ن قاموس المحدثين الجرح والتعديل آليته ودلالته
الدكتور محمد علي قاسم العمري كلية الشريعة والدراسات الإسلامية جامعة اليرموك - إربد - الأردن
مقالا نشر في مجلة: جامعة الإِمام محمد بن سعود الإِسلامية/مجلة علمية محكمة.
العدد الثاني عشر
جمادى الآخرة 1415هـ
نوفمبر 1994م
ترقيم الصفحات موافق للمطبوع.
أعده للشاملة: سيد بن محمد السناري(/)
تمهيد :
تنبع أهمية السنة من كونها وحيا ، فهي بهذا الاعتبار والقرآن الكريم قرينان لا سبيل إلى الإِيمان بأحدهما عن الآخر ، لأن السنة - موردًا ، ومضمونًا ، وهدفًا - كالقرآن الكريم ذاته ... كما أنها كذلك في علوها وسموها وتناولها لجوانب غيبية وحسية تشكل معًا مصدرًا هامًّا من مصادر تكون العلم والمعرفة ، ثم لا ننسى أن السنة تجسد الإِسلام فكرًا ومنهجًا وعملا من خلال تطبيق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها بكل أبعادها ، ونعني بالسنة : هنا ما اصطلح عليه علماء الحديث . أي ما أثر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قول أو فعل أو تقرير ، فهي بهذا المعنى مرادفة للحديث . ولا يخفى بالطبع ما بين القرآن الكريم والسنة المطهرة من الفارق ، ككون القرآن معجز ، متعبد بتلاوته .... إلخ .
فلا عجب إذن أن نجد هذا الحشد من النصوص القرآنية الداعية إلى ضرورة الإِيمان بنبوة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورسالته ، وضرورة العمل بكل ما صح عنه ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، بصفة ذلك لازما من لوازم الإِيمان ، بل هو جزء حقيقته . ولا عجب أيضًا أن تحظى السنة بهذا القدر البالغ من الاهتمام صيانة وحفظًا وعملا بها ، حيث تناقل المسلمون هذه السنة جيلا بعد جيل ، وعايشوها تمام المعايشة وهذا دعاهم إلى تكثيف الجهود للتثبت من كل ما ينسب إليه عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، فكان ما عرف بوقت لاحق بعلم الحديث بقسميه : علم الحديث رواية ، وقد انصب الجهد فيه على رواية ما نسب إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلفظه ما أمكن وضبط ذلك ، وعلم الحديث دراية . وانصب الجهد فيه على دراسة الرواية سندًا ومتنا من خلال ضوابط ومعايير وضعها علماء الحديث لهذا الغرض .
- 56 -(12/56)
علم الحديث دراية :
تباينت ألفاظ العلماء في تعريفهم لهذا العلم ، ويمكن القول : إنه العلم بالقواعد والقوانين التي يعلم بها حال الراوي والمروي من حيث القبول والرد ، بمعنى أن الجهد فيه ينصب على الرواية ، وبيان شروطها، وأنواعها وأحكامها ، وحال الرواة لها ، من حيث الأهلية أو عدمها ، وما يندرج تحت هذا الأمر . ( السيوطي . تدريب 1/40 ) .
إن ما أدرجه العلماء تحت هذا من فنون الرواية كثير ، وعُدَّ كل فن علمًا قائمًا بذاته وصرح السيوطي ( ت 911 هـ ) بأنها من الكثرة بحيث لا تعد ، وذكر عن الحازمي أنها تبلغ المائة ، وأن كلا منها علم مستقل بذاته ، لو أنفق طالب العلم فيه عمره ما أدرك نهايته ( السيوطي . تدريب 1/53 ) ووصل بها الصلاح ( 643هـ ) إلى خمس وستين (1)
(انظر هذه المسائل كلها في مقدمة ابن الصلاح ص 220-234 . )
. وأشار إلى إمكانية جعلها أكثر من ذلك بالنظر إلى التنويع . ( ابن الصلاح . المقدمة 81 ) .
إن ما يهمنا في هذه العجالة هو أن ننبه إلى مجموعة من القضايا المهمة ، ومنها :
1 - أن هذا العلم ، وما اندرج تحته هو علم حادث ، اصطلح علم مفرداته المحدثون في القرن الثاني والثالث وما بعدهما ، أي لم يكن له وجود سابق ، لا في عصر النبوة ، ولا الراشدين ولا التابعين : وإن تعامل علماء الحديث في هذه المراحل مع بعض مفاهيمه ، كالتثبت في الرواية في عصر الصحابة ( البخاري ، الصحيح 130/7 ) . والتزام الإِسناد أيام التابعين ( الخطيب ، الكفاية 122 ) . وما شاكل ذلك من مظاهر الاحتياط الأخرى في الرواية ، وهذا في حقيقته دليل على ما تمتع به عقل المسلم من نبوغ ، وإبداع ، وقدرة على تحرير المنهج ، وصياغة الفكر .
2 - سعة هذا العلم بما حواه من فنون كثيرة ، وما انطوت عليه هذه الفنون من مفاهيم غاية في الكثرة ودقة في الدلالة ، وما ترتب على ذلك من جهد كبير في وضع
(1)انظر هذه المسائل كلها في مقدمة ابن الصلاح ص 220 - 234 .
- 57 -(12/57)
مصطلحات كثيرة بمقدورها تغطية هذه المفاهيم بما يحدد المراد منها ، وتميزها عن غيرها عند التداخل . ولا ريب أن هذه المصطلحات هي أكثر من أن يستوعبها كتاب ، أو يحصرها باحث .
3 - إن ما قدمه المسلمون في مجال هذه الدراسات - أعني توثيق النصوص - من خلال دراسة المرويات ورواتها كان خاصًّا بهم ، وقد مثل ما قدموه في هذا السبيل منهجا علميا ورصينا تمتع بالدقة والموضوعية ووضوح الرؤية وسلامة النتائج ، بما لم نظفر به عند غيرهم في المجال ذاته ، فكان مفخرة لهم حتى قال المستشرق المعروف مرجليوث : " ليفخر المسلمون ما شاءوا بعلم حديثهم ( حاجي / كشف الظنون / 39 ) .ونظرة سريعة في مقدمات كتب المحدثين الكثيرة تؤكد ذلك ، كما هو في مقدمة الإِمام مسلم للصحيح .
4 - شمول هذا العلم في دراساته وأطروحاته للأسانيد والمتون معًا بما يكفل تكوين صورة سليمة ، أو أكثر سلامة يمكن من خلالها قبول ورد ما نسب إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لكن المجال الأكثر سعة ، والأكثر عمقًا والذي شكلت موضوعاته أغلب الدراسات في علوم الحديث إنما كان في ميدان الأسانيد ، لما يستلزمه ذلك من توسع بحكم طبيعة الدراسة للأسانيد ، وتشعب موضوعاتها ، وحاجة بعض الموضوعات إلى التوسع والمتابعة ، وخاصة فيما يتعلق بحال الرواة ، حتى بات يعرف عند القوم ما أطلق عليه علم الرجال ، وهو فن قائم بذاته انبثق عنه علمان ، أحدهما تاريخ الرواة والآخر علم الجرح والتعديل .
الجرح والتعديل :
علم يتناول أحوال الرواة من حيث توثيقهم أو تضعيفهم بألفاظ مخصوصة لها مدلولاتها عند العلماء ، ومراتب تلك الألفاظ استطاع العلماء من خلاله تتبع الرواة ، والحكم عليهم بما هم أهله ، فميزوا بين من يحتج بخبره إذا انفرد ، ومن لا يحتج به ولكن يستشهد ، ومن يعتمد في حال دون أخرى ، وغير ذلك من متساهل أو مغفل ،
- 58 -(12/58)
أو كذاب ، وما إلى ذلك من أوصاف تحدد أهلية الراوي للرواية ( ابن أبي حاتم ، مقدمة المحقق 1 / أ ، ب ) .
والواقع أن هذا العلم له قواعده ومعاييره ، وهذا ما لا أود الدخول فيه إلا عند الاضطرار لكون كتب المصطلح قد أسهبت في بيان ذلك ، على تباين بينها من حيث الإِطالة ، والإِجادة ، بل صنفت في الجرح والتعديل كتب خاصة لعل من أحسنها - إن لم يكن كذلك - كتاب الأستاذ اللكنوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الرفع والتكميل في الجرح والتعديل .
إن ما نحرص على طرحه في ثنايا هذه الأوراق هو الوقوف عند ( مصطلح الجرح والتعديل ) بالنظر إلى الصياغة والدلالة ، وما يندرج تحت ذلك من لطائف أخرى تخدم هذا المعنى من غير الدخول في أساسيات أحكامه العامة ، وهذا ما دعاني إلى اختيار هذا العنوان في ظل هذا المفهوم . غير أنه لا بد من الإِشارة إلى أن هذا العلم إنما يدور في كل حيثياته حول مفهومين اثنين بصفتهما الميدان الذي انبثق منه هذا العلم على تعدد قضاياه ، ولكونهما المعيار الذي لا سبيل إلى الحكم على الراوي إلا من خلالهما وأعني بهما ، العدالة والضبط ، فوجودهما في الموصوف يعني القبول ، وإثبات الأهلية ، على تفاوت الرواة في ذلك ، وانعدامهما أو أحدهما يعني الحكم بفقدان تلك الأهلية . وفي الموضوع تفصيلات كثيرة ، ليس هذا هو محل طرحها .
العدالة :
" ملكة إيمانية تحمل صاحبها على ملازمة التقوى ، وترك المفسقات وخوارم المروءة ، بمعنى أن الحكم بالعدالة على شخص يستلزم الحكم بسلامة الدين . والعمل بما ينبثق عنه تشريعات وتوجيهات تقضي بتجنب المنهيات أو توحي بتركها . وهذا المعيار منضبط يصلح أن يكون ميزانًا يقاس به الناس ، لأنه يدل بوضوح على ما يتمتع به الإِنسان من صلاح وورع ، بحيث يُطمئن إليه أو يؤمن جانبه ، وخاصة عند الحاجة إليه ، أو يكون العكس فنبحث عن الخبر عند غيره .
إن الذي دعا العلماء إلى الدخول في مثل هذه القضية مع كونها تمثل في ظاهر الأمر علاقة خاصة تربط الإِنسان بخالقه ، ما قد يترتب على الكشف عن حال هذه العدالة
- 59 -(12/59)
بهذا المفهوم من مصالح عامة ، ألا ترى أثر العدالة في ميدان القضاة ، من حيث طبيعة العمل الذي تؤديه في إحقاق الحق وإبطال الباطل في الشهادة ؟ وقد يقال في هذا المقام كلام كثير .. غير أن ما يعنينا بيان أثر الصلاح على النفس من جهة الالتزام بصدق القول ، ونقل المنقول منه ، ولا تخفى أهمية الصدق في مجال تحرير وتوثيق العلوم النقلية ، فإذا كان هذا مهمًّا في صحة نسبة هذا البيت من الشعر ، أو المثل لقائله ، فما بالك بمن يتولى نقل حديث النبي ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
إن أهمية هذه القضية تنبع من عدة أمور ذكر بعضها ، ويكفي أن يكون الصدق يهدي إلى البر كما ورد في الحديث الصحيح ( مسلم 16/160 ) ، والبر يهدي إلى الجنة .... فلكل هذا كانت عناية الإِسلام بالغة في تأكيد أهمية الصدق وضرورة الالتزام به ، فكان هذا المنهج وخاصة في المنقولات يمثل معلمًا بارزًا من معالم الفكر الإِسلامي ، وأحد مقومات الشخصية الإِسلامية ، وهذا التأكيد واضح صريح فيما صح عنه عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلى ضرورة التثبت والتواثق والالتزام بصدق النقل كما هو في قوله : " نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ ، فَرُبَّ مُبلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ " ( أحمد ، المسند 5/183 ) ، فقوله : < فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ > يوحي أهمية الحفاظ على سلامة المنقول من غير تبديل ، وهذا المعنى أظهر من غيره على فرض وجود المخالفة في الفهم ، ويستوي مع غيره على أقل تقدير .
لقد جاء تأكيد الإِسلام هذا في وقت كان العرب يلتزمون بالصدق فيه إلى حد كبير ، وكان العربي يجد نجاته في الكذب أحيانًا فلا يكذب ، ولعل من شواهد هذا الالتزام ما جاء في حديث أبي سفيان مع هرقل بعد البعثة ، حيث فكر في ذكر غير الواقع في إجابته عن أسئلة وجهت إليه من هرقل حول الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يكن بعد قد أسلم ، غير أنه خشي أن تعهد العرب عنه كذبًا ( البخاري الصحيح 5/1 ) ثم إن الفرق الإِسلامية التي ظهرت بعد ، وكان روادها من العرب الخلص كالخوارج مثلا ، لم نجد فيهم من نسب إليه الكذب ، ولم يصح عنهم في ذلك شيء ، صحيح أن ذلك بأثر من الدين ، لكن في الوقت ذاته أميل إلى أن الطبيعة العربية الخالصة كانت تمج الكذب وتحترز منه .
