2 شطر الشيء: نصفه ا. هـ مصباح مادة شطر.(5/138)
ص -84-…وأيضا لو كان نسخًا للعبادة لافتقرت في وجوبها إلى دليل آخر غير الدليل الأول. وإنه باطل بالاتفاق.
واحتج القائلون: بأن نسخ الشطر يقتضي نسخ العبادة، دون نسخ الشرط، بأن نقصان الركعة من الصلاة يقتضي رفع وجوب تأخير التشهد، ورفع إجزائها من دون الركعة؛ لأن تلك العبادة قبل النسخ كانت غير مجزئة بدون الركعة.
وأجيب بأن للباقي من العبادة أحكاما مغايرة لأحكامها قبل رفع ذلك الشطر، فكان النسخ مغايرا لنسخ تلك العبادة.
وأيضا الثابت في الباقي هو الوجوب الأصلي، والزيادة باقية على الجواز الأصلي، وإنما الزائل وجوبها، فارتفع حكم شرعي لا إلى حكم شرعي، فلا يكون ذلك نسخا1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر كتاب التبصرة 281 والمستصفى 1/ 116 وفواتح الرحموت 2/ 94.
المسألة السابعة عشرة: في الطريق التي يعرف بها كون الناسخ ناسخا
وذلك أمور:
الأول:
أن يقتضي ذلك اللفظ، بأن يكون فيه ما يدل على تقدم أحدهما وتأخر الآخر.
قال الماوردي: المراد بالتقدم التقدم في النزول، لا في التلاوة، فإن العدة بأربعة شهور وعشر سابقة على العدة بالحول في التلاوة، مع أنها ناسخة لها.
ومن ذلك التصريح في اللفظ بما يدل على النسخ كقوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ}1، فإن يقتضي نسخه لثبات الواحد للعشرة، ومثل قوله تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ}2.
الثاني:
أن يعرف الناسخ من المنسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم، كأن يقول: هذا ناسخ لهذا، أو ما في معنى ذلك، كقوله: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية 66 من سورة الأنفال.
2 جزء من الآية 13 من سورة المجادلة؛ وانظر الحاشية 1 في 2/ 58.(5/139)
3 أخرجه البيهقي بهذا اللفظ من حديث ابن مسعود، كتاب الجنائز، باب زيارة القبور 4/ 77. ومسلم بلفظ: "نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها"، كتاب الأضاحي 1977. وبنحوه عنده في الجنائز، باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في زيارة قبر أمه 977. الحاكم. كتاب الجنائز 1/ 375 وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. قال الذهبي في التلخيص: على شرط مسلم. وأخرجه أحمد في مسنده 5/ 350. وابن حبان في صحيحه 3169.(5/140)
ص -85-…الثالث:
أن يعرف ذلك من فعله صلى الله عليه وسلم كرجمه لماعز ولم يجلده1 فإنه يفيد نسخ قوله: "الثيب بالثيب جلد مائة ورجمه بالحجارة"2.
قال ابن السمعاني: وقد قالوا: إن الفعل لا ينسخ القول، في قول أكثر الأصوليين وإنما يستدل بالفعل على تقدم النسخ للقول بقول آخر، فيكون القول منسوخا بمثله من القول، والفعل مبين لذلك.
الرابع:
إجماع الصحابة على أن هذا ناسخ، وهذا منسوخ، كنسخ صوم يوم عاشوراء بصوم "شهر"* رمضان، ونسخ الحقوق المعلقة بالمال بالزكاة. ذكر معنى ذلك ابن السمعاني.
قال الزركشي: وكذا حديث "من غل صدقته" فقال صلى الله عليه وسلم: "إنا آخذوها وشطر ماله"3، قال: فإن الصحابة اتفقت على ترك استعمالهم لهذا الحديث، فدل ذلك على نسخه. انتهى.
وقد ذهب الجمهور إلى أن إجماع الصحابة من أدلة بيان الناسخ والمنسوخ.
قال القاضي: يستدل بالإجماع على أن معه خبرا وقع به النسخ؛ لأن الإجماع لا ينسخ به، ولم يجعل الصيرفي الإجماع دليلا على تعين النص للنسخ، بل جعله مترددا بين النسخ والغلط.
الخامس:
نقل الصحابي لتقدم أحد الحكمين، وتأخر الآخر؛ إذ لا مدخل للاجتهاد فيه.
قال ابن السمعاني: وهو واضح إذا كان الخبران غير متواترين، أما إذا قال في المتواتر: إنه كان قبل الآحاد، ففي ذلك خلاف، وجزم القاضي في "التقريب" بأنه لا يقبل، ونقله الصفي الهندي عن الأكثرين؛ لأنه يتضمن نسخ المتواتر بالآحاد وهو غير جائز، وقال القاضي عبد الجبار: يقبل. وشرط ابن السمعاني كون الراوي لهما واحدا.
السادس:
كون أحد الحكمين شرعيًّا، والآخر موافقا للعادة، فيكون الشرعي ناسخا.
وخالف في ذلك القاضي أبو بكر، والغزالي؛ لأنه يجوز ورود الشرع بالنقل عن العادة، ثم يرد نسخه ورده إلى مكانه.
وأما حداثة الصحابي وتأخر إسلامه، فليس ذلك من دلال النسخ.
وإذا لم يعلم الناسخ من المنسوخ، بوجه من الوجوه، فرجح قوم، منهم ابن الحاجب الوقف.(5/141)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقديم تخريجه في الصفحة 2/ 73.
2 تقديم تخريجه في الصفحة 2/ 73.
3 أخرجه ابن عبد البر في التمهيد 2/ 23.(5/142)
ص -86-…وقال الآمدي: إن علم افتراقهما مع تعذر الجمع بينهما فعندي أن ذلك غير متصور الوقوع، وإن جوزه قوم، وبتقدير وقوعه، فالواجب إما الوقف عن العمل بأحدهما، أو التخيير بينهما إن أمكن، وكذلك الحكم فيما إذا لم يعلم شيء من ذلك1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البحث مفصلا في المستصفى 1/ 128 وفواتح الرحموت 2/ 96.(5/143)
ص -89-…الفصل الأول: في تعريفه
وهو في اللغة: تقدير شيء على مثال شيء آخر، وتسويته به، ولذلك سمي المكيال مقياسا، وما يقدر به النعال مقياسا، ويقال: فلان لا يقاس بفلان، أي: لا يساويه.
وقيل: هو مصدر قست الشيء، إذا اعتبرته، أقيسه قيسا وقياسا، ومنه قيس الرأي، وسمي امرؤ القيس1 لاعتبار الأمور برأيه.
وذكر صاحب "الصحاح"، وابن أبي البقاء2 فيه لغة بضم القاف، يقال: قُسْتُه أقوسه قَوسًا؛ هو على اللغة الأولى من ذوات الياء، وعلى اللغة الثانية من ذوات الواو.
وفي الاصطلاح: حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما، أو نفيه عنهما، بأمر جامع بينهما، من حكم أو صفة3.
كذا قال القاضي أبو بكر الباقلاني.
قال في "المحصول": واختاره جمهور المحققين منا.
وإنما قال: معلوم، ليتناول الموجود والمعدوم، فإن القياس يجري فيهما جميعا.
واعترض عليه بأنه إن أريد بحمل أحد المعلومين على الآخر، إثبات مثل حكم أحدهما للآخر، فقوله بعد ذلك في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما إعادة لذلك فيكون تكرارا من غير فائدة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو امرؤ القيس بن حجر بن الحارث، وهذا لقبه الذي اشتهر به وقد اختلف في اسمه فقيل: حندج، وقيل: مليكة، وقيل عدي. وهو أشهر شعراء العرب، يماني الأصل ولد نحو سنة ثلاثين ومائة قبل الهجرة، وتوفي سنة ثمانين قبل الهجرة، ويعرف بالملك الضليل لاضطراب أموره طول حياته، وذي القروح لما أصابه من مرض في موته. ا. هـ شرح المعلقات السبع7 الأعلام 2/ 11.
2 هو عبد الله بن الحسين بن أبي البقاء عبد الله، الشيخ الإمام، العلامة، النحوي، العكبري البغدادي، ولد سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة هـ، من آثاره "تفسير القرآن، إعراب القرآن، إعراب الشواذ، متشابه القرآن، إعراب الحديث" وكتب غيرها كثير، توفي سنة ست عشرة وستمائة هـ. ا. هـ سير أعلام النبلاء 22/ 91. شذرات الذهب 5/ 67.(5/144)
3 وقد ذكر الغزالي هذا التعريف في المستصفى 2/ 228.(5/145)
ص -90-…واعترض عليه أيضًا: بأن قوله: في إثبات حكم لهما مشعر بأن الحكم في الأصل والفرع "مثبت"* بالقياس، وهو باطل، فإن المعتبر في ماهية القياس إثبات مثل حكم معلوم لمعلوم آخر، بأمر جامع.
واعترض عليه "أيضا"**: بأن إثبات لفظ أو في الحد للإبهام، وهو ينافي التعيين الذي هو مقصود الحد.
وقال جماعة من المحققين: إنه مساواة فرع لأصل في علة الحكم، أو زيادته عليه في المعنى المعتبر في الحكم.
وقال أبو الحسين البصري: هو تحصيل حكم الأصل في الفرع، لاشتباههما في علة الحكم عند المجتهد.
وقيل: إدراج خصوص في عموم.
وقيل: إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به.
وقيل: إلحاق المختلف فيه بالمتفق عليه.
وقيل: استنباط الخفي من الجلي.
وقيل: حمل الفرع على الأصل ببعض أوصاف الأصل.
وقيل: "الجمع بين النظيرين"***، وإجراء حكم أحدهما على الآخر.
وقيل: بذل الجهد في طلب الحق1.
وقيل: حمل الشيء على غيره، وإجراء حكمه عليه2.
وقيل: حمل الشيء على الشيء في بعض أحكامه، بضرب من الشبه3.
وعلى كل حد من هذه الحدود اعتراضات يطول الكلام بذكرها.
وأحسن ما يقال في حده: استخراج مثل حكم المذكور، لما لم يذكر، بجامع بينهما؛ فتأمل هذا تجده صوابا إن شاء الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": ثبت.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** في "أ": حمل الشيء على غيره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي بذلك المجتهد جهده في استخراج الحق من الكتاب والسنة. ا. هـ فواتح الرحموت2/ 247.
2 وذلك لعلة مشتركة بينهما وهو قول أبي هاشم الجبائي المعتزلي ا. هـ. فواتح الرحموت2/ 247.
3 انظر هذه التعريفات مفصلة في فواتح الرحموت 2/ 247.(5/146)
ص -91-…وقال إمام الحرمين: يتعذر الحد الحقيقي في القياس؛ لاشتماله على حقائق مختلفة، كالحكم فإنه قديم، والفرع والأصل فإنهما حادثان، والجامع فإنه علة، ووافقه ابن المنير على ذلك.
وقال "الأبياري"*: الحقيقي إنما يتصور فيما يتركب من الجنس والفصل، ولا يتصور ذلك في القياس.
قال الأستاذ أبو إسحاق: اختلف أصحابنا فيما وضع له اسم القياس على قولين:
أحدهما: أنه استدلال المجتهد، وفكرة المستنبط.
والثاني: أنه المعنى الذي يدل على الحكم في أصل الشيء وفرعه، قال: وهذا هو الصحيح. انتهى.
واختلفوا في موضوع1 القياس: "فقال"** الروياني: وموضوعه طلب أحكام الفروع المسكوت عنها، من الأصول المنصوصة بالعلل المستنبطة من معانيها؛ ليلحق كل فرع بأصله.
وقيل غير ذلك، مما هو دون ما ذكرناه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": ابن الأنباري.
** في "أ": قال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 موضوع كل علم: ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية، كبدن الإنسان لعلم الطب فإنه يبحث فيه عن أحواله من حيث الصحة والمرض. ا. هـ التعريفات 305.
الفصل الثاني: في حجية القياس
اعلم: أنه قد وقع الاتفاق على أنه حجة في الأمور الدنيوية.
قال الفخر الرازي: كما في الأودية، والأغذية.
وكذلك اتفقوا على حجية القياس الصادر منه صلى الله عليه وسلم، وإنما وقع الخلاف في القياس الشرعي: فذهب الجمهور من الصحابة، والتابعين، والفقهاء، والمتكلمين إلى "أن القياس الشرعي"* أصل من أصول الشريعة، يستدل به على الأحكام التي "لم"** يرد بها السمع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": أنه.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".(5/147)
ص -92-…قال في "المحصول": اختلف الناس في القياس الشرعي، فقالت طائفة: العقل يقتضي جواز التعبد به في الجملة، وقالت طائفة: العقل يقتضي المنع من التعبد به، والأولون قسمان:
القسم الأول:
منهم من قال: وقع التعبد به، ومنهم من قال: لم يقع1.
أما من اعترف بوقوع التعبد به، فقد اتفقوا على أن السمع "دل"* عليه، ثم اختلفوا في ثلاثة مواضع:
الأول:
أنه هل في العقل ما يدل عليه؟ فقال: القفال منا، وأبو الحسين البصري من المعتزلة: العقل يدل على وجوب العمل به، وأما الباقون منا، ومن المعتزلة فقد أنكروا ذلك.
والثاني:
أن أبا الحسن البصري زعم أن دلالة الدلائل السمعية عليه ظنية، والباقون قالوا: قطعية.
والثالث:
أن القاساني والنهرواني2 ذهبا إلى العمل بالقياس في صورتين:
إحداهما: إذا كانت العلة منصوصة بصريح اللفظ، أو يإيمائه3.
والصورة الثانية: كقياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف.
وأما جمهور العلماء فقد قالوا بسائر الأقيسة.
وأما القائلون بأن التعبد لم يقع به، فمنهم من قال: لم يوجد في السمع ما يدل على وقوع التعبد به، فوجب الامتناع من العمل به.
ومنهم من لم يقنع بذلك، بل تمسك في نفيه بالكتاب، والسنة، وإجماع الصحابة، وإجماع العترة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ":دال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الغزالي في المستصفى 2/ 234: وقد قالت الشيعة وبعض المعتزلة: يستحيل التعبد بالقياس عقلا، وقال قوم في مقابلتهم: يجب التعبد به عقلا، وقال قوم: لا حكم للعقل فيه بإحالة ولا إيجاب ولكنه في فطنه الجواز، ثم اختلفوا في وقوعه: فأنكر أهل الظاهر وقوعه، بل ادعوا حظر الشرع له، والذي ذهب إليه الصحابة رضي الله عنهم بأجمعهم وجماهير الفقهاء والمتكلمين بعدهم رحمهم الله وقوع التعبد به شرعا. ا. هـ.(5/148)
2 لم نستطع تحديد من المراد بالنهرواني وذلك لأن كتب التراجم أوردت كثيرًا من المسمين بالنهرواني، وكتب الأصول لم تذكر النهرواني باسمه الصريح، وليس هو المعافى بن زكريا كما ذكره بعض المحققين لأنه كان جريري المذهب ولم يكن داوديا، والذي يعرف بأنه من نفاة القياس كان داوديا.
وقد ذكر الدكتور محمد حسن هيتو نحوا من هذا الكلام أيضًا بعد أن عجز عن تحديد المراد بالنهرواني في تعليقه على التبصرة للشيرازي 436.
3 وذلك كقوله: حرمت الخمر لشدتها، وقوله: فإنها من الطوافين عليكم والطوافات. ا. هـ المستصفى 2/ 274.(5/149)
ص -93-…وأما القسم الثاني:
وهم الذين قالوا: بأن العقل يقتضي المنع من التعبد به، فهم فريقان:
أحدهما:
خصص ذلك المنع بشرعنا، وقال: لأن مبنى شرعنا الجمع بين المختلفات، والفرق بين المتماثلات، وذلك يمنع من القياس، وهو قول النظام.
والفريق الثاني:
الذين قالوا: يمتنع ورود التعبد به في كل الشرائع. انتهى.
قال الأستاذ أبو منصور: المثبتون للقياس اختلفوا فيه على أربعة مذاهب:
أحدها: ثبوته في العقليات، والشرعيات، وهو قول أصحابنا من الفقهاء، والمتكلمين، وأكثر المعتزلة.
والثاني: ثبوته في العقليات، دون الشرعيات، وبه قال جماعة من أهل الظاهر.
والثالث: نفيه في العلوم العقلية، وثبوته في الأحكام الشرعية، التي ليس فيها نص، ولا إجماع، وبه قال طائفة من القائلين بأن المعارف ضرورية.
والرابع: نفيه في العقليات والشرعيات.
وبه قال أبو بكر بن داود الأصفهاني. انتهى.
والمثبتون له اختلفوا أيضًا.
قال الأكثرون: هو دليل بالشرع.
وقال القفال، وأبو الحسين البصري: هو دليل بالعقل، والأدلة السمعية وردت مؤكدة له.
وقال الدقاق: يجب العمل به بالعقل والشرع، وجزم به ابن قدامه في "الروضة"1، وجعله مذهب أحمد بن حنبل لقوله: لا يستغني أحد عن القياس. قال: وذهب أهل الظاهر، والنظام إلى امتناعه عقلا وشرعا، وإليه ميل أحمد بن حنبل لقوله: يجتنب المتكلم في الفقه المجمل والقياس.
وقد تأوله القاضي أبو يعلى على ما إذا كان القياس مع وجود النص؛ لأنه حينئذ يكون فاسد الاعتبار.
ثم اختلف القائلون به أيضًا اختلافًا آخر، وهو: هل دلالة السمع عليه قطعية أو ظنية؟ فذهب الأكثرون إلى الأول، وذهب أبو الحسين، والآمدي إلى الثاني.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(5/150)
1 هو عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي، موفق الدين، الإمام القدوة، العلامة المجتهد، شيخ الإسلام، أبو محمد، ولد سنة إحدى وأربعين وخمسمائة هـ وتوفي سنة عشرين وستمائة هـ، من آثاره "المغني، الكافي، المقنع، العمدة" وغيرها كثير، وله كتاب "روضة الناظر" في أصول الفقه، وهو مطبوع.
انظر: سير أعلام النبلاء 22/ 165 شذرات الذهب 5/ 88، الأعلام 4/ 67.(5/151)
ص -94-…وأما المنكرون للقياس، فأول من باح بإنكاره النظام، وتابعه قوم من المعتزلة، كجعفر بن حرب1، وجعفر بن مبشر2، ومحمد بن عبد الله الإسكافي3، وتابعهم على نفيه في "الأحكام" داود الظاهري.
قال أبو القاسم البغدادي4 فيما حكاه عنه ابن عبد البر في كتاب "جامع العلم" أيضًا: لا خلاف بين فقهاء الأمصار وسائر أهل السنة في نفي القياس في التوحيد، وإثباته في الأحكام إلا داود، فإنه نفاه فيهما جميعا.
قال: ومنهم من أثبته في التوحيد، ونفاه في الأحكام.
وحكى القاضي أبو الطيب الطبري عن داود، والنهرواني، والمغربي5، والقاساني: أن القياس محرم بالشرع.
قال الأستاذ أبو منصور: وأما داود فزعم أنه لا حادثة إلا وفيها حكم منصوص عليه في القرآن، أو السنة، أو معدول عنه بفحوى النص ودليله، وذلك يُغني عن القياس.
قال ابن القطان: ذهب داود وأتباعه إلى أن القياس في دين الله باطل، ولا يجوز القول به.
قال ابن حزم في "الإحكام": ذهب أهل الظاهر إلى إبطال القول بالقياس جملة، وهو قولنا الذي ندين الله به، والقول بالعلل باطل. انتهى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو الفضل، الهمذاني، المعتزلي، كان من نساك القوم، له تصانيف من آثاره" متشابه القرآن، الاستقصاء، الرد على أصحاب الطبائع، الأصول"، توفي سنة ست وثلاثين ومائتين هـ. ا. هـ سير أعلام النبلاء 10/ 549 الأعلام 2/ 123 الأعلام 4/ 67.
2 في الأصول: جعفر بن حبشة، والتصحيح من البحر المحيط: 5/ 17، وأحكام الآمدي: 3/ 9. وهو أبو محمد جعفر بن مبشر بن أحمد الثقفي. أحد مصنفي المعتزلة، له آراء انفرد بها، وكان موصوفا بالديانة. انظر: تاريخ بغداد: 7/ 162، وميزان الاعتدال: 1/ 144. الأعلام: 2/ 126.(5/152)
3 وهو العلامة أبو جعفر، السمرقندي ثم الإسكافي، المتكلم، كان أعجوبة في الذكاء، وسعة المعرفة، من آثاره: "نقض كتاب حسين النجار، تفضيل علي، الرد على من أنكر خلق القرآن"، توفي سنة أربعين ومائتين هـ. ا. هـ سير أعلام النبلاء 10/ 550 الأعلام 6/ 227.
4 هو عبيد الله بن عمر بن أحمد الشافعي البغدادي، أبو القاسم، فقيه، أصولي، مقرئ فرضين تفقه على أبي سعيد الإصطخري، توفي سنة خمس وستين وثلاثمائة هـ، وله تآليف كثيرة في الفقه والقراءات والفرائض. ا. هـ معجم المؤلفين 6/ 242، والبحر المحيط 5/ 17.
5 هو أبو عبد الله محمد بن عيسى البريلي الأصل المعروف بالمغربي، توفي سنة أربعمائة هـ، صنف وقوف النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن. ا. هـ هدية العارفين 2/ 58، معجم المؤلفين 11/ 103.
وقال الدكتور محمد حسن هيتو في تحقيقه لكتاب التبصرة للشيرازي عند ذكر المغربي: هو أبو عبد الله المغربي، وقد نقل عنه الغزالي في المنخول في مكانين "ص90-94". التبصرة 419.(5/153)
ص -95-…والحاصل: أن داود الظاهري وأتباعه لا يقولون بالقياس، ولو كانت العلة منصوصة.
ونقل القاضي أبو بكر، والغزالي عن القاساني، والنهرواني القول به فيما إذا كانت العلة منصوصة.
وقد استدل المانعون من القياس بأدلة عقلية ونقلية، ولا حاجة لهم إلى الاستدلال، فالقيام في مقام المنع يكفيهم، وإيراد الدليل على القائلين بها، وقد جاءوا بأدلة عقلية لا تقوم بها الحجة، فلا نطول البحث بذكرها.
وجاءوا بأدلة نقلية1، فقالوا: دل على ثبوت التعبد بالقياس الشرعي الكتاب، والسنة، والإجماع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي المثبتون للقياس المتعبدون به.
الأدلة من القرن الكريم:
أما الكتاب، فقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}1.
ووجه الاستدلال بهذه الآية: أن الاعتبار مشتق من العبور، وهو "المرور"*، يقال: عبرت على النهر، "وعبرت النهر"**، والمعبر: الموضع الذي يعبر عليه، والمِعْبَر: السفينة التي يعبر فيها، كأنها أداة العبور، والعَبْرَة: الدمعة التي عبرت من الجفن، وعبر الرؤيا: جاوزها إلى ما يلازمها. قالوا: فثبت بهذه الاستعمالات أن الاعتبار حقيقة في المجاوزة، فوجب أن لا يكون حقيقة في غيرها دفعا للاشتراك، والقياس عبور من حكم الأصل إلى حكم الفرع، فكان داخلا تحت الأمر.
قال في "المحصول": فإن قيل: لا نسلم أن الاعتبار هو المجاوزة فقط، بل هو عبارة عن الاتعاظ لوجوه:
الأول:
أنه لا يقال لمن يستعمل القياس العقلي: إنه معتبر.
الثاني:
أن المتقدم في إثبات الحكم من طريق القياس إذا لم يتفكر في أمر معاده يقال: إنه غير معتبر، أو قليل الاعتبار.
الثالث:
قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ}2، {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً}3، والمراد الاتعاظ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": المجاوزة.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".(5/154)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية 3 من سورة الحشر.
2 جزء من الآيتين في سورة آل عمران 13 وفي سورة النور 44.
3 جزء من الآيتين في سورة النحل 66 وفي سورة المؤمنون 21.(5/155)
ص -96-…الرابع:
يقال: السعيد من اعتبر بغيره، والأصل في الكلام الحقيقة، فهذه الأدلة تدل على أن الاعتبار حقيقة في الاتعاظ، لا في المجاوزة، فحصل التعارض بين ما قلتم وما قلنا، فعليكم بالترجيح، ثم الترجيح معنا، فإن الفهم أسبق إلى ما ذكرناه.
سلمنا أن ما ذكرتموه حقيقة، لكن شرط حمل اللفظ على الحقيقة أن لا يكون هناك ما يمنع، "وقد وجد ههنا مانع"* فإنه لو قال: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ}1 فقيسوا الذرة على البر كان ذلك ركيكا، لا يليق بالشرع، وإذا كان كذلك، ثبت أنه وجد ما يمنع من حمل اللفظ على حقيقته.
سلمنا أنه لا مانع من حمله على المجاوزة، لكن لا نسلم أن الأمر بالمجاوزة أمر بالقياس الشرعي.
بيانه أن كل من تمسك بدليل على مدلوله، فقد عبر من الدليل إلى المدلول، فسمى الاعتبار مشترك فيه بين الاستدلال بالدليل العقلي القاطع، وبالنص، وبالبراءة الأصلية، وبالقياس من الشرع، وكل واحد من هذه الأنواع يخالفه الآخر بخصوصيته، وما به الاشتراك غير دال على ما به الامتياز، لا بلفظه، ولا بمعناه، فلا يكون دالا على النوع، الذي ليس إلا عبارة عن مجموع جهة الاشتراك "وجهة الامتياز، فلفظ الاعتبار غير دال على القياس الشرعي، لا بلفظه ولا بمعناه"**.
قال: وأيضا فنحن نوجب اعتبارات أخر:
الأول:
إذا نص الشارع على علة الحكم، فههنا القياس عندنا واجب.
والثاني:
قياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف2.
والثالث:
الأقيسة في أمور الدنيا، فإن العمل بها عندنا واجب.
والرابع:
أن يشبه الفرع بالأصل، في أن لا نستفيد حكمه إلا من النص.
والخامس:
الاتعاظ والانزجار، بالقصص والأمثال.
فثبت بما تقدم أن الآتي بفرد من أفراد ما يسمي اعتبارا؛ يكون خارجا عن عهدة هذا الأمر، وثبت أن بيانه في صورة كثيرة، فلا يبقى فيه دلالة ألبتة على الأمر بالقياس الشرعي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(5/156)
* ما بين القوسين ساقط من "أ".
** ما بين القوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية 2 من سورة الحشر.
2 أي تحريم ضرب الوالدين على تحريم التأفيف الوارد في قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ...} الآية.(5/157)
ص -97-…ثم "قال"*: جعله حقيقة في المجاوزة أولى لوجهين:
الأول:
أنه يقال: فلان "اعتبر فاتعظ"** فيجعلون الاتعاظ معلول الاعتبار، وذلك بوجب التغاير.
الثاني:
أن معنى المجاوزة حاصل في الاتعاظ، فإن الإنسان ما لم يستدل بشيء آخر على حال نفسه؛ لا يكون متعظا، ثم أطال في تقرير هذا بما لا طائل تحته.
ويجاب عن الوجه الأول: بالمعارضة، فإنه يقال: فلان قاس هذا على هذا، فاعتبر، والجواب الجواب.
ويجاب عن الثاني: بمنع وجود معنى المجاوزة في الاتعاظ، فإن من نظر في شيء من المخلوقات، فاتعظ به؛ لا يقال فيه: "إنه"*** متصف بالمجاوزة، لا لغة، ولا شرعا، ولا عقلا.
وأيضا يمنع وجود المجاوزة في القياس الشرعي، وليس في اللغة ما يفيد ذلك ألبتة، ولو كان القياس مأمورا به في هذه الآية لكونه فيه معنى الاعتبار، لكان كل اعتبار، أو عبورا مأمورا به، واللازم باطل، فالملزوم مثله.
وبيانه أنه لم يقل أحد من المتشرعين، ولا من العقلاء: أنه يجب على الإنسان أن يعبر من هذا المكان إلى هذا المكان، أو يجري دمع عينه، أو يعبر رؤيا الرائي، مع أن هذه الأمور أدخل في معنى العبور والاعتبار من القياس الشرعي.
والحاصل: أن هذه الآية لا تدل على القياس الشرعي، لا بمطابقة، ولا تضمن، ولا التزام، ومن أطال الكلام في الاستدلال بها على ذلك، فقد شغل الحيز بما لا طائل تحته.
واستدل الشافعي في "الرسالة" على إثبات القياس بقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَم}1.
قال: فهذا تمثيل الشيء بعدله.
وقال تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}2.
وأوجب المثل، ولم يقل أي مثل، فوكل ذلك إلى اجتهادنا ورأينا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": قلنا.
** في "ب": اتعظ فاعتبر. وما أثبتناه يوافق ما في المحصول.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية 95 من سورة المائدة.(5/158)
2 جزء من الآية 95 من سورة المائدة.(5/159)
ص -98-…وأمر بالتوجه إلى القبلة بالاستدلال، وقال: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}1.انتهى.
ولا يخفاك أن غاية ما في آية الجزاء هو المجيء بمثل ذلك الصيد، وكونه مثلا له موكول إلى العدلين، ومفوض إلى اجتهادهما، وليس في هذا دليل على القياس الذي هو إلحاق فرع بأصل لعلة جامعة، وكذلك الأمر بالتوجه إلى القبلة، فليس فيه إلا إيجاب تحري الصواب في أمرها، وليس ذلك من القياس في شيء.
واستدل ابن سريج على إثبات القياس بقوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}2 "فأولو الأمر"* هم العلماء، والاستنباط هو القياس.
ويجاب عنه: بأن الاستنباط هو استخراج الدليل عن المدلول، بالنظر فيما يفيده من العموم أو الخصوص، أو الإطلاق أو التقييد، أو الإجمال أو التبيين في نفس النصوص، أو نحو ذلك مما يكون طريقا إلى استخراج الدليل منه.
ولو سلمنا اندراج القياس تحت مسمى الاستنباط، لكان ذلك مخصوصا "بمثل القياس"** المنصوص على علته، وقياس الفحوى ونحوه، لا بما كان ملحقا بمسلك من مسالك العلة، التي هي محض رأي لم يدل عليها دليل من الشرع، فإن ذلك ليس من الاستنباط من الشرع بما أذن الله به، بل من الاستنباط بما لم يأذن الله به.
واستدل أيضًا بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}3 الآية. قال: لأن القياس تشبيه الشيء بالشيء، فما جاز من فعل من لا يخفى عليه خافية فهو ممن لا يخلو من الجهالة والنقص أجوز.(5/160)
و"يجاب عنه بمنع كون هذا من القياس الشرعي، ولا مما يدل عليه بوجه من وجوه الدلالة، ولو سلمنا لجاز لنا أن نقول على وجه المعارضة: إنما جاز"*** ذلك من فعل من لا يخفى عليه خافية؛ لأنا نعلم أنه صحيح، فلا يجوز من فعل من لا يخلو من الجهالة والنقص؛ لأنا لا نقطع بصحته، بل ولا نظن ذلك، لما في فاعله من الجهالة والنقص.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": قالوا: أولو الأمر هم العلماء.
** في "أ": بالقياس.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الأية 150 من سورة البقرة.
2 جزء من الأية 83 من سورة النساء.
3 جزء من الأية 26 من سورة البقرة.(5/161)
ص -99-…واستدل غيره "أيضا"* بقوله تعالى: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ}1.
ويجاب عنه: بمنع كون هذه الآية تدل على المطلوب، لا بمطابقة، ولا تضمن، ولا التزام، وغاية ما فيها الاستدلال بالأثر السابق على الأثر اللاحق، وكون المؤثر فيهما واحدا، وذلك غير القياس الشرعي، الذي هو إدراج فرع تحت أصل لعلة جامعة بينهما.
واستدل ابن تيمية على ذلك بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}2. وتقريره: أن العدل هو التسوية، والقياس هو التسوية بين مثلين في الحكم، فيتناوله عموم الآية.
ويجاب عنه: بمنع كون الآية دليلا على المطلوب بوجه من الوجوه، ولو سلمنا لكان ذلك في الأقيسة التي قام الدليل على نفي الفارق فيها، فإنه لا تسوية إلا في الأمور المتوازنة، ولا توازن إلا عند القطع بنفي الفارق، لا في الأقيسة التي هي شعبة من شعب الرأي، ونوع من أنواع الظنون الزائفة، وخصلة من خصال الخيالات المختلفة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الآيتان 78-79 من سورة يس.
2 جزء من الآية90 من سورة النحل.
أدلة القياس من السنة:(5/162)
وإذا عرفت الكلام على ما استدلوا به من الكتاب العزيز لإثبات القياس، فاعلم، أنهم قد استدلوا لإثباته من السنة بقوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه أحمد، أبو داود، والترمذي، وغيرهم من حديث الحارث بن عمرو1 -ابن أخي المغيرة بن شعبة- قال: حدثنا ناس من أصحاب معاذ عن معاذ قال: لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم، إلى اليمن قال: "كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟" قال: أقضي بكتاب الله. قال: "فإن لم تجد في كتاب الله؟" قال: فبسنة رسول الله. قال: "فإن لم تجد في سنة رسول الله، ولا في كتاب الله؟" قال: اجتهد رأيي ولا آلو. قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره، وقال: "الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضاه رسول الله"2.
والكلام في إسناد هذا الحديث يطول، وقد قيل: إنه مما تُلقي بالقبول.
وأجيب عنه: أن اجتهاد الرأي هو عبارة عن استفراغ الجهد في الطلب للحكم من النصوص الخفية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو ابن أخي المغيرة بن شعبة الثقفي، روى عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ عن معاذ في الاجتهاد، توفي ما بين المائة إلى مائة وعشر هـ. ا. هـ تهذيب التهذيب 2/ 152.
2 تقدم تخريجه في 1/ 152.(5/163)
ص -100-…ورد: بأنه قال: اجتهد رأيي، بعد عدم وجوده لذلك الحكم في الكتاب والسنة، وما دلت عليه النصوص الخفية لا يجوز أن يقال: إنه غير موجود في الكتاب والسنة.
وأجيب عن هذا الرد: بأن القياس عند القائلين به مفهوم من الكتاب والسنة، فلا بد من حمل الاجتهاد في الرأي على ما عدا القياس فلا يكون الحديث حجة لإثباته، واجتهاد الرأي كما يكون باستخراج الدليل من الكتاب والسنة يكون بالتمسك بالبراءة الأصلية، أو بأصالة الإباحة في الأشياء، أو الحظر، على اختلاف الأقوال في ذلك، أو التمسك بالمصالح، أو التمسك بالاحتياط.
وعلى تسليم دخول القياس في اجتهاد الرأي، فليس المراد كل قياس، بل المراد القياسات التي يسوغ العمل بها، والرجوع إليها، كالقياس الذي علته منصوصة، والقياس الذي قطع فيه بنفي الفارق في الدليل الذي يدل على الأخذ بتلك القياسات المبنية على تلك المسالك التي ليس فيها إلا مجرد الخيالات المختلة، والشبه الباطلة.
وأيضًا فعلى التسليم لا دلالة للحديث إلا على العمل بالقياس في أيام النبوة؛ لأن الشريعة؛ إذ ذاك لم تكمل، فيمكن عدم وجدان الدليل في الكتاب والسنة، وأما بعد أيام النبوة فقد كمل الشرع، لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}1؛ ولا معنى للإكمال إلا وفاء النصوص بما يحتاج إليه أهل الشرع، إما بالنص على كل فرد فرد، أو باندراج ما يحتاج إليه تحت العمومات الشاملة.
ومما يؤيد ذلك قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}2، وقوله: {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}3.
واستدلوا أيضًا بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، من القياسات، كقوله: "أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته، أكان يجزئ عنه؟" قالت: نعم. قال: "فدين الله أحق أن يقضى"4
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية 3 من سورة المائدة.
2 جزء من الآية 38 من سورة الأنعام.(5/164)
3 جزء من الآية 59 من سورة الأنعام.
4 أخرجه البخاري من حديث ابن عباس في الحج باب وجوب الحج وفضله1513. ومسلم في الحجم باب الحج عن العاجز لزمانة وهرم ونحوهما أو للموت 1334وأبو داود في المناسك، باب الرجل يحج عن غيره 1809. ومالك في الموطأ في الحج باب الحج عمن يحج عنه "1/ 359، والبيهقي في سننه في الحج "4/ 328"، وهذا كله من غير زيادة "فدين الله أحق أن يقضى". ولكن البخاري ذكرها في صحيحه حديث ابن عباس: أنه جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ قال: "نعم"، قال: "فدين الله أحق أن يقضى" في كتاب الصوم باب من مات وعليه صوم برقم 1953.(5/165)
ص -101-…وقوله لرجل سأله، فقال: أيقضي أحدنا شهوته، ويؤجر عليها؟ فقال: "أرأيت لو وضعها في حرام، أكان عليه وزر؟" قال: نعم. قال: "فكذلك إذا وضعها في حلال، كان له أجر"1.
وقال لمن أنكر ولده الذي جاءت به امرأته أسود: "هل لك من إبل؟" قال: نعم. قال: "فما ألوانها؟" قال: حمر، قال: "فهل فيها من أورق؟" قال: نعم. قال: "فمن أين؟" قال: لعله نزعة عرق، قال: "وهذا لعله نزعه عرق"2.
وقال لعمر، وقد قبل امرأته، وهو صائم: "أرأيت لو تمضمضت بماء"3.
وقال: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب"4.
وهذه الأحاديث ثابتة في دواوين الإسلام، وقد وقع منه صلى الله عليه وسلم قياسات كثيرة، حتى صنف الناصح الحنبلي5 جزءا في أقيسته صلى الله عليه وسلم.
ويجاب عن ذلك: بأن هذه الأقيسة صادرة عن الشارع المعصوم، الذي يقول الله سبحانه فيما جاءنا به عنه: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}6. ويقول في وجوب أتباعه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}7، وذلك خارج عن محل النزاع، فإن القياس الذي كلامنا فيه إنما هو قياس من لم تثبت له العصمة، ولا وجب اتباعه، ولا كان كلامه وحيا، بل من جهة نفسه.
الأمارة، وبعقله المغلوب بالخطأ، وقد قدمنا أنه قد وقع الاتفاق على قيام الحجة بالقياسات الصادرة عنه صلى الله عليه وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أحمد في مسنده 5/ 167 وأبو داود في الأدب باب إماطة الأذى عن الطريق 5243.(5/166)
2 أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة كتاب الطلاق باب إذا عرض بنفي الولد 5305. ومسلم، كتاب اللعان 1500. أبو داود، كتاب الطلاق، باب إذا شك في الولد 2260. والترمذي، كتاب الولاء والهبة، باب في الرجل ينتفي من ولده 2128. وابن ماجه، كتاب النكاح، باب الرجل يشك في ولده 2002. والنسائي، كتاب الطلاق، باب إذا عرض بامرأته وشك في ولده وأراد الانتفاء منه 6/ 178. وابن حبان في صحيحه 4107. وأحمد في مسنده 2/ 239.
3 تقدم تخريجه في الصفحة 2/ 25.
4 أخرجه البخاري من حديث ابن عباس، كتاب الشهادات، باب الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض 2646. ومسلم، كتاب الرضاع، باب يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة 1444. وأبو داود، من حديث عائشة رضي الله عنها كتاب النكاح، باب يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب 2055.
والنسائي، كتاب النكاح، باب ما يحرم من الرضاع 6/ 98. والترمذي، كتاب الرضاع، باب ما جاء يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب 1147. ومالك في الموطأ، كتاب الرضاع، باب رضاعة الصغير 2/ 601. وابن حبان في صحيحه 4223. وأحمد في مسنده 6/ 44.
5 هو عبد الرحمن بن نجم الدين عبد الوهاب الحنبلي، الدمشقي، الواعظ، ولد سنة أربع وخمسين وخمسمائة هـ، وتوفي سنة أربع وثلاثين وستمائة هـ، من آثاره: "أسباب الحديث، الاستسعاد بمن لقيت من صالحي العباد في البلاد، الإنجاد في الجهاد" وله كتاب "أقيسة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم" وهو مخطوط في الأزهر ا. هـ سير أعلام النبلاء 19/ 54 الأعلام 3/ 340.
6 سورة النجم 4.
7 جزء من الآية 7 من سورة الحشر.(5/167)
ص -102-…الأدلة من الإجماع:
واستدلوا أيضًا بإجماع الصحابة على القياس1.
قال ابن عقيل الحنبلي: وقد بلغ التواتر المعنوي عن الصحابة باستعماله، وهو قطعي.
وقال الصفي الهندي: دليل الإجماع هو المعول عليه لجماهير المحققين من الأصوليين.
وقال الرازي في "المحصول": مسلك الإجماع هو الذي عول عليه جمهور الأصوليين.
وقال ابن دقيق العيد: عندي أن المعتمد اشتهار العمل بالقياس في أقطار الأرض، شرقا وغربا، قرنا بعد قرن، عند جمهور الأمة إلا عند شذوذ متأخرين.
قال: وهذا "من"* أقوى الأدلة.
ويجاب عنه: بمنع ثبوت هذا الإجماع، فإن المحتجين بذلك إنما جاءونا بروايات عن أفراد من الصحابة محصورين، في غاية القلة، فكيف يكون ذلك إجماعا لجميعهم، مع تفرقهم في الأقطار، واختلافهم في كثير من المسائل، ورد بعضهم على بعض، وإنكار بعضهم لما قاله البعض، كما ذلك معروف؟!
بيانه أنهم اختلفوا في الجد مع الإخوة على أقوال معروفة2، وأنكر بعضهم على بعض "ما سلكه من القياس في ذلك، وكذلك اختلفوا في مسألة الحرام3 على أقوال، وأنكر بعضهم على بعض"**.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مثال ذلك: ما روي عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه كتب في كتاب إلى أبي موسى الأشعري "اعرف الأمثال والأشباه وقس الأمور عند ذلك" ا. هـ انظر البحث مفصلا في ميزان الأصول 2/ 806.
2 اختلف الصحابة ومن بعدهم في توريث الجد مع الأخوة.
أ- فقال أبو بكر، وابن عباس، وابن عمر، ابن الزبير، وحذيفة بن اليمان، وأبو سعيد الخد ري ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب وأبو موسى الأشعري، وعائشة وغيرهم: بنو الأعيان وبنو العلات أي: الإخوة الأشقاء والإخوة لأب لا يرثون مع الجد بل يستبد هو بجميع المال.(5/168)
ب- وقال علي وابن مسعود، وزيد بن ثابت: يرثون مع الجد؛ وهو قول الشافعي ومالك والصاحبين من الحنفية.
وقال أبو حنيفة، وشريح، وعطاء، وعروة بن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، والحسن، وابن سيرين بعدم التوريث.
ج- أما الإخوة لأم فيسقطون مع الجد إجماعا. ا. هـ شرح السراجية 165.
3 وهي قوله لزوجته "أنت على حرام" فوقع الخلاف فيها على أقوال:
فقال أبو بكر وعمر وابن مسعود وابن عباس وعائشة: لو نوى الطلاق، فهو طلاق ولو نوى اليمين فهو يمين. وعن ابن عمر قريبا منه.
وقال زيد رضي الله عنه: يمين يكفرها.
والشافعي يقول: تحريم الحلال لا يكون يمينا ولكن تجب الكفارة في الزوجة والأمة. ا. هـ المبسوط للسرخسي 6/ 70.(5/169)
ص -103-…وكذلك اختلفوا في مسألة زوج، وأم، وإخوة لأم، وإخوة لأب وأم، وأنكر بعضهم على بعض.
وكذلك اختلفوا في مسألة الخلع1.
وهكذا وقع الإنكار من جماعة من الصحابة على من عمل بالرأي منهم، والقياس إن كان منه فظاهر، وإن لم يكن منه فقد أنكره منهم من أنكره، كما في هذه المسائل التي ذكرناها.
ولو سلمنا لكان ذلك الإجماع إنما هو على القياسات التي وقع النص على علتها، والتي قطع فيها بنفي الفارق. فما الدليل على أنهم قالوا بجميع أنواع القياس، الذي اعتبره كثير من الأصوليين، وأثبتوه بمسالك تنقطع فيها أعناق الإبل، وتسافر فيها الأذهان، حتى تبلغ إلى ما ليس بشيء، وتتغلغل فيها العقول، حتى تأتي بما ليس من الشرع في ورد ولا صدر2، ولا من الشريعة السمحة السهلة، في قبيل ولا دبير3.
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تركتكم على الواضحة، ليلها كنهارها"4.
وجاءت نصوص الكتاب العزيز بما قدمنا من إكمال الدين، وبما يفيد هذا المعنى، ويصحح دلالته ويؤيد براهينه.
وإذا عرفت ما حررناه وتقرر لديك جميع ما قررناه؛ فاعلم أن القياس المأخوذ به هو ما وقع النص على علته، وما قطع فيه بنفي الفارق، وما كان من باب فحوى الخطاب، أو لحن الخطاب، على اصطلاح من يسمي ذلك قياسا، وقد قدمنا أنه من مفهوم الموافقة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقع الخلاف في الخلع هل هو فسخ أو طلاق.
قال الحنفية: هو تطليقه بائنة. وهو قول عامة الصحابة رضي الله عنهم.
قال الشافعي: هو فسخ. وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما. ا. هـ المبسوط للسرخسي 6/ 171.
2 الصدر "ضد الورد" وهو الانصراف ا. هـ المصباح مادة صدر.
3 يقال: ما يعرف قبيلة من دبيره، وفلان ما يدري قبيلا من دبير أي لا يعرف شيئا. ا. هـ لسان العرب مادة دبر.(5/170)
4 أخرجه ابن ماجه من حديث العرباض بن سارية بلفظ: "وقد تركتم على البيضاء ليلها كنهارها". في المقدمة 43. وأحمد في مسنده 4/ 126. والدارمي في سننه 96. والترمذي برقم 2776.(5/171)
ص -104-…ثم اعلم: أن نفاة القياس لم يقولوا بإهدار كل ما يسمى قياسا، وإن كان منصوصا على علته، أو مقطوعا فيه بنفي الفارق، بل جعلوا هذا النوع من القياس مدلولا عليه بدليل الأصل، مشمولا به، مندرجا تحته، وبهذا يهون عليك الخطب ويصغر عندك ما استعظموه، ويقرب لديك ما بعدوه؛ لأن الخلاف في هذا النوع الخاص صار لفظيا، وهو من حيث المعنى متفق على الأخذ به، والعمل عليه، واختلاف طريقة العمل لا يستلزم الاختلاف المعنوي، لا عقلا، ولا شرعا، ولا عرفا، وقد قدمنا لك أنما جاءوا به من الأدلة العقلية لا تقوم الحجة بشيء منها، ولا تستحق تطويل ذيول البحث بذكرها.
وبيان ذلك أن أنهض ما قالوه في ذلك: أن النصوص لا تفي بالأحكام، فإنها متناهية، والحوادث غير متناهية.
ويجاب عن هذا بما قدمنا من إخباره عز وجل لهذه الأمة بأنه قد أكمل لها دينها، وبما أخبرها رسوله صلى الله عليه وسلم، من أنه قد تركها على الواضحة التي ليلها كنهارها.
ثم لا يخفى على ذي لب صحيح، وفهم صالح أن في عمومات الكتاب والسنة، ومطلقاتهما، وخصوص نصوصهما ما يفي بكل حادثة تحدث، ويقوم ببيان كل نازلة تنزل، عرف ذلك من عرفه، وجهله من جهله.
الفصل الثالث: في أركان القياس
وهي أربعة: الأصل، والفرع، والعلة، والحكم.
ولا بد من هذه الأربعة الأركان في كل قياس، ومنهم من ترك التصريح بالحكم.
وذهب الجمهور إلى أنه لا يصح القياس إلا بعد التصريح به.
قال ابن السمعاني: ذهب بعضهم إلى جواز القياس بغير أصل، قال: وهو من خلط الاجتهاد بالقياس، والصحيح: أنه لا بد من أصل، "لأن الفروع"* لا تتفرع إلا عن أصول. انتهى.
والأصل يطلق على أمور منها: ما يقتضي العلم به العلم بغيره.
ومنها: ما لا يصح العلم بالمعنى إلا به.
ومنها: الذي يعتبر به ما سواه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": الفروع.(5/172)
ص -105-…ومنها الذي يقع القياس عليه، وهو المراد هنا1.
وقد وقع الخلاف فيه، فقيل: هو النص الدال على ثبوت الحكم في محل الوفاق2، وبه قال القاضي أبو بكر، والمعتزلة.
وقال الفقهاء: هو محل الحكم المشبه به. قال ابن السمعاني: وهذا هو الصحيح.
قال الفخر الرازي: الأصل هو الحكم الثابت في محل الوفاق، باعتبار تفرع العلة عليه.
وقال جماعة، منهم ابن برهان: إن هذا النزاع لفظي، يرجع إلى الاصطلاح، فلا مشاحة3 فيه، أو إلى اللغة "فهو يجوز"* إطلاقه على ما ذكر4، بل يرجع إلى تحقيق المراد بالأصل، وهو يطلق تارة على الغالب، وتارة على الوضع اللغوي، كقولهم: الأصل عدم الاشتراك، وتارة على إرادة التعبد الذي لا يعقل معناه، كقولهم: خروج النجاسة من محل، وإيجاب الطهارة في محل آخر على خلاف الأصل.
قال الآمدي: يطلق الأصل على ما يتفرع عليه غيره، وعلى ما يعرف بنفسه، وإن "لم"** يُبْنَ عليه غيره، كقولنا: تحريم الربا في النقدين أصل. وهذا منشأ الخلاف في أن الأصل في تحريم النبيذ الخمر أو النص، أو الحكم. قال: واتفقوا على أن العلة ليست أصلا. انتهى.
وعلى الجملة: إن الفقهاء يسمون محل الوفاق أصلا، ومحل الخلاف فرعا، ولا مشاحة في الاصطلاحات، ولا يتعلق بتطويل البحث في هذا كثير فائدة.
فالأصل: هو المشبه به، ولا يكون ذلك إلا لمحل الحكم، لا لنفس الحكم، ولا لدليله.
والفرع: هو المشبه، لا لحكمه.
والعلة: هي الوصف الجامع بين الأصل والفرع.
والحكم: هو ثمرة القياس، والمراد به ما ثبت للفرع بعد ثبوته لأصله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": ولم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكر الزركشي هذه الأقسام في كتابه "البحر المحيط" مفصلة فانظرها 5/ 75.
2 مثاله خبر الواحد في تحريم الربا. انظر البحر المحيط 5/ 75.(5/173)
3 يقال: هما يتشاحان على أمر: إذا يتنازعاه؛ وتشاح الخصمان في الجدل، كذلك لسان العرب: مادة شحَّ.
4 انظر البحر المحيط للزركشي 5/ 76
الشروط المعتبرة في الأصل:
ولا يكون القياس صحيحا إلا بشروط اثني عشر، لا بد من اعتبارها في الأصل.
الأول:
أن يكون الحكم الذي أريد تعديته إلى الفرع، ثابتا في الأصل، فإنه لو لم يكن ثابتا.(5/174)
ص -106-…فيه بأن لم يشرع فيه حكم ابتداء، أو شرع ونسخ ولم يمكن بناء الفرع عليه.
الثاني:
أن يكن الحكم الثابت في الأصل شرعيًّا، فلو كان عقليًّا أو لغويا لم يصح القياس عليه؛ لأن بحثنا إنما هو في القياس الشرعي.
واختلفوا: هل يثبت القياس على النفي الأصلي، وهو ما كان قبل الشرع؟
فمن قال: إن نفي الحكم الشرعي حكم شرعي، جوز القياس عليه، ومن قال: إنه ليس بحكم شرعي لم يجوز القياس عليه.
الثالث:
أن يكون الطريق إلى معرفته سمعية؛ لأن ما لم تكن طريقه سمعية لا يكون حكمًا شرعيًّا، وهذا عند من ينفي التحسين والتقبيح العقلين، لا عند من يثبتها.
الرابع:
أن يكون الحكم ثابتا بالنص، وهو الكتاب أو السنة. وهل يجوز القياس على الحكم الثابت بمفهوم الموافقة أو المخالفة.
قال الزركشي: لم يتعرضوا له، ويتجه أن يقال: إن قلنا إن حكمهما "حكم"* النطق فواضح، وإن قلنا: كالقياس "فيلحق"** به. انتهى1.
والظاهر: أنه يجوز القياس عليهما عند من أثبتهما؛ لأنه يثبت بهما الأحكام الشرعية، كما يثبتهما بالمنطوق.
وأما ما ثبت بالإجماع، ففيه وجهان: قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وابن السمعاني: وهذا ليس بصحيح؛ لأن الإجماع أصل في إثبات الأحكام، كالنص، فإذا جاز القياس على الثابت بالنص، جاز على الثابت بالإجماع.
الخامس:
أن لا يكون الأصل المقيس عليه فرعا لأصل آخر، وإليه ذهب الجمهور.
وخالف في ذلك بعض الحنابلة، والمعتزلة فأجازوه.
واحتج الجمهور على المنع؛ بأن العلة الجامعة بين القياسين إن اتحدت كان ذكر الأصل الثاني تطويلا بلا فائدة، فيستغنى عنه بقياس الفرع الثاني على الأصل الأول، وإن اختلفت لم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": فيلتحقان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: البحر المحيط، 5/ 83.(5/175)
ص -107-…ينعقد القياس الثاني، لعدم اشتراك الأصل والفرع في علة الحكم.
وقسم الشيخ أبو إسحاق الشيرازي هذه المسألة إلى قسمين:
أحدهما: أن يستنبط من الثابت بالقياس نفس المعنى، الذي ثبت به، ويقاس عليه غيره، قال: وهذا لا خلاف في جوازه.
والثاني: أن يستنبط منه معنى غير المعنى الذي قيس به على غيره، ويقاس غيره عليه. قال: وهذا فيه وجهان:
أحدهما: وبه قال أبو عبد الله البصري: الجواز.
والثاني: وبه قال الكرخي: المنع، وهو الذي يصح "عندي"* الآن؛ لأنه يؤدي إلى إثبات حكم في الفرع بغير علة الأصل، وذلك لا يجوز، وكذا صححه في "القواطع"، ولم يذكر الغزالي غيره.
السادس:
أن لا يكون دليل حكم الأصل شاملا لحكم الفرع، أما لو كان شاملا له، خرج عن كونه فرعا، وكان القياس ضائعا، لخلوه عن الفائدة بالاستغناء عنه بدليل الأصل، ولأنه لا يكون جعل أحدهما أصلا والآخر فرعا أولى من العكس.
السابع:
أن يكون الحكم في الأصل متفقًا عليه؛ لأنه لو كان مختلفا فيه احتيج إلى إثباته أولًا، وجوز جماعة القياس على الأصل المختلف فيه؛ لأن القياس في نفسه لا يشترط الاتفاق عليه في جواز التمسك به، فسقوط ذلك في ركن من أركانه أولى.
واختلفوا في كيفية الاتفاق على الأصل، فشرط بعضهم أن يتفق عليه الخصمان فقط، لينضبط فائدة المناظرة.
وشرط آخرون أن يتفق عليه الأمة.
قال الزركشي: والصحيح الأول. واختار في "المنتهى" أن المعترض إن كان مقلدا لم يشترط الإجماع؛ إذ ليس له منع ما ثبت مذهبا له، وإن كان مجتهدا اشترط الإجماع؛ لأنه ليس مقتديا بإمام، فإذا لم يكن الحكم مجمعا عليه، ولا منصوصا عليه جاز أن يمنعه.
الثامن:
أن لا يكون حكم الأصل ذا قياس مركب، وذلك إذا اتفقا على إثبات الحكم في الأصل، ولكنه معلل عند أحدهما بعلة "وعند الآخر بعلة"** أخرى يصلح كل منهما أن يكون علة، وهذا يقال له: مركب الأصل، "وأن اتفقا على علة الأصل*** لاختلافهم في نفس(5/176)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".(5/177)
ص -108-…الوصف، ولكن منع أحدهما وجودها في الفرع، وهذا يقال له مركب الوصف، لاختلافهم في نفس الوصف، هل له وجود في الأصل أم لا؟
وكلام الصفي الهندي يقتضي تخصيص القياس المركب بالأول، وخالفه الآمدي، وابن الحاجب، وغيرهما، فجعلوه متناولا لقسمين، وقد اختلف في اعتبار هذا الشرط، والجمهور على اعتباره، وخالفهم جماعة، فلم يعتبروه، وقد طول الأصوليون، والجدليون الكلام على هذا الشرط بما لا طائل تحته.
التاسع:
أن لا نكون متعبدين في ذلك الحكم بالقطع، فإن تعبدنا فيه بالقطع، لم يجز فيه القياس؛ لأنه لا يفيد إلا الظن، وقد ضعف الأبياري القول بالمنع، وقال: بل ما تعبدنا فيه بالعلم جاز أن يثبت بالقياس، الذي يفيده1. وقد قسم المحققون القياس إلى ما لا يفيد العلم، وإلى ما يفيده. وقال ابن دقيق العيد في "شرح العنوان": لعل هذا الشرط مبني على أن دليل "القياس ظني، فلو كان قطعيا، وعلمنا العلة قطعا، ووجودها في الفرع قطعا، فقد علمنا الحكم قطعا، ومن نظر لأن دليل"* الأصل وإن كان قطعيا، وعلمنا العلة ووجودها في الفرع قطعا فنفس الإلحاق، وإثبات مثل حكم الأصل للفرع ليس بقطعي.
وقد تقدم ابن دقيق العيد إلى مثل هذا الفخر الرازي.
العاشر:
أن لا يكون معدولا به عن قاعدة القياس، كشهادة خزيمة2، وعدد الركعات، ومقادير الحدود، وما يشابه ذلك؛ لأن إثبات القياس عليه إثبات للحكم مع منافيه، وهذا هو معنى قول الفقهاء: الخارج عن القياس لا يقاس عليه.
وممن ذكر هذا الشرط الفخر الرازي، والآمدي، وابن الحاجب وغيره. وأطلق ابن برهان أن مذهب أصحاب الشافعي، جواز القياس على ما عدل به عن سنن القياس. وأما الحنفية وغيرهم فمنعوه، وكذلك منع منه الكرخي إلا بإحدى خلال:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(5/178)
1 ذكر الزركشي في البحر قول الأبياري وقال: بل ما يعتد فيه بالعلم ا. هـ البحر المحيط 5/ 92-93. وانظر المستصفى 2/ 331.
2 أخرجه الترمذي من حديث زيد بن ثابت بلفظ: نسخت الصحف في المصاحف ففقدت آية من سورة الأحزاب، كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، فلم أجدها إلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري، الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته شهادة رجلين، وهو قوله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}. برقم 3104.وأخرجه النسائي في الكبرى "تحفة الأشراف" 2703. والبيهقي من حديث عمارة بن خزيمة بلفظ "من شهد له خزيمة أو شهد عليه فهو حسبه" كتاب الشهادات، باب الأمر بالإشهاد10/ 146. والبخاري من حديث زيد رضي الله عنه، كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن 4988.(5/179)
ص -109-…إحداها: أن يكون ما ورد على خلاف الأصول قد نص على علته.
ثانيتها: أن تكون الأمة مجمعة على تعليل ما ورد به الخبر، وإن اختلفوا في علته.
ثالثتها: أن يكون الحكم الذي ورد به الخبر موافقا للقياس على بعض الأصول، وإن كان مخالفا للقياس على أصل آخر.
الحادي عشر:
أن لا يكون حكم الأصل مغلظا، على خلاف في ذلك.
الثاني عشر:
أن لا يكون الحكم في الفرع ثابتا قبل الأصل؛ لأن الحكم المستفاد متأخر عن المستفاد منه بالضرورة، فلو تقدم لزم اجتماع النقيضين، أو الضدين1، وهو محال.
هذا حاصل ما ذكروه من الشروط المعتبرة في الأصل.
وقد ذكر بعض أهل الأصول شروطا، والحق عدم اعتبارها.
فمنها: أن يكون الأصل قد انعقد الإجماع على أن حكمه معلل، ذكر ذلك بشر المريسي2 والشريف المرتضى.
ومنها: أن يشترط في الأصل أن لا يكون غير محصور بالعدد. قال ذلك جماعة، وخالفهم الجمهور.
ومنها: الاتفاق على وجود العلة في الأصل، قاله البعض، وخالفهم الجمهور.
ومنها: تأثير الأصل في كل بوضوح، ذكره البعض وخالفهم الجمهور*
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الضدان: صفتان وجوديتان يتعاقبان في موضع واحد يستحيل اجتماعهما كالسواد والبياض. والفرق بين الضدين والنقيضين: أن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان كالعدم والوجود، والضدين لا يجتمعان ولكن يرتفعان كالسواد والبياض ا. هـ التعريفات 179.
2 هو ابن غياث المعتزلي، فقيه عارف بالفلسفة، وهو رأس الطائفة المريسية القائلة بالإرجاء. أدرك مجلس أبي حنيفة وأخذ منه نبذا ثم لازم أبا يوسف وأخذ عنه الفقه، وقال برأي الجهمية، توفي سنة ثمان وعشرين ومائتين هـ، وله تصانيف كثيرة وروايات عن أبي حنيفة ا. هـ الفوائد البهية 54 سير أعلام النبلاء 10/ 19 شذرات الذهب 2/ 44 الجواهر المضية 1/ 447.
مباحث العلة:
تعريف العلة:(5/180)
واعلم: أن العلة ركن من أركان القياس كما تقدم، فلا يصح بدونها؛ لأنها الجامعة بين الأصل والفرع.(5/181)
ص -110-…قال ابن فورك: من الناس من اقتصر على الشبه، ومنع القول بالعلة.
وقال ابن السمعاني: ذهب بعض القياسيين، من الحنفية وغيرهم إلى صحة القياس من غير علة إذا لاح بعض الشبه.
والحق: ما ذهب إليه الجمهور من أنها معتبرة لا بد منها في كل قياس.
وهي في اللغة: اسم لما يتغير الشئ بحصوله، أخذا من العلة التي هي المرض؛ لأن تأثرها في الحكم كتأثير العلة في ذات المريض، يقال: اعتل فلان، إذا حال عن الصحة إلى السقم.
وقيل: إنها مأخوذة من العلل بعد النهل، وهو معاودة الشرب مرة بعد مرة؛ لأن المجتهد في استخراجها يعاود النظر مرة بعد مرة.
وأما في الاصطلاح فاختلفوا فيها على أقوال:
الأول:
أنها المعرفة للحكم، بأن جعلت علما على الحكم، إن وجد المعنى وجد الحكم، قاله الصيرفي، وأبو زيد من الحنفية، وحكاه سليم الرازي في "التقريب" عن بعض الفقهاء، واختاره صاحب "المحصول"، وصاحب "المنهاج"1.
الثاني:
أنها الموجبة للحكم بذاتها، لا بجعل الله، وهو قول المعتزلة، بناء على قاعدتهم في التحسين والتقبيح العقليين، والعلة وصف ذاتي لا يتوقف على جعل جاعل.
الثالث:
أنها الموجبة للحكم، على معنى: أن الشارع جعلها موجبة بذاتها، وبه قال الغزالي، وسليم الرازي. قال الصفي الهندي: وهو قريب لا باس به.
الرابع:
أنها الوجبة بالعادة، واختاره الفخر الرازي.
الخامس:
أنها الباعث على التشريع، بمعنى: أنه لا بد أن يكون الوصف مشتملا على مصلحة صالحة لأن تكون مقصودة للشارع من شرع الحكم.
السادس:
أنها التي يعلم الله صلاح المتعبدين بالحكم لأجلها، وهو اختيار الرازي، وابن الحاجب.
السابع:
أنها المعنى الذي كان الحكم على ما كان عليه لأجلها.
وللعلة أسماء تختلف باختلاف الاصطلاحات، فيقال لها: السبب، والأمارة، والداعي، والمستدعي، والباعث، والحامل، والمناط، والدليل، والمقتضي، والموجب، والمؤثر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(5/182)
1 وبهذا القول قال صدر الشريعة، انظر التلويح على التوضيح 2/ 62 وميزان الأصول 2/ 827(5/183)
ص -111-…وقد ذهب المحققون إلى أنه لا بد من دليل على "صحتها؛ لأنها شرعية كالحكم، فكما أنه لا بد من دليل على الحكم، كذلك لا بد من دليل على"* العلة.
ومنهم من قال: إنها تحتاج إلى دليلين يعلم بأحدهما أنها علة، وبالآخر أنها صحيحة.
وقال ابن فورك: من أصحابنا من قال: يعلم صحة العلة بوجود الحكم بوجودها، وارتفاعه بارتفاعها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
الشروط المعتبرة في العلة:
ولها شروط أربعة وعشرون:
الأول:
أن تكون مؤثرة في الحكم، فإن لم تؤثر فيه لم يجز أن تكون علة.
هكذا قال جماعة من أهل الأصول. ومرادهم بالتأثير: المناسبة، قال القاضي في "التقريب": معنى كون العلة مؤثرة في الحكم: هو أن يغلب على ظن المجتهد أن الحكم حاصل عند ثبوتها لأجلها، دون شيء سواها.
وقيل معناه: إنها جالبة لحكم ومقتضية له.
الثاني:
أن تكون وصفا ضابطا، بأن يكون تأثيرها لحكمة مقصودة للشارع، لا حكمة مجردة لخفائها، فلا يظهر إلحاق غيرها بها.
وهل يجوز كونها نفس الحكم، وهي الحاجة إلى جلب مصلحة، أو دفع مفسدة؟
قال الرازي في "المحصول": يجوز. وقال غيره: يمتنع.
وقال آخرون: إن كانت الحكمة ظاهرة منضبطة بنفسها جاز التعليل بها، واختاره الآمدي، والصفي الهندي.
واتفقوا على جواز التعليل بالوصف المشتمل عليها، أي: مظنتها بدلا عنها، ما لم يعارضه قياس1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال في البحر: والمنقول عن أبي حنيفة المنع، وقال: الحكمة من الأمور الغامضة وشأن الشرع فيما هو كذلك، قطع النظر عن تقدير الحكم عن دليله ومظنته.
وعن الشافعي: الجواز وأن اعتبارهما هو الأصل، وإنما اعتبرت المظنة للتسهيل وعلى هذا الأصل ينبني خلافهما في المصابة بالزنا هل تُعطى حكم الإبكار أم الثيبات في السكوت؟ ا. هـ البحر المحيط "5/ 133.(5/184)
ص -112-…الثالث:
أن تكون ظاهرة جلبة، وإلا لم يمكن إثبات الحكم بها في الفرع، على تقدير أن تكون أخفى منه، أو مساويه له في الخفاء.
كذا ذكره الآمدي في "جدله"1.
الرابع:
أن تكون سالمة بحيث لا يردها نص، ولا إجماع.
الخامس:
أن لا يعارضها من العلل ما هو أقوى منها.
ووجه ذلك: أن الأقوى أحق بالحكم، كما أن النص أحق بالحكم من القياس.
السادس:
أن تكون مطردة، أي: كلما وجدت وجد الحكم، لتسلم من النقض والكسر، فإن عارضها نقض أو كسر بطلت.
السابع:
أن لا تكون عدما في الحكم الثبوتي، أي: لا يبطل الحكم الوجودي بالوصف العدمي، قاله الجماعة.
وذهب الأكثرون إلى جوازه.
قال المانعون: لو كان العدم علة للحكم الثبوتي؛ لكان مناسبا أو مظنة، واللازم باطل. وأجيب يمنع بطلان اللازم.
الثامن:
أن لا تكون العلة المتعدية هي المحل، أو جزء منه؛ لأن ذلك يمنع من تعديتها.
التاسع:
أن ينتفي الحكم بانتفاء العلة، والمراد انتفاء العلم أو الظن به؛ إذ لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول.
العاشر:
أن تكون أوصافها مسلمة، أو مدلولا عليها. كذا قال الأستاذ أبو منصور.
الحادي عشر:
أن يكون الأصل المقيس عليه معللا بالعلة التي يعلق عليها الحكم في الفرع، بنص أو إجماع "كذا قال الأستاذ أبو منصور2*.
الثاني عشر:
أن لا تكون موجبة للفرع حكمًا، وللأصل حكمًا آخر غيره3.
الثالث عشر:
أن لا توجب ضدين؛ لأنها حينئذ تكون شاهدة لحكمين متضادين، قاله الأستاذ أبو منصور.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 واسم كتابه غاية الأمل في علم الجدل. ا. هـ. معجم المؤلفين 7/ 155، هدية العارفين 1/ 707
2 قال في البحر المحيط 5/ 146: ذكره وما قبله الأستاذ أبو منصور.(5/185)
3 مثاله: اعتلال من قال: لا زكاة في مال الصبي قياسا على سقوط الجزية عن أموالهم بعلة الصغر، وهذا خطأ لأن المراد من العلة الجمع بين الفرع والأصل في الحكم الواحد، وإذا كان حكمهما في الفرغ غير حكمهما في الأصل خرجت عن أن تكن علة. ا. هـ البحر المحيط 5/ 146-147.(5/186)
ص -113-…الرابع عشر:
أن لا يتأخر ثبوتها عن ثبوت حكم الأصل، خلافا لقوم.
الخامس عشر:
أن يكون الوصف معينا؛ لأن رد الفرع إليها لا يصح إلا بهذه الواسطة.
السادس عشر:
أن يكون طريق إثباتها شرعيًّا كالحكم. ذكره الآمدي في "جدله".
السابع عشر:
أن لا يكون وصفًا مقدرًا.
قال الهندي: ذهب الأكثرون إلى أنه لا يجوز التعليل بالصفات المقدرة، خلافا للأقلين من المتأخرين.
الثامن عشر:
إن كانت مستنبطة، فالشرط أن لا تر جع على الأصل بإبطاله، أو إبطال بعضه، لئلا يفضي إلى ترك الراجح إلى المرجوح؛ إذ الظن المستفاد من النص أقوى من الظن المستفاد من الاستنباط؛ لأنه فرع له، والفرع لا يرجع على إبطال أصله، وإلا لزم أن يرجع إلى نفسه بالإبطال.
التاسع عشر:
إن كانت مستنبطة، فالشرط أن لا تعارض بمعارض منافٍ، موجود في الأصل1.
العشرون:
إن كانت مستنبطة، فالشرط أن لا تتضمن زيادة على النص، أي: حكمًا غير ما أثبته النص.
الحادي والعشرون:
أن لا تكون معارضة لعلة أخرى، تقتضي نقيض حكمها.
الثاني والعشرون:
إذا كان الأصل فيه شرط: فلا يجوز أن تكون العلة موجبة لإزالة ذلك الشرط.
الثالث والعشرون:
أن لا يكون الدليل الدال عليها متناولا لحكم الفرع، لا بعمومه ولا بخصوصه، للاستغناء حينئذ عن القياس.
الرابع والعشرون:
أن لا تكون مؤيدة لقياس أصل منصوص عليه بالإثبات على أصل منصوص عليه بالنفي.
فهذه شرط العلة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وذلك بأن تبدي علة أخرى من غير ترجيح، وإلا جاز التعليل لمجموعهما أو بالأخرى.ا. هـ.
ما لا يعتبر من الشروط في العلة:
وقد ذكرت لها شروط غير معتبرة على الأصح.
منها: ما شرطه فيها الحنفية، وأبو عبد الله البصري: وهو تعدي العلة من الأصل إلى غيره، فلو وقفت على حكم النص لم تؤثر في غيره.(5/187)
ص -114-…وهذا يرجع إلى التعليل بالعلة القاصرة، وقد وقع الاتفاق على أنها إذا كانت منصوصة، أو مجمعا عليها: صح التعليل بها1.
حكى ذلك القاضي أبو بكر، وابن برهان، والصفي الهندي، وخالفهم القاضي عبد الوهاب، فنقل عن قوم: أنه لا يصح التعليل بها على الإطلاق، سواء كانت منصوصة أو مستنبطة.
قال: وهذا قول أكثر أهل العراق. انتهى.
وأما إذا كانت العلة القاصرة مستنبطة: فهي محل الخلاف.
فقال أبو بكر القفال: بالمنع.
وبمثله قال ابن السمعاني، ونقله إمام الحرمين عن الحليمي.
وقال القاضي أبو بكر، وجمهور أصحاب الشافعي: بالجواز.
قال القاضي عبد الوهاب: هو قول جميع أصحابنا، وأصحاب الشافعي، وحكاه الآمدي عن أحمد.
قال ابن برهان في "الوجيز": كان الأستاذ أبو إسحاق من الغلاة في تصحيح العلة القاصرة، ويقول: هي أولى من المتعدية، واحتج بأن وقوفها يقتضي نفي الحكم عن الأصل "كما أوجب تعديها ثبوت حكم الأصل فيغيره فصار وقوفها مؤثرا"* في النفي، كما كان تعديها مؤثرا في الإثبات، وهذا احتجاج فاسد، واستدلال باطل.
ومنها: أن لا يكون وصفها حكمًا شرعيًّا، عند قوم؛ لأنه معلول، فكيف يكون علة؟!
والمختار جواز تعليل الحكم الشرعي بالوصف الشرعي.
ومنها: أن تكون مستنبطة من أصل مقطوع بحكمه عند قوم.
والمختار عدم اعتبار ذلك بل يكتفى بالظن
ومنها: القطع بوجود العلة في الفرع عند قوم، منهم: البزدوي.
والمختار الاكتفاء بالظن.
ومنها: أن لا تكون مخالفة لمذهب صحابي، وذلك عند من يقول بحجية قول الصحابي، لا عند الجمهور.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مثاله: تعليل الربا في الذهب والفضة بأنهما إثمان فلا يعلل بهما ا. هـ البحر المحيط 5/ 157.(5/188)
قال في التلويح 2/ 66: ولا يجوز التعليل بالعلة القاصرة عندنا، وعند الشافعي رحمه الله يجوز فإنه جعل علة الربا في الذهب والفضة الثمنية فهي مقتصرة على الذهب الفضة غير متعدية عنهما؛ إذ غير الحجرين لم يخلق ثمنا، والخلاف فيما إذا كانت العلة مستنبطة، أما إذا كانت منصوصة فيجوز عليتها اتفاقًا.(5/189)
ص -115-…القول في تعدد العلل:
وقد اختلفوا في جواز تعدد العلل مع اتحاد الحكم1؛ فإن كان الاتحاد بالنوع، مع الاختلاف بالشخص، كتعليل إباحة قتل زيد بردته، وقتل عمرو بالقصاص، وقتل خالد بالزنا مع الإحصان، فقد اتفقوا على الجواز، وممن نقل الاتفاق على ذلك الأستاذ أبو منصور البغدادي، والآمدي، والصفي الهندي.
وأما إذا كان الاتحاد بالشخص، فقيل: لا خلاف في امتناعه بعلل عقلية.
وحكى القاضي الخلاف في ذلك، فقال: ثم اختلفوا إذا وجب الحكم العقلي بعلتين، فقيل: لا يرتفع إلا بارتفاعهما جميعًا.
وقيل: يرتفع بارتفاع إحداهما.
وأما تعدد العلل الشرعية، مع الاتحاد في الشخص، كتعليل قتل زيد بكونه قتل من يجب عليه فيه القصاص، وزنى مع الإحصان، فإن كل واحد منهما يوجب القتل بمجرده، فهل يصح تعليل إباحة دمه بهما معا أم لا؟ اختلفوا في ذلك على مذاهب.
الأول:
المنع مطلقًا، منصوصة كانت أو مستنبطة.
حكاه القاضي عبد الوهاب عن متقدمي أصحابهم، وجزم به الصيرفي، واختاره الآمدي، ونقله القاضي، وإمام الحرمين.
الثاني:
الجواز مطلقًا، وإليه ذهب الجمهور، كما حكاه القاضي في "التقريب".
قال: وبهذا نقول؛ لأن العلل علامات وأمارات على الأحكام، لا موجبة لها، فلا يستحيل ذلك.
قال ابن برهان في "الوجيز": إنه الذي استقر عليه رأي إمام الحرمين.
الثالث:
الجواز في المنصوصة دون المستنبطة2، وإليه ذهب أبو بكر بن فورك، والفخر الرازي، وأتباعه.
وذكر إمام الحرمين أن القاضي يميل إليه، وكلام إمام الحرمين هذا هو الذي اعتمده ابن الحاجب في نقل هذا المذهب عن القاضي، كما صرح به في "مختصر المنتهى"، ولكن النقل عن القاضي مختلف كما عرفته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البحث مفصلا في المستصفى 2/ 342-343. والمنخول 392-393.(5/190)
2 وأخرج هذا القسم الثالث الزركشي في البحر: حيث قال: ويخرج مما سبق حكاية مذهب ثالث وهو الجواز في المنصوصة دون المستنبطة. قال عبد الوهاب: وحكاه الهمداني عن أبي عبد الله البصري، والصحيح الجواز مطلقا. ا. هـ البحر المحيط 5/ 158.(5/191)
ص -116-…الرابع:
الجواز في المستنبطة دون المنصوصة، حكاه ابن الحاجب في "مختصر المنتهى"، وابن المنير في "شرحه للبرهان"، وهو قول غريب.
والحق: ما ذهب إليه الجمهور من الجواز.
وكما ذهبوا إلى الجواز فقد ذهبوا أيضًا إلى الوقوع، ولم يمنع من ذلك عقل ولا شرع.
الشروط المعتبرة في الفرع:
وأما ما يشترط في الفرع فأمور أربعة:
أحدهما:
مساواة علته لعلة الأصل.
والثاني:
مساواة حكمه لحكم الأصل.
والثالث:
أن لا يكون منصوصا عليه.
والرابع:
أن لا يكون متقدما على حكم الأصل.
الفصل الرابع: في الكلام على مسالك العلة وهي طرقها الدالة عليها
ولما كان لا يكتفى في القياس بمجرد وجود الجامع في الأصل والفرع، بل لا بد في اعتباره من دليل يدل عليه، وكانت الأدلة إما بالنص، أو الإجماع، أو الاستنباط، احتاجوا إلى بيان مسالك العلة.
وقد أضاف القاضي عبد الوهاب إلى الأدلة الثلاثة دليلا رابعا، وهو العقل، ولم يعتبره الجمهور، بل جعلوا طريق إثبات العلة هو السمع فقط.
وقد اختلفوا في عدد هذه المسالك.
فقال الرازي في "المحصول": هي عشرة: النص، والإيماء، والإجماع، والمناسبة، والتأثير، والدوران، والسبر والتقسيم، والشبه، والطرد، وتنقيح المناط.
قال: وأمور أخر اعتبرها قوم، هي عندنا ضعيفة. انتهى.
واختلف أهل الأصول في تقديم مسلك الإجماع على مسلك النص، أو مسلك النص على مسلك الإجماع. فمن قدم الإجماع نظر إلى كونه أرجح من ظواهر النصوص؛ لأنه لا يتطرق إليه احتمال النسخ. ومن قدم النص نظر إلى كونه أشرف من غيره، وكونه مستند الإجماع، وهذا مجرد اصطلاح في التأليف، فلا مشاحة فيه1.
وسنذكر من المسالك ههنا أحد عشر مسلكا:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البحر المحيط 5/ 184، وفواتح الرحموت 2/ 295 وميزان الأصول 2/ 843.(5/192)
ص -117-…المسلك الأول: الإجماع
وهو نوعان:
إجماع على علة معينة، كتعليل ولاية المال بالصغر، وإجماع على أصل التعليل -وإن اختلفوا في عين العلة- كإجماع السلف على أن الربا في الأصناف الأربعة معلل، وإن اختلفوا في العلة ماذا هي1.
وقد ذهب إلى كون الإجماع من مسالك العلة جمهور الأصوليين، كما حكاه القاضي في "التقريب"، ثم قال: وهذا لا يصح عندنا، فإن القياسيين ليسوا كل الأمة، ولا تقوم الحجة بقولهم، وهذا الذي قاله صحيح، فإن المخالفين في القياس كلا أو بعضا هم بعض الأمة، فلا تتم دعوى الإجماع بدونهم.
وقد تكلف إمام الحرمين الجويني في "البرهان" لدفع هذا فقال: بأن منكري القياس ليسوا من علماء الأمة، ولا من حملة الشريعة، فإن معظم الشريعة صدرت عن الاجتهاد والنصوص لا تفي بعشر معشار الشريعة. انتهى.
وهذا كلام يقتضي من قاله العجب، فإن كون منكري القياس ليسوا من علماء الأمة من أبطل الباطلات، وأقبح التعصبات، ثم دعوى أن نصوص الشريعة لا تفي بعشر معشارها لا تصدر إلا عمن لم يعرف نصوص الشريعة حق معرفتها.
وحكى ابن السمعاني عن بعض أصحاب الشافعي أنه لا يجوز القياس على الحكم المجمع عليه، ما لم يعرف النص الذي أجمعوا عليه. انتهى.
وهذا يعود عند التحقيق إلى نفي كون الإجماع من مسالك العلة. ثم القائلون بأن الإجماع من مسالك العلة لا يشترطون فيه أن يكون قطعيًّا، بل يكتفون فيه بالإجماع الظني فزادوا هذا المسلك ضعفا إلى ضعفه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر فواتح الرحموت 2/ 295. وميزان الأصول 2/ 827.(5/193)
ص -118-…المسلك الثاني: النص على العلة
قال في "المحصول" ونعني بالنص: ما يكون دلالته على العلة ظاهرة، سواء كانت قاطعة أو محتملة.
أما القاطع: فما يكون صريحا، وهو قولنا: لعلة كذا، أو لسبب كذا، أو لمؤثر كذا، أو لموجب كذا، أو لأجل كذا، كقوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ}1.
وأما الذي لا يكون قاطعا فثلاثة: اللام، وإن، والباء.
أما اللام: فكقولنا ثبت لكذا، كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}2.
وأما "إن" فكقوله صلى الله عليه وسلم: "إنها من الطوافين"3.
وأما الباء: فكقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}4
هذا حاصل كلامه.
قال الإمام الشافعي: متى وجدنا في كلام الشارع ما يد ل على نصبه أدلة وأعلاما ابتدرنا إليه، وهو أولى ما يسلك.
واعلم: أنه لا خلاف في الأخذ بالعلة إذا كانت منصوصة، وإنما اختلفوا هل الأخذ بها من باب القياس، أم من العمل بالنص؟
فذهب إلى الأول الجمهور، وذهب إلى الثاني النافون للقياس، فيكون الخلاف على هذا لفظيا، وعند ذلك يهون الخطب، ويصغر ما تعاظم من الخلاف في هذه المسألة.
قال ابن فورك: إن الأخذ بالعلة المنصوصة ليس قياسا وإنما هو استمساك بنص لفظ الشارع، فإن لفظ التعليل إذا لم يقبل التأويل عن كل ما تجري العلة فيه، كان المتعلق به مستدلا بلفظ قاضٍ بالعموم5.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية 32 من سورة المائدة.
2 جزء من الآية 56 من سورة الذاريات.
3 أخرجه أبو داود من حديث كبشة رضي الله عنها، كتاب الطهارة، باب سؤر الهرة 75. والترمذي، أبواب الطهارة، باب ما جاء في سؤر الهرة 92. والنسائي، كتاب الطهارة، باب سؤر الهرة 1/ 55، 68.(5/194)
وابن ماجه، كتاب الطهارة، باب الوضوء بسؤر الهرة والرخصة في ذلك 367. ومالك في الموطأ، كتاب الطهارة، باب الطهور للوضوء 13. وابن حبان في صحيحه 1299. الحاكم. كتاب الطهارة 1/ 110. والبيهقي، كتاب الطهارة، باب سؤر الهرة 1/ 245.
4 جزء من الآية 13 من سورة الأنفاق، والآية 4 من سورة الحشر.
5 ذكر الزركشي هذا الكلام في البحر المحيط 5/ 186 ونسبه إلى الإمام الجويني في البرهان.(5/195)
ص -119-…واعلم أن التعليل قد يكون مستفادا من حرف من حروفه، وهي: كي، واللام، وإذن، ومن، والباء، والفاء، وإن، ونحو ذلك، وقد يكون مستفادا من اسم من أسمائه، وهي: لعلة كذا، لموجب كذا، بسبب كذا، لمؤثر كذا، لأجل كذا، "لجزاء كذا، لعلم كذا"*، لمقتضى كذا، ونحو ذلك، وقد يكون مستفادا من فعل من الأفعال الدالة على ذلك، كقوله: عللت بكذا، وشبهت كذا بكذا، ونحو ذلك، وقد يكون مستفادا من السياق، فإنه قد يدل على العلة كما يدل على غيرها.
وقد قسموا النص على العلة إلى صريح، وظاهر.
قال الآمدي: فالصريح هو الذي لا يحتاج فيه إلى نظر واستدلال، بل يكون اللفظ موضوعا في اللغة له.
قال الأبياري: ليس المراد بالصريح المعنى الذي لا يقبل التأويل، بل المنطوق بالتعليل فيه على حسب دلالة اللفظ الظاهر على المعنى. انتهى.
ثم الصريح ينقسم إلى أقسام.
أعلاها أن يقول: لعلة كذا، أو لسبب كذا، أو نحو ذلك، وبعده أن يقول: لأجل كذا، أو من أجل كذا.
قال ابن السمعاني: وهو دون ما قبله؛ لأن لفظ العلة تعلم به العلة من غير واسطة، بخلاف قوله: لأجل، فإنه يفيد معرفة العلة، بواسطة أن العلة ما لأجلها الحكم، والدال بلا واسطة أقوى، وكذا قال الأصفهاني.
وبعده أن يقول: كي يكون كذا، فإن الجويني في "البرهان" جعلها من الصريح، وخالفه الرازي.
وبعده: إذا، فإن أبا إسحاق الشيرازي، والغزالي، جعلاه من الصريح، وجعله الجويني في "البرهان" من الظاهر.
وبعده: ذكر المفعول له نحو: ضربته تأديبا.
وأما الظاهر: فينقسم إلى أقسام، أعلاها: اللام، ثم أنْ المفتوحة المخففة، ثم إنْ المكسورة الساكنة، بناء على أن الشروط اللغوية أسباب، ثم إنَّ المشددة، كقوله صلى الله عليه وسلم: "إنها من الطوافين عليكم"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه في الصفحة 2/ 118.(5/196)
ص -120-…قال صاحب "التنقيح": كذا عدوها من هذا القسم، والحق: أنها لتحقيق الفعل، ولا حظ لها في التعليل، والتعليل في الحديث مفهوم من سياق الكلام.
وقد نقل الأبياري إجماع النحاة على أنها لا ترد للتعليل، قال: وهي في قوله: "إنها من الطوافين عليكم" للتأكيد؛ لأن علة طهارة سؤرها هي الطواف، ولو قدرنا مجيء قوله: "من الطوافين" بغير إن لأفاد التعليل، فلو كانت للتعليل لعدمت العلة بعدمها، ولا يمكن أن يكون التقدير لأنها، وإلا لوجب فتحها، ولاستفيد التعليل من اللام.
ثم الباء، قال ابن مالك: وضابطه أن يصلح غالبا في موضوعها اللام، كقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}1، وقوله سبحانه: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ}2؛ وجعل من ذلك الآمدي، والصفي الهندي قوله تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}3. ونسبة بعضهم إلى المعتزلة، وقيل: هي المقابلة، كقوله: هذا بذلك؛ لأن المعطي بعوض قد يعطي مجانا.
ثم الفاء: إذا علق بها الحكم على الوصف، وذلك نوعان.
أحدهما:
أن يدخل على السبب والعلة، ويكون الحكم متقدما، كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تخمروا رأسه، فإنه يبعث ملبيا"4.
الثاني:
أن يدخل على الحكم، وتكون العلة متقدمة، كقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}5، {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}6.
لأن التقدير من زنى فاجلدوه، ومن سرق فاقطعوه.
ثم لعل؛ على رأي الكوفيين من النحاة، فإنهم قالوا: إنها في كلام الله للتعليل المحض، مجردة عن معنى الترجي، لاستحالته عليه.
ثم إذ: ذكره ابن مالك نحو: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ}7.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية 13 من سورة الأنفال. وكذلك من الآية 4 من سورة الحشر.(5/197)
2 جزء من الآية 160 من سورة النساء.
3 جزء من الآية 14 من سورة الأحقاف.
4 أخرجه البخاري من حديث ابن عباس، كتاب جزاء الصيد، باب سنة المحرم إذا مات 1815. مسلم، كتاب الحج، باب ما يفعل بالمحرم إذا مات 1206. النسائي، كتاب مناسك الحج، باب غسل المحرم بالسدر إذا مات 5/ 195. البيهقي، كتاب الجنائز، باب المحرم يموت 3/ 392. ابن حبان في صحيحه 3960. أحمد في مسنده 1/ 215.
5 جزء من الآية 2 من سورة النور.
6 جزء من الآية 38 من سورة المائدة.
7 جزء من الآية 16 من سورة الكهف.(5/198)
ص -121-…ثم حتى: كما ذكره ابن "مالك"*، نحو قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ}1، {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ}2، {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ}3 ولا يخفى ما في عد هذه الثلاثة المتأخرة من جملة دلائل التعليل من الضعف الظاهر.
وقد عد منها صاحب "التنقيط": لا جرم، نحو: {لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ}4. وعد أيضًا جميع أدوات الشرط والجزاء.
وعد إمام الحرمين منها الواو. وفي هذا من الضعف ما لا يخفى على عارف بمعاني اللغة العربية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية 29 من سورة التوبة.
2 جزء من الآية 31 من سورة محمد صلى الله عليه وسلم.
3 جزء من الآية 193 من سورة البقرة.
4 جزء من الآية 62 من سورة النحل.
المسلك الثالث: الإيماء والتنبيه
وضابطه: الاقتران بوصف، لو لم يكن هو أو نظيره للتعليل لكان بعيدا، فيحمل على التعليل دفعا للاستبعاد.
وحاصله: أن ذكره يمتنع أن يكون لا لفائدة؛ لأنه عبث، فيتعين أن يكون لفائدة، وهي إما كونه علة، أو جزء علة، أو شرطا، "والأطهر"*: كونه علة؛ لأنه الأكثر في تصرفات الشرع، وهو أنواع:
الأول:
تعليق الحكم على العلة بالفاء، وهو على وجهين:
أحدهما: أن تدخل الفاء على العلة، ويكون الحكم متقدما، كقوله صلى الله عليه وسلم في المحرم الذي وقصته ناقته: " فإنه يحشر يوم القيامة ملبيا"1.
ثانيهما: أن تدخل الفاء على الحكم، وتكون العلة متقدمة، وذلك أيضًا على وجهين:
أحدهما: أن تكون الفاء دخلت على كلام الشارع، مثل قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أيديهما}2، {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا}3.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": وإلا ظهر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه 2/ 120.(5/199)
2 جزء من الآية 38 من سورة المائدة.
3 جزء من الآية 6 من سورة المائدة.(5/200)
ص -122-…وثانيهما: أن تدخل على رواية الراوي، كقوله: "سها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجد"1، و"زنى ماعز فرجم"2، كذا في "المحصول" وغيره.
النوع الثاني:
أن يذكر الشارع مع الحكم وصفا، لو لم يكن علة لعري عن الفائدة إما مع سؤال في محله، أو سؤال في نظيره.
فالأول: كقول الأعرابي: واقعت أهلي في رمضان. فقال: "أعتق رقبة"3. فإنه يدل على أن الوقاع علة للإعتاق، والسؤال مقدر في الجواب، كأنه قال: إذا واقعت فكفر.
الثاني كقوله: وقد سألته الخثعمية: إن أبي أدركته الوفاة، وعليه فريضة الحج، أفينفعه إن حججت عنه؟ فقال: "أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته، أكان ينفعه؟" قالت: نعم4.
فذكر نظيره، وهو دين الآدمي، فنبه على كونه، علة في النفع، وإلا لزم العبث.
وذهب جماعة من الأصوليين إلى أن شرط فهم التعليل من هذا النوع أن يدل الدليل على أن الحكم وقع جوابا؛ إذ من الممكن أن يكون الحكم استئنافا، لا جوابا، وذلك كمن تصدى للتدريس، فأخبره تلميذه بموت السلطان، فأمره عقب الإخبار بقراءة درسه، فإنه لا يدل على تعليل القراءة بذلك الخبر، بل الأمر بالاشتغال بما هو بصدده، وترك ما لا يعنيه.
النوع الثالث:
أن يفرق بين الحكمين لوصف، نحو قوله صلى الله عليه وسلم: "للراجل سهم وللفارس سهمان"5. فإن ذلك يفيد أن الموجب للاستحقاق للسهم والسهمين هو الوصف المذكور.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو داود من حديث عمران بن حصين بلفظ: "إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم فسها فسجد سجدتين ثم تشهد ثم سلم" كتاب الصلاة، باب سجدتي السهو 1039. الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في التشهد في سجدتي السهو 395. النسائي، في السهو، ذكر الاختلاف على أبي هريرة في السجدتين 3/ 26. الحاكم في المستدرك بلفظ: "صلى بهم فسها في صلاته فسها فسجد سجدتين السهو بعد السلام والكلام، 1/ 323 وسكت عنه الذهبي في التلخيص. ابن حبان في صحيحه 2670.(5/201)
2 تقدم تخريجه 2/ 73.
3 أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة، كتاب الأدب، باب ما جاء في قول الرجل: "ويلك" 6164. بنحوه أبو داود، كتاب الصيام، باب كفارة من أتى أهله في رمضان 2390. والترمذي، كتاب الصوم، باب ما جاء في كفارة الفطر في رمضان 724. وابن ماجه، كتاب الصوم، باب ما جاء في كفارة من أفطر يوما في رمضان 1617. والنسائي في الكبرى كما في التحفة 9/ 327. وابن حبان في صحيحه 3524. وأحمد في مسنده 2/ 241.
4 تقديم تخريجه 2/ 100.
5 أخرجه البيهقي من حديث ابن عمر، وقد روي أيضًا من طريق العقبني عن عبد الله العمري بالشك بالفارس أو الفرس، فقال الشافعي في القديم: كأنه سمع نافعا يقول: للفرس سهمين وللرجل سهما، فقال: للفارس سهمين وللراجل سهما وليس يشك أحد من أهل العلم في تقدمة عبيد الله بن عمر على أخيه في الحفظ. انظر البيهقي، كتاب قسم الفيء والغنيمة، باب ما جاء في سهم الراجل والفارس 6/ 325. ورواه الحاكم في المستدرك، من حديث مجمع بن جارية الأنصاري، في كتاب قسم الفيء قال: حديث كبير صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي في التلخيص 2/ 113
وأخرجه أحمد في مسنده 3/ 420(5/202)
ص -123-…النوع الرابع:
أن يذكر عقب الكلام أو في سياق شيئا، لو لم يعلل به الحكم المذكور لم ينتظم الكلام، كقوله تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ}1؛ لأن الآية سيقت لبيان وقت الجمعة وأحكامها، فلو لم يعلل النهي عن البيع بكونه مانعا من الصلاة، أو شاغلا عن المشي إليها؛ لكان ذكره عبثا؛ لأن البيع لا يمنع منه مطلقا.
النوع الخامس:
ربط الحكم باسم مشتق، فإن تعليق الحكم به مشعر بالعلية، نحو: أكرم زيدا العالم، فإن ذكر الوصف المشتق مشعر بأن الإكرام لأجل العلم.
النوع السادس:
ترتب الحكم على الوصف بصيغة الشرط والجزاء كقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}2. أي: لأجل تقواه، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}3. أي: لأجل توكله؛ لأن الجزاء يتعقب الشرط.
النوع السابع:
تعليل عدم الحكم بوجود المانع منه، كقوله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ}4. {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ}5، {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ}6.
النوع الثامن:
إنكاره سبحانه على من زعم أنه لم يخلق الخلق لفائدة، ولا لحكمة بقوله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا}7، وقوله: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى}8، وقوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ}9.
النوع التاسع:
إنكاره سبحانه أن يسوي بين المختلفين، ويفرق بين المتماثلين.
فالأول:كقوله: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ}10.
والثاني: كقوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}11
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية 9 من سورة الجمعة.
2 جزء من الآية 2 من سورة الطلاق.(5/203)
3 جزء من الآية 3 من سورة الطلاق.
4 جزء من الآية 33 من سورة الزخرف.
5 جزء من الآية 27 من سورة الشورى.
6 جزء من الآية 44 من سورة فصلت.
7 جزء من الآية 115 من سورة المؤمنون.
8 جزء من الآية 36 من سورة القيامة.
9 جزء من الآية 85 من سورة الحجر
10 الآية 35 من سورة القلم.
11 جزء من الآية 71 من سورة التوبة.(5/204)
ص -124-…وقد اختلف في اشتراط مناسبة الوصف المومأ إليه للحكم في الأنواع السابقة، فاشترطه إمام الحرمين الجويني، والغزالي.
وذهب الأكثرون إلى عدم اشتراطه.
وذهب قوم إلى التفصيل، فقالوا: إن كان التعليل فهم من المناسبة، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقض القاضي وهو غضبان"1 اشترط، وأما غيره فلا يشترط، واختاره ابن الحاجب.
وحكى الهندي تفصيلًا، وهو اشتراطه في ترتيب الحكم على الاسم دون غيره،. وحكى ابن المنير تفصيلًا آخر: وهو إن كان الاسم المشتق يتناول معهودا معينا؛ فلا يتعين للتعليل ولو كان مناسبا، بل يحتمل أن يكون تعريفا، وأما إذا علق بعام ومنكر فهو تعليل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم من حديث أبي بكرة، كتاب الأقضية، باب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان 1717.
وأخرجه البخاري بلفظ: "لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان" كتاب الأحكام، باب هل يقضي القاضي وهو غضبان 7158. وأبو داود، كتاب الأقضية، باب القاضي يقضي وهو غضبان 3589". والترمذي، كتاب الأحكام، باب ما جاء لا يقضي القاضي وهو غضبان 1334. والنسائي، كتاب آداب القاضي، باب ذكر ما ينبغي للحاكم أن يجتنبه 8/ 237. والبيهقي، كتاب آداب القاضي، باب لا يقضي وهو غضبان 10/ 105. وابن حبان في صحيحه 5063. وأحمد في مسنده 5/ 36.
المسلك الرابع: الاستدلال على علية الحكم بفعل النبي صلى الله عليه وسلم:
كذا قال القاضي في "التقريب" وصورته: أن يفعل النبي صلى الله عليه وسلم فعلا بعد وقوع شيء، فيعلم أن ذلك الفعل إنما كان لأجل ذلك الشيء الذي وقع، كأن يسجد صلى الله عليه وسلم للسهو، فيعلم أن ذلك السجود إنما كان لسهو قد وقع منه.
وقد يكون ذلك الفعل من غيره بأمره، كرجم ماعز.
وهكذا الترك له حكم الفعل، كتركه صلى الله عليه وسلم للطيب، والصيد، وما يجتنبه المحرم، فإن المعلوم من شاهد الحال أن ذلك لأجل الإحرام.
المسلك الخامس: السبر والتقسيم:(5/205)
وهو في اللغة: الاختبار، ومنه الميل الذي يختبر به الجرح، فإنه يقال له المسبار، وسمي(5/206)
ص -125-…هذا به؛ لأن المناظر يقسم الصفات ويختبر كل واحدة منها "في أنه"* هل تصلح للعلية أم لا؟
وفي الاصطلاح هو قسمان:
أحدهما:
أن يدور بين النفي والإثبات، وهذا هو المنحصر.
والثاني:
أن لا يكون كذلك، وهذا هو المنتشر.
فالأول:
أن تحصر الأوصاف التي يمكن التعليل بها للمقيس عليه، ثم اختبارها في المقيس، وإبطال ما لا يصلح منها بدليله، وذلك الإبطال إما بكونه ملغى، أو وصفا طرديا، أو يكون فيه نقض، أو كسر، أو خفاء، أو اضطراب، فيتعين الباقي للعلية1.
وقد يكون في القطعيات، كقولنا: العالم إما أن يكون قديما، أو حادثا، بطل أن يكون قديما، فثبت أنه حادث.
وقد يكون في الظنيات، نحو أن نقول: في قياس الذرة على البر في الربوية: بحثت عن أوصاف البر فما وجدت ثم ما يصلح للربوية في بادئ الرأي إلا الطعم، والقوت، والكيل، لكن الطعم والقوت لا يصلح لذلك بدليل كذا، فتعين الكيل2.
قال الصفي الهندي: وحصول هذا القسم في الشرعيات عسر جدا.
ويشترط في صحة هذا المسلك أن يكون الحكم في الأصل معللا بمناسب، خلافا للغزالي، وأن يقع الاتفاق على أن العلة لا تركيب فيها، كما في مسألة الربا، فأما لو لم يقع الاتفاق لم يكون هذا المسلك صحيحا؛ لأنه إذا بطل كونه علة مستقلة، جاز أن يكون جزءا من أجزائها، وإذا انضم إلى غيره صار علة مستقلة، فلا بد من إبطال كونه علة أو جزء علة.
ويشترط أيضًا أن يكون حاصرا لجميع الأوصاف، وذلك بأن يوافقه الخصم على انحصارها في ذلك، أو يعجز عن إظهار وصف زائد، وإلا فيكفي المستدل أن يقول: بحثت عن الأوصاف فلم أجد سوى ما ذكرته، والأصل عدم ما سواها، وهذا إذا كان أهلا للبحث.
ونازع في ذلك بعض الأصوليين، ومنهم: الأصفهاني، فقال: قول المعلل في جواب طالب الحصر: بحثت وسبرت فلم أجد غير هذه الأشياء، فإن ظفرت بعلة أخرى فأبرزها، وإلا فليلزمك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".(5/207)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عرفه صاحب فواتح الرحموت بقوله: هو حصر الأوصاف الصالحة للعلية وحذف ما سوى الوصف المدعى في عليته فيتعين المدعى. ا. هـ انظر فواتح الرحموت 2/ 299. البحر المحيط 5/ 222-223 المستصفى 2/ 295.
2 انظر تتمة البحث في البحر المحيط 5/ 223، وفيه تنبيه مهم وجليل، ذكره الزركشي في 5/ 224.(5/208)
ص -126-…ما يلزمني، قال: وهذا فاسد؛ لأن سبره لا يصلح دليلا؛ لأن الدليل ما يعلم به المدلول، ومحال أن يعلم طالب الحصر الانحصار ببحثه ونظره، وجهله لا يجوب على خصمه أمرا، واختار ابن برهان التفصيل بين المجتهد وغيره.
القسم الثاني:
المنتشر، وذلك بأن لا يدور بين النفي والإثبات، أو دار ولكن كان الدليل على نفي علية ما عدا الوصف المعين فيه ظنيا.
فاختلفوا في ذلك على مذاهب:
الأول:
أنه ليس بحجة مطلقًا، لا في القطعيات، ولا في الظنيات، حكاه في "البرهان" عن بعض الأصوليين.
الثاني:
أنه حجة في العمليات فقط؛ لأنه يحصل غلبة الظن، واختاره إمام الحرمين الجويني، وابن برهان، وابن السمعاني. قال الصفي الهندي: هو الصحيح.
الثالث:
أنه حجة للناظر دون المناظر، واختاره الآمدي.
وقال إمام الحرمين في "الأساليب"1: إنه يفيد الطالب مذهب الخصم، دون تصحيح مذهب المستدل؛ إذ لا يمتنع أن يقول: ما أبطلته باطل، وما اخترته باطل.
وحكى ابن العربي أنه دليل قطعي، وعزاه إلى الشيخ أبي الحسن والقاضي، وسائر أصحاب الشافعي، قال: وهو الصحيح، فقد نطق به القرآن ضمنا، وتصريحا، في مواطن كثيرة2.
فمن الضمن، قوله تعالى: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ} إلى قوله: {حَكِيمٌ عَلِيم}3، ومن التصريح قوله: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاج} إلى قوله: {الظَّالِمِين}4.
وقد أنكر بعض أهل الأصول أن يكون السبر والتقسيم مسلكا.
قال الأبياري في شرح "البرهان": السبر يرجع إلى اختبار أوصاف المحل وضبطها، والتقسيم يرجع إلى إبطال ما يظهر إبطاله منها، فإذًا لا يكون من الأدلة بحال، وإنما تسامح الأصوليون بذلك.
قال ابن المنير: "ومن الأسئلة"* القاصمة لمسلم السبر والتقسيم أن المنفي لا يخلو في.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": والمسألة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(5/209)
1 الأساليب في الخلافيات لأبي المعالي الجويني وذكر فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية، ا. هـ. كشف الظنون 1/ 75.
2 انظر البحث مفصلا في البحر المحيط 5/ 224-225. المنخول 351.
3 الآية 139 من سورة الأنعام.
4 جزء من الآيتين 142-143 من سورة الأنعام.(5/210)
ص -127-…نفس الأمر من أن يكون مناسبا، أو شبها، أو طردا، "لأنه"* إما أن يشتمل على مصلحة أو لا، فإن اشتمل على مصلحة، فإما أن تكون منضبطة للفهم أو كلية لا تنضبط.
فالأول:
المناسبة.
والثاني:
الشبه.
وإن لم يشتمل على مصلحة أصلا فهو الطرد المردود، فإن كان ثم مناسبة أو شبه "يعني لغى"** السبر والتقسيم، وإن كان عريا عن المناسبة قطعا، لم ينفع السبر والتقسيم أيضًا1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": لا أنه.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البحر المحيط 5/ 227. فواتح الرحموت 2/ 299-300.
المسلك السادس: المناسبة
ويعبر عنها بالإخالة، وبالمصلحة، وبالاستدلال، وبرعاية المقاصد، ويسمى استخراجها: تخريج المناط وهي عمدة كتاب القياس، ومحل غموضه ووضوحه.
ومعنى المناسبة: هي تعيين العلة بمجرد إبداء المناسبة، مع السلامة عن القوادح، لا بنص ولا غيره.
والمناسبة في اللغة: الملاءمة، والمناسب الملائم.
قال في "المحصول": الناس ذكروا في تعريف المناسب شيئين:
الأول:
أنه المفضي إلى ما يوافق الإنسان تحصيلا وإبقاء، وقد يعبر عن التحصيل بجلب المنفعة، وعن الإبقاء بدفع المضرة لأن ما قصد إبقاؤه فإزالته مضرة، وإبقاؤه دفع للمضرة.
ثم هذا التحصيل والإبقاء، قد يكون معلوما، وقد يكون مظنونا وعلى التقديرين، فإما أن يكون دينيا أو دنيويا.
والمنفعة عبارة عن اللذة، أو ما يكون طريقا إليها، والمضرة عبارة عن الألم، أو ما يكون طريقا إليه، واللذة قيل في حدها: إنها إدراك الملائم، والألم: إدراك المنافي.
والصواب عندي: أنه لا يجوز تحديدهما؛ لأنهما من أظهر ما يجده الحي من نفسه، ويدرك بالضرورة التفرقة بين كل واحد منهما، وبينهما وبين غيرهما، وما كان كذلك يتعذر تعريفه بما هو أظهر منه.
الثاني:(5/211)
أنه الملائم لأفعال العقلاء في العادات، فإنه يقال: هذه اللؤلؤة تناسب هذه اللؤلؤة(5/212)
ص -128-…في الجمع بينها في سلك واحد متلائم. انتهى.
وقد اختلف في تعريفها القائلون بمنع تعليل أفعال الله سبحانه بالأغراض، والقائلون بتعليلها بها.
فالأولون قالوا: إنها الملائم لأفعال العقلاء في العادات، أي: ما يكون بحيث يقصد العقلاء تحصيله على مجاري العادة بتحصيل مقصود مخصوص.
والآخرون قالوا: إنها ما تجلب للإنسان نفع، أو تدفع عنه ضرا1.
وقيل: هي ما لو عرض على العقول تلقته بالقبول، كذا قال الدبوسي.
وقيل: وعلى هذا فإثباتها على الخصم متعذر؛ لأنه ربما يقول: عقلي لا يتلقى هذا بالقبول، ومن ثم قال الدبسوي: هو حجة للناظر؛ لأنه لا يكابر نفسه: لا للمناظر.
قال الغزالي: والحق بأنه يمكن إثباته على الجاحد بتبيين معنى المناسبة على وجه مضبوط، فإذا أبداه المعلل فلا يلتفت إلى جحده. انتهى.
وهذا صحيح، فإنه لا يلزم المستدل إلا ذلك.
وقال ابن الحاجب: إن المناسب وصف ظاهر منضبط يحصل عقلا من ترتيب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصودا من حصول مصلحة ودفع مفسدة، فإن كان الوصف خفيا، أو غير منضبط اعتبر ملازمة، وهو المظنة؛ لأن الغيب لا يعرف الغيب، كالسفر للمشقة، والفعل المقضي عرفا عليه بالعمد في العمدية.
قال الصفي الهندي: وهو ضعيف؛ لأنه اعتبر في ماهية المناسبة ما هو خارج عنه، وهو اقتران الحكم بالوصف، وهو خارج عن ماهية المناسب، بدليل أنه يقال: المناسبة مع الاقتران دليل العلة، ولو كان الاقتران داخلا في الماهية لما صح هذا.
وأيضا فهو غير جامع؛ لأن التعليل "بالظاهرة"* المنضبطة جائز على ما اختاره قائل هذا الحد، والوصفية غير متحققة فيها مع تحقق المناسبة.
وقد احتج إمام الحرمين على إفادتها للعلية بتمسك الصحابة بها، فإنهم يلحقون غير المنصوص بالمنصوص، إذا غلب على "ظنهم"** أنه يضاهيه لمعنى أو يشبهه.
ورد2 بأنه لم ينقل إلينا أنهم كانوا يتمسكون بكل ظن غالب، فلا يبعد التعبد مع نوع من الظن الغالب، ونحن "لا" *** نعلم ذلك النوع.(5/213)
ثم قال إمام الحرمين: فالأولى الاعتماد على العمومات الدالة على الأمر بالقياس.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": ظنه.
*** ما بين القوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البحر المحيط 5/ 206. وميزان الأصول 2/ 864.
2 قال الزركشي في البحر ورده في الرسالة البهائية. البحر المحيط 5/ 207.(5/214)
ص -129-…انقسام المناسب من حيث الظن واليقين:
واعلم: أنه قد يحصل بالمناسب المقصود به من شرع الحكم يقينا، كمصلحة البيع للحل، أو ظنا، كمصلحة القصاص لحفظ النفس، وقد يحتملهما على السواء، كحد الخمر، لحفظ العقل؛ لأن الإقدام مساوٍ للإحجام، وقد يكون نفي الحصول أرجح، كنكاح الآيسة لتحصيل التناسل، ويجوز التعليل بجميع هذه الأقسام، وأنكر بعضهم صحة التعليل بالثالث، وبعضهم بالرابع.
قال الصفي الهندي: الأصح يجوز إن كان في آحاد الصور الشاذة، وكان ذلك الوصف في أغلب الصور من الجنس مفضيا إلى المقصود، وإلا فلا.
أما إذا حصل القطع بأن المقصود من شرع الحكم غير ثابت1، فقالت الحنفية: يعتبر التعليل به، والأصح لا يعتبر، سواء ما لا تعبد فيه، كلحوق نسب المشرقي بالمغربية، وما فيه تعبد، كاستبراء جارية اشتراها بائعها في المجلس.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في البحر المحيط: "أما إذا حصل القطع بأن المقصود من شرع الحكم ثابت فقالت..." 5/ 208.
انقسام المناسب إلى حقيقي وإقناعي:
المناسب ينقسم إلى حقيقي وإقناعي.
والحقيقي ينقسم إلى ما هو واقع في محل الضرورة، ومحل الحاجة، ومحل التحسين.
الأول: الضروري
وهو المتضمن "حفظ"* قصود من المقاصد الخمس، التي لم تختلف فيها الشرائع، بل هي مطبقة على حفظها، وهي خمسة:
أحدها: حفظ النفس بشرعية القصاص، فإنه لولا ذلك لتهارج الخلق، واختل نظام المصالح.
ثانيها: حفظ المال بأمرين: أحدهما: إيجاب الضمان على المتعدي، فإن المال قوام العيش، وثانيهما: القطع بالسرقة.
ثالثها: حفظ النسل بتحريم الزنا، وإيجاب العقوبة عليه بالحد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* "أ": لحفظ.(5/215)
ص -130-…رابعها: حفظ الدين بشرعية القتل بالردة، والقتال للكفار.
خامسها: حفظ العقل بشرعية الحد على شرب المسكر، فإن العقل هو قوام كل فعل تتعلق به مصلحة، فاختلاله يؤدي إلى مفاسد عظيمة.
واعترض على دعوى اتفاق الشرائع على الخمسة المذكورة بأن الخمر كانت مباحة في الشرائع "السابقة"*، وفي صدر الإسلام. ورد بأن المباح منها في تلك الشرائع هو ما لا يبلغ إلى حد السكر المزيل للعقل، فإنه محرم في كل ملة، كذا قال الغزالي.
وحكاه ابن القشيري عن القفال، ثم نازعة فقال: تواتر الخبر أنها كانت مباحة على الإطلاق، ولم يثبت أن الإباحة كانت إلى حد لا يزيل العقل.
وكذا قال النووي في "شرح مسلم"1، ولفظه: وأما ما يقوله من لا تحصيل عنده أن المسكر لم يزل محرما فباطل، لا أصل له. انتهى.
قلت: وقد تأملت التوراة والإنجيل، فلم أجد فيهما إلا إباحة الخمر مطلقًا، من غير تقييد بعدم السكر، بل فيهما التصريح بما يتعقب الخمر من السكر، وإباحة ذلك؛ "فلا"** يتم دعوى اتفاق الملل على التحريم، وهكذا تأملت كتب أنبياء بني إسرائيل؛ فلم أجد فيها ما يدل على التقييد أصلا.
وقد زاد بعض المتأخرين سادسا، وهو حفظ الأعراض، فإن عادة العقلاء بذل نفوسهم وأموالهم دون أعراضهم، وما فدي بالضروري فهو بالضرورة أولى، وقد شرع في الجناية عليه بالقذف الحد، وهو أحق بالحفظ من غيره، فإن الإنسان قد يتجاوز عمن جنى على نفسه أو ماله، ولا يكاد أحد أن يتجاوز عمن جنى على عرضه، ولهذا يقول قائلهم:
يهون علينا أن تصاب جسومنا…وتسلم أعراض لنا وعقول2
قالوا: ويلتحق بالخمسة المذكورة مكمل الضروري، كتحريم قليل المسكر، ووجوب الحد فيه، وتحريم البدعة، والمبالغة في عقوبة المبتدع، الداعي إليها، والمبالغة في حفظ النسب، بتحريم النظر، واللمس والتعزير على ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": المتقدمة.
** في "أ": فلم(5/216)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو للإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي الشافعي، وهو شرح متوسط مفيد، سماه المنهاج في شرح مسلم بن الحجاج قال فيه: لولا ضعف الهمم وقلة الراغبين لبسطته فبلغت به ما يزيد على مائة مجلد ولكني أقتصر على التوسط. ا. هـ كشف الظنون 1/ 557.
2 وهو لأبي الطيب المتنبي من قصيدة له في ديوانه 352 والبيت من البحر الطويل.(5/217)
ص -131-…القسم الثاني: الحاجي
وهو ما يقع في محل الحاجة، لا محل الضرورة، كالإجارة، فإنها مبنية على مسيس الحاجة إلى المساكن، مع القصور عن تملكها، وامتناع مالكها عن بذلها عارية، وكذلك المساقاة والقراض.
ثم اعلم: أن المناسبة قد تكون جلية، فتنتهي إلى القطع، كالضروريات، وقد تكون خفية كالمعاني المستنبطة لا لدليل إلى مجرد احتمال اعتبار الشرع لها، وقد يختلف التأثير بالنسبة إلى الجلاء والخفاء.
القسم الثالث: التحسيني
وهو قسمان:
الأول:
ما هو غير معارض للقواعد، كتحريم القاذورات، فإن نفرة الطباع عنها لقذارتها معنى يناسب حرمة تناولها، حثا على مكارم الأخلاق، كما قال الله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِث}1، "وحمله الشافعي على المستحب"*، وكما قال صلى الله عليه وسلم: "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"2.
ومنه سلب العبد أهلية الشهادة؛ لأنها منصب شريف، والعبد نازل القدر، والجمع بينهما غير ملائم.
وقد استشكل هذا ابن دقيق العيد؛ لأن الحكم بالحق بعد ظهور الشاهد، وإيصاله إلى مستحقه، ودفع اليد الظالمة عنه من مراتب الضرورة، واعتبار نقصان العبد في الرتبة والمنصب من مراتب التحسين، وترك مرتبة الضرورة رعاية لمرتبة التحسين بعيد جدا، نعم لو وجد لفظ يستند إليه في رد شهادته، ويعلل بهذا التعليل، لكان له وجه، فأما مع الاستقلال بهذا التعليل، ففيه هذا الإشكال.
وقد ذكر بعض أصحاب الشافعي أنه لا يعلم لمن رد شهادة العبد مستندا أو وجها.
وأما سلب ولايته، فهو في محل الحاجة؛ "إذ ولاية"** الأطفال تستدعي استغراقا وفراغا،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": لأن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية 157 من سورة الأعراف.(5/218)
2 ذكره العجلوني في كشف الخفاء برقم 638 وقال: رواه مالك في الموطأ بلاغا عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: قال ابن عبد البر هو متصل من وجود صحاح عن أبي هريرة وغيره.
وأخرجه البخاري في الأدب المفرد من حديث أبي هريرة بلفظ: "إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق" رقم 273 أحمد في مسنده 2/ 381 وانظر بقية التخريج في المقاصد الحسنة: ص131 رقم 204.(5/219)
ص -132-…والعبد مستغرق بخدمة سيده، فتفويض أمر الطفل إليه إضرار بالطفل، أما الشهادة فتتفق أحيانا، كالرواية والفتوى"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال في حاشية "أ": كذا بالأصل الذي بين أيدينا من دون ذكر القسم الثاني فيما بعد فلعله سقط من بعض الناسخين، لكن ترشد إليه المقابلة وعبارة التحصيل والحاصل، والثالث كالتحسينات والحث على مكارم الأخلاق وهذا منه ما لا يعارض قاعدة معتبرة كتحريم القاذورات ومنه ما يعارضها كشرعية الكتابة ا. هـ.
كذا في جميع الأصول التي اطلعنا عليها حيث أشاروا إلى نقص القسم الثاني من قسمي التحسيني دون الانتباه إلى نقص القسم الثاني من قسمي المناسب أيضًا، وهو المناسب الإقناعي. وبما أن المصنف رحمه الله غالبا ما ينقل عن البحر المحيط للزركشي رأينا استدراك النقص من كتاب البحر المحيط للزركشي في هذا المكان. قال الزركشي:
"والثاني: ما هو معارض كالكتابة، فإنها من حيث كونها مكرمة في العوائد احتمل الشرع فيها خرم قاعدة ممهدة، وهي امتناع معاملة السيد عبده وامتناع مقابلة الملك بالملك على سبيل المعاوضة. نعم، هي جارية على قياس المالكية في أن العبد يملك. وزعم إمام الحرمين أنها خرجت عن قياس الوسائل عندهم؛ لأنها عندهم غير واجبة. لكنهم مع ذلك يقدرون خروجها عن القياس واشتمالها على شائبتي معاوضة وتعليق، على خلاف قياسهما.
وهذا القسم كله يتعلق بالدنيا، وقد يتعلق بالآخرة، كتزكية النفس ورياضتها وتهذيب الأخلاق المؤدية إلى امتثال الأمر واجتناب النهي. وقد يتعلق بالدارين، كإيجاب الكفارات؛ إذ يحصل بها الزجر عن تعاطي الأفعال الموجبة لها، وتحصيل تلافي الذنب الكبير.
وفائدة مراعاة هذا الترتيب أنه إذا تعارض مصلحتان وجب إعمال الضرورة المهمة وإلغاء التتمة.(5/220)
وإما الإقناعي فهو الذي يظهر منه في بادئ الأمر أنه مناسب، لكن إذا بحث عنه حق البحث ظهر بخلافه، كقولهم في منع بيع الكلب قياسا على الخمر والميتة: إن كون الشيء نجسا يناسب إذلاله. ومقابلته بالمال في البيع إعزازا له، والجمع بينهما تناقض، فإذا كان هذا الوصف يناسب عدم جوز البيع لأن المناسبة مع الاقتران دليل العلية فهذا وإن كان مخيلا فهو عند النظر غير مناسب؛ إذ لا معنى لكون الشيء نجسا إلا عدم جواز الصلاة معه، ولا مناسبة بينه وبين عدم جواز البيع. كذا قال الرازي وتبعه الهندي. وقد ينازع في أن المراد بكونه نجسا منع الصلاة معه، بل ذلك من جملة أحكام النجس، وحينئذ فالتعليل بكون النجاسة يناسب الإذلال ليس بإقناعي". البحر المحيط 5/ 212-213.
انقسام المناسب باعتبار شهادة الشرع وعدمها:
ثم اعلم: أن المناسب ينقسم باعتبار شهادة الشرع له، بالملاءمة والتأثير، وعدمها، إلى ثلاثة أقسام؛ لأنه إما أن يعلم أن الشارع اعتبره، أو يعلم أنه ألغاه، أو لا يعلم واحد منهما.
القسم الأول:
ما علم اعتبار الشرع له، والمراد بالعلم الرجحان، والمراد بالاعتبار: إيراد الحكم على وفقه، لا التنصيص عليه، ولا الإيماء إليه، وإلا لم تكن العلة مستفادة من المناسبة، وهو المراد بقولهم: شهد له أصل معين.(5/221)
ص -133-…قال الغزالي في "شفاء العليل"1: المعنى بشهادة أصل معين للوصف أنه مستنبط منه، من حيث إن الحكم أثبت شرعا على وفقه.
وله أربعة أحوال: لأنه إما أن يعتبر نوعه في نوعه، أو في جنسه، أو جنسه في نوعه، أو في جنسه.
الحالة الأولى: أن يعتبر نوعه في نوعه، وهو خصوص الوصف في خصوص الحكم، وعمومه في عمومه، كقياس القتل بالمثقل على القتل "بالجارح"*، في وجوب القصاص، بجامع كونه قتلا عمدا عدوانا، فإنه قد عرف تأثير خصوص كونه قتلا عمدا عدوانا في خصوص الحكم، وهو وجوب القصاص في النفس في القتل بالمحدد. ومثل هذا أن يقال: إنه إذا ثبت أن حقيقة السكر اقتضت حقيقة التحريم، فالنبيذ يلحق بالخمر؛ لأنه لا تفاوت بين العلتين، وبين الحكمين وهذا القسم يسمى المناسب الملائم، وهو متفق عليه بين القياسين.
الحالة الثانية: أن يعتبر نوعه في جنسه، كقياس تقديم الإخوة لأبوين على الإخوة لأب في النكاح على تقديمهم في الإرث، فإن الإخوة من الأب والأم نوع واحد في الصورتين، ولم يعرف تأثيره في التقديم في ولاية النكاح، ولكن عرف تأثيره في جنسه؛ وهو التقدم عليهم، فيما ثبت لكل واحد منهم عند عدم "الأمر"**، كما في الإرث، وهذا القسم دون ما قبله؛ لأن المقارنة بين المثلين بحسب اختلاف المحلين أقرب من المقارنة بين نوعين مختلفين.
الحالة الثالثة: أن يعتبر جنسه في نوعه، كقياس إسقاط القضاء عن الحائض، على إسقاط قضاء الركعتين الساقطتين عن المسافر، بتعليل المشقة، والمشقة جنس، وإسقاط قضاء الصلاة نوع واحد، يستعمل على صنفين، إسقاط قضاء الكل، وإسقاط قضاء البعض، وهذا أولى من الذي قبله؛ لأن الإبهام في العلة أكبر محذورا من الإبهام في المعلول.
الحالة الرابعة: اعتبار جنس الوصف في جنس الحكم، وذلك كتعليل كون حد الشرب ثمانين بأنه مظنة القذف، لكونه مظنة الافتراء، فوجب أن يقام مقامه قياسا على الخلوة، فإنها لما كانت مظنة الوطء أقيمت مقامه، وهذا كالذي قبله.(5/222)
القسم الثاني:
ما علم إلغاء الشرع له، كما قال بعضهم: بوجوب الصوم ابتداء في كفارة الملك الذي واقع في رمضان؛ لأن القصد منها الانزجار، وهو لا ينزجر بالعتق، فهذا وإن كان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": بالمثقل.
** في هامش "أ": كذا بالأصل ولعل الصواب عند عدم الأب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 واسمه: "شفاء العليل في القياس والتعليل". وهو في أصول الفقه قال فيه: بعد إلحاحك أيها المسترشد في اقتراحك ولجاجك في إظهار احتياجك إلى شفاء العليل في بيان مسائل التعليل من المناسب، والمحيل، والشبه، والطرد، أتيت فيه بالعجب العجاب ولباب الألباب...ألخ ا. هـ كشف الظنون 2/ 1051.(5/223)
ص -134-…قياسا لكن الشرع ألغاه، حيث أوجب الكفارة مرتبة من غير فصل بين المكلفين، فالقول به مخالف للنص فكان باطلا.
القسم الثالث:
ما لا يعلم اعتباره ولا إلغاؤه، وهو الذي لا يشهد له أصل معين من أصول الشريعة بالاعتبار، وهو المسمى بالمصالح المرسلة.
وقد اشتهر انفراد المالكية بالقول به، قال الزركشي: وليس كذلك، فإن العلماء في جميع المذاهب يكتفون بمطلق المناسبة، ولا معنى للمصلحة المرسلة إلا ذلك.
قال الفخر الرازي في "المحصول": وبالجملة فالأوصاف إنما يلتفت إليها إذا ظن التفات الشرع إليها، وكل ما كان التفات الشرع إليه أكثر كان ظن كونه معتبرا أقوى، وكلما كان الوصف والحكم أخص كان ظن كون ذلك الوصف معتبرا في حق ذلك الحكم آكد، فيكون لا محالة مقدما على ما يكون أعم منه.
وأما المناسب الذي علم أن الشرع ألغاه فهو غير معتبر أصلا.
وأما المناسب الذي لا يعلم أن الشارع ألغاه، أو اعتبره، فذلك يكون بحسب أوصاف هي أخص من كونه وصفا مصلحيا، وإلا فعموم كونه وصفا مصلحيا مشهود له بالاعتبار، وهذا القسم المسمى بالمصالح المرسلة. انتهى.
قال ابن الحاجب في "مختصر المنتهى": وغير المعتبر هو المرسل، فإن كان غريبا، أو ثبت إلغاؤه فمردود اتفاقا، وإن كان ملائما فقد صرح الإمام، والغزالي بقبوله، وذكر عن مالك، والشافعي، والمختار رده، وشرط الغزالي فيه أن تكون المصلحة ضرورية، قطعية، كلية. انتهى.
وسنذكر للمصالح المرسلة بحثا مستقلا في الفصل السابع إن شاء الله1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: 2/ 172.
انقسام المناسب من حيث التأثير والملاءمة وعدمهما:
القسم الرابع:
أن المناسب: إما مؤثر، أو غير مؤثر، وغير المؤثر: إما ملائم، أو غير ملائم. "وغير الملائم"* إما غريب، أو مرسل، أو ملغى.
الصنف الأول:
المؤثر: وهو أن يدل النص، أو الإجماع على كونه علة، تدل على تأثير عين الوصف في عين الحكم أو نوعه في نوعه.(5/224)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".(5/225)
ص -135-…الصنف الثاني:
الملائم: وهو أن يعتبر الشارع عينه في عين الحكم، بترتيب الحكم على وفق الوصف، لا بنص ولا إجماع، وسمي ملائما لكونه موافقا لما اعتبره الشارع، وهذه المرتبة دونما قبلها.
الصنف الثالث:
الغريب: وهو أن يعتبر عينه في عين الحكم، بترتيب الحكم على وفق الوصف فقط، ولا يعتبر عين الوصف في جنس الحكم، ولا عينه ولا جنسه في جنسه بنص وإجماع، كالإسكار في تحريم الخمر، فإنه اعتبر عين الإسكار في عين الحكم، بترتيب التحريم على الإسكار فقط.
ومن أمثلة الغريب: توريث المبتوتة في مرض الموت، إلحاقا بالقاتل الممنوع من الميراث، تعليلا بالمعارضة بنقيض القصد، فإن المناسبة ظاهرة، لكن هذا النوع من المصلحة لم يعهد اعتباره في غير هذا الخاص، فكان غريبا لذلك.
الصنف الرابع:
المرسل غير الملائم، وقد عرفت مما تقدم من كلام ابن الحاجب الا تفاق على رده، وحكاه غيره عن الأكثرين.
الصنف الخامس:
الغريب غير الملائم، وهو مردود بالاتفاق، واختلفوا: هل تنخرم المناسبة بالمعاوضة التي تدل على وجود مفسدة، أو فوات مصلحة تساوي المصلحة، أو ترجح عليها؟ على قولين:
الأول:
أنها تنخرم، وإليه ذهب الأكثرون، واختاره الصيدلاني1 وابن الحاجب؛ لأن دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح؛ ولأن المناسبة أمر عرفي، والمصلحة إذا عارضها ما يساويها لم تعد عند أهل العرف مصلحة.
الثاني:
أنها لا تنخرم، واختاره الفخر الرازي في "المحصول"، والبيضاوي في "المنهاج"، وهذا الخلاف إنما هو إذا لم تكن المعارضة دالة على انتفاء المصلحة، أما إذا كانت كذلك فهي قادحة "بلا خلاف*.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعله محمد بن داود بن محمد المروزي، المعروف بالصيدلاني، أبو بكر، فقيه محدث، توفي سنة سبعٍ وعشرين وأربعمائة هـ، له مصنفات ا. هـ معجم المؤلفين 9/ 298.(5/226)
ص -136-…المسلك السابع: الشبه
ويسميه بعض الفقهاء: الاستدلال بالشيء على مثله، وهو عام أريد به خاص؛ إذ الشبه يطلق على جميع أنواع القياس؛ لأن كل قياس لا بد فيه من كون الفرع شبيها بالأصل، بجامع بينهما، وهو من أهم ما يجب الاعتناء به1. قال الأبياري: لست أرى في مسائل الأصول مسالة أغمض منه، وقد اختلفوا في تعريفه، فقال إمام الحرمين الجويني، لا يمكن تحديده، وقال غيره: يمكن تحديده، فقيل: هو الجمع بين الأصل والفرع بوصف يوهم اشتماله على الحكمة المقتضية للحكم من غير تعيين، كقول الشافعي في النية في الوضوء والتيمم: طهارتان فأنى تفترقان؟! كذا قال الخوارزمي في "الكافي".
قال في "المحصول": ذكروا في تعريفه وجهين:
الأول:
ما قاله القاضي أبو بكر، وهو أن الوصف: إما أن يكون مناسبا للحكم بذاته، وإما لا يناسبه بذاته، لكنه يكون مستلزما لما يناسبه بذاته، وإما أن لا يناسبه بذاته، ولا يستلزم ما يناسبه بذاته.
فالأول: هو الوصف المناسب. والثاني: الشبه. والثالث: الطرد.
الثاني:
الوصف الذي لا يناسب الحكم، إما أن يكون عرف بالنص تأثير جنسه القريب في الجنس القريب لذلك الحكم، وإما أن لا يكون كذلك.
والأول هو الشبه؛ لأنه من حيث هو غير مناسب يظن أنه غير معتبر في حق ذلك الحكم، ومن حيث إنه علم تأثير جنسه القريب في الجنس القريب لذلك الحكم مع أن سائر الأوصاف ليس كذلك يكون ظن إسناد الحكم إليه أقوى من ظن إسناده إلى غيره. انتهى.
وحكى الأبياري في "شرح البرهان" عن القاضي: أنه ما يوهم الاشتمال على وصف مخيل، ثم قال: وفيه نظر، من جهة أن الخصم قد ينازع في إيهام الاشتمال على مخيل، إما حقا أو عنادا، ولا يمكن التقرير عليه.
قال الزركشي: والذي في "مختصر التقريب" من كلام القاضي أن قياس الشبه هو إلحاق فرع بأصل لكثرة إشباهه للأصل في الأوصاف من غير أن يعتقد أن الأوصاف التي شابه الفرع بها الأصل علة حكم الأصل.(5/227)
وقيل: الشبه: هو الذي لا يكون مناسبا للحكم، ولكن عرف اعتبار جنسه القريب في الجنس القريب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البحر المحيط 5/ 231، ميزان الأصول 2/ 864 فواتح الرحموت 2/ 302.(5/228)
ص -137-…واختلف في الفرق بينه وبين الطرد، فقيل: إن الشبه الجمع بينهما بوصف يوهم المناسبة، كما تقدم، والطرد: الجمع بينهما بمجرد الطرد، وهو السلامة عن النقض ونحوه.
وقال الغزالي في "المستصفى"1: الشبه لا بد أن يزيد على الطرد بمناسبة الوصف الجامع لعلة الحكم وإن لم يناسب الحكم، قال: وإن لم يريدوا بقياس الشبه هذا، فلا أدري ما أرادوا به، وبما فصلوه عن الطرد المحض.
والحاصل: أن الشبهي والطردي يجتمعان في عدم الظهور في المناسب، ويتخالفان في أن الطردي عهد من الشارع عدم الالتفات إليه، وسمي شبها؛ لأنه باعتبار عدم الوقوف على المناسبة يجزم المجتهد بعدم مناسبته، ومن حيث اعتبار الشرع له في بعض الصور يشبه المناسب، فهو بين المناسب والطردي.
وفرق إمام الحرمين بين الشبه والطرد؛ بأن الطرد نسبة ثبوت الحكم إليه ونفيه على السواء، والشبه نسبة الثبوت إليه مترجحة على نسبة النفي، فافترقا.
قال ابن الحاجب في "مختصر المنتهى": ويتميز، يعني: الشبه عن الطردي، بأن وجوده كالعدم، وعن المناسب الذاتي بأن مناسبته عقلية، وإن لم يرد الشرع به كالإسكار في التحريم.
مثاله: طهارة تراد للصلاة، فيتعين الماء كطهارة الحدث، فالمناسبة غير ظاهرة، واعتبارها في مس المصحف والصلاة يوهم المناسبة. انتهى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر المستصفى 2/ 311 فإن الغزالي أورد أمثلة لذلك وله كلام مطول في ذلك لم يذكره الإمام الشوكاني رحمه الله هنا.
الخلاف في حجية الشبه:
واختلفوا في كونه حجة أم لا على مذاهب.
الأول:
أنه حجة، وإليه ذهب الأكثرون.
الثاني:
أنه ليس بحجة، قال ابن السمعاني: وبه قال أكثر الحنفية، وإليه ذهب من ادعى التحقيق منهم، وإليه ذهب القاضي أبو بكر، والأستاذ ابو منصور، وأبو إسحاق المروزي، وأبو إسحاق الشيرازي، وأبو بكر الصيرفي، والقاضي أبو الطيب الطبري1.
الثالث:
اعتباره في الأشباه الراجعة إلى الصورة.
الرابع:(5/229)
اعتباره فيما غلب على الظن أنه مناط الحكم، بأن يظن أنه مستلزم لعلة الحكم، فمتى كان كذلك صح القياس، سواء كانت المشابهة في الصورة أو المعنى، وإليه ذهب الفخر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البحر المحيط 5/ 235-236، وفواتح الرحموت 2/ 302.(5/230)
ص -138-…الرازي، وحكاه القاضي في "التقريب" عن ابن سريج.
الخامس:
إن تمسك به المجتهد كان حجة في حقه، إن حصلت غلبة الظن، وإلا فلا، وأما المناظر فيقبل منه مطلقًا، هذا ما اختاره الغزالي في "المستصفى"1.
وقد احتج القائلون بأنه حجة، بأنه يفيد غلبة الظن، فوجب العمل به.
واحتج القائلون بأنه ليس بحجة بوجهين:
الأول:
أن الوصف الذي "سميتموه"* شبها إن كان مناسبا فهو معتبر بالاتفاق، وإن كان غير مناسب فهو الطرد المردود بالاتفاق.
الثاني:
أن المعتمد في إثبات القياس على عمل الصحابة، ولم يثبت عنهم أنهم تمسكوا بالشبه.
وأجيب عن الأول: بأنا لا نسلم أن الوصف إذا لم يكن مناسبا كان مردودا بالاتفاق، بل ما لا يكون مناسبا إن كان مستلزما للمناسب، أو عرف بالنص تأثير جنسه القريب في الجنس القريب لذلك الحكم، فهو غير مردود.
وعن الثاني: بأنا نعول في إثبات هذا النوع من القياس على عموم قوله تعالى: {فاَعتَبروٌا}2 على ما ذكرنا أنه يجب العمل بالظن.
ويجاب عن هذين الجوابين: أنا لا نسلم أن ما كان مستلزما للمناسب كالمناسب، ولا يحصل به الظن بحال، ولا تدل عليه الآية بوجه من وجوه الدلالة، كما سبق تقريره في أول مباحث القياس3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": كان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر المستصفى 2/ 315.
2 جزء من الآية 2 من سورة الحشر.
3 انظر: 2/ 91.
المسلك الثامن: الطرد
قال في "المحصول": والمراد منه: الوصف الذي لم يكن مناسبا، ولا مستلزما للمناسب، إذا كان الحكم حاصلا مع الوصف في جميع الصور المغايرة لمحل النزاع، وهذا المراد من الاطراد والجريان، وهو قول كثير من فقهائنا، ومنهم من بالغ فقال: مهما رأينا الحكم حاصلا مع الوصف في صورة واحدة، يحصل ظن العلية.(5/231)
ص -139-…احتجوا على التفسير الأول بوجهين:
أحدهما:
أن استقراء الشرع يدل على أن النادر في كل باب يلحق بالغالب، فإذا رأينا الوصف في جميع الصور المغايرة لمحل النزاع مقارنا للحكم، ثم رأينا الوصف حاصلا في الفرع، وجب أن يستدل "به"* على ثبوت الحكم إلحاقا لتلك الصورة بسائر الصور.
وثانيهما:
إذا رأينا فرس القاضي واقفا على باب الأمير، غلب على ظننا كون القاضي في دار الأمير، وما ذاك إلا لأن مقارنتهما في سائر الصور أفاد ظن مقارنتهما في هذه الصورة المعينة.
واحتج المخالف بأمرين:
أولهما:
أن الاطراد: عبارة عن كون الوصف بحيث لا يوجد إلا ويوجد معه الحكم، وهذا لا يثبت إلا إذا ثبت أن الحكم حاصل معه في الفرع، فإذا أثبتم ثبوت الحكم في الفرع بكون ذلك الوصف علة، وأثبتم عليته بكونه مطردا، لزم الدور وهو باطل.
وثانيهما:
أن الحد مع المحدود، والجوهر مع العرض، وذات الله مع صفاته: حصلت المقارنة فيها مع عدم العلية.
والجواب "عن الأول"**: أن نستدل بالمصاحبة في كل الصور غير الفرع على العلية، وحينئذ لا يلزم الدور.
وعن الثاني: أن غاية كلامكم حصول الطرد في بعض الصور، منفكا عن العلية، وهذا لا يقدح في دلالته على العلية ظاهرا، كما أن الغيم الرطب دليل المطر، ثم عدم نزول المطر في بعض الصور لا يقدح في كونه دليلا.
وأيضا: المناسبة، والدوران، والتأثير، والإيماء قد ينفك كل واحد منها عن العلية،، ولم يكن ذلك قدحا في كونها دليلا على العلية ظاهرا "فكذا ههنا"***. انتهى.
وقد جعل بعض أهل الأصول الطرد والدوران شيئًا واحدًا، وليس كذلك، فإن الفرق بين الطرد والدوران: أن الطرد عبارة عن المقارنة في الوجود دون العدم، والدوران عبارة عن المقارنة وجودا وعدما.
والتفسير الأول للطرد المذكور في "المحصول" قال الهندي: هو قول الأكثرين.
وقد اختلفوا1 في كون الطرد حجة، فذهب بعضهم إلى أنه ليس بحجة مطلقًا.(5/232)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** زيادة عن المحصول.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البحر المحيط 5/ 249، التبصرة 460، ميزان الأصول 2/ 860.(5/233)
ص -140-…وذهب آخرون إلى أنه حجة مطلقا.
وذهب بعض أهل الأصول إلى التفصيل، فقال: هو حجة على التفسير الأول دون الثاني.
ومن القائلين بالمذهب الأول جمهور الفقهاء والمتكلمين، كما نقله القاضي عنهم.
قال القاضي حسين: لا يجوز أن يدان الله به، واختار الرازي، والبيضاوي أنه حجة، وحكاه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في "التبصرة" عن الصيرفي. قال الكرخي: هو مقبول جدلا، ولا يسوغ التعويل عليه عملا و"لا"* الفتوى به.
قال القاضي أبو الطيب الطبري: ذهب بعض متأخري أصحابنا إلى أنه يدل على صحة العلية، واقتدى به قوم من أصحاب أبي حنيفة بالعراق، فصاروا يطردون الأوصاف على مذاهبهم، ويقولون إنها قد صحت، كقولهم في مس الذكر "مس"** آلة الحدث، فلا ينتقض الوضوء بلمسه؛ لأنه طويل مشقوق، فاشبه البوق، وفي السعي بين الصفا والمروة: إنه سعي بين جبلين، فلا يكون ركنًا، كالسعي بين جبلين بنيسابور1، ولا يشك عاقل أن هذا سخف. قال ابن السمعاني: وسمى أبو زيد الذين يجعلون الطرد حجة، والاطراد دليلا على صحة العلية حشوية أهل القياس. قال: ولا يعد هؤلاء من جملة الفقهاء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مدينة عظيمة ذات فضائل جسيمة، معدن الفضلاء، ومنبع العلماء، وهي مدينة في الإقليم الرابع، تبعد عن الري مائة وستين فرسخا، وهي مدينة كثيرة المياه والثمار والفواكه ا. هـ معجم البلدان 5/ 331.
المسلك التاسع: الدوران
وهو: أن يوجد الحكم عند وجود الوصف، ويرتفع بارتفاعه في صورة واحدة، كالتحريم مع السكر في العصير، فإنه لما لم يكن مسكرا لم يكن حراما، فلما حدث السكر فيه وجدت الحرمة، ثم لما زال السكر بصيرورته خلا زال التحريم، فدل على أن العلة السكر1.
وقد اختلف أهل الأصول في إفادته للعلية.(5/234)
فذهب بعض المعتزلة إلى أنه يفيد القطع بالعلية.
وذهب الجمهور إلى أنه يفيد ظن العلية، بشرط عدم المزاحم؛ لأن العلة الشرعية لا توجب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر المستصفى 2/ 307 والبحر المحيط 5/ 243.(5/235)
ص -141-…الحكم بذاتها، وإنما هي علامة منصوبة، فإذا دار الوصف مع الحكم غلب على الظن "كونه معرفا"*.
قال الصفي الهندي: هو المختار. قال إمام الحرمين: ذهب كل من يعزى إلى الجدل إلى أنه أقوى ما تثبت به العلل، وذكر القاضي أبو الطيب الطبري أن هذا المسلك من أقوى المسالك.
وذهب بعض أهل الأصول إلى أنه لا يفيد بمجرده، لا قطعا ولا ظنا، واختاره الأستاذ أبو منصور، وابن السمعاني، والغزالي، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، والآمدي، وابن الحاجب.
واحتجوا: بأنه قد وجد مع عدم العلية، فلا يكون دليلا عليها، ألا ترى أن المعلول دار مع العلة وجودا وعدما، مع أن المعلول ليس بعلة لعلته قطعا، والجوهر والعرض متلازمان، مع أن أحدهما ليس بعلة في الآخر اتفاقا، والمتضايفان كالأبوة والبنوة متلازمان وجودا وعدما، مع أن أحدهما ليس بعلة في الآخر، لوجوب تقدم العلة على المعلول، ووجوب تصاحب المتضايفين، وإلا لما كانا متضايفين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": أنه معرف.
المسلك العاشر: تنقيح المناط1
التنقيح في اللغة: التهذيب والتميز، يقال: كلام منقح، أي: لا حشو فيه، والمناط هو العلة.
قال ابن دقيق العيد: وتعبيرهم بالمناط عن العلة من باب المجازي اللغوي؛ لأن الحكم لما علق بها كان كالشيء المحسوس الذي تعلق بغيره، فهو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس، وصار ذلك في اصطلاح الفقهاء بحيث لا يفهم عند الإطلاق غيره. انتهى.
ومعنى تنقيح المناط عند الأصوليين: إلحاق الفرع بالأصل بإلغاء الفارق، بأن يقال: لا فرق بين الأصل والفرع إلا كذا، وذلك لا مدخل له في الحكم ألبتة، فيلزم اشتراكهما في الحكم لاشتراكهما في الموجب له، كقياس الأمة على العبد في السراية، فإنه لا فارق بينهما إلا الذكورة، وهو ملغى بالإجماع؛ إذ لا مدخل له في العلية.
قال الصفي الهندي: والحق أن تنقيح المناط قياس خاص، مندرج تحت مطلق القياس،(5/236)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الزركشي: وسماه الحنفية بالاستدلال وأجروه في الكفارات، وفرقوا بينه وبين القياس بأن القياس ما ألحق فيه بذكر الجامع الذي لا يفيد إلا غلبة الظن، والاستدلال ما يكون الإلحاق فيه بإلغاء الفارق الذي يفيد القطع، متى أجروا مجرى القطعيات في النسخ وجوزوا الزيادة على النص ولم يجوزوا نسخه بخبر الواحد. ا. هـ البحر المحيط 5/ 255.(5/237)
ص -142-…وهو عام يتناوله وغيره.
وكل منهما قد يكون ظنيا، وهو الأكثر، وقطعيا ولكن حصول القطع فيما فيه الإلحاق بإلغاء الفارق أكثر من الذي الإلحاق فيه بذكر الجامع، لكن ليس ذلك فرقا في المعنى، بل في الوقوع، وحينئذ: لا فرق بينهما في المعنى.
قال الغزالي: تنقيح المناط يقول به أكثر منكري القياس، ولا نعرف بين الأمة خلافا في جوازه، ونازعه العبدري بأن الخلاف فيه ثابت بين من يثبت القياس وينكره، لرجوعه إلى القياس.
وقد زعم الفخر الرازي أن هذا المسلك هو مسلك السبر والتقسيم، فلا يحسن عدة نوعا آخر، ورد عليه بأن بينهما فرقا ظاهرا، وذلك أن الحصر في دلالة السبر والتقسيم لتعيين العلة، إما استقلالا أو اعتبارا، وفي تنقيح المناط لتعيين الفارق وإبطاله، لا لتعيين العلة.
المسلك الحادي عشر: تحقيق المناط
وهو: أن يقع الاتفاق على علية وصف بنص، وإجماع، فيجتهد في وجودها في صورة النزاع، كتحقيق أن النباش سارق.
وسمي تحقيق المناط؛ لأن المناط وهو الوصف علم أنه مناط، وبقي النظر في تحقيق وجوده في الصورة المعينة.
قال الغزالي: وهذا النوع من الاجتهاد لا خلاف فيه بين الأمة، والقياس مختلف فيه، فكيف يكون هذا قياسا1.
واعلم أنهم قد جعلوا القياس من أصله ينقسم إلى ثلاثة اقسام:
قياس علة.
وقياس دلالة.
وقياس في معنى الأصل.
فقياس العلة: ما صرح فيه بالعلة، كما يقال في النبيذ: إنه مسكر فيحرم كالخمر.
وقياس الدلالة: هو أن لا يذكر فيه العلة، بل وصف ملازم لها، كما لو علل في قياس النبيذ على الخمر برائحة المشتد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البحر المحيط 5/ 256 والمستصفى 2/ 230.(5/238)
ص -143-…والقياس الذي في معنى الأصل، هو أن يجمع بين الأصل والفرع بنفي الفارق، وهو تنقيح المناط كما تقدم.
وأيضا قسموا القياس إلى جلي، وخفي.
فالجلي: ما قطع فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع، كقياس الأمة على العبد في أحكام العتق، فإنا علم قطعا أن الذكورة والأنوثة فيها مما لم يعتبره الشارع، وأنه لا فارق بينهما إلا ذلك، فحصل لنا القطع بنفي الفارق.
والخفي بخلافه، وهو ما يكون نفي الفارق فيه مظنونا في كقياس النبيذ على الخمر في الحرمة؛ إذ لا يمتنع أن تكون خصوصية الخمر معتبرة، ولذلك اختلفوا في تحريم النبيذ.
الفصل الخامس: فيما لا يجري فيه القياس:
حكم جريان القياس في الأسباب:
فمن ذلك الأسباب
وقد اختلفوا في ذلك:
فذهب أصحاب أبي حنيفة، وجماعة من الشافعية، وكثير من أهل الأصول إلى أنه لا يجرى فيها.
وذهب جماعة من أصحاب الشافعي إلى أنه يجري فيها.
ومعنى القياس في الأسباب: أن يجعل الشارع وصفا سببا لحكم، فيقاس عليه وصف آخر، فيحكم بكونه سببا.
وذلك نحو: جعل الزنا سببا للحد، فيقاس عليه اللواط، في كونه سببا للحد.
احتج المانعون بأن علية سببية المقيس عليه، وهي قدر من الحكمة، يتضمنها الوصف الأول منتفية في المقيس، وهو الوصف الآخر، أي: لم يعلم ثبوتها فيه لعدم انضباط الحكمة، وتغاير الوصفين، فيجوز اختلاف قدر الحكمة الحاصلة بهما، وإذا كان كذلك امتنع الجمع بينهما في الحكم، وهو السببية؛ لأن معنى القياس الاشتراك في العلة، وبه يمكن التشريك في الحكم.
وأيضا: الحكمة المشتركة: إما أن تكون ظاهرة منضبطة، يمكن جعلها مناطا للحكم أو لا تكون.
فعلى الأول: قد استغنى القياس عن الالتفات إلى الوصفين، وصار القياس في الحكم.(5/239)
ص -144-…المترتب على الحكمة، وهي الجامع بينهما، فتحد الحكم والسبب، وهو خلاف المفروض.
وعلى الثاني: فإما أن يكون لها مظنة، أي: وصف ظاهر منضبط، تنضبط هي به أولا، فعلى الأول صار القياس في الحكم المترتب على ذلك الوصف، فاتحد الحكم والسبب أيضًا.
وعلى الثاني: لا جامع بينهما من حكمة أو مظنة، فيكون قياسا خاليا عن الجامع، وهو لا يجوز.
واحتج القائلون بالجواز: بأنه قد ثبت القياس في الأسباب، وذلك كقياس المثقل على المحدد في كونه سببا للقصاص، وقياس اللواطة على الزنا في كونها سببا للحد.
وأجيب: بان ذلك خارج عن محل النزاع؛ لأن النزاع إنما هو فيما تغاير فيه السبب في الأصل والفرع، أي: الوصف المتضمن للحكمة، وكذا العلة، وهي الحكمة، وههنا السبب سبب واحد، يثبت لهما، أي: لمحلي الحكم، وهما الأصل والفرع بعلة واحدة. ففي المثقل والمحدد السبب هو القتل العمد العدوان، والعلة الزجر لحفظ النفس، والحكم القصاص، وفي الزنا واللواطة السبب إيلاج فرج في فرج محرم شرعا، مشتهى طبعا، والعلة الزجر لحفظ النسب، والحكم وجوب الحد.
وهذا الجواب لا يرد على الحنفية المانعين من القياس في الأسباب؛ لأنهم لا يقولون بالقصاص في المثقل، ولا بالحد في اللواط، وإنما يرد على من قال بمنع القياس في الأسباب من الشافعية، فإنهم يقولون بذلك.
قال المحقق السعد: والحق أن رفع النزاع بمثل ذلك يعني: بكونه ليس محل النزاع ممكن في كل صورة، فإن القائلين بصحة القياس في الأسباب لا يقصدون إلا ثبوت الحكم بالوصفين؛ لما بينهما من الجامع، ويعود إلى ما ذكرتم من اتحاد الحكم والسبب.
القياس في الحدود والكفارات:
واختلفوا أيضًا: هل يجري القياس في الحدود، والكفارات، أم لا؟ فمنعه الحنفية، وجوزه غيرهم1.(5/240)
احتج المانعون بأن الحدود مشتملة على تقديرات لا تعقل، كعدد المائة في الزنا، والثمانين في القذف، فإن العقل لا يدرك الحكمة في اعتبار خصوص هذا العدد، والقياس فرع تعقل المعنى في حكمة الأصل، وما كان يعقل منها، كقطع يد السارق، لكونها قد جنت بالسرقة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال في فواتح الرحموت 2/ 317: قال الحنفية: لا يجري القياس في الحدود خلافا لمن عداهم لاشتمالها على تقديرات لا تعقل بالرأي. ا. هـ وانظر المستصفى 2/ 334.(5/241)
ص -145-…فقطعت، فإن الشبهة في القياس لاحتماله الخطأ توجب المنع من إثباته بالقياس، وهكذا اختلاف تقديرات الكفارات، فإنه لا يعقل، كما لا تعقل أعداد الركعات.
وأجيب عن ذلك: بأن جريان القياس إنما يكون فيما يعقل معناه منها، لا فيما لا يعقل، فإنه لا خلاف في عدم جريان القياس فيه، كما في غير الحدود، والكفارات، ولا مدخل لخصوصيتهما في امتناع القياس.
وأجيب عما ذكروه من الشبهة في القياس، لاحتماله الخطأ، بالنقض بخبر الواحد، وبالشهادة، فإن احتمال الخطأ فيهما قائم؛ لأنهما لا يفيدان القطع، وذلك يقتضي عدم ثبوت الحد بهما.
والجواب: الجواب.
واحتج القائلون بإثبات القياس في الحدود والكفارات، بأن الدليل الدال على حجية القياس يتناولهما بعمومه، فوجب العمل به فيهما. ويؤيد ذلك أن الصحابة حدوا في الخمر بالقياس، حتى تشاوروا فيه، فقال علي رضي الله عنه: "إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فأرى عليه حد الافتراء"1.
فأقام مظنة الشيء مقامه، وذلك هو القياس.
واحتجوا أيضًا: بأن القياس إنما يثبت في غير الحدود والكفارات، لاقتضائه الظن، وهو حاصل فيهما، فوجب العمل به.
واعلم: أن عدم جريان القياس فيما لا يعقل معناه، كضرب الدية على العاقلة، قد قيل: إنه إجماع، وقيل: إنه مذهب الجمهور، وأن المخالف في ذلك شذوذ.
ووجه المنع: أن القياس فرع تعقل المعنى المعلل به الحكم في الأصل.
واستدل من أثبت القياس فيما لا يعقل معناه: بأن الأحكام الشرعية متماثلة؛ لأنه يشتملها حد واحد، وهو حد الحكم الشرعي، والمتماثلان يجب اشتراكهما فيما يجوز عليهما؛ لأن حكم الشيء حكم مثله.(5/242)
وأجيب: بأن هذا القدر لا يوجب التماثل، وهو الاشتراك في النوع، فإن الأنواع المتخالفة قد تندرج تحت جنس واحد، فيعمها حد واحد، وهو حد ذلك الجنس، ولا يلزم من ذلك تماثلها، بل تشترك في الجنس، ويمتاز كل نوع منها بأمر يميزه، وحينئذ فما كان يلحقها باعتبار القدر المشترك من الجواز والامتناع يكون عاما، لا ما كان يلحقها باعتبار غيره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البيهقي من حديث علي رضي الله عنه، كتاب الأشربة والحد فيها، باب ما جاء في عدد حد الخمر موقوفا على علي رضي الله عنه 8/ 321. ومالك في الموطأ، كتاب الأشربة، باب الحد في الخمر 2، 2/ 842.(5/243)
ص -146-…الفصل السادس: في الاعتراضات
أي: ما يعترض به المعترض على كلام المستدل، وهي في الأصل تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
مطالبات، وقوادح، ومعارضة؛ لأن الكلام المعترض: إما أن يتضمن تسليم مقدمات الدليل أو لا.
الأول: المعارضة.
والثاني: إما أن يكون جوابه ذلك الدليل أو لا.
الأول: المطالبة. والثاني: القدح.
وقد أطنب الجدليون في هذه الاعتراضات، ووسعوا دائرة الأبحاث فيها، حتى ذكر بعضهم منها ثلاثين اعتراضا، وبعضهم خمسة وعشرين، وبعضهم جعلها عشرة، وجعل الباقية راجعة إليها، فقال هي: فساد الوضع، فساد الاعتبار، عدم التأثير، القول بالموجب، النقض، القلب، المنع، التقسيم، المعارضة، المطالبة.
قال: ولكل مختلف فيه إلا المنع، والمطالبة، وهذا يدل على الإجماع على المنع والمطالبة، وفيه أنه قد خالف في المنع غير واحد، منهم الشيخ أبو إسحاق "العنبري"*، وخالف في المطالبة شذوذ من أهل العلم.
وقال ابن الحاجب في "المختصر": إنها راجعة إلى منع، أو معارضة، وإلا لم تسمع، وهي خمسة وعشرون. انتهى.
وقد ذكرها جمهور أهل الأصول في أصول الفقه، وخالف في ذلك الغزالي، فأعرض عن ذكرها في أصول الفقه، وقال: إنها كالعلاوة عليه، وأن موضع ذكرها علم الجدل.
وقال صاحب "المحصول": إنها أربعة: النقض، وعدم التأثير، والقول بالموجب، والقلب. انتهى.
وسنذكر ههنا منها ثمانية وعشرين اعتراضا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في أ: أبو إسحاق الشيرازي، والصواب العنبري كما قال الزركشي في كتابه: وخالف في المنع غير واحد من الأئمة وهو الشيخ أبو إسحاق العنبري على حسب ما سمعته من القاضي الإمام فخر الدين أحمد الخطابي. انتهى. البحر المحيط 5/ 260.(5/244)
ص -147-…الاعتراض الأول: النقض
وهو تخلف الحكم مع وجود العلة، ولو في صورة واحدة، فإن اعترف المستدل بذلك كان نقضا صحيحا، عند من يراه قادحا، وأما من لم يره قادحا فلا يسميه نقضا، بل يجعله من باب تخصيص العلة.
وقد بالغ أبو زيد في الرد على من يسميه نقضا1.
وينحصر النقض في تسع صور؛ لأن العلة أما منصوصة قطعا، أو ظنا، أو مستنبطة، وتخلف الحكم عنها: إما لمانع، أو فوات شرط، أو بدونها.
وقد اختلف الأصوليون في هذا الاعتراض على مذاهب:
الأول:
أنه يقدح في الوصف المدعى علة مطلقًا، سواء كانت منصوصة أو مستنبطة عن سواء كان تخلف الحكم لمانع أو لا لمانع، وهو مذهب المتكلمين، وهو اختيار أبي الحسين البصري، والأستاذ أبي إسحاق، والفخر الرازي، وأكثر أصحاب الشافعي، ونسبوه إلى الشافعي، ورجحوا أنه مذهبه2.
المذهب الثاني:
أنه لا يقدح مطلقًا في كونها علة فيما وراء النقض، ويتعين بتقدير مانع، أو تخلف شرط، وإليه ذهب أكثر أصحاب أبي حنيفة، ومالك، وأحمد.
المذهب الثالث:
أنه لا يقدح في المنصوصة، ويقدح في المستنبطة، حكاه إمام الحرمين عن المعظم، فقال: ذهب معظم الأصوليين إلى أن النقض يبطل العلة المستنبطة.
وقال في "المحصول": زعم الأكثرون أن علية الوصف إذا ثبتت بالنص لم يقدح التخصيص في عليته.
المذهب الرابع:
أنه يقدح في المنصوصة دون المستنبطة، عكس الذي قبله، حكاه بعض أهل الأصول، وهو ضعيف جدا.
المذهب الخامس:
أنه لا يقدح في المستنبطة إذا كان لمانع أو عدم شرط، ويقدح في المنصوصة، حكاه ابن الحاجب، وقد أنكروه عليه، وقالوا: لعله فهم ذلك من كلام الآمدي، وفي كلام الآمدي ما يدفعه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ومثاله: قولنا فيمن لم يبيت النية: صوم تعرى أوله عن النية فلا يصح. فيقال: فينتقض بصوم التطوع. ا. هـ البحر المحيط 5/ 261.(5/245)
2 وذلك لأن علله سليمة عن الانتقاض جارية على مقتضاها، وأن النقض يشبه تجريح البينة المعدلة. ا. هـ البحر المحيط 5/ 262.(5/246)
ص -148-…المذهب السادس:
أنه لا يقدح حيث وجود مانع مطلقًا، سواء كانت العلة منصوصة أو مستنبطة، فإن لم يكن مانع قدح، واختاره البيضاوي، والصفي الهندي.
المذهب السابع:
أنه يقدح في المستنبطة في صورتين، إذا كان التخلف لمانع، أو انتفاء شرط، ولا يقدح في صورة واحدة، وهي ما إذا كان التخلف بدونهما.
وأما المنصوصة: فإن كان النص ظنيا، وقدر مانع، أو فوات شرط جاز، وإن كان قطعيا لم يجز، أي: لم يكن وقوعه؛ لأن الحكم لو تخلف لتخلف الدليل.
وحاصله: أنه لا يقدح في المنصوصة إلا بظاهر عام، ولا يقدح في المستنبطة إلا لمانع، أو فقد شرط، واختاره ابن الحاجب، وهو قريب من كلام الآمدي.
المذهب الثامن:
أنه يقدح في علة الوجوب والحل، دون علة الحظر، حكاه القاضي عن بعض المعتزلة.
المذهب التاسع:
أنه يقدح إن انتقضت على أصل من جعلها علة، ولم يلزمه الحكم بها، وإن اطردت على أصله ألزم، حكاه الأستاذ أبو إسحاق عن بعض المتأخرين، قال: وهو من حشو الكلام، لولا أنه أودع كتابا مستعملا لكان تركه أولى.
المذهب العاشر:
إن كانت العلة مؤثرة لم يرد النقض عليها؛ لأن تأثيرها لا يثبت إلا بدليل مجمع عليه، ومثله لا ينقض، حكاه ابن السمعاني عن أبي زيد، ورده بأن النقض يفيد عدم تأثير العلة.
المذهب الحادي عشر:
إن كانت العلة مستنبطة، فإن اتجه فرق بين محل التعليل، وبين صورة النقض بطلت عليته؛ لكونه المذكور أولا جزء من العلة، وليست علة تامة، وإن لم يتجه فرق بينهما، فإن لم يكن الحكم مجمعا عليه، أو ثابتا بمسلك قاطع "سمعي"* بطلت عليته، وإلا فلا، واختاره إمام الحرمين الجويني.
المذهب الثاني عشر:
إن "تخلف"** الحكم عن العلة "له"*** ثلاث صور.
الصورة الأولى: أن يعرض في جريان العلة ما يقتضي عدم اطرادها، فإنه يقدح.
الثانية: أن تنتفي العلة لا لخلل في نفسها، لكن لمعارضة علة أخرى، فهذه لا تقدح.(5/247)
الثالثة: أن يختلف الحكم لا لخلل في ركن العلة، لكن لعدم مصادفتها محلها، أو شرطها، فلا يقدح، وهذا اختيار الغزالي، وفي كلامه طول.
المذهب الثالث عشر:
إن كان النقص من جهة المستدل فلا يقدح؛ لأن الدليل قد يكون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*ما بين القوسين ساقط من "أ". وكلمة "قاطع" قبلها ساقطة من "ب".
** في "أ": أن يختلف.
***في "أ": وله.(5/248)
ص -149-…صحيحا في نفسه، وينقضه المستدل، فلا يكون نقضه دليلا على فساده؛ لأنه قد ينقضه على أصله، ويكون أصل غيره مخالفا له، وإن كان النقض من جهة المعترض قدح، حكاه الأستاذ أبو منصور.
المذهب الرابع عشر:
أن عليه الوصف إن ثبتت بالمناسبة، أو الدوران، وكان النقض بتخلف الحكم عنها لمانع، لم يقدح في عليته، وإن كان التخلف لا لمانع قدح، حكاه صاحب "المحصول"، ونسبة إلى الأكثرين.
المذهب الخامس عشر:
أن الخلاف في هذه المسألة لفظي؛ لأن العلة إن فسرت بالموجبة، فلا يتصور عليتها مع الانتقاض، وإن فسرت بالمعرفة، فيتصور عليتها مع الانتقاض، وهذا رجحه الغزالي، والبيضاوي، وابن الحاجب، وفيه نظر. فإن الخلاف معنوي، لا لفظي، على كل حال.
قال الزركشي: في "البحر": واعمل أنه إذا قال المعترض: ما ذكرت من العلة منقوض بكذا؛ فللمستدل أن يقول: لا نسلم، ويطالبه بالدليل على وجودها في محل النقض، وهذه المطالبة مسموعة بالاتفاق. انتهى1.
قال الأصفهاني: لا يشترط في القيد الدافع للنقض أن يكون مناسبا، بل غير المناسب مقبول، مسموع اتفاقا، والمانعون من التعليل بالشبه يوافقون على ذلك.
وقال في "المحصول": هل يجوز دفع النقض بقيد طردي؟ أما الطاردون فقد جوزوه، وأما منكرو الطرد فمنهم من جوزوه، والحق: أنه لا يجوز؛ لأن أحد أجزاء العلة إذا لم يكون مؤثرا لم يكن مجموع العلة مؤثرا، وهكذا قال إمام الحرمين في "البرهان"، ثم اختار التفصيل بين أن يكون القيد الطردي يشير إلى مسألة تفارق مسألة النزاع بفقه، فلا يجوز نقض العلة، وإلا فلا يفيد الاحتراز عنه، قال: ولو فرض التقييد باسم غير مشعر بفقه، ولكن مباينة المسمى به لما عداه مشهورة بين النظار، فهل يكون التقييد بمثله تخصيصا للعلة؟ اختلف فيه الجدليون، والأقرب تصحيحه؛ لأنه اصطلاح2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(5/249)
1 انظر البحر المحيط 5/ 271. ولكنه قال: "وهذه المطالبة ممنوعة بالاتفاق" ففي العبار تحريف.
