بسم الله الرحمن الرحيم
كلمة
الحمد لله المحمود ، وهو المنعم بلا حدود ، والصلاة والسلام على محمد الموصوف بالكرم والجود ، وعلى آله - وهم كل تقيٍّ من أمته - وصحابته الذين قد خسر من قابلهم بالصدود .
وبعد ~~
فهذه مذكرات في [ المدخل لعلم أصول الفقه ] ، وهو من مقررات قسم الفقه والأصول في كلية معارف الوحي في الجامعة الماليزية الإسلامية ، والذي كلفنا بتدريسه في الفصل القصير المبتدئ في 8 / 4 / 2002 والمنتهي في 2 / 6 / 2002 .
ولضيق الوقت حيث ورد التكليف متأخراً ، فقد آثرنا كتابة بعض الضروري من مباحث المفردات ، والإحالة على صفحات محددة من كتبٍ لأساتذتنا – رحم الله من توفي وأطال بقاء من بقي - ، مراعين مستوى الطلاب وضروريات متطلباتهم الدراسية .
ونسأل الله التوفيق فيما قصدنا ، وأن يجعل فيما فعلنا نفعاً ، وأن لا يحرمنا جلَّ وعلا أجراً ، فهو الموفق للصواب ، وهو المرتجى في المرجع والمآب ~~
المقدِمة
المقدِمة – بكسر الدال – هي القسم من الجيش الذي يتقدمه ، فهي مقدِمةً له ، وممهدةً لبقية جحافله . وإذا فتحت الدال [ مقدَمة ] فتعني المتقدمة في الترتيب على غيرها .
والمقدمة مقدمتان : مقدمة علمٍ ، ومقدمة كتاب .
فالثانية .. يريد بها المؤلف أن يبين : سبب الكتابة في هذا العلم ، ومعاودة الكتابة فيه ، والجديد الذي أتى به ، والنتائج التي حصل عليها .
والأولى هي التي سوف تعنينا ، لأننا سنبين غيها :
تعريف هذا العلم ، وموضوعه ، وواضعه ، والعلوم التي استمد منها ، وعلاقته بعلم الغفه وغيره من العلوم الإنسانية والشرعية ، وكذلك عن نشأته ، وتدوينه ، ومناهج البحث والتأليف في علم الأصول(1).
وسنأتي بعد المقدمة على مباحث مهمة لمن يريد الدخول إلى علم الأصول .
تعريف علم أصول الفقه
__________
(1) راجع كتابنا [ نثار العقول في علم الأصول ] / مذكرات في أصول الفقه لطلبة كلية القانون / في جامعة بغداد(1/1)
التعريف – معلومات تصورية يراد بها إزالة الخفاء من المعرَّف ، وتسمى [ القول الشارح ] ، وفي المنهجية الإسلامية : تصور الأشياء مقدم على الدخول في تفصيلاتها(1).
وتعرف العلوم بطريقتين :
الأولى / بتعريف مفرداتها – إذا كانت مركبة - كدرسنا [ المدخل إلى علم أصول الفقه ].
الثانية / بتعريفها باعتبارها إسماً علماً مكوناً من مجموع تلك المفردات .
فمثلاً .. اسم ( عبد الله ) نعرفه بشرح كلمة : عبد ، وكلمة : الله ، ولكن هذا التركيب بمجموعه يكون له معنى آخر غير معنى مفرداته منفصلة ، كأن يسمى به شخص معين يختلف عن باقي الأشخاص ، ويرتسم في الذهن ذلك الشخص بمجرد ذكر المركب .
الطريقة الأولى – بشرح مفردات التركيب /
فالمَدْخَل – بفتح الدال - هو : اسم زمان أو اسم مكان ، والأقرب إلى المراد منه هنا هو .. اسم المكان ، فهو مكان الدخول إلى أصول الفقه ! ، والذي ينبغي أن يكون هو استخدام اسم الفاعل بصيغة [ المُدْخِل ] ، لأنه يقوم بإيصالنا إلى موضع الدخول ، فهو القائم بإدخالنا إلى [ علم أصول الفقه ] . ولو أردناه على أنه [ اسم آلة ] لكان على وزن : مِِدخال .. كممحاة ، ومسحاة ، ومِبراة .. الخ أو أية أوزان أخرى ، لكنها كلها لا تنطبق على وزن [ المَدْخَل ] .
__________
(1) المرجع السابق .(1/2)
والعلم يأتي في العربية بثلاثة معاني هي : الإدراك .. إي العملية العقلية التي يحصل بها زوال خفاء من الذهن ، وذات المعلوم .. فنتعلم عدة أحكام ونقول : هذا علم ، والمَلَكة .. وهي القدرة على استعمال المعلوم . والمعنيان الأخيران وردا في سورة يوسف في قوله تعالى : { وإنه لذولمٍ لما علمناه * ولكن أكثر الناس لا يعلمون }(1)، فمن علم فهو ذو علم ، فالتكرار يدل على تعدد الاستعمال ، فيعقوب : يحسن استعمال ما تعلم .. ولكن أكثر الناس لا يستطيعون ذلك وإن حصل عندهم علمٌ ، كما نرى اليوم من كثرة حملة الشهادات .. ولكن المبرِّزين منهم قلةٌ قليلة ، وهم الذين يحسنون استعمال ما تعلموا ! .
وفي هذا التركيب الذي نريد شرحه .. العلم هو : بالمعنى الثاني ، أي المعلومات .
والعلم في الاصطلاح : يراد به ما أصبح معروفاً ولو لم يكن مسبوقاً بجهلٍ ، فالله جلّ وعلا [ عالم ] وعلمه غير مسبوق بجهل – وحاشاه ذلك - ، فكان هذا من أسمائه الحسنى ، وقد يكون العلم مسبوقاً بجهل ، كما هو علم البشر .
أما المعرفة : فهي دوماً العلم المسبوق بجهل ، ولذلك لا نسمي ( الله ) عارفاً ، وهو للبشر مرتبة رفيعة ! ، فيقال .. هذا عارف بالله ، أي : بسبب الله ، وأثبتوها لكبار الأولياء .
وأما الأصول : فهي جمع [ أصلٍ ] .
والأصل في اللغة : ما يبنى عليه غيره ولا يبنى هو على غيره .
والأصل في الاصطلاح يطلق بخمسة معاني .. هي :
أ. مقابل الفرع – فتقول .. الأب أصل مقابل الإبن ، والشجرة أصل مقابل الغصن .
بمعنى القاعدة – تقول .. [ الأصل غي الأشياء الإباحة ] .
ب. بمعنى الدليل – تقول .. القرآن أصلٌ ، والسنة أصلٌ .
ج. بمعنى الراجح – تقول .. والأصل في هذا الجواز ، أو الحل .
د. بمعنى المُستَصْحَبْ – تقول : الأصل أن المسلم باقٍ على إسلامه حتى تثبت – والعياذ بالله – ردته ، والأصل في الإنسان الحياة حتى يثبت موته .
__________
(1) يوسف / 17 – 18 .(1/3)
فأي المعاني نريده في الاصطلاح ؟ .. نريد معنيين : إما الدليل ، وإما القاعدة .
فدليل الفقه نبحثه في الأصول لنصل إلى الفقه ، أي [ الحكم الفقهي ] في المسألة .. ولكن الدليل لا يستغني عن القاعدة ، لأن فهم الدليل يكون وفق قاعدةٍ معينةٍ .
والقاعدة لا نطبقها إلاَّ على الدليل ، فأيُّ الأمرين أردنا فأحدهما لا يستغني عن الآخر ، فعلى المعنى الثاني [ القاعدة ] تكون الأصول هي القواعد التي يتوصل بها الفقيه إلى الفقه(1).
والفقه(2): له معنى في اللغة ، ومعاني في الاصطلاح .
ففي اللغة : هو الفهم والعلم ، يقول تعالى : { قالوا يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول .. }(3).
وفي الاصطلاح – مرَّ بثلاث أدوار :
الأول / عصر الرسالة والخلافة الراشدة وصدر عهد التابعين : وكان يطلق على كلِّ ما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، فيشمل .. العقيدة ، والأخلاق ، والأمور العملية عبادية أم غير عبادية . وهذا نأخذه من قوله تعالى : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كلِّ فرقةٍ منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون }(4).
فالرسول عليه السلام لم يكن ليعلمهم شيئاً دون شئ ، بل كل ما ينزل ، والذي ينزل هو .. في العقيدة ، والأخلاق ، والأمور العملية .
الثاني / عصر الاجتهاد - وهو عصر نشوء المذاهب الإسلامية الكبرى .. مذهب أبي حنيفة ، ومذهب الشافعي ، ومذهب مالك ، ومذهب أحمد بن حنبل - : وكان يطلق على استنباط الأحكام العملية [ أو الفرعية ] من أدلتها الجزئية [ أو التفصيلية ] .
__________
(1) المرجع السابق – 31 إلى 32 .
