مسئولية الفتوى الشرعية و ضوابطها
و أثرها في رشاد الأمة
الدكتور/ محمد فؤاد البرازي
بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ }
[النحل : 43]
مقدمة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد :
فإن من أنبل ما يشتغل به المشتغلون وخير ما يعمل له العاملون نشر علم نافع تحتاج إليه الأمة يهديها من الضلالة وينقذها من الغواية ، ويخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد .
وكيف لا يكون كذلك وقد حض الله تعالى عليه بقوله الكريم : { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } [التوبة: 122].
وأوجب على أهل العلم نشره ، ونهاهم عن كتمانه فقال تعالى { وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } [آل عمران: 187]
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( من علم علما فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار )) (1)
__________
(1) أخرجه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، وابن حيان ، والحاكم وصححه من حديث أبي هريرة ، وقال الترمذي : حديث حسن . اهـ المغني عن حمل الأسفار في الأسفار بما في الإحياء من الأخبار للعراقي ، حديث رقم 46.(1/1)
ولنشر العلم وسائل كثيرة من أهمها : التصدي للإفتاء لعموم الحاجة إليه ، وكثرة التعويل عليه ، لاسيما في هذه الأيام التي قل فيها الإقبال على العلم واكتفى معظم المستمسكين بهذا الدين باستفتاء العلماء عما يعرض لهم ، أو يؤرق بالهم لتصحيح عبادة ، أو تقويم معاملة ، والقليل منهم من يلزم مجالس العلماء حتى يتخرج على أيديهم ويصبح بالتالي وارثا لعلومهم .
وما زال الإفتاء قائما منذ فجر الإسلام ، وحتى هذه الأيام ، حتى خلف العلماء كثيرا من كتب الفتاوى والنوازل التي زخرت بها المكتبة الإسلامية ، كانت وما تزال مصدرا من مصادر الإشعاع العلمي و الحضاري الذي ترك بصماته في نهضة الأمم ورقي الشعوب .
لهذا كانت منزلته عظيمة ، ومكانته كبيرة ، لأنه : (( بيان حكم الله تعالى بمقتضى الأدلة الشرعية على جهة العموم والشمول )) (1) .
وقد تقلد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا المنصب العظيم ، فكان له منصب النبوة ، ومنصب الإمام ، ومنصب الإفتاء .
د/ محمد فؤاد البرازي
المبحث الأول
الفتوى منزلتها والحاجة إليها
كما ذكرنا آنفا في المقدمة ووضحنا أهمية الفتوى والتصدي للإفتاء لعموم الحاجة إليه وكترة التعويل عليه ، ولما كان الإفتاء بهذه المثابة فإن من الحري بنا أن نتحدث عن الفتوى ، ومنزلتها ، والحاجة إليها .
أ- تعريف الفتوى :
الفتوى لغة : اسم مصدر بمعنى الإفتاء ، والجمع الفتاوى والفتاوي يقال : أفتيته فتوى وفتيا : إذا أجبته عن مسألته .
والفتيا : تبين المشكل من الأحكام ، وتفاتوا إلى فلان : تحاكموا إليه وارتفعوا إليه في الفتيا(2) .
وفي تفسير قوله تعالى : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ } [النساء: 127].
قال ابن عطية : أي يبين لكم حكم ما سألتم .
__________
(1) مختارات من الفتاوى والبحوث للشيخ جاد الحق ص / 8.
(2) لسان العرب ، والقاموس المحيط .(1/2)
قوله : ( فيهن ) أي يفتيكم فيما يتلى عليكم(1) .
أما الفتوى في الاصطلاح : فقد عرفها العلماء بتعريفات عديدة :
قال القرافي : الفتوى إخبار عن حكم الله تعالى في إلزام أو إباحة(2) .
وقال ابن الصلاح : (( قيل في الفتيا : إنها توقيع عن الله تبارك وتعالى )) (3)
وعرفها ابن حمدان الحراني الحنبلي بقوله : (( تبيين الحكم الشرعي عن دليل لمن سأل عنه )) (4) .
وهذا التعريف هو الذي نختاره من تلك التعريفات لكونه متضمنا لما قبله من الإخبار عن حكم الله تعالى ، ويزيد عليها : اعتماد الحكم الشرعي على دليل وكونه مشتملا على السؤال عن الوقائع وغيرها ، لهذا كان أولى بالاختيار من غيره .
ب- منزلة الفتوى ، والحاجة إليها :
تكتسب الفتوى أهمية بالغة لشرفها العظيم ، ونفعها العميم ، لكونها (( المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب ، حيث أفتى عباده ، فقال في كتابه الكريم : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ } [النساء: 127].
__________
(1) المحرر الوجيز 4/241 الطبعة الأولى بقطر .
(2) الفروق 4/53.
(3) أدب المفتي والمستفتي ص /72.
(4) صفة الفتوى والمستفتي ص/40 ، وشرح المنتهي 3/456 مطبعة أنصار السنة .(1/3)
وقال أيضا : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ } [النساء: 176] فقد نسب الإفتاء إلى ذاته وكفى هذا المنصب شرفا وجلالة أن يتولاه الله تعالى بنفسه قال ابن القيم : (( وأول من قام به من هذه الأمة سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين عبد الله ورسوله ، وأمينه على وحيه ، وسفيره بينه وبين عباده فكان يفتي عن الله بوحيه المبين ، وكان كما قال له أحكم الحاكمين { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ } [ص: 86] فكانت فتاويه - صلى الله عليه وسلم - جوامع الأحكام ومشتملة على فصل الخطاب )) (1)
ومن فضل الله تعالى على نبيه الكريم - صلى الله عليه وسلم - أن جمع له منصب النبوة المقتضية لنقل الأحكام بالوحي عن الله تعالى ، ومنصب الإمامة المقتضية للحكم والإذن فيما يتوقف عليه الإذن من الأئمة ومنصب الإفتاء بما يظهر رجحانه عنده ، فهو سيد المجتهدين(2)
ثم خلفه في منصب الإفتاء كوكبة من صحابته الكرام قامت به أحسن قيام ، فكانت سادة المفتين ، وخير مبلغ لهذا الدين قال قتادة في تفسير قول الله تعالى { وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ } [سبأ: 6] قال أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - .
ثم جاء من بعدهم التابعون وأتباع التابعين وكثير من الأئمة المجتهدين ، والعلماء العاملين ، فأفتوا في دين الله تعالى بما آتاهم من علم غزير وقلب مستنير ، ورقابة لله العليم الخبير ، فأسدوا إلى الأمة خدمات جليلة كان لها أثر في نشر العلم ، وإصلاح العمل .
__________
(1) إعلام الموقعين 1/11 .
(2) انظر التمهيد في تخريج الفروع على الأصول للأسنوي ص/509 ، والأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام للقرافي ص/99-109 ، تحقيق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة .(1/4)
ومما يظهر منزلة الفتوى أيضا : أنها بيان لأحكام الله تعالى في أفعال المكلفين لهذا شبه ابن القيم المفتي بالوزير الموقع عن الملك ، فقال : (( إذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله ولا يجهل قدره وهو من أعلى المراتب السنيات فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض و السماوات )) (1) . وقال النووي : (( ولهذا قالوا : المفتي موقع عن الله تعالى )) .
ولئن كانت حاجة الأمة إلى الفتوى كبيرة فيما مضى ، فإن الحاجة غليها في هذه الأيام أشد وأبقى ، فقد تمخض الزمان عن وقائع لا عهد للسابقين بها ، وعرضت للأمة نوازل لم يخطر ببال العلماء الماضين وقوعها ، فكانت الحاجة إلى الإفتاء فيها شديدة ، لبيان حكم الله تعالى في هذه النوازل العديدة إذ لا يعقل أن تقف شرعة الله العليم الحكيم عاجزة عن تقديم الحلول الناجحة لمشكلاتهم ، المتسعة لكل ما يحدث لهم أو يشكل عليهم ، وهي الشريعة الصالحة لكل زمان ، الجديرة بالتطبيق في كل مكان .
ج- تحريم القول على الله تعالى بغير علم :
بما أن الفتوى بيان لأحكام الله ، والمفتي في ذلك موقع عن الله فإن القول على الله تعالى بغير علم من أعظم الحرمات لما فيه من جرأة وافتراء على الله وإغواء وإضلال للناس ، وهو من كبائر الإثم .
أما أنه من كبائر الإثم فلقول الحق تبارك وتعالى { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [الأعراف: 33].
فقد قرن الله تعالى القول عليه بغير علم بالفواحش الظاهرة والباطنة والإثم والبغي والشرك للدلالة على عظم هذا الذنب وقبح هذا الفعل .
__________
(1) إعلام الموقعين 1/10.(1/5)
قال ابن القيم : (( وقد حرم الله سبحانه القول عليه بغير علم في الفتيا والقضاء ، وجعله من أعظم المحرمات بل جعله في المرتبة العليا منها ، وبعد أن ساق الآية التي أوردناها قال : فرتب المحرمات أربع مراتب :
وبدأ بأسهلها وهو الفواحش ثم ثنى بما هو أشد تحريما منه وهو الإثم والظلم ، ثم ثلث بما هو أعظم تحريما منها وهو الشرك به سبحانه ، ثم ربع ما هو أشد تحريما من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم ، وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي دينه وشرعه .
