ونظير هذه الحيلة حيلة إيداع الشهادة وصورتها أن يقول له الخصم لا أقر لك حتى تبرئني من نصف الدين أو ثلثه وأشهد عليك أنك لا تستحق على بعد ذلك شيئا فيأتي صاحب الحق إلى رجلين فيقول أشهدا أني على طلب حقي كله من فلان وأني لم أبرئه من شيء منه وأني أريد أن أظهر مصالحته على بعضه لأتوصل بالصلح إلى أخذ بعض حقي وأني إذا أشهدت أني لا أستحق عليه سوى ما صالحني عليه فهو إشهاد باطل وأني إنما أشهدت على ذلك توصلا إلى أخذ بعض حقي فهذه تعرف بمسألة إيداع الشهادة فإذا فعل ذلك جاز له أن يدعى بقاءه على حقه ويقيم الشهادة بذلك هذا مذهب مالك وهو مطرد(10/31)
ص -31-…على قياس مذهب أحمد وجار على أصوله فإن له التوصل إلى حقه بكل طريق جائز بل لا يقتضي المذهب غير ذلك فإن هذا مظلوم توصل إلى أخذ حقه بطريق لم يسقط بها حقا لأحد ولم يأخذ بها مالا يحل له أخذه فلا خرج بها من حق ولا دخل بها في باطل
ونظير هذا ان يكون للمرأة على رجل حق فيجحده ويأبى أن يقر به حتى تقر له بالزوجية فطريق الحيلة ان تشهد على نفسها انها ليست امرأة فلان وأنى أريد أن اقر له بالزوجية إقرارا كاذبا لا حقيقة له لأتوصل بذلك الى اخذ مالي عنده فاشهدو أن إقرارى بالزوجية باطل أتوصل به الى اخذ حقي
ونظيره ايضا ان ينكر نسب اخيه ويأبى أن يقر له به حتى يشهد انه لا يستحق في تركة ابيه شيئا وانه قد أبرأه من جميع ماله في ذمته منها أوانه وهب له جميع ما يخصه منها أوانه قبضه أواعتاض عنه أونحو ذلك فيودع الشهادة عدلين انه باق على حقه وأنه يظهر ذلك الإقرار توصلا الى إقرار اخيه بنسبه وانه لم يأخذ من ميراث ابيه شيئاص ولا أبرأ اخاه ولا عاوضه ولا وهبه
وهذا يشبه إقرار المضطهد الذي قد اضطهد ودفع عن حقه حتى يسقط حقا آخر والسلف كانوا يسمون مثل هذا مضطهدا كما قال حماد بن سلمة حدثنا حميد عن الحسن أن رجلا تزوج امرأة وأراد سفرا فأخذه أهلها فجعلها طالقا إن لم يبعث بنفقتها الى شهر فجاء الاجل ولم يبعث اليها بشئ فلما قدم خاصموه الى أمير المؤمنين على كرم الله وجهه فقال: اضطهدتموه حتى جعلها طالقا فردها عليه
ومعلوم أنه لم يكن هناك إكراه بضرب ولا أخذ مال وإنما طالبوه بما يجب عليه من نفقتها وذلك ليس بإكراه ولكن لما تعنتوه باليمين(10/32)
ص -32-…جعله مضطهدا لنه عقد اليمين ليتوصل إلى قصده من السفر فلم يكن حلفه عن اختيار بل هو كالمحمول عليه
والفرق بينه وبين المكرة ان المكره قاصد لدفع الضرر باحتمال ما أكره عليه وهذا قاصد للوصول الى حقه بالتزام ما طلب منه وكلاهما غير راض ولا مؤثرا لما التزمه وليس له وطر فيه
فتأمل هذا ونزله على قواعد الشرع ومقاصده وهذا ظاهر جدا في أن أمير المؤمنين على بن أبي طالب كرم الله وجهه لم يكن يرى الحلف بالطلاق موقعا للطلاق إذا حنث به وهو قول شريح وطاوس وعكرمة وأهل الظاهر وأبي عبد الرحمن الشافعي وهو أجل أصحابه على الإطلاق قال بعض الحفاظ ولا يعلم لعلى مخالف من الصحابه وسيأتي الكلام في المسألة إن شاء الله إذ القصود أن من أقر أو حلف أو وهب أو صالح لا عن رضا منه ولكن منع حقه إلا بذلك فهو بالمكره أشبه منه بالمختار ومثل هذا لا يلزمه ما عقده من هذه العقود
ومن له قدم راسخ في الشريعة ومعرفة بمصادرها ومواردها وكان الإنصاف أحب إليه من التعصب والهوى والعلم والحجة آثر عنده من التقليد لم يكد يخفى عليه وجه الصواب والله الموفق
وهذه المسألة من نفائس هذا الكتاب والجاهل الظالم لا يرى الإحسان إلا إساءة ولا الهدى إلا الضلالة
فقيل:
للعيون الرمد للشمس أعين… سواك تراها في مغيب ومطالع
وسامح نفوسا بالقشور قد ارتضت… وليس لها للب من متطلع
المثال الرابع بعد المائة: اختلف الفقهاء هل يملك البائع حبس السلعة على ثمنها وهل يملك المستأجر حبس العين بعد العمل على الأجرة على ثلاثة أقوال(10/33)
ص -33-…أحدها يملكه في الموضعين وهو قول مالك وأبى حنيفة وهو المختار والثاني لا يملكه في الموضعين وهو المشهور من مذهب احمد عند أصحابه والثالث يملك حبس العين المستأجرة على عملها ولا يملك حبس المبيع على ثمنه والفرق بينهما أن العمل يجري مجرى الأعيان ولهذا يقابل بالعوض فصار كأنه شريك لمالك العين بعمله فأثر عمله قائم بالعين فلا يجب عليه تسليمه قبل أن يأخذ عوضه بخلاف المبيع فإنه قد دخل في ملك المشتري وصار الثمن في ذمته ولم يبق للبائع تعلق بالعين ومن سوى بينهما قال الأجرة قد صارت في الذمة ولم يشترط رهن العين عليها فلا يملك حبسها
وعلى هذا فالحيلة في الحبس في الموضعين حتى يصل إلى حقه أن يشترط عليه رهن العين المستأجرة على أجرتها فيقول رهنتك هذا الثوب على أجرته وهي كذا وكذا وهكذا في المبيع يشترط على المشتري رهنه على ثمنه حتى يسلمه إليه ولا محذور في ذلك أصلا ولا معنى ولا مأخذ قوى يمنع صحة هذا الشرط والرهن وقد اتفقوا انه لو شرط عليه رهن عين أخرى على الثمن جاز فما الذي يمنع جواز رهن المبيع على ثمنه ولا فرق بين أن يقبضه أولا يقبضه على أصح القولين وقد نص الإمام احمد على جواز اشتراط رهن المبيع على ثمنه وهو الصواب ومقتضى قواعد الشرع وأصوله وقال القاضي وأصحابه لا يصح وعلله ابن عقيل بأن المشتري رهن ما لا يملك فلم يصح كما لو شرط أن يرهنه عبدا لغيره يشتريه ويرهنه وهذا تعليل باطل فإنه إنما حصل الرهن بعد ملكه واشتراطه قبل الملك لا يكون بمنزلة رهن الملك
والفرق بين هذه المسألة وبين اشتراط رهن عبد زيد أن اشتراط رهن عبد زيد غرر قد يمكن وقد لا يمكن بخلاف اشتراط رهن المبيع على ثمنه فإنه إن تم العقد صار المبيع رهنا وإن لم يتم تبينا أنه لا ثمن يحبس عليه الرهن فلا غرر(10/34)
ص -34-…ألبتة فالمنصوص أفقه وأصح وهذا على أصل من يقول للبائع حبس المبيع على ثمنه ألزم وهو مذهب مالك وأبي حنيفة واحد قولي الشافعي وبعض أصحاب الإمام احمد وهو الصحيح وإن كان خلاف منصوص أحمد لأن عقد البيع يقتضى استواءهما في التسلم والتسليم ففي إجبار البائع على التسليم قبل حضور الثمن وتمكينه من قبضة إضرار به فإذا كان ملك حبسه على ثمنه من غير شرط فلأن يملكه مع الشرط أولى وأحرى فقول القاضي وأصحابه مخالف لنص احمد والقياس فإن شرط أن يقبض المشترى المبيع ثم يرهنه على ثمنه عند بائعه فأولى بالصحة
وقال ابن عقيل في الفصول: والرهن أيضا باطل لأنهما شرطا رهنه قبل ملكه وقد عرفت ما فيه وعلله أيضا بتعليل آخر فقال إطلاق البيع يقتضي تسليم الثمن من غير المبيع والرهن يقتضي استيفاء من عينه إن كان عينا أو ثمنه إن كان عرضا فيتضادا وهذا التعليل أقوى من الأول وهو الذي أوجب له القول ببطلان الرهن قبل القبض وبعده فيقال المحذور من التضاد إنما هو التدافع بحيث يدفع كل من المتضادين المتنافيين الآخر فأما إذا لم يدفع أحدهما الآخر فلا محذور والبائع إنما يستحق ثمن المبيع وللمشتري أن يؤدي إياه من عين المبيع ومن غيره فإن له أن يبيعه ويقبضه ثمنه منه وغاية عقد الرهن أن يوجب ذلك فأي تدافع وأي تناف هنا
وأما قوله إطلاق العقد يقتضى التسليم للثمن من غير المبيع فيقال بل إطلاقه يقتضى تسليم الثمن من أي جهة شاء المشتري حتى لو باعه قفيز حنطه بقفيز حنطه وسلمه إليه ملك أن يوفيه إياه ثمنا كما استوفاه مبيعا كما لو أقترض منه ذلك ثم وفاه إياه بعينه
ثم قال ابن عقيل وقد قال الإمام احمد في رواية بكر بن محمد عن أبيه إذا حبس السلعة ببقية الثمن فهو غاصب ولا يكون رهنا(10/35)
ص -35-…إلا أن يكون شرط عليه في نفس البيع الرهن فظاهر هذا أنه إن شرط كون المبيع رهنا في حال العقد صح قال وليس هذا الكلام على ظاهره ومعناه إلا أن يشترط عليه في نفس البيع رهنا غير المبيع
لأن اشتراط رهن البيع اشتراط تعويق التسليم في المبيع قلت ولا يخفى منافاة ما قاله لظاهر كلام الإمام احمد فإن كلام احمد المستثنى والمستثنى منه في صورة حبس المبيع على ثمنه فقال هو غاصب إلا أن يكون شرط عليه في نفس البيع الرهن أي فلا يكون غاصبا بحبس السلعة بمقتضى شرطه ولو كان المراد ما حمله عليه لكان معنى الكلام إذا حبس السلعة ببقية الثمن فهو غاصب إلا أن يكون قد شرط له رهنا آخر غير المبيع يسلمه إليه وهذا كلام لا يرتبط أوله بآخره ولا يتعلق به فضلا عن أن يدخل في الأول ثم يستثنى منه ولهذا جعله أبو البركات ابن تيمية نصا في صحة هذا الشرط ثم قال وقال القاضي لا يصح
وأما قوله إن اشتراط رهن المبيع تعويق للتسليم في المبيع فيقال واشتراط التعويق إذا كان لمصلحة البائع وله فيه غرض صحيح وقد قدم عليه المشترى فإي محذور فيه ثم هذا يبطل باشتراط الخيار فإن فيه تعويقا للمشتري عن التصرف في المبيع وباشتراط تأجيل الثمن فإن فيه تعويقا للبائع عن تسلمه أيضا ويبطل على أصل الإمام احمد وأصحابه باشتراط البائع انتفاعه بالمبيع مدة يستثنيها فإن فيه تعويقا للتسليم ويبطل أيضا ببيع العين المؤجرة
فإن قيل: إذا اشترط أن يكون رهنا قبل قبضه تدافع موجب البيع والرهن فإن موجب الرهن أن يكون تلفه من ضمان مالكه لأنه أمانة في يد المرتهن(10/36)
ص -36-…وموجب البيع أن يكون تلفه قبل التمكين من قبضه من ضمان البائع فإذا تلف هذا الرهن قبل التمكن من قبضه فمن ضمان أيهما يكون
قيل: هذا السؤال أقوى من السؤالين المتقدمين والتدافع فيه أظهر من التدافع في التعليل الثاني وجواب هذا السؤال أن الضمان قبل التمكن من القبض كان على البائع كما كان ولا يزيل هذا الضمان إلا تمكن المشتري من القبض فإذا لم يتمكن من قبضه فهو مضمون على البائع كما كان وحبسه إياه على ثمنه لا يدخله في ضمان المشتري ويجعله مقبوضا له كما لو حبسه بغير شرط
فإن قيل: فأحمد رحمه الله تعالى قد قال: إنه إذا حبسه على ثمنه كان غاصبا إلا أن يشترط عليه الرهن وهذا يدل على انه قد فرق في ضمانه بين أن يحبسه بشرط أو يحبسه بغير شرط وعندكم هو مضمون عليه في الحالين وهو خلاف النص
فالجواب أن الإمام أحمد رحمه الله تعالى إنما جعله غاصبا بالحبس والغاصب عنده يضمن العين بقيمتها أو مثلها ثم يستوفى الثمن أو بقيته من المشترى وأما إذا تلف قبل قبضه فهو من ضمان البائع بمعنى انه ينفسخ العقد فيه ولا يملك مطالبة المشتري بالثمن وإن كان قد قبضه منه أعاده إليه فهذا الضمان شئ وضمان الغاصب شئ آخر
فإن قيل فكيف يكون رهنا وضمانه على المرتهن
قيل لم يضمنه المرتهن من حيث هو رهن وإنما ضمنه من حيث كونه مبيعا لم يتمكن مشتريه من قبضه فحق توفيته بعد على بائعه
فإن قيل فما تقولون لو حبس البائع السلعة لاستيفاء حقه منها وهذا يكون في صور إحداها أن يبيعه دارا له فيها متاع لا يمكن نقله في وقت واحد والثانية أن يستثني البائع الانتفاع بالمبيع مدة معلومة على أصلكم أونحو ذلك فإذا تلفت(10/37)
ص -37-…في يد البائع قبل تمكن المشتري من القبض في هاتين الصورتين هل تكون من ضمانه أومن ضمان البائع الثالثة أن يشترط الخيار ويمنعه من تسليم المبيع قبل انقضاء الخيار
قيل الضمان في هذا كله على البائع لأنه لم يدخل تحت يد المشتري ولم يتمكن من قبضه فلا يكون مضمونا عليه
فإن قيل فهل يكون من ضمانه بالثمن أو بالقيمة؟
قيل بل يكون مضمونا عليه بالثمن بمعنى أن العقد ينفسخ بتلفه فلا يلزم المشتري تسليم الثمن
المثال الخامس بعد المائة إقرار المريض لوارثة بدين باطل عند الجمهور للتهمة فلو كان له عليه دين ويريد أن تبرأ ذمته منه قبل الموت وقد علم أن إقراره له باطل فكيف الحيلة في براءة ذمته ووصول صاحب الدين إلى ماله فههنا وجوه أحدها أن يأخذ إقرار باقي الورثة بأن هذا الدين على الميت فإن الإقرار إنما بطل لحقهم فإذا أقروا به لزمهم فإن لم تتم له هذه الحيلة فله وجه ثان وهو أن يأتي برجل أجنبي يثق به يقر له بالمال فيدفعه الأجنبي إلى ربه فإن لم تتم له هذه الحيلة فله وجه ثالث وهو أن يشتري منه سلعة بقدر دينه ويقر المريض بقبض الثمن منه أو يقبض منه الثمن بمحضر الشهود ثم يدفعه إليه سرا فإن لم تتم له هذه الحيلة فليجعل الثمن وديعة عنده فيكون أمانة فيقبل قوله في تلفه ويتأول أو يدعى رده إليه والقول قوله وله وجه آخر وهو أن يحضر الوارث شيئا ثم يبيعه من موروثه بحضرة الشهود ويسلمه إليه فيقبضه ويصير ماله ثم يهبه الموروث لأجبني ويقبضه منه ثم يهبه الأجنبي للوارث فإذا فعلت هذه الحيلة ليصل المريض إلى براءة ذمته والوارث إلى أخذ دينه جاز ذلك وإلا فلا(10/38)
ص -38-…المثال السادس: بعد المائة إذا أحاله بدينه على رجل فخاف أن يتوى ماله على المحال عليه فلا يتمكن من الرجوع على المحيل لأن الحوالة تحول الحق وتنقله فله ثلاث حيل
إحداها أن يقول أنا لا أحتال ولكن أكون وكيلا لك في قبضه فإذا قبضه فإن استنفقه ثبت له ذلك في ذمة الوكيل وله في ذمة الموكل نظيره فيتقاصان فإن خاف الموكل أن يدعى الوكيل ضياع المال من غير تفريط فيعود يطالبه بحقه فالحيلة له أن يأخذه إقراره بأنه متى ثبت قبضه منه فلا شئ له على الموكل وما يدعى عليه بسبب هذا الحق أومن جهته فدعواه باطلة وليس هذا إبراء معلقا بشرط حتى يتوصل إلى إبطاله بل هو إقرار بأنه لا يستحق عليه شيئا في هذه الحالة
الحيلة الثانية أن يشترط عليه انه إن توى المال رجع عليه ويصح هذا الشرط على قياس المذهب فإن المحتال إنما قبل الحوالة على هذا الشرط فلا يجوز أن يلزم بها بدون الشرط كما لو قبل عقد البيع بشرط الرهن أوالضمين أوالتأجيل أوالخيار أوقبل عقد الإجارة بشرط الضمين للأجرة أوتأجيلها أوقبل عقد النكاح بشرط تأجيل الصداق أوقبل عقد الضمان بشرط تأجيل الدين الحال على المضمون عنه أوقبل عقد الكفالة بشرط أن لا يلزمه من المال الذي عليه شئ أوقبل عقد الحوالة بشرط ملاءة المحال عليه وكونه غير محجور ولا مماطل وأضعاف أضعاف وأضعاف ذلك من الشروط التي لا تحل حراما ولا تحرم حلالا فإنها جائز اشتراطها لازم الوفاء بها كما تقدم تقريره نصا وقياسا وقد صرح أصحاب أبي حنيفة بصحة هذا الشرط(10/39)
ص -39-…في الحوالة فقالوا واللفظ للخصاف يجوز أن يحتال الطالب بالمال على غريم المطلوب على أن هذا الغريم إن لم يوف الطالب هذا المال إلى كذا وكذا فالمطلوب ضامن لهذا المال على حاله وللطالب أخذه بذلك وتقع الحوالة على هذا الشرط فإن وفاه الغريم إلى الأجل الذي يشترطه وإلا رجع إلى المطلوب وأخذه بالمال ثم حكى عن شيخه قال قلت وهذا جائز قال نعم
الحيلة الثالثة أن يقول طالب الحق للمحال عليه اضمن لي هذا الدين الذي على غريمي ويرضى منه بذلك بدل الحوالة فإذا ضمنه تمكن من مطالبة أيهما شاه وهذه من أحسن الحيل وألطفها
المثال السابع بعد المائة إذا كان له عليه دين حال فاتفقا على تأجيله وخاف من عليه الدين أن لا يفي له بالتأجيل فالحيلة في لزومه أن يفسخ العقد الذي هو سبب الدين الحال ثم يعقده عليه مؤجلا فإن كان عن ضمان أوكان بدل متلف أوعن دية وقد حلت أونحو ذلك فالحيلة في لزوم التأجيل أن يبيعه سلعة بمقدار هذا الدين ويؤجل عليه ثمنها ثم يبيعه المدين تلك السلعة بالدين الذي أجله عليه أولا فيبرأ منه ويثبت في ذمته نظيره مؤجلا فإن خاف صاحب الحق أن لا يفي له من عليه بأدائه عند كل نجم كما أجله فالحيلة أن يشترط عليه أنه إن حل نجم ولم يؤده قسطه فجميع المال عليه حال فإذا نجمه على هذا الشرط جاز وتمكن من مطالبته به حالا ومنجما عند من يرى لزوم تأجيل الحال ومن لا يراه أما من لا يراه فظاهر وأما من يراه فإنه يجوز تأجيله لهذا الشرط كما صرح به أصحاب أبي حنيفة والله أعلم
المثال الثامن بعد المائة: إذا أراد المريض الذي لا وارث له أن يوصى بجميع أمواله في أبواب البر فهل له ذلك على قولين أصحهما أنه يملك ذلك لأنه إنما منعه الشارع فيما زاد على الثلث وكان له ورثة فمن لا وارث له لا يعترض(10/40)
ص -40-…عليه فيما صنع في ماله فإن خاف أن يبطل ذلك حاكم لا يراه فالحيلة له أن يقر لإنسان يثق بدينه وأمانته بدين يحيط بماله كله ثم يوصيه إذا اخذ ذلك المال أن يضعه في الجهات التي يريد فإن خاف المقر له أن يلزم بيمين باستحقاقه لما أقر له به المريض اشترى منه المريض عرضا من العروض بماله كله ويسلم العرض فإذا حلف المقر له حلف بارا فإن خاف المريض أن يصح فيأخذه البائع بثمن العرض فالحيلة أن يشتريه بشرط الخيار سنة فإن مات بطل الخيار وإن عاش فسخ العقد فإن كان المال أرضا أو عقارا أو أراد أن يوقفه جميعه على قوم يستغلونه ولا يمكن إبطاله فالحيلة أن يقر أن واقفا وقف ذلك جميعه عليه ومن بعده على الجهات التي يعينها ويشهد على إقراره بأن هذا العقار في يده على جهة الوقف من واقف كان ذلك العقار ملكا له إلى حين الوقف أو يقر بأن واقفا معينا وقفة على تلك الجهات وجعله ناظرا عليه فهو في يده على هذا الوجه
وكذلك الحيلة إذا كان له بنت أو أم أو وارث بالفرض لا يستغرق ماله ولا عصبة له ويريد أن لا يتعرض له السلطان فله أنواع من المخارج منها أن يبيع الوارث تلك الأعيان ويقر بقبض الثمن منه وإن أمكنه أن يشهد على قبضة بأن يحضر الوارث مالا يقبضه إياه ثم يعيده إليه سرا فهو أولى ومنها أن يشتري المريض من الوارث سلعة بمقدار التركة من الثمن ويشهد على الشراء ثم يعيد إليه تلك السلعة ويرهنه المال كله على الثمن فإذا أراد السلطان مشاركته قال وفوني حقي وخذوا ما فضل ومنها أن يبيع ذلك لأجنبي يثق به ويقر بقبض الثمن منه أو يقبضه بحضرة الشهود ثم يأذن للأجنبي في تمليكه للوارث أو وقفه عليه ومنها أن يقر لأجنبي يثق به بما يريد ثم يأمره بدفع ذلك إلى الوارث
ولكن في هذه الحيل وأمثالها أمران مخوفان أحدهما أنه قد يصح فيحال بينه وبين ماله والثاني أن الأجنبي قد يدعى ذلك لنفسه ولا يسلمه إلى(10/41)
ص -41-…الوارث فلا خلاص من ذلك إلا بوجه واحد وهو أن يأخذ إقرار الأجنبي ويشهد عليه في مكتوب ثان أنه متى ادعى لنفسه أولمن يخاف أن يواطئه على المريض أو وارثه هذا المال أو شيئا منه أو حقا من حقوقه كانت دعواه باطلة وإن أقام به بينه فهى بينه زور وأنه لا حق له قبل فلان بن فلان ولا وارثه بوجه ما ويمسك الكتاب عنده فيأمن هو والوارث ادعاء ذلك لنفسه والله اعلم
المثال التاسع بعد المائة: رجل يكون له الدين ويكون عليه الدين فيوكل وكيلا في اقتضاء ديونه ثم يتوارى عن غريمه فلا يمكنه اقتضاء دينه منه فأراد الغريم ممن له الدين على هذا الرجل حيلة يقتضى بها دينه منه ولا يضره توارى من عليه الدين فالحيلة أن يأتي هذا الذي له الدين إلى من عليه الدين فيقول له وكلتك بقبض مالي على فلان وبالخصومة فيه ووكلتك أن تجعل ماله عليك قصاصا بمالي عليه وأجزت أمرك في ذلك وما عملت فيه من شيء فيقبل الوكيل ويشهد على الوكالة على هذا الوجه شهودا ثم يشهدهم الوكيل انه قد جعل الألف درهم التي لفلان عليه قصاصا بالآلف التي لموكله على فلان فيصير الألف قصاصا ويتحول ما كان للرجل المتوارى على هذا الوكيل للرجل الذي وكله
وهذه الحيلة جائزة لأن الموكل أقام الوكيل مقام نفسه والوكيل يقول مطالبتي لك بهذا الدين كمطالبة موكلي به فأنا أطالبك بألف وأنت تطالبني به فاجعل الألف الذي تطالبني عوضا عن الألف الذي أطالبك به ولو كانت الألف لي لحصلت المقاصة إذ لا معنى لقبضك للألف مني ثم أدائها إلي وهذا بعينه فيما إذا طالبتك بها لموكلي أنا أستحق عليك أن تدفع إلى الألف وأنت تستحق على أن ادفع إليك ألفا فنتقاص في الألفين
المثال العاشر بعد المائة: رجل له على رجل مال فغاب الذي عليه المال(10/42)
ص -42-…فأراد الرجل أن يثبت ماله عليه حتى يحكم له الحاكم عليه وهو غائب فليرفعه إلى حاكم يرى الحكم على الغائب فإن كان حاكم البلد لا يرى الحكم على الغائب فالحيلة أن يجئ رجل فيضمن لهذا الذي له المال جميع ماله على الرجل الغائب ويسميه وينسبه ولا يذكر مبلغ المال بل يقول ضمنت له جميع ما صح له في ذمته ويشهد على ذلك ثم يقدمه إلى القاضي فيقر الضامن بالضمان ويقول لا أعرف له على فلان شيئا فيسأل القاضي المضمون له هل لك بينة فيقول نعم فيأمره بإقامتها فإذا شهدت ثبت الحق على الغائب وحكم على الضمين بالمال ويجعله خصما عن الغائب لأنه قد ضمن ما عليه ولا ينفذ حكمه على الضامن بثبوت المال على وجه الضمان حتى يحكم على الغائب المضمون عنه بالثبوت لأنه هو الأصل والضامن فرعه وثبوت الفرع بدون أصله ممتنع وهو جائز على اصل أهل العراق حيث يجوزون الحكم على الغائب إذا اتصل القضاء بحاضر محكوم عليه كوكيل الغائب وكما لو ادعى انه اشترى من غائب ما فيه شفعة فإنه يقضى عليه بالبيع وبالشفعة على المدعى وكهذه المسألة ما لو ادعت زوجة غائب أن له عند فلان وديعة فإنه يفرض لها مما في يديه
المثال الحادي عشر بعد المائة: ليس للمرتهن أن ينتفع بالرهن إلا بإذن الراهن فإن أذن له كان إباحة أو عارية له الرجوع فيها متى شاء ويقضى له بالأجرة من حين الرجوع في أحد الوجهين فالحيلة في انتفاع المرتهن بالرهن آمنا من الرجوع ومن الأجرة أن يستأجره منه للمدة التي يريد الانتفاع به فيها ثم يبرئه من الأجرة أو يقر بقبضها ويجوز أن يرد عقد الإجارة على عقد الرهن ولا يبطله كما يجوز أن يرهنه ما أستأجره فيرد كل من العقدين على الآخر وهو في يده أمانة في الموضعين وحقه متعلق به فيهما إلا أن الانتفاع بالمرهون مع الإجارة والرهن بحاله(10/43)
ص -43-…المثال الثاني عشر بعد المائة: إذا كان له على رجل مال والمال رهن فادعى صاحب الرهن به عند الحاكم فخاف المرتهن أن يقر بالرهن فيقول الراهن قد أقررت بأن لي رهنا في يدك وادعيت الدين فينزعه من يده ولا يقر له بالدين فقد ذكروا له حيلة تحرز حقه وهي أن لا يقر به حتى يقر له صاحبه بالدين فإن ادعاه وسأل إحلافه أنكر وحلف وعرض في يمينه بأن ينوى أن هذا ليس له قبل ملكه أو إذا باعه أوليس له عاريا عن تعلق الحق به ونحو ذلك
وأحسن من هذه الحيلة أن يفصل في جواب الدعوى فيقول إن ادعيته رهنا في يدي على ألف لي عليك فأنا مقر به وإن ادعيته على غير هذا الوجه فلا أقر لك وينفعه هذا الجواب كما قالوا فيما إذا ادعى عله ألفا فقال إن ادعيتها من ثمن مبيع لم اقبضه منك فأنا مقر و إلا فلا وهذا مثله سواء فإن كان الغريم هو المدعى للمال فخاف الراهن أن يقر بالمال فيجحد المرتهن الرهن فيلزم الراهن المال ويذهب رهنه فالحيلة في أمنه من ذلك أن يقول إن أدعيت هذا المال وأنك تستحقه من غير رهن لي عندك فلا أقر به وإن ادعيته مع كوني رهنتك به كذا وكذا فأنا مقر به ولا يزيد على هذا وقالت الحنفية الحيلة أن يقر منه بدرهم فيقول لك على درهم ولى عندك رهن كذا وكذا فإذا سأل الحاكم المدعى عن الرهن فإما أن يقر به وإما أن ينكر فإن اقر به فيقر له خصمه بباقي دينه وإن أنكره وحلف عليه وسع الآخر أن يجحد باقي الدين ويحلف عليه إن كان الرهن بقدر الدين أو أكثر منه وإن كان أقل منه لزمه أن يعطيه ما زاد على قيمة الرهن من حقه قالوا لأن الرهن إن كان قد تلف بغير تفريطه سقط ما يقابله من الدين وإن كان قد فرط فيه صارت قيمته دينا عليه فيكون قصاصا بالدين الذي له(10/44)
ص -44-…وهذا بناء على أصلين لهم أحدهما أن الرهن مضمون على المرتهن بأقل الآمرين من قيمته أو قدر الدين والثاني جواز الاستيفاء في مسألة الظفر
المثال الثالث عشر بعد المائة: إذا قال لامرأته إن لم اطألك الليلة فأنت طالق ثلاثا فقالت إن وطئني الليلة فأمتي حرة فالمخلص من ذلك ان تبيعه الجارية فإذا وطئها بعد ذلك لم تعتق لأنها خرجت من ملكها ثم تستردها فإن خافت أن يطأ الجارية على قول من لا يرى على الرجل استبراء الأمة التي يشتريها من امرأته كما ذهب إليه بعض الشافعية والمالكية فالحيلة أن تشتريها منه عقيب الوطء فإن أن لا يرد إليها الجارية ويقيم على ملكها فلا تصل اليها فالحيلة لها ان تشترط عليه انه ان لم يرد الجارية إليها عقيب الوطء فهي حرة فإن خافت ان يملكها لغيره تلجئة فلا يصح تعليق عنقها فالحيلة لها أن تشترط عليه انه أن لم يردها اليها عقيب الوطء فهي طالق فهنا تضيق عليه الحيلة في استدامة ملكها ولم يجد بدا من مفارقة احداهما
المثال الرابع عشر بعد المائة: اذا اراد الرجل ان يخالع امراته الحامل على سكناها ونفقتها جاز ذلك وبريء منهما هذا منصوص احمد وقال الشافعي لا يصح الخلع ويجب مهر المثل واحتج له بأن النفقة لم تجب بعد فإنها انما تجب بعد الابانة وقد خالعها بمعدوم فلا يصح كما لو خالعها على عوض شيء يتلفه عليها وهذا اختيار ابي بكر عبد العزيز وقال اصحاب ابي حنيفة اذا خالعها على ان سكنى لها ولا نفقة فلا نفقة لها وتستحق عليه اسكنى قالوا لان النفقة حق لها وقد اسقطته والسكنى حق الشارع فلا تسقط بإسقاطها فيلزمه إسكانها قالوا فالحيلة على سقوط الأجرة عنه ان يشترط الزوج في الخلع أن(10/45)
ص -45-…لا يكون عليه مؤنة السكنى وان مؤنتها تلزم المرأة في مالها وتجب أجرة المسكن عليها
فإن قيل لو أبرأت المرأة زوجها عن النفقة قبل أن تصير دينا في ذمته لم تصح ولو شرط في عقد الخلع براءة الزوج عن النفقة صح
قيل الفرق بينهما أن الإبراء إذا شرط في الخلع كان إبراء بعوض فالإبراء بعوض استيفاء لما وقعت البراءة عنه لأن العوض قائم مقام ما وقعت البراءة عنه والاستيفاء يجوز قبل الوجوب بدليل ما لو تسلفت نفقة شهر جملة وأما الابراء من النفقة في غير خلع قبل ثبوتها فهو إسقاط لما لم يجب فلا يسقط كما لو أسقطت حقها من القسم فإن لها أن ترجع فيه متى شاءت وأما قول صاحب المحرر وقيل إن أوجينا نفقة الزوجة بالعقد صح وإلا فهو خلع بمعدوم وقد بينا حكمه يعنى إن قلنا إن نفقة الحامل نفقة زوجة وإن النفقة لها من أجل الحمل وإنها تجب بالعقد فيكون خلعا بشيء ثابت وإن قلنا إنه النفقة إنما تجب بالتمكين فقد زال التمكين بالخلع وصارت النفقة نفقة قريب فالخلع بنفقة الزوجة حينئذ خلع بمعدوم هذا أقرب ما يتوجه به كلامه وفيه ما فيه والله أعلم
المثال الخامس عشر بعد المائة إذا وقع الطلاق الثلاث بالمرأة وكان دينها ودين وليها وزوجها المطلق أعز عليهم من التعرض للعنة الله ومقته بالتحيل الذي لا يحلها ولا يطيبها بل يزيدها خبثا فلو انها أخرجت من مالها ثمن مملوك فوهبته لبعض من تثق به فاشترى به مملوكا ثم خطبها على مملوكه فزوجها منه فدخل بها المملوك ثم وهبها إياه انفسح النكاح ولم يكن هناك تحليل مشروط ولا منوى ممن تؤثر نيته وشرطه وهو الزوج فإنه لا أثر لنية الزوجة ولا الولى وإنما التأثير لنية الزوج الثاني فإنه إذا نوى التحليل كان محللا فيستحق اللعنة ثم يستحقها الزوج المطلق إذا رجعت إليه بهذا النكاح الباطل فأما إذا لم يعلم الزوج الثاني ولا الأول(10/46)
ص -46-…بما في قلب المرأة أو وليها من نية التحليل لم يضر ذلك العقد شيئا وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم من امرأة رفاعة أنها كانت تريد أن ترجع إليه ولم يجعل ذلك مانعا من رجوعها إليه وإنما جعل المانع عدم وطء الثاني فقال: "حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" وقد صرح أصحابنا بان ذلك يحلها فقال صاحب المغنى فيه فإن تزوجها مملوك ووطئها أحلها وبذلك قال عطاء ومالك والشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم لهم مخالفا
قلت هذه الصورة غير الصورة التي منع منها الإمام احمد فإنه منع من حلها إذا كان الزوج المطلق قد اشترى العبد وزوجه بها بإذن وليها ليحلها فهذه حيلة لا تجوز عنده وأما هذه المسألة فليس للزوج الأول ولا للثاني فيها نية ومع هذا فيكره لأنها نوع حيلة
المثال السادس عشر بعد المائة قال عبد الله بن احمد في مسائله: "سألت ابي عن رجل قال لامرأته أنت طالق إن لم أجامعك اليوم وأنت طالق إن اغتسلت منك اليوم فقال: يصلى العصر ثم يجامعها فإذا غابت الشمس اغتسل إن لم يكن أراد بقوله اغتسلت المجامعة" ونظير هذا أيضا ما نص عليه في رجل قال لامرأته أنت طالق إن لم أطاك في رمضان فسافر مسيرة أربعة ايام أوثلاثة ثم وطئها فقال لا يعجبني لأنها حيلة ولا يعجبني الحيلة في هذا ولا في غيره وقال القاضي إنما كره الامام احمد هذا لان السفر الذي يبيح الفطر لا بد أن يكون سفرأ مقصودا مباحا وهذا لا يقصد به غير حل اليمين قال الشيخ أبو محمد المقدسي والصحيح أن هذا تنحل به اليمين ويباح له الفطر فيه لأنه سفر بعيد مباح لقصد صحيح وإرادة حل يمينه من المقاصد الصحيحة وقد أبحنا لمن له طريقان قصيرة لا يقصر فيها وبعيدة أن يسلك البعيدة ليقصر فيها الصلاة ويفطر مع أنه لا قصد له سوى الترخص فههنا أولى(10/47)
ص -47-…قلت: ويؤيد اختيار الشيخ قدس الله روحه ما رواه الخطيب في كتاب الفقيه والمتفقه أنبأ الأزهري أنبأ سهيل بن احمد ثنا محمد بن محمد الأشعث الكوفي حدثني موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب صلوات الله عليهم ثنا أبى عن ابيه عن جده جعفر بن محمد عن ابيه على عليه السلام: في رجل حلف فقال: امرأته طالق ثلاثا إن لم يطأها في شهر رمضان نهارا قال: "يسافر ثم يجامعها نهارا"
المثال السابع عشر بعد المائة: في المخارج من الوقوع في التحليل الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير وجه فاعله والمطلق المحلل له فأي قول من أقوال المسلمين خرج به من لعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أعذر عند الله ورسوله وملائكته وعباده المؤمنين من ارتكابه لما يلعن عليه ومباءته باللعنة فإن هذه المخارج التي نذكرها دائرة بين ما دل عليه الكتاب والسنة أو احدهما أو أفتى به الصحابة بحيث لا يعرف عنهم فيه خلاف أو أفتى به بعضهم أو هو خارج عن أقوالهم أوهو قول جمهور الأمة أو بعضهم أو إمام من الأئمة الأربعة أو أتباعهم أو غيرهم من علماء الإسلام ولا تخرج هذه القاعدة التي نذكرها عن ذلك فلا يكاد يوصل إلى التحليل بعد مجاوزة جميعها إلا في أندر النادر ولا ريب أن من نصح لله ورسوله وكتابه ودينه ونصح نفسه ونصح عباده أن أيا منها ارتكب فهو أولى من التحليل
طلاق زائل العقل:
المخرج الأول أن يكون المطلق أو الحالف زائل العقل إما بجنون أوإغماء أوشرب دواء أوشرب مسكر يعذر به أولا يعذر أووسوسة وهذا المخلص مجمع عليه بين الامة إلا في شرب مسكر لا يعذر به فإن المتأخرين من الفقهاء اختلفوا فيه والثابت عن الصحابه الذي لا يعلم فيه خلاف بينهم أنه لا يقع طلاقه(10/48)
ص -48-…قال البخاري في صحيحه باب الطلاق في الاغلاق والمكرة والسكران والمجنون وامرهما والغلط والنسيان في الطلاق والشك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الأعمال بالنية ولكل امرئ ما نوى" وتلا الشعبي: {لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} وما لا يجوز من إقرار الموسوس وقال النبي صلى الله عليه وسلم للذي أقر على نفسه: "أبك جنون" وقال على بقر حمزة خواصر شارفي فطفق النبي صلى الله عليه وسلم يلوم حمزة فإذا حمزة قد ثمل محمرة عيناه ثم قال حمزة: هل أنتم إلا عبيد لآبائي فعرف النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد ثمل فخرج وخرجنا معه قال عثمان: "ليس لمجنون ولا لسكران طلاق" وقال ابن عباس: "طلاق السكران والمستكره ليس بجائز" وقال عقبة بن عامر: "لا يجوز طلاق الموسوس هذا" لفظ الترجمة ثم ساق بقية الباب ولا يعرف عن رجل من الصحابة أنه خالف عثمان وابن عباس في ذلك ولذلك رجع الإمام احمد إلى هذا القول بعد أن كان يفتى بنفوذ طلاقه فقال أبو بكر عبد العزيز في كتاب الشافي والزاد قال أبو عبد الله في رواية الميموني قد كنت أقول بأن طلاق السكران يجوز حتى تبينته فغلب على انه لا يجوز طلاقه لأنه لو اقر لم يلزمه ولو باع لم يجز بيعه قال والزمه الجناية وما كان من غير ذلك فلا يلزمه قال ابو بكر وبهذا أقول وفي مسائل الميموني سألت أبا عبد الله عن طلاق السكران فقال اكثر ما عندي فيه أنه لا يلزمه الطلاق قلت اليس كنت مرة تخاف أن يلزمه قال بلى ولكن أكثر ما عندي فيه أنه لا يلزمه الطلاق لأني رأيته ممن لا يعقل قلت السكر شئ أدخله على نفسه فلذلك يلزمه(10/49)
ص -49-…قال قد يشرب رجل البنج أوالدواء فيذهب عقله قلت فبيعه وشراؤه وإقراره قال لا يجوز وقال في رواية أبى الحارث ارفع شئ فيه حديث الزهري عن أبان بن عثمان عن عثمان ليس لمجنون ولا سكران طلاق وقال في رواية ابي طالب والذي لا يأمر بالطلاق فإنما أتى خصلة واحدة والذي يامر بالطلاق قد أتى خصلتين حرمها عليه وأحلها لغيره فهذا خير من هذا وأنا أتقى جميعها
وممن ذهب الى القول بعدم نفوذ طلاق السكران من الحنفية ابو جعفر الطحاوي وابو الحسن الكرخي وحكاه صاحب النهاية عن أبي يوسف وزفر ومن الشافعية المزني وابن سريج وجماعة ممن اتبعهما وهو الذي اختاره الجويني في النهاية والشافعي نص على وقوع طلاقه ونص في أحد قوليه على أنه لا يصح ظهارة فمن أتباعه من نقل عن الظهار قولا الى الطلاق وجعل المسألة على قولين ومنهم من قرر حكم النصين ولم يفرق بطائل
والصحيح انه لا عبرة بأقواله من طلاق ولا عتاق ولا بيع ولا هبة ولا وقف ولا إسلام ولا ردة ولا إقرار لبضعة عشر دليلا ليس هذه موضع ذكرها ويكفى منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} وأمر النبي صلى الله عليه وسلم باستنكاه ما عز لما أقر بالزنا بين يديه وعدم أمر النبي صلى الله عليه وسلم حمزة بتجديد إسلامه لما قال في سكره أنتم عبيد لآبائي وفتوى عثمان وابن عباس ولم يخالفهما احد من الصحابة والقياس الصحيح المحص على زائل العقل بدواء أوبنج أومسكر هو فيه معذور بمقتضى قواعد الشريعة فإن السكران لا قصد له فهو أولى بعدم المؤاخذة من اللاغى ومن جرى اللفظ على لسانه من غير قصد له وقد صرح اصحاب ابي حنيفة بأنه لا يقع طلاق الموسوس وقالوا لا يقع طلاق المعتوه وهو من كان قليل الفهم مختلط الكلام فاسد التدبير إلا انه لا يضرب ولا يشتم كما يفعل المجنون(10/50)
ص -50-…فصل: طلاق الغضبان
المخرج الثاني ان يطلق أويحلف في حال غضب شديد قد حال بينه وبين كمال قصده وتصوره فهذا لا يقع طلاقه ولا عتقه ولا وقفه ولو بدرت منه كلمة الكفر في هذا الحال لم يكفر وهذا نوع من الغلق والإغلاق الذي منع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوع الطلاق والعتاق فيه نص على ذلك الامام أحمد وغيره قال أبو بكر بن عبدالعزيز في كتاب زاد المسافر له باب في الإغلاق في الطلاق قال قال احمد في رواية حنبل وحديث عائشة رضى الله عنها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا طلاق ولا عتاق في إغلاق" يعنى الغضب وبذلك فسره أبو داود في سننه عقب ذكره الحديث فقال والاغلاق أظنه الغضب
وقسم شيخ الاسلام ابن تيمية قدس الله روحه الغضب الى ثلاثة اقسام قسم يزيل العقل كالسكر فهذا لا يقع معه طلاق بلا ريب وقسم يكون في مبادئه بحيث لا يمنعه من تصور ما يقول وقصده فهذا يقع معه الطلاق وقسم يشتد بصاحبه ولا يبلغ به زواال عقله بل يمنعه من التثبت والتروي ويخرجه عن حال اعتداله فهذا محل اجتهاد
معنى الغلق والتحقيق
أن الغلق يتناول كل من انغلق عليه طريق قصده وتصوره كالسكران والمجنون والمبرسم والمكره والغضبان فحال هؤلاء كلهم حال إغلاق والطلاق إنما يكون عن وطر فيكون عن قصد من المطلق وتصور لما يقصده فإن تخلف احدهما لم يقع طلاق وقد نص مالك والامام احمد في إحدى الروايتين عنه فيمن قال لامرأته أنت طالق ثلاثا ثم قال: اردت ان اقول إن كلمت فلانا أوخرجت من بيتي بغير إذني ثم بدا لي فتركت اليمين ولم ارد التنجيز في الحال(10/51)
ص -51-…إنه لا تطلق عليه وهذا هو الفقه بعينه لانه لم يرد التنجيز ولم يتم اليمين وكذلك لو ارادان يقول انت طاهر فسبق لسانه فقال انت طالق لم يقع طلاقه لا في الحكم الظاهر ولا فيما بينه وبين الله تعالى نص عليه الامام احمد في أحدى الروايتين والثانية لا يقع فيما بينه وبين الله ويقع في الحكم وهذا إحدى الروايتين عن أبي يوسف وقال ابن ابي شيبة ثنا محمد بن مروان عن عمارة سئل جابر بن زيد عن رجل غلط بطلاق امرأته فقال ليس على المؤمن غلط ثنا وكيع عن إسرائيل عن عامر في رجل أراد أن يتكلم في شئ فغلظ فقال الشعبي ليس بشئ
فصل: طلاق المكره
المخرج الثالث ان يكون مكرها على الطلاق أوالحلف به عند جمهور الامة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وهو قول احمد ومالك والشافعي وجميع اصحابهم على اختلاف بينهم في حقيقة الاكراه وشروطه قال الامام احمد في رواية أبي طالب يمين المستكره إذا ضرب ابن عمر وابن الزبير لم يرياه شيئا وقال في رواية ابي الحارث إذا طلق المكره لم يلزمه الطلاق فإذا فعل به كما فعل بثابت بن الاحنف فهو مكره لأن ثابتا عصروا رجله حتى طلق فأتى ابن عمر وابن الزبير فلم يريا ذلك شيئا وكذا قال الله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} وقال الشافعي رضى الله عنه قال عز وجل: {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} وللكفر أحكام فلما وضعها الله تعالى عنه سقطت احكام الإكراه عن القول كله لان الاعظم إذا سقط عن الناس سقط ما هو أصغر منه وفي سنن ابن ماجه وسنن البيهقي من حديث بشر بن بكر عن الاوزاعي عن عطاء عن عبيد بن عمير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله وضع عن أمتي" وقال البيهقي تجاوز لي عن امتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وفي الصحيحين(10/52)
ص -52-…من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لامتى ما توسوس به صدورها ما لم تعمل به أوتتكلم به" زاد ابن ماجة وما استكرهوا عليه وقال الشافعي روى حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن ان عليا كرم الله وجهه قال لا طلاق لمكره وذكر الأوزاعي عن يحيى بن ابي كثير وابن عباس لم يجز طلاق المكره وذكر ابو عبيد عن علي وابن عباس وابن عمر وابن الزبير وعطاء وعبد الله بن عمير أنهم كانوا يرون طلاقه غير جائز وقال ابن ابي شيبه ثنا عبد الله بن ابي طلحة عن ابي يزيد المديني عن ابن عباس قال ليس على المكره ولا المضطهد طلاق وحدثنا أو معاوية عن عبد الله بن عمير عن ثابت مولى اهل المدينة عن ابن عمر وابن الزبير كانا لا يريان طلاق المكرة شيئا ثنا وكيع عن الاوزاعي عن رجل عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه انه لم يره شيئا
قلت قد اختلفت على عمر فقال إسماعيل بن ابي اويس حدثني عبدالملك ابن قدامة بن ابراهيم الجمحي عن أبيه أن رجلا تدلى يشتار عسلا في زمن عمر رضى الله عنه فجاءته امرأته فوقفت على الحبل فحلفت لتفطعنه أولتطلقنى ثلاثا فذكرها الله والاسلام فأبت إلا ذلك فطلقها ثلاثا فلما ظهر أتى عمر فذكر له ما كان منها إليه ومنه إليه فقال ارجع إلى اهلك فليس هذا بطلاق تابعه عبد الرحمن بن مهدي عن عبد الملك وهو المشهور عن عمر وقال ابو عبيد حدثني يزيد عن عبد الملك بن قدامة عن أبيه عن عمر بهذا ولكنه قال فرفع الى عمر فأبانها منه قال ابو عبيد وقد روى عن عمر خلافه ولم يصح عن أحد من الصحابة تنفيذ طلاق المكره سوى هذا الاثر عن عمر وقد اختلف فيه والمشهور انه ردها اليه ولو صح إبانتها منه لم يكن صريحا في الوقوع بل لعله رأى من المصلحة التفريق بينهما وانهما لا يتصافيان بعد ذلك فألزمه بإبانتها(10/53)
ص -53-…ولكن الشعبي وشريح وابراهيم يجيزون طلاق المكره حتى قال ابراهيم لو وضع السيف على مفرقة ثم طلق لأجزت طلاقه
وفي المسالة مذهب ثالث قال ابن ابي شيبة ثنا ابن ادريس عن حصين عن الشعبي في الرجل يكره على امر من امر العتاق أوالطلاق فقال إذا أكرهه السلطان جاز وإذا أكرهه اللصوص لم يجز ولهذا القول غور وفقه دقيق لمن تأمله
فصل: النية الصحيحة في طلاق المكره
واختلفوا في المكره يظن ان الطلاق يقع به فينويه هل يلزمه على قولين وهما وجهان للشافعية فمن الزمه رأى أن النية قد قارنت اللفظ وهو لم يكره على النية فقد أتى بالطلاق المنوي اختيارا فلزمه ومن لم يلزمه به رأى أن لفظ المكره لغو لا عبرة به فلم يبق إلا مجرد النية وهي لا تستقل بوقوع الطلاق
فصل: التورية في طلاق المكره
واختلف في ما لو امكنه التورية فلم يور والصحيح أنه لا يقع به الطلاق وإن تركها فإن الله تعالى لم يوجب التوريه على من أكره على كلمة الكفر وقلبه مطمئن بالايمان مع أن التورية هناك أولى ولكن المكرة إنما لم يعتبر لفظه لانه غير قاصد لمعناه ولا مريد لموجبه وإنما تكلم به فداء لنفسه من ضرر الاكراه فصار تكلمه باللفظ لغوا بمنزلة كلام المجنون والنائم ومن لا قصد له سواء ورى أولم يور وايضا فاشتراط التوريه إبطال لرخصة التكلم مع الاكراه ورجوع الى القول بنفوذ طلاق المكره فإنه لو ورى بغير إكراه لم يقع طلاقه(10/54)
ص -54-…والتأثير إذا إنما هو للتوريه لا للإكراه وهذا باطل وأيضا فإن المورى إنما لم يقع طلاقه مع قصده للتكلم باللفظ لأنه لم يقصد مدلوله وهذا المعنى بعينه ثابت في الإكراه فالمعنى الذي منع من النفوذ في التوريه هو الذي منع النفوذ في الإكراه
فصل: الاستثناء في الطلاق واليمين
المخرج الرابع أن يستثنى في يمينه أوطلاقه وهذا موضع اختلف فيه الفقهاء فقال الشافعي وأبو حنيفة يصح الاستثناء في الايقاع والحلف فإذا قال انت طالق إن شاء الله أوانت حرة إن شاء الله أوإن كلمت فلانا فأنت طالق إن شاء الله أوالطلاق يلزمني لافعلن كذا إن شاء الله أوانت على حرام أوالحرام يلزمني إن شاء الله نفعه الاستثناء ولم يقع به طلاق في ذلك كله
ثم اختلفا في الموضع الذي يعتبر فيه الاستثناء فاشترط اصحاب ابي حنيفة اتصاله بالكلام فقط سواء نواه من أوله أوقبل الفراغ من كلامه أوبعده وقال أصحاب الشافعي إن عقد اليمين ثم عن له الاستثناء لم يصح وإن عن له الاستثناء في أثناء اليمين فوجهان أحدهما يصح والثاني لا يصح وإن نوى الاستثناء مع عقد اليمين صح وجها واحدا
وقد ثبت بالسنة الصحيحة أن سليمان بن داود عليهما السلام قال لأطوفن الليلة على كذا وكذا امرأة تحمل كل امرأة منهن غلاما يقاتل في سبيل الله فقال له الملك الموكل به قل إن شاء الله فلم يقل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لو قالها لقاتلون في سبيل الله أجمعون" وهذا صريح في نفع الاستثناء والمقصود بعد عقد اليمين وثبت في السنن عنه صلى الله عليه وسلم انه قال:(10/55)
ص -55-…"والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا ثم سكت قليلا ثم قال إن شاء الله ثم لم يغزهم" رواه أبو داود وفي جامع الترمذي من حديث ابن عمر رضى الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين فقال إن شاء الله فلا حنث عليه" وقد قال تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} فهذه النصوص الصحيحة لم يشترط في شيء منها ألبتة في صحة الاستثناء ونفعه ان ينويه مع الشروع في اليمين ولا قبلها بل حديث سليمان صريح في خلافه وكذلك حديث لأغزون قريشا وحديث ابن عمر متناول لكل من قال إن شاء الله بعد يمينه سواء نوى الاستثناء قبل الفراغ أولم ينوه والآية دالة على نفع الاستثناء مع النسيان أظهر دلالة ومن شرط النية قبل الفراغ لم يكن لذكر الاستثناء بعد النسيان عنده تأثير وايضا فالكلام بآخره وهو كلام واحد متصل بعضه ببعض ولا معنى لاشتراط النية في أجزائه وأبعاضه وايضا فإن الرجل قد يستحضر بعد فراغه من الجملة ما يرفع بعضها ولا يذكر ذلك في حال تكلمه بها فيقول لزيد عندي الف درهم ثم في الحال يذكر انه قضاه منها مائة فيقول إلا مائة فلو اشتراط نيه الاستثناء قبل الفراغ لتعذر عليه استدراك ذلك وألجئ إلى الإقرار بما لا يلزمه والكذب فيه وإذا كان هذا في الاخبار فمثله في الانشاء سواء فإن الحالف قد يبدو له فيعلق اليمين بمشيئة الله وقد يذهل في أول كلامه عن قصد الاستثناء أويشغله شاغل عن نيته فلو لم ينفعه الاستثناء حتى يكون ناويا له في اول يمينه لفات مقصود الاستثناء وحصل الحرج الذي رفعه الله تعالى عن الامة به ولما قال لرسوله إذا نسيه: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيت} وهذا متناول لذكره إذا نسى الاستثناء قطعا فإنه سبب النزول ولا يجوز إخراجه وتخصيصه لأنه مراد قطعا(10/56)
وأيضا فإن صاحب هذا القول إن طرده لزمه ألا يصح مخصص من صفة أوبدل أوغاية أواستثناء بإلا ونحوها حتى ينويه المتكلم من أول كلامه فإذا(10/57)
ص -56-…قال له على ألف مؤجله إلى سنة هل يقول عالم إنه لا يصح وصفها بالتأجيل حتى يكون منويا من أول الكلام وكذلك إذا قال بعتك هذا بعشرة فقال اشتريته على أن لي الخيار ثلاثة أيام يصح هذا الشرط إن لم ينوه من أول كلامه بل عن له الاشتراط عقيب القبول
ومثله لو قال وقفت داري على أولادي أو غيرهم بشرط كونهم فقراء مسلمين أو متأهلين وعلى أنه من مات منهم فنصيبه لولده أو للباقين صح ذلك وإن عن له ذكر هذه الشروط بعد تلفظه بالوقف ولم يقل احد لا تقبل منه هذه الشروط إلا أن يكون قد نواها قبل الوقف أومعه ولم يقع في زمن من الازمنة قط سؤال الواقفين عن ذلك
وكذلك لو قال له على مائة درهم إلا عشرة فإنه يصح الاستثناء وينفعه ولا يقول له الحاكم إن كنت نويت الاستثناء من أول كلامك لزمك تسعون وإن كنت إنما نويته بعد الفراغ لزمك مائة ولو اختلف الحال لبين له الحاكم ذلك ولساغ له ان يسأله بل يحلفه نوى ذلك قبل الفراغ اذا طلب المقر له ذلك
وكذلك لو ادعى عليه أنه باعه أرضا فقال نعم بعته هذه الارض إلا هذه البقعة لم يقل احد إنه قد أقر ببيع الارض جميعها إلا ان يكون قد نوى استثناء البقعة في أول كلامه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن مكة: "إنه لا يختلى خلاها" فقال له العباس: إلا الإذخر فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: إلا الإذخر وقال في أسرى بدر: "لا ينفلت أحد منهم إلا بفداء أوضربة عنق" فقال له ابن مسعود: إلا سهيل بن بيضاء فقال إلا سهيل بن بيضاء ومعلوم أنه لم ينو واحدا من هذين الاستثناءين في أول كلامه بل أنشأه لما ذكر به كما اخبر عن سليمان بن داود صلى الله عليهما انه لو انشأه بعد ان ذكره به الملك نفعه ذلك(10/58)
ص -57-…وشبهة من اشترط ذلك انه اذا لم ينو الاستثناء من أول كلامه فقد لزمه موجب كلامه فلا يقبل منه رفعة ولا رفع بعضه بعد لزومه
وهذا الشبهة لو صحت لما نفع الاستثناء في طلاق ولا عتاق ولا إقرار البتة نواه أولم ينوه لأنه إذا لزمه موجب كلامه لم يقبل منه رفعة ولا رفع بعضه بالاستثناء وقد طرد هذا بعض الفقهاء فقالوا لا يصح الاستثناء في الطلاق توهما لصحة هذه الشبهة
وجوابها أنه إنما يلزمه موجب كلامه إذا اقتصر عليه فأما إذا وصله بالاستثناء أوالشرط ولم يقتصر على ما دونه فإن موجب كلامه ما دل عليه سياقه وتمامه من تقييد باستثناء أوصفة أوشرط أوبدل أوغاية فتكليفه نية ذلك التقييد من أول الكلام وإلغاؤه إن لم ينوه أولا تكليف ما لا يكلفه الله به ولا رسوله ولا يتوقف صحة الكلام عليه وبالله التوفيق
فصل: آراء الفقهاء في الاستثناء
وقال مالك لا يصح الاستثناء في إيقاعهما ولا الحلف بهما ولا الظهار ولا الحلف به ولا النذر ولا في شئ من الايمان إلا في اليمين بالله تعالى وحده
وأما الامام احمد فقال ابو القاسم الخرقي وإذا استثنى في العتاق والطلاق فأكثر الروايات عن ابي عبد الله انه توقف عن الجواب وقد قطع في مواضع اخر انه لا ينفعه الاستثناء فقال في رواية ابن منصور من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث وليس له استثناء في الطلاق والعتاق وقال في رواية ابي طالب إذا قال انت طالق ان شاء الله لم تطلق وقال في رواية الحارث إذا قال لامرأته أنت طالق إن شاء الله الاستثناء إنما يكون في الايمان
قال الحسن وقتادة وسعيد بن المسبب ليس له ثنيا في الطلاق وقال قتادة(10/59)
ص -58-…وقوله إن شاء الله قد شاء الله الطلاق حين أذن فيه وقال في رواية حنبل من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث وليس له استثناء في الطلاق والعتاق قال حنبل لأنهما ليسا من الايمان وقال صاحب المغنى وغيره وعنه مايدل على أن الطلاق لا يقع وكذلك العتاق فعلى هذا يكون عنه في المسألة ثلاث روايات الوقوع وعدمه والتوقف فيه وقد قال في رواية الميموني إذا قال لامرأة أنت طالق يوم أتزوجك بك إن شاء الله ثم تزوجها لم يلزمه شيء ولو قال لأمة أنت حرة يوم أشتريك إن شاء الله صارت حرة فلعل أبا حامد الإسفرائيني وغيره ممن حكى عن أحمد الفرق بين أنت طالق إن شاء الله فلا تطلق وأنت حرة إن شاء الله فتعتق استند إلى هذا النص وهذا من غلطة على أحمد بل هذا تفريق منه يبن صحة تعليق العتق على الملك وعدم صحة تعليق الطلاق على النكاح وهذا قاعدة مذهبه والفرق عنده أن الملك قد شرع سببا لحصول العتق كملك ذي الرحم المحرم وقد يعقد البيع سببا لحصول العتق اختيارا كشراء من يريد عتقه في كفارة أوقربة أوفداء كشراء قريبة ولم يشرع الله النكاح سببا لإزالته البتة فهذا فقهه وفرقه فقد أطلق القول بأنه لا ينفع الاستثناء في إيقاع الطلاق والعتاق وتوقف في أكثر الروايات عنه فتخرج المسألة على وجهين صرح بهما الاصحاب وذكروا وجها ثالثا وهو أنه إن قصد التعليق وجهل استحالة العلم بالمشيئة لم تطلق وإن قصد التبرك أوالتأدي طلقت وقيل عن أحمد يقع العتق دون الطلاق ولا يصح هذا التفريق عنه بل هو خطأ عليه
قال شيخنا وقد روى في الفرق حديث موضوع على معاذ بن جبل يرفعه فلو علق الطلاق على فعل يقصد به الحض أوالمنع كقوله أنت طالق إن كلمت فلانا إن شاء الله فروايتان منصوصتان عن الامام احمد إحداهما ينفعه الاستثناء ولا تطلق إن كلمت فلانا وهو قول ابي عبيدة لانه بهذا التعليق(10/60)
ص -59-…قد صار حالفا وصار تعليقه يمينا باتفاق الفقهاء فصح استثناؤء فيها لعموم النصوص المتناوله للاستثناء في الحلف واليمين والثانية لا يصح الاستثناء وهو قول مالك كما تقدم لأن الاستثناء إنما ينفع في الايمان المكفرة فالتكفير والاستثناء متلازمان ويمين الطلاق والعتاق لا يكفران فلا ينفع فيهما الاستثناء ومن هنا خرج شيخنا على المذهب إجراء التكفير فيها لأن احمد رضى الله عنه نص على ان الاستثناء انما يكون في اليمين المكفرة ونص على أن الاستثناء ينفع في اليمين بالطلاق والعتاق فيخرج من نصه إجزاء الكفارة في اليمين بهما وهذا نخريج في غاية الظهور والصحة ونص احمد على الوقوع لا يبطل صحة هذا التخريج كسائر نصوصه ونصوص غيره من الائمة التي يخرج منها على مذهبه خلاف ما نص عليه وهذا اكثر وأشهر من أن يذكر ومن أصحابه من قال إن أعاد الاستثناء الى الفعل نفعة قولا واحدا وإن أعاده الى الطلاق فعلى روايتين ومنهم من جعل الروايتين على اختلاف حالين فإن أعاده الى الفعل نفقة وإن اعادة الى قوله أنت طالق لم ينفعه
وإيضاح ذلك أنه إذا قال إن دخلت الدار فأنت طالق إن شاء الله فإنه تارة يريد فأنت طالق إن شاء الله طلاقك وتارة يريد إن شاء الله تعليق اليمين بمشيئة الله أي إن شاء الله عقد هذه اليمين فهي معقودة فيصير كقوله والله لأقومن إن شاء الله فإذا قام علمنا أن الله قد شاء القيام وإن لم يقم علمنا ان الله لم يشاء قيامه فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فلم يوجد الشرط فلم يحنث فينقل هذا بعينه الى الحلف بالطلاق فإنه إذ قال الطلاق يلزمني لأقومن إن شاء الله القيام فلم يقم يشأ الله له القيام فلم يوجد الشرط فلم يحنث فهذا الفقه بعينه(10/61)
ص -60-…فصل: الاستثناء في الطلاق بلفظ آخر
فإن قال أنت طالق إلا أن يشاء الله فاختلف الذين يصححون الاستثناء في قوله انت طالق إن شاء الله ههنا هل ينفعه الاستثناء ويمنع وقوع الطلاق أولا ينفعه على قولين وهما وجهان لأصحاب الشافعي والصحيح عندهم انه لا ينفعه الاستثناء ويقع الطلاق والثاني ينفعه الاستثناء ولا تطلق وهو قول اصحاب ابي حنيفة والذين لم يصححوا الاستثناء احتجوا بأنه اوقع الطلاق وعلق رفعه بمشيئة لم تعلم إذا المعنى قد وقع عليك الطلاق إلا ان يشاء الله رفعه وهذا يقتضى وقوعا منجزا ورفعا معلقا بالشرط والذين صححوا الاستثناء قولهم أفقه فإنه لم يوقع طلاقا منجزا وإنما أوقع طلاقا معلقا على المشيئة فإن معنى كلامه انت طالق إن شاء الله طلاقك فإن شاء عدمه لم تطلقي بل لا تطلقين إلا بمشيئه فهو داخل في الاستثناء من قوله إن شاء الله فإنه جعل مشيئة الله لطلاقها شرطا فيه وههنا اضاف الى ذلك جعله عدم مشيئته مانعا من طلاقها
والتحقيق أن كل واحد من الأمرين يستلزم الاخر فقوله إن شاء الله يدل على الوقوع عند وجود المشيئة صريحا وعلى انتفاء الوقوع عند انتفائها لزوما وقوله إلا ان يشاء الله يدل على عدم الوقوع عند عدم المشيئة صريحا وعلى الوقوع عندها لزوما فتأمله فالصورتان سواء كما سوى بينهما أصحابه أبى حنيفة وغيرهم من الشافعية وقولهم إنه أوقع الطلاق وعلق رفعه بمشيئة لم تعلم فهذا بعينه يحتج به عليهم من قال إن الاستثناء لا ينفع في الايقاع بحال فإن صحت هذه الحجة بطل الاستثناء في الإيقاع جملة وإن لم يصح لم يصح الفرق وهو لم يوقعه مطلقا وإنما علقه بالمشيئة نفيا وإثباتا كما قررناه فالطلاق مع الاستثناء ليس بإيقاع(10/62)
ص -61-…وعلى هذا فإذا قال إن شاء الله وهو لا يعلم معناها أصلا فهل ينفعه هذا الاستثناء قال أصحاب أبى حنيفة إذا قال أنت طالق إن شاء الله ولا يدري أي شئ إن شاء الله لا يقع قالوا لأن الطلاق مع الاستثناء ليس بإيقاع فعلمه وجهله سواء قالوا ولهذا لما كان سكوت البكر رضا استوى فيه العلم والجهل حتى لو زوجها أبوها فسكتت وهي لا تعلم ان السكوت رضا صح النكاح ولم يعتبر جهلها
ثم قالوا فلو قال لها أنت طالق فجرى على لسانه من غير قصد إن شاء الله وكان قصده إيقاع الطلاق لم يقع الطلاق لأن الاستثناء قد وجد حقيقة والكلام مع الاستثناء لا يكون إيقاعا وهذا القول في طرف وقول من يشترط نية الاستثناء في أول الكلام أوقبل الفراغ منه في طرف آخر وبينهما أكثر من بعد المشرقين
فلو قال انت طالق إن لم يشأ الله أوما لم يشأ الله فهل يقع الطلاق في الحال أولا يقع على قولين وهما وجهان في مذهب احمد فمن أوقعه احتج بأن كلامه تضمن أمرين محالا وممكنا فالممكن التطليق والمحال وقوعه على هذه الصفة وهو إذا لم يشأ الله فإن ما شاء الله وجب وقوعه فيلغو هذا التقييد المستحيل ويسلم أصل الطلاق فينفذ الوجه الثاني لا يقع ولهذا القول مأخذان أحدهما أن تعليق الطلاق على الشرط المحال يمنع من وقوعه كما لو قال انت طالق إن جمعت بين الضدين أوإن شربت ماء الكوز ولا ما فيه لعدم وقوع شرطه فهكذا إذا قال انت طالق إن لم يشأ الله فهو تعليق للطلاق على شرط مستحيل وهو عدم مشيئة الله طلقت لطلقت بمشيئته وشرط وقوع الطلاق عدم مشيئته والمأخذ الثاني وهو أفقه أنه استثناء في المعنى وتعليق على المشيئة والمعنى إن لم يشأ الله عدم طلاقك فهو كقوله إلا أن يشأ الله سواء كما تقدم بيانه(10/63)
ص -62-…فصل: رأي من لا يجوزون الاستثناء
قال الموقعون: قال ابراهيم بن يعقوب الجوزجاني ثنا خالد بن يزيد بن أسد القسري ثنا جميع بن عبد الحميد الجعفي عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري وابن عمر قال كنا معاشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نرى الاستثناء جائزا في كل شئ إلا في الطلاق والعتاق قالوا وروى ابو حفص ابن شاهين بإسناده عن ابن عباس قال إذا قال الرجل لامرأته أنت طالق إن شاء الله فهى طالق وكذلك روى عن أبي بردة قالوا ولانه استثناء يرفع جملة الطلاق فلم يصح كقوله أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا قالوا ولأنه إنشاء حكم في محل فلم يرتفع بالمشيئة كالبيع والنكاح قالوا ولأنه إزاله ملك فلم يصح تعليقه على مشيئة الله تعالى كما لو قال أبرأتك إن شاء الله قالوا ولأنه تعليق على ما لا سبيل الى العلم به فلم يمنع وقوع الطلاق كما لو قال أنت طالق إن شاءت السموات والأرض
قالوا وإن كان لنا سبيل الى العلم بالشرط صح الطلاق لوجود شرطه ويكون الطلاق حينئذ معلقا على شرط تحقق وجوده بمباشرة الآدمي سببه قال قتادة قد شاء الله حينئذ ان تطلق قالوا ولأن الله تعالى وضع لإيقاع الطلاق هذه اللفظة شرعا وقدرا فإذا أتى بها المكلف فقد أتى بما شاءه الله فإنه لا يكون شئ قط إلا بمشيئة الله عز وجل والله شاء الامور بأسبابها فإذا شاء تكوين شئ وإيجاده شاء سببه فإذا أتى المكلف بسببه فقد أتى به بمشيئة الله ومشيئة السبب مشيئة للمسبب فإنه لو لم يشأ وقوع الطلاق لم يمكن المكلف أن يأتي به فإن ما لم يشأ الله يمتنع وجوده كما أن ما شاءه وجب وجوده قالوا وهذا في القول نظير المشيئة في الفعل فلوا قال أنا افعل كذا إن شاء الله تعالى وهو متلبس بالفعل صح ذلك ومعنى كلامه ان فعلى هذا إنما هو بمشيئة الله كما لو(10/64)
ص -63-…قال حال دخوله الدار أنا أدخلها إن شاء الله أو قال من تخلص من شر تخلصت إن شاء الله وقد قال يوسف لأبيه وإخوته ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين في حال دخولهم والمشيئة راجعة الى الدخول المقيد بصيغة الامر فالمشيئة متناولة لهما جميعا قالوا ولو أتى بالشهادتين ثم قال عقيبهما إن شاء الله أو قال أنا مسلم إن شاء الله فإن ذلك لا يؤثر في صحة إسلامه شيئا ولا يجعله إسلاما معلقا على شرط قالوا ومن المعلوم قطعا أن الله قد شاء تكلمه بالطلاق فقوله بعد ذلك إن شاء الله تحقيق لما قد علم قطعا أن الله شاءه فهو بمنزلة قوله انت طالق إن كان الله أباح الطلاق وأذن فيه ولا فرق بينهما
وهذا بخلاف قوله أنت طالق إن كلمت فلانا فإنه شرط في طلاقها ما يمكن وجوده وعدمه فإذا وجد الشرط وقع ما علق به ووجود الشرط في مسألة المشيئة إنما يعلم بمباشرة العبد سببه فإذا باشره علم أن الله قد شاءه قالوا وأيضا فالكفارة أقوى من الاستثناء لأنها ترفع حكم اليمين والاستثناء يمنع عقدها والرافع أقوى من المانع وأيضا فإنها تؤثر متصلة ومنفصلة والاستثناء لا يؤثر مع الانفصال ثم الكفارة مع قوتها لا تؤثر في الطلاق والعتاق فأن لا يؤثر فيه الاستثناء أولى وأحرى قالوا وأيضا فقوله إن شاء الله إن كان استثناء فهو رافع لجملة المستثنى منه فلا يرتفع وإن كان شرطا فإما أن يكون معناه إن كان الله قد شاء طلاقك أوإن شاء الله أن أوقع عليك في المستقبل طلاقا غير هذا فإن كان المراد هو الأول فقد شاء الله طلاقها بمشيئتة لسببه وإن كان المراد هو الثاني فلا سبيل للمكلف الى العلم بمشيئته تعالى فقد علق الطلاق بمشيئة من لا سبيل الى العلم بمشيئتة فيلغو التعليق ويبقى أصل الطلاق فينفذ قالوا ولأنه علق الطلاق بما لا يخرج عنه كائن فوجب نفوذه كما لو قال أنت طالق إن علم الله أوإن قدر الله أوإن سمع أوإن رأى(10/65)
ص -64-…يوضحه انه حذف مفعول المشيئة ولم ينو مفعولا معينا فحقيقة لفظه انت طالق إن كان لله مشيئة أوإن شاء أي شئ كان ولو كانت نيته إن شاء الله هذا الحادث المعين وهو الطلاق لم يمنع جعل المشيئة المطلقة إلى هذا الحادث فردا من أفرادها شرطا في الوقوع ولهذا لو سئل المستثنى عما أراد لم يفصح بالمشيئة الخاصة بل لعلها لا تخطر بباله وإنما تكلم بهذا اللفظ بناء على ما اعتاده الناس من قول هذه الكلمة عند اليمين والنذر والوعد
قالوا ولأن الاستثناء إنما بابه الايمان كقوله من حلف فقال إن شاء الله فإن شاء فعل وإن شاء ترك وليس له دخول في الاخبار ولا في الانشاءات فلا يقال قام زيد إن شاء الله ولا قم إن شاء الله ولا تقم إن شاء الله ولا بعت ولا قبلت إن شاء الله وإيقاع الطلاق والعتاق من إنشاء العقود التي لا تعلق على الاستثناء فإن زمن الانشاء مقارن له فعقود الانشاء تقارنها أزمنتها فلهذا لا تعلق بالشروط
قالوا والذي يكشف سر المسألة أن هذا الطلاق المعلق على المشيئة إما ان يريد به طلاقا ماضيا أومقارنا للتكلم به أومستقبلا فإن أراد الماضي أوالمقارن وقع لأنه لا يعلق على الشرط وإن أراد المستقبل ومعنى كلامه إن شاء الله ان تكوني في المستقبل طالقا فأنت طالق وقع ايضا لأن مشيئة الله بطلاقها الآن يوجب طلاقها في المستقبل فيعود معنى الكلام الى إنى إن طلقتك الآن بمشيئة الله فأنت طالق وقد طلقها بمشيئتة فتطلق فههنا ثلاث دعاوى إحداها أنه طلقها والثانية أن الله شاء ذلك والثالثة أنها قد طلقت فإن صحت الدعوى الأولى صحت الاخريان وبيان صحتها انه تكلم بلفظ صالح للطلاق فيكون طلاقا وبيان الثانيه انه حادث فيكن بمشيئة الله فقد شاء الله طلاقها فتطلق فهذا غاية ما تمسك به الموقعون
جواب من يجوز الاستثناء قال المانعون أنتم معاشر الموقعين قد ساعد تمونا على صحة تعليق الطلاق(10/66)
ص -65-…بالشرط ولستم ممن يبطله كالظاهرية وغيرهم كأبي عبدالرحمن الشافعي فقد كفيتمونا نصف المؤنة وحملتم عنا كلفة الاحتجاج لذلك فبقى الكلام معكم في صحة هذا التعليق المعين هل هو صحيح ام لا فإن ساعد تمونا على صحة التعليق قرب الأمر وقطعنا نصف المسافة الباقية ولا ريب ان هذا التعليق صحيح إذ لو كان محالا لما صح تعليق اليمين والوعد والنذر وغيرهما بالمشيئة ولكان ذلك لغوا لا يفيد وهذا بين البطلان عند جميع الامة فصح التعليق حينئذ فبقى بيننا وبينكم منزلة أخرى وهي انه هل وجود هذا الشرط ممكن ام لا فإن ساعدتمونا على الامكان ولا ريب في هذه المساعدة قربت المسافة جدا وحصلت المساعدة على انه طلاق معلق صح تعليقه على شرط ممكن فبقيت منزلة اخرى وهي ان تأثير الشرط وعمله يتوقف على الاستقبال أم لا يتوقف عليه بل يجوز تأثيره في الماضي والحال والاستقبال فإن ساعدتمونا على توقف تأثيره على الاستقبال وأنه لا يصح تعلقه بماض ولا حال وانتم بحمد الله على ذلك مساعدون بقى بيننا وبينكم منزلة واحدة وهي انه هل لنا سبيل الى العلم بوقوع هذا الشرط فيترتب المشروط عليه عند وقوعه ام لا سبيل لنا الى ذلك ألبتة فيكون التعليق عليه تعليقا على ما لم يجعل الله لنا طريقا الى العلم به فههنا معترك النزال ودعوة الابطال فنزال نزال فنقول
من اقبح القبائح وأبين الفضائح التي تشمئز منها قلوب المؤمنين وتنكرها فطر العالمين ما تمسك به بعضكم وهذا لفظه بل حروفه قال لنا أنه علق الطلاق بما لا سبيل لنا إليه فوجب ان يقع لأن اصله الصفات المستحيلة مثل قوله أنت طالق إن شاء الحجر أوإن شاء الميت أوإن شاء هذا المجنون المطبق الآن فيالك من قياس ما أفسده وعن طريق الصواب ما أبعده وهل يستوى في عقل أو رأى أو نظر أو قياس مشيئة الرب جل جلاله ومشيئة الحجر والميت والمجنون عند احد من عقلاء الناس وأقبح من هذا والله المستعان(10/67)
ص -66-…وعليه التكلان وعياذا به من الخذلان ونزغات الشيطان تمسك بعضهم بقوله علق الطلاق بمشيئة من لا تعلم مشيئة فلم يصح التعليق كما لو قال انت طالق إن شاء إبليس فسبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك وعياذا بوجهك الكريم من هذا الخذلان العظيم وياسبحان الله لقد كان لكم في نصره هذا القول غنى عن هذه الشبهة الملعونه في ضروب الاقيسة وأنواع المعاني والالزامات فسحه ومتسع ولله شرف نفوس الائمة الذين رفع الله قدرهم وشاد في العاملين ذكرهم حيث يانفون لنفوسهم ويرغبون بها عن أمثال هذه الهذيانات التي تسود بها الوجوه قبل الاوراق وتحل بقمر الايمان المحاق وعند هذا فنقول
علق الطلاق بمشيئة من جميع الحوادث مستنده الى مشيئته وتعلم مشيئته عند وجود كل حادث انه إنما وقع بمشيئته فهذا التعليق من أصح التعليقات فإذا انشأ المعلق طلاقا في المستقبل تبينا وجود الشرط بإنشائه فوقع فهذا أمر معقول شرعا وفطرة وقدرا وتعليق مقبول
يبينه ان قوله إن شاء الله لا يريد به إن شاء الله طلاقها ماضيا قطعا بل إما ان يريد به هذا الطلاق الذي تلفظ به أوطلاقا مستقبلا غيره فلا يصح ان يراد به هذا الملفوظ فإنه لا يصح تعليقه بالشرط إذ الشرط إنما يؤثر في الاستقبال فحقيقة هذا التعليق أنت طالق إن شاء الله طلاقك في المستقبل ولو صرح بهذا لم تطلق حتى ينشئ لها طلاقا آخر
ونقرره بلفظ آخر فنقول علقة بمشيئة من له مشيئة صحيحة معتبرة فهو أولى بالصحة من تعليقه بمشيئة آحاد الناس يبينه أنه لو علقه بمشيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته لم يقع في الحال ومعلوم ان ما شاءه الله فقد شاءه رسوله فلو كان التعليق بمشيئة الله موجبا للوقوع في الحال لكان التعليق بمشيئة رسوله في حياته كذلك وبهذا يبطل ما عولتم عليه(10/68)
ص -67-…وأما قولكم إن الله تعالى قد شاء الطلاق حين تكلم المكلف به فنعم إذا لكن شاء الطلاق المطلق أو المعلق ومعلوم انه لم يقع منه طلاق مطلق بل الواقع منه طلاق معلق على شرط فمشيئة الله تعالى لا تكون مشيئة للطلاق المطلق فإذا طلقها بعد هذا علمنا ان الشرط قد وجد وأن الله قد شاء طلاقها فطلقت وعند هذا فنقول لو شاء الله أن ينطق العبد لأنطقه بالطلاق مطلقا من غير تعليق ولا استثناء فلما انطقه به مقيدا بالتعليق والاستثناء علمنا انه لم يشأ له الطلاق المنجز فإن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن
ومما يوضح هذا الامر ان مشيئة اللفظ لا تكون مشيئة للحكم حتى يكون اللفظ صالحا للحكم ولهذا لو تلفظ المكره أو زائل العقل أو الصبي أو المجنون بالطلاق فقد شاء الله منهم وقوع هذا اللفظ ولم يشأ وقوع الحكم فإنه لم يرتب على ألفاظ هؤلاء احكامها لعدم إرادتهم لأحكامها فهكذا المعلقف طلاقه بمشيئة الله يريد ان لا يقع طلاقه وإن كان الله قد شاء له التلفظ بالطلاق وهذا في غاية الظهور لمن أنصف
ويزيده وضوحا أن المعنى الذي منع الاستثناء عقد اليمين لأجله هو بعينه في الطلاق والعتاق فإنه إذا قال والله لافعلن اليوم كذا إن شاء الله فقد التزم فعلة في اليوم إن شاء الله له ذلك فإن فعله فقد علمنا مشيئة الله له وإن لم يفعله علمنا ان الله لم يشأه إذ لو شاءه لوقع ولا بد ولا يكفى في وقوع الفعل مشيئة الله للعبد إن شاءه فقط فإن العبد قد يشاء الفعل ولا يقع فإن مشيئتة ليست موجبه ولا تلزمه بل لا بد من مشيئة الله له ان يفعل وقد قال تعالى في المشيئة الأولى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} وقال في المشيئة الثانية: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ وما(10/69)
ص -68-…وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وإذا كان تعليق الحلف بمشيئته تعالى يمنع من انعقاد اليمين وكذلك تعليق الوعد فإذا قال أفعل إن شاء الله ولم يفعل لم يكن مخلفا كما لا يكون في اليمين حانثا وهكذا إذا قال انت طالق إن شاء الله فإن طلقها بعد ذلك علمنا ان الله قد شاء الطلاق فوقع وإن لم يطلقها تبينا ان الله لم يشأ الطلاق فلا تطلق فلا فرق في هذا بين اليمين والإيقاع فإن كلا منهما إنشاء وإلزام معلق بالمشيئة
قالوا وأما الأثران اللذان ذكرتموهما عن الصحابة فما احسنهما لو ثبتا ولكن كيف بثبوتهما وعطية ضعف وجميع بن عبد الحميد مجهول وخالد بن يزيد ضعيف قال ابن عدي احاديثه لا يتابع عليها وأثر ابن عباس لا يعلم حال إسناده حتى يقبل أويرد
على أن هذه الآثار مقابلة بآثار اخر لا تثبت أيضا فمنها ما رواه البيهقي في سننه من حديث اسماعيل بن عياش عن حميد بن مالك عن مكحول عن معاذ ابن جبل قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا معاذ ما خلق الله شيئا على وجه الأرض ابغض إليه من الطلاق وما خلق الله شيئا على وجه الأرض أحب إليه من العتاق فإذا قال الرجل لمملوكه أنت حر إن شاء الله فهو حر ولا استثناء له وإذا قال لامرأته أنت طالق إن شاء الله فله استثناؤه ولا طلاق عليه ثم ساقه من طريق محمد بن مصفى ثنا معاوية بن حفص عن حميد عن مالك اللخمي حدثني مكحول عن معاذ بن جبل رضى الله عنه: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل قال لامرأته أنت طالق إن شاء الله فقال: "له استثناؤه" فقال رجل: يا رسول الله وإن قال لغلامه أنت حر إن شاء الله تعالى قال: "يعتق لان الله يشاء العتق ولا يشاء الطلاق" ثم ساق من طريق إسحاق بن أبي نجيح عن عبد العزيز بن أبي رواد عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قال لامرأته أنت طالق إن شاء(10/70)
ص -69-…الله أو لغلامه أنت حر إن شاء الله أو عليه المشي إلى بيت الله الحرام إن شاء الله فلا شئ عليه" ثم ساق من طريق الجارود بن يزيد عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده مرفوعا في الطلاق وحده انه لا يقع
ولو كنا ممن يفرح بالباطل ككثير من المصنفين الذين يفرح أحدهم بما وجده مؤيدا لقوله لفرحنا بهذه الآثار ولكن ليس فيها غنية فإنها كلها آثار باطلة موضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم
أما الحديث الاول ففيه عدة بلايا إحداها حميد بن مالك ضعفه أبو زرعة وغيره الثانية ان مكحولا لم يلق معاذا قال ابو زرعة مكحول عن معاذ منقطع الثالثة أنه قد أضطرب فيه حميد هذا الضعيف فمره يقول عن مكحول عن معاذ ومرة يقول عن مكحول عن خالد بن معدان عن معاذ وهو منقطع أيضا وقيل مكحول عن مالك بن يخامر عن معاذ قال البيهقي ولم يصح الرابعة ان اسماعيل بن عياش ليس ممن يقبل تفرده بمثل هذا ولهذا لم يذهب احد من الفقهاء الى هذا الحديث وما حكاه ابو حامد الاسفرائيني عن احمد من القول به فباطل عنه لا يصح البتة وكل من حكاه عن احمد فمستنده حكاية ابي حامد الإسفرائيني أومن تلقاها عنه
وأما الاثر الثاني فإسناده ظلمات بعضها فوق بعض حتى انتهى أمره الى الكذاب إسحاق بن نجيح الملطي وأما الاثر الثالث فالجارود بن يزيد قد ارتقى من حد الضعف الى حد الترك
والمقصود أن الاثار من الطرفين لا مستراح فيها
فصل: ردود اخرى على من لا يجوزون الاستثناء
وأما قولكم إنه استثناء يرفع جملة الطلاق فلم يصح كقوله: انت طالق(10/71)
ص -70-…ثلاثا إلا ثلاثا فما أبردها من حجة فإن الاستثناء لم يرفع حكم الطلاق بعد وقوعه وإنما منع من انعقاده منجزا بل انعقد معلقا كقوله انت طالق إن شاء فلان فلم يشأ فلان فإنها لا تطلق ولا يقال إن هذا الاستثناء رفع جملة الطلاق
وأما قولكم إنه إنشاء حكم في محل فلم يرتفع بالمشيئة كالبيع والنكاح فأبرد من الحجدة التي قبلها فإن البيع والنكاح لا يصح تعليقهما بالشرط بخلاف الطلاق
وأما قولكم إزالة ملك فلا يصح تعليقه على مشيئة الله كالإبراء فكذلك ايضا فإن الابراء لا يصح تعليقه على الشرط مطلقا عندكم سواء كان الشرط مشيئة الله أوغيرها فلو قال ابرأتك إن شاء زيد لم يصح ولو قال انت طالق إن شاء زيد صح
وأما قولكم إنه تعليق على ما لا سبيل الى العلم به فليس كذلك بل هو تعليق على ما لنا سبيل الى علمه فإنه إذا اوقعه في المستقبل علمنا وجود الشرط قطعا وأن الله قد شاءه
وأما قولكم إن الله قد شاءه بتكلم المطلق به فالذي شاءه الله إنما هو طلاق معلق والطلاق المنجز لم يشأه الله إذ لو شاءه لوقع ولا بد فما شاءه الله لا يوجب وقوع الطلاق في الحال وما يوجب وقوعه في الحال لم يشأه الله
أما قولكم إن الله تعالى وضع لإيقاع الطلاق هذه اللفظة شرعا وقدرا فنعم وضع تعالى المنجز لإيقاع المنجز والمعلق لوقوعه لوقوعه عند وقوع ما علق به.