- 60 -(12/60)
إن هذا المنطلق كان له شأن كبير في عالم الرواية ، بالنظر إلى الأثر الذي ترتب عليه ، وهذا ما أكده علماء الحديث فيما دونوه في كتبهم من جزئيات تتعلق بالعدالة ، لعل من أهمها : معنى العدالة ، وسبيل إثبات العدالة ، ومدى أهلية المبتدع للرواية .
على اعتبار أن المبتدع ربما كذب أو استحل الكذب - وأهلية التائب من الكذب في حديث الناس ، وغيره من أسباب الفسق . على أن جزئيات هذا الموضوع إنما بحثها أهل الحديث في ميدان العدالة بمفهومها الأعم، وأعني به حد العدالة في اصطلاح كثيرين من النقاد ، وهو المرادف لمفهوم التوثيق .
بمعنى أنهم أضافوا إلى ما قلناه من اشتراط الصدق والورع والضبط وهو ما سنبينه في حينه إن شاء اللَّه . أي أن العدالة بهذا المفهوم الأخير هي نقيض الجرح ، فكما أن الجرح يعني نفي العدالة - أي الصلاح - والضبط ، فكذا التعديل يتضمن المعنيين معًا ، ومن أمثلة هذا المفهوم مما هو مبسوط في كتب القوم مثلا : هل التعديل مقبول من غير ذكر سببه ؟ وما العمل عند تعارض الجرح والتعديل ؟ وهل يجزئ التعديل على الإِبهام من غير تسمية المعدل ؟!
بقي أن يقال : أن كلمة العدل في اصطلاح القوم تعني التلازم بين صفتين بحيث لا تقبل إحداهما في الراوي دون الأخرى ؛ الصلاح ، والقدرة على حفظ المروي ، واستحضاره عند التحديث به ، وهو الضبط ، وهذه الكلمة بهذه الصفة تسوي مع مصطلحات كثيرة من مصطلحات التوثيق ، قد عدَّها الحافظ ابن حجر في مرتبة من يقال فيه : ثقة ، أو متقن ، أو ثبت ، وهي المرتبة الثالثة من مراتب التعديل ( ابن حجر ، تقريب ص74 ) ، فهي بهذه الصفة مرتبة من يحتج به ، وهذا من أرفع التعديل . ولما فسَّر ابن حبان معنى العدل أكد هذا بقوله : فأما من كان يخطئ في الشيء اليسير فهو عدل ، وهو مما لا ينفك عنه البشر ( المجروحون 2/283/284 ) . وقد ترد هذه الكلمة مجردة ومقرونة ، كأن يقال : فلان عدل في الحديث ، أو عدل حافظ ( العراقي ، تبصرة 2/4 ) ، أو عدل ضابط ( السخاوي ، فتح المغيث 1/365 ) . وهذا الأخير أكثر عند المحدثين ، وقلما رأيت من أفردها عند حديثه في مراتب الجرح والتعديل ، وحتى في
- 61 -(12/61)
مجال النقد للرواة . إلا ما ذكر عن الحافظ ابن حجر ، وهذا يفيد ولو ظاهرًا أن العدل في مثل الاستخدام ينصرف إلى معنى الورع دون غيره ، فاحتاج بصفته توثيق إلى وصف آخر يقترن به .
ومما ينبغي ملاحظته أيضًا أن الجمع بين العدالة والحفظ في إطلاقات بعض المحدثين ، أبلغ منه في التوثيق من ذكر الحفظ مجردًا عن العدالة ، وهو ما يفهم من صنيع الحافظ ابن حجر حيث جعل العدل من غير تكرار رتبة ثالثة ، كالثقة ، وأما ما كرر لفظًا أو معنى كالعدل الثقة رتبة أعلى . وهذا بالطبع على رأي من عَدَّها مصطلح توثيق ، وأما من فهمها أو استخدمها بمفهومها الأخلاقي فهي عنده مع الحفظ تستوي مع قولهم فلان ثقة ، أو ثبت ، ولا يرى فيهما معنى زائدًا على ذلك ، وعلى ذلك أكثر المحققين من أهل الحديث .
ثم إن هناك جانبًا مهمًّا يحسن التذكير به ، وهو أن ثبوت العدالة يقضي بمعرفة شخص الراوي المعدَّل ذاته ، من حيث الاسم والشهرة وما يلزم ذكره من مؤهلات التعريف ، إضافة إلى ما سبق ذكره . أما إن خفيت عين الراوي ، ولم يشتهر بطلب الحديث ، ولم ينشط لتحصيله أو نشره ولم يرو عنه بالتالي سوى واحد بحديث أو حديثين مثلا ، فهذا هو المجهول عند أهل الاختصاص ( الخطيب ، الكفاية 88 ) .
على أنه من الممكن أن تعرف العين براوية أكثر من واحد ، لكن حاله في الحفظ تبقى خافية ، فمثل هذا مستور كما سماه الحافظ ابن حجر ، أو مجهول الحال ، وإضافة إلى ما ذكرته خلوه من توثيق أهل الدراية ( ابن حجر ، تقريب ص 74 ) أي أن هناك قدرًا من المعرفة بذات الراوي وحاله لا بد منه على أساس في التعديل ، وبمقدار ما يفقد الراوي من هذه المقومات يفقد من درجة توثيقه ، وبالتالي الأهلية للرواية .
أقول : إن القضايا المهمة التي بحثها علماء الحديث حول العدالة عديدة ، أختار منها أشبه ثلاث بمفهوم الصلاح ، وأترك ما سواها ، إذ قد تندرج تلك تحت مفهوم الضبط بخصوصه ، أو به والعدالة معًا . وإنما حرصت على ذكر ما يتبع تكميلا للصورة في ذهن القارئ . وعلى وجه الاختصار الشديد ، إذ ليس للتفصيل في هذا المقام كبير فائدة .
- 62 -(12/62)
1 - القضية الأولى : بم تثبت العدالة ؟ وقد تنوزع فيها . فمن العلماء من يرى أن كل حامل علم معروف به ، فهو عدل حتى يتبين خلافه ، وهو مذهب ابن حبان ، وابن عبد البر ، واحتج له بحديث : " يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ .. الحديث " (1)
(الحديث له روايات كثيرة ، وأخرجه غير واحد منهم : ابن عدي في الكامل 1/ 152 ، وابن عبد البر في التمهيد 1/ 58 وآخرون ... وحسنه العلائي ، ووافقه القسطلاني لكثرة طرقه . أرشاد الساري 10/ 4 . )
وهذا الرأي متسع ، حيث تولى أصحاب هذا الاتجاه توثيق من ليسوا أهلا لذلك ، بحكم عدم الاطلاع على جارح . والحديث المذكور ضعفه غير واحد ، منهم الحافظ العراقي 82 هـ ( السيوطي تدريب 1/302 ) وعلى فرض التسليم بقبوله ، حمله الجمهور على أنه ليس من باب الاختبار والشهادة لحملة العلم بالعدالة ، وإنما هو من باب التنبيه والدعوة إلى أن هذا العلم ينبغي ألا يحمله غير العدول لأهميته ورفعته . أي أن جمهور المحدثين ذهبوا مذهبًا آخر، وارتأوا أن العدالة في مقام الرواية لا بد من إثباتها بأمر خارج صريح في حق من يذكر بها ، فمنهم من اشترط شهادة اثنين من العدول ، ومنهم من اكتفى بالواحد ، والكل قبل شهرة الراوي بذلك ، أي من اشتهرت عدالته ، وذاع بذلك صيته ، ( ابن الصلاح ، ص 218 ) .
2 - القضية الثانية : هل تقبل رواية المبتدع ؟ وإنما ذكرتها لتعلقها بصلاح الدين إذ المبتدع مخالف لما تم الاتفاق عليه من أصول الدين عند أهل السنة والحديث ، وهذه المخالفة تحمل في طياتها قدحًا للموصوف بها ، وإن كان له تأويل سائغ فيما ذهب إليه في نظره ... فمثل هذا الذي غير وبدل ، ولم يكن مأمونًا على دينه وعقيدته - في نظر غيره - هل يمكن الاطمئنان إليه فيما هو أقل من ذلك كالرواية وقد عانى المسلمون ما عانوه من مثل هؤلاء ، أعني أمثال الشيعة والخوارج والمعتزلة ومن شاكلهم . وخلاصة القول أن جمهور المتكلمين - وهؤلاء يمثلون مدرسة فكرية مستقلة . تقوم في مبادئها على مخالفة واضحة لما هو عليه الحال عند المحدثين - قالوا بقبول رواية هؤلاء مطلقًا ، والسبب في هذا القبول واضح من جهة تأثر هؤلاء المبتدعة بفكر المتكلمين ، فبين الطرفين كبير شبه . ومن المحدثين من ذهب إلى رد رواية هؤلاء مطلقًا ، غير أن جمهور المحدثين ذهبوا إلى قبول رواية هؤلاء بشروط أهمها : ألا يكون المبتدع ممن يستحل الكذب، وألا يروي من الحديث ما ينصر بدعته ، ولا يكون غاليًا فيها داعيًا إليها ( الكفاية ص 120 - 128 ) فإن خلا من ذلك تبينت أمانته ، وثبت ورعه ، وهو أكثر الآراء موضوعية .
(1)الحديث له روايات كثيرة ، وأخرجه غير واحد منهم : ابن عدي في الكامل 1/152 ، وابن عبد البر في التمهيد 1/58 وآخرون ... وحسنه العلائي ، ووافقه القسطلاني لكثرة طرقه . أرشاد الساري 10/4 .
- 63 -(12/63)
3 - أما القضية الثالثة والأخيرة فهي : من تاب من فسقه وكذبه في حديث الناس هل تقبل روايته ؟ والجمهور من المحدثين على قبولها إلا في حق من كذب على رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وخالف آخرون ، وارتأوا ردَّ روايات هؤلاء بالكلية ، ومن أشهرهم ، أبو بكر الصيرفي ( ابن الصلاح ، المقدمة 231 ) .
وأخيرًا يحسن التذكير بأن العدالة كما لها دليل ثبوت على ما بيناه ، فلها بالمقابل أسباب نفي وإسقاط ، وهي - باختصار شديد - تتمثل في الكذب ، ويراد به في عرف المحدثين من ثبت كذبه في حديث رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ومثل هذا يسمي المحدثون حديثه بالموضوع . والتهمة بالكذب وهو الذي يكذب في حديث الناس ، وحديثه في عرف أهل الحديث هو المتروك . والفسق ، ويلحق بذلك الابتداع ، وخاصة ما لا دليل عليه معتمد . والجهالة ، فهذه موجبات إسقاط العدالة في الجملة .
وأما الضبط :
فيراد به عند أهل الاختصاص أن يكون الراوي موصوفًا باليقظة وعدم الغفلة مؤديًا لما حفظه كما سمعه إذا حدث من حفظه ، وبالإتقان والمقابلة ، وصيانة كتابه إذا حدث من كتابه ، مع الدراية بالمعنى ، وبما يحيل المعاني إذا روى الحديث بغير لفظه ( السخاوي ، فتح المغيث 286/1 ) . والضبط نوعان : ضبط صدر ، كناية عن الحفظ ، بحيث يثبت الراوي ما سمعه من غيره مع القدرة على استحضاره عند الحاجة إليه ، ويستدعى هذا بالطبع حزم الفؤاد ، وهو حضور الذهن ، وسرعة البديهة وما إلى ذلك من أمور تبعث على الطمأنينة ( السخاوي ، فتح 286/1 ) . ومن هنا فقد احتل الحديث مكانته في الحافظة العربية الإِسلامية ، إضافة إلى ما وصف به العرب في الجملة من قوة الحافظة ، وهذا ما يفسر لنا وجود أعداد هائلة من كبار الحفاظ في قائمة المشتغلين في ميدان الرواية .
وثانيهما : ضبط كتاب، ويراد به القدرة على صيانة الكتاب الذي يدون به الراوي مروياته بحيث لا يتطرق إليه شك أو تبديل أو تبديل أو تغيير من باب أوْلى ، من حين التحمل
- 64 -(12/64)
إلى وقت الأداء ( السخاوي ، فتح 1/12 ، 286 ) . وكلا النوعين يشكلان معًا حصنًا منيعًا وأساسًا متينًا من أسس القبول للرواية .
