السبب وكان أقلهما أولى فبقي السبب مطلقا فلذلك كان علة اسما ومعنى لا حكما ودلالة كونه علة لا سببا ما قلنا أن المانع إذا زال وجب الحكم به من حين الإيجاب وكذلك عقد الإجارة علة اسما ومعنى لا حكما لما عرف في موضعه ولذلك صح تعجيل الأجرة لكنه يشبه الأسباب لما فيه من معنى الإضافة حتى لا
ـــــــ
قوله: "وكذلك" أي ومثل ما ذكرنا من البيع الموقوف والبيع بشرط الخيار عقد الإجارة علة لملك المنفعة والأجرة اسما; لأنه وضع له والحكم يضاف إليه ومعنى; لأنه هو المؤثر في إثبات الملك دون غيره لا حكما لما عرف في موضعه من المبسوط وغيره أن هذا العقد وارد على المعدوم وهو المنافع التي توجد في مدة الإجارة والمعدوم ليس بمحل للملك وإذا لم يثبت الملك في المنافع في الحال لم يثبت في بدلها وهو الأجرة لاستوائهما في الثبوت كالثمن والمثمن فثبت أنه ليس بعلة حكما وكان ينبغي أن لا يجوز هذا العقد أصلا; لأن المعدوم ليس بمحل العقد كما أنه ليس بمحل للملك إلا أن العين المنتفع بها الموجودة في ملك العاقد أقيمت مقام المنفعة في حكم جواز العقد ولزومه لحاجة كما تقام عين المرأة مقام ما هو المقصود بالنكاح في العقد والتسليم وتقام الذمة التي هي محل المسلم فيه مقام تلك المعقود عليه في حكم جواز السلم. ولذلك أي ولكونه علة اسما ومعنى صح تعجيل الأجرة قبل الوجوب وصح اشتراط التعجيل كما صح أداء الزكاة قبل الحول وأداء الصوم من المسافر لوجود العلة اسما ومعنى لكنه عقد أي عقد الإجارة يشبه الأسباب لما فيه من معنى الإضافة يعني هذا العقد وإن صح في الحال بإضافته إلى العين التي هي محل المنفعة لكنه في حق ملك المنفعة بمنزلة المضاف إلى زمان وجودها كأنه ينعقد وقت وجود المنفعة ليقترن الانعقاد بالاستيفاء وهو معنى قول مشايخنا إن الإجازة عقود متفرقة يتجدد وانعقادها بحسب ما يحدث من المنفعة ولذلك يقتصر الملك في الأجرة على حال استيفاء المنفعة حقيقة أو تقديرا بتسليم العين ولا يثبت مستندا إلى وقت العقد; لأن إقامة الغير مقام المنفعة في حق المعقود عليه بمنزلة المضاف إلى معدوم سيوجد كالوصية المضافة إلى ما يثمر نخيله العام والطلاق المضاف إلى شهر وإذا تحقق معنى الإضافة فيه لعدم المعقود عليه في الحال ثبت فيه شبه السبب بقدره; لأن إضافة الانعقاد إلى زمان سيوجد توجب عدم العلية في الحال ولكن ما وجد من الإيجاب والقبول مفض إلى الحكم بواسطة انعقاده في حق الحكم عند وجود المنفعة فكان له شبه بالأسباب من هذا الوجه بخلاف البيع الموقوف والبيع بشرط الخيار فإن انعقادهما ثبت في الحال لقيام المعقود عليه حالة العقد فلم يحتج فيهما إلى إثبات معنى الإضافة فلم يثبت لهما شبه بالأسباب فاستند الحكم فيها إلى زمان الإيجاب واقتصر فيما نحن فيه على زمان وجود المنفعة لما ذكرنا.(4/272)
يستند حكمه وكذلك كل إيجاب مضاف إلى وقت فإنه علة اسما ومعنى لا حكما لكنه يشبه الأسباب وذلك أن يوجد ركن العلة اسما ومعنى وتراخى عنه
ـــــــ
ولا يقال لما ثبت معنى الإضافة في هذا العقد لعدم المعقود عليه فلم ينعقد في حقه ينبغي أن لا تثبت الإضافة في حق الأجرة لقيام محلها وهو الذمة فيثبت ملك الأجرة به في الحال كما يثبت ملك الثمن بالبيع; لأنا نقول نحن لا نثبت الإضافة في حق الأجرة ولكن لا نثبت ملك الأجرة في الحال رعاية للمساواة بين البدلين ونظرا للجانبين فإن ملك المنفعة لما لم يثبت للمستأجر لا يثبت ملك الأجرة للمؤاجر أيضا حتى لو شرط في العقد تعجيل الأجرة يثبت الملك فيها للمؤاجر أيضا; لأن حق المستأجر سقط بقبول شرط التعجيل فلم تبق المعادلة واجبة الرعاية وهذا بخلاف ما إذا عجل المشتري الثمن إلى البائع والخيار للمشتري حيث لا يملكه البائع; لأن المانع من ثبوت الملك وهو الخيار قائم فلا يثبت الملك مع المانع كالمديون إذا عجل الزكاة قبل الحول لا يقع زكاة بعد تمام الحول; لأن المانع وهو الدين قائم فأما المانع هاهنا فحق المستأجر وقد سقط فيثبت الملك في الأجرة.
قوله: "وكذلك" أي وكعقد الإجارة كل إيجاب مضاف إلى وقت كالطلاق المضاف إلى وقت وكالنذر المضاف إلى وقت في المستقبل علة اسما لكونه موضوعا للحكم المضاف إليه ومعنى لتأثيره في ذلك الحكم لا حكما لتأخره إلى الزمان المضاف إليه وعدم ثبوته في الحال لكنه يشبه الأسباب لما قلنا أن الإضافة تقديرا أوجبت شبهية السبب فحقيقة الإضافة أولى بذلك ولما ثبت معنى السبيبة في هذا الإيجاب يثبت الحكم عند مجيء الوقت مقتصرا عليه لا مستندا إلى أول الإيجاب ولما كان علة اسما ومعنى قبل مجيء الوقت صح تعجيل الأداء فيما إذا قال لله علي أن أتصدق بدرهم غدا حتى لو تصدق به قبل مجيء الغد وقع عن المنذور عندنا خلافا لزفر رحمه الله كأداء الزكاة بعد كمال النصاب قبل حولان الحول وكأداء صدقة الفطر قبل يوم الفطر وكذا لو أضاف النذر بالصوم أو بالصلاة إلى زمان المستقبل يجوز تعجيله عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لوجود العلة اسما ومعنى وعند محمد وزفر رحمهما الله لا يجزيه; لأن إيجاب العبد معتبر بإيجاب الله تعالى وما أوجبه الله تعالى من العبادات البدنية في وقت بعينه لا يجوز أداؤه قبله فكذا ما توجبه على نفسه بخلاف الواجبات المالية إلا أن أبا حنيفة وأبا يوسف رحمهما الله يقولان إن الناذر يلتزم بنذره الصلاة والصوم دون الوقت; لأن معنى القربة في الصوم والصلاة لا في تعيين الوقت فلا يكون الوقت فيه معتبرا كما في الصدقة. ولا يقال العبادة في بعض الأوقات قد يكون أفضل كما ورد به الأثر; لأنا نقول النذر لا ينعقد(4/273)
وصفه فيتراخى الحكم إلى وجوده. وإذا وجد الوصف اتصل بالأصل لحكمه فكان بمعنى الأسباب حتى يصح أداء الحكم قبله وذلك مثل زكاة النصاب في أول الحول هو علة اسما ومعنى أما اسما لأنه وضع له ومعنى لكونه مؤثرا في
ـــــــ
بالفضيلة بالإجماع فإن من نذر أن يصوم يوم عرفة أو عاشوراء فصام بعد مضي ذلك اليوم يوما دونه في الفضيلة عن موجب نذره مع قدرته على مثل ذلك الوقت فيما بعد بخلاف الصوم الفرض والصلاة الفرض; لأن الشرع جعل الوقت سببا فيهما فأداؤهما قبل الوقت كان أداء قبل السبب فلا يجوز إليه أشير في المبسوط وكان ذلك أي ما ذكرنا من عقد الإجارة والإيجاب المضاف من القسم الرابع. ثم شرع في بيان القسم الرابع فقال ذلك أي القسم الرابع أن يوجد ركن العلة ويتراخى عنه وصفه فيتراخى الحكم وهو وجوب الأداء إلى وجود الوصف فمن حيث وجود الأصل كان الموجود علة; لأن الوصف تابع للأصل فبعدمه لا ينعدم الأصل ولهذا يضاف الحكم إلى الأصل دون الوصف من حيث إن إيجابه للحكم باعتبار الوصف وهو منتظر بعد كان الأصل قبل وجود الوصف طريقا للوصول إلى الحكم فكان سببا فإذا وجد الوصف اتصل بالأصل بحكمه أي إذا وجد الوصف وثبت الحكم اتصلا بالأصل بطريق الاستناد إذ الوصف لا يستقل بنفسه فيصير الأصل بذلك الوصف علة فكان أي الأصل قبل وجود الوصف بمعنى الأسباب لتوقف الحكم على واسطة وهي الوصف وقوله حتى يصح أداء الحكم أي الواجب قبله أي قبل الوصف متصل بقوله أن يوجد ركن العلة اسما ومعنى ويتراخى عنه وصفه ويحتمل أن يكون متصلا بقوله بمعنى الأسباب أي له حكم الأسباب باعتبار عدم الوصف ولكنه ليس بسبب حقيقة بل هو بدون الوصف علة حتى صح الأداء قبله.
وذلك أي ما يشبه الأسباب من العلة مثل نصاب الزكاة قال مالك رحمه الله ليس النصاب قبل تمام الحول حكم العلة بل كونه ناميا بالحول بمنزلة الوصف الأخير من علة ذات وصفين فلا يجوز تعجيل الزكاة قبل الحول كما لا يجوز تعجيل الكفارة قبل الحنث وتعجيل الصلاة قبل الوقت وعند الشافعي رحمه الله النصاب قبل الحول علة تامة لوجوب الزكاة ليس فيها شبه الأسباب بل الحول أجل آخر المطالبة عن صاحب المال تيسيرا كالسفر في حق الصوم ولهذا صح التعجيل قبله ولو كان وصف كونه حوليا من العلة لما صح التعجيل قبله كما لو عجل قبل تمام النصاب وقبل أن يجعل الإبل سائمة وإذا كان كذلك وقع المؤدى زكاة غير موقوف على حلول الأجل كالمديون إذا عجل الدين كالمسافر إذا صام صح فرضا كالمقيم إذا صلى في أول الوقت وإذا وقع المؤدى زكاة لم يكن له أن يسترد من الفقير ولا من الإمام عند هلاك النصاب قبل الحول أو عدم تمامه عند(4/274)
حكمه لأن الغناء يوجب المواساة لكنه جعل علة بصفة النماء فلما تراخى حكمه أشبه الأسباب ألا يرى أنه إنما يتراخى إلى ما ليس بحادث به إلى ما هو شبيه بالعلل ولما كان متراخيا إلى وصف لا يستقل بنفسه أشبه العلل وكان هذا
ـــــــ
الحول كذا في الأسرار ولكن المذكور في المبسوط وكتب أصحاب الشافعي أن النصاب إذا هلك قبل الحول له أن يسترد المعجل إلى الفقير منه إذا بين له أن يعطيه معجلا وإن أطلق عند الأداء لم يكن له أن يرجع عليه فعلى هذا يجوز أن يكون المذكور في الأسرار بعض أقواله وعندنا هو علة في أول الحول ولكن له شبه الأسباب كما ذكر في الكتاب; لأنه أي النصاب وضع له أي لإيجاب الزكاة شرعا ولهذا تضاف الزكاة إليه ومعنى لكون النصاب مؤثرا في حكمه وهو الوجوب إذ الغناء يوجب المواساة أي الإحسان إلى الغير لقوله تعالى: {وَأَحْسِنُوا} [البقرة: 195] {وَأَنْفَقُوا} [النساء: 39] والغناء في النصاب دون وصفه وهو النماء وفي المغرب يقال آسيته لمالي مؤاساة أي جعلته أسوة أقتدي به ويقتدي هو بي أو واسيته, لغة ضعيفة لكنه أي النصاب علة بصفة النماء لقوله عليه السلام: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" فلما تراخى حكمه أي حكم النصاب وهو وجوب الزكاة إلى وجود وصف النماء أشبه النصاب قبل وجود الوصف الأسباب ثم أوضح مشابهته بالأسباب بوجهين أحدهما أن الحكم وهو الوجوب إنما تراخى عن أصل النصاب إلى ما ليس بحادث بالنصاب وهو النماء فإن النماء الحقيقي وهو الدر والنسل والسمن في الإسامة وزيادة المال في التجارة والنماء الحكمي وهو حولان الحول لا يثبتان بالنصاب بل السمن والدر والنسل في الحيوان يحصل بسومها في المرعى وسفادها, وزيادة المال في أموال التجارة يحصل بكثرة رغبات الناس وتغير الأسعار الحادث بخلق الله تعالى وإذا لم يكن ما تعلق الحكم به وهو النماء حادثا بالمال تأكد الانفصال بينه وبين الحكم من هذا الوجه فقوي شبهه بالسبب وكأنه احترز به عن الرمي ونحوه فإنه علة للجرح وإن توقف الجرح على تحرك السهم ومضيه في الهواء ووصوله إلى المرمي إليه ونفوذه فيه; لأن بعض الوسائط لما حدثت به لم يثبت له شبه بالأسباب في حق الحكم بل جعل علة للجرح حقيقة كذلك. والثاني أن الحكم تراخى إلى ما هو شبيه بالعلل; لأن النماء الذي هو في الحقيقة فضل على الغناء يوجب المواساة كأصل الغناء ويثبت أو يزداد به اليسر في الواجب وهو مقصود فيه على ما عرف فكان أثرا له في وجوب الزكاة من هذا الوجه ثم لو كان الحكم متراخيا إلى ما هو علة حقيقة غير مضافة إلى النصاب كان النصاب سببا حقيقيا كما بينا في دلالة السارق فإذا تراخى إلى ما هو شبه بالعلل كان له شبه بالأسباب أيضا ثم بين جهة العلية في النصاب وجهة أصالتها فقال:(4/275)
الشبه غالبا لأن النصاب أصل والنماء وصف ومن حكمه أنه لا يظهر وجوب الزكاة في أول الحول قطعا بخلاف ما ذكرنا من البيوع ولما أشبه العلل وكان ذلك أصلا كان الوجوب ثابتا من الأصل في التقدير حتى صح التعجيل لكن
ـــــــ
ولما كان أي الحكم متراخيا إلى وصف لا يستقل بنفسه أشبه أي النصاب العلل إذ السبب الحقيقي أن يتراخى الحكم عنه إلى ما هو مستقل بنفسه غير مضاف إلى السبب كما في دلالة السارق ولم يوجد وكان شبه العلة غالبا; لأن النصاب أصل والنماء وصف يعني النصاب شبه العلل من جهة نفسه وشبه السبب من جهة توقف الحكم على النماء الذي هو وصفه وتابع له فيرجح الشبه الذي ثبت له من جهة نفسه على الشبه الذي ثبت له من جهة وصفه. ومن حكمه أي حكم النصاب الذي بينا أنه علة تشبه الأسباب أن لا يظهر وجوب الزكاة في أول الحول قطعا فقوله قطعا داخل تحت النفي يعني لا يمكن القول بوجوبها في أول الحول بطريق القطع وإن وجد أصل العلة لفوات الوصف عنها وهو النماء إذ العلة الموصوفة بوصف لا تعمل بدون الوصف كالأرض علة لوجوب العشر أو الخراج بصفة النماء تحقيقا أو تقديرا بالتمكن من الزراعة فإذا فات هذا الوصف من الأرض لم تبق سببا للوجوب بخلاف ما ذكرنا من البيوع يعني البيع الموقوف والبيع بشرط الخيار فإن العلة بركنها ووصفها موجودة قبل وجود الإجارة والشرط إلا أن حق المالك التعليق بالشرط يمنعان ثبوت الحكم فعند زوال المانع يثبت الحكم من أول الإيجاب بلا شبهة فلذلك يملك المشتري المبيع بزوائده المتصلة والمنفصلة وبخلاف المسافر إذا صام شهر رمضان والمقيم إذا صلى في أول الوقت فإن المؤدى يقع عن الواجب بلا شبهة لوجود العلة مطلقة بصفتها ولما أشبه النصاب العلل وكان النصاب أصلا كان وجوب الزكاة ثابتا من الأصل في التقدير; لأن الوصف متى ثبت والوصف لا يقدم بنفسه بل بالموصوف استند إلى أصل النصاب وصار من أول الحول متصفا بأنه حولي كرجل يعيش مائة يكون الوصف بهذا البقاء ذلك الوليد بعينه من أول ما ولد إلى هذا الزمان وإذا استند الوصف استند الحكم وهو الوجوب إلى أوله أيضا فيصح تعجيل الزكاة قبل تمام الحول على خلاف ما قاله مالك رحمه الله لوقوع الأداء بعد وجود أصل العلة لكن ليصير المؤدى زكاة بعد الحول على خلاف ما. قاله الشافعي رحمه الله لعدم وصف العلة في الحال فإذا تم الحول ونصابه كامل جاز المؤدى عن الزكاة لاستناد الوصف إلى أول الحول وإن لم يكن كاملا كان المؤدى تطوعا حتى لو كان أداؤه إلى الفقير لم يكن له ولاية الاسترداد منه بحال; لأن القربة قد تمت بالوصول إلى يده وإن لم يتم زكاة وإن أداه الإمام كان له أن يسترد منه إذا كان قائما في يده; لأن الدفع إليه لا يزيل ملكه عن المدفوع.(4/276)
ليصير زكاة بعد الحول. وكذلك مرض الموت علة لتغير الأحكام اسما ومعنى إلا أن حكمه يثبت به بوصف الاتصال بالموت فأشبه الأسباب من هذا
ـــــــ
"فإن قيل" لو عجل الزكاة إلى الفقير فصار غنيا قبل الحول وارتد والعياذ بالله ثم تم الحول والنصاب كامل جاز المؤدى عن الزكاة كذا في التجنيس ولو صار المؤدى زكاة بعد الحول لشرط أهلية المصرف عند تمام الحول كما شرط كمال النصاب "قلنا" وصف كون النصاب حوليا وإن ثبت بعد تمام الحول لكنه يثبت مستندا إلى أول السبب بحكمه فيصير المؤدى زكاة بعد الحول من حين الأداء لا مقتصرا على تمام الحول فيعتبر أهلية المصرف عند الأداء لا عند تمام الحول فكان استغناؤه أو ارتداده قبل الحول وبعده سواء والحول ليس بمعنى الأجل كما زعم الخصم; لأن الأجل يسقط بموت المديون ويصير الدين حالا ويؤخذ من تركته وبموت صاحب المال في أثناء الحول هاهنا يسقط الواجب ولا يؤخذ من تركته وكذا المديون يملك إسقاط الأجل ولا يملك صاحب المال هاهنا إسقاط الحول فعرفنا أنه ليس بمعنى الأجل.
قوله: "وكذلك" أي ومثل النصاب مرض الموت علة لتغير الأحكام من تعلق حق الوارث بالمال وحجر المريض عن التبرع بما تعلق به حق الوارث من الهبة والصدقة والمحاباة والوصية ونحوها اسما; لأنه وضع في الشرع للتغير من الإطلاق إلى الحجر ومعنى; لأنه مؤثر في الحجر عن التصرف فيما هو حق الوارث بعد الموت كما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سعد بن مالك أنك: "لأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس" 1. فمنعه عن التبرع فيما وراء الثلث لحق الورثة إلا أن أي لكن حكم المرض وهو الحجر عن التصرف يثبت بالمرض بوصف اتصاله بالموت فأشبه الأسباب من هذا الوجه وهو أن الحكم توقف على أمر آخر كتوقف وجوب الزكاة على النماء ولما كان هذا الوصف معدوما في الحال لم يثبت الحجر باتا حتى لو وهب المريض جميع ماله سلمه إلى الموهوب له يصير ملكا له في الحال; لأن العلة لم تتم بوصفها فإذا اتصل به الموت تمت العلة واتصف المرض بكونه مرضا مميتا من أول وجوده; لأن الموت يحدث بآلام تجتمع وعوارض مزيلة لقوى الحياة وهذه العوارض ثابتة من ابتداء المرض فيضاف إليها كلها بمنزلة جراح متفرقة سرت إلى الموت فإنه يضاف إلى الكل دون الأخير. وإذا استند الوصف إلى أول المرض استند بحكمه وهو الحجر فيصير كأنه تصرف بعد الحجر فلا ينفذ
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الوصية حديث رقم 1628 والترمذي في الوصايا حديث رقم 2116 وأبو داود في الوصايا حديث رقم 2864 والإمام أحمد في المسند 1/168.(4/277)
الوجه وهو في الحقيقة علة وهذا أشبه بالعلل من النصاب. وكذلك الجرح علة اسما ومعنى لكن تراخى حكمه إلى وصف السراية وذلك قائم بالجرح فكان علة يشبه الأسباب. وكذلك ما هو علة العلة فإنه علة يشبه الأسباب وذلك مثل شراء القريب لما كان علة للملك كان علة للعتق أيضا. وكذلك الرمي إلا أن الحكم
ـــــــ
إلا بإجازة صاحب الحق وإذا برأ من المرض كان تبرعه نافذا; لأن العلة لم تتم بصفتها وهذا أي المرض أشبه بالعلل من النصاب; لأن الوصف الذي تراخى الحكم إليه وهو الموت حادث به فإن ترادف الآلام التي تحدث بالمرض مفض إلى الموت بخلاف النصاب فإن الوصف فيه ليس بحادث به كما بينا. وكذلك أي ومثل المرض أو النصاب الجرح علة للهلاك اسما; لأنه موضوع له ويضاف الهلاك إليه يقال مات فلان بجرح فلان ومعنى; لأنه مؤثر فيه ولكن تراخى حكمه عنه وهو الهلاك إلى وصف السراية وذلك الوصف قائم بالجرح أي ثابت به كثبوت الموت بالمرض لا كوصف النماء في النصاب فإنه ليس بثابت به فكان الجرح قبل السراية علة تشبه الأسباب لتوقف حكمه على الوصف قال شمس الأئمة رحمه الله وكذلك الجرح علة لوجوب الكفارة في الصيد والآدمي بصفة السراية وهي صفة منتظرة فكان الموجود قبل السراية علة تشبه السبب حتى يجوز أداء الكفارة بالمال والصوم جميعا وإذا اتصل به الموت كان المؤدى جائزا عن الواجب قال وهذا كله; لأن الوصف لا يقوم بنفسه وإنما يقوم بالموصوف فلا يمكن جعل الموصوف أحد وصفي العلة ليكون سببا لا علة ولا يمكن جعل الوصف علة معنى وحكما بمنزلة آخر الوصفين وجودا من علة هي ذات وصفين فلذا جعلناها أي النصاب والمرض والجرح علة تشبه السبب.
قوله: "وكذلك" أي ومثل ما ذكرنا من النصاب وغيره ما هو علة العلة فإنه الضمير راجع إلى ما علة تشبه الأسباب وذلك; لأن علة الحكم لما كانت مضافة إلى علة أخرى كان الحكم مضافا إلى الأولى بواسطة الثانية كحكم المقتضي مضاف إلى المقتضى بواسطة المقتضي وكانت العلة الأولى بمنزلة علة توجب الحكم بوصف هو قائم بالعلة فكما أن الحكم هناك يضاف إلى العلة دون الصفة فها هنا أيضا يضاف إلى العلة دون الواسطة فمن حيث إن العلة الأخيرة بحكمها تضاف إلى الأولى كانت الأولى علة ومن حيث إنها لا توجب الحكم إلا بواسطة أخذت شبها بالسبب وهذا القسم هو الذي سماه الشيخ سببا في معنى العلة في باب تقسيم السبب أورده في الموضعين باعتبار الشبهين وذلك أي ما هو علة العلة مثل شراء القريب فإنه علة للتعليق بواسطة الملك إذ الشراء يوجب الملك والملك في القريب يوجب العتق بقوله عليه السلام: "من ملك ذا رحم(4/278)
لما تراخى عنه أشبه الأسباب. وكذلك التزكية عند أبي حنيفة رحمه الله بمنزلة علة العلة حتى إذا رجع المزكي ضمن لما ذكرنا. وأما الوصف الذي له شبهة العلل فكل حكم تعلق بوصفين مؤثرين لا يتم نصاب العلة إلا بهما فلكل واحد
ـــــــ
محرم منه عتق عليه" فيصير العتق مضافا إلى الشراء لكون الواسطة وهي الملك من موجباته فكان شراء القريب إعتاقا حتى لو اشتراه ناويا عن الكفارة تتأدى به بخلاف ما إذا اشترى المحلوف بعتقه بنية الكفارة حيث لا يتأدى به الكفارة; لأن الواسطة وهي الشرط يضاف إليه العتق وجودا عنده لا وجوبا به والعتق عند وجوده مضاف إلى ما هو باق بعد وجود الشرط وهو قوله أنت حر ولم يقترن به نية الكفارة حتى لو اقترنت به النية عند التعليق بأن عنى بقوله إن اشتريتك فأنت حر الحرية عن الكفارة أجزى عنه لاقتران نية الكفارة بالإعتاق كذا في المبسوط. وكذلك أي مثل شراء القريب الرمي علة للقتل شبيهة بالأسباب; لأنه يوجب تحرك السهم ومضيه في الهواء ونفوذه في المقصود بالرمي إلا أن هذه الوسائط لما كانت من موجبات الرمي كان الرمي علة للقتل كالشراء للعتق حتى وجب القصاص على الرامي ولم تصر هذه الوسائط شبهة في وجوب القصاص ولما تراخى الحكم عن الرامي إلى وجود هذه الوسائط حتى لم يجب القصاص بمجرد الرمي أشبه الأسباب. وكذلك أي وكالرمي التزكية أي تعديل الشهود عند أبي حنيفة رحمه الله بمنزلة علة العلة للحكم بالرجم فيما إذا شهدوا بالزنا على محصن; لأن الموجب للحكم بالرجم شهادة الشهود وهي لا تكون موجبة بدون التزكية فكانت التزكية علة العلة حتى إذا رجع المزكون بأن قالوا تعمدنا الكذب ضمنوا الدية عنده لما ذكرنا يعني في مسألة شراء القريب أن علة العلة بمنزلة العلة في إضافة الحكم فمن هذا الوجه يصير الحكم مضافا إلى التزكية ولكن من حيث إن التزكية صفة للشهادة بقي الحكم مضافا إلى الشهادة فضمن الشهود عند الرجوع أيضا وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لا ضمان عليهم بحال أنهم أثنوا على الشهود خيرا فكان بمنزلة ما لو أثنوا على المشهود عليه خيرا بأن قالوا هو محصن والضمان يضاف إلى السبب هو تعد لا إلى ما هو حسن وخير ألا ترى أن الشهود لو رجعوا مع المزكين لم يضمن المزكون شيئا. والجواب أن المزكين ليسوا كشهود الإحصان فإنهم لم يجعلوا ما ليس بموجب موجبا إذ الشهود بالزنا بدون الإحصان موجب للعقوبة ولكنها لا توجب شيئا بدون التزكية فالمزكون بإثناء الخير كذبا أعملوا سبب التلف بطريق التعدي فضمنوا وأما إذا رجع الشهود معهم فقد انقلبت الشهادة تعديا وأمكن الإضافة إليها على القصور; لأنها تعد لم يحدث بالتزكية لاختيارهم في الأداء فلم يضف إلى علة العلة كذا في الأسرار.
قوله: "وأما الوصف الذي له شبهة العلل فكل حكم تعلق بكذا" أي الوصف الذي(4/279)
منهما شبهة العلل حتى إذا تقدم أحدهما لم يكن سببا لأنه ليس بطريق موضوع وليس بعلة لكن له شبهة العلل ولهذا قلنا إن الجنس بانفراده يحرم النسيئة وكذلك القدر لأن ربا النسيئة شبهة الفضل فيثبت بشبهة العلة وهو أحد
ـــــــ
كذا فأحد الوصفين المؤثرين من العلة التي هي ذات وصفين فإن لكل واحد منهما شبهة العلة لتأثير كل واحد منهما في الحكم حتى إذا تقدم أحدهما لم يكن سببا وهذا رد لما ذكره القاضي الإمام وشمس الأئمة رحمهما الله أن وجود بعض ما يتم علة بانضمام معنى آخر إليه كأحد شطري البيع وأحد وصفي علة الربا من الأسباب المحضة; لأن الحكم لا يثبت ما لم تتم العلة فكان المبدأ معتبرا لتمامه وكان كالطريق إلى المقصود عند غيره وذلك الغير ليس بمضاف إليه فيكون سببا محضا فقال أحد الوصفين إذا تقدم لم يكن سببا; لأنه ليس بطريق موضوع لثبوت الحكم بعلته بل مؤثر في إثبات الحكم ومن أركان العلة فلم يكن سببا وليس بعلة بنفسه أيضا لفوات الشطر الثاني من العلة لكن له شبهة العلل لكونه أحد ركني العلة أو أركانها وهذا القسم هو الذي سميناه علة معنى لا اسما ولا حكما وكان هذا الخلاف راجع إلى أن العلة إذا تركبت من وصفين أو أوصاف كان المجموع هو العلة عند بعض وصفة الاجتماع هي العلة عند قوم. والوصف الزائد على المجهول الذي لا يتصور انعقاد العلة بدونه عند آخرين حتى قالوا في سفينة لا تغرق بوضع كر وتغرق إذا زيد على الكر قفيز إذا وضع فيها كر وقفيز حتى غرقت كان الكر والقفيز جميعا علة للتلف عند الفريق الأول وصفة الاجتماع عند الفريق الثاني وقفيز واحد غير عين من الجملة عند الفريق الثالث على ما عرف تمامه في الميزان فكان الشيخين اختارا القول الثاني أو الثالث فكان الوصف الأول قبل وجود الوصف الثاني خاليا عن صفة الاجتماع وعن كونه واحدا من الجملة غير عين لكونه عينا فلم يكن له تأثير في الحكم فكان سببا محضا واختار الشيخ المذهب الأول فكان للوصف الأول نوع تأثير في الحكم قبل وجود الآخر فلم نجعل عن معنى العلة ولهذا أي ولأن لأحد الوصفين شبهة العلة قلنا إن الجنس الذي هو أحد وصفين له علة الربا يحرم ربا النسيئة حتى لو أسلم قوهيا في قوهي لا يجوز وكذا القدر حتى لو أسلم شعيرا في حنطة أو حديدا في رصاص لا يجوز أيضا; لأن ربا النسيئة شبهة الفضل فإن للنقد مزية على النسيئة عرفا وعادة حتى كان الثمن في البيع نسيئة أكثر منه في البيع بالنقد فيثبت بشبهة العلة; لأن حرمة النسيئة مبنية على الاحتياط وهي أسرع ثبوتا من حرمة الفضل لقوله عليه السلام: "إذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم بعد أن يكون يدا بيد" ويجوز أن يثبت بأحد الوصفين الذي له شبهة العلة ولا يثبت به حرمة الفضل; لأنها أقوى الحرمتين ولها علة معلومة في الشرع فلا يثبت بما هو(4/280)
الوصفين. وأما العلة معنى وحكما لا اسما فكل حكم تعلق بعلة ذات وصفين مؤثرين فإن آخرهما وجودا علة حكما لأن الحكم يضاف إليه لأنه ترجح على الأول بالوجود وشاركه في الوجوب ومعنى لأنه يؤثر فيه لا اسما لأن الركن يتم بهما فلا يسمى بذلك أحدهما وذلك مثل القرابة والملك للعتق فإن الملك الذي تأخر أضيف إليه حتى يصير المشتري معتقا ومتى تأخرت القرابة أضيف
ـــــــ
دونها في الدرجة. ولا يقال لو ثبت حرمة شبهة الفضل لشبهة العلة لزم توزيع الحكم على أجزاء العلة وهو باطل; لأنا نقول ثبوت حرمة النسيئة بأحد الوصفين باعتبار أنه علة تامة لثبوتها إلا باعتبار التوزيع إذ التوزيع أن يثبت بأحد الوصفين بعض حرمة الفضل ولم يثبت شيء منها به.
قوله: "وأما العلة معنى وحكما لا اسما" فهي الوصف الآخر وجودا من علة ذات وصفين مؤثرين واحترز بهذا القيد عما إذا توقف الحكم على وصفين أحدهما مؤثر فيه دون الآخر فإن الوصف المؤثر هو العلة والوصف الآخر شرط أما كونه علة حكما فلأن الحكم يوجد عنده ويضاف إليه; لأنه أي الوصف الموجود آخرا شارك الأول في الوجوب أي في إيجاب الحكم ولكنه ترجح على الأول بالوجود أي بوجود الحكم عنده فيضاف الحكم إليه فإن قيل لما شارك الأول في الوجوب ينبغي أن يكون الحكم مضافا إليهما جميعا قلنا لما ترجح الوصف الأخير بوجود الحكم عنده عدم حكم الأول تقديرا; لأن العلة تارة تنعدم بمعارضة الراجح وتارة تنعدم لمعنى في ذاته فانعدم الأول بالراجح وصار الحكم مضافا إلى الوصف الأخير كما في المن الأخير في السفينة والقدح الأخير في السكر وردة أحد الزوجين فإن الحكم فيها مضاف إلى الوصف الأخير وفي إسلام أحد الزوجين كان ينبغي أن يكون كذلك غير أنا ما أضفنا الفرقة إليه; لأنه عاصم على ما عرف كذا ذكر الشيخ رحمه الله في بعض مصنفاته وذكر في التقويم أن الحكم إنما يضاف إلى آخر أوصاف العلة; لأن ما مضى إنما يصير موجبا بالأخير ثم الحكم يجب بالكل فيصير الوصف الأخير كعلة العلة فكان له حكم العلة. وذلك أي تعلق الحكم بوصفين مؤثرين ثم إضافته إلى آخرهما وجودا مثل القرابة والملك للعتق في القريب فإن كل واحد من الوصفين مؤثر فيه أما القرابة فلأن العتق صلة والقرابة تؤثر في إيجاب الصلة والرق موجب للقطع لاستلزامه الاستدلال فوجب صيانة القرابة عما يوجب القطع. ألا ترى أنها صينت عن أدنى الرقين وهو النكاح احترازا عن القطع فلأن تصان عن أعلاهما كان أولى.
وكذا الملك مؤثر في إيجاب الصلات حتى استحق العبد النفقة على مولاه بالملك حتى لو كان العبدان اثنين يلزمهما النفقة بعدد الملك والنفقة صلة والزكاة تجب صلة(4/281)
إليها حتى لو ورث اثنان عبدا ثم ادعى أحدهما أنه ابنه غرم لشريكه وأضيف العتق إلى القرابة بخلاف شهادة الشاهدين فإن آخرهما شهادة لا يضاف الحكم
ـــــــ
للفقراء بالملك وكذا العشر توضحه أن الملك علة لملك الإعتاق كالنكاح علة لملك الطلاق فكان في الملك معنى العلة; لأنه معمل للعلة وإذا أظهر التأثير للوصفين وعدم الحكم بفوات أحدهما كان المجموع علة واحدة لا أن تكون القرابة علة والملك شرطا كما زعم الشافعي رحمه الله ثم الحكم يضاف إلى الوصف الأخير منهما وجودا لما بينا فإذا كانت القرابة سابقة ثم وجد الملك كان العتق مضافا إليه حتى صار المشتري معتقا; لأن الشراء يوجب الملك والملك يوجب العتق فكان العتق الثابت به مضافا إلى الشراء فيكون الشراء إعتاقا بواسطة الملك بطريق الحقيقة لا كناية عن الإعتاق كما قال الشافعي رحمه الله; لأن الحكم لا يتغير بالواسطة متى كانت الواسطة ثابتة بالأولى كالرمي يكون قتلا بواسطة النفوذ والوصول إلى المرمى بطريق الحقيقة لا بطريق المجاز إليه أشير في الأسرار وإذا ثبت أن الشراء إعتاق تقع عن الكفارة عند النية ويخرج به عن العهدة; لأنه تحرير رقبة على قدر ما لزمه بالنص. فتبين بهذا أن الحكم مضاف إلى الوصف الأخير إذ لو كان مضافا إليهما بعد وجود الوصف الثاني لما كان الشراء إعتاقا تاما ولما وقع عن الكفارة كإعتاق أم الولد ومتى تأخرت القرابة أضيف العتق إليها حتى لو ورث اثنان عبدا مجهول النسب أو اشترياه ثم ادعى أحدهما أنه ابنه غرم لشريكه قيمة نصيبه; لأن القرابة التي هي آخر الوصفين وجودا حصلت بصنعه فيضاف العتق إليه ويجعل المدعي معتقا بواسطة القرابة كما جعل المشتري معتقا بواسطة الملك وهذا كما لو شهد الرجلان بنسب رجل فورث به وحجب الأبعد ثم رجعا فإن كانا شهدا به بعد الموت ضمنا بالأبعد ما أتلفا عليه من الإرث وإن كان قبل الموت لم يضمنا; لأن الإرث يثبت بالموت والنسب جميعا فإن كان الموت سابقا أضيف إلى النسب فصارا متلفين على الأبعد نصيبه بإثبات نسب الأقرب وإن كان متأخرا كان الإرث مضافا إلى الموت الثابت بعد النسب فلم يصر الشاهدان متلفين; لأن الموت لم يثبت بشهادتهما فكذا هاهنا كذا في الأسرار.