(2) راجع مذكرات استاذنا العلاَّمة المرحوم الشيخ محمد أحمد فرج السنهوري / محاضرات ألقاها على طلبة الدراسات العليا في دبلوم الشريعة في كلية حقوق جامعة القاهرة / سنة 1967 م – ص8 وما بعدها [ مطبوعة بالرونيو ] .
(3) هود / 91 .
(4) التوبة / 122 .(1/4)
والاستنباط : الاستخراج ، وهو على صيغة [ استفعل ] وتأتي في العربية لمعانٍ عدةٍ(1)، وهي هنا تعني طلب الشئ ، ولما كان الشئ المطلوب هو الماء [ النَبَط ] ، فطلبه إذن هو [ الاستنباط ] .
شبهوا الفقه مثل استخراج الماء من البئر ، فكلاهما يكون بمشقةٍ ، وكلاهما يعيش به الإنسان ، وكلاهما ينقي بهما الإنسان المتسخ من الأشياء .. معاملات أو مواد ، فتشبيه الاجتهاد باستنباط الماء من البئر فيه منتهى التوفيق .
والحكم : سنعرفه لاحقاً .
والعملية : يخرج بها .. العقيدة ، والأخلاق ، لأنهما غير عمليين ، وهي فرعية .. لأن العقيدة هي .. أصول الدين ، ولهذا حين ألف أبو حنيفة كتاباً في العقيدة أسماه [ الفقه الأكبر ] تمييزاً له عن الفقه الأصغر الذي نحن بصدده(2).
والدليل : سنعرفه لاحقاً .
والجزئية : فهي جزء من كلٍّ ، كآية الجهاد هي جزء من القرآن ، أو لأنها تتعلق بمسألة واحدة .
والتفصيلية : لأنها تتعلق بشئ معين ، في حين الدليل الكلي - مثل [ القرآن ] – ننظر إليه ككل متكامل حين نتكلم عن الأدلة – وهو منها - .
الثالث / وهو عصر فقدان الاجتهاد المطلق المستقل ، وقد يسميه البعض بـ [ عصر التقليد ] : ويطلق الفقه على مجموعة مسائل مستنبطة من الفقهاء المجتهدين المستقلين والمنتسبين، وكذلك يطلق على ما أضافه [ المخرِّجون ] في كلِّ مذهب .
فمن علم مجموعة من تلك الأحكام الفقهية التي استنبطها غيره .. قد يسمى [ فقيهاً ] ، ولكل بلد ولكل زمن مقياسه في إطلاق هذه اللفظة على دارسٍ ما .
ولعل هذا هو إطلاق الفقهاء اليوم على الفقه دون غيرهم ! .
__________
(1) فقد تأتي لغير طلب وفوع الغعل .. لأمور : 1. التحول – تقول .. استحجر الطين ، وللإصابة – تقول .. استعظمته أي أصبت في استعظامي له [ المفصل – 282 ] .
(2) مباحث الحكم عند الأصوليين / استاذنا المرحوم د. محمد سلام مدكور – 11 .(1/5)
والمعنى الثاني من المعاني المتقدمة .. هو الذي نريده في تعريفنا لـ [ أصول الفقه ] باعتباره مركباً إضافياً ، فيكون معنى [ المدخل إلى علم أصول الفقه ] .. هو : ما يوصلنا لمعرفة القواعد والأدلة التي تعين على الإجهاد .
الطريقة الثانية في تعريف [ أصول الفقه ] باعتباره اسماً علماً لشئٍ معين /
وننظر في التعريف إلى المركب ككل متكامل ، فهو :
القواعد والأدلة التي يتوصل بها الفقيه المجتهد إلى الأحكام الفرعية أو العملية ، من أدلتها التفصيلية أو الجزئية .
ويهمنا هنا أن نعرف معنى القواعد – والباقية عرفناها أو سنعرفها - ، فهي : حكم – أو فضية – كلية تحيط بجميع جزئياتها .. ولما كان : [ لكل قاعدة استثناء ] – كما قيل - ، فقد قال بعضهم عنها : أنها حكم أكثري يحيط بأكثر جزئياته .
والضابط : قاعدة في موضوع واحد ، كالصلاة ، أو الجهاد ، أو الاقتصاد(1).
فيكون معنى العلم الذي سندرسه واضحاً ، وبذلك نكون استوفينا الغرض الأول للمقدمة .
موضوع علم أصول الفقه
موضوعه يتكون من شقين اثنين ، هما :
الأول – الأدلة الكلية : وسنأتي لبيانها تفصيلاً .
الثاني – القواعد التي يستطيع بها الفقيه أن يفهم مراد الشارع الحكيم وهو الله تعالى وبالتبع رسول الله عليه الصلاة والسلام .
أما الأدلة الجزئية .. فيحصلها الفقيه من علومٍ أخرى .
فالأصولي – مثلاً - يقول : القرآن حجة ، والقرآن يقدم على السنة ، والعام قطعي ما لم يرد دليل التخصيص ، والأمر يفيد الوجوب .. الخ .
فهذه قواعد كلية ، وهي تتعلق بالدليل الكلي ، أي كل ما تنطبق عليه القاعدة ، لكن إذا طبقناها على دليل جزئي – خاص بمسألةٍ - ، فالجمع بينهما يوصل إلى الحكم .. كالآتي :
__________
(1) راجع : الأشباه والنظائر / ابن نجيم الحنفي – 166 ، القواعد للمقَّري – 1/ 108 ، تعريفات السيِّد الشريف – 149 ، التعريفات الفقهية / وجموعة من المؤلفين – 42 .(1/6)
قوله تعالى : جاهدوا الكفار .. أمر . هذه المقدمة الأولى .
وكلُّ أمر هو للوجوب .
إذن .. مجاهدة الكفار واجبُ . وهذا هو الحكم .
ومما يتطلبه العمل السابق – الذي هو موضوع الأصول أصلاً – أمور :
1. الدليل .
2. دلالات الألفاظ .
3. القائم بالاستدلال : وهو الفقيه المجتهد ، وحكم من لم يصل إلى مرتبته [ المقلد ] .
4. الحكم الشرعي حسب مفهومه عند الأصوليين .
ويرتب الباحثون المواضيع المتقدمة وفق الترتيب التالي : مباحث الحكم ، الدليل ، الدلالة ، الاجتهاد والتقليد .. وقد يلحق بعضهم مسائل في العقيدة والأخلاق – كما فعل صاحب جمع الجوامع - ، وقد رتبناها نحن بحسب الترتيب المنطقي لها .
واضع علم أصول الفقه
لم يكن هذا العلم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا في زمن الصحابة ، ولا عصر التابعين .. لم يكن معروفاً بهذه الصورة التي عليها الآن ، فإذا كان رسول الله " ص " قد اجتهد فهو لم يبين لهم القاعدة عند اجتهاده ، وهو قد يشير إلى الدليل ، وكذا الصحابة ، وكذا التابعون .. لكنهم وبلا أدنى شك أنهم كانوا يراعون قواعد معينة غي اجتهاداتهم ، ولذلك جاء الذين كتبوا في هذا العلم ورجعوا إلى كلِّ أولئك واستخرجوا القواعد – بحسب ظنهم الراجح – من تلك الأقوال والأفعال ، مضافاً إلى ذات الأدلة الأصلية.. من : الكتاب، والسنة . فيقال أن [ الإمام أبا يوسف يعقوب الأنصاري ت سنة 179 هـ ] تلميذ الإمام أبي حنيفة هو أول من ألف كتاباً في أصول الفقه ، لكن كتابه ذاك لم يصل إلى أيدينا ، وذكره [ ابن النديم ] في الفهرست .
ويقال أول من قام بالتدوين هو هشام بن الحكم [ ت سنة 179 هـ ] .(1/7)
ويبقى أول كتاب وصل إلى أيدينا – وهو متداول معروف – هو كتاب الإمام القرشي محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله [ ت سنة 204 هـ ] ، وكتابه هو : [ الرسالة ] ، وقد رواها عنه تلميذه [ الربيع المؤذن ] ، وحققها ونشرها [ أحمد محمد شاكر ] في مصر(1).
علاقة علم الأصول بعلم الفقه
هما علمان يهدفان إلى هدفٍ واحدٍ ألا وهو : الوصول إلى [ الحكم الشرعي ] .
فالفقيه - يسعى للحصول على حكم الله عزَّ وجلَّ من النصوص الشرعية التي لم تورد تفصيلات الحكم ، ولذلك فهو [ يجتهد ] .. أي : يبذل وسعه وطاقته للوصول إلى تلك المعرفة .
فمن المعلوم أن الأحكام الشرعية قديمةٌ قد قامت [ معانيها ] في ذات الله منذ الأزل ، فلما أراد إظهارها أنزل القرآن العظيم ، وأوحى إلى رسوله الأمين ، فالمجتهد يريد الوصول إلى المعنى الذي قام في ذات الله منذ الأزل من خلال النصوص التي وضعها أدلة لأحكامه ، وهي الواردة في الكتاب والسنة النبوية المطهرة .. فهناك معنى .. ثم يأتي لفظ .. ثم نريد الحصول على معنى ، فالعمل الأخير هو عمل المجتهد ، ويقوم به وفق قواعد أصول الفقه لمحاولة فهم المعنى من النصوص الشرعية .