2 انظر البحر المحيط 5/ 273.
الاعتراض الثاني: الكسر
وهو إسقاط وصف من أوصاف العلة المركبة، وإخراجه عن الاعتبار، بشرط أن يكون المحذوف مما لا يمكن أخذه في حد العلة1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر المنخول 410، والبحر المحيط 5/ 278.(5/250)
ص -150-…هكذا قال أكثر الأصوليين، والجدليين، ومنهم من فسره: بأنه وجود المعنى في صورة، مع عدم الحكم فيه، والمراد: وجود معنى تلك العلة في موضع آخر، ولا يوجد معها ذلك الحكم، وعلى هذا التفسير يكون كالنقض.
ولهذا قال ابن الحاجب في "المختصر": الكسر: وهو نقض المعنى، والكلام فيه كالنقض. ومثاله: أن يعلل المستدل على القصر في السفر بالمشقة، فيقول المعترض: ما ذكرته من المشقة ينتقض بمشقة أرباب الصنائع الشاقة في الحضر.
وقد ذهب الأكثرون إلى أن الكسر غير مبطل.
وأما جماعة من الأصوليين، منهم: الفخر الرازي، والبيضاوي، فجعلوه من القوادح.
قال الصفي الهندي: الكسر نقض يرد على بعض أوصاف العلة، وذلك هو ما عبر عنه الآمدي بالنقض المكسور. قال الصفي الهندي: وهو مردود عند الجماهير، إلا إذا بين الخصم إلغاء القيد، ونحن لا نعني بالكسر إلا إذا بَيَّن أما إذا لم يبين، فلا خلاف أنه مردود، وأما إذا بَيَّن، فالأكثرون على أنه قادح، وقول الآمدي، والأكثرون على أنه غير قادح مردود.
قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في "التلخيص": واعلم أن الكسر سؤال مليح، والاشتغال به ينتهي إلى بيان الفقه، وتصحيح العلة، وقد اتفق أكثر أهل العلم على صحته، وإفساد العلة به، ويسمونه النقض من طريق المعنى، والإلزام من طريق الفقه، وأنكره طائفة من الخراسانيين، قال: وهذا غير صحيح؛ لأن الكسر نقض من حيث المعنى، فهو بمنزلة النقض من طريق اللفظ. انتهى.
وقد جعلوا منه ما رواه البيهقي عنه صلى الله عليه وسلم: أنه دُعي إلى دار فأجاب، ودُعي إلى دار أخرى فلم يجب، فقيل له في ذلك، فقال: "إن في دار فلان كلبا"، فقيل: وفي هذه الدار سنور، فقال: "السنور سبع"1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(5/251)
1 أخرجه البيهقي، من حديث أبي هريرة، كتاب الطهارة، باب سؤر الهرة 1/ 249 والدارقطني، كتاب الطهارة، باب الأسآر 1/ 63. وابن أبي شيبة، كتاب الطهارات، باب من قال لا يجزء ويغسل منه الإناء 1/ 47 بلفظ "الهر سبع". والحاكم، كتاب الطهارة 15/ 183. وقال: هذا حديث صحيح ولم يخرجاه.
وعيسى بن المسيب تفرد عن أبي زرعة، إلا أنه صدوق ولم يجرح قط.
وتعقبه الذهبي: قلت: قال أبو داود: ضعيف، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي. وبعهم يسرده مختصرا، وبعضهم يأتي به بقصة. قال الزيلعي في نصب الراية 1/ 134: قال ابن أبي حاتم في علله، قال أبو زرعة: لم يرفعه أبو نعيم وهو أصح، وعيسى ليس بالقوي، ثم قال: أخرجه العقيلي في "كتاب الضعفاء" من طريقه وقال: لا يتابعه إلا من هو مثله أو دونه. وجاء في التلخيص الحبير 1/ 25 قال ابن الجوزي: لا يصح. وأخرجه ابن عدي في "الكامل" في ترجمة عيسى وقال: هذا لا يرويه غير عيسى بن المسيب بهذا الإسناد ولعيسى بن المسيب غير هذا الحديث وهو صالح فيما يرويه. ا. هـ.(5/252)
ص -151-…ووجه الدلالة: أنهم ظنوا أن الهرة يكسر المعنى، فأجاب بالفرق، هو أن الهرة سبع، أي: ليست بنجسة، كذا قيل.
قال في "المنخول": قال الجدليون: الكسر يفارق النقض، فإنه يرد على إخالة المعلل، لا على عبارته، والنقض يرد على العبارة، قال: وعندنا لا معنى للكسر، فإن كل عبارة لا إخالة فيها، فهي طرد محذوف، فالوارد على الإخالة نقض، ولو أورد على أحد الوصفين مع كونهما مختلفين، فهو باطل لا يقبل1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال في المنخول: إن الكسر سؤال لازم، ويفارق النقض، فإنه يرد على إخالة العلة لا على عبارتها والنقض يرد على العبارة. ا. هـ المنخول ص410.
الاعتراض الثالث: عدم العكس
وهو وجود الحكم بدون الوصف في صورة أخرى، كاستدلال الحنفي على منع تقديم أذان الصبح بقوله: صلاة لا تقصر، فلا يجوز تقديم أذانها كالمغرب، فيقال له: هذا الوصف لا ينعكس؛ لأن الحكم الذي هو منع التقديم للأذان على الوقت موجود فيما قصر من الصلوات لعلة أخرى.
قال إمام الحرمين: إذا قلنا: إن اجتماع العلل على معلول واحد غير واقع، فالعكس لازم ما لم يثبت الحكم عند انتفاء العلة "بتوقيف"*، لكن لا يلزم المستدل بيانه، بخلاف ما ألزمناه في النقض؛ لأن ذاك داعٍ إلى الانتشار، وسببه أن إشعار النفي بالنفي منحط عن أشعار الثبوت بالثبوت.
وقال الآمدي: لا يرد سؤال العكس، إلا أن يتفق المتناظران على اتحاد العلة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": يتوقف.
الاعتراض الرابع: عدم التأثير
وقد ذكر جماعة من أهل الأصول أن هذا الاعتراض قوي، حتى قال ابن الصباغ: إنه من أصح ما يعترض به على العلة.
وقال ابن السمعاني: ذكر كثير من أصحابنا سؤال عدم التأثير، ولست أرى له وجها بعد أن يبين المعلل التأثير لعلته، وقد ذكرنا أن العلة الصحيحة ما أقيم الدليل على صحتها بالتأثير، وقد(5/253)
ص -152-…جعله القائلون به منقسمًا إلى أقسام:
الأول:
عدم التأثير في الوصف "لكونه"* طرديًّا وهو راجع إلى عدم العكس السابق قبل هذا كقولهم صلاة الصبح لا تقصر فلا تقدم على وقتها كالمغرب فقولهم: لا تقصر "وصف"** طردي بالنسبة إلى عدم التقديم.
الثاني:
عدم التأثير في الأصل "بكونه"*** مستغنى عنه في الأصل لوجود معنى آخر مستقل بالغرض، كقولهم في بيع الغائب مبيع غير مرئي كالطير في الهواء؛ فلا يصح فيقال: لا أثر لكونه غير مرئي فإن العجز عن التسليم كافٍ؛ لأن بيع الطير لا يصح، وإن كان مرئيًّا.
وحاصله: معارضة في الأصل؛ لأن المعترض يلغي من العلة وصفًا، ثم يعارضه المستدل بما بقي.
قال إمام الحرمين: والذي صار إليه المحققون فساد العلة بما ذكرنا.
وقيل: بل يصح؛ لأن ذلك القيد له أثر في الجمل، وإن كان مستغنى عنه، كالشاهد الثالث بعد شهادة عدلين، وهو مردود؛ لأن ذلك القيد ليس محله، ولا وصفا له، فذكره لغو، بخلاف الشاهد الثالث، فإنه متهيئ لأن يصير عند عدم صحة شهادته أحد الشاهدين ركنا.
الثالث:
عدم التأثير في الأصل والفرع جميعا؛ بأن يكون له فائدة في الحكم، إما ضرورية، كقول من اعتبر الاستنجاء بالأحجار "عبادة متعلقة بالأحجار لم يتقدمها معصية، فاشترط فيها العد كالجمار"****.
وإما غير ضرورية، كقولهم: الجمعة صلاة مفروضة فلم تفتقر إلى إذن الإمام كالظهر، فإن قولهم: مفروضة حشو لو حذف لم يضر.
الرابع:
عدم التأثير في الفرع، كقولهم: زوجت نفسها فلا يصح، كما لو: "تزوجت***** من غير كفء، "فيقال"******: غير كفء لا أثر له، فإن النزاع في الكفء وغيره سواء. وقد اختلف فيه على أقوال:
الأول: الجواز، قال الأستاذ أبو بكر: وهو الأصح.
والثاني: المنع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": لكونه.
** في "أ": إلى وصف عدم التقد يم.
*** في "أ": لكونه.
**** ما بين قوسين ساقط من "أ".
***** في "أ": زوجت.(5/254)
****** في "أ": فإن كونه.(5/255)
ص -153-…والثالث: التفصيل، وهو عدم الجواز مع تبيين محل السؤال، والجواز مع عدمه، واختاره إمام الحرمين.
الخامس:
عدم التأثير في الحكم، وهو أن يذكر في الدليل وصفا لا تأثير له في الحكم المعلل به، كقولهم في المرتدين الذين يتلفون الأموال: مشركون اتلفوا في دار الحرب، فلا ضمان عليهم كالحربي، فإن دار الحرب لا مدخل لها في الحكم، فلا فائدة لذكرها؛ لأن من أوجب الضمان يوجبه وإن لم يكن في دار الحرب، وكذا من نفاه ينفيه مطلقًا.
الاعتراض الخامس: القلب
قال الآمدي: هو أن يبين القالب أن ما ذكره المستدل يدل عليه لا له، أو يدل عليه وله، والأول قلما يتفق في الأقيسة.
ومثله في المنصوص: باستدلال الحنفي في توريث الخال بقوله صلى الله عليه وسلم: "الخال وارث من لا وارث له"1. فاثبت إرثه عند عدم الوارث، فيقول المعترض: هذا يدل عليك لا لك؛ لأن معناه نفي توريث الخال بطريق المبالغة، كما يقال: الجوع زاد من لا زاد له، والصبر حيلة من لا حيلة له، أي: ليس الجوع زادا، ولا الصبر حيلة.
قال الفخر الرازي في "المحصول": القلب معارضة إلا في أمرين:
أحدهما:
أنه لا يمكن فيه الزيادة في العلة، وفي سائر المعارضات يمكن.
والثاني:
لا يمكن منع وجود العلة في الفرع والأصل؛ لأن أصله وفرعه أصل المعلل وفرعه، ويمكن ذلك في سائر المعارضات، أما فيما وراء هذين الوجهين، فلا فرق بينه وبين المعارضة.
قال الهندي: والتحقيق أنه دعوى؛ "لأن"* ما ذكره المستدل عليه لا له في تلك المسألة على ذلك الوجه. انتهى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": أن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو داود من حديث المقدام، كتاب الفرائض، باب في أرزاق الذرية 2899. وابن ماجه، كتاب الفرائض، باب ذوي الأرحام 2738. وأحمد في مسنده 4/ 133. وابن حبان في صحيحه 6035.(5/256)
الدارقطني 4/ 85. والبيهقي، كتاب الفرائض، باب من قال بتوريث ذوي الأرحام 6/ 214. والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 4/ 397. النسائي في الكبرى في التحفة 8/ 510. وابن أبي شيبة 11/ 264.(5/257)
ص -154-…وجعله ابن الحاجب وشراح كلامه قسمين:
إحدهما:
تصحيح مذهب المعترض، فيلزم منه بطلان مذهب المستدل لتنافيهما.
وثانيهما:
إبطال مذهب المستدل ابتداء، إما صريحا، أو بالالتزام.
ومثال الأول: أن يقول الحنفي: الاعتكاف يشترط فيه الصوم؛ لأنه لبث، فلا يكون بمجرده قربة، كالوقوف بعرفة.
فيقول الشافعي: فلا يشترط فيه الصوم كالوقوف بعرفة.
ومثال الثاني: أن يقول الحنفي في أنه يكفي مسح ربع الرأس عضو من أعضاء الوضوء، فلا يكفي أقله، كسائر الأعضاء، فيقول الشافعي: فلا يقدر بالربع، كسائر الأعضاء، هذا الصريح.
وأما الالتزام: فمثاله أن يقول الحنفي: بيع غير المرئي بيع معاوضة، فيصح مع الجهل بأحد العوضين: كالنكاح، فيقول الشافعي: فلا يثبت فيه خيار الرؤية، كالنكاح.
وقد ذهب إلى اعتبار هذا الاعتراض الجمهور، وأنه قادح.
وأنكره بعض أهل الأصول، وقال: إن الحكمين، أي: ما يثبته المستدل، وما يثبته القالب، إن لم يتنافيا فلا قلب؛ إذ لا منع من اقتضاء العلة الواحدة لحكمين غير متنافيين، وإن استحال اجتماعهما في صورة واحدة، فلم يمكن الرد إلى ذلك الأصل بعينه، فلا يكون قلبا؛ إذ لا بد فيه من الرد إلى ذلك الأصل.
وأجاب الجمهور عن هذا: بأن الحكمين غير متنافيين لذاتهما، فلا جرم يصح اجتماعهما في الأصل، لكن قام الدليل على امتناع اجتماعهما في الفرع، فإذا أثبت القالب الحكم الآخر في الفرع بالرد إلى الأصل، امتنع ثبوت الحكم الأول، وظاهر كلام إمام الحرمين أنه لازم جدلا لا دينا1.
وقال أبو الطيب الطبري: إن هذا القلب إنما ذكره المتأخرون من أصحابنا، حيث استدل أبو حنيفة بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار"2 في مسالة الساحة، قال: وفي "هدم"* البناء ضرار
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": هذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البحث المحيط 5/ 290-291.(5/258)
2 أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عباس، كتاب الأحكام باب من بنى في حقه ما يضر بجاره 2340/ 2341". والحاكم في المستدرك 2/ 58 الدارقطني في سننه 4/ 227 ومالك في الموطأ كتاب الأقضية باب القضاء في المرفق 31، 2/ 745 وأيضًا في كتاب المكاتب، باب ما لا يجوز من عتق المكاتب 13، 2/ 804 وذكره الشافعي في الأم، باب فيمن أحيا أرضا مواتا 7/ 230.(5/259)
ص -155-…بالغاصب، فقال له أصحابنا: وفي بيع صاحب الساحة "لساحته"* إضرار به1.
قال: ومن أصحابنا من قال: "لا"** يصح سؤال القلب، قال: وهو شاهد زور، يشهد لك ويشهد عليك، قال: وهذا باطل؛ لأن القالب عارض المستدل بما لا يمكن الجمع بينه وبين دليله، فصار كما لو عارضه بدليل آخر.
وقيل: هو باطل؛ إذ لا يتصور إلا في الأوصاف الطردية.
ومن أنواع القلب، جعل المعلول علة، والعلة معلولا، وإذا أمكن ذلك تبين أن لا علة، فإن العلة هي الموجبة، والمعلول هو الحكم الواجب لها.
وقد فرقوا بين القلب والمعارض بوجوه:
منها ما قدمنا عن الفخر الرازي.
وقال القاضي أبي الطيب الطبري، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي: إنه معارضة، فإنه لا يفسد العلة.
وقال ابن الحاجب في "مختصر المنتهى": والحق أنه نوع معارضة، اشترك فيه الأصل والجامع، فكان أولى بالقبول.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": الساحة.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لم يذكرها الأحناف بمسألة الساحة وإنما ذكروها بمسألة الساجة، في مبسوط السرخسي: يجب رد المغصوب كالساجة إذا بني عليها، وتأثير هذا الكلام أن العين باقية والرد جائز شرعا، وحجتهم في ذلك أن العين ملك المغصوب منه وما أتصل به من الوصف "البناء" متقوم حق للغاصب وسبب ظلمه لا يسقط قيمة ما كان متقوما من حقه، ودفع الضرر واجب فيتعين دفع الضرر هنا بإيجاب قيمة المغصوب حقا للمغصوب منه ليتوصل هو إلى مالية ملكه ويبقى حق صاحب الوصف في الوصف مرعيا هذا لأنه لا بد من إلحاق الضرر بأحدهما إلا أن في الإضرار بالغاصب إهدار حقه وفي قطع حق المغصوب منه بضمان القيمة توفير المالية عليه لا إهدار حقه ودفع الضرر واجب بحسب الإمكان وضرر النقل دون ضرر الإبطال. ا. هـ المبسوط 11/ 93. وانظر الهداية 3/ 297.(5/260)
وقالت الشافعية بخلاف ذلك فقال النووي في المجموع: وإن غصب أرضا فغرس فيها غراسا أو بنى فيها بناء فدعا فيها صاحب الأرض إلى قلع الغراس ونقض البناء لزمه ذلك. ا. هـ المجموع 14/ 256 مختصر المزني: 118.(5/261)
ص -156-…الاعتراض السادس: القول بالموجب
بفتح الجيم، أي: القول بما أوجبه دليل المستدل.
قال في "المحصول": وحده: تسليم ما جعله المستدل موجب العلة، مع استبقاء الخلاف. انتهى.
قال الزركشي في "البحر": وذلك بأن يظن المعلل أن ما أتى به مستلزم لمطلوبه، من حكم المسألة المتنازع فيها، مع كونه غير مستلزم.
قال: وهذا أولى من تعريف الرازي له بموجب العلة؛ لأنه لا يختص بالقياس.
قال ابن المنير: حدوه بتسليم مقتضى الدليل، مع بقاء النزاع فيه، وهو غير مستقيم؛ لأنه يدخل فيه ما ليس منه، وهو بيان غلظ المستدل على إيجاب النية في الوضوء بقوله صلى الله عليه وسلم: "في أربعين شاةً شاةٌ"1 فقال المعترض: أقول بموجب هذا الدليل، لكنه لا يتناول محل النزاع، "فهذا ينطبق عليه الحد"*، وليس قولا بالموجب؛ لأن شرطه أن يظهر عذر للمستدل عذر معتبر.
ومن أنواع القول بالموجب: أن يذكر المستدل إحدى المقدمتين، ويسكت عن الأخرى، ظنا منه أنها مسلمة، فيقول الخصم بموجب المقدمة، ويبقى على المنع لما عداها.
ومنها: أن يعتقد المستدل تلازما بين محل النزاع، وبين محل آخر، فينصب الدليل على ذلك المحل بناء منه على أن ما ثبت به الحكم في ذلك المحل يستلزم ثبوته في محل النزاع.
فيقول المعترض بالموجب ومنع الملازمة.
والفرق بينه وبين المعارضة: أن حاصله يرجع إلى خروج الدليل عن محل النزاع، والمعارضة فيها اعتراف بأن للدليل دلالة على محل النزاع.
قال إمام الحرمين، وابن السمعاني: وهو سؤال صحيح إذا خرج مخرج الممانعة، ولا بد في "توجهه"** من شرط، وهو أن يسند الحكم الذي ينصب له العلة إلى شيء، مثل قول الحنفي في ماء الزعفران: ماء خالطه طاهر، والمخالطة لا تمنع صحة الوضوء، فيقول المعترض: المخالط لا يمنع، لكنه ليس بماء مطلق2.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": ومكانها: عندي كالمظنون للمستدل.
** في "أ": موجهة.(5/262)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه في 2/ 393.
2 انظر البحر المحيط 5/ 300.(5/263)
ص -157-…قال في "المنخول"1: الأصوليون يقولون تارة: أن القول بالموجب ليس اعتراضا، وهو لعمري كذلك، فإنه لا يبطل العلة؛ لأنها إذا جرت العلة وحكمها مختلف فيه؛ فلأن تجرى وحكمها متفق عليه أولى.
واختلفوا هل يجب على المعترض إبداء سند القول بالموجب أم لا؟
فقيل: يجب لقربه إلى ضبط الكلام، وصونه عن الخبط، وإلا فقد يقول بالموجب على سبيل العناد.
وقيل: لا يجب؛ لأنه قد وفى بما عليه وعلى المستدل الجواب، وهو أعرف بمآخذ مذهبه، قال الآمدي، وهو المختار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر المنخول 402.
الاعتراض السابع: الفرق
وهو إبداء وصف في الأصل يصلح أن يكون علة مستقلة، أو جزء علة، وهو معدوم في الفرع، سواء كان مناسبا أو شبها إن كانت العلة شبيهة، بأن يجمع المستدل بين الأصل والفرع بأمر مشترك بينهما فيبدي المعترض وصفا فارقا بينه وبين الفرع.
قال في "المحصول": الكلام فيه مبني على أن تعليل الحكم بعلتين، هل يجوز أم لا؟ انتهى.
وقد اشترطوا فيه أمرين:
أحدهما:
أن يكون بين الأصل والفرع فرق بوجه من الوجوه، وإلا لكان هو هو، وليس كلما انفرد "به"* الأصل بوصف من الأوصاف يكون مؤثرا، مقتضيا للحكم، بل قد يكون ملغى للاعتبار بغيره، فلا يكون الوصف الفارق قادحا.
والثاني:
أن يكون قاطعا للجمع: "بأن"** كون أخص من الجمع فيقدم عليه، أو مثله فيعارضه.
قال جمهور الجدليين في حده: الفرق قطع الجمع بين الأصل والفرع؛ إذ اللفظ أشعر به.
وهو الذي يقصد منه.
وقال بعضهم: حقيقته المنع من الإلحاق بذكر وصف في الفرع، أو في الأصل.
قال إمام الحرمين، والأستاذ أبو إسحاق: إن الفرق ليس سؤالا على حياله، وإنما هو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في"أ": بين أن.(5/264)
ص -158-…معارضة الأصل بمعنى أو معارضة العلة التي نصبها المستدل في الفرع بعلة مستقلة، وهو سؤال صحيح، كما اختاره إمام الحرمين، وجمهور المحققين من الأصوليين، والفقهاء.
قال إمام الحرمين: ويعترض على الفارق مع قبوله في الأصل بما يعترض به على العلل المستقلة.
الاعتراض الثامن: الاستفسار
وقد قدمه جماعة من الأصوليين على الاعتراضات، ومعناه: طلب شرح معنى اللفظ إن كان غريبا، أو مجملا، ويقع بهل، أو الهمزة، أو نحوهما، مما يطلب به شرح الماهية، وهو سؤال مقبول معول عليه عند الجمهور، وقد غلط من لم يقبله من الفقهاء؛ لأن محل النزاع إذا لم يكن متحققا، لم يظهر وفاق ولا خلاف.
وقد يرجع المخالف إلى الموافقة "عن* أن يتضح له محل النزاع، ولكن لا يقبل إلا بعد بيان اشتمال اللفظ على إجمال، أو غرابة، فيقول المعترض.
أولا: اللفظ الذي ذكره المستدل مجمل، أو غريب بدليل كذا، فعند ذلك يتوجه على المستدل التفسير.
وحكى الصفي الهندي أن بعض الجدليين أنكر كونه اعتراضا؛ لأن التصديق فرع دلالة الدليل على المتنازع فيه1.
قال بعض أهل الأصول: إن هذا الاعتراض للاعتراضات قد جعلوه طليعة جيشها، وليس من جنسها؛ إذ الاعتراض عبارة عما يخدش به كلام المستدل، والاستفسار ليس من هذا القبيل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": عند.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البحر المحيط 5/ 318.
الاعتراض التاسع: فساد الاعتبار
أي: أنه لا يمكن اعتبار القياس في ذلك الحكم، لمخالفه للنص، أو الإجماع، أو كان الحكم ما لا يمكن إثباته بالقياس1، أو كان تركيبه مشعرا بنقيد الحكم المطلوب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مثاله: إلحاق المصراة بغيرها من العيوب في حكم الرد وعدمه ووجوب بدل لبنها الموجود في الضرع.(5/265)
ص -159-…وخص فساد الاعتبار جماعة من أهل الأصول بمخالفته للنص، وهذا الاعتراض مبني على أن خبر الواحد مقدم على القياس، وهو الحق. وخالف في ذلك طائفة من الحنفية، والمالكية، فقدموا القياس على خبر الواحد.
وجواب هذا الاعتراض بأحد وجوه:
الأول: الطعن في سند النص إن لم يكن من الكتاب، أو السنة المتواترة.
أو منع ظهوره فيما يدعيه المستدل،
أو بيان أن المراد به غير ظاهرة،
وأن مدلوله لا ينافي حكم القياس.
أو المعارضة له بنص آخر حتى يتساقطا، ويصح القياس.
أو أن القياس الذي اعتمده أرجح من النص الذي عورض "به"*، ويقيم الدليل على ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
الاعتراض العاشر: فساد الوضع1
وذلك بإبطال ضع القياس المخصوص في إثبات الحكم المخصوص، بأن يبين المعترض أن الجامع الذي ثبت به الحكم قد ثبت اعتباره بنص، أو إجماع في نقيض الحكم. والوصف الواحد لا يثبت به النقيضان؛ وذلك بأن يكون أحدهما مضيقا، والآخر موسعا، أو أحدهما مخففا، والآخر مغلظا، أو أحدهما إثباتا، والآخر نفيا.
والفرق بين هذا الاعتراض والاعتراض الذي قبله: أن فساد الاعتبار أعم من فساد الوضع، فكل فاسد الوضع فاسد الاعتبار، ولا عكس
وجعلهما أبو إسحاق الشيرازي واحدا.
وقال ابن برهان: هما شيئان من حيث المعنى، لكن الفقهاء فرقوا بينهما، وقالوا: فساد الوضع، وهو: أن يعلق على العلة "ضد ما يقتضيه، وفساد الاعتبار هو: أن يعلق على العلة"* خلاف ما يقتضيه النص.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر المنخول 415 والبحر المحيط 5/ 219. وميزان الأصول 2/ 1070.(5/266)
ص -160-…وقيل: فساد الوضع: هو إظهار كون الوصف ملائما لنقيض الحكم، مع اتحاد الجهة، ومنه: الاحتراز عند تعدد الجهات لتنزيلها منزلة تعدد الأوصاف، وعن ترك حكم العلة بمجرد ملاءمة الوصف للنقيض دون دلالة الدليل؛ إذ هو عند فرض اتحاد الجهة خروج عن فساد الوضع إلى القدح في المناسبة.
قال ابن السمعاني: وذكر أبو زيد أن هذا السؤال لا يرد إلا على الطرد، والطرد ليس بحجة.
وقيل: هو أقوى من النقيض؛ لأن الوضع إذا فسد لم يبق إلا الانتقال، والنقض يمكن الاحتراز عنه.
وقال الأصفهاني في "شرح المحصول": هو مقبول عند المتقدمين، ومنعه المتأخرون؛ إذ لا توجه له لكونه خارجا عن المنع والمعارضة.
وجواب هذا الاعتراض ببيان وجود المانع في أصل المعترض.
الاعتراض الحادي عشر: المنع
قال أبن السمعاني: الممانعة: أرفع سؤال على العلل.
وقيل: "إنها"* أساس المناظرة، وهو يتوجه على الأصل من وجهين:
أحدهما:
منع كون الأصل معللا؛ لأن الأحكام تنقسم بالاتفاق إلى ما يعلل، وإلى ما لا يعلل، فمن ادعى تعليل شيء كلف ببيانه.
قال إمام الحرمين: إنما "يتجه"** هذا الاعتراض على من لم يذكر تحريرا، فإن الفرع في العلة المحررة يرتبط بالأصل.
قال إلكيا: هذا الاعتراض باطل؛ لأن المعلل إذا أتى بالعلة لم يكن لهذا السؤال معنى,
الثاني:
منع الحكم في الأصل.
واختلفوا هل هذا الاعتراض يقتضي انقطاع المستدل أم لا؟
فقيل: إنه يقتضي إنقطاعه.
وقيل: إنه لا يقتضي ذلك، وبه جزم إمام الحرمين، وإلكيا الطبري.
قال ابن برهان: إنه المذهب الصحيح، المشهور بين النظار، واختاره الآمدي، وابن الحاجب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": يتوجه.(5/267)
ص -161-…وقيل: إن كان المنع جليا فهو انقطاع، وإن كان خفيا فلا، واختاره الأستاذ أبو إسحاق.
وقيل: يتبع عرف البلد الذي وقعت فيه المناظرة، فإن الجدل مراسيم، فيجب اتباع العرف، وهو اختيار الغزالي.
وقيل: إن لم يكن له مدرك غيره جاز، واختاره الآمدي1
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البحث مفصلا في ميزان الأصول 1067 والبحر المحيط 5/ 322.
الاعتراض الثاني عشر: التقسيم
وهو كون اللفظ مترددا بين أمرين: أحدهما ممنوع، والآخر مسلم، واللفظ محتمل لهما، غير ظاهر في أحدهما.
قال الآمدي: وليس من شرطه أن يكون أحدهما ممنوعا، والآخر مسلما، بل قد يكونان مسلمين، لكن الذي يرد على أحدهما غير "ما"* يرد على الآخر؛ إذ لو اتحد "ما"** يرد عليهما لم يكن للتقسيم معنى، ولا خلاف في أنه لا يجوز كونهما ممنوعين؛ لأن التقسيم لا يفيد.
وقد منع قوم من قبول هذا السؤال؛ لأن إبطال أحد محتملي كلام المستدل لا يكون إبطالا له؛ إذ لعله غير مراده.
مثال: في الصحيح الحاضر، إذا فقد الماء وجد سبب جواز التيمم -وهو تعذر الماء- فيجوز التيمم، فيقول المعترض: ما المراد بكون تعذر الماء سببا للتيمم، هل تعذر الماء مطلقًا، أو تعذره في السفر، أو المرض؟
الأول ممنوع.
وحاصله: أنه منع بعد تقسيم، فيأتي فيه ما تقدم في صريح المنع من كونه مقبولا أو مردودا، وموجبا للانقطاع أو غير موجب.
وجوابه: أن يعين المستدل أن اللفظ موضوع له، ولو عرفا أو ظاهرا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": الذي
** في "أ": الذي
الاعتراض الثالث عشر: اختلاف الضابط بين الأصل والفرع
اختلاف الضابط بين الأصل والفرع، لعدم الثقة بالجامع، كقولهم في شهود القصاص:(5/268)
ص -162-…الاعتراض السادس عشر: منع كون الوصف المدعى عليته علة
قال ابن الحاجب في "مختصر المنتهى": وهو من أعظم الأسئلة لعمومه، وتشعب مسالكه، والمختار قبوله، وإلا لأدى إلى اللعب في التمسك بكل طردي. انتهى.
مثاله: أن يقول في الكلب: حيوان يغسل من ولوغه سبعا، فلا يقبل جلده الدباغ "كالخنزير، فيقول: لا نسلم أن كون جلد الخنزير لا يقبل الدباغ"*، معللا بكونه يغسل من ولوغه.
وجوابه: بإثبات العلية بمسلك من مسالكها المذكورة سابقا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
الاعتراض الرابع عشر: اختلاف حكمي الأصل والفرع
قيل: إنه قادح؛ لأن شرط القياس مماثلة الفرع للأصل في علته وحكمه، فإن اختلف الحكم لم تتحقق المساواة، وذلك كإثبات الولاية على الصغيرة في نكاحها، قياسا على إثباتها في مالها.
الاعتراض الخامس عشر: منع كون ما يدعيه المستدل علة لحكم الأصل
منع كون ما يدعيه المستدل علة لحكم الأصل، موجودا في الأصل، فضلا أن يكون هو العلة.
مثاله: أن يقول في الكلب: حيوان يغسل من ولوغه سبعا، فلا يقبل جلده الدباغ، كالخنزير، فيقول المعترض: لا نسلم أن الخنزير يغسل من ولوغه سبعا.
والجواب عن هذا الاعتراض: بإثبات وجود الوصف في الأصل بما هو طريق ثبوت مثله، إن كان حسيا فبالحس، وإن كان عقليا فبالعقل، وإن كان شرعيا فبالشرع.(5/269)
ص -163-…الاعتراض التاسع عشر : كون الوصف غير ظاهر
كون الوصف غير ظاهر، كالرضا في العقود.
وجوابه بالاستدلال على كونه ظاهرا، كضبط الرضا بصيغ العقود، ونحو ذلك.
الاعتراض الثامن عشر: القدح في إفضائه إلى المصلحة المقصودة من شرع الحكم له
مثاله: أن يقال في علة تحريم مصاهرة المحارم على التأبيد: إنها الحاجة إلى ارتفاع الحجاب.
ووجه المناسبة: أنه يفضي إلى رفع الفجور، وتقريره أن رفع الحجاب، وتلاقي الرجال والنساء يفضي إلى الفجور، وأنه يرتفع بتحريم التأبيد؛ إذ يرتفع الطمع المفضي إلى مقدمات الهم والنظر، المفضية إلى الفجور.
فيقول المعترض: لا يفضي إلى ذلك، بل سد باب النكاح أفضى إلى الفجور؛ لأن النفس حريصة على ما منعت منه، وقوة داعية الشهوة مع اليأس عن الحل مظنة الفجور.
وجوابه ببيان الإفضاء إليه، بأن يقول في هذه المسألة: التأبيد يمنع عادة ما ذكرناه من مقدمات الهم والنظر، وبالدوام يصير كالأمر الطبيعي.(5/270)
ص -164-…الاعتراض الحادي والعشرون: المعارضة
وهي: إلزام المستدل الجمع بين شيئين، والتسوية بينهما في الحكم، إثباتا أو نفيا.
كذا قال الأستاذ أبو منصور.
وقيل: هي إلزام الخصم أن يقول قولا قال بنظيره، وهي من أقوى الاعتراضات، وهي "أعم"* من اعتراض النقض، فكل نقض معارضة، ولا عكس، كذا قيل1.
وفيه نظر؛ لأن النقض هو تخلف الحكم مع وجود العلة، وهذا المعنى يخالف معنى المعارضة.
وقد أثبت اعتراض المعارضة الجمهور من أهل الأصول، والجدل، وزعم قوم أنها ليست بسؤال صحيح.
واختلف القائلون بها في الثابت منها، فقيل: إنما يثبت منها معارضة الدلالة بالدلالة والعلة بالعلة، ولا يجوز معارضة الدعوى بالدعوى "وذكر الكعبي في "جدله"2 أنه يجوز معارضة الدعوى بالدعوى"**.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": أهم.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال في البحر: والفرق بينه وبين المناقضة من حيث إن كل نقض معارضة بخلاف العكس، وأيضا فالنقض لا يكون بالدليل، المعارضة بالدليل على الدليل صحيحة. ا. هـ البحر المحيط 5/ 333.
2 واسمه أدب الجدل لأحمد بن عبد الله الكعبي البلخي المتوفى سنة تسع عشرة وثلاثمائة هـ ولكن ذكره صاحب هدية العارفين باسم عبد الله بن أحمد الكعبي وكذلك ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء. ا. هـ الأعلام 4/ 65 سير أعلام النبلاء 14/ 313 هدية العارفين 1/ 444.
أقسام المعارضة:
والمعارضة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
معارضة في الأصل.
ومعارضة في الفرع.
ومعارضة في الوصف.
أما المعارضة في الأصل:
فبأن يذكر علة أخرى في الأصل سوى العلة التي علل بها.(5/271)
ص -165-…المستدل، وتكون تلك العلة معدومة "في الفرع"* ويقول: إن الحكم في الأصل إنما كان بهذه العلة التي ذكرها المعترض، لا بالعلة التي ذكرها المستدل.
قال ابن السمعاني، والصفي الهندي: وهذا هو سؤال الفرق.
وذكر بعض أهل الأصول: أنه لا فرق بين أن تكون العلة التي يبديها المعترض مستقلة بالحكم، كمعارضة الكيل بالطعم، أو غير مستقلة، بل هي جزء علة، كزيادة الجارح في القتل العمد العدوان في مسألة القتل بالمثقل، وهذا إذا كانت العلة التي جاء بها المعترض مسلمة من خصمه، أو محتملة احتمالا راجحا، أما إذا تعارضت الاحتمالات، فقيل: يرجح وصف المستدل.
وقيل: وصف المعترض.
وقيل: لا وجه لترجيح أحدهما على الآخر، بل هو من التحكم المحض.
ثم اختلفوا مع عدم الترجيح، هل تقتضي هذه المعارضة إبطال دليل المستدل أم لا؟ على قولين، حكاهما الأستاذ أبو منصور.
ثم اختلفوا هل يجب على المعترض بيان انتفاء الوصف الذي عارض به الأصل عن الفرع على أقوال:
الأول:
أنه لا يجب، بل على المستدل أن يبين ثبوته في الفرع، ليصح الإلحاق وإلا بطل الجمع.
الثاني:
أنه يجب على المعترض البيان؛ لأن الفرق لا يتم إلا بذلك.
الثالث:
أنه إن قصد الفرق بين الأصل والفرع، وجب عليه ذلك، وإلا لم يجب، وهو اختيار الآمدي، وابن الحاجب.
وجواب هذه المعارضة يكون إما بمنع وجود الوصف في الأصل، أو بمنع المناسبة، أو منع الشبه، إن أثبته بأحدهما؛ لأن المعارضة لا تتم من المعترض، إلا إذا كان الوصف الذي عارض به في الأصل مناسبا، أو "شبها"**؛ إذ لو كان طرديا لم تصح المعارضة، أو بمنع كون الوصف الذي أبداه المعترض ظاهرا، أو بمنع كونه منضبطا، أو ببيان إلغاء الوصف الذي وقعت به المعارضة، أو ببيان رجوعه إلى عدم وجود وصف في الفرع، لا إلى ثبوت معارض في الأصل.
وأما المعارضة في الفرع:(5/272)
فهي أن يعارض حكم الفرع لما يقتضي نقيضه أو ضده بنص أو إجماع أو بوجود مانع أو بفوات شرط فيقول: ما ذكرت من الوصف وإن اقتضى ثبوت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": مشابها.(5/273)
ص -166-…الحكم في الفرع، فعندي وصف آخر، يقتضي نقيضه، أو ضده، بنص هو كذا، أو بإجماع على كذا، أو بوجود مانع، لما ذكرته من الوصف، أو بفوات شرط له.
وقد قبل هذا الاعتراض، أعني: المعارضة في الفرع، بعض أهل الأصول والجدل، ونفاه آخرون فقالوا: إن دلالة المستدل على ما ادعاه قد تمت.
قال الصفي الهندي: وهو ظاهر "إلا فيما"* إذا كانت المعارضة بفوات شرط.
وأما المعارضة في الوصف
فهي على قسمين:
أحدهما:
أن يكون بضد حكمه.
والثاني:
أن يكون في عين حكمه، مع تعذر الجمع بينهما.
مثال الأول: أن يقول المستدل في الوضوء: إنها طهارة حكمية، فتفتقر إلى النية، قياسا على التيمم.
فيقول المعارض: طهارة بالماء، فلا تفتقر إلى النية، قياسا على إزالة النجاسة، فلا بد عند ذلك من الترجيح.
ومثال الثاني: أن يقول المعترض: نفس هذا الوصف الذي ذكرته "يدل"** على خلاف ما تريده، ثم يوضح ذلك بما يكون محتملا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": الادعاء.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
الاعتراض الثاني والعشرون: سؤال التعدية
وهو أن يعين المعترض في الأصل معنى غير ما عينه المستدل، ويعارضه بم ثم يقول للمستدل: ما عللت به، وإن تعدى إلى فرع مختلف فيه، فكذا ما عللت به أنا، يتعدى إلى فرع آخر، مختلف فيه، وليس أحدهما أولى من الآخر.
وذلك كأن يقول المستدل: بكر، فجاز خيراها كالصغيرة، فيقول المعترض: البكارة، وإن تعدت إلى البكر البالغة، فالصغر متعد إلى الثيب الصغيرة.
وقد اختلفوا في "قبول هذا الاعتراض"*، فقبله البعض ورده البعض، وأدرجه الصفي الهندي في اعتراض المعارضة في الأصل.
وجوابه: إبطال ما اعترض به وحذفه عن درجة الاعتبار.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": في قبول هذا إبطال الاعتراض.(5/274)
ص -167-…واختلفوا: هل يجب على المستدل أن يبين أنه لا أثر لما أشار إليه المعترض من التسوية في التعدية، أو لا يجب؟
فقال الأكثرون: لا يجب، وقال بعض أهل الأصول: يجب.
الاعتراض الثالث والعشرون: سؤال التركيب
وهو أن يقول المعترض: شرط حكم الأصل أن لا يكون ذا قياس مركب، وهو قسمان:
مركب الأصل.
ومركب الوصف.
ومرجع الأول: منع حكم الأصل، أو منع العلة.
ومرجع الثاني: منع الحكم، أو منع وجود العلة في الفرع.
وقد اختلفوا في قبوله، فبعضهم قبله، وبعضهم رده.
الاعتراض الرابع والعشرون: منع وجود الوصف المعلل به في الوصف
كأن يقول المستدل في أمان العبد: أمان صدر عن أهله، كالعبد المأذون له في القتال.
فيقول المعترض: لا نسلم أن العبد أهل للأمان.
وجوابه ببيان ما يثبت "به"*أهليته من حس، أو عقل، أو شرع، وقد جعل بعضهم هذا الاعتراض مندرجا فيما تقدم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".(5/275)
ص -168-…الفائدة الأولى:
اختلفوا: هل يلزم المعترض أن يورد الأسئلة مرتبة بعضا مقدم على البعض إذا أورد أسئلة متعددة، أم لا يلزمه ذلك، بل يقدم ما شاء، ويؤخر ما شاء؟
فقال جماعة: لا يلزمه الترتيب.
وقال آخرون: يلزمه؛ لأنه لو جاز إيرادها على أي وجه اتفق لأدى إلى التناقض، كما لو
الاعتراض الثامن والعشرون: أن يدعي المعترض المخالفة بين حكم الأصل وحكم الفرع
أن يدعي المعترض المخالفة بين حكم الأصل وحكم الفرع، وهو اعتراض متوجه إلى المقدمة القائلة، فيوجد الحكم في الفرع كما وجد في الأصل.
وحاصل هذا: أن دعوى المعترض للمخالفة: إما أن تكون بدليل المستدل، فيرجع إلى اعتراض القلب، أو بغيره، فيكون اعتراضا خاصا، خارجا عما تقدم، وقد جعله بعضهم مندرجا فيما تقدم.
وههنا فوائد متعلقة بهذه الاعتراضات:(5/276)
ص -169-…جاء بالمنع بعد المعارضة، أو بعد النقض، أو بعد "المطالبة"* فإنه ممتنع؛ لأنه منع بعد تسليم، وإنكار بعد إقرار.
قال الآمدي: وهذا هو المختار. وقيل: إن اتحد جنس السؤال كالنقض، والمعارضة، والمطالبة، جاز إيرادها من غير ترتيب؛ لأنها بمنزلة سؤال واحد، فإن تعددت أجناسها، كالمنع مع المطالبة، ونحو ذلك، لم يجز، وحكاه الآمدي عن أهل الجدل، وقال: اتفقوا على ذلك، ونقل عن أكثر الجدليين أنه يقدم المنع، ثم المعارضة، ونحوها، ولا يعكس هذا الترتيب، وإلا لزم الإنكار بعد الإقرار.
قال جماعة من المحققين منهم: الترتيب المستحسن أن يبدأ بالمطالبات أولا؛ لأنه إذا لم يثبت أركان القياس لم يدخل في جملة الأدلة، ثم بالقوادح؛ لأنه لا يلزم من كونه على صورة الأدلة أن يكون صحيحا، ثم إذا بدأ بالمنع، فالأولى أن يقدم منع وجود الوصف في الفرع؛ لأنه دليل الدعوى، ثم منع ظهره، ثم منع انضباطه، ثم منع كونه علة في الأصل، فإذا فرغ من المنوع شرع في القوادح، فيبدأ بالقول بالموجب، لوضوح مأخذه، ثم بفساد الوضع، ثم بالقدح في المناسبة، ثم بالمعاوضة.
وقال الأكثر من القدما ء كما حكاه عنهم أبو الحسن السهيلي في "أدب الجدل": إنه يبدأ بالمنع من الحكم في الأصل؛ لأنه إذا كان ممنوعا لم يجب على السائل أن يتكلم على كون الوصف ممنوعا، أو مسلما، ولا كون الأصل معللا بتلك العلة، أو بغيرها، ثم يطالبه بإثبات الوصف في الفرع، ثم باطراد العلة، ثم بتأثيرها ثم بكونه غير فاسد الوضع، ثم بكونه غير فاسد الاعتبار، ثم بالقلب، ثم بالمعارضة.(5/277)
وقال جماعة من الجدليين، والأصوليين: إن أول ما يبدأ به الاستفسار، ثم فساد الاعتبار، ثم فساد الوضع، ثم منع حكم الأصل، ثم منع وجود العلة في الأصل، ثم منع علية الوصف، ثم المطالبة، وعدم التأثير، والقدح في المناسبة، والتقسيم، وعدم ظهور الوصف، وانضباطه وكون الحكم غير صالح للإفضاء إلى ذلك المقصود، ثم النقض والكسر، ثم المعارضة، والتعدية، والتركيب، ثم منع وجود العلة في الفرع، ومخالفة حكمه حكم الأصل، ثم القلب، ثم القول بالموجب.
وقد قدمنا1 قول من قال: إن جميع الأسئلة ترجع إلى المنع والمعارضة، ووجه ذلك: أنه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": المعارضة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر صفحة: 2/ 168.(5/278)
ص -170-…متى حصل الجواب عن المنع والمعارضة، فقد تم الدليل، وحصل الغرض، من إثبات المدعى، ولم يبق للمعترض مجال، فيكون ما سواهما من الأسئلة باطلا، فلا يسمع؛ لأنه لا يحصل الجواب عن جميع المنوع إلا بإقامة الدليل على جميع المقدمات، وكذلك لا يحصل الجواب عن المعارضة إلا ببيان انتفاء المعارضة عن جميعها.
الفائدة الثانية: في الانتقال عن محل النزاع إلى غيره قبل تمام الكلام فيه
منعه الجمهور؛ لأنا لو جوزناه لم يتأت إفحام الخصم، ولا إظهار الحق؛ لأنه ينتقل من كلام إلى كلام، ثم كذلك إلى ما لا نهاية له، فلا يحصل المقصود من المناظرة، وهو إظهار الحق، وإفحام المخالف له، وهذا إذا كان الانتقال من المستدل.
وأما إذا كان من السائل، بأن ينتقل من سؤاله قبل تمامه، ويقول: ظننت أنه لازم، فبان خلافه، فمكنوني من سؤال آخر، فقال بعضهم: الأصح أنه يمكن من ذلك، إذا كان انحدارا من الأعلى إلى الأدنى، فإن كان ترقيا من الأدني إلى الأعلى، كما لو أراد الترقي من المعارضة إلى المنع، لم يمكن من ذلك؛ لأنه يكذب نفسه، وقيل: يمكن؛ لأن مقصوده الإرشاد.
الفائدة الثالثة: في الفرض والبناء
قالوا: إنه يجوز للمستدل في الاستدلال ثلاث طرق:
الأولى:
أن يدل على المسألة بعينها.
والثانية:
أن يفرض الدلالة في بعض شعبها وفصولها.
والثالثة:
أن يبني المسألة على غيرها.
فإن استدل عليها بعينها فواضح، وإن أراد أن يفرض الكلام في بعض أحوالها جاز؛ لأنه إذا كان الخلاف في الكل، وثبت الدليل في بعضها، ثبت في الباقي بالإجماع، وإن أراد أن يفرض الدلالة في غير فرد من أفراد المسألة لم يجز.
وأما إذا أراد أن يبني المسألة على غيرها، فإما أن يبنيها على مسألة أصولية، وإما أن يبنيها على مسألة فروعية1، وعلى التقديرين: إما أن يكون طريقها واحدة، أو مختلفة، فإن كانت.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(5/279)
1 العبارة في البحر المحيط 2/ 356 كما يلي: وإما أن يبنيها على مسألة فرعية.(5/280)
ص -171-…واحدة جاز، وإن كانت مختلفة لم يجز، وهذا قول جمهور أهل الجدل.
وقال ابن فورك: لا يجوز الفرض والبناء؛ لأن حق الجواب أن يطابق السؤال.
وقال إمام الحرمين: إنما يجوز إذا كانت علة الفرض شاملة لسائر الأطراف.
قال: المستحسن منه هو الواقع في طرف يشتمل عليه عموم سؤال السائل، وذلك محمول على استشعار انتشار الكلام في جميع الأطراف، وعدم وفاء مجلس واحد باستتمام الكلام فيها.
وحاصله: إن ظهر انتظام العلة العامة في الصورتين كان مستحسنا، وإلا كان مستهجنا، وفائدته كون العلة قد تخفى في بعض الصور، وتظهر في بعض آخر، فالتفاوت بالأولية خاصة، والعلة واحدة.
الفائدة الرابعة: في جواز التعلق بمناقضات الخصوم
قد وقع الاتفاق على أنه لا يجوز إثبات المذهب إلا بدليل شرعي، ولكن اختلفوا في التعلق بمناقضات الخصوم في المناظرة.
فذهب جماعة إلى جوازه من حيث إن المقصود من الجدل تضييق الأمر على الخصم.
وذكر القاضي تفصيلا حسنا، فقال: إن كانت المناقضة عائدة إلى تفاصيل أصل لا يرتبط فسادها وصحتها بفساد الأصل وصحته، فلا يجوز التعلق بها، وإلا جاز.
الفائدة الخامسة: في السؤال والجواب
قال الصيرفي: السؤال إما استفهام مجرد، وهو الاستخبار عن المذهب، أو عن العلة، وإما استفهام عن "الدلالة"* أى: التماس وجه دلالة البرهان، ثم المطالبة بنفوذ الدليل وجريانه.
وسبيل الجواب أن يكون إخبارا مجردا، ثم الاستدلال، ثم طرد الدليل، ثم السائل في الابتداء، إما أن يكون غير عالم بمذهب من يسأله، أو يكون عالما به، ثم إما أن يعلم صحته، فسؤاله لا معنى له، وإما أن لا يعلم فسؤاله راجع إلى الدليل.
والحاصل: أن من أنكر الأصل الذي يستشهد به المجيب، فسؤاله عنه أولى؛ لأن الذي أحوجه إلى المسألة هو الخلاف، فأما إذا كان الخلاف في الشاهد، فالسؤال عنه أولى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*في "أ": الأدلة.(5/281)
ص -172-…الفصل السابع: في الاستدلال
وهو في اصطلاحهم، ما ليس بنص، ولا إجماع، ولا قياس.
لا يقال: هذا من تعريف بعض الأنواع ببعض، وهو تعريف بالمساوي، في الجلاء والخفاء، بل هو تعريف للمجهول بالمعلوم؛ لأنه قد سبق العلم بالنص، والإجماع، والقياس.
واختلفوا في أنواعه: فقيل هي ثلاثة:
الأول: التلازم بين الحكمين، من غير تعيين علة، وإلا كان قياسا.
الثاني: استصحاب الحال.
الثالث: شرع من قبلنا.
قال الحنفية: ومن أنواعه نوع رابع، وهو الاستحسان.
وقالت المالكية: ومن أنواعه نوع خامس، وهو المصالح المرسلة.
وسنفرد لكل واحد من هذه الأنواع بحثا، ونلحق بها فوائد، لاتصالها بها بوجه من الوجوه.
البحث الأول: في التلازم
وهو أربعة أقسام:
لأن التلازم إنما يكون بين حكمين، وكل واحد منهما إما مثبت أو منفي، وحاصله: إذا كان تلازم تساوٍ فثبوت كل يستلزم ثبوت الآخر، ونفيه نفيه، وإن كان مطلق اللزوم، فثبوت الملزوم يستلزم ثبوت اللازم، من غير عكس، ونفي اللازم يستلزم نفي الملزوم من غير عكس "وأنه إذا كان بين الشيئين انفصال حقيقي فثبوت كلٍّ يستلزم نفي الآخر، ونفيه ثبوته، وإن كان منع جمع، فثبوت كلٍّ يستلزم نفي الآخر من غير عكس، وإن كان منع خلو فنفي كلٍّ يستلزم ثبوت الآخر من غير عكس"*.
وخلاصة هذا البحث يرجع إلى الاستدلال بالأقسية الاستثنائية، والاقترانية.
قال الآمدي: ومن أنواع الاستدلال قولهم: وجد السبب والمانع أو فقد الشرط.
ومنها: انتفاء الحكم لانتفاء مدركه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".(5/282)
ص -173-…ومنها: الدليل المؤلف من أقوال، يلزم من تسليمها لذاتها قول آخر، ثم قسمه إلى الاقتراني والاستثنائي، وذكر الأشكال الأربعة وشروطها، وضروبها. انتهى. فليرجع في هذا البحث إلى ذلك الفن.
وإذا كان هذا لا يجرى إلا فيما فيه تلازم، أو تناف، فالتلازم: إما أن يكون طردا أو عكسا، أي: من الطرفين، أو طردا لا عكسا، أي: من طرف واحد، والتنافي لا بد أن يكون من الطرفين، لكنه إما أن يكون طردا وعكسا، أي: إثباتا ونفيا، وإما طردا فقط، أي: إثباتا، وإما عكسا فقط، أي: نفيا.
الأول:
المتلازمان طردا وعكسا، وذلك كالجسم والتأليف؛ إذ كل جسم مؤلف، وكل مؤلف جسم، وهذا يجرى فيه التلازم بين الثبوتين، وبين النفيين، كلامهما طردا وعكسا، كلما كان جسما كان مؤلفا، وكلما كان مؤلفا كان جسما، وكلما لم يكن مؤلفا لم يكن جسما، وكلما لم يكن جسما لم يكن مؤلفا.
الثاني:
المتلازمان طردا فقط، كالجسم والحدوث؛ إذ كل جسم حادث، ولا ينعكس في الجوهر الفرد، فهذا يجري فيه التلازم بين الثبوتين طردا فيصدق كلما كان جسما كان حادثا، لا عكسا، فلا يصدق كلما كان حادثا كان جسما، ويجري فيه التلازم بين النفيين، عكسا، فيصدق كلما لم يكن حادثا لم يكن جسما، لا طردا، فلا يصدق كلما لم يكن جسما لم يكن حادثا.
الثالث:
المتنافيان طردا وعكسا، كالحدوث ووجوب البقاء، فإنهما لا يجتمعان في ذات، فتكون حادثة واجبة البقاء، ولا يرتفعان، فيكون قديما غير واجب البقاء، فهذا يجرى فيه التلازم بين الثبوت والنفي، وبين النفي والثبوت، طردا وعكسا، أي: من الطرفين فيصدق لو كان حادثا لم يجب بقاؤه، ولو وجب بقاؤه لم يكن حادثا، ولو لم يكن حادثا فلا يجب بقاؤه، ولو لم يجب بقاؤه فلا يكون حادثا.
الرابع:(5/283)
المتنافيان طردا لا عكسا، أي: إثباتا لا نفيا، كالتأليف والقدم؛ إذ لا يجتمعان، فلا يوجد شيء هو مؤلف وقديم، لكنهما قد يرتفعان، كالجزء الذي لا يتجزأ، وهذا يجري فيه التلازم بين الثبوت والنفي، طردا وعكسا، أي: من الطرفين، فيصدق كلما كان جسما لم يكن قديما، وكلما كان قديما "لم يكن جسما، ولا يصدق كلما كان جسما لم يكن قديما، وكلما كان قديما"* كان جسما.
الخامس:
المتنافيان عكسا، أي: نفيا، كالأساس والخلل، فإنهما لا يرتفعان، فلا يوجد ما ليس له أساس، ولا يختل، وقد يجتمعان في كل ما له أساس قد يختل بوجه آخر، وهذا يجري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".(5/284)
ص -174-…فيه تلازم النفي والإثبات، طردا وعكسا، فيصدق كل ما لم يكن له أساس، فهو مختل، وكل ما لم يكن مختلا فليس له أساس، ولا يصدق كل ما كان له أساس فليس بمختل، وكل ما كان مختلا فليس له أساس.
وما قدمنا عن الآمدي: أن من أنواع الاستدلال قولهم: وجب السبب إلخ، هو أحد الأقوال لأهل الأصول.
وقال بعضهم: إنه ليس بدليل، وإنما هو دعوى دليل، فهو بمثابة قولهم: وجد دليل الحكم، لا يكون دليلا ما لم يعين، وإنما الدليل ما يستلزم المدلول. وقال بعضهم: هو دليل، إذ لا معنى للدليل إلا ما يلزم من العلم به العلم بالمدلول.
والصواب: القول الأول، أنه استدلال، لا دليل، ولا مجرد دعوى.
واعلم: أنه يرد على جميع أقسام التلازم من الاعتراضات السابقة جميع ما تقدم، ما عدا الاعتراضات الواردة على نفس العلة.
البحث الثاني: الاستصحاب
أي: استصحاب الحال لأمر وجودي، أو عدمي، عقلي، أو شرعي1.
ومعناه: أن ما ثبت في الزمن الماضي فالأصل بقاؤه في الزمن المستقبل، مأخوذ من المصاحبة، وهو بقاء ذلك الأمر ما لم يوجد ما يغيره، فيقال: الحكم الفلاني قد كان فيما مضى، وكلما كان فيما مضى، ولم يظن عدمه، فهو مظنون البقاء.
قال الخوارزمي في "الكافي": وهو آخر مدار الفتوى، فإن المفتي إذا سئل عن حادثة، يطلب حكمها في الكتاب، ثم في السنة، ثم في الإجماع، ثم في القياس، فإن لم يجده فيأخذ حكمها من استصحاب الحال في النفي، والإثبات، فإن كان التردد في زواله فالأصل بقاؤه، وإن كان التردد في ثبوته فالأصل عدم ثبوته، انتهى.
واختلفوا هل هو حجة عند عدم الدليل على أقوال2:
الأول:
أنه حجة، وبه قالت الحنابلة، والمالكية، وأكثر الشافعية، والظاهرية، سواء كان في النفي أو الإثبات، وحكاه ابن الحاجب عن الأكثر.
الثاني:
أنه ليس بحجة، وإليه ذهب أكثر الحنفية، والمتكلمين، كأبي الحسين البصري،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(5/285)
1 انظر ميزان الأصول 2/ 932 والمنخول 372 والبحر المحيط 6/ 17.
2 انظر ميزان الأصول "2/ 934.(5/286)
ص -175-…قالوا: لأن الثبوت في الزمان الأول يفتقر إلى الدليل، فكذلك في الزمان الثاني؛ لأنه يجوز أن يكون وأن لا يكون، وهذا خاص عندهم بالشرعيات، بخلاف الحسيات، فإن الله سبحانه أجرى العادة فيها بذلك، ولم يجر العادة به في الشرعيات، فلا تلحق بالحسيات.
ومنهم من نقل عنه تخصيص النفي بالأمر الوجودي.
ومنهم من نقل عن الخلاف مطلقًا.
قال الصفي الهندي: وهو يقتضي تحقق الخلاف في الوجودي والعدمي جميعا، لكنه بعيد؛ إذ تفاريعهم تدل على أن استصحاب العدم الأصلي حجة.
قال الزركشي: والمنقول في كتب أكثر الحنفية أنه لا يصح حجة على الغير، ولكن يصلح للرفع والدفع.
وقال أكثر المتأخرين منهم: إنه حجة لإبقاء ما كان، ولا يصلح حجة لإثبات أمر لم يكن "وذلك كحياة المفقود، فإنه لما كان الظاهر بقاؤها، صلح حجة لإبقاء ما كان، فلا يورث ماله، ولا يصلح حجة لإثبات أمر لم يكن فلا يرث عن أقاربه"*
الثالث:
أنه حجة على المجتهد فيما بينه وبين الله عز وجل، فإنه "لم"**كلف إلا ما يدخل تحت مقدوره، فإذا لم يجد دليلا سواه جاز له التمسك "به"***ولا يكون حجة على الخصم عند المناظرة، فإن المجتهدين إذا تناظروا لم ينفع المجتهد قوله لم أجد دليلا على هذا؛ لأن التمسك بالاستصحاب لا يكون إلا عند عدم الدليل.
الرابع:
أنه يصلح حجة للدفع لا للرفع، وإليه ذهب أكثر الحنفية، قال إلكيا: ويعبرون عن هذا "بأن"**** استصحاب الحال صالح لإبقاء ما كان على ما كان، إحالة على عدم الدليل، لا لإثبات أمر لم يكن، وقد قدمنا1 أن هذا قول أكثر المتأخرين منهم.
الخامس:
أنه يجوز الترجيح به لا غير، نقله الأستاذ أبو إسحاق عن الشافعي، وقال: إنه الذي يصح عنه، لا أنه يحتج به.
السادس:
أن المستصحب إن لم يكن غرضه سوى نفي ما نفاه، صح ذلك2، وإن كان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": لا.
*** بين قوسين ساقط من "أ".(5/287)
**** ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر صفحة: 174.
2 مثاله: من استدل على إبطال بيع الغائب ونكاح المحرم والشغار بأن الأصل أن لا عقد فلا يثبت إلا بدلالة.(5/288)
ص -176-…غرضه إثبات خلاف قول خصمه، من وجهة يمكن استصحاب الحال في نفي ما أثبته فلا يصح1. حكاه الأستاذ أبو منصور البغدادي، عن بعض أصحاب الشافعي.
قال الزركشي: لا بد من تنقيح موضع الخلاف، فإن أكثر الناس يطلقه، ويشتبه عليهم موضع النزاع، فنقول: للاستصحاب صور:
إحداها:
استصحاب ما دل العقل أو الشرع على ثبوته ودوامه، كالملك عند جريان القول المقتضي له، وشغل الذمة عند جريان إتلاف أو التزام، ودوام الحل في المنكوحة بعد تقرير المنكاح، فهذا لا خلاف في وجوب العمل به إلى أن يثبت معارض.
قال، الثانية:
استصحاب العدم الأصلي المعلوم بدليل العقل في الأحكام الشرعية، كبراءة الذمة من التكليف حتى يدل دليل شرعي على تغيره، كنفي صلاة سادسة.
قال القاضي أبو الطيب: وهذا حجة بالإجماع "أي"*: من القائلين بأنه لا حكم قبل الشرع.
قال، الثالثة:
استصحاب الحكم العقلي عند المعتزلة، فإن عندهم أن العقل يحكم في بعض الأشياء إلى أن يرد الدليل السمعي، وهذا لا خلاف بين أهل السنة في أنه لا يجوز العمل به؛ لأنه لا حكم للعقل في الشرعيات.
قال، الرابعة:
استصحاب الدليل، مع احتمال المعارض، إما تخصيصا إن كان الدليل ظاهرا، أو نسخا إن كان الدليل نصًّا، فهذا أمر معمول به "بالإجماع"**.
وقد اختلف في تسمية هذا النوع بالاستصحاب، فأثبته جمهور الأصوليين، ومنعه المحققون، منهم إمام الحرمين في "البرهان"، وإلكيا في "تعليقه"، وابن السمعاني في "القواطع"؛ لأن ثبوت الحكم فيه من ناحية اللفظ، لا من ناحية الاستصحاب2.
قال، الخامسة:
الحكم الثابت بالإجماع في محل النزاع وهو راجع إلى الحكم الشرعي، بأن يتفق على حكم في حاله، ثم يتغير صفة المجمع عليه، فيختلفون فيه، فيستدل من لم يغير الحكم باستصحاب الحال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين القوسين ساقط من "أ".
** في "أ": إجماعا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(5/289)
1 مثاله: من يقول في مسألة الحرام: إنه يمين توجب الكفارة، لم يستدل على إبطال قول خصومه بأن الأصل أن لا طلاق ولا ظهار ولا لعان فيعارض بالأصل أن لا يمين ولا كفارة فيتعارض الاستصحابان فيسقطان ا. هـ البحر المحيط 6/ 20.
2 ذكر الزركشي في كتابه كلاما وافيا على ذلك فانظره في الصفحة 21 من البحر المحيط م6.(5/290)
ص -177-…مثاله: إذا استدل من يقول إن المتيمم إذا رأى الماء في أثناء صلاته لا تبطل صلاته؛ لأن الإجماع منعقد على صحتها قبل ذلك، فاستصحب إلى أن يدل دليل على أن رؤية الماء مبطلة.
وكقول الظاهرية: يجوز بيع أم الولد؛ لأن الإجماع انعقد على جواز بيع هذه الجارية قبل الاستيلاء، فنحن على ذلك الإجماع بعد الاستيلاد1.
وهذا النوع ومحل الخلاف، كما قاله في "القواطع" وهكذا فرض أئمتنا الأصوليون الخلاف فيها، فذهب الأكثرون منهم القاضي، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وابن الصباغ، والغزالي، إلى أنه ليس بحجة.
قال الأستاذ أبو منصور: وهو قول جمهور أهل الحق من الطوائف.
وقال الماوردي، والروياني، في كتاب القضاء: إنه قول الشافعي، وجمهور العلماء، فلا يجوز الاستدلال بمجرد الاستصحاب، بل إن اقتضى القياس أو غيره إلحاقه بما قبل الحق به وإلا فلا.
قال: وذهب أبو ثور، وداود الظاهري إلى الاحتجاج به، ونقله ابن السمعاني عن المزني، وابن سريج، والصيرفي، وابن خيران، وحكاه الأستاذ أبو منصور عن أبي الحسين بن القطان، قال: واختاره الآمدي، وابن الحاجب.
قال سليم الرازي في "التقريب": إنه الذي ذهب إليه شيوخ أصحابنا، فيستصحب حكم الإجماع حتى يدل الدليل على ارتفاعه. انتهي.
والقول الثاني: هو الراجح؛ لأن المتمسك بالاستصحاب باق على الأصل، قائم في مقام المنع، فلا يجب عليه الانتقال عنه إلا بدليل يصلح لذلك، فمن ادعاه جاء به.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البحر المحيط 6/ 22 والمستصفى 1/ 223.
2 جزء من الآية 13 من سورة الشورى.
البحث الثالث: شرع من قبلنا
وفي ذلك مسألتان:
المسألة الأولى: هل كان صلى الله عليه وسلم متعبدا بشرع أم لا؟
كان نبينا صلى الله عليه وسلم قبل البعثة متعبدا بشرع أم لا؟ وقد اختلفوا في ذلك على مذاهب:
فقيل: إنه صلى الله عليه وسلم كان متعبدا قبل البعثة بشريعة آدم؛ لأنها أول الشرائع.(5/291)
وقيل: بشريعة نوح لقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا}2.(5/292)
ص -178-…وقيل: بشريعة إبراهيم لقوله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ}1 وقوله تعالى: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ}2.
قال الواحدي: وهذا هو الصحيح.
قال ابن القشيري في "المرشد"3: وعزي إلى الشافعي.
قال الأستاذ أبو منصور: وبه نقول، وحكاه صاحب "المصادر" عن أكثر أصحاب أبي حنيفة، وإليه أشار أبو علي الجبائي.
وقيل: كان متعبدا بشريعة موسى.
وقيل: بشريعة عيسى؛ لأنه أقرب الأنبياء، ولأنه الناسخ لما قبله من الشرائع، وبه جزم الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني كما حكاه عنه الواحدي4.
وقيل كان على شرع من الشرائع، ولا يقال: كان من أمة نبي من الأنبياء، أو على شرعه.
قال ابن القشيري في "المرشد": وإليه كان يميل الأستاذ أبو إسحاق.
وقيل: كان متعبدا بشريعة كل من قبله من الأنبياء، إلا ما نسخ منها واندرس، حكاه صاحب "الملخص".
وقيل: كان متعبدا بشرع، ولكن لا ندري بشرع من تعبده الله، حكاه ابن القشيري.
وقيل: لم يكن قبل البعثة متعبدا بشرع، حكاه في "المنخول" عن إجماع المعتزلة.
قال القاضي في "مختصر التقريب" وابن القشيري: هو الذي صار إليه جماهير المتكلمين، قال جمهورهم: إن ذلك محال عقلا؛ إذ لو تعبد باتباع أحد لكان غضا من نبوته.
وقال بعضهم: بل كان على شريعة العقل.
قال ابن القشيري: وهذا باطل؛ إذ ليس للعقل شريعة، ورجح هذا المذهب، أعني: عدم التعبد بشرع قبل البعثة القاضي، وقال: هذا ما نرتضيه وننصره؛ لأنه لو كان على دين لنقل، ولذكره صلى الله عليه وسلم، إذ لا يظن به الكتمان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية 68 من سورة آل عمران.
2 جزء من الآية 123من سورة النحل.
3 وهو للإمام عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيري، أبي نصر، كما نسبه إليه السيوطي في كتابه المسمى "بالإتقان في علوم القرآن". ا. هـ الإتقان 4/ 228.(5/293)
4 هو علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي، النيسابوري، أبو الحسن الشافعي، صاحب التفسير، توفي في نيسابور سنة ثمان وستين وأربعمائة هـ، من آثاره "أسباب النزول، البسيط، الوسيط، الوجيز" وغيرها كثير. ا. هـ سير أعلام النبلاء 18/ 339 معجم المؤلفين 12/ 256 شذرات الذهب 3/ 330 هدية العارفين 1/ 692.(5/294)
ص -179-…وعارض ذلك إمام الحرمين وقال: لو لم يكن على دين أصلا لنقل، فإن ذلك أبعد عن المعتاد مما ذكره القاضي.
قال: فقد تعارض الأمران.
والوجه أن يقال: كانت العادة انخرقت في أمور الرسول صلى الله عليه وسلم بانصراف "همم"* الناس عن أمر دينه، والبحث عنه، ولا يخفى ما في هذه المعارضة من الضعف وسقوط ما "رتبه"* عليها.
وقيل: بالوقف، وبه قال إمام الحرمين، وابن القشيري، وإلكيا، والغزالي، والآمدي، والشريف المرتضى، واختار النووي في "الروضة"، قالوا: إذ ليس فيه دلالة عقل، ولا ثبت فيه نص، ولا إجماع.
قال ابن القشيري في "المرشد" بعد حكاية الاختلاف في ذلك: وكل هذه أقوال متعارضة وليس فيها دلالة قاطعة، والعقل يجوز ذلك لكن أين السمع فيه. انتهى.
قال إمام الحرمين: هذه المسألة لا تظهر لها فائدة، بل تجري مجرى التواريخ المنقولة، ووافقه المازري، والماوردي، وغيرهما، وهذا صحيح، فإنه لا يتعلق بذلك فائدة، باعتبار هذه الأمة ولكنه يعرف به في الجملة شرف تلك الملة التي تبعد بها، وفضلها على غيرها من الملل المتقدمة على ملته.
وأقرب هذه الأقوال، قول من قال: إنه كان متعبدا بشريعة إبراهيم عليه السلام، فقد كان صلى الله عليه وسلم كثير البحث عنها، عاملا بما بلغ إليه منها، كما يعرف ذلك من كتب السيرة، وكما تفيده الآيات القرآنية من أمره صلى الله عليه وسلم بعد البعثة باتباع تلك الملة، فإن ذلك يشعر بمزيد خصوصية لها، فلو قدرنا أنه كان على شريعة قبل البعثة لم يكن إلا عليها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": بانصرافهم.
** في حاشية "أ": كذا بالأصل "أي ملزمة" والصواب سقوط ما نبه عليه يعني بقوله والوجه أن يقال إلخ والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البحر المحيط 6/ 41 والمستصفى 1/ 250.
المسألة الثانية: هل كان صلى الله عليه وسلم بعد البعثة متعبدا بشرع من قبله أم لا ؟(5/295)
اختلفوا هل كان متعبدا بعد البعثة بشرع من قبله أم لا على أقوال:
الأول: أنه لم يكن متعبدا باتباعها1، بل كان منهيا عنها، وإليه ذهب الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في آخر قوليه، واختاره الغزالي في آخر عمره.(5/296)
ص -180-…قال ابن السمعاني: إنه المذهب الصحيح، وكذا قال الخوارزمي في "الكافي"، واستدلوا بأنه صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن1 لم يرشده إلا إلى العمل بالكتاب والسنة، ثم اجتهاد الرأي.
وصحح هذا القول ابن حزم.
واستدلوا أيضًا بقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}2.
وبالغت المعتزلة فقالت: باستحالة ذلك عقلا، وقال غيرهم: العقل لا يحيله، ولكنه ممتنع شرعًا، واختاره الفخر الرازي، والآمدي.
القول الثاني: أنه كان متعبدًا بشرع من قبله، إلا ما نسخ منه، نقله ابن السمعاني عن أكثر الشافعية، وأكثر الحنفية، وطائفة من المتكلمين.
قال ابن القشيري: هو الذي صار إليه الفقهاء، واختاره "ابن برهان"*. وقال: إنه قول أصحابهم، وحكاه الأستاذ أبو منصور عن محمد بن الحسن واختاره الشيخ أبو إسحاق الشيرازي واختاره ابن الحاجب.
قال ابن السمعاني: وقد أومأ إليه الشافعي في بعض كتبه.
قال القرطبي: وذهب إليه معظم أصحابنا، يعني المالكية، قال القاضي عبد الوهاب: إنه الذي تقتضيه أصول مالك.
واستدلوا بقوله سبحانه: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}3 الآية، فإن ذلك مما استدل به في شرعنا على وجوب القصاص، ولو لم يكن متعبدًا بشرع من قبله لما صح الاستدلال بكون القصاص واجبًا في شرع بني إسرائيل على كونه واجبًا في شرعه.
واستدلوا أيضًا بأنه صلى الله عليه وسلم قال: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها"4 وقرأ قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي}5 وهي مقولة لموسى، فلو لم يكن متعبدًا بشرع من قبله، لما كان لتلاوة الآية عند ذلك فائدة.
واستدلوا بما ثبت عن ابن عباس أنه سجد في صورة ص، وقرأ قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}6 فاستنبط التشريع من هذه الآية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(5/297)
* في "أ": الرازي. وهو تحريف، والصواب ما أثبت كما في البحر 6/ 42.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه 1/ 152.
2 جزء من الآية 48 من سورة المائدة.
3 جزء من الآية 45 من سورة المائدة.
4 تقدم تخريجه 2/ 75.
5 جزء من الآية 14 من سورة طه.
6 جزء من الآية "90" من سورة الأنعام(5/298)
ص -181-…واستدلوا أيضًا بما ثبت في الصحيح أنه كان صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه1 "فإن هذا يفيد أنه كان متعبدًا فيما لم ينزل عليه"* ولولا ذلك لم يكن لمحبته للموافقة فائدة.
ولا أوضح ولا أصرح في الدلالة على هذا المذهب من قوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} وقوله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}2.
القول الثالث: الوقف، حكاه ابن القشيري وابن برهان.
وقد فصل بعضهم تفصيلا حسنا فقال: إنه إذا بلغنا شرع من قبلنا على لسان الرسول، أو لسان من أسلم كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار3 ولم يكن منسوخا، ولا مخصوصا، فإنه شرع لنا، وممن ذكر هذا القرطبي، ولا بد من هذا التفصيل على قول القائلين بالتعبد، لما هو معلوم من وقوع التحريف والتبديل، فإطلاقهم مقيد بهذا القيد، ولا أظن أحدا منهم يأباه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين القوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مثاله ما أخرجه مسلم عن عبد الله بن سخبرة قال: "مُرَّ على علي بجنازة فذهب اصحابه يقومون فقال لهم علي: ما يحملكم على هذا؟ قالوا: إن أبا موسى أخبرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا مُرت به جنازة قام حتى تجاوزه. قال: فقال: إن أبا موسى لا يقول شيئًا، لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك مرة. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يتشبه بأهل الكتاب فيما لم ينزل عليه شيء فإذا أنزل عليه تركه". كتاب الجنائز، باب نسخ القيام للجنازة 962. أبو داود. كتاب الجنائز، باب القيام للجنازة 3175. النسائي، كتاب الجنائز، باب الرخصة في ترك القيام للجنازة 1044. البيهقي، كتاب الجنائز، باب القيام للجنازة 4/ 27. ابن حبان في صحيحه 3056. أبو يعلى في مسنده 1/ 273.
2 جزء من الآية 123 من سورة النحل.(5/299)
3 هو كعب بن ماتع، الحميري، اليماني، كان يهوديا فأسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، قدم المدينة من اليمن أيام عمر رضي الله عنه، فكان يحدثهم عن الكتب الإسرائيلية، ويحفظ عجائبا، ويأخذ السنن عن الصحابة وكان حسن الإسلام. ا. هـ سير أعلام النبلاء 3/ 489 شذارت الذهب 1/ 40 الجرح والتعديل 7/ 161.
البحث الرابع: الاستحسان
واختلف في حقيقته: فقيل: هو دليل ينقدح في نفس المجتهد، ويعسر عليه التعبير عنه.
وقيل: هو العدول عن قياس إلى قياس أقوى1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر التبصرة 492 والمنخول 347.(5/300)
ص -182-…وقيل: هو العدول عن حكم الدليل إلى العادة لمصلحة الناس.
وقيل: تخصيص قياس بأقوى منه.
ونسب القول به إلى أبي حنيفة، وحكى عنه أصحابه، ونسبه أمام الحرمين إلى مالك، وأنكره القرطبي فقال: ليس معروفا من مذهبه، وكذلك أنكر أصحاب أبي حنيفة ما حكي عن أبي حنيفة من القول به، وقد حكي عن الحنابلة.
قال ابن الحاجب في "المختصر": قالت به الحنفية، والحنابلة، وأنكره غيرهم. انتهى.
وقد أنكره الجمهور، حتى قال الشافعي: من استحسن فقد شرع.
قال الروياني: ومعناه أنه ينصب من جهة نفسه شرعا غير الشرع.
وفي رواية عن الشافعي أنه قال: القول بالاستحسان باطل.
وقال الشافعي في "الرسالة": الاستحسان تلذذ1، ولو جاز لأحد الاستحسان في الدين؛ لجاز ذلك لأهل العقول من غير أهل العلم، ولجاز أن يشرع في الدين في كل باب، وأن يخرج كل أحد لنفسه شرعا.
قال جماعة من المحققين: الحق أنه لا يتحقق استحسان مختلف فيه؛ لأنهم ذكروا في تفسيره أمورا لا تصلح للخلاف؛ لأن بعضها مقبولا اتفاقا، وبعضها متردد بين ما هو مقبول اتفاقا، وما هو مردود اتفاقا، وجعلوا من صور الاتفاق على القبول قول من قال: إن الاستحسان العدول عن قياس إلى قياس أقوى، وقول من قال: إنه تخصيص قياس بأقوى منه، وجعلوا من المتردد بين القبول والرد قول من قال: إنه دليل ينقدح في نفس المجتهد، ويعسر عليه التعبير عنه لأنه إن كان معنى قوله ينقدح أنه يتحقق ثبوته "فالعمل"* به واجب عليه، فهو مقبول اتفاقا، وإن كان بمعنى أنه شاك، فهو مردود اتفاقا؛ إذ لا تثبت الأحكام بمجرد الاحتمال والشك.(5/301)
وجعلوا من المتردد أيضًا قول من قال: إنه العدول عن حكم الدليل إلى العادة لمصلحة الناس، فقالوا: إن كانت العادة هي الثابتة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت بالسنة، وإن كانت هي الثابتة في عصر الصحابة، من غير إنكار، فقد ثبت بالإجماع، وأما غيرها، فإن كان نصًّا "أو"** قياسا، مما ثبت حجيته، فقد ثبت ذلك به، وإن كان شيئًا آخر، لم تثبت حجيته، فهو مردود قطعا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": والعمل به.
** في "أ": وقياسا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البحر المحيط 6/ 87.(5/302)
ص -183-…وقد ذكر الباجي أن الاستحسان الذي ذهب إليه أصحاب مالك هو القول بأقوي الدليلين، كتخصيص بيع العرايا من بيع الرطب بالتمر1.
قال: وهذا هو الدليل، فإن سموه استحسانا فلا مشاحة في التسمية.
وقال الأبياري: الذي يظهر من مذهب مالك القول بالاستحسان، لا على ما سبق، بل حاصله استعمال مصلحة جزئية في مقابلة قياس كلي، فهو يقدم الاستدلال المرسل على القياس.
ومثال: لو اشترى سلعة بالخيار، ثم مات وله ورثة، فقيل: يرد، وقيل: يختار الإمضاء. قال أشهب: القياس الفسخ، ولكنا نستحسن إن أراد الإمضاء أن يأخذ من لم يمضِ، إذا امتنع البائع من قبوله نصيب الراد.
قال ابن السمعاني: إن كان الاستحسان هو القول بما يستحسنه الإنسان، ويشتهيه من غير دليل، فهو باطل، ولا أحد يقول به، ثم ذكر أن الخلاف لفظي، ثم قال: فإن تفسير الاستحسان بما يشنع به عليهم لا يقولون به "والذي يقولون به أنه العدول في الحكم من دليل إلى دليل أقوى منه"*، فهذا مما لم ينكره أحد عليه، لكن هذا الاسم لا يعرف اسما لما "يقال به"** وقد سبقه إلى مثل هذا القفال، فقال: إن كان المراد بالاستحسان ما دلت عليه الأصول بمعانيها، فهو حسن، لقيام الحجة به، قال: فهذا لا ننكره ونقول به، وإن كان ما يقع في الوهم من استقباح الشيء واستحسانه، من غير حجة دلت عليه، من أصل ونظيره، فهو محظور، والقول به غير سائغ.
قال بعض المحققين: الاستحسان كلمة يطلقها أهل العلم على ضربين:
أحدهما: واجب بالإجماع، وهو أن يقدم الدليل الشرعي أو العقلي، لحسنه2، فهذا يجب العمل به؛ لأن الحسن ما حسنه الشرع، والقبيح ما قبحه الشرع.(5/303)
والضرب الثاني: أن يكون على مخالفة الدليل، مثل أن يكون الشيء محظورا بدليل شرعي، وفي عادات الناس "إباحته، أو يكون في الشرع دليل يغلظه وفي عادات الناس التخفيف"*** فهذا عندنا يحرم القول به، ويجب اتباع الدليل، وترك العادة والرأي، سواء كان ذلك الدليل نصًّا، أو إجماعًا أو قياسا. انتهى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": مكانها: وإن تفسير الاستحسان بالعدول عن دليل أقوى منه.
** في "أ": يقاربه.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ". وهو مثبت في البحر المحيط 6/ 90.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مالك في الموطأ، كتاب البيوع، باب ما جاء في بيع العرية 14، 2/ 619 وتقدم تخريجه 1/ 152.
2 مثاله: القول بحدوث العالم وقدم المحدث ا. هـ البحر المحيط 6/ 90.(5/304)
ص -184-…فعرفت بمجموع ما ذكرنا أن ذكر الاستحسان في بحث مستقل لا فائدة فيه أصلا؛ لأنه إن كان راجعا إلى الأدلة المتقدمة فهو تكرار، وإن كان خارجا عنها فليس من الشرع في شيء، بل هو من التقول على هذه الشريعة بما لم يكن فيها تارة، وبما يضادها أخرى.
البحث الخامس: المصالح المرسلة
قد قدمنا الكلام فيها في مباحث القياس، وسنذكر ههنا بعض ما يتعلق بها تتميما للفائدة، ولكونها قد ذكرها جماعة من أهل الأصول في مباحث الاستدلال، ولهذا سماها بعضهم بالاستدلال المرسل، وأطلق إمام الحرمين، وابن السمعاني عليها اسم الاستدلال1.
قال الخوارزمي: والمراد بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع، بدفع المفاسد عن الخلق.
قال الغزالي: هي أن يوجد معنى يشعر بالحكم، مناسب عقلا، ولا يوجد أصل متفق عليه.
وقال ابن برهان: هي ما لا تستند إلى أصل كلي ولا جزئي.
وقد اختلفوا في القول بها على مذاهب.
الأول: منع التمسك بها مطلقًا وإليه ذهب الجمهور.
والثاني: الجواز مطلقًا، وهو المحكي عن مالك، قال الجويني في "البرهان": وأفرط في القول بها حتى جره إلى استحلال القتل وأخذ المال لمصالح يقتضيها في غالب الظن، وإن لم يجد لها مستندا، وقد حكى القول بها عن الشافعي، في "قوله"* القد يم، وقد أنكر جماعة من المالكية ما نسب إلى مالك من القول بها، ومنهم القرطبي. وقال: ذهب الشافعي، ومعظم أصحاب أبي حنيفة إلى عدم الاعتماد عليها، وهو مذهب مالك، قال: وقد اجترأ إمام الحرمين الجويني، وجازف فيما نسبه إلى مالك من الإفراط في هذا الوصل، وهذا لا يوجد في كتب مالك ولا في شيء من كتب أصحابه.
قال ابن دقيق العيد: الذي لا شك فيه أن لمالك ترجيحا على غيره من الفقهاء، في هذا النوع، ويليه أحمد بن حنبل، ولا يكاد يخلو غيرهما من اعتباره في الجملة، ولكن لهذين ترجيح في الاستعمال لها على غيرهما. انتهى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": القول.(5/305)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر المستصفى 1/ 284 والبحر المحيط 6/ 76.(5/306)
ص -185-…قال القرافي: هي عند التحقيق في جميع المذاهب؛ لأنهم يقومون ويقعدون بالمناسبة، ولا يطلبون شاهدا بالاعتبار، ولا نعني بالمصلحة المرسلة إلا ذلك.
الثالث: إن كانت ملائمة لأصل كلي من أصول الشرع، أو لأصل جزئي، جاز بناء الأحكام عليها، وإلا فلا.
وحكاه ابن برهان في "الوجيز" عن الشافعي، وقال: إنه الحق المختار.
قال إمام الحرمين: ذهب الشافعين ومعظم أصحاب أبي حنيفة إلى "اعتماد"* تعليق الأحكام بالمصالح المرسلة، بشرط "ملائمته"** للمصالح المعتبرة المشهود لها بالأصول.(5/307)
الرابع: إن كانت تلك المصلحة ضرورية، قطعية، كلية، كانت معتبرة، فإن فقد أحد هذه الثلاثة لم تعتبر، والمراد بالضرورية أن تكون من الضروريات الخمس1، وبالكلية أن تعم جميع المسلمين، لا لو كانت لبعض الناس دون بعض، أو في حالة مخصوصة دون حالة، واختار هذا الغزالي، والبيضاوي، ومثل الغزالي للمصلحة المستجمعة "الشرائط"*** بمسألة الترس؛ وهي ما إذا تترس الكفار بجماعة من المسلمين، وإذا رمينا قتلنا مسلما من دون جريمة منه، ولو تركنا الرمي لسلطنا الكفار على المسلمين، فيقتلونهم، ثم يقتلون الأسارى الذين تترسوا بهم، فحفظ المسلمين بقتل من تترسوا به من المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع؛ لأنا نقطع أن "الشارع"**** يقصد تقليل القتل، كما يقصد حسمه عند الإمكان، فحيث لم نقدر على الحسم، فقد قدرنا على التقليل، وكان هذا التفاتا إلى مصلحة، علم بالضرورة كونها مقصودة للشرع، لا بدليل واحد، بل بأدلة خارجة عن الحصر ولكن تحصيل هذا المقصود بهذا الطريق، وهو قتل من لم يذنب لم يشهد له اصل "معين"*****، فينقدح اعتبار هذه المصلحة بالأوصاف الثلاثة، وهي كونها ضرورية، كلية، قطعية، فخرج بالكلية ما إذا أشرف جماعة في سفينة على الغرق، ولو غرق بعضهم لنجوا، فلا يجوز تغريق البعض، وبالقطعية ما إذا شككنا في كون الكفار يتسلطون عند عدم رمي الترس "وبالضرورية ما إذا تترسوا في قلعة بمسلم فلا يحل رمي الترس"****** إذ لا ضرورة بنا إلى أخذ القلعة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": الملائمة.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
**** في "أ": الشرع.
***** ما بين قوسين ساقط من "أ".
****** ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الضروريات الخمس: وهي حفظ النفس والمال والنسب والدين والعقل ا. هـ انظر شرح التلويح على التوضيح 2/ 63.(5/308)
ص -186-…قال القرطبي: هي بهذه القيود لا ينبغي أن يختلف في اعتبارها، وأما ابن المنير، فقال: هو احتكام من قائله، ثم هو تصوير بما لا يمكن عادة، ولا شرعا، أما عادة: فلأن القطع في الحوادث المستقلة لا سبيل إليه؛ إذ هو عبث وعناد، وأما شرعا: فلأن الصادق المعصوم قد أخبرنا بأن الأمة لا يتسلط عدوها عليها ليستأصل شأفتها1.
قال: وحاصل كلام الغزالي رد الاستدلال بها، لتضييقه في قبولها باشتراط ما لا يتصور وجوده. انتهى.
قال الزركشي: وهذا تحامل منه، فإن الفقيه يفرض المسائل النادرة، لاحتمال وقوعها، بل المستحيلة لرياضة "الأذهان"*، ولا حجة له في الحديث؛ لأن المراد به كافة الخلق، وتصوير الغزالي إنما هو في أهل محلة بخصوصهم، استولى عليهم الكفار، لا جميع العالم، وهذا واضح. انتهى.
قال ابن دقيق العيد: لست أنكر على من اعتبر أصل المصالح، لكن الاسترسال فيها، وتحقيقها محتاج إلى نظر سديد، وربما يخرج عن الحد، وقد نقلوا عن عمر رضي الله عنه أنه قطع لسان الحطيئة2 بسبب الهجو، فإن صح ذلك فهو من باب العزم على المصالح المرسلة، وحمله على التهديد الرادع للمصلحة أولى من حمله على حقيقة القطع للمصلحة، وهذا يجر إلى النظر فيما يسمى مصلحة مرسلة.
قال: وشاورني بعض القضاة في قطع أنملة شاهد، والغرض منعه عن الكتابة بسبب قطعها، وكل "هذه"** منكرات عظيمة الموقع في الدين، واسترسال قبيح في أذى المسلمين. انتهى.
ولنذكر ههنا فوائد لها بعض اتصال بمباحث الاستدلال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": الأفهام.
** في "أ": هذا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(5/309)
1 أخرجه مسلم من حديث ثوبان المطول بلفظ: وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكهم بسنة عامة، وأن لا يسلط عليهم عدوًّا من غيرهم فيهلكهم ولا يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض..." كتاب الفتن، باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض 2889. وأخرجه ابن ماجه، كتاب الفتن، باب ما يكون من الفتن 3952. البيهقي في السنن، كتاب السير، باب إظهار دين النبي صلى الله عليه وسلم على الأديان 9/ 181. ابن حبان في صحيحه 6714، 7238. وأخرج بنحوه أبو داود، كتاب الفتن، باب ذكر الفتن ودلائلها 4252. وأحمد في مسنده 5/ 278. والترمذي، كتاب الفتن، باب ما جاء في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا في أمته 2176.
2 هو جرول بن أوس بن مالك العبسي، شاعر مخضرم، أدرك الجاهلية والإسلام فأسلم، ثم ارتد، وكان هجاءً مُرًّا، لم يكد يسلم من لسانه أحد، وهجا أمه وأباه ونفسه، من آثاره: ديوان شعر ا. هـ معجم المؤلفين 3/ 128 الأعلام 2/ 118 هدية العارفين 1/ 251. كشف الظنون 1/ 785.(5/310)
ص -187-…فوائد تتعلق بالاستدلال:
الفائدة الأولي: في قول الصحابي
اعلم: أنهم قد اتفقوا على أن قول الصحابي في مسائل الاجتهاد ليس بحجة على صحابي آخر، وممن نقل هذا الاتفاق القاضي أبو بكر، والآمدي، وابن الحاجب، وغيرهم.
واختلفوا هل يكون حجة على من بعد الصحابة من التابعين، ومن بعدهم، على أقوال1:
الأول:
أنه ليس بحجة مطلقًا، وإليه ذهب الجمهور.
الثاني:
أنه حجة شرعية، مقدمة على القياس، وبه قال أكثر الحنفية، ونقل عن مالك، وهو قديم قولي الشافعي.
الثالث:
أنه حجة إذا انضم إليه القياس، فيقدم حينئذ على قياس ليس معه قول صحابي، وهو ظاهر قول الشافعي في "الرسالة".
قال: وأقوال الصحابة إذا تفرقا نصير منها إلى ما وافق الكتاب، أو السنة، أو الإجماع، أو كان أصح في القياس، وإذا قال واحد منهم القول لا يحفظ عن غيره منهم له فيه موافقة ولا مخالفة، صرت إلى إتباع قول واحدهم إذا لم أجد كتابا، ولا سنة، ولا إجماعا، ولا شيئًا يحكم له بحكمه، أو وجد معه قياس. انتهى.
وحكى القاضي حسين، وغيره من أصحاب الشافعي عنه أنه يرى في الجديد أن قول الصحابي حجة، إذا عضده القياس، وكذا حكاه عنه القفال الشاشي، وابن القطان.
قال القاضي في "التقريب": إنه الذي قاله الشافعي في الجديد، واستقر عليه مذهبه، وحكاه عنه المزني، وابن أبي هريرة.
الرابع: أنه حجة إذا خالف القياس؛ لأنه لا محمل له إلا التوقيف، وذلك أن القياس والتحكم في دين الله باطل، فيعلم أنه لم يقلد إلا توقيفا.
قال ابن برهان في "الوجيز": وهذا هو الحق المبين، قال: ومسائل الإمامين أبي حنيفة، والشافعي رحمهما الله تدل عليه. انتهى2.
ولا يخفاك أن الكلام في قول الصحابي إذا كان ما قاله من مسائل الاجتهاد، أما إذا لم يكن منها، ودل دليل على التوقيف، فليس مما نحن بصدده.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر فواتح الرحموت 2/ 185 والبحر المحيط 6/ 53.(5/311)
2 انظر تتمة البحث مفصلا في البحر المحيط 6/ 59.(5/312)
ص -188-…والحق: انه ليس بحجة فإن الله سبحانه لم يبعث إلى هذه الأمة إلا نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم، وليس لنا إلا رسول واحد، وكتاب واحد، وجميع الأمة مأمورة باتباع كتابة، وسنة نبيه، ولا فرق بين الصحابة "وبين"* من بعدهم، في ذلك، فكلهم مكلفون بالتكاليف الشرعية، وباتباع الكتاب والسنة، فمن قال: إنها تقوم الحجة في دين الله عز وجل بغير كتاب الله، وسنة رسوله، وما يرجع إليهما، فقد قال في دين الله بما "لم"** يثبت، وأثبت في هذه الشريعة الإسلامية شرعا لم يأمر الله به، وهذا أمر عظيم، وتقول بالغ فعن الحكم لفرد أو أفراد من عباد الله بأن قوله، أو أقوالهم حجة على المسلمين يجب عليهم العمل بها وتصير شرعا ثابتا متقررا تعم به البلوى، مما لا يدان الله عز وجل به، ولا يحل لمسلم الركون إليه، ولا العمل عليه، فإن هذا المقام لم يكن إلا لرسل الله، الذين أرسلهم بالشرائع إلى عباده لا لغيرهم، وإن بلغ فالعلم والدين عظم المنزلة أي مبلغ، ولا شك أن مقام الصحبة مقام عظيم، ولكن ذلك في الفضيلة، وارتفاع الدرجة، وعظمة الشأن، وهذا مسلم لا شك فيه، ولهذا "صار مد"*** أحدهم لا "تبلغ إليه"**** من غيرهم الصدقة بأمثال الجبال، ولا تلازم بين هذا وبين جعل كل واحد منهم بمنزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجية قوله، وإلزام الناس باتباعه، فإن ذلك مما لم يأذن الله به، ولا ثبت عنه فيه حرف واحد.(5/313)
وأما ما تمسك به بعض القائلين بحجية قول الصحابي، مما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم"1 فهذا لم يثبت قط، والكلام فيه معروف عند أهل هذا الشأن، بحيث لا يصح العمل بمثله في أدنى حكم من أحكام الشرع، فكيف مثل هذا الأمر العظيم والخطب الجليل، على أنه لو ثبت من وجه صحيح لكان معناه أن مزيد عملهم بهذه الشريعة المطهرة، الثابتة من الكتاب والسنة، وحرصهم على اتباعها، ومشيهم "في"***** طريقتها، يقتضي أن اقتداء الغير بهم في العمل بها، واتباعها هداية كاملة؛ لأنه لو قيل لأحدهم لِمَ قلت كذا "أو"****** لِمَ فعلت كذا، لَمْ ٍْْْيعجز من إبراز الحجة من الكتاب والسنة، ولَمْ يتلعثم في بيان ذلك.
وعلى مثل هذا الحمل يحمل ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: "اقتدوا باللذين من بعدي؛ أبي بكر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": وبين بعدهم.
** في "أ": لا.
*** في "أ": مد أحدهم.
**** في "أ": يبلغه.
***** في "أ": على.
******ما بين القوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه في "1/ 186".(5/314)
ص -189-…وعمر"1 وما صح عنه من قوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين الهادين"2.
فاعرف هذا، واحرص عليه، فإن الله لم يجعل إليك وإلى سائر هذه الأمة رسولا إلا محمدا صلى الله عليه وسلم، ولم يأمرك باتباع غيره، ولا شرع لك على لسان سواه من أمته حرفا واحدا ولا جعل شيئًا من الحجة عليك في قول غيره، كائنا من كان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه في 1/ 221.
2 تقدم تخريجه في 1/ 221.
الفائدة الثانية: الأخذ بأقل ما قيل
فإنه أثبته الشافعي، والقاضي أبو بكر الباقلاني، قال القاضي عبد الوهاب: وحكى بعض الأصوليين إجماع أهل النظر عليه.
قال ابن السمعاني: وحقيقته أن يختلف المختلفون في أمر على أقاويل، فيأخذ بأقلها إذا لم يدل على الزيادة دليل.
قال القفال الشاشي: هو أن يرد الفعل عن النبي صلى الله عليه وسلم مبنيا لمجمل، ويحتاج إلى تحديده، فيصار إلى اقل ما يوجد، كما قال الشافعي في أقل الجزية إنه دينار1.
وقال ابن القطان: هو أن يختلف الصحابة في تقدير، فيذهب بعضهم إلى مائة مثلا، وبعضهم إلى خمسين، فإن كان ثَمَّ دلالة تعضد أحد القولين صير إليها، وإن لم يكن دلالة، فقد اختلف فيه أصحابنا، فمنهم من قال يأخذ بأقل ما قيل.
ويقول: إن هذا مذهب الشافعي؛ لأنه قال: إن دية اليهودي الثلث، وحكى اختلاف الصحابة فيه، وأن بعضهم قال بالمساواة، وبعضهم قال بالثلث فكان هذا أقلها.
وقسم ابن السمعاني المسألة إلى قسمين:
أحدهما:
أن يكون ذلك فيما أصله البراءة، فإن كان الاختلاف في وجوب الحق وسقوطه كان سقوطه أولى، لموافقة براءة الذمة، ما لم يقم دليل الوجوب، وإن كان الاختلاف في قدره بعد الاتفاق على وجوبه، كدية الذمي إذا وجبت على قاتله، فهل يكون الأخذ بأقله دليلا؟ اختلف أصحاب الشافعي فيه.
القسم الثاني:(5/315)
أن يكون مما هو ثابت في الذمة، كالجمعة الثابت فرضها مع اختلاف العلماء في عدد انعقادها، فلا يكون الأخذ بالأقل دليلا لارتهان الذمة بها، فلا تبرأ الذمة بالشك.
وهل يكون الأخذ بالأكثر دليلا؟ فيه وجهان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وذلك لأن الدليل قام أنه لا بد من تحديد فصار إلى أقل ما حُكي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ من الجزية.(5/316)
ص -190-…أحدهما:
أن يكون دليلا، ولا ينتقل عنه إلا بدليل؛ لأن الذمة تبرأ بالأكثر إجماعا، وفي الأقل خلاف، فلذلك جعلها الشافعي تنعقد بأربعين؛ لأن هذا العدد أكثر ما قيل.
الثاني:
لا يكون دليلا؛ لأنه لا ينعقد من الخلاف دليل. انتهى1.
والحاصل: أنهم جعلوا الأخذ بأقل ما قيل متركبا من الإجماع والبراءة الأصلية، وقد أنكر جماعة الأخذ بأقل ما قيل.
قال ابن حزم: وإنما يصح إذا أمكن ضبط أقوال جميع أهل الإسلام، ولا سبيل إليه، وحكى قولا بأنه يؤخذ بأكثر ما قيل، ليخرج عهدة التكليف بيقين.
ولا يخفاك أن الاختلاف في التقدير بالقليل والكثير إن كان باعتبار الأدلة ففرض المجتهد "أن يأخذ"* بما صح له منها، مع الجمع بينهما إن أمكن، أو الترجيح إن لم يمكن، وقد تقرر أن الزيادة الخارجة من مخرج صحيح، الواقعة غير منافية للمزيد مقبولة، يتعين الأخذ بها، والمصير إلى مدلولها، وإن كان الاختلاف في التقدير باعتبار المذاهب، فلا اعتبار عند "المجتهد"** بمذاهب الناس، بل هو متعبد باجتهاده، وما يؤدي إليه نظره، من الأخذ بالأقل، أو بالأكثر، أو بالوسط.
وأما المقلد فليس له من الأمر شيء، بل هو أسير إمامه في جميع "مسائل"** دينه، وليته لم يفعل، وقد أوضحنا الكلام في التقليد في المؤلف الذي سميناه "أدب الطلب"2، وفي الرسالة المسماه "القول المفيد في حكم التقليد"3.
وكما وقع الخلاف في مسألة الأخذ بأقل ما قيل، كذلك وقع الخلاف في الأخذ بأخف ما قيل، وقد صار بعضهم إلى ذلك، لقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}4 وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}5 وقوله صلى الله عليه وسلم: "بعثت بالحنيفية السمحة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": الجمهور.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(5/317)
1 انظر البحر المحيط 6/ 29.
2 واسمهم" أدب الطلب ومنتهى الأرب" للإمام محمد بن علي الشوكاني. ا. هـ البدر الطالع 2/ 222. هدية العارفين 2/ 365.
3 واسمه "القول المفيد في حكم التقليد وهو أيضًا للإمام محمد بن علي الشوكاني. ا. هـ البدر الطالع 2/ 222. هدية العارفين 2/ 336.
4 جزء من الآية 185 من سورة البقرة.
5 جزء من الآية 78 من سورة الحج.(5/318)
ص -191-…السهلة"1 وقوله: "يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا"2 وبعضهم صار إلى الأخذ بالأشق، ولا معنى للخلاف في مثل هذا؛ لأن الدين كله يسر، والشريعة جميعها سمحة سهلة.
والذي يجب الأخذ به ويتعين العمل عليه هو ما صح دليله، فإن تعارضت الأدلة لم يصلح أن يكون الأخف مما دلت عليه، أو الأشق مرجحا، بل يجب المصير إلى المرجحات المعتبرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أحمد في مسنده من حديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: "لتعلم يهود أن في ديننا فسحة، إني أرسلت بحنيفية سمحة" 6/ 116-233 وذكره العجلوني في كشف الخفاء من حديث السيدة عائشة أيضًا 1/ 217.
2 أخرجه مسلم من حديث أبي موسى، كتاب الجهاد، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث 1732 وأبو داود، كتاب الأدب، باب كراهية المراء 4835.
وورد بلفظ أخر وهو: "يسروا ولا تعسروا وسكنوا ولا تنفروا" من حديث أنس.
أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة 69. ومسلم، كتاب الجهاد، باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير 1734. وأحمد في مسنده 3/ 131. وأبو يعلى في مسنده 4172.
الفائدة الثالثة: النافي للحكم هل يلزمه الدليل؟
لا خلاف أن المثبت للحكم يحتاج إلى إقامة الدليل عليه.
وأما النافي له، فاختلفوا في ذلك على مذاهب:
الأول:
أنه يحتاج إلى إقامة الدليل على النفي.
نقله الأستاذ أبو منصور عن طوائف أهل الحق، ونقله ابن القطان عن أكثر أصحاب الشافعي، وجزم به القفال، والصيرفي.
وقال الماوردي: إنه مذهب الشافعي، وجمهور الفقهاء والمتكلمين.(5/319)
وقال القاضي في "التقريب": إنه الصحيح، وبه قال الجمهور، قالوا: لأنه مدعٍ، والبينة على المدعي، ولقوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ}1 فذمهم على نفي ما لم يعلموه مبينا، ولقوله تعالى:{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}2 في جواب قولهم: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى}3، ولا يخافك أن الاستدلال بهذه الأدلة واقع في غير موضعه، فإن النافي غير مدعٍ، بل قائم مقام المنع، متمسك بالبراءة الأصلية، ولا هو مكذب بما لم يحط بعلمه، بل واقف حتى يأتيه الدليل، وتضطره الحجة إلى العمل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية 39 من سورة يونس.
2 جزء من الآية 111 من سورة البقرة.
3 جزء من الآية 111 من سورة البقرة.(5/320)
ص -192-…وأما قوله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فهو نصب للدليل في غير موضعه، فإنه إنما طلب منهم البرهان لادعائهم أنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى.
المذهب الثاني:
أنه لا يحتاج إلى إقامة دليل، وإليه ذهب أهل الظاهر، إلا ابن حزم، فإنه رجح المذهب الأول..
قالوا: لأن الأصل في الأشياء النفي والعدم، فمن نفى الحكم فله أن يكتفي بالاستصحاب، وهذا المذهب قوي جدا.
فإن النافي عهدته أن يطلب الحجة من المثبت حتى يصير إليها، ويكفيه في عدم إيجاب الدليل عليه التمسك بالبراءة الأصلية، فإنه لا ينقل عنها إلا دليل يصلح للنقل.
المذهب الثالث:
أنه يحتاج إلى إقامة الدليل في النفي العقلي، دون الشرعي، حكاه القاضي في "التقريب"، وابن فورك:
المذهب الرابع:
أنه يحتاج إلى إقامة الدليل في غير الضروري، بخلاف الضروري، وهذا اختاره الغزالي، ولا وجه له، فإن الضرورى يستغني بكونه ضروريا، ولا يخالف فيه مخالف إلا على جهة الغلط، أو اعتراض الشبهة، ويرتفع عنه ذلك ببيان ضروريته، وليس النزاع إلا في غير الضروري.
المذهب الخامس:
أن النافي إن كن شاكًّا فنفيه لم يحتج إلى دليل، وإن كان نافيا له عن معرفة احتاج إلى ذلك إن كانت تلك المعرفة استدلالية لا إن كانت ضرورية، فلا نزاع في الضروريات. كذا قال القاضي عبد الوهاب في الملخص ولا وجه له، فإن النافي عن معرفة يكفيه "تكليف"* المثبت بإقامة الدليل، حتى يعمل به، أو يرده؛ لأنه هو الذي جاء بحكم يدعي أنه واجب عليه، وعلى خصمه، وعلى غيرهما.
المذهب السادس:
أن النافي نفى العلم عن نفسه فقال: لا أعلم ثبوت هذا الحكم، فلا يلزمه الدليل، وإن نفاه مطلقًا احتاج إلى الدليل؛ لأن نفي الحكم حكم، كما أن الإثبات حكم.
قال ابن برهان في "الأوسط": وهذا التفصيل هو الحق. انتهى1.
قلت: بل الحق هو ما قدمناه.
المذهب السابع:
أنه إن ادعى لنفسه علما بالنفي احتاج إلى الدليل، وإلا فلا.(5/321)
هكذا ذكر هذا المذهب بعض أهل الجدل، واختاره المطرزي، وهو قريب من المذهب الخامس.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البحر المحيط 6/ 33.(5/322)
ص -193-…المذهب الثامن:
أنه إذا قال لم أجد فيه دليلا بعد الفحص عنه، وكان من أهل الاجتهاد لم يحتج إلى دليل، وإلا احتاج، هكذا قال ابن فورك.
المذهب التاسع:
أنه حجة دافعة لا موجبة، حكاه أبو زيد.
ولا وجه له، فإن النفي ليس بحجة موجبة على جميع الأقوال، وإنما النزاع في كونه يحتاج إلى الاستدلال على النفي، فيطالب به مطالبة مقبولة في المناظرة أم لا!
واختلفوا إذا قال العالم: بحثت وفحصت فلم أجد دليلا، هل يقبل منه ذلك، ويكون عدم الوجدان دليلا له، فقال البيضاوي، يقبل؛ لأنه يغلب ظن عدمه.
وقال ابن برهان في "الأوسط": إن صدر هذا عن المجتهد في باب الاجتهاد والفتوى قبل منه، ولا يقبل منه في المناظرة؛ لأن قوله: "بحثت فلم أظفر" يصلح أن يكون عذرا فيما بينه وبين الله، أما انتهاضة في حق خصمه فلا.
الفائدة الرابعة: سد الذرائع
الذريعة: هي المسألة التي ظاهرها الإباحة، ويتوصل بها إلى فعل المحظور.
قال الباجي: ذهب مالك إلى المنع من الذرائع.
وقال أبو حنيفة، والشافعي: لا يجوز منعها.
استدل المانع بمثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا}1وقوله: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ}2 وما صح عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها"3.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"4.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية 104 من سورة البقرة.
2 جزء من الآية 163 من سورة الأعراف.
3 أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله بلفظ: "قاتل الله اليهود إن الله عز وجل لما حرم عليهم شحومها أجملوها ثم باعوها فأكلوا ثمنها" 1581.(5/323)
وورد بلفظ آخر عنده من حديث أبي هريرة بلفظ: "قاتل الله اليهود حرم الله عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها" كتاب المساقاة، باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير 1583. وأخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل 3460. والبيهقي، كتاب الأشربة والحد فيها، باب ما جاء في تحريم الخمر 8/ 286. وأبو داود، كتاب البيوع، باب ثمن الخمر والميتة 3488. وابن حبان في صحيحه 4938، 6253.
4 أخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 13 من حديث الحسن بن علي وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وأخرجه الترمذي، كتاب صفة القيامة 2518. والنسائي، كتاب الأشربة، باب الحث على ترك الشبهات 8/ 327. والطيالسي برقم 1178. وابن حبان في صحيحه 722.(5/324)
ص -194-…وقوله: "الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، والمؤمنون وقافون عند الشبهات"1.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "من حام حول الحمى يوشك أن يواقعه" 2.
قال القرطبي: سد الذرائع ذهب إليه مالك وأصحابه، وخالفه أكثر الناس تأصيلا، وعملوا عليه في أكثر فروعهم تفصيلا، ثم قرر موضع الخلاف فقال: اعلم أن ما يفضي إلى الوقوع" في المحظور إما أن يلزم منه الوقوع"* قطعا أو لا؟ الأول ليس من هذا الباب، بل من باب ما لا خلاص من الحرام إلا باجتنابه، ففعله حرام من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
والذي لا يلزم، إما أن يفضي إلى المحظور غالبا، أو ينفك عنه غالبا، أو يتساوى الأمران، وهو المسمى بالذرائع عندنا، فالأول لا بد من مراعاته، والثاني والثالث اختلف الأصحاب فيه، فمنهم من يراعيه، "ومنهم من لا يراعيه"**، وربما يسميه التهمة البعيدة، والذرائع الضعيفة.
قال القرافي: مالك لم ينفرد بذلك، بل كل أحد يقول بها، ولا خصوصية للمالكية بها، إلا من حيث زيادتهم فيها.
قال: فإن من الذرائع ما هو معتبر بالإجماع، كالمنع من حفر الآبار في طريق المسلمين، وإلقاء السم في طعامهم، وسب الأصنام عند من يعلم من حاله أنه يسب الله.
ومنها ما هو ملغى إجماعا، كزراعة العنب، فإنها لا تمنع خشية الخمر، وإن كانت وسيلة إلى المحرم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(5/325)
1 أخرجه البخاري من حديث النعمان بن بشير بدون زيادة: "والمؤمنون وقافون عند الشبهات" كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه 52. وأخرجه مسلم، كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات 1559. وأبو داود، كتاب البيوع، باب في اجتناب الشبهات 3329. والنسائي، كتاب البيوع، باب اجتناب الشبهات 7/ 241. وابن ماجه، كتاب الفتن، باب الوقوف عند الشبهات 3984. والترمذي، كتاب البيوع، باب ما جاء في ترك الشبهات 1205. والبيهقي، كتاب البيوع، باب طلب الحلال واجتناب الشبهات 5/ 264. وابن حبان في صحيحه 721 وأحمد في مسنده 4/ 267. وكلهم بدون زيادة "والمؤمنون وقافون عند الشبهات.
2 هو جزء من الحديث المتقدم ذكره ولقد ورد بروايات متعددة وهو عند البخاري والنسائي وغيرهما بلفظ "من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه".(5/326)
ص -195-…ومنها ما هو مختلف فيه، كبيوع الآجال، فنحن "نعتبر"* الذريعة فيها، وخالفنا غيرنا في أصل القضية، أنا قلنا بسد الذرائع أكثر من غيرنا، لا أنها خاصة بنا.
قال: وبهذا تعمل بطلان استدلال أصحابنا على الشافعية في هذه المسألة بقوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ}1، وقوله {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ}2 فقد ذمهم بكونهم تذرعوا للصيد يوم السبت المحرم عليهم، لحبس الصيد يوم الجمعة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم"3 الحديث. وبالإجماع على جواز البيع والسلف مفترقين، وتحريمهما مجتمعين للذريعة إلى الربا، وبقوله صلى الله عليه وسلم**: "لا تُقبل شهادة خضم و[لا] ظنين"4 خشية الشهادة بالباطل، ومنع شهادة الآباء للأبناء.
قال: وإنما قلنا إن هذه الأدلة لا تفيد في محل النزاع لأنها تدل على اعتبار الشرع سد الذرائع في الجملة، وهذا أمر مجمع عليه، وإنما النزاع في ذريعة خاصة، وهو بيوع الآجال ونحوها، فينبغي أن يذكروا أدلة خاصة بمحل النزاع، وإن قصدوا القياس على هذه الذرائع المجمع عليها، فينبغي أن تكون حجتهم القياس، وحينئذ فليذكروا الجامع، حتى يتعرض الخصم لدفعه بالفارق، وهم لا يعتقدون أن دليلهم القياس.
قال: بل من أدل محل النزاع حديث زيد بن أرقم أن أمة قالت لعائشة: "إني بعت منه عبدا بثمانمائة إلى العطاء واشتريته منه نقدا بستمائة. فقالت عائشة: بئسما اشتريت، وأخبري زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب"5
قال أبو الوليد ابن رشد: وهذه المبايعة كانت بين أم ولد زيد بن أرقم ومولاها قبل العتق، فيُخرّج قول عائشة على تحريم الربا بين السيد وعبده. مع القول بتحريم هذه الذرائع، ولعل زيدا لا يعتقد تحريم الربا بين السيد وعبده.(5/327)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": لا نغتفر.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية 108 سورة الأنعام
2 جزء من الآية 65 سورة البقرة.
3 تقدم تخريجه في 2/ 193.
4 رواه مالك في الموطأ موقوفا على سيدنا عمر رضي الله عنه، كتاب الأقضية باب ما جاء في الشهادات4، 2/ 720 والزيادة منه.
5 أخرجه البيهقي في السنن الكبرى في كتاب البيوع باب الرجل يبيع الشيء إلى أجل ثم يشتريه بأقل 5/ 330. وعبد الرزاق في مصنفه في باب الرجل يبيع السلعة ثم يريد اشتراءها بعد 14812.(5/328)
ص -196-…قال الزركشي: وأجاب اصحابنا عن ذلك بأن عائشة إنما قالت ذلك باجتهادها، واجتهاد واحد من الصحابة لا يكون حجة على الآخر بالإجماع، ثم قولها معارض بفعل زيد بن أرقم، ثم إنها إنما أنكرت ذلك لفساد التعيين، فإن الأول فاسد لجهالة الأجل، فإن وقت العطاء غير معلوم، والثاني بناء على الأول فيكون فاسدا.
قال ابن الرفعة: الذريعة ثلاثة أقسام:
أحدها:
ما يقطع بتوصيله إلى الحرام، فهو حرام عندنا وعندهم، يعني: عند الشافعية والمالكية.
والثاني:
ما يقطع بأنه لا يوصل، ولكن اختلط بما يوصل، فكان من الاحتياط سد الباب، وإلحاق الصورة النادرة، التي قطع بأنها لا توصل إلى الحرام بالغالب منها، الموصل إليه، وهذا غلو في القول بسد الذرائع.
والثالث:
ما يحتمل ويحتمل، وفيه مراتب "متفاوتة"* ويختلف الترجيح عندهم بسبب تفاوتها.
قال: ونحن نخالفهم "في جميعها"** إلا القسم الأول؛ لأنضباطه وقيام الدليل عليه. انتهى.
ومن أحسن ما يستدل به على هذا الباب ما قدمنا ذكره من قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن حمى الله معاصيه، فمن حام حول الحمى يوشك أن يواقعه"1 وهو حديث صحيح.
ويلحق به ما قدمنا ذكره من قوله صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"2 وهو حديث صحيح أيضا، وقوله صلى الله عليه وسلم: "الإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس"3 وهو حديث حسن، وقوله صلى الله عليه وسلم: "استفت قلبك وإن أفتاك المفتون"4 وهو حديث حسن أيضا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": فيها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الحديث المتقدم في 2/ 194 ورواية البخاري: $"والمعاصي حمى الله ومن يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه".
2 تقدم تخريجه في 2/ 194.(5/329)
3 أخرجه البيهقي في سننه في الشهادات بيان مكارم الأخلاق ومعاليها 2/ 192 بلفظ "ما حاك في نفسك" من حديث النواس بن سمعان الأنصاري.
وأخرجه الترمذي في الزهد باب ما جاء في البر والأثم 2389. وأحمد في مسنده 4/ 182. ومسلم في البر والصلة باب تفسير البر والإثم 2553. ابن حبان في صحيحه 397. والبغوي في شرح السنة 3494.
4 أخرجه أحمد في مسنده من حديث وابصة بلفظ: "استفت قلبك واستفت نفسك البر ما أطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك ثلاثا" 4/ 228.
وأخرجه الدارمي، كتاب البيوع 2/ 245. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 175. وأبو يعلى في مسنده 1586.
ومن حديث أبي ثعلبة الخشني بلفظ: "البر ما تسكن إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما لم تسكن إليه النفس ولم يطمئن إليه القلب، وإن أفتاك المفتون" ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 175 أيضا.
وأخرجه الطبراني في الكبير 22/ 219 بدون "وإن أفتاك المفتون".(5/330)
ص -197-…الفائدة الخامسة: دلالة الاقتران
وقد قال بها جماعة من أهل العلم، فمن الحنفية أبو يوسف، ومن الشافعية المزني، وابن أبي هريرة، وحكى ذلك الباجي عن بعض المالكية، قال: ورأيت ابن نصر1 يستعملها كثيرا.
ومن ذلك استدلال مالك على سقوط الزكاة في الخيل بقوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً}2 قال: فقرن بين الخيل والبغال والحمير، والبغال والحمير لا زكاة فيها إجماعا، فكذلك الخيل.
وأنكر دلالة الاقتران الجمهور فقالوا: إن الاقتران في النظم لا يستلزم الاقتران في الحكم.
واحتج المثبتون "لها"* بأن العطف يقتضي المشاركة.
وأجاب الجمهور: بأن الشركة إنما تكن في المتعاطفات الناقصة، المحتاجة إلى ما تتم به، فإذا تمت بنفسها فلا مشاركة، كما في قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ}3 فإن الجملة الثانية معطوفة على الأولى، ولا تشاركها في الرسالة، ونحو ذلك كثير من الكتاب والسنة، والأصل في كل كلام تام أن ينفرد بحكمه، ولا يشاركه غيره فيه، فمن ادعى خلاف هذا في بعض المواضع فلدليل خارجي، ولا نزاع فيما كان كذلك، ولكن الدلالة فيه ليست للاقتران، بل للدليل الخارجي، أما إذا كان المعطوف ناقصا، بأن لا يذكر خبره، كقول القائل: فلانة طالق وفلانة، فلا خلاف في المشاركة، ومثله عطفت المفردات، وإذا كان بينهما مشاركة في العلة، فالتشارك في الحكم إنما كان لأجلها، لا لأجل الاقتران.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": إما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو أحمد بن نصر الداودي، الأسدي، المالكي "أبو جعفر" محدث، فقيه متكلم. سكن طرابلس الغرب، وتوفي بتلمسان سنة اثنتين وأربعمائة هـ من آثاره: "النامي في شرح الموطأ، الإيضاح في الرد على القدرية" وغيرها ا. هـ معجم المؤلفين 2/ 194".(5/331)
2 جزء من الآية 8 من سورة النحل.
3 جزء من الآية 29 من سورة الفتح.(5/332)
ص -198-…وقد احتج الشافعي على وجوب العمرة بقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}1.
قال البيهقي: قال الشافعي: الوجوب أشبه بظاهر القرآن؛ لأنه قرنها بالحج. انتهى.
قال القاضي أبو الطيب: قول ابن عباس: إنها لقرينتها، إنما أراد أنها قرينة الحج في الأمر وهو قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}، والأمر يقتضي الوجوب، فكان احتجاجه بالأمر دون الاقتران.
وقال الصيرفي في "شرح الرسالة"2: في حديث أبي سعيد: "غسل الجمعة على كل محتلم، والسواك، وأن يمس الطيب"3 "فيه"* دلالة على أن الغسل غير واجب؛ لأنه قرنه بالسواك، والطيب، وهما غير واجبين بالاتفاق.
والمروي عن الحنفية، كما حكاه الزركشي عنهم في "البحر" أنها إذا عطفت جملة على جملة، فإن كانتا تامتين كانت المشاركة في أصل الحكم، لا في جميع صفاته، "وقد"** لا تقتضي المشاركة أصلا، وهي التي تسمى واو الاستئناف كقوله تعالى: {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ}4 فإن قوله: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} جملة مستأنفة، لا تعلق لها بما قبلها، ولا هي داخل في جواب الشرط.
وإن كانت الثانية ناقصة شاركت الأولى في جميع ما هي عليه، قال: وعلى هذا بنوا بحثهم المشهور في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقتل مسلم بكافر"5 وقد سبق الكلام فيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": فهو.
** في "أ": قال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية 196 من سورة البقرة.
2 واسمه: "دلائل الأعلام" شرح لرسالة الشافعي في أصول الفقه على مذهبه، للشيخ الإمام محمد بن عبد الله الصيرفي ا. هـ كشف الظنون 1/ 873.(5/333)
3 أخرجه من حديث أبي سعيد الخدري البخاري، كتاب الجمعة، باب الطيب للجمعة 880. مسلم، كتاب الجمعة، باب الطيب والسواك يوم الجمعة 846. أبو داود، كتاب الطهارة، باب في الغسل يوم الجمعة 334. النسائي، كتاب الجمعة 3/ 92. البيهقي في السنن، كتاب الجمعة، باب السنة في التنظيف يوم الجمعة 3/ 242. ابن خزيمة 1745. ابن حبان في صحيحه 1233. أحمد في مسنده 3/ 69.
4 جزء من الآية 24 من سورة الشورى.
5 تقدم تخريجه في 1/ 345.(5/334)
ص -199-…الفائدة السادسة: دلالة الإلهام
ذكرها بعض الصوفية، وحكى الماوردي والروياني، في "باب"* القضاء في حجية الإلهام خلافًا وفرعًا عليه أن الإجماع هل يجوز انعقاده لا عن دليل "فإن قلنا: يصح جعله دليلا شرعيا جوزنا الانعقاد لا عن دليل"**، وإلا فلا.
قال الزركشي في "البحر": وقد اختار جماعة من المتأخرين اعتماد الإلهام، منهم في "تفسيره" في أدلة القبلة، وابن الصلاح في "فتاويه"1، فقال: إلهام خاطر الحق من الحق. قال: ومن علامته أن ينشرح له الصدر، ولا يعارضه معارض "من خاطر آخر"***.
قال أبو علي التميمي في كتاب "التذكرة في أصول الدين"2: ذهب بعض الصوفية إلى أن المعارف تقع اضطرارًا للعباد على سبيل الإلهام، بحكم وعد الله سبحانه وتعالى، بشرط التقوى، واحتج بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا}3 أي: ما تفرقون به بين الحق والباطل، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}4 أي: عن كل ما يلتبس على غيره وجه الحكم فيه وقوله تعالى:{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ}5.
فهذه العلوم الدينية تحصل للعباد إذا زكت أنفسهم، وسلمت قلوبهم لله تعالى، بترك المنهيات وامتثال المأمورات؛ "إذ"**** وخبره صدق ووعده حق.
واحتج شهاب الدين السهروردي6 على الإلهام بقوله تعالى:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": كتاب.
** ما بين القوسين ساقط من "أ".
*** ما بين القوسين ساقط من "أ".
**** في "أ": وخبره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 واسمها "فتاوى ابن الصلاح، لأبي عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشافعي، وهي من محاسنه، جمعها بعض طلبته، وهو الكمال إسحاق المعزي، وهي في مجلد كثير الفوائد نسخة منها مرتبة على الأبواب ونسخة غير مرتبة ا. هـ كشف الظنون 2/ 1218.(5/335)
2 التذكرة في أصول الدين: لم نجد فيما بين أيدينا من المراجع ترجمة لهذا الكتاب ولا لمؤلفه.
3 جزء من الآية 29 من سورة الأنفال.
4 جزء من الآية 22 من سورة الطلاق.
5 جزء من الآية 282 من سورة البقرة.
6 هو عمر بن محمد بن عبد الله التيمي القرشي، البكري السهروردي، الشيخ الإمام العالم القدوة، العارف، المحدث، شيخ الإسلام، شهاب الدين، ولد سنة ثلاثين وخمسمائة هـ وتوفي سنة اثنتنين وثلاثين وستمائة هي، صنف في التصوف كتابا فيه أحوال القوم ا. هـ سير أعلام النبلاء 22/ 375 شذرات الذهب 5/ 153.(5/336)
ص -200-…{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ}1 وبقوله: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ}2 فهذا الوحي هو مجرد الإلهام.
ثم إن من "الإلهام"* علوما تحدث في النفوس الزكية المطمئنة، قال صلى الله عليه وسلم:
"إن من أمتي المحدثين والمكلمين*، وإن عمر لمنهم"3 وقال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}4 فأخبر أن النفوس ملهمة.
قلت: وهذا الحديث الذي ذكره هو ثابت في الصحيح بمعناه، قال ابن وهب5 في تفسير الحديث: أي: ملهمون، ولهذا قال صاحب "نهاية الغريب"6: جاء في الحديث تفسيره أنهم الملهمون، والملهم: هو الذي يلقى في نفسه الشيء، فيخبر به حدسا وفراسة، وهو نوع يخص به الله من يشاء من عباده، كأنهم حدثوا بشيء فقالوه.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "استفت قلبك، وإن أفتاك الناس"7 فذلك في الواقعة التي تتعارض فيها الأدلة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": الوحي.
** في "أ": لمحدثين ومتكلمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية 7 من سورة القصص.
2 جزء من الآية 68 من سورة النحل.
3 أخرجه مسلم من حديث عائشة بلفظ: "وقد كان يكون في الأمم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد، فهو عمر بن الخطاب" كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل عمر رضي الله عنه 2398. وأخرجه ابن حبان في صحيحه 6894. الترمذي، كتاب المناقب، باب مناقب عمر بن الخطاب 3693. النسائي، كتاب الفضائل 18. أحمد في مسنده 6/ 55.
وفي الباب عن أبي هريرة عند أحمد 2/ 339، والبخاري 3469 و3689 والنسائي في فضائل الصحابة 19.
4 الآيتان 7-8 من سورة الشمس.(5/337)
5 هو عبد الله بن وهب بن مسلم، الفقه، المصري، أبو محمد ولد سنة خمس وعشرين ومائة هـ، وتوفي سنة سبع وتسعين ومائة هـ، كان صاحبًا للإمام مالك، جمع بين الفقه والحديث والعبادة، من آثاره: "الجامع، الموطأ" وغيرها ا. هـ سير أعلام النبلاء 14/ 400 الأعلام 4/ 144 شذرات الذهب 2/ 252.
6 واسمه "النهاية في غريب الحديث" للإمام مبارك بن أبي الكرم محمد المعروف بابن الأثير، أخذه من الغريبين للهروي وغريب الحديث لأبي موسى الأصبهاني ورتبه على حروف المعجم بالتزام الأول والثاني من كل كلمة واتباعهما بالثالث. وهو مطبوع، انظر: كشف الظنون 2/ 1989.
7 تقدم تخريجه في 2/ 196.(5/338)
ص -201-…قال الغزالي: واستفتاء القلب إنما هو حيث أباح المفتي، أما حيث حرم فيجب الامتناع، ثم لا نقول على كل قلب، فرب قلب موسوس ينفي كل شيء، ورب قلب متساهل يطير إلى كل شيء، فلا اعتبار بهذين القلبين، وإنما الاعتبار بقلب العالم الموفق لدقائق الأحوال، فهو المحك الذي يمتحن به حقائق الأمور، وما أعز هذا القلب.
قال البيهقي في "شعب الإيمان"1: هذا محمول على أنه يعرف في منامه من عالم الغيب ما عسى يحتاج إليه، أو يحدث على لسان ملك بشيء من ذلك كما ورد في بعض طرق الحديث بلفظ: "وكيف يحدث؟ قال: يتكلم الملك على لسانه"2.
وقد روي عن إبراهيم بن سعد 3 أنه قال في هذا الحديث يعني: يلقي في روعه.
قال القفال: لو تثبت العلوم بالإلهام لم "يكن"* للنظر معنى، ونسأل القائل بهذا عن دليله، فإن احتج بغير الإلهام "فقد** ناقض قوله. انتهى.
ويجاب عن هذا الكلام: بأن مدعي الإلهام لا يحصر الأدلة في الإلهام، حتى يكون استدلاله بغير الإلهام مناقضا لقوله، نعم إن استدل على إثبات الإلهام بالإلهام، كان في ذلك مصادرة على المطلوب؛ لأنه استدل على محل النزاع بمحل النزاع.
ثم على تقدير الاستدلال لثبوت الإلهام بمثل ما تقدم من الأدلة، من أين لنا أن دعوى هذا الفرد لحصول الإلهام له صحيحة، وما الدليل على أن قلبه من القلوب التي ليست بموسوسة ولا بمتساهلة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": يظن.
** في "أ": فهو.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 واسمه: "الجامع المصنف في شعب الإيمان". للإمام أحمد بن الحسين البيهقي، كتاب كبير من الكتب المشهور، وله مختصرات منها مختصر شمس الدين القونوي ا. هـ كشف الظنون "1/ 574.(5/339)
2 زيادة على لفظ الحديث المتقدم تخريجه في الصفحة 191 وهذه الزيادة ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد كتاب المناقب باب منزل عمر عند الله ورسوله من حديث أبي سعيد الخدري 14439، 9/ 69. وقال: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه أبو سعد خادم الحسن البصري ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات.
3 هو ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، الإمام الكبير، الحافظ، أبو إسحاق القرشي، الزهري، العوفي، المدني، ولد سنة ثمان ومائة هـ، سمع من الزهري وهو حدث واختلف في سنة وفاته فقيل سنة أربع وثمانين ومائة هـ وقيل خمس وقيل سبع وغير ذلك ا. هـ سير أعلام النبلاء 8/ 304 تهذيب التهذيب 1/ 121 الأعلام 1/ 40.(5/340)
ص -202-…"الفائدة"* السابعة: في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم
ذكر جماعة من أهل العلم منهم الأستاذ أبو إسحاق: أنه يكون حجة ويلزم العمل به.
وقيل: لا يكون حجة، لا يثبت به حكم شرعي، وإن كانت رؤية النبي صلى الله عليه وسلم حق، والشيطان لا يتمثل به لكن النائم ليس من أهل التحمل للرواية، لعدم حفظه.
وقيل: إنه يعمل به، ما لم يخالف شرعا ثابتا.
ولا يخفاك أن الشرع الذي شرعه الله لنا على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم قد كمله الله عز وجل، وقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}1، ولم يأتنا دليل يدل على أن رؤيته في النوم بعد موته صلى الله عليه وسلم، إذا قال فيها بقول، أو فعل فيها فعلا يكون دليلا وحجة، بل قد قبضه الله إليه بعد أن كمل لهذه الأمة ما شرعه لها على لسانه، ولم يبق بعد ذلك حاجة للأمة في أمر دينها، وقد انقطعت البعثة لتبليغ الشرائع، وتبيينها بالموت، وإن كان رسولا حيًّا وميتًا، وبهذا تعلم أن لو قدرنا ضبط النائم لم يكن ما رآه من قوله صلى الله عليه وسلم وفعله حجة عليه، ولا على غيره من الأمة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": المسألة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية 3 من سورة المائدة.(5/341)
ص -205-…المقصد السادس: في الاجتهاد والتقليد
أما الفصل الأول: في الاجتهاد
ففيه تسع مسائل:
المسالة الأولى: في حد الاجتهاد
وهو في اللغة مأخوذ من الجهد، وهو المشقة والطاقة، فيختص بما فيه مشقة، ليخرج عنه ما لا مشقة فيه.
قال "في المحصول": وهو في اللغة عبارة عن استفراغ الوسع، في أي فعل كان.
يقال: استفرع وسعه في حمل الثقيل، ولا يقال: استفرغ وسعه في حمل النواة.
وأما في عرف الفقهاء: فهو استفراغ الوسع في النظر فيما لا يلحقه فيه لوم، مع استفراغ الوسع فيه، و"هذا"* سبيل مسائل الفروع، و"لذلك"** تسمى هذه المسائل مسائل الاجتهاد، والناظر فيها مجتهدًا، وليس هكذا حال الأصول. انتهى.
وقيل: هو في الاصطلاح: بذل الوسع في نيل حكم شرعي عملي، بطريق الاستنباط.
فقولنا: بذل الوسع يخرج ما يحصل مع التقصير، فإن معنى بذل الوسع: أن يحس من نفسه العجز عن مزيد طلب.
ويخرج بالشرعي اللغوي، والعقلي، والحسي، فلا يسمى من بذل وسعه في تحصيلها مجتهدا اصطلاحا، وكذلك بذل الوسع في تحصيل الحكم العلمي، فإنه لا يسمى اجتهادا عند الفقهاء، وإن كان يسمى اجتهادا عند المتكلمين1.
ويخرج بطريق الاستنباط نيل الأحكام من النصوص ظاهرا، أو حفظ المسائل، أو استعلامها من المفتي، أو بالكشف عنها في كتب العلم، فإن ذلك وإن كان يصدق عليه الاجتهاد اللغوي، فإنه لا يصدق عليه الاجتهاد الاصطلاحي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": وهو.
** في "أ": ولهذا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البحر المحيط 6/ 197 والمستصفى 2/ 350.(5/342)
ص -206-…وقد زاد بعض الأصوليين في هذا الحد لفظ الفقيه فقال: بذل الفقيه الوسع ولا بد من ذلك، فإن بذل غير الفقيه وسعه لا يسمى اجتهادا اصطلاحا.
ومنهم من قال: هو استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم شرعي فزاد قيد الظن؛ لأنه لا اجتهاد في القطعيات.
ومنهم من قال: هو طلب الصواب بالأمارات الدالة عليه.
قال ابن السمعاني: وهو أليق بكلام الفقهاء.
وقال أبو بكر الرازي: الاجتهاد يقع على ثلاثة معانٍ:
أحدها:
القياس الشرعي؛ لأن العلة لما لم تكن موجبة للحكم، لجواز وجودها خالية عنه، لم يوجب ذلك العلم بالمطلوب، فلذلك كان طريقه الاجتهاد.
والثاني:
ما يغلب في الظن من غير علة، كالاجتهاد في الوقت، والقبلة، والتقويم.
والثالث:
الاستدلال بالأصول.
وقال الآمدي: هو في الاصطلاح: استفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية، على وجه يحس من النفس العجز عن المزيد عليه، وبهذا القيد خرج اجتهاد المقصر، فإنه لا يعد في الاصطلاح اجتهادا معتبرا.
الشروط الواجب توفرها في المجتهد:
إذا عرفت هذا، فالمجتهد: هو الفقيه المستفرغ لوسعه لتحصيل ظن بحكم شرعي، ولا بد أن يكون بالغا عاقلا، قد ثبت له ملكة يقتدر بها على استخراج الأحكام من مآخذها، وإنما يتمكن من ذلك بشروط.
الأول:
أن يكون عالما بنصوص الكتاب والسنة، فإن قصر في أحدهما لم يكن مجتهدا، ولا يجوز له الاجتهاد، ولا يشترط معرفته بجميع الكتاب والسنة، بل ما يتعلق منهما بالأحكام.
قال الغزالي، وابن العربي: والذي في الكتاب العزيز من ذلك قدر خمسمائة آية، ودعوى الانحصار في هذا المقدار إنما هو باعتبار الظاهر، للقطع بأن في الكتاب العزيز من الآيات التي تستخرج منها الأحكام الشرعية أضعاف أضعاف ذلك، بل من له فهم صحيح، وتدبر كامل، يستخرج الأحكام من الآيات الواردة لمجرد القصص والأمثال.
قيل: ولعلهم قصدوا بذلك الآيات الدالة على الأحكام دلالة أولية بالذات، لا بطريق التضمن والالتزام.(5/343)
وقد حكى الماوردي عن بعض أهل العلم أن اقتصار المقتصرين على العدد المذكور إنما هو(5/344)
ص -207-…لأنهم رأوا مقاتل بن سليمان1 أفرد آيات الأحكام في تصنيف وجعلها خمسمائة آية.
قال الأستاذ أبو منصور: يشترط معرفة ما يتعلق بحكم الشرع، ولا يشترط معرفة ما فيها من القصص والمواعظ.
واختلفوا في القدر الذي يكفي المجتهد من السنة، فقيل: خمسمائة حديث، وهذا من أعجب ما يقال، فإن الأحاديث التي تؤخذ منها الأحكام الشرعية ألوف مؤلفة.
وقال ابن العربي في "المحصول": هي ثلاثة آلاف.
وقال أبو علي الضرير: قلت لأحمد بن حنبل: كم يكفي الرجل من الحديث حتى يمكنه أن يفتي: يكفيه مائة ألف؟ قال: لا. قلت: "مائتا ألف؟ قال: لا. قلت"* ثلاثمائة ألف؟ قال: لا. قلت: أربعمائة ألف؟ قال: لا. قلت: خمسمائة ألف؟ قال: أرجو.
قال بعض أصحابه: هذا محمول على الاحتياط، والتغليظ في الفتيا، أو يكون أراد وصف أكمل الفقهاء، فأما ما لا بد منه، فقد قال أحمد رحمه الله: الأصول التي يدور عليها العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي أن تكون ألفًا ومائتين.
قال أبو بكر الرازي: لا يشترط استحضار جميع ما ورد في ذلك الباب؛ إذ لا يمكن الإحاطة به، ولو تصور لما حضر في ذهنه عند الاجتهاد جميع ما رُوي.
وقال الغزالي، وجماعة من الأصوليين: يكفيه أن يكون عنده أصل يجمع أحاديث الأحكام، كسنن أبي داود2، ومعرفة السنن للبيهقي3، أو أصل وقعت العناية فيه بجميع أحاديث الأحكام، ويكتفي فيه بمواقع كل باب، فيراجعه وقت الحاجة، وتبعه على ذلك الرافعي، ونازعه النووي وقال: لا يصح التمثيل بسنن أبي داود، فإنها لم تستوعب الصحيح من أحاديث الأحكام،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(5/345)
1 هو أبو الحسن البلخي، كبير المفسرين، أبو الحسن، وهو من الضعفاء، توفي سنة خمسين ومائة هـ، من آثار "التفسير الكبير، نوادر التفسير، الرد على القدرية، متشابه القرآن" وغيرها. قال البغدادي في هدية العارفين: صنف من الكتب تفسير خمسمائة آية من القرآن ا. هـ هدية العارفين 2/ 470، سير أعلام النبلاء 7/ 201 شذرات الذهب 1/ 227.
2 أبو داود: هو سليمان بن الأشعث بن شداد السجستاني، شيخ السنة مقدم الحفاظ، محدث البصرة، ولد سنة اثنتين ومائتين هـ، قال الصاغاني فيه: لين لأبي داود السجستاني الحديث كما لين لداود عليه السلام الحديد. توفي سنة خمس وسبعين ومائتين هـ من آثاره كتابه المشهور "سنن أبو داود" جمع فيه أربعة آلاف حديث وثمانية من خمسمائة ألف حديث كتبها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ا. هـ سير أعلام النبلاء 13/ 203 شذرات الذهب 2/ 167 تذكر الحفاظ 2/ 591 كشف الظنون 2/ 1004.
3 للإمام الحافظ أحمد بن الحسين بن علي البيهقي ا. هـ كشف الظنون 2/ 1739.(5/346)
ص -208-…ولا معظمها، وكم في صحيح البخاري ومسلم من حديث حكمي ليس في سنن أبي داود، وكذا قال ابن دقيق العيد في "شرح العنوان": التمثيل بسنن أبي داود ليس بجيد عندنا، لوجهين:
الأول:
أنها لا تحوي السنن المحتاج إليها.
الثاني:
أن في بعضها ما لا يحتج به في الأحكام. انتهى.
ولا يخفاك أن كلام أهل العلم في هذا الباب بعضه من قبيل الإفراط، وبعضه من قبيل التفريط.
والحق الذي لا شك فيه ولا شبهة أن المجتهد لا بد أن يكون عالما بما اشتملت عليه مجاميع السنة التي صنفها أهل الفن، كالأمهات الست1 وما يلتحق بها: مشرفا على ما اشتملت عليه المسانيد2، والمستخرجات3، والكتب التي التزم مصنفوها الصحة، ولا يشترط في هذا أن تكون محفوظة له، مستحضرة في ذهنه، بل أن يكون ممن يتمكن من استخراجها من مواضعها، بالبحث عنها عند الحاجة إلى ذلك، وأن يكون ممن له تمييز بين الصحيح منها، والحسن، والضعيف، بحيث يعرف حال رجال الإسناد معرفة يتمكن بها من الحكم على الحديث بأحد الأوصاف المذكورة، وليس من شرط ذلك أن يكون حافظا لحال الرجال عن ظهر قلب، بل المعتبر أن يتمكن بالبحث في كتب الجرح والتعديل من معرفة حال الرجال، مع كونه ممن له معرفة تامة بما يوجب الجرح، وما لا يوجبه من الأسباب، وما هو مقبول منها، وما هو مردود، وما هو قادح من العلل، وما هو غير قادح.
الشرط الثاني: أن يكون عارفا بمسائل الإجماع، حتى لا يفتي بخلاف ما وقع الإجماع عليه، إن كان ممن يقول بحجية الإجماع ويرى أنه دليل شرعي، وقل أن يلتبس على من بلغ رتبة الاجتهاد ما وقع عليه الإجماع من المسائل.
الشرط الثالث:
أن يكون عالما بلسان العرب، بحيث يمكنه تفسير ما ورد في الكتاب والسنة من الغريب ونحوه، ولا يشترط أن يكون حافظا لها عن ظهر قلب، بل المعتبر أن يكون متمكنا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(5/347)
1 وهي الكتب الستة المعروفة: 1- صحيح البخاري 2- صحيح مسلم 3- سنن أبي داود 4-سنن ابن ماجه 5- سنن النسائي 6- صحيح الترمذي.
2 جمع مسند والمراد به هنا كتاب ذكرت فيه الأحاديث على ترتيب الصحابة بحيث يوافق حروف الهجاء أو يوافق السوابق الإسلامية أو يوافق شرافة النسب، وأشهرها: مسند الإمام أحمد بن حنبل.
3 المستخرج: مشتق من الاستخراج وهو: أن يعمد المحدث إلى كتاب من كتب الحديث كصحيح البخاري مثلا فيخرج أحاديثه بأسانيد لنفسه من غير طريق صاحب الكتاب فيجتمع معه في شيخه أو من فوقه، ومثاله: "كتاب المستخرج على صحيح البخاري للإسماعيلي وللبرقاني" و"المستخرج على صحيح مسلم لأبي عوانة الإسفراييني" وغير ذلك. ا. هـ تدريب الراوي 1/ 112.(5/348)
ص -209-…من استخراجها من مؤلفات الأئمة المشتغلين بذلك، وقد قربوها أحسن تقريب، وهذبوها أبلغ تهذيب، ورتبوها على حروف المعجم ترتيبًا لا يصعب الكشف عنه، ولا يبعد الاطلاع عليه، وإنما يتمكن من معرفة معانيها، وخواص تراكيبها، وما اشتملت عليه من لطائف المزايا من كان عالما بعلم النحو، والصرف، والمعاني، والبيان، حتى يثبت له في كل فن من هذه "الفنون"* ملكة، يستحضر بها كل ما يحتاج إليه عند وروده عليه، فإنه ذلك ينظر في الدليل نظرا صحيحا، ويستخرج منه الأحكام استخراجا قويا.
ومن جعل المقدار المحتاج إليه من هذه الفنون هو معرفة "مختصر من"** ختصراتها، أو كتاب متوسط من المؤلفات الموضوعة فيها، فقد أبعد، بل الاستكثار من الممارسة لها، والتوسع في الاطلاع على مطولاتها مما يزيد المجتهد قوة في البحث، وبصرًا في الاستخراج، وبصيرة في حصول مطلوبه.
والحاصل: أنه لا بد أن تثبت له الملكة القوية في هذه العلوم، وإنما تثبت هذه الملكة بطول الممارسة، وكثرة الملازمة لشيوخ هذا الفن.
قال الإمام الشافعي: يجب على كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما يبلغه جهده في أداء فرضه.
قال الماوردي: ومعرفة لسان العرب فرض على كل مسلم من مجتهد1 وغيره.
الشرط الرابع:
أن يكون عالما بعلم أصول الفقه، لاشتماله على "ما تمس"*** حاجة إليه، وعليه أن يطول الباع فيه، ويطلع على مختصراته، ومطولاته، بما تبلغ "إليه"****طاقته، فإن هذا العلم هو عماد فسطاط الاجتهاد، وأساسه الذي تقوم عليه أركان بنائه، وعليه أيضًا أن ينظر في كل مسالة من مسائله نظرًا يوصله إلى ما هو الحق فيها، فإنه إذا فعل ذاك تمكن من رد الفروع إلى أصولها، بأيسر علم، وإذا قصر في هذا الفن صعب عليه الرد، وخبط فيه وخلط.
قال الفخر الرازي في "المحصول"؛ وما أحسن ما قال: إن أهم العلوم للمجتهد علم أصول الفقه. انتهى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* بين القوسين ساقط من "أ".(5/349)
** بين القوسين ساقط من "أ".
*** في"أ": نفسه.
**** في "أ": به.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الأستاذ أبو إسحاق: ويكفيه من اللغة أن يعرف غالب المستعمل ولا يشترط التبحر، ومن النحو الذي يصح به التمييز في ظاهر الكلام كالفاعل والمفعول وما تتفق عليه المعاني في الجمع والعطف والخطاب والكتابات والوصل والفصل، ولا يلزم الإشراف على دقائقه. ا. هـ البحر المحيط 6/ 202.(5/350)
ص -210-…قال الغزالي: إن أعظم علوم الاجتهاد يشتمل على ثلاثة فنون: الحديث، واللغة، وأصول الفقه.
الشرط الخامس:
أن يكون عارفًا بالناسخ والمنسوخ، بحيث لا يخفى عليه شيء من ذلك، مخافة أن يقع في الحكم بالمنسوخ1.
وقد اختلفوا في اشتراط العلم بالدليل العقلي، فشرطه جماعة منهم الغزالي، والفخر الرازي، ولم يشترطه الآخرون، وهو الحق؛ لأن الاجتهاد إنما يدور على الأدلة الشرعية، لا على الأدلة العقلية، ومن جعل العقل حاكما فهو لا يجعل ما حكم به داخلا في مسائل الاجتهاد.
واختلفوا أيضًا في اشتراط علم أصول الدين، فمنهم من "اشتراط"* ذلك، وإليه ذهب المعتزلة، ومنهم من لم يشترط ذلك، وإليه ذهب الجمهور.
ومنهم من فصل، فقال: يشترط العلم بالضروريات، كالعلم بوجود الرب سبحانه وصفاته وما يستحقه والتصديق "بالرسول وما جاء به"**.
ولا يشترط علمه بدقائقه، وإليه ذهب الآمدي.
واختلفوا أيضًا في اشتراط علم الفروع، فذهب جماعة منهم الأستاذ أبو إسحاق، والأستاذ أبو منصور إلى اشتراطه، واختاره الغزالي وقال: إنما يحصل الاجتهاد في زماننا بممارسته فهو طريق لتحصيل الدربة في هذا الزمان.
وذهب آخرون إلى عدم اشتراطه، قالوا: وإلا لزم الدور، وكيف يحتاج إليه، وهو الذي يولدها، بعد حيازته لمنصب الاجتهاد.
وقد جعل قوم من جملة علوم الاجتهاد علم الجرح والتعديل، وهو كذلك، ولكنه مندرج تحت العلم بالسنة، فإنه لا يتم العلم بها بدونه كما قدمنا2.
وجعل قوم من جملة علوم الاجتهاد معرفة القياس بشروطه وأركانه، قالوا: لأنه مناط الاجتهاد وأصل الرأي، ومنه يتشعب الفقه، وهو كذلك، ولكنه مندرج تحت علم اصول الفقه فإنه باب من أبوابه، وشعبة من شعبه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": يشترط.
** في "أ": بالرسل وما جاءوا به.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البحر المحيط 6/ 203.(5/351)
2 انظر ما سبق في الشرط الأول: 2/ 206-207.(5/352)
ص -211-…موضع الاجتهاد:
وإذا عرفت معنى الاجتهاد، والمجتهد، فاعلم: أن المجتهد فيه، هو الحكم الشرعي العملي1.
قال في "المحصول": المجتهد فيه: هو كل حكم شرعي ليس فيه دليل قاطع، واحترزنا بالشرعي عن العقليات، ومسائل الكلام.
وبقولنا: ليس فيه دليل قاطع عن وجوب الصلوات الخمس، والزكاة، وما اتفقت عليه الأئمة من جليات الشرع.
قال أبو الحسين البصري: المسألة الاجتهادية هي التي اختلف فيها المجتهدون، من الأحكام الشرعية، وهذا ضعيف؛ لأن جواز اختلاف المجتهدين مشروط بكون المسألة اجتهادية، فلو عرفنا كونها اجتهادية باختلافهم فيها لزم الدور.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البحر المحيط 6/ 227 والمستصفى 2/ 354.
المسألة الثانية: هل يجوز خلو العصر عن المجتهدين أم لا؟
فذهب جمع إلى أنه لا يجوز خلو الزمان عن مجتهد، قائم بحجج الله، يبين للناس ما نزل إليهم.
قال بعضهم: ولا بد أن يكون في كل قطر من يقوم به الكفاية؛ لأن الاجتهاد من فروض الكفايات.
قال ابن الصلاح: الذي رأيته في "كلام"* الأئمة يشعر بأنه لا يتأتى فرض الكفاية بالمجتهد المقيد، قال: والظاهر أنه لا يتاتى في الفتوى.
وقال بعضهم: الاجتهاد في حق العلماء على ثلاثة أضرب: فرض عين، وفرض كفاية، وندب.
فالأول: على حالين:
"أحدهما" **: اجتهاد في حق نفسه عند نزول الحادثة.
والثاني: اجتهد فيما تعين عليه الحكم فيه، فإن ضاق فرض الحادثة كان على الفور، وإلا كان على التراخي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": كتب.
** زيادة يقتضيها السياق.(5/353)
ص -212-…والثاني: على حالين:
أحدهما: إذا نزلت بالمستفتي حادثة، فاستفتى أحد العلماء، توجه الفرض على جميعهم، وأخصهم بمعرفتها من خص بالسؤال عنها، فإن أجاب هو أو غيره سقط الفرض، وإلا أثموا جميعا.
والثاني: أن يتردد الحكم بين قاضيين مشتركين في النظر، فيكون فرض الاجتهاد مشتركا بينهما، فإيهما تفرد بالحكم فيه سقط فرضه عنها.
والثالث: على حالين:
أحدهما: فيما يجتهد فيه العالم من غير النوازل، يسبق إلى معرفة حكمه قبل نزوله.
والثاني: أن يستفتيه قبل نزولها. انتهى.
ولا يخافك أن القول بكون الاجتهاد فرضا، يستلزم عدم خلو الزمان عن مجتهد، ويدل على ذلك ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين حتى تقوم الساعة"1.
وقد حكى الزركشي في "البحر" عن الأكثرين: أنه يجوز خلو العصر عن المجتهد، وبه جزم صاحب "المحصول".
قال الرافعي: الخلق كالمتفقين على أنه لا مجتهد اليوم.
قال الزركشي: ولعله أخذه من كلام الإمام الرازي، أو من قول الغزالي في "الوسيط"2: قد خلا العصر عن المجتهد المستقل.
قال الزركشي: ونقل الاتفاق عجيب، والمسألة خلافية بيننا وبين الحنابلة، وساعدهم بعض أئمتنا.
والحق: أن الفقيه الفطن للقياس كالمجتهد في حق العامي، لا الناقل فقط.
وقالت الحنابلة: لا يجوز خلو العصر عن مجتهد، وبه جزم الأستاذ أبو إسحاق، والزبيري3، ونسبه أبو إسحاق إلى الفقهاء، قال ومعناه: أن الله تعالى لو أخلى زمانا من قائم بحجة، زال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم في 1/ 207.
2 وهو الوسيط في الفروع للإمام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي، وهو ملخص من بسيطة مع زيادات، وهو أحد الكتب الخمسة المتداولة بين الشافعية التي تتداول كما ذكره النووي في تهذيبه ا. هـ كشف الظنون 2/ 2008.(5/354)
3 هو أحمد بن سليمان البصري، المعروف بالزبيري الشافعي، ويعرف أيضًا بصاحب الكافي، أبو عبد الله، فقيه، عارف بالأدب، خبير بالأنساب، من آثاره: كتابه "الاستشارة والاستخارة، الكافي في فروع الفقه الشافعي" وغيرها ا. هـ معجم المؤلفين 1/ 237 كشف الظنون 1/ 493.(5/355)
ص -213-…التكليف؛ إذ التكليف لا يثبت إلا بالحجة الظاهرة، وإذا زال التكليف بطلت الشريعة.
قال الزبيري: لن تخلو الأرض من قائم لله بالحجة في كل وقت، ودهر وزمان، وذلك قليل في كثير، فأما أن يكون غير موجود، كما قال الخصم، فليس بصواب؛ لأنه لو عدم الفقهاء لم تقم الفرائض كلها، ولو عطلت الفرائض كلها لحلت النقمة بالخلق، كما جاء في الخبر: "لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس"1 ونحن نعوذ بالله أن نؤخر مع الأشرار. انتهى.
قال ابن دقيق العيد: هذا هو المختار عندنا، لكن إلى الحد الذي ينتقض به القواعد، بسبب زوال الدنيا في آخر الزمان.
وقال في "شرح خطبة الإلمام": والأرض لا تخلو من قائم لله بالحجة، والأمة الشريفة لا بد لها من سالك إلى الحق على وضاح الحجة، إلى أن يأتي أمر الله في أشراط الساعة الكبرى. انتهى.
وما قاله الغزالي رحمه الله: من أنه قد خلا العصر عن المجتهد، قد سبقه إلى القول به القفال، ولكنه ناقض ذلك فقال: إنه ليس بمقلد للشافعي، وإنما وافق رأيه رأيه، كما "نقل"* ذلك عنه الزركشي2، وقال: قول هؤلاء القائلين بخلو العصر عن المجتهد، مما يقضى منه العجب، فإنهم إن قالوا ذلك باعتبار المعاصرين لهم، فقد عاصر القفال، والغزالي، والرازي، والرافعي، من الأئمة القائمين بعلوم الاجتهاد على الوفاء والكمال جماعة منهم، ومن كان له إلمام بعلم التاريخ، واطلاع على أحوال علماء الإسلام في كل عصر لا يخفى عليه مثل هذا، بل قد جاء بعدهم من أهل العلم من جمع الله له من العلوم فوق ما "اعتبره"** أهل العلم في الاجتهاد.
وإن قالوا ذلك لا بهذا الاعتبار، بل باعتبار أن الله عز وجل رفع ما تفضل به على من قبل هؤلاء من هذه "الأمة"*** من كمال الفهم، وقوة الإدراك، والاستعداد للمعارف، فهذه دعوى من أبطل الباطلات، بل هي جهالة من الجهالات.(5/356)
وإن كان ذلك باعتبار تيسر العلم لمن قبل هؤلاء المنكرين، وصعوبته عليهم، وعلى آهل عصورهم، فهذه أيضًا دعوى باطلة، فإنه لا يخفى على من له أدنى فهم أن الاجتهاد قد يسره الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "ب": حكى.
** في "أ": اعتد به.
*** في "أ": الأئمة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم من حديث عبد الله، كتاب الفتن، باب قبل الساعة 2949. وأحمد في مسنده 1/ 435. وأبو يعلى في مسنده 5248. وابن حبان في صحيحه 6850. والطيالسي 311.
2 انظر البحر المحيط 6/ 208.(5/357)
ص -214-…للمتأخرين تيسيرًا لم يكن للسابقين؛ لأن التفاسير للكتاب العزيز قد دونت، وصارت في الكثرة إلى حد لا يكن حصره، والسنة المطهرة قد دونت، وتكلم "الأئمة"* على التفسير والترجيح، والتصحيح، والتجريح بما هو زيادة على ما يحتاج إليه المجتهد، وقد كان السلف الصالح، ومن قبل هؤلاء المنكرين يرحل للحديث الواحد من قطر إلى قطر، فالاجتهاد على المتأخرين أيسر وأسهل من الاجتهاد على المتقدمين، ولا يخالف في هذا من له فهم صحيح، وعقل سوي.
وإذا أمعنت النظر وجدت هؤلاء المنكرين إنما أُتوا من قبل أنفسهم، فإنهم لما عكفوا على التقليد، واشتغلوا بغير علم الكتاب والسنة، حكموا على غيرهم بما وقعوا فيه، "واستصعبوا"** ما سهله الله على من رزقه العلم والفهم، وأفاض على قلب أنواع علوم الكتاب والسنة.
ولما كان هؤلاء الذين صرحوا بعدم وجود المجتهدين شافعية، فها نحن "نوضح"*** لك من وجد من الشافعية بعد عصرهم، ممن لا يخالف مخالف في أنه جمع أضعاف علوم الاجتهاد، فمنهم ابن عبد السلام، وتلميذه ابن دقيق العيد، ثم تلميذه ابن سيد الناس1، ثم تلميذه زين الدين العراقي2، ثم تلميذه ابن حجر العسقلاني3، ثم تلميذه السيوطي4؛ فهؤلاء ستة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": الأمة.
** في "أ": استصعبنا
*** في "أ": نصرح.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو محمد بن محمد بن أحمد بن سيد الناس، اليعمري، الربعي، أبو الفتح فتح الدين، مؤرخ، عالم بالأدب، من حفاظ الحديث ولد سنة إحدى وسبعين وستمائة هـ وتوفي سنة أربع وثلاثين وسبعمائة هـ من آثاره "عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير، تحصيل الإصابة في تفضيل الصحابة" وغيرها ا. هـ ذيل تذكرة الحفاظ 16 شذرات الذهب 6/ 108 الأعلام 7/ 34.(5/358)
2 هو عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن الكردي، الرازناني الأصل، المهراني، المصري، الشافعي، المعروف بالعراقي، زين الدين، أبو الفضل توفي سنة اثنتين وثمانمائة هـ من آثاره: "ألفية علوم الحديث، المغني عن حمل الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار" وغيرها. ا. هـ معجم المؤلفين 5/ 204 هدية العارفين 1/ 562 تذكرة الحفاظ 1/ 28.
3 هو أحمد بن علي بن محمد الكناني، العسقلاني، المصري المولد والمنشأ والدار والوفاة، ولد سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة هـ، وتوفي سنة اثنتين وخمسين وثمانمائة هـ من آثاره "فتح الباري بشرح صحيح البخاري، الإصابة في تمييز الصحابة" وغيرها كثير. ا. هـ شذرات الذهب 7/ 270 معجم المؤلفين 2/ 20 إيضاح المكنون 1/ 13.
4 هو عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد، المصري، الشافعي، جلال الدين، أبو الفضل، ولد سنة تسع وأربعين وثمانمائة هـ، وتوفي سنة إحدى عشرة وتسعمائة هـ، له مؤلفات كثيرة منها "المزهر في اللغة، الدر المنثور في التفسير المأثور، حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة" ا. هـ معجم المؤلفين 5/ 128 "شذرات الذهب 8/ 51 هدية العارفين 1/ 534.(5/359)
ص -215-…أعلام، كل واحد منهم تلميذ من قبله، قد بلغوا من المعارف العلمية ما يعرفه من يعرف مصنفاتهم حق معرفتنا، وكل واحد منهم إمام كبير في الكتاب والسنة، محيط بعلوم الاجتهاد إحاطة متضاعفة، عالم بعلوم خارجة عنها.
ثم في المعاصرين لهؤلاء كثير من المماثلين لهم، وجاء بعدهم من لا يقصر عن بلوغ مراتبهم، والتعداد لبعضهم، فضلا عن كلهم يحتاج إلى بسط طويل.
وقد قال الزركشي في "البحر" ما لفظه: ولم يختلف اثنان في أن ابن عبد السلام بلغ رتبة الاجتهاد، وكذلك ابن دقيق العيد. انتهى.
و"حكاية"* هذا الإجماع من هذا الشافعي يكفي في مقابلة حكاية الاتفاق من ذلك الشافعي الرافعي. وبالجملة فتطويل البحث في مثل هذا لا يأتي بكثير إفادة، فإن أمره أوضح من كل واضح، وليس ما يقوله من كان من أسراء التقليد بلازم لمن فتح الله على أبواب المعارف، ورزقه من العلم ما يخرج به عن تقليد الرجال، وما هذه بأول فاقرة1 جاء بها المقلدون، ولا هي أول مقالة قالها المقصرون.
ومن حصر فضل الله على بعض خلقه، وقصر فهم هذه الشريعة المطهرة على من تقدم عصره، فقد تجرأ على الله عز وجل، ثم على شريعته الموضوعة لكل عباده، ثم على عبادة الذين تعبدهم الله بالكتاب والسنة.
ويا لله العجب من مقالات هي جهالات، وضلالات، فإن هذه المقالة تستلزم رفع التعبد بالكتاب والسنة، وأنه لم يبق إلا تقليد الرجال، الذين هم متعبدون بالكتاب والسنة، كتعبد من جاء بعدهم على حد سواء، فإن كان التعبد بالكتاب والسنة مختصا بمن كانوا في العصور السابقة، ولم يبق لهؤلاء إلا التقليد لمن تقدمهم، ولا يتمكنون من معرفة أحكام الله، من كتاب الله وسنة رسوله، فما الدليل على هذه التفرقة الباطلة، والمقالة الزائفة، وهل النسخ إلا هذا {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}2.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".(5/360)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الفاقرة: الداهية الكاسرة للفقار ا. هـ لسان العرب مادة فقر.
2 جزء من الآية 16 من سورة النور.(5/361)
ص -216-…المسألة الثالثة: في تجزُّؤ الاجتهاد
وهو أن يكون العالم قد تحصل له في بعض المسائل ما هو مناط الاجتهاد من الأدلة دون غيرها، فإذا حصل له ذلك فهل له أن يجتهد فيها أو لا، بل لا بد أن يكون مجتهدا مطلقًا، عنده ما يحتاج إليه في جميع المسائل؟
فذهب جماعة إلى أنه يتجزأ، وعزاه الصفي الندي إلى الأكثرين، وحكاه صاحب "النكت"1 عن أبي علي الجبائي، وأبي عبد الله البصري.
قال ابن دقيق العيد: وهو المختار؛ لأنها قد تمكن العناية بباب من الأبواب الفقهية، حتى تحصل المعرفة بمآخذ أحكامه، وإذا حصلت المعرفة بالمأخذ أمكن الاجتهاد.
قال الغزالي: والرافعي: يجوز أن يكون العالم منتصبا للاجتهاد في باب دون باب.
وذهب آخرون إلى المنع؛ لأن المسألة في نوع من الفقه، ربما كان أصلها في نوع آخر منه.
احتج الأولون: بأنه لو لم يتجزأ الاجتهاد لزم أن يكون المجتهد عالما بجميع المسائل، واللازم منتفٍ، فكثير من المجتهدين قد سئل فلم يجب، وكثير منهم سئل عن مسائل، فأجاب في البعض، وهم مجتهدون بلا خلاف.
ومن ذلك ما روي أن مالكا سئل عن أربعين مسألة، فأجاب في أربع منها، وقال في الباقي: لا أدري.
وأجيب: بأنه قد يترك ذلك لمانع، أو للورع، أو لعلمه بأن السائل متعنت، وقد يحتاج بعض المسائل إلى "مزيد"* بحث، يشغل المجتهد عنه شاغل في الحال.
واحتج "النافون"** بأن كل ما يقدر جهله به يجوز تعلقه بالحكم المفروض، فلا يحصل له ظن عدم المانع.
وأجيب: بأن المفروض حصول جميع ما يتعلق بتلك المسألة.
ويرد هذا الجواب: بمنع حصول ما يحتاج إليه المجتهد في مسألة دون غيرها، فإن من لا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": فريد.