ومما يدل أيضا على أنه من كبائر الإثم قول الله تعالى : { وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ .مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النحل : 116، 117] .
فتقدم إليهم سبحانه بالوعيد على الكذب عليه في أحكامه ، وقولهم لما لم يحرمه : هذا حرام ، ولما لم يحله : هذا حلال ، وهذا بيان منه سبحانه أنه لا يجوز للعبد أن يقول هذا حلال وهذا حرام إلا بما علم أن الله سبحانه وتعالى أحله وحرمه(1) .
هذا ما يتعلق بكونه من كبائر الإثم .
وأما كونه إغواء وإضلالا للناس فلما روى الشيخان من حديث عبد الله بنعمرو بن العاص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور العباد ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا ، فأفتوا بغير علم ، فضلوا وأضلوا )) (2) .
لهذا هاب الفتيا كثير من الصحابة وتدافعوها بينهم لما جعل الله في قلوبهم من الخوف والرقابة .
__________
(1) إعلام الموقعين : 1/38.
(2) أخرجه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه ، كما في الجامع الصغير للسيوطي ، حديث رقم 1826.(1/6)
فعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : (( أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول )) وفي رواية (( ما منهم من أحد يحدث بحديث إلا ود أخاه كفاه إياه ، ولا يستفتي عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا )) (1) .
وعن الشعبي والحسن وأبي حصين بفتح الحاء قالوا : (( إن أحدكم ليفتي في المسألة لو وردت على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لجمع لها أهل بدر )) (2) .
وقد كان كثير من السلف الصالح إذا سئل عن مسألة لا يعلم حكمها قال للسائل لا أدري ، أو قال : الله أعلم ، عملا بما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - قوما يتمارون في القرآن فقال : (( إنما هلك من كان قبلكم بهذا ، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض ، وإنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضا ، ولا يكذب بعضه بعضا فما علمتم منه فقولوا ، وما جهلتم منه فكلوه إلى عالمه )) (3) .
وقال ابن مسعود : من كان عنده علم فليقل به ، ومن كان يكن عنده علم فليقل : الله أعلم ، فإن الله قال لنبيه : { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ } [ص: 86] (4) .
وروى الحافظ ابن الصلاح بسنده إلى محمد بن عبد الله الصفار أنه قال : سمعت عبد الله بن حنبل يقول : سمعت أبي يقول : سمعت الشافعي يقول : سمعت مالك بن أنس يقول : سمعت محمد بن عجلان يقول : إذا أغفل العالم لا أدري أصيبت مقاتله )) .
__________
(1) أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى 6/110 ، والدارمي في السنن 1/53 ، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 1/177 معزوا للبراء .
(2) المجموع 1/40 وأدب المفتي والمستفتي ص 76 ، وكنز العمال 5/241 ، وشرح السنة للبغوي 1/305 ، وسير أعلام النبلاء 5/416 ، وصفة الفتوى لابن حمدان ص 7.
(3) إعلام الموقعين 2/184.
(4) إعلام الموقعين 2/185.(1/7)
(( وقد عقب ابن الصلاح على هذا الأثر بقوله : هذا إسناد جليل عزيز جدا لاجتماع أئمة المذاهب الثلاثة فيه بعضهم عن بعض )) (1) .
وروى مالك مثل ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما(2) .
وقال عبد الرحمن بن مهدي : (( جاء رجل إلى مالك بن أنس يسأله عن شيء أياما ما يجيبه فقال : يا أبا عبد الله إني أريد الخروج ، وقد طال التردد إليك ، قال : فأطرق طويلا ، ثم رفع رأسه ، فقال : ما شاء الله يا هذا ، إني إنما أتكلم فيما أحتسب فيه الخير ، ولست أحسن مسألتك هذه )) (3) .
وعن أبي بكر الأثرم قال : (( سمعت أحمد بن حنبل يستفتي فيكثر أن يقول : لا أدري ، وذلك يما قد عرف الأقاويل فيه )) (4) .
وعن الهيثم بن جميل قال : (( شهدت مالك بن أنس سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها : لا أدري )) (5) .
وقد سئل الإمام مالك عن مسألة فقال : لا أردي فقيل له : إنها مسألة خفيفة سهلة ، فغضب وقال : ليس في العلم شيء خفيف ، أما سمعت قوله جل ثناؤه { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلاً } [المزمل:5] فالعلم كله ثقيل ، وبخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة .
__________
(1) أدب المفتي و المستفتي ص/67-77 ، وجامع بيان العلم وفضله 2/54 ، والفقيه والمتفقه 2/173 ، وأدب الشافعي ص107 ، والانتقاء لابن عبد البر ص37، 38 ، وكشف الخفاء 2/347 ، والآداب الشرعية 2/79، وبدائع الفوائد 3/276 ، وترتيب المدارك 1/146.
(2) صفة المفتي والمستفتي ص77 ، والانتقاء ص38 ، وجامع بيان العلم وفضله 2/54 ، وتذكرة السامع ص42 ، والمجموع 1/40.
(3) صفة المفتي والمستفتي ص 79 ، والحلية 3/323 ، وصفة الفتوى والمفتي ص8.
(4) صفة المفتي والمستفتي ص 79 ، والفقيه والمتفقه 2/174 -175 وصفة الفتوى والمفتي ص 8.
(5) صفة المفتي والمستفتي ص 79 ، والانتقاء ص 38 ، وت رتيب المدارك 1/146 ، وسير أعلام النبلاء 8/77 ، وصفة الفتوى ص 8.(1/8)
وقال : إذا كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تصعب عليهم مسائل ولا يجيب أحد منهم في مسألة حتى يأخذ رأي صاحبه مع ما رزقوا من السداد والتوفيق مع الطهارة فكيف بنا الذين قد غطت الخطايا والذنوب قلوبنا )) (1) .
د- وجوب التعاون ، والتحذير من التفرق والاختلاف :
فإذا كان هذا حال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سؤال بعضهم لبعض والتشاور فيما بينهم مع ما رزقوا من العلم والفهم ، والسداد والتوفيق ، أفلا نكون مع غفلتنا وكثرة خطايانا أكثر حاجة إلى التعاون والتآزر ، لاسيما في شأن الفتوى في دين الله تعالى حتى لا تتفرق للمسلمين كلمتهم ولا يختلفوا فيما بينهم وإن من أشنع صور التفرق والاختلاف : الشذوذ عن فتاوى علماء الأمة باستحداث فتاوى خاطئة في دين الله تعالى ، تؤدي بالآخذين بها إلى الجرأة على اقتحام حمى الله (( ألا و إن حمى الله محارمه )) (2) .
وليكن معلوما أن تتبع شواذ العلم ليس من العلم .
قال عبد الرحمن بن مهدي : (( لا يكون إماما في الحديث من تتبع شواذ الحديث ، أو حدث بكل ما يسمع أو حدث عن كل أحد )) (3) .
وقال أيضا : (( لا يكون إماما في العلم من أخذ بالشاذ من العلم ولا إماما في العلم من روى عن كل أحد ، ولا يكون إماما من روى كل ما سمع )) (4) .
__________
(1) صفة المفتي والمستفتي : ص80.
(2) أخرجه البخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، كما في الجامع الصغير ، حديث رقم 3856.
(3) صحيح جامع بيان العلم وفضله ، حديث رقم 1055 .
(4) صحيح جامع بيان العلم وفضله حديث رقم 1059.(1/9)
والخطير في الأمر أن يعتبر الشذوذ في هذه الأيام اجتهادا ، والجرأة على الإفتاء في دين الله تعالى تجديدا ، ثم يعرض ذلك بعبارات معسولة حتى تقبله العقول ، وتستسيغه النفوس ، مع الغفلة عن قول الله تعالى { وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ .مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النحل: 116، 117]
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( من أفتى بفتيا غير ثبت فإنما أثمه على من أفتاه )) (1) .
المبحث الثاني
مسئولية الفتوى الشرعية
إن مهمة الفتوى خطيرة ، وإن مسئولية المؤسسات الإسلامية تجاهها جد كبيرة ، لما لهذه المؤسسات من دور مؤثر في توجيه الجاليات المسلمة في المجتمعات غير الإسلامية فلا يجوز لها أن ترد الناس إلى المتساهل في فتواه ، أو المبالغ في دعواه ، فهذا يدفع الناس إلى الجرأة على الدين ورد أقوال العلماء العاملين .
كما لا يجوز لها تبني الفتاوى الخاطئة ، والآراء الشاذة وإذاعتها بين الناس بدعوى :
التيسير تارة .
وفهم الواقع تارة أخرى
والضرورة تارة ثالثة .
والحاجة التي تنزل منزلة الضرورة تارة رابعة .
فهذا منزع خطير يؤدي بالناس إلى الحيدة عن الالتزام بأحكام الشرع ، والميل لما تهواه النفس ويستسيغه الطبع .