ورأيت في بعض فوائد هذا الكتاب أنه لو ملك عبدا مجهول النسب ثم ادعى أنه ابنه ناويا عن الكفارة لا يجزيه عن الكفارة; لأن العتق يضاف إلى القرابة وهي أمر جبري فلا يصلح للتكفير بخلاف الشراء; لأنه أمر اختياري فيصلح للتكفير. وهذا الفرق لا يصح; لأن الملك الذي تعلق به العتق في الشراء أمر جبري أيضا كالقرابة هاهنا والدعوى التي توجب القرابة هاهنا أمر اختياري كالشراء هناك فيمكن أن يجعل بالدعوة معتقا كما جعل بالشراء ولهذا جعل معتقا بها في ضمان نصيب الشريك لكن أن تثبت الرواية فالفرق الصحيح(4/282)
إليه لأنه لا يعمل إلا بالقضاء والقضاء يقع بالجملة فلا يترجح البعض على البعض في الحكم. فأما العلة اسما وحكما لا معنى فمثل السفر للرخصة والمرض ومثل النوم للحدث وذلك أن السفر تعلق به في الشرع الرخص فكان علة حكما
ـــــــ
أن القرابة وإن ثبتت بالدعوة لم تثبت مقتصرة على حال الدعوة بل تثبت من حال العلوق فيستند العتق إلى زمان الملك من هذا الوجه وقد خلا عن النية في ذلك الزمان فلا ينوب عن الكفارة كما بينا في المحلوف بعتقه فتكون الدعوة إعتاقا في الحال من وجه دون وجه بخلاف الشراء فإن الملك يثبت به مقتصرا عليه من كل وجه فيكون الشراء إعتاقا من كل وجه كما بينا فيصلح للكفارة ولا يلزم على ما ذكرنا ما إذا ورث أباه ينوي به الكفارة حيث لا يجزيه أو ورث رجلان عبدا هو قريب أحدهما حتى عتق عليه حيث لا يضمن نصيب شريكه وإن كان موسرا; لأن الميراث يثبت للمرء بدون صنع العبد فلا يمكن أن يجعل إعتاقا بواسطة الملك والتكفير يتأدى بالإعتاق بخلاف شهادة الشاهدين فإن آخرهما شهادة لا يضاف الحكم إليه ولا يجعل علة للاستحقاق معنى وحكما وإن كان يثبت استحقاق الحكم عنده; لأنه أي المذكور وهو الشهادة لا يعمل إلا بالقضاء أن ليس للشاهد ولاية إلزام والقضاء يقع بشهادتهما جملة ولا يتصور فيه كون أحدهما سابقا والآخر متمما لعلة الاستحقاق ولأن الشاهد نقل علمه إلى القاضي وعلمه أوجب القضاء عليه ولا يتصور الرجحان في حصول العلم له ولأن في الشهادة وصف الكرامة للشاهد فإن قبول قوله كرامة له ووصف الحجة للمشهود له والثاني تبع للأول فلا يمكن أن يجعل أحدهما أصلا. وبخلاف ما إذا جرح رجلان رجلا أحدهما بعد الآخر فمات المجروح كان الموت مضافا إلى الجرحين لا إلى الجرح الأخير; لأن كل جراحة علة تامة بنفسها والحكم في العلل إذا اجتمعت تضاف إلى كل واحدة كأن ليس معها غيرها وكلامنا في علة واحدة لها وصفان وكذا لا يتيقن بأن الحكم وهو الزهوق بأيهما حصل فلا يمكن الترجيح حتى لو جرح أحدهما وجز الآخر رقبته كان الحكم مضافا إلى الجزء لاتصال الحكم به يقينا وبخلاف الإيجاب والقبول في البيع حيث لم يضف الحكم إلى آخرهما وجودا بل يضاف إليهما جميعا; لأن كل واحد منهما علة على حدة فالإيجاب علة ملك المبيع والقبول شرط في حقه والقبول علة ملك الثمن والإيجاب شرط في حقه فيضاف كل واحد من الحكمين إلى علته كذا في الطريقة البرغرية والأولى أن يقال علة الملك هي العقد الذي حكم الشرع بوجوده بعد الإيجاب والقبول وهو الذي يسمى بالبيع ويوصف بالبقاء ويرد عليه الفسخ فكان الحكم مضافا إليه دون الإيجاب والقبول.
قوله: "والمرض" عطف على السفر أي السفر والمرض كل واحد منهما للرخصة(4/283)
ونسبت الرخص إليه فصار علة اسما أيضا ألا ترى أن من أصبح صائما ثم سافر لم يحل له الفطر ومع ذلك إذا أفطر لم يلزمه الكفارة وهذا ليس بعلة حكما ولا معنى فلما صار شبهة علمنا أنه علة اسما وأما المعنى فلأن الرخصة تعلقت بالمشقة في الحقيقة إلا أنه أضيف إلى السفر لأنه سبب المشقة فأقيم مقامها.
ـــــــ
الثابتة به اسما وحكما لا معنى وذلك أي كون السفر علة اسما وحكما أن السفر تعلق به في الشرع الرخص أي ثبت متصلة به حتى إذا جاوز ثبوت المصر قصر الصلاة فكان علة حكما ونسبت الرخص إلى السفر شرعا يقال رخصة السفر القصر والإفطار فكان علة اسما أيضا ألا ترى إيضاحا لكونه علة اسما لم يحل له الفطر يعني في هذا اليوم; لأنه حين أصبح مقيما وجب عليه أداء الصوم حقا لله تعالى وإنما أنشأ السفر باختياره فلا يسقط به ما تقرر وجوبه عليه إذ السفر ليس بمناف للاستحقاق وهذا أي هذا السفر في حق هذا اليوم ليس بعلة حكما لعدم تعلق الرخصة به حيث لم يحل له الإفطار فيه ولا معنى; لأن المؤثر هو المشقة لا نفس السفر فلما صار هذا السفر شبهة في سقوط الكفارة مع أنه ليس بعلة حكما ولا معنى علمنا أنه علة اسما إذ لو لم يكن علة اسما أيضا لوجبت الكفارة لوجود الإفطار بلا ترخص صورة ومعنى. وأما المعنى أي فوات معنى العلة عن السفر فلأن الرخصة تعلقت بالمشقة في الحقيقة دون السفر; لأنها هي المؤثرة في إيجاب الرخصة التي مبناها على اليسر والسهولة كما أشار الله تعالى إليه بقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] إلا أنه أي لكن الحكم وهو ثبوت الرخصة أضيف إلى السفر دون حقيقة المشقة; لأنها أمر باطن يتفاوت أحوال الناس فيه فلا يمكن الوقوف على حقيقته فأقام الشرع السفر المخصوص مقام المشقة; لأنه سبب المشقة في الغالب قال الشيخ رحمه الله في مختصر التقويم السفر علة موجبة للمشقة على كل حال فإن المسافر وإن كان في رفاهية لا يخلو عن قليل مشقة وقد تعذر الوقوف عليها فسقط اعتبارها وتعلق الحكم بالسفر الذي هو علة العلة وأبدا يضاف للحكم علة العلة عند تعذر إضافته إلى العلة فلذلك دار الحكم مع السفر وجودا وعدما.
وكذلك أي ومثل السفر المرض علة للرخصة اسما; لأن الرخصة المتعلقة به تنسب إليه كما تنسب إلى السفر رخصة وحكما; لأن الحكم يثبت مقترنا به من غير تأخر لا معنى; لأن العلة المعنوية مالها أثر في إيجاب الحكم ولا أثر لنفس المرض في إيجاب الرخصة بل الموجب الحقيقي معنى تحته وهو خوف التلف وزيادة المرض لكن لما كان المعنى أمرا باطنا سقط اعتباره في إضافة الحكم إليه وصار الحكم متعلقا بالمرض الذي هو سبب الخوف والمشقة وهذا دون الأول; لأن السفر يوجب المشقة بكل حال فأما(4/284)
وكذلك المرض إلا أنه متنوع فما هو سبب للمشقة أقيم مقامها وما لا فلا وكذلك النوم مما كان منه سببا لاسترخاء المفاصل مقامه فصار حدثا وإنما نقل إلى السبب الظاهر للتيسير وكذلك الاستبراء متعلق بالشغل ثم نقل إلى استحداث سبب الشغل تيسيرا وأمثلة هذا الأصل أكثر من أن تحصى وذلك بطريقين يكون إقامة السبب الداعي مقام المدعو مثل السفر والمرض والنوم
ـــــــ
المرض فقد يوجب خوف التلف والمشقة وقد لا يوجب كذا ذكر المصنف في شرح التقويم وهو معنى قوله إلا أنه أي المرض متبوع إلى آخره.
قوله: "وكذلك" أي ومثل المذكور سابقا الاستبراء وهو الاحتراز عن الوطء ودواعيه في الأمة عند حدوث الملك فيها إلى انقضاء حيضة أو ما يقوم مقامها متعلق بالشغل أي وجوبه متعلق بالشغل هو مصدر شغل المبني للمفعول لا شغل المبني للفاعل يعني هو متعلق في الحقيقة بوهم اشتغال الرحم بماء الغير; لأنه هو المؤثر في إيجابه إذ المقصود منه صون الماء عن الخلط بماء آخر والاحتراز عن سقي زرع الغير المنهي عنه بقوله عليه السلام: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقين ماءه زرع غيره" 1 وذلك يجب عند توهم الشغل لكن الشغل لما كان باطنا سقط اعتباره وتعلق الحكم باستحداث ملك الوطء بملك اليمين الذي هو سبب ظاهر; لأن الشغل يكون بالوطء وبالملك يتمكن من الوطء فمن حيث إن التمكن من الوطء لا ينفك عن الملك كان للملك اتصال به فأقيم مقامه كذا في شرح التقويم وأشير في التقويم إلى أن العلة صيانة الماء عن الاختلاط بماء قد وجد إلا أنه لو علق بالماء وهو أمر باطن لتعذر علينا مراعاته فعلق بالسبب المؤدى إلى خلط المياه وهو استحداث ملك الوطء بملك اليمين; لأن هذا الاستحداث يصح من غير استبراء لزم البائع ومن غير ظهور براءة رحمها عن مائه فلو أبحنا الوطء للثاني بنفس الملك لأدى إلى الخلط فكان الإطلاق بنفس الملك سببا مؤديا إليه فوجب الاستبراء لهذا المعنى. وإنما لم يجب الاستبراء باستحداث ملك الوطء بالنكاح في الحرة والأمة حتى لو تزوج أمة لا يجب عليه الاستبراء وإن احتمل رحمها الشغل بماء المولى لعدم وجوب الاستبراء على المولى قبل التزويج; لأن النكاح ما شرع في الأصل إلا على رحم فارغة أو بعد المبالغة في الاحتياط لمعرفة الفراغ بتربص ثلاثة أقراء الزائدة على مدة الاستبراء فلم يتعلق به وجوب الاستبراء ثم لما كان الفراغ أمرا باطنا دار الحكم على النكاح فقيل لا استبراء في النكاح بحال اعتبارا لأصله كما أن الاستبراء واجب في حدوث ملك اليمين وإن
ـــــــ
1 أبو داود في النكاح حديث رقم 2158 والترمذي في النكاح حديث رقم 1131 والإمام أحمد في المسند 4/108.(4/285)
والمس والنكاح مقام الوطء. والثاني أن يقوم الدليل مقام المدلول مثل الخبر عن المحبة مقام المحبة ومثل الطهر مقام الحاجة في إباحة الطلاق ومثل مسائل
ـــــــ
كانت الجارية بكرا أو مشتراة من امرأة اعتبارا لأصله وذكر في المبسوط أن الاستبراء وظيفة ملك اليمين كما أن العدة وظيفة ملك النكاح فكما لا ينقل وظيفة ملك النكاح إلى ملك اليمين لا ينقل وظيفة ملك اليمين إلى ملك النكاح وأمثلة هذا الأصل وهو إقامة الشيء مقام غيره أكثر من أن تحصى كإقامة البلوغ مقام اعتدال العقل والنكاح مقام العلوق في ثبوت النسب والتقاء الختانين مقام خروج المني في إيجاب الغسل والخلوة مقام الدخول وغيرها.
وذلك أي وضع الشيء مقام غيره بطريقين والفرق بينهما أن النسب لا يخلو عن تأثير له في المسبب أو إفضاء إليه والدليل يخلو عن ذلك كذا قيل والمس والنكاح يقام أي كل واحد منهما مقام الوطء في ثبوت حرمة المصاهرة; لأن كل واحد منهما سبب داع إليه مثل الخبر أي الإخبار عن المحبة قام مقام المحبة فيما إذا قال لامرأته إن كنت تحبيني فأنت طالق فقالت أحبك; لأن إخبارها دليل على وجود ما جعله شرطا فأقيم مقام المدلول عند تعذر الوقوف عليه ولكنه مقتصر على المجلس حتى لو أخبرت عن المحبة خارج المجلس لا يقع الطلاق; لأنه يشبه التخيير من حيث إنه جعل الأمر إلى إخبارها ومحبتها والتخيير مقتصر على المجلس. ولو كانت كاذبة في الإخبار يقع الطلاق فيما بينه وبين الله تعالى; لأن حقيقة المحبة لا يوقف عليها من جهة غيرها ولا من جهتها; لأن القلب متقلب لا يستقر على شيء فما لا يوقف عليه بتعلق الحكم بدليله كالسفر مع المشقة والنوم مع الحدث فصار الشرط الإخبار عن المحبة وقد وجد فيثبت الحكم كذا في شرح المبسوط للمصنف رحمه الله ومثل الطهر أي الطهر الخالي عن الجماع قام مقام الحاجة إلى الطلاق في إباحة الطلاق وبيانه أن الطلاق أمر محظور في الأصل لما فيه من قطع النكاح المسنون ولكن المحظور قد يحل مباشرته للضرورة كتناول الميتة وقد يقع الحاجة إلى الطلاق عند العجز عن المضي على مقتضى العقد وإقامة حقوق الله تعالى المتعلقة بالنكاح فلو لم يقدر على الطلاق لانقلب النكاح المشروع للمصالح مفسدة فشرع الطلاق للحاجة إليه ثم هي أمر باطن لا يوقف عليه فأقيم دليل الحاجة وهو الإقدام على الطلاق في زمان تجدد الرغبة إليها وهو الطهر الخالي عن الجماع مقام حقيقة الحاجة تيسيرا ومثل مسائل الاستبراء فإن دليل الشغل فيها وهو استحداث الملك أقيم مقام المدلول وهو الشغل حتى دار الحكم معه وجودا وعدما كذا في المبسوط فلذلك وجب الاستبراء في الجارية المشتراة من المرأة ومن الصغير بأن باعها له أبوه والجارية البكر لوجود الاستحداث وإن تيقنا بعدم الشغل وعن أبي يوسف رحمه الله أنه إذا تيقن لفراغ رحمها(4/286)
الاستبراء, وطريق ذلك وفقهه من ثلاثة أوجه أحدها لدفع الضرورة والعجز وذلك في قوله إن أحببتيني أو أبغضتيني فأنت طالق وفي الاستبراء وفي قيام النكاح مقام الماء وللاحتياط كما قيل في تحريم الدواعي في الحرمات والعبادات ولدفع الحرج كما قيل في السفر والطهر القائم مقام الحاجة التقاء الختانين والمباشرة الفاحشة لإيجاب الحدث عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وهذه وجوه متقاربة في ضبطها معرفة حدود الفقه والله أعلم.
ـــــــ
من ماء البائع لا يجب عليه فيها استبراء; لأن الاستبراء كاسمه لتبين فراغ الرحم وقاس بالمطلقة قبل الدخول أنه لا يلزمها العدة; لأن المقصود من العدة في حال الدخول تبين فراغ الرحم. ولكنا نقول هذه حكمة الاستبراء والحكم يتعلق بالعلة لا بالحكمة والعلة استحداث الملك كما بينا ثم الشيخ رحمه الله سمى الاستحداث سببا للشغل قبيل هذا بخطوط ووجهه ما بينا ثم جعله دليلا على الشغل حيث أورده في هذا القسم ووجهه أن الاستحداث يدل على ملك من يستحدث منه ويتلقى من جهته وملكه يمكنه من الوطء والوطء سبب للشغل الذي هو العلة فكان الاستحداث بهذه الوسائط دليلا على علة وجوب الاستبراء فأقيم مقام المدلول للضرورة ولا تنافي بين الجهتين; لأن كونه سببا بالنظر إلى مطلق الشغل وكونه دليلا بالنظر إلى الشغل بماء المالك الأول ولهذا جمع شمس الأئمة بين اللفظين فقال فقام السبب الظاهر الدال عليه مقام كذا ولكن جعله دليلا أولى من جعله سببا; لأن علة الاستبراء الشغل بماء الغير لا مطلق الشغل والاستحداث ليس بسبب للشغل بماء الغير بل هو دليل عليه من الوجه الذي قلنا فكان جعله دليلا أولى وطريق ذلك أي طريق وضع الشيء مقام غيره وفقهه أي المعنى الذي جوز ذلك شرعا كذا أحدها لدفع الضرورة أي جوز ذلك لدفع الضرورة والعجز عن الوقوف على حقيقة العلة كما في المسائل المذكورة. وللاحتياط كما قيل في تحريم الدواعي في الحرمات فإن الزنا حرم صونا للفرش عن الفساد وحفظا للنسل عن الضياع ثم أقيمت الدواعي من المس والقبلة والنظر مقامه في الحرمة وكذلك في الظهار والعبادات أي أقيمت الدواعي مقام الوطء في العبادات فإن الجماع في حالتي الاعتكاف والإحرام حرام ثم أحدث الدواعي حكمة للاحتياط وقيل معناه أن في العبادات قد يقام الشيء مقام غيره للاحتياط فإن الصلاة بالجماعة أقيمت مقام الإسلام حتى وجب للحكم بالإسلام بها وإن لم يعرف منه تصديق ولا إقرار وكذا الإقرار المجرد أقيم مقام الإسلام في أحكام الدنيا حتى وجب العبادات به احتياطا وإعلاء للدين بقدر الإمكان ولدفع الحرج أي الضيق والمشقة والفرق بينه وبين القسم الأول أن في القسم الأول لا يمكن الوقوف على الحقيقة أصلا وفي هذا القسم يمكن ذلك ولكن مع نوع مشقة وهما في الحكم سواء; لأن الحرج مدفوع في الشرع كالضرورة وهذه أي الأقسام التي ذكرناها في تقسيم السبب والعلة وجوه متقاربة.(4/287)
"باب تقسيم الشرط"
وهو خمسة أقسام شرط محض وشرط له حكم العلل وشرط له حكم الأسباب وشرط اسما لا حكما فكان مجازا في الباب وشرط هو بمعنى العلامة الخالصة أما الشرط المحض فما يمتنع به وجود العلة فإذا وجد الشرط وجدت العلة فيصير الوجود مضافا إلى الشرط دون الوجوب وذلك في كل تعليق بحرف من حروف الشروط نحو إن دخلت الدار فأنت طالق وكلما دخلت وما أشبه ذلك وذلك داخل في العبادات والمعاملات ألا يرى أن وجوب العبادات
ـــــــ
"باب تقسيم الشرط"
قوله: "فما يمتنع به وجود العلة" أراد به أنه يمتنع بالتعليق به وجود العلة لا أن يمتنع بوجوده وجودها كما يدل عليه اللفظ فإنها لا يمتنع بوجود الشرط بل توجد به ولهذا قال فإذا وجد الشرط وجدت العلة وذلك أي وجود الشرط بالصفة التي قلنا يوجد في كل تعليق بحرف من حروف الشرط مثل قوله إن دخلت الدار فأنت حر ومتى دخلت أو إذا دخلت فالدخول الذي دخل عليه حرف الشرط شرط وامتنعت العلة وهي قوله أنت حر عن الانعقاد بعد وجود صورتها من حيث التكلم لعدم الشرط في الحال فإذا وجد الدخول ينعقد علة ويصير تحريرا فيثبت به العتق وذلك أي الشرط المحض الذي يتوقف وجود العلة على وجوده داخل في العبادات والمعاملات جميعا ألا ترى أن وجوب العبادات يتعلق بأسبابها على ما مر بيانه في باب بيان أسباب الشرائع ثم يتوقف ذلك أي صيرورة السبب سببا على شرط علم العبد بالخطاب الذي به صار السبب سببا نحو قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الاسراء: 78] {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] أو على ما يقوم مقام العلم من شيوع الخطاب في دار الإسلام وإنما شرط العلم; لأن التكليف لا يصح إلا بالقدرة وهي لا تحصل بدون العلم فشرط العلم لصحة التكليف. ولا يقال إن المتوقف على العلم وجوب الأداء الذي هو الثابت بالخطاب لا كونه سببا ولا نفس الوجوب(4/288)
يتعلق بأسبابها ثم يتوقف ذلك على شرط العلم حتى إن النص النازل لا حكم له قبل العلم من المخاطب فإن أسلم من في دار الحرب لم يلزمه شيء من الشرائع قبل العلم فصارت الأسباب والعلل بمنزلة المعدوم لعدم الشرط وكذلك ركن العبادات ينعدم لعدم شروطها وهي النية والطهارة للصلاة وكذلك ركن النكاح وهو الإيجاب والقبول ينعدم عند عدم شرطه وهو الإشهاد عليه وقد ذكرنا أن أثر الشرط عندنا انعدام العلة وعند الشافعي تراخي الحكم وكذلك هذا في كل الشروط وإنما يعرف الشرط بصيغته أو دلالته وقط لا تنفك صيغته من معناه
ـــــــ
بدليل وجوب الصلاة على النائم والمغمى عليه ووجوب الصوم على المجنون الذي لم يستغرق جنونه الشهر مع عدم حصول العلم لهؤلاء; لأنا نقول العلم ثابت في حق هؤلاء تقديرا; لأن شيوع الخطاب وبلوغه إلى الدهماء بمنزلة البلوغ إلى كل أحد فإن من أسلم يعني من أهل دار الحرب في دار الحرب لم يلزمه شيء من الشرائع قبل العلم حتى لو علم بها بعد مدة لا يجب عليه قضاء ما مضى; لأن الشرط لما فات في حقه منع السبب من الانعقاد فلم يثبت الوجوب ولو أسلم الكافر في دار الإسلام ولم يعلم بالشرائع حتى مضى عليه زمان ثم علم بها وجب عليه قضاء ما مضى لا لأن العلم ليس بشرط ولكن; لأن شيوع الخطاب في دار الإسلام وتيسر الوصول إليه بأدنى طلب يقوم مقام وجوده فتصير العلة موجودة حقيقة بوجود الشرط حكما فصارت الأسباب مثل الوقت للصلاة وشهود الشهر للصوم والبيت للحج والعلل ومثل الكيل والجنس للربا بمنزلة المعدوم أي الشيء المعدوم في حقه لعدم الشرط وهو العلم وكذلك أي وكما ينعدم الأسباب والعلل في حق الذي أسلم في دار الحرب لعدم الشرط ينعدم ركن العبادات.
وكذلك أي ومثل انعدام ركن العبادات انعدام ركن النكاح لعدم الشرط. وقد ذكرنا يعني في بيان التمسكات الفاسدة أن أثر الشرط أي أثر التعليق بالشرط كذا وكذلك هذا في كل الشروط أي ومثل الاختلاف المذكور هناك الاختلاف في كل الشروط أو ومثل الحكم المذكور في هذه الصور المذكورة الحكم في سائر الشروط وإنما يعرف الشرط بصيغته بأن دخل في الكلام حرف من حروف الشرط فكان الفعل الذي دخل عليه شرطا أو دلالته كما بينا في قوله المرأة التي أتزوجها فهي طالق.
قوله: "وقط لا تنفك صيغة الشرط عن معنى الشرط" ذكر بعض العلماء منهم القاضي الإمام أبو زيد رحمه الله أن صيغة الشرط قد تخلو عن معنى الشرط ويسمون ذلك الشرط شرط تغليب على معنى أن ما دخل عليه الشرط لا يخلو في الغالب عن هذا الشرط وإن كان قد يثبت الحكم بدونه في بعض الأحوال كما في قوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ(4/289)
فأما قول الله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} [النور: 33] فقد قال بعضهم هو شرط عادة وليس كذلك وهذا قول بأنه لغو وكتاب الله تعالى منزه عن ذلك ولكن أدنى درجات الحكم استحباب المأمور به واستحباب الكتاب متعلق بهذا الشرط لا يوجد إلا به وينعدم قبله فأما الإباحة فتستغني عنه والمراد بالأمر الاستحباب
ـــــــ
عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} [النور: 33] فإنه مذكور على سبيل التغليب والعادة إذ العادة الغالبة أن الإنسان إنما يكاتب العبد إذا رأى فيه خيرا إلا أنه شرط حقيقي بدليل جواز كتابة العبد الذي لا يعلم فيه خير بإجماع أهل الفقه ولو كان شرطا حقيقة لم يجز وكما في قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ} [النساء: 101] أي يقتلكم: {الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 89] فإنه شرط تغليب ومذكور على وفاق العادة فإن عامة أسفار المؤمنين في ذلك الزمان لم يكن يخلو عن خوف العدو لا أنه شرط حقيقي بدليل جواز القصر حالة الأمن بالإجماع إلا ما نقل عن سعد بن أبي وقاص أنه كان يشترط الخوف لجواز القصر وكما في قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ} [النساء: 23]. فإن ذكر الحجر الذي هو بمعنى الشرط إذ القيد شرط على ما مر بيانه على سبيل العادة إذ الربيبة تربى في حجر الرب في العادة الغالبة لا أنه قصد به الشرط حقيقة بدليل حرمة الربيبة التي لم تكن في حجره عليه بالإجماع إذا كان دخل بأمها قالوا والفائدة في تخصيص الله تعالى حال الابتلاء بتلك الحادثة في العادات بالذكر كونها أولى بالبيان; لأن الحاجة إليها أمس فرد الشيخ ذلك وقال صيغة الشرط لا تخلو عن معنى الشرط قط خصوصا في كلام الله تعالى; لأن القول به يؤدي إلى الغاية وإدخاله في جنس ما لا معنى له من الأصوات. وكلام الله تعالى منزه عن أن يكون فيه لغو ثم أشار إلى الجواب عن متمسكهم فقال في الجواب عن قوله: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} أن أدنى درجات الأمر أي أدنى درجاته التي يوجد فيها معنى الحقيقة وهو الطلب كذا وعبارة شمس الأئمة حيث قال الأمر للإيجاب تارة وللندب أخرى أبعد عن الاشتباه لا يوجد الاستحباب إلا بهذا الشرط وهو رؤية الخيرية ويعدم الاستحباب قبل هذا الشرط فكان هذا الشرط على حقيقته فأما الإباحة أي إباحة الكتابة فتستغني عن هذا الشرط أي هي غير متعلقة بالشرط فيجوز الكتابة وإن لم يوجد فيه خير; لأنه تصرف في ملكه ألا ترى أنه يجوز إعتاقه فالكتابة أولى والمراد بالخير المال عند البعض كما في قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180] ومعناه أن يكون العبد كسوبا يقدر على أداء البدل. وقيل المراد منه الديانة وحسن خدمة المولى فإذا رأى المولى ذلك منه يستحب له أن يكاتبه جزاء على فعله والمراد بالأمر الاستصحاب إلا عند داود بن علي وعطاء وابن سيرين فإنهم(4/290)
ألا يرى أن قوله: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] سنة واستحباب وكذلك قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] ليس بشرط عادة بل هو شرط أريد به حقيقة ما وضع له لأن المراد بالنص قصر الأحوال وهو أن يومئ على الدابة ويخفف القراءة والتسبيح. ألا ترى إلى قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ} [البقرة: 239]. وقال تعالى: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ}
ـــــــ
حملوه على الوجوب إذا علم المولى فيه خيرا وطلب العبد الكتابة ونقل عن عمر رضي الله عنه أنه عزمة من عزمات الله أي واجب من واجباته ألا ترى قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ} أي حطوا عنهم من بدل الكتابة شيئا ما أحببتم ربعا فما دونه سنة واستحبابا فكذا الأول; لأن الأصل في الكلام الانتظام والاتساق وإن كان القران في النظم لا يوجب القران في الحكم وهذا التوضيح إنما يستقيم إذا حمل الإيتاء على الحط من بدل الكتابة كما قلنا وإن حمل على الإعانة من أموال الزكاة وإعطائهم سهمهم الذي جعل الله لهم من بيت المال بقوله في الرقاب وإليه ذهب أكثر المفسرين فالأمر للوجوب والخطاب عام للمسلمين فلا يصح التوضيح ومثله قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} [النساء: 25] فإنه غير مذكور على وفاق العادة عندنا بل لبيان الندب فإن نكاح الأمة مع طول الحرة إن كان مباحا لكنه غير مندوب إليه وإنما يندب إليه بشرط عدم طول الحرة وعليه يحمل أيضا قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] ويقال استحباب شهادة النساء مع الرجال متعلق بعدم شهادة رجلين كما قلنا في الكتابة.
قوله: "وكذلك" أي ومثل قوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ} [النور: 33] الآية قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ} غير مذكور على وفاق العادة بل هو شرط أريد به حقيقة ما وضع له; لأن المراد بالآية قصر الأحوال لا قصر الذات كذا نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما وقصر الأحوال أن يقصر عن بعض أوصاف الصلاة كالأداء راكبا بإيماء والإيجاز في القراءة وتخفيف الركوع والسجود وترك الاعتدال في الأركان ثم استوضح ما ذكر بقوله ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ} أي فإن كان لكم خوف من عدو أو غيره فرجالا جمع راجل كقائم وقيام أي على أقدامكم أو ركبانا بإيماء: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} فإذا زال خوفكم فاذكروا أي صلوا كما علمكم من صلاة الأمن فعلق بالخوف في هذه الآية قصر الأحوال لا قصر الذات فيكون هو المراد بهذه الآية أيضا; لأن القرآن يفسر بعضه بعضا. وقال جل ذكره: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ} أي أمنتم من العدو: {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} أي(4/291)
[النساء: 103] وقصر الأحوال يتعلق بقيام الخوف عيانا لا بنفس السفر فأما قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ} [النساء: 23] فلم يذكر الحجور شرطا وإنما الشرط قوله: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ
ـــــــ
أطيلوا قيامها وركوعها وسجودها على حسب ما يليق بحال الحضر هكذا نقل عن السدي وغيره فعلم بهذا أن سياق الكلام لبيان ما يباح بالخوف من قصر الأحوال وقصر الأحوال أي جوازه وسقوط كراهته يتعلق بقيام الخوف عيانا فكان هذا الشرط على حقيقته أيضا فإن قيل المذكور في الآية شرطان الخوف والضرب في الأرض والقصر متعلق بهما ثم المتعلق بالضرب قصر الذات لا قصر الأحوال إذ هو ثابت في حالة الإقامة أيضا فعرفنا أن المتعلق بالخوف قصر الذات أيضا قلنا الشرط الأول ليس لتعليق القصر به بل الشرط الثاني هو الذي تعلق القصر به كما في قول الرجل لامرأته إذا دخلت فأنت طالق إن كلمت زيدا كان الطلاق متعلقا بالكلام لا بالدخول وكان الدخول شرط الانعقاد فكذا فيما نحن فيه لا يتعلق القصر بالضرب في الأرض بل بالخوف هذا موجب اللغة والقصر المتعلق بالخوف قصر الأحوال لا قصر الذات غير أنه يقتضي تعلق القصر بالخوف بعد وجود الضرب لكن ترك هذا بدليل الإجماع فإن القصر الذي يتعلق بالخوف لا يشترط فيه تقدم السفر بالإجماع وفي قصر الذات يشترط السفر دون الخوف فلا يجوز أن يكون هو المراد من النص. ولا يقال نحن نعلق قصر الذات بالضرب ونترك مقتضى قوله إن خفتم بالسنة المشهورة والإجماع أيضا.
لأنا نقول الشرط الأول لا يصلح لتعلق الحكم به بل هو شرط لتعلق الحكم بالشرط الثاني فكان ما ذهبنا إليه أولى ولكن للخصم أن يقول يلزم مما ذهبتم إليه خلو صيغة الشرط عن معناه أيضا في قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ} [النساء: 101] كما يلزم ذلك مما ذهبنا إليه في قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ} فلا يجديكم هذا التأويل نفعا; لأن خلو الصيغة عن معنى الشرط لازم على كلا التقديرين ولا ينفعكم التمسك بالدليل في ذلك; لأن النزاع واقع فيه فإن أحدا لم يقل بجواز خلوه عن معناه بلا دليل فأما قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} فلم يذكر الحجور فيه على سبيل الشرط أي ليس بشرط صيغة إذ لم يوجد شيء من ألفاظ الشرط ولا دلالة; لأن قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ} معرف والوصف في المعرف لا يفيد معنى الشرط كما في قوله هذه المرأة التي أتزوجها طالق والدليل على أنه غير مذكور على سبيل الشرط أنه لم يذكر الحجر في عكسه أعني قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} فلو كانت الحرمة متعلقة بالوصفين جميعا لذكر كل واحد منهما عند ذكر الإباحة بأن قيل فإن لم تكونوا دخلتم(4/292)
عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] وهو شرط اسما وحكما وكذلك دلالة الشرط لا تنفك عن مدلوله وذلك مثل قول الرجل المرأة التي أتزوج طالق ثلاثا هذا الكلام بمعنى الشرط دلالة لوقوع الوصف في النكرة ولو وقع في العين لما صلح دلالة ونص الشرط بجميع الوجهين. وأما الشرط الذي هو في حكم العلل فإن كل
ـــــــ
بهن أو لم تكن الربائب في حجوركم فلا جناح عليكم; لأن المتعلق بالشرطين ينتفي بانتفاء كل واحد منهما وإذا كان كذلك لم يكن لاختصاص الدخول بالنفي دون الحجور فائدة لو كان الحجر مذكورا على سبيل الشرط. قال الشيخ رحمه الله في بعض تصانيفه وإنما ذكر الحجر لمراعاة حق الصغير; لأن من عادة الإنسان أن يضيع الشيء الذي يحرم عليه ولا يلتفت إليه فالله تعالى أشار بمراعاة من في حجره مع كونه حراما عليه وذكر غيره أن الإنسان يبغض الربيب والربيبة طبعا ويتنفر عنهما عادة فكان ذكر الحجر تحريضا له على التربية وترغيبا إلى مخالفة ما يدعو إليه الطبع إذ في ذلك تضييع الصغير والصغيرة وهو شرط اسما وحكما أي عدم الدخول بالمرأة شرط حقيقي محض لإباحة البنت صيغة لوجود حرف الشرط فيه وحكما لتوقف الحكم وهو الإباحة على تحققه ولم يذكر المعنى; لأنه داخل في الحكم إذ معنى الشرط ليس إلا توقف الحكم عليه بخلاف العلة; لأن معناها التأثير وهو غير الحكم.
قوله: "وكذلك دلالة الشرط" أي كما لا ينفك صيغة الشرط عن معناه لا ينفك دلالة الشرط عن مدلولها وهو معنى الشرط وذلك أي ثبوت الشرط دلالة وعدم انفكاكه عن المدلول مثل قول الرجل المرأة التي أتزوجها طالق أو مثل قوله لنسائه المرأة التي تدخل منكن الدار فهي طالق هذا الكلام بمعنى التعليق بالشرط دلالة والتزوج ودخول الدار بمنزلة الشرط حتى يتوقف وجود العلة على وجود التزوج والدخول أو الدخول دخل على امرأة غير معينة فكانت نكرة والوصف في النكرة معتبر لتعرفها به فصلح دلالة على الشرط كما مر بيانه في باب ألفاظ العموم وصار كأنه قال إن تزوجت امرأة فهي طالق أو قال إن دخلت واحدة منكن الدار فهي طالق. ولو وقع الوصف في العين بأن أشار إلى امرأة وقال هذه المرأة التي أتزوجها أو هذه المرأة التي تدخل الدار فكذا لم يصلح دلالة على الشرط; لأن الوصف في العين لغو فيبقى قوله هذه المرأة طالق فيلغو في الأجنبية ويتنجز في المنكوحة ثم أشار إلى الفرق بين دلالة الشرط وصريح الشرط فقال ونص الشرط لجمع الوجهين يعني لو أتى بصريح الشرط يتعلق الحكم به في المعين وغير المعين مثل أن يقول إن تزوجت امرأة فهي كذا أو يقول إن تزوجت هذه المرأة فهي كذا يتعلق الطلاق بالشرط في الوجهين جميعا.(4/293)
شرط لم يعارضه علة صلح أن يكون علة يضاف إليه الحكم ومتى عارضه علة لم يصلح علة وذلك لما قلنا إن الشرط يتعلق به الوجود دون الوجوب فصار شبيها بالعلل والعلل أصول لكنها لما لم تكن عللا بذواتها استقام أن يخلفها الشروط وهذا أصل كبير لعلمائنا رحمهم الله.