** في "أ": الباقون.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(5/362)
1 لعله كتاب "النكت" للإمام أبي إسحاق الشيرازي الشافعي، قال السبكي: هو في علم الخلافيات. وقال حاجي خليفة في كشف الظنون: إنه في علم الجدل ا. هـ كشف الظنون 2/ 1977، طبقات الشافعية 4/ 234 الجواهر المضية 4/ 246.(5/363)
ص -217-…يقتدر على الاجتهاد في بعض المسائل لا يقتدر عليه في البعض الآخر، وأكثر علوم الاجتهاد يتعلق بعضها ببعض، ويأخذ بعضها بحجزة بعض، ولا سيما ما كان من علومه مرجعه إلى ثبوت الملكة، فإنها إذا تمت كان مقتدرا على الاجتهاد في جميع المسائل، وإن احتاج بعضها إلى "مزيد"* بحث، وإن نقصت لم يقتدر على شيء من ذلك، ولا يثق من نفسه لتقصيره، ولا يثق به الغير لذلك، فإن ادعى بعض المقصرين بأنه قد اجتهد في مسألة "دون مسالة"** فتلك الدعوى يتبين بطلانها بأن يبحث معه من هو مجتهد اجتهادًا مطلقًا، فإنه يورد عليه من المسالك والمآخذ "ما لا يتعقله"***، قال الزركشي: وكلامهم يقتضي تخصيص الخلاف بما إذا عرف بابًا دون باب، أما مسألة دون مسألة فلا يتجزأ قطعًا، والظاهر جريان الخلاف في الصورتين، وبه صرح الأبياري1. انتهى.
ولا فرق عند التحقيق "بين الصورتين"**** في امتناع تجزؤ الاجتهاد، فإنهم قد اتفقوا على أن المجتهد لا يجوز له الحكم بالدليل حتى يحصل له غلبة الظن بحصول المقتضى وعدم المانع، وإنما يحصل ذلك للمجتهد المطلق، وأما من ادعى الإحاطة بما يحتاج في باب دون باب، أو في مسألة دون مسألة، فلا يحصل له شيء من غلبة الظن بذلك؛ لأنه لا يزال يجوز للغير ما قد بلغ إليه علمه، فإن قال: قد غلب ظنه بذلك؛ فهو مجازف، وتتضح مجازفته بالبحث معه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": فريد.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
**** في "أ": لا يتعلقه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وتوسط فقال: إن أجمعوا في مسألة على ضبط مآخذها وكان الناظر المخصوص محيطا بالنظر في تلك المآخذ صح أن يكون مجتهدا فيها وإلا لم يصح. هذه تتمة كلام الزركشي في البحر المحيط 6/ 209.
المسألة الرابعة: جوز الاجتهاد للأنبياء(5/364)
اختلفوا في جواز الاجتهاد للأنبياء، صلوات الله عليهم، بعد أن أجمعوا على أنه يجوز عقلا تعبدهم بالاجتهاد كغيرهم من المجتهدين، حكى هذا الإجماع ابن فورك، والأستاذ أبو منصور وأجمعوا أيضًا على أنه يجوز لهم الاجتهاد فيما يتعلق بمصالح الدنيا، وتدبير الحروب، ونحوها، حكى هذا الإجماع سليم الرازي، وابن حزم.
وذلك كما قلت وقع من نبينا صلى الله عليه وسلم من إرادته بأن يصالح غطفان على "ثلث"* ثمار
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".(5/365)
ص -218-…المدينة1، وكذلك ما كان قد عزم عليه من ترك تلقيح ثمار المدينة2.
فأما اجتهادهم في الأحكام الشرعية، والأمور الدينية، فقد اختلفوا في ذلك على مذاهب:
الأول:
ليس لهم ذلك، لقدرتهم على النص بنزول الوحي، وقد قال سبحانه: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}3 والضمير يرجع إلى النطق المذكور قبله بقوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى}4؛ وقد حكى هذا المذهب الأستاذ أبو منصور عن أصحاب الرأي.
وقال القاضي في "التقريب": كل من نفى القياس أحال تعبد النبي صلى الله عليه وسلم "به"*.
قال الزركشي: وهو ظاهر اختيار ابن حزم.
واحتجوا أيضًا بأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا سئل ينتظر الوحي، ويقول: "ما أنزل على في هذا شيء"، كما قال لما سئل عن زكاة الحمير؟ فقال: "لم ينزل علي "في ذلك"** إلا هذه الآية الجامعة {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}5"6، وكذا انتظر الوحي في كثير مما سئل عنه.
ومن الذاهبين إلى هذا المذهب، أبو علي، وأبو هاشم.
المذهب الثاني:
أنه يجوز لنبينا صلى الله عليه وسلم، ولغيره من الأنبياء، وإليه ذهب الجمهور.
واحتجوا بأن الله سبحانه خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم كما خاطب عباده، وضرب له الأمثال، وأمره
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": بالاجتهاد.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البيهقي في دلائل النبوة 3/ 340 وابن هشام في سيرته 3/ 176.(5/366)
2 أخرجه مسلم عن عائشة وثابت وأنس بن مالك بلفظ: "أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع أصواتًا فقال: "ما هذه الأصوات؟" قالوا: النخل يأبرونه فقال: "لو لم يفعلوا لصلح ذلك"، فأمسكوا فلم يأبروا عامته فصار شيصًا، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إذا كان شيء من أمر دنياكم فشأنكم وإذا كان شيء من أمر دينكم فإليَّ". كتاب الفضائل، باب وجوب امتثال ما قاله شرعا دون ما ذكره من معايش الدنيا على سبيل الرأي 2363. وأخرجه ابن ماجه، كتاب الرهون، باب تلقيح النخل 2471. ابن حبان في صحيحه 22. أحمد في مسنده 6/ 123. وفي الباب عن عبيد الله عند مسلم 2361 وابن ماجه 2470.
3 الآية: 4 من سورة النجم.
4 الآية: 3 من سورة النجم.
5 الآيتان 7-8 من سورة الزلزلة.
6 أخرجه مسلم من حديث أبو هريرة، باب الزكاة، كتاب إثم مانع الزكاة 987. وأخرجه أحمد في مسنده وانظر الفتح الرباني 8/ 235 رقم 44. وأخرجه البيهقي، كتاب الزكاة، باب من رأى في الخيل صدقة 4/ 119. وذكره التهانوني في إعلاء السنن 9/ 34.(5/367)
ص -219-…بالتدبر والاعتبار، وهو أجل المتفكرين في آيات الله، وأعظم المعتبرين "بها"*
وأما قوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} فالمراد به القرآن؛ لأنهم قالوا: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ}1؛ ولو سلم لم يدل على نفي اجتهاده؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إذا كان متعبدا بالاجتهاد بالوحي، لم يكن نطقا عن الهوى، بل عن الوحي، وإذا جاز لغيره من الأمة أن يجتهد بالإجماع، مع كونه معرضا للخطأ، فلأن يجوز لمن هو معصوم عن الخطأ بالأولى.
وأيضا قد وقع "ذلك"** كثيرا منه صلى الله عليه وسلم، ومن غيره من الأنبياء فأما منه فمثل قوله: "أرأيت لو تمضمضت"2 "أرأيت لو كان على أبيك دين"3، وقوله للعباس: "إلا الإذخر"4 لم ينتظر الوحي في هذا، ولا في كثير مما سئل عنه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه"5
وأما من غيره فمثل قصة داود وسليمان6.
وأما ما احتج به المانعون، من أنه صلى الله عليه وسلم لو جاز له الاجتهاد؛ لجازت مخالفته، واللازم باطل.
وبيان الملازمة: أن ذلك الذي قاله بالاجتهاد هو حكم من أحكام الاجتهاد، ومن لوازم أحكام الاجتهاد جواز المخالفة؛ إذ لا قطع بأنه حكم الله، لكونه محتملا للإصابة، ومحتملا للخطأ، فقد أجيب عنه بمنع كون اجتهاده يكون له حكم اجتهاد غيره، فإن ذلك إنما كان لازما لاجتهاد غيره، لعدم اقترانه بما اقترن به اجتهاده صلى الله عليه وسلم من الأمر باتباعه.
وأما ما احتجوا به من أنه لو كان متعبدا بالاجتهاد لماتأخر في جواب سؤال سائل، فقد أجيب عنه بأنه إنما تأخر في بعض المواطن، لجواز أن ينزل عليه فيه الوحي الذي عدمه شرط في صحة اجتهاده، على أنه قد يتأخر الجواب لمجرد الاستثبات في الجواب، والنظر فيما ينبغي النظر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".(5/368)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية 103 من سورة النحل.
2 تقدم تخريجه في 2/ 25.
3 تقدم تخريجه في 2/ 100.
4 تقدم تخريجه في 1/ 366.
5 تقدم تخريجه في 1/ 96.
6 وردت القصة في سورة الأنبياء في قوله تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} الأنبياء 78-79(5/369)
ص -220-…فيه في الحادثة، كما يقع ذلك من غيره من المجتهدين.
المذهب الثالث:
الوقف عن القطع بشيء من ذلك، زعم الصيرفي في "شرح الرسالة" أنه مذهب الإمام الشافعي؛ لأنه حكى الأقوال ولم يختر شيئًا منها.
واختار هذا القاضي أبو بكر الباقلاني، والغزالي.
ولا وجه للوقف في هذه المسألة لما قدمنا من الأدلة الدالة على الوقوع، على أنه يدل على ذلك دلالة واضحة ظاهرة قول الله عز وجل: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ}1 فعاتبه على ما وقع منه، ولو كان ذلك بالوحي لم يعاتبه.
ومن ذلك ما صح عنه صلى الله عليه وسلم، من قوله: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سُقت الهدي"2 أي: لو علمت أولًا ما علمت آخرًا ما فعلت، ذلك ومثل ذلك لا يكون فيما عمله صلى الله عليه وسلم بالوحي، وأمثال ذلك كثيرة، كمعاتبته صلى الله عليه وسلم على أخذ الفداء من أسرى بدر بقوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ}3. وكما في معاتبته صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ}4 إلى آخر ما قصه الله من ذلك في كتابه العزيز.
والاستيفاء لمثل هذا يفضي إلى بسط طويل، وفيما ذكرنا يغني عن ذلك، ولم يأتِ المانعون بحجة تستحق المنع، أو التوقف لأجلها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية 43 من سورة التوبة.(5/370)
2 أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت 1651 مسلم، كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع 1211. أبو يعلى في مسنده بلفظ: "لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لجعلتها عمرة ولكني سقت الهدي وقرنت الحج والعمرة" 4345. أحمد في مسنده 3/ 266. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، كتاب الحج، باب في القرآن وغيره وحجة النبي صلى الله عليه وسلم 5442.وأخرجه الشافعي في الأم بنفس اللفظ 2/ 127 كتاب الحج. وذكره المزني في مختصره، كتاب الحج 1/ 63-64.
3 جزء من الآية من سورة الأنفال.
4 جزء من الآية 37 من سورة الأحزاب. والآية نزلت في سيدنا زيد بن حارثة والسيدة زينب بنت جحش رضي الله عنهما عندما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يتزوج من زينب بعد أن يطلقها زيد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبناه فقال الناس: تزوج حليلة ابنه، وحصلت فيها قصة مشهورة انظرها في تفسير القرطبي 14/ 188 وابن كثير 3/ 498.(5/371)
ص -221-…المسألة الخامسة: في جواز الاجتهاد في عصره صلى الله عليه وسلم
فذهب "الأكثر"* إلى جوازه ووقوعه، واختاره جماعة من المحققين، منهم القاضي.
ومنهم من منع ذلك، كما روي عن أبي علي، وأبي هاشم.
ومنهم من فصَّل بين الغائب والحاضر، فأجازه لمن غاب عن حضرته صلى الله عليه وسلم، كما وقع في حديث معاذ1، دون من كان في حضرته الشريفة صلى الله عليه وسلم، واختاره الغزالي، وابن الصباغ، ونقله إلكيا عن أكثر الفقهاء، والمتكلمين، ومال إليه إمام الحرمين.
قال القاضي عبد الوهاب: إنه الأقوى على أصول أصحابهم.
قال ابن فورك: بشرط تقريره عليه.
وقال ابن حزم: إن كان اجتهاد الصحابي في عصره صلى الله عليه وسلم، في الأحكام، كإيجاب شيء، أو تحريمه، فلا يجوز، كما وقع من أبي السنابل2 من الإفتاء باجتهاده في الحامل المتوفى عنها زوجها، أنها تعتد بأربعة أشهر وعشر فأخطأ في ذلك، وأن كان اجتهاده في غير ذلك فيجوز، كاجتهادهم فيما يجعلونه علما للدعاء إلى الصلاة3؛ لأنه لم يكن فيه إيجاب شريعة تلزم.
وكاجتهاد قوم بحضرته صلى الله عليه وسلم فيمن هم السبعون ألفًا الذين يدخلون الجنة ووجوههم كالقمر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": الأكثرون.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم في 1/ 152.(5/372)
2 هو أبو السنابل بن بعكك، الصحابي، قيل اسمه حبة وقيل حنة وقيل عمرو، قال البخاري: لا أعلم أنه عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم، أسلم بوم الفتح، وله قصة معروفة تعرف بقصة سبيعة، وهي أنها لما مات زوجها فوضعت حملها وتهيأت للخطاب فأنكر عليها، وقال: حتى تعتدي أربعة أشهر وعشرًا، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فأعلمها أن قد حللت، وهذا يدل على أن أبا السنابل كان فقيهًا.. ا. هـ الإصابة 4/ 96. أخرج القصة مسلم في صحيحه، كتاب الطلاق، باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها وغيرها بوضع الحمل 1485. والنسائي. كتاب الطلاق، باب عدة الحامل المتوفى عنها زوجها 6/ 193. والترمذي، كتاب الطلاق، باب ما جاء في الحامل المتوفى عنها زوجها تضع 1194. ومالك في الموطأ، كتاب الطلاق، باب عدة المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملا 2/ 590. وأحمد في مسننده 6/ 314 ابن حبان في صحيحه 4296. وعبد الرزاق في المصنف 11724. وابن الجارود في المنتقى 762.
3 أخرج البخاري عن ابن عمر أنه قال: "كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة ليس ينادى لها. فتكلموا يوما في ذلك فقال بعضهم: اتخذوا مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: بل بوقا مثل قرن اليهود، فقال عمر: أَوَلَا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا بلال، قم فناد بالصلاة" كتاب الآذان، باب بدء الآذان 604. وأخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب بدء الآذان 377. وابن ماجه، كتاب الآذان والسنة فيها، باب بدء الآذان 707. والبيهقي، كتاب الصلاة، باب بدء الآذان 1/ 390.(5/373)
ص -222-…ليلة البدر، فأخطئوا في ذلك، وبيَّن لهم النبي صلى الله عليه وسلم من هم1، ولم يعنفهم في اجتهادهم.
ومنهم من قال: وقع ظنًّا لا قطعًا، واختاره الآمدي، وابن الحاجب.
ومنهم من قال: إنه يجوز للحاضر في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم أن يجتهد إذا أمره بذلك، كما وقع منه صلى الله عليه وسلم من أمره لسعد بن معاذ أن يحكم في بني قريطة2. وإن لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم لم يجز له الاجتهاد، إلا أن يجتهد، ويعلم به النبي صلى الله عليه وسلم فيقرره عليه، كما وقع من أبي بكر رضي الله عنه في سلب القتيل، فإنه قال: لاها الله إذًا لا يعمد إلى أَسدٍ من أُسدِ الله فَيُعطيك سلبه"3 فقرره النبي صلى الله عليه وسلم "وكذلك امتناع علي رضي الله عنه من محو اسم النبي صلى الله عليه وسلم من الصحيفة4"*.
والحق: ما تقدم من التفصيل بين من كان بحضرته صلى الله عليه وسلم "فلا يجوز له الاجتهاد لتعين السؤال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري من حديث عمران بن الحصين، كتاب الطب، باب من اكتوى أو كوى غيره وفضل من لم يكتو 5705. ومسلم، كتاب الإيمان، باب الرقية 220. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، كتاب المناقب، باب فضل عكاشة بن محض الأسدي 15665 وفي كتاب أهل الجنة، باب فيمن يدخل الجنة بغير حساب برقم 18692. وأبو يعلى في مسنده مطولا من حديث عمران بن الحصين عن ابن مسعود 5339. وأحمد في مسنده 3806.(5/374)
2 هو عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن بني قريظة نزلوا على حكم سعد بن معاذ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد، فجاء على حمار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قوموا إلى خيركم أو إلى سيدكم" قال: "إن هؤلاء قد نزلوا على حكمك" قال: فإني أحكم فيها أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذريتهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد حكمت فيهم بحكم الله" وقال مرة: "لقد حكمت بحكم الملك".
أخرجه البخاري، كتاب الجهاد، باب إذا نزل العدو على حكم رجل 3043. ومسلم، كتاب الجهاد، باب جواز قتال من نقض العهد 1768. وأبو داود، كتاب الأدب، باب ما جاء في القيام 5215. والنسائي، كتاب الفضائل 118. والبيهقي، كتاب السير، باب ما يفعل بذراري من ظهر عليهم 6/ 57. وابن حبان في صحيحه 7026. وأحمد في مسنده 3/ 22.
3 أخرجه البخاري، من حديث أبي قتادة، كتاب البيع، باب بيع السلاح في الفتنة وغيرها 2100. ومسلم، كتاب الجهاد، باب استحقاق القاتل سلب القتيل 1751. وأبو داود، كتاب الجهاد، باب في السلب يعطى القاتل 2717. والترمذي، كتاب السير، باب ما جاء فيمن قتل قتيلا فله سلبه 1562 مختصرا. وابن ماجه، كتاب الجهاد، باب المبارزة والسلب 2837. وابن حبان في صحيحه 4805. وأحمد في مسنده 5/ 306. والبيهقي، كتاب قسم الفيء والغنيمة، باب السلب للقاتل 6/ 306.
4 أخرجه البخاري من حديث البراء مطولا وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "امحه واكتب: محمد بن عبد الله. فقال علي: لا أمحوه.. الحديث" كتاب الصلح، باب كيف يكتب هذا ما صالح فلان بن فلان 2698. وأخرجه مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب صلح الحديبية 1783. وأبو داود، كتاب المناسك، باب المحرم يحمل السلاح 1832. وأحمد في مسنده 4/ 289. وابن حبان في صحيحه 4869. وأبو يعلى في مسنده 1703. والبيهقي، كتاب الجزية، باب الهدنة على أن يرد الإمام من جاء بلده مسلما من المشركين 9/ 226-227.(5/375)
ص -223-…منه للنبي صلى الله عليه وسلم"* فيما نابه من الأمر، وبين من كان غائبا عها، فيجوز له الاجتهاد.
وقد وقع من ذلك واقعات متعددة، كما وقع من عمرو بن العاص من صلاته بأصحابه، وكان جنبا ولم يغتسل، بل تيمم وقال: سمعت الله تعالى يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}1، فقرره النبي على ذلك2.
وكما وقع منه صلى الله عليه وسلم من الأمر بالنداء يوم انصرافه من الأحزاب بأنه "لا يصلين أحد إلا في بني قريظة" فتخوف ناس من فوت الوقت، فصلوا دون بني قريظة، وقال آخرون: لا نصلي إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن فات الوقت فما عنف أحدًا من الفريقين3.
ومن أدل ما يدل على هذا التفصيل: تقرير معاذ على اجتهاد رأيه لما بعثه إلى اليمن، وهو حديث مشهور4، له طرق متعددة، ينتهض مجموعها للحجية، كما أوضحنا ذلك في مجموع مستقل5.
ومنه بعثه صلى الله عليه وسلم لعلي قاضيا، فقال: لا علم لي بالقضاء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم اهد قلبه وثبت لسانه"6 أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم في المستدرك.
ومن ذلك ما رواه أحمد في المسند: أن ثلاثة وقعوا على امرأة في طهر، فأتوا عليًّا يختصمون في الولد، فأقرع بينهم، فبلغ "ذلك"** النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية 29 من سورة النساء.
2 أخرجه البخاري معلقا، كتاب التيمم، باب إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت. وأخرجه أبو داود،كتاب الطهارة 335. وابن حبان في صحيحه 1315. والبيهقي، كتاب الطهارة، باب التيمم في السفر إذا خاف الموت أو العلة من شدة البرد 1/ 226. والدارقطني في سننه 1/ 179. وأحمد في مسنده 4/ 203.(5/376)
3 أخرجه البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنه، كتاب صلاة الخوف، باب صلاة الطالب والمطلوب راكبا وإيماء 946. ومسلم، كتاب الجهاد والسير باب المبادرة بالغزو 1770.
4 تقدم تخريجه في 1/ 152.
5 واسمه بغيه المستفيد في الرد على من أ نكر الاجتهاد من أهل التقليد ا. هـ. هدية العارفين 1/ 365.
6 أخرجه ابن ماجه بنفس اللفظ من حديث علي، كتاب الأحكام، باب ذكر القضاء 2310. والحاكم من حديث ابن عباس بلفظ: "اللهم اهده للقضاء" كتاب الأحكام 4/ 88 وهناك رواية أخرى بلفظ: فإن الله تعالى يثبت لسانك ويهدي قبلك. وأبو داود، كتاب الأقضية، باب كيف القضاء 3582. الترمذي كتاب الأحكام، باب ما جاء في القاضي لا يقضي بين المتحاكمين حتى يسمع كلامهما 1331. وأبو يعلى في مسنده 371. والبيهقي، كتاب آداب القاضي 10/ 86، 87. وابن حبان في صحيحه 5065.(5/377)
ص -224-…"لا أعلم فيها إلا ما قال علي"1، وإسناده صحيح، وأمثال هذا "كثير"*.
قال الفخر الرازي في "المحصول": الخلاف في هذه المسألة لا ثمرة له في الفقه.
وقد اعترض عليه في ذلك، ولا وجه للاعتراض؛ لأن الاجتهاد الواقع من الصحابي إن قرره النبي صلى الله عليه وسلم كان حجة وشرعا بالتقرير، لا باجتهاد الصحابي، وإن لم يبلغه كان اجتهاد الصحابي فيه الخلاف المتقدم في قول الصحابي، عند من قال بجوازه في عصره صلى الله عليه وسلم "لا عند من منع منه، وإن بلغ النبي صلى الله عليه وسلم"** وأنكره، أو قال بخلافه، فليس في ذلك الاجتهاد فائدة؛ لأنه قد بطل بالشرع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": كثيرة.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الإمام أحمد في مسنده من حديث زيد بن أرقم، انظر الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني 17/ 38 برقم 73. وأخرجه أبو الحميدي في مسنده برقم 785 بدون زيادة "لا أعلم فيها إلا ما قال علي". وأخرجه أبو داود 2269. والنسائي 6/ 182. وابن ماجه، كتاب الأحكام، باب القضاء بالقرعة 2348.
المسألة السادسة: فيما ينبغي للمجتهد أن يعمله في اجتهاده ويعتمد عليه
فعيه أولا: أن ينظر في نصوص الكتاب والسنة، فإن وجد ذلك فيهما قدمه على غيره، فإن لم يجده أخذ بالظواهر منهما، وما يستفاد بمنطوقهما ومفهومهما، فإن لم يجد نظر في أفعال النبي صلى الله عليه وسلم، ثم في تقريراته لبعض أمته، ثم في الإجماع، إن كان يقول بحجيته، ثم في القياس، على ما يقتضيه اجتهاده من العمل بمسالك العلة، كلا أو بعضا1.(5/378)
وما أحسن ما قاله الإمام الشافعي فيما حكاه عنه الغزالي: أنها إذا وقعت الواقعة للمجتهد، فليعرضها على نصوص الكتاب، فإن أعوزه عرضها على الخبر المتواتر، ثم الآحاد، فإن أعوزه لم يخض في القياس، بل يلتفت إلى ظواهر الكتاب، فإن وجد ظاهرًا نظر في المخصصات، من قياس، وخبر، فإن لم يجد مخصصا حكم به، وإن لم يعثر على ظاهر، من كتاب ولا سنة، نظر إلى المذاهب فإن وجدها مجمعا عليها اتبع الإجماع، وإن لم يجد إجماعًا خاض في القياس، ويلاحظ القواعد الكلية أولا، ويقدمها على الجزئيات، كما في القتل بالمثقل، فتقدم قاعدة الردع على مراعاة الاسم، فإن عدم قاعدة كلية نظر في المنصوص، ومواقع الإجماع، فإن وجدها في معنى واحد ألحق به، وإلا انحدر به إلى القياس، فإن أعوزه تمسك بالشبه، ولا يعول على طرد. انتهى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البحر المحيط 6/ 229.(5/379)
ص -225-…وإذا أعوزه ذلك كله تمسك بالبراءة الأصلية، وعليه عند التعارض بين الأدلة أن يقدم طريق الجمع على وجه مقبول، فإن أعوزه ذلك رجع إلى الترجيح بالمرجحات التي سيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى1.
قال الماوردي: الاجتهاد بعد النبي صلى الله عليه وسلم ينقسم إلى ثمانية أقسام:
أحدها:
ما كان الاجتهاد مستخرجا من معنى النص، كاستخراج علة الربا، فهذا صحيح عند القائلين بالقياس.
ثانيها:
ما استخرجه من شبه النص، كالعبد، لتردد شبهه بالحر في أنه يملك؛ لأنه مكلف، وشبهه بالبهيمة في أنه لا يملك؛ لأنه مملوك، فهذا صحيح، غير مدفوع عند القائلين بالقياس والمنكرين له، غير أن المنكرين له جعلوه داخلا في عموم أحد الشبهين.
ثالثها:
ما كان مستخرجا من عموم النص، كالذي بيده عقدة النكاح في قوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}2 فإنه "يعم الأب والزوج والمراد به"* أحدهما، وهذا صحيح يتوصل إليه بالترجيح.
رابعها:
ما استخرج من إجماع النص كقوله في المتعة {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ}3 فيصح الاجتهاد في قدرة المتعة باعتبار حال الزوجين.
خامسها:
ما استخرج من أحوال النص كقوله في التمتع: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ}4 فاحتمل صيام السبعة إذا رجع في طريقه، وإذا رجع إلى أهله، فيصح الاجتهاد في تغليب إحدى الحالتين على الأخرى.
سادسها:
ما استخرج من دلائل النص، كقوله: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ}5 فاستدللنا على تقدير نفقة الموسر بمدين، بأن أكثر ما جاءت به السنة في فدية الآدمي أن لكل مسكين مُدَّين، واستدللنا على تقدير نفقة المعسر بمد بأنه أقل ما جاءت به السنة في كفارة الوطء، أن لكل مسكين مدا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": تحريف لما بين قوسين.(5/380)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: 2/ 264.
2 جزء من الآية 237 من سورة البقرة.
3 جزء من الآية 236 من سورة البقرة.
4 جزء من الآية 196من سورة البقرة.
5 جزء من الآية 7 من سورة الطلاق.(5/381)
ص -226-…سابعا:
ما استخرج من أمارات النص، كاستخراج دلائل القبلة لمن خفيت عليه من قوله تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}1 فيكون الاجتهاد في القبلة بالإمارات والدلائل عليها، من هبوب الرياح، ومطالع النجوم.
ثامنها:
ما استخرج من غير نص ولا أصل، فاختلف في صحة الاجتهاد، فقيل لا يصح حتى يقترن بأصل.
وقيل: يصح لأنه في الشرع أصل. انتهى.
وعندي: أن من استكثر من تتبع الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وجعل كل ذلك دأبه، ووجه إليه همته، واستعان بالله عز وجل، واستمد منه التوفيق، وكان معظم همه، ومرمى قصده، الوقوف على الحق، والعثور على الصواب، من دون تعصب لمذهب من المذاهب، وجد فيهما ما يطلبه، فإنهما الكثير الطيب، والبحر الذي لا ينزف، والنهر الذي يشرب منه كل وارد عليه العذب الزلال، والمعتصم الذي يأوي إليه كل خائف، فاشدد يديك على هذا، فإنك إن قبلته بصدر منشرح، وقلب موفق، وعقل قد حلت به الهداية، وجدت فيهما كل ما تطلبه من أدلة الأحكام التي تريد الوقوف على دلائلها كائنا ما كان.
فإن استبعدت هذا المقال، واستعظمت هذا الكلام، وقلت كما قاله كثير من الناس: إن أدلة الكتاب والسنة لا تفي بجميع الحوادث، فمن نفسك أُتيت، ومن قبل تقصيرك أُصبت، وعلي نفسها براقش تجني2، وإنما تنشرح لهذا الكلام صدور قوم "موفقين"* وقلوب رجال مستعدين لهذه المرتبة العلية.
لا تعذل المشتاق في أشواقه…حتى تكن حشاك في أحشائه3
لا يعرف الشوق إلا من يكابده…ولا الصبابة إلا من يعانيها4
دع عنك تعنيفي وذق طعم الهوى…فإذا "عشقت"** فعند ذلك عنف5
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": "هويت".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية 16 من سورة النحل.(5/382)
2 براقش اسم كلبة لها قصة وهي كما قال أبو عبيد عن أبي عبيدة قال: براقش اسم كلبة نبحت على جيش مروا ولم يشعروا بالحي الذي فيه الكلبة، فلما سمعوا نباحها علموا أن هناك أهلها فعطفوا عليهم فاستباحوهم، فذهب مثلا بقولهم: "على أهلها دلت براقش". ويروى أن براقش اسم امرأة ابنة ملك قديم خرج أبوها إلى بعض مغازيه واستخلفها فأغراها بعضهم بأن يبني بناء ضخما تذكر به، فلما رجع أبوها قال لها: أردت أن يكون الذكر لك دوني فأمر الصناع الذين بنو البناء أن يهدموه فقالت العرب: على أهلها تجني براقش وذهبت مثلا ا. هـ لسان العرب مادة برقش.
3 وهو من البحر الكامل، وقائله أبو الطيب المتنبي، ويروى البيت "لا تعذر" ا. هـ ديوان أبي الطيب المتنبي 343.
4 وهو من البحر البسيط، وقائله: الأبله البغدادي المسمى بمحمد بن بختيار بن عبد الله، الشاعر المشهور، أحد المتأخرين المجيدين، جمع في شعره بين الصناعة والرقة وله ديوان معروف ا. هـ وفيات الأعيان لابن خلكان 4/ 463 مرآة الزمان 279.
5 وهو من البحر الكامل، وقائله ابن الفارض عمر بن أبي الحسن، وهو من قصيدة أولها:
قلبي يحدثني بأنك متلفي…وروحي فداك عرفت أم لم تعرف
ا. هـ ديوان ابن الفارض 153.(5/383)
ص -227-…المسألة السابعة: في المسائل التي كل مجتهد فيه مصيب والتي الحق فيها مع واحد
اختلفوا في المسائل التي كل مجتهد فيها مصيب، والمسائل التي الحق فيها مع واحد من المجتهدين.
وتلخيص الكلام في ذلك يحصل في فرعين.
الفرع الأول: العقليات
وهي على أنواع:
الأول:
لم يكن الغلط فيه مانعا من معرفة الله ورسوله، كما في إثبات العلم بالصانع، والتوحيد، والعدل.
قالوا: فهذه الحق فيها واحد، فمن أصابه أصاب الحق، ومن أخطأه فهو كافر.
النوع الثاني:
مثل مسألة الرؤية1، وخلق القرآن2، وخروج الموحدين من النار3، وما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهي رؤية الله عز وجل في الآخرة من قبل المؤمنين. ووقع فيها الخلاف فأثبتها أهل السنة والجماعة بأدلة من القرآن والحديث، ونفاها المعتزلة، بأدلة عقلية وتأويل للآيات الشريفة ا. هـ انظر شرح جوهرة التوحيد للبيجوري ص114-115.
2 اتفقت جميع الفرق على أن القرآن من حيث حروفه وكلماته الموجودة في المصاحف مخلوق لا محالة.
واختلفوا في كلام الله عز وجل النفسي هل هو مخلوق أم لا؟ فأهل السنة والجماعة قالوا بأن كلام الله قديم غير مخلوق والمعتزلة قالوا إنه مخلوق ا. هـ انظر شرح جوهرة التوحيد 94.
3 من ذلك الحديث الوارد عن سيدنا أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى اله عليه وسلم: "يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه ما يزن ذرة". أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب زيادة الإيمان ونقصانه 44. ومسلم في الإيمان، باب أدني أهل الجنة منزلة فيها 193، 325. والترمذي، كتاب صفة جهنم، باب ما جاء أن للنار نفسين وما ذكر من يخرج من النار من أهل التوحيد 2593. وابن حبان في صحيحه 7484. وأبو يعلى في مسنده 2927، 2977، 3273. وأحمد في مسنده 9/ 173-276. والطيالسي 1966. وابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر الشفاعة 4312.(5/384)
ص -228-…يشابه ذلك، فالحق فيها واحد، فمن أصابه فقد أصاب، ومن أخطأ فقيل: يفكر.
ومن القائلين بذلك الشافعي، فمن أصحابه من حمله على ظاهره، ومنهم من حمله على كفران النعم.
النوع الثالث:
إذا لم تكن المسألة دينية، كما في تركب الأجسام من ثمانية أجزاء، وانحصار اللفظ في المفرد والمؤلف، قالوا: فليس المخطئ فيها بآثم، ولا المصيب فيها بمأجور؛ إذ هذه وما يشابهها يجرى مجرى الاختلاف في كون "مكة"* أكبر من المدينة أو أصغر منها.
وقد حكى ابن الحاجب في "المختصر" أن المصيب في العقليات واحد، ثم حكى عن العنبري1 أن كل مجتهد في العقليات مصيب، وحُكي أيضًا عن الجاحظ أنه لا إثم على المجتهد، بخلاف المعاند.
قال الزركشي: وأما "الجاحظ"** فجعل الحق فيها واحدا، ولكنه يجعل المخطئ في جميعها غير آثم.
قال ابن السمعاني: وكان العنبري يقول في مثبتي القدر: هؤلاء عظموا الله، وفي نافي القدر: هؤلاء نزهوا الله، وقد استبشع هذا القول منه، فإنه يقتضي تصويب اليهود، والنصارى، وسائر الكفار في اجتهادهم، قال: ولعله أراد أصول الديانات التي اختلف فيها أهل القبلة، كالرؤية، وخلق الأفعال، ونحوه.
وأما ما اختلف فيه المسلمون وغيرهم من أهل الملل، كاليهود، والنصارى، والمجوس؛ فهذا مما يقطع فيه بقول أهل الإسلام.
قال القاضي في "مختصر التقريب": اختلفت الروايات عن العنبري، فقال في أشهر الروايتين: إنما أصوب كل مجتهد "في الدين تجمعهم الملة"***، وأما الكفرة فلا يُصوبون، وفي رواية عنه أنه صوب الكافرين المجتهدين دون الراكبين البدعة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": ملكه.
** في "أ": الحق.
*** في "أ": الذين يجمعهم الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(5/385)
1 هو عبيد الله بن الحسن بن الحصين العنبري التميمي، تولى قضاء البصرة، وكان عالما بالفقه والحديث، قال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث "ص49": "كان شديد التناقض في أقواله، وهو رجل من أهل الكلام والقياس والنظر" ولد سنة مائة، وتوفي سنة ثمان وستين ومائة هـ. انظر ترجمته في: تاريخ الإسلام الذهبي: "وفيات 168هـ"، وأخبار القضاة لوكيع: 2/ 88، والوافي بالوفيات: 19/ 368، والأعلام: 4/ 192.(5/386)
ص -229-…قال: ونحن نتكلم معهما، يعني: العنبري، والجاحظ، فنقول:
أنتما أولا: محجوجان "بالإجماع"* قبلكما وبعدكما.
ثانيا: إن أردتما بذلك مطابقة الاعتقاد للمعتقد، فقد خرجتما عن حيز العقلاء، وانخرطتما في سلك الأنعام، وإن أردتما الخروج عن عهدة التكليف، ونفي الحرج، كما نقل عن الجاحظ، فالبراهين العقلية من الكتاب، والسنة، والإجماع، الخارجة عن حد الحصر ترد هذه المقالة.
وأما تخصيص التصويب بأهل الملة الإسلامية فنقول: مما خاض فيه المسلمون القول بخلق القرآن، وغير ذلك مما يعظم خطره، وأجمعوا قبل العنبري على أنه يجب على المرء إدراك بطلانه.
وقد حكى القاضي أيضًا في موضع آخر عن داود بن علي الأصفهاني، إمام مذهب الظاهر، أنه قال بمثل قول العنبري.
وحكى قوم عن العنبري والجاحظ أنهما قالا ذلك فيمن علم الله من حاله استفراغ الوسع في طلب الحق، ومن أهل ملتنا وغيرهم، وقد نحا الغزالي "قريبا من هذا"** المنحى في كتاب "التفرقة بين الإسلام والزندقة"1
وقال ابن دقيق العيد: ما نقل عن العنبري، والجاحظ، إن أرادا أن كل واحد من المجتهدين مصيب لما في نفس الأمر، فباطل، وإن أريد به أن من بذل الوسع، ولم يقصر في الأصوليات، يكون معذورا غير معاقب، فهذا أقرب؛ لأنه قد يعتقد فيه أنه لو عوقب، وكلف بعد استفراغه غاية الجهد، لزم تكليفه بما لا يطاق.
قال: وأما الذي حكي عنه من الإصابة في العقائد القطعية، فباطل قطعا، ولعله لا يقوله إن شاء الله تعالى.
وأما المخطئ في الأصول: "كالمجسمة2"*** فلا شك في تأثيمه وتفسيقه وتضليله.
واختلف في تكفيره، وللأشعري قولان، قال إمام الحرمين، وابن القشيري، وغيرهما: وأظهر مذهبه ترك التكفير، وهو اختيار القاضي في كتاب "إكفار"**** المتأولين3
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": بأن الإجماع.
** في "أ": نحو هذا.
*** في "أ": والمجتهد.
**** ما بين قوسين ساقط من "أ".(5/387)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهي للإمام أبي حامد محمد الغزالي. ا. هـ إيضاح المكنون 1/ 300.
2 وهم الذين شبهوا الله بصورة الإنسان.
3 لم نجد أحدًا ذكر هذا الكتاب بهذا الاسم، ولعله يقصد من كتاب إكفار المتأولين أي باب أو فصل في كتاب. فكلمة كتاب تعني ما يضم أبوابا وفصولا.(5/388)
ص -230-…وقال ابن عبد السلام: رجع الإمام أبو الحسن الأشعري عند موته عن تكفير أهل القبلة؛ لأن الجهل بالصفات ليس جهلا "بالموصوفات"*.
قال الزركشي: وكان الإمام أبو سهل الصعلوكي1 لا يفكر، فقيل له: ألا تكفر من يكفرك، فعاد إلى القول بالتفكير، وهذا مذهب المعتزلة، فهم يكفرون خصومهم، ويكفر كل فريق منهم الآخر.
وقد حكى إمام الحرمين عن معظم أصحاب الشافعي ترك التكفير، وقالوا: إنما يكفر من جهل وجود الرب، أو علم وجوده، ولكن فعل فعلا، أو قال قولا أجمعت الأمة على أنه لا يصدر ذلك إلا عن كافر. انتهى.
واعلم: أن التكفير لمجتهدي الإسلام بمجرد الخطأ في الاجتهاد في شيء من مسائل العقل عقبه كئود لا يصعد إليها إلا من لا يبالي بدينه، ولا يحرص عليه؛ لأنه مبني على شفا جرف هار، وعلى ظلمات بعضها فوق بعض، وغالب القول به ناشئ عن العصبية، وبعضه ناشئ عن شبه واهية، وليست من الحجة في شيء، ولا يحل التمسك بها في أيسر أمر من أمور الدين، فضلا عن هذا الأمر الذي هو مزلة الأقدام، ومدحضة كثير من علماء الإسلام.
والحاصل: أن الكتاب، والسنة، ومذهب خير القرون، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم يدفع ذلك دفعا لا شك فيه، ولا شبهة، فإياك أن تغتر بقول من يقول منهم: إنه يدل على ما ذهب إليه الكتاب، والسنة، فإن ذلك دعوى باطلة، مترتبة على شبهة داحضة، وليس هذا المقام مقام بسط الكلام على هذا المرام، فموضعه علم الكلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": بالموصوف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو محمد بن سليمان بن محمد، الحنفي، العجلي، الصعلوكي النيسابوري،الفقيه، أبو سهل، المتكلم، النحوي، المفسر، اللغوي، الصوفي توفي سنة تسع وستين وثلاثمائة هـ، ا. هـ سير أعلام النبلاء 16/ 235 شذرات الذهب 3/ 69 الأعلام 6/ 149.
الفرع الثاني: المسائل الشرعية(5/389)
فذهب الجمهور، ومنهم الأشعري، والقاضي أبو بكر الباقلاني، ومن المعتزلة أبو الهذيل، وأبو علي، وأبو هاشم، وأبتاعهم إلى أنها تنقسم إلى قسمين:
الأول: ما كان منها قطعيا
ما كان منها قطعيا معلوما بالضرورة أنه من الدين، كوجوب الصلوات الخمس، وصوم رمضان، وتحريم الزنا، والخمر، فليس كل مجتهد فيها بمصيب، بل الحق فيها واحد، فالموافق له مصيب، والمخطئ غير معذور وكفره جماعة منهم لمخالفته للضروري، وإن كان.(5/390)
ص -231-…فيها دليل قاطع، وليست من الضروريات الشرعية، فقيل: إن قصر فهو مخطئ آثم، وإن لم يقصر فهو مخطئ غير آثم.
قال ابن السعاني: ويشبه أن يكون سبب غموضها امتحان من الله لعباده، ليفاضل بينهم في درجات العلم، ومراتب الكرامة، كما قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}1 وقال: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}2.
القسم الثاني: المسائل الشرعية التي لا قاطع فيها
وقد اختلفوا في ذلك اختلافا طويلا، واختلف النقل عنهم في ذلك اختلافا كثيرا، فذهب جمع جم إلى أن كل قول من أقوال المجتهدين فيها حق، وأن كل واحد منهم مصيب، وحكاه الماوردي، والروياني، عن الأكثرين.
قال الماوردي: وهو قول أبي الحسن الأشعري والمعتزلة.
وذهب أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأكثر الفقهاء إلى أن الحق في أحد الأقوال، ولم يتعين لنا، وهو عند الله متعين، لاستحالة أن يكون الشيء الواحد، في الزمان الواحد، في الشخص الواحد حلالا وحراما، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يُخطِّئ بعضهم بعضا، ويعترض بعضهم على بعض، ولو كان اجتهاد كل مجتهد حقا، لم يكن للتخطئة وجه.
ثم اختلف هؤلاء بعد اتفاقهم على أن الحق واحد، هل كل مجتهد مصيب أم لا؟
فعند مالك، والشافعي، وغيرهما أن المصيب منهم واحد، وإن لم يتعين، وأن جميعهم مخطئ إلا ذلك الواحد.
وقال جماعة، منهم أبو يوسف: إن كل مجتهد مصيب، وإن كان الحق مع واحد، وقد حكى بعض أصحاب الشافعي عن الشافعي مثله.
وأنكر ذلك أبو سحاق المروزي، وقال: إنما نسبه إليه قوم من المتأخرين، ممن لا معرفة له بمذهبه.
قال القاضي أبو الطيب الطبري: واختلف النقل عن أبي حنيفة، فنقل عنه أنه قال في بعض المسائل كقولنا، وفي بعضها كقول أبي يوسف، وقد روي عن أهل العراق، وأصحاب مالك وابن "سريج"*، وأبي حامد، بمثل قول أبي يوسف.(5/391)
واستدل ابن كج على هذا بإجماع الصحابة على تصويب بعضهم بعضا، فيما اختلفوا فيه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": ابن شريح.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية من سورة المجادلة.
2 جزء من الآية 76 من سورة يوسف.(5/392)
ص -232-…ولا يجوز إجماعهم على خطأ.
قال ابن فورك: في المسألة ثلاثة أقوال:
أحدهما:
أن الحق في واحد، وهو المطلوب، وعليه دليل منصوب، فمن وضع النظر موضعه أصاب، ومن قصر عنه وفقد الصواب؛ فهو مخطئ، ولا إثم عليه، ولا نقول إنه معذور؛ لأن المعذور من يسقط عنه التكليف، لعذر في تركه، كالعاجز عن القيام في الصلاة، وهو عندنا قد كلف إصابة العين، لكنه خفف أمر خطابه، وأجر على قصده الصواب، وحكمه نافذ على الظاهر، وهذا مذهب الشافعي، وأكثر أصحابه، وعليه نص في كتاب "الرسالة" و"أدب القاضي"1.
والثاني:
أن الحق واحد، إلا أن المجتهدين لم يتكلفوا إصابته، وكلهم مصيبون لما كلفوا من الاجتهاد، وإن كان بعضهم مخطئا.
والثالث:
أنهم كلفوا الرد إلى الأشبه على طريق الظن. انتهى.
وذهب قوم: إلى أن الحق واحد والمخالف له مخطئ آثم، ويختلف خطؤه على قدر ما يتعلق به الحكم، فقد يكون كبيرة، وقد يكون صغيرة.
ومن القائلين بهذا القول الأصم والمريسي وابن علية، وحُكي عن أهل الظاهر، وعن جماعة من الشافعية، وطائفة من الحنفية.
وقد طول أئمة الأصول الكلام في هذه المسألة، وأوردوا من الأدلة ما لا تقوم به الحجة، واستكثر من ذلك الرازي في "المحصول"، ولم يأتوا بما يشفي طالب الحق.
وههنا دليل يرفع النزاع، ويوضح الحق إيضاحا لا يبقى بعده ريب لمرتاب، وهو الحديث الثابت في الصحيح، ومن طرق: "أن الحاكم إذا اجتهد فأصاب، فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجرا"2.
فهذا الحديث يفيدك أن الحق واحد، وأن بعض المجتهدين يوافقه، فيقال له: مصيب، ويستحق أجرين، وبعض المجتهدين يخالفه، ويقال له مخطئ، واستحقاقه الأجر لا يستلزم كونه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 للإمام محمد بن إدريس الشافعي ا. هـ الأعلام 6/ 26.(5/393)
2 أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه،كتاب الاعتصام، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ 7352. ومسلم، كتاب الأقضية، باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ 1716. وأبو داود، كتاب الأقضية، باب في القاضي يخطئ 3574. والنسائي، كتاب القضاء، كما في التحفة 8/ 158. والبيهقي، كتاب آداب القاضي، باب اجتهاد الحاكم فيما يسوغ فيه الاجتماع 10/ 119. وابن حبان في صحيحه 5060. وأحمد في مسنده 4/ 198.(5/394)
ص -233-…مصيبًا، و"إطلاق"* اسم الخطأ عليه لا يستلزم أن لا يكون له أجر، فمن قال: كل مجتهد مصيب، وجعل الحق متعددا بتعدد المجتهدين، فقد أخطأ خطأ بينًا، وخالف الصواب مخالفة ظاهرة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل المجتهدين قسمين، قسما مصيبا، وقسما مخطئا، ولو كان كل واحد منهم مصيبا لم يكن لهذا التقسيم معنى.
وهكذا من قال: إن الحق واحد، ومخالفه آثم، فإن هذا الحديث يرد عليه ردا بينا، ويدفعه دفعا ظاهرا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمى من لم يوافق الحق في اجتهاده مخطئا، ورتب على ذلك استحقاقه للأجر، فالحق الذي لا شك فيه، ولا شبهة أن الحق واحد، ومخالفه مخطئ مأجور، إذا كان قد وفَّى الاجتهاد حقه، ولم يقصر في البحث، بعد إحرازه لما يكون به مجتهدا.
ومما يحتج به على هذا حديث: "القضاة ثلاثة"1 فإنه لو لم يكن الحق واحدا، لم يكن للتقسيم معنى، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم لأمير السرية: "وإن طلب منك أهل حصن النزول على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا"2.
وما أشنع ما قاله هؤلاء الجاعلون لحكم الله عز وجل متعددا بتعدد المجتهدين، تابعا لما يصدر عنهم من الاجتهادات، فإن هذه المقالة مع كونها مخالفة للأدب مع الله عز وجل، ومع شريعته المطهرة، هي أيضًا صادرة عن محض الرأي، الذي لم يشهد له دليل، ولا عضدته شبهة تقبلها العقول، وهي أيضًا مخالفة لإجماع الأمة، سلفها خلفها، فإن الصحابة ومن بعدهم في كل عصر من العصور، ما زالوا يخطئون من خالف في اجتهاده ما هو أنهض مما تمسك به، ومن شك في ذلك، وأنكره، فهو لا يدري بما في بطون الدفاتر الإسلامية بأسرها من التصريح في كثير من المسائل بتخطئه بعضهم البعض واعتراض بعضهم على بعض.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(5/395)
1 أخرجه أبو داود، كتاب الأقضية، باب القاضي يخطئ 3573. والترمذي، كتاب الأحكام، باب ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القاضي 1322. وابن ماجه، كتاب الأحكام، باب الحاكم يجتهد فيصيب الحق 2351. والحاكم في المستدرك، كتاب الأحكام، باب قاضيان في النار... 4/ 9 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وله شاهد بإسناد صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي. والبيهقي، كتاب آداب القاضي، باب إثم من أفتى أو قضى بالجهل 10/ 117. وذكره المزي في تحفة الأشراف 2/ 94. وذكره البغوي في مصابيح السنة 2814.
2 أخرجه مسلم من حديث بريدة رضي الله عنه، كتاب الجهاد، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث 1731. وأبو داود، كتاب الجهاد، باب في دعاء المشركين 2612، 2613. والترمذي، كتاب الديات، باب ما جاء في النهي عن المثلة 1408. وابن ماجه، كتاب الجهد، باب وصية الإمام 3858. وابن حبان في صحيحه 4739. وأحمد في مسنده 5/ 352. والبيهقي، كتاب السير، باب الرخصة في الإقامة بدار الشرك لمن لا يخاف الفتنة 9/ 15. وابن الجارود في المنتقى 1042.(5/396)
ص -234-…وأما الاستدلال من القائلين بهذه المقالة بمثل قصة داود وسليمان1 فهو عليهم لا لهم، فإن الله سبحانه وتعالى صرح في كتابه العزيز بأن الحق هو ما قاله سليمان، فقال: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ}2 ولو كان الحق بيد كل واحد منهما؛ لما كان لتخصيص سليمان بذلك المعنى.
وأما استدلالهم بمثل قوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ}3 فهو خارج عن محل النزاع؛ لأن الله سبحانه قد صرح في هذه الآية بأن ما وقع منهم، من القطع والترك هو بإذنه عز وجل، فأفاد ذلك أن حكمه في هذه الحادثة بخصوصها، هو كل واحد من الأمرين، وليس النزاع إلا فيما لم يرد النص فيه "بأنه سبحانه يريد"* بخصوصها، هو كل واحد من الأمرين، وأن حكمه على التخيير بين أمور، يختار المكلف ما شاء منها، كالواجب المخير، وأن حكمه يجب على الكل، حتى يفعله البعض، فيسقط عن الباقين، كفروض الكفايات، فتدبر هذا وافهمه حق فهمه.
وأما استدلالهم بتصويب كل طائفة ممن صلى قبل الوصول إلى بني قريظة، لمن خشي فوت الوقت، وممن ترك الصلاة حتى وصل إلى بني قريظة، امتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يصلين أحد إلا في بني قريظة"4 فالجواب عنه كالجواب عما قبله، على أن ترك التثريب لمن قد عمل باجتهاده لا يدل على أنه قد أصاب الحق، بل يدل على أنه قد أجزأه ما عمله باجتهاده، وصح صدوره عنه، لكونه قد بذل وسعه في تحري الحق، وذلك لا يستلزم أن يكون هو الحق الذي طلبه الله من عباده، وفرق بين الإصابة والصواب، فإن إصابة الحق "هي"** الموافقة، بخلاف الصواب فإنه قد يطلق على من أخطأ الحق ولم يصبه، من حيث كونه قد فعل ما كلف به، واستحق الأجر عليه، وإن لم يكن مصيبا للحق وموافقا له.(5/397)
وإذا عرفت هذا الحق معرفته، لم تحتج إلى زيادة عليه وقد حرر الصفي الهندي هذه المسألة، وما فيها من المذاهب تحريرا جيدا فقال: الواقعة التي وقعت إما أن يكون عليها نص أو لا، فإن كان الأول، فإما أن "يجتهد"*** المجتهد أو لا، الثاني على قسمين؛ لأنه إما أن يقصر في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": هو.
*** في "أ": يجده.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم في: 2/ 219.
2 جزء من الآية 79 من سورة الأنبياء.
3 جزء من الآية 5 من سورة الحشر.
4 تقدم تخريجه في 2/ 223.(5/398)
ص -235-…طلبه أو لا يُقصر، فإن وجده وحكم بمقتضاه فلا كلام، وإن لم يحكم بمقتضاه، فإن كان مع العلم بوجه دلالته على المطلوب، فهو مخطئ وآثم، وفاقا، وإن لم يكن مع العلم، ولكن قصر في البحث عنه، فكذلك، وإن لم يقصر، بل بالغ في الاستشكاف والبحث، ولم يعثر على وجه دلالته على المطلوب، فحكمه حكم "ما إذا لم"* يجده، مع الطلب الشديد وسيأتي1.
وإن لم يجده، فإن كان "للتقصير"** في الطلب فهو مخطئ وآثم، وإن لم يقصر بل بالغ في التنقيب عنه، وأفرغ الوسع في طلبه، ومع ذلك لم يجده، فإن خفي عليه الراوي الذي عنده النص، أو عرفه و"لكن"*** مات قبل وصوله إليه فهو غير آثم قطعا، وهل هو مخطئ أو مصيب، على الخلاف الآتي فيما لا نص فيه، والأولى بأن يكون مخطئا، وأما "التي لا نص"**** فيها، فإما أن يقال: لله فيها قبل اجتهاد المجتهد حكم معين أو لا، بل "حكمه"***** تابع لاجتهاد المجتهدين، فهذا الثاني قول من قال: كل مجتهد مصيب، وهو مذهب جمهور المتكلمين، كالشيخ أبي الحسن الأشعري، والقاضي، والغزالي، والمعتزلة، كأبي الهذيل، وأبي على، وأبي هاشم، وأتباعهم، ونقل عن الشافعي، وأبي حنيفة، والمشهور عنهما خلافه.
فإن لم يوجد في الواقعة حكم معين، فهل وجد فيها ما لو حكم الله تعالى فيها بحكم، لما حكم إلا به، أو لم يوجد ذلك، والأول هو القول بالأشبه، وهو قول كثير من المصوبين، وإليه صار أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، وابن سريج، في إحدى الروايتين عنه، قال: وأما الثاني: فقول الخلص من المصوبة. انتهى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": ما لم.
** في "ب": التصير.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
**** في "أ": التخيير يقال.
*****في "أ": إجماع و.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر الصفحة: 237.
المسألة الثامنة: لا يجوز أن يكون للمجتهد في مسألة قولان متناقضان في وقت واحد(5/399)
لا يجوز أن يكون للمجتهد في مسألة قولان متناقضان في وقت واحد بالنسبة إلى شخص واحد؛ لأن دليلهما إن تعادلا من كل وجه، ولم يمكن الجمع ولا الترجيح، وجب عليه الوقف، وإن أمكن الجمع بينهما، وجب عليه المصير إلى الصورة الجامعة بينهما، وإن ترجح أحدهما على الآخر، تعين عليه الأخذ به، وبهذا تعلم امتناع أن يكون له قولان متناقضان في وقت واحد باعتبار شخص واحد.(5/400)
ص -236-…وأما في وقتين فجائز، لجواز تغير الاجتهاد الأول، وظهور ما هو أولى، بأن يأخذ به "ويدع"* ما كان قد أخذ به.
وأما بالنسبة إلى شخصين فيكون ذلك على اختلاف المذهبين المعروفين، عند تعادل الأمارتين، فمن قال بالتخيير جوز ذلك له. ومن قال بالوقف لم يجوز.
فإن كان لمجتهد قولان واقعان في وقتين فالقول الآخر رجوع عن القول الأول بدلالته على تغيير اجتهاده الأول.
وإذا أفتى المجتهد مرة بما أدى إليه اجتهاده، ثم سئل ثانيا عن تلك الحادثة، فإما أن يكون ذاكرا لطريق الاجتهاد الأول أو لا يكون ذاكرا، فإن كان ذاكرا جاز له الفتوى به، وإن نسيه لزمه أن يستأنف الاجتهاد، فإن أداه اجتهاده إلى خلاف فتواه في الأول أفتى بما أدى إليه اجتهاده ثانيا، وإن "أداه"** إلى موافقة ما قد أفتى به أو لا "أفتى به"*** وإن لم يستأنف الاجتهاد، لم يجز له الفتوى.
قال الرازي في "المحصول": ولقائل أن يقول: لما كان الغالب على ظنه أن الطريق الذي تمسك به كان طريقا قويا، حصل له الآن ظن أن ذلك القوى حق، جاز له الفتوى به؛ لأن العمل بالظن واجب، وأما إذا حكم المجتهد باجتهاده، فليس له أن ينقضه إذا تغير اجتهاده، وترجح له ما يخالف الاجتهاد الأول؛ لأن ذلك يؤدي إلى عدم استقرار الأحكام الشرعية.
وهكذا ليس له أن ينقض باجتهاده ما حكم به حاكم آخر باجتهاده؛ لأنه يؤدي إلى ذلك، ويتسلسل، وتفوت مصلحة نصب الحكام، وهي فصل الخصومات، ما لم يكن ما حكم به الحاكم الأول مخالفا لدليل قطعي، فإن كان مخالفا للدليل القاطع نقضه اتفاقا، وإذا حكم المجتهد بما يخالف اجتهاده، فحكمه باطل؛ لأنه متعبد بما أدى إليه اجتهاده، وليس له أن يقول بما يخالفه، ولا يحل له أن يقلد مجتهدا آخر، فيما يخالف اجتهاده، بل يحرم عليه التقليد مطلقًا، إذا كان قد اجتهد في المسالة، فأداة اجتهاده إلى حكم، ولا خلاف في هذا.
وأما قبل أن يجتهد، فالحق: أنه لا يجوز له تقليد مجتهد آخر مطلقًا.(5/401)
وقيل: يجوز له فيما يخصه من الأحكام، لا فيما لا يخصه، فلا يجوز.
وقيل: يجوز له تقليد من هو أعلم منه.
وقيل: يجوز له أن يقلد مجتهدا من مجتهدي الصحابة.
ولأهل الأصول في هذه المباحث كلام طويل، وليست محتاجة إلى التطوير، فإن القول فيها لا مستند له إلا محض الرأي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": مما كان. والزيادة التي بين قوسين هي من وضع محقق النسخة "ب".
** في "أ": أدى.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".(5/402)
ص -237-…المسألة التاسعة: في جوز تفويض المجتهد
قال الرازي في "المحصول": اختلفوا في أنه هل يجوز أن يقول الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم، أو للعالم: أحكم، فإنك لا تحكم إلا بالصواب؟
فقطع بوقوعه مويس بن عمران1 من المعتزلة، وقطع جمهور المعتزلة بامتناعه.
وتوقف الشافعي في امتناعه وجوازه، وهو المختار. انتهى.
ولا خلاف في جواز التفويض إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو المجتهد، أن يحكم بما رآه بالنظر والاجتهاد، وإنما الخلاف في تفويض الحكم بما شاء المفوض، وكيف اتفق له.
واستدل من قال بالجواز: بأنه ليس بممتنع لذاته، والأصل عدم امتناعه لغيره.
وهذا الدليل ساقط جدا، وتفويض من كان ذا علم، بأن يحكم بما أراد من غير تقييد بالنظر والاجتهاد، مع كون الأحكام الشرعية تختلف مسالكها، وتتباين طرائقها، ولا علم للعبد بما عند الله عز وجل فيها، ولا بما هو الحق الذي يريده من عباده، ولا ينبغي لمسلم أن يقول بجوازه، ولا يردد في بطلانه، فإن العالم الجامع لعلوم الاجتهاد، المتمكن من النظر والاستدلال، إذا بحث وفحص، وأعطى النظر حقه، فليس معه إلا مجرد الظن بأن ذلك الذي رجحه، وقاله هو الحق الذي طلبه الله عز وجل، فكيف يحل له أن يقول ما أراد، ويفعل ما اختار، من دون نظر واجتهاد، وكيف يجوز مثل ذلك على الله عز وجل، مع القطع: بأن هذا العالم الذي زعم الزاعم جواز تفويضه مكلف بالشريعة الإسلامية؛ لأنه واحد من أهلها، مأخوذ بما أخذوا به، مطلوب منه ما طلب منهم، فما الذي رفع عنه التكليف الذي كلف به غيره، وما الذي أخرجه مما كان فيه من الخطاب، بما كلف به، وهل هذه المقالة إلا مجرد جهل بحت، ومجازفة ظاهرة، وكيف يصح أن يقال بتفويض العبد، مع جهله بما في أحكام الله من المصالح، فإن من كان "هكذا"* قد يقع اختياره على ما فيه مصلحة، وعلى ما لا مصلحة فيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": هذا.(5/403)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصول، والمحصول، وأحكام الآمدي: موسى بن عمران وهذا خطأ، إنما هو مويس بن عمران، ويكنى أبا عمران المعتزلي، كان واسع العلم في الكلام وكان يقول بالإرجاء. انظر فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة للمؤلفين أبي القاسم البلخي والقاضي عبد الجبار.(5/404)
ص -238-…وأما الاستدلال بقوله سبحانه: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًا لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ}1 فهو خارج عن محل النزاع؛ لأن هذا تفويض لنبي من أنبياء الله، وهم معصومون من الخطأ، وإذا وقع منهم نادرا فلا يقرون عليه، وجميع إصدارهم وإيرادهم هو بوحي من الله عز وجل، أو باجتهاد يقرره الله عز وجل، ويرضاه، وهكذا يقال فيما استدلوا به من اجتهادات نبينا صلى الله عليه وسلم، ووقع الجوابات منه على "من"* سأله من دون انتظار الوحي، وبمثل قوله صلى الله عليه وسلم: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت"2 وبمثل قوله لما سمع أبيات قتيلة بنت الحارث"3: "لو بلغني هذا لمننت عليه" أي: على أخيها النضر بن الحارث4 أحد أسرى بدر، والقصة والشعر معروفان.
وأما اعتذار من اعتذر عن القائل بصحة ذلك، بأنه إنما قال بالجواز، ولم يقل بالوقوع، فليس هذا الاعتذار بشيء، فإن تجويز مثل هذا على الله عز وجل، مما لا يحل لمسلم أن يقول به.
وقد عرفت أنه لا خلاف في جواز التفويض إلى الأنبياء، وإلى المجتهدين بالنظر والاجتهاد، فليس محل النزاع إلا التفويض "لمن"** كان من أهل العلم، أن يحكم بما شاء، وكيف اتفق، وحينئذ يتبين لك أن غالب ما جاءوا به "في هذه المسألة من الأدلة واقع في غير موقعه، وأنه لا يمكن الاستدلال به في محل الخلاف، ولم يأتوا بشيء تقبله العقول، ولا بدليل يدل عليه الشرع، بل جميع ما جاءوا به"*** جهل على جهل، وظلمات بعضها فوق بعض.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": ما.
** في "أ": إلى من.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية 93 من سورة آل عمران.
2 تقدم تخريجه في 2/ 220.(5/405)
3 قال الزبير: كانت تحت عبد الله بن الحارث بن أمية الأصغر فولدت له عليا والوليد ومحمدا وأم الحكم، قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أباها صبرا يوم بدر، كانت شاعرة محسنة، ولما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر كتبت إليه قتيلة في أبيها وذلك قبل إسلامها فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى حتى أخضلت الدموع لحيته وقال: "لو بلغني شعرها قبل أن أقتله لعفوت عنه". ا. هـ الإصابة 4/ 379، الاستيعاب 4/ 3799. وبعض المؤرخين من يراها أخت النضر ولكن السهيلي في الروض الأنف 2/ 119 يؤكد أنها بنت النضر لا أخته كما في هامش الأعلام للزركلي 5/ 190.
4 هو النضر بن الحارث بن علقمة، من بين عبد الدار، من قريش، صاحب لواء المشركين ببدر، كان من شجعان قريش ووجوهها وشياطينها، وهو الذي آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفر به وفيه نزل قوله: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ا. هـ الكامل لابن الأثير 2/ 284 الأعلام 8/ 33.(5/406)
ص -239-…الفصل الثاني: في التقليد وما يتعلق به من أحكام المفتي والمستفتي
وفيه ست مسائل:
المسألة الأولى: في حد التقليد، والمفتي، والمستفي
أما التقليد: فأصله في اللغة مأخوذ من القلادة، التي يقلد غيره بها، ومنه تقليد الهدي، فكأن المقلد جعل ذلك الحكم، الذي قلد فيه المجتهد كالقلادة في عنق من قلده.
وفي الاصطلاح: هو العمل بقول الغير من غير حجة1.
فيخرج العمل بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعمل بالإجماع، ورجوع العامي إلى المفتي، ورجوع القاضي إلى شهادة العدول، فإنها قد قامت الحجة في ذلك.
أما العمل بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالإجماع، فقد تقدم الدليل على ذلك في مقصد السنة، وفي مقصد الإجماع.
وأما رجوع القاضي إلى قول الشهود: فالدليل عليه ما في الكتاب والسنة، من الأمر بالشهادة، والعمل بها، وقد وقع الإجماع على ذلك.
وأما رجوع العامي إلى قول المفتي، فللإجماع على ذلك.
ويخرج عن ذلك قبول رواية الرواة، فإنه قد دل الدليل على قبولها، ووجوب العمل بها، وأيضا: ليست قول الراوي، بل قول من روى عنه، إن كان ممن تقوم به الحجة.
وقال ابن الهمام في "التحرير": التقليد العمل بقول من ليس قوله إحدى الحجج بلا حجة. وهذا الحد أحسن من الذي قبله.
وقال القفال: هو قبول قول القائل، وأنت لا تعلم من أين قاله.
وقال الشيخ أبو حامد، والأستاذ أبو منصور: هو قبول القول من غير حجة تظهر على قوله.
وقيل: هو قبول قول الغير دون حجته، أي: حجة القول.
والأولى أن يقال: هو قبول رأي من لا تقوم به الحجة بلا حجة.
وفوائد هذه القيود معروفة بما تقدم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البحر المحيط 6/ 270 والمستصفى 2/ 387.(5/407)
ص -240-…وأما المفتي فهو المجتهد، وقد تقدم بيانه، ومثله قول من قال: إن المفتي الفقيه؛ لأن المراد به المجتهد في مصطلح أهل الأصول.
والمستفتي من ليس بمجتهد، ومن ليس بفقيه، وقد عرفت من حد المقلد، على جميع الحدود، المذكورة، أن قبول قول النبي صلى الله عليه وسلم والعمل به ليس من التقليد في شيء؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم وفعله نفس الحجة1.
قال القاضي حسين في "التعليق": لا خلاف أن قبول قول غير النبي صلى الله عليه وسلم، من الصحابة، والتابعين، يسمى تقليدا، وأما قبول قوله صلى الله عليه وسلم، فهل يسمي تقليدا؟ فيه وجهان "يبنيان"* على الخلاف في حقيقة التقليد ما هو؟
وذكر الشيخ أبو حامد أن الذي نص عليه الشافعي أنه يسمى تقليدا، فإنه قال في حق قول الصحابي لما ذهب إلى أنه لا يجب الأخذ به، ما نصه: وأما أن يقلده، فلم يجعل الله ذلك لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى.
ولا يخفاك أن مراده بالتقليد ههنا غير ما وقع عليه الاصطلاح، ولهذا قال الروياني في "البحر": أطلق الشافعي على جعل القبول من النبي صلى الله عليه وسلم تقليدا، ولم يرد حقيقة التقليد، وإنما أراد القبول من غير السؤال عن وجهه، وفي وقوع اسم التقليد عليه وجهان.
قال: والصحيح من المذهب أنه يتناول هذا الاسم.
قال الزركشي في "البحر"2: وفي هذا إشارة إلى رجوع الخلاف إلى اللفظ، وبه صرح إمام الحرمين في "التخليص" حيث قال: وهو اختلاف في عبارة يهون موقعها عن ذوي التحقيق. انتهى.
وبهذا تعرف أن التقليد بالمعنى المصطلح "عليه"** لا يشمل ذلك، وهو المطلوب.
قال ابن دقيق العيد: إن قلنا إن الأنبياء لا يجتهدون، فقد علمنا أن سبب أقوالهم الوحي، فلا يكون تقليدا، وإن قلنا إنهم يجتهدون، فقد علمنا أن السبب أحد الأمرين: إما الوحي، أو الاجتهاد، وعلى كل تقدير، فقد علمنا السبب، واجتهادهم اجتهاد معلوم العصمة. انتهى.(5/408)
وقد نقل القاضي في "التقريب" الإجماع على أن الآخذ بقول النبي صلى الله عليه وسلم والراجع إليه ليس بمقلد، بل هو صائر إلى دليل وعلم يقين. انتهى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": يبتنيان.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البحر المحيط 6/ 270
2 البحر المحيط 6/ 271.(5/409)
ص -241-…المسألة الثانية: حكم التقليد في أصول الدين
اختلفوا في المسائل العقلية، وهي المتعلقة بوجود الباري وصفاته، هل يجوز التقليد فيها أم لا؟
فحكى الرازي في "المحصول" عن كثير من الفقهاء أنه يجوز، ولم يحكه ابن الحاجب في "المختصر" إلا عن العنبري.
وذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز.
وحكاه الأستاذ أبو إسحاق في "شرح الترتيب"1 عن إجماع أهل العلم من أهل الحق وغيرهم من الطوائف.
قال أبو الحسين بن القطان: لا نعلم خلافا في امتناع التقليد في التوحيد.
وحكاه ابن السمعاني عن جميع المتكلمين، وطائفة من الفقهاء.
وقال إمام الحرمين في "الشامل"2: لم يقل بالتقليد في الأصول إلا الحنابلة.
وقال الإسفراييني: لا يخالف فيه إلا أهل الظاهر.
واستدل الجمهور بأن الأمة أجمعت على وجوب معرفة الله عز وجل، وأنها لا تحصل بالتقليد؛ لأن المقلد ليس معه إلا الأخذ بقول من يقلده، ولا يدري أهو صواب أم خطأ.
قال الأستاذ أبو منصور: فلو اعتقد من غير معرفة بالدليل، فاختلفوا فيه: فقال أكثر الأئمة: إنه مؤمن من أهل الشفاعة، وإن فسق بترك الاستدلال، وبه قال أئمة الحديث.
وقال الأشعري، وجمهور المعتزلة: لا يكون مؤمنا حتى يخرج فيها عن جملة المقلدين. انتهى.
فيا لله العجب من هذه المقالة التي تقشعر لها الجلود، وترجف عند سماعها الأفئدة، فإنها جناية على جمهور هذه الأمة المرحومة، وتكليف لهم بما ليس في وسعهم ولا يطيقونه، وقد كفى الصحابة الذين لم يبلغوا درجة الاجتهاد، ولا قاربوها الإيمان الجملي، ولم يكلفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بين أظهرهم بمعرفة ذلك، ولا أخرجهم عن الإيمان بتقصيرهم عن البلوغ إلى العلم بذلك أدلته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو للإمام أبي إسحاق الإسفراييني شرح فيه كتاب الترتيب ولم أجد أحدا نسب كتاب الترتيب إلى مؤلفه انظر كشف الظنون 2/ 1403.(5/410)
2 وهو في أصول الدين لإمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله الجويني، أبي المعالي ا. هـ كشف الظنون 2/ 1024.(5/411)
ص -242-…وما حكاه الأستاذ أبو منصور عن أئمة الحديث من أنه مؤمن، وإن فسق، فلا يصح التفسيق عنهم بوجه من الوجوه، بل مذهب سابقهم ولاحقهم الاكتفاء بالإيمان الجملي، وهو الذي كان عليه خير القرون، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، بل حرم كثير منهم النظر إلى ذلك، وجعله في الضلالة والجهالة، ولم يخف هذا من مذهبهم، حتى على أهل الأصول والفقه.
قال الأستاذ أبو إسحاق1: ذهب قوم من كتبة الحديث إلى أن طلب الدليل فيما يتعلق بالتوحيد غير واجب، وإنما الغرض هو الرجوع إلى قول الله ورسوله، ويرون الشروع في موجبات العقول كفرا، وأن الاستدلال والنظر ليس هو المقصود في نفسه، وإنما هو طريق إلى حصول العلم، حتى يصير بحيث لا يتردد، فمن حصل له هذا الاعتقاد الذي لا شك فيه، من غير دلالة قاطعة، فقد صار مؤمنا، وزال عنه كلفة طلب الأدلة، ومن أحسن الله إليه وأنعم الله عليه بالاعتقاد الصافي، من الشبهة والشكوك، فقد أنعم الله عليه بأكمل أنواع النعم وأجلها، حين لم يَكِله إلى النظر والاستدلال، لا سيما العوام، فإن كثيرا منهم تجده في صيانة اعتقاده أكثر ممن يشاهد ذلك بالأدلة. انتهى.
ومن أمعن النظر في أحوال العوام "وجد هذا"* صحيحا، فإن كثيرا منهم نجد الإيمان في صدره كالجبال الرواسي، ونجد بعض المتعلقين بعلم الكلام، المشتغلين به، الخائضين في معقولاته التي يتخبط فيها أهلها لا يزال ينقص إيمانه، وتنتقض منه عروة عروة، فإن أدركته الألطاف الربانية نجا، وإلا هلك، ولهذا تمنى كثير من الخائضين في هذه العلوم، المتبحرين في أنواعها، في آخر أمره، أن يكون على دين العجائز، ولهم في ذلك من الكلمات المنظومة والمنثورة ما لا يخفى على من له اطلاع على أخبار الناس.
وقد أنكر القشيري، والشيخ أبو محمد الجويني، وغيرهما، من المحققين صحة هذه الرواية المتقدمة عن أبي الحسن الأشعري.(5/412)
قال ابن السمعاني: إيجاب معرفة الأصول على ما يقوله المتكلمون بعيد جدا عن الصواب، ومتى أوجبنا ذلك فمتى يوجد من العوام من يعرف ذلك، وتصدر عقيدته عنه، كيف وهم لو عرضت عليهم تلك "الأدلة** لم يفهموها، وإنما غاية العامي أن يتلقن ما يريد أن يعتقده، ويلقى به ربه، من العلماء يتبعهم في ذلك، ثم يسلم عليها بقلب طاهر عن الأهواء، والأدغال2، ثم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": وجدها.
** في "أ": الأحكام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكر هذا القول الزركشي في كتابه مفصلا في البحر المحيط 6/ 277-278 فانظره هناك.
2 جمع دَغَل: وهو في الأصل كل موضع يخاف فيه الاغتيال، وأصل الدغل الشجر الملتف الذي يكمن أهل الفساد فيه وفي "اتخذوا دين الله دغلا" أي: يخدعون الناس. ويقال: أدغل في الأمر: إذا أدخل فيه ما يخالفه ويفسده. ا. هـ لسان العرب مادة دغل.(5/413)
ص -243-…يعض عليها بالنواجز، فلا يحول ولا يزول، ولو قطع أربا، فهنيئًا لهم بالسلامة، والبعد عن الشبهات الداخلية على أهل الكلام، والورطات التي توغلوها، حتى أدت بهم إلى المهاوي والمهالك، ودخلت عليهم الشبهات العظيمة، فصاروا متحيرين، ولا يوجد فيهم متورع عفيف، إلا القليل، فإنهم أعرضوا عن ورع الألسنة، وأرسلوها في صفات الله بجرأة وعدم مهابة وحرمة.
قال: ولأنه ما من دليل لفريق منهم يعتمدون عليه إلا ولخصومهم عليه من الشبه القوية، ونحن لا ننكر من الدلائل العقلية بقدر ما ينال المسلم به برد الخاطر، وإنما "المنكر"* إيجاب التوصل إلى العقائد في الأصول بالطريق الذي اقتعدوه وساموا به الخلق، وزعموا أن من لم يعرف ذلك لم يعرف الله تعالى، ثم أداهم ذلك إلى تكفير العوام أجمع، وهذا هو الخطة الشنعاء، والداء العضال، وإذا كان السواد الأعظم هم العوام، وبهم قوم الدين، وعليهم مدار رحى الإسلام، ولعله لا يوجد في البلدة الواحدة، التي تجمع المائة الألف من يقوم بالشرائط التي يعتبرونها، إلا العدد الشاذ النادر، ولعله لا يبلغ عدد العشرة. انتهى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في أ: منكر.
المسألة الثالثة: حكم التقليد في المسائل الشرعية الفرعية
اختلفوا في المسائل الشرعية الفرعية، هل يجوز التقليد فيها أم لا1؟
المذهب الأول:
ذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه لا يجوز مطلقا2.
قال القرافي: مذهب مالك، وجمهور العلماء: وجوب الاجتهاد، وإبطال التقليد، وادعى ابن حزم الإجماع على النهي عن التقليد.
قال: ونقل عن مالك أنه قال: أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وما لم يوافق فاتركوه، وقال عند موته: وددت أني ضربت بكل مسألة تكلمت فيها برأيي سوطا، على أنه لا صبر لي على السياط.(5/414)
قال ابن حزم: فههنا مالك ينهى عن التقليد، وكذلك الشافعي، وأبو حنيفة، وقد روى المزني عن الشافعي في أول "مختصره"3 أنه لم يزل ينهى عن تقليده، وتقليد غيره. انتهى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البحر المحيط 6/ 280.
2 هذا هو المذهب الأول.
3 وهو مختصر في الفقه، انظر ترجمة المزني في 1/ 334.(5/415)
ص -244-…وقد ذكرت نصوص الأئمة الأربعة المصرحة بالنهي عن التقليد في الرسالة التي سميتها "القول المفيد في حكم التقليد" فلا نطول المقام بذكر ذلك. وبهذا تعلم أن المنع من التقليد إن لم يكن إجماعا، فهو مذهب الجمهور، ويؤيد هذا ما سيأتي في المسألة التي بعد هذه، من حكاية الإجماع على عدم جواز تقليد الأموات، وكذلك ما سيأتي من أن عمل المجتهد برأيه إنما هو رخصة له، عند عدم الدليل، ولا يجوز لغيره أن يعمل به بالإجماع، فهذان الإجماعان يجتثان التقليد من أصله، فالعجب من كثير من أهل الأصول، حيث لم يحكوا هذا القول إلا عن بعض المعتزلة.
والمذهب الثاني:
وقابل مذهب القائلين بعدم الجواز بعض الحشوية وقال: يجب مطلقا1، ويحرم النظر، وهؤلاء لم يقنعوا بما هم فيه من الجهل، حتى أوجبوه على أنفسهم، وعلى غيرهم، فإن التقليد جهل وليس بعلم.
والمذهب الثالث:
التفصيل، وهو أنه يجب على العامي، ويحرم على المجتهد، وبهذا قال كثير من أتباع الأئمة الأربعة، ولا يخفاك أنه إنما يعتبر في الخلاف أقوال المجتهدين، وهؤلاء هم مقلدون، فليسوا ممن يعتبر خلافه، ولا سيما وأئمتهم الأربعة يمنعونهم من تقليدهم وتقليد غيرهم، وقد تعسفوا فحملوا كلام أئمتهم هؤلاء على أنهم أرادوا المجتهدين من الناس، لا المقلدين، فيا لله العجب.
وأعجب من هذا: أن بعض المتأخرين ممن صنف في الأصول نسب هذا القول إلى الأكثر، وجعل الحجة لهم بالإجماع على عدم الإنكار على المقلدين، فإن أراد إجماع خير القرون، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، فتلك دعوى باطلة، فإنه لا تقليد فيهم ألبته، ولا عرفوا التقليد، ولا سمعوا به، بل كان المقصر منهم يسأل العالم عن المسألة التي تعرض له، فيفتيه بالنصوص التي يعرفها من الكتاب والسنة، وهذا ليس من التقليد في شيء، بل هو من باب طلب حكم الله في المسألة، والسؤال عن الحجة الشرعية.(5/416)
وقد عرفت في أول هذا الفصل أن التقليد إنما هو العمل بالرأي، لا بالرواية، وليس المراد بما احتج به الموجبون للتقليد، والمجوزون له من قوله سبحانه: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ}2 إلا السائل عن حكم الله في المسألة، لا عن آراء الرجال، هذا على تسليم أنها واردة في عموم السؤال، كما زعموا، وليس الأمر كذلك، بل هي واردة في أمر خاص، وهو السؤال عن كون أنبياء الله رجالا، كما يفيده أول الآية وآخرها، حيث قال:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهذا هو المذهب الثاني.
2 جزء من آيتين الأولى 43 من سورة النحل والثانية 7 من سورة الأنبياء.(5/417)
ص -245-…{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ}1؛ وإن أراد إجماع الأئمة الأربعة، فقد عرفت أنهم قالوا بالمنع من التقليد، ولم يزل في عصرهم من ينكر ذلك، وإن أراد إجماع من بعدهم، فوجود المنكرين لذلك منذ ذلك الوقت إلى هذه الغاية معلوم لكل من يعرف أقوال أهل العلم، وقد عرفت مما نقلناه سابقا أن المنع قول الجمهور، إذا لم يكن إجماعا، وإن أراد إجماع المقلدين للأئمة الأربعة خاصة، فقد عرفت مما قدمنا في مقصد الإجماع أنه لا اعتبار بأقوال المقلدين في شيء، فضلا عن أن ينعقد بهم إجماع.
والحاصل: أنه لم يأت من جوز التقليد، فضلا عمن أوجبه، بحجة ينبغي الاشتغال بجوابها قط، ولم نؤمر برد شرائع الله سبحانه إلى آراء الرجال، بل أمرنا بما قاله سبحانه: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}2 أي: كتاب الله، وسنة رسوله، وقد كان صلى الله عليه وسلم يأمر من يرسله من أصحابه بالحكم بكتاب الله، فإن لم يجد فبسنة رسول الله، فإن لم يجد فبما يظهر له من الرأي كما في حديث معاذ3.(5/418)
وأما ما ذكروه من استبعاد أن يفهم المقصرون نصوص الشرع، وجعلوا ذلك مسوغا للتقليد، فليس الأمر كما ذكروه، فههنا واسطة بين الاجتهاد والتقليد، وهي سؤال الجاهل للعالم عن الشرع فيما يعرض له، لا عن رأيه البحث واجتهاده المحض، وعلى هذا كان عمل المقصرين من الصحابة والتابعين، وتابعيهم، ومن لم يسعه ما وسع أهل هذه القرون الثلاثة، الذين هم خير قرون هذه الأمة على الإطلاق، فلا وسع الله عليه، وقد ذم الله تعالى المقلدين في كتابه العزيز في كثير من الآيات: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا}4 {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}5، {إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا}6، وأمثال هذه الآيات، ومن أراد استيفاء هذا البحث على التمام، فليرجع إلى الرسالة التي قدمت الإشارة إليها وإلى المؤلف الذي سميته "أدب الطلب ومنتهى الأرب". وما أحسن ما حكاه الزركشي في "البحر" عن المزني أنه قال: يقال لمن حكم بالتقليد هل لك من حجة؟ فإن قال: نعم أبطل التقليد؛ لأن الحجة أوجبت ذلك عنده، لا التقليد، وإن قال بغير علم، قيل له: فلم أرقت الدماء، وأبحت الفروج، والأموال؟، وقد حرم الله ذلك إلا بحجة، فإن قال: أنا أعلم أني أصبت وإن لم أعرف الحجة؛ لأن معلمي من كبار العلماء، قيل له: تقليد معلم معلمك أولى من تقليد معلمك؛ لأنه لا يقول
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الآيتين 43، 44 من سورة النحل.
2 جزء من الآية 59 من سورة النساء
3 تقدم في 1/ 152.
4 جزء من الآية 23 من سورة الزخرف.
5 جزء من الآية 31 من سورة التوبة.
6 جزء من الآية 67 من سورة الأحزاب.(5/419)
ص -246-…إلا بحجة خفيت عن معلمك، كما لم يقل معلمك إلا بحجة خفيت عنك، فإن قال: نعم ترك تقليد معلمه إلى تقليد معلم معلمه، "و"* كذلك حتى ينتهي إلى العالم من الصحابة، فإن أبى ذلك نقض قوله، وقيل له: كيف يجوز تقليد من هو أصغر، وأقل علما، ولا يجوز تقليد من هو أكبر، وأغزر علما، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حذر من زلة العالم1.
وعن ابن مسعود أنه قال: "لا يقلدن أحدكم دينه رجلا إن آمن آمن، وإن كفر كفر، فإنه لا أسوة في الشر"2. انتهى.
قلت: تتميمًا لهذا الكلام: وعندما ينتهي إلى العالم من الصحابة يقال له: هذا الصحابي أخذ علمه من أعلم البشر، المرسل من الله تعالى إلى عباده، المعصوم من الخطأ في أقواله وأفعاله، فتقليده أولى من تقليد الصحابي، الذي لم يصل إليه إلا شعبة من شعب علومه، وليس له من العصمة شيء، ولم يجعل الله سبحانه قوله، ولا فعله، ولا اجتهاده حجة على أحد من الناس.
واعلم: أنه لا خلاف في أن رأي المجتهد، عند عدم الدليل، إنما هو رخصة له، يجوز له العمل بها عند فقد الدليل، ولا يجوز لغيره العمل بها بحال من الأحوال، ولهذا نهى كبار الأئمة عن تقليدهم، وتقليد غيرهم، وقد عرفت "من تحقيق"** حال المقلد أنه إنما يأخذ بالرأي، لا بالرواية، ويتمسك بمحض الاجتهاد غير مطالب بحجة، فمن قال: إن رأي المجتهد يجوز لغيره التمسك به، ويسوغ له أن يعمل به، فيما كلفه الله، فقد جعل هذا المجتهد صاحب شرع، ولم يجعل الله ذلك لأحد من هذه الأمة، بعد نبينا صلى الله عليه وسلم ولا يتمكن كامل ولا مقصر أن يحتج على هذا بحجة قط.
وأما مجرد الدعاوى، والمجازفات في شرع الله تعالى، فليست بشيء، ولو جازت الأمور الشرعية بمجرد الدعاوى، لادَّعى من شاء ما شاء، وقال من شاء بما شاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": ثم.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(5/420)
1 ومن ذلك حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيكون في آخر الزمان ناس من أمتي يحدثونكم ما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم". أخرجه مسلم في المقدمة باب النهي عن الرواية عن الضعفاء 6 وأخرج بنحوه برقم 7. وأخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب العلم 1/ 103. وابن حبان في صحيحه 6767. وأبو يعلى في مسنده 6384.
2 ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 180 برقم 850 وقال رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح.(5/421)
ص -247-…المسألة الرابعة: حكم إفتاء المقلد
اختلفو هل يجوز لمن ليس بمجتهد أن يفتي بمذهب إمامه الذي يقلده، أو بمذهب إمام آخر؟
فقيل: لا يجوز، وإليه ذهب جماعة من أهل العلم، منهم أبو الحسين البصري، والصيرفي، وغيرهما، قال الصيرفي: وموضوع هذا الاسم، يعني: المفتي، لمن قام للناس بأمر دينهم و"علم"* حمل عموم القرآن وخصوصه، وناسخه ومنسوخه، وكذلك السنن، والاستنباط، ولم يوضع لمن علم مسألة وأدرك حقيقتها، فمن بلغ هذه المرتبة سموه بهذا الاسم، ومن استحقه أفتى فيما استفتي.
قال ابن السمعاني: المفتي من استكمل فيه ثلاث شرائط: الاجتهاد، والعدالة، والكف عن الترخيص والتساهل، قال: ويلزم الحاكم من الاستظهار في الاجتهاد أكثر مما يلزم المفتي.
قال الرازي في "المحصول": اختلفوا في غير المجتهد، هل يجوز له الفتوى بما يحكيه عن المفتين، فنقول: لا يخلو إما أن يحكي عن ميت أو حي، فإن حكى عن ميت لم يجز له الأخذ بقوله؛ لأنه لا قول للميت، "بدليل أن"** الإجماع لا ينعقد على خلافه حيا، وينعقد على موته، وهذا يدل على أنه لم يبق له قول بعد موته.
فإن قلت: لم صنفت كتب الفقه مع فناء أرباها؟
قلت: لفائدتين:
إحداهما:
استفادة طرق الاجتهاد من تصرفهم في الحوادث، وكيف بُني بعضها على بعض.
والثانية:
معرفة المتفق عليه من المختلف فيه، فلا يُفتى بغير المتفق عليه. انتهى.
وفي كلامه هذا التصريح بالمنع من تقليد الأموات، وقد حكى الغزالي في "المنخول" إجماع أهل الأصول على المنع من تقليد الأموات1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": وعلى.
** في "أ": لأن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ولقد ذكر الزركشي في كتابه البحر المحيط 6/ 297: غير المجتهد إن قلد مجتهدا ميتا فقي مذاهب؛ أحدها وهو الأصح وعليه الأكثرون كما قال الروياني الجواز، وقد قال الشافعي: المذاهب لا تموت بموت أربابها ولا بفقد أصحابها.(5/422)
وأيده الرافعي بموت الشهاد بعدما يؤدي شهدته عند الحاكم فإن شهادته لا تبطل.
واحتج الأصوليون عليه بانعقاد الإجماع في زماننا وعلى جواز العمل بفتاوى الموتى والإجماع حجة.
- والقول الثاني المنع. ا. هـ وانظر: المنخول 480.(5/423)
ص -248-…قال الروياني في "البحر": إنه القياس، وعللوا ذلك بأن الميت ليس من أهل الاجتهاد، كمن تجدد فسقه بعد عدالته فإنه لا يبقى حكم عدالته، وإما لأن قوله وصف له، وبقاء الوصف بعد زوال الأصل محال، وإما لأنه لو كان حيا لوجب عليه تجديد الاجتهاد، وعلى تقدير تجديده لا يتحقق بقاؤه، على القول الأول، فتقليده بناء على وهم أو تردد، والقول بذلك غير جائز.
وبهذا تعرف أن قول من قال بجواز فتوى المقلد، حكاية عن مجتهد، ليس على إطلاقه.
وذهب جماعة إلى أنه يجز للمقلد أن يفتي بمذهب مجتهد من المجتهدين، بشرط أن يكون ذلك المفتي أهلا للنظر، مطلعا على مأخذ ذلك القول الذي أفتى به، وإلا فلا يجوز.
وحكاه القاضي عن القفال، ونسبه بعض المتأخرين إلى الأكثرين، وليس كذلك، ولعله يعني الأكثرين من المقلدين، وبعضهم نسبة إلى الرازي، وهو غلط عليه، فإن اختياره المنع.
واحتج بعض أهل هذا القول بانعقاد الإجماع في زمنه على جواز العمل بفتاوى الموتى.
قال الهندي: وهذا فيه نظر؛ لأن الإجماع إنما يعتبر من أهل الحل والعقد، وهم المجتهدون، والمجمعون ليسوا بمجتهدين، فلا يعتبر إجماعهم بحال1.(5/424)
قال ابن دقيق العيد: توقيف الفتيا على حصول المجتهد، يفضي إلى حرج عظيم أو استرسال الخلق في أهويتهم، فالمختار أن الراوي عن الأئمة المتقدمين، إذا كان عدلا متمكنا من فهم كلام الإمام، ثم حكى لمقلد قوله، فإنه يُكتفى به؛ لأن ذلك مما يغلب على ظن العامي أنه حكم الله عنده، وقد انعقد الإجماع في زماننا على هذا النوع من الفتيا، هذا مع العلم الضروري بأن نساء الصحابة كن يرجعن في أحكام الحيض وغيره إلى ما يخبر به أزواجهن عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك فعل علي رضي الله عنه حين أرسل المقداد بن الأسود في قصة المذي2، وفي مسألتنا أظهر، فإن مراجعة النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ ذاك ممكنة، ومراجعة المقلد الآن للأئمة السابقين متعذرة، وقد أطبق الناس على تنفيذ أحكام القضاة، مع عدم شرائط الاجتهاد اليوم. انتهى.
قلت: وفي كلام هذا المحقق ما لا يخف على الفطن، أما قوله: يفضي إلى حرج عظيم إلخ فغير مسلم، فإن من حدثت له الحادثة لا يتعذر عليه أن يستفتي من يعرف ما شرعه الله في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البحر المحيط 6/ 297.
2 أخرجه مسلم من حديث المقداد، كتاب الحيض، باب المذي 303. وأبو داود، كتاب الطهارة، باب في المذي 207. والنسائي، كتاب الطهارة 1/ 97 وابن ماجه،كتاب الطهارة وسننها 505. والبيهقي، كتاب الطهارة، باب الوضوء من الودي والمذي 1/ 115. وابن حبان في صحيحه 1101. وابن خزيمة في صحيحه 21. وأحمد في مسنده 6/ 5.(5/425)
ص -249-…المسألة في كتابه، أو على لسان رسوله، كما يمكنه أن يسأل من يعرف مذهب مجتهد من الأموات عن رأي ذلك المجتهد في حادثته.
وأما استدلاله على الجواز بقوله: لأن ذلك مما يغلب على ظن العامي إلخ، فمن أغرب ما يسمعه السامع، لا سيما عن مثل هذا الإمام، وأي ظن لهذا العامي بالنسبة إلى الأحكام الشرعية، وأي تأثير لظنون العامة، الذين لا يعرفون الشريعة، ومعلوم أن ظن غالبهم لا يكون إلا فيما يوافق هواه {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ}1.
وأما قوله مع العلم الضروري، بأن نساء الصحابة إلخ، فنقول: نعم ذلك أمر ضروري، فكان ماذا، فإن ذلك ليس باستفتاء عن رأي من ليس بحجة، بل استفتاء عن الشرع في ذلك الحكم، فإن كان المسول يعلمه رواه للسائل، وإن لم يعلمه أحال "السائل"* على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو على من يعلمه من أصحابه، وهكذا فيمن بعدهم، ونحن لا نطلب من العامي والمقصر إذا نابته نائبة وحدثت له حادثة إلا أن يفعل هكذا، فيسأل علماء عصره، كما كان الصحابة والتابعون فتابعوهم يسألون أهل العلم فيهم، وما كانوا يسألونهم عن مذاهبهم، ولا عما يقولونه بمحض الرأي.
فإن قلت: ليس مراد هذا المحقق إلا أنهم يستفتون المقلد عما صح لذلك المجتهد بالدليل.
قلت: إذا كان مراده هذا، فأي فائدة لإدخال "المجتهد"** في البين، وما ثمرة ذلك، فينبغي له أن يسأل عن الثابت في الشريعة ويكون المسئول "ممن"*** لا يجهله، فيفتيه حينئذ بفتوى قرآنية، أو نبوية، ويدع السؤال عن مذاهب النسا، ويستغني بمذهب إمامهم الأول، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما إرسال علي للمقداد فهو إنما أرسله ليروي له ما يقوله الصادق المصدوق، المعصوم عن الخطأ، وأين هذا مما نحن بصدده.(5/426)
وأما قوله: وقد أطبق الناس على تنفيذ أحكام القضاة، مع عدم شرائط الاجتهاد، فيجاب عنه: بأن هذا الإطباق إن كان من المجتهدين فممنوع، وإن كان من العامة المقلدين فلا اعتبار به، وعلى كل حال فغير المجتهد لا يدري بحكم الله في تلك الحادثة، وإذا لم "يدر به"**** فهو حاكم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": السؤال.
** في "أ": المجتهدين.
*** في "أ": فيمن.
**** في "أ": لم يدره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية 71 من سورة المؤمنون.(5/427)
ص -250-…بالجهل، "والحكم بالجهل"* ليس بحجة على أحد.
وذهبت طائفة إلى أنه يجوز للمقلد أن يفتي إذا عدم المجتهد، وإلا فلا.
وقال آخرون: إنه يجوز للمقلد الحي أن يفتي بما شافهه به أو ينقله إليه موثوق بقوله، أو وجده مكتوبا في كتاب معتمد عليه، ولا يجوز له تقليد الميت.
قال الروياني، والماوردي: إذا علم العامي حكم الحادثة ودليلها، فهل له أن يفتي؟ فيه أوجه:
ثالثها:
إن كان الدليل نصًّا من كتاب أو سنة جاز، وإن كان نظرا واستنباطا لم يجز
قالا: والأصح أنه لا يجوز مطلقًا؛ لأنه قد يكون هناك دلالة تعارضها أقوى منها.
وقال الجويني في "شرح الرسالة": من حفظ نصوص الشافعي، وأقوال الناس بأسرها، غير أنه لا يعرف حقائقها ومعانيها؛ لا يجوز له أن يجتهد ويقيس، ولا يكون من أهل الفتوى، ولو أفتى فإنه لا يجوز.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
المسألة الخامسة: حكم سؤال العالم بالكتاب والسنة(5/428)
إذا تقرر لك أن العامي يسأل العالم، والمقصر يسأل الكامل، فعليه أن يسأل أهل العلم المعروفين بالدين، وكمال الورع، عن العالم بالكتاب والسنة، العارف بما فيهما، المطلع على ما يحتاج إليه في فهمهما، من العلوم الآلية، حتى يدلوه عليه، ويرشدوه إليه، فيسأله عن حادثته "طالبا"* منه أن يذكر له فيها ما في كتاب الله سبحانه، أو ما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فحينئذ يأخذ الحق من معدنه، ويستفيد الحكم من موضعه، ويستريح من الرأي الذي لا يأمن المتمسك به أن يقع في الخطأ، المخالف للشرع، المباين للحق، ومن سلك هذا المنهج، ومشى في هذا الطريق، لا يعدم مطلبه، ولا يفقد من يرشده إلى الحق، فإن الله سبحانه وتعالى قد أوجد لهذا الشأن من يقوم به، ويعرفه حق معرفته، وما من مدينة من المدائن إلا وفيها جماعة من علماء الكتاب والسنة، وعند ذلك يكون حكم هذا المقصر حكم المقصرين من الصحابة، والتابعين، وتابعيهم، فإنهم كانوا يستروون النصوص من العلماء، ويعملون على ما يرشدونهم إليه، ويدلونهم عليه، وقد ذكر أهل الأصول أنه يكفي العامي في الاستدلال على من له أهلية الفتوى بأن يرى الناس متفقين على سؤاله، مجتمعين على الرجوع إليه، ولا يستفتي من "كان"** مجهول.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": طلب.
** في "أ": هو.(5/429)
ص -251-…الحال، كما صرح به الغزالي، والآمدي، وابن الحاجب.
وحكى في "المحصول" الاتفاق على المنع، وشرط القاضي إخبار من يوجب خبره العلم بكونه عالما في الجملة، ولا يكفي خبر الواحد والاثنين، وخالفه غيره في ذلك، فاكتفوا بخبر عدلين، وممن صرح بذلك صاحب "المنخول"*، فقال: واشتراط تواتر الخبر بكونه مجتهدا، كما قاله الأستاذ غير سديد، واشترط القاضي، وجماعة من المحققين امتحانه بالمسائل المتفرقة، ومراجعته فيها، فإن أصاب في الجواب غلب على ظنه كونه مجتهدا، وذهب جماعة من الشافعية إلى أنها تكفي الاستفاضة بين الناس.
قال ابن برهان في "الوجيز": قيل: يقول له مجتهد أنت، وأقلدك؟ فإن إجابة قلده. قال: وهذا أصح المذاهب، وجزم الشيخ أبو إسحاق الشيرازي بأنه يكفيه خبر العدل الواحد من فقهه وأمانته؛ لأن طريقه طريق الإخبار. انتهى.
وإذا كان في البلد جماعة متصفون بهذه الصفة، المسوغة للأخذ عنهم، فالمستفتي مخير بينهم، كما صرح به عامة أصحاب الشافعي.
قال الرافعي: وهو الأصح.
وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني وإلكيا: إنه يبحث عن الأعلم منهم، فيسأله، وقد سبقه إلى القول بذلك ابن سريج، والقفال، قالوا: لأن الأعلم أهدى إلى أسرار الشرع.
وإذا اختلف عليه فتوى علماء عصره، فقيل: هو مخير يأخذ بما شاء منها، وبه قال أكثر أصحاب الشافعي، وصححه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، والخطيب البغدادي، وابن الصباغ، والقاضي، والآمدي.
واستدلوا بإجماع الصحابة على عدم إنكار العمل بقول المفضول، مع وجود الأفضل.
وقيل: يأخذ بالأغلظ، حكاه الأستاذ أبو منصور، عن أهل الظاهر.
وقيل: يأخذ بالأخف.
وقيل: يبحث عن الأعلم منهم، فيأخذ بقوله، وهو قول من قال: إنه يبحث عن الأعلم كما تقدم.
وقيل: يأخذ بقول الأول، حكاه الروياني.
وقيل: يأخذ بقول من يعمل على الرواية دون الرأي، حكاه الرافعي.
وقيل: يجب عليه أن يجتهد فيما يأخذ، مما اختلفوا فيه، حكاه ابن السمعاني.(5/430)
وقيل: إن كان في حق الله أخذ بالأخف، وإن كان في حق العباد أخذ بالأغلظ، حكاه الأستاذ أبو منصور.
وقيل: إنه يسأل المختلفين عن حجتهما إن اتسع عقله لفهم ذلك، فيأخذ بأرجح الحجتين عنده، وإن لم يتسع عقله لذلك أخذ بقول المعتبر عنده، قاله الكعبي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".(5/431)
ص -252-…المسألة السادسة: حكم الالتزام بمذهب معين
اختلف المجوزون للتقليد، هل يجب على العامي التزام مذهب معين في كل واقعة؟
فقال جماعة منهم: يلزمه؛ ورجحه إلكيا.
وقال آخرون: لا يلزمه، ورجحه ابن برهان والنووي.
واستدلوا بأن الصحابة رضي الله عنهم لم ينكروا على العامة تقليد بعضهم في بعض المسائل، وبعضهم في البعض الآخر.
وذكر بعض الحنابلة أن هذا مذهب أحمد بن حنبل، فإنه قال لبعض أصحابه: لا تحمل الناس على مذهبك فَيُحرجوا، دعهم يترخصوا بمذاهب الناس.
وسئل عن مسألة من الطلاق فقال: يقع يقع، فقال له السائل: فإن أفتاني أحد أنه لا يقع يجوز؟ قال: نعم. وقال: وقد كان السلف يقلدون من شاءوا قبل ظهور المذاهب1.
وقال ابن المنير: الدليل يقتضي التزام مذهب معين بعد الأربعة، لا قبلهم. انتهى.
وهذا التفصيل مع زعم قائله أنه اقتضاه الدليل من أعجب ما يسمعه السامعون، وأغرب ما يعتبر به المنصفون.
أما إذا التزم العامي مذهبا معينا فلهم في ذلك خلاف آخر، وهو أنه هل يجوز له أن يخالف إمامة في بعض المسائل، ويأخذ بقول غيره؟
فقيل: لا يجوز.
وقيل: يجوز.
وقيل: إن كان قد عمل بالمسألة لم يجز له الانتقال، وإلا جاز.
وقيل: إن كان بعد حدوث الحادثة التي قلد فيها لم يجز له الانتقال، وإلا جاز، واختار هذا إمام الحرمين.
وقيل: إن غلب على ظنه أن مذهب غير إمامه في تلك المسألة أقوى من مذهبه جاز له، وإلا لم يجز، وبه قال القدوري الحنفي2.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البحر المحيط 6/ 309.
2 هو أحمد بن محمد بن جعفر القدوري، أبو الحسين، البغدادي، والقدوري نسبة إلى قرية من قرى بغداد ويقال لها: قدور، وقيل: نسبة إلى بيع القدور، ولد سنة اثنتين وستين وثلاثمائة هـ وتوفي سنة ثمان وعشرين وأربعمائة هـ، من آثاره:كتاب المختصر المشهور ا. هـ الفوائد البهية 30، والجواهر المضية 1/ 247 سير أعلام النبلاء 17/ 574.(5/432)
ص -253-…وقيل: إن كان المذهب الذي أراد الانتقال إليه مما ينقض الحكم لم يجز له الانتقال، وإلا جاز، واختاره ابن عبد السلام.
وقيل: يجوز بشرط أن ينشرح له صدره، وأن لا يكون قاصدا للتلاعب، وأن لا يكون ناقضا لما قد حكم عليه به، واختاره ابن دقيق العيد.
وقد ادعى الآمدي، وابن الحاجب: أنه يجوز قبل العلم، لا بعده بالاتفاق.
واعترض عليهما: بأن الخلاف جار فيما ادعيا الاتفاق عليه.
أما لو اختار المقلد من كل مذهب ما هو الأهون عليه، والأخف له، فقال أبو إسحاق المروزي: يفسق.
وقال ابن أبي هريرة: لا يفسق.
قال الإمام أحمد بن حنبل: لو أن رجلا عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدينة في السماع، وأهل مكة في المتعة، كان فاسقا. وخص القاضي من الحنابلة التفسيق بالمجتهد، إذا لم يؤد اجتهاده إلى الرخصة، واتبعها العامي العامل بها من غير تقليد؛ لإخلاله بفرضه وهو التقليد، فإما العامي إذا قلد في ذلك فلا يفسق؛ لأنه قلد من سوغ اجتهاده.
وقال ابن عبد السلام: "إنه"* ينظر إلى الفعل الذي فعله؛ فإن كان مما اشتهر تحريمه في الشرع أثم، وإلا لم يأثم.
وفي "السنن" للبيهقي عن الأوزاعي: "من أخذ بنوادر العلماء خرج عن الإسلام". وروي عنه أنه قال: "يترك من قول أهل مكة المتعة، والصرف، ومن قول أهل المدينة السماع، وإتيان النساء في أدبارهن، ومن قول أهل الشام الحرب والطاعة، ومن قول أهل الكوفة النبيذ"1.
وحكى البيهقي عن إسماعيل القاضي2 قال: "دخلت على المعتضد3 فرفع إليَّ كتابا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البيهقي في سننه في كتاب الشهادات باب ما تجوز به شهادة أهل الأهواء 10/ 211.(5/433)
2 هو إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد، شيخ الإسلام، العلامة، المحدث أبو إسحاق الحافظ، ولد سنة تسع وتسعين ومائة هـ، كان قاضي بغداد، من آثاره "أحكام القرآن" "معاني القرآن" "كتاب في القراءات"، توفي سنة اثنتين وثمانين ومائتين هـ. ا. هـ سير أعلام النبلاء 13/ 339 الجرح والتعديل 2/ 158، شذرات الذهب 2/ 187 تذكرة الحفاظ 2/ 625.
3 هو الخليفة، أحمد بن طلحة، أبو العباس، ولد سنة اثنتين وأربعين ومائتين هـ، كان ملكا، مهيبا، شجاعا، جبارا، شديد الوطأة، يقدم على الأسد وحده، وكان إذا غضب على أمير حفر له حفرة وألقاه حيا وطم عليه، وكانت وفاته سنة تسع وثمانين ومائتين. ا. هـ سير أعلام النبلاء 13/ 463 شذرات الذهب 2/ 199 الكامل لابن الأثير 1/ 194.(5/434)
ص -254-…"نظرت"* فيه، وقد جُمِع فيه الرخص، من زلل العلماء وما احتج به كل منهم، فقلت: مصنف هذا زنديق، فقال: لم تصح هذه الأحاديث؟ "فقلت: الأحاديث"** على ما رويت، ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح الغناء والمسكر، وما من عالم إلا وله زلة، ومن جمع زلل العلماء، ثم أخذ بها ذهب دينه، فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": لطرق.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".(5/435)
ص -257-…المقصد السابع: في التعادل والترجيح
المبحث الأول: في معناهما، وفي العمل بالترجيح، وفي شروطه
أما التعادل: فهو التساوي، وفي الشرع استواء الأمارتين.
وأما الترجيح: فهو إثبات الفضل في أحد جانبي المتقابلين، أو جعل الشيء راجحا، ويقال مجازا لاعتقاد الرجحان.
وفي الاصطلاح: اقتران الأمارة بما تقوى على معارضتها.
قال في "المحصول": الترجيح تقوية أحد الطرفين على الآخر، فيعلم الأقوى فيعمل به، ويطرح الآخر، وإنما قلنا طرفين؛ لأنه لا يصح الترجيح بين الأمرين إلا بعد تكامل كونهما "طريقين لو*" انفرد كل واحد منهما فإنه لا يصح ترجيح الطرف على ما ليس بطرف. انتهى.
والقصد منه تصحيح الصحيح، وإبطال الباطل.
قال الزركشي في "البحر": اعلم أن الله لينصب على جميع الأحكام الشرعية أدلة قاطعة، بل جعلها ظنية، قصدا للتوسيع على المتكلفين، لئلا ينحصروا في مذهب واحد، لقيام الدليل القاطع عليه، وإذا ثبت أن المعتبر في الأحكام الشرعية الأدلة الظنية، فقد تتعارض في الظاهر، بحسب جلائها وخفائها، فوجب الترجيح بينهما، والعمل الأقوى. والدليل على تعيين الأقوى أنه إذا تعارض دليلان، وأمارتان، فإما أن يعملا جميعا، أو "يلغيا جميعًا، أو"** يعمل بالمرجوح أو الراجح، وهذا متعين.
قال: أما حقيقته، يعني التعارض فهو تفاعل، من العُرض، بضم العين، وهو الناحية والجهة، كأن الكلام المتعارض يقف بعضه في عُرض بعض، أي ناحيته وجهته، فيمنعه من النفوذ إلى حيث وجه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": طرفين أو.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".(5/436)
ص -258-…وفي الإصطلاح: تقابل الدليلين على سبيل الممانعة.
وللترجيح شروط:
الأول:
التساوي في الثبوت، فلا تعارض بين الكتاب وخبر الواحد إلا من حيث الأدلة.
الثاني:
التساوي في القوة، فلا تعارض بين المتواتر والآحاد، بل يقدم المتواتر بالاتفاق، كما نقله إمام الحرمين.
الثالث:
اتفاقهما في الحكم، مع اتحاد الوقت والمحل والجهة، فلا تعارض بين النهي عن البيع مثلا في وقت النداء مع الإذن به في غيره.
وحكى إمام الحرمين في تعارض الظاهرين من الكتاب والسنة مذاهب:
أحدهما: يقدم الكتاب لخبر معاذ1.
وثانيهما: تقدم السنة؛ لأنها المفسرة للكتاب، والمبينة له.
وثالثها: التعارض، وصححه، واحتج عليه بالاتفاق، وزيف2 الثاني بأنه ليس الخلاف في السنة المفسرة للكتاب، بل المعارضة له.
وأقسام التعادل والترجيح بحسب القسمة العقلية عشرة؛ لأن الأدلة أربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، "والقياس"*.
فيقع التعارض بين الكتاب والكتب، وبين الكتاب والسنة، وبين الكتاب والإجماع، وبين الكتاب والقياس؛ فهذه أربعة.
ويقع بين السنة والسنة، وبين السنة والإجماع، وبين السنة والقياس؛ فهذه ثلاثة.
ويقع بين الإجماع والإجماع، وبين الإجماع والقياس، وبين القياسين؛ فهذه ثلاثة، والجميع عشرة.
قال الرازي في "المحصول": الأكثرون اتفقوا على جواز التمسك بالترجيح، وأنكره بعضهم، وقال: عند التعارض يلزم التخيير، أو التوقف، لنا وجوه:
الأول:
إجماع الصحابة على العمل بالترجيح، فإنهم قدموا خبر عائشة بوجوب الغسل عند التقاء الختانين3 على خبر "الماء من الماء"4، وقدموا خبر من روى من أزواجه أنه كان صلى الله عليه وسلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه في الصفحة 1/ 152.
2 وهنا معناها مجازي لأن أصل الزيف هو في الدراهم. يقال: زافت عليه دراهمه أي رُدَّت لغش فيها. ا. هـ.(5/437)
3 تقدم تخريجه في 2/ 77.
4 تقدم تخريجه في 2/ 77.(5/438)
ص -259-…يصبح جنبا1 على ما روى أبو هريرة أنه "من أصبح جنبا فلا صوم له"2.
وقبل علي خبر أبي بكر ولم يحلفه، وكان لا يقبل من غيره إلا بعد تحليفه3، وقيل أبو بكر خبر المغيرة في ميراث الجدة لموافقة محمد بن مسلمة له4.
وقبل عمر خبر أبي موسى في الاستئذان لموافقة أبي سعيد الخدري له5.
الثاني:
أن الظَّنَّين إذا تعارضا، ثم ترجح أحدهما على الآخر، كان العمل بالراجح متعينا عرفا، فيجب شرعا، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن"6.
الثالث:
أنه لو لم يعمل بالراجح، لزم العمل بالمرجوح على الراجح، وترجيح المرجوح على الراجح ممتنع في بداهة العقل.
واحتج المنكر بأمرين:
أحدهما: أن الترجيح لو اعتبر في الأمارات لاعتبر في البينات والحكومات؛ لأنه لو اعتبر لكانت العلة في اعتباره ترجيح الأظهر على الظاهر، وهذا المعنى قائم هنا.
الثاني: أن قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}7 وقوله صلى الله عليه وسلم: "نحن نحكم بالظاهر"8 يقتضي إلغاء زيادة الظن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البيهقي من حديث أم سلمة، كتاب الصيام، باب من أصبح جنبا في شهر رمضان 4/ 215.
وأحمد في مسنده 6/ 306. ابن حبان في صحيحه 3500. وابن أبي شيبة 3/ 81.
2 أخرجه البخاري، كتاب الصيام، باب الصائم يصبح جنبا 1925. ومسلم، كتاب الصيام، باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب 1109. والنسائي في الصيام كما في التحفة 12/ 341. وعبد الرزاق في مصنفه 7398. والبيهقي،كتاب الصيام، باب من أصبح جنبا في شهر رمضان 4/ 214.(5/439)
ومالك في الموطأ، كتاب الصيام، باب ما جاء في صيام الذي يصبح جنبا في رمضان 1/ 290. وابن حبان في صحيحه 3486. وفي حديث مسلم 1109 قال: فرجع أبو هريرة عما كان يقول في ذلك والذي عند ابن أبي شيبة: أن أبا هريرة رجع عن فتياه "من أصبح جنبا فلا صوم له". والذي عند البيهقي: أن أبا هريرة رضي الله عنه رجع عن قوله قبل موته.
3 ذكره الرازي في المحصول 2/ 235.
4 أخرجه أبو داود من حديث قبيصة بن ذؤيب، كتاب الفرائض، باب ميراث الجدة 2894. ومالك في الموطأ، كتاب الفرائض، باب ميراث الجدة 2/ 513. وابن ماجه، كتاب الفرائض، باب ميراث الجدة 2724. والبيهقي، كتاب الفرائض، باب فرض الجدة والجدتين 6/ 234. والنسائي في الفرائض كما في التحفة 8/ 361. والترمذي 2100. وابن حبان في صحيحه 6031. وابن أبي شيبة 11/ 320.
5 أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب الخروج في التجارة 2063. وأبو داود، كتاب الأدب، باب كم مرة يسلم الرجل في الاستئذان 5182. ومالك،كتاب الاستئذان، باب الاستئذان 2/ 964. وأحمد في مسنده 4/ 398، 4/ 400. وابن حبان في صحيحه 5807.
6 تقدم تخريجه في 1/ 346.
7 جزء من الآية 2 من سورة الحشر.
8 تقدم تخرجيه في 1/ 148.(5/440)
ص -260-…والجواب عن الأول والثاني: أن ما ذكرتموه دليل ظني، وما ذكرناه قطعي، والظني لا يعارض القطعي. انتهى.
وما ذكره من الأحاديث ههنا صحيح إلا حديث: "ما رآه المسلمون حسنا" وحديث: "نحن نحكم بالظاهر" فلا أصل لهما، لكن معناهما صحيح، وقد ورد في أحاديث أخر ما يفيد ذلك كما في قوله صلى الله عليه وسلم للعباس لما قال له إنه خرج يوم بدر مكرها، فقال: "كان ظاهرك علينا"1، وكما في قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما أقضي بما أسمع"2 وكما في أمره صلى الله عليه وسلم بلزوم الجماعة وذم من خرج عنها، وأمره بلزوم السواد الأعظم3.
ويجاب عما ذكره المنكرون بجواب أحسن مما ذكره، أما عن الأول: فيقال: نحن نقول بموجب ما ذكرتم، فإن ظهر الترجيح لإحدى البينتين على الأخرى، أو لأحد الحكمين على الآخر، كان العمل على الراجح.
وأما عن الثاني: فيقال: لا دلالة على محل النزاع في الآية، بوجه من الوجوه، وما قوله: "نحن نحكم بالظاهر" "فلا يبقى" * الظاهر ظاهرا بعد وجود ما هو أرجح منه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "ب": فلم يبق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه في 1/ 149.
2 تقدم تخريجه في 1/ 149.
3 أخرجه الترمذي من حديث ابن عمر، كتاب الفتن، باب ما جاء في لزوم الجماعة 2167. وابن ماجه عن أنس رضي الله عنه، كتاب الفتن، باب السواد الأعظم 3950. والحاكم بنحوه، كتاب العلم 1/ 116 بلفظ: "لا يجمع الله هذه الأمة -أو قال: أمتي- على الضلالة أبدا واتبعوا السواد الأعظم فإنه من شذ شذ في النار". والبغوي في مصابيح السنة، كتاب الإيمان، باب الاعتصام بالكتاب والسنة برقم 136.
المبحث الثاني: في التعارض بين دليلين قطعيين
أنه لا يمكن التعارض بين دليلين قطعيين اتفاقا، سواء كانا عقليين أو نقليين، هكذا حكى الاتفاق الزركشي في "البحر".
قال الرازي في "المحصول": الترجيح لا يجوز في الأدلة اليقينية لوجهين:(5/441)
الأول:
أن شرط اليقيني أن يكون مركبا من مقدمات ضرورية، أو لازمة عنها لزوما ضروريا: إما بواسطة واحدة، أو وسائط شأن كل واحدة منها ذلك، وهذا لا يتأتى إلا عند اجتماع علوم أربعة.(5/442)
ص -261-…الأول: العلم الضروري بأحقية المقدمات، إما ابتداء أو انتهاء.
والثاني: العلم الضروري "بصحة تركيبها.
والثالث: العلم الضروري بلزوم النتيجة عنها.
والرابع: العلم الضروري"* بأن ما يلزم عن الضروري لزوما ضروريا فهو ضروري.
فهذه العلوم الأربعة يستحيل حصولها في النقيضين معا، وإلا لزم القدح في الضروريات، وهو سفسطة، وإذا علم ثبوتها امتنع التعارض.
الثاني:
الترجيح عبارة عن التقوية، والعلم اليقيني لا يقبل التقوية؛ لأنه إن قارنه احتمال النقيض، ولو على أبعد الوجوه، كان ظنا لا علما، وإن لم يقارنه ذلك لم يقبل التقوية. انتهى.
وقد جعل أهل المنطق شروط التناقض في القضايا الشخصية ثمانية: اتحاد الموضوعان والمحمول، والإضافة، والكل، والجزء، في القوة والفعل، وفي الزمان، والمكان.
وزاد بعض المتأخرين "تاسعا"* وهو: اتحادهما في الحقيقة والمجاز، نحو قوله تعالى: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى}1 ورد هذا بعضهم بأنه راجع إلى وحدة الإضافة، أي: تراهم بالإضافة إلى أهوال يوم القيامة سكارى، مجازا، وما هم بسكارى، بالإضافة إلى الخمر.
ومنهم من رد الثمانية إلى ثلاثة: الاتحاد في الموضوع، والمحمول، والزمان.
ومنهم من ردها إلى اثنين: الاتحاد في الموضوع، والمحمول؛ لاندراج وحدة الزمان تحت وحدة المحمول.
ومنهم من ردها إلى أمر واحد، وهو الاتحاد في النسبة.
وهذه الشروط على هذا الاختلاف فيها لا يخص الضروريات، وإنما ذكرناها ههنا لمزيد الفائدة بها.
ومما لا يصح التعارض فيه إذا كان أحد المتناقضين قطعيا، والآخر ظنيا؛ لأن الظن ينتفي بالقطع النقيض، وإنما يتعارض الظنيان، سواء كان المتعارضان نقليين، أو عقليين، أو كان أحدهما نقليا، والآخر عقليا، ويكون الترجيح بينهما بما سيأتي.
وقد منع جماعة وجود دليلين ينصبهما الله تعالى في مسألة متكافئين في نفس الأمر، بحيث
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(5/443)
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية 2 من سورة الحج.(5/444)
ص -262-…عمل المجتهد عند العجز عن الترجيح
واختلفوا على فرض وقوع التعادل في نفس الأمر، مع عجز المجتهد عن الترجيح بينهما وعدم وجود دليل آخر، فقيل: إنه مخير، وبه قال أبو علي، وأبو هاشم، ونقله الرازي، والبيضاوي عن القاضي أبي بكر الباقلاني.
وقيل: إنهما يتساقطان، ويطلب الحكم من موضع آخر، أو يرجع المجتهد إلى عموم، أو إلى البراءة الأصلية، ونقله إلكيا عن القاضي، ونقله الأستاذ أبو منصور عن أهل الظاهر، وبه قطع ابن كج، وأنكر ابن حزم نسبته إلى الظاهرية، وقال: إنما هو قول بعض شيوخنا وهو خطأ، بل(5/445)
ص -263-…الواجب الأخذ بالزائد إذا لم يقدر على استعمالهما جميعا.
وقيل: إن كان التعارض بين حديثين تساقطا، ولا يعمل بواحد منهما، وإن كان بين قياسين فيخير، حكاه ابن برهان في "الوجيز" عن القاضي ونصره.
وقيل: بالوقف، حكاه الغزالي، وجزم به سليم الرازي في "التقريب" واستبعده الهندي؛ إذ الوقف فيه لا إلى غاية وأمد؛ إذ لا يرجى فيه ظهور الرجحان، وإلا لم يكن من مسألتنا، بخلاف التعادل الذهني، فإنه يتوقف إلى أن يظهر المرجح.
وقيل: يأخذ بالأغلظ، حكاه الماوردي والروياني.
وقيل: يصير إلى التوزيع، إن أمكن تنزيل كل أمارة على أمر، حكاه الزركشي في "البحر".
وقيل: إن كان بالنسبة إلى الواجبات فالتخيير، وإن كان في الإباحة والتحريم فالتساقط، والرجوع إلى البراءة الأصلية، ذكره في "المستصفى".
وقيل: يقلد عالما أكبر منه، ويصير كالعامي لعجزه عن الاجتهاد، حكاه إمام الحرمين.
وقيل: إنه كالحكم قبل ورود الشرع، فتجيء فيه الأقوال المشهورة، حكاه إلكيا الطبري، فهذه تسعة مذاهب فيما كان متعارضا في نفس الأمر، مع عدم إمكان الترجيح.
المبحث الثالث: في وجوه الترجيح بين المتعارضين لا في نفس الأمر، بل في الظاهر
وقد قدمنا في المبحث الأول أنه متفق عليه، ولم يخالف في ذلك إلا من لا يعتد به.
ومن نظر في أحوال الصحابة، والتابعين، وتابعيهم، ومن بعدهم، وجدهم متفقين على العمل بالراجح وترك المرجوح، وقد سمى بعضهم هذا المخالف في العمل بالترجيح فقال هو البصري الملقب بـ"جُعَل"* كما حكاه القاضي، واستبعد الأبياري وقوع ذلك من مثله، وعلى كل حال فهو مسبوق بالإجماع على استعمال الترجيح في كل طبقة من طبقات "أهل"** الإسلام.(5/446)
وشرط القاضي في الترجيح شرطا غير ما قد ذكرنا في المبحث الأول، فقال: لا يجوز العمل بالترجيح المظنون؛ لأن الأصل امتناع العمل بشيء من الظنون، وخرج من ذلك الظنون المستقلة بأنفسها؛ لانعقاد إجماع الصحابة عليها، وما راء ذلك يبقى على الأصل، والترجيح.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": سحعل وهو تحريف.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".(5/447)
ص -264-…عمل بظن لا يستقل بنفسه "دليلا"*.
وأجيب عنه: بأن الإجماع انعقد على وجوب العمل بالظن الذي لا يستقل كما انعقد على المستقل.
ومن شروط الترجيح التي لا بد من اعتبارها أن لا يمكن الجمع بين المتعارضين بوجه مقبول، فإن أمكن ذلك تعين المصير إليه، ولم يجز المصير إلى الترجيح.
قال في "المحصول": العمل بكل منهما من وجه أولى من العمل بالراجح من كل وجه، وترك الآخر. انتهى.
وبه قال الفقهاء جميعا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
أنواع الترجيح:
واعلم: أن الترجيح قد يكون باعتبار الإسناد، وقد يكون باعتبار المتن، وقد يكون باعتبار المدلول، وقد يكون باعتبار أمر خارج، فهذه أربعة أنواع.
والنوع الخامس: الترجيح بين الأقيسة.
والنوع السادس: الترجيح بين الحدود السمعية.
النوع الأول: الترجيح باعتبار الإسناد1
الصورة الأولى:
الترجيح بكثرة الرواة، فيرجح ما رواته أكثر على ما رواته أقل، لقوة الظن به، وإليه ذهب الجمهور.
وذهب الشافعي في القديم إلى أنهما سواء وشبهه بالشهادات، وبه قال الكرخي.
قال إمام الحرمين: إن لم يمكن الرجوع إلى دليل آخر قطع باتباع الأكثر، فإنه أولى من الإلغاء؛ لأنا نعلم أن الصحابة لو تعارض لهم خبران هذه صفتهما لم يعطلوا الواقعة، بل كانوا يقدمون هذا.
قال: وأما إذا كان في المسألة قياس، وخبران متعارضان، كثرت رواة أحدهما، فالمسألة ظنية، والاعتماد على ما يؤدي إليه اجتهاد الناظر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البحر المحيط 6/ 150.(5/448)
ص -265-…وفي المسألة قول رابع صار "إليه"* القاضي، والغزالي، وهو أن الاعتماد على ما غلب على ظن المجتهد، فرب عدلٍ أقوى في النفس من عدلين، لشدة يقظته وضبطه. انتهى.
وهذا صحيح، لكن المفروض في الترجيح بالكثرة، وهو كون الأكثر من الرواة مثل الأقل في وصف العدالة ونحوها.
قال ابن دقيق العيد: هو مرجح من أقوى المرجحات، فإن الظن يتأكد عند ترادف الروايات، ولهذا يقوى الظن إلى أن يصير العلم به متواترا. انتهى.
أما لو تعارضت الكثرة من جانب، والعدالة من الجانب الآخر، ففيه قولان1:
أحدهما: ترجيح الكثرة.
وثانيهما: ترجيح العدالة، فإنه رب عدل يعدل ألف رجل في الثقة، كما قيل: إن شعبة بن الحجاج كان يعدل "مائتين"**، وقد كان الصحابة يقدمون رواية الصديق على رواية غيره.
النوع الثاني:
أنه يرجح ما كانت الوسائط فيه قليلة، وذلك بأن يكون إسناده عاليا؛ لأن الخطأ والغلط فيما كانت وسائطه أقل، دون ما كانت وسائطه أكثر.
النوع الثالث:
أنها ترجح رواية الكبير على رواية الصغير؛ لأنه أقرب إلى الضبط، إلا أن يعلم أن الصغير مثله في الضبط، وأكثر ضبطا منه.
النوع الرابع: "أنها"*** ترجح رواية من كان فقيها على من لم يكن كذلك، لأنه أعرف بمدلولات الألفاظ.
النوع الخامس:
"أنها"**** ترجح رواية من كان عالما باللغة العربية؛ لأنه أعرف بالمعنى ممن لم يكن كذلك.
النوع السادس:
أن يكون أحدهما أوثق من الآخر.
النوع السابع:
أن يكون أحدهما أحفظ من الآخر.
النوع الثامن:
أن يكون أحدهما من الخلفاء الأربعة دون الآخر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": فيه.
** في "أ": مائة.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
**** في "أ": أنه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقد أسند صاحب البحر هذين القولين لإلكيا الطبري ا. هـ انظر البحر 6/ 151.(5/449)
ص -266-…النوع التاسع:
أن يكون أحدهما متبعا والآخر مبتدعا.
النوع العاشر:
أن يكون أحدهما صاحب الواقعة؛ لأنه أعرف بالقصة.
النوع الحادي عشر:
أن يكون أحدهما مباشرا لما رواه دون الآخر1.
النوع الثاني عشر:
أن يكون أحدهما كثير المخالطة للنبي صلى الله عليه وسلم دون الآخرة؛ لأن كثرة المخالطة تقتضي زيادة في الاطلاع.
النوع الثالث عشر:
أن يكون أحدهما أكثر ملازمة للمحدثين من الآخر.
النوع الرابع عشر:
أن يكون أحدهما قد طالت صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم دون الآخر.
النوع الخامس عشر:
أن يكون أحدهما قد ثبتت عدالته بالتزكية، والآخر بمجرد الظاهر.
النوع السادس عشر:
أن يكون أحدهما قد ثبتت عدالته بالممارسة والاختبار، والآخر بمجرد التزكية، فإنه ليس الخبر كالمعاينة.
النوع السابع عشر:
أن يكون أحدهما قد وقع الحكم بعدالته دون الآخر.
النوع الثامن عشر:
أن يكون أحدهما قد عدل مع ذكر أسباب التعديل، والآخر عدل بدونها.
النوع التاسع عشر:
أن يكون المزكون لأحدهما أكثر من المزكين للآخر.
النوع العشرون:
أن يكون المزكون لأحدهما أكثر بحثا عن أحوال الناس من المزكين للآخر.
النوع الحادي والعشرون:
أن يكون المزكون لأحدهما أعلم من المزكين للآخر؛ لأنه مزيد العلم له مدخل في الإصابة.
النوع الثاني والعشرون:
أن يكون أحدهما قد حفظ اللفظ، فهو أرجح ممن روى بالمعنى، أو اعتمد على الكتابة، وقيل: إن رواية من اعتمد على الكتابة أرجح من رواية من اعتمد على الحفظ.
النوع الثالث والعشرون:
أن يكون أحدهما أسرع حفظا من الآخر، وأبطأ نسيانا منه، فإنه أرجح، أما لو كان أحدهما أسرع حفظا، وأسرع نسيانا، والآخر أبطأ حفظا، وأبطأ نسيانا، فالظاهر أن الآخر أرجح من الأول؛ لأنه يوثق بما حفظه ورواه وثوقا زائدا على ما رواه الأول2.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(5/450)
1 مثاله: ترجيح خبر أبي رافع في تزويج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة وهما حلالان على خبر ابن عباس لأن أبا رافع كان السفير بينهما. ا. هـ البحر المحيط 6/ 154.
2 حكى هذا القول إمام الحرمين عن إجماع أهل الحديث ومثله برواية عبيد الله بن عمر بن عبد العزيز على رواية عبد الله بن عمر بن عبد العزيز؛ لأن الشافعي قال بينهما فضل ما بين الدراهم والدنانير والتفضيل لعبيد الله. ا. هـ البحر المحيط 6/ 156.(5/451)
ص -267-…النوع الرابع والعشرون:
أنها ترجح رواية من يوافق الحافظ على رواية من يتفرد عنهم في كثير من رواياته.
النوع الخامس والعشرون:
أنها ترجح رواية من دام حفظه، وعقله ولم يختلط على من اختلط في آخر عمره، ولم يُعرف هل روى الخبر حال سلامته أو حال اختلاطه.
النوع السادس والعشرون:
أنها ترجح رواية من كان أشهر بالعدالة والثقة من الآخر؛ لأن ذلك "يمنعه"*من الكذب.
النوع السابع والعشرون:
أنها ترجح رواية من كان مشهور النسب على من لم يكن مشهورا؛ لأن احتراز المشهور عن الكذب أكثر.
النوع الثامن والعشرون:
أن يكون أحدهما معروف الاسم، ولم يلتبس اسمه باسم أحد من الضعفاء على من يلتبس اسمه باسم ضعيف.
النوع التاسع والعشرون:
أنها تقدم رواية من "تحمل بعد البلوغ على رواية من تحمل قبل البلوغ.
النوع الثلاثون:
أنها تقدم رواية من"**أخر إسلامه على من تقدم إسلامه؛ لاحتمال أن يكون ما رواه من تقدم إسلامه منسوخا، وهكذا قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وابن برهان، والبيضاوي، وقال الآمدي بعكس ذلك.
النوع الحادي والثلاثون:
أنها تقدم رواية الذكر على الأنثى؛ لأن الذكور أقوى فهما، وأثبت حفظا، وقيل: لا تقدم.
النوع الثاني والثلاثون: أنها تقدم رواية الحر على العبد؛ لأن تحرزه عن الكذب أكثر، وقيل: لا تقدم.
النوع الثالث والثلاثون:
أنها تقدم رواية من ذكر سبب الحديث على من لم يذكر سببه.
النوع الرابع والثلاثون:
أنها تقدم رواية من لم يختلف الرواة عليه على من اختلفوا عليه.
النوع الخامس والثلاثين:
أن يكون أحدهما أحسن استيفاء للحديث من الآخر، فإنها ترجح روايته.
النوع السادس والثلاثون:
أنها تقدم رواية من سمع شفاهًا على من سمع من وراء حجاب.
النوع السابع والثلاثون:
أن يكون أحد الخبرين بلفظ حدثنا وأخبرنا فإنه أرجح من لفظ أنبأنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ي "أ": يمنع.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".(5/452)
ص -268-…ونحوه، قيل: ويرجح لفظ حدثنا على لفظ أخبرنا.
النوع الثامن والثلاثون:
أنها تقدم رواية من سمع من لفظ الشيخ على رواية من سمع بالقراءة عليه.
النوع التاسع والثلاثون:
أنها تقدم رواية من روى بالسماع على رواية من روى بالإجازة.
النوع الأربعون:
أنها تقدم رواية من روى المسند على رواية من روى المرسل.
النوع الحادي والأربعون:
أنها تقدم الأحاديث التي في الصحيحين على الأحاديث الخارجة عنهما.
النوع الثاني والأربعون:
أنها تقدم رواية من لم ينكر عليه على رواية من أنكر عليه.
واعلم: أن وجوه الترجيح كثيرة، وحاصلها: أن ما كان أكثر إفادة للظن فهو راجح، فإن وقع التعارض في بعض هذه المرجحات، فعلى المجتهد أن يرجح بين ما تعارض منها.
الترجيح باعتبار المتن:
وأما المرجحات باعتبار المتن فهي أنواع:
النوع الأول:
أن يقدم الخاص على العام، كذا قيل، ولا يخفاك أن تقديم الخاص على العام بمعنى العمل به فيما تناوله، والعمل بالعام فيما بقى ليس من باب الترجيح، بل من باب الجمع، وهو مقدم على الترجيح.
النوع الثاني:
أنه يقدم الأفصح على الفصيح؛ لأن الظن بأنه لفظ النبي صلى الله عليه وسلم أقوى.
وقيل: لا يرجح بهذا؛ لأن البليغ يتكلم بالأفصح والفصيح.
النوع الثالث:
أن يقدم العام الذي لم يخصص على العام الذي قد خصص، كذا نقله إمام الحرمين عن المحققين، وجزم به سليم الرازي، وعللوا ذلك بأن دخول التخصيص يضعف اللفظ، ويصير به مجازا، قال الفخر الرازي؛ لأن الذي قد خصص قد أزيل عن تمام مسماه.
واعترض على ذلك الصفي الهندي: بأن المخصص راجح، من حيث كونه خاصا بالنسبة إلى العام، الذي لم يخصص، "واختار ابن المنير تقديم العام المخصوص على العام الذي لم يخصص"*؛ لأن المخصوص قد قلت أفراده، حتى قارب النص؛ إذ كان عام لا بد أن يكون نصًّا في أقل متناولاته.
النوع الرابع:
أنه يقدم العام الذي لم يرد على سبب على العام الوارد على سبب، كذا قال(5/453)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".(5/454)
ص -269-…إمام الحرمين في "البرهان"، وإلكيا، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي في "اللمع"، وسليم الرازي في "التقريب" والرازي في "المحصول". قالوا: لأن الوارد على غير سبب متفق على عمومه، والوارد على سبب مختلف في عمومه.
قال الصفي الهندي: ومن المعلوم أن هذا الترجيح إنما يتأتى بالنسبة إلى ذلك السبب، وأما بالنسبة إلى سائر الأفراد المندرجة تحت العامين فلا. انتهى1.
وفيه نظر؛ لأن الخلاف في عموم الوارد على سبب هو كائن في سائر الأفراد.
النوع الخامس:
أنها تقدم الحقيقة على المجاز، لتبادرها إلى الذهن، هذا إذا لم يغلب المجاز.
النوع السادس:
أنه يقدم المجاز الذي هو أشبه بالحقيقة على المجاز الذي لم يكن كذلك.
النوع السابع:
أنه يقدم ما كان حقيقة شرعية، أو عرفية على ما كان حقيقة لغوية. قال في "المحصول": وهذا ظاهر في اللفظ الذي "صار"* شرعيًّا، لا فيما لم يكن كذلك. كذا قال، ولا يخفى أن الكلام فيما صار شرعيًّا، لا فيما لا يثبت كونه شرعيًّا، فإنه خارج عن هذا.
النوع الثامن:
أنه يقدم ما كان مستغنيًا عن الإضمار في دلالته على ما هو مفتقر إليه.
النوع التاسع:
أنه يقدم الدال على المراد من وجهين على ما كان دالًّا على المراد من وجه واحد.
النوع العاشر:
أنه يقدم ما دل على المراد بغير واسطة على ما دل عليه بواسطة.
النوع الحادي عشر:
أنه يقدم ما كان فيه الإيماء إلى علة الحكم على ما لم يكن كذلك؛ لأن دلالة المعلل أوضح من دلالة ما لم يكن معللا.
النوع الثاني عشر:
أنه يقدم ما ذكرت فيه العلة متقدمة على ما ذكرت فيه العلة متأخرة، وقيل بالعكس.
النوع الثالث عشر:
أنه يقدم ما ذكر فيه معارضة على ما لم يذكر، كقوله: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها"2 على الدال على تحريم الزيارة مطلقًا.
النوع الرابع عشر:
أنه يقدم المقرون بالتهديد على ما لم يقرن به.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": قد صار.(5/455)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البحر المحيط 6/ 165.
2 تقدم تخريجه في 2/ 84.(5/456)
ص -270-…النوع الخامس عشر:
أنه يقدم المقرون بالتأكيد على ما لم يقرن به.
النوع السادس عشر:
أنه يقدم ما كان مقصودا به البيان على ما لم يقصد به.
النوع السابع عشر:
أنه يقدم مفهوم الموافقة على مفهوم المخالفة، وقيل بالعكس، "قيل"*: لا يرجح أحدهما على الآخر، والأول أولى.
النوع الثامن عشر:
أنه يقدم النهي على الأمر.
النوع التاسع عشر:
أنه يقدم النهي على الإباحة.
النوع العشرون:
أنه يقدم الأمر على الإباحة.
النوع الحادي والعشرون:
أنه يقدم الأقل احتمالا على الأكثر احتمالا.
النوع الثاني والعشرون:
أنه يقدم المجاز على المشترك.
النوع الثالث والعشرون:
أنه يقدم الأشهر في الشرع، أو اللغة، أو العرف، على غير الأشهر فيها.
النوع الرابع والعشرون:
أنه يقدم ما يدل بالاقتضاء على ما يدل بالإشارة، وعلى ما يدل بالإيماء على ما يدل بالمفهوم، موافقة ومخالفة.
النوع الخامس والعشرون:
أنه يقدم ما يتضمن تخصيص العام على ما يتضمن تأويل الخاص؛ لأنه أكثر.
النوع السادس والعشرون:
أنه يقدم المقيد على المطلق.
النوع السابع والعشرون:
أنه يقدم ما "كانت"** صيغة عمومه بالشرط الصريح، على ما كان صيغة عمومه بكونه نكره في سياق النفي، أو جمعا معرفا أو مضافا ونحوهما.
النوع الثامن والعشرون:
أنه يقدم الجمع المحلى والاسم الموصول على اسم الجنس المعرف باللام، لكثرة استعماله في المعهود، فتصير دلالته أضعف، على خلاف معروف في هذا، وفي الذي قبله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": ولا.
** في "أ": كان.
الترجيح باعتبار المد لول
وأما المرجحات باعتبار المدلول فهي أنواع.
النوع الأول:
أنه يقدم ما كان مقررا لحكم الأصل والبراءة على ما كان ناقلان وقيل(5/457)
ص -271-…بالعكس، وإليه ذهب الجمهور، واختار الأول الفخر الرازي، والبيضاوي1.
والحق ما ذهب إليه الجمهور.
النوع الثاني:
أن يكون أحدهما أقرب إلى الاحتياط، فإنه أرجح.
النوع الثالث:
أنه يقدم المثبت على المنفي، نقله إمام الحرمين عن جمهور الفقهاء؛ لأن مع المثبت زيادة علم، وقيل: يقدم النافي، وقيل: هما سواء، واختاره في "المستصفى".
النوع الرابع:
أنه يقدم ما يفيد سقوط الحد على ما يفيد لزومه.
النوع الخامس:
أنه يقدم ما كان حكمه أخف على ما كان حكمه أغلظ، وقيل بالعكس.
النوع السادس:
أنه يقدم ما لا تعم به البلوى على ما تعم به.
النوع السابع:
أن يكون أحدهما موجبا لحكمين، والآخر موجبا لحكم واحد، فإنه يقدم الموجب لحكمين، لاشتماله على زيادة لم ينقلها الآخر.
النوع الثامن:
أنه يقدم الحكم الوضعي على الحكم التكليفي؛ لأن الوضعي لا يتوقف على ما يتوقف عليه التكليفي، من أهلية المكلف.
وقيل بالعكس؛ لأن التكليفي أكثر مثوبة، وهي مقصودة للشارع.
النوع التاسع:
أنه يقدم ما فيه تأسيس على ما فيه تأكيد.
واعلم: أن المرجع في مثل هذه الترجيحات هو نظر المجتهد المطلق، فيقدم ما كان عنده أرجح على غيره إذا تعارضت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عبارة البحر المحيط: أن يكون أحد الخبرين مفيدًا لحكم الأصل والبراءة والثاني ناقلا فالجمهور على أنه يجب ترجيح الناقل 6/ 169.
الترجيح بحسب الأمور الخارجة:
وأما المرجحات بحسب الأمور الخارجة فهي أنواع:
النوع الأول:
أنه يقدم ما عضده دليل آخر على ما لم يعضده دليل آخر1.
النوع الثاني:
أن يكون أحدهما قولا والآخر فعلا، فيقدم القول؛ لأن له صيغة، والفعل لا صيغة له.
النوع الثالث: أنه يقدم ما كان فيه التصريح بالحكم، على ما لم يكن كذلك، كضرب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(5/458)
1 مثاله: تقديم "الحج والعمرة فريضتان" على رواية "العمرة تطوع" لموافقته لحكم القرآن من كتاب الله تعالى وهو قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}. ا. هـ البحر المحيط 6/ 175.(5/459)
ص -272-…الأمثال ونحوها، فإنها ترجح العبارة على الإشارة.
النوع الرابع:
أنه يقدم ما عمل أكثر السلف على ما ليس كذلك؛ لأن الأكثر أولى بإصابة الحق. وفيه نظر؛ لأنه لا حجة في قول الأكثر، ولا في عملهم، فقد يكون الحق في كثير من المسائل مع الأقل، ولهذا مدح الله القلة في غير موضع من كتابه.
النوع الخامس:
أن يكون أحدهما موافقا لعمل الخلفاء الأربعة دون الآخر، فإنه يقدم الموافق، وفيه نظر.
النوع السادس:
أن يكون أحدهما توارثه أهل الحرمين دون الآخر، وفيه نظر.
النوع السابع:
أن يكون أحدهما موافقا لعمل أهل المدينة، وفيه نظر أيضا1.
النوع الثامن:
أن يكون أحدهما موافقا للقياس دون الآخر، فإنه يقدم الموافق.
النوع التاسع:
أن يكون أحدهما أشبه بظاهر القرآن، دون الآخر، فإنه يقدم الأشبه.
النوع العاشر:
أنه يقدم ما فسره الراوي له بقوله أو فعله على ما لم يكن كذلك.
وقد ذكر بعض أهل الأصول مرجحات في هذا القسم زائدة على ما ذكرناه ههنا، وقد ذكرناه في الأنواع المتقدمة؛ لأنها بها ألصق، ومن أعظم ما يحتاج إلى المرجحات الخارجة إذا تعارض عمومان، بينهما عموم وخصوص من وجه، وذلك كقوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ}2 مع قوله: {أو مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}3 فإن الأولى خاصة في الأختين، عامة في الجمع بين الأختين في الملك، أو بعقد النكاح، والثانية عامة في الأختين وغيرهما، خاصة في ملك اليمين، وكقوله صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاة ونسيها فليصلها إذا ذكرها"4 مع نهيه عن الصلاة في الأوقات المكروهة5، فإن الأول عام في الأوقات، خاص في الصلاة المقضية، والثاني عام في الصلاة، خاص في الأوقات، فإن علم المتقدم من العموميين، والمتأخر منهما، كان المتأخر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البحر المحيط 6/ 179.
2 جزء من الآية 23 من سورة النساء.
3 جزء من الآية 3 من سورة النساء.(5/460)
4 تقدم تخريجه في 2/ 75.
5 أخرجه أبو داود من حديث عقبة بن عامر، كتاب الجنائز، باب الدفن عند طلوع الشمس وعند غروبها 3192. والترمذي، كتاب الجنائز، باب ما جاء في كراهة الصلاة على الجنازة عند طلوع الشمس وعند غروبها 1030. وابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في الأوقات التي لا يصلي فيها 1519. والدارمي، كتاب الصلاة، باب أي ساعات تكره فيهن الصلاة 1/ 333. والبيهقي، كتاب الصلاة، باب النهى عن الصلاة في هاتين الساعتين 2/ 454. وأحمد في مسنده 4/ 152. وأبو يعلى في مسنده 1756.(5/461)
ص -273-…ناسخا عند من يقول: إن العام المتأخر ينسخ الخاص المتقدم.
وأما من لا يقول ذلك فإنه يعمل بالترجيح بينهما.
وإن لم يعلم المتقدم منهما من المتأخر وجب الرجوع إلى الترجيح، على القولين جميعا، بالمرجحات المتقدمة.
وإذا استويا إسنادا ومتنا، ودلالة رجع إلى المرجحات الخارجية.
فإن لم يوجد مرجح خارجي وتعارضا من كل وجه فعلى الخلاف المتقدم: هل يخير المجتهد في العمل بأحدهما، أو يطرحهما، ويرجع إلى دليل آخر إن وجد، أو إلى البراءة الأصلية؟.
ونقل سليم الرزي عن أبي حنيفة أنه يقدم الخبر الذي فيه ذكر الوقت، ولا وجه لذلك.
قال ابن دقيق العيد: هذه المسألة من مشكلات الأصول، والمختار عند المتأخرين الوقف، إلا بترجيح يقوم على أحد اللفظين بالنسبة إلى الآخر، وكأن مرادهم الترجيح العام، الذي لا يخص مدلول العموم، كالترجيح بكثرة الرواة، وسائر الأمور الخارجة عن مدلول العموم، ثم حُكي عن الفاضل أبي سعيد محمد بن يحيى1 أنه ينظر فيهما، فإن دخل أحدهما تخصيص مجمع عليه فهو أولى بالتخصيص، وكذلك إذا كان أحدهما مقصودا بالعموم رجح على ما كان عمومه اتفاقيا.
قال الزركشي في "البحر": وهذا هو اللائق بتصرف الشافعي في أحادث النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة، فإنه قال: لما دخلها التخصيص بالإجماع في صلاة الجنازة ضعفت دلالتها، فتقدم عليه أحاديث المقضية، وتحية المسجد، وغيرهما، وكذلك نقول دلالة: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} على تحريم الجمع مطلقًا في النكاح والملك أولى من دلالة الآية الثانية على جواز الجمع في ملك اليمين؛ لأن هذه الآية ما سبقت لبيان حكم الجمع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(5/462)
1 هو ابن منصور النيسابوري، الشافعي، أبو سعيد، محيي الدين، ولد سنة ست وسبعين وأربعمائه هـ، وتوفي سنة ثمان وأربعين وخمسمائة هـ، من آثاره "المحيط في شرح الوسيط" ا. هـ معجم المؤلفين 12/ 112. سير أعلام النبلاء 20/ 312 الأعلام 7/ 137.
الترجيح بين الأقسية:
وأما الترجيح بين الأقيسة: فلا خلاف "أنه يكون"* بين ما هو معلوم منها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": لا يكون.(5/463)
ص -274-…وأما ما كان مظنونا، فذهب الجمهور إلى أنه يثبت الترجيح بينها، وحكى امام الحرمين عن القاضي أنه ليس في الأقيسة المظنونة ترجيح، وإنما المظنون على حسب الاتفاق، قال إمام الحرمين: "وبناء"* على أصله أنه ليس في مجال المظنون مطلوب، وإذا لم يكن فيها مطلوب فلا طريق على التعيين، وإنما المظنون على حسب الوفاق.
قال إمام الحرمين: وهذه هفوة عظيمة، ثم ألزمه القول بأنه لا أصل للاجتهاد.
قال الزركشي1: والحق أن القاضي لم يرد ما حكاه عنه، وقد عقد فصولا في "التقريب" في تقديم بعض العلل على بعض، فعلم أنه ليس يعني إنكار الترجيح فيها، وإنما مراده أنه لا يقدم نوع على نوع، على الإطلاق، بل ينبغي أن يرد الأمر في ذلك إلى ما "يظنه"** المجتهد راجحا، والظنون تختلف، فإنه قد يتفق في آحاد النوع القوي شيء يتأخر عن النوع الضعيف. انتهى.
والترجيح بين الأقيسة يكون على نوع:
النوع الأول:
بحسب العلة.
النوع الثاني:
بحسب الدليل الدال على وجود العلة
النوع الثالث:
بحسب الدليل الدال على علية الوصف للحكم.
النوع الرابع:
بحسب دليل الحكم.
النوع الخامس:
بحسب كيفية الحكم.
النوع السادس:
بحسب الأمور الخارجة.
النوع السابع:
بحسب الفرع.
1- أما الترجيح بينها بحسب العلة، فهو أقسام:
الأول:
أنه يرجح القياس المعلل بالوصف الحقيقي الذي هو مظنة الحكمة على القياس المعلل بنفس "الحكمة"***، للإجماع بين أهل القياس على صحة التعليل بالمظنة، فيرجح التعليل بالسفر الذي هو مظنة المشقة على التعليل بنفس المشقة.
القسم الثاني:
"أنه يرجح"**** التعليل بالحكمة على التعليل بالوصف العدمي؛ لأن العدم لا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": بناه.
** في "أ": يظن.
*** في "أ": العلة.
**** في "ب": ترجيح.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البحر المحيط 6/ 180.(5/464)
ص -275-…يكون علة، إلا إذا علم اشتماله على الحكمة.
القسم الثالث:
أنه يرجح المعلل حكمه بالوصف العدمي على المعلل حكمه بالحكم الشرعي؛ لأن التعليل بالعدمي يستدعي كونه مناسبا للحكم، والحكم الشرعي لا يكون علة إلا بمعنى الأمارة، والتعليل بالمناسب أولى من التعليل بالإمارة، هكذا قال صاحب "المنهاج" واختاره.
وذكر إمام الحرمين الجويني في هذا احتمالين.
القسم الرابع:
أنه يرجح المعلل بالحكم الشرعي على غيره.
القسم الخامس:
أنه يرجح المعلل بالمتعدية على المعلل بالقاصرة، قاله القاضي، والأستاذ أبو منصور، وابن برهان.
قام إمام الحرمين: وهو المشهور، فإنه أكثر فائدة.
وقال الأستاذ أبو إسحاق: إنها ترجح القاصرة؛ لأنها معتضدة بالنص، ورجحه في "المستصفى"1.
القسم السادس:
أنها ترجح العلة المتعدية التي فروعها أكثر على العلة المتعدية التي فروعها أقل، لكثرة الفائدة. قال الأستاذ أبو منصور، "وزيفة"* صاحب "المنخول"، وكلام إمام الحرمين يقتضي أنه لا ترجيح بذلك.
القسم السابع:
أنها ترجح العلل البسيطة على العلة المركبة، كذا قال الجدليون، وأكثر الأصوليين؛ إذ يحتمل في العلل المركبة أن تكون العلة فيها هي بعض الأجزاء لا كلها، وأيضا البسيطة يكثر فروعها وفوائدها، ويقل فيها الاجتهاد، فيقل الغلط، على ما في المركبة من الخلاف في جواز التعليل بها كما تقدم.
وقال جماعة: المركبة أرجح، قال القاضي في "مختصر التقريب": ولعله الصحيح.
وقال إمام الحرمين: إن هذا المسلك باطل عند المحققين.
القسم الثامن:
أنها ترجح العلة القليلة الأوصاف على العلة الكثيرة الأوصاف؛ لأن الوصف الزائد لا أثر له في الحكم؛ ولأن كثرة الأوصاف يقل فيها التفريع.
قيل: وهو مجمع على هذا المرجح بين المحققين من الأصوليين، إذا كانت القليلة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": ورفعه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(5/465)
1 انظر الأقسام مفصلة في المستصفى 2/ 402-403.(5/466)
ص -276-…الأوصاف داخلة تحت الكثيرة الأوصاف، فإن كانت غير داخلة، مثل أن تكون أوصاف إحداهما غير أوصاف الأخرى، فاختلفوا في ذلك، فقيل: ترجح القليلة الأوصاف، وقيل: "ترجح"* الكثيرة الأوصاف.
القسم التاسع:
أنه يرجح الوصف الوجودي على العدمي، وكذا الوصف المشتمل على وجودين على الوصف المشتمل على وجودي وعدمي، كذا في "المحصول".
القسم العاشر:
أنها ترجح العلة "المحسوسة"** على الحكمية، وقيل بالعكس.
القسم الحادي عشر:
أنها ترجح العلة التي مقدماتها قليلة على العلة التي مقدماتها كثيرة؛ لأن صدق الأولى وغلبة الظن بها أكثر من الأخرى. وقيل: هما سواء.
القسم الثاني عشر:
"أنها تقدم العلة المطردة المنعكسة على العلة التي تطرد ولا تنعكس؛ لأن الأولى مجمع على صحتها بخلاف الأخرى1.
القسم الثالث عشر***:
أنها ترجح العلة المشتملة على صفة ذاتية على العلة
المشتملة على صفة حكمية، وقيل: بالعكس، ورجحه ابن السمعاني.
القسم الرابع عشر:
أنها ترجح العلة الموجبة للحكم على العلة المقتضية للتسوية بين حكم وحكم، للإجماع على جواز التعليل بالأولى، بخلاف الثانية ففيها خلاف.
وقال أبو سهل الصعلوكي: إن علة التسوية أولى، لكثرة الشبه فيها.
2- وأما الترجيح بحسب الدليل الدال على وجود العلة فهو على أقسام:
القسم الأول:
أنها تقدم العلة المعلومة، سواء كان العلم بوجودها بديهيا أو ضروريا على العلة التي ثبت وجودها بالنظر والاستدلال، كذا قال جماعة.
وذهب الأكثرون إلى انه لا يجري الترجيح بين العلتين المعلومتين إذا كانت إحداهما معلومة "بالبديهة"****، والأخرى بالنظر والاستدلال.
القسم الثاني:
أنها ترجح العلة التي وجودها بديهي على العلة التي "وجودها حسي".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": المحبوسة.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
**** في "أ": بالبداهة.(5/467)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البحر المحيط 6/ 189.(5/468)
ص -277-…القسم الثالث:
أنها ترجح العلة المعلوم وجودها على العلة المظنون وجودها.
والحاصل أن ما كان دليل وجوده"* أجلى وأظهر عند العقل فهو أرجح مما لم يكن كذلك.
3- وأما الترجيح بحسب الدليل الدال على علية الوصف للحكم، فهو على أقسام1:
القسم الأول:
أنها ترجح العلة التي ثبت عليتها بالدليل القاطع على العلة التي لم يثبت عليتها بدليل قاطع.
وخالف في ذلك صاحب "المحصول"، ولا وجه لخلافه.
القسم الثاني:
أنها ترجح العلة التي ثبتت عليتها بدليل ظاهر على العلة التي ثبتت عليتها بغيره من الأدلة التي ليست بنص ولا ظاهر.
القسم الثالث:
أنها ترجح العلة التي ثبتت عليتها بالمناسبة على العلة التي ثبتت عليتها بالشبه والدوران، لقوة لمناسبة واستقلالها بإثبات العلية. وقيل: بالعكس، ولا وجه له.
القسم الرابع:
أنها ترجح العلة الثابتة عليتها بالمناسبة على العلة الثابتة عليتها بالسبر، وقيل: بالعكس، وليس هذا الخلاف في السبر المقطوع، فإن العمل به متعين، لوجوب تقديم المقطوع على المظنون، بل الخلاف في السبر المظنون.
القسم الخامس:
"أنه يرجح ما كان من المناسبة واقعا في محل الضرورة على ما كان واقعا في محل الحاجة.
القسم السادس**:
أنه يرجح ما كان من المناسبة ثابتا بالضرورة الدينية على الضرورة الدنيوية.
القسم السابع:
أنه يقدم ما كان من المناسبة معتبرًا نوعه في نوع الحكم على ما كان منها معتبرا نوعه في جنس الحكم، وعلى ما كان منها معتبرا جنسه في نوع الحكم، وعلى ما كان منها مغيرا جنسه في جنس الحكم، ثم يقدم المعتبر نوعه في جنس الحكم، والمعتبر جنسه في نوع الحكم على المعتبر جنسه في جنس الحكم.
قال الهندي: الأظهر تقديم المعتبر نوعه في جنس الحكم على "عكسه***.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين من "أ".
** ما بين قوسين من "أ".
*** في "أ": علته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(5/469)
1 انظر البحر المحيط 6/ 187.(5/470)
ص -278-…القسم الثامن:
أنها تقدم العلة الثابتة عليتها بالدوران على الثابتة بالسبر وما بعده، وقيل: بالعكس.
القسم التاسع:
أنها تقدم العلة الثابتة عليتها "بالسبر على الثابتة عليتها بالشبه وما بعده.
القسم العاشر:
أنها تقدم العلة عليتها بالشبه"* على العلة الثابتة عليتها بالطرد.
قال البيضاوي: وكذا ترجح على العلة الثابتة عليتها بالإيماء وادعى في "المحصول" اتفاق الجمهور على أن ما ثبتت عليته بالإيماء راجح على ما ثبتت عليته بالوجوه العقلية، من المناسبة، والدوران، والسبر، وهو ظاهر كلام إمام الحرمين في "البرهان".
قال الصفي الهندي: هذا ظاهر إن قلنا لا تشترط المناسبة في الوصف المومأ إليه، وإن قلنا تشترط فالظاهر ترجيح بعض الطرق العقلية عليها، كالمناسبة؛ لأنها تستقل بإثبات العلية، بخلاف الإيماء، فإنه لا يستقل بذلك بدونها.
القسم الحادي عشر:
أنها تقدم العلة الثابتة بنفي الفارق على غيرها.
4- وأما الترجيح بحسب دليل الحكم، فهو على أقسام1:
الأول:
أنه يقدم ما دليل أصله قطعي على ما دليل أصله ظني.
القسم الثاني:
أنه يقدم ما كان دليل أصله الإجماع على ما كان دليل أصله النص؛ لأن النص يقبل التخصيص، والتأويل، والنسخ، والإجماع لا يقبلها.
قال إمام الحرمين: ويحتمل تقدم الثابت بالنص على الإجماع؛ لأن الإجماع فرع النص، لكونه المثبت له، والفرع لا يكون أقوى من الأصل، وبهذا جزم صاحب "المنهاج".
القسم الثالث:
أنه يقدم القياس الذي هو مخرج من أصل منصوص عليه على ما كان مخرجا من أصل غير منصوص عليه، قاله ابن برهان.
القسم الرابع:
أنه يقدم القياس الخاص بالمسألة على القياس العام الذي يشهد له القواعد، قاله القاضي.
القسم الخامس:
أنه يقدم ما كان على سنن القياس على ما لم يكن كذلك.
القسم السادس:
أنه يقدم ما دل دليل خاص على تعليله دون ما لم يكن كذلك.
القسم السابع: أنه يقدم ما لم يدخله النسخ بالاتفاق على ما وقع فيه الخلاف.(5/471)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البحر المحيط 6/ 190(5/472)
ص -279-…والحاصل أنه يقدم ما كان دليل أصله أقوى بوجه من الوجوه المعتبرة.
5- وأما المرجحات بحسب كيفية الحكم، فهي على أقسام1:
الأول:
أنه يقدم ما كانت علته ناقلة عن حكم العقل على ما كانت علته مقررة، كما قاله الغزالي، وابن السمعاني، وغيرهما؛ لأن الناقلة أثبتت حكمًا شرعيًّا، والمقررة لم تثبت شيئًا.
وقيل: إن المقررة أولى؛ لاعتضادها بحكم العقل المستقل بالنفي، لولا هذه العلة الناقلة، قال الأستاذ أبو منصور: ذهب أكثر أصحابنا إلى ترجيح الناقلة عن العادة، وبه جزم إلكيا؛ لأن النافية مستفادة من الشرع، والأخرى ترجع إلى عدم الدليل، فلا معارضة بينهما.
وقيل: هنا مستويان؛ لأن النسخ بالعلل لا يجوز.
القسم الثاني:
أنه يقدم ما كانت علته مثبتة على ما كانت علته نافية، كذا قال الأستاذ أبو إسحاق وغيره.
قال الغزالي: قدم قوم المثبتة على النافية، وهو غير صحيح؛ لأن النفي الذي لا يثبت إلا شرعا كالإثبات، وإن كان نفيا أصليا يرجع إلى ما قدمناه في الناقلة والمقررة.
وقال الأستاذ أبو منصور: الصحيح أن الترجيح في العلة لا يقع بذلك، لاستواء المثبت والنافي في الافتقار إلى الدليل، قال: وإلى هذا القول ذهب أصحاب الرأي.
القسم الثالث:
أنه يقدم ما يقتضي الحظر على ما يقتضي الإباحة. قال ابن السمعاني: وهو الصحيح وقيل: هما سواء.
القسم الرابع:
أن يكون أحدهما يقتضي حدًّا، والآخر يسقطه، فالمسقط "مقدم"*.
القسم الخامس:
أن يكون أحدهما يقتضي "العتق"** والآخر يسقطه، فالمقتضى "للعتق"*** مقدم. وقيل: هما سواء.
القسم السادس:
أن يكون أحدهما مبقيا للعموم "على عمومه والآخر موجبا لتخصيصه.
وقيل: يجب ترجيح ما كان مبقيا للعموم"****؛ لأنه كالنص في وجوب استغراق الجنس، ومن حق العلة أن لا ترفع "النصوص"*****، فإذا أخرجت ما اشتمل عليه العام كانت مخالفة للأصول التي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": أقدم.
** في "أ": العنف.(5/473)
*** في "أ": للعنف.
**** ما بين قوسين ساقط من "أ".
***** في "أ": النص
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البحر المحيط 6/ 191(5/474)
ص -280-…يجب سلامتها عنه، كذا قال القاضي في "التقريب"، وحكى الزركشي عن الجمهور أن المخصصة له أولى؛ لأنها زائدة.
6- وأما المرجحات بحسب بالأمور الخارجة، فهي على أقسام:
الأول:
أنه يقدم القياس الموافق للأصول، بأن تكون علة أصله على وفق الأصول الممهدة في الشرع على ما كان موافقا لأصل واحد؛ لأن وجود العلة في الأصول الكثيرة دليل على قوة اعتبارها في نظر الشرع. هكذا قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وابن السمعاني، وغيرهما.
وقيل: هما سواء، "واختاره القاضي في "التقريب".
القسم الثاني:
أنه يرجح ما كان أكثر فروعا على ما كان أقل، لكثرة الفائدة، وقيل: هما سواء"* وجزم بالأول الأستاذ أبو منصور "وزيفه"** الغزالي.
القسم الثالث:
أنه يقدم ما كان حكم أصله موافقا للأصول على ما ليس كذلك، للاتفاق على الأول، والاختلاف في الثاني.
القسم الرابع:
أنه يرجح ما كان مطردا في الفروع بحيث يلزم الحكم به في جميع الصور على ما لم يكن كذلك.
القسم الخامس:
أنه يرجح ما انضمت علته علة أخرى على ما لم ينضم إليه علة أخرى؛ لأن ذلك الانضمام يزيد قوة، وقيل: "لا يرجح"*** بذلك، وصححه أبو زيد من الحنفية.
القسم السادس:
أنه يقدم ما انضم إليه فتوى صحابي على ما لم يكن كذلك، وهو مبني على الخلاف المتقدم في حجية قول الصحابي.
وأما المرجحات بحسب الفرع، فهي على أقسام:
الأول:
أنه يقدم ما كان مشاركًا في عين الحكم وعين العلة على المشارك في جنس الحكم وعين العلة، أو عين الحكم وجنس العلة، أو جنس الحكم وجنس العلة.
القسم الثاني:
أنه يقدم ما كان مشاركًا في عين الحكم وجنس العلة، أو عين العلة وجنس الحكم على المشارك في جنس الحكم وجنس العلة.
القسم الثالث:
أنه يقدم المشارك في عين العلة وجنس الحكم على المشارك في عين الحكم وجنس العلة؛ لأن العلة هي العمدة في التعدية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".(5/475)
** في "أ": ورفعه.
*** في "أ": للترجيح.(5/476)
ص -281-…القسم الرابع:
أنه يقدم ما كان مقطوعا بوجود علته في الفرع على المظنون وجودها فيه.
القسم الخامس:
أنه يقدم ما كان حكم الفرع ثابتا فيه جملة لا تفصيلا، وقد دخل بعض هذه "المرجحات فيما تقدم"* "لصلاحية ما هناك هنا"** لذكر ذلك فيه.