إن اليسر الذي جاءت به الشريعة غير ما يدعو بعض الناس إليه ، وإن فهم الواقع لا يعني تطويع الأحكام الشرعية لما درج بعضهم عليه ، والقول بالضرورة لا يلجأ إليه إلا إذا تحققت شروطها والاعتماد على الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة لا يصح ما لم تستجمع ضوابطها .
__________
(1) أخرجه ابن ماجه ، والحاكم بإسناد حسن ، كما في صحيح الجامع الصغير وزيادته حديث رقم 6969.(1/10)
إن على المؤسسات الإسلامية أن تعي دورها وتدرك مسؤولياتها ، ولا تغفل عن الواجبات الكبرى الملقاة على عاتقها ، وإن من هذه الواجبات :
توثيق صلتها بالمجامع الفقهية الموثوقة الموجودة في البلاد الإسلامية التي يسهم في بحوثها وفتاواها علماء متخصصون متفرغون للبحث العلمي والغوص في درر المسائل مهتمون بدراسة القضايا المستحدثة لإصدار الفتاوى بشأنها بعيدا عن لي النصوص الشرعية أو تحميلها ما لا تحتمل من التفسيرات القسرية .
الرجوع في القضايا العاجلة إلى العلماء الأثبات المشهود لهم بسعة العلم ودقة الفهم ، ومعرفة الواقع ، وإدراك مقاصد الشارع ، الذين لا يلتفون على الأحكام الشرعية بتعليلات وهمية ، ولا يوردون على النصوص القرآنية والنبوية احتمالات جدلية ، ليقولوا بعد ذلك : (( إن النص إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال )) .
فلا يجوز لمسلم فردا كان أو مؤسسة أن يتجاوز نصا من نصوص الشرع لقول أحد من الناس كائنا من كان .
قال الإمام الشافعي : (( أجمع الناس على أن من استبانت له سنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس ، وتواتر عنه أنه قال : إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط )) (1) .
المبحث الثالث
ضوابط الفتوى
لقد سبق القول بأن الفتوى إخبار عن حكم الله ، وأنها توقيع عن الله لهذا كان إطلاق القول بالحل أو الحرمة من غير ضوابط افتراء على الله القائل في محكم كتابه : { وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ .مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النحل: 116، 117].
ويمكننا حصر أهم ضوابط الفتوى فيما يلي :
1- الاعتماد على الأدلة الشرعية :
__________
(1) إعلام الموقعين 2/282.(1/11)
إن أول ما يجب توافره في الفتوى لتكون محلا للاعتبار ، اعتمادها على الأدلة الشرعية المعتبرة لدى أهل العلم .
وأول هذه الأدلة : كتاب الله تعالى .؟
وثانيها : سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلا يجوز للمفتي أن يتعداهما إلى غيرهما قبل النظر فيهما ، ثم الاعتماد عليهما ، كما لا يجوز مخالفتهما اعتمادا على غيرهما والأدلة على ذلك من كتاب الله تعالى كثيرة منها :
قول الله تعالى { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِينًا } [الأحزاب: 36].
ومنها قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [الحجرات: 1].
أي لا تقولوا حتى يقول ولا تأمروا حتى يأمر ، ولا تفتوا حتى يفتي ولا تقطعوا أمرا حتى يكون هو الذي يحكم فيه ويمضيه .
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما : (( لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة )) .
وروى العوفي عنه قال : (( نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه ))
والقول الجامع في معنى الآية : لا تعجلوا بقول ولا فعل قبل أن يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو يفعل )) (1)
وأما الأدلة من السنة فكثيرة نكتفي منها بالحديث التالي :
__________
(1) إعلام الموقعين 1/51.(1/12)
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر حديث اللعان وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( أبصروها ، فإن جاءت به أكحل العينين ، سابغ الإليتين ، خدلج الساقين(1) فهو لشريك بن سحماء ، وإن جاءت به كذا وكذا فهو لهلال ابن أمية )) فجاءت به على النعت المكروه ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( لو ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن )) (2) .
يريد والله ورسوله أعلم أنه كان يحدها لمشابهة ولدها للرجل الذي رميت به ، ولكن كتاب الله فصل الحكومة ، وأسقط كل قول وراءه ، ولم يبق للاجتهاد بعده موقع(3) .
فالفتوى الشرعية إذن يجب أن تعتمد على كتاب الله تعالى ، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ولهذا يحسن بالمفتي أن يبين الدليل ، لأن جمال الفتوى ، وروحها هو الدليل (( وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل عن المسألة فيضرب لها الأمثال ، ويشبهها بنظائرها وكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سئل أحدهم عن مسألة أفتى بالحجة نفسها ، فيقول قال الله تعالى كذا ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا أو فعل كذا ، فيشفي السائل ويبلغ القائل ، وهذا كثير جدا في فتاويهم لمن تأملها .
ثم جاء التابعون والأئمة من بعدهم فكان أحدهم يذكر الحكم ثم يستدل عليه وعلمه يأبى أن يتكرم بلا حجة ، والسائل يأبى قبول قوله بلا دليل ، ثم طال الأمد وبعد العهد بالعلم ، وتقاصرت الهمم إلى أن صار بعضهم يجيب بنعم أو لا فقط ، ولا يذكر للجواب دليلا ولا مأخذا ، ويعترف بقصوره وفضل من يفتي بالدليل ، ثم نزلنا درجة أخرى إلى أن وصلت الفتوى إلى عيب من يفتي بالدليل وذمه .
__________
(1) أي : ممتلئ الساقين .
(2) رواه الجماعة إلا مسلما والنسائي ، كما في منتقى الأخبار المطبوع مع نيل الأوطار 6/272.
(3) أنظر : إعلام الموقعين 2/280، 281.(1/13)
ولعله يحدث للناس طبقة أخرى لا يدري ما حالهم في الفتاوى ، والله المستعان )) (1).
هكذا قال ابن القيم رحمه الله تعالى منذ قرون وقد حدثت في الناس تلك الطبقة التي تخوف منها ، فراحت تتحيل على النصوص الشرعية ، بتعليلات وهمية وتسوق ما يروق لها من تبريرات جدلية ، استسلام لضغوط الواقع واستعظاما لبعض الأحكام الشرعية، وتحاول في بعض الأحيان ، تأييد أقوالها بحجج واهية ونصوص باطلة لا تقوم بها حجة ولا يفرح بها فقيه النفس ولا يطمئن إليها تقي القلب ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وثالث هذه الأدلة : الإجماع . وهو اتفاق جميع المجتهدين من المسلمين في عصر من العصور بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على حكم شرعي في واقعة .
والإجماع حجة شرعية يجب اتباعها ، ولا تجوز مخالفتها ، والحكم الثابت بالإجماع حكم شرعي قطعي لا مجال لمخالفته ولا نسخه ، وليس للمجتهدين في عصر تال أن يجعلوا هذه القضية موضع اجتهاد فما بالك بمخالفته ببعض الأقوال وآراء الرجال .
والأدلة على حجيته كثيرة منها قول الله تعالى : { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [النساء: 83].
وقوله سبحانه { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } [النساء: 115]
ورابع هذه الأدلة : القياس : وهو إلحاق واقعة لا نص على حكمها بواقعة ورد نص في حكمها ، في الحكم الذي ورد به النص ، لتساوي الواقعتين في علة هذا الحكم .
__________
(1) إعلام الموقعين 4/260.(1/14)
وهو حجة شرعية على الأحكام العملية عند جمهور الفقهاء ، كما انه في المرتبة الرابعة من الحجج الشرعية بحيث إذا لم يوجد في الواقعة حكم بنص أو إجماع وثبت أنها تساوي واقعة نص على حكمها في علة هذا الحكم فإنها تقاس بها ويحكم فيها بحكمها ويكون هذا حكمها شرعا ويسع المكلف اتباعه والعمل به(1) .
والأدلة على حجيته كثيرة ، منها قول الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [النساء: 59].
ولا يحسن القياس إلا فقيه النفس أصولي الطبع ، وما لم يكن كذلك فإنه تغلبه الغفلة ويزل من أول وهلة .
2- وثاني هذه الضوابط : تعلق الفتوى بموضوع الاستفتاء :
إن الفتوى إذا تعلقت بموضوع الاستفتاء بلغت بالمستفتي حاجته وحصل منها على مراده ، فإذا خرجت عن ذلك فإنها لا تسد له حاجة ، ولا تحل له مشكلة ، ولا تنقذه من معضلة ولم يشرع الإفتاء إلا للإجابة على التساؤلات وحل ما يعرض للإنسان من مشكلات .
غير أن المفتي إذا توقع من السائل استغرابا للحكم ، فله أن يمهد له بمقدمة حتى يسلك الحكم الشرعي إلى قلبه فيتقبله بقول حسن يدل على ذلك قصة نسخ القبلة فإنها لما كانت شديدة على النفوس جدا وطأ الله سبحانه وتعالى قبلها عدة موطئات ، منها : ذكر النسخ ومنها : أن يأتي بخير من المنسوخ أو مثله ، ومنها : أنه على كل شيء قدير ، وأنه بكل شيء عليم ، فعموم قدرته وعلمه صالح لهذا الأمر الثاني كما كان صالحا للأول(2) .