وأما قولكم لو لم يشأ الطلاق لم يأذن للمكلف في التكلم به فنعم شاء المعلق وأذن فيه والكلام في غيره(10/72)
ص -71-…وقولكم إن هذا نظير قوله وهو متلبس بالفعل انا أفعل إن شاء الله فهذا فصل النزاع في المسالة فإذا اراد بقوله انت طالق إن شاء الله هذا التطليق الذي صدر مني لزمه الطلاق قطعا لوجود الشرط وليس كلامنا فيه وإنما كلامنا فيما إذا اراد ان شاء الله طلاقا مستقبلا أواطلق ولم يكن له نية ف ينبغي النزاع في القسم الاول ولا يظن أن احدا من الائمة ينازع فيه فإنه تعليق على شرط مستقبل ممكن فلا يجوز إلغاؤه كما لو صرح به فقال إن شاء الله ان اطلقك غدا فأنت طالق إلا ان يستروح الى ذلك المسلك الوخيم انه علق الطلاق بالمستحيل فلغا التعليق كمشيئة الحجر والميت وأما إذا اطلق ولم يكن له نية فيحمل مطلق كلامه على مقتضى الشرط لغة وشرعا وعرفا وهو اقتضاؤه للوقوع في المستقبل
واما استدلالكم بقول يوسف لأبيه وإخوته ادخولا مصر إن شاء الله آمنين فلا حجة فيه فإن الاستثناء إن عاد الى الامر المطلوب دوامه واستمراره فظاهر وإن عاد الى الدخول المقيد به فمن اين لكم أنه قال لهم هذه المقالة حال الدخول أوبعده ولعله إنما قالها عند تلقيه لهم ويكون دخولهم عليه في منزل اللقاء فقال لهم حيئنذ ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين فهذا محتمل وإن كان إنما قال لهم ذلك بعدد دخولهم عليه في دار مملكته فالمعنى ادخلوها دخول استيطان واستقرار آمنين إن شاء الله
وأما قولكم إنه لو اتى بالشهادتين ثم قال إن شاء الله أوقال انا مسلم إن شاء الله صح إسلامه في الحال فنعم إذا فإن الاسلام لا يقبل التعليق بالشرط فإذا علقه بالشرط تنجز كما لو علق الردة بالشرط فإنها تنجز وأما الطلاق فإنه يصح تعليقه بالشرط
وأما قولكم إنه من المعلوم قطعا ان الله قد شاء تكلمه بالطلاق فقوله بعد ذلك إن شاء الله تحقيق لما لعم ان الله قد شاءه فقد تقدم جوابه وهو(10/73)
ص -72-…أن الله إنما شاء الطلاق المعلق فمن أين لكم انه شاء المنجز ولم تذكروا عليه دليلا
وقولكم إنه بمنزلة قوله انت طالق إن كان الله اذن في الطلاق أواباحه ولا فرق بينهما فما أعظم الفرق بينهما وأبينه حقيقة ولغة وذلك ظاهر عن تكلف بيانه فإن بيان الواضحات نوع من العي بل نظير ذلك ان يقول أنت طالق إن كان الله قد شاء تلفظي بهذا اللفظ فهذا يقع قطعا
وأما قولكم إن الكفارة اقوى من الاستثناء لانها ترفع حكم اليمين والاستثناء يمنع عقدها وإذا لم تدخل الكفارة في الطلاق والعتاق فالاستثناء أولى فما أوهنها من شبهة وهي عند التحقيق لا شئ فإن الطلاق والعتاق إذا وقعا لم تؤثر فيهما الكفارة شيئا ولا يمكن حلهما بالكفارة بخلاف الايمان فإن حلها بالكفارة ممكن وهذا تشريع شرعه شارع الاحكام هكذا فلا يمكن تغييره فالطلاق والعتاق لا يقبل الكفارة لم تقبلها سائر العقود كالوقف والبيع والهبة والإجارة والخلع فالكفارة مختصة بالايمان وهي من أحكامها التي لا تكون لغيرها وأما الاستثناء فيشرع في اعم من اليمين كالوعد والوعيد والخبر عن المستقبل كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وإنا إن شاء الله بكم لا حقون" وقوله عن أميه بن خلف: "بل أنا أقتله إن شاء الله" وكذا الخبر عن الحال نحو أنا مؤمن إن شاء الله ولا تدخل الكفارة في شئ من ذلك فليس بين الاستثناء والتكفير تلازم بل تكون الكفارة حيث لا استثناء والاستثناء حيث لا كفارة والكفارة شرعت تحلة لليمين بعد عقدها والاستثناء شرع لمعنى آخر وهو تأكيد التوحيد وتعليق الأمور بمشيئة من لا يكون شيء إلا بمشيئته فشرع للعبد أن يفوض الأمر الذي عزم عليه وحلف على فعله أو تركه إلى مشيئة الله ويعقد نطقه بذلك فهذا شيء والكفارة شيء آخر(10/74)
ص -73-…وأما قولكم إن الاستثناء إن كان رافعا فهو رافع لجملة المستثنى منه فلا يرتفع فهذا عار عن التحقيق فإن هذا ليس باستثناء بأداة إلا وأخواتها التي يخرج بها بعض المذكور ويبقى بعضه حى يلزم ما ذكرتم وإنما هو شرط ينتفى الشروط عند انتفائه كسائر الشروط ثم كيف يقول هذا القائل في قوله: أنت طالق إن شاء زيد اليوم ولم يشأ فموجب دليله ان هذا لا يصح
فإن قيل فلو أخرجه بأداه إلا فقال انت طالق إلا ان يشاء الله كان رفعا لجملة المستثنى منه
قيل هذه مغلطة ظاهرة فإن الاستثناء ههنا ليس إخراج جملة ما تناوله المذكور ليلزم ما ذكرت وإنما هو تقييد لمطلق الكلام الاول بجملة اخرى مخصصه لبعض احوالها أي انت طالق في كل حالة إلا حالة واحدة واحجدة وهي حالة لا يشاء الله فيها الطلاق فإذا لم يقع منه طلاق بعد هذا علمنا بعدم وقوعه ان الله تعالى لم يشأ الطلاق إذ لو شاءه لوقع ثم ينتقض هذا بقوله إلا أن يشاء زيد وإلا أن تقومي ونحو ذلك فإن الطلاق لا يقع إذا لم يشأه زيد وإذا لم تقم وسمى هذا التعليق بمشيئة الله تعالى استثناء في لغة الشارع كقوله تعالى: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ} أي لم يقولوا إن شاء الله فمن حلف فقال إن شاء الله فقد استثنى فإن الاستثناء استفعال من ثنيت الشئ كأن المستثنى بإلا قد عاد على كلامه فثنى آخره على أوله بإخراج ما أدخله أولا في لفظه وهكذا التقيد بالشرط سواء فإن المتكلم به قد ثنى آخر كلامه على اوله فقيد به ما أطلقه أولا واما تخصيص الاستثناء بإلا وأخواتها فعرف خاص للنحاة
وقولكم إن كان شرطا ويراد به إن كان الله قد شاء طلاقك في المستقبل فينفذ لمشيئة الله له بمشيئتة لسببه وهو الطلاق المذكور وإن اراد به إن شاء الله ان أطلقك في المستقبل فقد علقه بمالا سبيل الى العلم به فيلغوا التعليق ويبقى اصل الطلاق فهذا هو اكبر عمدة الموقعين ولا ريب أنه إن اراد(10/75)
ص -74-…بقوله انت طالق إن كان الله قد شاء تكلمي بهذا اللفظ أوشاء طلاقك بهذا اللفظ طلقت ولكن المستثنى لم يرد هذا بل ولا خطر على باله فبقى القسم الاخر وهو أن يريد إن شاء الله وقوع الطلاق عليك فيما يأتى فهذا تعليق صحيح معقول يمكن العلم بوجود ما علق عليه بوجود سببه كما تقدم بيانه
وأما قولكم إنه علق الطلاق بما لا يخرج عنه كائن فوجب نفوذه كما لو قال انت طالق إن علم الله أوإن قدر الله أوسمع الله الى آخره فما أبطلها من حجة فإنها لو صحت لبطل حكم الاستثناء في الايمان لما ذكرتموه بعينه ولا نفع الاستثنناء في موضع واحد ومعلوم ان المستثنى لم يخطر هذا على باله وإنما اراد تفويض الامر الى مشيئة الله وتعليقه به وأنه إن شاءه نفذ وإن لم يشأه لم يقع ولذلك كان مستثنيا أي وإن كنت قد التزمت اليمين أوالطلاق أوالعتاق فإنما التزمه بعد مشيئة الله وتبعا لها فإن شاءه فهو تعالى ينفذه بما يحدثه من الأسباب ولم يرد المستثنى إن كان لله مشيئة أوعلم سمع أوبصر فأنت طالق ولم يخطر ذلك بباله ألبته
يوضحه أن هذا مما لا يقبل التعليق ولاسيما بأداة إن التي للجائز الوجود والعدم ولو شك في هذا لكان ضالا بخلاف المشيئة الخاصة فإنها يمكن أن تتعلق بالطلاق وان لا تتعلق به وهو شاك فيها كما يشك العبد فيما يمكن أن يفعله الله به وأن لا يفعله هل شاءه ام لا فهذا هو المعقول الذي في فطر الحالفين والمستثنين وحذف مفعول المشيئة لم يكن لما ذكرتم وهو عدم إرادة مفعول معين بل للعلم به ودلالة الكلام عليه وتعين إرادته إذ المعنى إن شاء الله طلاقك فأنت طالق كما لو قال والله لأسافرن إن شاء الله أي إن شاء الله سفري وليس مراده إن كان لله صفة هي المشيئة فالذي قدرتموه من المشيئة المطلقه هو(10/76)
ص -75-…الذي لم يخطر ببال الحالف والمطلق وإنما الذي لم يخطر بباله سواه هو المشيئة المعينة الخاصة
وقولكم إن المستثنى لو سئل عما أراد لم يفصح بالمشيئة الخاصة بل تكلم بلفظ الاستثناء بناء على ما اعتاده الناس من التكلم بهذا اللفظ كلام غير سديد فإنه لو صح لما نفع الاستثناء في يمين قط ولهذا نقول إن قصد التحقيق والتأكيد بذكر المشيئة ينجز الطلاق ولم يكن ذلك استثناء
وأما قولكم إن الاستثناء بابه الايمان إن اردتم به اختصاص الايمان به فلم تذكروا على ذلك دليلا وقوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف فقال إن شاء الله فقد استثنى" وفي لفظ اخر "من حلف فقال إن شاء الله فهو بالخيار فإن شاء فعل وإن شاء لم يفعل" فحديث حسن ولكن لا يوجب اختصاص الاستثناء بالمشيئة باليمين وقد قال الله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وهذا ليس بيمين ويشرع الاستثناء في الوعد والوعيد والخبر عن المستقبل كقوله غدا افعل إن شاء الله وقد عتب الله على رسوله صلى الله عليه وسلم حيث قال لمن سأله من أهل الكتاب عن أشياء: "غدا أخبركم" ولم يقل إن شاء الله فاحتبس الوحي عنه شهرا ثم نزل عليه: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} أي اذا نسيت ذلك الاستثناء عقيب كلامك فاذكره به اذا ذكرت هذا معنى الآية وهو الذي أراده ابن عباس بصحة الاستثناء المتراخي ولم يقل ابن عباس قط ولا من هو دونه إن الرجل إذا قال لامرأته أنت طالق أو لعبده انت حر ثم قال بعد سنة إن شاء الله إنها لا تطلق ولا يعتق العبد وأخطأ من نقل ذلك عن ابن عباس أوعن احد من أهل العلم البتة ولم يفهموا مراد ابن عباس والمقصود ان الاستثناء لا يختص باليمين لا شرعا ولا عرفا ولا لغة وإن أردتم بكون بابه الايمان كثرته فيها فهذا لا ينفى دخوله في غيرها(10/77)
ص -76-…وقولكم إنه لا يدخل في الاخبارات ولا في الانشاءات فلا يقال قام زيد إن شاء الله ولا قم إن شاء الله ولا بعت إن شاء الله فكذا لا يدخل في قوله انت طالق إن شاء الله فليس هذا بتمثيل صحيح والفرق بين البابين أن الامور الماضية قد علم انها وقعت بمشيئتة الله والشرط إنما يؤثر في الاستقبال فلا يصح ان يقول قمت امس إن شاء الله فلو اراد الاخبار عن وقوعها بمشيئة الله لأأتى بغير صيغة الشرط فيقول فعلت كذا بمشيئة الله وعونه وتأييده ونحو ذلك بخلاف قوله غدا أفعل إن شاء الله واما قوله قم إن شاء الله ولا تقم إن شاء الله فلا فائدة في هذا الكلام إذ قد علم أنه لا يفعل إلا بمشيئة الله فأي معنى لقوله إن شاء الله لك القيام فقم وإن لم يشأه فلا تقم نعم لو أراد بقوله قم أولا تقم الخبر وأخرجه مخرج الطلب تأكيدا أي تقوم إن شاء الله صح ذلك كما إذا قال مت على الإسلام إن شاء الله ولا تمت إلا على توبة إن شاء الله ونحو ذلك وكذا إن اراد بقوله قم ان شاء الله رد المشيئة الى معنى خبري أي ولا تقوم إلا أن يشاء الله فهذا صحيح مستقيم لفظا ومعنى واما بعت ان شاء الله واشتريت ان شاء الله فإن اراد به التحقيق صح وانعقد العقد وان اراد به التعليق لم يكن المذكور انشاء وتنافي الانشاء والتعليق إذ زمن الإنشاء يقارن ا وجود معناه وزمن وقوع لمعلق يتاخر عن التعليق فتنافيا
واما قولكم ان هذا الطلاق المعلق على المشيئة اما ان يريد طلاقا ماضيا أومقارنا أومستقبلا الى اخره فجوابه ما قد تقدم مرارا انه ان اراد به المشيئة الى هذا اللفظ المذكور وان الله ان كان قد شاءه فأنت طالق طلقت ولا ريب ان المستثني لم يرد هذا وانما اراد الا يقع الطلاق فرده الى مشيئة الله وان الله ان شاءه بعد هذا وقع فكأنه قال لا اريد طلاقك ولا ارب لي فيه إلا ان يشاء الله فينفذ رضيت أم سخطت كما قال نبي الله شعيب عليه(10/78)
ص -77-…السلام وما يكون لنا أن نعود فيها إلا ان يشاء الله ربنا أي نحن لا نعود في ملتكم ولا نختار ذلك إلا ان يشاء الله ربنا شيئا فينفذ ما شاءه وكذلك قال ابراهيم ولا اخاف ما تشركون به إلا ان يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شئ علما أي لا يقع بي مخوف من جهة آلهتكم أبدا إلا أن يشاء ربي شيئا فينفذ ما شاءه فرد الانبياء ما أخبروا ألا يكون إلى مشيئة الرب تعالى والى علمه استدراكا واستثناء أي لا يكون ذلك ابدا ولكن إن شاءه الله تعالى كان فإنه تعالى عالم بما نعلمه نحن من الامور التي تقتضيها حكمته وحده
فصل: القول الفصل في موضوع الاستثناء
فالتحقيق في المسألة ان المستثنى إما أن يقصد بقوله إن شاء الله التحقيق أوالتعليق فإن قصد به التحقيق والتأكيد وقع الطلاق وإن قصد به التعليق وعدم الوقوع في الحال لم تطلق هذا هو الصواب في المسالة وهو اختيار شيخنا وغيره من الاصحاب وقال ابو عبد الله بن حمدان في رعايته قلت إن قصد التأكيد والتبرك وقع وإن قصد التعليق وجهل استحالة العلم بالمشيئة فلا وهذا قول آخر غير الاقوال الاربعة المحكية في المسألة وهو انه إنما ينفعه الاستثناء إذا قصد التعليق وكان جاهلا باستحالة العلم بمشيئة الله تعالى فلو علم استحالة العلم بمشيئته تعالى لم ينعقد الاستثناء والفرق بين علمه بالاستحالة وجهلة بها انه إذا جهل استحالة العلم بالمشيئة فقد علق الطلاق بما هو ممكن في ظنه فيصح تعليقه وإذا لم يجهل استحالة العلم بالمشيئة فقد علقه على محال يعلم استحالته فلا يصح التعليق وهذا احد الاقوال في تعليقه بالمحال
قلت وقولهم إن العلم بمشيئة الرب محال خطأ محض فإن مشيئة الرب تعلم بوقوع الاسباب التي تقتضى مسبباتها فإن مشيئة المسبب مشيئة لحكمه فإذا أوقع عليها بعد ذلك طلاقا علمنا ان الله قد شاء طلاقها(10/79)
ص -78-…فهذا تقرير الاحتجاج من الجانبين ولا يخفى ما تضمنه من رجحان احد القولين والله أعلم
فصل: نية الاستثناء وزمنها
وقد قدمنا اختلاف الفقهاء في اشتراط نية الاستثناء وزمنها وان أضيق الاقوال قول من يشترط النية من اول الكلام وأوسع منه قول من يشترطها قبل فراغه واوسع منه قول من يجوز إنشاءها بعد الفراغ من الكلام كما يقوله اصحاب احمد وغيرهم واوسع منه قول من يجوزه بالقرب ولا يشترط اتصاله بالكلام كما نص عليه احمد في رواية المروزي فقال حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا ثم سكت ثم قال إن شاء الله" إذ هو استثناء بالقرب ولم يخلط كلامه بغيره وقال اسماعيل بن سعيد الشالنجي سألت احمد بن حنبل عن الاستثناء في اليمين فقال من استثنى بعد اليمين فهو جائز على مثل فعل النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال: "والله لأغزون قريشا ثم سكت ثم قال إن شاء الله" ولم يبطل ذلك قال ولا أقول فيه بقول هؤلاء يعنى من لم ير ذلك إلا متصلا هذا لفظ الشالنجي في مسائلة وأوسع من ذلك قول من قال ينفعه الاستثناء ويصح ما دام في المجلس نص عليه الامام احمد في احدى الروايات عنه وهو قول الاوزاعي كما سنذكره واوسع منه من وجه قول من لا يشترط النية بحال كما صرح به أصحاب ابي حنيفة وقال صاحب الذخيرة في كتاب الطلاق في الفصل السادس عشر منه ولو قال لها انت طالق إن شاء الله ولا يدري أي شئ شاء الله لا يقع الطلاق لان الطلاق مع الاستثناء ليس بإيقاع فعلمه وجهله يكون سواء ولو قال لها انت طالق فجرى على لسانه من غير قصد إن شاء الله(10/80)
ص -79-…وكان قصده إيقاع الطلاق لا يقع الطلاق لان الاستثناء قد وجد حقيقة والكلام مع الاستثناء لا يكون إيقاعا وقال الجوزجاني في مترجمه حدثني صفوان ثنا عمر قال سئل الاوزاعي رحمه الله عن رجل حلف والله لأفعلن كذا وكذا ثم سكت ساعة لا يتكلم ولا يحدث نفسه بالاستثناء فيقول له إنسان الى جانبه قل إن شاء الله فقال إن شاء الله ايكفر عن يمينه فقال اراه قد استثنى
وبهذا الاسناد عن الاوزاعي انه سئل عن رجل وصله قريبه بدراهم فقال والله لا آخذها فقال قريبه والله لتأخذنها فلما سمعه قال والله لتأخذنها استثنى في نفسه فقال إن شاء الله وليس بين قوله والله لا آخذها وبين قوله إن شاء الله كلام إلا انتظاره ما يقول قريبه ايكفر عن يمينه إن هو أخذها فقال لم يحنث لانه قد استثنى
ولا ريب أن هذا افقه واصح من قول من اشتراط نيته مع الشروع في اليمين فإن هذا القول موافق للسنة الصحيحة فعلا عن النبي صلى الله عليه وسلم وحكاية عن أخيه سليمان انه لو قال إن شاء الله بعد ما حلف وذكره الملك كان نافعا له موافقا للقياس ومصالح العباد ومقتضى الحنيفية السمحة ولو اعتبر ما ذكر من اشتراط النية في اول الكلام والاتصال الشديد لزالت رخصة الاستثناء وقل من انتفع بها إلا من قد درس على هذا القول وجعله منه على بال
وقد ضيق بعض المالكية في ذلك فقال لا يكون الاستثناء نافعا إلا وقد أراده صاحبه قبل أن يتمم اليمين كما قال بعض الشافعية وقال ابن المواز شرط نفعه ان يكون مقارنا ولو لآخر حرف من حروف اليمين ولم يشترط مالك شيئا من ذلك بل قال في موطئه وهذا لفظ روايتة قال عبد الله بن يوسف احسن ما سمعت في الثنيا في اليمين انها لصاحبها ما لم يقطع كلامه وما كان نسقا يتبع(10/81)
ص -80-…بعضه بعضا قبل ان يسكت فإذا سكت وقطع كلامه فلا ثنيا له انتهى ولم ار عن أحد من الأئمة قط اشتراط النية مع الشروع ولا قبل الفراغ وإنما هذا من تصرف الأتباع
فصل: هل يصح الاستثناء في القلب
وهل من شرط الاستثناء ان يتكلم به أوينفع اذا كان في قلبه وإن لم يتلفظ به فالمشهور من مذاهب الفقهاء انه لا ينفعه حتى يتلفظ به ونص عليه احمد فقال في رواية ابن منصور لا يجوز له ان يستثنى في نفسه حتى يتكلم به وقد قال أصحاب احمد وغيرهم لو قال نسائي طوالق واستثنى بقلبه إلا فلانه صح استثناؤه ولم تطلق ولو قال نسائي الاربع طوالق واستثنى بقلبه إلا فلانه لم ينفعه وفرقوا بينهما بأن الاول ليس نصا في الاربع فجاز تخصيصه بالنية بخلاف الثاني ويلزمهم على هذا الفرق ان يصح تقييده بالشرط بالنية لأن غايته انه تقييد مطلق فعمل النية فيه اولى فيه أولى من عملها في تخصيص العام لان العام متناول للأفراد وضعا والمطلق لا يتناول جميع الاحوال بالوضع فتقييده بالنية اولى من تخصيص العام بالنية وقد قال صاحب المغنى وغيره إذا قال انت طالق ونوى بقلبه من غير نطق إن دخلت الدار أوبعد شهر أنه يدين فيما بينه وبين الله تعالى وهل يقبل في الحكم على روايتين وقد قال الامام احمد في رواية اسحاق بن ابراهيم فيمن حلف لا يدخل الدار وقال نويت شهرا قبل منه أوقال إذا دخلت دار فلان فأنت طالق ونوى تلك الساعة أوذلك اليوم قبلت نيته قال والرواية الاخرى لا تقبل فإنه قال إذا قال لامرأته أنت طالق ونوى في نفسه الى سنة تطلق ليس ينظر الى نيته وقال إذا قال أنت طالق وقال نويت إن دخلت الدار لا يصدق قال الشيخ ويمكن ان يجمع بين هاتين الروايتين بأن يحمل قوله في القبول على أنه يدين وقوله في عدم القبول(10/82)
ص -81-…على الحكم فلا يكون بينهما اختلاف قال والفرق بين هذه الصورة والتي قبلها يعنى مسألة نسائي طوالق واراد بعضهن أن إرادة الخاص بالعام شائع كثير وإرادة الشرط من غير ذكره غير شائع وهو قريب من الاستثناء ويمكن ان يقال هذه كلمه من جملة التخصيص انتهى كلامه وقد تضمن ان الحالف إذا أراد الشرط دين وقبل في الحكم في إحدى الروايتين ولا يفرق فقيه ولا محصل بين الشرط بمشيئة الله حيث يصح وينفع وبين غيره من الشروط وقد قال الامام احمد في رواية حرب إن كان مظلوما فاستثنى في نفسه رجوت أنه يجوز إذا خاف على نفسه ولم ينص على خلاف هذا في المظلوم وإنما اطلق القول وخاص كلامه ومقيده يقضى عل مطلق وعامه فهذا مذهبه
فصل: هل يصح الاستثناء بتحريك اللسان
وهل يشترط أن يسمع نفسه أويكفي تحرك لسانه بالاستثناء إن كان بحيث لا يسمعه فاشتراط أصحاب احمد وغيرهم انه لا بد وان يكون بحيث يسمعه هو أوغيره ولا دليل على هذا من لغة ولا عرف ولا شرع وليس في المسألة إجماع قال اصحاب ابي حنيفة واللفظ لصاحب الذخيرة وشرط الاستثناء ان يتكلم بالحروف سواء كان مسموعا أولم يكن عند الشيخ ابي الحسن الكرخي وكان الفقيه ابو جعفر يقول لا بد وان يسمع نفسه وبه كان يفتى الشيخ ابو بكر محمد بن الفضل وكان شيخ الاسلام ابن تيمية يميل الى هذا القول وبالله التوفيق وهذا بعض ما يتعلق بمخرج الاستثناء ولعلك لا تظفر به في غير هذا الكتاب
فصل: فعل المحلوف عليه ناسيا ونحو ذلك
المخرج الخامس ان يفعل المحلوف عليه ذاهلا أوناسيا أومخطئا أوجاهلا(10/83)
ص -82-…أومكرها أومنأولا أومعتقدا انه لا يحنث به تقليدا لمن أفتاه بذلك أومغلوبا على عقله أوظنا منه ان امرأته طلقت فيفعل المحلوف عليه بناء على ان المرأة أجنبية فلا يؤثر فعل المحلوف عليه في طلاقها شيئا
الفرق بين الناسي وبين الذاهل والغافل واللاهي
فمثال الذهول أن يحلف انه لا يفعل شيئا هو معتاد لفعله فيغلب عليه الذهول والغفلة فيفعله والفرق بين هذا وبين الناسي ان الناسي يكون قد غاب عنه اليمين بالكلية فيفعل المحلوف عليه ذاكرا له عامدا لفعله ثم يتذكر أنه كان قد حلف على تركه وأما الغافل والذاهل فليس بناس ليمينه ولكنه لها عنها أوذهل كما يذهل الرجل عن الشئ في يده أوحجره بحديث أونظر الى شئ أونحوه كما قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} يقال لهى عن الشيء يلهى كغشى يغشى إذا غفل ولها به يلهو إذا لعب وفي الحديث فلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بشئ كان في يديه أي اشتغل به ومنه الحديث الآخر إذا استأثر الله بشئ فاله عنه وسئل الحسن عما يجده الرجل من البلة بعد الوضوء والاستنجاء فقال اله عنه وكان ابن الزبير اذا سمع صوت الرعد لها عن حديثه وقال عمر رضى الله عنه لرجل بعثه بمال إلى أبي عبيده ثم قال للرسول تله عنه ثم انظر ماذا يصنع به ومنه قول كعب بن زهير:
وقال كل صديق كنت آمله…لا ألهينك إنى عنك مشغول
أي لا اشغلك عن شأنك وأمرك وفي المسند سألت ربي ان لا يعذب اللاهين من أمتي وهم البلة الغافلون الذين لم يتعمدوا الذنوب وقيل هم الاطفال الذين لم يقترفوا ذنبا
فصل: النسيان نوعان
واما الناسي فهو ضربان ناس لليمين وناس للمحلوف عليه فالأول ظاهر(10/84)
ص -83-…والثاني كما إذا حلف على شئ وفعله وهو ذاكر ليمينه لكن نسى ان هذا هو المحلوف عليه بعينه وهذا كما لو حلف لا يأكل طعام كذا وكذا فنسيه ثم أكله وهو ذاكر ليمينه ثم ذكر ان هذا هو الذي حلف عليه فهذا اذا كان يعتقد انه غير المحلوف عليه ثم بان انه هو فهو خطأ فإن لم يخطر بباله كونه المحلوف عليه ولا غيره فهو نسيان والفرق بين الجاهل بالمحلوف عله والمخطئ ان الجاهل قصد الفعل ولم يظنه المحلوف عليه والمخطئ لم يقصده كما لو رمى طائرا فأصاب إنسانا
الاكراه نوعان:
والمكره نوعان احدهما له فعل اختياري لكن محمول عليه والثاني ملجأ لا فعل له بل هو آلة محضة
المتأول والمتأول كمن يحلف انه لا يكلم زيدا وكاتبه يعتقد ان مكاتبته ليست تكليما وكمن حلف انه لا يشرب خمرا فشرب نبيذا مختلفا فيه متأولا وكمن حلف لايرابي فباع بالعينة أولا يطأ فرجا حراما فوطئ في نكاح تحليل مختلف فيه ونحو ذلك
درجات التأويل:
والتأويل ثلاث درجات قريب وبعيد ومتوسط ولا تنحصر افراده والمعتقد انه لا يحنث بفعله تقليدا سواء كان المفتى مصيبا أومخطئا كمن قال لامرأته إن خرجت من بيتي فأنت طالق أوالطلاق يلزمني لا تخرجين من بيتي فأفتاه مفت بأن هذه اليمين لا يلزم بها الطلاق بناء على ان الطلاق المعلق لغو كما يقوله بعض اصحاب الشافعي كابي عبد الرحمن الشافعي وبعض اهل الظاهر كما صرح به صاحب المحلى فقال والطلاق بالصفة عندنا كالطلاق باليمين كل ذلك لا يلزم(10/85)
ص -84-…المغلوب على عقله:
والمغلوب على عقله كمن يفعل المحلوف عليه في حال سكر أوجنون أوزوال عقل بشرب دواء أوبنج أوغضب شديد ونحو ذلك
من يظن طلاق امرأته:
والذي يظن ان امرأته طلقت فيفعل المحلوف عليه بناء على انه لا يؤثر في الحنث كما إذا قال إن كلمت فلانا فأنت طالق ثلاثا ثم قال إن فعلت كذا فامرأتي طالق ثلاثا فقيل له إن امرأتك قد كلمت فلانا فاعتقد صدق القائل وانها قد بانت منه ففعل المحلوف عليه بناء على ان العصمة قد انقطعت ثم بان له ان المخبر كاذب
وكذلك لو قيل له قد كلمت فلانا فقال طلقت منى ثلاثا ثم بان له انها لم تكلمه ومثل ذلك لو قيل له إن امرأتك قد مسكت تشرب الخمر مع فلان فقال هي طالق ثلاثا ثم ظهركذب المخبر وأن ذلك لم يكن منه شيء
فاختلف الفقهاء في ذلك اختلافا لا ينضبط فنذكر أقوال من أفتى بعدم الحنث في ذلك إذ هو الصواب بلا ريب وعليه تدل الادلة الشرعية ألفاظها وأقيستها واعتبارها وهو مقتضى قواعد الشريعة فإن البر والحنث في اليمين نظير الطاعة والمعصية في الامر والنهي وإن فعل المكلف ذلك في أمر الشارع ونهيه لم يكن عاصيا فأولى في باب اليمين ان لا يكون حانثا
ويوضحه انه إنما عقد يمينه على فعل ما يملكه والنسيان والجهل والخطأ والاكراه غير داخل تحت قدرته فما فعله في تلك الاحوال لم يتناوله يمينه ولم يقصد منع نفسه منه
يوضحه ان الله تعالى قد رفع المؤاخذة عن المخطئ والناسي والمكره فإلزامه بالحنث اعظم مؤاخذة لما تجاوز عن المؤاخذة به كما انه تعالى لما تجاوز للامة عما حدثت به أنفسها لم تتعلق به المؤاخذة في الاحكام(10/86)
ص -85-…يوضحه ان فعل الناسي والمخطئ بمنزلة فعل النائم في عدم التكليف به ولهذا هو عفو لا يكون به مطيعا ولا عاصيا
يوضحه ان الله تعالى إنما رتب الاحكام على الالفاظ لدلالتها على قصد المتكلم بها وإرادته فإذا تيقنا انه قصد كلامها ولم يقصد معانيها ولم يقصد مخالفة ما التزمه ولا الحنث فإن الشارع لا يلزمه بما لم يقصده بل قد رفع المؤاخذة عنه بما لم يقصده من ذلك
يوضحه ان اللفظ دليل على القصد فاعتبر لدلالته عليه فإذا علمنا يقينا خلاف المدلول لم يجز ان نجعله دليلا على ما تيقنا خلافه وقد رفع الله المؤاخذة عن قتل المسلم المعصوم بيده مباشرة إذا لم يقصد قتله بل قتله خطأ ولم يلزمه شيئا من ديته بل حملها غيره فكيف يؤاخذه بالخطأ والنسيان في باب الايمان هذا من الممتنع على الشارع
وقد رفع النبي صلى الله عليه وسلم المؤاخذة عمن أكل وشرب في نهار رمضان ناسيا لصومه مع ان اكله وشربه فعل لا يمكن تداركه فكيف يؤاخذه بفعل المحلوف عليه ناسيا ويطلق عليه امرأته ويخرب بيته ويشتت شمله وشمل اولاده وأهله وقد عفاله عن الاكل والشرب في نهار الصوم ناسيا
وقد عفا عمن اكل أوشرب في نهار الصوم عمدا غير ناس لما تأول الخيط الابيض والخيط الاسود بالحبلين المعروفين فجعل يأكل حتى تبينا له وقد طلع النهار وعفا له عن ذلك ولم يأمره بالقضاء لتأويله فما بال الحالف المتأول لا يعفى له عن الحنث بل يخرب بيته ويفرق بينه وبين حبيبته ويشتت شمله كل مشتت
وقد عفا عن المتكلم في صلاته عمدا ولم يأمره بالاعادة لما كان جاهلا بالتحريم لم يتعمد مخالفة حكمه فألغى كلامه ولم يجعله مبطلا للصلاة فكيف لا يقتدى به ويلغى قول الجاهل وفعله في باب الايمان ولا يحنثه كما لم يؤثمه الشارع
وإذا كان قد عفا عمن قدم شيئا أواخره من أعمال المناسك من الحلق والرمي(10/87)
ص -86-…والنحر نسيانا أوجهلا فلم يؤاخذه بترك ترتيبها نسيانا فكيف يحنث من قدم ما حلف على تأخيره أواخر ما حلف على تقديمه ناسيا أوجاهلا
وإذا كان قد عفا عمن حمل القذر في الصلاة ناسيا أوجاهلا به فكيف يؤاخذ الحالف ويحنث به وكيف تكون أوامر الرب تعالى ونواهيه دون ما التزمه الحالف بالطلاق والعتاق وكيف يحنث من لم يتعمد الحنث وهل هذا إلا بمنزلة تأثيمه من لم يتعمد الاثم وتكفيره من لم يتعمد الكفر وكيف يطلق أويعتق على من لم يتعمد الطلاق والعتاق ولم يطلق على الهازل إلا لتعمده فإنه تعمد الهزل ولم يرد حكمه وذلك ليس اليه بل الى الشارع فليس الهازل معذورا بخلاف الجاهل والمخطئ والناسي
وبالجملة فقواعد الشريعة واصولها تقتضي الا يحنث الحالف جميع ما ذكرنا ولا يطرد على القياس ويسلم من التناقض إلا هذا القول
وأما تحنيثه في جميع ذلك فإن صاحبه وان سلم من التناقض لكن قوله مخالف لآصول الشريعة وقواعدها وأدلتها ومن حنث في بعض ذلك دون بعض تناقض ولم يطرد له قول ولم يسلم له دليل عن المعارضه
وقد اختلفت الرواية عن الامام احمد في ذلك ففيه ثلاث روايات إحداها انه لا يحنث في شئ من الايمان بالنسيان ولا الجهل بفعل المحلوف عليه مع النسيان سواء كانت من الايمان المكفرة أوغيرها وعلى هذه الرواية فيمينه باقيه لم تنحل بفعل المحلوف عليه مع النسيان والجهل لان اليمين كما لم يتناول حالة الجهل والنسيان بالنسبة الى الحنث لم يتناولها بالنسبة الى البر اذا لو كان فاعلا للمحلوف عليه بالنسبة الى البر لكان فاعلا له بالنسبة الى الحنث وهذه الرواية اختيار شيخ الاسلام وغيره وهي اصح قولى الشافعي اختاره جماعة من أصحابه والثانيه يحنث في الجميع وهي مذهب ابي حنيفة ومالك والثالثة يحنث في اليمين التي لا تكفر كالطلاق والعتاق ولا يحنث في اليمين المكفرة وهي(10/88)
ص -87-…اختيار القاضي واصحابه والذين حنثوه مطلقا نظروا الى صورة الفعل وقالوا قد وجدت المخالفة والذين فرقوا قالوا الحلف بالطلاق والعتاق من باب التعليق على الشرط فإذا وجد الشرط وجد المشروط سواء كان مختارا لوجوده أولم يكن كما لو قال إن قدم زيد فأنت طالق ففعل المحلوف عليه في حال جنونه فهل هو كالنائم فلا يحنث أوكالناسي فيجرى فيه الخلاف على وجهين في مذهب الامام احمد والشافعي واصحهما انه كالنائم لانه غير مكلف
ولو حلف على من يقصد منعه كعبده وزوجته وولده وأجيره ففعل المحلوف عليه ناسيا أوجاهلا فهو كما لو حلف على فعل نفسه ففعله ناسيا أوجاهلا هو على الروايات الثلاث وكذلك هو على القولين في مذهب الشافعي فإن منعه لمن يمتنع بيمينه كمنعه لنفسه فلو حلف لا يسلم على زيد فسلم على جماعة هو فيهم ولم يعلم فإن لم نحنث الناسى فهذا اولى بعدم الحنث لأنه لم يقصده والناسى قد قصد التسليم عليه وإن حنثنا الناسي هل يحنث هذا على روايتين إحداهما يحنث لانه بمنزلة الناسي إذ هو جاهل بكونه معهم والثانية وهي أصح انه لا يحنث قاله أبوالبركات وغيره وهذا يدل على ان الجاهل اعذر من الناسي واولى بعدم الحنث وصرح به اصحاب الشافعي في الايمان ولكن تناقضوا كلهم في جعل الناسي في الصوم أولى بالعذر من الجاهل ففطروا الجاهل دون الناسي وسوى شيخنا بينهما وقال الجاهل أولى بعدم الفطر من الناسي فسلم من التناقض وقد سووا بين الجاهل والناسي فيمن حمل النجاسة في الصلاة ناسيا أوجاهلا ولم يعلم حتى فرغ منها فجعلوا الروايتين والقولين في الصورتين سواء وقد سوى الله تعالى بين المخطئ والناسي في عدم المؤاخذة وسوى بينهما النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان" فالصواب التسوية بينهما(10/89)
ص -88-…فصل: الإكراه على فعل المحلوف عليه
وأما إذا فعل المحلوف عليه مكرها فعن احمد روايتان منصوحتات إحداهما يحنث في الجميع والثانية لا يحنث في الجميع وهما قولان للشافعي وخرج ابو البركات رواية ثالثة انه يحنث باليمين بالطلاق والعتاق دون غيرهما من الايمان من نصه على الفرق في صورة الجاهل والناسي فإن ألجئ أوحمل أوفتح فمه وأوجز ما حلف انه لا يشربه فإن لم يقدر على الامتناع لم يحنث وإن قدر على الامتناع فوجهان وإذا لم يحنث فاستدام ما الجئ عليه كما لو الجئ الى دخول دار حلف انه لا يدخلها فهل يحنث فيه وجهان ولو حلف على غيره ممن يقصد منعه على ترك فعل ففعله مكرها أوملجأ فهو على هذا الخلاف سواء
فصل: حكم المتأول
اما المتأول فالصواب انه لا يحنث كما لم ياثم في الامر والنهي وقد صرح به الاصحاب فيما لو حلف انه لا يفارق غريمه حتى يقبض حقه فأحاله به ففارقه يظن ان ذلك قبض وانه بر في يمينه فحكوا فيه الروايات الثلاث
وطرد هذا كل متأول ظن انه لا يحنث بما فعله فإن غايته ان يكون جاهلا بالحنث وفي الجاهل الروايات الثلاث وإذا ثبت هذا في حق المتأول فكذلك في حق المقلد اولى فإذا حلف بالطلاق ألا يكلم فلانا أولا يدخل داره فأفتاه مفت بعدم وقوع الطلاق في هذه اليمين اعتقادا لقول على بن ابي طالب كرم الله وجهه وطاوس وشريح أواعتقادا لقول ابي حنيفة والقفال في صيغة الالتزام دون صيغة الشرط أواعتقاد لقول اشهب وهو اجل اصحاب مالك أنه إذا علق الطلاق بفعل الزوجة انه لم(10/90)
ص -89-…يحنث بفعلها أواعتقادا لقول ابي عبد الرحمن الشافعي اجل اصحاب الشافعي ان الطلاق المعلق لا يصح كما لا يصح النكاح والبيع والوقف المعلق وهو مذهب جماعة من أهل الظاهر لم يحنث في ذلك كله ولم يقع الطلاق ولو فرض فساد هذه الاقوال كلها فإنه إنما فعل المحلوف عليه متأولا مقلدا ظانا انه لا يحنث به فهو أولى بعدم الحنث من الجاهل والناسي وغاية ما يقال في الجاهل إنه مفرط حيث لم يستقص ولم يسأل غير من أفتاه وهذا بعينه يقال في الجاهل إنه مفرط حيث لم يبحث ولم يسأل عن المحلوف عليه فلو صح هذا الفرق لبطل عذر الجاهل ألبتة فكيف والمتأول مطيع لله مأجور إما أجرا واحدا أوأجرين
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يؤاخذ خالدا في تأويله حين قتل بني جذيمة بعد إسلامهم ولم يؤاخذ أسامة حين قتل من قال لا إله إلا الله لأجل التأويل ولم يؤاخذ من أكل نهارا في الصوم عمدا لأجل التأويل ولم يؤاخذ اصحابه حين قتلوا من سلم عليهم وأخذوا غنيمته لاجل التاويل ولم يؤاخذ المستحاضة بتركها الصوم والصلاه لاجل التأويل ولم يؤاخذ عمر رضى الله عنه حين ترك الصلاة لما اجنب في السفر ولم يجد ماء ولم يؤاخذ من تمعك في التراب كتمعك الدابة وصلى لأجل التأويل وهذا اكثر من ان يستقصى(10/91)
واجمع اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ان كل مال أودم اصيب بتاويل القران فهو هدر في قتالهم في الفتنه قال الزهري وقعت الفتنة واصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم متوافرون فأجمعوا على ان كل مال أودم اصيب بتأويل القرآن فهو هدر انزلوهم منزلة الجاهلية ولم يؤاخذ النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضى الله عنه حين رمى حاطب بن ابي بلتعة المؤمن البدري بالنفاق لأجل التأويل ولم يؤاخذ أسيد بن حضير بقوله لسعد سيد الخزرج إنك منافق تجادل عن المنافقين لأجل التأويل ولم يؤاخذ من قال عن مالك بن الدخشم ذلك المنافق نرى وجهه وحديثه الى المنافقين لاجل التأويل ولم يؤاخذ عمر بن الخطاب رضى الله عنه حين ضرب(10/92)
ص -90-…صدر ابي هريرة حتى وقع على الأرض وقد ذهب للتبليغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمره فمنعه عمر وضربه وقال ارجع وأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم على فعله ولم يؤاخذه لأجل التأويل
وكما رفع مؤاخذة التأثيم في هذه الأمور وغيرها رفع مؤاخذة الضمان في الأموال والقضاء في العبادات فلا يحل لأحد أن يفرق بين رجل وامرأته لأمر يخالف مذهبه وقوله الذي قلد فيه بغير حجة فإذا كان الرجل قد تأول وقلد من أفتاه بعدم الحنث فلا يحل له أن يحكم عليه بأنه حانث في حكم الله ورسوله ولم يتعمد الحنث بل هذه فرية على الله ورسوله وعلى الحالف وإذا وصل الهوى إلى هذا الحد فصاحبه تحت الدرك وله مقام وأي مقام بين يدي الله يوم لا ينفعه شيخه ولا مذهبه ومن قلده والله المستعان
إذا قال الرجل لامرأته أنت طالق ثلاثا لأجل كلامك لزيد وخروجك من بيتي فبان أنها لم تكلمه ولم تخرج من بيته لم تطلق صرح به الأصحاب قال ابن أبى موسى في الإرشاد فإن قال أنت طالق أن دخلت الدار بنصب الألف والحالف من أهل اللسان فإن كان تقدم لها دخول إلى تلك الدار قبل اليمين طلقت في الحال لأن ذلك للماضي من الفعل دون المستقبل وإن كانت لم تدخلها قبل اليمين بحال لم تطلق وإن دخلت الدار بعد اليمين إذا كان الحالف قصد بيمينه الفعل الماضي دون المستقبل لأن معنى ذلك إن كنت دخلت الدار فأنت طالق وإن كان الحالف جاهلا باللسان وإنما أراد باليمين الدخول المستقبل فمتى دخلت الدار بعد اليمين طلقت بما حلف به قولا واحدا وإن كان تقدم لها دخول الدار قبل اليمين فهل يحدث بالدخول الماضي أم لا على وجهين أصحهما لا يحنث
والمقصود انه إذا علل الطلاق بعلة ثم تبين انتفاؤها فمذهب احمد انه لا يقع بها الطلاق وعند شيخنا لا يشترط ذكر التعليل بلفظه ولا فرق عنده بين أن(10/93)
ص -91-…يطلقها لعلة مذكورة في اللفظ أوغير مذكورة فإذا تبين انتفاؤها لم يقع الطلاق وهذا هو الذي لا يليق بالمذهب غيره ولا تقتضى قواعد الأئمة غيره فإذا قيل له امرأتك قد شربت مع فلان أوباتت عنده فقال اشهدوا على أنها طالق ثلاثا ثم علم أنها كانت تلك الليلة في بيتها قائمة تصلي فإن هذا الطلاق لا يقع به قطعا وليس بين هذا وبين قوله إن كان الأمر كذلك فهي طالق ثلاثا فرق ألبته لا عند الحالف ولا في العرف ولا في الشرع فإيقاع الطلاق بهذا وهم محض إذ يقطع بأنه لم يرد طلاق من ليست كذلك وإنما أراد طلاق من فعلت ذلك
وقد أفتى جماعة من الفقهاء من أصحاب الإمام احمد والشافعي منهم الغزالي والقفال وغيرهما الرجل يمر على المكاس برقيق فيطالبه بمكسهم فيقول هم أحرار ليتخلص من ظلمه ولا غرض له في عتقهم انهم لا يعتقون وبهذا أفتينا نحن تجار اليمن لما قدموا منها ومروا على المكاسين فقالوا لهم ذلك وقد صرح به أصحاب الشافعي في باب الكتابة بما إذا دفع إليه العوض فقال اذهب فأنت حر بناء على أنه قد سلم له العوض فظهر العوض مستحقا ورجع به على صاحبه انه لا يعتق وهذا هو الفقه بعينه وصرحوا أن الرجل لو علق طلاق امرأته بشرط فظن أن الشرط قد وقع فقال اذهبي فأنت طالق وهو يظن أن الطلاق قد وقع بوجود الشرط فبان أن الشرط لم يوجد لم يقع الطلاق ونص على ذلك شيخنا قدس الله روحه ومن هذا القبيل ما لو قال حلفت بطلاق امرأتي ثلاثا ألا أفعل كذا وكان كاذبا ثم فعله لم يحنث ولم تطلق عليه امرأته قال الشيخ في المغنى إذا قال حلفت ولم يكن حلف فقال الإمام احمد هي كذبة ليس عليه يمين وعنه عليه الكفارة لأنه أقر على نفسه والأول هو المذهب لأنه حكم فيما بينه وبين الله تعالى فإنه كذب في الخبر به كما لو قال ما صليت وقد صلى
قلت قال أبو بكر عبد العزيز باب القول في إخبار الإنسان بالطلاق(10/94)
ص -92-…واليمين كاذبا قال في رواية الميموني إذا قال حلفت بيمين ولم يكن حلفه فعليه كفارة يمين فإن قال قد حلفت بالطلاق ولم يكن حلف بها يلزمه الطلاق ويرجع إلى نيته في الواحدة والثلاث وقال في رواية محمد بن الحكم في الرجل يقول قد حلفت ولم يكن حلف فهى كذبة ليس عليه يمين فاختلف أصحابنا على ثلاث طرق إحداها أن المسألة على روايتين والثانية هي طريقة أبي بكر قال عقيب حكاية الروايتين قال عبد العزيز في الطلاق يلزمه وفيما لا يكون من الإيمان لا يلزمه والطريقة الثالثة انه حيث ألزمه أراد به في الحكم وحيث لم يلزمه بقى فيما بينه وبين الله وهذه الطريقة افقه واطرد على أصول مذهبه والله اعلم
فصل: مذهب مالك في التفريق بين النسيان والجهل وما إلى ذلك
وأما مذهب مالك في هذا الفصل فالمشهور فيه التفريق بين النسيان والجهل والخطأ وبين الإكراه والعجز ونحن نذكر كلام أصحابه في ذلك
قالوا من حلف ألا يفعل حنث بحصول الفعل عمدا أوسهوا أوخطأ واختار أبو القاسم السيوري ومن تبعه من محققي الأشياخ انه لا يحنث إذا نسى اليمين وهذا اختيار القاضي أبى بكر بن العربي قالوا ولو اكره لم يحنث
فصل: في تعذر فعل المحلوف عليه وعجز الحالف عنه
قال أصحاب مالك من حلف على شئ ليفعلنه فحيل بينه وبين فعله فإن أجل أجلا فامتنع الفعل لعدم المحل وذهابه كموت العبد المحلوف على ضربه أوالحمامة المحلوف على ذبحها فلا حنث عليه بلا خلاف منصوص وإن امتنع الفعل لسبب منع الشرع كمن حلف ليطأن زوجته أوأمته فوجدها حائضا فقيل لا شئ عليه(10/95)
ص -93-…قلت وهذا هو الصواب لأنه إنما حلف على وطء يملكه ولم يقصد الوطء الذي لم يملكه الشارع إياه فإن قصده حنث وهذا هو الصواب لأنه إنما حلف على وطء يملكه وهكذا في صورة العجز الصواب انه لا يحنث فإنه إنما حلف على شئ يدخل تحت قدرته ولم يلتزم فعل ما لا يقدر عليه فلا تدخل حالة العجز تحت يمينه وهذا بعينه قد قالوه في المكره والناسي والمخطئ والتفريق تناقض ظاهر فالذي يليق بقواعد احمد وأصوله انه لا يحنث في صورة العجز سواء كان العجز لمنع شرعي أومنع كوني قدرى كما هو قوله فيما لو كان العجز لإكراه مكره ونصه على خلاف ذلك لا يمنع أن يكون عنده رواية مخرجة من أصوله المذكورة وهذا من أظهر التخريج فلو وطئ مع الحيض وعصى فهل يتخلص من الحنث فيه وجهان في مذهب مالك واحمد أحدهما يتخلص وإن أثم بالوطء كما لو حلف بالطلاق ليشربن هذه الخمر فشربها فإنه لا تطلق عليه زوجته والثاني لا يبر لأنه إنما حلف على فعل وطء مباح فلا تتناول يمينه المحرم فيقال إذا كان إنما حلف على وطء مأذون فيه شرعا لم تتناول يمينه المحرم فلا يحنث بتركه بعين ما ذكرتم من الدليل وهذا ظاهر
وحرف المسألة أن يمينه لم تتناول المعجوز عنه لا شرعا ولا قدرا فلا يحنث بتركه وإن كان الامتناع بمنع ظالم كالغاصب والسارق أوغير ظالم كالمستحق فهل يحنث أم لا قال أشهب لا يحنث وهو الصواب لما ذكر وقال غيره من أصحاب مالك يحنث لأن المحل باق وإنما حيل بينه وبين الفعل فيه وللشافعي في هذا الأصل قولان قال أبو محمد الجويني ولو حلف ليشربن ما في هذه الاداوة غدا فأريق قبل الغد بغير اختياره فعلى قولي الإكراه قال والأولى أن لا يحنث وإن حنثنا المكره لعجزه عن الشرب وقدرة المكره على الامتناع فجعل الشيخ أبو محمد العاجز أولى بالعذر من المكره وسوى غيره بينهما ولا ريب أن قواعد الشريعة وأصولها تشهد بهذا القول فإن الأمر والنهي من الشارع(10/96)
ص -94-…نظير الحض والمنع في اليمين وكما أن أمره ونهيه منوط بالقدرة فلا واجب مع عجز ولا حرام مع ضرورة فكذلك الحض والمنع في اليمين إنما هو مقيد بالقدرة
يوضحه أن الحالف يعلم أن سر نفسه انه لم يلتزم فعل المحلوف عليه مع العجز عنه وإنما التزمه مع قدرته عليه ولهذا لم يحنث المغلوب على الفعل بنسيان أوإكراه ولا من لا قصد له إليه كالمغمى عليه وزائل العقل وهذا قول جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنفية وهو مقتضى أصول الإمام احمد وإن كان المنصوص عنه خلافه فإنه قال في رواية ابنه صالح إذا حلف أن يشرب هذا الماء الذي في هذا الإناء فانصب فقد حنث ولو حلف أن يأكل رغيفا فجاء كلب فأكله فقد حنث لأن هذا لا يقدر عليه وقال في رواية جعفر بن محمد إذا حلف الرجل على غريمه أن لا يفارقه حتى يستوفى منه ماله فهرب منه مخاتلة فإنه يحنث وهذا وأمثاله من نصوصه مبنى على قوله في المكرة والناسي والجاهل إنه يحنث كما نص عليه فإنه قال في رواية أبي الحارث إذا حلف أن لا يدخل الدار فحمل كرها فأدخل فإنه لا يحنث وكذلك نص على حنث الناسي والجاهل فقد جعل الناس الجاهل والمكره والعاجز بمنزلة ونص في رواية أبي طالب إذا حلف أن لا يدخل الدار فحمل كرها فأدخل فلا شئ عليه وقد قال في رواية أحمد بن القاسم والذباب يدخل حلق الصائم والرجل يرمي بالشيء فيدخل حلق الآخر وكل أمر غلب عليه فليس عليه قضاء ولا غيره وتواترت نصوصه فيمن أكل في رمضان أوشرب ناسيا فلا قضاء عليه فقد سوى بين الناسي والمغلوب وهذا محض القياس والفقه ومقتضى ذلك التسوية بينهما في باب الإيمان كما نص عليه في المكره فتخرج مسألة العاجز والمغلوب على الروايتين بل المغلوب والعاجز أولى بعدم الحنث من الناسي والجاهل كما تقدم بيانه وبالله التوفيق(10/97)
ص -95-…فصل: التزام الطلاق
المخرج السادس أخذه بقول من يقول إن التزام الطلاق لا يلزم ولا يقع به طلاق ولا حنث وهذا إذا أخرجه بصيغة الالتزام كقوله الطلاق يلزمني أولازم إلى أوثابت على أوحق على أوواجب على أومتعين على إن فعلت أوأن لم أفعله وهذا مذهب أبى حنيفة وبه أفتى جماعة من مشايخ مذهبه وبه أفتى القفال في قوله الطلاق يلزمني ونحن نذكر كلامهم بحروفه
أقوال الحنفية في التزام الطلاق
قال صاحب الذخيرة من الحنفية لو قال لها طلاقك على واجب أولازم أوفرض أوثابت ذكر أبو الليث خلافا بين المتأخرين فمنهم من قال يقع واحدة رجعية نوى أولم ينو ومنهم من قال لا يقع نوى أولم ينو ومنهم من قال في قوله واجب يقع بدون النية وفي قوله لازم لا يقع وإن نوى وعلى هذا الخلاف إذا قال إن فعلت كذا فظلاقك على واجب أوقال لازم أوثابت ففعلت وذكر القدوري في شرحه أن على قول أبى حنيفة لا يقع الطلاق في الكل وعند أبى يوسف أن نوى الطلاق يقع في الكل وعن محمد انه يقع في قوله لازم ولا يقع في قوله واجب ثم ذكر من اختار من المشايخ الوقوع ومن اختار عدمه فقال وكان الإمام ظهير الدين المرغيناني يفتى بعدم الوقوع في الكل
وقال القفال في فتاويه إذا قال الطلاق يلزمني فليس بصريح ولا كناية حتى لا يقع به وإن نواه ولهذا القول مأخذان أحدهما أن الطلاق لا بد فيه من الإضافة إلى المرأة ولم تتحقق الإضافة ههنا ولهذا لو قال أنا منك طالق لم تطلق ولو قال لها طلقي نفسك فقالت أنت طالق لم تطلق والمأخذ الثاني وهو مأخذ أصحاب أبى حنيفة أنه التزام لحكم الطلاق(10/98)
ص -96-…وحكمه لا يلزمه إلا بعد وقوعه وكأنه قال فعلى أن أطلقك وهو لو صرح بهذا لم تطلق بغير خلاف فهكذا المصدر وسر المسألة أن ذلك التزام لأن يطلق أوالتزام لطلاق واقع فإن كان التزاما لأن يطلق لم تطلق وإن كان التزاما لطلاق واقع فكأنه قال إن فعلت كذا فأنت طالق طلاقا يلزمني طلقت إذا وجد الشرط ولمن رجح هذا أن يحيل فيه على العرف فان الحالف لا يقصد إلا هذا ولا يقصد التزام التطليق وعلى هذا فيظهر أن يقال إن نوى بذلك التزام التطليق لم تطلق وإن نوى وقوع الطلاق طلقت وهذا قول أبى يوسف وقول جمهور أصحاب الشافعي ومن جعله صريحا في وقوع الطلاق حكم فيه بالعرف وغلبه استعمال هذا اللفظ في وقوع الطلاق وهذا قول أبى المحاسن الروياني والوجوه الثلاثة في مذهب الشافعي حكاها شارح التنبيه وغيره
وفي المسألة قولان آخران وهما للحنفية:
أحدهما انه إن قال فالطلاق على واجب يقع نواه أولم ينوه وإن قال فالطلاق إلى لازم لا يقع نواه أولم ينوه ووجه هذا الفرق أن قوله لازم التزام لان يطلق فلا تطلق بذلك وقوله واجب إخبار عن وجوبه عليه ولا يكون واجبا إلا وقد وقع ولمن سوى بينهما أن يقول هو إيجاب للتطليق وإخبار عن وقوع الطلاق ولا ريب أن اللفظ محتمل لهما كاحتمال قوله الطلاق يلزمني سواء وهذا هو الصواب والفرق تحكم
والثاني قول محمد بن الحسن وهو عكس هذا القول أن الطلاق يقع بقوله الطلاق لي لازم أويلزمني ولا يقع بقوله هو على واجب وعلى هذا الخلاف قوله إن فعلت كذا فالعتق يلزمني أوفعلى العتق أوفالعتق لازم لي أواجب علي(10/99)
ص -97-…فصل: هل ينفذ الطلاق المعلق الذي يقصد به الترهيب
المخرج السابع أخذه بقول أشهب من أصحاب مالك بل هو أفقههم على الإطلاق فإنه قال إذا قال الرجل لامرأته إن كلمت زيدا أوخرجت من بيتي بغير إذني ونحو ذلك مما يكون من فعلها فأنت طالق وكلمت زيدا أوخرجت من بيته تقصد أن يقع علها الطلاق لم تطلق حكاه أبو الوليد ابن رشد في كتاب الطلاق من كتاب المقدمات له وهذا القول هو الفقه بعينه ولا سيما على أصول مالك واحمد في مقابلة العبد بنقيض قصده كحرمان القاتل ميراثه من المقتول وحرمان الموصى له وصية من قتله بعد الوصيه وتوريث امرأة من طلقها في مرض موته فرارا من ميراثها وكما يقوله مالك واحمد في إحدى الروايتين عنهما وقبلهما عمر بن الخطاب رضى الله عنه فيمن تزوج في العدة وهو يعلم يفرق بينهما ولا تحل له أبدا ونظائر ذلك كثيرة فمعاقبة المرأة ههنا بنقيض قصدها هو محض القياس والفقه ولا ينتقض هذا على أشهب بمسألة المخيرة ومن جعل طلاقها بيدها لأن الزوج قد ملكها ذلك وجعله بيدها بخلاف الحالف فإنه لم يقصد طلاقها بنفسه ولا جعله بيدها باليمين حتى لو قصد ذلك فقال إن أعطيتني ألفا فأنت طالق أوإن أبرأتني من جميع حقوقك فأنت طالق فأعطته أوأبرأته طلقت
ولا ريب أن هذا الذي قال أشهب افقه من القول بوقوع الطلاق فإن الزوج إنما قصد حضها ومنعها ولم يقصد تفويض الطلاق إليها ولا خطر ذلك بقلبه ولا قصد وقوع الطلاق عند المخالفة ومكان أشهب من العلم والإمامة غير مجهول فذكر أبو عمر بن عبد البر في كتاب الانتقاء عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال أشهب أفقه من ابن القاسم مائة مرة وأنكر ابن كنانة ذلك قال ليس عندنا كما قال محمد وإنما قاله لان أشهب شيخه(10/100)
ص -98-…ومعلمه قال أبو عمر أشهب شيخه ومعلمه وابن القاسم شيخه وهو أعلم بهما لكثرة مجالسته لهما وأخذه عنهما
فصل: هل الحلف بالطلاق يلزم
المخرج الثامن أخذه بقول من يقول إن الحلف بالطلاق لا يلزم ولا يقع على الحانث به طلاق ولا يلزمه كفارة ولا غيرها وهذا مذهب خلق من السلف والخلف صح ذلك عن أمير المؤمنين علي ابن أبى طالب كرم الله وجهه
قال بعض الفقهاء المالكية و أهل الظاهر ولا يعرف لعلى في ذلك مخالف من الصحابة هذا لفظ أبى القاسم التيمي في شرح أحكام عبد الحق وقاله قبله أبو محمد بن حزم وصح ذلك عن طاوس اجل أصحاب ابن عباس رضى الله عنه وأفقههم على الإطلاق قال عبد الرزاق في مصنفة أنبأنا ابن جريج قال أخبرني ابن طاوس عن أبيه انه كان يقول الحلف بالطلاق ليس شيئا قلت أكان يراه يمينا قال لا أدري وهذا أصح إسناد عمن هو من أجل التابعين وأفقههم وقد وافقه اكثر من أربعمائة عالم ممن بنى فقهه على نصوص الكتاب والسنة دون القياس ومن آخرهم أبو محمد بن حزم قال في كتابه المحلى مسألة اليمين بالطلاق لا يلزم سواء بر أوحنث لا يقع به طلاق ولا طلاق إلا كما أمر الله تعالى ولا يمين إلا كما شرع الله تعالى على لسان رسوله ثم قرر ذلك وساق اختلاف الناس في ذلك ثم قال فهؤلاء على بن أبى طالب كرم الله وجهه وشريح وطاوس لا يقضون بالطلاق على من حلف به فحنث ولا يعرف في ذلك لعلى كرم الله وجهة مخالف من الصحابة رضى الله عنهم
قلت أما اثر على رضى الله عنه فرواه حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن أن رجلا تزوج امرأة وأراد سفرا فأخذه أهل امرأته فجعلها طالقا إن لم يبعث(10/101)
ص -99-…بنفقتها إلى شهر فجاء الأجل ولم يبعث إليها بشيء فلما قدم خاصموه إلى على فقال علي كرم الله وجهه اضطهدتموه حتى جعلها طالقا فردها عليه ولا متعلق لهم بقوله اضطهدتموه لأنه لم يكن هناك إكراه فإنهم إنما طالبوه بحق نفقتها فقط ومعلوم أن ذلك ليس بإكراه على الطلاق ولا على اليمين وليس في القصة انهم اكرهوه بالقتل أوبالضرب أوالحبس أواخذ المال على اليمين حتى يكون يمين مكره والسائلون لم يقولوا لعلي شيئا من ذلك ألبته وإنما خاصموه في حكم اليمين فقط فنزل على كرم الله وجهه ذلك منزلة المضطهد حيث لم يرد طلاق امرأته وإنما أراد التخلص إلى سفره فالحلف والمضطهد كل منهما لم يرد طلاق امرأته فالمضطهد محمول على الطلاق تكلم به ليتخلص من ضرر الإكراه والحالف حلف به ليتوصل إلى غرضه من الحض أوالمنع أوالتصديق أوالتكذيب ولو اختلف حال الحالف بين أن يكون مكرها أومختارا لسأله علي كرم الله وجهه عن الإكراه وشروطه وحقيقته وبأي شئ أكره وهذا ظاهر بحمد الله فارض للمقلد بما رضى لنفسه
وأما أثر شريح ففي مصنف عبد الرزاق عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن شريح انه خوصم إليه في رجل طلق امرأته إن أحدث في الإسلام حدثا فاكترى بغلا إلى حمام أعين فتعدى به إصبهان فباعه واشترى به خمرا فقال شريح إن شئتم شهدتم عليه انه طلقها فجعلوا يرددون عليه القصة ويردد عليهم فلم يره حدثا ولا متعلق لقول الراوي إما محمد إما هشام فلم يره حدثا فإنما ذلك ظن منه قال أبو محمد وأي حدث أعظم ممن تعدى من حمام أعين وهو على مسيرة أميال يسيره من الكوفة إلى أصبهان ثم باع بغل مسلم ظلما واشترى به خمرا
قلت والظاهر أن شريحا لما ردت عليه المرأة ظن من شاهد القصة انه لم ير ذلك حدثا إذ لو رآه حدثا لأوقع عليها الطلاق وشريح إنما ردها لأنه علم انه لم(10/102)
ص -100-…يقصد طلاق امرأته وإنما قصد اليمين فقط فلم يلزمه بالطلاق فقال الراوي فيهم فلم ير ذلك حدثا وشريح افقه في دين الله أن لا يرى مثل هذا حدثا
وممن روى عنه عدم وقوع الطلاق على الحالف إذا حنث عكرمة مولى ابن عباس كما ذكره سنيد بن داود في تفسيره في أول سورة النور عنه بإسناده أنه سئل عن رجل حلف بالطلاق انه لا يكلم أخاه فكلمه فلم ير ذلك طلاقا ثم قرأ ولا تتبعوا خطوات الشيطان
ومن تأمل المنقول عن السلف في ذلك وجده أربعة أنواع صريح في عدم الوقوع وصريح في الوقوع وظاهر في عدم الوقوع وتوقف عن الطرفين
فالمنقول عن طاوس وعكرمة صريح في عدم الوقوع وعن علي عليه السلام وشريح ظاهر في ذلك وعن ابن عيينه صريح في التوقف وأما التصريح بالوقوع فلا يؤثر عن صحابي إلا فيما هو محتمل لإرادة الوقوع عند الشرط كالمنقول عن ابي ذر بل الثابت عن الصحابة عدم الوقوع في صورة العتق الذي هو أولى بالنفوذ من الطلاق ولهذا ذهب إليه أبو ثور وقال القياس أن الطلاق مثله إلا أن تجميع الأمة عليه فتوقف في الطلاق لتوهم الإجماع وهذا عذر أكثر الموقعين للطلاق وهو ظنهم أن الإجماع على الوقوع مع اعترافهم انه ليس في الكتاب والسنة والقياس الصحيح ما يقتضى الوقوع وإذا تبين انه ليس في المسألة إجماع تبين أن لا دليل أصلا يدل على الوقوع والأدلة الدالة على عدم الوقوع في غاية القوة والكثرة وكثير منها لا سبيل إلى دفعه فكيف يجوز معارضتها بدعوى إجماع قد علم بطلانه قطعا فليس بأيدي الموقعين آية من كتاب أوسنة ولا أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه ولا قياس صحيح والقائلون بعدم الوقوع لو لم يكن معهم إلا الاستصحاب الذي لا يجوز الانتقال عنه إلا لما هو أقوى منه لكان كافيا فكيف ومعهم الاقيسة التي أكثرها من باب قياس الأولى والباقي من القياس المساوي وهو قياس النظير على نظيره والآثار(10/103)
ص -101-…والعمومات والمعاني الصحيحة والحكم والمناسبات التي شهد لها الشرع بالاعتبار ما لم يدفعهم منازعوهم عنهم بحجة أصلا وقولهم وسط بين قولين متباينين غاية التباين أحدهما قول من يعتبر التعليق فيوقع به الطلاق على كل حال سواء كان تعليقا قسميا يقصد به الحالف منع الشرط والجزاء أوتعليقا شرطيا يقصد به حصول الجزاء عند حصول الشرط والثاني قول من يقول إن هذا التعليق كله لغو لا يصح بوجه ما ولا يقع الطلاق به ألبته كما سنذكره في المخرج الذي بعد هذا إن شاء الله فهؤلاء توسطوا بين الفريقين وقالوا يقع الطلاق في صورة التعليق المقصود به وقوع الجزاء ولا يقع صورة التعليق القسمى وحجتهم قائمة على الفريقين وليس لأحد منهما حجة صحيحة عليهم بل كل حجة صحيحة احتج بها الموقعون فإنما تدل على الوقوع في صورة التعليق المقصود وكل حجة احتج بها المانعون صحيحة فإنما تدل على عدم الوقوع في صورة التعليق القسمي فهم قائلون بمجموع حجج الطائفتين وجامعون للحق الذي مع الفريقين ومعارضون قول كل من الفريقين وحججهم بقول الفريق الآخر وحججهم
فصل: الطلاق المعلق بالشرط
المخرج التاسع أخذه بقول من يقول إن الطلاق المعلق بالشرط لا يقع ولا يصح تعليق الطلاق كما لا يصح تعليق النكاح وهذا اختيار أبى عبد الرحمن احمد ابن يحيى بن عبد العزيز الشافعي أحد أصحاب الشافعي الاجلة أوأجلهم وكان الشافعي يجله ويكرمه ويكنيه ويعظمه وأبو ثور وكانا يكرمانه وكان بصره ضعيفا فكان الشافعي يقول لا تدفعوا إلى أبى عبد الرحمن الكتاب يعارض به فإنه يخطئ وذكره أبو إسحاق الشيرازي في طبقات أصحاب الشافعي ومحل الرجل من العلم والتضلع منه لا يدفع وهو في العلم بمنزلة ابي ثور وتلك الطبقة وكان رفيق ابي ثور وهو أجل من جميع اصحاب الوجوه من المنتسبين(10/104)
ص -102-…الى الشافعي فإذا نزل بطبقته الى طبقة اصحاب الوجوه كان قوله وجها وهو أقل درجاته
وهذا مذهب لم ينفرد به بل قد قال به غيره من أهل العلم قال ابو محمد ابن حزم في المحلى والطلاق بالصفة عندنا كما هو الطلاق باليمين كل ذلك لا يلزم وبالله التوفيق ولا يكون طلاقا إلا كما امر الله تعالى وعلمه وما عداه فباطل وتعد لحدود الله تعالى
وهذا القول وإن لم يكن قويا في النظر فإن الموقعين للطلاق لا يمكنهم إبطاله ألبته لتناقضهم وكان أصحابه يقولون لهم قولنا في تعليق الطلاق بالشرط كقولكم في تعليق الابراء أوالهبة والوقف والبيع والنكاح سواء فلا يمكنكم ألبته ان تفرقوا بين ما صح تعليقه من عقود التبرعات والمعاوضات والاسقاطات بالشروط ومالا يصح تعليقه فلا تبطلوا قول منازعيكم في صحة تعليق الطلاق بالشرط بشئ إلا كان هو بعينه حجة عليكم في إبطال قولكم في منع صحة تعليق الابراء والهبة والوقف والنكاح فما الذي اوجب إلغاء هذا التعليق وصحة ذلك التعليق فإن فرقتم بالمعارضة وقلتم إن عقود المعارضات لا تقبل التعليق بخلاف غيرها انتقض عليكم طردا بالجعالة وعكسا بالهبة والوقف فانتقض عليكم الفرق طردا وعكسا وإن فرقتم بالتمليك والاسقاط فقلتم عقود التمليك لا تقبل التعليق بخلاف عقود الاسقاط انتقض ايضا طرده بالوصية وعكسه بالابراء فلا طرد ولا عكس وإن فرقتم بالادخال في ملكه والاخراج عن ملكه فصححتم التعليق في الثاني دون الاول انتقض ايضا فرقكم فإن الهبة والابراء إخراج عن ملكه ولا يصح تعليقها عندكم وإن فرقتم بما يحتمل الغرر ومالا يحتمله فما يحتمل الغرر والاخطار يصح تعليقه بالشرط كالطلاق والعتق والوصية ومالا يحتمله لا يصح تعليقه كالبيع والنكاح والاجارة انتقض عليكم بالوكالة فإنها لا تقبل التعليق عندكم وتحتمل الخطر ولهذا يصح(10/105)
ص -103-…أن يوكله في شراء عبد ولا يذكر قدره ولا وصفه ولا سنه ولا ثمنه بل يكفى ذكر جنسه فقط أوأن يوكله في شراء دار ويكتفى بذكر محلها وسكنها فقط وأن يوكله في التزوج بامرأة فقط ولا يزيد على كونها امرأة ولا يذكر له جنس مهرها ولا قدره ولا وصفه وأي خطر فوق هذا ومع ذلك منعتم من تعليقها بالشرط وطرد هذا الفرق يوجب عليكم صحة تعليق النكاح بالشرط فإنه يحتمل من الخطر ما لا يحتمل غيره من العقود فلا يشترط فيه رؤية الزوجة ولا صفتها ولا تعيين العوض جنسا ولا قدرا ولا وصفا ويصح مع جهالته وجهالة المرأة ولا يعلم عقد يحتمل من الخطر ما يحتمله فهو أولى بصحة التعليق من الطلاق والعتاق إن صح هذا الفرق
وقد نص الشافعي على صحة تعليقه فيما لو قال إن كانت جاريتي ولدت بنتا فقد زوجتكها وهذا وإن لم يكن تعليقا على شرط مستقبل فليس بمنزلة قوله متى ولدت جارية فقد زوجتكها لان هذا فيه خطر ليس في صورة النص وهذا فرق صحيح ولكن لم يوفوه حقه ولم يطرد فقهه فلو قال إن كان ابي مات وورثت منه هذا المتاع فقد بعتكه ابطلتموه وقلتم هو بيع معلق على شرط والبطلان ههنا في غاية العبد من الفقه ولا معنى تحته ولا خطر هناك ولا غرر ألبته وقد نص الامام احمد على صحة تعليق النكاح على الشرط
قال صاحب المستوعب وأما اذا علق انعقاد النكاح على شرط مثل ان يقول زوجتك إذا جاء رأس الشهر أوإذا رضيت أمها ففيه روايتان أحداهما يبطل النكاح من أصله والاخرى يصح وذكر في الفصل انه إذا تزوجها بشرط الخيار وان جاءها بالمهر الى وقت كذاوإلا فلا نكاح بينهما ففيه روايتان إحدهما يبطل النكاح من أصله والثانية يبطل الشرط ويصح العقد ونص عليه في رواية الاثرم وقد ذكر القاضي رواية عنه انه إذا تزوجها بشرط الخيار يصح العقد والشرط جميعا فصار عنه ثلاث روايات صحة العقد والشرط(10/106)
ص -104-…وبطلانهما وصحة العقد وفساد الشرط لكن هذا فيما اذا شرط الخيار أوان جاءها بالمهر الى وقت كذا وإلا فلا نكاح بينهما وأما إذا قال زوجتك إن رضيت أمها فنص على صحة العقد إذا رضيت امها وقال هو نكاح وقال في رواية عبد الله وصالح وحنبل نكاح المتعة حرام وكل نكاح فيه وقت أوشرط فاسد
والمقصود ان المفرقين بين ما يقبل التعليق بالشرط وما لا يقبل الى الآن لم يستقر لهم ضابط في الفرق فمن قال من أهل الظاهر وغيرهم إن الطلاق لا يصح تعليقه بالشرط لم يتمكن من الرد عليه من قوله مضطرب فيما يعلق وما لا يعلق ولا يرد عليه بشئ إلا تمكن من رده عليهم بمثله أوأقوى منه وإن ردوا عليه بمخالفته لآثار الصحابة رد عليهم بمخالفة النصوص المرفوعة في صور عديدة قد تقدم ذكر بعضها وإن فرقوا طالبهم بضابط ذلك أولا وبتأثير الفرق شرعا ثانيا فإن الوصف الفارق لا بد ان يكون مؤثرا كالوصف الجامع فإنه لا يصح تعليق الاحكام جمعا وفرقا بالاوصاف التي لا يعلم ان الشارع اعتبرها فإنه وضع شرع لم يأذن به الله وبالجملة فليس بطلان هذا القول اظهر في الشريعة من بطلان التحليل بل العلم بفساد نكاح التحليل أظهر من العلم بفساد هذا القول فإذا جاز التقرير على التحليل وترك إنكاره مع ما فيه من النصوص والآثار التي اتفق عليها اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنع منه ولعن فاعله وذمه فالتقرير على هذا القول أجود وأجوز
هذا ما لا يستريب فيه عالم منصف وإن كان الصواب في خلاف القولين جميعا ولكن احدهما أقل خطأ وأقرب الى الصواب والله اعلم
فصل: زاول سبب اليمين
المخرج العاشر مخرج زوال السبب وقد كان الأولى تقديمه على هذا(10/107)
ص -105-…المخرج لقوته وصحته فإن الحكم يدور مع علته وسببه وجودا وعدما ولهذا إذا علق الشارع حكما بسبب أوعلة زال ذلك الحكم بزوالهما كالخمر علق بها حكم التنجيس ووجوب الحد لوصف الإسكار فإذا زال عنها وصارت خلا زال الحكم وكذلك وصف الفسق علق عليه المنع من قبول الشهادة والرواية فإذا زال الوصف زال الحكم الذي علق عليه وكذلك السفه والصغر والجنون والاغماء تزول الاحكام المعلقة عليها بزوالها والشريعة مبنية على هذه القاعدة فهكذا الحالف إذا حلف على أمر لا يفعله لسبب فزال السبب لم يحنث بفعله لأن يمينه تعلقت به لذلك الوصف فإذا زال الوصف زال تعلق اليمين فإذا دعى الى شراب مسكر ليشربه فحلف ان لا يشربه فانقلب خلا فشربه لم يحنث فإن منع نفسه منه نظير منع الشارع فإذا زال منع الشارع بانقلابه خلا وجب ان يزول منع نفسه بذلك والتفريق بين الامرين تحكم محض لا وجه له فإذا كان التحريم والتنجيس ووجوب الاراقة ووجوب الحد وثبوت الفسق قد زال بزوال سببه فما الموجب لبقاء المنع في صورة اليمين وقد زال سببه وهل يقتضى محض الفقه إلا زوال حكم اليمين
يوضحه أن الحالف يعلم من نفسه انه لم يمنعها من شرب غير المسكر ولم يخطر بباله فإلزامه ببقاء حكم اليمين وقد زال سببها إلزام بما لم يلتزمه هو ولا الزمه به الشارع وكذلك لو حلف على رجل أن لا يقبل له قولا ولا شهادة لما يعلم من فسقه ثم تاب وصار من خيار الناس فإنه يزول حكم المنع باليمين كما يزول حكم المنع من ذلك بالشرع وكذلك اذا حلف ان لا يأكل هذا الطعام أولا يلبس هذا الثوب أولا يكلم هذه المرأة ولا يطأها لكونه لا يحل له ذلك فملك الطعام والثوب وتزوج المرأة فأكل الطعام ولبس الثوب ووطئ المرأة لم يحنث لأن المنع بيمينه كالمنع بمنع الشارع ومنع الشارع يزول بزوال الاسباب التي ترتب عليها المنع فذلك منع الحالف وكذلك إذا حلف(10/108)
ص -106-…لا دخلت هذه الدار وكان سبب يمينه انها تعمل فيها المعاصي وتشرب الخمر فزال ذلك وعادت مجمعا للصالحين وقراءة القرآن والحديث أوقال لا أدخل هذا المكان لأجل ما رأى فيه من المنكر فصار بيتا من بيوت الله تقام فيه الصلوات لم يحنث بدخوله وكذلك إذا حلف لا يأكل لفلان طعاما وكان سبب اليمين أنه يأكل الربا ويأكل أموال الناس بالباطل فتاب وخرج من المظالم وصار طعامه من كسب يده أوتجارة مباحة لم يحنث بأكل طعامه ويزول حكم منع اليمين كما يزول حكم منع الشارع وكذلك لو حلف لا بايعت فلانا وسبب يمينه كونه مفلسا أوسفيها فزال الافلاس والسفه فبايعه لم يحنث وأضعاف أضعاف هذه المسأئل كما إذا اتهم بصحبة مريب فحلف لا أصاحبه فزالت الريبة وخلفها ضدها فصاحبه لم يحنث وكذلك لو حلف المريض لا يأكل لحما أوطعاما وسبب يمينه كونه يزيد في مرضه فصح وصار الطعام نافعا له لم يحنث بأكله
وقد صرح الفقهاء بمسائل من هذا الجنس فمنها لو حلف لوال ان لا أفارق البلد إلا بإذنك فعزل ففارق البلد بغير إذنه لم يحنث ومنها لو حلف على زوجته لا تخرجين من بيتي إلا بإذنى أوعلى عبده لا يخرج إلا بإذنه ثم طلق الزوجة واعتق العبد فخرجا بغير إذنه لم يحنث ذكره أصحاب الامام احمد قال صاحب المغنى لان قرينة الحال تنقل حكم الكلام الى نفسها وهو يملك منع الزوجة والعبد مع ولايته عليهما فكأنه قال ما دمتما في ملكى ولأن السبب يدل على النية في الخصوص كدلالته عليها في العموم وكذلك لو حلف لقاض ان لا أرى منكرا إلا رفعته اليك فعزل لم يحنث بعدم الرفع اليه بعد العزل وكذلك إذا حلف لامرأته ألا أبيت خارج هذه الدار فماتت أوطلقها لم يحنث إذا بات خارجها وكذلك إذا حلف على ابنه ألا يبيت خارج البيت لخوفه عليه من الفساق لكونه أمرد فالتحى وصار شيخا لم يحنث بمبيته(10/109)
ص -107-…خارج الدار وهذا كله مذهب مالك واحمد فإنهما يعتبران النية في الايمان وبساط اليمين وسببها وما هيجها فيحملان اليمين على ذلك
وقال ابوعمر بن عبد البر في كتاب الايمان من كتابة الكافي في مذهب مالك والاصل في هذا الباب مراعاة ما نواه الحالف فإن لم تكن له نية نظر الى بساط قصته وما أثاره على الحلف ثم حكم عليه بالأغلب من ذلك في نفوس أهل وقته
وقال صاحب الجواهر المقتضيات للبر والحنث امور الاول النية اذا كانت مما يصلح ان يراد اللفظ بها سواء كانت مطابقة له أوزائدة فيه أوناقصة عنه بتقييد مطلقه وتخصيص عامه الثاني السبب المثير لليمين يتعرف منه ويعبر عنه بالبساط أيضا وذلك ان القاصد لليمين لا بد ان تكون له نية وإنما يذكرها في بعض الاوقات وينساها في بعضها فيكون المحرك على اليمين وهو البساط دليلا عليها لكن قد يظهر مقتضى المحرك ظهورا لا إشكال فيه وقد يخفى في بعض الحالات وقد يكون ظهوره وخفاؤه بالاضافة
وكذلك اصحاب الامام احمد صرحوا باعتبار النية وحمل اليمين على مقتضاها فإن عدمت رجع الى سبب اليمين وما هيجها فحمل اللفظ عليه لانه دليل على النية حتى صرح أصحاب مالك فيمن دفن مالا ونسى مكانه فبحث عنه فلم يجده فحلف على زوجته انها هي التي اخذته ثم وجده لم يحنث قالوا لان قصده ونيته إنما هو إن كان المال قد ذهب فأنت التي أخذته فتأمل كيف جعلوا القصد والنية في قوة الشرط وهذا هو محض الفقه
ونظير هذا ما لو دعى الى طعام فظنه حراما فحلف لا أطعمه ثم ظهر أنه حلال لا شبهة فيه فإنه لا يحنث بأكله لان يمينه إنما تعلقت به إن كان حراما وذلك قصده(10/110)
ص -108-…ومثله لو مر به رجل فسلم عليه فحلف لا يرد عليه السلام لظنه انه مبتدع أوظالم أو فاجر فظهر انه غير ذلك الذي ظنه لم يحنث بالرد عليه
ومثله لو قدمت له دابة ليركبها فظنها قطوفا أوموحا أومتعسرة الركوب فحلف لا يركبها فظهرت له بخلاف ذلك لم يحنث بركوبها
وقال ابو القاسم الخرقي في مختصره ويرجع في الايمان الى النية فإن لم ينو شيئا رجع الى سبب اليمين وماهيجها وقال أصحاب الامام احمد اذا دعى الى غداء فحلف ان لا يتغدى أوقيل له اقعد فحلف ان لا يقعد اختصت يمينه بذلك الغداء وبالعقود في ذلك الوقت لان عاقلا لا يقصد ان لا يتغدى أبدا ولا يقعد أبدا
ثم قال صاحب المغنى إن كان له نية فيمينه على ما نوى وإن لم تكن له نية فكلام احمد يقتضى روايتين إحداهما ان اليمين محمولة على العموم لان احمد سئل عن رجل حلف ان لا يدخل بلدا لظلم رآه فيه فزال الظلم قال احمد النذر يوفى به يعنى لا يدخله ووجه ذلك ان لفظ الشارع إذا كان عاما لسبب خاص وجب الاخذ بعموم اللفظ دون خصوص السبب وكذلك يمين الحالف ونازعه في ذلك شيخنا فقال إنما منعه احمد من دخول البلد بعد زوال الظلم لأنه نذر لله ألا يدخلها وأكد نذره باليمين والنذر قربة فقد نذر التقرب الى الله بهجران ذلك البلد فلزمه الوفاء بما نذره هذا هو الذي فهمه الامام احمد وأجاب به السائل حيث قال النذر يوفى به ولهذا منع النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين من الإقامة بمكة بعد قضاء نسكهم فوق ثلاثة أيام لأنهم تركوا ديارهم لله فلم يكن لهم العود فيها وإن زال السبب الذي تركوها لأجله وذلك نظير مسألة ترك البلد للظلم والفواحش التي فيه إذا نذره الناذر فهذا سر جوابه وإلا فمذهبه الذي عليه نصوصه وأصوله اعتبار(10/111)
ص -109-…النية والسبب في اليمين وحمل كلام الحالفين على ذلك وهذا في نصوصه أكثر من أن يذكر فلينظر فيها
وأما مذهب أصحاب أبى حنيفة فقال في كتاب الدخائر في كتاب الايمان الفصل السادس في تقييد الايمان المطلقة بالدلالة اذا أرادت المرأة الخروج من الدار فقال الزوج إن خرجت من الدار فأنت طالق فجلست ساعة ثم خرجت لا تطلق وكذلك لو أراد رجل ان يضربه فحلف آخر أن لا يضربه فهذا على تلك الضربة حتى لو مكث ساعة ثم ضربه لا يحنث ويسمى هذا يمين الفور وهذا الخرجة التي قصد والضربة التي قصد هي المقصود بالمنع منها عرفا وعادة فيتعين ذلك بالعرف والعادة وإذا دخل الرجل على الرجل فقال تعال تغد معي فقال والله لا اتغدى فذهب الى بيته وتغدى مع أهله لا يحنث وكذلك اذا قال الرجل لغيره كل مع فلان فقال والله لا آكل ثم ذكر تقرير ذلك بأنه جواب لقول الآمر له والجواب كالمعاد في السؤال فإنه يتضمن ما فيه قال وليس كابتداء اليمين لان كلامه لم يخرج جوابا بالتقييد بل خرج ابتداء وهو مطلق عن القيد فينصرف الى كل غداء قال وإذا قال لغيره كلم لي زيدا اليوم في كذا فقال والله لا أكلمه فهذا يختص باليوم لانه خرج جوابا عن الكلام السابق وعلى هذا إذا قال له إيتنى اليوم فقال امرأته طالق إن أتاك وقد صرح أصحاب ابي حنيفة بأن النية تعمل في اللفظ لتعيين ما احتمله اللفظ فإذا تعين باللفظ ولم يكن اللفظ محتملا لما نوى لم تؤثر النية فيه فإن حينئذ يكون الاعتبار بمجرد النية ومجرد النية لا أثر لها في إثبات الحكم فإذا احتملها اللفظ فعينت بعض محتملاته أثرت حينئذ قالوا ولهذا لو قال إن لبست ثوبا أوأكلت طعاما أوشربت شرابا أوكلمت امرأة فامرأته طالق ونوى ثوبا أوطعاما أوشرابا أوامرأه معينا دين فيما بينه وبين الله وقبلت نيته بغير خلاف ولو حذف المفعول(10/112)
ص -110-…واقتصر على الفعل فكذلك عند ابي يوسف في رواية عنه والخصاف وهو قول الشافعي واحمد ومالك
والمقصود ان النية تؤثر في اليمين تخصيصا وتعميما وإطلاقا وتقييدا والسبب يقوم مقامها عند عدمها ويدل عليها فيؤثر ما يؤثره وهذا هو الذي يتعين الافتاء به ولا يحمل الناس على ما يقطع انهم لم يريدوه بأيمانهم فكيف اذا علم قطعا انهم أرادوا خلافه والله أعلم
والتعليل يجري مجرى الشرط فإذا قال أنت طالق لأجل خروجك من الدار فبان انها لم تخرج لم تطلق قطعا صرح به صاحب الارشاد فقال وان قال انت طالق أن دخلت الدار بنصف الألف والحالف من أهل اللسان ولم يتقدم لها دخول قبل اليمين بحال لم تطلق ولم يذكر فيه خلافا وقد قال الأصحاب وغيرهم إنه إذا قال انت طالق وقال أردت الشرط دين فكذلك إذا قال لأجل كلامك زيدا أوخروجك من داري بغير إذني فإنه يدين ثم إن تبين انها لم تفعل لم يقع الطلاق ومن افتى بغير هذا فقد وهم على المذهب والله اعلم.
فصل: خلع اليمين
المخرج الحادي عشر خلع اليمين عند من يجوزه كأصحاب الشافعي وغيرهم وهذا وإن كان غير جائز على قول أهل المدينة وقول الامام احمد وأصحابه كلهم فإذا دعت الحاجة اليه أوالى التحليل كان اواى من التحليل من وجوه عديده أحدها ان الله تعالى شرع الخلع رفعا لمفسدة المشاقة الواقعة بين الزوجين وتخلص كل منهما من صاحبه فإذا شرع الخلع رفعا لهذه المفسدة التي هي بالنسبة الى مفسدة التحليل كتفلة في بحر فتسويغه لدفع مفسدة التحليل أولى(10/113)
ص -111-…يوضحه الوجه الثانى ان الحيل المحرمة انما منع منها لما تتضمنه من الفساد الذى اشتملت عليه تلك المحرمات التى يتحيل عليها بهذه الحيل و اما حيلة ترفع مفسدة هي من أعظم المفاسد فإن الشارع لا يحرمها
يوضحه الوجه الثالث ان هذه الحيلة تتضمن مصلحة بقاء النكاح المطلوب للشارع بقاؤه ودفع مفسدة التحليل التي بالغ الشارع كل المبالغة في دفعه والمنع منه ولعن اصحابه فحيلة تحصل المصلحة المطلوب ايجادها وتدفع المفسدة المطاوب اعدامها لا يكون ممنوعا منها
الوجه الرابع ان ما حرمه الشارع فإنما حرمه لما يتضمنه من المفسدة الخالصة أوالراجحة فإذا كانت مصلحة خالصة أوراجحة لم يحرمه البتة وهذا الخلع مصلحته ارجح من مفسدته
الوجه الخامس ان غاية ما في هذا الخلع اتفاق الزوجين ورضاهما بفسخ النكاح بغير شقاق واقع بينهما واذا وقع الخلع من غير شقاق صح وكان غايته الكراهية لما فيه من مفسدة المفارقة وهذا الخلع اريد به لم شعث النكاح بحصول عقد بعده يتمكن الزوجان فيه من المعاشرة بالمعروف وبدونه لا يتمكنان من ذلك بل اما خراب البيت وفراق الأهل وإما التعرض للعنة من لا يقوم للعنته شيء وإما التزام ما حلف عليه وان كان فيه فساد دنياه واخراه لايقوم للعنته شيء كما اذا حلف ليقتلن ولده اليوم أوليشربن هذا الخمر أوليطأن هذا الفرج الحرام أوحلف انه لا يأكل ولا يشرب ولايستظل بسقف ولا يعطى فلانا حقه ونحو ذلك فإذا دار الامر بين مفسدة التزام المحلوف عليه أومفسدة الطلاق وخراب البيت وشتات الشمل أومفسسدة التزام لعنة الله بارتكاب التحليل وبين ارتكاب الخلع المخلص من ذلك جميعه لم يخف على العاقل أي ذلك اولى
الوجه السادس انهما لو اتفقا على ان يطلقها من غير شقاق بينهما بل ليأخذ(10/114)
ص -112-…غيرها لم يمنع من ذلك فإذا اتفقا على الخلع ليكون سببا إلى دوام اتصالهما كان أولى وأحرى
ويوضحه الوجه السابع ان الخلع إن قيل إنه طلاق فقد اتفقا على الطلاق بعوض لمصلحة لهما في ذلك فما الذي يحرمه وإن قيل إنه فسخ فلا ريب أن النكاح من العقود اللازمة والعقد اللازم إذا اتفق المتعاقدان على فسخه ورفعه لم يمنعا من ذلك إلا أن يكون العقد حقا لله والنكاح محض حقهما فلا يمنعان من الاتفاق على فسخه
الوجه الثامن ان الآية اقتضت جواز الخلع إذا خاف الزوجان ألا يقيما حدود الله فكان الخلع طريقا الى تمكنهما من إقامة حدود الله وهي حقوقه الواجبة عليهما في النكاح فإذا كان الخلع مع استقامة الحال طريقا الى تمكنهما من إقامة حدوده التي تعطل ولا بد بدون الخلع تعين الخلع حينئذ طريقا الى إقامتها
فإن قيل: لا يتعين الخلع طريقا بل ههنا طريقان آخران احدهما مفارقتهما والثاني عدم إلزام الطلاق بالحنث إذا أخرجه مخرج اليمين إما بكفارة أوبدونها كما هي ثلاثة أقوال للسلف معروفة صرح بها ابو محمد ابن حزم وغيره
قيل نعم هذان طريقان ولكن إذا أحكم سدهما غاية الاحكام ولم يمكنه سلوك أحدهما وأيهما سلك ترتب عليه غاية الضرر في دينه ودنياه لم يحرم عليه والحالة هذه سلوك طريق الخلع وتعين في حقه طريقان إما طريق الخلع واما سلوك طريق أرباب اللعنة
وهذه المواضيع وأمثالها لا تحتملها إلا العقول الواسعة التي لها إشراف على أسرار الشريعة ومقاصدها وحكمها وأما عقل لا يتسع لغير تقليد من اتفق له تقليده وترك جميع أقوال أهل العلم لقوله فليس الكلام معه(10/115)
ص -113-…الوجه التاسع أن غاية ما منع المانعون من صحة هذا الخلع انه حيلة والحيل باطلة ومنازعوهم ينازعوهم ينازعونهم في كلتا المقدمتين فيقولون الاعتبار في العقود بصورها دون نياتها ومقاصدها فليس لنا ان نسأل الزوج إذا اراد خلع امرأته ما أردت بالخلع وما السبب الذي حملك عليه هل هو المشاقة أوالتخلص من اليمين بل نجري حكم التخالع على ظاهره ونكل سرائر الزوجين الى الله قالوا ولو ظهر لنا قصد الحيلة فالشأن في المقدمة الثانية فليس كل حيلة باطلة محرمة وهل هذا الفصل الطويل الذي نحن فيه إلا في أقسام الحيل والحيلة المحرمة الباطلة هي التي تتضمن تحليل ما حرمه الله أوتحريم ما أحله الله أوإسقاط ما أوجبه وأما حيلة تتضمن الخلاص من الآصار والاغلال والتخلص من لعنه الكبير المتعال فاهلا بها من حيلة وبأمثالها والله يعلم المفسد من المصلح والمقصود تنفيذ امر الله ورسوله بحسب الامكان والله المستعان
الوجه العاشر أنه ليس القول ببطلان خلع اليمين أولى من القول بلزوم الطلاق للحالف به غير القاصد له فهلم نحاكمكم الى كتاب الله وسنة رسوله واقوال الصحابة رضى الله عنهم وقواعد الشريعة المطهرة وإذا وقع التحاكم تبين أن القول بعدم لزوم الطلاق للحالف به أقوى ادلة وأصح أصولا وأطرد قياسا وأوفق لقواعد الشرع وأنتم معترفون بهذا شئتم ام أبيتم فإذا ساغ لكم العدول عنه الى القول المتناقض المخالف للقياس ولما أفتى به الصحابة ولما تقتضيه قواعد الشريعة وأصولها فلأن يسوغ لنا العدول عن قولكم ببطلان خلع اليمين الى ضده تحصيلا لمصلحة الزوجين ولما لشعث النكاح وتعطيلا لمفسدة التحليل وتخلصا لامرأين مسلمين من لعنة الله ورسوله أولى وأحرى والله أعلم(10/116)
ص -114-…فصل: الحلف بالطلاق من الأيمان التي تدخلها الكفارة
المخرج الثاني عشر اخذه بقول من يقول الحلف بالطلاق من الايمان الشرعية التي تدخلها الكفارة وهذا أحد الأقوال في المسألة حكاه أبو محمد ابن حزم في كتاب مراتب الاجماع له فقال واختلفوا فيمن حلف بشئ غير أسماء الله أوبنحر ولده أوهديه أواجنبي أوبالمصحف أو بالقران أوبنذر اخرجه مخرج اليمين أوبأنه مخالف لدين المسلمين أوبطلاق أوبظهار أوتحريم شئ من ماله ثم ذكر صورا أخرى ثم قال فاختلفوا في جميع هذه الامور أفيها كفارة ام لا ثم قال واختلفوا في اليمين بالطلاق اهو طلاق فيلزم أوهو يمين فلا يلزم حكى في كونه طلاقا فيلزم أويمينا لا يلزم قولين وحكى قبل ذلك هل فيه كفارة ام لا على قولين واختار هو الا يلزم ولا كفارة فيه وهذا اختيار شيخنا ابى محمد بن تيمية اخى شيخ الاسلام
قال شيخ الاسلام والقول بأنه يمين مكفرة هو مقتضى المنقول عن الصحابة في الحلف بالعتق بل بطريق الأولى فإنهم اذا افتوا من قال إن لم افعل كذا فكل مملوك لى حر بأنه يمين تكفر فالحالف بالطلاق اولى قال وقد علق القول به ابو ثور فقال إن لم تجمع الامة على لزومه فهو يمين تكفر وقد تبين أن الامة لم تجمع على لزومه وحكاه شيخ الاسلام عن جماعة من العلماء الذين سمت هممهم وشرفت نفوسهم فارتفعت عن حضيض التقليد المحض الى أوج النظر والاستدلال ولم يكن مع خصومه ما يردون به عليه اقوى من الشكاية الى السلطان فلم يكن له برد هذه الحجة قبل وأما ما سواها فبين فساد جميع حججهم ونقضها أبلغ نقض وصنف في المسألة ما بين مطول ومتوسط ومختصر ما يقارب الفى ورقة وبلغت الوجوه التي(10/117)
ص -115-…استدل بها عليها من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والقياس وقواعد إمامه خاصة وغيره من الائمة زهاء أربعين دليلا وصار الى ربه وهو مقيم عليها داع اليها مباهل لمنازعيه باذل نفسه وعرضه وأوقاته لمستفتيه فكان يفتى في الساعة الواحدة فيها بقلمه ولسانه أكثر من أربعين فتيا فعطلت لفتاواه مصانع التحليل وهدمت صوامه وبيعه وكسدت سوقه وتقشعت سحائب اللعنه عن المحللين والمحلل لهم من المطلقين وقامت سوق الاستدلال بالكتاب والسنة والاثار السلفية وانتشرت مذاهب الصحابة والتابعين وغيرهم من أئمة الاسلام للطالبين وخرج من حبس تقليد المذهب المعين به من كرمت عليه نفسه من المستبصرين فقامت قيامه اعدائه وحساده ومن لا يتجاوز ذكر اكثرهم باب داره أومحلته وهجنوا ما ذهب اليه بحسب المستجيبين لهم غاية التهجين فمن استخفوه من الطغام واشباه الانعام قالوا هذا قد رفع الطلاق بين المسلمين وكثر أولاد الزنا في العالمين ومن صادفوا عنده مسكة عقل ولب قالوا هذا قد أبطل الطلاق المعلق بالشرط وقالوا لمن تعلقوا به من الملوك والولاة هذا قد حل بيعة السلطان من اعناق الحالفين ونسوا انهم هم الذين حلوها بخلع اليمين وأما هو فصرح في كتبه ان ايمان الحالفين لا تغير شرائع الدين فلا يحل لمسلم حل بيعه السلطان بفتوى احد من المفتين ومن أفتى بذلك كان من الكاذبين المفترين على شريعة احكم الحاكمين ولعمر الله لقد منى من هذا بما منى به من سلف من الائمة المرضيين فما اشبه الليلة بالبارحة للناظرين فهذا مالك بن أنس توصل أعداؤه الى ضربه بأن قالوا للسلطان إنه يحل عليك أيمان البيعة بفتواه ان يمين المكره لا تنعقد وهم يحلفون مكرهين غير طائعين فمنعه السلطان فلم يمتنع لما اخذه الله من الميثاق على من آتاه الله علما ان يبينه للمسترشدين ثم تلاه على اثره محمد بن ادريس الشافعي فوشى به اعداؤه الى الرشيد انه يحل(10/118)
ص -116-…ايمان البيعة بفتواه ان اليمين بالطلاق قبل النكاح لا تنعقد ولا تطلق إن تزوجها الحالف وكانوا يحلفونهم في جملة الايمان وان كل امرأة اتزوجها فهي طالق وتلاهما على اثارهما شيخ الاسلام فقال حساده هذا ينقض عليكم ايمان البيعة فما فت ذلك في عضدا ائمة الاسلام ولا ثنى عزمانهم في الله وهممهم ولا صدهم ذلك عما اوجب الله عليهم اعتقاده والعمل به من الحق الذي اداهم اليه اجتهادهم بل مضوا لسبيلهم وصارت اقوالهم اعلاما يهتدي بها المهدون تحقيقا لقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ}
فصل: الصحابة والتابعون ومن بعدهم افتوا بمثل ما قلنا
ومن له اطلاع وخبرة وعناية بأقوال العلماء يعلم انه لم يزل في الاسلام من عصر الصحابة من يفتي في هذه المسألة بعدم اللزوم والى الآن
فأما الصحابة فقد ذكرنا فتاواهم في الحلف بالعتق بعدم اللزوم وان الطلاق اولى منه وذكرنا فتوى علي بن ابي طالب كرم الله وجهه بعدم لزوم اليمين بالطلاق وانه لا مخالف له من الصحابة
واما التابعون فذكرنا فتوى طاوس بأصح اسناد عنه وهو من اجل التابعين وافتى عكرمة وهو من اغزر اصحاب ابن عباس علما على ما افتى به طاوس سواء قال سنيد بن داود في تفسيره المشهور في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} حدثنا اسماعيل بن ابراهيم عن سليمان التيمي عن ابي مجلز في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} قال النذور في المعاصي حدثنا عباد بن عباد المهلبي عن عاصم الاحول عن عكرمة في رجل قال لغلامه ان لم(10/119)
ص -117-…اجلدك مائة سوط فامرأته طالق قال لا يجلد غلامه ولا تطلق امراته هذا من خطوات الشيطان
واما من بعد التابعين فقد حكى المعتنون بمذاهب العلماء كأبي محمد بن حزم وغيره ثلاثة اقوال في ذلك للعلماء واهل الظاهر لم يزالوا متوافرين على عدم لزوم الطلاق للحالف به ولم يزل منهم الائمة والفقهاء والمصنفون والمقلدون لهم وعندنا بأسانيد صحيحة لا مطعن فيها عن جماعة من اهل العلم الذين هم اهله في عصرنا وقبله انهم كانوا يفتون بها احيانا فأخبرني صاحبنا الصادق محمد بن شهوان قال اخبرني شيخنا الذي قرات عليه القران وكان اصدق الناس الشيخ محمد بن المحلى قال اخبرني شيخنا الامام خطيب جامع دمشق عز الدين الفاروقي قال كان والدي يرى هذه المسأله ويفتي بها ببغداد
واما اهل المغرب فتواتر عمن يعتني بالحديث ومذاهب السلف منهم انه كان يفتي بها واوذي بعضهم على ذلك وضرب وقد ذكرنا فتوى القفال في قوله الطلاق يلزمني انه لا يقع به طلاق وان نواه وذكرنا فتاوى اصحاب ابي حنيفة في ذلك وحكايتهم اياه عن الامام نصا وذكرنا فتوى اشهب من المالكية فيمن قال لا مراته ان خرجت من داري أوكلمت فلانا ونحو ذلك فأنت طالق ففعلت لم تطلق ولا يختلف عالمان متحليان بالانصاف ان اختيارات شيخ الاسلام لا تتقاصرعن اختيارات ابن عقيل وابي الخطاب بل وشيخهما ابي يعلى فإذا كانت اختيارات هؤلاء وامثالهم وجوها يفتي بها في الاسلام ويحكم بها الحكام فلا اختيارات شيخ الاسلام اسوة بها ان لم ترجح عليها والله المستعان وعليه التكلان(10/120)
ص -118-…وجوب اتباع الصحابة والتابعين
في جواز الفتوى بالاثار السلفية والفتاوي الصحابية وإنها اولى بالاخذبها من آراء المتأخرين وفتاويهم وأن قربها الى الصواب بحسب قرب اهلها من عصر الرسول صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأن فتاوي الصحابة أولى أن يؤخذ بها من فتاوي التابعين وفتاوي التابعين أولى من فتاوي تابعي التابعين وهلم جرا وكما كان العهد بالرسول اقرب كان الصواب اغلب وهذا حكم بحسب الجنس لا بحسب كل فرد فرد من المسائل كما ان عصر التابعين وإن كان افضل من عصر تابعيهم فإنما هو بحسب الجنس لا بحسب كل شخص شخص ولكن المفضلون في العصر المتقدم اكثر من المفضلين في العصر المتأخر وهكذا الصواب في أقوالهم اكثر من الصواب في أقوال من بعدهم فإن التفاوت بين علوم المتقدمين والمتأخرين كالتفاوت الذي بينهم في الفضل والدين ولعله لا يسع المفتى والحاكم عند الله ان يفتى ويحكم بقول فلان وفلان من المتأخرين من مقلدي الائمة ويأخذ برأيه وترجيحه ويترك الفتوى والحكم بقول البخاري واسحاق بن راهويه وعلي بن المديني ومحمد بن نصر المروزي وأمثالهم بل يترك قول ابن المبارك والاوزاعي وسفيان بن عيينة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وأمثالهم بل لا يلتفت الى قول ابن أبي ذئب والزهري والليث بن سعد وأمثالهم بل لا يعد قول سعيد بن المسيب والحسن والقاسم وسالم وعطاء وطاوس وجابر بن زيد وشريح وأبي وائل وجعفر بن محمد واضرابهم مما يسوغ الاخذ به بل يرى تقديم قول المتأخرين من أتباع من قلده على فتوى ابي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلى وابن مسعود وأبي بن كعب وابي الدرداء وزيد بن ثابت وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وعبادة بن الصامت وابي موسى الاشعري وأضرابهم فلا يدري ما عذره غدا عند الله إذا سوى بين أقوال(10/121)
ص -119-…أولئك وفتاويهم واقوال هؤلاء وفتاويهم فكيف إذا رجحها عليها فكيف اذا عين الاخذ بها حكما وإفتاء ومنع الاخذ بقول الصابة واستجاز عقوبة من خالف المتاحرين لها وشهد عليه بالبدعة والضلالة ومخالفة اهل العلم وانه يكيد الاسلام تالله لقد أخذ بالمثل المشهور رمتنى بدائها وانسلت وسمى ورثة الرسول باسمه هو وكساهم اثوابه ورماهم بدائه وكثير من هؤلاء يصرخ ويصيح ويقول ويعلن انه يجب على الامة كلهم الاخذ بقول من قلدناه ديننا ولا يجوز الاخذ بقول ابي بكر وعمر وعثمان وعلى وغيرهم من الصحابة وهذا كلام من أخذ به وتقلده ولاه الله ما تولى ويجزيه عليه يوم القيامة الجزاء الأوفى والذي ندين الله به ضد هذا القول والرد عليه فنقول
اختلاف الصحابيين:
إذا قال الصحابي قولا فإما أن يخالفه صحابي آخر أولا يخالفه فإن خالفه مثله لم يكن قول احدهما حجة على الاخر وإن خالفه أعلم منه كما اذا خالف الخلفاء الراشدون أوبعضهم غيرهم من الصحابة في حكم فهل يكون الشق الذي فيه الخلفاء الراشدون أوبعضهم حجة على الاخرين فيه قولان للعلماء وهما روايتان عن الامام احمد والصحيح ان الشق الذي فيه الخلفاء أوبعضهم أرجح وأولى ان يؤخذ به من الشق الاخر فإن كان الاربعة في شق فلا شك انه الصواب وإن كان أكثرهم في شق فالصواب فيه أغلب وإن كانوا اثنين واثنين فشق ابي بكر وعمر أقرب الى الصواب فإن اختلف ابو بكر وعمر فالصواب مع ابي بكر وهذه جملة لا يعرف تفصيلها إلا من له خبرة واطلاع على ما اختلف فيه الصحابة وعلى الراجح من أقوالهم ويكفى في ذلك معرفة رجحان قول الصديق في الجد والاخوة وكون الطلاق الثلاث بفم واحد مرة واحدة وإن تلفظ فيه بالثلاث وجواز بيع أمهات الاولاد وإذا نظر العالم المنصف في أدلة هذه المسائل من الجانبين تبين له ان جانب الصديق ارجح وقد(10/122)
ص -120-…تقدم بعض ذلك في مسالة الجد والطلاق الثلاث بفم واحد ولا يحفظ للصديق خلاف نص واحد ابدا ولا يحفظ له فتوى ولا حكم مأخذها ضعيف ابدا وهو تحقيق لكون خلافته خلافة نبوه
فصل: اتفاق الصحابيين
وإن لم يخالف الصحابي صحابيا آخر فإما أن يشتهر قوله في الصحابة أولا يشتهر فإن اشتهر فالذي عليه جماهير الطوائف من الفقهاء انه إجماع وحجة وقالت طائفة منهم هو حجة وليس بإجماع وقالت شرذمة من المتكلمين وبعض الفقهاء المتأخرين لا يكون إجماعا ولا حجة وإن لم يشتهر قوله أولم يعلم هل اشتهر ام لا فاختلف الناس هل يكون حجة ام لا فالذي عليه جمهور الامة انه حجة هذا قول جمهور الحنفية صرح به محمد بن الحسن وذكر عن ابي حنيفة نصا وهو مذهب مالك وأصحابه وتصرفه في موطئه دليل عليه وهو قول إسحاق ابن راهويه وأبي عبيد وهو منصوص الامام احمد في غير موضع عنه واختيار جمهور اصحابه وهو منصوص الشافعي في القديم والجديد أما القديم فأصحابه مقرون به واما الجديد فكثير منهم يحكى عنه فيه انه ليس بحجة وفي هذه الحكاية عنه نظر ظاهر جدا فإنه لا يحفظ له في الجديد حرف واحد أن قول الصحابي ليس بحجة وغاية ما يتعلق به من نقل ذلك انه يحكى أقوالا للصحابة في الجديد ثم يخالفها ولو كانت عنده حجة لم يخالفها وهذا تعلق ضعيف جدا فإن مخالفة المجتهد الدليل المعين لما هو أقوى في نظره منه لا يدل على أنه لا يراه دليلا من حيث الجملة بل خالف دليلا لدليل أرجح عنده منه وقد تعلق بعضهم بأنه يراه في الجديد إذا ذكر اقوال الصحابة موافقا لها لا يعتمد عليها وحدها كما يفعل بالنصوص بل يعضدها بضروب من الاقيسة فهو تارة يذكرها ويصرح بخلافها وتارة يوافقها ولا يعتمد عليها بل يعضدها بدليل آخر وهذا(10/123)
ص -121-…ايضا تعلق اضعف من الذي قبله فإن تظاهر الادلة وتعاضدها وتناصرها من عادة اهل العلم قديما وحديثا ولا يدل ذكرهم دليلا ثانيا وثالثا على ان ما ذكروه قبله ليس بدليل
وقد صرح الشافعي في الجديد من رواية الربيع عنه بأن قول الصحابة حجة يجب المصير إليه فقال المحدثات من الامور ضربان أحدهما ما أحدث يخالف كتابا أوسنة أوإجماعا أوأثرا فهذه البدعة الضلالة والربيع إنما أخذ عنه بمصر وقد جعل مخالفة الأثر الذي ليس بكتاب ولا سنة ولا إجماع ضلالة وهذا فوق كونه حجة وقال البيهقي في كتاب مدخل السنن له باب ذكر أقاويل الصحابة إذا تفرقوا قال الشافعي أقاويل الصحابة إذا تفرقوا فيها نصير إلى ما وافق الكتاب والسنة أوالإجماع إذا كان أصح في القياس وإذا قال الواحد منهم القول لا يحفظ عن غيره منهم فيه له موافقة ولا خلاف صرت إلى اتباع قوله إذا لم أجد كتابا ولا سنة ولا إجماعا ولا شيئا في معناه يحكم له بحكمه أووجد معه قياس قال البيقهي وقال في كتاب اختلافه مع مالك ما كان الكتاب والسنة موجودين فالعذر على من سمعه مقطوع إلا بإتيانه فإن لم يكن ذلك صرنا إلى أقاويل الصحابة أوواحد منهم ثم كان قول الائمة ابي بكر وعمر وعثمان اذا صرنا الى التقليد احب الينا وذلك اذا لم نجد دلالة في الاختلاف تدل على اقرب الاختلاف من الكتاب والسنة فنتبع القول الذي معه الدلالة لان قول الامام مشهور بانه يلزم الناس ومن لزم قوله الناس كان اشهر ممن يفتي الرجل أوالنفر وقد يأخذ بفتياه ويدعها واكثر المفتين يفتون الخاصة في بيوتهم ومجالسهم ولا يعتني العامة بما قالوا عنايتهم بما قال الامام وقد وجدنا الأئمة ينتدبون فيسألون عن العلم من الكتاب والسنة فيما ارادوا ان يقولوا فيخبرون بخلاف قولهم فيقبلون من المخبر ولا يستنكفون عن ان يرجعوا لتقواهم الله وفضلهم فإذا لم يوجد عن الائمة فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين في موضع الامانة اخذنا بقولهم(10/124)
وكان اتباعهم اولى بنا من اتباع من بعدهم
قال الشافعي رضي الله عنه والعلم طبقات الاولى الكتاب والسنة(10/125)
ص -122-…الثانية الاجماع فيما ليس كتابا ولا سنة الثالثة ان يقول صحابي فلا يعلم له مخالف من الصحابة الرابعة اختلاف الصحابة الخامسة القياس هذا كله كلامه في الجديد"
قال البيهقي بعد ان ذكر هذا وفي الرسالة القديمة للشافعي بعد ذكر الصحابة وتعظيمهم قال: "وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل امر استدرك به علم وآراؤهم لنا احمد واولى بنا من راينا ومن ادركنا ممن نرضى أوحكى لنا عنه ببلدنا صاروا فيما لم يعلموا فيه سنة الى قولهم إن اجتمعوا أوقول بعضهم إن تفرقوا وكذا نقول ولم نخرج من أقوالهم كلهم"
قال: "وإذا قال الرجلان منهم في شئ قولين نظرت فإن كان قول احدهما اشبه بالكتاب والسنة أخذت به لان معه شيئا قويا فإن لم يكن على واحد من القولين دلالة بما وصفت كان قول الائمة ابي بكر وعمر وعثمان أرجح عندنا من واحد لو خالفهم غير إمام"
قال البيهقى: وقال في موضع آخر: "فإن لم يكن على القول دلالة من كتاب ولا سنة كان قول ابي بكر وعمر وعثمان احب الى من قول غيرهم فإن اختلفوا صرنا الى القول الذي عليه دلالة وقلما يخلو اختلافهم من ذلك وإن اختلفوا بلا دلالة نظرنا الى الاكثر فإن تكافئوا نظرنا احسن أقاويلهم مخرجا عندنا وإن وجد للمفتين في زماننا أو قبله إجماعا في شيء تبعناه فإذا نزلت نازله لم نجد فيها واحدة من هذه الامور فليس إلا اجتهاد الرأي"
فهذا كلام الشافعي رحمه الله ورضى عنه بنصه ونحن نشهد بالله أنه لم يرجع عنه بل كلامه في الجديد مطابق لهذا موافق له كما تقدم ذكر لفظه وقد قال في الجديد في قتل الراهب إنه القياس عنده ولكن أتركه لقول ابي بكر الصديق رضى الله عنه فقد أخبرنا انه ترك القياس الذي هو دليل عنده لقول الصاحب فكيف يترك موجب الدليل لغير دليل وقال في الضلع بعير قلته تقليدا لعمر وقال في موضع آخر قلته تقليدا لعثمان وقال في الفرائض هذا مذهب تلقيناه(10/126)
ص -123-…عن زيد ولا تستوحش من لفظة التقليد في كلامه وتظن انها تنفي كون قوله حجة بناء على ما تلقيته من اصطلاح المتأخرين أن التقليد قبول قول الغير بغير حجة فهذا اصطلاح حادث وقد صرح الشافعي في موضع من كلامه بتقليد خبر الواحد فقال قلت هذا تقليدا للخبر وأئمة الاسلام كلهم على قبول قول الصحابي قال نعيم بن حماد: ثنا ابن المبارك قال سمعت أبا حنيفة يقول: "إذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين وإذا جاء عن الصحابة نختار من قولهم وإذا جاء عن التابعين زاحمناهم" وذهب بعض المتأخرين من الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة وأكثر المتكلمين الى انه ليس بحجة وذهب بعض الفقهاء الى أنه إن خالف القياس فهو حجة وإلا فلا قالوا لأنه إذا خالف القياس لم يكن إلا عن توقيف وعلى هذا فهو حجة وإن خالفه صحابي آخر والذين قالوا ليس بحجة قالو لان الصحابي مجتهد من المجتهدين يجوز عليه الخطأ فلا يجب تقليده ولا يكون حجة كسائر المجتهدين ولان الادلة الدالة على بطلان التقليلد تعم تقليد الصحابة ومن دونهم ولأن التابعي إذا ادرك عصر الصحابة اعتد بخلافه عند أكثر الناس فكيف يكون قول الواحد حجة عليه ولان الادلة قد انحصرت في الكتاب والسنة والاجماع والقياس والاستصحاب وقول الصحابي ليس واحدا منها ولان امتيازه بكونه افضل واعلم وأتقى لا يوجب وجوب اتباعه على مجتهد آخر من علماء التابعين بالنسبة الى من بعدهم
فنقول الكلام في مقامين أحدهما في الادلة الدالة على وجوب اتباع الصحابة الثاني في الجواب عن شبه النفاة
الادلة على ان اتباع الصحابة واجب:(10/127)
فاما الاول فمن وجوه احدها ما احتج به مالك وهو قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} فوجه الدلالة ان الله أثنى على من اتبعهم فإذا قالوا قولا(10/128)
ص -124-…فاتبعهم متبع عليه قبل ان يعرف صحته فهو متبع لهم فيجب ان يكون محمودا على ذلك وان يستحق الرضوان ولو كان اتباعهم تقليدا محضا كتقليد بعض المفتين لم يستحق من اتبعهم الرضوان إلا ان يكون عاميا فأما العلماء المجتهدون فلا يجوز لهم اتباعهم حينئذ
فإن قيل اتباعهم هو ان يقول ما قالوا بالدليل وهو سلوك سبيل الاجتهاد لانهم إنما قالوا بالاجتهاد والدليل عليه قوله بإحسان ومن قلدهم لم يتبعهم بإحسان لأنه لو كان مطلق الاتباع محمودا لم يفرق بين الاتباع بإحسان أوبغير إحسان وايضا فيجوز أن يراد به اتباعه في اصول الدين وقوله بإحسان أي بالتزام الفرائض واجتناب المحارم ويكون المقصود ان السابقين قد وجب لهم الرضوان وإن أساءوا لقوله صلى الله عليه وسلم: "وما يدريك ان الله قد اطلع على اهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" وأيضا فالثناء على من اتبعهم كلهم وذلك اتباعهم فيما اجمعوا عليه وايضا فالثناء على من اتبعهم لا يقتضي وجوبه وإنما يدل على جواز تقليدهم وذلك دليل على جواز تقليد العالم كما هو مذهب طائفة من العلماء أوتقليد الاعلم كقول طائفة اخرى اما الدليل على وجوب اتباعهم فليس في الاية ما يقتضيه
فالجواب من وجوه:
أحدها أن الاتباع لا يستلزم الاجتهاد لوجوده احدها ان الاتباع المأمور به في القران كقوله فاتبعوني يحببكم الله واتبعوه لعلكم تهتدون ويتبع غير سبيل المؤمنين ونحوه لا يتوقف على الاستدلال على صحة القول مع الاستغناء عن القائل الثاني انه لو كان المراد اتباعهم في الاستدلال والجهاد لم يكن فرق بين السابقين وبين جميع الخلائق لان اتباع موجب الدليل يجب ان يتبع فيه كل احد فمن قال قولا بدليل صحيح وجب موافقته فيه الثالث أنه إما ان تجوز مخالفتهم في قولهم بعد الاستدلال أولا تجوز فإن لم تجز فهو المطلوب وإن جازت مخالفتهم فقد خولفوا في خصوص الحكم واتبعوا في(10/129)
ص -125-…احسن الاستدلال فليس جعل من فعل ذلك متبعا لموافقتهم في الاستدلال بأولى من جعله مخالفا لمخالفته في عين الحكم الرابع ان من خالفهم في الحكم الذي أفتوا به لا يكون متبعا لهم أصلا بدليل ان من خالف مجتهدا من المجتهدين في مسألة بعد اجتهاد لا يصح ان يقال اتبعه وان اطلق ذلك فلا بد من تقييده بأن يقال اتبعه في الاستدلال أوالاجتهاد الخامس ان الاتباع افتعال من اتبع وكون الانسان تابعا لغيره نوع افتقار اليه ومشى خلفه وكل واحد من المجتهدين المستدلين ليس تبعا للآخر ولا مفتقرا اليه بمجرد ذلك حتى يستشعر موافقته والانقياد له ولهذا لا يصح ان يقال لمن وافق رجلا في اجتهاده أوفتواه اتفاقا انه متبع له السادس ان الاية قصد بها مدح السابقين والثناء عليهم وبيان استحقاقهم ان يكونوا ائمة متبوعين وبتقدير الا يكون قولهم موجبا للموافقة ولا مانعا من المخالفة بل انما يتبع القياس مثلا لا يكون لهم هذا المنصب ولا يستحقون هذا المدح والثناء السابع ان من خالفهم في خصوص الحكم فلم يتبعهم في ذلك الحكم ولا فيما استدلوا به على ذلك الحكم فلا يكون متبعا لهم بمجرد مشاركتهم في صفة عامة وهي مطلق الاستدلال والاجتهاد ولا سيما وتلك الصفة العامة لا اختصاص لها به لان ما ينفى الاتباع اخص مما يثبته واذا وجد الفارق الاخص والجامع الاعم وكلاهما مؤثر كان التفريق رعاية للفارق أولى من الجمع رعاية للجامع وأما قوله بإحسان فليس المراد به ان يجتهد وافق أوخالف لانه اذا خالف لم يتبعهم فضلا عن ان يكون بإحسان ولان مطلق الاجتهاد ليس فيه اتباع لهم لكن الاتباع لهم اسم يدخل فيه كل من وافقهم في الاعتقاد والقول فلا بدمع ذلك ان يكون المتبع محسنا بأداء الفرائض واجتناب المحارم لئلا يقع الاغترار بمجرد الموافقة قولا وايضا فلا د ان يحسن المتبع لهم القول فيهم ولا يقدح فيهم اشتراط الله ذلك لعلمه بأن سيكون اقوام ينالون منهم وهذا مثل قوله تعالى بعد ان(10/130)
ذكر المهاجرين والانصار والذين جاءوا من بعدهم يقولون: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ(10/131)
ص -126-…سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا} وأما تخصيص اتباعهم بأصول الدين دون فروعه فلا يصح لان الاتباع عام ولان من اتبعهم في اصول الدين فقط لو كان متبعا لهم على الإطلاق لكنا متبعين للمؤمنين من أهل الكتاب ولم يكن فرق بين اتباع السابقين من هذه الامة وغيرها وايضا فإنه اذا قيل فلان يتبع فلانا واتبع فلانا وانا متبع فلانا ولم يقيد ذلك بقرينة لفظية ولا حالية فإنه يقتضى اتباعه في كل الامور التي يتأتى فيها الاتباع لان من اتبعه في حال وخالفه في أخرى لم يكن وصفه بأنه متبع أولى من وصفه بأنه مخالف ولأن الرضوان حكم تعلق باتباعهم فيكون الاتباع سببا له لان الحكم المعلق بما هو مشتق يقتضى ان ما منه الاشتقاق سبب وإذا كان اتباعهم سببا للرضوان اقتضى الحكم في جميع موارده ولا اختصاص للاتباع بحال دون حال ولأن الاتباع يؤذن بكون الانسان تبعا لغيره وفرعا عليه وأصول الدين ليست كذلك ولأن الاية تضمت الثناء عليهم وجعلهم ائمة لمن بعدهم فلو لم يتناول إلا اتباعهم في اصول الدين دون الشرائع لم يكونوا ائمة في ذلك لان ذلك معلوم مع قطع النظر عن اتباعهم
فصل: اتباع الصحابة مجتمعين ومنفردين
وأما قولهم إن الثناء على من اتبعهم كلهم فنقول الاية اقتضت الثناء على من اتبع كل واحد منهم كما أن قوله والسابقون الاولون والذين اتبعوهم يقتضى حصول الرضوان لكل واحد من السابقين والذين اتبعوهم في قوله رضى الله عنهم ورضوا عنه واعد لهم جنات تجري وكذلك في قوله اتبعوهم لأنه حكم علق عليهم في هذه الآية فقد تناولهم مجتمعين ومنفردين وأيضا فإن الاصل في الاحكام المعلقة باسماء عامة ثبوتها لكل فرد فرد من تلك المسميات كقوله اقيموا الصلاة وقوله لقد رضى الله عن المؤمنين(10/132)
ص -127-…وقوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} وايضا فان الاحكام المعلقة على المجموع يؤتى فيها باسم يتناول المجموع دون الافراد كقوله وكذلك جعنلكم امة وسطا وقوله كنتم خير أمة اخرجت للناس وقوله ويتبع غير سبيل المؤمنين فإن لفظ الامة ولفظ سبيل المؤمنين لا يمكن توزيعه على افراد الامة وافراد المؤمنين بخلاف لفظ السابقين فإنه يتناول كل فرد من السابقين وايضا فالآية تعم اتباعهم مجتمعين ومنفردين في كل ممكن فمن اتبع جماعتهم إذا اجتمعوا واتبع آحادهم فيما وجد عنهم مما لم يخالفه فيه غيره منهم فقد صدق عليه انه اتبع السابقين أما من خالف بعض السابقين فلا يصح ان يقال اتبع السابقين لوجود مخالفته لبعضهم لا سيما إذا خالف هذا مرة وهذا مرة وبهذا يظهر الجواب عن اتباعهم اذا اختلفوا فإن اتباعهم هناك قول بعض تلك الاقوال باجتهاد واستدلال إذ هم مجتمعون على تسوية كل واحد من تلك الاقوال لمن ادى اجتهاده اليه فقد قصد اتباعهم ايضا أما اذا قال الرجل قولا ولم يخالفه غيره فلا يعلم ان السابقين سوغوا خلاف ذلك القول وأيضا فالاية تقتضي اتباعهم مطلقا فلو فرضنا ان الطالب وقف على نص يخالف قول الواحد منهم فقد علمنا انه لو ظفر بذلك النص لم يعدل عنه اما اذا رأينا رأيا فقد يجوز ان يخالف ذلك الرأي وايضا فلو لم يكن اتباعهم إلا فيما اجمعوا عليه كلهم لم يحصل اتباعهم الا فيما قد علم انه من دين الاسلام بالاضطرار لان السابقين الاولين خلق عظيم ولم يعلم انهم اجمعوا الا على ذلك فيكون هذا الوجه هو الذي قبله وقد تقدم بطلانه اذ الاتباع في ذلك غير مؤثر وايضا فجميع السابقين قد مات منهم اناس في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحينئذ فلا يحتاج في ذلك الوقت الى اتباعهم للاستغناء عنه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لو فرضنا احدا يتبعهم إذ ذاك لكان من السابقين(10/133)
فحاصله ان التابعين لا يمكنهم اتباع جميع السابقين وايضا فإن معرفة قول جميع السابقين كالمتعذر فكيف يتبعون كلهم في شئ لا يكاد يعلم وايضا فإنهم(10/134)
ص -128-…إنما استحقوا منصب الامامة والاقتداء بهم بكونهم هم السابقين وهذه صفة موجودة في كل واحد منهم فوجب ان يكون كل منهم اماما للمتقين كما استوجب الرضوان والجنة
فصل: اتباع اقوال الصحابة
وأما قوله ليس فيها ما يوجب اتباعهم فنقول الاية تقتضى الرضوان عمن اتبعهم بإحسان وقد قام الدليل على أن القول في الدين بغير علم حرام فلا يكون اتباعهم قولا بغير علم بل قولا بعلم وهذا هو المقصود وحينئذ فسواء يسمى تقليدا أواجتهادا وايضا فان كان تقليد العالم للعالم حراما كما هو قول الشافعية والحنابلة فاتباعهم بتقليد لانه مرضى وإن كان تقليدهم جائزا أوكان تقليدهم مستنثى من التقليد المحرم فلم يقل احد إن تقليد العلماء من موجبات الرضوان فعلم ان تقليدهم خارج عن هذا لان تقليد العالم إن كان جائزا فتركه الى قول غيره أوالى اجتهاد جائز ايضا بالاتفاق والشئ المباح لا يستحق به الرضوان وايضا فإن رضوان الله غاية المطالب التي تنال الا بافضل الاعمال ومعلوم ان التقليد الذي يجوز خلافه بافضل الاعمال بل الاجتهاد افضل منه فعلم ان اتباعهم هو افضل ما يكون في مسالة اختلفوا فيها هم ومن بعدهم وان اتباعهم دون من بعدهم هو الموجب لرضوان الله فلا ريب ان رجحان احد القولين يوجب اتباعه وقولهم أرجح بلا شك ومسائل الاجتهاد لا يتخير الرجل فيها بين القولين وايضا فان الله اثنى على الذين اتبعوهم بإحسان والتقليد وظيفة العامة فأما العلماء فإما ان يكون مباحا لهم أومحرما اذ الاجتهاد افضل منه لهم بغير خلاف وهو واجب عليهم فلو اريد باتباعهم التقليد الذي يجوز خلافه لكان للعامة ذلك النصيب الاوفى وكان حظ علماء الامة من هذه الاية ابخس الحظوظ ومعلوم ان هذا فاسد وايضا فالرضوان عمن اتبعهم دليل على ان اتباعهم(10/135)
ص -129-…صواب ليس بخطأ فإنه لو كان خطأ لكان غاية صاحبه أن يعفى له عنه فإن المخطئ إلى أن يعفى عنه اقرب منه إلى أن يرضى عنه وإذا كان صوابا وجب إتباعه لان خلاف الصواب خطأ والخطأ يحرم إتباعه إذا علم انه خطأ وقد علم انه خطأ يكون الصواب خلافه وأيضا فإذا كان إتباعهم موجب الرضوان لم يكن ترك إتباعهم موجب الرضوان لان الجزاء لا يقتضيه وجود الشيء وضده ولا وجوده وعدمه لأنه يبقى عديم الأثر في ذلك الجزاء وإذا كان في المسألة قولان أحدهما يوجب الرضوان والآخر لا يوجبه كان الحق ما يوجبه وهذا هو المطلوب وأيضا فإن طلب رضوان الله واجب لأنه إذا لم يوجب رضوانه فإما سخطه أوعفوه والعفو إنما يكون مع انعقاد سبب الخطيئة وذلك لا تباح مباشرته إلا بالنص وإذا كان رضوانه إنما هو في إتباعهم وإتباع رضوانه واجب كان إتباعهم واجبا وأيضا فإنه إنما أثنى على المتبع بالرضوان ولم يصرح بالوجوب لان إيجاب الإتباع يدخل فيه الإتباع في الأفعال ويقتضى تحريم مخالفتهم مطلقا فيقتضى ذم المخطئ وليس كذلك أما الأقوال فلا وجه لمخالفتهم فيها بعدما ثبت أن فيها رضا الله تعالى وأيضا فإن القول إذا ثبت أن فيه رضا الله لم يكن رضا الله في ضده بخلاف الأفعال فقد يكون رضا الله في الأفعال المختلفة وفي الفعل والترك بحسب قصدين وحالين أما الاعتقادات والأقوال فليست كذلك فإذا ثبت أن في قولهم رضوان الله تعالى لم يكن الحق والصواب إلا هو فوجب إتباعه
فإن قيل: السابقون هم الذين صلوا إلى القبلتين أوهم أهل بيعة الرضوان ومن قبلهم فما الدليل على إتباع من أسلم بعد ذلك
قيل: إذا ثبت وجوب إتباع أهل بيعة الرضوان فهو أكبر المقصود على انه لا قائل بالفرق وكل الصحابة سابق بالنسبة إلى من بعدهم(10/136)
ص -130-…فصل: أدلة أخرى على وجوب إتباع أقوال الصحابة
الوجه الثاني قوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ} هذا قصه الله سبحانه وتعالى عن صاحب ياسين على سبيل الرضاء بهذه المقالة والثناء على قائلها والإقرار له عليها وكل واحد من الصحابة لم يسألنا أجرا وهم مهتدون بدليل قوله تعالى خطابا لهم وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ولعل من الله واجب وقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ} وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} وكل منهم قاتل في سبيل الله وجاهد إما بيده أوبلسانه فيكون الله قد هداهم وكل من هداه فهو مهتد فيجب إتباعه الآية
الوجه الثالث قوله تعالى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} وكل من الصحابة منيب إلى الله فيجب إتباع سبيله وأقواله واعتقاداته من أكبر سبيله والدليل على انهم منيبون إلى الله تعالى أن الله تعالى قد هداهم وقد قال: {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ}
الوجه الرابع قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} فأخبر تعالى أن من اتبع الرسول يدعو إلى الله ومن دعا إلى الله على بصيرة وجب إتباعه لقوله فيما حكاه عن الجن ورضيه: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ} ولان من دعا إلى الله على بصيرة فقد دعا إلى الحق عالما به(10/137)
ص -131-…والدعاء إلى أحكام الله دعاء إلى الله لأنه دعاء إلى طاعته فيما أمر ونهى وإذا فالصحابة رضوان الله عليهم قد اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم فيجب إتباعهم إذا دعوا إلى الله
الوجه الخامس قوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} قال ابن عباس في رواية أبى مالك هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم والدليل عليه قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} وحقيقة الاصطفاء افتعال من التصفية فيكون قد صفاهم من الأكدار والخطأ من ألا كدار فيكونون مصفين منه ولا ينتقض هذا بما إذا اختلفوا لان الحق لم يعدهم فلا يكون قول بعضهم كدرا لان مخالفته الكدر وبيانه يزيل كونه كدرا بخلاف ما إذا قال بعضهم قولا ولم يخالف فيه فلوا كان باطلا ولم يرده راد لكان حقيقة الكدر وهذا لان خلاف بعضهم لبعض بمنزلة متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أموره فإنها لا تخرجه عن حقيقة الاصطفاء
الوجه السادس أن الله تعالى شهد لهم بأنهم أوتوا العلم بقوله ويرى الذين أوتوا العلم الذين انزل إليك من ربك هو الحق وقوله حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا وقوله: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَات} واللام في العلم ليست للاستغراق وإنما هي للعهد أي العلم الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم وإذا كانوا قد أوتوا هذا العلم كان إتباعهم واجبا
الوجه السابع قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} شهد لهم الله تعالى بأنهم يأمرون بكل معروف وينهون عن كل منكر فلو كانت الحادثة في زمانهم لم يفت فيها إلا من(10/138)
ص -132-…أخطأ منهم لم يكن أحد منهم قد أمر فيها بمعروف ولا نهى فيها عن منكر إذ الصواب معروف بلا شك والخطأ منكر من بعض الوجوه ولولا ذلك لما صح التمسك بهذه الآية على كون الإجماع حجة وإذا كان هذا باطلا علم أن خطأ من يعلم منهم في العلم إذا لم يخالفه غيره ممتنع وذلك يقتضى أن قوله حجة
الوجه الثامن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} قال غير واحد من السلف: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ولا ريب انهم أئمة الصادقين وكل صادق بعدهم فيهم يأتم في صدقه بل حقيقة صدقه أتباعه لهم وكونه معهم ومعلوم أن من خالفهم في شئ وإن وافقهم في غيره لم يكن معهم فيما خالفهم فيه وحينئذ فيصدق عليه انه ليس معهم فتنتفى عنه ألمعية المطلقة وإن ثبت له قسط من ألمعية فيما وافقهم فيه فلا يصدق عليه أنه معهم بهذا القسط وهذا كما نفى الله ورسوله الإيمان المطلق عن الزاني والشارب والسارق والمنتهب بحيث لا يستحق اسم المؤمن وإن لم ينتف عنه مطلق الاسم الذي يستحق لاجله أن يقال معه شئ من الإيمان وهذا كما أن اسم الفقيه والعالم عند الإطلاق لا يقال لمن معه مسألة أومسألتان من فقه وعلم وإن قيل معه شئ من العلم ففرق بين ألمعية المطلقة ومطلق ألمعية ومعلوم أن المأمور به الأول لا الثاني فإن الله تعالى لم يرد منا أن نكون معهم في شئ من الأشياء وان نحصل من ألمعية ما يطلق عليه الاسم وهذا غلط عظيم في فهم مراد الرب تعالى من أوامره فإذا أمرنا بالتقوى والبر والصدق والعفة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والجهاد ونحو ذلك لم يرد منا أن نأتي من ذلك بأقل ما يطلق عليه الاسم وهو مطلق الماهية المأمور بها بحيث نكون ممتثلين لأمره إذا أتينا بذلك وتمام تقرير هذا الوجه بما تقدم في تقرير الامر بمتابعتهم سواء
الوجه التاسع قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى(10/139)
ص -133-…الناس} ويكون الرسول عليكم شهيدا ووجه الاستدلال بالآية انه تعالى اخبر انه جعلهم أمة خيارا عدولا هذا حقيقة الوسط فهم خير الأمم وأعدلها في أقوالهم وأعمالهم وإرادتهم ونياتهم وبهذا استحقوا أن يكونوا شهداء للرسل على أممهم يوم القيامة والله تعالى يقبل شهادتهم عليهم فهم شهداؤه ولهذا نوه بهم ورفع ذكرهم و أثنى عليهم لأنه تعالى لما اتخذهم شهداء أعلم خلقه من الملائكة وغيرهم بحال هؤلاء الشهداء وأمر ملائكته أن تصلى عليهم وتدعو لهم وتستغفر لهم والشاهد المقبول عند الله هو الذي يشهد بعلم وصدق فيخبر بالحق مستندا إلى علمه به كما قال تعالى: {إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} فقد يخبر الإنسان بالحق اتفاقا من غير علمه به وقد يعلمه ولا يخبر به فالشاهد المقبول عند الله هو الذي يخبر به عن علم فلو كان علمهم أن يفتى أحدهم بفتوى وتكون خطأ مخالفه لحكم الله ورسوله ولا يفتى غيره بالحق الذي هو حكم الله ورسوله إما مع اشتهار فتوى الأول أوبدون اشتهارها كانت هذه الأمة العدل الخيار قد أطبقت على خلاف الحق بل انقسموا قسمين قسما أفتى بالباطل وقسما سكت عن الحق وهذا من المستحيل فإن الحق لا يعدوهم ويخرج عنهم إلى من بعدهم قطعا ونحن نقول لمن خالف أقولهم لو كان خيرا ما سبقونا إليه(10/140)
الوجه العاشر أن قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} فأخبر تعالى أنه اجتباهم والاجتباء كالاصطفاء وهو افتعال من اجتبى الشيء يجتبيه إذا ضمه إليه وحازه إلى نفسه فهم المجتبون الذين اجتباهم الله إليه وجعلهم أهله وخاصته وصفوته من خلقه بعد النبيين والمرسلين ولهذا أمرهم تعالى أن يجاهدوا فيه حق جهاده فيبذلوا له أنفسهم ويفردوه بالمحبة والعبودية ويختاروه وحده إلها محبوبا على كل ما سواه كما اختارهم على من سواهم فيتخذونه وحده إليهم ومعبودهم الذي يتقربون إليه بألسنتهم وجوارحهم(10/141)
ص -134-…وقلوبهم ومحبتهم وإرادتهم فيؤثرونه في كل حال على من سواه كما اتخذهم عبيده وأولياءه وأحباءه وآثرهم بذلك على من سواهم ثم أخبرهم تعالى انه يسر عليهم دينه غاية التيسير ولم يجعل عليهم فيه من حرج البتة لكمال محبته لهم ورأفته ورحمته وحنانه بهم ثم أمرهم بلزوم مله إمام الحنفاء أبيهم إبراهيم وهي إفراده تعالى وحده بالعبودية والتعظيم والحب والخوف والرجاء والتوكل والإنابة والتفويض والاستسلام فيكون تعلق ذلك من قلوبهم به وحده لا بغيره ثم أخبر تعالى انه نوه بهم وأثنى عليهم قبل وجودهم وسماهم عباده المسلمين قبل أن يظهرهم ثم نوه بهم وسماهم كذلك بعد أن أوجدهم اعتناء بهم ورفعة لشأنهم واعلاء لقدرهم ثم أخبر تعالى انه فعل ذلك ليشهد عليهم رسوله ويشهدوا هم على الناس فيكونون مشهودا لهم بشهادة الرسول شاهدين على الأمم بقيام حجة الله عليهم فكان هذا التنويه وإشارة الذكر لهذين الأمرين الجليلين ولهاتين الحكمتين العظيمتين والمقصود انهم إذا كانوا بهذه المنزلة عنده تعالى فمن المحال أن يحرمهم كلهم الصواب في مسألة فيفتى فيها بعضهم بالخطأ ولا يفتى فيها غيره بالصواب ويظفر فيها بالهدى من بعدهم والله المستعان
الوجه الحادي عشر قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ووجه الاستدلال بالآية انه تعالى اخبر عن المعتصمين به بأنهم قد هدوا إلى الحق فنقول الصحابة رضوان الله عليهم معتصمون بالله فهم مهتدون فإتباعهم واجب أما المقدمة الأولى فتقريرها من وجوه أحدها قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} ومعلوم كمال تولى الله تعالى ونصره إياهم أتم نصره وهذا يدل على انهم اعتصموا به أتم اعتصام فهم مهديون بشهادة الرب لهم بلا شك واتباع المهدى واجب شرعا وعقلا وفطرة(10/142)
ص -135-…بلا شك وما يرد على هذا الوجه من أن المتابعة لا تستلزم المتابعة في جميع أمورهم فقد تقدم جوابه
الوجه الثاني عشر قوله تعالى عن أصحاب موسى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُون} فأخبر تعالى انه جعلهم أئمة يأتم بهم من بعدهم لصبرهم ويقينهم إذ بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين فإن الداعي إلى الله تعالى لا يتم له أمره إلا بيقينه للحق الذي يدعو إليه وبصيرته به وصبره على تنفيذ الدعوة إلى الله باحتمال مشاق الدعوة وكف النفس عما يوهن عزمه ويضعف إرادته فمن كان بهذه المثابة كان من الأئمة الذين يهدون بأمره تعالى
ومن المعلوم أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أحق وأولى بهذا الوصف من أصحاب موسى فهم أكمل يقينا وأعظم صبرا من جميع الأمم فهم أولى بمنصب هذه الامامه وهذا أمر ثابت بلا شك بشهادة الله لهم وثنائه عليهم وشهادة الرسول لهم بأنهم خير القرون وأنهم خيرة الله وصفوته ومن المحال على من هذا شأنهم أن يخطئوا كلهم الحق ويظفر به المتأخرون ولو كان هذا ممكنا لا نقلبت الحقائق وكان المتأخرون أئمة لهم يجب عليهم الرجوع إلى فتاويهم وأقوالهم وهذا كما انه محال حسا وعقلا فهو محال شرعا وبالله التوفيق
الوجه الثالث عشر قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} وإمام بمعنى قدوة وهو يصلح للواحد والجمع كالأمة والأسوة وقد قيل هو جمع آمم كصاحب وصحاب وراجل ورجال وتاجر وتجار وقيل هو مصدر كقتال وضراب أي ذوي إمام والصواب الوجه الأول فكل من كان من المتقين وجب عليه أن يأتم بهم والتقوى واجبة والائتمام بهم واجب ومخالفتهم فيما افتوا به مخالف للائتمام بهم وإن قيل نحن نأتم بهم في الاستدلال وأصول الدين فقد تقدم من جواب هذا ما فيه كفاية(10/143)
ص -136-…الوجه الرابع عشر ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح من وجوه متعددة انه قال: "خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم إن خير القرون قرنه مطلقا وذلك يقتضى تقديمهم في كل باب من أبواب الخير وإلا لو كانوا خيرا من بعض الوجوه فلا يكونون خير القرون مطلقا فلو جاز أن يخطئ الرجل منهم في حكم وسائرهم لم يفتوا بالصواب وإنما ظفر بالصواب من بعدهم وأخطأواهم لزم أن يكون ذلك القرن خيرا منهم من ذلك الوجه لان القرن المشتمل على الصواب خير من القرن المشتمل على الخطأ في ذلك الفن ثم هذا يتعدد في مسائل عديدة لان من يقول قول الصحابي ليس بحجة يجوز عنده أن يكون من بعدهم أصاب في كل مسألة قال فيها الصحابي قولا ولم يخالفه صحابي آخر وفات هذا الصواب الصحابة ومعلوم أن هذا يأتى في مسائل كثيرة تفوق العد والإحصاء فكيف يكونون خيرا ممن بعدهم وقد امتاز القرن الذي بعدهم بالصواب فيما يفوق العد والإحصاء مما اخطأوا فيه ومعلوم أن فضيلة العلم ومعرفة الصواب أكمل الفضائل وأشرفها فيا سبحان الله أي وصمة أعظم من أن يكون الصديق أوالفاروق أوعثمان أوعلي أوابن مسعود أوسلمان الفارسي أوعبادة بن الصامت وأضرابهم رضى الله عنهم قد أخبر عن حكم الله انه كيت وكيت في مسائل كثيرة واخطأ في ذلك ولم يشتمل قرنهم على ناطق بالصواب في تلك المسائل حتى تبع من بعدهم فعرفوا حكم الله الذي جهله أولئك السادة وأصابوا الحق الذي اخطأه أولئك الأئمة سبحانك هذا بهتان عظيم
الوجه الخامس عشر ما روى مسلم في صحيحه من حديث أبي موسى الاشعري قال: "صلينا المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء فجلسنا فخرج علينا فقال: ما زلتم ههنا فقلنا يا رسول الله صلينا معك المغرب ثم قلنا نجلس حتى نصلي معك العشاء قال:(10/144)
ص -137-…أحسنتم وأصبتم ورفع رأسه إلى السماء وكان كثيرا ما يرفع رأسه إلى السماء فقال النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد وأنا أمنه لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون" ووجه الاستدلال بالحديث انه جعل نسبة أصحابه إلى من بعدهم كنسبته إلى أصحابه وكنسبة النجوم إلى السماء ومن المعلوم أن هذا التشبيه يعطى من وجوب اهتداء الأمة بهم ما هو نظير اهتدائهم بنبيهم صلى الله عليه وسلم ونظير اهتداء أهل الأرض بالنجوم وأيضا فإنه جعل بقاءهم بين الأمة أمنة لهم وحرزا من الشر وأسبابه فلو جاز أن يخطئوا فيما أفتوا به ويظفر به من بعدهم لكان الظافرون بالحق أمنة للصحابة وحرزا لهم وهذا من المحال.