والأصولي - يضع القواعد التي يستعين بها الفقيه لمعرفة الحكم ، فلا يمكن الرجوع إلى النصوص كيفما اتَّفق ، بل بطرق محددة ومعروفة للجميع .. فهدفهما هو الوصول إلى الحكم الشرعي ، ولكل مجاله ، والهدف مشترك .
__________
(1) مباحث الحكم / المرجع السابق – 45 إلى 47 .(1/8)
فالمصمم لأسلوب العمل هو [ الأصولي ] ، والمنفذ هو [ الفقيه ] ، فكما أن كلَّ أمرٍ في الدنيا لا بدَّ أن يجري بتخطيط وتنظيم ، فلا بد أن يكون تخطيط وتنظيم في الدراسات الشرعية الأصلية التي توصل إلى الأحكام ، وليس في أسلوب كتابتها وعرضها كما يفعل الكاتبون ، وللأسف فإن هناك الكثير ممن أشاع أن الاجتهاد أمر هيِّن وميسور لكلِّ أحد! ، مادام الكتاب بين أيدينا وكتب السنة مدونةٌ معروفة !! ، وهذا ينافي فكرة [ الاستنباط ] التي أشار إليها القرآن الكريم بقوله تعالى : { وإذا جاءهم أمرٌ من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردُّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتَّبعتم الشيطان إلاَّ قليلا }(1).
على أن الأصولي والفقيه [ يحتاج لكل شئ ، ويُحتاج إليه في كلِّ شئ ](2).
ثمرة علم الأصول
هي إبعاد الخطأ عن المُسْتَدِل [ المجتهد ] ، بوضع الضوابط والعلامات على طريق الاجتهاد ، فكما أن السائر في طريق يحتاج للأدِلَّاء والدلالات ، فالفقيه من باب أولى لحاجته إلى الصدق وما يقرب من الصواب – إن لم يصب عينه – في الإخبار عن حكم الله ، فليس سهلاً أن يقال : هذا حلال وهذا حرام .. يقول تعالى : { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب وأنتم تعلمون }(3).
فائدته
سعادة الدارين : الدنيا والآخرة ، ففي الدنيا ينعم المسلم بالتطبيق الذي يوفر له مبتغاه في ضوء الشريعة الغرَّاء ، وسعادة الآخرة بنوال رضا الله والبعد عن عذابه ، وهو حجة للمسلم – مجتهداً وغيره – أمام الله يوم القيامة .. فللناس أمام الله جلَّ وعلا يوم القيامة حجة ، يقول تعالى : { رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيما }10.
استمداده
__________
(1) النساء / 83 .
(2) المقولة لنا وهي مأخوذة من واقع العمل الفقهي ، وعمل الفقيه .
(3) النساء / 165 .(1/9)
هذا العلم ليس علماً مستقلاً بذاته ، بل هو في حقيقته م}لف من عدة علومٍ قد صيغت وألفت بشكل منسقٍ ، وبطرقٍ معينةٍ ، لكي تخدم العلوم الشرعية ، ولكي تعين الفقيه المجتهد على إصابة حكم الله الذي غيبه عنَّا جلَّ وعلا .
وتغييب الحكم من الله جلَّ وعلا عنَّا هو عين الحكمة ، وذلك حتى :
تنشط العلوم في الأمة الإسلامية ، وهذا الذي حصل فعلاً .. حيث ملأت المخطوطات الإسلامية العالم بأسره ، والمحبوس في الخزائن ينوف كثيراً على ما طبع ورأى النور منها .
المشاركة من الأمة ، فهي لا تتلقى فقط بل عليها أن تسعى وتشارك ، ولذة المشاركة غير لذة الدعة والخمول والركون إلى الجاهز من الطبخات ، وهذا أمر نجده واضحاً في الأحكام الإسلامية : فهو يريد منك الجهاد .. ولو شاء الله لنصر دينه بدوننا ، ومراقبة الهلال في كل مطلع شهرٍ قمريٍّ ، وحضور الجمع والجماعات .. الخ .
لذة الحصول على النتائج ، فمن وجد بعد المشاركة والبحث ، غير الذي لا يجد ، ولهذا كان من هم على خلاف هذا من المذمومين دوماً .
ستؤدى اجتهادات المجتهدين إلى تعدد الآراء ، إذ يستحيل التوافق دوماً بحسب ما نراه من الطبيعة البشرية ، وفي التعدد سعة على المكلفين وعلى الدول ، فيختار المكلف ما يناسبه من الآراء المعتد بها بحسب زمانه ومكانه ، وقد تختار الدولة في الزمن الواحد حكمين اجتهاديين لكل بقعةٍ من بقع إقليمها ، خاصَّةً إذا الإقليم شاسعاً متفاوتاً في الطبيعة الجغرافية والطقسية والطبائعية .(1/10)
لو أراد الله جلَّ وعلا أن يُحصي الأحكام لنا لما أعجزه ذلك – وحاشاه - ، فقد أحصى كلَّ ما في الكون .. { وكلَّ شئٍ أحصيناه في إمامٍ مبين }(1)، لكن هذا سيكون معجزاً لنا ، إذ ستمضي سنيِّ العمر ولا نصل إلى حكم مسألة قامت الحاجة لحكمها عند فلانٍ من الناس ، وذلك بسبب كثرتهم في كلِّ جيل ، وتفرقهم في الآفاق مما لا يحتاج إلى دليل . فرأفته بنا جعلته يغيِّب عنَّا الكثير ولا ينص إلاَّ على القليل .
ليس الخفاء مما يشين – بعد أن تبينت محاسنه - ، بل هو من محاسن هذا الدين المتين .. يقول الشاعر :
ليس الخفاء بعارِ على امرئٍ ذي جلالِ
فليلة القدر تخفى وهي خير الليالي
فمن هذا نعلم .. أن خفاء الأحكام في ثنايا النصوص جعلت الحاجة قائمة لجملة من العلوم ، دمجت مع بعضها بإتقان عجيب فسميت بمجموعها [ علم أصول الفقه ] ، فهو مستمد من علوم عدة .. أهمها هي :
أولاً – علوم العربية : وتشمل .. النحو ، وعلوم البلاغة ، وعلم الصرف ، وعلم الوضع ، وعلم فقه اللغة ، وعلم الاشتقاق .
إن المعاني للأحكام قد قامت غي ذات الله منذ الأزل .. لأنه أزلي ، ثم جلَّ وعلا اختار : اللغة ، والرسول ، فاختار العربية لغة لخطابه لعباده ، واختار محمداً – وهو عربي - ، فعبر جلَّ وعلا عن تلك المعاني التي قامت في ذاته - على هيئةٍ لا نعرفها – بالغة التي اختارها .. وهي العربية.
إن اختيار العربية لم يمن لمزيد عناية بالعرب أو تفضيلٍ لهم على سائر مخلوقاته ، بل كان اختيارها فيه مزيد تكليفٍ عليهم فلم يقبل منهم إلاَّ : الإسلام .. أو السيف ، لأنهم فهموا مراد الله الذي عبرَّ عنه تعالى بلغتهم . واختيار العربية كان بسبب كونها :
أ. واسعة المعاني والمفردات ، وفيها دقة في التعبير عن المتقاربات ، ففرقوا بين : الجميلة ، والغانية ، والفاتنة .. وهكذا .
ب. فيها التوليد عن طريق الاشتقاق ، بحيث تستوعب كلَّ جديد .
__________
(1) يس / 36 .(1/11)
ج. فيها الترادف .. وهو التعبير عن الشئ الواحد بألفاظٍ متعددة .
د. فيها المشترك اللفظي .. وهو التعبير عن المعاني المتعددة بلفظٍ واحدٍ .
هـ. وفيها المشترك المعنوي .. وهو المعنى الذي يوجد غي مفرداتٍ عديدةٍ وبقدرٍ متفاوت ، فالأخذ بالحد الأدنى هو المشترك المعنوي .
و. قبولها للدخيل .. فكلمات : سجيل ، وتنور ، وإستبرق ، وأريكة .. الخ ، كلمات أخذت بنصها من لغاتٍ أخرى ، واعتبرت عربيةً لورودها في القرآن العظيم ، وعلى نحمل الكلمات الحديثة : تلفون ، تلفزيون ، كومبيوتر ، وإيميل ، وانترنيت .. الخ ، فتعدٌّ الآن عربيةً بحكم تداولها فيها .
ز. اتِّساعها للتعريب .. وهو تحوير في الكلمة ببعض حروفها بتقديمٍ أو تأخير أو تبديل ، فتعد بعد ذلك عربية ! . فلفظة [ أنموذج ] أصلها كلمة [ نمونة ] الفارسية ، و [ الفالوذج ] أصله [ بالوته ] الفارسية .. الخ .