فقد قالوا في شهود الشرط واليمين إذا رجعوا بعد الحكم إن الضمان
ـــــــ
قوله: "وأما الشرط الذي هو في حكم العلل" وهو القسم الثاني من أقسام الشرط فإن كل شرط لم يعارضه علة صالحة لإضافة الحكم إليها صلح ذلك الشرط أن يكون علة يضاف إليه الحكم أي صلح علة في حق إضافة الحكم إليه خلفا عن العلة وإن لم يكن له تأثير في الحقيقة ومتى عارض الشرط علة صالحة لإضافة الحكم إليها لم يصلح الشرط علة لعدم الحاجة إلى إثبات الخلافة وذلك أي عدم صلاحية الشرط للخلافة عند صلاحية العلة للإضافة إليها لما قلنا إن الشرط يتعلق به الوجود من حيث إنه يوجد عند وجوده دون الوجوب أي الإثبات إذ لا تأثير له فيه. فصار الشرط من هذا الوجه شبيها بالعلل والعلل أصول يعني في إثبات الأحكام وإضافتها إليها; لأنها مؤثرة في الإثبات والإيجاب فلا يجوز مع وجود حقيقة العلة وصلاحها لإضافة الحكم إليها أن يضاف إلى ماله شبه العلة وكان ينبغي أن لا يخلفها الشرط أصلا إذ لا تأثير له في إيجاد الحكم بوجه كما لا يجوز ذلك في العلل العقلية لكن العلل الشرعية لما لم تكن مالا بذواتها بل هي في الحقيقة أمارات على الأحكام كالشروط استقام أن يخلفها الشروط في حق إضافة الحكم عند تعذر الإضافة إليها لتحقق الشبه من الجانبين كما بيناه وهذا أصل كبير أي اعتبار العلة عند صلاحها لإضافة الحكم إليها وترجيحها على الشرط أصل كبير لعلمائنا فقد قالوا في شهود الشرط واليمين إذا رجعوا بأن شهد فريق لامرأة قبل الدخول بها بتعليق الزوج طلاقها بدخول الدار أو شهدوا لعبد بتعليق المولى عتقه بشرط ثم شهد آخرون بوجود الشرط ثم رجعوا جميعا بعد الحكم بوقوع الطلاق ولزوم نصف المهر أو بالحرية أن الضمان أي ضمان العبد وضمان ما أداه الزوج إلى المرأة وهو نصف المهر على شهود اليمين أي التعليق خاصة; لأنهم شهود العلة فإنهم أثبتوا قول الزوج أنت طالق وقول المولى أنت حر وكل واحد منهما صالح لإضافة الطلاق أو العتق إليه فلم يجز إضافته إلى الشرط فلم يضمن شهود الشرط شيئا وسمي شهود التعليق شهود العلة وإن لم يكن المعلق بالشرط علة قبل وجود الشرط إما باعتبار أن المعلق بعرض أن يصير علة فكان هذا تسمية للشيء بما يئول إليه أو باعتبار أن الفريقين لما شهدوا أو قضى القاضي بشهادتهم قد ثبت للمعلق اتصال بالمحل بوجود الشرط في زعمهم وصار علة حقيقة فيصح(4/294)
بطريق التعدي فلم يجعل الشرط علة وإذا رجع شهود الشرط وحدهم يجب أن يضمنوا لما قلنا فأما شهود الإحصان إذا رجعوا فلا يضمنون بحال عندنا خلافا لزفر رحمه الله لأن الإحصان لا يتعلق به وجوب وإلا فلا يضمنون وجود على ما نبين إن شاء الله. وعلى هذا الأصل حفر البئر هو شرط في الحقيقة لأن الثقل علة
ـــــــ
للضمان كما إذا باع مال نفسه أو أكل طعام نفسه فجعل الشرط علة لخلوه عن معارضة ما يصلح علة كما في حفر البئر. وفي مسألة رجوع الفريقين أي رجوع شهود الشرط وشهود اليمين إيجاب كلمة العتق أي إثباتها وهي قوله أنت حر يصلح علة لضمان العدوان; لأنها ثبتت بطريق التعدي لظهور كونها كذبا بالرجوع فلم يكن الشرط علة أي في حكم العلة لمعارضته ما يصلح علة بنفسه.
وإذا رجع شهود الشرط وحدهم وثبت شهود اليمين على شهادتهم يجب أن يضمنوا لما قلنا إن العلة وهي يمين الزوج أو المولى لا يصلح علة للضمان لخلوهما عن وصف التعدي إذ شهود اليمين ثابتون على شهادتهم فيجب إضافته إلى الشرط لظهور صفة التعدي فيه برجوع شهوده عن شهادتهم فلذلك يجب الضمان عليهم وإنما قال يجب; لأنه لم يثبت عنده فيه رواية وذكر شمس الأئمة رحمه الله أن شهود الشرط لا يضمنون شيئا سواء رجع الفريقان أو رجع شهود الشرط خاصة وهكذا ذكر أبو اليسر في أصول الفقه أيضا فقال ولو رجع شهود الشرط وحدهم لا يضمنون هكذا نص في الجامع الكبير وذكر في الطريقة البرغرية وإن رجع شهود الشرط وحدهم عند زفر يضمنون وعند أصحابنا الثلاثة لا يضمنون نص على هذا في كتاب الإكراه قلت ووجهه أن العلة وإن خلت عن صفة التعدي ولم تصلح لإيجاب الضمان فهي صالحة لقطع الحكم عن الشرط; لأنها فعل فاعل مختار كما في فتح باب القفص والإصطبل على قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وكما في إرسال الكلب على صيد مملوك حتى قتله أو على رجل حتى مزق ثيابه. بخلاف حفر البئر وأمثاله; لأن العلة هناك طبع لا اختيار فيه لأحد فلا يصلح لإيجاب الضمان ولا لقطع الحكم عن الشرط ولا يلزم على من اختار هذا الوجه إضافة الحكم إلى الشرط على قول أبي حنيفة رحمه الله في المسألة الخلافية المذكورة فإن العلة فيها وهي يمين المولى اختيارية ثم لم يقطع ذلك إضافة الحكم عن شاهدي الشرط; لأنه يقول هما في الصورة شاهد الشرط ولكنهما مثبتان علة العتق في المعنى; لأنهما شهدا أن المولى علق العتق بشرط موجود والتعليق بشرط موجود يكون تنجيزا حتى يملكه الوكيل بالتنجيز فكأنهما شهدا تنجيز العتق فضمنا لإثباتهما علة العتق في التحقيق وإن شهدا بالشرط صورة قال أبو اليسر رحمه الله إنهما أثبتا وزن القيد ووزنه ليس بشرط للعتق; لأن(4/295)
السقوط والمشي سبب محض لكن الأرض كانت ممسكة مانعة عمل الثقل فيكون حفر البئر إزالة للمانع وكذلك شق الزق شرط للسيلان لأن الزق كان مانعا وكذلك القنديل الثقيل ثقله علة للسقوط وإنما الحبل مانع فإذا قطع الحبل فقد زال المانع فعمل الثقيل عمله فثبت أنه شرط لكن العلة ليست بصالحة للحكم لأن الثقل طبع لا تعدي فيه والمشي مباح لا شبهة فيه فلم يصلح أن
ـــــــ
شرط الشيء ما لا يوجد إلا بوجوده ويكون على خطر الوجود ووزن القيد موجود فلا يصلح أن يكون شرطا بل هو في معنى العلة كما بينا. قوله: "وعلى هذا الأصل" وهو أن الشرط إذا لم يعارضه ما يصلح علة بانفراده صلح علة وأضيف الحكم إليه حفر البئر فإنه شرط التلف في الحقيقة; لأن الثقل علة السقوط في البئر والمشي سبب محض; لأنه مفض إليه وليس بعلة بدليل أنه لو نام في موضع فحفر تحته أو نام على سقف فقطع ما حوله أو كان على غصن فقطع الغصن يحصل الوقوع بدون المشي فعلم أنه سبب وليس بعلة لكن الأرض كانت ممسكة مانعة عمل الثقل الذي هو العلة وفي بعض النسخ كانت مسكة وهي ما يتمسك به فيكون حفر البئر إزالة للمانع وإيجاد الشرط السقوط كدخول الدار في قوله أنت طالق إن دخلت الدار وكذلك أي وكحفر البئر شق الزق الذي فيه مائع شرط للسيلان; لأن الزق كان مانعا لما فيه من السيلان فكان شقه إزالة للمانع فكان شرطا أيضا وكذلك القنديل المعلق ثقله علة للسقوط وقطع الحبل إزالة المانع أيضا فكان شرطا أيضا وكان ينبغي أن يضاف الحكم إلى العلة لا إلى الشرط في هذه الصور لكن العلة ليست بصالحة لإضافة الحكم إليها; لأن الثقل طبع ثابت بخلق الله تعالى لا تعدي فيه فلا يصلح لإضافة ضمان العدوان إليه وليس بأمر اختياري أيضا كطيران الطير في فتح باب القفص لينقطع به نسبة الحكم إلى غيره.
والمشي مباح بلا شبهة. يعني كان ينبغي أن يضاف الحكم إلى المشي الذي هو سبب بعد تعذر إضافته إلى الشرط; لأنه أقرب إلى العلة من الشرط إلا أن المشي مباح بلا شبهة فلم يصلح أن يجعل علة بواسطة النقل; لأن الواجب ضمان جناية وضمان الجناية لا يمكن إيجابه بدون الجناية فتعذر الإضافة إليه أيضا حتى لو وجد صفة التعدي فيه بأن تعمد المرور على البئر فوقع فيها وهلك ينسب التلف إليه دون الحافر وصار كأنه أتلف نفسه وكذلك ثقل القنديل وسيلان المائع أمران طبيعيان ثابتان بخلق الله تعالى لا يصلح إضافة الضمان إليهما لما ذكرنا فيقام الشرط الموصوف بالتعدي وهو حفر البئر في الطريق وشق الزق وقطع الحبل في هذه الصور مقام العلة في إضافة الضمان إليه خلفا عن العلة عند تعذر الإضافة إليها لشبهه بالعلة من حيث تعلق الوجود به وشبه العلة به من حيث إنها غير(4/296)
يجعل علة بواسطة الثقل وإذا لم يعارض الشرط ما هو علة والشرط شبه بالعلل لما تعلق به من الوجود أقيم مقام العلة في ضمان النفس والأموال جميعا ولهذا لم يجب على حافر البئر كفارة ولم يحرم الميراث لأنه ليس بمباشرة فلا يلزمه
ـــــــ
موجبة بذاتها إلى آخر ما قررنا. وقوله: أقيم مقام العلة في ضمان النفس يعني فيما إذا تلف في البئر إنسان والأموال يعني فيما إذا وقع فيها شيء آخر وفي شق الزق وقطع الحبل وذكر في بعض الشروح أن قوله والمشي مباح احتراز عن المشي الموصوف بالتعدي كما إذا حفر بئرا في أرض نفسه فعطب فيها إنسان فإن التلف يضاف إلى المشي الذي هو سبب لا إلى الحفر الذي هو شرط حتى لا يجب الضمان على الحافر; لأن المشي ليس بمباح بل هو موصوف بالتعدي فيصلح علة في هذه الصورة بواسطة الثقل. قلت وهذا لا يصلح احترازا عنه; لأن إضافة الحكم إلى المشي في هذه الصورة ليست باعتبار وجود صفة التعدي فيه بل باعتبار زوال صفة التعدي عن الحفر وعدم صلاحيته لإضافة الحكم إليه ألا ترى أن صفة التعدي لو لم تثبت في المشي في هذه الصورة بأن كان مأذونا بالمرور والدخول في هذا الموضع كان الحكم مضافا إليه أيضا إلى الحفر حتى كان دمه هدرا كما إذا كان المشي موصوفا بالتعدي وإنما يصلح احترازا عن المشي الموصوف بالتعدي إذا وجد صفة التعدي في الحفر أيضا ومع ذلك يضاف إلى المشي كما إذا حفر بئرا في أرض غيره بغير إذنه فمشى فيها إنسان لغير إذن المالك ووقع في البئر وهلك فهاهنا كل واحد من الحفر والمشي موصوف بالتعدي فلو كان التلف مضافا إلى المشي دون الحفر حتى كان دمه هدرا ولم يجب على الحافر ضمان لصلح قوله والمشي مباح احترازا عنه لكن لو كان التلف مضافا إلى الحفر ووجب الضمان على الحافر لم يكن قوله والمشي مباح احترازا عن المشي الموصوف بالتعدي وما ظفرت برواية في هذه المسألة إلا ما ذكر في المبسوط وإذا احتفر الرجل بئرا في دار لا يملكها بغير إذن أهلها فهو ضامن لما وقع فيها; لأنه متعد بالحفر في ملك الغير كما هو متعد بالحفر في الطريق فإطلاق هذه الرواية يدل على أن الضمان على الحافر سواء كان المشي تعديا أو لم يكن فعلى هذا لم يكن قوله والمشي مباح احترازا عن شيء بل كان زيادة تقرير وبيانا لصلاحية الشرط للعلية. وذكر في التهذيب ولو حفر بئرا في ملك الغير بغير إذن المالك أو وضع حجرا فهلك به شيء لمالك الدار يجب الضمان على الحافر ولو دخله رجل فهلك به نظر إن دخل بغير إذن المالك ففي وجوب الضمان على الحافر وجهان أحدهما يجب لتعديه بالحفر والثاني لا يجب; لأن الداخل متعديا بالدخول وإن دخل بإذن المالك فإن أعلمه المالك فلا ضمان على أحد وإن لم يعلمه يجب الضمان على الحافر فعلى هذا يحتمل أن يكون قوله والمشي مباح للاحتراز عن الخلاف فإن عند إباحة المشي متقرر على الحافر بالاتفاق.(4/297)
جزاؤها وأما, وضع الحجر, وإشراع الجناح, والحائط المائل بعد الإشهاد فمن قسم الأسباب التي جعلت عللا في الحكم على ما مر لا من هذا القسم. وعلى هذا قلنا في الغاصب إذا بذر حنطة غيره في أرض غيره أن الزرع للغاصب وإن كان التغير
ـــــــ
قوله: "ولهذا" أي ولأن الحفر شرط في الحقيقة وليس بمباشرة للإتلاف لا يجب على حافر البئر كفارة ولم يحرم من الميراث به عندنا وعند الشافعي رحمه الله تجب ويحرم; لأن الحفر لما جعل كالمباشرة في حكم الضمان يجعل كذلك في حكم الكفارة وحرمان الميراث ونحن نقول هما جزاء مباشرة قتل محظور ولم يوجد; لأن المباشرة إنما تحصل باتصال الفعل بالمقتول وقد عدم ذلك في الحفر بل المتصل به أثر ما حصل بفعله فلا يمكن أن يجعل به مباشرا أو كيف يمكن أن يجعل قاتلا بالحفر وقد يكون الحافر ميتا عند وقوع الواقع في البئر وإذا لم يكن مباشرة لا يترتب عليه جزاء المباشرة من الكفارة وحرمان الميراث. وأما وضع الحجر في الطريق وإشراع الجناح أي إخراجه إلى الشارع والحائط المائل إلى طريق المسلمين بعد الإشهاد أي بعد التقدم إلى صاحبه في الهدم والإشهاد عليه فمن قسم الأسباب التي جعلت عللا في الحكم وإن كانت مثل الحفر في الحكم حتى وجب بها ضمان النفس والمال ولا يجب بها كفارة ولا يحرم بها من الميراث على ما مر بيانه في العقوبات القاصرة لا من هذا القسم أي من الشرط الذي له حكم العلل; لأنها لم تكن إزالة للمانع بل هي طرق مفضية إلى التلف فكانت أسبابا أخذت حكم العلل بخلاف الحفر فإنه إزالة للمانع فكان شرطا له حكم العلل والإشهاد في الحائط المائل ليس بلازم لصيرورته في حكم العلة بل الشرط هو التقدم إلى صاحبه في الهدم والإشهاد للاحتياط حتى إذا جحد صاحب الحائط التقدم إليه في ذلك أمكن إثباته عليه بالبينة بمنزلة الشفيع فإن المعتبر في حقه طلب الشفعة ولكن يؤمر بالإشهاد على ذلك احتياطا.
قوله: "وعلى هذا الأصل" وهو أن الشرط يقام مقام العلة في إضافة الحكم إليه عند تعذر إضافته إلى العلة قلنا في الغاصب إذا بذر حنطة غيره في أرض غيره الضمير راجع إلى الغير الأول أي في أرض غير صاحب الحنطة. ويحتمل أن يكون راجعا إلى الغاصب كالضمير الأول أن الزرع للغاصب عندنا وعليه ضمان الحنطة ولا سبيل للمالك على الزرع وقال الشافعي رحمه الله الزرع لمالك الحنطة; لأنه لو حصل بغير صنع أحد بأن هبت الريح بالحنطة وألقتها في أرض فنبتت; كان الخارج لصاحب الأصل; لأنه فرع أصله كولد الجارية وثمر الشجرة فكذلك إذا حصل بصنع صانع; لأن التولد من ذلك الأصل لا من الصنع فإن الصنع حركات لا يتولد منها أجسام وصار كما لو أصلح أشجار رجل وسقاها(4/298)
بطبع الأرض والماء والهواء وأما الإلقاء فشرط لكن العلة لما كان معنى مسخرا لا اختيار له لم يصلح علة مع وجود فعل عن اختيار وإن كان شرطا فجعل للشرط حكم العلل. وأما الشرط الذي له حكم الأسباب فإن يعترض عليه فعل مختار
ـــــــ
حتى أثمرت ونحن نقول الزرع غير الحنطة وهو ظاهر وأنه أمر حادث فلا يخلو من أن يكون حادثا بأصل الحنطة أو بقوة الأرض والهواء والماء أو بعمل الزارع. والأول باطل; لأن الحنطة لا تكون علة لبقائها كذلك حنطة فكيف تكون علة للهلاك وصيرورتها شيئا آخر وقوة الأرض والهواء والماء وإن صلحت علة لحدوث الزرع لكونها مؤثرة فيه لكنها بتسخير الله تعالى وبتقديره بدون اختيار لها في ذلك فلا يضاف الإتلاف والحدوث إليها في حق الأحكام الشرعية كما لا يضاف التلف إلى الثقل في مسألة الحفر يبقى عمل الزارع وهو في معنى الشرط; لأن عمل هذه الأشياء في البذر متوقف على الجمع بينها وبين البذر والزارع بعمله يجمع بين هذه الأشياء وقد بينا أن الحكم يضاف إلى الشرط عند تعذر إضافته إلى العلة فيضاف إلى الشرط وهو صالح للإضافة إليه خلفا عن العلة لكونه فعلا اختياريا داخلا تحت التكليف فيمكن بناء الأحكام الشرعية عليه. وإذا ثبت أنه مضاف إلى عمل الزارع كان هو مكتسبا الزرع والكسب ملك للمكتسب وعليه ضمان ما استهلكه بعمله وقوله إذا بذر حنطة غيره في أرض غيره يوهم على الوجه الأول أنه لو زرعها في أرض المغصوب منه يكون الزرع له لكن إطلاق عبارة المبسوط والأسرار وأصول شمس الأئمة حيث قيل فيها وإن غصب حنطة فزرعها من غير قيد يدل على أن الحكم في الكل سواء وكذا الدليل الذي ذكرنا لا يفصل بين أرض وأرض.
ألا ترى أن للمالك أن يضمنه الحنطة المغصوبة وإن زرعها في أرض مالكها; لأنه يصير مستهلكا لها بالزراعة وإذا كان كذلك يتملكها بالاستهلاك وصار كأنه زرع حنطة نفسه في أرض الغير وقوله مع وجود فعل عن اختيار احترازا عن سقوط الحب في الأرض من غير صنع أحد بأن هبت به الريح حيث يكون الزرع لصاحب الحنطة دون الغاصب; لأن سقوطه في الأرض وإن كان في معنى الشرط لكنه لا يصلح للخلافة عن العلة فلا يضاف الحكم إليه ولكن يجعل محل حصول الزرع الذي هو في معنى الشرط وهو الحنطة إذ المحال شروط خلفا عن العلة فيكون الخارج لصاحب الحنطة لكونها محلا للخارج فصار الحاصل أن تغير المغصوب في يد الغاصب بفعله موجب للضمان والملك وهاهنا لم يوجد لكن وجد شرط التغير بفعله وهو الإلقاء في الأرض فأقيم مقامه.
قوله: "وأما الشرط الذي له حكم الأسباب" وهو القسم الثالث من الأقسام المذكورة فإن يعترض أي فهو الشرط الذي يعترض عليه فعل مختار واحترز به عن الفعل الطبيعي(4/299)
غير منسوب إليه وأن يكون سابقا عليه وذلك مثل رجل حل قيد عبد حتى أبق لم يضمن قيمته باتفاق أصحابنا لأن المانع من الإباق هو القيد فكان حله إزالة للمانع فكان شرطا في الحقيقة إلا أنه لما سبق الإباق الذي هو علة التلف نزل منزلة الأسباب فالسبب مما يتقدم والشرط مما يتأخر ثم هو سبب محض لأنه
ـــــــ
كسيلان المائع وسقوط القنديل في مسألتي شق الزق وقطع الحبل غير منسوب إليه أي إلى الشرط فإنه لو كان منسوبا إلى الشرط كان ذلك الشرط في حكم العلل كما في فتح باب القفص على قول محمد رحمه الله فإن فعل الطيران وإن حصل عن اختيار فهو منسوب إلى الفتح عنده كسير الدابة في مسألة السوق منسوب إلى السائق وإن حصل عن اختيار. وأن يكون أي الشرط سابقا أي على الفعل المعترض واحترز به عن تعليق الطلاق أو العتاق بدخول الدار مثلا فإنه فعل فاعل مختار غير منسوب إلى الشرط ولكن وجود الشرط متأخر عن صورة العلة فلذلك كان شرطا محضا خاليا عن معنى السببية والعلية وذلك أي الشرط الموصوف بهذه الصفة مثل رجل حل قيد عبد أي مثل حل قيد العبد في رجل حل قيد عبد حتى أبق فإن الحال لا يضمن قيمة العبد لمالكه باتفاق بين أصحابنا وهو قول الشافعي أيضا على ما دل عليه عبارة الأسرار إلا أنه احترز عن فتح باب القفص; لأنها نظيرة هذه المسألة وفيها خلاف بين أصحابنا كما ستقف عليه وهذا إذا كان العبد عاقلا فإن كان مجنونا فالحال ضامن عند محمد كما في فتح باب القفص فالسبب أي فالسبب الحقيقي مما يتقدم على العلة; لأن ما هو مفض إلى الشيء ووسيلة إليه لا بد من أن يكون سابقا عليه والشرط مما يتأخر أي الشرط الحقيقي المحض يتأخر وجوده عن وجود صورة العلة وإن كان يتقدم على انعقادها علة كما في تعليق الطلاق فإن قوله أنت طالق أو أنت حر هو الذي ينعقد علة عند وجود الشرط ووجودها تكلما سابق على وجود الشرط. ولا يقال: الشرط كما يكون متأخرا عن وجود صورة العلة قد يكون متقدما عليه كالإشهاد في النكاح فإنه متقدم على العلة وهي الإيجاب والقبول صورة ومعنى; لأنا نقول نحن لا ننكر تقدم الشرط على صورة العلة ولكنا نقول إذا تقدم لم يتمحض شرطا بل كان شرطا مشابها بالسبب من حيث إن تقدم وجوده لا يخلو عن معنى الإفضاء إلى الحكم بواسطة وجود العلة كالسبب الحقيقي. ألا ترى أن العلة لو وجدت بعد وجوده لا يتوقف انعقادها على شيء فكان وجوده سابقا وسيلة إلى حصول الحكم بواسطة العلة فثبت أن فيه معنى السبب بخلاف ما إذا تأخر وجوده عن صورة العلة فإن انعقاد العلة بعد وجود صورتها متوقف عليه فلذلك تمحض شرطا ورأيت في بعض نسخ أصول الفقه لأصحابنا أن الشرط إذا عارضه علة لا يكون في معنى العلة ثم إن كان سابقا كان في معنى السبب وإن كان(4/300)
اعترض عليه ما هو علة قائمة بنفسها غير حادثة بالشرط وكان هذا كمن أرسل دابة في الطريق فجالت ثم أتلفت شيئا لم يضمنه المرسل إلا أن المرسل صاحب سبب في الأصل وهذا صاحب شرط جعل مسببا وإذا انتقلت الدابة فأتلفت زرعا بالنهار كان هدرا وكذلك بالليل عندنا لأن صاحب الدابة ليس بصاحب شرط
ـــــــ
مقارنا أو متراخيا كان شرطا محضا ثم هو أي حل القيد وإن شابه السبب لما قلنا لكنه شابه السبب الخالص لا السبب الذي فيه معنى العلة; لأن السبب الذي فيه معنى العلة ما كانت العلة مضافة إلى السبب وحادثة به كقود الدابة وسوقها وهاهنا ما هو العلة وهو الإباق غير حادثة بالشرط وهو حل القيد بل هي حادثة باختيار صحيح فانقطع به نسبته عن الشرط من كل وجه فكان بمنزلة السبب المحض فكان التلف مضافا إلى ما اعترض من العلة دون ما سبق من الشرط ولا يلزم على ما ذكرنا ما إذا أمر عبد الغير بالإباق فأبق حيث يضمن الآمر وإن اعترض فعل فاعل مختار على الأمر; لأن الأمر بالإباق استعمال للعبد فإذا اتصل به الإباق يصير غاصبا له باستعماله كما إذا استخدمه فخدم ويصير العبد إذا عمل وفق استعماله بمنزلة الآلة التي لا اختيار لها فيضاف التلف إلى المستعمل فأما حل القيد فإزالة للمانع فلا يضاف إليه عند اعتراض فعل مختار عليه.
قوله: "وهذا" أي حل القيد من هذا الرجل كإرسال الدابة ممن أرسلها في الطريق فجالت يمنة أو يسرة عن سنن الطريق ثم سارت أو وقفت ثم سارت في ذلك الطريق فأصابت شيئا لم يضمنه المرسل; لأن بالجولان والوقوف قد انقطع حكم إرساله ثم إنها أنشأت سيرا باختيارها فكانت كالمنفلتة إلا أن لا يكون لها طريق غير الذي أخذت فيه فحينئذ يكون ضامنا; لأنه إنما سيرها في الطريق الذي يمكنها أن تسير فيه وقد سارت في ذلك الطريق فكان هو سائقا لها كذا في المبسوط واحترز بقوله فجالت عما إذا أرسل دابة في الطريق فأصابت في وجهها شيئا ضمن المرسل كما إذا أشار بها; لأنه سائق لها ما دامت تسير على سنن إرساله إلا أن أي: لكن المرسل, وكأن قائلا يقول كيف يكون حل القيد وهو شرط كإرسال الدابة وهو سبب فقال المرسل صاحب سبب في الأصل; لأن الإرسال ليس بإزالة المانع وقد اعترض عليه فعل من مختار وهو غير منسوب إلى السبب حيث لم يذهب على سنن إرساله وهذا الذي حل القيد صاحب شرط; لأن الحل إزالة المانع عن الإباق جعل مسببا باعتبار تقدم الشرط على العلة وقد اعترض عليه فعل مختار غير منسوب إليه فكانا في انقطاع الحكم عنهما وإضافته إلى ما اعترض من الفعل سواء.
قوله: "وإذا انفلتت الدابة فأتلفت زرعها بالنهار كان هدرا" بلا خلاف; لأن فعل العجماء جبار وكذلك بالليل عندنا; لأن مالك الدابة ليس بصاحب سبب; لأنه لم يرسل.(4/301)
ولا سبب ولا علة وقال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله فيمن فتح باب قفص فطار الطير أو باب إصطبل فخرجت الدابة فضلت أنه لا يضمن لأن هذا شرط جرى مجرى السبب لما قلنا وقد اعترض عليه فعل مختار فبقي الأول سببا خالصا فلم يجعل التلف مضافا إليه بخلاف السقوط في البئر لأنه لا اختيار
ـــــــ
ولا شرط; لأنه لم يفتح باب الإصطبل ولا علة; لأنه لم يباشر الإتلاف بنفسه فلا يضمن شيئا وقال الشافعي رحمه الله يضمن في الإتلاف بالليل لحديث البراء بن عازب رضي الله عنه أن ناقة له دخلت زرع إنسان فأفسدته فقضى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بضمانه وقال: "حفظ الزروع على أربابها نهارا وحفظ الدواب على أربابها ليلا" 1 وقلنا هو معارض بقوله عليه السلام: "العجماء جبار" وأنه ثابت بالإجماع ومؤول بأن صاحبها كان يريد أخذها فانفلتت بقصده أباها ألا ترى أنه ليس في الحديث أن الناقة أفسدت الزرع ليلا ونحن نسلم أن الحفظ على أصحاب الدواب ليلا حتى لو تركوا أتموا ولكن لا نسلم أنهم يضمنون; لأن فساد الزرع لم يكن بترك الحفظ بل بذهاب الدابة وهي مختارة فيه ولم يتولد ذلك من الإرسال فكان كدلالة السارق على مال إنسان إليه أشير في الأسرار.
قوله: "فيمن فتح باب قفص فطار الطير" يعني في فور الفتح إذا الخلاف فيه فإنه إذا طار بعد ساعة لا يضمن الفاتح بلا خلاف كما سنبينه. وفي ذكر الفاء إشارة إليه وكذا في المسألة الثانية; لأن هذا أي فتح باب القفص والإصطبل شرط; لأن إزالة المانع من الخروج والطيران جرى مجرى السبب لما قلنا أن الشرط إذا تقدم كان له حكم السبب وقد اعترض على هذا الشرط فعل مختار غير منسوب إلى هذا الشرط; لأن الخروج الذي به تلف الطير والدابة لم يحصل بالفتح بل باختيارهما الطيران والخروج فبقي الأول وهو فتح الباب سببا خالصا أي شرطا في معنى السبب الخالص فلم يجعل التلف مضافا إلى الفتح بل قصر على الخروج كما قصر على الإباق في مسألة حل القيد بخلاف السقوط في البئر حيث يضاف التلف فيه إلى الشرط ولم يقتصر على العلة; لأن ما اعترض على الشرط من السقوط هناك حصل لا عن اختيار حيث لم يكن عالما بعمق ذلك المكان فلم يصلح لقطع الحكم عن الشرط وإضافته إليه حتى إذا أسقط نفسه في البئر هدر دمه ولم يضمن الحافر; لأن ما اعترض على الشرط وهو الإلقاء في البئر علة صالحة لإضافة الحكم إليه لصدوره من مختار على وجه القصد إليه فانقطع به نسبة الحكم عن الشرط واقتصر على
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الأقضية حديث رقم 3569 وابن ماجه في الأحكام حديث رقم 2332. والإمام أحمد في المسند 2/48.(4/302)
له في السقوط حتى إذا أسقط نفسه فدمه هدر كمن مشى على قنطرة واهية وضعت بغير حق فخسف به أو على موضع رش الماء عليه فزلق فعطب هدر دمه لأن الإلقاء هو العلة وقد صلح لإضافة الحكم وقال محمد رحمه الله طيران الطير هدر شرعا وكذلك فعل كل بهيمة فيجعل كالخارج بلا اختيار وصار
ـــــــ
العلة وبخلاف سوق الدابة الذي هو سبب; لأن السوق معنى حامل على الذهاب كرها فينتقل إلى المكره والفتح رفع للمانع وليس بحمل على الخروج وكذا إذا أرسل كلبا على صيد فقتله يجعل كأنه فعل بنفسه; لأن الإرسال سبب حامل على الذهاب بعد التعليم كالسوق قبل ذلك فأما فتح الباب فلا. ألا ترى أنه لو فتح باب الكلب حتى خرج فصاد لم يحل ولم يملك بخلاف الإرسال كذا في الأسرار كمن مشى على قنطرة وهي ما يبنى على الماء للعبور والجسر عام مبنيا كان أو غير مبني وضعت بغير حق بأن وضعت في غير ملك وفيما لا تصرف لواضعها فيه واحترز به عن الموضوعة في الملك فإنها لا تصلح سببا للضمان بحال; لأن واضعها ليس بمتعد فيما أحدثه في ملكه والمسبب إذا لم يكن متعديا لا يكون ضامنا. وقوله عالما به متعلق بالمسألتين أي عالما بوهاء القنطرة ووضعها بغير حق وعالما بالرش في هذا الموضع فإنه ذكر في المبسوط في هذه المسألة فإن مشى على جسره إنسان متعمدا لذلك فانخسف به فلا ضمان عليه; لأن الماشي تعمد المشي عليه فيصير وقوعه مضافا إلى فعله لا إلى تسبب من اتخذ الجسر ولو لم يكن عالما يضمن واضع الجسر لكونه متعديا في التسبيب وعن أبي يوسف رحمه الله أن واضع الجسر لا يكون ضامنا لما عطب به وإن أحدثه في غير ملكه إذا كان بحيث لا يتضرر به غيره; لأنه محتسب فيما صنع فإن الناس ينتفعون بما أحدثه فلا يكون متعديا. ولكنا نقول إنما كان محتسبا إذا فعله بإذن الإمام بمنزلة حفر البئر فإنه محتسب أيضا في الموضع الذي يحتاج إليه ومع ذلك إذا فعله بغير إذن الإمام كان ضامنا لما يعطب بها وقوله لأن الإلقاء متصل بقوله هدر دمه.
وقال محمد والشافعي رحمهما الله إذا كان الطيران والخروج في فور الفتح يضمن الفاتح; لأن فعل الدابة والطير هدر شرعا فلم يصلح لإضافة الحكم إليه فكان مضافا إلى الشرط ولأن الدابة أو الطير لا يصبر عن الخروج والطيران عادة والعادة إذا تأكدت صارت طبيعة لا يمكن الاحتراز عنها فإذا خرج على الفور واستعمل عادته كان الخروج على العادة بمنزلة سيلان الدهن عند شق الزق فيكون الفتح سبب ضمان كالشق ولم يبطل الإضافة إليه باختيار الطير والدابة في الطيران والخروج; لأنه اختيار فاسد كما إذا صاح بالدابة فذهبت صار ضامنا وإن ذهبت مختارة; لأنه اختيار فاسد والصياح والصوت سائق فأشبه القود جبرا.(4/303)
كسيلان ما في الزق فإن خرج على فور الفتح وجب الضمان على صاحب الشرط والجواب عنه أن فعل البهيمة لا تعتبر لإيجاب حكم ما فأما لقطعه فنعم كالكلب تميل عن سنن الإرسال وكالدابة تجول بعد الإرسال فكذلك هذا. ولهذا قلنا فيمن حفر بئرا فوقع فيها إنسان ثم اختلف الولي والحافر فقال الولي سقط وقال الآخر أسقط نفسه أن القول قول الحافر استحسانا لما قلنا إن الحفر
ـــــــ
وكما لو ألقى حية على إنسان فلسعته يجب الضمان وإن كانت الحية في اللسع مختارة; لأن اللسع لها عادة متأكدة فالتحقت بالطبيعة وسقط اختيارها وإذا لم يخرج في فور الفتح لا يضمن الفاتح; لأن الدابة إذا لم تخرج في فور الفتح علم أنها تركت عادتها وكان الخروج بعد ذلك بحكم الاختيار فأشبه حل قيد العبد والجواب ما ذكر في الكتاب وهو ظاهر وإما يذكر وهو أن الأصل أن يضاف الحكم إلى العلة لا إلى الشرط والسبب فلا يجوز ترك هذا الأصل من غير ضرورة وليس هذا كالسوق; لأن السوق حمل على الذهاب كرها كما بينا فينتقل الفعل إلى المكره ولا كإلقاء الحية; لأنه مباشرة الإتلاف إذ الإلقاء عليه تصرف فيه بخلاف مسألتنا. ونظير مسألتنا فتح جحر الحية حتى لو فتح جحر الحية فخرجت ولسعت لا ضمان عليه أيضا.
كالكلب يميل عن سنن الإرسال يعني إذا أرسل كلبه على صيد فمال عن سننه ثم اتبعه فأخذه لا يحل; لأن فعله غير معتبر في حق إضافة الحكم إليه ولكنه معتبر في حق منع الإضافة عن المرسل ونظيره من حفر بئرا في الطريق فجاء حربي لا أمان له وألقى فيه غيره لم يضمن الحافر شيئا; لأن فعل الحربي إن لم يكن معتبرا في إيجاب الضمان عليه فهو معتبر في نسخ حكم فعل الحافر به فكذلك هذا أي فكميل الكلب عن سنن الإرسال وجولان الدابة بعد الإرسال طيران الطير وخروج الدابة بعد الفتح قال القاضي الإمام أبو زيد رحمه الله في بيان هذه المسألة ما ذكرناه قياس وما ذكره الخصم قريب من الاستحسان فقد ألحق العادة وإن كان عن اختيار بالطبعية التي لا اختيار فيها صيانة لأموال الناس وإهدارا لاختيار ما لا عقل له حكما فإنه جبار لا حكم له وكذلك جعل في المسألة المتقدمة; لأن من طبيعة الدابة أنها لا تصبر عن أكل الزرع إلا بحفظ فلما كان الحفظ عليه ليلا جعل ترك الحفظ بمنزلة التسليط والإرسال قلت فعلى هذا كانت هذه المسألة من المسائل التي يترجح القياس فيها على الاستحسان.
قوله: "ولذلك قلنا" متصل بقوله في أول بيان القسم الثاني ومتى عارضه علة لم يصلح علة أي ولما ذكرنا أن الحكم لا يضاف إلى الشرط عند معارضته ما يصلح علة قلنا كذا. أو هو متصل بقوله; لأن الإلقاء هو العلة وقد صلح لإضافة الحكم إليه أي ولكون(4/304)
شرط جعل خلفا عن العلة لتعذر نسبة الحكم إلى العلة فإذا ادعى صاحب الشرط أن العلة صالحة لإضافة الحكم إليها فقد تمسك بالأصل وجحد حكما ضروريا فجعلنا القول قوله بخلاف الجارح إذا ادعى الموت بسبب آخر لم يصدق لأنه صاحب علة ولهذا قلنا في الجامع الصغير فيمن أشلى كلبا على صيد مملوك فقتله أو على نفس فقتلها أو مزق ثياب رجل لم يضمن لأنه صاحب سبب وقد اعترض عليه فعل مختار غير مضاف إليه لأن الكلب يعمل بطبعه وليس الذي أشلاه بسائق بخلاف ما إذا أشلى على صيد فقتله أن صاحبه
ـــــــ
الإلقاء صالحا للعلية قلنا كذا القول قول الحافر استحسانا وكان القياس أن يكون القول قول المولى وهو قول أبي يوسف الأول; لأن الضمان قد وجب على عاقلة الحافر فهو بدعوى إلقاء النفس يريد إسقاط ذلك الضمان فلا يقبل قوله ولأن الظاهر شاهد للولي إذ الإنسان لا يلقي نفسه في البئر عمدا في العادة فعند المنازعة كان القول قول من يشهد له الظاهر إلا أنا استحسنا في قبول قول الحافر لما ذكر في الكتاب ولأن الظاهر حجة للدفع والولي يحتاج إلى استحقاق الدية على عاقلة الحافر فلا يكفيه التمسك بالظاهر بل يحتاج إلى إقامة البينة على أنه وقع فيها بغير تعمد منه مع أن هذا الظاهر يعارضه ظاهر آخر وهو أن البصير يرى البئر أمامه في ممشاه فلا يقع فيها إلا بالإلقاء قصدا فتقابل الظاهران وبقي الاحتمال في سبب وجوب الضمان فلا نوجبه بالشك وجحد حكما ضروريا وهو خليفته الشرط عن العلة وفيه إنكار سبب الضمان فكان القول قوله; لأنه أي الجارح صاحب علة فإن الجرح علة موجبة للضمان فعند وجود العلة لا يقبل قوله العارض المسقط فكان القول قول الولي لتمسكه بالأصل.