__________
(1) انظر : علم أصول الفقه لخلاف ص 52-54.
(2) انظر : إعلام الموقعين 4/164.(1/15)
ويجوز أن تكون الفتوى أشمل من موضوع الاستفتاء بحيث يجيب السائل بأكثر مما سأل عنه لفائدة يرى أنها تفيد السائل ، فقد سأل الصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ماء البحر ، فقالوا له : (( إنا نركب البحر ومعنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا ، أفنتوضأ من ماء البحر ؟ فقال : هو الطهور ماؤه الحل ميتته )) (1) ؟
فقد أجابهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ميتة البحر رغم أنهم لم يسألوا عنها لما في ذلك من فائدة لهم في هذا البيان .
وقد بوب البخاري لذلك في صحيحه فقال : (( باب من أجاب السائل بأكثر مما سأل عنه )) ثم ساق من الحديث ما يدل على ذلك ..
ويجوز العدول عن موضوع الاستفتاء إلى موضوع آخر يكون أنفع للسائل مما سأل عنه أو يكون موضوع الاستفتاء لا يترتب عليه عمل أو لكون مدارك السائل لا تقوى على فهم ذلك الموضوع الجلل ، يدل على ذلك قول الله تعالى { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } [البقرة: 189]. فقد سألوه عن سبب ظهور الهلال خفيا ثم لا يزال يتزايد فيه النور على التدريج حتى يكمل ثم يأخذ في النقصان فأجابهم عن حكمه ذلك في ظهور مواقيت الناس التي بها تمام مصالحهم في أحوالهم ومعاشهم ومواقيت أكبر عبادتهم وهو الحج .
فإن كانوا قد سألوا عن السبب فقد أجيبوا بما هو أنفع لهم مما سالوا عنه وإن كانوا إنما سألوا عن حكمة ذلك فقد أجيبوا عن عين ما سألوا عنه ولفظ سؤالهم محتمل فإنهم قالوا ما بال الهلال يبدو دقيقا ثم يأخذ في الزيادة حتى يتم ثم يأخذ في النقص )) (2) .
__________
(1) أخرجه أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، والترمذي ، وابن ماجه ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح ، اهـ منتقى الأخبار المطبوع مع نيل الأوطار 1/14.
(2) إعلام الموقعين 4/158.(1/16)
كما يجوز العدول عن موضوع السؤال أو الإمساك عن الجواب إذا ترتب على الجواب فتنة للسائل فقد قال ابن عباس - رضي الله عنه - لرجل سأله عن تفسير آية : وما يؤمنك أني لو أخبرتك بتفسيرها كفرت به ؟ أي أنكرت هذا الحكم .
3- وثالث هذه الضوابط : سلامة الفتوى من الغموض :
لما كانت الفتوى بيانا لحكم شرعي وتحمل في طياتها تبليغه للسائل وجب تقديمها بأسلوب مبين وكلام واضح قويم فقد أمر الله تعالى نبيه الكريم بالبلاغ المبين فقال سبحانه { وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ } [النور: 54، والعنكبوت 18] لذا كان من وضوح الفتوى : خلوها من المصطلحات التي يتعذر على المستفتي فهمها وسلامتها من التردد في حسم القضية المسؤول عنها .
غير أن هناك من يعمد إلى تضمين الفتوى عدة أقوال ، ليقحم فيها بعض الآراء الشاذة ، وينشرها في الناس بدعوى التيسير والمرونة ، فيسلط الأضواء عليها ويلفت الأنظار إليها ، ليدخل في روع المستفتي أنها أقوال لا تقل شأنا عن غيرها ، وله أن يختار ما شاء منها فيدع بالتالي الأقوال الصحيحة وينأى بنفسه عنها ويعرض عما استقرت الأمة عليه ، ويتشبث بما وجهت الفتوى الأنظار إليها لأنه قد قيل له : أجمعت الأمة على أن الله تعالى لا يعذب على شيء اختلفت فيه الأئمة ، فيصبح الإفتاء بما تواضع أهل العلم عليه ، مستهجنا تتحرج الصدور من سماعه وتضيق النفوس من بيانه فإنا لله وإنا إليه راجعون .
ومن آخر ما صدر من هذه الآراء الشاذة : الفتوى التي تقول بجواز بقاء المرأة على عصمة زوجها الكتابي إذا أسلمت ويبقي على دينه يقول المفتي : لا يجوز للزوجة عند المذاهب الأربعة بعد انقضاء عدتها البقاء عند زوجها أو تمكينه من نفسها ويرى بعض العلماء أنه يجوز لها أن تمكث مع زوجها بكامل الحقوق والواجبات الزوجية إذا كان لا يضيرها في دينها وتطمع في إسلامه ...)) إلخ .(1/17)
تصدر هذه الفتوى لتنسف كل ما عزته إلى المذاهب الأربعة من عدم جواز بقاء المرأة المسلمة عند زوجها الكتابي ، أو تمكينه من نفسها بقول المفتي : ويرى بعض العلماء أنه يجوز لها أن تمكث مع زوجها بكامل الحقوق الواجبات الزوجية إلخ .... مدعما ذلك ببعض الروايات دون الإشارة إلى أن إعراض الأمة منذ قرون طويلة عن الأخذ بتلك الروايات الشاذة حتى ولو كانت صحيحة الإسناد ، يعتبر علة قادحة فيها لا يحل نقلها إلا للرد عليها فما بالك بترويجها ولفت الأنظار إليها فاللهم أبرم لنا أمر رشد تجمع فيه كلمتنا على الحق وتردنا فيه إليك ردا جميلا .
4- ورابع هذه الضوابط : مراعاة الحال ، والزمان والمكان :
إن من ضوابط الفتوى مراعاتها للحال ، والزمان ، والمكان ، إذ قد تتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان إذا كان الحكم مبنيا على عرف بلد ثم تغير هذا العرف إلى عرف جديد ليس مخالفا لنص شرعي .
فضابط ذلك أمران :
الأول : أن يكون الحكم مبنيا على عرف كتعارف أهل بلد على ألفاظ محددة يوقعون بها الطلاق فتراعي هذه الألفاظ بالنسبة إلى أهل ذلك المكان ، وتترتب عليها الأحكام .(1/18)
الثاني : أن يكون العرف الجديد الذي تغيرت بسببه الفتوى غير مخالف لنص شرعي ، مثل : إهمال أهل منطقة لبعض ألفاظ تعارف أسلافهم على أنها من ألفاظ الطلاق بحيث لو جرت على ألسنتهم ما يخطر ببالهم ولا فنيتهم أنها لفظ من ألفاظه وبالتالي لا تترتب عليها الأحكام التي ترتبت عليها عند أسلافهم الذين تعارفوا عليها ، هذا إذا لم تكن من ألفاظ صريح الطلاق التي يقع فيها الطلاق في حالتي الجد والهزل ، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( ثلاث جدهن جد وهزلهن جد ، النكاح ، والطلاق ، والرجعة))(1) .
فالمنكر إذا ترتب على إنكاره ما هو أنكر منه فلا يسوغ إنكاره وما قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة رضي الله عنها : (( لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية ، لهدمت الكعبة ولجعلت لها بابين )) (2) إلا دليل صدق على ما نقول .
قال ابن القيم : (( وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه يقول : مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر ، فأنكر عليهم من كان معي ، فأنكرت عليه ، وقلت له : إنما حرم الله الخمر لانها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة ، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية ، وأخذ الأموال فدعهم))(3).
__________
(1) رواه الاربعة إلا ا لنسائي ، وصححه الحاكم ، اهـ بلوغ المرام ، الحديث 1075 ، وقال الترمذي : قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم (الحديث 1104).
(2) حديث صحيح ، أخرجه النسائي ، والترمذي عن عائشة كما في صحيح الجامع الصغير وزيادته حديث رقم 5326.
(3) إعلام الموقعين 3/5.(1/19)
والمعروف أن أصحاب الإمام أبو حنيفة خالفوا إمامهم في مسائل كان مبناها على العرف أو تغير الزمان والمكان والأحوال ، لاسيما بعد وفاته ، وعلل الفقهاء هذا النوع من الاختلاف بأنه اختلاف عصر وزمان ، لا اختلاف حجة وبرهان .
والإمام الشافعي صار له مذهب جديد حين استقر به المقام في مصر ، لأمور عديدة من أهمها : تغير الزمان ، والمكان والأحوال .
ولهذا رجح الفقهاء بعض الأقوال على بعضها الآخر عند اختلافها اعتبارا للعرف أو الحال أو الزمان أو المكان ، قال الحصكفي : (( قد يحكون أقوالا بلا ترجيح ، وقد يختلفون في الصحيح قلت : يعمل بمثل ما عملوا من اعتبار تغير العرف ، وأحوال الناس وما هو الأوفق وما ظهر عليه التعامل وما قوي وجهه )) (1) .