لكل الأسباب المتقدمة وغيرها ، اختار الله العربية لغةً لخطابه للبشر في دين آخر الزمان ، فلزم معرفة كافة علومها لكي يصل الدارس إلى رتبة الاجتهاد ، ولذلك هي من ضمن العلوم – بل أهمها – التي يستمد منها أصول الفقه موضوعاته .
إن مبحث [ الدلالات اللفظية ] هو من أهم مباحث هذا العلم ، وهو أمر يتعلق باللغة العربية .
ثانياً – علم العقيدة / وهو ما يتعلق بذات الله وصفاته ، وثبوت نبوة محمد عليه السلام ، والمعاد ، والصراط .. الخ . فهذه يحتاجها الأصولي ليعرف – مثلاً – هل أن الله خاطب الناس عن طريق عقولهم ، أم لا بد من إرسال الرسل ؟ .. وهكذا .
كذلك يحتاج الأصولي إلى تأريخ الأديان ، ومعرفة الملل والنحل ، والفرق والمذاهب .. الخ .(1/12)
ثالثا – الكتاب والسنة نفسيهما / فعن طريقهما يعرف استعمال الشارع الحكيم للغة ، وهل ذكرت النصوص – مثلاً – المجاز ، والمشترك ، والمطلق ، وكيف حمل الرسول عليه السلام المطلق على المفيد .. الخ . فليس كل ما في العربية من قواعد يؤخذ – ففيها الشاذ - ، كما لا يكون تركها لشئٍ ما فيها اعتباطاً .. فعلم أصول الفقه يعرفنا بذلك .
رابعاً ً – السيرة النبوية الشريفة ، وسيرة الصحابة الكرام / ومنهما نفهم كيفية تطبيق الرسول عليه السلام للنصوص الشرعية ، ومدى مراعاته لتبدل الأحوال واختلاف الحكم باختلاف الزمان والشخص والمكان .. وما إلى ذلك .
ونفهم من تطبيق الصحابة الكرام طريقة فهمهم للنصوص وتعاملهم معها بعد انتقال الرسول عليه الصلاة والسلام للرفيق الأعلى ، فهذا الفهم مهم لأنه نبراسٌ لنا في التأسي بطرائقهم ، وقال المصطفى عليه الصلاة والسلام : { عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عَضُّوا عليها بالنواجذ }(1)، فكل ذلك من أهم روافد علم الأصول .
خامساً – علم المنطق / وهو من علوم الفلاسفة اليونان ، ترجمه المسلمون واستفادوا منه ، وأضفوا عليه صبغتهم الإسلامية .
وهو .. علم ينظم الأفكار ، ويبعدها عن الخطأ ، ويقربها من الصواب ، وقد وضعوه بالملاحظة والتتبع ، فأحكمت قوانينه ، حتى أن كثيراً مما فيه ليقول به العقل السليم من غير تعلمٍ .
وهو .. علمٌ يرتب الأفكار ترتيباً منسقاً ، ويساعد على استدعائها وقت الحاجة ، فهو – بالجملة - : آلة قانونية تعصم الذهن عن الخطأ ، وتعينه على الوصول إلى الصواب .
__________
(1) رواه العرباض بن سارية / كما في مقدمة الدارمي – الحديث 40 .(1/13)
سادساً – علم الجدل وعلم آداب البحث والمناظرة / وهذا يجعل الأصولي قادراً على المحاكمة بين الآراء ، وترجيح ما يترجح – وإن كان مخالفاً لرأيه - ، والقدرة على ردِّ المخالف من أهل العناد ، وفضح تلبيساتهم ، وطريقة المناظرة من حق السائل وحق المجيب ، ومتى يعتبر المناظر نفسه قد أفحم الخصم .. الخ .
وهناك طريقتان في هذا العلم :
أ. طريقة ركن الدين العميدي الحنفي صاحب كتاب الإرشاد [ ت سنة 615 هـ ] ، وهي طريقة عامة تتعلق بكل دليل وبكل استدلال ، وفي أيِّ علمٍ من العلوم .
ب. طريقة البزدوي : وهي خاصَّة بالأدلة الشرعية من .. نص ، وإجماع ، واستدلال(1).
[ وقد كان العلماء في الصدر الأول غير محتاجين إلى هذه النُظُم ، لما وهبهم الله من سلامة الفِطرة ، وصفاء الذهن ، وكانت أساليب حِوارِهم ومناظراتهم تجري على وفق هذه القواعد من غير أن تكون علماً مدوَّناً ، فلما طال العهد ، وقصُرت القرائح ، احتاج التاس إلى استنباط قواعد يلتزمها المتباحثان .. ](2).
سابعاً – علم الفقه نفسه / فالأصولي يحتاج إلى أحكام الفقه المستنبطة في هذا المذهب أو ذاك لأجل : الاستشهاد بها ، ومعرفة طرق الوصول إليها .
وينبغي للطالب الذي يريد تحصيل هذا العلم أن يكون محصِّلاً لعدد معقولٍ من المسائل ، ليكون مستوعباً للأمثلة التي يوردها المؤلفون ، أو يستشهد بها المدرسون ، وإلاَّ من الصعب جداً قلب درس الأصول .. إلى درسٍ للفقه المحض ! .
__________
(1) مذكرات في أصول وتاريخ الفقه الاسلامي / المرحوم حسين علي الأعظمي البغدادي –22 [ مطبعة الأهالي / بغداد – 19399 إلى 1940 ] ، رسالة الآداب في علم آداب البحث والمناظرة / المرحوم محمد محيي الدين عبد الحميد – 8 [ ط7 سنة 1958 المطبعة التجارية الكبرى – مصر ] .
(2) رسالة الآداب / مرجع سابق – 7 .(1/14)
ثامناًً – كافة العلوم البشرية التي تؤدي إلى الدقة في وضع القواعد / وهو مما يجعل الذهن متفتحاً ومتقبلاً لكل ما يعين الذهن على التفكير السليم ، والاستقامة فيه .
مناهج البحث والتأليف في علم الأصول
كان الرسول محمد صلى الله عليه وسلم يجتهد فيما لم يرد فيه نصٌ ، واجتهد الصحابة الكرام في عصره عليه الصلاة والسلام وبعد انتقاله للرفيق الأعلى ، ولكن لم يكن هذا الاجتهاد ابتداءً مصدراً للتشريع ، فالعبرة بما يقره الوحي من اجتهادات الرسول أو يعدلها له ، أو ما يقره الكتاب أو السنة من اجتهادات الصحابة .. فهي – حينئذِ – تكون من النصوص وليس من فعل الصحابة .
إذن الفقه بمعناه الاصطلاحي لم يكن موجوداً في عصر الرسالة ، ولم يكونوا – تبعاً بذلك – بحاجة إلى علم الأصول بمعناه الاصطلاحي ، وإنما عرف أول ما عرف غي عهد الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم ، ومع ذلك لم ينشأ عندهم علمٌ للأصول بالمعنى الاصطلاحي بسبب .. اعتمادهم على ما لمسوه وعرفوه من رسول الله من : دلالات النصوص ، وحكمة التشريع ، وأسباب النزول ، وما نمى عندهم من الذوق الفقهي في فترة ملازمتهم لرسول الله عليه الصلاة والسلام ، ومعرفتهم بالناسخ والمنسوخ ، وما عندهم من معرفة بلغة العرب التي نزل القرآن بها وجاءت السنة الشريفة بتلك اللغة ، فلم تداخلهم العُجمة بعد ، ولم يبعدوا عن مصدر العربية النقيِّ في صحرائهم ، ولا لغة الكتاب الكريم .. وهي لغة قريش .(1/15)
لقد كوَّن كل ما تفدم لدى الصحابة الكرام ذوقاً استنباطياً رفيعاً ، وإن لم يظهر على هيئة قوانين وقواعد مقعَّدة كما حصل بعدئذِ ، فحين تداولوا في حدِّ شارب الخمرة قاسوه على حد المفتري – وهو الذي يقذف غيره بالزنا – والوارد في قوله تعالى : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون }(1)، فقالوا : شارب الخمرة إذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى ، وعلى المفتري ثمانون جلدة ! .
هذا الذي اجتهده الصحابة هو من قبيل سدِّ الذرائع ، وهو قياس بإدراك العلة .
وحين أوقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه سهم المؤلفة قلوبهم من الزكاة .. قال : [ إن الله أعزَّ الإسلام وأغناه عنكم ، فإن ثبتم عليه وإلاَّ فبيننا وبينكم السيف ] .
وحينما أوقف قطع يد السارق حين حلَّت مجاعة بالمدينة المنورة ، وكان السارق أحد عبيد بعض الأغنياء ، قال عليه الرحمة والرضوان : [ أما والله لولا أعلم أنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى أن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه حلَّ له .. لقطعت أيديهم ، وأيُّم الله إذا لم أفعل لأغرِّمنك غرامةً توجعك ] . فلاشك أن سيِّدنا عمر رضي الله عنه قد لاحظ في اجتهاده المصلحة التي لأجلها شرِّع الحكم ، ثم جعل الحكم يتبع المصلحة ويترتب عليها ، وقد غيَّر عليه الرضوان الحكم تبعاً لتغير علة الحكم ، أو قل حين انتفت علته تماماً فأوقف الحكم بهذا السبب ، ولهذا سنرى أن الأصوليين سيقولون – بعدئذ - : [ أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً ] .