وأما المرجحات بين الحدود السمعية، فهي على أقسام:
الأول:
أنه يرجح الحد المشتمل على الألفاظ الصريحة، الدالة على المطلوب بالمطابقة أو التضمن على الحد المشتمل على الألفاظ المجازية أو المشتركة أو الغريبة، أو المضطربة، وعلى ما دل على المطلوب بالالتزام؛ لأن الأول قريب إلى الفهم، بعيد عن الخلل والاضطراب.
القسم الثاني:
أن يكون أحدهما أعرف من الآخر، فإنه يقدم الأعرف على الأخفى؛ "لأن الأعرف"*** أدل على المطلوب من الأخفى.
القسم الثالث:
أنه يقدم الحد المشتمل على الذاتيات على المشتمل على العرضيات، لإفادة الأول تصور حقيقة المحدود، دون الثاني.
القسم الرابع:
أنه يقدم ما كان مدلوله أعم من مدلول الآخر، لتكثير الفائدة، وقيل: بل يقدم الأخص، للاتفاق على ما تناوله.
القسم الخامس:
أنه يقدم ما كان موافقا لنقل الشرع واللغة على ما لم يكن كذلك، لكون الأصل عدم النقل.
القسم السادس:
أنه يقدم ما أقرب إلى المعنى المنقول عنه شرعا، أو لغة.
القسم السابع:
أنه يقدم ما كان طريق اكتسابه أرجح من طريق اكتساب الآخر؛ لأنه أغلب على الظن.
القسم الثامن:
أنه يقدم ما كان موافقًا لعمل أهل مكة والمدينة، ثم ما كان موافقا لأحدهما.
القسم التاسع:
أنه يقدم ما كان موافقًا لعمل الخلفاء الأربعة.
القسم العاشر:
أنه يقدم ما كان موافقًا للإجماع.
القسم الحادي عشر:
أنه يقدم ما كان موافقًا لعمل أهل العلم.
القسم الثاني عشر:
أنه يقدم ما كان مقررًا لحكم الحظر على ما كان مقررًا لحكم الإباحة.
القسم الثالث عشر:
أنه يقدم ما كان مقررا لحكم النفي على ما كان مقررًا لحكم الإثبات.(5/477)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": بعض هذه المرجحات الترجيح فيما تقدم.
** في "أ": لصلاحيتها هناك وههنا
*** في "أ": لأنه.(5/478)
ص -282-…القسم الرابع عشر:
أنه يرجح ما كان مقررًا لإسقاط الحدود على ما كان موجبًا لها.
القسم الخامس عشر:
أنه يقدم ما كان مقررًا لإيجاب العتق على ما لم يكن كذلك.
وفي غالب هذه المرجحات خلاف يستفاد من مباحثه المتقدمة في هذا الكتاب، ويعرف به ما هو الراجح في جميع ذلك، وطرق الترجيح كثيرة جدًّا، وقد قدمنا أن مدار الترجيح على ما يزيد الناظر قوة في نظره، على وجه صحيح، مطابق للمسالك الشرعية، فما كان محصلًا لذلك فهو مرجح معتبر.(5/479)
ص -283-…خاتمة لمقاصد هذا الكتاب:
اعلم: أنا قد قدرنا في أول هذا الكتاب الخلاف في كون العقل حاكمًا أو لا.
وذكرنا أنه لا خلاف في أن بعض الأشياء يدركها العقل، ويحكم فيها، كصفات الكمال، والنقص، وملاءمة الغرض، ومنافرته.
وأحكام العقل باعتبار مدركاته تنقسم إلى خمسة أحكام، كما انقسمت الأحكام الشرعية إلى خمسة أقسام.
الأول: الوجوب، كقضاء الدين.
والثاني: التحريم، كالظلم.
والثالث: الندب، كالإحسان.
والرابع: الكراهة، كسوء الأخلاق.
والخامس: الإباحة، كتصرف المالك في ملكه.
وهما مسألتان.
المسألة الأولى:
هل الأصل فيما وقع فيه الخلاف، ولم يرد فيه دليل يخصه، أو يخص نوعه، الإباحة، أو المنع، أو الوقف1؟
فذهب جماعة من الفقهاء، وجماعة من الشافعية، ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم2، ونسبه بعض المتأخرين إلى الجمهور إلى أن الأصل الإباحة.
وذهب الجمهور إلى أنه لا يعلم حكم الشيء إلا بدليل يخصه، أو يخص نوعه، فإذا لم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر الكلام موسعًا ومفصلًا في هذه المسألة في البحر المحيط 6/ 12.
2 وهو شيخ الإسلام، القفيه، المصري، ابو عبد الله، ولد سنة اثنتين وثمانين ومائة، لزم الإمام مالك مدة، وتفقه بمذهبه، ولزم الشافعي وكثيرًا من الأئمة، من آثاره "أحكام القرآن، الرد على فقهاء العراق، الرد على الشافعي" توفي سنة ثمانٍ وستين ومائتين ا. هـ سير أعلام النبلاء 12/ 497، شذرات الذهب 2/ 154. تهذيب التهذيب 9/ 260.(5/480)
ص -284-…يوجد الدليل كذلك فالأصل المنع.
وذهب الأشعري، وأبو بكر الصيرفي، وبعض الشافعية، إلى الوقف بمعنى لا يدري هل "هناك"* حكم أم لا؟
وصرح الرازي في "المحصول": أن الأصل في المنافع الإذن، وفي المضار المنع.
احتج الأولون بقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}1 فإنه سبحانه أنكر على من حرم ذلك، فوجب أن لا تثبت حرمته، وإذا لم تثبت حرمته امتنع ثبوت الحرمة في فرد من أفراده؛ لأن المطلق جزء من المقيد، فلو ثبتت الحرمة في فرد من أفراده، لثبتت الحرمة في زينة الله، وفي الطيبات من الرزق، وإذا انتفت الحرمة بالكلية ثبتت الإباحة.
واحتجوا أيضًا بقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}2 وليس المراد من الطيب الحلال، وإلا لزم التكرار، فوجب تفسيره بما يستطاب طبعا، وذلك يقتضي حل المنافع بأسرها.
واحتجوا أيضًا بقول تعالى: "{خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}3، واللام تقتضي الاختصاص بما فيه منفعة.
واحتجوا أيضًا بقوله تعالى"**: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً}4 الآية فجعل الأصل الإباحة، والتحريم مستثنى.
وبقوله سبحانه: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ}5.
وبما ثبت في الصحيحين وغيرهما، من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن أعظم "المسلمين في المسلمين جُرمًا من" *** سَأل عن شيء فَحُرِّمَ على "المسلمين"**** من أجل مسألته"6.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": هنا.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** في "ب": إن أعظم المسلمين جرمًا.
**** في الأصول: السائل. والتصحيح من كتب التخريج.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية 32 من سورة الأعراف.(5/481)
2 جزء من الآية 5 من سورة المائدة.
3 جزء من الآية 29 من سورة البقرة.
4 جزء من الآية 145 من سورة الأنعام.
5 جزء من الآية 13 من سورة الجاثية.
6 أخرجه البخاري من حديث سعد بن أبي وقاص بلفظ: "إن أعظم الناس في المسلمين جرما من سأل عن مسألة لم تحرم، فحرم على المسلمين من أجل مسألته" كتاب الاعتصام باب ما يكره من كثرة السؤال 7289. ومسلم، كتاب الفضائل، باب توقيره صلى الله عليه وسلم 1358، 132. وأحمد في مسنده 1/ 179. وابن حبان في صحيحه 110 والشافعي 1/ 15. والبغوي في شرح السنة 144.(5/482)
ص -285-…وبما أخرجه الترمذي، وابن ماجه عن سلمان الفارسي قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن، "والجبن"*، والفراء، قال: "الحلال ما أحله الله في كتابه، والحرام ما حرمه الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عَفَا عنه"1
واحتجوا أيضًا بأنه انتفاع بما لا ضرر فيه على المالك قطعًا، ولا على المنتفع، فوجب أن لا يمتنع، كالاستضاءة بضوء السراج، والاستظلال بظل الجدار.
ولا يرد على هذا الدليل ما قيل: من أنه يقتضي إباحة كل المحرمات؛ لأن فاعلها ينتفع بها، ولا ضرر فيها على المالك، ويقتضي سقوط التكاليف بأسرها.
ووجه عدم وروده أنه قد وقع الاحتراز عنه بقوله: ولا على المنتفع، ولا انتفاع بالمحرمات، وبترك الواجبات يضرره ضررا ظاهرا؛ لأن الله سبحانه قد بين حكمها، وليس النزاع في ذلك، إنما النزاع فيما لم يبين حكمه ببيان يخصه أو يخص نوعه.
واحتجوا أيضًا بأنه سبحانه إما أن يكون خلقه لهذه الأعيان لحكمه، أو لغير حكمة، والثاني باطل؛ لقوله تعالى: {خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ}2، وقوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا}3 والعبث لا يجوز على الحكمة، فثبت أنها مخلوقة لحكمة، ولا تخلو هذه الحكمة إما أن تكون لعود النفع إليه سبحانه، أو إلينا، والأول باطل، لاستحالة الانتفاع عليه عز وجل، فثبت أنه إنما خلقها لينتفع بها المحتاجون إليها، وإذا كان كذلك كان نفع المحتاج مطلوب الحصول أينما كان، فإن منع منه فإنما هو يمنع منه لرجوع ضرره إلى المحتاج إليه، وذلك بأن ينهى الله عنه، فثبت أن الأصل في المنافع الإباحة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": والخبز.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(5/483)
1 أخرجه الترمذي، كتاب اللباس، باب ما جاء في لبس الفراء 1726. وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه، وروى سفيان وغيره عن سليمان التيمي عن أبي عثمان عن سلمان قوله، وكأن الحديث الموقوف أصح، وسألت البخاري عن هذا الحديث فقال: ما أراه محفوظا، روى سفيان عن سليمان التيمي عن أبي عثمان بن سلمان مرفوعًا".
وأخرجه ابن ماجه، كتاب الأطعمة، باب أكل الجبن والسمن 3367.
وأخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب الأطعمة، باب وما سكت عنه فهو مما عفي عنه 4/ 115,.
وأخرجه البغوي في مصابيح السنة 3257.
2 جزء من الآية 38 من سورة الدخان.
3 جزء من الآية 115 من سورة المؤمنون.(5/484)
ص -286-…وقد احتج القائلون بأن الأصل المنع بمثل قوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ}1 وهذا خارج عن محل النزاع، فإن النزاع إنما هو فيما لم ينص على حكمه، أو حكم نوعه، وأما ما قد فصله وبين حكمه، فهو كما بينه بلا خلاف.
واحتجوا أيضًا بقوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ}2 قالوا: فأخبر الله سبحانه أن التحريم والتحليل ليس إلينا، وإنما هو إليه فلا نعلم الحلال والحرام إلا بإذنه.
ويجاب عن هذا: بأن القائلين بأصالة الإباحة لم يقولوا بذلك من جهة أنفسهم، بل قالوه بالدليل الذي استدلوا به من كتاب الله وسنة رسوله، كما تقدم3، فلا ترد هذه الآية عليهم، ولا تعلق لها بمحل النزاع.
واستدل بعضهم بالحديث الصحيح الثابت في دواوين الإسلام عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات والمؤمنون وقَّافُون عند الشبهات"4 الحديث.
قال: فأرشد صلى الله عليه وسلم إلى ترك ما بين الحلال والحرام، ولم يجعل الأصل فيها أحدهما.
ولا يخفاك أن هذا الحديث لا يدل على مطلوبهم من أن الأصل المنع.
فإن استدل به القائلون بالوقف فيجاب عنه: بأن الله سبحانه قد بين حكم ما سكت عنه بأنه حلال بما سبق من الأدلة، وليس المراد بقوله: "وبينهما أمور مشتبهات" إلا ما لم يدل الدليل على أنه حلال طلق، أو حرام واضح، بل تنازعه أمران، أحدهما يدل على إلحاقه بالحلال، والآخر يدل على إلحاقه بالحرام، كما يقع ذلك عند تعارض الأدلة أما ما سكت الله عنه فهو مما عفا عنه، كما تقدم في حديث5، سلمان وقد أوضحنا الكلام على هذا الحديث في رسالة مستقلة6 فليرجع إليها.
واستدلوا أيضًا بالحديث الصحيح وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "إن دمائكم وأموالكم عليكم حرام"7 الحديث.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط "أ".(5/485)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية 119 من سورة الأنعام.
2 جزء من الآية 116 من سورة النحل.
3 انظر صفحة: 283.
4 تقديم تخريجه في 2/ 194.
5 تقديم تخريجه في 2/ 285.
6 واسمها "تنبيه الأعلام في تفسير المشتبهات بين الحلال والحرام" ا. هـ البدر الطالع 2/ 222.
7 أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم 1218.
وأخرجه ابن ماجه، كتاب المناسك، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم 3074.
وأخرجه النسائي، باب الجمع بين الظهر والعصر بعرفة 1/ 290.
وأخرجه البيهقي، كتاب الحج، باب ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم إحراما مطلقًا 5/ 7.
وأخرجه أبو داود، كتاب المناسك: باب صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم 1905.
وأخرجه ابن حبان في صحيحه 1457.
وأخرجه ابن الجارود 469.(5/486)
ص -287-…ويجاب عنه: بأنه خارج عن محل النزاع؛ لأنه خاص بالأموال التي قد صارت مملوكة لمالكيها، ولا خلاف في تحريمها على الغير، وإنما النزع في الأعيان التي خلقها الله لعباده، ولم تصر في ملك أحد منهم، وذلك كالحيوانات التي لم ينص الله عز وجل على تحريمها، لا بدليل عام ولا خاص، وكالنباتات التي تنبتها الأرض، مما لم يدل دليل على تحريمها، ولا كانت مما يضر مستعمله بل مما ينفعه.
المسألة الثانية:
اختلفو في وجوب شكر المنعم عقلا:
فالمعتزلة ومن وافقهم وجبوه بالعقل على من لم يبلغه الشرع.
وخالف في ذلك جمهور الأشعرية، ومن وافقهم؛ لأنهم يقولون لا حكم للعقل، كما تقدم تحقيقه.
قالوا: وعلى تقدير التسليم لحكم العقل "تنزلا"* فلا حكم لعقل بوجوب شكر المنعم، فلا إثم في تركه على من لم تبلغه دعوة النبوة؛ لأنه لو وجب لوجب لفائدة، واللازم باطل، فالملزوم مثله.
وتقرير الملازمة: أنه لو وجب لا لفائدة، لكان عبثا، وهو قبيح، فلا يجب عقلا، ولا يجوز على الله سبحانه إيجاب ما كان عبثا.
وأما تقرير بطلان اللازم، فلأن الفائدة إما أن تكون لله تعالى، أو تكون للعبد، إما في الدنيا، أو في الآخرة، والكل باطل؛ لأن الله سبحانه متعالٍ "عن الفائدة"**، ولأنه لا منفعة فهي للعبد في الدنيا؛ لأنه تعب ومشقة عليه، ولا حظ للنفس فيه، وما كان كذلك لا يكون له فائدة دنيوية، وأما انتفاع العبد به في الآخرة؛ فلأن أمور الآخرة من الغيب الذي لا مجال للعقل فيه.
وأجيب عن ذلك: بمنع كونه لا فائدة للعبد فيه، وسند هذا المنع، بأن فائدته للعبد في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".(5/487)
ص -288-…الدنيا هي دفع ضرر خوف العقاب، وذلك للزوم الخطور على باب كل عاقل، إذا رأى ما عليه من النعم المتجددة، وقتا بعد وقت، أن المنعم قد ألزمه بالشكر كما يخطر على بال من أنعم عليه ملك من الملوك بأصناف النعم أنه مطالب له بالشكر عليها.
ومنع الأشعرية لزوم الخطور الموجب للخوف فلا يتعين وجوده.
وأجيب عن هذا المنع: بأنه غير متوجه؛ لأن ما ذكره القائلون بالوجوب هو منع، فإن أرادوا بهذا المنع لذلك المنع أن سنده لا يصلح للسندية، فذلك منع مجرد للسند، وهو غير مقبول، وعلى التسليم فيقال: إنه وإن لم يتعين وجود الخوف، فهو على خطر الوجود، وبالشكر يندفع احتمال وجوده، وهو فائدة جليلة.
ثم "جاءت"* الأشعرية بمعارضة لما ذكرته المعتزلة، فقالوا: ولو سلم فخوف العقاب على الترك معارض بخوف العقاب على الشكر، إما لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذن المالك، فإن ما يتصرف به العبد من نفسه وغيرها ملك لله تعالى، وإما لأنه كالاستهزاء، وما مثله إلا كمثل فقير حضر مائدة ملك عظيم، فتصدق عليه بلقمة، فطفق يذكرها في المجامع، "ويشكره"** عليها شكرا كثيرا مستمرا، فإن ذلك يعد استهزاء من الشاكر بالملك؛ فكذا هنا، بل اللقمة بالنسبة إلى الملك وما يملكه أكثر مما أنعم الله به على العبد بالنسبة إلى الرب سبحانه، وشكر العبد أقل قدرا في جنب الله من شكر الفقير للملك على الصفة المذكورة.
ولا يخفاك أن هذه المعارضة الركيكة والتمثيل الواقع على غاية من السخف، يندفعان بما قصه الله سبحانه علينا في الكتاب العزيز، من تعظيم شأن ما أنعم به على عباده، وكرر ذلك تكريرا كثيرا، فإن كان ذلك مطابقا للواقع سقط ما جاءوا به، وإن كان غير مطابق للواقع فهو التكذيب البحت والرد الصراح.(5/488)
ثم لا يخفى على أحد أن النعمة التي وجب الشكر عليها هي على غاية العظمة عند الشاكر، فإن أولها وجوده، ثم تكميل آلائه، ثم إفاضه النعم عليه على اختلاف أنواعها، فكيف يكون شكره عليها استهزاء.
وقد اعترض جماعة من المحققين على ما ذكره الأشاعرة في هذه المسألة، منهم ابن الهمام في "تحريره"، فقال: ولقد طال رواج هذه الجملة على تهافتها، يعني جملة الاستدلال والاعتراض.
ثم ذكر أن حكم المعتزلة بتعلق الوجوب والحرمة بالفعل قبل البعثة تابع لعقلية ما في الفعل،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": جاء.
** في "أ": وشكر.(5/489)
ص -289-…فإذا عقل فيه حسن يلزم بترك ما هو فيه القبح، كحسن شكر المنعم، المستلزم تركه القبح، الذي هو الكفران بالضرورة، فقد أدرك العقل حكم الله الذي هو وجوب الشكر قطعا، وإذا ثبت الوجوب بلا مرد، لم يبق لنا حاجة في تعيين فائدة، بل نقطع بثبوتها في نفس الأمر، علم عينها أو لا، ولو منعوا، يعني: الأشعرية اتصاف الشكر بالحسن، واتصاف الكفران بالقبح، لم تصر مسألة على التنزل معنى، والمفروض أنها مسألة على التنزيل.
ثم ذكر أن انفصال المعتزلة بدفع ضرر خوف العقاب إنما يصح حاملا على العمل الذي يتحقق به الشكر، وهو بعد العلم بوجوب الشكر بالطريق الموصلة إليه، وهو محل النزاع.
ثم قال: وأما معارضتهم بأنه يشبه الاستهزاء، فيقضي منه العجب. قال شارحه: لغرابته وسخافته، كيف ويلزم منه انسداد باب الشكر قبل البعثة وبعدها. انتهى.
ومن كان مطلعًا على مؤلفات المعتزلة لا يخفى عليه أنهم إنما ذكروا هذا الدليل للاستدلال به على وجوب النظر، فقالوا: من رأى النعم التي هو فيها، دقيقها وجليلها، وتواتر أنواعها خشي أن لها صانعًا يحق له الشكر؛ إذ وجوب شكر كل منعم ضروري، ومن خشي ذلك خاف ملامًا على الإخلال، وتبعه على الإخلال ضرر عاجل، والنظر كاشف للحيرة، دافع لذلك الخوف، فمن أخل بالنظر حسن في العقل ذمه، وهو معنى الوجوب، فإذا نظر زال ذلك الضرر، فيلزمه فائدة الأمن من العقاب، على التقديرين إما بأن يشكر، وإما بأن يكشف له النظر أنه لا منعم، فلا عقاب.
هذا حاصل كلامهم في الوجوب العقلي.
وأما الوجوب الشرعي: فلا نزاع فيه بينهم، وقد صرح الكتاب العزيز بأمر العباد بشكر ربهم، وصرح أيضًا بأنه سبب في زيادة النعم، والأدلة القرآنية والأدلة النبوية في هذا كثيرة جدًّا.
وحاصلها: فوز الشاكر بخير الدنيا والآخرة، وفقنا الله تعالى لشكر نعمه، ودفع عنا جميع قمه.(5/490)
قال المؤلف رحمه الله: وإلى هنا انتهى ما أردنا جمعه، بقلم مؤلفه المفتقر إلى نعم ربه، الطالب منه مزيدها عليه ودوامها له، محمد بن علي بن محمد الشوكاني، غفر الله ذنوبه، وكان الفراغ منه يوم الأربعاء، لعله الرابع من شهر محرم، سنة 1231، والحمد لله أولًا وآخرصا، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله صحبه.(5/491)
ص -291-…1- فهرس الآيات القرآنية:
الآية رقمها الجزء/ الصفحة
سورة البقرة
{والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك} 4 1/ 305
{يا أيها الناس اعبدوا ربكم} 21 1/ 34
{يا أيها الناس} 21 1/ 322، 323
{فأتوا بسورة من مثله} 23 1/ 254
{إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة
فما فوقها} 26 2/ 98
{خلق لكم ما في الأرض جميعا} 29 2/ 284
{وعلم آدم الأسماء كلها} 31 1/ 43
{ثم عرضهم} 31 1/ 43
{وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا} 34 1/ 249، 261
{قلنا اهبطوا منها جميعا} 38 1/ 320
{واقيموا الصلاة} 43 1/ 253، 258
و2/ 12
{لا تجزي نفس عن نفس شيئا} 48 1/ 300
{وادخلوا الباب سجدا} 58 1/ 81
{ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت} 65 2/ 195
{كونوا قردة} 65 1/ 254
{وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون
إلا الله وبالوالدين إحسانا} 83 2/ 54
{يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا} 104 2/ 193
{ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير
منها أو مثلها} 106 2 / 59، 61، 69
، 70
{وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} 110 1/ 307
{وأقيموا الصلاة} 110 1/ 343 و2/ 27
{وآتوا الزكاة} 110 2/ 28(5/492)
ص -292-…الآية رقمها الجزء/ الصفحة
{لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى} 111 2/ 191
{قل هاتوا برهانكم} 111 1/ 255
و2/ 191
{وكذلك جعلناكم أمة وسطا} 143 1/185، 204
{قد نرى تقلب وجهك في السماء} 144 2/ 71
{وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} 150 2/ 98
{يا أيها الذين أمنوا} 153 1/ 322، 323
{إن الصفا والمروة من شعائر الله} 158 1/ 82
{يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} 158 2/ 190
{وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} 169 1/ 202
{كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك
خيرا الوصية للوالدين والأقربين} 180 2/ 68، 70
{فعدة من أيام آخر} 184 2/ 11
{فمن شهد منكم الشهر فليصمه} 185 2/ 72
{يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} 185 2/ 61، 190
{أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} 187 1/ 304
{ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} 187 2/ 41
{وأتموا الصيام إلى الليل} 187 1/ 379
فالآن باشروهن} 187 2/ 59، 72
{ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} 188 1/ 202
{حتى لا تكون فتنة} 193 2/121
{وأتموا الحج والعمرة لله} 196 2/198
{فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج
وسبعة إذا رجعتم} 196 2/11
{فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا
رجعتم تلك عشرة كاملة} 196 2/ 23، 225
{الحج أشهر معلومات} 197 1/327
و2/ 48
{ولا تقربوهن حتى يطهرن} 222 1/ 378
{والمطلقات يتربصن بأنفسهن} 228 1/ 385
و2/ 16
{لا تضار والدة بولدها} 233 2/ 16
{والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن
بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا} 234 1/ 386
{ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره} 236 2/ 225(5/493)
ص -293-…الآية رقمها الجزء/ الصفحة
{أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} 237 2/ 16، 225
{حافظوا على الصلوات والصلاة والوسطى} 238 1/ 343 و 2/ 79
{وأحل الله البيع} 275 1/ 349
{يا أيها الذين آمنوا تقوا الله وذروا ما
بقي من الربا} 278 1/ 321
{ولا يضار كاتب ولا شهيد} 282 2/ 16
{واستشهدوا} 282 1/ 254
{واتقوا لله ويعلمكم الله} 282 2/ 199
{والله على كل شيء قدير} 284 2/ 42
{لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} 286 1/ 32
{ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} 286 1/ 32
سورة آل عمران
{منه آيات محكمات هن أم الكتاب
وآخر متشابهات} 7 1/ 90
{فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما
تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما
يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم
يقولون آمنا به} 7 1/ 90
{وما يعلم تأويله إلا الله} 7 2/ 33
{ربنا لا تزغ قلوبنا} 8 1/279
{قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} 31 1/ 97، 106،
314
{واسجدي واركعي مع الراكعين} 43 1/ 82
{ومكروا ومكر الله} 54 1/ 73
{فإن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه
وهذا النبي} 68 2/ 178
{كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما
حرم إسرائيل على نفسه} 93 2/ 238
{ولله على الناس حج البيت من استطاع
إليه سبيلا} 97 1/ 383، 385
و 2/ 82
{فيه آيات بينات مقام إبراهيم} 97 1/ 69
{كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون
بالمعروف وتنهون عن المنكر} 110 1/ 185، 205
{قل موتوا بغيظكم} 119 1/ 255
{لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة} 130 2/ 41
{وسارعوا إلى مغفرة من ربكم} 133 1/ 262
{الذين قال لهم الناس} 173 1/ 397(5/494)
ص -294-…الآية رقمها الجزء/ الصفحة
{كل نفس ذائقة الموت} 185 1/ 355
{والله على كل شيء قدير} 189 1/ 355
سورة النساء
{أو ما ملكت أيمانكم} 3 2/ 272
{الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما} 10 1/ 305
{يوصيكم الله في أولادكم} 11 1/ 388
{فإن كان له إخوة} 11 1/ 311
{من بعد وصية توصون بها أو دين} 12 2/ 9
{فأمسكوهن في البيوت حتى يتوافهن
الموت أو يجعل الله لهن سبيلا} 15 2/ 64
{حرمت عليكم أمهاتكم} 23 1/ 328، 332،
355 و2/ 16، 17
{وأن تجمعوا بين الأختين} 23 2/ 272
{ربائبكم اللاتي في حجوركم} 23 2/ 42
{ولا تقتلوا أنفسكم} 29 1/ 292
و 2/ 223
{إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم
سيئاتكم} 31 1/ 144
{لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا
ما تقولون} 43 1/ 38
{طيعوا الله وأطيعوا الرسول} 59 1 /106
في شيء فردوه إلى الله ورسوله} 59 1/ 208
و 2/ 245
{وأقيموا الصلاة} 77 2/ 28
{من يطع الرسول فقد أطاع الله} 80 1/ 97
{ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر
منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} 83 2/ 98
{فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله} 92 1/ 81
{ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له
الهدي ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما
تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا} 115 1/ 198
{ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى} 124 1/ 318
{فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم} 160 2/ 120(5/495)
ص -295-…الآية رقمها الجزء/ الصفحة
{لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} 165 1/ 31
{يبين الله لكم أن تضلوا} 176 1/ 70
سورة المائدة
{وأيديكم إلى المرافق} 2 1/ 391
{حرمت عليكم الميتة} 3 1/ 290، 328
و2/ 16، 17، 70
{اليوم أكملت لكم دينكم} 3 2/ 100، 202
{أحل لكم الطيبات} 5 2/ 284
{يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة
فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق
وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} 6 2/ 27
إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} 6 2/ 121
{وأيديكم إلى المرافق} 6 1/ 378، 379
{إلى المرافق} 6 1/ 363
{وامسحوا برءوسكم} 6 2/ 17
{وإن كنتم جنبا فاطهروا} 6 1/ 257
{ادخلوا عليهم الباب} 23 1/ 70
{من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل} 32 2/ 118
{أو تقطع أيديهم وأرجلهم} 33 1/ 81
{والسارق} 38 1/ 289
{والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} 38 1/ 81، 292،
342، 397
و2/ 19، 28، 29
120، 121
{يا أيها الرسول} 40 1/ 323
{وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} 45 2/ 180
{والجروح قصاص} 45 2/ 160
{لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا} 48 2/ 180
{فاستبقوا الخيرات} 48 1/ 262
{والله يعصمك من الناس} 67 1/ 117
{ثم عموا وصموا كثير منهم} 71 1/ 380(5/496)
ص -296-…الآية رقمها الجزء/ الصفحة
{لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة
وما من إله إلا الله واحد} 73 1/ 125
{إنما الخمر والميسر} 90 2/ 72
{وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول} 92 1/ 97
{فجزاء مثل ما قتل من النعم} 95 2/ 97
{يحكم به ذوا عدل منكم} 95 2/ 97
{لا تسألوا عن أشياء} 101 1/ 279
سورة الأنعام
{لأنذركم به ومن بلغ} 19 1/ 322
{ما فرطنا في الكتاب من شيء} 38 2/ 100
{ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} 59 1/ 86 و 2/ 100
{أولئك الذي هدى الله فبهداهم اقتده} 90 2/ 180
{انظروا إلى ثمره إذا أثمر} 99 1/ 255
{ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله
فيسبوا الله} 108 2/ 195
{وقد فصل لكم ما حرم عليكم} 119 2/ 286
{وقالوا ما في بطون هذه الأنعام}
إلى قوله: {حكيم عليم} 139 2/ 126
{وآتوا حقه يوم حصاده} 141 2/ 23
{ثمانية أزواج} إلى قوله:
{الظالمين} 142-143 2/ 126
{قل لا أجد في ما أوحي إليَّ محرما
على طاعم يطعمه} 145 2/ 68، 70،
284
سورة الأعراف
{ما منعك أن تسجد إذ أمرتك} 12 1/ 249، 261
قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده
والطيبات من الرزق} 32 2/ 284
{فهل وجدتم ما وعبد ربكم حقا قالوا نعم} 44 1/ 333
{مسخرات بأمره} 54 1/ 242، 243
{قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب} 71 1/ 222
{فماذا تأمرون} 110 1/ 245
{قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة} 138 1/ 311
{اخلفني في قومي} 142 1/ 250
{واختار موسى قومه سبعين رجلا} 155 1/ 132
{ويحرم عليهم الخبائث} 157 2/ 131
{وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا} 161 1/ 81(5/497)
ص -297-…الآية رقمها الجزء/ الصفحة
{واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر} 163 1/ 397 و2/ 193
سورة الأنفال
{ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله} 13 2/ 108، 120
{يا أيها الذين آمنوا أن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا} 29 2/ 199
{إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} 38 1/ 35
{فأن لله خُمُسَه} 41 2/ 27
{إن يكن منكم عشرون صابرون} 65 1/ 131
{الآن خفف الله عنكم} 66 2/ 84
{ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن
في الأرض} 67 2/ 233
سورة التوبة
{فاقتلوا المشركين} 5 1/ 342، 362،
388، 394
{حتى يعطوا الجزية} 29 1/ 379، 394
و2/ 121
{اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله} 31 2/ 245
{والذين يكنزون الذهب والفضة} 34 1/ 332
{فبشرهم بعذاب أليم} 34 1/ 68
{وقاتلوا المشركين كافة} 36 1/ 301
{عفا الله عنك لم أذنت لهم} 43 2/ 220
{والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} 71 2/ 123
{فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا} 82 1/ 255
{والسابقون الأولون} 100 1/ 185
{خذ من أموالهم صدقة} 103 1/ 316
{فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة} 122 1/ 136
سورة يونس
{فأجمعوا أمركم} 7 1/ 193
{قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي} 15 2/ 70
{والله يدعو إلى دار السلام} 25 1/ 331
{بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله} 39 2/ 191(5/498)
ص -298-…الآية رقمها الجزء/ الصفحة
{ألقوا ما أنتم ملقون} 80 1/ 255
سورة هود
{وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} 6 1/ 355
{حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور} 40 1/ 242
{وأهلك} 40 2/ 27
{أتعجبين من أمر الله} 73 1/ 242
{وما أمر فرعون برشيد} 97 1/ 242
سورة يوسف
{إنا أنزلناه قرآنا عربيا} 2 1/ 65
{وفوق كل ذي علم عليم} 76 2/ 231
{واسأل القرية} 82 1/ 69
{وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} 103 1/ 368
سورة الرعد
{الله خالق كل شيء} 16 1/ 383
سورة إبراهيم
{وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه} 4 1/ 43، 65
{قل تمتعوا} 30 1/ 254
{وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} 34 1/ 304
{ولا تحسبن الله غافلا} 42 1/ 279
سورة الحجر
{إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} 9 2/ 75
{وإنا له لحافظون} 9 1/ 313
{فسجد الملائكة كلهم أجمعون} 30 1/ 303
{إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من
اتبعك من الغاوين} 42 1/ 368
{ادخلوها بسلام آمنين} 46 1/ 254
{ وما خلقنا السموات والأرض وما
بينهما إلا بالحق} 85 2/ 123
{ولا تمدن عينيك} 88 1/ 279(5/499)
ص -299-…الآية رقمها الجزء/ الصفحة
سورة النحل
{والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} 8 2/ 197
{لتأكلوا منه لحما طريا} 14 2/ 41
{وعلامات وبالنجم هم يهتدون} 16 2/ 226
{وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين} 39 1/ 125
{إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له
كن فيكون} 40 1/ 251
{وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي
إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا
تعلمون بالبينات والزبر} 43-44 2/ 245
{لتبين للناس ما نزل إليهم} 44 1/ 385، 387
{لا جرم أن لهم النار} 62 2/ 131
{وأوحى ربك إلى النحل} 68 2/ 200
{ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء} 89 1/ 208، 386
{إن الله يأمر بالعدل والإحسان} 90 2/ 99
{إنما يعلمه بشر} 103 2/ 219
{فكلوا مما رزقكم الله} 114 1/ 254
{ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا
حلال وهذا حرام} 116 2/ 286
{إن إبراهيم كان أمة} 120 1/ 236
{ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا} 123 2/ 178، 180
سورة الإسراء
{وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} 15 1/ 31
{فلا تقل لهما أف} 23 1/ 392، 394
{ولا تقف ما ليس لك به علم} 36 1/ 148
{واستفزز من استطعت} 64 1/ 71، 254
{أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} 110 1/ 298
سورة الكهف
{أيكم أحسن عملا} 7 1/ 299
{وإذا اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله
فأووا إلى الكهف} 16 2/ 120
{ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا
أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت} 23-24 1/ 364(5/500)
ص -300-…الآية رقمها الجزء/ الصفحة
{فمن شاء فليؤمن...} 29 1/71
سورة طه
{الرحمن على العرش استوى} 5 2/ 33
{وأقم الصلاة لذكري} 14 2/ 180
{فاقض ما أنت قاض} 72 1/ 255
{أفعصيت أمري} 93 1/ 250
{وعصى آدم ربه فغوى} 121 1/ 100
{ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا
ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك
من قبل أن نذل ونخزى} 134 1/ 31
سورة الأنبياء
{فسألوا أهل الذكر} 7 2/ 244
{بل فعله كبيرهم هذا} 63 1/ 101
{ففهمناها سليمان} 79 2/ 234
{وعلمناه صنعة لبوس لكم} 80 1/ 42
{إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه} 87 1/ 101
{إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} 98 2/ 27
{إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} 101 1/ 305و 2/ 27
سورة الحج
{وترى الناس سكارى وما هم بسكارى} 2 2/ 261
{ألم تر أن الله يسجد له من في السموات
ومن في الأرض} 18 1/ 61
{وكثير من الناس} 81 1/ 61
{تجري في البحر بأمره} 65 1/ 242، 243
{وما جعل عليكم في الدين من حرج} 78 2/ 190
سورة المؤمنون
{والذين هم لفروجهم، حافظون إلا على
أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم} 5-6 1/ 332
{وإن لكم في الأنعام لعبرة} 21 2/ 95
{كلوا من الطيبات} 51 1/ 255
{ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت
السموات والأرض} 71 2/ 249(6/1)
ص -301-…الآية رقمها الجزء/ الصفحة
{قال رب ارجعون} 99 1/313
{أفحسبتم إنما خلقناكم عبثا} 115 2/123، 285
سورة النور
{الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما
مائة جلدة} 2 1/ 292
و 2/ 120
{الزانية والزاني} 2 1/ 81
{والذين يرمون المحصنات} 4 1/ 373
{سبحانك هذا بهتان عظيم} 16 2/ 215
{فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا} 33 1/ 253
{إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار} 44 2/ 95
{فليحذر الذين يخالفون عن أمره} 63 1/ 106، 250
سورة الفرقان
{ومن يفعل ذلك يلق أثاما، يضاعف له العذاب
يوم القيامة ويخلد فيه مهانا} 68-69 1/ 34
{والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون
النفس التي حرم الله إلا بالحق} 68-69-70 1/ 34
سورة الشعراء
{إنا معكم مستمعون} 15 1/ 311
{بل ألقوا ما أنتم ملقون} 43 1/ 255
{كذبت قوم نوح المرسلين} 105 1/ 312
سورة النمل
{وأوتيت من كل شيء} 23 1/ 385
{فناظرة بم يرجع المرسلون} 35 1/ 312
{فلما جاء سليمان} 36 1/ 312
{أيكم يأتيني بعرشها} 38 1/ 298، 299
سورة القصص
{وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه} 7 2/ 200
{يجبى إليه ثمرات كل شيء} 57 1/ 385(6/2)
ص -302-…الآية رقمها الجزء/ الصفحة
سورة العنكبوت
{فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما} 14 1/ 361
سورة الروم
{ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف
ألسنتكم وألوانكم} 22 1/ 42
سورة الأحزاب
{لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة
لمن كان يرجو الله واليوم الآخر} 21 1/ 106، 107،
116
{إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل
البيت ويطهركم تطهيرا} 33 1/ 222
{إن المسلمين والمسلمات} 35 1/ 319
{وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله
ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة} 36 1/ 250
{وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت
عليه أمسك عليك زوجك} 37 2/ 220
{فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} 49 1/ 386
{إن الله وملائكته يصلون على النبي} 56 1/ 60
{إنا أطعنا سادتنا وكبرائنا فأضلونا السبيلا} 67 2/ 245
سورة سبأ
{لا يعزب عنه مثقال ذرة} 3 1/ 300
{من رجز أليم} 5 1/ 222
{افترى على الله كذبا أم به جنة} 8 1/ 124
{وقليل من عبادي الشكور} 13 1/ 368
سورة فاطر
{إليه يصعد الكلم الطيب} 10 2/ 33
سورة يس
{قال من يحيي العظام وهي رميم} 78 2/ 99
{قل يحييها الذي أنشأها أول مرة} 79 2/ 99
{كن فيكون} 82 1/ 255(6/3)
ص -303-…الآية رقمها الجزء/ الصفحة
سورة الصافات
{إني سقيم} 89 1/ 101
{فانظر ماذا ترى} 102 1/ 255
سورة ص
{فإذا سويته ونفخت فيه من روحي
فقعوا له ساجدين} 72 1/ 257
ر
{قرآنا عربيا} 28 1/ 65
{يا عبادي} 53 1/ 323
{الله خالق كل شيء} 62 1/ 306، 383،
385
سورة فصلت
{وويل للمشركين، الذين لا يؤتون الزكاة} 6-7 1/ 34
{فقضاهن سبع سموات} 11 1/ 250
{اعلموا ما شئتم} 40 1/ 254
{ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا
فصلت آياته} 44 2/ 123
سورة الشورى
{ليس كمثله شيء} 11 1/ 70و 2/33
{شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا} 13 2/ 172
{قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في
القربى} 23 1/222
{فإن يشأ الله يختم على قلبك ويمحو الله
الباطل} 24 2/ 198
{ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض} 27 2/ 123
سورة الزخرف
{إنا وجدنا آباءنا} 23 2/ 245
{ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن
يكفر بالرحمن} 33 2/ 123
سورة الدخان
{وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما
لاعبين} 38 2/ 285
{ذق إنك أنت العزيز الكريم} 49 1/ 254(6/4)
ص -304-…الآية رقمها الجزء/ الصفحة
سورة الجاثية
{وسخر لكم ما في السموات وما في
الأرض جميعا منه} 13 2/ 284
{إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون} 29 2/ 49
سورة الأحقاف
{جزاء بما كانوا يعملون} 14 2/ 120
{تدمر كل شيء بأمر ربها} 25 1/ 385
سورة محمد
{حتى نعلم المجاهدين منكم } 31 2/121
سورة الفتح
{لقد رضي الله عن المؤمنين} 18 1/ 185
{محمد رسول الله والذين معه أشداء
على الكفار} 29 1/185
و2/197
سورة الحجرات
{إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} 6 1/ 136، 140
{وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان} 7 1/ 144
{والله بكل شيء عليم} 16 1/ 354، 355
سورة الذاريات
{وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون} 56 2/ 118
سورة الطور
{فاصبروا أو لا تصبروا} 16 1/ 254
سورة النجم
{وما ينطق عن الهوى} 3 2/ 218
{إن هو إلا وحي يوحى} 4 2/ 70، 101،
218
{إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم
ما أنزل الله بها من سلطان} 23 1/ 42، 43(6/5)
ص -305-…الآية رقمها الجزء/ الصفحة
{وإن الظن لا يغني من الحق شيئا} 28 1/ 148
سورة القمر
{وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر} 50 1/ 242
سورة الرحمن
{كل من عليها فان} 26 1/ 355
{يا معشر الجن والإنس} 33 1/ 301
سورة المجادلة
{فصيام شهرين متتابعين} 4 2/ 11
{يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أتوا العلم
درجات} 11 2/ 231
{أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات} 13 2/ 84
سورة الحشر
{يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين} 2 2/ 96
{فاعتبروا يا أولي الأبصار} 2 2/ 95، 273
{فاعتبروا} 2 2/ 138
{ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله} 4 2/ 118، 130
{ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على
أصولها فبإذن الله} 5 2/ 234
{وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه
فانتهوا} 7 1/ 97، 106،
314، 324
و2/ 24، 72،
101
{لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة} 20 1/ 305
{أصحاب الجنة هم الفائزون} 20 1/ 306
سورة الممتحنة
{فلا ترجعوهن إلى الكفار} 10 2/ 71
{وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار} 11 2/ 70
سورة الجمعة
{هو الذي بعث في الأمين رسولا منهم} 2 1/ 322
{وآخرين منهم لما يلحقوا بهم} 3 1/ 322(6/6)
ص -306-…الآية رقمها الجزء/ الصفحة
{إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا
إلى ذكر الله} 9 1/ 394 و2/48
{وذروا البيع} 9 2/ 123
سورة المنافقون
{إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك
لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله
والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} 1 1/ 124
{لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز
منها الأذل} 8 1/ 126
سورة الطلاق
{يا أيها النبي} 1 1/ 323
{ومن يتق الله يجعل له مخرجا} 2 2/ 123، 199
{ومن يتوكل على الله فهو حسبه} 3 2/ 123
{وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} 4 1/ 386
{أسكنوهن} 6 1/388
{لينفق ذو سعة من سعته} 7 2/ 225
{لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها} 7 1/32
سورة التحريم
{فقد صنعت قلوبكما} 4 1/ 310
{لا تعتذروا اليوم} 7 1/ 279
سورة القلم
{أفنجعل المسلمين كالمجرمين} 35 2/ 123
سورة الحاقة
{كلوا واشربوا} 24 1/ 254
سورة المعارج
{فذرهم يخوضوا ويلعبوا} 28 1/ 254
سورة نوح
{رب اغفر لي} 28 1/ 254
سورة الجن
{ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم} 23 1/ 250(6/7)
ص -307-…الآية رقمها الجزء/ الصفحة
سورة المزمل
{قم الليل إلا قليلا، نصفه أو انقص منه قليلا} 2-3 1/ 368
{فعصى فرعون الرسول} 16 2/ 5
سورة المدثر
{ما سلككم من سقر، قالوا لم نك من المصلين} 42-43 1/ 34
سورة القيامة
{فإذا قرأناه فاتبع قرآنه} 18 2/27
{ثم إن علينا بيانه} 19 2/ 27
{أيحسب الإنسان أن يترك سدى} 36 2/ 123
سورة المرسلات
{وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون} 48 1/ 249
{ويل يومئذ للمكذبين} 49 1/ 249
سورة التكوير
{علمت نفس ما أحضرت} 14 1/ 70
{والليل إذا عسعس} 17 1/ 59
سورة الانفطار
{إن الأبرار لفي نعيم، وإن الفجار لفي جحيم} 13-14 1/ 332
سورة الشمس
{ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها} 7-8 2/ 200
سورة البينة
{لم يكن الذين كفروا} 1 2/ 66
سورة الزلزلة
{فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل
مثقال ذرة شرا يره} 7-8 1/ 292 و2/ 218(6/8)
ص -308-…2- فهرس أطراف الأحاديث النبوية:
طرف الحديث الجزء والصفحة
"أ"
ابدءوا بما بدأ الله 1/ 82
أبو عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة 1/ 221
أتأمرني بذلك "ألا تفارق زوجها" 1/ 251
أتي بسارق فقعيه من المفصل 1/ 105
أتاهم واحد "أهل قباء" فأخبرهم أن القبلة تحولت 1/ 136 و2/ 67
أجاركم الله من ثلاث خلال 1/ 206
اجتهد رأيي ولا آلو "قول معاذ" 1/ 152
آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار 2/ 25
ادرءوا الحدود بالشبهات 1/ 153
ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله 2/ 14
إذا اختلف البيعان 2/ 43
إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم 1/ 282
إذا حلف الرجل على يمين فله أن يستثني 1/ 364
إذا سها أحدكم عن صلاة فليصلها حين يذكرها 2/ 75
إذا شرب سكر 2/ 145
إذا قعد بين شعبها الأربع 2/ 77
إذا لاقى الختان الختان 2/ 77، 258
إذا وضعها في الحلال كان له بها أجر 2/ 101
أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبس الحرير "للحكة" 1/ 398
أرأيت لو تمضمضت بماء 2/ 25، 101، 219
أرأيت لو كان على أبيك دين 2/ 100، 122، 219
أرأيت لو وضعها في حرام 2/ 101(6/9)
ص -309-…ارتدت العرب قاطبة 1/ 301
استفت قلبك 2/ 196، 200
أشار بأصابعه إلى أيام الشهر ثلاث مرات 1/ 118
أصحابي كالنجوم 1/ 186، 221، 2/ 188
أعتق رقبة 2/ 112
أفينفعه إن حججت عنه 2/ 112
اقتدوا باللذين من بعدي أبو بكر وعمر 1/ 122 و2/ 188
اقتلوا أهل الأوثان 1/ 394
اقتلوا الأسودين في الصلاة 1/ 158
أقرأني جبريل على حرف 1/ 88
أقصرت الصلاة يا رسول الله؟ 1/ 297
أقضي بنحو ما أسمع 1/ 149
إلا الإذخر 1/ 366 و2/ 219
ألا إن القبلة قد حولت. 2/ 67
ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه 1/ 96 و2/ 219
إلا سهيل بين بيضاء 1/ 367
امحه واكتب محمد 2/ 222
أمر بقتل الأسودين في الصلاة 1/ 158
أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله 1/ 369
أمسك أربعا منهن وفارق سائرهن 1/ 331
أمين هذه الأمة أبو عبيدة 1/ 221
إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام 2/ 286
إن عاد "السارق" في الخامسة فاقتلوه 2/ 72
أنزل القرآن على سبعة أحرف 1/ 88
أن آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار 2/ 25
أن الخراج بالضمان 1/ 156
أن الحاكم إذا اجتهد 2/ 232
إن اله أجاركم من ثلاث خلال 1/ 206
أن الله عز وجل قال "قد فعلت" عند الدعوات 1/ 32
إن الله لا يقبض العلم انتزاعا 1/ 203(6/10)
ص -310-…إن للموت فزعا 2/ 73
إن النساء قلن ما نرى الله سبحانه ذكر إلا الرجال
فنزل قوله تعالى {إن المسلمين والمسلمات} 1/ 319
إن في دار فلان كلبا 2/ 150
إن من أمتي المحدثين والمكلمين 2/ 200
إنا آخذوها وشطر ماله 2/ 85
إنا معاشر الأنبياء لا نورث 1/ 388
إنما أقضي بنحو ما أسمع 1/ 149 و2/ 260
إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون 1/ 101، 102
إنما أنا شافع 1/ 251
إنما الأعمال بالنيات 1/ 156، 290، 327 و2/ 82
إنما قولي لامرأة واحدة كقولي لمائة امرأة 1/ 325
إنما نؤاخذكم بما ظهر لنا من أعمالكم 1/ 149
إنما هلك الذين من قبلكم من كثرة مسائلهم 1/ 252
أنه مج في فيه "محمود بن الربيع" مجة 1/ 140
أنه دعي إلى دار فأجاب 2/ 150
أنه واصل أياما تنكيلا لمن لم ينته عن الوصال 1/ 104
أنه ليس بأرض قومي فأجدني أعافه 1/ 119
إنها من الطوافين عليكم 2/ 118، 119
إنها أخته "قول سيدنا إبراهيم في سارة" 1/ 101
إني أوتيت القرآن ومثله معه 1/ 96
إني بعت منه عبدا 2/ 195
إني صائم 2/ 22
أيما إهاب دبغ فقد طهر 1/ 336 و2/ 71
أينقص إذا جف 1/ 155، 333، و2/ 25
الأئمة من قريش 1/ 302
الإثم ما حاك في صدرك 2/ 196
الاثنان فما فوقهما جماعة 1/ 312
الأعمال بالنيات 1/ 156(6/11)
ص -311-… "ب"
بئس خطيب القوم أنت 1/ 82
بئما اشتريت 2/ 195
بشروا ولا تنفروا 2/ 190
بعثت إلى الناس كافة 1/ 322
بعثت بالحنيفية السمحة 2/ 190
بعثت لأتمم مكارم الأخلاق 2/ 131
بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا 2/ 65
البينة على المدعي 1/ 156
البر بالبر والذهب بالذهب 1/ 337
"ت"
تجزئك ولا تجزئ أحدا بعدك 1/ 160
تحول أهل قباء عن بيت المقدس وهم في الصلاة 1/ 136
ترك رسول الله صلاة الليل جماعة 1/ 120
تركتكم على الواضحة ليلها كنهارها 1/ 103
تعلموا الفرائض وعلموها الناس 1/ 203
تيمم عمرو بن العاص للجنابة 1/ 292 و2/ 223
"ث"
الثيب الثيب جلد مائة والرجم 2/ 73، 85
"ج"
جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا 1/ 336
جمع رسول الله بين الصلاتين في السفر 1/ 289
"ح"
حجة النبي صلى الله عليه وسلم 1/ 160
حجوا كما رأيتموني أحج 2/ 25
الحرب خدعة 1/ 156
حكمي على الواحد كحكمي على الجماعة 1/ 325
الحلال بين والحرام بين 2/ 194، 286
الحلال ما أحله الله 2/ 285(6/12)
ص -312-…الحنطة بالحنطة 2/ 24
"خ"
خذوا عني مناسككم 1/ 105 و2/ 25
خير القرون قرني 1/ 173، 186
الخال وارث من لا وارث له 2/ 153
الخراج بالضمان 1/ 156، 334
"د "
دباغها ظهورها 1/ 336
دع ما يريبك إلى ما لا يريبك 2/ 193، 196
"ر"
رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه 1/ 167
رخص رسول الله لصاحب العرايا 1/ 152
رجم رسول الله ماعزا ولم يجلده 2/ 73، 85
رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد 1/ 221
رفع القلم عن ثلاث 1/ 37
رفع إليه سارق في الخامسة فلم يقتله 2/ 72
رفع عن أمتي الخطأ النسيان 1/ 327 و2/ 21
"ز"
زنى ماعز فرجم 2/ 112
"س"
سأل النبي الجارية عن حال أم المؤمنين عائشة
رضي الله عنها 1/ 178
سئل عن زكاة الحمير فقال لم ينزل عليَّ في ذلك
إلا هذه الآية الجامعة {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره} 2/ 218
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم {ولا تقتلوا أنفسكم} 1/ 292
السنور سبع 2/ 150
سها النبي صلى الله عليه وسلم فسجد 2/ 112
سيكون في آخر الزمان ناس من أمتي 2/ 246
"ش"
الشهر هكذا وهكذا وأشار بيده 2/ 24(6/13)
ص -313-… "ص"
صلوا كما رأيتموني أصلي 1/ 104، 113، 314 و2/ 25، 73
صلى بعد العصر ركعتين قضاء لسنة الظهر 1/ 115
صلى بعد العصر ركعتين وداوم عليهما 1/ 115
الصلاة الوسطي 1/ 344
صلى بعد غيبوبة الشفق 1/ 313
صلى في الكعبة 1/ 314
"ط"
الطعام بالطعام 1/ 337
"ع"
عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي 1/ 95، 221 و2/ 189
عليكم بالسواد الأعظم 2/ 260
العجماء جبار 1/ 156
"غ"
غسل الجمعة على كل محتمل 2/ 198
"ف"
فإن عاد في الخامسة فاقتلوه 2/ 72
فرضت الصلاة خمسين صلاة 2/ 56
فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم
قول السيدة عائشة رضي الله عنها 1/ 106
فلا يدري أنه "السفر" كان طويلا أو قصيرا 1/ 290
في أربعين شاة شاة 1/ 393
في الغنم السائمة زكاة 2/ 39
في سائمة الغنم زكاة 1/ 329، 393 و2/ 43
"ق"
قال سليمان: لأطوفن الليلة 1/ 367
قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا 2/ 66(6/14)
ص -314-…قرأ {لم يكن الذين كفروا} وقرأ فيها أن ذات الدين عند الله 2/ 66
قضى رسول الله أن الخراج بالضمان 1/ 315
قضى رسول الله بالشاهد واليمين 1/ 315 و2/ 82
قضى رسول الله بالشفعة للجار 1/ 314
قضى رسول الله يد سارق من المفصل 1/ 105
القضاة ثلاثة 2/ 233
"ك"
كان ظاهرك علينا 1/ 149 و2/ 260
كان فيما أنزل علينا عشر رضعات متتابعات فنسخ بخمس 2/ 65
كان لا يأذن بالقتال إلا لمن بلغ سن التكليف 1/ 38
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالقيام في الجنازة2/ 73
كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه 2/ 181
كان يستغفر الله في كل يوم 1/ 101
كان يصبح جنبا 2/ 259
كتب إلى عماله في الصدقات 1/ 118
كذب سعد ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة 1/ 126
كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد 1/ 282
كذب من قال ذلك بل له أجره مرتين 1/ 126
كل ذلك لم يكن 1/ 297
كُل مما يليك 1/ 253
كلوا وأطعموا وادخروا 2/ 59
كنا نخابر على عهد رسول الله فنهى عن ذلك 1/ 166
كنا نخرج صدقة عيد الفطر صاعا من تمر 1/ 165
كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزورها 2/ 84، 269
كيف نترك كتاب ربنا لقول امرأة 1/ 388
كيف تقضي إذا عرض لك قضاء 1/ 152 و2/ 99-223،
245
كيف يحدث؟ قال يتكلم الملك على لسانه 1/ 153 و2/ 201
"ل"
لا أعلم فيها إلا ما قال علي 2/ 223(6/15)
ص -315-…لا أنقض أمرا كان قبلي 1/ 311
لا إنما أنا شافع 1/ 251
لا تبيعوا الذهب بالذهب 1/ 158
لا تجتمع أمتي على ضلالة 1/ 207
لا تخمروا رأسه فإنه يبعث ملبيا 2/ 120
لا ترجعوا بعدي كفارا 1/ 203
لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله 1/ 207، 218
لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون عن أمر الله 1/ 207
لا تصروا الإبل 1/ 152
لا تصلوا في مبارك الإبل 1/ 279
لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين 2/ 195
لا تقرأه حتى تبلغ مكان كذا كذا 1/ 170
لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق 2/ 213
لا تقوم الساعة إلا على شرار أمتي 1/ 202
لا صلاة إلا بطهور 1/ 370 و2/ 19
لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب 2/ 19، 82
لا صلا ة لجار المسجد إلا في المسجد 2/ 19
لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل 2/ 19
لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل 1/ 193
لا ضرر ولا ضرار 2/ 154
لا طلاق في إغلاق 1/ 158
لا ميراث لقاتل 1/ 389
لا نترك كتاب ربنا لقول امرأة 1/ 389
لاها الله إذًا لا يعمد إلى أسد 2/ 222
لا نكاح إلا بولي 1/ 370 و2/ 19
لا وصية لوارث 1/ 389 و2/ 68
لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد 2/ 41
لا يرث المسلم الكافر 1/ 388
لا يزال هذا الدين قائما تقاتل عنه عصابة من المسلمين 2/ 207
لا يسلط على الأمة عدو يستأصل شافتها 2/ 186
لا يصلين أحد إلا في بني قريظة 2/ 223، 234(6/16)
ص -316-…لا يقتل مسلم بكافر 1/ 344، 345 و2/ 198
لا يقضي القاضي وهو غضبان 2/ 124
لا يُؤَمَّنَّ الرجل في سلطانه 1/ 371
لا يقلدن أحدكم دينه رجلا 2/ 246
لأغزون قريشا 1/ 365
لأطوفن الليلة 1/ 367
لعن الله اليهود 2/ 193، 195
لقد همت أن أخالف إلى قوم لا يشهدون الصلاة 1/ 118
للراجل سهم وللفارس سهمان 2/ 122
لم ينزل عليَّ في شأنها إلا هذه الآية 1/ 292
لن تجتمع أمتي على الضلالة 1/ 206
لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي 2/ 220، 238
لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم 1/ 186
لو بلغني هذا لمننت عليه 2/ 238
لو كان لابن آدم واديان من ذهب 2/ 65
لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك 1/ 251
ليس الأخوان إخوة في لسان قومك 1/ 311
"م"
ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله 1/ 97
ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن 1/ 346 و2/ 259، 260
ما نهيتكم عنه فاجتنبوه 1/ 252
مُره فليراجعها 1/ 274
مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع 1/ 274
مسح كل رأسه في الوضوء 2/ 18
مسح بعض رأسه في الوضوء 2/ 18
من أخضر مئزره فاقتلوه 1/ 38
من أشراط الساعة أن يرتفع العلم 1/ 203
من أصبح جنبا فلا صوم له 2/ 259(6/17)
ص -317-…من بدل دينه فاقتلوه 1/ 318
من حام حول الحمى يوشك أن يواقعه 2/ 194
من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه 1/ 156
من حلف على شيء فرأى 1/ 365
من سن سنة حسنة فله أجرها 1/ 95
من غسل ميتا 2/ 74
من فارق الجماعة فقد خلع ربقة الإسلام 1/ 208
من قتل قتيلا فله سلبه 2/ 27
من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة 1/ 177
من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها 2/ 75، 180، 272
الماء طهور لا ينجسه شيء 1/ 334
الماء من الماء 2/ 77، 258
"ن"
نحن معاشر الأنبياء لا نورث 1/ 301
نحن نحكم بالظاهر 1/ 148 و2/ 259، 260
نهى رسول الله عن أكل كل ذي ناب من السباع 2/ 68، 77
نهى رسول الله عن الصلاة بعد العصر 1/ 115
نهى عن بيع الذهب بالذهب 1/ 158
نهى عن الصوم في يوم العيد 1/ 283
نهى عن صوم أيام التشريق 2/ 22
نهى عن بيع الغرر 1/ 314، 315
نهى عن قتل الصبيان حتى يبلغوا 1/ 38
"هـ"
هل لك من إبل 2/ 108
هَمَّ بمصالحة الأحزاب على ثلث ثمار المدينة 1/ 118
هو الطهور ماؤه 1/ 155، 160، 304
هو رجل يهديني السبيل 1/ 58(6/18)
ص -318-… "و"
وإن طلب منك أهل حصن النزول على حكم الله 2/ 233
والله لأغزون قريشا 1/ 365، 366
ولا يعضد شجرها 1/ 366
"ي"
يا رسول الله إن النساء قلن ما نرى الله
ذكر إلا الرجال فنزلت {إن المسلمين والمسلمات} 1/ 319
يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته 1/ 368
يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب 2/ 101
يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله 1/ 179، 207
يسروا ولا تعسروا 2/ 190(6/19)
ص -319-…3 - فهرس الأعلام المترجمين:
اسم العلم المترجم له الجزء / الصفحة
"أ"
الآمدي = علي بن أبي علي بن محمد التغلبي
إبراهيم الحربي = إبراهيم بن إسحاق البغدادي الحربي 1/ 171
إبراهيم بن أحمد أبو إسحاق المروزي 1/ 345
إبراهيم بن إسماعيل الطوسي العنبري 1/ 139
إبراهيم بن أبي يحيى أبو إسحاق 1/ 182
إبر اهيم بن خالد أبو ثور البغدادي 1/ 213
إبراهيم بن السري بن سهل أبو إسحاق الزجاج 2/ 298
إبراهيم بن سعد بن إبراهيم "أبو إسحاق" 1/ 201
إبراهيم بن سيار أبو إسحاق النظام 1/ 124
إبراهيم بن عبد الرحمن العذري 2/ 179
إبراهيم بن علي بن أحمد "الطرطوسي" 1/ 6
إبراهيم بن علي بن يوسف "جمال الدين الشيرازي" 1/ 46
إبراهيم بن محمد بن إبراهيم أبو إسحاق الإسفراييني 1/ 41
إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي "نفطويه" 1/ 311
إبراهيم بن يزيد بن قيس أبو عمران النخعي 1/ 216
الأبهري = محمد بن عبد الله بن محمد بن صالح أبو بكر
الأبياري = علي بن إسماعيل بن علي
ابن الأثير = المبارك بن محمد بن محمد الشيباني
أحمد بن إبراهيم الجرجاني أبو بكر الإسماعيلي 1/ 163
أحمد بن إدريس "شهاب الدين" أبو العباس القرافي 1/ 110
أحمد بن بشر بن عامر أبو حامد المروزي 1/ 107
أحمد بن حسن الرصاص 1/ 280
أحمد بن الحسين بن أحمد الإربلي "ابن الخباز" 1/ 360(6/20)
ص -320-…أحمد بن الحسين بن علي أبو بكر البيهقي 1/ 168
أحمد بن حمدان بن شبيب الحراني "أبو عبد الله" 2/ 46
أحمد بن حنبل صاحب المذهب 1/ 133
أحمد بن سليمان البصري 2/ 212
أحمد بن شعيب بن علي النسائي 1/ 148
أحمد بن أبي طاهر أبو حامد الإسفراييني 1/ 224
أحمد بن بن طلحة أبو العباس "المعتضد بالله" 2/ 253
أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري 1/ 120
أحمد بن عبد الغفار الفارسي أبو علي 1/ 67
أحمد بن علي بن برهان أبو الفتح 1/ 98
أحمد بن علي بن ثابت أبو بكر الخطيب البغدادي 1/ 142
أحمد بن علي بن ثعلب بن ساعاتي 1/ 309
أحمد بن علي الرازي الجصاص 1/ 137
أحمد بن علي بن عبيد الله أبو طاهر البغدادي 1/ 225
أحمد بن علي بن محمد "ابن حجر العسقلاني" 2/ 214
أحمد بن عمر بن إبراهيم أبو العباس القرطبي 1/ 220
أحمد بن عمر بن سريج البغدادي "شيخ الإسلام" 1/ 49
أحمد بن فارس بن زكريا القزويني الرازي 1/ 57
أحمد بن محمد بن أحمد أبو الحسين بن القطان 1/ 110
أحمد بن محمد بن جعفر 2/ 252
أحمد بن محمد بن سلامة أبو جعفر الطحاوي 1/ 184
أحمد بن محمد بن علي الأنصاري "ابن الرفعة" 2/ 10
أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي 1/ 145
أحمد بن محمد بن منصور 2/ 49
أحمد بن محمد بن هارون أبو بكر الخلال 1/ 180
أحمد بن نصر الداودي 2/ 197
أحمد بن يحيى بن زيد أبو العباس إمام الكوفيين 1/ 57
أحمد بن يحيى بن عبد العزيز أبو عبد الرحمن الشافعي 1/ 223
الأحوال = عثمان بن سعيد
الأخفش = سعيد بن مسعدة أبو الحسن(6/21)
ص -321-…الأزهري = محمد بن أحمد بن الأزهر
الأستراباذي = الحسن بن محمد بن شرفشاه
إسحاق = إسحاق بن راهويه 1/ 170
أبو إسحاق الزجاج = إبراهيم بن السري
بو إسحاق = إبراهيم بن يوسف جمال الدين الشيرازي
أبو إسحاق = إبراهيم بن محمد الإسفراييني
أبو إسحاق النظام = إبراهيم بن سيار بن هانئ
أبو إسحاق المروزي = إبراهيم بن أحمد
أبو إسحاق = كعب بن ماتع
أسعد بن سهل بن حنيف 1/ 174
الإسفراييني = إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن إسحاق
إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم بن عليه 1/ 135
إسماعيل بن إسحاق بن حماد 2/ 253
إسماعيل بن حماد الجوهري أبو نصر 1/ 301
إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل المزني 1/ 334
الإسماعيلي = أحمد بن إبراهيم الجرجاني
الإسكافي = محمد بن عبد الله
الاشعري = علي بن إسماعيل بن إسحاق أبو الحسن
أشهب = عبد العزيز القيسي أبو عمرو 1/ 213
الأصبحي = مالك بن أنس بن مالك إمام دار الهجرة
الإصطخري = الحسن بن أحمد بن يزيد أبو سعيد
الأصفهاني = محمد بن محمود بن محمد "شمس الدين"
الأصم = محمد بن يعقوب بن يوسف أبو العباس
الأعمش = سليمان بن مهران الأسدي
إلكيا الهراسي = علي بن محمد بن علي "عماد الدين"
إلكيا الطبري = إلكيا الهراسي
إمام الحرمين = عبد الملك بن عبد الله بن يوسف
أبو أمامة = أسعد بن سهل بن حنيف
امرؤ القيس بن حجر بن الحارث 2/ 89
ابن الأنباري = أبو بكر محمد بن القاسم
الأوزاعي = عبد الرحمن بن عمرو بن يُخْمَد أبو عمرو(6/22)
ص -322-… "ب"
الباجي = سليمان بن خلف أبو الوليد
البخاري = عبيد الله بن مسعود "صدر الإسلام"
البخاري = محمد بن إسماعيل بن إبراهيم أبو عبد الله
أبو البركات ابن تيمية = عبد السلام بن عبد الله الحراني "مجد الدين"
ابن برهان = أحمد بن علي بن برهان أبو الفتح
ابن بري = عبد الله بن بري بن عبد الجبار المقدسي
البزدوي = علي بن محمد بن الحسين أبو الحسن
البستي = محمد بن حبان أبو حاتم
بشر المريسي بن غياث المغزلي 2/ 109
ابن أبي البقاء = عبد الله بن الحسين
أبو بكر = محمد بن عبد الله التميمي
أبو بكر السراج = محمد بن السري بن سهل السراج
أبو بكر الأصبهاني = محمد بن الحسن بن فورك
أبو بكر الباقلاني = محمد بن الطيب
أبو بكر = عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني
أبو بكر = محمد بن أحمد "علاء الدين" السمرقندي
ابو بكر = محمد بن العباس الخوارزمي
أبو بكر = محمد بن عبد الله بن محمد بن العربي
البلخي = الحكم بن عبد الله بن مسلمة أبو مطيع
البيضاوي = عبد الله بن عمر أبو سعيد "ناصر الدين"
البيهقي = أحمد بن الحسين بن علي أبو بكر
"ت"
الترمذي = محمد بن عيسى بن سَوْرَة الضرير
"ث"
ثعلب = أحمد بن يحيى بن زيد أبو العباس
الثلجي = محمد بن شجاع أبو عبد الله
التلمساني = عبد الله بن محمد بن علي
ثوبان بن جحدر "مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم 1/ 96
أبو ثور = إبراهيم بن خالد البغدادي(6/23)
ص -323-…الثوري = سفيان بن سعيد بن مسروق
"ج"
الجاحظ = عمرو بن بحر بن محبوب أبو عثمان
الجبائي = محمد بن عبد الوهاب بن سلام أبو علي
جرول بن أوس العبسي 2/ 186
الجرجاني = عبد القاهر بن عبد الرحمن أبو بكر
الجرجاني = علي بن محمد
الجرجاني = محمد بن يحيى أبوعبيد الله
ابن جريح = عبد الملك بن عبد العزيز
الجصاص = أحمد بن علي الرازي
جعفر بن حرب أبو الفضل 2/ 94
جعفر بن علي بن تاج الدين الظفيري الزيدي 1/ 59
جعفر بن مبشر 2/ 94
أبو جعفر الطوسي = محمد بن الحسين بن علي
أبو جعفر = محمد بن جرير الطبري
أبو جعفر = يزيد بن القعقاع
جُعل = الحسن بن علي بن إبراهيم
جميل بن زيد 1/ 222
ابن جني = عثمان بن جني أبو الفتح
جهم بن صفوان السمرقندي 1/ 214
الجواليقي = موهوب بن أحمد أبو منصور
الجوزجاني = إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق أبو سليمان
الجوهري = إسماعيل بن حماد
الجويني = عبد الملك بن عبد الله إمام الحرمين
"ح"
ابن الحاجب = عثمان بن عمر أبو عمرو "جمال الأئمة"
الحارث بن أسد المحاسبي أبو عبد الله 1/ 134
الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة 2/ 99
أبو حاتم = محمد بن حبان بن أحمد
أبو حازم = سلمة بن دينار المخزومي(6/24)
ص -324-…الحاكم = محمد بن عبد الله بن حمدوية
أبو حامد = محمد بن محمد بن أحمد الغزالي
أبو حامد الإسفراييني = أحمد بن أبي طاهر
أبو حامد المروزي = أحمد بن بشر بن عامر
ابن حبان = محمد بن حبان بن أحمد
ابن حجر الهيثمي = أحمد بن محمد بن علي بن حجر
ابن حجر العسقلاني = أحمد بن علي بن محمد
الحربي =إبراهيم بن إسحاق بن بشير
ابن حزم = علي بن أحمد بن سعيد عالم الأندلس
الحسن بن أحمد بن عبد الغفار أبو علي الفارسي 1/ 67
الحسن بن أحمد بن زيد أبو سعيد الإصطخري 1/ 105
الحسن بن إسماعيل 1/ 59
الحسن بن إسماعيل بن الحسين المغربي الصنعاني 1/ 116
الحسن بن الحسين بن أبي هريرة أبو علي 1/ 106
أبو الحسن الأشعري = علي بن إسماعيل بن إسحاق
أبو الحسن الرماني = علي بن عيسى بن عبد الله
أبو الحسن السهيلي = علي بن أحمد
الحسن بن عبد الله بن سهل العسكري 2/ 15
الحسن بن عبد الله بن المرزبان السيرافي 1/ 301
الحسن بن علي بن أبي طالب 1/ 139
الحسن بن محمد بن شرفشاه الأستراباذي 2/ 81
الحسن = الحسن بن يسار أبو سعيد 1/ 174
أبو الحسن = علي بن محمد بن الحسين
أبو الحسن الكرخي = عبيد الله بن الحسن بن دلال
الحسين بن صالح بن خيران أبو علي 1/ 106
الحسين بن عبد الله أبو علي ابن سينا الرئيس 1/ 54
الحسين بن علي الزيدي المؤيد بالله 1/ 81
الحسين بن علي بن أبي طالب 1/ 139
الحسين بن علي بن إبراهيم أبو عبد الله البصري المعروف بجُعل 1/ 153
الحسين بن علي أبو عبد الله الصيمري 1/ 289
الحسين بن علي بن يزيد الكرابيسي 1/ 133(6/25)
ص -325-…الحسين "أو الحسن" بن القاسم أبو علي الطبري 1/ 285
الحسين بن الحسن بن محمد أبو عبد الله الحليمي 1/ 145
حسين بن محمد بن أحمد أبو علي "القاضي" 1/ 100
الحسين بن يوسف بن علي = ابن المطهر الحلي 1/ 356
أبو الحسين الخياط = عبد الرحيم بن محمد
أبو الحسين بن القطان = أحمد بن محمد بن أحمد البغدادي
أبو الحسين البصري = محمد بن علي بن الطيب
أبو الحسين الصيمري = مفلح بن الحسين
أبو الحسين بن اللبان = محمد بن عبد الله بن اللبان
الحطيئة = جرول بن أوس العبسي
الحكم بن عبد الله أبو مطيع البلخي 1/ 248
الحكم بن عتيبة أبو محمد 1/ 238
حماد بن أسامة 1/ 182
حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي 1/ 95
ابن حمدان = أحمد بن حمدان "أبو عبد الله"
حمزة بن حبيب بن عمارة شيخ القراء 1/ 87
حمزة بن أبي حمزة النصيبي 1/ 222
الحليمي = الحسين بن الحسن بن محمد أبو عبد الله
أبو حنيفة = النعمان بن ثابت
أبو حيان = محمد بن يوسف بن علي
"خ"
ابن الخباز = أحمد بن الحسين بن أحمد الإربلي
ابن خروف = علي بن محمد بن علي الحضرمي
ابن خزيمة = محمد بن إسحاق
أبو الخطاب الحنبلي = محفوظ بن أحمد بن الحسن
الخطابي = حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطابي
الخطيب = أحمد بن علي بن ثابت البغدادي
الخلال = أحمد بن محمد بن هارون
خلف بن هشام بن ثعلب أبو محمد البزار 1/ 87
الخليل بن أحمد بن عمر أبو عبد الرحمن الفراهيدي 1/ 311
الخوارزمي = محمد بن العباس(6/26)
ص -326-…الخوارزمي = محمد بن محمد بن العباس
ابن خويز منداد = محمد بن أحمد بن عبد الله
ابن خيران = الحسين بن صالح أبو علي
"د"
الدارقطني = علي بن عمر بن أحمد
داود بن الحصين أبو سليمان 1/ 142
أبو داود = سليمان بن الأشعث السجستاني
داود بن علي بن خلف الظاهري 1/ 133
الدبوسي = عبد الله بن عمر أبو زيد
ابن درستويه = عبد الله بن جعفر النحوي
الدقاق = محمد بن محمد بن جعفر
ابن دقيق العيد = محمد بن علي بن وهب
ابن الدهان = سعيد بن المبارك بن علي الأنصاري أبو محمد
الدينوري = يوسف
"ذ"
ابن أبي ذئب = محمد بن عبد الرحمن أبو الحارث
الذهبي = محمد بن أحمد بن عثمان
"ر"
ابن الرفعة = أحمد بن محمد بن علي
الرازي = سليم بن أيوب أبو الفتح
الرازي = محمد بن عمر المعروف "بالفخر الرازي"
الرافعي = عبد الكريم بن محمد أبو القاسم
الربيع = الربيع بن سليمان بن عبد الجبار 1/ 168
رزين بن معاوية بن عمار العبدري الأندلسي أبو الحسن 1/ 170
ابن رشد = محمد بن أحمد بن رشد أبو الوليد المالكي
الرصاص = أحمد بن حسن
ابن رفاعة السلامي = معان بن رفاعة
الروياني = عبد الواحد بن إسماعيل أبو المحاسن
"ز"
زبان بن العلاء بن عمار التميمي 1/ 87(6/27)
ص -327-…ابن الزبعري = عبد الله بن الزبعري بن قيس
الزجاج = إبراهيم بن السري بن سهل
زر بن حبيش 2/ 66
الزركشي = محمد بن بهادر بن عبد الله
أبو زرعة الرازي = عبيد الله بن عبد الكريم
أبو زكريا = يحيى بن زياد بن عبد الله الفراء
أبو زكريا = يحيى بن شرف النووي.
ابو زكريا = يحيى بن معين
الزمخشري = محمود بن عمر بن محمد الخوارزمي "جار الله"
الزنجي = مسلم بن خالد
الزهري = محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب
زهير بن حرب بن شداد الحرشي 1/ 207
أبو زيد = عبد الله بن عمر الدبوسي
زين الدين العراقي = عبد الرحيم بن الحسين
"س"
ابن الساعاتي = أحمد بن علي بن ثعلب
سالم بن عبد الله 1/ 174
السبكي = عبد الوهاب بن علي أبو نصر
السراج = محمد بن السري أبو بكر النحوي
السرخسي = محمد بن أحمد "شمس الأئمة"
ابن سريج = أحمد بن عمر البغدادي شيخ الإسلام
السعد = مسعود بن عمر بن عبد الله التفتازاني
سعيد بن جبير أبو محمد الكوفي 1/ 175
أبو سعيد الإصطخري = حسن بن أحمد بن يزيد
أبو سعيد = عبد الرحمن بن مهدي بن حسان
أبو سعيد = محمد بن يحيى بن منصور
سعيد بن المبارك بن علي الأنصاري بن الدهان أبو محمد 1/ 311
سعيد بن مسعدة البلخي "أبو الحسن الأخفش" 2/ 42
سعيد بن المسيب بن حزن المخزومي 1/ 174
سعيد بن منصور 1/ 364
سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري 1/ 141(6/28)
ص -328-…سفيان بن عيينة بن أبي عمران 1/ 167
سلمة بن دينار المخزومي أبو حازم 1/ 175
أبو سلمة بن عبد الله بن عبد الرحمن الزهري 1/ 174
سليمان بن الأشعث السجستاني أبو داود 1/ 365 و2/ 207
سليمان بن داود بن الجارود الطيالسي 1/ 219
سليمان بن خلف الوليد الباجي 1/ 143
سليمان بن مهران الأسدي الأعمش 1/ 365
أبو سليمان الجوزجاني = موسى بن سليمان الحنفي
أبو سليمان = حمد بن محمد بن إبراهيم
سليم بن أيوب الرازي أبو الفتح 1/ 110
ابن السمعاني = منصور بن محمد
السمرقندي = محمد بن أحمد أبو بكر
أبو السنابل بن بعكك الصحابي الجليل 2/ 221
السهروردي = عمر بن محمد بن عبد الله "شهاب الدين"
أبو سهل الصعلوكي = محمد بن سليمان
السهيلي = عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد أبو الحسن الخثعمي
سيبويه = عمرو بن عثمان أبو بشر
ابن سيد الناس = محمد بن محمد بن أحمد
السيرافي = الحسن بن عبد الله بن المزربان
ابن سيرين = محمد بن سيرين
ابن سينا = الحسين بن عبد الله أبو علي الرئيس
السيوطي = عبد الرحمن بن أبي بكر "جلال الدين"
"ش"
الشافعي = محمد بن إدريس أبو عبد الله صاحب المذهب
أبو شامة المقدسي = عبد الرحمن بن إسماعيل
الشريف = علي بن محمد الجرجاني
الشريف المرتضى = علي بن الحسين
شعبة = شعبة بن الحجاج 1/ 171
الشعبي = عامر بن شراحيل
شمس الأئمة = محمد بن أحمد السرخسي
الشيخ الحسن = الحسن بن إسماعيل بن الحسين بن محمد المغربي(6/29)
ص -329-…أبو الشيخ الأصفهاني = عبد الله بن محمد بن جعفر
الشيرازي = إبراهيم بن علي أبو إسحاق
"ص"
صاحب المصادر = محمود بن علي الرازي
صاحب المفهم = أحمد بن عمر بن إبراهيم القرطبي
صاحب الميزان = محمد بن أحمد السمرقندي
صاحب النكت = الحسين بن عيسى
صاحب اللباب = مطهر بن الحسن
صاحب الهداية = علي بن أبي بكر المرغيناني
صالح مولى التوءمة المدني 1/ 182
ابن الصباغ = عبد السيد بن محمد أبو نصر
الصيدلاني = محمد بن داود بن محمد
صفي الدين الهندي = محمد بن عبد الرحيم
ابن الصلاح = عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان
الصيرفي = محمد بن عبد الله أبو بكر
"ض"
ضرار بن عمرو 1/ 132
"ط"
أبو طالب = عبد الرحمن بن عمر بن أبي القاسم
أبو طاهر البغدادي = أحمد بن علي بن عبيد الله
أبو طاهر الدباس = محمد بن محمد بن سفيان
طاهر بن عبد الله بن طاهر أبو الطيب الطبري 1/ 109
طاوس بن كيسان أبو عبد الرحمن الفارسي 1/ 366
الطائي = محمد بن أحمد أبو عبد الله
الطبري = محمد بن جرير أبو جعفر
الطحاوي = أحمد بن محمد بن سلامة أبو جعفر
الطرسوسي = إبراهيم بن علي بن أحمد
الطيالسي = سليمان بن داود بن الجارود
أبو الطيب الطبري = طاهر بن عبد الله بن طاهر(6/30)
ص -330-… "ع"
عاصم بن أبي النجود 1/ 87
عامر بن سنان الصحابي 1/ 126
عامر بن شراحيل 1/ 174
ابن عامر = عبد الله بن عامر بن يزيد
عباد بن سليمان بن علي أبو سهل الصيمري 1/ 41
العبادي = محمد بن أحمد بن محمد بن عباد
أبو العباس = أحمد بن إدريس شهاب الدين القرافي
أبو العباس القرطبي = أحمد بن عمر بن إبراهيم القرطبي
العباس بن الوليد أبو الفضل العذري البيروتي 1/ 213
عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة 2/ 93
عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي أبو القاسم 1/ 128
عبد الله بن بري بن عبد الجبار المقدسي 1/ 302
عبد الله بن جعفر بن درستويه النحوي 1/ 368
عبد الله بن الحسين بن أبي البقاء 2/ 89
عبد الله بن الزبعرى "أبو سعد" 2/ 27
عبد الله بن عامر بن ربيعة الأموي 1/ 174
عبد الله بن عامر بن يزيد "مقرئ الشام 1/ 87
عبد الله بن عدي بن عبد الله 1/ 222
عبد الله بن عمر بن عيسى أبو زيد الدبوسي 1/ 33
عبد الله بن عمر بن ناصر الدين البيضاوي أبو سعيد 1/ 247
عبد الله بن محمد بن علي "ابن التلمساني 2/ 44
عبد الله بن كثير بن عمرو 1/ 87
عبد الله بن المبارك الحنظلي 1/ 167
عبد الله بن محمد بن جعفر الأصفهاني 1/ 171
عبد الله بن مسلم بن قتيبة 1/ 367
عبد الله بن وهب أبو محمد الدينوري 1/ 217 و2/ 200
عبد الله بن يوسف أبو محمد الجويني 1/ 135، 234
أبو عبد الله البصري = الحسين بن علي
أبو عبد الله الصمري = الحسين بن علي بن محمد
أبو عبد الله الحاكم = محمد بن عبد الله بن حمدويه(6/31)
ص -331-…أبو عبد الله = محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني
أبو عبد الله الثلجي = محمد بن شجاع الثلجي البغدادي
أبو عبد الله = محمد بن علي بن عمر المكي المازري
أبو عبد الله الجرجاني = محمد بن يحيى
ابن عبد الباري 1/ 96
ابن عبد البر = يوسف بن عبد الله بن محمد الأندلسي
عبد الجبار بن أحمد أبو الحسن الهمذاني "القاضي" 1/ 59
عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن 1/ 360
عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار "عضد الدين" 1/ 330
عبد الرحمن بن إسماعيل أبو شامة المقدسي 1/ 103
عبد الرحمن بن أبي بكر "جلال الدين السيوطي" 2/ 214
عبد الرحمن بن عبد الوهاب الناصح الحنبلي 2/ 101
عبد الرحمن بن عمر بن أبي القاسم أبو طالب 1/ 81
عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد الأوزاعي 1/ 97
عبد الرحمن بن محمد بن فوران 1/ 139
عبد الرحمن بن مهدي العنبري أبو سعيد 1/ 96
أبو عبد الرحمن الشافعي = أحمد بن يحيى بن عبد العزيز
عبد الرحيم بن الحسين "زين الدين العراقي" 2/ 214
عبد الرحيم بن زيد بن الحواري العمي 1/ 221
عبد الرحيم بن عبد الكريم بن هوازن القشيري 1/ 99، 143
عبد الرحيم بن محمد أبو الحسين الخياط 1/ 234
عبد السلام بن عبد الله بن تيمية الحراني "مجد الدين" 1/ 381
عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي أبو هاشم 1/ 41
ابن عبد السلام = عبد العزيز بن عبد السلام "سلطان العلماء"
عبد السيد بن محمد أبو نصر بن الصباغ 1/ 109
عبد العزيز بن أحمد بن محمد البخاري 1/ 336
عبد العزيز بن عبد السلام "سلطان العلماء" 2/ 34
عبد العزيز القيسي = أشهب
عبد القاهر بن طاهر أبو منصور البغدادي 1/ 115
عبد القاهر بن عبد الرحمن أبو بكر الجرجاني "شيخ العربية" 1/ 74
عبد الكريم بن محمد أبو القاسم الرافعي 1/ 225(6/32)
ص -332-…عبد الملك بن عبد الله بن يوسف أبو المعالي الجويني 1/ 19
عبد الملك بن عبد العزيز بن جريح 1/ 182
عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون 1/ 310
عبد الواحد بن إسماعيل أبو المحاسن الروياني 1/ 110
عبد الوهاب بن علي أبو نصر السبكي 1/ 137
عبد الوهاب بن علي بن نصر أبو محمد القاضي 1/ 142
عبد الوهاب بن عطاء أبو نصر الخفاف 2/ 69
العبدري = رزين بن معاوية
أبو عبيد = القاسم بن سلام النحوي
عبيد الله بن الحسن 2/ 228
عبيد الله بن الحسين الكرخي الحنفي 1/ 60
عبيد الله بن عبد الكريم أبو زرعة الرازي 1/ 171
عبيد الله بن عدي بن الخيار 1/ 173
عبيد الله بن عمر البغدادي أبو القاسم 2/ 94
عثمان بن جني أبو الفتح 1/ 67
عثمان بن سعيد بن بشار أبو القاسم الأنماطي "الأحول" 1/ 391
عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان أبو عمرو بن الصلاح 1/ 142
عثمان بن عمر بن أبي بكر أبو عمرو "جمال الدين" 1/ 46
أبو عثمان = عمرو بن بحر بن محبوب الجاحظ
ابن عدي = عبد الله بن عدي بن عبد الله 1/ 176
ابن العربي = محمد بن عبد الله بن محمد أبو بكر
عروة بن الزبير بن العوام القرشي أبو عبد الله 1/ 176
العسكري = الحسن بن عبد الله بن سهل
العضد = عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار
ابن عطية = عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن أبو بكر
عطاء بن أبي رباح بن أسلم القرشي 1/ 366
العقيلي = محمد بن عمرو بن موسى أبو جعفر
العكبري = عبد الله بن الحسين
علقمة بن قيس بن عبد الله 1/ 174
علم الدين العراقي 1/ 354
علي بن أحمد أبو الحسن السهيلي 1/ 212(6/33)
ص -333-…علي بن أحمد بن سعيد بن حزم عالم الأندلسي 1/ 99
علي بن أحمد بن محمد الواحدي 2/ 178
علي بن إسماعيل بن إسحاق أبو الحسن الأشعري 1/ 41، 247
علي بن إسماعيل بن علي الأبياري 1/ 157
علي بن أبي بكر المرغيناني 2/ 44
علي بن الحسين بن موسى "الشريف المرتضى" 1/ 128
علي بن حمزة بن عبد الله الأسدي 1/ 87
أبو علي الطبري = الحسين بن القاسم
أبو علي الفارسي = الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي
علي بن عقيل بن محمد شيخ الحنابلة 2/ 73
علي بن أبي علي محمد التغلبي الآمدي 1/ 49
ابن عقيل = علي بن عقيل بن محمد
علي بن عمر أحمد البغدادي "ابن القصار" 1/ 371
علي بن عمر بن أحمد "الدارقطني" 1/ 169
علي بن عيسى الرماني النحوي 1/ 348
علي بن محمد بن عبد الملك "ابن القطان" 1/ 143
علي بن محمد الماوردي أبو الحسن 1/ 135
علي بن محمد بن الحسين البزدوي أبو الحسن 1/ 209
علي بن محمد بن علي "إلكيا الهراسي" 1/ 98
علي بن محمد الشريف الجرجاني 1/ 21
علي بن محمد بن علي الحضرمي "ابن خروف" 1/ 312
علي بن المديني بن عبد الله أبو الحسن 1/ 179
أبو علي الجبائي = محمد بن عبد الوهاب بن سلام
ابن علية = إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم
عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم 1/ 186
عمر بن محمد بن عبد الله السهروردي 2/ 199
عمران بن حطان 1/ 142
أبو عمران = إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي
عمرو بن بحر بن محبوب أبو عثمان الجاحظ 1/ 123
عمرو بن أبي سلمة أبو حفص التنيسي 1/ 182
عمرو بن عبيد أبو عثمان البصري 2/ 187(6/34)
ص -334-…عمرو بن عثمان أبو بشر الفارسي "سيبويه" 1/ 80
عمرو "أو عمر" بن محمد الليثي "أبو الفرج المالكي" 1/ 175
أبو عمرو = زبان بن العلاء بن عمار
أبو عمرو = عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد الأوزاعي
العنبري = إبراهيم بن إسماعيل الطوسي
عياض بن موسى أبو الفضل 1/ 98
عيسى بن أبان بن صدقة أبو موسى 1/ 151
أبو عيسى الوراق = محمد بن هارون
ابن عيينة = سفيان بن عيينة بن أبي عمران
"غ"
الغزالي = محمد بن محمد بن أحمد أبو حامد
ابن غيلان = غيلان بن سلمة الثقفي 1/ 331
"ف"
ابن فارس = أحمد بن فارس بن زكريا أبو الحسين
أبو الفتح = سليم بن أيوب بن سليم الرازي
أبو الفتح = عثمان جني
ابن أبي فديك = محمد بن إسماعيل بن مسلم
الفراء = محمد بن الحسين بن محمد أبو يعلى
الفراء = يحيى بن زياد الأسدي أبو زكريا
أبو الفرج = عمرو بن محمد الليثي المالكي
الفوراني = عبد الرحمن بن محمد بن فوران
ابن فورك = محمد بن الحسن بن فورك الأصبهاني
الفيروزآبادي 1/ 46
"ق"
أبو القاسم الأنماطي = عثمان بن سعيد بن بشار البغدادي
أبو القاسم الرافعي = عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم
القاسم بن سلام أبو عبيد اللغوي 1/ 80
أبو القاسم بن كج = يوسف بن أحمد بن كج القاضي
القاساني = محمد بن إسحاق أبو بكر
القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق 1/ 174(6/35)
ص -335-…القاضي جعفر = جعفر بن علي بن تاج الدين الظفيري
أبو القاسم البغدادي = عبيد الله بن عمر
ابن قتيبة = عبد الله بن مسلم بن قتيبة
القاضي حسين = حسين بن محمد بن أحمد أبو علي
القاضي عياض = عياض بن موسى أبو الفضل
قتادة = قتادة بن عامة أبو الخطاب البصري 1/ 175
القدوري = أحمد بن محمد بن جعفر أبو الحسين
القرافي = أحمد بن إدريس شهاب الدين أبو العباس
القرطبي = أحمد بن عمر بن إبراهيم أبو العباس
القرطبي = محمد بن أحمد بن أبي بكر الأنصاري
ابن القشيري = عبد الرحيم بن عبد الكريم بن هوازن
ابن القصار = علي بن عمر بن أحد البغدادي
القطان = يحيى بن سعيد بن فروخ
القفال = محمد بن علي بن إسماعيل أبو بكر
ابن قيم الجوزية = محمد بن أبي بكر
"ك"
ابن كج = يوسف بن أحمد بن يوسف بن كج
ابن كثير = عبد الله بن كثير بن عمرو
الكرابيسي = الحسين بن علي بن يزيد
الكرخي = عبيد الله بن ا لحسين الحنفي
الكسائي = علي بن حمزة بن عبد الله الأسدي
كعب بن ماتع الحميري "كعب الأحبار" 2/ 181
الكعبي = عبد الله بن أحمد بن محمود أبو القاسم
"ل"
الليث بن سعد أبو الحارث 1/ 169
ابن ابي ليلى = محمد بن عبد الرحمن
"م"
الماتريدي = محمد بن محمد بن محمود أبو منصور
ابن الماجشون = عبد الملك بن عبد العزيز
المازري = محمد بن علي بن عمر أبو عبد الله المكي(6/36)
ص -336-…مالك بن أنس بن مالك صاحب المذهب 1/ 108
ابن مالك = محمد بن عبد الله
الماوردي = علي بن محمد أبو الحسن
المبارك بن محمد بن محمد الشيباني ابن الأثير 1/ 163
مبارك بن أبان 1/ 391
ابن المبارك = عبد الله بن المبارك
المبرد = محمد بن يزيد أبو العباس
مجاهد بن جبر أبو الحجاج المكي شيخ القراء 1/ 365
ابن مجاهد = محمد بن أحمد بن محمد أبو عبد الله
المحاسبي = الحارث بن أسد أبو عبد الله
أبو المحاسن = عبد الواحد بن إسماعيل
محفوظ بن أحمد بن الحسن أبو الخطاب البغدادي 1/ 398 و2/ 44
محمد بن أحمد بن الأزهر 1/ 301
محمد بن أحمد أبو بكر "وأبو منصور" علاء الدين السمرقندي 1/ 211
محمد بن أحمد بن أبي بكر أبو عبد الله القرطبي 1/ 112
محمد بن أحمد "شمس الأئمة السرخسي" 1/ 33
محمد بن أحمد بن عبد الله بن خويز منداد 1/ 134
محمد بن أحمد بن عثمان "شمس الدين الذهبي" 1/ 145
محمد بن أحمد بن رشد أبو الوليد المالكي 1/ 112
محمد بن أحمد بن محمد بن عباد "العبادي" 1/ 351
محمد بن أحمد بن محمد الطائي أبو عبد الله 1/ 112
محمد بن إدريس صاحب المذهب 1/ 59
محمد بن إسحاق القاساني أبو بكر 1/ 135
محمد بن إسحاق بن خزيمة 1/ 170
محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري 1/ 138
محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فديك 1/ 181
محمد بن بحر الأصفهاني أبو مسلم 2/ 52
محمد بن أبي بكر بن أيوب "ابن قيم الجوزية" 1/ 366
محمد بن بهادر بن عبد الله "بدر الدين" الزركشي 1/ 101
محمد بن جرير أبو جعفر الطبري 1/ 99
أبو محمد الجويني = عبد الله بن يوسف(6/37)
ص -337-…محمد بن حبان بن أحمد أبو حاتم البستي 1/ 142
محمد بن الحسن بن علي الطوسي أبو جعفر 1/ 136
محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني 1/ 213
محمد بن الحسن بن فورك أبو بكر الأصبهاني 1/ 41
محمد بن الحسين محمد أبو يعلى الفراء 1/ 119
محمد بن خازم أبو معاوية السعدي 1/ 365
محمد بن داود 1/ 311
محمد بن داود بن علي بن خالف الظاهري 1/ 135
محمد بن داود بن محمد الصيدلاني 2/ 135
محمد بن السري أبو بكر بن السراج النحوي 1/ 303
محمد بن سليمان أبو سهل الصعلوكي 2/ 230
محمد بن سيرين البصري 1/ 157
محمد بن شجاع الثلجي أبو عبد الله 1/ 292
محمد بن الطيب أبو بكر الباقلاني 1/ 49
محمد بن عبد الله أبو بكر الصيرفي 1/ 109
محمد بن عبد الله بن حمدوية أبو عبد الله 1/ 176
محمد بن عبد الله بن الحسن أبو الحسين ابن اللبان 1/ 135
محمد بن عبد الله الإسكافي 2/ 94
محمد بن عبد الله بن عبد الحكم 2/ 283
محمد بن عبد الله بن مالك "جمال الدين" النحوي 1/ 359
محمد بن عبد الله التميمي أبو بكر الأبهري 1/ 151
محمد بن عبد الله محمد أبو بكر ابن العربي 1/ 111
محمد بن عبد الرحمن أبو الحارث ابن أبي ذئب 1/ 181
محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى 1/ 141
محمد بن عبد الرحيم أبو عبد الله صفي الدين الهندي 1/ 99
محمد بن عبد الواحد كمال الدين ابن الهمام 1/ 47
محمد بن عبد الوهاب بن سلام الجبائي أبو علي 1/ 79
محمد بن علي بن إسماعيل أبو بكر القفال الشاشي 1/ 107
محمد بن علي بن الطيب أبو الحسين البصري 1/ 60
محمد بن علي بن عمر أبو عبد الله المكي المازري 1/ 113
محمد بن علي بن وهب بن دقيق العيد 1/ 136(6/38)
ص -338-…محمد بن عمر بن أحمد أبو موسى المديني 1/ 364
محمد بن عمر بن الحسين "الفخر الرازي" 1/ 19
محمد بن عمر بن واقد الأسلمي 1/ 189
محمد بن عمرو بن موسى أبو جعفر العقيلي 1/ 179
محمد بن عيسى بن سورة الترمذي الضرير 1/ 149
محمد بن عيسى أبو عبد الله المغربي 2/ 94
محمد بن القاسم بن بشار أبو بكر الأنباري 2/ 50
محمد بن محمد بن أحمد "ابن سيد الناس" 2/ 214
محمد بن محمد بن أحمد الغزالي 1/ 33
محمد بن محمد بن جعفر الدقاق 1/ 109
محمد بن محمد بن سفيان أبو طاهر الدباس 1/ 171
محمد بن محمد بن العباس الخوارزمي 1/ 229
محمد بن محمد بن محمود أبو منصور الماتريدي 1/ 248
محمد بن محمود بن محمد "شمس الدين الأصفهاني" 1/ 46
محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري 1/ 167
محمد بن المنكدر بن عبد الله القرشي التيمي 1/ 176
محمد بن المنتاب 1/ 292
محمد بن نصر المروزي أبو عبد الله 1/ 238
محمد بن هارون أبو عيسى الوراق 1/ 223
محمد بن الهذيل البصري أبو هذيل 1/ 131
محمد بن يحيى بن منصور "أبو سعيد" 2/ 273
محمد بن يحيى بن مهدي أبو عبد الله الجرجاني 1/ 235
محمد بن يزيد المبرد "أبو العباس" 1/ 298
محمد بن يعقوب بن يوسف أبو العباس الأصم 1/ 135
محمد بن يوسف بن علي أبو حيان 1/ 300
محمود بن علي الرازي 1/ 310
محمود بن عمر بن محمد الخوارزمي
"جار الله الزمخشري" أبو القاسم 1/ 46
المرتضى = علي بن الحسين بن موسى
ابن المديني = علي بن المديني عبد الله أبو الحسن
المرغيناني = علي بن أبي بكر(6/39)
ص -339-…المروزي = محمد بن نصر أبو عبد الله
المريسي = بشر بن غياث
المزني = إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل
المزي = يوسف بن عبد الرحمن بن يوسف
مسروق بن الأجدع بن مالك 1/ 174
مسعود بن عمر بن عبد الله التفتازاني "سعد الدين" 1/ 46
مسلم بن الحجاج بن مسلم أبو الحسين القشيري 1/ 138
مسلم بن خالد بن مسلم الزنجي المخزومي 1/ 182
أبو مسلم الأصفهاني = محمد بن بحر الأصفهاني
مسيلمة بن ثمامة الكذاب 1/ 75
المطرزي = ناصر بن أبي المكارم عبد السيد بن علي
مطهر بن الحسن أبو سعد 1/ 299
ابن المطهر = الحسين بن يوسف بن علي
معان بن رفاعة السلامي 1/ 179
أبو معاوية = محمد بن خازم السعدي
المعتضد بالله = أحمد بن طلحة أبو العباس
المعري = أحمد بن عبد الله بن سليمان
المعظم = عيسى بن محمد الحنفي
المغربي = محمد بن عيسى أبو عبد الله المغربي
مفلح بن الحسين الصيمري 1/ 152
مقاتل بن سليمان أبو الحسن البلخي 2/ 207
مكحول = مكحول الشامي أبو عبد الله الفقيه 1/ 386
أبو منصور الماتريدي = محمد بن محمد بن محمود
أبو منصور الجواليقي = موهب بن أحمد
أبو منصور = عبد القاهر بن طاهر البغدادي
منصور بن محمد بن عبد الجبار السمعاني الشافعي 1/ 108 و2/ 71
ابن مهدي = عبد الرحمن بن مهدي العنبري
موسى بن سليمان الحنفي أبو سليمان الجوزجاني 1/ 213
أبو موسى المديني = محمد بن عمر بن أحمد
موهوب بن أحمد أبو منصور الجواليقي 1/ 301
المؤيد بالله = الحسين بن علي الزيدي(6/40)
ص -340-… "ن"
الناصح الحنبلي = عبد الرحمن بن عبد الوهاب
ناصر بن أبي المكارم عبد السيد بن علي المطرزي 1/ 391 و2/ 206
نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم الليثي 1/ 87
نافع مولى ابن عمر 1/ 134
النخعي = إبراهيم بن يزيد بن قيس أبو عمران
النسائي = أحمد بن شعيب بن علي
أبو نصر = عبد السيد بن محمد الصباغ
ابن نصر = أحمد بن نصر الداودي
النصيبي = حمزة بن أبي حمزة
النضر بن شميل بن خرشة أبو الحسن 2/ 31
النظام = إبراهيم بن سيار أبو إسحاق
النعمان بن ثابت أبو حنيفة صاحب المذهب 1/ 147
نفطويه = إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي
النهرواني 2/ 92
النووي = يحيى بن شرف أبو زكريا
النضر بن الحارث بن علقمة 2/ 238
"هـ"
أبو هاشم = عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي
أبو الهذيل = محمد بن الهذيل البصري
ابن أبي هريرة = الحسن بن الحسين أبو علي
هشام بن الحكم 1/ 135
ابن الهمام = محمد بن عبد الواحد "كمال الدين"
الهندي = محمد بن عبد الرحيم "صفي الدين"
"و"
الواقدي = محمد بن عمر بن واقد الأسلمي
أبو الوفا = علي بن عقيل بن محمد شيخ الحنابلة
الواحدي = علي بن أحمد بن محمد
أبو الوليد = سليمان بن خلف الباجي
الوليد بن عبد الملك بن مروان أبو العباس 1/ 186(6/41)
ص -341-…الوليد بن كثير الحافظ المخزومي 1/ 182
أبو الوليد = محمد بن أحمد بن رشد المالكي
ابن وهب = عبد الله بن وهب أبو محمد
"ي"
يحيى بن كثير بن درهم العنبري 1/ 386
يحيى بن حسان أبو زكريا 1/ 181
يحيى بن زياد الأسدي أبو زكريا الفراء 1/ 80
يحيى بن سعيد بن فروخ القطان 1/ 147
يحيى بن سعيد = يحيى بن سعيد بن قيس بن عمرو 1/ 175
يحيى بن شرف النووي أبو زكريا 1/ 100
يحيى بن أبي كثير أبو نصر الطائي 1/ 97
يحيى بن معين أبو زكريا البغدادي 1/ 96
يحيى بن يحيى بن بكر بن عبد الرحمن 1/ 167
يزيد بن القعقاع أبو جعفر 1/ 87
يعقوب بن إبراهيم أبو يوسف الأنصاري 1/ 141
يعقوب بن إسحاق بن زيد 1/ 87
أبو يعقوب الرازي = يوسف بن الحسين
أبو يعلى = محمد بن الحسين بن محمد "القاضي"
يوسف بن أحمد بن كج أبو القاسم "القاضي" 1/ 111
يوسف بن الزكي 1/ 183
يوسف بن عبد الرحمن بن يوسف أبو الحجاج المزي 1/ 149
يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر الأندلسي 1/ 96
يوسف بن الحسين أبو يعقوب الرازي 1/ 219
أبو يوسف = يعقوب بن إبراهيم الأنصاري(6/42)
ص -342-…4- فهرس الكتب الواردة في المتن:
اسم الكتاب المؤلف الجزء والصفحة
"أ"
الإحكام لابن حزم 1/ 163، 196، 214،
37، و2/ 58، 94
أحكام القرآن للإمام الشافعي رضي الله عنه 2/ 18، 94
اختلاف الحديث للإمام الشافعي رضي الله عنه 1/ 318
أدب الجدل لأبي الحسن السهيلي 1/ 213، 227 و2/ 44، 169
أدب الطلب ومنتهى الأدب للإمام الشوكاني 2/ 190، 245
أدب القاضي للإمام الشافعي 2/ 232
الأساليب لأبي المعالي الجويني 2/ 126
الأصول للإمام الشاشي 1/ 313
الإعراب لابن حزم 1/ 237
الإفادة للقاضي عبد الوهاب 1/ 300، 314،
32، 357، 398
إكفار المتأولين ـ 2/ 229
إلجام العوام عن علم الكلام لأبي حامد الغزالي 2/ 33
الإلماع للقاضي عياض 1/ 169
الأم للإمام الشافعي 2/ 47
أنواع البروق في أنواع الفروق = القواعد للقرافي(6/43)
ص -343-…الأوسط لابن برهان 1/ 231، 326، 338
و2/ 6، 62، 67، 81، 192، 193
"ب"
البحر للروياني 1/ 231، 238، 2/ 248
البحر المحيط للزركشي 1/ 101، 107، 110، 143، 211، 225 232، 240، 241، 298، 303، 308، 320، 333، 339، 391 و2/ 24، 34، 56، 70، 78، 82، 149، 156، 198، 199، 212 215، 240، 257، 260
البرهان لإمام الحرمين الجويني 1/ 98، 107، 111 293، 334، 344 و2/ 37، 46، 58، 117، 119، 126، 149، 176 184، 269
"ت"
تاريخ الإسلام للحافظ الذهبي 1/ 183
تاريخ النبلاء للحافظ الذهبي 1/ 183 و2/ 33، 34
التبصرة لأبي إسحاق الشيرازي 1/ 134 و2/ 29، 140
التحرير للمحقق ابن الهمام 1/ 299، 304، 390، و2/ 288
التحقيق لعبد العزيز بن أحمد 2/ 46
التذكرة في أصول الدين للتميمي 2/ 199
التعليقة لأبي حامد الغزالي 1/ 347
التعليقة للقاضي حسين 1/ 139 و2/ 176، 240
التفرقة بين الإسلام والزندقة لأبي حامد الغزالي 2/ 229
تفسير خمسمائة آية من القرآن لمقاتل بن سليمان 2/ 210
تفسير الرازي للإمام الرازي 1/ 308، 382
تفسير الماتريدي لأبي منصور الماتريدي 2/ 6
التقريب للرازي 1/ 307 و2/ 45، 57(6/44)
ص -344-… التقريب لأبي بكر الباقلاني 1/ 155، 159، 180،
185، 215، 223، 232، 293، 315، 333، 335، 372،
391 و 2/ 45، 48، 57، 67، 77، 1110، 117، 124، 138،
177، 187، 191، 218، 240، 263، 269، 280
التقويم لأبي زيد الدبوسي 1/ 111، 308
التلخيص للإمام الجويني 1/ 356، 400 و2/ 240
التلخيص للقاضي عبد الوهاب 1/ 298 و2/ 150
التلويح لإلكيا الطبري 1/ 308، 318، 2/ 45
التلويح للسعد التفتازاني 1/ 248
التمهيد لأبي الخطاب الحنبلي 2/ 46
التمهيد لابن عبد البر 2/ 65، 66
تهذيب الكمال للحافظ المزي 1/ 183
التنقيح ــ 2/ 120، 121
"ث"
الثقات لابن حبان 1/ 142، 150
"ج"
جامع الأصول لابن الأثير 1/ 163
جامع العلم لابن عبد البر 1/ 96 و2/ 94
الجدل لأبي منصور البغدادي 1/ 229
الجدل للكعبي 2/ 164
الجدل للآمدي 2/ 112، 113
"خ"
الخصائص لابن جني 1/ 233
"د"
الدلائل "دلائل الأعلام" للصيرفي 1/ 233 و2/ 62(6/45)
ص -345-… "ر"
الرسالة للإمام الشافعي 1/ 237، 410 و2/ 24،
54، 59، 182، 187، 232
الرسالة المكملة في أدلة البسملة للشوكاني 1/ 89
الروضة لابن قدامة 2/ 93
"ز"
الزواجر في الكبائر لابن حجر 1/ 145
زوائد الروضة للحافظ النووي 1/ 100 و2/ 93
الزيادات للعبادي 1/ 353
"س"
سنن البيهقي لأحمد بن الحسين 2/ 253
سنن أبو داود لأبي داود 2/ 207، 208
السير الكبير للشيباني 2/ 39
"ش"
الشامل لإمام الحرمين الجويني 2/ 241
شرح أدب الكاتب لأبي منصور الجواليقي 1/ 311
شرح الإمام لابن دقيق العيد 1/ 165، 371، 393،
397 و2/ 213
شرح البرهان للأبياري 1/ 157، 164، 329
و2/ 116، 126، 136
شرح البرهان لابن المنير 2/ 49
شرح البزدوي = كشف الأسرار
شرح الترتيب للإسفراييني 2/ 141
شرح الرسالة للجويني 1/ 135 و2/ 198، 220،
232، 250(6/46)
ص -346-…شرح السير للسرخسي 2/ 45
شرح العنوان لابن دقيق العبد 1/ 322، 347 و2/ 108، 213
شرح كتاب سيبويه للسيرافي 1/ 301
شرح الكفاية لأبي الطيب 1/ 111 و2/ 67
شرح اللمع للشيرازي 2/ 37، 39
شرح المحصول للأصفهاني 1/ 213، 329، 354،
357 و2/ 5، 58، 160
شرح مختصر المنتهى لعضد الدين 1/ 330، 359
شرح صحيح مسلم للنووي 2/ 130
شرح مقالات الأشعري لابن فورك 2/ 68
شرح المنتقى للشوكاني = نيل الأوطار
شعب الإيمان للبيهقي 2/ 101
شفاء العليل للغزالي 2/ 133
"ص"
الصحاح للجوهري 1/ 375 و2/ 89
صحيح البخاري للإمام البخاري 1/ 138 و2/ 211
صحيح مسلم للإمام مسلم 1/ 138، 146، 389 و2/ 211
"ض"
الضعفاء للعقيلي 1/ 179
"ع"
العدة لابن الصباغ 1/ 356، 412
العلل للترمذي 1/ 49
العلل للخلال 1/ 180(6/47)
ص -347-… "غ"
غريب الحديث لأبي عبيد 1/ 344
"ف"
فتاوى ابن الصلاح لابن الصلاح 2/ 199
الفتيا للجاحظ 1/ 187
فتح القدير للإمام الشوكاني 1/ 91
فقه العربية لابن فارس 1/ 95، 312، 372
و2/ 32
الفقيه والمتفقه للحافظ البغدادي 2/ 75
"ق"
القواطع لابن السمعاني 1/ 298، 356
و2/ 107، 176
القواعد للأصفهاني 1/ 372
القواعد للقرافي 2/ 46
القول المفيد في حكم التقليد للشوكاني 2/ 190، 244
"ك"
الكافي للخوارزمي 1/ 229 و2/ 136،
174، 180
الكفاية للخطيب البغدادي 1/ 185
الكتاب للصيرفي 2/ 50
الكتاب لأبي إسحاق المروزي 2/ 59
كتاب سيبويه لسيبويه 1/ 81، 312
كتاب ابن فورك ـــ 1/ 224
الكشاف للزمخشري 2/ 47
كشف الأسرار = شرح البزدوي العلاء البخاري 1/ 335(6/48)
ص -348-… "ل"
اللباب لمطهر بن الحسن 1/ 299
اللمع للشيرازي 1/ 109، 159، 160،
229، 232، 340، 383 و2/ 9، 25، 40، 67، 78، 73،
269
"م"
المحصول لابن العربي 1/ 111
المحصول للرازي 1/ 41، 47، 67، 91،
107، 108، 111، 120، 143، 146، 180، 184،
193، 198، 206، 213، 236، 241، 247، 258، 259،
269، 273، 285، 305، 307، 309، 315، 318، 324،
326، 328، 329، 331، 334، 339، 341، 346، 348،
358، 363، 369، 370، 375، 378، 381، 382، 384،
388، 390 و2/ 5، 7، 9، 10، 12، 13، 21، 27، 39،
44، 50، 51، 62، 76، 79، 80، 89، 92، 110، 111،
116، 118، 122، 127، 134، 125، 136، 138، 139،
146، 147، 149، 153، 156، 157، 205، 207، 209،
211، 212، 224، 236، 237، 241، 247، 251، 257،
258، 260، 264، 269، 276، 277، 278، 284
المختصر للمزني 2/ 146، 150، 240، 243
مختصر التقريب للجويني 1/ 232 و2/ 13، 27، 136، 178
مختصر المنتهى لابن الحاجب 1/ 326، 360، 390، 391
و2/ 52، 115، 116، 134، 137، 155، 162، 182،
228، 275
مدارج السالكين لابن القيم 1/ 366
المدخل للبيهقي 1/ 168
المرشد لابن القشيري 2/ 178، 179
المسائل لابن قتيبة 1/ 367(6/49)
ص -349-…مسائل الخلاف في أصول الفقه لأبي عبد الله الصيمري 1/ 289
المستدرك للحاكم النيسابوري 1/ 364 و2/ 66
المستصفى للغزالي 1/ 226، 262،
و22/ 137، 138، 263،
271، 275
المصادر في الأصول لمحمود بن علي الرازي 1/ 134، 310 و2/ 17
المطالب العالية للفخر الرازي 2/ 53
المطلب لابن الرفعة 2/ 10
المعالم للرازي 1/ 110
المعتمد لأبي الحسين 1/ 232، 325، 334، 358
و2/ 18، 29، 45، 80،
81، 83
المعتمد لأبي عبد الله البصري 2/ 17
معرفة السنن للبيهقي 2/ 207
المفهم شرح مسلم للقرطبي المالكي 1/ 314
المقاييس لابن فارس 1/ 193
الملخص للقاضي عبد الوهاب 1/ 142، 217، 358
و2/ 21، 46
الملل والنحل لابن حزم 1/ 99
المنتهى ــ 2/ 107
المنخول للغزالي 1/ 103، 112، 139،
184، 226، 227، 334 و2/ 15، 157، 178، 251، 257
المنهاج للبيضاوي 2/ 63، 110، 135
الموطأ للإمام مالك 1/ 218، 238
الميزان للذهبي 1/ 184
ميزان الأصول لعلاء الدين السمرقندي 1/ 215، 302، 303
"ن"
الناسخ والمنسوخ ـ 2/ 62(6/50)
ص -350-…نتائج الفكر للسهيلي 2/ 46
النكت للشيرازي 2/ 216
النهاية للجويني 1/ 104، 308، 378، 392
النهاية للصفي الهندي 1/ 304 و2/ 37
نهاية الغريب = النهاية في
غريب المحدثين لابن الأثير 2/ 200
نيل الأوطار في شرح المنتقى
من الأخبار للشوكاني 1/ 89
"هـ"
الهداية للمرغيناني 2/ 44
"و"
الوجيز لابن برهان 1/ 216، 231، 233، 358
و2/ 29، 46، 114، 115، 178، 185، 263
الوسيط للغزالي 2/ 212
الودائع لابن سريج 1/ 237
الوهم والإيهام لابن القطان 1/ 143(6/51)
ص -351-…5- فهرس الفرق:
الفرقة الجزء / الصفحة
الأشعرية 1/ 28، 32، 36، 38، 98، 111، 133، 136،
222، 375، و2/ 38، 57، 67، 87، 88، 89
الإمامية 1/ 133، 136، 222
البراهمة 1/ 128، 131
الخطابية 1/ 213
الخوارج 1/ 201، 212، 213
الدهرية 1/ 130
الرافضة 1/ 102، 135، 212، 213، و2/ 53
الزيدية 1/ 222
السمنية 1/ 128، 131
الشمعونية 2/ 52
الظاهرية 1/ 67، 160، 212، 213، 229، 330، 383
و2/ 38، 52، 59، 60، 174
القدرية 1/ 212
الفلاسفة 1/ 55
المجسمة 2/ 229
المجوس 2/ 228
المرجئة 1/ 293
المشبهة 2/ 32
المعتزلة 1/ 28، 36، 38، 41، 64،(6/52)
ص -352-… 66، 79، 89، 102، 105، 109، 111، 136،
175، 189، 212، 245، 247، 248، 249،
258، 264، 275، 284، 305، 307، 326،
357، 393 و2/ 13، 28، 29، 38، 44، 57،
59، 67، 69، 93، 94، 105، 120، 140، 180،
230، 231، 235، 237، 241، 287، 288، 289
النصاري 1/ 126 و2/ 288
الموسوية 2/ 52
الواقفية 1/ 293، 294
اليهود 1/ 126 و2/ 193، 195، 228(6/53)
ص -353-…6- فهرس الأبيات الشعرية والأمثال العربية:
تخبرك العينان ما القلب كاتم ولا جن بالبغضاء والنظر الشزر
لم يعرف قائله 1/ 120
لأمر ما يسود من يسود
قائله: أنس بن مدركة 1/ 242
وبلده ليس بها أنس إلا اليعافير ولا العيس
قائله: جران العود 1/ 360
نبي من الغربان ليس على شرع يخبرنا أن الشعوب إلى صدع
قائله: أبو العلاء المعري 1/ 120
دع عنك تعنيفي وذق طعم الهوى فإذا عشقت فعند ذلك عنف
قائله: عمرو بن الفارض 2/ 227
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي بصبح وما الإصباح منك بأمثل
قائله: امرؤ القيس 1/ 254
يهون علينا أن تصاب جسومنا وتسلم أعراض لنا وعقول
قائله: أبو الطيب المتنبي 2/ 130
لا تعذل المشتاق في أشواقه حتى يكون حشاك في أحشائه
قائله: أبو الطيب المتنبي 2/ 226
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني
قائله: سحيم بن وثيل الرياحي 1/ 69
لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها
قائله: الأبلة البغدادي 2/ 226
فهرس الأمثال:
لأمر ما جدع قصير أنفه 1/ 242
على نفسها جنت براقش 2/ 226(6/54)
ص -354-…7- فهرس الأماكن والبلدان:
المكان أو البلد الجزء/ الصفحة
بئر معونة 2/ 65
البصرة 1/ 80، 213، 220
سمرقند 1/ 248
الصفا 1/ 82
قباء 1/ 136
الكوفة 1/ 30، 213، 220
المدينة 1/ 176، 220
مصر 1/ 220
المروة 1/ 82
مكة 1/ 220
نيسابور 2/ 140
اليمامة 1/ 75(6/55)
ص -355-…8- فهرس مراجع التحقيق:
الإتقان في علوم القرآن، للحافظ جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم، الطبعة الثانية، منشورات رضى ببيدار عزيزي.
أحكام القرآن، لأبي بكر محمد بن عبد الله "ابن العربي"، تحقيق علي محمد البيجاوي، طبعة دار إحياء التراث العربي بيروت.
إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، لمحمد ناصر الدين الألباني، طبعة المكتب الإسلامي بيروت الطبعة الثانية سنة 1985
الاستيعاب في أسماء الأصحاب، لأبي عمر يوسف بن عبد الله "ابن عبد البر"، طبعة دار الكتاب العربي بيروت مطبوع مع كتاب الإصابة.
الإصابة في تمييز الصحابة، لشهاب الدين أحمد بن علي بن محمد "ابن حجر العسقلاني"، طبعة دار الكتاب العربي بيروت.
أصول الشاشي، لنظام الدين الشاشي، طبعة دار الكتاب العربي بيروت.
أصول السرخسي، للإمام محمد بن أحمد السرخسي، تحقيق أبي الوفا الأفغاني، طبعة دار المعرفة بيروت.
إعلاء السنن، للتهانوي، الطبعة الثانية في الباكستان عام 1383 هـ.
الأعلام، لخير الدين الزركلي، بطبعة دار العلم للملايين بيروت، الطبعة العاشرة 1992.
الأم، لأبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، طبعة دار المعرفة بيروت، بإشراف محمد زهدي النجار.
البداية والنهاية في التاريخ، للحافظ إسماعيل بن عمر المعروف بابن كثير، طبعة مكتبة المعارف بيروت.
البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، للقاضي محمد بن علي الشوكاني، طبعة دار المعرفة بيروت.
البيان والتعريف في أسباب ورود الحديث الشريف، للشيخ إبراهيم بن محمد الحسيني، طبعة مكتبة مصر، تحقيق عبد المجيد هاشم.
تاج التراجم في طبقات الحنفية، لزين الدين قاسم بن قطلوبغا، تحقيق محمد خير رمضان يوسف، طبعة دار القلم دمشق 1992.
تاريخ بغداد، لأحمد بن علي البغدادي الخطيب، طبعة دار الكتب العلمية بيروت.(6/56)
ص -356-…التبصرة في اصول الفقه، للشيخ أبي إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي، تحقيق الدكتور محمد حسين هيتو، طبعة دار الفكر دمشق.
تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد، للشيخ إبراهيم بن محمد البيجوري، طبعة دار الكتب العلمية بيروت.
دريب الراوي في شرح تقريب النواوي، لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، طبعة دار الفكر بيروت.
تذكرة الحفاظ، للإمام الحافظ شمس الدين الذهبي طبعة دار إحياء التراث العربي بيروت.
التعريفات، لعلي بن محمد الجرجاني، تحقيق إبراهيم الأبياري، طبعة دار الكتاب العربي بيروت.
تفسير ابن كثير "تفسير القرآن العظيم"، لإسماعيل بن عمر بن كثير، طبعة دار المعرفة بيروت بتقديم الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي.
تفسير الصاوي "حاشية الصاوي على الجلالين" طبعة دار الفكر بيروت 1986.
تفسير القرطبي "الجامع لأحكام القرآن"، لأبي عبد الله محمد بن أحمد القرطبي، طبعة دار الشام للتراث بيروت.
التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير.
التلويح على التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه، لسعد الدين التفتازاني، طبعة دار الكتب العلمية بيروت.
التمهيد، لابن عبد البر، طبعة مطبعة فضالة في المغرب.
تهذيب التهذيب، للحافظ أحمد بن علي "ابن حجر العسقلاني"، طبعة دار إحياء التراث العربي بيروت.
جامع بيان العلم وفضله، لأبي عمر يوسف بن عبد البر.
جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع، للسيد أحمد الهاشمي، طبعة دار إحياء التراث العربي بيروت الطبعة الثانية عشرة.
الجواهر المضية في طبقات الحنيفية، لأبي محمد عبد القادر بن محمد القرشي، تحقيق الدكتور عبد الفتاح محمد الحلو، الطبعة الثانية في هجر 1993.
حاشية الدمياطي على شرح الورقات، لأحمد بن محمد الدمياطي، طبعة دار إحياء الكتب العربية بمصر.(6/57)
خلاصة الأفكار شرح مختصر المنار، لزين الدين قاسم بن قطلوبغا، تحقيق الدكتور زهير بن ناصر الناصر، الطبعة الأولى دار ابن كثير.
خلاصة تذهيب تهذيب الكمال في أسماء الرجال، لصفي الدين أحمد بن عبد الله الخزرجي الأنصاري، طبعة مكتبة المطبوعات الإسلامية بحلب، تقديم عبد الفتاح أبو غدة.
الدراية في تخريج أحاديث الهداية، للحافظ ابن حجر العسقلاني، طبعة دار المعرفة.
ذيل تذكرة الحفاظ، للحافظ أبي المحاسن محمد بن علي الدمشقي، طبعة دار إحياء التراث العربي بيروت.
الرسالة، للإمام محمد بن إدريس الشافعي، طبعة مصطفي البابي الحلبي بالقاهرة.(6/58)
ص -357-…روضة الطالبين وعمدة المفتين، للإمام يحيى بن شرف النووي، طبعة المكتب الإسلامي بيروت، 1991.
سنن الترمذي، لمحمد بن عيسى الترمذي طبعة دار الفكر، تحقيق عبد الرحمن محمد.
سنن الدراقطني، للحافظ علي بن عمر الدارقطني، طبعة عالم الكتب بيروت.
سنن الدارمي، لعبد الرحمن بن الفضل بن بهرام، طبعة دار الريان سنة 1407هـ.
سنن أبي داود، لسليمان بن الأشعث السجستاني، طبعة دار الجنان بيروت.
السنن الكبرى، لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، طبعة دار الفكر.
سنن ابن ماجة، لأبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، طبعة دار الحديث القاهرة.
سنن النسائي، لأحمد بن شعيب النسائي، طبعة دار المعرفة بيروت 1994.
سير أعلام النبلاء، للحافظ شمس الدين الذهبي، طبعة مؤسسة الرسالة، الطبعة العاشرة 1990.
السيرة النبوية، لأبي محمد عبد الملك بن هشام، تقديم طه عبد الرءوف سعد، طبعة شركة الطباعة المتحدة مصر.
شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لابن العماد الحنبلي، طبعة دار إحياء التراث العربي بيروت.
شرح السراجية، للسيد الشريف الجرجاني، تحقيق الشيخ عدنان درويش.
شرح السلم المنورق لدمنهوري، تحقيق عبد السلام شنار.
شرح شواهد المغني "فتح القريب المجيد في إعراب شواهد مغني اللبيب"، لشيخ محمد علي طه الدرة، طبعة الرازي دمشق.
شرح صحيح مسلم، ليحيى بن شرف النووي، طبعة دار مكتبة الغزالي دمشق.
الصحاح في اللغة والعلوم، لإسماعيل بن حماد الجوهري، طبعة دار الحضارة العربية بيروت، الطبعة الأولى 1974، تقديم الشيخ عبد الله العلايلي.
صحيح البخاري "الجامع الصحيح"، لمحمد بن إسماعيل البخاري، طبعة دار المعرفة مع فتح الباري.
صحيح ابن خزيمة، لأبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، طبعة المكتب الإسلامي بيروت، 1992، تحقيق الدكتور محمد مصطفي الأعظمي.(6/59)
صحيح مسلم، لأبي الحسين مسلم بن الحجاج، طبعة دار إحياء التراث العربي بيروت، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.
ضوابط المعرفة، لعبد الرحمن حسن حبنكة، طبعة دار القلم.
فتح العزيز في شرح الوجيز، لأبي القاسم عبد الكريم بن محمد الرافعي، طبعة دار الفكر بيروت، وهو بهامش المجموع.
الفوائد البهية في تراجم الحنفية، لأبي الحسنات محمد عبد الحي اللكنوي، طبعة دار المعرفة بيروت.
فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت، لعبد العلي محمد بن نظام الدين الأنصاري، طبعة دار إحياء التراث العربي بيروت، 1993، بهامش المستصفى.
كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي، للإمام علاء الدين عبد العزيز بن أحمد البخاري،(6/60)
ص -358-…طبعة دار الكتاب الإسلامي القاهرة.
كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، لإسماعيل بن محمد العجلوني، طبعة دار إحياء التراث العربي بيروت.
كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، لمصطفي بن عبد الله "حاجي خليفة"، طبعة دار إحياء التراث العربي بيروت.
لسان العرب، لأبي الفضل محمد بن منظور، طبعة دار صادر بيروت، 1992.
لسان الميزان، لابن حجر العسقلاني "أحمد بن علي"، طبعة مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت.
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، تحقيق عبد الله محمد درويش، طبعة دار الفكر بيروت.
المجموع شرح المهذب، للإمام يحيى بن شرف النووي، طبعة دار الفكر بيروت.
المحصول في علم الأصول، لفخر الدين الرازي، طبعة مطبعة جامعة الأمير محمد بن سعود الإسلامية، تحقيق الدكتور طه جابر العلواني.
مختصر المزني، لأبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني، طبعة دار المعرفة بيروت، وهو ملحق بالأم للشافعي.
المستدرك على الصحيحين، للإمام أبي عبد الله محمد بن عبد الله "الحاكم النيسابوري"، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، طبعة دار الكتب العلمية بيروت 1990.
المستصفى من علم الأصول، للإمام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي، طبعة دار إحياء التراث العربي.
مسند الإمام أحمد بن حنبل، طبعة دار المكتب الإسلامي ودار صادر بيروت، 1978.
مسند أبو عوانة الإسفراييني، طبعة دار المعرفة.
مسند أبي يعلي، للإمام الحافظ أحمد بن علي الموصلي، تحقيق حسين سليم أسد، طبعة دار الثقافة العربية، 1992 دمشق بيروت.
مصابيح السنة، للحسين بن محمود البغوي، طبعة دار المعرفة بيروت، تحقيق الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي.
المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، للرافعي للإمام أحمد بن محمد الفيومي، طبعة المكتبة العلمية بيروت.(6/61)
المصنف، للحافظ أبي بكر عبد الرزاق بن همام الصنعائي، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، طبعة المكتب الإسلامي بيروت، 1983.
المصنف، لابن أبي شيبة، تحقيق عبد الخالق الأفغاني، طبعة الدار السلفية الهند.
معجم الأدباء لياقوت بن عبد الله الحموي، طبعة دار إحياء التراث العربي بيروت.
معجم المؤلفين لعمر رضا كحالة، طبعة دار إحياء التراث العربي بيروت.
معجم مقاييس اللغة، لأحمد بن فارس، تحقيق عبد السلام محمد هارون، طبعة مركز مكتب الإعلام الإسلامي 1984.(6/62)
ص -359-…المعجم الوسيط، قام بإخراجه الدكتور إبراهيم أنيس وجماعة، طبعة دار الفكر.
مفاتيح العلوم، للإمام محمد بن أحمد بن يوسف الخوارزمي، تحقيق إبراهيم الأبياري، طبعة دار الكتاب العربي بيروت 1984.
مقدمة ابن الصلاح، لأبي عمرو بن الصلاح، طبعة دار الفكر دمشق، تحقيق الدكتور مصطفي ديب البغا.
الملل والنحل، للشهرستاني "محمد بن عبد الكريم" طبعة دار المعرفة، تحقيق محمد سيد كيلاني.
المنتقى، لأبي محمد بن عبد الله بن الجارود، طبعة مؤسسة الكتب الثقافية دار الجنان، تعليق عبد الله البارودي.
المنخول من تعليقات الأصول، للإمام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي، تحقيق الدكتور محمد حسين هيتو، طبعة دار الفكر دمشق،1980.
الموطأ، للإمام مالك بن أنس، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، طبعة دار إحياء التراث العربي، 1985.
ميزان الأصول في نتائج العقول، للشيخ علاء الدين أبو بكر محمد بن أحمد السمرقندي، تحقيق الدكتور عبد الملك عبد الرحمن السعدي، طبعة وزارة الأوقاف والشئون الدينية.
نسمات الأسحار شرح إفاضة الأنوار، للإمام محمد بن عابدين الحنفي، طبعة دار الكتب العربية الكبرى بمصر.
نصب الراية، لعبد الله بن يوسف الزيلعي، طبعة دار إحياء التراث العربي، الطبعة الثالثة 1407هـ.
الهداية "شرح بداية المبتدي" للإمام برهان الدين علي بن أبي بكر المرغيناني، تحقيق محمد عدنان درويش، طبعة دار الأرقم بن أبي الأرقم.
هدية العارفين، لإسماعيل باشا البغدادي، طبعة دار إحياء التراث العربي.(6/63)
ص -360-…فهرس موضوعات الجزء الثاني:
الموضوع الصفحة
الباب الخامس: في المطلق والمقيد
المبحث الأول: في حدهما 5
المبحث الثاني: في حمل المطلق علي المقيد 6
المبحث الثالث: في شرط حمل المطلق على المقيد 9
المبحث الرابع: في جريان ما ذكر في تخصيص العام في تقييد المطلق 10
الباب السادس: في المجمل والمبين
الفصل الأول: في حدهما 12
تعريف المجمل 12
تعريف المبين 13
الفصل الثاني: في وقوع الإجمال في الكتاب والسنة 14
الفصل الثالث: في وجوه الإجمال 15
الفصل الرابع: فيما لا إجمال فيه 16
الفصل الخامس: في مراتب البيان للأحكام 23
الفصل السادس: في تأخير البيان عن وقت الحاجة 26
الباب السابع: في الظاهر والمؤول
الفصل الأول: في حدهما 31
الفصل الثاني: فيما يدخله التأويل 32
الفصل الثالث: في شروط التأويل 34(6/64)
ص -361-…الباب الثامن: في المنطوق والمفهوم
المسألة الأولى: في حدهما 36
أقسام المنطوق 36
أقسام المفهوم 37
المسألة الثانية: في مفهوم المخالفة 38
المسألة الثالثة: في شروط القول بمفهوم المخالفة 40
المسألة الرابعة: في أنواع مفهوم المخالفة 42
النوع الأول: مفهوم الصفة 42
النوع الثاني: مفهوم العلة 43
النوع الثالث: مفهوم الشرط 43
النوع الرابع: مفهوم العدد 44
النوع الخامس: مفهوم الغاية 45
النوع السادس: مفهوم اللقب 45
النوع السابع: مفهوم الحصر 46
النوع الثامن: مفهوم الحال 48
النوع التاسع: مفهوم الزمان 48
النوع العاشر: مفهوم المكان 48
الباب التاسع: من المقصد الرابع في النسخ
المسألة الأولى: في حده 49
المسالة الثانية: في جواز النسخ عقلا ووقوعه شرعا 52
الحكمة من النسخ 53
المسألة الثالثة: في شروط النسخ 55
المسألة الرابعة: في جواز النسخ بعد اعتقاد المنسوخ والعمل به 56
المسألة الخامسة: أنه لا يشترط في النسخ أن يخلفه بدل 58
المسألة السادسة: في النسخ إلى بدل يقع على وجوه 60
المسألة السابعة: في جواز نسخ الأخبار 61
المسالة الثامنة: في نسخ التلاوة دون الحكم والعكس ونسخهما معًا 63(6/65)
ص -362-…المسألة التاسعة: في وجوه نسخ القرآن والسنة 67
المسألة العاشرة: في نسخ القرآن بالسنة المتواترة 68
نسخ السنة بالقرآن 71
المسألة الحادية عشرة: في نسخ القول والفعل من السنة 72
المسألة الثانية عشرة: في القول في نسخ الإجماع والنسخ به 74
المسالة الثالثة عشرة: في القياس لا يكون ناسخا 76
المسألة الرابعة عشرة: في نسخ المفهوم 77
المسألة الخامسة عشرة: في الزيادة على النص 79
المسألة السادسة عشرة: في النقصان من العبادة هل يكون نسخا 83
المسالة السابعة عشرة: في الطريق التي يعرف بها كون الناسخ ناسخا 84
المقصد الخامس: من مقاصد هذا الكتاب في القياس وما يتصل به من الاستدلال
الفصل الأول: في تعريفه 89
الفصل الثاني: في حجية القياس 91
الأدلة من القرآن الكريم 95
الأدلة من السنة المطهرة 99
الأدلة من الإجماع 102
الفصل الثالث: في أركان القياس 104
شروط القياس المعتبرة في المقيس عليه 105
مباحث العلة 109
الشروط المعتبرة في العلة 111
ما لا يعتبر من الشروط في العلة 113
القول في تعدد العلل 115
شروط المقيس "الفرع" 116
الفصل الرابع: في الكلام عن مسالك العلة 116
المسلك الأول: الإجماع 117
المسلك الثاني: النص على العلة 118
المسلك الثالث: الإيماء والتنبيه 121
المسلك الرابع: الاستدلال على علية الحكم بفعل النبي صلى الله عليه وسلم 124(6/66)
ص -363-…المسلك الخامس: السبر والتقسيم 124
المسلك السادس: المناسبة 127
أقسام المناسب من حيث الظن واليقين 129
انقسام المناسب إلى حقيقي وإقناعي 129
انقسام المناسب باعتبار شهادة الشرع وعدمها إلى ثلاثة أقسام 132
انقسام المناسب من حيث التأثير وعدمه والملاءمة وعدمها 134
المسلك السابع: الشبه 136
الخلاف في حجيته 137
المسلك الثامن: الطرد 138
المسلك التاسع: الدوران 140
المسلك العاشر: تنقيح المناط 141
المسلك الحادي عشر: تحقيق المناط 142
الفصل الخامس: فيما لا يجري فيه القياس 143
حكم جريان القياس في الأسباب 144
القياس في الحدود والكفارات 144
الفصل السادس: في الاعتراضات 146
الاعتراض الأول: النقض 147
الاعتراض الثاني: الكسر 149
الاعتراض الثالث: عدم العكس 151
الاعتراض الرابع: عدم التأثير 151
الاعتراض الخامس: القلب 153
الاعتراض السادس: القول بالموجب 156
الاعتراض السابع: الفرق 157
الاعتراض الثامن: الاستفسار 158
الاعتراض التاسع: فساد الاعتبار 158
الاعتراض العاشر: فساد الوضع 159
الاعتراض الحادي عشر: المنع 160
الاعتراض الثاني عشر: التقسيم 161
الاعتراض الثالث عشر: في اختلاف الضابط بين الأصل والفرع 161
الاعتراض الرابع عشر: في اختلاف حكمي الأصل والفرع 162
الاعتراض الخامس عشر: منع كون ما يدعيه المستدل علة لحكم الأصل 162
الاعتراض السادس عشر: منع كون الوصف المدعي عليته علة 162
الاعتراض السابع: القدح في المناسبة 163(6/67)
ص -364-…الاعتراض الثامن عشر: القدح في إفضائه إلى المصلحة المقصودة
من شرع الحكم له 163
الاعتراض التاسع عشر: كون الوصف غير ظاهر 163
الاعتراض الموفي عشرين: كون الوصف غير منضبط 163
الاعتراض الحادي والعشرون: المعارضة 164
أقسام المعارضة 164
الاعتراض الثاني والعشرين: سؤال التعدية 166
الاعتراض الثالث والعشرون: سؤال التركيب 167
الاعتراض الرابع والعشرون: منع وجود الوصف المعلل به في الفرع 167
الاعتراض الخامس والعشرون: المعارضة في الفرع 167
الاعتراض السادس والعشرون: المعارضة في الوصف 167
الاعتراض السابع والعشرون: اختلاف جنس المصلحة في الأصل والفرع 168
الاعتراض الثامن والعشرون: أن يدعي المعترض المخالفة
بين حكم الأصل وحكم الفرع 168
الفائدة الأولي: في لزوم إيراد الأسئلة مرتبة 168
الفائدة الثانية: في الانتقال عن محل النزاع إلى غيره 170
الفائدة الثالثة في الفرض والبناء 170
الفائدة الرابعة: في جواز التعلق بمناقضات الخصوم 171
الفائدة الخامسة: في السؤال والجواب 171
الفصل السابع: في الاستدلال 172
البحث الأول: في التلازم 172
البحث الثاني: في الاستصحاب 174
البحث الثالث: في شرع من قبلنا وفيه مسألتان 177
المسألة الأولى: هل كان صلى الله عليه وسلم متعبدا قبل البعثة بشرع أم لا؟ 177
المسألة الثانية: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم بعد البعثة متعبدا
بشرع من قبله أم لا؟ 179
البحث الرابع: الاستحسان 181
البحث الخامس: المصالح المرسلة 184
فوائد تتعلق بالاستدلال 187
الفائدة الأولى: في قول الصحابي 187
الفائدة الثانية: الأخذ بأقل من قيل 189
الفائدة الثالثة: النافي للحكم هل يلزمه الدليل أم لا؟ 191
الفائدة الرابعة: سد الذرائع 193
الفائدة الخامسة: دلالة الاقتران 197(6/68)
ص -365-…الفائدة السادسة: دلالة الإلهام 199
الفائدة السابعة: في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم 202
المقصد السادس: من مقاصد هذا الكتاب في الاجتهاد والتقليد
الفصل الأول: في الاجتهاد 205
المسالة الأولى: في حده 205
الشروط الواجب توافرها في المجتهد 206
موضع الاجتهاد 211
المسلة الثانية: هل يجوز خلو العصر من المجتهدين أم لا؟ 211
المسألة الثالثة: في تجزُّؤ الاجتهاد 216
المسالة الرابعة: في جواز الاجتهاد للأنبياء 217
المسألة الخامسة: في جواز الاجتهاد في عصره صلى الله عليه وسلم 221
المسألة السادسة فيما ينبغي للمجتهد أن يعمله في اجتهاده ويعتمد عليه 224
المسألة السابعة: في المسائل التي كل مجتهد فيها مصيب 227
الفرع الأول: العقليات وهي على أنواع 227
الفرع الثاني: المسائل الشرعية 230
القسم الثاني: المسائل الشرعية التي لا قاطع بها 231
المسألة الثامنة: أنه لا يجوز أن يكون للمجتهد في مسألة واحدة
قولان متناقضان في وقت وحد 235
المسألة التاسعة: في جواز تفويض المجتهد 237
الفصل الثاني: في التقليد وما يتعلق به من أحكام المفتي والمستفتي 239
المسألة الأولي: في حد التقليد والمفتي والمستفتي 239
المسألة الثانية: في حكم التقليد في أصول الدين 241
المسالة الثالثة: في حكم التقليد في المسائل الشرعية الفرعية 243
المسألة الرابعة: في حكم إفتاء المقلد 247
المسألة الخامسة: في حكم سؤال العالم بالكتاب والسنة 250
المسالة السادسة: في حكم الالتزام بمذهب معين 252(6/69)
ص -366-…المقصد السابع: من مقاصد هذا الكتاب في التعادل والترجيح
المبحث الأول: في معناهما وفي العمل بالترجيح وفي شروطه 257
المبحث الثاني: في عدم التعارض بين دليلين قطعيين 260
عمل المجتهد عند العجز عن الترجيح 262
المبحث الثالث: في وجوه الترجيح بين المتعارضين 263
أنواع الترجيح 264
الترجيح باعتبار الإسناد 264
القول في الترجيح باعتبار المتن 268
الترجيح باعتبار المدلول 270
الترجيح بحسب الأمور الخارجة 271
الترجيح بين الأقيسة 273
الترجيح بحسب الدليل الدال على وجود العلة 276
الترجيح بحسب الدليل الدال على علية الوصف للحكم 277
الترجيح بحسب دليل الحكم 278
الترجيح بحسب كيفية الحكم 279
الترجيح بحسب الأمور الخارجة 280
الترجيح بحسب الفرع 280
الترجيح بحسب الحدود السمعية 281
خاتمة لمقاصد هذا الكتاب: وفيها مسألتان
المسألة الأولى: هل الأصل فيما وقع الخلاف الإباحة أو المنع أو الوقف 283
المسألة الثانية: في وجوب شكرا المنعم عقلا 287(6/70)
ص -367-…الفهارس
فهرس الآيات القرآنية 291
فهرس أطراف الأحاديث النبوية 308
فهرس الأعلام المترجمين 319
فهرس الكتب الوارد ذكرها في المتن 342
فهرس الفرق 351
فهرس الآبيات الشعرية والأمثال العربية 353
فهرس الأماكن والبلدان 354
فهرس مراجع التحقيق 355
فهرس موضوعات الجزء الثاني 360(6/71)
عنوان الكتاب:
إعلام الموقعين عن رب العالمين – الجزء الأول
تأليف:
محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية
751هـ
دراسة وتحقيق:
طه عبد الرؤوف سعد
الناشر:
مكتبة الكليات الأزهرية، مصر، القاهرة
1388هـ/1968م(7/1)
ص -3-…أعلام الموقعين عن رب العالمين لأبي عبد الله محمد بن أبي بكر المعروف بإبن قيم الجوزية
خطبة الكتاب
الحمد لله الذي خلق خلقه أطوارا وصرفهم في أطوار التخليق كيف شاء عزة واقتدارا وأرسل الرسل إلى المكلفين إعذارا منه وإنذارا فأتم بهم على من أتبع سبيلهم نعمته السابغة وقام بهم على من خالف مناهجهم حجته البالغة فنصب الدليل وأنار السبيل وأزاح العلل وقطع المعاذير وأقام الحجة وأوضح المحجة وقال {هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} وهؤلاء رسلي {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} فعمهم بالدعوة على ألسنة رسله حجة منه وعدلا وخص بالهداية من شاء منهم نعمة وفضلا فقبل نعمة الهداية من سبقت له سابقة السعادة وتلقاها باليمين وقال {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} وردها من غلبت عليه الشقاوة ولم يرفع بها رأسا بين العالمين فهذا فضله وعطاؤه وما كان عطاء ربك محظورا ولا فضله بمنون وهذا عدله وقضاؤه فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
فسبحان من أفاض على عباده النعمة وكتب على نفسه الرحمة وأودع الكتاب الذي كتبه أن رحمته تغلب غضبه وتبارك من له في كل شيء على ربوبيته ووحدانيته وعلمه وحكمته أعدل شاهد ولو لم يكن إلا أن فاضل بين عباده في مراتب الكمال حتى عدل الآلاف المؤلفة منهم بالرجل الواحد ذلك ليعلم عباده أنه أنزل التوفيق منازله ووضع الفضل مواضعه وأنه يختص برحمته من يشاء وهو العليم الحكيم وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.(7/2)
ص -4-…أحمده والتوفيق للحمد من نعمه وأشكره والشكر كفيل بالمزيد من فضله وكرمه وقسمه وأستغفره وأتوب إليه من الذنوب التي توجب زوال نعمه وحلول نقمه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كلمة قامت بها الأرض والسموات وفطر الله عليها جميع المخلوقات وعليها أسست الملة ونصبت القبلة ولأجلها جلدت سيوف الجهاد وبها أمر الله سبحانه جميع العباد فهي فطرة الله التي فطر الناس عليها ومفتاح العبودية التي دعا الأمم على ألسن رسله إليها وهي كلمة الإسلام ومفتاح دار السلام وأساس الفرض والسنة ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخيرته من خلقه وحجته على عباده وأمينه على وحيه أرسله رحمة للعالمين وقدوة للعالمين ومحجة للسالكين وحجة على المعاندين وحسرة على الكافرين أرسله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا وأنعم به على أهل الأرض نعمة لا يستطيعون لها شكورا فأمده بملائكته المقربين وأيده بنصره وبالمؤمنين وأنزل عليه كتابه المبين الفارق بين الهدى والضلال والغي والرشاد والشك واليقين فشرح له صدره ووضع عنه وزره ورفع له ذكره وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره وأقسم بحياته في كتابه المبين وقرن اسمه باسمه فإذا ذكر ذكر معه كما في الخطب والتشهد والتأذين وافترض على عباده طاعته ومحبته والقيام بحقوقه وسد الطرق كلها إليه وإلى جنته فلم يفتح لأحد إلا من طريقه فهو الميزان الراجح الذي على أخلاقه وأقواله وأعماله توزن الأخلاق والأقوال والأعمال والفرقان المبين الذي باتباعه يميز أهل الهدى من أهل الضلال ولم يزل صلى الله عليه وعلى آله وسلم مشمرا في ذات الله تعالى لا يرده عنه راد صادعا بأمره لا يصده عنه صاد إلى أن بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد فأشرقت برسالته الأرض بعد ظلماتها وتألفت به القلوب بعد شتاتها(7/3)
ص -5-…وامتلأت به الأرض نورا وابتهاجا ودخل الناس في دين الله أفواجا فلما أكمل الله تعالى به الدين وأتم به النعمة على عباده المؤمنين استأثر به ونقله إلى الرفيق الأعلى والمحل الأسنى وقد ترك أمته على المحجة البيضاء والطريق الواضحة الغراء فصلى الله وملائكته وأنبياؤه ورسله والصالحون من عباده عليه وآله كما وحد الله وعرف به ودعا إليه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فإن أولى ما يتنافس به المتنافسون وأحرى ما يتسابق في حلبة سباقه المتسابقون ما كان بي سعادة العبد في معاشه وماعاده كفيلا وعلى طريق هذه السعادة دليلا وذلك العلم النافع والعمل الصالح اللذان لا سعادة للعبد إلا بهما ولا نجاة له إلا بالتعلق بسبهما فمن رزقهما فقد فاز وغنم ومن حرمهما فالخير كله حرم وهما مورد انقسام العباد إلى مرحوم ومحروم وبهما يتميز البر من الفاجر والتقي من الغوي والظالم من المظلوم ولما كان العلم للعمل قرينا وشافعا وشرفه لشرف معلومه تابعا كان أشرف العلوم على الإطلاق علم التوحيد وأنفعها علم أحكام أفعال العبيد ولا سبيل إلى اقتباس هذين النورين وتلقي هذين العلمين إلا من مشكاة من قامت الأدلة القاطعة على عصمته وصرحت الكتب السماوية بوجوب طاعته ومتابعته وهو الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
نوعا التلقي عنه صلى الله عليه وسلم:(7/4)
ولما كان التقى عنه صلى الله عليه وآله وسلم على نوعين: نوع بوساطة ونوع بغير وساطة وكان التلقي بلا وساطة حظ أصحابه الذين حازوا قصبات السباق واستولوا على الأمد فلا طمع لأحد من الأمة بعدهم في اللحاق ولكن المبرز من اتبع صراطهم المستقيم واقتفى منهاجهم القويم والمتخلف من عدل عن طريقهم ذات اليمين وذات الشمال فذلك المنقطع التائه في بيداء المهالك والضلال فأي خصلة خير لم يسبقوا إليها وأي خطة رشد لم يستولوا عليها تالله لقد وردوا رأس الماء من عين الحياة عذبا صافيا زلالا وأيدوا قواعد الإسلام فلم يدعوا(7/5)
ص -6-…لأحد بعدهم مقالا فتحوا القلوب بعد لهم بالقرآن والإيمان والقرى بالجهاد بالسيف والسنان وألقوا إلى التابعين ما تلقوه من مشكاة النبوة خالصا صافيا وكان سندهم فيه عن نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم عن جبريل عن رب العالمين سندا صحيحا عاليا وقالوا هذا عهد نبينا إليكم وقد عهدنا إليكم وهذه وصية ربنا وفرضه علينا وهي وصيته وفرضه عليكم فجرى التابعون لهم بإحسان على منهاجهم القويم واقتفوا على آثارهم صراطهم المستقيم ثم سلك تابعوا التابعين هذا المسلك الرشيد وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد وكانوا بالنسبة إلى من قبلهم كما قال أصدق القائلين {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} ثم جاءت الأئمة من القرن الرابع المفضل في إحدى الروايتين كما ثبت في الصحيح من حديث أبي سعيد وابن مسعود وأبي هريرة وعائشة وعمران ابن حصين فسلكوا على آثارهم اقتصاصا واقتبسوا هذا الأمر عن مشكاتهم اقتباسا وكان دين الله سبحانه أجل في صدورهم وأعظم في نفوسهم من أن يقدموا عليه رأيا أو معقولا أو تقليدا أو قياسا فطار لهم الثناء الحسن في العالمين وجعل الله سبحانه لهم لسان صدق في الآخرين ثم سار على آثارهم الرعيل الأول من أتباعهم ودرج على منهاجهم الموفقون من أشياعهم زاهدين في التعصب للرجال واقفين مع الحجة والاستدلال يسيرون مع الحق أين سارت ركائبه ويستقلون مع الصواب حيث استقلت مضاربه إذا بدا لهم الدليل بأخذته طاروا إليه زرافات ووحدانا وإذا دعاهم الرسول إلى أمر انتدبوا(7/6)
ص -7-…إليه ولا يسألونه عما قال برهانا ونصوصه أجل في صدورهم وأعظم في نفوسهم من أن يقدموا عليها قول أحد من الناس أو يعارضوها برأي أو قياس.
إخراج المتعصب عن زمرة العلماء:
ثم خلف من بعدهم خلوف فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون وتقطعوا أمرهم بينهم زبرا وكل إلى ربهم راجعون جعلوا التعصب للمذاهب ديانتهم التي بها يدينون ورءوس أموالهم التي بها يتجرون وآخرون منهم قنعوا بمحض التقليد وقالوا{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} والفريقان بمعزل عما ينبغي اتباعه من الصواب ولسان الحق يتلوا عليهم {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} قال الشافعي قدس الله تعالى روحه: "أجمع المسلمون على أن من استبابت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعه لقول أحد من الناس" قال أبو عمر وغيره من العلماء: "أجمع الناس على أن المقلد ليس معدودا من أهل العلم وأن العلم معرفة الحق بدليله" وهذا كما قال أبو عمر رحمه الله تعالى: "فإن الناس لا يختلفون أن العلم هو المعرفة الحاصلة عن الدليل وأما بدون الدليل فإنما هو تقليد".
فقد تضمن هذان الإجماعان إخراج المتعصب بالهوى والمقلد الأعمى عن زمرة العلماء وسقوطهما باستكمال من فوقهما الفروض من وراثة الأنبياء فإن العلماء هم ورثة الأنبياء فإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر وكيف يكون من ورثة الرسول صلى الله عليه وسلم من يجهد ويكدح في رد ما جاء به إلى قول مقلده ومتبوعه ويضيع ساعات عمره في التعصب والهوى ولا يشعر بتضييعه تالله إنها(7/7)
ص -8-…فتنة عمت فأعمت ورمت القلوب فأصمت ربا عليها الصغير وهرم فيها الكبير واتخذ لأجلها القرآن مهجورا وكان ذلك بقضاء الله وقدره في الكتاب مسطورا ولما عمت بها البلية وعظمت بسبها الرزية بحيث لا يعرف أكثر الناس سواها ولا يعدون العلم إلا إياها فطالب الحق من مظانه لديهم مفتون ومؤثره على ما سواه عندهم مغبون نصبوا لمن خالفهم في طريقتهم الحبائل وبغوا له الغوائل ورموه عن قوس الجهل والبغي والعناد وقالوا لإخوانهم: "إنا نخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد".
فحقيق بمن لنفسه عنده قدر وقيمة ألا يلتفت إلى هؤلاء ولا يرضى لها بما لديهم وإذا رفع له علم السنة النبوية شمر إليه ولم يحبس نفسه عليهم فما هي إلا ساعة حتى يبعثر ما في القبور ويحصل ما في الصدور وتتساوى أقدام الخلائق في القيام لله وينظر كل عبد ما قدمت يداه ويقع التمييز بين المحقين والمبطلين ويعلم المعرضون عن كتاب ربهم وسنة نبيهم أنهم كانوا كاذبين.
فصل: حفاظ الحديث
ولما كانت الدعوة إلى الله والتبليغ عن رسوله شعار حزبه المفلحين وأتباعه من العالمين كما قال تعالى {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وكان التبليغ عنه من عين تبليغ أفاظه وما جاء به وتبليغ معانيه كان العلماء من أمته منحصرين في قسمين أحدهما حفاظ الحديث وجهابذته والقادة الذين(7/8)
ص -9-…هم أئمة الأنام وزوامل الإسلام الذين حفظوا على الأئمة معاقد الدين وعاقله وحموا من التغيير والتكدير موارده ومناهله حتى ورد من سبقت له من الله الحسنى تلك المناهل صافية من الأدناس لم تشبها الآراء تغييرا ووردوا فيها عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا وهو الذين قال فيهم الإمام أحمد بن حنبل في خطبته المشهورة في كتابه في الرد على الزنادقة والجهمية الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى يحيون بكتاب الله تعالى الموتى ويبصرون بنور الله أهل العمى فكم من قتيل لإبليس أحيوه وكم من ضال تائه قد هدوه فما أحسن أثرهم على الناس وما أقبح أثر الناس عليهم ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب مجمعون على مفارقة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم فنعوذ بالله من فتنة المضلين.
فصل: المنزلة العظمى لفقهاء الإسلام
القسم الثاني فقهاء الإسلام ومن دارت الفتيا على أقوالهم بين الأنام الذين خصوا باستنباط الأحكام وعنوا بضبط قواعد الحلال والحرام فهم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء بهم يهتدي الحيران في الظلماء وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الأمهات والآباء بنص الكتاب قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر} ذلك خير وأحسن تأويلا قال عبد الله بن عباس في إحدى الروايتين عنه وجابر بن عبد الله والحسن البصري(7/9)
ص -10-…وأبو العالية وعطاء بن أبي رباح والضحاك ومجاهد في إحدى الروايتين عنه: "أولو الأمر هم العلماء" وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد وقال أبو هريرة وابن عباس في الرواية الأخرى وزيد بن أسلم والسدي ومقاتل: "هم الأمراء" وهو الرواية الثانية عن أحمد.
طاعة لأمراء:
والتحقيق أن الأمراء إنما يطاعون إذ أمروا بمقتضى العلم فطاعتهم تبع لطاعة العلماء فإن الطاعة إنما تكون في المعروف وما أوجبه العلم فكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء ولما كان قيام الإسلام بطائفتي العلماء والأمراء وكان الناس كلهم لهم تبعا كان صلاح العالم بصلاح هاتين الطائفتين وفساده بفسادهما كما قال عبد الله بن المبارك وغيره من السلف صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس وإذا فسدا فسد الناس قيل من هم قال الملوك والعلماء كما قال عبد الله بن المبارك:
رأيت الذنوب تميت القلوب… وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب… وخير لنفسك عصيانها
وهل أفسد الدين إلا الملوك… وأحبار سوء ورهبانها
فصل: الشروط التي تجب فيمن يبلغ عن الله ورسوله
ولما كان التبليغ عن الله سبحانه يعتمد العلم بما يبلغ والصدق فيه لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق فيكون عالما بما بلغ صادقا فيه ويكون مع ذلك حسن الطريقة مرضي السيرة عدلا في أقواله وأفعاله متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله ولا يجهل قدره وهو من أعلى المراتب السنيات فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسموات؟(7/10)
ص -11-…فحقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يعد له عدته وأن يتأهب له أهبته وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به فإن الله ناصره وهاديه وكيف وهو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب فقال تعالى {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} وكفى بما تولاه الله تعالى بنفسه شرفا وجلالة إذ يقول في كتابه {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} وليعلم المفتي عمن ينوب في فتواه وليوقن أنه مسئول غدا وموقوف بين يدي الله.
فصل: الرسول أول من بلغ عن الله
وأول من قام بهذا المنصب الشريف سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيبن عبد الله ورسوله وأمينه على وحيه وسفيره بينه وبين عباده فكان يفتي عن الله بوحيه المبين وكان كما قال له أحكم الحاكمين {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} فكانت فتاويه صلى الله عليه وسلم جوامع الأحكام ومشتملة على فصل الخطاب وهي في وجوب اتباعها وتحكيمها والتحاكم إليها ثانية الكتاب وليس لأحد من المسلمين العدول عنها ما وجد إليها سبيلا وقد أمر الله عباده بالرد إليها حيث يقول {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}.
فصل: من بلغ بعد الرسول
ثم قام بالفتوى بعده برك الإسلام وعصابة الإيمان وعسكر القرآن وجند الرحمن أولئك أصحابه صلى الله عليه وسلم ألين الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا وأحسنها بيانا وأصدقها إيمانا وأعمها نصيحة وأقربها إلى الله وسيلة وكانوا بين مكثر منها ومقل ومتوسط.(7/11)
ص -12-…المكثرون من الفتيا:
والذين حفظت عنهم الفتوى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة ونيف وثلاثون نفسا ما بين رجل وامرأة وكان المكثرون منهم سبعة: عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعائشة أم المؤمنين وزيد بن ثابت وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر.
قال أبو محمد بن حزم: "ويمكن أن يجمع من فتوى كل واحد منهم سفر ضخم".
قال: "وقد جمع أبو بكر محمد بن موسى بن يعقوب ابن أمير المؤمنين المأمون فتيا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في عشرين كتابا".
وأبو بكر محمد المذكور أحد أئمة الإسلام في العلم والحديث.
المتوسطون في الفتيا:
قال أبو محمد: "والمتوسطون منهم فيما روى عنهم من الفتيا: أبو بكر الصديق وأم سلمة وأنس بن مالك وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وعثمان بن عفان وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن الزبير وأبو موسى الأشعري وسعد ابن أبي وقاص وسلمان الفارسي وجابر بن عبد الله ومعاذ بن جبل فهؤلاء ثلاثة عشر يمكن أن يجمع من فتيا كل واحد منهم جزء صغير جدا ويضاف إليهم طلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وعمران بن حصين وأبو بكرة وعبادة بن الصامت ومعاوية بن أبي سفيان".
المقلون من الفتيا:
والباقون منهم مقلون في الفتيا لا يروى عن الواحد منهم إلا المسألة والمسألتان والزيادة اليسيرة على ذلك يمكن أن يجمع من فتيا جميعهم جزء صغير فقط بعد التقصي والبحث وهم: أبو الدرداء وأبو اليسر وأبو سلمة المخزومي وأبو عبيدة بن الجراح وسيعد بن زيد والحسن والحسين ابنا علي والنعمان(7/12)
ص -13-…ابن بشير وأبو مسعود وأبي بن كعب وأبو أيوب وأبو طلحة وأبو ذر وأم عطية وصفية أم المؤمنين وحفصة وأم حبيبة وأسامة بن زيد وجعفر ابن أبي طالب والبراء بن عازب وقرظة بن كعب ونافع أخو أبي بكرة لأمه والمقداد بن الأسود وأبو السنابل والجارود والعبدي وليلى بنت قائف وأبو محذورة وأبو شريح العكبي وأبو برزة الأسلمي وأسماء بنت أبي بكر وأم شريك والخولاء بنت تويت وأسيد بن الحضير والضحاك ابن قيس وحبيب بن مسلمة وعبد الله بن أنيس وحذيفة بن اليمان وثمامة بن أثال وعمار بن ياسر وعمرو بن العاص وأبو الغادية السلمي وأم الدرداء الكبرى والضحاك بن خليفة المازني والحكم بن عمرو الغفاري ووابصة ابن معبد الأسدي وعبد الله بن جعفر البرمكي وعوف بن مالك وعدي ابن حاتم وعبد الله بن أبي أفي وعبد الله بن سلام وعمرو بن عبسة وعتاب ابن أسيد وعثمان بن أبي العاص وعبد الله بن سرجس وعبد الله بن رواحة وعقيل بن أبي طالب وعائذ بن عمرو وأبو قتادة عبد الله بن معمر العدوي وعمي بن سعلة وعبد الله بن أبي بكر الصديق وعبد الرحمن أخوه وعاتكة بنت زيد بن عمرو وعبد الله بن عوف الزهري وسعد بن معاذ وسعد ابن عبادة وأبو منيب وقيس بن سعد وعبد الرحمن بن سهل وسمرة ابن جندب وسهل بن سعد الساعدي وعمرو بن مقرن وسويد بن مقرن ومعاوية بن الحكم وسهلة بنت سهيل وأبو حذيفة بن عتبة وسلمة ابن الأكوع وزيد ابن أرقم وجرير بن عبد الله البجلي وجابر بن سلمة وجويرية أم المؤمنين وحسان بن ثابت وحبيب بن عدي وقدامة ابن مظعون وعثمان بن مظعون وميمونة أم المؤمنين ومالك بن الحويرث وأبو أمامة الباهلي ومحمد بن مسلمة وخباب بن الأرت وخالد بن الوليد وضمرة بن الفيض وطارق بن شهاب وظهير بن رافع ورافع بن خديج(7/13)
ص -14-…وسيدة نساء العالمين فاطمة بنت رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم وفاطمة بنت قيس وهشام بن حكيم بن حزام وأبوه حكيم بن حزام وشرحبيل بن السمط وأم سلمة ودحية بن خليفة الكلبي وثابت بن قيس بن الشماس وثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمغيرة بن شعبة وبريدة بن الخصيب الأسلمي ورويفع بن ثابت وأبو حميد وأبو أسيد وفضالة بن عبيد وأبو محمد روينا عنه وجوب الوتر قلت أبو محمد هو مسعود بن أوس الأنصاري نجاري بدري وزينب بنت أم سلمة وعتبة بن مسعود وبلال المؤذن وعروة بن الحارث وسياه بن روح أو روح بن سياه وأبو سعيد بن المعلى والعباس بن عبد المطلب وبشر بن أرطاة وصهيب بن سنان وأم أيمن وأم يوسف والغامدية وماعز وأبو عبد الله البصري.
فهؤلاء من نقلت عنهم الفتوى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أدرى بأي طريق عد معهم أبو محمد الغامدية وماعزا ولعله تخيل أن إقدامهما على جواز الإقرار بالزنا من غير استئذان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك هو فتوى لأنفسهما بجواز الإقرار وقد أقرا عليها فإن تخيل هذا فما أبعده من خيال أو لعله ظفر عنهما بفتوى في شيء من الأحكام.
الصحابة سادة المفتين والعلماء
وكما أن الصحابة سادة الأمة وأئمتها وقادتها فهم سادات المفتين والعلماء.
قال الليث عن مجاهد: "العلماء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم" وقال سعيد عن قتادة في قوله تعالى {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} قال: "أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم".
وقال يزيد بن عمير: "لما حضر معاذ بن جبل الموت قيل: يا أبا عبد الرحمن أوصنا قال أجلسوني إن العلم والإيمان مكانهما من ابتغاهما وجدهما يقول(7/14)
ص -15-…ذلك ثلاث مرات التمس العلم عند أربعة رهط: عند عويمر بن أبي الدرداء وعند سلمان الفارسي وعند عبد الله بن مسعود وعند عبد الله بن سلام".