وعلى الفقيه مراعاة الأحوال قبل إصدار فتواه إذ قد يكون الحكم مبنيا على معنى معين ثم يتغير ذلك المعنى كما في صدقة الفطر (( فقد جاء الحديث الشريف بإخراج صاع من تمر أو شعير أو زبيب أو أقط )) وقد قال العلماء : يجوز إخراج صدقة الفطر من الذرة أو الأرز أوغيرهما إذا كانت هذه الأصناف غالب أقوات البلد ، وعللوا ذلك بأن الأصناف الواردة في الحديث الشريف إنما جاءت لأنها كانت هي غالب أقوات أهل المدينة ، ولم تأت على سبيل الحصر والتخصيص(2) .
والمعروف أن (( الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعوائد والأحوال ، وذلك كله من دين الله )) (3) (( فلكل زمان حكم ، والناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم )) (4) .
غير أنه لا تصح مخالفة النصوص أو تأويلها تأويلا متعسفا ولا تطويعها لواقع غير إسلامي بدعوى فهم الواقع أو تغير الزمان والمكان فهذا تحريف للكلم عن مواضعه واتباع لما تهوى الأنفس .
5- وخامس هذه الضوابط : عدم الإجمال فيما يقتضي التفصيل :
__________
(1) الدر المختار 1/77-78 المطبوع مع حاشية ابن عابدين .
(2) انظر : أصول الدعوة ص 167-168.
(3) إعلام الموقعين 4/205.
(4) إعلام الموقعين 4/220.(1/20)
إذا كان في المسألة تفصيل فليس للمفتي إطلاق الجواب ، بل عليه أن يستفصل السائل حتى يعطيه الجواب الموافق لمسألته لأن إجمال الفتوى في مثل هذه الحالة تجعل الحكم واحدا لصور مختلفة تختلف الفتوى باختلافها فيجيب بغير الصواب فيهلك ويهلك وما ذلك إلا لعدم التبين .
ويدل على ذلك أن أبا النعمان بن بشير سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يشهد على غلام نحله ابنه فاستفصله النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال له : (( أكل ولدتك نحلته كذلك ؟ )) فقال لا ، فأبى أن يشهد .
قال ابن القيم : (( وقد استفصل النبي - صلى الله عليه وسلم - ماعزا لما أقر بالزنا : هل وجد منه مقدماته أو حقيقته ؟ فلما أجابه عن الحقيقة استفصله : هل به جنون فيكون إقراره غير معتبر أم هو عاقل ؟ فلما علم عقله استفصله : بأن أمر باستنكاهه ، ليعلم هل هو سكران أم صاح ؟ فلما علم أنه صاح استفصله : هل أحسن أم لا ، فلما علم أنه قد أحسن أقام عليه الحد)) (1) .
أما إذا لم تدع الحاجة إلى الاستفصال فيحسن بالمفتي عند ذلك الإجمال .
6- وسادس هذه الضوابط : التجرد من الهوى في المفتي والمستفتي :
إن من أهم الضوابط لسلامة الفتوى تجردها من الأهواء ، سواء كان مبعثها المستفتي أو المفتي .
أما المستفتي : فقد يدفعه هوى متبع فيزين الباطل بألفاظ حسنة ليغرر بالمفتي حتى يسوغ ذلك للناس ، مع أن ما يسال عنه من أبطل الباطل .
قال ابن القيم : (( فكم من باطل يخرجه الرجل – يحسن لفظه وتنميقه وإبرازه – في صورة حق وكم من حق يخرجه – بتهجينه وسوء تعبيره – في صورة باطل ومن له أدنى فطنة وخبرة لا يخفى عليه ذلك بل هو أغلب أحوال الناس )) (2) .
ولهذا اشترط العلماء في المفتي أن يكون متيقظا حتى لا تغلب عليه الغفلة والسهو عالما بحيل الناس ودسائسهم حتى لا يغلبوه بمكرهم فيستخرجوا منه الفتاوى حسب أهواءهم .
__________
(1) إعلام الموقعين 4/187.
(2) إعلام الموقعين 4/229. 4(1/21)
قال ابن عابدين : (( وهذا شرط في زماننا وليحترز من الوكلاء في الخصومات ، فإن أحدهم لا يرضى إلا بإثبات دعواه لموكله بأي وجه أمكمن ولهم مهارة في الحيل والتزوير وقلب الكلام وتصوير الباطل بصورة الحق فغفلة المفتي يلزم منها ضرر عظيم في هذا الزمان(1) .
وقال ابن القيم : (( ينبغي للمفتي أن يكون بصيرا بمكر الناس وخداعهم وأحوالهم ، ولا ينبغي أن يحسن الظن بهم ، بل يكون حذرا فطنا ، فقيها بأحوال الناس وأمورهم ، يؤازره فقهه في الشرع وإن لم يكن كذلك زاغ وأزاغ )) (2) .
__________
(1) رد المختار 4/302 بتصرف و اختصار .
(2) إعلام الموقعين 4/229.(1/22)
وأما المفتي فإن تجرده من الهوى اشد لزوما من المستفتي ، لأنه مخبر عن الله تعالى فإن أفتى بهواه موافقة لغرضه أو غرض من يحابيه كان مفتريا على الله لقول الله تعالى { وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ .مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النحل: 116، 117]. لقد عشنا في زمن سمعنا فيه فتاوي خاطئة وآراء شاذة فيها محادة لله ورسوله ، منها : القول بجواز ربا البنوك مع ظهور الربا ظهور بينا ووضوحه في هذه المعاملات وضوح الشمس في رابعة النهار مع أن الله تعالى حرم الربا بنصوص قطيعة الثبوت قطعية الدلالة منها قوله سبحانه { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ .فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ } [البقرة: 278، 279] ورغم هذا الوعيد الشديد فقد خرج على الأمة من أفتاها بجواز ربا البنوك ، دون وجل أو خوف من ملك الملوك ، أو خشية من عذاب الله ، أو رهبة من حرب آذن بها الله ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
قال ابن القيم : (( لا يجوز العمل والإفتاء في دين الله بالتشهي والتخير وموافقة الغرض ، فيطلب القول الذي يوافق غرضه وغرض من يحابيه فيعمل به ويفتي به ويحكم به ويحكم على عدوه ، ويفتيه بضده وهذا من أفسق الفسوق ، وأكبر الكبائر )) (1) .
__________
(1) إعلام الموقعين 4/211.(1/23)
لهذا كان من شرائط المفتي عدم تأثير القرابة والعداوة فيه ، وعدم جر النفع ودفع الضرر من أجل ذلك المعنى لأن المفتي في حكم من يخبر عن الشرع بما لا اختصاص له بشخص فكان في ذلك كالراوي لا كالشاهد(1) .
وقد يداخل الهوى بعض المنتمين إلى العلم (( فيتعلق بالخلاف الوارد في المسائل العلمية بحيث يتحرى الفتوى بالقول الذي يوافق هوى المستفتي بناء منه على ان الفتوى بالقول المخالف لهواه تشديد عليه ، وحرج في حقه ، وأن الخلاف إنما كان رحمة لهذا المعنى وليس بين التشديد والتخفيف واسطة وهذا قلب للمعنى المقصود في الشريعة ، فإن اتباع الهوى ليس من المشتقات التي يترخص بسببها والخلاف إنما هو رحمة من جهة أخرى فليأخذ الموفق في هذا الموضوع حذره ، فإنه مزلة قدم على وضوح الأمر فيه )) (2) .
7- وسابع هذه الضوابط : أهلية المفتي :
لما كان الإفتاء إخبارا عن حكم الله وكانت الفتوى توقعيا عن الله فلابد للمتصدر للفتوى أن تتحقق فيه الأهلية الشرعية .
وقد اشترط الأصوليون لتحقق هذه الأهلية شروطا معينة ، وصفات محددة نجملها فيما يلي :
(( أن يكون مكلفا مسلما ثقة ، مأمونا ، متنزها من أسباب الفسق ومسقطات المروءة ، لأن من لم يكن كذلك فقوله غير صالح للاعتماد ، حتى وإن كان من أهل الاجتهاد ويكون مع ذلك متيقظا فقيه النفس سليم الذهن ، رصين الفكر ، صحيح التصرف والاستنباط )) (3)
قال ابن القيم :
__________
(1) انظر : أدب المفتي والمستفتي ص106 ، والمجموع للنووي 1/41.
(2) انظر : الموافقات للشاطبي 4/190.
(3) أدب المفتي والمستفتي ص86 ، والمجموع 1/41.(1/24)
قال صالح بن أحمد : قلت لأبي : ما تقول في الرجل يسأل عن الشيء فيجيب بما في الحديث وليس بعالم في الفقه ؟ فقال : يجب على الرجل إذا حمل نفسه على الفتيا أن يكون عالما بوجوه القرآن عالما بالأسانيد الصحيحة عالما بالسنن ، وإنما جاء خلاف من خالف لقلة معرفتهم بما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقلة معرفتهم بصحيحها من سقيمها . )) .
وقيل لابن المبارك : (( متى يفتي الرجل ؟ قال : إذا كان عالما بالأثر بصيرا بالرأي ))
وقيل ليحي بن أكثم : (( متى يجب للرجل أن يفتي ؟ فقال : إذا كان بصيرا بالرأي بصيرا بالأثر ))
قال ابن القيم بعد الأثرين السابقين : يريدان بالرأي القياس الصحيح ، والمعاني والعلل الصحيحة التي علق الشارع بها الأحكام وجعلها مؤثرة فيها طردا وعكسا )) (1) .