__________
(1) سورة النور / 4 .(1/16)
وأفتى الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في .. عدة الحامل المتوفى عنها زوجها بأن عدتها أن تضع حملها ولو قبل انقضاء الأربعة أشهرٍ وعشرا أو بعد انقضائها ، وأخذ بقوله تعالى : { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدَّتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ومن يتَّق الله يجعل له من أمره يسرا }(1)، ولم يأخذ بقوله تعالى : { والذين يُتوَفَوْن منكم ويَذَرون أزواجاً يتربصن بأنفسهنَّ أربعة أشهرٍ وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن بأنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير }(2)رغم شمول الأخيرة .. الحامل والحائل ، وقال : [ أشهد أن سورة النساء الصغرى – يعني الطلاق – نزلت بعد سورة النساء الكبرى – يعني البقرة - ] ، وهذا معناه عند الأصوليين .. أن النص المتأخر ينسخ المتقدم .
وفي الصدر الأول من عهد التابعين اختلفت اجتهاداتهم ، فابن المسيِّب كان يراعي المصلحة في اجتهاداته واستنباطاته ، وكان قيس بن علقمة النخعي وبعده تلميذه إبراهيم النخعي يراعيان القياس ، فيستخرجان العلة في المسألة المنصوص على حكمها ، ويسحب الحكم إلى كافة الفروع التي لم ترد نصوصٌ بأحكامها حين تتحقق العلة في الفرع المقيس .
وحين اتسع الفتح واختلط العرب بغيرهم من الأمم بسبب الفتح ودخول طوائف وأمم من أجناسٍ مختلفة في الإسلام ، فقد سبب ذلك ضعف قدرة العرب على لسانهم ، ودخلت فيها مفردات وأساليب لم تكن معروفة ، وفي نفس الوقت كثرت الحوادث والمسائل التي أخذت الدولة والناس يحتاجونهما مما جعلهم يبحثون عن حكم الله تعالى فيها ، فاحتاجوا إلى إيجاد طرق للاستنباط .
لقد اختلفت طرقهم البحثية للوصول إلى الحكم فيما لا نص فيه لأسبابٍ عدة .. منها :
أ . اختلاف البلاد وعاداتها .
ب . وصول السنة لهذا الفريق وعدم وصولها للآخرين .
__________
(1) سورة الطلاق / 4 .
(2) سورة البقرة / 234 .(1/17)
ج . اختلافهم في فهم الكتاب والسنة .
د . تأثرهم بمؤثرات كثيرة ، كالأخذ بالنزعة العقلية ، أو تغليب الحرفية النصيَّة .
هـ . المميزات الشخصيَّة للفقيه بحيث تنعكس على عمله الفقهي .. ضيقاً وسعةً ، وككثرة وقلة ، وجرأةً وتردداً .
وهناك أسباب أخرى لاختلافاتهم ، تجدها في مظَّانها ، حيث كتب العلماء في ذلك بما يشفي الغليل ويدفع الشُبه والتقوُّلات عن العلماء الأعلام(1).
لقد ظهرت أول ما ظهرت من المناهج الأصولية والاجتهادية .. نزعتان :
الأولى / نزعة أهل العراق .. المسماة بمدرسة أهل الرأي – ورأسها الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، وتلقاها عنه تلميذه علقمة بن قيس النخعي ، وتلقاها عنه إبراهيم النخعي ، وتلقتها عنه حمَّاد بن أبي سليمان ، وعنه أخذ الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي[ ت سنة 150 هـ ] ، وعن الأخير انتشرت ، وبه عرفت .
الثانية / ونزعة أهل المدينة .. المسماة أهل الحديث – وتزعمها الإمام مالك ، آخذاً إياها عن مولى ابن عمر عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين .
لقد كثر الجدل والمناظرات بين فقهاء المدرستين ، كما كثرت الاحتمالات في فهم النص الواحد ، فلم تبقَ المَلَكَة اللسانية على سلامتها ، وكان أغلب الفقهاء بعد عصر الصحابة من غير العرب ، ولا شك هم يتأثرون بتراث أقوامهم في البحث ، من غير إخلالٍ بالشريعة وأسسها ومسلَّماتنها ، فلم يعد الاجتهاد ميسوراً كما كان في عهد الصحابة الكرام ، ومن قبله عهد الرسالة.
__________
(1) راجع : رفع الملام عن الأئمة الأعلام لشيخ الاسلام تقيِّ الدبن بن تيمية ، وحجة الله البالغة لوليِّ الله الدهلوي ، واختلاف الفقهاء للدهلوي ، أعلام الموقعين عن ربِّ العالمين لإبن القيِّم تلميذ ابن تيمية .(1/18)
وإننا انجد في هذه الفترات بداية عهد التحزب لرأي إمامٍ من الأئمة ، والدفاع عن ذلك الرأي مهما كان الثمن .. وقد تبع هذا التحزب اشتغال هؤلاء بتحرير قواعد مذاهبهم ، ومآخذ أئمتهم ، ليتسنى لهم السير على مناهج أئمتهم في الاستنباط ، فجمعوا ما كان متفرقاً ، ولمُّوا شمل ما كان مبثوثاً في ثنايا الكتب ، وحرروا المسائل الأصولية لأئمتهم .
وفي الوقت ذاته كانت بعض الأصول لبعض الأئمة معروفة ، وذلك بسبب مناظراتهم مع بعضهم ، فحين أخذ بعضهم بالاستحسان وأنكر آخرون ، هجم المنكرون بالحجج ، ودافع المدافعون بالحجج ، وحينئذ صرحوا بتلك الأصول ، وتلقفها عنهم أتباعهم .. وهكذا .
ولقد صرح بعض الأئمة بأصوله لسبب وآخر .. فمثلاً :
1. جاهر أبو حنيفة ببحثه عن العلل حيث لا نص ، وصرح بأنه لا يخرج عن مجموع آراء الصحابة إن كان لهم رأيٌّ في المسألة ، فإن لم يكن لهم رأيٌّ وآل الأمر إلى اجتهاد التابعين ، فقد فقال .. هم رجال وأنا رجل ، وصرح بعدم عمله بخبر الواحد في حالة كون الراوي غير فقيه وقد رواه بالمعنى ، وأنه لا يأخذ به إذا خالف أصلاً من الأصول المعروفة من الشرع ، أو خالفه عمل الراوي ، وأخذ بالاستحسان فضلاً عن القياس .. وهكذا .
2. وجاهر الإمام مالك بالأخذ بالمصلحة ، والأخذ بعمل أهل المدينة ، والتوسع بدليل [ سدِّ الذرائع ] .. وهكذا .
3. وجاهر الشافعيُّ بأنه لم يجد نصاً وآل الأمر إلى اجتهادات الصحابة فإنه يجتهد كما اجتهدوا ولم يلزم نفسه برأيِّ أيِّ منهم ، وجاهر بتركه للاستحسان .. وهكذا .
ولهذا فقد جمع الإمام أبو يوسف الأنصاري قاضي القضاة في الدولة العباسية وتلميذ الإمام أبي حنيفة ، أقوال إمام مذهبه الأصولية ، ولكن كتابه لم يصل إلينا ، رغم ذكر ابن النديم له في الفهرست ، ولعله ما زال مخبوءاً في مكتبةٍ ما المكتبات الكثيرة التي تضم المخطوطات الإسلامية.(1/19)
وتصدى الإمام الشافعي بنفسه إلى تحرير مسائله الأصولية ، وكان يدرسها طلابَه ، فقام تلميذه الربيع المؤذن بجمع تلك الأصول ، وأسمى ذلك الكتاب بـ [ الرسالة ] وهو ينسب للشافعيِّ مباشرة رضي الله عنه ، ولا يذكر جمع الربيع له .
منهج الإمام الشافعيِّ في أصوله / لقد جمع الإمام الشافعيِّ بين منهجي أهل الرأي أو مدرسة العراق المتمثلة بمدرسة أبي حنيفة ، ومدرسة أهل الحديث أو مدرسة المدينة المتمثلة بمدرسة الإمام مالك بن أنس الأصبحي ، فهو قد درس على يد الإمام محمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة ومحرر مذهبه ، ودرس على الإمام مالك نفسه في المدينة المنورة وعاد إلى العراق ، ثم ذهب إلى مصر فاستقرت أصوله هناك ، وحررها الربيع في [ الرسالة ] . قد راعى الإمام الشافعيِّ الأعراف ، وبدَّل كثيراً من آرائه المبنية على العرف حين حلَّ بمصر ، فكان له – تبعاً لذلك - مذهبان : قديم وجديد(1).