الوجه السادس عشر ما رواه أبو عبد الله بن بطة من حديث الحسن عن أنس انه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن مثل أصحابي في أمتي كمثل الملح في الطعام لا يصلح الطعام إلا بالملح" قال الحسن: "قد ذهب ملحنا فكيف نصلح" وروى ابن بطة أيضا بإسنادين إلى عبد الرزاق اخبرنا معمر عمن سمع الحسن يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل أصحابي في الناس كمثل الملح في الطعام" ثم يقول الحسن: "هيهات ذهب ملح القوم" وقال الإمام احمد: حدثنا حسين بن علي الجعفي عن أبى موسى يعنى إسرائيل عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل أصحابي كمثل الملح في الطعام" قال يقول الحسن: "هل يطيب الطعام إلا بالملح" يقول الحسن: "فكيف بقوم ذهب ملحهم" ووجه الاستدلال انه شبه أصحابه في صلاح دين الأمة بهم بالملح الذي صلاح الطعام به فلو جاز أن يفتوا بالخطأ ولا يكون في عصرهم من يفتى بالصواب ويظفر به من بعدهم لكان من بعدهم ملحا لهم وهذا محال(10/145)
ص -138-…يوضحه أن الملح كما أن به صلاح الطعام فالصواب به صلاح الأنام فلو أخطئوا فيما أفتوا به لاحتاج ذلك إلى ملح يصلحه فإذا أفتى من بعدهم بالحق كان قد أصلح خطأهم فكان ملحا لهم الوجه
السابع عشر ما روى البخاري في صحيحه من حديث الأعمش قال سمعت أبا صالح يحدث عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم انفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" وفي لفظ "فوالذي نفسي بيده" وهذا خطاب منه لخالد بن الوليد ولأقرانه من مسلمة الحديبية والفتح فإذا كان مد أحد أصحابه أونصيفه أفضل عند لله من مثل أحد ذهبا من مثل خالد وأضرابه من أصحابه فكيف يجوز أن يحرمهم الله الصواب في الفتاوي ويظفر به من بعدهم هذا من أبين المحال
الوجه الثامن عشر ما روى الحميدي ثنا محمد بن طلحة قال حدثني عبد الرحمن بن سالم بن عبد الرحمن بن عويلم بن ساعده عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله اختارني واختار لي أصحابا فجعل لي منهم وزراء وأنصارا وأصهارا" الحديث ومن المحال أن يحرم الله الصواب من اختارهم لرسوله وجعلهم وزراءه وأنصاره وأصهاره ويعطيه من بعدهم في شئ من الأشياء
الوجه التاسع عشر ما روى أبو داود الطيالسي ثنا المسعودي عن عاصم عن أبى وائل عن ابن مسعود رضى الله عنه قال: "إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد فبعثه برسالته ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فاختارهم لصحبة نبيه ونصرة دينه فما رأه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح ومن المحال أن يخطئ الحق في حكم الله خير قلوب العباد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويظفر به من بعدهم وأيضا فإن ما أفتى به أحدهم وسكت عنه الباقون كلهم فإما أن يكونوا قد رأوه حسنا أويكونوا قد رأوه قبيحا فإن كانوا قد رأوه حسنا(10/146)
ص -139-…فهو حسن عند الله وإن كانوا قد رأوه قبيحا ولم ينكروه لم تكن قلوبهم من خير قلوب العباد وكان من أنكره بعدهم خيرا منهم وأعلم وهذا من أبين المحال"
الوجه العشرون: ما رواه الإمام احمد وغيره عن ابن مسعود رضى الله عنه قال: "من كان متأسيا فليتأس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا وأقومها هديا وأحسنها حالا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوا آثارهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم ومن المحال أن يحرم الله أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا وأقومها هديا الصواب في أحكامه ويوفق له من بعدهم
الوجه الحادي والعشرون ما رواه الطبراني وأبو نعيم وغيرهما عن حذيفة بن اليمان انه قال: "يا معشر القراء خذوا طريق من كان قبلكم فوالله لئن استقمتم لقد سبقتم سبقا بعيدا ولئن تركتموه يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا" ومن المحال أن يكون الصواب في غير طريق من سبق إلى كل خير على الإطلاق
الوجه الثاني والعشرون: ما قاله جندب بن عبد الله لفرقة دخلت عليه من الخوارج فقالوا ندعوك إلى كتاب الله فقال: أنتم قالوا: نحن قال: أنتم قالوا: نحن فقال: "يا أخابيث خلق الله في أتباعنا تختارون الضلالة أم في غير سنتنا تلتمسون الهدى اخرجوا عنى" ومن المعلوم أن من جوز أن تكون الصحابة أخطأوا في فتاويهم فمن بعدهم وخالفهم فيها فقد اتبع الحق في غير سنتهم وقد دعاهم إلى كتاب الله فإن كتاب الله إنما يدعو إلى الحق وكفى ذلك إزراء على نفوسهم وعلى الصحابة
الوجه الثالث والعشرون ما رواه الترمذى من حديث العرباض بن سارية(10/147)
ص -140-…قال: "وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال قائل يا رسول الله كأنها موعظة مودع فماذا تعهد إلينا فقال عليكم بالسمع والطاعة وإن تامر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة وعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" وهذا حديث حسن إسناده لا بأس به فقرن سنة خلفائه بسنته وأمر بإتباعها كما أمر بإتباع سنته وبالغ في الأمر بها حتى أمر بأن يعض عليها بالنواجذ وهذا يتناول ما أفتوا به وسنوه للامة وإن لم يتقدم من نبيهم فيه شئ وإلا كان ذلك سنته ويتناول ما أفتى به جميعهم أوأكثرهم أوبعضهم لأنه علق ذلك بما سنه الخلفاء الراشدون ومعلوم أنهم لم يسنوا ذلك وهم خلفاء في آن واحد فعلم أن ما سنه كل واحد منهم في وقته فهو من سنة الخلفاء الراشدين رواه الإمام احمد في مسنده من حديث عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن صالح عن ضمرة بن حبيب عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي سمع العرباض بن سارية فذكر نحوه
الوجه الرابع والعشرون ما رواه الترمذي من حديث الثوري عن عبد الملك ابن عمير عن هلال مولى ربعي بن حراش عن ربعي عن حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللذين من بعدي أبى بكر وعمر واهتدوا بهدى عمار وتمسكوا بعهد ابن أم عبد" قال الترمذي هذا حديث حسن ووجه الاستدلال به ما تقدم في تقرير المتابعة
الوجه الخامس والعشرون: ما رواه مسلم في صحيحه من حديث عبد الله ابن رباح عن أبى قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن يطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا" وهو في حديث الميضأة الطويل فجعل الرشد(10/148)
ص -141-…معلقا بطاعتهما فلو أفتوا بالخطأ في حكم وأصابه من بعدهم لكان الرشد في خلافهما
الوجه السادس والعشرين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر في شأن تأمير القعقاع بن حكيم والأقرع بن حابس: "لو اتفقتما على شيء لم أخالفكما" فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر انه لا يخالفهما لو اتفقا ومن يقول قولهما ليس بحجة يجوز مخالفتهما وبعض غلاتهم يقول لا يجوز الأخذ بقولهما ويجب الأخذ بقول أمامنا الذي قلدناه وذلك موجود في كتبهم
الوجه السابع والعشرون: أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى أبى بكر وعمر فقال: "هذا السمع والبصر" أي هما منى منزلة السمع والبصر أوهما من الدين بمنزلة السمع والبصر ومن المحال أن يحرم سمع الدين وبصره الصواب ويظفر به من بعدهما
الوجه الثامن والعشرون ما رواه أبو داود وابن ماجة من حديث ابن إسحاق عن مكحول عن غضيف بن الحارث عن أبى ذر قال مرفتي على عمر رضى الله عنه فقال عمر نعم الفتى قال فتبعه أبو ذر فقال يا فتى استغفر لي فقال يا أبا ذر استغفر لك وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال استغفر لي قال: لا أو تخبرني قال: إنك مررت على عمر فقال: نعم الفتى وإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه" ومن المحال أن يكون الخطأ في مسألة أفتى بها من جعل الله الحق على لسانه وقلبه حظه ولا ينكره عليه أحد من الصحابة ويكون الصواب فيها حظ من بعده هذا من أبين المحال
الوجه التاسع والعشرون: ما رواه مسلم في صحيحه من حديث عائشة رضى الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد كان فيمن خلا من الأمم أناس محدثون فإن يكن في أمتي أحد فهو عمر" وهو في المسند والترمذي(10/149)
ص -142-…(10/150)
ص -143-…"والله لو أن علم عمر وضع في كفه ميزان وجعل علم أهل الأرض في كفة لرجع علم عمر" فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي فقال: قال عبد الله: "والله إني لاحسب عمر ذهب بتسعة أعشار العلم" ومن ابعد الأمور أن يكون المخالف لعمر بعد انقراض عصر الصحابة أولى بالصواب منه في شئ من الأشياء
الوجه الرابع والثلاثون: ما رواه ابن عيينة عن عبد الله بن أبى يزيد قال: "كان ابن عباس إذا سئل عن شئ وكان في القرآن أوالسنة قال به وإلا قال بما قال به أبو بكر وعمر فإن لم يكن قال برأيه" فهذا ابن عباس وأتباعه للدليل وتحكيمه للحجة معروف حتى إنه يخالف لما قام عنده من الدليل أكابر الصحابة يجعل قول أبي بكر وعمر حجة يؤخذ بها بعد قول الله ورسوله ولم يخالفه في ذلك أحد من الصحابة
الوجه الخامس والثلاثون ما رواه منصور عن زيد بن وهب عن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رضيت لأمتي ما رضى لها ابن أم عبد" كذا رواه يحيى بن يعلى المحاربي عن زيد عن منصور والصواب ما رواه إسرائيل وسفيان عن منصور عن القاسم بن عبد الرحمن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ولكن قد روى جعفر بن عوف عن المسعودي عن جعفر بن عمرو ابن حريش عن أبيه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن مسعود: "اقرأ على" قال: أقرأ وعليك انزل قال: "إني أحب أن اسمعه من غيري" فافتتح سورة النساء حتى إذا بلغ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا فاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكف عبد الله بن مسعود فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكلم فحمد الله وأثنى عليه في أول كلامه وأثنى على الله وصلى على نبيه(10/151)
ص -144-…صلى الله عليه وسلم وشهد شهادة الحق وقال: "رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا ورضيت لكم ما رضى لكم ابن أم عبد" ومن قال ليس قوله بحجة وإذا خالفه غيره ممن بعده يجوز أن يكون الصواب في قول المخالف له لم يرض للامة ما رضيه لهم ابن أم عبد ولا ما رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم
الوجه السادس والثلاثون: ما رواه أبو إسحاق عن حارثة بن مضرب قال كتب عمر رضى الله عنه إلى أهل الكوفة قد بعثت إليكم عمار بن ياسر أميرا وعبد الله بن مسعود معلما ووزيرا وهما من النجباء من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من أهل بدر فاقتدوا بهما واسمعوا قولهما وقد آثرتكم بعبد الله على نفسي فهذا عمر قد أمر أهل الكوفة أن يقتدوا بعمار وابن مسعود ويسمعوا قولهما ومن لم يجعل قولهما حجة يقول لا يجب الإقتداء بهما ولا سماع أقوالهما إلا فيما أجمعت عليه الأمة ومعلوم أن ذلك لا اختصاص لهما به بل لا فرق فيه بينهما وبين غيرها من سائر الأمة
الوجه السابع والثلاثون: ما قاله عبادة بن الصامت وغيره بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن نقول بالحق حيث كنا ولا نخاف في الله لومة لائم ونحن نشهد بالله انهم وفوا بهذه البيعة وقالوا بالحق وصدعوا به ولم تأخذهم في الله لومة لائم ولم يكتموا شيئا منه مخافة سوط ولا عصا ولا أمير ولا وال كما هو معلوم لمن تأمله من هديهم وسيرتهم فقد أنكر أبو سعيد على مروان وهو أمير على المدينة وأنكر عبادة بن الصامت على معاوية وهو خليفة وأنكر ابن عمر على الحجاج مع سطوته وبأسه وأنكر على عمرو بن سعيد وهو أمير على المدينة وهذا كثير جدا من إنكارهم على الأمراء والولاة إذا خرجوا عن العدل لم يخافوا سوطهم ولا عقوبتهم ومن بعدهم لم تكن لهم هذه المنزلة بل كانوا يتركون كثيرا من الحق خوفا من ولاة الظلم وأمراء الجور فمن المحال أن يوفق هؤلاء للصواب ويحرمه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم(10/152)
ص -145-…الوجه الثامن والثلاثون: ما ثبت في الصحيح من حديث أبى سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رقي المنبر فقال: "إن عبدا خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله فبكى أبو بكر وقال بل نفديك بآبائنا وأمهاتنا فعجبنا لبكائه أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل خير فكان المخير رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر أعلمنا به" وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أمن الناس لينا في صحبته وذات يده أبو بكر ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخوة الإسلام ومودته لا يبقى في المسجد باب إلا سد إلا باب أبى بكر" ومن المعلوم أن فوت الصواب في الفتوى لأعلم الأمة برسول الله صلى الله عليه وسلم ولجميع الصحابة معه وظفر فلان وفلان من المتأخرين بهذا من أمحل المحال ومن لم يجعل قوله حجة يجوز ذلك بل يحكم بوقوعه والله المستعان
الوجه التاسع والثلاثون ما رواه زائدة عن عاصم عن زر عن عبد الله قال ما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الأنصار منا أمير ومنكم أمير فأتاهم عمر قال: "ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر أن يؤم الناس قالوا: بلى فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر فقالوا: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر ونحن نقول لجميع المفتين أيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر إذا أفتى بفتوى وأفتى من قلدتموه بغيرها ولا سيما من قال من زعمائكم إنه يجب تقليد من قلدناه ديننا ولا يجوز تقليد أبي بكر الصديق رضى الله عنه اللهم إنا نشهدك أن أنفسنا لا تطيب بذلك ونعوذ بك أن نطيب به نفسا"
الوجه الأربعون ما ثبت في الصحيح من حديث الزهري عن حمزة بن عبد الله عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينما أنا نائم إذ أتيت بقدح لبن فقيل لي اشرب فشربت منه حتى إني لأرى الرى يجري في أظفاري ثم(10/153)
ص -146-…أعطيت فضلتى عمر قالوا: فما أولت ذلك قال: العلم" ومن أبعد الأشياء أن يكون الصواب مع من خالفه في فتيا أوحكم لا يعلم أن أحدا من الصحابة خالفه فيه وقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الشهادة
الوجه الحادي والأربعون ما ثبت في الصحيح من حديث عبد الله بن ابي يزيد عن ابن عباس رضى الله عنهما انه وضع للنبي صلى الله عليه وسلم وضوءا فقال من وضع هذا قالوا ابن عباس فقال اللهم فقهه في الدين وقال عكرمة ضمني إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "اللهم علمه الحكمة" ومن المستبعد جدا بل المتنع أن يفتى حبر الأمة وترجمان القرآن الذي دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوة مستجابة قطعا أن يفقهه في الدين ويعلمه الحكمة ولا يخالفه فيها احد من الصحابة ويكون فيها على خطأ ويفتى واحد من المتأخرين بعده بخلاف فتواه ويكون الصواب معه فيظفر به هو مقلدوه ويحرمه ابن عباس والصحابة
الوجه الثاني والأربعون: أن صورة المسألة ما إذا لم يكن في الواقعة حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا اختلاف بين الصحابة رضى الله عنهم وإنما قال بعضهم فيها قولا وأفتى بفتيا ولم يعلم أن قوله وفتياه اشهر في الباقين ولا أنهم خالفوه وحينئذ فنقول من تأمل المسائل الفقهية والحوادث الفرعية وتدرب بمسالكها وتصرف في مداركها وسلك سبلها ذللا وارتوى من مواردها عللا ونهلا علم قطعا ان كثيرا منها قد تشتبه فيها وجوه الرأي بحيث لا يوثق فيها بظاهر مراد أوقياس صحيح ينشرح له الصدر ويثلج له الفؤاد بل تتعارض فيها الظواهر والاقيسة على وجة يقف المجتهد في اكثر المواضع حتى لا يبقى للظن رجحان بين لا سيما اذا اختلف الفقهاء فإن عقولهم من اكمل العقول واوفرها فإذا تلددوا وتوقفوا ولم يتقدموا ولم يتأخروا لم يكن ذلك في المسألة طريقة واضحة ولا حجة لائحة فإذا وجد فيها قول لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم(10/154)
ص -147-…ورضى الله عنهم الذين هم سادات الامة وقدوة الائمة واعلم الناس بكتاب ربهم تعالى وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وقد شاهدوا التنزيل وعرفوا التأويل ونسبة من بعدهم في العلم اليهم كنسبتهم اليهم في الفضل والدين كان الظن والحالة هذه بان الصواب في جهتهم والحق في جانبهم من اقوى الظنون وهو اقوى من الظن المستفاد من كثير من الاقيسة هذا مالا يمترى فيه عاقل منصف وكان الرأي الذي يوافق رأيهم هو الرأي السداد الذي لا رأى سواه وإذا كان المطلوب في الحادثة إنما هو ظن راجح ولو استند الى استصحاب أوقياس علة أودلالة أوشبه أوعموم مخصوص أومحفوظ مطلق أووارد على سبب فلا شك أن الظن الذي يحصل لنا بقول الصحابي الذي لم يخالف ارجح من كثير من الظنون المستندة إلى هذه الأمور أوأكثرها وحصول الظن الغالب في القلب ضروري كحصول الأمور الوجدانية ولا يخفى على العالم أمثلة ذلك
الوجه الثالث والأربعون أن الصحابي إذا قال قولا أوحكم بحكم أوأفتى بفتيا فله مدارك ينفرد بها عنه ومدارك نشاركه فيها فأما ما يختص به فيجوز أن يكون سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم شفاها أومن صحابي آخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن ما انفردوا به من العلم عنه أكثر من أن يحاط به فلم يرو كل منهم كل ما سمع وأين ما سمعه الصديق رضى الله عنه والفاروق وغيرهما من كبار الصحابة رضى الله عنهم إلى ما رووه فلم يرو عنه صديق الأمة مائة حديث وهو لم يغب عن النبي صلى الله عليه وسلم في شئ من مشاهده بل صحبه من حين بعث بل قبل البعث إلى أن توفي وكان أعلم الأمة به صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله وهديه وسيرته وكذلك اجله الصحابة روايتهم قليلة جدا بالنسبة الى ما سموه من نبيهم وشاهدوه ولو رووا كل ما سمعوه وشاهدوه لزاد على رواية أبي هريرة أضعافا مضاعفة فإنه إنما صحبه نحو أربع سنين وقد روى عنه الكثير فقول القائل لو كان عند الصحابي في هذه الواقعة(10/155)
ص -148-…شئ عن النبي صلى الله عليه وسلم لذكره قول من لم يعرف سيرة القوم وأحوالهم فإنهم كانوا يهابون الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعظمونها ويقللونها خوف الزيادة والنقص ويحدثون بالشيء الذي سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم مرارا ولا يصرحون بالسماع ولا يقولون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
فتلك الفتوى التي يفتى بها أحدهم لا تخرج عن ستة أوجه أحدها أن يكون سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم الثاني أن يكون سمعها ممن سمعها منه الثالث أن يكون فهمها من آية من كتاب الله فهما خفى علينا الرابع أن يكون قد اتفق عليها ملؤهم ولم ينقل إلينا قول المفتى بها وحده الخامس أن يكون لكمال علمه باللغة ودلالة اللفظ على الوجه الذي انفرد به عنا أولقرائن عالية اقترنت بالخطاب أولمجموع أمور فهموها على طول الزمان من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ومشاهدة أفعاله وأحواله وسيرته وسماع كلامه والعلم بمقاصده وشهود تنزيل الوحي ومشاهدة تأويله الفعل فيكون فهم مالا نفهمه نحن وعلى هذه التقادير الخمسة تكون فتواه حجة بجب أتباعها السادس أن يكون فهم ما لم يرده الرسول صلى الله عليه وسلم وأخطأ في فهمه والمراد غير ما فهمه وعلى هذا التقدير لا يكون قوله حجة ومعلوم قطعا أن وقوع احتمال من خمسة أغلب على الظن من وقوع احتمال واحد معين هذا مالا يشك فيه عاقل وذلك يفيد ظنا غالبا قويا على أن الصواب في قوله دون ما خالفه من أقوال من بعده وليس المطلوب إلا الظن الغالب والعمل به متعين ويكفى العارف هذا الوجه
فصل: ما امتاز به المتقدمون على المتأخرين
هذا فيما انفردوا به عنا أما المدارك التي شاركناهم فيها من دلالات الألفاظ والاقيسة فلا ريب انهم كانوا ابر قلوبا واعمق علما واقل تكلفا واقرب(10/156)
ص -149-…إلى أن يوفقوا فيها لما لم نوفق له نحن لما خصهم الله تعالى به من توقد الأذهان وفصاحة اللسان وسعة العلم وسهولة الأخذ وحسن الإدراك وسرعته وقلة المعارض أوعدمه وحسن القصد وتقوى الرب تعالى فالعربية طبيعتهم وسليقتهم والمعاني الصحيحة مركوزة في فطرهم وعقولهم ولا حاجة بهم إلى النظر في الإسناد وأحوال الرواة وعلل الحديث والجرح والتعديل ولا الى النظر في قواعد الأصول وأوضاع الأصوليين بل قد غنوا عن ذلك كله فليس في حقهم إلا أمران أحدهما قال الله تعالى كذا وقال رسوله كذا والثاني معناه كذا وكذا وهم أسعد الناس بهاتين المقدمتين وأحظى الأمة بهما فقواهم متوفرة مجتمعة عليهما
وأما المتأخرون فقواهم متفرقة وهممهم متشعبة فالعربية وتوابعها قد خذت من قوى أذهانهم شعبة والأصول وقواعدها قد أخذت منها شبعة وعلم الإسناد وأحوال الرواة قد اخذ منها شعبة وفكرهم في كلام مصنفيهم وشيوخهم على اختلافهم وما أرادوا به قد اخذ منها شعبة الى غير ذلك من الامور فإذا وصلوا الى النصوص النبوية إن كان لهم همم تسافر اليها وصلوا اليها بقلوب وأذهان قد كلت من السير في غيرها وأوهن قواهم مواصلة السرى في سواها فأدركوا من النصوص ومعانيها بحسب القوة وهذا أمر يحسن به الناظر في مسألة إذا استعمل قوى ذهنه في غيرها ثم صار اليها وافاها يذهن كال وقوة ضعيفة وهذا شأن من استفرغ قواه في الأعمال غير المشروعة نضعف قوته عند العمل المشروع كمن استفرغ قوته في السماع الشيطاني فإذا جاءه قيام الليل قام الى ورده بقوة كالة وعزيمة باردة وكذلك من صرف قوى حبه وإرادته الى الصور أوالمال أوالجاه فإذا طالب قلبه بمحبة الله فإن انجذب معه انجذب بقوة ضعيفة قد استفرغها في محبة غيره فمن استفرغ قوى فكره في كلام الناس فإذا جاء الى كلام الله ورسوله جاء بفكرة كالة فأعطى بحسب ذلك(10/157)
والمقصود ان الصحابة اغناهم الله تعالى عن ذلك كله فاجتمعت قواهم على تينك المقدمتين فقط هذا الى ما خصوا به من قوى الاذهان وصفائها وصحتها(10/158)
ص -150-…وقوة إدراكها وكماله وكثرة المعاون وقلة الصارف وقرب العهد بنور النبوة والتلقي من تلك المشكاة النبوية فإذا كان هذا حالنا وحالهم فيما تميزوا به علينا وما شاركناهم فيه فكيف نكون نحن أوشيوخنا أوشيوخهم أومن قلدناه اسعد بالصواب منهم في مسألة من المسائل ومن حدث نفسه بهذا فليعزلها من الدين والعلم والله المستعان
الوجه الرابع والاربعون ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال طائفة من امتي ظاهرين على الحق" وقال علي كرم الله وجهه ورضى عنه لن تخلو الارض من قائم لله بحجة لكيلا تبطل حجج الله وبيناته فلو جاز ان يخطئ الصحابي في حكم ولا يكون في ذلك العصر ناطق بالصواب في ذلك الحكم لم يكن في الامة قائم بالحق في ذلك الحكم لأنهم بين ساكت ومخطئ ولم يكن في الارض قائم لله بحجة في ذلك الامر ولا من يأمر فيه بمعروف أوينهى فيه عن منكر حتى نبغت نابغة فقامت بالحجة وامرت بالمعروف ونهت عن المنكر وهذا خلاف ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع
الوجه الخامس والأربعون انهم إذا قالوا قولا أوبعضهم ثم خالفهم مخالف من غيرهم كان مبتديا لذلك القول ومبتدعا له وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة" وقول من جاء بعدهم يخالفهم من محدثات الأمور فلا يجوز أتباعهم
وقال عبد الله بن مسعود: "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة "وقال: "أيضا إنا نقتدى ولا نبتدي ونتبع ولا نبتدع ولن نضل ما تمسكنا بالأثر" وقال أيضا: "إياكم والتبدع وإياكم والتنطع وإياكم والتعمق وعليكم بالدين العتيق" وقال أيضا: "أنا لغير الدجال أخوف عليكم من الدجال أمور تكون من كبرائكم فأيما مرية أورجيل أدرك ذلك الزمان(10/159)
ص -151-…فالسمت الأول فالسمت الأول فأنا اليوم على السنة" وقال أيضا:"وإياكم والمحدثان فإن شر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلاله" وقال أيضا اتبع ولا تبتدع فإنك لن تضل ما أخذت بالأثر
وقال ابن عباس: "كان يقال عليكم بالاستقامة والأثر وإياكم والتبدع"
وقال شريح: "إنما أقتفى الأثر فما وجدت قد سبقنا إليه غيركم حدثتكم به"
وقال إبراهيم النخعي: "بلغنى عنهم يعنى الصحابة انهم لم يجاوزوا بالوضوء ظفرا ما جاوزته به وكفى على قوم وزرا أن تخالف أعمالهم أعمال أصحاب نبيهم صلى الله عليه وسلم"
وقال عمر بن عبد العزيز: "إنه لم يبتدع الناس بدعة إلا وقد مضى ما هو دليل وعبرة منها والسنة ما أسنتها إلا من علم ما في خلافها من الخطأ والزلل والحمق والتعمق فارض لنفسك ما رضى القوم" وقال أيضا: "قف حيث وقف القوم وقل كما قالوا واسكت كما سكتوا فإنهم عن علم وقفوا وببصر ناقد كفوا وهم على كشفها كانوا أقوى وبالفضل لو كان فيها أحرى أي فلئن كان الهدى ما أنتم عليه فلقد سبقتموهم إليه ولئن قلتم حدث بعدهم فما أحدثه إلا من سلك غير سبيلهم ورغب بنفسه عنهم وانهم لهم السابقون ولقد تكلموا منه بما يكفي ووصفوا منه ما يشفى فما دونهم مقصر ولا فوقهم مجسر ولقد قصر عنهم قوم فجفوا وطمح آخرون عنهم فغلوا وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم" وقال أيضا كلاما كان مالك بن انس وغيره من الأئمة يستحسنونه ويحدثون به دائما قال: "سن رسول الله صلى الله عليه وسلم لولاة الأمر بعده سننا الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستكمال لطاعته وقوة على دينه ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في رأي من خالفهم فمن اقتدى بما سنوا فقد اهتدى ومن استنصر بها منصور ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى(10/160)
ص -152-…وأصلاه جهنم وساءت مصيرا" ومن هنا اخذ الشافعي الاحتجاج بهذه الآية على أن الإجماع حجة
وقال الشعبي: "عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوها لك بالقول" وقال أيضا: "ما حدثوك به عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فخذه وما حدثوك به عن رأيهم فانبذه في الحش".
قال الاوزاعي: "اصبر نفسك على السنة وقف حيث وقف القوم واسلك سبيل سلفك الصالح فإنه يسعك ما وسعهم وقل بما قالوا وكف عما كفوا ولو كان هذا خيرا ما خصصتم به دون أسلافكم فإنهم لم يدخر عنهم خير خبئ لكم دونهم لفضل عندكم وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين اختارهم له وبعثه فيهم ووصفهم فقال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} الآية".
الوجه السادس والأربعون: انه لم يزل أهل العلم في كل عصر ومصر يحتجون بما هذا سبيله في فتاوي الصحابة وأقوالهم ولا ينكره منكر منهم وتصانيف العلماء شاهدة بذلك ومناظرتهم ناطقة به
قال بعض علماء المالكية أهل الأعصار مجمعون على الاحتجاج بما هذا سبيله وذلك مشهور في رواياتهم وكتبهم ومناظراتهم واستدلالاتهم ويمتنع والحالة هذه إطباق هؤلاء كلهم على الاحتجاج بما لم يشرع الله ورسوله الاحتجاج به ولا نصبه دليلا للأمة فأي كتاب شئت من كتب السلف والخلف المتضمنة للحكم والدليل وجدت فيه الاستدلال بأقوال الصحابة ووجدت ذلك طرازها وزينتها ولم تجد فيها قط ليس قول ابي بكر وعمر حجة ولا يحتج بأقوال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتاويهم ولا ما يدل على ذلك وكيف يطيب قلب عالم يقدم على أقوال من وافق ربه تعالى في غير حكم فقال وأفتى بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن بموافقة ما قال لفظا ومعنى(10/161)
ص -153-…قول متأخر بعده ليس له هذه الرتبة ولا يدانيها وكيف يظن احد ان الظن المستفاد من فتاوي السابقين الاولين الذين شاهدوا الوحي والتنزيل وعرفوا التأويل وكان الوحي ينزل خلال بيوتهم وينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرهم؟
قال جابر: "والقرآن ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعرف تأويله فما عمل به من شئ عملنا به" في حديث حجة الوداع فمستندهم في معرفة مراد الرب تعالى من كلامه ما يشاهدونه من فعل رسوله وهديه الذى هو يفصل القرآن ويفسره فكيف يكون أحد من الامة بعدهم اولى بالصواب منهم في شئ من الاشياء هذا عين المحال
تفسير الصحابي للقرآن كفتواه:
فإن قيل فإذا كان هذا حكم أقوالهم في أحكام الحوادث فما تقولون في أقوالهم في تفسير القران هل هي حجة يجب المصير اليها
قيل لا ريب ان اقوالهم في التفسير اصوب من اقوال من بعدهم وقد ذهب بعض اهل العلم الى ان تفسيرهم في حكم المرفوع قال ابو عبد الله الحاكم في مستدركه: "وتفسير الصحابي عندنا في حكم المرفوع" ومراده أنه في حكمه في الاستدلال به والاحتجاج لا أنه إذا قال الصحابي في الآية قولا فلنا أن نقول هذا القول قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أوقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وله وجه آخر وهو أن يكون في حكم المرفوع بمعنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين لهم معاني القرآن وفسره لهم كما وصفه تعالى بقوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} فبين لهم القرآن بيانا شافيا كافيا وكان إذا أشكل على أحد منهم معنى سأله عنه فأوضحه له كما سأله الصديق عن قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} فبين له المراد وكما ساله الصحابي عن قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} فبين لهم معناها وكما سألته ام سلمة عن قوله تعالى:(10/162)
ص -154-…{فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} فبين لها انه العرض وكما سأله عمر عن الكلالة فأحاله على آية الصيف التي في آخر السورة وهذا كثير جدا فإذا نقلوا لنا تفسير القرآن فتارة ينقلونه عنه بلفظه وتارة يمعناه فيكون ما فسروا بالفاظهم من باب الرواية بالمعنى كما يروون عنه السنة تارة بلفظها وتارة بمعناها وهذا أحسن الوجهين والله اعلم
فإن قيل فنحن نجد لبعضهم أقوالا في التفسير تخالف الاحاديث المرفوعة الصحاح وهذا كثير كما فسر ابن مسعود الدخان بأنه الاثر الذي حصل عن الجوع الشديد والقحط وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه دخان يأتى قبل يوم القيامة" يكون من أشراط الساعة مع الدابة والدجال وطلوع الشمس من مغربها وفسر عمر بن الخطاب قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} بانها للبائنة والرجعية حتى قال لا ندع كتاب ربنا لقول امرأة مع أن السنة الصحيحة في البائن تخالف هذا التفسير وفسر علي بن ابي طالب كرم الله وجهه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} أنها عامة في الحامل والحائل فقال تعتد ابعد الاجلين والسنة الصحيحة بخلافه وفسر ابن مسعود قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنّ} بان الصفة لنسائكم الأولى والثانية فلا تحرم ام المراة حتى يدخل بها والصحيح خلاف قوله وان ام المرأة تحرم بمجرد العقد على العقد على ابنتها والصفة راجعة الى قوله وربائبكم اللاتى في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن وهو قول جمهور الصحابة وفسر ابن عباس السجل بأنه كاتب للنبي صلى الله عليه وسلم يسمى السجل وذلك وهم وإنما السجل الصحيفة المكتوبة واللام مثلها في قوله تعالى: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} وفي قول الشاعر:(10/163)
فخر صريعا لليدين وللفم(10/164)
ص -155-…أي يطوى السماء كما يطوى السجل على ما فيه من الكتاب وهذا كثير جدا فكيف يكون تفسير الصحابي حجة في حكم المرفوع؟
قيل: الكلام في تفسيره كالكلام في فتواه سواء وصورة المسألة هنا كصورتها هناك سواء بسواء وصورتها ان لا يكون في المسألة نص يخالفه ويقول في الاية قولا لا يخالفه فيه أحد من الصحابة سواء علم لا شتهاره أولم يعلم وما ذكر من هذه الامثلة فقد فيه الامران وهو نظير ما روى عن بعضهم من الفتاوي التي تخالف النص وهم مختلفون فيها سواء
فإن قيل: لو كان قوله حجة بنفسه لما اخطأ ولكان معصوما لتقوم الحجة بقوله فإذا كان يفتى بالصواب تارة وبغيره اخرى وكذلك تفسيره فمن أين لكم ان هذه الفتوى المعينة والتفيسر المعين من قسم الصواب إذ صوره المسألة انه لم يقم على المسألة دليل غير قوله وقوله ينقسم فما الدليل على ان هذا القول المعين من أحد القسمين ولا بد
قيل: الادلة المتقدمة تدل على انحصار الصواب في قوله في الصورة المفروضة الواقعة وهو ان من المتنع ان يقولوا في كتاب الله الخطأ المحض ويمسك الباقون عن الصواب فلا يتكلمون به وهذه الصورة المذكورة وامثالها قد تكلم فيها غيرهم بالصواب والمحظور إنما هو خلو عصرهم عن ناطق بالصواب واشتماله على ناطق بغيره فقط فهذا هو المحال وبهذا خرج الجواب عن قولكم لو كان قول الواحد منهم حجة لما جاز عليه الخطأ فإن قوله لم يكن بمجرده حجة بل بما انضاف اليه مما تقدم ذكره من القرائن.
الفرق بين الصحابي والتابعي في الاخذ بقولهم وتفسيرهم:
فإن قيل فبعض ما ذكرتم من الادلة يقتضى ان التابعي اذا قال قولا ولم يخالفه صحابي ولا تابعي ان يكون قوله حجة
فالجواب: ان التابعين انتشروا انتشارا لا ينضبط لكثرتهم وانتشرت(10/165)
ص -156-…المسائل في عصرهم فلا يكاد يغلب على الظن عدم المخالف لما أفتى به الواحد منهم فإن فرض ذلك فقد اختلف السلف في ذلك فمنهم من يقول يجب اتباع التابعي فيما أفتى به ولم يخالفه فيه صحابي ولا تابعى وهذا قول بعض الحنابلة والشافعية وقد صرح الشافعي في موضع بأنه قاله تقليدا لعطاء وهذا من كمال علمه وفقهه رضى الله عنه فإنه لم يجد في المسألة غير قول عطاء فكان قوله عنده أقوى ما وجد في المسألة وقال في موضع آخر وهذا يخرج على معنى قول عطاء والاكثرون يفرقون بين الصحابي والتابعي ولا يخفى ما بينهما من الفروق على ان في الاحتجاج بتفسير التابعي
عن الامام احمد روايتين ومن تأمل كتب الائمة ومن بعدهم وجدها مشحونة بالاحتجاج بتفسير التابعي
فإن قيل: فما تقولون في قوله اذا خالف القياس؟
قيل: من يقول بأن قوله ليس بحجة فلهم قولان فيما اذا خالف القياس احدهما انه اولى ان لا يكون حجة لانه قد خالف حجة شرعية وهو ليس بحجة في نفسة والثاني انه حجة في هذه الحال ويحمل على انه قاله توفيقا ويكون بمنزلة المرسل الذي عمل به مرسله
وأما من يقول إنه حجة فلهم أيضا قولان احدهما انه حجة وإن خالف القياس بل هو مقدم على القياس والنص مقدم عليه فنرتب الادلة عندهم القرآن ثم السنة ثم قول الصحابة ثم القياس والثاني ليس بحجة لانه قد خالفه دليل شرعي وهو القياس فإنه لا يكون حجة إلا عند عدم المعارض والاولون يقولون قول الصحابي اقوى من المعارض الذي خالفه من القياس لوجوه عديدة والاخذ بأقوى الدليلين متعين وبالله التوفيق(10/166)
ص -157-…فوائد تتعلق بالفتوى
ولنختم الكتاب بفوائد تتعلق بالفتوى
اربعة انواع للأسئلة:
الفائدة الاولى: أسئلة السائلين لاتخرج عن أربعة أنواع لا خامس لها الأول أن يسأل عن الحكم فيقول ما حكم كذا وكذا الثاني أن يسأل عن دليل الحكم الثالث أن يسأل عن وجه دلالته الرابع أن يسأل عن الجواب عن معارضيه.
فإن سأل الحكم فللمسئول حالتان إحداهما أن يكون عالما به والثانية أن يكون جاهلا به حرم عليه الإفتاء بلا علم فإن فعل فعليه إثمة وإثم المستفتى فإن كان يعرف في المسألة ما قاله الناس ولم يتبين له الصواب من أقوالهم فله أن يذكر له ذلك فيقول فيها اختلاف بين العلماء ويحكيه إن أمكنه للسائل وإن كان عالما بالحكم فللسائل حالتان إجداهما أن يكون قد حضره وقت العمل احتاج إلى السؤال فيجب على المفتى المبادرة على الفور إلى جوابه فلا يجوز له تأخير بيان الحكم له عن وقت الحاجة والحالة الثانية ان يكون قد سأل عن الحادثة قبل وقوعها فهذا لا يجب على المفتى أن يجيبه عنها وقد كان السلف الطيب إذا سئل أحدهم عن مسألة يقول للسائل هل كانت أووقعت فإن قال لا لم يجبه وقال دعنا في عافية وهذا لأن الفتوى بالرأي لا تجوز إلاعند الضرورة تبيحه كما تبيح الميتة عند الاضطرار وهذا إنما هو في مسألة لا نص فيها ولا إجماع فإن كان فيها نص أواجماع فعليه تبلغيه بحسب الإمكان فمن سئل عن علم فكتمه ألجمة الله يوم القيامة بلجام من نار هذا إذا أمن المفتى غائله الفتوى فإن لم يأمن غائلتها وخاف من ترتب شر أكثر من الإمساك عنها امسك عنها ترجيحا لدفع أعلى المفسدتين(10/167)
ص -158-…باحتمال أدناهما وقد أمسك النبي صلى الله عليه وسلم عن نقص الكعبة وإعادتها على قواعد إبراهيم لأجل حدثان عهد قريش بالإسلام وأن ذلك ربما نفرهم عنه بعد الدخول فيه وكذلك إن كان عقل السائل لا يحتمل الجواب عما سأل عنه وخاف المسئول إن يكون فتنة له أمسك عن جوابه قال ابن عباس رضى الله عنه لرجل سأله عن تفسير آية وما يؤمنك أني لو أخبرتك يتفسيرها كفرت به أي جحدته وأنكرته وكفرت به ولم يرد أنك تكفر بالله ورسوله
يجوز للمفتي أن يعدل عن السؤال إلى ما هو أنفع:
الفائدة الثانية: يجوز للمفتي أن يعدل عن جواب المستفتي عما سأله عنه إلى ما هو انفع له منه ولا سيما إذا تضمن ذلك بيان ما سأل عنه وذلك من كمال علم المفتى وفقهه ونصحه وقد قال تعالى: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} فسألوه عن المنفق فأجابهم بذكر المصرف إذ هو أهم مما سألوه عنه ونبههم عليه بالسياق مع ذكره لهم في موضع آخر وهو قوله تعالى: {قُلِ الْعَفْوَ} وهو ما سهل عليهم إنفاقه ولا يضرهم إخراجه وقد ظن بعضهم ان من ذلك قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ} فسألوه عن سبب ظهور الهلال خفيا ثم لا يزال يتزايد فيه النور على التدريج حتى يكمل ثم يأخذ في النقصان فأجابهم عن حكمة ذلك من ظهور مواقيت الناس التي بها تمام مصالحهم في أحوالهم ومعاشهم ومواقيت اكبر عبادتهم وهو الحج وإن كانوا قد سألوا عن السبب فقد اجيبوا بما هو أنفع لهم مما سألوا عنه وإن كانوا إنما سألوا عن حكمة ذلك فقد اجيبوا عن عين ما سالوا عنه ولفظ سؤالهم محتمل فإنهم قالوا ما بال الهلال يبدو دقيقا ثم ياخذ في الزيادة حتى يتم ثم يأخذ في النقص؟(10/168)
يجوز للمفتى أن يجيب بأكثر مما سئل:
الفائدة الثالثة يجوز للمفتى ان يجيب السائل بأكثر مما سأله عنه وهو من كمال نصحه وعلمه وإرشاده ومن عاب ذلك فلقلة علمه وضيق عطنه وضعف(10/169)
ص -159-…(10/170)
ص -160-…به منعهما من ذلك وامر محمية بن جزو وكان على الخمس ان يعطيهما ما ينكحان به فمنعهما من الطريق المحرم وفتح لهما الطريق المباح وهذا اقتداء منه بربه تبارك وتعالى فإنه يساله عبده الحاجة فيمنعه إياها ويعطيه ما أصلح له وانفع منها وهذا غاية الكرم والحكمة
تنبيه السائل الى ما يرفع الوهم:
الفائدة الخامسة: إذا أفتى المفتى للسائل بشئ ينبغي له ان ينبهه على وجه الاحتراز مما قد يذهب اليه الوهم منه من خلاف الصواب وهذا باب لطيف من أبواب العلم والنصح والارشاد ومثال هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده" فتأمل كيف أتبع الجملة الاولى بالثانية رفعا لتوهم إهدار دماء الكفار مطلقا وإن كانوا في عهدهم فإنه لما قال لا يقتل مؤمن بكافر فربما ذهب الوهم الى ان دماءهم هدر ولهذا لو قتل احدهم مسلم لم يقتل به فرفع هذا التوهم بقوله ولا ذو عهد في عهده ولقد خفيت هذه اللطيفة الحسنة على من قال يقتل المسلم بالكافر المعاهد وقدر في الحديث ولا ذو عهد في عهده بكافر ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا اليها" فلما كان نهيه عن الجلوس عليها نوع تعظيم لها عقبه بالنهي عن المبالغة في تعظيمها حتى تجعل قبلة وهذا بعينه مشتق من القرآن كقوله تعالى لنساء نبيه: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} فنهاهن عن الخضوع بالقول فربما ذهب الوهم الى الاذن في الاغلاظ في القول والتجاوز فرفع هذا التوهم بقوله: {وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} ومن ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} لما أخبر سبحانه بإلحاق الذرية ولا عمل لهم(10/171)
بآبائهم في الدرجة فربما توهم متوهم ان يحط الآباء الى درجة الذرية فرفع هذا التوهم بقوله وما ألتناهم من عملهم من شئ أي ما نقصنا من الاباء شيئا من أجور اعمالهم بل رفعنا ذريتهم الى(10/172)
ص -161-…درجتهم ولم نحطهم الى درجتهم بنقص اجورهم ولما كان الوهم قد يذهب الى انه يفعل ذلك بأهل النار كما يفعله بأهل الجنة قطع هذا الوهم بقوله تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} ومن هذا قوله تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} وله كل شئ فلما كان ذكر ربوبيته البلدة الحرام قد يوهم الاختصاص عقبه بقوله وله كل شئ ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} فلما ذكر كفايته للمتوكل عليه فربما اوهم ذلك تعجيل الكفاية وقت التوكل فعقبه بقوله قد جعل الله لكل شئ قدرا أي وقتا لا يتعداه فهو يسوقه الى وقته الذي قدره له فلا يستعجل المتوكل ويقول قد توكلت ودعوت فلم ار شيئا ولم تحصل لي الكفاة فالله بالغ أمره في وقته الذي قدره له وهذا كثي جدا في القرآن والسنة وهو باب لطيف من ابواب فهم النصوص.
يجب على المفتى ان يذكر دليل الحكم:(10/173)
الفائدة السادسة: ينبغي للمفتى ان يذكر دليل الحكم ومأخذه ما أمكنه من ذلك ولا يلقيه الى المستفتى ساذجا مجردا عن دليله ومأخذه فهذا لضيق عطنه وقلة بضاعته من العلم ومن تأمل فتاوي النبي صلى الله عليه وسلم الذي قوله حجة بنفسه رآها مشتملة على التنبيه على حكمة الحكم ونظيره ووجه مشروعيته وهذا كما سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال اينقص الرطب إذا جف قالوا نعم فزجر عنه ومن المعلوم انه كان يعلم نقصانه بالجفاف ولكن نبههم على علة التحريم وسببه ومن هذا قوله لعمر وقد سأله عن قبلة امرأته وهو صائم فقال أرأيت لو تمضمضت ثم مججته أكان يضر شيئا قال لا فنبه على أن مقدمة المحظور لا يلزم ان تكون محظورة فإن غاية القبة أنها مقدمة الجماع فلا يلزم من تحريمه تحريم مقدمته كما أن وضع الماء في الفم مقدمة شربه وليست المقدمة محرمة ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تنكح(10/174)
ص -162-…المرأة على عمتها ولا على خالتها فإنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم" فذكر لهم الحكم ونبههم على علة التحريم ومن ذلك قوله لابي النعمان بن بشير وقد خص بعض ولده بغلام نحله إياه فقال ايسرك ان يكونوا لك في البر سواء قال نعم قال فاتقوا الله واعدلوا بين اولادكم وفي لفظ إن هذا لا يصلح وفي لفظ إنى لا أشهد على جور وفي لفظ أشهد على هذا غيري تهديدا لا إذنا فإنه لا يأذن في الجور قطعا وفي لفظ رده والمقصود انه نبهه على علة الحكم ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم لرافع بن خديج وقد قال له: "إنا لاقو العدو غدا وليس معنا مدى أفنذبح بالقصب فقال: ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ليس السن والظفر وسأحدثك عن ذلك أما السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبشة" فنبه على علة المنع من التذكية بهما بكون احدهما عظماء وهذا تنبيه على عدم التذكية بالعظام إما لنجاسة بعضها وإما لتنجيسه على مؤمني الجن ولكون الاخر مدى الحبشه ففي التذكية بها تشبه بالكفار ومن ذلك قوله إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الانسية فإنها رجس ومن ذلك قوله في الثمرة تصيبها الجائحة أرأيت إن منع الله الثمرة فبم يأكل احدكم مال اخيه بغير حق وهذا التعليل بعينه ينطبق على من استأجر أرضا للزراعة فأصاب الزرع آفة سماوية لفظا ومعنى فيقال للمؤجر ارأيت إن منع الله الزرع فبم تأكل مال اخيك بغير حق وهذا هو الصواب الذي ندين الله به في المسألة وهو اختيار شيخ الاسلام ابن تيمية
والمقصود أن الشارع مع كون قوله حجة بنفسه يرشد الامة الى علل الاحكام ومداركها وحكمها فورثته من بعده كذلك ومن ذلك نهيه عن الخذف وقال إنه يفقأ العين ويكسر السن ومن ذلك إفتاؤه للعاض يد غيره بإهدار دية ثنيته لما سقطت بانتزاع المعضوض يده(10/175)
ص -163-…من فيه ونيه على العلة بقوله ايدع يده في فيك تقضمها كما يقضم الفحل وهذا من أحسن التعليل وابينه فإن العاض لما صال على المعضوض جاز له ان يرد صياله عنه بانتزاع يده من فمه فإذا ادى ذلك الى اسقاط ثناياه كان سقوطها بفعل مأذون فيه من الشارع فلا يقابل بالدية وهذا كثير جدا في السنة فينبغي للفتى ان ينبه السائل على علة الحكم ومأخذه ان عرف ذلك والا حرم عليه ان يفتي بلا علم وكذلك احكام القران يرشد سبحانه فيها الى مداركها وعللها كقوله ويسالونك عن المحيض قل هو اذى فاعتزلوا النساء في المحيض فأمر سبحانه نبيه ان يذكر لهم علة الحكم قبل الحكم وكذلك قوله {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الاغنياء منكم} وكذلك قوله {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم} وقال في جزاء الصيد {ليذوق وبال أمره}.
التمهيد للحكم المستغرب:
الفائدة السابعة إذا كان الحكم مستغربا جدا مما لم تألفه النفوس وإنما الفت خلافه فينبغي للمفتي ان يوطئ قبله ما يكون مؤذنا به كالدليل عليه والمقدمة بين يديه فتأمل ذكره سبحانه قصة زكريا وإخراج الولد منه بعد انصرام عصر الشبيبة وبلوغه السن الذي لا يولد فيه لمثله في العادة فذكر قصته مقدمة بين يدي قصة المسيح وولادته من غير اب فإن النفوس لما آنست بولد من بين شيخين كبيرين لا يولد لهما عادة سهل عليها التصديق بولادة ولد من غير أب وكذلك ذكر سبحانه قبل قصة المسيح موافاة مريم رزقها في غير وقته وغير إبانه وهذا الذي شجع نفس زكريا وحركها لطلب الولد وإن كان في غير إبانه وتأمل قصة نسخ القبلة لما كانت شديدة على النفوس جدا كيف(10/176)
ص -164-…(10/177)
ص -165-…يجوز للمفتي والمناظر ان يحلف على ثبوت الحكم عنده:
الفائدة الثامنة: يجوز للمفتي والمناظر ان يحلف على ثبوت الحكم عنده وإن لم يكن حلفه موجبا لثبوته عند السائل والمنازع ليشعر السائل والمنازع له انه على ثقة ويقين مما قال له وانه غير شاك فيه فقد تناظر رجلان في مسألة فحلف أحدهما على ما يعتقده فقال له منازعه لا يثبت الحكم بحلفك فقال إنى لم أحلف ليثبت الحكم عندك ولكن لأعلمك انى على يقين وبصيره من قولى وأن شبهتك لا تغير عندي في وجه يقينى بما انا جازم به
وقد امر الله نبيه صلى الله عليه وسلم ان يحلف على ثبوت الحق الذي جاء به في ثلاثة مواضع من كتابه احدها قوله تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} والثاني قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ} والثالث قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} وقد اقسم النبي صلى الله عليه وسلم على ما أخبر به من الحق في اكثر من ثمانين موضعا وهي موجودة في الصحاح والمسانيد
وقد كان الصحابة رضى الله عنهم يحلفون على الفتاوي والرواية فقال علي بن ابي طالب كرم الله وجه لابن عباس في متعة النساء إنك امرؤ تائه فانظر ما تفتي به في متعة النساء فوالله واشهد بالله لقد نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما ولى عمر رضى الله عنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال: "يا أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم احل المتعة ثلاثا ثم حرمها ثلاثا فأنا اقسم بالله قسما لا أجد احدا من المسلمين متمتعا إلا رجمته إلا ان يأتي بأربعة من المسلمين يشهدون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احلها بعد ان حرمها"(10/178)
وقد حلف الشافعي في بعض أجوبته فقال محمد بن الحكم: "سألت الشافعي رضى الله عنه عن المتعة كان يكون فيها طلاق أوميراث أونفقة أوشهادة فقال: لا والله ما أدرى" وقال يزيد بن هارون: "من قال القرآن مخلوق أوشئ منه فهو والله عندي زنديق" وسئل عن حديث جرير في الرؤية فقال: "والله الذي لا إله إلا هو من كذب به ما هم إلا زنادقة"(10/179)
ص -166-…وأما الامام احمد رحمة الله عليه ورضوانه فإنه حلف على عدة مسائل من فتاويه قيل ايزيد الرجل في الوضوء على ثلاث مرات فقال لا والله إلا رجل مبتلى يعنى بالوسواس وسئل عن تخلل الرجل لحيته إذا توضأ فقال إي والله وسئل يكون الرجل في الجهاد بين الصفين يبارز علجا بغير إذن الامام فقال لا والله وقيل له اتكره الصلاة في المقصورة فقال إي والله قلت وهذا لما كانت المقصورة تحمي للامراء وأتباعهم وسئل أيؤجر الرجل على بغض من خالف حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إي والله وسئل من قال: القرآن مخلوق كافر فقال: إي والله وسئل هل صح عندك في النبيذ حديث فقال: والله ما صح عندي حديث واحد إلا على التحريم وسئل أيكره الخضاب بالسوادفقال إي والله وسئل عن الرجل يؤم أباه ويصلي الأب خلفه فقال إي والله وسئل هل يكره النفخ في الصلاة فقال إي والله وسئل عن تزوج الرجل المسلم الأمة من أهل الكتاب فقال لا والله وسئل عن المرأة تستلقي على قفاها وتنام يكره ذلك فقال إي والله وسئل عن الرجل يرهن جاريته فيطؤها وهي مرهونة فقال لا والله وسئل عن حديث عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قضى في رجل استسقى قوما وهو عطشان فلم يسقوه فمات فأغرمهم عمر الدية تقول أنت كذا قال إي والله وسئل عن الرجل إذا حد في القذف ثم قذف زوجته يلاعنها فقال إي والله وسئل أيضرب الرجل رقيقة فقال إي والله ذكر هذه المسائل القاضي أبو علي الشريف
وقال الإمام أحمد في رواية ابنه صالح والله لقد أعطيت المجهود من نفسي ولوددت أني أنجو من هذا الأمر كفافا لا على ولالى وقال في روايته أيضا والله لقد تمنيت الموت في الأمر الذي كان وإني لأتمنى الموت في هذا وهذا فتنة الدنيا(10/180)
ص -167-…وقال إسحاق بن منصور لأحمد يكره الخاتم من ذهب أوحديد فقال إي والله.
وقال إسحاق أيضا قلت لأحمد يؤجر الرجل يأتي أهله وليس له شهوة في النساء فقال إي والله يحتسب الولد وإن لم يرد الولد إلا أنه يقول هذه امرأة شابة وقال له محمد بن عون يا أبا عبد الله يقولون إنك وقفت على عثمان فقال: "كذبوا والله على وإنما حدثتهم بحديث ابن عمر كنا نفاضل بين اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نقول ابو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي فيبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكره ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم لا تخايروا بعد هؤلاء فمن وقف على عثمان ولم يربع بعلى عليه السلام فهو على غير السنة"
وسئل احمد هل المقام بالثغر افضل من المقام بمكة فقال: "إى والله"
وذكر ابو احمد بن عدي في الكامل ان ايوب بن إسحاق بن سافري قال: سألت احمد بن حنبل فقلت: يا أبا عبد الله ابن اسحاق إذا انفرد بحديث تقبله فقال: "لا والله إني رأيته يحدث عن جماعة بالحديث ولا يفصل كلام ذا من كلام ذا"
وقال صالح بن احمد قلت: لأبي تقتل الحية والعقرب في الصلاة فقال: "إى والله" وقال ايضا: "قلت لأبي تجهر بآمين فقال إى والله الامام وغير الامام" وقال ايضا قلت: لابي يفتح على الامام قال: "إى والله"
وقال الميموني قلت لاحمد: "ونحن نحتاج في رمضان ان نبيت الصوم من الليل فقال: إى والله" وقال الميموني أيضا: "تباع الفرس الحبيس إذا عطبت وإذا فسدت فقال: إى والله" وقال الميموني ايضا قلت لاحمد: "هل ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في العقيقة شئ فأملى على أبي إى والله وفي غير حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الغلام شاتان مكافيتان وعن الجارية شاة"(10/181)
ص -168-…وقال إسحاق بن منصور: "قلت لأحمد التسبيح للرجال والتصفيق للنساء قال إى والله" وقال الكوسج ايضا: "قلت لأحمد قال سفيان تجزئه تكبيرة إذا نوى بها افتتاح الصلاة قال احمد إى والله تجزئه إذا نوى ابن عمر وزيد" وقال أيضا قلت لأحمد المؤذن يجعل أصبعيه في أذنيه قال إى والله وقال ايضا قلت لأحمد سئل سفيان عن امرأة ماتت وفي بطنها ولد يتحرك ما أرى باسا ان يشق بطنها قال احمد بئس والله ما قال يردد ذلك سبحان الله بئس ما قال وقال ايضا قلت لاحمد تجوز شهادة رجل وامراتين في الطلاق قال لا والله وقال ايضا قلت لأحمد: "المرجئ إذا كان داعيا قال إى والله يجفى ويقصى"
وقال ابو طالب قلت لاحمد رجل قال القرآن كلام الله ليس بمخلوق ولكن لفظي هذا به مخلوق قال: "من قال هذا فقد جاء بالامر كله إنما هو كلام الله على كل حال والحجة فيه حديث ابي بكر: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ}" فقيل له هذا مما جاء به صاحبك فقال: "لا والله ولكنه كلام الله هذا وغيره وإنما هو كلام الله قلت: بسم الله الرحمن الرحيم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} هذا الذي قرأت الساعة كلام الله" قال: إى والله هو كلام الله ومن قال لفظي بالقرآن مخلوق فقد جاء بالامر كله".
وقال الفضل بن زياد: "سألت ابا عبد الله عن حديث ابن شبرمة عن الشعبي في رجل نذر ان يطلق امراته فقال له الشعبي: "اوف بنذرك اترى ذلك فقال: لا والله" وقال الفضل ايضا: "سمعت ابا عبد الله وذكر يحيى بن سعيد القطان فقال لا والله ما أدركنا مثله"(10/182)
ص -169-…وذكر احمد في رسالته الى مسدد ولا عين نظرت بعد النبي صلى الله عليه وسلم خيرا من ابي بكر ولا بعد ابي بكر عين نظرت خيرا من عمر ولا بعد عمر عين نظرت خيرا من عثمان ولا بعد عثمان عين نظرت خيرا من علي بن ابي طالب رضى الله عنهم ثم قال احمد هم والله الخلفاء الراشدون المهديون
وقال الميوني: "قلت لأحمد جابر الجعفي قال كان يرى التشيع قلت قد يتهم في حديثه بالكذب قال إى والله" قال القاضي: "فإن قيل كيف استجاز الامام احمد ان يحلف في مسائل مختلف فيها" قيل: اما مسائل الاصول فلا يسوغ فيها اختلاف فهى إجماع وأما مسائل الفروع فإنه لما غلب على ظنه صحة ذلك حلف عليه كما لو وجد في دفتر ابيه ان له على فلان دينا جاز له ان يدعيه لغلبة الظن بصدقه قلت ويحلف عليه قال فإن قيل اليس قد امتنع من اليمين على إسقاط الشفعة بالجوار قيل لأن اليمين هناك عند الحاكم والنية فيه للخصم قلت ولم يمنع احمد اليمين لهذا بل شفعه الجوار عنده مما يسوغ القول بها وفيها احاديث صحاح لا ترد ولهذا اختلف قوله فيها فمرة نفاها ومرة اثبتها ومرة فصل بين أن يشتركا في حقوق الملك كالطريق والماء وغيره وبين ألا يشتركا في شئ من ذلك فلا يثبت(10/183)
وهذا هوالصواب الذي لا ريب فيه وبه تجتمع الاحاديث وهو اختيار شيخ الاسلام ومذهب فقهاء البصرة ولا يختار غيره وقد روى احمد عن جماعة من الصحابة والتابعين انهم حلفوا في الرواية والفتوى وغيرها تحقيقا وتأكيدا للخبر لا إثباتا له باليمين وقد قال تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الاية وقال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وكذلك اقسم بكلامه كقوله تعالى: {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} وأما إقسامه بمخلوقاته التي هي آيات دالة عليه فكثير جدا(10/184)
ص -170-…تستحسن الفتوى بلفظ النص:
الفائدة التاسعة: ينبغي للمفتي ان يفتي بلفظ النص مهما امكنه فإنه يتضمن الحكم والدليل مع البيان التام فهو حكم مضمون له الصواب متضمن للدليل عليه في احسن بيان وقول الفقيه المعين ليس كذلك وقد كان الصحابة والتابعون والائمة الذين سلكوا على منهاجهم يتحرون ذلك غاية التحري حتى خلفت من بعدهم خلوف رغبوا عن النصوص واشتقوا لهم ألفاظا غير الفاظ النصوص فأوجب ذلك هجر النصوص ومعلوم ان تلك الالفاظ لا تفي بما تفي به النصوص من الحكم والدليل وحسن البيان فتولد من هجران الفاظ النصوص والاقبال على الالفاظ الحادئة وتعليق الاحكام بها على الامة من الفساد مالا يعلمه إلا الله فألفاظ النصوص عصمة وحجة بريئة من الخطأ والتناقض والتعقيد والاضطراب ولما كانت هي عصمة عهدة الصحابة واصولهم التي اليها يرجعون كانت علومهم اصح من علوم من بعدهم وخطؤهم فيما اختلفوا فيه أقل من خطأ من بعدهم ثم التابعون بالنسبة الى من بعدهم كذلك وهلم جرا
ولما استحكم هجران النصوص عند اكثر اهل الأهواء والبدع كانت علومهم في مسائلهم وادلتهم في غاية الفساد والاضطراب والتناقض
وقد كان اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا سئلوا عن مسالة يقولون قال الله كذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا أوفعل رسول الله كذا ولا يعدلون عن ذلك ما وجدوا اليه سبيلا قط فمن تامل أجوبتهم وجدها شفاء لما في الصدور فلما طال العهد وبعد الناس من نور النبوة صار هذا عيبا عند المتأخرين ان يذكروا في اصول دينهم وفروعه قال الله وقال رسول الله أما اصول دينهم فصرحوا في كتبهم ان قول الله ورسوله لا يفيد اليقين في مسائل اصول الدين وإنما يحتج بكلام الله ورسوله فيها الحشوية والمجسمة والمشبهة واما فروعهم فقنعوا بتقليد من اختصر لهم بعض المختصرات التي لا يذكر فيها نص عن الله ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن الامام(10/185)
ص -171-…الذي زعموا انهم قلدوه دينهم بل عمدتهم فيما يفتون ويقضون به وينقلون به الحقوق ويبيحون به الفروج والدماء والاموال على قول ذلك المصنف واجلهم عند نفسه وزعيمهم عند بني جنسه من يستحضر لفظ الكتاب ويقول هكذا قال وهذا لفظه فالحلال ما احله ذلك الكتاب والحرام ما حرمه والواجب ما اوجبه والباطل ما ابطله والصحيح ما صححه هذا وانى لنا بهؤلاء في مثل هذه الازمان فقد دفعنا إلى امر تضج منه الحقوق الى الله ضجيجا وتعج الفروج والاموال والدماء الى ربها عجيجا تبدل فيه الاحكام ويقلب فيه الحلال بالحرام ويجعل المعروف فيه اعلى مراتب المنكرات والذي لم يشرعه الله ورسوله من افضل القربات الحق فيه غريب وأغرب منه من يعرفه وأغرب منهما من يدعو اليه وينصح به نفسه والناس قد فلق بهم فالق الاصباح صبحه عن غياهب الظلمات وابان طريقة المستقيم من بين تلك الطرق الجائرات واراه بعين قلبه ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم واصحابه مع ما عليه اكثر الخلق من البدع المضلات رفع له علم الهداية فشمر اليه ووضح له الصراط المستقيم فقام واستقام عليه وطوبي له من وحيد على كثرة السكان غريب على كثرة الجيران بين اقوام رؤيتهم قذى العيون وشجى الحلوق وكرب النفوس وحمى الارواح وغم الصدور ومرض القلوب وإن انصفتهم لم تقبل طبيعتهم الانصاف وان طلبته منهم فأين الثريا من يد الملتمس قد انتكست قلوبهم وعمى عليهم مطلوبهم رضوا بالاماني وابتلوا بالحظوظ وحصلوا على الحرمان وخاضوا بحار العلم لكن بالدعاوي الباطلة وشقاشق الهذيان ولا والله ما ابتلت من وشله اقدامهم ولا زكت به عقولهم واحلامهم ولا ابيضت به لياليهم واشرقت بنوره ايامهم ولا ضحكت بالهدى والحق منه وجوه الدفاتر إذ بلت بمداده أقلامهم انفقوا في غير شئ نفائس الانفاس واتعبوا انفسهم وحيروا من خلفهم من الناس(10/186)
ص -172-…ضيعوا الاصول فحرموا الوصول وأعرضوا عن الرسالة فوقعوا في مهامه الحيرة وبيداء الضلالة
والمقصود ان العصمة مضمونه في الفاظ النصوص ومعانيها في أتم بيان واحسن تفسير ومن رام إدراك الهدى ودين الحق من غير مشكاتها فهو عليه عسير غير يسير
فصل: توجه المفتى الى الله
الفائدة العاشرة ينبغي للمفتي الموفق إذا نزلت به المسألة ان ينبعث من قلبه الافتقار الحقيقي الحالي لا العلمي المجرد الى ملهم الصواب ومعلم الخير وهادي القلوب ان يلهمه الصواب ويفتح له طريق السداد ويدله على حكمه الذي شرعه لعباده في هذه المسألة فمتى قرع هذا الباب فقد قرع باب التوفيق وما اجدر من امل فضل ربه ان لا يحرمه إياه فإذا وجد من قلبه هذه الهمة فهي طلائع بشرى التوفيق فعليه ان يوجه وجهه ويحدق نظره الى منبع الهدى ومعدن الصواب ومطلع الرشد وهو النصوص من القرآن والسنة وآثار الصحابة فيستفرغ وسعه في تعرف حكم تلك النازلة منها فان ظفر بذلك اخبر به وان اشتبه عليه بادر إلى التوبة والاستغفار والاكثار من ذكر الله فإن العلم نور الله يقذفه في قلب عبده والهوى والمعصية رياح عاصفة تطفئ ذلك النور أوتكاد ولا بد ان تضعفه.
وشهدت شيخ الاسلام قدس الله روحه اذا اعيته المسائل واستصعبت عليه فر منها الى التوبة والاستغفار والاستغاثة بالله واللجأ اليه واستنزال الصواب من عنده والاستفتاح من خزائن رحمته فقلما يلبث المدد الالهي ان يتتابع عليه مدا وتزدلف الفتوحات الالهية اليه بايتهن يبدأ ولا ريب ان من وفق لهذا الافتقار(10/187)
ص -173-…علما وحالا وسار قلبه في ميادينه بحقيقة وقصد فقد أعطى حظه من التوقيق ومن حرمه فقد منع الطريق والرفيق فمتى اعين مع هذا الافتقار ببذل الجهد في درك الحق فقد سلك به الصراط المستقيم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم
العلم بالحق مقدمة للحكم والفتيا:
الفائدة الحادية عشرة اذا نزلت بالحاكم أوالمفتى النازلة فإما ان يكون عالما بالحق فيها أوغالبا على ظنه بحيث قد استفرغ وسعه في طلبه ومعرفته أولا فان لم يكن عالما بالحق فيها ولا غلب على ظنه لم يحل له ان يفتى ولا يقضى بما لا يعلم ومتى أقدم على ذلك فقد تعرض لعقوبة الله ودخل تحت قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} فجعل القول عليه بلا علم اعظم المحرمات الاربع التي لا تباح بحال ولهذا حصر التحريم فيها بصيغة الحصر ودخل تحت قوله تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} ودخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم من افتى بغير علم فانما إثمة على من أفتاه وكان احد القضاة الثلاثة الذين ثلثاهم في النار وان كان قد عرف الحق في المسألة علما أوظنا غالبا لم يحل له ان يفتى ولا يقضى بغيره بالاجماع المعلوم بالضرورة من دين الاسلام وهو احد القضاة الثلاثة والمفتين الثلاثة والشهود الثلاثة وإذا كان من افتى أوحكم أوشهد بغير علم مرتكبا لأعظم الكبائر فكيف من أفتى أوحكم أوشهد بما يعلم خلافه فالحاكم والمفتي والشاهد كل منهم مخبر عن حكم الله فالحاكم مخبر منفذ والمفتي مخبر غير منفذ والشاهد مخبر عن الحكم الكوني القدري(10/188)
المطابق للحكم الديني الامري فمن اخبر منهم عما يعلم خلافه فهو كاذب على الله عمدا ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة ولا اظلم ممن(10/189)
ص -174-…كذب على الله وعلى دينه وإن أخبروا بمالم يعلموا فقد كذبوا على الله جهلا وإن أصابوا في الباطن واخبروا بما لم يأذن الله لهم في الاخبار به وهم أسوأ حالا من القاذف اذا راى الفاحشة وحده فأخبر بها فإنه كاذب عند الله وإن أخبر بالواقع فإن الله لم يأذن له في الاخبار بها إلا اذا كان رابع أربعة فإن كان كاذبا عند الله في خبر مطابق لمخبره حيث لم يأذن له في الاخبار به فكيف بمن اخبر عن حكمة بما لم يعلم ان الله حكم به ولم يأذن له في الاخبار به قال الله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ} والكذب على الله يستلزم التكذيب بالحق والصدق وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} وهؤلاء الايات وإن كانت في حق المشركين والكفار فإنها متناولة لمن كذب على الله في توحيده ودينه وأسمائه وصفاته وأفعاله ولا تتناول المخطئ المأجور إذا بذل جهده واستفرغ وسعه في إصابة حكم الله وشرعه فإن هذا هو الذي فرضه الله عليه فلا يتناول المطيع لله إن أخطأ وبالله التوفيق
ما يجب على الراوي والمفتي والحاكم والشاهد:(10/190)
الفائدة الثانية عشرة حكم الله ورسوله يظهرعلى اربعة ألسنة لسان الراوي ولسان المفتي ولسان الحاكم ولسان الشاهد فالرواي يظهر على لسانه لفظ حكم الله ورسوله والمفتي يظهر على لسانه معناه وما استنبطه من لفظه والحاكم يظهر على لسانه الاخبار بحكم الله وتنفيذه والشاهد يظهر على لسانه الاخبار بالسبب الذي يثبت حكم الشارع والواجب على هؤلاء الاربعة ان يخبروا بالصدق المستند الى العلم فيكونون عالمين بما يخبرون به صادقين في الاخبار(10/191)
ص -175-…به وآفة احدهم الكذب والكتمان فمتى كتم الحق أوالكذب فيه فقد حاد الله في شرعه ودينه وقد أجرى الله سنته ان يمحق عليه بركة علمه ودينه ودنياه اذا فعل ذلك كما أجرى عادته سبحانه في المتبايعين إذا كتما وكذبا أن يمحق بركة بيعهما ومن التزم الصدق والبيان منهم في مرتبته بورك له في علمه ووقته ودينه ودنياه وكان مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما فبالكتمان يعزل الحق عن سلطانه وبالكذب يقلبه عن وجهه والجزاء من جنس العمل فجزاء أحدهم ان يعزله الله عن سلطان المهابة والكرامة والمحبة والتعظيم الذي يلبسه اهل الصدق والبيان ويلبسه ثوب الهوان والمقت والخزي بين عباده فإذا كان يوم القيامة جازى الله سبحانه من يشاء من الكاذبين الكاتمين بطمس الوجوه وردها على أدبارها كما طمسوا وجه الحق وقلبوه عن وجهه جزاء وفاقا وما ربك بظلام للعبيد.
على المفتي ألا ينسب الحكم الى الله ولا الى رسوله إلا بنص قاطع:
الفائدة الثالثة عشرة: لا يجوز للمفتي ان يشهد على الله ورسوله بأنه احل كذا أوحرمه أواوجبه أوكرهه إلا لما يعلم ان الامر فيه كذلك مما نص الله ورسوله على اباحته أوتحريمه أوإيجابه أوكراهته وأما ما وجده في كتابه الذي تلقاه عمن قلده دينه فليس له ان يشهد على الله ورسوله به ويغر الناس بذلك ولا علم له بحكم الله ورسوله
قال غير واحد من السلف ليحذر احدكم ان يقول احل الله كذا أوحرم الله كذا فيقول الله له كذبت لم احل كذا ولم احرمه
وثبت في صحيح مسلم من حديث بريده بن الحصيب ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وإذا حاصرت حصنا فسألوك أن تنزلهم على حكم الله ورسوله فلا تنزلهم على حكم الله ورسوله فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك"(10/192)
ص -176-…وسمعت شيخ الإسلام يقول حضرت مجلسا فيه القضاة وغيرهم فجرت حكومة حكم فيها احدهم بقول زفر فقلت له ما هذه الحكومة فقال هذا حكم الله فقلت له صار قول زفر هو حكم الله الذي حكم به وألزم به الأمة هل هذا حكم زفر ولا تقل هذا حكم الله أونحو هذا من الكلام
الاحوال التي ترد على المفتي من المستفتى:
الفائدة الرابعة عشرة المفتي اذا سئل عن مسالة فإما ان يكون قصد السائل فيها معرفة حكم الله ورسوله ليس إلا وإما ان يكون قصده معرفة ما قاله الامام الذي شهر المفتي نفسه باتباعه وتقليده دون غيره من الائمة واما ان يكون مقصوده معرفة ما ترجح عند ذلك المفتي وما يعتقده فيها لاعتقاده علمه ودينه وأمانته فهو يرضى تقليده هو وليس له غرض في قول إمام بعينه فهذه اجناس الفتيا التي ترد على المفتين.
ففرض المفتي في القسم الاول ان يجيب بحكم الله ورسوله اذا عرفه وتيقنه لا يسعه غير ذلك
وأما القسم الثاني فاذا عرف اقول الامام نفسه وسعه ان يخبر به ولا يحل له ان ينسب اليه القول ويطلق عليه انه قوله بمجرد ما يراه في بعض الكتب التي حفظها أوطالعها من كلام المنتسبين اليه فانه قد اختلطت اقوال الائمة وفتاويهم بأقوال المنتسبين اليهم واختياراتهم فليس كل ما في كتبهم منصوصا عن الائمة بل كثير منه يخالف نصوصهم وكثير منه لا نص لهم فيه وكثير منه يخرج على فتاويهم وكثير منه أفتوا به بلفظه أوبمعناه فلا يحل لاحد ان يقول هذا قول فلان ومذهبه إلا ان يعلم يقينا انه قوله ومذهبه فما أعظم خطر المفتي وأصعب مقامه بين يدى الله تعالى(10/193)
ص -177-…واما القسم الثالث فانه يسعه ان يخبر المستفتى بما عنده في ذلك يغلب على ظنه انه الصواب بعد بذل جهده واستفراغ وسعه ومع هذا فلا يلزم المستفتى الاخذ بقوله وغايته انه يسوغ له الاخذ به
فلينزل المفتي نفسه في منزلة من هذه المنازل الثلاث وليقم بواجبها فإن الدين دين الله والله سبحانه ولا بد سائله عن كل ما افتى به وهو موقره عليه ومحاسب ولا بد والله المستعان
على المفتي ان يفتي بالصواب ولو كان خلافا لمذهبه:
الفائدة الخامسة عشرة ليحذر المفتي الذي يخاف مقامه بين يدي الله سبحانه ان يفتي السائل بمذهبه الذي يقلده وهو يعلم ان مذهب غيره في تلك المسألة ارجح من مذهبه واصح دليلا فتحمله الرياسة على ان يقتحم الفتوى بما يغلب على ظنه ان الصواب في خلافه فيكون خائنا لله ورسوله وللسائل وغاشا له والله لا يهدي كيد الخائنين وحرم الجنة على من لقيه وهو غاش للاسلام واهله والدين النصيحة والغش مضاد للدين كمضادة الكذب للصدق والباطل للحق وكثيرا ما ترد المسألة نعتقد فيها خلاف المذهب فلا يسعنا ان نفتي بخلاف ما نعتقده فنحكي المذهب الراجح ونرجحه ونقول هذا هو الصواب وهو اولى ان يؤخذ به وبالله التوفيق.
على المفتي الا يبهم على السائل:
الفائدة السادسة عشرة لا يجوز للمفتي الترويج وتخيير السائل وإلقاؤه في الاشكال والحيرة بل عليه ان يبين بيانا مزيلا للإشكال متضمنا لفصل الخطاب كافيا في حصول المقصود لا يحتاج معه الى غيره ولا يكون كالمفتي الذي سئل عن مسألة في المواريث فقال يقسم بين الورثة على فرائض الله عزوجل وكتبه فلان وسئل اخر عن صلاة الكسوف فقال تصلي على حديث عائشة وان كان هذا اعلم من الاول وسئل اخر عن مسألة من الزكاة فقال اما اهل الايثار فيخرجون المال كله واما غيرهم فيخرج القدر الواجب عليه أوكما قال وسئل اخر عن مسالة فقال فيها قولان ولم يزد(10/194)
ص -178-…قال ابو محمد بن حزم: "وكان عندنا مفت إذا سئل عن مسألة لا يفتى فيها حتى يتقدمه من يكتب فيكتب هو جوابي فيها مثل جواب الشيخ فقدر ان مفتيين اختلفا في جواب فكتب تحت جوابهما جوابي مثل جواب الشيخين فقيل له انهما قد تناقضا فقال: وانا أتناقض كما تناقضا وكان في زماننا رجل مشار اليه بالفتوى وهو مقدم في مذهبه وكان نائب السلطان يرسل اليه في الفتاوي فيكتب يجوز كذا أويصح كذا أوينعقد بشرطه فارسل اليه يقول له تأتينا فتاوي منك فيها يجوز أوينعقد أويصح بشرطه ونحن لا نعلم شرطه فإما ان تبين شرطه وإما ان لا تكتب ذلك
وسمعت شيخنا يقول: كل احد يحسن ان يفتى بهذا الشرط فإن أي مسألة وردت عليه يكتب فيها يجوز بشرطه أويصح بشرطه أويقبل بشرطه ونحو ذلك.
وهذا ليس بعلم ولا يفيد فائدة اصلا سوى حيرة السائل وتبلده وكذلك قول بعضهم في فتاويه يرجع في ذلك الى رأي الحاكم فيا سبحان الله والله لو كان الحاكم شريحا واشباهه لما كان مرد احكام الله ورسوله الى رأيه فضلا عن حكام زماننا فالله المستعان وسئل بعضهم عن مسالة فقال فيها خلاف فقيل له كيف يعمل المفتي فقال يختار له القاضي احد المذهبين قال ابو عمرو بن الصلاح: "كنت عند ابي السعادات ابن الاثير الجزري فحكى عن بعض المفتين انه سئل عن مسألة فقال فيها قولان فأخذ يزرى عليه وقال هذا حيد عن الفتوى ولم يخلص السائل من عمايته ولم يأت بالمطلوب"
قلت وهذا فيه تفصيل فإن المفتي المتمكن من العلم المضطلع به قد يتوقف في الصواب في المسألة المتنازع فيها فلا يقدم على الجزم بغير علم وغاية ما يمكنه ان يذكر الخلاف فيها للسائل وكثيرا ما يسأل الامام احمد رضى الله عليه وغيره من الائمة عن مسالة فيقول فيها قولان أوقد اختلفوا فيها وهذا كثير في اجوبة الامام احمد لسعه علمه وورعه وهو كثير في كلام الامام الشافعي رضى الله عنه يذكر المسالة ثم يقول فيها قولان وقد اختلف اصحابه هل يضاف القولان اللذان(10/195)
ص -179-…يحكيهما الى مذهبه وينسبان اليه ام لا على طريقين واذا اختلف علي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وزيد وابي وغيرهم من الصحابة رضى الله عنهم ولم يتبين للمفتي القول الراجح من أقوالهم فقال هذه مسألة اختلف فيها فلان وفلان من الصحابة فقد انتهى الى ما يقدر عليه من العلم قال ابو اسحاق الشيرازي سمعت شيخنا ابا الطيب الطبري يقول سمعت ابا العباس الحضرمي يقول كنت جالسا عند ابي بكر بن داود الظاهري فجاءته امرأة فقالت ما تقول في رجل له زوجة لا هو ممسكها ولا هو مطلقها فقال لها اختلف في ذلك اهل العلم فقال قائلون تؤمر بالصبر والاحتساب ويبعث على التطلب والاكتساب وقال قائلون يؤمر بالانفاق ولا يحمل على الطلاق فلم تفهم المرأة قوله فأعادت المسألة فقال يا هذه اجبتك عن مسألتك وأرشدتك الى طلبتك ولست بسلطان فأمضى ولاقاض فأقضى ولا زوج فارضى فانصرفى
لا يصح للمفتي ان يعتبر شرط الواقف إذا خالف الشارع
الفائدة السابعة عشرة اذا سئل عن مسألة فيها شرط واقف لم يحل له ان يلزم بالعمل به بل ولا يسوغه على الاطلاق حتى ينظر في ذلك الشرط فإن كان يخالف حكم الله ورسوله فلا حرمة له ولا يحل له تنفيذه ولا يسوغ تنفيذه وإن لم يخالف حكم الله ورسوله فلينظر هل فيه قربة أورجحان عند الشارع ام لا فان لم يكن فيه قربة ولا رجحان لم يجب التزامه ولم يحرم فلا تضر مخالفته وان كان فيه قربة وهو راجح على خلافه فلينظر هل يفوت بالتزامه والتقييد به ما هو احب الى الله ورسوله وارضى له وانفع للمكلف واعظم تحصيلا لمقصود الواقف من الاجر فإن فات ذلك بالتزامه لم يجب التزامه ولا التقييد به قطعا وجاز العدول بل يستحب الى ما هو احب الى الله ورسوله وانفع للمكلف واكثر تحصيلا لمقصود الواقف وفي جواز التزام شرط الواقف في هذه الصورة تفصيل سنذكره إن شاء الله وإن كان فيه قربة وطاعة ولم يفت بالتزامه ما هو احب الى الله ورسوله منه وتساوي هو وغيره في تلك القربة(10/196)
ص -180-…ويحصل غرض الواقف بحيث يكون هو وغيره طريقين موصلين الى مقصوده ومقصود الشارع من كل وجه لم يتعين عليه التزام الشرط بل له العدول عنه الى ما هو اسهل عليه وارفق به وان ترجح موجب الشرط وكان قصد القربة والطاعة فيه أظهر وجب التزامه
فهذا هو القول الكلى في شروط الواقفين وما يجب التزامه منها وما يسوغ وما لا يجب
ومن سلك غير هذا المسلك تناقض اظهر تناقض ولم يثبت له قدم يعتمد عليه
شروط الواقفين المخالفة للشرع:
فإذا شرط الواقف ان يصلي الموقوف عليه في هذا المكان المعين الصلوات الخمس ولو كان وحده الى جانبه المسجد الاعظم وجماعة المسلمين لم يجب عليه الوفاء بهذا الشرط بل ولا يحل له التزامه اذا فاتته الجماعة فإن الجماعة اما شرط لا تصح الصلاة بدونها واما واجبة يستحق تاركها العقوبة وإن صحت صلاته وإما سنة مؤكدة يقاتل تاركها وعلى كل تقدير فلا يصح التزام شرط يخل بها وكذلك اذا شرط الواقف العزوبية وترك التأهل لم يجب الوفاء بهذا الشرط بل ولا التزامه بل من التزمه رغبة عن السنة فليس من الله ورسوله في شئ فإن النكاح عندالحاجة اليه إما فرض يعصي تاركه وإما سنة الاشتغال بها أفضل من صيام النهار وقيام الليل وسائر اوراد التطوعات واما سنة يثاب فاعلها كما يثاب فاعل السنن والمندوبات وعلى كل تقدير فلا يجوز اشتراط تعطيله أوتركه إذ يصير مضمون هذا الشرط انه لا يستحق تناول الوقف إلا من عطل ما فرض الله عليه وخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن فعل ما فرضه الله عليه وقام بالسنة لم يحل له ان يتناول من هذا الوقف شيئا ولا يخفى ما في التزام هذا الشرط والالزام به من مضادة الله ورسوله وهو اقبح من اشتراطه(10/197)
ص -181-…ترك الوتر والسنن الراتبة وصيام الخميس والاثنين والتطوع بالليل بل اقبح من اشتراطه ترك ذكر الله بكرة وعشيا ونحو ذلك
ومن هذا اشتراطه ان يصلي الصلوات في التربة المدفون بها ويدع المسجد وهذا ايضا مضاد لدين الاسلام اعظم مضادة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن المتخذين قبور أنبيائهم مساجد فالصلاة في المقبرة معصية لله ورسوله باطلة عند كثير من اهل العلم لا يقبلها الله ولا تبرأ الذمة بفعلها فكيف يجوز التزام شرط الواقف لها وتعطيل شرط الله ورسوله فهذا تغيير الدين لولا ان الله سبحانه يقيم له من يبين اعلامه ويدعو اليه
ومن ذلك اشتراط إيقاد سراج أوقنديل على القبر فلا يحل للواقف اشتراط ذلك ولا للحاكم تنفيذه ولا للمفتي تسويغه ولا للموقوف عليه فعله والتزامه فقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتخذين السرج على القبور فكيف يحل للمسلم ان يلزم أويسوغ فعل ما لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعله وحضرت بعض قضاة الاسلام يوما وقد جاءه كتاب وقف على تربة ليثبته وفيه وانه يوقد على القبر كل ليلة قنديل فقلت له كيف يحل لك ان تثبت هذا الكتاب وتحكم بصحته مع علمك بلعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتخذين السرج على القبور فأمسك عن إثباته وقال الامر كما قلت أوكما قال
ومن ذلك ان يشترط القراءة عند قبره دون البيوت التي اذن الله ان ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال والناس لهم قولان احدهما ان القراءة لا تصل الى الميت فلا فرق بين ان يقرأ عند القبر أوبعيدا منه عند هؤلاء والثاني انها تصل ووصولها فرع حصول الثواب للقارئ ثم ينتقل منه الى الميت فإذا كانت قراءة القارئ ومجيئه الى القبر إنما هو لأجل الجعل ولم يقصد به التقرب الى الله لم يحصل له ثواب فكيف ينقل عنه الى الميت وهو فرعه فما زاد بمجيئه الى التربة الا العناء والتعب بخلاف ما اذا(10/198)
ص -182-…قرأ الله في المسجد أوغيره في مكان يكون اسهل عليه واعظم لإخلاصه ثم جعل ثواب ذلك للميت وصل اليه
وذاكرت مرة بهذا المعنى بعض الفضلاء فاعترف به وقال لكن بقى شئ آخر وهو ان الواقف قد يكون قصد انتفاعه بسماع القرآن على قبره ووصول بركة ذلك اليه فقلت له انتفاعه بسماع القرآن مشروط بحياته فلما مات انقطع عمله كله واستماع القران من افضل الاعمال الصالحة وقد انقطع بموته ولو كان ذلك ممكنا لكان السلف الطيب من الصحابة والتابعين ومن بعدهم اولى بهذا الحظ العظيم لمسارعتهم الى الخير وحرصهم عليه ولو كان خيرا لسبقونا اليه فالذي لا شك فيه انه لا يجب حضور التربة ولا تتعين القراءة عند القبر.
ونظير هذا ما لو وقف وقفا يتصدق به عند القبر كما يفعل كثير من الجهال فإن في ذلك من تعنية الفقير وإتعابه وإزعاجه من موضعه الى الجبانة في حال الحر والبرد والضعف حتى يأخذ لك الصدقة عند القبر مما لعله ان يحبط اجرها ويمنع انعقاده بالكلية.
ومن هذا لو شرط واقف الخانقاه وغيرها على أهلها ان لا يشتغلوا بكتابة العلم وسماع الحديث والاشتغال بالفقه فإن هذا شرط باطل مضاد لدين الاسلام لا يحل تنفيذه ولا التزامه ولا يستحق من قام به شيئا من هذا الوقف فإن مضمون هذا الشرط ان الوقف المعين انما يستحقه من ترك ما يجب عليه من العلم النافع وجهل امر الله ورسوله ودينه وجهل اسماءه وصفاته وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وأحكام الثواب والعقاب ولا ريب ان هذا الصنف من شرار خلق الله وأمقتهم عند الله ورسوله وهم خاصة الشيطان واولياؤه وحزبه {أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ}.
ومن ذلك ان يشترط الواقف ان لا يقرأ في ذلك المكان شئ من آيات(10/199)
ص -183-…الصفات واحاديث الصفات كما امر به بعض اعداء الله من الجهمية لبعض الملوك وقد وقف مسجدا لله تعالى ومضمون هذا الشرط المضاد لما بعث الله به رسوله ان يعطل اكثر ايات القران عن التلاوة والتدبر والتفهم وكثير من السنة أواكثرها عن ان تذكر أوتروى أوتسمع أويهتدي بها ويقام سوق التجهم والكلام المبتدع المذموم الذي هو كفيل بالبدع والضلالة والشك والحيرة
ومن ذلك ايضا ان يقف مكانا أومسجدا أومدرسة أورباطا على طائفة معينة من الناس دون غيرهم كالعجم مثلا أوالروم أوالترك أوغيرهم وهذا من أبطل الشروط فإن مضمونه ان اقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذرية المهاجرين والانصار لا يحل لهم ان يصلوا في هذا المسجد ولا ينزلوا في هذا الرباط أوالمدرسة أوالخانقاه بل لو امكن ان يكون ابو بكر وعمر واهل بدر واهل بيعة الرضوان رضى الله عنهم بين اظهرنا حرم عليهم النزول بهذا المكان الموقوف
وهذه الشروط والاشتغال بها والاعتداد بها من اسمج الهذيان ولا تصدر من قلب طاهر لا ينفذها من شم روائح العلم الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم
وكذلك لو شرط ان يكون المقيمون بهذه الامكنة طائفة من اهل البدع كالشيعة والخوارج والمعتزلة والجهمية والمبتدعين في اعمالهم كأصحاب الاشارات واللاذن والشير والعنبر وأكل الحيات واصحاب النار واشباه الذئاب المشتغلين بالاكل والشرب والرقص لم يصح هذا الشرط وكان غيرهم احق بالمكان منهم وشروط الله احق
فهذه الشروط واضعافها واضعاف أضعافها من باب التعاون على الاثم(10/200)
ص -184-…والعدوان والله تعالى انما امر بالتعاون على البر والتقوى وهو ما شرعه لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم دون ما لم يشرعه فكيف بما شرع خلافه والوقف إنما يصح على القرب والطاعات ولا فرق في ذلك بين مصرفه وجهته وشرطه فإن الشرط صفة وحال في الجهة والمصرف فإذا اشترط انا يكون المصرف قربة وطاعة فالشرط كذلك ولا يقتضي الفقه إلا هذا ولا يمكن احدا ان ينقل عن ائمة الاسلام الذين لهم في الامة لسان صدق ما يخالف ذلك البتة بل نشهد بالله والله ان الائمة لا تخالف ما ذكرناه وان هذا نفس قولهم وقد اعاذهم الله من غيره وانما يقع الغلط من كثير من المنتسبين اليهم في فهم اقوالهم كما وقع لبعض من نصب نفسه للفتوى من اهل عصرنا ما تقول السادة الفقهاء في رجل وقف على اهل الذمة هل يصح ويتقيد الاستحقاق بكونه منهم فأجاب بصحة الوقف وتقييد الاستحقاق بذلك الوصف وقال هكذا قال اصحابنا ويصح الوقف على اهل الذمة فأنكر ذلك شيخنا عليه غاية الانكار وقال مقصود الفقهاء بذلك ان كونه من اهل الذمة ليس مانعا من صحة الوقف عليه بالقرابة أوبالتعيين وليس مقصودهم ان الكفر بالله ورسوله أوعبادة الصليب وقولهم إن المسيح ابن الله شرط لاستحقاق الوقف حتى إن من آمن بالله ورسوله واتبع دين الاسلام لم يحل له ان يتناول بعد ذلك من الوقف فيكون حل تناوله مشروطا بتكذيب الله ورسوله والكفر بدين الاسلام ففرق بين كون وصف الذمة مانعا من صحة الوقف وبين كونه مقتضيا فغلظ طبع هذا المفتي وكثف فهمه وغلظ حجابه عن ذلك ولم يميز
ونظير هذا ان يقف على الاغنياء فهذا يصح اذا كان الموقوف عليه غنيا أوذا قرابة فلا يكون الغني مانعا ولا يصح ان يكون جهة الاستحقاق هو الغني فيستحق ما دام غنيا فإذا افتقر واضطر الى ما يقيم اوده حرم عليه تناول(10/201)
ص -185-…الوقف فهذا لا يقوله الا من حرم التوفيق وصحبة الخذلان ولو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الائمة يفعل ذلك لاشتد انكاره وغضبه عليه ولما اقره البتة وكذلك لو رأى رجلا من امته قد وقف على من يكون من الرجال عزبا غير متأهل فإذا تأهل حرم عليه تناول الوقف لاشتد غضبه ونكيره عليه بل دينه يخالف هذا فإنه كان إذا جاءه مال أعطى العزب حظا واعطى الاهل حظين واخبر ان ثلاثة حق على الله عونهم فذكر منهم الناكح يريد العفاف وملزم هذا الشرط حق عليه عدم اعانة الناكح
ومن هذا ان يشترط انه لا يستحق الوقف إلا من ترك الواجب عليه من طلب النصوص ومعرفتها والتفقه في متونها والتمسك بها إلى الاخذ بقول فقيه معين يترك لقوله قول من سواه بل يترك النصوص لقوله فهذا شرط من ابطل الشروط وقد صرح اصحاب الشافعي واحمد رحمهما الله تعالى بأن الامام اذا شرط على القاضي ان لا يقضى إلا بمذهب معين بطل الشرط ولم يجز له التزامه وفي بطلان التولية قولان مبنيان على بطلان العقود بالشروط الفاسدة وطرد هذا ان المفتي متى شرط عليه ألا يفتى الا بمذهب معين بطل الشرط وطرده أيضا ان الواقف متى شرط على الفقيه ان لا ينظر ولا يشتغل إلا بمذهب معين بحيث يهجر له كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفتاوي الصحابة ومذاهب العلماء لم يصح هذا الشرط قطعا ولا يجب إلتزامه بل ولا يسوغ.
وعقد هذا الباب وضابطه ان المقصود إنما هو التعاون على البر والتقوى وان يطاع الله ورسوله بحسب الامكان وان يقدم من قدمه الله ورسوله ويؤخر من اخره الله ورسوله ويعتبر ما اعتبره الله ورسوله ويلغي ما الغاه الله ورسوله وشروط الواقفين لا تزيد على نذر الناذرين فكما انه لا يوفى من النذور إلا بما كان طاعة لله ورسوله فلا يلزم من شروط الواقفين إلا ما كان طاعة لله ورسوله(10/202)
ص -186-…فإن قيل: الواقف انما نقل ماله لمن قام بهذه الصفة فهو الذي رضى بنقل ما له اليه ولم يرض بنقله الى غيره وإن كان افضل منه فالوقف يجري مجرى الجعالة فإذا بذل الجاعل ماله لمن يعمل عملا لم يستحقه من عمل غيره وان كان بينهما في الفضل كما بين السماء والارض
قيل: هذا منشأ الوهم والايهام في هذه المسألة وهو الذي قام بقلوب ضعفةالمتفقهين فالتزموا والزموا من الشروط بما غيره احب الى الله وارضى له منه بإجماع الامة بالضرورة المعلومة من الدين.
وجواب هذا الوهم ان الجاعل يبذل ماله في غرضه الذي يريده إما محرما أومكروها أومباحا أومستحبا أوواجبا لينال غرضه الذي بدل فيه ماله واما الواقف فإنما يبذل ماله فيما يقربه الى الله وثوابه فهو لما علم انه لم يبق له تمكن من بذل ماله في اغراضه احب ان يبذله فيما يقربه الى الله وما هو انفع له في الدار الاخرة ولا يشك عاقل ان هذا غرض الواقفين بل ولا يشك واقف ان هذا غرضه والله سبحانه وتعالى ملكة المال لينتفع به في حياته وأذن له ان يحبسه لينتفع به بعد وفاته فلم يملكه ان يفعل به بعد موته ما كان يفعل به في حياته بل حجر عليه فيه وملكه ثلثه يوصى به بما يجوز ويسوغ ان يوصى به حتى إن حاف أوجار أوأثم في وصيته جاز بل وجب على الوصي والورثة رد ذلك الجور والحيف والاثم ورفع سبحانه الاثم عمن يرد ذلك الحيف والاثم من الورثة والاوصياء فهو سبحانه لم يملكه ان يتصرف في تحبيس ماله بعده إلا على وجه يقربه اليه ويدنيه من رضاه لا على أي وجه أراد ولم يأذن ولا رسوله للمكلف ان يتصرف في تحبيس ماله بعده على أي وجه اراده ابدا فأين في كلام الله ورسوله أواحد من الصحابة ما يدل على ان لصاحب المال ان يقف ما اراد على من اراد ويشرط ما اراد ويجب على الحكام والمفتين ان ينفذوا وقفه ويلزموا بشروطه واما ما قد لهج به بعضهم من قوله شروط الواقف كنصوص الشارع فهذا يران به معنى صحيح ومعنى(10/203)
ص -187-…باطل فإن اريد انها كنصوص الشارع في الفهم والدلالة وتقييد مطلقها بمقيدها وتقديم خاصها على عامها والاخذ فيها بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فهذا حق من حيث الجملة وان اريد انها كنصوص الشارع في وجوب مراعاتها والتزامها وتنفيذها فهذا من ابطل الباطل بل يبطل منها ما لم يكن طاعة لله ورسوله وما غيره احب الى الله وارضى له ولرسوله منه وينفذ منها ما كان قربة وطاعة كما تقدم
ولما نذر ابو اسرائيل ان يصوم ويقوم في الشمس ولا يجلس ولا يتكلم امره النبي صلى الله عليه وسلم ان يجلس في الظل ويتكلم ويتم صومه فألزمه بالوفاء بالطاعة ونهاه عن الوفاء بما ليس بطاعة وهكذا اخت عقبة بن عامر لما نذرت الحج ماشيه مكشوفة الرأس امرها ان تختمر وتركب وتحج وتهدى بدنة فهكذا الواجب على اتباع الرسول صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله أن يعتمدوا في شروط الواقفين وبالله التوفيق.
لا يجوز للمفتي إطلاق الفتوى في مسألة فيها تفصيل:
الفائدة الثامنة عشرة ليس للمفتي ان يطلق الجواب في مسالة فيها تفصيل إلا اذا علم ان السائل انما سأل عن احد تلك الانواع بل اذا كانت المسالة تحتاج الى التفصيل استفصله كما استفصل النبي صلى الله عليه وسلم ماعزا لما أقر بالزنا هل وجد منه مقدماته أوحقيقته فلما أجابه عن الحقيقة استفصله هب به جنون فيكون إقراره غير معتبر ام هو عاقل فلما علم عقله استفصله بأن امر باستنكاهه ليعلم هل هو سكران ام صاح فلما علم انه صاح استفصله هل احصن ام لا فلما علم انه قد أحصن اقام عليه الحد
ومن هذا قوله لمن سالته هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت فقال نعم إذا رأت الماء فتضمن هذا الجواب الاستفصال بأنها يجب عليها الغسل في حال ولا يجب عليها في حال(10/204)
ص -188-…(10/205)
ص -189-…حانث في مذهب من افتاه وقع ذلك مرارا فخطر المفتى عظيم فإنه موقع عن الله ورسوله زاعم ان الله امر بكذا وحرم كذا أواوجب كذا
ومن ذلك ان يستفتيه عن الجمع بين الظهر والعصر مثلا هل يجوز له ان يفرق بينهما فجوابه بتفصيل المسألتين وان الجمع إن كان في وقت الاولى لم يجز التفريق وإن كان في وقت الثانية جاز
ومن ذلك انه لو قال له إن لم تحرق هذا المتاع أوتهدم هذه الدار أوتتلف هذا المال وإلا قتلتك ففعل هل يضمن ام لا جوابه بالتفصيل فإن كان المال المكره على إتلافه للمكره لم يضمن وإن كان لغيره ضمنه
وكذلك لو ساله المظاهر إذا وطئ في اثناء الكفارة هل يلزمه الاستئناف أويبنى فجوابه بالتفصيل انه إن كان كفر بالصيام فوطئ في اثنائه لزمه الاستثناف وإن كفر بالاطعام لم يلزمه الاستئناف وله البناء فإن حكم تتابع الصوم وكونه قبل المسيس قد انقطع بخلاف الإطعام
وكذلك لو سأله عن المكفر بالعتق اذا اعتق عبدا مقطوعه اصبعه فجوابه بالتفصيل إن كان إبهاما لم يجزه وإلا اجزأه فلو قال له مقطوع الاصبعين وهما الخنصر والبنصر فجوابه بالتفصيل ايضا إن كانا من يد واحجدة واحدة لم يجزه وإن كانت كل اصبع من يد أجزأه
وكذلك لو ساله عن فاسق التقط لقطه أولقيطا هل يقر في يده فجوابه بالتفصيل تقر اللقطة دون اللقيط لانها كسب فلا يمنع منه الملتقط وثبوت يده على اللقيط ولاية وليس من أهلها
ولو قال له: اشتريت سمكة فوجدت في جوفها مالا ما اصنع به فجوابه ان كان لؤلؤة أوجوهرة فهو للصياد لانه ملكه بالاصطياد ولم تطلب نفسه لك به وإن كان خاتما أودينارأ فهو لقطة يجب تعريفها كغيرها
وكذلك لو قال له اشتريت حيوانا فوجدت في جوفه جوهرة فجوابه(10/206)
ص -190-…إن كانت شاة فهي لقطة للمشتري يلزمه تعريفها حولا ثم هي له بعده إن كان سمكة أوغيرها من دواب البحر فهي ملك للصياد والفرق واضح
ومن ذلك لو ساله عن عبد التقط لقطة فأنفقها هل تتعلق بذمته أوبرقبته فجوابه انه إن انفقها قبل التعريف حولا فهى في رقبته وإن انفقها بعد حول التعريف فهي في ذمته يتبع بها بعد العتق نص عليها الامام احمد مفرقا بينهما لانه قبل الحول ممنوع منها فإنفاقه لها جناية منه عليها وبعد الحول غير ممنوع منها بالنسبة الى مالكها فإذا انفقها في هذه الحال فكأنه أنفقها بإذن مالكها فتتعلق بذمته كديونه
ومن ذلك لو ساله عن رجل جعل جعلا لمن رد عليه لقطته فهل يستحقه من ردها فجوابه إن التقطها قبل بلوغ قول الجاعل لم يستحقه لانه لم يلتقطها لاجل الجعل وقد وجب عليه ردها بظهور مالكها وإن التقطها بعد ان بلغه الجعل استحقه
ومن ذلك ان يسال فيقول هل يجوز للوالدين ان يتملكا مال ولدهما أويرجعان فيما وهباه فالجواب ان ذلك للاب دون الام
وكذلك اذ شهد له اثنان من روثته غر الاب والابن بالجرح فالجواب فيه تفصيل فإن شهدا قبل الاندمال لم يقبلا للتهمة وإن شهدا بعده قلت لعدم التهمة
ومن ذلك إذا سئل عن رجل ادعى نكاح امرأة فأقرت له هل يقبل إقرارها ام لا جوابه بالتفصيل إن ادعى زوجيتها وحده قبل اقرارها وان ادعاها معه اخر لم يقبل
ومن ذلك لو سئل عن رجل مات فادعى ورثته شيئا من تركته وأقاموا شاهدوا حلف كل منهم يمينا مع الشاهد فإن حلف بعضهم استحق قدر نصيبه من المدعي وهل يشاركه من لم يحلف في قدر حصته التي انتزعها بيمينه أولا يشاركه فالجواب فيه تفصيل إن كان المدعى دينار لم يشاركه وينفرد(10/207)
ص -191-…الحالف بقدر حصته وإن كان عينا شاركه من لم يحلف لان الدين غير متعين فمن حلف فإنما ثبت بيمنه مقدار حصته من الدين لا غيره ومن لم يحلف لم يثبت له حق واما العين فكل واحد من الورثة يقر ان كل جزء منها مشترك بين جماعتهم وحقوقهم متعلقة بعينه فالمخلص مشترك بين جماعتهم والباقي غصب على جماعتهم.
ومن ذلك إذا سئل عن رجل استعدى على خصمه ولم يحرر الدعوى هل يحضره الحاكم الجواب بالتفصيل إن استعدى على حاضر في البلد احضره لعدم المشقة وإن كان غائبا لم يحضره حتى يحررها
ومن ذلك لو سئل عن رجل قطع عضوا من صيد وأفلت هل يحل اكل العضو الجواب بالتفصيل إن كان صيدا بحريا حل أكله وإن كان بريا لم يحل
ومن ذلك لو سئل عن تاجر اهل الذمة هل يؤخذ منه العشر فالجواب بالتفصيل إن كان رجلا اخذ منه العشر وإن كانت امرأة ففيها تفصيل إن اتجرت الى ارض الحجاز اخذ منها العشر وإن اتجرت الى غيرها لم يؤخد منها شئ لانها تقر في غير ارض الحجاز بلا جزية
ومن ذلك لو سئل عن ميت مات فطلب الاب ميرائه ولم يعلم من الورثة غيره كم يعطي الاب فالجواب بالتفصيل إن كان الميت ذكرا اعطى الاب اربعة من سبعة وعشرين سهما لان غاية ما يمكن ان يقدر معه زوجة وام وابنتان فله اربعة بلا شك من سبعة وعشرين وإن كان الميت أنثى فله سهمان من خمسة عشر قطعالان اكثر ما يمكن ان يقدر زوج وام وابنتان فله سهمان من خمسة عشر قطعا
فإن قال السائل مات ميت وترك ثلاث بنات ابن بعضهن اسفل من بعض مع العليا جدها قال المفتي إن كان الميت ذكرا فالمسألة محال لأن جد(10/208)
ص -192-…العليا نفس الميت وإن على الميت انثى فجد العليا إما أن يكون زوج الميت أولا يكون كذلك فإن كان زوجها فله الربع وللعليا النصف وللوسطى السدس تكملة الثلثين والباقي للعصبة.
فلو قال السائل ميت خلف ابنتين وابوين ولم تقسم التركة حتى ماتت احداهما وخلفت من خلفت قال المفتي ان كان الميت ذكر فمسألته من ستة للأبوين سهمان ولكل بنت سهمان فلما ماتت احداهما خلفت جدة وجدا واختا لأب فمسألتها من سنة وتصح من ثمانية عشر وتركتها سهمان توافق مسألتها بالنصف فترد الى تسعة ثم تضربها في ستة تكون اربعه وخمسين ومنها تصح وإن كان الميت أنثى ففريضتها أيضا ستة ثم ماتت احدا البنتين عن سهمين وخلفت جدة وجدا من ام واختا لاب فلا شيء للجد وللجدة السدس وللأخت النصف والباقي للعصبة فمسألتها من ستة وسهامها اثنان فاضرب ثلاثة في السمألة الاولى تكن ثمانية عشر
والمقصود التنبيه على وجوب التفصيل اذا كان يجد السؤال محتملا وبالله التوفيق فكثيرا ما يقع غلط المفتي في هذا القسم فالمفتي ترد اليه المسائل في قوالب متنوعة جدا فإن لم يتفطن لحقيقة السؤال والا هلك وأهلك فتارة تورد عليه المسألتان صورتهما واحدة وحكمهما مختلف فصورةالصحيح والجائز صورة الباطل والمحرم ويختلفان بالحقيقة فيذهل بالصورة عن الحقيقة فيجمع بين ما فرق الله ورسوله بينه وتارة تورد عليه المسالتان صورتهما مختلفة وحقيقتهما واحدة وحكمهما واحد فيذهل باختلاف الصورة عن تساويهما في الحقيقة فيفرق بين ما جمع الله بينة وتارة تورد عليه المسالة مجملة تحتها عدة انواع فيذهل وهمه الى واحد منها ويذهل عن المسئول عنه منها فيجيب بغير الصواب وتارة تورد عليه المسالة الباطلة في دين الله في قالب مزخرف ولفظ حسن فيتبادر الى تسويغها وهي من ابطل الباطل وتارة بالعكس فلا اله الا الله كم ههنا عن مزلة اقدام ومجال اوهام وما دعا محق الى حق(10/209)
ص -193-…الا اخرجه الشيطان على لسان أخيه ووليه من الانس في قالب تنفر عنه خفافيش البصائر وضعفاءالعقول وهم اكثر الناس و ما حذر احد من باطل الا اخرجه الشيطان على لسان و ليه من الانس فى قالب مزخرف يستخف به عقول ذلك الضرب من الناس فيستجيبون له و اكثر الناس نظرهم قاصر على الصور لا يتجاوزونها الى الحقائق فهم محبوسون فى سجن الالفاظ مقيدون بقيود لعبارات كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ}.(10/210)
وأذكر لك من هذا مثالا وقع في زماننا وهو ان السلطان امر أن يلزم أهل الذمة بتغيير عمائمهم وأن تكون خلاف الوان عمائم المسلمين فقامت لذلك قيامتهم وعظم عليهم وكان في ذلك من المصالح وإعزاز الاسلام و إذلال الكفرة ما قرت به عيون المسلمين فألقى الشيطان على ألسنة أوليائه وإخوانه ان صوروا فتيا يتوصلون بها الى إزالة هذا الغبار وهي ما تقول السادة العلماء في قوم من أهل الذمة ألزموا بلباس غير لباسهم المعتاد وزى غير زيهم المالوف فحصل لهم بذلك ضرر عظم في الطرقات والفلوات وتجرأ عليهم بسببه السفهاء والرعاة وآذوهم غاية الاذى فطمع بذلك في إهانتهم والتعدي عليهم فهل يسوغ للامام ردهم الى زيهم الاول وإعادتهم الى ما كانوا عليه مع حصول التميز بعلامة يعرفون بها وهل في ذلك مخالفة للشرع ام لا فاجابهم من مسع التوفيق وصد عن الطريق بجواز ذلك وأن للامام إعادتهم الى ما كانوا عليه قال شيخنا فجاءتني الفتوى فقلت لا تجوز إعادتهم ويجب إبقاؤهم على الزي الذي يتميزون به عن المسلمين فذهبوا ثم غيروا الفتوى ثم جاءوا بها في قالب آخر فقلت لا تجوز إعادتهم فذهبوا ثم أتوا بها في قالب آخر فقلت هي(10/211)
ص -194-…المسألة المعينة وان خرجت في عدة قوالب ثم ذهب الى السلطان وتكلم عنده بكلام عجب منه الحاضرون فاطبق القوم على ابقائهم ولله الحمد.
ونظائر هذه الحادئة اكثر من ان تحصى فقد القى الشيطان على ألسنة أوليائه ان صوروا فتوى فيما يحدث ليلة النصف في الجامع وأخرجوها في قالب حسن حتى استخفوا عقل بعض المفتين فأفتاهم بجوازه وسبحان الله كم توصل بهذه الطرق الى إبطال حق وإثبات باطل واكثر الناس إنما هم اهل ظواهر في الكلام واللباس والافعال واهل النقد منهم الذين يعبرون من الظاهر الى حقيقته وباطنه لا يبلغون عشر معشار غيرهم ولا قريبا من ذلك فالله المستعان.
لا يفصل المفتي إلا إذا دعت الحاجة:
الفائدة التاسعة عشرة اذا سئل عن مسالة من الفرائض لم يجب عليه ان يذكر موانع الارث فيقول بشرط الا يكون كافرا ولا رقيقا ولا قاتلا وإذا سئل عن فريضه فيها اخ وجب عليه ان يقول إن كان لاب فله كذا وإن كان لام فله كذا وكذلك إذا سئل عن الاعمام وبنيهم وبني الاخوة وعن الجد والجدة فلا بد من التفصيل والفرق بين الموضعين ان السؤال المطلق في الصورة الاولى يدل على الوارث الذي لم يقم به مانع من الميراث كما لو سئل عن رجل باع أوآجر أوتزوج أوأقر لم يجب عليه ان يذكر موانع الصحه من الجنون والاكراه ونحوهما إلا حيث يكون الاحتمال متساويا.
ومن تأمل اجوبة النبي صلى الله عليه وسلم رآه يستفصل حيث تدعو الحاجة الى الاستفصال ويتركه حيث لا يحتاج اليه ويحيل فيه مرة على ما علم من شرعه ودينه من شروط الحكم وتوابعه بل هذا كثير في القرآن كقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} وقوله: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} وقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}(10/212)
ص -195-…ولا يجب على المتكم والمفتى ان يستوعب شرائط الحكم وموانعه كلها عند ذكر حكم المسألة ولا ينفع السائل والمتكلم والمتعلم قوله بسرطه وعدم موانعه ونحو ذلك فلا بيان اتم من بيان الله ورسوله ولا هدى اكمل من هدى الصحابة والتابعين وبالله التوفيق.
الاختلاف في فتوى المقلد:
الفائدة العشرون: لا يجوز للمقلد ان يفتي في دين الله بما هو مقلد فيه وليس على بصيرة فيه سوى انه قول من قلده دينه هذا إجماع من السلف كلهم وصرح به الامام احمد والشافعي رضى الله عنهما وغيرهما
قال ابو عمرو بن الصلاح: قطع ابو عبد الله الحليم إمام الشافعيين بما وراء النهر والقاضي ابو المحاسن الروياني صاحب بحر المذهب وغيرها بانه لا يجوز للمقلد ان يفتى بما هو مقلد فيه.
وقال: وذكر الشيخ ابو محمد الجويني في شرحه لرسالة الشافعي عن شيخه ابي بكر القفال المروزي انه يجوز لمن حفظ كلام صاحب مذهب ونصوصه ان يفتى به وان لم يكن عارفا بغوامضه وحقائقه وخالفه الشيخ ابو محمد وقال لا يجوز ان يفتى بمذهب غيره اذا لم يكن متبحرا فيه عالما بغوامضه وحقائقه كما لا يجوز للعامي الذي جمع فتاوي المفتين ان يفتى بها واذا كان متبحرا فيه جاز ان يفتى به.