لقد سلك النقاد سبًلا للكشف عن مدى ما يتمتع به الراوي من درجات الضبط ، كسبر مروياته ومقارنتها بروايات غيره ، ليعلم مدى إتقانه بالنظر إلى مدى موافقته للحفاظ المتقنين ( ابن الصلاح ، المقدمة 220 ) أو بالامتحان والاختبار له ، كالذي جرى للبخاري على ما في الرواية من ضعف حين قدم بغداد ( السخاوي ، فتح 271/1 ، 299 ) . وطبيعي أن يتفاوت الرواة في مدى ضبطهم ، فالأمر نسبي ، بمعنى أن بعضهم إذا كان تام الضبط ، فإن غيره ليس كذلك ، فقد يكون أقل ضبطًا في الجملة ، أو ربما كان ضابطًا في حال دون أخرى ، ومنهم من عدم ذلك بالكلية ، ومن أهم مظاهر اختلال الضبط الاختلاط ، والتغير ، والغلط ، والغفلة ، والتلقين ، وغيرها من حيثيات ذلك ( السخاوي ، فتح 1/354 - 361 ) .
وعلى هذا فقد قسم العلماء الرواة إلى أقسام بالنظر إلى توفر شرط العدالة والضبط . فمنهم الثقة ، والمتهم بالكذب ، ومن غلب على حديثه المناكير لغفلته ، وسوء حفظه ، ومنهم أهل صدق يقل الخطأ في حديثهم ، وربما كثر بحيث لا يغلب ، ولكل صنف من هؤلاء وصفه وحكمه .
أصناف المشتغلين بعلم الرواية :
المشتغلون في ميدان الرواية كثيرون ، وهم في نهاية المطاف قسمان : قسم لا هم له إلا رواية الأحاديث مجردة من غير باعث آخر ، وآخرون أضافوا إلى ذلك النظر في الأحاديث من جهة معرفة مخارجها ، وضبط نصوصها ، ومدى توفر شروط القبول فيها ، وأهلية رواتها ، ومن ثم بيان ما إذا كانت تصلح كدليل شرعي أم لا ، إضافة إلى ما يستلزمه ذلك من معارف أخرى ، وهذا الصنف من الناس أطلق العلماء عليهم اسم نقاد الحديث ، وهؤلاء انصب جهد كثير منهم إن لم يكن الأكثر بالفعل على الرواة ، والبحث عن أحوالهم ، وتواريخ وفاتهم وما من شأنه التمكين من الحكم عليهم قبولا أو ردًا ، وهؤلاء هم علماء الجرح والتعديل ، وهم من الكثرة بحيث يصعب
- 65 -(12/65)
حصرهم ، وقد صنف العلماء فيهم مصنفات عدة ومن هؤلاء الحافظ الذهبي ( ت 748 هـ ) والسخاوي ( 903 هـ ) ، في ذكر من يعتمد قوله من الجرح والتعديل للأول ، والمتكلمون في الرجال للثاني ، وهذه الكتب بالطبع كثيرة .
والمتكلمون في الرجال على أقسام أيضًا بالنظر إلى ما قالوه في الرواة قلة وكثرة ، فمنهم من تكلم في أكثر الرواة كابن معين ( 232 هـ ) . أو في كثير منهم كمالك ( 179 ) ، أو في الرجل بعد الرجل كالشافعي . أي أنهم في ذلك على أقسام ثلاثة ، وكل قسم من هؤلاء فيه من هو موصوف بالتعنت في الجرح والتثبت في التعديل بحيث يغمز الراوي بالغلطتين والثلاث ، كابن معين ، فمثل هذا إذا وثق يعض على توثيقه بالنواجذ ، لكن لا يؤخذ بتجريحه ما لم يوافق عليه آخرون فضلا عن مخالفته لهم . وهناك الموصوف بالتساهل الذي يتسامح في التوثيق ، بحيث يوثق من ليس أهلا لذلك ، كالترمذي ( 279 هـ ) .
وهناك من هو بين بين فكان معتدلا في توثيقه وتجريحه ، كالبخاري ( 256 هـ ) في كثيرين يمثلون الغالبية العظمي من النقاد . أي أنهم على أقسام ثلاثة أخرى بالنظر إلى التشدد والتساهل ، ( الذهبي . ذكر من يعتمد قوله 158 - 159 ) ، وتبدو بطبيعة الحال هنا مدى حاجة النقاد إلى التبصر بأحوال الرواة ، والدراية بالمقاصد ، والخبرة بالأغراض الداعية إلى التساهل أو الكذب ، أو الوقوع في الخطأ . مع الاحتراز التام ، والفطنة ، واليقظة ، والنزاهة . عند إصدار الأحكام ، فكم من ناقد على جلالة قدره ، ورسوخ قدمه لا يعول على نقده ، كأبي نعيم وعفان بن مسلم ، حيث كانا لا يدعان أحدًا إلا ووقعا فيه ( ابن حجر تهذيب 7/232 ) ، كما نقل عن الإِمام ابن المديني .
وعلى كل فإن من يمعن النظر في كتب الجرح والتعديل ، يرى حجم الجهد الذي بذله النقاد من جهة تتبعهم للرواة والتعريف بهم ، وبأحوالهم ، وعدد مروياتهم ، ورصد أقوال العلماء فيهم . بما يفوق الوصف ، وبما نجزم معه بموضوعية ما أصدره هؤلاء النقاد على الرواة من أحكام في مجال الجرح والتعديل .
- 66 -(12/66)
آلية الجرح والتعديل ومظاهره
تتبع النقاد الرواة تتبعًا دقيقًا ، وبذلوا في سبيل التعريف بهم وبأحوالهم من الجهد ما لا يخفى ، واستنفذوا الطاقة في حصر أعدادهم في مصنفات خاصة وقيدوا لكل راو ترجمته الخاصة به، ودونوا فيها من المعلومات ما يمكن من تحديد أهليته ، وتوصلوا في النهاية إلى الحكم على كل راو بما يستحقه من خلال استخدامهم لعدد من مظاهر الوصف الدالة على مدى ما يتمتع به هذا الراوي أو ذلك من مؤهلات الرواية، كاستعمال ألفاظ خاصة ، لها مدلولاتها المحددة ، أو غيرهما من مظاهر الجرح والتعديل الأخرى . ويمكن إجمال هذه المظاهر بما يلي : -
1 - استخدام الألفاظ الدالة على الجرح والتعديل .
2 - استخدام الإِشارة كرمز من رموز القبول والرد .
3 - التطبيق العملي ، نحو قبول الرواية كدلالة توثيق ، أو ترك الرواية كدلالة جرح . وإن لم يكن ذلك لازما على وجه العموم .
4 - السكوت على الراوي من غير ذكره بما يقدح ، في كتب الرواة ، بوجه عام ، أو كتب الجرح والتعديل على وجه الخصوص ، وإن كانت المسألة خلافية عند ذوي الشأن .
1 - المظهر الأول : التعديل والجرح باستخدام عبارات وألفاظ صريحة .
وهو أكثر هذه المظاهر شيوعًا ، والطابع العام لهذه العبارات هو الاختصار الشديد ، وحسن التوظيف ، وقوة الدلالة بالنظر إلى المضمون اللغوي لهذه العبارات والألفاظ في الغالب . وقد يراد بها معنى اصطلاحيًّا للغة مدخل فيه . والاستعمال لهذه العبارات والألفاظ وإطلاقها على الرواة قد يكون عند النقاد مُطَّردًا من جهة الدلالة ، فتكون بمثابة اصطلاح يكثر استخدامه وقد لا تكون ، فيكون مدلولها خاصًّا بناقد من جهة استعماله . وما يكثر تداوله عند النقاد . من ذلك بلفظه ودلالته هو ما يمكن أن يطلق
- 67 -(12/67)
عليه " مصطلحات الجرح والتعديل " لإِطباق العلماء على معناه وحكمه في الغالب . وأما ما تفرد بعضهم باستخدامه فلا يصدق عليه ما ذكرت . فمن أمثلة المصطلح مثلا قولهم : ثقة ، صدوق . متروك .... ومن الألفاظ الدالة على الجرح والتعديل ولا تمثل مصطلحًا عامًّا مثل قولهم : فلان طير غريب ، وفلان آفة .. إلى غير ذلك من استخدامات خاصة ، وهذه الاستخدامات كثيرة بالطبع جعلت أمر حصرها مما لا سبيل إليه ، لأن الأمر لا يخضع لضابط معين ، إذ يترك الأمر لكل ناقد لأن يختار ما يشاء من ألفاظ اللغة وتعبيراتها ما يدل على مراده .
أما المصطلحات قد تواتر استخدام النقاد لها لفظًا ودلالة ، أي أن مرادهم في إطلاقها واحد إلا أن يكون لهذا اللفظ ، أو تلك العبارة مدلولا آخر عند بعضهم ،فتكون بمثابة اصطلاح خاص به ، فإذا قالوا ، مثلا فلان حجة فمرادهم جميعًا منه واحد وصفًا وحكمًا . لكن إذا قالوا : فلان لا بأس به فهو عند الجميع بمراد واحدا إلا عند ابن معين فيطلقها على من هو ثقة عنده . ( ابن الصلاح . المقدمة 238 ) . مع أن كل النقاد على أن الثقة أبلغ في التعديل من لا بأس به ، ولكل مرتبة . وكأني أفهم من صنيع ابن معين أن الثقة عنده على مراتب أقلها ما يعبر عنه بلا بأس به ، وأرجو ألا أتجاوز إذا قلت : إن الثقة في مفهوم ابن معين هي أرفع بالتالي في الدلالة على التوثيق منها عند غيره ، وإن كان التعبير بهذا المصطلح عند الجميع وفي أدنى مستوياته إنما يطلق على من يحتج بحديثه ، وهذا مبنى عندي على الحس في ظاهر الألفاظ .
مراتب الجرح والتعديل :
إن ألفاظ الجرح والتعديل ومصطلحاته هي من الكثرة بحيث يصعب حصرها . ولكل تعبير منها مراده ، سواء من جهة الاصطلاح أو اللغة ، غير أن كثيرًا من هذه التعبيرات تشترك فيما بينها بمفهوم محدد ، بمعنى أن هذه العبارات على كثرتها يمكن تصنيفها في مراتب ، بحيث تشكل كل مجموعة منها مرتبة خاصة يكون لها دلالتها وحكمها في نظر النقاد بخصوص من تطلق عليه .
- 68 -(12/68)
وهذا التصنيف غاية في الأهمية لاعتبارات أهمها : وصف الراوي بما هو أهله وتصنيفه في قوائم الرواة ضمن هذه المراتب ، أي أن بمقدورنا تصنيف عامة الرواة في مراتب بعضها أرفع من بعض ، ولكل مرتبة منها ما يدل عليها من ألفاظ أو عبارات محددة ، بحيث يبعث إطلاق هذه العبارة الطمأنينة أو الريبة في حق ما يرويه ذلك الراوي مطلقًا ، أو في حال دون آخر بمقتضى ذلك الوصف ، وكان الحافظ ابن حجر ( 852 هـ ) قد تمنى أن يتولى طالب علم بارع جمع هذه العبارات من مصادرها المعتمدة وترتيبها والكلام عليها في اللغة والاصطلاح وتحرير المراد منها ( السخاوي ، فتح 363/1 ) .
لقد قام كثير من النقاد بجمع بعض هذه العبارات ، والمصطلحات منها على وجه الخصوص ، ورتبوها في مراتب ، كابن أبي حاتم ( 327هـ ) . والعراقي ( 806هـ ) والسخاوي 902 هـ وكان لكل طريقته ، فمنهم من خص الجرح بمراتب ، وخص التعديل بمثلها كالعراقي مثلا . ومنهم من لم يفرق بحيث صنف هذه المصطلحات في مراتب عدة اشتملت على ألفاظ الجرح والتعديل من غير تمييز بين مجموعة وأخرى بعناوين واضحة كالحافظ ابن حجر (1)
(انظر ابن أبي حاتم . الجرح والتعديل 2/ 37 . العراقي ، التبصرة والتذكرة 2/ 4 . السخاوي فتح المغيث 1/ ص 361 وما بعدها . ابن حجر . تقريب التهذيب ص 74 . )
ثم إن من الملاحظ أن هذا الترتيب عادة ما يراعي فيه الترتيب التنازلي - بحيث توضع في المرتبة الأولى المصطلحات الدالة على أعلى درجات الأهلية ، ثم الأقل فالأقل ، حتى تنتهي مصطلحات التوثيق في الجملة ، ثم يبدأ بأبلغ عباراته آخر مراتب التعديل بما يتلوها من أخف عبارات الجرح التي تبدأ بذكر العبارات الدالة على الجرح عموما ، ثم الأشد إلى أن تنتهي آخر هذه المراتب بأبلغ عبارات الجرح ، كالذي فعله الحافظ ابن حجر في التقريب . بمعنى أن هذا الترتيب أو ذاك إنما كان خاضعًا لضابط معين روعي في هذا النموذج أو ذاك ، فاحتوت هذه المراتب بذلك ما من شأنه وصف الراوي علوا وانخفاضا بالنظر لما انطوت عليه من جوانب العدالة ، وأسباب فقدها ، والضبط بكل درجاته وموجبات فقدانه إضافة إلى مقومات الأهلية الأخرى مثل عدد الرواة عن الراوي ، وما يشكله ذلك من أهمية ، وكثرة رواياته أو قلتها ، وخفاء ذاته أو حاله ، وما إلى ذلك من مفاهيم أخرى . كما هو واضح جلي في مراتب الحافظ ابن حجر مثلا .