لهذا كله ذهب أكثر الأصوليين إلى أن (( المفتي هو المجتهد )) (2) ، بل قال الكمال بن الهمام : (( وقد استقر رأي الأصوليين على أن المفتي هو المجتهد ، وأما غير المجتهد ممن يحفظ أقوال المجتهد فليس بمفت ، والواجب عليه إذا سئل أن يذكر قول المجتهد ، كالإمام أبي حنيفة على وجه الحكاية ، فعرف أن ما يكون في زماننا من فتوى الموجودين ليس بفتوى بل هو نقل كلام المفتي ليأخذ به المستفتي )) (3) .
وقد عبر الأصوليون عن (( غير المجتهد )) بالمستفتي تارة ، وبالمقلد تارة أخرى ، ولهذا اختلفوا في جواز إفتائه :
فقال أبو الحسن البصري وغيره : ليس له الإفتاء مطلقا.
وجوزه قوم مطلقا إذا عرف المسألة بدليلها .
ونقول : وهذا أرفق بزماننا الذي خلا عن المجتهد المطلق ، لئلا تتوقف الفتوى وتتعاظم البلوى ، ويشتد الحرج ، وتتعطل مصالح الخلق .
ولا يعني هذا أن يتصدر للفتوى من حفظ بعض الأحكام ، أو أجاد تنميق الكلام .
__________
(1) إعلام الموقعين : 1/47.
(2) البرهان في أصول الفقه 2/1332.
(3) فتح القدير 7/256.(1/25)
فقد جاء في البحر المحيط نقلا عن مختصر التقريب : (( وأجمعوا على أنه لا يحل لمن شدا شيئا من العلم أن يفتي )) (1) .
وقال الجويني في شرح الرسالة : (( من حفظ نصوص الشافعي وأقوال الناس بأسرها غير أنه لا يعرف حقائقها ومعانيها لا يجوز له أن يجتهد ويقيس ، ولا يكون من أهل الفتوى ولو أفتى به لا يجوز )) (2)
تلك هي شروط المفتي .
أما الخصال التي يجب على المفتي الاتصاف بها فقد أجملها الإمام أحمد بن حنبل بقوله : (( لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال :
أولها : أن تكون له نية ، فإن لم تكن له نية لم يكن عليه نورا ، ولا على كلامه نور.
وثانيها : أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة .
وثالثها : أن يكون قويا على ما هو فيه وعلى معرفته .
ورابعها : الكفاية وإلا مضغه الناس .
وخامسها : معرفة الناس )) (3) .
ومما يجب التنبه له أن المفتي ليس الذي تتحقق فيه تلك الشروط والخصال فحسب بل هو الذي يستصحب معها مواصفات أخرى تعتبر مكملة للشروط السابقة ، نجملها فيما يلي :
1- فهم مقاصد الشريعة : إن مراعاة مقاصد الشرعية أمر تشهد له قواعد الشريعة ، وقد كانت هذه المقاصد محل اعتبار لدى الأئمة المجتهدين ، والعلماء المحققين لهذا وجدنا جمهور أهل العلم يقررون أن الأحكام بمقاصدها على تفاوت بينهم في مدى الأخذ بهذا المبدأ ذلك أن نصوص الشريعة وأحكامها معللة بمصالح ومقاصد وضعت لأجلها فينبغي عدم إهمالها عند تقرير الأحكام .
2- معرفة مواضع الخلاف : إن البصير بمواضع الاختلاف العالم بمدارك العلماء المتأمل في أدلتهم ، الواقف على استنباطاتهم ، حري به أن يتبين له الحق في النوازل العارضة والوقائع المتجددة فيفتي بأقواها حجة وأقومها محجة ، وقد تضيق بالناس الأحوال وتتكافأ فيها الأقوال فيختار منها ما يصلح حالهم ، ويخرجهم من حرجهم .
__________
(1) البحر المحيط 6/307.
(2) البحر المحيط 6/307.
(3) إعلام الموقعين 4/199.(1/26)
لهذا جعل كبار العلماء العلم : معرفة الاختلاف ، حتى قال قتادة : (( من لم يعرف الاختلاف لم يشم أنفه الفقه )) .
وقال عطاء : (( لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس حتى يكون عالما باختلاف الناس ، فإنه إن لم يكن كذلك رد من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه ))
وعن مالك : لا تجوز الفتيا إلا لمن علم ما اختلف الناس فيه ، قيل له : اختلاف أهل الرأي ؟ قال : لا ، اختلاف أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - علم الناسخ والمنسوخ من القرآن ومن حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
وقال يحي بن سلام : لا ينبغي لمن لا يعرف الاختلاف أن يفتي ، ولا يجوز لمن لا يعلم الأقاويل أن يقول : هذا أحب إلي .
وعن سعيد بن أبي عروبة قال : من لم يسمع الاختلاف فلا تعده عالما ، قال الشاطبي بعد هذه الأقوال : (( وكلام الناس هنا كثير ، وحاصله : معرفة مواقع الخلاف ، لا حفظ مجرد الخلاف ، ومعرفة ذلك إنما تحصل بالنظر ، فلابد منه لكل مجتهد ، وكثيرا ما تجد هذا للمحققين في النظر )) (1) .
3- القصد والاعتدال : إن المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور فلا يذهب بهم مذهب الشدة ، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال .
والدليل على صحة هذا : أنه الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة ذلك أن مقصد الشارع من المكلف الحمل على التوسط من غير إفراط ولا تفريط فإذا خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع ، ولذلك كان ما خرج ع المذهب الوسط مذموما عند العلماء الراسخين .
وأيضا فإن هذا المذهب كان المفهوم من شأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الأكرمين ، وقد رد عليه الصلاة والسلام التبتل .
__________
(1) انظر : الموافقات للشاطبي 4/116 – 117 ، وانظر تلك الىثار السابقة في صحيح جامع بيان العلم وفضله ص 319- 321.(1/27)
قال سعد بن أبي وقاص : رد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عثمان ابن مظعون التبتل )) (1) .
وقال لمعاذ لما أطال بالناس في الصلاة : (( أفتان أنت يا معاذ )) (2)
وقال : (( إن منكم منفرين )) (3) .
وقال : (( سددوا ، وقاربوا ، واغدوا، وروحوا وشيء من الدلجة ، والقصد القصد تبلغوا )) (4) .
وقال : (( أكلفوا من العمل ما تطيقون ، فإن الله لا يمل حتى تملوا ، وإن أحب العمل إلى الله تعالى أدومه وإن قل )) (5)
ورد عليهم الوصال ، فقال : (( لا تواصلوا )) (6) .
فإن الخروج إلى الأطراف خارج عن العدل ، ولا تقوم به مصلحة الخلق :
وأما في طرف التشديد فإنه مهلكة .
وأما في طرف الانحلال فكذلك أيضا لأن المستفتي إذا ذهب به مذهب العنت والحرج بغض إليه الدين ، وأدى إلى الانقطاع عن سلوك طريق الآخرة وهو مشاهد(7) .
__________
(1) أخرجه احمد 1/183 ، والبخاري (الحديث 5074) ومسلم (9/176 بشرح النووي ) والترمذي (الحديث 1003) وابن ماجه (الحديث 1838).
(2) أخرجه أحمد ، والبخاري ، ومسلم والأربعة وابن حبان ، والطبراني والبيهقي ، كما في بلوغ الأماني من أسرر الفتح الرباني 5/242.
(3) اخرجه أحمد ، والبخاري ، ومسلم ، وغيرهم كما في بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني 5/238.
(4) أخرجه أحمد حديث رقم 7454 ، والبخاري حديث رقم 6755 ، وأبو داود حديث رقم 2014 ، والترمذي حديث رقم 709.
(5) أخرجه أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، كما في الجامع الصغير ، حديث رقم 1439.
(6) أخرجه أحمد والبخاري ، ومسلم ، والنسائي ، والدارقطني ، وغيرهم كما في بلوغ الأماني للبنا 10/84.
(7) جاء في تحفة الأحوذي عند شرح حديث الترمذي رقم 219 : وقد روى عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال : (( لا تبغضوا الله إلى عباده )) .(1/28)
وأما إذا ذهب به مذهب الانحلال ، كان مظنة للمشي مع الهوى والشهوة ، والشرع إنما جاء بالنهي عن الهوى ، لأن اتباع الهوى مهلك والأدلة كثيرة .
فعلى هذا يكون الميل إلى الرخص في الفتوى بإطلاق مضادا للمشي على التوسط كما أن الميل إلى التشديد مضاد له أيضا .