وقال ابو عمرو: من قال: "لا يجوز له ان يفتى بذلك" معناه لا يذكره في صورة ما يقوله من عند نفسه بل يضيفه الى غيره ويحكيه عن إمامه الذي قلده فعلى هذا من عددناه في اصناف المفتين المقلدين ليسوا على الحقيقة من المفتين ولكنهم قاموا مقام المفتين وادعوا عنهم فعدوا منهم وسبيلهم في ذلك ان يقولوا مثلا مذهب الشافعي كذا وكذا ومقتضى مذهبه كذا وكذا وما أشبه ذلك ومن ترك منهم إضافة ذلك الى إمامه فإن كان ذلك اكتفاء منه بالمعلوم عن الصريح فلا بأس(10/213)
ص -196-…قلت: ما ذكره ابو عمرو حسن إلا ان صاحب هذه المرتبة يحرم عليه ان يقول مذهب الشافعي لما لا يعلم انه نصه الذي افتى به أويكون شهرته بين اهل المذهب شهرة لا يحتاج معها الى الوقوف على نصه كشهرة مذهبه في الجهر بالبسملة والقنوت في الفجر ووجوب تبييت النية للصوم في الفرض من الليل ونحو ذلك فأما مجرد ما يجد في كتب من انتسب الى مذهبه من الفروع فلا يسعه ان يضيفها الى نصه ومذهبه بمجرد وجودها في كتبهم فكم فيها من مسألة لا نص له فيها البتة ولا ما يدل عليه وكم فيها من مسألة نصه على خلافها وكم فيها من مسألة اختلف المنتسبون اليه في إضافتها الى مقتضى نصه ومذهبه فهذا يضيف الى مذهبه إثباتها وهذا يضيف اليه نفيها فلا ندري كيف يسع المفتي عند الله ان يقول هذا مذهب الشافعي وهذا مذهب مالك واحمد وابي حنيفة واما قول الشيخ ابي عمرو إن لهذا المفتي ان يقول هذا مقتضى مذهب الشافعي مثلا فلعمرالله لا يقبل ذلك من كل من نصب نفسه للفتيا حتى يكون عالما بمأخذ صاحب المذهب ومداركه وقواعده جمعا وفرقا ويعلم ان ذلك الحكم مطابق لأصوله وقواعده بعد استفراغ وسعه في معرفة ذلك فيها اذا اخبر ان هذا مقتضى مذهبه كان له حكم أمثاله ممن قال بمبلغ علمه ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
وبالجملة فالمفتي مخبر عن الحكم الشرعي وهو اما مخبر عما فهمه عن الله ورسوله واما عما فهمه من كتاب أونصوص من قلده دينه وهذا لون فكما لا يسع الاول ان يخبر عن الله ورسوله إلا بما علمه فكذا لا يسع الثاني ان يخبر عن إمامة الذي قلده دينه إلا بما يعلمه وبالله التوفيق.
الاختلاف في تولية الفقيه القاصر عن معرفة الكتاب والسنة الافتاء:
الفائدة الحادية والعشرون: إذا تفقه الرجل وقرأ كتابا من كتب الفقه أوأكثر وهو مع ذلك قاصر في معرفة الكتاب والسنة وآثار السلف والاستنباط والترجيح فهل يسوغ تقليده في الفتوى فيه للناس أربعة أقوال الجواز(10/214)
ص -197-…مطلقا والمنع مطلقا والجواز عند عدم المجتهد ولا يجوز مع وجوده والجواز إن كان مطلعا على ما اخذ من يفتي بقولهم والمنع إن لم يكن مطلعا
والصواب فيه التفصيل وهو انه ان كان السائل يمكنه التوصل الى عالم يهديه السبيل لم يحل له استفتاء مثل هذا ولا يحل لهذا ان ينسب نفسه للفتوى مع وجود هذا العالم وإن لم يكن في بلده أوناحيته غيره بحيث لا يجد المستفتي من يسأله سواه فلا ريب ان رجوعه اليه اولى من ان يقدم على العمل بلا علم أويبقى مرتبكا في حيرته مترددا في عماه وجهالته بل هذا هو المستطاع من تقواه المأمور بها.
ونظير هذه المسالة اذا لم يجد السلطان من يوليه إلا قاضيا عاريا من شروط القضاء لم يعطل البلد عن قاض وولي الامثل فالامثل.
ونظير هذا لو كان الفسق هو الغالب على اهل تلك البلد وان لم تقبل شهادة بعضهم على بعض وشهادته له تعطلت الحقوق وضاعت قبل شهاده الامثل فالامثل.
ونظيرها لو غلب الحرام المحض أوالشبهة حتى لم يجد الحلال المحض فإنه يتناول الامثل فالامثل ونظير هذا لو شهد بعض النساء على بعض بحق في بدن أوعرض أومال وهن منفردات بحيث لا رجل معهن كالحمامات والأعراس قبلت شهادة فالأمثل منهن قطعا ولا يضيع الله ورسوله حق المظلوم ولا يعطل إقامة دينه في مثل هذه الصورة أبدا بل قد نبه الله تعالى على القبول في مثل هذه الصورة بقبول شهادة الكفار على المسلمين في السفر في الوصية في آخر سورة أنزلت في القرآن ولم ينسخها شيء ألبتة ولا نسخ هذا الحكم كتاب ولا سنة ولا أجمعت الأمة على خلافة ولا يليق بالشريعة سواه فالشريعة شرعت(10/215)
ص -198-…لتحصيل مصالح العباد بحسب الإمكان وأي مصلحة لهم في تعطيل حقوقهم إذالم يحضر أسباب تلك الحقوق شاهدان حران ذكران عدلان بل إذا قلتم تقبل شهادة الفساق حيث لاعدل وينفذ حكم الجاهل والفاسق إذا خلا الزمان عن قاض عالم عادل فكيف لا تقبل شهادة النساء إذا خلا جمعهن عن رجل أوشهادة العبيد إذا خلا جمعهم عن حر أوشهادة الكفار بعضهم على بعض إذا خلا جمعهم عن مسلم وقد قبل ابن الزبير شهادة الصبيان بعضهم على بعض في تجارحهم ولم ينكره عليه أحد من الصحابة وقد قال به مالك والإمام أحمد رحمهما الله تعالى في إحدى الروايتين عنه حيث يغلب على الظن صدقهم بأن يجتنبوا أويتفرقوا إلى بيوتهم وهذا هو الصواب وبالله التوفيق.
وكلام أصحاب أحمد في ذلك يخرج على وجهين فقد منع كثير منهم الفتوى والحكم بالتقليد وجوزه بعضهم لكن على وجه الحكاية لقول المجتهد كما قال أبو إسحاق بن شاقلا وقد جلس في جامع المنصور فذكر قول أحمد أن المفتي بنبغي له أن يحفظ أربعمائة ألف حديث ثم يفتي فقال له رجل أنت تحفظ هذا فقال إن لم أحفظ هذا فأنا أفتي بقول من كان يحفظه وقال أبو الحسن ابن بشار من كبار أصحابنا ماضر رجلا عنده ثلاث مسائل أوأربع من فتاوي الإمام أحمد يستند إلى هذه السارية ويقول قال أحمد بن حنبل الاختلاف في إفتاء العامي في حادثة عرف دليلها:
الفائدة الثانية والعشرين: اذا عرف العامى حكم حادثة بدليلها فهل له ان يفتي به ويسوغ لغيره تقليده فيه ففيه ثلاثة اوجه للشافعية وغيرهم احدهما الجواز لانه قد حصل له العلم بحكم تلك الحادثة عن دليلها كما حصل للعالم وان تميز العالم عنه بقوة يتمكن بها من تقرير الدليل ودفع المعارض له فهذا قدر زائد على معرفة الحق بدليله والثاني لا يجوز له ذلك مطلقا لعدم اهليته للاستدلال(10/216)
ص -199-…وعدم علمه بشرطه وما يعارضه ولعله يظن دليلا ما ليس بدليل والثالث ان كان الدليل كتابا أوسنة جاز له الافتاء وان كان غيرهما لم يجز لان القران والسنة خطاب لجميع المكلفين فيجب على المكلف ان يعمل بما وصل اليه من كتاب ربه تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ويجوز له ان يرشد غيره اليه ويدله عليه
الخصال التي يجب ان يتصف بها المفتي:
الفائدة الثالثة والعشرين: ذكر ابو عبد الله بن بطة في كتابه في الخلع عن الامام احمد انه قال لا ينبغي للرجل ان ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال اولها ان تكون له نية فإن لم يكن له نية لم يكن عليه نور ولا على كلامه نور والثانية ان يكون له علم وحلم ووقار وسكينة الثالثة ان يكون قويا على ما هو فيه وعلى معرفتة الرابعة الكفاية والا مضغه الناس الخامسة معرفة الناس.
وهذا مما يدل على جلالة احمد ومحله من العلم والمعرفة فإن هذه الخمسة هي دعائم الفتوى واي شئ نقص منها ظهر الخلل في المفتي بحسبه.
منزلة النية:
فأما النية فهى رأس الامر وعموده واساسه واصله الذي عليه يبنى فإنها روح العمل وقائده وسائقه والعمل تابع لها يبنى عليها يصح بصحتها ويفسد بفسادها وبها يستجلب التوفيق وبعدمها يحصل الخذلان وبحسبها تتفاوت الدرجات في الدنيا والاخرة فكم بين مريد الفتوى وجه الله ورضاه والقرب منه وما عنده ومريد بها وجه المخلوق ورجاء منفعته وما يناله منه تخويفا أوظمعات فيفتي الرجلان بالفتوى الواحدة وبينهما في الفضل والثواب اعظم مما بين المشرق والمغرب هذا يفتى لتكون كلمة الله هي العليا ودينه هو الظاهر ورسوله هو المطاع وهذا يفتي ليكون قوله هو المسموع وهو المشار اليه وجاهه هو القائم سواء وافق الكتاب والسنة أو خلفهما فالله المستعان(10/217)
ص -200-…وقد جرت عادة الله التي لا تبدل وسنته التي لا تحول ان يلبس المخلص من المهابة والنور والمحبة في قلوب الخلق وإقبال قلوبهم اليه ما هو بحسب اصلاصه ونيته ومعاملته لربه ويلبس المرائي اللابس ثوبى الزور من المقت والمهانة والبغضة ما هو اللائق به فالمخلص له المهابة والمحبة وللآخر المقت والبغضاء.
من الصفات التي يتصف بها المفتي الحلم الوقار والسكينة:
وأما قوله: "ان يكون له حلم ووقار وسكينة فليس صاحب العلم والفتيا الى شئ احوج منه الى الحلم والسكينة والوقار فإنها كسوة علمه وجماله وإذا فقدها كان علمه كالبدن العاري من اللباس" وقال بعض السلف: ما قرن شئ الى شئ احسن من علم الى حلم والناس ههنا أربعة اقسام فخيارهم من اوتى الحلم والعلم وشرارهم من عدمهما الثالث من أوتى علما بلا حلم الرابع عكسه فالحلم زينة العلم وبهاؤه وجماله وضده الطيش والعجلة والحدة والتسرع وعدم الثبات فالحليم لا يستفزه البدوات ولا يستخفه الذين لا يعلمون ولا يقلقه أهل الطيش والخفة والجهل بل هو وقور ثابت ذو أناة يملك نفسه عند ورود أوائل الامور عليه ولا تملكه اوائلها وملاحظته للعواقب تمنعه من ان تستخفه دواعي الغضب والشهوة فبالعلم تنكشف له مواقع الخير والشر والصلاح والفساد وبالحلم يتمكن من تثبيت نفسه عند الخير فيؤثره ويصبر عليه وعند الشر فيصبر عنه فالعلم يعرفة رشده والحلم يثبته عليه وإذا شئت ان ترى بصيرا بالخير والشر لا صبر له على هذا ولا عن هذا رأيته إذا شئت ان ترى صابرا على المشاق لا بصيرة له رأيته وإذا شئت ان ترى من لا صبر له ولابصيره رأيته وإذا شئت ان ترى بصيرا صابرا لم تكد فإذا رأيته فقد رايت إمام هدى حقا فاستمسك بغرزه والوقار والسكينة ثمرة الحلم ونتيجته
ولشدة الحاجة الى السكينة وحقيقتها وتفاصيلها وأقسامها نشير الى ذلك بحسب(10/218)
ص -201-…علومنا القاصرة وأذهاننا الجامدة وعباراتنا الناقصة ولكن نحن ابناء الزمان والناس بزمانهم اشبه منهم بآبائهم ولكل زمان دولة ورجال
معنى السكينة:
فالسكينة فعيلة من السكون وهو طمأنينة القلب واستقراره واصلها في القلب ويظهر اثرها على الجوارح وهي عامة وخاصة.
سكينة الانبياء:
فسكينة الانبياء صلوات الله وسلامه عليهم اخص مراتبها وعلى اقسامه كالسكينة التي حصلت لابراهيم الخليل وقد القى في المنجنيق مسافرا الى ما اضرم له اعداء الله من النار فلله تلك السكينة التي كانت في قلبه حين ذلك السفر وكذلك السكينة التي حصلت لموسى وقد غشيه فرعون وجنوده من ورائهم والبحر أمامهم وقد استغاث بنو اسرائيل يا موسى الى اين تذهب بنا هذا البحر امامنا وهذا فرعون خلفنا وكذلك السكينة التي حصلت له وقت تكليم الله له نداء ونجاء كلاما حقيقة سمعه حقيقة بأذنه وكذلك السكينة التي حصلت له وقد رأى العصا ثعبانا مبينا وكذلك السكينة التي نزلت عليه وقد راى حبال القوم وعصيهم كأنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة وكذلك السكينة التي حصلت لنبينا صلى الله عليه وسلم وقد اشرف عليه وعلى صاحبه عدوهما وهما في الغار فلو نظر احدهم الى تحت قدميه لرآهما وكذلك السكينة التي نزلت عليه في موافقة العظيمة واعداء الله قد أحاطوا به كيوم بدر ويوم حنين ويوم الخندق وغيره فهذه السكينة امر فوق عقول البشر وهي من اعظم معجزاته عند ارباب البصائر فان الكذاب ولا سيما على الله املق ما يكون واخوف ما يكون واشده اضطرابا في مثل هذه المواطن فلوا لم يكن للرسل صلوات الله وسلامه عليهم من الآيات إلا هذه وحدها لكفتهم.
سكينة اتباع الرسل:
وأما الخاصة فتكون لاتباع الرسل بحسب متابعتهم وهي سكينة الايمان وهي سكينة تسكن القلوب عن الريب والشك ولهذا انزلها الله على المؤمنين في اصعب المواطن احوج ما كانوا اليها هو الذي انزل السكينة في قلوب المؤمنين(10/219)
ص -202-…ليزدادوا إيمانا مع ايمانهم ولله جنود السموات والارض وكان الله عليما حكيما فذكر نعمته عليهم بالجنود الخارجة عنهم والجنود الداخلة فيهم وهي السكينة عند القلق والاضطراب الذي لم يصبر عليه عمر بن الخطاب رضى الله عنه وذلك يوم الحديبية قال الله سبحانه وتعالى يذكر نعمته عليهم بإنزالها أحوج ما كانوا اليها لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا لما علم الله سبحانه وتعالى ما في قلوبهم من القلق والاضطراب لما منعهم كفار قريش من دخول بيت الله وحبسوا الهدى عن محله واشترطوا عليهم تلك الشروط الجائرة الظالمة فاضطربت قلوبهم وقلقت ولم تطق الصبر فعلم تعالى ما فيها فثبتها بالسكينة رحمة منه ورافة ولطفا وهو اللطيف الخبير وتحتمل الاية وجها آخر وهو انه سبحانه علم ما في قلوبهم من الايمان والخير ومحبته ومحبة رسوله فثبتها بالسكينة وقت قلقها واضطرابها والظاهر ان الاية تعم الامرين وهو انه علم ما في قلوبهم مما يحتاجون معه الى إنزال السكينة وما في قلوبهم من الخير الذي هو سبب انزالها ثم قال بعد ذلك إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا احق بها واهلها وكان الله بكل شئ عليما لما كانت حمية الجاهلية توجب من الاقوال والاعمال ما يناسبها جعل الله في قلوب اوليائه سكينة تقابل حمية الجاهلية وفي السنتهم كلمة التقوى مقابلة لما توجبه حمية الجاهلية من كلمة الفجور فكان حظ المؤمنين السكينة في قلوبهم وكلمة التقوى على السنتهم وحظ اعدائهم حمية الجاهلية في قلوبهم وكلمة الفجور والعدوان على ألسنتهم فكانت هذه السكينة وهذه الكلمة جند من جند الله ايد بها الله رسوله والمؤمنين في مقابلة جند الشيطان الذي في قلوب اوليائه والسنتهم وثمرة هذه السكينة الطمأنينة للخير تصديقا وإيقانا(10/220)
وللامر تسليما وإذعانا فلا تدع شبهة تعارض الخير ولا إرادة تعارض الامر فلا تمر معارضات السوء بالقلب إلا وهي مجتازة من مرور الوساوس الشيطانية التي يبتلى بها العبد ليقوى إيمانه ويعلو عند الله ميزانه بمدافعتها وردها وعدم السكون اليها فلا يظن المؤمن انها لنقص درجته عند الله(10/221)
ص -203-…فصل: السكينة عند القيام بوظائف العبودية
ومنها السكينة عند القيام بوظائف العبودية وهي التي تورث الخضوع والخشوع وغض الطرف وجمعية القلب على الله تعالى بحيث يؤدي عبوديته بقلبه وبدنه والخشوع نتيجة هذه السكينة وثمرتها وخشوع الجوارح نتيجة خشوع القلب وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه.
فإن قلت: قد ذكرت اقسامها ونتيجتها وثمرتها وعلامتها فما اسبابها الجالبة لها؟
الأسباب المؤدية الى السكينة:
قلت: سببها استيلاء مراقبة العبد لربه جل جلاله حتى كأنه يراه وكلما اشتدت هذه المراقبة اوجبت له من الحياء والسكينة والمحبة والخضوع والخشوع و الخوف والرجاء ما لا يحصل بدونها فالمراقبة اساس الاعمال القلبية كلها وعمودها الذي قيامها به ولقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم اصول اعمال القلب وفروعها كلها في كلمة واحدة وفي قوله في الاحسان ان تعبد الله كانك تراه فتأمل كل مقام من مقامات الدين وكل عمل من اعمال القلوب كيف تجد هذا اصله ومنبعه؟
والمقصود ان العبد محتاج الى السكينة عند الوساوس المعترضة في اصل الايمان ليثبت قلبه ولا يزيغ وعند الوساوس والخطرات القادحة في اعمال الايمان لئلا تقوى وتصير هموما وغموما وارادات ينقص بها ايمانه وعند اسباب المخاوف على اختلافها ليثبت قلبه ويسكن جأشه وعند اسباب الفرح لئلا يطمح به مركبه فيجاوز الحد الذي لا يعبر فينقلب ترحا وحزنا وكم ممن أنعم الله عليه بما يفرحه فجمح به مركب الفرح وتجاوز الحد فانقلب ترحا عاجلا(10/222)
ص -204-…ولو أعين بسكينة تعدل فرحه لاريد به الخير وبالله التوفيق وعند هجوم الاسباب المؤلمه على اختلافها الظاهره والباطنه فما احوجه الى السكينة حينئذ وما انفعها له وأجداها عليه واحسن عاقبتها
والسكينة في هذه المواطن علامة على الظفر وحصول المحبوب واندفاع المكروه وفقدها علامه على ضد ذلك لا يخطئ هذا ولا هذا والله المستعان
الاستظهار بالعلم:
وأما قوله: "ان يكون قويا على ما هو فيه وعلى معرفته أي مستظهرا مضطعا بالعلم متمكنا منه غير ضعيف فيه فإنه اذا كان ضيفا قليل البضاعةغير مضطلع به أحجم عن الحق في موضع ينبغي فيه الإقدام لقلة علمه بمواضع الإقدام والاحجام فهو يقدم في غير موضعه ويحجم في غير موضعه ولا بصيرة له بالحق ولا قوة له على تنفيذه فالمفتى محتاج إلى قوة في العلم وقوة في التنفيذ فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له.
الكفاية:
وأما قوله: "الرابعة الكفاية وإلا مضغه الناس" فإنه إذا لم يكن له كفاية احتاج إلى الناس والى الاخذ مما في ايديهم فلا يأكل منهم شيئا إلا اكلوا من لحمه وعرضه اضعافه وقد كان لسفيان الثوري شئ من مال وكان لا يتروى في بذله ويقول لولا ذلك لتمندل بنا هؤلاء فالعالم اذا منح غناء فقد أعين على تنفيذ علمه وإذا احتاج الى الناس فقد مات علمه وهو ينظر
معرفة الناس:
وأما قوله الخامسة معرفة الناس فهذا اصل عظيم يحتاج اليه المفتي والحاكم فإن لم يكن فقيها فيه فقيها في الامر والنهي ثم يطبق احدهما على الاخر وإلا كان ما يفسد اكثر مما يصلح فإنه اذا لم يكن فقيها في الامر له معرفة بالناس تصور له الظالم بصوره المظلوم وعكسه والمحق بصورة المبطل وعكسه وراج(10/223)
ص -205-…عليه المكر والخداع والاحتيال وتصور له الزنديق في صورة الصديق والكاذب في صورة الصادق ولبس كل مبطل ثوب زور تحتها الاثم والكذب والفجور وهو لجهله بالناس واحوالهم وعوائدهم وعرفياتهم لا يميز هذا من هذا بل ينبغي له ان يكون فقيها في معرفة مكر الناس وخداعهم واحتيالهم وعوائدهم وعرفياتهم فإن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعوائد والاحوال وذلك كله من دين الله كما تقدم بيانه وبالله التوفيق.
فوائد تتعلق بالفتوى مروية عن الامام احمد
الفائدة الرابعة والعشرون: في كلمات حفظت عن الامام احمد رحمه الله تعالى ورضى عنه في امر الفتيا سوى ما تقدم آنفا.
قال في رواية ابنه صالح ينبغي للرجل اذا حمل نفسه على الفتيا ان يكون عالما بوجوه القرآن عالما بالاسانيد الصحيحة عالما بالسنن وقال في رواية أبي الحارث لا تجوز الفتيا إلا لرجل عالم بالكتاب والسنة وقال في رواية حنبل ينبغي لمن افتى ان يكون عالما بقول من تقدم وإلا فلا يفتي وقال في رواية يوسف بن موسى احب ان يتعلم الرجل كل ما تكلم فيه الناس وقال في رواية ابنه عبد الله وقد سأله عن الرجل يريد أن يسأله عن امر دينه مما يبتلي به من الايمان في الطلاق وغيره وفي مصره من أصحاب الراي واصحاب الحديث لا يحفظون ولا يعرفون الحديث الضعيف ولا الإسناد القوي فلمن يسأل لهؤلاء أولأصحاب الحديث على قلة معرفتهم فقال يسأل اصحاب الحديث ولا يسأل اصحاب الرأي ضعيف الحديث خير من الرأي وقال في رواية محمد بن عبيد الله بن المنادى وقد سمع رجلا يساله اذا حفظ الرجل مائة الف حديث يكون فقيها قال لا قال فمائتي ألف قال لا قال فثلاثمائة الف قال لا قال فأربعمائة الف قال بيده هكذا وحركها قال حفيده احمد بن جعفر بن محمد فقلت لجدي كم كان يحفظ احمد فقال أجاب عن ستمائة الف(10/224)
ص -206-…وقال عبد الله بن احمد: سالت ابي عن الرجل يكون عنده الكتب المصنفة فيها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وليس للرجل بصر بالحديث الضعيف المتروك ولا الاسناد القوي من الضعيف فيجور ان يعمل بما شاء ويتخير منها فيفتى به ويعمل به قال لا يعمل حتى يسأل ما يؤخذ به منها فيكون يعمل على امر صحيح يسال عن ذلك اهل العلم
وقال ابو داود سمعت احمد وسئل عن مسألة فقال دعنا من هذه المسائل المحدثة وما احصى ما سمعت احمد سئل عن كثير مما فيه الاختلاف من العلم فيقول لا أدرى وسمعته يقول ما رأيت مثل ابن عيينة في الفتيا احسن فتيا منه كان اهون عليه ان يقول لا ادري من يحسن مثل هذا سل العلماء وقال ابو داود قلت لأحمد الاوزاعي هو اتبع من مالك فقال لا تقلد دينك احدا من هؤلاء ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فخذ به ثم التابعين بعد الرجل فيه مخير وقال إسحاق بن هاني سألت أبا عبد الله عن الذي جاء في الحديث أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار فقال يفتى بما لم يسمع وقال ايضا قلت لأبي عبد الله يطلب الرجل الحديث بقدر ما يظن أنه قد انتفع به قال العلم لا يعدله شئ وجاءه رجل يسأله عن شئ فقال لا اجيبك في شئ ثم قال قال عبد الله بن مسعود إن كل من يفتى الناس في كل ما يستفتونه لمجنون قال الاعمش فذكرت ذلك للحاكم فقال لو حدثتني به قبل اليوم ما افتيت في كثير مما كنت افتى به قال ابن هاني وقيل لابي عبد الله يكون الرجل في قرية فيسأل عن الشيء الذي فيه اختلاف قال يفتي بما وافق الكتاب والسنة وما لم يوافق الكتاب والسنة امسك عنه قيل له افتخاف عليه قال لا قيل له ما كان من كلام اسحاق بن راهويه وما كان وضع في الكتاب وكلام ابي عبيد ومالك ترى النظر فيه فقال كل كتاب ابتدع فهو بدعة أوكل كتاب محدث فهو بدعة واما ما كان عن مناظرة يخبر الرجل بما عنده وما يسمع من الفتيا فلا أرى به بأسا قيل له فكتاب ابي عبيد غريب(10/225)
الحديث(10/226)
ص -207-…قال ذلك شئ حكاه عن قوم اعراب قيل له فهذه الفوائد التي فيها المناكير ترى ان تكتب قال المنكر ابدا منكر.
دلالة العالم للسائل على مفتى غيره:
الفائدة الخامسة والعشرون: في دلالة العالم للمستفتى على غيره وهو موضع خطر جدا فلينظر الرجل ما يحدث من ذلك فإنه متسبب بدلالته إما الى الكذب على الله ورسوله في أحكامه أوالقول عليه بلا علم فهو معين على الاثم والعدوان وإما معين على البر والتقوى فلينظر الانسان الى من يدل عليه وليتق الله ربه فكان شيخنا قدس الله روحه شديد التجنب لذلك ودللت مرة بحضرته على مفت أومذهب فانتهرني وقال مالك وله دعه ففهمت من كلامه إنك لتبوء بما عساه يحصل له من الإثم ولمن أفتاه ثم رأيت هذه المسألة بعينها منصوصة عن الإمام أحمد قال أبو داود في مسائلة قلت لأحمد الرجل يسأل عن المسألة فأدله على إنسان يسأله فقال إذا كان يعني الذي أرشدته إليه متبعا ويفتي بالسنة فقيل لأحمد إنه يريد الاتباع وليس كل قوله يصيب فقال أحمد ومن يصيب في كل شيء قلت له فرأي مالك فقال لا تتقلد في مثل هذا بشيء قلت وأحمد كان يدل على أهل المدينة ويدل على الشافعي ويدل على إسحاق ولا خلاف عنه في استفتاء هؤلاء ولا خلاف عنه في أنه لا يستفتي أهل الرأي المخالفون لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالله التوفيق ولا سيما كثير من المنتسبين إلى الفتوى في هذا الزمان وغيره وقد رأى رجل ربيعة بن أبي عبد الرحمن يبكي فقال ما يبكيك فقال استفتي من لا علم له وظهر في الإسلام أمر عظيم قال ولبعض من يفتي ههنا أحق بالسجن من السراق قال بعض العلماء فكيف لو رأى ربيعة زماننا وإقدام من لا علم عنده على الفتيا وتوثبه عليها ومد باع التكلف إليها وتسلقه بالجهل والجرأة عليها مع قلة الخبرة وسوء السيرة وشؤم السريرة وهو من بين أهل العلم منكر أوغريب(10/227)
ص -208-…فليس له في معرفة الكتاب والسنة وآثار السلف نصيب ولا يبدي جوابا بإحسان وإن ساعد القدر فتواه كذلك يقول فلان ابن فلان.
يمدون للإفتاء باعا قصيرة… وأكثرهم عند الفتاوي يكذلك
وكثير منهم نصيبهم مثل ما حكاه أبو محمد بن حزم قال كان عندنا مفت قليل البضاعة فكان لا يفتي حتى يتقدمه من يكتب الجواب فيكتب تحته جوابي مثل جواب الشيخ فقدر أن اختلف مفتيان في جواب فكتب تحتهما جوابي مثل جواب الشيخين فقيل له إنهما قد تناقضا فقال وأنا أيضا تناقضت كما تناقضا وقد أقام الله سبحانه لكل عالم ورئيس وفاضل من يظهر مماثلته ويرى الجهال وهم الأكثرون مساجلته ومشاكلته وانه يجري معه في الميدان وأنهما عند المسابقة كفرسي رهان ولا سيما إذا طول الأردان وأرخي الذوائب الطويلة وراءه كذنب الأتان وهدر باللسان وخلا له الميدان الطويل من الفرسان
فلو لبس الحمار ثياب خز… لقال الناس يالك من حمار
وهذا الضرب إنما يستفتون بالشكل لا بالفضل وبالمناصب لا بالأهلية قد غرهم عكوف من لا علم عنده عليهم ومسارعة أجهل منهم إليهم تعج منهم الحقوق إلى الله تعالى عجيجا وتضح منهم الأحكام إلى من أنزلها ضجيجا فمن أقدم بالجرأة على ما ليس له من فتيا أوقضاء أوتدريس استحق اسم الذم ولم يحل قبول فتياه ولا قضائه هذا حكم دين الإسلام وإن رغمت أنوف من اناس فقل يارب لا ترغم سواها حكم كذلكة المفتي الفائدة السادسة والعشرون في حكم كذلكة المفتي ولا يخلو من حالين إما أن يعلم صواب جواب من تقدمه بالفتيا أولا يعلم فإن علم صواب جوابه فله(10/228)
ص -209-…ان يكذلك وهل الاولى له الكذلكة أوالجواب المستقل فيه تفصيل
فلا يخلو المبتديء اما ان يكون اهلا أومتسلقا متعاطيا ماليس له بأهل فإن كان الثاني فتركه الكذلكة اولى مطلقا إذ في كذلته تقرير له على الإفتاء وهو كالشهادة له بالأهلية وكان بعض اهل العلم يضرب إلى فتوى من كتب وليس بأهل فإن لم يتمكن من ذلك خوف الفتنة منه فقد قيل لايكتب معه في الورقة ويرد السائل وهذا نوع تحامل والصواب انه يكتب في الورقة الجواب ولا يأنف من الإخبار بدين الله الذي يجب عليه الإخبار به لكتابة من ليس بأهل فإن هذا ليس عذرا عند الله ورسوله وأهل العلم في كتمان الحق بل هذا نوع رياسة وكبر والحق لله عز وجل فكيف يجوز ان يعطل حق الله ويكتم دينه لأجل كتابة من ليس بأهل
وقد نص الإمام على ان الرجل اذا شهد الجنازة فرأى فيها منكرا لا يقدر على إزالته انه لا يرجع ونص على انه دعي الى وليمة عرس فرأى فيها منكرا لايقدر على إزالته انه يرجع فسألت شيخنا عن الفرق فقال لأن الحق في الجنازة للميت فلا يترك حقه لما فعله الحي من المنكر والحق في الوليمة لصاحب البيت فإذا اتى فيها بالمنكر فقد اسقط حقه من الإجابة وإن كان المبتدي بالجواب أهلا للإفتاء فلا يخلو إما ان يعلم المكذلك صواب جوابه أولا يعلم فإن لم يعلم صوابه لم يجز له ان يكذلك تقليدا له إذ لعله ان يكون قد غلط ولو نبه لرجع وهو معذور وليس المكذلك معذورا بل مفت بغير علم ومن أفتى بغير علم فإثمه على من أفناه وهو احد المفتين الثلاثة الذين ثلثاهم في النار وإن علم انه قد أصاب فلا يخلو إما أن تكون المسألة ظاهرة لا يخفى وجه الصواب فيها بحيث لا يظن بالمكذلك انه قلده فيما لا يعلم أوتكون خفية فإن كانت ظاهرة فالاولى الكذلكة لانه إعانة على البر والتقوى وشهادة للمفتى بالصواب وبراءة من الكبر والحمية وإن كانت خفية بحيث يظن بالمكذلك انه وافقه تقليدا محضا فإن امكنه إيضاح ما أشكه الاول وزيادة بيان(10/229)
ص -210-…أوذكر قيد أوتنبيه على أمر أغفله فالجواب المستقل اولى وإن لم يمكنه ذلك فإن شاء كذلك وإن شاء اجاب استقلالا
فإن قيل ما الذي يمنعه من الكذلكة إذا لم يعلم صوابه تقليدا له كما قلد المبتدي من فوقه فإذا افتى الاول بالتقليد المحض فما الذي يمنع المكذلك من تقليده
قيل: الجواب من وجوه أحدها أن الكلام في المفتي الاول ايضا فقد نص الامام الشافعي واحمد وغيرهما من الائمة على انه لا يحل للرجل ان يفتى بغير علم حكى في ذلك الاجماع وقد تقدم ذكر ذلك مستوفى الثاني ان هذا الاول وإن جاز له التقليد للضرورة فهذا المكذلك المتكلف لا ضرورة له الى تقليده بل هذا من بناء الضعيف على الضعيف وذلك لا يسوغ كما لا تسوغ الشهادة على الشهادة وكما لا يجوز المسح على الخفين على طهارة التيمم ونظائر ذلك كثيرة الثالث أن هذا لو ساغ لصار الناس كلهم مفتين إذ ليس هذا بجواز تقليد المفتى اولى من غيره وبالله التوفيق
جواز الفتوى للذي لا تجوز له الشهادة والقضاء:
الفائدة السابعة والعشرون يجوز للمفتي ان يفتي أباه وابنه وشريكه ومن لا تقبل شهادته له وإن لم يجز أن يشهد له ولا يقضى له والفرق بينهما أن الافتاء يجري مجرى الرواية فكأنه حكم عام بخلاف الشهادة والحكم فإنه يخص المشهود له والمحكوم له ولهذا يدخل الراوي في حكم الحديث الذي يرويه ويدخل في حكم الفتوى التي يفتى بها ولكن لا يجوز له أن يحابي من يفتيه فيفتى أباه أوابنه أوصديقه بشئ ويفتى غيرهم بضده محاباة بل هذا يقدح في عدالته إلا أن يكون ثم سبب يقتضى التخصيص غير المحاباة ومثال هذا ان يكون في المسألة قولان قول بالمنع
وقول بالإباحة فيفى ابنه وصديقة بقول الاباحة والاجنبي بقول المنع فإن قيل هل يجوز له ان يفتى نفسه(10/230)
ص -211-…قيل: نعم إذا كان له ان يفتي غيره وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم استفت قلبك وإن أفتاك المفتون فيجوز له أن يفتى نفسه بما يفتى غيره به ولا يجوز له أن يفتى نفسه بالرخصة وغير بالمنع ولا يجوز له إذا كان في المسألة قولان قول بالجواز وقول بالمنع أن يختار لنفسه قول الجواز ولغيره قول المنع
وسمعت شيخنا يقول سمعت بعض الامراء يقول عن بعض المفتين من أهل زمانه يكون عندهم في المسألة ثلاثة اقوال احدها الجواز والثاني المنع والثالث التفصيل فالجواز لهم والمنع لغيرهم وعليه العمل
لا يجوز ان يكون غرض المفتي وإرادته معيار للفتوى:
الفائدة الثامنة والعشرون لا يجوز للمفتي ان يعمل بما يشاء من الاقوال والوجوه من غير نظر في الترجيح ولا يعتد به بل يكتفي في العمل بمجرد كون ذلك قولا قاله إمام أووجها ذهب إليه جماعة فيعمل بما يشاء من الوجوه والاقوال حيث رأى القول وفق إرادته وغرضه عمل به فإرادته وغرضه هو المعيار وبها الترجيح وهذا حرام باتفاق الامة
وهذا مثل ما حكى القاضى أبو الوليد الباجي عن بعض أهل زمانه ممن نصب نفسه للفتوى: "أنه كان يقول إن الذي لصديقي على إذا وقعت له حكومة أوفتيا أن أفتيه بالرواية التي توافقه" وقال: "وأخبرني من أثق به انه وقعت له واقعة فأفتاه جماعة من المفتين بما يضره وأنه كان غائبا فلما حضر سألهم بنفسه فقالوا لم نعلم أنها لك وأفتوه بالرواية الاخرى التي توافقه قال وهذا مما لا خلاف بين المسلمين ممن يعتد بهم في الاجماع انه لا يجوز" وقد قال مالك: "رحمه الله في اختلاف الصحابة رضى الله عنهم مخطئ ومصيب فعليك بالاجتهاد"
وبالجملة فلا يجوز العمل والافتاء في دين الله بالتشهى والتخير وموافقة الغرض فيطلب القول الذي يوافق غرضه وغرض من يحابيه فيعمل به ويفتى به ويحكم به ويحكم على عدوه ويفتيه بضده وهذا من افسق الفسوق واكبر الكبائر والله المستعان(10/231)
ص -212-…أنواع المفتين:
الفائدة التاسعة والعشرون: المفتون الذين نصبوا أنفسهم للفتوى أربعة أقسام النوع الاول من أنواع المفتين أحدهم العالم بكتاب الله وسنة رسوله وأقوال الصحابة فهو المجتهد في أحكام النوازل يقصد فيها موافقه الادلة الشرعية حيث كانت ولا ينافي اجتهاده تقليده لغيره أحيانا فلا تجد أحدا من الائمة إلا وهو مقلد من هو أعلم منه في بعض الاحكام وقد قال الشافعي رحمه الله ورضى عنه: في موضع من الحج قلته تقليدا لعطاء فهذا النوع الذي يسوغ لهم الافتاء ويسوغ استفتاؤهم ويتأدى بهم فرض الاجتهاد وهم الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم إن الله يبعث لهذه الامة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها وهم غرس الله الذين لا يزال يغرسهم في دينه وهم الذين قال فيهم علي بن ابي طالب كرم الله وجهه لن تخلو الارض من قائم لله بحجته
فصل: النوع الثاني من أنواع المفتين
النوع الثاني مجتهد مقيد في مذهب من ائتم به فهو مجتهد في معرفة فتاويه وأقواله ومأخذه وأصوله عارف بها متمكن من التخريج عليها وقياس ما لم ينص من ائتم به عليه على منصوصه من غير ان يكون مقلدا لإمامه لا في الحكم ولا في الدليل لكن سلك طريقه في الاجتهاد والفتيا ودعا الى مذهبه ورتبه وقرره فهو موافق له في مقصده وطريقة معا
وقد ادعى هذه المرتبة من الحنابلة القاضي ابو يعلى والقاضي أوعلي بن ابي موسى في شرح الارشاد الذي له ومن الشافعية خلق كثير وقد اختلف الحنفية في أبي يوسف ومحمد وزفر بن الهذيل والشافعية في المزني وابن سريج وابن المنذر ومحمد بن نصر المروزي والمالكية في أشهب وابن عبدالحكم وابن القاسم وابن وهب والحنابلة في ابى حامد والقاضي هل كان هؤلاء مستقلين بالاجتهاد أومتقيدين(10/232)
ص -213-…مذاهب أئمتهم على قولين ومن تأمل أحوال هؤلاء وفتاويهم واختياراتهم علم أنهم لم يكونوا مقلدين لائمتهم في كل ما قالوه وخلافهم لهم أظهر من أن ينكر وإن كان منهم المستقل والمستكثر ورتبة هؤلاء دون رتبة الائمة في الاستقلال بالاجتهاد
فصل: النوع الثالث من أنواع المفتين
النوع الثالث من هو مجتهد في مذهب من انتسب اليه مقرر له بالدليل متقن لفتاويه عالم بها لا يتعدى اقواله وفتاويه ولا يخالفها وإذا وجد نص إمامه لم يعدل عنه الى غيره البته وهذا شأن اكثر المصنفين في مذاهب أئمتهم وهو حال اكثر علماء الطوائف وكثير منهم يظن انه لا حاجة به الى معرفة الكتاب والسنة والعربية لكونه مجتزيا بنصوص إمامه فهى عنده كنصوص الشارع قد اكتفى بها من كلفة التعب والمشقة وقد كفاه الامام استنباط الاحكام ومؤنة استخراجها من النصوص وقد يرى إمامه ذكر حكما بدليله فيكتفى هو بذلك الدليل من غير بحث عن معارض
وهذا شان كثير من أصحاب الوجوه والطرق والكتب المطولة والمختصرة وهؤلاء لا يدعون الاجتهاد ولا يقرون بالتقليد وكثير منهم يقول اجتهدنا في المذاهب فرأينا اقربها الى الحق مذهب إمامنا وكل منهم يقول ذلك عن إمامه ويزعم انه اولى بالاتباع من غيره ومنهم من يغلو فيوجب اتباعه ويمنع من اتباع غيره
فيالله العجب من اجتهاد نهض بهم الى كون متبوعهم ومقلدهم اعلم من غيره احق بالاتباع من سواه وأن مذهبه هو الراجح والصواب دائر معه وقد بهم عن الاجتهاد في كلام الله ورسوله واستنباط الاحكام منه وتبرجيح ما يشهد له النص مع استيلاء كلام الله ورسوله على غاية البيان وتضمنه(10/233)
ص -214-…لجوامع الكلم وفصله للخطاب وبراءته من التناقض والاختلاف والاضطراب فقعدت بهم هممهم واجتهادهم عن الاجتهاد فيه ونهضت بهم الى الاجتهاد في كون إمامهم أعلم الامة واولاها بالصواب وأقواله في غاية القوة وموافقة السنة والكتاب والله المستعان
فصل: النوع الرابع من انواع المفتين
النوع الرابع طائفة تفقهت في مذاهب من انتسبت اليه وحفظت فتاويه وفروعه وأقرت على أنفسها بالتقليد المحض من جميع الوجوه فإن ذكروا الكتاب والسنة يوما في مسألة فعلى وجه التبرك والفضيلة لا على وجه الاحتجاج والعمل وإذا رأوا حديثا صحيحا مخالفا لقول من انتسبوا اليه أخذوا بقوله وتركوا الحديث وإذا رأوا أبا بكر وعمر وعثمان وعليا وغيرهم من الصحابة رضى الله عنهم قد أفتوا بفتيا ووجدوا لامامهم فتيا تخالفها أخذوا بفتيا إمامهم وتركوا فتاوي الصحابة قائلين الامام اعلم بذلك منا ونحن قد قلدناه فلا نتعداه ولا نتخطاه بل هو أعلم بما ذهب اليه منا ومن عدا هؤلاء فمتكلف متخلف قد دنا بنفسه عن رتبه المشتغلين وقصر عن درجة المحصلين فهو مكذلك مع المكذلكين وإن ساعده القدر واستقل بالجواب قال يجوز بشرطه ويصح بشرطه ويجوز ما لم يمنع منه مانع شرعي ويرجع في ذلك الى رأي الحاكم ونحو ذلك من الاجوبة التي يستحسنها كل جاهل ويستحي منها كل فاضل
ففتاوي القسم الاول من جنس توقيعات الملوك وعلمائهم وفتاوي النوع الثاني من جنس توقيعات نوابهم وخلفائهم وفتاوي النوع الثالث والرابع من جنس توقيعات خلفاء نوابهم ومن عداهم فمتشبع بما لم يعط متشبه(10/234)
ص -215-…بالعلماء محاك للفضلاء وفي كل طائفة من الطوائف متحقق بغيه ومحاك له متشبه به والله المستعان
هل يجوز للمفتي المقلد لمذهب ان يفتي به:
الفائدة الثلاثون: إذا كان الرجل في مذهب إمام ولم يكن مستقلا بالاجتهاد فهل له ان يفتى بقول ذلك الامام على قولين وهما وجهان لاصحاب الشافعي واحمد.
أحدهما: الجواز ويكون متبعه مقلدا للميت لا له وإنما له مجرد النقل عن الإمام
والثاني لا يجوز له ان يفتى لان السائل مقلد له لا للميت وهو لم يجتهد له والسائل يقول له انا أقلدك فيم تفتيني به
والتحقيق ان هذا فيه تفصيل فإن قال له السائل اريد حكم الله تعالى في هذه المسألة واريد الحق فيما يخلصني ونحو ذلك لم يسعه إلا أن يجتهد له في الحق ولا يسعه أن يفتيه بمجرد تقليد غيره من غير معرفة بأنه حق أوباطل وإن قال له اريد ان اعرف في هذه النازلة قول الامام ومذهبه ساغ له الاخبار به ويكون ناقلا له ويبقى الدرك على السائل فالدرك في الوجه الاول على المفتي وفي الثاني على المستفتي
هل يجوز تقليد الاموات:
الفائدة الحادية والثلاثون: هل يجوز للحي تقليد الميت والعمل بفتواه من غير اعتبارها بالدليل الموجب لصحة العمل بها فيه وجهان لأصحاب الامام احمد والشافعي فمن منعه قال يجوز تغيير اجتهاده لو كان حيا فإنه كان يجدد النظر عند نزول هذه النازلة إما وجوبا وإما استحبابا على النزاع المشهور ولعله لو جدد النظر لرجع عن قوله الاول والثاني الجواز وعليه عمل جميع المقلدين في أقطار الارض وخيار ما بأيديهم من التقليد تقليد الاموات ومن منع منهم تقليد الميت فإنما هو شئ يقوله بلسانه وعمله في فتاويه(10/235)
ص -216-…وأحكامه بخلافه والاقوال لا تموت قائلها بموت قائلها كما لا تموت الاخبار بموت رواتها وناقليها
المجتهد في نوع العلم له ان يفتي فيه ولا يفتي في غيره
الفائدة الثانية والثلاثون: الاجتهاد حالة تقبل التجزؤ والانقسام فيكون الرجل مجتهدا في نوع من العلم مقلدا في غيره أوفي باب من ابوابه كمن استفرغ وسعه في نوع العلم بالفرائض وأدلتها واستنباطها من الكتاب والسنة دون غيرها من العلوم أوفي باب الجهاد أوالحج أوغير ذلك فهذا ليس له الفتوى فيما لم يجتهد فيه ولا تكون معرفته بما اجتهد فيه مسوغة له الافتاء بما لا يعلم في غيره وهل له ان يفتي في النوع الذي اجتهد فيه فيه ثلاثة اوجه اصحابها الجواز بل هو الصواب المقطوع به والثاني المنع والثالث الجواز في الفرائض دون غيرها
فحجة الجواز أنه قد عرف الحق بدليله وقد بذل جهده في معرفة الصواب فحكمه في ذلك حكم المجتهد المطلق في سائر الانواع
وحجة المنع تعلق أبواب الشرع واحكامه بعضها ببعض فالجهل ببعضها مظنة للتقصير في الباب والنوع الذي قد عرفه ولا يخفى الارتباط بين كتاب النكاح والطلاق والعدة وكتاب الفرائض وكذلك الإرتباط بين كتاب الجهاد وما يتعلق به وكتاب الحدود والاقضية والاحكام وكذلك عامة ابواب الفقه
ومن فرق بين الفرائض وغيرها رأى انقطاع احكام قسمة المواريث ومعرفة الفروض ومعرفة مستحقها عن كتاب البيوع والاجارات والرهون والنضال وغيرها وعدم تعلقاتها وأيضا فإن عامة احكام المواريث قطعية وهي منصوص عليها في الكتاب والسنة
فإن قيل فما تقولون فيمن بذل جهده في معرفة مسألة أومسألتين هل له ان يفتي بهما(10/236)
ص -217-…قيل نعم يجوز في أصح القولين وهما وجهان لاصحاب الامام احمد وهل هذا إلا من التبليغ عن الله وعن رسوله وجزى الله من أعان الاسلام ولو بشطر كلمة خيرا ومنع هذا من الافتاء بما علم خطأ محض وبالله التوفيق
من أفتى وليس أهلا للفتوى أثم:
الفائدة الثالثة والثلاثون: من أفتى الناس وليس بأهل للفتوى فهو آثم عاص ومن أقره من ولاة الامور على ذلك فهو آثم أيضا.
قال ابو الفرج ابن الجوزي رحمه الله ويلزم ولي الامر منعهم كما فعل بنو أمية وهؤلاء بمنزلة من يدل الركب وليس له علم بالطريق وبمنزلة الاعمى الذي يرشد الناس الى القبلة وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطب الناس بل هو أسوأ حالا من هؤلاء كلهم وإذا تعين على ولي الامر منع من لم يحسن التطبب من مداواة المرضى فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ولم يتفقه في الدين؟
وكان شيخنا رضى الله عنه شديد الانكار على هؤلاء فسمعته يقول قال لي بعض هؤلاء أجعلت محتسبا على الفتوى فقلت له يكون على الخبازين والطباخين محتسب ولا يكون على الفتوى محتسب
وقد روى الامام احمد وابن ماجة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا من افتى بغير علم كان إثم ذلك على الذي أفتاه وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينزعه من صدور الرجال ولكن يقبض العلم بقبض العلماء فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا وفي أثر مرفوع ذكره أبو الفرج وغيره من أفتى الناس بغير علم لعنته ملائكة السماء وملائكة الارض
وكان مالك رحمه الله يقول من سئل عن مسألة فينبغي له قبل ان(10/237)
ص -218-…يجيب فيها ان يعرض نفسه على الجنة والنار وكيف يكون خلاصه في الاخرة ثم يجيب فيها وسئل عن مسألة فقال لا أدري فقيل له إنها مسألة خفيفة سهلة فغضب وقال ليس في العلم شئ خفيف أما سمعت قول الله عزه وجل إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا فالعلم كله ثقيل وخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة وقال ما أفتيت حتى شهد لي سبعون انى أهل لذلك وقال لا ينبغي لرجل ان يرى نفسه أهلا لشئ حتى يسأل من هو أعلم منه وما أفتيت حتى سألت ربيعة ويحيى بن سعيد فأمراني بذلك ولو نهياني انتهيت قال وإذا كان اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تصعب عليهم المسائل ولا يجيب احد منهم عن مسألة حتى يأخذ راى صاحبه مع ما رزقوا من السداد والتوفيق والطهارة فكيف بنا الذين غطت الذنوب والخطايا قلوبنا وكان رحمه الله إذا سئل عن مسألة فكأنه واقف بين الجنة والنار وقال عطاء بن ابي رباح أدركت أقواما إن كان أحدهم ليسال عن شئ فيتكلم وإنه ليرعد
وسئل النبي صلى الله عليه وسلم أي البلاد شر فقال لا أدرى حتى أسأل جبريل فسأله فقال: "اسواقها".
وقال الامام احمد من عرض نفسه للفتيا فقد عرضها لأمر عظيم إلا أنه قد تلجئ الضرورة وسئل الشعبي عن مسألة فقال لا أدري فقيل له الا تستحي من قولك لا أدري وأنت فقيه اهل العراق فقال لكن الملائكة لم تستحى حين قالوا لا علم لنا إلا ما علمتنا وقال بعض أهل العلم تعلم لا أدري فإنك إن قلت لا أدري علموك حتى تدري وإن قلت أدري سألوك حتى لا تدري وقال عتبة بن مسلم صحبت ابن عمر اربعة وثلاثين شهرا فكان كثيرا ما يسأل فيقول لا أدري وكان سعيد بن المسيب لا يكاد يفتى فتيا ولا يقول شيئا إلا قال: "اللهم سلمني وسلم مني"
وسئل الشافعي عن مسألة فسكت فقيل الا تجيب فقال حتى أدري الفضل في سكوتي أوفي الجواب وقال ابن ابي ليلى ادركت مائة وعشرين من الانصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل أحدهم عن المسألة فيردها(10/238)
ص -219-…هذا الى هذا وهذا الى هذا حتى ترجع الى الاول وما منهم من أحد بحدث بحديث أويسأل عن شئ إلا ود أن أخاه كفاه وقال ابو الحسين الازدي ان احدهم ليفتي في المسألة لو وردت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر وسئل القاسم بن محمد عن شئ فقال إنى لا احسنه فقال له السائل إنى جئتك لا اعرف غيرك فقال له القاسم لا تنظر الى طول لحيتي وكثرة الناس حولى والله ما أحسنه فقال شيخ من قريش جالس الى جنبه يا ابن اخي الزمها فوالله ما رأيناك في مجلس أنبل منك اليوم فقال القاسم والله لان يقطع لساني احب الى من ان اتكلم بما لا علم لي به وكتب سلمان الى ابي الدرداء رضى الله عنهما وكان بينهما مؤاخاة بلغني انك قعدت طبيبا فاحذر ان تكون متطببا أوتقتل مسلما فكان ربما جاءه الخصمان فيحكم بينهما ثم يقول ردوهما على متطبب والله أعيدا على قضيتكما
حكم العامي إذا لم يجد مفتيا:(10/239)
الفائدة الرابعة والثلاثون إذا نزلت بالعامى نازلة وهو في مكان لا يجد من سأله عن حكمها ففيه طريقان للناس أحدهما أن له حكم ما قبل الشرع على الخلاف في الحظر والاباحة والوقف لان عدم المرشد في حقه بمنزلة عدم المرشد بالنسبة الى الامة والطريقة الثانية انه يخرج على الخلاف في مسالة تعارض الادلة عند المجتهد هل يعمل بالاخف أوبالاشد أويتخير والصواب انه يجب عليه ان يتقى الله ما استطاع ويتحرى الحق بجهده ومعرفة مثله وقد نصب الله تعالى على الحق امارات كثيرة ولم يسو الله سبحانه وتعالى بين ما يحبه وبين ما يسخطه من كل وجه بحيث لا يتميز هذا من هذا ولا بد ان تكون الفطر السليمة مائلة الى الحق مؤثرة له ولا بد ان يقوم لها عليه بعض الامارات المرجحة ولو بمنام أوبإلهام فإن قدر ارتفاع ذلك كله وعدمت في حقه جميع الامارات فهنا يسقط التكليف عنه في حكم هذه النازلة ويصير بالنسبة اليها كمن لم تبلغة الدعوة وإن كان مكلفا بالنسبة الى غيره فأحكام التكليف تتفاوت بحسب التمكن من العلم والقدرة والله اعلم(10/240)
ص -220-…من تجوز له الفتيا ومن لا تجوز:
الفائدة الخامسة والثلاثون الفتيا اوسع من الحكم والشهادة فيجوز فتيا العبد والحر والمرأة والرجل والقريب والبعيد والاجنبي والامي والقارئ والاخرس بكتابته والناطق والعدو والصديق وفه وجه انه لا تقبل فتيا العدو ولا من لا تقبل شهادته له كالشهادة والوجهان في الفتيا كالوجهين في الحكم وإن كان الخلاف في الحاكم اشهر وأما فتيا الفاسق فإن افتى غيره لم تقبل فتواه وليس للمستفتي ان يستفتيه وله ان يعمل بفتوى نفسه ولا يجب عليه ان يفتي غيره وفي جواز استفتاء مستور الحال وجهان والصواب جواز استفتائه وإفتائه
قلت: وكذلك الفاسق إلا ان يكون معلنا بفسقه داعيا الى بدعته فحكم استفتائه حكم إمامنه وشهادته وهذا يختلف باختلاف الامكنة والازمنة والقدرة والعجز فالواجب شئ والواقع شئ والفقيه من يطبق بين الواقع والواجب وينفذ الواجب بحسب استطاعته لا من يلقى العداوة بني الواجب والواقع فلكل زمان حكم والناس بزمانهم اشبه منهم بآبائهم وإذا عم الفسوق وغلب على أهل الارض فلو منعت إمامه الفساق وشهاداتهم وأحكامهم وفتاويهم وولاياتهم لعطلت الاحكام وفسد نظام الخلق وبطلت اكثر الحقوق ومع هذا فالواجب اعتبار الاصلح فالاصلح وهذا عند القدرة والاختيار واما عند الضرورة والغلبة بالباطل فليس إلا الاصطبار والقيام بأضعف مراتب الانكار
يجوز للقاضي ان يفتي
الفائدة السادسة والثلاثون لا فرق بين القاضي وغيره في جواز الافتاء بما تجوز الفتيا به ووجوبها إذا تعينت ولم يزل امر السلف والحلف على هذا فإن منصب الفتيا داخل في ضمن منصب القضاء عند الجمهور والذين لا يجوزون قضاء الجاهل فالقاضي مفت ومثبت ومنفذ لما أفتى به(10/241)
ص -221-…من يمنع فتوىا القاضي:
وذهب بعض الفقهاء من أصحاب الامام احمد والشافعي الى انه يكره للقاضي ان يفتي في مسائل الاحكام المتعلقة به دون الطهارة والصلاة والزكاة ونحوها واحتج ارباب هذا القول بأن فتياه تصير كالحكم منه على الخصم ولا يمكن نقضه وقت المحاكمة قالوا ولانه قد يتغير اجتهاده وقت الحكومة أوتظهر له قرائن لم تظهر له عند الافتاء فإن اصر على فتياه والحكم بموجبها حكم بخلاف ما يعتقد صحته وإن حكم بخلافها طرق الخصم الى تهمته والتشنيع عليه بأنه يحكم بخلاف ما يعتقده ويفتى به ولهذا قال شريح أنا اقضى لكم ولا أفتى حكاه ابن المنذر واختار كراهية الفتوى في مسائل الاحكام وقال الشيخ ابو حامد الاسفرائيني لاصحابنا في فتواه في مسائل الاحكام جوابان أحدهما ليس له ان يفتى فيها لان لكلام الناس عليه مجالا ولاحد الخصمين عليه مقالا والثاني له ذلك لانه اهل
له حكم فتيا الحاكم:
الفائدة السابعة والثلاثون فتيا الحاكم ليست حكما منه ولو حكم غيره بخلاف ما افتى به لم يكن نقضا لحكمه ولا هي كالحكم ولهذا يجوز ان يفتي الحاضر والغائب ومن يجوز حكمه له ومن لا يجوز ولهذا لم يكن في حديث هند دليل على الحكم على الغائب لانه صلى الله عليه وسلم إنما أفتاها فتوى مجردة ولم يكن ذلك حكما على الغائب فإنه لم يكن غائبا عن البلد وكانت مراسلته وإحضاره ممكنة ولا طلب البينة على صحة دعواها وهذا ظاهر بحمد الله
هل يفتى المفتي بشئ لم يقع؟
الفائدة الثامنة والثلاثون: إذا سال المستفتي عن مسألة لم تقع فهل تستحب إجابتة أوتكره أوتخير فيه ثلاثة أقوال وقد حكى عن كثير من السلف انه كان لا يتكلم فيما لم يقع وكان بعض السلف اذا ساله الرجل عن مسالة قال هل كان ذلك فإن قال نعم تكلف له الجواب وإلا قال دعنا في عافية(10/242)
ص -222-…وقال الامام احمد لبعض اصحابه اياك ان تتكلم في مسالة ليس لك فيها إمام والحق التفصيل فإن كان في المسألة نص من كتاب الله أوسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أواثر عن الصحابة لم يكره الكلام فيها وإن لم يكن فيها نص ولا اثر فإن كانت بعيدة الوقوع أومقدرة لا تقع لم يستحب له الكلام فيها وإن كان وقوعها غير نادر ولا مستبعد وغرض السائل والاحاطة بعلمها ليكون منها على بصيرة اذا وقعت استحب له الجواب بما يعلم لا سيما إن كان السائل يتفقة بذلك ويعتبر بها نظائرها ويفرع عليها فحيث كانت مصلحة الجواب راجحة كان هو الاولى والله أعلم
لا يجوز للمفتي تتبع الحيل المحرمة والمكروهة:
الفائدة التاسعة والثلاثون: لا يجوز للمفتي تتبع الحيل المحرمة والمكروهة ولا تتبع الرخص لمن أراد نفعه فإن تتبع ذلك فسق وحرم استفتاؤه فإن حسن قصده في حيلة جائزة لا شبهة فيها ولا مفسدة لتخليص المستفتى بها من حرج جاز ذلك بل استحب وقد ارشد الله تعالى نبيه ايوب عليه السلام الى التخلص من الحنث بأن ياخذ بيده ضغثا فيضرب به المرأة ضربة واحدة وأرشد النبي صلى الله عليه وسلم بلالا الى بيع التمر بدراهم ثم يشترى بالدراهم تمرا آخر فيتخلص من الربا فاحسن المخارج ما خلص من المآثم وأقبح الحيل ما اوقع في المحارم أواسقط ما أوجبه الله ورسوله من الحق اللازم وقد ذكرنا من النوعين ما لعلك لا تظفر بحملته في غير هذا الكتاب والله الموفق للصواب
رجوع المفتى عما افتى به:
الفائدة الاربعون: في حكم رجوع المفتى عن فتياه إذا افتى المفتي بشئ ثم رجع عنه فإن علم المستفتى برجوعه ولم يكن عمل بالاول فقيل يحرم عليه العمل به وعندي في المسألة تفصيل وانه لا يحرم عليه الاول بمجرد رجوع المفتي بل يتوقف حتى يسأل غيره فإن أفتاه بموافقة الاول استمر على العمل به وإن أفتاه بموافقة الثاني ولم يفته احد بخلافه حرم عليه العمل بالاول وإن لم يكن في(10/243)
ص -223-…البلد إلا مفت واحد سأله عن رجوعه عما افتاه به فإن رجع الى اختيار خلافه مع تسويغه لم يحرم عليه وإن رجع لخطأ بأن له وأن ما أفتاه به لم يكن صوابا حرم عليه العمل بالاول هذا اذا كان رجوعه لمخالفة دليل شرعي فإن كان رجوعه لمجرد ما بان له ان ما أفتى به خلاف مذهبه لم يحرم على المستفتى ما أفتاه به اولا إلا أن تكون المسألة إجماعية
فلو تزوج بفتواه ودخل ثم رجع المفتى لم يحرم عليه إمساك امرأته إلا بدليل شرعي يقتضى تحريمها ولا يجب عليه مفارقتها بمجرد رجوعه ولا سيما إن كان إنما رجع لكونه تبين له ان ما أفتى به خلاف مذهبه وإن وافق مذهب غيره هذا هو الصواب.
وأطلق بعض أصحابنا واصحاب الشافعي وجوب مفارقتها عليه وحكوا في ذلك وجهين ورجحوا وجوب المفارقة قالوا لان الرجوع عنه ليس مذهبا له كما لو تغير اجتهاد من قلده في القبلة في اثناء الصلاة فإنه يتحول مع الامام في الاصح
فيقال لهم المستفتى قد دخل بامرأته دخولا صحيحا سائغا ولم يفهم ما يوجب مفارقته لها من نص ولا إجماع فلا يجب عليه مفارقتها بمجرد تغير اجتهاد المفتى وقد رجع عمر بن الخطاب رضى الله عنه عن القول بالتشريك وافتى بخلافه ولم ياخذ المال من الذين شرك بينهم اولا وأما قياسكم ذلك على من تغير اجتهاده في معرفة القبلة فهو حجة عليكم فإنه لا يبطل ما فعله المأموم بالاجتهاد الاول ويلزمه التحول ثانيا لانه مامور بمتابعة الامام بل نظير مسألتنا ما لو تغير اجتهاده بعد الفراغ من الصلاة فإنه لا تلزمه الاعادة ويصلى الثانيه بالاجتهاد الثاني
وأما قول ابي عمرو بن الصلاح وابي عبد الله بن حمدان من اصحابنا إذا كان المفتي إنما يفتي على مذهب امام معين فإذا رجع لكونه بان له قطعا انه خالف في فتواه نص مذهب إمامه فإنه يجب نقضه وإن كان ذلك في محل الاجتهاد لان نص مذهب إمامه في حقه كنص الشارع في حق المفتى المجتهد(10/244)
ص -224-…المستقل فليس كما قالا ولم ينص على هذه المسالة احد من الائمة ولا تقتضيها اصول الشريعة ولو كان نص امامه بمنزلة نص الشارع لحرم عليه وعلى غيره مخالفته وفسق بخلافه
ولم يوجب احد من الائمة نقض حكم الحاكم ولا إبطال فتوى المفتي بكونه خلاف قول زيد أوعمرو ولا يعلم احد سوغ النقض بذلك من الائمة والمتقدمين من أتباعهم وإنما قالوا ينقض من حكم الحاكم ما خالف نص كتاب أوسنة أواجماع الامة ولم يقل احد ينقض من حكمه ما خالف قول فلان أوفلان وينقض من فتوى المفتي ما ينقض من حكم الحاكم فكيف يسوغ نقض احكام الحكام وفتاوي اهل العلم بكونها خالفت قول واحد من الائمة ولا سيما اذا وافقت نصا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوفتاوي الصحابة يسوغ نقضها لمخالفة قول فلان وحده ولم يجعل الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا احد من الائمة قول فقيه من الامة بمنزلة نص الله ورسوله بحيث يجب اتباعه ويحرم خلافه فإذا بان للمفتي انه خالف إمامه ووافق قول الائمة الثلاثة لم يجب على الزوج ان يفارق امرأته ويخرب بيته ويشتت شمله وشمل اولاده بمجرد كون المفتي ظهر له ان ما أفتى به خلاف نص إمامه ولا يحل له ان يقول له فارق اهلك بمجرد ذلك ولا سيما إن كان النص مع قول الثلاثه وبالجملة فبطلان هذا القول أظهر من أن نتكلف بيانه
فإن قيل فما تقولون لو تغير اجتهاد المفتى فهل يلزمه إعلام المستفتى قيل اختلف في ذلك فقيل لا يلزمه إعلامه فإنه عمل اولا بما يسوغ له فإذا لم يعلم بطلانه لم يكن آثما فهو في سعة من استمراره وقيل بل يلزمه إعلامه لان ما رجع عنه قد اعتقد بطلانه وبان له ان ما افتاه به ليس من الدين فيجب عليه إعلامه كما جرى لعبد الله بن مسعود حين افتى رجلا بحل ام امرأته التي فارقها قبل الدخول ثم سافر الى المدينة وتبين له خلاف هذا القول فرجع الى الكوفة وطلب هذا الرجل وفرق بينه وبين اهله وكما جرى للحسن بن زياد(10/245)
ص -225-…اللؤلؤي لما استفتى في مسألة فأخطأ فيها ولم يعرف الذي افتاه به فاستأجر مناديا ينادي ان الحسن بن زياد استفتى في يوم كذا وكذا في مسألة فأخطأ فمن كان أفتاه الحسن بن زياد بشئ فليرجع اليه ثم لبث اياما لا يفتي حتى جاء صاحب الفتوى فأعمله انه قد أخطأ وان الصواب خلاف ما افتاه به
قال القاضي ابو يعلى في كفايته من افتى بالاجتهاد ثم تغير اجتهاده لم يلزمه إعلام المستفتى بذلك إن كان قد عمل به وإلا أعلمه والصواب التفصيل فإن كان المفتي ظهر له الخطأ قطعا لكونه خالف نص الكتاب أوالسنة التي لا معارض لها أوخالف إجماع الامة فعليه إعلام المستفتى وإن كان إنما ظهر له انه خالف مجرد مذهبه أونص إمامه لم يجب عليه عليه إعلام المستفتى وعلى هذا تخرج قصة ابن مسعود رضى الله عنه فإنه لما ناظر الصحابة في تلك المسألة بينوا له ان صريح الكتاب يحرمها لكون الله تعالى ابهمها فقال تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} وظن عبد الله ان قوله: {اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنّ} راجع الى الاول والثاني فبينوا له أنه إنما يرجع الى امهات الربائب خاصة فعرف انه الحق وان القول بحلها خلاف كتاب الله تعالى ففرق بين الزوجين ولم يفرق بينهما بكونه تبين له ان ذلك خلاف قول زيد او عمرو والله اعلم
القول في ضمان المفتي للمال والنفس:
الفائدة الحادية والاربعون: إذا عمل المستفتى بفتيا مفت في إتلاف نفس أومال ثم بان خطؤه قال ابو إسحاق الاسفرائني من الشافعية يضمن المفتى إن كان اهلا للفتوى وخالف القاطع وإن لم يكن اهلا فلا ضمان عليه لان المستفتى قصر في استفتائه وتقليده ووافقه على ذلك ابو عبد الله بن حمدان في كتاب آداب المفتى والمستفتى له ولم اعرف هذا لاحد قبله من الاصحاب ثم حكى وجها آخر في تضمين من ليس بأهل قال لانه تصدى لما ليس له بأهل وغر من استفتاه بتصد يه لذلك(10/246)
ص -226-…قلت خطأ المفتى كخطأ الحاكم والشاهد وقد اختلفت الرواية في خطأ الحاكم في النفس اوالطرف فعن الامام احمد في ذلك روايتان إحداهما أنه في بيت المال لانه يكثر منه ذلك الحكم فلو حملته العاقله لكان ذلك إضرارا عظيمابهم والثانية انه على عاقلته كما لو كان الخطأ بسبب غير الحاكم وأما خطئوه في المال فإذا حكم بحق ثم بان كفر الشهود أوفسقهم نقض حكمه ثم رجع المحكوم عليه ببدل المال على المحكوم له وكذلك اذا كان الحكم بقود رجع اولياء المقتول ببدله على المحكوم له وكذلك إن كان الحكم بحق الله بإتلاف مباشر أوبالسراية ففيه ثلاثة اوجه احدها ان الضمان على المزكين لان الحكم إنما وجب بتزكيتهم والثاني يضمنه الحاكم لانه لم يتثبت بل فرط في المبادرة الى الحكم وترك البحث والسؤال والثالث ان للمستحق تضمين أيهما شاء والقرار على المزكين لانهم الجأوا الحاكم الى الحكم فعلى هذا إن لم يكن ثم تزكية فعلى الحاكم وعن احمد رواية اخرى انه لا ينقض بفسقهم فعلى هذا لا ضمان
وعلى هذا اذا استفتى الامام أوالوالى مفتيا فأفتاه ثم بان له خطؤه فحكم المفتى مع الامام حكم المزكين مع الحاكم وان عمل المستفتى بفتواه من غير حكم حاكم ولا إمام فأتلف نفسا أومالا فان كان المفتي اهلا فلا ضمان عليه والضمان على المستفتى وإن لم يكن أهلا فعليه الضمان لقول النبي صلى الله عليه وسلم من تطبب ولم يعرف منه طب فهو ضامن وهذا يدل على انه اذا عرف منه طب وأخطأ لم يضمن والمفتى اولى بعدم الضمان من الحاكم والامام لان المستفتى مخير بين قبول فتواه وردها فإن قوله لا يلزم يخلاف حكم الحاكم والامام وأما خطأ الشاهد فإما ان يكون شهودا بمال أوطلاق اوعتق أوحد أوقود فإن بان خطؤهم قبل الحكم لم يحكم بذلك وإن بان بعد الحكم(10/247)
ص -227-…باستيفاء القود وقبل استيفائه لم يستوف قطعا وإن بان بعد استيفائه فعليهم دية ما نلف ويتقسط الغرم على عددهم وإن بان خطؤهم قبل الحكم بالمال لغت شهادتهم ولم يضمنوا وإن بان بعد الحكم به نقض حكمه كما لو شهدوا بموت رجل باستفاضة فحكم الحاكم بقسم ميراثه ثم بانت حياته فإنه ينقض حكمه وإن بان خطؤهم في شهادة الطلاق من غير جهتهم كما لو شهدوا انه طلق يوم كذا وكذا وظهر للحاكم انه في ذلك اليوم كان محبوسا لا يصل اليه احد أوكان مغمى عليه فحكم ذلك حكم ما لو بان كفرهم أوفسقهم فإنه ينقض حكمه وترد المرأة الى الزوج ولو تزوجت بغيره بخلاف ما اذا قالوا رجعنا عن الشهاده فان رجوعهم ان كان قبل الدخول ضمنوا نصف المسمى لانهم قرروه عليه ولا تعود اليه الزوجه اذا كان الحاكم قد حكم بالفرقة وان رجعوا بعد الدخول ففيه روايتان احداهما انهم لا يغرمون شيئا لان الزوج استوفي المنفعة بالدخول فاستقر عله عوضها والثانية يغرمون المسمى كله لانهم فوتوا عليه البضع بشهادتهم واصلهما ان خروج البضع من يد الزوج هل هو متقوم أولا واما شهود العتق فإن بان خطؤهم تبينا انه لا عتق وان قالوا رجعنا غرموا للسيد قيمة العبد
الاوضاع التي لا يصح للمفتي ان يفتي وهو متلبس بها
الفائدة الثانية والاربعون ليس للمفتي الفتوى في حال غضب شديد أوجوع فرط أوهم مقلق أوخوف مزعج اونعاس غالب اوشغل قلب مستول عليه أوحال مدافعه الاخبثين بل متى احسن من نفسه شيئا من ذلك يخرجه عن حال اعتداله وكمال تثبيته وتبينه امسك عن الفتوى فإن افتى في هذه الحالة بالصواب صحت فتياه ولو حكم في مثال هذه الحالة فهل ينفذ حكمه أولا ينفذ فيه ثلاثة اقوال النفوذ وعدمه والفرق بين ان يعرض له الغضب بعد فهم الحكومة فينفذ وبين ان يكون سابقا على فهم الحكومة فلا ينفذ والثلاثة في مذهب الامام احمد رحمه الله تعالى(10/248)
ص -228-…مسائل يرجع فيها المفتى الى العرف
الفائدة الثالثة والاربعون لا يجوز له ان يفتى في الاقرار والايمان والوصايا وغيرها مما يتعلق باللفظ بما اعتاده هو من فهم تلك الالفاظ دون ان يعرف عرف اهلها والمتكلمين بها فيحملها على ما اعتادوه وعرفوه وإن كان مخالفا لحقائقها الاصلية فمتى لم يفعل ذلك ضل وأضل
فلفظ الدينار عند طائفة اسم لثمانية دراهم وعند طائفة اسم لاثني عشر درهما والدرهم عند غالب البلاد اليوم اسم للمغشوش فإذا أقر له بدراهم أوخلف ليعطعنه إياها أوأصدقها امرأة لم يجز للمفتي ولا للحاكم أن يلزمه بالخالصة فلو كان في بلد إنما يعرفون الخالصة لم يجز له أن يلزم المستحق بالمغشوشة
وكذلك في ألفاظ الطلاق والعتاق فلو جرى عرف أهل بلد أوطائفة في استعمالهم لفظ الحرية في العفة دون العتق فإذا قال أحدهم عن مملوكة إنه حر أوجاريته إنها حرة وعادته استعمال ذلك في العفة لم يخطر بباله غيرها لم يعتق بذلك قطعا وإن كان اللفظ صريحا عند من ألف استعماله في العتق وكذلك إذا جرى عرف طائفة في الطلاق بلفظ التسميح بحيث لا يعرفون لهذا المعي غيره فإذا قالت اسمح لي فقال سمحت لك فهذا صريح في الطلاق عندهم وقد تقدم الكلام في الفصل مشبعا
وأنه لا يسوغ ان يقبل تفسير من قال لفلان على مال جليل أوعظيم بدانق أودرهم ونحو ذلك ولا سيما إن كان المقر من الاغنياء المكثرين أوالملوك وكذلك لو أوصى له بقوس في محله لا يعرفون إلا اقواس البندق أوالاقواس العربية أواقواس الرجل أوحلف لا يشم الريحان في محل لا يعرفون الريحان إلا هذا الفارسي أوحلف لا يركب دابة في موضع عرفهم بلفظ الدابة الحمار أوالفرس أوحلف لا يأكل ثمرا في بلد عرفهم في الثمار نوع واحد منها لا يعرفون غيره أوحلف لا يلبس ثوبا في بلد عرفهم في الثباب القمص وحدها دون الاردية والازر والجباب ونحوها تقيدت يمينه بذلك(10/249)
ص -229-…وحده في جميع هذه الصور واختصت بعرفه دون موضوع اللفظ لغة أوفي عرف غيره بل لو قالت المرأة لزوجها الذي لا يعرف التكلم بالعربية ولا يفهمها قل لي انت طالق ثلاثا وهو لا يعلم موضوع هذه الكلمة فقال لها لم تطلق قطعا في حكم الله تعالى ورسوله وكذلك لو قال الرجل لآخر انا عبدك ومملوكك على جهة الخضوع له كما يقوله الناس لم يستبح ملك رقبته بذلك ومن لم يراع المقاصد والنيات والعرف في الكلام فإنه يلزمه ان يجوز له بيع هذا القائل وملك رقبته بمجرد هذا اللفظ
وهذا باب عظيم يقع فيه المفتي الجاهل فيغر الناس ويكذب على الله ورسوله ويغير دينه ويحرم ما لم يحرمه الله ويوجب ما لم يوجبه الله والله المستعان
على المفتي الا يعين علىالمكر والخداع:
الفائدة الرابعة والاربعون: يحرم عليه اذا جاءته مسالة فيها تحيل على إسقاط واجب أوتحليل محرم أومكر أوخداع ان يعين المستفتى فيها ويرشده الى مطلوبه أويفتيه بالظاهر الذي يتوصل به الى مقصوده بل ينبغي له ان يكون بصيرا بمكر الناس وخداعهم واحوالهم ولا ينبغي له ان يحسن الظن بهم بل يكون حذرا فطنا فقيها بأحوال الناس وأموارهم يوازره فقه في الشرع وإن لم يكن كذلك زاغ وأزاغ وكم من مسألة ظاهرها ظاهر جميل وباطنها مكر وخداع وظلم فالغر ينظر الى ظاهرها ويقضى بجوازه وذو البصيرة ينقد مقصدها وباطنها فالاول يروج عليه زعل المسائل كما يروج على الجاهل بالنقد زغل الدارهم والثاني يخرج زيفها كما يخرج الناقد زيف النقود وكم من باطل يخرجه الرجل بحسن لفظه وتنميقه وإبرازه في صورة حق وكم من حق يخرجه بتهجينه وسوء تعبيره في صورة باطل ومن له ادنى فطنة وخبرة لا يخفى علهي ذلك بل هذا أغلب احوال الناس ولكثرته وشهرته يستغنى عن الامثلة بل من تأمل المقالات الباطلة والبدع كلها وجدها قد أخرجها اصحابها في قوالب مستحسنة(10/250)
ص -230-…وكسوها ألفاظا يقبلها بها من لم يعرف حقيقتها ولقد احسن القائل:
تقول هذا جناء النحل تمدحه… وإن تشأ قلت ذا قيئ الزنابير
مدحا وذما وما جاوزت وصفهما… والحق قد يعتريه سوء تعبير
وراى بعض الملوك كأن اسنانه قد سقطت فعبرها له معبر بموت اهله واقاربه فأقصاه وطرده واستدعى آخر فقال له لا عليك تكون اطول اهلك عمرا فاعطاه وأكرمه وقربه فاستوفى المعنى وغير له العبارة واخرج المعنى في قالب حسن
والمقصود انه يحل له ان يفتي بالحيل المحرمة ولا يعين عليها ولا يدل عليها فيضاد الله في امره قال الله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} وقال تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} وقال تعالىك {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} وقال تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} وقال تعالى: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} وقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} وقال تعالى: {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} وقال تعالى في حق ارباب الحيل المحرمة: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}(10/251)
وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: "ملعون من ضار مسلما أومكر به وقال لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل" وقال: "المكر والخديعة في النار" وفي سنن ابن ماجة وغيره عنه صلى الله عليه وسلم ما بال أقوام يلعبون بحدود الله ويستهزئون بآياته طلقتك راجعتك طلقتك راجعتك وفي لفظ خلعتك راجعتك خلعتك راجعتك وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم: "لعن الله اليهود حرمت(10/252)
ص -231-…عليهم الشحوم فجملوها وباعوها واكلوا اثمانها" وقال ايوب السختياني: "يخادعون الله كما يخادعون الصبيان" وقال ابن عباس من يخادع الله يخدعه وقال بعض السلف ثلاث من كن فيه كن عليه المكر والبغي والنكث.
وقال تعالى: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} وقال تعالى: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} وقال تعالى: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ}.
وقال الامام احمد: "هذه الحيل التي وضعها هؤلاء عمدوا الى السنن فاحتالوا في نقضها أتوا الى الذي قيل لهم إنه حرام فاحتالوا فيه حتى حللوه" وقال: "ما اخبثهم يعني أصحاب الحيل يحتالون لنقض سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم" وقال: "من احتال بحيلة فهو حانث" وقال: "إذا حلف على شئ ثم احتال بحيلة فصار اليها فقد صار الى الذي حلف عليه بعينه" وقد تقدم بسط الكلام في هذه المسألة مستوفى فلا حاجة الى إعادته
هل للمفتي اخذ الاجرة والهدية علي فتواه
الفائدة الخامسة والاربعون في أخذ الاجرة والهدية والرزق على الفتوى فيه ثلاث صور مختلفة السبب والحكم
فأما اخذه الاجرة فلا يجوز له لان الفتيا منصب تبليغ عن الله ورسوله فلا تجوز المعاوضة عليه كما لو قال له لا أعلمك الاسلام أوالوضوء أوالصلاة إلا بأجرة فهذا حرام قطعا ويلزمه رد العوض ولا يملكه
وقال بعض المتاخرين: "إن أجاب بالخط فله ان يقول للسائل لا يلزمني ان اكتب لك خطى إلا بأجرة وله أخذ الاجرة وجعله بمنزلة اجرة الناسخ فإنه يأخذ الاجرة على خطه لا على جوابه وخطه قدر زائد على جوابه"
والصحيح خلاف ذلك وأنه يلزمه الجواب مجانا لله بلفظه وخطه ولكن لا يلزمه الورق ولا الحبر(10/253)
ص -232-…وأما الهدية ففيها تفصيل فإن كانت بغير سبب الفتوى كمن عادته بهاديه اومن لا يعرف انه مفت فلا بأس بقبولها والاولى ان يكافئ عليها وإن كانت بسبب الفتوى فإن كانت سببا إلى ان يفتيه بما لا يفتي به غيره ممن لا يهدي له لم يجز له قبول هديته وإن كان لا فرق بينه وبين غيره عنده في الفتيا بل يفتيه بما يفتي به الناس كره له قبول الهدية لانها تشبه المعاوضة على الافتاء
وأما اخذ الرزق من بيت المال فإن كان محتاجا اليه جاز له ذلك وإن كان غنيا عنه ففيه وجهان وهذا فرع متردد بين عامل الزكاة وعامل اليتيم فمن الحقه بعامل الزكاة قال النفع فيه عام فله الاخذ ومن ألحقه بعامل اليتيم منعه من الاخذ وحكم القاضي في ذلك حكم المفتي بل القاضي اولى بالمنع والله اعلم
افتاء المفتي في واقعة افتى فيها قبل ذلك
الفائدة السادسة والاربعون إذا أفتى في واقعة ثم وقعت له مرة اخرى فإن ذكرها وذكر مستندها ولم يتجدد له ما يوجب تغير اجتهاده افتى بها من غير نظر ولا اجتهاد وإن ذكرها ونسى مستندها فهل له ان يفتي بها دون تجديد نظر واجتهاد فيه وجهان لاصحاب الامام احمد والشافعي احدهما ان يلزمه تجديد النظر لاحتمال تغير اجتهاده وظهور ما كان خافيا عنه والثاني لا يلزمه تجديد النظر لان الاصل بقاء ما كان على ما وإن ظهر له ما يغير اجتهاده لم يجز له البقاء على القول الاول ولا يجب عليه نقضه ولا يكون اختلافه مع نفسه قادحا في علمه بل هذا من كمال علمه وورعه ولأجل هذا خرج عن الائمة في المسألة قولان فأكثر وسمعت شيخنا رحمه الله تعالى يقول حضرت عقد مجلس عند نائب السلطان في وقف افتى فيه قاضي البلد بجوابين مختلفين فقرأ جوابه الموافق للحق فأخرج بعض الحاضرين جوابه الاول وقال هذا جوابك ضد هذا فكيف تكتب جوابين متناقضين في واقعة واحدة فوجم الحاكم(10/254)
ص -233-…فقلت هذا من علمه ودينه افتى اولا بشئ ثم تبين له الصواب فرجع اليه كما يفتى إمامه بقول ثم يتبين له خلافه فيرجع اليه ولا يقدح ذلك في علمه ولا دينه وكذلك سائر الائمة فسر القاضي بذلك وسرى عنه
إذا صح الحديث فهو مذهب الشافعي حتى ولو خالف قوله:
الفائدة السابعة والاربعون: قول الشافعي رحمه الله تعالى: "إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا ما قلته" وكذلك قوله: "إذا صح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وقلت انا قولا فانا راجع عن قولى وقائل بذلك الحديث" وقوله: "اذا صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضربوا بقولى الحائط" وقوله: "إذا رويت حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم اذهب اليه فاعلموا ان عقلى قد ذهب" وغير ذلك من كلامه في هذا المعنى صريح في مدلوله وأن مذهبه ما دل عليه الحديث لا قول له غيره ولا يجوز ان ينسب اليه ما خالف الحديث ويقال هذا مذهب الشافعي ولا يحل الافتاء بما خالف الحديث على انه مذهب الشافعي ولا الحكم به صرح بذلك جماعة من ائمة اتباعه حتى كان منهم من يقول للقارئ إذا قرأ عليه مسألة من كلامه قد صح الحديث بخلافها اضرب على هذه المسالة فليست مذهبه وهذا هو الصواب قطعا ولو لم ينص عليه فكيف اذا نص عليه وابدى فيه وأعاد وصرح فيه بالفاظ كلها صريحة في مدلولها.(10/255)
فنحن نشهد بالله ان مذهبه وقوله الذي لا قول له سواه ما وافق الحديث دون ما خالفه وان من نسب اليه خلافه فقد نسب اليه خلاف مذهبه ولا سيما إذا ذكر هو ذلك الحديث وأخبر انه إنما خالفه لضعف في سنده أولعدم بلوغه له من وجه يثق به ثم ظهر للحديث سند صحيح لا مطعن فيه وصححه ائمة الحديث من وجوه لم تبلغه فهذا لا يشك عالم ولا يماري في انه مذهبه قطعا وهذا كمسالة الجوائح فإنه علل حديث سفيان بن عيينه بانه كان ربما ترك ذكر الجوائح وقد صح الحديث من غير طريق سفيان صحة لا مرية فيها ولا علة(10/256)
ص -234-…ولا شبهة بوجه فمذهب الشافعي وضع الجوائح وبالله التوفيق
وقد صرح بعض ائمة الشافعيه بان مذهبه ان الصلاة الوسطى صلاة العصر وان وقت المغرب يمتد الى مغيب الشفق وان من مات وعليه صيام صام عنه وليه وان أكل لحوم الابل ينقض الوضوء وهذا بخلاف الفطر بالحجامة وصلاة المأموم قاعدا إذا صلى إمامه كذلك فإن الحديث وإن صح في ذلك فليس بمذهبه فإن الشافعي قد رواه وعرف صحته ولكن خالفه لاعتقاده نسخه وهذا شئ وذاك شئ ففي هذا القسم يقع النظر في النسخ وعدمه وفي الاول يقع النظر في صحة الحديث وثقه السند فاعرفه
القول في جواز الافتاء لمن يملك كتب الحديث
الفائدة الثامنة والاربعون: إذا كان عند الرجل الصحيحان أواحدهما أوكتاب من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم موثوق بما فيه فهل له ان يفتي بما يجده فيه
رأي المانعين
فقالت طائفة من المتأخرين: ليس له ذلك لانه قد يكون منسوخا او له معارض أويفهم من دلالته خلاف ما يدل عليه أويكون امر ندب فيفهم منه الايجاب أويكون عاما له مخصص اومطلقا له مقيد فلا يجوز له العمل ولا الفتيا به حتى يسال اهل الفقه والفتيا.
رأي المجوزين:
وقالت طائفة بل له أن يعمل به ويفتي به بل يتعين عليه كما كان الصحابة يفعلون إذا بلغهم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدث به بعضهم بعضا بادروا إلى العمل به من غير توقف ولا بحث عن معارض ولا يقول أحد منهم قط هل عمل بهذا فلان وفلان ولو رؤا من يقول ذلك لإنكروا عليه أشد الإنكار وكذلك التابعون وهذا معلوم بالضرورة لمن له أدنى خبرة بحال القوم وسيرتهم وطول العهد بالسنة وبعد الزمان وعتقها لا يسوغ ترك(10/257)
ص -235-…الأخذ بها والعمل بغيرها ولو كانت سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسوغ العمل بها بعد صحتها حتى يعمل بها فلان لكان قول فلان أوفلان عيارا على السنن ومزكيا لها وشرطا في العمل بها وهذا من أبطل الباطل وقد أقام الله الحجة برسوله دون آحاد الامة وقد امر النبي صلى الله عليه وسلم بتبليغ سنته ودعا لمن بلغها فلو كان من بلغته لا يعمل بها حتى يعمل بها الامام فلان والامام فلان لم يكن في تبليغها فائدة وحصل الاكتفاء بقول فلان وفلان
قالوا والنسخ الواقع في الاحاديث الذي أجمعت عليه الامة لا يبلغ عشرة احاديث البتة بل ولا شطرها فتقدير وقوع الخطأ في الذهاب الى المنسوخ اقل بكثير من وقوع الخطأ في تقليد من يصيب ويخطئ ويجوز عليه التناقض والاختلاف ويقول ويرجع عنه ويحكى عنه في المسألة الواحدة عدة أقوال ووقوع الخطأ في فهم كلام المعصوم اقل بكثير من وقوع الخطأ في فهم كلام الفقيه المعين فلا يفرض احتمال خطأ لمن عمل بالحديث وافتى به إلا وأضعاف أضعافه حاصل لمن افتى بتقليد من لا يعلم خطؤه من صوابه
القول الفصل:(10/258)
والصواب في هذه المسألة التفصيل فإن كانت دلالة الحديث ظاهرة بينة لكل من سمعه لا يحتمل غير المراد فله ان يعمل به ويفتي به ولا يطلب له التزكية من قول فقيه أوامام بل الحجة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن خالفه من خالفه وإن كانت دلالته خفية لا يتبين المراد منها لم يجز له ان يعمل ولا يفتى بما يتوهمه مرادا حتى يسأل ويطلب بيان الحديث ووجهه وإن كانت دلالته ظاهرة كالعام على أفراده والامر على الوجوب والنهي على التحريم فهل له العمل والفتوى به يخرج على الاصل وهو العمل بالظواهر قبل البحث عن المعارض وفيه ثلاثة اقوال في مذهب احمد وغيره الجواز والمنع والفرق بين العام فلا يعمل به قبل البحث عن المخصص والامر والنهي فيعمل به قبل البحث عن المعارض وهذا كله إذا كان ثم نوع اهليه ولكنه قاصر في معرفة الفروع وقواعد الاصوليين والعربية وإذا لم تكن ثمة اهلية قط ففرضه ما قال الله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}(10/259)
ص -236-…وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الا سالوا اذا لم يعلموا إنما شفاء العى السؤال" وإذا جاز اعتماد المستفتي على ما يكتبه المفتي من كلامه أوكلام شيخه وإن علا وصعد فمن كلام إمامه فلأن يجوز اعتماد الرجل على ما كتبه الثقات من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم اولى بالجواز وإذا قدر انه لم يفهم الحديث كما لو لم يفهم فتوى المفتى فيسأل من يعرفه معناه كما يسأل من يعرفه معنى جواب المفتى وبالله التوفيق.
الاحوال التي يجوز للمفتي ان يخالف فيها مذهب إمامه:
الفائدة التاسعة والاربعون: هل للمنتسب الى تقليد امام معين ان يفتي بقول غيره لا يخلو الحال من امرين إما ان يسأل عن مذهب ذلك الامام فقط فيقال له ما مذهب الشافعي مثلا في كذا وكذا أو يسأل عن حكم الله الذي اداه اليه اجتهاده فإن سئل عن مذهب ذلك الامام لم يكن له ان يخبره بغيره إلا على وجه الاضافة اليه وإن سئل عن حكم الله من غير أن يقصد السائل قول فقيه معين فههنا يجب عليه الإفتاء بما هو راجح عنده وأقرب الى الكتاب والسنة من مذهب إمامه أومذهب من خالفه لا يسعه غير ذلك فإن لم يتمكن منه وخاف ان يؤدي الى ترك الافتاء في تلك المسألة لم يكن له ان يفتي بما لا يعلم انه صواب فكيف بما يغلب على ظنه ان الصواب في خلافه ولا يسع الحاكم والمفتي غير هذا البتة فان الله سائلهما عن رسوله وما جاء به لا عن الامام المعين وما قاله وإنما يسال الناس في قبورهم ويوم معادهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم فيقال له في قبره ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين ولا يسأل أحد قط عن إمام ولا شيخ ولا متبوع غيره بل يسأل عمن اتبعه وائتم به غيره فلينظر بماذا يجيب وليعد للجواب صوابا
وقد سمعت شيخنا رحمه الله يقول جاءني بعض الفقهاء من الحنفية فقال(10/260)
ص -237-…استشيرك في امر قلت ما هو قال اريد ان انتقل عن مذهبي قلت له ولم قال لاني ارى الاحاديث الصحيحة كثيرا تخالفه واستشرت في هذا بعض ائمة اصحاب الشافعي فقال لي لو رجعت عن مذهبك لم يرتفع ذلك من المذهب وقد تقررت المذاهب ورجوعك غير مفيد واشار على بعض مشايخ التصوف بالافتقار الى الله والتضرع اليه وسؤال الهداية لما يحبه ويرضاه فماذا تشير به انت علي قال فقلت له اجعل المذهب ثلاثة اقسام قسم الحق فيه ظاهر بين موافق للكتاب والسنة فاقض به وانت به طيب النفس منشرح الصدر وقسم مرجوح ومخالفة معه الدليل فلا تفت به ولا تحكم به وادفعه عنك وقسم من مسائل الاجتهاد التي الادلة فيها متجاذبة فإن شئت ان تفتي به وإن شئت ان تدفعه عنك فقال جزاك الله خيرا أوكما قال
وقالت طائفة اخرى منهم ابو عمرو بن الصلاح وابو عبد الله بن حمدان من وجد حديثا يخالف مذهبه فان كملت آلة الاجتهاد فيه مطلقا أوفي مذهب امامه أوفي ذلك النوع أوفي تلك المسالة فالعمل بذلك الحديث اولى وان لم تكمل آلته ووجد في قلبه حزازة من مخالفة الحديث بعدان بحث فلم يحد لمخالفته عنده جوابا شافيا فلينظر هل عمل بذلك الحديث إمام مستقل ام لا فإن وجده فله ان يتمذهب بمذهبه في العمل بذلك الحديث ويكون ذلك عذرا له في ترك مذهب إمامه والله اعلم
العمل فيما إذا ترجح للمفتي مذهب غير مذهب إمامه:
الفائدة الخمسون هل للمفتي المنتسب الى مذهب امام بعينه ان يفتي بمذهب غيره اذا ترجع عنده فإن كان سالكا سبيل ذلك الامام في الاجتهاد ومتابعة الدليل اين كان وهذا هو المنبع للامام حقيقة فله ان يفتي بما ترجح عنده من قول غيره وإن كان مجتهدا متقيدا بأقوال ذلك الامام لا يعدوها الى غيرها فقد قيل ليس له ان يفتي بغير قول امامه فإن اراد ذلك حكاه عن قائله حكاية محضة(10/261)
ص -238-…والصواب انه اذا ترجح عنده قول غير امامه بدليل راجح فلا بد ان يخرج على اصول امامه وقواعده فان الائمة متفقة على اصول الاحكام ومتى قال بعضهم قولا مرجوحا فأصوله ترده وتقتضي القول الراجح فكل قول صحيح فهو يخرج على قواعد الائمة بلا ريب فإذا تبين لهذا المجتهد المقيد رجحان هذا القول وصحة مأخذه خرج على قواعد إمامه فله ان يفتي به وبالله التوفيق
وقد قال القفال لو ادى اجتهادي الى مذهب ابي حنيفة قلت مذهب الشافعي كذا لكني اقول بمذهب ابي حنيفة لان السائل إنما يسألني عن مذهب الشافعي فلا بد ان اعرفه ان الذي افتيته به غير مذهبه فسألت شيخنا قدس الله روحه عن ذلك فقال اكثر المستفتين لا يخطر بقلبه مذهب معين عند الواقعة التي سال عنها وانما سؤاله عن حكمها وما يعمل به فيها فلا يسع المفتي ان يفتيه بما يعتقد الصواب في خلافه
العمل عند اعتدال رايين عند المفتي
الفائدة الحادية والخمسون إذا اعتدل عند المفتي قولان ولم يترجح له احدهما على الاخر فقال القاضي ابو يعلى له ان يفتي بأيهما شاء كما يجوز له ان يعمل بأيهما شاء وقيل بل يخير المستفتى فيقول له انت مخير بينهما لانه إنما يفتي بما يراه والذي يراه هو التخيير وقيل بل يقتيه بالاحوط من القولين
قلت: الاظهر انه يتوقف ولا يفتيه بشئ حتى يتبين له الراجح منهما لان احدهما خطأ فليس له ان يفتيه بما لا يعلم انه صواب وليس له ان يخيره بين الخطأ والصواب وهذا كما إذا تعارض عند الطبيب في امر المريض امران خطأ وصواب ولم يتبين له احدهما لم يكن له ان يقدم على احدهما ولا يخيره وكما لو استشاره في امر فتعارض عنده الخطا والصواب من غير ترجيح لم يكن له ان يشير باحدهما ولا يخيره وكما لو تعارض عنده طريقان مهلكة وموصلة ولم يتبين له طريق الصواب لم يكن له الاقدام ولا التخيير فمسائل الحلال والحرام اولى بالتوقف والله أعلم(10/262)
ص -239-…لا يصح للمفتي ان يفتي بما رجع عنه إمامه:
الفائدة الثانية والخمسون: اتباع الائمة يفتون كثيرا باقوالهم القديمة التي رجعوا عنها وهذا موجود في سائر الطوائف فالحنفية يفتون بلزوم المنذورات التي مخرجها مخرج اليمين كالحج والصوم والصدقة وقد حكوا هم عن ابي حنيفة أنه رجع قبل موته بثلاثة أيام إلى التكفير والحنابلة يفتي كثير منهم بوقوع طلاق السكران وقد صرح الإمام أحمد بالرجوع عنه إلى عدم الوقوع كما تقدم حكايته والشافعية يفتون بالقول القديم في مسألة التثويب وامتداد وقت المغرب ومسألة التباعد عن النجاسة في الماء الكثير وعدم استحباب قراءة السورة في الركعتين الأخيرتين وغير ذلك من المسائل وهي أكثر من عشرين مسألة ومن المعلوم أن القول الذي صرح بالرجوع عنه لم يبق مذهبا له فإذا أفتى المفتي به مع نصه على خلافه لرجحانه عنده لم يخرجه ذلك عن التمذهب بمذهبه فما الذي يحرم عليه أن يفتي بقول غيره من الأئمة الأربعة وغيرهم إذا ترجح عنده؟
فإن قيل الأول قد كان مذهبا له مرة بخلاف مالم يقل به قط.
قيل هذا فرق عديم التأثير إذ ما قال به وصرح بالرجوع عنه بمنزلة مالم يقله وهذا كله مما يبين أن أهل العلم لا يتقيدون بالتقليد المحض الذي يهجرون لأجله قول كل من خالف من قلدوه.
وهذه طريقة ذميمة وخيمة حادثة في الإسلام مستلزمة لأنواع من الخطأ ومخالفة الصواب والله اعلم لايصح للمفتي أن يفتي بضد لفظ النص:
الفائدة الثالثة والخمسون: يحرم على المفتي أن يفتي بضد لفظ النص وإن وافق مذهبه
ومثاله أن يسأل عن رجل صلى من الصبح ركعة ثم طلعت الشمس(10/263)
ص -240-…هل يتم صلاته أم لا فيقول لا يتمها ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "فليتم صلاته"
ومثل ان يسأل عمن مات وعليه صيام هل يصوم عنه وليه فيقول لا يصوم عنه وليه وصاحب الشرع صلى الله عليه وسلم قال من مات وعليه صيام صام عنه وليه.
ومثل أن يسأل عن رجل باع متاعه ثم أفلس المشتري فوجده بعينه هل هو احق به فيقول ليس أحق به وصاحب الشرع يقول فهو أحق به.
ومثل أن يسأل عن رجل أكل في رمضان أوشرب ناسيا هل يتم صومه فيقول لا يتم صومه وصاحب الشرع يقول: فليتم صومه.
ومثل ان يسأل عن اكل كل ذي ناب من السباع هل هو حرام فيقول ليس بحرام ورسوله صلى الله عليه وسلم يقول: "أكل كل ذي ناب من السباع حرام"
ومثل أن يسأل عن الرجل هل له منع جاره من غرز خشبة في جداره فيقول له أن يمنعه وصاحب الشرع يقول: "لا يمنعه".
ومثل ان يسأل هل تجزي صلاة من لا يقيم صلبه من ركوعه وسجوده فيقول تجزيه صلاته وصاحب الشرع صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تجزيء صلاة لايقيم الرجل فيها صلبه بين ركوعه وسجوده"
أويسأل عن مسألة التفضيل بين الأولاد في العطية: هل يصح أولا يصح وهل هو جور أم لا فيقول يصح وليس بجور وصاحب الشرع يقول إن هذا لا يصح ويقول: "لا تشهدني على جور"
ومثل أن يسأل عن الواهب هل يحل له أن يرجع في هبته فيقول نعم يحل له أنه يرجع إلى أن يكون والدا أوقرابة فلا يرجع وصاحب الشرع يقول: "لا يحل لواهب أن يرجع في هبته إلا الوالد فيما يهب لولده"(10/264)
ص -241-…ومثل أن يسأل عن رجل له شرك في أرض أودار أوبستان هل يحل له أن يبيع حصته قبل إعلام شريكه بالبيع وعرضها عليه فيقول نعم يحل له أن يبيع قبل إعلامه وصاحب الشرع يقول: "من كان له شرك في أرض أوربعة أوحائط لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه".
ومثل أن يسأل عن قتل المسلم بالكافر فيقول: نعم يقتل بالكافر وصاحب الشرع يقول: "لا يقتل مسلم بكافر"
ومثل أن يسأل عمن زرع في أرض قوم بغير إذنهم فهل الزرع له أم لصاحب الأرض فيقول الزرع له وصاحب الشرع يقول: "من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته".
ومثل أن يسأل: هل يصح تعليق الولاية بالشرط فيقول لا يصح وصاحب الشرع يقول أميركم زيد فإن قتل فجعفر فإن قتل فعبد الله ابن رواحة.
ومثل أن يسأل هل يحل القضاء بالشاهد واليمين فيقول لا يجوز وصاحب الشرع قضى بالشاهد واليمين
ومثل أن يسأل عن الصلاة الوسطى هل هي صلاة العصر أم لا فيقول ليست العصر وقد قال صاحب الشريعة صلاة الوسطى صلاة العصر
ومثل أن يسأل عن يوم الحج الأكبر هل هو يوم النحر أم لا فيقول ليس يوم النحر وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوم الحج الأكبر يوم النحر".
ومثل أن يسأل هل يجوز الوتر بركعة واحدة فيقول لا يجوز الوتر بركعة واحدة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة"(10/265)
ص -242-…ومثل أن يسأل هل يسجد في إذا السماء انشقت و اقرأ باسم ربك الذي خلق فيقول لا يسجد فيهما وقد سجد فيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم
ومثل أن يسأل عن رجل عض يد رجل فانتزعها من فيه فسقطت أسنانه فيقول له ديتها وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لادية له"
ومثل أن يسأل عن رجل اطلع في بيت رجل فخذفه ففقأ عينه هل عليه جناح فيقول نعم عليه جناح وتلزمه دية عينه وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه لو فعل ذلك لم يكن عليه جناح
ومثل أن يسأل عن رجل اشتري شاة أوبقرة أوناقة فوجدها مصراة فهل له ردها ورد صاع من تمر معها أم لا فيقول لا يجوز له ردها ورد الصاع من التمر معها وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن سخطها ردها وصاعا من تمر
ومثل أن يسأل عن الزاني البكر هل عليه مع الجلد تغريب فيقول لا تغريب عليه وصاحب الشرع يقول عليه جلد مائة وتغريب عام
ومثل أن يسأل عن الخضراوات هل فيها زكاة فيقول يجب فيها الزكاة وصاحب الشرع يقول لازكاة في الخضراوات
أويسأل عما دون خمسة أوسق هل فيه زكاة فيقول نعم تجب الزكاة وصاحب الشرع يقول لا زكاة فيما دون خمسة أوسق
أويسأل عن امرأة أنكحت نفسها بدون إذن وليها فيقول نكاحها صحيح وصاحب الشرع يقول فنكاحها باطل باطل باطل
أويسأل عن المحلل والمحلل له هل يستحقان اللعنة فيقول لا يستحقان اللعنة وقد لعنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير وجه(10/266)
ص -243-…أويسأل هل يجوز إكمال شعبان ثلاثين يوما ليلة الإغماء فيقول لا يجوز إكمال ثلاثين يوما وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما"
أويسأل عن المطلقة المبتوتة هل لها نفقة وسكني فيقول نعم لها النفقة والسكنى وصاحب الشرع يقول: "لا نفقة لها ولا سكني".
أويسأل عن الإمام هل يستحب له أن يسلم في الصلاة تسليمتين فيقول يكره ذلك ولا يستحب وقد روى خمسة عشر نفسا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يسلم عن يمينه وعن يساره السلام عليكم ورحمة الله السلام عليكم ورحمة الله
أويسأل عمن رفع يديه عند الركوع والرفع منه هل صلاته مكروهة أوهي ناقصة فيقول نعم تكره صلاته أوهي ناقصة وربما غلا فقال باطلة وقد روى بضعة وعشرون نفسا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يرفع يديه عند الافتتاح وعند الركوع وعند الرفع منه بأسانيد صحيحة لا مطعن فيها
أويسأل عن بول الغلام الذي لم يأكل الطعام هل يجزي فيه الرش أم يجب الغسل فيقول لا يجزي فيه الرش وصاحب الشرع يقول يرش من بول الغول ورشه هو بنفسه
أويسأل عن التيمم هل يكفي بضربة واحدة إلى الكوعين فيقول لا يكفي ولا يجزيء وصاحب الشرع قد نص على أنه يكفي نصا صحيحا لا مدفع
أويسأل عن بيع الرطب بالتمر هل يجوز فيقول نعم يجوز وصاحب الشرع يسأل عنه فيقول لا آذن(10/267)
ص -244-…أويسأل عن رجل أعتق ستة عبيد لا يملك غيرهم عند موته هل تكمل الحرية في اثنتين منهم أو يعتق من كل واحد سدسه فيقول لا تكمل الحرية ف اثنين منهم وقد أقرع بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكمل الحرية في اثتين وأرق أربعة
أويسأل عن القرعة هل هي جائزة أم باطلة فيقول لا بل هي باطلة وهي من أحكام الجاهلية وقد أقرع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بالقرعة في غير موضع
أويسأل عن الرجل خلف الصف وحدة هل له صلاة أم لا صلاة له وهل يؤمر بالإعادة فيقول نعم له صلاة ولا يؤمر بالإعادة وقد قال صاحب الشرع لا صلاة صلاة له وأمره بالإعادة
أو يسأل هل للرجل رخصة في ترك الجماعة من غير عذر فيقول نعم له رخصة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا أجد لك رخصة
أويسأل عن رجل أسلف رجلا ماله وباعه سلعة هل يحل ذلك فيقول نعم يحل ذلك وصاحب الشرع يقول لا يحل سلف وبيع
ونظائر ذلك كثيرة جدا وقد كان السلف الطيب يشتد نكيرهم وغضبهم على من عارض حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي أوقياس أواستحسان أوقول أحد من الناس كائنا من كان ويهجرون فعل ذلك وينكرون على من يضرب له الأمثال ولا يسوغون غير الانقياد له والتسليم وبالتلقي بالسمع والطاعة ولا يخطر بقلوبهم التوقف في قبوله حتى يشهد له عمل أوقياس أويوافق قول فلان وفلان بل كانوا عاملين بقوله وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم وبقول تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ(10/268)
ص -245-…ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} ويقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} وأمثالها فدفعنا إلى زمان إذا قيل لأحدهم ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كذا وكذا يقول من قال بهذا ويجعل هذا دفعا في صدر الحديث أويجعل جهله بالقائل به حجة له في مخالفتة وترك العمل به ولو نصح نفسه لعلم أن هذا الكلام من أعظم الباطل وأنه لا يحل له دفع سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الجهل وأقبح من ذلك عذره في جهله إذ يعتقد أن الإجماع منعقد على مخالفة تلك السنة وهذا سوء ظن بجماعة المسلمين إذ ينسبهم إلى اتفاقهم على مخالفة سنة الله صلى الله عليه وسلم وأقبح من ذلك عذره في دعوى هذا الإجماع وهو جهله وعدم علمه بمن قال بالحديث فعاد الأمر إلى تقديم جهله على السنة والله المستعان
ولا يعرف إمام من أئمة الإسلام ألبتة قال لا نعمل بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نعرف من عمل به فإن جهل من بلغه الحديث من عمل به لم يحل له أن يعمل به كما يقول هذا القائل
على المفتي ألا يتأول النصوص تأويلا فاسدا:
الفائدة الخامسة والخمسون إذا سئل عن تفسير آية من كتاب الله أوسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس له أن يخرجها عن ظاهرها بوجوه التأويلات الفاسدة لموافقة نحلته وهواه ومن فعل ذلك استحق المنع من الإفتاء والحجر عليه وهذا الذي ذكرناه هو الذي صرح به أئمة الإسلام قديما وحديثا
قال أبو حاتم الرازي حدثني يونس بن عبد الأعلى قال قال لي محمد بن إدريس الشافعي الأصل قرآن أو سنة فإن لم يكن فقياس عليهما وإذا اتصل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصح الإسناد به فهو المنتهي(10/269)
ص -246-…والإجماع أكبر من الخبر الفرد والحديث على ظاهرة وإذا احتمل المعاني فما أشبه منها ظاهرة أولاها به فإذا تكافأت الأحاديث فأصحها إسنادا أولاها وليس المنقطع بشيء ماعدا منقطع سعيد بن المسيب ولا يقاس أصل على أصل ولا يقال لأصل لم وكيف وإنما يقال للفرع لم فإذا صح قياسه على الأصل صح قامت وقاست به الحجة رواه الأصم عن ابن أبي حاتم
وقال أبو المعالي الجويني في الرسالة النظامية في الأركان الإسلامية: "ذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الرب تعالى والذي نرتضيه رأيا وندين الله به عقد اتباع سلف الأمة فالأولى الاتباع وترك الابتداع والدليل السمعي القاطع في ذلك أن إجماع الأمة حجة متبعة وهو مستند معظم الشريعة وقد درج صحب الرسول صلى الله عليه وسلم ورضى عنهم على ترك التعرض لمعانيها ودرك ما فيها وهم صفوة الإسلام المستقلون بأعباء الشريعة وكانوا لا يألون جهدا في ضبط قواعد الملة والتواصي بحفظها وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها ولو كان تأويل هذه الظواهر مسوغا أو محتوما لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة وإذا انصرم عصرهم وعصر التابعين لهم على الإضراب عن التأويل كان ذلك قاطعا بأنه الوجه المتبع فحق على ذي الدين أن يعتقد تنزيه الباري عن صفات المحدثين ولا يخوض في تأويل المشكلات ويكل معناها الى الرب تعالى وعند إمام القراء وسيدهم الوقوف على قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} من العزائم ثم الابتداء بقوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ}".