قوله: "ولهذا" أي. ولما قلنا إن اعتراض علة صالحة لإضافة الحكم إليها يوجب قطع نسبة الحكم عن الشرط والسبب قلنا فيمن أشلى كلبا أي أغراه وأرسله فقد وضعت المسألة في الجامع الصغير في الإرسال فقيل إذا أرسل كلبه إرسالا ولم يكن سائقا له فأصاب في فوره يعني صيدا مملوكا لم يضمن يعني سواء كان الكلب معلما أو غير معلم إلا أنه إذا كان معلما حل أكله وإلا فلا وكذلك رجل أشلى كلبه على رجل حتى عقره أو مزق ثيابه لم يضمن إلا أن يسوقه وليس الذي أشلاه بسائق يعني أنه بمجرد الإشلاء والإرسال لا يصير سائقا لينسب الفعل إليه بحكم السوق فبقي الكلب عاملا بطبعه واختياره وعمل البهيمة هدر حتى لو كان سائقا له بأن كان يعدو خلفه ويشليه ضمن ما أتلفه الكلب من النفس والثياب والصيد المملوك بخلاف ما إذا أرسل بازيا على صيد مملوك وساقه فأتلفه البازي حيث لا يضمن; لأن البازي لا يحتمل السوق فهدر سوقه وبقي(4/305)
جعل كأنه ذبحه بنفسه لأن الاصطياد من المكاسب في الجملة فبني على نفي الحرج وقدر الإمكان ووجب المصير في ضمان العدوان إلى محض القياس ولهذا قلنا فيمن ألقى نارا في الطريق فهبت به الريح ثم أحرقت لم يضمن وإذا ألقى شيئا من الهوام في الطريق فتحركت وانتقلت ثم لدغت لم يضمن وبعض هذه
ـــــــ
الفعل منقطعا عن المرسل فأما الكلب فيحتمله كسائر الدواب فيعتبر سوقه وعن أبي يوسف رحمه الله أنه أوجب الضمان في أموال الناس سواء كان صاحب الكلب سائقا له أو لم يكن وجعل الإرسال بمنزلة السوق وعن الفقيه أبي الليث رحمه الله أن الكلب إن أصاب في فوره شيئا يضمن صاحب الكلب وإن لم يكن سائقا له; لأن الإرسال بمنزلة السوق في الدابة حتى لو أرسل دابة في الطريق فأصابت شيئا في وجهها يضمن كما لو كان سائقا لها فكذلك في الكلب. ووجه الفرق على الظاهر أن الكلب في أخذ الصيد وتمزيق الثياب عامل بطبعه واختياره لا بالإرسال فكان الإرسال فيه بمنزلة حل القيد في العبد فلذلك يشترط فيه حقيقة السوق فأما الدابة فليس من طبعها المشي في الطريق بل من طبعها الجولان وترك سنن الطريق للرعي فكان محافظتها سنن الطريق بعد الإرسال على خلاف طبعها بناء على الإرسال كما في السوق فكان إرسالها بمنزلة السوق إذا ذهبت على سنن الإرسال وإلى هذا الفرق أشار بقوله; لأن الكلب يعمل بطبعه ووقوله بخلاف ما إذا أشلى أي أرسل كلبه المعلم على صيد جواب عما يقال لما لم يكن فعل الكلب مضافا إلى المرسل في حق الضمان كان ينبغي أن يكون كذلك في حق الحل أيضا حتى لو أقبل بصيد بعد الإرسال قبل أن يدركه المرسل كان ميتة كما إذا لم يكن معلما فقال الاصطياد من جملة المكاسب وبابه مفتوح بقوله تعالى: {فَاصْطَادُوا} {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 2, 4] الآية ولا يمكنهم الاصطياد خصوصا بالكلب على وجه يقدرون على ذبحه بالوجه المسنون غالبا فأضيف فعله إلى المرسل للضرورة والحاجة وبني الأمر فيه على قدر الإمكان فتحا لباب الكسب فأما في ضمان العدوان فلا ضرورة; لأنه شرع جبرا فيعتمد الفوت من جهة من وجب عليه ولم يوجد لتخلل فعل المختار فوجب المصير فيه إلى محض القياس أي الدليل الظاهر وهو أنه ليس بمباشر ولا مسبب ومع الشك في السبب الموجب الضمان بحال وفيه إشارة إلى أن الجواب المذكور في الاصطياد جواب الاستحسان والقياس فيه أن لا يحل أيضا.
قوله: "وهذا" أي ولأن اعتراض العلة يوجب قطع نسبة الحكم عن غيرها قلنا كذا ذكر في المبسوط إذا وضع جمرا في الطريق فأحرق شيئا فهو له ضامن; لأنه متعد في إحداث النار في الطريق فإن حركته الريح فذهبت به إلى موضع آخر ثم أحرق شيئا فلا(4/306)
المسائل تخرج على ما سبق في باب تقسيم الأسباب فهي ملحقة بذلك الباب. وأما الذي هو شرط اسما لا حكما فإن كل حكم تعلق بشرطين فإن أولهما شرط اسما لا حكما لأن حكم الشرط أن يضاف الوجود إليه وذلك مضاف إلى آخرهما فلم يكن الأول شرطا لا اسما ولهذا قلنا فيمن قال لامرأته إن دخلت هذه الدار وهذه الدار فأنت طالق ثم أبانها ثم دخلت أحديهما ثم نكحها ثم دخلت الثانية أنها تطلق خلافا لزفر رحمه الله لأن الملك شرط عند وجود
ـــــــ
ضمان عليه; لأن حكم فعله قد انتسخ بالتحول من ذلك الموضع إلى موضع آخر وهذا إذا لم يكن اليوم ريحا فإن كان ريحا فهو ضامن أيضا; لأنه كان عالما حين ألقاه أن الريح تذهب به من موضع إلى موضع فلا ينتسخ حكم فعله بذلك بمنزلة الدابة التي جالت في رباطها وإذا ألقى شيئا من الهوام في الطريق فهو ضامن لما تلف به ما لم يتغير عن حاله; لأنه متعد في هذا التسبيب واختياره في اللسع لا يقطع النسبة; لأنه طبع له ولو تحركت أي الهامة الملقاة وانتقلت من مكانها إلى مكان آخر ثم لدغته أي لدغت إنسانا فهلك لم يضمن الملقي شيئا لانقطاع نسبته عنه بتخلل فعل المختار وهو الانتقال من مكان إلى مكان آخر.
وبعض هذه المسائل أي المسائل المذكورة في هذا القسم مثل مسألة إشلاء الكلب وإلقاء النار والهامة في الطريق وإرسال الدابة في الطريق ونحوها يخرج على ما سبق في باب تقسيم الأسباب وهو السبب الحقيقي الذي اعترض عليه علة كدلالة السارق ونحوها فهي ملحقة بذلك الباب وليست من هذا القسم; لأنها قد خلت عن معنى الشرط إذ الإشلاء والإلقاء في الطريق والإرسال ليست للمانع بوجه ولكنها أوردت هاهنا على سبيل الاستطراد للمناسبة.
قوله: "وأما الذي" أي القسم الذي أو الشرط الذي هو شرط اسما لا حكما فكذا وهذا يسمى شرطا مجازا لتخلف حكمه وهو وجود الحكم عند وجوده عنه إلا أن وجود الحكم لما كان يفتقر إليه في الجملة كان شرطا صورة لا معنى وفي أقسام المتقدمة معنى الشرط موجود مع شيء آخر ولهذا أي ولأن الشرط الأول ليس بشرط معنى وحقيقة قلنا كذا والمسألة على أوجه إن دخلتهما في الملك يقع الطلاق بلا شبهة وإن دخلتهما في غير الملك انحلت اليمين لا إلى أجزاء وإن دخلت الأولى في الملك ثم بانت من زوجها ثم دخلت الأخرى في غير الملك لم يطلق بالاتفاق أيضا وإن دخلت الأولى في غير الملك ثم تزوجها ثم دخلت الأخرى طلقت عندنا. وقال زفر رحمه الله لا تطلق; لأن حظ الشرطين من الحكم على السواء; لأنه صيرها شيئا واحدا في وجود الجزاء وفي أحدهما(4/307)
الشرط لصحة وجود الجزاء لا لصحة وجود الشرط ولم يوجد ها هنا جزاء فيفتقر إلى الملك فلم يجز أن يجعل الملك شرطا لغير الشرط لأن عينه لا يفتقر إلى الملك ولم يجز شرطه لبقاء اليمين كما قبل الشرط الأول. فأما الشرط الذي هو علامة فالإحصان في باب الزنا وإنما قلنا إنه علامة لأن حكم الشرط أن يمنع انعقاد العلة إلى أن يوجد الشرط وهذا لا يكون في الزنا بحال لأن الزنا إذا وجد لم يتوقف حكمه على إحصان يحدث بعده لكن الإحصان إذا ثبت كان معرفا لحكم الزنا فأما أن يوجد الزنا بصورته فيتوقف انعقاده علة على وجود الإحصان فلا يثبت أنه علامة وليس بشرط فلم يصلح علة للوجود ولا للوجوب
ـــــــ
يشترط الملك فكذلك في الآخر ومذهبه أنه يجري الشروط مجرى العلل كما قال في الإحصان أنه لا يثبت إلا بشهادة رجلين وأن السارق لا يقطع بخصومة المودع; لأن الخصومة شرط ظهور السرقة فلا يجري فيها النيابة عنده كما لا تجري في الشهادة التي هي مثبتة للسرقة فلذلك سوى بين الشرطين ووجه قولنا ما ذكر في الكتاب أن الملك شرط عند وجود الشرط لصحة وجود الجزاء لا لصحة وجود الشرط ولهذا لو دخلت الدارين في غير الملك انحلت اليمين. ولم يوجد هاهنا أي ليس فيما إذا وجد الشرط الأول جزاء يفتقر إلى الملك ليشترط الملك له; لأن الجزاء لا ينزل قبل وجود الشرط الثاني ولم يجز شرطه لبقاء اليمين; لأن محلها الذمة فتبقى ببقائها ألا ترى أن اليمين يبقى قبل وجود الشرط الأول بدون الملك بأن أبانها قبل دخول الدارين وانقضت عدتها فتبقى بدونه قبل وجود الشرط الثاني أيضا والحاصل أن الملك شرط صحة الإيجاب أو صحة الإيقاع وحال الشرط الأول خالية عنهما فلو شرط الملك لبقاء اليمين أو لصحة عين الشرط وذلك باطل.
قوله: "وأما الشرط الذي هو علامة" وهو القسم الخامس من الأقسام المذكورة بالإحصان قيل إحصان الزنا عبارة عن اجتماع سبعة أشياء العقل والبلوغ والحرية والنكاح الصحيح. والدخول بالنكاح وكون كل واحد من الزوجين مثل الآخر في صفة الإحصان والإسلام قال الإمام شمس الأئمة في المبسوط إن شرط الإحصان على الخصوص شيئان الإسلام والدخول بالنكاح الصحيح بامرأة هي مثله فأما العقل والبلوغ فهما شرطا الأهلية للعقوبة لا شرطا الإحصان على الخصوص والحرية شرط تكميل العقوبة وإنما قلنا إن الإحصان علامة أي معرف وليس بشرط; لأن الزنا إذا تحقق علة للرجم على إحصان يحدث بعده فإن الإحصان لو وجد بعد الزنا لا يثبت بوجوده الرجم ومعلوم أنه ليس بعلة له ولا سبب أيضا; لأنه ليس بطريق مفض إليه فعرفنا أن الرجم غير مضاف إليه وجوبا به ولا وجودا عند وجوده ولكنه عبارة عن حال في الزاني يصير الزنا في(4/308)
ولذلك لم يجعل له حكم العلل بحال ولذلك لم يضمن شهود الإحصان إذا رجعوا على حال بخلاف ما تقدم في مسألة الشرط الخالص ولهذا قلنا إن
ـــــــ
تلك الحالة موجبا للرجم فكان معرفا أن الزنا حين وجد كان موجبا للرجم فكان علامة لا شرطا فلم يصح علة للوجوب ولا للوجود أي لا يتعلق به الوجوب فلا يكون علة ولا الوجود فلا يكون شرطا وذلك أي ولعدم تعلق الوجوب والوجود به لم يجعل لهذا القسم وهو العلامة حكم العلة بحال يعني سواء كانت العلة صالحة لإضافة الحكم إليها أو لم تكن هذا هو طريقة القاضي الإمام أبي زيد في التقويم واختارها الشيخان وبعض المتأخرين فأما أصحابنا المتقدمون وعامة المتأخرين منهم ومن سواهم من الفقهاء فقد سموا الإحصان شرطا لوجوب الرجم لا علامة مستروحين بأن شرط الشيء ما يتوقف وجوده عليه والإحصان بهذه المثابة; لأن وجوب الرجم بالزنا متوقف على وجود الإحصان وكونه سابقا على الزنا غير متأخر عنه لا يخل بشرطيته كالطهارة وستر العورة والنية سابقة على الصلاة بحيث لا يتصور تأخرها عن صورة الصلاة وتوقف انعقادها صلاة عليها وكذا الإشهاد في النكاح سابق عليه بحيث لا يتصور تأخره عنه وتوقف انعقاده عليه بعد وجود صورته ثم إنها شروط حقيقية بلا خلاف لتوقف صحة الصلاة والنكاح عليها وليست بعلامات فكذا الإحصان للرجم.
وقولهم لم يتعلق به وجود غير مسلم عندهم بل ثبوت وجوب الرجم بالزنا متعلق به إذ الزنا لا يوجب الرجم بدون الإحصان بحال كالسرقة لا توجب القطع بدون النصاب وهو شرط بلا شبهة فكذا الإحصان وقولهم لا بد للشرط من أن يكون متأخرا عن صورة العلة ليتوقف انعقادها علة عليه غير مسلم أيضا بل الشرط قد يكون متقدما على صورة العلة كما بينا وقد يكون متأخرا عنها كما في تعليق الطلاق والعتاق بناء على أن انعقاد بعض العلل لا يقبل الانفصال عن وجود صورتها كالنكاح والبيع وبعضها يقبل ذلك كالطلاق المعلق والعتاق المعلق وسائر ما يقبل التعليق بالشرط فالشرط في هذا القسم يتأخر عن صورة العلة. والقسم الأول لا يتأخر; لأن الشرط لا بد من أن يكون سابقا على المشروط, والمشروط وهو الانعقاد لما لم ينفصل عن الصورة لا يتصور تأخر الشرط عنها ضرورة.
قوله: "ولذلك" أي ولأن الإحصان علامة وليس بشرط لا يضمن شهود الإحصان إذا رجعوا على حال يعني سواء رجعوا مع شهود الزنا أو رجعوا وحدهم بخلاف ما تقدم في مسألة الشرط الخالص وهي ما إذا اجتمع شهود الشرط واليمين ثم رجع شهود الشرط وحدهم فإنهم يضمنون على ما اختاره الشيخ; لأن الشرط صالح لخلافة العلة عند تعذر إضافة الحكم إليها لتعلق الوجود به فأما العلامة فليست بصالحة لخلافتها عن العلة أصلا(4/309)
................................................................................................
لما قلنا إنه لا يتعلق بها وجوب ولا وجود فلا يجوز إضافة الحكم إليها بوجه. وعند زفر رحمه الله إن رجع شهود الإحصان وحدهم ضمنوا دية المشهود عليه وإن رجع شهود الزنا والإحصان جميعا يشتركون في الضمان; لأن الإحصان شرط الرجم ومن أصله أن السبب أي العلة والشرط سواء في إضافة الضمان إليهما; لأن الحكم يقف على الشرط كما يقف على السبب لا يتصور ثبوته إلا عند وجودهما فيضاف الحكم إلى كل واحد منهما والإحصان ملحق بالزنا في إضافة الحد إليه بدليل أن الشهادة على الإحصان تقبل من غير دعوى والشهادة على النكاح في غير هذه الحالة لا تقبل بدونها ولو لم يكن الحد مضافا إليهما لما قبلت كما في غير هذه الحالة وأنه لو أقر بالإحصان ثم رجع يصح كما لو أقر بالزنا ثم رجع يصح وأن القاضي يسأل شهود الإحصان عن الإحصان ما هو وكيف هو كما يسأل عن الزنا والدليل عليه أن المزكي إذا رجع يضمن عند أبي حنيفة رحمه الله وإن لم يثبت علة القتل ولكنه أثبت شرط قبول الشهادة وهو العدالة ولا فرق بين المزكين وشهود الإحصان; لأنهم أثبتوا خصالا حميدة في الجاني والمزكون أثبتوا خصالا حميدة في الشاهد ثم شهادة شهود الإحصان أقرب إلى محل الحد من التزكية فكانوا أولى بالضمان من المزكين والجواب أن الإحصان ليس بشرط على ما اختاره الشيخ فلا يجوز إضافة الحكم إليه بوجه. ولئن سلمنا أنه شرط على ما اختاره المتقدمون فلا يجوز إضافة الحكم إليه; لأن شهود الشرط لا يضمنون بالرجوع عند صلاح العلة للإضافة إليها وهاهنا شهود الزنا شهود العلة وهي صالحة لإضافة الحكم إليها فيضاف التلف إليهم فإن رجعوا وجب الضمان عليهم وإن ثبتوا انقطع الحكم بشهادتهم عن الشرط على أن هذا الشرط يستحيل إضافة الحد إليه; لأن الحد عقوبة متناهية والإحصان خصال حميدة ويستحيل إضافة العقوبة إلى الخصال الحميدة فصار مضافا إلى الزنا من كل وجه وإنما صح الرجوع عن الإقرار بالإحصان; لأنه لما صار شرطا للحد صار حق الله تعالى; لأن شرط الحق وسببه من حقوق صاحب الحق ومن أقر بحق من حقوق الله تعالى ثم رجع صح رجوعه; لأن الله تعالى لم يكذبه في الإنكار ولم يصدقه في الإقرار بخلاف حقوق العباد; لأن الخصم صدقه في الإقرار وكذبه في الإنكار فبطل الرجوع بمعارضة التكذيب ولهذا قبلنا الشهادة فيه بدون الدعوى; لأن الشهادة في حقوق الله تعالى تقبل بدون الدعوى وأما سؤال القاضي عن الإحصان فلأنه كلمة مجملة تطلق على النكاح وعلى الحرية وغيرهما فيستفسره ليتبين له المشهود به إذ الشهادة لا تقبل إلا على المعلوم وليس هذا كالتزكية; لأنها بمنزلة علة العلة كما بينا وللشافعي رحمه الله في رجوع شهود الإحصان ثلاثة أقوال قالوا أحدها أنه لا ضمان عليهم كما هو مذهبنا وهو الأصح والثاني أن الضمان يجب عليهم وإن قالوا(4/310)
الإحصان يثبت بشهادة النساء مع الرجال ولم يشترط فيه الذكور الخالصة لما لم يثبت به وجوب عقوبة ولا وجودها فإن قيل إذا شهد كافران على عبد مسلم
ـــــــ
تعمدنا يجب عليهم القود والثالث أنهم إن شهدوا بالإحصان قبل ثبوت الزنا فلا ضمان عليهم وإن شهدوا بعد ثبوت الزنا فعليهم الضمان.
قوله: "ولهذا قلنا" أي ولأن الإحصان ليس بعلة للرجم ولا بشرط له قلنا إن الإحصان يثبت يعني قبل ثبوت الزنا وبعده بشهادة النساء مع الرجال. وقال زفر رحمه الله لا يثبت بعد ثبوت الزنا وبعده بشهادة النساء مع الرجال لما بينا أن الإحصان على أصله ملحق بالزنا في إضافة الحد إليه وذلك; لأن المقصود من الإحصان بعد ثبوت الزنا تكميل العقوبة وباعتبار ما هو المقصود لا يكون للنساء فيه شهادة; لأن المكمل للعقوبة بمنزلة الموجب لأصل العقوبة بخلاف شهادة النساء مع الرجال بالنكاح في غير هذه الحالة حيث تقبل; لأن تكميل الحد لا يتعلق به في تلك الحالة وهو نظير ما لو شهد شاهدان بعد موت رجل لآخر أنه ابنه وقضى القاضي بذلك وأحرز ميراثه ثم رجعا يضمنان ولو شهدا بالنسب في حال الحياة فلما مات وأحرز المشهود له الميراث ثم رجعا لا يضمنان; لأن في المسألة الأولى شهدا بحضرة الميراث فصار كما لو شهدا بالميراث وفي الثانية يشهدان بحضرة الميراث فلا يجعل كأنهما شهدا بالميراث وحجتنا ما ذكرنا أن الإحصان ليس بسبب موجب للعقوبة; لأنه عبارة عن خصال بعضها مأمور به وبعضها مندوب إليه فيستحيل أن يكون سببا لإيجاب العقوبة ولا بشرط أيضا لما مر بل هو عبارة عن حال يصير الزنا في تلك الحال موجبا للرجم كما بينا ولئن كان شرطا فالحد لا يضاف إليه مع وجود العلة الصالحة للإضافة إليها فكانت الشهادة بالنكاح في هذه الحالة بمنزلتها في غيرها من الأحوال فتقبل فيها شهادة النساء مع الرجال.
وهذا بخلاف مسألة الشهادة بالبنوة; لأن الميراث يستحق بالنسب والموت جميعا فأيهما كان آخرا يضاف الحكم إليه فإذا شهدوا بالنسب بعد الموت كان الحكم مضافا إلى النسب فضمنوا عند الرجوع وإذا شهدوا بالنسب قبل الموت كان الحكم مضافا إلى الموت لا إلى النسب فلم يضمنوا فأما الحد فمضاف إلى الزنا بكل حال لا إلى الإحصان فيقبل فيه شهادة النساء مع الرجال بكل حال ثم اعتبر زفر رحمه الله رد شهادة النساء في الإحصان برد شهادة الكفار فيه فأدرج الشيخ في كلامه ذلك بطريق السؤال ليشير إلى الفرق في الجواب فقال فإن قيل إذا شهد كافران يعني من أهل الذمة على عبد مسلم لذمي وقد زنى العبد أو قذف رجلا بالزنا أن مولاه أعتقه يعني قبل الزنا والقذف وقد أنكر العبد والمولى الإعتاق لتضرر المولى بزوال ملكه وتضرر العبد بتكميل الحد عليه فإن الشهادة لا تقبل مع(4/311)
أن مولاه أعتقه وقد زنى العبد أو قذف فأنكر العبد والمولى ذلك والمولى كافر فإن الشهادة لا تقبل وقد شهدوا على المولى وهو كافر ولم يشهدوا على العبد بشيء على ما قلتم إنه لا ينسب إليه وجود ولا وجوب فهلا قبلت هذه الشهادة. والجواب عنه أن لشهادة النساء مع الرجال خصوصا المشهود به دون المشهود عليه وخصوصا أنها لا تصلح لإيجاب عقوبة وقد بينا أنه لم يتعلق بها وجوب ولا وجود ولكن في هذه الحجة تكثير محل الجناية وفي ذلك ضرر زائد
ـــــــ
أنهم شهدوا على المولى بالعتق إلى آخره إطلاق هذا الكلام وإن كان يشير إلى أنها لا يقبل في العتق وتكميل الحد جميعا وعليه يدل ما ذكر في الأسرار في حدود حيث قيل فيه في تقرير هذه المسألة إن الزاني لو كان عبدا مسلما لكافر لم يثبت عتقه بشهادة الكفار وإن كانت شهادتهم حجة على هذا العتق لولا الزنا. ولكن الإمام شمس الأئمة رحمه الله صرح في المبسوط بأن العتق يثبت بهذه الشهادة وإنما لا يثبت سبق التاريخ; لأن هذا تاريخ ينكره المسلم وما ينكره المسلم لا يثبت بشهادة أهل الذمة وهكذا ذكر في أصول الفقه أيضا فقال يثبت الحرية بهذه الشهادة ولا يثبت تمكن الإمام من إقامة الرجم عليه; لأنه كما لا يدخل لشهادة الكفار في إيجاب الرجم على المسلم لا مدخل بشهادتهم في إثبات التمكن من إقامة الرجم على المسلم وهكذا ذكر في شهادات الأسرار والتقويم أيضا وهو الصحيح كما إذا شهد رجل وامرأتان بالسرقة في حق القطع وتثبت في حق المال ثم توجيه هذا السؤال إنما يستقيم على قولهما حيث قبلا الشهادة على عتق العبد بدون دعواه فكان عدم القبول هاهنا لتضمنه تكميل العقوبة فأما عند أبي حنيفة رحمه الله فعدم القبول لعدم شرطه وهو الدعوى فلا يرد السؤال إلا إذا وضعت المسألة في الأمة فحينئذ يرد على قول الكل.
"قوله فالجواب عن هذا" أي عن السؤال المذكور أن لشهادة النساء مع الرجال خصوصا في حق المشهود به دون المشهود عليه فيقبل فيما ليس بعقوبة ولا يقبل إذا كان المشهود به سبب عقوبة أو شرطا له أثر في إيجاد العقوبة لحديث الزهري مضت السنة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين من بعده أن لا تقبل شهادة النساء مع الرجال في الحدود والقصاص ولكنها حجة تامة على المسلم والكافر جميعا والمشهود به هاهنا هو الإحصان وقد بينا أنه لا يتعلق به وجوب الحد ولا وجوده فلا يكون سببا للحد ولا شرطا له فلم يمتنع القبول باعتبار المشهود به ولكن في هذه الحجة تكثير محل الجناية وهو النعمة فإن الجناية تقع على النعم التي أنعم الله تعالى عليه فقبل هذه الشهادة كان محل الجناية نعمة العقل والإسلام والحرية وبعدما شهدوا صار محل الجناية النعم المذكورة ونعمة(4/312)
وشهادة هؤلاء حجة لإيجاب الضرر إذا لم يكن حدا وعقوبة ولشهادة الكفار اختصاص في حق المشهود عليه دون المشهود به وقد تضمنت شهادتهم تكثير محل الجناية وفي ذلك ضرر بالمشهود عليه ولا يجوز إيجاب الضرر على المسلم بشهادة الكفار أبدا. وعلى هذا الأصل قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله إن شهادة القابلة على
ـــــــ
الإصابة من الحلال بطريقه الموضوع له. وفي ذلك أي في تكثير محل الجناية ضرر زائد على المشهود عليه فإن موجب الجناية يتغير بهذا التكثير من الجلد إلى الرجم وشهادة هؤلاء أي النساء مع الرجال حجة في إيجاب الضرر حدا أو عقوبة كما في إيجاب المال وسائر الحقوق وإذا كان كذلك لم يمتنع ثبوت الإحصان بهذه الشهادة بسبب تضمنه إيجاب زيادة الضرر على المسلم; لأن زيادة الضرر ثبتت بمثل هذه الشهادة ولشهادة الكفار اختصاص في حق المشهود عليه دون المشهود به فإن شهادتهم حجة على الكفار دون المسلمين; لأن الشهادة من باب الولاية ولا ولاية لكافر على مسلم بقوله عز وعلا: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141] ولكنها عامة في المشهود به حتى ثبت بشهادتهم الحدود وغيرها وقد تضمنت في المسألة المذكورة تكثير محل الجناية كانت مقتصرة على العقل والدين أو عليهما وعلى إصابة الحلال وموجبها جلد خمسين في الزنا وجلد أربعين في القذف وبهذه الشهادة صارت جناية على ما ذكرنا وعلى الحرية أيضا وصار موجب الجناية الرجم أو جلد مائة في الزنا وجلد ثمانين في القذف ولا شك أن ذلك زيادة ضرر تثبت على المسلم بشهادة الكفار وشهادتهم فيما يتضرر به المسلم ليست بحجة أصلا.
قوله: "وعلى هذا الأصل" وهو أن المعرف المحض لا يتعلق به وجوب ولا وجود قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله في المعتدة إذا جاءت بولد فأنكر الزوج الولادة فشهدت القابلة بالولادة تقبل من غير فراش قائم أي نكاح ثابت بينهما في الحال ولا كذا وكذا ويثبت النسب بشهادتها كما يثبت بشهادة رجلين; لأن شهادة القابلة حجة في تعيين الولد بلا خلاف يعني إذا كان أحد الأشياء الثلاثة موجودا وأنكر الزوج الولادة تثبت الولادة بشهادة القابلة بالاتفاق وثبت نسب المولود لا بشهادتها ولكن بذلك السبب الموجود قبل الشهادة وإنما يثبت بشهادتها تعيين الولد لا غير فكذلك فيما نحن فيه لم يثبت بشهادتها إلا تعيين الولد; لأن النسب إنما يثبت بالفراش القائم عند العلوق فيكون انفصال الولد معرفا للولد الثابت نسبة بأحد تلك الأسباب كالإحصان معرفا للزناء الموجب للرجم لا يتعلق به أي بالانفصال وهو الولادة وجوب النسب أي ثبوته; لأنه يثبت بالعلوق من مائه لا وجوده; لأنه لا يتوقف بعدما صح سببه على الولادة فثبت أن الولادة في حق(4/313)
الولادة تقبل من غير فراش قائم ولا حبل ظاهر ولا إقرار بالحبل لأن شهادة القابلة حجة في تعيين الولد بلا خلاف ولم يوجب ها هنا إلا التعيين فأما النسب فإنما ثبت بالفراش فيكون انفصاله معرفا لا يتعلق به وجوب السبب ولا وجوده كما في حال قيام الفراش أو ظهور الحبل والإقرار به والجواب عنه لأبي حنيفة رحمه الله أن الفراش إذا لم يكن قائما ولا حبل ظاهر ولا إقرار به كان ثبوت نسبه وهو باطن لا يستند إلى سبب ظاهر حكما ثانيا في حق صاحب الشرع فأما في حقنا فلا فبقي مضافا إلى الولادة فشرط لإثباتها كمال الحجة فأما عند قيام الفراش والحبل فقد وجد دليل قيام السبب ظاهرا فصلح أن يكون الولادة معرفة وإذا علق
ـــــــ
ثبوت النسب علم محض مظهر لنسب ثابت قبل الولادة من حين العلوق كما في حال قيام أحد الأمور الثلاثة وإذا لم يكن النسب مضافا إلى الولادة وجوبا بها ولا وجودا عندها كان ثبوتها بشهادة القابلة في هذه الحالة مثل ثبوتها في حال قيام أحد الأمور الثلاثة كالإحصان لما كان معرفا كان ثبوته بشهادة النساء والرجال بعد ثبوت الزنا مثل ثبوته بها قبله على ما بينا.
قوله: "والجواب عنه" أي عن هذا الكلام لأبي حنيفة رحمه الله كذا ولا حبل ظاهر عطف على الضمير المستكن في لم يكن وجاز العطف بدون المؤكد للفصل وحذف خبر كان أي إذا لم يكن الفراش قائما ولا حبل ظاهر ثابتا ولا إقرار بالحبل موجودا كان ثبوت نسب الولد من وقت العلوق حكما ثابتا في حق صاحب الشرع; لأنه عالم بحقائق الأمور فيعلم بعلوق الولد قبل الولادة فكانت الولادة بمنزلة المعرف للولد الثابت النسب بالنظر إلى علمه جل جلاله فأما في حقنا فلا أي لا يكون ثابتا قبل الولادة; لأنا نبني الحكم على الظاهر ولا نعرف الباطن فما كان باطنا يجعل في حقنا كالمعدوم بمنزلة الخطاب النازل في حق من لم يعلم به فإنه يجعل كالمعدوم ما لم يعلم به والنسب قبل الولادة أمر باطن لا سبيل لنا إلى معرفته; لأنه غير مستند إلى سبب ظاهر لعدم الفراش والحبل الظاهر والإقرار به فكان بمنزلة المعدوم في حقنا فكان ثبوته مضافا إلى الولادة من هذا الوجه فكانت الولادة في حق علمنا بمنزلة العلة المثبتة للنسب لا بمنزلة العلامة وإذا كان ابتداء وجوده بالولادة يشترط لها كمال الحجة كما لو ادعى أحد نسبا على آخر ابتداء بخلاف ما إذا كان أحد الأشياء الثلاثة موجودا; لأن النسب الباطن قد استند ثبوته إلى دليل ظاهر قبل الولادة; لأن الفراش مثبت للنسب وكذا الحبل الظاهر حال قيام العدة دليل على العلوق حال قيام النكاح وكذا الإقرار بالحبل سبب لثبوت النسب منه فصلح أن تكون الولادة علامة معرفة للنسب الثابت حال الاجتنان فلم يصر وجود النسب مضافا إلى الولادة فلذلك يثبت النسب بشهادة القابلة.(4/314)
بالولادة طلاق أو عتاق وقد شهدت امرأتها حال قيام الفراش وقع ما علق به عندهما لأن ذلك غير مقصود بشهادتها وقد يثبت الولادة بشهادتها فيثبت ما كان تبعا له وكذلك قالا في استهلال الصبي إنه تبع للولادة فأخذ أبو حنيفة
ـــــــ
قوله: "وإذا علق بالولادة" إلى آخره إذا قال لامرأته إذا ولدت فأنت طالق أو عبدي حر وقد أقر الزوج بأنها حبلى أو بها حبل ظاهر فقالت قد ولدت يقع الطلاق أو العتاق بمجرد قولها عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما لا يقع إلا أن تشهد القابلة; لأن شرط وقوع الجزاء ولادتها وهي مما تقف عليها القابلة فلا يقبل فيها مجرد قولها كما لا يقبل في ثبوت نسب المولود ولأبي حنيفة رحمه الله أنه علق الجزاء ببروز موجود في باطنها فيقبل فيه خبرها كما لو قال إذا حضت فأنت طالق وهذا; لأن وجود الحبل قد ثبت بإقراره أو بالعيان فإذا جاءت فارغة وتقول قد ولدت فالظاهر يشهد لها أو يتيقن بولادتها بخلاف النسب; لأن بمجرد قولها يثبت مجرد الولادة وليس من ضرورته تعين هذا الولد لجواز أن تكون ولدت غير هذا من ولد ميت ثم يزيد حمل نسب هذا الولد عليه فلهذا لا يقبل قولها في تعيين الولد إلا بشهادة القابلة فأما وقوع الجزاء فيتعلق بنفس الولادة أي ولد كان من حي أو ميت وقد تيقنا بالولادة إذا جاءت فارغة فأما إذا قال لها إذا ولدت فكذا ولم يكن بها حبل ظاهر ولم يقر الزوج بأنها حبلى فقالت ولدت وكذبها الزوج لا يقع الجزاء بقولها فإن شهدت القابلة بالولادة ثبت نسب المولود منه بشهادتها ولا يقع الجزاء عند أبي حنيفة رحمه الله ما لم يشهد بالولادة رجلان أو رجل وامرأتان. وعندهما يثبت النسب بشهادة القابلة ويقع ما علق به أي بفعل الولادة من الجزاء; لأن ذلك أي معلق بالولادة من الجزاء غير مقصود إثباته بشهادتها; لأن الثابت بشهادتها ظهور الولادة وهو معرف لا يضاف إليه الجزاء وجوبا به ولا وجودا عنده وقد تثبت الولادة بشهادتها يعني في حق النسب حتى ثبت نسب المولود من الزوج بالإجماع فيثبت ما كان تبعا له أي لفعل الولادة وهو الجزاء المعلق به المفتقر ثبوته إليه كالإحصان لما ثبت بشهادة الرجال مع النساء يثبت ما كان تبعا له وهو وجوب الرجم وإن لم يثبت الرجم بشهادة هؤلاء قصدا. ألا ترى أنه لو قال لجاريته إن كان بها حبل فهو مني فشهدت القابلة على ولادتها صارت هي أم ولد له وكذلك لو ولدت امرأته ولدا ثم قال الزوج ليس هو مني ولا أدري ولدته أم لا فشهدت القابلة بالولادة حكم باللعان بينهما ولو كان الزوج عبدا أو حرا محدودا في قذف وجب عليه الحد فإذا جعلت شهادة القابلة حجة في حكم اللعان والحد باعتبار أن ثبوتها بشهادتها ليس بطريق القصد بل يثبتان تبعا فلأن يجعل حجة في حق الطلاق والعتاق بهذا الطريق كان أولى. وكذلك قالا أي وكما قالا في الطلاق والعتاق أنهما(4/315)
رحمه الله فيه بحقيقة القياس أن الوجود من أحكام الشرط فلا يثبت إلا بكمال الحجة, والولادة لم يثبت بشهادة القابلة مطلقا فلا يتعدى إلى التوابع كشهادة المرأة على أن هذه الأمة ثيب وقد اشتراها رجل على أنها بكر أنها لا ترد على البائع بل يستحلف البائع وإن كان قبل القبض فكذلك والله أعلم بالصواب.
ـــــــ
يثبتان بشهادتها تبعا للولادة قالا يثبت استهلال الصبي أي حياته بعد الولادة بشهادتها تبعا للولادة حتى يثبت الإرث; لأن الاستهلال معرف; لأن حياة الولد التي بها يستحق الإرث لا تكون مضافة إليه وجوبا به ولا وجودا عنده; لأن حياته سابقة على الولادة ولكنها غير معلومة وإذا كان معرفا تقبل فيه شهادة القابلة كما يقبل في حق الصلاة حتى يصلى على المولود ويؤيده ما روي عن علي رضي الله عنه أنه أجاز شهادة القابلة على الاستهلال.
قوله: "وأخذ أبو حنيفة رحمه الله فيه" أي فيما ذكرنا من المسألتين بحقيقة القياس وفيه إشارة إلى أن ما قالا نوع استحسان فإن القابلة شهدت بالولادة دون الطلاق فإثبات الطلاق بشهادتها على الولادة لا يخلو عن عدول عن الدليل الظاهر وبيان القياس أن الولادة شرط محض من حيث إنه يمتنع ثبوت علة الطلاق والعتاق حقيقة إلى وجوده كدخول الدار وغيره من الشرائط, والوجود من أحكام الشرط أي وجود المشروط متعلق بالشرط كما يتعلق وجوبه بالعلة فكان وجوده من أحكامه وكان له شبه بالعلة فكما لا يثبت نفس المشروط وهو الطلاق ولا علته إلا بحجة كاملة لا يثبت الشرط إلا بحجة كاملة لتعلق وجوده به ثم أشار إلى الجواب عن كلامهما فقال والولادة لم تثبت بشهادة القابلة على الإطلاق; لأن شهادة المرأة الواحدة ليست بحجة أصلية بل هي حجة يكتفى بها فيما لا يطلع عليه الرجال لأجل الضرورة.