وربما فهم بعض الناس أن ترك الترخص تشديد فلا يجعل بينهما وسطا وهذا غلط ، والوسط هو معظم الشريعة وأم الكتاب ومن تأمل موارد الأحكام بالاستقراء التام عرف ذلك )) (1)
4- فهم الواقع والفقه فيه : إن من واجب المفتي أن يكون بصيرا بزمانه ، عارفا بأوانه ، فاهما لواقعه حتى تكون فتاواه مبنية على تصور سليم ، واستنباط قويم وقديما قال أهل العلم : (( الحكم على الشيء فرع عن تصوره )) والمفتي الذي لا يعرف الواقع الذي يفتي فيه ، يخطئ في كثير من فتاويه ، ويعرض الناس إلى النفرة من الدين والبعد عن محجة المتقين .
قال ابن القيم : (( ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم :
أحدهما : فهم الواقع ، والفقه فيه ، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما .
والنوع الثاني : فهم الواجب في الواقع ، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه ، أو على لسانه رسوله في هذا ا لواقع ، ثم يطبق أحدهما على الآخر ، فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرا .
فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله ، كما تصول شاهد يوسف بشق القميص من دبر إلى معرفة براءته وصدقه ... ومن تأمل الشريعة وقضايا الصحابة وجدها طافحة بهذا ، ومن سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم ونسبه إلى الشريعة التي بعث الله بها رسوله )) (2) .
__________
(1) الموافقات للشاطبي 4/188-190.
(2) إعلام الموقعين 1/77-88.(1/29)
وعلى هذا : فالفقيه من يطبق بين الواقع والواجب ، وينفذ الواجب بحسب استطاعته لا من يلقي العداوة بين الواجب والواقع (( فلكل زمان حكم ، والناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم )) (1) .
غير أنه لا تصح مخالفة النصوص ، ولا تأويلها تأويلا متعسفا ، ولا تطويعها لواقع غير إسلامي بدعوى فهم الواقع فهذا تحريف للكلم عن مواضعه ، واستسلام لضغوط واقع غير إسلامي ، نتيجة ضعف النفس ، وعجز الإرادة .
وثامن هذه الضوابط : مراعاة القواعد الشرعية المؤثرة في الفتوى ، كسد الذرائع والحيل ، والضرورات .
أما الذرائع : فقد قال عنها شيخ الإسلام ابن تيمية : الذريعة ما كانت وسيلة وطريقا إلى الشيء لكن صارت في عرف الفقهاء عبارة عما أفضت إلى فعل محرم ، ولو تجردت عن ذلك الإفضاء لم يكن لها مفسدة ولهذا قيل : الذريعة : الفعل الذي ظاهره مباح وهو وسيلة إلى فعل محرم )) (2) .
وقد قسم القرافي الذرائع إلى ثلاثة أقسام :
فالقسم الأول : ما أجمعت الأمة على سده ومنعه وحسمه كالمنع من سب الأصنام عند من يعلم حاله أنه يسب الله تعالى عند سبها وكحفر الآبار في طرق المسلمين فإنه وسيلة إلى إهلاكهم فيها .
والقسم الثاني : ما أجمعت الأمة على عدم منعه ، كالمنع من زراعة العنب خشية الخمر ، وكالمنع من المجاورة في البيوت خشية الزنى ، فإنه لم يقل به أحد .
والقسم الثالث : ما اختلف فيه العلماء هل يسد أم لا ، كبيوع الآجال عند المالكية كمن باع سلعة بعشرة دراهم إلى شهر ثم اشتراها بخمسة قبل الشهر فمالك يقول : إنه أخرج من يده خمسة الآن ، واخذ عشرة آخر الشهر ، فهذه وسيلة لسلف خمسة بعشرة إلى أجل توسلا بإظهار صورة البيع لذلك . والشافعي يقول : ينظر على صورة البيع ويحمل الأمر على ظاهره فيجوز ذلك(3) .
فالفتوى الشرعية تأخذ في اعتبارها ذلك كله ، لا سيما ما يفضي إلى الحرام .
__________
(1) إعلام الموقعين 2/220.
(2) الفتاوى الكبرى 3/356.
(3) انظر : الفروق 2/32، 33.(1/30)
وأما الحيل فمعناها : إظهار أمر جائز ليتوصل به إلى محرم يبطنه )) (1) .
قال الشاطبي : (( وحقيقتها المشهورة تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي ، وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر )) (2) .
يفهم من كلام الشاطبي : أن الحيل يشترط فيها القصد من المكلف ، وقد صرح بذلك حيث قال : (( ولكن هذا بشرط القصد إلى إبطال الأحكام الشرعية )) (3) .
فالفرق بين الذريعة والحيلة :
أن الذريعة ما تفضي إلى المحرم بدون قصد من الفاعل ، كسب الأوثان فإنه ذريعة إلى سب الله تعالى ، وكذلك سب الرجل والد غيره فإنه ذريعة إلى سب والده .
وأما الحيلة فهي ما تفضي إلى المحرم بقصد من الفاعل ، مثل ما يحتال به من المباحات في الأصل فرارا من الواجب كبيع النصاب في أثناء الحول فرارا من الزكاة .
فالفتوى تأخذ في اعتبارها ذلك كله فتسد الذرائع حتى لا يتوصل بسببها إلى المحرم حتى ولو كانت جائزة في الأصل مثل سب الأوثان . أما لو سلمت من المحذور فإنها تبقى على حكم الأصل .
كما أن الفتوى تأخذ في اعتبارها إبطال الحيل ، لما يترتب على هذه الحيل من خرم قواعد الشريعة ، والتحلل من التكاليف الشرعية فتلغي معاملة المكلف بنقيض قصده .
ولا يتنبه لذلك إلا مفت يقظ لا تخدعه تلك التمويهات ، ولا يغره بريق العبارات .
أما قاعدة الضرورة الشرعية فينبعي مراعاتها أيضا لأنها قاعدة متفق عليها تقوم على أدلة من الكتاب والسنة ولكون تطبيقاها مما تضطر إليها الأمة ، وقد قعد لها العلماء قاعدة هامة تقول (( الضرورات تبيح المحظورات ) كما قرنوها بقاعدة أخرى مقيدة لها هي : ( الضرورات تقدر بقدرها )
ولن أبسط القول في هذه القاعدة الهامة لأن الموضوع لا يحتمله غير أني أردت الإشارة إليها لتراعى في الفتوى عند تحقق شروطها ، وهي :
__________
(1) إعلام الموقعين 3/172.
(2) الموافقات للشاطبي 4/145.(1/31)
أن تكون واقعة لا منتظرة ، بأن يتحقق أو يغلب على الظن وجود خطر حقيقي على الدين ، او النفس ، أو العقل ، أو النسل ، أو المال .
وأن تكون ملجئة بحيث يخاف الإنسان هلاك نفسه أو قطع عضو من أعضائه ، أو تعطل منفعته إن ترك المحظور .
وأن لا يجد المضطر طريقا آخر غير المحظور .
فمتى تخلف شرط من هذه الشروط انتفى القول بالضرورة .
ورغم اتفاق أهل العلم على هذه الشروط إلا أنه خرج علينا من يفتي بجواز القروض الربوية لشراء المساكن في غير البلاد الإسلامية بدعوى : اعتماده على قاعدة (( الضرورات تبيح المحظورات ) رغم عدم تحقق شروطها السابقة ، واستنادا لما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة وصاحبه محمد بن الحسن الشيباني من جواز التعامل بالربا وغيره من العقود الفاسدة بين المسلمين وغيرهم في غير دار الإسلام .
أما استنادا على قاعدة الضرورة فغير منضبط لعدم تحقق شروطها السابقة وبالتالي فإن فتواه خاطئة :
مادام الإنسان يجد بيتا يسكنه عن طريق الإيجار .
أو كان لديه مال يشتري به مسكن
أو لم يكن لديه المال ولكنه وجد من يقرضه قرضا حسنا .
أو وجد وسيلة شرعية أخرى تعينه على الشراء كبيع المرابحة الذي تكون فيه الزيادة في الثمن مقابل الزيادة في الأجل .
وأما استناده إلى ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة وصاحبه محمد بن الحسن الشيباني فلا يصح أيضا لعدم انطباق تلك الحالة على مذهب الأحناف الذي يشترط لجواز التعامل بالربا مع غير المسلمين شروطا عديدة يرجع إليها في كتب الفقه .
واستدلال بعضهم بحديث : (( لا ربا بين مسلم وحربي في دار الحرب )) لا يفرح به عارف بالحديث لأنه ضعيف لا تقوم به حجة ويكفي ما قاله الإمام الشافعي فيه : (( هذا ليس بثابت ، ولا حجة فيه ))(1/32)
وإنما قلنا بحرمة الاقتراض بالربا في هذه الحالة لعدم تحقق شروط الضرورة ولعموم الأدلة القاضية بتحريم الربا التي لم تفرق بين دار و دار ، ولا بين مسلم وغيره فليأخذ العاقل من تقواه لفتواه ومن دنياه لأخراه ، قبل { أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِي جَنْبِ اللهِ }
وبهذا نكون قد أتينا على أهم ضوابط الفتوى ، حتى تكون معتبرة شرعا ومقبولة طبعا .