ومما استحسن من كلام مالك انه سئل عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى فقال الاستواء معلوم والكيف مجهول(10/270)
ص -247-…والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة فلتجر اية الاستواء والمجىء وقوله لما خلقت بيدي وقوله ويبقى وجه ربك وقوله تجري بأعيننا وما صح من اخبار الرسول كخبر النزول وغيره على ما ذكرنا انتهى كلامه
وقال ابو حامد الغزالي الصواب للخلف سلوك مسلك السلف في الإيمان المرسل والتصديق المجمل وما قاله الله ورسوله بلا بحث وتفتيش
وقال في كتاب التفرقة الحق الاتباع والكف عن تغيير الظاهر رأسا والحذر عن اتباع تأويلات لم يصرح بها الصحابة وحسم باب السؤال رأسا والزجر عن الخوض في الكلام والبحث الى ان قال ومن الناس من يبادر الى التأويل ظنا لا قطعا فإن كان فتح هذا الباب والتصريح به يؤدي الى تشويش قلوب العوام بدع صاحبه وكل ما لم يؤثر عن السلف ذكره وما يتعلق من هذا الجنس بأصول العقائد المهمة فيجب تكفير من يغير الظواهر بغير برهان قاطع
وقال ايضا كل ما لم يحتمل التأويل في نفسه وتواتر نقله ولم يتصور ان يقوم على خلافه برهان فمخالفته تكذيب محض وما تطرق اليه احتمال تأويل ولو بمجاز بعيد فإن كان برهانه قاطعا وجب القول به وإن كان البرهان يفيد ظنا غالبا ولا يعظم ضرره في الدين فهو بدعة وإن عظم ضرره في الدين فهو كفر
قال ولم تجر عادة السلف بهذه المجادلات بل شددوا القول على من يخوض في الكلام ويشتغل بالبحث والسؤال
وقال ايضا الإيمان المستفاد من الكلام ضعيف والإيمان الراسخ إيمان العوام الحاصل في قلوبهم في الصبا بتواتر السماع وبعد البلوغ بقرائن يتعذر التعبير عنها
قال وقال شيخنا ابو المعالي يحرص الإمام ما امكنه على جمع عامة الخلق على سلوك سبيل السلف في ذلك انتهى(10/271)
ص -248-…وقد اتفقت الأئمة الأربعة على ذم الكلام وأهله وكلام الإمام الشافعي ومذهبه فيهم معروف عند جميع اصحابه وهو انهم يضربون ويطاف بهم في قبائلهم وعشائرهم هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة واقبل على الكلام
وقال لقد اطلعت من اهل الكلام على شيء ما كنت اظنه وقال لأن يبتلي العبد بكل شيء نهى عنه غير الكفر أيسر من أن يبتلي بالكلام وقال لحفص الفرد أنا أخالفك في كل شيء حتى في قول لا إله إلا الله أنا أقول لا إله إلا الله الذي يرى في الاخرة والذي كلم موسى تكليما وأنت تقول لا إله إلا الله الذي لا يرى في الآخرة ولا يتكلم
وقال البيهقي في مناقبه ذكر الشافعي إبراهيم بن إسماعيل بن علية فقال أنا مخالف له في كل شيء وفي قوله لا إله إلا الله لست أقول كما يقول أنا أقول لا إله إلا الله الذي كلم موسى من وراء حجاب وذاك يقول لا إله إلا الله الذي خلق كلاما أسمعه موسى من وراء حجاب
وقال في أول خطبة رسالته الحمد لله الذي هو كما وصف به نفسه وفوق ما يصفه به الواصفون من خلقه وهذا تصريح بأنه لا يوصف إلا بما وصف به نفسه تعالى وأنه يتعالى ويتنزه عما يصفه به المتكلمون وغيرهم مما لم يصف به نفسه
وقال أبو نصر أحمد بن محمد بن خالد السجزي سمعت أبي يقول قلت لأبي العباس بن سريج ما التوحيد فقال توحيد أهل العلم وجماعة المسلمين أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتوحيد أهل الباطل الخوض في(10/272)
ص -249-…الأعراض والأجسام إنما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بإنكار ذلك
وقال بعض أهل العلم كيف لا يخشى الكذب على الله ورسوله من يحمل كلامه على التأويلات المستنكرة المجازات المستكرهة التي هي بالألغاز والأحاجي أولى منها بالبيان والهداية وهل يأمن على نفسه أن يكون ممن قال الله فيهم ولكم الويل مما تصفون قال الحسن هي والله لكل واصف كذبا إلى يوم القيامة وهل يأمن أن يتناوله قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} قال ابن عيينة: "هي لكل مفتر من هذه الأمة إلى يوم القيامة" وقد نزه سبحانه نفسه عن كل ما يصفه به خلقه إلا المرسلين فإنهم إنما يصفونه بما أذن لهم أن يصفوه به فقال تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} وقال تعالى: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} ويكفي المتأولين كلام الله ورسوله بالتأويلات التي لم يردها ولم يدل عليها كلام الله أنهم قالوا برأيهم على الله وقدموا آراءهم على نصوص الوحي وجعلوها عيارا على كلام الله ورسوله ولو علموا أي باب شر فتحوا على الأمة بالتأويلات الفاسدة وأي بناء للإسلام هدموا بها وأي معاقل وحصون استباحوها لكان أحدهم أن يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتعاطى شيئا من ذلك فكل صاحب باطل قد جعل ما تأوله المتأولون عذرا له فيما تأوله هو وقال ما الذي حرم على التأويل وأباحه لكم فتأولت الطائفة المنكرة للمعاد نصوص المعاد وكان تأويلهم من جنس تأويل منكرى الصفات بل أقوى منه لوجوه عديدة يعرفها من وازن يبن التأويلين وقالوا كيف نحن نعاقب على تأويلنا وتؤجرون أنتم على تأويلكم قالوا ونصوص الوحي بالصفات أظهر وأكثر من نصوصه بالمعاد ودلالة النصوص عليها أبين فكيف يسوغ تأويلها بما يخالف ظاهرها ولا يسوغ لنا تأويل نصوص المعاد وكذلك فعلت الرافضة في أحاديث فضائل الخلفاء(10/273)
الراشدين وغيرهم من الصحابة رضى الله عنهم وكذلك فعلت المعتزلة في تأويل أحاديث الرؤية(10/274)
ص -250-…والشفاعة وكذلك القدرية في نصوص القدر وكذلك الحرورية وغيرهم من الخوارج في النصوص التي تخالف مذاهبهم وكذلك القرامطة والباطنية طردت الباب وطمت الوادي على القرى وتأولت الدين كله فأصل خراب الدين والدنيا إنما هو من التأويل الذي لم يرده الله ورسوله بكلامه ولادل عليه أنه مراده وهل اختلف الأمم على أنبيائهم إلا بالتأويل وهل وقعت في الأمة فتنة كبيرة أوصغيره إلا بالتأويل فمن بابه دخل إليها وهل أريقت دماء المسلمين في الفتن إلا بالتأويل
فساد الأديان بالتأويل:
وليس هذا مختصا بدين الإسلام فقط بل سائر أديان الرسل لم تزل على الاستقامة والسداد حتى دخلها التأويل فدخل عليها من الفساد مالا يعلمه إلا رب العباد
وقد توراثت البشارات بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة ولكن سلطوا عليها التأويلات فأفسدوها كما أخبر سبحانه عنهم من التحريف والتبديل والكتمان فالتحريف تحريف المعاني بالتأويلات التي لم يردها المتكلم بها والتبديل تبديل لفظ لفظ آخر والكتمان جحده وهذه الأدواء الثلاثة منها غيرت الأديان والملل وإذا تأملت دين المسيح وجدت النصارى إنما تطرقوا إلى إفساده بالتأويل بما لا يكاد يوجد قط مثله في شيء من الأديان ودخلوا إلى ذلك من باب التأويل وكذلك زنادقه الأمم جميعهم إنما تطرقوا إلى إفساد ديانات الرسل صلوات الله وسلامه عليهم بالتأويل ومن بابه دخلوا وعلى أساسه بنوا وعلى نقطه خطوا
البواعث المؤدية إلى التأويل:
والمتأولون أصناف عديدة بحسب الباعث لهم على التاويل وبحسب(10/275)
ص -251-…تصور أفهامهم ووفورها وأعظمهم توغلا في التأويل الباطل من فسد قصده وفهمه فكلما ساء قصده وقصر فهمه كان تأويله أشد انحرافا فمنهم من يكون تأويله لنوع هوى من غير شبهة بل يكون على بصيرة من الحق ومنهم من يكون تأويله لنوع شبهة عرضت له أخفت عليه الحق ومنهم من يكون تأويله لنوع هدى من غير شبهة بل يكون على بصيرة من الحق ومنهم من يجتمع له الأمران الهوى في القصد والشبهة في العلم
نتائج التأويل:
وبالجملة فافتراق أهل الكتابين وافتراق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة إنما أوجبه التأويل وإنما أريقت دماء المسلمين يوم الجمل وصفين والحرة وفتنة ابن الزبير وهلم جرا بالتأويل وإنما دخل أعداء الإسلام من المتفلسفة والقرامطة والباطنية والإسماعلية والنصيرية من باب التأويل فما امتحن الإسلام بمحنة قط إلا وسببها التأويل فإن محنته إما من المتأولين وإما أن يسلط عليهم الكفار بسبب ما ارتكبوا من لتأويل وخالفوا ظاهر التنزيل وتعللوا بالأباطيل فما الذي أراق دماء بني جذيمة وقد أسلموا غير التأويل حتى رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وتبرأ إلى الله من فعل المتأول بقتلهم وأخذ أموالهم وما الذي أوجب تأخر الصحابة رضى الله عنهم يوم الحديبية عن موافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم غير التأويل حتى اشتد غضبه لتأخرهم عن طاعته حتى رجعوا عن ذلك التأويل وما الذي سفك دم أمير المؤمنين عثمان ظلما وعدوانا وأوقع الأمة فيما أوقعها فيه حتى الآن غير التأويل وماالذي سفك دم علي رضى الله عنه وابنه الحسين وأهل بيته رضى الله تعالى عنهم غير التأويل وماالذي أراق دم عمار بن ياسر وأصحابه غير التأويل وماالذي أرق دم ابن الزبير وحجر بن عدي وسعيد بن جبير وغيرهم من سادات الأمة غير التأويل وما الذي اريقت عليه دماء العرب في فتنة أبي مسلم غير التأويل(10/276)
ص -252-…وما الذي جرد الإمام أحمد بين العقابين وضرب السياط حتى عجت الخليقة إلى ربها تعالى غير التأويل وما الذي قتل الإمام أحمد بن نصر الخزاعي وخلد خلقا من العلماء في السجون حتى ماتوا غير التأويل وما الذي سلط سيوف التتار على دار الإسلام حتى ردوا أهلها غير التأويل وهل دخلت طائفة الإلحاد من أهل الحلول والاتحاد إلا من باب التأويل وهل فتح باب التأويل إلا مضادة ومناقضة لحكم الله في تعليمه عباده البيان الذي امتن الله في كتابه على الإنسان بتعليمه إياه فالتأويل بالألغاز والأحاجي والأغلوطات أولى منه بالبيان والتبيين وهل فرق بين دفع حقائق ما أخبرت به الرسل عن الله وأمرت به بالتأويلات الباطلة المخالفة له وبين رده وعدم قبوله ولكن هذا رد جحود ومعاندة وذاك رد خداع ومصانعة
قال ابو الوليد بن رشد المالكي في كتابه المسمى بالكشف عن مناهج الأدلة وقد ذكر التأويل وجنايته على الشريعة إلى أن قال: "فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه وهؤلاء أهل الجدل والكلام وأشد ما عرض على الشريعة من هذا الصنف أنهم تأولوا كثيرا مما ظنوه ليس على ظاهره وقالوا إن هذا التأويل هو المقصود به وإنما أمر الله به في صورة المتشابه ابتلاء لعباده واختبارا لهم ونعوذ بالله من سوء الظن بالله بل نقول إن كتاب الله العزيز إنما جاء معجزا من جهة الوضوح والبيان فما أبعد من مقصد الشارع من قال فيما ليس بمتشابه إنه متشابه ثم أول ذلك المتشابه بزعمه وقال لجميع الناس إن فرضكم هو اعتقاد هذا التأويل مثل ما قالوه في آية الاستواء على العرش وغير ذلك مما قالوا إن ظاهره متشابه ثم قال وبالجملة فأكثر التأويلات التي زعم القائلون بها أنها المقصود من الشرع إذا تأملت وجدت ليس يقوم عليها برهان"
مثل من أول شيئامن الشرع:
إلى أن قال ومثال من أول شيئا من الشرع وزعم أن ما أوله هو الذي(10/277)
ص -253-…(10/278)
ص -254-…العارض فيها من قبل التأويل تبينت ان هذا المثال صحيح
واول من غير هذا الدواء الأعظم هم الخوارج ثم المعتزلة بعدهم ثم الأشعرية ثم الصوفية ثم جاء ابو حامد فطم الوادي على القرى هذا كلامه بلفظه
ولو ذهبنا نستوعب ما جناه التأويل على الدنيا والدين ومانال الأمم قديما وحديثا بسببه من الفساد لاستدعى ذلك عدة اسفار والله المستعان
اطمئنان قلب المستفتي قبل العمل بالفتوى:
الفائدة السادسة والخمسون لا يجوز العمل بمجرد فتوى المفتي اذا لم تطمئن نفسه وحاك في صدره من قبوله وتردد فيها لقوله صلى الله عليه وسلم استفت نفسك وإن افتاك الناس وافتوك فيجب عليه ان يستفتي نفسه اولا ولا تخلصه فتوى المفتي من الله اذا كان يعلم ان الأمر في الباطن بخلاف ما افتاه كما لا ينفعه قضاء القاضي له بذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم من قضيت له بشيء من حق اخيه فلا يأخذه فإنما اقطع له قطعة من نار والمفتي والقاضي في هذا سواء ولا يظن المستفتي ان مجرد فتوى الفقيه تبيح له ما سأل عنه اذا كان يعلم ان الأمر بخلافه في الباطن سواء تردد أوحاك في صدره لعلمه بالحال في الباطن أولشكه فيه أولجهله به أولعلمه جهل المفتي أومحاباته في فتواه أوعدم تقييده بالكتاب والسنة أولأنه معروف بالفتوى بالحيل والرخص المخالفة للسنة وغير ذلك من الأسباب المانعة من الثقة بفتواه وسكون النفس إليها فإن كان عدم الثقة والطمأنينة لأجل المفتى يسأل ثانيا وثالثا حتى تحصل له الطمأنينة فإن لم يجد فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها والواجب تقوى الله بحسب الاستطاعة
العمل إذا وجد مفتيان أحدهما أعلم من الآخر:
فإن كان في البلد مفتيان أحدهما أعلم من الآخر فهل يجوز استفتاء المفضول مع وجود الفاضل فيه قولان للفقهاء وهما وجهان لأصحاب الشافعي وأحمد(10/279)
ص -255-…فمن جوز ذلك رأى أنه يقبل قوله إذا كان وحده فوجود من هو أفضل منه لا يمنع من قبول قوله كالشاهد ومن منع استفتاء قال المقصود حصول ما يغلب على الظن الإصابة وغلبة الظن بفنوى الأعلم أقوى فيتعين والحق التفصيل بأن المفضول إن ترجح بديانة أوورع أوتحر للصواب وعدم ذلك الفاضل فاستفتاء المفضول جائز إن لم يتعين وإن استويا فاستفتاء الأعلم أولى والله أعلم
ترجمة كلام المفتي والمستفتي:
الفائدة السابعة والخمسون: إذا لم يعرف المفتي لسان السائل أولم يعرف المستفتي لسان المفتي أجزأ ترجمة واحد بينهما لأنه خبر محض فيكتفي فيه بواحد كأخبار الديانات والطب وطرد هذا الاكتفاء بترجمة الواحد في الجرح التعديل والرسالة والدعوى والإقرار والإنكار بين يدي الحاكم والتعريف في إحدى الروايتين وهي مذهب ابي حنيفة واختارها أبو بكر إجراء لها مجرى الخبر والرواية الثانية لا يقبل في هذه المواضع أقل من اثتين إجراء لها مجرى الشهادة وسلوكا بها سبيلها لأنها تثبت الإقرار عند الحاكم وتثبت عدالة الشهود وجرحهم فافتقرت إلى العدد كما لو شهد على إقراره شاهد واحد فإنه لا يكتفي به وهذا بخلاف ترجمة الفتوى والسؤال فغنه خبر محض فافترقا.
العمل في سؤال يحتمل صورا عديدة:(10/280)
الفائدة الثامنة والخمسون: إذا كان السؤال محتملا محملا لصور عديدة فإن لم يعلم المفتي الصورة المسئول عنها لم يجب عن صورة واحدة منها وإن علم الصورة المسئول عنها فله أن يخصها بالجواب ولكن يقيد لئلا يتوهم أن الجواب عن غيرها فيقول إن كان الأمر كيت وكيت أوكان المسئول عنه كذا وكذا فالجواب كذا وكذا وله أن يفرد كل صورة بجواب فيفصل الأقسام المحتملة ويذكر حكم كل قسم ومنع بعضهم من ذلك لوجهين أحدهما انه ذريعة إلى تعليم الحيل وفتح باب لدخول المستفتي وخروجه من حيث شاء الثاني أنه سبب لازدحام أحكام تلك الأقسام على فهم العامي فيضيع مقصودة والحق التفصيل فيكره حيث استلزم ذلك ولا يكره بل يستحب إذا كان فيه زيادة(10/281)
ص -256-…إيضاح وبيان وإزالة لبس وقد فصل النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من أجوبته بقوله إن كان كذا فالامر كذا كقوله في الذي وقع على جارية امرأته إن كان استكرهها فهى حرة وعليه لسيدتها مثلها وإن كانت مطاوعة فهى له وعليه لسيدتها مثلها وهذا كثير في فتاويه صلى الله عليه وسلم
على المفتي ان يكون حذرا فطنا:
الفائدة التاسعة والخمسون: وهي مما ينبغي التفطن له إن رأى المفتي خلال السطور بياضا يحتمل أن يلحق به ما يفسد الجواب فليحترز منه فربما دخل من ذلك عليه مكروه فإما أن يأمر بكتابة غير الورقة وإما أن يخط على البياض أويشغله بشئ كما يحترز منه كتاب الوثائق والمكاتيب
وبالجملة فليكن حذرا فطنا ولا يحسن ظنه بكل أحد وهذا الذي حمل بعض المفتين على أنه كان يقيد السؤال عنده في ورقة ثم يجيب في ورقة السائل ومنهم من كان يكتب السؤال في ورقة من عنده ثم يكتب الجواب وليس شئ من ذلك بلازم والاعتماد على قرائن الاحوال ومعرفة الواقع والعادة
على المفتي ان يشاور الثقة:
الفائدة الستون: إن كان عنده من يثق بعلمه ودينه فينبغي له ان يشاوره ولا يستقل بالجواب ذهابا بنفسه وارتفاعا بها ان يستعين على الفتاوي بغيره من أهل العلم وهذا من الجهل فقد أثنى الله سبحانه على المؤمنين بأن أمرهم شورى بينهم وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} وقد كانت المسألة تنزل بعمر بن الخطاب رضى الله عنه فيستشير لها من حضر من الصحابة وربما جمعهم وشاورهم حتى كان يشاور ابن عباس رضى الله عنهما وهو إذا ذاك أحدث القوم سنا وكان يشاور عليا كرم الله وجهه وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين ولا سيما إذا قصد بذلك تمرين أصحابه وتعليمهم وشخذ أذهانهم قال البخاري في صحيحه باب إلقاء(10/282)
ص -257-…العالم المسألة على أصحابه وأولى ما ألقى عليهم المسألة التي سئل عنها هذا ما لم يعارض ذلك مفسدة من إفشاء سر السائل أوتعريضه للأذى أومفسدة لبعض الحاضرين فلا ينبغي له ان يرتكب ذلك وكذلك الحكم في عابر الرؤيا فالمفتي والمعبر والطبيب يطلعون من أسرار الناس وعوراتهم على ما لا يطلع عليه غيرهم فعليهم استعمال الستر فيما لا يحسن إظهاره
على المفتي ان يكثر الدعاء لنفسه بالتوفيق:
الفائدة الحادية والستون: حقيق بالمفتي ان يكثر الدعاء بالحديث الصحيح: "اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والارض عالم الغيب والشهادة انت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء الى صراط مستقيم"
وكان شيخنا كثير الدعاء بذلك وكان إذا اشكلت عليه المسائل يقول يا معلم ابراهيم علمني ويكثر الاستعانة بذلك اقتداء بمعاذ بن جبل رضى الله عنه حيث قال لمالك بن يخامر السكسكي عند موته وقد رآه يبكي فقال والله ما أبكى على دنيا كنت اصيبها منك ولكن أبكي على العلم والايمان اللذين كنت اتعلمهما منك فقال معاذ بن جبل رضى الله عنه إن العلم والايمان مكانهما من ابتغاهما وجدهما اطلب العلم عند أربعة عند عويمر أبي الدرداء وعند عبد الله بن مسعود وابي موسى الاشعري وذكر الرابع فإن عجز عنه هؤلاء فسائر اهل الارض عنه أعجز فعليك بمعلم ابراهيم صوات الله عليه
وكان بعض السلف يقول عند الافتاء: "سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم"
وكان مكحول يقول لا حول ولا قوة إلا بالله وكان مالك يقول ما شاء الله لا قوة إلا بالله العلي العظيم وكان بعضهم يقول رب اشرح لي صدري ويسر لي امري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي وكان بعضهم يقول اللهم وفقني واهدني وسددني واجمع لي بين الصواب والثواب واعذني من الخطأ(10/283)
ص -258-…والحرمان وكان بعضهم يقرأ الفاتحة وجربنا نحن ذلك فرأيناه من أقوى اسباب الاصابة
والمعول في ذلك كله على حسن النية وخلوص القصد وصدق التوجه في الاستمداد من المعلم الاول معلم الرسل والانبياء صلوات الله وسلامه عليهم فإنه لا يرد من صدق في التوجه اليه لتبليغ دينه وإرشاد عبيده ونصيحتهم والتخلص من القول عليه بلا علم فإذا صدقت نيته ورغبته في ذلك لم يعدم أجرأ إن فاته أجران والله المستعان.
وسئل الامام احمد فقيل له ربما اشتد علينا الامر من جهتك فلمن نسأل بعدك فقال سلوا عبد الوهاب الوراق فإنه أهل ان يوفق للصواب واقتدى الامام احمد بقول عمر بن الخطاب رضى الله عنه اقتربوا من افواه المطيعين واسمعوا منهم ما يقولون فإنهم تجلى لهم امور صادقة وذلك لقرب قلوبهم من الله وكلما قرب القلب من الله زالت عنه معارضات السوء وكان نور كشفه للحق أتم وأقوى وكلما بعد عن الله كثرت عليه المعارضات وضعف نور كشفه للصواب فإن العلم نور يقذفه الله في القلب يفرق به العبد بين الخطأ والصواب.
وقال مالك للشافعي رضى الله عنهما في اول ما لقيه إني أرى الله قد ألقى على قلبك نورا فلا تطفئه بظلمة المعصية وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} ومن الفرقان النور الذي يفرق به العبد بين الحق والباطل وكلما كان قلبه اقرب الى الله كان فرقانه اتم وبالله التوفيق.
لا تتوقف الفتوى على غرض السائل:
الفائدة الثانية والستون: قد تكرر لكثير من اهل الافتاء الامساك عما يفتون به مما يعلمون انه الحق إذا خالف غرض السائل ولم يوافقه وكثير منهم يسألة عن غرضه فإن صادفه عنده كتب له وإلا دله على مفت أومذهب يكون غرضه عنده وهذا غير جائز على الاطلاق بل لا بد فيه من تفصيل فإن(10/284)
ص -259-…كان المسئول عنه من مسائل العلم والسنة أومن المسائل العلميات التي فيها نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسع المفتى تركه الى غرض السائل بل لا يسعه توقفه في الافتاء به على غرض السائل بل ذلك إثم عظيم وكيف يسعه من الله ان يقدم غرض السائل على الله ورسوله وإن كانت المسألة من المسائل الاجتهادية التي يتجاذب اعنتها الاقوال والاقيسة فإن لم يترجح له قول منها لم يسع له ان يترجح لغرض السائل وإن ترجح له قول منها وظن انه الحق فأولى بذلك فإن السائل إنما يسأل عما يلزمه في الحكم ويسعه عند الله فإن عرفه المفتي أفتاه به سواء وافق غرضه أوخالفه ولا يسعه ذلك ايضا إذا علم ان السائل يدور على من يفتيه بغرضه في تلك المسألة فيجعل استفتاءه تنفيذا لغرضه لا تعبد الله بأداء حقه ولا يسعه ان يدله على غرضه اين كان بل ولا يجب عليه ان يفتي هذا الضرب من الناس فإنهم لا يستفتون ديانه وانما يستفتون توصلا الى حصول أغراضهم بأي طريق اتفق فلا يجب على المفتي مساعدتهم فإنهم لا يريدون الحق بل يريدون اغراضهم باي طريق وافق لهذا إذا وجدوا أغراضهم في أي مذهب اتفق اتبعوه في ذلك الموضع وتمذهبوا به كما يفعله ارباب الخصومات بالدعاوي عند الحكام ولا يقصد احدهم حاكما بعينه بل أي حاكم نفذ غرضه عنده صار اليه
وقال شيخنا رحمه الله مرة: انا مخير بين إفتاء هؤلاء وتركهم فإنهم لا يستفتون للدين بل لو صولهم إلى أغراضهم حيث كانت ولو وجدوها عند غيري لم يجيئوا الى بخلاف من يسأل عن دينه وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في حق من جاءه يتحاكم اليه لاجل غرضه لا لالتزامه لدينه صلى الله عليه وسلم من اهل الكتاب فإن جاؤك فاحكم بينهم أواعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا فهؤلاء لما لم يلتزموا دينه لم يلزمه الحكم بينهم والله تعالى اعلم
روح الفتوى الدليل عليها
الفائدة الثالثة والستون عاب بعض الناس ذكر الاستدلال في الفتوى(10/285)
ص -260-…وهذا العيب اولى بالعيب بل جمال الفتوى وروحها هو الدليل فكيف يكون ذكر كلام الله ورسوله وإجماع المسلمين وأقوال الصحابة رضوان الله عليهم والقياس الصحيح عيبا وهل ذكر قول الله ورسوله إلا طراز الفتاوي وقول المفتي ليس بموجب للاخذ به فإذا ذكر الدليل فقد حرم على المستفتي ان يخالفه وبرئ هو من عهدة الفتوى بلا علم
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن المسألة فيضرب لها الامثال ويشبهها بنظائرها هذا وقوله وحده حجة فما الظن بمن ليس قوله بحجة ولا يجب الاخذ به واحسن أحواله وأعلاها ان يسوغ له قبول قوله وهيهات أن يسوغ بلا حجة وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سئل احدهم عن مسألة افتى بالحجة نفسها فيقول قال الله كذا وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا أوفعل كذا فيشفى السائل ويبلغ القائل وهذا كثير جدا في فتاويهم لمن تأملها ثم جاء التابعون والائمة بعدهم فكان أحدهم يذكر الحكم ثم يستدل عليه وعلمه يأبى ان يتكلم بلا حجة والسائل يأبى قبول قوله بلا دليل ثم طال الامد وبعد العهد بالعلم وتقاصرت الهمم الى ان صار بعضهم يجيب بنعم أولا فقط ولا يذكر للجواب دليلا ولا مأخذا ويعترف بقصورة وفضل من يفتى بالدليل ثم نزلنا درجة أخرى الى ان وصلت الفتوى الى عيب من يفتى بالدليل وذمه ولعله ان يحدث للناس طبقة اخرى لا يدري ما حالهم في الفتاوي والله المستعان
للمفتي ان يقلد الميت اذا علمت عدالتة:(10/286)
الفائدة الرابعة والستون: هل يجوز للمفتي تقليد الميت اذا علم عدالته وانه مات عليها من غير ان يسأل الحي فيه وجهان لاصحاب احمد والشافعي اصحهما له ذلك فإن المذاهب لا تبطل بموت اصحابها ولو بطلت بموتهم لبطل ما بأيدي الناس من الفقه عن ائمتهم ولم يسغ لهم تقليدهم والعمل بأقوالهم وايضا لو بطلت اقوالهم بموتهم لم يعتد بهم في الاجماع والنزاع ولهذا لو شهد الشاهدان ثم ماتا بعد الاداء وقبل الحكم بشهادتهما لم تبطل شهادتهما وكذلك(10/287)
ص -261-…الراوي لاتبطل روايته بموته فكذلك المفتي لا تبطل فتواه بموته ومن قال تبطل فتواه بموته قال أهليته زالت بموته ولو عاش لوجب عليه تجديد الاجتهاد ولأنه قد يتغير اجتهاده وممن حكى الوجهين في المفتى أبو الخطاب فقال إن مات المفتى قبل عمل المستفتى فله العمل بها وقيل لا يعمل بها والله أعلم.
هل للمستفتي ان يكرر العمل بالفتوى إذ تكرر السبب:
الفائدة الخامسة والستون: إذا استفتاه عن حكم حادثة فأفتاه وعمل بقوله ثم وقعت له ثانية فهل له مرة أن يعمل بتلك الفتوى الأولى أم يلزمه الاستفتاء مرة ثانية فيه وجهان لأصحاب أحمد والشافعي فمن لم يلزمه بذلك قال الأصل بقاء ما كان فله أن يعمل بالفتوى وإن أمكن تغير اجتهاده كما أن له أن يعمل بها بعد مدة من وقت الإفناء وإن جاز تغير اجتهاده ومن منعه من ذلك قال ليس على ثقة من بقاء المفتي على اجتهاده الاول فلعله أن يرجع عنه فيكون المستفتى قد عمل بما هو خطأ عند من استفتاه ولهذا رجح بعضهم العمل بقول الميت على قول الحي واحتجوا بقول ابن مسعود من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة
استفتاء الاعلم والادين:
الفائدة السادسة والستون: هل يلزم المستفتي ان يجتهد في أعيان المفتين ويسأل الاعلم والادين ام لا يلزمه ذلك فيه مذهبان كما سبق وبينا مأخذهما والصحيح انه يلزمه لانه المستطاع من تقوى الله تعالى المأمور بها كل احد وتقدم انه اذا اختلف عليه مفتيان احدهما اورع والاخر أعلم فأيهما يجب تقليده فيه ثلاثة مذاهب سبق توجيهها
القول في التمذهب بمذهب معين:
وهل يلزم العامي ان يتمذهب ببعض المذاهب المعروفة ام لا فيه مذهبان احدهما لا يلزمه وهو الصواب المقطوع به إذ لا واجب إلا ما أوجبه الله(10/288)
ص -262-…ورسوله ولم يوجب الله ولا رسوله على أحد من الناس ان يتمذهب بمذهب رجل من الامة فيقلده دينه دون غيره وقد انطوت القرون الفاضلة مبرأة مبرا اهلها من هذه النسبة بل لا يصح للعامي مذهب ولو تمذهب به فالعامي لا مذهب له لان المذهب إنما يكون لمن له نوع نظر واستدلال ويكون بصيرا بالمذاهب على حسبه أولمن قرأ كتابا في فروع ذلك المذهب وعرف فتاوي إمامه وأقوله وأما من لم يتأهل لذلك ألبتة بل قال أنا شافعي أوحنبلي أوغير ذلك لم يصر كذلك بمجرد القول كما لو قال أنا فقيه أونحوي أوكاتب لم يصر كذلك بمجرد قوله
يوضحه ان القائل إنه شافعي أومالكي أوحنفي يزعم انه متبع لذلك الامام سالك طريقه وهذا إنما يصح له إذا سلك سبيله في العلم والمعرفة والاستدلال فأما مع جهله وبعده جدا عن سيرة الامام وعلمه وطريقه فكيف يصح له الانتساب اليه إلا بالدعوى المجردة والقول الفارغ من كل معنى والعامي لا يتصور ان يصح له مذهب ولو تصور ذلك لم يلزمه ولا لغيره ولا يلزم أحدا قط ان يتمذهب بمذهب رجل من الامة بحيث يأخذ اقواله كلها ويدع أقوال غيره.
وهذه بدعة قبيحة حدثت في الامة لم يقل بها احد من أئمة الاسلام وهم أعلى رتبة وأجل قدرا وأعلم بالله ورسوله من ان يلزموا الناس بذلك وأبعد منه قول من قال يلزمه ان يتمذهب بمذهب عالم من العلماء وأبعد منه قول من قال يلزمه ان يتمذهب بأحد المذاهب الاربعه
فيالله العجب ماتت مذاهب اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومذاهب التابعين وتابعيهم وسائر أئمة الاسلام وبطلت جملة إلا مذاهب اربعة أنفس فقط من بين سائر الامة والفقهاء وهل قال ذلك احد من الائمة أودعا اليه أودلت عليه لفظه واحدة من كلامه عليه والذي اوجبه الله تعالى ورسوله على الصحابة والتابعين وتابعيهم هو الذي اوجبه على من بعدهم الى يوم القيامه(10/289)
ص -263-…لا يختلف الواجب ولا يتبدل وإن اختلفت كيفيته أوقدره باختلاف القدرة والعجز والزمان والمكان والحال فذلك أيضا تابع لما أوجبه الله ورسوله
ومن صحح للعامي مذهبا قال هو قد اعتقد ان هذا المذهب الذي انتسب اليه هو الحق فعليه الوفاء بموجب اعتقاده وهذا الذي قاله هؤلاء لو صح للزم منه تحريم استفتاء اهل غير المذهب الذي انتسب اليه وتحريم تمذهبه بمذهب نظير إمامه أوأرجح منه أوغير ذلك من اللوازم التي يدل فسادها على فساد ملزوماتها بل يلزم منه أنه إذا راى نص رسول الله صلى الله عليه وسلم أوقول خلفائه الاربعة مع غير إمامه ان يترك النص وأقوال الصحابة ويقدم عليها قول من انتسب اليه
وعلى هذا فله ان يستفتى من شاء من أتباع الائمة الاربعة وغيرهم ولا يجب عليه ولا على المفتى ان يتقيد بأحد من الائمة الاربعة بإجماع الامة كما لا يجب على العالم ان يتقيد بحديث اهل بلده أوغيره من البلاد بل إذا صح الحديث وجب عليه العلم به حجازيا كان أوعراقيا أوشاميا أومصريا أويمنيا
وكذلك لا يجب على الانسان التقيد بقراءة السبعة المشهورين بانفاق المسلمين بل اذا وافقت القراءة رسم المصحف الامام وصحت في العربية وصح سندها جازت القراءة بها وصحت الصلاة بها أتفاقا بل لو قرأ بقراءة تخرج عن مصحف عثمان وقد قرأ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة بعده جازت القراءة بها ولم تبطل الصلاة بها على أصح الاقوال والثاني تبطل الصلاة بها وهاتان روايتان منصوصتان عن الامام احمد والثالث إن قرأ بها في ركن لم يكن مؤديا لفرضه وإن قرأ بها في غيره لم تكن مبطلة وهذا اختيار أبي البركات ابن تيمية قال لانه لم يتحقق الاتيان بالركن في الاول ولا الاتيان بالمبطل في الثاني ولكن ليس له ان يتبع رخص المذاهب واخذ غرضه من أي مذهب وجده فيه بل عليه اتباع الحق بحسب الامكان(10/290)
ص -264-…العمل عند اختلاف المفتيين:
الفائدة السابعة والستون: فإن اختلف عليه مفتيان فأكثر فهل يأخذ بأغلظ الاقوال أوبأخفها أويتخير أويأخذ بقول الاعلم اوالاورع أويعدل الى مفت اخر فينظر من يوافق من الاولين فيعمل بالفتوى التي يوقع عليها أويجب عليه ان يتحرى ويبحث عن الراجح بحسبه فيه سبعة مذاهب ارجحها السابع فيعمل كما يعمل عند اختلاف الطريقين أوالطبيبين أوالمشيرين كما تقدم وبالله التوفيق
هل قول المفتي ملزم
الفائدة الثامنة والستون: إذا استفتى فأفتاه المفتي فهل تصير فتواه موجبة على المستفتي العمل بحيث يكون عاصيا إن لم يعمل بها أولا يوجب عليه العمل فيه اربعة أوجه لاصحابنا وغيرهم أحدها انه لا يلزمه العمل بها إلا ان يلتزمه هو والثاني انه يلزمه إذا شرع في العمل فلا يجوز له حينئذ الترك والثالث انه إن وقع في قلبه صحة فتواه وأنها حق لزمه العمل بها والرابع انه اذا لم يجد مفتيا آخر لزمه الاخذ بفتياه فإن فرضه التقليد وتقوى الله ما استطاع وهذا هو المستطاع في حقه وهو غاية ما يقدر عليه وإن وجد مفتيا آخر فإن وافق الاول فأبلغ في لزوم العمل وإن خالفه فإن استبان له الحق في إحدى الجهتين لزمه العمل به وإن لم يستبن له الصواب فهل يتوقف أويأخذ بالاحوط أويتخير أويأخذ بالاسهل فيه وجوه تقدمت
العمل بالفتوى اذا لم تبلغه مشافهة من المفتي
الفائدة التاسعة والستون يجوز له العمل بخط المفتي وإن لم يسمع الفتوى من لفظ إذا عرف انه خطه أواعلمه به من يسكن الى قوله ويجوز له قبول قول الرسول إن هذا خطه وإن كان عبدا أوامرأة أوصبيا أوفاسقا كما يقبل قوله في الهدية والاذن في دخول اعتمادا على القرائن والعرف وكذا(10/291)
ص -265-…يجوز اعتماد الرجل على ما يجده من كتابة الوقف على كتاب أورباط أوخان أونحوه فيدخله وينتفع به وكذلك يجوز له الاعتماد على ما يجده بخط ابيه في برنامجه أن له على فلان كذا وكذا فيحلف على الاستحقاق وكذا يجوز للمرأة الاعتماد على خط الزوج انه أبانها فلها ان تتزوج بناء على الخط وكذا الوصي والوارث يعتمد على خط الموصي فينفذ ما فيه وإن لم يشهد شاهدان وكذا اذا كتب الراوي الى غيره حديثا جاز له ان يعتمد عليه ويعمل به ويرويه بناء على الخط اذا تيقن ذلك كله هذا عمل الامة قديما وحديثا من عهد نبينا صلى الله عليه وسلم والى الان وإن انكره من انكره
ومن العجب ان من انكر ذلك وبالغ في إنكاره ليس معه فيما يفتي به إلا مجرد كتاب قيل إنه كتاب فلان فهو يقضى به ويفتى ويحل ويحرم ويقول هكذا في الكتاب والله الموفق
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل كتبه الى الملوك والى الامم يدعوهم الى الاسلام فتقوم عليهم الحجة بكتابه وهذا أظهر من أن ينكر وبالله التوفيق
ما يفعل المفتي إذا حدثت حادثة ليس فيها قول لاحد من العلماء
الفائدة السبعون إذا حدثت حادثة ليس فيها قول لاحد من العلماء فهل يجوز الاجتهاد فيها بالافتاء والحكم ام لا فيه ثلاثة اوجه
احدها يجوز وعليه تدل فتاوي الائمة وأجوبتهم فإنهم كانوا يسالون عن حوادث لم تقع قبلهم فيجتهدون فيها وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله اجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجر وهذا يعم ما اجتهد فيه مما لم يعرف فيه قول من قبله وما عرف فيه اقوالا واجتهد في الصواب منها وعلى هذا درج السلف والخلف والحاجة داعية الى ذلك لكثرة(10/292)
ص -266-…الوقائع واختلاف الحوادث ومن له مباشرة لفتاوي الناس يعلم ان المنقول وإن اتسع غاية الاتساع فإنه لا يفي بوقائع العالم جميعا وانت إذا تأملت الوقائع رأيت مسائل كثيرة واقعة وهي غير منقولة ولا يعرف فيها كلام لأئمة المذاهب ولا لأتباعهم
والثاني لا يجوز له الافتاء ولا الحكم بل يتوقف حتى يظفر فيها بقائل قال الامام احمد لبعض اصحابه إياك ان تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام والثالث يجوز ذلك في مسائل الفروع لتعلقها بالعمل وشدة الحاجة اليها وسهولة خطرها ولا يجوز في مسائل الاصول
والحق التفصيل وأن ذلك يجوز بل يستحب أويجب عند الحاجة واهلية المفتي والحاكم فإن عدم الامران لم يجز وإن وجد أحدهما دون الاخر احتمل الجواز والمنع والتفصيل فيجوز للحاجة دون عدمها والله أعلم.
فتاوي إمام المفتين صلى الله عليه وسلم
ولنختم الكتاب بذكر فصول يسير قدرها عظيم أمرها من فتاوي إمام المفتين ورسول رب العالمين تكون روحا لهذا الكتاب ورقما على جلة هذا التأليف
فتاوي امام المفتين صلى الله عليه وسلم في العقيدة:
فصح عنه صلى الله عليه وسلم انه سئل عن رؤية المؤمنين ربهم تبارك وتعالى فقال: "هل تضارون في رؤية الشمس صحوا في الظهيرة ليس دونها سحاب" قالوا: لا فقال: "هل تضارون في رؤية القمر البدر صحوا ليس دونه سحاب" قالوا: لا قال: "فإنكم ترونه كذلك" متفق عليه
وسئل كيف نراه ونحن ملء الارض وهو احد فقال أنبئكم عن ذلك(10/293)
ص -267-…في آلاء الله الشمس والقمر آية منه صغيرة ترونهما ويريانكم ساعة واحدة لا تضارون في رؤيتهما ولعمر إلهك أقدر على ان يراكم وترونه ذكره احمد
وصح عنه صلى الله عليه وسلم انه سئل عن مسألة القدر وما يعمل الناس فيه أمر قد قضى وفرغ منه أم أمر يستأنف فقال بل أمر قد قضى وفرغ منه فسئل حينئذ ففيم العمل فأجاب بقوله اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة ومن كان من أهل الشقاوة فييسر لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} الى اخر الآيتين ذكره مسلم وصح عنه صلى الله عليه وسلم انه سئل عما يكتمه الناس في ضمائرهم هل يعلمه الله فقال نعم ذكره مسلم
وصح عنه صلى الله عليه وسلم انه سئل اين كان ربنا قبل ان تخلق السموات والارض فلم ينكر على السائل وقال كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء ذكره احمد
وصح عنه صلى الله عليه وسلم انه سئل عن مبدأ تخليق هذا العالم فأجاب بأن قال كان الله ولم يكن شئ غيره وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شئ ذكره البخاري
وصح عنه صلى الله عليه وسلم انه سئل اين يكون الناس يوم يبدل الارض فقال على الصراط وفي لفظ آخر هم في الظلمة دون الجسر فسئل من أول الناس إجازة فقال فقراء المهاجرين ذكره مسلم ولا تنافى بين الجوابين فإن الظلمة أول الصراط فهناك مبدأ التبديل وتمامه وهم على الصراط
وسئل صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} فقال: ذلك العرض ذكره مسلم(10/294)
ص -268-…وسئل صلى الله عليه وسلم عن أول طعام يأكله اهل الجنة فقال: "زيادة كبد الحوت" فسئل صلى الله عليه وسلم: ما غذاؤهم على أثره فقال: "ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها" فسئل صلى الله عليه وسلم ما شرابهم عليه فيها فقال: "من عين فيها تسمى سلسبيلا" ذكره مسلم
وسئل صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك فقال: "نور أنى أراه" ذكره مسلم فذكر الجوار ونبه على المانع من الرؤية وهو النور الذي هو حجاب الرب تعالى الذي لو كشفه لم يقم له شئ
وسئل صلى الله عليه وسلم يا رسول الله كيف يجمعنا ربنا بعد ما تمزقنا الرياح والبلى والسباع فقال للسائل أنبئك بمثل ذلك في آلاء الله الارض اشرفت عليها وهي مدرة بالية فقلت لا تحي أبدا ثم أرسل ربك عليها السماء فلم تلبث عليك إلا أياما ثم أشرفت عليها وهي شربة واحدة ولعمر إلهك إنك لهو أقدر على ان يجمعهم من الماء على ان يجمع نبات الارض ذكره احمد
وسئل صلى الله عليه وسلم يا رسول الله ما يفعل بنا ربنا إذا لقيناه فقال تعرضون بادية له صفحاتكم لا يخفى عليه خافية منكم فيأخذ ربك عز وجل بيده غرفة من الماء فينضح بها قلبكم فلعمر إلهك ما يخطى وجه واحد منكم منها قطرة فأما المسلم فتدع وجهه مثل الريطة البيضاء وأما الكافر فتحطمه بمثل الحميم الاسود ذكره احمد
وسئل صلى الله عليه وسلم بم نبصر وقد حبس الشمس والقمر فقال للسائل بمثل بصرك ساعتك هذه وذلك مع طلوع الشمس وذلك في يوم اشرقت فيه الارض ثم واجهته الجبال فسئل صلى الله عليه وسلم بم نجزي من حسناتنا وسيئاتنا فقال الحسنة بعشرة أمثالها والسيئة بمثلها أويعفو فسئل صلى الله عليه وسلم على ماء يطلع من الجنة فقال على انهار من عسل مصفى وانهار(10/295)
ص -269-…من كأس ما بها من صداع ولاندامة وانهار من لبن لم يتغير طعمه وماء غير آسن وفاكهة لعمر إلهك مما تعلمون وخير من مثله معه وأزواج مطهرة فسئل صلى الله عليه وسلم ألنا فيها ازواج فقال الصالحات للصالحين تلذونهن مثل لذاتكم في الدنيا ويلذونكم غير ان لا توالد ذكره احمد
وسئل صلى الله عليه وسلم عن كيفية إتيان الوحي اليه فقال: "يأتيني أحيانا مثل صلصلة الجرس وهو أشده على فيفصم عنى وقد وعيت ما قال وأحيانا يتمثل لى الملك رجلا" متفق عليه
وسئل صلى الله عليه وسلم عن شبه الولد بأبيه تارة وبأمه تارة فقال إذا سبق ماء الرجل ماء المرأة كان الشبه له وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل فالشبه لها متفق عليه
وأما ما رواه مسلم في صحيحه انه قال إذا علا ماء الرجل ماء المرأة أذكر الرجل بإذن الله وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل انت بإذن الله فكان شيخنا يتوقف في كون هذا اللفظ محفوظا ويقول المحفوظ هو اللفظ الاول والاذكار والإيناث ليس له سبب طبيعي وإنما هو بأمر الرب تبارك وتعالى للملك ان يخلقه كما يشاء ولهذا جعل مع الرزق والاجل والسعادة والشقاوة
قلت: فإن كان هذا اللفظ محفوظا فلا تنافى بينه وبين اللفظ الاول ويكون سبق الماء سببا للشبه وعلوه على ماء الآخر سببا للإذكار والإيناث والله أعلم.
وسئل صلى الله عليه وسلم عن اهل الدار من المشركين يبيتون فيصاب من ذراريهم ونسائهم فقال هم منهم حديث صحيح ومراده صلى الله عليه وسلم بكونهم منهم التبعية في أحكام الدنيا وعدم الضمان لا التبعية في عقاب الآخرة فإن الله تعالى لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه(10/296)
ص -270-…وسئل صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} فقال إنما إنما هو جبريل عليه السلام لم أره على صورته التي خلق عليها هاتين المرتين ذكره مسلم
ولما نزل قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} سئل صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أيتكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب فقال نعم ليكررن عليكم حتى تؤدوا إلى كل ذي حق حقه فقال الزبير: "والله إن الامر لشديد"
وسئل صلى الله عليه وسلم كيف يحشر الكافر على وجهه فقال أليس الذي أمشاه في الدنيا على رجليه قادر أن يمشيه في الاخرة على وجهه
وسئل صلى الله عليه وسلم هل تذكرون أهاليكم يوم القيامة فقال أما في ثلاث مواطن فلا يذكر أحد أحدا حيث يوضع الميزان حتى يعلم أيثقل ميزانه ام يخف وحيث يتطاير الكتب حتى يعلم كتابه من يمينه أومن شماله أومن وراء ظهره وحيث يوضع الصراط على جسر جهنم على حافتيه كلاليب وحسك يحبس الله به من يشاء من خلقه حتى يعلم أينجو أم لا ينجو
وسئل صلى الله عليه وسلم يا رسول الله الرجل يحب القوم ولما يعمل بأعمالهم فقال: "المرء مع من أحب"
وسئل صلى الله عليه وسلم عن الكوثر فقال: "هو نهر أعطانيه ربي في الجنة هو أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل فيه طيور أعناقها كأعناق الجزر قيل يا رسول الله إنها لناعمة" قال: "آكلها أنعم منها"
وسئل صلى الله عليه وسلم عن اكثر ما يدخل الناس النار فقال الاجوفان الفم والفرج وعن أكثر ما يدخلهم الجنة فقال: "تقوى الله وحسن الخلق(10/297)
ص -271-…وسئل صلى الله عليه وسلم عن المرأة تتزوج الرجلين والثلاثة مع من تكون يوم القيامة فقال: "تخير فتكون مع احسنهم خلقا"
وسئل صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم فقال: "أن تجعل لله ندا وهو خلقك قيل ثم ماذا قال أن تقتل ولدك خشية ان يطعم معك قيل ثم ماذا قال ان تزني بحليلة جارك"
وسئل صلى الله عليه وسلم أي الاعمال احب الى الله فقال: "الصلاة على وقتها وفي لفظ لاول وقتها قيل ثم ماذا قال الجهاد في سبيل الله قيل ثم ماذا قال بر الوالدين"
وسئل صلى الله عليه وسلم عن قوله: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} وبين عيسى وموسى عليهما السلام ما بينهما فقال: "كانوا يسمون بأنبيائهم وبالصالحين قبلهم"
وسئل صلى الله عليه وسلم عن أول أشراط الساعة فقال: "نار تحشر الناس من المشرق الى المغرب" وهذه إحدى مسائل عبد الله بن سلام الثلاث والمسألة الثانية ما أول طعام يأكله أهل الجنة والثالثة سبب شبه الولد بأبيه وأمه فولدها الكاذبون وجعلوها كتابا مستقلا سموه مسائل عبد الله بن سلام وهي هذه الثلاثة في صحيح البخاري
وسئل صلى الله عليه وسلم عن الاسلام فقال شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت
وسئل صلى الله عليه وسلم عن الايمان فقال "ان تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت".
وسئل صلى الله عليه وسلم عن الاحسان فقال "ان تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك".(10/298)
ص -272-…وسئل صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} فقال هم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون ويخافون ان لا يقبل منهم
وسئل صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية فقال إن الله تعالى خلق آدم ثم مسح على ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح على ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل اهل النار يعملون فقال رجل يا رسول الله ففيم العمل فقال إن الله إذ خلق العبد للجنة استعمله بعمل اهل الجنة حتى يموت على عمل من اعمال اهل الجنة فيدخله الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل اهل النار حتى يموت على عمل من أعمال اهل النار فيدخل النار
وسئل صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} فقال بل ايتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأى برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العوام
وسئل صلى الله عليه وسلم عن الادوية والرقى هل ترد من القدر شيئا فقال هي من القدر
وسئل صلى الله عليه وسلم عمن يموت من أطفال المشركين فقال الله أعلم بما كانوا عاملين وليس هذا قولا بالتوقف كما ظنه بعضهم ولا قول بمجازاة الله لهم على ما يعلمه منهم أنهم عاملوه لو كانوا عاشوا بل هو جواب فصل وأن الله يعلم ما هم عاملوه وسيجازيهم على معلومه فيهم بما يظهر منهم يوم القيامة لا على مجرد علمه كما صرحت به سائر الاحاديث واتفق عليه(10/299)
ص -273-…أهل الحديث انهم يمتحنون يوم القيامة فمن أطاع دخل الجنة ومن عصى دخل النار
وسئل صلى الله عليه وسلم عن سبأ هل هو أرض أم امرأة فقال ليس بأرض ولا امرأة ولكنه رجل ولد عشرة من العرب فتيامن منهم ستة وتشاءم منهم أربعة فأما الذين تشاءموا فلخم وجذام وغسان وعاملة وأما الذين تيامنوا فالازد والاشعريون وحمير وكندة ومذحج وأنمار فقال رجل يا رسول الله وما أنما فقال الذين منهم خثعم وبجيلة
وسئل عن قوله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} فقال صلى الله عليه وسلم "هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أوترى له" وسئل عن افضل الرقاب يعنى في العتق فقال انفسها عند اهلها وأغلاها ثمنا وسئل صلى الله عليه وسلم عن افضل الجهاد فقال من عقر جواده وأريق دمه
وسئل صلى الله عليه وسلم عن افضل الصدقة فقال "ان تتصدق وانت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى" وسئل صلى الله عليه وسلم أي الكلام افضل فقال "ما اصطفى الله الملائكة سبحان الله وبحمده"
وسئل صلى الله عليه وسلم متى وجبت لك النبوة وفي لفظ متى كنت نبيا فقال وآدم بين الروح والجسد هذا هو اللفظ الصحيح والعوام يروونه بين الماء والطين قال شيخنا وهذا باطل وليس بين الماء والطين مرتبة واللفظ المعروف ما ذكرنا
وذكر الامام احمد في مسنده ان اعرابيا ساله يا رسول الله اخبرني عن الهجرة اليك أينما كنت أم لقوم خاصة ام الى ارض معلومة ام إذا مت انقطعت فسأل ثلاث مرات ثم جلس فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم(10/300)
ص -274-…يسيرا ثم قال اين السائل قال ها هو ذا حاضر يا رسول الله قال الهجرة ان تهجر الفواحش ما ظهر منها وما بطن وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة ثم أنت مهاجر وإن مت في الحضر فقام آخر فقال يا رسول الله أخبرني عن ثياب أهل الجنة أتخلق خلقا ام تنسج نسجاص قال فضحك القوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تضحكون من جاهل يسأل عالما فاستلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة ثم قال اين السائل عن ثياب اهل الجنة فقال ها هو ذا يا رسول الله قال لا بل تنشق عنها ثمار الجنة ثلاث مرات
وسئل صلى الله عليه وسلم انفضى الى نسائنا في الجنة وفي لفظ آخر هل نصل الى نسائنا في الجنة فقال "إي والذي نفسي بيده إن الرجل ليفضي في الغداة الواحدة الى مائة عذراء" قال الحافظ ابو عبد الله المقدسي رجال إسناده عندي على شرط الصحيح
وسئل أنطأ في الجنة فقال نعم والذي نفسي بيده دحما دحما فإذا قام عنها رجعت مطهرة بكرا ورجال إسناده على شرط صحيح ابن حبان
وفي معجم الطبراني انه سئل هل يتناكح اهل الجنة فقال بذكر لا يميل وشهوة لا تنقطع دحما دحما
قال الجوهري: الدخك الدفع الشديد
وفيه ايضا انه سئل صلى الله عليه وسلم أيجامع اهل الجنة فقال: "دحما دحما ولكن لا منى ولا منية"
وسئل صلى الله عليه وسلم أينام اهل الجنة فقال: "النوم أخو الموت وأهل الجنة لا ينامون"
وسئل صلى الله عليه وسلم هل في الجنة خيل فقال "إن دخلت الجنة أتيت بفرس من ياقوتة له جناحان فحملت عليه فطار بك في الجنة حيث شئت"(10/301)
ص -275-…(10/302)
ص -276-…وسئل صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} اين الناس يؤمئذ قال على جسر جهنم
وسئل عن الايمان فقال إذا سرتك حسناتك وساءتك سيئاتك فأنت مؤمن
وسئل عن الإثم فقال إذا حاك في قلبك شئ فدعه
وسئل عن البر والاثم فقال البر ما اطمأن اليه القلب واطمأنت اليه النفس والاثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر
وسأله عمر هل نعمل في شئ نستأنفه ام في شئ قد فرغ منه قال بل في شئ قد فرغ منه قال ففيم العمل قال يا عمر لا يدرك ذلك إلا بالعمل قال إذا نجتهد يا رسول الله
وكذلك سأله سراقة بن مالك بن جعشم فقال يا رسول الله اخبرنا عن امرنا كأننا ننظر اليه أبما جرت به الاقلام وثبتت به المقادير أم بما يستأنف فقال لا بل بما جرت به الاقلام وثبتت به المقادير قال ففيم العمل إذا قال اعملو فكل ميسر قال سراقة فلا أكون ابدا أشد اجتهادا في العمل منى الان
فصل: فتاوي إمام المفتين صلى الله عليه وسلم في الطهارة:
وسئل صلى الله عليه وسلم عن الوضوء بماء البحر فقال هو الطهور ماؤه والحل ميتته
وسئل صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من بئر بضاعة وهي بئر يلقى فيها الحيض والنتن ولحوم الكلاب فقال: "الماء طهور لا ينجسه شئ"
وسئل صلى الله عليه وسلم عن الماء يكون بالفلاة وما ينوبه من الدواب والسباع فقال: "إذا كان الماء فلتين لم ينجسه شئ"(10/303)
ص -277-…وسأله ابو ثعلبة فقال إنا بأرض قوم أهل كتاب وإنهم يأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمر فكيف نصنع بآنيتهم وقدورهم فقال إن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء واطبخوا فيها واشربوا
وفي الصحيحين إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنا كل في آنيتهم قال لا تأكلوا فيها إلا ان لا تجدوا غيرها فاغسلوها ثم كلوا فيها
وفي المسند والسنن أفتنا في آنية المجوس إذا اضطررنا اليها فقال إذا اضطررتم اليها فاغسلوها بالماء واطبخوا فيها
وفي الترمذي سئل عن قدور المجوس فقال أنقوها غسلا واطبخوا فيها
وسئل صلى الله عليه وسلم عن الرجل يخيل اليه انه يجد الشئ في الصلاة فقال لا ينصرف حتى يسمع صوتا أويجد ريحا
وسئل صلى الله عليه وسلم عن المذى قال يجزئ منه الوضوء فقال له السائل فكيف بما أصاب ثوبي منه فقال يكيفك ان تأخذ كفا من ماء فتنضح به ثوبك حيث ترى انه أصاب منه صححه الترمذي
وسئل صلى الله عليه وسلم عما يوجب الغسل وعن الماء يكون بعد الماء فقال ذاك المذى وكل فحل يمذى فتغسل من ذلك فرجك وأنثييك وتوضأ وضوءك للصلاة
وسألته فاطمة بنت ابي حبيش فقالت إني امرأة استحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة فقال لا إنما ذلك عرق وليس بحيضة فإذا أقبلت حيضتك فدعى الصلاة فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي
وسئل عنها ايضا فقال النبي صلى الله عليه وسلم "تدع الصلاة أيام أقرائها التي كانت تحيض فيها ثم تغتسل وتتوضأ عند كل صلاة وتصوم وتصلي"(10/304)
ص -278-…وسئل صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من لحوم الغنم فقال إن "شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ"
وسئل صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من لحوم الابل فقال "نعم توضأ من لحوم الابل"
وسئل صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في مرابض الغنم فقال "نعم صلوا فيها"
وسئل صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في مبارك الابل فقال لا وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال يا رسول الله ما تقول في رجل لقى امرأة لا يعرفها فليس يأتى الرجل من امرأته شئ إلا قد أتاه منها غير أنه لم يجامعها فأنزل الله تعالى هذه الاية: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "توضأ ثم صل" فقال معاذ: فقلت يا رسول الله أله خاصة أم للمؤمنين عامة قال بل للمؤمنين عامة
وسألته أم سليم فقالت يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم إذا رأت الماء فقالت ام سلمة أوتحتلم المرأة فقال تربت يداك فيم يشبهها ولدها وفي لفظ ان ام سليم سألت نبي الله صلى الله عليه وسلم عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأت المرأة ذلك فلتغتسل
وفي المسند ان خولة بنت حكيم سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل فقال ليس عليها غسل حتى تنزل كما أن الرجل ليس عليه غسل حتى ينزل
وساله أمير المؤمنين علي بن ابي طالب كرم الله وجهه عن المذي فقال من المذي الوضوء ومن المني الغسل وفي لفظ إذ رأيت المذي فتوضأ واغسل(10/305)
ص -279-…ذكرك وإذا رأيت نضح الماء فاغتسل ذكره احمد
وسئل صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاما فقال يغتسل وعن الرجل يرى انه قد احتلم ولم يجد البلل فقال لا غسل عليه ذكره احمد
وسئل صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل وعائشة جالسة فقال إنى أفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل ذكره مسلم
وسألته ام سلمة فقالت يا رسول الله إني امرأة اشد ضفر رأسي أفأنقضه بغسل الجنابة فقال لا إنما يكفيك ان تحثى على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء ذكره مسلم وعند ابي داود واغمري قرونك عند كل حفنة
وسأله صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت يا رسول الله إن لنا طريقا الى المسجد منتنة فكيف نفعل إذا مطرنا ققال أليس بعد طريق هي أطيب منها قلت بلى يا رسول الله قال هذه بهذه وفي لفظ أليس بعده ما هو أطيب منه قلت بلى قال فإن هذا يذهب بذاك ذكره أحمد
وسئل صلى الله عليه وسلم فقيل له إنا نريد المسجد فنطأ الطريق النجسة فقال الارض يطهر بعضها بعضا ذكره ابن ماجة
وسألته صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيضة كيف تصنع به فقال تحته ثم تقرضه بالماء ثم تنضحه ثم تصلي فيه متفق عليه وسئل صلى الله عليه وسلم عن فأرة وقعت في سمن فقال ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم ذكره البخاري ولم يصح فيه التفصيل بين الجامد والمائع(10/306)
ص -280-…وسألته صلى الله عليه وسلم ميمونة عن شاة ماتت فألقوا إهابها فقال هلا أخذتم مسكها فقالت نأخذ مسك شاة قد ماتت فقال لها صلى الله عليه وسلم إنما قال تعالى: { قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ } وإنكم لا تطعمونه إن تدبغوه تنتفعو به فأرسلت اليها فسلخت مسكها فدبغته فاتخذت منه قربة حتى تخرقت عندها ذكره احمد
وسئل صلى الله عليه وسلم عن جلود الميتة فقال "ذكاؤها دباغها" ذكره النسائي
وسئل صلى الله عليه وسلم عن الاسصتطابة فقال "أولا يجد أحدكم ثلاثة احجار حجران للصفحتين وحجر للمسر به" حديث حسن وعند مالك مرسلا أولا يجد احدكم ثلاثة احجار ولم يزد
وساله سراقة عن التغوط فأمره ان يتنكب القبلة ولا يستقبلها ولا يستدبرها ولا يستقبل الريح وان يستنجي بثلاثة احجار ليس فيها رجيع أوثلاثة اعواد أوبثلاث حثيات من تراب ذكره الدارقطني
وسئل صلى الله عليه وسلم عن الوضوء فقال اسبغ الوضوء وخلل بين الاصابع وبالغ في الاستنشاق إلا إن تكون صائما ذكره ابو داود
وسأله صلى الله عليه وسلم عمرو بن عنبسة فقال كيف الوضوء قال أما الوضوء فإنك إذا توضأت فغسلت كفيك فأنقيتهما خرجت خطاياك من بين أظافرك وأناملك فإذا تمضمضت واستنشقت وغسلت وجهك ويديك الى المرفقين ومسحت رأسك وغسلت رجليك اغتسلت من عامة خطاياك كيوم ولدتك امك ذكره النسائي
وسأله صلى الله عليه وسلم أعرابي عن الوضوء فأراه ثلاثا ثلاثا ثم قال هكذا الوضوء فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم ذكره احمد(10/307)
ص -281-…وسأل النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال يا رسول الله الرجل منا يكون في الصلاة فيكون منه الرويحة ويكون في الماء قلة فقال إذا فسا أحدكم فليتوضأ ولا تأتوا النساء في أعجازهن فإن الله لا يستحي من الحق ذكره الترمذي
وسئل صلى الله عليه وسلم عن المسح على الخفين فقال للمسافر ثلاثة ايام وللمقيم يوما وليلة
وسأله صلى الله عليه وسلم ابن ابي عمارة فقال يا رسول الله امسح على الخفين فقال نعم قال يوما قال ويومين قال وثلاثة ايام قال نعم وما شئت ذكره ابو داود فطائفة من أهل العلم أخذت بظاهره وجوزوا المسح بلا توقيت وطائفة قالت هذا مطلق وأحاديث التوقيت مقيدة والمقيد يقضى على المطلق
وسأله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال اكون في الرمل أربعة اشهر أوخمسة أشهر ويكون فينا النفساء والحائض والجنب فما ترى قال عليك بالتراب ذكره احمد
وسأله صلى الله عليه وسلم أبو ذر إني أغرب عن الماء ومعي أهلي فتصيبني الجنابة فقال إن الصعيد الطيب طهور ما لم تجد الماء عشر حجج فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك حديث حسن
وسأله صلى الله عليه وسلم امير المؤمنين علي ابن ابي طالب كرم الله وجهه فقال انكسرت إحدى زندي فأمره ان يمسح على الجبائر ذكره ابن ماجة
وقال ثوبان استفتوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الغسل من الجنابة فقال اما الرجل فلينشر راسه فليغسله حتى يبلغ أصول الشعر وأما المرأة فلا عليها ان لا تنقضه لتغرف على رأسها ثلاث غرفات تكفيها ذكره ابو داود(10/308)
ص -282-…وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال إني أغتسلت من الجنابة وصليت الصبح ثم أصبحت فرأيت قدر موضع الظفر لم يصبه ماء فقال لو كنت مسحت عليه بيدك أجزاك ذكره ابن ماجه
وسألته صلى الله عليه وسلم امرأة عن الحيض فقال تأخذ إحداكن ماءها وسدرها فتطهر فتحسن الطهور تم تصب على رأسها فتدلكه دلكا شديدا حتى تبلغ شئون رأسها ثم تصب عليها الماء ثم تأخذ فرصة ممسكة فتطهر بها
وسألته صلى الله عليه وسلم عن غسل الجنابة فقال تأخذ ماء فتطهر فتحسن الطهور ثم تصب الماء على رأسها فتدلكه حتى يبلغ شئون رأسها ثم تفيض الماء عليها
وسأله صلى الله عليه وسلم رجل ما يحل لي من امرأتي وهي حائض فقال تشد عليها إزارها ثم شأنك بأعلاها ذكره مالك
وسئل صلى الله عليه وسلم عن مؤاكلة الحائض فقال واكلها ذكره الترمذي وسئل صلى الله عليه وسلم كم تجلس النفساء فقال تجلس اربعين يوما إلا ان ترى الطهر قبل ذلك ذكره الدارقطني
فتاوي إمام المفتين صلى الله عليه وسلم في الصلاة:
وسأله صلى الله عليه وسلم ثوبان عن أحب الاعمال الى الله تعالى فقال عليك بكثرة السجود لله عزوجل فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط بها عنك خطيئة ذكره مسلم وسأله عبد الله بن سعد أيما أفضل الصلاة في بيتي أوالصلاة في المسجد فقال ألا ترى الى بيتي ما أقربه من المسجد فلأن أصلي في بيتي أحب الى(10/309)
ص -283-…من ان أصلي في المسجد إلا ان تكون صلاة مكتوبة ذكره ابن ماجة
وسئل صلى الله عليه وسلم عن صلاة الرجل في بيته فقال نوروا بيوتكم ذكره ابن ماجه
وسئل صلى الله عليه وسلم متى يصلي الصبي فقال إذا عرف يمينه من شماله فمروه بالصلاة
وسئل صلى الله عليه وسلم عن قتل رجل مخنث يتشبه بالنساء فقال إنى نهيت عن قتل المصلين ذكره ابو داود
وسئل صلى الله عليه وسلم عن وقت الصلاة فقال للسائل صل معنا هذين اليومين فلما زالت الشمس أمر بلالا فأذن ثم أمره فأقام الظهر ثم أمره فأقام العصر والشمس مرتفعة بيضاء نقية ثم امره فأقام المغرب حتى غابت الشمس ثم امره فأقام العشاء حين غاب الشفق ثم امره فأقام الفجر حين طلع الفجر فلما كان اليوم الثاني امره فأبرد بالظهر وصلى العصر والشمس مرتفعة أخرها فوق الذي كان وصلى المغرب قبل ان يغيب الشفق وصلى العشاء بعد ما ذهب ثلث الليل وصلى الفجر فأسفر بها ثم قال أين السائل عن وقت الصلاة فقال الرجل انا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال وقت صلاتكم ما رأيتم ذكره مسلم
وسئل صلى الله عليه وسلم هل من ساعة أقرب الى الله من الاخرى قال نعم أقرب ما يكون الرب عزوجل من العبد جوف الليل الاخر فإن استطعت ان تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن
وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة الوسطى فقال هي صلاة العصر وسئل صلى الله عليه وسلم هل في ساعات الليل والنهار ساعة تكره الصلاة فيها فقال نعم إذا صليت الصبح فدع الصلاة حتى تطلع الشمس(10/310)
ص -284-…فإنها تطلع بين قرني شيطان ثم صل فإن الصلاة محضورة متقبلة حتى تستوي الشمس على رأسك كالرمح فدع الصلاة فإن تلك الساعة تسجر جهنم وتفتح فيها أبوابها حتى ترتفع الشمس عن حاجبك الايمن فإذا زالت الشمس فالصلاة محضورة متقبلة حتى تصلى العصر ثم دع الصلاة حتى تغيب الشمس ذكره ابن ماجه وفيه دليل على تعلق النهي بفعل صلاة الصبح لا بوقتها
وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال لا أستطيع أن آخذ شيئاص من القرآن فعلمني ما يجزيني فقال قل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله اكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله فقال يا رسول الله هذا لله فما لي فقال قل اللهم ارحمني وعافني واهدني وارزقني فقال بيده هكذا وقبضها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما هذا فقد ملأ يديه من الخير ذكره أوداود
وسأله صلى الله عليه وسلم عمران بن حصين وكان به بواسير عن الصلاة فقال صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنبك ذكره البخاري
وسأله صلى الله عليه وسلم رجل أقرأ خلف الامام أو انصت قال بل أنصت فإنه يكفيك ذكره الدارقطني
وسأله صلى الله عليه وسلم حطان فقال يا رسول الله إنا لا نزال سفرا فكيف نصنع بالصلاة فقال ثلاث تسبيحات ركوعا وثلاث تسبيحات سجودا ذكره الشافعي مرسلا
وسأله صلى الله عليه وسلم عثمان بن ابي العاص فقال يا رسول الله إن الشيطان قد حال بين صلاتي وبين قراءتي يلبسها على فقال ذاك شيطان يقال هل خترب فإذا أحسسته فتعوذ بالله واتفل على يسارك ثلاثا قال ففعلت ذلك فأذهبه الله ذكره مسلم(10/311)
ص -285-…وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال أصلي في ثوبي الذي أتى فيه أهلي قال نعم إلا ان ترى فيه شيئا فتغسله
وسأله صلى الله عليه وسلم معاوية بن حيدة يا رسول الله عوراتنا ما نأتى منها وما نذر قال احفظ عورتك إلا من زوجتك أوما ملكت يمينك قال قلت يا رسول الله الرجل يكون مع الرجل قال إن استطعت أن لا يراها أحد فافعل قلت فالرجل يكون خاليا قال الله أحق ان يستحيا منها ذكره احمد
وسئل صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في الثوب الواحد قال أوكلكم يجد ثوبين متفق عليه
وسأله صلى الله عليه وسلم سلمة بن الاكوع يا رسول الله إني اكون في الصيد فأصل وليس على إلا قميص واحد فقال فازرره وإن لم تجد إلا شوكة ذكره احمد وعند النسائي إنى اكون في الصيف وليس على إلا قميص
وسأله صلى الله عليه وسلم رجل يا رسول الله أصلي في الفراء قال فأين الدباغ وسئل صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في القوس والقرن فقال اطرح القرن وصلى في القوس ذكره الدارقطني والقرن بالتحريك الجعبة
وسألته ام سلمة هل تصلي المرأة في درع وخمار وليس عليها إزار فقال إذا كان الدرع سابلا يغطي ظهر قدميها ذكره ابو داود
وسأله صلى الله عليه وسلم ابو ذر عن اول مسجد وضع في الارض قال المسجد الحرام فقال ثم أي قال المسجد الاقصى فقال كم بينهما قال اربعون عاما ثم الارض لك مسجد حيث أدركتك الصلاة فصل متفق عليه
وذكر الحاكم في مستدركه ان جعفر بن ابي طالب سأله عن الصلاة في السفينة فقال صل فيها قائما إلا ان تخاف الغرق
وسئل صلى الله عليه وسلم عن مسح الحصى في الصلاة فقال واحدة أودع(10/312)
ص -286-…وسأله صلى الله عليه وسلم جابر عن ذلك فقال واحدة ولان تمسك عنها خير لك من مائة ناقة كلها سواد الحدق فقلت المسجد كان مفروشا بالحصباء فكان أحدهم يمسحه بيديه لموضع سجوده فرخص النبي في مسحه واحدة وندبهم الى تركها والحديث في المسند
وسئل صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد
وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال يصلي أحدنا في منزله الصلاة ثم يأتى المسجد وتقام الصلاة أفأصلي معهم فقال لك سهم جمع ذكره ابو داود وسأله صلى الله عليه وسلم ابو ذر عن الكلب الاسود يقطع الصلاة دون الاحمر والاضفر فقال الكلب الاسود شيطان
وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال يا رسول الله إنى صليت فلم أدر أشفعت أوأوترت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إياكم ان يتلعب بكم الشيطان في صلاتكم من صلى فلم يدر اشفع ام اوتر فليسجد سجدتين فإنهما تمام صلاته ذكره احمد
وسئل صلى الله عليه وسلم لأي شئ فضلت يوم الجمعة فقال لان فيها طبعت طينة ابيك آدم وفيها الصعقة والبعثة وفيها البطشة وفي آخر ثلاث ساعات منها ساعة من دعا الله فيها استجيب له وسئل ايضا عن ساعة الاجابة فقال حين تقام الصلاة الى الانصراف منها ولا تنافي بين الحديثين لأن ساعة الاجابة وإن كانت آخر ساعة بعد العصر فالساعة التي تقام فيها الصلاة أولى ان تكون ساعة الاجابة كما ان المسجد الذي اسس على التقوى هو مسجد قباء ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم اولى بذلك منه وهو اولى من جمع بينهما بتنقلها فتأمل
وسئل صلى الله عليه وسلم يا رسول الله اخبرنا عن يوم الجمعة ما فيه من الخير فقال فيه خمس خلال فيه خلق آدم وفيه أهبط آدم الى(10/313)
ص -287-…الارض وفيه توفي الله آدم وفيه ساعة لا يسأل الله العبد فيها شيئا إلا اعطاه إياه ما لم يسأل إثما أوقطيعة رحم وفيه تقوم الساعة فما من ملك مقرب ولا سماء ولا أرض ولا جبال ولا حجر إلا وهو مشفق من يوم الجمعة ذكره احمد والشافعي
وسئل صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل فقال مثنى مثنى فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة متفق عليه
وسأله أبو أمامة بكم أوتر قال بواحدة قال إني أطيق اكثر من ذلك قال ثلاث ثم قال بخمس ثم قال بسبع وفي الترمذي انه سئل عن الشفع والوتر هي الصلاة بعضها شفع وبعضها وتر وفي سنن الدارقطني ان رجلا سأله عن الوتر فقال افصل بين الواحدة والثنتين بالسلام
وسئل صلى الله عليه وسلم أي الصلاة افضل قال طول القنوت ذكره احمد
وسئل أي القيام أفضل قال نصف الليل وقليل فاعله
وسئل صلى الله عليه وسلم هل من ساعة اقرب الى الله من الاخرى قال نعم جوف الليل الاوسط ذكره النسائي
فصل: فتاوي إمام المفتين صلى الله عليه وسلم في الموت
وسئل صلى الله عليه وسلم عن موت الفجاءة فقال راحة للمؤمن وأخذة أسف للفاجر ذكره احمد ولهذا لم يكره احمد موت الفجاءة في إحدى الروايتين عنه وقد روى عنه كراهتها وروى في مسنده ان رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بجدار أوحائط مائل فأسرع المشي فقيل له في ذلك فقال(10/314)
ص -288-…إني اكره موت الفوات ولا تنافي بين الحديثين فتأمله
وسئل تمر بنا جنازة الكافر أفنقوم لها قال نعم إنكم لستم تقومون لها إنما تقومون إعظاما للذي يقبض النفوس ذكره احمد وقام لجنازة يهودية فسئل عن ذلك فقال إن للموت فزعا فإذا رأيتم جنازة فقوموا
وسئل عن امرأة اوصت ان يعتق عنها رقبة مؤمنة فدعا بالرقبة فقال من ربك قالت الله قال من انا قالت رسول الله قال أعتقها فإنها مؤمنه ذكره ابو داود
وسأله صلى الله عليه وسلم عمر رضى الله عنه هل ترد إلبنا عقولنا في القبر وقت السؤال فقال نعم كهيئتكم اليوم ذكره احمد
وسئل عن عذاب القبر فقال نعم عذاب القبر حق
فصل فتاوي إمام المفتين صلى الله عليه وسلم في الزكاة
وسئل صلى الله عليه وسلم عن صدقة الابل فقال ما من صاحب إبل لا يؤدي حقها ومن حقها حلبها يوم ورودها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر أوفر ما كانت لا يفقد منها فصيلا واحدا تطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها كلما مر عليه اولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين الف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما الى الجنة وإما الى النار
وسئل صلى الله عليه وسلم عن البقر فقال ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي حقها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها شيئا ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا عضباء تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها كلما مرت عليه أولاها(10/315)
ص -289-…رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين الف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما الى الجنة وإما الى النار
وسئل صلى الله عليه وسلم عن البقر فقال ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي حقها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها شيئا ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا عضباء تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها كلما مرت عليه أولاها
رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين الف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما الى الجنة وإما الى النار
وسئل صلى الله عليه وسلم عن الخيل فقال الخيل ثلاثة هي لرجل وزر ولرجل ستر ولرجل أجر فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله فأطال لما في مرج أوروضة فما أصابت في طيلها ذلك من المرج أوالروضة كانت له حسنات ولو أنه انقطع طيلها فاستنت شرفا أوشرفين كانت له آثارها وأرواثها حسنات ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد ان يسقيها كانت له حسنات فهى لذلك الرجل اجر ورجل ربطها تغنيا وتعففا ثم لم ينس حق الله في رقابها ولا في ظهورها فهى لذلك الرجل ستر ورجل ربطها فخرا ورياء ونواء لاهل الاسلام فهى على ذلك وزر
وسئل صلى الله عليه وسلم عن الحمر فقال ما أنزل على فيها إلا هذه الاية الجامعة الفاذة فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ذكره مسلم
وسألته صلى الله عليه وسلم ام سلمة فقالت إني البس أوضاحا من ذهب أكنز هو قال ما بلغ ان تؤدي زكاته فزكي فليس بكنز ذكره مالك وسئل صلى الله عليه وسلم أفي المال حق سوى الزكاة قال نعم ثم قرأ وآتى المال على حبة ذكره الدارقطني
وسألته صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت إن لي حليا وإن زوجي خفيف ذات اليد وإن لي ابن أخ أفيجزئ عني ان أجعل زكاة الحلي فيهم قال نعم(10/316)
وذكر ان ماجة ان ابا سيارة ساله فقال إن لي نخلا فقال اد العشر فقلت يا رسول الله احمها لي فحماها لي وسأله صلى الله عليه وسلم العباس عن تعجيل زكاته قبل ان يحول الحول فإذن له في ذلك ذكره احمد(10/317)
ص -290-…وسئل صلى الله عليه وسلم عن زكاة الفطر فقال هي على كل مسلم صغيرا أوكبيرا حرا أوعبدا صاعا من تمر أوصاعا من شعير أوأقط
وسأله صلى الله عليه وسلم أصحاب الاموال فقالوا إن أصحاب الصدقة يعتدون علينا أفنكتم من أموالنا بقدر ما يعتدون علينا قال لا ذكره ابو داود
وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال إنى ذو مال كثير وذو أهل وولد وحاضرة فأخبرني كيف انفق وكيف امنع فقال تخرج الزكاة من مالك فإنها طهرة تطهرك وتصل بها رحمك وأقاربك وتعرف حق السائل والجار والمسكين فقال يا رسول الله أقلل في قال فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا فقال حسبي وقال يا رسول الله إذا أديت الزكاة الى رسولك فقد برئت منها الى الله ورسوله قال رسول الله نعم اذا اديتها الى رسولي فقد برئت منها ولك أجرها وإثمها على من بدلها ذكره احمد
وسئل صلى الله عليه وسلم عن الصدقة على ابي رافع مولاه فقال إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة وإن مولى القوم من انفسهم ذكره احمد
وسأله صلى الله عليه وسلم عمر عن ارضه بخيبر واستفتاه ما يصنع فيها وقد اراد ان يتقرب بها الى الله فقال إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها ففعل وتصدق عبد الله بن زيد بحائط له فأتاه ابواه فقالا يا رسول الله إنها كانت قيم وجوهنا ولم يكن لنا مال غيره فدعا عبد الله فقال إن الله قد قبل منك صدقتك وردها على ابويك فتوارثاها بعد ذلك ذكره النسائي
وسئل صلى الله عليه وسلم أي الصدقة افضل فقال المنيحة ان يمنح أحدكم الدرهم أوظهر الدابة أولبن الشاة أولبن البقرة ذكره احمد
وسئل صلى الله عليه وسلم مرة عن هذه المسألة فقال جهد المقل وأبدأ بمن تعول ذكره ابو داود(10/318)
عنوان الكتاب:
الإبهاج في شرح المنهاج – الجزء الأول
تأليف:
تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي و ولده تاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي
756هـ
الناشر:
دار الكتب العلمية -بيروت
1416هـ - 1995 م(11/1)
ص -3-…بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم قال الشيخ الإمام العالم العلامة القدوة المحقق الحافظ شيخ الإسلام بقية العلماء الأعلام قدوة الأئمة آ آخر المجتهدين حجة الله على العالمين سيدنا ومولانا قاضي القضاة تقي الدين أبو الحسن علي بن عبد الكافي بن علي بن علي بن تمام بن سوار بن سوار بن مسوار الأنصاري الخزرجي الشافعي نضر الله وجهه قاضي القضاة بالشام المحروس.
قال رحمه الله تعالى الحمد لله الذي أسس بنيان دينه على أثبت قواعد وأعلى أعلام ملته فخضعت لها أعناق كل جاحد وأحكم أصول شريعته فأعيا تفريعها كل معاند ورفع قدر علمائها فعد كل واحد منهم بألف كما عد ألف من غيرهم بواحد أحمده على نعمه التي عمت كل صادر ووارد واعترف بالعجز عن شكره ولا يبلغ معشار عشره حمد كل حامد وأستغفره استغفار عبد في بحر الذنوب راكد لا يجد ملجأ من الله إلا إليه قد أحاطت به الشدائد وقعد له عدوه بالمراصد وسولت له نفسه بالمكايد وغلب عليه هواه الفاسد ونادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين وأنك أنت الإله الواحد وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له توحيدا أنا له في صميم القلب واجد وعليه في الدنيا والآخرة شاهد وأصفه بما وصف به نفسه من صفات الكمال والمحامد وأنزهه عن كل ما لا يليق بحاله وأقدس له عن وضر التشبيه والتعطيل ما تكنه القلوب من العقائد و أستودعه ذلك ليوم لا يجزى فيه ولد ولا والد وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي قدره على جميع الخلائق صاعد وشرفه بين البرية ناهد المصطفى من خير القبائل الأماجد والمجتبى من خير البطون الأقارب والأباعد المبرأ في نسبه(11/2)
ص -4-…وذاته عن كل شين يتعلق به حاسد المقدم على الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين في جميع المشاهد والمبعوث إلى كل إنسي وجني والمنقذ لهم من ربقة الشيطان المارد الهادي إلى سبيل الرشاد ولولاه لم يكن أحد منا براشد.
صلى الله عليه وسلم ما سجد لله ساجد ودام في الجنان خالد ورضي الله على أصحابه الذين كل منهم في الله جاهد مجاهد وحامي حوزة الدين من كل مارق في الدين مجالد الذين قاموا بجلالة نبيه في جميع المعاهد وشيدوا أركان دينه وحفظوا شرائعه في جميع المصادر والموارد وقاموا بأعباء الملة الحنيفية وذبوا عنها كل زائد وحموا حماها عن الشبهات ووقفوا عند حدودها تحصيلا للمصالح ودرأ للمفاسد رضي الله عنهم أجمعين وعن جميع علماء المسلمين الذين خلفوا الصحابة والتابعين في تمهيد القواعد واستخراج الفوائد وضبط الأصول الشوارد وتبيين الأدلة والمقاصد والتوسع في علوم القرآن التي يتيه في بحارها كل عالم ناقد ومعرفة السنة ولا يخطئ بعضها إلا من هو أسهد الليل مكايد.
وقد تجرد لذلك في المائة الثانية جماعة من العلماء ما منهم إلا من جاهد وجاهد وكد ودأب ونصب واجتهد والله لسعيه شاهد وكان من أعظمهم منة على من بعده من طلاب الفوائد الإمام الشافعي رضي الله عنه فإن له أجمل العوائد لجمعه بين الحديث والفقه وكان غيره يقتصر منهما على واحد ولبناية كلامه على أصول هو أول من صنفها لما سأله ابن مهدي فصنف له الرسالة وكم فيها من الفوائد فهو أول من صنف في أصول الفقه لا يمتري في ذلك إلا معاند1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(11/3)
1 من المسلم به أن أصول الفقه باعتباره قواعد ونظريات وكيفية استنباط الأحكام من الأدلة بوجه عام، نشأ في عصر الصحابة –رضي الله عنهم- حيث كان مصاحباً للفقه، فإن من الصحابة من كان يتصدر للفتيا والقضاء بين الناس، كعمر بن الخطاب، وابن مسعود، وعلي بن أبي طالب وغيرهم، وكانوا على دراية تامة بقواعد اللغة العربية، التي نزل بها القرآن الكريم، وبأسباب النزول، وبالناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيد، والعام والخاص، وسائر المباحث التي تكفل ببيانها علم "أصول الفقه" فيما بعد. وهكذا كان لكل إمام من الأئمة المجتهدين قواعده وأصوله التي يسير عليها في اجتهاده، إلا أنه كان هناك خلاف حاد بين اتجاه أهل الحديث بالحجاز، وأهل الرأي=(11/4)
ص -5-…..................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
=بالعراق، حتى أخذ كل فريق في الطعن على طريقة الفريق الآخر، فأهل الرأي يعيبون على أهل الحديث الإكثار من الرواية التي تدل على عدم الفهم والتدبر، كما أن أهل الحديث يعيبون على أهل الرأي بأنهم يأخذون في دينهم بالظن ويحكمون العقل في الدين.
وظهر المتعصبون لكلا الفريقين، فاتسع الخلاف واحتدم النزاع، حتى قيض الله لهذا الأمة من أخذ بيدها إلى الطريق السوي، ويبين القواعد القوانين التي يحتكم إليها الجميع، وهو الإمام الشافعي رضي الله عنه –بعد أن كتب له الإمام الحافظ عبد الرحمن بن مهدي المتوفى سنة 198هـ. وهو أحد أئمة الحديث في الحجاز، أرسل إلى الإمام الشافعي أن يضع له كتاباً يبين فيه معاني القرآن، ويجمع قبول الأخبار فيه، وحجة الإجماع، وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة، فوضع له كتاب "الرسالة".
= قال علي بن المديني: قلت لمحمد بن إدريس: أجب عبد الرحمن بن مهدي عن كتابه، فقد كتب إليك وهو متشوق إلى جوابك، قال: فأجابه الشافعي. وأرسل الكتاب إلى الإمام ابن مهدي مع الحارث بن سريج النقال الخوارزمي، ثم البغدادي وبسبب ذلك سمي النقال.
وعلى ذلك يتبين عدم صحة ما ينقله بعض العلماء من أن هناك من سبق الإمام الشافعي في التأليف في علم الأصول، كالإمام محمد الباقر بن علي زين العابدين، المتوفى سنة 114هـ. وكالإمامين أبي يوسف، ومحمد بن الحسن صاحبي أبي حنيفة رضي الله تعالى عنهم. فإن هذا من قبيل القواعد والمناهج التي كان يسير عليها الأئمة، والتي سبق أن أشرنا إليها، وأنها كانت موجودة حتى في عصر الصحابة رضي الله عنهم.
فالتحقيق أن أول من ألف في ذلك كتاباً مستقلا متكاملاً هو الإمام الشافعي رضي الله عنه، كما قال الإمام السبكي وكما هو المتفق عليه بين الأئمة.(11/5)
راجع: الخطيب البغدادي 2/64-65، معجم الأدباء 6/788، ورسالة الإمام الشافعي بتحقيق الشيخ أحمد شاكر من 907،625،573،418،96، مناقب الإمام الشافعي للرازي ص21. الفهرست لابن النديم ص286، الشيعة وفنون الإسلام ص565، عقيدة أهل السنة في الإمام الصادق ص292، الشافعي للشيخ أبي زهرة ص179، أصول الفقه –نشأته وتطوره- للدكتور شعبان محمد إسماعيل ص23-35.
فائدة علم الأصول
وإن علم أصول الفقه وهو من أعظم العلوم ثلاثة أصناف عقلية محضة كالحساب والهندسة والنجوم والطب ولغوية كعلم اللغة والنحو والتصريف والعروض والقوافي والبيان وهي علوم القرآن والسنة وتوابعهما.
ولا ريب في أن الشريعة أشرف الأصناف الثلاثة في الوسائل والمقاصد وأشرف العلوم الشرعية بعد الاعتقاد الصحيح وأنفعها معرفة الأحكام التي(11/6)
ص -6-…تجب للمعبود على العابد ومعرفة ذلك بالتقليد ونقل الفروع المجردة تستفرغ جمام الذهن ولا ينشرح الصدر له لعدم أخذه بالدليل وأين سامع الخبر من المشاهد وأين أجر من يأتي بالعبادة لفتوى إمامه أنها واجبة أو سنة من الذي يأتي بها وقد ثلج صدره عن الله ورسوله بأن ذلك دينه تالله إن أجر هذا لزائد وهذا لا يحصل إلا بالاجتهاد ولا يكمل فيه إلا الواحد بعد الواحد وكل العلماء في حضيض عنه إلا من نغلغل بأصل الفقه وكرع من مناهله الصافية بكل الموارد وسبح في بحره ودرى من الإله وبات يعل به وطرفه ساهد وإني لم أزل منذ نشأت محبا في هذا العلم مولعا بالبحث فيه مع كل زائد.
وقد أكثر الناس من التصنيف فيه فكم من تصنيف فيه مبسوط ومختصر وناقص وزائد ومن أحسن مختصراته كتاب المنهاج في الوصول إلى العلم الأصول الذي صنفه القاضي الفاضل ناصر الدين عبد الله بن عمر بن محمد البيضاوي رحمه الله فلقد أحسن فيه المعاقد وقد قرئ على مرات كثيرة من جماعات حتى سمحت أقرأه من كثرة الموارد وانتشرت طلبته فلم أقتنع من واحد وفي هذا الوقت شرع في الاشتغال به ولدي أبو حامد1 أعطاه الله من خير الدنيا والآخرة ما هو قاصد وزاده مما ليس في حسابه كل خير إنه الكريم الماجد فأحببت أن أضع له شرحا لينتفع هو وغيره به إن شاء الله.
وعسى دعوة من أخ في الله تنفعني وأنا في القبر راقد وسميته الإبهاج في شرح المنهاج وأخذت هذا الاسم
من قول ذي الرمة:
تزداد للعين إبهاجا إذا سفرت…ومخرج العبن فيها يلتفت
وذلك من قصيدته التي قرأتها على أبي محمد الحسن عبد الكريم سبط زيادة في سنة سبع وسبعمائة عن عيسى بن عبد العزيز بن عيسى قال أخبرنا السلفي قال أخبرنا جعفر السراج قال أخبرنا الحسن بن علي الجوهري قال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(11/7)
1 هو: بهاء أبو حامد: أحمد بن علي السبكي، كان صاحب يد طولى في علوما للسان العربي، والمعاني. والبيان، وأسند إليه إفتاء دار العدل، وقضاء العسكر، وقضاء الشام، وخطابه جامع ابن طولونز توفي سنة 773هـ.(11/8)
ص -7-…قرأت على أبي الحسن علي بن عيسى الرماني قال سمعت ديوان ذي الرمة على أبي بكر دريد عن أبي حاتم عن الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء عن ذي الرمة واسمه غيلان ابن عقبة العدوي.
فإن قلت: قد عظمت أصول الفقه وهل هو إلا نبذ جمعت من علوم متفرقة نبذة من النحو وهي الكلام في معاني الحروف التي يحتاج إليها الفقيه والكلام في الاستفتاء وما أشبه ذلك ونبذة من علم الكلام وهي الكلام في الحسن والقبيح والكلام في الحكم الشرعي وأقسامه وبعض الكلام في النسخ وأفعاله ونحو ذلك ونبذة من اللغة وهي الكلام في معنى الأمر والنهي وصيغ العموم والمجمل والمبين والمطلق والمقيد وما أشبه ذلك ونبذة من علم الحديث وهي الكلا في الأخبار والعارف بهذه العلوم لا يحتاج إلى أصول الفقه في الإحاطة بها فلم يبق من أصول الفقه إلا الكلام في الإجماع وهو من أصول الدين أيضا وبعض الكلام في القياس والتعارض مما يستقل به الفقيه فصارت فائدة الأصول بالذات قليلة جدا بحيث لو جرد الذي ينفرد به ما كان إلا شيئا يسيرا.(11/9)
قلت: ليس كذلك فإن الإصوليين دققوا في فهم أشياء من كلام العرب لم يصل إليها النحاة ولا اللغويون فإن كلام العرب متسع جدا والنظر فيه متشعب فكتب اللغة تضبط الألفاظ ومعانيها الظاهرة دون المعاني الدقيقة التي تحتاج إلى نظر الأصول واستقراء زائد على استقراء اللغوي مثاله ودلالة صيغة "أفعل" على الوجوب "ولا تفعل" على التحريم وكون "كل وإخوتها للعموم" يوما أشبه ذلك مما ذكر السائل أنه من اللغة لو فتشت كتب اللغة لم تجد فيها شفاء في ذلك ولا تعرضا لما ذكره الأصوليون وكذلك كتب النحو لو طلبت معنى الاستثناء وأن الإخراج هل هو قبل الحكم أبو بعد الحكم ونحو ذلك من الدقائق التي تعرض لها الأصوليون وأخذوها باستقراء خاص من كلام العرب وأدلة خاصة لا تقتضيها صناعة النحو فهذا ونحوه مما تكفل به أصول الفقه ولا ينكر أن له استمداد من تلك العلوم ولكن تلك الأشياء التي استمدها(11/10)
ص -8-…منها لم تذكر فيه بالذات بل بالعرض والمذكور فيه بالذات ما أشرنا إليه مما لا يوجد إلا فيه ولا يصل إلى فهمها إلى من يلتف به.
فإن قلت: قد كانت العلماء في الصحابة والتابعين وأتباع التابعين من أكابر المجتهدين ولم يكن هذا العلم حتى جاء الشافعي وصنف فيه فكيف تجعله شرطا في الاجتهاد؟
قلت: الصحابة ومن بعدهم كانوا عارفين به بطباعهم كما كانوا عارفين النحو بطباعهم قبل مجئ الخليل وسيبويه فكانت ألسنتهم قويمة وأذهانهم مستقيمة وفهمهم لظاهر كلام العرب ودقيقه عتيد لأنهم أهله الذي يؤخذ عنهم وأما بعدهم فقد فسرت الألسن وتغيرت الفهوم فيحتاج إليه كما يحتاج إلى النحو.
شروط المجتهد
واعلم أن كمال رتبة الاجتهاد تتوقف على ثلاثة أشياء:
أحدها: التأليف في العلوم التي يتهذب بها الذهن كالعربية وأصول الفقه وما يحتاج إليه من العلوم العقلية في صيانة الذهن عن الخطأ بحيث تصير هذه العلوم ملكة الشخص فإذ ذاك يثق بفهمه لدلالات الألفاظ من حيث هي هي وتحريره تصحيح الأدلة من فاسدها والذي نشير إليه من العربية وأصول الفقه كانت الصحابة أعلم به منا من غير تعلم وغاية المتعلم منا أن يصل إلى بعض فهمهم وقد يخطئ وقد يصيب.
الثاني: الإحاطة بمعظم قواعد الشريعة حتى يعرف أن الدليل الذي ينظر فيه مخالف لها أو موافق.
الثالث: أن يكون له منة الممارسة والتبع لمقاصد الشريعة ما يكسبه قوة يفهم منها مراد الشرع من ذلك وما يناسب أن يكون حكما له في ذلك المحل وإن لم يصرح به كما أن من عاشر ملكا ومارس أحواله وخبر أموره إذا سئل عن رأيه في القضية الفلانية يغلب على ظنه ما يقوله فيها وإن لم يصرح له به،(11/11)
ص -9-…لكن بمعرفته بأخلاقه وما يناسبها من تلك القضية فإذا وصل الشخص إلى هذه الرتبة وحصل على الأشياء الثلاثة فقد حاز رتبة الكاملين في الاجتهاد ولا يشترط العلم بأحوال الرواة من حيث هو فإن الصحابة كانوا مجتهدين ولم يحتاجوا إلى ذلك وإنما الذين بعدهم يحتاجون إلى ذلك في إيقاع الاجتهاد لا في حصول الصفة لهم وذاك العلم بمواقع الإجماع والاختلاف وكان محل الكلام على هذا في أواخر الكتاب ولكنا تعجلناه هنا1.
ومن المعلوم أن الصحابة كانوا أكمل الناس في هذه الأشياء الثلاثة أما الأول فبطباعهم وأما الثاني والثالث فلمشاهدتهم الوحي ومعرفتهم بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم.
ولما كان الفقه مستندا إلى الكتاب والسنة ويحتاج الفقيه في أخذه منهما إلى قواعد جمعت تلك القواعد في علم وسميته "أصول الفقه" وهي تسمية صحيحة مطابقة لتوقف الفقه عليها وتلك القواعد منها ما لا يعرف إلا من الشرع ومنها ما يعرف من اللغة بزيادة على ما تصدى له النحاة واللغويون فالذي لا يعرف إلا من الشرع إثبات كون الخبر الواحد حجة وكون الإجماع حجة والقياس حجة وكثير من المسائل التي تذكر فيه والذي يعرف من اللغة ما يذكر فيه من دلالات الألفاظ اللغوية وما فيه من علم الكلام ونحوه فاقتضاه انجرار الكلام إليه وتوقف فهم بعض مسائل هذا العلم عليه.
وهأنا أبتدئ في شرح هذا الكتاب مستعينا بالله تعالى وذلك في يوم الاثنين ثامن شهر ربيع الأول سنة خمس وثلاثين وسبعمائة وإلى الله أتضرع وأنا أسأل أن ينفع به بمنه وكرمه إنه قريب مجيب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(11/12)
1 ما ذكره الشارح هنا هو نبذة سريعة ومجملة عن شروط المجتهد، ولكن البيضاوي عقد للاجتهاد باباً خاصاً في الكتاب السابع من كتاب "المنهاج" ذكر فيه اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم –وموقف العلماء منه، وكذا الصحابة رضي الله عنهم- في حضرته – صلى الله عليه وسلم- أو في غيبته، وشروط الاجتهاد، وحكمه، والأمور التي يجري فيها الاجتهاد وغير ذلك. فليراجع تفصيل ما أجمله الشارح في أواخر الكتاب. وبالله التوفيق.
اهـ. محققه.(11/13)
ص -10-…شرح ديباجة الكتاب
"تقدس من تمجد بالعظمة والجلال" تقدس: أي تطهر ومن أسمائه تعالى التي نطق بها القرآن القدوس وفيه لغتان: ضم القاف وهي أشهر وكان "س"1 يقول بفتحها وأصل الكلمة من القدس بضم الدال وبسكونها وهو الطهارة سمي جبريل روح القدس لطهارته في تبليغ الوحي إلى الرسل عليهم السلام والأرض المقدسة المطهرة وبيت المقدس بيت الطهارة من الذنوب لتطهيره من الكفار بالمسلمين وقال تعالى: {وَنُقَدِّسُ لَكَ}2 أي نقدسك إن جعلت اللام زائدة أو نقدس أنفسنا لك إن لم ترض زيادتها ومعنى تقديس الله تنزيهه من كل ما لا يليق بكماله سبحانه وتعالى فنزهه عن كل وصف يدركه حس أو يصوره خيال وهم أو يختلج به ضميره وننزهه عن كل ما نسبه إليه المبطلون من الشركاء والأنداد والصحابة والأولاد وعن كل محال نسبه إليه أهل الضلال مما يشير إلى نقص أو يومئ إلى عيب.
ولولا ما وقع فيه أهل الكفر والضلال من ذلك لكان الأدب بنا تنزيه عن أن ننطق بنفي ذلك عنه لأن نفي الوجود يكاد يوهم بإمكان الوجود وتطرق العيب والنقص إليه محال لا يخطر بالبال تصوره فضلا عن كونه ينفيه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هكذا في جميع النسخ؛ ويقصد بذلك "سيبويه" وهو: عمرو بن عثمان بن قنبر الحارثي، الملقب "سيبويه" إمام النحاة، وأول من بسط علم النحو- ولد في إحدى قرى "شيراز" وقدم البصرة فلزم الخليل بن أحمد ففاقه، وصنف كتابه المسمى "كتاب سيبويه" في النحو. لم يصنع قبله ولا بعده مثله. توفي بالأهواز سنة 180هـ راجع: القاموس المحيط- فصل القاف باب السين، وفيات الأعيان 1/385، تاريخ بغداد 12/195، الأعلام للزركلي 5/252.(11/14)
2 آية 30 من سورة البقرة وتمامها: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ}.(11/15)
ص -11-…ويقدره. وقولنا تنزيهه عن كل ما لا يليق بكماله عبارة محررة من قول من يقول: بأوصاف الكمال فإن أكثر ما يتصور الناس من أوصاف الكمال ما هو كمال لأنفسهم كعلمهم وسمعهم وبصرهم والله تعالى منزه عنها فإن صفاته تعالى لا تشبه صفات البشر وعلمه وسمعه وبصره مباين لسمعهم وبصرهم وعلمهم فتنزيه كثير من الجهال يحتاج إلى تنزيه ومجامع التقديس أن تقدسه عن الشركاء والأضداد والنظير والولد وإحاطة الأبصار والحاجة إلى غيره وغير ذلك مما يستحيل عليه وأكثر الناس يعتقدون أن معنى القدوس الطاهر ولا شك أنه يدل على ذلك ولكنه ليس كل معناه فإن بناء طاهر لازم وقدوس مأخوذ من فعل متعد فمعناه مطهر بكسر الهاء أي أنه تعالى مقدس لنفسه بإخباره عنها التوحيد والإجلال والإكرام واستحالة النقائض عليه وعجز الأوهام عنه وخالق الأدلة على ذلك ومقدس لخلقه عن اعتقادهم فيه ما لا يليق بذاته والأول صفة ذات والثاني والثالث صفتا فعل وعن ابن عباس وقتادة القدس الذي منه البركات.(11/16)
إذا عرفت ذلك فقوله تقدس لا يجوز أن يكون مطاوعا لقدس فإن المطاوع شرطه التأثر مثل كسرته فتكسر وذلك مفقود هنا والتقديس هنا مثل التصديق في أن المراد منه الإخبار عن الصدق فلا يأتي منه مضارع لكن يصح استعمال تقدس لموافقة المجرد وقال الراجز: "الحمد لله العلي القادس" ومن جملة معاني تفعل أن يوافق المجرد وإن لم ينطق بالمجرد ههنا في الفعل وقد قال القرافي في قوله تبارك وتعالى أن معناه تقدس وللمصنف في القرآن أسوة في استعماله تقدس وكذلك السهيلي وهو من المتقنين في العلم وقع في كلامه تقدس سبحانه عن مضاهاة الأجسام وقدوس مثل سبوح كان "س"1 يفتح أولهما والمشهور الضم فيها والتسبيح التنزيه ولم يرد السبوح في القرآن ولا في حديث أبي هريرة ولكن جاء التسبيح واختلف العلماء هل كونه سبوحا قدوسا يرجع إلى معنى خاص يسمى قدسا وسبحة أو وضعه بذلك يرجع إلى نفي محض وتنزيه عن النقائض ومعنى ذلك أنه هل هو صفة ثبوتية أو سلبية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هكذا بالأصل والمقصود به "سيبويه" كما تقدم. وانظر القاموس فصل السين باب الحاء.(11/17)
ص -12-…وقوله: "تمجد" الكلام فيه كالكلام في تقدس وهو مأخوذ من اسم المجيد وقد نطق به القرآن والسنة وأجمعت الأمة عليه والمجد معناه الشرف والعظمة والكثرة والارتفاع سمي تعالى بذلك لكثرة جلاله وشرفه وعلوه بما يخرج عن طوق البشر واختلف العلماء هل هو صفة خاصة كالعلم والقدرة أو هو عبارة عن استجماع صفات المعالي ووجوه نفي النقائص فلا كمال إلا له ولا نقص إلا وهو منزه عنه.
وقوله: "بالعظمة والجلال" متعلق بتمجيد واسم العظيم نطق به القرآن والسنة وهو تعالى عظيم في ذاته وصفاته وقهره وسلطانه فكل عظيم بالنسبة إلى عظمته عدم محض واسم الجميل لم يرد في القرآن ولا في حديث أبي هريرة لكن في الحديث: "إن الله جميل يحب الجمال"1 وورد أيضا في بعض طرق أبي هريرة.
ولما كان تعالى كاملا في ذاته وصفاته وأفعاله وصف بالجمال وهو تعالى مقدس عن الصورة وعن الصفات البشرية.
ومشاهدة صفة الجمال يثير المحبة ومشاهدة صفة الجلال يثير الهيبة والعظمة تثير الهيبة أيضا فلهذا قرن المصنف العظمة بالجلال لتفيده معنى زائدا على الجلال فالباء يحتمل أن تكون بمعنى في أي تمجد في عظمته وجلاله فارتفع بهما على كل عظيم وجليل ويحتمل أن تكون للسببية على معنى أنه ارتفع بعظمته وجلاله على كل شيء فلا شيء إلا وهو مجد تعالى وهو تعالى مجيد بذاته عظيم بذاته فليس المعنى أن بعض الصفات أثر في بعض وإنما لما كانت هذه الصفات تشير إلى مجموع معان وملاحظة كل منها يوجب العلم بالكمال بها حسن ذلك كله.
"وتنزه من تفرد بالقدم والكمال" التنزيه بمعنى التسبيح وقد ورد مصرحا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ولفظه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يدخل الجنة من كان في قبله مثقال ذرة من كبر". فقال رجل: إنا لرجل يجب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسنة، فقال: "إن الله تعالى جميل يحب الجمال" رواه مسلم.(11/18)
ص -13-…به في الحديث أنه كان يصلي من الليل فلا يمر بآية فيها تنزيه لله إلا نزهه وأصل النزهة البعد وتنزيه الله تبعيده عن ما لا يليق به ولا يجوز عليه فمعنى تنزه بعد والتفرد الانفراد يقال تفرد به واستفرد به بمعنى واحد والقدم وجود لا أول له وكل شيء سوى الله وصفاته فهو حادث لوجوده أول وصفاته لا يقال فيها إنه غيره والكمال المطلق ليس إلا لله تعالى فهو الكامل في ذاته وصفاته وأفعاله وكل ما سواه مفتقر إليه والافتقار ينافي الكمال فله حدوثه عن العدم وغير ذلك مما للمخلوق من صفات النقص.
"عن مشابهة الأشباه والأمثال ومصادمة الحدوث والزوال" هذا متعلق بقوله: "تنزه" وأما تقدس فإما أن يجعل كلاما تاما وإما أن يجعل من باب التنازع ويضمر في تقدس كما ذكره هنا والمشابهة المشاكلة والشبه الشبه والشبيه بمعنى واحد وهو ما يشبه الشيء وبينهما شبه بالتحريك وكل منها يجمع على أشباه والمثل والمثل كالشبه والشبه وهو ما يساوي الشيء ويقوم كل منهما مقام الآخر في حقيقته وما هيته كالأجسام متساوية في الجسمية وإن اختلفت بالألوان والأشكال وغيرها من الأعراض واختلافها بذلك لا يخرجها عن التماثل في الحقيقة هذا حقيقة المثلين وبه تزول شبهات يوردها المجسمة وكثير ممن وقع في التشبيه ظانا أنه سالم منه والمصادمة المماسة والمراد بها ههنا الإلصاق واللحاق والحدوث وجود مسبوق بعدم فهو ضد الأزلية والزوال طريان العدم وهو ضد الأبدية والأولية والأبدية واجبان لله تعالى لأنه يقال واجب لذاته يستحيل عليه العدم لا أولا ولا آخرا.(11/19)
"مقدر الأرزاق والآجال ومدبر الكائنات في أزل الآزال" هذا مما لا يجحده مسلم ولا كافر تفرد الرب سبحانه وتعالى به وما فيه من عظيم العلم والقدرة والمنة والأزل المقدم والأزل القديم وأصل هذه الكلمة قولهم للقديم لم يزل ثم نسب إلى هذا فلم يستقم إلا باختصار قالوا يزلي ثم أبدلت الياء ألفا لأنها أخف فقالوا أزلي كما قالوا في الرمح المنسوب إلى ذي يزن أذني وقوله الآزال على سبيل المبالغة في اللفظ.
"عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال" الغيب والشهادة قيل السر(11/20)
ص -14-…والعلانية وقيل الدنيا والآخرة وقيل ما غاب عن العباد وما شهدوا وقيل الغيب المعدوم والشهادة الموجود والمدرك كأنه مشاهد والكبير الكامل في ذاته وصفاته المتقدم في المنزلة والسبق في المرتبة من كبر بضم الباء والمتعال المستعلي على كل شيء بقدرته كبر عن صفات المخلوقين وتعالى عنها.
"نحمده على فضله المترادف المتوال على ما عمنا من الأنعام والأفضال" الحمد: الثناء بجميل الصفات والأفعال ولا يكون إلا بالقول سواء كان ذلك الجميل في المحمود خاصة به أو كان واصلا منه إلى غيره والثاني شكر والشكر يكون بالقول والفعل والاعتقاد فبينه وبين الحمد عموم وخصوص من وجه وبين الحمد والمدح فرق آخر أدعاه السهيلي وهو أن الحمد يشترط فيه أن يكون صادرا عن علم وأن تكون الصفات محمودة صفات كمال ولهذين الشرطين لا يوجد الحمد لغير الله والله هو المستحق الحمد على الإطلاق والمدح قد يكون عن ظن وبصفة مستحسنة وإن كان فيها نقص ما والإتيان بالنون في هذا الفعل ينبغي أن يقصد به أن جميع الخلائق حامدون وليست للتعظيم والمترادف المتتابع والمتوالي كذلك فينبغي أن يكون مقصوده بالمترادف الذي يأتي بعده في أثر بعض ليسلم من التأكيد ويفيد كثرة الفضل في الزمان الواحد واستمرار ذلك في كل زمان وفضل الله هكذا هو وفي عمنا ضمير مرفوع عائد على الموصول أي عمنا هو ومن الأنعمام والأفضال بيان لذلك في محل رفع وقد قدمنا أن بين الحمد والشكر عموما من وجه وأنهما يتفقان فيما كان منه فيسمى حمدا وشكرا وقد استعمل المصنف هذا الحمد على ما هو منة واستعمل الشكر بالقول فتوافقا في هذا المحل وإن تغايرا في وصفهما والفضل من قوله:{وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ}1 ومن قوله: {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً}2 وكان فضل الله عليك عظيما والأفضال الإحسان والتفضل وقد استعمل الفضل على خلاف النقص فيكون الثناء عليه حمدا مباينا للشكر لكنه ليس المراد هنا لقوله(11/21)
المترادف المتوال فإنهما يقتضيان الوصول إلى الغير.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء 32.
2 سورة النساء 113.(11/22)
ص -15-…"ونصلي على محمد الهادي إلى نور الإيمان في ظلمات الكفر والضلال" معنى نصلي هنا نطلب الصلاة من الله تعالى لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل كيف نصلي عليك قال: "قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل م محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد"1 ومعنى نطلب إنشاء الطلب وكذلك نحمد معناه إنشاء الحمد وليس معناه الخبر فعطف إنشاء على إنشاء ووصفه صلى الله عليه وسلم بالهداية لقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}2 وبين الهداية والضلال والنور والظلمات والإيمان والكفر ما لا يخفى من الطباق.
"وعلى آله وصحبه خير صحب وآل" آله صلى الله عليه وسلم: بنو هاشم وبنو المطلب هذا اختيار الشافعي وأصحابه وقيل عترته وأهل بيته وقيل جميع أمته وهو قول مالك والصحيح إضافة الآل إلى مضمر كما استعمله المصنف وقال جماعة من أهل العربية لا يصح إضافته إلا إلى مظهر والصحب جمع صاحب وهو كل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم مسلما وقيل من طالت مجالسته والصحيح الأول بخلاف التابعي لا يكفي فيه رؤية الصحابي والفرق شرف الصحبة وعظم رؤية النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أن رؤية الصالحين لها أثر عظيم فكيف روية سيد الصالحين فإذا رآه مسلم ولو لحظة انطبع قلبه على الاستقامة لأنه بإسلامه متهيء للقبول فإذا قابل ذلك النور العظيم أشرق عليه وظهر أثره في قلبه وعلى جوارحه.
وقوله: خير صحب وآل صحيح لأنه ليس في أصحاب الأنبياء مثل أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم ولأجل السجع قدم الصحب على الآل في الثاني وجاء على أحد طريقي العرب وهو رد الأول على الثاني والثاني على الأول ولولا هذا لقال خير آل وصحب فرد الأول للأول والثاني للثاني وهما طريقان للعرب جائزان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(11/23)
1 رواه مسلم وأحمد من حديث أبي سعيد البدري.
2 سورة الشورى 52.(11/24)
ص -16-…"وبعد فأولى ما تهم به الهمم العوالي وتصرف فيه الأيام والليالي تعلم المعالم الدينية والكشف عن حقائق الملة الحنيفية والغوص في تيار بحار مشكلاته والفحص عن أستار أسرار معضلاته"، بعد ضم الدال على الصحيح مقطوع عن الإضافة أي بعد ما سبق من التقديس والتنزيه والحمد والصلاة والعامل فيه فعل مقدر تقديره أقول وهو معطوف بالواو على نحمد ونصلي وبعده فعل آخر مقدر تقديره تنبه هو معمول القول لأجله دخلت الفاء على أولى وفي الفاء فائدة أخرى وهي رفع توهم اضافة بعد إلى أولى.
وقوله: تهم بضم الهاء يقال هم بالأمر يهم هما أي أراده فأما بكسر الهاء فهو من الهميم وهو الدبيب والهمم جمع همة وهي الواحدة تقول همة مثل جلسة بالفتح للمرة وبالكسر للهيأة والجمع لها وإسناد الفعل للهمم وهو في الحقيقة لفاعلها من باب قولهم: "شعر شاعر" والمعالم جمع معلم وهو ما جعل علامة للطرق والحدود مثل أعلام الحرم ومعالمه المضروبة عليه ويقال المعلم الأثر وهو راجع إلى معنى العلامة ولا خلاف في المعنى والمعالم الدينية الأدلة الشرعية وكل ما يهدي إليها وتعلمها تعرفها والملة الحنيفية هذه الملة قال صلى الله عليه وسلم: "بعث بالحنيفية السهلة السمحة"1 وسميت حنيفية لأنها على ملة إبراهيم والحنيف عند العرب من كان على دين إبراهيم عليه السلام وسمي إبراهيم عليه السلام حنيفا لميله عن دين الصابئة وهم عباد الكواكب وسمى أتباعه حنفاء لذلك ولميلهم عن اليهودية والنصرانية قال تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً}2.(11/25)
والملة الدين والدليل على أن هذه الملة ملة إبراهيم قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ}3 وادعى بعض العلماء أنها موافقة لها في الأصول والفروع والمشهور أنها موافقة لها في الأصول فقط وعلى هذا لا اختصاص لملة إبراهيم بذلك لأن دين الأنبياء كلهم واحد في الأصول وإنما اختلفت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الإمام أحمد عن أبي أمامة و عائشة- رضي الله عنهم.
2 سورة آل عمران 67.
3 سورة النحل 123.(11/26)
ص -17-…الشرائع في الفروع ويكون تسميته هذه الملة حنيفية لمخالفتها ما كان عليه أهل الشرك واليهود والنصارى كمخالفة إبراهيم من كان في زمانه من الكفار وهم الصابئة وإتباعه دين الأنبياء قبله وبعده وهو الإسلام وحقائقها على هذا أصول الدين ولا تشمل أصول الفقه الذي تصدى له والمعالم الدينية شاملة له وإن جعلنا اسم الملة شاملا للأصول والفروع وكلا الأمرين أعني المعالم الدينية وحقائق الملة شاملا للأصول والفروع فيندرج فيه أصول الفقه الذي تصدى له وهو أحسن ليكون مناسبته للتصنيف الذي تصدى له أكثر ويشهد له قوله: "بعثت بالحنيفية السمحة" فإنه يشير إلى الأصول والفروع جميعا ولا يلزم من ذلك موافقتها لشريعة إبراهيم في جميع الأشياء بل لموافقتها الأصول سميت بذلك وحقائقها على هذا جميع أحكامها ومعانيها وأسرارها والضمير في مشكلاته ومعضلاته عائد على الكشف لأن الأشكال والأعضال فيه لا فيها فإنها بينة جلية بيضاء نقية إذا ارتفع الحجاب عن الناظر رآها ولا خفاء بحسن استعاراته وترشيحها في الغوص في تيار البحار والفحص عن أستار الأسرار وكم من بحر لا يدرك له قرار وسر تتغيب في أستاره الأفكار.
"وإن كتابنا هذا منهاج الوصول إلى علم الأصول الجامع بين المعقول والمشروع والمتوسط بين الأصول والفروع" المنهاج: الطريق جعل علما على هذا الكتاب والوصول إلى الشيء إنما يكون عند انتهاء طريقه فقوله منهاج الوصول معناه الطريق التي يتوصل فيها إلى الوصول إلى علم الأصول كما تقول طريق مكة أي المتوصل فيها إلى مكة فليس الوصول فيه ولكنه غايته.(11/27)
وقوله منهاج خبر إن ويجوز إطلاق ذلك على هذا الكتاب بمعناه الأصلي غير علم لأن الاشتغال به يوصل إلى ذلك وقوله الجامع مخفوض صفة لعلم الأصول ولا خفاء في جمعه بين المعقول والمشروع فإنه نتج من نكاح نور الشرع لصافي بنات الفكر فجاء عريق الاصالة شديد البسالة وتوسطه بين الأصول أي أصول الدين والفروع وهذا يستمد من الأول ويمد الثاني.
"وهو إن صغر حجمه وكبر علمه وكثرت فوائده وجلت عوائده" قوله:(11/28)
ص -18-…وهو يعني هذا الكتاب وصغر بضم الغين وكذلك كبر الباء لأنه بمعنى عظم وأصل كبر بضم الباء لكبر الجثة ثم استعمل في كبر المعنى وأما كبر السن فلا يقال فيه إلا كبر بكسر الباء وراعى المطابقة بين صغر وكبر لتضادهما واجتمعا لرجوع الصغر إلى الجثة والكبر إلى المعنى والعوائد جمع عائدة وهي العطف والمنفعة يقال هذا أعود عليك من كذا أي أنفع وفلان ذو عائدة أي تعطف ونفع وإن هذا الكتاب لكما وصف.
"جمعته رجاء أن يكون سببا لرشاد المستفيدين ونجاتي يوم الدين والله تعالى حقيق بتحقيق رجاءه وقوله حقيق بتحقيق أي خليق له وخليق وجدير وحري وحر كل ذلك بمعنى واحد وقصد المصنف التجانس بين حقيق وتحقيق وإطلاق ذلك على الله ينبئ على أن الأسماء توقيفية أولا".(11/29)
ص -19-…تعريف أصول الفقه
"أصول الفقه معرفة دلائل الفقه إجمالا وكيفية الاستفادة منها وحال المستفيد".
هذه العبارة بعينها عبارة تارج الدين الأرموي في الحاصل ولنقدم مقدمة وهي أنه ينبغي أن يذكر في ابتداء كل علم حقيقة ذلك العلم ليتصورها الذي يريد الاشتغال به قبل الخوض فيه فمن عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل فلا جرم احتاج إلى تعريف أصول الفقه في أوله وههنا خمسة أشياء:
أحدها: لفظ أصول الفقه قبل أن يسمى به هذا العلم مركب من مضاف ومضاف إليه.
والثاني: هذا اللفظ بعد أن سمي به فإنه صار اسما للعلم وكل من المضاف والمضاف إليه بهذا الاعتبار صار كالزاي والدال من زيد لا معنى له وكل مركب سمي به معنى فقد يتطابق معناه حال التركيب وحال التسمية كعبد الله مسمى به رجل فهو صادق عليه بالاعتبارين وقد لا يتطابقان كأنف الناقة مسمى به رجل ولفظ أصول الفقه مما تطابق فيه معناه حال التركيب ومعناه حال التسمية من بعض الوجوه كما سنبينه.
الثالث: معنى أصول الفقه قبل التسمية.
الرابع: معنى أصول الفقه بعد التسمية مع قطع النظر عن أجزاء اللفظ المطلق عليه.
الخامس: معناه بعد التسمية مع الالتفات إلى أجزاء اللفظ المطلق عليه لأن اللفظ يدل عليه باعتبارين كما قدمناه فإذا أخذ المعنى بأحد الاعتبارين(11/30)
ص -20-…كان مغايرا له بالاعتبار الآخر فيصدق على المعنى المذكور أنه إضافي لقبي باعتبارين لكن صدق اللفظ عليه بالإضافة إنما هو بطريق المجاز لأنه أخص من معناه الحقيقي والحد إنما هو للمعنى دون اللفظ فالمقصود بيان المعاني الثلاثة ويعبر عن المعنى الأول بالإضافي لأن المعنى مركب من مضاف ومضاف إليه في الذهن كما أن لفظه كذلك في النطق ويعبر عن المعنى الثاني باللقبي باعتبار أنه ملقب بهذا الاسم فإن اللفظ المركب جعل اسما عليه زلقبا له وعلما كسائر أعلام الأجناس أو أسماء الأجناس فإن علم الجنس هو الذي يقصد به تمييز الجنس من غيره من غير نظر إلى أفراده واسم الجنس الذي يقصد به مسمى الجنس باعتبار وقوعه على أفراده حتى إذا دخلت عليه الألف واللام الجنسية الدالة على الحقيقة ساوى علم الجنس هذا هو الذي نختاره في الفرق بين اسم الجنس وعلم الجنس ويستنتج منه أن علم الجنس لا يثنى ولا يجمع لأنه إنما يثنى ويجمع الأفراد وجعله اسم جنس أولى من جعله علم جنس لأنه لو كان علما لما دخلت عليه الألف واللام وكذلك سائر أسماء العلوم من فقه ونحو وغير ذلك ويعبر عن المعنى الثالث بالإضافي بالاعتبارين كما سبق.