والثابت بالضرورة ثابت من وجه دون وجه; لأنه ثابت في موضع الضرورة غير ثابت فيما وراء موضع الضرورة والضرورة هاهنا في ثبوت نفس الولادة وما هو من الأحكام التي لا تنفك الولادة عنها كالنسب وأمومية الولد واللعان عند النفي للولد فتثبت الولادة في حق هذه الأحكام فأما الطلاق والعتاق والاستهلال فليست من الأحكام المختصة بالولادة ولا أثر للولادة في إثباتها فلا تثبت الولادة في حق هذه الأحكام إلا بحجة تامة كسائر الشروط وهو المراد من قوله فلا يتعدى إلى التوابع أي إلى التوابع التي ليست من الأحكام المختصة بها قال الشيخ رحمه الله في شرح التقويم شهادة القابلة حجة ضرورية فتقبل في أصل الولادة لا في وصفها فلم يثبت وصف كونها شرطا فلم يقع الطلاق ولا يلزم عليه النسب; لأن النسب لا يتعلق ثبوته بالولادة بل بالفراش القائم وقت العلوق فإذا شهدت القابلة على الولادة ثبتت بشهادتها وظهر أن النسب كان ثابتا بالفراش فلم يكن(4/316)
................................................................................................
للولادة اتصال بالنسب من وجه فلم يكن نظير الطلاق. قال شمس الأئمة رحمه الله استهلال المولود في حكم الإرث لا يثبت بشهادة القابلة وحدها; لأن حياة الولد كانت غيبا عنا وإنما يظهر عند استهلاله فتصير مضافة له إليه في حقنا والإرث يبتني عليها فلا يثبت بشهادة القابلة كشهادة المرأة على كذا إذا اشترى أمة على أنها بكر ثم ادعى المشتري أنها ثيب وأنكر البائع فالقاضي يريها النساء فإن قلن هي بكر فلا خصومة بينهما وإن قلن هي ثيب ثبت العيب في حق توجه الخصومة دون الرد إلى البائع; لأن الثيوبة لم تثبت مطلقة; لأن الرد بسبب العيب ليس من جنس ما لا يطلع عليه الرجال في الجملة فلم يكن شهادتهن حجة فيه ولكن إثباته في نفسها مما لا يطلع عليه الرجال فتثبت بشهادتهن كتعين الولد فيثبت عيب إثباته من وجه دون وجه فيصلح لتوجه الخصومة لا للرد على البائع ولما توجهت الخصومة ولا سبيل إلى دفعها إلا الاستحلاف يحلف البائع بعد القبض بالله لقد سلمتها بحكم البيع وما بها هذا العيب وقبل القبض يحلف بالله ما بها هذا العيب الذي يدعيه المشتري في الحال فإن حلف فلا خصومة وإن نكل فحينئذ يرد البيع فكذلك هاهنا الولادة ثابتة من وجه دون وجه فتجعل ثابتة في حق الأحكام اللازمة لها دون غيرها.
ومثله البيع الثابت مقتضى الأمر بالإعتاق فإنه ثابت في حق صحة الإعتاق دون خيار العيب والرؤية وسائر أحكام البيع. وقوله: وإن كان قبل القبض احتراز عما روي عن محمد رحمه الله أن الخصومة إن كانت قبل القبض يفسخ العقد بقول النساء من غير استحلاف البائع; لأن العقد قبل القبض ضعيف حتى ينفرد المشتري بالرد عند ظهور العيب من غير قضاء ولا رضاء وللقبض شبه بابتداء العقد لثبوت ملك اليد الذي هو المقصود من التجارات به فالرد قبل القبض يشبه الامتناع من القبول فيجوز أن يثبت بشهادة النساء بخلاف ما بعد القبض; لأن الحاجة فيه إلى نقل الضمان من المشتري إلى البائع وشهادة النساء في ذلك ليست بحجة تامة. ووجه الظاهر ما ذكرنا أن شهادة النساء حجة ضعيفة ضرورية فتجعل حجة في سماع الدعوى ولا يفصل الحكم بها ما لم يتأيد بمؤيد وهو نكول البائع وأما قبول علي رضي الله عنه شهادة القابلة في الاستهلال فمحمول على القبول في حق الصلاة وإنما قبلت في حق الصلاة; لأنها من أمور الدين وخبر المرأة الواحدة حجة تامة فيها كشهادتها على رؤية هلال رمضان بخلاف الميراث فإنه من حقوق العباد فلا يثبت شهادة النساء في موضع يكون المشهود به مما يطلع عليه الرجال والله أعلم.(4/317)
باب تقسيم العلامة"
أما العلامة فما يكون علما على الوجود على ما قلنا وقد تسمى العلامة شرطا وذلك مثل الإحصان في الزنا على ما قلنا فصارت العلامة نوعا واحدا وقد قال الشافعي في مسألة القذف إن العجز عن إقامة البينة على زنا المقذوف
ـــــــ
"باب تقسيم العلامة"
قوله: "فما يكون علما على الوجود" يعني من غير أن يتعلق به وجوب ولا وجود على ما قلنا قبيل باب تقسيم السبب وقد تسمى العلامة شرطا يعني إذا كان للحكم نوع تعلق به مثل الإحصان في الزنا فإنه وإن كان علامة كما بينا لكن الحكم لما لم يثبت عند عدمه كان فيه جهة الشرط من هذا الوجه فيجوز أن يسمى شرطا فصارت العلامة أي العلامة المحضة نوعا واحدا وهي مثل تكبيرات الصلاة فإنها علامات الانتقال من ركن إلى ركن من غير أن يكون فيها معنى الشرط بوجه ومثل رمضان في قول الرجل لامرأته أنت طالق قبل رمضان بشهر فإنه معرف محض للزمان الذي يقع فيه الطلاق فإن قيل قد ذكر في عقد الباب تقسيم العلامة ثم قال هي نوع واحد فما وجهه قلنا معناه أن العلامة المحضة التي ليس فيها معنى الشرط نوع واحد لكن العلامة قد يكون فيها معنى الشرط كالإحصان وقد تكون بمعنى العلة كعلل الشرع فإنها بمنزلة العلامات للأحكام غير موجبة بذواتها شيئا فمن حيث إنها لا توجب بذواتها شيئا كانت إعلاما وإذا كان كذلك جاز أن ينقسم العلامة بهذا الاعتبار كما انقسم السبب والعلة والشرط وإلى التقسيم أشار الشيخ بقوله وقد تسمى العلامة شرطا.
قوله: "وقال الشافعي" إلى آخره والقذف بنفسه لا يوجب رد الشهادة عندنا كما لا يوجب الحد بل يتوقف على العجز عن إقامة الشهود وعند الشافعي رحمه الله نفسه يوجب رد الشهادة ولا يتوقف ذلك على العجز حتى لو شهد القاذف في حادثة قبل تحقق العجز وإقامة الحد عليه تقبل عندنا وعنده لا تقبل لأن الله تعالى علق رد الشهادة بالقذف بقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} إلى أن قال: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} . وأشار إلى المعنى بقوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} أي لأنهم فاسقون والفسق(4/318)
علامة لجنايته لا شرط بل هو معرف فيكون سقوط الشهادة سابقا عليه لأنه أمر حكمي بخلاف الجلد لأنه فعل وذلك أن القذف كبيرة وهتك لعرض المسلم والأصل في المسلم العفة فصار كبيرة بنفسه بناء على هذا الأصل والعجز معرف والجواب عنه أن الثابت بالكتاب في جزاء هذه الجملة فعل كله وهو الجلد
ـــــــ
يثبت بنفس القذف لأنه كبيرة على ما نبين فيوجب بنفسه رد الشهادة كالزنا وشرب الخمر فعرفنا أن ذكر العجز عن إقامة البينة لبيان أنه علامة على أن القذف جناية لا لأنه شرط لأن صيرورته قذفا وكذبا لا يتوقف على العجز بل هو كذب من الأصل لكن القاضي لا يعرف كونه كذبا لاحتمال كونه صدقا فبالعجز عن إقامة البينة يظهر كونه كذبا من الأصل عنده وأن الشهادة كانت مردودة لا أنها صارت مردودة بالعجز كمن قال لامرأته إن كان زيد في الدار فأنت طالق فخرج زيد في آخر اليوم من الدار كان خروجه مبينا أن الطلاق وقع حين أوجب لا أنه وقع عند الخروج فكان الخروج علامة لا شرطا فكذا العجز ها هنا وقوله فيكون سقوط الشهادة إلى آخره جواب عما يقال لما جعلت العجز معرفا في حق سقوط الشهادة ينبغي أن يجعل كذلك في حق الجلد حتى يثبت الجلد قبل العجز كالسقوط لأن العجز ثبت في حق الحكمين بنظم واحد فقال يمكن جعله علامة في حق سقوط الشهادة لأنه أي سقوط الشهادة أمر حكمي أي شرعي فيمكن إثباته بالقذف سابقا على العجز وجعل العجز في حقه معرفا بخلاف الجلد لأنه فعل يقام على القاذف فلا يمكن إثباته بالقذف سابقا على العجز فكان العجز فيه شرطا لأن إقامة الجلد يصير مضافة إليه وجودا عنده. وذلك أي كون العجز معرفا باعتبار أن القذف كبيرة لما فيه من إشاعة الفاحشة وهتك ستر العفة على المسلم والأصل في المسلم العفة عن الزنا لأن العقل والدين يمنعانه عن ذلك, والتمسك بالأصل واجب حتى يتبين خلافه فصار القذف بنفسه كبيرة وكذبا بناء على هذا الأصل فيكون بمنزلة سائر الكبائر في ثبوت سمة الفسق وسقوط الشهادة به إلا أنه لما احتمل أن يكون صدقا وبالعجز يزول هذا الاحتمال ويتبين كذبه من الأصل كان العجز معرفا فإذا قضى القاضي بشهادته ثم تحقق العجز أنه قضى بشهادة من لا شهادة له فينقض قضاؤه. كما لو قضى بشهادة رجل ثم تبين أنه عبد أو كافر ولا معنى لقول من يقول إنه متردد بين الجناية والحسبة لأنا لا نسلم التردد في نفس الجناية بل التردد في علم القاضي ويحصل له العلم بالجناية من الأصل على أنه لا عبرة بمثل هذا التردد فإنه بعد إقامة الحد قائم بدليل أنه لو جاء بالبينة بعدها تقبل مع ذلك يصير فاسقا مردود الشهادة.
قوله: "والجواب عنه" أي عن كلام الشافعي رحمه الله هو أن الثابت بالكتاب في(4/319)
وإبطال الشهادة ألا ترى إلى قوله عز وجل: {وَلا تَقْبَلُوا} [النور: 4] عطفا على قوله: {فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: 4], وإذا كان كذلك لم يصلح أن يجعل معرفا كما لم يجعل كذلك في حق الجلد. وأصل ذلك أنا نحتاج في العمل بالتعريف إلى أن يثبت أن القذف بنفسه كبيرة وليس كذلك لأن البينة على
ـــــــ
جزاء هذه الجملة وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] فعل كله أي ليس كما زعم الخصم أن أحدهما أمر حكمي والآخر فعل بل كل واحد منهما فعل خوطب الإمام بإقامته على القاذف وهو أي الفعل الثابت بالكتاب الجلد وإبطال الشهادة لا سقوط الشهادة بل السقوط حكم الإبطال لا أن يكون حكما للقذف. ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا} عطفا أي معطوفا على قوله عز اسمه: {فَاجْلِدُوهُمْ} يعني أنه تعالى خاطب الأئمة بقوله: {فَاجْلِدُوهُمْ} وعطف عليه قوله جل ذكره: {وَلا تَقْبَلُوا} مخاطبا لهم أيضا فكان كل واحد منهما فعلا خوطب الأئمة بإقامته لأن ما لا يكون فعلا ويكون أمرا حكميا لا يجوز أن يفوض إليهم وإذا كان كذلك أي إذا كان كل واحد منهما فعلا لم يصلح العجز أن يجعل معرفا للجناية السابقة كما لم يجعل كذلك أي لم يجعل معرفا في حق الجلد بل يجعل شرطا لإبطال الشهادة كما جعل شرطا للجلد والمعلق بالشرط معدوم قبل وجوده وذكر الإمام البرغري في طريقته أن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] شرط. وقوله: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] معطوف عليه فيكون شرطا لأن المعطوف على الشرط شرط كما في قول الرجل لنسائه: التي تدخل منكن الدار ثم تكلم زيدا فهي طالق كان كلام زيد شرطا لوقوع الطلاق مثل الدخول وقد تعلق بهذين الشرطين الجلد ورد الشهادة فيكون كل واحد منهما متعلقا بهما فلا يجوز أن يجعل رد الشهادة متعلقا بالرمي وحده لتأديه إلى إلغاء الشرط الثاني في حقه وهو فاسد وأصل ذلك أي أصل ما ذكرنا أن العجز شرط وليس بعلامة محضة أنا نحتاج في العمل بالتعريف أي جعله معرفا إلى أن نثبت أن القذف بنفسه كبيرة موجبة للفسق كما قال الشافعي رحمه الله. وليس كذلك أي ليس القذف بنفسه كبيرة لأنه متردد بين أن يكون جناية وبين أن يكون حسبة فإنه لو أقام أربعة من الشهود على زنا المقذوف يقبل ويتيقن أنه محتسب بذلك القذف في إقامة حد الشرع عليه بل يجب عليه دعوى الزنا بطريق الحسبة إذا علم إصراره عليه ووجد أربعة من الشهود ولو كان القذف كبيرة بنفسه لا يتمكن من إثباته بالبينة ولم يكن مسموعا أصلا لأنه إشاعة الفاحشة والأصل فيها الإخفاء فإذا احتمل القذف أن يكون حسبة قبل تحقق العجز بإقامة البينة عليه كيف يصح القول بكونه كبيرة مع هذا الاحتمال وبعد تحقق العجز يصير القذف جناية(4/320)
ذلك مقبولة حسبة في إقامة حد الزنا فكيف يكون كبيرة مع هذا الاحتمال فأما قوله إن العفة أصل فنعم لكنه لا يصلح علة للاستحقاق ولو صلح لذلك لما قبلت البينة أبدا لكن الإطلاق لما كان بشرط الحسبة وذلك لا يحل إلا بشهود حضور وجب تأخيره إلى ما يتمكن به من إحضار الشهود وذلك إلى آخر
ـــــــ
مقتصرة على الحال لا أنه ظهر كونه جناية من الأصل لاحتمال أنه قذف وله بينة عادلة فعجز عن إقامتهما لموتهم أو لغيبتهم أو لامتناعهم من الأداء فيصير مردود الشهادة مقتصرا على الحال لكن بسبب الفسق لا بطريق الحد حتى إذا تاب قبل إقامة الحد تقبل شهادته ولا تسقط شهادته حدا قبل الجلد لأن القاضي هو المأمور بإبطال شهادته تتميما للحد والبطلان حكم الإبطال فلا يثبت قبله. وأما قوله العفة أصل فنعم أي نحن نسلم أن العفة أصل ولكنه أي هذا الأصل لا يصلح علة لاستحقاق رد الشهادة على القاذف لأن الأصل يصلح دافعا لا مثبتا فيصلح هذا الأصل لدفع الزنا عن المقذوف حتى لا يثبت زناه بقذفه ولا يصلح سببا لاستحقاق رد الشهادة على القاذف ولو صلح هذا الأصل علة لاستحقاق رد الشهادة على القاذف لما قبلت بينة القاذف على زنا المقذوف لأنه كما استحق على القاذف بهذا الأصل رد شهادته استحق به على الشهود رد شهادتهم أيضا لأنه قذفه في الحقيقة فإذا لا يمكن إثبات زنا بالبينة أصلا وهو خلاف موضوع الشرع.
قوله: "لكن الإطلاق" متصل بقوله فكيف يكون كبيرة بل كان فيه احتمال الحسبة قائما حتى قبلت البينة عليه حسبة كان ينبغي أن لا يتعلق به الحد ورد الشهادة أصلا فقال نعم إلا أن الإطلاق أي تجويز القذف والإقدام على دعوى الزنا لما كان بطريق الحسبة حتى لو كان عن ضغينة لا تحل وإن كان صادقا وذلك أي القذف حسبة لا تحل إلا بشهود حضور أي في البلد حتى لو كان له شهود غيب لا يحل له الإقدام عليه ولا يمهله القاضي إلى إحضارهم وجب تأخيره أي تأخير القذف يعني تأخير حكمه وهو الحد ورد الشهادة إلى ما يتمكن به أي إلى زمان يتمكن القاذف به من إحضار الشهود مجلس الحكم عملا باحتمال الحسبة وذلك أي التأخير للتمكن من إقامة الشهود إلى آخر المجلس في ظاهر الرواية. أو إلى ما يراه الإمام وهو المجلس الثاني في رواية عن أبي يوسف رحمه الله فقد ذكر في المبسوط أن القاذف إذا ادعى أن له بينة أجل ما بينه وبين قيام القاضي من مجلسه من غير أن يطلق عنه وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال يمهل إلى المجلس الثاني ليحضر شهوده لأن القذف موجب للحد بشرط العجز وهو لا يتحقق إلا بالإمهال ألا ترى أن المدعى عليه إذا ادعى دفعا أو طعنا في الشهود يمهل إلى المجلس الثاني ليأتي به فهذا مثله وجه ظاهر الرواية أن سبب وجود الحد ظهر عند القاضي فلا(4/321)
المجلس أو إلى ما يراه الإمام ثم لم يؤخر حكم قد ظهر لما يحتمل الوجود فإذا أقيم عليه الحد ثم جاء ببينة يشهدون على الزنا قبلناها وأقمنا على المشهود عليه حد الزنا وأبطلنا على القاذف رد الشهادة, وإن كان تقادم العهد لم نقم الحد
ـــــــ
يجوز له أن يؤخر الإقامة لما فيه من الضرر بالمقذوف بتأخير دفع العار عنه ولكن إلى آخر المجلس لا يكون تأخيرا فلا يتضرر بذلك القدر ألا ترى أن له أن يؤخر إلى أن يحضر الجلاد فلهذا جوزنا له أن يمهله إلى آخر المجلس من غير أن يطلق عنه ثم لم يؤخر حكم قد ظهر أي لا يجوز بعد الإمهال إلى آخر المجلس أو إلى المجلس الثاني تأخير حكم قد ظهر وكأنه جواب عما يقال العجز لا يتحقق بهذا القدر لاحتمال أن يقدر على إقامة البينة بعد كما في قوله إن لم آت النصرة فكذا لا يتحقق العدم إلا في آخر العمر لاحتمال وجود الإتيان في كل ساعة وإذا لم يتحقق العجز لا يثبت الحكم المتعلق به فقال لا يجوز تأخير حكم قد ظهر وهو الحد ورد الشهادة يتحقق العجز في الحال لأجل ما يحتمل الوجود بعد ذلك من القدرة على إقامة الشهود لأن الشرط هو العجز الخالي كما في الكفارات لا العجز في جميع العمر إذ لو شرط العجز في العمر لم يبق لإيجاب الحد ورد الشهادة فائدة إذ لا يمكن إقامتهما على القاذف بعد موته.
قوله: "فإذا أقيم عليه" أي على القاذف الحد يعني لما ظهر عجزه وأقيم عليه الحد وردت شهادته رعاية لجانب المقذوف لم يبطل احتمال الحسبة بالكلية رعاية لجانب القاذف أيضا حتى لو جاء ببينة بعد إقامة الحد ورد الشهادة يشهدون على زنا المقذوف يقبل ويقام حد الزنا على المقذوف إن لم يتقادم العهد ويصير القاذف مقبول الشهادة لأن سقوط الشهادة كان بحسب ظهور عجزه وهو من حيث الظاهر فإذا أقام البينة فقد تبين أن العجز لم يكن متحققا وأنه لم يكن مردود الشهادة لعدم الشرط وإن كان تقادم العهد لم نقم الحد على المشهود عليه لأن التقادم مانع من القبول في حق الحد وأبطلنا رد الشهادة عن القاذف لعدم تأثير التقادم فيه بالمنع فكان بمنزلة ما لو شهد رجل وامرأتان بسرقة تقبل في حق المال ولا تقبل في حق الحد. كذلك ذكره في المنتقى أي مثل ما أجبنا ذكر الحاكم الشهيد أبو الفضل المروزي الجواب في المنتقى غير فصل تقادم العهد فإنه لم يذكره أي الفصل الأول مذكور فيه دون الثاني هذا هو الذي يفهم من ظاهر هذا الكلام والمفهوم من سياق كلام شمس الأئمة رحمه الله أن التقادم مذكور في المنتقى أيضا فإنه قال وإن تقادم العهد يصير مقبول الشهادة أيضا وإن كان لا يقام الحد على المشهود عليه أورد ذلك في المنتقى رواية عن أبي يوسف أو محمد هذا قول أحدهما وقول الآخر لا تقبل الشهادة بعد إقامة الحد عليه لأن إقامة الحد على القاذف حكم بكذب الشهود(4/322)
على المشهود عليه وأبطلنا رد الشهادة عن القاذف كذلك, كذلك ذكره في المنتقى غير فصل التقادم ويتصل بهذه الجملة.
ـــــــ
في شهادتهم على المقذوف بالزنا وكل شهادة جرى الحكم بتعين جهة الكذب فيها لا تكون مقبولة أصلا كالفاسق إذا شهد في حادثة فردت شهادته ثم أعادها بعد التوبة.
قوله: "ويتصل بهذه الجملة" أي ببيان الأحكام المشروعة وما يتعلق به الأحكام المشروعة من السبب والعلة والشرط والعلامة.(4/323)
"باب بيان العقل"
وما يتصل به من أهلية البشر اختلف الناس في العقل أهو من العلل الموجبة أم لا فقالت المعتزلة إن العقل علة موجبة لما استحسنه محرمة لما استقبحه على القطع والبتات فوق العلل الشرعية فلم يجوزوا أن يثبت بدليل
ـــــــ
"باب بيان العقل"
لأن هذه الأحكام لا تثبت في حق عديم العقل فلا بد من بيانه أو يتصل بجميع ما ذكرنا من أول الكتاب إلى هاهنا باب بيان العقل لأنها بيان خطابات الشارع وما يتعلق بها والخطاب لا يثبت في حق من لا عقل له فكان بيان العقل وأحكامه من اللوازم.
"قوله اختلف الناس" أي أهل القبلة في كذا فقالت المعتزلة: العقل علة موجبة لما استحسنه مثل معرفة الصانع بالألوهية ومعرفة نفسه بالعبودية وشكر المنعم وإنقاذ الغرقى والحرقى محرمة لما استقبحه مثل الجهل بالصانع جل جلاله والكفران بنعمائه والعبث والسفه والظلم على القطع والبتات فوق العلل الشرعية لأن علل الشرع ليست بموجبة لذواتها بل هي أمارات في الحقيقة ويجري فيها النسخ والتبديل والعقل بذاته موجب ومحرم لهذه الأشياء من غير أن يجري فيها التبديل فكان في الإيجاب والتحريم فوق العلل الشرعية. والمراد من الإيجاب والتحريم فيه أن الشرع لو لم يكن واردا في هذه الأشياء بالإيجاب والتحريم لحكم العقل بوجوبها وحرمتها ولم يتوقف ثبوتهما على السمع وذكر الشيخ الإمام نور الدين الصابوني1 رحمه الله في الكفاية أن المراد من وجوب الإيمان وحرمة الكفر بالعقل ليس استحقاق الثواب بفعله أو العقاب بتركه إذ الثواب والعقاب لا يعرفان إلا بورود السمع وليس في العقل إمكان الوقوف عليهما فكيف يحكم باللزوم قبل ورود الشرع لكن المراد من الوجوب أن يثبت في العقل نوع ترجيح للإيمان بربه والاعتراف بخالقه وإضافة وجوده وبقائه إلى إيجاده وإبقائه ومن الحرمة أن يثبت نوع ترجيح للمنع عن
ـــــــ
1 هو الإمام نور الدين أحمد بن محمود بن أبي بكر الصابوني البخاري المتوفي سنة 580 هـ انظر معجم المؤلفين 2/171.(4/324)
الشرع ما لا يدركه العقول أو تقبحه وجعلوا الخطاب متوجها بنفس العقل وقالوا لا عذر لمن عقل صغيرا كان أو كبيرا في الوقف عن الطلب وترك الإيمان وقالوا الصبي العاقل مكلف على الإيمان وقالوا فيمن لم يبلغه الدعوة فلم يعتقد إيمانا ولا كفرا وغفل عنه أنه من أهل النار وقالت الأشعرية أن لا عبرة بالعقل أصلا دون السمع وإذا جاء السمع فله العبرة لا للعقل وهو قول بعض أصحاب الشافعي رحمه الله حتى أبطلوا إيمان الصبي وقالت الأشعرية فيمن لم تبلغه الدعوة فغفل عن الاعتقاد حتى هلك إنه معذور قالوا ولو اعتقد الشرك ولم
ـــــــ
الاستغناء عن مالكه واعتراف بالألوهية لغير خالقه بحيث لا يحكم العقل أن الترك والإتيان في هذه الأمور بمنزلة واحدة بل نعقل ضرورة أن الإتيان بما يقتضيه العقل يوجب نوع مدحة والامتناع عنه يوجب نوع لائمة وإن لم يعين ذلك يعني يعرف بالعقل ترجيح جانب الوجود أو العدم ولا يعرف أن الجزاء هو الجنة أو النار أو غيرهما وكذا الشكر إظهار النعمة من المنعم ومتى عرف أن الكل من الله تعالى يحرم عليه الكفران على معنى أن عقله يمنعه أن يدعي ذلك لغير الله تعالى.
فلم يجوزوا أن يثبت بدليل الشرع ما لا تدركه العقول أو تقبحه فأنكروا ثبوت رؤية الله تعالى في الآخرة بالنصوص الدالة عليها قائلين بأن رؤية موجود بلا جهة وكيف مع أنه لا بد للرؤية من جهة معينة ومسافة مقدرة لا في غاية البعد ولا في غاية القرب مما لا يهتدي إليه العقل فلا يجوز أن يرد بثبوتها النص. وأنكروا أن يكون المتشابه مما لا حظ للراسخين فيه لأنه لو كان كذلك لكان إنزال المتشابه أمرا باعتقاد ما لا يدركه العقل وأنه لا يجوز وأنكروا أن تكون القبائح من الكفر والمعاصي داخلة تحت إرادة الله تعالى ومشيئته ولأن إضافتها إلى إرادته ومشيئته مما يقبحه العقول فلا يجوز أن يرد الشرع بذلك وجعلوا الخطاب أي التكليف بالإيمان متوجها بنفس العقل لأن العقل أصل موجب بنفسه عندهم فوق الدليل الشرعي فإذا صار الإنسان بحال يحتمل عقله الاستدلال بالشاهد على الغائب فقد تحققت العلة الموجبة في حقه فيتوجه عليه التكليف بالإيمان ثم فسر ذلك بقوله وقالوا لا عذر لمن عقل صغيرا كان أو كبيرا في الوقف أي الوقوف عن طلب الحق وترك الإيمان بالله عز وجل فكان الصبي العاقل مكلفا بالإيمان وكان من لم تبلغه الدعوة أصلا ونشأ على شاهق جبل فلم يعتقد إيمانا ولا كفرا ومات على ذلك من أهل النار لوجود ما يوجب الإيمان في حقه وهو العقل وقالت الأشعرية لا عبرة بالعقل أصلا يعني لا مدخل له في معرفة حسن الأشياء وقبحها بدون السمع ولا أثر له في إيجاب الأشياء وتحريمها بحال بل الموجب هو السمع حتى أبطلوا إيمان الصبي لعدم ورود الشرع في(4/325)
يبلغه الدعوة أنه معذور أيضا وهذا الفصل أعني أن يجعل شركه معذورا تجاوز عن الحد كما تجاوزت المعتزلة عن الحد في الطرف الآخر والقول
ـــــــ
حقه وعدم اعتبار عقله فكان إيمانه مثل إيمان صبي غير عاقل فلا يعتبر كما تجاوزت المعتزلة عن الحد في الطرف الآخر بقولهم فيمن لم تبلغه الدعوة وغفل عن اعتقاد الكفر والإيمان أنه من أهل النار.
تمسكت الأشعرية فيما ذهبوا إليه بقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الاسراء: 15] نفى العذاب قبل البعثة ولما انتفى العذاب عنهم انتفى عنهم حكم الكفر وبقوا على الفطرة. وبقوله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] أخبر أن الحجة كانت قائمة لهم قبل الرسل على تركهم للإيمان فلو كان العقل قبل السمع موجبا لكانت حجة الله تعالى قبل بعثة الرسل تامة في حقهم وبأن الله تعالى أخبر في غير موضع أن خزنة النار يقولون للكافرين: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] فيقولون بلى فتلزمهم الحجة فألزمهم استيجابهم النار بالرسل لا بالعقول وحدها وبقوله تعالى: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ} [الأنعام: 131] أخبر أن الإهلاك بالعذاب قبل إرسال الرسل كان ظلما ولو كان العقل بنفسه حجة لم يكن كذلك وبأن الله تعالى جعل الهوى غالبا في النفوس شاغلا للعقول بعاجل المنافع والحظوظ فيخرج الإنسان على ما عليه أصل البنية في فك عقله عن أسر الهوى وتنبيه قلبه عن نوم الغفلة بلا شرع حرجا أكثر من حرج الصبي العاقل بسبب نقصان عقله لإدراك ما يدركه البالغ ثم ذلك العذر أسقط عن الصبي وجوب الاستدلال بعقله وأسقط عنه الخطاب فلأن يسقط الاستدلال بمجرد العقل قبل إعانة الوحي كان أولى وتمسك من جعل العقل حجة موجبة بدون السمع بقصة إبراهيم عليه السلام فإنه قال لأبيه: {إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 74]. وكان هذا القول قبل الوحي فإنه قال أراك ولم يقل أوحي إلي ولو لم يكن العقل بنفسه حجة وكانوا معذورين لما كانوا في ضلال مبين وكذلك استدل بالنجوم فعرف ربه من غير وحي والله تعالى جعل ذلك الاستدلال منه حجة على قومه بقوله عز ذكره: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} [الأنعام: 83] وبأن الله تعالى عاتب الكفار في غير موضع بأن لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة من كان قبلهم وأخبر أن قلوبهم عمي بترك التأمل ولو كانوا معذورين لما عوتبوا بمطلق الترك وبأن الله قال: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] ولم يقل نسمعهم ونوحي إليهم. وقال: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} [الروم: 8] {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}(4/326)
الصحيح في الباب هو قولنا إن العقل معتبر لإثبات الأهلية وهو من أعز النعم خلق متفاوتا في أصل القسمة وقد مر تفسيره قبل هذا أنه نور في بدن الآدمي مثل الشمس في ملكوت الأرض تضيء به الطريق الذي مبدؤه من حيث ينقطع
ـــــــ
[لأعراف: 185] {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ*وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذريات: 20, 21] في شواهد لها كثيرة فثبت أن وجوب الاستدلال لا يتوقف على الوحي وأن العذر ينقطع بالعقل وحده إذ لو لم يكن به كفاية المعرفة لما انقطع به العذر, وبأن المعجزة بعد الدعوة لا تعرف إلا بدليل عقلي وآيات الحدث في العالم أدل على المحدث من علامات المعجزة على أنها من الله تعالى فلما كان بالعقل كفاية معرفة المعجزة والرسالة كان به كفاية معرفة الله تعالى بالطريق الأولى ولما كان بالعقل كفاية كان بنفسه حجة بدون الشرع ولزم العمل به كما يجب وبالشرع وبسائر الحجج إذا قامت كذا في التقويم والأسرار.
قوله: "والقول الصحيح هو قولنا أن العقل" غير موجب بنفسه لا كما قال الفريق الأول وغير مهدر أيضا لا كما قال الفريق الثاني فإن من أنكر معرفة الله تعالى بدلالات العقول وحدها فقد قصر. ومن ألزم الاستدلال بلا وحي ولم يعذره بغلبة الهوى مع أنه ثابت في أصل الخلقة فقد غلا بل العقل معتبر لإثبات الأهلية أي أهلية الخطاب إذ الخطاب لا يفهم بدون العقل وخطاب من لا يفهم قبيح فكان العقل معتبرا لإثبات الأهلية. وهو من أعز النعم لأن الإنسان يمتاز به من سائر الحيوانات وهو آلة لمعرفة الصانع التي هي أعظم النعم وأعلاها ولمعرفة مصالح الدين والدنيا خلق متفاوتا في أصل القسمة هذا نفي لقول المعتزلة إن العقل في أصل الخلقة ليس بمتفاوت في البشر كالحيوانية وبنوا ذلك على قولهم بوجوب الأصلح وذلك منهم إنكار المشاهدة والعيان فإنا نرى تفاوت حدة الأذهان وجودة القرائح في الصبيان في أول نشوئهم, وكذا في البالغين من غير جهد سبق منهم ولا تجربة ولا تعلم فإنكار ذلك كان كإنكار تفاوت الخلق في الحسن والقبح والقوة والضعف والشجاعة والجبن قد مر تفسيره قبل هذا يعني في باب بيان شرائط الراوي أنه أي العقل نور في بدن الآدمي. وقيل محله منه الرأس وقيل محله القلب يضيء به أي بذلك النور الطريق الذي مبدؤه من حيث ينقطع إليه أثر الحواس والضمير راجع إلى حيث وقد مر بيانه فيما تقدم وهذا إنما يتأتى في المحسوسات فأما فيما لا يحس أصلا فإنما نبتدئ طريق العلم به من حيث يوجد كالعلم مثلا فإنه ليس بمحسوس ولما احتيج فيه إلى معرفة أنه معنى راجع إلى ذات العالم أم راجع إلى غير ذاته يعرف ذلك بالعقل من غير انقطاع أثر الحواس وفي اللامسي هو جوهر يدرك به الغائبات بالوسائط والمحسوسات(4/327)
إليه أثر الحواس ثم هو عاجز بنفسه وإذا وضح لنا الطريق كان الدرك للقلب بفهمه كشمس الملكوت الظاهر إذا بزغت وبدا شعاعها ووضح الطريق كان العين مدركة بشهابها وما بالعقل كفاية بحال في كل لحظة ولذلك قلنا في الصبي
ـــــــ
بالمشاهدة وقيل هو جوهر طهر بماء القدوس وروح بروائح الأنس وأودع في قوالب بشرية وأصداف إنسانية كلما أضاء استنار مناهج اليقين وإذا أظلم خفي مدارج الدين وقيل هو قوة في الطبيعة تنزل في القلب منزلة البصر في العين.
ثم هو أي العقل عاجز بنفسه لأنه آلة والآلة لا تعمل بدون الفاعل فلا يصلح أن يكون موجبا بنفسه شيئا ولا مدركا بنفسه حسن الأشياء وقبحها ولكن إذا وضح به الطريق أي طريق الإدراك للعاقل كان الدرك أي إدراك المطلوب للقلب بفهمه وهو القوة المودعة في المضغة التي في الجانب الأيسر من الإنسان أو هو عبارة عن النفس الإنسانية عند البعض والدرك بفتح الراء اسم من الإدراك قال تعالى: {لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى} [طه: 77]. وقال عليه السلام: "اللهم أعني على درك الحاجة" أي إدراكها كشمس الملكوت الظاهرة إذا بزغت أي طلعت كانت العين مدركة للأشياء بشهابها أي بنورها والضمير للشمس من غير أن توجب الشمس رؤية تلك الأشياء أو تكون هي مدركة إياها أو تكون العين مستغنية في الإدراك عنها فكذا القلب يدرك ما هو غائب عن الحواس بنور العقل من غير أن يكون العقل موجبا لذلك أو لا يكون مدركا بنفسه بل القلب يدرك بعد إشراق نور العقل بتوفيق الله عز وجل والملكوت الملك والتاء زائدة للمبالغة كالرغبوت والرهبوت والجبروت. وشعاع الشمس ما يرى من ضوئها عند طلوعها كالقضبان والشهاب بكسر الشين شعلة نار ساطعة وذكر في الكفاية أن أصحابنا قالوا العقل آلة لمعرفة المعقولات كالسمع آلة لمعرفة المسموعات وبه يعرف حسن بعض الأشياء وقبح بعضها ووجوب بعض الأفعال وحرمة بعضها والفرق بين قولنا وقول المعتزلة أنهم يقولون إن العقل موجب بذاته كما يقولون إن العبد موجد لأفعاله وعندنا العقل معرف للوجوب والموجب هو الله تعالى كما أن الرسول معرف للوجوب والموجب هو الله تعالى ولكن بواسطة الرسول فكذا الهادي والموجب هو الله تعالى ولكن بواسطة العقل وما بالعقل كفاية بحال في كل لحظة يعني أن العقل وإن كان آلة لمعرفة لا يقع الكفاية به في وجوب الاستدلال وحصول المعرفة سواء انضم إليه دليل السمع أم لا أما إذا لم ينضم فلما بينا أنه آلة فلا يصلح لإيجاب شيء بنفسه وأما إذا انضم إليه دليل السمع فلأن الإيجاب حينئذ يضاف إلى دليل السمع لا إلى العقل وإذا وجد العقل لا تحصل المعرفة(4/328)
العاقل لأنه لا يكلف بالإيمان حتى إذا عقلت المراهقة ولم تصف وهي تحت زوج مسلم بين أبوين مسلمين لم تجعل مرتدة ولم تبن من زوجها ولو بلغت كذلك لبانت من زوجها ولو عقلت وهي مراهقة فوصفت الكفر كانت مرتدة وبانت من زوجها ذكر ذلك في الجامع الكبير فعلم أنه غير مكلف وكذلك
ـــــــ
قبل انضمام دليل السمع إليه وبعده إلا بتوفيق الله جل جلاله فكم من عاقل قبل ورود الشرع وبعده متغلغل بعقله في مضايق الحقائق مستخرج بفكره وقريحته لخفيات الدقائق لما حرم العناية والتوفيق لم يهتد إلى سواء الطريق ولم يعرف سبيل الرشد بعقله فهلك في غباوته وجهله وبعدما حصلت المعرفة بتوفيق الله وإكرامه ولا تبقى إلا بفضله وإنعامه وتقريره له على الدين القويم وتثبيته إياه على الصراط المستقيم. فكم من مسلم عرف سبيل الرشاد وسلك طريق السداد ثم لما أدركه الخذلان ضل عن الطريق بالارتداد ورد أمره من الصلاح إلى الفساد وقابل الحق بالعناد بعد الانقياد فصار من إخوان الشياطين بعدما كان من أبناء الدين وأهل الصدق واليقين نعوذ بالله من الزيغ والطغيان ودرك الشقاء والخذلان بعد نيل سعادة الهدى والإيمان إنه الكريم المنان فثبت أنه لا كفاية بالعقل بحال ولا معونة إلا من عند الكريم المتعال.