وقال مالك بن يخامر: "لما حضرت معاذ الوفاة بكيت فقال: ما يبكيك؟ قلت: والله ما أبكي على دنيا كنت أصيبها منك ولكن أبكي على العلم والإيمان اللذين كنت أتعلمهما منك فقال إن العلم والإيمان مكانهما من ابتغاهما وجدهما اطلب العلم عند أربعة فذكر هؤلاء الأربعة ثم قال فإن عجز عنه هؤلاء فسائر أهل الأرض عنه أعجز فعليك بمعلم إبراهيم" قال: "فما نزلت بي مسألة عجزت عنها إلا قلت يا معلم إبراهيم".
وقال أبو بكر بن عياش عن الأعمش عن أبي إسحاق قال: قال عبد الله: "علماء الأرض ثلاثة فرجل بالشام والآخر بالكوفة وآخر بالمدينة فأما هذان فيسألان الذي بالمدينة والذي بالمدينة لا يسألهما عن شيء".
وقال الشعبي: "ثلاثة يستفتي بعضهم من بعض فكان عمر وعبد الله وزيد ابن ثابت يستفتي بعضهم من بعض وكان علي وأبي بن كعب وأبو موسى الأشعري يستفتي بعضهم من بعض" قال الشيباني: "فقلت للشعبي: وكان أبو موسى بذاك فقال ما كان أعلمه قلت فأين معاذ فقال هلك قبل ذلك".
وقال أبو البختري: "قيل لعلي بن أبي طالب حدثنا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عن أيهم؟ قال عن عبد الله بن مسعود قال: قرأ القرآن وعلم السنة ثم انتهى وكفاه بذلك قال: فحدثنا عن حذيفة قال: أعلم أصحاب محمد بالمنافقين قالوا: فأبوا ذر قال: كنيف ملىء علما عجز فيه قالوا فعمار قال مؤمن نسي إذا ذكرته ذكر خلط الله الإيمان بلحمه(7/15)
ص -16-…ودمه ليس للنار فيه نصيب قالوا فأبو موسى قال صبغ في العلم صبغة قالوا فسلمان قال علم العلم الأول والآخر بحر لا ينزح منا أهل البيت قالوا فحدثنا عن نفسك يا أمير المؤمنين قال إياها أردتم كنت إذا سئلت أعطيت وإذا سكت ابتديت".
وقال مسلم عن مسروق: "شاممت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فوجدت علمهم ينتهي إلى ستة: إلى علي وعبد الله وعمر وزيد بن ثابت وأبي الدرداء وأبي بن كعب ثم شاممت الستة فوجدت علمهم انتهى إلى علي وعبد الله".
وقال مسروق أيضا: "جالست أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فكانوا كالإخاذ: الإخاذة تروي الراكب والإخاذة تروي الراكبين والإخاذة تروي العشرة والإخاذة لو نزل بها اهل الأرض لأصدرتهم وإن عبد الله من تلك الإخاذ".
وقال الشعبي: "إذا اختلف الناس في شيء فخذوا بما قال عمر".
وقال ابن مسعود: "إني لأحسب عمر ذهب بتسعة أعشار العلم".
وقال أيضا: "لو أن علم عمر وضع في كفة الميزان ووضع علم أهل الأرض في كفة لرجح علم عمر".
وقال حذيفة: "كأن علم الناس مع علم عمر دس في جحر".
وقال الشعبي: "قضاة هذه الأمة عمر وعلي وزيد وأبو موسى".
وقال سعيد بن المسيب: "كان عمر يتعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو حسن وشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن مسعود بأنه عليم معلم"(7/16)
ص -17-…وبدأ به في قوله: "خذوا القرآن من أربعة من ابن أم عبد ومن أبي بن كعب ومن سالم مولى أبي حذيفة ومن معاذ بن جبل ولما ورد أهل الكوفة على عمر أجازهم وفضل أهل الشام عليهم في الجائزة فقالوا: يا أمير المؤمنين تفضل أهل الشام علينا فقال: يا أهل الكوفة أجزعتم أن فضلت أهل الشام عليكم لبعد شقتهم وقد آثرتكم بابن أم عبد" وقال عقبة بن عمرو: "ما أرى أحدا أعلم بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم من عبد الله" فقال أبو موسى: "إن تقل ذلك فإنه كان يسمع حين لا نسمع ويدخل حين لا ندخل" وقال عبد الله: "ما أنزلت سورة إلا وأنا أعلم فيما أنزلت ولو أني أعلم أن رجلا أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لأتيته" وقال زيد بن وهب: "كنت جالسا عند عمر فأقبل عبد الله فدنا منه فأكب عليه وكلمه بشيء ثم انصرف فقال عمر كنيف ملىء علما".
وقال الأعمش عن إبراهيم: "إنه كان لا يعدل بقول عمر وعبد الله إذا اجتمعا فإذا اختلفا كان قول عبد الله أعجب إليه لأنه كان ألطف" وقال عبد الله بن بريدة في قوله تعالى {حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً} قال: "هو عبد الله بن مسعود" وقيل لمسروق: "كانت عائشة تحسن الفرائض قال والله لقد رأيت الأحبار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونها عن الفرائض".(7/17)
ص -18-…وقال أبو موسى: "ما أشكل علينا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حديث قط فسألناه عائشة إلا وجدنا عندها منه علما" وقال ابن سيرين: "كانوا يرون أعلمهم بالمناسك عثمان بن عفان ثم ابن عمر بعده".
وقال شهر بن حوشب: "كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا تحدثوا وفيهم معاذ نظروا إليه هيبة له" وقال علي: "أبو ذر أوعى علما ثم أوكى عليه فلم يخرج منه شيئا حتى قبض" وقال مسروق: "قدمت المدينة فوجدت زيد بن ثابت من الراسخين في العلم".
وقال الجريري عن أبي تميمة: "قدمنا الشام فإذا الناس مجتمعون يطيفون برجل قال: قلت: من هذا قالوا: هذا أفقه من بقي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هذا عمرو البكالي".
وقال سعيد: "قال ابن عباس وهو قائم على قبر زيد بن ثابت هكذا يذهب العلم" وكان ميمون بن مهران إذا ذكر ابن عباس وابن عمر عنده يقول: "ابن عمر أورعهما وابن عباس أعلمهما" وقال أيضا: "ما رأيت أفقه من ابن عمر ولا أعلم من ابن عباس" وكان ابن سيرين يقول: "اللهم أبقني ما أبقيت ابن عمر اقتدي به ابن عباس" وقال ابن عباس: "ضمني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:"اللهم علمه الحكمة" وقال أيضا: "دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح على ناصيتي وقال: "اللهم علمه الحكمة وتأويل الكتاب" ولما مات ابن عباس قال: "محمد بن الحنفية مات رباني هذه الأمة".(7/18)
ص -19-…وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: "ما رأيت أحدا أعلم بالسنة ولا أجلد رأيا ولا أثقب نظرا حين ينظر مثل ابن عباس وإن كان عمر بن الخطاب ليقول له: قد طرأت علينا عضل أقضية أنت لها ولأمثالها".
وقال عطاء بن أبي رباح: "ما رأيت مجلسا قط أكرم من مجلس ابن عباس أكثر فقها وأعظم إن أصحاب الفقه عنده وأصحاب القرآن وأصحاب الشعر عنده بصدرهم كلهم في واد واسع".
وقال ابن مسعود: "لو أن ابن عباس أدرك أسناننا ما عسره منا رجل".
وقال مكحول: "قيل لابن عباس أنى أصبت هذا العلم قال: بلسان سؤول وقلب عقول".
وقال مجاهد: "كان ابن عباس يسمى البحر من كثرة علمه".
وقال طاووس: "أدركت نحوا من خمسين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذكر ابن عباس شيئا فخالفوه لم يزل بهم حتى يقررهم" وقيل لطاووس: "أدركت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ثم انقطعت إلى ابن عباس فقال أدركت سبعين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا تدارءوا في شيء انتهوا إلى قول ابن عباس".
وقال ابن أبي نجيح: "كان أصحاب ابن عباس يقولون ابن عباس أعلم من عمر ومن علي ومن عبد الله ويعدون ناسا فيثب عليهم الناس فيقولون لا تعجلوا(7/19)
ص -20-…علينا إنه لم يكن أحد من هؤلاء إلا وعنده العلم ما ليس عند صاحبه وكان ابن عباس قد جمعه كله".
وقال الأعمش: "كان ابن عباس إذا رأيته قلت أجمل الناس فإذا تكلم قلت أفصح الناس فإذا حدث قلت أعلم الناس" وقال مجاهد: "كان ابن عباس إذا فسر الشيء رأيت عليه النور".
فصل عمر بن الخطاب
قال الشعبي: "من سره أن يأخذ بالوثيقة في القضاء فليأخد بقول عمر" وقال مجاهد: "إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ما صنع عمر فخذوا به".
وقال ابن المسيب: "ما أعلم أحدا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم من عمر بن الخطاب" وقال أيضا: "كان عبد الله يقول: "لو سلك الناس واديا وشعبا وسلك عمر واديا وشعبا لسلكت وادي عمر وشعبه" وقال بعض التابعين: "دفعت إلى عمر فإذا الفقهاء عنده مثل الصبيان قد استعلى عليهم في فقهه وعلمه".
وقال محمد بن جرير: "لم يكن أحد له أصحاب معروفون حرروا فتياه ومذاهبه في الفقه غير ابن مسعود وكان يترك مذهبه وقوله لقول عمر وكان لا يكاد يخالفه في شيء من مذاهبه ويرجع من قوله إلى قوله".
وقال الشعبي: "كان عبد الله لا يقنت وقال ولو قنت عمر لقنت عبد الله".
فصل عثمان بن عفان
وكان من المفتين عثمان بن عفان قال ابن جرير: "غير أنه لم يكن له أصحاب يعرفون والمبلغون عن عمر فتياه ومذاهبه وأحكامه في الدين بعده كانوا أكثر من المبلغين عن عثمان والمؤدين عنه(7/20)
ص -21-…علي بن أبي طالب وأما علي بن أبي طالب عليه السلام فانتشرت أحكامه وفتاويه ولكن قاتل الله الشيعة فإنهم أفسدوا كثيرا من علمه بالكذب عليه ولهذا تجد أصحاب الحديث من أهل الصحيح لا يعتمدون من حديثه وفتواه إلا ما كان من طريق أهل بيته وأصحاب عبد الله بن مسعود كعبيدة السلماني وشريح وأبي وائل ونحوهم وكان رضي الله عنه وكرم وجهه يشكو عدم حملة العلم الذي أودعه كما قال إن ههنا علما لو أصبت له حملة".
فصل الأئمة الذين نشروا الدين والفقه
والدين والفقه والعلم انتشر في الأمة عن أصحاب ابن مسعود وأصحاب زيد بن ثابت وأصحاب عبد الله بن عمر وأصحاب عبد الله بن عباس فعلم الناس عامته عن أصحاب هؤلاء الأربعة فأما أهل المدينة فعلمهم عن أصحاب زيد بن ثابت وعبد الله بن عمر وأما أهل مكة فعلمهم عن أصحاب عبد الله بن عباس وأما أهل العراق فعلمهم عن أصحاب عبد الله بن مسعود قال ابن جرير: "وقد قيل إن ابن عمر وجماعة ممن عاش بعده بالمدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كانوا يفتون بمذاهب زيد بن ثابت وما كانوا أخذوا عنه مما لم يكونوا حفظوا فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا".
وقال ابن وهب: "حدثني موسى بن علي اللخمي عن أبيه أن عمر بن الخطاب خطب الناس بالجابية فقال من أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل ومن أراد المال فليأتني".
وأما عائشة فكانت مقدمة في العلم والفرائض والأحكام والحلال والحرام(7/21)
ص -22-…وكان من الآخذين عنها الذين لا يكدون يتجاوزون قولها المتفقهين بها القاسم بن محمد بن أبي بكر ابن أخيها وعروة بن الزبير ابن أختها أسماء قال مسروق: "لقد رأيت مشيخة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونها عن الفرائض" وقال عروة بن الزبير: "ما جالست أحدا قط كان أعلم بقضاء ولا بحديث بالجاهلية ولا أروى للشعر ولا أعلم بفريضة ولا طب من عائشة".
فصل في المفتين من التابعين
ثم صارت الفتوى في أصحاب هؤلاء كسعيد بن المسيب راوية عمر وحامل علمه قال جعفر بن ربيعة: "قلت لعراك بن مالك من أفقه أهل المدينة قال أما أفقههم فقها وأعلمهم بقضايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقضايا أبي بكر وقضايا عمر وقضايا عثمان وأعلمهم بما مضى عليه الناس فسعيد بن المسيب وأما أغزرهم حديثا فعروة بن الزبير ولا تشاء أن تفجر من عبيد الله بحرا إلا فجرته" قال عراك: "وأفقههم عندي ابن شهاب لأنه جمع علمهم إلى علمه".
وقال الزهري: "كنت أطلب العلم من ثلاثة سعيد بن المسيب وكان أفقه الناس وعروة بن الزبير وكان بحرا لا تدركه الدلاء وكنت لا تشاء أن تجد عند عبيد الله طريقة من علم لا تجدها عند غيره إلا وجدت" وقال الأعمش: "فقهاء المدينة أربعة سعيد ابن المسيب وعروة وقبيصة وعبد الملك" وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: "لما مات العبادلة عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو ابن العاص صار الفقه في جميع البلدان إلى الموالي فكان فقيه أهل مكة عطاء ابن أبي رباح وفقيه أهل اليمن طاووس وفقيه أهل اليمامة يحيى بن أبي كثير وفقيه أهل الكوفة إبراهيم وفقيه أهل البصرة الحسن وفقيه أهل الشام مكحول وفقيه أهل خراسان عطاء الخراساني إلا المدينة فإن الله خصها(7/22)
ص -23-…بقرشي فكان فقيه أهل المدينة سعيد بن المسيب غير مدافع".
وقال مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: "مررت بعبد الله ابن عمر فسلمت عليه ومضيت قال فالتفت إلى أصحابه فقال لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا لسره فرفع يديه جدا وأشار بيده إلى السماء وكان سعيد بن المسيب صهر أبي هريرة زوجة أبو هريرة ابنته وكنا إذا رآه قال أسأل الله أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة" ولهذا أكثر عنه من الرواية.
فصل في المفتين بالمدينة
وكان المفتون بالمدينة من التابعين ابن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم ابن محمد وخارجة بن زيد وأبا بكر بن عبد الرحمن بن حارث بن هشام وسليمان ابن يسار وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وهؤلاء هم الفقهاء وقد نظمهم القائل فقال إذا قيل من في العلم سبعة أبحر روايتهم ليست عن العلم خارجه فقل هم عبيد الله عروة قاسم سعيد أبو بكر سليمان خارجه.
وكان من أهل الفتوى أبان بن عثمان وسالم ونافع وأبو سلمة بن عبد الرحمن ابن عوف وعلي بن الحسين وبعد هؤلاء أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وابناه محمد وعبد الله وعبد الله بن عمر بن عثمان وابنه محمد وعبد الله والحسين ابنا محمد ابن الحنفية وجعفر بن محمد بن علي وعبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر ومحمد ابن المنكدر ومحمد بن شهاب الزهري وجمع محمد بن نوح فتاويه في ثلاثة أسفار ضخمة على أبواب الفقه وخلق سوى هؤلاء.(7/23)
ص -24-…فصل في المفتين بمكة
شرفها الله وكان المفتون بمكة عطاء بن أبي رباح وطاووس بن كيسان ومجاهد بن جبر وعبيد بن عمير وعمرو بن دينار وعبد الله بن أبي مليكة وعبد الرحمن ابن سابط وعكرمة ثم بعدهم أبو الزبير المكي وعبد الله بن خالد بن أسيد وعبد الله بن طاووس ثم بعدهم عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج وسفيان بن عيينة وكان أكثر فتواهم في المناسك وكان يتوقف في الطلاق وبعدهم مسلم بن خالد الزنجي وسعيد بن سالم القداح وبعدهما الإمام محمد بن إدريس الشافعي ثم عبد الله بن الزبير الحميدي وإبراهيم بن محمد الشافعي ابن عم محمد وموسى بن أبي الجارود وغيرهم.
فصل في المفتين بالبصرة
وكان من المفتين بالبصرة عمرو بن سلمة الجرمي وأبو مريم الحنفي وكعب ابن سود والحسن البصري وأدرك خمسمائة من الصحابة وقد جمع بعض العلماء فتاويه في سبعة أسفار ضخمة قال أبو محمد بن حزم وأبو الشعثاء جابر ابن زيد ومحمد بن سيرين وأبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي ومسلم بن يسار وأبو العالية وحميد بن عبد الرحمن ومطرف بن عبد الله الشخير وزرارة بن أبي أوفى وأبو بردة بن أبي موسى ثم بعدهم أيوب السختياني وسليمان التيمي وعبد الله بن عوف ويونس ابن عبيد والقاسم بن ربيعة وخالد بن أبي عمران وأشعث بن عبد الملك الحمراني وقتادة وحفص بن سليمان وإياس بن معاوية القاضي وبعدهم سوار القاضي وأبو بكر العتكي وعثمان بن سليمان البتي وطلحة ابن إياس القاضي وعبيد الله بن الحسن العنبري وأشعث بن جابر بن زيد.(7/24)
ص -25-…ثم بعد هؤلاء عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي وسعيد بن أبي عروبة وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وعبد الله بن داود الحرشي وإسماعيل بن علية وبشر بن المفضل ومعاذ بن معاذ العنبري ومعمر بن راشد والضحاك ابن مخلد ومحمد بن عبد الله الأنصاري.
فصل المفتين بالكوفة
وكان من المفتين بالكوفة علقمة بن قيس النخعي والأسود بن يزيد النخعي وهو عم علقمة وعمرو بن شرحبيل الهمداني ومسروق بن الأجدع الهمداني وعبيدة السلماني وشريح بن القاضي وسليمان بن ربيعة الباهلي وزيد ابن صوحان وسويد بن غفلة والحارث بن قيس الجعفي وعبد الرحمن بن يزيد النخعي وعبد الله بن عتبة بن مسعود القاضي وخيثمة بن عبد الرحمن وسلمة بن صهيب ومالك بن عامر وعبد الله بن سخبرة وزر بن حبيش وخلاس بن عمرو وعمرو بن ميمون الأودي وهمام بن الحارث والحارث بم سويد ويزيد بن معاوية النخعي والربيع بن خيثم وعتبة بن فرقد وصلة ابن زفر وشريك بن حنبل وأبو وائل شقيق بن سلمة وعبيد بن نضلة وهؤلاء أصحاب علي وابن مسعود وأكابر التابعين كانوا يفتون في الدين ويستفتيهم الناس وأكابر الصحابة حاضرون يجوزون لهم ذلك وأكثرهم أخذ عن عمر وعائشة وعلي ولقي عمرو بن ميمون الأودي معاذ بن جبل وصحبه وأخذ عنه وأوصاه معاذ عند موته أن يلحق بابن مسعود فيصحبه ويطلب العلم عنده ففعل ذلك ويضاف إلى هؤلاء أبو عبيدة وعبد الرحمن ابنا عبد الله بن مسعود وعبد الرحمن بن أبي ليلى وأخذ عن مائة وعشرين من الصحابة وميسرة وزاذان والضحاك.(7/25)
ص -26-…ثم بعدهم إبراهيم النخعي وعامر الشعبي وسعيد بن جبير والقاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود وأبو بكر بن أبي موسى ومحارب بن دثار والحكم بن عتيبة وجبلة بن سحيم وصحب ابن عمر ثم بعدهم حماد بن أبي سليمان وسليمان بن المعتمر وسليمان الأعمش ومسعر بن كدام ثم بعدهم محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وعبد الله سبرمة وسعيد بن أشوع وشريك القاضي والقاسم بن معن وسفيان الثوري وأبو حنفية والحسن بن صالح بن حي ثم بعدهم حفص بن غياث ووكيع بن الجراح وأصحاب أبي حنيفة كأبي يوسف القاضي وزفل بن الهذيل وحماد بن أبي حنيفة والحسن بن زياد اللؤلؤي القاضي ومحمد بن الحسن قاضي الرقة وعافية القاضي وأسد بن عمرو ونوح بن دراج القاضي وأصحاب سفيان الثوري كالأشجعي والمعافي ابن عمران وصاحبي الحسن بن حي الزولي ويحيى بن آدم فصل في المفتين بالشام
وكان من المفتين بالشام أبو إدريس الخولاني وشرحبيل بن السمط وعبد الله بن أبي زكريا الخزاعي وقبيصة بن ذؤيب الخزاعي وحبان بن أمية وسليمان بن حبيب المحاربي والحارث بن عمير الزبيدي وخالد بن معدان وعبد الرحمن بن غنم الأشعري وجبير بن نفير ثم كان بعدهم عبد الرحمن بن جبير بن نفير ومكحول وعمر بن عبد العزيز ورجاء بن حيوة وكان عبد الملك بن مروان يعد في المفتين قبل أن يلي ما ولى وحدير بن كريب.(7/26)
ص -27-…ثم كان بعدهم يحيى بن حمزة القاضي وأبو عمرو وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي وإسماعيل بن أبي المهاجر وسليمان بن موسى الأموي وسعيد ابن عبد العزيز ثم مخلد بن الحسين والوليد بن مسلم والعباس بن يزيد صاحب الأوزاعي وشعيب بن إسحاق صاحب أبي حنيفة وأبو إسحاق الفزاري صاحب ابن المبارك فصل في المفتين بمصر ومن المفتين من أهل مصر يزيد بن أبي حبيب وبكير بن عبد الله بن الأشج وبعدهما عمرو بن الحرث وقال ابن وهب: "لو عاش لنا عمرو بن الحرث ما احتجنا معه إلى مالك ولا إلى غيره" والليث بن سعد وعبيد الله بن أبي جعفر وبعدهم أصحاب مالك كعبد الله بن وهب وعثمان بن كنانة وأشهب وابن القاسم على غلبة تقليده لمالك إلا في الأقل ثم أصحاب الشافعي كالمزني والبويطي وابن عبد الحكم ثم غلب عليهم تقليد مالك وتقليد الشافعي إلا قوما قليلا لهم اختيارات كمحمد بن علي بن يوسف وأبي جعفر الطحاوي مفتو القيروان وكان بالقيروان سحنون بن سعيد وله كثير من الاختيار وسعيد بن محمد الحداد مفتو الأندلس وكان بالأندلس ممن له شيء من الاختيار يحيى بن يحيى وعبد الملك بن حبيب وبقي بن مخلد وقاسم بن محمد صاحب الوثائق تحفظ لهم فتاو يسيرة وكذلك مسلمة بن عبد العزيز القاضي ومنذر بن سعيد قال: "أبو محمد بن حزم وممن أدركنا من أهل العلم على الصفة التي من بلغها استحق الاعتداد به في الاختلاف" مسعود بن سليمان ويوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر.(7/27)
ص -28-…فصل في المفتين باليمن
وكان باليمن مطرف بن مازن قاضي صنعاء وعبد الرزاق بن همام وهشام ابن يوسف ومحمد بن ثور وسماك بن الفضل فصل في المفتين ببغداد وكان بمدينة السلام من المفتين خلق كثير ولما بناها المنصور أقدم إليها من الأئمة والفقهاء والمحدثين بشرا كثيرا فكان من أعيان المفتين بها أبو عبيد القاسم بن سلام وكان جبلا نفخ فيه الروح علما وجلالة ونبلا وأدبا وكان منهم أبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي صاحب الشافعي وكان قد جالس الشافعي وأخذ عنه وكان أحمد يعظمه ويقول هو في سلاح الثوري إمام أهل السنة وكان بها إمام أهل السنة على الإطلاق أحمد بن حنبل الذي ملأ الأرض علما وحديثا وسنة حتى إن أئمة الحديث والسنة بعده هم أتباعه إلى يوم القيامة وكان رضي الله عنه شديد الكراهة لتصنيف الكتب وكان يحب تجريد الحديث ويكره أن يكتب كلامه ويشتد عليه جدا فعلم الله حسن نيته وقصده فكتب من كلامه وفتواه أكثر من ثلاثين سفرا ومن الله سبحانه علينا بأكثرها فلم يفتنا منها إلا القليل وجمع الخلال نصوصه في الجامع الكبير فبلغ نحو عشرين سفرا أو أكثر ورويت فتاويه ومسائله وحدث بها قرنا بعد قرن فصارت إماما وقدوة لأهل السنة على اختلاف طبقاتهم حتى إن المخالفين لمذهبه بالاجتهاد والمقلدين لغيره ليعظون نصوصه وفتاواه ويعرفون لها حقها وقربها من النصوص وفتاوي الصحابة ومن تأمل فتاواه وفتاوي الصحابة رأي(7/28)
ص -29-…مطابقة كل منهما على الأخرى ورأى الجميع كأنها تخرج من مشكاة واحدة حتى إن الصحابة إذا اختلفوا على قولين جاء عنه في المسألة روايتان وكان تحريه لفتاوي الصحابة كتحري أصحابه لفتاويه ونصوصه بل أعظم حتى إنه ليقدم فتاواهم على الحديث المرسل قال إسحاق بن إبراهيم بن هانىء في مسألة: "قلت لأبي عبد الله حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسل برجال ثبت أحب إليك أو حديث عن الصحابة والتابعين متصل برجال ثبت قال أبو عبد الله رحمه الله عن الصحابة أعجب إلي".
فصل: الأصول التي بنيت عليها فتاوى ابن حنبل وكان فتاويه مبنية على خمسة أصول.
الأصل: الأول النصوص
فإذا وجد النص أفتى بموجبه ولم يلتفت إلى ما خالفه ولا من خالفه كائنا من كان ولهذا لم يلتفت إلى خلاف عمر في المبتوتة لحديث فاطمة بنت قيس ولا إلى خلافة في التيمم للجنب لحديث عمار بن ياسر ولا خلافة في استدامة المحرم الطيب الذي تطيب به قبل إحرامه لصحة حديث عائشة في ذلك ولا خلافه في منع المفرد والقارن من الفسخ إلى التمتع لصحة أحاديث الفسخ وكذلك لم يلتفت إلى قول علي وعثمان وطلحة وأبي أيوب وأبي بن كعب في ترك الغسل من الإكسال لصحة حديث عائشة أنها فعلته هي ورسول صلى الله عليه وسلم فاغتسلا ولم يلتفت إلى قول ابن عباس وإحدى الروايتين عن علي أن عدة المتوفي عنها الحامل أقصى الأجلين لصحة حديث سبيعة الأسلمية ولم يلتفت إلى قول معاذ ومعاوية في توريث المسلم من الكافر لصحة الحديث المانع من التوارث بينهما ولم يلتفت إلى قول ابن عباس في الصرف لصحة الحديث بخلافه ولا إلى قوله بإباحة لحوم الحمر كذلك(7/29)
ص -30-…وهذا كثير جدا ولم يكن يقدم على الحديث الصحيح عملا ولا رأيا ولا قياسا ولا قول صاحب ولا عدم علمه بالمخالف الذي يسميه كثير من الناس إجماعا ويقدمونه على الحديث الصحيح وقد كذب أحمد من ادعى هذا الإجماع ولم يسغ تقديمه على الحديث الثابت وكذلك الشافعي أيضا نص في رسالته الجديدة على أن ما لا يعلم فيه بخلاف لا يقال له إجماع ولفظه ما لا يعلم فيه خلاف فليس إجماعا وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: "سمعت أبي يقول ما يدعي فيه الرجل الإجماع فهو كاذب من ادعى الإجماع فهو كاذب لعل الناس اختلفوا ما يدريه ولم ينته إليه فليقل لا نعلم الناس اختلفوا" هذه دعوى بشر المريسي والأصم ولكنه يقول: "لا نعلم الناس اختلفوا أو لم يبلغني ذلك" هذا لفظه ونصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل عند الإمام أحمد وسائر أئمة الحديث من أن يقدموا عليها توهم إجماع مضمونه عدم العلم بالمخالف ولو ساغ لتعطلت النصوص وساغ لكل من لم يعلم مخالفا في حكم مسألة أن يقدم جهله بالمخالف على النصوص فهذا هو الذي أنكره الإمام أحمد والشافعي من دعوى الإجماع لا ما يظنه بعض الناس أنه استبعاد لوجوده.(7/30)
ص -31-…فصل: الأصل الثاني فتاوى الصحابة
الأصل الثاني: من أصول فتاوى الإمام أحمد ما أفتى به الصحابة فإنه إذا وجد لبعضهم فتوى لا يعرف له مخالف منهم فيها لم يعدها إلى غيرها ولم يقل إن ذلك إجماع بل من ورعه في العبارة يقول لا أعلم شيئا يدفعه أو نحو هذا كما قال في رواية أبي طالب: "لا أعلم شيئا يدفع قول ابن عباس وابن عمر وأحد عشر من التابعين عطاء ومجاهد وأهل المدينة على تسري العبد" وهكذا قال أنس بن مالك: "لا أعلم أحدا رد شهادة العبد حكاه" عنه الإمام أحمد وإذا وجد الإمام أحمد هذا النوع عن الصحابة لم يقدم عليه عملا ولا رأيا ولا قياسا.
فصل: الأصل الثالث الاختيار من أقوال الصحابة إذا اختلفوا
الأصل الثالث من أصوله إذا اختلف الصحابة تخير من أقوالهم ما كان أقربها إلى الكتاب والسنة ولم يخرج عن أقوالهم فإن لم يتبين له موافقة أحد الأقوال حكي الخلاف فيها ولم يجزم بقول قال إسحاق بن إبراهيم بن هانىء في مسائله: "قيل لأبي عبد الله يكون الرجل في قومه فيسأل عن الشيء فيه اختلاف قال يفتي بما وافق الكتاب والسنة وما لم يوافق الكتاب والسنة أمسك عنه قيل له أفيجاب عليه قيل لا".
فصل الأصل الرابع الحديث المرسل
الأصل الرابع: الأخذ بالمرسل والحديث والضعيف إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه
وهو الذي رجحه على القياس وليس المراد بالضعيف عنده الباطل ولا المنكر ولا ما في روايته متهم بحيث لا يسوغ الذهاب إليه فالعمل به بل الحديث الضعيف عنده قسيم الصحيح وقسم من أقسام الحسن ولم يكن يقسم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف بل إلى صحيح وضعيف وللضعيف عنده مراتب فإذا لم يجد في الباب أثرا يدفعه ولا قول صاحب ولا إجماعا على خلافه كان العمل به عنده أولى من القياس وليس أحد من الأئمة إلا وهو موافقه على هذا الأصل من حيث الجملة فإنه ما منهم أحد إلا وقد قدم الحديث الضعيف على القياس فقدم أبو حنيفة حديث القهقهة في الصلاة على محض القياس وأجمع أهل(7/31)
ص -32-…الحديث على ضعفه وقدم حديث الوضوء بنبيذ التمر على القياس وأكثر أهل الحديث يضعفه وقدم حديث أكثر الحيض عشرة أيام وهو ضعيف باتفاقهم على محض القياس فإن الذي تراه في اليوم الثالث عشر مساو في الحد والحقيقة والصفة لدم اليوم العاشر وقدم حديث لا مهر أقل من عشرة دراهم وأجمعوا على ضعفه بل بطلانه على محض القياس فإن بذل الصداق معاوضة في مقابلة بذل البضع فما تراضيا عليه جاز قليلا كان أو كثيرا وقدم الشافعي خبر تحريم صيد وج مع ضعفه على القياس وقدم خبر جواز الصلاة بمكة في وقت النهي مع ضعفه ومخالفته لقياس غيرها من البلاد وقدم في أحد قوليه حديث من قاء أو رعف فليتوضأ وليبئن على صلاته على القياس مع ضعف الخبر وإرساله وأما مالك فإنه يقدم الحديث المرسل والمنقطع والبلاغات وقول الصحابى على القياس.
فصل: الأصل الخامس القياس للضرورة
فإذا لم يكن عند الإمام أحمد في المسألة نص ولا قول الصحابة أو واحد منهم ولا أثر مرسل أو ضعيف عدل إلى الأصل الخامس وهو القياس فاستعمله للضرورة وقد قال في كتاب الخلال: "سألت الشافعي عن القياس فقال إنما يصار إليه عند الضرورة أو ما هذا معناه" فهذه الأصول الخمسة من أصول فتاويه وعليها مدارها وقد يتوقف في الفتوى لتعارض الأدلة عنده أو لاختلاف الصحابة فيها أو لعدم اطلاعه فيها على أثر أو قول أحد من الصحابة والتابعين وكان شديد الكراهة والمنع للإفتاء بمسألة ليس فيها أثر عن السلف كما قال لبعض أصحابه إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام.(7/32)
ص -33-…وكان يسوغ استفتاء فقهاء الحديث وأصحاب مالك ويدل عليهم ويمنع من استفتاء من يعرض عن الحديث ولا يبني مذهبه عليه ولا يسوغ العمل بفتواه.
قال ابن هانىء: "سألت أبا عبد الله عن الذي جاء في الحديث أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار قال أبو عبد الله رحمه الله يفتي بما لم يسمع قال وسألته عمن أفتى بفتيا يعي فيها قال فإثمها على من أفتاها قلت على أي وجه يفتي حتى يعلم ما فيها قال يفتي بالبحث لا يدري أيش أصلها".
وقال أبو داود في مسائله: "ما أحصى ما سمعت أحمد سئل عن كثير مما فيه الاختلاف في العلم فيقول لا أدري قال وسمعته يقول ما رأيت مثل ابن عيينة في الفتوى أحسن فتيا منه كان أهون عليه أن يقول لا أدري".
وقال عبد الله بن أحمد في مسائله: "سمعت أبي يقول وقال عبد الرحمن ابن مهدي سأل رجل من أهل الغرب مالك بن أنس عن مسألة فقال لا أدري فقال يا أبا عبد الله تقول لا أدري قال نعم فأبلغ من وراءك أني لا أدري.
وقال عبد الله كنت أسمع أبي كثيرا يسأل عن المسائل فيقول لا أدري ويقف إذا كانت مسألة فيها اختلاف وكثيرا ما كان يقول سل غيري فإن قيل له من نسأل قال سلوا العلماء ولا يكاد يسمي رجلا بعينه قال وسمعت أبي يقول كان ابن عيينة لا يفتي في الطلاق ويقول من يحسن هذا".
فصل: تورع السلف عن الفتيا
وكان السلف من الصحابة والتابعين يكرهون التسرع في الفتوى ويود كل واحد منهم أن يكفيه إياها غيره فإذا رأى أنها قد تعينت عليه بذل اجتهاده في معرفة حكمها من الكتاب والسنة أو قول الخلفاء الراشدين ثم أفتى.(7/33)
ص -34-…وقال عبد الله بن المبارك: "حدثنا سفيان عن عطاء بن السائب عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى قال: "أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أراه قال في المسجد فما كان منهم محدث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث ولا مفت إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا".
وقال الإمام أحمد: "حدثنا جرير عن عطاء بن السائب عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى قال: أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منهم رجل يسأل عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه ولا يحدث حديثا إلا ود أن أخاه كفاه".
وقال مالك عن يحيى بن سعيد: "أن بكير بن الأشج أخبره عن معاوية بن أبي عياش أنه كان جالسا عند عبد الله بن الزبير وعاصم بن عمر فجاءهما محمد بن إياس ابن البكير فقال: إن رجلا من أهل البادية طلق امرأته ثلاثا فماذا تريان فقال عبد الله بن الزبير إن هذا الأمر ما لنا فيه قول فاذهب إلى عبد الله بن عباس وأبي هريرة فإني تركتهما عند عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ثم ائتنا فأخبرنا فذهبت فسألتهما فقال ابن عباس لأبي هريرة أفته يا أبا هريرة فقد جاءتك معضلة فقال أبو هريرة الواحدة تبينها والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجا غيره".
وقال مالك عن يحيى بن سعيد قال: "قال ابن عباس: "إن كل من أفتى الناس في كل ما يسألونه عنه لمجنون" قال مالك وبلغني عن ابن مسعود مثل ذلك رواه ابن وضاح عن يوسف بن عدي بن عبد بن حميد عن الأعمش عن شقيق عن عبد الله ورواه حبيب بن أبي ثابت عن أبي وائل عن عبد الله.
وقال سحنون بن سعيد: "أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم يظن أن الحق كله فيه".(7/34)
ص -35-…قلت الجرأة على الفتيا تكون من قلة العلم ومن غزارته وسعته فإذا قل علمه أفتى عن كل ما يسأل عنه بغير علم وإذا اتسع علمه اتسعت فتياه ولهذا كان ابن عباس من أوسع الصحابة فتيا وقد تقدم أن فتاواه جمعت في عشرين سفرا وكان سعيد بن المسيب أيضا واسع الفتيا وكانوا يسمونه كما ذكر ابن وهب عن محمد بن سليمان المرادي عن أبي إسحاق قال: "كنت أرى الرجل في ذلك الزمان وإنه ليدخل يسأل عن الشيء فيدفعه الناس عن مجلس إلى مجلس حتى يدفع إلى مجلس سعيد بن المسيب كراهية للفتيا" قال: "وكانوا يدعونه سعيد ابن المسيب الجريء".
وقال سحنون: "إني لأحفظ مسائل منها ما فيه ثمانية أقوال من ثمانية أئمة من العلماء فكيف ينبغي أن أعجل بالجواب قبل الخبر فلم ألام على حبس الجواب" وقال ابن وهب: "حدثنا أشهل بن حاتم عن عبد الله بن عون عن ابن سيرين قال: قال حذيفة: "إنما يفتي الناس أحد ثلاثة من يعلم ما نسخ من القرآن أو أمير لا يجد بدا أو أحمق متكلف" قال فربما قال ابن سيرين فلست بواحد من هذين ولا أحب أن أكون الثالث.
المراد بالناسخ والمنسوخ عند السلف والخلف
قلت مراده ومراد عامة السلف بالناسخ والمنسوخ رفع الحكم بجملته تارة وهو اصطلاح المتأخرين ورفع دلالة العام والمطلق والظاهر وغيرها تارة إما بتخصيص أو تقييد أو حمل مطلق على مقيد وتفسيره وتبيينه حتى إنهم يسمون الاستثناء والشرط والصفة نسخا لتضمن ذلك رفع دلالة الظاهر وبيان المراد فالنسخ عندهم وفي لسانهم هو بيان المراد بغير ذلك اللفظ بل بأمر خارج عنه ومن تأمل كلامهم رأى من ذلك فيه ما لا يحصى وزال عنه به إشكالات أوجبها حمل كلامهم على الاصطلاح الحادث المتأخر.
وقال هشام بن حسان عن محمد بن سيرين قال: "قال حذيفة: إنما يفتي الناس أحد ثلاثة رجل يعلم ناسخ القرآن ومنسوخه وأمير لا يجد بدا وأحمق(7/35)
ص -36-…متكلف" قال ابن سيرين: فأنا لست أحد هذين وأرجو أن لا أكون أحمق متكلفا".
وقال أبو عمر بن عبد البر في كتاب جامع فضل العلم: "حدثنا خلف ابن القاسم ثنا يحيى بن الربيع ثنا محمد بن حماد المصيصي ثنا إبراهيم بن واقد ثنا المطلب بن زياد قال: حدثني جعفر بن حسين إمامنا قال: "رأيت أبا حنيفة في النوم فقلت ما فعل الله بك يا أبا حنيفة قال: غفر لي فقلت له بالعلم" فقال: ما أضر الفتيا على أهلها فقلت: فبم قال بقول الناس في ما لم يعلم الله أنه مني" قال أبو عمر: "وقال سحنون يوما إنا لله ما أشقى المفتي والحاكم ثم قال هانذا يتعلم مني ما تضرب به الرقاب وتوطأ به الفروج وتؤخذ به الحقوق أما كنت عن هذا غنيا".
الفرق بين المفتي والقاضي
قال أبو عمرو: قال أبو عثمان الحداد: "القاضي أيسر مأثما وأقرب إلى السلامة من الفقيه" يريد المفتي لأن الفقيه من شأنه إصدار ما يرد عليه من ساعته بما حضره من القول والقاضي شأنه الأناة والتثبت ومن تأنى وتثبت تهيأ له من الصواب ما لا يتهيأ لصاحب البديهة انتهى.
وقال غيره: "المفتي أقرب إلى السلامة من القاضي لأنه لا يلزم بفتواه وإنما يخبر بها من استفتاه فإن شاء قبل قوله وإن شاء تركه وأم القاضي فإنه يلزم بقوله فيشترك هو والمفتي في الأخبار عن الحكم ويتميز القاضي بالإلزام والقضاء فهو من هذا الوجه خطره أشد".
خطر تولي القضاء
ولهذا جاء في القاضي من الوعيد والتخويف ما لم يأت نظيره في المفتي كما رواه أبو داود الطيالسي من حديث عائشة رضي الله عنها أنها ذكر عندها القضاة فقالت: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يؤتى بالقاضي العدل يوم القيامة فيلقى من شدة الحساب ما يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في تمرة قط" وروى الشعبي عن مسروق عن عبد الله يرفعه: "ما من حاكم يحكم بين الناس إلا وكل به ملك آخذ بقفاه حتى يقف به على شفير جهنم فيرفع رأسه(7/36)
ص -37-…إلى الله فإن أمره أن يقذفه قذفة في مهوى أربعين خريفا" وفي السنن من حديث ابن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "القضاة ثلاثة اثنان في النار وواحد في الجنة رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة ورجل قضى بين الناس بالجهل فهو في النار ورجل عرف الحق فجار فهو في النار".
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "ويل لديان من في الأرض من ديان من في السماء يوم يلقونه إلا من أمر بالعدل وقضى بالحق ولم يقض على هوى ولا على قرابة ولا على رغب ولا رهب وجعل كتاب الله مرآة بين عينيه" وفي سنن أبي داود من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من طلب قضاء المسلمين حتى يناله ثم غلب عدله جوره فله الجنة ومن غلب جوره عدله فله النار" وفي سنن البيهقي من حديث ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله مع القاضي ما لم يجر فإذا جار برىء الله منه ولزمه الشيطان" وفيه من حديث حسين المعلم عن الشيباني عن ابن أبي أوفى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله مع القاضي ما لم يجر فإذا جار وكله نفسه" وفي السنن الأربعة من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من قعد قاضيا بين المسلمين فقد ذبح نفسه بغير سكين" وفي سنن البيهقي من حديث أبي حازم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ويل للأمراء وويل للعرفاء وويل للأمناء ليتمنين أقوام يوم القيامة أن نواصيهم كانت متعلقة بالثريا يتجلجلون بين السماء والأرض وأنهم لم يلوا عملا".
خطر تولي الإفتاء
وأما المفتي ففي سنن أبي داود من حديث مسلم بن يسار قال سمعت أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال علي ما لم أقل فليتبوأ بيتا في جهنم ومن أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه ومن أشار على أخيه بأمر يعلم(7/37)
ص -38-…الرشد في غيره فقد خانه" فكل خطر على المفتي فهو على القاضي وعليه من زيادة الخطر ما يختص به ولكن خطر المفتي أعظم من جهة أخرى فإن فتواه شريعة عامة تتعلق بالمستفتى وغيره.
وأما الحاكم فحكمه جزئي خاص لا يتعدى إلى غير المحكوم عليه وله فالمفتي يفتي حكما عاما كليا أن من فعل كذا ترتب عليه كذا ومن قال كذا لزمه كذا والقاضي يقضي قضاء معينا على شخص معين فقضاؤه خاص ملزم وفتوى العالم عامة غير ملزمة فكلاهما أجره عظيم وخطره كبير.
تحريم القول على الله بغير علم
وقد حرم الله سبحانه القول عليه بغير علم في الفتيا والقضاء وجعله من أعظم المحرمات بل جعله في المرتبة العليا منها فقال تعالى {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} فرتب المحرمات أربع مراتب وبدأ بأسهلها وهو الفواحش ثم ثنى بما هو أشد تحريما منه وهو الإثم والظلم ثم ثلث بما هو أعظم تحريما منهما وهو الشرك به سبحانه ثم ربع بما هو أشد تحريما من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي دينه وشرعه وقال تعالى {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فتقدم إليهم سبحانه بالوعيد على الكذب عليه في أحكامه وقولهم لما لم يحرمه: هذا حرام ولما لم يحله: هذا حلال وهذا بيان منه سبحانه أنه لا يجوز للعبد أن يقول هذا حلال وهذا حرام إلا بما علم أن الله سبحانه أحله وحرمه.(7/38)
ص -39-…وقال بعض السلف: "ليتق أحدكم أن يقول أحل الله كذا وحرم كذا فيقول الله له كذبت لم أحل كذا ولم أحرم كذا فلا ينبغي أن يقول لما لا يعلم ورود الوحي المبين بتحليله وتحريمه أحله الله وحرمه الله لمجرد التقليد أو بالتأويل".
لا ينبغي أن يقال هذا حكم الله
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أميره بريدة أن ينزل عدوه إذا حاصرهم على حكم الله وقال: "فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك" فتأمل كيف فرق بين حكم الله وحكم الأمير المجتهد ونهى أن يسمى حكم المجتهدين حكم الله.
ومن هذا لما كتب الكاتب بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حكما حكم به فقال: "هذا ما أرى الله أمير المؤمنين عمر فقال: لا تقل هكذا ولكن قل: هذا ما رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب".
وقال ابن وهب: سمعت مالكا يقول: "لم يكن من أمر الناس ولا من مضى من سلفنا ولا أدركت أحدا اقتدى به يقول في شيء هذا حلال وهذا حرام وما كانوا يجترئون على ذلك وإنما كانوا يقولون نكره كذا ونرى هذا حسنا فينبغي هذا ولا نرى هذا" ورواه عنه عتيق بن يعقوب وزاد: "ولا يقولون حلال ولا حرام أما سمعت قول الله تعالى {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} الحلال ما أحله الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله".
قد يطلق لفظ الكراهة على المحرم
قلت: وقد غلط كثير من المتأخرين من أتباع الأئمة على أئمتهم بسبب ذلك حيث تورع الأئمة عن إطلاق لفظ التحريم وأطلقوا لفظ الكراهة(7/39)
ص -40-…فنفى المتأخرون التحريم عما أطلق عليه الأئمة الكراهة ثم سهل عليهم لفظ الكراهة وخفت مؤنته عليهم فحمله بعضهم على التنزيه وتجاوز به آخرون إلى كراهة ترك الأولى وهذا كثير جدا في تصرفاتهم فحصل بسببه غلط عظيم على الشريعة وعلى الأئمة وقد قال الإمام أحمد في الجمع بين الأختين بملك اليمين: "أكرهه ولا أقول هو حرام" ومذهبه تحريمه وإنما تورع عن إطلاق لفظ التحريم لأجل قول عثمان.
وقال أبو القاسم الخرقي فيما نقله عن أبي عبد الله: "ويكره أن يتوضأ في آنية الذهب والفضة" ومذهبه أنه لا يجوز وقال في رواية أبي داود: "ويستحب أن لا يدخل الحمام إلا بمئزر له وهذا استحباب وجوب" وقال في رواية إسحاق ابن منصور: "إذا كان أكثر مال الرجل حراما فلا يعجبني أن يؤكل ماله" وهذا على سبيل التحريم.
وقال في رواية ابنه عبد الله: "لا يعجبني أكل ما ذبح للزهرة ولا الكواكب ولا الكنيسة وكل شيء ذبح لغير الله قال الله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} فتأمل كيف قال: "لا يعجبني" فيما نص الله سبحانه على تحريمه واحتج هو أيضا بتحريم الله له في كتابه وقال في رواية الأثرم: "أكره لحوم الجلالة وألبانها" وقد صرح بالتحريم في رواية حنبل وغيره وقال في رواية ابنه عبد الله: "أكره أكل لحم الحية والعقرب لأن الحية لها ناب والعقرب لها حمة" ولا يختلف مذهبه في تحريمه وقال في رواية حرب: "إذا صاد الكلب من غير أن يرسل(7/40)
ص -41-…فلا يعجبني" لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أرسلت كلبك وسميت" فقد أطلق لفظه "لا يعجبني" على ما هو حرام عنده وقال في رواية جعفر بن محمد النسائي: "لا يعجبني المكحلة والمرود" يعني من الفضة وقد صرح بالتحريم في عدة مواضع وهو مذهبه بلا خلاف وقال جعفر بن محمد أيضا: "سمعت أبا عبد الله سئل عن رجل قال لامرأته: كل امرأة أتزوجها أو جارية أشتريها للوطء وأنت حية فالجارية حرة والمرأة طالق قال إن تزوج لم آمره أن يفارقها والعتق أخشى أن يلزمه لأنه مخالف للطلاق قيل له يهب له رجل جارية قال: "هذا طريق الحيلة" وكرهه مع أن مذهبه تحريم الحيل وأنها لا تخلص من الأيمان ونص على كراهة البطة من جلود الحمر وقال تكون ذكية ولا يختلف مذهبه في التحريم وسئل عن شعر الخنزير فقال لا يعجبني وهذا على التحريم وقال: "يكره القد من جلود الحمير ذكيا وغير ذكي لأنه لا يكون ذكيا وأكرهه لمن يعمل وللمستعمل" وسئل عن رجل حلف لا ينتفع بكذا فباعه واشترى به غيره فكره ذلك وهذا عنده لا يجوز وسئل عن ألبان الأتن فكرهه وهو حرام عنده وسئل عن الخمر يتخذ خلا فقال: "لا يعجبني" وهذا على التحريم عنده وسئل عن بيع الماء فكرهه وهذا في أجوبته أكثر من أن يستقصى وكذلك غيره من الأئمة.
وقد نص محمد بن الحسن أن كل مكروه فهو حرام إلا أنه لما لم يجد فيه نصا قاطعا لم يطلق عليه لفظ الحرام وروى محمد أيضا عن أبي حنيفة وأبي يوسف إلى أنه إلى الحرام أقرب وقد قال في الجامع الكبير يكره الشرب في آنية الذهب(7/41)
ص -42-…والفضة للرجال والنساء ومراده التحريم وكذلك قال أبو يوسف ومحمد: "يكره النوم على فرش الحرير والتوسد على وسائده" ومرادهما التحريم وقال أبو حنيفة وصاحباه: "يكره أن يلبس الذكور من الصبيان الذهب والحرير وقد صرح الأصحاب أنه حرام" وقالوا: "إن التحريم لما ثبت في حق الذكور وتحريم اللبس يحرم الإلباس كالخمر لما حرم شربها حرم سقيها" وكذلك قالوا: "يكره منديل الحرير الذي يتمخط فيه ويتمسح من الوضوء" ومرادهم التحريم وقالوا: "يكره بيع العذرة" ومرادهم التحريم وقالوا: "يكره الاحتكار في أقوات الآدميين والبهائم إذا أضر بهم وضيق عليهم" ومرادهم التحريم وقالوا: "يكره بيع السلاح في أيام الفتنة" ومرادهم التحريم وقال أبو حنيفة: "يكره بيع أرض مكة" ومرادهم التحريم عندهم قالوا: "ويكره اللعب بالشطرنج" وهو حرام عندهم قالوا: "ويكره أن يجعل الرجل في عنق عبده أو غيره طوق الحديد الذي يمنعه من التحرك وهو الغل" وهو حرام وهذا كثير في كلامهم جدا.
وأما أصحاب مالك فالمكروه عندهم مرتبة بين الحرام والمباح ولا يطلقون عليه اسم الجواز ويقولون: "إن أكل كل ذي ناب من السباع مكروه غير مباح" وقد قال مالك في كثير من أجوبته أكره كذا وهو حرام فمنها أن مالكا نص على كراهة الشطرنج وهذا عند أكثر أصحابه على التحريم وحمله بعضهم على الكراهة التي هي دون التحريم.
وقال الشافعي في اللعب بالشطرنج: "إنه لهو شبه الباطل أكرهه ولا يتبين لي تحريمه" فقد نص على كراهته وتوقف في تحريمه فلا يجوز أن ينسب إليه وإلى مذهبه أن اللعب بها جائز وأنه مباح فإنه لم يقل هذا ولا ما يدل عليه والحق أن يقال إنه كرهها وتوقف في تحريمها فأين هذا من أن يقال إن مذهبه جواز اللعب بها وإباحته ومن هذا أيضا أنه نص على كراهة تزوج الرجل بنته من ماء الزنا ولم يقل قط إنه مباح ولا جائز والذي يليق بجلالته(7/42)
ص -43-…وإمامته ومنصبه الذي أجله الله به من الدين أن هذه الكراهة منه على وجه التحريم وأطلق لفظ الكراهة لأن الحرام يكرهه الله ورسوله وقد قال تعالى عقيب ذكر ما حرمه من المحرمات من عند قوله {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} إلى قوله {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} إلى قوله {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} إلى قوله {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} إلى قوله {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقّ} إلى قوله {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ} إلى قوله {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} إلى آخر الآيات ثم قال {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} وفي الصحيح: "إن الله عز وجل كره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال".
غلط المتأخرين في نقل التحريم إلى الكراهة:
فالسلف كانوا يستعملون الكراهة في معناها الذي استعملت فيه في كلام الله ورسوله أما المتأخرون فقد اصطلحوا على الكراهة تخصيص بما ليس بمحرم وتركه أرجح من فعله ثم حمل من حمل منهم كلام الأئمة على الاصطلاح الحادث فغلط في ذلك وأقبح غلطا منه من حمل لفظ الكراهة أو لفظ "لا ينبغي" في كلام الله ورسوله على المعنى الاصطلاحي الحادث وقد اطرد في كلام الله ورسوله استعمال لا ينبغي في المحظور شرعا أو قدرا في المستحيل الممتنع كقول الله تعالى {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} وقوله {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} وقوله {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ} وقوله على لسان نبيه: "كذبني ابن آدم وما ينبغي له وشتمني ابن آدم وما ينبغي له" وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام" وقوله صلى الله عليه وسلم في لباس الحرير: "لا ينبغي هذا للمتقين" وأمثال ذلك.(7/43)
ما يقوله المفتي إذا اجتهد
والمقصود أن الله سبحانه حرم القول عليه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه والمفتي يخبر عن الله عز وجل وعن دينه فإن لم يكن خبره مطابقا لما شرعه كان قائلا عليه بلا علم ولكن إذا اجتهد واستفرغ وسعه في معرفة(7/44)
ص -44-…الحق وأخطأ لم يلحقه الوعيد وعفى له عن ما أخطأ به وأثيب على اجتهاده ولكن لا يجوز أن يقول لما أداه إليه اجتهاده ولم يظفر فيه بنص عن الله ورسوله: "إن الله حرم كذا وأوجب كذا وأباح كذا وإن هذا هو حكم الله" قال ابن وضاح: "ثنا يوسف بن عدي ثنا عبيدة بن حميد عن عطاء بن السائب قال: قال الربيع بن خيثم: "إياكم أن يقول الرجل لشيء إن الله حرم هذا أو نهى عنه فيقول الله: كذبت لم أحرمه ولم أنه عنه أو يقول: إن الله أحل هذا أو أمر به فيقول الله: كذبت لم أحله ولم آمر به" قال أبو عمر: "وقد روى عن مالك أنه قال في بعض ما كان ينزل به فيسأل عنه فيجتهد فيه رأيه إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين".
في كلام الأئمة في أدوات الفتيا وشروطها
ومن ينبغي له أن يفتي وأين يسع قول المفتي "لا أدري"؟
أدوات الفتيا:
قال الإمام أحمد في رواية ابنه صالح عنه: "ينبغي للرجل إذا حمل نفسه على الفتيا أن يكون عالما بوجوه القرآن عالما بالأسانيد الصحيحة عالما بالسنن وإنما جاء خلاف من خالف لقلة معرفتهم بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وقلة معرفتهم بصحيحها من سقيمها".
وقال في رواية ابنه عبد الله: "إذا كان عند الرجل الكتب المصنفة فيها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلاف الصحابة و التابعين فلا يجوز أن يعمل بما شاء ويتخير فيقضي به ويعمل به حتى يسأل أهل العلم ما يؤخذ به فيكون يعمل على أمر صحيح".(7/45)
ص -45-…وقال في رواية أبي الحارث: "لا يجوز الإفتاء إلا لرجل عالم بالكتاب والسنة" وقال في رواية حنبل: "ينبغي لمن أفتى أن يكون عالما بقول من تقدم وإلا فلا يفتي".
وقال محمد بن عبد الله بن المنادي: "سمعت رجلا يسأل أحمد إذا حفظ الرجل مائة ألف حديث يكون فقيها قال: لا قال: مائتي ألف قال: لا قال: فثلثمائة ألف قال: لا قال: فأربعمائة ألف قال: بيده هكذا وحرك يده" قال أبو الحسين وسألت جدي محمد بن عبيد الله قلت: "فكم كان يحفظ أحمد بن حنبل قال أخذ عن ستمائة ألف".
قال أبو حفص: قال لي أبو إسحاق: "لما جلست في جامع المنصور للفتيا ذكرت هذه المسألة فقال لي رجل فأنت هو ذا لا تحفظ هذا المقدار حتى تفتي الناس فقلت له عافاك الله إن كنت لا أحفظ هذا المقدار فإني هو ذا أفتي الناس بقول من كان يحفظ هذا المقدار وأكثر منه".
قال القاضي أبو يعلى: "وظاهر هذا الكلام أنه لا يكون من أهل الاجتهاد إذا لم يحفظ من الحديث هذا القدر الكثير الذي ذكره وهذا محمول على الاحتياط والتغليظ في الفتوى" ثم ذكر حكاية أبي إسحاق لما جلس في جامع المنصور قال: "وليس هذا الكلام من أبي إسحاق مما يقتضي أنه كان يقلد أحمد فيما يفتي به لأنه قد نص في بعض تعاليقه على كتاب العلل على الدلالة على منع الفتوى بغير علم لقوله تعالى {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}".
الفتوى بالتقليد:
قلت: هذه المسألة فيها ثلاثة أقوال لأصحاب أحمد:
أحدها: أنه لا يجوز الفتوى بالتقليد لأنه ليس بعلم والفتوى بغير علم حرام ولا خلاف بين الناس أن التقليد ليس بعلم وأن المقلد لا يطلق عليه اسم عالم وهذا قول أكثر الأصحاب وقول جمهور الشافعية.(7/46)
ص -46-…والثاني: أن ذلك يجوز فيما يتعلق بنفسه فيجوز له أن يقلد غيره من العلماء إذا كانت الفتوى لنفسه ولا يجوز أن يقلد العالم فيما يفتي به غيره وهذا قول ابن بطة وغيره من أصحابنا قال القاضي: "ذكر ابن بطة في مكاتباته إلى البرمكي: "لا يجوز له أن يفتي بما سمع من يفتي وإنما يجوز أن يقلد لنفسه فأما أن يتقلد لغيره ويفتي به فلا".
والقول الثالث: "أنه يجوز ذلك عند الحاجة وعدم العالم المجتهد وهو أصح الأقوال" وعليه العمل قال القاضي: "ذكر أبو حفص في تعاليقه قال: سمعت أبا علي الحسن بن عبد الله النجاد يقول سمعت أبا الحسين بن بشران يقول: "ما أعيب على رجل يحفظ عن أحمد خمس مسائل استند إلى بعض سواري المسجد يفتي بها".
شروط الإفتاء عند العلماء:
قال الشافعي فيما رواه عنه الخطيب في كتاب الفقيه والمتفقه له: "لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا رجلا عارفا بكتاب الله بناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه وتأويله وتنزيله ومكيه ومدنيه وما أريد به ويكون بعد ذلك بصيرا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناسخ والمنسوخ ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن ويكون بصيرا باللغة بصيرا بالشعر وما يحتاج إليه للسنة والقرآن ويستعمل هذا مع الإنصاف ويكون بعد هذا مشرفا على اختلاف أهل الأمصار وتكون له قريحة بعد هذا فإذا كان هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يفتي".
وقال صالح بن أحمد: قلت لأبي: "ما تقول في الرجل يسأل عن الشيء فيجيب بما في الحديث وليس بعالم في الفقه؟ فقال: "ينبغي للرجل إذا حمل نفسه على الفتيا أن يكون عالما بالسنن عالما بوجوه القرآن عالما بالأسانيد الصحيحة" وذكر الكلام المتقدم.(7/47)
ص -47-…قال علي بن شقيق: "قيل لابن المبارك: متى يفتي الرجل؟ قال: "إذا كان عالما بالأثر بصيرا بالرأي".
وقيل ليحيى بن أكثم: "متى يجب للرجل أن يفتي؟ فقال: "إذا كان بصيرا بالرأي بصيرا بالأثر".
قلت: "يريدان بالرأي القياس الصحيح والمعاني والعلل الصحيحة التي علق الشارع بها الأحكام وجعلها مؤثرة فيها طردا وعكسا".
فصل: في تحريم الإفتاء في دين الله بالرآي المتضمن لمخالفة النصوص والرأي الذي لم تشهد له النصوص بالقبول
قال الله: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} فقسم الأمر إلى أمرين لا ثالث لهما إما الاستجابة لله والرسول وما جاء به وإما اتباع الهوى فكل ما لم يأت به الرسول فهو من الهوى.
وقال تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} فقسم سبحانه طريق الحكم بين الناس إلى الحق وهو الوحي الذي أنزله الله على رسوله وإلى الهوى وهو ما خالفه.
وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ، إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} فقسم الأمر بين الشريعة التي جعله هو سبحانه عليها وأوحى إليه العمل بها وأمر الأمة بها وبين اتباع أهواء الذين لا يعلمون فأمر بالأول ونهى عن الثاني.(7/48)
ص -48-…قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} فأمر باتباع المنزل منه خاصة واعلم أن من اتبع غيره فقد ابتع من دونه أولياء.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} فأمر تعالى بطاعته وطاعة رسوله وأعاد الفعل إعلاما بأن طاعة الرسول تجب استقلالا من غير عرض ما أمر به على الكتاب بل إذا أمر وجبت طاعته مطلقا سواء كان ما أمر به في الكتاب أو لم يكن فيه فإنه أوتي الكتاب ومثله معه ولم يأمر بطاعة أولي الأمر استقلالا بل حذف الفعل وجعل طاعتهم في ضمن طاعة الرسول إيذانا بأنهم إنما يطاعون تبعا لطاعة الرسول فمن أمر منهم بطاعة الرسول وجبت طاعته ومن أمر بخلاف ما جاء به الرسول فلا سمع له ولا طاعة كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" وقال: "إنما الطاعة في المعروف" وقال في ولاة الأمور: "من أمركم منهم بمعصية الله فلا سمع له ولا طاعة" وقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن الذين أرادوا دخول النار لما أمرهم أميرهم بدخولها: "إنهم لو دخلوا لما خرجوا منها" مع أنهم إنما كانوا يدخلونها طاعة لأميرهم وظنا أن ذلك واجب عليهم ولكن لما قصروا في الاجتهاد وبادروا إلى طاعة من أمر بعصية الله وحملوا عموم الأمر بالطاعة بما لم يرده الآمر صلى الله عليه وسلم وما قد علم من دينه إرادة خلافه فقصوا في الاجتهاد وأقدموا على تعذيب أنفسهم وإهلاكها من غير تثبت وتبين هل ذلك طاعة لله ورسوله أم لا فما الظن بمن أطاع غيره في صريح مخالفة ما بعث الله به رسوله ثم أمر تعالى برد ما تنازع فيه(7/49)
المؤمنون إلى الله ورسوله إن كانوا مؤمنين وأخبرهم أن ذلك خير لهم في العاجل أو حسن تأويلا في العاقبة.(7/50)
ص -49-…اتفاق الصحابة في مسائل الصفات:
وقد تضمن هذا أمورا: منها أن أهل الإيمان قد يتنازعون في بعض الأحكام ولا يخرجون بذلك عن الإيمان وقد تنازع الصحابة في كثير من مسائل الأحكام وهم سادات المؤمنين وأكمل الأمة إيمانا ولكن بحمد الله لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال بل كلهم على إثبات ما نطق به الكاتب والسنة كلمة واحدة من أولهم إلى آخرهم لم يسوموها تأويلا ولم يحرفوها عن مواضعها تبديلا ولم يبدوا لشيء منها إبطالا ولا ضربوا لها أمثالا ولم يدفعوا في صدورها وأعجازها ولم يقل أحد منهم يجب صرفها عن حقائقها وحملها على مجازها بل تلقوها بالقبول والتسليم وقابلوها بالإيمان والتعظيم وجعلوا الأمر فيها كلها أمرا واحدا وأجروها على سنن واحد ولم يفعلوا كما فعل أهل الأهواء والبدع حيث جعلوها عضين وأقروا ببعضها وأنكروا بعضها من غير فرقان مبين مع أن اللازم لهم فيها أنكروه كاللازم فيما أقروا به وأثبتوه.
المؤمنون لا يخرجهم تنازعهم عن الإيمان:
والمقصود أن أهل الإيمان لا يخرجهم تنازعهم في بعض مسائل الأحكام عن حقيقة الإيمان إذا ردوا ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله كما شرطه الله عليهم بقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} ولا ريب أن الحكم المعلق على شرط ينتفي عند انتفائه.
الرد إلى الله ورسوله دليل على أن كل الأحكام في القرآن والسنة:(7/51)
ومنها: أن قوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ} نكرة في سياق الشرط تعم كل ما تنازع فيه المؤمنون من مسائل الدين دقه وجله جليه وخفيه ولو لم يكن في كتاب الله ورسوله بيان حكم ما تنازعوا فيه ولم يكن كافيا لم يأمر بالرد إليه إذ من الممتنع أن يأمر تعالى بالرد عند النزاع إلى من لا يوجد عنده فصل النزاع.
ومنها: أن الناس أجمعوا أن الرد إلى الله سبحانه وتعالى هو الرد إلى كتابه والرد(7/52)
ص -50-…إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الرد إليه نفسه في حياته وإلى سنته بعد وفاته.
انتفاء الإيمان بانتفاء الرد:
ومنها: أنه جعل هذا الرد من موجبات الإيمان ولوازمه فإذا انتفى هذا الرد انتفى الإيمان ضرورة انتفاء الملزوم لانتفاء لازمه ولا سيما التلازم بين هذين الأمرين فإنه من الطرفين وكل منهما ينتفي بانتفاء الآخر ثم أخبرهم أن هذا الرد خير لهم وأن عاقبته أحسن عاقبة ثم أخبر سبحانه أن من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسول فقد حكم الطاغوت وتحاكم إليه والطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله أو يعبدونه من دون الله أو يتبعونه على غير بصيرة من الله أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم من عبادة الله إلى عبادة الطاغوت وعن التحاكم إلى الله وإلى الرسول إلى التحاكم إلى الطاغوت وعن طاعته ومتابعة رسوله إلى الطاغوت ومتابعته وهؤلاء لم يسلكوا طريق الناجين الفائزين من هذه الأمة وهم الصحابة ومن تبعهم ولا قصدوا قصدهم بل خالفوهم في الطريق والقصد معا ثم أخبر تعالى عن هؤلاء بأنهم إذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول أعرضوا عن ذلك ولم يستجيبوا للداعي ورضوا بحكم غيره ثم توعدهم بأنهم إذا أصابتهم مصيبة في عقولهم وأديانهم وبصائرهم وأبدانهم وأموالهم بسبب إعراضهم عما جاء به الرسول وتحكيم غيره والتحاكم إليه كما قال تعالى {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} اعتذروا بأنهم إنما قصدوا الإحسان والتوفيق أي بفعل ما يرضي الفريقين ويوفق بينهما كما يفعله من يروم التوفيق بين ما جاء به الرسول وبين ما خالفه ويزعم بذلك أنه محسن قاصد الإصلاح والتوفيق والإيمان إنما يقتضي إلقاء الحرب بين ما جاء به الرسول وبين كل ما(7/53)
خالفه من طريقة وحقيقة وعقيدة وسياسة ورأي فمحض الإيمان في هذا الحرب لا في التوفيق وبالله التوفيق.(7/54)
ص -51-…ثم أقسم سبحانه بنفسه على نفي الإيمان عن العباد حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الدقيق والجليل ولم يكتف في إيمانهم بهذا التحكيم بمجرده حتى ينتفي عن صدورهم الحرج والضيق عن قضائه وحكمه ولم يكتف منهم أيضا بذلك حتى يسلموا تسليما وينقادوا انقيادا قال تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} فأخبر سبحانه أنه ليس لمؤمن أن يختار بعد قضائه وقضاء رسوله ومن تخير بعد ذلك فقد ضل ضلالا مبينا
النهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله:
وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي لا تقولوا حتى يقول ولا تأمروا حتى يأمر ولا تفتوا حتى يفتي ولا تقطعوا أمرا حتى يكون هو الذي يحكم فيه ويمضيه روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: "لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة" وروى العوفي عنه قال: "نهوا أن يتكلوا بين يدي كلامه".
والقول الجامع في معنى الآية: "لا تعجلوا بقول ولا فعل قبل أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يفعل".
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} فإذا كان رفع أصواتهم فوق صوته سببا لحبوط أعمالهم فكيف تقديم آرائهم وعقولهم وأذواقهم وسياستهم ومعارفهم على ما جاء به ورفعها عليه؟! أليس هذا أولى أن يكون محبطا لأعمالهم؟!.(7/55)
وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوه} فإذا جعل من لوازم الإيمان أنهم لا يذهبون مذهبا إذا كانوا معه إلا باستئذانه فأولى أن يكون من لوازمه أن لا يذهبوا إلى(7/56)
ص -52-…قول ولا مذهب علمي إلا بعد استئذانه وإذنه يعرف بدلالة ما جاء به على أنه أذن فيه.
انتزاع العلم بموت أصحابه:
وفي صحيح البخاري من حديث أبي الأسود عن عروة بن الزبير قال: "حج علينا عبد الله بن عمرو بن العاص فسمعته يقول: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله لا ينزع العلم بعد إذا أعطاكموه انتزاعا ولكن ينزعه مع قبض العلماء بعلمهم فيبقي ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون" وقال وكيع: حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينزع الله العلم من صدور الرجال ولكن ينزع العلم بموت العلماء فإذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا" وفي الصحيحين من حديث عروة بن الزبير قال: قالت عائشة: "يا ابن أختي بلغني أن عبد الله بن عمرو مار بنا إلى الحج فالقه فاسأله فإنه قد حمل عن النبي صلى الله عليه وسلم علما كثيرا" قال: فلقيته فسألته عن أشياء يذكرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عروة: فكان فيما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله لا ينزع العلم من الناس انتزاعا ولكن يقبض العلماء فيرفع العلم معهم ويبقي في الناس رءوس جهال يفتونهم بغير علم فيضلون ويضلون" قال عروة: فلما حدثت عائشة بذلك أعظمت ذلك وأنكرته قالت أحدثك أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا قال عروة: نعم حتى إذا كان عام قابل قالت لي: إن ابن عمرو قد قدم فالقه ثم فاتحه حتى تسأله عن الحديث الذي ذكره لك في العلم قال: فلقيته فسألته فذكره لي نحو ما حدثني في المرة الأولى قال عروة: فلما أخبرتها بذلك قالت: ما "أحسبه إلا قد صدق أراه لم يزد فيه شيئا ولم ينقص" وقال البخاري في بعض طرقه: "فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون" وقال: فقالت عائشة: "والله لقد حفظ عبد الله".(7/57)
ص -53-…الوعيد على القول بالرأي:
وقال نعيم بن حماد: ثنا ابن المبارك ثنا عيسى بن يونس عن حريز بن عثمان الزنجي ثنا عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك الأشجعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فتنة قوم يقيسون الدين برأيهم يحرمون به ما أحل الله ويحلون به ما حرم الله" قال أبو عمر بن عبد البر: "هذا هو القياس على غير أصل والكلام في الدين بالخرص والظن ألا ترى إلى قوله في الحديث يحلون الحرام ويحرمون الحلال ومعلوم أن الحلال ما في كتاب الله وسنة رسوله تحليله والحرام ما في كتاب الله وسنة رسوله تحريمه فمن جهل ذلك وقال فيما سئل عنه بغير علم وقاس برأيه ما خرج منه عن السنة فهذا الذي قاس الأمور برأيه فضل وأضل ومن رد الفروع إلى أصولها فلم يقل برأيه.
وقالت طائفة من أهل العلم: "من أداه اجتهاده إلى رأي رآه ولم تقم عليه حجة فيه بعد فليس مذموما بل هو معذور خالفا كان أو سالفا ومن قامت عليه الحجة فعاند وتمادى على الفتيا برأي إنسان بعينه فهو الذي يلحقه الوعيد" وقد روينا في مسند عبد بن حميد ثنا عبد الرزاق ثنا سفيان الثوري عن عبد الأعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار".
فصل فيما روى عن صديق الأمة وأعلمها من إنكار الرأي
روينا عن عبد بن حميد ثنا أبو أسامة عن نافع عن عمر الجمحي عن ابن أبي(7/58)
ص -54-…مليكة قال: قال أبو بكر رضي الله عنه: "أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إن قلت في آية من كتاب الله برأيي أو بما لا أعلم".
وذكر الحسن بن علي الحلواني: حدثنا عارم عن حماد بن زيد عن سعيد بن أبي صدقة عن ابن سيرين قال: "لم يكن أحد أهيب بما لا يعلم من أبي بكر رضي الله عنه ولم يكن أحد بعد أبي بكر أهيب بما لا يعلم من عمر رضي الله عنه وإن أبا بكر نزلت به قضية فلم يجد في كتاب الله منها أصلا ولا في السنة أثرا فاجتهد برأيه ثم قال هذا رأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني وأستغفر الله".
فصل: في المنقول من ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
قال ابن وهب: ثنا يونس بن يزيد عن ابن شهاب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال وهو على المنبر: "يا أيها الناس إن الرأي إنما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيبا إن الله كان يريه وإنما هو منا الظن والتكلف".
قلت: مراد عمر رضي الله عنه قوله تعالى {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} فلم يكن له رأي غير ما أراه الله إياه وأما ما رأى غيره فظن وتكلف.
قال سفيان الثوري: ثنا أبو إسحاق الشيباني عن أبي الضحى عن مسروق قال: "كتب كاتب لعمر بن الخطاب هذا ما رأى الله ورأى عمر فقال: "بئس ما قلت قل هذا ما رأى عمر فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمن عمر".
وقال ابن وهب: أخبرني ابن لهيعة عن عبد الله بن أبي جعفر قال: قال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: "السنة ما سنه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم(7/59)
ص -55-…لا تجعلوا خطأ الرأي سنة للأمة.
قال ابن وهب: وأخبرني ابن لهيعة عن أبي الزناد عن محمد بن إبراهيم التيمي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "أصبح أهل الرأي أعداء السنن أعيتهم أن يعوها وتفلتت منهم أن يرووها فاستبقوها بالرأي".
قال ابن وهب: وأخبرني عبد الله بن عباس عن محمد بن عجلان عن عبيد الله ابن عمر أن عمر بن الخطاب قال: "اتقوا الرأي في دينكم".
وذكر ابن عجلان عن صدقة بن أبي عبد الله أن عمر بن الخطاب كان يقول: "أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها وتفلتت منهم أن يعوها واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا لا نعلم فعارضوا السنن برأيهم فإياكم وإياهم".
وذكر ابن الهادي عن محمد بن إبراهيم التيمي قال: قال عمر بن الخطاب: "إياكم والرأي فإن أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يعوها وتفلتت منهم أن يحفظوها فقالوا في الدين برأيهم".
وقال الشعبي: عن عمرو بن حرث قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا" وأسانيد هذه الآثار عن عمر في غاية الصحة.
وقال محمد بن عبد السلام الخشني: ثنا محمد بن بشار حدثنا يونس بن عبيد العمري ثنا مبارك بن فضالة عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن عمر ابن الخطاب أنه قال: "أيها الناس اتهموا الرأي في الدين فلقد رأيتني وأني لأرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيي فأجتهد ولا آلو" وذلك يوم أبي جندل والكاتب يكتب وقال: "اكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم فقال يكتب باسمك(7/60)
ص -56-…اللهم فرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبيت فقال يا عمر تراني قد رضيت وتأبى؟!".
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا عبد الأعلى عن محمد بن إسحاق عن يزيد ابن حبيب عن معمر بن أبي حبيبة مولى بنت صفوان عن عبيد بن رفاعة عن أبيه رفاعة بن رافع قال: "بينما أنا عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا دخل عليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين هذا زيد بن ثابت يفتي الناس في المسجد برأيه في الغسل من الجنابة فقال عمر: علي به فجاء زيد فلما رآه عمر فقال عمر: أي عدو نفسه قد بلغت أن تفتي الناس برأيك؟ فقال: يا أمير المؤمنين والله ما فعلت ولكن سمعت من أعمامي حديثا فحدثت به: من أبي أيوب ومن أبي بن كعب ومن رفاعة بن رافع فقال عمر: علي برفاعة بن رافع فقال: قد كنتم تفعلون ذلك إذا أصاب أحدكم المرأة فأكسل أن يغتسل قال قد كنا نفعل ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأتنا فيه عن الله تحريم ولم يكن فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء فقال عمر: ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم ذلك؟ قال: ما أدري فأمر عمر بجمع المهاجرين والأنصار فجمعوا فشاورهم فشار الناس أن لا غسل إلا ما كان من معاذ وعلي فإنهما قالا: إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل فقال عمر: هذا وأنتم أصحاب بدر قد اختلفتم فمن بعدكم أشد اختلافا فقال علي: يا أمير المؤمنين إنه ليس أحد أعلم بهذا من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه فأرسل إلى حفصة فقالت: لا علم لي فأرسل إلى عائشة فقالت إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل فقال لا أسمع برجل فعل ذلك إلا أوجعته ضربا.
قول ابن مسعود في ذم الرأي:
قال البخاري: حدثنا جنيد ثنا يحيى بن زكريا عن مجالد عن الشعبي(7/61)
ص -57-…عن مسروق عن عبد الله قال: "لا يأتي عليكم عام إلا وهو شر من الذي قبله أما أني لا أقول أمير خير من أمير ولا عام أخصب من عام ولكن فقهاؤكم يذهبون ثم لا تجدون منهم خلفا ويجيء قوم يقيسون الأمور برأيهم".
وقال ابن وهب: ثنا شقيق عن مجالد به قال ولكن ذهاب خياركم وعلمائكم ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم فينهدم الإسلام ويثلم.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا أبو خالد الأحمر عن مجالد عن الشعبي عن مسروق قال قال عبد الله بن مسعود علماؤكم يذهبون ويتخذ الناس رءوسا جهالا يقيسون الأمور برأيهم.
وقال سنيد بن داود حدثنا محمد بن فضل عن سالم بن أبي حفصة عن منذر الثوري عن الربيع بن خيثم أنه قال: قال عبد الله: "ما علماك الله في كتابه فاحمد الله وما استأثر به عليك من علم فكله إلى عالمه ولا تتكلف فإن الله عز وجل يقول لنبيه {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}" يروى هذا عن الربيع بن خيثم وعن عبد الله.
وقال سعيد بن منصور: حدثنا خلف بن خليفة ثنا أبو زيد عن الشعبي قال: قال ابن مسعود: "إياكم وأرأيت أرأيت فإنما هلك من كان من قبلكم بأرأيت أرأيت ولا تقيسوا شيئا فتزل قدما بعد ثبوتها وإذا سئل أحدكم عما لا يعلم فليقل لا أعلم فإنه ثلث العلم".
وصح عنه في المفوضة أنه قال: "أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريء منه".(7/62)
ص -58-…قول عثمان في ذم الرأي:
قال محمد بن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد عن عبيد الله بن الزبير قال: "أنا والله مع عثمان بن عفان بالجحفة إذ قال عثمان وذكر له التمتع بالعمرة إلى الحج: "أتموا الحج وأخلصوه في شهر الحج فلو أخرتم هذه العمرة حتى تزوروا هذا البيت زورتين كان أفضل فإن الله قد أوسع في الخير" فقال له علي: "عمدت إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورخصة رخص الله للعباد بها في كتابه تضيق عليهم فيها وتنهى عنها وكانت لذي الحاجة ولنائي الدار" ثم أهل علي بعمرة وحج معا فأقبل عثمان بن عفان رضي الله عنه على الناس فقال: "أنهيت عنها إني لم أنه عنها إنما كان رأيا أشرت به فمن شاء أخذه ومن شاء تركه".
فهذا عثمان يخبر عن رأيه أنه ليس بلازم للأمة الأخذ به بل من شاء أخذ به ومن شاء تركه بخلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يسع أحدا تركها لقول أحد كائنا من كان.
قول علي في ذم الرأي:
قال أبو داود: حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء ثنا حفص بن غياث عن الأعمش عن أبي إسحاق السبيعي عن عبد خير عن علي رضي الله عنه أنه قال: "لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه".
قول ابن عباس في ذم الرأي:
قال ابن وهب: أخبرني بشر بن بكر عن الأوزاعي عن عبدة بن أبي لبابة عن ابن عباس أنه قال: "من أحدث رأيا ليس في كتاب الله ولم تمض به سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدر على ما هو منه إذا لقي الله عز وجل".
وقال عثمان بن مسلم الصفار: ثنا عبد الرحمن بن زياد حدثنا الحسن بن عمرو الفقيمي عن أبي فزارة قال: قال ابن عباس: "إنما هو كتاب الله وسنة رسول الله(7/63)
ص -59-…صلى الله عليه وسلم فمن قال بعد ذلك برأيه فلا أدري أفي حسناته يجد ذلك أم في سيئاته".
وقال عبد الرحمن بن حميد: حدثنا حسين بن علي الجعفي عن زائدة عن ليث عن بكر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار".
قول سهل ابن حنيف في ذم الرأي:
قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل ثنا أبو عوانة عن الأعمش عن أبي وائل قال: قال سهل بن حنيف: "أيها الناس اتهموا رأيكم على دينكم لقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته".
قول ابن عمر في ذم الرأي:
قال ابن وهب: أخبرني عمرو بن الحارث أن عمرو بن دينار قال: "أخبرني طاووس عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا لم يجد في الأمر يسأل عنه شيئا" قال: "إن شئتم أخبرتكم بالظن".
وقال البخاري: قال لي صدقة عن الفضل بن موسى عن موسى بن عقبة عن الضحاك عن جابر بن زيد قال: "لقيني ابن عمر فقال: يا جابر إنك من فقهاء البصرة وتستفتي فلا تفتين إلا بكتاب ناطق أو سنة ماضية".
وقال مالك عن نافع عنه: "العلم ثلاث كتاب الله الناطق وسنة ماضيه ولا أدري".
قول زيد بن ثابت في ذم الرأي:
قال البخاري: حدثنا سنيد بن داود ثنا يحيى بن زكريا مولى ابن أبي زائدة عن إسماعيل بن خالد عن الشعبي قال: "أتى زيد بن ثابت قوم فسألوه عن أشياء فأخبرهم بها فكتبوها ثم قالوا: لو أخبرناه فأتوه فأخبروه فقال: اعذرا لعل كل شيء حدثتكم خطأ إنما اجتهدت لكم برأيي".(7/64)
ص -60-…قول معاذ في ذم الرأي:
قال حماد بن سلمة: ثنا أيوب السختياني عن أبي قلابة عن يزيد بن أبي عميرة عن معاذ بن جبل قال: "تكون فتن فيكثر فيها المال ويفتح القرآن حتى يقرأه الرجل والمرأة والصغير والكبير والمنافق والمؤمن فيقرأه الرجل فلا يتبع فيقول: والله لأقرأنه علانية فيقرأه علانية فلا يتبع فيتخذ مسجدا ويبتدع كلاما ليس من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإياكم وإياه فإنه بدعة وضلالة" قاله معاذ ثلاث مرات.
قول أبي موسى في ذم الرأي:
قال البغوي: ثنا الحجاج بن المنهال ثنا حماد بن سلمة عن حميد عن أبي رجاء العطاردي قال قال أبو موسى الأشعري: "من كان عنده علم فليعلمه الناس وإن لم يعلم فلا يقولن ما ليس له به علم فيكون من المتكلفين ويمرق من الدين".
قول معاوية في ذم الرأي:
قال البخاري: حدثنا أبو اليمان ثنا شعيب عن الزهري قال: "كان محمد بن جبير بن مطعم يحدث أنه كان عند معاوية في وفد من قريش فقام معاوية فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أما بعد فإنه قد بلغني أن رجالا فيكم يتحدثون بأحاديث ليست في كتاب الله ولا تؤثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأولئكم جهالكم".
فهؤلاء من الصحابة أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي ابن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وزيد ابن ثابت وسهل بن حنيف ومعاذ بن جبل ومعاوية خال المؤمنين وأبو موسى الأشعري رضي الله عنهم يخرجون الرأي عن العلم ويذمونه ويحذرون منه وينهون عن الفتيا به ومن اضطر منهم إليه أخبر أنه ظن وأنه ليس على ثقة منه وأنه يجوز أن يكون منه ومن الشيطان وأن الله ورسوله بريء(7/65)
ص -61-…منه وأن غايته أن يسوغ الأخذ به عند الضرورة من غير لزوم لاتباعه ولا العمل به فهل تجد من أحد منهم قط أنه جعل رأي رجل بعينه دينا تترك له السنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبدع ويضلل من خالفه إلى اتباع السنن؟.
فهؤلاء برك الإسلام وعصابة الإيمان وأئمة الهدى ومصابيح الدجى وأنصح الأئمة للأمة وأعلمهم بالأحكام وأدلتها وأفقههم في دين الله وأعمقهم علما وأقلهم تكلفا وعليهم دارت الفتيا وعنهم انتشر العلم وأصحابهم هم فقهاء الأمة ومنهم من كان مقيما بالكوفة كعلي وابن مسعود وبالمدينة كعمر ابن الخطاب وابنه وزيد بن ثابت وبالبصرة كأبي موسى الأشعري وبالشام كمعاذ بن جبل ومعاوية بن أبي سفيان وبمكة كعبد الله بن عباس وبمصر كعبد الله بن عمرو بن العاص وعن هذه الأمصار انتشر العلم في الآفاق واكثر من روى عنه التحذير من الرأي من كان بالكوفة إرهاصا بين يدي ما علم الله سبحانه أنه يحدث فيها بعدهم.
فصل: فيما يتوهم من استعمال الصحابة الرأي
قال أهل الرأي: "وهؤلاء الصحابة ومن بعدهم من التابعين والأئمة وإن ذموا الرأي وحذروا منه ونهوا عن الفتيا والقضاء به وأخرجوه من جملة العلم فقد روي عن كثير منهم الفتيا والقضاء به والدلالة عليه والاستدلال به كقول عبد الله بن مسعود في المفوضة: "أقول فيها برأيي" وقول عمر بن الخطاب لكاتبه: "قل هذا ما رأى عمر بن الخطاب" وقول عثمان بن عفان في الأمر بإفراد العمرة عن الحج: "إنما هو رأي رأيته" وقول علي في أمهات الأولاد: "اتفق رأيي ورأي عمر على أن لا يبعن".
وفي كتاب عمر بن الخطاب إلى شريح: "إذا وجدت شيئا في كتاب الله فاقض به ولا تلتفت إلى غيره وإن أتاك شيء ليس في كتاب الله فاقض بما سن(7/66)
ص -62-…رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أتاك ما ليس في كتاب الله ولم يسن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض بما أجمع عليه الناس وإن أتاك ما ليس في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتكلم فيه أحد قبلك فإن شئت أن تجتهد رأيك فتقدم وإن شئت أن تتأخر فتأخر وما أرى التأخر إلا خيرا لك" ذكره سفيان الثوري عن الشيباني عن الشعبي عن شريح أن عمر كتب إليه.
طريقة أبي بكر في لحكم:
وقال أبو عبيد في كتاب القضاء: ثنا كثير بن هشام عن جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران قال: "كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله تعالى فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به وإن لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن وجد فيها ما يقضي به قضى به فإن أعياه ذلك سأل الناس هل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيه بقضاء فربما قام إليه القوم فيقولون قضى فيه بكذا وكذا فإن لم يجد سنة سنها النبي صلى الله عليه وسلم جمع رؤساء الناس فاستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به".
طريقة عمر في الحكم:
وكان عمر يفعل ذلك فإذا أعياه أن يجد ذلك في الكتاب والسنة سأل: "هل كان أبو بكر قضى فيه بقضاء" فإن كان لأبي بكر قضاء قضى به وإلا جمع علماء الناس واستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به.
طريقة ابن مسعود في الحكم:
وقال أبو عبيد: ثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمارة عن عمير عن عبد الرحمن ابن يزيد عن ابن مسعود قال: "أكثروا عليه ذات يوم فقال: "إنه قد أتى علينا زمان ولسنا نقضي ولسنا هناك ثم إن الله بلغنا ما ترون فمن عرض عليه قضاء بعد اليوم فليقض بما في كتاب الله فإن جاءه أمر ليس في كتاب الله ولا قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم فليقض بما قضى به الصالحون فإن جاءه أمر ليس في كتاب الله ولا قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم ولا قضى به الصالحون(7/67)
ص -63-…فليجتهد رأيه ولا يقل: إني أرى وإني أخاف فإن الحلال بين والحرام بين وبين ذلك مشتبهات فدع ما يريبك إلا ما لا يريبك".
متفرقات من آراء الصحابة:
وقال محمد بن جرير الطبري: حدثني يعقوب بن إبراهيم أنا هشيم أنا سيار عن الشعبي قال: "لما بعث عمر شريحا على قضاء الكوفة قال له: "انظر ما يتبين لك في كتاب الله فلا تسأل عنه أحدا وما لم يتبين لك في كتاب الله فاتبع فيه سنة رسول صلى الله عليه وسلم وما لم يتبين لك فيه السنة فاجتهد فيه رأيك".
وفي كتاب عمر إلى أبي موسى: "اعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور".
وقايس علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت في المكاتب وقايسه في الجد والإخوة فشبهه علي بسيل انشعبت منه شعبة ثم انشعبت من الشعبة شعبتان وقايسه زيد على شجرة انشعب منها غصن وانشعب من الغصن غصنان وقولهما في الجد إنه لا يحجب الإخوة وقاس ابن عباس الأضراس بالأصابع وقال: "اعتبرها بها وسئل علي رضي الله عنه عن مسيره إلى صفين هل كان بعد عهده إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أم رأي رآه؟ قال: بل رأي رأيته".
وقال عبد الله بن مسعود وقد سئل عن المفوضة: "أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله مني بريء".
وقال ابن أبي خيثمة: ثنا أبي ثنا محمد بن خازم عن الأعمش عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله بن مسعود قال: "من عرض له منك قضاء فليقض بما في كتاب الله فإن لم يكن في كتاب الله فليقض بما قضى فيه نبيه صلى الله عليه وسلم فإن جاء أمر ليس في كتاب الله ولم يقض فيه نبيه صلى الله عليه وسلم فليقض بما قضى به الصالحون فإن جاء أمر ليس في كتاب الله ولم يقض به نبيه ولم يقض به الصالحون فليجتهد رأيه فإن لم يحسن فليقم ولا يستحي".
وذكر سفيان بن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد قال: "سمعت ابن عباس إذا سئل عن شيء فإن كان في كتاب الله قال به وإن لم يكن في كتاب الله(7/68)
ص -64-…وكان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال به فإن لم يكن في كتاب الله ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عن أبي بكر وعمر قال به فإن لم يكن في كتاب الله ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أبي بكر وعمر اجتهد رأيه".
وقال ابن أبي خيثمة: حدثني أبي ثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن عبد الملك بن أبجر عن الشعبي عن مسروق قال سألت أبي بن كعب عن شيء فقال: "أكان هذا؟ قلت: لا قال: فأجمعنا حتى يكون فإذا كان اجتهدنا لك رأينا".
قال أبو عمر بن عبد البر: "وروينا عن ابن عباس أنه أرسل إلى زيد بن ثابت أفي كتاب الله ثلث ما بقي؟ فقال: أنا أقول برأيي وتقول برأيك".
وعن ابن عمر أنه سئل عن شيء فعله: أرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هذا أو شيء رأيته؟ قال: بل شيء رأيته".
وعن أبي هريرة أنه كان إذا قال في شيء برأيه قال: "هذه من كيسي" ذكره ابن وهب عن سليمان بن بلال عن كثير بن زيد عن وليد بن رباح عن أبي هريرة.
وكان أبو الدرداء يقول: "إياكم وفراسة العلماء احذروا أن يشهدوا عليكم شهادة تكبكم على وجوهكم في النار فوالله إنه للحق يقذفه الله في قلوبهم".
قلت: وأصل هذا في الترمذي مرفوعا: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله" ثم قرأ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ}" وقال أبو عمر: ثنا عبد الوارث بن سفيان ثنا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا إبراهيم بن أبي الفياض البرقي الشيخ الصالح ثنا سليمان بن بزيع الإسكندراني ثنا مالك بن أنس عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن(7/69)
ص -65-…المسيب عن علي قال: "قلت: يا رسول الله الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه القرآن ولم تمض فيه منك سنة قال: "اجمعوا له العالمين أو قال العابدين من المؤمنين فاجعلوه شورى بينكم ولا تقضوا فيه برأي واحد" وهذا غريب جدا من حديث مالك وإبراهيم البرقي وسليمان ليسا ممن يحتج بهما.
وقال عمر لعلي وزيد: "لولا رأيكما لاجتمع رأيي ورأي أبي بكر كيف يكون ابني ولا أكون أباه؟ يعني الجد".
وعن عمر أنه لقي رجلا فقال: ما صنعت؟ قال: قضى علي وزيد بكذا قال: لو كنت أنا لقضيت بكذا قال: فما منعك والأمر إليك؟ قال: لو كنت أردك إلى كتاب الله اوالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم لفعلت ولكني أردك إلى رأي والرأي مشترك فلم ينقض ما قال علي وزيد".
وذكر الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود أنه قال: "إن الله اطلع في قلوب العباد فرأى قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد فاختاره لرسالته ثم اطلع في قلوب العباد بعده فرأى قلوب أصحابه خير قلوب العباد فاختارهم لصحبته فما رآه المؤمنون حسنا فهو عند الله حسن وما رآه المؤمنون قبيحا فهو عند الله قبيح".
وقال ابن وهب عن ابن لهيعة: "إن عمر بن عبد العزيز استعمل عروة بن محمد السعدي على اليمن وكان من صالحي عمال عمر وإنه كتب إلى عمر يسأله عن شيء من أمر القضاء فكتب إليه عمر: "لعمري ما أنا بالنشيط على الفتيا ما وجدت منا بدا وما جعلتك إلا لتكفيني وقد حملتك ذلك فاقض فيه برأيك".
وقال محمد بن سعد: أخبرني روح بن عبادة ثنا حماد بن سلمة عن الجريري أن أبا سلمة بن عبد الرحمن قال للحسن: "أرأيت ما تفتي به الناس أشيء سمعته(7/70)
ص -66-…أم برأيك؟ فقال الحسن: لا والله ما كل ما نفتي به سمعناه ولكن رأينا لهم خير من رأيهم لأنفسهم".
وقال محمد بن الحسن: "من كان عالما بالكتاب والسنة وبقول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما استحسن فقهاء المسلمين وسعه أن يجتهد برأيه فيما يبتلى به ويقضي به ويمضيه في صلاته وصيامه وحجه وجميع ما أمر به ونهى عنه فإذا اجتهد ونظر وقاس على ما أشبه ولم يأل وسعه العمل بذلك وإن أخطأ الذي ينبغي أن يقول به".
في تفسير الرأي وتقسيمه
ولا تعارض بحمد الله بين هذه الآثار عن السادة الأخيار بل كلها حق وكل منها وله وجه وهذا إنما يتبين بالفرق بين الرأي الباطل الذي ليس من الدين والرأي الحق الذي لا مندوحة عنه لأحد من المجتهدين فنقول وبالله المستعان:
معنى الرأي:
الرأي في الأصل مصدر "رأي الشيء يراه رأيا ثم غلب استعماله على المرئي نفسه من باب استعمال المصدر في المفعول كالهوى في الأصل مصدر هويه يهواه هوى ثم استعمل في الشيء الذي يهوى فيقال: هذا هوى فلان والعرب تفرق بين مصادر فعل الرؤية بحسب محالها فتقول: رأى كذا في النوم رؤيا ورآه في اليقظة رؤية ورأى كذا لما يعلم بالقلب ولا يرى بالعين رأيا ولكنهم خصوه بما يراه القلب بعد فكر وتأمل وطلب لمعرفة وجه الصواب مما تتعارض فيه الإمارات فلا يقال لمن رأى بقلبه أمرا غائبا عنه مما يحس به أنه رأيه ولا يقال أيضا للأمر المعقول الذي لا تختلف فيه العقول ولا تتعارض فيه الإمارات إنه رأى وإن احتاج إلى فكر وتأمل كدقائق الحساب ونحوها.(7/71)
ص -67-…أقسام الرأي:
وإذا عرف هذا فالرأي ثلاثة أقسام: رأي باطل بلا ريب ورأي صحيح ورأي هو موضع الاشتباه والأقسام الثلاثة قد أشار إليها السلف فاستعملوا الرأي الصحيح وعملوا به وأفتوا به وسوغوا القول به وذموا الباطل ومنعوا من العمل والفتيا والقضاء به وأطلقوا ألسنتهم بذمه وذم أهله.
والقسم الثالث سوغوا العمل والفتيا والقضاء به عند الاضطرار إليه حيث لا يوجد منه بد ولم يلزموا أحد العمل به ولم يحرموا مخالفته ولا جعلوا مخالفه مخالفا للدين بل غايته أنهم خيروا بين قبوله ورده فهو بمنزلة ما أبيح للمضطر من الطعام والشراب الذي يحرم عند عدم الضرورة إليه كما قال الإمام أحمد سألت الشافعي عن القياس فقال لي عند الضرورة وكان استعمالهم لهذا النوع بقدر االضرورة لم يفرطوا فيه ويفرعوه ويولدوه ويوسعوه كما صنع المتأخرون بحيث اعتاضوا به عن النصوص والآثار وكان أسهل عليهم من حفظها كما يوجد كثير من الناس يضبط قواعد الإفتاء لصعوبة النقل عليه وتعسر حفظه فلم يتعدوا فى استعماله قدر الضرورة ولم يبغوا العدول إليه مع تمكنهم من النصوص والآثار كما قال تعالى في المضطر إلى الطعام المحرم {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فالباغي الذي يبتغي الميتة مع قدرته على التوصل إلى المذكى والعادي الذي يتعدى قدر الحاجة بأكلها.
فصل في أنواع الرأي الباطل
والرأي الباطل أنواع:
أحدها: الراى المخالف للنص وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام فساده وبطلانه ولا تحل الفتيا به ولا القضاء وإن وقع فيه من وقع بنوع تأويل وتقليد.(7/72)
ص -68-…النوع الثاني: هو الكلام في الدين بالخرص والظن مع التفريط والتقصير في معرفة النصوص وفهمها واستنباط الأحكام منها فإن من جهلها وقاس برأيه فيما سئل عنه بغير علم بل لمجرد قدر جامع بين الشيئين ألحق أحدهما بالآخر أو لمجرد قدر فارق يراه بينهما يفرق بينهما في الحكم من غير نظر إلى النصوص والآثار فقد وقع في الرأي المذموم الباطل.
النوع الثالث: الرأي المتضمن تعطيل أسماء الرب وصفاته وأفعاله بالمقاييس الباطلة التي وضعها أهل البدع والضلال من الجهمية والمعتزلة والقدرية ومن ضاهاهم حيث استعمل أهله قياساتهم الفاسدة وآراءهم الباطلة وشبههم الداحضة في رد النصوص الصحيحة الصريحة فردوا لأجلها ألفاظ النصوص التي وجدوا السبيل إلى تكذيب رواتها وتخطئتهم ومعاني النصوص التي لم يجدوا إلى رد ألفاظها سبيلا فقابلوا النوع الأول بالتكذيب والنوع الثاني: بالتحريف والتأويل فأنكروا لذلك رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة وأنكروا كلامه وتكليمه لعباده وأنكروا مباينته للعالم واستواءه على عرش وعلوه على المخلوقات وعموم قدرته على كل شيء بل أخرجوا أفعال عباده من الملائكة والأنبياء والجن الإنس عن تعلق قدرته ومشيئته وتكوينه لها ونفوا لأجلها حقائق ما أخبر به عن نفسه واخبر به رسوله من صفات كماله ونعوت جلاله وحرفوا لأجلها النصوص عن مواضعها وأخرجوها عن معانيها وحقائقها بالرأي المجرد الذي حقيقته أنه ذبالة الأذهان ونخالة الأفكار وعفارة الآراء ووساوس الصدور فملأوا به الأوراق سوادا والقلوب شكوكا والعالم فسادا وكل من له مسكة من عقل يعلم أن فساد العالم وخرابه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي والهوى على العقل وما استحكم هذان الأصلان الفاسدان في قلب إلا استحكم هلاكه وفي أمة إلا فسد أمرها أتم فساد فلا إله إلا الله كم نفي بهذه الآراء من حق وأثبت بها من باطل وأميت بها من هدى وأحي بها من ضلالة وكم هدم بها من معقل الإيمان وعمر بها من دين(7/73)
الشيطان وأكثر أصحاب(7/74)
ص -69-…الجحيم هم أهل هذه الآراء الذين لا سمع لهم ولا عقل بل هم شر من الحمر وهم الذين يقولون يوم القيامة: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}.
النوع الرابع: الرأي الذي أحدثت به البدع وغيرت به السنن وعم به البلاء وتربى عليه الصغير وهرم فيه الكبير.
فهذه الأنواع الأربعة من الرأي الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمه وإخراجه من الدين.
النوع الخامس: ما ذكره أبو عمر بن عبد البر عن جمهور أهل العلم: "أن الرأي المذموم في هذه الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه والتابعين رضي الله عنهم أنه القول في أحكام شرائع الدين بالاستحسان والظنون والاشتغال بحفظ المعضلات والأغلوطات ورد الفروع بعضها على بعض قياسا دون ردها على أصولها والنظر في عللها واعتبارها فاستعمل فيها الرأي قبل أن ينزل وفرعت وشققت قبل أن تقع وتكلم فيها قبل أن تكون بالرأي المضارع للظن قالوا وفي الاشتغال بهذا والاستغراق فيه تعطيل السنن والبعث على جهلها وترك الوقوف على ما يلزم الوقوف عليه منها ومن كتاب الله عز وجل ومعانيه احتجوا على ما ذهبوا إليه بأشياء" ثم ذكر من طريق أسد بن موسى ثنا شريك عن ليث عن طاووس عن ابن عمر قال لا تسألوا عما لم يكن فإني سمعت عمر يلعن من يسأل عما لم يكن ثم ذكر من طريق أبي داود ثنا إبراهيم بن موسى الرازي ثنا عيسى بن يونس عن الأوزاعي عن عبد الله بن سعد عن الصنابحي عن معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن الأغلوطات".
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: ثنا عيسى بن يونس عن الأوزاعي بإسناده مثله وقال: فسره الأوزاعي يعني صعاب المسائل وقال الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن عبد الله بن سعد عن عبادة بن قيس الصنابحي عن معاوية بن أبي سفيان أنهم ذكروا المسائل عنده فقال أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن عضل المسائل؟!.(7/75)
ص -70-…وقال أبو عمر: واحتجوا أيضا بحديث سهل وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كره المسائل وعابها وبأنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال".
وقال ابن أبي خيثمة: ثنا أبي ثنا عبد الرحمن بن مهدي ثنا مالك عن الزهري عن سهل بن سعد قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها" قال أبو بكر هكذا ذكره أحمد بن زهير بهذا الإسناد وهو خلاف لفظ الموطأ قال أبو عمر: "وفي سماع أشهب سئل مالك عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهاكم عن قيل وقال وكثرة السؤال فقال: "أما كثرة السؤال فلا أدري أهو ما أنتم فيه مما أنهاكم عنه من كثرة السؤال فقد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها وقال الله عز وجل: {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} فلا أدري أهو هذا أم السؤال في مسألة الناس في الاستعطاء" وقال الأوزاعي: عن عبدة بن أبي لبابة: "وددت أن حظي من أهل هذا الزمان أن لا أسألهم عن شيء ولا يسألوني يتكاثرون بالمسائل كما يتكاثر أهل الدراهم بالدراهم".
قال: واحتجوا أيضا بما رواه ابن شهاب عن عامر بن سعد بن أبي وقاص أنه سمع أباه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين فحرم عليهم من أجل مسألته" وروى ابن وهب أيضا قال حدثني ابن لهيعة عن الأعرج عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم" وقال سفيان بن عيينة عن عمرو عن طاووس قال: قال عمر بن الخطاب وهو على المنبر: "أحرج بالله على كل امرىء سأل عن شيء(7/76)
ص -71-…لم يكن فإن الله قد بين ما هو كائن".
وقال أبو عمر: وروى جرير بن عبد الحميد ومحمد بن فضيل عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "ما رأيت قوما خيرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض صلى الله عليه وسلم كلهن في القرآن يسألونك عن المحيض يسألونك عن الشهر الحرام يسألونك عن اليتامى ما كانوا يسألونه إلا عما ينفعهم" قال أبو عمر: "ليس في الحديث من الثلاث عشرة مسألة إلا ثلاث".
قلت: ومراد ابن عباس بقوله: "ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة" المسائل التي حكاها الله في القرآن عنهم وإلا فالمسائل التي سألوه عنها وبين لهم أحكامه بالسنة لا تكاد تحصى ولكن إنما كانوا يسألونه عما ينفعهم من الواقعات ولم يكونوا يسألونه عن المقدرات والأغلوطات وعضل المسائل ولم يكونوا يشتغلون بتفريع المسائل وتوليدها بل كانت هممهم مقصورة على تنفيذ ما أمرهم به فإذا وقع بهم أمر سألوا عنه فأجابهم وقد قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ}.(7/77)
وقد اختلف في هذه الأشياء المسئول عنها: هل هي أحكام قدرية أو أحكام شرعية؟ على قولين: فقيل: إنها أحكام شرعية عفا الله عنها أي سكت عن تحريمها فيكون سؤالهم عنها سبب تحريمها ولو لم يسألوا لكانت عفوا ومنه قوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن الحج: أفي كل عام؟ فقال: "لو قلت نعم وجبت ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم" ويدل على هذا التأويل حديث أبي ثعلبة المذكور: "إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما" الحديث ومنه الحديث الآخر: "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها وسكت(7/78)
ص -72-…عن أشياء رحمة لكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها" وفسرت بسؤالهم عن أشياء من الأحكام القدرية كقول عبد الله بن حذافة: "من أبي يا رسول الله" وقول آخر: "أين أبي يا رسول الله" قال: "في النار" والتحقيق أن الآية تعم النهي عن النوعين وعلى هذا فقوله تعالى {إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} أما في أحكام الخلق والقدر فإنه يسؤهم أن يبدو لهم ما يكرهونه مما سألوا عنه وأما في أحكام التكليف فإنه يسؤهم أن يبدو لهم ما يشق عليهم تكليفه مما سألوا عنه.
وقوله تعالى {وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} فيه قولان: أحدهما أن القرآن إذا نزل بها ابتداء بغير سؤال فسألتم عن تفصيلها وعلمها أبدى لكم وبين لكم والمراد بحين النزول زمنه المتصل به لا الوقت المقارن للنزول وكأن في هذا إذنا لهم في السؤال عن تفصيل المنزل ومعرفته بعد إنزاله ففيه رفع لتوهم المنع من السؤال عن الأشياء مطلقا والقول الثاني أنه من باب التهديد والتحذير أي ما سألتم عنها في وقت نزول الوحي جاءكم بيان ما سألتم عنه بما يسؤكم والمعنى لا تتعروا للسؤال عما يسوءكم بيانه وإن تعرضتم له في زمن الوحي أبدي لكم.
وقوله {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} أي عن بيانها خبرا وأمرا بل طوى بيانها عنكم رحمة ومغفرة وحلما والله غفور حليم فعلى القول الأول عفا الله عن التكليف بها توسعة عليكم وعلى القول الثاني عفا الله عن بيانها لئلا يسؤكم بيانها.
وقوله {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} أراد نوع تلك المسائل لا أعيانها أي قد تعرض قوم من قبلكم لأمثال هذه المسائل فلما بينت لهم كفروا بها فاحذروا مشابهتهم والتعرض لما تعرضوا له.(7/79)
ولم ينقطع حكم هذه الآية بل لا ينبغي للعبد أن يتعرض للسؤال عما إن بدا له ساءه بل يستعفي ما أمكنه ويأخذ بعفو الله ومن ههنا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه يا صاحب الميزاب لا تخبرنا لما سأله رفيقه عن مائه أطاهر(7/80)
ص -73-…أم لا وكذلك لا ينبغي للعبد أن يسأل ربه أن يبدي له من أحواله وعاقبته ما طواه عنه وستره فلعله يسوءه إن أبدي له فالسؤال عن جميع ذلك تعرض لما يكرهه الله فإنه سبحانه يكره إبداءها ولذلك سكت عنها والله أعلم.
كلام التابعين في الرأي
قالوا: ومن تدبر الآثار المروية في ذم الرأي وجدها لا تخرج عن هذه الأنواع المذمومة ونحن نذكر آثار التابعين ومن بعدهم بذلك ليتبين مرادهم:
قال الخشني: ثنا محمد بن بشار ثنا يحيى بن سعيد القطان عن مجالد عن الشعبي قال: "لعن الله أرأيت".
قال يحيى بن سعيد: وثنا صالح بن مسلم قال: سألت الشعبي عن مسألة من النكاح فقال: "إن أخبرتك برأيي فبل عليه".
قالوا: فهذا قول الشعبي في رأيه وهو من كبار التابعين وقد لقي مائة وعشرين من الصحابة وأخذ عن جمهورهم.
وقال الطحاوي: ثنا سليمان بن شعيب ثنا عبد الرحمن بن خالد ثنا مالك بن مغول عن الشعبي قال: "ما جاءكم به هؤلاء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذوه وما كان رأيهم فاطرحوه في الحش".
وقال البخاري: حدثنا سنيد بن داود ثنا حماد بن زيد عن زيد عن عمرو بن دينار قال: "قيل لجابر بن زيد: إنهم يكتبون ما يسمعون منك قال: "إنا لله وإنا إليه راجعون يكتبونه وأنا أرجع عنه غدا".
قال إسحاق بن راهويه: قال سفيان بن عيينة: "اجتهاد الرأي هو مشاورة أهل العلم لا أن يقول هو برأيه".(7/81)
ص -74-…وقال ابن أبي خيثمة: ثن الحوطي ثنا إسماعيل بن عياش عن سوادة بن زياد وعمرو بن المهاجر عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى الناس: "إنه لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم".
قال أبو بصيرة: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن يقول للحسن البصري: "بلغني أنك تفتي برأيك فلا تفت برأيك إلا أن يكون سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وقال البخاري: حدثني محمد بن محبوب ثنا عبد الواحد ثنا ابن الزبرقان بن عبد الله الأسيدي أن أبا وائل شفيق ابن سلمة قال: "إياك ومجالسة من يقول: أرأيت أرأيت".
وقال أبان بن عيسى بن دينار عن أبيه عن ابن القاسم عن مالك عن ابن شهاب قال: "دعوا السنة تمضي لا تعرضوا لها بالرأي".
وقال يونس عن أبي الأسود وهو محمد بن عبد الرحمن بن نوفل سمعت عروة بن الزبير يقول: "ما زال أمر بني إسرائيل معتدلا حتى نشأ فيهم المولدون أبناء سبايا الأمم فأخذوا فيهم بالرأي فأضلوهم".
وذكر ابن وهب عن ابن شهاب أنه قال وهو يذكر ما وقع فيه الناس من هذا الرأي وتركهم السنن فقال: "إن اليهود والنصارى إنما انسلخوا من العلم الذى بأيديهم حين اتبعوا الرآى وأخذوا فيه".
وقال ابن وهب: حدثني ابن لهيعة أن رجلا سأل سالم بن عبد الله بن عمر عن شيء فقال: "لم أسمع في هذا شيئا فقال له الرجل: فأخبرني أصلحك الله برأيك فقال: لا ثم أعاد عليه فقال: إني أرضى برأيك فقال سالم: إني لعلي إن أخبرتك برأيي ثم تذهب فأرى بعد ذلك رأيا غيره فلا أجدك".
وقال البخاري: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي ثنا مالك بن أنس(7/82)
ص -75-…قال كان ربيعة يقول لابن شهاب: "إن حالي ليس يشبه حالك أنا أقول برأيي من شاء أخذه وعمل به ومن شاء تركه".
وقال الفريابي: ثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي قال: سمعت عبد الرحمن ابن مهدي يقول: سمعت حماد بن زيد يقول: قيل لأيوب السختياني: "مالك لا تنظر في الرأي؟ فقال أيوب: قيل للحمار مالك لا تجتر؟ قال أكره مضغ الباطل".
وقال الفريابي: ثنا العباس بن الوليد بن مزيد أخبرني أبي قال: سمعت الأوزاعي يقول: "عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوا لك القول".
وقال أبو زرعة: ثنا أبو مسهر قال: كان سعيد بن عبد العزيز إذا سئل لا يجيب حتى يقول: "لا حول ولا قوة إلا بالله هذا الرأي والرأي يخطىء ويصيب".
وقد روى أبو يوسف والحسن بن زياد كلاهما عن أبي حنيفة أنه قال: "علمنا هذا رأي وهو أحسن ما قدرنا عليه ومن جاءنا بأحسن منه قبلناه منه".
وقال الطحاوي: ثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ثنا أشهب بن عبد العزيز قال كنت عند مالك فسئل عن البتة فأخذت ألواحي لأكتب ما قال فقال لي مالك: "لا تفعل فعسى في العشي أقول إنها واحدة".
وقال معن بن عيسى القزاز: سمعت مالكا يقول: "إنما أنا بشر أخطىء وأصيب فانظروا في قولي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به وما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه".
فرضي الله عن أئمة الإسلام وجزاهم عن نصيحتهم خيرا ولقد امتثل وصيتهم وسلك سبيلهم أهل العلم والدين من أتباعهم(7/83)
ص -76-…المتعصبون يعكسون القضية:
وأما المتعصبون فإنهم عكسوا القضية ونظروا في السنة فما وافق أقوالهم منها قبلوه وما خالفها تحيلوا في رده أو رد دلالته وإذا جاء نظير ذلك أو أضعف منه سندا ودلالة وكان يوافق قولهم قبلوه ولم يستجيزوا رده واعترضوا به على منازعيهم وأشاحوا وقرروا الاحتجاج بذلك السند ودلالته فإذا جاء ذلك السند بعينه أو أقوى منه ودلالته كدلالة ذلك أو أقوى منه في خلاف قولهم دفعوه ولم يقبلوه وسنذكر من هذا إن شاء الله طرفا عند ذكر غائلة التقليد وفساده والفرق بينه وبين الاتباع.
وقال بقي بن مخلد: ثنا سحنون والحارث بن مسكين عن بن القاسم عن مالك أنه كان يكثر أن يقول: "إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين".
وقال القعنبي: دخلت على مالك بن أنس في مرضه الذي مات فيه فسلمت عليه ثم جلست فرأيته يبكي فقلت له: يا أبا عبد الله ما الذي يبكيك فقال لي: "يا ابن قعنب وما لي لا أبكي ومن أحق بالبكاء مني والله لوددت أني ضربت بكل مسألة أفتيت فيها بالرأي سوطا وقد كانت لي السعة فيما قد سبقت إليه وليتني لم أفت بالرأي".
وقال ابن أبي داود: ثنا أحمد بن سنان قال: سمعت الشافعي يقول: "مثل الذي ينظر في الرأي ثم يتوب منه مثل المجنون الذي عولج حتى برأ فأعقل ما يكون قد هاج به".
وقال ابن أبي داود: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبي يقول: "لا تكاد ترى أحدا نظر في الرأي إلا وفي قلبه دغل".
وقال عبد الله بن أحمد أيضا: سمعت أبي يقول: "الحديث الضعيف أحب إلي من الرأي" فقال عبد الله: سألت أبي عن الرجل يكون ببلد لا يجد فيه إلا صاحب حديث لا يعرف صحيحه من سقيمه وأصحاب الرأي فتنزل به(7/84)
ص -77-…النازلة فقال أبي: "يسأل أصحاب الحديث ولا يسأل أصحاب الرأي ضعيف الحديث أقوى من الرأي".
أبو حنيفة يقدم الحديث:
وأصحاب أبي حنيفة رحمه الله مجمعون على أن مذهب أبي حنيفة أن ضعيف الحديث عنده أولى من القياس والرأي وعلى ذلك بنى مذهبه كما قدم حديث القهقهة مع ضعفه على القياس والرآى وقدم حديث الوضوء بنبيذ التمر في السفر مع ضعفه على الرأي والقياس ومنع قطع السارق بسرقة أقل من عشرة دراهم والحديث فيه ضعيف وجعل أكثر الحيض عشرة أيام والحديث فيه ضعيف وشرط في إقامة الجمعة المصر والحديث فيه كذلك وترك القياس المحض في مسائل الآبار لآثار فيها غير مرفوعة فتقديم الحديث الضعيف وآثار الصحابة على القياس والرأي قوله وقول الإمام أحمد وليس المراد بالحديث الضعيف في اصطلاح السلف هو الضعيف في اصطلاح المتأخرين بل ما يسميه المتأخرون حسنا قد يسميه المتقدمون ضعيفا كما تقدم بيانه.
والمقصود أن السلف جميعهم على ذم الرأي والقياس المخالف للكتاب والسنة وأنه لا يحل العمل به لا فتيا ولا قضاء وأن الرأي الذي لا يعلم مخالفته للكتاب والسنة ولا موافقته فغايته أن يسوغ العمل به عند الحاجة إليه من غير إلزام ولا إنكار على من خالفه.
قال أبو عمر بن عبد البر: ثنا عبد الرحمن بن يحيى ثنا أحمد بن سعيد بن حزم ثنا عبد الله بن يحيى عن أبيه أنه كان يأتي ابن وهب فيقول له: من أين؟ فيقول له: من عند ابن القاسم فيقول له ابن وهب: "اتق الله فإن أكثر هذه المسائل رأي".
وقال الحافظ أبو محمد: ثنا عبد الرحمن بن سلمة ثنا أحمد بن خليل ثنا خالد ابن سعيد أخبرني محمد بن عمر بن كنانة ثنا أبان بن عيسى بن دينار قال: "كان أبي(7/85)
ص -78-…قد أجمع على ترك الفتيا بالرأي وأحب الفتيا بما روى من الحديث فأعجلته المنية عن ذلك".
وقال أبو عمر: وروى الحسن بن واصل أنه قال: "إنما هلك من كان قبلكم حين تشعبت بهم السبل وحادوا عن الطريق وتركوا الآثار وقالوا في الدين برأيهم فضلوا وأضلوا".
قال أبو عمر: وذكر نعيم بن حماد عن أبي معاوية عن الأعمش عن مسلم عن مسروق "من يرغب برأيه عن أمر الله يضل".
وذكر بن وهب قال: أخبرني بكر بن نصر عن رجل من قريش أنه سمع ابن شهاب يقول وهو يذكر ما وقع فيه الناس من هذا الرأي وتركهم السنن فقال: "إن اليهود والنصارى إنما انسخلوا من العلم الذي كان بأيديهم حين اشتقوا الرأي وأخذوا فيه".
وذكر ابن جرير في كتاب (تهذيب الآثار) له عن مالك قال: "قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تم هذا الأمر واستكمل فإنما ينبغي أن تتبع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تتبع الرأي فإنه من اتبع الرأي جاء رجل آخر أقوى منه في الرأي فاتبعه فأنت كلما جاء رجل غلبك اتبعته".
وقال نعيم بن حماد: ثنا ابن المبارك عن عبد الله بن وهب أن رجلا جاء إلى القاسم بن محمد فسأله عن شيء فأجابه فلما ولى الرجل دعاه فقال له: "لا تقل إن القاسم زعم أن هذا هو الحق ولكن إذا اضطررت إليه عملت به".
وقال أبو عمر: قال ابن وهب: قال لي مالك بن أنس وهو ينكر كثرة الجواب للمسائل: "يا أبا عبد الله ما علمته فقل به ودل عليه وما لم تعلم فاسكت وإياك أن تتقلد للناس قلادة سوء".
وقال أبو عمر: وذكر محمد بن حارث بن أسد الخشني أنبأنا أبو عبد الله محمد ابن عباس النحاس قال: سمعت أبا عثمان سعيد بن محمد الحداد يقول: سمعت(7/86)
ص -79-…سحنون بن سعيد يقول: "ما أدري ما هذا الرأي؟ سفكت به الدماء واستحلت به الفروج واستحقت به الحقوق غير أنا رأينا رجلا صالحا فقلدناه".
وقال سلمة بن شبيب: سمعت أحمد يقول: "رأي الشافعي ورأي مالك ورأي أبي حنيفة كله عندي رأي وهو عندي سواء وإنما الحجة في الآثار".
وقال أبو عمر بن عبد البر: أنشدني عبد الرحمن بن يحيى أنشدنا أبو علي الحسن بن الخضر الأسيوطي بمكة أنشدنا عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه:
دين النبي محمد أثار… نعم المطية للفتى الأخبار
لا تخدعن عن الحديث وأهله… فالرأي ليل والحديث نهار
ولربما جهل الفتى طرق الهدى… والشمس طالعة لها أنوار
ولبعض أهل العلم:
العلم قال الله قال رسوله… قال الصحابة ليس خلف فيه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة… بين النصوص وبين رأي سفيه
كلا ولا نصب الخلاف جهالة… بين الرسول وبين رأي فقيه
كلا ولا رد النصوص تعمدا… حذرا من التجسيم والتشبيه
حاشا النصوص من الذي رميت به… من فرقة التعطيل والتمويه
في أنواع الرأي المحمود
النوع الأول: رأي أفقه الأمة وأبر الأمة قلوبا وأعمقهم وأقلهم تكلفا وأصحهم قصودا وأكملهم فطرة وأتمهم إدراكا وأصفاهم أذهانا الذين شاهدوا التنزيل وعرفوا التأويل فهموا مقاصد الرسول فنسبة آرائهم وعلومهم وقصودهم إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كنسبتهم إلى صحبته(7/87)
ص -80-…والفرق بينهم وبين من بعدهم في ذلك كالفرق بينهم وبينهم في الفضل فنسبه رأى من بعدهم إلى رأيهم كنسبة قدرهم إلى قدرهم.
قال الشافعي رحمه الله في رسالته البغدادية التي رواها عنه الحسن بن محمد الزعفراني وهذا لفظه: "وقد أثنى الله تبارك وتعالى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن والتوراة والإنجيل وسبق لهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفضل ما ليس لأحد بعدهم فرحمهم الله وهنأهم بما أتاهم من ذلك ببلوغ أعلى منازل الصديقين والشهداء والصالحين أدوا إلينا سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاهدوه والوحي ينزل عليه فعلموا ما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم عاما وخاصا وعزما وإرشادا وعرفوا من سنته ما عرفنا وجهلنا وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل وأمر استدرك به علم واستنبط به وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من رأينا عند أنفسنا ومن أدركنا ممن يرضى أو حكى لنا عنه ببلدنا صاروا فيما لم ليعلموا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه سنة إلى قولهم إن اجتمعوا أو قول بعضهم إن تفرقوا وهكذا نقول ولم نخرج عن أقاويلهم وإن قال أحدهم ولم يخالفه غيره أخذنا بقوله".
ولما كان رأي الصحابة عند الشافعي بهذه المثابة قال في الجديد في كتاب الفرائض في ميراث الجد والإخوة: "وهذا مذهب تلقيناه عن زيد بن ثابت وعنه أخذنا أكثر الفرائض" وقال: "والقياس عندي قتل الراهب لولا ما جاء عن أبي بكر رضي الله عنه" فترك صريح القياس لقول الصديق وقال في رواية الربيع عنه: "والبدعة ما خالف كتابا أو سنة أو أثرا عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم" فجعل ما خالف قول الصحابي بدعة وسيأتي إن شاء الله تعالى إشباع الكلام في هذه المسألة وذكر نصوص الشافعي عند ذكر تحريم الفتوى بخلاف ما أفتى به الصحابة ووجوب اتباعهم في فتاويهم وأن لا يخرج من جملة أقوالهم وأن الأئمة متفقون على ذلك.(7/88)
ص -81-…الصحابة أفضل الناس في الرأي:
والمقصود أن أحدا ممن بعدهم لا يساويهم في رأيهم وكيف يساويهم وقد كان أحدهم يرى الرأي فينزل القرآن بموافقته كما رأى عمر في أسارى بدر أن تضرب أعناقهم فنزل القرآن بموافقته ورأى أن تحجب نساء النبي صلى الله عليه وسلم فنزل القرآن بموافقته ورأى أن يتخذ من مقام إبراهيم مصلى فنزل القرآن بموافقته وقال لنساء النبي صلى الله عليه وسلم لما اجتمعن في الغيرة عليه: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَات} فنزل القرآن بموافقته ولما توفي عبد الله بن أبي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه فقام عمر فأخذ بثوبه فقال يا رسول الله: "إنه منافق" فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عليه {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ}.
وقد قال سعد بن معاذ لما حكمه النبي صلى الله عليه وسلم في بني قريظة: "إني أرى أن تقتل مقاتلتهم وتسبي ذرياتهم وتغنم أموالهم" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات".
ولما اختلفوا إلى ابن مسعود شهرا في المفوضة قال: "أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريء منه أرى أن لها مهر نسائها لا وكس ولا شطط ولها الميراث وعليها العدة" فقام ناس من أشجع فقالوا: نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في امرأة منا يقال لها بروع بنت واشق مثل ما قضيت به فما فرح ابن مسعود بشىء بعد الإسلام فرحه بذلك.
وحقيق بمن كانت آراؤهم بهذه المنزلة أن يكون رأيهم لنا خيرا من رأينا لأنفسنا وكيف لا وهو الرأي الصادر من قلوب ممتلئة نورا وإيمانا وحكمة وعلما ومعرفة وفهما عن الله ورسوله ونصيحة للأمة وقلوبهم على قلب نبيهم ولا وساطة بينهم وبينه وهم ينقلون العلم والإيمان من مشكاة النبوة غضا(7/89)
ص -82-…طريا لم يشبه إشكال ولم يشبه خلاف ولم تدنسه معارضة فقياس رأي غيرهم بآرائهم من أفسد القياس.
فصل: النوع الثاني من أنواع الرأي المحمود
النوع الثاني من الرأي المحمود: الرأي الذي يفسر النصوص ويبين وجه الدلالة منها ويقررها ويوضح محاسنها ويسهل طريق الاستنباط منها كما قال عبدان: "سمعت عبد الله بن المبارك يقول: "ليكن الذي تعتمد عليه الأثر وخذ من الرأي ما يفسر لك الحديث وهذا هو الفهم الذي يختص الله سبحانه به من يشاء من عباده".
ومثال هذا رأي الصحابة رضي الله عنهم في العول في الفرائض عند تزاحم الفروض ورأيهم في مسألة زوج وأبوين وامرأة وأبوين أن للأم ثلث ما بقي بعد فرض الزوجين ورأيهم في توريث المبتوتة في مرض الموت ورأيهم في مسألة جر الولاء ورأيه في المحرم يقع على أهله بفساد حجه ووجوب المضي فيه والقضاء والهدى من قابل ورأيهم في الحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما أفطرتا وقضتا وأطعمتا لكل يوم مسكينا ورأيهم في الحائض تطهر قبل طلوع الفجر تصلي المغرب والعشاء وإن طهرت قبل الغروب صلت الظهر والعصر ورأيهم في الكلالة وغير ذلك.
قال الإمام أحمد: ثنا يزيد بن هارون أنا عاصم الأحول عن الشعبي قال: سئل أبو بكر عن الكلالة فقال: "إني سأقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان أراه ما خلا الوالد والولد".
فإن قيل: كيف يجتمع هذا مع ما صح عنه من قوله: "أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن قلت في كتاب الله برأيي؟" وكيف يجامع هذا الحديث الذي تقدم: "من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار".(7/90)
ص -83-…فالجواب أن الرأي نوعان:
أحدهما: رأي مجرد لا دليل عليه بل هو خرص وتخمين فهذا الذي أعاذ الله الصديق والصحابة منه.
والثاني: رأي مستند إلى استدلال واستنباط من النص وحده أو من نص آخر معه فهذا من ألطف فهم النصوص وأدقه ومنه رأيه في الكلالة أنها ما عدا الوالد والولد فإن الله سبحانه ذكر الكلالة في موضعين من القرآن ففي أحد الموضعين ورث معها الأخ والأخت من الأم ولا ريب أن هذه الكلالة ما عدا الوالد والولد والموضع الثاني ورث معها ولد الأبوين أو الأب النصف أو الثلثين فاختلف الناس في هذه الكلالة والصحيح فيها قول الصديق الذي لا قول سواه وهو الموافق للغة العرب كما قال:
ورثتم قناة المجد لا عن كلالة… عن ابني مناف عبد شمس وهاشم
أي إنما ورثتموها عن الآباء والأجداد لا عن حواشي النسب وعلى هذا فلا يرث ولد الأب والأبوين لا مع أب ولا مع جد كما لم يرثوا مع الابن ولا ابنه وإنما ورثوا مع البنات لأنهم عصبة فلهم ما فضل عن الفروض.
فصل: النوع الثالث من أنواع الرأي المحمود
النوع الثالث من الرأي المحمود: الذي تواطأت عليه الأمة وتلقاه خلفهم عن سلفهم فإن ما تواطؤا عليه من الرأي لا يكون إلا صوابا كما تواطؤا عليه من الرواية والرؤيا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وقد تعددت منهم رؤيا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان: "أرى رؤياكم قد(7/91)
ص -84-…تواطأت في السبع الأواخر" فاعتبر صلى الله عليه وسلم تواطؤ رؤيا المؤمنين فالأمة معصومة فيما تواطأت عليه من روايتها ورؤياها ولهذا كان من سداد الرأي وإصابته أن يكون شورى بين أهله ولا ينفرد به واحد وقد مدح الله سبحانه المؤمنين بكون أمرهم شورى بينهم وكانت النازلة إذا نزلت بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليس عنده فيها نص عن الله ولا عن رسوله جمع لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جعلها شورى بينهم.
قال البخاري: حدثنا سنيد ثنا يزيد عن العوام بن حوشب عن المسيب ابن رافع قال: "كان إذا جاءه الشيء من القضاء ليس في الكتاب ولا في السنة سمى صوافي الأمر فرفع إليهم فجمع له أهل العلم فإذا اجتمع عليه رأيهم الحق".
وقال محمد بن سليمان الباغندي: ثنا عبد الرحمن بن يونس ثنا عمر بن أيوب أخبرنا عيسى بن المسيب عن عامر عن شريح القاضي قال: قال لي عمر بن الخطاب: "أن اقض بما استبان لك من قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم تعلم كل أقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض بما استبان لك من أئمة المهتدين فإن لم تعلم كل ما قضت به أئمة المهتدين فاجتهد رأيك واستشر أهل العلم والصلاح".
وقال الحميدي: ثنا سفيان ثنا الشيباني عن الشعبي قال: "كتب عمر إلى شريح إذا حضرك أمر لا بد منه فانظر ما في كتاب الله فاقض به فإن لم يكن ففيما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم يكن ففيما قضى به الصالحون وأئمة العدل فإن لم يكن فأنت بالخيار فإن شئت أن تجتهد رأيك فاجتهد رأيك وإن شئت أن تؤامرني ولا أرى مؤامرتك إياي إلا خيرا لك والسلام".(7/92)
ص -85-…فصل: النوع الرابع من أنواع الرأي المحمود
النوع الرابع من الرأي المحمود: أن يكون بعد طلب علم الواقعة من القرآن فإن لم يجدها في القرآن ففي السنة فإن لم يجدها في السنة فبما قضى به الخلفاء الراشدون أو اثنان منهم أو واحد فإن لم يجده فبما قاله واحد من الصحابة رضي الله عنهم فإن لم يجده اجتهد رأيه ونظر إلى أقرب ذلك من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأقضية أصحابه فهذا هو الرأي الذي سوغه الصحابة واستعملوه وأقر بعضهم بعضا عليه.
قال علي بن الجعد: أنبأنا شعبة عن سيار الشعبي قال: "أخذ عمر فرسا من رجل على سوم فحمل عليه فعطب فخاصمه الرجل فقال: اجعل بيني وبينك رجلا فقال الرجل: إني أرضى بشريح العراقي فقال شريح: أخذته صحيحا سليما فأنت له ضامن حتى ترده صحيحا سليما قال: فكأنه أعجبه فبعثه قاضيا وقال ما استبان لك من كتاب الله فلا تسأل عنه فإن لم يستبن في كتاب الله فمن السنة فإن لم تجده في السنة فاجتهد رأيك".
خطاب عمر في القضاء:
قال أبو عبيد: ثنا كثير بن هشام عن جعفر بن برقان وقال أبو نعيم: عن جعفر بن برقان عن معمر البصري عن أبي العوام وقال سفيان بن عيينة: ثنا إدريس أبو عبد الله بن إدريس قال: "أتيت سعيد بن أبي بردة فسألته عن رسل عمر بن الخطاب التي كان يكتب بها إلى أبي موسى الأشعري وكان أبو موسى قد أوصى إلى أبي بردة فأخرج إليه كتبا فرأيت في كتاب منها رجعنا إلى حديث أبي العوام قال كتب عمر إلى أبي موسى: "أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة فافهم إذا أدلى إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له آس الناسي في مجلسك وفي وجهك وقضائك حتى لا يطمع شريف(7/93)
ص -86-…في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك البينة على المدعي واليمين على من أنكر والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا ومن ادعى حقا غائبا أو بينة فاضرب له أمدا ينتهي إليه فإن بينه أعطيته بحقه وإن أعجزه ذلك استحللت عليه القضية فإن ذلك هو أبلغ في العذر وأجلى للعلماء ولا يمنعنك قضاء قضيت فيه اليوم فراجعت فيه رأيك فهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق فإن الحق قديم لا يبطله شيء ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل والمسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجربا عليه شهادة زور أو مجلودا في حد أو ظنينا في ولاء أو قرابة فإن الله تعالى تولى من العباد السرائر وستر عليهم الحدود إلا بالبينات والإيمان ثم الفهم الفهم فيما أدلى إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة ثم قايس الأمور عند ذلك وأعرف الأمثال ثن اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق وإياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالناس والتنكر عند الخصومة أو الخصوم شك أبو عبيد فإن القضاء في مواطن الحق مما يوجب الله به الأجر ويحسن به الذكر فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس ومن تزين بما ليس في نفسه شانه الله فإن الله تعالى لا يقبل من العباد إلا ما كان خالصا فما ظنك بثواب عند الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته والسلام عليك ورحمة الله" قال أبو عبيد: فقلت لكثير: هل أسنده جعفر؟ قال: لا.
وهذا كتاب جليل تلقاه العلماء بالقبول وبنوا عليه أصول الحكم والشهادة والحاكم والمفتي أحوج شيء إليه وإلى تأمله والتفقه فيه.
شرح الخطاب:
قوله: "القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة" يريد به أن ما يحكم به الحاكم نوعان: أحدهما: فرض محكم غير منسوخ كالأحكام الكلية التي أحكمها الله في كتابه والثاني: أحكام سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذان النوعان(7/94)
ص -87-…هما المذكوران في حديث عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "العلم ثلاثة فما سوى ذلك فهو فضل: آية محكمة وسنة قائمة وفريضة عادلة" رواه ابن وهب عن عبد الرحمن بن زياد عن عبد الله بن رافع عنه ورواه بقية عن ابن جريج عن عطاء عن أبي هريرة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فرأى جمعا من الناس على رجل فقال ما هذا قالوا يا رسول الله رجل علامة قال وما العلامة قالوا أعلم بالناس بأنساب العرب وأعلم الناس بعربية وأعلم الناس بشعر وأعلم الناس بما اختلف فيه العرب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا علم لا ينفع وجهل لا يضر وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "العلم ثلاثة وما خلا فهو فضل علم آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة".
الفهم الصحيح نعمة:
وقوله: "فافهم إذا أدلى إليك" صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده بل ما أعطي عبد عطاء بعد الإسلام أفضل ولا أجل منهما بل هما ساقا الإسلام وقيامه عليهما وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد قصدهم وطريق الضالين الذين فسدت فهومهم ويصير من المنعم عليهم الذين حسنت أفهامهم وقصودهم وهم أهل الصراط المستقيم الذين أمرنا أن نسأل الله أن يهدينا صراطهم في كل صلاة وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد يميز به بين الصحيح والفاسد والحق والباطل والهدى والضلال والغي والرشاد ويمده حسن القصد وتحري الحق وتقوى الرب في السر والعلانية ويقطع مادته اتباع الهوى وإيثار الدنيا وطلب محمدة الخلق وترك التقوى.
تمكن الحاكم والمفتي بنوعين من الفهم:
ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع(7/95)
ص -88-…وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع ثم يطبق أحدهما على الآخر فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجر فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله كما توصل شاهد يوسف بشق القميص من دبر إلى معرفة براءته وصدقه وكما توصل سليمان صلى الله عليه بقوله: "ائتوني بالسكين حتى أشق الولد بينكما" إلى معرفة عين الأم وكما توصل أمير المؤمنين علي عليه السلام بقوله للمرأة التي حملت كتاب حاطب لما أنكرته: "لتخرجن الكتاب أو لنجردنك" إلى استخراج الكتاب منها وكما توصل الزبير بن العوام بتعذيب أحد ابني أبي الحقيق بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دلهم على كنز جبي لما ظهر له كذبه في دعوى ذهابه بالإنفاق بقوله: "المال كثير والعهد أقرب من ذلك" وكما توصل النعمان بن بشير بضرب المتهمين بالسرقة إلى ظهور المال المسروق عندهم فإن ظهر وإلا ضرب من اتهمهم كما ضربهم وأخبر أن هذا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن تأمل الشريعة وقضايا الصحابة وجدها طافحة بهذا ومن سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم ونسبة إلى الشريعة التي بعث الله بها ورسوله.
معنى الإدلاء:
وقوله: "فما أدلى إليك" أي ما توصل به إليك من الكلام الذي تحكم به بين الخصوم ومن قولهم أدلى فلان بحجته وأدلى بنسبه ومنه قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} أي تضيفوا ذلك إلى الحكام وتتوصلوا بحكمهم إلى أكلها.
فإن قيل: لو أراد هذا المعنى لقيل وتدلوا بالحكام إليها وأما الإدلاء بها إلى الحكام فهو التوصل بالبرطيل بها إليهم فترشوا الحاكم لتتوصلوا برشوته إلى الأكل بالباطل.
قيل: الآية تتناول النوعين فكل منهما إدلاء إلى الحكام بسببها فالنهي عنهما معا.(7/96)
ص -89-…وجوب تنفيذ الحق:
وقوله: "فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له" ولاية الحق: نفوذه فإذا لم ينفذ كان ذلك عزلا له عن ولايته فهو بمنزلة الوالي العدل الذي في توليته مصالح العباد فى معاشهم ومعادهم فإذا عزل عن ولايته لم ينفع ومراد عمر بذلك التحريض على تنفيذ الحق إذا فهمه الحاكم ولا ينفع تكلمه به إن لم يكن له قوة تنفيذه فهو تحريض منه على العلم بالحق والقوة على تنفيذه وقد مدح الله سبحانه أولى القوة أمره والبصائر في دينه فقال: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} فالأيدي: القوى على تنفيذ أمر الله والأبصار: البصائر في دينه.
المدعي والمدعى عليه أمام الحاكم سواء:
وقوله: "وآس الناس في مجلسك وفي وجهك وقضائك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك" إذا عدل الحاكم في هذا بين الخصمين فهو عنوان عدله في الحكومة فمتى خص أحد الخصمين بالدخول عليه أو القيام له أو بصدر المجلس والإقبال عليه والبشاشة له والنظر إليه كان عنوان حيفه وظلمه وقد رأيت في بعض التواريخ القديمة أن أحد قضاة العدل في بني إسرائيل أوصاهم إذا دفنوه أن ينبشوا قبره بعد مدة فينظروا هل تغير منه شيء أم لا وقال: "إني لم أجر قط في حكم ولم أحاب فيه غير أنه دخل على خصمان كان أحدهما صديقا لي فجعلت أصغي إليه بأذني أكثر من إصغائي إلى الآخر ففعلوا ما أوصاهم به فرأوا أذنه قد أكلها التراب ولم يتغير جسده" وفي تخصيص أحد الخصمين بمجلس أو إقبال أو إكرام مفسدتان: إحداهما: طعمه في أن تكون الحكومة له فيقوى قلبه وجنانه والثانية: أن الآخر ييأس من عدله ويضعف قلبه وتنكسر حجته(7/97)
ص -90-…ما هي البينة؟:
وقوله: "البينة على من المدعي واليمين على من أنكر" البينة في كلام الله ورسوله وكلام الصحابة اسم لكل ما يبين الحق فهي أعم من البينة في اصطلاح الفقهاء حيث خصوها بالشاهدين أو الشاهد واليمين ولا حجر في الاصطلاح ما لم يتضمن حمل كلام الله ورسوله عليه فيقع بذلك الغلط في فهم النصوص وحملها على غير مراد المتكلم منها.
وقد حصل بذلك للمتأخرين أغلاط شديدة في فهم النصوص ونذكر من ذلك مثالا واحدا وهو ما نحن فيه من لفظ البينة فإنها في كتاب الله اسم لكل ما يبين الحق كما قال تعالى {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} وقال {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ} وقال {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} وقال {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} وقال {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} وقال {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ} وقال {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} وهذا كثير لم يختص لفظ البينة بالشاهدين بل ولا استعمل في الكتاب فيهما البتة إذا عرف هذا فقول النبي صلى الله عليه وسلم للمدعي: "ألك بينة" وقول عمر: "البينة على المدعي" وإن كان هذا قد روى مرفوعا المراد به ألك ما يبين الحق من شهود أو دلالة فإن الشارع في جميع المواضع يقصد ظهور الحق بما يمكن ظهوره به من البينات التي هي أدلة عليه وشواهد له ولا يرد حقا قد ظهر بدليله أبدا فيضيع حقوق الله وعباده ويعطلها ولا يقف ظهور الحق على أمر معين لا فائدة في تخصيصه به مع مساواة غيره في ظهور الحق أو رجحانه عليه ترجيحا لا يمكن جحده ودفعه كترجيح شاهد الحال على مجرد اليد في صورة من على رأسه عمامة وبيده عمامة(7/98)
وآخر خلفه مكشوف الرأس يعدو أثره ولا عادة له بكشف رأسه فبينة الحال ودلالته هنا تفيد من ظهور صدق المدعي أضعاف ما يفيد مجرد اليد عند كل أحد فالشارع لا يهمل مثل هذه البينة(7/99)
ص -91-…والدلالة ولا يضيع حقا يعلم كل أحد ظهوره وحجته بل لما ظنا هذا من ظنه ضيعوا طريق الحكم فضاع كثير من الحقوق لتوقف ثبوتها عندهم على طريق معين وصار الظالم الفاجر ممكنا من ظلمه وفجوره فيفعل ما يريد ويقول لا يقوم علي بذلك شاهدان اثنان فضاعت حقوق كثيرة لله ولعباده وحينئذ أخرج الله أمر الحكم العلمي عن أيديهم وأدخل فيه من أمر الإمارة والسياسة ما يحفظ به الحق تارة ويضيع به أخرى ويحصل به العدوان تارة والعدل أخرى ولو عرف ما جاء به الرسول على وجهه لكان فيه تمام المصلحة المغنية عن التفريط والعدوان.
نصاب الشهادة في القرآن:(7/100)
وقد ذكر الله سبحانه نصاب الشهادة في القرآن في خمسة مواضع فذكر نصاب شهادة الزنا أربعة في سورة النساء وسورة النور وأما في غير الزنا فذكر شهادة الرجلين والرجل والمرأتين في الأموال فقال في آية الدين واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان فهذا في التحمل والوثيقة التي يحفظ بها صاحب المال حقه لا في طرق الحكم وما يحكم به الحاكم فإن هذا شيء وهذا شيء وأمر في الرجعة بشاهدين عدلين وأمر في الشهادة على الوصية في السفر باستشهاد عدلين من المسلمين أو آخرين من غيرهم وغير المؤمنين هم الكفار والآية صريحة في قبول شهادة الكافرين على الوصية في السفر عند عدم الشاهدين المسلمين وقد حكم به النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة بعده ولم يجىء بعدها ما ينسخها فإن المائدة من آخر القرآن نزولا وليس فيها منسوخ وليس لهذه الآية معارضة البتة ولا يصح أن يكون المراد بقوله: "من غيركم" من غير قبيلتكم فإن الله سبحانه خاطب بها المؤمنين كافة بقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} ولم يخاطب بذلك قبيلة معينة حتى يكون قوله من غيركم أيتها القبيلة والنبي صلى الله عليه وسلم لم يفهم هذا من الآية بل إنما فهم ما هي صريحة فيه وكذلك أصحابه من بعده وهو سبحانه ذكر ما يحفظ به الحقوق من(7/101)
ص -92-…الشهود ولم يذكر أن الحكام لا يحكمون إلا بذلك فليس في القرآن نفي الحكم بشاهد ويمين ولا بالنكول ولا باليمين المردودة ولا بأيمان القسامة ولا بأيمان اللعان وغير ذلك مما يبين الحق ويظهره ويدل عليه.
وقد اتفق المسلمون على أنه يقبل في الأموال رجل وامرأتان وكذلك توابعها من البيع والأجل فيه والخيار فيه والرهن والوصية للمعين وهبته والوقف عليه وضمان المال وإتلافه ودعوى رق مجهول النسب وتسمية المهر وتسمية عوض الخلع يقبل في ذلك رجل وامرأتان.
وتنازعوا في العتق والوكالة في المال والإيصاء إليه فيه ودعوى قتل الكافر لاستحقاق سلبه ودعوى الأسير الإسلام السابق لمنع رقه وجناية الخطأ والعمد التي لا قود فيها والنكاح والرجعة هل يقبل فيها رجل وامرأتان أم لا بد من رجلين على قولين وهما روايتان عن أحمد فالأول قول أبي حنيفة والثاني قول مالك والشافعي والذين قالوا لا يقبل إلا رجلان قالوا إنما ذكر الله الرجل والمرأتين في الأموال دون الرجعة الوصية وما معهما فقال لهم الآخرون ولم يذكر سبحانه وصف الإيمان في الرقبة إلا في كفارة القتل ولم يذكر فيها إطعام ستين مسكينا وقلتم نحمل المطلق على المقيد إما بيانا وإما قياسا وقالوا أيضا فإنه سبحانه إنما قال {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وفي الآية الأخرى {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} بخلاف آية الدين فإنه قال {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وفي الموضعين الآخرين لما لم يقل رجلان لم يقل فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان.
فإن قيل: اللفظ مذكر فلا يتناول الإناث.
قيل قد استقر في عرف الشارع أن الأحكم المذكورة بصيغة المذكرين إذا أطلقت ولم تقترن بالمؤنث فإنها تتناول الرجال والنساء لأنه يغلب المذكر(7/102)
ص -93-…عند الاجتماع كقوله {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} وقوله {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} وقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} وأمثال ذلك وعلى هذا فقوله {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} يتناول الصنفين لكن قد استقرت الشريعة على أن شهادة المرأة نصف شهادة الرجل فالمرأتان في الشهادة كالرجل الواحد بل هذا أولى فإن حضور النساء عند الرجعة أيسر من حضورهن عند كتابة الوثائق بالديون وكذلك حضورهن عند الوصية وقت الموت فإذا جوز الشارع استشهاد النساء في وثائق الديون التي تكتبها الرجال مع أنها إنما تكتب غالبا في مجامع الرجال فلأن يسوغ ذلك فيما تشهده النساء كثيرا كالوصية والرجعة أولى.
يوضحه انه قد شرع في الوصية استشهاد آخرين من غير المسلمين عند الحاجة فلأن يجوز استشهاد رجل وامرأتين بطرق الأولى والأحرى بخلاف الديون فإنه لم يأمر فيها باستشهاد آخرين من غيرنا إذا كنت مداينة المسلمين تكون بينهم وشهودهم حاضرون والوصية في السفر قد لا يشهدها إلا أهل الذمة وكذلك الميت قد لا يشهد إلا النساء وأيضا فإنما أمر في الرجعة باستشهاد ذوي عدل لأن المستشهد هو المشهود عليه بالرجعة وهو الزوج لئلا يكتمها فأمر بأن يستشهد أكمل النصاب ولا يلزم إذا لم يشهد هذا الأكمل أن لا يقبل عليه شهادة النصاب الأنقص فإن طرق الحكم أعم من طرق حفظ الحقوق وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الملتقط أن يشهد عليه ذوي عدل ولا يكتم ولا يعيب ولو شهد عليه باللقطة رجل وامرأتان قبل بالاتفاق بل يحكم عليه بمجرد وصف صاحبها لها.
وقال تعالى في شهادة المال {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وقال في الوصية والرجعة {ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} لأن المستشهد هناك صاحب الحق فهو يأتي بمن يرضاه لحفظ حقه فإن لم يكن عدلا كان هو المضيع لحقه وهذا المستشهد(7/103)
ص -94-…يستشهد بحق ثابت عنده فلا يكفي رضاه به بل لا بد أن يكون عدلا في نفسه وأيضا فإن الله سبحانه وتعالى قال {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} لأن صاحب الحق هو الذي يحفظ ماله بمن يرضاه وإذا قال من عليه الحق: أنا أرض بشهادة هذا علي ففي قبوله نزاع والآية تدل على أنه يقبل بخلاف الرجعة والطلاق فإن فيهما حقا لله وكذلك الوصية فيها حق لغائب.
ومما يوضح ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المرأة: "أليس شهادتها بنصف شهادة الرجل؟" فأطلق ولم يقيد ويوضحه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمدعي لما قال هذا غصبني أرضي فقال: "شاهداك أو يمينه" وقد عرف أنه لو أتى برجل وامرأتين حكم له فعلم أن هذا يقوم مقام الشاهدين وأن قوله: "شاهداك أو يمينه" إشارة إلى الحجة الشرعية التي شعارها الشاهدان فإما أن يقال: لفظ "شاهدان" معناه دليلان يشهدان وإما أن يقال: رجلان أو ما يقوم مقامهما والمرأتان دليل بمزلة الشاهد يوضحه أيضا أنه لو لم يأت المدعي بحجة حلف المدعى عليه فيمينه كشهادة آخر فصار معه دليلان يشهدان أحدهما البراءة والثاني اليمين وإن نكل 1 عن اليمين فمن قضى عليه بالنكول قال النكول إقرار أو بدل وهذا جيد إذا كان المدعى عليه هو الذي يعرف الحق دون المدعي قال عثمان لابن عمر: "تحلف أنك بعته وما به عيب تعلمه فلما لم يحلف قضى عليه" وأما الأكثرون فيقولون: "إذا نكل ترد اليمين على المدعي فيكون نكول الناكل دليلا ويمين المدعي دليلا ثانيا" فصار الحكم بدليلين شاهد ويمين والشارع إنما جعل الحكم في الخصومة بشاهدين لأن المدعي لا يحكم له بمجرد قوله والخصم منكر وقد يحلف أيضا فكان أحد الشاهدين يقاوم الخصم المنكر فإن إنكاره ويمينه كشاهد ويبقى الشاهد الآخر خبر عدل لا معارض له فهو حجة شرعية لا معارض لها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نكل: نكص وجبن. انظر القاموس المحيط.(7/104)
ص -95-…وفي الرواية إنما يقبل خبر الواحد إذا لم يعارضه أقوى منه فاطرد القياس والاعتبار في الحكم والرواية يوضحه أيضا أن المقصود بالشهادة أن يعلم بها ثبوت المشهود به وأنه حق وصدق فإنها خبر عنه وهذا لا يختلف بكون المشهود به ملا أو طلاقا أو عتقا أو وصية بل من صدق في هذا صدق في هذا فإذا كان الرجل مع المرأتين كالرجلين يصدقان في الأموال فكذلك صدقهما في هذا وقد ذكر الله سبحانه حكمة تعدد الاثنين في الشهادة وهي أن المرأة قد تنسى الشهادة وتضل عنها فتذكرها الأخرى ومعلوم أن تذكيرها لها بالرجعة والطلاق والوصية مثل تذكيرها لها بالدين وأولى وهو سبحانه أمر بإشهاد امرأتين لتوكيد الحفظ لأن عقل المرأتين وحفظهما يقوم مقام عقل رجل وحفظه ولهذا جعلت على النصف من الرجل في الميراث والدية والعقيقة والعتق فعتق امرأتين يقوم مقام عتق رجل كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من أعتق امرأ مسلما أعتق الله بكل عضو منهما عضوا منه من النار ومن أعتق امرأتين مسلمتين أعتق الله بكل عضو من من النار ولا ريب أن هذه الحكمة في التعدد هي في التحمل فأما إذا عقلت المرأة وحفظت وكانت ممن يوثق بدينها فإن المقصود حاصل بخبرها كما يحصل بأخبار الديانات ولهذا تقبل شهادتها وحدها في مواضع ويحكم بشاهدة امرأتين ويمين الطالب في أصح القولين وهو قول مالك وأحد الوجهين في مذهب أحمد.
قال شيخنا قدس الله روحه: "ولو قيل يحكم بشهادة امرأة ويمين الطالب لكان متوجها قال لأن المرأتين إنما أقيمتا مقام الرجل في التحمل لئلا تنسى إحداهما بخلاف الأداء فإنه ليس في الكتاب ولا في السنة أنه لا يحكم إلا بشهادة امرأتين ولا يلزم من الأمر باستشهاد المرأتين وقت التحمل ألا يحكم بأقل منهما فإنه سبحانه أمر باستشهاد رجلين في الديون فإن لم يكونا رجلين فرجل(7/105)
ص -96-…وامرأتان ومع هذا فيحكم بشاهد واحد ويمين الطالب ويحكم بالنكول والرد وغير ذلك".
فالطرق التي يحكم بها الحاكم أوسع عن الطرق التي أرشد الله صاحب الحق إلى أن يحفظ حقه بها وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن سأله عقبة بن الحارث فقال: "إني تزوجت امرأة فجاءة أمة سوداء فقالت إنها أرضعتنا فأمره بفراق امرأته فقال إنها كاذبة فقال: دعها عنك" ففي هذا قبول شهادة المرأة الواحدة وإن كانت أمة وشهادتها على فعل نفسها وهو أصل في شهادة القاسم والخارص والوزان والكيال على فعل نفسه.
فصل
وهذا أصل عظيم فيجب أن يعرف غلط فيه كثير من الناس فإن الله سبحانه أمر بما يحفظ به الحق فلا يحتاج معه إلى يمين صاحبه وهو الكتاب والشهود لئلا يجحد الحق أو ينسى ويحتاج صاحبه إلى تذكير من لم يذكر إما جحودا وإما نسيانا ولا يلزم من ذلك أنه إذا كان هناك ما يدل على الحق لم يقبل إلا هذه الطريق التي أمره أن يحفظ حقه بها.
فصل
وإنما أمر الله سبحانه بالعدد في شهود الزنا لأنه مأمور فيه بالستر ولهذا غلظ فيه النصاب فإنه ليس هناك حق يضيع وإنما حد وعقوبة والعقوبات تدرأ بالشبهات بخلاف حقوق الله وحقوق عباده التي تضيع إذا لم يقبل فيها قول الصادقين ومعلوم أن شهادة العدل رجلا كان أو امرأة أقوى من استصحاب الحال فإن استصحاب الحال من أضعف البينات ولهذا يدفع بالنكول تارة وباليمين المردودة وبالشاهد واليمين ودلالة الحال وهو نظير رفع استصحاب(7/106)
ص -97-…الحال في الأدلة الشرعية بالعموم والمفهوم والقياس فيرفع بأضعف الأدلة فهكذا في الأحكام يرفع بأدنى النصاب ولهذا قدم خبر الواحد في أخبار الديانة على الاستصحاب مع أنه يلزم جميع المكلفين فكيف لا يقدم عليه فيما هو دونه ولهذا كان الصحيح الذي دلت عليه السنة التي لا معارض لها أن اللقطة إذا وصفها واصف صفة تدل على صدقه دفعت إليه بمجرد الوصف فقام وصفه لها مقام الشاهدين بل وصفه لها بينة تبين صدقه وصحة دعواه فإن البينة اسم لما يبين الحق.
وقد اتفق العلماء على أن مواضع الحاجات يقبل فيها من الشهادات ما لا يقبل في غيرها من حيث الجملة وإن تنازعوا في بعض التفاصيل وقد أمر الله سبحانه بالعمل بشهادة شاهدين من غير المسلمين عند الحاجة في الوصية في السفر منبها بذلك على نظيره وما هو أولى منه كقبول شهادة النساء منفردات في الأعراس والحمامات والمواضع التي تنفرد النساء بالحضور فيها ولا ريب أن قبول شهادتهن هنا أولى من قبول شهادة الكفار على الوصية في السفر وكذلك عمل الصحابة وفقهاء المدينة بشهادة الصبيان على تجارح بعضهم بعضا فإن الرجال لا يحضرون معهم في لعبهم ولو لم تقبل شهادتهم وشهادة النساء منفردات لضاعت الحقوق وتعطلت وأهملت مع غلبة الظن أو القطع بصدقهم ولا سيما إذا جاءوا مجتمعين قبل تفرقهم ورجوعهم إلى بيوتهم وتواطئوا على خبر واحد وفرقوا وقت الأداء واتفقت كلمتهم فإن الظن الحاصل حينئذ من شهادتهم أقوى بكثير من الظن الحاصل من شهادة رجلين وهذا مما لا يمكن دفعه وجحده فلا نظن بالشريعة الكاملة الفاضلة المنتظمة لمصالح العباد في المعاش والمعاد أنها تهمل مثل هذا الحق وتضيعه مع ظهور أدلته وقوتها وتقبله مع الدليل الذي هو دون ذلك(7/107)
ص -98-…وقد روى أبو داود في سننه في قضية اليهوديين اللذين زنيا فلما شهد أربعة من اليهود عليهما أمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمهما وقد تقدم حكم النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة الأمة الواحدة على فعل نفسها وهو يتضمن شهادة العبد وقد حكى الإمام أحمد عن أنس بن مالك إجماع الصحابة على شهادته فقال ما علمت أحدا رد شهادة العبد وهذا هو الصواب فإنه إذا قبلت شهادته على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حكم يلزم الأمة فلأن تقبل شهادته على واحد من الأمة في حكم جزئي أولى وأحرى وإذا قبلت شهادته على حكم الله ورسوله في الفروج والدماء والأموال في الفتوى فلأن تقبل شهادته على واحد من الناس أولى وأحرى كيف وهو داخل في قوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} فإنه منا وهو عدل وقد عدله النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله" وعدلته الأمة في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والفتوى وهو من رجالنا فيدخل في قوله {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} وهو مسلم فيدخل في قول عمر بن الخطاب: "والمسلمون عدول بعضهم على بعض" وهو صادق فيجب العمل بخبره وأن لا يرد فإن الشريعة لا ترد خبر الصادق بل تعمل به وليس بفاسق فلا يجب التثبت في خبره وشهادته وهذا كله من تمام رحمة الله وعنايته بعباده وإكمال دينهم لهم وإتمام نعمته عليهم بشريعته لئلا تضيع حقوق الله وحقوق عباده مع ظهور الحق بشهادة الصادق لكن إذا أمكن حفظ الحقوق بأعلى الطريقين فهو أولى كما أمر بالكتاب والشهود لأنه أبلغ في حفظ الحقوق.
فإن قيل: أمر الأموال أسهل فإنه يحكم فيها بالنكول وباليمين المردودة وبالشاهد واليمين بخلاف الرجعة والطلاق.
قيل هذا فيه نزاع والحجة إنما تكون بنص أو إجماع وأما الشاهد واليمين(7/108)
ص -99-…فالحديث الذي في صحيح مسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قضى بالشاهد واليمين" ليس فيه أنه في الأموال وإنما هو قول عمرو بن دينار ولو كان مرفوعا عن ابن عباس فليس فيه اختصاص الحكم بذلك في الأموال وحدها فإنه لم يخبر عن شرع عام شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأموال وكذلك سائر ما روى من حكمه بذلك إنما هو في قضايا معينة قضى فيها بشاهد ويمين وهذا كما لا يدل على اختصاص حكمه بتلك القضايا لا يقتضي اختصاصه بالأموال كما أنه إذا حكم بذلك في الديون لم يدل على أن الأعيان ليست كذلك بل هذا يحتاج إلى تنقيح المناط فينظر ما حكم لأجله إن وجد في غير محله حكمه عدي إليه.
وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن المرأة إذا أقامت شاهدا واحدا على الطلاق فإن حلف الزوج أنه لم يطلق لم يقض عليه وإن لم يحلف حلفت المرأة ويقضي عليه" وقد احتج الأئمة الأربعة والفقهاء قاطبة بصحيفة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ولا يعرف في أئمة الفتوى إلا من احتاج إليها واحتج بها وإنما طعن فيها من لم يتحمل أعباء الفقه والفتوى كأبي حاتم البستي وابن حزم وغيرهما وفي هذه الحكومة أنه يقضي في الطلاق بشاهد وما يقوم مقام شاهد آخر من النكول ويمين المرأة بخلاف ما إذا أقامت شاهدا واحدا وحلف الزوج أنه لم يطلق فيمين الزوج عارضت شهادة الشاهد وترجح جانبه بكون الأصل معه وأما إذا نكل الزوج فإنه يجعل نكوله مع يمين المرأة كشاهد آخر ولكن هنا لم يقض بالشاهد ويمين المرأة ابتداء لأن الرجل أعلم بنفسه هل طلق أم لا وهو أحفظ لما وقع منه فإذا نكل وقام الشاهد الواحد وحلفت المرأة كان ذلك دليلا ظاهرا جدا على صدق المرأة.(7/109)
ص -100-…فإن قيل: ففي الأموال إذا قام شاهد وحلف المدعي حكم له ولا تعرض اليمين على المدعي عليه وفي حديث عمرو بن شعيب: "إذا شهد الشاهد الواحد وحلف الزوج أنه لم يطلق لم يحكم عليه".
قيل: هذا من تمام حكمة هذه الشريعة وجلالتها أن الزوج لما كان أعلم بنفسه هل طلق أم لا وكان أحفظ لما وقع منه وأعقل له وأعلم بينته وقد يكون قد تكلم بلفظ مجمل أو بلفظ يظنه الشاهد طلاقا وليس بطلاق والشاهد يشهد بما سمع والزوج أعلم بقصده ومراده جعل الشارع يمين الزوج معارضة لشهادة الشاهد الواحد ويقوي جانبه الأصل واستصحاب النكاح فكان الظن المستفاد من ذلك أقوى من الظن المستفاد من مجرد الشاهد الواحد فإذا نكل قوي الأصل في صدق الشاهد فقاوم ما في جانبه الزوج فقواه الشارع بيمين المرأة فإذا حلفت مع شاهدها ونكول الزوج قوي جانبها جدا فلا شيء أحسن ولا أبين ولا أعدل من هذه الحكومة وأما المال المشهود به فإن المدعي إذا قال أقرضته أو بعته أو أعرته أو قال غصبني أو نحو ذلك فهذا الأمر لا يختص بمعرفته المطلوب ولا يتعلق بنيته وقصده وليس مع المدعى عليه من شواهد صدقه ما مع الزوج من بقاء عصمة النكاح وإنما معه مجرد براءة الذمة وقد عهد كثرة اشتغالها بالمعاملات فقوى الشاهد الواحد والنكول أو يمين الطالب على رفعها فحكم له فهذا كله مما يبين حكمة الشارع وأنه يقضي بالبينة التي تبين الحق وهي الدليل الذي يدل عليه والشاهد الذي يشهد به بحسب الإمكان بل الحق أن الشاهد الواحد إذا ظهر صدقه حكم بشهادته وحده وقد أجاز النبي صلى الله عليه وسلم شهادة الشاهد الواحد لأبي قتادة بقتل المشرك ودفع إليه سلبه بشهادته وحده ولم يحلف أبا قتادة فجعله بينة تامة وأجاز شهادة خزيمة بن ثابت وحده بمبايعته للأعرابي وجعل شهادته بشهادتين(7/110)
ص -101-…لما استندت إلى تصديقه صلى الله عليه وسلم بالرسالة المتضمنة تصديقه في كل ما يخبر به فإذا شهد المسلمون بأنه صادق في خبره عن الله فبطريق الأولى يشهدون أنه صادق عن رجل من أمته ولهذا كان من تراجم بعض الأئمة على حديثه: "الحكم بشهادة الشاهد الواحد إذا عرف صدقه".