(1)انظر ابن أبي حاتم . الجرح والتعديل 2/37 . العراقي ، التبصرة والتذكرة 2/4 . السخاوي فتح المغيث 1 / ص 361 وما بعدها . ابن حجر . تقريب التهذيب ص 74 .
- 69 -(12/69)
وعلى هذا فإن عبارات الجرح والتعديل مجتمعة إما أن تكون على سبيل المدح التام كقولهم : فلان حجة ، ثقة ، لا يسأل عن مثله ، أو الذم التام كقولهم : فلان كذاب ، ساقط سيِّئ الحفظ ، على تفاوت هذه الألفاظ في دلالتها ومراتبها ... وهذا بالنظر لتوفر أو فقدان شرط العدالة أو الضبط أو كليهما بالكلية ، وقد لا تكون العدالة الباطنة للراوي معروفة مع قلة الرواة عنه ، ولم يثبت فيه للنقاد مطعن ، فمثل هذا لم تعرف عدالته إلا جزئيا ، ولا توثيقه بشكل يذهب الريبة ، فمثل هذا وسط بين المدح والذم ،وهو الذي سماه الحافظ بن حجر بالمستور . وهذا يعني أن الحكم على الرواة بالنظر إلى هذه الأوصاف محكوم بطبيعة كل وصف بعينه ، فهناك عبارات يحكم النقاد بقبول رواية من تطلق عليهم ما لم يمنع من ذلك مانع كالثقة ، فمثل هذا تقبل روايته ولو تفرد ما لم يخالف من هو أوثق منه ، أي أنه إن زال المانع فالاحتجاج بروايته مطلق . ويقابله رد من ذكر بالجرح التام مثلا كالكذاب والمتهم ، بحيث لا تقبل له رواية بحال . وأما ما ذكر بخفاء الحال ، وعدم التثبيت من توثيقه كالمستور مثلا ، فهذا وأشباهه تقبل روايتهم عند المتابعة ، لأن المستور ومن كان مثله أو قريبا منه ليس بأهل للتفرد ، ولا يمكن الركون إليه ما لم يشاركه في الرواية من هو مثله أو أحسن منه وهذا هو راوي الحديث الحسن لغيره ، أي أنه ضعيف يجبر بغيره عند وروده من جهة أخرى .
مصطلحات الجرح والتعديل بالنظر إلى دلالة الاستخدام
بينا أن من ميزات مصطلحات الجرح والتعديل الاختصار الشديد ، بحيث لو أمكن العدول عن العبارة إلى الكلمة ما تردد عامة النقاد في ذلك (1)
(لعل أبرز من مال إلى التفصيل في هذا ابن حبان في : المجروحين ، وابن عدي في الكامل ، حيث كانا يستغرقان في بعض التراجم السطر والسطرين من وصفهم لحال بعض الرواة . لاحظ مثلًا : المجروحون 1/ 173 ، 183 ، 212. الكامل 2/ 527- 528، 562 ، 578 . )
وحسن توظيف هذه الألفاظ بالنظر إلى تحرير المراد منها . وقد استفاد النقاد مما تمتعت به لغة القرآن الكريم من اتساع وشمول وقدرة على توصيل المعاني إلى أعماق النفس ، من خلال حسن الصياغة ... فكانت هذه العبارات أو الألفاظ غاية في الدقة ووضوح الدلالة . وقد روعي في تحديد ذلك المعنى اللغوي ، والاصطلاحي ، ولعل من الأمثلة الدالة على ذلك قولهم فلان ؛ له مناكير ، أو يروي المناكير ، أو أحاديثه مناكير أو منكر الحديث ، فهذه عبارات أربع لكل منها مفهوم لغوي قد تستوي في معناه مع عبارة أخرى في الظاهر لكن التدقيق في هذه المعاني يوضح الفرق على لطافته .
(1)لعل أبرز من مال إلى التفصيل في هذا ابن حبان في : المجروحين ، وابن عدي في الكامل ، حيث كانا يستغرقان في بعض التراجم السطر والسطرين من وصفهم لحال بعض الرواة . لاحظ مثلا : المجروحون 1/173 ، 183 ، 212. الكامل 2/527 - 528، 562 ، 578 .
- 70 -(12/70)
فقولهم : له مناكير ، أي أنه روى أحاديث فيها نكارة على قلتها - ويراد بذلك أنه روى أحاديث لضعفاء خالفوا فيما رووه فيها الثقات - وهي مع قلتها تدل على نوع ضعف من جهة ضبط من ذكر بها ، وشأن الضابطين خلاف ذلك ، وقولهم : يروي المناكير ، مثل سابقتها ظاهرًا ، وإن كنت أفهم أنها أبلغ فيما تجعله من معاني التجريح ، وقولهم : أحاديثه منكرة أبلغ مما قيل في المعنى ذاته ؛ لأن هذا الوصف يصدق على غالب حديثه .
وقولهم : منكر الحديث . أبلغ من كل ما سبق ؛ لأنه يقتضي وصف المذكور بالديمومة والاستمرار في رواية هذا اللون من الأحاديث الضعيفة وهذا من أبلغ الجرح . وهو وصف يستحق معه الراوي ترك حديثه ( السخاوي فتح 1/375 ) خلافًا لمن ذكر بالعبارات السابقة فهو ممن يقبل حديثه على تفاوت في ذلك ، بل إن الموصوف بالعبارة الأولى ربما كان من الثقات في الجملة . بمعنى أن تفرد هؤلاء هو الذي يستحق النظر ، وإلا فإن ما وافقهم عليه الضابطون مقبول يحتج به .
ولا بأس في ذكر بعض مصطلحات هذا الفن للتعريف بمدلولها عند أهل الصنعة ، نحو قولهم : ثبت ، لا بأس به ، تعرف وتنكر ، مقارب الحديث ، إلى الضعف ما هو . على يدي عدل .... إلخ . فقولهم : ثبت من مصطلحات التعديل الرفيعة ، وهي ثبت بفتح المثلثة والباء الموحدة ، أو سكونها . فهي على الوجه الأول تشبيه للموصوف بها بالثبت بالفتح ، وهو ما يدون المحدث فيه مسموعاته مع المشاركين له فيه ، فيكون كالحجة عند الشخص لسماعه وسماع غيره . وعلى الثاني فهي بمعنى الثابت القلب واللسان والكتاب ( السخاوي ، فتح 1/364 ) .
أما قولهم : لا بأس به ، فهو يمثل مرتبة من مراتب التوثيق ، وهو دون قولهم : فلان ثقة ، لأن التوثيق هنا غير مقطوع به على الوجه المذكور في مصطلح ثقة ، ونفي البأس لا يستلزم إثبات كمال النقيض ، وهذا بالطبع مراد عامة المحدثين ، إلا عند ابن معين فإن هذه العبارة عنده تقال في حق الثقات ( العراقي . التبصرة 2/6 ) . وقد تقدمت الإِشارة إلى ذلك .
- 71 -(12/71)
وقولهم : تعرف وتنكر : أي من حديثه ، فمنه ما هو معروف رواه الثقات ، ومنه ما تفرد الراوي المعني بروايته عن ضعفاء خالفوا الثقات ، فغير معروف . وهذه عبارة جرح ، عدَّها الحافظ السخاوي في المرتبة السادسة من مراتب الجرح وهي أدناها من التعديل . ( السخاوي في المرتبة 1/374 ) . ومثل هذا يحتج بحديثه عند موافقة الضابطين له أما في حال التفرد فلا .
وقولهم : مقارب الحديث : عبارة تعديل أي أن حديث الموصوف به قريب من حديث غيره ، إن قرأت على وزن فاعل ، أو أن حديث غيره يقارب حديثه على وزن مفعول ... وهذا حديثه وسط ، فلا هو بمدح ظاهر ، ولا بطعن كذلك . ومثل هذا ينظر في حديثه ، وهو أرفع رتبة ممن لا يقبل حديثه إلا بالمتابعة ( السخاوي . فتح 1/367 ، 368 ) .
وقولهم : على يَدَيْ عَدْلٍ ، عبارة جرح بالغة ، مع أن ظاهرها من قبيل التعديل إذا ما قرأت بكسر الدال الأولى بحيث تكون اللفظة للواحد ، وبرفع لام عدل وتنوينها ، لكن استعمال النقاد لها على غير هذا الوجه ، فهي على سبيل الإِضافة ، أي بإضافة عدل إلى مثنى يد ، والعدل هذا كان على شرط تبع فكان إذا أراد هلاك أحد بُعث به إليه ومن هنا استعملها النقاد في حق من هو ساقط هالك . ( السخاوي . فتح 1/377 ) .
وقولهم : فلان ليس من جمال المحامل وهو تجريح ظاهر ، يستوي مع قولهم : فلان غيره أوثق منه ، وهذا شأن من يقبل حديثه بالمتابعة دون التفرد . إذ لو كان أهلا للتفرد بحيث يكون على درجة من الضبط لحديثه تحملا وأداء لقبل تفرده وهو من قبيل التشبيه للضعيف من الرواة بالجمل الذي لا يقوى على حمل ما اعتادت فحول الجمال على حمله ( السخاوي ، فتح 1/347 ) .
وقولهم : فلان متروك الحديث . وهي من مصطلحات الجرح البالغة ، وتقال في حق من يتهم بالكذب ، ومن يكثر غلطه إلى حد لا يحتمل ، أو من أكثر عن المعروفين
- 72 -(12/72)
ما لا يعرفه المعروفون . ( السخاوي . فتح 1/347 ) .
وأخيرًا قولهم : نزكوه ، بنون وزاي أي طعنوا فيه . وهذه تقال في حق من جرح جرحًا لا يحتمل معه تفرده بالرواية ، وإنما تقبل بالمتابعة . ( السخاوي . فتح 1/347 ) . وفي الجملة فقد اشتملت هذه العبارات على لطافة وخفة روح ، وقد تستشف منها الدعابة أحيانًا كما في قول ابن معين في أحدهم : حمالة الحطب ، كناية عن التضعيف له ( ابن أبي حاتم ، الجرح 8/479 ) وقول سعيد بن عبد العزيز الدمشقي 167 هـ في آخر : حاطب ليل ، ابن أبي حاتم ، في أحدهم : أسأل اللَّه السلامة ، كناية عن شدة ضعفه ، حتى ترك الرواية عنه ( ابن أبي حاتم ، الجرح 9/88 ) وكقول الحافظ : صالح جزرة في بركة الأنصاري : ليس هذا بركة ، هذا عقوبة ( ابن أبي حاتم ، الجرح 2/423 ) وكقول الثوري 161 هـ في توثيق أحدهم : ذاك ميزان ابن أبي حاتم ، الجرح 5/366 ) وكقول أيوب السختياني في الفضل بن عيسى الرقاشي : لو ولد أخرس لكان خيرًا له ( الآجري السؤالات 2/323 ) .
مصطلحات خاصة في الجرح والتعديل .
ذكرنا فيما مضى أن بعضًا من النقاد كان لهم فهم خاص أرادوه من إطلاقهم لمصطلحات خالفوا في دلالتها جمهور المحدثين ، وهو مما ينبغي التنبه له ، وفي تقديري أن تبيان هذه المصطلحات على وجه الحصر لعددها ، وتحديد مرادها يقينًا كما هو في استخدام أصحابها أمر يصعب تقديره ، لعدم تصريح بعضهم بمراده منه ، وإنما عرفه النقاد من خلال تتبع لهؤلاء البعض من خلال إطلاقاتهم التي قد يفصحون عن مرادهم منها تلميحًا ، أو لوجود قرائن قد تدل على ذلك المفهوم .. ولذلك بقي أمر الجزم في إلزام هذا الناقد أو ذاك من المتأخرين بهذا المدلول - كما نظن عند صاحبه -
- 73 -(12/73)
أمرًا غير مقطوع به وإنما الحكم للأغلب ما لم يصرح بذلك . والنقاد الذين كان لهم مصطلحات خاصة بهم من جهة الدلالة والحكم - عدّد منهم مثلا :
1 - البخاري ( ت 256 هـ ) . وله في ذلك مصطلحات ثلاثة هي : فيه نظر ، وسكتوا عنه . ومنكر الحديث . أما قوله : فيه نظر ، فقد ذكر العراقي أن البخاري لا يقولها إلا فيمن تركوا حديثه ( العراقي تبصرة 2/11 ) وألحق بها الذهبي 748 هـ قول البخاري : في حديثه نظر ، قال : لا يقولها البخاري إلا فيمن يتهمه غالبًا . ( الذهبي ، ميزان 2/416 ) بمعنى أنها عند البخاري في مرتبة من هو متروك ، أو ساقط ، وأشباههما من مصطلحات الجرح البالغة . بل عدها ابن كثير في أردأ المنازل عنده ( السخاوي مثلا الفتح 1/372 ) . في حين أن : فيه نظر عند بقية النقاد تمثل أدنى مراتب الجرح وأقربها من التعديل ، كما هي في ترتيب السخاوي مثلا ( الفتح 1/375 ) .على أن الأستاذ حبيب الرحمن الأعظمي ، وهو من المعاصرين قد أبدى عجبه من إلزام العلماء لأنفسهم بهذا الفهم ، وحكايته عن البخاري ، وذكر شواهد تنقض هذا الادعاء والذي يظهر والله أعلم أن ما ذكروه عن البخاري كان عامًّا غالبًا ، وليس على وجه الاطراد (1)
(كذا ذكره الشيخ أبو غدة عن شيخه الأستاذ حبيب الرحمن الأعظمي في تعليقه على كتاب التهانوي ، قواعد في علوم الحديث ص 254- 255 . )
وأما قوله : سكتوا عنه ، فهي مرادفة لقوله السابق ، أي لا يقولها البخاري إلا فيمن تركوه ( السخاوي فتح المغيث 1/372 ) كذا ذكره السخاوي عنه ، في حين أن المذكور عدَّها في المرتبة السادسة من مراتب الجرح ، وهي أدناها عنده ، وهي كذلك عند الآخرين .