الإمام الشافعيِّ وكتاب الرسالة / لقد نشأ الإمام الشافعي في البادية ، وهو عربيٌّ قرشي ، فكان عارفاً بأساليب العربية وخفاياها ، متفقهاً فيهاً أيّما تفقهٍ ، فكان كلامه حجةٌ يعتد به مع أن عصر الاستشهاد اللغوي قد اقتصر قبله على عصر الجاهلية وعصر المخضرمين ! .
لقد كان لظهور الجدل بين الفقهاء في الأصول ، مع القابلية المتفردة للإمام الشافعي ، كل ذلك دفعه لوضع القواعد الاستنباطية التي يراها صحيحةً ، تنظيماً لأمر الاجتهاد ، ولوضع ضوابطه .
__________
(1) مباحث الحكم ، ومذكرات السنهوري في تأريخ الفقه / مرجعان سابقان .(1/20)
ولما أحس المشتغلون بالفقه عِظم فائدة تلك القواعد ، فقد طلب منه [ الفقيه عبد الرحمن بن مهدي الحافظ ت 198 هـ ] أن يضع كتاباً يبين فيه : معاني القرآن والسنة ، والناسخ والمنسوخ ، وحجية الإجماع .. فاستجاب له الشافعيُّ ، وأملى على تلميذه [ الربيع بن سليمان ] مجموعة سميَّت بعدئذ بـ [ الرسالة ] ، واعتبرت مقدمة لكتاب [ الأم ] ، وبحث فيها :
الكتاب والسنة ، ومنزلة الفقه من القرآن ، وطرق إثبات السنة ، والاحتجاج بخبر الواحد ، والناسخ والمنسوخ ، والدلالات اللفظية .. من العام والخاص والمشترك والمفصل والمجمل ، وبيَّن حقيقة الإجماع وحجيته ، وضبط القياس ، وتناول الاستحسان بالكلام .. ، ورتب كلَّ ذلك ترتيباً علميَّاً منطقيَّاً ومنظماً .
لقد تكلم الإمام الشافعيِّ عن الأدلة المجمع عليها .. وهي : الكتاب ، والسنة ، والإجماع ، والقياس .. ولما رآها [ عبد الرحمن بن مهدي ] أعجب بها أيّما إعجاب ، وقال : [ لما نظرت الرسالة للإمام الشافعيِّ أذهلتني ، لأنني رأيت كلام رجلٍ عاقل فصيح ناجح .
ويبدو أن الإمام الشافعي قد صنَّف الرسالة ببغداد ودوَّنها ، ولما قدم مصر واستوطنها .. أعاد تصنيفها ، كما أنَّه غيَّر من مذهبه ، والنسخة التي بين أيدينا هي التي أملاها على الربيع .
وللشافعيِّ كتبٌ أخرى في الأصول ، منها : [ جِماع العِلم ] ، و [ إبطال الاستحسان ] ، وهذا كله دفع عجلة الكتابة في أصول الفقه إلى الأمام .
مناهج الكتابة في علم الأصول(1/21)
إذا كان للإمام الشافعيِّ فضل السبق بالتدوين ، فلا يعني أن كلَّ مسائل الأصول قد حررت ، وانتهى أمرها ، بل شارك علماء علم الكلام أيضاً بالكتابة فيه ، وأبرز أوائلهم كانوا [ المعتزلة ] ، كما كان لمن بعده فضل تنميته وتحرير مسائله ، وإغنائها بالإضافات والاستدراكات ، فنشأت مدارس في أسلوب التدوين لما لم يدوَّن من مسائل الأئمة ، أو محاولة الوصول إلى ما راعوه في اجتهادهم مما لم يصرحوا به .. فنشأت في ذلك مدرستان ، ثم تبعتها ثالثة ، ثم رابعة هي أقل شأناً ممن سبقها .
كل هذا في نطاق من سموا بـ [ أرباب المعاني ] ، في حين نشأ للظاهرية منهجٌ آخر قلَّ الآخذون به أسبابٍ عدَّة ، ويحاول الكثير جعل منهج الإمام الشاطبي المالكي في التدوين منهجاً مستقلاً .. ولهذا نعرض لهذه المناهج – إن شاء الله - بشئٍ من الإسهاب وحسب التيسير .
أولاً / طريقة المتكلمين والمسماة بطريقة الشافعية – وتقوم على تجريد قواعد الأصول عن الفقه ، والميل إلى الاستدلال العقلي ما أمكن ذلك ، فما أيدته العقول السليمة والحجج المقنعة .. أثبتوه وإلا فلا ، دون اعتبار لموافقة ذلك للفروع الفقهية ، فهدفهم ضبط القواعد لتكون دعامة للفقه ، وضابطة للفروع من غير اعتبارٍ مذهبي ، فهذا الآمدي الشافعي في كتابه [ الإحكام في أصول الأحكام ] يرجح حجية الإجماع السكوتي موافقاً للأحناف ومخالفاً إمام مذهبه .
وواضحٌ أن هذا المسلك هو الذي يتفق مع اتِّجاه المعتزلة من علماء علم الكلام ، ومسلكهم النظر إلى الحقائق مجردة دون تقليدٍ أو تعصب .
ويبدو أن علماء علم الكلام – وهم يكتبون في الأصول – قد أدخلوا كثيراً من مواضيع علم الكلام لأدنى ملابسة ، ومن ذلك كتاباتهم عن عصمة الأنبياء قبل النبوة ، وعن التحسين والتقبيح العقليين ، وهم في كتاباتهم قلَّما يتعرضون للفروع الفقهية ، فنجد طريقتهم تمتاز بأمرين :
أ. البعد عن مسالك الفروع .
ب. الاستدلال العقلي .(1/22)
الكتب التي وضعت على طريقتهم / لقد ألفت على هذه طريقة المتكلمين كثيرٌ من .. الشافعية ، وبعض المالكية ، فضلاً عن المعتزلة ، وأهم الكتب المؤلفة على هذه الطريقة هي :
1. المعتمد للفقيه المعتزلي الشافعي أبي الحسين محمد بن علي البصري المتوفى سنة 463 هـ
2. البرهان إمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك الجويني النيسابوري المتوفى سنة 478 هـ .
وقد كان أشعريُّ العقيدة ، شافعيُّ المذهب في المباحث الفقهية .
3. المستصفى للفقيه الفيلسوف الصوفيِّ أبي حامد محمد بن محمد بن محمد الغزاليِّ الطوسيِّ الشافعيِّ المتوفى سنة 505 هـ .
إن الكتب الثلاثة المتقدمة وإن كانت تعتبر أمهات ما أُلف على طريقة المتكلمين من كتب أصول الفقه ، إلاَّ كتاب [ المستصفى ] يمتاز عنها بحسن العبارة والأداء والإفاضة فيما يحتاج إلى بيان .. في زمن كانت تعتبر فيه الإفاضة من مميزات ذلك الزمان ومن أسس الكتابة في كل العلوم ، ولم تكن قد عرفت المختصرات بعد ، والتي سميت [ بالمتون ] .
ولما بدأ عصر شيوع المختصرات.. تفرغ لهذه الكتب عالمان جليلان من علماء الكلام ، هما :
الإمام الرازي والآمدي ، فدرساها وجمع كلٌّ منهما إياها في كتاب ، فكان كتاب [ المحصول ] لفخر الدين محمد بن عمر الرازي الشافعي المتوفى سنة 606 ، وكتاب [ الإحكام في أصول الأحكام ] لأبي الحسن علي بن أبي علي المعروف بسيف الدين الآمدي الشافعي المتوفى سنة 631 هـ .
لقد تناول العلماء كلا الكتابين .. بالاختصار ، فتفرعت عنه عدة كتب كلها على طريقة المتكلمين ، وهذه هي :
الأول - المحصول للرازي الذي اختصر في الكتب الآتية :
1. الحاصل لتاج الدين محمد بن الحسن الأرموي المتوفى سنة 656 هـ .(1/23)
وقد أخذ عنه عبد الله بن عمر البيضاوي المتوفى سنة 685 هـ فوضع كتابه [ منهاج الوصول إلى علم الأصول ] الذي وصل فيه الاختصار إلى درجة الألغاز ، فحفز ذلك عبد الرحيم بن حسن الأسنوي المتوفى سنة 772 هـ لشرحه بكتابه [ نهاية السول في شرح منهاج الوصول إلى علم الأصول ] ، وشرحه غيره من الأصوليين .
2. التحصيل لمحمود بن أبي بكر الأرموي المتوفى سنة 672 هـ ، وزاد لمختصره بحوثا .
الثاني/ الإحكام في أصول الأحكام لأبي الحسن علي بن أبي عليِّ المعروف بسيف الدين الآمدي الشافعي المتوفى ستة 631 هـ ، واختصر هذا المختصر أبو عمرو عثمان بن عمرو المالكي المعروف بإبن الحاجب المتوفى سنة 646 هـ بكتابه المسمى [ منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل ] ، وعاد فاختصر مختصره هو نفسه بكتابه [ مختصر المنتهى ] !! .