إذا عرفت هذه المقدمة فهمت ثلاثة مباحث:(11/31)
أحدهما: في تعريف معنى أصول الفقه التركيبي قبل التسمية ولا بد في ذلك من تعريف المضاف والمضاف إليه والإضافة لأن العلم بالمركب يتوقف على العلم بالمفرد ونبدأ ذلك بتعريف المضاف وليس كما توهم بعض الناس من أنه يعتني بالبداءة بالمضاف إليه محتجا بأن المضاف يتعرف بتعريف المضاف إليه لأنا نقول التعريف تعريف مقابل التنكير وهو الذي يكتسبه المضاف من المضاف إليه وتعريف مقابل الجهل وهو المقصود هنا وهذا لا يكتسبه المضاف من المضاف إليه فنقول الأصول جمع وتعرفه بتعريف مفرده والأصل ما يتفرع عنه غيره وهذه العبارة أحسن من قول أبي الحسين ما يبنى عليه غيره لأنه لا يقال إن الولد يبنى على الوالد ويقال إنه فرعه وأحسن من قول صاحب الحاصل ما منه الشيء لاشتراك من بين(11/32)
ص -21-…الابتداء والتبعيض وأحسن من قول الإمام1: "المحتاج إليه" لأنه إن أريد بالاحتياج ما يعرف في علم الكلام من احتياج الأثر إلى المؤثر والموجود إلى الموجد لزم إطلاق الأصل على الله تعالى وإن أريد ما يتوقف عليه الشيء لزم إطلاقه على الجزء والشرط وانتفاء المانع وإن أريد ما يفهمه أهل العرف من الاحتياج لزم إطلاقه على الأكل واللبس ونحوهما وكل هذه اللوازم مستنكرة وكل هذه التعريفات للأصل بحسب اللغة وإن كان أهل اللغة لم يذكروها في كتبهم وهو مما ينبهنا على أن الأصوليين يتعرضون لأشياء لم يتعرض لها أهل اللغة.
وأما في العرف فالأصل مستعمل في ذلك ولم يترك أهل العرف الاستعمال في ذلك لكن العلماء يطلقونه مع ذلك على شيئين أخص منه:
أحدهما: الدليل والثاني المحقق الذي يشك في ارتفاعه لتفرع المدلول على الدليل والاستصحاب على اليقين السابق.
والفقه تعريفه سيأتي في كلام المصنف والإضافة تفيد الاختصاص فإن كان المضاف اسما جامدا أفادت مطلق الاختصاص كحجر زيد وإضافة الأعلام إذا وقعت من هذا القبيل كقول الشاعر:
علا زيدنا يوم النقا …رأس زيدكم
وإن كان المضاف اسما مشتقا أفادت الإضافة اختصاص المضاف بالمضاف إليه في المعنى المشتق منه كغلام زيد تفيد اختصاص الغلام بزيد في معنى الغلامية وكانت للملك وتفيد هنا اختصاص الأصول بالفقه في معنى لفظة الأصول وهو كون الفقه متفرعا عنه وظهر بهذا أن أصول الفقه بالمعنى التركيبي ما يتفرع عنه الفقه والفقه كما يتفرع عن دليله يتفرع عن العلم بدليله فيسمى كل منهما أصلا للفقه ولا فرق في الأدلة في هذا المقام بين الإجمالية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: فخر الدين، محمد بن عمر الحسيني الرازي، المتوفى سنة: 606هـ صاحب كتاب "المحصول، في أصول الفقه،وهو الذي يعتبر كتاب "منهاج الوصول" للبيضاوي ملخصاً له. فكلمة "الإمام" إذا أطلقت في أصول الفقه، فالمراد: فخر الدين الرازي. اهـ. محققة.(11/33)
ص -22-…والتفصيلية فإن كلا منهما يتفرع الفقه عنه وعن العلم به فصار أصول الفقه بالمعنى التركيبي يشمل أربعة أشياء الأدلة الإجمالية وعلمها والأدلة التفصيلية وعلمها وهذا ليس هو المصطلح ولا يصح تعريف هذا العلم بمدلول أصول الفقه الإضافي لأنه أعم منه إلا إذا أخذ بعد التسمية كما سيأتي.
"البحث الثاني": في تعريف معنى أصول الفقه اللقبي وهو المصطلح عليه ولا شك أن كلا من الأدلة التفصيلية والعلم بها غير داخل فيه لأن ذلك من وظيفة الفقيه والخلافي فلم يوضع أصول الفقه في الاصطلاح لكل ما يحتاج إليه الفقه بل لبعض ما يحتاج كدأب أهل العرف في تخصيص الأسماء العرفية ببعض مدلولاتها في اللغة والأدلة التفصيلية مثل: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} ودلالته على وجوب الصلاة ونحو ذلك ولما استفيد إخراج الأدلة التفصيلية و علمها من الوضع تبقى الإجمالية وعلمها والمراد بالإجمالبة كليات الأدلة فإن قوله: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} ونهيه صلى الله عليه وسلم: "عن قتل النساء والصبيان" وإطلاق الرقبة في موضع وتقييدها بالإيمان في موضع وصلاته صلى الله عليه وسلم في الكعبة وإجمال الصلاة في الآية المذكورة وبيان جبريل لها ونسخ التوجه إلى بيت المقدس والإجماع على أن بنت الابن لها السدس مع الثلث عند عدم العاصب وخبر ابن مسعود في ذلك وقياس الأرز على البر ومرسل سعيد بن المسيب في النهي عن بيع اللحم بالحيوان وقول عثمان في بيع الفراء والمصلحة المرسلة في التترس والأخذ بالأخف في دية اليهودي والاستحسان في التحليف على المصحف ونحو ذلك كلها أدلة معينة وجزئيات مشخصة والعلم بها ليس من أصول الفقه في شيء وإنما هي وظيفة الفقه ولهذه الأدلة وأمثالها كليات وهي مطلق الأمر والنهي والعموم والخصوص والإطلاق والتقييد والفعل والإجمال و التبيين والنسخ والإجماع وخبر الواحد والقياس والمرسل وقول الصحابي والمصلحة(11/34)
المرسلة والأخذ بالأخف والاستحسان عند من يقول به وهذه الكليات داخلة في الجزئيات فإن الكلي الطبيعي موجود في الخارج وفي الذهن في ضمن مشخصاته ففي الأدلة اعتباران:
أحدهما: من حيث كونها معينة وهذه وظيفة الفقيه وهي الموصلة القريبة(11/35)
ص -23-…إلى الفقه والفقيه قد يعرفها بأدلتها إذا كان أصوليا وقد يعرفها بالتقليد ويتسلمها من الأصول ثم هو يرتب الأحكام فمعرفتها حاصلة عنده.
والاعتبار الثاني: من حيث كونها كلية أعني يعرف ذلك الكلي المندرج فيها وإن لم يعرف شيئا من أعيانها وهذه وظيفة الأصولي فمعلوم الأصولي الكلي ولا معرفة له بالجزئي من حيث كونه أصوليا ومعلوم الفقيه الجزئي ولا معرفة له بالكلي من حيث كونه فقيها ولا معرفة له بالكلي إلا لكونه مندرجا في الجزئي المعلوم وأما من حيث كونه كليا فلا فالأدلة الإجمالية هي الكلية سميت بذلك لأنها تعلم من حيث الجملة لا من حيث التفصيل وهي توصله بالذات إلى حكم الإجمالي مثل كون كل ما يؤمر به واجبا وكل منهي عنه حراما ونحو ذلك وهذا لا يسمى فقها في الاصطلاح ولا توصل إلى الفقه بالتفصيلي وهو معرفة سنية الوتر أو وجوبه والنهي عن بطلان بيع الغائب أو صحته مثلا إلا بواسطة فقبدية الإجمال مأخوذة في الأدلة والمعرفة معا أيضا وليست مأخوذة في الفقه ولذلك لا يلزم من النظر في الأصول حصول الفقه والحكم الكلي متوقف على الأصول توقفا ذاتيا والحكم التفصيلي وهو الفقه موقوف عليه أيضا وعلى غيره كلية قد يكون بالتقيد للأصولي كما أشرنا إليه وبهذا يظهر أن الاجتهاد في الفقه على الإطلاق شرطه الأصول ومعرفتها بالاجتهاد وأما بدون ذلك فيكون مقلدا وإن اجتهد في تفريع المسائل.(11/36)
ثم هذه الأدلة الكلية لها حقائق في أنفسها من حيث دلالتها وتعلق العلم بها فهل وضع أصول الفقه لتلك الحقائق في أنفسها أو للعلم بها كلام المصنف يقتضي الثاني وكلام الإمام وغيره يقتضي الأول ولكل منهما وجه فإن الفقه كما يتوقف على الأدلة يتوقف على العلم بها وقد يرجح ما فعله المصنف بأن العلم بالأدلة لا يوصل إلى المدلول إلا بواسطة العلم بها لأن الفقه علم لكن أهل العرف يسمون المعلوم أصولا وكذلك يسمون المعلوم فقها ونقول هذا كتاب أصول وكتاب فقه والأولى جعل الأصول للأدلة والفقه للعلم لأنه أقرب إلى الاستعمال اللغوي ثم الأدلة لها اعتباران أحدهما حقيقتها في نفسها والثاني من حيث دلالتها على الفقه والمأخوذ في حد أصول الفقه والمأخوذ في حد أصول الفقه إنما هو هذا الثاني وهو مستفاد من الإضافة(11/37)
ص -24-…في قولنا أدلة الفقه لما قدمناه أن الإضافة تفيد اختصاص المضاف بالمضاف إليه في معنى لفظة المضاف فالشرط في الأصولي معرفة أدلة الفقه من حيث دلالتها على الفقه خاصة وقد يكون لها عوارض أخرى لا يجب معرفته بها ثم معرفة الأدلة من حيث كونها أدلة لا بد معه من كيفية الاستدلال ومعظمها يذكر في باب التعارض والترجيح فجعلت جزءا آخر من أصول الفقه لتوقف الفقه عليها وليس كل أحد يتمكن من الاستدلال ولا يحصل له الفقه بمجرد علم تلك الأدلة وكيفية الاستدلال لأنها أدلة ظنية ليس بينها وبين مدلولاتها ربط عقلي فلا بد من اجتهاد يحصل به ظن الحكم فالفقه موقوف على الاجتهاد والاجتهاد له شروط يحتاج إلى بيانها فجعلت جزءا ثالثا من أصول الفقه لتوقف الفقه عليها.
وهذا مجموع ما يذكر في أصول الفقه الأدلة وكيفية الاستدلال وكيفية حال المستدل والإمام ومن وافقه يجعلون أصول الفقه عبارة عن الثلاثة والمصنف وطائفة يجعلونه عبارة عن معرفة الثلاثة فالمعارف الثلاثة عندهم هي أصول الفقه وقد تقدم البحث في ذلك.
فقول المصنف: "وكيفية الاستفادة" معطوف على دلائل الفقه أي ومعرفة كيفية الاستفادة وكذا قوله: وحال المستفيد أي ومعرفة حال المستفيد والمراد بالمستفيد المجتهد لأنه الذي يستفيد الأحكام من أدلتها ويقع في بعض النسخ حال المستدل وفي بعضها حال المستفيد فجمع بعض النساخ بينهما واقتضى هذا الغلط أن يحمل المستدل على المجتهد والمستفيد على المقلد لأنه يستفيد من المجتهد لكن يجوز أن يكون جزءا من أصول الفقه بخلاف الاجتهاد فإن الفقه موقوف عليه نعم إذا عرف المجتهد عرف أن من سواه مقلد وهذا جاء بالعرض لا بالقصد أعني معرفة المقلد نعم بعض الناس قد سمى علم المقلد فقها فمن هذا الوجه يحسن إدراجه في أصول الفقه لتوقف فقهه عليه وفيه فائدة لا تذكر إلا فيه وهي حكمه إذا اختلفت عليه المجتهدون ونحو ذلك.(11/38)
وقول المصنف: "دلائل" لو قال أدلة كان أحسن لأن فعيلا لا يجمع على(11/39)
ص -25-…فعائل إلا شاذا1. وقوله إجمالا مصدر في موضع الحال أو تمييز من معرفة أو دلائل وكل منهما يصح أن يراد به على ما بينا ويزداد وعلى جعله من معرفة وجه آخر وهو أن يكون نعتا لمصدر محذوف تقديره عرفانا إجمالا وإعرابه تمييز أقوى لأنه يبين جهة الإضافة كقولك هذا أخوك رضاعة أو نسبا وهذا القيد أعني قوله إجمالا لإخراج العلم بالأدلة على التفصيل فليس من أصول الفقه ولا هو الفقه كما وقع في عبارة بعض شارحي هذا الكتاب لأن الفقه غيره بل هو يذكر في الفقه ومن وظيفة الفقيه وأصول الفقه الأدلة الإجمالية وعلمها وهل أصول الفقه بحسب الاصطلاح يصدق على القليل من ذلك والكثير أو لا يصدق إلا على المجموع اختيار الإمام الثاني فلم يجعل أصول الفقه يطلق على بعضه وهذا إنما يظهر بأخذ مضافا ومضافا إليه أما إذا أخذ إسما على هذا العلم فينبغي أن يصدق على القليل والكثير كسائر العلوم ولهذا إذا رأيت مسألة واحدة منه تقول هذا أصول فقه والاعتذار عن الجمع في لفظة الأصول بأمرين:
أحدهما: أن بعد التسمية لا يجب المحافظة على معنى الجمع.
والثاني: أنه جمع مضاف إلى معرفة فيعم والعموم صادق على كل فرد وكلام المصنف محتمل لما قاله الإمام ولما قلناه بالطريق المذكور.
وعدول المصنف عن علم إلى معرفة نقدم عليه مقدمة وهي أن المعرفة تتعلق بالذوات وهي التصور والعلم يتعلق بالنسب وهو التصديق فإن أراد أن علم الأصول تصور محض فليس كذلك لأن العلم بكون الأمر للوجوب والنهي للتحريم من أصول الفقه وهو تصديق فالإتيان بلفظ العلم في هذا المقام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال ابن مالك في شرح الكافية الشافية: لم يأت فعائل جمعاً لاسم جنس على وزن فعيل فيما أعلم، لكنه بمقتضى القياس جائز في العلم المؤنث كعسائد، جمع عسيد اسم امرأة. نهاية السول 1/14-15.(11/40)
والذي يترجح عندي أن "دلائل" ليس جمعاً لدليل، وإنما هو جمع "دلالة" وهي الإمارة وهي أعم منا دليل، فلو عبر بالأدلة لخرج كثير من أصول الفقه العمومات، وأخبار للآحاد، والقياس، والاستصحاب، وغير ذلك، فإنها أمارات على الدليل، ولذلك قال الإمام الرازي في المحصول. طرق الفقه يتناول الأدلة والأمارات. ا هـ. محققة.(11/41)
ص -26-…أحسن لأنه أعم من المعرفة ولهذا ينقسم العلم إلى التصور والتصديق ويقول النحاة في العلم إذا لم يكن عرفانا ثم سواء قلنا علم أو معرفة أو أدلة أو طرق كما قال الإمام يرد على جميع ذلك سؤال قوي وهو أن الطريق ما يفضي النظر الصحيح فيه إلى علم المدلول أو ظنه والدليل ما يفضي النظر الصحيح فيه إلى المدلول وعلم الدليل أو الطريق كذلك والمدلول هنا هو الفقه لقوله أدلة الفقه أو طرق الفقه وقد قدمنا أن الفقه بحسب الاصطلاح لا يصدق إلا على معرفة الأحكام التفصيلية فيلزم من هذا أن يكون أصول الفقه معرفة أدلة الأحكام التفصيلية وأن من عرفها عرف ضرورة بما قررناه من أن النظر في الدليل يوجب العلم بالمدلول فيلزم أن يكون الأصول فقها وأن يكون كل أصولي فقيها وهذا ظاهر البطلان ولا ينجى عن هذا قيد الإجمال في المعرفة أو في الدلالة لأن الإجمالي إن كان دليلا للتفصيلي لزم من تحصيله حصوله وإن لم يكن دليلا للتفصيلي فسدت إضافته إلى الفقه لأن الفقه تفصيلي ودليل الفقه مجموع أمرين:
أحدهما: الإجمالية، والثاني: التفصيلية، والأول مندرج في الثاني فكل من علم الثاني علم الأول تقليدا أو اجتهادا ولا يحصل الفقه إلا بعلمهما والأصول في الأول فقط وقد سلم من هذا السؤال ابن الحاجب حيث قال إن حده لقبا العلم بالقواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية ومع ذلك يرد عليه أن من القواعد النحوية وغيرها ما هو كذلك ولم تدخل في أصول الفقه فالحد غير مانع وغير جامع أيضا لأنه أخرج الأدلة عن الأصول جملة.(11/42)
فإن قلت: هل من اعتذار عن المصنف والإمام وغيرهما في السؤال الذي قدمته قلت نعم وهو أن الأدلة التفصيلية التي يحصل عنها الفقه لها جهتان: إحداهما أعيانها والثانية كلياتها وكل دليل هكذا فليست الأدلة منقسمة إلى ما هو إجمالي غير تفصيلي وتفصيلي غير إجمالي بل كلها شيء واحد له جهتان فالأصولي يعلمه من إحدى الجهتين والفقيه يعلمه من الأخرى ويصدق على ذي الجهتين أنه معلوم من وجه فالمراد بالأدلة التفصيلية التي هي موصلة إلى الفقه والأصولي يعرفها من جهة الإجمالي فلها اعتباران والنظر في(11/43)
ص -27-…الدليل إنما يفيد العلم بالمدلول إذا نظر فيه على سبيل التفصيل والأصولي لم ينظر فيه كذلك فلم يحصل له الفقه لانتفاء شرط نظره لا لانتفاء كون المنظور فيه دليلا في نفسه وهذا جواب حسن مصحح لمعرفة الأدلة وإن كان جعله للأدلة صحيحا أيضا باعتبار أن للأدلة نسبتين كما قدمنا فهي باعتبار إحدى النسبتين غيرها باعتبار الأخرى هذا كله في تعريف المعنى اللقبي إذا قطعنا النظر عن أجزاء اللفظ وكذلك إذا لاحظناها مع التخصيص الذي أشرنا إليه فيما سبق فإن التعريف يحصل بما ذكره أيضا وليس من شرط الحد أن يكون بأجزاء محمولة كما ظنه بعضهم بل بأجزاء داخلة في الحقيقة وأجزاء المحدود هنا وهي المعارف الثلاث كذلك والمعرفة جنس الأصول وما أضيف إليه من الأدلة والكيفيتين فصول تقديره معرفة متعلقة بالأدلة والكيفيتين فالمتعلقة فصل وإنما جعلناه فصلا لأن التعلق داخل في ذات العلم فإن جعلته خارجا كان خاصة وكان التعريف رسما تاما.
البحث الثالث
في الفرق بين المعاني الثلاثة وتعريفاتها وما بينها من النسب.(11/44)
أما المعنى الأول وهو معنى أصول الفقه قبل التسمية فهو أعم مطلقا من الثاني والثالث اللذين هما بعد التسمية وتعريفه أعم من تعريفهما ولا يحصل به تعريف هذا العلم كما سبق وإطلاقه عليه إطلاق الأعم على الأخص ولم يذكر المصنف ولا غيره ممن أراد تحديد علم أصول الفقه ذلك إلا على سبيل التقدمة كما فعله الإمام فإنه ذكر المفردات ثم ذكر تعريف أصول الفقه بعد مسمى به ولذلك أخذ فيه قيد الإجمال ولو راعى مدلوله قبل التسمية لم يأخذ فيه قيد الإجمال وأما معناه اللقبي ومعناه الإضافي بعد التسمية إذا لوحظت أجزاء لفظه فهما سواء وتعريفهما سواء فسرنا الأصول بالأدلة أم بالمحتاج إليه فيصح على كل من التقديرين هذا أن نجعل أصول الفقه اسما للأدلة وهي محتاج إليها فيتحد المعنى اللقبي والإضافي أما الإضافي فظاهر وأما اللقبي فلتسمية الأدلة بذلك ويصح أن نجعله اسما للمعرفة فيتحدان أيضا أما اللقبي فظاهر وأما الإضافي فظاهر إن جعلنا الأصل المحتاج إليه وإن جعلناه الدليل فنكون قد سمينا به العلم بالدليل من باب تسمية العلم باسم المعلوم.(11/45)
ص -28-…فإن قلت: إذا جعلنا الأصول للأدلة والتسمية للمعرفة تغاير المعنى اللقبي والإضافي قطعا فيجب أن يكون لكل منهما حد قلت ليس المراد بالإضافي معناه قبل التسمية وإلا لورد المعنى الأول وقد قدمنا أنه خارج قطعا فإنما المراد تعريف المعنى اللقبي باعتبار ملاحظة أجزاء اللفظ فلا بد أن يوجد فيها تعبير إما بمجاز أو بتخصيص حتى يوافق اللقب وحينئذ يتحد التعريفان ويستحيل أن يكون لعلم أصول الفقه المصطلح عليه حدان أحدهما باعتبار الإضافة قبل التسمية والثاني باعتبار اللقب.
تعريف الفقه
"والفقه العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية".
في معنى الفقه بحسب اللغة ثلاثة أقوال:
أحدها: مطلق الفهم.
والثاني: فهم الأشياء الدقيقة.
والثالث: فهم غرض المتكلم من كلامه وقولنا غرض المتكلم من كلامه إشارة إلى أنه زائد على مجرد دلالة اللفظ الوضعية فإنه يشترك في معرفتها الفقيه وغيره ممن عرف الوضع وبهذا الاعتبار يسلب عمن اقتصر على ذلك من الظاهرية اسم الفقيه وأما في الاصطلاح فقد ذكره المصنف والكلام عليه من وجوه:
أحدها: قوله: العلم جنس يشمل التصور والتصديق القطعي وإنما قلنا ذلك لأن العلم صفة توجب تمييزا لا يحتمل النقيض ويلزمها التعلق بمعلوم فإن كان المعلوم ذاتا أو معنى مفردا أو نسبة غير خبرية فهو التصور وإن كان نسبة خبرية فهو التصديق القطعي مثاله العالم حادث وههنا أربعة ذات العالم ومعنى الحدوث في نفسه والارتباط بينهما من غير حكم بثبوته أو بانتفائه والعلم بهذه الثلاثة تصور والرابع هو ثبوت ذلك الارتباط أو انتفاؤه وهو النسبة الخبرية وهو التصديق وهكذا في كل قضية موضوعها ومحمولها مفردا والارتباط بينهما نسبة تقييدية وهو من قبيل المفرد ووقوع تلك النسبة(11/46)
ص -29-…أو عدم وقوعها أمر رابع فتعلق العلم بتلك الثلاث تصور وتعلقه بالرابع تصديق والفرق بين الثالث والرابع دقيق فإنك تقول علمت حدوث العالم بمعنى تصورته وعلمت حدوث العالم بمعنى صدقت به فالنسبة واحدة ولكن التصور علمها في نفسها والتصديق علم حصولها فحقيقة المعلوم في التصديق كحقيقة المخبر به في الخبر بل هي حقيقة واحدة إن تعلق بها الكلام سمي خبرا وإن تعلق بها العلم سمي تصديقا والتصور أخص من العلم مطلقا والتصديق أخص منه من وجه لأن التصديق قد يكون بالخبر وليس بعلم لخروجه من حد العلم وتفسير التصديق بما قلناه وهو العلم بالنفي والإثبات يصحح انقسام العلم الذي هو الإدراك إلى التصور والتصديق بخلاف ما إذا فسرناه بالحكم أو بالحكم مع التصور فلا يصح انقسام العلم إليه إلا إذا قيل إن العلم بالنفي أو الإثبات حكم والمعروف أن الحكم إيقاع النسبة.(11/47)
وكشف اللبس في ذلك أن الحكم هو نسبة أمر إلى أمر بالإثيات أو النفي وهو قسم من أقسام الكلام قد يكون بالنفس وقد يكون باللسان فإذا قلنا حكم الذهن فإنما نريد الإخبار النفساني ثم إن هذا الإخبار محتمل للتصديق والتكذيب والتصديق والتكذيب إما بالإخبار بأن يقال لقائله صدقت أو كذبت وإما بالعلم والاعتقاد فإن من علم صدق المخبر يقال له مصدق له ومن علم كذبه يقال أنه مكذب له فسمى العلم المتعلق بذلك الخبر أو بمضمون الخبر تصديقا لما قلناه لأنه مصدق له فالعلم يتعلق بالحكم أو بمضمونه لا ينقسم إليه وقولنا بمضمونه لأن العلم قد يتعلق بالنسبة الخارجية وقد يتعلق بالخبر عنها فالثاني تصديق للخبر والأول تصديق لمضمونه والحكم منه ما هو تصديق وهو الأخبار بصدق الصادق ومنه ما ليس بتصديق وهو تقييد الأحكام وأنما شاع في العرف إطلاق التصديقات على القضايا مطلقا لأنها قابلة لأن تصدق فكأنهم قالوا الصادقة ومن هنا يتبين أن أحق القضايا باسم التصديق ما كان مقطوعا به لأنه الذي يصدقه العلم أما المظنونة والمشكوك فيها والموهومة فلا يوثق بأيها إذا عرضت على العلم بصدقها أو بكذبها فإن أطلق عليها اسم التصديق فإنما هو بطريق احتمالها له وإنما تسمى حكما وجميع الأشياء معروضة على العلم وهو الميزان لها فالمفردات بتصورها والأحكام الصحيحة بصدقها والباطلة بصدق نقيضها.(11/48)
ص -30-…ولما كان دائما في القضايا مصدقا لها ولنقيضها سمي تعلقه بها تصديقا وترك لفظ التكذيب للاستغناء عنه بنقيضه ولهجر لفظه وإنما سمى العلم بالصدق تصديقا لأن به يصدق فهو الأصل في الأصل في التصديق وإطلاق التصديق على الحكم بالصدق للزومه له وإطلاقه على الحكم بذلك بطريق الظن فيه بعيد وإطلاقه على الحكم مطلقا سواء كان تصديقا بخبر أم لا بعيد عن اسم التصديق.
وقد أطلنا في هذا لأنا لم نجد من حققه هكذا.
وفي العلم اصطلاح آخر خاص لا يندرج فيه التصور يقال فيه الاعتقاد الجازم المطابق لموجب وهذا هو أحد قسمي العلم العام وهو العلم التصديقي فإنا قدمنا أنه لا بد وأن يكون قطعيا فقولنا جازم مخرج الظن والشك والوهم وقولنا مطابق مخرج الجهل وقولنا لموجب مخرج التقليد.
ومنهم من يقول الثابت: بدل قولنا لموجب لأن اعتقاد المقلد غير ثابت لأنه يمكنه اعتقاد نقيضه واليقين لا يمكن اعتقاد نقيضه وهذا النوع من العلم لا يكون معلومه إلا حكما بإسناد أمر إلى أمر محتملا للتصديق والتكذيب أو مضمون ذلك الحكم وهو وقوع تلك النسبة في نفس الأمر كما بيناه.
إذا عرفت الاصطلاحين في العلم فلك أن تجعله في كلام المصنف بالمعنى الأعم ويخرج التصور بما بعده وهو الذي سلكه الإمام وعليه سؤال سنورده ولك أن تجعله بالمعنى الأخص فلا يكون التصور داخلا فيه ولا يكون قوله بالأحكام مخرجا لشيء بل توطئة للشرعية وعلى كلا التقديرين لا يندرج الظن فيه ولذلك أورد عليه السؤال الذي سيأتي.
وقد يطلق العلم باصطلاح ثالث على الصناعة كما تقول علم النحو أي صناعته فيندرج فيه الظن واليقين وكل ما يتعلق بنظر في المعقولات لتحصيل مطلوب يسمى علما ويسمى صناعة وعلى هذا الاصطلاح لا يرد سؤال الظن لكنهم كلهم أوردوه فكأنهم لم يريدوا هذا الاصطلاح أو أرادوه ولحظوا معه معنى العلم في الأصل ويطلق النحاة العلم أيضا على المعرفة وقد أصابوا(11/49)
ص -31-…ولكن ليس فيها اعتقاد ولا ظن بل تصور محض ولا يجوز أن تكون هي المراد ههنا لأن الفقه تصديق لا تصور.
"الوجه الثاني من الكلام على التعريف" الباء في قوله بالأحكام ولنقدم مقدمة وهي أن علم فعل متعد بنفسه وأما الباء في قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى}1 فاحتمل زيادتها واحتمل بأن يكون علم مضمنا معنى أحاط ومما يتنبه له إن علم المتعدية إلى مفعولين لم يدخلوا الباء على واحد من مفعوليها إذا ذكرا صريحين ودخلت على أن وصلتها السادة مسدهما لدلالتها على النسبة التي هي المعلومة وهذا يقوي التضمين ويقوي قول أكثر النحويين أنها سادة مسد المفعولين ويضعف قول من يقدر معها مفعولا ثانيا لأن المفعول الأول لا يدخل عليه الباء وليس هو المعلوم أعني المخبر بعلمه إنما المخبر بعلمه نسبة الثاني إليه وإذا علمت قيام زيد بمعنى أنه قام أو يقوم جاز دخول الباء في المفعول كما يدخل على إن لأن المعلوم فيهما ثبوت النسبة وإذا كانت علم بمعنى عرف جاز دخول الباء على مفعولها وتكون زائدة كقولك عرفته وعرفت به فإن أردت غيره صح أن يكون علم على حقيقتها.
إذا علمت هذا فدخولها في قوله: العلم بالأحكام لا بد منه أما على طريقة التضمين في الفعل فظاهر وأما على طريقة الزيادة في الفعل فلأن المصدر المعرف بالألف واللام ضعيف العمل جدا وإذا ضعف تقوى بالحرف كقوله: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ}2 {وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}3 وعلى كل تقدير هي متعلقة بالعلم وأما تقدير محذوف يتعلق به كقولنا العلم المتعلق بالأحكام فلا حاجة إليه إلا إذا فسرنا العلم بالصناعة فيظهر تقديره.
"الوجه الثالث قوله بالأحكام" يخرج به العلم بالذوات والصفات الحقيقية والإضافية غير الحكم "والأفعال" وإنما قلنا غير الحكم لأن الحكم الشرعي كلام يتعلق به فهو صفة عرضت لها الإضافة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة العلق 14.(11/50)
2 سورة يوسف عليه السلام 43.
3 سورة المائدة 46.(11/51)
ص -32-…"وهنا تنبيهات" منها: أن الحكم يطلق على النسبة الخبرية وهي معلوم التصديق وبه يخرج التصور كله وعلى إنشاء الأمر والنهي والتخيير ومنه الحكم الشرعي والعلم قد يتعلق به على جهة التصور ألا ترى إلى قول المصنف ولا بد للأصولي من تصور الأحكام الشرعية ليتمكن من إثباتها ونفيها وعلى هذا لا تكون الأحكام مخرجة للتصورات وإنما تخرج بقوله بعد ذلك المكتسب من أدلتها فإن التصور يكتسب من التعريفات لا من الأدلة وعلى كل من تكلم على الحد جعل قوله الأحكام مخرجا للتصورات هذا سؤال قوي وجوابه أن الحكم لفظ مشترك والمراد به ههنا المعنى الأول.(11/52)
فإن قيل: الألفاظ المشتركة لا تستعمل في الحدود من غير بيان وأيضا قال الفقه العلم بالأحكام الشرعية ثم عرف الحكم الشرعي بالخطاب فاستحال أن يكون غيره وإلا لما انتظم قلت ينتظم من جهة أنه إذا عرفت أن الحكم الشرعي الخطاب الموصوف ترتب عليه حكما بثبوت ذلك الخطاب أو نفيه وهذا هو المراد بقولنا: "الفقه العلم بالأحكام الشرعية" وسمي شرعيا لكونه لم يعرف إلا من الشرع والمتعلق به تصديق لا تصور والمذكور في حد الحكم هو حكم الله القائم بذاته وهو طلب أو تخيير وسمي شرعيا لأنه ناشئ من الشارع والعلم المتعلق به تصور وإنما ذكر لنعرف به الحكم المذكور في حد الفقه لتعلقه به والقاضي أبو بكر1 يجعل حكم الله إخباره يجعله الحكم لفعل كذلك فيستغني عن هذا التكلف وأما سؤال الإشتراك فهنا قرينة تبين المراد وهي أن الفعل متعد إلى مفعولين ولا يجوز دخول الباء على مفعوله إلا إذا تضمن نسبة بنفي أو إثبات كما تقدمت الإشارة إليه في الوجه الثاني فلما دخلت الباء هنا مع لفظ العلم الذي ظاهره التعدي إلى مفعولين على لفظ الحكم الذي هو ظاهر في النسبة كان ذلك قرينة على أن المراد بالأحكام ثبوتها لا تصورها ومن هنا يتبين لك أن المطلوب من الفقه علمه هو كون الشيء واجبا أو حراما أو مباحا وهو المذكور في حد الفقه ويقرب دعوى القطع فيه،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو أب بكر: محمد بن الطيب بن جعفر بن القاسم، المعروف الباقلاني، شيخ أهل السنة، من مؤلفاته في الأصول: "التقريب والإرشاد" وقد اختصره في التقريب والإرشاد الأوسط والصغير. توفي سنة 403هـ وفيات الأعيان 3/400، الأعلام المزركلي 3/909.(11/53)
ص -33-…لأن المراد العمل والمذكور في حد الحكم هو إيجاب الله أو تحريمه أو إباحته وهو صفة قائمة بذاته تعالى ويطلب تحقيقها من الأصولي لا من الفقيه والمطلوب تصورها ودعوى القطع في العلم بتعلقها بما علمه الفقيه غيره ولو قال قائل المراد بالأحكام هنا هو المذكور عند حد الحكم ونقدر بإثبات الأحكام ويستدل على هذا التقدير بما قلناه كان صحيحا والله أعلم.
"ومن التنبيهات" أن الإمام ممن ادعى أن قوله بالأحكام يخرج العلم بالذوات والصفات ثم أورد السؤال كون الفقه مظنونا فيقال إن إراد بالعلم الاعتقاد الجازم فيرد سؤال الظن ولا يحسن وأن يقال خرج بالأحكام العلم والتصديق فيصح ما ادعاه من الإخراج ولا يرد سؤال الظن لأن الظن قسم من أقسام التصديق الذي هو قسم من العلم وجواب هذا بالتزام الثاني ومنع كون الظن من أقسام العلم بيناه في الوجه الأول.
"ومن التنبيهات" أيضا أن بعض شرح من هذا الكتاب قال إن الأحكام تخرج العلم بالذوات والصفات كعلمنا بأن الأسود ذات والسواد صفة وهذه عبارة غير محررة فإن العلم بأن الأسود ذات والسواد صفة تصديق والعلم التصوري بنفس الذات ونفس الصفة متمثلة في الذهن.(11/54)
"ومن التنبيهات" أن الألف واللام في الأحكام للجنس هذا هو الذي نختاره والألف واللام الجنسية إذا دخلت على جمع قيل تدل على مسمى الجمع ويصلح للإستغراق ولا يقتصر به على الواحد والاثنين محافظة على الجمع والمختار أنه متى وقصد الجنس يجوز أن يراد به بعضه إلى الواحد ولا يتعين الجمع كما لو دخلت على المفرد نعم قد تقوم قرينة تدل على مراعاة الجمع مع الجنس فيقارب بذلك المفرد على ما قلناه ويصدق على العلم بحكم مسألة واحدة من الفقه أنها فقه ولا يلزم أن يسمى العالم به فقيها لأن فعيلا صفة مبالغة مأخوذة من فقه بضم القاف إذا صار له الفقه سجية وقال بعضهم إنها للعموم والمراد التمكن أي يكون له قوة قريبة من الفعل يصدق عليه بها للعلم بجميع الأحكام إذا نظر كما هي وظيفة المجتهد وهذا احسن في اسم فقيه اسم الفاعل المقصود(11/55)
ص -34-…به المبالغة لا في اسم الفقه المصدر وقال بعضهم إنها للعهد والمراد جملة غالبة بحكم أهل العرف عندها يصدق الاسم وهذا ليس بشيء.
"ومن التنبيهات" أن قولنا العلم بالأحكام يصدق على ثلاثة أشياء:
أحدها: تصور الأحكام وقد تحيلنا في إخراجه.
والثاني: إثباتها بمعنى اعتقاده أن الله أوجب وحرم وأباح من غير علم بأنه أوجب كذا أو حرم كذا أو أباح كذا وهذا أيضا ليس من الفقه في شيء بل هو من أصول الفقه.
الثالث: وهو المقصود إثباتها معينة لموضوعات معينة وقد عبر بعضهم عن هذا بقوله الأحكام الجزئية وأشار إلى أن هذا لا بد من زيادته في الحد.
"الوجه الرابع قوله الشرعية" يخرج الأحكام العقلية مثل كون فعل العبد عرضا أو حسنا وغير ذلك والمراد بالشرعية ما يتوقف معرفتها على الشرع والشرع هو الحكم والشارع هو الله تعالى ورسوله مبلغ عنه فلذلك يطلق الشارع على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وبما ذكرناه يندفع قول من قال إن الأحكام العقلية شرعية باعتبار أن الله خلقها وأنها تحت قضائه وقدره وقد وقفت على شرح لهذا الكتاب فيه أن قوله الشرعية احتراز عن الأحكام العقلية وتنبيه على أن المراد الأحكام بحسب الشرع لا بحسب العقل كما هو مذهب المعتزلة.(11/56)
وأعلم أن المعتزلة لا ينكرون أن الله تعالى هو الشارع للأحكام وإنما يقولون إن العقل يدرك أن الله شرع أحكام الأفعال بحسب ما يظهر من مصالحها ومفاسدها فهي طريق عندهم إلى العلم بالحكم الشرعي فليس قوله الشرعية تنبيها على خلاف قول المعتزلة وإن كان قول المعتزلة باطلا ولعله استند في هذا إلى قول الإمام فإنه قال قولنا الشرعية احتراز عن العلم بالأحكام العقلية كالتماثل والاختلاف والعلم بقبح الظلم وحسن الصدق عند من يقول بكونهما عقليين وكلام الإمام هذا صحيح وسعناه أن الحسن والقبح لا يدركان بالعقل عندنا فلا يحترز عنهما وأما عند المعتزلة فيدركان بالعقل وهما حكمان عقليان يحترز عنهما وليس العلم بهما فقها والحكم الشرعي تابع لهما على رأي المعتزلة لا عينهما فما كان حسنا جوزه الشرع وما كان قبيحا منعه(11/57)
ص -35-…فصار عند المعتزلة حكمان أحدهما عقلي والآخر شرعي تابع له والفقه هو العلم بالثاني فلذلك احترز عن الأول عندهم وكلام هذا الشارح يقتضي أنهم يطلقون على العلم بالأحكام العقلية فقها وليس كذلك فإذا تؤمل كلام الإمام كان ردا على ما قاله هذا الشارح وهذا المعتمد وغيره من كتب المعتزلة وفيها اعتبار الأحكام الشرعية في تعريف الفقه وقال هذا الشارح أيضا إن وجه نسبة الأحكام إلى الشرع أن تعلقاتها التنجيزية أو العلم بتعلقاتها التنجيزية مستفاد من الشرع لا أن نفس الأحكام أو تعلقاتها العلمية مستفاد من الشرع فإن الشرع حادث والأحكام وتعلقاتها العلمية قديمة والقديم لا يستفاد من الحادث انتهى ما قاله وكأنه لما رأى الأصحاب يقولون لا حكم قبل الشرع وأمثال هذه العبارة قاصدين لا حكم قبل البعثة توهم أن الشرع هو البعثة فقال إنه حادث وليس كما قاله ولا كما توهمه وإنما الشرع ما قدمناه.
وأما قول الأصحاب فمرادهم به لا حكم قبل العلم بالشرع أو عبروا بالشرع عن البعثة على سبيل المجاز لأن بها يعرف ويظهر وهذا هو الأظهر من مرادهم وصاحب هذا الكلام لم يذكر كلام الأصحاب هذا ولكني أنا ذكرته جاحدا له ودفعته فإني استنكرت قول الشرع حادث أما سمع قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً}1 فإن كان الشرع حادثا فالحكم حادث وهو لا يقول به وإن قال به رد عليه ثم مضمون كلام هذا القائل أن يكون الأحكام في الأزل ثابتة وهي غير شرعية وهذا شيء لم يقل به أحد أما أن ذلك مضمون كلامه فلأنه صرح بأن الأحكام قديمة وفسر نسبتها إلى الشرع بشيء حادث وأما أن ذلك لم يقل به أحد فلأن الناس منهم من قال الحكم الشرعي قديم ومنهم من قال الحكم حادث أما قدم الحكم وحدوث كونه شرعيا فلا قائل به فإن قال نسميه شرعيا لأنه بصدد أن يستفاد من الشرع الحادث قلنا نسميه شرعيا لأنه حكم من الشارع الحقيقي القديم.(11/58)
"الوجه الخامس قوله العملية" قيل يم يذكره ابن الباقلاني وذكره غيره وقال الإمام أنه احتراز عن العلم بكون الإجماع حجة والقياس حجة فإن كل ذلك أحكام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الشورى 13.(11/59)
ص -36-…شرعية مع أن العلم بها ليس علما بكيفية عمل وأشار الغزالي1 إلى ما أذكره وهو تبيين أن المراد بالأحكام الشرعية هنا ما استفيد من الشرع وهو أعم من تفسير الحكم الشرعي الذي سيأتي فإنه لو أريد ذلك لاستغنى عن قوله هنا العملية وأخص من مطلق الحكم ويصير لفظ الحكم الشرعي مشتركا بين ما ذكره هنا وهناك وكان شيخنا أبو الحسن الباجي2 يختار أن قيد العملية احتراز عن أصول الدين لأن منه ما يثبت بالعقل وحده كوجود الباري تعالى ومنه ما يثبت بكل واحد من العقل والسمع كالوحدانية ومنه وجوب اعتقاد ذلك ومنه ما لا يثبت إلا بالسمع لقصور العقل عن معرفته فأما الأول والثاني فخرجا بقولنا الشرعية وتفسيرنا إياها بما هو متوقف على الشرع وأما الرابع فقد يقال إنه داخل في الشرعية والأولى أن يجعل هو والأولان خارجة عنها بأن يراد بالحكم الإنشائي لا الخبري ولا شيء من الثلاثة بإنشاء وأما وجوب اعتقاد ذلك فهو حكم شرعي إنشائي فإن كان ذلك لا يسمى فقها فلا بد من إخراجه وما في الحد ما يخرجه إلا القيد المذكور ويرد على إخراجها وإخراج أصول الفقه بذلك إن أريد بالعمل عمل الجوارح والقلب فلا تخرج لدخولها في أعمال القلوب وإن أريد عمل الجوارح فقط خرجت النية وكثير من المسائل التي تكلم الفقهاء فيها كالردة وغيرها مما يتعلق بالقلب ولذلك ترى الآمدي وابن الحاجب لفظ العملية وقالا الفرعية لأن النية من مسائل الفروع وإن كانت عمل القلب ولعل الفقهاء إنما ذكروا ذلك لما يترتب عليه من الصحة والبطلان والمؤاخذة المتعلقات بالأعمال كما يذكر في بعض العلوم ما يتعلق به من علم آخر ثم إن كون الإجماع حجه مثل كون الزنا سببا لوجوب الحد وقد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: محمد بن محمد، أبو حامد الغزالي، صاحب إحياء علوم الدين والتصانيف العديدة في الأصول وغيره، مثل: المستصفى، والمنخول، وشفاء الغليل وغيره ذلك.
ولد سنة 450هـ وتوفي سنة 505هـ.(11/60)
البداية والنهاية 12/173، شذرات الذهب 1/10-13.
2 هو: علي بن محمد بن عبد الرحمن بن خطاب، علاء الدين الباجي، المولود في سنة إحدى وثلاثين وستمائة، كان عالماً بسائر العلوم النقلية والعقلية، الفقه والأصول، والمناظرة وغير ذلك. وكان أعلم أهل الأرض بمذهب الإمام أبي الحسن الأشعري في علم الكلام. توفي بالقاهرة سادس ذي القعدة سنة أربع عشرة وسبعمائة.
طبقات الشافعية 10/339، حسن المحاضرة 1/544،الدرر الكامنة 3/176.(11/61)
ص -37-…منع الإمام بعد ذلك أنه حكم شرعي فعلى طريقة لا حاجة له إلى إخراجه فطريق الجواب عنه أن مراده هناك أنه ليس بحكم زائد على أبحاث الحد وكذا كون الإجماع حجة معناه إيجاب العمل به وبمقتضاه فيجب الاحتراز عنه.
"الوجه السادس قوله المكتسب من أدلتها" صفة للعلم وفي بعض النسخ المكتسبة صفة للأحكام والأول أحسن بل يتعين وإلا لاحتاج الحد إلى زيادة قوله: إذا حصل بالاستدلال وعلى كلا التقديرين فهو احتراز عن علم الله تعالى وما يلقيه في قلب الملائكة والأنبياء من الأحكام من غير اكتساب واحتراز أيضا عن العلم بوجوب الصلاة والزكاة والصوم ونحوه مما هو معلوم من الدين بالضرورة لأن لفظ الفقه يشعر بالعلم بما فيه دقة ولا دقة في ذلك ولأن العوام يعلمون ذلك ولا تسمى فقهاء وقال التبريزي1 في هذا القسم المعلوم بالضرورة إنه فقه وإن لم يسم المتصف به فقيها فذلك لأن العلماء في اسم الفقيه عرفا كما أن لهم في اسم الفقيه عرفا وكون تلك العلوم ضرورية لا يخرجها عن كونها فقها فإن معظم علوم الصحابة شرائع الأحكام كان كذلك وهذا الذي قاله التبريزي هو المختار وإن ذلك يسمى فقها ولذلك يذكر في كتب الفقه وإنما لا يطلق على العالم به وحده اسم فقيه لما فيه من المبالغة وفقيه اسم فاعل من فقه بضم القاف إذا صار الفقه له سجية وهو وصف له في نفسه لا يتعدى إلى غيره والفقه هو مطلق الفهم وهو صفة يتعدى إلى المفهوم والضمير في أدلتها للأحكام ولو قال من أدلته لصح أيضا على ما في النسخ المشهورة من جعل المكتسب صفة للعلم.
"الوجه السابع قوله التفصيلية" جعله الجمهور احترازا عن اعتقاد المقلد فإنه اعتبار وحكم شرعي عملي مكتسب من دليل إجمالي وهو أن هذا أفتاني به المفتي وكل ما أفتاني به المفتي فهو حكم الله في حقي وهو دليل عام لا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(11/62)
1 هو: علي بن عبدالله بن أبي الحسن بن أبي بكر الأردبيلي، تاج الدين التبريزي، كان من العلماء المجيدين لفنون العلوم، من المنقول والمعقول، كالفقه، والأصول، والفرائض، والنحو والحساب، وعني في آخر حياته بدراسة علوم الحديث.
توفي بالقاهرة في شهر رمضان سنة ست وأربعين وسبعمائة.
طبقات الشافعية لابن السبكي 10/137-138، الدرر الكامنة 3/143، شذرات الذهب 6/148 الأعلام للزركلي 5/121.(11/63)
ص -38-…يختص بمسألة بعينها ومقدمته الأولى حسية والثانية إجماعية ولذلك قال الإمام هنا إن هذا القيد يخرج ما للمقلد من العلوم فجعل الحاصل عند المقلد علما وأدرجه في جنس حد الفقه وأخرجه بهذا الفصل لكنه بعد ذلك جعله قسيم العلم فإنه لغير موجب والعلم لموجب وإذا لم يكن إعتقاد المقلد علما لم يدخل في الجنس وهو قوله العلم فلا يحتاج إلى إخراجه بالفصل إلا أن يريد بالعلم الإعتقاد الجازم المطابق أعم من أن يكون لموجب أولا وهنا تم الحد وعلى النسخة التي فيها المكتسبة بالهاء لا يتم الحد هنا لأن المسائل التي يعلمها المقلد هي مستدل عليها في نفس الأمر بأدلة تفصيلية مكتسبة لغيره فلا يخرج إلا بأن تقول إذا حصلت أو حصل علمها بالاستدلال.
"قيل الفقه من باب الظنون" هذا سؤال على قوله العلم فاقتضى أنه لا شيء من الفقه بظني ونحن نبين لك أنه ظني لأنه موقوف على الظني والموقوف على الظني ظني أما كون الموقوف على الظني ظنيا فلأن الظني يحتمل العدم وعلى تقدير عدمه يعدم الموقوف عليه فلزم كونه ظنيا غير مقطوع به وأما كون الفقه موقوفا على الظني فلأنه موقوف على أدلته وأدلته نص أو إجماع أو قياس فالقياس كله ظني والإجماع اختلف فيه وعلى تسليم أنه قطعي فوصوله إلينا بالظن على أنه في غاية الندور والنص قسمان: أحاد لا يفيد إلا الظن ومتواتر وهو مقطوع المتن ظنون الدلالة وإن اقترن به قرائن حتى أفاد العلم التحق بالمعلوم من الدين ضرورة وأنتم قلتم أنه لا يكون فقها ومقتضى ذلك أن يكون كل الفقه مظنونا ولا شيء منه بمعلوم على عكس ما اقتضاه الحد وفي بعض النسخ قيل من باب الظنون أي الفقه وحذفه لدلالة الكلام عليه.(11/64)
"قلنا المجتهد إذا ظن الحكم وجب عليه الفتوى والعمل به للديل القاطع على وجوب اتباع الظن فالحكم مقطوع والظن في طريقه" مضمون هذا الجواب أن الفقه كله قطعي لا ظني وهذه المقالة تنسب إلى أكثر الأصوليين وحاصل كلامهم ومداره ما قاله المصنف وتقريره بالمثال أن نقول في الوتر مثلا الوتر يصلي على الراحلة فهو سنة فالوتر سنة والمقدمة الأولى ثابتة بخبر الواحد والثانية بالاستقراء وهما لا تفيدان إلا الظن فالنتيجة ظنية لتوقفها على الظن(11/65)
ص -39-…وهذا الظن الذي أراده المصنف بقوله والظن في طريقه وأكثر الناس إذا وصلوا إلى هذه النتيجة وقفوا عندها واعتقدوا أنها الفقه وهو الظاهر من اصطلاح الفقهاء وعليه بنى السائل سؤاله والأصوليون لم يقفوا عند ذلك لأن الظن لا يجوز اعتماده حتى يدل عليه دليل فنظروا وراء ذلك وقالوا لما حصلت هذه النتيجة وهي اعتقاد كون الوتر سنة ظنا ركبنا قياسا آخر من مقدمتين هكذا الوتر مظنون سنيته وكل ما هو مظنون سنيته فهو سنة في حق من ظنه.(11/66)
والمقدمة الأولى قطعية لأنها وجدانية فإن الظان يجد من نفسه الظن كما يجد الجوع والشبع والمقدمة الثانية قطعية لقيام الإجماع على أن حكم الله في كل مجتهد ما أداه إليه اجتهاده وفي حق من قلده حتى لو اعتقد خلاف الإجماع لدليل كان حكم الله في حقه إلى أن يطلع على مخالفته وهذا الإجماع نقله الشافعي في الرسالة والغزالي في المستصفى وإذا تقررت المقدمتان كانت النتيجة الوتر سنة في حق من ظنه وهي قطعية لأنها تابعة لمقدمتين قطعيتين ولا يضرها وقوع الظن في مقدمتي القياس الأول ونتيجته وهي طريق القياس الثاني لأن الظن إنما يضر إذا كان في مقدمات الدليل وهنا مقدمتا القياس قطعيتان والمظنون خارج عنهما ووجود الظن الذي هو حاصل مقدمة القياس الثاني ليس مظنونا وهذا التقرير على حسنه إنما يفيدنا القطع بوجوب العمل فلذلك اختار جماعة أن الفقه هو العلم أو الظن والإنصاف أنهما مقامان اعتقاد كون الحكم عند الله كذا لا يمكن دعوى القطع فيه واعتقاد وجوب العمل بما ظنه من ذلك دعوى القطع فيه ممكنة والفقهاء نظروا للأول والأصوليون نظروا للثاني ولا مشاححة في الاصطلاح ولم يتوارد اختلافهما على شيء واحد على أني أقول قولهم حكم الله في حق كل مجتهد ما أداه إليه اجتهاده سبيله أنه يجب عليه اتباعه ودعواهم الإجماع بهذا التفسير صحيح وبغير هذا التفسير ممنوع فإذا قلنا المصيب واحد والمخطيء معفو عنه لا يستمر هذا الإطلاق وإن كان بعضهم قال إنه يتعين التكليف ولكن يجب حمله على أنه يأثم بترك ما ظنه واجبا وبفعل ما ظنه حراما لجراءته على ربه بحسب اعتقاده وأما أن ذلك يصير في حقه كالواجب والحرام في نفس الأمر فلا يمكن وإذا ظن زوجه أجنبيه فوطئها يأثم ولكن أيميز إثمه أو يساوي إثم الزاني.(11/67)
ص -40-…وقول المصنف للدليل القاطع على وجوب اتباع الظن يقربه إلى الإجماع الذي جعلناه دليل المقدمة الثانية من القياس الثاني ومنع بعض الناس قطعيا قطعية هذا الدليل ليس يجمل لأنه لا بد لنا من دليل قاطع على اتباع الظن دفعا للتسلسل أو اثبات الظن بنفسه فلا بد من قاطع أما إجماع وحده وإما مع قرائن تحتف به تفيد القطع وهذا المعنى والتقرير يحصل في كل مسألة من مسائل الفقه سواء كان دليلها نصا أم قياسا أم غيرهما مما يفيد الظن وقوله مقطوع أي مقطوع به ولكنه حذف الجار وتوسع بتعدية الفعل إلى الضمير.
"ودليله المتفق عليه بين الأئمة الكتاب والسنة والإجماع والقياس" قوله المتفق عليه إشارة إلى أن ثم أدلة مختلفا فيها وسنذكرها وقوله بين الأئمة أي المعتبرين وإلا فقد أنكر بعض الناس القياس وبعضهم الإجماع ولعله لا يسمى من أنكر ذلك إماما وهو حق لأن الإمام من يقتدى به وهؤلاء لا يقتدى بهم فلذلك طلق الأئمة ووقع في بعض النسخ الأمة والأول أصح لبعد التجوز في الثاني.
"ولا بد للأصولي من تصور الأحكام الشرعية ليتمكن من إثباتها ونفيها" لا بد أمعناه لا فراق ولذلك قال ابن عبد السلام إنه إذا حلف لا بد أن يفعل كذا ولم يفعله على الفور حنث والمختار أنها لا تفيد الفور المعروف والأصولي نسبة إلى الجمع لأنه مسمى به كالأنصاري والأنماري ولو لم يسم به لم تجز النسبة إلا إلى المفرد فيقال أصلي والحكم على الشيء بالإثبات أو النفي مسبوق يتصوره والأصولي يريد أن يثبت الوجوب مثلا للأمر والتحريم المنهى أو ينفيهما وكذلك بقية الأحكام فلذلك لا بد أن يتصورها أولا وقصد وبهذا وجه الحاجة إلى تقدم هذه المقدمة.
"لا جرم رتبناه على مقدمة وسبعة كتب".(11/68)
الذي يسبق إلى الذهن من لا جرم في هذا الموضع أن معناها لأجل ذلك أي لأجل ما سبق رتبناه على كتب وقد جاءت لا جرم في القرآن في خمسة مواضع متلوة بأن واسمها ولم يجئ بعدها فعل والذي ذكره المفسرون واللغويون في معناها أقوال:(11/69)
ص -41-…أحدها: أن لا نافية وجرم فعل معناه حق وأن ما في حيزه فاعلة وهذا مذهب الخليل وسيبويه والأخفش فقوله تعالى لا جرم أنهم معناه رد على الكفرة وتحقق بخسرانهم.
والثاني: أن لا زائدة وجرم معناه كسب أي كسب لهم عملهم الندامة فإن ما في حيزها على هذا القول في موضع نصب وعلى الأول في موضع رفع.
الثالث: أن لا جرم كلمتان ركبتا وصار معناهما حقا وكثيرا ما يقتصر المفسرون على ذلك.
الرابع: أن لا جرم معناه لا بد وإن الواقعة بعدها في موضع نصب بإسقاط حرف الجر قال الفراء لا جرم كلمة كانت في الأصل بمعنى لا بد ولا محالة فكثر استعمالها حتى صارت بمنزلة حقا تقول لا جرم لآتينك قال الواحدي وضع موضع القسم في قولهم لا جرم لافعلن كما قالوا حقا لأفعلن وأنت إذا تأملت هذه الأقوال لم ينطبق شيء منها على معنى التعليل الذي قصده المصنف والذي يظهر أن التعليل مستفاد من ترتيب الحكم على الوصف وتصحيح كلام المصنف بأن يقدر فلا جرم أنا رتبناه فإضمار الفاء لإفادة التعليل وتقدير أن واسمها لتوافق موقعها من القرآن أو ينزل الفعل منزلة المصدر ويستغنى عن إضمار أن والتقدير فحقا رتبناه والمقدمة بكسر الدال وفتحها وهو أشهر فالكسر لأنها تقدم الناظر فيها إلى ما بعدها والفتح لأن الناظر يقدمها بين يديه إلى مقصوده هذا في مقدمة الكتاب ومقدمة الدليل أما مقدمة الجيش فلم يجعل الجوهري فيها إلا كسر الدال لأنها تقدم الجيش.
ووجه تقديم المقدمة في أول الكتاب كونه لا بد لكل أصولي من تصور الأحكام والكتب السبعة منها الأربعة التي قدمها الكتاب والسنة والإجماع والقياس كل منها كتاب.
والخامس: الأدلة المختلف فيها وهذه الخمسة هي الأدلة التي تضمنها المعرفة الأولى من أصول الفقه.
والسادس: في التعادل والتراجيح المقصود بالمعرفة الثانية.(11/70)
ص -42-…والسابع: في الاجتهاد المقصود بالمعرفة الثالثة.
وهذا جملة أصول الفقه.
"أما المقدمة ففي الأحكام ومتعلقاتها وفيها بابان".
لما كانت متعلقات الأحكام يحتاج إليها ذكرها معها وإن لم يبين فيما سبق إلا وجه الحاجة إلى تصور الأحكام.(11/71)
ص -43-…الباب الأول في الحكم وفيه فصول
الفصل الأول في تعريفه
"الحكم خطاب الله القديم المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير".
لما كان الكلام في الحكم الشرعي لم يحتج إلى تقييده وقد تقدم الكلام في كونه إنشائيا أو خبريا وتفسيره بالخطاب وتقسيمه إلى الاقتضاء أو التخيير يدل على أن المراد الإنشائي والخطاب مصدر خاطب يخاطب خطابا مخاطبة وفي تسمية كلام الله تعالى في الأزل خطابا خلاف قال القاضي أبو بكر الكلام يوصف بأنه خطاب دون وجود مخاطب ولذلك أجزنا أن بكون كلام الله في أزله وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم في وقته مخاطبة على الحقيقة وأجزنا كونه أمرا أو نهيا وعلى هذا لا يقال للموصي إنه مخاطب بما يودعه وصيته ويقال أمر من تفضي إليه الوصية انتهى فعلى هذا لا يصح أن يؤخذ الخطاب في حد الحكم لأن الحكم عندنا قديم ويجب أن يقال الكلام والمصنف تبع الإمام في لفظ الخطاب وكأن الإمام رأى أنه يقال في القديم باعتبار ما يصير إليه وإذا قلنا لا يطلق الخطاب في الأزل فهو يطلق بعد ذلك عند وجود المأمور والمنهي ينبغي أن يقال إن حصل إسماعه لذلك كما في موسى عليه السلام فيسمى خطابا بلا شك وإلا فلا على قياس قول القاضي وإذا سمينا ما يحصل إسماعه خطابا فلا يخرجه ذلك عن كونه قديما على أصلنا في جواز إسماع الكلام القديم وفي بعض نسخ الكتاب خطاب الله القديم كأنه رأى أن الخطاب يطلق على الكلام(11/72)
ص -44-…القديم على غير مذهب القاضي وعلى الأصوات والحروف الدالة على ذلك وهي حادثة فقال القديم ليخرجها وفي بعض النسخ لم يقل القديم نظرا إلى أن الخطاب هو الكلام والكلام حقيقة في النفساني فقط وهو المشهور عند المتكلمين فلا حاجة إلى قوله القديم فحصل في الخطاب قولان:
أحدهما: أنه الكلام وهو ما تضمن نسبة إسنادية.
والثاني: أنه أخص منه وهو ما وجه من الكلام نحو الغير لإفادته وإضافته إلى الله بخرج خطاب غيره والمتعلق بأفعال المكلفين يخرج المتعلق بذاته تعالى والجمادات وذوات المكلفين وفعله كقوله الله لا إله إلا هو ويوم نسير الجبال ولقد خلقناكم والمراد بالمكلفين من كان بالغا عاقلا ولنا في الصبي خلاف هل هو مأمور بالصلاة والصوم بأمر الشارع أو بأمر الولي وعلى كل تقدير ليس تكليفا لأن أمر الندب لا كلفة فيه ومن رأى أنه مأمور بأمر الشرع قال في حد الحكم الخطاب المتعلق بأفعال العباد ولا يرد على المجنون لأنه لم يوجه له خطاب ومنهم من يقول بأفعال الإنسان لأن كلامنا فيما يتعلق بهم وإن كانت الملائكة والجن مكلفين لكنهم خارجون عن نظرنا.
وقوله: "بالاقتضاء أو التخيير" يخرج قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}1 فإنه خطاب متعلق بأعمالنا على وجه الإخبار عنها بكونها مخلوقة لكنه ليس اقتضاء ولا تخييرا فخرج عن الحد والمراد بالاقتضاء الطلب فيشمل طلب الفعل إيجابا أو ندبا وطلب الترك تحريما أو كراهة والمراد بالتخيير الإباحة.
"قالت المعتزلة خطاب الله قديم عندكم والحكم حادث لأنه يوصف به ويكون صفة لفعل العبد ومعللا به كقولنا حلت بالنكاح وحرمت بالطلاق" هذا سؤال على الحد مركب وعلى مقدمتين الأولى مسلمة وإن كانت المعتزلة لا يقولون بها فإنا نقول بقدم الكلام والثانية لا نقول نحن بها فاستدلوا عليها بثلاثة:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الصافات 96.(11/73)
ص -45-…أحدها: أن الحكم يوصف به أي بالحدوث فنقول حلت هذه المرأة بعد أن لم تكن حلالا وحرمت بعد أن لم تكن حراما والبعدية تصريح بالحدوث.
والثاني: أنه أي الحكم يكون صفة لفعل العبد فتقول هذا الفعل حلال وهذا فعل حلال أو حرام والعبد حادث ففعله أولى أن يكون حادثا فصفة فعله أولى بأن تكون حادثة.
والثالث: أنه أي الحكم يكون معللا به أي بالحادث كقولنا حلت بالنكاح فالنكاح علة في الحل وحرمت بالطلاق فالطلاق علة في التحريم.
"وأيضا فموجبية الدلوك ومانعية النجاسة وصحة البيع وفساده خارجة عنها". هذا سؤال ثان وهو أن الحد غير جامع والحد يجب أن يكون جامعا لجميع أفراد المحدود مانعا من دخول غيره فيه فمتى خرج منه شيء أو دخل فيه غيره فيفسد والمراد بالدلوك زوال الشمس هذا هو الصحيح وقيل غروبها وكل منهما موجب لصلاة وغيره ذكر مع ذلك شرطية الطهارة والمراد أن هذه الخمسة أحكام شرعية غير الخمسة الأولى التي تضمنها الحد.
"وأيضا فيه الترديد وهو ينافي التحديد" هذا سؤال ثالث على قوله بالاقتضاء أو التخيير أو للترديد والترديد ينافي التحديد لأن المقصود بالتحديد الإيضاح والبيان والمقصود بالترديد الشك والإبهام.
واعلم أن مدلول "أو" إما شك كقولك جاء زيد أو عمرو وإما إبهام كقوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}1 وإما تبيين قسمة كقولك العدد زوج أو فرد وإما إباحة كجالس الحسن أو ابن سيرين وإما تخيير كخذ درهما أو دينارا فالشك والإبهام منافيان للبيان بلا إشكال والتقسيم ليس فيه بيان المقسم والحد إنما يؤتى فيه بما يفيد البيان أو التخيير والإباحة لا محل لهما هنا وفيهما الترديد فلا يدخلان في الحدود.
"قلنا الحادث التعلق" هذا جواب عن الوجه الأول من تقرير المقدمة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة سبأ 24.(11/74)
ص -46-…الثانية من السؤال الأول وهو أن الحكم يوصف بالحدوث فمنع ذلك وقال الحادث إنما هو التعلق فإذا قلنا حلت هذه المرأة بعد أن لم تكن حلالا فليس معناه أن إحلالها حدث وإنما معناه أنه تعلق بالعبد وهذا اختيار من المصنف أن التعلق حادث وهو المذكور في المحصول هنا وفي موضع آخر خلافه وهو المختار1 ولو كان التعلق حادثا لكان الخطاب المتعلق حادثا ضرورة أخذ التعلق قيدا فيه ويلزم على هذا أن يكون الحكم حادثا وهو قد فر منه وأن الكلام في الأزل لا يسمى حكما ومن ضرورته ألا يكون أمرا ولا نهيا ونحن لا نقول به ولا ينجى من هذا إلا أن يقال وصف الحكم في الأزل بالتعلق على سبيل الصلاحية ولكن هذا لا ضرورة إليه فالمختار أن الإحلال مثلا قديم وكذلك تعلقه وأن التعلق نسبة فهو يستدعي حصول متعلقه في العلم لا في الخارج وإنما الذي يحدث بعد ذلك الحل وهو غير الإحلال وإنما ينشأ عنه بشروط كلما وجدت وجد كما لو قلت أذنت لك أن تبيع عبدي هذا يوم الخميس فالإذن قبل الخميس موجود متعلق به وأثره يظهر يوم الخميس وعلى هذا يجب أن يحمل قولهم بحدوث التعلق فلا يكون بين الكلامين مخالفة في المعنى وكأن للتعلق طرفين من جهة المتكلم يتقدم ومن جهة المخاطب قد يتأخر.
"والحكم متعلق بفعل العبد لا صفته كالقول المتعلق بالمعدومات".
هذا جواب عن قوله ويكون صفة لفعل العبد فأجاب بأن الحكم قول متعلق بالفعل لا صفة للفعل لأن معنى الإحلال قول الله رفعت الحرج عن فاعله وهذا القول صفة لله تعالى قائم بذاته متعلق بغيره لا صفة كالقول
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(11/75)
1 في هامش النسخة المطبوعة: والمنسوب إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري أنه قديم، وعليه مدار كلام الأئمة، وفي ابن الحاجب التصريح به في مسألة أمر المعدوم، وهو الحق، ولو قيل: إن التعلق لا يوصف بقدم ولا حدوث، لكونه نسبة لم يبعد، إذ النسب والأمور الاعتبارية المختار فيها كذلك، لأنها عدمية، كما هو الحق، وقد فاه بذلك جميع متأخري علمائنا، لكن المشهور القول بالحدوث فليتأمل اهـ.(11/76)
ص -47-…المتعلق بالمعدومات إذا أخبرت عنها مثلا فليس القول صفة لها وإلا لزم قيام الموجود بالمعدوم وأما كون للقديم متعلقا بالحادث فلا يمتنع.
"والنكاح والطلاق ونحوهما معرفات له كالعالم للمصانع".
هذا جواب عن الدليل الثالث وهو قوله: "ومعللا به" أي بالحادث كقولنا حلت بالنكاح وحرمت بالطلاق فأجاب بأن هذه العلل شرعية والعلل الشرعية معرفات لا مؤثرات وكأن الله تعالى قال إذا تزوج فلان بفلانة بشروط كيت وكيت فاعلموا أني حللتها له فإذا وجد النكاح بتلك الشروط عرفنا الإحلال الأزلي ويجوز أن يكون الحادث معرفا للقديم كما أن العالم يعرفنا وجود الباري سبحانه وتعالى ووحدانيته فليس علة له.
واسم الصانع اشتهر على ألسنة المتكلمين في هذا المثال ولم يرد في الأسماء وقرئ في الشواذ: "صنعه الله"1 بالنون فمن اكتفى في الأسماء بورود الفعل يكتفي بمثل ذلك وما ذكره المصنف من الجواب يحسن إيراده على وجهين:
أحدهما: على سبيل المنع ابتداء فيقال لا نسلم أن النكاح والطلاق ونحوهما علل وإنما هي معرفات.
والثاني: على سبيل الاستفسار فيقال إن أردت بالعلل المعرفات فمسلم ولا يفيدك وإن أردت المؤثرات فممنوع والعلة تطلق بمعنى المعرف والداعي والمؤثر والمتكلمون ينكرون المؤثر بناء على أن الأفعال كلها من الله تعالى وهو تعالى فاعل بالاختيار لا مؤثر بالذات ولا وجود للعلة المؤثرة هذا مذهب أهل السنة والحكماء2 وكثير من المتكلمين غير أن أهل السنة تثبتها وإلا اختلف مدركهم وهذا تمام الأدلة الثلاثة التي قرر بها السؤال الأول.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية 138 من سورة البقرة وهي قوله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} وهي القراءة الصحيحة المتواترة.
أما قراءة صنعة الله بالنون فهي قراءة شاذة مروية عن الحجة في القراءات السبع لابن طالون 1/228.
2 المقصود بالحكماء هنا: الفلاسفة.(11/77)
ص -48-…"والموجبية والمانعية أعلام الحكم لا هو وإن سلم فالمعنى بهما اقتضاء الفعل والترك وبالصحة إباحة الانتفاع وبالبطلان حرمته".
هذا جواب عن السؤال الثاني بأحد طريقين: إما بأن تلك الأشياء التي ادعى خروجها عن الحد ليست أحكاما بل إعلاما بالحكم فلا معنى لكون الدلوك واجبا إلا أن الله تعالى أعلمنا به الوجوب ولا معنى لكون الوضوء شرطا إلا أن الله أعلمنا بعدمه بطلان الصلاة وإما بأن نسلم أنها حكم ونقول إنها ليست خارجة عن الحد بل راجعة إليه بتأويل وهو أن المعني بالموجبية اقتضاء الفعل وبالمانعية اقتضاء الترك ومعنى هذا أن موجبية الدلوك مثلا بمنزلة جعلت الدلوك معرفا لوجوب الصلاة والاقتضاء المذكور في الحد معناه وجبت الصلاة عند الدلوك وحاصل العبارتين سواء فبذلك يكون الحد جامعا وكلام المصنف ناطق بهاتين الطريقتين في الموجبية والمانعية وأما الصحة والبطلان فاقتصر فيهما على الجواب الثاني وهو رجوعهما إليه بتأويل وهو أن صحة البيع لا معنى لها إلا إباحة الانتفاع وفساده لا معنى له إلا حرمة الانتفاع وفيه نظر لأنا نعلل إباحة الانتفاع بالصحة وحرمته بالفساد والعلة غير المعلول ولأن بتمام الإيجاب والقبول تحصل الصحة ولا يباح الانتفاع حينئذ حتى يتم الخيار ويقبض ولم يذكر المصنف صحة العبادة وفسادها والسؤال وارد فيها أيضا وقد ذكر المصنف بعد هذا ما هو المعتمد في تفسير الصحة وهو أنها استتباع الغاية ومعناه أن العبادة أو العقد بحيث يترتب عليه أثره وهو الغاية المقصودة منه وغاية البيع مثلا إباحة الانتفاع فإن وقع البيع بحيث يكون كذلك كان صحيحا وإلا كان فاسدا وبهذا يصح تعليل إباحة الانتفاع بالصحة ويندفع توقف الإباحة على الخيار والقبض لأنه قد ينعقد السبب بحيث يترتب عليه مقصوده وإن توقف على شرط إذا وجد ذلك الشرط أضيف المشروط إلى السبب السابق إذا عرفت هذا فكون البيع بحيث يترتب عليه حل الانتفاع حكم ليس اقتضاء ولا تخيير(11/78)
فهو خارج عن الحد ورجوعه إليه بالطريق التي تقدمت في الدلوك وهو أن نقول الصحة نزلت منزلة قول الشارع جعلته مبيحا للانتفاع أي معرفا للإباحة والتخيير المذكور في الحد معناه إباحة الانتفاع عنده وحاصل العبارتين سواء.(11/79)
ص -49-…بقي هنا نظر آخر وهو كون البيع بحيث يترتب عليه حل الانتفاع هل هو معنى شرعي زائد على الإيجاب والقبول وسائر ما يعتبر معه أو هو تلك الأشياء فقط بغير زيادة أو مجموعهما يحصل به ذلك فإن كان الأول وهو المشهور عند الجمهور كان ذلك المعنى حكما شرعيا مفارقا لذات الدلوك مساويا لجعل الدلوك معرفا للوجوب فلذلك تعللت بطلب الطريق للثاني إذ لا يمكن إنكار كون ذلك شرعيا وإن كان الثاني وهو مقتضى كلام بعضهم ساوى الدلوك من كل وجه أمكن أن يقال حينئذ إن معنى الصحة الإعلام بإباحة الانتفاع عند اجتماع تلك الأمور وليست حكما بل إعلاما بالحكم وكذلك إن جعلنا الصحة وقوع البيع أو العبادة على وفق الوجه المشروع وقلنا إن هذا معنى عقلي لا شرعي فيأتي الطريقان أيضا في الجواب.
"والترديد في أقسام المحدود لا في الحد".(11/80)
هذا جواب عن السؤال الثالث وبيانه أن الترديد المنافي للتحديد هو الترديد في الحد وهنا ليس كذلك لأن الترديد إنما يكون في الحد لو كانت أو داخلة بين الجنس والفصل أو بين الفصول وههنا إنما وقعت بين أقسام الفصل الآخر وذلك أنه لما كان الخطاب المتعلق بأفعال المكلفين يشمل الاقتضاء والتخيير وغيرهما أتى بالفصل الآخر ليخرج غيرهما ويصير الفصل أحدهما من غير تعيين أعم من كونه اقتضاء أو تخييرا فهذا القدر المطلق هو الفصل ولا ترديد فيه ولكنه ينقسم إلى اقتضاء وتخيير فأتت أو بين قسميه فلا يحصل بها إخلال في الحد والفصل مساو للمحدود وكل ما كان أقساما لشيء كان أقساما لمساويه فلذلك قال المصنف إنها في أقسام المحدود ولم يكن الحد بدون أحدهما مانعا فلذلك لا بد من الفصل بأحدهما مطلقا و أو داخلة بين المعنيين وكل منهما معينا أخص من أحدهما مطلقا ولو وجد عبارة تشملهما أو تخرج غيرهما استراح من هذا السؤال وجوابه وقد خطر لي أن يكون الإنشاء فإنه يخرج الخبر ويشمل الاقتضاء والتخيير فيقال هذا الحكم الشرعي هو خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين على وجه الإنشاء،(11/81)
ص -50-…ويندرج فيه خطاب الوضع وكون الشيء سببا وشرطا ومانعا والحكم بالصحة والفساد سواء قلنا إن ذلك يرجع بتأويل إلى الاقتضاء والتخيير أم لا ويندرج فيه مثل قوله تعالى: {زَوَّجْنَاكَهَا} فتزويج الله لنبيه "زينب" حكم شرعي.(11/82)
ص -51-…الفصل الثاني في تقسيماته الأول
"الخطاب إن اقتضى الوجود ومنع النقيض فوجوب وإن لم يمنع فندب وإن اقتضى الترك ومنع النقيض فحرمة وإلا فكراهة وإن خير فإباحة".
لما فرغ من تعريف الحكم الشرعي شرع في تقسيمه وحذف قوله وهو من وجوه لدلالة الكلام عليه والألف واللام في الخطاب للمعهود السابق في حد الحكم وهذا التقسيم بحسب ذات الحكم والاقتضاء هو الطلب وقابل المصنف الوجود بالترك ولو جعل موضع الوجود الفعل أو موضع الترك العدم لكان أحسن من حيث اللفظ وأما المعنى ففيه تسمح على التقديرين لأن الترك فعل وجودي فلا يكون تقسيما لا للفعل ولا للوجود ولذلك قال غيره المطلوب إما فعل غير كف وإما كف وهذا بحسب حقيقة الفعل عقلا وأهل العرف يقابلون بين الفعل والترك المطلقين والأولى اعتماده في هذا التقسيم1 وعدم التقييد بكونه كفا وغير كف وقوله فوجوب صوابه فإيجاب فإنه الحكم والوجوب أثره تقول أوجبه الله إيجابا فوجب وجوبا وكذلك قوله حرمه صوابه تحريم ووجه الحصر بين
"ويرسم الواجب بأنه الذي يذم شرعا تاركه قصدا مطلقا".
لما ذكر الإيجاب والندب والتحريم والكراهة والإباحة في التقسيم المذكور بأن به ماهية كل واحد منها فالإيجاب طلب الفعل المانع من النقيض
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في هامش النسخة المطبوعة: "عبارة غيره: فالأول أن يعتمد في هذا التقسيم، ولعله الأول كما لا يخفى".(11/83)
ص -52-…والتحريم طلب الترك المانع من النقيض والإباحة هي التخيير بين الفعل والترك ولك أن تجعل مكان المانع من النقيض الجازم في جميع المواضع فهما مترادفان والأفعال التي هي متعلق هذه الأحكام هي الواجب والمندوب والحرام والمكروه والمباح تظهر ماهيتها بذلك أيضا فيقال الواجب المطلوب الفعل طلبا جازما والمندوب المطلوب الفعل طلبا غير جازم والحرام المطلوب الترك طلبا جازما والمكروه المطلوب الترك طلبا غير جازم والمباح المخير فيه ولكنه ذكر لها رسوما أخرى تظهر بها حقائقها وبدأ بالواجب
وترك ذكر الجنس وهو الفعل لدلالة الكلام عليه واكتفى بذكر الخواص فقوله الذي صفة لمحذوف أي الفعل الذي فالفعل جنس يشمل الخمسة والذي يذم تاركه أخرج المندوب والحرام والمكروه والمباح وعادة الأصوليين يقولون الذي يذم يخرج المندوب والمكروه والمباح وتاركه يخرج الحرام وكان الباجي يشرحه كذلك وأنا لا أختار هذا لأن الذي يذم وحده لا يصلح أن يكون فصلا ألا ترى أنك لو قلت الفعل الذي يذم لم بكن جنسا للمحدود ولا مفيدا للمقصود وقوله شرعا احترازا عن مذهب المعتزلة فإن عندهم الذم بالعقل فأشار بهذا إلى قاعدة الأشاعرة وهي أن الأحكام لا تثبت إلا بالشرع وقدم شرعا على تاركه حتى يتبين أن انتصابه عن يذم وقوله قصدا متعلق تاركه وهو قيد ليس في المحصول ولا في الحاصل وأراد به إدخال الواجب إذا ترك سهوا فإنه لا يذم ولا يخرجه ذلك عن الواجب ولو لم يقل ذلك لكان الرسم مطردا وغير منعكس لأن ما لا يذم تاركه قد يكون واجبا بأن يتركه سهوا وإطلاق تاركه مع ما فيه من العموم المستفاد من الإضافة يقتضي أن ما لا يذم كل تارك له ليس بواجب فقيد التارك بالقصد وكل قيد في الفصل يكثر به المحدود بخلاف زيادة الفصول فإنه ينقص بها الحدود وصار الرسم بهذا القيد مطردا منعكسا أما اطراده فلأن كل ما يذم تاركه قصدا ليس بواجب.(11/84)
فإن قلت الساهي غير مكلف فليس الفعل في حقه واجبا فلا يوصف بترك الواجب قلت إما أن يكون بني هذا على رأى الفقهاء فإنهم يقولون الصلاة واجبة على الساهي والنائم ولذلك يجب القضاء عليهما وإما أن يفرض(11/85)
ص -53-…فيهن سهى عن الصلاة بعد دخول وقتها ووجوبها عليه واستمر سهوه حتى خرج الوقت فالوجوب قد تحقق وتحقق الترك ولا معصية بسبب السهو كمن مات في أثناء الوقت لا يعصى على الصحيح فطريان السهو في أثناء الوقت كطريان الموت وكذا إذا طرأ النوم عن غلبة وإنما قيدت بقولي عن غلبة لأنه إذا قصد النوم حيث يحتمل عنده أن يستيقظ قبل خروج الوقت وألا يستيقظ والاحتمالان على السواء فإنه إذا نام يكون قد عرضها للفوات فيظهر عصيانه وهذا قلته تفقها ثم وجدته في فتاوى أبي عمرو بن الصلاح1 واستدل بما جاء في الحديث في العشاء أنه نهى عن النوم قبلها وإن غلب على ظنه أو يستيقظ قبل خروج الوقت2 فالذي يظهر جواز النوم ولا يعصى إذا استغرق به النوم على ندور حتى خرج الوقت ويحمل الحديث على ما سوى هذه الصورة أو على أنه نهى تنزيه وإن ظن أنه لا يستيقظ حرم بلا إشكال مهما نام بعد الوقت أما إذا نام قبله فلا لأن التكليف لم يتعلق به ودع3 من يعلم من عادته أنه لا يستيقظ إلا بعد الوقت لقول النبي صلى الله عليه وسلم "إذا استيقظت فصل" فإن قلت هل هذا القيد الذي زاده المصنف لا بد منه حتى يكون الحد بدونه فاسدا قلت ينبني على شيء وهو أن عدم الفعل أعم من تركه فمن مات ونام غلبه أو أقبل الوقت حتى خرج يقال في حقه لم يصل ولا يقال ترك الصلاة ومن اشتغل بضدها وهو ذاكر لها فقد تركها قصدا ومن نام عن اختيار في أثناء الوقت مع علمه من عادته ألا يستيقظ داخل في ذلك وأما الساهي وهو الذي اشتغل بضدها قاصدا لذلك الضد ولم يخطر بباله الصلاة فيقال إنه لم يصل وهل يقال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو عثمان بن عبد الرحمن، أبو موسى الشهرزوري، المعروف بابن الصلاح، أحد العلماء المبرزين في التفسير، والحديث، والفقه، أسماء الرجال وغير ذلك من العلوم النقلية والعقلية.(11/86)
من مؤلفاته: "معرفة أنوع علم الحديث" والمعروف مقدمة ابن الصلاة، والفتاوى، وشرح الوسيط في فقه الشافعية، طبقات الفقهاء الشافعية.
توفي رحمه الله تعالى سنة 643هـ وفيات الأعيان 1/312، الأعلام 4/369.
2 روى عن أبي برزة الأسلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم: "كان يستحب أن يؤخر العشاء التي تدعونها العتمة وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها" رواه الجماعة.
3 في هامش النسخة المطبوعة: في شرح ابن النحوي: ودع بصيغة الأمر والمعنى –والله أعلم- واترك من يعلم من عاداته إلخ فلا تقيد به". اهـ.(11/87)
ص -54-…إنه تارك الصلاة لأجل تلبسه بضدها مختارا له أولا لا يقال ذلك لعدم قصده لها فأشبه من لا ينسب إليه فعل هذا محل نظر فإن أطلقنا عليه اسم التارك فلا بد من القيد المذكور وإلا فلا حاجة إليه وهو الأولى لأن قولنا الواجب ما يذم على تركه معناه على تركه حين كونه واجبا والناس حين نسيانه لم يكن الفعل واجبا عليه فتركه الذي لم يذم عليه والوجوب لم يجتمعا في زمن واحد ولذلك أن القاضي أبو بكر وغيره من الأئمة لم يذكروا هذا القيد.(11/88)
"وقوله مطلقا" متعلق أيضا بتاركه وهو قيد في الفصل زائد في المحدود كما أشرنا إليه من قبل وأن مقتضاه الإدخال لا الإخراج وقصد به إدخال الواجب الموسع والمخير وفرض الكفاية فإن كلا منها قد يتركه قصدا تركا مقيدا فلا يذم كما إذا ترك الموسع في أول الوقت وفعله في آخره وترك خصلة من خصال المخير وفعل الأخرى وترك فرض الكفاية وقام به غيره لا يأثم في الصور الثلاث وإنما يأثم في الموسع إذا ترك هو لا غيره فإنه يصح حينئذ إطلاق الترك عليه والنوع الرابع من أنواع الواجبات وهو الواجب المضيق إطلاق الترك صادق عليه حيث ترك فلا قيد فشمل كلامه الواجبات الأربعة وهذا القيد وهو قوله مطلقا قاله صاحب الحاصل1 وحذف قول الأصحاب على بعض الوجوه لأن به يستغنى عنه وهم يجعلون على بعض الوجوه متعلقا بذم وفائدة هذا الرسم أنه إذا لم يرد من الشارع طلب لفعل ولكن ورد ذمه أو ذم فاعله لأجله استدللنا بذلك على وجوبه والذم معروف لغة وعرفا فلا حاجة إلى تفسيره والمعتزلة فسروه بأنه قول أو فعل أو ترك قول أو ترك فعل ينبني على إيضاح حال الفاعل ولأصحابنا معهم مشاححات متكلفة وأورد في المحصول أنه يدخل في هذا التحديد السنة فإن الفقهاء قالوا إن أهل محلة إذا اتفقوا على ترك سنة الفجر بالإصرار فإنهم يحاربون بالسلاح وهذا الذي قاله في سنة الفجر لم أر من الفقهاء ولا من غيرهم من قاله غيره وإنما قالوه في الأذان والجماعة ونحوهما من الشعائر الظاهرة ومع ذلك الصحيح عندهم إذا قلنا بسنتيها إنهم لا يقاتلون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو تاج الدين محمد بن حسين الأرموي، المتوفى سنة 656هـ اختصر كتاب "المحصول" للإمام الرازي في كتاب سماه "الحاصل" لا يزال مخطوطاً.(11/89)
ص -55-…على تركها خلافا لأبي إسحاق المروزي1 ويجاب على هذا القول بأن المقاتلة على ما يدل عليه ذلك من الاستهانة بالدين المحرمة لا على ترك السنة.
"ويرادفه الفرض وقالت الحنيفة الفرض ما ثبت بقطعي والواجب بظني" قال أبو زيد الدبوسي2 من الحنفية الفرض والتقدير والوجوب السقوط فخصصنا اسم الفرض بما عرف وجوبه بدليل قاطع لأنه الذي يعلم من حاله أن الله قدره علينا والذي عرف وجوبه بدليل ظني نسميه بالواجب لأنه ساقط علينا ولا نسميه بالفرض لأنا لا نعلم أن الله قدره قلنا الفرض المقدر أعم من كونه علما أو ظنا والواجب هو الساقط أعم من كونه علما أو ظنا فتخصيص كل من اللفظين بأحد القسمين تحكم ولو قالوا إن هذا مجرد اصطلاح لم نشاححهم والنزاع في موافقته للأوضاع اللغوية ثم زادوا وادعوا أن الفرض والواجب مختلفان بالحقيقية وقصدهم من هذا أن الوتر واجب وليس بفرض وقراءة الفاتحة في الصلاة واجبة بالحديث3 وأصل القراءة فرض بقوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}4 ولو سلم لهم الاختلاف في الطريق لم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: إبراهيم بن أحمد المروزي، صاحب المزني، أحد أئمة الشافعية، من مصنفاته "الفصول في معرفة الأصول" توفي 340هـ.
الأعلام للزركلي 10/10، الفهرست لابن النديم ص313.
2 هو: عبد الله بن عمر بن عيسى، أبو زيد أول من وضع علم الخلاف، كان فقيها باحثا. ألف "تأسيس النظر" فيما اختلف فيه الفقهاء، أبو حنيفة وصاحباه، ومالك والشافعي. و"الأسرار" في الأصول والفروع عند الحنفية، و"تقويم الأدلة" في الأصول.
توفي رحمه الله تعالى سنة 430هـ.
وفيات الأعيان 1/253، الأعلام 4/248.
3 صح في قراءة الفاتحة في كل ركعة من ركعات الصلاة أحاديث كثيرة منها:
أ عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه –أن النبي صلى الله عليه وسلم- قال: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب". رواه الجماعة.(11/90)
ب وعن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال، قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم: "من صلى لم يقرأ فيها بأم القرآن"- وفي رواية: "بفاتحة الكتاب"- فهي خداج، هي خداج غير تمام". رواه الشيخان وأحمد.
قال الخطابي: هي خداج: ناقصة نقص بطلان وفساد. فقه السنة 1/135.
4 سورة المزمل 20.(11/91)
ص -56-…يلزم منه الاختلاف في الحقيقة ثم لم يستمروا على ذلك وجعلوا القعدة في الصلاة فرضا ومسح ربع الرأس فرضا ولم يثبتا بقاطع.
وقد جاء في الحديث فريضة الصدقة يعني النصب والمقادير ويلزم الحنفية ألا يكون شيء من ذلك فرضا وألزمهم القاضي ألا يكون شيء مما ثبت وجوبه بالسنة كنية الصلاة ودية الأصابع والعاقلة فرضا وأن يكون الاشهاد عند السامع ونحوه من المندوبات الثابتة بالقرآن فرضا لما ادعوا أن الفرض ما ثبت بالقرآن والواجب ما ثبت بالسنة.
"والمندوب ما يحمد فاعله ولا يذم تاركه" لك أن تجعل ما بمعنى الذي كما قال في الواجب وأن تجعلها نكرة أي فعل وهو جنس للخمسة ويحمد فاعله خرج به المباح والحرام والمكروه ولا يذم تاركه خرج به الواجب والعموم المستفاد من النفي في قوله: ولا يذم تاركه أغنى عن التقييد بقوله قصدا مطلقا وفي بعض النسخ يمدح مكان يحمد وقد تقدم الكلام في الخطبة على الحمد والمدح ولا بد من قوله شرعا وكأنه لما ذكرها في حد الواجب اكتفى به عن ذكرها في الأربعة مع إرادتها1 وظن شيخنا الجزري2 أن الناسخ أسقطها فلحقها بالأصل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وأقول: إن البضاوي ذكر كلمة "شرعاً" مرتين وليس مرة واحدة كما قال السبكي، وكان البيضاوي دقيقاً في تعبيره، حيث ذكرها مرة في أول الأقسام وهو الواجب، الذي هو أعلى مراتب الفعل المطلوب تحصيله.
ولما طال العهد ذكرها مرة أخرى عند تعريف الحرام، وهو أعلى مراتب الفعل المطلوب تركه، ليشمل كل منهما ما تحته، والملحوظ كالملفوظ تماماً، وبهذا يندفع ما أورده الإسنوى على البيضاوي من اعتراض حيث قال: وأيضاً فقد تعرض المصنف لقوله شرعاً في رسمي الواجب والحرام، دون رسم المندوب والمكروه والمباح، مع أن المدح على الفعل في المندوب، وعلى الترك في المكروه لا يثبت عندنا إلا بالشرع، وكذلك نفي المدح، فالصواب ذكرها في الجميع، كما فعل صاحب الحاصل والتحصي.(11/92)
نهاية السول الشيخ بحيث 1/82.
2 هو: محمد بن يوسف بن عبد الله بن محمود الجزري، المتوفى سمة 711هـ كان أحد علماء القرن السابع الهجري، ومن المبرزين في سائر العلوم النقلية والعقلية، وهو أحد شيوخ الإمام السبكي.
من مؤلفاته: شرح على "منهاج الوصول للبيضاوي يسمى "معراج المنهاج" وهو من أقدم =(11/93)
ص -57-…"ويسمى سنة ونافلة" من أسمائه أيضا أنه مرغب فيه وتطوع ومستحب والترادف في هذه الأسماء عند أكثر الشافعية وجمهور الأصوليين.
وقال القاضي حسين1 من الشافعية السنة ما واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم والمستحب ما فعله مرة أو مرتين والتطوع ما ينشئه الإنسان باختياره ولم يردد فيه نقل وقالت المالكية السنة ما واظب النبي صلى الله عليه وسلم على فعله مظهرا له والنافلة عندهم وله رتبة من الفضيلة التي هي أنزل رتبة من السنة وللحنفية اصطلاح آخر في الفرق بين السنة والمستحب والصحيح ما قدمناه أولا لقوله صلى الله عليه وسلم: "من سن سنة"2 ولقوله: "ولكن أنسى لأسن"3 فانظر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الشروح التي وضعت على المنهاج. وقد وفقني الله تعالى لتحقيقه على نسختين مخطوطتين بدار الكتب المصري، ومكتبة الأزهر، لكنه لم يطبع حتى الآن ا هـ. محققه.
راجع في ترجمة الجزري: الوافي بالوفيات 5/263 طبقات الشافعية للاسنوي 1/383 ولابن السبكي 6/31 شذرات الذهب 6/42.
1 هو: الحسين بن محمد بن أحمد، أبو علي القاضي، أحد أعلام المذهب الشافعي، كان جبل فقه منيعاً صاعداً، تفقه على القفال المروزي.
قال عنه الرافعي: "وكان يقال له حبر الأمة".
توفي – رحمه الله تعالى- في المحرم سنة 462هـ.
من شعره.
إذا ما رماك الدهر يوماً بكنية…فأوسع لها صدراً وأحسن لها صبراً
فإن إله العالمين بفضله…سيعقب بعد العسر من فضله يسراً
طبقات الشافعية للسبكي 4/356-1365، شذرات الذهب 3/310، وفيات الأعيان 1/400.
2 أخرجه الإمام مسلم في حديث طويل من رواية عمرو بن جرير بن عبد الله وفيه "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء؛ ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء".(11/94)
3 رواه الإمام مالك في الموطأ – كتاب السهو حديث 4 ص83- ولفظه: "إني لأنسى أو أنسي لأسن" ورواه الغزالي بلفظ: "إني لا أنسى ولكن أنسى لأسن" ثم قال: وظاهر هذا الحديث أنه –صلى الله عليه وسلم- لا ينسى بباعث البشرية، وإنما ينسيه الله ليشرع، وعلى هذا فهو مخالف لما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود مرفوعاً "إنما أنا بشر أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني" سلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني 2/4.
ويبدو لي أنه لا تنافي بين الأحاديث الثلاثة، وأنها في جملتها تفيد أن الرسول – صلى الله عليه وسلم- كان =(11/95)
ص -58-…كيف جعل السنة بما يحصل نسيانا وهو أندر شيء يكون وأما المندوب فلا شك في عمومه لجميع ما ذكر والأصل المندوب إليه ولكنه حذف إليه وتوسع فيه فقبل المندوب وفي السنة اصطلاح وهو ما علم وجوبه أو ندبيته بيته بأمر النبي صلى الله عليه وسلم.
"والحرام ما يذم شرعا فاعله" فبقوله يذم فاعله خرجت الأربعة وكان ينبغي للمصنف على طريقته أن يقول قصدا لأن وطء الشبهة يصفه بعض الفقهاء بالتحريم ولا يذم عليه الصواب حذفها من الموضعين وأما قوله في الواجب مطلقا فلإدخال الواجب المخير والموسع وفرض الكفاية وليس ذلك في الحرام إلا أن الآمدي1 نقل خلافا في الحرام المخير فأصحابنا أثبتوه في نكاح الأختين والمعتزلة نفوه وكان الباجي يقول الحق نفيه لأن المحرم الجمع بينهما كما نطق به القرآن لا إحداهما ولا كل واحدة منهما بخلاف الواجب المخير فإن الواجب إما أحدهما وإما كل منهما على التخيير فلذلك الذي قال على بعض الوجوه في الواجب لم يذكرها في الحرام ولم يحتج المصنف إلى زيادة قيد آخر وأنا أقول في الأختين كذلك إن الحرام الجمع فقط وأثبت الحرام المخير كما أثبته القاضي أبو بكر وغيره من الأشعرية وأمثله بما إذا أعتق إحدى أمتيه فإنه يجوز له وطء إحداهما ويكون الوطء تعيينا للعتق في الأخرى وكذا إذا طلق إحدى امرأتيه وقلنا الوطء تعيين على أحد القولين ففي هذين المثالين الحرام واحدة لا بعينها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(11/96)
= ينسيه الله عز وجل في بعض الأمور لحكم كثيرة لأجل تعليم الأمة وتشريع الأحكام المترتبة عليها، وأن الحديث الذي رواه الغزالي ليس المراد منه نفي حكم النسيان بالجملة، وإنما فيه نفي لفظه وكراهة لقبه، كقوله صلى الله عليه وسلم: "بئس ما لأحدكم أن يقول: نسيت آية كذا، ولكنه نسى" أو نفي الغفلة وقلة الاهتمام ويؤيد ذلك قوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى. إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} الأعلى: 6-7 ه هـ. محققة.
1 هو: أبو الحسن، علي بن أبي علي محمد بن سالم التغلبي الأمدي، أحد العلماء المبرزين في العلوم النقلية والعقلية، من مؤلفاته في الأصول كتاب "الإحكام في أصول الأحكام" والذي لا يستغني عنه أي باحث.
توفي رحمه الله تعالى سنة 631هـ. الأعلام للزركلي 2/694.(11/97)
ص -59-…وقسم القاضي الأفعال إلى متماثلة ومختلفة فالمتماثلة لا يتعلق الأمر باثنين مبهما ولا جمعا بلا تخيير كاللونين في مكان واحد لعدم غيرهما والمختلفان كاللون والكلام يصح الأمر والنهي عنهما جمعا وتخييرا والضدان يجوز النهي تخييرا والنهي عنهما جميعا ولا يصح الأمر بهما جميعا وصورة التحريم المخير صريحا يقول حرمت هذا أو هذا وكذا لو قال لا تفعل كذا أو لا تفعل كذا فإن قال لا تفعل أو تفعل كذا بإسقاط أو كذا أو قال لا تفعل كذا أو كذا احتمل النهي المخير والنهي عن كل منهما وهو في الثاني أظهر وعلى ذلك قوله: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً}1 وقريب من هذا في المأخذ وإن اختلفا في الصورة قولك ما ضربت زيدا أو عمرا محتمل فإن قلت ولا عمرا كان نصا في أنه لم يضرب واحدا منهما وعند عدمها لا نص ولا ظهور في ذلك.
"والمكروه ما يمدح تاركه ولا يذم فاعله" فبقوله يمدح خرج الواجب والمندوب والمباح وبقوله ولا يذم فاعله خرج الحرام وليس معنى المكروه أن الله لم يرد فعله وإنما معناه ما ذكرناه وليس هو حسنا ولا قبيحا وفي المكروه ثلاثة اصطلاحات:
أحدها: الحرام فيقول الشافعي أكره كذا وكذا ويريد التحريم وهو غالب إطلاق المتقدمين تحرزا عن قول الله تعالى:{وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ}2 فكرهوا لفظ التحريم.
الثاني: ما نهى عنه نعي تنزيه وهو المقصود هنا.
الثالث: ترك الأولى كترك صلاة الضحى لكثرة الفضل في فعلها والفرق بين هذا والذي قبله ورود النهي المقصود والضابط ما ورد فيه نهي مقصود يقال فيه مكروه وما لم يرد فيه نهي مقصود يقال ترك الأولى ولا يقال مكروه وقولنا مقصود احتراز من النهي التزاما فإن الأمر بالشيء ليس إلا نهيا عن ضده التزاما فالأولى مأمور به وتركه منهي عنه التزاما لا مقصودا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الإنسان 24.
2 سورة النحل 116.(11/98)
ص -60-…"والمباح ما لا يتعلق بفعله وتركه مدح ولا ذم" لا بد من الإتيان بلا بين الفعل والترك وبين المدح والذم وبذلك تخرج الأحكام الأربعة فإن الواجب يتعلق بفعل مدح وبتركه ذم والحرام عكسه والمندوب يتعلق بفعله مدح ولا ذم في تركه والمكروه يتعلق بتركه مدح ولا ذم في فعله هذا تمام الرسوم وفيها زيادة على ما اقتضاه التقسيم من تعريف حقائقها وهي فائدة جليلة كما إذا رأينا فعلا لم يرد في الشرع في فعله مدح ولا ذم ولا في تركه أو ورد مدح أو ذم فيحكم بمقتضى ذلك وإن لم تأت صيغة طلب ولا تخيير وقد تقدم التنبيه على أنه لا بد من التقييد في الشرع في الكل وقد تعرض له الإمام في المندوب وصاحب الكتاب تعرض له في الواجب والحرام لأن الذم فيهما وكما أن الذم الذي ثبوته علامة الواجب والحرام هو الذم الشرعي وهو أخص من انتفاء الذم مطلقا فبدون هذا القيد يكون الرسم غير جامع لخروج المباحات التي انتفى الذم الشرعي فيها ووجد فيها ذم عقلي أو عرفي وأعني بالتقييد أن يكون كل من الوصفين المذكورين في طرفي الأحكام الثلاثة ثابتا بالشرع والتنبيه لذلك في قول المصنف المباح ما لا يتعلق بفعله وبتركه مدح ولا ذم إن أراد به عرف من الشرع انتفاء ذلك فصحيح وإن أراد أنه لم يوجد في الشرع مدح ولا ذم كذلك فلا يلزم كونه مباحا فقد يكون باقيا على حكم الأشياء قبل ورود الشرع ولذلك قال الإمام المباح ما علم فاعله أنه لا حرج في فعله ولا في تركه ولا نفع في الآخرة وقول الإمام هذا احتراز عن فعل البهيمة وغير المكلف فلا يكفي في الإباحة عدم الحكم بذلك بل الحكم بعدمه ويحتاج في المندوب والمكروه أن يأتي بقوله شرعا في طرفي الفعل والترك جميعا وتصحيح كلام المصنف أن يحمل على أنه أراد ذلك فإنه محتمل له على أني أقول إن ما لم يوجد في الشرع دليل على مدح ولا ذم في فعله ولا في تركه مباح بأدلة شرعية وإنما أورد عليه فعل غير المكلف كالساهي والنائم والبهائم وطريق(11/99)
الاعتذار عنه ما ذكرته أو يقال إنه إنما يتكلم في فعل المكلف.(11/100)
ص -61-…التقسيم الثاني للحكم باعتبار الحسن والقبيح
"الثاني ما نهى عنه شرعا فقبيح وإلا فحسن كالواجب والمندوب والمباح وفعل غير المكلف".
الحكم ينقسم بذاته إلى التحسين والتقبيح وتنقسم صفة الفعل الذي هو متعلقه إلى الحسن والقبيح ويتبع ذلك انقسام اسمه إلى حسن وقبيح فلذلك قسم الفعل إلى ما نهى عنه شرعا وهو القبيح وما لم ينه عنه شرعا وهو الحسن ومنه يعرف الحسن والقبيح والتحسين والتقبيح وإطلاق الحسن على الواجب والمندوب لا شك فيه وعلى المباح فيه خلاف والأصح إطلاقه عليه للإذن فيه والجواز الثناء على فاعله وإن لم يؤمر بالثناء عليه وفعل الله تعالى حسن باتفاق من به يعتمد لوجوب الثناء عليه وفعل ما سواه من غير المكلف كالنائم والساهي والبهيمة فيه خلاف مرتب على الخلاف في المباح وأولى بالمنع وهو الذي اختاره إمام الحرمين1 ولا شك في عدم إطلاق القبح في المباح وفعل غير المكلف فإذا أخرجناهما عن قسم الحسن كانا واسطة بين الحسن والقبح وأما المكروه فقال إمام الحرمين إنه ليس بحسن ولا قبيح فإن القبيح ما يذم عليه وهو لا يذم عليه والحسن ما يسوغ الثناء عليه وهذا لا يسوغ الثناء عليه ولم أر أحدا يعتمد خالف إمام الحرمين فيما قال إلا ناسا أدركناهم قالوا إنه قبيح لأنه منهى عنه والنهي أعم من نهي تحريم وتنزيه وعبارة المصنف بإطلاقها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني، الفقيه، الشافعي، شيخ الإمام الغزالي، ولد سنة 419هـ وتوفي بنيسابور سنة 478هـ.
طبقات الشافعية للإسنوي 4091- الأعلام للزركلي 2/598.(11/101)
ص -62-…تقتضي ذلك وليس أخذ الحكم المذكور من هذا الإطلاق بأولى من رد هذا الإطلاق بقول إمام الحرمين.
فإن قلت: إدراج المصنف وغيره لفعل غير المكلف لا يتعلق به الحكم لأن الحكم هو المتعلق بأفعال المكلفين قلت: الفعل الذي هو متعلق الحكم والفعل الحسن بينهما عموم وخصوص من وجه فقسمنا الأول إلى حسن وغيره والحسن من هذه القسمة لا يشمل فعل غير المكلف ثم قسمنا مسمى الحسن مطلقا إلى فعل المكلف وغيره مما ليس متعلقا بالحكم فخرج من التقسيمين أن الواجب والمندوب والمباح من قسم الحسن المحكوم فيه وأن فعل غير المكلف من قسم الحسن غير المحكوم فيه وهذا شأن العام من وجه حيث وقع وإنما يلزم أن يكون المقسم إلى المقسم إلى الشيء صادقا على ذلك الشيء مطلقا إذا كان التقسيم في الأعم والأخص مطلقا.
"والمعتزلة قالوا ما ليس للقادر عليه العالم بحاله أن يفعله وما له أن يفعله وربما قالوا الواقع على صفة توجب الذم والمدح فالحسن بتفسيرهم الأخير أخص".
يعني أن المعتزلة قالوا إن القبيح ما ليس للقادر عليه للعالم بحاله أن يفعله والحسن ما للقادر عليه العالم بحاله أن يفعله هذا تفسيرهم الأول والإمام نقله عن أبي الحسين1 واعترض عليه بأن قولك ليس له أن تفعله تقال للعاجز عن الفعل للقادر عليه إذا منع منه وإذا كان شديد النفرة وإذا زجره الشرع عنه والأولان غير مرادين ولا الثالث لأن الفعل قد يكون حسنا مع النفرة الطبيعية عنه والرابع يصير القبيح مفسرا بالمنع الشرعي يعني وهو قولنا وأنتم لا تقولون به فصار الحد غير كاشف عن مرادكم وأصل هذا أن صفة الحسن والقبح عندهم بالعقل وعندنا بالشرع فلا بد لهم من بيانها وذكر الإمام تفسيرهم الأخير أيضا عن أبي الحسين واعترض عليه بأنه يجب تفسير الاستحقاق فقد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(11/102)
1 هو: محمد بن علي الطيب، القاضي أبو الحسن البصري، شيخ المعتزلة، ولد بالبصرة وسكن بغداد، من مؤلفاته في علم الأصول "المعتمد" شرح "العمد" للقاضي عبد الجبار.
توفي سنة 426هـ وفيات الأعيان 1/609- شذرات الذهب 3/259.(11/103)
ص -63-…يقال: الأثر يستحق المؤثر أي يفتقر إليه لذاته والمالك يستحق الانتفاع بملكه أي يحسن منه والأول ظاهر الفساد والثاني يقتضي تفسير الاستحقاق بالحسن مع أنه فسر الحسن بالاستحقاق حيث قال الحسن هو الذي لا يستحق فاعله الذم فيلزم الدور فإن أراد معنى ثالثا فليبينه ثم نازعهم في تفسير الذم قال وهذه الإشكالات غير واردة على قولنا والمصنف أخذ معنى الحد الثاني دون لفظه ومراده أن القبيح هو الواقع على صفة توجب الذم والحسن هو الواقع على صفة توجب المدح وفي بعض نسخ المنهاج "فالحسن بتفسيرهم أخص" وفي بعضها "فالحسن بتفسيرهم الأخير أخص" وكلاهما صحيح فإن الحسن بتفسيرهم الأخير أخص منه بتفسيرهم الأول لدخول المباح في الأول دون الأخير والحسن بتفسيرهم أخص منه بتفسيرنا لدخول فعل غير المكلف في تفسيرنا دون تفسيرهم ولم يتعرض للقبيح ما حاله على التفسيرين ولا شك أنه بالتفسير الأخير لا يقع على غير الحرام وبتفسيرهم الأول هل يختص به فيستوي على التفسيرين أو يقع عليه وعلى المكروه فيكون بتفسيرهم الأخير أخص كالحسن فيه احتمال والأقرب الأول وقد نقل إمام الحرمين عن بعض المعتزلة أنه ارتكب إطلاق القبيح على فعل البهيمة وهذا يخالف التفسيرين ولعله يرتكب ذلك في الحسن.(11/104)
ص -64-…التقسيم الثالث للحكم إلى السبب والمسبب
"الثالث: قيل الحكم إما سبب وإما مسبب كجعل الزنا سببا لإيجاب الجلد على الزاني فإن أريد بالسببية الإعلام فحق وتسميتها حكما بحث لفظي وإن أريد التأثير فباطل لأن الحادث لا يؤثر في القديم ولأنه مبني على أن للفعل توجب الحسن والقبح وهو باطل.
هذا تقسيم آخر للحكم باعتبار أنه كما يكون بالاقتضاء أو التخيير يكون بالوضع كجعل الزنا سببا وقد تقدم الكلام في هذا في تعريف الحكم وهذا التقسيم منسوب إلى الأشعرية وهو مطرد في كل حكم عرفت علته فلله فيه حكمان.
أحدهما: الحكم بالسببية واختلف الناس في جواز القياس:
والثاني: الحكم بالمسبب والقياس عليه جائز باتفاق القايسين واتفق الأشعرية على أنه ليس المراد من الأول كون السبب موجبا للحكم لذاته أو لصفة ذاتية بل المراد منه إما المعرف وعليه الأكثرون وإما الموجب لا لذاته أو لصفة ذاتية ولكن يجعل الشرع إياه موجبا وهو اختيار الغزالي والإمام وافق الأكثرين معنى وخالفهم لفظا وخالف العزالي معنى ولفظا وإلى موفقة الأكثرين في المعنى دون اللفظ أشار المصنف بقوله "فإن أريد بالسببية الإعلام فحق وتسميتها حكما بحث لفظي" وإلى مخالفة الغزالي لفظا ومعنى أشار ببقية كلامه فإن الإمام زيف كلام الغزالي من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الزنا حادث والإيجاب قديم والحادث لا يؤثر في القديم.(11/105)
ص -65-…الثاني: أن الزنا قبل الجعل لم يكن مؤثرا فإن بقي بعد الجعل كما كان وجب ألا يصير مؤثرا وإن لم يبق كان إعداما لتلك الحقيقة والشيء بعد عدمه لا يكون مؤثرا.
الثالث: أنه لو جعل الزنا علة فالصادر بعد الجعل إما الحكم فالمؤثر في الحكم هو الشارع فلم يكن الزنا مؤثرا وإما شيء يوجب الحكم فيكون المؤثر في الحكم وصفا حقيقيا وهو قول المعتزلة في الحسن والقبح وهو باطل وإن لم يكن الحكم ولا ما يوجبه فهو محال لأن الشرع لما أثر في شيء غير الحكم وغير مستلزم للحكم لم يكن لذلك الشيء تعلق بالحكم أصلا والمصنف اقتصر على الأول وأخذ أقسام الثالث لأنها صفوة الكلام قال سراج الدين1 "ولقائل أن يقول على الأول لعلهم أرادوا جعل الزنا سببا لتعلق الحكم به وعلى الثاني أنه يجوز بقاء الحقيقة مع طريان صفة المؤثرية به وعلى الثالث أن الصادر من الشارع وهي غيرهما ولهما تعلق بالحكم" ولك أن تقول على الأول إن التعلق قديم فالسؤال بحاله وعلى الثاني إن المؤثرية نسبة والمؤثر لا بد أن يشتمل على صفة حقيقية لأجلها يصدر الأثر عنه والمؤثرية بدون ذلك محال وعلى الثالث أن المؤثرية بدون صفة حقيقية محال لما سبق ومعها يوافق قول المعتزلة وكلام الإمام يرشد إلى هذا فإنه قال إن كان الصادر ما يوجب الحكم كان المؤثر في الحكم وصفا حقيقيا فدخل في قوله ما يوجب الحكم المؤثر والمؤثرية ولذلك لم يقل كان وصفا حقيقيا بل قال كان المؤثر في الحكم فأخذ الإمام على التقديرين وقال إنه هل يعقل تأثير من غير أن يكون المؤثر مؤثرا بذاته أو بصفة قائمة أو لا يعقل ذلك وعلى هذا ينبني كون العبد موجدا لفعل نفسه باقدار الله تعالى له وخلقه له ما يقتضي تأثيره في الفعل من غير أن يكون العبد مؤثرا بذاته وبصفة ذاتية فأصحابنا ينكرون ذلك ويقولون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(11/106)
1 هو محمود بن أبي بكر الأرموي المتوفى سنة 682هـ اختصر كتاب "المحصول" للإمام الرازي في كتاب سماه "التحصيل" وعلى هذا الكتاب شرح للإمام محمد بن يوسف الجزري المتوفى سنة 711هـ لكنه مفقود لم أعثر عليه بعد البحث الطويل.
معجم المطبوعات ص919.(11/107)
ص -66-…الصادر عنه فعل الله والمعتزلة لا يتحاشون من القول بتأثيره بذاته أو بصفة وشذوذ منا توسطوا فقالوا بمثل ما قالوا به هنا في الحكم بالسببية ويلزمهم ما لزم هذا ما يتعلق بكلام الإمام وأما المصنف وقوله أنه ينبني على أن للفعل جهات توجب الحسن والقبح فيحتاج إلى مقدمة وهي أن المعتزلة مع إجماعهم على القول بالحسن والقبح العقليين افترقوا فطائفة منهم قالوا إن الفعل لذاته يكون حسنا أو قبيحا من غير صفة وطائفة قالوا بصفة وطائفة قالوا بوجوه واعتبارات وهو الذي أشار إليه المصنف ويلزم من بطلان قولهم في ذلك بطلان قولهم في الصفة وفي الذات من طريق الأولى فما سلكه أتم في الزام مذهب المعتزلة مما سلكه الإمام في الصفة لأنه قد لا يوافق قائل هذه المقالة المعتزلة في الذات والصفة الحقيقية ويوافقهم في الوجوه والاعتبارات فإذا بين بطلان قولهم فيه بطل قوله والمراد بالوجوه أن الوطء مثلا له جهة نكاح وجهة زنا فيحسن بالأولى ويقبح بالثانية.(11/108)
ص -67-…التقسيم الرابع للحكم باعتبار الصحة والفساد
"الرابع: الصحة استتباع الغاية وبإزائها البطلان والفساد وغاية العبادة موافقة الأمر عند المكلمين وسقوط القضاء عند الفقهاء فصلاة من ظن أنه متطهر صحيحة على الأول لا الثاني".
تفسير الصحة باستتباع الغاية جيد من جهة كونه شاملا للعبادات والمعاملات إلا أن الأولى في تحرير العبارة أن يقال كون ذلك الشيء يستتبع غايته فإن استتباع الغاية يقتضي حصول التبعية وقد يتوقف ذلك على شرط كالعقد في زمن الخيار وكونه يستتبع الغاية صحيح وإن توقفت التبعية على شرط لأن معناه أنه بهذه الحيثية وتفسير المتكلمين جيد لأن الصحة في اللغة مقابلة للمرض وعلى هذا النحو ينبغي أن يكون في الاصطلاح فما وافق الأمر لا خلل فيه فيسمى صحيحا وجب قضاؤه أم لم يجب وما لم يوافق الأمر فيه خلل فيسمى فاسدا والخلاف بين الفريقين في التسمية ولا خلاف في الحكم وهو وجوب القضاء على من صلى ظانا الطهارة فتبين حدثه إذا كانت الصلاة فريضة وتسمية الفقهاء إياها فاسدة ليس لاعتبارهم سقوط القضاء في حد الصحة كما ظنه الأصوليون بل لأن شرط الصلاة الطهارة في نفس الأمر والصلاة بدون شرطها فاسدة ولا مأمور بها بل هو ظن أنه متطهر فترتب عليه الحكم بمقتضى ظنه وأمره ظاهرا بها كأمر المجتهد المخطئ بما ظنه وغايته أنه سقط عنه الإثم وأما أنه أتى بالمأمور به فلا وقولهم إن المامور به صلاة على مقتضى ظنه فممنوع بل صلاة على شروطها في نفس الأمر ويسقط عنه الإثم بظنه وجودها وقد رأينا الفقهاء قيدوا فقالوا كل من صحت صلاته صحة مغنية عن القضاء جاز الاقتداء به وهذا التقييد يقتضي انقسام الصحة إلى ما(11/109)
ص -68-…يغني عن القضاء وما لا يغني وقالوا فيمن لم يجد ماء ولا ترابا إنه يصلي على حسب حاله ويقضي وحكى إمام الحرمين في هذه الصلاة هل توصف بالصحة أو الفساد وجهين وهو غريب والمشهور وصفها بالصحة وكيف نأمره بالإقدام على صلاة يحكم بفسادها هذا لا عهد به وليس بمثابة الإمساك تشبها بالصائمين.
والفرق بين هذه الصلاة وصلاة من ظن الطهارة أن هذا عالم بحاله والظان جاهل فالعالم أتى بجميع ما كلف به الآن وبقي شرط أسقط عنه لعجزه ووجب استدراكه بعد ذلك بالقضاء والظان لم يأت بما هو الآن فريضة فالصواب أن يكون حد الصحة عند الفريقين موافقة الأمر غير أن الفقهاء يقولون ظان الطهارة مأمور بها مرفوع عنه الإثم بتركها والمتكلمون يقولون ليس مأمورا فلذلك يكون صلاته صحيحة عند المتكلمين لا الفقهاء ومن أمرناه بصلاة بلا طهارة ولا تيمم حيث يجب القضاء صحيحة على المذهبين وإن أوجب القضاء فليس كل صحيح يسقط.