وقوله : منكر الحديث ، فقد صرح البخاري نفسه بأنه لا يقولها إلا فيمن لا تحل الرواية عنه ( الذهبي ، ميزان 1/6 ) ، وهذا من أبلغ الجرح عنده ، لكنها في عرف الآخرين تمثل مرتبة من مراتب الضعف الذي يمكن جبره ، فهي بمنزلة من يقال فيه : ضعيف ، أي لا يحتج به عند التفرد ، وهي المرتبة الثالثة ، أو الرابعة من مراتب الجرح إذا ما رتبت حسب الأبلغ في الجرح ثم الأقل بلاغة ( اللكنوي ، الرفع والتكميل 74 ) .
2 - ومن هؤلاء الحافظ ابن معين ( 234 هـ ) ومن مصطلحاته الخاصة به قوله : ليس بشيء ، ولا بأس به ، وضعيف . أما مراده من قوله : ليس بشيء ، أي أن أحاديثه الموصوف بها قليلة ، بمعنى أنه لا يريد بذلك التضعيف الجارح ، كذا ذكره ابن القطان الفاسي 628 هـ عنه ، على ما أورده الحافظ ابن حجر ، ولذلك قال التهانوي : فليس
(1)كذا ذكره الشيخ أبو غدة عن شيخه الأستاذ حبيب الرحمن الأعظمي في تعليقه على كتاب التهانوي ، قواعد في علوم الحديث ص 254 - 255 .
- 74 -(12/74)
معناه أنه مجروح بجرح قوي . على أن هذه العبارة عند جمهور النقاد من قبيل الجرح البالغ ، بل هي في مرتبة من يقال فيه : مردود الحديث ، ولا يساوي شيئًا ، وهي مرتبة من لا يقبل حديثه بحال . ولا يقولها الشافعي إلا فيمن يطلق عليه الكذب .
وقوله : لا بأس به ، إنما يطلق على الثقة ، كما صرح به نفسه ( ابن الصلاح ، المقدمة 238 ) مع أن ليس به بأس ، هي مرتبة تالية لمصطلح ثقة عند جمهور نقاد الحديث . وقوله : ضعيف ، إنما يقولها ابن معين فيمن ليس هو بثقة ، ومن لا يكتب حديثه ، بمعنى أنها عنده من أبلغ مراتب الجرح . مع أن الضعيف يطلق عند النقاد على من يجبر ضعفه ، إذ الضعيف عندهم أرفع من جهة التعديل ممن يقال فيه : ليس بثقة بمرتبتين ، فيعتبر به . ( ابن الصلاح ، المقدمة 238 ) .
3 - ومن هؤلاء أيضًا الإِمام أحمد 241 هـ ، فإن له اصطلاحًا خاصًّا في قوله : منكر الحديث ، أو يروي المناكير ، لا من جهة المرتبة والحكم ، لكن من جهة مفهوم النكارة عنده ، إذ يرى أن النكارة كناية عن تفرد الراوي بما يرويه ، أي أنها ليست بعبارة جرح عنده ، إذ أن مجرد التفرد لا يجزم معه بتضعيف من يوصف به ، وكأن فهم الجمهور النقاد للنكارة التي تعني رواية الضعيف المخالف للثقات إنما استقرت في الأذهان في وقت لاحق ... وخلاصة القول أن الإِمام أحمد لا يريد بها التضعيف الجارح ، في حين أنها عند عامة النقاد من الجرح البالغ كما قد سلف . ( السخاوي ، فتح 1/275 ) .
4 - ومن هؤلاء الحافظ ابن القطان الفاسي 628 هـ . وله في هذا الميدان مصطلحات خاصة به ، منها قوله : لا يعرف له حال : وهذا يقوله ابن القطان فيمن لم يقل فيه إمام عاصر ذلك الراوي ، أو أخذ عمن عاصره ما يدل على عدالته ، أي أنه في حقيقة الأمر ما هو بضعيف ولا بمجهول ، ولمثل هؤلاء وجود في الصحيحين ، ( الذهبي . ميزان 1/160 ) بمعنى أن مراد ابن القطان من هذه العبارة ، أن أحدًا لم ينص عدالته ، وهذا لا يستلزم بالتالي إثبات النقيض ، وهو الجرح ، بل يستلزم التوثق فحتى يتبين الحال خلافًا لما يراه أكثر المحدثين من أن هذه عبارة تضعيف ، وهذا هو مجهول الحال عندهم ، وهو الذي سماه الحافظ ابن حجر بالمستور ، وهي المرتبة السابقة
- 75 -(12/75)
عنده ، وهي مرتبة من يعتبر. بحديثه . ( ابن حجر ، تقريب 9 ) .
ومنه قوله : لم تثبت عدالته ، ويقال فيه ما قيل في العبارة السابقة في مفهوم ابن القطان ، فهما عنده بمراد واحد ( الذهبي ، ميزان 1/160 ) مع أن ظاهر العبارة جرح بين ، وقد تقال في حق من يقال فيه : ضعيف ، أو ما هو أبلغ من ذلك .
5 - ومنهم الحافظ أبو حاتم الرازي 277 هـ ، كما هو في استخدامه لمصطلح مجهول ، فهو يريد به جهالة الوصف والحال ، لا جهالة العين ( الذهبي ، ميزان 1/6 ) ولذلك فقد جهل أبو حاتم بعضهم مع أنه روى عنه جماعة ، مثل حكمه بالجهالة على داود بن يزيد الثقفي ، مع أن ابنه ذكر عنه الرواة أربعة ( ابن أبي حاتم الجرح ، 3/428 ) علمًا بأن المجهول عند الجمهور هو من لم يرو عنه إلا واحد ، وهو ما يسمى بمجهول العين ، وهذا يختلف وصفه وحكمه عن مجهول الحال ، فالأول لا يكتب حديثه ، والثاني يكتب ويعتبر به .
المظهر الثاني : التعديل والتجريح بالإشارة .
وأعني به استخدام الإِشارة كدليل على ذلك ، حيث يلحظ المتتبع لصنيع النقاد في مجال نقد الرواة أن بعضًا منهم قد عبر عن أهلية هذا الراوي في نظر ذلك الناقد ، كتقليب الأيدي ، وتقطيب الحاجبين ، وانفراد الوجه ، وتغير حركة الشفاه ، وما إلى ذلك من إشارات أخر .. وكأني بالكبار دون غيرهم كانوا أكثر استخدامًا لهذا الأسلوب بالنظر إلى كبير تجربتهم ، وسعة اطلاعهم على أحوال الرواة على ما يشهد عليه الواقع . وقد تقترن الإِشارة بكلام يفيد معناها ، وقد تكون مجردة من غير شيء ، وأكثر ما استخدم النقاد ذلك في إجابتهم على الأسئلة التي كانت تطرح عليهم من قبل التلامذة ، بمعنى أن هذا الأسلوب أكثر شيوعًا في كتب السؤالات منه في غيرها من كتب النقد ، كالسؤالات لابن معين من قبل تلاميذه : ابن الجنيد والدرامي ، وسؤالات ابن شيبة 297 هـ لابن المديني 234 هـ ، وسؤالات أبي داود 275 هـ للإِمام أحمد 241 ، وسؤالات الآجري لأبي داود السجستاني ، وهذا الأخير أحسبه
- 76 -(12/76)
أحسن هذه الكتب في بابه من جهة التبويب والتصنيف إضافة إلى حجم ما احتواه من مادة نقدية .
إن من المهمات في هذا المقام تحديد مراد الناقد من هذه الإِشارة أو تلك بصفتها تمثل حكمًا لا بد من أخذه بعين الاعتبار عند التعامل مع مرويات الرواة . والكشف عن هذا المراد نحتاج معه إلى خبير يتمتع بالدراية والمعرفة بحال هذا الناقد ومنهجه ، ولذا فإن تلامذة الناقد أدرى بمراده ، وكلما كان التلميذ أكثر ملازمة كلما كان أكثر إدراكًا لما قصد شيخه من تلك الحركات . فيستعان به على تحديد مراده ، وقد لا يتيسر ذلك ، فيضطر بعض المعنيين لجمع هذه الإِشارات وتتبعها ومحاولة الكشف عن مراد صاحبها ، وهذا أمر يحتاج إلى من يمتلك الفطنة والتجربة من ذوي الاختصاص ، كما هو ظاهر في منطق الحافظ الذهبي ( 748 هـ ) وهو من أهل التتبع والاستقراء التام في نقد الرجال - في تعامله مع مصطلحات القوم ، وكشفه عن مدلولاتها .
على أن من الملاحظ أن استخدام هذا الأسلوب إنما كان في الغالب العام في مجال الجرح ، والظاهر أن استخدامه في التعديل نادر ، ولم أقف عليه ... ومن استخدم هذا الأسلوب من النقاد أبو حاتم الرازي ، وأبو زرع ، وقد أكثر منه ، وعلي بن المديني ، ويحيى بن سعيد القطان ، وأحمد وأبو داود السجستاني في آخرين . وهذه نماذج من استخدام بعضهم للإِشارة .
1 - يحيى بن سعيد القطان ت 198هـ . وقد استخدم غيرها إشارة كتحريك اليد ، والرأس وتحميض الوجه - تغيره ... فلما سئل عن عمر بن الوليد الشني ، حرّك يده . قال تلميذه ابن المديني : فلما رأيت ذلك منه استرجعت ، فقال : ما لك ؟ قلت : إذا حركت يدك فقد أهلكته عندي ، فقال هو عندي ليس ممن أعتمد عليه ، ولكنه لا بأس به ... ولما ذكر الحافظ الذهبي ذلك ، بيَّن مراد القطان ، وأكد أنه من باب التليين والتضعيف . ( الذهبي ، ميزان 3/231 ) . ولما ذكر علي بن المديني ليحيى القاسم بن عوف الشيباني قال : قال شعبة : دخلت عليه - وحرك يحيى رأسه - قلت ليحيى : ما شأنه ؟ فجعل يحيد ، أي مال عنه وعدل . ( الذهبي ، ميزان 3/376 ) . ولما سأله عن سيف بن وهب التميمي حمض يحيى وجهه وقال : كان من الهالكين ( ابن أبي حاتم ،
- 77 -(12/77)
الجرح 3/275 ) ، وكذلك فعل وتغير وجهه حين سئل عن ميمون أبي عبد اللَّه البصري ، قال ابن المديني : كان يحيى لا يحدث عنه . ( ابن حجر ، تهذيب 10/393 ) .
2 - علي بن المديني 234 هـ . وكأنه قد تأثر بمنهج شيخه ، حيث استخدم إشاراته كتحريك اليد وغيرها . سأله ابنه عبد اللَّه عن إسحاق بن نجيح الملطي فقال بيده - هكذا - أي حركها على نحو ما ذكر ابنه ، قال عبد اللَّه : أي ليس بثقة ، وضعفه . ( الذهبي ، ميزان 1/201 ) ولعلي كلام صريح في تضعيف المذكور ، حتى قال عنه : روى عجائب . وهذا من أبلغ الجرح ( ابن حجر ، تهذيب 1/253 ) .
3 - أحمد بن حنبل 241 هـ . حيث كان إذا سئل أحيانًا عن ضعيف يحرك يده ويقول : هو كذا وكذا . ولما ذكر الحافظ الذهبي ذلك عنه ، عقَّب عليه بقوله : هذه العبارة - يعني كذا وكذا - يستعملها عبد اللَّه كثيرًا فيما يجيبه به والده ، وهي بالاستقراء كناية عمن فيه لين . ( الذهبي ، ميزان ، 3/553 ، 4/483 ) والظاهر أن الإِمام أحمد قد أكثر من ذلك ، وشواهده في كتاب العلل ومعرفة الرجال له واضحة ( 1/135 ، 22 ) .