ثم شرح هذا المختصر بعد ذلك عضد الدين والملة صاحب كتاب المواقف في علم الكلام ، والمعروف بالإيجي .
ثانياً / طريق الحنفية [ أو طريقة الأحناف ] في كتابة علم أصول الفقه / لقد كانت طريقتهم في تأصيل القواعد الأصولية أنهم جعلوا أحكام فروع مذهبهم الفقهية مصدراً لهم في الاستنباط ، وبحثوا عن الأصول التي اتَّبعها أئمتهم عند الحكم فيها .
إن هذه الطريقة هي أليق ما تكون بالفقه منها بالأصول ، فهي تغوص على النكات الفقهية نفسها والإكثار من التمثيل بالفروع الفقهية ، وبينوا العلل والمعاني التي ابتنيت عليها مسائلهم ، فإذا قرروا قاعدة أصولية ووجدوها مخالفة لفرع من فروع مذهبهم ، فإنهم يقومون بتشكيلها بالشكل الذي يتَّفق مع الفرع ، ولهذا كانت أصولهم واقعية وليست نظرية ، وهذا جعل الفروع تبحث كثيراً في كتب الأصول حتى أخذت مظهر كتب فقهٍ بينت فيها أصول تلك المسائل الفقهية .
من هذا كانت الطريقتان متباينتان بل متناقضتان ! في أصل نشوئهما وتكوينهما :(1/24)
فالأولى - تضع القواعد الضابطة للفروع دون النظر لما ورد عن أئمتهم ، متأثرين بعلماء علم الكلام من المعتزلة في البحث المجرد .
والثانية - تجعل الفروع المنقولة عن الأئمة – بعد ضبطها – مصدراً تؤخذ منها القواعد والقوانين الأصولية ، ونشأ فيهم نوع تحيُّز لأئمتهم .
لقد كان لطريقتهم أثر في التفكير الفقهي ، باعتبار أن أصولهم ما هي إلاَّ دراسة تطبيقية واقعيَّة لفقههم وليس دراسة نظرية مجردة .
وهذه الطريقة تكون ضابطة لجزئيات المذهب وفروعه ، وهذا يعين فقهاء المذهب على استخراج أحكام ما يجدُّ من مسائل ، وهو مسلك بعث في القواعد الأصولية حيويةً وحياةً ، وقد ربطتها مع الأصول رابطة نسب وقرابة .. فهذا أبو بكر الجصَّاص من الحنفية إذا قرر قاعدةً أصوليةٍ قال : [ على هذا فروع مذهبنا ] .
الكتب التي وضعت على طريقة الحنفية / لقد ألف على طريقتهم فقهاء وأصوليوا الأحناف فقط ، فمن قدمائهم الذين كتبوا بهذه الطريقة :
1. أبو الحسن الكرخي المتوفى سنة 240 هـ ، وكتابه معروف باسم [ أصول الكرخي ] .
2. أبو بكر أحمد بن عليِّ الرازي المعروف بالجصَّاص المتوفى سنة 370 هـ ، وكتابه معروف باسم [ أصول الجصاص أو أصول الرازي ] .
3 . أبو زيد عبد الله بن عمر القاضي الدبوسي المتوفى سنة 430 هـ ، وكتابه هو [ تأسيس النظر ] ، وهو وإن كان رسالةً صغيرة .. إلا أنه تناول فيها القياس ، وأشار إلى الأصول المتفق عليها بين الأحناف وغيرهم ، فهو أول كتاب للمقارنة والجمع للمتوافق ، والتفريق بين المتفرق ، وهو في ذلك أسبق من أبي اسحق إبراهيم بن موسى الشاطبي المتوفى سنة 780 هـ في كتابه [ الموافقات ] ، ومن القرافي في كتابه [ الفروق ] .. وكلاهما من المالكية .
4. شمس الأئمة محمد بن أحمد السرخسي المتوفى سنة 428 هـ .
5. فخر الإسلام علي بن محمد البزدوي المتوفى سنة 483 هـ ، وهو الكتاب المعروف بـ [ أصول البزدوي ] ، وهو أوضح كتاب ألف على طريقة الحنفية .(1/25)
لقد شرح هذا الكتاب علاء الدين عبد العزيز بن أحمد البخاري المتوفى سنة 730 هـ ، بكتابه المسمى بـ [ كشف الأسرار ] ، ولكن شاع على الألسن قولهم : كشف الأسرار للبزدوي ، ولعل ذلك بفعل الطابعين ، حيث كانت طبعته الأولى في الاستانة [ استانبول ] بهذا الاسم .
6. مفتي الثقلين عبد الله بن أحمد النسفي المتوفى سنة 790 هـ ، المعروف بـ [ المنار ] ولقد حضي هذا الكتاب بعناية خاصَّةٍ ، وقد شرح بعدة شروح .. أهمها :
أ . شرح المؤلف نفسه المسمى بـ [ كشف الأسرار ] .
ب . شرح عز الدين عبد اللطيف بن عبد العزيز بن فرشته الشهير بإبن ملك ، وهو
من أمهات الكتب في علم الأصول .
ج. حاشية يحيى الرهاوي المصري .
د. حاشية السيِّد محمد أمين الشهير بإبن عابدين ، الفقيه الحنفي الشامي والمتوفى سنة
1252 هـ ، وحاشية تسمى بـ [ نسمات الأسحار على كشف الأسرار في
شرح المنار للنسفي ] .
لقد ألف على طريقة الحنفية من غيرهم من الأصوليين : المالكية ، والشافعية ، والحنابلة ، نذكر منها الكتب التالية :
1. [ تنقيح الفصول في علم الأصول ] : لشهاب الدين أبي العباس أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن المالكي العراقي المتوفى سنة 684 هـ .
2. [ التمهيد في تخريج الفروع على الأصول ] للإمام جمال الدين الأسنوي المصري الشافعي المتوفى سنة 773 هـ .
3. [ تخريج الفروع على الأصول ] للزنجاني الشافعي .
وهناك غير هؤلاء .. فنجد الفقيهين الكبيرين : ابن تيمية ، وتلميذه ابن القيِّم ، يتهجان نفس النهج في كتاباتهما في الأصول ، وذلك في ثنايا بحوثهما المتفرقة في كتبهما العديدة ، حيث لم يؤثر عنها كتاب مستقلٌ في الأصول .(1/26)
الكتب المؤلفة بإسلوب الجمع بين الطريقتين / أي طريقتي .. الشافعية أو المتكلمين ، والحنفية ، فهناك من المؤلفين الأصوليين من عُنيَ بتحقيق القواعد الأصولية من الأدلة المعقولة ثم طبقوها على كثيرٍ من الفروع الفقهية ، وربطوها بتلك الفروع ، ومع ذلك فقد بقيت تأخذ وصف [ الطريقة الحنفية ] باعتبار أن أكثر من كتب بها هم من الأُصوليين الأحناف وإن كان البعض منهم من الشافعية . ومما كتب بهذه الطريقة الكتب التالية :
1, [ بديع النظام الجامع بين كتاب البزدوي والإحكام ] لمظفر الدين أحمد بن علي الساعاتي البغدادي الحنفي المتوفى سنة 694 هـ ، والواضح من التسمية أنه اعتمد على كتاب [ الإحكام ] للآمدي – وهو مما كتب على طريقة المتكلمين - ، وكتاب البزدوي – الذي كتب على طريقة الحنفية - .
3. [ تنقيح الوصول ] لمظفر الدين عبيد الله بن مسعود الحنفي المتوفى سنة 747 هـ .
ولما فرغ من تأليفه وجده بحاجةٍ إلى إيضاح ، فشرحه وسمى الشرح [ التوضيح شرح التنقيح ].
وقد لخص المؤلف في كتابه – كما يقول المؤلف - أصول البزدوي الحنفي ، ومنتهى السؤل والأمل في أصول الفقه والجدل لإبن الحاجب المالكي ، والمحصول للرازي .
وقد جاء كتابه على : مقدِّمة .. تناول فيها تعريف علم الأصول وموضوعه ، وجعله – عدا المقدمة – على قسمين :
الأول / تناول فيه .. الأدلة الأربعة ، وأتبع ذلك بالكلام عن الترجيح والاجتهاد .
الثاني / تناول الأحكام ومتعلقاتها .
والكتاب قيِّمٌ ما زال يدرَّس في الأزهر حتى الآن ، وقد كتب عليه [ سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني الشافعي المتوفى سنة 792 هـ ] حاشية أسماها : [ التلويح على التوضيح ] ، وكلها متداولة مشهورة .
3. [ التحرير ] لكمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي الشهير بالكمال بن الهمام الحنفي المتوفى سنة 861 هـ .(1/27)
ولأهمية الكتاب فقد شرحه محمد بن أمير الحاج الحلبي الحنفي المتوفى سنة 879 هـ ، بشرحه المسمى [ التقرير والتحبير ] ، ولكنه لشدة اختصاره فقد أصبح من المعميات وكأنه عبارة عن ألغاز !! ، فكتب عليه حاشيةً محمد أمين المعروف بأمير بادشاه الحسيني الحنفي .. أسماها [ تيسير التحرير ] .