قوله: "ولذلك" أي ولأنه لا كفاية بمجرد العقل لوجوب الاستدلال قلنا في الصبي العاقل إنه لا يكلف الإيمان وإن صح منه الأداء على خلاف ما قاله الفريق الأول لأن الوجوب بالخطاب والخطاب ساقط عن الصبي بالنص حتى إذا عقلت المراهقة وهي التي قربت إلى البلوغ ولم تصف أي لم تصف الإيمان بعد ما استوصفت ولم تقدر على الوصف ولو بلغت كذلك أي غير واصفة ولا قادرة عليه ولو عقلت وهي مراهقة أي صبية غير بالغة فوصفت الكفر كانت مرتدة وبانت من زوجها لأن ردة الصبي والصبية صحيحة عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله استحسانا فتبين ويبطل مهرها قبل الدخول ولم تصح عند أبي يوسف رحمه الله فلا تبين فعلم به أي بما ذكرنا من المسألة الأولى أنه أي الصبي غير مكلف بالإيمان إذ لو كان مكلفا به لبانت من زوجها في المسألة الأولى بعدم الوصف كما بعد البلوغ. وكذلك أي ومثل ما قلنا في الصبي قلنا في البالغ الذي لم تبلغه الدعوة أنه غير مكلف بالإيمان بمجرد العقل لما بينا أنه غير موجب بنفسه حتى إذا لم يصف إيمانا ولا كفرا ولم يعتقد على شيء كان معذورا على خلاف ما قاله الفريق الأول ولو وصف الكفر واعتقده أو اعتقده ولم يصفه لم يكن معذورا وكان من أهل النار على خلاف ما قاله الفريق الثاني فكان هذا قولا متوسطا بين الغلو والتقصير على نحو ما قلنا في الصبي فإنه إذا لم يصف الإيمان والكفر لا يكون كافرا ولو وصف الكفر يكون مرتدا فكذلك هذا.(4/329)
يقول في الذي لم يبلغه الدعوة أنه غير مكلف بمجرد العقل وأنه إذا لم يصف إيمانا وكفرا ولم يعتقده على شيء كان معذورا وإذا وصف الكفر وعقده أو عقد ولم يصفه لم يكن معذورا وكان من أهل النار مخلدا على نحو ما وصفنا في الصبي ومعنى قولنا إنه لا يكلف بمجرد العقل نريد أنه إذا أعانه الله تعالى
ـــــــ
وهذا هو اختيار الشيخ والقاضي الإمام أبي زيد في التقويم وذكر الإمام نور الدين في الكفاية أن وجوب الإيمان بالعقل مروي عن أبي حنيفة رحمه الله ذكر الحاكم الشهيد في المنتقى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهم الله أنه قال لا عذر لأحد في الجهل بخالقه لما يرى من خلق السموات والأرض وخلق نفسه وسائر خلق ربه أما في الشرائع فمعذور حتى تقوم عليه الحجة وروي عنه أنه قال لو لم يبعث الله رسولا لوجب على الخلق معرفته بعقولهم قال وعليه مشايخنا من أهل السنة والجماعة حتى قال الشيخ أبو منصور رحمه الله في الصبي العاقل إنه يجب عليه معرفة الله تعالى وهو قول كثير من مشايخ العراق قالوا إنما وجبت على العاقل البالغ باعتبار أن عقله كامل بحيث يحتمل الاستدلال فإذا بلغ عقل الصبي هذا المبلغ كان هو والبالغ سواء في وجوب الإيمان وإنما التفاوت بينهما في ضعف البنية وقوتها فيظهر التفاوت في عمل الأركان لا في عمل القلب وحمل هؤلاء قوله عليه السلام: "رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يحتلم" الحديث على الشرائع. قلت وهذا القول موافق لقول الفريق الأول من حيث الظاهر سوى أنهم يجعلون نفس العقل موجبا وهؤلاء يقولون الموجب هو الله تعالى والعقل معرف لإيجابه كالخطاب والصحيح ما اختار الشيخ رحمه الله في الكتاب لأن الإيجاب على الصبي مخالف لظاهر النص ولظاهر الرواية أيضا ثم لما سقط الخطاب بالأداء قبل البلوغ عن الصبي جاز أن يسقط عن البالغ قبل بلوغ الدعوة إليه لأن الخطاب قبل البلوغ إلى المخاطب لا يؤثر في الإيجاب كما لا يؤثر في حق الصبي قبل البلوغ فلا يحكم بكفره لجهله بالله وغفلته عن الاستدلال بالآيات. ألا ترى أن الجهل قد ألحق بالصبي في إسقاط العبادات حتى سقطت العبادات عمن أسلم في دار الحرب ولم يعلم بها كما سقطت عن الصبي فيجوز أن يلحق الجهل بالصبي في سقوط وجوب الاستدلال وهذا بخلاف ما إذا اعتقد الكفر حيث لا يكون معذورا لأنا إنما عذرناه في جهله لسقوط الاستدلال عنه ولا معرفة بدونه كما عذرنا النائم والصبي فأما اعتقاد أمر فلا يكون إلا بضرب استدلال وحجة فلم يعذر فيما أحدث من اعتقاده إلا بحجة كما في حق الصبي كذا في التقويم.
قوله: "ومعنى قولنا" كذا يعني أن من لم يبلغه الدعوة إنما لم يكلف بمجرد العقل وصار معذورا إذا لم يصادف مدة يتمكن فيها من التأمل والاستدلال بالآيات على معرفة(4/330)
بالتجربة وألهمه وأمهله لدرك العواقب لم يكن معذورا وإن لم يبلغه الدعوة على نحو ما قال أبو حنيفة رحمه الله في السفيه إذا بلغ خمسا وعشرين سنة لم يمنع منه ماله لأنه قد استوفى مدة التجربة والامتحان فلا بد من أن يزداد به رشدا وليس على الحد في هذا الباب دليل قاطع فمن جعل العقل حجة موجبة يمتنع
ـــــــ
الخالق بأن بلغ على شاهق جبل ومات من ساعته فأما إذا أعانه الله بالتجربة وأمهله لدرك العواقب لم يكن معذورا لأن الإمهال وإدراك مدة التأمل بمنزلة دعوة الرسل في حق تنبيه القلب عن نوم الغفلة فلا يعذر بعد ألا ترى أنه لا يرى بناء إلا وقد عرف له بانيا ولا صورة إلا وقد عرف له مصورا فكيف يعذر بعد رؤيته صورا حسنة وبعد إدراك مدة التأمل في جهله بخالقها ومصورها بل يلزمه من النظر والاستدلال ما يتم به المعرفة وعلى هذا الوجه يحمل ما روي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا عذر لأحد في الجهل بالخالق لما يرى في العالم من آثار الخلق أي لا عذر له بعد الإمهال لا لابتداء العقل. وكان من حق الكلام أن يقال ومعنى قولنا أنه لا يكلف بمجرد العقل أنه غير مكلف به قبل إدراك زمان التأمل والتجربة فإذا أعانه الله بكذا إلى آخره إلا أنه حذف البعض اختصارا لدلالة الكلام عليه على نحو ما قال أبو حنيفة رحمه الله يعني إقامة الإمهال وإدراك زمان التأمل مقام بلوغ الدعوة ها هنا على مثل ما قال أبو حنيفة رحمه الله في السفيه إذا بلغ خمسا وعشرين سنة يدفع ماله إليه وإن لم يؤنس منه رشد مع أن دفع المال إليه معلق بإيناس الرشد بالنص والمعلق بالشرط معدوم قبل وجوده لأنه لما استوفى هذه المدة لا بد من أن يستفيد رشدا بالتجربة والامتحان في الغالب لأنها مدة يتوهم صيرورته جدا فيها إذ البلوغ يتحقق في الغلام بعد ثنتي عشرة سنة فيمكن أن يولد له ابن لستة أشهر ثم إن ولده يبلغ لثنتي عشرة سنة ويولد له ابن لستة أشهر فيصير الأول جدا بعد تمام خمس وعشرين سنة ومن صار فرعه أصلا فقد تناهى هو في الأصالة فلا بد من أن يستفيد رشدا بنسبة حالة فيقام هذه المدة مقام الرشد والشرط رشد نكرة وقد وجد إما تحقيقا أو تقديرا باستيفاء مدة التجربة فيجب دفع المال إليه فكذلك ها هنا بعد مضي مدة التأمل لا بد من أن يستفيد العاقل بصيرة ومعرفة بصانعه بالنظر في الآيات الظاهرة والحجج الباهرة فإذا لم يحصل له المعرفة بعد هذه المدة كان ذلك لاستخفاف الحجة كما يكون بعد دعوة الرسل فلا يكون معذورا.
قوله: "وليس على الحد في هذا الباب دليل قاطع" أي ليس على حد الإمهال وتقدير زمان الامتحان والتجربة في هذا النوع وهو العاقل الذي لم تبلغه الدعوة دليل قاطع يعتمد عليه ويحكم أنه كذا وكأنه رد لما قيل إنه مقدر بثلاثة أيام اعتبارا بالمرتد فإنه إذا استمهل(4/331)
الشرع بخلافه فليس معه دليل يعتمد عليه سوى أمور ظاهرة فسلمها له ومن ألغاه من كل وجه فلا دليل له أيضا وهو قول الشافعي رحمه الله فإنه قال في
ـــــــ
يمهل ثلاثة أيام فقال إنه ليس بمقدر بل هو مختلف باختلاف الأشخاص فإن العقل متفاوت في أصل الخلقة فرب عاقل يهتدي في زمان قليل إلى ما لا يهتدي إليه غيره في زمان كثير فيفوض تقديره إلى الله جل جلاله إذ هو العالم بمقدار ذلك الزمان في حق كل شخص على الحقيقة فيعفو عنه قبل إدراكه ويعاتبه بعد استيفائه ويؤيده ما ذكر في التقويم في هذا الموضع ثم قدر مدة العذر إلى الله تعالى ما يعرف بالعقل فعلى هذا الوجه يكون قوله وليس كذا من تتمة الكلام الأول متصلا بقوله لم يكن معذورا ويكون قوله فمن جعل العقل كذا ابتداء كلام بعد ذكر هذه الأقوال ويجوز أن يكون معناه وليس على الحد الذي يوقف به على المقصود من كون العقل موجبا بنفسه أو غير موجب أصلا أو كونه حجة عند استيفاء مدة التأمل دليل قاطع من نص محكم أو دليل عقلي ضروري ونحو ذلك فعلى هذا الوجه يكون هذا ابتداء كلام. وقوله: فمن جعل العقل من تتمته فمن جعل العقل حجة موجبة بنفسه بحيث يمتنع الشرع أي ورود الشريعة بخلافه أو يمتنع شرع الحكم بخلافه أو يمتنع وجود المشروع بخلافه فليس معه دليل يعتمد عليه أي ليس له دليل قطعي من شرعي أو عقلي يعتمد عليه إذ لم يرد في الشرع دليل قطعي على أن العقل موجب بنفسه ولم يوجد عليه دليل عقلي سوى أمور ظاهرة نسلمها له ولا يلزم من تسليمها كون العقل موجبا بنفسه وبيانه أنهم قالوا: قد عرف حسن بعض الأشياء كالإيمان وشكر المنعم بالعقل وقبح بعضها مثل الكفر والعبث به وعلم أن الشرع لا يرد بتحسين ما قبحه العقل ولا بتقبيح ما حسنه العقل حتى لم يجز ورود نسخ الإيمان ولا ورود شرعية الكفر فعلم أن العقل موجب بذاته بدون الشرع وأن الشرع تابع له فيما عرف حسنه وقبحه به. ونحن نسلم لهم معرفة الحسن والقبح بالعقل وامتناع نسخ ما حسنه وشرع ما قبحه ولكن ذلك لا يدل على أن العقل موجب بذاته لما بينا أنه عجز بنفسه بل الموجب هو الله تعالى في الحقيقة ولكن بالعقل يعرف ذلك لأنه تعالى جعله دليلا وطريقا إلى العلم, والدليل بنفسه لا يكون موجبا فثبت أن ما ذكره الخصم لا يصلح دليلا على ما ادعاه وما ذكروا أن الشرع لم يرد بما لا يدركه العقول ظاهر الفساد لأن الله تعالى شرع من المقدرات ما لا يدركه العقول كأعداد الركعات ومقادير الزكوات والجنايات والحدود ونحوها.
قوله: "ومن ألغاه" أي العقل من كل وجه وهم الأشعرية فلا دليل له أيضا أي ليس له دليل قاطع وهو مذهب الشافعي رحمه الله فإن مذهبه كمذهب أبي الحسن(4/332)
قوم لم يبلغهم الدعوة إذا قتلوا ضمنوا فجعل كفرهم عفوا ومن كان فيهم من جملة من تعذر على ما فسرنا لم يستوجب عصمة بدون دار الإسلام وذلك لأنه لا يجد في الشرع أن العقل غير معتبر لأهليته فإنما يلغيه بطريق دلالة الاجتهاد
ـــــــ
الأشعري في مثل هذه المسائل ودليل على أن ذلك مذهبه ما قال في قوم لم يبلغهم الدعوة إذا قتلهم المسلمون قبل الدعوة ضمنوا دماءهم فجعل كفرهم عفوا حيث جعلهم كالمسلمين في الضمان وأصحابنا قالوا لا يضمنون لأن قتلهم وإن كان حراما قبل الدعوة ليس بسبب للضمان لأنا لم نجعل كفرهم عفوا بحال ولم نجعل غفلتهم عن الإيمان والكفر عذرا بعد استيفاء مدة التأمل فكان قتلهم قبل الدعوة مثل قتل نساء أهل الحرب بعد الدعوة فلا يوجب ضمانا. ولما كان لقائل أن يقول إن جعلت دماءهم هدرا باعتبار أن كفرهم لم يجعل عفوا ينبغي أن يوجب الضمان بقتل من كان منهم معذورا مثل الصبيان والمجانين والذين لم يستوفوا مدة التأمل وقتلهم لا يوجب ضمانا عندكم أيضا أشار إلى الجواب بقوله ومن كان منهم من جملة من يعذر على ما فسرنا بأن كان صبيا أو ممن لم يستوف مدة التأمل لم يستوجب عصمة بدون دار الإسلام لما عرفه أن العصمة المقومة لا تثبت بدون الإحراز بدار الإسلام عندنا فلذلك كان دماؤهم هدرا أيضا. ألا ترى أن قتل من أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا لا يوجب ضمانا لما قلنا فهذا أولى.
قوله: "وذلك" متصل بقوله فلا دليل له أيضا ولقوله فليس معه دليل يعني إنما قلنا إنه لا دليل للفريقين لأن القائل بكونه يلغى لا يجد في نصوص الشرع أن العقل غير معتبر للأهلية فلو ألغاه إنما يلغيه بطريق الاجتهاد والمعقول لأنه لما لم يجد نصا لا بد له من الرجوع إلى المعقول بأن يقول قد وجدنا من العقلاء من ألحق بعد, ثم العقل في سقوط التكليف عنه باعتبار سقوط الخطاب عنه شرعا كالصبي العاقل فعرفنا أن العقل ساقط الاعتبار عند عدم الشرع وحينئذ كان متناقضا في مذهبه لأنه أثبت بالعقل أن العقل ليس بحجة فصار كأنه يقول العقل حجة وليس بحجة ثم رد قول الفريق الأول فقال وإن العقل بكسر الهمزة. ويجوز بفتحها أيضا عطفا على قوله أنه لا يجد وهو الأظهر أي لا يستقيم أيضا جعله حجة موجبة بنفسه لأن العقل لا ينفك عن الهوى لأنه لا عقل في أول الفطرة والنفس غالبة بهواها وإذا حدث العقل حدث مغلوبا به إلا في حق من شاء الله من الخواص وإذا كان مغلوبا لم يكن له عبرة لأن المغلوب في مقابلة الغالب في حكم العدم فلا يصلح حجة بنفسه ألا ترى أنه لا يجوز في الحكمة إلزام العمل حسا والعامل مغلوب بالمانع فكذا لا يحسن إلزام العمل بالحجة والحجة مدفوعة مغلوبة بغيرها وإذا كان كذلك لا بد من تأيده بدعوة الرسول أو ما يقوم مقامها من إدراك زمان التأمل والتجربة لتتم الحجة.(4/333)
والمعقول فيناقض مذهبه وأن العقل لا ينفك عن الهوى فلا يصلح حجة بنفسه بحال وإنما وجب نسبة الأحكام إلى العلل تيسيرا على العباد من غير أن يكون عللا بذواتها وأن يجعل العقل علة بنفسه وهو باطن فيه حرج عظيم فلم يجز ذلك والله أعلم وإذا ثبت أن العقل من صفات الأهلية قلنا إن الكلام في هذا ينقسم إلى قسمين الأهلية والأمور المعترضة على الأهلية.
ـــــــ
"فإن قيل قد تمسك كل فريق بنصوص كما تلونا فكيف ذكر الشيخ أنه لا دليل لهم" قلنا تلك نصوص مؤولة بعضها معارض ببعض فلم يتم الحجة لأحد الفريقين بها لتأويل الفريق الآخر إياها بما يوافق مذهبهم فصارت كأنها ساقطة في حق التمسك بها في هذه المسألة لتعارضها على أنك إذا تأملت فيها عرفت أنها لا تدل على أن العقل موجب بنفسه من غير إيجاب الشارع كما ذهب إليه الفريق الأول ولا على أنه يلغى أيضا كما ذهب إليه الفريق الثاني فكانت عن محل النزاع بمعزل فلذلك قال الشيخ لا دليل لهم.
وقوله: وإنما وجب نسبة الأحكام إلى العلل إشارة إلى دليل آخر على فساد جعل العقل بنفسه حجة وتقريره أن الله تعالى إنما شرع العلل لنسبة الأحكام إليها تيسيرا على العباد فإن إيجابه كان غيبا عنهم فلم يكن بد من علل ظاهرة تضاف الأحكام إليها دفعا للحرج عنهم أو الوقوف على الإيجاب متعذر فكانت علل الشرع في الظاهرة أمارات على الإيجاب في الحقيقة كما قرع سمعك غير مرة فلو جعلنا العقل علة موجبة للأحكام نفسه مع أنه أمر باطن كان مؤديا إلى العسر والحرج العظيم لتعذر الوقوف على الأمور الباطنة وهو خلاف موضوع العلل لأنها وضعت للتيسير فلا يجوز والله أعلم في هذا أي في الأهلية على تأويل المذكور.(4/334)
"باب بيان الأهلية"
وما يتصل بها الأهلية ضربان أهلية وجوب وأهلية أداء أما أهلية الوجوب فينقسم فروعها وأصلها واحد وهو الصلاح للحكم فمن كان أهلا لحكم الوجوب بوجه كان هو أهلا للوجوب ومن لا فلا وأهلية الأداء نوعان كامل يصلح للزوم العهدة وقاصر للزوم العهدة وقاصر لا يصلح للزوم العهدة أما أهلية الوجوب فبناء على قيام الذمة وأن الآدمي يولد وله ذمة صالحة للوجوب بإجماع الفقهاء
ـــــــ
"باب بيان الأهلية"
أهلية الإنسان للشيء صلاحيته لصدور ذلك الشيء وطلبه منه وهي في لسان الشرع عبارة عن صلاحيته لوجوب الحقوق المشروعة له وعليه وهي الأمانة التي أخبر الله عز وجل بحمل الإنسان إياها بقوله: {وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ} [الأحزاب: 72] أما أهلية الوجوب فينقسم فروعها بحسب انقسام الأحكام فالصبي أهل لبعض الأحكام وليس بأهل لبعضها أصلا وهو أهل لبعضها بواسطة رأي الولي فكانت هذه الأهلية منقسمة نظرا إلى أفراد الأحكام وأصلها واحد وهو الصلاح للحكم أي لحكم الوجوب بوجه وهو المطالبة بالواجب أداء وقضاء والعهدة استحقاق حقوق تلزم بالعقد وقيل هي نفس العقد لأن العقد والعهد سواء والعهدة التبعة أيضا غير أن في حقوق العباد المقصود منها المال وفي حقوق الله تعالى المقصود استحقاق الأداء ابتلاء ليظهر المطيع من العاصي كذا رأيت بخط شيخي رحمه الله أما أهلية الوجوب فبناء على قيام الذمة أي لا تثبت هذه الأهلية إلا بعد وجود ذمة صالحة لأن الذمة هي محل الوجوب ولهذا يضاف إليها ولا يضاف إلى غيرها بحال. ولهذا اختص الإنسان بالوجوب دون سائر الحيوانات التي ليست لها ذمة.
قوله: "وأن الآدمي يولد" دليل على قيام الذمة للإنسان للوجوب أي للوجوب له وعليه بإجماع الفقهاء حتى يثبت له ملك الرقبة وملك النكاح بشراء الولي وبتزويجه إياه ويجب عليه الثمن والمهر بعقد الولي وهذا رد لما ذكر بعض من لم يشم رائحة الفقه في مصنفه في أصول الفقه أن تقدير المال في الذمة لا معنى له وأن تقدير الذمة من الترهات(4/335)
رحمهم الله بناء على العهد الماضي قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172] الآية وقال تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ
ـــــــ
التي لا حاجة في الشرع والعقل إليها بل الشرع مكنه بأن يطالبه بذلك القدر من المال فهذا هو المعقول عرفا وشرعا فقال هي ثابتة بالإجماع فمن أنكرها فهو مخالف للإجماع قال القاضي الإمام أبو زيد رحمه الله الذمة عبارة عن العهد في اللغة فالله تعالى لما خلق الإنسان محل أمانته أكرمه بالعقل والذمة حتى صار بهما أهلا لوجوب الحقوق له وعليه فثبت له حق العصمة والحرية والمالكية بأن حمل حقوقه وثبتت عليه حقوق الله تعالى التي سماها أمانة ما شاء كما إذا عاهدنا الكفار وأعطيناهم الذمة ثبتت لهم حقوق المسلمين وعليهم في الدنيا والآدمي لا يخلق إلا وله هذا العهد والذمة فلا يخلق إلا وهو أهل لوجوب حقوق الشرع عليه كما لا يخلق إلا وهو حر مالك لحقوقه وإنما تثبت له هذه الكرامات بناء على الذمة وحمله حقوق الله عز وجل.
قوله: "بناء على العهد الماضي" يعني إنما ثبتت له الذمة التي هي عبارة في الشرع عن وصف يصير الشخص به أهلا للإيجاب والاستيجاب بناء على العهد الماضي الذي جرى بين العبد والرب يوم الميثاق كما أخبر الله تعالى عنه بقوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في تفسير هذه الآية: "أخذ الله الميثاق من ظهر آدم فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين يديه ثم كلمهم قبلا أي عيانا بحيث يعاينهم آدم. وقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف: 172] تلاها إلى قوله: {الْمُبْطِلُونَ} " وروى حديث أخذ الميثاق جماعة منهم ابن عباس وابن مسعود وأبي بن كعب والحسن والكلبي وابن بنذر. ومعمر والسدي ومقاتل ومجاهد وأبو العالية وعطاء بن السائب وأبو قلابة وغيرهم قال أبو العالية جمعهم جميعا فجعلهم أزواجا ثم صورهم ثم استنطقهم وأخذ عليهم الميثاق على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا قال فإني أشهد عليكم السموات السبع والأرضين السبع وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة ما لم تعلموا اعلموا أنه لا إله غيري فلا تشركوا بي شيئا وإني سأرسل إليكم رسلا يذكر بكم عهدي وأنزل عليكم كتبي قالوا نشهد إنك إلهنا لا إله غيرك فأقروا يومئذ بالطاعة وفي رواية مقاتل أن الله تعالى مسح صفحة ظهر آدم اليمنى أي أمر ملكا بذلك فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر يتحركون ثم مسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر فقال يا آدم هؤلاء ذريتك آخذ ميثاقهم على أن يعبدوني ولا يشركوا بي شيئا وعلي رزقهم فقال نعم يا رب فقال لهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى ثم أفاضهم إفاضة القداح ثم أعادهم جميعا في(4/336)
طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الاسراء: 13] والذمة العهد وإنما يراد به نفس ورقبة لها ذمة
ـــــــ
صلب آدم فأهل القبور محبوسون حتى يخرج أهل الميثاق كلهم من أصلاب الرجال وأرحام النساء قال الله تعالى فيمن نقض العهد الأول: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} [الأعراف: 102]. وإلى هذا القول ذهبت عامة المفسرين وأهل الحديث فهذا هو المراد بقوله بناء على العهد الماضي يعني العهد الذي أخذ عليهم يوم الميثاق فإن قيل ظاهر الآية لا يوافق هذا التفسير فإن الآية تدل على أخذ الذرية من ظهور بني آدم فإن قوله تعالى: {مِنْ ظُهُورِهِمْ} بدل من بني آدم بدل البعض من الكل بتكرير الجار والحديث يدل على إخراج الذرية من صلب آدم فما وجه التوفيق قلنا وجه التوفيق ما قال الكتاني أن الله تعالى أخرج ذرية آدم بعضهم من ظهور بعض على حسب ما يتوالدون إلى يوم القيامة فكان ذلك أخذا من ظهره وكان ذلك في أدنى مدة كما يكون في موت الكل بالنفخ في الصور وحياة الكل بالنفخة الثانية. فإن قيل فما وجه إلزام الحجة بهذه الآية ونحن لا نذكر هذا الميثاق وإن تفكرنا جهدنا في ذلك قلنا أنسانا الله تعالى ابتلاء لأن الدنيا دار غيب وعلينا الإيمان بالغيب ولو تذكرنا ذلك زال الابتلاء وليس ما ينسى يزول به الحجة ويثبت به العذر قال الله تعالى في أعمالنا: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6] وأخبر أنه سينبئنا بها ولأن الله تعالى جدد هذا العهد وذكرنا هذا المنسي بإنزال الكتب وإرسال الرسل فلم نعذر كذا في التيسير والمطلع وذكر في الكشاف أن معنى أخذ ذريتهم من ظهورهم إخراجهم نسلا وإشهادهم على أنفسهم. وقوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف: 172] من باب التمثيل والتخييل ومعنى ذلك أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها في أنفسهم وجعلها مميزة بين الضلالة والهدى فكأنه أشهدهم على أنفسهم وقررهم. وقال ألست بربكم وكأنهم قالوا بلى أنت ربنا شهدنا على أنفسنا وأقررنا بوحدانيتك وباب التخييل واسع في كلام الله ورسوله وفي كلام العرب وإلى هذا القول مال الشيخ أبو منصور وجماعة من المحققين فعلى هذا يكون أخذ الميثاق الذي نحن بصدده ثابتا بالسنة دون الآية.
قوله: "وقال تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} " أي ألزمناه ما طار له من عمله من قولهم طار سهمه بكذا يعني عمله لازم له لزوم القلادة أو هو رد لتطيرهم بالسانح والبارح من الطير وقوله في عنقه عبارة عن اللزوم يقال لمن التزم شيئا يقلده طوق الحمامة ويقول الرجل لآخر جعلت هذا الأمر في عنقك إذا ألزمه إياه أو هو عبارة عن الشخص كالرقبة. والذمة في اللغة العهد لأن نقضه يوجب الذم قال تعالى: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً} [التوبة: 10] أي عهدا وقال عليه السلام: "وإن أرادوكم(4/337)
وعهد حتى إن ولي الصبي إذا اشترى للصبي كما ولد لزمه الثمن وقبل الانفصال هو جزء من وجه فلم يكن له ذمة مطلقة حتى صلح ليجب له الحق ولم يجب عليه وإذا انفصل فظهرت ذمته مطلقة كان أهلا بذمته للوجوب غير أن الوجوب غير مقصود بنفسه فيجوز أن تبطل لعدم حكمه وغرضه فكما ينعدم الوجوب لعدم محله فكذلك يجوز أن ينعدم لعدم حكمه أيضا فيصير هذا القسم منقسما
ـــــــ
أن تعطوهم ذمة الله فلا تعطوهم" أي عهده وإنما يراد به أي بالذمة في الشرع على تأويل المذكور أو العهد نفس ورقبة لها ذمة وعهد أي عهد سابق كما بينا يعني المراد بالوجوب في الذمة في قولهم وجب في ذمته كذا الوجوب في محل ثبت فيه العهد الماضي وهو النفس أو الرقبة إلا أنه سمى محل التزام السنة بها. وقوله: حتى أن ولي الصبي متعلق بقوله يولد وله ذمة صالحة للوجوب لزمه الثمن لأنه أهل للملك وأهل لحكم الوجوب وهو المطالبة بواسطة الولي لأنه واجب مالي فتجري فيه النيابة وقبل الانفصال عن الأم هو جزء من وجه يعني حسا وحكما أما حسا فلأن قراره وانتقاله بقرار الأم وانتقالها كيدها ورجلها وسائر أعضائها ولهذا يقرض بالمقراض عنها عند الولادة وأما حكما فلأنه بعتقها يعتق ويرق باسترقاقها ويدخل في البيع ببيعها ولكنه لما كان منفردا بالحياة معدا للانفصال وصيرورته نفسا برأسه لم يكن جزء الأم مطلقا فلم يكن له ذمة مطلقة أي كاملة حتى صلح لأن يجب له الحق من العتق والإرث والوصية والنسب ولم يجب عليه أي لا يصلح لأن يجب عليه الحق حتى لو اشترى الولي له شيئا لا يجب عليه الثمن ولا يجب عليه نفقة الأقارب ونحوهما وإذا انفصل عن الأم بالولادة فظهرت ذمته مطلقة لصيرورته نفسا من كل وجه وهو عطف على الشرط والجواب كان أي صار أهلا بسبب ذمته للوجوب له وعليه وكان ينبغي أن تجب عليه الحقوق بجملتها كما تجب على البالغ لتحقق السبب وكمال الذمة غير أن الوجوب أي لكن نفس الوجوب غير مقصود بنفسه بل المقصود منه حكمه وهو الأداء عن اختيار ليتحقق الابتلاء ولم يتصور ذلك في حق الصبي لعجزه. فيجوز أن يبطل الوجوب أي لا يثبت في حقه أصلا لعدم حكمه وهو المطالبة بالأداء وغرضه وهو الابتلاء لعدم محله كبيع الحر وإعتاق البهيمة فيصير هذا القسم يعني لما جاز أن يبطل الوجوب لعدم الحكم صار هذا القسم وهو الوجوب أو أهلية الوجوب منقسما بانقسام الأحكام لا باعتبار ذاته فكل قسم يتصور شرعيته في حق الصبي يجوز أن يثبت وجوبه في حقه وما لا فلا. ثم الأحكام منقسمة إلى حق الله تعالى وحق العبد والذي اجتمع فيه الحقان إلى آخر الأقسام المذكورة في أول باب معرفة العلل والأسباب والشروط وبعضها مشروع في حق الصبي كحق العبد من الأموال فيكون أهلا لوجوبه(4/338)
بانقسام الأحكام, وقد مر التقسيم قبل هذا في أول الفصل. فأما في حقوق العباد فما كان منها غرما وعوضا فالصبي من أهل وجوبه لأن حكمه وهو أداء العين يحتمل النيابة لأن المال مقصود لا الأداء فوجب القول بالوجوب عليه متى صح سببه وما كان صلة لها شبه بالمؤن وهي نفقة الزوجات والقرابات لزمه أيضا الزوجات فلها شبه بالأعواض وأما الأخرى فمؤنة اليسار, وكل صلة لها شبه بالأجزية لم يكن الصبي من أهله مثل تحمل العقل لأنه لا يخلو عن صفة الجزاء
ـــــــ
وبعضها ليس بمشروع أصلا في حقه كالعقوبات فلا يكون أهلا لوجوبه فلم يكن بد من تفصيل الأحكام في حقه وترتيب الوجوب عليها وتقسيم الوجوب بحسب انقسامها فشرع في بيان ذلك بقوله فأما في حقوق العباد فما كان منها غرما كضمان الإتلافات وعوضا كثمن للبيع والأجرة فالصبي من أهل وجوبه وإن لم يكن عاقلا حتى لو أتلف مال إنسان أو اشترى له الولي شيئا أو استأجره له يجب عليه الضمان والثمن والأجرة لأن حكمه الضمير راجع إلى ما أو للوجوب أي حكم الوجوب في حقوق العباد يحتمل النيابة لأن المال هو المقصود في حقوق العباد دون الفعل إذ المقصود دفع الخسران بما يكون خيرا له أو حصول الربح وذلك يكون بالمال وأداء وليه كأدائه في حصول هذا المقصود به فوجب القول بالوجوب عليه متى صح سببه بأن تحقق الإتلاف أو وجد البيع بشرائطه المال الواجب صلة هو الذي لا يستفاد به عوض. أما نفقة الزوجات فلها شبه بالأعواض أجمعوا على أن نفقة المرأة لا تجب عوضا حقيقة لأن المعاوضة إنما تثبت فيما دخل تحت العقد بالتسمية بطريق الأصالة بدليل أن المعاوضة بالبيع إنما تثبت بين المبيع والثمن ولا تثبت بين حقوق العقد وثمراته ولا بين أوصاف المبيع والثمن وإن دخلت تحت التسمية لأنها دخلت تبعا ولأن المرأة متى حبست نفسها لاستيفاء المهر استحقت النفقة ولو كانت عوضا عن الاحتباس للرجل لسقطت بفوته كيف ما فات كما في الإجارة متى لم تسلم المؤاجر ما آجر بأي وجه منع سقط الأجر ولكنها عند الشافعي تجب صلة مستحقة بالعقد ثمرة من ثمراته ثم لزمها الاحتباس جزاء على النفقة وعندنا تجب على الرجل جزاء لها على الاحتباس الواجب عليها عند الرجل كنفقة القاضي فمن حيث إنها لم تجب بعقد المعاوضة كانت صلة كنفقة الأقارب ومن حيث إنها وجبت جزاء أشبه الأعواض فبالمعنى الأول ينبغي أن لا تجب دينا بحال بمضي المدة وبالمعنى الثاني يجب أن لا تسقط بمضي المدة فجعل لها منزلة بين الأمرين فقيل تسقط بمضي المدة إذا لم يوجد التزام كنفقة الأقارب وتصير دينا بالالتزام كالأعواض, كذا في الأسرار. فهذا معنى قوله لها شبه بالأعواض وأما الأخرى وهي نفقة الأقارب فمؤنة اليسار أي هي مؤنة متعلقة(4/339)
مقابلا بالكف عن الأخذ على يد الظالم ولذلك اختص به رجال العشائر وما كان عقوبة أو جزاء لم يجب عليه على ما مر لأنه لا يصلح لحكمه فبطل القول بلزومه, وكذلك القول في حقوق الله تعالى على الإجمال أن الوجوب لازم متى صح بحكمه ومتى بطل القول بحكمه بطل بوجوبه وإن صح سببه القول ومحله لأن الوجوب كما ينعدم مرة لعدم سببه لعدم محله فينعدم أيضا لعدم حكمه وقد مر تقسيم هذه الجملة أيضا. فأما الإيمان فلا يجب على الصبي قبل أن يعقل لما قلنا من عدم أهلية الأداء وكذلك العبادات الخالصة المتعلقة بالبدن أو بالمال لا يجب عليه وإن وجد سببها ومحلها لعدم الحكم وهو الأداء لأن الأداء هو المقصود في حقوق الله تعالى وذلك فعل يحصل عن اختيار على
ـــــــ
باليسار ولذلك لا تجب إلا على الغني والصبي من أهل وجوب المؤن عليه فتجب عليه هذه المؤنة عند حصول الغناء كما تجب عليه نفقة نفسه إذا كان له مال والمقصود إزالة حاجة المنفق عليه بوصول كفايته إليه وذلك يكون بالمال وأداء الولي فيه كأدائه فعرفنا أن الوجوب غير خال عن حكمة مثل تحمل العقل أي الدية لأنه أي تحمل العقل أو وجوبه ولذلك أي ولأنه وجب مقابلا بالكف اختص به أي بتحمل العقل ووجوبه رجال العشائر الذين من أهل هذا الحفظ دون النساء لأنهن لا يقدرن عليه لضعفهن والصبي ليس بأهل لوجوب الجزاء بوجه وما كان عقوبة أي من حقوق العباد كالقصاص أو جزاء كحرمان الميراث لم يجب على الصبي على ما مر أي في باب معرفة العلل لأنه أي الصبي لا يصلح لحكمه وهو المطالبة بالعقوبة أو جزاء الفعل.
قوله: "وكذلك" أي ومثل القول في حقوق العباد أنه متى كان أهلا لحكم الوجوب في شيء كان أهلا لوجوبه القول في حقوق الله تعالى على الإجمال أي على الجملة وإن صح سببه بأن تحقق دلوك الشمس وشهود الشهر ومحله وهو الذمة وقد مر تقسيم هذه الجملة وهي حقوق الله تعالى في ذلك الباب أيضا.