4 - أبو زرعة الرازي ت 264هـ . وكان ممن استخدم الإِشارة أكثر من غيره قال ابن أبي حاتم - وهو من أعرف الناس به - سألت أبا زرعة عن سعيد بن سنان الحنفي . فأومأ بيده أنه ضعيف ( ابن أبي حاتم ، الجرح 3/28 - 29 ) كما استخدام الإِشارة باليد إلى الفم ، كناية عن كذب من سئل عنه أحيانًا وهو على ما يظهر لون خاص به من الإِشارة ، ومن ذلك ما ذكره سعيد بن عمرو البرذعي قال : قلت لأبي زرعة : رباح بن عبد اللَّه العمري قال : كان أحمد بن حنبل يقول : وأشار أبو زرعة إلى لسانه ، أي أنه كذاب ( البرذعي . الأجوبة 260 ) . ولما ذكر له عبد اللَّه بن أبي بكر المقدمي أومأ بيده إلى فيه ، كناية عن الكذب ( البرذعي . الأجوبة 467 ) وله غير ما ذكرت من شواهد لهذه الإِشارة . كما كان يعبر عن جرحه لبعض الرواة بتكليح الوجه ، وهو التكشر والعبوس ، حين لا يكون المذكور أهلا للرواية ، ومن ذلك أنه لما سئل عن عمرو بن عثمان الكلابي كلح وجه ، وأساء الثناء عليه . وتكرر مثل ذلك عند ذكره لعبد اللَّه بن نافع المخزومي ، ( البرذعي الأجوبة 759/732 ) .
- 78 -(12/78)
كما لوحظ أنه كان يستخدم تحريك الرأس كدلالة على التضعيف لبعضهم ، كما في فعله لمثل هذا في كل من سيف بن محمد الثوري ، وعبد الرازق بن عمر الثقفي ، وسلام بن مسلم المدائني في آخرين .... ( البرذعي الأجوبة ص 450 ، 484 ، 567 ) .
5 - أبو حاتم الرازي 277 هـ . وكان قد استخدم تحريك اليد وتقليبها دلالة على الجرح ، على ما ذكره عنه ابنه ، قال : قلت لأبي ما تقول في حسين بن زيد الهاشمي فحرك يده وقلبها . قال ابنه : يعني تعرف وتنكر ( ابن أبي حاتم : الجرح 3/53 ) وهذا بالطبع تضعيف ظاهر ، وإن لم يبلغ بصاحبه حد الترك .
6 - هذه نماذج من استعمالات المحدثين للإِشارة في مجال الجرح ، ولم أقف على شيء من ذلك في مجال التعديل ، ولا استبعد ، لكنه في الظاهر نادر .
المظهر الثالث : التعديل والتجريح الضمني :
وهو أسلوب ضمني غير صريح التوثيق وعدمه إذا خلا عن التصريح وكان مجردًا عن أي قرينه دالة ... وأعني بذلك مجرد رواية المحدث المشهور عن الراوي ، فهل يعتبر ذلك في حد ذاته دلالة توثيق ؟ وهذا بالطبع في حق من لم يوثق . وهل يلحق بذلك رواية الثقة عن المجهول ؟ من جهة التعريف به ، ورفع الجهالة ، وهل اعتماد أصحاب الصحيح ، وخاصة البخاري ومسلم لحديث الراوي يكفي للحكم بتوثيقه ؟ وهل كتابة الحديث عن الراوي من قبل كبار المحدثين تفيد ذلك ؟ .
الواقع أن رواية الناقد المشهور عن غيره لا تعد توثيقًا عند أكثر العلماء لاعتبارات أهمها جواز الرواية عمن لا تعرف عدالته ، بل وعن غير العدل ( أي الثقة ) ، ثم إن الرواية لا تضمن الحكم بتعديله ، ولا هي خبر عن صدقه ، ولا يستدل بها على صدق المروي عنه ، وإن جزمنا بصدق الراوي عنه ... اللهم إلا أن يكون شرط ذلك المحدث ألا يروي إلا عمن هو ثقة عنده ، وهو رأي بعض المتثبتين من الكبار أمثال شعبة ومالك وابن القطان وابن مهدي في آخرين ... ( السخاوي ، فتح 1/312 - 314 ) ، كيف وقد روى كبار عن رواة موصوفين بالضعف ، بل ولا مرضيين . ومن هؤلاء أمير
- 79 -(12/79)
المؤمنين - في الحديث في عصره - سفيان الثوري ، قال مبينًا لمنهجه في الرواية : إني لأروي الحديث على ثلاثة أوجه ، فللحجة عن رجل ، وللتوقف فيه عن آخر ، ولمحبة معرفة مذهب من لا أعتد بحديثه ( السخاوي ، فتح 1/313 ) ، وما من شك أن هذا نهج كثيرين من النقاد ، وهو شأن العارفين بسعة الاطلاع ، وكبير الدراية ، ومعرفة صحيح حديث الضعفاء من سقيمه ، وأما الرواية عن المتهمين والمتروكين ومن كان على شاكلتهم فللكشف عن حالهم ، حتى لا يخفى أمرهم على من ليس له بالصنعة كبير دراية .
وكما اختلفوا في رواية الثقة عن المعروف هل تُعدّ من التعديل أم لا ؟ اختلفوا كذلك في رواية الثقة عن المجهول وهل تعد من قبيل التعديل ؟ وقبل توضيح ذلك بإيجاز أود أن أبين أن الجهالة بالصحابي لا تضر عند جمهور العلماء ، لاتفاقهم على عدالة كل الصحابة . ولا يحتاج إلى رفع الجهالة عنهم ( السيوطي ، تدريب 1/318 ) . لكن من هو المجهول من غير الصحابة ؟ .
إن المتتبع لصنيع المحدثين يرى أنهم قد جعلوا الرواة الموصفين بالجهالة بشكل عام على ثلاثة أصناف . ولكل منها وصفه الخاص وحكمه وهي :
مجهول العين : وهو من لم يعرفه العلماء ، ولم يعرف حديثه إلا من جهة راو واحد فقط ... ولو رواية هذا الواحد لما عُدّ هذا المجهول في عداد الرواة ، لكن هل تنفعه هذه الرواية عنه من جهة تعديله ، أو رفع الجهالة عنه ؟ أما رفع الجهالة ، فإن مذهب الجمهور على بقائها ، ولا ترتفع إلا برواية راويين معروفين بالعلم ، ولا يكفي ذلك الواحد . كما في ذلك الواحد . كما لا يفيد ذلك التعديل من باب أوْلى ، ( السيوطي . تدريب 1/317/318 ) ، خلافًا لآخرين ( شرح علل الترمذي 105 ) يشهد لهم صنيع البخاري ومسلم ، حيث أخرجا لقوم ما روى عنهم إلا واحد ، كما صرح به غير واحد من الأئمة كابن الصلاح مثلا ( المقدمة 227 ) وهذا بالطبع مصير منهما إلى رفع الجهالة برواية الواحد ، وربما تعداه إلى التوثيق ، كيف وقد أخرجها لهم في الصحيح على ما عرفا به من تحرز في انتقاء الرواة . وهذا بالطبع محمول على التسليم بأن هؤلاء الرواة
- 80 -(12/80)
لم يرو عنهم إلا الواحد ، مع خلوهم من التعديل ، وفيه كلام ( السيوطي . تدريب 1 / ص 318 وما بعدها ) والأظهر ثبوته .
وهناك مجهول الحال : وهو من علمت عينه برواية اثنين عنه ، لكن جهلت عدالته ظاهرًا وباطنًا ، ومثل هذا لا ترتفع عنه جهالة حاله بالطبع إلا برواية المعروفين عنه على ما يفهم من كلام أهل الفن ، وقد لا ترتفع بروايته لكثيرين كما هو عند أبي حاتم ولو كانوا من الثقات ( السخاوي ، فتح 1/318 ) اللهم إلا أن يشتهر بالعلم ، أو أن يكون الراوي عنه ممن لا يروي عادة إلا عمَّن هو ثقة ( السيوطي تدريب 1/316 ) ، وبذلك ترتفع الجهالة من باب أوْلى ، على أن كثيرين قد صاروا إلى رفع الجهالة وثبوت التوثيق برواية الواحد لاكتفاء هؤلاء بظهور الإِسلام والسلامة من الفسق في الظاهر . فكل مسلم عندهم على أصل العدالة حتى يتبين خلافه .
وهناك ما يعرف بالمستور : وهو من جهلت عدالته باطنًا لا ظاهرًا أي لم يوقف منه على مفسق ولم ينص أحد على تعديله ، فمن قال من العلماء : إن الأصل في الناس العدالة عُد الرواية عنهم ولو من واحد دليل على التوثيق ، عند خلوه مما يفسق ، وهو رأي أهل الكوفة ، في حين أن جمهور المحدثين على أن ذلك لا يكفي بل لا بد من التتبع لحاله والتأكد من استقامته أو غلبة الظن من عدالته .
وأما حكم رواية هؤلاء فهي مبنية على ما ترتفع به الجهالة ، أو تثبت به العدالة ، ولهذا كان أمر الاختلاف في قبول ورد روايات هؤلاء أمرًا طبيعيًّا له ما يسوغه . فمجهول العين منهم من قبل روايته مطلقًا ، ومنهم من ردها مطلقًا ومنهم قبل روايته إن كان من يروي عنه لا يروي إلا عن ثقة كابن مهدي مثلا فيقبل وإلا فلا ، ومنهم من قال : أن كان هذا المجهول موصوفًا في غير العلم ، كالزهد والنجدة وما شابهه من محامد قبل وإلا فلا ، وهو رأي ابن عبد البر ، وقال آخرون : إن زكَّاه أحد من النقاد المعروفين مع رواية واحد عنه قبل ، وصححه الحافظ ابن حجر ، وكان ابن حبان قد ذهب إلى التوثيق إن كان من فوقه ومن روى عنه ثقة ولم يأت بما ينكر عليه ، فهو عنده ممن تقبل روايته ( السيوطي . تدريب 1/317 ) . وأما مجهول الحال فقد قبل روايته قوم
- 81 -(12/81)
مطلقًا ، وردها آخرون إلا إذا كان فيمن روى عنه لا يروي إلا عن ثقة . وجمهور المحدثين على ردها ( السيوطي 1/316 ) .
أما المستور . فقد قبله قوم مطلقًا ، ومنهم النووي ، والرد مطلقًا وهو مذهب الجمهور ، والتوقف في قبوله حتى يتبين حاله ، فيقبل أو يرد ، وأيده الحافظ ابن حجر بضبط ما رواه . وبمعنى آخر فعلى هذا الرأي الأخير فإن الحكم بالمستور على بعض الرواة فيه نوع تعديل وإن كان في أدنى تلك المراتب . وهي كذلك عند الحافظ ابن حجر في التقريب ، حيث كانت سادس مراتب التعديل . أي أن حديث المستور يعتد به .
ثم إن من المسائل التي تستحق الذكر ولو بإيجاز مسألة ما إذا كانت رواية البخاري ومسلم لأحد الرواة تفيد تعديله أم لا ، ويندرج تحت هذا المعنى صنفان من الرواة : مسكوت عنهم كالذين لم يرو عنهم إلا الواحد كما مر في حديثنا عن الجهالة ، ومن تكلم فيه بعض الرواة بجرح ، فهل يعد تخريج صاحبي الصحيحين بمثابة رد على من جرح في مقام الخلاف ؟ .. وهذا كله مبني بالطبع على ما ذهب إليه عامة النقاد من أن كل من أخرج لهم البخاري ومسلم من الثقات ، باعتبار أن العدالة مع الضبط شرط الصحيح في الجملة ، فكيف بأصح الصحيح ؟ وبني على هذا ما قيل من أن جهالة الحال مندفعة عن كل من روى له صاحبا الصحيحين ، ومن ادعى خلاف ذلك فكأنما نازعهما في دعواهما بمعرفة رواتهما ، قال الحافظ ابن حجر في كلامه حول رجال البخاري : ولا شك أن المدعى لمعرفته مقدم على من يدعي عدم المعرفة لما مع المثبت من زيادة العلم ، قال : ومع ذلك فلا نجد في رجال الصحيح أحدًا ممن يسوغ إطلاق اسم الجهالة عليه أصلا ( هدى الساري ص 384 ) .
ويلحق بهؤلاء من أخرج لهم في الصحيحين ممن لم يذكر بجرح ولا تعديل فهؤلاء يحتج بهم لأن الشيخين قد احتجا بهم ، ولأن الدهماء أطبقت على تسمية الكتابين بالصحيح ، هذا مفاد ما قاله السخاوي وزاد عن ابن دقيق العيد تسمية أن إطباق جمهور الأمة أو كلهم على كتابيهما يستلزم إطباقهم أو أكثرهم على تعديل الرواة المحتج
- 82 -(12/82)
بهم فيهما اجتماعًا وانفرادًا ، مع أنه قد وجد فيهم من تكلم فيه . قال السخاوي : ولكن كان الحافظ أبو الحسن بن الفضل شيخ شيوخنا يقول فيهم : إنهم جاوزوا القنطرة ، يعني أنه لا يلتفت إلى ما قيل فيهم ، ثم ذكر عن ابن دقيق العيد تأكيده لذلك ، ووافقه الحافظ ابن حجر عليه . ( السخاوي فتح المغيث 1/297 ) .