اليمين على أقوى المتداعيين
والذي جاءت به الشريعة أن اليمين تشرع من جهة أقوى المتداعيين فأي الخصمين ترجح جانبه جعلت اليمين من جهته وهذا مذهب الجمهور كأهل المدينة وفقهاء الحديث كالإمام أحمد والشافعي ومالك وغيرهم وأما أهل العراق فلا يحلفون إلا المدعي عليه وحده فلا يجعلون اليمين إلا من جانبه فقط وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه والجمهور يقولون قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى بالشاهد واليمين وثبت عنه أنه عرض الأيمان في القسامة على المدعين أولا فلما أبو جعلها من جانب المدعى عليهم وقد جعل الله سبحانه أيمان اللعان من جانب الزوج أولا فإذا نكلت المرأة عن معارضة أيمانه وجب عليها العذاب بالحد وهو العذاب المذكور في قوله وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين فإن المدعي لما ترجح جانبه بالشاهد الواحد شرعت اليمين من جهته وكذلك أولياء الدم ترجح جانبهم باللوث فشرعت اليمين من جهتهم وأكدت بالعدد تعظيما لخطر النفس وكذلك الزوج في اللعان جانبه أرجح من جانب المرأة قطعا فإن إقدامه على إتلاف فراشه ورميها بالفاحشة على رءوس الأشهاد وتعريض نفسه لعقوبة الدنيا والآخرة وفضيحة أهله ونفسه على رءوس الأشهاد مما يأباه طباع العقلاء وتنفر عنه نفوسهم لولا أن الزوجة اضطرته بما رآه وتيقنه منها(7/111)
ص -102-…إلى ذلك فجانبه أقوى من جانب المرأة قطعا فشرعت اليمين من جانبه ولهذا كان القتل في القسامة واللعان وهو قول أهل المدينة فأما فقهاء العراق فلا يقتلون لا بهذا ولا بهذا وأحمد يقتل بالقسامة دون اللعان والشافعي يقتل باللعان دون القسامة وليس في شيء من هذا ما يعارض الحديث الصحيح وهو قوله صلى الله عليه وسلم لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه فإن هذا إذا لم يكن مع المدعي إلا مجرد الدعوى فإنه لا يقضى له بمجرد الدعوى فأما إذا ترجح جانبه بشاهد أو لوث أو غيره لم يقض له بمجرد دعواه بل بالشاهد المجتمع من ترجيح جانبه ومن اليمين وقد حكم سليمان بن داود عليه السلام لإحدى المرأتين بالولد لترجح جانبها بالشفقة على الولد وإيثارها لحياته ورضى الأخرى بقتله ولم يلتفت إلى إقرارها للأخرى به وقولها: "هو ابنها" ولهذا كان من تراجم الأئمة على هذا الحديث: "التوسعة للحاكم أن يقول للشيء الذي لا يفعله أفعل" ليستبين به الحق ثم ترجم ترجمة أخرى أحسن من هذه وأفقه فقال: "الحكم بخلاف ما يعترف به المحكوم له إذا تبين للحاكم أن الحق غير ما اعترف به" فهكذا يكون فهم الأئمة من النصوص واستنباط الأحكام التي تشهد العقول والفطر بها منها ولعمر الله إن هذا هو العلم النافع لا خرص الآراء وتخمين الظنون.
فإن قيل: ففي القسامة يقبل مجرد أيمان المدعين ولا تجعل أيمان المدعى عليهم بعد أيمانهم دافعة للقتل وفي اللعان ليس كذلك بل إذا حلف الزوج مكنت المرأة أن تدفع عن نفسها بأيمانها ولا تقتل بمجرد أيمان الزوج فما الفرق.
قيل: هذا من كمال الشريعة وتمام عدلها ومحاسنها فإن المحلوف عليه في القسامة حق لآدمي وهو استحقاق الدم وقد جعلت الأيمان المكررة بينة تامة مع اللوث فإذا قامت البينة لم يلتفت إلى أيمان المدعى عليه وفي اللعان المحلوف(7/112)
ص -103-…عليه حق لله وهو حد الزنا ولم يشهد به أربعة شهود وإنما جعل الزوج أن يحلف أيمانا مكررة ومؤكدة باللعنة أنها جنت على فراشه وأفسدته فليس له شاهدا إلا نفسه وهي شهادة ضعيفة فمكنت المرأة أن تعارضها بإيمان مكررة مثلها فإذا نكلت ولم تعارضه صارت أيمان الزوج مع نكولها بينة قوية لا معارض لها ولهذا كانت الأيمان أربعة لتقوم مقام الشهود الأربعة وأكدت بالخامسة هي الدعاء على نفسه باللعنة إن كان كاذبا ففي القسامة جعل اللوث وهو الأمارة الظاهرة الدالة على أن المدعى عليهم قتلوه شاهدا وجعلت الخمسين يمينا شاهدا آخر وفي اللعان جعلت أيمان الزوج كشاهد ونكولها كشاهد آخر.
ثبوت الحقوق بأي دليل:
والمقصود أن الشارع لم يقف الحكم في حفظ الحقوق البتة على شهادة ذكرين لا في الدماء ولا في الأموال ولا في الفروج ولا في الحدود بل قد حد الخلفاء الراشدون والصحابة رضي الله عنهم في الزنا بالحبل وفي الخمر بالرائحة والقيء وكذلك إذا وجد المسروق عند السارق كان أولى بالحد من ظهور الحبل والرائحة في الخمر وكل ما يمكن أن يقال في ظهور المسروق أمكن أن يقال في الحبل والرائحة بل أولى فإن الشبهة التي تعرض في الحبل من الإكراه ووطء الشبهة وفي الرائحة لا يعرض مثلها في ظهور العين المسروقة والخلفاء الراشدون والصحابة رضي الله عنهم لم يلتفتوا إلى هذه الشبهة التي تجويز غلط الشاهد ووهمه وكذبه أظهر منها بكثير فلو عطل الحد بها لكان تعطيله بالشبهة التي تمكن في شهادة الشاهدين أولى فهذا محض الفقه والاعتبار ومصالح العباد وهو من اعظم الأدلة على جلالة فقه الصحابة وعظمته ومطابقته لمصالح العباد وحكمة الرب وشرعه وأن التفاوت الذي بين أقوالهم وأقوال من بعدهم كالتفاوت الذي بين القائلين.
حكم الحاكم بما يترجح الحق به:(7/113)
والمقصود أن الشارع صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله لم يرد خبر العدل قط لا في رواية ولا في شهادة بل قبل خبر العدل الواحد في كل موضع أخبر(7/114)
ص -104-…به كما قبل شهادته لأبي قتادة بالقتيل وقبل شهادة خزيمة وحده وقبل شهادة الأعرابي وحده على رؤية هلال رمضان وقبل شهادة الأمة السوداء وحدها على الرضاعة وقبل خبر تميم وحده وهو خبر عن أمر حسي شاهده ورآه فقبله ورواه عنه ولا فرق بينه وبين الشهادة فإن كلا منهما على أمر مستند إلى الحس والمشاهدة فتميم شهد بما رآه وعاينه وأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فصدقه وقبل خبره فأي فرق بين أن يشهد العدل الواحد على أمر رآه وعاينه يتعلق بمشهود له وعليه وبين أن يخبر بما رآه وعاينه مما يتعلق بالعموم وقد أجمع المسلمون على قبول أذان المؤذن الواحد وهو شهادة منه بدخول الوقت وخبر عنه يتعلق بالمخبر وغيره وكذلك أجمعوا على قبول فتوى المفتي الواحد وهي خبر عن حكم شرعي يعم المستفتي وغيره.
لا يلزم التعدد في الحكم كلزومه في التحمل:(7/115)
وسر المسألة أن لا يلزم من الأمر بالتعدد في جانب التحمل وحفظ الحقوق الأمر بالتعدد في جانب الحكم والثبوت فالخبر الصادق لا تأتي الشريعة برده أبدا وقد ذم الله في كتابه من كذب بالحق ورد الخبر الصادق تكذيب بالحق وكذلك الدلالة الظاهرة لا ترد إلا بما هو مثلها أو أقوى منها والله سبحانه لم يأمر برد خبر الفاسق بل بالتثبيت والتبيين فإن ظهرت الأدلة على صدقه قبل خبره وإن ظهرت الأدلة على كذبه رد خبره وإن لم يتبين واحد من الأمرين وقف خبره وقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم خبر الدليل المشترك الذي استأجره ليدله على طريق المدينة في هجرته لما ظهر له صدقه وأمانته فعلى المسلم أن يتبع هدى النبي صلى الله عليه وسلم في قبول الحق ممن جاء به من ولي وعدو وحبيب وبغيض وبر وفاجر ويرد الباطل على من قاله كائنا من كان قال عبد الله ابن صالح ثنا الليث بن سعد عن ابن عجلان عن ابن شهاب أن معاذ بن جبل كان يقول في مجلسه كل يوم قلما يخطئه أن يقول ذلك الله حكم قسط هلك المرتابون إن وراءكم فتنا يكثر فيها المال ويفتح فيها القرآن حتى يقرأه المؤمن(7/116)
ص -105-…والمنافق والمرأة والصبي والأسود والأحمر فيوشك أحدهم أن يقول: قرأت القرآن فما أظن أن يتبعوني حتى ابتدع لهم غيره فإياكم وما ابتدع فإن كل بدعة ضلالة وإياكم وزيغة الحكيم فإن الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة وإن المنافق قد يقول كلمة الحق فتلقوا الحق عن ما جاء به فإن على الحق نورا قالوا: وكيف زيغة الحكيم؟ قال: هي الكلمة تروعكم وتنكرونها وتقولون ما هذا فاحذروا زيغته ولا يصدنكم عنه فإنه يوشك أن يفيء وأن يراجع الحق وإن العلم والإيمان مكانهما إلى يوم القيامة.
ما يجب على الحاكم وما يشترط فيه:
والمقصود أن الحاكم يحكم بالحجة التي ترجح الحق إذا لم يعارضها مثلها والمطلوب منه ومن كل من يحكم بين اثنين أن يعلم ما يقع ثم يحكم فيه بما يجب فالأول مداره على الصدق والثاني مداره على العدل وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا والله عليم حكيم.
فالبينات والشهادات تظهر لعباده معلومة وبأمره وشرعه يحكم بين عباده والحكم إما إبداء وإما إنشاء فالإبداء إخبار وإثبات وهو شهادة والإنشاء أمر ونهي وتحليل وتحريم والحاكم فيه ثلاث صفات فمن جهة الإثبات هو شاهد ومن جهة الأمر والنهي هو مفت ومن جهة الإلزام بذلك هو ذو سلطان وأقل ما يشترط فيه صفات الشاهد باتفاق العلماء لأنه يجب عليه الحكم بالعدل وذلك يستلزم أن يكون عدلا في نفسه فأبو حنيفة لا يعتبر إلا العدالة والشافعي وطائفة من أصحاب أحمد يعتبرون معها الاجتهاد وأحمد يوجب تولية الأصلح فالأصلح من الموجودين وكل زمان بحسبه فيقدم الأدين العدل على الأعلم الفاجر وقضاة السنة على قضاة الجهمية وإن كان الجهمي أفقه ولما سأله المتوكل عن القضاة أرسل إليه درجا مع وزيره يذكر فيه تولية أناس وعزل أناس(7/117)
ص -106-…وامسك عن أناس وقال: لا أعرفهم وروجع في بعض من سمي لقلة علمه فقال: لو لم يولوه لولوا فلانا وفي توليته مضرة على المسلمين وكذلك أمر أن يولى على الأموال الدين السني دون الداعي إلى التعطيل لأنه يضر الناس في دينهم وسئل عن رجلين أحدهما أنكى في العدو مع شربه الخمر والآخر أدين فقال: يغزى مع الأنكى في العدو لأنه أنفع للمسلمين وبهذا مضت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان يولي الأنفع للمسلمين على من هو أفضل منه كما ولى خالد بن الوليد من حين أسلم على حروبه لنكايته في العدو وقدمه على بعض السابقين من المهاجرين والأنصار مثل عبد الرحمن بن عوف وسالم مولى أبي حذيفة وعبد الله ابن عمر وهؤلاء ممن أنفق من قبل الفتح وقاتل وهم أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وخالد وكان ممن أنفق بعد الفتح وقاتل فإنه أسلم بعد صلح الحديبية هو وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة الحجي ثم إنه فعل مع بني جذيمة ما تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم منه حين رفع يديه إلى السماء وقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد" ومع هذا فلم يعزله وكان أبو ذر من أسبق السابقين وقال له: "يا أبا ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن علي اثنين ولا تولين مال يتيم" وأمر عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل لأنه كان يقصد أخوله بني عذرة فعلم أنهم يطيعونه ما لا يطيعون غيره للقرابة وأيضا فلحسن سياسة عمرو وخبرته وذكائه ودهائه فإنه كان من أدهى العرب ودهاة العرب أربعة هو أحدهم ثم أردفه بأبي عبيدة وقال: "تطاوعا ولا تختلفا" فلما تنازعا فيمن يصلي سلم أبو عبيدة لعمرو فكان يصلي بالطائفتين وفيهم أبو بكر وأمر أسامة بن زيد مكان أبيه لأنه مع كونه خليقا للإمارة أحرص على طلب ثأر أبيه من غيره وقدم أباه زيدا في الولاية على جعفر ابن عمه مع أنه مولى ولكنه من أسبق الناس إسلاما قبل جعفر ولم يلفت إلى طعن الناس في إمارة أسامة وزيد وقال:(7/118)
ص -107-…"إن تطعنوا في إمارة أسامة فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل وأيم الله إن كان خليقا للإمارة ومن أحب الناس إلي" وأمر خالد بن سعيد بن العاص وإخوته لأنهم من كبراء قريش وساداتهم ومن السابقين الأولين ولم يتول أحد بعده.
والقصود أن هديه صلى الله عليه وسلم تولية الأنفع للمسلمين وإن كان غيره أفضل منه والحكم بما يظهر الحق ويوضحه إذا لم يكن هناك أقوى منه يعارضه فسيرته تولية الأنفع والحكم بالأظهر ولا يستطل هذا الفصل فإنه من أنفع فصول الكتاب.
شروط الصلح بين المسلمين
وقوله: "والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا" هذا مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه الترمذي وغيره من حديث عمرو بن عوف المزني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما" والمسلمون على شرطهم إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما قال الترمذي هذا حديث صحيح وقد ندب الله سبحانه وتعالى إلى الصلح بين الطائفتين في الدماء فقال: "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما" وندب الزوجين إلى الصلح عند التنازع في حقوقهما فقال {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} وقال تعالى {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} وأصلح النبي صلى الله عليه وسلم بين بني عمرو بن عوف لما وقع بينهم ولما تنازع كعب ابن مالك وابن أبي حدرد في دين على ابن أبي حدرد أصلح النبي صلى الله عليه وسلم بأن استوضع من دين كعب الشطر وغريمه بقضاء الشطر وقال لرجلين اختصما عنده: "اذهبا فاقتسما ثم توخيا الحق ثم استهما ثم ليحلل كل(7/119)
ص -108-…منكما صاحبه" وقال: "من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرض أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم وإن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه" وجوز في دم العمد أن يأخذ أولياء القتيل ما صولحوا عليه ولما استشهد عبد الله ابن حرام الأنصاري والد جابر وكان عليه دين سأل النبي صلى الله عليه وسلم غرماءه أن يقبلوا ثمر حائطه ويحللوا أباه وقال عطاء عن ابن عباس: "أنه كان لا يرى بأسا بالمخارجة" يعني الصلح في الميراث وسميت المخارجة لأن الوارث يعطي ما يصالح عليه ويخرج نفسه من الميراث وصولحت امرأة عبد الرحمن ابن عوف من نصيبها من ربع الثمن على ثمانين ألفا وقد روى مسعر عن أزهر عن محارب قال: قال عمر: "ردوا الخصوم حتى يصطلحوا فإن فصل القضاء يحدث بين القوم الضغائن" وقال عمر أيضا: "ردوا الخصوم لعلهم أن يصطلحوا فإنه آثر للصدق وأقل للخيانة" وقال عمر أيضا: "ردوا الخصوم إذا كانت بينهم قرابة فإن فصل القضاء يورث بينهم الشنآن".
فصل: الحقوق نوعان
والحقوق نوعان: حق الله وحق الآدمي فحق الله لا مدخل للصلح فيه كالحدود والزكوات والكفارات ونحوها وإنما الصلح بين العبد وبين ربه في إقامتها لا في إهمالها ولهذا لا يقبل بالحدود وإذا بلغت السلطان فلعن الله الشافع والمشفع.
وأما حقوق الآدميين فهي التي تقبل الصلح والإسقاط والمعاوضة عليها والصلح العادل هو الذي أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم كما قال: "فأصلحوا بينهما بالعدل" والصلح الجائر هو الظلم بعينه وكثير من الناس لا يعتمد العدل في الصلح بل يصلح صلحا ظالما جائرا فيصالح بين الغريمين على دون الطفيف(7/120)
ص -109-…من حق أحدهما والنبي صلى الله عليه وسلم صالح بين كعب وغريمه وصالح أعدل الصلح فأمره أن يأخذ الشطر ويدع الشطر وكذلك لما عزم على طلاق سودة رضيت بأن تهب له ليلتها وتبقي على حقها من النفقة والكسوة فهذا أعدل الصلح فإن الله سبحانه أباح للرجل أن يطلق زوجته ويستبدل بها غيرها فإذا رضيت بترك بعض حقها وأخذ بعضه وأن يمسكها كان هذا من الصلح العادل وكذلك أرشد الخصمين اللذين كانت بينهما المواريث بأن يتوخيا الحق بحسب الإمكان ثم يحلل كل منهما صاحبه وقد أمر الله سبحانه بالإصلاح بين الطائفتين المقتتلتين أولا فإن بغت إحداهما على الأخرى فحينئذ أمر بقتال الباغية لا بالصلح فإنها ظالمة ففي الإصلاح مع ظلمها هضم لحق الطائفة المظلومة وكثير من الظلمة المصلحين يصلح بين القادر الظالم والخصم الضعيف المظلوم بما يرضى به القادر صاحب الجاه ويكون له فيه الحظ ويكون الإغماض والحيف فيه على الضعيف ويظن أنه قد أصلح ولا يمكن المظلوم من أخذ حقه وهذا ظلم بل يكمن المظلوم من استيفاء حقه ثم يطلب إليه برضاه أن يترك بعض حقه يغير محاباة لصاحب الجاه ولا يشتبه بالإكراه للآخر بالمحاباة ونحوها.
فصل: الصلح نوعان
والصلح الذي يحل الحرام ويحرم الحلال كالصلح الذي يتضمن تحريم بضع حلال أو إحلال بضع حرام أو إرقاق حر أو نقل نسب أو ولاء عن محل إلى محل أو أكل ربا أو إسقاط واجب أو تعطيل حد أو ظلم ثالث وما أشبه ذلك فكل هذا صلح جائر مردود.
فالصلح الجائز بين المسلمين هو الذي يعتمد فيه رضى الله سبحانه ورضى الخصمين فهذا أعدل الصلح وأحقه وهو يعتمد العلم والعدل فيكون المصلح عالما بالوقائع عارفا بالواجب قاصدا للعدل فدرجة هذا أفضل من درجة(7/121)
ص -110-…الصائم القائم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئنكم بأفضل من درجة الصائم القائم قالوا: بلى يا رسول الله قال: إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين الحالقة أما إني أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين" وقد جاء في أثر أصلحوا بين الناس فإن الله يصلح بين المؤمنين يوم القيامة وقد قال تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.
فصل: سلطة القاضي في تأجيل الحكم
وقوله: "من ادعى حقا غائبا أو بينة فاضرب له أمدا ينتهي إليه" هذا من تمام العدل فإن المدعي قد تكون حجته أو بينته غائبة فلو عجل عليه بالحكم بطل حقه فإذا سأل أمدا تحضر فيه حجته أجيب إليه ولا يتقيد ذلك بثلاثة أيام بل بحسب الحاجة فإن ظهر عناده ومدافعته للحاكم لم يضرب له أمدا بل يفصل الحكومة فإن ضرب هذا الأمد إنما كان لتمام العدل فإذا كان فيه إبطال للعدل لم يجب إليه الخصم.
الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل:
وقوله: "ولا يمنعنك قضاء قضيت به اليوم فراجعت فيه رأيك وهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق فإن الحق قديم ولا يبطله شيء ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل" يريد إذا اجتهدت في حكومة ثم وقعت لك مرة أخرى فلا يمنعك الاجتهاد الأول من إعادته فإن الاجتهاد قد يتغير ولا يكون الاجتهاد الاول مانعا من العمل بالثاني إذا ظهر أنه الحق فإن الحق أولى بالإيثار لأنه قديم ساق على الباطل فإن كان الاجتهاد الأول قد سبق الثاني والثاني هو الحق فهو أسبق من الاجتهاد الأول لأنه قديم سابق على ما سواه ولا بيطله وقوع الاجتهاد الأول على خلانه بل الرجوع إليه أولى من التمادي على الاجتهاد الأول.(7/122)
ص -111-…قال عبد الرزاق: حدثنا معمر عن سماك بن الفضل عن وهب بن منبه عن الحكم بن مسعود القفي قال: "قضى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في امرأة توفيت وتركت زوجها وأمها وأخويها لأبيها وأمها وأخويها لأمها فأشرك عمر بين الإخوة للأم والأب والإخوة للأم في الثلث فقال له رجل: إنك لم تشرك بينهم عام كذا وكذا قال عمر: "تلك ما قضينا يومئذ وهذه على ما قضينا اليوم" فأخذ أمير المؤمنين في كلا الاجتهادين بما ظهر له أنه الحق ولم يمنعه القضاء الأول من الرجوع إلى الثاني ولم ينقض الأول بالثاني فجرى أئمة الإسلام بعده على هذين الأصلين.
متى ترد شهادة المسلم:
قوله: "والمسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجربا عليه شهادة زور أو مجلودا في حد أو ظنينا في ولاء أو قرابة" لما جعل الله سبحانه هذه الأمة أمة وسطا ليكون شهداء على الناس والوسط العدل الخيار كانوا عدولا بعضهم على بعض إلا من قام به مانع الشهادة وهو أن يكون قد جرب عليه شهادة الزور فلا يوثق بعد ذلك بشهادته أو من جلد في حد لأن الله سبحانه نهى عن قبول شهادته أو متهم بأن يجر إلى نفسه نفعا من المشهود له كشهادة السيد لعتيقه بمال أو شهادة العتيق لسيده إذا كان في عياله أو منقطعا إليه يناله نفعه وكذلك شهادة القريب لقريبه لا تقبل مع التهمة وتقبل بدونها هذا هو الصحيح.
الاختلاف في شهادة الأقارب:
وقد اختلف الفقهاء في ذلك: فمنهم من جوز شهادة القريب لقريبه مطلقا كالأجنبي ولم يجعل القرابة مانعة من الشهادة بحال كما يقوله أبو محمد بن حزم وغيره من أهل الظاهر وهؤلاء يحتجون بالعمومات التي لا تفرق بين أجنبي وقريب وهؤلاء أسعد بالعمومات ومنعت طائفة شهادة الأصول للفروع والفروع للأصول خاصة وجوزت شهادة سائر الأقارب بعضهم لبعض وهذا مذهب الشافعي وأحمد وليس مع هؤلاء نص صريح صحيح بالمنع.(7/123)
ص -112-…واحتج الشافعي بأنه لو قبلت شهادة الأب لابنه لكانت شهادة منه لنفسه لأنه منه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها" قالوا: "وكذلك بنو البنات فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحسن: "إن ابني هذا سيد" قال الشافعي: "فإذا شهد له فإنما يشهد لشيء منه" قال: وبنوه هم منه فكأنه شهد لبعضه قالوا: "والشهادة ترد بالتهمة والوالد متهم في ولده فهو ظنين في قرابته" قالوا: "وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الأولاد: "إنكم لتبخلون وتجبنون وإنكم لمن ريحان الله" وفي أثر آخر: "الولد مبخلة مجبنة" قالوا: وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك" فإذا كان مال الابن لأبيه فإذا شهد له الأب بمال كان قد شهد به لنفسه قالوا: وقد قال أبو عبيد: ثنا جرير عن معاوية عن يزيد الجزري قال: أحسبه يزيد بن سنان قال الزهري: عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ظنين في ولاء أو قرابة أو مجلود" قالوا: ولأن بينهما من البعضية والجزئية ما يمنع قبول الشهادة كما منع من إعطائه من الزكاة ومن قتله بالولد وحده بقذفه قالوا ولهذا لا يثبت له في ذمته دين عند جماعة من أهل العلم ولا يطالب به ولا يحبس من أجله قالوا: وقد قال تعالى {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ} ولم يذكر بيوت الأبناء لأنها داخلة في بيوتهم أنفسهم فاكتفى بذكرها دونها وإلا فبيوتهم أقرب من بيوت من ذكر في الآية قالوا: وقد قال تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً} أي ولدا فالولد جزء فلا تقبل شهادة الرجل في جزئه.(7/124)
قالوا: وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه" فكيف يشهد الرجل لكسبه؟ قالوا والإنسان متهم(7/125)
ص -113-…في ولده مفتون به كما قال تعالى {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} فكيف تقبل شهادة المرء لمن قد جعل مفتونا به والفتنة محل التهمة.
فصل
قال الآخرون: قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُون} وقال تعالى {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} وقد قال تعالى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وقد قال تعالى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} ولا ريب في دخول الآباء والأبناء والأقارب في هذا اللفظ كدخول الأجانب وتناولها للجميع بتناول واحد هذا مما لا يمكن دفعه ولم يستثن الله سبحانه ولا رسوله من ذلك أبا ولا ولدا ولا أخا ولا قرابة ولا أجمع المسلمون على استثناء أحد من هؤلاء فتلزم الحجة بإجماعهم.
وقد ذكر عبد الرزاق عن أبي بكر بن أبي سبرة عن أبي الزناد عن عبد الله ابن عامر بن ربيعة قال قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "تجوز شهادة الوالد لولده والولد لوالده والأخ لأخيه" وعن عمرو بن سليم الزرقي عن سعيد بن المسيب مثل هذا.
وقال ابن وهب: ثنا يونس عن الزهري قال: "لم يكن يتهم سلف المسلمين الصالح في شهادة الوالد لولده ولا الوالد لوالده ولا الأخ لأخيه ولا الزوج لامرأته ثم دخل الناس بعد ذلك فظهرت منهم أمور حملت الولاة على اتهامهم فتركت شهادة من يتهم إذا كانت من قرابة وصار ذلك من الولد والوالد والأخ والزوج والمرأة لم يتهم إلا هؤلاء في آخر الزمان".
وقال أبو عبيد حدثني الحسن بن عازب عن جده شبيب بن غرقدة قال:(7/126)
ص -114-…"كنت جالس عند شريح فأتاه علي بن كاهل وامرأة وخصم فشهد لها علي ابن كاهل وهو زوجها وشهد لها أبوها فأجاز شريح شهادتهما فقال الخصم: هذا أبوها وهذا زوجها فقال له شريح: أتعلم شيئا تجرح به شهادتهما؟ كل مسلم شهادته جائزة".
وقال عبد الرزاق: ثنا سفيان بن عيينة عن شبيب بن غرقدة قال: "سمعت شريحا أجاز لامرأة شهادة أبيها وزجها فقال له الرجل: إنه أبوها وزوجها قال شريح: فمن يشهد للمرأة إلا أبوها وزوجها؟!.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: ثنا شبابة عن ابن أبي ذئب عن سليمان قال: "شهدت لأمي عند أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم فقضى بشهادتي".
وقال عبد الرزاق: ثنا معمر عن عبد الرحمن بن عبد الله الأنصاري قال: "أجاز عمر بن عبد العزيز شهادة الابن لأبيه إذا كان عدلا".
قالوا: فهؤلاء عمر بن الخطاب وجميع السلف وشريح وعمر بن عبد العزيز وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم يجيزون شهادة الابن لأبيه والأب لابنه قال ابن حزم: وبهذا يقول إياس بن معاوية وعثمان البتي وإسحاق بن راهويه وأبو ثور والمزني وأبو سليمان وجميع أصحابنا يعني داود بن علي وأصحابه.
وقد ذكر الزهري أن الذين ردوا شهادة الابن لأبيه والأخ لأخيه هم المتأخرون وأن السلف الصالح لم يكونا يردونها.
قالوا: وأما حجتكم على المنع فمدارها على شيئين:
أحدهما: البعضية التي بين الأب وابنه وأنها توجب أن تكون شهادة أحدهما للآخر شهادة لنفسه وهذه حجة ضعيفة فإن هذه البعضية لا توجب أن تكون كبعضه في الأحكام لا في أحكام الدنيا ولا في أحكام الثواب والعقاب فلا يلزم من وجوب شيء على أحدهما أو تحريمه وجوبه على الآخر وتحريمه من جهة كونه بعضه ولا من وجوب الحد على أحدهما وجوبه على(7/127)
ص -115-…الآخر وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يجني والد على ولده" فلا يجني عليه ولا يعاقب بذنبه ولا يثاب بحسناته ولا يجب عليه الزكاة ولا الحج بغنى الآخر ثم قد أجمع الناس على صحة بيعه منه وإجارته ومضاربته ومشاركته فلو امتنعت شهادته له لكونه جزءه فيكون شاهدا لنفسه لامتنعت هذه العقود إذ يكون عاقدا لها مع نفسه.
فإن قلتم: هو متهم بشهادته له بخلاف هذه العقود فإنه لا يتهم فيها معه.
قيل: هذا عود منكم إلى المأخذ الثاني وهو مأخذ التهمة فيقال: التهمة وحدها مستقلة بالمنع سواء كان قريبا أو أجنبيا ولا ريب أن تهمة الإنسان في صديقه وعشيره ومن يعينه مودته ومحبته أعظم من تهمته في أبيه وابنه والواقع شاهد بذلك وكثير من الناس يحابي صديقه وعشيره وذا وده أعظم مما يحابي أباه وابنه.
فإن قلتم: الاعتبار بالمظنة وهي التي تنضبط بخلاف الحكمة فإنها لانتشارها وعدم انضباطها لا يمكن التعليل بها.
قيل: هذا صحيح في الأوصاف التى شهد لها الشرع بالاعتبار وعلق بها الأحكام دون م مظانها فأين علق الشارع عدم قبول الشهادة بوصف الأبوة أو النبوة أو الأخوة؟ والتابعون إنما نظروا إلى التهمة فهي الوصف المؤثر في الحكم فيجب تعليق الحكم به وجودا وعدما ولا تأثير لخصوص القرابة ولا عمومها بل قد توجد القرابة حيث لا تهمة وتوجد التهمة حيث لا قرابة والشارع إنما علق قبول الشهادة بالعدالة وكون الشاهد مرضيا وعلق عدم قبولها بالفسق ولم يعلق القبول والرد بأجنبية ولا قرابة.
قالوا: وأما قولكم: "إنه غير متهم معه في تلك العقود" فليس كذلك بل هو متهم معه في المحاباة ومع ذلك فلا يوجب ذلك إبطالها ولهذا لو باعه في(7/128)
ص -116-…مرض موته ولم يحابه لم يبطل البيع ولو حاباه بطل في قدر المحاباة فعلق البطلان بالتهمة لا بمظنته.
قالوا: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك" فلا يمنع شهادة الابن لأبيه فإن الأب ليس هو ماله لابنه ولا يدل الحديث على عدم قبول شهادة أحدهما للآخر والذي دل عليه الحديث أكثر منازعينا لا يقولون به بل عندهم أن مال الابن له حقيقة وحكما وأن الأب لا يتملك عليه منه شيئا والذي لم يدل عليه الحديث حملتوه إياه والذي دل عليه لم تقولوا به ونحن نتلقى أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها بالقبول والتسليم ونستعملها في وجوهها ولم دل قوله: "أنت ومالك لأبيك" على أن لا تقبل شهادة الولد لوالده ولا الوالد لولده لكنا أول ذاهب إلى ذلك ولما سبقتمونا إليه فأين موضع الدلالة واللام في الحديث ليست للملك قطعا وأكثرهم يقول ولا للإباحة إذ لا يباح مال الابن لأبيه ولهذا فرق بعض السلف فقال: تقبل شهادة الابن لأبيه ولا تقبل شهادة الأب لابنه وهو إحدى الروايتين عن الحسن والشعبي ونص عليه أحمد في رواية عنه ومن يقول هي للإباحة أسعد بالحديث وإلا تعطلت فائدته ودلالته ولا يلزم من إباحة أخذه ما شاء من ماله أن لا تقبل شهادته له بحال مع القطع أو ظهور انتفاء التهمة كما لو شهد له بنكاح أو حد أو مالا تلحقه به تهمة.
قالوا: وأما كونه لا يعطى من زكاته ولا يقاد به ولا يحد به ولا يثبت له في ذمته دين ولا يحبس به فالاستدلال إنما يكون بما ثبت بنص أو إجماع وليس معكم شيء من ذلك فهذه مسائل نزاع لا مسائل إجماع ولو سلم ثبوت الحكم فيها أو في بعضها لم يلزم منه عدم قبول شهادة أحدهما للآخر حيث تنتفي التهمة ولا تلازم بين قبول الشهادة وجريان القصاص وثبوت الدين له في ذمته لا عقلا ولا شرعا فإن تلك الأحكام اقتضتها الأبوة التي تمنع من مساواته(7/129)
ص -117-…للأجنبي في حده وإقادته معه وحبسه بدينه فإن منصب أبوته يأبى ذلك وقبحه مركوز في فطر الناس وما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رأوه قبيح فهو عند الله قبيح وأما الشهادة فهي خبر يعتمد الصدق والعدالة فإذا كان المخبر به صادقا مبرزا في العدالة غير متهم في الأخبار فليس قبول قوله قبيحا عند المسلمين ولا تأتي الشريعة برد خبر المخبر به واتهامه.
قالوا: والشريعة مبناها على تصديق الصادق وقبول خبره وتكذيب الكاذب والتوقف في خبر الفاسق المتهم فهي لا ترد حقا ولا تقبل باطلا.
قالوا: وأما حديث عائشة فلو ثبت لم يكن فيه دليل فإنه إنما يدل على عدم قبول شهادة المتهم في قرابته أو ذي ولاية ونحن لا نقبل شهادته إذا ظهرت تهمته ثم منازعونا لا يقولون بالحديث فإنهم لا يردون شهادة كل قرابة والحديث ليس فيه تخصيص لقرابة الإيلاد بالمنع وإنما فيه تعليق المنع بتهمة القرابة فألغيتم وصف التهمة وخصصتم وصف القرابة بفرد منها فكنا نحن أسعد بالحديث منكم وبالله التوفيق.
وقد قال محمد بن الحكم: إن أصحاب مالك يجيزون شهادة الأب والابن والأخ والزوج والزوجة على أنه وكل فلانا ولا يجيزون شهادتهم أن فلانا وكله لأن الذي يوكل لا يتهمان عليه في شيء.
وأما شهادة الأخ لأخيه فالجمهور يجيزونها وهو الذي في التهذيب من رواية ابن القاسم عن مالك إلا أن يكون في عياله وقال بعض المالكية: "لا تجوز إلا على شرط" ثم اختلف هؤلاء فقال بعضهم: "هو أن يكون مبرزا في العدالة" وقال بعضهم: "إذا لم تنله صلته" وقال أشهب: "تجوز في اليسير دون الكثير فإن كان مبرزا جاز في الكثير" وقال بعضهم: "تقبل مطلقا إلا فيما تصح فيه التهمة مثل أن يشهد له بما يكسب به الشاهد شرفا وجاها".(7/130)
ص -118-…والصحيح أنه تقبل شهادة الابن لأبيه والاب لبنه فيما لا تهمة فيه ونص عليه أحمد فعنه في المسألة ثلاث روايات المنع والقبول فيما لا تهمة فيه والتفريق بين شهادة الابن لأبيه فتقبل وشهادة الأب لابنه فلا تقبل واختار ابن المنذر القبول كالأجنبي.
وأما شهادة أحدهما على الآخر فنص الإمام أحمد على قبولها وقد دل عليه القرآن في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}.
وقد حكى بعض أصحاب محمد عنه رواية ثانية أنها لا تقبل قال صاحب المغني ولم أجد في الجامع يعني جامع الخلال خلافا عن أحمد أنها تقبل وقال بعض الشافعية: "لا تقبل شهادة الابن على أبيه في قصاص ولا حد قذف" قال: "لأنه لا يقتل بقتله ولا يحد بقذفه وهذا قياس ضعيف جدا فإن الحد والقتل في صورة المنع لكون المستحق هو الابن وهنا المستحق أجنبي".
ومما يدل على أن احتمال التهمة بين الولد ووالده لا يمنع قبول الشهادة أن شهادة الوارث لمورثه جائزة بالمال وغيره ومعلوم أن تطرق التهمة إليه مثل تطرقها إلى الولد والوالد وكذلك شهادة الابنين على أبيهما بطلاق ضرة أمهما جائزة مع أنها شهادة للأم ويتوفر حظها من الميراث ويخلو لها وجه الزوج ولم ترد هذه الشهادة باحتمال التهمة فشهادة الولد لوالده وعكسه بحيث لا تهمة هناك أولى بالقبول وهذا هو القبول الذي ندين الله به وبالله التوفيق.
فصل
شهادة الزور
وقوله: "إلا مجربا عليه شهادة الزور" يدل على أن المرة الواحدة من شهادة الزور تستقل برد الشهادة وقد قرن الله سبحانه في كتابه بين الإشراك وقول(7/131)
ص -119-…الزور قال تعالى {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} وفي الصحيحين أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله قال: الشرك بالله ثم عقوق الوالدين وكان متكئا فجلس ثم قال: ألا وقول الزور ألا وقول الزور فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت" وفي الصحيحين عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أكبر الكبائر الإشراك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين وقول الزور".
الكذب كبيرة:
ولا خلاف بين المسلمين أن شهادة الزور من الكبائر واختلف الفقهاء في الكذب في غير الشهادة هل هو من الصغائر أو من الكبائر على قولين هما روايتان عن الإمام أحمد حكاهما أبو الحسين في تمامه واحتج من جعله من الكبائر بأن الله سبحانه جعله في كتابه من صفات شر البرية وهم الكفار والمنافقون فلم يصف به إلا كافرا أو منافقا وجعله علم أهل النار وشعارهم وجعل الصدق علم أهل الجنة وشعارهم.
وفي الصحيح من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالصدق فإنه يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا" وفي الصحيحين مرفوعا: "آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان" وقال معمر عن أيوب عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما كان خلق أبغض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب ولقد كان الرجل يكذب عنده الكذبة فما تزال في نفسه حتى يعلم أنه قد أحدث منها توبة" وقال مروان الطاطري: ثنا محمد بن مسلم ثنا أيوب عن ابن أبي مليكة عن عائشة قالت: "ما كان شيء أبغض إلى(7/132)
ص -120-…رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب وما جرب على أحد كذبا فرجع إليه ما كان حتى يعرف منه توبة" حديث حسن رواه الحاكم في المستدرك من طريق ابن وهب عن محمد بن مسلم عن أيوب عن ابن سيرين عن عائشة رضي الله عنها وروى عبد الرزاق عن معمر عن موسى بن أبي شيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم: "أبطل شهادة رجل في كذبة كذبها" وهو مرسل وقد احتج به أحمد في إحدى الروايتين عنه وقال قيس بن أبي حازم: سمعت أبا بكر الصديق رضي الله عنه يقول: "إياكم والكذب فإن الكذب مجانب الإيمان" يروى موقوفا ومرفوعا وروى شعبة عن سلمة بن كهيل عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: "المسلم يطبع على كل طبيعة غير الخيانة والكذب" ويروى مرفوعا أيضا وفي المسند والترمذي من حديث خريم بن فاتك الأسدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلى صلاة الصبح فلما انصرف قام قائما قال: عدلت شهادة الزور الشرك بالله" ثلاث مرات ثم تلا هذه الآية {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} وفي المسند من حديث عبد الله ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بين الساعة تسليم الخاصة وفشو التجارة حتى تعين المرأة زوجها على التجارة وقطع الأرحام وشهادة الزور وكتمان شهادة الحق" وقال الحسن بن زياد اللؤلؤي: ثنا أبو حنيفة قال كنا عند محارب بن دثار فتقدم إليه رجلان فادعى أحدهما على الآخر مالا فجحده المدعي عليه فسأله البينة فجاء رجل فشهد عليه فقال المشهود عليه لا والله الذي لا إله إلا هو ما شهد علي بحق وما علمته إلا رجلا صالحا غير هذه الزلة فإنه فعل هذا لحقد كان في قلبه علي وكان محارب متكئا فاستوى جالسا ثم قال: يا ذا الرجل سمعت ابن عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليأتين على الناس يوم تشيب فيه الولدان وتضع الحوامل ما في بطونها وتضرب الطير بأذنابها وتضع ما في بطونها من(7/133)
شدة ذلك اليوم ولا ذنب عليها وإن شاهد الزور لا تقار قدماه على الأرض حتى يقذف به في النار" فإن كنت(7/134)
ص -121-…شدت بحق فاتق الله وأقم على شهادتك وإن كنت شهدت بباطل فاتق الله وغط رأسك واخرج من ذلك الباب وقال عبد الملك بن عمير: "كنت في مجلس محارب بن دثار وهو في قضائه حتى تقدم إليه رجلان فادعى أحدهما على الآخر حقا فأنكره فقال: ألك بينة؟ فقال: نعم ادع فلانا فقال المدعى عليه إنا لله وإنا إليه راجعون والله إن شد علي ليشهدن بزور ولئن سألتني عنه لأزكينه فلما جاء الشاهد قال محارب بن دثار حدثني عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الطير لتضرب بمناقيرها وتقذف ما في حواصلها وتحرك أذنابها من هول يوم القيامة وإن شاهد الزور لا تقار قدماه على الأرض حتى يقذف به في النار" ثم قال للرجل بم تشهد قال: كنت أشهد على شهادة وقد نسيتها أرجع فأتذكرها فانصرف ولم يشهد عليه بشيء" ورواه أبو يعلى الموصلي في مسنده فقال: ثنا محمد بن بكار ثنا زافر عن أبي علي قال: "كنت عند محارب بن دثار فاختصم إليه رجلان فشهد على أحدهما شاهد فقال الرجل: لقد شهد علي بزور ولئن سئلت عنه ليزكين وكان محارب متكئا فجلس ثم قال: سمعت عبد الله بن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزول قدما شاهد الزور من مكانهما حتى يوجب الله له النار" وللحديث طرق إلى محارب.
فصل
الحكمة في عدم سماع قول الكذاب:
وأقوى الأسباب في رد الشهادة والفتيا والرواية الكذب لأنه فساد في نفس آلة الشهادة والفتيا والرواية فهو بمثابة شهادة الأعمى على رؤية الهلال وشهادة الأصم الذي لا يسمع على إقرار المقر فإن اللسان الكذوب بمنزلة العضو الذي قد تعطل نفعه بل هو شر منه فشر ما في المرء لسان كذوب ولهذا يجعل(7/135)
ص -122-…الله سبحانه شعار الكاذب عليه يوم القيامة وشعار الكاذب على رسوله سواد وجوههم والكذب له تأثير عظيم في سواد الوجه ويكسوه برقعا من المقت يراه كل صادق فسيما الكاذب في وجهه ينادى عليه لمن له عينان والصادق يرزقه الله مهابة وجلالة فمن رآه هابه وأحبه والكاذب يرزقه إهانة ومقتا فمن رآه مقته واحتقره وبالله التوفيق.
فصل
سبب رد شهادة المجلود في حد القذف:
وقول أمير المؤمنين رضي الله عنه في كتابه: "أو مجلودا في حد" المراد به القاذف إذا حد للقذف لم تقبل شهادته بعد ذلك وهذا متفق عليه بين الأمة قبل التوبة والقرآن نص فيه وأما إذا تاب ففي قبول شهادته قولان مشهوران للعلماء: "أحدهما لا تقبل وهو قول أبي حنيفة وأصحابه وأهل العراق والثاني تقبل وهو قول الشافعي وأحمد ومالك" وقال ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس: "شهادة الفاسق لا تجوز وإن تاب" وقال القاضي إسماعيل: ثنا أبو الوليد ثنا قيس عن سالم عن قيس بن عاصم قال: "كان أبو بكرة إذا أتاه رجل يشهده قال: أشهد غيري فإن المسلمون قد فسقوني" وهذا ثابت عن مجاهد وعكرمة والحسن ومسروق الشعبي في إحدى الروايتين عنهم وهو قول شريح.
واحتج أرباب هذا القول بأن الله سبحانه أبد المنع من قبول شهادتهم بقوله: "ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا" وحكم عليهم بالفسق ثم استثنى التائبين من الفاسقين وبقي المنع من قبول الشهادة على إطلاقه وتأبيده.
قالوا: وقد روى أبو جعفر الرازي عن آدم بن فائد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تجوز شهادة خائن(7/136)
ص -123-…ولا خائنة ولا محدود في الإسلام ولا محدودة ولا ذي غمر على أخيه وله طرق إلى عمرو ورواه ابن ماجه من طريق حجاج بن أرطاة عن عمرو رواه البيهقي من طريق المثنى بن الصباح عن عمرو قالوا: وروى يزيد بن أبي زياد الدمشقي عن الزهري عن عروة عن عائشة ترفعه: "لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا مجلود في حد ولا ذي غمر لأخيه ولا مجرب عليه شهادة زور ولا ظنين في ولاء أو قرابة" وروى عن سعيد بن المسيب عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا.
قالوا: ولأن المنع من قبول شهادته جعل من تمام عقوبته ولهذا لا يترتب المنع إلا بعد الحد فلو قذف ولم يحد لا ترد شهادته ومعلوم أن الحد إنما زاده طهرة وخفف عنه إثم القذف أو رفعه فهو بعد الحد خير منه قبله ومع هذا فإنما ترد شهادته بعد الحد فردها من تمام عقوبته وحده وما كان من الحدود ولوازمها فإنه لا يسقط بالتوبة ولهذا لو تاب القاذف لم تمنع توبة إقامة الحد عليه فكذلك شهادته وقال سعيد بن جبير: "تقبل توبته فيما بينه وبين الله من العذاب العظيم ولا تقبل شهادته" وقال شريح: "لا تجوز شهادته أبدا وتوبته فيما بينه وبين ربه".
وسر المسألة أن رد شهادته جعل عقوبة لهذا الذنب فلا يسقط بالتوبة كالحد.
قال الآخرون واللفظ للشافعي: والثنيا في سياق الكلام على أول الكلام وآخره في جميع ما يذهب إليه أهل الفقه إلا أن يفرق بين ذلك خبر وأنبأنا ابن عيينة قال سمعت الزهري يقول: "زعم أهل العراق أن شهادة المحدود لا تجوز وأشهد لأخبرني فلان أن عمر قال لأبي بكرة: "تب أقبل شهادتك" قال سفيان: "نسيت اسم الذي حدث الزهري" فلما قمنا سألت من حضر فقال لي عمرو بن قيس: "هو سعيد بن المسيب" فقلت لسفيان: فهل شككت(7/137)
ص -124-…فيما قال لك؟ قال: لا هو سعيد غير شك قال الشافعي: "وكثيرا ما سمعته يحدث فيسمي سعيدا وكثيرا ما سمعته يقول: عن سعيد إن شاء الله وأخبرني به من أثق به من أهل المدينة عن ابن شهاب عن ابن المسيب أن عمر لما جلد الثلاثة استتابهم فرجع اثنان فقبل شهادتهما وأبى أبو بكرة أن يرجع فرد شهادته ورواه سليمان بن كثير عن الزهري عن ابن المسيب أن عمر قال لأبي بكرة وشبل ونافع: "من تاب منكم قبلت شهادته" وقال عبد الرزاق: ثنا محمد بن مسلم عن إبراهيم بن ميسرة عن ابن المسيب أن عمر قال للذين شهدوا على المغيرة: "توبوا تقبل شهادتكم" فتاب منهم اثنان وأبى أبو بكرة أن يتوب فكان عمر لا يقبل شهادته.
قالوا: والاستثناء عائد على جميع ما تقدمه سوى الحد فإن المسلمون مجمعون على أنه لا يسقط عن القاذف بالتوبة وقد قال أئمة اللغة: "إن الاستثناء يرجع إلى ما تقدم كله" قال أبو عبيد في كتاب القضاء: "وجماعة أهل الحجاز ومكة على قبول شهادته وأما أهل العراق فيأخذون بالقول الأول أن لا تقبل أبدا" وكلا الفريقين إنما تأولوا القرآن فيما نرى والذين لا يقبلونها يذهبون إلى أن المعنى انقطع من عند قوله: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} ثم استأنف فقال {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} فجعلوا الاستثناء من الفسق خاصة دون الشهادة وأما الآخرون فتأولوا أن الكلام تبع بعضه بعضا على نسق واحد فقال: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} فانتظم الاستثناء كل ما كان قبله.
قال أبو عبيد: وهذا عندي هو القول المعمول به لأن من قال به أكثر وهو أصح في النظر ولا يكون القول بالشيء أكثر من الفعل وليس يختلف المسلمون في الزاني المجلود أن شهادته مقبولة إذا تاب.(7/138)
ص -125-…قالوا: وأما ما ذكرتم عن ابن عباس فقد قال الشافعي: "بلغني عن ابن عباس أنه كان يجيز شهادة القاذف إذا تاب" وقال علي بن أبي طلحة عنه في قوله تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} ثم قال{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} "فمن تاب وأصلح فشهادته في كتاب الله تقبل" وقال شريك عن ابي حصين عن الشعبي: "يقبل الله توبته ولا يقبلون شهادته" وقال مطرف عنه: "إذا فرغ من ضربه فأكذب نفسه ورجع عن قوله قبلت شهادته".
قالوا: وأما تلك الآثار التي رويتموها ففيها ضعف فإن آدم بن فائد غير معروف ورواته عن عمر قسمان ثقات وضعفاء فالثقات لم يذكر أحد منهم أو مجلودا في حد وإنما ذكره الضعفاء كالمثنى بن الصباح وآدم والحجاج وحديث عائشة فيه يزيد وهو ضعيف ولو صحت الأحاديث لحملت على غير التائب فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له وقد قبل شهادته بعد التوبة عمر وابن عباس ولا يعلم لهما في الصحابة مخالف.
قالوا: وأعظم موانع الشهادة الكفر والسحر وقتل النفس وعقوق الوالدين والزنا ولو تاب من هذه الأشياء قبلت شهادته اتفاقا فالتائب من القذف أولى بالقبول.
قالوا: وأين جناية قتله من قذفه؟ قالوا: الحد يدرأ عنه عقوبة الآخرة وهو طهرة له فإن الحدود طهرة لأهلها فكيف تقبل شهادته إذا لم يتطهر بالحد وترد أطهر ما يكون فإنه بالحد والتوبة قد يطهر طهرا كاملا.
قالوا: ورد الشهادة بالقذف إنما هو مستند إلى العلة التي ذكرها الله عقيب هذا الحكم وهي الفسق وقد ارتفع الفسق بالتوبة وهو سبب الرد فيجب ارتفاع ما ترتب عليه وهو المنع.(7/139)
ص -126-…قالوا: والقاذف فاسق بقذفه حد أو لم يحد فكيف تقبل شهادته في حال فسقه وترد شهادته بعد زوال فسقه؟!.
قالوا: ولا عهد لنا في الشريعة بذنب واحد أصلا يتاب منه ويبقي أثره المترتب عليه من رد الشهادة وهل هذا إلا خلاف المعهود منها وخلاف قوله صلى الله عليه وسلم: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له" وعند هذا فيقال: توبته من القذف تنزله منزلة من لم يقذف فيجب قبول شهادته أو كما قالوا.
قال المانعون: القذف متضمن للجناية على حق الله وحق الآدمي وهو من أوفى الجرائم فناسب تغليظ الزجر ورد الشهادة من أقوى أسباب الزجر لما فيه من إيلام القلب والنكاية في النفس إذ هو عزل لولاية لسانه الذي استطال به على عرض أخيه وإبطال لها ثم هو عقوبة في محل الجناية فإن الجناية حصلت بلسانه فكان أولى بالعقوبة فيه وقد رأينا الشارع قد اعتبر هذا حيث قطع يد السارق فإنه حد مشروع في محل الجناية ولا ينتقض هذا بأن لم يجعل عقوبة الزاني بقطع العضو الذي جنى به لوجوه أحدها أنه عضو خفي مستور لا تراه العيون فلا يحصل الاعتبار المقصود من الحد بقطعه الثاني أن ذلك يفضي إلى إبطال آلات التناسل وانقطاع النوع الإنساني الثالث أن لذة البدن جميعه بالزنا كلذة العضو المخصوص فالذي نال البدن من اللذة المحرمة مثل ما نال الفرج ولهذا كان حد الخمر على جميع البدن الرابع أن قطع هذا العضو مفض إلى الهلاك وغير المحصن لا تستوجب جريمته الهلاك والمحصن إنما يناسب جريمته أشنع القتلات ولا يناسبها قطع بعض أعضائه فافترقا.
قالوا وأما قبول شهادته قبل الحد وردها بعده فلما تقدم أن رد الشهادة جعل من تمام الحد وتكملته فهو كالصفة والتتمة للحد فلا يتقدم عليه ولأن(7/140)
ص -127-…إقامة الحد عليه ينقص حاله عند الناس وتقل حرمته وهو قبل إقامة الحد قائم الحرمة غير منتهكها.
قالوا: وأم التائب من الزنا والكفر والقتل فإنما قبلنا شهادته لأن ردها كان نتيجة الفسق وقد زال بخلاف مسألتنا فإنا قد بينا أن ردها من تتمة الحد فافترقا.
قال القابلون: تغليظ الزجر لا ضابط له وقد حصلت مصلحة الزجر بالحداد وكذلك سائر الجرائم جعل الشارع مصلحة الزجر عليها بالحد وإلا فلا تطلق نساؤه ولا يؤخذ ماله ولا يعزل عن مناصبه ولا تسقط روايته لأنه أغلظ في الزجر وقد أجمع المسلمون على قبول رواية أبي بكرة رضي الله عنه وتغليظ الزجر من الأوصاف المنتشرة التي لا تنضبط وقد حصل إيلام القلب والبدن والنكاية في النفس بالضرب الذي أخذ من ظهره وأيضا فإن رد الشهادة لا ينزجر به أكثر القاذفين وإنما يتأثر بذلك وينزجر أعيان الناس وقل أن يوجد القذف من أحدهم وإنما يوجد غالبا من الرعاع والسقط ومن لا يبالي برد شهادته وقبولها وأيضا فكم من قاذف انقضى عمره وما أدى شهادة عند حاكم ومصلحة الزجر إنما تكون بمنع النفوس ما هي محتاجة إليه وهو كثير الوقوع منها ثم هذه المناسبة التي ذكرتموها يعارضها ما هو أقوى منها فإن رد الشهادة أبدا تلزم منه مفسدة فوات الحقوق على الغير وتعطيل الشهادة في محل الحاجة إليها ولا يلزم مثل ذلك في القبول فإنه لا مفسدة فيه في حق الغير من عدل تائب قد أصلح ما بينه وبين الله ولا ريب أن اعتبار مصلحة يلزم منها مفسدة أولى من اعتبار مصلحة يلزم منها عدة مفاسد في حق الشاهد وحق المشهود له وعليه والشارع له تطلع إلى حفظ الحقوق على مستحقيها بكل طريق وعدم إضاعتها فكيف يبطل حقا قد شهد به عدل مرضي مقبول الشهادة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى دينه رواية وفتوى؟!.(7/141)
ص -128-…وأما قولكم: "إن العقوبة تكون في محل الجناية" فهذا غير لازم لما تقدم من عقوبة الشارب والزاني وقد جعل الله سبحانه عقوبة هذه الجريمة على جميع البدن دون اللسان وإنما جعل عقوبة اللسان بسبب الفسق الذي هو محل التهمة فإذا زال الفسق بالتوبة فلا وجه للعقوبة بعدها.
أما قولكم: "إن رد الشهادة من تمام الحد" فليس كذلك فإن الحد تم باستيفاء عدده وسببه نفس القذف وأما رد الشهادة فحكم آخر أوجبه الفسق بالقذف لا الحد فالقذف أوجب حكمين ثبوت الفسق وحصول الحد وهما متغايران.
فصل
رد الشهادة بالتهمة:
وقوله: "أو ظنينا في ولاء أو قرابة" الظنين: المتهم والشهادة ترد بالتهمة ودل هذا على أنها لا ترد بالقرابة كما لا ترد بالولاء وإنما ترد بتهمتها وهذا هو الصواب كما تقدم وقال أبو عبيد: ثنا حجاج عن ابن جريج قال أخبرني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة عن أبي الزناد عن عبد الله بن عامر ابن ربيعة عن عمر بن الخطاب أنه قال: "تجوز شهادة الوالد لولده والولد لوالده والأخ لأخيه إذا كانوا عدولا لم يقل الله حين قال{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} إلا والدا وولدا وأخا" هذا لفظه وليس في ذلك عن عمر روايتان بل إنما منع من شهادة المتهم في قرابته وولائه وقال أبو عبيد: حدثني يحيى بن بكير عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن عمر بن عبد العزيز كتب أنه تجوز شهادة الولد لوالده وقال إسحاق بن راهويه: "لم تزل قضاة الإسلام على هذا وإنما قبل قول الشاهد لظن صدقه فإذا كان متهما عارضت التهمة الظن فبقيت البراءة الأصلية ليس لها معارض مقاوم".(7/142)
ص -129-…فصل: من تقبل شهادته
قوله: "فإن الله تبارك وتعالى تولى من العباد السرائر وستر عليهم الحدود إلا بالبينات والأيمان" يريد بذلك أن من ظهرت لنا منه علانية خير قبلنا شهادته ووكلنا سريرته إلى الله سبحانه فإن الله سبحانه لم يجعل أحكام الدنيا على السرائر بل على الظواهر والسرائر تبع لها وأما أحكام الآخرة فعلى السرائر والظواهر تبع لها.
وقد احتج بعض أهل العراق بقول عمر هذا على قبول شهادة كل مسلم لم تظهر منه ريبة وإن كان مجهول الحال فإنه قال: "والمسلمون عدول بعضهم على بعض" ثم قال: "فإن الله تعالى تولى من عباده السرائر وستر عليهم الحدود" ولا يدل كلامه على هذا المذهب بل قد روى أبو عبيد ثنا الحجاج عن المسعودي عن القاسم بن عبد الرحمن قال: قال عمر بن الخطاب: "لا يوسر أحد في الإسلام بشهداء السوء فإنا لا نقبل إلا العدول" وثنا أسحاق بن على بن مالك بن انس عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال: قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: "والله لا يوسرن رجل في الإسلام بغير العدول" ثنا إسماعيل بن ابراهيم الجريري عن أبي نضرة عن أبي فراس أن عمر بن الخطاب قال في خطبته: "من أظهر لنا خيرا ظننا به خيرا وأحببناه عليه ومن أظهر لنا شرا ظننا به شرا وأبغضناه عليه".
وقوله: "وستر عليهم الحدود" يعني المحارم وهي حدود الله التي نهى عن قربانها والحد يراد به الذنب تارة والعقوبة أخرى.
وقوله: "إلا بالبينات" يريد البينات: الأدلة والشواهد فإنه قد صح عنه الحد في الزنا بالحبل فهو بينة صادقة بل هو أصدق من الشهود(7/143)
ص -130-…وكذلك رائحة الخمر بينة على شربها عند الصحابة وفقهاء أهل المدينة وأكثر فقهاء الحديث.
وقوله: "والأيمان" يريد بها أيمان الزوج في اللعان وأيمان أولياء القتيل في القسامة وهي قائمة مقام البينة.
في القياس معناه وأقسامه:
وقوله: "ثم الفهم الفهم فيما أدلى إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة ثم قايس الأمور عند ذلك واعرف الأمثال ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق" هذا أحد ما اعتمد عليه القياسيون في الشريعة وقالوا: هذا كتاب عمر إلى أبي موسى ولم ينكره أحد من الصحابة بل كانوا متفقين على القول بالقياس وهو أحد أصول الشريعة ولا يستغني عنه فقيه.
القياس في القرآن:
وقد أرشد الله تعالى عباده إليه في غير موضع من كتابه فقاس النشأة الثانية على النشأة الأولى في الإمكان وجعل النشأة الأولى أصلا والثانية فرعا عليها وقاس حياة الأموات بعد الموت على حياة الأرض بعد موتها بالنبات وقاس الخلق الجديد الذي أنكره أعداؤه على خلق السموات والأرض وجعله من قياس الأولى كما جعل قياس النشأة الثانية على الأولى من قياس الأولى وقاس الحياة بعد الموت على اليقظة بعد النوم وضرب الأمثال وصرفها في الأنواع المختلفة وكلها أقيسة عقلية ينبه بها عباده على أن حكم الشيء حكم مثله فإن الأمثال كلها قياسات يعلم منها حكم الممثل من الممثل به وقد اشتمل القرآن على بضعة وأربعين مثلا تتضمن تشبيه الشيء بنظيره والتسوية بينهما في الحكم(7/144)
ص -131-…وقال تعالى: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} فالقياس في ضرب الأمثال من خاصة العقل وقد ركز الله في فطر الناس وعقولهم التسوية بين المتماثلين وإنكار التفريق بينهما والفرق بين المختلفين وإنكار الجميع بينهما.
قالوا: ومدار الاستدلال جميعه على التسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين فإنه إما استدلال بمعين علي معين أو بمعين على عام أو بعام على معين أو بعام على عام فهذه الأربعة هي مجامع ضروب الاستدلال.
فالاستدلال بالمعين على المعين: هو الاستدلال بالملزوم على لازمه فكل ملزوم دليل على لازمه فإن كان التلازم بين الجانبين كان كل منهما دليل على الآخر ومدلولا له وهذا النوع ثلاثة أقسام أحدهما الاستدلال بالمؤثر على الأثر والثاني الاستدلال بالأثر على المؤثر والثالث الاستدلال بأحد الأثرين على الآخر فالأول كالاستدلال بالنار على الحريق والثاني كالاستدلال بالحريق على النار والثالث كالاستدلال بالحريق على الدخان ومدار ذلك كله على التلازم فالتسوية بين المتماثلين هو الاستدلال بثبوت أحد الأثرين على الآخر وقياس الفرق هو الاستدلال بانتفاء أحد الأثرين على انتفاء الآخر أو بانتفاء اللازم على انتفاء ملزومه فلو جاز التفريق بين المتماثلين لانسدت طرق الاستدلال وغلقت أبوابه.(7/145)
قالوا: وأما الاستدلال بالمعين على العام فلا يتم إلا بالتسوية بين المتماثلين إذ لو جاز الفرق لما كان هذا المعين دليلا على الأمر العام المشترك بين الأفراد ومن هذا أدلة القرآن بتعذيب المعينين الذين عذبهم على تكذيب رسله وعصيان أمره على أن هذا الحكم عام شامل على من سلك سبيلهم واتصف بصفتهم وهو سبحانه قد نبه عباده على نفس هذا الاستدلال وتعدية هذا الخصوص إلى العموم كما قال تعالى عقيب أخباره عن عقوبات الأمم المكذبة لرسلهم وما حل بهم: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} فهذا محض(7/146)
ص -132-…تعدية الحكم إلى من عدا المذكورين بعموم العلة وإلا فلو لم يكن حكم الشيء حكم مثله لما لزمت التعدية ولا تمت الحجة ومثل هذا قوله تعالى عقيب أخباره عن عقوبة قوم عاد حين رأوا العارض في السماء فقالوا {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} فقال تعالى {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌتُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} ثم قال {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} فتأمل قوله {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} كيف تجد المعنى أن حكمكم كحكمهم وإنا إذا كنا قد أهلكناهم بمعصية رسلنا ولم يدفع عنهم ما مكنوا فيه من أسباب العيش فأنتم كذلك تسوية بين المتماثلين وأن هذا محض عدل الله بين عباده.
ومن ذلك قوله تعالى {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} فأخبر أن حكم الشيء حكم مثله.(7/147)
وكذلك كل موضع أمر الله سبحانه فيه بالسير في الأرض سواء كان السير الحسي على الأقدام والدواب أو السير المعنوي بالتفكير والاعتبار أو كان اللفظ يعمها وهو الصواب فإنه يدل على الاعتبار والحذر أن يجل بالمخاطبين ما حل بأولئك ولهذا أمر سبحانه أولي الأبصار بالاعتبار بما حل بالمكذبين ولولا أن حكم النظير حكم نظيره حتى تعبر العقول منه إليه لما حصل الاعتبار وقد نفى الله سبحانه عن حكمه وحكمته التسوية بين المختلفين في الحكم فقال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ، مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} فأخبر أن هذا حكم باطل في الفطر والعقول لا تليق نسبته إليه سبحانه وقال تعالى أم حسب الذين اجترحوا(7/148)
ص -133-…السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون وقال تعالى {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} أفلا تراه كيف ذكر العقول ونبه الفطر بما أودع فيها من إعطاء النظير حكم نظيره وعدم التسوية بين الشيء ومخالفه في الحكم وكل هذا من الميزان الذي أنزله الله مع كتابه وجعله قرينه ووزيره فقال تعالى الله {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} وقال {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} وقال تعالى {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ} فهذا الكتاب ثم قال {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} والميزان يراد به العدل والآلة التي يعرف بها العدل وما يضاده والقياس الصحيح هو الميزان فالأولى تسميته بالاسم الذي سماه الله به فإنه يدل على العدل وهو اسم مدح واجب على كل واحد في كل حال بحسب الإمكان بخلاف اسم القياس فإنه ينقسم إلى حق وباطل وممدوح ومذموم ولهذا لم يجيء في القرآن مدحه ولا ذمه ولا الأمر به ولا النهي عنه فإنه مورد تقسيم إلى صحيح وفاسد.
تقسيمات للقياس:
فالصحيح هو الميزان الذي أنزله مع كتابه.
والفاسد ما يضاده كقياس الذين قاسوا البيع على الربا بجامع ما يشتركان فيه من التراضي بالمعاوضة المالية وقياس الذين قاسوا الميتة على المذكى في جواز أكلها بجامع ما يشتركان فيه من إزهاق الروح هذا بسبب من الآدميين وهذا بفعل الله ولهذا تجد في كلام السلف ذم القياس وأنه ليس من الدين وتجد في كلامهم استعماله والاستدلال به وهذا حق وهذا حق كما سنبينه إن شاء الله تعالى.
والأقيسة المستعملة في الاستدلال ثلاثة قياس علة وقياس دلالة وقياس شبه وقد وردت كلها في القرآن.(7/149)
ص -134-…قياس العلة:
فأما قياس العلة فقد جاء في كتاب الله عز وجل في مواضع منها قوله تعالى {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فأخبر تعالى أن عيسى نظير آدم في التكوين بجامع ما يشتركان فيه من المعنى الذي تعلق به وجود سائر المخلوقات وهو مجيئها طوعا لمشيئته وتكوينه فكيف يستنكر وجود عيسى من غير أب من يقر بوجود آدم من غير أب ولا أم ووجود حواء من غير أم فآدم وعيسى نظيران يجمعهما المعنى الذي يصح تعليق الإيجاد والخلق به.
ومنها قوله تعالى {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} أي: قد كان من قبلكم أمم أمثالكم فانظروا إلى عواقبهم السيئة واعلموا أن سبب ذلك ما كان من تكذيبهم بآيات الله ورسله وهم الأصل وأنتم الفرع والعلة الجامعة التكذيب والحكم الهلاك.
ومنها قوله تعالى {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} فذكر سبحانه إهلاك من قبلنا من القرون وبين أن ذلك كان لمعنى القياس وهو ذنوبهم فهم الأصل ونحن الفرع والذنوب العلة الجامعة والحكم الهلاك فهذا محض قياس العلة وقد أكده سبحانه بضرب من الأولى وهو أن من قبلنا كانوا أقوى منا فلم تدفع عنهم قوتهم وشدتهم ما حل بهم.(7/150)
ومنه قوله تعالى {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}.
وقد اختلف في محل هذا الكاف وما يتعلق به فقيل هو رفع خبر مبتدأ(7/151)
ص -135-…محذوف أي أنتم كالذين من قبلكم وقيل: نصب بفعل محذوف تقديره فعلتم كفعل الذين من قبلكم والتشبيه على هذين القولين في أعمال الذين من قبل وقيل إن التشبيه في العذاب ثم قيل العامل محذوف أي لعنهم وعذبهم كما لعن الذين من قبل وقيل بل العامل ما تقدم أي وعد الله المنافقين كوعد الذين من قبلكم ولعنهم كلعنهم ولهم عذاب مقيم كالعذاب الذي لهم.
والمقصود أنه سبحانه ألحقهم بهم في الوعيد وسوى بينهم فيه كما تساووا في الأعمال وكونهم كانوا أشد منهم قوة وأكثر أموالا وأولادا فرق غير مؤثر فعلق الحكم بالوصف الجامع المؤثر وألغى الوصف الفارق ثم نبه على أن مشاركتهم في الأعمال اقتضت مشاركتهم في الجزاء فقال {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} فهذه هي العلة المؤثرة والوصف الجامع وقوله {أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} هو الحكم والذين من قبل هم الأصل والمخاطبون الفرع.
قال عبد الرزاق في تفسيره: أنا معمر عن الحسن في قوله{فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ} قال: "بذنبهم" ويروي عن أبي هريرة.
وقال ابن عباس: "استمتعوا بنصيبهم من الآخرة في الدنيا وقال آخرون: بنصيبهم من الدنيا".
وحقيقة الأمر أن الخلاق هو النصيب والحظ كأنه الذي خلق للإنسان وقدر له كما يقال قسمه الذي قسم له ونصيبه الذي نصب له أي أثبت وقطه الذي قط له أي قطع.
ومنه قوله تعالى {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} وقول النبي صلى الله عليه وسلم:(7/152)
ص -136-…"إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة" والآية تتناول ما ذكره السلف كله فإنه سبحانه قال: {كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً} فبتلك القوة التي كانت فيهم كانوا يستطيعون أن يعملوا للدنيا والآخرة وكذلك الأموال والأولاد وتلك القوة والأموال والأولاد هي الخلاق فاستمتعوا بقوتهم وأموالهم وأولادهم في الدنيا ونفس الأعمال التي عملوها بهذه القوة من الخلاق الذي استمتعوا به ولو أرادوا بذلك الله والدار الآخرة لكان لهم خلاق في الآخرة فتمتعهم بها أخذ حظوظهم العاجلة وهذا حال من لم يعمل إلا لدنياه سواء كان عمله من جنس العبادات أو غيرها ثم ذكر سبحانه حال الفروع فقال فاستمتعم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم فدل هذا على أن حكمهم حكمهم وأنه ينالهم ما نالهم لأن حكم النظير حكم نظيره.
ثم قال: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} فقيل الذي صفة لمصدر محذوف أي كالخوض الذي خاضوا وقيل لموصوف محذوف أي كخوض القوم الذي خاضوا وهو فاعل الخوض وقيل الذي مصدرية كما أي كخوضهم وقيل: هي موضع الذين.
البدع واتباع الهوى جالبة لكل شر:
والمقصود أنه سبحانه جمع بين الاستمتاع بالخلاق وبين الخوض بالباطل لأن فساد الدين إما أن يقع بالاعتقاد الباطل والتكلم به وهو الخوض أو يقع في العمل بخلاف الحق والصواب وهو الاستمتاع بالخلاق فالأول البدع والثاني اتباع الهوى وهذان هما أصل كل شر وفتنة وبلاء وبهما كذبت الرسل وعصي الرب ودخلت النار وحلت العقوبات فالأول من جهة الشبهات والثاني من جهة الشهوات ولهذا كان السلف يقولون: "احذروا من الناس صنفين صاحب هوى فتنه هواه وصاحب دنيا أعجبته دنياه".(7/153)
ص -137-…وكانوا يقولون: احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون فهذا يشبه المغضوب عليهم الذين يعلمون الحق ويعملون بخلافه وهذا يشبه الضالين الذين يعملون بغير علم.
وفي صفة الإمام أحمد رحمه الله: عن الدنيا ما كان أصبره وبالماضين ما كان أشبهه أتته البدع فنفاها والدنيا فأباها وهذه حال أئمة المتقين الذين وصفهم الله في كتابه بقوله: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} فبالصبر تترك الشهوات وباليقين تدفع الشبهات قال تعالى {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} وقوله تعالى {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ}.
وفي بعض المراسيل: "إن الله يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات".
فقوله تعالى {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ} إشارة إلى اتباع الشهوات وهو داء العصاة وقوله {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} إشارة إلى الشبهات وهو داء المبتدعة وأهل الأهواء والخصومات وكثيرا ما يجتمعان فقل من تجده فاسد الاعتقاد إلا وفساد اعتقاده يظهر في عمله.
والمقصود أن الله أخبر أن في هذه الأمة من يستمتع بخلاقه كما استمتع الذين من قبله بخلاقهم ويخوض كخوضهم وأنهم لهم من الذم والوعيد كما للذين من قبلهم ثم حضهم على القياس والاعتبار بمن قبلهم فقال {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.
فتأمل صحة هذا القياس وإفادته لمن علق عليه من الحكم وأن الأصل(7/154)
ص -138-…والفرع قد تساويا في المعنى الذي علق به العقاب وأكده كما تقدم بضرب من الأولى وهو شدة القوة وكثرة الأموال والأولاد فإذا لم يتعذر على الله عقاب الأقوى منهم بذنبه فكيف يتعذر عليه عقاب من هو دونه؟.
ومنه قوله تعالى {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} فهذا قياس جلي يقول سبحانه إن شئت أذهبتكم واستخلفت غيركم كما أذهبت من قبلكم واستخلفتكم فذكر أركان القياس الأربعة علة الحكم وهي عموم مشيئته وكمالها والحكم وهو إذهابه بهم وإتيانه بغير والأصل وهو من كان من قبل والفرع وهم المخاطبون.
ومنه قوله تعالى {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} فأخبر أن من قبل المكذبين أصل يعتبر به والفرع نفوسهم فإذا ساووهم في المعنى ساووهم في العاقبة.
ومن قوله تعالى{إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} فأخبر سبحانه أنه أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم إلينا كما أرسل موسى إلى فرعون وأن فرعون عصى رسوله فأخذه أخذا وبيلا فهكذا من عصى منكم محمدا صلى الله عليه وسلم وهذا في القرآن كثير جدا فقد فتح لك بابه.
فصل
قياس الدلالة:
وأما قياس الدلالة فهو الجمع بين الأصل والفرع بدليل العلة وملزومها ومنه قوله تعالى {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ(7/155)
ص -139-…اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فدل سبحانه عباده بما أراهم من الإحياء الذي تحققوه وشاهدوه على الإحياء الذي استبعدوه وذلك قياس إحياء على إحياء واعتبار الشيء بنظيره والعلة الموجبة هي عموم قدرته سبحانه وكمال حكمته وإحياء الأرض دليل العلة.
منه قوله تعالى {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} فدل بالنظير على النظير وقرب أحدهما من الآخر جدا بلفظ الإخراج أي يخرجون من الأرض أحياء كما يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي.
منه قوله تعالى {أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى}.
فبين سبحانه كيفية الخلق واختلاف أحوال الماء في الرحم إلى أن صار منه الزوجان الذكر والأنثى وذلك أمارة وجود صانع قادر على ما يشاء والله سبحانه عباده بما أحدثه في النطفة المهينة الحقيرة من الأطوار وسوقها في مراتب الكمال من مرتبة إلى مرتبة أعلى منها حتى صارت بشرا سويا في أحسن خلق وتقويم على أنه لا يحسن به أن يترك هذا البشر سدى مهملا معطلا لا يأمره ولا ينهاه ولا يقيمه في عبوديته وقد ساقه في مراتب الكمال من حين كان نطفة إلى أن صار بشرا سويا فكذلك يسوقه في مراتب كماله طبقا بعد طبق وحالا بعد حال إلى أن يصير جاره في داره يتمتع بأنواع النعيم وينظر إلى وجهه ويسمع كلامه.(7/156)
ومنه قوله سبحانه {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ(7/157)
ص -140-…رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} فأخبر سبحانه أنهما إحياءان وأن أحدهما معتبر بالآخر مقيس عليه ثم ذكر قياسا آخر أن من الأرض ما يكون أرضا طيبة فإذا أنزلنا عليها الماء أخرجت نباتها بإذن ربها ومنها ما تكون أرضا خبيثة لا تخرج نباتها إلا نكدا أي قليلا غير منتفع به فهذه إذا أنزل عليها الماء لم تخرج ما أخرجت الأرض الطيبة فشبه سبحانه الوحي الذي أنزله من السماء على القلوب بالماء الذي أنزله على الأرض بحصول الحياة بهذا وهذا وشبه القلوب بالأرض إذا هي محل الأعمال كما أن الأرض محل النبات وأن القلب الذي لا ينتفع بالوحي ولا يزكو عليه ولا يؤمن به كالأرض التي لا تنتفع بالمطر ولا تخرج نباتها به إلا قليلا لا ينفع وأن القلب الذي آمن بالوحي وزكا عليه وعمل بما فيه كالأرض التي أخرجت نباتها بالمطر فالمؤمن إذا سمع القرآن وعقله وتدبره بان أثره عليه فشبه بالبلد الطيب الذي يمرع ويخصب ويحسن أثر المطر عليه فينبت من كل زوج كريم والمعرض عن الوحي عكسه والله الموفق.(7/158)
ومنه قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} يقول سبحانه {إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} فلستم ترتابون في أنكم مخلوقون ولستم ترتابون في مبدأ خلقكم من حال إلى حال إلى حين الموت والبعث الذي وعدتم به نظير النشأة الأولى فهما نظيران في الإمكان والوقوع فإعادتكم بعد الموت خلقا جديدا كالنشأة الأولى التي لا ترتابون فيها فكيف تنكرون إحدى النشأتين مع مشاهدتكم لنظيرها؟!.
وقد أعاد الله سبحانه هذا المعنى وأبداه في كتابه وبأوجز العبارات وأدلها(7/159)
ص -141-…وأفصحها وأقطعها للعذر وألزمها للحجة كقوله تعالى {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ} فدلهم بالنشأة الأولى على الثانية وأنهم لو تذكروا لعلموا أن لا فرق بينهما في تعلق بكل واحدة منهما وقد جمع سبحانه بين النشأتين في قوله وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى وأن عليه النشأة الأخرى وفي قوله {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى} إلى قوله {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} وفي قوله {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فتضمنت هذه الآيات عشر أدلة أحدها قوله {أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ} فذكره مبدأ خلقه ليدله به على النشأة الثانية ثم أخبر أن هذا الجاحد لو ذكر خلقه لما ضرب المثل بل لما نسي خلقه ضرب المثل فتحت قوله {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} ألطف جواب وأبين دليل وهذا كما تقول لمن جحدك أن تكون قد أعطيته شيئا فلان جحدني الإحسان إليه ونسي الثياب(7/160)
التي عليه والمال الذي معه والدار التي هو فيها حيث لا يمكنه جحد أن يكون ذلك منك ثم أجيب عن سؤاله بما يتضمن أبلغ الدليل على ثبوت ما جحده فقال {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} فهذا جواب واستدلال قاطع ثم أكد هذا المعنى بالإخبار بعموم علمه لجميع الخلق فإن تعذر الإعادة عليه إنما يكون لقصور علمه أو قصور في قدرته ولا قصور في علم من هو بكل خلق عليم ولا قدرة فوق قدرته من خلق السموات والأرض وإذا أراد شيئا قال له كن(7/161)
ص -142-…فيكون وبيده ملكوت كل شيء فكيف تعجز قدرته وعلمه عن إحيائكم بعد مماتكم ولم تعجز عن النشأة الأولى ولا عن خلق السموات والأرض؟!.
ثم أرشد عباده إلى دليل واضح جلي متضمن للجواب عن شبه المنكرين بألطف الوجوه وأبينها وأقربها إلى العقل فقال {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} فإذن فهذا دليل على قدم قدرته وإخراج الأموات من قبورهم كما أخرج النار من الشجرة الخضراء وفي ذلك جواب عن شبهة من قال من منكري المعاد الموت بارد يابس والحياة طبعها الرطوبة والحرارة فإذا حل الموت بالجسم لم يمكن أن تحل فيه الحياة بعد ذلك لتضاد ما بينهما وهذه شبهة تليق بعقول المكذبين الذين لا سمع لهم ولا عقل فإن الحياة لا تجامع الموت في المحل الواحد ليلزم ما قالوا بل إذا أوجد الله فيه الحياة وطبعها ارتفع الموت وطبعه وهذا الشجر الأخضر طبعه الرطوبة والبرودة تخرج منه النار الحارة اليابسة.(7/162)
ثم ذكر ما هو أوضح للعقول من كل دليل وهو خلق السموات والأرض مع عظمهما وسعتهما وأنه لا نسبة للخلق الضعيف إليهما ومن لم تعجز قدرته وعلمه عن هذا الخلق العظيم الذي هو أكبر من خلق الناس كيف تعجز عن إحيائهم بعد موتهم ثم قرر هذا المعنى بذكر وصفين من أوصافه مستلزمين لما أخبر به فقال {بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} فكونه خلاقا عليما يقتضي أن يخلق ما يشاء ولا يعجزه ما أرداه من الخلق ثم قرر هذا المعنى بأن عموم إرادته وكمالها لا يقصر عنه ولا عن شيء أبدا فقال {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فلا يمكنه الاستعصاء عليه ولا يتعذر عليه بل يأتي طائعا منقادا لمشيئته وأرادته ثم زاده تأكيدا وإيضاحا بقوله{فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} فنزه نفسه عما نطق به أعداؤه المنكرون للمعاد معظما لها بأن ملك كل شيء بيده يتصرف فيه تصرف المالك الحق في مملوكه الذي لا يمكنه الامتناع عن أي تصرف شاءه فيه ثم ختم السورة بقوله {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} كما أنهم ابتدأوا منه(7/163)
ص -143-…هو فكذلك مرجعهم إليه فمنه المبدأ وإليه المعاد وهو الأول والآخر وأن إلى ربك المنتهى.
ومنه قوله تعالى {وَيَقُولُ الإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً أَوَلا يَذْكُرُ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} فتأمل تضمن هذه الكلمات على اختصارها وإيجازها وبلاغتها للأصل والفرع والعلة والحكم.
ومنه قوله تعالى {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} فرد عليهم سبحانه ردا يتضمن الدليل القاطع على قدرته على إعادتهم خلقا جديدا فقال {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} فلما استبعدوا أن يعيدهم الله خلقا جديدا بعد أن صاروا عظاما ورفاتا قيل لهم كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم سواء كان الموت أو السماء أو الأرض أو أي خلق استعظمتموه وكبر في صدوركم ومضمون الدليل أنكم مربوبون مخلوقون مقهورون على ما يشاء خالقكم وأنتم لا تقدرون على تغيير أحوالكم من خلقة إلى خلقة لا تقبل الاضمحلال كالحجارة والحديد ومع ذلك فلو كنتم على هذه الخلقة من القوة والشدة لنفذت أحكامي فيكم وقدرتي ومشيئتي ولم تسبقوني ولم تفوتوني كما يقول القائل لمن هو في قبضته اصعد إلى السماء فإني لاحقك أي لو صعدت إلى السماء لحقتك وعلى هذا فمعنى الآية لو كنتم حجارة أو حديدا أو أعظم خلقا من ذلك لما أعجزتموني ولما فتموني وقيل المعنى كونوا حجارة أو حديدا عند أنفسكم أي صوروا أنفسكم وقدروها خلقا لا يضمحل ولا ينحل فإنا سنميتكم ثم نحييكم ونعيدكم خلقا جديدا وبين المعنيين فرق لطيف فإن المعنى الأول يقتضي أنكم لو قدرتم على نقل خلقتكم من حالة إلى حالة هي أشد منها وأقوى لنفذت مشيئتنا وقدرتنا فيكم ولم تعجزونا فكيف وأنتم عاجزون عن(7/164)
ذلك؟(7/165)
ص -144-…والمعنى الثاني يقتضي أنكم صوروا أنفسكم وأنزلوها هذه المنزلة ثم انظروا أتفوتونا وتعجزونا أم قدرتنا ومشيئتنا محيطة بكم ولو كنتم كذلك وهذا من أبلغ البراهين القاطعة التي لا تعرض فيها شبهة البتة بل لا تجد العقول السليمة عن الإذعان والانقياد لها بدا فلما علم القوم صحة هذا البرهان وأنه ضروري انتقلوا إلى المطالبة بمن يعيدهم فقالوا من يعيدنا وهذا سواء كان سؤالا منهم عن تعيين المعيد أو إنكارا منهم له فهو من أقبح التعنت وأبينه ولهذا كان جوابه {قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} ولما علم القوم أن هذا جواب قاطع انتقلوا إلى باب آخر من التعنت وهو السؤال عن وقت هذه الإعادة فأنغضوا إليه رءوسهم وقالوا متى هو فقال تعالى {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً} فليتأمل اللبيب لطف موقع هذا الدليل واستلزامه لمدلوله استلزاما لا محيد عنه وما تضمنه من السؤالات والجواب عنها أبلغ جواب وأصحه وأوضحه فلله ما يفوت المعرضين عن تدبر القرآن المتعوضين عنه بزبالة الأذهان ونخالة الأفكار.
ومنه قوله تعالى {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} وقوله تعالى {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} جعل الله سبحانه إحياء الأرض بعد موتها نظير إحياء الأموات وإخراج النبات منها نظير إخراجهم من القبور ودل بالنظير على نظيره وجعل ذلك آية ودليلا على خمسة(7/166)
ص -145-…مطالب أحدها: وجود الصانع وأنه الحق المبين وذلك يستلزم إثبات صفات كماله وقدرته وإرادته وحياته وعلمه وحكمته ورحمته وأفعاله الثاني أنه يحي الموتى الثالث عموم قدرته على كل شيء الرابع إتيان الساعة وأنه لا ريب فيها الخامس أنه يخرج الموتى من القبور كما أخرج النبات من الأرض.
وقد كرر سبحانه ذكر هذا الدليل في كتابه مرارا لصحة مقدماته ووضوح دلالته وقرب تناوله وبعده من كل معارضة وشبهة وجعله تبصرة وذكرى كما قال تعالى {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} فالمنيب إلى ربه يتذكر بذلك فإذا تذكر تبصر به فالتذكر قبل التبصر وإن قدم عليه في اللفظ كما قال تعالى إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون والتذكر تفعل من الذكر وهو حضور صورة من المذكور في القلب فإذا استحضره القلب وشاهده على وجهه أوجب له البصيرة فأبصر ما جعل دليلا عليه فكان في حقه تبصرة وذكرى والهدى مداره على هذين الأصلين التذكر والتبصر.(7/167)
وقد دعا سبحانه الإنسان إلى أن ينظر في مبدأ خلقه ورزقه ويستدل بذلك على معاده وصدق ما أخبرت به الرسل فقال في الأول {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} فالدافق على بابه ليس فاعلا بمعنى مفعول كما يظنه بعضهم بل هو بمنزلة ماء جار وواقف وساكن ولا خلاف أن المراد بالصلب صلب الرجل واختلف في الترائب فقيل المراد به ترائبه أيضا وهي عظام الصدر ما بين الترقوة إلى الثندوة وقيل المراد ترائب المرأة والأول أظهر لأنه سبحانه قال {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} ولم يقل يخرج من الصلب والترائب فلا بد أن يكون ماء الرجل خارجا من بين هذين المختلفين(7/168)
ص -146-…كما قال في اللبن: "يخرج من بين فرث ودم" وأيضا فإنه سبحانه أخبر أنه خلقه من نطفة في غير موضع والنطفة هي ماء الرجل كذلك قال أهل اللغة قال الجوهري: "والنطفة الماء الصافي قل أو كثر والنطفة ماء الرجل والجمع نطف" وأيضا فإن الذي يوصف بالدفق والنضح إنما هو ماء الرجل ولا يقال نضحت المرأة الماء ولا دفقته والذي أوجب لأصحاب القول الآخر ذلك أنهم رأوا أهل اللغة قالوا: "الترائب موضع القلادة من الصدر" قال الزجاج: "أهل اللغة مجمعون على ذلك" وأنشدوا لامرىء القيس:
مهفهفة بيضاء غير مفاضة…ترائبها مصقولة كالسجنجل
وهذا لا يدل على اختصاص الترائب بالمرأة بل بطلق على الرجل والمرأة قال الجوهري: "الترائب عظام الصدر ما بين الترقوة والثندوة".
وقوله: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} الصحيح أن الضمير يرجع على الإنسان أي أن الله على رده إليه لقادر يوم القيامة وهو اليوم الذي تبلى فيه السرائر ومن قال أن الضمير يرجع على الماء أي إن الله على رجعه في الإحليل أو في الصدر أو حبسه عن الخروج لقادر فقد أبعد وإن كان الله سبحانه قادرا على ذلك ولكن السياق يأباه وطريقة القرآن وهي الاستدلال بالمبدأ والنشأة الأولى على المعاد والرجوع إليه وأيضا فإنه قيده بالظرف وهو {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} والمقصود أنه سبحانه دعا الإنسان أن ينظر في مبدأ خلقه ورزقه فإن ذلك يدله دلالة ظاهرة على معاده ورجوعه إلى ربه.(7/169)
ص -147-…وقال تعالى {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} فجعل سبحانه نظره في إخراج طعامه من الأرض دليلا على إخراجه هو منها بعد موته استدلالا بالنظير على النظير.
ومن ذلك قوله سبحانه ردا على الذين قالوا {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً َوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} أي مثل هؤلاء المكذبين والمراد به النشأة الثانية وهي الخلق الجديد وهي المثل المذكور في غير موضع وهم هم بأعيانهم فلا تنافي في شيء من ذلك بل هو الحق الذي دل عليه العقل والسمع ومن لم يفهم ذلك حق فهمه تخبط عليه أمر المعاد وبقي منه في أمر مريج والمقصود أنه دلهم سبحانه بخلق السموات والأرض على الإعادة والبعث وأكد هذا القياس بضرب من الأولى وهو أن خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس فالقادر على خلق ما هو أكبر وأعظم منكم أقدر على خلقكم وليس أول الخلق بأهون عليه من إعادته فليس مع المكذبين بالقيامة إلا مجرد تكذيب الله ورسوله وتعجيز قدرته ونسبة علمه إلى القصور والقدح في حكمته ولهذا يخبر الله سبحانه عمن أنكر ذلك بأنه كافر بربه جاحد له لم يقر برب العالمين فاطر السموات والأرض كما قال تعالى {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} وقال المؤمن للكافر الذي قال {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً} فقال له {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ(7/170)
نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} فمنكر المعاد كافر برب العالمين وإن زعم أنه مقر به.
ومنه قوله تعالى {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ} يقول تعالى انظروا كيف بدأت الخلق فاعتبروا الإعادة بالابتداء(7/171)
ص -148-…ومنه قوله تعالى {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} وقوله تعالى {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
وقوله {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} وقال تعالى {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} ودعا علينا والسجل الورق المكتوب فيه والكتاب نفس المكتوب واللام بمنزلة على أي نطوي السماء كطي الدرج على ما فيه من السطور المكتوبة ثم استدل على النظير بالنظير فقال {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ}.
فصل
قياس الشبه:
وأما قياس الشبه فلم يحكمه الله سبحانه إلا عن المبطلين فمنه قوله تعالى إخبارا عن إخوة يوسف أنهم قالوا لما وجدوا الصواع في رحل أخيهم {قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} فلم يجمعوا بين الأصل والفرع بعلة ولا دليلها وإنما ألحقوا أحدهما بالآخر من غير دليل جامع سوى مجرد الشبه الجامع بينه وبين يوسف فقالوا: هذا مقيس على أخيه بينهما شبه من وجوه عديدة وذاك قد سرق فكذلك هذا وهذا هو الجمع بالشبه الفارغ والقياس بالصورة المجردة عن العلة المقتضية للتساوي وهو قياس فاسد والتساوي في قرابة الأخوة ليس بعلة للتساوي في السرقة لو كانت حقا ولا دليل على التساوي فيها فيكون الجمع لنوع شبه خال عن العلة ودليلها.(7/172)
ص -149-…ومنه قوله تعالى إخبارا عن الكفار أنهم قالوا {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنَا} فاعتبروا صورة مجرد الآدمية وشبه المجانسة فيها واستدلوا بذلك على أن حكم أحد الشبهين حكم الآخر فكما لا نكون نحن رسلا فكذلك أنتم فإذا تساوينا في هذا الشبه فأنتم مثلنا لا مزية لكم علينا وهذا من أبطل القياس فإن الواقع من التخصيص والتفضيل وجعل بعض هذا النوع شريفا وبعضه دنيا وبعضه مرءوسا وبعضه رئيسا وبعضه ملكا وبعضه سوقة يبطل هذا القياس كما أشار سبحانه إلى ذلك في قوله {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}.
وأجابت الرسل عن هذا السؤال بقولهم {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} وأجاب الله سبحانه عنه بقوله {للَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} وكذلك قوله سبحانه {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ} فاعتبروا المساواة في البشرية وما هو من خصائصها من الأكل والشرب وهذا مجرد قياس شبه وجمع صوري ونظير هذا قوله ذَلِكَ {بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا}.
ومن هذا قياس المشركين الربا على البيع بمجرد الشبه الصوري ومنه قياسهم الميتة على الذكي في إباحة الأكل بمجرد الشبه.(7/173)
وبالجملة فلم يجىء هذا القياس في القرآن إلا مردودا مذموما ومن ذلك قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ(7/174)
ص -150-…أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} فبين الله سبحانه أن هذه الأصنام أشباح وصور خالية عن صفات الإلهية وأن المعنى المعتبر معدوم فيها وأنها لو دعيت لم تجب فهي صورة خالية عن أوصاف ومعان تقتضي عبادتها وزاد هذا تقريرا بقوله {لَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} أي أن جميع ما لهذه الأصنام من الأعضاء التي نحتتها أيديكم إنما هي صور عاطلة عن حقائقها وصفاتها لأن المعنى المراد المختص بالرجل هو مشيها وهو معدوم في هذه الرجل والمعنى المختص باليد هو بطشها وهو معدوم في هذه اليد والمراد بالعين إبصارها وهو معدوم في هذه العين ومن الأذن سمعها وهو معدوم فيها والصور في ذلك كله ثابتة موجودة وكلها فارغة خالية من الأوصاف والمعاني فاستوى وجودها وعدمها وهذا كله مدحض لقياس الشبه الخالي عن العلة المؤثرة والوصف المقتضي للحكم والله أعلم.
فصل: معنى المثل وحكمة ذكره في القرآن:
ومن هذا ما وقع في القرآن من الأمثال التي لا يعقلها إلا العالمون فإنها تشبيه شيء بشيء في حكمه وتقريب المعقول من المحسوس أو أحد المحسوسين من الآخر كقوله تعالى في حق المنافقين {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} إلى قوله {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فضرب للمنافقين بحسب حالهم مثلين مثلا ناريا ومثلا مائيا لما في النار والماء من الإضاءة والإشراق والحياة فإن النار مادة النور(7/175)
ص -151-…والماء مادة الحياة وقد جعل الله سبحانه الوحي الذي أنزله من السماء متضمنا لحياة القلوب واستنارتها ولهذا سماه روحا ونورا وجعل قابليه أحياء في النور ومن لم يرفع به رأسا أمواتا في الظلمات وأخبر عن حال المنافقين بالنسبة إلى حظهم من الوحي وأنهم بمنزلة من استوقد نارا لتضيء له وينتفع بها وهذا لأنهم دخلوا في الإسلام فاستضاءوا به وانتفعوا به وآمنوا به وخالطوا المسلمين ولكن لما ألم يكن لصحبتهم مادة من قلوبهم من نور الإسلام طفىء عنهم وذهب الله بنورهم ولم يقل بنارهم فإن النار فيها الإضاءة والإحراق فذهب الله بما فيها من الاضاءة وأبقى عليهم ما فيها من وتركهم في ظلمات لا يبصرون فهذا حال من أبصر ثم عمي وعرف ثم أنكر ودخل في الإسلام ثم فارقه بقلبه فهو لا يرجع ولهذا قال فهم لا يرجعون ثم ذكر حالهم بالنسبة إلى المثل المائي فشبههم بأصحاب صيب وهو المطر الذي يصوب أي ينزل من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق فلضعف بصائرهم وعقولهم اشتدت عليهم زواجر القرآن ووعيده وتهديده وأوامره ونواهيه وخطابه الذي يشبه الصواعق فحالهم كحال من أصابه مطر فيه ظلمة ورعد وبرق فلضعفه وخوره جعل أصبعيه في أذنيه وغمض عينيه خشية من صاعقة تصيبه وقد شاهدنا نحن وغيرنا كثير من مخانيث تلاميذ الجهمية والمبتدعة إذا سمعوا شيئا من آيات الصفات وأحاديث الصفات المنافية لبدعتهم رأيتهم عنها معرضين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة ويقول مخنثهم سدوا عنا هذا الباب واقرأوا شيئا غير هذا وترى قلوبهم مولية وهو يجمحون لثقل معرفة الرب سبحانه وتعالى وأسمائه وصفاته على عقولهم وقلوبهم وكذلك المشركون على اختلاف شركهم إذا جرد لهم التوحيد وتليت عليهم النصوص المبطلة لشركهم اشمأزت قلوبهم وثقلت عليهم ولو وجدوا السبيل إلى سد آذانهم لفعلوا ولذلك تجد أعداء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمعوا نصوص الثناء على الخلفاء(7/176)
ص -152-…الراشدين وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثقل ذلك عليهم جدا وأنكرته قلوبهم وهذا كله شبه ظاهر ومثل محقق من إخوانهم من المنافقين في المثل الذي ضربه الله لهم بالماء فإنهم لما تشابهت قلوبهم تشابهت أعمالهم.
فصل: المثل في حق المؤمن:
وقد ذكر الله المثلين المائي والناري في سورة الرعد ولكن في حق المؤمنين فقال تعالى {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} شبه الوحي الذي أنزله لحياة القلوب والأسماع والأبصار بالماء الذي أنزله لحياة الأرض بالنبات وشبه القلوب بالأودية فقلب كبير يسع علما عظيما كواد كبير يسع ماء كثيرا وقلب صغير إنما يسع بحسبه كالوادي الصغير فسالت أودية بقدرها واحتملت قلوب من الهدى والعلم بقدرها وكما أن السيل إذا خالط الأرض ومر عليها احتمل غثاء وزبدا فكذلك الهدى والعلم إذا خالط القلوب أثار ما فيها من الشهوات والشبهات ليقلعها ويذهبها كما يثير الدواء وقت شربه من البدن أخلاطه فيتكدر بها شاربه وهي من تمام نفع الدواء فإنه أثارها ليذهب بها فإنه لا يجامعها ولا يشاركها وهكذا يضرب الله الحق والباطل ثم ذكر المثل الناري فقال: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} وهو الخبث الذي يخرج عند سبك الذهب والفضة والنحاس والحديد فتخرجه النار وتميزه وتفصله عن الجوهر الذي ينتفع به فيرمى ويطرح ويذهب جفاء(7/177)
ص -153-…فكذلك الشهوات والشبهات يرميها قلب المؤمن ويطرحها ويجفوها كما يطرح السيل والنار ذلك الزبد والغثاء والخبث ويستقر في قرار الوادي الماء الصافي الذي يستقي منه الناس ويزرعون ويسقون أنعامهم كذلك يستقر في قرار القبل وجذره الإيمان الخالص الصافي الذي ينفع صاحبه وينتفع به غيره ومن لم يفقه هذين المثلين ولم يتدبرهما و يعرف ما يراد منهما فليس من أهلهما والله الموفق.
فصل
ومنها قوله تعالى {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} شبه سبحانه الحياة الدنيا في أنها تتزين في عين الناظر فتروقه بزينتها وتعجبه فيميل إليها ويهواها اغترارا منه بها حتى إذا ظن أنه مالك لها قادر عليها سلبها بغتة أحوج ما كان إليها وحيل بينه وبينها فشبهها بالأرض التي ينزل الغيث عليها فتعشب ويحسن نباتها ويروق منظرها للناظر فيغتر به ويظن أنه قادر عليها مالك لها فيأتيها أمر الله فتدرك نباتها الآفة بغتة فتصبح كأن لم تكن قبل فيخيب ظنه وتصبح يداه صفرا منها فكذا حال الدنيا والواثق بها سواء وهذا من أبلغ التشبيه والقياس ولما كانت الدنيا عرضة لهذه الآفات والجنة سليمة منها قال {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} فسماها هنا دار السلام لسلامتها من هذه الآفات التي ذكرها في الدنيا فعم بالدعوة إليها وخص بالهداية من يشاء فذاك عدله وهذا فضله.(7/178)
ص -154-…فصل
ومنها قوله تعالى {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ} فإنه سبحانه ذكر الكفار ووصفهم بأنهم {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} ثم ذكر المؤمنين ووصفهم بالإيمان والعمل الصالح والإخبات إلى ربهم فوصفهم بعبودية الظاهر والباطن وجعل أحد الفريقين كالأعمى والأصم من حيث كان قلبه أعمى عن رؤية الحق أصم عن سماعه فشبهه بمن بصره أعمى عن رؤية الأشياء وسمعه أصم عن سماع الأصوات والفريق الآخر بصير القلب سميعه كبصير العين وسميع الأذن فتضمنت الآية قياسين وتمثيلين للفريقين ثم نفى التسوية عن الفريقين بقوله {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً}.(7/179)
ومنها قوله تعالى {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} فذكر سبحانه أنهم ضعفاء وأن الذين اتخذوهم أولياءهم أضعف منهم فهم في ضعفهم وما قصدوه من اتخاذ الأولياء كالعنكبوت اتخذت بيتا وهو من أوهن البيوت وأضعفها وتحت هذا المثل أن هؤلاء المشركين أضعف ما كانوا حين اتخذوا من دون الله أولياء فلم يستفيدوا بمن اتخذوهم أولياء إلا ضعفا كما قال تعالى {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} وقال تعالى {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} وقال بعد أن ذكر إهلاك الأمم المشركين {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ}.(7/180)
ص -155-…فهذه أربعة مواضع في القرآن تدل على أن من اتخذ من دون الله وليا يتعزز به ويتكبر به ويستنصر به لم يحصل له به إلا ضد مقصوده وفي القرآن أكثر من ذلك وهذا من أحسن الأمثال وأدلها على بطلان الشرك وخسارة صاحبه وحصوله على ضد مقصوده.
فإن قيل: فهم يعلمون أن أوهن البيوت بيت العنكبوت فكيف نفي عنهم علم ذلك بقوله {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}.
فالجواب أنه سبحانه لم ينف عنهم علمهم بوهن بيت العنكبوت وإنما نفى عنهم علمهم بأن اتخاذهم أولياء من دونه كالعنكبوت اتخذت بيتا فلو علموا ذلك لما فعلوه ولكن ظنوا أن اتخاذهم الأولياء من دونه يفيدهم عزا وقدرة فكان الأمر بخلاف ما ظنوه.
فصل
ومنها قوله تعالى {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}.
ذكر سبحانه للكافرين مثلين: مثلا بالسراب ومثلا بالظلمات المتراكمة وذلك لأن المعرضين عن الهدى والحق نوعان أحدهما من يظن انه على شيء فيتبين له عند انكشاف الحقائق خلاف ما كان يظنه وهذه حال أهل الجهل وأهل البدع والأهواء الذين يظنون أنهم على هدى وعلم فإذا انكشفت الحقائق تبين لهم أنهم لم يكونوا على شيء وأن عقائدهم وأعمالهم التي ترتبت عليها كانت كسراب بقيعة يرى في عين الناظر ماء ولا حقيقة له وهكذا(7/181)
ص -156-…الأعمال التي لغير الله وعلى غير أمره يحسبها العامل نافعة له وليست كذلك وهذه هي الأعمال التي قال الله عز وجل فيها {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} وتأمل جعل الله سبحانه السراب بالقيعة وهي الأرض القفر الخالية من البناء والشجر والنبات والعالم فمحل السراب أرض قفر لا شيء بها والسراب لا حقيقة له وذلك مطابق لأعمالهم وقلوبهم التي أقفرت من الإيمان والهدى وتأمل ما تحت قوله {يَحْسَبُهُ الظَّمْآن} والظمآن الذي قد اشتد عطشه فرأى السراب فظنه ماء فتبعه فلم يجده شيئا بل خانه أحوج ما كان إليه فكذلك هؤلاء لما كانت أعمالهم على غير طاعة الرسول ولغير الله جعلت كالسراب فرفعت لهم أظمأ ما كانوا وأحوج ما كانوا إليها فلم يجدوا شيئا ووجدوا الله سبحانه ثم فجازاهم بأعمالهم ووفاهم حسابهم.(7/182)
وفي الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث التجلي يوم القيامة: "ثم يؤتى بجهنم تعرض كأنها السراب فيقال لليهود: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد عزير ابن الله فيقال: كذبتم لم يكن لله صاحبة ولا ولد فما تريدون قالوا: نريد أن تسقينا فيقال: اشربوا فيتساقطون في جهنم ثم يقال للنصارى: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن الله فيقال لهم: كذبتم لم يكن لله صاحبة ولا ولد فما تريدون فيقولون: نريد أن تسقينا فيقال لهم: اشربوا فيتساقطون" وذكر الحديث وهذه حال كل صاحب باطل فإنه يخونه باطله أحوج ما كان إليه فإن الباطل لا حقيقة له وهو كاسمه باطل فإذا كان الاعتقاد غير مطابق ولا حق كان متعلقه باطلا وكذلك إذا كانت غاية العمل باطلة كالعمل لغير الله أو على غير أمره بطل العمل ببطلان غايته وتضرر عامله ببطلانه وبحصول ضد ما كان يؤمله فلم يذهب عليه عمله واعتقاده لا له ولا عليه بل صار معذبا بفوات نفعه وبحصول ضد النفع فلهذا قال تعالى {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} فهذا مثل الضال الذي يحسب أنه على هدى.(7/183)
ص -157-…فصل
النوع الثاني: أصحاب مثل الظلمات المتراكمة وهم الذين عرفوا الحق والهدى وآثروا عليه ظلمات الباطل والضلال فتراكمت عليهم ظلمة الطبع وظلمة النفوس وظلمة الجهل حيث لم يعملوا بعلمهم فصاروا جاهلين وظلمة اتباع الغنى والهوى فحالهم كحال من كان في بحر لجي لا ساحل له وقد غشيه موج ومن فوق ذلك الموج موج ومن فوقه سحاب مظلم فهو في ظلمة البحر وظلمة الموج وظلمة السحاب وهذا نظير ما هو فيه من الظلمات التي لم يخرجه الله منها إلى نور الإيمان وهذان المثلان بالسراب الذي ظنه مادة الحياة وهو الماء والظلمات المضادة للنور نظير المثلين الذين ضربهما الله للمنافقين والمؤمنين وهو المثل المائي والمثل الناري وجعل حظ المؤمنين منهما الحياة والإشراق وحظ المنافقين منهما الظلمة المضادة للنور والموت المضاد للحياة فكذلك الكفار في هذين المثلين حظهم من الماء السراب الذي يغر الناظر ولا حقيقة له وحظهم الظلمات المتراكمة وهذا يجوز أن يكون المراد به حال كل طائفة من طوائف الكفار وأنهم عدموا مادة الحياة والإضاءة بإعراضهم عن الوحي فيكون المثلان صفتين لموصوف واحد ويجوز أن يكون المراد به تنويع أحوال الكفار وأن أصحاب المثل الأول هم الذين عملوا على غير علم ولا بصيرة بل على جهل وحسن ظن بالأسلاف فكانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعا وأصحاب المثل الثاني هم الذين استحبوا الضلالة على الهدى وآثروا الباطل على الحق وعموا عنه بعد أن أبصروه وجحدوه بعد أن عرفوه فهذا حال المغضوب عليهم والأول حال الضالين وحال الطائفتين مخالف لحال المنعم عليهم المذكورين في قوله تعالى {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ} إلى قوله {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} فتضمنت الآيات أوصاف الفرق الثلاثة المنعم(7/184)
عليهم وهم أهل النور(7/185)
ص -158-…والضالين هم أصحاب السراب والمغضوب عليهم وهم أهل الظلمات المتراكمة والله أعلم.
فالمثل الأول من المثلين لأصحاب العمل الباطل الذي لا ينفع والمثل الثاني لأصحاب العلم الذي لا ينفع والاعتقادات الباطلة وكلاهما مضاد للهدى ودين الحق ولهذا مثل حال الفريق الثاني في تلاطم أمواج الشكوك والشبهات والعلوم الفاسدة في قلوبهم بتلاطم أمواج البحر فيه وأنها أمواج متراكمة من فوقها سحاب مظلم وهكذا أمواج الشكوك والشبه في قلوبهم المظلمة التي قد تراكمت عليها سحب الغي والهوى والباطل فليتدبر اللبيب أحوال الفريقين وليطابق بينهما وبين المثلين يعرف عظمة القرآن وجلالته وأنه تنزيل من حكيم حميد.(7/186)
وأخبر سبحانه أن الموجب لذلك أنه لم يجعل لهم نورا بل تركهم في على الظلمة التي خلقوا فيها فلم يخرجهم منها إلى النور فإنه سبحانه ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور وفي المسند من حديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله خلق خلقه في ظلمة وألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل" فلذلك أقول: جف القلم على علم الله فالله سبحانه خلق الخلق في ظلمة فمن أراد هدايته جعل له نورا وجوديا يحي به قلبه وروحه كما يحي بدنه بالروح التي ينفخها فيه فهما حياتان: حياة البدن بالروح وحياة الروح والقلب بالنور ولهذا سمى سبحانه الوحي روحا لتوقف الحياة الحقيقية عليه كما قال تعالى {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} وقال {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} وقال تعالى {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} فجعل وحيه روحا ونورا فمن لم يحيه بهذا الروح فهو ميت ومن لم يجعل له نورا منه فهو في الظلمات ما له من نور.(7/187)
ص -159-…فصل
ومنها قوله تعالى {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} فشبه أكثر الناس بالأنعام والجامع بين النوعين التساوي في عدم قبول الهدى والانقياد له وجعل الأكثرين أضل سبيلا من الأنعام لأن البهيمة يهديها سائقها فتهتدي وتتبع الطريق فلا تحيد عنها يمينا ولا شمالا والأكثرون يدعوهم الرسل ويهدونهم السبيل فلا يستجيبون ولا يهتدون ولا يفرقون بين ما يضرهم وبين ما ينفعهم والأنعام تفرق بين ما يضرها من النبات والطريق فتتجنبه وما ينفعها فتؤثره والله تعالى لم يخلق للأنعام قلوبا تعقل بها ولا ألسنة تنطق بها وأعطى ذلك لهؤلاء ثم لم ينتفعوا بما جعل لهم من العقول والقلوب والألسنة والأسماع والأبصار فهم أضل من البهائم فإن من لا يهتدي إلى الرشد وإلى الطريق مع الدليل إليه أضل وأسوأ حالا ممن لا يهتدي حيث لا دليل معه.
فصل
ومنها قوله تعالى {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وهذا دليل قياس احتج الله سبحانه به على المشركين حيث جعلوا له من عبيده وملكه شركاء فأقام عليهم حجة يعرفون صحتها من نفوسهم لا يحتاجون فيها إلى غيرهم ومن أبلغ الحجاج أن يأخذ الإنسان من نفسه ويحتج عليه بما هو في نفسه مقرر عندها معلوم لها فقال هل لكم مما ملكت أيمانكم من عبيدكم وإمائكم شركاء في المال والأهل أي هل يشارككم عبيدكم في أموالكم وأهليكم فأنتم وهم في ذلك(7/188)
ص -160-…سواء تخافون أن يقاسموكم أموالكم ويشاطروكم إياها ويستأثرون ببعضها عليكم كما يخاف الشريك شريكه وقال ابن عباس: "تخافونهم أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضا" والمعنى هل يرضى أحد منكم أن يكون عبده شريكه في ماله وأهله حتى يساويه في التصرف في ذلك فهو يخاف أن ينفرد في ماله بأمر يتصرف فيه كما يخاف غيره من الشركاء والأحرار فإذا لم ترضوا ذلك لأنفسكم فلم عدلتم بي من خلقي من هو مملوك لي فإن كان هذا الحكم باطلا في فطركم وعقولكم مع أنه جائز عليكم ممكن في حقكم إذ ليس عبيدكم ملكا لكم حقيقة وإنما هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم وأنتم وهم عبيد لي فكيف تستجيزون مثل هذا الحكم في حقي مع أن من جعلتموهم لي شركاء عبيدي وملكي وخلقي فهكذا يكون تفصيل الآيات لأولي العقول.
فصل
قياس الطرد وقياس العكس:
ومنها قوله تعالى {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} هذان مثلان متضمنان قياسين من قياس العكس وهو نفي الحكم لنفي علته وموجبه فإن القياس نوعان قياس طرد يقتضي إثبات الحكم في الفرع لثبوت علة الأصل فيه وقياس عكس يقتضي نفي الحكم عن الفرع لنفي علة الحكم فيه فالمثل الأول ما ضربه الله سبحانه لنفسه وللأوثان فالله سبحانه هو المالك لكل شيء ينفق كيف يشاء على عبيده سرا وجهرا وليلا ونهارا يمينه ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار والأوثان مملوكة عاجزة لا تقدر على شيء فكيف يجعلونها شركاء لي ويعبدونها من دوني(7/189)
ص -161-…مع هذا التفاوت العظيم والفرق المبين هذا قول مجاهد وغيره وقال ابن عباس: "هو مثل ضربه الله للمؤمن والكافر ومثل المؤمن في الخير الذي عنده ثم رزقه منه رزقا حسنا فهو ينفق منه على نفسه وعلى غيره سرا وجهرا والكافر بمنزلة عبد مملوك عاجز لا يقدر على شيء لأنه لا خير عنده" فهل يستوي الرجلان عند أحد من العقلاء؟ والقول الأول أشبه بالمراد فإنه أظهر في بطلان الشرك وأوضح عند المخاطب وأعظم في إقامة الحجة وأقرب نسبا بقوله {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} ثم قال {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} ومن لوازم هذا المثل وأحكامه أن يكون المؤمن الموجد كمن رزقه منه رزقا حسنا والكافر المشرك كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء فهذا ما نبه عليه المثل وأرشد إليه فذكره ابن عباس منبها على إرادته لا أن الآية اختصت به فتأمله فإنك تجده كثيرا في كلام ابن عباس وغيره من السلف في فهم القرآن فيظن الظان أن ذلك هو معنى الآية التي لا معنى لها غيره فيحكيه قوله.
فصل
وأما المثل الثاني فهو مثل ضربه الله سبحانه وتعالى لنفسه ولما يعبد من دونه أيضا فالصنم الذي يعبد من دونه بمنزلة رجل أبكم لا يعقل ولا ينطق بل هو أبكم القلب واللسان قد عدم النطق القلبي واللساني ومع هذا فهو عاجز لا يقدر على شيء البتة ومع هذا فأينما أرسلته لا يأتيك بخير ولا يقضي لك حاجة والله سبحانه حي قادر متكلم يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم وهذا وصف له بغاية الكمال والحمد فإن أمره بالعدل وهو الحق يتضمن أنه(7/190)
ص -162-…سبحانه عالم به معلم له راض به آمر لعباده به محب لأهله لا يأمر بسواه بل تنزه عن ضده الذي هو الجور والظلم والسفه والباطل بل أمره وشرعه عدل كله وأهل العدل هم أولياؤه وأحباؤه وهو المجاورون له عن يمينه على منابر من نور وأمره بالعدل يتناول الأمر الشرعي الديني والأمر القدري الكوني وكلاهما عدل لا جور فيه بوجه ما كما في الحديث الصحيح: "اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك" فقضاؤه هو أمره الكوني {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فلا يأمر إلا بحق وعدل وقضاؤه وقدره القائم به حق وعدل وإن كان في المقضي المقدر ما هو جور وظلم فالقضاء غير المقضي والقدر غير المقدر ثم أخبر سبحانه أنه على صراط مستقيم وهذا نظير قول رسوله شعيب {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فقوله {وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} نظير قوله ناصيتي بيدك وقوله {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} نظير قوله: "عدل في قضاؤك" فالأول ملكه والثاني حمده وهو سبحانه له الملك وله الحمد وكونه سبحانه على صراط مستقيم يقتضي أنه لا يقول إلا الحق ولا يأمر إلا بالعدل ولا يفعل إلا ما هو مصلحة ورحمة وحكمة وعدل فهو على الحق في أقواله وأفعاله فلا يقضي يقضى على العبد بما يكون ظالما له به ولا يأخذه بغير ذنبه ولا ينقصه من حسناته شيئا ولا يحمل عليه من سيئات غيره التي لم يعملها ولم يتسبب إليها شيئا ولا يؤاخذ أحدا بذنب غيره ولا يفعل قط ما لا يحمد عليه ويثنى به عليه ويكون له فيه العواقب الحميدة والغايات المطلوبة فإن كونه على صراط مستقيم يأبى ذلك كله.
قال محمد بن جرير الطبري وقوله {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} يقول:(7/191)
ص -163-…إن ربي على طريق الحق يجازي المحسن من خلقه بإحسانه والمسيء بإساءته لا يظلم أحدا منهم شيئا ولا يقبل منهم إلا الإسلام له والإيمان به ثم حكى عن مجاهد من طريق شبل بن أبي نجيح عنه: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} قال: "الحق" وكذلك رواه ابن جريج عنه.
وقالت فرقة: هي مثل قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} وهذا اختلاف عبارة فإن كونه بالمرصاد هو مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
وقالت فرقة: في الكلام حذف تقديره: إن ربي يحثكم على صراط مستقيم ويحضكم عليه وهؤلاء إن أرادوا أن هذا معنى الآية التي أريد بها فليس كما زعموا ولا دليل على هذا المقدر وقد فرق سبحانه بين كونه آمرا بالعدل وبين كونه على صراط مستقيم وإن أرادوا أن حثه على الصراط المستقيم من جملة كونه على صراط مستقيم فقد أصابوا.
وقالت فرقة أخرى: معنى كونه على صراط مستقيم أن مراد العباد والأمور كلها إلى الله لا يفوته شيء منها وهؤلاء إن أرادوا أن هذا معنى الآية فليس كذلك وإن أرادوا أن هذا من لوازم كونه على صراط مستقيم ومن مقتضاه وموجبه فهو حق.
وقالت فرقة أخرى: معناه كل شيء تحت قدرته وقهره وفي ملكه وقبضته وهذا وإن كان حقا فليس هو معنى الآية وقد فرق شعيب بين قوله ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها وبين قوله {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فهما معنيان مستقلان.
فالقول قول مجاهد وهو قول أئمة التفسير ولا تحتمل العربية غيره إلا على استكراه وقال جرير يمدح عمر بن عبد العزيز:(7/192)
ص -164-…أمير المؤمنين على صراط إذا اعوج الموارد مستقيم
وقد قال تعالى {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وإذا كان سبحانه هو الذي جعل رسله وأتباعهم على الصراط المستقيم في أقوالهم وأفعالهم فهو سبحانه أحق بأن يكون على صراط مستقيم في قوله وفعله وإن كان صراط الرسل وأتباعهم هو موافقة أمره فصراطه الذي هو سبحانه عليه هو ما يقتضيه حمده وكماله ومجده من قول الحق وفعله وبالله التوفيق.
فصل
وفي الآية قول ثان مثل الأية سواء أنه مثل ضربه الله للمؤمن والكافر وقد تقدم ما في هذا القول وبالله التوفيق.
فصل
ومنها قوله تعالى في تشبيه من أعرض عن كلامه وتدبره {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} شبههم في إعراضهم ونفورهم عن القرآن بحمر رأت الأسد أو الرماة ففرت منه وهذا من بديع القياس والتمثيل فإن القوم في جهلهم بما بعث الله به رسوله كالحمر وهي لا تعقل شيئا فإذا سمعت صوت الأسد أو الرامي نفرت منه أشد النفور وهذا غاية الذم لهؤلاء فإنهم نفروا عن الهدى الذي فيه سعادتهم وحياتهم كنفور الحمر عما يهلكها ويعقرها وتحت المستنفرة معنى أبلغ من النافرة فإنها لشدة نفورها قد استنفر بعضها بعضا وحضه على النفور فإن في الاستفعال من الطلب قدرا زائدا على الفعل المجرد فكأنها تواصت بالنفور وتواطأت عليه ومن قرأها بفتح الفاء فالمعنى أن القسورة استنفرها وحملها على النفور ببأسه وشدته.(7/193)
ص -165-…فصل
ومنها قوله تعالى {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} فقاس من حمله سبحانه كتابه ليؤمن به ويتدبره ويعمل به ويدعو إليه ثم خالف ذلك ولم يحمله إلا على ظهر قلب فقراءته بغير تدبر ولا تفهم ولا اتباع له ولا تحكيم له وعمل بموجبه كحمار على ظهره زاملة أسفار لا يدري ما فيها وحظه منها حمله على ظهره ليس إلا فحظه من كتاب الله كحظ هذا الحمار من الكتب التي على ظهره فهذا المثل وإن كان قد ضرب لليهود فهو متناول من حيث المعنى لمن حمل القرآن فترك العمل به ولم يؤد حقه ولم يرعه حق رعايته.
فصل
ومنها قوله تعالى {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} فشبه سبحانه من أتاه كتابه وعلمه العلم الذي منعه غيره فترك العمل به واتبع هواه وآثر سخط الله على رضاه ودنياه على آخرته والمخلوق على الخالق بالكلب الذي هو من أخبث الحيوانات وأوضعها قدرا وأخسها نفسا وهمته لا تتعدى بطنه وأشدها شرها وحرصا ومن حرصه أنه لا يمشي إلا وخطمه في الأرض بتشمم ويستروح حرصا وشرها ولا يزال يشم دبره دون سائر أجزائه وإذا رميت(7/194)
ص -166-…إليه بحجر رجع إليه ليعضه من فرط نهمته وهو من أمهن الحيوانات وأحملها للهوان وأرضاها بالدنايا والجيف القذرة المروحة أحب إليه من اللحم الطري والعذرة أحب إليه من الحلوى وإذا ظفر بميتة تكفي مائة كلب لم يدع كلبا واحدا يتناول منها شيئا إلا هر عليه وقهره لحرصه وبخله وشرهه ومن عجيب أمره وحرصه أنه إذا رأى ذا هيئة رثة وثياب دنية وحال زرية نبحه وحمل عليه كأنه يتصور مشاركته له ومنازعته في قوته وإذا رأى ذا هيئة حسنة وثياب جميلة ورياسة وضع له خطمه بالأرض وخضع له ولم يرفع إليه رأسه.
وفي تشبيه من آثر الدنيا وعاجلها على الله والدار الآخرة مع وفور علمه بالكلب في حال لهثه سر بديع وهو أن الذي حاله ما ذكره الله من انسلاخه من آياته واتباعه هواه إنما كان لشدة لهفه على الدنيا لانقطاع قلبه عن الله والدار الآخرة فهو شديد اللهف عليها ولهفه نظير لهف الكلب الدائم في حال إزعاجه وتركه واللهف واللهث شقيقان وأخوان في اللفظ والمعنى قال ابن جريج الكلب منقطع الفؤاد لا فؤاد له إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث فهو مثل الذي يترك الهدى لا فؤاد له إنما فؤاده منقطع قلت مراده بانقطاع فؤاده أنه ليس له فؤاد يحمله على الصبر وترك اللهث وهكذا الذي انسلخ من آيات الله لم يبق معه فؤاد يحمله على الصبر عن الدنيا وترك اللهف عليها فهذا يلهف على الدنيا من قلة صبره عنها وهذا يلهث من قلة صبره عن الماء فالكلب من أقل الحيوانات صبرا عن الماء وإذا عطش أكل الثرى من العطش وإن كان فيه صبر على الجوع وعلى كل حال فهو من أشد الحيوانات لهثا يلهث قائما وقاعدا وماشيا وواقفا وذلك لشدة حرصه فحرارة الحرص في كبده توجب له دوام اللهث فهكذا مشبهه شدة الحرص وحرارة الشهوة في قلبه توجب له دوام اللهف فإن حملت عليه(7/195)
ص -167-…الموعظة والنصيحة فهو يلهف وإن تركته ولم تعظه فهو يلهف قال مجاهد وذلك مثل الذي أوتي الكتاب ولم يعمل به وقال ابن عباس: "إن تحمل عليه الحكمة لم يحملها وإن تركته لم يهتد إلى خير كالكلب إن كان رابضا لهث وإن طرد لهث" وقال الحسن: "هو المنافق لا يثبت على الحق دعي أو لم يدع وعظ أو لم يوعظ كالكلب يلهث طرد أو ترك" وقال عطاء: "ينبح إن حملت عليه أو لم تحمل عليه" وقال أبو محمد بن قتيبة: "كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب فإنه يلهث في حال الكلال وحال الراحة وحال الصحة وحال المرض والعطش فضربه الله مثلا لمن كذب بآياته" وقال: "إن وعظته فهو ضال وإن تركته فهو ضال كالكلب إن طردته لهث وإن تركته على حاله لهث" ونظيره قوله سبحانه {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ}.(7/196)
وتأمل ما في هذا المثل من الحكم والمعنى فمنها قوله {آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} فأخبر سبحانه أنه هو الذي آتاه آياته فإنها نعمة والله هو الذي أنعم بها عليه فأضافها إلى نفسه ثم قال: {فَانْسَلَخَ مِنْهَا} أي خرج منها كما تنسلخ الحية من جلدها وفارقها فراق الجلد يسلخ عن اللحم ولم يقل فسلخناه منها لأنه هو الذي تسبب إلى انسلاخه منها باتباع هواه ومنها قوله سبحانه: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} أي لحقه وأدركه كما قال في قوم فرعون: {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} وكان محفوظا محروسا بآيات الله محمي الجانب بها من الشيطان لا ينال منه شيئا إلا على غرة وخطفة فلما انسلخ من آيات الله ظفر به الشيطان ظفر الأسد بفريسته فكان من الغاوين العاملين بخلاف علمهم الذين يعرفون الحق ويعملون بخلافه كعلماء السوء ومنها أنه سبحانه قال: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} فأخبر سبحانه أن الرفعة عنده ليست بمجرد العلم فإن هذا كان من العلماء وإنما هي باتباع الحق وإيثاره وقصد مرضاة الله فإن هذا كان من أعلم أهل زمانه ولم يرفعه الله بعلمه ولم ينفعه به(7/197)
ص -168-…فنعوذ بالله من علم لا ينفع وأخبر سبحانه أنه هو الذي يرفع عبده إذا شاء بما آتاه من العلم وإن لم يرفعه الله فهو موضوع لا يرفع أحد به رأسا فإن الخافض الرافع سبحانه خفضه ولم يرفعه والمعنى لو شئنا فضلناه وشرفناه ورفعنا قدره ومنزلته بالآيات التي آتيناه قال ابن عباس: "ولو شئنا لرفعناه بعمله بها" وقالت طائفة الضمير في قوله {لَرَفَعْنَاهُ}: "عائد على الكفر" والمعنى لو شئنا لرفعنا عنه الكفر بما معه من آياتنا قال مجاهد وعطاء: "لرفعنا عنه الكفر بالإيمان وعصمناه" وهذا المعنى حق والأول هو مراد الآية وهذا من لوازم المراد وقد تقدم أن السلف كثيرا ما ينبهون على لازم معنى الآية فيظن الظان أن ذلك هو المراد منها وقوله {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ} قال سعيد بن جبير: "ركن إلى الأرض" وقال مجاهد: "سكن" وقال مقاتل: "رضي بالدنيا" وقال أبو عبيدة: "لزمها وأبطأ والمخلد من الرجال هو الذي يبطيء مشيته ومن الدواب التي تبقى ثناياه إلى أن تخرج رباعيته" وقال الزجاج: "خلد وأخلد وأصله من الخلود وهو الدوام والبقاء" ويقال: أخلد فلان بالمكان إذا أقام به قال مالك بن نويرة:
بأبناء حي من قبائل مالك… وعمرو بن يربوع أقاموا فأخلدوا
قلت: ومنه قوله تعالى {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} أي قد خلقوا للبقاء لذلك لا يتغيرون ولا يكبرون وهم على سن واحد أبدا وقيل هم المقرطون في آذانهم والمسورون في أيديهم وأصحاب هذا القول فسروا اللفظة ببعض لوازمها وذلك أمارة التخليد على ذلك السن فلا تنافي بين القولين وقوله: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} قال الكلبي اتبع مسافل الأمور وترك معاليها وقال أبو روق اختار الدنيا على الآخرة وقال عطاء: "أراد الدنيا وأطاع شيطانه" وقال ابن دريد: "كان هواه مع القوم" يعني الذين حاربوا موسى وقومه وقال يمان: "اتبع امرأته لأنها هي التي حملته على ما فعل"(7/198)
ص -169-…فإن قيل: الاستدراك بلكن يقتضي أن يثبت بعدها ما نفي قبلها أو ينفي ما أثبت كما تقول: لو شئت لأعطيته لكني لم أعطه ولو شئت لما فعلت كذا لكني فعلته فالاستدراك يقتضي ولو شئنا لرفعناه بها ولكنا لم نشأ أو لم نرفع فكيف استدرك بقوله: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} بعد قوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا}.
قيل: هذا من الكلام الملحوظ فيه جانب المعنى المعدول فيه عن مراعاة الألفاظ إلى المعاني وذلك أن مضمون قوله {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا } أنه لم يتعاط الأسباب التي تقتضي رفعه بالآيات من إيثار الله ومرضاته على هواه ولكنه آثر الدنيا وأخلد إلى الأرض واتبع هواه.
وقال الزمخشري: المعنى: لو لزم آياتنا لرفعناه بها فذكر المشيئة والمراد ما هي تابعة له ومسببة عنه كأنه قيل: ولو لزمها لرفعناه بها قال: ألا ترى إلى قوله {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ} فاستدرك المشيئة بإخلاده الذي هو فعله فوجب أن يكون {وَلَوْ شِئْنَا} في معنى ما هو فعله ولو كان الكلام على ظاهره لوجب أن يقال لو شئنا لرفعناه ولكنا لم نشأ فهذا منه شنشنة نعرفها من قدري ناف للمشيئة العامة مبعد للنجعة في جعل كلام الله معتزليا قدريا فأين قوله: {وَلَوْ شِئْنَا} من قوله ولو لزمها ثم إذا كان اللزوم لها موقوفا على مشيئة الله وهو الحق بطل أصله وقوله: "إن مشيئة الله تابعة للزومه الآيات" من أفسد الكلام وأبطله بل لزومه لآياته تابع لمشيئة الله فمشيئة الله سبحانه متبوعة لا تابعة وسبب لا مسبب وموجب مقتض لا مقتضى فما شاء الله وجب وجوده ولم لم يشأ امتنع وجوده.
فصل
ومنها قوله تعالى{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ(7/199)
ص -170-…الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} وهذا من أحسن القياس التمثيلي فإنه شبه تمزيق عرض الأخ بتمزيق لحمه ولما كان المرتاب يمزق عرض أخيه في غيبته كان بمنزلة من يقطع لحمه في حال غيبة روحه عنه بالموت ولما كان المغتاب عاجزا عن دفعه عن نفسه بكونه غائبا عن ذمه كان بمنزلة الميت الذي يقطع لحمه ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه ولما كان مقتضى الأخوة التراحم والتواصل والتناصر فعلق عليها المغتاب ضد مقتضاها من الذم والعيب والطعن كان ذلك نظير تقطيع لحم أخيه والأخوة تقتضي حفظه وصيانته والذب عنه ولما كان المغتاب متمتعا بعرض أخيه متفكها بغيبته وذمه متحليا بذلك شبه بآكل لحم أخيه بعد تقطيعه ولما كان المغتاب محبا لذلك معجبا به شبه بمن يحب أن يأكل لحم أخيه ميتا ومحبته لذلك قدر زائد على مجرد أكله كما أن أكله قدر زائد على تمزيقه.
فتأمل هذا التشبيه والتمثيل وحسن موقعه ومطابقة المعقول فيه المحسوس وتأمل إخباره عنهم بكراهة أكل لحم الأخ ميتا ووصفهم بذلك في آخر الآية والإنكار عليهم في أولها أن يحب أحدهم ذلك فكما أن هذا مكروه في طباعهم فكيف يحبون ما هو مثله ونظيره فاحتج عليهم بما كرهوه على ما أحبوه وشبه لهم ما يحبونه بما هو أكره شيء إليهم وهم أشد شيء نفرة عنه فلهذا يوجب العقل والفطرة والحكمة أن يكونوا أشد شيء نفرة عما هو نظيره ومشبهه وبالله التوفيق.
فصل
ومنها قوله تعالى {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ}(7/200)
ص -171-…فشبه تعالى أعمال الكفار في بطلانها وعدم الانتفاع بها برماد مرت عليه ريح شديدة في يوم عاصف فشبه سبحانه أعمالهم في حبوطها وذهابها باطلا كالهباء المنثور لكونها على غير أساس من الإيمان والإحسان وكونها لغير الله عز وجل وعلى غير أمره برماد طيرته الريح العاصف فلا يقدر صاحبه على شيء منه وقت شدة حاجته إليه فلذلك قال {لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} لا يقدرون يوم القيامة مما كسبوا من أعمالهم على شيء فلا يرون له أثرا من ثواب ولا فائدة نافعة فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه موافقا لشرعه والأعمال أربعة فواحد مقبول وثلاثة مردودة فالمقبول: الخالص الصواب فالخالص أن يكون لله لا لغيره والصواب أن يكون مما شرعه الله على لسان رسوله والثلاثة مردودة ما خالف ذلك.
وفي تشبيهها بالرماد سر بديع وذلك للتشابه الذي بين أعمالهم وبين الرماد في إحراق النار وإذهابها لأصل هذا وهذا فكانت الأعمال التي لغير الله وعلى غير مراده طعمة للنار وبها تسعر النار على أصحابها وينشىء الله سبحانه لهم من أعمالهم الباطلة نارا وعذابا كما ينشىء لأهل الأعمال الموافقة لأمره ونهيه التي هي خالصة لوجهه من أعمالهم نعيما وروحا فأثرت النار في أعمال أولئك حتى جعلتها رمادا فهم وأعمالهم وما يعبدون من دون الله وقود النار.
فصل: كلمة التوحيد وأثرها في نفس المؤمن:
ومنها قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} فشبه سبحانه وتعالى الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة لأن الكلمة الطيبة تثمر العمل الصالح والشجرة الطيبة تثمر الثمر النافع وهذا ظاهر على قول جمهور المفسرين الذين يقولون: "الكلمة الطيبة هي(7/201)
ص -172-…شهادة أن لا إله إلا الله" فإنها تثمر جميع الأعمال الصالحة الظاهرة والباطنة فكل عمل صالح مرضي لله ثمرة هذه الكلمة وفي تفسير علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: "كلمة طيبة شهادة أن لا إله إلا الله كشجرة طيبة وهو المؤمن أصلها ثابت قول لا إله إلا الله في قلب المؤمن وفرعها في السماء يقول يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء" وقال الربيع بن أنس: "كلمة طيبة هذا مثل الإيمان فالإيمان الشجرة الطيبة وأصلها الثابت الذي لا يزول الإخلاص فيه وفرعه في السماء خشية الله" والتشبيه على هذا القول أصح وأظهر وأحسن فإنه سبحانه شبه شجرة التوحيد في القلب بالشجرة الطيبة الثابتة الأصل الباسقة الفرع في السماء علوا التي لا تزال تؤتي ثمرتها كل حين وإذا تأملت هذا التشبيه رأيته مطابقا لشجرة التوحيد الثابتة الراسخة في القلب التي فروعها من الأعمال الصالحة الصاعدة إلى السماء ولا تزال هذه الشجرة تثمر الأعمال الصالحة كل وقت بحسب ثباتها في القلب ومحبة القلب لها وإخلاصه فيها ومعرفته بحقيقتها وقيامه بحقوقها ومراعاتها حق رعايتها.(7/202)
فمن رسخت هذه الكلمة في قلبه بحقيقتها التي هي حقيقتها واتصف قلبه بها وانصبغ بها بصبغة الله التي لا أحسن صبغة منها فعرف حقيقة الإلهية التي يثبتها قلبه لله ويشهد بها لسانه وتصدقها جوارحه ونفى تلك الحقيقة ولوازمها عن كل ما سوى الله وواطأ قلبه لسانه في هذا النفي والإثبات وانقادت جوارحه لمن شهد له بالوحدانية طائعة سالكة سبل ربه ذللا غير ناكبة عنها ولا باغية سواها بدلا كما لا يبتغي القلب سوى معبوده الحق بدلا فلا ريب أن هذه الكلمة من هذا القلب على هذا اللسان لا تزال تؤتي ثمرتها من العمل الصالح الصاعد إلى الله كل وقت فهذه الكلمة الطيبة هي التي رفعت هذا العمل الصالح إلى الرب تعالى وهذه الكلمة الطيبة تثمر كلاما كثيرا طيبا يقارنه عمل صالح فيرفع العمل الصالح إلى الكلم الطيب كما قال تعالى {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}(7/203)
ص -173-…فأخبر سبحانه أن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب وأخبر أن الكلمة الطيبة تثمر لقائلها عملا صالحا كل وقت.
والمقصود أن كلمة التوحيد إذا شهد بها المؤمن عارفا بمعناها وحقيقتها نفيا وإثباتا متصفا بموجبها قائما قلبه ولسانه وجوارحه بشهادته فهذه الكلمة الطيبة هي التي رفعت هذا العمل من هذا الشاهد أصلها ثابت راسخ في قلبه وفروعها متصلة بالسماء وهي مخرجة لثمرتها كل وقت.
ومن السلف من قال: "إن الشجرة الطيبة هي النخلة" ويدل عليه حديث ابن عمر الصحيح ومنهم من قال: "هي المؤمن نفسه" كما قال محمد بن سعد حدثني أبي حدثني عمي حدثني أبي عن أبيه عن ابن عباس قوله: "ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة" يعني بالشجرة الطيبة المؤمن ويعني بالأصل الثابت في الأرض والفرع في السماء يكون المؤمن يعمل في الأرض ويتكلم فيبلغ عمله وقوله السماء وهو في الأرض وقال عطية العوفي في قوله {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} قال: "ذلك مثل المؤمن لا يزال يخرج منه كلام طيب وعمل صالح يصعد إلى الله" وقال الربيع بن أنس: "أصلها ثابت وفرعها في السماء" قال: "ذلك المؤمن ضرب مثله في الإخلاص لله وحده وعبادته وحده لا شريك له أصلها ثابت" قال: "أصل عمله ثابت في الأرض وفرعها في السماء" قال: "ذكره في السماء ولا اختلاف بين القولين والمقصود بالمثل المؤمن والنخلة مشبهة به وهو مشبه بها وإذا كانت النخلة شجرة طيبة فالمؤمن المشبه بها أولى أن يكون كذلك" ومن قال من السلف: "إنها شجرة في الجنة فالنخلة من أشرف أشجار الجنة".
حكمة تشبيه المؤمن بالشجرة:
وفي هذا المثل من الأسرار والعلوم والمعارف ما يليق به ويقتضيه علم الذي تكلم به وحكمته.
فمن ذلك أن الشجرة لا بد لها من عروق وساق وفروع وورق وثمر فكذلك(7/204)
ص -174-…شجرة الإيمان والإسلام ليطابق المشبه المشبه به فعروقها العلم والمعرفة واليقين وساقها الإخلاص وفروعها الأعمال وثمرتها ما توجبه الأعمال الصالحة من الآثار الحميدة والصفات الممدوحة والأخلاق الزكية والسمت الصالح والهدى والدل المرضي فيستدل على غرس هذه الشجرة في القلب وثبوتها فيه بهذه الأمور فإذا كان العلم صحيحا مطابقا لمعلومه الذي أنزل الله كتابه به والاعتقاد مطابقا لما أخبر به عن نفسه وأخبرت به عنه رسله والإخلاص قائم في القلب والأعمال موافقة للأمر والهدي والدل والسمت مشابه لهذه الأصول مناسب لها علم أن شجرة الإيمان في القلب أصلها ثابت وفرعها في السماء وإذا كان الأمر بالعكس علم أن القائم بالقلب إنما هو الشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار.
ومنها: أن الشجرة لا تبقى حية إلا بمادة تسقيها وتنميها فإذا قطع عنها السقي أوشك أن تيبس فهكذا شجرة الإسلام في القلب إن لم يتعاهدها صاحبها بسقيها كل وقت بالعلم النافع والعمل الصالح والعود بالتذكر على التفكر والتفكر على التذكر وإلا أوشك أن تيبس وفي مسند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الإيمان يخلق في القلب كما يخلق الثوب فجددوا إيمانكم" وبالجملة فالغرس إن لم يتعاهده صاحبه أوشك أن يهلك ومن هنا تعلم شدة حاجة العباد إلى ما أمر الله به من العبادات على تعاقب الأوقات وعظيم رحمته وتمام نعمته وإحسانه إلى عباده بأن وظفها عليها وجعلها مادة لسقي غراس التوحيد الذي غرسه في قلوبهم.
ومنها: أن الغرس والزرع النافع قد أجرى الله سبحانه العادة أنه لا بد أن يخالطه دغل ونبت غريب ليس من جنسه فإن تعاهده ربه ونقاه وقلعه كمل الغرس والزرع واستوى وتم نباته وكان أوفر لثمرته وأطيب وأزكى وإن تركه أوشك أن يغلب على الغرس والزرع ويكون الحكم له أو يضعف الأصل(7/205)
ص -175-…ويجعل الثمرة ذميمة ناقصة بحسب كثرته وقلته ومن لم يكن له فقه نفس في هذا ومعرفة به فإنه يفوته ربح كثير وهو لا يشعر فالمؤمن دائما سعيه في شيئين سقي هذه الشجرة وتنقية ما حولها فبسقيها تبقى وتدوم وبتنقية ما حولها تكمل وتتم والله المستعان وعليه التكلان.
فهذا بعض ما تضمنه هذا المثل العظيم الجليل من الأسرار والحكم ولعلها قطرة من بحر بحسب أذهاننا الوقفة وقلوبنا المخطئة وعلومنا القاصرة وأعمالنا التي توجب التوبة والاستغفار وإلا فلو طهرت منا القلوب وصفت الأذهان وزكت النفوس وخلصت الأعمال وتجرت الهمم للتلقي عن الله ورسوله لشاهدنا من معاني كلام الله وأسراره وحكمه ما تضمحل عنده العلوم وتتلاشى عنده معارف الخلق وبهذا تعرف قدر علوم الصحابة ومعارفهم وأن التفاوت الذي بين علومهم وعلوم من بعدهم كالتفاوت الذي بينهم في الفضل والله أعلم حيث يجعل مواقع فضله ومن يختص برحمته.
فصل
ضرب المثل للكافر:
ثم ذكر سبحانه مثل الكلمة الخبيثة فشبهها بالشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار فلا عرق ثابت ولا فرع عال ولا ثمرة زاكية فلا ظل ولا جنى ولا ساق قائم ولا عرق في الأرض ثابت فلا أسفلها مغدق ولا أعلاها مونق ولا جنى لها ولا تعلو بل تعلى.
وإذا تأمل اللبيب أكثر كلام هذا الخلق في خطابهم وكسبهم وجده كذلك فالخسران الوقوف معه والاشتغال به عن أفضل الكلام وأنفعه.
قال الضحاك: "ضرب الله مثلا للكافر بشجرة اجتثت من فوق الأرض(7/206)
ص -176-…ما لها من قرار" يقول ليس لها أصل ولا فرع وليس لها ثمرة ولا فيها منفعة كذلك الكافر لا يعمل خيرا ولا يقوله ولا يجعل الله فيه بركة ولا منفعة.
وقال ابن عباس: "ومثل كلمة خبيثة وهي الشرك كشجرة خبيثة يعني الكافر اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار يقول الشرك ليس له أصل يأخذ به الكافر ولا برهان ولا يقبل الله مع الشرك عملا فلا يقبل عمل المشرك ولا يصعد إلى الله فليس له أصل ثابت في الأرض ولا فرع في السماء" يقول: ليس له عمل صالح في السماء ولا في الأرض.
وقال الربيع بن أنس: "مثل الشجرة الخبيثة مثل الكافر ليس لقوله ولا لعمله أصل ولا فرع ولا يستقر قوله ولا عمله على الأرض ولا يصعد إلى السماء".
وقال سعيد عن قتادة في هذه الآية: "إن رجلا لقي رجلا من أهل العلم فقال له: ما تقول في الكلمة الخبيثة؟ قال: ما أعلم لها في الأرض مستقرا ولا في السماء مصعدا إلا أن تلزم عنق صاحبها حتى يوافي بها القيامة".
وقوله {اجْتُثَّتْ} أي استؤصلت من فوق الأرض ثم أخبر سبحانه عن فضله وعدله في الفريقين أصحاب الكلم الطيب والكلم الخبيث فأخبر أنه يثبت الذين آمنوا بإيمانهم بالقول الثابت أحوج ما يكونون إليه في الدنيا والآخرة وأنه يضل الظالمين وهم المشركون عن القول الثابت فأضل هؤلاء بعدله لظلمهم وثبت المؤمنين بفضله لإيمانهم.
وتحت قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} كنز عظيم من وفق لمظنته وأحسن استخراجه واقتناءه وأنفق منه فقد غنم ومن حرمه فقد حرم وذلك أن العبد لا يستغني عن تثبيت الله له طرفة عين فإن لم يثبته وإلا زالت سماء إيمانه وأرضه عن مكانهما وقد قال تعالى لأكرم خلقه عليه عبده ورسوله {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً}(7/207)
ص -177-…وقال تعالى لأكرم خلقه {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} وفي الصحيحين من حديث البجلي قال: "وهو يسألهم ويثبتهم" وقال تعالى لرسوله {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} فالخلق كلهم قسمان موفق بالتثبيت ومخذول بترك التثبيت ومادة التثبيت أصله ومنشأه من القول الثابت وفعل ما أمر به العبد فبهما يثبت الله عبده فكل من كان أثبت قولا وأحسن فعلا كان أعظم تثبيتا قال تعالى {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} فأثبت الناس قلبا أثبتهم قولا والقول الثابت هو القول الحق والصدق وهو ضد القول الباطل الكذب فالقول نوعان: ثابت له حقيقة وباطل لا حقيقة له وأثبت القول كلمة التوحيد ولوازمها فهي أعظم ما يثبت الله بها عبده في الدنيا والآخرة ولهذا ترى الصادق من أثبت الناس وأشجعهم قلبا والكاذب من أمهن الناس وأخبثهم وأكثرهم تلونا وأقلهم ثباتا وأهل الفراسة يعرفون صدق الصادق من ثبات قلبه وقت الإخبار وشجاعته ومهابته ويعرفون كذب الكاذب بضد ذلك ولا يخفى ذلك إلا على ضعيف البصيرة.
وسئل بعضهم عن كلام سمعه من متكلم به فقال: والله ما فهمت منه شيئا إلا أني رأيت لكلامه صولة ليست بصولة مبطل فما منح العبد أفضل من منحة القول الثابت ويجد أهل القول الثابت ثمرته أحوج ما يكونون إليه في قبورهم ويوم معادهم كما في صحيح مسلم من حديث البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الآية نزلت في عذاب القبر.
سؤال القبر:(7/208)
وقد جاء هذا مبينا في أحاديث صحاح فمنها ما في المسند من حديث داود ابن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة فقال: يا أيها الناس إن هذه الأمة تبتلى في قبورها فإذا الإنسان دفن وتفرق عنه أصحابه جاءه ملك بيده مطراق فأقعده فقال: ما تقول في هذا(7/209)
ص -178-…الرجل فإن كان مؤمنا قال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فيقول له صدقت فيفتح له باب إلى النار فيقال له هذا منزلك لو كفرت بربك فأما إذا آمنت فإن الله أبدلك به هذا ثم يفتح له باب إلى الجنة فيريد أن ينهض له فيقال له اسكن ثم يفسح له في قبره وأما الكافر والمنافق فيقال له ما تقول في هذا الرجل فيقول لا أدري فيقال له لا دريت ولا اهتديت ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقال له هذا منزلك لو آمنت بربك فأما إذا كفرت فإن الله أبدلك به هذا ثم يفتح له باب إلى النار ثم يقمعه الملك بالمطراق قمعة يسمعه خلق الله كلهم إلا الثقلين قال بعض أصحابه يا رسول الله ما منا من أحد يقوم على رأسه ملك بيده مطراق إلا هيل عند ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء".
وفي المسند نحوه من حديث البراء بن عازب وروى المنهال بن عمرو عن زاذان عن البراء قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر قبض روح المؤمن فقال: يأتيه آت يعني في قبره فيقول: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيقول: ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم قال: فينتهره فيقول: ما ربك وما دينك وهي آخر فتنة تعرض على المؤمن فذلك حيث يقول الله {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} فيقول ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد فيقال له: صدقت" وهذا حديث صحيح وقال حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين قال: إذا قيل له في القبر: من ربك؟ وما دينك؟ فيقول: ربي الله وديني الإسلام ونبيي(7/210)
ص -179-…محمد جاءنا بالبينات من عند الله فآمنت به وصدقت فيقال له: صدقت على هذا عشت وعليه مت وعليه تبعث" قال الأعمش عن المنهال بن عمرو وعن زاذان عن البراء بن عازب قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر قبض روح المؤمن قال: فترجع روحه في جسده ويبعث إليه ملكان شديدا الاتنهار فيجلسانه وينتهرانه ويقولان: من ربك؟ فيقول الله وما دينك؟ فيقول: الإسلام فيقولان له: ما هذا الرجل أو النبي الذي بعث فيكم؟ فيقول محمد رسول الله فيقولان له: وما يدريك؟ قال: فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت فذلك قول الله تبارك وتعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}" رواه ابن حبان في صحيحه والإمام أحمد وفي صحيحه أيضا من حديث أبي هريرة يرفعه قال: "إن الميت ليسمع خفق نعالهم حين يولولن عنه مدبرين فإذا كان مؤمنا كانت الصلاة عند رأسه والزكاة عن يمينه وكان الصيام عن يساره وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه فيؤتى من عند رأسه فتقول الصلاة ما قبلي مدخل فيؤتى عن يمينه فتقول الزكاة ما قبلي مدخل فيؤتى عن يساره فيقول الصيام ما قبلي مدخل فيؤتى من عند رجليه فيقول فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس ما قبلي مدخل فيقال له اجلس فيجلس قد مثلت له الشمس قد دنت للغروب فيقال له أخبرنا عما نسألك عنه فيقول دعوني حتى أصلي فيقال إنك ستفعل فأخبرنا عما نسألك فيقول وعم تسألوني فيقال له أرأيت هذا الرجل الذي كان فيكم ماذا تقول فيه وماذا تشهد به عليه فيقول أمحمد صلى الله عليه وسلم فيقال نعم فيقول أشهد أنه رسول الله وأنه جاء بالبينات من عند الله فصدقناه فيقال له على ذلك حييت وعلى ذلك مت وعلى ذلك تبعث إن شاء الله ثم يفسح له قبره سبعون ذراعا وينور له فيه ثم يفتح(7/211)
ص -180-…له باب إلى الجنة فيقال له انظر إلى ما أعد الله لك فيها فيزداد غبطة وسرورا ثم تجعل نسمته في النسم الطيب وهي طير خضر تعلق بشجر الجنة ويعاد الجسد إلى ما بدأ منه من التراب وذلك قوله تعالى {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}" ولا تستطل هذا الفصل المعترض في المفتي والشاهد والحاكم بل وكل مسلم أشد ضرورة إليه من الطعام والشراب والنفس وبالله التوفيق.
فصل(7/212)
ومنها قوله تعالى {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ، حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} فتأمل هذا المثل ومطابقته لحال من أشرك بالله وتعلق بغيره ويجوز لك في هذا التشبيه أمران أحدهما أن تجعله تشبيها مركبا ويكون قد شبه من أشرك بالله وعبد معه غيره برجل قد تسبب إلى هلاك نفسه هلاكا لا يرجى معه نجاة فصور حاله بصورة حال من خر من السماء فاختطفته الطير في الهوى فتمزق مزقا في حواصلها أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطارح البعيدة وعلى هذا لا تنظر إلى كل فرد من أفراد المشبه ومقابله من المشبه به والثاني أن يكون من التشبيه المفرق فيقابل كل واحد من أجزاء الممثل بالممثل به وعلى هذا فيكون قد شبه الإيمان والتوحيد في علوه وسعته وشرفه بالسماء التي هي مصعده ومهبطه فمنها هبط إلى الأرض وإليها يصعد منها وشبه تارك الإيمان والتوحيد بالساقط من السماء إلى أسفل سافلين من حيث التضييق الشديد والآلام المتراكمة والطير الذي تخطف أعضاءه وتمزقه كل ممزق بالشياطين التي يرسلها الله سبحانه وتعالى عليه وتؤزه أزا وتزعجه وتقلقه إلى مظان هلاكه فكل شيطان له مزعة من دينه وقلبه كما أن لكل طير مزعة من لحمه وأعضائه والريح التي تهوي به في مكان سحيق هو هواه الذي يحمله على إلقاء نفسه في أسفل مكان وأبعده من السماء.(7/213)
ص -181-…فصل
ومنها قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} حقيق على كل عبد أن يستمع قلبه لهذا المثل ويتدبره حق تدبره فإنه يقطع مواد الشرك من قلبه وذلك أن المعبود أقل درجاته أن يقدر على إيجاد ما ينفع عابده وإعدام ما يضره والآلهة التي يعبدها المشركون من دون الله لن تقدر على خلق الذباب ولو اجتمعوا كلهم لخلقه فكيف ما هو أكبر منه ولا يقدرون على الانتصار من الذباب إذا سلبهم شيئا مما عليهم من طيب ونحوه فيستنقذوه منه فلا هم قادرون على خلق الذباب الذي هو من أضعف الحيوانات ولا على الانتصار منه واسترجاع ما سلبهم إياه فلا أعجز من هذه الآلهة ولا أضعف منها فكيف يستحسن عاقل عبادتها من دون الله وهذا المثل من أبلغ ما أنزله الله سبحانه في بطلان الشرك وتجهيل أهله وتقبيح عقولهم والشهادة على أن الشيطان قد تلاعب بهم أعظم من تلاعب الصبيان بالكرة حيث أعطوا الإلهية التي من بعض لوازمها القدرة على جميع المقدورات والإحاطة بجميع المعلومات والغنى عن جميع المخلوقات وأن يصمد إلى الرب في جميع الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات وإجابة الدعوات فأعطوها صورا وتماثيل يمتنع عليها القدرة على أقل مخلوقات الآلهة الحق وأذلها وأصغرها وأحقرها ولو اجتمعوا لذلك وتعاونوا عليه.
وأدل من ذلك على عجزهم وانتفاء إلا هيتهم أن هذا الخلق الأقل الأذل العاجز الضعيف لو اختطف منهم شيئا واستلبه فاجتمعوا على أن يستنقذوه منه لعجزوا عن ذلك ولم يقدروا عليه ثم سوى بين العابد والمعبود في الضعف(7/214)
ص -182-…والعجز بقوله {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} قيل الطالب العابد والمطلوب المعبود فهو عاجز متعلق بعاجز وقيل: هو تسوية بين السالب والمسلوب وهو تسوية بين الإله والذباب في الضعف والعجز وعلى هذا فقيل: الطالب الإله الباطل والمطلوب الذباب يطلب منه ما استلبه منه وقيل الطالب الذباب والمطلوب الإله فالذباب يطلب منه ما يأخذه مما عليه والصحيح أن اللفظ يتناول الجميع فضعف العابد والمعبود والمستلب والمستلب فمن جعل هذا إلها مع القوي العزيز فما قدره حق قدره ولا عرفه حق معرفته ولا عظمه حق تعظيمه.
فصل
ومنها قوله تعالى {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} فتضمن هذا المثل ناعقا أي مصوتا بالغنم وغيرها ومنعوقا به وهو الدواب فقيل: الناعق العابد وهو الداعي للصنم والصنم المنعوق به المدعو وإن حال الكافر في دعائه كحال من ينعق بما لا يسمعه هذا قول طائفة منهم عبد الرحمن بن زيد وغيره.
واستشكل صاحب الكشاف وجماعة معه هذا القول وقالوا قوله {إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} لا يساعد عليه لأن الأصنام لا تسمع دعاء ولا نداء.
وقد أجيب عن هذا الاستشكال بثلاثة أجوبة:
أحدها: أن (إلا) زائدة والمعنى بما لا يسمع دعاء ونداء قالوا: وقد ذكر ذلك الأصمعي في قول الشاعر:
حراجيح ما تنفك إلا مناخة(7/215)
ص -183-…أي ما تنفك مناخة وهذا جواب فاسد فإن (إلا) لا تزاد في الكلام.
الجواب الثاني: أن التشبيه وقع في مطلق الدعاء لا في خصوصيات المدعو.
الجواب الثالث: أن المعنى أن مثل هؤلاء في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه دعاءهم كمثل الناعق بغنمه فلا ينتفع من نعيقه بشيء غير أنه هو في دعاء ونداء وكذلك المشرك ليس له من دعائه وعبادته إلا العناء.
وقيل: المعنى ومثل الذين كفروا كالبهائم التي لا تفقه مما يقول الراعي أكثر من الصوت فالراعي هو داعي الكفار والكفار هم البهائم المنعوق بها.
قال سيبويه: المعنى ومثلك يا محمد ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به وعلى قوله فيكون المعنى: ومثل الذين كفروا وداعيهم كمثل الغنم والناعق بها.
ولك أن تجعل هذا من التشبيه المركب وأن تجعله من التشبيه المفرق فإن جعلته من المركب كان تشبيها للكفار في عدم فقههم وانتفاعهم بالغنم التي ينعق بها الراعي فلا تفقه من قوله شيئا غير الصوت المجرد الذي هو الدعاء والنداء وإن جعلته من التشبيه المفرق فالذين كفروا بمنزلة البهائم ودعاء داعيهم إلى الطريق والهدى بمنزلة الذي ينعق بها ودعاؤهم إلى الهدى بمنزلة النعق وإدراكهم مجرد الدعاء والنداء كإدراك البهائم مجرد صوت الناعق والله أعلم.
فصل
ومنها قوله تعالى {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} شبه سبحانه نفقة المنفق في سبيله سواء كان المراد بها الجهاد(7/216)
ص -184-…أو جميع سبل الخير من كل بر بمن بذر بذرا فأنبتت كل حبة منه سبع سنابل اشتملت كل سنبلة على مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء فوق ذلك بحسب حال المنفق وإيمانه وإخلاصه وإحسانه ونفع نفقته وقدرها ووقوعها موقعها فإن ثواب الإنفاق يتفاوت بحسب ما يقوم بالقلب من الإيمان والإخلاص والتثبيت عند النفقة وهو إخراج المال بقلب ثابت قد انشرح صدره بإخراجه وسمحت به نفسه وخرج من قلبه قبل خروجه من يده فهو ثابت القلب عند إخراجه غير جزع ولا هلع ولا متبعه نفسه ترجف يده وفؤاده ويتفاوت بحسب نفع الإنفاق ومصارفه بمواقعه وبحسب طيب المنفق وزكاته.
وتحت هذا المثل من الفقه أنه سبحانه شبه الإنفاق بالبذر فالمنفق ماله الطيب لله لا لغيره باذر ماله في أرض زكية فمغلة بحسب بذره وطيب أرضه وتعاهد البذر بالسقي ونفي الدغل والنبات الغريب عنه فإذا اجتمعت هذه الأمور ولم تحرق الزرع نار ولا لحقته جائحة جاء أمثال الجبال وكان مثله كمثل جنة بربوة وهي المكان المرتفع الذي تكون الجنة فيه نصب الشمس والرياح فتتربى الأشجار هناك أتم تربية فنزل عليها من السماء مطر عظيم القطر متتابع فرواها ونماها فآتت أكلها ضعفي ما يؤتيه غيرها بسبب ذلك الوابل فإن لم يصبها وابل فطل مطر صغير القطر يكفيها لكرم منبتها يزكو على الطل وينمى عليه مع أن في ذكر نوعي الوابل والطل إشارة إلى نوعي الإنفاق الكثير والقليل.
فمن الناس من يكون إنفاقه وابلا ومنهم من يكون إنفاقه طلا والله لا يضيع مثقال ذرة فإن عرض لهذا العامل ما يغرق أعماله ويبطل حسناته كان بمنزلة رجل له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت فإذا كان يوم استيفاء الأعمال وإحراز الأجور وجد هذا العامل عمله قد أصابه ما أصاب صاحب هذه الجنة فحسرته حينئذ أشد من حسرة هذا على جنته.(7/217)
فهذا مثل ضربه الله سبحانه في الحسرة لسلب النعمة عند شدة الحاجة إليها(7/218)
ص -185-…مع عظم قدرها ومنقتها والذي ذهبت عنه قد أصابه الكبر والضعف فهو أحوج ما كان إلى نعمته ومع هذا فله ذرية ضعفاء لا يقدرون على نفعه والقيام بمصالحة بل هم في عياله فحاجته إلى نعمته حينئذ أشد ما كانت لضعفه وضعف ذريته فكيف يكون حال هذا إذا كان له بستان عظيم فيه جميع الفواكه والثمر وسلطان ثمره أجل الفواكه وأنفعها وهو ثمر النخيل والأعناب فمغله يقوم بكفايته وكفاية ذريته فأصبح يوما وقد وجده محترقا كله كالصريم فأي حسرة أعظم من حسرته؟.
قال ابن عباس: "هذا مثل الذي يختم له بالفساد في آخر عمره" وقال مجاهد: "هذا مثل المفرط في طاعة الله حتى يموت" وقال السدي: "هذا مثل المرائي في نفقته الذي ينفق لغير الله ينقطع عنه نفعها أحوج ما يكون إليه" "وسأل عمر بن الخطاب الصحابة يوما عن هذه الآية فقالوا: الله أعلم فغضب عمر وقال: قولوا نعلم أو لا نعلم فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين قال: قل يا ابن أخي ولا تحقر نفسك قال ضرب مثلا لعمل قال لأي عمل قال لرجل غني يعمل بالحسنات ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله كلها" قال الحسن: "هذا مثل قل والله من يعقل من الناس شيخ كبير ضعف جسمه وكثر صبيانه أفقر ما كان إلى جنته وإن أحدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا".
فصل
ما يبطل الأعمال من المن والأذى والرياء:
فإن عرض لهذه الأعمال من الصدقات ما يبطلها من المن والأذى والرياء فالرياء يمنع انعقادها سببا للثواب والمن والأذى يبطل الثواب الذي كانت سببا له فمثل صاحبها وبطلان عمله كمثل صفوان وهو الحجر الأملس عليه تراب فأصابه وابل وهو المطر الشديد فتركه صلدا لا شيء عليه وتأمل أجزاء هذا المثل البليغ وانطباقها على أجزاء الممثل به تعرف عظمة القرآن وجلالته فإ(7/219)
ص -186-…الحجر في مقابلة قلب هذا المرائي والمان والمؤذي فقلبه في قسوته عن الإيمان والإخلاص والإحسان بمنزلة الحجر والعمل الذي عمله لغير الله بمنزلة التراب الذي على ذلك الحجر فقسوة ما تحته وصلابته تمنعه من النبات والثبات عند نزول الوابل فليس له مادة متصلة بالذي يقبل الماء وينبت الكلأ وكذلك قلب المرائي ليس له ثبات عند وابل الأمر والنهي والقضاء والقدر فإذا نزل عليه وابل الوحي انكشف عنه ذلك التراب اليسير الذي كان عليه فبرز ما تحته حجرا صلدا لا نبات فيه وهذا مثل ضربه الله سبحانه لعمل المرائي ونفقته لا يقدر يوم القيامة على ثواب شيء منه أحوج ما كان إليه وبالله التوفيق.
فصل
ومنها قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} هذا مثل ضربه الله تعالى لمن أنفق ماله في غير طاعته ومرضاته فشبه سبحانه ما ينفقه هؤلاء من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء وحسن الذكر لا يبتغون به وجه الله وما ينفقونه ليصدوا به عن سبيل الله واتباع رسله بالزرع الذي زرعه صاحبه يرجو نفعه وخيره فأصابته ريح شديدة البرد جدا يحرق بردها ما يمر عليه من الزرع والثمار فأهلكت ذلك الزرع وأيبسته.
واختلف في الصر فقيل: البرد الشديد وقيل: النار قاله ابن عباس قال ابن الأنباري: "وإنما وصفت النار بأنها صر لتصريتها عند الالتهاب" وقيل: "الصر الصوت الذي يصحب الريح من شدة هبوبها" والأقوال الثلاثة(7/220)
ص -187-…متلازمة فهو برد شديد محرق يبسه للحرث كما تحرقه النار وفيه صوت شديد.
وفي قوله: {أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} تنبيه على أن سبب إصابتها لحرثهم هو ظلمهم فهو الذي سلط عليهم الريح المذكورة حتى أهلكت زرعهم وأيبسته فظلمهم هو الريح التي أهلكت أعمالهم ونفقاتهم وأتلفتها.
فصل
ومنها قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}.
هذا مثل ضربه الله سبحانه للمشرك والموحد فالمشرك بمنزلة عبد يملكه جماعة متنازعون مختلفون متشاحون والرجل المتشاكس الضيق الخلق فالمشرك لما كان يعبد آلهة شتى شبه بعبد يملكه جماعة متنافسون في خدمته لا يمكنه أن يبلغ رضاهم أجمعين.
والموحد لما كان يعبد الله وحده فمثله كمثل عبد لرجل واحد قد سلم له وعلم مقاصده وعرف الطريق إلى رضاه فهو في راحة من تشاحن الخلطاء فيه بل هو سالم لمالكه من غير تنازع فيه مع رأفة مالكه به ورحمته له وشفقته عليه وإحسانه إليه وتوليه لمصالحه فهل يستوي هذان العبدان.