4. [ جمع الجوامع ] لتاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي الشافعي المتوفى سنة 771 هـ ، وقد جمعه من زهاء مائة مصنف – كما قال مؤلفه - ، وهو جمعٌ للأقوال المختلفة مع خلوه من الاستدلال على ما يقرره من قواعد .
طريقة الشاطبي في كتابة علم الأصول / والشاطبي هو : أبو اسحق إبراهيم بن موسى المالكي من مدينة [ شاطبة ] الأندلسية والمتوفى سنة780 هـ ، وقد ألف كتابه [ الموافقات ] الذي جمع فيه بين طريقتي المتكلمين والحنفية ، مع تنقيح الأصول من كثيرٍ مما لا يعد منه ، ونقد فيه من سبقه ، وطرق أبواباً لم تطرق قبله مما تدعو إليها الحاجة 23 .
وقد حظي هذا الكتاب في أزماننا بعناية شديدة من فريق من الناس يدعون إلى ربط الأحكام بالمصالح ، وكتبن عن الكتاب رسائل علمية جامعية جمة .
كتب المتأخرين / وهي قسمان :
الأول / ما كتب على الطريقة القديمة وعلى الأسلوب التقليدي الذي تشم منه رائحة الماضي السحيق ، وأهم ما كتب .. كتابان :
1. [ مسلَّم الثبوت ] لمحب الله بن عبد الشكور البهاري الحنفي المتوفى سنة 1119 هـ .
2. [ إرشاد الفحول في تحقيق الحق من علم الأصول ] لمحمد بن علي بن محمد بن عبد
الله الشوكاني اليماني الزيدي المتوفى سنة1250 هـ . وقد جمع فيه كافة الأقوال ورجح ما شاء الله له أن يرجح ، وقد تشم عنده رائحة التحيُّز والاتِّهام لبعض من تقدَّمه .
الثاني / الكتابات التي ظهرت في نهاية القرن الثالث عشر الهجري وكافة القرن الرابع عشر الهجري .. وإلى يومنا هذا / وقد نحى الكاتبون أسلوباً تبسيطيَّاً حديثاً ، تناسب صياغته اللغة التي شاعت في العصور المتأخرة .(1/28)
لقد نحى هؤلاء منحى الجمع بين الطرق البحثية المختلفة في الأصول ، وقد يختارون : ما يرونه مناسباً لظروف زمانهم ، أو ما يناسب الحاجة الدراسية .. وخاصَّة في كليات الحقوق التي أدخل هذا العلم درساً رئيسيَّاً فيها . وإنك لا تجد منهجاً في اقتباسهم ، ونادراً ما ينسبون الرأي لأربابه ، بل يكتبون بما يرونه مقبولاً أو مفهوماً .
لقد فتح باب الكتابة بالأسلوب الأخير العلماء والكتاب المصريون ، وأشهرهم /
1. [ أصول الفقه ] لمحمد الخضري بك المصري ، وقد حظي هذا الكتاب – وما زال – بعنايةٍ وإقبال ، وقرر في المناهج الدراسية ، وعندما كنت أتولى رئاسة المدارس الدينية في العراق بقي مقرراً في المعاهد الإسلامية والثانويات الدينية ، وما زال الإقبال عليه لسهولة عبارته . والحق فإن على الكتاب ملاحظات جمَّة .. ولكن ما شاء الله كان .
2. [ القطوف الدانية ] لموسى أبو قمر المصري .
3. [ الوجيز في أصول الفقه ] لمحمد عبد العزيز الخولي المصري .
4. [ أصول الفقه ] لأستاذنا لشيخ محمد أبو زهرة .
5. [ أصول الفقه الجعفري ] لأستاذنا لشيخ محمد أبو زهرة .
6. [ أصول الفقه ] لأستاذنا الدكتور محمد سلام مدكور .
7. [ مباحث الحكم عند الأصوليين ] للمؤلف السابق .. وقد درسناه في دبلوم الشريعة من دبلومات الدراسات العليا في كلية حقوق جامعة القاهرة .
8. [ نظرية الإباحة عند الفقهاء والأصوليين ] لنفس المؤلف .
9. [ الأمر في نصوص التشريع الإسلامي ] لنفس المؤلف .. وقد درسناه في الدبلوم المذكور .
10. [ أصول الفقه ] لزكيِّ الدين شعبان .
11. [ أصول الفقه ] لأستاذنا الشيخ زكريا البري .
12. [ أصول الفقه ] للشيخ علي الخفيف .
13. [ أصول الفقه الإسلامي ] للشيخ بدر متولي عبد الباسط ، ألفه في بغداد ، وطبع فيها ، وألفه لطلبة كليتي : الحقوق والشريعة سنة 1947 م .
14. [ أصول الفقه ] لمحمد يوسف موسى .(1/29)
وهناك غيرهم ، بل كتبت رسائل علمية عديدة .. ولمن تقدموا فضل التبكير .
ما كتبه العراقيون بهذه الطريقة /
1. [ أصول الفقه ] للعلاَّمة المرحوم الشيخ حمدي الأعظمي البغدادي ، وألفه لطلبة كلية الحقوق .
2. [ مذكرات في أصول وتاريخ الفقه الإسلامي ] للعلاَّمة المرحوم الأستاذ حسين علي الأعظمي البغدادي ، وألفه للكلية المذكورة وطبع في بغداد سنة 1939 – 1940 م ، وقد صرح بنحوه منحى الكتاب المصريين في ذلك .
3. [ الوجيز في أصول الفقه ] لأستاذنا الدكتور عبد الكريم زيدان ، ألفه لطلبة كلية الحقوق ببغداد سنة 1962 م / 1963 م ودرسنا بعضاً من مباحثه في تلك السنة الدراسية في الصف الرابع من كلية الحقوق العراقية .
وقد أضاف له مؤلفه الكثير ، وطبع طبعات عدة ، وحاز انتشاراً قلما حازه كتابٌ في موضوعه ، وجعل كتاباً منهجياً في كثيرٍ من الكليات في العالم الإسلامي .
4. [ أصول الفقه ] للدكتور فاضل عبد الواحد ، وألفه لطلبة كلية الشريعة .
5. [ أصول الفقه وطرق الاستدلال [ للدكتورين .. حمد عبيد الكبيسي وصبحي محمد جميل .
6. [ دلالات النصوص في ضوء أصول الفقه الاسلامي ] للدكتور مصطفى الزلمي ، وقد ألفه لطلبة كليات القانون [ الحقوق ] في العراق ، وقرر عليها .
وقد عهد إلي تدريسه في السنة الدراسية 1987 م / 1988 م ، وكتبت عنه ملاحظاتٍ جمة سلمتها لمؤلفه ، فدعاه ذلك إلى تأليف كتابٍ جديد .. أسماه :
7. [ أصول الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد ] !! ، وقد قرر على طلبة كليات الحقوق في العراق ! .
8. [ نثار العقول في علم الأصول ] للدكتور محمد محروس المدرس الأعظمي – كاتب هذه المقدمة - ، وهو مجموعة محاضرات ألقاها مؤلفها على طلبة كلية حقوق جامعة بغداد ، وذلك لصعوبة السير مع الطلاب مع الكتاب المقرر وتكرار التصحيحات ، مما يفوِّت الفرصة على الطلاب في الاستفادة .
وقد كتبت رسائل علمية عديدة ، ويصعب علينا احصاؤها بهذه العُجالة .(1/30)
وألف في سوريا /
1. [ أصول الفقه ] لمعروف الدواليبي ، ألفه لطلبة كلية الحقوق .
2. [ أصول الفقه ] للشيخ الدكتور مصطفى الزرقا ، وألفه لنفس الغرض .
3. [ أصول الفقه ] للشيخ الدكتور محمد وهبة الزحيلي .
وقد كتبن رسائل علمية عديدة يعسر حصرها .
وأُلف في الأردن /
المرحوم الشيخ تقي الدين النبهاني [ مؤسس حزب التحرير ] كتابه الموسوم :
[ الشخصيّة الإسلامية ] ، وجعل الجزء الثالث منه في علم أصول الفقه ، وقد اختار
آراء عدَّة من تقيُّدٍ بمنهج ألزم بها نفسه وأتباعه .
وفي الفترة الأخيرة ألفت رسائل علمية جامعية عديدة ، يعسر عليَّ حصرها .
وفي البلاد الأخرى / ولإحصاء ما كتب في كلِّ البلاد الإسلامية أمر يدخل في
باب العسر ، وتأليفهم على نفس الأسلوب .
هذا ما وجب بيانه في هذه المقدمة الموجزة ... وبالله التوفيق ~~
كوالا لامبور / الجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا
محرم 1423 هـ / نيسان 2002 م
ـــــــــــ
23 حسين علي الأعظمي / مرجع سابق – 14 إلى 15 .(1/31)