أما من لم يسلموا من الطعن من رواة الصحيحين ، فهذا كله محمول على أنه لم يثبت جرحهم بشرطه فإن الجرح لا يثبت إلا مفسرًا مبين السبب عند الجمهور . وهذا هو مذهب البخاري ومسلم عند تعارض الجرح والتعديل في الرواة ( الخطيب ، الكفاية / 179 ) وهو في النهاية مصير منهما إلى توثيق من رويا عنه في الجملة .
ويبقي أخيرًا أن نوضح أن هناك فرقا بين رواية الحديث عن الراوي الضعيف وكتبها . ذلك أن الكتابة لا تحتمل معنى التعديل على الوجه الذي هو في الرواية ، وقد تكون الكتابة من أجل التشهير بالراوي وبيان عجائبه ، أي أنها تكتب لا لأن تروى ، ولكن كشاهد ... وما أكثر ما روى الكبار حديث مثل هؤلاء ولم يحدثوا بها كالإِمام أحمد الذي أسقط من المسند كثيرين لم يخرج فيه عنهم لهذا السبب . ولما ذكر ابن معين هذه الأحاديث قال ساخرًا سجرنا بها التنور ( ابن رجب ، شرح العلل 111 ) . لكن إن كانت هذه الرويات المكتوبة عن ضعفاء يمكن جبر ضعفهم لسوء حفظ وما شاكله من مظاهر عدم الضبط الأخرى فإن الغرض منه هو الاعتبار والمتابعة .
ويقابل هذا التجريح بترك الرواية عن الراوي جملة ، وخاصة حين يتبين للنقاد مبلغ ضعفه . والترك من أبلغ الجرح ، وعادة ما يكون بعد سبر مرويات الراوي ، والاطلاع على حاله ، وربما كان ذلك بعد قبول الرواية عنه أو كتابة حديثه ، ثم يظهر من حاله عدالة أو ضبطًا ما يسوغ أو يوجب عند بعضهم ترك الرواية عنه ، كترك ابن المبارك لعمرو بن ثابت الكوفي وقد روى الموضوعات ( الذهبي ميزان 1/488 ) كما ترك آخرين ( ابن رجب ، شرح العلل 92/93 ) .
وتحسن الإِشارة هنا إلى التفريق بين من يقال فيه متروك الحديث ، ومن يقال فيه تركه فلان لأن متروك الحديث وصف يفيد الديمومة ، وأن عامة النقاد قد تركوا روايته ، ولا يصدق هذا على من قيل فيه تركه فلان ، فقد يتركه ناقد لاعتبار ولا يتركه آخرون
- 83 -(12/83)
للاعتبار ذاته ، ومن ذلك مثلا ترك وكيع لحديث سفيان بن عيينة - وهو من الكبار - وكان سفيان يشكو ذلك ، وكأنه تركه للاختلاط الذي اعتراه أخيرًا .... في حين أن أحدًا لم يقدح المذكور ( الآجري ، سؤالات 3/133 ) . كما كان وكيع لا يحدث عن هشيم لمخالطة السلطان ، ولا إبراهيم الزهري ، وربما كان لأن هذا كان ميالا إلى الطرب ، ولا ابن علية ، وكأنه للقول بخلق القرآن ( الآجري . سؤالات 3/132 - 133 ) مع أن المذكورين من كبار المحدثين وحفاظهم . ولم يترك أحد حديثهم .
ثم إن المتروك في الجملة أبلغ في الجرح من تركه فلان ... وأكثر ما يرد هذا المصطلح في جانب الطعن في العدالة لأن المتروك يقال في من اتهم بالكذب في حديث الناس . وهذا وأشباهه هم الذين يتولون رواية الغرائب والعجائب ، في حين أن ترك بعض النقاد لحديث بعضهم ربما كان الحامل عليه معنى آخر ، وأكثر ما يكون من جهة ضبطه ، ولا يكون للعدالة مدخل فيه ومثل هذا كثير .
المظهر الرابع :
التعديل والتجريح الضمني بدلالة سكوت الأئمة
وهو ضمني أيضًا ، لكنه في التوثيق ، ويكون عادة بمجرد ذكر الراوي في كتب بعض النقاد في معرض الرواية عنه مع السكوت عليه ، أي من غير تعرض له بجرح ولا تعديل ، ومن هؤلاء النقاد البخاري ، وأبو حاتم وأبو زرعة الرازيان ، وابن أبي حاتم في آخرين ... حيث فهم بعض اللاحقين من أهل هذا الفن أن سكوت هؤلاء يعد من قبيل الرضا بهم ، والميل إلى توثيقهم ما لم يجرح بالطبع ، ولم يأت بما ينكر عليه ، بمعنى أن حديث هؤلاء لا يتنزل عن درجة الحسن في العادة .
وممن نسب هذا إلى البخاري وابن أبي حاتم العلامة التهانوي ، حيث قال : كل من ذكره البخاري في تواريخه ولم يطعن فيه فهو ثقة ، فإن عادته ذكر الجرح والمجروحين .. وكذا ذكره عن ابن أبي حاتم ، مستشهدًا بما فهمه من كلام الحافظ ابن حجر بعد قوله في بعض الرواة الذين أوردهم في التعجيل : ذكره ابن أبي حاتم
- 84 -(12/84)
ولم يذكر فيه جرحًا ... قال التهانوي : وصنيعه يدل على أن سكوت ابن أبي حاتم عن الجرح توثيق ، كسكوت البخاري ... كما ألحق التهانوي سكوت أبي زرعة وأبي حاتم بسكوت البخاري وعدَّه من نفس القبيل . ( التهانوي قواعد : 223 ، 358 ، 403 ، 404 ) .
وقد تبنى الشيخ أبو غُدَّة محقق كتاب التهانوي ما ذهب إليه شيخه - أعني التهانوي - ونسبه أيضًا إلى الشيخ أحمد شاكر ، والشيخ حبيب الرحمن الأعظمي والكل من شيوخه ... وزاد على من ذكرت من النقاد الذين كان قد حكم على أن سكوتهم يدل على التوثيق ، ابن يونس المصري ، وابن حبان ، وابن عدي ، والحاكم الكبير ، وابن النجار البغدادي ، قال بعد توكيده لهذا : ولا يعد - يعني السكوت - من باب التجريح والتجهيل (1)
(هذا من بحث الشيخ أبي غدة الموسوم بسكوت المتكلمين في الرجال عن الراوي الذي لم يجرح ولم يأت بما ينكر عليه يعد توثيقًا له ، وهو مذكور في أول كتاب الأستاذ عداب الحمش الذي سماه : رواة الحديث الذين سكت عنهم أئمة الجرح والتعديل بين التوثيق والتجهيل . ص 23 . )
.
أما من نسب إليهم هذا الفهم من النقاد المحققين على ما ذكره الأستاذ أبو غدة فهم جمع غفير ، كالمجد بن تيمية ، والمنذري ، والذهبي ، وابن القيم ، وابن كثير ، وابن عبد الهادي ، والزيلعي ، إضافة إلى الحافظ ابن حجر كما قد سبق ، وقد عبر عن هذا الجمع من النقاد بجمهور المتأخرين ، حين قال : وهو - أي اعتبار السكوت تعديلا - الذي مشى عليه جمهور كبار الحفاظ الجهابذة المتأخرين . ( عذاب ، رواة الحديث . مقال أبي غدة ص 11 - 61 ) .
قلت وهذا بالطبع كله مبني على مدى سلامة هذا التصور ، فإن سلم فهو تعديل ضمني عند من رآه ومشى عليه ، غير أنا لا نجد نصًّا صريحًا عن أحد ممن ذكر اسمه من هؤلاء النقاد يدل على اعتبار السكوت في ذاته دليل توثيق ، لا عن البخاري ، ولا عن غيره . وقد يكون هذا التصور صحيحًا في الواقع ، لكنه مبني على غلبة ظن من ذهب إليه ، ولربما بناه على تتبع واستقراء لمواضع كما هو مبين في رسالة الشيخ أبي غدّة ، بمعنى أن بالإِمكان التدليل على ذلك بذكر بعض الشواهد ، وهذا بالطبع غير كاف للإِلزام به ، إذ أن بالإِمكان التدليل على خلافه وبالأسلوب ذاته . بمعنى أن الأمر يبقى محكومًا بالاجتهاد والتصور ، وقدرة هذا المحدث أو ذلك على إقناع مخالفه .
(1)هذا من بحث الشيخ أبي غدة الموسوم بسكوت المتكلمين في الرجال عن الراوي الذي لم يجرح ولم يأت بما ينكر عليه يعد توثيقًا له ، وهو مذكور في أول كتاب الأستاذ عداب الحمش الذي سماه : رواة الحديث الذين سكت عنهم أئمة الجرح والتعديل بين التوثيق والتجهيل . ص 23 .
- 85 -(12/85)
على أني لم أقف على خلاف بين نقاد الحديث في هذه المسألة ؛ لأن هذه المسألة لم يكن لها وجود في الأصل ، ولم تطرح بمثل هذا الطرح ، ولو طرحت في عصر الخطيب أو الذهبي ، أو حتى في عصر الحافظ ابن حجر وعلى هذا الوجه لأمكن هؤلاء وهم أهل التتبع والاستقراء الوصول إلى رأي سديد أو أقرب ما يكون إلى السداد ، فهم وفي أعصارهم لم يذكروا شيئًا عن سكوت البخاري مثلا ولا غيره ، ولا ذكروا في ذلك فهمًا معينًا ، غير ما ذكر عن ابن القطان الفاسي الذي اعتبر سكوت البخاري وابن أبي حاتم عن الرواة تجهيلا لهم . ( عداب ، رواة الحديث . مقال أبي غدّة ص11 ) ولم يتعد هذا القول أن يكون رأيًا خاصًّا بعيدًا عن وجود أي نزاع . ورد الشيخ أبو غدّة قول ابن القطان هذا بحجة تشدد المذكور وتعنته في توثيق الرجال . ( المصدر السابق ص6 ) .
ولعل من المفيد أن ننبه إلى أن المسكوت عنهم أو بعبارة أدق : أكثر المسكوت عنهم عند الأئمة المعنيين ، وفي ظل هذا الطرح هم من المستورين ، أي ليسوا بثقات مشهورين ، ولا بضعفاء معروفين ؛ لأن السكوت عن مثل هؤلاء ليس بتوثيق ، ولو لم يرد بهم المستورون - وهم من عرفوا بالعدالة ظاهرًا لا باطنًا - لما وقع الخلاف في فهم معنى هذا السكوت (1)
(هناك بحث أعده الأستاذ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ في مجلة كلية أصول الدين . ناقش فيه أيضًا الشيخ أبا غدة . وقد نشر في العدد الثالث عام 1400-1401 هـ . )
.
ويذكر أن أول من تناول بحث هذا الموضوع وحرره ابتداء الأستاذ الشيخ أبو غدة في رسالة له خاصة بهذا الشأن ، ضمنها ما سبقت الإِشارة إليه في مواطنه . وكانت هذه الرسالة مدعاة للمزيد من البحث وإعادة النظر ، فقام أحد المعاصرين - وهو الأستاذ عداب الحمش - بكتابة بحث تناول بنوع تفصيل ما تضمنه البحث الأول ، ورد ما فيه وخرج بخلاصة مفادها أن سكوت النقاد على الرواة لا يفيد التعديل وليس هناك من دليل يدل على ذلك ( عداب . رواة الحديث : ص 135 ) .
وعلى فرض التسليم بتصور هذا الخلاف ووجوده فلا أحسب أن ما يترتب عليه من أثر كبير ، وخاصة في عصورنا هذه ، بعد أن حكم المحدثون على الأحاديث من جهة القبول والرد ، ويندر في أعصارنا هذه أن نجد حديثًا قد خلا من كلام المتقدمين ، وإن وجد فهو قليل نادر ، ولا يتعدى أن يكون أثر هذا الخلاف - إن وجد - توثيق من ليس
(1)هناك بحث أعده الأستاذ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ في مجلة كلية أصول الدين . ناقش فيه أيضًا الشيخ أبا غدة . وقد نشر في العدد الثالث عام 1400 - 1401 هـ .
- 86 -(12/86)
أهلا لذلك - أي من المستورين - ومن ثم تصحيح حديث ضعيف ، وهو غير مشكل أيضًا وقد حصل مثل ذلك عند المتقدمين وبشكل أكثر صراحة ، حين وثق المتساهلون من حقه التضعيف ، وضعف المتعنتون في التوثيق من شأنه التوثيق .