ثم شرع في تفصيل ما أجمل فقال فأما الإيمان فلا يجب على الصبي قبل أن يعقل لعدم أهلية الأداء وجوبا أو وجودا في حقه فما كان القول بالوجود في حقه بدون أهلية الأداء إلا نظير القول بالوجوب بدون المحل باعتبار السبب كما في حق البهائم فلا يجوز وكذلك أي ومثل الإيمان العبادات الخالصة المتعلقة بالبدن كالصلاة والصوم والحج أو بالمال كالزكاة لأن الأداء أي الفعل هو المقصود يعني في حق من علم الله تعالى منه أنه يأتمر أما في حق من علم أنه لا يأتمر فالمقصود الابتلاء وإلزام الحجة.(4/340)
سبيل التعظيم تحقيقا للابتلاء والصغر ينافيه وما يتأدى بالنائب لا يصلح طاعة لأنها نيابة جبر لا اختيار فلو وجب مع ذلك لصار المال مقصودا وذلك باطل في جنس القرب فلذلك لم يلزمه الزكاة والصلاة والحج والصوم وما يشوبه معنى المؤنة مثل صدقة الفطر لم يلزمه عند محمد رحمه الله لما قلنا ولزمه عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله اجتزاء بالأهلية القاصرة والاختيار القاصر وذلك
ـــــــ
والصغر ينافيه أي الابتلاء لأن الابتلاء بالفعل إنما ثبت ليظهر المطيع من العاصي ومع الصبا لا يتحقق ذلك ولا يظهر أيضا مع الجبر لأنه مجازى على فعله ولا جزاء مع الجبر لأنه لا فعل للمجبر حقيقة فلا يستحق الجزاء. وقوله: وما يتأدى بالنائب جواب عما قال الشافعي أن الزكاة تجب على الصبي في ماله لأن الزكاة يتأدى بالنائب وهو الوكيل كما يتأدى حقوق العباد به فيتأدى بالولي أيضا ألا ترى أنه يجب عليه صدقة الفطر والعشر لما قلنا فكذا الزكاة فقال وما يتأدى بالنائب أي بمثل هذا النائب وهو الولي لا يصلح طاعة لأن هذه النيابة نيابة جبر لا اختيار لثبوتها على الصبي شرعا شاء أو أبى والزكاة طاعة محضة فلا يتأدى بمثل هذه النيابة لأنه يصير إعطاء بطريق الكره. بخلاف نيابة الوكيل لأنها نيابة اختيار حيث ثبتت بإنابته فينتقل فعل النائب إلى الموكل بالأمر فتصلح لأداء العبادة فلو وجب يعني ما يتأدى بالنائب على الصبي باعتبار أداء النائب مع أن هذه نيابة جبر لصار المال هو المقصود في هذه العبادة كما في حقوق العباد دون الفعل الذي به يحصل الابتلاء وذلك أي كون المال مقصودا باطل في جنس القرب لأنه يدل على حاجة صاحب الحق كما في حقوق العباد ومن يقع له القربة أغنى الأغنياء ومالك ما في السموات والأرض ومنزه عن نقيصة الحاجة فلا يجوز أن يصير المال في القربة مقصودا.
فإن قيل ما ذكرتم مردود بما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ابتغوا في أموال اليتامى خيرا كي لا تأكلها الصدقة" 1 وفي رواية كي لا تأكلها الزكاة وفي رواية: "من ولي مال اليتيم فليؤد زكاته" قلنا هذا خبر مزيف فإن الصحابة اختلفوا في هذه المسألة فقال ابن عباس رضي الله عنهما لا زكاة في مال الصبي. وقال ابن مسعود رضي الله عنه يعد الوصف عليه السنين لم يجبره بعد البلوغ فإن شاء أدى وإن شاء لم يؤد وعن عمر وابن عمر وعائشة رضي الله عنهم أنهم أوجبوا ولم تجر المحاجة بينهم بهذا الحديث ولو بلغهم لما وسعهم ترك المحاجة به ولو احتجوا به لاشتهر أكثر من شهرة الفتوى, وخبر الواحد يرد بمثله عندنا مع أنه روي عن الحسن البصري أنه حكى إجماع السلف في أن لا زكاة على الصبي.
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في الزكاة حديث رقم 641.(4/341)
بواسطة الولي ولزمه ما كان مؤنة في الأصل وهو العشر والخراج لما ذكرنا وما كان عقوبة لم يجب أصلا لعدم حكمه ولهذا كان الكافر أهلا لأحكام لا يراد بها وجه الله تعالى لأنه أهل لأدائها فكان أهلا للوجوب له وعليه, ولما لم يكن أهلا لثواب الآخرة لم يكن أهلا لوجوب شيء من الشرائع التي هي طاعات الله عز وجل عليه وكان الخطاب بها موضوعا عنه عندنا ولزمه الإيمان بالله تعالى
ـــــــ
قوله: "وما يشوبه" أي يخلطه معنى المؤنة مثل صدقة الفطر لم يلزم الصبي عند محمد وزفر رحمهما الله لما قلنا آنفا أنه ليس بأهل للعبادة المالية بواسطة أداء الولي وقد ترجح معنى العبادة فيها فصار معنى المؤنة بمنزلة المعدوم اجتزاء أي اكتفاء. وذلك أي الاختيار القاصر وقد مر بيان هذه المسألة ولزمه ما كان مؤنة في الأصل وهو العشر والخراج وإنما قيد به لأن معنى العبادة خالط العشر حتى لم يجب على الكافر عند أبي حنيفة رحمه الله ومعنى العقوبة خالط الخراج حتى لا يبتدئ على المسلم ولكنهما في الأصل من مؤن الأرض كما مر بيانه ومعنى العبادة والعقوبة فيهما ليسا بمقصودين والمقصود منهما المال وأداء الولي في ذلك كأدائه فيكون الصبي من أهل وجوبهما ولما ذكرنا أي في نفقة الأزواج أن الصبي أهل لوجوب المؤن وما كان عقوبة من حقوق الله تعالى لم يجب على الصبي كالحدود كما لا يجب ما هو عقوبة من حقوق العباد وهو القصاص لعدم حكمه وهو المؤاخذ بالعقوبة.
قوله: "ولهذا" أي ولما ذكرنا أن من كان أهلا لحكم الوجوب وهو المطالبة بالأداء كان أهلا لنفس الوجوب كان الكافر أهلا لأحكام لا يراد بها وجه الله تعالى مثل المعاملات والعقوبات من الحدود والقصاص لأنه أهل لأدائها إذ المطلوب من المعاملات مصالح الدنيا وهم أليق بأمور الدنيا من المسلمين لأنهم آثروا الدنيا على الآخرة وكذا المقصود من العقوبات المشروعة في الدنيا الانزجار عن الإقدام على أسبابها وهذا المعنى مطلوب من الكافر كما هو مطلوب من المؤمن بل الكافر أليق بما هو عقوبة وجزاء من المؤمن فكان أهلا للوجوب له وعليه فيجب له الثمن والأجرة والمهر إذا زوج أمته والقصاص إذا قتل وليه كما تجب عليه هذه الأشياء ولما لم يكن أهلا لثواب الآخرة لم يكن أهلا لوجوب شيء من الشرائع. لا خلاف أن الخطاب بالشرائع التي هي للطاعات يتناول الكفار في حكم المؤاخذة في الآخرة على معنى أنهم يؤاخذون بترك الاعتقاد لأن موجب الأمر اعتقاد اللزوم والأداء وإنهم ينكرون اللزوم اعتقادا وذلك كفر منهم بمنزلة إنكار التوحيد فإن التصديق والإقرار بالتوحيد لا يكون مع إنكار شيء من الشرائع فيعاقب عليه في الآخرة كما يعاقب على أصل الكفر.(4/342)
لما كان أهلا لأدائه ووجوب حكمه ولم يجعل مخاطبا بالشرائع بشرط تقديم الإيمان لأنه رأس أسباب أهلية أحكام نعيم الآخرة فلم يصلح أن يجعل شرطا
ـــــــ
فأما في وجوب الأداء في أحكام الدنيا فمذهب العراقيين من أصحابنا أن الخطاب يتناول وأن الأداء واجب عليهم وهو مذهب الشافعي وعامة أصحاب الحديث. وقال عامة مشايخ ديارنا أنهم لا يخاطبون بأداء ما يحتمل السقوط من العبادات وإليه مال القاضي الإمام أبو زيد والشيخان وهو المختار وفائدة الخلاف لا تظهر في أحكام الدنيا فإنهم لو أدوها في حال الكفر لا تكون معتبرة بالاتفاق ولو أسلموا لا يجب عليهم قضاء العبادات الفائتة بالإجماع وإنما تظهر في حق أحكام الآخرة فإن عند الفريق الأول يعاقب الكفار بترك العبادات زيادة على عقوبة الكفر كما يعاقبون بترك الاعتقاد وعند الفريق الثاني لا يعاقبون بترك العبادات. كذا في الميزان تمسك الفريق الأول بقوله تعالى إخبارا عن مسألة أهل الجنة إياهم: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ*قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر: 42, 43] الآيات فظاهر هذا النص يقتضي أنهم يعاقبون في الآخرة على الامتناع من الأداء في الدنيا فدل أن الأداء واجب عليهم فيها وبقوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ*الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 6, 7] أخبر بالويل لهم بعدم إيتاء الزكاة فدل على وجوبها عليهم وبأن سبب الوجوب متقرر وصلاحية الذمة للوجوب موجودة وشرط وجوب الأداء وهو التمكن منه غير معدوم في حقهم لتمكنهم من الأداء بشرط تقديم الإيمان كالجنب والمحدث يخاطبان بأداء الصلاة لتمكنهما من أدائها بتقديم الطهارة عليه فلو سقط الخطاب بالأداء بعد كان ذلك تخفيفا بسبب الكفر وهو لا يصلح سببا للتخفيف لأنه جناية ألا ترى أن زوال التمكن بسبب السكر وبسبب الجهل إذا كان عن تقصير منه لا يسقط الخطاب بالأداء فبسبب الكفر الذي هو رأس الجنايات أولى وإنما لا يجب القضاء بعد الإسلام لأن الكافر إذا أسلم سقطت الواجبات عنه بعد الوجوب بعفو صاحب الحق بقوله تعالى : {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]. وقوله عليه السلام: "الإسلام يجب ما قبله" 1 لا أنها لم تجب فإذا مات على الكفر لم يوجد المسقط فيعاقب على تركها في الآخرة وليس حكم الوجوب وفائدته الأداء لا غير فإن الإيمان واجب على كافر قد علم الله تعالى منه أنه يموت على الكفر, وكذا الصلاة واجبة على مسلم علم الله تعالى منه أنه لا يصلي هذه الصلاة ولا يتصور منهما الأداء لأن خلاف معلوم الله تعالى محال ولكنهما وجبا لفائدة توجه العذاب في الآخرة فكذا هاهنا ووجه القول المختار ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال له: "ادعهم إلى شهادة أن لا
ـــــــ
1 أخرجه الإمام أحمد في المسند 4/199.(4/343)
................................................................................................
إله إلا الله فإن هم أجابوك فأعلمهم أن عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة" الحديث فهذا تنصيص على أن وجوب أداء الشرع يترتب على الإجابة إلى ما دعوا إليه من أصل الدين وما أشير إليه في الكتاب وهو أن حكم الوجوب الأداء وفائدة الأداء نيل الثواب في الآخرة حكما من الله تعالى والكافر مع صفة الكفر ليس بأهل للثواب عقوبة له على كفره حكما من الله تعالى كالعبد لا يكون أهلا لملك المال والمرأة لا تكون أهلا لملك المتعة لها على الرجل بسبب النكاح ولا بسبب ملك الرقبة حكما من الله عز وجل وإذا انتفت أهلية ما هو المطلوب بالأداء انتفت أهلية الأداء بدون أهليته لا يثبت الوجوب وهذا بخلاف وجوب الإيمان فإنه أهل لأدائه حيث يصير به أهلا لما وعد الله المؤمنين فكان أهلا لوجوبه. وذكر في الميزان أن إيجاب الشرائع على الكافر تكليف بما ليس في الوسع لأنها إما أن يجب لتؤدى في حالة الكفر أو لتؤدى بعد الإسلام لا وجه إلى الأول لأن الكفر مانع من صحة أداء العبادات ولا إلى الثاني لأن قضاءها لا يجب بعد الإسلام وتكليف ما ليس في الوسع غير جائز سمعا وعقلا. وقوله: ولم يجعل مخاطبا بالشرائع إلى آخره جواب عما قالوا إن الكافر وإن لم يكن أهلا للخطاب بالشرائع مع صفة الكفر ولكنه أهل له بشرط تقديم الإيمان فجعل الإيمان ثابتا اقتضاء تصحيحا لتكليفه بالشرائع كما قلنا في الجنب والمحدث فصار كأنه أمر بالإيمان أولا ثم بأداء الشرائع ثانيا فقال إنما يثبت الشيء اقتضاء إذا كان صالحا للتبعية لأن الثابت بالاقتضاء تابع للمقتضي لأنه ثبت لتصحيحه وليس الإيمان كذلك لأنه رأس أهلية نعيم الآخرة فلا يصلح أن يثبت شرطا لوجوب الشرائع بطريق الاقتضاء كما لو قال المولى لعبده أعتق عن نفسك عبدا أو قال له تزوج أربعا من النساء لا يصح الأمر بالإعتاق وبتزوج الأربع ولا تثبت حريته بطريق الاقتضاء تصحيحا للأمر لأن حرية أصل الأهلية الإعتاق وتزوج الأربع وهما تبع لها فلا يثبت مقتضى لما هو تبع لها فكذلك ها هنا ولأن الشيء إنما يثبت مقتضى لشيء إذا تقرر المقتضي كالبيع يثبت مقتضى الأمر بالإعتاق لتقرر صحة الإعتاق عند تحقق البيع, وبعد تحقق الإيمان هاهنا لا يبقى وجوب الأداء في شيء مما سبق في حالة الكفر فلا يجوز أن يثبت مقتضى به. وتبين بما ذكرنا أن سقوط الخطاب بالأداء عن الكفار ليس للتخفيف عليهم كما ظنوا بل لتحقيق معنى العقوبة والنعمة في حقهم بإخراجهم من أهلية ثواب العباد وذلك لأن الأمر لأداء العبادة للمؤدي المأمور لا للآمر فالكافر لم يستحق هذا النظر والمنفعة عقوبة له على كفره فكيف يكون فيه معنى التخفيف وكذا الإيجاب بالأمر نظر من الشرع للمأمور فعسى أن يقصر فيما لا يكون واجبا عليه ولا تقصير في أداء ما هو واجب عليه والكافر غير مستحق لهذا النظر فكان عدم تناول الخطاب إياهم تغليظا عليهم وإلحاقا لهم(4/344)
مقتضيا وقد قال بعض مشايخنا رحمهم الله بوجوب كل الأحكام والعبادات
ـــــــ
بالبهائم لا تخفيفا ولأن الخطاب بأداء العبادات ليسعى المرء بأدائها في فكاك نفسه قال عليه السلام: "الناس غاديان بائع نفسه فموبقها ومشتر نفسه فمعتقها" 1 يعني بالائتمار بالأوامر والقول بأن الكافر ليس بأهل للسعي في فكاك رقبته ما لم يؤمن لا يكون تخفيفا عليه وهو نظير أداء بدل الكتابة فإنه لما كان لتوصل المكاتب إلى فكاك رقبته لا يكون إسقاط المولى هذه المطالبة عنه عند عجزه بالرد في الرق تخفيفا عليه فإن ما يبقى فيه من ذل الرق فوق ضرر المطالبة بالأداء ومثاله من الحسيات مطالبة الطبيب المريض بشرب الدواء إذا كان يرجو له الشفاء يكون نظرا من الطبيب له وإذا أيس من شفائه فترك مطالبته بشرب الدواء لا يكون تخفيفا منه عليه بل يكون إخبارا بما هو أشد عليه من ضرر شرب الدواء وهو ما يذوق من كأس الحمام فكذلك قولنا أن الكفار لا يخاطبون بأداء الشرائع لا يتضمن معنى التخفيف بل يكون فيه بيان عظم الوزر والعقوبة فيما أصروا عليه من الشرك. وهو كسقوط خطاب الإيمان عن الكفار بعد البعث إذ لو بقي لقبل منهم إذا أجابوا فإن ذلك السقوط لا يكون تخفيفا بل بكون تنكيلا وأما تعلقهم بالنصوص فغير صحيح لأن المراد من المسلمين المعتقدون لها أي لم يكن من المعتقدين فرضية الصلاة وحقيتها على الوجه الذي جاء به الرسول كما في قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} [التوبة: 5] [التوبة: 11] أي قبلوها واعتقدوا حقيتها بدليل أن تخلية السبيل كانت واجبة قبل الأداء أو المراد لم نك من المؤمنين لأن الصلاة هي العلامة اللازمة للإيمان كما في قوله عليه السلام: "نهيت عن قتل المصلين" أي المؤمنين وكذا المراد من قوله تعالى: {لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 7] لا يقرون بفرضيتها كما قال الزجاج أو لا يزكون أنفسهم بالإيمان كما قاله الحسن وأما قولهم فائدة الوجوب الإثم والعقوبة فغير صحيح أيضا لأن الخطاب للأداء لا للإثم فلم يجز التصحيح لمكان الإثم بالترك كذا في التقويم وأصول شمس الأئمة والميزان.
قوله: "وقال بعض مشايخنا" أراد به القاضي الإمام أبا زيد ومن سلك طريقه فإنهم قالوا بوجوب حقوق الله تعالى جميعا على الصبي من حين يولد كوجوبها على البالغ ثم بسقوطها عنه بعد وجوب بعذر الصبا لدفع الحرج وذلك لأن الوجوب مبني على صحة الأسباب وقيام الذمة لا على القدرة وقد تحققا في حق الصبي لتحققها في حق البالغ لأن الصبي والبالغ في حق الذمة والسبب سواء وإنما يفترقان في وجوب الأداء فيثبت الوجود
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الطهارة حديث رقم 223 والترمذي برقم 3517 وابن ماجه برقم 280.(4/345)
على الصبي لقيام الذمة وصحة الأسباب ثم السقوط بعذر الحرج قال الشيخ الإمام رضي الله عنه وقد كنا عليه مدة لكنا تركناه بهذا القول الذي اخترناه وهذا أسلم الطريقين صورة ومعنى وتقليدا وحجة ولذلك قلنا في الصبي إذا بلغ
ـــــــ
باعتبار السبب والمحل وهذا لأن الحقوق الشرعية التي تلزم الآدمي بعد البلوغ تجب جبرا بلا اختيار منه شاء أو أبى وإذا لم يتعلق الوجوب عليه باختيار لم يفتقر إلى قدرة الفعل ولا قدرة التمييز. وإنما يعتبر القدرة والتمييز في وجوب الأداء وذلك حكم وراء أصل الوجوب. ألا ترى أن النائم والمغمى عليه أو المجنون تلزمهم الصلاة على أصلنا بوجود السبب والذمة مع عدم التميز والقدرة على الأداء في الحال فكذا الصبي إلا أنها تسقط بعذر الصبا بعد الوجوب دفعا للحرج ولا يقال الوجوب يثبت الأداء لا لنفسه فلا يجوز الإيجاب على من لا يقدر على الأداء لأنا نقول الوجوب الأداء لا حال الوجوب بل يجوز بعده بزمان إما أداء أو قضاء فصح الإيجاب على من يرجى له قدرة الأداء أو القضاء في الجملة والصبي من تلك الجملة كالنائم والمغمى عليه على أن الأداء ثمرة الوجوب فلا يمتنع الوجوب بعدم ثمرته كما لو باع من مفلس يجب الثمن وإن كان عاجزا عن أدائه. قال الشيخ الإمام الزاهد المصنف رحمه الله وقد كنا على هذا القول زمانا ولكنا تركناه بهذا القول الذي اخترناه لأن القول بالوجوب نظرا إلى السبب والذمة من غير اعتبار ما هو حكم الوجوب مجاوزة الحد في الغلو وإخلاء لإيجاب الشرع عن الفائدة في الدنيا والآخرة لأن فائدة الحكم في الدنيا تحقيق معنى الابتلاء وفي الآخرة الجزاء وذلك باعتبار الحكم وهو الأداء فيه يظهر المطيع من العاصي فيتحقق الابتلاء المذكور في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: 2] وكذا المجازاة في الآخرة تبتنى عليه كما قال تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] فثبت أن الوجوب بدون حكمة غير مفيد فلا يجوز القول بثبوته شرعا وهذا أي القول المختار أسلم الطريقين عن الفساد صورة لأن الصبي غير مخاطب بالحقوق الشرعية بالإجماع فالقول بوجوبها عليه ثم بسقوطها عنه لا يخلو عن فساد صورة فكان القول بعدم الوجوب عليه أصلا أسلم عن الفساد ومعنى لما بينا أن الوجوب من غير أداء وقضاء خال عن الفائدة فكان فاسدا معنى والقول بعدم الوجوب سالم عن هذا الفساد المعنوي وتقليدا أي للسلف فإنهم لم يقولوا بالوجوب على الصبي أصلا وحجة أي استدلالا فإن الوجوب لو كان ثابتا عليه ثم سقط لدفع الحرج لكان ينبغي أنه إذا أدى كان مؤديا للواجب كالمسافر إذا صام في رمضان في السفر وحيث لم يقع المؤدى عن الواجب بالاتفاق دل على انتفاء الوجوب أصلا وكذا قوله عليه السلام: "رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يحتلم" يدل بظاهره على انتفاء الوجوب أصلا فكان القول به.(4/346)
في بعض شهر رمضان أنه لا يقضي ما مضى. وكذلك نقول في الحائض إن الصوم يلزمها لاحتمال الأداء ثم النقل إلى البدل وهو القضاء لأن الحرج لما عدم في ذلك بقي الحكم فوجب القول بالوجوب وأما الصلاة فقد بطل الأداء لما فيه من الحرج فبطل الوجوب لعدم حكمه مع قيام محل الوجوب وقيام سببه. وكذلك قولنا في الجنون إذا امتد فصار لزوم الأداء يؤدي إلى الحرج فبطل القول بالأداء وبطل القول بالوجوب لعدم الحكم أيضا, هذا في الصلوات والصيام معا وإذا لم يمتد في شهر رمضان لزمه أصله لاحتمال حكمه وإذا عقل الصبي
ـــــــ
قوله: "ولذلك" أي ولما بينا أن الوجوب لازم متى صح القول بحكمه ومتى بطل القول بحكمه بطل القول بوجوبه. قلنا في الصبي إذا بلغ في بعض شهر رمضان أنه لا يقضي ما مضى لأن الوجوب فيما مضى لم يكن ثابتا في حقه لعدم حكمه وهو وجوب الأداء في الحال أو في الثاني لما يلحقه من الحرج فلم يثبت الوجوب أصلا حتى لو أدى في الحال وبعد البلوغ كان منتقلا ابتداء لا مؤديا للواجب وبقوله فيما مضى أشار إلى أنه يؤدي ما بقي من الشهر لأنه صار أهلا للوجوب بالبلوغ وهذا بخلاف المجنون إذا أفاق في بعض الشهر حيث يقضي ما مضى لأن الوجوب متقرر في حقه لاحتمال الأداء بانقطاع الجنون في كل ساعة وعدم الحرج في النقل إلى الخلف وهو القضاء فأما الصغر فعذر دائم لا يحتمل الانقطاع إلى أن يبلغ فكان احتمال وجوب الأداء منقطعا فلا يثبت الوجوب وكذلك أي وكما بنينا حكم الصبي على الأصل المذكور بنينا حكم الحائض عليه أيضا فقلنا إن الصوم يلزمها لاحتمال الأداء إذا النجاسة لا تؤثر في المنع من أداء الصوم حقيقة وحكما لأن قهر النفس يحصل مع هذه الصفة ويصح الأداء مع الجنابة والحدث بالاتفاق فيثبت الوجوب ولكن الشرع لما منعها من الأداء في هذه الحالة انتقل الحكم إلى القضاء لانتفاء الحرج كما في الحلف على مس السماء والأمر بالوضوء عند عدم الماء انتقل الحكم إلى الكفارة والتراب للعجز الحالي على ما مر وكذلك أي مثل قولنا في الصبي والحائض قولنا في المجنون يعني كما بنينا حكمها على الأصل المذكور بنينا حكم المجنون عليه أيضا فقلنا إذا امتد الجنون حتى صار لزوم الأداء يؤدي إلى الحرج بأن استغرق الشهر في الصوم أو زاد على يوم وليلة في الصلاة لم يثبت الوجوب من الأصل لعدم حكمه وهو الأداء في الحال والقضاء في ثاني الحال بسبب الحرج الذي يلحقه في ذلك وهو معنى قوله هذا أي سقوط الوجوب عند الامتداد في الصلاة والصيام معا وإذا لم يمتد بأن لم يستغرق الشهر في الصوم لزمه أصله أي أصل الصوم يعني ثبت في حقه نفس الوجوب لاحتمال حكمه وهو القضاء لانتفاء الحرج عنه فيه وكذا الحكم في(4/347)
واحتمل الأداء قلنا بوجوب أصل الإيمان دون أدائه حتى صح الأداء وذلك لما عرف أن الوجوب جبر من الله تعالى بأسباب وضعت للأحكام إذا لم يخل الوجوب عن حكمه وليس في الوجوب تكليف وخطاب وإنما ذلك في الأداء ولا خطاب ولا تكليف على الصبي بمجرد العقل حتى يبلغ فثبت أنه غير مخاطب بالإيمان لكن صحة الأداء يبتني على كون الشيء مشروعا وعلى قدرة الأداء لا
ـــــــ
الصلاة إذا لم يمتد الجنون إلى يوم وليلة لانتفاء الحرج عنه في إيجاب قضائها ولكنه خص الصوم بالذكر لأنه وضع مسألة بلوغ الصبي في الصوم فذكر في مقابلتها هذه المسألة.
قوله: "وإذا عقل الصبي واحتمل الأداء" أي أداء الإيمان قلنا بوجوب أصل الإيمان أي بثبوت نفس وجوبه عليه دون وجوب أدائه حتى صح الأداء يعني عن الفرض لما نبين. وذلك أي ثبوت نفس وجوبه عليه إذا عقل لما عرف في باب بيان أسباب الشرائع وغيره أن نفس الوجوب يثبت بطريق الجبر بأسباب وضعت للأحكام إذا لم يخل الوجوب عن حكمه وهو الأداء والقضاء أو عن حكمة أي فائدة يعني أصل الوجوب في الذمة لا يثبت بالأمر ليتعلق صحته بكون المأمور من أهل الفهم بل الوجوب متعلق بالأسباب والأمر بعد ذلك لإلزام أداء الوجوب في الذمة بسببه ووجوب الإيمان متعلق بحدوث العالم وأنه متقرر في حق الصبي وذمته قابلة للوجوب لأن الصبا لم يكن منافيا للوجوب بنفسه فثبت الوجوب إذا تضمن فائدة لكن الأداء لا يجب عليه وإن عقل لأنه مما يحتمل السقوط بعد البلوغ بعذر النوم والإغماء, وكذا إذا وصف مرة لا يلزمه ثانيا فيسقط بعذر الصبا أيضا وهو معنى قوله ولا تكليف ولا خطاب على الصبي بمجرد العقل وإذا كان الوجوب حاصلا وأداه بشرط وهو الشهادة عن معرفة صح وإن لم يلزمه الأداء بعد كما صح منه أداء الصلاة وإذا صح كان فرضا لأنه في نفسه غير متنوع بين نفل وفرض ولهذا لا يلزمه تجديد الإقرار بعد البلوغ ولا كذلك الصلاة لأنها مترددة بين فرض ونفل فيقع نفلا ولأن نفس وجوب الإيمان ثابت في حقه لما قلنا ألا يرى أن امرأته لو أسلمت أو أبى هو الإسلام بعدما عرض عليه القاضي يفرق بينهما ولو لم يثبت حكم الوجوب في حقه لم يفرق بينهما إذا امتنع عنه فثبت أن نفس الوجوب ثبت في حقه ووجوب الإيمان بعدما ثبت لا يحتمل السقوط بعذر فلا يسقط بالصبا أيضا فيقع أداؤه فرضا لا محالة والصلاة تحتمل السقوط بأعذار كثيرة فتسقط بالصبا أيضا ولما سقط أصل الوجوب استقام إثباتها نفلا وخرج السبب عن السببية. وهذا هو مختار الشيخ وأستاذ الإمام شمس الأئمة الحلواني والقاضي الإمام رحمه الله وجماعة سواهم وقال الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله الأصح عندي أن(4/348)
على الخطاب والتكليف كالمسافر يؤدي الجمعة من غير خطاب ولا تكليف. والإغماء لما لم يناف حكم وجوب الصوم لم يناف وجوبه وكان منافيا لحكم وجوب الصلاة إذا امتد فكان منافيا لوجوبه والنوم لما لم يكن منافيا حكم وجوب إذا انتبه لم يكن منافيا للوجوب أيضا.
ـــــــ
الوجوب غير ثابت في حق الصبي وإن عقل ما لم يعتدل حاله بالبلوغ فإن الأداء منه يصحح باعتبار عقله وصحة الأداء تستدعي كون الحكم مشروعا ولا يستدعي كونه واجب الأداء فعرفنا أن حكم الوجوب وهو وجوب الأداء معدوم في حقه وقد بينا أن الوجوب لا يثبت باعتبار السبب والمحل بدون حكم الوجوب إلا أنه إذا أدى يكون المؤدى فرضا لأن بوجوب الأداء صار ما هو حكم الوجوب موجودا مقتضى الأداء وإنما لم يكن الوجوب ثابتا لانعدام الحكم فإذا صار موجودا بمقتضى الأداء كان المؤدى فرضا بمنزلة العبد فإن وجوب الجمعة في حقه غير ثابت حتى لو أذن له المولى أو حضر الجامع مع المولى كان له أن لا يؤدي ولكن إذا أدى فرضا ما هو حكم الوجوب صار موجودا بمقتضى الأداء وإنما لم يكن الوجوب ثابتا لعدم حكمه وكذا المسافر إذا أدى الجمعة كان مؤديا للفرض مع أن وجوب الجمعة لم يكن ثابتا في حقه قبل الأداء بالطريق الذي ذكرنا.
قوله: "والإغماء" لما لم يناف حكم وجوب الصوم وهو الأداء في الحال أو القضاء في غير حرج في الثاني ولا اعتبار لامتداده في الصوم لندرته لم يناف نفس وجوب الصوم وإنما قلنا إنه غير مناف للأداء لا أنه إذا جن أو أغمي عليه بعدما نوى الصوم ولم يوجد منه ما ينافي الإمساك صح صومه وكان مؤديا للفرض فعلم أنه غير مناف لأدائه وكان منافيا لحكم وجوب الصلاة إذا امتد بأن زاد على يوم وليلة تعذر الأداء في الحال وتغير القضاء في الثاني لاستلزامه الحرج فكان منافيا لوجوبه أي وجوب المذكور وهو الصلاة أو وجوب هذا الواجب والنوم لما لم يكن منافيا لحكم الوجوب وهو القضاء بعد الانتباه بلا حرج في الصوم والصلاة لندرة امتداده فيهما لم يكن منافيا للوجوب أيضا فثبت أن الحقوق كلها تخرج مستقيمة على الطريق المختار والله أعلم.(4/349)
"باب أهلية الأداء"
وأما أهلية الأداء فنوعان قاصر وكامل أما القاصر فيثبت بقدرة البدن إذا كانت قاصرة قبل البلوغ وكذلك بعد البلوغ فيمن كان معتوها لأنه بمنزلة الصبي لأنه عاقل لم يعتدل عقله وأصل العقل يعرف بدلالة العيان, وذلك أن يختار المرء ما يصلح له بدرك العواقب المشهورة فيما يأتيه ويذره, وكذلك القصور يعرف
ـــــــ
"باب أهلية الأداء"
قوله وأما أهلية الأداء عطف على قوله أما أهلية الوجوب في أول الباب المتقدم فإنه قسم الأهلية هناك إلى نوعين ثم فصل كل نوع فقال أما أهلية الوجوب فكذا وأما أهلية الأداء فكذا, فكلمة أما هذه للتفصيل قاصر كامل أي نوع قاصر ونوع كامل أما القاصر أي النوع القاصر فيثبت بكذا لا خلاف أن الأداء يتعلق بقدرتين قدرة فهم الخطاب وذلك بالعقل وقدرة العمل به وهي بالبدن, والإنسان في أول أحواله عديم القدرتين لكن فيه استعداد وصلاحية لأن يوجد فيه كل واحدة من القدرتين شيئا فشيئا بخلق الله تعالى إلى أن يبلغ كل واحدة منهما درجات الكمال فقبل بلوغ درجة الكمال كانت كل واحدة منهما قاصرة كما يكون للصبي المميز قبل البلوغ وقد تكون إحداهما قاصرة كما في المعتوه بعد البلوغ فإنه قاصر العقل مثل الصبي وإن كان قوي البدن ولهذا ألحق بالصبي في الأحكام.
فالأهلية الكاملة عبارة عن بلوغ القدرتين أولى درجات الكمال وهو المراد بالاعتدال في لسان الشرع والقاصرة عبارة عن القدرتين قبل بلوغهما أو بلوغ أحديهما درجة الكمال ثم الشرع بنى على الأهلية القاصرة صحة الأداء وعلى الكاملة وجوب الأداء وتوجه الخطاب لأنه لا يجوز إلزام الأداء على العبد في أول أحواله إذ لا قدرة له أصلا وإلزام ما لا قدرة له عليه منتف شرعا وعقلا وبعد وجود أصل العقل, وأصل قدرة البدن قبل الكمال في إلزام الأداء حرج لأنه يحرج للفهم بأدنى عقله ويثقل عليه الأداء بأدنى قدرة البدن والحرج منفي أيضا لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].(4/350)
بالامتحان فأما الاعتدال قاصر يتفاوت فيه البشر فإذا ترقى عن رتبة القصور أقيم البلوغ مقام الاعتدال في أحكام الشرع. والأحكام في هذا الباب منقسمة على ما مر فأما حقوق الله تعالى فمنه ما هو حسن لا يحتمل غيره ولا عهدة فيه بوجه
ـــــــ
فلم يخاطب شرعا لأول أمره حكمة ولأول ما يعقل ويقدر رحمة إلى أن يعتدل عقله وقدرة بدنه فيتيسر عليه الفهم والعمل به, ثم وقت الاعتدال يتفاوت في جنس البشر على وجه يتعذر الوقوف عليه ولا يمكن إدراكه إلا بعد تجربة وتكلف عظيم فأقام الشرع البلوغ الذي يعتدل لديه العقول في الأغلب مقام اعتدال العقل حقيقة تيسيرا على العباد وصار توهم وصف الكمال قبل هذا الحد وتوهم بقاء النقصان بعد هذا الحد ساقطي الاعتبار لأن السبب الظاهر متى أقيم مقام المعنى الباطن دار الحكم معه وجودا وعدما وأيد هذا كله قوله عليه السلام: "رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يحتلم والمجنون حتى يفيق والنائم حتى يستيقظ" والمراد بالقلم الحساب والحساب إنما يكون بعد لزوم الأداء فدل أن ذلك لا يثبت إلا بالأهلية الكاملة وهي اعتدال الحال بالبلوغ عن عقل.
قوله: "والأحكام في هذا الباب" أي باب أهلية الأداء ويعني به الأهلية القاصرة منقسمة على ما مر أي في أهلية الوجوب بأنها منقسمة في أهلية الوجوب على حقوق الله تعالى وحقوق العباد فكذا في أهلية الأداء.
فأما حقوق الله تعالى فثلاثة أقسام منها وفي بعض النسخ فمنه أي من المذكور ما هو حسن لا يحتمل غيره أي لا يحتمل أن يكون قبيحا غير مشروع بوجه ولا عهدة أي لا تبعة ولا ضرر فيه بوجه وإنما قاله ردا لمذهب الخصم كما سيأتي بيانه وهو الإيمان فوجب القول بصحته من الصبي. وقال الشافعي رحمه الله لا يصح إيمانه في أحكام الدنيا حتى يرث أباه الكافر بعد الإسلام ولا تبين منه امرأته المشركة لأنه مولى عليه في الإسلام حيث يصير مسلما بإسلام أبيه وأمه فلا يصلح وليا فيه بنفسه كالصبي الذي لا يعقل والمجنون وذلك لأن الشخص إنما يصير موليا عليه من جهة غيره حال عجزه عن التصرف لنفسه بنفسه ومتى كان قادرا لا يجعل موليا عليه فدل ثبوت الولاية عليه على أنه عاجز. وكذا الشيء إنما يجعل تبعا لغيره في حكم إذا لم يكن أصلا بنفسه في ذلك الحكم فلو صح إسلامه بنفسه يكون تبعا ومتبوعا في حكم واحد وهذا لا يجوز ولا معنى لقول من يقول إن الإسلام منفعة محضة فيصح من الصبي لأنه فيما يرجع إلى أحكام الدنيا عقد التزام أحكام الشرع وهو دائر بين الضرر والنفع حيث يحرم به الإرث من مورثه الكافر وتبين منه امرأته المشركة وإن كان يرث من المسلمين وتحل له المسلمة فكان نظير البيع والشراء فلا يصح منه, فأما في أحكام الآخرة فهو نفع محض فيحكم بصحته في حق(4/351)
وهو الإيمان بالله تعالى فوجب القول بصحته من الصبي لما ثبت أهلية أدائه ووجد منه بحقيقته لأن الشيء إذا وجد بحقيقته لم ينعدم إلا بحجر من الشرع وذلك في الإيمان باطل لما قلنا إنه حسن لا يحتمل غيره ولا عهدة فيه إلا في لزوم أدائه وذلك يحتمل الوضع فوضع عنه فأما الأداء فخال عن العهدة لأن
ـــــــ
أحكام الآخرة لتحقق الاعتقاد عن معرفة وليس من ضرورة ثبوت الإسلام في أحكام الآخرة ثبوته في أحكام الدنيا لأن أحدهما ينفصل عن الآخر فإن من اعتقل لسانه في مرض موته فأسلم في تلك الحالة قبل أن يعاين الأهوال صح إسلامه في أحكام الآخرة ولا يصح في أحكام الدنيا حتى يجري عليه أحكام الكفار فلا يصلى عليه ويدفن في مقابر المشركين ومن أسلم بلسانه دون قلبه فهو كافر في أحكام الآخرة مؤمن في أحكام الدنيا ولهذا كان يجرى أحكام المسلمين على المنافقين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولنا أن الإيمان بحقيقته قد وجد من أهله بعد تحقق سببه فوجب القول بصحته كما لو تحقق من البالغ وذلك لأن سببه الآيات الدالة على حدوث العالم وأنه متحقق في حق الجميع والإيمان إقرار وتصديق وقد سمع منه الإقرار وعرف منه التصديق لأن التصديق إنما يعرف بالإقرار ممن هو عاقل مميز وكلامنا في صبي عاقل يناظر في وحدانية الله تعالى وصحة رسالة الرسول عليه السلام ويلزم الخصم بالحجج على وجه لا يبقى في معرفته شبهة فكان هو والبالغ سواء وأهلية الإيمان ثابتة حقيقة لأن الكلام في الصبي العاقل كما بينا. وكذا حكما لأنه اهتداء بالهدى وإجابة للداعي وقد ثبت بالنص أن الصبي من أهل أن يكون هاديا داعيا لغيره إلى الهدى قال الله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} [مريم: 12] والمراد النبوة والله أعلم فيتبين به أنه من أهل أن يكون مهتديا مجيبا للداعي بالطريق الأولى وبعد وجود السبب ووجود الركن من الأهل لو امتنع إنما يمتنع بحجر شرعي كما في الطلاق والبيع ولا يستقيم القول به هاهنا لأن الحجر عن الإيمان كفر إذ الإيمان حسن لعينه لا يحتمل أن يكون قبيحا في حال ولهذا لم يحتمل النسخ والتبديل ولم يخل عن وجوبه وشرعيته زمان فلا يمكن أن يحجر الصبي عنه ويجعل الإسلام غير مشروع في حقه بخلاف الطلاق والبيع.