المبحث الرابع
أثر الفتوى في رشاد الأمة
إذا كانت الفتوى مؤصلة تأصيلا شرعيا سليما من التنطع ، معافى من التسبب ، بعيدا عن الأقوال الشاذة ، نائبا عن الأدلة التالفة مراعي فيه رضى الحق وملاحظا به مصالح الخلق ، فإن الفتوى تترك في الأمة آثارا طيبة نجملها فيما يلي :
أ- إزالة الجهل : إن سؤال المستفتي وإجابة المفتي نوع من المدارسة العلمية ، يتعلم فيها السائل أحكام الدين ، وهو نوع من العلم الذي حض الله تعالى على تحصيله في كتابه الكريم ، حي ثقال { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } [التوبة: 122].
وقال تعالى أيضا : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } [النحل: 43].
كما أن الآيات الأولى التي نزل بها الوحي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت حضا على العلم لأنه ينير العقول والبصائر ، ويستنهض الهمم والضمائر ويزيل الجهل ، ويصقل العقل ، وترتقي به الأمة ويعلو شأنها .
لقد قامت مدرسة النبوة على التوحيد الذي يحفظ العقل من الخرافة كما قامت على العلم الذي يصون الإنسان من الجهالة ، فتخرج منها رجال كانوا منارات هداية للسائرين ومشاعل علم ومعرفة للقاصدين .(1/33)
بالفتاوى الكثيرة التي أعطاها النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه ، وبالرعاية الإيمانية والعلمية التي أحاطها بها نشأ خير جيل عرفته الإنسانية في تاريخها فيه من مجتهدي الصحابة : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وابن مسعود ، وابن عمر ، وابن عباس ، وعائشة ، وغيرهم رضي الله تعالى عنهم .
نعم تخرج في تلك المدرسة جيل فريد متسلح بالعم ، بعد أن كان يغط في جهالة عمياء لا يعرف قراءة ولا كتابة ، وكانت فتاوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتوجيهاته عاملا من عوامل تعليم الأمة .ورفع الجهل عنها .
ب- تصحيح المسار للفرد والمجتمع : فالفتوى السليمة ، تجعل المستفتي على الجادة القويمة ، وتبعده عن البدع الذميمة ، فتصحح مساره لئلا يزل ، وتحذره من البدع لئلا يضل ، وفي ذلك صلاح الفرد وسلامة المجتمع .
قال الله تعالى { وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [سبأ : 6]
ج- توثيق صلة الأمة بعلمائها : إن الفتوى القويمة توثق صلة الأمة بعلمائها ، وتربطهم بولاة الأمر في شئون دينها وما أحوج الأمة إلى ذلك التلاحم الذي يقوم ركبه حملة أشرف رسالة .
إن الأمة التي تبقى وفيه لعلمائها ، تسمع لقولهم ، وتطيع أمرهم ، وتأخذ بنصحهم هي أمة مؤهلة للفوز في الدنيا ، والنجاة في الآخرة ، وكيف لا يتم لها الفوز والله تعالى قد أرشدها لطاعته فقال سبحانه { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ } [النساء: 59].
فقد فسر الجمهور أولي الأمر بالأمراء وفسرها بعض السلف وعلى رأسهم ترجمان القرآن الكريم ابن عباس - رضي الله عنه - بالعلماء .(1/34)
أخرج عبد بن حميد وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن عطاء فيقوله تعالى { أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } قال : طاعة الرسول : اتباع الكتاب والسنة )) وأولي الأمر منكم (( قال : أولي الفقه والعلم )) (1)
والظاهر أن الآية تشمل أولي الأمر الدنيوي وهم ولاة الأمور ، كما تشمل أولي الأمر الديني وهم أولي الفقه والعلم .
د- تبصرة طالب العلم : إذا وفق الله تعالى طلبة العلم إلى استفتاء العلماء المتمكنين ، العاملين المخلصين ، فإن آفاق المعرفة تتفتح أمامهم ينهلون من معينها ، ويرشفون من حقائقها فتتنور بصائرهم ، وتنضج معارفهم وقديما دل لقمان الحكيم ولده على منبع الخير حتى ينهل منه ، فقال له : (( يا بني جالس العلماء ، وزاحمهم بركبتيك ، فإن الله يحيي القلوب الميتة بالحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل السماء )) (2) .
وبمقدار ما يكون العلم متمكنا وطالب العلم نهما ، تكون النتائج أوفر ، والعوائد أكثر .
فمن ظفر بعالم متمكن ، عامل بعلمه مسدد في فهمه ، فقد حيز له حيز عميم ، وفضل عظيم .
هـ - إعانة المسلمين على أداء التكاليف الشرعية على الوجه الصحيح : إذا سلمت الفتوى من الشذوذ ، وتجردت عن تنطع المتنطعين وتسيب المتسيبين ، ثم أعطيت للمستفتي على أنها توقيع عن رب العالمين ، فإنها تكون خير عون على أداء التكاليف الشرعية كما أمر الله تعالى في قوله الكريم { وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } [الزمر: 55].
وكلما كانت الفتوى سديدة ومعتمدة على الأدلة الصحيحة فإنها تكون أدعى على حمل الناس على أداء التكاليف الشرعية على الوجه الذي أراده الله ورسوله وفي ذلك إحياء للسنن وإماتة للبدع .
المبحث الخامس
الآثار السيئة لأخذ الفتوى عن غير أهلها
__________
(1) المحرر الوجيز 4/110.
(2) صحيح جامع بيان العلم وفضله ، رقم 399.(1/35)
إن الفتوى دين ، وهي كما سبق توقيع عن رب العالمين فبالتالي لا يصح أخذها إلا من الفقهاء المتمكنين ، والعلماء العاملين ، فما كل من شدا العلم صار عالما ، ولا كل من اعتزى إليه بات بحق الفتوى قائما ، وقديما قال محمد بن سيرين رحمه الله تعالى : (( إن هذا العلم دين ، فانظروا عمن تأخذون دينكم )) (1) .
فالفتاوى الخاطئة ، أو الصادرة عن غير أهلها تترك آثارا سيئة وأضرارا في الفرد والمجتمع فادحة منها :
أ- التعدي على حدود الله : فما أفدح الخطب حين تنتهك حرمات الله بفتاوى جائرة تنسب إلى دين الله .
قال الله تعالى { وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ }
وقال عز شأنه { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [الأعراف: 33].
وعن أبي ثعلبة الخشني - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحد حدودا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها )) (2) .
__________
(1) أخرجه مسلم في المقدمة ، والدارمي رقم 425.
(2) حديث حسن رواه الدارقطني وغيره ، كما في رياض الصالحين حديث رقم 1832 ، والأربعين النووية حديث رقم 30.(1/36)
ب- الجرأة على دين الله : إن أخذ الفتوى عن غير أهلها يسوق المستفتي إلى الجرأة على دين الله ، فلا تبقى لله تعالى في قلبه رقابة ولا إلى الحق تعالى في نفسه إنابة فيرتكب ما سأل عنه بفتوى جائرة ثم يتدهده من قلة الخشية وظلمة المعصية من ذنب إلى آخر حتى تهوي به أهواؤه في مكان سحيق .
ج- شيوع الباطل وإلباسه لبوس الحق : وذلك من التلبس على الخلق والطمس لمعالم الحق { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَّهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُّتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّي إِلاَّ أَن يُّهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ .وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } [يونس: 35، 36].
د- الضلال عن صراط الله العزيز الحميد : إن الخير كل الخير في اتباع سلف الأمة ومنهجهم القائم على الكتاب والسنة ، وفي ذلك صلاحها في الدنيا ونجاتها في الآخرة ورحم الله من قال .
وكل خير في اتباع من سلف
وكل شر في ابتداع من خلف
فإذا تقلد الإنسان العلم عن غير أهله ضل عن الطريق ، فقد روى الشيخان من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور العباد ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا ، فسئلوا فأفتوا بغير علم ، فضلوا وأضلوا )) (1) .
__________
(1) أخرجه أحمد ، والبخاري ، ومسلم ، والترمذي ، وابن ماجه ، كما في الجامع الصغير للسيوطي حديث رقم 1826.(1/37)
هـ- الانصراف عن العلماء العاملين والفقهاء المتمكنين : وما أكثر هذه الظاهرة في هذه الأيام حتى صرنا نرى العامة تشيخ كل من طر عذاره ، أو ارتفع في النار مناره بله من علا بالوعظ صوته ، أومن أثر فيهم حاله وسمته ، فيتخذونه في أمور دنيهم مفتيا ، ولحل خصوماتهم قاضيا ، مما أدى إلى التسور على الدين ، والافتراء على أئمة المسلمين ، حتى بات صوت الحق في بعض الأجواء نشازا ، ولا يجد إلا إلى الله تعالى ملاذا .
قال ابن القيم : (( تالله إنها فتنة عمت فأعمت ، ورمت القلوب فأصمت ، ولما عمت بها البلية ، وعظمت بسببها الرزية ، فإن طالب الحق من مظانه لديهم مفتون ، ومؤثره على ما سواه عندهم مغبون )) (1) فإنا لله وإنا إليه راجعون .
هذا ما أردنا قوله { إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [هود: 88]
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
والحمد لله رب العالمين
__________
(1) إعلام الموقعين 1/8.(1/38)