ولكن الذي تميل إليه النفس ولا تجزم به . أن هذا السكوت لا يدل على التوثيق عند من سكت ، بل صرح ابن أبي حاتم بخلافه حين قال : على أنا قد ذكرنا أسامي كثيرة مهملة من الجرح والتعديل ، ليشتمل الكتاب على كل من روي عنه العلم ، وجاء وجود الجرح والتعديل فيهم ، فنحن ملحقوها بهم من بعد إن شاء اللَّه تعالى . ( ابن أبي حاتم ، الجرح 2/38 ) .
أي أن السكوت هنا لا يفهم منه سوى التجهيل عنده . على أن يكون الحكم لمن تكلم في الراوي السكوت عليه لمن بعده ، لأن ابن أبي حاتم والبخاري من قبله كانا على دراية كبيرة بما قيل في شأن الرواة ، ولو وجدا ما يقال لقالاه ، كما أن عددًا ممن سكت البخاري عنهم في التاريخ الكبير جعلهم في التقريب محمد بن إبراهيم الباهلي وعثمان بن زفر ، وإسحاق بن عبيد اللَّه المدني .. وممن ضعف عثمان بن سعد الكاتب ، وأزهر بن راشد الكاهلي ، وعتبة بن يقظان ( تقريب ص 466 ، 383، 102، 383 ، 97 ، 381 ) أي أن إلزام الحافظ ابن حجر بأن سكوت البخاري التعديل فيه تجوز وهذا بالطبع يصدق على غيره على ما يظهر .
لكني في الوقت ذاته أرى التفريق بين سكوت ابن أبي حاتم ، وقد عبر عن رأيه فيمن سكت عنهم بصراحة ، وبين سكوت البخاري ، ولا أظنه عنده من باب الحكم بالجهالة ؛ لأن البخاري عادة ما يقول فيمن لا يعرفه : لا أدري من هو ، أو إن لم يكن ابن فلان ، أو أخا فلان فلا أدري من هو ؟ والجهالة جرح بلا ريب ( التاريخ الكبير 50/65 ، 165 ) .
إن الذي أراه في هذه المسألة ، هو أن هذا السكوت لا يدل على التوثيق بوجه عام وإن دل - وهذا بالنظر إلى تبني عدد من الكبار والمشتغلين بعلم الرواية ، كما ذكر ذلك عنهم - فهو غير مطرد ، ولا ينزل المسكوت عنه غير ابن أبي حاتم في رتبته عن حد
- 87 -(12/87)
الستر في الجملة ، والمستور محتج به عند طائفة معتبرة من العلماء وخاصة من تقادم العهد بهم ، وكانوا من القرون المشهود لها بالخيرية ( السيوطي . تدريب 1/316 ، 317 ) .
الخاتمة
لا يخفى على كل من له دراية بعلم الجرح والتعديل ، أنه أكبر في مجمل حيثياته من أن يستوعبه مجلد وهذا بالطبع إن تيسر جمع كل تلك الحيثيات بتفصيلاتها - وهو بعيد ما لم تتظافر له جهود - وقد حرصت في هذا البحث المتواضع أن أعالج جزئية واحدة تتعلق بالجرح والتعديل من جهة الصياغة والدلالة وما يندرج تحت ذلك من مفاهيم غلب عليّ الظن أنها تكوِّن عن الموضوع تصورًا لا بأس به من جهة ، وليكون نوع مساهمة في ميدان البحث المنهجي عند المحدثين ، تضاف إلى مساهمات أخر من جهة أخرى ... على أمل أن أكون قد وفقت لاختيار وطرح ما يحقق الغرض من موضوعات البحث وجزيئاته .
وفي الجملة فإن إلقاء نظرة فاحصة على ما خلفه نقاد الحديث من تراث فكري منهجي في ميدان البحث عن أهلية الرواة على اختلاف بلدانهم ومذاهبهم واتجاهاتهم الفكرية ، وميولهم الشخصية وتباعد أجيالهم لهو أمر يستحق التقدير والإِعجاب ، ومقومات هذا التقدير التي تستحق في ذاتها تصانيف مستقلة كثيرة بحيث يمكن القول : إن هذا الفريق من العلماء كان محط العناية الإِلهية ، بما أكدوه من صبر وجلد على البحث والمتابعة ، وغيرة على الدين وحرص على صيانة السنة ويمكن بالإِجمال أن أشير على أهم تلك المقومات .
1 - الحرص الشديد على صيانة السنة النبوية من خلال البحث والتتبع للرواة ، للوصول إلى مدى أهليته للرواية . حتى حكموا على كل راو بما هو أهله .
2 - قوة الصبر والاحتمال ، إذ الحكم على الرواة يستلزم جهدًا طويلا في بعض الأحايين للوصول إلى ذلك الحكم . وخاصة في حق المغمورين منهم من جهة
- 88 -(12/88)
البحث عمن يعرفونهم أو من جهة تتبع مروياتهم ومقارنتها بمرويات الثقات ، أو الاختبار لهم إن أمكن .
3 - الرحلة في طلب العلم بقصد الأخذ مباشرة عن المشهورين ، وللحيلولة دون الأخذ عن الضعفاء وغير المعروفين .
4 - مواكبة النقاد للرواة في كل عصورهم ، بحيث لم يخل عصر من عصور الرواية من جيل من هؤلاء النقاد . بحيث تم استيعاب جملة الرواة للحديث وصفًا وحكمًا .
5 - يمثل المحدثون في الجملة مدرسة فكرية مستقلة كان أتباعها من الكثرة بحيث يصعب تعداد بلدانهم . بل عَدَّ المحدثون في عصر تربع المعتزلة مقعد السلطة أيام الدولة العباسية حملة اللواء لنصرة العقيدة وفكرة أهل السنة .
6 - الفكر المنهجي عند المحدثين في ميدان نقد الحديث ورواته . وأهم سمات هذا المجتمع :
( أ ) قناعة المحدثين بأن البحث في الرواة وسيلة لا غاية ، فكان الورع من أهم سمات النقاد ، والبعد عن المجازفة .
( ب ) الموضوعية ، إذ الحكم لا يصدر في العادة إلا بعد استقراء وتتبع ، ولو طلبت الدليل على الحكم لوجدته .
( جـ ) الأمانة والنزاهة وعدم التحامل في الحكم ، حيث كانوا يذكرون الراوي بكل ما فيه . إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر . وقد يجمعون في حكمهم عليه بحيث يقولون مثلا : صدوق سيِّئ الحفظ ، أو فلان رجل سوء - ربما لسوء معتقده - لكن أحاديثه ، أو ليس في أحاديثه نكارة ... وهذا كثير جدًّا .
( د ) الجرأة في قول الحق . وما أكثر من لم يقبل روايته عن والده لضعفه ، مثل : علي بن المديني . ووكيع الذي لم يرو عن أبيه إلا مقرونًا بغيره ، أو جرح ولده أو قريبه ... وهم كثير .
( هـ ) الدقة العلمية ، ويندرج تحت هذا أمور أهمها :
1 - القدرة على استيعاب اللغة العربية - وهذا خاص بالنسبة لغير العرب وهم يشكلون نسبة كبيرة ، إن لم يكونوا هم الأكثر بالفعل - وتوظيفها بما يخدم هذا(12/89)
الموضوع من جهة صياغتهم واستعمالهم لعبارات وألفاظ كثيرة وصفًا لحال الرواة .
2 - استخدام مصطلحات كثيرة تميزت بالدقة والاقتضاب ، وتوظيف هذه المصطلحات بحيث صار لها دلالاتها الخاصة التي لا يدرك معانيها إلا ذوو الدراية والخبرة ، وهو دليل تميز ونبوغ بالنظر لمعطيات هذا الموضوع .
3 - التلازم الشديد بين الوصف وواقع حال الموصوف .
4 - وضوح الرؤية ، والإِدراك البالغ لحيثيات هذا العلم وقواعده وغاياته .
5 - استخدامهم لمظاهر شتى تخرج عن إطار الوصف الصريح في ميدان الجرح أو التعديل كالإِشارة على ما قد سبق بيانه .
6 - الجدية والوضوح في الحكم من غير مهادنة ولا احتمال ، مع الميل إلى الدعابة حين يكون لها ما يسوغ .
7 - سلامة التصور والمنهج ودقة النتائج .
إن بالإمكان أن يقال الكثير ، وحسبي ما قد ذكرته ، سائلا أن يكلل اللَّه بالنجاح أعمال كل المخلصين ، إنه نعم المولى ونعم النصير .
- 90 -(12/90)
- 91 -(12/91)
المصادر والمراجع
1 - الآجري . محمد بن علي بن عثمان . سؤالات الآجري لأبي داوود السجستاني . تحقيق محمد العمري مؤسَسة الرسالة ، نشر في الجامعة الإِسلامية ، المركز العلمي . 1983م .
2 - البخاري . محمد بن إسماعيل 356هـ . الجامع الصحيح . دار الفكر للطباعة . بيروت 1981م التاريخ الكبير. تصحيح عبد الرحمن العلمي . دائرة المعارف العثمانية . حيدر آباد الدكن 1378هـ .
3 - التهانوي . ظفر أحمد العثماني الهندي . قواعد في علوم الحديث . تحقيق أبي غدة مكتب المطبوعات الإِسلامية . حلب .
4 - ابن أبي حاتم . محمد بن عبد الرحمن الرازي 227هـ . الجرح والتعديل . دار الكتب العلمية بيروت . لبنان .
5 - حاجي خليفة كشف الظنون .
6 - ابن حبان . محمد بن حبان البستي 354هـ . المجروحون الطبعة الأولى . حلب 1396هـ .
7 - ابن حجر أحمد بن على العسقلاني 852هـ . تقريب التهذيب . تحقيق محمد عوامة . دار الرشيد . حلب . الطبعة الرابعة 1992م تهذيب التهذيب طبع مجلس دائرة المعارف العثمانية . الهند حيدر أباد الدكن . فتح الباري المطبعة السلفية . تحقيق سماحة الشيخ عبد اللَّه بن عبد العزيز بن باز . نزهة النظر ، شرح نخبة الفكر ضمن مجموعة الرسائل الكمالية . مكتبة المعارف . الطائف .
8 - ابن حنبل - أحمد بن محمد بن حنبل 241هـ . العلل ومعرفة الرجال . تحقيق طلعت قوج ، وإسماعيل أوغلي . أنقرة 1963م المسند . المكتب الإِسلامي . ودار صادر . لبنان .
9 - الخطيب . أحمد بن علي بن ثابت البغدادي 463هـ .الكفاية في علم الرواية . المكتبة العلمية . المدينة المنورة .
- 92 -(12/92)
10 - الذهبي . محمد بن أحمد الذهبي 748هـ ، ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل . ضمن مجموعة رسائل . تحقيق عبد الفتاح أبو غدة . دار القرآن الكريم . بيروت . ميزان الاعتدال . طبعة الحلبي .
11 - ابن رجب . عبد الرحمن بن شهاب الدين البغدادي . 795 هـ ، شرح علل الترمذي . تحقيق صبحي الحميد . مطبعة العاني ، بغداد . نشر وزارة الأوقاف العراقية .
12 - أبو زرعة . أسئلة البرذعي لأبي زرعة . تحقيق سعد الهاشمي .
13 - السخاوي . محمد بن عبد الرحمن 902 هـ فتح المغيث ، شرح ألفيه الحديث . تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي . نشر النمنكاني . المدينة المنورة .
14 - السيوطي . عبد الرحمن بن أبي بكر 911 هـ ، تدريب الراوي . تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف . الطبعة الثانية دار الكتب الحديثة . القاهرة 1966 م .
15 - ابن الصلاح . عثمان بن عبد الرحمن 643 هـ . مقدمة في علوم الحديث . تحقيق بنت الشاطئ . دار الكتب القاهرة 1974 م .
16 - ابن عدي . عبد اللَّه بن عدي الجرجاني 365 هـ . الكامل في ضعفاء الرجال ، الطبعة الثانية . دار الفكر بيروت 1985 م .
17 - العراقي . عبد الرحيم بن حسين 806. التبصرة والتذكرة . تصدير محمد حسن الهراقي . بيروت . لبنان .
18 - القسطلاني ، أحمد بن محمد 923 هـ . إرشاد الساري البخاري . طبعة الميمنية . مصر 1307 هـ .
19 - اللكنوي . محمد بن عبد المحيي الهندي 1304 هـ . الرفع والتكميل في الجرح والتعديل . تحقيق أبي غدة . مكتب المطبوعات الإِسلامية . حلب .
20 - مسلم بن الحجاج القشيري 261 هـ . الجامع الصحيح بشرح النووي . مؤسسة مناهل العرفان . بيروت .
ابن منظور ، أبو الفضل ، جمال الدين محمد بن مكرم الأفريقي العربي . لسان العرب . دار صادر . بيروت .
- 93 -(12/93)