وهذا من أبلغ الأمثال فإن الخالص لمالك واحد يستحق من معونته وإحسانه والتفاته إليه وقيامه بمصالحه ما يستحق صاحب الشركاء المتشاكسين الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون.(7/221)
ص -188-…فصل
ومنها قوله تعالى {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} فاشتملت هذه الآيات على ثلاثة أمثال: مثل للكفار ومثلين للمؤمنين فتضمن مثل الكفار: أن الكافر يعاقب على كفره وعداوته لله ورسوله وأوليائه ولا ينفعه مع كفره ما كان بينه وبين المؤمنين من لحمة نسب أو صلة صهر أو سبب من أسباب الاتصال فإن الأسباب كلها تنقطع يوم القيامة إلا ما كان منها متصلا بالله وحده على أيدي رسله فلو نفعت وصلة القرابة والمصاهرة أو النكاح مع عدم الإيمان لنفعت الوصلة التي كانت بين لوط ونوح وامرأتيهما فلما لم يغنيا عنهما من الله شيئا {قِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ}.(7/222)
قطعت الآية حينئذ طمع من ركب معصية الله وخالف أمره ورجا أن ينفعه صلاح غيره من قريب أو أجنبي ولو كان بينهما في الدنيا أشد الاتصال فلا اتصال فوق اتصال البنوة الأبوة والزوجية ولم يغن نوح عن ابنه ولا إبراهيم عن أبيه ولا نوح ولا لوط عن امرأتيهما من الله شيئا قال الله تعالى: {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} وقال تعالى {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً} وقال تعالى {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئا} وقال: {وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقّ} وهذا كله تكذيب(7/223)
ص -189-…لأطماع المشركين الباطلة أن من تعلقوا به من دون الله من قرابة أو صهر أو نكاح أو صحبة ينفعهم يوم القيامة أو يجيرهم من عذاب الله أو هو يشفع لهم عند الله وهذا أصل ضلالة بني آدم وشركهم وهو الشرك الذي لا يغفره الله وهو الذي بعث الله جميع رسله وأنزل جميع كتبه بإبطاله ومحاربة أهله ومعاداتهم.
فصل
وأما المثلان اللذان للمؤمنين: فأحدهما امرأة فرعون ووجه المثل أن اتصال المؤمن بالكافر لا يضره شيئا إذا فارقه في كفره وعمله فمعصية الغير لا تضر المؤمن المطيع شيئا في الآخرة وإن تضرر بها في الدنيا بسبب العقوبة التي تحل بأهل الأرض إذا أضاعوا أمر الله فتأتي عامة فلم يضر امرأة فرعون اتصالها به وهو من أكفر الكافرين ولم ينفع امرأة نوح ولوط اتصالهما بهما وهما رسولا رب العالمين.
المثل الثاني للمؤمنين: مريم التي لا زوج لها لا مؤمن ولا كافر فذكر ثلاثة أصناف من النساء: المرأة الكافرة التي لها وصلة بالرجل الصالح والمرأة الصالحة التي لها وصلة بالرجل الكافر والمرأة العزب التي لا وصلة بينها وبين أحد فالأولى لا تنفعها وصلتها وسببها والثانية لا تضرها وصلتها وسببها والثالثة لا يضرها عدم الوصلة شيئا.
ثم في هذه الأمثال من الأسرار البديعة ما يناسب سياق السورة فإنها سيقت في ذكر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم والتحذير من تظاهرهن عليه وأنهن إن لم يطعن الله ورسوله ويردن الدار الآخرة لم ينفعهن اتصالهن برسول الله صلى الله عليه وسلم كما لم ينفع امرأة نوح ولوط اتصالهما بهما ولهذا إنما ضرب في هذه السورة مثل اتصال النكاح دون القرابة.
قال يحيى بن سلام: "ضرب الله المثل الأول يحذر عائشة وحفصة ثم ضرب لهما المثل الثاني يحرضهما على التمسك بالطاعة".
وفي ضرب المثل للمؤمنين بمريم أيضا اعتبار آخر وهو أنها لم يضرها عند(7/224)
ص -190-…الله شيئا قذف أعداء الله اليهود لها ونسبتهم إياها وابنها إلى ما برأهما الله عنه مع كونها الصديقة الكبرى المصطفاة على نساء العالمين فلا يضر الرجل الصالح قدح الفجار والفساق فيه وفي هذا تسلية لعائشة أم المؤمنين إن كانت السورة نزلت بعد قصة الإفك وتوطين نفسها على ما قال فيها الكاذبون إن كانت قبلها كما في ذكر التمثيل بامرأة نوح ولوط تحذير لها ولحفصة مما اعتمدتاه في حق النبي صلى الله عليه وسلم فتضمنت هذه الأمثال التحذير لهن والتخويف والتحريض لهن على الطاعة والتوحيد والتسلية وتوطين النفس لمن أوذي منهن وكذب عليه وأسرار التنزيل فوق هذا وأجل منه ولا سيما أسرار الأمثال التي لا يعقلها إلا العالمون.
قالوا: فهذا بعض ما اشتمل عليه القرآن من التمثيل والقياس والجمع والفرق واعتبار العلل والمعاني وارتباطها بأحكامها تأثيرا واستدلالا.
الاستفادة من ضرب الأمثال:
قالوا: قد ضرب الله سبحانه الأمثال وصرفها قدرا وشرعا ويقظة ومناما ودل عباده على الاعتبار بذلك وعبورهم من الشيء إلى نظيره واستدلالهم بالنظير على النظير بل هذا أهل عبارة الرؤيا التي هي جزء من أجزاء النبوة ونوع من أنواع الوحي فإنها مبنية على القياس والتمثيل واعتبار المعقول بالمحسوس.
تأويل الرؤيا:
ألا ترى أن الثياب في التأويل كالقمص تدل على الدين فما كان فيها من طول أو قصر أو نظافة أو دنس فهو في الدين كما أول النبي صلى الله عليه وسلم القميص بالدين والعلم والقدر المشترك بينهما أن كلا منهما يستر صاحبه ويجمله بين الناس فالقميص يستر بدنه والعلم والدين يستر روحه وقلبه ويجمله بين الناس.(7/225)
ص -191-…ومن هذا تأويل اللبن بالفطرة لما في كل منهما من التغذية الموجبة للحياة وكمال النشأة وأن الطفل إذا خلي وفطرته لم يعدل عن اللبن فهو مفطور على إيثاره على ما سواه وكذلك فطرة الإسلام التي فطر الله عليها الناس.
ومن هذا تأويل البقر بأهل الدين والخير الذين بهم عمارة الأرض كما أن البقر كذلك مع عدم شرها وكثرة خيرها وحاجة الأرض وأهلها إليها ولهذا لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم بقرا تنحر كان ذلك نحرا في أصحابه.
ومن ذلك تأويل الزرع والحرث بالعمل لأن العامل زارع للخير والشر ولا بد أن يخرج له ما بذره كما يخرج للباذر زرع ما بذره فالدنيا مزرعة والأعمال البذر ويوم القيامة يوم طلوع الزرع للباذر وحصاده.
ومن ذلك تأويل الخشب المقطوع المتساند بالمنافقين والجامع بينهما أن المنافق لا روح فيه ولا ظل ولا ثمر فهو بمنزلة الخشب الذى هو كذلك ولهذا شبه الله تعالى المنافقين بالخشب المسندة لأنهم أجسام خالية عن الإيمان والخير وفي كونها مسندة نكتة أخرى وهي أن الخشب إذا انتفع به جعل في سقف أو جدار أو غيرهما من مظان الانتفاع وما دام متروكا فارغا غير منتفع به جعل مسندا بعضه إلى بعض فشبه المنافقين بالخشب في الحالة التي لا ينتفع فيها بها.
ومن ذلك تأويل النار بالفتنة لإفساد كل منهما ما يمر عليه ويتصل به فهذه تحرق الأثاث والمتاع والأبدان وهذه تحرق القلوب والأديان والإيمان.
ومن ذلك تأويل النجوم بالعلماء والأشراف لحصول هداية أهل الأرض بكل منهما ولارتفاع الأشراف بين الناس كإرتفاع النجوم.
ومن ذلك تأويل الغيث بالرحمة والعلم والقرآن والحكمة وصلاح حال الناس.
ومن ذلك خروج الدم في التأويل يدل على خروج المال والقدر المشترك أن قوام البدن بكل واحد منهما.(7/226)
ص -192-…ومن ذلك الحدث في التأويل يدل على الحدث في الدين فالحدث الأصغر ذنب صغير والأكبر ذنب كبير.
ومن ذلك أن اليهودية والنصرانية في التأويل بدعة في الدين فاليهودية تدل على فساد القصد واتباع غير الحق والنصرانية تدل على فساد العلم والجهل والضلال.
ومن ذلك الحديد في التأويل وأنواع السلاح يدل على القوة والنصر بحسب جوهر ذلك السلاح ومرتبته.
ومن ذلك الرائحة الطيبة تدل على الثناء الحسن وطيب القول والعمل والرائحة الخبيثة بالعكس والميزان يدل على العدل والجراد يدل على الجنود والعساكر والغوغاء الذين يموج بعضهم في بعض والنحل يدل على من يأكل طيبا ويعمل صالحا والديك رجل عالي الهمة بعيد الصيت والحية عدو أو صاحب بدعة يهلك بسمه والحشرات أوغاد الناس والخلد رجل أعمى يتكفف الناس بالسؤال والذئب رجل غشوم ظلوم غادر فاجر والثعلب رجل غادر مكار محتال مراوغ عن الحق والكلب عدو ضعيف كثير الصخب والشر في كلامه وسبابه أو رجل مبتدع متبع هواه مؤثر له على دينه والسنور العبد والخادم الذي يطوف على أهل الدار والفأرة امرأة سوء فاسقة فاجرة والأسد رجل قاهر مسلط والكبش الرجل المنيع المتبوع.
ومن كليات التعبير أن كل ما كان وعاء للماء فهو دال على الأثاث وكل ما كان وعاء للمال كالصندوق والكيس والجراب فهو دال على القلب وكل مدخول بعضه في بعض وممتزج ومختلط فدال على الاشتراك والتعاون أو النكاح وكل سقوط وخرور من علو إلى سفل فمذموم وكل صعود وارتفاع فمحمود إذا لم يجاوز العادة وكان ممن يليق به وكل ما أحرقته النار فجائحة(7/227)
ص -193-…وليس يرجى صلاحه ولا حياته وكذلك ما انكسر من الأوعية التي لا ينشعب مثلها وكل ما خطف وسرق من حيث لا يرى خاطفه ولا سارقه فإنه ضائع لا يرجى وما عرف خاطفه أو سارقه أو مكانه أو لم يغب عن عين صاحبه فإنه يرجى عوده وكل زيادة محمودة في الجسم والقامة واللسان والذكر واللحية واليد والرجل فزيادة خير وكل زيادة متجاوزة للحد في ذلك فمذمومة وشر وفضيحة وكل ما رأى من اللباس في غير موضعه المختص به فمكروه كالعمامة في الرجل والخف في الرأس والعقد في الساق وكل من استقضي أو استخلف أو أمر أو استوزر أو خطب ممن لا يليق به ذلك نال بلاء من الدنيا وشرا وفضيحة وشهرة قبيحة وكل ما كان مكروها من الملابس فخلقه أهون على لابسه من جديده والجوز مال مكنوز فإن تفقع كان قبيحا وشرا ومن صار له ريش أو جناح صار له مال فإن طار سافر وخروج المريض من داره ساكتا يدل على موته متكلما يدل على حياته والخروج من الأبواب الضيقة يدل على النجاة والسلامة من شر وضيق هو فيه وعلى توبة ولا سيما إن كان الخروج إلى فضاء وسعة فهو خير محض والسفر والنقلة من مكان إلى مكان انتقال من حال إلى حال بحسب حال المكانين ومن عاد في المنام إلى حال كان فيها في اليقظة عاد إليه ما فارقه من خير أو شر وموت الرجل دل على توبته ورجوعه إلى الله لأن الموت رجوع إلى الله قال تعالى {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} والمرهون مأسور بدين أو بحق عليه لله أو لعبيده ووداع المريض أهله أو توديعهم له دال على موته.
وبالجملة فما تقدم من أمثال القرآن كلها أصول وقواعد لعلم التعبير لمن أحسن الاستدلال بها وكذلك من فهم القرآن فإنه يعبر به الرؤيا أحسن تعبير وأصول التعبير الصحيحة إنما أخذت من مشكاة القرآن فالسفينة تعبر بالنجاة(7/228)
ص -194-…لقوله تعالى {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} وتعبر بالتجارة والخشب بالمنافقين والحجارة بقساوة القلب والبيض بالنساء واللباس أيضا بهن وشرب الماء بالفتنة وأكل لحم الرجل بغيبته والمفاتيح بالكسب والخزائن والأموال والفتح يعبر مرة بالدعاء ومرة بالنصر وكالملك يرى في محله لا عادة له بدخولها يعبر بإذلال أهلها وفسادها والحبل يعبر بالعهد والحق والعضد والنعاس قد يعبر بالأمن والبقل والبصل والثوم والعدس يعبر لمن أخذه بأنه قد استبدل شيئا أدنى بما هو خير منه من مال أو رزق أو علم أو زوجة أو دار والمرض يعبر بالنفاق والشك وشهوة الرياء والطفل الرضيع يعبر بالعدو لقوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} والنكاح بالبناء والرماد بالعمل الباطل لقوله تعالى {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ} والنور يعبر بالهدى والظلمة بالضلال ومن ههنا قال عمر بن الخطاب لحابس بن سعد الطائي وقد ولاه القضاء فقال له: "يا أمير المؤمنين إني رأيت الشمس والقمر يقتتلان والنجوم بينهما نصفين فقال عمر: "مع أيهما كنت" قال: "مع القمر على الشمس" قال: "كنت مع الآية الممحوة اذهب فلست تعمل لي عملا ولا تقتل إلا في لبس من الأمر فقتل يوم صفين" وقيل لعابر: "رأيت الشمس والقمر دخلا في جوفي فقال: تموت" واحتج بقوله تعالى {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} وقال رجل لابن سيرين رأيت معي أربعة أرغفة خبز فطلعت الشمس فقال تموت إلى أربعة أيام ثم قرأ قوله تعالى {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً ُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً} وأخذ هذا التأويل أنه حمل رزقه أربعة أيام وقال له آخر رأيت كيسي مملوءا أرضة فقال أنت ميت ثم قرأ:(7/229)
{فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْض} والنخلة تدل على الرجل المسلم وعلى الكلمة الطيبة والحنظلة تدل على ضد ذلك والصنم يدل(7/230)
ص -195-…على العبد السوء الذي لا ينفع والبستان يدل على العمل واحتراقه يدل على حبوطه لما تقدم في أمثال القرآن ومن رأى أنه ينقض غزلا أو ثوبا لعبيده مرة ثانية فإنه ينقض عهدا وينكثه والمشي سويا في طريق مستقيم يدل على استقامته على الصراط المستقيم والأخذ في بنيات الطريق يدل على عدوله عنه إلى ما خالفه وإذا عرضت له طريقان ذات يمين وذات شمال فسلك أحدهما فإنه من أهلها وظهور عورة الإنسان له ذنب يرتكبه ويفتضح به وهروبه وفراره من شيء نجاة وظفر وغرقه في الماء فتنة في دينه ودنياه وتعلقه بحبل بين السماء والأرض تمسكه بكتاب الله وعهده واعتصامه بحبله فإن انقطع به فارق العصمة إلا أن يكون ولي أمرا فإنه قد يقتل أو يموت.
فالرؤيا أمثال مضروبة يضربها الملك الذي قد وكله الله بالرؤيا ليستدل الرائي بما ضرب له من المثل على نظيره ويعبر منه إلى شبهه ولهذا سمي تأويلها تعبيرا وهو تفعيل من العبور كما أن الاتعاظ يسمى اعتبارا وعبرة لعبور المتعظ من النظير إلى نظيره ولولا أن حكم الشيء حكم مثله وحكم النظير حكم نظيره لبطل هذا التعبير والاعتبار ولما وجد إليه سبيل ولقد أخبر سبحانه أنه ضرب الأمثال لعباده في غير موضع من كتابه وأمر باستماع أمثاله ودعا عباده إلى تعقلها والتفكير فيها والاعتبار بها وهذا هو المقصود بها.
التساوي بين المتماثلين في الأحكام الشرعية:
وأما أحكامه الأمرية الشرعية فكلها هكذا تجدها مشتملة على التسوية يبن المتماثلين وإلحاق النظير بنظيره واعتبار الشيء بمثله والتفريق بين المختلفين وعدم تسوية أحدهما بالآخر وشريعته سبحانه منزهة من أن تنهى عن شيء لمفسدة فيه ثم تبيح ما هو مشتمل على تلك المفسدة أو مثلها أو أزيد منها فمن جوز ذلك على الشريعة فما عرفها حق معرفتها ولا قدرها حق قدرها وكيف يظن بالشريعة أنها تبيح شيئا لحاجة المكلف إليه ومصلحته ثم تحرم(7/231)
ص -196-…ما هو أحوج إليه والمصلحة في إباحته أظهر وهذا من أمحل المحال ولذلك كان من المستحيل أن يشرع الله ورسوله من الحيل ما يسقط به ما أوجبه أو يبيح به ما حرمه ولعن فاعله وآذنه بحربه وحرب رسوله وشدد فيه الوعيد لما تضمنه من المفسدة في الدنيا والدين ثم بعد ذلك يسوغ التوصل إليه بأدنى حيلة ولو أن المريض اعتمد هذا فيما يحميه منه الطبيب ويمنعه منه لكان معينا على نفسه ساعيا في ضرره وعد سفيها مفرطا وقد فطر الله سبحانه عباده على أن الحكم النظير حكم نظيره وحكم الشيء حكم مثله وعلى إنكار التفريق بين المتماثلين وعلى إنكار الجمع بين المختلفين والعقل والميزان الذي أنزله الله سبحانه شرعا وقدرا يأبى ذلك.
الجزاء من جنس العمل:
لذلك كان الجزاء مماثلا للعمل من جنسه في الخير والشر فمن ستر مسلما ستره الله ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن أقال نادما أقاله الله عثرته يوم القيامة ومن تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته ومن ضار مسلما ضار الله به ومن شاق شاق الله عليه ومن خذل مسلما في موضع يجب نصرته فيه خذله الله في موضع يجب نصرته فيه ومن سمح سمح الله له والراحمون يرحمهم الرحمن وإنما يرحم الله من عباده الرحماء ومن أنفق أنفق عليه ومن أوعى أوعى عليه ومن عفا عن حقه عفا الله له عن حقه ومن جاوز تجاوز الله عنه ومن استقصى استقصى الله عليه فهذا شرع الله وقدره ووحيه وثوابه وعقابه كله قائم بهذا الأصل وهو إلحاق النظير بالنظير واعتبار المثل بالمثل.
القرآن يعلل الأحكام:(7/232)
لهذا يذكر الشارع العلة والأوصاف المؤثرة والمعاني المعتبرة في الأحكام القدرية والشرعية والجزائية ليدل بذلك على تعلق الحكم بها أين وجدت واقتضائها لأحكامها وعدم تخلفها عنها إلا لمانع يعارض اقتضاءها ويوجب تخلف أثرها عنها كقوله تعالى {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وقوله{ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ(7/233)
ص -197-…وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} {ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً} {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ} {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} وقد جاء التعليل في الكتاب العزيز بالباء تارة وباللام تارة وبأن تارة وبمجموعهما تارة وبكي تارة ومن أجل تارة وترتيب الجزاء على الشرط تارة وبالفاء المؤذنة بالسببية تارة وترتيب الحكم على الوصف المقتضي له تارة وبلما تارة وبأن المشددة تارة وبلعل تارة وبالمفعول له تارة فالأول كما تقدم واللام كقوله {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} وأن كقوله {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} ثم قيل التقدير لئلا تقولوا وقيل كراهة أن تقولوا وأن واللام كقوله {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} وغالب ما يكون هذا النوع في النفي فتأمله وكي كقوله {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً} والشرط والجزاء كقوله {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} والفاء كقوله {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ} {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} وترتيب الحكم على الوصف كقوله {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ} وقوله {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} وقوله {نَّا لا نُضِيعُ(7/234)
أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} {وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} و{اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} ولما كقوله {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} وإن المشددة كقوله {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ} ولعل كقوله {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} والمفعول له كقوله {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى}.(7/235)
ص -198-…أي لم يفعل ذلك جزاء نعمة أحد من الناس وإنما فعله ابتغاء وجه ربه الأعلى ومن أجل كقوله {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ}.
النبي يعلل الأحكام:
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم علل الأحكام والأوصاف المؤثرة فيها ليدل على ارتباطها بها وتعديها بتعدي أوصافها وعللها كقوله في نبيذ التمر: "تمرة طيبة وماء طهور" وقوله: "إنما جعل الاستئذان من أجل البصر" وقوله: "إنما نهيتكم من أجل الدافة" وقوله في الهرة "ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات" ونهيه عن تغطية رأس المحرم الذي وقصته ناقته وتقريبه الطيب وقوله: "فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا" وقوله: "إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم" ذكره تعليلا لنهيه عن نكاح المرأة على عمتها وخالتها وقوله تعالى {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} وقوله في الخمر والميسر {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} وقوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن بيع الرطب بالتمر "أينقص الرطب إذا جف قالوا: نعم فنهى عنه" وقوله: "لا يتناجى اثنان دون الثالث فإن ذلك يحزنه" وقوله: "إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقلوه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخرة دواء وإنه يتقي بالجناح الذي فيه الداء" وقوله: "إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر فإنها رجس" وقال وقد سئل عن مس الذكر هل ينقض الوضوء فقال: "هل هو إلا بضعة منك" وقوله في ابنة حمزة: "إنها لا تحل لي إنها ابنة أخي من الرضاعة" وقوله في الصدقة: "إنها لا تحل لآل محمد إنما هي أوساخ الناس".
وقد قرب النبي صلى الله عليه وسلم الأحكام إلى أمته بذكر نظائرها(7/236)
ص -199-…وأسبابها وضرب لها الأمثال فقال له عمر: "صنعت اليوم يا رسول الله أمرا عظيما قبلت وأنا صائم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت لو تمضمت بماء وأنت صائم فقلت: لا بأس بذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فصم" ولولا أن حكم المثل حكم مثله وأن المعاني والعلل مؤثرة في الأحكام نفيا وإثباتا لم يكن لذكر هذا التشبيه معنى فذكره ليدل به على أن حكم النظير حكم مثله وأن نسبة القبلة التي هي وسيلة إلى الوطء كنسبة وضع الماء في الفم الذي هو وسيلة إلى شربه فكما أن هذا الأمر لا يضر فكذلك الآخر وقد قال صلى الله عليه وسلم للرجل الذي سأله فقال: "إن أبي أدركه الإسلام وهو شيخ كبير لا يستطيع ركوب الرحل والحج مكتوب عليه أفأحج عنه قال: أنت أكبر ولده قال: نعم قال: أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته عنه أكان يجزىء عنه قال: نعم قال: فحج عنه" فقرب الحكم من الحكم وجعل دين الله سبحانه في وجوب القضاء أو في قبوله بمنزلة دين الآدمي وألحق النظير بالنظير وأكد هذا المعنى بضرب من الأولى وهو قوله: "اقضوا الله فالله أحق بالقضاء" ومنه الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وفي بضع أحدكم صدقة قالوا: يا رسول الله يأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان يكون عليه وزر؟ قالوا: نعم قال: فكذلك إذا وضعها في الحلال يكون له أجر" وهذا من قياس العكس الجلي البين وهو إثبات نقيض حكم الأصل في الفرع لثبوت ضد علته فيه ومنه الحديث الصحيح: "أن أعرابيا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني امرأتي ولدت غلاما أسود وإني أنكرته فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لك من إبل قال نعم قال فما ألوانها قال حمر قال هل فيها من أورق قال إن فيها لورقا قال فإنى ترى ذلك جاءها قال يا رسول الله عرق نزعه قال ولعل هذا عرق نزعه" ولم يرخص له في الاتنفاء منه ومن تراجم(7/237)
ص -200-…البخاري على هذا الحديث: "باب من شبه أصلا معلوما بأصل مبين قد بين الله حكمهما ليفهم السائل" ثم ذكر بعده حديث ابن عباس: "أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إن أمي نذرت أن تحج فماتت قبل أن تحج أفأحج عنها قال نعم حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته قالت نعم فقال: "اقضوا الله فإن الله أحق بالوفاء".
الناس طرفان ووسط في القياس:
وهذا الذي ترجمه البخاري هو فصل النزاع في القياس لا كما يقوله المفرطون فيه ولا المفرطون فإن الناس فيه طرفان ووسط فأحد الطرفين من ينفي العلل والمعاني والأوصاف المؤثرة ويجوز ورود الشريعة بالفرق بين المتساويين والجمع بين المختلفين ولا يثبت أن الله سبحانه شرع الأحكام لعلل ومصالح وربطها بأوصاف مؤثرة فيها مقتضية لها طردا وعكسا وأنه قد يوجب الشيء ويحرم نظيره من كل وجه ويحرم الشيء ويبيح نظيره من كل وجه وينهى عن الشيء لا لمفسدة فيه ويأمر به لا لمصلحة بل لمحض المشيئة المجردة عن الحكمة والمصلحة وبإزاء هؤلاء قوم أفرطوا فيه وتوسعوا جدا وجمعوا بين الشيئين اللذين فرق الله بينهما بأدنى جامع من شبه أو طرد أو وصف يتخيلونه علة يمكن أن يكون علته وأن لا يكون فيجعلونه هو السبب الذي علق الله ورسوله عليه الحكم بالخرص والظن وهذا هو الذي أجمع السلف على ذمه كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم يذكر في الأحكام العلل والأوصاف المؤثرة فيها طردا وعكسا كقوله للمستحاضة التي سألته هل تدع الصلاة زمن استحاضتها فقال: "لا إنما ذلك عرق وليس بالحيضة" فأمرها أن تصلي مع هذا الدم وعلل بأنه دم عرق وليس بدم حيض وهذا قياس يتضمن الجمع والفرق.(7/238)
ص -201-…قد تغني العلة عن ذكر الأصل:
فإن قيل: فشرط صحة القياس ذكر الأصل المقيس عليه ولم يذكر في الحديث.
قيل: هذا من حسن الاختصار والاستغناء بالوصف الذي يستلزم ذكر الأصل المقيس عليه فإن المتكلم قد يعلل بعلة يغني ذكرها عن الأصل ويكون تركه لذكر الأصل أبلغ من ذكره فيعرف السامع الأصل حين يسمع ذكر العلة فلا يشكل عليه ورسول الله صلى الله عليه وسلم حين علل عدم وجوب الصلاة مع هذا الدم بأنه عرق صار الأصل الذي يرده إليه هذا الكلام معلوما فإن كل سامع سمع هذا يفهم منه أن دم العرق لا يوجب ترك الصلاة ولو قال: "هو عرق فلا يوجب ترك الصلاة كسائر دم العروق" لكان عيا وعد من الكلام الركيك ولم يكن لائقا بفصاحته وإنما يليق هذا بعجرفة المتأخرين وتكلفهم وتطويلهم.
ونظير هذا قوله صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن مس ذكره: "هل هو إلا بضعة منك" فاستغنى بهذا عن تكلف قوله: كسائر البضعات.
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم للمرأة التي سألته: "هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت فقال نعم فقالت أم سليم أو تحتلم المرأة يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما النساء شقائق الرجال".
فبين أن النساء والرجال شقيقان ونظيران لا يتفاوتان ولا يتباينان في ذلك وهذا يدل على أنه من المعلوم الثابت في فطرهم أن حكم الشقيقين والنظيرين حكم واحد سواء كان ذلك تعليلا منه صلى الله عليه وسلم للقدر أو للشرع أو لهما فهو دليل على تساوي الشقيقين وتشابه القرينين وإعطاء أحدهما حكم الآخر.(7/239)
ص -202-…فصل
حديث معاذ في القياس:
وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم معاذا على اجتهاد رأيه فيما لم يجد فيه نصا عن الله ورسوله فقال شعبة: حدثني أبو عون عن الحارث بن عمرو عن أناس من أصحاب معاذ عن معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن قال: "كيف تصنع إن عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بما في كتاب الله قال: فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أجتهد رأيي لا آلو قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدري ثم قال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضى رسول الله صلى الله عليه وسلم" فهذا حديث وإن كان عن غير مسمين فهم أصحاب معاذ فلا يضره ذلك لأنه يدل على شهرة الحديث وأن الذي حدث به الحارث بن عمرو عن جماعة من أصحاب معاذ لا واحد منهم وهذا أبلغ في الشهرة من أن يكون عن واحد منهم لو سمي كيف وشهرة أصحاب معاذ بالعلم والدين والفضل والصدق بالمحل الذي لا يخفى ولا يعرف في أصحابه متهم ولا كذاب ولا مجروح بل أصحابه من أفاضل المسلمين وخيارهم لا يشك أهل العلم بالنقل في ذلك كيف وشعبة حامل لواء هذا الحديث وقد قال بعض أئمة الحديث: "إذا رأيت شعبة في إسناد حديث فاشدد يديك به" قال أبو بكر الخطيب: "وقد قيل إن عبادة بن نسى" رواه عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ وهذا إسناد متصل ورجاله معروفون بالثقة على أن أهل العلم قد نقلوه واحتجوا به فوقفنا بذلك على صحته عندهم كما وقفنا على صحة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث" وقوله في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" وقوله: "إذا اختلف المتبايعان في الثمن والسلعة قائمة تحالفا وترادا البيع" وقوله: "الدية على العاقلة" وإن كانت هذه الأحاديث(7/240)
ص -203-…لا تثبت من جهة الإسناد ولكن ما تلقتها الكافة عن الكافة غنوا بصحتها عندهم عن طلب الإسناد لها فكذلك حديث معاذ لما احتجوا به جميعا غنوا عن طلب الإسناد له انتهى كلامه.
وقد جوز النبي صلى الله عليه وآله وسلم للحاكم أن يجتهد رأيه وجعل له على خطئه في اجتهاد الرأي أجرا واحدا إذا كان قصده معرفة الحق واتباعه
فصل
الصحابة يجتهدون ويقيسون:
وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهدون في النوازل ويقيسون بعض الأحكام على بعض ويعتبرون النظير بنظيره.
قال أسد بن موسى: ثنا شعبة عن زبيد اليامي عن طلحة بن مصرف عن مرة الطبيب عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة: "كل قوم على بينة من أمرهم ومصلحة من أنفسهم يزرون على من سواهم ويعرف الحق بالمقايسة عند ذوي الألباب" وقد رواه الخطيب وغيره مرفوعا ورفعه غير صحيح.
وقد اجتهد الصحابة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحكام ولم يصنفهم كما أمرهم يوم الأحزاب أن يصلوا العصر في بني قريظة فاجتهد بعضهم وصلاها في الطريق وقال: لم يرد منا التأخير وإنما أراد سرعة النهوض فنظروا إلى المعنى واجتهد آخرون وأخروها إلى بني قريظة فصلوها ليلا نظروا إلى اللفظ وهؤلاء سلف أهل الظاهر وهؤلاء سلف أصحاب المعاني والقياس.
ولما كان علي رضي الله تعالى عنه باليمن أتاه ثلاثة نفر يختصمون في غلام فقال كل منهم هو ابني فأقرع علي بينهم فجعل الولد للقارع وجعل عليه للرجلين ثلثي الدية فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه من قضاء علي رضي الله عنه.(7/241)
ص -204-…واجتهد سعد بن معاذ في بني قريظة وحكم فيهم باجتهاده فصوبه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات".
واجتهد الصحابيان اللذان خرجا في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فصليا ثم وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما ولم يعد الآخر فصوبهما وقال للذي لم يعد: "أصبت السنة وأجزأتك صلاتك" وقال للآخر: "لك الأجر مرتين".
ولما قاس مجزز المدلجي وقاف وحكم بقياسه وقيافته على أن أقدام زيد وأسامة ابنه بعضها مع بعض سر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى برقت أسارير وجهه من صحة هذا القياس وموافقته للحق وكان زيد أبيض وابنه أسامة أسود فألحق هذا القائف الفرع بنظيره وأصله وألغى وصف السواد والبياض الذي لا تأثير له في الحكم.
وقد تقدم قول الصديق رضي الله عنه في الكلالة: "أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان أراه ما خلا الوالد والولد" فلما استخلف عمر قال: "إني لأستحيي من الله أن أرد شيئا قاله أبو بكر" وقال الشعبي عن شريح قال: قال لي عمر: "اقض بما استبان لك من كتاب الله فإن لم تعلم كل كتاب الله فاقض بما استبان لك من قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم تعلم كل أقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض بما استبان لك من أئمة المهتدين فإن لم تعلم كل ما قضت به أئمة المهتدين فاجتهد رأيك واستشر أهل العلم والصلاح" وقد اجتهد ابن مسعود في المفوضة وقال: "أقول فيها برأيي" ووفقه الله للصواب وقال سفيان: عن عبد الرحمن الأصبهاني عن عكرمة قال: "أرسلني ابن عباس إلى زيد بن ثابت أسأله عن زوج وأبوين فقال: للزوج النصف وللأم الثلث ما بقي وللأب(7/242)
ص -205-…بقية المال فقال: تجده في كتاب الله أو تقوله برأيك قال أقوله برأيي ولا أفضل أما على أب" وقايس علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وزيد بن ثابت في المكاتب وقايسه في الجد والإخوة وقاس ابن عباس الأضراس بالأصابع وقال عقلها سواء اعتبروها بها.
اجتماع الفقهاء على مسائل في القياس:
قال المزني: "الفقهاء من عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا وهلم جرا استعملوا المقاييس في الفقه في جميع الأحكام في أمر دينهم" قال: "وأجمعوا بأن نظير الحق حق ونظير الباطل باطل فلا يجوز لأحد إنكار القياس لأنه التشبيه بالأمور والتمثيل عليها".
قال أبو عمر بعد حكاية ذلك عنه: "ومن القياس المجمع عليه صيد ما عدا المكلب من الجوارح قياسا على الكلاب" بقوله: "وما علمتم من الجوارح مكلبين" قال عز وجل {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} فدخل في ذلك المحصنون قياسا وكذلك قوله في الإماء {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} فدخل في ذلك العبد قياسا عند الجمهور إلا من شذ ممن لا يكاد يعد قوله خلافا وقال في جزاء الصيد المقتول في الإحرام {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً} فدخل فيه قتل الخطأ قياسا عند الجمهور إلا من شذ وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} فدخل في ذلك الكتابيات قياسا وقال في الشهادة في المداينات {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} فدخل في معنى {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} قياسا المواريث والودائع والغصوب وسائر الأموال.
وأجمعوا على توريث البنتين الثلثين قياسا على الأختين وقال عمن أعسر(7/243)
ص -206-…بما بقي عليه من الربا {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} فدخل في ذلك كل معسر بدين حلال وثبت ذلك قياسا.
ومن هذا الباب توريث الذكر ضعفي ميراث الأنثى منفردا وإنما ورد النص في اجتماعهما بقوله {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} وقال {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} ومن هذا الباب أيضا قياس التظاهر بالبنت على التظاهر بالأم وقياس الرقبة في الظهر على الرقبة في القتل بشرط الإيمان وقياس تحريم الأختين وسائر القرابات من الإماء على الحرائر في الجمع في التسري قال وهذا لو تقصيته لطال به الكتاب.
الرد على من ينفون القياس:
قلت: بعض هذه المسائل فيها نزاع وبعضها لا يعرف فيها نزاع بين السلف وقد رام بعض نفاة القياس إدخال هذه المسائل المجمع عليها في العمومات اللفظية فأدخل قذف الرجال في قذف المحصنات وجعل المحصنات صفة للفروج لا للنساء وأدخل صيد الجوارح كلها في قوله {الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} وقوله {مُكَلِّبِينَ} وإن كان من لفظ الكلب فمعناه مغرين لها على الصيد قاله مجاهد والحسن وهو رواية عن ابن عباس وقال أبو سليمان الدمشقي: "مكلبين معناه معلمين" وإنما قيل لهم مكلبين لأن الغالب من صيدهم إنما يكون بالكلاب.(7/244)
وهؤلاء وإن أمكنهم ذلك في بعض المسائل كما جزموا بتحريم أجزاء الخنزير لدخوله في قوله: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} وأعادوا الضمير إلى المضاف إليه دون المضاف فلا يمكنهم ذلك في كثير من المواضع وهم مضطرون فيها ولا بد إلى القياس أو القول بما لم يقل به غيرهم ممن تقدمهم فلا يعلم أحد من أئمة الفتوى يقول في قول النبي صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن فأرة وقعت في سمن: "ألقوها وما حولها وكلوه" إن ذلك مختص بالسمن دون سائر الأدهان والمائعات هذا مما يقطع بأن الصحابة والتابعين وأئمة الفتيا(7/245)
ص -207-…لا يفرقون به بين السمن والزيت والشيرج والدبس كما لا يفرق بين الفأرة والهرة في ذلك وكذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الرطب بالتمر لا يفرق عالم يفهم عن الله ورسوله بين ذلك وبين بيع العنب بالزبيب ومن هذا أن الله سبحانه قال في المطلقة ثلاثا {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله} أي إن طلقها الثاني فلا جناح عليها وعلى الزوج الأول أن يتراجعا والمراد به تجديد العقد وليس ذلك مختصا بالصورة التي يطلق فيها الثاني فقط بل متى تفارقا بموت أو خلع أو فسخ أو طلاق حلت للأول قياسا على الطلاق ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تأكلوا في آنية من الذهب والفضة ولا تشربوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة" وقوله: "الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم" وهذا التحريم لا يختص بالأكل والشرب بل يعم سائر وجوه الانتفاع فلا يحل له أن يغتسل بها ولا يتوضأ بها ولا يدهن فيها ولا يتكحل منها وهذا أمر لا يشك فيه عالم ومن ذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم المحرم عن لبس القميص والسراويل والعمامة والخفين ولا يختص ذلك بهذه الأشياء فقط بل يتعدى النهي إلى الجباب والدلوق والمبطنات والفراجي والأقبية والعرقشينات وإلى القبع والطاقية والكوفية والكلوثة والطيلسان والقلنسوة وإلى الجوربين والجرموقين والزربول ذي الساق وإلى التبان ونحوه.
ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار" فلو ذهب معه بخرقة وتنظف أكثر من الأحجار(7/246)
ص -208-…أو قطن أو صوف أو خز ونحو ذلك جاز وليس للشارع غرض في غير التنظيف والإزالة فما كان أبلغ في ذلك كان مثل الأحجار في الجواز وأولى.
ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيع الرجل على بيع أخيه أو يخطب على خطبته ومعلوم أن المفسدة التي نهى عنها في البيع والخطبة موجودة في الإجارة فلا يحل له أن يؤجر على إجارته وإن قدر دخول الإجارة في لفظ البيع العام وهو بيع المنافع فحقيقتها غير حقيقة البيع وأحكامها غير أحكامه.
ومن ذلك قوله سبحانه في آية التيمم {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} فألحقت الأمة أنواع الحدث الأصغر على اختلافها في نقضها بالغائط والآية لم تنص من أنواع الحدث الأصغر إلا عليه وعلى اللمس على قول من فسره بما دون الجماع وألحقت الاحتلام بملامسة النساء وألحقت واجد ثمن الماء بواجده وألحقت من خاف على نفسه أو بهائمه من العطش إذا توضأ بالعادم فجوزت له التيمم وهو واجد للماء وألحقت من خشي المرض من شدة برد الماء بالمريض في العدول عنه إلى البدل وإدخال هذه الأحكام وأمثالها في العمومات المعنوية التي لا يستريب من له فهم عن الله ورسوله في قصد عمومها وتعليق الحكم به وكونه متعلقا بمصلحة العبد أولى من إدخالها في عمومات لفظية بعيدة التناول لها ليست بحرية الفهم مما لا ينكر تناول العمومين لها فمن الناس من يتنبه لهذا ومنهم من يتنبه لهذا ومنهم من يتفطن لتناول العمومين لها.
ومن ذلك قوله تعالى {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} وقاست الأمة الرهن في الحضر على الرهن في السفر والرهن مع وجود الكاتب على الرهن مع عدمه فإن استدل على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم رهن(7/247)
ص -209-…درعه في الحضر فلا عموم في ذلك فإنما رهنها على شعير استقرضه من يهودي فلا بد من القياس إما على الآية وإما على السنة ومن ذلك أن سمرة بن جندب لما باع خمر أهل الذمة وأخذه في العشور التي عليهم فبلغ عمر فقال قاتل الله سمرة أما علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها" وهذا محض القياس من عمر رضي الله عنه فإن تحريم الشحوم على اليهود كتحريم الخمر على المسلمين وكما ثمن الشحوم المحرمة فكذلك يحرم ثمن الخمر الحرام.
ومن ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم جعلوا العبد على النصف من الحر في النكاح والطلاق والعدة قياسا على ما نص الله عليه من قوله {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} قال عبد الرزاق: أنا سفيان بن عيينة عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "ينكح العبد اثنيتن".
وقال عبد الرزاق: أنبأنا سفيان الثوري وابن جريج قالا: ثنا جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة قال: "ينكح العبد اثنتين".
وذكر الإمام أحمد عن محمد بن سيرين قال: "سأل عمر بن الخطاب الناس: كم يتزوج العبد؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: "اثنتين وطلاقه ثنتان" وهذا كان بمحضر من الصحابة فلم ينكره أحد.
وقال محمد بن عبد السلام الخشني: حدثنا محمد بن المثنى ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن ليث بن أبي سليم عن عطاء قال: "أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن العبد لا يجمع بين النساء فوق اثنتين".
وروى حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن عمرو بن أوس أن عمر قال:(7/248)
ص -210-…"لو أستطيع أن أجعل عدة الأمة حيضة ونصفا لفعلت فقال رجل: يا أمير المؤمنين فاجعلها شهرا ونصف" فسكت.
وقال عبد الله بن عتبة عن عمر: "عدة الأمة إذا لم تحض شهران كعدتها إذا حاضت حيضتين".
وروى ابن عيينة عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن عتبة عن عمر: "ينكح العبد امرأتين ويطلق طلقتين وتعتد الأمة حيضتين وإن لم تكن تحيض فشهرين أو شهرا ونصفا" وقال علي: "عدة الأمة حيضتان فإن لم تكن تحيض فشهر ونصف".
والمقصود أن الصحابة رضي الله عنهم نصفوا ذلك قياسا على تنصيف الله سبحانه الحد على الأمة.
ومن ذلك أن الصحابة قدموا الصديق في الخلافة وقالوا: "رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا أفلا نرضاه لدنيانا؟" فقاسوا الإمامة الكبرى على إمامة الصلاة وكذلك اتفاقهم على كتابة المصحف وجمع القرآن فيه وكذلك اتفاقهم على جمع الناس على مصحف واحد وترتيب واحد وحرف واحد وكذلك منع عمر وعلي من بيع أمهات الأولاد برأيهما وكذلك تسوية الصديق بين الناس في العطاء برأيه وتفضيل عمر برأيه وكذلك إلحاق عمر حد الخمر بحد القذف برأيه وأقره الصحابة وكذلك توريث عثمان بن عفان رضي الله عنه المبتوتة في مرض الموت برأيه ووافقه الصحابة وكذلك قول ابن عباس في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه قال: "أحسب كل شيء بمنزلة الطعام" وكذلك عمر وزيد لما ورثا الأم ثلث ما بقي في مسألة زوج وأبوين وامرأة وأبوين قاسا وجود الزوج على ما إذا لم يكن زوج فإنه حينئذ يكون للأب ضعف ما للأم فقدرا أن الباقي بعد الزوج والزوجة كل المال وهذا من أحسن القياس فإن قاعدة الفرائض أن الذكر والأنثى إذا اجتمعا وكانا في درجة واحدة فإما أن يأخذ الذكر ضعف ما تأخذه الأنثى كالأولاد وبني الأب(7/249)
ص -211-…وإما أن تساويه كولد الأم وأما أن الأنثى تأخذ ضعف ما يأخذ الذكر مع مساواته لها في درجته فلا عهد به في الشريعة فهذا من أحسن الفهم عن الله ورسوله وكذلك أخذ الصحابة في الفرائض بالعول وإدخال النقص على جميع ذوي الفروض قياسا على وإدخال النقص على الغرماء إذا ضاق مال المفلس عن توفيتهم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للغرماء: "خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك" وهذا محض العدل على أن تخصيص بعض المستحقين بالحرمان وتوفية بعضهم بأخذ نصيبه ليس من العدل.
اتفاق الصحابة في قياس حد الشرب على حد القذف:
وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن أيوب السختياني عن عكرمة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شاور الناس في حد الخمر وقال: "إن الناس قد شربوها واجترءوا عليها" فقال له علي كرم الله وجهه: "إن السكران إذا سكر هذى وإذا هذى افترى فاجعله حد الفرية" فجعله عمر حد الفرية ثمانين ورواه مالك عن ثور بن زيد الديلي أن عمر شاور الناس ورواه وكيع حدثنا ابن أبي خالد عن الشعبي قال: "استشارهم عمر" فذكره ولم ينفرد علي بهذا القياس بل وافقه عليه الصحابة قال الزهري: أخبرني حميد بن عبد الرحمن ابن عوف عن وبرة الصلي قال: "بعثني خالد بن الوليد إلى عمر فأتيته وعنده علي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف متكئون في المسجد فقلت: له إن خالد بن الوليد يقرأ عليك السلام ويقول لك إن الناس انبسطوا في الخمر وتحاقروا العقوبة فما ترى فقال: عمر هم هؤلاء عندك قال: فقال علي: أراه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى وعلى المفتري ثمانون فاجتمعوا على ذلك فقال عمر: بلغ صاحبك ما قالوا فضرب خالد ثمانين وضرب عمر ثمانين" قال: "وكان عمر إذا أتي بالرجل القوي المنتهك في الشراب ضربه ثمانين وإذا أتى بالرجل الذي كان منه الزلة الضعيف ضربه أربعين وجعل ذلك عثمان أربعين وثمانين" وهذه مراسيل ومسندات من وجوه متعددة يقوي بعضها بعضا وشهرتها تغني عن إسنادها.(7/250)
ص -212-…الصحابة يقيسون في فرص الجد مع الإخوة:
وقال عبد الرزاق: حدثنا سفيان الثوري عن عيسى بن أبي عيسى الخياط عن الشعبي قال: "كره عمر الكلام في الجد حتى صار جدا" وقال: "إنه كان من رأي أبي بكر أن الجد أولى من الأخ" وذكر الحديث وفيه فسأل عنها زيد بن ثابت فضرب له مثلا بشجرة خرجت ولها أغصان قال: فذكر شيئا لا أحفظه فجعل له الثلث قال الثوري: "وبلغني أنه قال يا أمير المؤمنين شجرة نبتت فانشعب منها غصن فانشعب من الغصن غصنان فما جعل الغصن الأول أولى من الغصن الثاني وقد خرج الغصنان من الغصن الأول" قال: "ثم سأل عليا فضرب له مثلا واديا سال فيه سيل فجعله أخا فيما بينه وبين ستة فأعطاه السدس وبلغني أن عليا كرم الله وجهه حين سأله عمر جعله سيلا" قال: "فانشعب منه شعبة ثم انشعبت شعبتان" فقال: "أرأيت لو أن هذه الشعبة الوسطى تيبس أما كانت ترجع إلى الشعبتين جميعا" قال الشعب: "فكان زيد يجعله أخا حتى يبلغ ثلاثة هو ثالثهم فإن زادوا على أعطاه الثلث" وكان على يجعله أخا ما بينه وبين ستة وهو سادسهم ويعطيه السدس فإن زادوا على ستة أعطاه السدس وصار ما بقي بينهم وقال القاضي إسماعيل بن إسحاق حدثنا إسماعيل بن أبي أويس حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه أخبرني خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه أن عمر بن الخطاب لما استشار في ميراث الجد والإخوة قال زيد: "وكان رأيي يومئذ أن الإخوة أحق بميراث أخيهم من الجد وعمر بن الخطاب يرى يومئذ أن الجد أولى بميراث ابن ابنه من إخوته فتحاورت أنا وعمر محاورة شديدة فضربت له في ذلك مثلا فقلت لو أن شجرة تشعب من أصلها غصن ثم تشعب في ذلك الغصن خوطان ذلك الغصن يجمع الخوطين دون الأصل(7/251)
ص -213-…ويغذوهما ألا ترى يا أمير المؤمنين أن أحد الخوطين أقرب إلى أخيه منه إلى الأصل قال زيد فأنا أعذله وأضرب له هذه الأمثال وهو يأبى إلا أن الجد أولى من الإخوة" ويقول والله لو أني قضيته اليوم لبعضهم لقضيت به للجد كله ولكن لعلى لا أخيب منهم أحدا ولعلهم أن يكونوا كلهم ذوى حق وضرب على وابن عباس لعمر يومئذ مثلا معناه لو أن سيلا سال فخلج منه خليج ثم خلج من ذلك الخليج شعبتان.
ورأى الصديق أولى من هذا الرأي وأصح في القياس لعشرة أوجه ليس هذا موضع ذكرها.
والجواب عن هذه الأمثلة: أن المقصود أن الصحابة رضى الله عنهم كانوا يستعملون القياس في الأحكام ويعرفونها بالأمثال والأشباه والنظائر ولا يلتفت إلى من يقدح في كل سند من هذه الأسانيد وأثر من هذه الآثار فهذه في تعددها واختلاف وجوهها وطرقها جارية مجرى التواتر المعنوي الذي لا يشك فيه وإن لم يثبت كل فرد فرد من الأخبار به.
وقال عبد الرزاق: حدثنا ابن جريج قال: أخبرني عمرو قال: أخبرني حي بن يعلى بن أمية أنه سمع أباه يقول وذكر قصة الذي قتلته امرأة أبيه وخليلها أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أن اقتلهما فلو اشترك فيه أهل صنعاء كلهم لقتلتهم قال ابن جريج: فأخبرني عبد الكريم وأبو بكر قالا جميعا: "إن عمر كان يشك فيها حتى قال له علي يا أمير المؤمنين أرأيت لو أن نفرا اشتركوا في سرقة جزور فأخذ هذا عضوا وهذا عضوا أكنت قاطعهم قال: نعم قال: وذلك حين استخرج له الرأي".
قياس ابن عباس في مناقشته مع الخوارج:
وقال عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج عمن حدثه عن ابن عباس قال: "أرسلني علي إلى الحرورية لأكلمهم فلما قالوا: لا حكم إلا لله قلت أجل صدقتم لا حكم إلا لله وإن الله حكم في رجل وامرأته وحكم(7/252)
ص -214-…في قتل الصيد فالحكم في رجل وامرأته والصيد أفضل أم الحكم في الأمة يرجع بها ويحقن دماءها ويلم شعثها".
وقال عبد الله بن المبارك: حدثنا عكرمة بن عمار ثنا سماك الحنفي قال: سمعت ابن عباس يقول: "قال علي: لا تقاتلوهم حتى يخرجوا فإنهم سيخرجون قال: قلت يا أمير المؤمنين أبرد بالصلاة فإني أريد أن أدخل عليهم فأسمع من كلامهم وأكلمهم فقال علي: أخشى عليك منهم قال: وكنت رجلا حسن الخلق لا أوذي أحدا قال فلبست أحسن ما يكون من اليمنية وترجلت ثم دخلت عليهم وهم قائلون فقالوا لي: ما هذا اللباس فتلوت عليهم القرآن قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس أحسن ما يكون من اليمنية فقالوا: لا بأس فما جاء بك فقلت أتيتكم من عند صاحبي وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بالوحي منكم وعليهم نزل القرآن أبلغكم عنهم وأبلغهم عنكم فما الذي نقمتم فقال: بعضهم إن قريشا قوم خصمون قال الله عز وجل: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} فقال بعضهم: كلموه فانتحى لي رجلان رجلان أو ثلاثة فقالوا: إن شئت تكلمت وإن شئت تكلمنا فقلت: بل تكلموا فقالوا: ثلاث نقمناهن عليه جعل الحكم إلى الرجال وقال الله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} فقلت: قد جعل الله الحكم من أمره إلى الرجال في ربع درهم في الأرنب وفي المرأة وزوجها فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها أفخرجت من هذه قالوا: نعم قالوا: وأخرى محا نفسه أن يكون أمير المؤمنين فإن لم يكن أمير المؤمنين فأمير الكافرين هو فقلت: لهم أرأيتم إن قرأت من كتاب الله عليكم وجئتكم به من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أترجعون قالوا: نعم قلت: قد سمعتم أو أراه قد بلغكم أنه لما كان يوم الحديبية جاء سهيل بن عمرو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: اكتب هذا ما صالح(7/253)
عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: لو نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي(7/254)
ص -215-…"امح يا علي" أفخرجت من هذه قالوا: نعم قال: وأما قولكم قتل ولم يسب ولم يغنم أفتسبون أمكم وتستحلون منها ما تستحلون من غيرها فإن قلتم نعم فقد كفرتم بكتاب الله وخرجتم من الإسلام فأنتم بين ضلالتين وكلما جئتهم بشيء من ذلك أقول: أفخرجت منها فيقولون نعم قال: فرجع منهم ألفان وبقي ستة آلاف" وله طرق عن ابن عباس وقياسه المذكور من أحسن القياس وأوضحه.
وقد أنكر ابن عباس على زيد بن ثابت مخالفته للقياس في مسألة الجد والإخوة فقال ألا يتقي الله زيد يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أب الأب أبا وهذا محض القياس.
ولما خص الصديق أم الأم بالميراث دون أم الأب قال له بعض الأنصار لقد ورثت امرأة من ميت لو كانت هي الميتة لم يرثها وتركت امرأة لو كانت هي الميتة ورث جميع ما تركت فشرك بينهما.
قال عبد الرزاق: أخبرنا ابن عيينة عن يحي بن سعيد عن القاسم بن محمد قال: "جاءت جدتان إلى أبي بكر فأعطى الميراث أم الأم دون أم الأب فقال: له رجل من الأنصار من بني حارثة يقال له عبد الرحمن بن سهل يا خليفة رسول الله قد أعطيت الميراث التي لو ماتت لم يرثها فجعل الميراث بينهما".
ولما شهد أبو بكرة وأصحابه على المغيرة بن شعبة بالحد ولم يكملوا النصاب حدهم عمر قياسا على القاذف ولم يكونوا قذفه بل شهودا وقال عثمان لعمر: "إن نتبع رأيك فرأيك أسد وإن نتبع رأي من قبلك فلنعلم ذو الرأي كان" وقال علي: "اجتمع رأيي ورأي عمر في بيع أمهات الأولاد أن لا يبعن ثم رأيت بيعهن فقال له قاضيه عبيدة السلماني يا أمير المؤمنين رأيك مع رأي عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة".
ولما أرسل عمر إلى المرأة فأسقطت جنينها استشار الصحابة فقال له عبد الرحمن بن عوف وعثمان: "إنما أنت مؤدب ولا شيء عليك" وقال له علي: "أما المأثم فأرجو أن يكون محطوطا عنك وأرى عليك الدية فقاسه عثمان(7/255)
ص -216-…وعبد الرحمن على مؤدب امرأته وغلامه وولده وقاسه علي على قاتل الخطأ فاتبع عمر قياس علي".
ولما احتضر الصديق رضي الله عنه أوصى بالخلافة إلى عمر رضى الله عنه وقاس ولايته لمن بعده إذ هو صاحب الحل و العقد على ولاية المسلمين له إذا كانوا هم أهل الحل و العقد و هذا من أحسن القياس.
رآى الصحابة في المرآة المخيرة:
وقال على كرم الله وجهه: "سألني أمير المؤمنين عمر عن الخيار فقلت: إن اختارت زوجها فهي واحدة وهو أحق بها وإن اختارت نفسها فهي واحدة بائنة فقال: ليس كذلك إن اختارت نفسها فهي واحدة وهو أحق بها وإن اختارت زوجها فلا شيء فاتبعته على ذلك فلم خلص الأمر إلى وعلمت أنى أسأل عن الفروج عدت إلى ما كنت أرى فقال له زاذان: لأمر جامعت عليه أمير المؤمنين و تركت رأيك له أحب إلينا من أمر انفردت به فضحك وقال: أما إنه قد أرسل إلى زيد بن ثابت و خالفني وإياه وقال: إن اختارت زوجها فهى واحدة وزوجها أحق بها وإن اختارت نفسها فهي ثلاث" وهذا رأى منهم كلهم رضى الله عنهم ورأى عمر رضى الله عنه أقوى وأصح.
وقال عمر لعلى: "إني قد رأيت في الجد رأيا فاتبعوني فقال على رضى الله عنه: إن نتبع رأيك فرأيك رشيد وإن نتبع رأى من قبلك فنعم ذو الرأي كان" وهل مع زيد بن ثابت في مسائل الجد والأخوة والمعادة والأكدرية نص من القرآن أوسنة أو إجماع إلا مجرد الرأي.
ومن ذلك اختلافهم في قول الرجل لامرأته: "أنت على حرام" فقال شيخا الإسلام وبصرا الدين وسمعه أبو بكر وعمر: "هو يمين" وتبعهما حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس وقال سيف الله على كرم الله وجهه وزيد: "هو طلاق ثلاث" وقال ابن مسعود: "طلقة واحدة" وهذا من الاجتهاد والرأي(7/256)
ص -217-…الصحابة أول من قاسوا واجتهدوا:
فالصحابة رضى الله عنهم مثلوا الوقائع بنظائرها وشبهوها بأمثالها وردوا بعضها إلى بعض في أحكامها وفتحوا للعلماء باب الاجتهاد ونهجوا لهم طريقه وبينوا لهم سبيله وهل يستريب عاقل في أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: "لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان" إنما كان ذلك لأن الغضب يشوش عليه قلبه وذهنه ويمنعه من كمال الفهم ويحول بينه وبين استيفاء النظر ويعمى عليه طريق العلم والقصد فمن قصر النهى على الغضب وحده دون الهم المزعج والخوف المقلق والجوع والظمأ الشديد وشغل القلب المانع من الفهم فقد قل فقهه وفهمه والتعويل في الحكم على قصد المتكلم والألفاظ لم تقصد لنفسها وإنما هي مقصودة للمعاني والتوصل بها إلى معرفة مراد المتكلم ومراده يظهر من عموم لفظه تارة ومن عموم المعنى الذي قصده تارة وقد يكون فهمه من المعنى أقوى وقد يكون من اللفظ أقوى وقد يتقاربان كما إذا قال الدليل لغيره لا تسلك هذا الطريق فإن فيها من يقطع الطريق أو هي معطشة مخوفة علم هو وكل سامع أن قصده أعم من لفظه وأنه أراد نهيه عن كل طريق هذا شأنها فلو خالفه وسلك طريقا أخرى عطب بها حسن لومه ونسب إلى مخالفته ومعصيته ولو قال الطبيب للعليل وعنده لحم ضأن لا تأكل الضأن فإنه يزيد في مادة المرض لفهم كل عاقل منه أن لحم الإبل والبقر كذلك ولو أكل منهما لعد مخالفا والتحاكم في ذلك إلى فطر الناس وعقولهم ولو من عليه غيره بإحسانه فقال والله لا أكلت له لقمة ولا شربت له ماء يريد خلاصه من منته عليه ثم قبل منه الدراهم والذهب والثياب والشاة ونحوها لعده العقلاء واقعا فيما هو أعظم مما حلف عليه ومرتكبا لذروة سنامه ولو لامه عاقل على كلامه لمن لا يليق به محادثته من امرأة أوصي فقال والله لا كلمته ثم رآه خاليا به يواكله ويشاربه ويعاشره ولا يكلمه لعدوه مرتكبا لأشد مما حلف عليه وأعظمه.(7/257)
ص -218-…العمل بالقياس فطرة فطر الله عليها الناس:
وهذا مما فطر الله عليه عباده ولهذا فهمت الأمة من قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} جميع وجوه الانتفاع من اللبس والركوب والمسكن وغيرها.
وفهمت من قوله تعالى {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفّ} إرادة النهي عن جميع أنواع الأذى بالقول والفعل وإن لم ترد نصوص أخرى بالنهي عن عموم الأذى فلو بصق رجل في وجه والديه وضربهما بالنعل وقال إني لم أقل لهما أف لعده الناس في غاية السخافة والحماقة والجهل من مجرد تفريقه بين التأفيف المنهي عنه وبين هذا الفعل قبل أن يبلغه نهي غيره ومنع هذا مكابرة للعقل والفهم والفطرة فمن عرف مراد المتكلم بدليل من الأدلة وجب اتباع مراده والألفاظ لم تقصد لذواتها وإنما هي أدلة يستدل بها على مراد المتكلم فإذا ظهر مراده ووضح بأي طريق كان عمل بمقتضاه سواء كان بإشارة أو كتابة أو بإيماءة أو دلالة عقلية أو قرينة حالية أو عادة له مطردة لا يخل بها أو من مقتضى كماله وكمال أسمائه وصفاته وأنه يمتنع منه إرادة ما هو معلوم الفساد وترك إرادة ما هو متيقن مصلحته وأنه يستدل على إرادته للنظير بإرادة نظيره ومثله وشبهه وعلى كراهة الشيء بكراهة مثله ونظيره ومشبهه فيقطع العارف به وبحكمته وأوصافه على أنه يريد هذا ويكره هذا ويحب هذا ويبغض هذا وأنت تجد من له اعتناء شديد بمذهب رجل وأقواله كيف يفهم مراده من تصرفه ومذاهبه ويخبر عنه بأنه يفتي بكذا ويقوله وأنه لا يقول بكذا ولا يذهب إليه لما لا يوجد في كلامه صريحا وجميع أتباع الأئمة مع أئمتهم بهذه المثابة.
العبرة بالإرادة لا باللفظ:
وهذا أمر يعم أهل الحق والباطل لا يمكن دفعه فاللفظ الخاص قد ينتقل إلى معنى العموم بالإرادة والعام قد ينتقل إلى الخصوص بالإرادة فإذا دعي إلى(7/258)
ص -219-…غداء فقال: والله لا أتغدى أو قيل له "نم" فقال: والله لا أنام أو "اشرب هذا الماء" فقال: والله لا أشرب فهذه كلها ألفاظ عامة نقلت إلى معنى الخصوص بإرادة المتكلم التي يقطع السامع عند سماعها بأنه لم يرد النفي العام إلى آخر العمر والألفاظ ليست تعبدية والعارف يقول ماذا أراد واللفظي يقول ماذا قال كما كان الذين لا يفقهون إذا خرجوا من عند النبي صلى الله عليه وسلم يقولون ماذا قال آ نفا وقد أنكر الله سبحانه عليهم وعلى أمثالهم بقوله: {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} فذم من لم يفقه كلامه والفقه أخص من الفهم وهو فهم مراد المتكلم من كلامه وهذا قدر زائد على مجرد وضع اللفظ في اللغة وبحسب تفاوت مراتب الناس في هذا تتفاوت مراتبهم في الفقه والعلم.
وقد كان الصحابة يستدلون على إذن الرب تعالى وإباحته بإقراره وعدم إنكاره عليهم في زمن الوحي وهذا استدلال على المراد بغير لفظ بل بها عرف من موجب أسمائه وصفاته وأنه لا يقر على باطل حتى يبينه وكذلك استدلال الصديقة الكبرى أم المؤمنين خديجة بما عرفته من حكمة الرب تعالى وكمال أسمائه وصفاته ورحمته أنه لا يخزي محمدا صلى الله عليه وسلم فإنه يصل الرحم ويحمل الكل ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق وإن من كان بهذه المثابة فإن العزيز الرحيم الذي هو أحكم الحاكمين وإله رب العالمين لا يخزيه ولا يسلط عليه الشيطان وهذا استدلال منها قبول ثبوت النبوة والرسالة بل استدلال على صحتها وثبوتها في حق من هذا شأنه فهذا معرفة منها بمراد الرب تعالى وما يفعله من أسمائه وصفاته وحكمته ورحمته وإحسانه ومجازاته المحسن بإحسانه وأنه لا يضيع أجر المحسنين وقد كانت الصحابة أفهم الأمة لمراد نبيها وأتبع له وإنما كانوا يدندنون حول معرفة مراده ومقصوده ولم يكن أحد منهم يظهر له مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يعدل عنه إلى غيره البتة.
كيف يعرف مراد المتكلم:(7/259)
والعلم بمراد المتكلم يعرف تارة من عموم لفظه وتارة من عموم علته(7/260)
ص -220-…والحوالة على الأول أوضح لأرباب الألفاظ وعلى الثاني أوضح لأرباب المعاني والفهم والتدبر.
أغلاط أصحاب الألفاظ وأصحاب المعاني:
وقد يعرض لكل من الفريقين ما يخل بمعرفة مراد المتكلم فيعرض لأرباب الألفاظ التقصير بها عن عمومها وهضمها تارة وتحميلها فوق ما أريد بها تارة ويعرض لأرباب المعاني فيها نظير ما يعرض لأرباب الألفاظ فهذه أربع آفات هي منشأ غلط الفريقين.
ونحن نذكر بعض الأمثلة لذلك ليعتبر به غيره فنقول:
قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فلفظ الخمر عام ففي كل مسكر فإخرج بعض الأشربة المسكرة عن شمول اسم الخمر لها تقصير به وهضم لعمومه بل الحق ما قاله صاحب الشرع كل مسكر خمر وإخراج بعض أنواع الميسر عن شمول اسمه لها تقصير أيضا به وهضم لمعناه فما الذي جعل النرد الخالي عن العوض من الميسر وأخرج الشطرنج عنه مع أنه من أظهر أنواع الميسر كما قال غير واحد من السلف إنه ميسر وقال علي كرم الله وجهه: "هو ميسر العجم".
وأما تحميل اللفظ فوق ما يحتمله فكما حمل لفظ قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وقوله في آية البقرة {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} مسألة العينة التي هي ربا بحيلة وجعلها من التجارة لعمر الله إن الربا الصريح تجارة للمرابي وأي تجارة وكما حمل قوله تعالى: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} على مسألة التحليل وجعل التيس المستعار الملعون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم داخلا في اسم الزوج وهذا في التجارة يقابل الأول في التقصير.(7/261)
ولهذا كان معرفة حدودها ما أنزل الله على رسوله أصل العلم وقاعدته وأخيته التي يرجع إليها فلا يخرج شيئا من معاني ألفاظه عنها ولا يدخل فيها ما ليس منها بل يعطيها حقها ويفهم المراد منها.(7/262)
ص -221-…ومن هذا لفظ الإيمان والحلف أخرجت طائفة منه الإيمان الالتزامية التي يلتزم صاحبها بها إيجاب شيء أو تحريمه وأدخلت طائفة فيها التعليق المحض الذي لا يقتضي حضا ولا منعا والأول نقص من المعنى والثاني تحميل له فوق معناه.
ومن ذلك لفظ الربا أدخلت فيه طائفة ما لا دليل على تناول اسم الربا له كبيع الشيرج بالسمسم والدبس بالعنب والزيت بالزيتون وكل ما استخرج من ربوي وعمل منه بأصله وإن خرج عن اسمه ومقصوده وحقيقته وهذا لا دليل عليه يوجب المصير إليه من من كتاب ولا من سنة ولا إجماع ولا ميزان صحيح وأدخلت فيه من مسائل مد عجوة ما هو أبعد شيء عن الربا وأخرجت طائفة أخرى منه ما هو من الربا الصحيح حقيقة قصدا وشرعا كالحيل الربوية التي هي أعظم مفسدة من الربا الصريح ومفسدة الربا البحت الذي لا يتوصل إليه بالسلاليم أقل بكثير وأخرجت منه طائفة بيع الرطب بالتمر وإن كان كونه من الربا أخفى من كون الحيل الربوية منه فإن التماثل موجود فيه في الحال دون المآل وحقيقة الربا في الحيل الربوية أكمل وأتم منها في العقد الربوي الذي لا حيلة فيه.(7/263)
ومن ذلك لفظ البينة قصرت بها طائفة فأخرجت منه الشاهد واليمين وشهادة العبيد العدول الصادقين المقبولي القول على الله ورسوله وشهادة النساء منفردات في المواضع التي لا يحضرهن فيه الرجال كالأعراس والحمامات وشهادة الزوج في اللعان إذا نكلت المرأة وأيمان المدعين الدم إذا ظهر اللوث ونحو ذلك ما يبين الحق أعظم من بيان الشاهدين وشهادة القاذف وشهادة الأعمى على ما يتيقنه وشهادة أهل الذمة على الوصية في السفر إذا لم يكن هناك مسلم وشهادة الحال في تداعي الزوجين متاع البيت وتداعي النجار والخياط آلتهما ونحو ذلك وأدخلت فيه طائفة ما ليس منه كشهادة مجهول الحال الذي لا يعرف بعدالة ولا فسق وشهادة وجوه الأجر ومعاقد القمط ونحو ذلك والصواب أن كل ما بين الحق فهو بينة ولم يعطل الله ولا رسوله حقا بعدما تبين بطريق(7/264)
ص -222-…من الطرق أصلا بل حكم الله ورسوله الذي لا حكم له سواه أنه متى ظهر الحق ووضح بأي طريق كان وجب تنفيذه ونصره وحرم تعطيله وإبطاله وهذا باب يطول استقصاؤه ويكفي المستبصر التنبيه عليه وإذا فهم هذا في جانب اللفظ فهم نظيره في جانب المعنى سواء.
الظاهرية وأصحاب الرأي مفرطون:
وأصحاب الرأي والقياس حملوا معاني النصوص فوق ما حملها الشارع وأصحاب الألفاظ والظواهر قصروا بمعانيها عن مراده فأولئك قالوا: "إذا وقعت قطرة من دم في البحر فالقياس أنه ينجس" ونجسوا بها الماء الكثير مع أنه لم يتغير منه شيء البتة بتلك القطرة وهؤلاء قالوا: "إذا بال جرة من بول وصبها في الماء لم تنجسه وإذا بال في الماء نفسه ولو أدنى شيء نجسه" ونجس أصحاب الرأي والمقاييس القناطير المقنطرة ولو كانت ألف ألف قنطار من سمن أو زيت أو شيرج بمثل رأس الإبرة من البول و الدم والشعرة الواحدة من الكلب والخنزير عند من ينجس شعرهما وأصحاب الظواهر والألفاظ عندهم لو وقع الكلب والخنزير بكماله أو أي ميتة كانت في أي ذائب كان من زيت أو شيرج أو خل أو دبس أو ودك غير السمن ألقيت الميتة فقط وكان ذلك المائع حلالا طاهرا كله فإن وقع ما عدا الفأرة في السمن من كلب أو وخنزير أو أي نجاسة كانت فهو طاهر حلال ما لم يتغير.
ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين" يعني في الإحرام فسوى بين يديها ووجها في النهي عما صنع على قدر العضو ولم يمنعها من تغطية وجهها ولا أمرها بكشفه البتة ونساؤه صلى الله عليه وسلم أعلم الأمة بهذه المسألة وقد كن يسدلن على وجوههن إذا حاذاهن الركبان فإذا جاوزوهن كشفن وجوههن وروى وكيع عن شعبة عن يزيد الرشك عن معاذة العدوية قالت: سألت عائشة: "ما تلبس المحرمة؟ فقالت: لا تنتقب ولا تتلثم وتسدل الثوب على وجهها" فجاوزت طائفة ذلك(7/265)
ص -223-…ومنعتها من تغطية وجهها جملة قالوا: وإذا سدلت على وجهها فلا تدع الثوب يمس وجهها فإن مسه افتدت ولا دليل على هذا البتة وقياس قول هؤلاء إنها إذا غطت يدها افتدت فإن النبي صلى الله عليه وسلم سوى بينهما في النهي وجعلهما كبدن المحرم فنهى عن لبس القميص والنقاب والقفازين هذا للبدن وهذا للوجه وهذا لليدين ولا يحرم ستر البدن فكيف يحرم ستر الوجه في حق المرأة مع أمر الله لها أن تدني عليها من جلبابها لئلا تعرف ويفتتن بصورتها ولولا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المحرم ولا يخمر رأسه لجاز تغطيته بغير العمامة.
وقد روى الإمام أحمد عن خمسة من الصحابة عثمان وابن عباس وعبد الله ابن الزبير وزيد بن ثابت وجابر أنهم كانوا يخمرون وجوههم وهم محرمون فإذا كان هذا في حق الرجل وقد أمر بكشف رأسه فالمرأة بطريق الأولى والأحرى.
وقصرت طائفة أخرى فلم تمنع المحرمة من البرقع ولا اللثام قالوا: إلا أن يدخلا في اسم النقاب فتمنع منه وعذر هؤلاء أن المرجع إلى ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم ودخل في لفظ المنهي عنه فقط والصواب النهي عما عما دخل في عموم لفظه وعموم معناه وعلته فإن البرقع واللثام وإن لم يسميا نقابا فلا فرق بينهما وبينه بل إذا نهيت عن النقاب فالبرقع واللثام أولى ولذلك منعتها أم المؤمنين من اللثام.
ومن ذلك لفظ الفدية أدخل فيها طائفة خلع الحيلة على فعل المحلوف عليه مما هو ضد الفدية إذ المراد بقاء النكاح بالخلاص من الحنث وهي إنما شرعت لزوال النكاح عند الحاجة إلى زواله وأخرجت منه طائفة ما فيه حقيقة الفدية ومعناها واشترطت له لفظا معنيا وزعمت أنه لا يكون فدية وخلعا إلا به(7/266)
ص -224-…وأولئك تجاوزوا به وهؤلاء قصروا به والصواب أن كل ما دخله المال فهو فدية بأي لفظ كان والألفاظ لم ترد لذواتها ولا تعبدنا بها وإنما هي وسائل إلى المعاني فلا فرق قط بين أن تقول اخلعني بألف أو فادني بألف لا حقيقة ولا شرعا ولا لغة ولا عرفا وكلام ابن عباس والإمام أحمد عام في ذلك لم يقيده أحدهما بلفظ ولا استثنى لفظا دون لفظ بل قال ابن عباس: "عامة طلاق أهل اليمن الفداء" وقال الإمام أحمد: "الخلع فرقة وليس بطلاق" وقال: "الخلع ما كان من جهة النساء" وقال: "ما أجازه المال فليس بطلاق" وقال: "إذا خالعها بعد تطليقتين فإن شاء راجعها فتكون معه على واحدة".
وقال في رواية أبي طالب: "الخلع مثل حديث سهلة إذا كرهت المرأة الرجل" وقالت: "لا أبرأ لك قسما ولا أطيع لك أمرا ولا أغتسل لك من جنابة فقد حل له أن يأخذ منها ما أعطاها" لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتردين عليه حديقته" قلت: وقد قال في الحديث: "اقبل الحديقة وطلقها تطليقة" وجعل أحمد ذلك فداء.
وقال ابن هانىء: "سئل أبو عبد الله عن الخلع: أفسخ أم طلاق هو أم تذهب إلى حديث ابن عباس كان يقول فرقة وليس بطلاق؟ فقال أبو عبد الله: كان ابن عباس يتأول في هذه الآية: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}" وكان ابن عباس يقول: "هو فداء" قال ابن عباس: "ذكر الله الطلاق في أول الآية والفداء في وسطها وذكر الطلاق بعد" فالفداء ليس هو بطلاق وإنما هو فداء فجعل ابن عباس وأحمد الفداء فداء لمعناه لا للفظه وهذا هو الصواب فإن الحقائق لا تتغير بتغير الألفاظ وهذا باب يطول تتبعه.(7/267)
ص -225-…والمقصود أن الواجب فيما علق عليه الشارع الأحكام من الألفاظ والمعاني أن لا يتجاوز بألفاظها ومعانيها ولا يقصر بها ويعطي اللفظ حقه والمعنى حقه وقد مدح الله تعالى أهل الاستنباط في كتابه وأخبرهم أنهم أهل العلم ومعلوم أن الاستباط إنما هو استنباط المعاني والعلل ونسبة بعضها إلى بعض فيعتبر ما يصح منها بصحة مثله ومشبهه ونظيره ويلغي ما لا يصح هذا الذي يعقله الناس من الاستنباط.
قال الجوهري: الاستنباط كالاستخراج ومعلوم أن ذلك قدر زائد على مجرد فهم اللفظ فإن ذلك ليس طريقة الاستنباط إذ موضوعات الألفاظ لا تنال بالاستنباط وإنما تنال به العلل والمعاني والأشباه والنظائر ومقاصد المتكلم والله سبحانه ذم من سمع ظاهرا مجردا فأذاعه وأفشاه وحمد من استنبط من أولى العلم حقيقته ومعناه.
يوضحه أن الاستنباط استخراج الأمر الذي من شأنه أن يخفي على غير مستنبطه ومنه استنباط الماء من أرض البئر والعين ومن هذا قول علي ابن أبي طالب رضي الله عنه وقد سئل: "هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء دون الناس؟ فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه".
ومعلوم أن هذا الفهم قدر زائد على معرفة موضوع اللفظ وعمومه أو خصوصه فإن هذا قدر مشترك بين سائر من يعرف لغة العرب وإنما هذا فهم لوازم المعنى ونظائره ومراد المتكلم بكلامه ومعرفة حدود كلامه بحيث لا يدخل فيها غير المراد ولا يخرج منها شيء من المراد.
وأنت إذا تأملت قوله تعالى{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} وجدت الآية من أظهر الأدلة على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وأن هذا القرآن جاء من عند الله وأن الذي جاء به روح مطهر فما للأرواح الخبيثة عليه سبيل ووجدت الآية أخت قوله {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ(7/268)
ص -226-…وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} ووجدتها دالة بأحسن الدلالة على أنه لا يمس المصحف إلا طاهر ووجدتها دالة أيضا بألطف الدلالة على أنه لا يجد حلاوته وطعمه إلا من آمن به وعمل به كما فهمه البخاري من الآية فقال في صحيحه في ذباب {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا} "لا يمسه" لا يجد طعمه ولا نفعه إلا من آمن بالقرآن ولا يحمله بحقه إلا المؤمن لقوله تعالى {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} وتجد تحته أيضا أنه لا ينال معانيه ويفهمه كما ينبغي إلا القلوب الطاهرة وان القلوب النجسة ممنوعة من فهمه مصروفة عنه فتأمل هذا النسب القريب وعقد هذه الأخوة بين هذه المعاني وبين المعنى الظاهر من الآية واستنباط هذه المعاني كلها من الآية بأحسن وجه وأبينه فهذا من الفهم الذي أشار إليه علي رضي الله عنه.
وتأمل قوله تعالى لنبيه {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} كيف يفهم منه أنه إذا كان وجود بدنه وذاته فيهم دفع عنهم العذاب وهم أعداؤه فكيف وجود سره والإيمان به ومحبته ووجود ما جاء به إذا كان في قوم أو كان في شخص أفليس دفعه العذاب عنهم بطريق الأولى والأحرى؟.(7/269)
وتأمل قوله تعالى {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} كيف تجد تحته بألطف دلالة وأدقها وأحسنها أنه من اجتنب الشرك جميعه كفرت عنه كبائره وأن نسبة الكبائر إلى الشرك كنسبة الصغائر إلى الكبائر فإذا وقعت الصغائر مكفرة باجتناب الكبائر تقع مكفرة باجتناب الشرك وتجد الحديث الصحيح كأنه مشتق من هذا المعنى وهو قوله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى: "ابن آدم إنك لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لقيتك بقرابها مغفرة" وقوله: "إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه" بل محو التوحيد الذي هو توحيد الكبائر أعظم من محو اجتناب الكبائر للصغائر(7/270)
ص -227-…وتأمل قوله تعالى {وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} كيف نبههم بالسفر الحسي على السفر إليه وجمع لهم بين السفرين كما جمع لهم الزادين في قوله {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} فجمع لهم بين زاد سفرهم وزاد معادهم وكما جمع بين اللباسين في قوله {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} فذكر سبحانه زينة ظواهرهم وبواطنهم ونبههم بالحسي على المعنوي وفهم هذا القدر زائد على فهم مجرد اللفظ ووضعه في أصل اللسان والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فصل
أدلة نفاة القياس:
قد أتينا على ذكر فصول نافعة وأصول جامعة في تقرير القياس والاحتجاج به لعلك لا تظفر بها في غير هذا الكتاب ولا بقريب منها فلنذكر مع ذلك ما قابلها من النصوص والأدلة الدالة على ذم القياس وأنه ليس من الدين وحصول الاستغناء عنه والاكتفاء بالوحيين وها نحن نسوقها مفصلة مبينة بحمد الله.(7/271)
قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِر} وأجمع المسلمون على أن الرد إلى الله سبحانه هو الرد إلى كتابه والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الرد إليه في حضوره وحياته وإلى سنته في غيبته وبعد مماته والقياس ليس بهذا ولا هذا.
ولا يقال: الرد إلى القياس هو من الرد إلى الله ورسوله لدلالة كتاب الله(7/272)
ص -228-…وسنة رسوله عليه السلام كما تقدم تقريره لأن الله سبحانه إنما ردنا إلى كتابه وسنة رسوله ولم يردنا إلى قياس عقولنا وآرائنا قط بل قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وقال {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} ولم يقل بما رأيت أنت وقال {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} وقال تعالى {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} وقال تعالى {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} وقال {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} وقال {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} فلو كان القياس هدى لم ينحصر الهدى في الوحي وقال {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} فنفى الإيمان حتى يوجد تحكيمه وحده وهو تحكيمه في حال حياته وتحكيم سنته فقط بعد وفاته وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي لا تقولوا حتى يقول.
قال نفاة القياس: والإخبار عنه بأنه حرم ما سكت عنه أو أوجبه قياسا على ما تكلم بتحريمه أو إيجابه تقدم بين يديه فإنه إذا قال: "حرمت عليكم الربا في البر" فقلنا: ونحن نقيس على قولك البلوط فهذا محض التقدم.(7/273)
قالوا: وقد حرم سبحانه أن نقول عليه ما لا نعلم فإذا فعلنا ذلك فقد واقعنا هذا المحرم يقينا فإنا غير عالمين بأنه أراد من تحريم الربا في الذهب والفضة تحريمه في القديد من اللحوم وهذا قفو منا ما ليس لنا به علم وتعد لما حد لنا ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه والواجب أن نقف عند حدوده ولا نتجاوزها ولا نقصر بها.
ولا يقال: فإبطال القياس وتحريمه والنهي عنه تقدم بين يدي الله ورسوله(7/274)
ص -229-…وتحريم لما لم ينص على تحريمه وقفو ممنكم ما ليس لكم به علم لأنا نقول: الله سبحانه وتعالى أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئا وأنزل علينا كتابه وأرسل إلينا رسوله يعلمنا الكتاب والحكمة فما علمناه وبينه لنا فهو من الدين وما لم يعلمناه ولا بين لنا أنه من الدين فليس من الدين ضرورة وكل ما ليس من الدين فهو باطل فليس بعد الحق إلا الضلال وقد قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فالذي أكمله الله سبحانه وبينه هو ديننا لا دين لنا سواه فأين فيما أكمله لنا "قيسوا ما سكت عنه على ما تكلمت بإيجابه أو تحريمه أو إباحته سواء كان الجامع بينهما علة أو دليل علة أو وصفها شبهيا فاستعملوا ذلك كله وانسبوه إلي وإلى رسولي وإلى ديني واحكموا به علي".
قالوا: وقد أخبر سبحانه {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} وأخبر رسوله: "أن الظن أكذب الحديث" ونهى عنه ومن أعظم الظن ظن القياسيين فإنهم ليسوا على يقين أن الله سبحانه وتعالى حرم بيع السمسم بالشيرج والحلوى بالعنب والنشا بالبر وإنما هي ظنون مجردة لا تغني من الحق شيئا.
قالوا: وإن لم يكن قياس على "السلام عليكم" من الظن الذي نهينا عن اتباعه وتحكيمه وأخبرنا أنه لا يغني من الحق شيئا فليس في الدنيا ظن باطل فأين الضراط من "السلام عليكم" وإن لم يكن قياس الماء الذي لاقى الأعضاء الطاهرة الطيبة عند الله في إزالة الحدث على الماء الذي لاقى أخبث العذرات والميتات والنجاسات ظنا فلا ندري ما الظن الذي حرم الله سبحانه القول به وذمه في كتابه وسلخه من الحق وإن لم يكن قياس أعداء الله ورسوله من عباد الصلبان واليهود الذي هم أشد الناس عدواة للمؤمنين على أوليائه وخيار خلقه وسادات الأمة وعلمائها وصلحائها في تكافؤ دمائهم وجريان القصاص بينهم فليس في الدنيا ظن يذم اتباعه.
قالوا: ومن العجب أنكم قستم أعداء الله على أوليائه في جريان القصاص(7/275)
ص -230-…بينهم فقلتم ألف ولي لله قتلوا نصارنيا واحدا يجاهرهم بسب الله ورسوله وكتابه علانية ولم تقيسوا من ضرب رأس رجل بدبوس فنثر دماغه بين يديه على من طعنه بمسلة فقتله.
قالوا: وسنبين لكم من تناقض أقيستكم واختلافها وشدة اضطرابها ما يبين أنها من عند غير الله.
قالوا: والله تعالى لم يكل بيان شريعته إلى آرائنا وأقيستنا واستنباطنا وإنما وكلها إلى رسوله المبين عنه فما بينه عنه وجب اتباعه وما لم يبينه فليس من الدين ونحن نناشدكم الله هل اعتمادكم في هذه الأقيسة الشبيهة والأوصاف الحدسية التخمينية على بيان الرسول أم على آراء الرجال وظنونهم وحدسهم قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} فأين بين النبي صلى الله عليه وسلم أني إذا حرمت شيئا أو أوجبته أو أبحته فاستخرجوا وصفا ما شبهبا جامعا بين ذلك وبين جميع ما سكت عنه فألحقوه به وقيسوا عليه.
قالوا: والله تعالى قد نهى عن ضرب الأمثال له فكما لا تضرب له الأمثال لا تضرب لدينه وتمثيل ما لم ينص على حكمه بما نص عليه لشبه ما ضرب الأمثال لدينه وهذا بخلاف ما ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمثال في كثير من الأحكام التي سئل عنها كما أمرهم بقضاء الصلاة التي ناموا عنها فقالوا ألا نصليها لوقتها من الغد فقال: "أينهاكم عن الربا ويقبله منكم" وكما قال لعمر وقد سأله عن القبلة للصائم: "أرأيت لو تمضمت بماء ثم مججته" وكما قال لمن سألته عن الحج عن أبيها: "أرأيت لو كان على أبيك دين" وكما قال لمن سأله: هل يثاب على وطء زوجته: "أرأيتم لو وضعها في الحرام".
أمثال ضربها صاحب الشرع:
ومن أحسن هذه الأمثال وأبلغها وأعظمها تقريبا إلى الأفهام ما رواه الإمام أحمد والترمذي من حديث الحارث الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(7/276)
ص -231-…"إن الله سبحانه أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات ليعمل بها ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها وإنه كاد أن يبطىء بها فقال عيسى إن الله أمرك بخمس كلمات لتعمل وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها فإما أن تأمرهم وإما أن آمرهم فقال يحيى أخشى إن سبقتني أن يخسف بي أو أعذب فجمع الناس في بيت المقدس فامتلأ المسجد وقعدوا على الشرف فقال إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن أولاهن أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وإن مثل من أشرك بالله كمثل رجل اشترى عبدا من خالص ماله بذهب أو ورق فقال هذه داري وهذا عملي فاعمل وأد إلي فكان يعمل ويؤدي إلى غير سيده فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك وإن الله أمركم بالصلاة فإذا صليتم فلا تلتفتوا فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت وأمركم بالصيام فإن مثل ذلك كمثل رجل في عصابة معه صرة فيها مسك وكلهم يعجبه ريحها وإن ريح الصائم أطيب عند الله من ريح المسك وأمركم بالصدقة فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فأوثقوا يديه إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه فقال أنا أفتدي منكم بكل بقليل وكثير ففدى نفسه منهم وأمركم أن تذكروا الله فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدوا في أثره سراعا حتى إذا أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله قال النبي صلى الله عليه وسلم وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن السمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام عن عنقه إلا أن يراجع ومن ادعى دعوى الجاهلية فإنه من حثاء جهنم قالوا يا رسول الله وإن صلى وإن صام فقال وإن صلى وإن صام فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله" حديث صحيح.(7/277)
ص -232-…وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل منه خمس مرات هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا قال فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا".
ومثل صلى الله عليه وسلم المؤمن القارىء للقرآن بالأترجة في طيب الطعم والريح وضده بالحنظلة والمؤمن الذي لا يقرأ بالتمرة في طيب الطعم وعدم الريح والفاجر لا القارىء بالريحانة ريحها طيب وطعمها مر ومثل المؤمن بالخامة من الزرع لا تزال الرياح تميلها ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء ومثل ا لمنافق بشجرة الأرز وهي الصنوبرة لا تهتز ولا تميل حتى تقطع مرة واحدة ومثل المؤمن بالنخلة في كثرة خيرها ومنافعها وحاجة الناس إليها وانتيابهم لها لمنافعهم بها وشبه أمته بالمطر في نفع أوله وآخره وحياة الوجود به ومثل أمته والأمتين الكتابيتين قبلها فيما خص الله به أمته وأكرمها به بأجراء عملوا بأجر مسمى لرجل يوما على أن يوفيهم أجورهم فلم يكملوا بقية يومهم وتركوا العمل من أثناء النهار فعملت أمته بقية النهار فاستكملوا أجر الفريقين وضرب الله ولأمته جبريل وميكائيل مثل ملك اتخد دارا ثم ابتنى فيها بيتا ثم جعل مائدة ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه فمنهم من أجاب الرسول ومنهم من تركه فالله هو الملك والرسول محمد الداعي والدار الإسلام والبيت الجنة فمن أجابه دخل الإسلام ومن دخل الإسلام دخل دار الملك وأكل منها ومن لم يجبه لم يدخل داره ولم يأكل منها وفي المسند والترمذي من حديث النواس بن سمعان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ضرب مثلا صراطا مستقيما على كنفي الصراط سوران لهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وعلى باب الصراط داع يقول يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعا ولا تعرجوا وداع يدعو من فوق الصراط فإذا أراد أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه فالصراط الإسلام والسوران(7/278)
حدود الله والأبواب المفتحة محارم(7/279)
ص -233-…الله فلا يقع أحد في حد من حدود الله حتى يكشف الستر والداعي على رأس الصراط كتاب الله والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم" فليتأمل العارف قدر هذا المثل وليتدبره حق تدبره ويزن به نفسه وينظر أين هو منه وبالله التوفيق وقال: "مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى دارا فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون منها ويقولون لولا موضع تلك اللبنة فكنت أنا موضع تلك اللبنة" رواه مسلم وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد عنه صلى الله عليه وسلم: "إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد نارا فجعل الدواب والفراش يقعن فيها فأنا آخذ بحجزكم من النار وأنتم تقتحمون فيها" ومثل من وقع في الشبهات بالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه وقال الحافظ أبو محمد بن خلاد الرامهرمزي: حدثنا أبو سعيد الحراني ثنا يحيى بن عبد الله البابلتي ثنا صفوان بن عمرو قال: حدثني سليم ابن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نصرت بالرعب مسيرة شهر وأوتيت جوامع الكلم وأوتيت الحكمة وضرب لي من الأمثال مثل القرآن وإني بينا أنا نائم إذا أتاني ملكان فقام أحدهما عند رأسي وقام الآخر عند رجلي فقال الذي عند رأسي اضرب مثلا وأنا أفسره فقال الذي عند رأسي وأهوى إلي لتنم عينك ولتسمع أذنك وليع قلبك قال فكنت كذلك أما الأذن فتسمع وأما القلب فيعي وأما العين فتنام قال فضرب مثلا فقال بركة فيها شجرة ثابتة وفي الشجرة غصن خارج فجاء ضارب فضرب الشجرة فوقع الغصن ووقع معه ورق كثير كل ذلك في البركة لم يعدها ثم ضرب الثانية فوقع ورق كثير كل ذلك في البركة لم يعدها ثم ضرب الثالثة فوقع ورق كثير لا أدري ما وقع فيها أكثر أو ما خرج منها قال ففسر الذي عند رجلي فقال أما البركة فهي الجنة وأما الشجرة فهي الأمة وأما الغصن فهو النبي صلى الله عليه وسلم وأما الضارب فملك الموت ضرب الضربة الأولى(7/280)
ص -234-…في القرن الأول فوقع النبي صلى الله عليه وسلم وأهل طبقتة وضرب الثانية في القرن فوقع كل ذلك في الجنة ثم ضرب الثالثة في القرن الثالث فلا أدري ما وقع فيها أكثر أم ما خرج منها" وفي المسند من حديث جابر: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه وعلى صوته واشتد غضبه حتى كأنه نذير جيش يقول صبحكم ومساكم ثم يقول: بعثت أنا والساعة كهاتين ويقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى" وفي حديث المستورد: "بعثت في نفس الساعة سبقتها كما سبقت هذه هذه وأشار بإصبعيه" وفي المسند عنه: "إن مثلي ومثل ما بعثني الله كمثل رجل أتى قومه فقال يا قوم إني رأيت الجيش بعيني وأنا النذير العريان فالنجاء فأطاعه طائفة منهم فأدلجوا على مهلهم فنجوا وكذبته طائفة فأصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم وكذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئت به ومثل من عصاني وكذب بما جئت به من الحق" وفي الصحيحين عنه: "مثلي ومثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وزرعوا وسقوا وأصاب طائفة أخرى منها هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به".
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه خطب الناس فقال: "والله ما الفقر أخشى عليكم وإنما أخشى عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا فقال رجل يا رسول الله أو يأتي الخير بالشر فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال كيف قلت فقال يا رسول الله أو يأتي الخير بالشر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الخير لا يأتي إلا بالخير وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم إلا آكلة الخضر أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت الشمس(7/281)
ص -235-…فثلطت وبالت ثم اجترت وعادت فأكلت فمن أخذ مالا بحقه يبارك له فيه ومن أخذ ملا بغير حقه فمثله كمثل الذي يأكل ولا يشبع".
وقالت ميمونة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن العاص "الدنيا خضرة حلوة فمن اتقى الله فيها وأصلح وإلا فهو كالذي يأكل ولا يشبع" وبين الناس في ذلك كبعد الكوكبين أحدهما يطلع في المشرق والآخر يغيب في المغرب ومثل نفسه صلى الله عليه وسلم في الدنيا براكب مر بأرض فلاة فرأى شجرة فاستظل تحتها ثم راح وتركها وفي المسند والترمذي عنه: "ما الدنيا في الآخرة إلا كما يصنع أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع" ومر مع الصحابة بسخلة منبوذة فقال: "أترون هذه هانت على أهلها فوالذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هذه على أهلها" وقال: "إنما مثلي ومثلكم ومثل الدنيا كمثل قوم سلكوا مفازة غبراء لا يدرون ما قطعوا منها أكثر أو ما بقي منها فحسرت ظهورهم ونفذ زادهم وسقطوا بين ظهري المفازة فأيقنوا بالهلكة فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم رجل في حلة يقطر رأسه فقالوا إن هذا لحديث عهد بريف فانتهى إليهم فقال يا هؤلاء ما شأنكم فقالوا ما ترى كيف حسرت ظهورنا ونفدت أزوادنا بين ظهري هذه المفازة لا ندري ما قطعنا منها أكثر أم ما بقي فقال ما تجعلون لي إن أوردتكم ماء رواء ورياضا خضرا قالوا حكمك قال تعطوني عهودكم ومواثيقكم ألا تعصوني ففعلوا فمال بهم فأوردهم ماء رواء ورياضا خضرا فمكث يسيرا ثم قال هلموا إلى رياض أعشب من رياضكم هذه وماء أروى من مائكم هذا فقال جل القوم ما قدرنا على هذا حتى كدنا أن لا نقدر عليه وقالت طائفة منهم ألستم قد جعلتم لهذا الرجل عهودكم ومواثيقكم أن لا تعصوه فقد صدقكم في أول حديثه فآخر حديثه مثل أوله فراح وراحوا(7/282)
ص -236-…معهم فأوردهم رياضا خضرا وماء رواء وأتى الآخرين العدو من ليلتهم فأصبحوا ما بين قتيل وأسير" وقال: "مثل المؤمن كمثل النحلة أكلت طيبا ووضعت طيبا وإن مثل المؤمن كمثل القطعة الجيدة" من الذهب أدخلت في النار فنفخ عليها فخرجت جيدة وروى ليث عن مجاهد عن ابن عمر يرفعه: "مثل المؤمن مثل النخلة أو النحلة إن شاورته نفعك وإن ماشيته نفعك وإن شاركته نفعك".
وقال: "مثل المؤمن والإيمان كمثل الفرس في آخيته يجول ما يجول ثم يرجع إلى أخيته وكذلك المؤمن يفترق ما يفترق ثم يرجع إلى الإيمان" وقال: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى شيء منه تداعى سائره بالسهر والحمى" وقال: "مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تكر إلى هذه مرة وإلى هذه مرة وقال مثل القرآن كمثل الإبل المعلقة إن تعهد صاحبها عقلها أمسكها وإن أغفلها ذهبت وإذا قام صاحب القرآن به ذكره وإذا لم يقم به نسيه" وقال موسى بن عبيدة عن ماعز بن سويد العرجي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثل المؤمن الذي لا يتم صلاته مثل المرأة التي حملت حتى إذا دنا نفاسها أسقطت فلا حامل ولا ذات رضاع ومثل المصلي كمثل التاجر لا يخلص له الربح حتى يخلص له رأس المال وكذلك المصلي لا يقبل الله له نافلة حتى يؤدي الفريضة" وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أوس بن خالد عن أبي هريرة يرفعه: "مثل الذي يسمع الحكمة ولا يحمل إلا شرها كمثل رجل أتى راعيا فقال:(7/283)
ص -237-…آجرني شاة من غنمك فقال: انطلق فخذ بأذن شاة منها فذهب فأخذ بأذن كلب الغنم" وقال عبد الله بن المبارك: ثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثني أبو هريرة قال: سمعت معاوية يقول على هذا المنبر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما بقي من الدنيا بلاء وفتنة وإنما مثل عمل أحدكم كمثل الوعاء إذا طاب أعلاه طاب أسفله وإذا خبث أعلاه خبث أسفله".
وفي المسند من حديث عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن رجلا كان فيمن كان قبلكم استضاف قوما فأضافوه ولهم كلبة تنبح قال: فقالت الكلبة: والله لا أنبح ضيف أهلي الليلة قال: فعوى جراؤها في بطنها فبلغ ذلك نبيا لهم أو قيلا لهم فقال: مثل هذه مثل أمة تكون بعدكم يقهر سفهاؤها حكماءها ويغلب سفهاءها علماءها" وفي صحيح البخاري من حديث النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن هم تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا" وفي المعجم الكبير عنه من حديث سهل بن سعد قال: "إياكم ومحقرات الذنوب فإن مثل ذلك كمثل قوم نزلوا بطن واد فجاء هذا بعود وهذا بعود حتى حملوا ما أنضجوا به خبزهم وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه" وفي المسند من حديث أبي بن كعب يرفعه: "إن مطعم ابن آدم قد ضرب مثلا للدنيا فانظر ما يخرج من ابن آدم وإن فرخه وملحه قد علم إلى ما يصير" وقال أبو محمد ابن خلاد ثنا عبد الله بن أحمد بن معدان ثنا يوسف بن مسلم المصيصي ثنا حجاج الأعور عن أبي بكر الهذلي عن الحسن عن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إني ضربت للدنيا مثلا ولابن آدم عند الموت(7/284)
ص -238-…مثله مثل رجل له ثلاثة أخلاء فلما حضره الموت قال لأحدهم: إنك كنت لي خليلا وكنت أبر الثلاثة عندي وقد نزل بي من أمر الله ما ترى فماذا عندك قال يقول وماذا عندي وهذا أمر الله قد غلبني ولا أستطيع أن أنفس كربتك ولا أفرج غمك ولا أؤخر ساعتك ولكن ها أنذا بين يديك فخذني زادا تذهب به معك فإنه ينفعك قال ثم دعا الثاني فقال إنك كنت لي خليلا وكنت أبر الثلاثة عندي وقد نزل بي من أمر الله ما ترى فماذا عندك قال يقول وماذا عندي وهذا أمر الله غلبني ولا أستطيع أن أنفس كربتك ولا أفرج غمك ولا أؤخر ساعتك ولكن سأقوم عليك في مرضك فإذا مت أنقيت غسلك وجددت كسوتك وسترت جسدك وعورتك قال ثم دعا الثالث فقال قد نزل بي من أمر الله ما ترى وكنت أهون الثلاثة علي وكنت لك مضيعا وفيك زاهدا فما عندك قال عندي أني قرينك وحليفك في الدنيا والآخرة أدخل معك قبرك حين تدخله وأخرج منه حين تخرج منه ولا أفارقك أبدا فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذا ماله وأهله وعمله أما الأول الذي قال خذني زادا فماله والثاني أهله والثالث عمله" وقد رواه أيضا بسياق آخر من حديث أبي أيضا ولفظه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوما لأصحابه: "أتدرون ما مثل أحدكم ومثل ماله وأهله وعمله قالوا الله ورسوله أعلم فقال إنما مثل أحدكم ومثل أهله وماله وعمله كمثل رجل له ثلاثة إخوة فلما حضرته الوفاة دعا بعض إخوته فقال إنه قد نزل بي من الأمر ما ترى فما لي عندك وما لديك فقال لك عندي أن أمرضك ولا أزايلك وأن أقوم بشأنك فإذا مت غسلتك وكفنتك وحملتك مع الحاملين أحملك طورا وأميط عنك طورا فإذا رجعت أثنيت عليك بخير عند من يسألني عنك هذا أخوه الذي هو أهله فما ترونه قالوا لا نسمع طائلا يا رسول الله ثم يقول للأخ الآخر أتري ما قد نزل بي فما لي لديك وما لي عندك فيقول ليس عندي غناءإلا وأنت في الأحياء(7/285)
ص -239-…فإذا مت ذهب بك مذهب وذهب بي مذهب هذا أخوه الذي هو ماله كيف ترونه قالوا لا نسمع طائلا يا رسول الله ثم يقول لأخيه الآخر أترى ما قد نزل بي وما رد علي أهلي ومالي فما لي عندك وما لي لديك فيقول أنا صاحبك في لحدك وأنيسك في وحشتك وأقعد يوم الوزن في ميزانك فأثقل ميزانك هذا أخوه الذي هو عمله كيف ترونه قالوا خير أخ وخير صاحب يا رسول الله قال فإن الأمر هكذا" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل الجليس الصالح مثل صاحب المسك إما أن يحذيك وإما أن يبيعك وإما أن تجد منه ريحا طيبة ومثل جليس السوء كمثل صاحب الكير إن لم يصبك من شروره أصابك من ريحه" وفي الصحيح عنه أنه قال: "مثل المنفق والبخيل مثل رجلين عليهما جبتان أو جنتان من حديد من لدن ثديهما إلى تراقيهما فإذا أراد المنفق أن ينفق سبغت عليه حتى يجر بنانه ويعفو أثره وإذا أراد البخيل أن ينفق قلصت ولزمت كل حلقة موضعها فهو يوسعها ولا تتسع" وقال: "مثل الذين يغزون من أمتي ويتعجلون أجورهم كمثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها".
فصل
ضرب الأمثال يوضح المعنى:
قالوا: فهذه وأمثالها من الأمثال التي ضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم لتقريب المواد وتفهيم المعنى وإيصاله إلى ذهن السامع وإحضاره في نفسه بصورة المثال الذي مثل به فإنه قد يكون أقرب إلى تعقله وفهمه وضبطه واستحضاره له باستحضار نظيره فإن النفس تأنس بالنظائر والأشباه الأنس التام وتنفر من الغربة والوحدة وعدم النظير ففي الأمثال من تأنيس النفس وسرعة قبولها وانقيادها لما ضرب لها مثله من الحق أمر لا يجحده أحد ولا ينكره وكلما ظهرت له الأمثال ازداد المعنى ظهورا ووضوحا فالأمثال(7/286)
ص -240-…شواهد المعنى المراد ومزكية له فهي كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه وهي خاصة العقل ولبه وثمرته.
الفرق بين المثل والقياس:
ولكن أين في الأمثال التي ضربها الله ورسوله على هذا الوجه فهمنا أن الصداق لا يكون أقل من ثلاثة دراهم أو عشرة قياسا وتمثيلا على أقل ما يقطع فيه السارق هذا بالألغاز والأحاجي أشبه منه بالأمثال المضروبة للفهم كما قال إمام الحديث محمد بن إسماعيل البخاري في جامعه الصحيح: (باب من شبه أصلا معلوما بأصل مبين قد بين الله حكمهما ليفهم السامع) فنحن لا ننكر هذه الأمثال التى ضربها الله ورسوله ولا نجهل ما أريد بها وإنما ننكر أن يستفاد وجوب الدم على من قطع من جسده أو رأسه ثلاث شعرات أو أربع من قوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُك} وأن الآية تدل على ذلك وأن قوله صلى الله عليه وسلم في صدقة الفطر: "صاع من تمر أو صاع من شعير أو صاع من أقط أو صاع من بر أو صاع من زبيب" يفهم منه أنه لو أعطى صاعا من إهليج جاز وأنه يدل على ذلك بطريق التمثيل والاعتبار وأن قوله صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش" يستفاد منه ومن دلالته أنه لو قال له الولي بحضرة الحاكم زوجتك ابنتي وهو بأقصى الشرق وهي بأقصى الغرب فقال قبلت هذا التزويج وهي طالق ثلاثا ثم جاءت بعد ذلك بولد لأكثر من ستة أشهر أنه ابنه وقد صارت فراشا بمجرد قوله: "قبلت هذا التزويج" ومع هذا لو كانت له سرية يطأها ليلا ونهارا لم تكن فراشا له ولو أتت بولد لم يلحقه نسبه إلا أن يدعيه ويستلحقه فإن لم يستلحقه فليس بولده وأين يفهم من قوله صلى الله عليه وسلم: "إن في قتل الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل" أنه لو ضربه بحجر المنجنيق أو بكور الحداد(7/287)
ص -241-…أو بمزراب الحديد العظام حتى خلط دماغه بلحمه وعظمه إن هذا خطأ شبه عمد لا يوجب قودا وأين يفهم من قوله صلى الله عليه وسلم: "ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن يكن له مخرج فخلوا سبيله فإن الإمام أن يخطىء في العفو خير له من أن يخطىء في العقوبة" أن من عقد على أمه أو ابنته أو أخته ووطئها فلا حد عليه وأن هذا مفهوم من قوله: "ادرءوا الحدود بالشبهات" فهذا في معنى الشبه التي تدرأ بها الحدود وهي الشبة في المحل أو في الفاعل أو في الاعتقاد ولو عرض هذا على فهم من فرض من العالمين لم يفهمه من هذا اللفظ بوجه من الوجوه وأن من يطأ خالته أو عمته بملك اليمين فلا حد عليه مع علمه بأنها خالته أو عمته وتحريم الله لذلك ويفهم هذا من: "ادرءوا الحدود بالشبهات" وأضعاف أضعاف هذا مما لا يكاد ينحصر.
فهذا التمثيل والتشبيه هو الذي ننكره وننكر أن يكون في كلام الله ورسوله دلالة على فهمه بوجه ما.
قالوا: ومن أين يفهم من قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} ومن قوله: {فَاعْتَبِرُوا} تحريم بيع الكشك باللبن وبيع الخل بالعنب ونحو ذلك؟.
قالوا: وقد قال تعالى {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} ولم يقل: "إلى قياساتكم" وآرائكم ولم يجعل الله آراء الرجال وأقيستها حاكمة بين الأمة أبدا.
وقالوا: وقد قال تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} فإنما منعهم من الخيرة عند حكمه وحكم رسوله لا عند آراء الرجال وأقيستهم وظنونهم وقد أمر سبحانه رسوله باتباع ما أوحاه إليه خاصة وقال {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} وقال {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وقال تعالى {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ(7/288)
ص -242-…بِهِ اللَّهُ} قالوا فدل هذا النص على أن ما لم يأذن به الله من الدين فهو شرع غيره الباطل.
قالوا: وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه تبارك وتعالى أن كل ما سكت عن إيجابه أو تحريمه فهو عفو عفا عنه لعباده يباح إباحة العفو فلا يجوز تحريمه ولا إيجابه قياسا على ما أوجبه أو حرمه بجامع بينهما فإن ذلك يستلزم رفع هذا القسم بالكلية وإلغاءه إذ المسكوت عنه لا بد أن يكون بينه وبين المحرم شبه ووصف جامع أو بينه وبين الواجب فلو جاز إلحاقه به لم يكن هناك قسم قد عفي عنه ولم يكن ما سكت عنه قد عفا عنه بل يكون ما سكت عنه قد حرمه قياسا على ما حرمه وهذا لا سبيل إلى دفعه وحينئذ فيكون تحريم ما سكت عنه تبديلا لحكمه وقد ذم تعالى من بدل غير القول الذي أمر به فمن بدل غير الحكم الذي شرع له فهو أولى بالذم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم على الناس من أجل مسألته" فإذا كان هذا فيمن تسبب إلى تحريم الشارع صريحا بمسألته عن حكم ما سكت عنه فكيف بمن حرم المسكوت عنه بقياسه وبرأيه؟.
يوضحه أن المسكوت عنه لما كان عفوا عفا الله لعباده عنه وكان البحث عنه سببا لتحريم الله إياه لما فيه من مقتضى التحريم لا لمجرد السؤال عن حكمه وكان الله قد عفا عن ذلك وسامح به عباده كما يعفو عما فيه مفسدة من أعمالهم وأقوالهم فمن المعلوم أن سكوته عن ذكر لفظ عام يحرمه يدل على أنه عفو عنه فمن حرمه بسؤاله عن علة التحريم وقياسه على المحرم بالنص كان أدخل في الذم ممن سأله عن حكمه لحاجته إليه فحرم من أجل مسألته بل كان الواجب عليه أن لا يبحث عنه ولا يسأل عن حكمه اكتفاء(7/289)
ص -243-…بسكوت الله عن عفوه عنه فهكذا الواجب عليه أن لا يحرم المسكوت عنه بغير النص الذي حرم الله أصله الذي يلحق به.
قالوا: وقد دل على هذا كتاب الله حيث يقول {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "ذروني ما تركتكم فإنما هلك الذين من قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم" فأمرهم أن يتركوه من السؤال ما تركهم ولا فرق في هذا بين حياته وبعد مماته فنحن مأمورون أن نتركه صلى الله عليه وسلم وما نص عليه فلا نقول له لم حرمت كذا لنلحق به ما سكت عنه بل هذا أبلغ في المعصية من أن نسأله عن حكم شيء لم يحكم فيه فتأمله فإنه واضح.(7/290)
ويدل عليه قوله في نفس الحديث: "وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" فجعل الأمور ثلاثة لا رباع لها مأمور به فالفرض عليهم فعله بحسب الاستطاعة ومنهي عنه فالفرض عليهم اجتنابه بالكلية ومسكوت عنه فلا يتعرض للسؤال والتفتيش عنه وهذا حكم لا يختص بحياته فقط ولا يخص الصحابة دون من بعدهم بل فرض علينا نحن امتثال أمره بحسب الاستطاعة واجتناب نهيه وترك البحث والتفتيش عما سكت عنه وليس ذلك الترك جهلا وتجهيلا لحكمه بل إثبات لحكم العفو وهو الإباحة العامة ورفع الحرج عن فاعله فقد استوعب الحديث أقسام الدين كلها فإنها إما واجب وإما حرام وإما مباح والمكروه والمستحب فرعان على هذه الثلاثة غير خارجين عن المباح وقد قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} فوكل بيانه إليه سبحانه لا إلى القياسيين والآرائيين وقال تعالى:(7/291)
ص -244-…{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} فقسم الحكم إلى قسمين قسم أذن فيه وهو الحق وقسم افتري عليه وهو ما لم يأذن فيه فأين أذن لنا أن نقيس البلوط على التمر في جريان الربا فيه وأن نقيس القصدير على الذهب والفضة والخردل على البر فإن كان الله ورسوله وصانا بهذا فسمعا وطاعة لله ورسوله وإلا فإنا قائلون لمنازعينا أم كنتم شهداء إذا وصاكم الله بهذا فما لم تأتنا به وصية من عند الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فهو عين الباطل وقد أمرنا الله برد ما تنازعنا فيه إليه وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم فلم يبح لنا قط أن نرد ذلك إلى رأي ولا قياس ولا تقليد إمام ولا منام ولا كشوف ولا إلهام ولا حديث قلب ولا استحسان ولا معقول ولا شريعة الديوان ولا سياسة الملوك ولا عوائد الناس التي ليس على شرائع المسلمين أضر منها فكل هذه طواغيت من تحاكم إليها أو دعا منازعة إلى التحاكم إليها فقد حاكم إلى الطاغوت.(7/292)
وقال تعالى {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} قالوا ومن تأمل هذه الآية حق التأمل تبين له أنها نص على إبطال القياس وتحريمه لأن القياس كله ضرب الأمثال للدين وتمثيل ما لا نص فيه بما فيه نص ومن مثل ما له ينص الله على تحريمه أو إيجابه بما حرمه أو أوجبه فقد ضرب لله الأمثال ولو علم سبحانه أن الذي سكت عنه مثل الذي نص عليه لأعلمنا به ولما أغفله سبحانه وما كان ربك نسيا ولبين لنا ما نتقي كما أخبر نفسه بذلك إذ يقول سبحانه {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} ولما وكله إلى آرائنا ومقاييسنا التي ينقض بعضها بعضا فهذا يقيس ما يذهب إليه على ما يزعم أنه نظيره فيجيء منازعه فيقيس ضد قياسه من كل وجه ويبدي من الوصف الجامع مثل ما أبداه منازعوه أو أظهر منه ومحال أن يكون القياسان معا عند الله وليس أحدهما أولى من الآخر فليسا من عنده وهذا وحده كاف في إبطال القياس.(7/293)
ص -245-…وقد قال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} وقال {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} فكل ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن ربه سبحانه بينه بأمره وأذنه وقد علمنا يقينا وقوع كل اسم في اللغة على مسماه فيها وأن اسم البر لا يتناول الخردل واسم التمر لا يتناول البلوط واسم الذهب والفضة لا يتناول القزدير وأن تقدير نصاب السرقة لا يدخل فيه تقدير المهر وأن تحريم أكل الميتة لا يدل على أن المؤمن الطيب عند الله حيا وميتا إذا مات صار نجسا خبيثا وأن هذا عن البيان الذي ولاه الله ورسوله وبعثه به أبعد شيء وأشده منافاة له فليس هو مما بعث به الرسول قطعا فليس إذا من الدين.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم" ولو كان الرأي والقياس خيرا لهم لدلهم عليه وأرشدهم إليه ولقال لهم إذا أوجبت عليكم شيئا وحرمته فقيسوا عليه ما كان بينه وبينه وصف جامع أو ما أشبهه أو قال ما يدل على ذلك أو يستلزمه ولما حذرهم من ذلك أشد الحذر كما ستقف عليه إن شاء الله وقد أحكم اللسان كل اسم على مسماه لا على غيره وإنما بعث الله سبحانه محمد صلى الله عليه وسلم بالعربية التي يفهمها العرب من لسانها فإذا نص سبحانه في كتابه أو نص رسوله على اسم من الأسماء وعلق عليه حكما من الأحكام وجب ألا يوقع ذلك الحكم إلا على ما اقتضاه ذلك الاسم ولا يتعدى به الوضع الذي وضعه الله ورسوله فيه ولا يخرج عن ذلك الحكم شيء مما يقتضيه الاسم فالزيادة على ذلك زيادة في الدين والنقص منه نقص في الدين فالأول القياس والثاني التخصيص الباطل وكلاهما ليس من الدين ومن لم يقف مع النصوص فإنه تارة يزيد في النص ما ليس منه ويقول هذا قياس ومرة ينقص منه بعض(7/294)
ص -246-…ما يقتضيه ويخرجه عن حكمه ويقول: هذا تخصيص ومرة يترك النص جملة ويقول ليس العمل عليه أو يقول هذا خلاف القياس أو خلاف الأصول.
قالوا: ولو كان القياس من الدين لكان أهله أتبع الناس للأحاديث وكان كلما توغل فيه الرجل.كان أشد اتباعا للأحاديث والآثار.
قالوا: ونحن نرى أن كلما اشتد توغل الرجل فيه اشتدت مخالفته للسنن ولا نرى خلاف السنن والآثار إلا عند أصحاب الرأي والقياس فلله كم من سنة صحيحة صريحة قد عطلت به وكم من أثر درس حكمه بسببه فالسنن والآثار عند الآرائيين والقياسيين خاوية على عروشها معطلة أحكامها معزولة عن سلطانها وولايتها لها الاسم ولغيرها الحكم لها السكة والخطبة ولغيرها الأمر والنهي وإلا فلماذا ترك حديث العرايا وحديث قسم الابتداء وأن للزوجة حق العقد سبع ليال إن كانت بكرا وثلاثا إن كانت ثيبا ثم يقسم بالسوية وحديث تغريب الزاني غير المحصن وحديث الاشتراط في الحج وجواز التحلل بالشرط وحديث المسح على الجوربين وحديث عمران بن حصين وأبي هريرة في أن كلام الناسي والجاهل لا يبطل الصلاة وحديث دفع اللقطة إلى من جاء فوصف وعاءها ووكاءها وعفاصها وحديث المصراة وحديث القرعة بين العبيد إذا أعتقوا في المرض ولم يحملهم الثلث وحديث خيار المجلس وحديث إتمام الصوم لمن أكل ناسيا وحديث إتمام صلاة الصبح لمن طلعت عليه الشمس وقد صلى منها ركعة وحديث الصوم عن الميت وحديث الحج عن المريض المأيوس من برئه وحديث الحكم بالقافة وحديث من وجد متاعه عند رجل قد أفلس وحديث النهي عن بيع الرطب بالتمر وحديث بيع المدبر وحديث القضاء بالشاهد مع اليمين وحديث الولد للفراش إذا كان من أمة وهو سبب(7/295)
ص -247-…الحديث وحديث تخيير الغلام بين أبويه إذا افترقا وحديث قطع السارق ربع دينار وحديث رجم الكتابيين في الزنا وحديث من تزوج من امرأة أبيه أمر بضرب عنقه وأخذ ماله وحديث: "لا يقتل مؤمن بكافر" وحديث: "لعن الله المحلل والمحلل له" وحديث: "لا نكاح إلا بولي" وحديث المطلقة ثلاثا لا سكنى لها ولا نفقة وحديث: "أعتق صفية وجعل عتقها صداقها" وحديث: "أصدقها ولو خاتما من حديد" وحديث إباحة لحوم الخيل وحديث: "كل مسكر حرام" وحديث: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" وحديث المزارعة والمساقاة وحديث: "ذكاة الجنين ذكاة أمه" وحديث الرهن مركوب ومحلوب وحديث النهي عن تخليل الخمر وحديث قسمة الغنيمة للراجل سهم وللفارس ثلاثة وحديث: "لا تحرم المصة والمصتان" وأحاديث حرمة المدينة وحديث إشعار الهدى وحديث: "إذا لم يجد المحرم الإزار فليلبس السراويل" وحديث منع الرجل من تفضيل بعض ولده على بعض وأنه جور لا تجوز الشهادة عليه وحديث: "أنت ومالك لأبيك" وحديث القسامة وحديث الوضوء من لحوم الإبل وأحاديث المسح على العمامة وحديث الأمر بإعادة الصلاة لمن صلى خلف الصف وحده وحديث: "من دخل والإمام يخطب يصلي تحية المسجد" وحديث الصلاة على الغائب وحديث الجهر بآمين في الصلاة وحديث جواز رجوع الأب فيما وهبه لولده ولا يرجع غيره وحديث الكلب الأسود يقطع الصلاة وحديث الخروج إلى العيد من الغد إذا علم بالعيد بعد الزوال وحديث نضح بول الغلام الذي لم يأكل الطعام وحديث الصلاة على القبر وحديث من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته وحديث بيع جابر بعيره واشتراط ظهره وحديث النهي عن جلود السباع وحديث لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره وحديث أن أحق الشروط أن توفوا بما استحللتم به الفروج وحديث من باع عبدا وله مال(7/296)
ص -248-…فماله للبائع وحديث إذا أسلم وتحته أختان اختار أيتهما شاء وحديث الوتر على الراحلة وحديث كل ذي ناب من السباع حرام وحديث من السنة وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة وحديث لا تجزىء صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه من ركوعه وسجوده وأحاديث رفع اليدين في الصلاة عند الركوع والرفع منه وأحاديث الاستفتاح وحديث كان للنبي صلى الله عليه وسلم سكتتان في الصلاة وحديث تحريمها التكبير وتحليلها التسليم وحديث حمل الصبية في الصلاة وأحاديث القرعة وأحاديث العقيقة وحديث لو أن رجلا اطلع عليك بغير إذنك وحديث أيدع يده في فيك تقضمها كما يقضم الفحل وحديث إن بلالا يؤذن بليل وحديث النهي عن صوم يوم الجمعة وحديث النهي عن الذبح بالسن والظفر وحديث صلاة الكسوف والاستسقاء وحديث النهي عن عسب الفحل وحديث المحرم إذا مات لم يخمر رأسه ولم يقرب طيبا إلى أضعاف ذلك من الأحاديث التي كان تركها من أجل القول بالقياس والرأي فلو كان القياس حقا لكان أهله أتبع الأمة للأحاديث ولا حفظ لهم ترك حديث واحد إلا لنص ناسخ له فحيث رأينا كل من كان أشد توغلا في القياس والرأي كان أشد مخالفة للأحاديث الصحيحة الصريحة علمنا أن القياس ليس من الدين وإن شيئا تترك له السنن لأبين شيء منافاة للدين فلو كان القياس من عند الله لطابق السنة أعظم مطابقة ولم يخالف أصحابه حديثا واحدا منها ولكانوا أسعد بها من أهل الحديث فليروا أهل الحديث والأثر حديثا واحدا صحيحا قد خالفوه كما أريناهم آنفا ما خالفوه من السنة بجريرة القياس.
قالوا: وقد أخذ الله الميثاق على أهل الكتاب وعلينا بعدهم أن لا نقول على الله إلا الحق فلو كانت هذه الأقيسة المتعارضة المتناقضة التي ينقض بعضها بعضا بحيث لا يدري الناظر فيها أيها الصواب حقا لكانت متفقة يصدق بعضها بعضا كالسنة(7/297)
ص -249-…التي يصدق بعضها بعضا وقال تعالى {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} لا بآرائنا ولا مقايسينا وقال {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} فما لم يقله سبحانه ولا هدى إليه فليس من الحق وقال تعالى {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} فقسم الأمور إلى قسمين لا ثالث لهما إتباع لما دعا إليه الرسول واتباع الهوى.
فصل
نهى الرسول عن القياس ولم يدع إليه:
والرسول صلى الله عليه وسلم لم يدع أمته إلى القياس قط بل قد صح عنه أنه أنكر عمر وأسامة محض القياس في شأن الحلتين اللتين أرسل بهما إليهما فلبسها أسامة قياسا للبس على التملك والانتفاع والبيع وكسوتها لغيره وردها عمر قياسا لتملكها على لبسها فأسامة أباح وعمر حرم قياسا فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم كل واحد من القياسين وقال لعمر: "إنما بعثت بها إليك لتستمع بها" وقال لأسامة: "إني لم أبعثها إليك لتلبسها ولكن بعثتها إليك لتشققها خمرا لنسائك" والنبي صلى الله عليه وسلم إنما تقدم إليهم في الحرير بالنص على تحريم لبسه فقط فقاسا قياسا أخطآ فيه فأحدهما قاس اللبس على الملك وعمر قاس التملك على اللبس والنبي صلى الله عليه وسلم بين أن ما حرمه من اللبس لا يتعدى إلى غيره وما أباحه من التملك لا يتعدى إلى اللبس وهذا عين إبطال القياس.
وصح عنه ما رواه أبو ثعلبة الخشني قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها" وهذا الخطاب كما يعم أوله للصحابة ولمن بعدهم فهكذا آخره فلا يجوز أن نبحث عما سكت عنه ليحرمه أو يوجبه.(7/298)
ص -250-…وقال عبد الله بن المبارك: ثنا عيسى بن يونس عن جرير بن عثمان عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك الأشجعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال".
قال قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن إسماعيل الترمذي ثنا نعيم بن حماد ثنا عبد الله فذكره.
وهؤلاء كلهم أئمة ثقات حفاظ إلا جرير بن عثمان فإنه كان منحرفا عن علي ومع هذا فاحتج به البخاري في صحيحه وقد روى عنه أنه تبرأ مما نسب إليه من الانحراف عن علي ونعيم بن حماد إمام جليل وكان سيفا على الجهمية روى عنه البخاري في صحيحه.
وقد صح عنه صحة تقرب من التواتر أنه قال: "ذروني ما تركتكم فإنما هلك الذين من قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم" فتضمن هذا الحديث أن ما أمر به أمر إيجاب فهو واجب وما نهى عنه فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو مباح فبطل ما سوى ذلك والقياس خارج عن هذه الوجوه الثلاثة فيكون باطلا والمقيس مسكوت عنه بلا ريب فيكون عفوا بلا ريب فإلحاقه بالمحرم تحريم لما عفا الله عنه وفي قوله: "ذروني ما تركتكم" بيان جلي أن ما لا نص فيه بحرام ولا واجب ودل الحديث على ان أوامره على الوجوب حتى يجيء ما يرفع ذلك أو يبين أن مراده الندب وأن ما لا نستطيعه فساقط عنا.
وقد روى ابن المغلس ثنا عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن ثنا أبو قلابة الرقاشي ثنا أبو الربيع الزهراني ثنا سيف بن هارون البرجمي عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن سلمان رضي الله عنه قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء فقال: "الحلال ما أحل الله والحرام ما حرم الله وما(7/299)
ص -251-…سكت عنه فهو مما عفا عنه" وهذا إسناد جيد مرفوع والله المستعان وعليه التكلان.
فصل الصحابة ينهون عن القياس:
وأما الصحابة رضي الله عنهم فقد قال أبو هريرة لابن عباس إذا جاءك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تضرب له الأمثال.
وفي صحيح مسلم من حديث سمرة بن جندب قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحب الكلام إلى الله عز وجل أربع" فذكر الحديث وفي آخره: "لا تسمين غلامك يسارا ولا رباحا ولا نجيحا ولا أفلح فإنك تقول أثم هو فيقال لا إنما هن أربع فلا تزيد علي".
قالوا: فلم يجز سمرة أن ينهي عما عدا الأربع قياسا عليها وجعل ذلك زيادة فلم يزد على الأربع بالقياس التسمية بسعد وفرج وخير وبركة ونحوها ومقتضى قول القاسيين أن الأسماء التي سكت عنها النص أولى بالنهي فيكون إلحاقها بقياس الأولى أو مثله.
فإن قيل: فلعل قوله: "إنما هن أربع فلا تزيدن علي" مرفوع من نفس كلام النبي صلى الله عليه وسلم ولعل سمرة أراد بها إنما حفظت هذه الأربع فلا تزيدن علي في الرواية.
قيل: أما السؤال الأول فصريح في إبطال القياس فإن المعنى واحد ومع هذا فخص النهي بالأربع وأما السؤال الثاني فقوله: "إنما هن أربع" يقتضي تخصيص الرواية والحكم بها ونفي الزيادة عليها رواية وحكما فلا تنافي بين الأمرين.
وقال شعبة: سمعت سليمان بن عبد الرحمن قال سمعت عبدة بن فيروز(7/300)
ص -252-…قال: قلت للبراء بن عازب: حدثني ما كره أو نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أربع لا تجزىء في الأضاحي" فذكر الحديث قال: "فإني أكره أن تكون ناقصة القرن أو الأذن" قال: "فما كرهت منه فدعه ولا تحرمه على أحد" ولم يأذن له في القياس على الأربع ولم يقس عليها هو ولا أحد من الصحابة رضي الله عنهم.
وقال عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء عن ابن عباس قال: "كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذرا فبعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه فما أحل فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو".
وقال عمر بن الخطاب: "قد وضحت الأمور وتبينت السنة ولم يترك لأحد منكم متكلم إلا أن يضل عبد".
وقال ابن مسعود: من أتى الأمر على وجهه فقد بين له وإلا فوالله مالنا طاقة بكل ما تحدثون ولو كان القياس من الدين لكان له ولغيره طاقة بقياس كل ما يرد عليهم على نظيره بوصف جامعي شبهي وإذا كان القياسيون لا يعجزون عن ذلك فكيف الصحابة ولو كان القياس من الدين لكان الجميع مبينا ولما قسم ابن مسعود وغيره ما يرد عليهم إلى ما بينه الله وإلى ما لم يبينه فإن الله على قولكم قد بين الجميع بالنص والقياس.
فإن قيل: فهذا ينقلب عليكم فإنكم تقولون إن الله سبحانه قد بين الجميع قلنا ما بينه الله سبحانه نطقا فقد بين حكمه وما لم يبينه نطقا بل سكت عنه فقد بين لنا أنه عفو وأما القياسيون فيقولون ما سكت عنه بين أن حكمه حكم ما تكلم به وفرق عظيم بين الأمرين ونحن أسعد بالبيان النطقي والسكوتي منكم لتعميمنا البيانين وعدم تناقضنا فيهما وبالله التوفيق.(7/301)
ص -253-…وقد تقدم قول ابن مسعود: "ليس عام إلا والذي بعده شر منه لا أقول عام أمطر من عام ولا عام أخصب من عام ولا أمير خير من أمير ولكن ذهاب خياركم وعلمائكم ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم فينهدم الإسلام وينثلم".
وتقدم قول عمر: العلم ثلاثة: "كتاب ناطق وسنة ماضية ولا أدري" وقوله لأبي الشعثاء: "لا تفتين إلا بكتاب ناطق أو سنة ماضية".
وقال سفيان الثوري: عن أبي إسحاق الشيباني قال: "سمعت عبد الله بن أبي أوفي يقول: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نبيذ الجر الأخضر قلت: فالأبيض؟ قال: لا أدري ولم يقل وأي فرق بين الأخضر والأبيض" كما يبادر إليه القياسيون.
وقال الزهري: "كان محمد بن جبير بن مطعم يحدث أنه كان عند معاوية في وفد من قريش فقام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال أما بعد فإنه بلغني أن رجالا منكم يتحدثون أحاديث ليست في كتاب الله ولا تؤثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأولئك جهالكم ومعلوم أن القياس خارج عن كليهما".
وتقدم قول معاذ: "تكون فتن يكثر فيها المال ويفتح القرآن حتى يقرأه الرجل والمرأة والكبير والصغير والمؤمن والمنافق ويقرأه الرجل فلا يتبع فيقول والله لأقرأنه علانية فيقرأه علانية فلا يتبع فيتخذ مسجدا ويبتدع فكل ما ليس من كتاب الله ولا من سنة رسول الله فإياكم وإياه فإنها بدعة وضلالة".
وقال عبد العزيز بن المطلب: عن ابن مسعود: "إنكم إن عملتم في دينكم بالقياس أحللتم كثيرا مما حرم عليكم وحرمتم كثيرا مما أحل لكم".
وقال الأوزاعي: عن عبدة بن أبي لبابة عن ابن عباس: "من أحدث رأيا(7/302)
ص -254-…ليس من كتاب الله ولم تمض به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدر على ما هو منه إذا لقي الله عز وجل".
وقال أبو حنيفة: حدثنا جرير عن مجاهد "أن عمر نهى عن المكايلة يعني المقايسة".
وقال الأثرم: ثنا أبو بكر بن أبي سيبة ثنا جعفر بن غياث عن أبيه عن مجاهد قال: قال عمر: "إياك والمكايلة يعنى المقايسة".
وقال الأثرم: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا حفص بن غياث عن الأعمش عن حبيب عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: قال عبد الله: "يا أيها الناس إنكم ستحدثون ويحدث لكم فإذا رأيتم محدثا فعليكم بالأمر الأول".
فصل التابعون يذمون القياس:
وكذلك أئمة التابعين وتابعوهم يصرحون بذم القياس وإبطاله والنهي عنه.
قال الطحاوي: ثنا ابن علية حدثني عمرو بن أبي عمران ثنا يحيى بن سليمان الطائفي حدثني داود بن أبي هند قال: سمعت محمد بن سيرين يقول: "القياس شؤم وأول من قاس إبليس فهلك وإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس".
وقال ابن وهب: أخبرني مسلم بن علي أن شريحا الكندي هو القاضي قال: "إن السنة سبقت قياسكم".
وقال ابن أبي حاتم: ثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ثنا وهب بن إسماعيل عن داود الأودي قال: قال لي الشعبي: "احفظ عني ثلاثا لها بيان إذا سئلت عن مسألة فأجبت فيها فلا تتبع مسألتك أرأيت فإن الله قال في كتابه: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} حتى فرغ من الآية الأولى والثانية إذا سئلت عن مسألة فلا تقس شيئا بشيء فربما حرمت حلالا أو حللت حراما وإذا سئلت عما لا تعلم فقل: لا أعلم وأنا شريكك".(7/303)
ص -255-…وقال ابن وهب: أخبرني يحيى بن أيوب عن عيسى بن أبي عيسى عن الشعبي أنه سمعه يقول: "إياكم والمقايسة فوالذي نفسي بيده إن أخذتم بالمقايسة لتحلن الحرام ولتحرمن الحلال ولكن ما بلغكم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحفظوه".
وقال الطحاوي: ثنا يوسف بن يزيد القراطيسي ثنا سعيد بن منصور ثنا جرير بن عبد الحميد عن المغيرة بن مقسم عن الشعبي قال: "السنة لم توضع بالقياس".
وقال الخشني: ثنا محمد بن بشار ثنا يحيى بن سعيد القطان ثنا صالح بن مسلم قال: "قال لي عامر الشعبي يوما وهو آخذ بيدي إنما هلكتم حين تركتم الآثار وأخذتم بالمقاييس".
وقال عباس بن الفرج الرياشي عن الأصمعي أنه قيل له: "إن الخليل بن أحمد يبطل القياس" فقال: "أخذ هذا عن إياس بن معاوية".
وقال علي بن عبد العزيز البغوي: ثنا أبو الوليد القرشي أخبرنا محمد بن عبد الله بن بكار القرشي ثنا سليمان بن جعفر ثنا محمد بن يحيى الربعي عن ابن شبرمة أن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين قال لأبي حنيفة: "اتق الله ولا تقس فإنا غدا نقف نحن ومن خالفنا بين يدي الله فنقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله وتقول أنت وأصحابك: رأينا وقسنا فيفعل الله بنا وبكم ما يشاء".
وبهذا الإسناد إلى ابن شبرمة قال: "دخلت أنا وأبو حنيفة على جعفر بن محمد بن الحنفية فسلمت عليه وكنت له صديقا ثم أقبلت على جعفر وقلت له أمتع الله بك هذا رجل من أهل العراق وله فقه وعقل فقال لي جعفر لعله الذي يقيس الدين برأيه ثم أقبل علي فقال أهو النعمان فقال له أبو حنيفة نعم أصلحك الله فقال له جعفر اتق الله ولا تقس الدين برأيك(7/304)
ص -256-…فإن أول من قاس إبليس إذ أمره الله بالسجود لآدم فقال أنا أخير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ثم قال لأبي حنيفة: أخبرني عن كلمة أولها شرك وآخرها إيمان فقال لا أدري قال جعفر هي لا إله إلا الله فلو قال لا إله ثم أمسك كان مشركا فهذه كلمة أولها شرك وآخرها إيمان ثم قال له ويحك أيهما أعظم عند الله قتل النفس التي حرم الله أو الزنا قال بل قتل النفس فقال له جعفر إن الله قد قبل في قتل النفس شاهدين ولم يقبل في الزنا إلا أربعة فكيف يقوم لك قياس ثم قال: أيهما أعظم عند الله الصوم أو الصلاة قال بل الصلاة قال فما بال المرأة إذا حاضت تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة اتق الله يا عبد الله ولا تقس فإنا نقف غدا نحن وأنت بين يدي الله فنقول قال الله عز وجل وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول أنت وأصحابك قسنا ورأينا فيفعل الله بنا وبكم ما يشاء".
وقال ابن وهب: سمعت مالك بن أنس يقول: الزم ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: "أمران تركتهما لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة نبيه".
قال ابن وهب: وقال مالك: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام المسلمين وسيد العالمين يسأل عن الشيء فلا يجيب حتى يأتيه الوحي من السماء فإذا كان رسول رب العالمين لا يجيب إلا بالوحي وإلا لم يجب فمن الجرأة العظيمة إجابة من أجاب برأيه أو قياس أو تقليد من يحسن به الظن أو عرف أو عادة أو سياسة أو ذوق أو كشف أو منام أو استحسان أو خرص والله المستعان وعليه التكلان".
وقال أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو: ثنا يزيد بن عبد ربه قال: سمعت وكيع بن الجراح يقول ليحيى بن صالح الوحاظي: "يا أبا زكريا احذر ا لرأي فإني سمعت أبا حنيفة يقول: البول في المسجد أحسن من بعض قياسهم".(7/305)
ص -257-…وقال عبد الرزاق: قال لي حماد بن أبي حنيفة: قال أبي: "من لم يدع القياس في مجلس القضاء لم يفقه".
فهذا أبو حنيفة يقول: "إنه لا يفقه من لم يدع القياس في موضع الحاجة إليه وهو مجلس القضاء" قالوا: "فتبا لكل شيء لا يفقه المرء إلا بتركه".
وقال عبد الرزاق عن معمر عن ابن شبرمة: "ما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس".
وقال داود بن الزبرقان عن مجالد بن سعيد قال: حدثنا الشعبي يوما قال: "يوشك أن يصير الجهل علما والعلم جهلا قالوا: وكيف يكون هذا يا أبا عمرو؟ قال: كنا نتبع الآثار وما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم فأخذ الناس في غير ذلك وهو القياس.
وقال وكيع: حدثنا عيسى الخياط عن الشعبي قال: "لأن أتعنى بعنية أحب إلي من أن أقول في مسألة برأي".
قلت: رواه أبو محمد بن قتيبة بالعين المهملة وعنية بوزن غنية ثم فسره بأن العنية أخلاط تنقع في أبوال الإبل حينا حتى تطلى بها الإبل من الجرب.
وقال الأثرم: حدثنا قبيصة حدثنا سفيان عن جابر عن الشعبي عن مسروق قال: "لا أقيس شيئا بشيء قيل: لم؟ قال: أخشى أن تزل رجلي".
وسئل عن مسألة فقال: لا أدري فقيل له: فقس لنا برأيك فقال: أخاف أن تزل قدمي.
وكان يقول: إياكم والقياس والرأي فإن الرأي قد يزل.
وكان الشعبي يقول: "لا تجالس أصحاب القياس فتحل حراما أو تحرم حلالا".
وقال الخلال: ثنا أبو بكر المروزي قال: "سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل ينكر على أصحاب القياس ويتكلم فيه بكلام شديد".(7/306)
ص -258-…وقال الأثرم: ثنا محمد بن كناسة ثنا صالح بن مسلم عن الشعبي قال: "لقد بغض إلي هؤلاء القوم هذا المسجد حتى لهو أبغض إلى من كناسة داري قلت: من هم يا أبا عمرو قال: هؤلاء الآرائيون أرأيت أرأيت" وقال حماد بن يزيد: عن مطر الوراق قال: "ترك أصحاب الرأي الآثار والله" وقال محمد بن خاقان: "سمعت ابن المبارك في آخر خرجة خرج فقلنا له أوصنا فقال: لا تتخذوا الرأي إماما".
فصل تناقض القياس:
قالوا: ولو كان القياس حجة لما تعارضت الأقيسة وناقض بعضها بعضا فترى كل واحد من المتنازعين من أرباب القياس يزعم أن قوله هو القياس فيبدي منازعه قياسا آخر ويزعم أنه هو القياس وحجج الله وبيناته لا تتعارض ولا تتهافت.
قالوا: فلو جاز القول بالقياس في الدين لأفضى إلى وقوع الاختلاف الذي حذر الله منه ورسوله بل عامة الاختلاف بين الأمة إنما نشأ من جهة القياس فإنه إذا ظهر لكل واحد من المجتهدين قياس مقتضاه نقيض حكم الآخر اختلف ولا بد وهذا يدل على أنه من عند غير الله من ثلاثة أوجه أحدهما صريح قوله تعالى {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} الثاني أن الاختلاف سببه اشتباه الحق وخفاؤه وهذا لعدم العلم الذي يميز بين الحق والباطل الثالث أن الله سبحانه ذم الاختلاف في كتابه ونهى عن التفرق والتنازع فقال {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} وقال:(7/307)
ص -259-…{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} وقال {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} وقال {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} وقال {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} والزبر الكتب أي كل فرقة صنفوا كتبا أخذوا بها وعملوا بها ودعوا إليها دون كتب الآخرين كما هو الواقع سواء وقال {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} قال ابن عباس: "تبيض وجوه أهل السنة والائتلاف وتسود وجوه أهل الفرقة والاختلاف".
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تختلفوا فتختلف قلوبكم" وقال: "اقرأوا القرآن ما ائتلف عليه قلوبكم فإذا اختلفتم فقوموا" وكان التنازع والاختلاف أشد شيء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إذا رأى من الصحابة اختلافا يسيرا في فهم النصوص يظهر في وجهه حتى كأنما فقىء فيه حب الرمان ويقول أبهذا أمرتم ولم يكن أحد بعده أشد عليه الاختلاف من عمر رضي الله عنه وأما الصديق فصان الله خلافته عن الاختلاف المستقر في حكم واحد من أحكام الدين وأما خلافة عمر فتنازع الصحابة تنازعا يسيرا في قليل من المسائل جدا وأقر بعضهم بعضا على اجتهاده من غير ذم ولا طعن فلما كانت خلافة عثمان اختلفوا في مسائل يسيرة صحب الاختلاف فيها بعض الكلام واللوم كما لام علي عثمان في أمر المتعة وغيرها ولامه عمار بن ياسر وعائشة في بعض مسائل قسمة الأموال والولايات فلما أفضت الخلافة إلى علي كرم الله وجهه في الجنة صار الاختلاف بالسيف.
مضار الاختلاف:(7/308)
والمقصود أن الاختلاف مناف لما بعث الله به رسوله قال عمر رضي الله عنه: "لا تختلفوا فإنكم إن اختلفتم كان من بعدكم أشد اختلافا" ولما سمع أبي ابن كعب وابن مسعود يختلفان في صلاة الرجل في الثوب الواحد أو الثوبين(7/309)
ص -260-…صعد المنبر وقال: رجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اختلفا فعن أي فتياكم يصدر المسلمون لا أسمع اثنين اختلفا بعد مقامي هذا إلا صنعت وصنعت وقال علي كرم الله وجهه في الجنة في خلافته لقضاته اقضوا كما كنتم تقضون فإني أكره الخلاف وأرجو أن أموت كما مات أصحابي.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هلاك الأمم من قبلنا إنما كان باختلافهم على أنبيائهم وقال أبو الدرداء وأنس وواثلة بن الأسقع: "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتنازع في شيء من الدين فغضب غضبا شديدا لم يغضب مثله قال ثم انتهرنا قال يا أمة محمد لا تهيجوا على أنفسكم وهج النار ثم قال أبهذا أمرتم أو ليس عن هذا نهيتم إنما هلك من كان قبلكم بهذا" وقال عمرو بن شعيب عن أبيه عن ابني العاص أنهما قالا: "جلسنا مجلسا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه أشد اغتباطا فإذا رجال عند حجرة عائشة يتراجعون في القدر فلما رأيناهم اعتزلناهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلف الحجرة يسمع كلامهم فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضبا يعرف في وجهه الغضب حتى وقف عليهم وقال يا قوم بهذا ضلت الأمم قبلكم باختلافهم على أنبيائهم وضربهم الكتاب بعضه ببعض وإن القرآن لم ينزل لتضربوا بعضه ببعض ولكن نزل القرآن يصدق بعضه بعضا ما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه فآمنوا به ثم التفت فرآني أنا وأخي جالسين فغبطنا أنفسنا أن لا يكون رآنا معهم" قال البخاري: "رأيت أحمد بن حنبل وعلي ابن عبد الله والحميدي وإسحاق بن إبراهيم يحتجون بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده" وقال أحمد بن صالح: "أجمع آل عبد الله على أنها صحيفة عبد الله".
لا قياس أولى من قياس:
قالوا: وأيضا فإذا اختلفت الأقيسة في نظر المجتهدين فإما أن يقال كل مجتهد مصيب فيلزم أن يكون الشيء وضده صوابا وإما أن يقال: المصيب(7/310)
ص -261-…واحد وهو القول الصواب ولكن ليس أحد القياسين بأولى من الآخر ولا سيما قياس الشبه فإن الفرع قد يكون فيه وصفان شبيهان للشيء وضده فليس جعل أحدهما صوابا دون الآخر بأولى من العكس.
قالوا: وأيضا فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: "أوتيت جوامع الكلم واختصرت لي الحكمة اختصارا" وجوامع الكلم: هي الألفاظ الكلية العامة المتناولة لأفرادها فإذا انضاف ذلك إلى بيانه الذي هو أعلى رتب البيان لم يعدل عن الكلمة الجامعة التي في غاية البيان لما دلت عليه إلى لفظ أطوال منها وأقل بيانا مع أن الكلمة الجامعة تزيل الوهم وترفع الشك وتبين المراد.
فكان يقول: "لا تبيعوا كل مكيل ولا موزون بمثله إلا سواء بسواء" فهذا أخصر وأبين وأدل من أن يذكر ستة أنواع ويدل بها على مالا ينحصر من الأنواع فكمال علمه صلى الله عليه وسلم وكمال شفقته ونصحه وكمال فصاحته وبيانه يأبى بذلك.
قالوا: وأيضا فحكم القياس إما أن يكون موافقا للبراءة الأصلية وإما أن يكون مخالفا لها فإن كان موافقا لم يفد القياس شيئا لأن مقتضاه متحقق بها وإن كان مخالفا لها امتنع القول به لأنها متيقنة فلا ترفع بأمر لا تتيقن صحته إذ اليقين يمتنع رفعه بغير يقين.
قالوا: وأيضا فإن غالب القياسات التي رأينا القياسيين يستعملونها رجم بالظنون وليس ذلك من العلم في شيء ولا مصلحة للأمة في اقتحامهم ورطات الرجم بالظنون حتى يخبطوا فيها خبط عشواء في ظلماء ويحكموا بها على الله ورسوله.(7/311)
ص -262-…قالوا: وأيضا فقول القياسي هذا حلال وهذا حرام هو خبر عن الله سبحانه أنه أحل كذا وحرمه وأنه أخبر عنه بأنه حلال أو حرام فإن حكم الله خبره فكيف يجوز لأحد أن يشهد على الله أنه أخبر بما لم يخبر به هو ولا رسوله قال الله تعالى {فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ}.
قالوا: وأيضا فالقياس لا بد فيه من علة مستنبطة من حكم الأصل والحكم في الأصل احتمل أن يكون لنا طريق إلى العلم بعلته واحتمل أن لا يكون لنا طريق وإذا كان لنا طريق احتمل أن يكون معللا وأن يكون غير معلل وإذا كان معللا احتمل أن تكون العلة هي هذه المعينة وأن تكون جزء علة وأن تكون العلة غيرها وإذا ظهرت العلة احتمل أن لا تكون في الفرع وإذا كانت فيه احتمل أن يتخلف الحكم عنها لمعارض آخر وما هذا شأنه كيف يكون من حجج الله وبيناته وأدلة الأحكام التي هدى الله بها عباده.
قالوا: وأيضا فلو كان القياس حجة لأفضى ذلك إلى تكافؤ الأدلة الشرعية وهو محال فإنه قد يتردد فرع بين أصلين أحدهما التحريم والآخر الإباحة فإذا ظهر في نظر المجتهد شبه الفرع بكل واحد منهما لزم الحكم بالحل والحرمة في شيء واحد وهو محال.
قالوا: وأيضا فليس قياس الفرع على الأصل في تعدية حكمه إليه أولى من قياسه عليه في عدم ثبوته بغير النص فحينئذ فنقول حكم الفرع حكم من أحكام الشرع فلا يجوز ثبوته بغير النص كحكم الأصل فما الذي جعل قياسكم أولى من هذا ومعلوم أن هذا أقرب إلى النصوص وأشد موافقة لها من قياسكم وهذا ظاهر.
قالوا: وأيضا فحكم الله بإيجاب الشيء يتضمن محبته له وإرادته لوجوده وعلمه بأنه أوجبه وكلامه الطلبي والخبري وجعل فعله سببا لمحبته لعبده ورضاه عنه وإثباته عليه وتركه سببا لضد ذلك ولا سبيل لنا إلى العلم بهذا إلا من(7/312)
ص -263-…خبر الله عن نفسه أو خبر رسوله عنه فكيف يعلم ذلك بقياس أو رأي هذا ظاهر الامتناع.
لم يستعمل القياس كحجة في زمن الرسول:
قالوا: ولو كان القياس من حجج الله وأدلة أحكامه لكان حجة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كسائر الحجج فلما لم يكن حجة في زمنه صلى الله عليه وسلم لم يكن حجة بعده.
وتقرير هذه الحجة بوجهين: أحدهما أن الصحابة لم يكن أحد منهم يقيس على ما سمع منه صلى الله عليه وسلم ما لم يسمع ولو كان هو معقول النصوص لكان تعدية الحكم به وشمول المعنى كتعدية الحكم باللفظ وشموله لجميع أفراده وذلك لا يختص بزمان دون زمان فلما قلتم لا يكون القياس في زمن النص علم أنه ليس بحجة الوجه الثاني أن تعلق النصوص بالصحابة كتعلقها بمن بعدهم ووجوب اتباعها على الجميع واحد.
قالوا: ولأنا لسنا على ثقة من عدم تعليق الشارع الحكم بالوصف الذي بيديه القياسيون وأنه إنما علق الحكم بالاسم بحيث يوجد بوجوده وينتفي بانتفائه بل تعليق الحكم بالاسم تعليق بما لنا طريق إلى العلم به طردا وعكسا بخلاف تعليقه بالوصف الشبهي فإنه خرص وحزر وما كان هكذا لم ترد به الشريعة.
قالوا: ولأن الأصل عدم العمل بالظنون إلا فيما تيقنا أن الشرع أوجب علينا العمل به للأدلة الدالة على تحريم اتباع الظنون فمعنا منع يقيني من اتباع الظن فلا نتركه إلا بيقين يوجب اتباعه.
قالوا: ولأن تشابه الفرع والأصل يقتضي ألا يثبت الفرع إلا بما يثبت به الأصل فإن كان القياس حقا لزم توقف الفرع في ثبوته على النص كالأصل فالقول بالقياس من أبين الأدلة على بطلان القياس.
قالوا: ولأن الحكم لا يخلو إما أن يتعلق بالاسم وحده أو بالوصف المشترك وحده أو بهما فإن تعلق بالاسم وحده أو بهما بطل القياس وإن تعلق(7/313)
ص -264-…بالوصف المشترك بينهما لزم أمران محذوران: أحدهما: إلغاء الاسم الذي اعتبره الشارع فإن الوصف إذا كان أعم منه وكان هو المستقل بالحكم كان الأخص وهو الاسم عديم التأثير الثاني: أنه إذا كان الاسم عديم التأثير لم يكن جعل ما دل عليه أصلا لما سكت عنه أولى من العكس إذ التأثير للوصف وحده بل يلزم أن لا يكون هناك فرع وأصل بل تكون الصورتان فردين من أفراد العموم المعنوي كما يكون أفراد العام لفظا كذلك ليس بعضها أصلا لبعض.
قالوا: ولا ريب أن البيان بالألفاظ العامة أعلى من البيان بالقياس فكيف يعدل الشارع مع كمال حكمته عن البيان الجلي إلى البيان الأخفى؟.
قالوا: ونسأل القياسي عن محل القياس أيجب في الشيئين إذا تشابها من كل وجه أم إذا اشتبها من بعض الوجوه وإن اختلفا في بعضها فإن قال بالأول ترك قوله وادعى محالا إذ ما من شيئين إلا وبينهما جامع وفارق وإن قال بالثاني قيل له فهلا حكمت للفرع بضد حكم الأصل من أجل الوجه الذي خالفه فيه فإن كانت تلك جهة وفاق تدل على الائتلاف فهذه جهة افتراق تدل على الاختلاف فليس إلحاق صور النزاع بموجب الوفاق أولى من إلحاقه بموجب الافتراق.
قالوا: ولا ينفعه الاعتذار بأنه متى وقع الاتفاق في المعنى الذي ثبت الحكم من أجله عديت الحكم وإلا فلا.
قيل له: إذا كان في الأصل عدة أوصاف فتعيينك أن هذا الوصف الذي من أجله شرع الحكم قول بلا علم وقد عارضك فيه منازعوك فادعوا أن الحكم شرع لغير ما ذكرت مثاله أن الشارع لما نص على ربا الفضل في الأعيان المذكورة في الحديث فقال قائل إن المعنى الذي حرم التفاضل لأجله هو الكيل في المكيلات والوزن في الموزونات قال له منازعه لا بل كونها مطعومة(7/314)
ص -265-…فقال آخر: لا بل هو كونها مقتاتة ومدخرة فقال آخر: لا بل كونها تجري فيها الزكاة فقال آخر: لا بل كونها جنسا واحدا وكل فريق يزعم أن الصواب ما ادعاه دون منازعه ويقدح فيما ادعاه الآخر ولا يتهيأ له قدح في قول منازعه إلا ويتهيأ لمنازعه مثله أو أكثر منه أو دونه فلو ظن آخرون فقالوا العلة كونه مما تنبته الأرض واحتج بأن الله سبحانه امتن على عباده بما تنبته لهم الأرض وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْض} وقال إن من تمام النعمة فيه أن لا يباع بعضه ببعض متفاضلا لكان قوله واحتجاجه من جنس قول الآخرين واحتجاجهم وما هذا سبيله فكيف يكون من الدين بسبيل؟.
قالوا: وأيضا فإذا كان النص في الأصل قد دل على شيئين: ثبوت الحكم فيه نطقا وتعديته إلى ما في معناه بالعلة فإذا نسخ الحكم في الأصل هل يبقى الحكم في الفرع أو يزول فإن قلتم يبقى فهو محال وإن قلتم (يزول) تناقضتم إذ من أصلكم أن نسخ بعض ما يتناوله النص لا يوجب نسخ جميع ما يتناوله كالعام إذا خص بعض أفراده لم يوجب ذلك تخصيص غيره فإذا كان حكم الأصل قد دل على شيئين فارتفع أحدهما فما الموجب لارتفاع الثاني وإن قلتم يثبت بالقياس ويرتفع بالقياس قيل إنما أثبتموه لوجود العلة الجامعة عندكم والعلة لم تزل بالنسخ وهي سبب ثبوته وما دام السبب قائما فالمسبب كذلك ولو زالت العلة بالنسخ لأمكن تصحيح قولكم.
فإن قلتم: نسخ حكم الأصل يقتضي نسخ كون العلة علة.
قيل: هذه دعوى لا دليل عليها فإن النص اقتضى ثبوت حكم الأصل وكون وصف كذا علة مقتضي التعدية على قولكم فهما حكمان متغايران فزوال أحدهما لا يستلزم زوال الآخر.
قالوا: ولو كان القياس من الدين لقال النبي صلى الله عليه وسلم لأمته إذا(7/315)
ص -266-…أمرتكم بأمر أو نهيتكم عن شيء فقيسوا عليه ما كان مثله أو شبهه ولكان هذا أكثر شيء في كلامه وطرق الأدلة عليه متنوعة لشدة الحاجة إليه ولا سيما عند غلاة القياسيين الذين يقولون: إن النصوص لا تفي بعشر معشار الحوادث وعلى قول هذا الغالي الجافي عن النصوص فالحاجة إلى القياس أعظم من الحاجة إلى النصوص فهلا جاءت الوصية باتباعه ومراعاته والوصية بحفظ حدود ما أنزل الله على رسوله وأن لا تتعدى ومعلوم أن الله سبحانه حد لعباده حدود الحلال والحرام بكلامه وذم من لم يعلم حدود ما أنزل الله على رسوله والذي أنزله هو كلامه فحدود ما أنزله الله هو الوقوف عند حد الاسم الذي علق عليه الحل والحرمة فإنه هو المنزل على رسوله وحده بما وضع له لغة أو شرعا بحيث لا يدخل فيه غير موضوعه ولا يخرج منه شيء من موضوعه ومن المعلوم أن حد البر لا يتناول الخردل وحد التمر لا يدخل فيه البلوط وحد الذهب لا يتناول القطن ولا يختلف الناس أن حد الشيء ما يمنع دخول غيره فيه ويمنع خروج بعضه منه وقد تقدم تقرير هذا وأعدناه لشدة الحاجة إليه فإن أعلم الخلق بالدين أعلمهم بحدود الأسماء التي علق بها الحل والحرمة والأسماء التي لها حدود في كلام الله ورسوله ثلاثة أنواع نوع له حد في اللغة كالشمس والقمر والبر والبحر والليل والنهار فمن حمل هذه الأسماء على غير مسماها أو خصها ببعضه أو أخرج منها بعضه فقد تعدى حدودها ونوع له حد في الشرع كالصلاة والصيام والحج والزكاة والإيمان والإسلام والتقوى ونظائرها فحكمها في تناولها لمسمياتها الشرعية كحم النوع الأول في تناوله لمسماه اللغوي ونوع له حد في العرف لم يحده الله ورسوله بحد غير المتعارف ولا حد له في اللغة كالسفر والمرض المبيح للترخص والسفه والجنون الموجب للحجر والشقاق الموجب لبعث الحكمين والنشوز المسوغ لهجر الزوجة وضربها والتراضي المسوغ لحل التجارة والضرار المحرم بين المسلمين وأمثال ذلك وهذا النوع في(7/316)
تناوله لمسماه العرفي كالنوعين(7/317)
ص -267-…الآخرين في تناولهما لمسماهما ومعرفة حدود هذه الأسماء ومراعاتها مغن عن القياس غير محوج إليه وإنما يحتاج إلى القياس من قصر في هذه الحدود ولم يحط بها علما ولم يعطها حقها من الدلالة.
مثاله تقصير طائفة من الفقهاء في معرفة حد الخمر حيث خصوه بنوع خاص من المسكرات فلما احتاجوا إلى تقرير تحريم كل مسكر سلكوا طريق القياس وقاسوا ما عدا ذلك النوع في التحريم عليه فنازعهم الآخرون في هذا القياس وقالوا لا يجري في الأسباب وطال النزاع بينهم وكثر السؤال والجواب وكل هذا من تقصيرهم في معرفة حد الخمر فإن صاحب الشرع قد حده بحد يتناول كل فرد من أفراد المسكر فقال: "كل مسكر خمر" فأغنانا هذا الحد عن باب طويل عريض كثير التعب من القياس وأثبتنا التحريم بنصه لا بالرأي والقياس.
ومن ذلك أيضا تقصير طائفة في لفظ الميسر حيث خصوه بنوع من أنواعه ثم جاءوا إلى الشطرنج مثلا فراموا تحريمه قياسا عليه فنازعهم آخرون في هذا القياس وصحته وطال النزاع ولو أعطوا لفظ الميسر حقه وعرفوا حده لعلموا أن دخول الشطرنج فيه أولى من دخول غيره كما صرح به من صرح من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم وقالوا: "الشطرنج من الميسر".
ومن ذلك تقصير طائفة في لفظ السارق حيث أخرجوا منه نباش القبور ثم راموا قياسه في القطع على السارق فقال لهم منازعوهم: الحدود والأسماء لا تثبت قياسا فأطالوا وأعرضوا في الرد عليهم ولو أعطوا لفظ السارق حده لرأوا أنه لا فرق في حده ومسماه بين سارق الأثمان وسارق الأكفان وأن إثبات الأحكام في هذه الصور بالنصوص لا بمجرد القياس.
ونحن نقول قولا ندين الله به ونحمد الله على توفيقنا له ونسأله الثبات عليه:(7/318)
ص -268-…إن الشريعة لم تحوجنا إلى قياس قط وإن فيها غنية وكفاية عن كل رأي وقياس وسياسة واستحسان ولكن ذلك مشروط بفهم يؤتيه الله عبده فيها وقد قال تعالى {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} وقال علي كرم الله وجهه: "إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه" وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" وقال أبو سعيد: "كان أبو بكر أعلمنا برسول الله صلى الله عليه وسلم" وقال عمر لأبي موسى: "الفهم الفهم".
فصل تناقض القياسيين دليل على فساد القياس:
قالوا: ومما يبين فساد القياس و بطلانه تناقض أهله فيه و اضطرابهم تأصيلا و تفصيلا.
أما التأصيل فمنهم من يحتج بجميع أنواع القياس و هي: قياس العلة و الدلالة والشبه و الطرد و هم غلاتهم كفقهاء ما وراء النهر و غيرهم فيحتجون في طرائقهم على منازعهم في مسألة المنع من إزالة النجاسة بالمائعات بأنه مائع لاتبنى عليه القناطر ولا تجري فيه السفن فلا تجوز إزالة النجاسة به كالزيت والشيرج وأمثال ذلك من الأقيسة التي هي إلى التلاعب بالدين أقرب منها إلى تعظيمه.
وطائفة يحتجون باللأقيسة الثلاثة دونه وتقول قياس العلة أن يكون الجامع هو العلة التي لأجلها شرع الحكم في الأصل و قياس الدلالة: أن يجمع بينهما بديل العلة و قياس الشبه أن يتجاذب الحادثة أصلان حاظر و مبيح و لكل واحد من الأصلين أوصاف فتلحق الحادثة بأكثر من الأصلين أوصاف فتلحق الحادثة بأكثر الأصلين شبها بها(7/319)
ص -269-…مثل أن يكون بالإباحة أشبه بأربعة أوصاف و بالحظر بثلاثة فيلحق بالإباحة.
وقد قال الإمام أحمد في هذا النوع في راوية أحمد بن الحسين: "القياس أن يقاس الشيء على الشيء إذا كان مثله في كل أحواله فأما إذا أشبهه في حال وخالفه في حال فأردت أن تقيس عليه فهذا الخطأ و قد خالفه في بعض أحواله ووافقه في بعضها فإذا كان مثله في كل أحواله فما أقبلت به وأدبرت به فليس في نفسي منه شيء" و بهذا قال أكثر الحنفية والمالكية و الحنابلة و قالت طائفة لا قياس إلا قياس العلة فقط و قالت فرقة بذلك و لكن إذا كانت العلة منصوصة.
ثم اختلف القياسيون في محل القياس فقال جمهورهم يجرى في الأسماء و الأحكام وقالت فرقة: "لا بل لا تثبت الأسماء قياسا و إنما محل القياس الأحكام".
ثم اختلفوا فأجراه جمهورهم في العبادات واللغات و الحدود و الأسباب و غيرها ومنعته طائفة في ذلك واستثنت طائفة الحدود والكفارات فقط واستثنت طائفة أخرى معها الأسباب.
وكل هؤلاء قسموه إلى ثلاثة أقسام: قياس أولى وقياس مثل وقياس أدنى ثم اضطربوا في تقديمه على العموم أو بالعكس على قولين واضطربوا في تقديمه على خبر الآحاد الصحيح فجمهورهم قدم الخبر.
وقال أبو بكر بن الفرج القاضي وأبو بكر الأبهري المالكيان: هو مقدم على خبر الواحد ولا يمكنهم ولا أحد من الفقهاء طرد هذا القول البتة بل لا بد من تناقضهم واضطربوا في تقديمه على الخبر المرسل وعلى قول الصحابى فمنهم من قدم القياس ومنهم من قدم المرسل وقول الصحابى(7/320)
ص -270-…وأكثرهم بل كلهم يقدمون هذا تارة وهذا تارة فهذا تناقضهم في التأصيل.
وأما تناقضهم في التفصيل فنذكر منه طرفا يسيرا يدل على ما وراءه من قياسهم في المسألة قياسا وتركهم فيها مثله أو ما هو أقوى منه أو تركهم نظير ذلك القياس أو أقوى منه في مسألة أخرى لا فرق بينهما البتة.
أمثلة من تناقض القياسيين:
فمن ذلك أنهم أجازوا الوضوء بنبيذ التمر وقاسوا في أحد القولين عليه سائر الأنبذة وفي القول الآخر لم يقيسوا عليه فإن كان هذا القياس حقا فقد تركوه وإن كان باطلا فقد استعملوه ولم يقيسوا عليه الخل ولا فرق بينهما وكيف كان نبيذ التمر تمرة طبية وماء طهورا ولم يكن الخل عنبة طيبة وماء طهورا والمرق لحما طيبا وماء طهورا ونقيع المشمش والزبيب كذلك فإن ادعوا الإجماع على عدم الوضوء بذلك فليس فيه إجماع فقد قال الحسن بن صالح بن حي وحميد بن عبد الرحمن: "يجوز الوضوء بالخل وإن كان الإجماع كما ذكرتم فهلا قستم المنع من الوضوء بالنبيذ على ما أجمعوا عليه من المنع من الوضوء بالخل فإن قلتم اقتصرنا على موضع النص ولم نقس عليه قيل لكم فهلا سلكتم ذلك في جميع نصوصه واقتصرتم على محالها الخاصة ولم تقيسوا عليها فإن قلتم لأن هذا خلاف القياس قيل لكم فقد صرحتم أن ما ثبت على خلاف القياس يجوز القياس عليه ثم هذا يبطل أصل القياس فإنه إذا جاز ورود الشريعة بخلاف القياس علم أن القياس ليس من الحق وأنه عين الباطل فإن الشريعة لا ترد بخلاف الحق أصلا ثم من قاعدتكم أن خبر الواحد إذا خالف الأصول لم يقبل وفي أي الأصول وجدتم ما يجوز التطهير به خارج المصر والقرية ولا يجوز التطهير به داخلهما فإن قالوا اقتصرنا في ذلك على موضع النص قيل فهلا اقتصرتم به على خارج مكة فقط حيث جاء الحديث وكيف ساغ لكم قياس الغسل من(7/321)
ص -271-…الجنابة في ذلك على الوضوء دون القياس داخل المصر على خارجه وقياس العنبة الطيبة والماء الطهور واللحم الطيب والماء الطهور والدبس الطيب والماء الطهور على التمرة الطيبة والماء الطهور فقستم قياسا وتركتم مثله وما هو أولى منه فهلا اقتصرتم على مورد الحديث ولا عديتموه إلى أشباهه ونظائره"؟.