واقتصر المصنف على غاية العبادة لذكر الخلاف ولم يذكر غاية العقود والمراد من كون العقد صحيحا عند المتكلمين على ما اقتضاه كلام القاضي أبي بكر وقوعه على وجه يوافق حكم الشرع من الإطلاق له وعند الفقهاء كونه بحبث يترتب أثره عليه وهو معنى إطلاقهم ترتب أثره.
والباطل هو الذي لا يترتب أثره عليه والبطلان والفساد لفظان مترادفان والإزاء والحذاء والمقابل ألفاظ مترادفة وجعل المصنف هذا تقسيما رابعا للحكم يقتضي أن الصحة والبطلان حكمان شرعيان ويكون الحكم تارة بالصحة وتارة بالبطلان وقد تقدم الكلام في رده إلى الاقتضاء والتخيير أو في كونه زائدا عليه وخالف ابن الحاجب1 الجمهور فقال إن الصحة والبطلان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس، المشهور بابن الحاجب، نشر العلم بين ربوع مصر وإسنا والقاهرة والإسكندرية والشام حتى توفي سنة 646هـ.(11/110)
وله العديد من المؤلفات، ومن أشهرها في الأصول "منتهى السول والأمل في علمي الأصول والجدل" وقد اختصره في كتاب آخر سماه "مختصر منتهى السول والأمل" وقد طبع عدة طبعات ووضع عليه العلماء الشروح والحواشي.
ابن خلكان 1/314، الأعلام للزركلي 2/629.(11/111)
ص -69-…أو الحكم بهام أمر عقلي وقال في المنتهى "القول بأن الحكم بالصحة والبطلان حكم شرعي بعيد" وحجته أن الموافقة أمر عقلي وقد فسرنا الصحة بها وأورد عليه أن العقلي ما لا مدخل للشرع فيه وهذا للشرع فيه مدخل فتسميته شرعيا غير بعيد وفهم بعض من شرح كتابه أنه لا يطرد قوله في صحة العقود لأن ترتب الأثر شرعي ولا يبعد طرده لأن الصحة ليست ترتب الأثر بل كونه بحيث يترتب الأثر عليه ومعنى ذلك وقوعه على وجه مخصوص وذلك أمر عقلي لكن تسميته شرعيا باعتبار أن للشرع مدخلا كما قلنا في العبادات.
وأعلم أن الإمام وأتباعه ومنهم المصنف أنكروا كون الصحة حكما زائدا على الاقتضاء والتخيير وأنكروا الحكم بالسببية كما سبق في الموضعين فلم يبق للصحة معنى عندهم في العقود إلا إباحة الانتفاع وهو شرعي ومن يفسر الصحة بكونه مبيحا للانتفاع يلزمه أن يوافق الغزالي في الحكم بالسببية أو يقول إنها عقلية وحكم القاضي مثلا بصحة عقد إنما يصح إذا قصد المعنى الشرعي لأنه الذي يثبته القاضي بخلاف الأمر العقلي وليس للقاضي أن يحكم إلا بما يصح أن يكون حكما من الشارع من اقتضاء أو تخيير أو خطاب وضع إن قلنا به وإذا جعلت الصحة عقلية لم يكن للقاضي الحكم بها بل بأثر الصحيح.
"وأبو حنيفة ما لم يشرع بأصله ووصفه كبيع الملاقيح باطلا وما شرع بأصله دون وصفه كالزنا فاسدا"
عند الحنفية إن كان العوضان غير قابلين للبيع كبيع الملاقيح بالدم مثلا فهو باطل قطعا وكذا إن كان المبيع وحده كبيع الملاقيح بالدراهم على الصحيح عندهم وإن كانا قابلين للبيع ولكن جاء الخلل من أمر آخر كبيع درهم بدرهمين كل من العوضين قابل للبيع والخلل من الزيادة فهو فاسد قطعا وكذا إن كان الثمن فقط كبيع ثوب بدم على الصحيح عندهم والفاسد عندهم إذا اتصل بالقبض يفيد الملك الخبيث والباطل لا يفيد شيئا وعندنا الباطل والفاسد سواء في المعنى والحكم ولا يفيد شيء منهما الملك.(11/112)
ص -70-…والملاقيح ما في بطون الأمهات وقد علمت المراد بأصله وهو كون المبيع يصح بيعه ووصفه هو الصحيح
وأما فرق أصحابنا بين الباطل والفاسد في الكتابة فلا يضرنا في نصب الخلاف في البيع ومحل الرد عليهم في ذلك كتب الفقه وكتب الخلاف.(11/113)
ص -71-…تعريف الأجزاء
"والأجزاء هو الأداء الكافي التعبد به وقيل سقوط القضاء ورد بأن القضاء حينئذ لم يجب لعدم الموجب فكيف سقط فإنكم تعللون سقوط القضاء به والعلة غير المعلول"
لما كان الإجزاء معناه قريب من معنى الصحة ذكره معها ولم يفرده بتقسيم ولكن الصحة أعم فإنها تطلق على المعاملات ولا يطلق الإجزاء في المعاملات.
وقوله الأداء يجب حمله على الأداء اللغوي لأن الإجزاء كما يكون في الأداء يكون في القضاء والإعادة فلو قال الفعل كان أحسن والضمير في به يعود على الأداء وما أورده من أن القضاء إذا لم يجب لا يقال سقط صحيح وهو وارد من حد الصحة بسقوط القضاء أيضا وما أورده من تعليل سقوط القضاء بالإجزاء تبع فيه الحاصل وعبارة المحصول لأنا نعلل وجوب القضاء بأن الفعل الأول لم يكن مجزئا والعلة مغايرة للمعلول فظن بعض الناس أنه انقلب على الإمام وكان الباجي يقول إنها إحدى عقد المحصول ويحتج بحلها زاعما أنه لو ادعى تعليل سقوط القضاء بالإجزاء منعه الخصم وقال هذا عين النزاع فأخذ مقابلها وأثبت التغاير بينهما وهو خارج عن محل النزاع ثم ينقل التغاير إلى محل النزاع لثبوت تغاير المقابلين ومن ضرورة ذلك تغاير مقابليهما و وأيا ما كان فقد أورد عليه أن العلة قد تكون لشيء وقد تكون لحكمنا كما إذا قلت هذا إنسان وسئلت لم حكمت عليه بذلك فتقول لأنه حيوان ناطق فالمغايرة هنا بين العلة وحكمك لا بينها وبين المحكوم به وهذا الإجزاء عن لحكمنا بسقوط القضاء لا لسقوط القضاء نفسه وليس هذا بالقوى.
في المحصول إيراد ثالث وهو أنه لو أتى بالفعل عند اختلال بعض(11/114)
ص -72-…شرائطه ثم مات لم يكن الفعل مجزئا مع سقوط القضاء ولك أن تمنع سقوط القضاء هنا بل يبقى في ذمته إن كان مفرطا.
وقول المصنف لعدم الموجب يعني أن القضاء إنما يجب بأمر جديد بعد خروج الوقت إذا ترك ولم يوجد.
"وإنما يوصف به وبعدمه ما يحتمل وجهين كالصلاة لا المعرفة ورد الوديعة".
الصلاة تقع تارة على وجه يكفي في سقوط التعبد بها وتارة على وجه لا يكفي فوصفت بالأجزاء وبعدمه لاحتمالها للوجهين المذكورين وأما المعرفة فلا يقال فيها مجزئة وغير مجزئة لأنه إن تعلق العلم بالله تعالى فهو المعرفة وإلا فلا معرفة بل الجهل وكذلك رد الوديعة والمغصوب إن حصل إلى المالك أو وكيله برئ وإلا فلا رد وقال الأصفهاني1 في شرح المحصول إنه لا يقال في العبادة المندوب إليها إنها مجزئة أو غير مجزئة وهذا الذي قاله بعيد وكلام الفقهاء يقتضي أن المندوب يوصف بالإجزاء كالفرض وقد ورد في الحديث: "أربع لا تجزئ في الأضاحي"2 واستدل به من قال بوجوب الأضحية وأنكر عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: محمد بن محمود بن محمد بن عياد السلماني، أبو عبد الله الأصفهاني من فقهاء الشافعية بأصفهان، ولد وتعلم بها، ثم رحل إلى بغداد والشام وتولى قضاء "نبج" وقوص بصعيد مصر، ثم استقر آخر الأمر بالقاهرة مدرساً.
من مؤلفاته: شرح المحصول في أصول الفقه، والقواعد في أصول الفقه والدين والمنطق والجدل.
توفي سنة 688هـ.
البداية والنهاية 13/315، الأعلام 7/308-309.
2 وتمام الحديث كما رواه الترمذي وحسنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أربع لا تجزيء في الأضاحي: العوراء البيّن عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين عرجها، والعجفاء التي لا تنقى" العجفاء التي ذهب مخها من شدة الهزال.
ويلحق بهذه الأربعة:
1- الغضباء: التي ذهب أكثر أذنها أو قرنها.
2- الهتماء: وهي التي ذهبت ثنايا من أصلها.
3- العصماء: وهي التي انكسر غلاف قرنها.(11/115)
4- العمياء: التي لا ترى.
5- التولاء: وهي التي تدور في المرعى ولا ترعى.
فقها لسنة 3/322 طبعة بيروت.(11/116)
ص -73-…وفي حديث أبي بردة "يجزئ عنك"1 ضبطه ابن الأثير بالوجهين بضم الياء مع الهمزة وفتحها مع الياء يقال: أجزأ بمعنى كفى وجزا بمعنى قضى ولا توصف المعاملات بالأجزاء وإنما يوصف به ما كان مأمورا به فالصحة أعم محلا منه لأنها تكون في المعاملات والعبادات ولا يوصف بها أيضا إلا ما يحتمل وجهين أن يقع صحيحا وفاسدا كالصلاة والعقود فإنها إن وقعت مستجمعة الأركان والشروط كانت صحيحة وإن وقعت على غير ذلك الوجه كانت فاسدة بخلاف المعرفة ليس لها إلا وجه واحد وهو إذا جعلنا اسم الصلاة موضوعا للصحيح والفساد ظاهر وأما إذا قلنا هو موضوع للصحيح فقط ولا يطلق على الفاسد إلا مجازا فإنه لا يكون لها إلا وجه واحد فكأنهم نظروا إلى المعنى الأعم الموجب للإطلاق المجازي وجعلوه مورد التقسيم إلى الصحيح وغيره ولا يرد هذا السؤال في الإجزاء لإنقسام الصحيح إلى مجزئ وغير مجزئ كصلاة المتيمم في الحضر ونحوه.
وعند أبي حنيفة كل صلاة وجب قضاؤها لا يجب أداؤها وكل صلاة يجب أداؤها لا يجب قضاؤها فيستوي عنده الصحة والإجزاء فيكون انقسام العبادة إليها بالإعتبار الآخر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ولفظ الحديث- كما رواه أبو داود- عن أبي بردة بن نيار أنه قال يا رسول الله: إن عندي عناقاً جذعاً هي خير من شاتي لحم، فقال صلى الله عليه وسلم: "تجزئك ولا تجزيء عن أحد بعدك".
فقد أفاد هذا الحديث أن العناق وهي: الأنثى من أولاد المعز والغنم من حين الولادة إلى تمام الحول، لا تجزيء في الأضحية، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم، بين في هذا الحديث أنها تجزيء عن أبي بردة وحده، لخصوصية قد لا توجد في غيره، ومن هنا نص علماء الأصول على أن هذا الحكم مقصور على من قيل في حقه الحديث المتقدم. اهـ. محققة.(11/117)
ص -74-…التقسيم الخامس للحكم إلى الأداء والإعادة والقضاء
"الخامس العبادة إن وقعت في وقتها المعين ولم تسبق بأداء مختل وإلا فإعادة وإن وقعت بعده ووجد فيه سبب وجوبها فقضاء وجب أداؤه كالظهر المتروكة قصدا أو لم يجب وأمكن كصوم المسافر والمريض أو امتنع عقلا كصلاة النائم أو شرعا كصوم الحائض".
هذا تقسيم آخر للعبادة التي هي متعلق الحكم ويصح جعله تقسيما للحكم من جهة أن الأمر قد يكون بالإعادة.
وقوله: العبادة يشمل الفرض والنفل فكل منهما إذا كان مؤقتا يوصف بالثلاثة وزعم بعضهم أنه لم يوصف بشيء من الثلاثة إلا الواجب وزعم بعضهم أن القضاء لا يوصف به إلا الواجب وكل ذلك خطأ والصواب أن الواجب والمندوب كل منهما يوصف بالأداء والإعادة والقضاء.
وقوله: إن وقعت لو قال إن أوقعت كان أحسن لأن الأداء والإعادة والقضاء أنواع للإيقاع لا للوقوع لكن لك أن تنتصر لتصحيح كلامه بأن العبادة فعل الفاعل ففعلها وإيقاعها وأداؤها ووقوعها سواء.
وقوله: في وقتها المعين الأحسن عندي في تفسيره أنه الزمان المنصوص عليه لفعلها من جهة الشرع فإن المأمور به تارة يعين الأمر وقته كالصلوات الخمس وتوابعها وصيام رمضان وزكاة الفطر فإن جميع ذلك قصد فيه زمان معين وتارة يطلب الفعل من غير تعرض للزمان وإن كان الأمر يدل على الزمان بالالتزام ومن ضرورة الفعل وقوعه في زمان ولكنه ليس مقصودا للشارع ولا مأمورا به قصدا فالقسم الأول يسمى مؤقتا والقسم الثاني يسمى غير مؤقت وسواء قلنا في القسم الثاني إن الأمر يقتضي الفور والتراخي أو كان قد(11/118)
ص -75-…دل على ذلك قرينة كإنقاذ الغريق ونحو ذلك وإلا فإن المقصود من هذا كله إنما هو الفعل من غير تعرض إلى الزمان والقسم الأول قصد فيه الفعل والزمان إما لمصلحة اقتضت تعيين ذلك الزمان وإما تعبدا محضا والقسم الثاني ليس فيه إلا قصد الفعل فالقسم الثاني لا يوصف فعله بأداء ولا قضاء لأنهما فرعا الوقت ولا وقت له وينبغي أن يوصف بالإعادة إذا تقدم فعل مثله على ما سأبينه.
ومن هذا القسم الإيمان فإنه لا وقت له والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن كان وقته وقت سببه ولكنه ليس وقتا معينا من حيث هو وإنما هو حضوره وكذا زكاة المال إذا حال الحول كل هذه واجبات فورية غير مؤقتة وكذا الواجبات على التراخي بلا حد وقد أطلق الفقهاء على الحج الأداء متى أوقع حجة الإسلام في عمره والقضاء في صورتين:
أحداهما: إذا قضي عنه بعد موته.
والثانية: إذا حج العبد وأفسد حجه ثم عتق فحج عن حجة الإسلام ثم عن القضاء.
وعندي أن إطلاقهم الأداء والقضاء في ذلك بطريق المجاز فإن الحج من القسم الثاني الذي لم يقصد فيه غير الفعل وإن وسع فيه مدة العمر عندنا أو ضيق وجب فيه الفور عند غيرنا فإن ذلك لا يصير الوقت مقصودا فيه وأما إذا أفسد حجة الإسلام وأمرناه بقضائها فقد صرحوا أن ذلك ليس بقضاء يعنون بل هو أداء معاد.
وإذا عرفت هذا فلنتكلم في مقصودنا وهو القسم الأول مؤقت بوقت معين سواء كان مضيقا كصوم رمضان أو موسعا كالصلاة فإن فعل في وقته فهو أداء سواء فعله مرة أخرى قبل ذلك أم لا هذا هو الذي تختاره وهو مقتضى إطلاقات الفقهاء ومقتضى كلام الأصوليين القاضي أبي بكر في التقريب والإرشاد والغزالي في المستصفى والإمام في المحصول ولكن الإمام لما أطلق ذلك ثم قال إنه إن فعل ذلك ثانيا بعد ذلك سمي إعادة ظن صاحبا الحاصل والتحصيل أن هذا مخصص للإطلاق المتقدم فقيداه وتبعهما(11/119)
ص -76-…المصنف فإنه كثيرا ما يتبع الحاصل وليس لهم مساعد من اطلاقات الفقهاء ولامن كلام الأصوليين فالصواب أن الأداء اسم لما وقع في الوقت مطلقا مسبوقا كان أو سابقا أو منفردا وقد قال القاضي حسين من الشافعية إنه إذا شرع في الصلاة ثم أفسدها ثم صلاها في وقتها كانت قضاء وتبعه غيره على ذلك ومأخذه في ذلك أنه لما شرع فيها تعين ذلك الوقت لها حتى لا يجوز له الخروج منها ولم يبق لها وقت شروع وإنما بقي وقت استدامة فإذا أفسدها أو فسدت وقد فات وقت الشروع لم يكن فعلها بعد ذلك إلا قضاء لأن وقت الاستدامة وحده لا يكفي ولا يكون إلا مبنيا على وقت الشروع كما أن المغرب عند العراقيين من أصحابنا لها وقت ابتداء بقدر ما يشرع فيها ووقت استدامة فإذا أخرها مقدار الشروع صارت قضاء عندهم وإن بقي قدر ركعتين وشيء.
هذا مأخذ القاضي حسين ومع ذلك هو مردود بوجهين:
أحدهما: على رأي الإمام والغزالي أعني قولهما إنه يجوز الخروج من الفريضة إذا أمكن تداركها في الوقت فلا يصح ما احتج به له.
والثاني: أن تعين ذلك الوقت بالشروع بفعله لا بأمر الشرع له أن يفعله وبهذا فارقت المغرب وبما ذكرناه من مأخذ القاضي حسين يعلم أنه ليس مخالفا لما ذكرنا في حد الأداء فإنه إنما قال بالقضاء وعدم الأداء لظنه أن الوقت قد خرج فلا مخالفة في المصطلح وإذا قلنا بقول القاضي حسين فلو دخل في الجمعة ثم أفسدها وأراد إعادتها في الوقت فعلى مقتضى قول القاضي يكون قضاء فإن قال بأنه يعيدها جمعة وهو الذي يظهر فيدخل القضاء في جمعة ولم أر أحدا من الأصحاب تعرض له وإن قال أنه يعيدها ظهرا فبعيد لأن وقت الجمعة على الجملة باق.(11/120)
وقول المصنف: "وإلا فإعادة" أي وإن سبقت بأداء مختلف فإعادة ومراده بالمختل ما فقد ركنا أو شرطا هكذا صرح القاضي أبو بكر فمعنى المختل الفاسد فالإعادة على قول المصنف في الوقت فعل مثل ما مضى فاسدا وقد يورد على هذا بأن الثاني صحيح فليس مثلا للفاسد ويجاب بأنهما اشتركا في الحقيقة الموصوفة بالصحة والفساد وجعل اسم الصلاة شاملا للصحيح والفاسد(11/121)
ص -77-…"حقيقة أو مجازا" ولو صلى في أول الوقت صلاة صحيحة ثم صلاها في الوقت إما على وجه أكمل من الأول أو على خلافه فكلام الأصوليين يقتضي أنها لا تسمى إعادة بل أداء والأقرب إلى إطلاقات الفقهاء أنه تصدق الإعادة عليها واللغة تساعد على ذلك فليكن هذا هو المعتمد ولا يجئ مثل هذا في الصوم ولا في الحج فان من حج صحيحا ثم حج تائبا كانت حجته الأولى غير الثانية بخلاف الصلاة فان الثانية هي الأولى ولهذا ينوي فيه الفرض ولعل الأصوليين لا يوافقون على نية الفرض في الثانية ويقولون إن الثانية صلاة مبتدأة فلذلك عرفوا الإعادة بما ذكروه ولكن نفس الشريعة تخالفه ولو حج فاسدا ثم حج فقد قلنا إنه لا يسمى قضاء حقيقية وأما تسميته إعادة فلا يمتنع وهذا هو الذي وعدنا به من قبل فخرج من هذا أن الإعادة فعل مثل ما مضى فاسدا كان الماضي أو صحيحا أداه أو غيره فبين الأداء والإعادة عموم وخصوص من وجه ينفرد الأداء في الفعل الأول وتنفرد الإعادة فيما مضى إذا قضى صلاة وأفسدها ثم أعادها وفي الحج كما صورناه ويجتمعان في الصلاة الثانية في الوقت على ما أخترناه خلافا للمصنف ومن وافقه وكذا يكون بين الإعادة والقضاء عموم وخصوص من وجه.
وقد تكلم الفقهاء في إعادة صلاة الجنازة ولا أداء فيها إذ لا وقت يتعين ولا يسمى القضاء الأول إعادة لأن القضاء بأمر جديد فهو غير المأمور به في الوقت وإن سميناه قضاء للمشابهة كانت الاعادة تستدعي من المماثلة أكثر مما يستدعي القضاء وقول المصنف وإن وقعت بعده ووجد فيه سبب وجوبها فقضاء موافق لقول المحصول إن الفعل لا يسمى قضاء إلا إذا وجد سبب وجوب الأداء مع أنه لم يوجد الأداء ومن هنا توهم بعضهم أن المندوب لا يسمى قضاء وأن قول الفقهاء بقضاء الرواتب مجاز والذي يقتضيه كلام الأكثرين والاصطلاح أنه لافرق بين الواجب والمندوب فينبغي أن يقال ووجد فيه سبب الأمر بها.
واعلم أن الشرط المذكور أعني تقدم السبب يذكر في شيئين:(11/122)
أحدهما: في الأمر بالقضاء فلا يؤمر بقضاء عبادة إلا إذا تقدم سبب الأمر(11/123)
ص -78-…بأدائها ونعني بالسبب ما هو مقتضى لوجوبها أو الندب إليها سواء أقارنه مانع من ترتب الحكم عليه أم لا ومتى تقدم السبب ولم تفعل أمر بقضائها ومتى لم يتقدم السبب أصلا لم يؤمر بالقضاء فلذلك تارك الصلاة عمدا يقضي لوجود السبب والوجوب والنائم يقضي لوجود السبب الذي قارنه مانع الوجوب وهو النوم والطفل لم يوجد في حقه السبب أصلا فلا يؤمر بالقضاء بعد البلوغ لا إيجابا ولا ندبا ولو أن المميز ترك الصلاة ثم بلغ فالظاهر أنه يستحب له قضاؤها كما كان يستحب له أداؤها إن قلنا كان مأمورا بأمر الشرع والحائض لا يستحب لها بعد الطهر قضاء الصلاة لأن سقوطها في حقها عزيمة فليست من أهل الصلاة فلم يوجد سبب الوجوب والمجنون سقوط القضاء في حقه رخصة لأنه إنما سقط عنه تخفيفا.(11/124)
الثاني: مما يذكر فيه تقدم السبب تسمية القضاء اقتضى كلام الإمام أنه لا يسمى قضاء إلا إذا وجد السبب فيقتضي هذا أن الطفل لو أراد أن يقضي ما فاته في طفوليته لا يسمى ذلك قضاء ولا يصح قضاء بل إن صح صح فعلا مطلقا وهذا صحيح لأن القضاء يستدعي تقدم أمر وفوات أدائه فمتى لم يوجد استحالت هذه التسمية فقد تحرر أن الأداء فعل العبادة في وقتها والقضاء فعل العبادة خارج وقتها ولا حاجة إلى قيد آخر لأنه متى لم يتقدم سببها لا يكون المفعول بعد الوقت تلك العبادة بل غيرها والإعادة فعل العبادة من بعد أخرى إذا كانت أداء وقضاء أو غيرهما وقولنا فعل العبادة نعني به الواقعة فخرج به إنشاء التطوع التطوع بحج بعد حج الفرض أو بصلاة مطلقة بعد الفريضة والراتبة وظهر أن الإعادة تدخل في جميع العبادات والأداء والقضاء يدخلان في المؤقتة فقط وكل عبادة يصح وصفها بالأداء والقضاء إلا الجمعة فإنها توصف بالأداء ولا توصف بالقضاء لأنها لا تقضي وأورد على هذا أنه لا يوصف بالشيء إلا ما أمكن وصفه بضده كالأجزاء والصحة لا يوصف بهما إلا ما أمكن وقوعه غير مجزئ وغير صحيح فكيف توصف الجمعة بالأداء إذ لا تقع غير مؤداة والجواب من وجهين:
أحدهما: منع تلك القاعدة على الإطلاق فقد يوصف بالشيء ما لا يوصف بضده وإنما خصوص الأجزاء والصحة اقتضى ذلك.(11/125)
ص -79-…والثاني: أن الجمعة تقضي ظهرا وبين الجمعة والظهر اشتراك في الحقيقة فقبلت الوصف بذلك في الجملة وأيضا لو أنها وقعت بعد الوقت جمعة بجهل من فاعلها فنسميها قضاء فاسدا فصح وصف الجمعة بالأداء كما صح وصف الصلاة بالفساد وبقي من الاقسام الممكنة أن تقع العبادة المؤقتة قبل وقتها تعجيلا كإخراج صدقة الفطر في رمضان فلا يوصف بأداء ولا قضاء مع صحتها ووقوع الظهر قبل وقتها لا يوصف بأداء ولا قضاء مع فسادها وقول المصنف وأمكن أي الفعل ومثل المسافر والمريض ليتيبن أنه لا فرق بين كون مانع الوجوب من جهة العبد كالسفر أو من جهة الله تعالى كالمرض وسيأتي إن شاء الله تعالى في المسألة السابعة من الفصل الثالث من هذا الباب الكلام في منع الفقهاء القائلين بأنه يجب الصوم على الحائض والمريض والمسافر.
وقوله: "أو امتنع أي الفعل" فإن النائم يمتنع منه عقلا أن يصلي والفقهاء يطلقون أن الصلاة واجبة عليه ولا يجب لذلك إلا ثبوتها في ذمته كما تقول الدين واجب على المعسر وقد ذكر القاضي أبو بكر أن الفقهاء يطلقون التكليف على ثلاثة معان:
أحدها: المطالبة بالفعل أو الترك.
والثاني: بمعنى أن عليه فيما سهى عنه أو نام فرضا وإنما يخاطب بذلك قبل زوال عقله وبعده فيقال له إذا نسيت أو نمت في وقت لو كنت فيه ذاكرا أو يقظان لزمتك فقد وجب عليك قضاؤها.
والثالث: على الفعل الذي ينوب مناب الواجب كصلاة الصبي وصوم المريض وجمعة العبد إذا حضرها وفعلها وحج غير المستطيع ويطلقون التكليف في ذلك وهذا الذي نقله القاضي من اصطلاحهم فائدة توجب رفع الخلاف بين الفريقين في المعنى وامتناع الصوم شرعا على الحائض بالإجماع فيحرم عليها ولا يصح وإمكانه من المسافر وصحته والاعتداد به لم يخالف فيه إلا(11/126)
ص -80-…الظاهرية فقالوا إنه لا يجزئه لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}1 وهو محجوبون بالأخبار التي تدل على الصوم في السفر في رمضان ومعنى الآية فأفطر فعدة من أيام أخر.
"ولو ظن المكلف أنه لا يعيش إلى آخر الوقت تضيق عليه فإن عاش وفعل في آخره فقضاء عند القاضي أداء عند الحجة إذ لا عبرة بالظن البين خطؤه".
قوله: تضيق عليه معناه يقضي بالتأخير عنه والحجة هو الغزالي والحق معه في هذه المسألة وبدليله يعرف أن التضيق ليس في نفس الأمر والقاضي هو ابن الباقلاني ورأيته في كلامه في التقريب وهو إنما يعتبر الظاهر فيحكم بالتضييق فيكون الوقت قد خرج وهو ضعيف لأنا نعرف من نفس الشرع الفرق بين اسم الزاني والواطئ لامرأته يظنها أجنبية فالثاني إنما يأثم بجرأته بحسب ظنه والأول يأثم بجرأته وبحصول المفسدة التي نهى الشرع عنها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وتمام الآيات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} سورة البقرة 183/185.(11/127)
ص -81-…التقسيم السادس للحكم إلى العزيمة والرخصة
"السادس الحكم إن يثبت على خلاف الدليل لعذر فرخصة كحل الميتة للمضطر والقصر والفطر للمسافر واجبا ومندوبا ومباحا وإلا فعزيمة".
الرخصة بإسكان الخاء وضمها مع ضم الراء التسهيل فرخصة الله تسهيله على عباده هكذا يقتضيه كلام أهل اللغة وهو يقتضي أن الرخصة من أقسام الحكم كما اقتضاه كلام المصنف لا من أقسام متعلقاته كما اقتضاه قول غيره الرخصة ما جاز الإقدام عليه مع قيام المانع ولم أر لهذا الثاني مستندا من اللغة إلا قولهم هذا رخصتي من الماء أي شربي منه ويناسبه قول بعض الأصوليين إنها اليسر والسهولة وأما بفتح الخاء فلم أرها في اللغة ولا حفظ هذا الوزن إلا في الثلاثي المجرد كلقطة وهزأة ولمزة وهمزة وحطمة وخدعة وهو يكون للفاعل وللمفعول فإن ثبت هنا فقياسه أن يكون للشخص الكبير الترخيص على غيره أو المرخص فيه وذكر الإمام أن الرخصة ما جاز فعله مع قيام المقتضي للمنع فأورد عليه الحدود والتقادير الجائزة مع تكريم الآدمي المقتضى للمنع منها فقيده بعضهم باشتهار المانع وبعضهم بكونه لضرورة أو حاجة وبعضهم بكونه لغرض التوسع وربما زيد فيه في حالة جريه احتراز من القصاص والعفو فإنه تخفيف من الله ورحمة ولا يسمى رخصة لأنه فاعله بدله وقولنا مع قيام المانع احتراز من أن يكون منسوخا كالآصار التي كانت على من قبلنا ونسخت في شريعتنا تيسيرا وتسهيلا ولا يسمى ناسخها رخصة.
وقول المصنف على خلاف الدليل هو معنى قولنا مع قيام المانع وقوله لعذر يريد به التسهيل في بعض الأحوال فيخرج به التخصيص ونحوه ويستقيم به حد(11/128)
ص -82-…الرخصة وقوله كحل لو قال كإحلال كان أحسن لأن نوع الحكم الإحلال لا الحل وقد عهد له مثل هذا التسمح من تفسير الرخصة بالتيسير فيكون الحل مطابقا بغير تسمح وقوله والقصر والفطر لك أن تعطفهما على حل أي وكالقصر وعلى الميتة أي وكحل القصر وقوله واجبا ومندوبا ومباحا أحوال إما من قوله فرخصة وإما من حل إن لم يعطف عليه وتكون قد استعملته في القدر المشترك بين الثلاثة وإما أن يتعدد صاحب الحال لتعددها فتقدر كحل الميتة للمضطر واجبا والقصر مندوبا والفطر مباحا.
واعلم أن الإيجاب والندب واستواء الطرفين أو رجحان أحدهما أمر زائد على معنى الرخصة لأن معناها التيسير وذلك بحصول الجواز للفعلى أو الترك يرخص في الحرام بالإذن في فعله وفي الواجب بالإذن في تركه وأدلة الوجوب والندب وغيرها تؤخذ من أدلة أخرى ولهذا اقتصر الكتاب العزيز على الجواب في قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}1 وقوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ}2 فاقتصر كما نراه على نفي الإثم والجناح ولم يصرح بالإذن فعلنا الجواز برفع الاثم والجناح وإنما يكون القصر مندوبا إذا بلغ سفره ثلاثة أيام وإباحة الفطر قد يكون مع رجحانه إذا كان المسافر يجهده الصوم وقد يكون مع مرجوحيته إذا كان يطيقه ويسهل عليه وقوله وإلا فعزيمة أي وإن ثبت لا على خلاف الدليل أو على خلاف الدليل لكن ليس لعذر على وجه التيسير فعزيمة سواء كان واجبا أو مندوبا أو مباحا أم مكروها أم حراما من جهة أنه يجزم أمره أي قطع وحتم سهل على المكلف أم شق مأخوذ من العزم وهو القصد المصمم والعزيمة مصدر عزم فهي أيضا قسم من أقسام الحكم لا من أقسام الفعل الذي هو متعلقه.
وقول غيره العزيمة ما جاز الإقدام عليه لا مع قيام المانع فيه من التسمح قدمناه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(11/129)
1 سورة البقرة آية 173.
2 سورة النساء آية 101.(11/130)
ص -83-…الفصل الثالث في أحكام الحكم وفيه عدة مسائل
الأولى الواجب المعين والمخير
"الفصل الثالث في أحكامه وفيه مسائل الأولى الوجوب قد يتعلق بمعين وقد يتعلق بمبهم من أمور معينة كخصال الكفارة ونصب أحد المستعدين للإمامة وقالت المعتزلة الكل واجب على معنى أنه لا يجوز الإخلال بالجميع ولا يجب الإتيان به خلاف في المعنى وقيل الواجب معين عند الله تعالى دون الناس ورد بأن التعين يحيل ترك ذلك الواحد والتخيير يجوزه وثبت اتفاقا في الكفارة فانتفى الأول قيل يحتمل أن المكلف يختار المعين أو يعين ما يختاره أو سقط بفعل غيره وأجيب عن الأول بأنه يوجب تفاوت المكلفين فيه وهو خلاف النص والإجماع وعن الثاني بأن الوجوب محقق قبل اختياره وعن الثالث بأن الآتي بأيهما آت بالواجب إجماعا قيل إن أتى بالكل معا فالامتثال أما بالكل فالكل واجب أو بكل واحد فيجتمع مؤثرات على أثر واحد أو بواحد غير معين ولم يوجد أو بواحد معين وهو المطلوب وأيضا الوجوب معين فيستدعي محلا معينا وليس الكل ولا كل واحد وكذا الثواب على الفعل والعقاب على الترك فإذا الواجب واحد معين وأجيب عن الأول بأن الامتثال بكل واحد وتلك معرفات وعن الثاني بأنه يستدعي أحدها لا بعينه كالمعلول المعين المستدعي علة من غير تعيين وعن الآخرين بأنه يستحق ثواب وعقاب أمور لا يجوز ترك كلها ولا يجب فعلها".
قوله في أحكامه يعني في أحكام الحكم وذكر في هذا الفصل سبع مسائل(11/131)
ص -84-…والإمام ذكرها بعينها في باب الأوامر في القسم الثاني منه في المسائل المعنوية وجعل المسائل الثلاث الأولى في أقسام الوجوب لأنه بحسب المأمور به ينقسم إلى معين ومخير وبحسب وقت المأمور ينقسم إلى مضيق وموسع وبحسب المأمور ينقسم إلى واجب على التعيين وواجب على الكفاية وجعل المسائل الأربع الأخيرة في أحكام الوجوب ولو فعل المصنف كذلك كان أحسن وكأن عذره في ذلك المخير والموسع وفرض الكفايةف مما وقع الكلام فيه وفي تحقيق عروض ذلك الواجب فحسن البحث في أن الوجوب هل له ذلك أو لا وهو حكم وبعد ثبوت هذا الحكم تصير الثلاثة المذكورة أقساما للوجوب الذي هو قسم من أقسام الحكم فصح كل من الاعتبارين وقوله بمعين يعني معين النوع وإلا فالتعيين بالشخص لا يتعلق الوجوب به لأن الشخص دخل في الوجود وما دخل في الوجود لا يصح التكليف به لمراده المعين المعلوم المتميز وقوله وقد يتعلق بمبهم إشارة إلى أن المختار أو الواجب لا بعينه ونقل القاضي إجماع سلف الأمة وأئمة الفقهاء عليه خلافا لكثير من المعتزلة وقوم من نوابذ الفقهاء المعينين لهم على بدعتهم في قوله أن الكل واجب وحرر بعض المتأخرين معنى الإبهام في ذلك فقال إن متعلق الوجوب هو القدر المشترك بين الخصال ولا تخيير فيه ومتعلق التخيير خصوصيات الخصال ولا وجوب فيها وعندي زيادة تحرير أخرى وهو أن القدر المشترك يقال على المتواطئ كالرجل فلا إبهام فيه فإن حقيقته معلومة متميزة عن غيرها من الحقائق ويقال على المبهم بين شيئين أو أشياء كأحد الرجلين والفرق بينهما أن الأول لم يقصد فيه إلا الحقيقة التي هي مسمى الرجولية.(11/132)
والثاني: قصد فيه أخص من ذلك وهو أحد الشخصين بعينه وإن لم يعين و ولذلك سمي مبهما لأنه أبهم علينا أمره والأول لم يقل أحد بأن الوجوب يتعلق بخصوصياته كالأمر بالإعتاق فإن مسمى الإعتاق ومسمى الرقبة متواطئ كالرجل فلا يتعلق للأمر بالخصوصيات لا على التعيين ولا على التخيير ولا يقال فيه واجب مخير ولا يأتي فيه الخلاف وأكثر أوامر الشريعة من ذلك.(11/133)
ص -85-…والثالث: متعلق بالخصوصيات فلذلك وقع الخلاف فيه وأجمعت الأمة على إطلاق الواجب المخير عليه ولا منافاة بين ما قلناه وما حكيناه عن بعض المتأخرين من تعلق الوجوب بالقدر المشترك لكن ما قلناه زيادة وهي تبيين أن ذلك القدر المشترك أخص منظور فيه إلى الخصوصيات وقول المصنف من أمور معينة إنما قيد بقوله معينة لأنها إذا كانت غير معينة فإما أن يقع التكليف بالقدر المشترك بينها من غير نظر إلى الخصوصيات فذلك لا يسمى إيهاما بل هو كالإعتاق على ما سبق وليس كلامنا فيه وإما أن ينظر إلى الخصوصيات كما ذكرناه في غير الإبهام فيستحيل لعدم العلم بها ونحن مرادنا هنا بالمعينة المعلومة المتميزة فلذلك قيد بقوله المعينة ليبين صورة المسألة وخصال الكفارة يعني كفارة اليمين وهي الإعتاق والإطعام والكسوة فإنها يخير فيها وكذا ما هو على التخيير من كفارات الحج وقوله ونصب أحد المستعدين للامامة يعني إن خلا الوقت عن إمام وهناك جماعة يجب نصب واحد وكذا قال غيره وهو صحيح إلا أنه من القسم الأول الذي قلنا إن الوجوب فيه متعلق بالقدر المشترك من غير نظر إلى الخصوصيات كاعتاق رقبة فينبغي ألا يمثل به وجماعة من أصحابنا ومن المعتزلة ذكروا أمثلة من الواجب المخير بين القسمين جميعا والصواب ما قدمته نعم في أهل الشورى الذي جعل عمر رضي الله عنه الأمر فيهم ونحوه يتعلق الأمر بأعيانهم فيحسن أن يكون مثالا للواجب المخير وقول المعتزلة إن الكل واجب على المعنى المذكور مأخذهم فيه أن الحكم يتبع الحسن والقبح فإيجاب شيء يتبع لحسنه الخاص به فلو كان واحد من الثلاثة واجبا والاثنان غير واجبين لخلا اثنان عن المقتضى للوجوب فلا بد أن يكون كل واحد لخصوصه مشتملا على صفة تقتضي وجوبه وكل منهما يقوم مقام الآخر فيوصف كل منهما بالوجوب والتخيير معا.(11/134)
وتحقيق هذا الكلام إنما ينتج أن المشتمل على الحسن المقتضي للوجوب هو أحدها لا خصوص كل منها فلذلك كان معنى كلامهم إيجاب أحدها على الإبهام وإنما قصدوا الفرار من لفظ يوهم أن بعضها واجب وبعضها ليس بواجب وأنه لا يخير بين الواجب وبين غيره وأصحابنا لا يراعوان الحسن والقبح ويجوزون التخيير(11/135)
ص -86-…بين ما يظن أن فيه مصلحة وبين ما لا مصلحة فيه ومع ذلك لم يقولوا بوجوب واحد معين وإنما قالوا بوجوب أحدها من غير تعيين لأنه مدلول لفظ الأمر ومدارهم في إثبات الأحكام فإذا نظرنا إلى مجرد ذلك لم يكن فرق في المعنى بين مذهب أصحابنا ومذهب المعتزلة وبذلك صرح طوائف منا ومنهم وتبعهم المصنف وإذا دققنا البحث وقررنا ما قدمناه من الفرق بين أن يراد مع القدر المشترك الخصوصيات أولا أمكن أن يقال في خصال الكفارة احتمالان:
أحدهما: أن يكون الواجب القدر المشترك بين الخصال.
والثاني: أن يكون كل خصلة واجبة على تقدير ألا نفضل عنها وكل من الاحتمالين يمكن أن يقرر على مذهبنا ومذهبهم والأقرب إلى الكلام الفقهاء الثاني وبه يفترق الحال بينه وبين إعتاق رقبة فإن الثابت فيه الأول لا غير وقول المصنف فلا خلاف في المعنى قد علمت أنه يمكن تمشيته ويمكن التوقف فيه لظهور معنيين يمكن أن يذهب إلى كل منهما ذاهب والأوفق بقواعد المعتزلة الأول وهو تعلق الوجوب بالقدر المشترك لا غير حتى يكون هو الموصوف بالحسن وبقواعدنا يصح ذلك وغيره وهو الأقرب إلى كلام الفقهاء وهو المختار وإن يكن بين المعنيين تباعد لكن يظهر أثره في أمور منها أنه إذا فعل خصلة يقال على ما اخترناه إنها الواجب وأما على المعنى الآخر فينبغي أن يقال إن الواجب تأدى بها لا أنها هي الواجب.
وقوله: قيل الواجب معين عند الله دون الناس هو قول ترويه المعتزلة عن أصحابنا ويرويه أصحابنا عن المعتزلة واتفق الفريقان على فساده وعندي أنه لم يقل به قائل وإنما المعتزلة تضمن ردهم علينا ومبالغتهم في تقرير تعلق الوجوب بالجميع ذلك فصار معنى يرد عليه وأما رواية أصحابنا عن المعتزلة فلا وجه له لمنافاته قواعدهم.(11/136)
وقوله: رد بأن التعيين يحيل ترك الواحد أي لأن الواجب لا يجوز تركه والتخيير يجوزه أي يجوز الترك ضرورة فلازم التعيين ولازم التخيير لا يجتمعان فالملزومان وهما التعيين والتخيير لا يجتمعان لأنهما لو اجتمعا لاجتمع لازمهما لأنه(11/137)
ص -87-…يلزم من وجود الملزوم وجود اللازم والتخيير ثابت بالإتفاق في الكفارة فانتفى التعيين.
وقوله: قيل يحتمل أن المكلف يختار المعين أو يعين ما يختاره أو يسقط بفعل غيره يعني وعلى كل من الاحتمالات الثلاثة لا يتنافى التعيين والتخيير أما في الأول فلأن التعيين في نفس الأمر والتخيير في الظاهر وأما الثاني فلأن التخيير قبل الاختيار والتعيين بعده وأما الثالث فلأنا نمنع أن الواجب لا يجوز تركه مطلقا بل هو الذي لا يجوز تركه بغير بدل.
وقوله: وأجيب عن الأول بأنه يوجب تفاوت المكلفين فيه أي إذا اختار بعضهم الإطعام وبعضهم الكسوة وبعضهم الإعتاق يكون الواجب على كل منهم ما اختاره معينا عند الله وهو خلاف الإجماع لإجماع العلماء على أن حكم الله في كفارة اليمين واحد بالنسبة إلى الجميع وعن الثاني بأن الوجوب تحقق قبل اختياره وإلا لما أثم بتركه فإما أن يكون معينا أو مخيرا إن كان معينا عاد الكلام وإلا بطل قولهم وعلى الثالث أن الآتي بأيها آت بالواجب لأنه في ضمنه وعلى كل التقديرين لا يكون الواجب خارجا عنه فلا يسقط بفعل غيره وليس كالسنة المجزئة عن الفرض ولا كالبدل المجزئ عن المبدل.(11/138)
وقوله: قيل إن أتى بالكل معا يعني دفعة واحدة إما بنفسه إن أمكن ذلك أو بوكلاء فالامتثال إما بالكل أي المجموع فالمجموع واجب ومن ضرورته وجوب كل واحد وإن كان الامتثال بكل واحد فيجتمع مؤثرات على أثر واحد وهو محال لأن المؤثر التام يستغني به الأثر عن غيره مع احتياجه إليه فلو اجتمع مؤثران على أثر واحد لاحتاج إليهما واستغنى عنهما ويلزم أن يقع بهما وإن لا يقع بهما فيجتمع النقيضان وإن كان الامتثال بواحد غير معين فغير المعين لا وجود له لأن كل موجود معين كما أن ما ليس بمعين ليس بموجود لأنه عكس نقيضه ولما بطلت هذه الأقسام الثلاثة تعين الرابع وهو أن الامتثال بواحد معين وهو المطلوب لأن ما وقع به هو المأمور به وأيضا الوجوب صفة الواجب وهو صفة معينة فلا بد أن يكون موصوفها معينا وليس المجموع ولا(11/139)
ص -88-…كل واحد ولا واحدا غير معين لما سبق فثبت أنه معين وأيضا إذا أتى بالجميع فإن أثيب ثواب الواجب على المجموع أو على كل فرد أو على غير معين لزم ما سبق فلا يثاب إلا على واحد معين وأيضا إذا تركت الجميع إن عوقب على المجموع أو على كل واحد أو على واحد معين لزم ما سبق فلا يعاقب إلا على ترك واحد معين فهذه أربعة أدلة استدل بها القول المردود.
وقوله: وأجيب عن الأول بأن الامتثال بكل واحد وتلك الخصال معرفات لا مؤثرات فلا يلزم اجتماع مؤثرات على أثر واحد وأما المعرفات فيجوز اجتماعها على الشيء كافراد العالم للصانع وهذا الجواب يحتمل أمرين أن يكون المقصود منه الرد على الاستدلال فقط من غير بيان ما يعتقده من أن الامتثال بماذا وكأنه يقول دليلك لا ينتج أن الواجب واحد معين لاحتمال أن يكون الواجب كل واحد ويكون الامتثال بكل واحد ولا يلزم اجتماع مؤثرات على أثر واحد وهذا إذا فسرنا الامتثال بفعل الواجب يلزم عليه أن ما يقع به الامتثال واجب ويكون الجواب على هذا جدليا والجواب التحقيقي أن الامتثال بواحد لا بعينه وهو موجود في ضمن كل واحد.
الثاني: أن يكون جوابا تحقيقيا فإن الامتثال معناه إما فعل يتضمن مثل المأمور به إذا جعلناه افتعالا من المثل الذي هو الشبه وإما الانتصاب والقيام لأداء المأمور به إذا جعلناه من مثل على وزن ضرب أي انتصب وعلى كلا التقديرين لا يستلزم أن يكون الممتثل به هو الواجب بل أن يكون الواجب يحصل به ولا شك أن الواجب حاصل في هذه الصورة بكل واحد لتضمنه له وقصده فيكون الامتثال بكل واحد وبالمجموع أيضا لتضمنه الواجب وهذا واحد لا بعينه أو يكون الإمتثال بكل واحد وكل واحد واجبا على معنى ما قدمناه عن الفقهاء فيصير جوابا تحقيقيا على المذهبين وفي الوجه الأول هو جواب جدلي على المذهبين.
وقوله: بواحد غير معين ولم يوجد جوابه أن غير المعين له معنيان:
أحدهما: المقيد بقيد عدم التعيين وهذا هو الذي لم يوجد.(11/140)
ص -89-…والثاني: أخذه لا بقيد عدم التعيين وهذا موجود في ضمن المعين وهو المقصود هنا فقولك ولم يوجد ممنوع وهذا جواب تحقيقي على المعنى المتفق عليه في المذهبين وقوله بواحد معين وهو المطلوب وعللناه بأن ما وقع الامتثال به هو الواجب يتوجه عليه منع لما قدمناه في تفسير الامتثال وقوله عن الثاني يعني الوجوب وصفه معين فيستدعي محلا معينا فإنه يستدعي أحدها لا بعينه كالحرارة وهي معلول معين يستدعي إما الشمس وإما النار فهي علة غير معينة.
واعلم أن المعين يطلق على الشخص وليس هو المراد هنا في الطرفين ويطلق على المعلوم التمييز فإنه له تعين بوجه ما ويطلق على أحدها أيضا أنه يتعين بهذا الاعتبار ويطلق على ما ليس بينه وبين غيره إبهام فأحدها بهذا التفسير غير معين والوجوب معين فلذلك جرى البحث ولا يلزم أن يكون المحل مساويا للحال في ذلك وقوله عن الآخرين يعنى الثواب والعقاب بأنه مستحق ثواب أمور ولا يجوز ترك كلها ولا يجب فعلها يعني ثواب واجبات مخيرة وهو أزيد من ثواب بعضها سواء اقتصر عليه أو ضم إليه نفلا آخر أو نقص من ثواب الواجبات المعينة ولكل منها رتبة من الثواب عند الله تعالى وكذا العقاب إذا تركها يستحق فالعقاب على ترك مجموع أمور كان المكلف مخيرا بين ترك أي واحد شاء منها بشرط فعل الآخر.(11/141)
وقال بعضهم: في الثواب والعقاب إنه يستحق ثواب الواجب على فعل أكثرها ثوابا ويستحق على الترك عقاب أدونها عقابا فأما ما قاله في العقاب فيظهر اتجاهه وما قاله في الثواب مراده به الثواب على الواجب وما عداه تطوع يثاب عليه ثواب التطوع وبهذا يعلم أن الخلاف في الثواب خلاف في أنه إذا فعل الجميع ما الذي يقع واجبا وحكي القاضي قولا ثالثا أن الذي يقع واجبا هو العتق لأنه أعظم ثوبا لأنه أنفع وأشق على النفس وأرد عليه بأنه قد لا يكون كذلك ويحتمل عندي قول رابع وهو أنه لا يثاب ويعاقب إلا على أحدها لأنه الواجب على قولهم وهذا الخلاف شبيه بالخلاف فيما إذا طول الطمأنينة في الصلاة أو مسح جميع الرأس في الوضوء هل يقع الجميع واجبا أولا ويعلم أن(11/142)
ص -90-…محل الأقوال الأربعة إذا فعل الجميع أما قيد الفعل فليس إلا ما قدمناه من أحدها والجميع.
"فرع": إذا باع قفيزا من صبرة فالمعقود عليه قفيز لا بعينه يعني القدر المشترك بين أقفزة الصبرة وقالوا إن معناه كل واحد منها على البدل كما قالوا في خصال الكفارة وعندي أنه كعتق الرقبة وقد تقدم تحريره وإذا اختار المشتري واحدا منها لا يقول إنه كان معينا بل يعين فيه إبهامه وكذا إذا دعت المرأة إلى تزويجها من كفؤين زوجت من أحدهما كالمستعدين للإمامة وإذا طلق إحدى امرأتيه أو أعتق إحدى عبديه فهو كخصال الكفارة سواء والاختصاص للطلاق والعتق بواحد معين فإذا اختار تعين ما يختاره.(11/143)
ص -91-…تذنيب
"الحكم قد يتعين على الترتيب فيحرم الجمع كأكل المذكى والميتة أو يباح كالوضوء والتيمم أو يسن ككفارة الصوم"
التذنيب: من قولهم الرجل عمامته إذا أفضل منها شيئا فأرخاه كالمذنب وذنبت البسرة بدأ فيها الإرطاب من قبل ذنبها فالتذنيب هنا معناه تتمة للمسألة وليس فرعا منها لأنها في المخير وهو في المرتب ولكن التخيير والترتيب اشتركا في أن كلا منهما حكم يتعلق بأمور فإباحة الميتة مرتبة على إباحة المضطر ويحرم الجمع بينهما الاضطرار المبيح الميتة ووجوب التميم وإباحته مرتب على الوضوء لاختصاصه بحالة العجز وقال المصنف إنه يباح الجمع بينهما وكذا في المحصول وغيره وكنت أصور هذا للطلبة بما إذا خاف من استعمال الماء لمرض ولم ينته خوفه إلى أن يظن المانع من جواز استعمال الماء فإنه يباح له التيمم لأجل الخوف ولا يمتنع الوضوء لعدم تحقق الضرر فإذا تيمم صح تيممه فإذا أراد أن يتوضأ بعد ذلك جاز كما قيل في قوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} وإذا جعلناه خطابا لمن يمكنه الصوم ولا يطيقه كالشيخ الكبير فيجوز له الفطر والفدية ولو حمل على نفسه وصام كان خيرا له ولا يقال فكان على قياس هذا أن يسن الجمع لأن الوضوء أفضل لأنا نقول صحيح إن الوضوء أفضل لكن كلامه في الجمع وهو يحصل بإضافة التيمم إليه وليس بأفضل بل هو مباح وهذا التصوير على حسنه يخدش فيه شيء واحد وهو أنه إذا توضأ بطل التيمم فإنها طهارة ضرورة ولا ضرورة هنا فلم يجمع الوضوء والتيمم وإذا لم يكن اجتماعهما لا يوصف بالإباحة ولا بغيرها.
قوله: ككفارة الصوم يعني ككفارة الوقاع في صوم رمضان يجب به الإعتاق(11/144)
ص -92-…فإن لم يجد فالصيام فإن لم يجد فالإطعام وكذا كفارة الظهار ولو مثل بها المصنف كان أحسن للنص عليها في القرآن وكفارة والوقاع قال بالتخيير فيها يمكن حمل كلام المصنف على الصوم في كفارة اليمين فإنه مرتب على الخصال الثلاث المخير فيها وأيا ما كان فالحكم بأن الجمع سنة يحتاج إلى دليل ولا أعلمه ولم أر أحدا من الفقهاء صرح باستحباب الجمع وإنما الأصوليون ذكروه ويحتاجون إلى دليل عليه ولعال مرادهم الورع والإحتياط بتكثير أسباب براءة الذمة كما أعتقت عائشة رضي الله عنها عن نذرها في كلام ابن الزبير رقابا كثيرة وكانت تبكي حتى تبل دموعها خمارها.
وهذه الأقسام الثلاثة التي ذكرها المصنف في المرتب ولعلهم أيضا لم يريدوا أن الجمع قبل فعله مطلوب بل إذا وقع كان بعضه فرضا وبعضه ندبا وعبارة القاضي تقتضي هذا ويكون هذا من باب النوافل المطلقة ومثل القاضي بالمسح والغسل أيضا فإن أراد مسح الخف فالقول بأنه إذا فعله بعد غسل الرجل يكون مندوبا في غاية البعد وإذا كفرنا بالعتق صار بنية الكفارة ينبغي أن يأتي فيه الخلاف المشهور في أنه إذا بطل الخصوص هل يبطل العموم وهذه الأقسام الثلاثة التي ذكرها المصنف في المرتب ذكر في المحصول مثلها في المخير أيضا ومثل المحرم بتزويج المرأة من كفؤين والمباح بستر العورة بثوب بعد ثوب المندوب بالجمع بين خصال كفارة الحنث وحكمه بندب الجمع في خصال كفارة اليمين يحتاج إلى دليل كما قدمناه وتمثيله المخير بالتزويج من كفؤين والستر بثوبين مبني على ما سبق منه ومن غيره.
وعندي أن الواجب القدر المشترك كما سبق لكن التمثيل صحيح فيه أيضا.(11/145)
ص -93-…المسألة الثانية في الواجب الموسع والمضيق
"الثانية: الوجوب إن تعلق بوقت فإما إن يساوي الفعل كصوم رمضان وهو المضيق أو ينقص عنه فيمنعه من يمنع التكليف بالمحال إلا لغرض القضاء كوجوب الظهر على الزائل عذره وقد بقي قدر تكبيرة أو يزيد عليه فيقتضي إيقاع الفعل في جزء من أجزائه لعدم أولوية البعض وقال المتكلمون يجوز تركه في الأول بشرط العزم وإلا لجاز ترك الواجب بلا بدل ورد بأن العزم لو صح بدلا لتأدى الواجب به وبأنه لو وجب العزم في الجزء الثاني لتعدد البدل والمبدل واحد ومنا من قال يختص بالأول وفي الآخر قضاء وقالت الحنفية يختص بالآخر وفي الأول تعجيل وقال الكرخي1 الآتي في الأول إن بقي على صفة الوجوب يكون ما فعله واجبا احتجوا بأنه لو وجب في أول الوقت لم يجز تركه قلنا المكلف مخير بين أدائه في أي جزء من أجزائه".
كما أن الواجب ينقسم إلى معين ومخير كذلك ينقسم إلى مضيق وموسع والمضيق والموسع بالحقيقة هو الوقت ويوصف به الواجب والوجوب مجازا ومقصوده بالواجب الفعل الواجب إن زاد وقته على قدره فهو الموسع وإلا فهو المضيق وعلى هذا قسمان:
أحدهما: أن يساويه فيجوز التكليف به وقد وقع كصوم نهار رمضان لا يزيد الزمان على الواجب ولا الواجب على الزمان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: أو الحسن، عبيد الله بن الحسين الكرخي، انتهت إليه رئاسة الحنفية بعد أبي حازم، وأبي سعيد البردعي. من مصنفاته: المختصر. والجامع الكبير والصغير.
توفي سنة 340هـ تاج التراجم ص114.(11/146)
ص -94-…والثاني: أن ينقص الوقت عن الفعل فإن كان الغرض من ذلك وقوع الفعل جميعه في الزمان الذي لا يسعه فلم يقع هذا في الشريعة وهو تكليف ما لا يطاق يجوزه من جوزه ويمنعه من منعه وإن كان الغرض أن يبتدئ في ذلك الوقت ويتمه بعد ذلك أو يثبت في ذمته ويفعله كله بعد ذلك فهذا جائز وواقع بينهما فيما لو أسلم الكافر أو أفاق المجنون أو بلغ الصبي أو طهرت الحائض وقد بقي من الوقت مقدار ركعة ووسع ما بعده بقيتها فإن تلك الصلاة تجب وكذا إذا بقي مقدار تكبيرة على أصح القولين كالركعة وهذا يطرد في الصلوات الخمس وإذا كان كذلك في آخر وقت صلاة يجمع ما قبلها معها كالعصر والعشاء فتجب الأولى أيضا فيها الظهر والمغرب وكذلك مثل المصنف بالظهر وأطلق القضاء حتى يشتمل وقت الضرورة وهو وقت العصر بالنسبة إليها.
والضمير في قول المصنف يساوي وينقص ويزيد للوقت وفي قوله وهو تصح إعادته للوقت والوجوب وللواجب وهو مقصوده على ما سبق.
وقوله: لغرض كأنه بنى على قول من يقول إن الصلاة إذا وقع بعضها خارج الوقت يكون قضاء أما كلها وإما الخارج عنها والصحيح من مذهب الشافعي أنه متى وقع ركعة منها في الوقت فالكل أداء ولم يقل بأن وقت الصبح مثلا يخرج بطلوع الشمس مطلقا بل قال إن طلعت الشمس ولم يصل منها ركعة فقد خرج وقتها واستدل على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح"1 وقليل من الفقهاء اليوم من يحرر هذا بل يعتقد أن الحكم بالأداء يجعل ما بعد الوقت تابعا للركعة الواقعة في الوقت مع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه البخاري بمعناه. وروى الجماعة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة".
وهذا يشمل جميع الصلوات.(11/147)
وللبخاري: "إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته، وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته".
والمراد بالسجدة الركعة، لأن السجود هو تمام الركعة.(11/148)
ص -95-…خروج الوقت ولو حمل كلام المصنف على القضاء اللغوي انتفى عنه هذا الاعتراض.
وقوله: للظهر قد بينا أنه لا اختصاص لهذا الحكم بها وقوله الزائل عذره مستنده تسمية الفقهاء الأشياء المذكورة أعذارا وإن كان الفكر ليس بعذر وقوله تكبيرة بناء على الأصح.
وقوله: فيقتضي من هنا إلى آخر الكلام في حكم الواجب الموسع.
واعلم أن الناس اختلفوا فمنهم من اعترف به ومنهم من أنكره أما المعترفون به فجمهور الفقهاء وجمهور المتكلمين من الأشعرية ومن المعتزلة وهؤلاء المعترفون اختلفوا في جواز تركه أول الوقت بلا بدل مع اتفاقهم على أنه يقتضي إيقاع الفعل في أي جزء كان فجمهور الفقهاء قالوا بجواز تركه في أوله بلا بدل ولا يعصى حتى يخلو الوقت كله عنده وهذا الذي قدمه المصنف وجمهور المتكلمين قالوا لا يجوز تركه إلا ببدل واتفقوا على أن ذلك البدل هو العزم فإذا تضيق الوقت تعين الفعل ونصر القاضي هذا القول ورده الإمام وغيره بأن العزم لو صلح بدلا لتأدى الواجب به وفي هذا الرد نظر لأن لهم أن يقولوا هو بدل عن فعله في أول الوقت لا عن فعله مطلقا إلا أن ذلك يعكر عليهم لأن فعله في أول الوقت لخصومه ليس بواجب فلا يحتاج تركه فيه إلى بدل فالجواب المحرر أن يقال إما أن يكون الفعل في الأول واجبا أولا إن لم يكن فلا حاجة إلى البدل وإن كان فإما أن يكون كل الواجب أولا إن كان فيتأدى ببدله وإلا فيلزم أن يكون واجبان ولا دليل عليه.(11/149)
وقوله: لو وجب العزم في الجزء الثاني لتعدد البدل والمبدل واحد ممنوع أن المبدل واحد لأن العزم في الجزء الأول بدل عن الفعل في الجزء الأول والعزم في الجزء الثاني بدل عن الفعل في الجزء الثاني فالبدل متعدد والمبدل متعدد وإنما الوجوب ما ذكرناه وهنا فرغ الكلام على الفرق المعترفين بالواجب الموسع وأما المنكرون له فقد تضمنهم قوله: ومنا إلى آخره وجميعهم ثلاث طوائف وزاد غيره رابعة وفرقة خامسة قالوا يختص بالأول فإن فعله فيه كان أداء وإن أخره وفعله في آخر الوقت كان قضاء وهذا القول نسب إلى(11/150)
ص -96-…بعض أصحابنا وقد كثر سؤال الناس من الشافعية عنه فلم يعرفوه ولا يوجد في شيء من كتب المذهب ولى حين من الدهر أظن أن الوهم سرى إلى ناقله من قول أصحابنا إن الصلاة تجب بأول الوقت وجوبا موسعا.
وقول بعضهم تجب في أول الوقت وينصبون الخلاف في ذلك مع الحنفية وقولهم إنما يجب بآخره وقصد أصحابنا بقولهم تجب الصلاة في أول الوقت كون الوجوب في أول الوقت لا كون الصلاة في أول الوقت واجبة فحصل الالتباس في العبارة ومتعلق الجار والمجرور ثم وقفت في الأم في كتاب الحج في ذلك الجزء الخامس. قال الشافعي: ذهب بعض أهل الكلام أن فرض الحج على المستطيع إذا لزمه في وقت يمكنه فتركه في أول ما يمكنه كان آثما1 كمن ترك الصلاة حتى ذهب الوقت ويجزئه حجة بعد أول سنة من مقدرته قضاء كالصلاة بعد ذهاب الوقت ثم أفادنا بعضهم ذلك في الصلاة إذا دخل وقتها الأول فتركها وإن صلاها في الوقت وفيما نذر من صوم أو وجب عليه بكفارة أو قضاء فقال فيه كله متى أمكنه فأخره فهو عاص بتأخيره ثم قال في المرأة يجبر أبوها وزوجها على تركها لهذا المعنى وقاله معه غيره ممن يفتي انتهى.
فقد ثبت بنقل الشافعي هذا المذهب عن غيره فلعل بعض الناس نقل ذلك عن نقل الشافعي فالتبس ذلك على بعده وظن أنه من مذهب الشافعي وعلى كل تقدير لايخرج نقله عن أصحابنا عن الوهم ثم ظاهر كلام الشافعي كما ترى أن القائل به يقول بالإثم والعصيان بالتأخير عن أول الوقت والقاضي أبو بكر نقل إجماع الأمة على أن المكلف لا يأثم بتأخيره عن أول الوقت ولذلك قال بعضهم إنه في آخر الوقت يسد مسد الأداء وما نقله الشافعي أثبت وأولى وينبغي إسقاط هذه اللفظة والإقتصار على قوله قضاء كما فعل المصنف وعدم نسبة ذلك إلى بعض أصحابنا بل ينقله قولا مطلقا كما نقله القاضي قولا مطلقا.
ولم يرد المصنف على هذا القول ووجه الرد عليه عدم دلالة الأمر المطلق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(11/151)
1 في هامش الطبعة الأولى "ونقل المصنف عن شارح المنهاج للنووي عن القاضي أبي الطيب الطبري الإجماع على أن الحج يقع أداء، ونقل الشافعي رحمه الله تعالى – ينازع فيه" راجع الجزء الأول ص63 من الطبعة الأولى.(11/152)
ص -97-…على الفور مع ظهور الأدلة من الكتاب وسير السلف على جواز التأخير إلى أثناء وقت الصلاة.
الفرقة الثانية الحنفية:
قالوا يختص بالآخر وفي الأول تعجيل يسقط الفرض به أو نفل يمنع من الوجوب على اختلاف عنهم في المنقول.
الثالثة: مقالة الكرخي:
المقالة الرابعة: حكيت عن الكرخي أن الواجب يعين بالفعل في أي وقت كان.
المقالة الخامسة: أن الوجوب يختص بالجزء الذي يتصل الأداء به وإلا فآخر الوقت الذي يسع الفعل ولا يفضل عنه وهذا هو المشهور عند الحنفية لأن سبب الوجوب عندهم كل جزء من الوقت على البدل إن اتصل به الأداء وإلا فآخره وإنما عدت هذه الفرقة من المنكرين للواجب الموسع مع قولهم إن الصلاة مهما أديت في الوقت كانت واجبة لأنهم لم يجوزوا أن يكون الوقت فاضلا عن الفعل وقول المصنف احتجوا أي الحنفية ومن قال قريبا من قولهم كالكرخي وبقية المقالات التي حكيناها.
وقولهم: وجب في أول الوقت فيه ما نبهنا عليه من الإلباس لأن فيه معنيين:
أحدهما: لو وجب في أول الوقت فعله في أول الوقت وهذا هو الذي قصدوه وقولهم مع ذلك لم يجز تركه يمكن منعه على مذهب المتكلمين لأن الواجب لا يجوز تركه وترك بدله أما تركه وحده مع الإتيان ببدله فجائز ويمكن تسليمه ولا يضرنا.
والمعنى الثاني: لو وجد في أول الوقت فعله في أي جزء كان وهذا مقصودنا ومع هذا لا يصح قولهم لم يجز تركه في أول الوقت لأن الذي لا(11/153)
ص -98-…يجوز تركه هو الواجب وفعله أول الوقت ليس بواجب والواجب هو الفعل في أي جزء كان وهذا يجوز تركه وهذا معنى قول المصنف قلنا المكلف بخير.
فائدة: قول المصنف إن تعلق بوقت يحتمل أن يريد به أن تعلق الوقت على سبيل القصد كما فسرنا العبارة المؤقتة به فيما سبق ويحترز به عما لا يكون لذلك فلا يقال فيه ينقسم إلى مضيق وموسع وإن كان يلزمه الوقت لأن الفعل لا بد له من وقت وعلى هذا الواجب على الفور الذي لم ينص على وقته لا يقال فيه موسع ويحتمل أن يريد أنه متى تعين وقته سواء كان تعيينه بالنص عليه أم بدلالة الأمر عند من يراه فينقسم إلى مضيق وموسع ويكون كل واجب مضيقا أو موسعا فما كان للتراخي فهو موسع بلا إشكال وما كان للفور ليس بموسع والحج من قال بفوريته إن أطلق يلزمه ذلك وإن أراد إيقاعه في السنة الأولى من سني الإمكان يصير أشهر الحج من تلك السنة بالسنة إلى ابتدائه كالوقت الموسع لكن ينبغي أن يعذر في التأخير إلى آخرها لأنه مغيا بيوم عرفة وأما التوسعة فيما بعد السنة الأولى فلا وجه لها مع القول بالفور.(11/154)
فرع: الموسع قد يسعه العمر كالحج وقضاء الفائت فله التأخير ما لم يتوقع فواته إن أخر لكبر أو مرض إذا أثبتنا الواجب الموسع فقد يكون وقته محدودا بغاية تعلق به كالصلاة وقد يكون مدة العمر كالحج وقضاء الفائت حيث قلنا بأنه على التراخي وهو إذا فات يعذر على الصحيح دون الفائت بغير عذر فإنه على الفور على الصحيح عندهم وهذكا فصلوا في الكفارات بين ما سببها معصية وغيرها وحيث جوزنا التأخير في ذلك وفي النذور مدة العمر فإن حكمنا بأنه لا يعصى إذا مات لم يتحقق معنى الوجوب وإن قلنا يضيق عليه عند الانتهاء إلى غاية معينة من غير دليل لزم تكليف ما لا يطاق كذا في المحصول قال فلم يبق إلا أن نقول يجوز له التأخير بشرط أن يغلب على ظنه أنه يبقى سواء بقي أم لا وإذا ظنه أنه لايبقى عصى بالتأخير سواء مات أم لا وهذا الذي قاله قول والصحيح أنه إذا مات عصى سواء غلب على ظنه قبل ذلك البقاء أم لا ولا يلزم التكليف بما لا يطاق لأنه كان يمكنه المبادرة فالتمكن موجود وجواز التأخير بشرط سلامة العاقبة وتبين خلافه فتبين عدم الجواز(11/155)
ص -99-…والوجوب تحقق مع التمكن فيقضى والفرق بينه وبين ما إذا مات في أثناء وقت الصلاة فإنه لا يعصى على الصحيح بأن الموت خرج وقت الحج وبالموت في أثناء وقت الصلاة لم يخرج وقتها ونظير الحج أن يفوت آخر وقت الصلاة فإنه يعصى بخروج الوقت وقول المصنف فله التأخير على رأي الإمام ظاهرا وباطنا وعلى رأينا ظاهرا فقط والباطن مجهول الحال ولا يلزم تكليف ما لا يطاق لما قلناه.
وقوله ما لم يتوقع يعني فواته يعني فلا يجوز التأخير كما قدمناه عن الإمام وعبارة الإمام إذا غلب ظنه وهو صحيح وأما التوقع فلا يلزم منه الظن بل قد يحصل خوف فقط من غير غلبة ظن كما قدمناه في الكلام على الواجب المخير والمرتب فكان الصواب أن يقول المصنف ما لم يظن فواته وإن أخر وهي الحالة التي قدمها في الصلاة أنه إذا غلب على ظنه أنه لا يعيش إلى آخر الوقت تضيق عليه فصار الموسع بالعمر يعصى فيه شيئين:
أحدهما: الموت على الصحيح.
والثاني: التأخير عن وقت يظن فوته بعده والموسع بما دون العمر يعصى فيه لشيئين:
أحدهما: خروج وقته.
والثاني: تأخيره عن وقت يظن فوته بعده كالموسع بالعمر ومن القضاء ما لا يجوز تأخيره مدة العمر كقضاء رمضان لا يجوز تأخيره حتى يجيء رمضان آخر فهو بالنسبة إلى المعصية بالتأخير كالصلاة وبالنسبة إلى عدم فواته كالحج.(11/156)
ص -100-…المسألة الثالثة في الواجب العيني والواجب الكفائي
"الثالثة: الوجوب إن تناول كل واحد كالصلوات الخمس أو أحدا معينا كالتهجد فيسمى فرض عين أو غير معين كالجهاد يسمى فرضا على الكفاية فإن ظن كل طائفة أن غيره فعل سقط عن الكل وإن ظن أنه لم يفعل وجب" قيل إن الوجوب على الكفاية مخالف بالحقيقة للوجوب على الأعيان وأن اسم الوجوب صادق عليهما بالاشتراك المعنوي وزعم بعضهم أن المخاطب بفرض الكفاية طائفة لا بعينها وهو ظاهر قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} والصحيح أن المخاطب به الجميع لتعذر خطاب المجهول بخلاف خطاب المعين بالشيء المجهول فإنه يمكن كالكفارة وإنما يفترق فرض الكفاية وفرض العين في أن فرض الكفاية المقصود منه تحصيل مصلحته من غير نظر إلى فاعله وفي تحقيقه ثلاثة معان:
أحدها: أن كل مكلف يخاطب بالجهاد مثلا فإن قام به طائفة سقط عن الباقين رخصة وتخفيفا ولحصول المقصود.
والثاني: أن كل مكلف مخاطب به إن لم يقم غيره به وعلى هذا إذا قام غيره به تبين أنه لم يكن مخاطبا ليس أنه خوطب ثم سقط.
والثالث: أن كل مكلف غير مخاطب به ومجموعهم مخاطبون بأن يكون من بينهم طائفة تقوم بهذا الفعل ولا يقال يلزم أن يكون الشخص مكلفا بفعل غيره لأنا نقول كلفوا بما هو أعم من فعلهم وفعل غيرهم وذلك مقدور تحصيله منهم ولأنهم قادرون أن يخرجوا طائفة منهم لذلك وفرض العين المقصود منه(11/157)
ص -101-…امتحان كل واحد بما خوطب به لحصول ذلك الفعل منه بنفسه لا يقوم غيره مقامه وقد يكون من فرائض الأعيان على جماعة ما يشترط في فعل غيره كالجمعة لا تصح إلا من جماعة وصارت الواجبات ثلاثة:
أحدها: ما يجب على الشخص ويسقط بفعل غيره وهو فرض الكفاية.
والثاني: ما لا يعتبر معه غيره أصلا.
والثالث: ما يعتبر في الأداء وكلاهما فرض العين ولا يسقط بفعل الغير.
إذا عرفت هذا فنقول إن قوله: إن تناول كل واحد فيسمى فرض عين لك أن تعترض عليه فيه لما علمت أن فرض الكفاية كذلك على الصحيح وتعتذر عنه بأنه استغنى بالمثال بالصلوات الخمس.
وقوله: أو واحدا معينا كالتهجد قاله جماعة غيره وهو تفريغ على أن التهجد كان واجبا على النبي صلى الله عليه وسلم وحده وأن ذلك من خصائصه وهذا وإن كان مشهورا عند أكثر المتأخرين من الشافعية فالصحيح الذي نص عليه الشافعي خلافه وأن وجوب التهجد منسوخ عنه صلى الله عليه وسلم وعن غيره وحين كان واجبا كان عليه وعلى غيره وقد اختص النبي صلى الله عليه وسلم بوجوب أشياء لا خلاف فيها منها التخيير لنسائه وغيره وقوله أو غير معين إنما يتم عند من يرى أن فرض الكفاية ليس على الجميع وقد بينا أن الصحيح خلافه.
ثم إن كل ما يتناول المعين يتناول غير المعين لدخوله في المعين فالعبارة المحررة أن تقول ويراد بالقصد ما قدمناه من مقصود فرض الكفاية أما إذا أريد معنى خوطب فلا يصح أيضا لما بينا أن الخطاب فيهما للجميع وقوله فإن ظن إلى آخره قاله الإمام مستدلا بأن تحصيل العلم بأن الغير هل فعل أولا غير ممكن إنما الممكن تحصيل الظن ولك أن تقول الوجوب على الكل معلوم فلا يسقط إلا بالعلم وليس فيه تكلف بما لا يمكن لأن الفعل يمكن فيه حصول العلم ثم قولهم إنه يسقط بفعل البعض يوهم أن فعل غيرهم بعد ذلك يقع نفلا وليس كذلك فإن كل من جاهد أو طلب يقع فعله(11/158)
ص -102-…فرضا وإن كان فيمن سبقه كفاية وكذا إذا صلى على الجنازة ظائفة ثم طائفة وقع فعل الثانية فرضا كالأولى هذا تحقيق أن الخطاب للجميع وإنما يسقط الإثم بفعل من فيه كفاية رخصة وتخفيفا.
وقول المصنف: فإن ظن كل طائفة أن غيره إما أن يكون ذكر على لفظ كل أو على معنى طائفة وأنها تطلق على الواحد فإن كان الأول فالذي أجمع عليه النحاة أن لفظ كل إذا أضيف إلى نكرة وجب مراعاة المضاف إليه وإن كان الثاني فالحق أن معنى طائفة لا يكون للواحد لأنها مأخوذة من معنى الطواف والإحاطة وذلك لا يكون بالواحد ولو سلم صدقها على الواحد فلا اختصاص فيه بل يصدق على الجمع كما يصدق على الواحد فلا وجه للتذكير إلا إذا أريد الواحد وليس هو المراد هنا فكان التأنيث في هذا المكان أولى.(11/159)
ص -103-…المسألة الرابعة في مقدمة الواجب
"الرابعة وجوب الشيء مطلقا يوجب وجوب ما لا يتم إلا به وكان مقدورا" قوله مطلقا احتراز من الوجوب المقيد بشرط كالزكاة وجوبها متوقف على النصاب ولا يجب تحصيله وجوبها متوقف على الجماعة والإقامة ولا يجب تحصيلهما وهذا متفق عليه وقوله وكان مقدورا احتراز من قدرة العبد على الفعل وداعيته المخلوقتين لله تعالى لا تتم الواجبات المطلقة عليه وغيرها إلا بهما ولا يجب تحصيلهما ولا يتوقف الوجوب عليهما وجملة ما يتوقف عليه الفعل إما أن يكون من فعل الله أو فعل العبد وكل منهما إما أن يتوقف عليه الوجوب أو لا فالذي من فعل الله يتوقف عليه الوجوب كالعقل وسلامة الأعضاء التي بها الفعل والذي لا يتوقف عليه الوجوب كخلق قدرة العبد وداعيته والذي من فعل العبد ويتوقف عليه الوجوب كما سبق والذي لا يتوقف عليه الوجوب إما أن يكون مقدورا أو لا فغير المقدور لا يتحقق معه وجوب الفعل إلا على القول بتكليف ما لا يطاق وحينئذ يصح وجوب غير المقدور مما يتوقف عليه الواجب فلا يصح اشتراط كونه مقدورا لذلك لم أر مثالا يصح اجتماع الوجوب معه إلا القدرة الداعية ورأيت جماعة خبطوا في ذلك وقولنا ما لا يتم الشيء إلا به يشمل بالوضع ثلاثة أشياء الجزء والسبب والشرط لكن الجزء ليس مرادا هنا لأن الأمر بالكل أمر به تضمنا ولا تردد في ذلك وإنما المراد السبب والشرط وأن الأمر بالشيء هل يستلزم الأمر بسببه أو شرطه أو لا ولذلك عبر بعضهم بالمقدمة والمقدمة خارجة عن الشيء مقدمة عليه بخلاف الجزء فإنه داخل فيه والمختار وجوب السبب والشرط كما ذكر المصنف.
والجزء إذا لم يكن مقدورا سقط وجوبه إذا لم نقل بتكليف ما لا يطاق من(11/160)
ص -104-…ضرورة ذلك عدم وجوب الكل حينئذ لكن بقي وجوب ما سواه من الأجزاء لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم".
وهذا آخر ما كتبه الشيخ الإمام العلامة المجتهد شيخ الإسلام والمسلمين تقي الدين بقية المجتهدين أبو الحسن علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام السبكي الشافعي رحمه الله ورحم أموات المسلمين وتممه ولده قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب فسح الله في مدته ونفع به آمين.(11/161)
ص -105-…بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين رب يسر قال سيدنا ومولانا الشيخ الإمام العلامة الأوحد البارع الحافظ شيخ الإسلام مفتي الأنام قدوة الأئمة حبر الأمة ناصر السنة قامع البدعة علامة العلماء وارث الأنبياء فريد دهره ووحيد عصره قاضي القضاة تاج الدين ابت سيدنا ومولانا قاضي القضاة أوحد العلماء العاملين آخر المجتهدين تقي الدين أبي الحسن السبكي الشافعي متع الله بحياته المسلمين وأيده وأمده بعونه وأدام النفع به آمين.
الحمد لله رب العالمين الحمد لله الذي جعل لنا من هذا الدين القيم شرعة ومنهاجا و وأطلع لنا في سماء العلم الشريف من الكتاب والسنة سراجا وهاجا وقدر للفقيه أن يكون على الإجماع محتالا وإلى القياس محتاجا نحمده على نعمه التي خصنا بعمومها ورجحنا على من سوانا بأدلة مفهومها واستوعب لنا ما وجد منها عند سبرها وتقسيمها ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة ظاهرة غير مؤولة دائمة نستصحب أحكاما غير مبدلة نامية الثواب يوم المعاد فلا يحتاج إلى بيان أحكامها المجملة ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي نسخ شرع من قبله بشرعه المؤيد وأمر ونهى فأوجب وندب وحرم وأباح وأطلق وقيد واجتهد في إبلاغ ما أمر به فذب العقل عن فعل ما قرره وشيد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه الذين فهموا خطاب وضعه وقاموا بشرائط دينه وعلموا أدلة شرعه واتبعوه فما منهم إلا من قال بموجب أصله وفرعه صلاة تصل أخبارها إليهم بكرة وعشيا وتفد أجناسها المتنوعة بفصولها المتميزة عليهم فتسلك صراطا سويا وتخلص فتخلص قائلها من الأهوال يوم يموت ويوم يبعث حيا دائمة ما افتقر فرع إلى الرجوع إلى أصله واحتاج المجادل إلى تجويد نصه كما يحتاج المجالد إلى تجريد نصله باقية لا ينعكس طردها ولا يشتبه محكمها(11/162)
ص -106-…بترهات الملحد وزخرف قوله: ورضي الله عن التابعين لهم بإحسان المقتفين آثارهم الحسان وخص بمزيد الرضوان العلماء الحامين حمى الشريعة أن يضام أو يضاع الوارثين بالدرجة الرفيعة هدى النبوة الذي لا يرام ولا يراع الوافدين على حياطته بالهمة الشريفة حتى لا ينفك أو يشان ويشاع لا سيما الإمام المطلبي مستخرج علم أصول الفقه محمد بن إدريس الشافعي الذي ساد المجتهدين بما أصل وأنشأ وسار نبأ مجده والبرق وراءه يتحرق عجله وهو أمامه على مهل يتمشى وساق إلى سواء السبيل بعلومه التي غشاها من تقوى الله ما غشى وقدس أرواح أصحابه الذين زينوا أسماء العلوم من أنفسهم بزينة الكواكب وهاموا باتباع مذهبه المذهب وللناس فيما يعشقون مذاهب.
وذادوا عن بيان ما أجمله وإيضاح ما أشكله والعلوم عطايا من الله ومواهب رضا يتكفل بنجاة كل منهم ونجاحه ويمر بروض الإيمان فيتعطر بأنفاسه رياحه ويفخر عقد الجوزاء إذا كان درة في وشاحه.(11/163)
أما بعد فإن العلوم وإن كانت تتعالى شرفا وتطلع في افق الفخار من كواكبها شرفا فلا مرية في أن الفقه نتيجة مقدماتها وغاية نهاياتها وواسطة عقدها ورابطة حلها وعقدها به يعرف الحرام من الحلال وتستبين مصابيح الهدى من ظلام الضلال وهيهات أن يتوصل طالب وإن جد المسير إليه أو يتحصل بعد الإعيا والنصب عليه إلا بعد العلم بأصول الفقه والمعرفة والنهاية فيه فإنه صفته وكيف يفارق الموصوف الصفة وقد نظرنا فلم نر مختصرا أعذب لفظا وأسهل حفظا وأجدر بالاعتناء وأجمع لمجامع الثناء من كتاب منهاج الوصول إلى علم الأصول للشيخ الإمام العالم العلامة قاضي القضاة ناصر الدين البيضاوي بيض الله وجهه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه وروض تربته بغمام الغفران حتى يأتي يوم القيامة وما ثلم جانبه ولا فض فوه فإنه موضوع على أحسن منهاج محمول على الأعين وليس له منها من هاج بعبارة أعذب من ماء السحاب وألعب من ابنة الكرم بعقول أولي الألباب آل فضل البلاغة إليه وآلى فضل الخطاب ألا يتمثل إلا بين يديه وقد رأيت شراحه على كثرتهم مالوا إلى الإيجاز وقالوا وكأنما ضاق بهم الفضاء الواسع فعد مقالهم(11/164)
ص -107-…في الألغاز قنع كل منهم بحاجة في نفسه من اسم التصنيف قضاها وجمع نفسه على ما شف به سجل الكتاب من تقارير إذ أنصف من نفسه لا يرضاها فشروحهم تحتاج إلى من يشرحها وكلماتهم تريد بسطة في العلم والجسم توضحها.
وقد كان الشيخ الإمام والدي رحمه الله شرع في وضع شرح عليه أبهى وأبهج من الوشي المرقوم وأسرى وأسرع إلى الهداية من طوالع النجوم عديد شهب لائحه ورسل سحب سائحه وسماه علم يهتدى بكوكبه وعلاء قدر أخذ بلمة الفخر ولم يزاحمه بمنكبه لا تنقشع عارضته ولا نتوقع معارضته خضعت رقاب المعاني لكلامه وخشعت الأصوات وقد رأته جاوز الجوزاء وما رضيها دار مقامه لكنه أحسن الله إليه ما غاص في بحره إلى القرار ولا أوصل هلاله إلى ليلة البدار بل أضرب عنه صفحا بعد لأي قريب وتركه طرحا وهو الدر اليتيم بين إخوانه كالغريب وقد حدثتني النفس بالتذييل على هذه القطعة وأحاديث النفس كثيرة وأمرتني الأمارة بالتكميل عليها ولكني استصغرتها عن هذه الكبيرة وقلت للقلم أين تذهب وللفكر أين تجول أطنب لسانك أم أسهب ووقفت وقفة العاجز والنفس تأبى إلا المبادرة بما به أشارت وجرت على تيارها منادية أئت بما أمرتك بما استطعت وتوارى اللسان وما توارت فلما تعارض المانع والمقتضى وعلمت أن الحال إذا حاولت مجهودها قام لها العذر الواضح فيما استقبلته ومضى أي مضى أعلمت الفكرة في الدجنة والوجه والليل كلاهما كالح وشرعت فيه وقلت لعل الغرض يتم ببركته وبقصده الصالح وجردت همة ما ورد رائدها إلا وقد سئم من النشاط ولا أغمد مهندها إلا وقد ترك ألف طريح على البساط ولا عاد نصلها إلا وقد قضى المأمول ولا فترت عزائمها إلا وقد حصلت على نهاية السول وأعلمنا هذه الهمة في مدلهم الديجور وصرفنا قلمها بشهادة النجوم وفلكها يدور فلم تنشب ليالي أسبلت جلبابها وأرخت نقابها معدودة ساعاتها ممدودة بالألطاف الخفية أوقاتها إلى أن انهزمت تلك الليالي ودارت الدائرة عليها وجاء من(11/165)
النسيم العليل بشير الصبح متقدما بين يديها فوافى الصباح بكل معنى مبتكر وجلا عرائس بدائعه فشنف السمع وشرف البصر وجاء كتابا ساطعا نور شمسه وشمس السماء في غروب طالعا(11/166)
ص -108-…في أفق الفخار على أحسن أسلوب جائزا لما يراد منه في كل طريقه جائزا حقا على مقالات المتقدمين والمتأخرين وحسبك بمن مجازه حقيقة فأسأل الله تعالى أن يعم النفع به وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم موجبا للفوز لديه وقد وصل والدي الشيخ الإمام جزاه الله الخير إلى مسألة مقدمة الواجب ونحن نتلوه والله الموفق المعين بخفي ألطافه والمحقق لرجاء العبد بإسعاده وإسعافه.(11/167)
ص -109-…قال المصنف رحمه الله
"الرابعة وجوب الشيء مطلقا يوجب وجوب ما لا يتم إلا به وكان مقدورا".
قال والدي تغمده الله برحمته قوله مطلقا احتراز من الوجوب المقيد كشرط الزكاة وجوبها متوقف على النصاب ولا يجب تحصيله والجمعة وجوبها متوقف على الجماعة والاقامة في بلد ولا يجب تحصيلهما وهذا متفق عليه وقوله: "وكان مقدورا" احتراز من قدرة العبد على الفعل وداعيته المخلوقتين لله تعالى لا تتم الواجبات المطلقة عليه كالصلاة وغيرها إلا بهما ولا يجب تحصيلهما ولا يتوقف الوجوب عليهما وجملة ما يتوقف عليه الفعل اما أن يكون من فعل الله تعالى أو فعل العبد وكل منهما إما أن يتوقف عليه الوجوب اولا فالذي من فعل الله تعالى ويتوقف عليه الوجوب كالعقل وسلامة الأعضاء التي بها الفعل والذي لا يتوقف عليه الوجوب خلق قدرة العبد وداعيته والذي من فعل العبد ويتوقف عليه الوجوب أما أن يكون مقدورا أولا فغير المقدور لا يتحقق معه وجوب الفعل إلا على القول بتكليف ما لا يطاق وحينئذ يصح وجوب غير المقدور مما يتوقف عليه الواجب فلا يصح اشتراط كونه مقدورا فلذلك لم أر مثالا يصح اجتماع الوجوب معه إلا القدرة والداعية ورأيت جماعة خطبوا في ذلك.
وقولنا: ما لا يتم الشيء إلا به يشمل بالوضع ثلاثة أشياء الجزء والسبب والشرط لكن الجزء ليس مرادا هنا لأن الأمر بالكل أمر به تضمنا ولا تردد في ذلك وإنما المراد السبب والشرط وأن الأمر بالشيء هل يستلزم الأمر بسببه أو شرطه أو لا ولذلك عبر بعضهم عنه بالمقدمة والمقدمة خارجة عن الشيء(11/168)
ص -110-…متقدمة عليه بخلاف الجزء فانه داخل فيه والمختار وجوب السبب والشرط كما ذكره المصنف والجزء إذا لم يكن مقدورا سقط وجوبه إذا لم نقل بتكليف ما لا يطاق ومن ضرورة ذلك عدم وجوب الكل حينئذ لكن يبقى وجوب ما سواه من الأجزاء لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"1.
قلت: هذا ما وقف عنده والدي الشيخ الإمام تغمده الله برحمته و رضوانه ومن هنا أبتدئ وبالله التوفيق فأقول لا مزيد على حسن ما ذكره وأما قوله: إذا لم يجب الكل لعدم القدرة على الجزء يبقى وجوب ما سواه من الأجزاء فصحيح ومستنده الحديث الذي أورده وهو القاعدة التي يذكرها الفقهاء: "الميسور لا يسقط بالمعسور" وسنلتفت إن شاء الله في ذيل المسألة إليها
قال: "قيل يوجب السبب دون الشرط وقيل لا فيهما".
عرفت المذهب المختار وقال قوم يوجب السبب ولا يوجب الشرط سواء كان شرطا شرعيا كالوضوء للصلاة أو عقليا كترك ضد الواجب أو عاديا كغسل جزء من الرأس لغسل الوجه وقيل لا يوجبه مطلقا هذه المذاهب التي حكاها المصنف وفي المسألة مذهب رابع ارتضاه إمام الحرمين واختار ابن الحاجب2 أن وجوب الشيء مطلقا يوجب الشرط الشرعي دون العقلي أو العادي.
قال: "لنا أن التكليف بالمشروط دون محال قيل يختص بوقت وجود
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" كما أخرجه ابن حبا، كما ذكره الحافظ ابن حجر الفتوحات الربانية للنووي 1/80.(11/169)
2 هو: عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس، جمال الدين بن الحاجب، فقيه مالكي، من كبار العلماء بالعربية، كردي الأصل، ولد في إسنا بصعيد مصر، ونشأ في القاهرة ثم رحل إلى دمشق، وكان أبوه حاجباً فعرف به.
من مؤلفاته: "القافية، والشافية، مختصر الفقه، منتهى السول والأمل في علمي الأصول والجدل، ومختصر المنتهى" توفي بالإسكندرية سنة:646هـ وفيات الأعيان 1/314، الأعلام 4/374.(11/170)
ص -111-…الشرط قلنا خلاف الظاهر قيل إيجاب المقدمة أيضا كذلك قلنا لا فان اللفظ لم يدفعه".
لما اشترك المذهبان اللذان حكاهما آنفا في عدم إيجاب الشرط رد عليهما بالدليل المذكور وقوله التكليف بالمشروط دون الشرط هذه العبارة تحتمل ثلاثة معان:
أحدهما: التكليف بالمشروط دون التكليف بالشرط ونقرر استحالته بأنه إذا لم يجب الشرط جاز تركه فنقدر هذا الجائز واقعا فيصير واقعا كالمعنى الثاني وسنقرر إن شاء الله استحالته ولكن هذا المعنى ليس مراده لأنه محل النزاع فلو أراده لكان مصادرا على المطلوب ولأنه يحوج إلى إضمار ولأن قوله بعد ذلك قيل يختص بوجود الشرط يرشد إلى خلافه ولأن الإمام صرح بالمقصود فقال حال عدم المقدمة.
المعنى الثاني: أن يكون التكليف حال عدم الشرط وهذا هو المقصود وهو على قسمين أيضا:
أحدهما: وهو الثاني من المعاني يكلف وقت عدم الشرط بايقاع المشروط حينئذ ولا شك أن هذا تكليف بما لا يطاق والاستحالة جاءت من تضاد متعلق التكليف ووقته لا من خصوصه ولا من خصوص وقته وقريب من هذه العبارة أن يختص التكليف بوقت عدم الشرط.
والثاني: من القسمين وهو الثالث من المعاني أن يكلف وقت عدم الشرط بايقاع المشروط مطلقا ومقتضى ذلك ألا يختص التكليف بوقت بل يوجد حال وجود الشرط وعدمه والمكلف به في القسمين المشروط من حيث هو لا بقيد الشرط ولا بقيد عدمه والتقييد يقيد عدمه مستحيل في نفسه ويقيد وجوده يلزم منه طلب الشرط كما هو المدعى أعني إذا كان المطلوب المشروط ووقت طلبه غير مقيد.
إذا عرفت ذلك فنقول لو لم يوجب إيجاب الشيء مطلقا ما يتوقف عليه ذلك الشيء لكنا قد كلفنا بالمشروط من غير التكليف بالشرط وهو تكليف(11/171)
ص -112-…بمحال لأنه إذا كان المشروط مكلفا به دون الشرط لم يحبب الإتيان بالشرط وإذا جاز ترك الشرط لزم منه جواز ترك المشروط لأن انتفاء الشرط مستلزم لانتفاء المشروط فيلزم كون المشروط جائز الترك واجب الفعل وهو تكليف بما يلزم من المحال فتعين أن يكون التكليف بالمشروط موجبا للتكليف بالشرط وإن أثبت ذلك في الشرط ففي السبب بطريق أولى فإن من قال بوجوب الشرط قال بوجوب السبب من غير عكس.
هذا تقرير الدليل وقول المصنف التكليف بالمشروط دون الشرط محال فيه نظر لأنا نفرق بين التكليف بالمحال والتكليف المحال فالأول هو تكليف العاقل الذي يفهم الخطاب بما لا يطيقه وهو محل الخلاف في تكليف ما لا يطاق لأن المخاطب به يعلم أنه مكلف بذلك.
والثاني: مثل تكليف الميت والجماد ومن لا يعقل من الأحياء فهذا تكليف المحال واتفق أهل الحق قاطبة على أنه لا يصح نقل هذا الاتفاق القاضي أبو بكر رحمه الله فكان الأحسن للمصنف أن يقول تكليف محال كما قررناه وعذره في ذلك أنه فرع على تكليف ما لا يطاق فإن الأصحاب وإن أقروا بتكليف ما لا يطاق في موضعه لا يفرعون عليه ويحيلون ما لزم عنه لكونه غير واقع في الشريعة فحينئذ التكليف به محال عند المانعين منه فيصح كلامه.(11/172)
قوله: قيل يختص بوقت وجود الشرط اعترض الخصم على الدليل المذكور بأنه لم لا يجوز أن يختص التكليف بالمشروط بحال وجود الشرط ولا امتناع في ذلك فإن غايته أن يقيد الأمر ببعض الأحوال لمقتض قام وهو الفرار من تكليف المحال وأجاب المصنف بأن اللفظ مطلق لا اختصاص له بوقت وجود الشرط خلاف الظاهر واعترض الخصم أيضا بأن إيجابكم المقدمة أيضا خلاف الظاهر لأن ظاهر الأمر لا يدل عليه فإذا جاز مخالفة الظاهر من هذا الوجه فلم لا يجوز من الوجه الذي ذكرناه وأجاب المصنف بأن مخالفة الظاهر عبارة عن إثبات ما ينفيه اللفظ أو نفي ما يثبته اللفظ ظاهرا وأما إثبات ما لم يتعرض اللفظ له بنفي ولا إثبات فليس مخالفة للظاهر وحينئذ لا يكون إيجاب المقدمة مخالفة للظاهر إذ لم يدل اللفظ عليه بنفي ولا إثبات بخلاف تخصيص(11/173)
ص -113-…الأمر بوقت وجود الشرط فإن اللفظ يقتضي الوجوب مطلقا فتقييده بوقت وجود الشرط دون ما سواه مخالفة للظاهر فإن قلت كيف يكون حمل المطلق الصادق بصورة على أحد صوره خلاف الظاهر وليس فيه إثبات ما ينفيه اللفظ ولا نفي ما يثبته قلت لما اقتضى الإطلاق من كل صوره صار تقييده ه بصورة منافر لكونه مطلقا قال:
تنبيه
"مقدمة الواجب إما أن يتوقف عليها وجوده شرعا كالوضوء للصلاة أو عقلا كالمشي للحج أو العلم به كالإتيان بالخمس إذا ترك واحدة ونسي وستر شيء من الركبة لستر الفخذ".
عبر الإمام عن هذا بالفرع ووجهه أنه مندرج تحت أصل كلي ووجه التعبير عنه بالتنبيه أن الكلام السابق نبه عليه على سبيل الإجمال حاصله أن مقدمة الواجب تنقسم إلى أمرين:
أحدهما: أن يتوقف عليه وجوب الواجب وهو نوعان:
أحدهما: أن يتوقف عليه شرعا كالوضوء مع الصلاة.
الثاني: أن يتوقف عليه عقلا كالسير إلى الحج وعبارة المصنف المشي وقد يناقش فيها والأمر سهل.
القسم الثاني: أن يتوقف عليها العلم بوجود الواجب لا نفس وجود الواجب فلذلك إما لالتباس الواجب بغيره كالإتيان بالصلوات الخمس إذا ترك واحدة ونسي عينها فإن العلم بأنه أتى بالصلاة المنسية لا يحصل إلا بالإتيان بالخمس وإما أن يكون لتقارب ما بين الواجب وغيره بحيث لا يظهر حد مفرق بينهما وذلك كستر شيء من الركبة لستر الفخذ فإن الفخذ والركبة متقاربان فالعلم بستر جميع الفخذ الذي هو واجب إنما يحصل بستر شيء من الركبة للتقارب المذكور هذا ما ذكره وهو مبني على أن الفخذ نفسه عورة وذلك في المرأة بلا خلاف وفي الرجل على الصحيح وعلى أن الركبة نفسها ليست بعورة وهو الصحيح أيضا فإن قلت القول بإيجاب الخمس على من نسي(11/174)
ص -114-…أحدها وجهل عينها عند من يوجب المقدمة واضح وأما من لا يوجبها فماذا يفعل وما فائدة الخلاف قلت قد لا ينظر الفقيه إلى الخلاف الأصولي في كثير من الفروع ولا يجعل لها به تعلقا البتة وقد يقال بظهور فائدة الخلاف في أنه هل يصلي الخمس بتيمم واحد أو بخمس تيممات لكن الصحيح إيجاب تيمم واحد وقضية القول بوجوب المقدمة إيجاب خمس تيممات فإن قلت ما وجه القصور في الإيجاب على تيمم واحد والخمس فرائض ولا يصلي بتيمم واحد أكثر من فريضة واحدة قلت الأربعة من حيث إنها لم ترد لنفسها منحطة عن مراتب الفرائض ولذلك قيل صلاة ركعتين تطوعا أفضل من إحدى الصلوات الأربع التي هي غير واجبة في نفس الأمر وعد ذلك موضعا يفضل الندب فيه الواجب ونحن لنا في هذا نظر ليس هذا موضعه.
فروع فقهية
قال:" فروع الأول لو اشتبهت المنكوحة بالأجنبية حرمتا على معنى أنه يجب عليه الكف عنهما".
أما الأجنبية فواضح وأما المنكوحة فلاشتباهها بالأجنبية فالكف عنهما هو طريق حصول العلم بالكف عن الأجنبية وإنما قال على معنى أنه يجب عليه الكف عنهما لأن الحرام عليه في نفس الأمر هي الأجنبية فقط فمعنى تحريمهما عليه وجوب الكف عنهما فنبه عليه واعلم أن هذا النوع في الحرمة لما لا يتم الواجب إلا به شبيه في الوجوب للإتيان بالخمس إذا ترك واحدة ونسي عينها.
قال: "الثاني إذا قال إحداكما طالق حرمتنا تغليبا للحرمة والله تعالى يعلم أن سيعين إحداهما لكن ما لم يعين لم تتعين".
إذا قال: إحداكما طالق ولم ينو إحداهما على التعيين حرمت الزوجتان عليه إلى حين التعيين لأن كل واحدة منهما يحتمل أن تكون هي المطلقة فتحرم أو غير المطلقة فلا تحرم وإذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام والفرق بين هذا والذي قبله أن إحدى المرأتين في الصورة الأولى ليست محرمة بطريق الأصالة(11/175)
ص -115-…بل للاشتباه بخلاف الفرع الثاني فإنهما في ذلك سواء وأيضا فالزوج غير قادر على إزالة التحريم في الأول دون الثاني وهذا الذي جزم به المصنف حكاه الإمام مذهبا لبعضهم وقال يحتمل أن يقال يحل وطؤها لأن الطلاق شيء معين فلا يحصل إلا في محل معين فقبل التعيين لا يكون الطلاق نازلا في واحدة منهن ويكون الموجود قبل التعيين ليس هو الطلاق بل أمر له صلاحية التأثير في الطلاق عند اتصال البيان به لا إنه طلاق وإذا لم يوجد الطلاق قبل التعيين وكان الحل موجودا أوجب القول لبقائه فيحل وطؤها معا معا هذا كلامه ونقل ابن رفعة1 عن كتاب الوزير ابن هبيرة الذي حكى فيه ما اجتمع عليه الأئمة الأربعة وما اختلفوا فيه أن ابن هبيرة2 من أصحابنا قال إذا طلق واحدة من نسائه لا بعينها أو بعينها ثم أنسيها طلاقا رجعيا أنه لا يحال بينه وبين وطئهن وله وطء أيتهن شاء وإذا وطيء واحدة انصرف الطلاق إلى صاحبتها وهذا يعضد ما حاوله الإمام وهو ضعيف لأنا نقول محل الطلاق القدر المشترك بينهما وهو إحداهما لا بعينه وهو متعين بالنوع وإن لم يكن متعينا بالشخص واستدعاء الطلاق من حيث كونه وصفا متعينا محلا معينا يكفي فيه التعيين بالنوع.
سلمنا أنه يقتضي تعينا بالشخص ولكن نقول هو عند الله متعين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: أحمد بن محمد بن علي الأنصاري، أبو العباس، نجم الدين، المعروف بابن الرفعة، فقيه شافعي، من فضلاء مصر، كان محتسب القاهرة ونائباً في الحكم.
من مؤلفاته: "بدل النصائح الشرعية في ما على السلطان وولاة الأمور وسائر الرعية" و"الكفاية في شرح التنبيه".
توفي سنة 710هـ.
الدار الكامنة 1/284، الأعلام 1/213.(11/176)
2 هو: يحيى بن هبيرة بن محمد بن هبيرة الذهلي، الشيباني، أبو المظفر، من كبار الوزراء في الدولة العباسية كان عالماً بالفقه والأدب، استوزره المقتفي سنة 544هـ فقام بشؤون الوزارة خير قيام، ولما توفي "المقتفي" وبويع "المستنجد" أقره في الوزارة. وكان يحضر مجلسه الفضلاء على اختلاف فنونهم. ألف العديد من الكتب، منها: الإيضاح والتبيين في اختلاف الأئمة المجتهدين" و"الإشراف على مذاهب الأشراف" في الفقه.
توفي سنة 560هـ وفيات الأعيان 2/246، شذرات الذهب 4/191، الأعلام 9/222.(11/177)
ص -116-…بالشخص ونحن في الخارج لا نعلمه حتى يعينه العبد بالطلاق النازل لوجوده من قادر على التصرف في محل قابل فينفذ ولا نفوذ له إلا بوقوعه في الخارج منجزا لأنه كذلك أوقعه فلو لم يقع كما أوقعه لما نفذ التصرف ولكن لا نحكم ببطلان الزوجية إلا من حين علمنا بذلك الشخص الذي كان مبهما علينا ولا ينعطف على ما مضى لجهلنا في الماضي بالحال.
قوله: والله تعالى يعلم أنه سيعين جواب عن سؤال مقدر ويمكن أن يقرر على وجهين:
أحدهما: إن الله تعالى يعلم المرأة التي سيعينها الزوج بعينها فتكون هي المطلقة في علم الله تعالى وإنما هو مشتبه علينا وهذا سؤال أورده الإمام على نفسه في قوله بالإباحة فإن الاشتباه يقتضي التحريم وهو خلاف ما مال إليه وجوابه أن الله تعالى يعلم الأشياء على ما هي عليه فلا يعلم غير المعين معينا لأن ذلك جهل وهو محال في حق الله تعالى بل علمه في الحال بأنه سيعين في المستقبل وهذا التقرير ماش على ما في المحصول إلا أنه يلزم منه أن يكون المصنف أورد سؤالا على دعوى لم يدعها ولم يذكرها البتة وهي القول بالإباحة.
والثاني: أن يقال لا فارق هذا الفرع والفرع الذي قبله إلا أن إحدى المرأتين في ذلك وهي الأجنبية محرمة في نفس الأمر وكل واحدة منهما هنا على حد سواء ونحن لا نسلم أن كل واحدة منهما محتملة الحل والحرمة حتى يحصل ما ذكرت بل الله يعلم المحرمة فهي معينة في علمه تعالى فلا فرق لتعيين المحرمة في نفس الأمر كونها يقع عليها الطلاق لا كونها مطلقة الآن لما عرفته وهذا التقرير لا معترض فيه على المصنف إلا أنه مع التعسف مخالف لما في المحصول.(11/178)
قال: "الثالث: الزائد على ما ينطلق عليه الإسم من المسح غير واجب وإلا لم يجز تركه وجه تفريغ هذا على مقدمة الواجب أنه لما كان الواجب لا ينفك غالبا عن حصول زيادة فيه كانت هذه الزيادة مقدمة للعلم بحصول الواجب وقد أورد على المصنف أنه إذا كان الزائد عنده مقدمة الواجب فيلزم أن يحكم(11/179)
ص -117-…عليه بالوجوب كستر شيء من الركبة وأجيب عنه بأن مراده بالمقدمة هناك غير القسم الذي يكون التوقيف فيه من حيث الإعادة إذا عرفت هذا فنقول الواجب إما أن يتقدر بقدر كغسل الرجلين واليدين ولا كلام فيه أولا كمسح الرأس وكإخراج البعير عن الشاة الواجبة في الزكاة وكذبح المتمتع بدنه بدل الشاة وحلقه جميع الرأس وتطويل أركان الصلاة زيادة على ما يجوز الاختصار عليه والبدنة المضحى بها بدلا عن الشاة المنذورة فنقول اختلفوا في القدر الزائد على الذي يعاقب على تركه وهو في أمثلتنا ما يعد أقل ما ينطلق عليه الاسم من المسح وقدر قيمة الشاة من البعير والبدنة وفوق الشعرات الثلاث في الحلق وفوق قدر الوجوب في الطمأنينة هل يوصف بالوجوب فذهب الإمام وأتباعه ومنهم المصنف إلى أنه لا يوصف بذلك لأن الواجب لا يجوز تركه وهذه الزيادة جائزة الترك وقال آخرون يوصف بالوجوب لأنه إذا زاد على القدر الذي يسقط به الفرض لا يتميز جزء عن جزؤ لسقوط الفرض به لصلاحية كل جزء لذلك فتخصيص بعض الأجزاء بوصف الواجب ترجيح من غير مرجح.
فإن قلت: ما محل الخلاف في مسح الرأس هل هو ما إذا وقع الجميع دفعة واحدة حتى إذا وقع مرتبا يكون الزائد نفلا جزما أم هو جار في الصورتين؟.
قلت: للأصحاب في ذلك وجهان فإن قلت ما فائدة الخلاف في هذه الصورة.
قلت:
منها: الثواب فإن ثواب الفريضة أكثر من ثواب النافلة بسبعين درجة كما حكى النووي1 عن إمام الحرمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: يحيى بن شرف بن مري بن حسن الحزامي الحوارني، النووي، الشافعي، أبو زكريا، محي الدين، علامة بالفقه والحديث، وولد وتوفي في "نوا" قرية من قرى "حوران بسوريا".
من كتبه "تهذيب الأسماء واللغات" و"منهاج الطالبين" في فقه الشافعية. "تصحيح التنبيه" "المنهاج في شرح صحيح مسلم" "رياض الصالحين" وغير ذلك مما لا يخفى على أحد. توفي سنة 676هـ.(11/180)
مفتاح السعادة 1/398، النجوم الزاهرة 7/278، الأعلام /184-185.(11/181)
ص -118-…ومنها: إذا عجل البعير عن شاة واقتضى الحال الرجوع فهل يرجع بجميعه أم بسبعة وفيه وجهان في شرح المهذب.
ومنها: لو أخرج بعيرا عن عشر من الإبل أو خمسة عشر أو عشرين هل يجزيه فيه وجهان مبنيان على هذا الخلاف إن قلنا بوقوعه كله فرضا فيما إذا أخرجه عن الخمس فلا يكفي بعير واحد بل لا بد في العشرة من بعيرين أو بعير وشاة وهكذا وإن قلنا الفرض قدر خمسة فيجزئ ويكون متبرعا في العشرة بثلاثة أخماس على أن إمام الحرمين وغيره أنكروا هذا البناء وليس هذا محل القول فيه.
واعلم أنه يضاهي قاعدة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب صور في الفقه منها مؤونة الكيل الذي يفتقر إليه القبض على البائع كمؤونة إحضار المبيع الغائب ومؤونة وزن الثمن على المشتري وفي أجرة نقد الثمن وجهان.
ومنها: إذا خفي عليه موضع النجاسة من الثوب أو البدن غسله كله.
ومنها: إذا اكترى دابة للركوب فأطلق الاكتراء أن على المكري الإكاف والبرذعة والحزام وما ناسب ذلك لأنه لا يتمكن من الركوب دونها وهي صور عديدة من أراد الإحاطة فعليه بكتابنا الأشباه والنظائر أتمه الله تعالى وقد كنا في أول المسألة وعدنا بالالتفات إلى قاعدة أن الميسور لا يسقط بالمعسور والصور تحتها كثيرة ونحن نحيل طالبها بعد ذكر القليل منها على كتابنا المذكور1.
فمنها: لو عجز عن الركوع والسجود دون القيام لعلة بظهره تمنعه الانحناء لزم القيام خلافا لأبي حنيفة.
ومنها: لو لم يقدر على الانتصاب بأن تقوس ظهره لكبر أو زمانة فصار في حد الراكعين فقد قال الغزالي تبعا لإمامه أن يقعد وقال غيرهما لا يجوز له
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 راجع في هذه القاعدة وما يتفرع عليها من فروع فقيهة في: الأشباه والنظائر للسيوطي 8 ص159، 160 مطبعة الحلبي 1959م. وكذلك في الأشباه والنظائر لابن نجيم. والقواعد لابن رجب الحنبلي.(11/182)
ص -119-…القعود فإن الوقوف راكعا أقرب إلى القيام من القعود فلا ينزل عن الدرجة القربى إلى البعدى.
ومنها: لو وجد الجنب من الماء ما لا يكفيه لغسله أو المحدث ما لا يكفيه لوضوئه فأصح القولين أن يجب استعماله ثم يتيمم لأن القدرة على البعض لا تسقط بالعجز عن الباقي.
ومنها: لو اطلع على عيب البيع ولم يتيسر له المبادرة بالرد ولا الإشهاد ففي وجوب التلفظ بالفسخ وجهان جاريان هنا وفي الشفعة.
ومنها: لو لم يفضل معه في الفطرة عما لا يجب عليه إلا بعض صاع لزمه إخراجه على الأصح.
ومنها: إذا اشترى الشقص بثمن مؤجل فهل يأخذه الشفيع مؤجلا كما أشتراه المشتري وأصح الأقوال أن الشفيع بالخيار بين أن يعجل ويأخذ الشقص في الحال وبين الصبر إلى حيلولة الأجل وعلى هذا فهل يجب تنبيه المشتري على الطلب وجهان.
ومنها: إذا كان يحسن آية فلا خلاف أنه يقرؤها وهل يضيف إليها من الذكر ما يتم به قدر الفاتحة أو يكررها سبعا فيه قولان.
فإن قلت: لم لا جرى قول أنه لا يقرأ تلك الآية بل يأتي ببدل الفاتحة كلها كما إذا قدر على بعض وضوئه ونظائره؟
قلت: كل آية من الفاتحة يجب قراءتها بنفسها فلا يأتي ببدلها مع القدرة عليها والله أعلم.(11/183)
ص -120-…المسألة الخامسة وجوب الشيء يستلزم حرمة نقيضه
قال: "الخامسة وجوب الشيء يستلزم حرمة نقيضه لأنها جزؤه فالدال عليه يدل عليها بالتضمن قالت المعتزلة وأكثر أصحابنا الموجب قد يغفل عن نقيضه قلنا لا فإن الإيجاب بدون المنع من نقيضه محال وإن سلم فمنقوض بوجوب المقدمة".
هذه هي المسألة المعروفة بأن الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضده؟
أعلم أنه لا نزاع في أن الأمر بالشيء نهي عن تركه بطريق التضمن وإنما احتلفوا في انه هل هو نهي عن ضده الوجودي على مذاهب:
أحدها: أن الأمر بالشيء نفس النهي عن ضده.
والثاني: أنه غيره ولكن يدل عليه بالالتزام وهو رأي الجمهور منهم الإمام وصاحب الكتاب وعلى هذا فالأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده لانتفاء حصول المقصود إلا بانتفاء كل ضد والنهي عن الشيء أمر بأحد أضداده لحصول المقصود بفعل ضد واحد فالأولى التعبير بهذه العبارة وبها صرح إمام الحرمين.
والثالث: أنه لا يدل عليه أصلا ونقله في الكتاب عن المعتزلة وأكثر أصحابنا واختاره ابن الحاجب واستدل المصنف على اختياره بأن حرمة النقيض جزء من الوجوب لأن الواجب هو الذي يجوز فعله ويمتنع تركه وإذا كان كذلك فالدال على الوجوب يدل على حرمة النقيض بالتضمن لأن المراد من دلالة التضمن أن اللفظ يدل على جزء ما وضع له والمراد بدلالة(11/184)
ص -121-…الالتزام هنا دلالة اللفظ على كل ما يفهم منه غير المسمى سواء كان داخلا فيه أو خارجا عنه فيصدق قوله يدل بالتضمن مع قوله بالالتزام.
واحتجت المعتزلة بأن الموجب للشيء قد يكون غافلا عن نقيضه فلا يكون النقيض منهيا عنه لأن النهي عن الشيء مشروط بتصوره وأجاب عنه بأنا لا نسلم أن الموجب للشيء قد يغفل عن نقيضه لأن الموجب للشيء ما لم يتصور الوجوب لا يحكم به ويلزم من تصور الوجوب تصور المنع من النقيض لأنه جزؤه وتصور الكل مستلزم لتصور الجزء ولو سلمنا أنه يجوز أن يكون الموجب للشيء قد يغفل عن نقيضه فذلك لا يمنع حرمة النقيض بدليل وجوب المقدمة أعني ما لا يتم الواجب إلا به فإن الموجب للشيء قد يكون غافلا عن مقدمته مع استلزام وجوبه لوجوبها كما تقدم هذا شرح ما في الكتاب.
واعلم أنه قد تردد كلام الأصوليين في المراد من الأمر المذكور في هذه المسألة هل هو النفساني فيكون الأمر النفساني نهيا عن الضد نهيا نفسانيا أو اللساني فيكون نهيا عن الأضداد بطريق الالتزام وهذا هو الذي ذكره الإمام حيث صرح بلفظ الصيغة.(11/185)
وإذا عرفت هذا فنقول: إن كان الكلام في النفساني تعين التفصيل بين من يعلم بالأضداد ومن لا يعلم فالله تعالى بكل شيء عليم وكلامه واحد وهو أمر ونهي وخبر فأمره عين نهيه وعين خبره غير أن التعلقات تختلف فالأمر عين النهي باعتبار الصفة المتعلقة نفسها التي هي الكلام وهو غيره باعتبار أن الكلام إنما يصير أمرا بإضافة تعلق خاص وهو تعلق الكلام بترجيح طلب الفعل وإنما يصير نهيا بتعلقه بطلب الترك والكلام يقيد التعلق الخاص غيره بالتعلق الآخر فهذه الأقسام والتفاصيل لا ينبغي الخلاف فيها لمن تصورها وأن أمر الله تعالى بالشيء نهى عن ضده باعتبار أنه لا بد من حصول التعلق بالضد المنافي وأما من لا شعور له بضد المأمور فلا يتصور منه النهي عن جميع الأضداد بكلامه النفسي تفصيلا لعدم الشعور بها ولكن يصدق أنه نهى عنها بطريق الإجمال لأنه طالب للمأمور على التفصيل ولتحصيله بكل طريق مفض إلى ذلك ومن جملتها اجتناب الأضداد وإن كان في اللساني فلا يتجه(11/186)
ص -122-…أن يقال الأمر تحرك ليست صيغة قولنا في الشيء نهي عن ضده فإن صيغته قولنا لا تسكن والمكابر في ذلك المنزل منزلة منكري المحسوسات وإنما يتجه الخلاف في أن صيغة الأمر هل دلت التزاما.