ومن ذلك أنكم قستم على خبر مروي: "يا بني المطلب إن الله كره لكم غسالة أيدي الناس" فقستم على ذلك الماء الذي يتوضأ به وأبحتم لبني المطلب غسالة أيدي الناس التي نص عليها الخبر وقستم الماء المستعمل في رفع الحدث وهو طاهر لاقى أعضاء طاهرة على الماء الذي لاقى العذرة والدم والميتات وهذا من أفسد القياس وتركتم قياسا أصح منه وهو قياسه على الماء المستعمل في محل التطهير من عضو إلى عضو ومن محل إلى محل فأي فرق بين انتقاله من عضو المتطهر الواحد إلى عضوه الآخر وبين انتقاله إلى عضو أخيه المسلم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد" ولا ريب عند كل عاقل أن قياس جسد المسلم على جسد أخيه أصح من قياسه على العذرة والجيف والميتات والدم.
ومن ذلك أنكم قستم الماء الذي توضأ به الرجل على العبد الذي أعتقه في كفارته والمال الذي أخرجه في زكاته وهذا من أفسد القياس وقد تركتم قياسا أصح في العقول والفطر منه وهو قياس هذا الماء الذي قد أدى به عبادة على الثوب الذي قد صلي فيه وعلى الحصى الذي رمى به الجمار مرة عند من يجوز منكم الرمي بها ثانية وعلى الحجر الذي استجمر به مرة إذا غسله أو لم يكن به نجاسة.
ومن ذلك أنكم قستم الماء الذي وردت عليه النجاسة فلم تغير له لونا(7/322)
ص -272-…ولا طعما ولا ريحا على الماء الذي غيرت النجاسة لونه أو طعمه أو ريحه وهذا من أبعد القياس عن الشرع والحس وتركتم قياسا أصح منه وهو قياسه على الماء الذي ورد على النجاسة فقياس الوارد على المورود مع اسوائهما في الحد والحقيقة والأوصاف أصح من قياس مائة رطل ماء وقع فيه شعرة كلب على مائة رطل خالطها مثلها بولا وعذرة حتى غيرها.
ومن ذلك أنكم فرقتم بين ماء جار بقدر طرف الخنصر تقع فيه النجاسة فلم تغيره وبين الماء العظيم المستبحر إذا وقع فيه مثل رأس الإبرة من البول فنجستم الثاني دون الأول وتركتم محض القياس فلم تقيسوا الجانب الشرقي من غدير كبير في غربيه نجاسة على الجانب الشمالي والجنوبي وكل ذلك مماس لما قد تنجس عندكم مماسة مستوية.
وقاسوا باطن الأنف على ظاهره في غسل الجنابة فأوجبوا الاستنشاق ولم يقيسوه عليه في الوضوء الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه بالاستنشاق نصا ففرقوا بينهما وأسقطوا الوجوب في محل الأمر به وأوجبوه في غيره والأمر بغسل الوجه في الوضوء كالأمر بغسل البدن في الجنابة سواء.
ومن ذلك أنكم قستم النسيان على العمد في الكلام في الصلاة وفي فعل المحلوف عليه ناسيا وفيما يوجب الفدية من محظورات الإحرام كالطيب واللباس والحلف والصيد وفي حمل النجاسة في الصلاة ثم فرقتم بين النسيان والعمد في السلام قبل تمام الصلاة وفي الأكل والشرب في الصوم وفي ترك التسمية على الذبيحة وفي غير ذلك من الأحكام وقستم الجاهل على الناسي في عدة مسائل وفرقتم بينهما في مسائل أخر ففرقتم بينهما فيمن نسى أنه صائم فأكل أو شرب لم يبطل صومه ولو جهل فظن وجود الليل فأكل أو شرب فسد صومه(7/323)
ص -273-…مع أن الشريعة تعذر الجاهل كما تعذر الناسي أو أعظم كما عذر النبي صلى الله عليه وسلم المسيء في صلاته بجهله بوجوب الطمأنينة فلم يأمره بإعادة ما مضى وعذر الحامل المستحاضة بجهلها بوجوب الصلاة والصوم عليها مع الاستحاضة ولم يأمرها بإعادة ما مضى وعذر عدي بن حاتم بأكله في رمضان حين تبين له الخيطان اللذان جعلهما تحت وسادته ولم يأمره بالإعادة وعذر أبا ذر بجهله بوجوب الصلاة إذا عدم الماء فأمره بالتيمم ولم يأمره بالإعادة وعذر الذين تمعكوا في التراب كتمعك الدابة لما سمعوا فرض التيمم ولم يأمرهم بالإعادة وعذر معاوية بن الحكم بكلامه في الصلاة عامدا لجهله بالتحريم وعذر أهل قباء بصلاتهم إلى بيت المقدس بعد نسخ استقباله بجهلهم بالناسخ ولم يأمرهم بالإعادة وعذر الصحابة والأئمة بعدهم من ارتكب محرما جاهلا بتحريمه فلم يحدوه.
وفرقتم بين قليل النجاسة في الماء وقليلها في الثوب والبدن وطهارة الجميع شرط لصحة الصلاة وترك الجميع صريح القياس في مسألة الكلب فطائفة لم تقس عليه غيره وطائفة قاست عليه الخنزير وحده دون غيره كالذئب الذي هو مثله أو شر منه وقياس الخنزير على الذئب أصح من قياسه على الكلب وطائفة قاست عليه البغل والحمار وقياسهما على الخيل التي هي قرينتهما في الذكر وامتنان الله سبحانه على عباده لها بركوبها واتخاذها زينة وملامسة الناس لها أصح من قياس البغل على الكلب فقد علم كل أحد أن الشبه بين البغل والفرس أظهر وأقوى من الشبه بينه وبين الكلب وقياس البغل والحمار على السنور بشدة ملامستهما والحاجة إليهما وشربهما من آنية البيت أصح من قياسهما على الكلب.
وقستم الخنافس والزنابير والعقارب والصردان على الذباب في أنها لا تنجس(7/324)
ص -274-…بالموت بعدم النفس السائلة لها وقلة الرطوبات والفضلات التي توجب التنجيس فيها ونجس من نجس منكم العظام بالموت مع تعريها من الرطوبات والفضلات جملة ومعلوم أن النفس السائلة التي في تلك الحيوانات المقيسة أعظم من النفس السائلة التي في العظام.
وفرقتم بين ما شرب منه الصقر والبازي والحدأة والعقاب والأحناش وسباع الطير وما شرب منه سباع البهائم من غير فرق بينهما قال أبو يوسف: سألت أبا حنيفة عن الفرق في هذا بين سباع الطير وسباع ذوات الأربع فقال: "أما في القياس فهما سواء ولكني أستحسن في هذا".
وتركتم صريح القياس في التسوية بين نبيذ التمر والزبيب والعسل والحنطة ونبيذ العنب وفرقتم بيم المتماثلين ولا فرق بينهما البتة مع أن النصوص الصحيحة الصريحة قد سوت بين الجميع.
وفرقتم بين من معه إناءان: طاهر ونجس فقلتم: يريقهما ويتيمم ولا يتحرى فيهما ولو كان معه ثوبان كذلك يتحرى فيهما والوضوء بالماء النجس كالصلاة في الثوب النجس ثم قلتم: فلو كانت الآنية ثلاثة تحري ففرقتم بين الاثنين والثلاثة وهو فرق بين متماثلين وهذا على أصحاب الرأي وأما أصحاب الشافعي ففرقوا بين الإناء الذي كله بول وبين الإناء الذي نصفه فأكثر بول فجوزا الاجتهاد بين الثاني والإناء الطاهر دون الأول وتركوا محض القياس في التسوية بينهما.
وقستم القيء على البول وقلتم: كلاهما طعام أو شراب خرج من الجوف ولم تقيسوا الجشوة الخبيثة على الفسوة ولم تقولوا: كلاهما ريح خارجة من الجوف.
وقستم الوضوء وغسل الجنابة على الاستنجاء وغسل النجاسة في صحته بلا نية(7/325)
ص -275-…ولم تقيسوهما على التيمم وهما أشبه به من الاستنجاء ثم تناقضتم فقلتم لو انغمس جنب في البئر لأخذ الدلو ولم ينو الغسل لم يرتفع حدثه كما قاله أبو يوسف ونقض أصله في أن مس الماء لبدن الجنب يرفع حدثه وإن لم ينو وقال محمد بل يرتفع حدثه ولا يفسد الماء فنقض أصله في فساء الماء الذي يرفع الحدث.
وقستم التيمم إلى المرفقين على غسل اليدين إليهما ولم تقيسوا المسح على الخفين إلى الكعبين على غسل الرجلين إليهما ولا فرق بينهما البتة وأهل الحديث أسعد بالقياس منكم كما هم أسعد بالنص.
وقستم إزالة النجاسة عن الثياب بالمائعات على إزالتها بالماء ولم تقيسوا إزالتها من القذر بها على الماء فما الفرق ثم قلتم: تزال من المخرجين بكل مزيل جامد ولا تزال من سائر البدن إلا بالماء وقلتم من المخرجين بالروث اليابس ولا تزال بالرجيع اليابس مع تساويهما في النجاسة.
وقستم قليل القيء على كثيره في النجاسة ولم تقيسوه عليه في كونه حدثا وقستم نوم المتورك على المضطجع في نقض الوضوء ولم تقيسوا عليه نوم الساجد وتركتم محض القياس المؤيد بالسنة المستفيضة في مسح العمامة وهي ملبوس معتاد ساتر لمحل الفرض ويشق نزعه على كثير من الناس إما لحنك أو لكلاب أو لبرد على المسح على الخفين والسنة قد سوت بينهما في المسح كما هما سواء في القياس ويسقط فرضهما في التيمم وقستم مسح الوجه واليدين في التيمم على الوضوء في وجوب الاستيعاب ولم تقيسوا مسح الرأس في الوضوء على الوجه في وجوب الاستيعاب والفعل والباء والأمر في الموضعين سواء وقستم وجود الماء في الصلاة على وجوده خارجها في بطلان صلاة المتيمم به ولم تقيسوا القهقهة في الصلاة على القهقهة في خارجها وفرقتم بين تقديم الزكاة قبل وجوبها(7/326)
ص -276-…فأجزتموه و بين تقديم الكفارة قبل وجوبها فمنعتموه وقستم وجه المرأة في الإحرام على رأس الرجل و تركتم قياس وجهها على يديها أو على بدن الرجل وهو محض القياس و موجب السنة فإن النبي صلى الله عليه و سلم سوى بين يديها ووجهها و بين يدي الرجل ووجهه حيث قال لا تلبس القفازين ولا النقاب و كذلك قال لا يلبس المحرم القميص ولا السراويل ولا تنتقب المرأة فتركتم محض القياس و موجب السنة.
وقستم المزارعة و المساقاة على الإجارة الباطلة فأبطلتموهما و تركتم محض القياس وموجب السنة وهو قياسهما على المضاربة و المشاركة فإنهما أشبه بهما منهما بالإجارة فإن صاحب الأرض و الشجر يدفع أرضه و شجره لمن يعمل عليهما وما رزق الله من نماء فهو بينه و بين العامل وهذا كالمضاربة سواء فلو لم تأت السنة الصحيحة بجوازها لكان القياس يقتضي جوازها عند القياسيين.
واشترط أكثر من جوزها كون البذر من رب الأرض وقاسها على المضاربة في كون المال من واحد والعمل من واحد وتركوا محض القياس وموجب السنة فإن الأرض كالمال في المضاربة والبذر يجرى مجرى الماء والعمل فإنه يموت في الأرض ولهذا لا يجوز أن يرجع إلى ربه مثل بذره ويقتسما الباقي ولو كان كرأس المال في المضاربة لجاز بل اشترط أن يرجع إليه مثل بذره كما يرجع إلى رب المال مثل ماله فتركوا القياس كما تركوا موجب السنة الصحيحة الصريحة وعمل الصحابة كلهم.
وقستم إجارة الحيوان للانتفاع بلبنه على إجارة الخبز للأكل وهذا من أفسد القياس وتركتم محض القياس وموجب القرآن فإن الله سبحانه قال {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فقياس الشاة والبقرة والناقة للانتفاع(7/327)
ص -277-…بلبنها على الظئر أصح وأقرب إلى العقل من قياس ذلك على إجارة الخبز للأكل فإن الأعيان المستخلفة شيئا بعد شيء بعد شيء تجرى مجرى المنافع كما جرت مجراها في المنيحة والعارية والضمان بالإتلاف فتركتم محض القياس.
وقستم على ما لا خفاء بالفرق بينه وبينه وهو أن الخبز والطعام تذهب جملته بالأكل ولا يخلفه غيره بخلاف اللبن ونقع البئر وهذا من أجلى القياس.
وقستم الصداق على ما يقطع فيه يد السارق وتركتم محض القياس وموجب السنة فإنه عقد معاوضة فيجوز بما يتراضى عليه المتعاوضان ولو خاتما من حديد.
وقستم الرجل يسرق العين ثم يملكها بعد ثبوت القطع على ما إذا ملكها قبل ذلك وتركتم محض القياس وموجب السنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسقط القطع عن سارق الرداء بعد ما وهبه إياه صفوان وفرقتم بين ذلك وبين الرجل يزني بالأمة ثم يملكها فلم تروا ذلك مسقطا للحد مع أنه لا فرق بينهما.
وقستم قياسا أبعد من هذا فقلتم: إذا قطع بسرقتها مرة ثم عاد فسرقها لم يقطع بها ثانيا وتركتم محض القياس على ما إذا زنى بامرأة فحد بها ثم زنى بها ثانية فإن الحد لا يسقط عنه ولو قذفه فحد ثم قذفه ثانيا لم يسقط عنه الحد.
وقستم نذر صوم يوم العيد في الانعقاد ووجوب الوفاء على النذر صوم اليوم القابل له شرعا وتركتم محض القياس وموجب السنة ولم تقيسوه على صوم يوم الحيض وكلاهما غير محل الصوم شرعا فهو بمنزلة الليل.
وقستم وجعلتم المحتقن بالخمر كشاربها في الفطر بالقياس ولم تجعلوه كشاربها(7/328)
ص -278-…في الحد وقستم الكافر الذمي والمعاهد على المسلم في قتله به ولم تقيسوه على الحربي في إسقاط القود.
ومن المعلوم قطعا أن الشبه الذي بين المعاهد والحربي أعظم من الشبه الذي بين الكافر والمسلم والله سبحانه وتعالى قد سوى بين الكفار كلهم في إدخالهم نار جهنم وفى قطع الموالاة بينهم وبين المسلمين وفى عدم التوارث بينهم وبين المسلمين وفي منع قبول شهادتهمعلى المسلمين وغير ذلك وقطع المساواة بين المسلمين والكفار فتركتم محض القياس وهو التسوية بين ما سوى الله بينه وسويتم بين ما فرق الله بينه.
ومن العجب أنكم قستم المؤمن على الكافر في جريان القصاص بينهما في النفس والطرف ولم تقيسوا العبد المؤمن على الحر في جريان القصاص بينهما في الأطراف فجعلتم حرمة عدو الله الكافر في أطرافه أعظم من حرمة وليه المؤمن وكأن نقص المؤمن العبودية الموجب للأجرين عند الله أنقص عندكم من نقص الكفر وقلتم يقتل الرجل بالمرأة ثم ناقضتم فقلتم لا يؤخذ طرفه بطرفها وقلتم يقتل العبد بالعبد وإن كانت قيمة أحدهما مائة درهم وقيمة الآخر مائة ألف درهم ثم ناقضتم فقلتم لا يؤخذ طرفه بطرفه إلا أن تتساوى قيمتهما فتركتم محض القياس فإن الله سبحانه ألغى التفاوت بين النفوس والأطراف في الفضل لمصلحة المكلفين ولعدم ضبط التساوي فألغيتم ما اعتبره الله سبحانه من الحكمة والمصلحة واعتبرتم ما ألغاه من التفاوت وقستم قوله: "إن كلمت فلانا أو بايعته فامرأتي طالق وعبدي حر" علي ما إذا قال: "أن أعطيتني ألفا فأنت طالق" ثم عديم ذلك إلى قوله: "الطلاق يلزمني لا أكلم فلانا" ثم كلمه ولم تقيسوه على قوله: "إن كلمت فلانا فعلي صوم سنة أو حج إلى بيت الله أو فمالى صدقة" وقلتم: هذا يمين لا تعليق مقصود فتركتم محض القياس فإن قوله: "الطلاق يلزمني لا أكلم فلانا" يمين(7/329)
ص -279-…لا تعليق وقد أجمع الصحابة على أن قصد اليمين في العتق يمنع من وقوعه وحكي غير واحد إجماع الصحابة أيضا على أن الحالف بالطلاق لا يلزمه الطلاق إذا حنث وممن حكاه أبو محمد بن حزم وحكاه أبو القاسم عبد العزيز بن إبراهيم بن أحمد بن علي التميمي المعروف بابن بزيزة في كتابه المسمى بمصالح الأفهام في شرح كتاب الأحكام في باب ترجمة (الباب الثالث في حكم اليمين بالطلاق أو الشك فيه).
وقد قدمنا في كتاب الأيمان اختلاف العلماء في اليمين بالطلاق والعتق والشرط وغير ذلك: هل يلزم أم لا فقال علي بن أبي طالب وشريح وطاوس: "لا يلزم من ذلك شيء ولا يقضي بالطلاق على من حلف به فحنث ولم يعرف لعلي كرم الله وجهه في الجنة في ذلك مخالف من الصحابة" قال: وصح عن عطاء فيمن قال لامرأته: "أنت طالق إن لم أتزوج عليك" قال: إن لم يتزوج عليها حتى يموت أو تموت فإنهما يتوارثان وهو قول الحكم بن عتبة ثم حكى عن عطاء فيمن حلف بطلاق امرأته ليضربن زيدا فمات أحدهما أو ماتا معا فلا حنث عليه ويتوارثان وهذا صريح في أن يمين الطلاق لا يلزم ولا تطلق الزوجة بالحنث فيها ولو حنث قبل موته لم يتوارثا فحيث أثبت التوارث دل على أنها زوجة عنده وكذلك عكرمة مولى ابن عباس أيضا عنده يمين الطلاق لا يلزم كما ذكره عنه سنيد بن داود في تفسيره في سورة النور عند قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} ومن العجب أنكم قلتم: إذا قال: "إن شفى الله مريضي فعلي صوم شهر أو صدقة أو حجة" لزمه لأنه قاصد للنذر فإذا قال: "إن كلمت فلانا فعلي صوم أو صدقة لم يلزمه لأنه نذر لجاج وغضب فهو يمين فيه كفارة اليمين فجعلتم قصده لعدم الوقوع مانعا من ثلاثة أشياء إيجاب ما التزم ووجوبه عليه ووقوعه".(7/330)
ص -280-…وقلتم: لو قال: "إن فعلت كذا فعلي الطلاق" وفعله لزمه ولم يمنع قصد الحلف من وقوعه وهو أبغض الحلال إلى الله ومنع من وجوب القربات التي هي أحب شيء إلى الله فخالفتم صريح القياس والمنقول عن الصحابة والتابعين بأصح إسناد يكون ثم ناقضتم القياس من وجه آخر فقلتم: إذا قال: "الطلاق يلزمني لأفعلن كذا إن شاء الله" ثم لم يفعله لم يحنث لأنه أخرجه مخرج اليمين وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من حلف فقال إن شاء الله فإن شاء فعل وإن شاء ترك" فجعلتموه يمينا ثم قلتم: يلزمه وقوع الطلاق لأنه تعليق فليس بيمين ثم ناقضتم من وجه آخر فقلتم لو قال: "الطلاق يلزمني لا أجامعها سنة" فهو مول فيدخل في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُر} والألية والإيلاء والائتلاء هو الحلف بعينه كما فىالحديث: "تألى على الله أن لا يفعل خيرا" وقال تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى} وقال الشاعر:
قليل الألايا حافظ ليمنيه …وإن بدرت منه الألية برت
ثم قلتم: وليس بيمين فيدخل في قوله: "قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم" فيالله العجب ما الذي أحله عاما وحرمه عاما وجعله يمينا وليس بيمين ثم ناقضتم من وجه آخر فقلتم: إن قال: "إن فعلت كذا فأنا كافر" وفعله لم يكفر لأنه لم يقصد الكفر وإنما قصد مع نفسه من الفعل بمنعها من الكفر وهذا حق لكن نقضتموه في الطلاق والعتاق مع أنه لا فرق بينهما البتة في هذا المعنى الذي منع من وقوع الكفر ثم ناقضتم من وجه آخر فقلتم: لو قال: "إن فعلت كذا فعلي أن أطلق امرأتي" فحنث لم يلزمه أن يطلقها ولو قال: "إن فعلته فالطلاق يلزمني" فحنث وقع عليه الطلاق ولا تفرق اللغة ولا الشريعة بين المصدر وأن الفعل.(7/331)
ص -281-…فإن قلتم: الفرق بينهما أنه التزم في الأول التطبيق وهو فعله وفي الثاني وقوع الطلاق وهو أثر فعله.
قيل: هذا الفرق الذي تخيلتموه لا يجدي شيئا فإن الطلاق هو التطليق بعينه وإنما أثره كونها طالقا وهذا غير الطلاق فههنا ثلاثة أمور مرتبة التزام التطليق وهذا غير الطلاق بلا شك والثاني إيقاع التطليق وهو الطلاق بعينه الذي قال الله فيه {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الطلاق لمن أخذ بالساق" الثالث صيرورة المرأة طالقا وبينونتها فالقائل: "إن فعلت كذا فعلي الطلاق" لم يرد هذا الثالث قطعا فإنه ليس إليه ولا من فعله وإنما هو إلى الشارع والمكلف إنما يلزم ما يدخل تحت مقدرته وهو إنشاء الطلاق فلا فرق أصلا بين هذا اللفظ وبين قوله: "فعلي أن أطلق" فالتفريق بينهما تفريق بين متساويين وهو عدول عن محض القياس من غير نص ولا إجماع ولا قول صاحب.
يوضحه أن قوله: "فالطلاق لازم لي" إنما هو فعله الذي يلزمه بالتزامه وأما كونها طالقا فهذا وصفها فليس هو لازما له وإنما هو لازم لها ا فلينظر اللبيب المنصف الذي العلم أحب إليه من التقليد إلى مقتضى القياس المحض واتباع الصحابة والتابعين في هذه المسألة ثم ليختر لنفسه ما شاء والله الموفق.
ثم ناقضتم أيضا من وجه آخر فقلتم: لو قال: "إن حلفت بطلاقك أو وقع مني يمين بطلاقك" أو لم يقل: بطلاقك بل قال: "متى حلفت أو أوقعت يمينا فأنت طالق" ثم قال: "إن كلمت فلانا فأنت طالق" حنث وقد وقع عليه الطلاق لأنه قد حلف وأوقع اليمين فأدخلتم الحلف بالطلاق في اسم اليمين والحلف في كلام المكلف ولم تدخلوه في اسم اليمين والحلف في كلام الله ورسوله وزعمتم أنكم اتبعتم في ذلك القياس والإجماع وقد أريناكم مخالفتكم لصريح القياس مخالفة لا يمكنكم(7/332)
ص -282-…الانفكاك عنها بوجه ومخالفتكم للمنقول عن الصحابة والتابعين كأصحاب ابن عباس فظهر عند المنصفين أنا أولى بالقياس والاتباع منكم في هذه المسألة وبالله التوفيق.
وقلتم: لو شهد عليه أربعة بالزنا فصدق الشهود سقط عنه الحد وإن كذب لهم أقيم عليه الحد وهذا من أفسد قياس في الدنيا فإن تصديقهم إنما زادهم قوة وزاد الإمام يقينا وعلما أعظم من العلم الحاصل بالشهادة وتكذيبه وتفريقكم بأن البينة لا يعمل بها إلا مع الإنكار فإذا أقر فلا عمل للبينة والإقرار مرة لا يكفي فيسقط الحد تفريق باطل فإن العمل هاهنا بالبينة لا بالإقرار وهو إنما صدر منه تصديق البينة التي وجب الحكم بها بعد الشهادة فسواء أقر أم لم يقر فالعمل إنما هو بالبينة.
وقلتم: لو وجد الرجل امرأة على فراشه فظن أنها امرأته فوطئها حد حد الزنا ولا يكون هذا شبهة مسقطة للحد ولو عقد على ابنته أو أمه ووطئها كان ذلك شبهة مسقطة للحد ولو حبلت امرأة لا زوج لها ولا سيد وولدت مرة بعد مرة لم تحد ولو تقيأ الخمر كل يوم لم يحد فتركتم محض القياس والثابت عن الصحابة ثبوتا لا شك فيه من الحد بالحبل ورائحة الخمر.
وقلتم: لو شهد عليه أربعة بالزنا فطعن في عدالتهم حبس إلا أن تزكى الشهود ولو شهد عليه اثنان بمال فطعن في عدالتهما لم يحبس قبل التزكية فتركتم محض القياس وقستم دعوى المرأتين الولد وإلحاقه بهما وجعلهما أمين له على دعوى الرجلين وهذا من أفسد القياس فإن خروج الولد من أمين معلوم الاستحالة وتخليقه من ماء الرجلين ممكن بل واقع كما شهد به القائف عند عمر وصدقه.(7/333)
ص -283-…وقلتم: لو قال الأجنبي: "طلق امرأتي" فله أن يطلق في المجلس وبعده ولو قال لامرأته: "طلقي نفسك" فلها أن تطلق نفسها ما دامت في المجلس ثم فرقتم بينهما بأن "طلقي نفسك" تمليك لا توكيل لاستحالة أن يكون وكيلا في التصرف لنفسه فيقيد بالمجلس وأما بالنسبة إلى الأجنبي فتوكيل فلا يتقيد وهذا الفرق دعوى مجردة ولم تذكروا حجة على أن قوله: "طلقي نفسك" تمليك وقولكم: "الوكيل لا يتصرف لنفسه" جوابه له أن يتصرف لنفسه ولموكله ولهذا كان ألا الشريك وكيلا بعد قبض المال والتصرف وإن كان متصرفا لنفسه فإن تصرفه لا يختص به ثم ناقضتم هذا الفرق فقلتم: لو قال: "أبرىء نفسك من الدين الذي عليك" فإنه لا يتقيد بالمجلس ويكون توكيلا مع أنه تصرف مع نفسه ففرقتم بين "طلقي نفسك" و"أبرىء نفسك مما عليك من الدين" وهو تفريق بين متماثلين فتركتم محض القياس.
وقالوا: من أقام شهود زور على أن زيدا طلق امرأته فحكم الحاكم بذلك فهي حلال لمن تزوجها من الشهود وكذلك لو أقام شهود زور على أن فلانة تزوجته بولي ورضى فقضى القاضي بذلك فهي له حلال وكذلك لو شهدوا عليه بأنه أعتق جاريته هذه فقضى القاضي بذلك فهي حلال لمن تزوجها ممن يدري باطن الأمر فتركوا محض القياس وقواعد الشريعة ثم ناقضوا فقالوا لو شهدوا له زورا بأنه وهب له مملكته هذه أو باعها منه لم يحل له وطؤها بذلك ثم ناقضوا بذلك أعظم مناقضة فقالوا لو شهد بأنه تزوجها بعد انقضاء عدتها من المطلق وكانا كاذبين فإنها لا تحل وحبسها على زوجها أعظم من حبسها على عدته فأحلوها في أعظم العصمتين وحرموها في أدناهما وحرمة النكاح أعظم من حرمة العدة.(7/334)
ص -284-…وقلتم: لا يحد الذمي إذا زنا بالمسلمة ولو كانت قرشية علوية أو عباسية ولا بسب الله ورسوله وكتابه ودينه جهرة في أسواقنا ومجامعنا ولا بتخريب مساجد المسلمين ولو أنها المساجد الثلاثة ولا ينتقض عهده بذلك وهو معصوم المال والدم حتى إذا منع دينارا واحدا مما عليه من الجزية وقال: "لا أعطيكموه" انتقض بذلك عهده وحل ماله ودمه ثم ناقضتم من وجه آخر فقلتم: لو سرق لمسلم عشرة دراهم لقطعت يده ولو قذفه حد بقذفه فيا للقياس الفاسد الباطل المناقض للدين والعقل الموجب لهذه الأقوال التي يكفي في ردها تصورها كيف استجاز المستجيز تقديمها على السنن والآثار والله المستعان.
وأجزتم شهادة الفاسقين والمحدودين في القذف والأعميين في النكاح ثم ناقضتم فقلتم لو شهد فيه عبدان صالحان عالمان يفتيان في الحلال والحرام لم يصح النكاح ولم ينعقد بشهادتهما فمنعتم انعقاده بشهادة من عدله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وعقد تموه بشهادة من فسقه الله ورسوله ومنع من قبول شهادته.
وقلتم: لو شهد شاهد على زيد أنه غصب عمر مالا أو شجه أو قذفه وشهد آخر بأنه أقر بذلك ولم يتم النصاب لم يقض عليه بشيء ولو شهد شاهد بأنه طلق امرأته أو أعتق عبده أو باعه وشهد آخر بإقراره بذلك تمت الشهادة وقضي عليه.
وقلتم: لو قال له: "بعتك هذا العبد بألف" فإذا هو جارية أو بالعكس فالبيع باطل فلو قال: "بعتك هذه النعجة بعشرة" فإذا هي كبش أو بالعكس فالبيع صحيح ثم فرقتم بأن قلتم المقصود من الجارية والعبد مختلف والمقصود من النعجة والكبش متقارب وهو اللحم وهذا غير صحيح فإن الدر والنسل المقصود من الأنثى لا يوجد في الذكر وعسب الفحل وضرابه المقصود منه لا يوجد في الأنثى ثم ناقضتم أبين مناقضة بأن قلتم: لو قال: "بعتك هذا القمح" فإذا هو شعير أو "هذه الألية" فإذا هي شحم لم يصح للبيع مع تقارب القصد.(7/335)
ص -285-…وقلتم: لو باعه ثوبا من ثوبين لم يصح البيع لعدم التعيين فلو كانت ثلاثة أثواب فقال: "بعتك واحد منها" صح البيع فيالله العجب كيف أبطلتموه مع قلة الجهالة والغرر وصححتموه مع زيادتهما أفترى زيادة الثوب الثالث خففت الغرر ولا دفعت الجهالة وتفريقكم بأن العقد على واحد من اثنين يتضمن الجهالة والتعزير لأنه قد يكون أحدهما مرتفعا والآخر رديئا فيفضي إلى التنازع والاختلاف فإذا كانت ثلاثة فالثلاثة تتضمن الجيد والردىء والوسط فكأنه قال بعتك أوسطها وذلك أقل غررا من بيعه واحدا من اثنين ردىء وجيد وإذا أمكن حمل كلام المتعاقدين على الصحة فهو أولى من إلغائه وهذا الفرق ما زاد المسألة إلا غرارا وجهالة فإن النزاع كان يكون في ثوبين فقط وأما الآن فصار في ثلاثة وإذا قال: "إنما وقع العقد على الوسط" قال الآخر: "بل على الأدنى أو على الأعلى".
وقلتم: لو اشترى جارية ثم أراد وطأها قبل الإستبراء لم يجز ولو تيقنا فراغ رحمها بأن كانت بكرا أو كانت بائعتها امرأة معه في الدار بحيث تيقن أنها غير مشغولة الرحم أو باعها وقد ابتدأت في الحيضة ونحو ذلك ثم قلتم لو وطئها السيد البارحة ثم زوجها منه الغد جاز له وطؤها ورحمها مشتغل على ماء الوطء فتركتم محض القياس والمصلحة وحكمة الشارع لفرق متخيل لا يجدى شيئا وهو أن النكاح لما صح كان ذلك حكما بفراغ الرحم فإذا حكم بفراغ رحمها جاز له وطؤها فيقال يا لله العجب كيف يحكم بفراغ رحمها وهو حديث عهد بوطئها وهل هذا إلا حكم باطل مخالف للحس والعقل والشرع نعم لو أنكم قلتم: "لا يحل له تزوجها حتى يستبرئها ويحكم بفراغ رحمها" لكان هذا فرقا صحيحا وكلاما متوجها ويقال حينئذ لا معنى لاستبراء الزوج فله أن يطئها عقيب العقد فذا محض القياس وبالله التوفيق.
وقلتم: من طاف أربعة أشواط من السبع فلم يكمله حتى رجع إلى أهله(7/336)
ص -286-…أنه يجبره بدم وصح حجه إقامة للأكثر مقام الكل فخرجتم عن محض القياس لأن الأركان لا مدخل للدم في تركها وما أمر به الشارع لا يكون المكلف ممتثلا به حتى يأتى بجميعه و لا يقوم أكثره مقام كله كما لا يقوم الأكثر مقام الكل في الصلاة والصيام والزكاة والوضوء وغسل الجنابة فهذا هو القياس الصحيح والمأمور ما لم يفعل ما أمر به فالخطاب متوجه إليه بعد وهو في عهدته والنبي صلى الله عليه وسلم لم يسامح المتوضىء بترك لمعة في محل الفرض لم يصبها الماء ولا أقام الأكثر مقام الكل والذي جاءت به الشريعة هو الميزان العادل لا هذا الميزان العائل وبلله التوفيق.
وقستم الأدهان بالخل والزيت في الإحرام على الأدهان بالمسك والعنبر في وجوب الفدية ويا بعد ما بينهما ولم تقيسوا نبيذ التمر على نبيذ العنب مع قرب الأخوة التي بينهما.
وقلتم: لو أفطر في نهار رمضان فلزمته الكفارة ثم سافر لم تسقط عنه لأن سفره قد يتخذ وسيلة وحيلة إلى إسقاط ما أوجب الشرع فلا تسقط وهذا لخلاف ما إذا مرض أو حاضت المرأة فإن الكفارة تسقط لأن الحيض والمرض ليس من فعله ثم ناقضتم أعظم مناقضة فقلتم لو احتال لإسقاط الزكاة عند آخر الحول فملك ماله لزوجته لحظة فلما انقضى الحول استرده منها واعتذاركم بالفرق بأن هذا تحيل على منع الوجوب وذلك تحيل على إسقاط الواجب بعد ثبوته والفرق بينهما ظاهر اعتذار لا يجدي شيئا فإنه كما لا يجوز التحيل لإسقاط ما أوجبه الله ورسوله لا يجوز التحيل لإسقاط أحكامه بعد انعقاد أسبابها ولا تسقط بذلك.
وإذا انعقد سبب الوجود لم يكن للمكلف لإسقاطه بعد ذلك سبيل وسبب الوجوب هنا قائم وهو الغنى بملك النصاب وهو لم يخرج عن الغنى بهذا التحيل(7/337)
ص -287-…ولا يعده الله ولا رسوله ولا أحد من خلقه ولا نفسه فقيرا مسكينا بهذا التحيل يستحق أخذ الزكاة ولا تجب عليه الزكاة.
هذا من أقبح الخداع والمكر فكيف يروج على من يعلم خفايا الأمور وخبايا الصدور وأين القياس والميزان والعدل الذي بعث الله به رسله من التحيل على المحرمات وإسقاط الواجبات وكيف تخرج الحيلة المفسدة التى في العقود المحرمة عن كونها مفسدة أم كيف يقلل بها مصلحة محضة ومن المعلوم أن المفسدة تزيد بالحيلة ولا تزول وتتضاعف ولا تضعف فكيف تزول المفسدة العظيمة التي اقتدت لعنة الله ورسوله للمحلل والمحلل له بأن يشترطا ذلك قبل العقد ثم يعقدا بنية ذلك الشرط ولا يشرطاه في صلب العقد فإذا أخليت صلب العقد من التلفظ بشرطه حسب والله ورسوله والناس وهما يعلمون أن العقد إنما عقد على ذلك فيالله العجيب أكانت هذه اللعنة على مجرد ذكر الشرط فى صلب العقد تقدم على العقد انقلبت اللعنة رحمة وثوابا وهل الاعتبار في العقود إلا بحقائقها ومقاصدها وهل الألفاظ إلا مقصودة لغيرها قصد الوسائل فكيف يضاع المقصود ويعدل عنه في عقد مساو لغيره من كل وجه لأجل تقديم لفظ أو تأخيره أو إبداله بغيره والحقيقة واحدة هذا مما تنزه عنه الشريعة الكاملة المشتملة على مصالح العباد في دينهم ودنياهم فأصحاب الحيل تركوا محض القياس فإن ما احتالوا عليه من العقود المحرمة مساو من كل وجه لها في القصد والحقيقة والمفسدة والفارق أمر صوري أو لفظي لا تأثير له البتة فأي فرق بين أن يبيعه تسعة دراهم بعشرة ولا شيء معها وبين أن يضم إلى أحد العوضين خرقة تساوي فلسا أو عود حطب أو أذن شاة ونحو ذلك فسبحان الله ما أعجب حال هذه الضميمة الحقيرة التي لا تقصد كيف جاءت إلى المفسدة التي أذن الله ورسوله بحرب من توسل إليها بعقد الربا فأزالتها ومحتها بالكلية بل قلبتها مصلحة وجعلت حرب الله ورسوله سلما ورضا وكيف جاء محلل الربا المستعار الذي(7/338)
ص -288-…هو أخو محلل النكاح إلى تلك المفاسد العظيمة فكشطها كشط الجلد عن اللحم بل قبلها مصالح بإدخال سلعة بين المرابيين تعاقدا عليها صورة ثم أعيدت إلى مالكها ولله ما أفقه ابن عباس في الدين وأعلمه بالقياس والميزان حيث سئل عما هو أقرب من ذلك بكثير فقال: "دراهم بدراهم دخلت بينهما جريرة" فيالله العجب كيف اهتدت هذه الجريرة لقلب مفسدة الربا مصلحة ولعنتة آكله رحمة وتحريمه إذنا وإباحة.
ثم أين القياس والميزان في إباحة العينة التي لا غرض للمرابيين في السلعة قط وإنما غرضهما ما يعلمه الله ورسوله وهما والحاضرون من أخذ مائة حالة وبذل مائة وعشرين مؤجلة ليس لهما غرض وراء ذلك البتة فكيف يقول الشارع الحكيم إذا أردتم حل هذا فتحيلوا عليه بإحضار سلعة يشتريها آكل الربا بثمن مؤجل في ذمته ثم يبيعها للمرابي بنقد حاضر فينصرفان على مائة بمائة وعشرين والسلعة حرف جاء لمعنى في غيره وهل هذا إلا عدول عن محض القياس وتفريق بين متماثلين في الحقيقة والقصد والمفسدة من كل وجه بل مفسدة الحيل الربوية أعظم من مفسدة الربا الخالي عن الحيلة فلو لم تأت الشريعة بتحريم هذه الحيل لكان محض القياس والميزان العادل يوجب تحريمها ولهذا عاقب الله سبحانه وتعالى من احتال على استباحة ما حرمه بما لم يعاقب به من ارتكب ذلك المحرم عاصيا فهذا من جنس الذنوب التي يتاب منها وذاك من جنس البدع التي يظن صاحبها أنه من المحسنين.
والمقصود ذكر تناقض أصحاب القياس والرأي فيه وأنهم يفرقون بين المتماثلين ويجمعون بين المختلفين كما فرقتم بين ما لو وكل رجلين معا في الطلاق فقلتم لأحدهما أن ينفرد بإيقاعه ولو وكلهما معا في الخلع لم يكن لأحدهما أن ينفرد به وفرقتم بين الأمرين بما لا يجدي شيئا وهو أن الخلع كالبيع(7/339)
ص -289-…وليس لأحد الوكيلين الانفراد به لأنه أشرك بينهما في الرأي ولم يرض بانفراد أحدهما وأما الطلاق فليس المقصود منه المال وإنما هو تنفيذ قوله وامتثال أمره فهو كما لو أمرهما بتبليغ الرسالة وهذا فرق لا تأثير له البتة بل هو باطل فإن احتياج الطلاق ومفارقة الزوجة إلى الرأي والخبرة والمشاورة مثل احتياج الخلع أو أعظم ولهذا أمر الله سبحانه ببعث الحكمين معا وليس لأحدهما أن ينفرد بالطلاق مع أنهما وكيلان عند القياسيين والله تعالى جعلهما حكمين ولم يجعل لأحدهما الانفراد فما بال وكيلي الزوج لأحدهما الانفراد وهل هذا إلا خروج عن محض القياس وموجب النص.
وقلتم: لو قال لامرأته: "طلقي نفسك" ثم نهاها في المجلس ثم طلقت نفسها وقع الطلاق ولو قال ذلك لأجنبي ثم نهاه في المجلس ثم طلق لم يقع الطلاق فخرجتم عن موجب القياس وفرقتم بأن قوله لها تمليك وقوله للأجنبي توكيل وقد تقدم بطلان هذا الفرق قريبا.
وقلتم: لو وصى إلى عبد غيره فالوصية باطلة وإن أجاز سيده ولو وكل عبد غيره فالوكالة جائزة وإن ردها السيد ولكن تكره بدون إذنه.
وقلتم: إذا أوصى بأن يعتق عنه عبدا بعينه فأعتقه الوارث عن نفسه وقع عن الميت ولو أعتقه الوصي عن نفسه لم يجز عن نفسه ولا عن الميت وفرقتم بأن تصرف الوارث بحق الملك فنفذ تصرفه وإن خالف الموصي وتصرف الوصي بحق الوكالة فلا يصح فيما خالف الموصي وهذا فرق لا يصح فإن تعيين الموصي للعتق في هذا العبد قطع ملك الوارث له فهو كما لو أوصى إلى أجنبي بعتقه سواء وإنما ينتقل إلى الوارث من التركة ما زاد على الدين والوصية اللازمة.
وقلتم: لو قال: "ثلث مالي لفلان وفلان" وأحدهما ميت فالثلث كله للحي ولو قال بين فلان وفلان وأحدهما ميت فللحي نصفه وهذا تفريق بين متماثلين لفظا ومعنى وقصدا واقتضاء (الواو) للتشريك كاقتضاء (بين) ولهذا(7/340)
ص -290-…استويا في الإقرار وفي استحقاق كل واحد منهما النصف لو كانا حيين.
وقلتم: لو أوصى له بثلث ماله وليس له من المال شيء ثم اكتسب مالا فالوصية لازمة في ثلثه ولو أوصى له بثلث غنمه ولا غنم له ثم اكتسب غنما فالوصية باطلة فتركتم محض القياس وفرقتم تفريقا لا تأثير له ولا يتحصل منه عند التحقيق شيء والله المستعان وعليه التكلان.
فصل القياسيون يجمعون بين ما فرق الله ويفرقون بين ما جمع:
وجمعتم بين ما فرق الله بينه من الأعضاء الطاهرة والأعضاء النجسة فنجستم الماء الذي يلاقي هذه وهذه عند رفع الحدث وفرقتم بين ما جمع الله بينه من الوضوء والتيمم فقلتم: يصح أحدهما بلا نية دون الآخر وجمعتم بين ما فرق الله بينهما من الشعور والأعضاء فنجستم كليهما بالموت وفرقتم بين ما جمع الله بينهما من سباع البهائم فنجستم منها الكلب والخنزير دون سائرها وجمعتم بين ما فرق الله بينه وهو الناسي والعامد والمخطء والذاكر والعالم والجاهل فإنه سبحانه فرق بينهم في الإثم فجمعتم بينهم في الحكم في كثير من المواضع كمن صلى بالنجاسة ناسيا أو عامدا وكمن فعل المحلوف عليه ناسيا أو عامدا وكمن تطيب في إحرامه أو قلم ظفره أو حلق شعره ناسيا أو عامدا فسويتم بينهما وفرقتم بين ما جمع الله بينه من الجاهل والناسي فأوجبتم القضاء على من أكل في رمضان جاهلا ببقاء النهار دون الناسي وفي غير ذلك من المسائل وفرقتم بين ما جمع الله بينه من عقود الإجارات كاستئجار الرجل لطحن الحب بنصف كر من دقيق واستئجاره لطحنه بنصف كر منه فصححتم الأول دون الثاني مع استوائهما من جميع الوجوه وفرقتم بأن العمل في الأول في العوض الذي استأجره به ليس مستحقا عليه وفي الثاني العمل مستحق عليه فيكون مستحقا له وعليه وهذا فرق صوري لا تأثير(7/341)
ص -291-…له ولا تتعلق بوجوده مفسدة قط لا جهالة ولا ربا ولا غرر ولا تنازع ولا هي مما يمنع صحة العقد بوجه وأي غرر أو مفسدة أو مضرة للمتعاقدين في أن يدفع إليه غزله ينسجه ثوبا بربعه وزيتونه يعصره زيتا بربعه وحبه يطحنه بربعه وأمثال ذلك مما هو مصلحة محضة للمتعاقدين لا تتم مصلحتهما في كثير من المواضع إلا به فإنه ليس كل واحد يملك عوضا يستأجر به من يعمل له ذلك والأجير محتاج إلى جزء من ذلك والمستأجر محتاج إلى العمل وقد تراضيا بذلك ولم يأت من الله ورسوله نص يمنعه ولا قياس صحيح ولا قول صاحب ولا مصلحة معتبرة ولا مرسلة ففرقتم بين ما جمع الله بينه وجمعتم بين ما فرق الله بينه فقلتم لو اشترى عنبا ليعصره خمرا أو سلاحا ليقتل به مسلما ونحو ذلك إن البيع صحيح وهو كما لو اشتراه ليقتل به عدو الله ويجاهد به في سبيله أو اشترى عنبا ليأكله كلاهما سواء في الصحة وجمعتم بين ما فرق الله بينه فقلتم لو استأجر دارا ليتخذها كنيسة يعبد فيها الصليب والنار جاز له كما لو استأجرها ليسكنها ثم ناقضتم أعظم مناقضة فقلتم لو استأجرها ليتخذها مسجدا لم تصح الإجارة وفرقتم بين ما جمع الله بينه فقلتم لو استأجر أجيرا بطعامه وكسوته لم يجز والله سبحانه لم يفرق بين ذلك وبين استئجاره بطعام مسمى وثياب معينة وقد كان الصحابة يؤجر أحدهم نفسه في السفر والغزو بطعام بطنه ومركوبه وهم أفقه الأمة وفرقتم بين ما جمع الله بينه من عقدين متساويين من كل وجه وقد صرح المتعاقدان فيهما بالتراضي وعلم الله سبحانه تراضيهما والحاضرون فقلتم هذا عقد باطل لا يفيد الملك ولا الحل حتى يصرحا بلفظ بعت واشتريت ولا يكفيهما أن يقول كل واحد منهما أنا راض بهذا كل الرضى ولا قد رضيت بهذا عوضا عن هذا مع كون هذا اللفظ أدل على الرضى الذي جعله الله سبحانه شرطا للحل من لفظه بعت واشتريت فإنه لفظ صريح فيه وبعت واشتريت إنما يدل عليه باللزوم وكذلك عقد النكاح وليس ذلك(7/342)
ص -292-…من العبادات التي تعبدنا الشارع فيها بألفاظ لا يقوم غيرها مقامها كالأذان وقراءة الفاتحة في الصلاة وألفاظ التشهد وتكبيرة الإحرام وغيرها بل هذه العقود تقع من البر والفاجر والمسلم والكافر ولم يتعبدنا الشارع فيها بألفاظ معينة فلا فرق أصلا بين لفظ الإنكاح والتزويج وبين كل لفظ يدل على معناهما.
وأفسد من ذلك اشتراط العربية مع وقوع النكاح من العرب والعجم والترك والبربر ومن لا يعرف كلمة عربية والعجب أنكم اشترطتم تلفظه لفظ لا يدري ما معناه البتة وإنما هو عنده بمنزلة صوت في الهواء فارغ لا معنى تحته فعقدتم العقد به وأبطلتموه بتلفظه باللفظ الذي يعرفه ويفهم معناه ويميز بين معناه وغيره وهذا من أبطل القياس ولا يقتضي القياس إلا ضد هذا فجمعتم بين ما فرق الله بينه وفرقتم بين ما جمع الله بينه.
وبإزاء هذا القياس قياس من يجوز قراءة القرآن بالفارسية ويجوز انعقاد الصلاة بكل لفظ يدل على التعظيم كسبحان الله وجل الله والله العظيم ونحوه عربيا كان أو فارسيا ويجوز إبدال لفظ التشهد بما يقوم مقامه وكل هذا من جنايات الآراء والأقيسة والصواب اتباع ألفاظ العبادات والوقوف معها وأما العقود والمعاملات فإنما يتبع مقاصدها والمراد منها بأي لفظ كان إذا لم يشرع الله ورسوله لنا التعبد بألفاظ معينة لا نتعداها.
وجمعتم بين ما فرق الله بينه من إيجاب النفقة والسكنى للمبتوتة وجعلتموها كالزوجة وفرقتم بين ما جمع الله ورسوله بينه من ملازمة الرجعية المعتدة والمتوفي عنها زوجها منزلهما حيث يقول تعالى لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن وحيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم المتوفي عنها أن تمكث(7/343)
ص -293-…في بيتها حتى يبلغ الكتاب أجله وجمعتم بين ما فرق الله بينهما من بول الطفل والطفلة الرضيعين فقلتم: يغسلان وفرقتم بين ما جمعت السنة بينه من وجوب غسل قليل البول وكثيره وفرقتم بين ما جمع الله ورسوله بينهما من ترتيب أعضاء الوضوء وترتيب أركان الصلاة فأوجبتم الثاني دون الأول ولا فرق بينهما لا في المعنى ولا في النقل والنبي صلى الله عليه وسلم هو المبين عن الله سبحانه أمره ونهيه ولم يتوضأ قط إلا مرتبا ولا مرة واحدة في عمره كما لم يصل إلا مرتبا ومعلوم أن العبادة المنكوسة ليست كالمستقيمة ويكفي هذا الوضوء اسمه وهو أنه وضوء منكس فكيف يكون عبادة وجمعتم بين ما فرق الله بينه من إزالة النجاسة ورفع الحدث فسويتم بينهما في صحة كل منهما بغير نية وفرقتم بين ما جمع الله بينهما من الوضوء والتيمم فاشترطتم النية لأحدهما دون الآخر وتفريقكم بأن الماء يطهر بطبعه فاستغنى عن النية بخلاف التراب فإنه لا يصير مطهرا إلا بالنية فرق صحيح بالنسبة إلى إزالة النجاسة فإنه مزيل لها بطبعه وأما رفع الحدث فإنه ليس رافعا له بطبعه إذ الحدث ليس جسما محسوسا يرفعه الماء بطبعه بخلاف النجاسة وإنما يرفعه بالنية فإذا لم تقارنه النية بقي على حاله فهذا هو القياس المحض.
وجمعتم بين ما فرق الله بينه فسويتم بين بدن أطيب المخلوقات وهو ولي الله المؤمن وبين بدن أخبث المخلوقات وهو عدوه الكافر فنجستم كليهما بالموت ثم فرقتم بين ما جمع الله بينه فقلتم لو غسل المسلم ثم وقع في ماء لم ينجسه ولو غسل الكافر ثم وقع في ماء نجسه ثم ناقضتم في الفرق بأن المسلم إنما غسل ليصلي عليه فطهر بالغسل لاستحالة الصلاة عليه وهو نجس بخلاف الكافر وهذا الفرق ينقض ما أصلتموه من أن النجاسة بالموت(7/344)
ص -294-…نجاسة عينية فلا تزول بالغسل لأن سببها قائم وهو الموت وزوال الحكم مع بقاء سببه ممتنع فأي القياسين هو المعتد به في هذه المسألة؟.
وفرقتم بين ما جمعت السنة والقياس بينهما فقلتم: لو طلعت عليه الشمس وقد صلى من الصبح ركعة بطلت صلاته ولو غربت عليه الشمس وقد صلى من العصر ركعة صحت صلاته والسنة الصحيحة الصريحة قد سوت بينهما وتفريقكم بأنه في الصبح خرج من وقت كامل إلى غير وقت كامل ففسدت صلاته وفي العصر خرج من وقت كامل إلى وقت كامل وهو وقت صلاة فافترقا ولو لم يكن في هذا القياس إلا مخالفته لصريح السنة لكفى في بطلانه فكيف وهو قياس فاسد في نفسه فإن الوقت الذي خرج إليه في الموضعين ليس وقت الصلاة الأولى فهو ناقص بالنسبة إليها ولا ينفع كماله بالنسبة إلى الصلاة التي هو فيها.
فإن قيل: لكنه خرج إلى وقت نهي في الصبح وهو وقت طلوع الشمس ولم يخرج إلى وقت نهي في المغرب.
قيل: هذا فرق فاسد لأنه ليس بوقت نهي عن هذه الصلاة التي هو فيها بل هو وقت أمر بإتمامها بنص صاحب الشرع حيث يقول: "فليتم صلاته" وإن كان وقت نهي بالنسبة إلى التطوع فظهر أن الميزان الصحيح مع السنة الصحيحة وبالله التوفيق.
وجمعتم بين ما فرق الله بينه فقلتم: المختلعة البائنة التي قد ملكت نفسها يلحقها الطلاق فسويتم بينها وبين الرجعية في ذلك وقد فرق الله بينهما بأن جعل هذه مفتدية لنفسها مالكة لها كالأجنبية وتلك زوجها أحق بها ثم فرقتم بين ما جمع الله بينه فأوقعتم عليها مرسل الطلاق دون معلقه وصريحه دون كنايته ومن المعلوم أن من ملكه الله أحد الطلاقين ملكه الآخر ومن لم يملكه هذا لم يملكه هذا.(7/345)
ص -295-…وجمعتم بين ما فرق الله بينه فمنعتم من أكل الضب وقد أكل على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ينظر وقيل له أحرام هو فقال لا فقستموه على الأحناش والفيران وفرقتم بين ما جمعت السنة بينه من لحوم الخيل التي أكلها الصحابة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع لحوم الأبل وأذن الله تعالى فيها فجمع الله تعالى ورسوله بينهما في الحل وفرق الله ورسوله بين الضب والحنش في التحريم.
وجمعتم بين ما فرقت السنة بينه من لحوم الإبل وغيرها حيث قال: "توضئوا من لحوم الإبل ولا تتوضئوا من لحوم الغنم" فقلتم لا نتوضأ من هذا ولا من هذا وفرقتم بين ما جمعت الشريعة بينه فقلتم في القيء إن كان ملء الفم فهو حدث وإن كان دون ذلك فليس بحدث لا يعرف في الشريعة شيء يكون كثيره حدثا دون قليله وأما النوم فليس بحدث وإنما هو مظنته فاعتبروا ما يكون مظنة وهو الكثير وفرقتم بين ما جمع الله بينه فقلتم لو فتح على الإمام في قراءته لم تبطل صلاته ولكن تكره لإن فتحه قراءة منه والقراءة خلف الإمام مكروهة ثم قلتم فلو فتح على قارىء غير إمامه بطلت صلاته لأن فتحه عليه مخاطبة له فأبطلت الصلاة ففرقتم بين متماثلين لأن الفتح إن كان مخاطبة في حق غير الإمام فهو مخاطبة في حق الإمام وإن لم يكن مخاطبة في حق الإمام فليس بمخاطبة في حق غيره ثم ناقضتم من وجه آخر أعظم مناقضة فقلتم لما نوى الفتح على غير الإمام خرج عن كونه قارئا إلى كونه مخاطبا بالنية ولو نوى الربا الصريح والتحليل الصريح وإسقاط الزكاة بالتمليك الذي اتخذه حيلة لم يكن مرابيا ولا مسقطا للزكاة ولا محللا بهذه النية.
فيالله العجب كيف أثرت نية الفتح والإحسان على القارىء وأخرجته عن كونه قارئا إلى كونه مخاطبا ولم تؤثر نية الربا والتحليل مع إساءته بهما وقصده(7/346)
ص -296-…نفس ما حرمه الله فتجعله مرابيا محللا؟ وهل هذا إلا خروج عن محض القياس وجمع بين ما فرق الشارع بينهما وتفريق بين ما جمع بينهما؟.
وقلتم: لو اقتدى المسافر بالمقيم بعد خروج الوقت لا يصح اقتداؤه ولو اقتدى المقيم بالمسافر بعد خروج الوقت صح اقتداؤه.
وهذا تفريق بين متماثلين ولو ذهب ذاهب إلى عكسه لكان من جنس قولكم سواء ولأمكنه تعليله بنحو ما عللتم به.
ووجهتم الفرق بأن من شرط صحة اقتداء المسافر بالمقيم أن ينتقل فرضه إلى فرض إمامه وبخروج الوقت استقر الفرض عليه استقرارا لا يتغير بتغير حاله فبقي فرضه ركعتين فلو جوزنا له اقتداءه بالمقيم بعد خروج الوقت جوزنا اقتداء من فرضه ركعتان بمن فرضه أربع وهذا لا يصح كمصلي الفجر إذا اقتدى بمصلي الظهر وليس كذلك المقيم إذا اقتدى بالمسافر بعد خروج الوقت إذ ليس من شرط صحة اقتداء المقيم بالمسافر أن ينتقل فرضه إلى فرض إمامه بدليل أنه لو اقتدى به في الوقت لم ينتقل فرضه إلى فرض إمامه بخلاف المسافر فإنه لو اقتدى بالمقيم في الوقت انتقل فرضه إلى فرض إمامه.
ثم ناقضتم وقلتم: إذا كان الإمام مسافرا وخلفه مسافرون ومقيمون فاستخلف الإمام مقيما فإن فرض الإمام لا ينتقل إلى فرض إمامه وهو فرض المقيمين مع أن الفرق في الأصل مدخول وذلك أن الصلاتين سواء في الاسم والحكم والوضع والوجوب وإن اختلفتا في كون الإمام مصليا فإذا صلى الإمام أربعا وجب على المأموم أن يصلي بصلاته كما لو كان في الوقت وخرج الوقت لا أثر له في ذلك فإن الذي فرضه الله عليه في الوقت هو بعينه فرضه بعد الوقت ولا سيما إذا كان نائما أو ناسيا فإن وقت اليقظة والذكر هو الوقت الذي شرع الله له الصلاة فيه وعذر السفر قائم(7/347)
ص -297-…وارتباط صلاته بصلاة الإمام حاصل فما الذي فرق بين الصورتين مع اتحاد السبب الجامع وقيام الحكمة المجوزة للقصر والمرجحة لمصلحة الاقتداء عند الانفراد وفرقتم بين ما جمعت الشريعة بينهما وهو الحيض والنفاس فجعلتم أقل الحيض محدودا إما بثلاثة أيام أو بيوم وليلة أو بيوم ولم تحدوا أقل النفاس وكلاهما دم خارج من الفرج يمنع أشياء ويوجب أشياء وليسا اسمين شرعيين لم يعرفا إلا بالشريعة بل هما اسمان لغويان رد الشارع أمته فيهما إلى ما يتعارفه النساء حيضا ونفاسا قليلا كان أو كثيرا وقد ذكرتم هذا بعينه في النفاس فما الذي فرق بينه وبين الحيض ولم يأت عن الله ولا عن رسوله ولا عن الصحابة تحديد أقل الحيض بحد أبدا ولا في القياس ما يقتضيه.
والعجب أنكم قلتم: المرجع فيه إلى الوجود حيث لم يحده الشارع ثم ناقضتم فقلتم: حد أقله يوم وليلة.
وأما أصحاب الثلاث فإنما اعتمدوا على حديث توهموه صحيحا وهو غير صحيح باتفاق أهل الحديث فهم أعذر من وجه قال المفرقون: بل فرقنا بينهما بالقياس الصحيح فإن للنفاس علما ظاهرا يدل على خروجه من الرحم وهو تقدم الولد عليه فاستوى قليله وكثيره لوجود علمه الدال عليه وليس مع الحيض علم يدل على خروجه من الرحم فإذا امتد زمنه صار امتداده علما ودليلا على أنه حيض معتاد وإذا لم يمتد لم يكن معنا ما يدل عليه أنه حيض فصار كدم الرعاف.
ثم ناقضوا في هذا الفرق نفسه أبين مناقضة فقال أصحاب الثلاث: لو امتد يومين ونصف يوم دائما لم يكن حيضا حتى يمتد ثلاثة أيام.
وقال أصحاب اليوم: لو امتد من غدوة إلى العصر دائما لم يكن حيضا حتى يمتد إلى غروب الشمس فخرجوا بالقياس عن محض القياس.(7/348)
ص -298-…وقلتم: إذا صلى جالسا ثم تشهد في حال القيام سهوا فلا سجود عليه وإن قرأ في حال التشهد فعليه السجود وهذا فرق بين متساويين من كل وجه وقلتم إذا افتتح الصلاة في المسجد فظن أنه قد سبقه الحدث فانصرف ليتوضأ ثم علم أنه لم يسبقه الحدث وهو في المسجد جاز له المضي على صلاته وكذلك لو ظن أنه قد أتم صلاته ثم علم أنه لم يتم ثم قلتم لو ظن أن على ثوبه نجاسة أو أنه لم يكن متوضئا فانصرف ليتوضأ أو يغسل ثوبه ثم علم أنه كان متوضئا أو طاهر الثوب لم يجز له البناء على صلاته ففرقتم بين ما لا فرق بينهما وتركتم محض القياس وفرقتم بأنه لما ظن سبق الحدث فقد انصرف من صلاته انصراف استئناف لا انصراف رفض فإنه لو تحقق ما ظنه جاز له المضي فلم يصر قاصدا للخروج من الصلاة فلم يمتنع البناء وكذلك لو ظن أنه قد أتم صلاته فلم ينصرف انصراف رفض وإذا لم يكن يقصد الرفض لم تصر الصلاة مرفوضة كما لو سلم ساهيا وليس كذلك إذا ظن أنه لم يتوضأ أو أن على ثوبه نجاسة لأنه انصرف منها انصراف رفض ونوى الرفض مقارنا لانصرافه فبطلت كما لو سلم عامدا وهذا الفرق غير مجد شيئا بل هو فرق بين ما جمعت الشريعة بينهما فإنه في الموضعين انصرف انصرافا مأذونا فيه أو مأمورا به وهو معذور في الموضعين بل هذا الفرق حقيق باقتضائه ضد ما ذكرتم فإنه إذا ظن أنه لم يتوضأ فانصرافه مأمور به وهو عاص لله بتركه بخلاف ما إذا ظن أنه قد أتم صلاته فإن انصرافه مباح مأذون له فيه فكيف تصح الصلاة مع هذا الانصراف وتبطل بالانصراف المأمور به ثم إنه أيضا في انصرافه حينما ظن أنه قد أتم صلاته ينصرف انصراف ترك حقيقة لأنه يظن أنه قد فرغ منها فتركها ترك من قد أكملها وما ظن أنه محدث فإنما تركها ترك قاصد لتكملتها فهي أولى بالصحة.
وقلتم: لو قال: "لله علي أن أصلي ركعتين" وقال آخر: "وأنا لله علي أصلي ركعتين" لم يجز لأحدهما أن يأتم بصلاته لأنهما فرضان بسببين وهو(7/349)
ص -299-…نذر كل واحد منهما ولا يؤدى فرض خلف فرض آخر ثم ناقضتم فقلتم: لو قال الآخر: "وأنا لله علي أن أصلي الركعتين التين أوجبت على نفسك" جاز لأحدهما أن يأتم بالآخر لأنه أوجب على نفسه عين ما أوجبه الآخر على نفسه فصارتا كالظهر الواحدة وهذا ليس يجدي شيئا فإن سبب الوجوب مختلف كما في الصورة الأولى سواء وهو نذر كل واحد منهما على نفسه وليس الواجب على أحدهما هو عين الواجب على الآخر بل هو مثله ولهذا لا يتأدى أحد الواجبين بأداء الآخر ولا فرق بين المسألتين في ذلك البتة فإن كل واحد منهما يجب عليه ركعتان نظير ما وجب على الآخر بنذره فالسبب مماثل والواجب مماثل والتعدد في الجانبين سواء فالتفريق بينهما تفريق بين متماثيلن وخروج عن محض القياس.(7/350)
وفرقتم بين ما جمع النص والميزان بينهما فقلتم إذا ظفر بركاز فعليه فيه الخمس ثم يجوز له صرفه إلى أولاده وإلى نفسه إذا احتاج إليه وإذا وجب عليه عشر الخارج من الأرض لم يكن له صرفه إلى ولده ولا إلى نفسه وكلاهما واجب عليه إخراجه لحق الله وشكر النعمة بما أنعم عليه من المال ولكن لما كان الركاز مالا مجموعا لم يكن نماؤه وكماله بفعله فالمأونة فيه أيسر كان الواجب فيه أكثر ولما كان الزرع فيه من المؤنة والكلفة والعمل أكثر مما في الركاز كان الواجب فيه نصفه وهو العشر فإذا اشتدت المؤنة بالسقى بالكلفة حط الواجب إلى نصفه وهو نصف العشر فإن اشتدت المؤنة في المال غيره بالتجارة والبيع والشراء كل وقت وحفظه وكراء مخزنه ونقله خفت إلى شطره وهو ربع العشر فهذا من كمال حكمة الشارع في اعتبار كثرة الواجب وقلته فكيف يجوز له أن يعطي الواجب الأكثر الذي هو مؤنة وتعبا وكلفة لأولاده ويمسكه لنفسه وقد أضعفه عليه الشارع أكثر من كل واجب في الزكاة ومخرج الجميع وإيجابه واحد نصا واعتبارا فالتفريق بينهما تفريق بين ما جمعت الشريعة بينهما حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: "في الركاز الخمس وفي الرقة ربع العشر".(7/351)
ص -300-…وقلتم: لو أودع من لا يعرفه مالا فغاب عنه سنين ثم عرفه فلا زكاة عليه لأنه لا يقدر على ارتجاعه منه فهو كما لو دفنه بمغارة فنسيه ثم ناقضتم فقلتم: لو أودعه من يعرفه فنسيه سنين ثم عرفه فعليه زكاة تلك السنين الماضية كلها والمال خارج عن قبضته وتصرفه وهو غير قادر على ارتجاعه في الصورتين ولا فرق بينهما وقد صرحتم في مسألة المغارة أنه لو دفنه في موضع منها ثم نسيه فلا زكاة عليه إذا عرفه بعد ذلك ولا فرق في هذا بين المغارة وبين المودع بوجه ثم ناقضتم من وجه آخر وقلتم لو دفنه في داره وخفي عليه موضعه سنين ثم عرفه وجبت عليه الزكاة لما مضى.
وقلتم: لو وجبت عليه أربع شياه فأخرج ثنتين سمينتين تساوى الأربع جاز فطرد قياسكم هذا أنه لو وجب عليه عشر أقفزة بر فأخرج خمسة من بر مرتفع يساوي قيمة العشرة التي هي عليه جاز وطرده لو وجب عليه خمسة أبعرة فأخرج بعيرا يساوي قيمة الخمسة أنه يجوز ولو وجب عليه صاع في الفطرة فأخرج ربع صاع يساوي الصاع الذي لو أخرجه لتأدى به الواجب أنه يجوز فإن طردتم هذا القياس فلا يخفي ما فيه من تغيير المقادير الشرعية والعدول عنها ولزمكم طرده في أن من وجب عليه عتق رقبة فأعتق عشر رقبة تساوي قيمة رقبة غيرها جاز ومن نذر الصدقة بمائة شاة فتصدق بعشرين تساوي قيمة المائة جاز ثم ناقضتم فقلتم لو وجب عليه أضحيتان فذبح واحدا سمينا يساوي وسطين لم يجز ثم فرقتم بأن قلتم المقصود في الأضحية الذبح وإراقة الدم وإراقة دم واحد لا تقوم مقام إراقة دمين والمقصود في الزكاة سد خلة الفقير وهو يحصل بالأجود الأقل كما يحصل بالأكثر إذا كان دونه وهذا فرق إن صح لكم في الأضحية لم يصح لكم فيما ذكرناه من الصور فكيف ولا يصح في الأضحية فإن المقصود في الزكاة أمور عديدة منها سد خلة الفقير ومنها إقامة عبودية الله(7/352)
ص -301-…بفعل نفس ما أمر به ومنها شكر نعمته عليه في المال ومنها إحراز المال وحفظه بإخراج هذا المقدار منه ومنها المواساة بهذا المقدار لما علم الله فيه من مصلحة رب المال ومصلحة الآخذ ومنها التعبد بالوقوف عند حدود الله وأن لا ينقص منها ولا يغير وهذه المقاصد إن لم تكن أعظم من مقصود إراقة الدم في الأضحية فليست بدونه فكيف يجوز إلغاؤها واعتبار مجرد إراقة الدم لهم إن هذا الفرق ينعكس عليكم من وجه آخر وهو أن مقصود الشارع من إراقة دم الهدي والأضحية التقرب إلى الله سبحانه بأجل ما يقدر عليه من ذلك النوع وأعلاه وأغلاه ثمنا وأنفسه عند أهله فإنه لن يناله سبحانه لحومها ولا دماؤها وإنما يناله تقوى العبد منه ومحبته له وإيثاره بالتقرب إليه بأحب شيء إلى العبد وآثره عنده وأنفسه لديه كما يتقرب المحب إلى محبوبه بأنفس ما يقدر عليه وأفضله عنده.
ولهذا فطر الله العباد على من تقرب إلى محبوبه بأفضل هدية يقدر عليها وأجلها وأعلاها كان أحظى لديه وأحب إليه ممن تقرب إليه بألف واحد ردىء من ذلك النوع.
وقد نبه سبحانه على هذا بقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} وقال تعالى {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الرقاب فقال: "أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها" ونذر عمر أن ينحر نجيبة فأعطى بها نجيبتين فسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذهما بها وينحرهما فقال: "لا بل انحرها إياها" فاعتبر في الأضحية عين المنذور دون(7/353)
ص -302-…ما يقوم مقامه وإن كان أكثر منه فلأن يعتبر في الزكاة نفس الواجب دون ما يقوم مقامه ولو كان أكثر منه أولى وأحرى.
وطرد قياسكم أنه لو وجب عليه أربع شياه جياد فأخرج عشرا من أردأ الشياه وأهزلها وقيمتهن قيمة الأربع أو وجب عليه أربع حقاق جياد فأخرج عشرين ابن لبون من أردأ الإبل وأهزلها أنه يجوز فإن منعتم ذلك نقضتم القياس وإن طردتموه تيممتم الخبيث منه تنفقون وسلطتم رب المال على إخراج رديئه ومعايبه عن جيده والمرجع في التقويم إلى اجتهاده وفي هذا من مخالفة الكتاب والميزان ما فيه.
وفرقتم بين ما جمع الشارع بينه وجمعتم بين ما فرق بينه أما الأول فقلتم: يصح صوم رمضان بنية من النهار قبل الزوال ولا يصح صوم الظهار وكفارة الوطء في رمضان وكفارة القتل إلا بنية من الليل وفرقتم بينهما بأن صوم رمضان لما كان معينا بالشرع أجزء بنية من النهار بخلاف صوم الكفارة وبنيتم على ذلك أنه لو قال: "لله علي صوم يوم" فصامه بنية قبل الزوال لم يجزئه ولو قال: "لله علي أن أصوم غدا" فصامه بنية قبل الزوال جاز وهذا تفريق بين ما جمع الشارع بينه من صوم الفرض وأخبر أنه لا صيام لمن لم يبيته من الليل وهذا في صوم الفرض وأما النفل فصح عنه أنه كان ينشئه بنية من النهار فسويتم بينهما في إجزائهما بنية من النهار وقد فرق الشارع بينهما وفرقتم بين بعض الصوم المفروض وبعض في اعتبار النية من الليل وقد سوى الشارع بينهما.
والفرق بالتعين وعدمه عديم التأثير فإنه وإن تعين لم يصر عبادة إلا بالنية ولهذا لو أمسك عن الأكل والشرب من غير نية لم يكن صائما فإذا لم تقارن النية جميع أجزاء اليوم فقد خرج بعضه عن أن يكون عبادة فلم يؤد ما أمر به وتعيينه لا يزيد وجوبه إلا تأكيدا واقتضاء.(7/354)
ص -303-…فلو قيل: إن المعين أولى بوجوب النية من الليل من غير المعين لكان أصح في القياس والقياس الصحيح هو الذي جاءت به السنة من الفرق بين الفرض والنفل فلا يصح الفرض إلا بنية من الليل والنفل يصح بنية من النهار لأنه يتسامح فيه ما لا يتسامح في الفرض كما يجوز أن يصلي النفل قاعدا وراكبا على دابته إلى القبلة وغيرها وفي ذلك تكثير النفل وتيسير الدخول فيه والرجل لما كان مخيرا بين الدخول فيه وعدمه ويخير بين الخروج منه وإتمامه خير بين التبييت والنية من النهار فهذا محض القياس وموجب السنة ولله الحمد.
وفرقتم بين ما جمع الله بينهما من جماع الصائم والمعتكف فقلتم: لو جامع في الصوم ناسيا لم يفسد صومه ولو جامع المعتكف ناسيا فسد اعتكافه وفرقتم بينهما بأن الجماع من محظورات الاعتكاف ولهذا لا يباح ليلا ولا نهارا وليس من محظورات الصوم لأنه يباح ليلا وهذا فرق فاسد جدا لأن الليل ليس محلا للصوم فلم يحرم فيه الجماع وهو محل للاعتكاف فحرم فيه الجماع فنهار الصائم كليل المعتكف في ذلك ولا فرق بينهما والجماع محظور في الوقتين ووزان ليل الصائم اليوم الذي يخرج فيه المعتكف من اعتكافه فهذا هو القياس المحض والجمع بين ما جمع الله بينه والتفريق بين ما فرق الله بينه وبالله التوفيق.
وقلتم: لو دخل عرفة في طلب بعير له أو حاجة ولم ينو الوقوف أجزأه عن الوقوف ولو دار حول البيت في طلب شيء سقط منه ولم ينو الطواف لم يجزئه وهذا خروج عن محض القياس وفرقتم تفريقا فاسدا فقلتم المقصود الحضور بعرفة في هذا الوقت وقد حصل بخلاف الطواف فإن المقصود العبادة ولا تحصل إلا بالنية فيقال والمقصود بعرفة العبادة أيضا فكلاهما ركن مأمور به ولم ينو(7/355)
ص -304-…المكلف امتثال الأمر لا في هذا ولا في هذا فما الذي صحح هذا وأبطل هذا ولما تنبه بعض القياسيين لفساد هذا الفرق عدل إلى فرق آخر فقال: الوقوف ركن يقع في نفس الإحرام فنية الحج مشتملة عليه فلا يفتقر إلى تجديد نية كأجزاء الصلاة من الركوع والسجود ينسحب عليها نية الصلاة وأما الطواف فيقع خارج العبادة فلا تشمل عليه نية الإحرام فافتقر إلى النية ونحن نقول لأصحاب هذا الفرق ردونا إلى الأول فإنه أقل فسادا وتناقضا من هذا فإن الطواف والوقوف كلاهما جزء من أجزاء العبادة فكيف نضمنت جزءا من أجزاء العبادة لهذا الركن دون هذا وأيضا فإن طواف المعتمر يقع في الإحرام وأيضا فطواف الزيارة يقع في بقية الإحرام فإنه إنما حل من إحرامه قبله تحللاأول ناقصا والتحلل الكامل موقوف على الطواف.
وفرقتم بين ما جمعت السنة والقياس بينهما فقلتم: إذا أحرم الصبي ثم بلغ فجدد إحرامه قبل أن يقف بعرفة أجزأه عن حجة الإسلام وإذا أحرم العبد ثم عتق فجدد إحرامه لم يجزئه عن حجة الإسلام والسنة قد سوت بينهما وكذا القياس فإن إحرامهما قبل البلوغ والعتق صحيح وهو سبب للثواب وقد صارا من أهل وجوب الحج قبل الوقوف بعرفة فأجزأهما عن حجة الإسلام كما لو لم يوجد منهما إحرام قبل ذلك فإن غاية ما وجد منهما من الإحرام أن يكون وجوده كعدمه فوجود الإحرام السابق على العتق لم يضره شيئا بحيث يكون عدمه أنفع له من وجوده وتفريقكم بأن إحرام الصبي إحرام تخلق وعادة وبالبلوغ انعدم ذلك فصح منه الإحرام عن حجة الإسلام وأما العبد فإحرامه إحرام عبادة لأنه مكلف فصح إحرامه موجبا فلا يتأتى له الخروج منه حتى يأتي بموجبه(7/356)
ص -305-…فرق فاسد فإن الصبي مثاب على إحرامه بالنص وإحرامه إحرام عبادة وإن كانت لا تسقط الفرض كإحرام العبد سواء.
وفرقتم بين ما حمع القياس الصحيح بينه فقلتم: لو قال: "أحجوا فلانا حجة" فله أن يأ النفقة ويأكل بها ويشرب ولا يحج ولو قال: "أحجوه عني" لم يكن له أن يأخذ النفقة إلا بشرط الحج وفرقتم بأن في المسألة الأولى أخرج كلامه مخرج الإيصاء بالنفقة له وكأنه أشار عليه بالحج ولا حق للموصي في الحج الذي يأتي به فصححنا الوصية بالمال ولم نلزم الموصى له بما لا حق للموصى فيه وأما في المسألة الثانية فإنما قصد أن يعود نفعه إليه بثواب النفقة في الحج فإن لم يحصل له غرضه لم تنفذ الوصية ولهذا الفرق نفسه هو المبطل للفرق بين المسألتين فإنه بتعين الحج قطع ما توهمتموه من دفع المال إليه بفعل ما يريد وإنما قصد إعانته على طاعة الله ليكون شريكا له في الثواب ذاك بالبدن وهذا بالمال ولهذا عين الحج مصرفا للوصية لا يجوز إلغاء ذلك وتمكينه من المال يصرفه في ملاذه وشهواته هذا من أفسد القياس وهو كما لو قال: "أعطوا فلانا ألفا ليبني مسجدا أو سقاية أو قنطرة" لم يجز أن يأخذ الألف ولا يفعل ما أوصى به كذلك الحج سواء.
وفرقتم بين ما جمع محض القياس بينهما فقلتم: إذا اشترى عبدا ثم قال له: "أنت حر أمس" عتق عليه ولو تزوجها ثم قال لها: "أنت طالق أمس" لم تطلق وفرقتم بأن العبد لما كان حرا أمس اقتضى تحريم شرائه واسترقاته اليوم وأما الطلاق فكونها مطلقة أمس لا يقتضي تحريم نكاحها اليوم وهذا فرق صورى لا تأثير له البتة فإن الحكم إن جاز تقديمه على سببه وقع العتق والطلاق في الصورتين وإن امتنع تقديمه في الموضعين على سببه لم يقع واحد منهما فما بال أحدهما وقع دون الآخر؟.(7/357)
ص -306-…فإن قيل: نحن لم نفرق بينهما في الإنشاء وإنما فرقنا بينهما في الإقرار والأخبار فإذا أقر بأن العبد حر بالأمس فقد بطل أن يكون عبدا اليوم فعتق باعترافه وإذا أقر بأنها طالق أمس لم يلزم بطلان النكاح اليوم لجواز أن يكون المطلق الأول قد طلقها أمس قبل الدخول فتزوج هو بها اليوم.
قلنا: إذا كانت المسألة على هذا الوجه فلا بد أن يقول أنت طالق أمس من غير أو ينوي ذلك فينفعه حيث يدين فأما إذا أطلق فلا فرق بين العتق والطلاق.
فإن قيل: يمكن أن يطلقها بالأمس ثم يتزوجها اليوم.
قيل: هذا يمكن في الطلاق الذي لم يستوف إذا كان مقصوده الأخبار فأما إذا قال: "أنت طالق أمس ثلاثا" ولم يقل من زوج كان قبلي ولا نواه فلا فرق أصلا بين ذلك وبين قوله للعبد: "أنت حر أمس" هذا التفصيل هو محض القياس وبالله التوفيق.
وجمعتم بين ما فرقتما السنة بينهما فقلتم: يجب على البائن الإحداد كما يجب على المتوفي عنهما والإحداد لم يكن ذلك لأجل العدة وإنما كان من أجل موت الزوج والنبي صلى الله عليه وسلم نفى وأثبت وخص الإحداد بالمتوفي عنها زوجها وقد فارقت المبتوتة في وصف العدة وقدرها وسببها وفإن سببها الموت وإن لم يكن الزوج دخل بها وسبب عدة البائن الفراق وإن كان الزوج حيا ثم فرقتم بين ما جمعت السنة بينهما فقلتم إن كانت الزوجة ذمية أو غير بالغة فلا إحداد عليها والسنة تقضي التسوية كما يقضيه القياس.
وفرقتم بين ما جمع القياس المحض بينهما فقلتم: لو ذبح المحرم صيدا فهو ميتة لا يحل أكله ولو ذبح الحلال صيدا حرميا فليس بميتة وأكله حلال وفرقتم بأن المانع في ذبح المحرم فيه فهو كذبح المجوسى والوثنى فالذابح غير أهل وفي المسألة الثانية الذابح أهل والمذبوح محل للذبح إذا(7/358)
ص -307-…كان حلال وإنما منع منه حرمة المكان ألا ترى أنه لو خرج من الحرم حل ذبحه وهذا من أفسد فرق وهو باقتضاء عكس الحكم أولى فإن المانع في الصيد الحرمي في نفس المذبوح فهو كذبح مالا يؤكل والمانع في ذبح المحرم في الفاعل فهو كذبح الغاصب.
وقلتم: لو أرسل كلبه على صيد في الحل فطرده حتى أدخله الحرم فأصابه لم يضمنه ولو أرسل سهمه على صيد في الحل فأطارته الريح حتى قتل صيدا في الحرم ضمنه وكلاهما تولد القتل فيه عن فعله وفرقتم بأن الرمي حصل بمباشرته وقوته التي أمدت السهم فهو محض فعله بخلاف مسألة الكلب فإن الصيد فيه يضاف إلى فعل الكلب وهذا الفرق لا يصح فإن أرسال السهم والكلب كلاهما من فعله فالذي تولد منهما تولد عن فعله وجريان السهم وعدو الكلب كلاهما هو السبب فيه وكون الكلب له اختيار والسهم لا اختيار له فرق لا تأثير له إذا كان اختيار الكلب بسبب إرسال صاحبه له.
وقلتم: لو رهن أرضا مزروعة أو شجرا مثمرا دخل الزرع والثمر في الرهن ولو باعهما لم يدخل الزرع والثمر في البيع وفرقتم بينهما بأن الرهن متصل بغيره واتصال الرهن بغيره يمنع صحة الإشاعة فلو لم يدخل فيه الزرع والثمرة لبطل بخلاف المبيع فإن اتصاله بغيره لا يبطله إذ الإشاعة لا تنافيه وهذا قياس في غاية الضعف لأن الاتصال هنا إتصال مجاورة لا إشاعة فهو كرهن زيت في ظروفه وقماش في أعداله ونحوه.
وقلتم: لو أكره على هبة جارية لرجل فوهبها له ملكها فأعتقها الموهوب له نفذ عتقه ولو باعها لم يصح بيعه وهذا خروج عن محض القياس وتفريقكم بأن هذا عتق صدر عن إكراه والإكراه لا يمنع صحة العتق وذاك بيع صدر عن إكراه والإكراه يمنع صحة البيع لا يصح لأنه إنما أكره على التمليك ولم يكن للمكره غرض في الإعتاق والتمليك لم يصح والعتق لم يكره عليه فلا ينفذ(7/359)
ص -308-…كالبيع سواء هذا مع أنكم تركتم القياس في مسألة الإكراه على البيع والعتق فصححتم العتق دون البيع وفرقتم بأن العتق لا يدخله خيار فصح مع الإكراه كالطلاق والبيع يدخله الخيار فلم يصح مع الإكراه وهذا فرق لا تأثير له وهو فاسد في نفسه فإن الإقرار والشهادة والإسلام لا يدخله خيار ولا تصح مع الإكراه وإنما امتنعت عقود المكره من النفوذ لعدم الرضا الذي هو مصحح العقد وهو أمر تستوي فيه عقوده كلها معاوضتها وتبرعاتها وعتقه وطلاقه وخلعه وإقراره وهذا هو محض القياس والميزان فإن المكره محمول على ما أكره عليه غير مختار له فأقواله كأقوال النائم والناسي فاعتبار بعضها وإلغاء بعضها خروج عن محض القياس وبالله التوفيق.
وقلتم: لو وقع في الغدير العظيم الذي إذا تحرك أحد طرفيه لم يتحرك الطرف الآخر قطرة دم أو خمر أو بول آدمي نجسه كله وإذا وقع في آبار الفلوات والأمصار العر والروث والأخباث لا تنجسها ما لم يأخذ وجه ربع الماء أو ثلثه وقيل أن لا يخلو دلو عن شيء منه ومعلوم أن ذلك الماء أقرب إلى الطيب والطهارة حسا وشرعا من هذا ومن العجب أنكم نجستم الأدهان والألبان والخل والمائعات بأسرها بالقطرة من البول والدم وعفوتم عما دون ربع الثوب من النجاسة المخففة وعما دون قدر الكف من المغلظة وقستم العفو عن ربع الثوب على وجوب مسح ربع الرأس ووجوب حلق ربعه في الإحرام وأين مسح الرأس من غسل النجاسة ولم تقيسوا الماء والمائع على الثوب مع عدم ظهور أثر النجاسة فيهما البتة وظهور عينها ورائحتها في الثوب ولا سيما عند محمد حيث يعفو عن قدر ذراع في ذراع وعن أبي يوسف عن قدر شبر في شبر وبكل حال فالعفو عما هو دون ذلك بكثير مما لا نسبة له إليه في الماء والمائع الذي لا يظهر أثر النجاسة فيه بوجه بل يحيلها ويذهب عينها وأثرها أولى وأحرى.
وجمعهم بين ما فرق الشرع بينهما فقسم المنى الذى هو أصل الآدميين(7/360)
ص -309-…على البول والعذرة وفرقتم بين ما جمع الشرع والحس بينهما ففرقتم بين بعض الأشربة المسكرة وغيرها مع استوائها في الإسكار فجعلتم بعضها نجسا كالبول وبعضها طاهرا طيبا كاللبن والماء وقلتم لو وقع في البئر نجاسة تنجس ماؤها وطينها فإن نزح منها دلو فترشرش على حيطانها تنجست حيطانها وكلما نزح منها شيء نبع مكانه شيء فصادف ماء نجسا وطينا نجسا فإذا وجب نزح أربعين دلوا مثلا فنزح تسعة وثلاثون كان المنزوح والباقي كله نجسا والحيطان التي أصابها الماء والطين الذي في قرار البئر حتى إذا نزح الدلو الأربعون قشقش النجاسة كلها فطهر الطين والماء وحيطان البئر وطهر نفسه فما رؤى أكرم من هذا الدلو ولا أعقل ولا أخير.
فصل
وقالت الحنابلة والشافعية: "لو تزوجها على أن يحج بها لم تصح التسمية ووجب مهر المثل" وقاسوا هذه التسمية على ما إذا تزوجها على شيء لا يدري ما هو ثم قالت الشافعية: "لو تزوج الكتابية على أن يعلمها القرآن جاز" وقاسوه على جواز إسماعها إياه فقاسوا أبعد قياس وتركوا محض القياس فإنهم صرحوا بأنه لو استأجرها ليحملها إلى الحج جاز ونزلت الإجارة على العرف فكيف صح أن يكون مورد العقد الإجارة ولا يصح أن يكون صداقا ثم ناقضتم أبين مناقضة فقلتم لو تزوجها على أن يرد عبدها الآبق من مكان كذا وكذا صح مع أنه يقدر على رده وقد يعجز عنه فالغرر الذي في هذا الأمر أعظم من الغرر في حملها إلى الحج بكثير وقلتم لو تزوجها على أن يعلمها القرآن أو بعضه صح وقد تقبل التعليم ولا تقبله وقد يطاوعها لسانها وقد يأبى عليها وقلتم لو تزوجها على مهر المثل صحت التسمية مع اختلافه لامتناع من يساويها من كل وجه أو لقربه وإن اتفق من يساويها في النسب فنادر جدا من يساويها(7/361)
ص -310-…في الصفات والأحوال التي يقل المهر بسببها ويكثر فالجهالة التي في حجه بها دون هذا بكثير وقلتم لو تزوجها على عبد مطلق صح ولها الوسط ومعلوم أن في الوسط من التفاوت ما فيه وقلتم: لو تزوجها على أن يشتري لها عبد زيد صحت التسمية مع أنه غرر ظاهر إذ تسليم المهر موقوف على أمر غير مقدور له وهو رضى زيد ببيعه ففيه من الخطر ما في رد عبدها الآبق وكلاهما أعظم خطرا من الحج بها وقلتم لو تزوجها على أن يرعى غنمها مدة صح وليس جهالة حملانها إلى الحج بأعظم من جهالة أوقات الرعي ومكانه على أن هذه المسألة بعيدة من أصول أحمد ونصوصه ولا تعرف منصوصة عنه بل نصوصه على خلافها قال في رواية منها فيمن تزوج على عبد من عبيده جاز وإن كانوا عشرة عبيد يعطى من أوسطهم فإن تشاحا أقرع بينهما قلت وتستقيم القرعة في هذا قال نعم وقلتم لو خالعها على كفالة ولدها عشر سنين صح وإن لم يذكر قدر الطعام والإدام والكسوة فياللعجب أين جهالة هذا من جهالة حملانها إلى الحج؟.
فصل
وقالت الشافعية: له أن يجبر ابنته البالغة المفتية العالمة بدين الله التي تفتي في الحلال والحرام على نكاحها بمن هي أكره الناس له وأشد الناس عنه نفرة بغير رضاها حتى لو عينت كفوا شابا جميلا دينا تحبه وعين كفوا شيخا مشوها دميما كان العبرة بتعيينه دونها فتركوا محض القياس والمصلحة ومقصود النكاح من الود والرحمة وحسن المعاشرة وقالوا لو أراد أن يبيع لها حبلا أو عود أراك من مالها لم يصح إلا برضاها وله أن يرقها مدة العمر عند من هي أكره شيء فيه بغير رضاها قالوا وكما خرجتم عن محض القياس خرجتم عن صريح(7/362)
ص -311-…السنة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير جارية بكرا زوجها أبوها وهي كارهة وخير أخرى ثيبا ومن العجب أنكم قلتم لو تصرف في حبل من مالها على غير وجه الحظ لها كان مردودا حتى إذا تصرف في بعضها على خلاف حظها كان لازما ثم قلتم هو أخبر بحظها منها وهذا يرده الحس فإنها أعلم بميلها ونفرتها وحظها ممن تحب أن تعاشره وتكره عشرته وتعلقتم بما رواه مسلم من حديث ابن عباس يرفعه: "الأيم أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها" وهو حجة عليكم وتركتم ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة يرفعه: "لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا البكر حتى تستأذن" وفيهما أيضا من حديث عائشة قالت: "قلت يا رسول الله تستأمر النساء في أبضاعهن؟ قال: نعم قلت فإن البكر تستأذن فتستحي قال: إذنها صماتها" فنهى أن تنكح بدون استئذانها وأمر بذلك وأخبر أنه هو شرعه وحكمه فاتفق على ذلك أمره ونهيه وخبره وهو محض القياس والميزان.
فصل
وقالت الحنابلة والشافعية والحنفية: "لا يصح بيع المقاثي والمباطخ والباذنجان إلا لقطة" ولم يجعلوا المعدوم تبعا للموجود مع شدة الحاجة إلى ذلك وجعلوا المعدوم منزلا منزلة الموجود في منافع الإجارة للحاجة إلى ذلك وهذا مثله من وجه لأنه يستخلف كما تستخلف المنافع وما يقدر من عروض الخطر له فهو مشترك بينه وبين المنافع وقد جوزوا بيع الثمرة إذا بدا الصلاح في واحدة منها ومعلوم أن بقية الأجزاء معدومة فجاز بيعها تبعا للموجود فإن فرقوا بأن هذه أجزاء متصلة وتلك أعيان منفصلة فهو فرق فاسد من وجهين أحدهما أن هذا لا تأثير له البتة الثاني أن الثمرة التي بدا صلاحها ما يخرج أثمارا متعددة(7/363)
ص -312-…كالتوت والتين فهو كالبطيخ والباذنجان من كل وجه فالتفريق خروج عن القياس والمصلحة وإلزام بما لا يقدر عليه إلا بأعظم كلفة ومشقة وفيه مفسدة عظيمة يردها القياس فإن اللقطة لا ضابطا لها فإنه يكون في المقثأة الكبار والصغار وبين ذلك فالمشتري يريد استقصاءها والبائع يمنعه من أخذ الصغار فيقع بينهما من التنازع والاختلاف والتشاحن ما لا تأتي به شريعة فأين هذه المفسدة العظيمة التي هي منشأ النزاع التي من تأمل مقاصد الشريعة علم قصد الشارع لإبطالها وإعدامها إلى المفسدة اليسيرة التي في جعل ما لم يوجد تبعا لما وجد لما فيه من المصلحة وقد اعتبرها الشارع ولم يأت عنه حرف واحد أنه نهى عن بيع المعدوم وإنما نهى عن بيع الغرر والغرر شيء وهذا شيء ولا يسمى هذا البيع غررا لا لغة ولا عرفا ولا شرعا.
فصل
وقالت الحنفية والمالكية والشافعية: "إذا شرطت الزوجة أن لا يخرجها الزوج من بلدها أو دارها أو أن لا يتزوج عليها ولا يتسرى فهو شرط باطل" فتركوا محض القياس بل قياس الأولى فإنهم قالوا: "لو شرطت في المهر تأجيلا أو غير نقد البلد أو زيادة على مهر المثل لزم الوفاء بالشرط" فأين المقصود لها في الشرط الأول إلى المقصود الذي في هذا الشرط وأين فواته إلى فواته وكذلك من قال منهم: "لو شرط أن تكون جميلة شابة سوية فبانت عجوزا شمطاء قبيحة المنظر أنه لا فسخ لأحدهما بفوات شرطه حتى إذا فات درهم واحد من الصداق فلها الفسخ بفواته قبل الدخول فإن استوفى المعقود عليه ودخل بها وقضى وطره منها ثم فات الصداق جميعه ولم تظفر منه بحبة واحدة فلا فسخ لها" وقسم الشرط الذي دخلت عليه على شرط أن لا يؤويها ولا ينفق(7/364)
ص -313-…عليها ولا يطأها أو لا ينفق على أولاده منها ونحو ذلك مما هو من أفسد القياس الذي فرقت الشريعة بين ما هو أحق بالوفاء منه وبين ما لا يجوز الوفاء به وجمعتم بين ما فرق القياس والشرع بينهما وألحقتم أحدهما بالآخر وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الوفاء بشروط النكاح التي يستحل بها الزوج فرج امرأته أولى من الوفاء بسائر الشروط على الإطلاق فجعلتموها أنتم دون سائر الشروط وأحقها بعدم الوفاء.
هل يصح شرط الواقف مطلقا؟:
وجعلتم الوفاء بشرط الواقف المخالف لمقصود الشارع كترك النكاح وكشرط الصلاة في المكان الذي شرط فيه الصلاة وإن كان وحده وإلى جانبه المسجد الأعظم وجماعة المسلمين وقد ألغى الشارع هذا الشرط في النذر الذي هو قربه محضة وطاعة فلا تتعين عنده بقعة عينها الناذر للصلاة إلا المساجد الثلاثة وقد شرط الناذر في نذره تعينه فألغاه الشارع لفضيلة غيره عليه أو مساواته له فكيف يكون شرط الواقف الذي غيره أفضل منه وأحب إلى الله ورسوله لازما يجب الوفاء به وتعيين الصلاة في مكان معين لم يرغب الشارع فيه ليس بقربة وما ليس بقربة لا يجب الوفاء به في النذر ولا يصح اشتراطه في الوقف.
فإن قلتم: الواقف لم يخرج ماله إلا على وجه معين فلزم اتباع ما عليه في الوقف من ذلك الوجه والنادر قصد القربة والقرب متساوية في المساجد غير الثلاثة فتعين بعضها لغو.
قيل: هذا الفرق بعينه يوجب عليكم إلغاء ما لا قربة فيه من شروط الواقفين واعتبار ما فيه قربة فإن الواقف إنما مقصوده بالوقف التقرب إلى الله فتقربه بوقفه كتقربه بنذره فإن العاقل لا يبذل ماله إلا لما فيه مصلحة عاجلة أو آجلة والمرء في حياته قد يبذل ماله في أغراضه مباحة كانت أو غيرها وقد يبذله فيما يقربه إلى الله وأما بعد مماته فإنما يبذله فيما يظن أنه يقرب إلى الله ولو قيل(7/365)
ص -314-…له: "إن هذا المصرف لا يقرب إلى الله عز وجل أو إن غيره أفضل وأحب إلى الله منه وأعظم أجرا" لبادر إليه ولا ريب أن العاقل إذا قيل له: "إذا بذلت مالك في مقابلة هذا الشرط حصل لك أجر واحد وإن تركته حصل لك أجران" فإنه يختار ما فيه الأجر الزائد فكيف إذا قيل له: "إن هذا لاأجر فيه البتة" فكيف إذا قيل: "أنه مخالف لمقصود الشارع مضاد له يكرهه الله ورسوله" وهذا كشرط العزوبية مثلا وترك النكاح فإنه شرط لترك واجب أو سنة أفضل من صلاة النافلة وصومها أو سنة دون الصلاة والصوم فكيف يلزم الوفاء بشرط ترك الواجبات والسنن اتباع لشرط الواقف وترك شرط الله ورسوله الذى قضاؤه أحق وشرطه أوثق؟.
يوضحه أنه لو شرط فى وقفه أن يكون على الأغنياء دون الفقراء كان شرطا باطلا عند جمهور الفقهاء قال أبو المعالى الجوينى هو إمام الحرمين رضى الله عنه: "ومعظم أصحابنا قطعوا بالبطلان" هذا هو مع أن وصف الغنى وصف مباح ونعمة من الله وصاحبه إذا كان شاكرا فهو أفضل من الفقير مع صبره عند طائفة كثيرة من الفقهاء والصوفية فكيف يلغى هذا الشرط ويصح شرط الترهب في الأسلام الذى أبطله النبيى صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا رهبانية في الإسلام".
يوضحه أن من شرط التعزب فإنما قصد أن تركه أفضل وأحب إلى الله فقصد أن يتعبد الموقف عليه بتركه وهذا هو الذى تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم منه بعينه فقال: "من رغب عن سنتى فليس منى" وكان قصد أولئك الصحابة هو قصده هؤلاء الواقفين بعينه سواء فإنهم تصدوا ترفية أنفسهم على العبادة(7/366)
ص -315-…وترك النكاح الذي يشغلهم تقربا إلى الله بتركه فقال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم ما قال وأخبر أنه من رغب عن سنته فليس منه وهذا في غاية الظهور فكيف يحل الإلزام بترك شيء قد أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أن من رغب عنه فليس منه هذا مما لا تحتمله الشريعة بوجه.
شروط الواقفين تعرض على كتاب الله:
فالصواب الذي لا تسوغ الشريعة غيره عرض شرط الواقفين على كتاب الله سبحانه وعلى شرطه فما وافق كتابه وشرطه فهو صحيح وما خالفه كان شرطا باطلا مردودا ولو كان مائة شرط وليس ذلك بأعظم من رد حكم الحاكم إذا خالف حكم الله ورسوله ومن ورد فتوى المفتي وقد نص الله سبحانه على رد وصية الجانف في وصيته والآثم فيها مع أن الوصية تصح في غير قربة وهي أوسع من الوقف وقد صرح صاحب الشرع برد كل عمل ليس عليه أمره فهذا الشرط مردود بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يحل لأحد أن يقبله ويعتبره ويصححه.
ثم كيف يوجبون الوفاء بالشروط التي إنما أخرج الواقف ماله لمن قام بها وإن لم تكن قربى ولا للواقفين فيها غرض صحيح وإنما غرضهم ما يقربهم إلى الله بها ولا يوجبون الوفاء بالشروط التى انما بذلت المرأة بضعها للزواج بشرط وفائه ولها فيها أصح غرض ومقصود وهي أحق من كل شرط يجب الوفاء به بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم وهل هذا إلا خروج عن محض القياس والسنة.
معنى قولهم: شرط الواقف كنص الشارع:
ثم من العجب العجاب قول من يقول إن شروط الواقف كنصوص الشارع ونحن نبرأ إلى الله من هذا القول ونعتذر مما جاء به قائله ولا نعدل بنصوص الشارع غيرها أبدا وإن أحسن الظن بقائل هذا القول حمل كلامه على أنها كنصوص الشارع في الدلالة وتخصيص عامها بخاصها وحمل مطلقها على مقيدها واعتبار مفهومها كما يعتبر منطوقها وأما أن تكون(7/367)
ص -316-…كنصوصه في وجوب الاتباع وتأثيم من أخل بشيء منها فلا يظن ذلك بمن له نسبة ما إلى العلم فإذا كان حكم الحاكم ليس كنص الشارع بل يرد ما خالف حكم الله ورسوله من ذلك فشرط الواقف إذا كان كذلك كان أولى بالرد والإبطال فقد ظهر تناقضهم في شروط الواقفين وشروط الزوجات وخروجهم فيها عن موجب القياس الصحيح والسنة وبالله التوفيق.
يوضح ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قسم يعطي الآهل حظين والعزب حظا وقال: "ثلاثة حق الله عونهم" ذكر منهم الناكح يريد العفاف ومصححوا هذا الشرط عكسوا مقصوده فقالوا نعطيه ما دام عزبا فإذا تزوج لم يستحق شيئا ولا يحل لنا أن نعينه لأنه ترك القيام بشرط الواقف وإن كان قد فعل ما هو أحب إلى الله ورسوله فالوفاء بشرط الواقف المتضمن لترك الواجب أو السنة المقدمة على فضل الصوم أو الصلاة لا يحل مخالفته ومن خالفه كان عاصيا آثما حتى إذا خالف الأحب إلى الله ورسوله والأرضى له كان بارا مثابا قائما بالواجب عليه.
يوضح بطلان هذا الشرط وأمثاله من الشروط المخالفة لشرع الله ورسوله أنكم قلتم كل شرط يخالف مقصود العقد فهو باطل حتى أبطلتم بذلك شرط دار الزوجة أو بلدها وأبطلتم اشتراط البائع الانتفاع بالمبيع مدة معلومة وأبطلتم اشتراط الخيار فوق ثلاثة وأبطلتم اشتراط نفع البائع في المبيع ونحو ذلك من الشروط التي صححها النص والآثار عن الصحابة والقياس كما صحح عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص وعمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان اشتراط المرأة دارها أو بلدها أو أن لا يتزوج عليها ودلت السنة على أن الوفاء به أحق من الوفاء بكل شرط وكما صححت السنة اشتراط انتفاع البائع بالمبيع مدة معلومة فأبطلتم ذلك وقلتم يخالف مقتضى العقد وصححتم الشروط المخالفة بمقتضى عقد الوقف لعقد الوقف إذ هو عقد قربة مقتضاة التقرب إلى الله تعالى ولا ريب أن شرط ما يخالف القربة يناقضه مناقضة صريحة فإذا شرط عليه(7/368)
ص -317-…الصلاة في مكان لا يصلى فيه إلا هو وحده أو واحد بعد واحد أو اثنان فعدوله عن الصلاة في المسجد الأعظم الذي يجتمع فيه جماعة المسلمين مع قدمه وكثرة جماعته فيتعداه إلى مكان أقل جماعة وأنقص فضيلة وأقل أجرا اتباعا لشرط الواقف المخالف لمقتضى عقد الوقف خروج عن محض القياس وبالله التوفيق.
يوضحه أن المسلمين مجمعون على أن العبادة في المسجد من الذكر والصلاة وقراءة القرآن أفضل منها عند القبور فإذا منعتم فعلها في بيوت الله سبحانه وأوجبتم على الموقوف عليه فعلها بين المقابر إن أراد أن يتناول الوقف وإلا كان تناوله حراما كنتم قد ألزمتموه بترك الأحب إلى الله الأنفع للعبد والعدول إلى الأنقص المفضول أو النهي عنه مع مخالفته لقصد الشارع تفصيلا وقصد الواقف إجمالا فإنه إنما يقصد الأرضى لله والأحب إليه ولما كان في ظنه أن هذا إرضاء لله اشترطه فنحن نظرنا إلى مقصوده ومقصود الشارع وأنتم نظرتم إلى مجرد لفظه سواء وافق رضا الله ورسوله ومقصوده في نفسه أو لا ثم لا يمكنكم طرد ذلك أبدا فإنه لو شرط أن يصلي وحده حتى لا يخالط الناس بل يتوفر على الخلوة والذكر أو شرط أن لا يشتغل بالعلم والفقه ليتوفر على قراءة القرآن وصلاة الليل وصيام النهار أو شرط على الفقهاء ألا يجاهدوا في سبيل الله ولا يصوموا تطوعا ولا يصلوا النوافل وأمثال ذلك فهل يمكنكم تصحيح هذه الشروط فإن أبطلتموها فعقد النكاح أفضل من بعضها أو مساو له في أصل القربة وفعل الصلاة في المسجد الأعظم العتيق الأكثر جماعة أفضل وذكر الله وقراءة القرآن في المسجد أفضل منه بين القبور فكيف تلزمون بهذه الشروط المفضولة وتبطلون ذلك فما هو الفرق بين ما يصح من الشروط وما لا يصح ثم لو شرط المبيت في المكان الموقوف ولم يشترط التعزب فأبحتم له التزوج فطالبته الزوجة بحقها من المبيت وطالبتموه بشرط الواقف منه فكيف تقسمونه بينهما أم ماذا تقدمون ما أوجبه الله ورسوله من المبيت والقسم(7/369)
للزوجة مع ما فيه من مصلحة الزوجين(7/370)
ص -318-…وصيانة المرأة وحفظها وحصول الإواء المطلوب من النكاح أم ما شرطه الواقف وتجعلون شرطه أحق والوفاء به ألزم أم تمنعونه من النكاح والشارع والوقف لم يمنعاه منه فالحق أن مبيته عند أهله إن كان أحب إلى الله ورسوله جاز له بل استحب ترك شرط الواقف لأجله ولم يمنعه فعل ما يحبه الله ورسوله من تناول الوقف بل ترك ما أوجبه سببا لاستحقاق الوقف فلا نص ولا قياس ولا مصلحة للواقف ولا للموقوف عليه ولا مرضاة لله ورسوله.
والمقصود بيان بعض ما في الرأي والقياس من التناقض والاختلاف الذي هو من عند غير الله لأن ما كان من عنده فإنه يصدق بعضه بعضا ولا يخالف بعضه بعضا وبالله التوفيق.
فصل الاختلاف في حكم اللطمة والضربة:
وقالت الحنفية والشافعية والمالكية ومتأخروا أصحاب أحمد: "إنه لا قصاص في اللطمة والضربة وإنما فيه التعزير" وحكى بعض المتأخرين في ذلك الإجماع وخرجوا عن محض القياس وموجب النصوص وإجماع الصحابة فإن ضمان النفوس والأموال مبناه على العدل كما قال تعالى {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} وقال {فمن فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وقالوَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} فأمر بالمماثلة في العقوبة والقصاص فيجب اعتبارها بحسب الإمكان والأمثل هو المأمور به فهذا الملطوم المضروب قد اعتدي عليه فالواجب أن يفعل بالمعتدي كما فعل به فإن لم يمكن كان الواجب ما هو الأقرب والأمثل وسقط ما عجز عنه العبد من المساواة من كل وجه ولا ريب أن لطمة بلطمة وضربة بضربة في محلهما بالآلة التي لطمه بها أو بمثلها أقرب إلى المماثلة المأمور بها حسا وشرعا من تعزيره بها بغير جنس اعتدائه وقدره وصفته(7/371)
ص -319-…وهذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين محض القياس وهو منصوص الإمام أحمد ومن خلفه في ذلك من أصحابه فقد خرج عن نص مذهبه وأصوله كما خرج عن محض القياس والميزان قال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني في كتابه المترجم له: "باب في القصاص من اللطمة والضربة: حدثني إسماعيل ابن سعيد قال: سألت أحمد بن حنبل عن القصاص من اللطمة والضربة فقال: عليه القود من اللطمة والضربة" وبه قال أبو ابن داود وأبو خيثمة وابن أبي شيبة وقال إبراهيم الجوزجاني: "وبه أقول لما حدثنا شبابة بن سوار ثنا شعبة عن يحيى بن الحصين قال: سمعت طارق بن شهاب يقول: لطم أبو بكر رجلا يوما لطمة فقال له: اقتص فعفا الرجل حدثنا شبابة أنبأ شعبة عن مخارق قال: سمعت طارقا يقول: لطم ابن أخ لخالد بن الوليد رجلا من مراد فأقاده خالد منه حدثنا أبو بهر حدثنا أبو بكر بن عياش قال: سمعت الأعمش عن كميل بن زياد قال: لطمني عثمان ثم أقادني فعفوت حدثني ابن الأصفهاني حدثنا عبد السلام بن حرب عن ناجية عن عمه يزيد بن عربي قال: رأيت عليا كرم الله وجهه في الجنة أقاد من لطمة وحدثنا الحميدي ثنا سفيان ثنا عبد الله ابن إسماعيل بن زياد ابن أخي عمرو بن دينار أن ابن الزبير أقاد من لطمة ثنا يزيد بن هارون أنا الجريري عن أبي نضرة عن أبي فراس قال: خطبنا عمر فقال: إني لم أبعث عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم ولكن إنما بعثتهم ليبلغوكم دينكم وسنة نبيكم ويقسم فيكم فيئكم فمن فعل به غير ذلك فليرفعه إلى فوالذي نفس عمر بيده لأقصنه منه فقام إليه عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين إن كان رجل من المسلمين على رعية فأدب بعض رعيته لتقصنه منه فقال عمر: أنا لا أقصه منه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه ثنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن ابن حرملة قال: تلاحا رجلان فقال أحدهما: ألم أخنقك حتى سلحت؟ فقال: بلى ولكن(7/372)
ص -320-…م يكن لي عليك شهود فشهدوا على ما قال: ثم رفعه إلى عمر بن عبد العزيز فأرسل في ذلك إلى سعيد بن المسيب فقال: يخنقه كما خنقه حتى يحدث أو يفتدي منه فافتدى منه بأربعين بعيرا فقال ابن كثير: أحسبه ذكره عن عثمان ثنا الحسين بن محمد ثنا ابن أبي ذئب عن المطلب بن السائب أن رجلين من بني ليث اقتتلا فضرب أحدهما الآخر فكسر أنفه فانكسر عظم كف الضارب فأقاد أبو بكر من أنف المضروب ولم يقد من يد الضارب فقال سعيد بن المسيب: كان لهذا أيضا القود من كفه قضى عثمان أن كل مقتتلين اقتتلا ضمنا ما بينهما فأقيد منه فدخل المسجد وهو يقول: يا عباد الله كسر ابن المسيب يدي قال الجوزجاني: فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلت أصحابه فإلى من يركن بعدهم؟ أو كيف يجوز خلافهم؟!".
قلت: وفي السنن لأبي داود والنسائي من حديث أبي سعيد الخدري قال: "بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم قسما أقبل رجل فأكب عليه فطعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرجون كان معه فجرح وجهه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعال فاستقد فقال: بل عفوت يا رسول الله" وفي سنن النسائي وأبي داود وابن ماجة عن عائشة رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا جهم بن حذيفة مصدقا فلاحاه رجل في صدقته فضربه أبو جهم فشجه فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: القود يا رسول الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لكم كذا وكذا" فلم يرضوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لكم كذا وكذا" فرضوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني خاطب العشية على الناس ومخربهم برضاكم" فقالوا: نعم فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن هؤلاء أتوني يريدون القصاص فعرضت عليهم كذا وكذا فقال النبي صلى الله عليه وسلم فرضوا أرضيتم؟" فقالوا: لا فهمّ المهاجرون بهم(7/373)
ص -321-…فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفوا عنهم فكفوا عنهم ثم دعاهم فزادهم فقال: أرضيتم؟ فقالوا: نعم فقال إني خاطب على الناس ومخبرهم برضاكم فقالوا: نعم فخطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرضيتم؟ قالوا: نعم" وهذا صريح في القود في الشجة ولهذا صولحوا من القود مرة بعد مرة حتى رضوا ولو كان الواجب الأرش.
فقط لقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم حين طلب القود إنه لا حق لكم فيه وإنما حقكم في الأرش فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا إجماع الصحابة وهذا ظاهر القرآن وهذا محض القياس فعارض المانعون هذا كله بشيء واحد وقالوا اللطمة والضربة لا يمكن فيهما المماثلة والقصاص لا يكون إلا مع المماثلة ونظر الصحابة أكمل وأصح وأتبع للقياس كما هو أتبع للكتاب والسنة فإن المماثلة من كل وجه متعذرة فلم يبق إلا أحد أمرين قصاص قريب إلى المماثلة أو تعزير بعيد منها والأول أولى لأن التعزير لا يعتبر فيه جنس الجناية ولا قدرها بل قد يعزر بالصوت والعصا وقد يكون لطمة أو ضربة بيده فأين حرارة السوط ويبسه إلى اليد وقد يزيد وينقص وفي العقوبة بجنس ما فعله تحر للمماثلة بحسب الإمكان وهذا أقرب إلى العدل الذي أمر الله به وأنزل به الكتاب والميزان فإنه قصاصا بمثل ذلك العضو في مثل المحل الذي ضرب فيه بقدره وقد يساويه أو يزيد قليلا أو ينقص قليلا وذلك عفو لا يدخل تحت التكليف كما لا يدخل تحت التكليف المساواة في الكيل والوزن من كل وجه كما قال تعالى {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} فأمر بالعدل المقدور وعفا عن غير المقدور منه وأما التعزير فإنه لا يسمى قصاصا فإن لفظ القصاص يدل على المماثلة ومنه قص الأثر إذا أتبعه وقص الحديث إذا أتى به على وجهه والمقاصة سقوط أحد الدينين بمثله جنسا وصفة وإنما(7/374)
ص -322-…هو تقويم للجناية فهو قيمة لغير المثلى والعدول إليه كالعدول إلى قيمة المتلف وهو ضرب له بغير تلك الآلة في غير ذلك المحل وهو إما زائد وإما ناقص ولا يكون مماثلا ولا قريبا من المثل فالأول أقرب إلى القياس والثاني تقويم للجناية بغير جنسها كبدل المتلف والنزاع أيضا فيه واقع إذا لم يوجد مثله من كل وجه كالحيوان والعقار والآنية والثياب وكثير من المعدودات والمزروعات فأكثر القياسيين من اتباع الأئمة الأربعة قالوا الواجب في بدل ذلك عند الإتلاف القيمة قالوا لأن المثل في الجنس يتعذر ثم طرد أصحاب الرأي قياسهم فقالوا وهذا هو الواجب في الصيد في الحرم والإحرام إنما تجب قيمته لا مثله كما لو كان مملوكا ثم طردوا هذا القياس في القرض فقالوا لا يجوز قرض ذلك لأن موجب القرض رد المثل وهذا لا مثل له ومنه من خرج عن موجب هذا القياس في الصيد لدلالة القرآن والسنة وآثار الصحابة على أنه يضمن بمثله من النعم وهو مثل المقيد بحسب الإمكان وإن لم يكن مثلا من كل وجه وهذا قول الجمهور منهم مالك والشافعي وأحمد وهم يجوزون قرض الحيوان أيضا كما دلت عليه السنة الصحيحة فإنه قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه استسلف بكرا وقضى جملا رباعيا وقال: "إن خياركم أحسنكم قضاء" ثم اختلفوا بعد ذلك في موجب قرض الحيوان هل يجب رد القيمة أو المثل على قولين وهما في مذهب أحمد وغيره والذي دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة الصريحة أنه يجب رد المثل وهذا هو المنصوص عن أحمد ثم اختلفوا في الغصب والإتلاف على ثلاثة أقوال وهي في مذهب أحمد أحدها يضمن الجميع بالمثل بحسب الإمكان والثاني يضمن الجميع بالقيمة والثالث أن الحيوان يضمن بالمثل وما عداه كالجواهر ونحوها بالقيمة.
واختلفوا في الجدار يهدم هل يضمن بقيمته أو يعاد مثله على قولين وهما للشافعي والصحيح ما دلت عليه النصوص وهو مقتضى القياس الصحيح(7/375)
ص -323-…وما عداه فمناقض للنص والقياس لأن الجميع يضمن بالمثل تقريبا وقد نص الله سبحانه على ضمان الصيد بمثله من النعم ومعلوم أن المماثلة بين بعير وبعير أعظم من المماثلة بين النعامة والبعير وبين شاة وشاة أعظم منها بين طير وشاة وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم بدل البعير الذي أقرضه مثله دون قيمته ورد عوض القصعة التي كسرتها بعض أزواجه قصعتها نظيرها وقال إناء بإناء وطعام بطعام فسوى بينهما في الضمان وهذا عين العدل ومحض القياس وتأويل القرآن.
وقد نص الإمام أحمد على هذا في مسائل إسحاق بن منصور قال إسحاق قلت لأحمد قال سفيان ما انكسر شيئا صحيحا فقيمته صحيحا فقال أحمد: "إن كان يوجد مثله فمثله وإن كان لا يوجد مثله فعليه قيمته" ونص عليه أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد فقال: سألت أحمد عن الرجل يكسر قصعة الرجل أو عصاه أو يشق ثوبا لرجل قال: "عليه المثل في العصا والقصعة والثوب" فقلت: أرأيت إن كان الشق قليلا فقال: "صاحب الثوب مخير في ذلك قليلا كان أو كثيرا".
وقال في رواية إسحاق بن منصور: "من كسر شيئا صحيحا فإن كان يوجد مثله فمثله وإن كان لا يوجد مثله فعليه قيمته فإذا كسر الذهب فإنه يصلحه إن كان خلخالا وإن كان دينارا أعطى دينارا آخر مكانه" قال إسحاق: كما قال وقال في رواية موسى بن سعيد: "وعليه المثل في العصا والقصعة إذا كسر في الثوب ولا أقول في العبد والبهائم والحيوان وصاحب الثوب مخير إن شاء شق الثوب وإن شاء أخذ مثله" واحتج في رواية ابنه عبد الله بحديث أنس فقال حميد عن أنس: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بقصعة فيها طعام فضربت بيدها فكسرت القصعة فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الكسرتين فضم إحداهما إلى الأخرى وجعل يجمع فيها الطعام(7/376)
ص -324-…ويقول غارت أمكم كلوا فأكلوا وحبس الرسول حتى جاءت قصعة التي هو في بيتها فدفع القصعة إلى الرسول وحبس المكسورة في بيته" والحديث في صحيح البخاري وعند الترمذي فيه: "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: طعام بطعام وإناء بإناء" وقال: حديث صحيح وعند أبي داود والنسائي فيه قالت عائشة: "فقلت يا رسول الله ما كفارة ما صنعت؟ قال: إناء مثل إناء وطعام مثل طعام" وهذا هو مذهبه الصحيح عنه عند ابن أبي موسى قال في إرشاده ومن استهلك لآدمي ما لا يكال ولا يوزن فعليه مثله إن وجد وقيل عليه قيمته وهو اختيار المحققين من أصحابه وقضى عثمان وابن مسعود على من استهلك لرجل فصلانا بفصلان مثلها وبالمثل قضى شريح والعنبري وقال به قتادة وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي وهو الحق وليس مع من أوجب القيمة نص ولا إجماع ولا قياس وليس معهم أكثر ولا أكبر من قوله صلى الله عليه وسلم: "من أعتق شركا له في عبد فكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل لا وكس ولا شطط فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد" قالوا أوجب النبي صلى الله عليه وسلم في إتلاف نصيب الشريك القيمة لا المثل فقسنا على هذا كل حيوان ثم عديناه إلى كل غير مثلي قالوا ولأن القيمة أضبط وأحصر بخلاف المثل قال الآخرون أما الحديث الصحيح فعلى الرأس والعين وسمعا له وطاعة ولكن فيما دل عليه وإلا فما لم يدل عليه ولا أريد به فلا ينبغي أن يحمل عليه وهذا التضمين الذي يضمنه ليس من باب تضمين المتلفات بل هو من باب تملك مال الغير بقيمته فإن نصيب الشريك يملكه المعتق ثم يعتق عليه فلا بد من تقدير دخوله في ملكه ليعتق عليه ولا خلاف بين القائلين بالسراية في ذلك وأن الولاء له وإن تنازعوا هل يسري عقيب عتقه أو لا يعتق حتى يؤدي القيمة أو يكون موقوفا فإذا أدى تبين أنه عتق من حين العتق وهي في مذهب الشافعي والمشهور في مذهبه ومذهب أحمد القول(7/377)
ص -325-…الأول وفي مذهب مالك القول الثاني وعلى هذا الخلاف يبتنى ما لو أعتق الشريك نصيبه بعد عتق الأول فعلى القول الأول لا يعتق وعلى القول الثاني يعتق عليه ويكون الولاء بينهما ويبتنى على ذلك أيضا إذا قال أحد الشريكين: "إذا أعتقت نصيبك فنصيبي حر" فعلى القول الأول لا يصح هذا التعليق ويعتق نصيبه من مال المعتق وعلى القول الثاني يصح التعليق ويعتق على المعلق والمقصود أن التضمين ههنا كتضمين الشفيع الثمن إذا أخذ بالشفعة فإنه ليس من باب ضمان الإتلاف ولكن من باب التقويم للدخول في الملك لكن الشفيع أدخل الشارع الشقص في ملكه بالثمن باختياره والشريك المعتق أدخل الشقص في ملكه بالقيمة بغير اختياره فكلاهما تمليك هذا بالثمن وهذا بالقيمة فهذا شيء وضمان المتلف شيء قالوا وأيضا فلو سلم أنه ضمان إتلاف لم يدل على أن العبد الكامل إذا أتلف يضمن بالقيمة والفرق بينهما أن الشريكين إذا كان بينهما ما لا يقسم كالعبد والحيوان والجوهرة ونحو ذلك فحق كل واحد منهما في نصف القيمة فإذا اتفقا على المهايأة جاز وإن تنازعا وتشاجرا بيعت العين وقسم بينهما ثمنها على قدر ملكيهما كما يقسم المثلي فحقهما في المثلي في عينه وفي المتقوم عند التشاجر والتنازع في قيمته فلولا أن حقه في القيمة لما أجيب إلى البيع إذا طلبه وإذا ثبت ذلك فإذا أتلف له نصف عبد فلو ضمناه بمثله لفات حقه من نصف القيمة الواجب له شرعا عند طلب البيع والشريك إنما حقه في نصف القيمة وهما لو تقاسماه تقاسماه بالقيمة فإذا أتلف أحدهما نصيب شريكه ضمنه بالقيمة وعكسه المثلي لو تقاسماه تقاسماه بالمثل فإذا أتلف أحدهما نصيب شريكه ضمنه بالمثل فهذا هو القياس والميزان الصحيح طردا وعكسا الموافق للنصوص وآثار الصحابة ومن خالفه فلا بد له من أحد أمرين إما مخالفة السنة الصحيحة وآثار الصحابة إن طرد قياسه وإما التناقض البين إن لم يطرده(7/378)
ص -326-…فصل
حكومة داود وسليمان:
وعلى هذا الأصل تبتنى الحكومة المذكورة في كتاب الله عز وجل التي حكم فيها النبيان الكريمان داود وسليمان صلى الله عليهما وسلم إذ حكما في الحرث الذي نفشت فيه غنم القوم والحرث هو البستان وقد روي أنه كان بستان عنب وهو المسمى بالكرم والنفش رعي الغنم ليلا فحكم داود بقيمة المتلف فاعتبر الغنم فوجدها بقدر القيمة فدفعها إلى أصحاب الحرث إما لأنه لم يكن لهم دراهم أو تعذر بيعها ورضوا بدفعها ورضي أولئك بأخذها بدلا عن القيمة وأما سليمان فقضى بالضمان على أصحاب الغنم وأن يضمنوا ذلك بالمثل بأن يعمروا البستان حتى يعود كما كان ولم يضيع عليهم مغله من الإتلاف إلى حين العود بل أعطى أصحاب البستان ماشية أولئك ليأخذوا من نمائها بقدر نماء البستان فيستوفوا من نماء غنمهم نظير ما فاتهم من نماء حرثهم وقد اعتبر النمائين فوجدهما سواء وهذا هو العلم الذي خصه الله به وأثنى عليه بإدراكه.
وقد تنازع علماء المسلمين في مثل هذه القضية على أربعة أقوال أحدها موافقة الحكم السليماني في ضمان النفش وفي المثل وهو الحق وهو أحد القولين في مذهب أحمد ووجه للشافعية والمالكية والمشهور عندهم خلافه والقول الثاني موافقته في ضمان النفش دون التضمين بالمثل وهذا هو المشهور من مذهب مالك والشافعي وأحمد والثالث موافقته في التضمين بالمثل دون النفش كما إذا رعاها صاحبها باختياره دون ما إذا تفلتت ولم يشعر بها وهو قول داود ومن وافقه والقول الرابع أن النفش لا يوجب الضمان بحال وما وجب من ضمان الراعي بغير النفش فإنه يضمن بالقيمة لا بالمثل وهذا مذهب أبي حنيفة.
وما حكم به نبي الله سليمان هو الأقرب إلى العدل والقياس وقد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار وأن ما أفسدت المواشي(7/379)
ص -327-…بالليل ضمان على أهلها فصح بحكمه ضمان النفش وصح بالنصوص السابقة والقياس الصحيح وجوب الضمان بالمثل وصح بنص الكتاب الثناء على سليمان بتفهيم هذا الحكم فصح أنه الصواب وبالله التوفيق.
ما يفعل بالجاني على النفس:
ومن ذلك المماثلة في القصاص في الجنايات الثلاث على النفوس والأموال والأعراض فهذه ثلاث مسائل الأولى هل يفعل بالجاني كما يفعل بالمجني عليه فإن كان الفعل محرما لحق الله كاللواط وتجريعه الخمر لم يفعل به كما فعل اتفاقا وإن كان غير ذلك كتحريقه بالنار وإلقائه في الماء ورض رأسه بالحجر ومنعه من الطعام والشراب حتى يموت فمالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايات عنه يفعلون به كما فعل ولا فرق بين الجرح المزهق وغيره وأبو حنيفة وأحمد في رواية عنه يقولان لا يقتل إلا بالسيف في العنق خاصة وأحمد في رواية ثالثة يقول إن كان الجرح مزهقا فعل به كما فعل وإلا قتل بالسيف وفي رواية رابعة يقول إن كان مزهقا أو موجبا للقود بنفسه لو انفرد فعل به كما فعل وإن كان غير ذلك قتل بالسيف والكتاب والميزان مع القول الأول وبه جاءت السنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم رض رأس اليهودي بين حجرين كما فعل بالجارية وليس هذا قتلا لنقضه العهد لأن ناقض العهد إنما يقتل بالسيف في العنق وفي أثر مرفوع من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه وحديث لا قود إلا بالسيف قال الإمام أحمد ليس إسناده مجيد والثابت عن الصحابة أنه يفعل به كما فعل فقد اتفق على ذلك الكاتب والسنة والقياس وآثار الصحابة واسم القصاص يقتضيه لأنه يستلزم المماثلة.
ما يفعل بالجاني على المال:
المسألة الثانية: إتلاف المال فإن كان مما له حرمة كالحيوان والعبيد فليس له أن يتلف ماله كما أتلف ماله وإن لم تكن له حرمة كالثوب يشقه والإناء يكسره فالمشهور أنه ليس له أن يتلف عليه نظير ما أتلفه بل له القيمة أو المثل(7/380)
ص -328-…كما تقدم والقياس يقتضي أن له أن يفعل بنظير ما أتلفه عليه كما فعله الجاني به فيشق ثوبه كما شق ثوبه ويكسر عصاه كما كسر عصاه إذا كانا متساويين وهذا من العدل وليس مع من منعه نص ولا قياس ولا إجماع فإن هذا ليس بحرام لحق الله وليست حرمة المال أعظم من حرمة النفوس والأطراف وإذا مكنه الشارع أن يتلف طرفه بطرفه فتمكينه من إتلاف ماله في مقابلة ماله هو أولى وأحرى وإن حكمة القصاص من التشفي ودرك الغيظ لا تحصل إلا بذلك ولأنه قد يكون له غرض في أذاه وإتلاف ثيابه ويعطيه قيمتها ولا يشق ذلك عليه لكثرة ماله فيشفي نفسه منه بذلك ويبقى المجني عليه بغبنه وغيظه فكيف يقع إعطاؤه القيمة من شفاء غيظه ودرك ثأره وبرد قلبه وإذاقة الجاني من الأذى ما ذاق هو فحكمة هذه الشريعة الكاملة الباهرة وقياسها معا يأبى ذلك وقوله {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وقوله {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} وقوله {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} يقتضي جواز ذلك وقد صرح الفقهاء بجواز إحراق زروع الكفار وقطع أشجارهم إذا كانوا يفعلون ذلك بنا وهذا عين المسألة وقد أقر الله سبحانه الصحابة على قطع نخل اليهود لما فيه من خزيهم وهذا يدل على أنه سبحانه يحب خزي الجاني الظالم ويشرعه وإذا جاز تحريق متاع الغال بكونه تعدي على المسلمين في خيانتهم في شيء من الغنيمة فلإن يحرقوا ماله إذا حرق مال المسلم المعصوم أولى وأحرى وإذا شرعت العقوبة المالية في حق الله الذي مسامحته به أكثر من استيفائه فلأن تشرع في حق العبد الشحيح أولى وأحرى ولأن الله سبحانه شرع القصاص زجرا للنفوس عن العدوان وكان من الممكن أن يوجب الدية استدراكا لظلامة المجني عليه بالمال ولكن ما شرعه أكمل وأصلح للعباد وأشفى لغيظ المجني عليه وأحفظ للنفوس والأطراف وإلا فمن كان في نفسه من الآخر من قتله أو قطع طرفه قتله أو قطع طرفه(7/381)
وأعطى ديته والحكمة والرحمة والمصلحة تأبى ذلك وهذا بعينه موجود في العدوان على المال(7/382)
ص -329-…فإن قيل: فهذا ينجبر بأن يعطيه نظير ما أتلفه عليه.
قيل: إذا رضي المجني عليه بذلك فهو كما لو رضي بدية طرفه فهذا هو محض القياس وبه قال الأحمدان أحمد بن حنبل وأحمد بن تيمية قال في رواية موسى بن سعيد وصاحب الشيء يخير إن شاء شق الثوب وإن شاء أخذ مثله.
ما يفعل بالجاني على العرض:
المسألة الثالثة: الجناية على العرض فإن كان حراما في نفسه كالكذب عليه وقذفه وسب والدين فليس له أن يفعل به كما فعل به اتفاقا وإن سبه في نفسه أو سخر به أو هزء به أو بال عليه أو بصق عليه أو دعى عليه فله أن يفعل به نظير ما فعل به متحريا للعدل وكذلك إذا كسعه أو صفعه فله أن يستوفي منه نظير ما فعل به سواء وهذا أقرب إلى الكتاب والميزان وآثار الصحابة من التعزير المخالف للجناية جنسا ونوعا وقدرا وصفة وقد دلت السنة الصحيحة الصريحة على ذلك فلا عبرة بخلاف من خالفها ففي صحيح البخاري: "أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم أرسلن زينب بنت جحش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلمه في شأن عائشة فأتته فأغلظت وقالت إن نساءك ينشدنك العدل في بنت ابن أبي قحافة فرفعت صوتها حتى تناولت عائشة وهي قاعدة فسبتها حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لينظر إلى عائشة هل تتكلم فتكلمت عائشة ترد على زينب حتى أسكتتها قالت فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى عائشة وقال إنها بنت أبي بكر" وفي الصحيحين هذه القصة قالت عائشة: "فأرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهي التي كانت تساميني في المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم" فذكرت الحديث وقالت: "ثم وقعت في فاستطالت علي وأنا أرقب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرقب طرفه هل يأذن لي فيها؟ قالت: فلم تبرح زينب حتى عرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكره أن أنتصر(7/383)
ص -330-…فلما وقعت بها لم أنشبها حتى أثخنت عليها" قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبسم: "إنها ابنة أبي بكر" وفي لفظ فيهما: "لم أنشبها أن أثخنتها غلبة" وقد حكى الله سبحانه عن يوسف الصديق أنه قال لإخوته{أنتم شر ماكانا والله أعلم بما تصفون} لما قالوا: {إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم} ذلك للمصلحة التي اقتضت كتمان الحال ومن تأمل الأحاديث رأى ذلك فيها كثيرا جدا وبالله التوفيق.
فصل الفصل بين الفريقين يحتاج إلى النظر الدقيق:
قالوا: وهذا غيض من فيض وقطرة من بحر من تناقض القياسيين الآرائيين وقولهم بالقياس وتركهم لما هو نظيره من كل وجه أولى منه وخروجهم في القياس عن موجب القياس كما أوجب لهم مخالفة السنن والآثار كما تقدم الإشارة إلى بعض ذلك فليوجدنا القياسيون حديثا واحدا صحيحا صريحا غير منسوخ قد خالفناه لرأي أو قياس أو تقليد رجل ولن يجدوا إلى ذلك سبيلا فإن كانت مخالفة القياسي دينا فقد أريناهم مخالفته صريحا ثم نحن أسعد الناس بمخالفته منهم لأنا إنما خالفناه للنصوص وإن كان حقا فماذا بعد الحق إلا الضلال؟.
فانظر إلى هذين البحرين اللذين قد تلاطمت أمواجهما والحزبين اللذين قد ارتفع في معترك الحرب عجاجهما فجر كل منها جيشا من الحجج لا تقوم له الجبال وتتضاءل له شجاعة الأبطال وأتى كل واحد منهما من الكتاب والسنة والآثار بما خضعت له الرقاب وذلت له الصعاب وانقاد له علم كل عالم ونفذ حكمه كل حاكم وكان نهاية كل قدم الفاضل النحرير الراسخ في العلم أن يفهم عنهما(7/384)
ص -331-…ما قالاه ويحيط علما بما أصلاه وفصلاه فليعرف الناظر في هذا المقام قدره ولا يتعدى طوره وليعلم أن وراء سويقته بحارا طامية وفوق مرتبته في العلم مراتب فوق السهى عالية فإن وثق من نفسه أنه من فرسان هذا الميدان وجملة هؤلاء الأقران فليجلس مجلس الحكم بين الفريقين ويحكم بما يرضي الله ورسوله بين هذين الحزبين فإن الدين كله لله وإن الحكم إلا لله ولا ينفع في هذا المقام قاعدة المذهب كيت وكيت وقطع به جمهور من الأصحاب وتحصل بنا في المسألة كذا وكذا وجها وصحح هذا القول خمسة عشر وصحح الآخر سبعة وإن علا نسب علمه قال نص عليه فانقطع النزاع ولز ذلك النص في قرن الإجماع والله المستعان وعليه التكلان.
فصل
المتوسطون بين الفرقين:
قال المتوسطون بين الفرقين: قد ثبت أن الله سبحانه قد أنزل الكتاب والميزان فكلاهما في الإنزال أخوان وفي معرفة الأحكام شقيقان وكما لا يتناقضوا الكتاب في نفسه فالميزان الصحيح لا يتناقض في نفسه ولا يتناقض الكتاب والميزان فلا تتناقض دلالة النصوص الصحيحة ولا دلالة الأقيسة الصحيحة ولا دلالة النص الصريح والقياس الصحيح بل كلها متصادقة متعاضدة متناصرة يصدق بعضها بعضا ويشهد بعضها لبعض فلا يناقض القياس الصحيح النص الصحيح أبدا ونصوص الشارع نوعان أخبار وأوامر فكما أن أخباره لا تخالف العقل الصحيح بل هي نوعان نوع يوافقه ويشهد على ما يشهد به جملة أو جملة وتفصيلا ونوع يعجز عن الاستقلال بإدراك تفصيله وإن أدركه من حيث الجملة فهكذا أوامره سبحانه نوعان نوع يشهد به القياس والميزان ونوع لا يستقل بالشهادة به ولكن لا يخالفه وكما أن القسم الثالث في الأخبار محال(7/385)
ص -332-…وهو ورودها بما يرده العقل الصحيح فكذلك الأوامر ليس فيها ما يخالف القياس والميزان الصحيح.
أوامر الشرع محيطة بأفعال المكلفين:
وهذه الجملة إنما تنفصل بعد تمهيد قاعدتين عظيمتين: إحداهما أن الذكر الأمري محيط بجميع أفعال المكلفين أمرا ونهيا وإذنا وعفوا كما أن الذكر القدري محيط بجميعها علما وكتابة وقدرا فعلمه وكتابه وقدره قد أحصى جميع أفعال عباده الواقعة تحت التكليف وغيره وأمره ونهيه وإباحته وعفوه قد أحاط بجميع أفعالهم التكليفية فلا يخرج فعل من أفعالهم عن أحد الحكمين إما الكون وإما الشرع الأمري فقد بين الله سبحانه على لسان رسوله بكلامه وكلام رسوله جميع ما أمر به وجميع ما نهى عنه وجميع ما أحله وجميع ما حرمه وجميع ما عفا عنه وبهذا يكون دينه كاملا كما قال تعالى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} ولكن قد يقصر فهم أكثر الناس عن فهم ما دلت عليه النصوص وعن وجه الدلالة وموقعها وتفاوت الأمة في مراتب الفهم عن الله ورسوله لا يحصيه إلا الله ولو كانت الأفهام متساوية لتساوت أقدام العلماء في العلم ولما خص سبحانه سليمان بفهم الحكومة في الحرث وقد أثنى عليه وعلى داود بالعلم والحكم وقد قال عمر لأبي موسى في كتابه إليه: "الفهم الفهم فيما أدلي إليك" وقال علي: "إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه" وقال أبو سعيد: "كان أبو بكر أعلمنا برسول الله صلى الله عليه وسلم" ودعا النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس أن يفقه في الدين ويعلمه التأويل والفرق بين الفقه والتأويل أن الفقه هو فهم المعنى المراد والتأويل إدراك الحقيقة التي يؤول إليها المعنى التي هي أخيته وأصله وليس كل من فقه في الدين عرف التأويل فمعرفة التأويل يختص به الراسخون في العلم وليس المراد به تأويل التعريف وتبديل المعنى فإن الراسخين في العلم يعلمون بطلانه والله يعلم بطلانه.(7/386)
ص -333-…فصل
هل تحيط النصوص بحكم جميع الحوادث؟
والناس انقسموا في هذا الموضع إلى ثلاث فرق:
رأي الفرقة الأولى:
فرقة قالت: إن النصوص لا تحيط بأحكام الحوادث وغلا بعض هؤلاء حتى قال ولا بعشر معشارها قالوا فالحاجة إلى القياس فوق الحاجة إلى النصوص ولعمر الله إن هذا مقدار النصوص في فهمه وعلمه ومعرفته لا مقدارها في نفس الأمر واحتج هذا القائل بأن النصوص متناهية وحوادث العباد غير متناهية وإحاطة المتناهي بغير المتناهي ممتنع وهذا احتجاج فاسد جدا من وجوه أحدها أن ما لا تتناهى أفراده لا يمتنع أن يجعل أنواعا فيحكم لكل نوع منها بحكم واحد فتدخل الأفراد التي لا تتناهى تحت ذلك النوع الثاني أن أنواع الأفعال بل والأعراض كلها متناهية والثالث أنه لو قدر عدم تناهيها فإن أفعال العباد الموجودة إلى يوم القيامة متناهية وهذا كما تجعل الأقارب نوعين نوعا مباحا وهو بنات العم والعمة وبنات الخال والخالة وما سوى ذلك حرام وكذلك يجعل ما ينقض الوضوء محصورا وما سوى ذلك لا ينقضه وكذلك ما يفسد الصوم وما يوجب الغسل وما يوجب العدة وما يمنع منه المحرم وأمثال ذلك وإذا كان أرباب المذاهب يضبطون مذاهبهم ويحصرونها بجوامع تحيط بما يحل ويحرم عندهم مع قصور بيانهم فالله ورسوله المبعوث بجوامع الكلم أقدر على ذلك فإنه صلى الله عليه وسلم يأتي بالكلمة الجامعة وهي قاعدة عامة وقضية كلية تجمع أنواعا وأفرادا وتدل دلالتين دلالة طرد ودلالة عكس.
وهذا كما سئل صلى الله عليه وسلم عن أنواع من الأشربة كالبتع والمزر وكان قد أوتي جوامع الكلم فقال: "كل مسكر حرام" و: "كل عمل ليس عليه أمرنا هو رد" و: "كل قرض جر نفعا فهو ربا" و:"كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل" و: "كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه" و:"كل أحد أحق بماله من ولده ووالده(7/387)
ص -334-…والناس أجمعين" و:"كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" و:"كل معروف صدقة" وسمى النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية جامعة فاذة {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} ومن هذا قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فدخل في الخمر كل مسكر جامدا كان أو مائعا من العنب أومن غيره ودخل في الميسر كل أكل مال بالباطل وكل عمل محرم يوقع في العداوة والبغضاء ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة ودخل في قوله {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} كل يمين منعقدة ودخل في قوله {يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} كل طيب من المطاعم والمشارب والملابس والفروج ودخل في قوله {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}{َمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} ما لا تحصى أفراده من الجنايات وعقوباتها حتى اللطمة والضربة والكسعة كما فهم الصحابة ودخل في قوله {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} تحريم كل فاحشة ظاهرة وباطنة وكل ظلم وعدوان في مال أو نفس أو عرض وكل شرك بالله وإن دق في قول أو عمل أو إرادة بأن يجعل لله عدلا بغيره في اللفظ أو القصد أو الاعتقاد وكل قول على الله لم يأت به نص عنه ولا عن رسوله في تحريم أو تحليل أو إيجاب أو إسقاط أو خبر عنه باسم أو صفة نفيا أو إثباتا أو خبرا عن فعله فالقول عليه بلا علم حرام في أفعاله وصفاته ودينه ودخل في قوله(7/388)
والجروح قصاص وجوبه في كل جرح يمكن القصاص منه وليس هذا تخصيصا بل هو مفهوم من قوله قصاص وهو المماثلة ودخل في قوله وعلى الوارث مثل ذلك وجوب نفقة الطفل وكسوته ونفقة مرضعته على كل وارث قريب أو بعيد ودخل في قوله {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} جميع الحقوق التي للمرأة وعليها وإن مرد ذلك إلى(7/389)
ص -335-…ما يتعارفه الناس بينهم ويجعلونه معروفا لا منكرا والقرآن والسنة كفيلان بهذا أتم كفالة.
فصل
رأي الفرقة الثانية:
الفرقة الثانية: قابلت هذه الفرقة وقالت: القياس كله باطل محرم في الدين ليس منه وأنكروا القياس الجلي الظاهر حتى فرقوا بين المتماثلين وزعموا أن الشارع لم يشرع شيئا لحكمة أصلا ونفوا تعليل خلقه وأمره وجوزوا بل جزموا بأنه يفرق بين المتماثلين ويقرن بين المختلفين في القضاء والشرع وجعلوا كل مقدور فهو عدل والظلم عندهم هو الممتنع لذاته كالجمع بين النقيضين.
وهذا وإن كان قاله طائفة من أهل الكلام المنتسبين إلى السنة في إثبات القدر وخالفوا القدرية والنفاة فقد أصابوا في إثبات القدر وتعليق المشيئة الإلهية بأفعال العباد الاختيارية كما تتعلق بذواتهم وصفاتهم وأصابوا في إثبات تناقض القدرية النفاة ولكن ردوا من الحق المعلوم بالعقل والفطرة والشرع ما سلطوا عليهم به خصومهم وصاروا ممن رد بدعة ببدعة وقابل الفاسد بالفاسد ومكنوا خصومهم بما نفوه من الحق من الرد عليهم وبيان تناقضهم ومخالفتهم الشرع والعقل.
فصل
رأي الفرقة الثالثة:
الفرقة الثالثة: قوم نفوا الحكمة والتعليل والأسباب وأقروا بالقياس كأبي الحسن الأشعري وأتباعه ومن قال بقوله من الفقهاء أتباع الأئمة وقالوا: إن علل الشرع إنما هي مجرد أمارات وعلامات محضة كما قالوه في ترك الأسباب(7/390)
ص -336-…وقالوا: إن الدعاء علامة محضة على حصول المطلوب لا أنه سبب فيه والأعمال الصالحة والقبيحة علامات محضة ليست سببا في حصول الخير والشر وكذلك جميع ما وجدوه من الخلق والأمر مقترنا بعضه ببعض قالوا أحدهما دليل على الآخر مقارن له اقترانا عاديا وليس بينهما ارتباط سببية ولا علة ولا حكمة ولا له فيه تأثير بوجه من الوجوه.
وليس عند أكثر الناس غير أقوال هؤلاء الفرق الثلاث وطالب الحق إذا رأى ما في هذه الأقوال من الفساد والتناقض والاضطراب ومناقضة بعضها لبعض ومعارضة بعضها لبعض بقي في الحيرة فتارة يتحيز إلى فرقة منها له ما لها وعليه ما عليها وتارة يتردد بين هذا الفرق تميميا مرة وقيسيا أخرى وتارة يلقي الحرب بينهما ويقف في النظارة وسبب ذلك خفاء الطريقة المثلى والمذهب الوسط الذي هو في المذاهب كالإسلام في الأديان وعليه سلف الأمة وأئمتها والفقهاء المعتبرون من إثبات الحكم والأسباب والغايات المحمودة في خلقه سبحانه وأمره وإثبات لام التعليل وباء السببية في القضاء والشرع كما دلت عليه النصوص مع صريح العقل والفطرة واتفق عليه الكتاب والميزان.
ومن تأمل كلام سلف الأمة وأئمة أهل السنة رآه يمكر قول الطائفتين المنحرفتين عن الوسط فينكر قول المعتزلة المكذبين بالقدر وقول الجهمية المنكرين للحكم والأسباب والرحمة فلا يرضون لأنفسهم بقول القدرية المجوسية ولا بقول القدرية الجبرية نفاة الحكمة والرحمة والتعليل وعامة البدع المحدثة في أصول الدين من قول هاتين الطائفتين الجهمية والقدرية والجهمية رؤس الجبرية وأئمتهم أنكروا حكمة الله ورحمته وإن أقروا بلفظ مجرد فارغ عن حقيقة الحكمة والرحمة والقدرية النفاة أنكروا كمال قدرته ومشيئته فأولئك أثبتوا نوعا من الملك بلا حمد وهؤلاء أثبتوا نوعا من الحمد(7/391)
ص -337-…بلا ملك فأنكر أولئك عموم حمده وأنكر هؤلاء عموم ملكه وأثبت له الرسل وأتباعه عموم الملك وعموم الحمد كما أثبته لنفسه فله كمال الملك وكمال الحمد فلا يخرج عين ولا فعل عن قدرته ومشيئته وملكه وله في كل ذلك حكمة وغاية مطلوبة يستحق عليها الحمد وهو في عموم قدرته ومشيئته وملكه على صراط مستقيم وهو حمده الذي يتصرف في ملكه به ولأجله.
والمقصود أنهم كما انقسموا إلى ثلاث فرق في هذا الأصل انقسموا في فرعه وهو القياس إلى ثلاث فرق فرقة أنكرته بالكلية وفرقة قالت به وأنكرت الحكم والتعليل والمناسبات والفرقتان أخلت النصوص عن تناولها لجميع أحكام المكلفين وأنها أحالت على القياس ثم قالت غلاتهم أحالت عليه أكثر الأحكام وقال متوسطوهم بل أحالت عليه كثيرا من الأحكام لا سبيل إلى إثباتها إلا به.
النصوص محيطة بأحكام جميع الحوادث:
والصواب وراء ما عليه الفرق الثلاث وهو أن النصوص محيطة بأحكام الحوادث ولم يحلنا الله ولا رسوله على رأي ولا قياس بل قد بين الأحكام كلها والنصوص كافية وافية بها والقياس الصحيح حق مطابق للنصوص فهما دليلان للكتاب والميزان وقد تخفي دلالة النص أو لا تبلغ العالم فيعدل إلى القياس ثم قد يظهر موافقا للنص فيكون قياسا صحيحا وقد يظهر مخالفا له فيكون فاسدا وفي نفس الأمر لا بد من موافقته أو مخالفته ولكن عند المجتهد قد تخفى موافقته أو مخالفته.
فصل
الرد على الفرق الثلاث:
وكل فرقة من هذه الفرق الثلاث سدوا على أنفسهم طريقا من طرق الحق فاضطروا إلى توسعة طريق أخرى أكثر مما تحتمله فنفاة القياس لما سدوا على نفوسهم باب التمثيل والتعليل واعتبار الحكم والمصالح وهو من الميزان والقسط الذي أنزله الله احتاجوا إلى توسعة الظاهر و الاستصحاب فحملوهما فوق الحاجة ووسعوهما أكثر مما يسعانه فحيث فهموا من النص حكما أثبتوه ولم يبالوا بما(7/392)
ص -338-…وراءه حيث لم يفهموا منه نفوه وحملوا الاستصحاب وأحسنوا في اعتنائهم بالنصوص ونصرها والمحافظة عليها وعدم تقديم غيرها عليها من رأي أو قياس أو تقليد وأحسنوا في رد الأقيسة الباطلة وبيانهم تناقض أهلها في نفس القياس وتركهم له وأخذهم بقياس وتركهم ما هو أولى منه.
ولكن أخطأوا من أربعة أوجه:
أحدها: رد القياس الصحيح ولا سيما المنصوص على علته التي يجري النص عليها مجرى التنصيص على التعميم باللفظ ولا يتوقف عاقل في أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لما لعن عبد الله حمارا على كثرة شربه للخمر: "لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله" بمنزلة قوله: لا تلعنوا كل ما يحب الله ورسوله وفي أن قوله: "إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر فإنها رجس" بمنزلة قوله: ينهيانكم عن كل رجس وفي أن قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْس} نهى عن كل رجس وفي أن قوله في الهر: "ليس بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات" بمنزلة قوله: كل ما هو من الطوافين عليكم والطوافات فإنه ليس بنجس ولا يستريب أحد في أن من قال لغيره: "لا تأكل من هذا الطعام فإنه مسموم" نهي له عن كل طعام كذلك وإذا قال: "لا تشرب هذا الشراب فإنه مسكر" نهي له عن كل مسكر و"لا تتزوج هذه المرأة فإنها فاجرة" وأمثال ذلك.
الخطأ الثاني: تقصيرهم في فهم لنصوص فكم من حكم دل عليه النص ولم يفهموا دلالته عليه وسبب هذا الخطأ حصرهم الدلالة في مجرد ظاهر اللفظ دون إيمائه وتنبيهه وإشارته وعرفه عند المخاطبين فلم يفهموا من قوله {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفّ} ضربا ولا سبا ولا إهانة غير لفظة أف فقصروا في فهم الكتاب كما قصروا في اعتبار الميزان.(7/393)
ص -339-…الخطأ الثالث: تحميل الاستصحاب فوق ما يستحقه وجزمهم بموجبه لعدم علمهم بالناقل وليس عدم العلم علما بالعدم.
الاستصحاب معناه وأقسامه:
وقد تنازع الناس في الاستصحاب ونحن نذكر أقسامه ومراتبها فالاستصحاب استفعال من الصحبة وهي استدامة إثبات ما كان ثابتا أو نفي ما كان منفيا وهو ثلاثة أقسام استصحاب البراءة الأصلية واستصحاب الوصف المثبت للحكم الشرعي حتى يثبت خلافه واستصحاب حكم الإجماع في محل النزاع.
استصحاب البراءة الأصلية:
فأما النوع الأول فقد تنازع الناس فيه فقالت طائفة من الفقهاء والأصوليين إنه يصلح للدفع لا للإبقاء كما قاله بعض الحنفية ومعنى ذلك أنه يصلح لأن يدفع به من ادعى تغيير الحال لا بقاء الأمر على ما كان فإن بقاءه على ما كان إنما هو مستند إلى موجب الحكم لا إلى عدم المغير له فإذا لم نجد دليلا نافيا ولا مثبتا أمسكنا لا نثبت الحكم ولا ننفيه بل ندفع بالاستصحاب دعوى من أثبته فيكون حال المتمسك بالاستصحاب كحال المعترض مع المستدل فهو يمنعه الدلالة حتى يثبتها لا أنه يقيم دليلا على نفي ما ادعاه وهذا غير حال المعارض فالمعارض لون والمعترض لون فالمعترض يمنع دلالة الدليل والمعارض يسلم دلالته ويقيم دليلا على نقيضه وذهب الأكثرون من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم إلى أنه يصلح لإبقاء الأمر على ما كان عليه قالوا لأنه إذا غلب على الظن انتفاء الناقل غلب على الظن بقاء الأمر على ما كان عليه.
استصحاب الوصف المثبت للحكم الشرعي:
ثم النوع الثاني استصحاب الوصف المثبت للحكم حتى يثبت خلافه وهو حجة كاستصحاب حكم الطهارة وحكم الحدث واستصحاب بقاء النكاح وبقاء الملك وشغل الذمة بما تشغل به حتى يثبت خلاف ذلك وقد دل الشارع على تعليق(7/394)
ص -340-…الحكم به في قوله في الصيد: "وإن وجدته غريقا فلا تأكله فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك" وقوله: "وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره" لما كان الأصل في الذبائح التحريم وشك هل وجد الشرط المبيح أم لا بقي الصيد على أصله في التحريم ولما كان الماء طاهرا فالأصل بقاؤه على طهارته ولم يزلها بالشك ولما كان الأصل بقاء المتطهر على طهارته لم يأمره بالوضوء مع الشك في الحدث بل قال: "لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا" ولما كان الأصل بقاء الصلاة في ذمته أمر الشاك أن يبني على اليقين ويطرح الشك ولا يعارض هذا رفعه للنكاح المتيقن بقول الأمة السوداء إنها أرضعت الزوجين فإن أصل الإبضاع على التحريم وإنما أبيحت الزوجة بظاهر الحال مع كونها أجنبية وقد عارض هذا الظاهر ظاهر مثله أو أقوى منه وهو الشهادة فإذا تعارضا تساقطا وبقي أصل التحريم لا معارض له فهذا الذي حكم به النبي صلى الله عليه وسلم وهو عين الصواب ومحض القياس وبالله التوفيق.(7/395)
ولم يتنازع الفقهاء في هذا النوع وإنما تنازعوا في بعض أحكامه لتجاذب المسألة أصلين متعارضين مثاله أن مالكا منع الرجل إذا شك هل أحدث أم لا من الصلاة حتى يتوضأ لأنه وإن كان الأصل بقاء الطهارة فإن الأصل بقاء الصلاة في ذمته فإن قلتم لا نخرجه من الطهارة بالشك قال مالك ولا ندخله في الصلاة بشك فيكون قد خرج منها بالشك فإن قلتم يقين الحدث قد ارتفع بالوضوء فلا يعود بالشك قال منازعهم ويقين البراءة الأصلية قد ارتفع بالوجوب فلا يعود بالشك قالوا والحديث الذي تحتجون به من أكبر حججنا فإنه منع المصلي بعد دخوله في الصلاة بالطهارة المتيقنة أن يخرج منها بالشك فأين هذا من تجويز الدخول فيها بالشك ومن ذلك لو شك هل طلق واحدة أو ثلاثا فإن مالكا يلزمه بالثلاث لأنه تيقن طلاقا وشك هل هو مما تزيل أثره الرجعة أم لا وقول الجمهور في هذه المسألة أصح فإن النكاح متيقن فلا يزول بالشك ولم يعارض يقين النكاح إلا شك محض فلا يزول به وليس هذا نظير(7/396)
ص -341-…الدخول في الصلاة بالطهارة التي لا شك في انتقاضها فإن الأصل هناك شغل الذمة وقد وقع الشك في فراغها ولا يقال هنا إن الأصل التحريم بالطلاق وقد شككنا في الحال فإن التحريم قد زال بنكاح متيقن وقد حصل الشك في ما يرفعه فهو نظير ما لو دخل في الصلاة بوضوء متيقن ثم شك في زواله فإن قيل هو متيقن للتحريم بالطلاق شاك في الحل بالرجعة فكان جانب التحريم أقوى قيل ليست الرجعية بمحرمة وله أن يخلو بها ولها أن تتزين له وتتعرض له وله أن يطأها والوطء رجعة عند الجمهور وإنما خالف في ذلك الشافعي وحده وهي زوجته في جميع الأحكام إلا في القسم خاصة ولو سلم أنها محرمة فقولكم إنه متيقن للتحريم إن أردتم به التحريم المطلق فإنه غير متيقن وإن أردتم به مطلق التحريم لم يستلزم أن يكون بثلاث فإن مطلق التحريم أعم من أن يكون بواحدة أو يكون بثلاث ولا يلزم من ثبوت الأعم وثبوت الأخص وهذا في غاية الظهور.
فصل
استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع:
القسم الثالث: استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع وقد اختلف فيه الفقهاء والأصوليون هل هو حجة على قولين أحدهما أنه حجة وهو قول المزني والصيرفي وابن شقالة وابن حامد وأبي عبد الله الرازي والثاني ليس بحجة وهو قول أبي حامد وأبي الطيب الطبري والقاضي أبي علي وابن عقيل وأبي خطاب والحلواني وابن الزاغوني وحجة هؤلاء أن الإجماع إنما كان على الصفة التي كانت قبل محل النزاع كالإجماع على صحة الصلاة قبل رؤية الماء في الصلاة فأما بعد الرؤية فلا إجماع فليس هناك ما يستصحب إذ يمتنع دعوى الإجماع في محل النزاع والاستصحاب إنما يكون لأمر ثابت فيستصحب ثبوته أو لأمر منتف فيستصحب نفيه قال الأولون غاية ما ذكرتم أنه لا إجماع في محل النزاع وهذا حق ونحن لم ندع الإجماع في محل النزاع بل استصحبنا حال المجمع عليه حتى(7/397)
ص -342-…يثبت ما يزيله قال الآخرون: الحكم إذا كان إنما ثبت بالإجماع وقد زال الإجماع زال الحكم بزوال دليله فلو ثبت الحكم بعد ذلك لثبت بغير دليل وقال المثبتون: الحكم كان ثابتا وعلمنا بالإجماع ثبوته فالإجماع ليس هوى لة ثبوته ولا سبب ثبوته في نفس الأمر حتى يلزم من زوال العلة زوال معلولها ومن زوال السبب زوال حكمه وإنما الإجماع دليل عليه وهو في نفس الأمر مستند إلى نص أو معنى نص فنحن نعلم أن الحكم المجمع عليه ثابت في نفس الأمر والدليل لا ينعكس فلا يلزم من انتفاء الإجماع إنتقاء الحكم بل يجوز أن يكون باقيا ويجوز أن يكون منتفيا لكن الأصل بقاؤه فإن البقاء لا يفتقر إلى سبب حادث ولكن يفتقر إلى بقاء سبب ثبوته وأما الحكم المخالف فيفتقر إلى ما يزيل الحكم الأول وإلى ما يحدث الثاني وإلى ما ينفيه فكان ما يفتقر إليه الحادث أكثر مما يفتقر إليه الباقي فيكون البقاء أولى من التغير وهذا مثل استصحاب حال براءة الذمة فإنها كانت بريئة قبل وجود ما يظن به أنه شاغل ومع هذا فالأصل البراءة والتحقيق أن هذا دليل من جنس استصحاب البراءة ومن لا يجوز الاستدلال به إلا بعد معرفة المزيل فلا يجوز الاستدلال به لمن لم يعرف الأدلة الناقلة كما لا يجوز الاستدلال بالاستصحاب لمن يعرف الأدلة الناقلة وبالجملة فالاستصحاب لا يجوز الاستدلال به إلا إذا اعتقد انتفاء الناقل فإن قطع المستدل بانتفاء الناقل قطع بانتفاء الحكم كما يقطع ببقاء شريعة محمد صلى الله عليه وسلم وأنها غير منسوخة وإن ظن انتفاء الناقل أو ظن إنتقاء دلالته ظن انتفاء أن كان الناقل معنى مؤثرا وتبين له عدم اقتضائه تبين له انتفاء انتفاء النقل مثل رؤية الماء في الصلاة لا تنقض الوضوء و إلا فمع تجويزه لكونه ناقصا للوضوء لا يطمئن ببقاء الوضوء وكذا كل من وقع النزاع في انتقاض وضوئه ووجوب الغسل عليه فإن الأصل بقاء طهارته كالنزاع في بطلان الوضوء بخروج النجاسات من غير السبيلين(7/398)
وبالخارج النادر منهما(7/399)
ص -343-…وبمس النساء بشهوة وغيرها وبأكل ما مسته النار وغسل الميت وغير ذلك لا يمكنه اعتقاد استصحاب الحال فيه حتى يتيقن له بطلان ما يوجب الانتقال وإلا بقى شاكا وإن لم يتبين له صحة الناقل كما لو أخبره فاسق بخبر فإنه مأمور بالتبيت والتثبيت لم يؤمر بتصديقه ولا بتكذيبه فإن كليهما ممكن منه وهو مع خبره لا يستدل باستصحاب الحال كما كان يستدل به بدون خبره ولهذا جعل لوثا وشبهة وإذا شهد مجهول الحال فإنه هناك شاك في حال الشاهد ويلزم منه الشك في حال المشهود به فإذا تبين كونه عدلا تم الدليل وعند شهادة المجهولين تضعف البراءة أعظم مما تضعف عند شهادة الفاسق فإنه في الشاهد قد يكون دليلا ولكن لا تعرف دلالته وأما هناك فقد علمنا أنه ليس بدليل لكن يمكن وجود المدلول عليه في هذه الصورة فإن صدقه ممكن.
فصل
استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع حجة:
ومما يدل على أن استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع حجة أن تبدل حال المحل المجمع على حكمه أولا كتبدل زمانه ومكانه وشخصه وتبدل هذه الأمور وتغيرها لا يمنع استصحاب ما ثبت له قبل التبدل فكذلك تبدل وصفه وحاله لا يمنع الاستصحاب حتى يقوم دليل على أن الشارع جعل ذلك الوصف الحادث ناقلا للحكم مثبتا لضده كما جعل الدباغ ناقلا لحكم نجاسة الجلد وتخليل الخمرة ناقلا للحكم بتحريمها وحدوث الاحتلام ناقلا لحكم البراءة الأصلية وحينئذ فلا يبقى التمسك بالاستصحاب صحيحا وأما مجرد النزاع فإنه لا يوجب سقوط استصحاب حكم الإجماع والنزاع في رؤية الماء في الصلاة وحدوث العيب عند المشتري واستيلاد الأمة لا يوجب رفع ما كان ثابتا قبل ذلك من الأحكام فلا يقبل قول المعترض إنه قد زال حكم الاستصحاب بالنزاع(7/400)
ص -344-…الحادث فإن النزاع لا يرفع ما ثبت من الحكم فلا يمكن المعترض رفعه إلا أن يقيم دليلا على أن ذلك الوصف الحادث جعله الشارع دليلا على نقل الحكم حينئذ فيكون معارضا في الدليل لا قادحا في الاستصحاب فتأمله فإنه التحقيق في هذه المسألة.
فصل
ما لم يبطله الشارع من الشروط صحيح:
الخطأ الرابع لهم: اعتقادهم أن عقود المسلمين وشروطهم ومعاملاتهم كلها على البطلان حتى يقوم دليل على الصحة فإذا لم يقم عندهم دليل على صحة شرط أو عقد أو معاملة استصحبوا بطلانه فأفسدوا بذلك كثيرا من معاملات الناس وعقودهم وشروطهم بلا برهان من الله بناء على هذا الأصل وجمهور الفقهاء على خلافه وأن الأصل في العقود والشروط الصحة إلا ما أبطله الشارع أو نهى عنه وهذا القول هو الصحيح فإن الحكم ببطلانها حكم بالتحريم والتأثيم ومعلوم أنه لا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله ولا تأثيم إلا ما أثم الله ورسوله به فاعله كما أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله ولا حرام إلا ما حرمه الله ولا دينا إلا ما شرعه الله فالأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليل على الأمر والأصل في العقود والمعاملات الصحة حتى يقوم دليل على البطلان والتحريم.
والفرق بينهما أن الله سبحانه لا يعبد إلا بما شرعه على ألسنة رسله فإن العبادة حقه على عباده وحقه الذي أحقه هو ورضي به وشرعه وأما العقود والشروط والمعاملات فهي عفو حتى يحرمها ولهذا نعى الله سبحانه على المشركين مخالفة هذين الأصلين وهو تحريم ما لم يحرمه والتقرب إليه بما لم يشرعه وهو سبحانه لو سكت عن إباحة ذلك وتحريمه لكان ذلك عفوا لا يجوز الحكم بتحريمه وإبطاله فإن الحلال ما أحله الله والحرام ما حرمه وما سكت عنه(7/401)