وهذا الذي قررناه هو الذي اقتضاه كلام إمام الحرمين فإنه حكى اختلاف أصحابنا في أن الأمر بالشيء نهي عن أضداد المأمور به ثم قال وأما المعتزلة فالأمر عندهم هو العبارة وهو قول القائل أفعل أصوات منظومة معلومة وليس هي على نظم الأصوات في قول القائل لا تفعل ولا يمكنهم أن يقولوا الأمر هو النهي وهذا هو مقتضى كلامه في التخليص الذي اختصره من التقريب والإرشاد للقاضي أبي بكر فحصلنا من هذا على أن القائل بأن الأمر بالشيء هو نفس النهي عن ضده إنما كلامه في النفسي وأن المتكلمين في النفسي يقع اختلافهم على مذاهب:
أحدها: أن الأمر بالشيء نفس النهي عن ضده واتصافه بكونه أمرا نهيا بمثابة اتصاف الكون الواحد بكونه قريبا من شيء بعيدا من غيره.
والثاني: وهو الذي مال إليه اختيار القاضي في آخر مصنفاته أنه ليس هو ولكن يتضمنه.
الثالث: أنه لا يدل عليه أصلا وإليه ذهب إمام الحرمين والغزالي ويتعين أن تكون هذه المذاهب في الكلام النفسي بالنسبة إلى المخلوق وأما الله تعالى فكلامه واحد كما عرفت لا يتطرق الغيرية إليه ولا يمكن أن يأمر بشيء إلا وهو مستحضر لجميع أضداده لعلمه بكل شيء بخلاف المخلوق فإنه يجوز أن يذهل ويغفل عن الضد وبهذا الذي قلناه صرح الغزالي وهو مقتضى كلام إمام الحرمين والجماهير.
وأما المتكلمون في اللساني فيقع اختلافهم على قولين:
أحدهما: أنه يدل عليه بطريق الالتزام وهو رأي المعتزلة.
والثاني: أنه لا يدل عليه أصلا ولبعض المعتزلة مذهب ثالث وهو أن أمر الإيجاب يكون نهيا عن أضداده ومقبحا لها بكونها مانعة من فعل الواجب(11/187)
ص -123-…بخلاف المندوب فإن أضداده مباحة غير منهي عنها لا نهي تحريم ولا نهي تنزيه ولم يقل أحد هنا إن الأمر بالشيء نفس النهي عن ضده لكون مكابرة وعنادا كما قررناه واختار الآمدي أن يقال إن جوزنا تكليف ما لا يطاق فالأمر بالفعل ليس نهيا عن الضد ولا مستلزما للنهي عنه بل يجوز أن يؤمر بالفعل وبضده في الحالة الواحدة وإن منع فالأمر بالشيء مستلزم للنهي عن ضده.
هذا خلاصة ما يجده الناظر في كتب الأصول من المنقول في هذه المسألة وهو هنا على أحسن تهذيب وأوضحه ومنهم من أجرى الخلاف في جانب النهي هل هو أمر بضد المنهي عنه وقال إمام الحرمين من قال النهي عن الشيء أمر يأخذ أضداده فقد اقتحم أمرا عظيما وباح بالتزام مذهب الكعبي1 في نفي الإباحة فإنه إنما صار إلى ذلك من حيث قال لا شيء يقدر مباحا إلا وهو ضد محظور فيقع من هذه الجهة واجبا ومن قال الأمر بالشيء نهي عن الأضداد ومتضمن لذلك من حيث تفطن لقائله الكعبي فقد ناقض كلامه فإنه كما يستحيل الإقدام على المأمور به دون الإنكفاف عن أضداده فيستحيل الانكفاف عن المنهي دون الإنصاف بأحد أضداده ونختم الكلام في المسألة بفوائد:
أحدها: قال القاضي عبد الوهاب2 في الملخص بعد أن حكى عن الشيخ أبي الحسن3 أن الأمر بالشيء نهي عن ضده إن كان ذا ضد واحد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: عبد الله بن أحمد بن محمود، المكنى بأبي القاسم الكعبي، من عيون المعتزلة، وإليه تنسب طائفة الكعبية، توفي ببلخ سنة 1319هـ.
شذرات الذهب 2/281، البغدادي 9/384.
2 هو: عبد الوهاب بن علي بن نضر الثعلبي البغدادي، قاض من فقهاء المالكية، له نظم ومعرفة بالأدب. من مؤلفاته: كتاب تلقين في فقه المالكية شرح المدونة للإمام مالك الإشراف على مسائل الخلاف شرح فصول الأحكام توفي سنة 422هـ.
فوات الوفيات 1/21، الأعلام 4/335.(11/188)
3 هو الشيخ الإمام: علي بن إسماعيل بن أبي بشر، شيخ طريقة أهل السنة، والجماعة، وإمام المكلمين، أخذ عن الحبائي حتى برع في علم الكلام والجدل على طريقة المعتزلة، ثم شرح الله صدره فانخلع عما كان يعتقده، وانتصب للدفاع عن عقيدة أهل السنة.
توفي ببغداد سنة 324هـ.
ابن خلكان 1/411، البغدادي 11/346.(11/189)
ص -124-…واضداده إن كان ذا أضداد أن الشيخ شرط في ذلك أن يكون واجبا لا ندبا قال القاضي عبد الوهاب: "وقد حكى عن الشيخ أنه قال في بعض كتبه إن الندب حسن وليس مأمورا به وعلى هذا القول لا يحتاج إلى اشتراط الوجوب في الأمر إذ هو حينئذ لا يكون إلا واجبا" قال القاضي عبد الوهاب: ولا بد أن يشترط الشيخ في ذلك أن يكون مع وجوبه مضيقا مستحق العين لأجل أن الواجب الموسع ليس ينهى عن ضده قال ولا بد أيضا من اشتراط كونه نهيا عن ضده وضد البدل الذي منه هو بدل لهما إذا كان أمرا على غير وجه التخيير انتهى.
وما قاله من اشتراط كونه نهيا عن ضده وضد البدل منه لا يحتاج إليه بعد معرفة صورة المسألة فإن صورتها في الأمر الذي غير وجه التخيير كما صرح به القاضي في مختصر التقريب والإرشاد لإمام الحرمين فإنه قيد الكلام بالأمر على التنصيص لا على التخيير ثم قال وإنما قيدنا الكلام بانتفاء التخيير لأن الأمر المنطوي على التخيير قد يتعلق بالشيء وضده ويكون الواجب أحدهما لا بعينه فلا سبيل لك إلى أن تقول فيما هذا وصفه إنه نهي عن ضده إذا خير المأمور بينه وبين ضده ولقائل أن يقول محل التخيير لا وجوب فيه فأين الأمر حتى يقال ليس نهيا عن ضده ومحل الوجوب لا تخيير فيه وهو نهي عن ضده وما قاله القاضي عبد الوهاب من اشتراط التضييق لم يتضح لي وجهه فإن الموسع إن لم يصدق عليه أنه واجب فأين الأمر حتى يستثنى من قولهم الأمر بالشيء نهى عن ضده وإن صدق عليه أنه واجب بمعنى أنه لا يجوز إخلاء الوقت عنه فضده الذي يلزم من فعله تقويته منهي عنه وحاصل هذا أنه إن صدق الأمر عليه انقدح كونه نهيا عن ضده وإلا فلا وجه لاستثنائه كما قلنا في المخير.
الثانية: قال النقشواني لو كان الأمر بالشيء نهيا عن ضده للزم أن يكون(11/190)
ص -125-…الأمر للتكرار وللفور لأن النهي كذلك وأجاب القرافي1 بأن القاعدة أن أحكام الحقائق التي تثبت لها حالة الاستقلال لا يلزم أن تثبت لها حالة التبعية.
الثالثة: سأل القرافي في مسألة مقدمة الواجب عن الفرق بينها وبين هذه المسألة فإن عدم الضد مما يتوقف عليه الواجب وأجيب بأن ما لا يتم الواجب إلا به وسيلة للواجب لازم التقدم عليه فيجب التوصل به إلى الواجب لئلا يعتقد أن حالة عدم المقدمة خال عن التكليف لزعمه بأن الأصل ممتنع الوقوع وهو غير مكلف بالمقدمة فقلنا هذا غلط بل أنت قادر على تحصيل الأصل بتقديم هذه المقدمة فعليك فعلها فكان إيجاب المقدمة تحقيقا لإيجاب الأصل مع تقدير عدم المقدمة وترك الضد أمور يتبع حصوله حصول المأمور به من غير قصد وهذا أصلح وجهين أجاب بهما في شرح المحصول.
الرابعة: سأل القرافي عن الفرق بين هذه المسألة وقولهم متعلق النهي فعل الضد لا نفس لا تفعل فإن قولهم نهي عن ضد معناه أنه تعلق بالضد وقولهم متعلقة ضد المنهي عنه هو الأول بعينه وسنستقصي الجواب عن هذا في كتاب الأمر والنهي إن شاء الله تعالى فإن المصنف ذكر تلك المسألة ثمة.
الخامسة: من فوائد الخلاف في هذه المسألة من الفروع ما إذا قال لزوجته إن خالفت نهي فأنت طالق ثم قال قومي فقعدت ففي وقع الطلاق خلاف مستند إلى هذا الأصل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: شهاب الدين، أبو العباس، أحمد بن إدريس القرافي، المتوفى سنة 684هـ من مؤلفاته في الأصول: "تنقيح الفصول في اختصار المحصول" ووضع عليه شرحاً نفيسا سماه شرح تنقيح الفصول طبع أخيراً بمكتبة للكليات الأزهرية بتحقيق طه سعد عبد الرؤوف.(11/191)
ص -126-…المسألة السادسة إذا نسخ الوجوب بقي الجواز
قال: "السادسة: الوجوب إذا نسخ بقي الجواز خلافا للغزالي لأن الدال على الوجوب يتضمن الجواز والناسخ لا ينافيه فإنه يرتفع الوجوب بارتفاع المنع من الترك".
ذهب الأكثرون إلى أنه إذا نسخ وجوب الشيء بقي جوازه وخالف الغزالي وقال إنه إذا نسخ رجع الأمر إلى ما كان قبل الوجوب من تحريم أو إباحة وصار الوجوب بالنسخ كأن لم يكن وهذا الذي ذهب إليه الغزالي نقله القاضي في التقريب عن بعض الفقهاء وقال تشبث صاحبه بكلام ركيك تزدريه أعين ذوي التحقيق واحتج المصنف على اختياره بأن الجواز جزء من ماهية الوجوب إذ الوجوب مركب من جواز الفعل مع المنع من الترك فاللفظ الذي دل على الوجوب يدل التضمن على الجواز والناسخ وإنما ورد على الوجوب وهو لا ينافي الجواز لارتفاع الوجوب بارتفاع المنع من الترك ضرورة أن المركب يرتفع بارتفاع أحد جزئيه ونحن نقول إن أراد القوم بالجواز الذي يبقى التخيير بين الفعل والترك كما صرح به بعضهم وهو مقتضى كلام الغزالي في الرد عليهم حيث قال حقيقة الجواز التخيير بين الفعل والترك والتساوي بينهما بتسوية الشرع فالحق مع الغزالي لأن التخيير بين الفعل والترك قسم للوجوب ولم يكن ثابتا به فما وجه قولهم يبقى بعده وهذا الدليل الذي ذكروه عليه لا يثبت به مدعاهم لأن التخيير بين الفعل والترك ليس في ضمن الوجوب وإنما الذي في ضمن الوجوب رفع الحرج وإن أرادوا رفع حرج الفعل فلا ينبغي أن يخالفوا في ذلك فإن الوجوب أخص منه ولما ثبت بالإيجاب الأول ثبت به الأعم(11/192)
ص -127-…الذي هو رفع الحرج ضرورة كونه ضمنه ثم ارتفاعه لا يوجب ارتفاع الأعم والظاهر أنه لم يريدوا غير هذا القسم حيث جعلوا شبهة الخصم فيه أن الجنس يتقوم بالفصل ولا يحسن ذكر هذه الشبهة إلا إذا كان النزاع في رفع الحرج الذي هو جنس غير مقيد بالتخيير وحينئذ قد يضعف قول الغزالي في الرد عليهم أن هذا بمنزلة قول القائل كل واجب فهو ندب وزيادة فإذا نسخ الوجوب بقي الندب ولا قائل به لأنا نقول المدعي بقاء الجواز الذي هو قدر مشترك بين الندب والإباحة والكراهة في ضمن واحد من الأنواع الثلاثة لا بقاء نوع منها على التعيين فإنه لا بد له من دليل خاص فكيف يكون هذا بمنزلة قول القائل إذا نسخ الوجوب بقي الندب فإن قلت تحرر من هذا أن القوم يقولون ببقاء مطلق الجواز مكتسبا من دلالة الواجب عليه والغزالي ينكر كونه مكتسبا من دلالة الواجب عليه ولا تنازع في بقاء رفع الحرج فالخلاف حينئذ لفظي قلت الغزالي كما سلفت الحكاية عنه يقول إن الحال يعود إلى ما كان عليه من تحريم وإباحة فهو منازع في أصل بقاء الجواز ويظهر فائدة الخلاف فيما إذا كان الحال قبل الوجوب تحريما فعند الغزالي الفعل الآن يعود محرما كما كان وعند القوم أن مطلق الجواز الذي كان داخلا في ضمن الوجوب باق يصادق ما دل على التحريم فوضع أن الخلاف معنوي.(11/193)
واعلم أن الغزالي قد يقول إذا اقتضى الأمر مجموع الشيئين أعني الأعم والأخص فالذي يزيل الواحد نازل منزلة المخصص بالقياس إلى اللفظ العام ولذلك يجوز اقترانه بالأمر بأن يراد صيغة افعل ويقترن بها ما يدل على أنه لا حرج في تركه فإنا نحملها على الندب أو الإباحة ولو كان ناسخا لما جاز اقترانه به لأن من شروط الناسخ التراخي فإن قلت نحن نسلم أن هذا القيد إذا اقترن لم يكن نسخا ولكن لم قلت إنه إذا تأخر وثبت لا يكون نسخا قلت بقي النزاع في هذا ولعل الغزالي لا يسمي بالنسخ إلا ما رفع حكم الخطاب السابق بالكلية ويعود النزاع لفظيا قال: "قيل: الجنس يتقوم بالفصل فيرتفع بارتفاعه قلنا لا وإن سلم فيتقوم بفصل عدم الحرج".(11/194)
ص -128-…احتج من قال بأن الجواز لا يبقى فيما إذا قال نسخت الوجوب أوحرمة الترك بأن كل فصل فهو علة لوجود الجنس لاستحالة وجود جنس مجرد عن الفصول كالحيوانية المطلقة وإليه أشار بقوله يتقوم بالفصل أي يوجد به وإذا علم هذا فالجواز جنس للواجب والمكروه والمندوب والمباح وعلة وجوده في كل منها فصله فالعلة في وجوده في الواجب فصل الحرج على الترك فإذا زال ذلك الفصل زال الجواز ضرورة زوال المعلول بزوال علته وأجاب أولا بأنا لانسلم أن الجنس يتقول بالفصل وتقرير ذلك محال على الكتب الحكمية ولئن سلمنا أنه علة له فلا نسلم أنه يلزم من ارتفاع هذا الفصل ارتفاع الجنس لجواز بقائه بفصل آخر يخلف ذلك الفصل وهو عدم الحرج على الترك فإنه إذا ارتفع قيد الوجوب بقي جنس الجواز ولا دليل على الحرج فيتقوم بفصل عدم الحرج ولا يكون جنسا مجردا.
واعلم أن خلاف الأصوليين في هذه يناظر اختلاف الفقهاء في أنه إذا بطل الخصوص هل يبقى العموم وذلك فيمن صلى الظهر قبل الزوال فإنها لا تنعقد ظهرا وفي انعقادها نفلا هذا الخلاف ويضاهيه مسائل:
منها: إذا أحال المشتري البائع بالثمن على رجل ثم وجد بالمبيع عيبا فرده فالأصح أن الحوالة تبطل وهل للمحتال قبضه للمالك بعموم الإذن الذي تضمنه خصوص الحوالة فيه هذا الخلاف.
ومنها: إذا عجل الزكاة بلفظ هذه زكاتي المعجلة فقط فهل له الرجوع إذا عرض مانع أصح الوجهين نعم.
والثاني: يقع نفلا وقربهما إمام الحرمين من القولين فيما إذا نوى الظهر قبل الزوال هل ينعقد نفلا؟
ومنها: الصحيح أنه لا يصح تعليق الوكالة على شرط ولو علق وتصرف الوكيل بعد حصول الشرط فأصح الوجهين الصحة لأن الإذن حاصل وإن فسد العقد وخالف الشيخ أبو محمد وقال لا اعتبار بما يتضمن العقد الفاسد من الإذن.(11/195)
ص -129-…ومنها: لو قالت وكلتك بتزويجي قال الرافعي فالذين لقيناهم من الأئمة لا يعتدون به إذنا لأن توكيل المرأة في النكاح باطل قال لكن الفرع غير مسطور ويجوز أن يعتد به إذنا لما ذكرناه في الوكالة.
قلت: ويتجه بناء فروع على هذا الأصل لم أر من بناها.
منها قال الماوردي إذا فسدت الشركة بطل أصل الإذن في التصرف ولم يجز لواحد منهما التصرف في جميع المال وينقدح لك أن تحكم بجريان الخلاف في الوكالة.
ومنها: إذا باع بلفظ السلم فإنه ليس بسلم قطعا وفي انعقاده بيعا قولان أظهرهما لا وبناهما الأصحاب على أن الإعتبار باللفظ أو بالمعنى ويتجه بناؤهما على هذا الأصل أيضا.
ومنها إذا شرطا الخيار لثالث وأبطلناه فهل يكون الخيار لهما لكونهما شرطا مطلق الخيار يتجه فيه هذا البناء.
ومنها: إذا أحال بالدراهم على الدنانير أو بالعكس لم يصح سواء قلنا الحوالة استيفاء أم اعتياض.
قال صاحب التتمة: ونعني بقولنا إنها غير صحيحة أن الحق لا يتحول بها من الدنانير إلى الدراهم وبالعكس ولكنها إذا جرت فهي حوالة على من لا دين عليه وفيها خلاف.
قلت وإنما تكون حوالة على من لا دين عليه ببطلان خصوص الحوالة على الوجه الذي أورده إذا قلنا إن الخاص إذا ارتفع يبقى العام.(11/196)
ص -130-…المسألة السابعة الوجوب لا يجوز تركه
قال: "السابعة: الواجب لا يجوز تركه قال الكعبي فعل المباح ترك الحرام وهو واجب قلنا لا بل به يحصل".
القصد بهذه المسألة أن ما يجوز تركه لايكون فعله واجبا والخلاف في هذا الفصل مع فرقتين.
الأولى: الكعبية فنقول لاح من قول أبي القاسم الكعبي وهو البلخي وشيعته إنكار المباح وقد خالفوا في ذلك عصابة المسلمين حيث أجمعوا على انقسام الأحكام إلى الخمسة ولا بد من تخليص محل النزاع ليقع الحجاج على محز واحد.
واعلم أن إنكارهم المباح يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه ليس فعل من أفعال المكلفين بمباح وقد صرح بحكاية هذا عن الكعبي جماعة منهم إمام الحرمين في البرهان فإنه قال إن الكعبي أنكر المباح في الشريعة وكذلك نقل أبو الفتح بن برهان1 في الوجيز والآمدي وغيرهم وهذا ظاهر الفساد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: أحمد بن علي بن برهان، فقيه، أصولي، كان يضرب به المثل في حل الإشكال في علم الأصول.
من مؤلفاته: "البسيط، والوسيط، والوجيز" في الفقه والأصول.
ومن آرائه الأصولية: أن العامي لا يلزمه التقيد بمذهب معين.
توفي ببغداد سنة 518هـ.
إرشاد الأريب 1:260، الأعلام 1/167.(11/197)
ص -131-…والثاني: وهو الذي أشعر به دليله أن كل فعل يوصف بأنه مباح باعتبار ذاته فهو واجب باعتبار أنه يترك به الحرام ولا يكون الكعبي حينئذ مفاجئا بإنكار المباح وقد نقل القاضي في مختصر التقريب والغزالي في المستصفى أن المباح مأمور به دون الأمر بالندب والندب دون الأمر بالإيجاب وقد صرح في مختصر التقريب بأنه لا يسمى المباح واجبا ولا الإباحة إيجابا إذا عرفت ذلك فقد استدل الكعبي على هذا بأن فعل المباح ترك الحرام لأنه ما من مباح إلا وهو ترك لمحظور وترك الحرام واجب فيلزم أن يكون فعل المباح واجبا من جهة وقوعه تركا لمحظور.
وأجاب عنه المصنف بأنا لا نسلم أن فعل المباح هونفس ترك الحرام يعني أنه يلزم من فعل المباح ترك الحرام ولا يلزم من ترك الحرام فعل المباح لجواز تركه بواجب أو مندوب فلا يكون المباح ترك الحرام بل شيئا يحصل به تركه لما عرفت من أن تركه قد يحصل به وقد يحصل بغيره فلم ينحصر تركه في المباح وقد ضعف الآمدي وغيره هذا الجواب وقالوا هو صادر ممن لم يعلم غور كلامه فإنه إذا ثبت أن ترك الحرام واجب وأنه لا يتم بدون التلبس بضد من أضداده وقد تقرر أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فالتلبس بضد من أضداده واجب غايته أن الواجب من الأضداد غير معين قبل تعيين المكلف له ولكن لا خلاف في وقوعه واجبا بعد التعيين وقال لا خلاص عنه إلا بمنع وجوب المقدمة قال وغاية ما ألزم أنه لو كان الأمر على ما ذكرت لكان المندوب بل المحرم إذا ترك به محرم آخر كالزنا إذا حصل به ترك القتل أن يكون واجبا وكان يجب أن تكون الصلاة حراما على هذه القاعدة عندما إذا ترك بها واجبا آخر وله أن يجيب بأنه لا مانع من الحكم على الفعل الواحد بالوجوب والتحريم بالنظر إلى جهتين مختلفتين كما في الصلاة في الدار المغصوبة قال وبالجملة إن استعيد فهو في غاية الغوص والإشكال وعسى أن يكون عند غيري حله.(11/198)
قلت: وهو صحيح ولكنا نقول للكعبي نحن لا ننكر أن الإباحة تقع ذرائع إلى الانكفاف عن المحظور كغيرها من الأفعال التي يلزم منها الانكفاف(11/199)
ص -132-…عن غيرها ووقوعها كذلك لا يخرجها عن أن تكون في نفسها مباحة فترك الحرام الذي لزم عن فعل المباح ليس هو نفس فعل المباح بل أمر وراءه وإن زعم أنها ذات جهتين فلا تنازعه في ذلك ولكن ننكر عليه تخصيصه المباح بذلك وقد بينا أنه لايختص به ويعظم النكير عليه تخصيصه المباح بذلك وقد بينا أن لا يختص به ويعظم النكير عليه في إنكاره أصل المباح في الشريعة إن صح عنه وما ذكره من الدليل لا يقتضي ذلك.
قال: "وقالت الفقهاء: يجب الصوم على الحائض والمريض والمسافر لأنهم شهدوا الشهر وهو موجب وأيضا عليهم للقضاء بقدره قلنا العذر مانع والقضاء يتوقف على السبب لا الوجوب وإلا لما وجب قضاء الظهر على من نام جميع الوقت".
الفرقة الثانية: كثير من الفقهاء فإنهم خالفوا في ذلك وزعموا أن الصوم واجب على الحائض والمسافر والمريض مع أنهم يجوز لهم تركه وقد احتجوا على مذهبهم بأن هؤلاء شهدوا الشهر فيجب الصوم عليهم لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}1 القضاء يجب عليهم بقدر ما فاتهم وذلك دليل على أنه بدل عنه.
وأجاب بأن شهود الشهر إنما يكون موجبا للصوم عند انتفاء الأعذار والعذر هنا قائم أما في الحائض فلأن الشرع منعها من الصوم وأما في المسافر فلأنه جعل السفر مانعا من تحتم الصوم فيه2 وأما في المريض فلعدم القدرة إن كان عاجزا أو بمنع الشرع إن أفضى به إلى هلاك نفسه أو بمنع الشرع من الإيجاب كالمسافر إن لم يفض إلى ذلك وعن الثاني بأن القضاء إنما يتوقف على تحقيق سبب الوجوب في الوقت وسبب الوجوب وهو شهود الشهر متحقق فيما نحن فيه الوقت ولا يتوقف على وجوب الأداء وإلا لما وجب قضاء الظهر على من نام جميع الوقت لعدم تحقق الوجوب عليه لإفضائه إلى تكليف الغافل وذهب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البقرة آية 185.(11/200)
2 وذلك في قوله تعالى في آية الصوم من سورة البقرة: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}. وعلى ذلك فلابد من وجود السبب، وهو شهود الشهر، وانتفاء الموانع، التي منها الحيض والنفاس، أو المرض، أو السفر وسائر الأمور التي تبيح الفطر.(11/201)
ص -133-…الإمام إلى أنه يجب على الحائض والمريض البتة ويجب على المسافر صوم أحد الشهرين إما الحاضر أو آخر غيره وأيهما أتى به فهو الواجب كما في الكفارات وهذا هو مذهب القاضي نص عليه في التقريب ونقل الشيخ أبو إسحاق1 في شرح اللمع هذا بعض الأشعرية2 فإن قلت هذا مدخل لأن المريض يجوز له الصوم كالمسافر فليسو الإمام بينهما قلت المريض إن أفضى به الصوم إلى هلاك نفسه أو عضوه فإنه يحرم عليه الصوم ويساوي الحائض والحالة هذه وإن لم يفض به إلى ذلك بل خاف منه مجرد زيادة العلة أو طول البرء فالمسألة مختلف فيها وكذا لو خاف المرض المخوف فلعل الإمام يرى في كل هذه الصور أنه لا يجوز له لا إفطار فلا معترض عليه وقد قال الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع إن الخلاف في هذه المسألة مما يعود إلى العبارة ولا فائدة له لأن تأخير الصوم حالة العذر جائز بلا خلاف والقضاء بعد زواله واجب بلا خلاف قلت وقد نقل ابن الرفعة أن بعضهم قال بظهور فائدة الخلاف إذا قلنا أنه يجب التعرض للأداء أو القضاء في النية3 وقد يقال بظهور فائدة الخلاف أيضا فيما إذا طافت المرأة ثم حاضت قبل ركعتي الطواف هل تقضيهما فقد حكى النووي في شرح المهذب عن ابن القاص4
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزبادي الشيرازي، العلامة المناظر كان مرجع الطلاب ومفتي الأمة في عصره،واشتهر بقوة الحجة في الجدل والمناظرة. من مؤلفاته: "التبصرة" واللمع" في أصول الفقه و"المهذب" في فقه الشافعية.
توفي سنة 476هز
وفياتا لأعيان 1/4، الأعلام 1/45،44.
2 راجع: المستصفى للغزالي 1/6 المنتهى لابن الحاجب ص 24، تيسير التحرير 2/380.
3 وأقول: إن الصحيح في المذهب أنه لا يجب التعرض في النية للأداء والقضاء، ولكن الفائدة تظهر في الأيمان والتعاليق، بأن يقول لزوجته: متى وجب عليك صوم فأنت طالق.
راجع: الإقناع للخطيب الشربيني 1/219.(11/202)
4 هو: أحمد بن أبي أحمد الطبري، أبو العباس بن القاص، إمام عصره، وصاحب التصانيف المشهورة، منها: "التخيص" و"المفتاح" و"أدب القاضي" وله مؤلفات كثيرة في الفقه والأصول.
توفي سنة: 335هـ بطرسوس.
النجوم الزاهرة 3/294، طبقات الشافعية لابن السبكي 3/59.(11/203)
ص -134-…والجرجاني1 في المعاياة إن ركعتي الطواف تقضيهما الحائض لأنهما لا يتكرران قال وأنكر الشيخ أبو علي السنجي2 هذا وقال الوجوب لم يكن في زمان الحيض فكيف يسمى قضاء قال النووي وما قاله الشيخ أبو علي هو الصواب لأن ركعتي الطواف لا يدخل وقتهما إلا بالفراغ من الطواف قال فإن قدر أنها طافت ثم حاضت عقب الفراغ من الطواف صح ما ذكرناه إن سلم لهما ثبوت ركعتي الطواف في هذه الصورة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو أحمد بن محمد بن أحمد أبو العباس الجرجاني قاضي البصرة وشيخ الشافعية بها في عصر من مؤلفاته التحرير والبلغة والمعاياة كلها في الفقه توفي 482 هـ. طبقات الشافعية لابن السبكي 3/31 الأعلام 1/207.
2 هو الحسين بن شعيب بن محمد السنجي أب علي فقيه شافعي نسبته إلى سنج من قرى مرو
من مؤلفاته شرح الفروع لابن الحداد وشرح التلخيص لابن القاص. توفي سنة 427 هـ.
وفيات الأعيان 1/145 – الأعلام 2/258.(11/204)
ص -135-…الباب الثاني فيما لا بد للحكم منه وهو الحاكم والمحكوم عليه وبه
الفصل الأول في الحاكم
قال الباب الثاني فيما لا بد للحكم منه وهو الحاكم والمحكوم عليه وبه وفيه ثلاثة فصول الأول في الحاكم وهو الشرع دون العقل لما بينا من فساد الحسن والقبح العقليين في كتاب المصباح.
هذا الباب معقود لأركان الحكم وهي ثلاثة الحاكم والمحكوم عليه والمحكوم به الأول في الحاكم وهو الشرع فلا تحسين ولا تقبيح بغيره وذهبت المعتزلة إلى أن العقل له صلاحية الكشف عنهما وأنه لا يفتقر معرفة أحكام الله تعالى إلى ورود الشرائع وإنما الشرائع مؤكدة لما تقضي به العقول إما بالضرورة كحسن الصدق النافع وقبح الكذب الضار أو بالنظر كحسن الكذب النافع أو باستعانة الشرع كحسن صوم آخر يوم من رمضان وقبح أول يوم من شوال.
واعلم أن الحسن والقبح قد يراد بهما كون الشيء ملائما للطبع ومنافرا أو كون الشيء صفة كمال أو صفة نقص كقولنا العلم حسن والجهل قبيح وبهذا التفسير لا نزاع في كونهما عقليين إنما النزاع في كون الفعل متعلق الذم عاجلا والعقاب آجلا ولذلك قال القاضي في مختصر التقريب إنما المقصد تحقيق ما يحسن في قضية التكليف ويقبح وتفاصيل هذه المسألة وحجج الأصحاب فيها(11/205)
ص -136-…مبسوطة في الكتب الكلامية والمصنف أحال القول في ذلك على كتابه مصباح الأرواح1.
فإن قلت قد علم مذهب أهل السنة رضي الله عنهم في أن الأحكام إنما تثبت من جهة الشرع ولا شيء منها عقلي فما معنى ما يأتي في عبارة أهل السنة من الفقهاء من قولهم هذا حرام بالعقل وهذا جائز بالعقل وما شابه ذلك قلت هذا سؤال لنا غرض صحيح في الجواب عنه لوقوف جماعة من الشاكين في الفقه على أمثال هذه العبارة ووقوع الريب في قلوبهم من قائلها والكلام عليه وإن كان كالدخيل في هذا الشرح إلا أن غيرنا لا يقوم به فلنفده طالبه فنقول المراد من ذلك إما القياس وإما أن القاعدة الكلية لما ثبتت من الشرع ورأينا الفرع الجزئي من جملة أقسامها أدرك العقل دخوله في القاعدة فقيل ثبت بالعقل وهذا معناه كما نقول الوتر يصلى على الراحلة وكل ما يصلى على الراحلة فهو سنة فالوتر سنة بالعقل بمعنى أن العقل أدرك النتيجة لا أنه جعل الوتر سنة ومن هذا القبيل أن الشافعي رضي الله عنه أطلق القول في المختصر بتعصية الناجش2 وهو الذي يزيد في ثمن السلعة المعروضة للبيع وهو غير راغب فيها ليخدع الناس ويرغبهم فيها وشرط في تعصية من باع على بيع أخيه أن يكون عالما بالحديث الوارد فيه قال الشارحون السبب فيه أن النجش خديعة وتحريم الخديعة واضح لكل أحد معلوم من الألفاظ العامة وإن لم يعلم هذا الخبر بخصوصه والبيع على بيع الأخ إنما عرف تحريمه من الخبر الوارد فيه فلا يعرفه من لا يعرف الخبر وذكر بعضهم أن تحريم الخداع يعرف بالعقل وإن لم يرد الشرع واعترض الرافعي على هذا بأنه ليس معتقدنا ولك أن تجمع بين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو كتاب في علم الكلام أوله: "الحمد لله الأول قبل كل موجود......" رتبه على مقدمة وثلاثة كتب وقد شرحه كثير من العلماء منهم القاضي عبيد الله بن محمد التبريزي المعروف بالعبري المتوفى سنة 743 هـ.
كشف الظنون ص 1705.(11/206)
2 في هامش النسخة المطبوعة ص 86 ما نصه "هذا الذي أطلقه في المختصر من تعصية الناجش قد صرح في الأم بخلافه فنص في اختلاف العراقيين على أن النجش لا يحرم إلا على من علم النهي فيحمل إطلاق المختصر على تقييد الأم.(11/207)
ص -137-…كلام الشارحين وهذا الكلام بأن الخديعة لما كانت محرمة من الألفاظ العامة أدرك العقل تحريم النجش لأن كل نجش خديعة وكل خديعة حرام ينتج النجش حرام ومراده بقوله وإن لم يرد شرع أي خبر خاص لا القول بأن العقل يحسن ويقبح كما فهمه الرافعي1 فإن قلت فالبيع على بيع الأخ إضرار وكما يعرف تحريم النجش من الألفاظ العامة في تحريم الخداع يعلم تحريم البيع على البيع من الألفاظ العامة في تحريم الإضرار قلت كذا اعترض به الرافعي رحمه الله لكن لقائل أن يقول لا يوجد البيع على بيع الأخ من الألفاظ العامة في الإضرار بخلاف النجش والفرق أن النجش لا يجلب للناجش مصلحة لأنه لا غرض له إلا الزيادة في ثمن السلعة ليجلب نفعا لصاحبها يلزم منه الإضرار بالمشتري وجلب منفعة لشخص بإضرار آخر حرام واضح من القواعد المقررة.
وأما البيع على البيع فهو يدعو أخاه إلى فسخ البيع ليبيعه خيرا منه بأرخص ففيه جلب منفعة له من حيث ترويج سلعته وللمشتري من جهة شراء الأجود بأرخص فهاتان مصلحتان لم يعارضهما إلا مفسدة وهي غير محققة لجواز أن البائع الأول يبيع سلعته إذا فسخ البيع فيها من مشتر آخر بذلك الثمن أو أزيد فلا يلزم من تحريم جلب منفعة واحد لازمها وقوع مفسدة في صورة النجش تحريم جلب منفعة اثنين بمجرد ظن ترتب مفسدة عليها فوضح أن العقل لم يكن قبل ورود الخبر الخاص في البيع على البيع ليدرك تحريمه لما ذكرناه بخلاف النجش.
واعلم أيضا أنه يأتي في عبارات بعض الأصحاب ما يؤخذ منه قاعدة التحسين والتقبيح أو يستلزم قاعدة التحسين والتقبيح أو يستلزم قاعدة التحسين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم أبو القاسم الرافعي القزويني كان فقيها من كبار الشافعية وكان له مجلس في قزوين للتفسير والحديث يتصلى نسبه برافع بن خديج الصحابي الجليل.(11/208)
من مؤلفاته التدوين في ذكر أخبار قزوين والإيجاز في أخطاء الحجاز والمحرر في فقه الشافعية توفي سنة 623 هـ.
فوات الوفيات 2/3 الأعلام للزركلي 4/179.(11/209)
ص -138-…والتقبيح كقول أبي العباس بن سريح1 وأبي علي بن أبي هريرة2 والقاضي أبي حامد المروزي3 إن شكر المنعم واجب عقلا وقول القفال4 إن القياس يجب العمل به عقلا وقوله إن خبر الواحد يجب العمل به عقلا إلى غير ذلك من المسائل وسببه كما قال الأستاذ أبو إسحاق في كتابه في أصول الفقه في مسألة شكر المنعم هذه الطائفة من أصحابنا إنما ذهبت إلى هذه الآراء لأنهم كانوا يطالعون كتب المعتزلة لشغفهم بمسائل هذا العلم فربما عثروا على هذه العبارة وهي شكر المنعم على النعمة قبل ورود السمع فاسحسنوها فذهبوا إليها ولم يقفوا على القبائح والفضائح التي تحتها هذا كلام الأستاذ وكذلك ذكر القاضي أبو بكر في التخليص الذي اختصره إمام الحرمين من كتابه التقريب في مسألة حكم الأفعال قبل ورود الشرع فإنه قال مال بعض الفقهاء إلى الحظر وبعضهم إلى الإباحة وهذا لغفلتهم عن تشعب ذلك عن أصول المعتزلة مع علمنا بأنهم ما استحسنوا مسالكهم وما اتبعوا مقاصدهم انتهى وهذه فائدة عظيمة جليلة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو العباس بن عمر بن سريج من فقهاء الشافعية ومتكلميهم كان شيخ الشافعية في عصره توفي ببغداد سنة 36 هـ البغداد 4/287.
2 هو الحسن بن الحسين المكنى بأبي علي المعروف بابن أبي هريرة تتلمذ على يد أبي العباس ابن سريج انتهت إليه رئاسة الشافعية ببغداد. توفي سنة 345 هـ.
البغداد 7/298 طبقات الشافعية لابن هداية الله ص 21.
3 هو أحمد بن محمد بن أحمد الاسفراييني أبو حامد أعلام الشافعية ولد في اسفرانني بالقرب من نيسابور ورحل إلى بغداد فتفقه فيها وعظمت مكانته من مؤلفاته الرونق في الفقه والأصول.
توفي ببغداد سنة 401 هـ الأعلام 1/203.
4 هو محمد بن علي بن إسماعيل القفال الكبير الشاشي أحد أئمة الدهر كان عالما بالتفسير والحديث والكلام والأصول وسائر العلوم العربية. توفي سنة 365 هـ.(11/210)
طبقات الشافعية لابن السبكي 3/200 شذرات الذهب لابن العماد 3/51.(11/211)
ص -139-…فرعان على الحسن والقبح
قال فرعان على التنزل
الأول شكر المنعم ليس بواجب عقلا
إذ لا تعذيب قبل الشرع لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} ولأنه لو وجب لوجب إما لفائدة المشكور وهو منزه أو للشاكر في الدنيا وأنه مشقة بلا حظ أو في الآخرة ولا استقلال للعقل لها.
هذان فرعان على قاعدة الحسن والقبح جرت عوائد الأصحاب بذكرهما بعد إبطال مذهب المعتزلة فيها لشدة سخافة مذهب المعتزلة بالنسبة إليهما ولهذا يقال إنهما على التنزل أي الافتراض والتكليف في النزول عن المذهب الحق الذي هو الذروة إلى مذهبهم الباطل الذي هو في الحضيض الأول شكر المنعم غير واجب عقلا خلافا للمتزلة وبعض الحنفية وأما وجوبه شرعا فمتفق عليه والمراد بوجوب الشكر عقلا أنه يجب على المكلف تجنب المستقبحات العقلية وفعل المستحسنات العقلية كذا نقله بعض أصحابنا عنهم قال صفي الدين الهندي1 ولا يبعد أن يراد به ما نريد به نحن في الشرع وهو أن الشكر يكون باعتقاد أن ما به من نعمة فمن الله وأنه المتفضل بذلك عليه فإن نعمة الخلق والحياة والصحة غير مستحق عليه وفاقا ويكون بالفعل وهو بامتثال أوامره واجتناب مناهيه وبالقول وهو أن يتحدث بنعمة ربه واحتج في الكتاب على ما ذهب إليه بوجهين.
الأول: قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}2.
ووجه الدلاله فيه ظاهر وتقريره أنا مفرعون على القول بالحسن والقبح والشرع على القول بأن العقل يحكم كاشف وقد أخبر أن التعذيب منتف قبل البعثة فدل على أن العقل اقتضى ذلك ولو وجب شكر المنعم لحصل التعذيب بتركه ولم يتوقف على بعثه الرسل فاضبط هذا التقرير ولا تعدل به.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو حمد بن عبد الرحيم بن محمد الشيخ صفي الدين الهندي الأموي كان أعلم الناس بمذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري وأدراهم بأسراره.(11/212)
من مؤلفاته الزبدة في علم الكلام والنهاية في أصول الفقه.
توفي بدمشق سنة 715 هـ حسن المحضرة 1/544 طبقات الشافعية لابن السبكي 9/162, 163.
2 سورة الاسراء: الآية15.(11/213)
ص -140-…والثاني: أنه لو وجب لوجب لفائدة أن التفريع على القول بقاعدة الحسن والقبح والإيجاب على القول بها يستدعي فائدة وإن شئت قلت لو وجب لوجب إما بلا فائدة وهو عبث مستقبح عقلا ولكن يلزم على هذا أن يكون المصنف أخل بأحد الأقسام وأما لفائدة عائدة إلى المشكور وهوسبحانه وتعالى وهو محال لتنزهه عن الفوائد والأغراض أو عائدة إلى العبد الشاكر في الدنيا وهو أيضا باطل لأنه مشقة وكلفة على النفس من غير حظ ونفع أو عائدة إليه في الآخرة وهو أيضا باطل إذ لا استقلال للعقل بمعرفة الفوائد الأخروية على وجه التفصيل وهذا مسلم لكن ليس من شرط الوجوب العلم بالفوائد التفصيلية وإن أريد الإجمالية فلا نسلم أن العقل لا يستقل بمعرفتها وذلك لأن القول في هذا مبني على قاعدة الحسن والقبح وهي تقطع باتصال الثواب بفعل الواجبات العقلية والعقاب بتركها ولقائل أن يقول العقل لا يستقل بإدراك الآخرة وكيف يستقل بالحكم بوجود دار أخرى مخلوقة للجزاء والإحسان وإذ لم يستقل بإدراكها لم يحكم بما يترتب عليها.
قال قيل يدفع ظن ضرر الآجل قلنا قد يتضمنه لأنه تصرف في ملك الغير وكاستهزاء لحقارة الدنيا بالنسبة إلى كبريائه ولأنه ربما لا يقع لائقا قيل ينتقض بالوجوب الشرعي قلنا إيجاب الشرع لا يستدعي فائدة.
اعترض على الوجه الآخر بوجهين.
أحدهما: أنا نقول بعود الفائدة إلى العبد الشاكر في الدنيا.(11/214)
قوله مشقة وكلفة بلا حظ قلنا لا نسلم أنه لا حظ لها في الشكر وذلك لأن فائدة الشكر اندفاع ظن العقاب في الآخرة على تركه لأن العقاب على ترك الشكر احتمال راجح يوجب للنفس القلق وعدم الطمأنينة بل مجرد توهم العقاب قد يحصل فيه ذلك وأجاب المصنف بأن ترك الشكر كما أنه يستدعي ما ذكرتم كذلك الإقدام عليه وذلك لأن من أقدم على الشكر فقد استعمل الأعضاء والقوى المملوكة لربه سبحانه وتعالى وتصرف فيها بغير إذنه والتصرف في ملك الغير بغير إذنه يوجب ما ذكرتم وأيضا فالشكر لأنعمه تعالى منزل منزلة المستهزئ بالمنعم لأن نعم الدنيا وإن جل خطبها فهي بالنسبة إلى كبريائه تعالى أقل من لقمة بالنسبة إلى ملك عظيم لأن نسبة ما يتناهى إلى(11/215)
ص -141-…مثله أقل من نسبته إلى ما لا نهاية له ولا ريب في أن القائم في المحافل يشكر الملك بسبب ما أسداه إليه من لقمة خبز معدود من المستهزئين مستوجب للتأديب وأيضا فالشكر للملك العظيم إنما يكون على وجه لائق بجنابه وقد لا تهتدي العقول إلى ذلك الوجه اللائق بجلاله سبحانه وتعالى فيستحق العقاب بسببه.
فإن قلت لما فسر الشكر باجتناب القبيح وإتيان الحسن عقلا اندفع ما ذكرتم للعلم بالشكر اللائق حينئذ كما هو معلوم بعد ورود الشرع قلت هب أن الأمر كما ذكرت لكن الإتيان بما ذكرت من الشكر يتوقف على استقباح العقل وتحسينه فربما يستقبح الحسن ويستحسن القبيح لأن العقول غير معصومة عن الخطأ لا يقال قد تعارضت الاحتمالات والمواظبة على الخدمة أنجى من الإعراض والإهمال لأنا نقول ذلك في مشكور يسره الشكر ويسوؤه الكفران والله تعالى مبرأ عن ذلك.
الوجه الثاني: أن ما ذكرتم منقوض بوجوب الشكر شرعا فلو كان ما ذكرتموه صحيحا لم يجب بعين ما قررتم بأن يقال لو وجب شكر المنعم شرعا لوجب لفائدة إلى آخر ما أوردتم وأجاب بأن الدليل المذكور لا يطرد في الوجوب الشرعي لأنه لا تعلل أحكام الله تعالى ولا أفعاله فإيجاب الشرع ليس لاستدعاء فائدة بل له بحكم المالكية أن يفعل ما يشاء وهذا جواب صحيح ماش على اللائق بأصول المتكلمين فإنهم لا يجوزون تعليل أفعال الله تعالى وهو الحق لأن من فعل فعلا لغرض كان حصوله بالنسبة إليه أولى سواء كان ذلك لغرض عائدا إليه أم إلى الغير وإذا كان كذلك يكون ناقصا في نفسه مستكملا في غيره تعالى الله عن ذلك.
وأما قول المصنف في القياس تبعا للإمام دل الاستقراء على أن الله شرع الأحكام لمصالح العباد تفضلا وإحسانا فهو من كلام الفقهاء وإطلاقتهم والصواب ما ذكره هنا.
فائدة قال الإمام أبو الحسن الطبري المعروف بالكيال في تعليقه في(11/216)
ص -142-…الأصول وفي خط ابن الصلاح1 نقلت ذلك مسألة شكر النعم غير مسألة التحسين والتقبيح بيانه إنا نقول ليس الشكر اللفظ فما معناه قالوا المعرفة قلنا المعرفة تراد للشكر فكيف تكون نفس الشكر فلا بد أن تتقدم على الشكر فإنما شكر من عرف وإن قالوا نعني بالشكر ما تعنون أنتم قلنا الشكر عندنا امتثال أوامر الله تعالى واجتناب نواهيه وإن قالوا فنحن نقول الشكر هو الإقدام على المستحسنات واجتناب المستقبحات قلنا فهذه هي مسألة التحسين والتقبيح بعينها قال لكنا أفردناها بالكلام على عادة المتقدمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو عثمان بن عبد الرحمن بن موسى الشهرزوري الكردي الشرخاني تقي الدين المعروف بان الصلاح أحد فضلاء المقدمين في التفسير والحديث والفقه وأسماء الرجال.
من مؤلفاته أدب المفتي والمستفتي وشرح الوسيط في فقه الشافعية توفي سنة 643 هـ.
وفيات الأعيان 1/312 الأعلام 4/369.
الفرع الثاني
قال الفرع الثاني: الأفعال الإختيارية قبل البعثة مباحة عند البصرية وبعض الفقهاء محرمة عند البغدادية وبعض الإمامية وابن أبي هريرة وتوقف الشيخ والصيرفي وفسره الإمام بعدم الحكم والأولى أن يفسر بعدم العلم لأن الحكم قديم عنده ولا يتوقف تعلقه عن البعثة لتجويزه التكليف بالمحال.
هذا الفرع في حكم الأشياء قبل ورود الشرع وقد ذهب أهل السنة والجماعة إلى أنه لا حكم فيها لأن الحكم عندهم عبارة عن الخطاب على ما تقدم تفسيره فحيث لا خطاب لا حكم وأما المعتزلة فقسموا الأفعال إلى اضطرارية واختيارية.
الأولى: الاضطرارية وهي التي تقع بغير اختيار المكلف ولا قدرة له على تركها كالتنفس في الهواء قال الإمام وذلك مما لا بد من القطع بأنه غير ممنوع إلا إذا جوزنا تكليف ما لا يطاق.
الثانية: الاختيارية وهي الواقعة بإرادة المكلف مع قدرته على تركها(11/217)
ص -143-…ومثل لها بأكل الفاكهة وبهذا يعرف أن القدر الذي لا يعيش المكلف بدونه من الأكل والشرب وغيرهما من قسم الاضطراري ومنهم من جعل ما يحصل به الاغتذاء من قسم الاختياري المتنازع فيه وتبعهم المصنف كما سنراه في كلامه إن شاء الله ولعل مرادهم الاغتذاء ما يقع فوق الضرورة إذا عرفت ذلك فقد قسموا الاختيارية إلى ما يقضي فيها العقل بحسن أو قبح واتبعوا فيها حكم العقل وتقسيمه إياها إلى الأحكام الخمسة وإلى ما لا يقضي العقل فيها بواحد منهما وهذه صورة مسألة الكتاب فقوله الاختيارية احتراز عن الاضطرارية وفاته أن يقول التي لا يقضي العقل فيها بحسن ولا قبح فنقول ذهبت معتزلة البصرة وبعض الفقهاء من الشافعية والحنفية إلى أنها على الإباحة قبل ورود الشرع وذهب معتزلة بغداد وبعض الإمامية والشيخ أبو علي ابن أبي هريرة من الشافعية إلى أنها محرمة وقد سلف اعتذار القاضي والأستاذ عمن قضى في هذه المسألة بإباحة أو حظر من الفقهاء وتوقف الشيخ أبو الحسن الأشعري وأبو بكر الصيرفي1 في ذلك والخلاف في هذه المسألة جار في خطاب التكليف وخطاب الوضع على حد سواء وفسر الإمام توقف الشيخ بعدم الحكم أي بانتفاء الأحكام وهذا ما قاله النووي في أوائل باب الربا في شرح المهذب أنه الصحيح عند أصحابنا أعني انتفاء الأحكام قال صاحب الكتاب والأولى أن نفسر التوقف بعدم العلم أي بأن لها حكما قبل ورود الشرع ولكنا لا نعلم ما هو وعلل ذلك بأن الحكم قديم عند الشيخ فتفسير التوقف بعدم الحكم يلزم عنه أن يكون الحكم حادثا وهو خلاف مذهبه ثم استشعر المصنف سؤالا فأجاب عنه وتقريره أن الحكم وإن كان قديما عند الشيخ لكن تعلقه حادث لأنه متوقف على بعثة الرسل والمراد بأنه لا حكم قبل ورود الشرع أنه لا تعلق فلا يكون تفسير التوقف بعدم الحكم مخالفا لمذهب الشيخ وتقرير جوابه أن التعلق عند الشيخ لا يتوقف على البعثة لتجويزه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(11/218)
1 هو محمد بن عبد الله البغدادي المكنى بأبي بكر الملقب بالصيرفي الأصولي الفقيه من مؤلفاته شرح الرسالة للإمام الشافعي – رضي الله عنه – توفي بمصر سنة 330 هـ.
تاريخ بغداد 5/449 شذرات الذهب 2/325.(11/219)
ص -144-…التكليف بالمحال فيجوز أن يتعلق الحكم بأفعال المكلفين قبل ورود الشرع مع عدم شعورهم بذلك.
ولقائل أن يقول هذا حينئذ تكليف الغافل لا تكليف بالمحال والشيخ إنما يجوز الثاني ثم إن الشيخ لا يقول بوقوع التكليف بالمحال بل الحل تفسير التوقف بعدم الحكم وبه صرح القاضي في مختصر التقريب فقال صار أهل الحق إلى أنه لا حكم على العقلاء قبل ورود الشرع وعبروا عن نفي الأحكام بالتوقف ولم يريدوا بذلك الوقف الذي يكون حكما في بعض مسائل الشرع وإنما عنوا به انتفاء الأحكام انتهى وهو مصرح ببطلان ما ذهب إليه المصنف من التفسير وكذا قال إمام الحرمين في البرهان لا حكم على العقلاء قبل ورود الشرع وليس مراده إلا الوقف لعدم الحكم وقال الغزالي إن أراد أصحاب الوقف أن الحكم موقوف على ورود السمع ولا حكم في الحال فصحيح وإن أرادوا عدم العلم فهو خطأ فإن قلت الوقف هو الإمساك عن الحكم بشيء فلا يناسب تفسيره بالجزم بأن لا حكم قلت معنى الوقف يرجع إلى أن فعل المكلف قبل البعث لا يوصف بإباحة ولا حرمة لعدم التعلق به فالتوقف إنما هو في وصف الفعل لا في وجود الحكم وعدمه لكن لما كان السبب في هذا الوقف بعدم الحكم بمعنى عدم التعلق فسرنا التوقف بعدم الحكم تجوزا فإن قلت هذا لا يجامع اختياركم إن التعلق قديم قلت المراد بالتعلق هنا هو التعلق الذي يظهر أثره في المحكوم عليه وهو منتف قبل البعثة فلذلك اخترنا انتفاء الحكم قبل البعثة وفسرنا توقف الشيخ به فإن قلت هل الحكم بنفي الحكم قبل البعثة عقلي أو شرعي قلت هو عقلي لا شرعي بقي مما ننبه عليه هنا أن ما نقله المصنف عن الإمام ليس بجيد فإنه حكى في المحصول قول الوقف ثم قال هذا الوقف تارة يفسر بأنه لا حكم وهذا لا يكون وقفا بل قطعا بعدم الحكم وتارة بأنا لا ندري هل هنا حكم أم لا وإن كان هناك حكم فلا ندري أنه إباحة أو حظر انتهى فليس فيه اختيار ما نقله المصنف عنه.
فإن قلت ما عذر المصنف في ذلك؟(11/220)
ص -145-…قلت الظاهر أنه تبع صاحب الحاصل1 حيث قال فيه التوقف مرة يفسر بأنا لا ندري الحكم ومرة بعدم الحكم وهو الحق وظن أن صاحب الحاصل اتبع الإمام على عادته فنسب اختيار هذا القول إلى الإمام ويحتمل أن المصنف وقف للإمام على اختيار ذلك في كلام له في غير هذا الموضع أو أنه أراد بالإمام إمام الحرمين فإنه اختار ذلك في البرهان حيث قال لا حكم على العقلاء قبل ورود الشرع وهما احتمالان بعيدان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صاحب الحاصل هو تاج الدين محمد بن حسين الأرموي المتوفى سنة 656 هـ اختصر كتاب المحصول للإمام الرازي في كتاب سماه الحاصل.(11/221)
ص -146-…أدلة القائلين بالإباحة
قال احتج الأولون بأنه انتفاع خال عن إمام المفسدة ومضرة المالك فيباح كالاستظلال بجدار الغير والاقتباس من ناره وأيضا المآكل اللذيذة خلقت لغرضنا لامتناع العبث واستغنائه تعالى وليس للإضرار اتفاقا فهو للنفع وهو إما التلذذ أو الاغتذاء أو الاجتناب مع الميل أو الاستدلال ولا يحصل إلا بالتناول وأجيب عن الأول بمنع الأصل وعليه الأوصاف والدوران ضعيف وعن الثاني أن أفعاله لا تعلل بالغرض وإن سلم فالحصر ممنوع.
احتج الأول وهم القائلون بالإباحة بوجهين:
أحدهما: أنها انتفاع خال عن إمارة المفسدة فإن الكلام مفروض في فعل لا يظهر له مفسدة وخال عن مضرة المالك لأن المالك هو الله المنزه عن المضار المبرأ عن المنافع فتكون مباحه قياسا على الاستظلال بجدار الغير والاستضاءة بناره بغير إذنه فإنه أبيح لخلوه عن أمارات المفسدة ومضرة المالك فلما وجدنا الإباحة دائرة مع هذه الأوصاف وجودا وعدما والدوران يدل على علية المدار للدائر دل على عليتها لإباحة الأفعال وهي صورة النزاع فيلزم الإباحة فيها وتمثيل المصنف بالاقتباس فيه نظر لأن الاقتباس أخذ جزء من النار وهو لا يجوز بغير الإذن فالأولى التمثيل بالاستضاءة كما ذكرنا.
وقد ذكر الرافعي جواز الاستظلال بجدار الغير والاستضاءة بناره والاستناد وإسناد المتاع في أثناء كلام في القسم الثاني في الجدار المشترك من كتاب الصلح وذكر القفال المسألة في الفتاوى في واقعة جرت له مع السلطان محمود وأنه يجوز السعي في أرض الغير إن لم يخش أن تتخذ بذلك طريقا وإلا(11/222)
ص -147-…لزم منه الضرر قال وكذلك النظر في مرآة الغير والإيقاد من ناره والاستظلال بجداره والالتقاط من حبوب الزرع المتناثر ذكر القفال في الفتاوى أيضا أنه يجوز إسناد خشبة إلى جدار الغير.
الوجه الثاني: أن المواكيل اللذيذة إن خلقت لا لغرض كان عبثا محالا وإن خلقت لغرض فلا جائز أن يعود إلى الباري لتنزهه عن الأغراض فتعين أن يكون لغرضنا وليس هو الإضرار باتفاق العقلاء فهو حينئذ النفع وذلك النفع إما أن يكون دنيويا كالتلذذ والاغتذاء أو أخرويا يتعلق بالعمل كالاجتناب لكون تناولها مفسدة مع الميل فيستحق الثواب باجتنابها أو أخرويا يتعلق بالعلم كالاستدلال بها على وجود الصانع كمال قدرته وكل ذلك لا يحصل إلا بالتناول فواضح.
وأما توقف الاجتناب عليه فلأن المكلف إنما يستحق الثواب بتجنبها إذا دعت نفسه إليها وإنما يكون ذلك بعد التناول كذا قيل والحق أن تارك المعاصي امتثالا لأمر الله تعالى مع عدم ميلانه إليها يثاب على تركها بل هو عند قوم أعلى درجة من الذي فعلها ثم انزجر عنها وأما توقف الاستدلال فلأنه إنما يكون مع معرفتها هذا تقرير الوجهين.
قال في الكتاب وأجيب عن الأول بأنا لا نسلم ثبوت الحكم في المقيس عليه فإن الاستظلال بجدار الغير والاقتباس من ناره من جملة الأفعال الاختيارية الداخلة تحت صور النزاع ولئن سلمنا ثبوت الحكم في الأصل فلا نسلم أنه معلل بهذه الأوصاف واستدلالكم على ذلك بالدوران لا يفيدكم لأن الدوران وإن كان حجة فالظن الحاصل منه ضعيف لا يستدل بمثله على هذه المسألة.
واعلم أن هذا لا يخالف قوله في القياس بحجة الدوران لأن القائل بحجته معترف بأنه جار في مجاري الظنون الضعيفة التي يستدل بها على الفروع الفقهية الجزئية دون المسائل الأصولية وأما من قال بأنه مفيد للقطع فلا مبالاة بمعتقده الفاسد وأجيب عن الثاني بأن الدليل المذكور مبني على تعليل أفعال الله تعالى(11/223)
ص -148-…بالأغراض وقد بينا فيما سلف أنه لا يجوز تعليلها ولقائل أن يقول إذا كان الكلام في هذا الفرع مفرعا على القول بقاعدة التحسين والتقبيح وجب المشي فيه على قاعدة القوم وهم يعللون أفعال الله تعالى ويزعمون أنها تابعة للمصالح ثم قال المصنف ولئن سلمنا جواز تعليلها فلا نسلم انحصار الغرض فيما ذكرتم وجاز أن يكون الغرض في خلقها هو التنزه بمشاهدتها أو غير ذلك.(11/224)
ص -149-…أدلة القائلين بحرمتها
قال وقال الآخرون تصرف بغير إذن المالك فيحرم كما في الشاهد ورد بأن الشاهد يتضرر به دون الغائب.
احتج القائلون بأنها محرمة بأن الأفعال الاختيارية تصرف في ملك الغير بغير إذن فيحرم قياسا على التصرف في ملك الشاهد الذي هو الإنسان بغير إذنه والجامع بين ورد هذا بالفرق وهو أن حرمة التصرف في ملك الشاهد بغير إذنه إنما كانت لتضرره بذلك وهذا بخلاف الغائب وهو الله لتنزهه عن الإضرار وقد علم الواقف على هذا برد المصنف على الفريقين أنه يختار الوقف.
واعلم أنه لا خلاف في الحقيقة بين الواقفية والقائلين بالإباحة كما قال إمام الحرمين قال فإنهم لم يعنوا بالإباحة ورود خبر عنها وإنما أرادوا استواء الأمر في الفعل والترك والأمر على ما ذكروه نعم لو قالوا حق على المالك أن يبيح فهذا ينعكس الآن عليهم بالتحكم في تفاصيل النفع والضرر على من لاينتفع ولا يستضر.
قال تنبيه عدم الحرمة لا يوجب الإباحة لأن عدم المنع أعم من الإذن.
هذا إشارة إلى جواب عن سؤال مقدر ذكره الفريقان على الواقفية بمعنى لا حكم ولك أن تقول المصنف غني عن ذكر هذا إذ هو لا يفسر التوقف بمعنى عدم الحكم بل بمعنى عدم العلم وتقرير السؤال أن الأفعال إن كانت ممنوعا منها فهي محرمة وإلا فهي مباحة.
والجواب أنا لا نسلم أنها إذا لم تكن ممنوعا منها تكون مباحة لأن المباح(11/225)
ص -150-…هو ما أعلم فاعله أو دل على أنه لا حرج في فعله ولا تركه ولا يلزم من عدم المنع الإذن لأن عدم المنع أعم من الإذن والعام لا يستلزم الخاص.(11/226)
ص -151-…الفصل الثاني في المحكوم عليه وفيه عدة مسائل
الأولى: في الحكم على المعدوم
قال الفصل الثاني في المحكوم عليه وفيه مسائل:
الأولى: يجوز الحكم على المعدوم كما أنا مأمورون بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال أصحابنا المعدوم يجوز أن يحكم عليه لا بمعنى أن حال كونه معدوما يكون مأمورا فإنه معلوم الفساد بالضرورة بل بمعنى أنه يجوز أن يكون الأمر موجودا في الحال ثم إن الشخص الذي يوجد بعد ذلك يصير مأمورا بذلك وأما سائر الفرق فقد أنكروه وعظموا النكير على شيخنا أبي الحسن1 حتى انتهى الأمر إلى انكفاف طائفة من الأصحاب عن هذا المذهب منهم أبو العباس القلانسي من قدماء الأصحاب وقال كلام الله في الأزل لا يتصف بكونه أمرا ونهيا ووعدا ووعيدا وإنما ثبتت هذه الصفات فيما لا يزال عند وجود المخاطبين كما يتصف الباري بكونه خالقا رازقا فيما لا يزال وجعل ذلك من صفات الأفعال وهذا ضعيف لأنه إثبات لكلام خارج عن كونه أمرا ونهيا ووعدا وعيدا إلى استتمام أقسام الكلام وذلك مستحيل قطعا فلئن جاز ذلك فما المانع من المصير إلى أن الصفة الأزلية ليست كلاما أزليا ثم يستجد كونها كلاما فيما لا يزال وذهب بعض الفقهاء كما حكاه القاضي في مختصر التقريب إلى أن الأمر قبل وجود المأمور أمر إنذار وإعلام وليس بأمر إيجاب وهو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يقصد بذلك الشيخ أبا الحسن الأشعري شيخ طريقة أهل السنة والجماعة وتقدمت ترجمته.(11/227)
ص -152-…ضعيف لأن ما فروا منه في الإيجاب يلزمهم في الإعلام فإنه كما يستبعد إلزام المعدوم يستبعد إعلامه واحتج أصحابنا بأن الواحد منا يصير مأمورا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم مع أن ذلك الأمر ما كان موجودا إلا حال عدمنا.
قال قيل الرسول أخبر بأن من سيولد فالله سيأمره قلنا أمر الله في الأزل معناه أن فلانا إذا وجد فهو مأمور بكذا قيل الأمر في الأزل ولا سامع ولا مأمورا عبث بخلاف أمر الرسول عليه السلام قلنا مبني على القبح العقلي ومع هذا فلاسفة في أن يكون في النفس طلب التعلم من أين سيولد.
اعترض الخصوم على الدليل المتقدم بأنه لا يصح قياس أمر الله على أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه صلى الله عليه وسلم مبلغ لأمر الله تعالى فيكون مخبرا عن الله بأن فلانا إذا وجد وانخرط في سلك من يفهم الخطاب فالله يأمره بكذا وإذا كان كذلك لم يكن أمرا للمعدوم بشيء وأجاب المصنف بأنا أيضا نقول أمر الله في الأزل معناه أنه أخبر بأن من سيوجد ويستعد لتعلق الأمر به يصير مأمورا بأمري كما قلتم في أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فإن قلت إذا كان أمر الله بمعنى الإخبار فلا يكون أمرا حقيقيا قلت كذلك ذهب إليه بعض الأشاعرة وضعفه الإمام بوجهين.
أحدهما: أنه إن كان مخبرا لنفسه فهو سفه أو لغيره فمحال إذ ليس ثم غيره ولهذا ذهب من صار إلى أن كلام الله في الأزل لم يكن أمرا ولا نهيا ثم صار فيما لا يزال كذلك واعترض عليه القرافي بأنا نقول إنه مخبر لنفسه والقائل يشتغل في فكره طول ليله ونهاره ولا معنى لذلك إلا الإخبارات وأجمع العقلاء مع ذلك على حسنه فلا يكون في حق الله تعالى قبيحا بل الله تعالى عالم بجميع معلوماته ويخبر عن كل معلوم بخصائص صفاته وأحواله ولا استحالة في ذلك ولم يزل الله تعالى في الأزل وأبدا ولا يسمع ذلك إلا الله تعالى بسمعه القديم وإلى هذا الإخبار أشار عليه السلام بقوله "لا أحصى ثناء عليك أنت(11/228)
ص -153-…كما أثنيت على نفسك1 فالله تعالى يثني على نفسه دائما أزلا وأبدا ولا معنى للثناء إلا الإخبار قال وهذا واجب حق لا ينكره إلا من لم يربض بالعلوم العقلية الكلامية.
والثاني: من اعتراض الإمام أنه لو كان بمعنى الإخبار لقبل الصدق والكذب ولكن يلزم ألا يجوز العفو لأن الخلف في خبر الله محال وهو ضعيف لأنا نقول الأمر عبارة عن الإخبار بنزول العقاب إذا لم يحصل عفو ذكره الأصفهاني2 في شرح المحصول ثم اعترض الخصم على الجواب بأن الأمر بالمعنى الذي ذكرتموه أيضا محال في حق الله تعالى دون رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه تعالى إذا أخبر في الأزل يكون قد أخبر ولا سامع ولا مأمور ومنهى وصار كمن خلا بنفسه يحدثها وذلك عبث بخلاف أمر الرسول فإن بين يديه من يسمع ويمتثل ويبلغ وأجاب بأن تقبيح هذا مبني على مسأله التحسين والتقبيح وهي منهدمة الأركان ولقائل أن يقول إن ثبت قبح هذا فهو صفة نقص ولا خلاف كما سلف في أن التحسين والتقبيح على معنى صفات الكمال والنقص عقلي وما تقدم من كلام القرافي يصلح جوابا هنا.
ثم أجاب المصنف ثانيا بأن أمر الله تعالى هو المطلب القائم بذاته على رأي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا بعض حديث من دعاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رواه مسلم في صحيحه عن عائشة – رضي الله عنها – قالت تفقدت النبي – صلى الله عليه وسلم – ذات ليلة فتحسست فإذا هو راكع أو ساجد يقول: "سبحانك وبحمدك لا إله إلا أنت" وفي رواية في مسلم – أيضا – فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان وهو يقول: "اللهم أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" الفتوحات الربانية 2/269 – 270.(11/229)
2 هو شمس الدين محمد بن محمود بن عباد كان من العلماء الأجلاء المبرزين في سائر العلوم النقلية والعقلية تلقى العلم عن والده بأصفهان ثم رحل إلى بغداد وبلاد الروم وأخذ عن فلمائها كما رحل إلى القاهرة ونال من حكامها كل تقدير وإجلاء من مؤلفاته شرح المحصول للإمام الرازي وكتاب القواعد الأربعة علم أصول الفقه وأصول الدين والخلاف والمنطق.
توفي بالقاهرة سنة 688 هـ كشف الظنون ص 1359.(11/230)
ص -154-…أهل الحق ولا سفه في قيام طلب الفعل بذاته ممن سيوجد كما أنه لا سفه في أن يقوم بذات الأب طلب تعلم العلم من الولد الذي سيوجد ولو قدر بقاء ذلك الطلب حتى وجد الولد صار مطالبا بذلك الطلب ومأمورا فكذلك المعنى القائم بذات الله الذي هو اقتضاء الطاعة من العباد قديم تعلق بعباد على تقدير وجودهم فإذا صاروا مأمورين بذلك الاقتضاء وهذا الجواب الصحيح إلا أن قياس الغائب على الشاهد لا يصح فإنا نسلم أنه يقوم بذات الأب طلب للتعلم من ابن سيولد وإن كان الغزالي في طائفة قالوا إن ذلك ثبت للذاهبين إلى كلام النفس بل يقول إنما يقوم بذاته أنه لو وجد لطلب منه فإن قلت إنما كان ذلك لأن الشاهد غالبا لا يستيقن وجود ولد له إذ لا علم له بالغيب بخلاف من يعلم أن فلانا يوجد في الوقت الفلاني لا محالة بتقديري وإرادتي ونحن نفرض شخصا أخبره صادق بأنه يولد لك علم ولا بدع أن يقوم في نفسه والحالة هذه ما ذكرناه.
قلت ولو فرضت ذلك لم نسلم صحة قيام ذلك في نفسه وكيف يطلب ولا مطلوبا منه.
فإن قلت فما الفارق والحالة هذه بين الغائب والشاهد حيث أجزتم صحة قيام ذلك بذات الله بخلاف الشاهد؟
قلت الله تعالى ليس كلامه إلا النفسي ولا يمكن أن يكون قيامه بذاته حادثا وإلا يلزم أن يكون محلا للحوادث تعالى الله عن ذلك فلذلك لزم من هاتين المقدمتين أعني امتناع كون كلامه غير نفسي وامتناع كونه محلا للحوادث أن يكون الأمر قائما بالذات في القدم وتعلقه بالمأمور حادث على حسب استعداده وأما الشاهد الذي لا يستحيل على ذاته قيام الحوادث بها وأمره يصدق طورا باللسان وطورا بالجنان فلا ضرورة بنا إلى تقدير قيام الطلب بذاته من معدوم ومالنا لا نؤخره إلى حين يوجد ذلك المعدوم فوضح السر في كون أمر الله تعالى من الأزل وثبوت الفارق بين الغائب والشاهد وأنه لا يصح قياس أحدهما على الآخر وما ذكره الخصوم من الحسن والقبح والهذيان(11/231)
ص -155-…والسفه والانتظام والاتساق في أمر ولا مأمور وغيرها كلها من نعوت المحثات والقديم يتقدس عنه ويحقق هذا أن من أحب أن يحيط علما بقطر البحار وأوراق الأشجار عد سفيها واستقبح منه ما أتى به بخلاف الرب سبحانه وتعالى فالمعدوم الذي وجد أنه متوقف على أمره وقد قدر وجوده في وقت معلوم لا يتخلف عنه على صفة معلومة لا انفكاك لها دون أمره نازل عنده منزلة الموجود فهو يأمره وينهاه ولا قبح هذا في جانب الباري سبحانه وتعالى وهذا واضح لمن تدبره ومن أراد الزيادة فالكتب الكلامية التي وضعها أصحابنا بين أظهرنا.
وإمام الحرمين قال إن هذا الموضع مما يستخير الله فيه ووعد بإملاء مجموع عليه وقال قول القائل إنه مأمور على تقدير الوجود تلبس فإنه إذا وجد لم يبق معدوما ولا شك أن الوجود شرط في كون المأمور مأمورا وإذ لاح ذلك بقي النظر في أمر بلا مأمور وهذا معضل إذن فإن الأمر من الصفات المتعلقة وفرض متعلق ولا متعلق له محال انتهى وفيما أوردناه كفاية.
فائدة قال إمام الحرمين في التخليص المختصر من التقريب والإرشاد ذهب بعض من لا تحقيق له إلى أن الأمر إنما يتعلق بالمعدوم بشرط أن يتعلق بموجود واحد فصاعد ثم يتبعه المعدومون على شرط الوجود وسقوط هذا واضح.
تنبيه: قد يسأل عن الفرق بين هذه المسألة وبين قولنا لا حكم على العقلاء قبل ورود الشرع فإن الأزل قبل ورود الرسل بالضرورة وقد نفينا الأحكام قبل ورودهم ثم وأثبتناها هنا في الأزل والجواب ما تقدم في خلال الكلام من أن معنى قولنا لاحكم قبل ورود الشرع أن الخطاب إنما يتعلق بما بعد البعثة لا بما قبلها فالمنفي هناك تعلق الأحكام لا ذواتها فلا تناقض بين الكلامين.(11/232)
ص -156-…المسألة الثانية في تكليف الغافل
قال الثانية لا يجوز تكليف الغافل من أحال تكليف المحال فإن الإتيان بالفعل امتثالا يعتمد العلم ولا يكفي مجرد الفعل لقوله عليه السلام "إنما الأعمال بالنيات" ونوقض بوجوب المعرفة وأجيب بأنه مستثنى
اتفق الكل حتى القائلون بجواز التكليف بما لا يطاق على أنه يشترط في المأمور أن بكون عاقلا بفهم الخطاب أو يتمكن من فهمه لأن الأمر بالشيء يتضمن إعلام المأمور بأن الآمر طالب للمأمور به منه سواء أمكن حصوله منه أو لم يمكن كما في التكليف بما لا يطاق وإعلام من لا عقل له ولا فهم متناقض إذ يصير التقدير يا من لا فهم له افهم ويا من لا عقل له اعقل المأمور به فعلى هذا لا يجوز أمر الجماد والبهيمة لعدم العقل والفهم وعدم استعدادهما ولا أمر المجنون والصبي الذي لا يميز لعدم العقل والفهم التامين وإن كانا مستعدين لهما وقد نسب المصنف امتناع تكليف الغافل إلى من يحيل تكليف المحال وهو يفهم أن الذي لا يحيله لا يمنعه وليس الأمر كذلك بل المختار منعه وإن فرعنا على صحة التكليف بالمحال.
وعلى المصنف في قوله تكليف المحال معترض آخر وهو أن تكليف المحال هو ما رجع إلى المأمور وهو تكليف الغافل فكان الأولى أن يقول التكليف بالمحال1
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فعلى هذا يفهم أن التكليف المحال: هو ما رجع إلى المكلف نفسه أما التكليف بالمحال بزيادة الباء فهو ما كان راجعا إلى المأمور به وهو الفعل ا هـ محققه.(11/233)
ص -157-…واستدل المصنف على المختار بأن مقتضى التكليف الإتيان بالمأمور به على وجه الامتثال للآمر وذلك لا يتصور إلا إذا علم المكلف أن المكلف أمره به والغافل لا يعلم ذلك فلا يمكنه الإتيان بالمأمور به على جهة الامتثال.
قوله ولا يكفي مجرد الفعل هذا جواب على سؤال مقدر تقديره أنا لا نسلم توقف الإتيان بالمأمور به على العلم لجواز أن يصدر عنه ما كلف من غير علم وتوجيه الجواب أن مجرد الإتيان بالمأمور به لا يكفي في حصول الامتثال بل لابد معه من النية لما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الإعمال بالنيات"1 وقد نقض الخصم هذا الدليل بوجود معرفة الله تعالى فإنها واجبة ولا يمكن أن يكون وجوبه بعد حصولها للزوم تحصيل الحاصل وإذا كان قبل حصولها استحال معرفة هذا الأمر لأن معرفة أوامر الله بدون معرفة الله محال فقد كلف بما هو غافل عنه وأجاب المصنف بأنه مستثنى من القاعدة لقيام دليل عليه يخصه وقد ضعف هذا الجواب بأن النقض ولو بصورة قادح في الدليل وقيل الحق في الجواب أن يقال نختار أن التكليف بها يرد حال حصول العلم ولا يلزم تحصيل الحاصل لجواز أن يكون المأمور به معلوما بوجه ما ويكون التكليف واردا بتحصيل المعرفة من غير ذلك الوجه وقد نجز شرح ما في الكتاب.
والذي نص عليه الشافعي رضي الله عنه أن السكران مخاطب مكلف ولكن الأصوليين على طبقاتهم منهم القاضي في مختصر التقريب صرحوا بخروج السكران الخارج عن حد التمييز عن قضية التكليف والتسوية بينه وبين سائر من لا يفهم قال الغزالي بل السكران أسوأ حالا من النائم الذي يمكن تنبيهه فإما أن يكون ما قاله الشافعي قولا ثالثا مفصلا بين السكران وغيره للتغليظ عليه أو يحمل كلامه على السكران الذي لا ينسل عن رتبة التمييز دون الطافح المغشي عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(11/234)
1 اخرجه البخاري من حديث عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – وقد رواه البخاري في صحيحه سبع مرات إحداها في كيف كان بدء الوحي 1 – 2.(11/235)
ص -158-…ولا ينبغي أن يظن ظان من ذلك أن الشافعي يجوز تكليف الغافل مطلقا فقدره رضى الله عنه يجل عن ذلك وأظهر الرأيين عندنا أن الشافعي فصل بين السكران وغيره ثم إنا نقول لعل ذلك هو الحق دالين عليه بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى}1 فإن قلت لعل المراد بالسكران في الآية النشوان الذي لا ينسل عن رتبة التمييز قلت هذا التأويل ينافي سياق الآية فإن الرب تعالى قال: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} وليس عندي على من قال إن السكران مكلف إلا إشكال دقيق لولاه لجزمت القول بأنه مكلف وهو أنه يلزم من قال إنه مكلف أن يأمره بالوضوء ويطالبه بالصلاة ويرد عليه إذن قوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} فإن تحريم الصلاة عليه لا يجامع مطالبته بها فالآية تصلح معتصما للفريقين فمن يكلفه يقول الله خاطبه ومن يمنع يقول قد أمره بألا يقرب الصلاة فإن قلت كيف لا تكلفون النائم وهو يضمن ما يتلفه في نومه ويقضي الصلوات التي تمر عليه مواقيتها إلى غير ذلك من الأحكام؟
قلت الذي قلناه إنه لا يخاطب في حال نومه ولكن يتوجه عليه الخطاب بعد ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: "من ترك صلاة أو نسيها فليصلها إذ ذكرها".
فإن قلت إنما يخاطب في اليقظة بسبب ما تقدم في النوم.(11/236)
قلت مقصدنا نفي الخطاب في حال النوم فأما ثبوت أسباب يستند إليها تثبت الأحكام في اليقظة فمما لا ننكره ويوضح هذا أن الصبي الذي لا يميز لو أتلف شيئا لطالبناه ببدله فوجوب الزكوات والغرم والنفقات ليس من التكليف بل الإتلاف وملك النصاب سبب لثبوت هذه الحقوق في ذمة الصبيان بمعنى مخاطبة الولي في الحال بالأداء ومخاطبة الصبي بعد البلوغ وذلك غير محال وليس كقولك لمن لا يفهم افهم فإن أهلية ثبوت الأحكام في الذمة تستفاد من الإنسانية التي لها يستعد بقبول قوة العقل الذي به قوة فهم التكليف في ثاني الحال حتى أن البهيمة لما لم يكن لها قوة فهم الخطاب بالفعل ولا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء: 43.(11/237)
ص -159-…بالقوة لم تتهيأ لإضافة الحكم إلى ذمتها بخلاف النطفة التي في الرحم إذا ثبت لها الملك بالإرث والوصية والحياة غير موجودة بالفعل ولكن بالقوة وكذا الصبي مصيره إلى العقل فصح إضافة الحكم إلى ذمته ومطالبته في ثاني الحال ولم يصلح للتكليف في الحال فإن قلت لو انتفخ ميت وتكسر بسبب انتفاخه قارورة فينبغي إيجاب ضمانها كالطفل يسقط على قارورة قلت يحتمل أن يقال بذلك وأن يطالب به الورثة كما يجب الضمان على العاقلة والفعل لم يصدر منهم ولكن قال الأصحاب لا يجب وفرقوا بينه وبين الطفل بأن للطفل فعلا بخلاف الميت وإيجاب الضمان على من لا فعل له غير معقول وهو متجه فإن قلت فالصبي المميز يفهم الخطاب فلم منعت تكليفه؟
قلت العقل لا يمنع ولكن الشرع رفع ذلك عنه بقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاث" الحديث1.
وقد قال البيهقي إن الأحكام إنما نيطت بخمس عشرة سنة من عام الخندق وأنها كانت قبل ذلك تتعلق بالتمييز وبهذا يجاب عن سؤال من يقول الرفع يقتضي تقدم وضع ولم يتقدم على الصبي وضع فإن قلت ما الحكمة في تقدير الرفع بالبلوغ وهو إذا قارب البلوغ عقل قلت قال القاضي أبو بكر إن عدم بلوغه دليل على قلة عقله وهو تصريح منه بأن العقل يزيد ويكمل بلحظة وليس يتجه ذلك كما قاله الغزالي لأن انفصال النطفة لا يزيد عقلا لكن حط الخطاب عنه تخفيفا وزيادة العقل ونقصانه إلى حد يناط به التكليف أمر خفي لا يمكن الاطلاع عليه بغتة لكونه يزيد على التدريج وقد علم من عوائد الشرع أنه يعلق الحكم على مظانها المنضبطة لا على أنفسها والبلوغ مظنة كمال العقل فعقل الشارع الأمر عليه وإن جاز وجود الحكمة قبله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ولفظه عن علي – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يشيب وعن المعتوه حتى يعقل".(11/238)
وأخرجه الترمذي وابن ماجه والحاكم كما أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد والطبراني بروايات مختلفة.
صحيح الجامع الصغير للألباني 3 – 179.(11/239)
ص -160-…بلحظة أو بعده بلحظة وفي الشريعة صور كثيرة تضاهي ذلك بل ربما شذت الصورة عن الحكمة بحيث بقي الوصف فيها كضرب من التعبد وفي ذلك فروع:
منها لو كمل وضوءه إلا إحدى الرجلين ثم غسلها وأدخلها الخف فإنه ينزع الأولى ثم يلبسها ليكون قد أدخلهما على طهارة كاملة.
ومنها لو اصطاد صيدا وهو محرم ولا امتناع لذلك الصيد فإنه يرسله ويأخذه إذا شاء.
ومنها إذا تيقن عدم الماء حواليه فإنه على وجه يلزمه الطلب وقد عددنا في الأشباه والنظائر كمله الله من ذلك كثيرا.
فإن قلت كيف أمرت الصبي بالصلاة وهو ابن سبع سنين وضربته عليها وهو ابن عشر.
قلت قد علمت أن العقل بعد بلوغه سن التمييز لا يمنع من ذلك ومن محاسن الشريعة النظر في مصلحته وتمرينه على مايخاطب به حتما فيما يؤل وليس المقصود من هذا الخطاب غير ذلك ولذلك لا نقول إنها واجبة عليه بل على الولي أن يأمره بها ولا تبعة على الصبي في آخرته بتركها والله أعلم.
فإن قلت كيف منعتم تكليف الغافل الداخل في قالب الموجودات وجوزتم تكليف المعدوم؟
قلت تكليف المعدوم بمعنى تعلق الخطاب به في الأزل على تقدير وجوده والمنع من تكليف الغافل إنما هو في زمن غفلته.
فإن قلت الدهري مكلف بالإيمان وهو لا يعرف المكلف فكيف يفهم التكليف.
قلت المعتبر التمكن من الفهم وهو متمكن بواسطة النظر1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وخلاصة ذلك: أن العلماء اتفقوا على شرط التكليف أن يكون المكلف عاقلا فاهما لأن التكليف خطاب وخطاب من لا يعقل له ولا فهم محال كالجماد والبهيمة كذلك من شرط التكليف فهم أصل الخطاب جملة لا تفصيلا وأن يكون مقتضيا للثواب والعقاب ومن كون..................................=(11/240)
ص -161-…..............................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الآمر هو الله تعالى وكون المأمور به على صفة معينة.
فالصبي وإن كان يفهم ما لا يفهم غير المميز إلا أنه غير فاهم فهما كاملا لوجود الله تعالى وكونه متكلما مخاطبا مكلفا بالعبادة ومن وجود الرسول الصادق المبلغ عن ربه عز وجل – وغير ذلك مما يتوقف عليه مقصود التكليف.
ولما كان الفعل والفهم فيه خفيا لا يظهران جعل له الشارع ضابطا يعرف به وهو البلوغ وحط عنه التكليف قبله تخفيفا عليه كما في الحديث المتقدم.
ويستفاد من ذلك:
"أ" أن العقل عماد التكليف فمن لا يعقل لا يمكن توجه الخطاب إليه.
"ب" أن العقل ينمو ويتدرج وأنه لا يصل إلى حد التكليف إلا إذا تكامل نوه=
= "ج" أن نمو العقل شيء خفي فلا بد له من ضابط ظاهر وهو البلوغ "د" أن الخلاف في هذه المسألة إنما هو في الحكم التكليفي أما الحكم الوضعي فلا خلاف بين العلماء في أنه ليس من شرطه العقل فإن المجنون والصبي غير المميز تتعلق بهما الأحكام الوضعية فإذا أتلف أحدهما شيئا وجب ضمانه على وليهما.
"ه" ما نسب إلى الإمام الشافعي من أنه يجوز تكليف الغافل – أخذا من كلامه في وقوع طلاق السكران.
فإنا نجل الإمام الشافعي من أن يقول إن من لا يفهم الخطاب يكون مكلفا فلعل الإمام الشافعي يقصد التغليظ على السكران المتعدي بسكره عقوبة له وزجرا عن العودة إلى مثل ذلك لأن رفع التكليف رخصة والرخصة لا تناط بالمعاصي.
ويدل على ما قلناه ما قاله الإمام الشافعي نفسه في كتاب الأم:
"إن قال قائل: فهذا مغلوب على عقله والمريض والمجنون مغلوب على عقله".
قيل: المريض مأجور ومكفر عنه بالمرض.
مرفوع عنه القلم إذا ذهب عقله وهذا آثم أي السكران مضروب على السكر غير مرفوع عنه القلم فكيف يقاس عن عليه العقاب بمن له الثواب" الأم 5/253 ط بيروت.(11/241)
فعلى هذا يجب أن يفهم كلام الشافعي في هذا المسألة وبالله التوفيق ا هـ محققه.(11/242)
ص -162-…المسألة الثالثة الإكراه الملجئ يمنع التكليف
قال الثالثة الإكراه الملجئ يمنع التكليف لزوال القدرة.
الإكراه إن انتهى إلى حد الإلجاء بحيث صارت نسبة فاعله إلى الفعل المكره عليه كنسبة المرتعش إلى حركته منع التكليف في المكره عليه أو ضده والقول في جوازه مبني على التكليف بما لا يطاق واستدل المصنف على امتناعه بزوال القدرة فإن الفعل يصير واجب الوقوع ويصير عدمه ممتنعا والتكليف بالواجب والممتنع تكليف بما لا يطاق وقال القاضي في مختصر التقريب إن هذا القسم لا يسمى عند المحققين إكراها لأن الإكراه لا يتحقق إلا مع تصور اقتدار فلا يوصف ذو الرعشة الضرويرية بالإكراه وانما المكره من يخوف ويضطر إلى أن يحرك يده على اقتدار واختيار وقد ذهب أصحابنا إلى أن ذلك لا يمنع التكليف صرح به طوائف منهم القاضي وإمام الحرمين وأبو إسحق الشيرازي والغزالي وجماعة ومال إليه الإمام وذهبت المعتزلة إلى أنه يمنع التكليف وهذا ما أفهمه كلام المصنف كذا نقله جماعة وحكاية إمام الحرمين عنهم أن المكره على العبادة لا يجوز أن يكون مكلفا بها قال وبنوا ذلك على أصولهم في وجوب إثابة المكلف والمحمول على الشيء لا يثاب عليه قال وقد ألزمهم القاضي المكره على القتل فإنه منهي عنه وآثم به لو أقدم عليه وهذه هفوة عظيمة فإنهم لا يمنعون النهي عن الشيء مع الحمل عليه فإن ذلك أشد في المحنة واقتضاء الثواب وإنما الذي منعوه الإضرار إلى فعل مع الأمر به انتهى وقد تابع القاضي جماعة من الأصحاب على إلزام المعتزلة بذلك وهو صحيح وما ذكره إمام الحرمين حق من هذا الوجه ولكن الملزمون لم يوردوه(11/243)
ص -163-…على هذا المأخذ بل هو من جهة أنهم منعوا أن المكره قادر على عين الفعل المكره عليه فبين الملزمون أنه قادر لأن المعتزلة كلفوه بالضد وعندهم أن الله تعالى لا يكلف العبد إلا بعد خلق القدرة على الفعل والقدرة عندهم على الشيء قدرة على ضده فإذا قدر على ترك القتل قدر على القتل.
قال الغزالي وهذا ظاهر ولكن فيه غور وهو أن الامتثال إنما يكون طاعة إذا كان الانبعاث له بباعث الأمر والتكليف دون باعث الإكراه فالآتي بالفعل مع الإكراه إن أتى به لداعي الإكراه فلا يكون مجيبا داعي الشرع فصحيح قال بعض المتأخرين وهذا الذي ذكره إنما هو في العبادات المشروط فيها النية كرد المغصوب والودائع وتسليم المبيع وحبس المعتدة فالمقصود فيه واقع قصد أو لم يقصد فيخرج من عهده التكليف به مع الإكراه هذا كلام الأصوليين وأما الفقهاء فقالوا لا يباح بالإكراه الزنا والقتل ويباح شرب الخمر والإفطار إتلاف مال الغير والخروج من الصلاة والتلفظ بكلمة الردة وقد يجب بعض ذلك فإن قلت قد قال الفقهاء إن الإكراه يسقط أثر التصرف قلت لا يلزم من كونه مسقطا أثر التصرف ألا يجامع التكليف والضابط في خطاب المكره وتصرفاته والجمع بين كلام الأصوليين والفقهاء فيه يستدعي مزيد بسط لعلنا نستقصي القول فيه في كتابنا الأشباه والنظائر على أن الفقهاء قد استثنوا مسائل من هذه القاعدة منها الإكراه على القتل على أصح القولين ومنها الإكراه على الكلام في الصلاة على الأصح ومنها الرضاع.
ومنها على الحدث وقد حكى الرافعي عن الحناطي1 وجهين في انتقاض الوضوء بمس الذكر ناسيا فلا يبعد أن يقال بجريانهما في حالة الإكراه.
ومنها الإكراه على الزنا إن قلنا يتصور الإكراه عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو الحسين بن محمد بن عبد الله الشيخ الإمام أبو عبد الله الحناطي الطبري كان إماما جليلا حافظا لكتب الإمام الشافعي – رضي الله عنه -.(11/244)
توفي بعد الأربعمائة هجرية.
تاريخ بغداد 8/103 طبقات الشافعية لابن السبكي 4/267 – 371.(11/245)
ص -164-…ومنها: قال في الاستقصاء نقلا عن الإيضاح إذا تبايعا في عقد الصرف وتفارقا قبل القبض يبطل سواء كان في حالة الاختيار أم الإكراه وقد يعترض على هذا بأن الإكراه لا يبطل خيار المجلس في البيع على الصحيح ويجاب بضيق باب الربا والمسألة في شرح المنهاج لوالدي بطلت مبسوطة.
ومنها: إذا أكره ففعل أفعالا كبيرة في الصلاة بطلت بلا خلاف.
ومنها: لو أكره على التحول عن القبلة أو على ترك القيام في الفريضة مع القدرة فصلى قاعدا لزمه الإعادة لأنه عذر وهذه كالتي قبلها.
ومنها: إذا أكره حتى أكل بنفسه وهو صائم أو أكرهت المرأة حتى مكنت من نفسها ففي الفطر قولان.
ومنها: إذا حلف بالله مكرها انعقدت يمينه على وجه حكاه ابن الرفعة.(11/246)
ص -165-…المسألة الرابعة في وقت توجه الخطاب إلى المكلف
قال الرابعة التكليف يتوجه حال المباشرة وقالت المعتزلة بل قبلها.
المسألة من مشكلات المواضع وفيها اضطراب في المنقول وغور في المعقول ونحن نذكر مقالات الناس والتنبيه على جهة الاختلاف ثم نعمد إلى الرأي الأسد فنناضل عنه فنقول قال القاضي في مختصر التقريب باختصار إمام الحرمين الفعل مأمور به في حال حدوثه ثم قال المحققون من أصحابنا الأمر قبل حدوث الفعل المأمور به أمر إيجاب وإلزام ولكنه يتضمن الاقتضاء والترغيب والدلالة على امتثال المأمور به وإذا تحقق الامتثال فالأمر يتعلق به ولكن لايقتضي ترغيبا مع تحقيق المقصود ولا يقتضي دلالة بل يقتضي كونه طاعة الأمر المتعلق وذهب بعض من ينتمي إلى أهل الحق إلى أن الأمر إنما يقتض الإيجاب على التحقيق إذا قارن حدوث الفعل وإذا تقدم عليه فهو أمر إنذار وإعلام بحقيقة الوجوب عند الوقوع وهذا باطل والذي نختاره تحقق الوجوب قبل الحدوث وفي حال الحدوث وإنما يفترق الحالتان فيما قدمناه من الترغيب والاقتضاء والدلالة فإن ذلك يتحقق قبل الفعل ولا يتحقق معه وزعمت القدرية بأسرها أن الفعل في حال حدوثه يستحيل أن يكون مأمورا به ولا يتعلق به الأمر إلا قبل وجوده ثم طردوا مذهبهم في جملة الأحكام الشرعية فلم يصفوا كائنا بحظر ولا وجوب ولا ندب وإنما أثبتوا هذه الأحكام قبل تحقق الحدوث ثم افترقوا فيما بين أظهرهم فقال بعضهم:
لا يصح تقدم الأمر على المأمور به بأكثر من وقت واحد وصار الأكثرون منهم إلى جواز تقدمه عليه بأوقات ثم الذين صاروا إلى هذا المذهب اختلفوا في(11/247)
ص -166-…أنه هل يشترط بقاء المكلف في الأوقات المتقدمة على حدوث المأمور به على أوصاف التكليف فمنهم من شرط كونه مستجمعا لشرائط التكليف في كل الأوقات المتقدمة.
وزعم بعضهم أنا لا نشترط ذلك وإنما نشترط اجتماع الأوصاف عند حدوث الفعل ويشترط في الأوقات المتقدمة عليه كون المخاطب ممن يفهم الخطاب ثم افترقوا بعد ذلك في أصل آخر وذلك أنهم قالوا هل يجوز أن يتقدم الأمر على المأمور به بأوقات من غير أن يكون فيه لطف ومصلحة زائدة على التبليغ من المبلغ والقبول من المخاطب؟
فمنهم من شرط أن يكون في ذلك لطف يعلمه الله ومنهم من لم يشترط ذلك انتهى وهو أثبت منقول في المسألة وصريح نقل إمام الحرمين في البرهان أن مذهب أصحاب الشيخ أن الفعل في حال حدوثه مأمور به ثم ذكر في تعليله ما يدل على أنه ليس بمأمور به قبل حدوثه وهذا هو الذي يقتضيه أصلهم وهو أن الاستطاعة عندهم مع الفعل لا قبله.
فإن قلت أصلهم الآخر وهو تحويز التكليف بما لا يطاق يقتضي جواز الأمر بالفعل حقيقة قبل الاستطاعة فعلى هذا يكون المأمور مأمورا قبل التلبس بالفعل.
قلت لعلهم فرعوا هذا على استحالته أو أنهم وإن جوزوه فلم يقولوا بوقوعه ويكون كلامهم هنا بناء على عدم الوقوع ثم اختار إمام الحرمين مذهب المعتزلة من الأمر بالحادث قبل الحدوث وعدم الأمر به مع الحدوث وقال إما أن يتجه القول في تعلق الأمر به طلبا واقتضاء مع حصوله مذهب لا يرتضيه لنفسه عاقل وأما الغزالي فإنه قال بوجود الأمر قبل الفعل وسلم مقارنة القدرة للفعل ومن هنا خالف قول إمامه فإن إمامه رأى أن القدرة هي التمكن وحالة الوجود تنافي التمكن من الفعل والترك فيتعين الوقوع كذا قال القرافي وهذه عبارة الغزالي لا أمر إلا بمعدوم يمكن حدوثه وهل يكون الحادث في أول حال حدوثه مأمورا كما كان قبل الحدوث أو يخرج عن كونه مأمورا كما في(11/248)
ص -167-…الحالة الثانية في الوجود اختلفوا فيه وفي بحث كلامي لا يليق بمقاصد أصول الفقه ذكره.
وأما الإمام فقال ذهب بعض أصحابنا إلى أن المأمور إنما يصير مأمورا حالة زمان الفعل وأما قبل ذلك فلا يكون أمرا بل هو إعلام له بأنه في الزمان الثاني سيصير مأمورا.
وقالت المعتزلة إنما يكون مأمورا بالفعل قبل وقوعه ثم استدل على أنه على أنه لا يمتنع كونه مأمورا حال حدوث الفعل وإذا تؤمل دليله أرشد إلى أنه اختار ما حكاه عن بعض الأصحاب من أن التكليف يتوجه حال المباشرة ولا يتوجه قبلها وهذا هو المذهب الذي حكاه القاضي عن بعض ما ينتمي إلى أهل الحق وقال إمام الحرمين لا يرتضيه لنفسه عاقل ولم يتعرض الإمام إلى حكاية القول الذاهب إلى أنه مأمور قبل الحدوث ومع الحدوث وهو الذي ذهب إليه المحققون من أصحابنا كما قاله القاضي بل حاصل ما فعل أنه اختار أحد مذهبي الأصحاب واقتصر مع حكايته على حكاية مذهب المعتزلة.
وقال الآمدي اتفق الناس على جواز التكليف بالفعل قبل حدوثه سوى شذوذ من أصحابنا انتهى وهذا الذي ادعى الاتفاق على خلافه إلا عن شذوذ هو أحد شقي ما اختاره الإمام ونصبه محل النزاع مع المعتزلة قال وعلى امتناعه بعد حدوث الفعل واختلفوا في جواز تعلقه في أول زمان حدوثه فأثبته أصحابنا ونفاه المعتزلة انتهى.
وهو ما أشعر به كلام الغزالي المتقدم وهو نقل متقن محرر واتبعه عليه ابن الحاجب إلا أنه نسب القول بانقطاع التكليف حال حدوث الفعل إلى الشيخ وليس بجيد فليس للشيخ في المسألة صريح الكلام وإن كان ذلك يتلقى من قضايا مذهبه.
وقال ابن برهان في أصوله الحادث في حال حدوثه مأمور به خلافا للمعتزلة انتهى ولم يتعرض له قبل الحدوث وأما صاحب الكتاب فمن شعار الإمام نبغ وقد أوردنا من النقول في المسألة ما فيه كفاية للمتبصر.(11/249)
ص -168-…أدلة القائلين بتوجه الخطاب عند المباشرة
قال لنا أن القدرة حينئذ قبل التكليف في الحال بالإيقاع في ثاني الحال قلنا الإيقاع إن كان نفس الفعل فمحال في الحال وإن كان غيره فيعود الكلام إليه ويتسلسل قالوا عند المباشرة واجب الصدور قلنا حال القدرة والداعية كذلك.
قد علمت اتباعه للإمام في اختيار أن التكليف إنما يتوجه حال المباشرة ولا يتوجه قبلها واستدل عليه بأن التكليف مشروط بحصول قدرة المكلف وحينئذ فيكون التكليف متوجها حال المباشرة ولا يكون متوجها قبلها أما تحقق القدرة حال المباشرة فلأن المراد من القدرة التمكن من الفعل والتمكن حاصل حينئذ وأما انتفاؤها قبل المباشرة فلأن الفعل قبل المباشرة ممتنع الوقوع إذ لو كان ممكن الوقوع لأمكن أن يفرض وقوعه ويكون ما فرضته أنه قبل المباشرة هو حال المباشرة وهذا خلف فوضح أن الفعل قبل المباشرة ممتنع الوقوع والممتنع لا قدرة عليه.
قوله قبل التكليف أجاب الخصم عن القول بأنه إذا كان ممتنعا قبل المباشرة فلا يكلف به بأن التكليف الذي ادعينا أنه ثابت قبل المباشرة ليس هو التكليف بنفس الفعل حتى يلزم ما ذكرتم بل التكليف في الحال يعني قبل المباشرة تكليف بالإيقاع في ثاني الحال يعني حال المباشرة.
واعترض المصنف على هذا الجواب بأن الإيقاع المكلف به إذا كان نفس الفعل فالتكليف به في الحال أي حال قبل الفعل محال وذلك لأنه يلزم من(11/250)
ص -169-…امتناع التكليف بالفعل قبل مباشرته امتناع التكليف بالإيقاع إذ الفرض أن الإيقاع هو نفس الفعل وإن كان الإيقاع غير الفعل فيعود الكلام إليه أي إلى هذا الإيقاع الذي كلف به ويقال هذا الإيقاع الذي وقع التكليف به إن وقع التكليف به حال وقوع الإيقاع لزم المدعي وهو توجه التكليف حال المباشرة وإن وقع التكليف به قبله لزم أن يكون مكلفا بما لا قدرة له عليه لأنا قررنا أن القدرة مع الفعل.
فإن قلت التكليف قبل الإيقاع بإيقاع الإيقاع في ثاني الحال.
قلت يعود الكلام إليه أيضا ويقال إيقاع الإيقاع الذي كلف به إما أن يكون نفس الفعل أو غيره ويتسلسل فتعين أن يكون توجه التكليف حال المباشرة لا قبلها.(11/251)
قوله إشارة إلى حجة ذكرها المعتزلة وهي أن الفعل حال المباشرة واجب الصدور عن المكلف لامتناع الترك منه حينئذ وكل ما كان واجب الوقوع فليس بمقدور وما ليس بمقدور لا يتوجه التكليف نحوه فلا يتوجه التكليف نحو الفعل حال المباشرة وأجاب بأنه لما كانت القدرة هي التمكن من الفعل والداعية هي ميل الإنسان إلى الفعل أو الترك إذا علم أو ظن أن له في الفعل مصلحة أو مفسدة وإذا اجتمعت القدرة والداعية سميت علة تامة وإذا وجدت فقيل يجب وقوع الفعل وقيل لا يجب بل يكون الفعل أولى وإذا عرفت هذا فنقول الفعل يترتب وجوده على وجود القدرة مع الداعية فيكون مأمورا حال القدرة والداعية عند الخصم لكونه من جملة الأزمان التي قبل الفعل مع أن الفعل واجب الصدور في تلك الحالة فانتفى ما ذكرتموه ويمكن أن يقرر على وجه آخر فيقال القدرة مع الداعي مؤثرة في وجود الفعل ولا امتناع في كون المؤثر مقارنا للأثر فتكون القدرة مقارنة للفعل مع كونه واجب الوقوع فبطل دعواكم أن ما كان واجب الصدور لا يكون مقدورا والتقرير الأول أقرب إلى كلام المصنف وهو يتمشى على تقدير التزام الخصم أن العلة مع المعلول والثاني يتمشى على تقدير قوله: العلة قبل المعلول وتوجيه كلام المصنف على(11/252)
ص -170-…التقرير الثاني أن يقال فإما يكون التكليف حال القدرة والداعية معه ويلزم من مجموعهما وجوب الوقوع وقد اعترض العبري بأنه إذا كان الفعل قبل المباشرة غير مقدور عليه وعند المباشرة واجب الوقوع فيلزم التكليف بالممتنع أو الواجب وهو محال هذا شيء ما في الكتاب على الاختصار والمسألة دخيلة في هذا العلم والكلام فيها مما لا يكثر جدواه والذي نقوله هو أن الحق في أحد جهتين مرجعهما.
أحداهما: القول بأن التكليف متوجه قبل المباشرة وحال المباشرة أيضا وهو المنقول عن المحققين.
والثانية: أن التكليف لا يتوجه إلا حال المباشرة وهو مختار الإمام وصاحب الكتاب وهو عندنا منقدح لا يمنعنا عن الجزم به إلا ما سنذكره بعد سؤال وجواب نوردهما إن شاء الله تعالى.
فإن قلت هذا يؤدي إلى أن المكلف لا يعصى بترك مأمور به لأنه إن أتى به كان ممتثلا وإن لم يأت كان مغدورا لعدم التكليف.
قلت هذا من الأسئلة التي قامت بها الشناعة على القائل بهذه المقالة وجوابه عندنا دقيق فنقول إذا كان التكليف متوجها حال المباشرة فهو في حال ترك المأمور به مباشر للترك والترك فعل وهو حرام فقد باشر الترك فتوجه عليه التكليف بالحرمة حال مباشرة الترك والعقاب ليس إلا على الترك وهذا في غاية الحسن وقد أشار إليه إمام الحرمين في مسألة تكليف ما لا يطاق وهو أجل ما يستفاد من شرحنا في هذه المسألة وليس عندي فيه إلا أنه يلزم منه أن يقال تارك الصلاة مثلا غير مكلف بالصلاة بترك ترك الصلاة الذي يلزم منه الصلاة وقد ادعى إمام الحرمين اتفاق أهل الإسلام على أن القاعد في حال قعوده مأمور بالقيام فإن صح الإجماع هكذا فهل يصد عن القول بأن التكليف لا يتوجه إلا حال المباشرة.
وإن أمكن رده إلى ترك الترك كما قررنا فهذا المذهب منقدح.(11/253)
ص -171-…الفصل الثالث في المحكوم به وفيه عدة مسائل
الأولى: في جواز التلكيف بالمحال
قال الفصل الثالث في المحكوم به وفيه مسائل:
الأولى: التكليف بالمحال جائز لأن حكمه لا يستدعي غرضا قيل لا يتصور وجوده فلا يطلب قلنا إن لم يتصور امتنع الحكم باستحالته.
ما لا يقدر العبد عليه قد يكون معجوزا عنه متعذرا عادة لا عقلا كالطيران في الهواء وقد يكون متعذرا عقلا ممكنا عادة كمن علم الله تعالى أنه لا يؤمن فإن إيمانه مستحيل والحالة هذه عقلا لتعلق علم الله به وإذا سئل ذوو العوائد عنه حكموا بأن الإيمان في إمكانه وهكذا كل طاعة قدر في الأزل عدمها وقد يكون متعذرا عادة وعقلا كالجمع بين السواد والبياض.
إذا عرفت هذا فمحمل النزاع في التكليف بالمستحيل إنما هو المتعذر عادة سواء كان معه التعذر العقلي أم لا أما المتعذر عقلا فقط لتعلق علم الله به فأطبق العقلاء عليه وقد كلف الله الثقلين أجمعين بالإيمان مع قوله: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}1 فنقول ذهب جماهير الأصحاب إلى أنه يجوز التكليف بالمحال وذهبت المعتزلة إلى امتناع التكليف بالمحال مطلقا وإليه ذهب بعض أصحابنا كالشيخ أبي حامد وإمام الحرمين والغزالي واختاره الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد2 كما صرح به في شرح العنوان وذهب قوم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة يوسف عليه السلام آية 103.
2 هو محمد بن علي بن وهب بن مطيع المنفلوطي المصري نشأ في قوص بصعيد مصر ولد في...........=(11/254)
ص -172-…إلى أنه إن كان ممتنعا لذاته لم يجز وإلا جاز واختاره الآمدي وادعى أن الغزالي مال إليه وذهب الأستاذ أبو إسحاق إلى أنه لا يجوز أن يرد التكليف بالمحال فإن ورد لا نسميه تكليفا بل يكون علامة نصبها الله على عذاب من كلف بذلك واستدل في الكتاب على الجواز مطلقا بأن امتناع التكليف عند القائل به إنما هو لكونه عبثا وذلك مبني على تعليل أفعال الله تعالى بالأغراض وهو باطل وهذا يصلح ردا على من بنى الامتناع على ذلك وهم المعتزلة وأما من وافقهم مع أصحابنا فلهم مأخذ آخر.
واحتج المعتزلة ومن وافقهم بأن المحال لا يتصور لأن كل ما يتصور بالعقل فهو معلوم إذ التصور من جملة أقسام العلم وكل معلوم متميز وكل متميز ثابت لأن التميز صفة وجودية ولا بد لها من موصوف موجود ضرورة عدم قيام الموجود بالمعدوم فلو كان متصورا لكان ثابتا ولكنه غير ثابت فلا يكون متصورا وإذا كان غير متصور فلا يكلف به لأنه والحالة هذه مجهول.
قال الغزالي والمطلوب ينبغي أن يكون مفهوما للمكلف بالاتفاق وأجاب المصنف بأنه إن كان غير متصور كما ذكرتم فيمتنع منكم الحكم عليه لأن الحكم على الشيء فرع تصوره فلم حكمتم عليه بالاستحالة؟
ولقائل أن يقول الحكم بالاستحالة إنما يتوقف على تصوره في الذهن لا على تصور وجوده في الخارج ولا يمتنع تصوره في الذهن وليس المراد من قوله لا يتصور وجوده الوجود الذهني بل الخارجي وهذا حق وجوابه أن لا نسلم أن كل ما لا يتصور وجوده في الخارج لا يطلب وهل النزاع إلا فيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= شعبان سنة 625 هـ بينبع من أرض الحجاز وكان والده في رحلة الحج فطاف به حول الكعبة داعيا له فاستجاب الله دعاه فكان ولده من العلماء العالمين وذاع صيته واشتهر بالصلاح والتقى حتى لقب بـ تقي الدين.
من مؤلفاته شرح كتاب عمدة الأحكام الإمام والإلمام في أحاديث الأحكام مقدمة المطرزي في أصول الفقه.(11/255)
توفي رحمه الله تعالى في صفر سنة 702 بالقاهرة ودفن بالقرافة الصغرى شذرات الذهب 5/6 الدرة الكامنة 4/94 درة الحجال 2/15.(11/256)
ص -173-…قال غير واقع بالممتنع لذاته كإعدام القديم وقلب الحقائق.
اختلف القائلون بجواز التكليف بالمحال في وقوعه فذهب الجمهور إلى عدم وقوعه والمختار عند المصنف التفصيل الذي ذكره وهو عدم الوقوع بالممتنع لذاته كقلب الحقائق مع بقاء الحقيقة الأولى وإعدام القديم هذا ما ذكره وهو يفهم وقوع الممتنع لغيره والحق فيه التفصيل أيضا فإن كان مما قضت العادة بامتناعه كحمل الصخرة العظيمة للرجل النحيف فحكمه حكم الممتنع لذاته في الجواز وعدم الوقوع وأما ما امتنع لتعلق العلم به فذاك ليس محل النزاع بل هو واقع بالإجماع كما سلف.
فائدة قد عرفت ما عليه جمهور الأصحاب من تجويز للتكليف بالمحال واختلافهم في الوقوع على الوجه الذي رأيت فأما التجويز فهو المنقول عن أبي الحسن وهو لازم على قضايا مذهبه وأما الوقوع فقد نقلوا اختلافا عنه فيه.
قال إمام الحرمين وهذا لسوء معرفة مذهب الرجل فإن مقتضى مذهبه أن التكاليف كلها واقعة عنده على خلاف الاستطاعة.
قال ويتقرر هذا من وجهين:
أحدهما: أن الاستطاعة عنده لا تتقدم على الفعل والأمر بالفعل يتوجه على المكلف قبل وقوعه وهو إذ ذاك غير مستطع قال ولا يدفع ذلك قول القائل إن الأمر بالفعل نهي عن أضداده والمأمور بالفعل قبل الفعل إن لم يكن قادرا على الفعل فهو قادر على ضد من أضداده ملابس له فإنا سنوضح أن الأمر بالشيء لا يكون نهيا عن اضداده قال وأيضا فإن القدرة إذا قارنت الضد لم تقارن الأمر بالفعل والفعل مقصود مأمور به وقد تحقق طلبه قبل القدرة عليه.
والثاني: أن القدرة الحادثة غير مؤثرة في مقدورها بل مقدورها مخلوق الله تعالى والعبد مطالب بما هو من فعل ربه قال ولا معنى للتمويه بالكسب فإنا سنوضح سر ما نعتقده في خلق الأفعال انتهى.(11/257)
ص -174-…ولقائل أن يقول على الأول قولكم ليس الأمر بالشيء نهيا عن ضده قلنا الكلام على رأي الشيخ وهو يرى ذلك لا على رأيكم قال صفي الدين الهندي بل الجواب عنه أن ما هو متلبس به عند ورود الخطاب ليس ضدا له وهو الآن ضده الوجودي المنهي عنه وهو الذي يستلزم للتلبس به تركه في الزمان الذي أمر بإيقاع الفعل فيه وهو في زمان ورود الخطاب لم يتلبس به لأن زمان الفعل هو الزمان الثاني إن كان الأمر للفور سلمنا أن ذلك ضده المنهي عنه لكنه حاصل عند ورود الخطاب والأمر بترك الحاصل محال اللهم إلا أن يقال إنه مأمور بترك ما هو متلبس به في المستقبل وذلك إنما يكون بإقدامه على المأمور به وحينئذ يعود المحذور المذكور.
واعلم أن الوجه الأول لا يلزم على الشيخ إلا إذا قال بتوجه الأمر قبل الفعل وفيه ما تقدم من النزاع في المسألة المتقدمة وأما الوجه الثاني فلا يلزم تجويز التكليف بالممتنع لذاته أو الممتنع عادة.
أدلة القائلين بعدم الوقوع
قال للإستقراء ولقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا}.
استدل على أنه غير واقع بالممتنع لذاته بوجهين:
أحدهما: الاستقراء فإنا استقرينا فلم نجد في التكاليف الشرعية ما هو متعلق بالممتنع لذاته.
والثاني: قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا}1 والممتنع لذاته غير وسع المكلف أي غير مقدور له فلا يكلف به ولك أن تقول هذه الآية تدل على عدم التكليف بالممتنع لذاته والممتنع لغيره لا الممتنع لذاته فقط فيلزم من استدل بها منع الوقوع فيهما ما لم يأت بدليل يخرج الممتنع لغيره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية 286.(11/258)
ص -175-…دليل القائلين بالوقوع
قيل أمر أبا لهب بالإيمان بما أنزل ومنه أنه لا يؤمن فهو جمع بين النقيضين قلنا لا نسلم أنه أمر به بعد ما أنزل أنه لا يؤمن.
هذا دليل القائلين بوقوع التكليف بالمحال لذاته ويصلح أن يكون اعتراضا على الدليل الأول وهو الاستقراء وتقريره أن أبا لهب مأمور بالجمع بين التقيضين لأنه مأمور بالإيمان والإيمان عبارة عن تصديق النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ولا يتم تصديقه في ذلك إلا بعدم الإيمان فوجب أن يؤمن وأن لا يؤمن وهو جمع بين النقيضين.
وأجاب بأن أمر أبي لهب بالإيمان لم يكن في حال الإخبار بعدم الإيمان بحسب الزمان فلم يقع التكليف بالجمع بين النقيضين وهو جواب باطل فإن أبا لهب مأمور بالإيمان قبل الإخبار وبعده الإجماع وإنما الجواب أن هذا ليس من باب الممتنع لذاته بل من الممتنع لغيره وذلك أنه تعالى أخبر أنه لا يؤمن فاستحال إيمانه ضررورة صدق خبر الله تعالى وعدم وقوع الخلف في خبره فإذا أمره بالإيمان والحالة هذه فقد أمره بما هو ممكن في نفسه وإن كان مستحيلا لغيره كما قلناه فيمن علم أنه لا يؤمن وها هنا تنبيهان:
أحدهما: وذكره القرافي أن الجمع بين النقيضين على ما قرروه إنما يتم أن لو كان مكلفا بأن يؤمن وبأن لا يؤمن وهو ليس بجيد بل الصواب حذف الواو فيقال كلف بأن يؤمن بأن لا يؤمن وهو مدلول الأمر بالإيمان وإذا كان مكلفا بأن يصدق الخبر بأنه لا يؤمن لا يلزم أن يكون مكلفا بجعل الخبر صادقا ألا ترى أن الصادق إذا أخبرك أن زيدا سيكفر بالله غذا فإنه يجب عليك تصديقه فيما أخبر به ولا يجب عليك أن تجعل زيدا كافرا بل يحرم عليك وأبو لهب والحالة هذه إنما كلف بأن يصدق بأنه لا يؤمن إلا بأن يجعل الخبر صادقا ويسعى في عدم إيمان نفسه.(11/259)