وقوله: ولا عهدة إشارة إلى الجواب عما قال الخصم الإسلام عقد متردد بين النفع والضرر فكان كالبيع لاستلزامه العهدة فقال لا عهدة أي لا ضرر ولا تبعة في الإيمان إلا في لزوم أدائه وذلك أي لزوم الأداء يحتمل الوضع أي الإسقاط لأنه يسقط بعد البلوغ بعذر الإكراه والنوم والإغماء فوضع عنه أي أسقط لزوم الأداء عن الصبي بعذر الصبا أيضا فأما الأداء أي نفس الأداء من غير لزوم فخال عن العهدة أي الضرر بل هو نفع(4/352)
حرمان الإرث يضاف إلى الكفر الباقي وكذلك الفرقة ولأن ما يلزمه بعد الإيمان فمن ثمراته وإنما يتعرف صحة الشيء من حكمه الذي وضع له وهو سعادة الآخرة لا من ثمراته إلا أنها تلزمه إذا ثبت له حكم الإيمان تبعا لغيره ولم يعد
ـــــــ
محض كما بينا فوجب القول بصحته من الصبي. ولما كان للخصم أن يقول أنا أسلم أنه نفع محض في حق أحكام الآخرة ولكني لا أسلم أنه نفع محض في أحكام الدنيا لتضمنه فساد النكاح وحرمان الإرث أشار في الجواب إلى رد ذلك بقوله لأن حرمان الإرث إلى آخره يعني ما ترتب على الإيمان من حرمان الإرث عن قريبه الكافر مضاف إلى كفر الباقي على الكفر يعني الذي مات على الكفر لا إلى إسلام من أسلم لأن الحرمان بسبب انقطاع الولاية بينهما والسبب القاطع كفر الكافر منهما لا إسلام المسلم.
وكذلك أي وكالحرمان الفرقة الواقعة بينهما في إضافتها إلى كفر الباقي على الكفر لا إلى إسلام من أسلم لما مر بيانه في باب الترجيح وإذا كان كذلك كان الإسلام نفعا محضا فيكون مشروعا في حقه ولئن سلمنا أن ما ترتب عليه من الأحكام المذكورة مضاف إليه فلا نسلم أنه من الأحكام الأصلية المقصودة بالإيمان لأن الإيمان يصح من غير قريب يرثه ولا امرأة يفسد نكاحها بل هو يثبت بناء على صحة الإسلام وتحققه لا أن يكون مختصا به ومثل هذا لا يمنع صحة الإيمان لأن تعرف صحة الشيء يستفاد من حكمه الأصلي وهو سعادة الآخرة فيما نحن فيه لا مما هو من ثمراته. ألا ترى أن الصبي لو ورث قريبه أو وهب له قريبه فقبله يعتق عليه مع أن العتق ضرر محض ولا يمتنع شرعية الإرث والهبة في حقه بهذا السبب لأن الحكم الأصلي للإرث والهبة ثبوت الملك بلا عوض وهو نفع محض فيكون مشروعا في حقه وإنما يثبت العتق بناء على ثبوت الملك لا مقصودا بالإرث والهبة ولهذا يتحقق الإرث والهبة من غير عتق فلا يمتنع الإرث بهذه الواسطة وكذا الوكيل بشراء عبد مطلق يملك شراء أب الآمر ويعتق عليه لأنه في أصل الشراء مؤتمر بأمره والعتق يثبت بناء عليه فكذا فيما نحن فيه والدليل عليه أن هذه الأحكام التي هي من ثمرات الإسلام تلزم الصبي إذا ثبت له حكم الإيمان تبعا لغيره بأن أسلم أحد أبويه حتى لو مات له مورث كافر أو مات مورثه المسلم وورث قريبه الذي يعتق عليه منه أو كانت له امرأة مشركة يثبت حرمان الإرث ويقع العتق والفرقة ولم يعد لزوم هذه الأحكام عهدة أي ضررا في حقه لما قلنا أن المنظور إليه الحكم الأصلي دون ما هو من الثمرات فكذا إذا أسلم بنفسه على أن ما ذكر من لزوم الضرر معارض بلزوم النفع فإنه بالإسلام يصير مستحقا للإرث من أقاربه المسلمين ويقرر ملك نكاحه إذا كانت امرأته أسلمت قبله وإذا تعارض النفع والضرر تساقطا وبقي الإسلام في نفسه نفعا محضا لا(4/353)
عهدة. ومنه ما هو قبيح لا يحتمل غيره وهو الجهل بالصانع والكفر به ألا ترى
ـــــــ
يشوبه معنى الضرر فيصح وأما قوله أنه مولى عليه في الإسلام فليس بصحيح لأن تفسير الولاية أن يقدر الرجل على مباشرة التصرف على غيره والأب لا يملك أن يعقد عقد الإسلام على ولده بل يعقده لنفسه ثم يثبت حكمه في ولده والدليل عليه أنه لا يصير مسلما بإسلام الجد حال عدم الأب ويصير مسلما بإسلام الأم مع وجود الأب ولا ولاية للأم مع الأب فعلم أن ثبوته ليس بطريق الولاية ولكن يثبت فيه حكم الإسلام تبعا على أن الصبي عندنا يجوز أن يكون موليا عليه ووليا على نفسه إذا كان التصرف نفعا محضا كقبول الهبة فإن الأب يقبل عليه ويقبل هو بنفسه عندنا لأن الولاية أثبتت للولي عليه نظرا له فلا توجب حجرا عما هو نظر له محض بل يثبت الأمران جميعا لينتفع بطريقين. وأما قوله إنه لا يصلح تبعا ومتبوعا في حالة واحدة فكذلك ولكن الحالة الواحدة ليست بموجودة لأنه في حال كونه أصلا بنفسه ليس بتبع لغيره وفي حال كونه تبعا لغيره ليس بأصل بنفسه وقد يجوز أن يجتمع في الشيء دليلان يقتضي أحدهما كونه أصلا والآخر كونه تبعا كالجنين يتبع الأم في العتق والوصية ويصلح أصلا بنفسه وكالشجر يتبع الأرض في البيع ويصلح أصلا بنفسه فيه أيضا ولكن لا يصير أصلا وتبعا في حالة واحدة فكذلك الصبي لنقصان عقله يبقى تبعا للغير ولوجود أصل العقل فيه يصلح أصلا بنفسه والله أعلم.
قوله: "ومنه" أي من هذا القسم أو من المذكور وهو حقوق الله تعالى ما هو قبيح لا يحتمل غيره أي غير كونه قبيحا على مقابلة القسم الأول وهو الجهل بالصانع والمراد من كونه حق الله تعالى أن حرمة حقه كحرمة الزنا وشرب الخمر وحاصله أن ردة الصبي العاقل صحيحة عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله في أحكام الدنيا والآخرة استحسانا حتى لو كان أبواه مسلمين فارتد عن الإسلام بنفسه والعياذ بالله لا يجعل ذلك عفوا بعذر الصبا فتبين منه امرأته المسلمة ويحرم هو الميراث من المسلمين وعند أبي يوسف والشافعي رحمهما الله لا يحكم بصحتها في أحكام الدنيا وهو القياس فأما في أحكام الآخرة فهي صحيحة على ما يشير إليه عبارة شمس الأئمة رحمه الله في أصول الفقه وإن كان إطلاق لفظ المبسوط والأسرار يدل على عدم صحتها في أحكام الآخرة أيضا والأول هو الصحيح لأن دخول الجنة مع اعتقاد الشرك حقيقة والعفو عن الكفر من غير توبة خلاف العقل والنص. وجه القياس أن الارتداد ضرر محض لا يشوبه منفعة وذلك لا يصح من الصبي كإعتاق عبده وطلاق امرأته وهبة ماله ألا يرى أنه لا يصح عنه ما هو ضرر يشوبه منفعة كالبيع فما يتمحض ضررا ويحجر عنه على وجه لا يتصور عنه زواله أولى أن لا يصح منه والدليل عليه أنه لو ارتد في الصبا وبلغ كذلك لا يقتل ولو صحت ردته لوجب(4/354)
أنه لا يرد علمه بوالديه فكيف يرد علمه بالله تعالى وكذلك الجهل بغير الله تعالى لا يعد منه علما فكيف الجهل بالله تعالى, وإذا كان كذلك لم يصلح أن يجعل ردته عفوا بل كان صحيحا في أحكام الآخرة وما يلزمه من أحكام الدنيا بالردة فإنما يلزمه حكما لصحته لا قصدا إليه فلم يصلح العفو عن مثله كما إذا
ـــــــ
قتله بعد البلوغ وجه الاستحسان أن الصبي في حق الردة بمنزلة البالغ لأن البالغ إنما يحكم بردته لتحققها منه وكونها محظورة لا لكونها مشروعة لأنها لا تحتمل أن تكون مشروعة بحال وأنها تتحقق من الصبي العاقل كالإيمان ويثبت الحظر في حقه لأنها لا تحتمل أن لا تكون محظورة في وقت من الأوقات ولا في حق شخص من الأشخاص وإذا كان كذلك وجب الحكم بصحتها منه ولم يمتنع ثبوتها بعد الوجود حقيقة للحجر شرعا فإن البالغ محجور عن الردة كالصبي ولم يسقط حكمها بعذر الصبا لأنه لا يسقط بعد البلوغ بعذر من الأعذار فكذا بعذر الصبا قال الشيخ أبو الفضل الكرماني إنما حكمنا بردته ضرورة الحكم بصحة إسلامه لأن الإسلام مما يوجده العبد عن اختيار منه وذلك متصور الترك منه ومتى قلنا لا يتصور الترك منه لم يكن الوجود إسلاما وترك الإسلام بعد وجوده هو الردة. وقوله: ألا يرى إلى آخره متعلق بما سبق وبمحذوف والتقدير ومنه ما هو قبيح لا يحتمل غيره فوجب القول بصحته من الصبي أيضا كالقسم الأول ألا ترى أنه لا يرد علمه بوالديه بسبب ضرر يلحقه من جانبهما وهو ضرر التأديب ولا يجعل ذلك منه جهلا بل يجعل علما حقيقة فكيف يرد علمه بالله الذي خلقه ورزقه بسبب أحكام تلزمه بناء عليه مع أن آداب الشرع أنفع له من آداب الأبوين. وكذلك أي وكما لا يرد علمه بالوالدين ولا يعد جهلا الجهل بغير الله تعالى لا يعد منه علما حتى لا يجعل عارفا لشيء جهله فكيف الجهل بالله تعالى يعد علما مع أنه أقبح من الجهل بغيره وإذا كان كذلك أي كان الأمر كما بينا أن الجهل بالله تعالى لا يعد علما به لم يصلح أن يجعل ارتداده عفوا إذ لو عفى لصار الجهل به علما إذ لا واسطة بين العلم بالله تعالى والجهل به بل كان صحيحا في أحكام الآخرة بلا خلاف لأن سعادة الآخرة لا يتصور حصولها بلا إيمان وقد زال بالارتداد حقيقة لأنه اعتقد الكفر فلم يبق اعتقاد الإسلام ضرورة كما لو تكلم في صلاته أو جامع في حجه أو اعتكافه أو أكل في صومه متعمدا لم تبق هذه العبادات وإن كان في فسادها له ضرر لأنه باشر ما ينافيها وكذا في أحكام الدنيا لأن ما يلزم الصبي من أحكام الدنيا كحرمان الميراث ووقوع الفرقة إنما يلزمه حكما لصحته أي لصحة ارتداده لا قصدا إليه الضمير راجع إلى ما يعني لزوم هذه الأحكام من ضرورة الحكم بصحة الارتداد لأنها من لوازمه لا أن يكون الحكم بصحة الارتداد لأجل هذه الأحكام قصدا إليها(4/355)
ثبت تبعا عن مثله. ومن ذلك ما هو بين هذين القسمين فقلنا فيه بصحة الأداء من غير عهدة حتى قلنا بسقوط الوجوب في الكل لأن اللزوم لا يخلو عن العهدة وقد شرعت بدون ذلك الوصف وقلنا بصحتها تطوعا بلا لزوم مضي ولا وجوب قضاء لأنها قد شرعت كذلك ألا يرى أن البالغ إذا شرع فيها على ظن أنها عليه وليست عليه أن اللزوم يبطل عنه, وكذلك إذا شرع في الإحرام على هذا الوجه ثم
ـــــــ
فلم يصلح العفو عن مثله الضمير للارتداد أي لا يصح العفو عن مثل هذا الأمر العظيم الذي لا يحتمل العفو بوجه بواسطة لزوم هذه الأحكام كما إذا ثبت الارتداد تبعا لأبويه بأن ارتدا ولحقا بدار الحرب ولزمه هذه الأحكام لا يمتنع ثبوته بواسطة لزومها وأما عدم جواز قتله بعد الارتداد فسنبينه عن قريب.
"قوله" ومن ذلك أي ومما ذكرنا من حقوق الله تعالى ما هو متردد بين هذين القسمين أي بين ما هو حسن لا يحتمل غيره وبين ما هو قبيح لا يحتمل غيره بل يحتمل أن يكون حسنا مشروعا في بعض الأوقات دون البعض كالصلاة والصوم والحج ونحوها فإن الصلاة ليست بمشروعة في الأوقات المكروهة وفي حالة الحيض, والصوم ليس بمشروع في الليل والحج ليس بمشروع في غير وقته فقلنا فيها أي في هذه الحقوق الموصوفة بهذه الصفة بصحة الأداء من الصبي العاقل باعتبار الأهلية القاصرة من غير عهدة لزوم مضي وضمان حتى قلنا بسقوط الوجوب أي نفس الوجوب ووجوب الأداء عن الصبي في الكل ماليا كان أو بدنيا لأن اللزوم لا يخلو عن إلزام عهدة وقد شرعت هذه الحقوق بدون هذا الوصف وهو اللزوم كما في المظنون وقلنا بصحتها أي بصحة أداء ما كان بدنيا منه بطريق التطوع لأن ذلك نفع محض لأنه يعتاد أداءها فلا يشق ذلك عليه بعد البلوغ ولهذا صح منه التنفل بجنس هذه العبادات بعد أداء ما هو مشروع بصفة الفرضية في حق البالغين بلا لزوم مضي أي إذا شرع فيها ولا وجوب قضاء أي إذا تركها أو أفسدها لأن هذه الحقوق قد شرعت في الجملة في حق البالغ كذلك أي كما شرعت في حق الصبي بلا لزوم مضي ووجوب قضاء. ألا ترى أن البالغ إذا شرع فيها أي في هذه الحقوق أو العبادات على ظن أنها عليه ثم تبين أنها ليست عليه يصح منه الإتمام مع فوات صفة اللزوم حتى إذا أفسد لا يجب عليه القضاء فكذا الصبي في هذا المعنى فأما ما كان ماليا منها فلا يصح منه أداؤه لأن فيه إضرارا به في العاجل باعتبار ماله فيبتني ذلك على الأهلية الكاملة لا على القاصرة وكذلك أي وكالشروع في هذه الحقوق يعني به الشروع في الصلاة والصوم إذا شرع البالغ في الإحرام على هذا الوجه أي على ظن أنه عليه وقد تبين بعد أنه ليس عليه يصح الإتمام من غير صفة اللزوم حتى إذا أحصر فتحلل لا يجب عليه القضاء فكذلك الصبي إذا أحرم صح منه باعتبار الأهلية القاصرة حتى لو مضى عليه يقع عبادة نافلة ولكن(4/356)
أحصر فلا قضاء عليه فقلنا في الصبي إذا أحرم صح منه بلا عهدة حتى إذا ارتكب محظورا لم يلزمه وقلنا في الصبي إذا ارتد أن لا يقتل وإن صحت ردته عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لأن القتل يجب بالمحاربة لا بعين الردة ولم يوجد فأشبه ردة المرأة. فأما ما كان من غير حقوق الله تعالى فثلاثة أقسام أيضا ما هو نفع محض وما هو ضرر محض وما هو دائر بينهما أما النفع المحض
ـــــــ
بلا لزوم عهدة حتى إذا ارتكب محظور إحرامه لم يلزمه جزاؤه لأن في إلزامه إيجاب ضرر وعهدة وذلك يبتنى على الأهلية الكاملة.
قوله: "وقلنا في الصبي" إلى آخره جواب سؤال يرد على أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله في مسألة ردة الصبي فإنهما حكما بصحة ارتداده في حق حرمان الميراث ووقوع الفرقة ثم لم يحكما بصحته في وجوب القتل فقال إنما لا يقتل وإن صحت ردته عندهما لأن القتل ليس من حكم عين الردة ومن لوازمها بل هو يجب بالمحاربة ولهذا لا يثبت في حق النساء وكذا في حق أصحاب الأعذار كالزمنى والعميان في رواية والصبي ليس من أهل المحاربة فلا يجب عليه جزاؤها كما لا يجب على المرأة لأنها ليست من أهلها ولأن ما وجب جزاء وعقوبة في الدنيا يبتنى على الأهلية الكاملة لا على القاصرة. ولا يلزم عليه جواز ضربه عند إساءة الأدب مع أنه نوع جزاء ولا جواز استرقاقه مع أن الاسترقاق عقوبة وجزاء على الكفر على ما عرف لأن الضرب عند إساءة الأدب تأديب للرياضة في المستقبل بمنزلة ضرب الدواب لا جزاء على الفعل الماضي وكذا استرقاقه ليس بطريق الجزاء ولكن باعتبار أن ما هو مباح غير معصوم محل للتملك كالصيود وذراري أهل الحرب بهذه الصفة ولا يقال زوال العصمة التي هي كرامة تكون بطريق الجزاء فينبغي أن لا يزول عن الصبي لأنا نقول زوالها بمنزلة زوال الصحة بالمرض والحياة بالموت والغنى بالفقر ولا أحد يقول إن ذلك جزاء بطريق العقوبة, إليه أشار شمس الأئمة رحمه الله وكان ينبغي أن يقتل إذا بلغ مرتدا كما هو جواب القياس بوجود الارتداد بعد الإسلام وزوال العذر وهو الصبا وتحقق معنى المحاربة بعد البلوغ إلا أن في الاستحسان لا يقتل ويجبر على الإسلام لأن اختلاف العلماء في صحة إسلامه في الصغر صار شبهة في إسقاط القتل ولكن لو قتله إنسان قبل البلوغ أو بعده لا يغرم شيئا لأن من ضرورة صحة ردته إهدار دمه وليس من ضرورتها استحقاق قتله كالمرأة إذا ارتدت لا تقتل ولو قتلها إنسان لا يلزمه شيء كذا في المبسوط.
قوله: "أما النفع المحض فيصح من الصبي مباشرته" لأن تصحيحه ممكن بناء على(4/357)
فيصح منه مباشرته لأن الأهلية القاصرة والقدرة القاصرة كافية لجواز الأداء ألا يرى أن مباشرة النوافل منه صحت لما قلنا, وفي ذلك جاءت السنة المعروفة قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مروا صبيانكم بالصلاة إذا بلغوا سبعا واضربوهم عليها إذا بلغوا عشرا" وإنما هذا ضرب تأديب وتعزير لا عقوبة فكذلك ما هو نفع محض من التصرفات مثل قبول الهبة وقبول الصدقة وذلك مثل بدل الخلع من العبد المحجور بغير إذن المولى فإنه يصح, وكذلك إذا أجر الصبي المحجور نفسه
ـــــــ
وجود الأهلية القاصرة وفي تصحيحه نظر له ونحن أمرنا بالنظر في حقهم لما قلنا يعني صحة النوافل باعتبار ما ذكرنا أن الأهلية القاصرة كافية لأداء ما هو نفع محض والنوافل نفع محض وفي ذلك أي في جواز أداء النوافل منه: "واضربوهم عليها" 1 أي على ترك الصلاة والامتناع عن أدائها. وقوله: وإنما هذا إلى الضرب المذكور في الحديث كذا جواب عما يقال كيف يصح ضرب الصبي والأمر به على الامتناع من أداء الصلاة وهو عقوبة وقد ذكرت أن ما هو عقوبة ساقط عنه فقال هذا أي الضرب المذكور في الحديث ضرب تأديب وتعزير ليتخلق بأخلاق المسلمين ويعتاد أداء الصلاة في المستقبل لا عقوبة على ترك الصلاة في الماضي والضرب للتأديب من أنفع المنافع في حق الصبي كما قيل:
أدب بنيك إذا ما استوجبوا أدبا ... فالضرب أنفع أحيانا من الضرب
فكذلك أي فكأداء النوافل في الصحة ما هو نفع محض من التصرفات مثل قبول الهبة والصدقة وقبضهما والاصطياد والاحتطاب ونحوها وذلك أي قبول الهبة والصدقة أو مباشرة ما هو نفع محض من الصبي مثل قبول بدل الخلع من العبد المحجور بأن خالع امرأته على مال وقبضه منها بغير إذن مولاه فإنه يصح لأنه حجره عما فيه ضرر أو توهم ضرر له وهذا نفع محض في حقه فلا يتوقف على إذنه ولا يظهر الحجر فيه.
قوله: "وكذلك" أي ومثل قبول بدل الخلع من العبد المحجور إذا آجر الصبي إلى آخره لا يجوز للصبي المحجور ولا للعبد المحجور أن يؤاجر نفسه لأن الإجارة عقد معاوضة كالبيع فلا يملكه المحجور عليه وإنما ذلك إلى المولى أو الولي ولهذا لا يستحق تسليم النفس بهذا العقد لما فيه معنى الضرر. فإن عمل الصبي أو العبد ففي القياس لا أجر له لأن العقد لم يصح ووجوب الأجرة باعتباره فإذا فصد لم يجب الأجر وفي الاستحسان وجب الأجر لكل واحد منهما لأن هذا العقد يتمحض منفعة بعد إقامة العمل
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الصلاة حديث رقم 495 والترمذي في الصلاة حديث رقم 407.(4/358)
ومضى على العمل وجب الأجر للحر استحسانا ووجب للعبد بشرط السلامة ولا يشترط السلامة في الصبي الحر وكذلك العبد إذا قاتل بغير إذن المولى والصبي بغير إذن الولي استوجب الرضخ استحسانا ويحتمل أن يكون هذا قول محمد رحمه الله فإنه لم يذكر إلا في السير الكبير ووجب القول بصحة عبارة الصبي في بيع مال غيره وطلاق غيره أو عتاق غيره إذا كان وكيلا لأن الآدمي يكرم
ـــــــ
فإنا لو اعتبرنا العقد استوجب الأجر ولو لم نعتبره لم يجب له الأجر والصبي أو العبد لا يكون محجورا عما يتمحض منفعة كقبول الهبة والصدقة لأن الحجر لدفع الضرر ففيما لا ضرر فيه بوجه لا حجر فإن عطب العبد في العمل كان المستأجر ضامنا لقيمته لأنه غاصب له حين استعمله بغير إذن مولاه ولا أجر عليه لأنه ملكه بالضمان من حين وجب عليه الضمان وإنما أوجبنا الأجر عليه لنفع المولى ووجوب الضمان أنفع له من لزوم الأجر بخلاف الصبي الحر فإنه وإن هلك في العمل فله الأجر بقدر ما قام من العمل لأن الحر لا يملك بالضمان فلم يكن بد من إيجاب الأجر فهذا معنى قوله ووجب أي الأجر للعبد أي لمولاه بشرط السلامة ولا يشترط السلامة في الحر.
قوله: "وكذلك" أي وكالصبي أو العبد إذا أجر نفسه العبد إذا قاتل بغير إذن مولاه أو الصبي إذا قاتل بغير إذن وليه لا شيء له في القياس لأنه ليس من أهل القتال وإنما يصير أهلا له عند إذن المولى أو الولي فيكون حاله كحال الحرفي المستأمن إن قاتل بإذن الإمام استحق الرضخ وإلا فلا. وفي الاستحسان يرضخ له لأنه غير محجور عن الاكتساب وعما يتمحض منفعة واستحقاق الرضخ بعد الفراغ من القتال بهذه الصفة فيكون هو كالمأذون فيه من جهة المولى أو الولي دلالة.
قوله: "ويحتمل أن يكون هذا" أي استحقاق الرضخ استحسانا قول محمد خاصة لأن عنده أمان الصبي المحجور والعبد المحجور أي أمانهما صحيح وذلك لا يصح إلا ممن له ولاية وإذا كان لهما ولاية القتال كان كل واحد منهما مستحقا للرضخ عند الفراغ من القتال والدليل عليه أن محمدا رحمه الله لم يذكر هذه المسألة إلا في السير الكبير وأكثر تفريعاته مبني على أصله كتفريعات الزيادات فأما عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله فلا يستحق واحد منهما شيئا لأن أمان العبد المحجور والصبي المحجور ليس بصحيح عندهما فلم يكن لهما ولاية القتال ولهذا لا يحل لهما شهود القتال بدون الإذن بالإجماع فلا يستحقان شيئا بالقتال كالحربي إذا قاتل والأصح أن هذا جواب الكل لما ذكرنا أن الحجر عن القتال لدفع الضرر وقد انقلبت نفعا بعد الفراغ فلا معنى للمنع من(4/359)
لصحة العبارة وعلم بيان قال الله تعالى: {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:4] فكان القول بصحته من أعظم المنافع الخالصة وفي ذلك يوصل إلى درك المضار والمنافع واهتداء في التجارة بالتجربة قال الله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء: 6]. وأما ما كان ضررا محضا فليس بمشروع في حقه فبطلت مباشرته
ـــــــ
الاستحقاق قال الله تعالى: {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:4] من عليه بتعليم البيان لأن الإنسان يتميز عن سائر الحيوان بالبيان وهو المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير. وفي الحديث: "المرء بأصغريه بقلبه ولسانه" وقال الشاعر:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... فلم تبق إلا صورة اللحم والدم
فكان القول بصحته أي بصحة كلامه إذا لم يتضمن ضررا من أعظم المنافع الخالصة أي عن الضرر وفي ذلك أي في القول بصحة عبارته إذا توكل بهذه التصرفات توصل إلى درك المنافع من الأرباح والمضار من الغبن والخسران واهتداء في التجارة بالتجربة من غير أن يلحقه ضرر ونقصان وإليه أشير في قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} أي اختبروا عقولهم وتعرفوا أحوالهم ومعرفتهم بالتصرف قبل البلوغ حتى إذا تبينتم منهم رشدا أي هداية دفعتم إليهم أموالهم من غير تأخير عن حد البلوغ فعلم أن اهتداءه في التجارة أمر مطلوب ونفع محض فوجب القول بصحة ما يحصل به الاهتداء ولكن لا يلزمه بهذه التصرفات عهدة إذا لم يكن مأذونا لما سنبينه ولا يلزم على ما ذكرنا عدم صحة أداء شهادته مع أن في ذلك تصحيح عبارته لأن صحة أداء الشهادة مبنية على الأهلية الكاملة لأن الشهادة إثبات الولاية على الغير في الإلزام بغير رضاء وبدون الأهلية الكاملة لا نثبت هذه الولاية قوله.
"فأما ما كان ضررا محضا فليس بمشروع في حقه" لأن الصبي مظنة المرحمة والإشفاق لا مظنة الإضرار به والله تعالى أرحم الراحمين فلم يشرع في حقه المضار وذلك أي ما هو ضرر محض مثل الطلاق والعتاق ونحوهما فإنها ضرر محض في العاجل بإزالة ملك النكاح والرقبة والعين من غير نفع يعود إليه فلذلك لم يملك مباشرة هذه التصرفات بنفسه ولم يملك ذلك أي ما هو ضرر محض عليه غيره مثل الولي والوصي والقاضي لأن ولاية هؤلاء نظرية وليس من النظر إثبات الولاية فيما هو ضرر محض في حقه وكان المراد من عدم شرعية الطلاق والعتاق في حقه عدمها عند عدم الضرورة والحاجة فأما عند تحقق الحاجة إليه فهو مشروع فإن الإمام شمس الأئمة رحمه الله قال في أصول الفقه زعم بعض مشايخنا رحمهم الله أن هذا الحكم غير مشروع أصلا في حق الصبي(4/360)
وذلك مثل الطلاق والعتاق والهبة والقرض والصدقة ولم يملك ذلك عليه غيره ما خلا القرض فإنه ملك القاضي عليه لأن صيانة الحقوق لما كانت بولاية القضاء انقلب القرض بحال القضاء نفعا محضا لا يشوبه مضرة لأن العين غير مأمون العطب والدين مأمون العطب إلا من قبل التوى وقد وقع الأمن عنه بولاية
ـــــــ
حتى إن امرأته لا يكون محلا للطلاق قال وهذا وهم عندي فإن الطلاق يملك بملك النكاح إذ لا ضرر في إثبات أصل الملك وإنما الضرر في الإيقاع حتى إذا تحققت الحاجة إلى صحة إيقاع الطلاق من جهته لدفع الضرر كان صحيحا قال وبهذا يتبين فساد قول من يقول إنا لو أثبتنا ملك الطلاق في حقه كان خاليا عن حكمة وهو ولاية الإيقاع والسبب الخالي عن حكمة غير معتبر شرعا كبيع الحر وطلاق البهيمة لأنا لا نسلم خلوه عن حكمة إذ الحكم ثابت في حقه عند الحاجة حتى إذا أسلمت امرأته وعرض عليه الإسلام فأبى فرق بينهما وكان ذلك طلاقا في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله. وإذا ارتد وقعت الفرقة بينه وبين امرأته وكان طلاقا في قول محمد رحمه الله وإذا وجدته امرأته مجبوبا فخاصمته في ذلك فرق بينهما وكان طلاقا عند بعض المشايخ وإذا كاتب الأب أو الوصي نصيب الصغير من عبد مشترك بينه وبين غيره واستوفى بدل الكتابة صار الصبي معتقا نصيبه حتى يضمن قيمة نصيب شريكه إن كان موسرا وهذا الضمان لا يجب إلا بالإعتاق فيكتفى بالأهلية القاصرة في جعله معتقا للحاجة إلى دفع الضرر عن الشريك فعرفنا أن الحكم ثابت في حقه عند الحاجة فأما بدون الحاجة فلا يجعل ثابتا لأن الاكتفاء بالأهلية القاصرة لتوفير المنفعة على الصبي وهذا المعنى لا يتحقق فيما ضرر محض.
قوله: "ما خلا القرض" أي الإقراض فإن القاضي يملكه على الصبي ويندب إلى ذلك لأن صيانة الحقوق لما كانت مفوضة إلى القضاة انقلب القرض بحال القضاء نفعا محضا وذلك لأن القرض قطع الملك عن العين ببدل في ذمة المفلس إذ الاستقراض في العادات ممن هو فقير غير ملي ولهذا حل محل الصدقة وزاد عليها في الثواب لزيادة الحاجة فأشبه التبرع بمنزلة العتق على مال فلا يملكه من لا يملك التبرع والعتق ولهذا لا يملكه الوصي إلا أن ذلك صح من القاضي وصار هو مندوبا إليه لأن الدين الذي على المستقرض بواسطة ولاية القاضي يعدل العين وزيادة لأن القاضي يمكنه أن يطلب مليئا على خلاف العادة ويقرضه مال اليتيم كما يقتضيه النظر والبدل مأمون عن التوى باعتبار الملاء وباعتبار علم القاضي وإمكان تحصيله المال منه من غير حاجة إلى دعوى وبينة فكان مصونا عن التلف فوق صيانة العين فإن العين يعرض التلف بأسباب غير محصورة. فصار القرض(4/361)
القضاء فصار ملحقا بهذا الشرط بالمنافع الخالصة. وأما ما يتردد بين النفع والضرر مثل البيع والإجارة والنكاح وما أشبه ذلك فإنه لا يملكه بنفسه لما فيه من الاحتمال وملكه برأي الولي لأنه أهل لحكمه بمباشرة الولي وقد صار أهلا يتصور منه المباشرة فإذا صار أهلا للحكم كان أهلا للسبب لا محالة وفي القول بصحة مباشرته برأي الولي أصابه مثل ما يصاب بمباشرة الولي لا محالة مع فضل
ـــــــ
ملحقا بهذا الشرط وهو أن يكون المقرض قادرا على تحصيله بالمنافع الخالصة فلذلك كان القرض نظرا من القاضي فيملكه على الصبي وضررا من الوصي لترجح جهة التبرع في حقه فلا يملكه والأب في رواية يملكه لأنه يملك التصرف في المال والنفس فكان بمنزلة القاضي وفي رواية لا يملكه لأنه لا يتمكن من تحصيل المال من المستقرض بنفسه فكان بمنزلة الوصي فأما الاستقراض فقد ذكر في شرح قضاء الجامع الصغير لقاضي خان رحمه الله أن الأب لو أخذ مال الصغير قرضا جاز لأنه لا يهلك عليه والوصي لو أخذ مال اليتيم قرضا لا يجوز في قول أبي حنيفة وقال محمد رحمه الله لا بأس به إذا كان مليئا قادرا على الوفاء وذكر في أحكام الصغار نقلا عن المنتقى أنه ليس للقاضي أن يستقرض مال اليتيم والغائب بنفسه.
قوله: "وأما ما يتردد بين النفع والضرر" يعني يحتمل أن يقع نفعا ويحتمل أن يكون ضررا مثل البيع فإنه إذا كان رابحا كان نفعا وإن كان خاسرا كان ضررا. وكذا الإجارة والنكاح فإن كل واحد منهما إن كان بأقل من أجر المثل أو مهر المثل يكون نفعا في حق المستأجر والمتزوج وإن كان بأكثر من أجر المثل أو مهر المثل كان ضررا وما أشبه ذلك مثل الشركة والأخذ بالشفعة والإقرار بالغصب والاستهلاك والرهن فإنه أي الصبي لا يملكه أي ما ذكرنا من التصرفات أو ما هو متردد بين النفع والضرر بنفسه لما فيه أي في كل واحد منها أو فيما هو متردد من احتمال الضرر فيملكه برأي الولي أي بإجازته وإذنه لأن الصبي أهل لحكمه بمباشرة الولي حتى يثبت له حكم التصرف من ملك المبيع والثمن والأجرة والمهر لا للولي وقد صار الصبي أهلا لمباشرة هذه التصرفات بوجود أصل العقل حتى صح منه هذه التصرفات لغيره وإذا صار أهلا للحكم كان أهلا لسببه لا محالة لأن الأسباب إنما يعتبر لأحكامها لا لذواتها وامتناع الصحة كان لمعنى الضرر فإذا اندفع توهم الضرر برأي الولي لتحقق هذا القسم بما يتمحض نفعا فيكون للصبي فيه عبارة صحيحة وفي القول بصحة مباشرة الصبي برأي الولي إصابة مثل ما يصاب بمباشرة الولي من النفع مع فضل نفع البيان لأن في تصحيح عبارته نوع نفع لا يحصل له ذلك النفع(4/362)
نفع البيان وتوسيع طريق الإصابة وذلك بطريق أن احتمال الضرر في التصرف يزول برأي الولي حتى يجعل الصبي كالبالغ وذلك في قول أبي حنيفة رحمه الله ألا يرى أنه صحح بيعه بغبن فاحش من الأجانب والولي لا يملكه وذلك باعتبار أن نقصان رأيه جبر برأي الولي فصار كالبالغ وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله بطريق أن رأي الولي شرط للجواز وعموم رأيه لخصوصه فجعل كأن الولي باشر بنفسه ولذلك قالا لا يملكه بالغبن الفاحش مع الأجانب ومع
ـــــــ
بمباشرة الولي وتوسع طريق الإصابة أي اتسع له طريق توفير المنفعة لأن منفعة التصرف تحصل له بمباشرته وبمباشرة وليه وذلك أنفع له من أن يسد عليه أحد الباقين ويجعل لتحصيل هذه المنفعة له طريق واحد وذلك أي جواز هذه التصرفات منه عند انضمام رأي الولي إلى رأيه بطريقين أحدهما وهو مختار أبي حنيفة رحمه الله أن قصور رأيه لما اندفع برأي الولي التحق الصبي بالبالغ أو صار بمنزلة ما إذا اندفع ذلك بكمال رأيه بالبلوغ فنفذ بيعه من الأجانب بغبن فاحش كما ينفذ من غيره من البالغين أو كما ينفذ منه بعد البلوغ وإن كان لا ينفذ ذلك من الولي. والثاني وهو مختار أبي يوسف ومحمد رحمه الله نفوذ تصرفه لما كان باعتبار رأي الولي فإن انضمام رأيه إلى رأي الصبي شرط جوز تصرفه يعتبر رأيه العام برأيه الخاص وهو ما إذا باشر التصرف من الولي بالغبن الفاحش لا ينفذ بمباشرة الصبي بعد إذن الولي له ومعنى عموم رأي الولي وخصوصه أنه إذا باشر بنفسه كان رأيه مختصا به لتصرفه برأي نفسه وإذا تصرف الصبي برأيه كان رأيه عاما لتعديه عنه إلى غيره وانضمام رأي الصبي إلى رأيه كذا قيل ويحتمل أن يكون المراد من عموم رأيه أنه لما أذن للصبي في التجارة إذنا عاما دخل كل تصرف صدر منه تحت عموم رأيه ووجد رأيه العام فيه وإذا باشر بنفسه كان رأيه خاصا والفقه فيه أن الغبن الفاحش بمنزلة الهبة فإن من لا يملك الهبة كالأب والوصي في مال الصغير لا يملك التصرف بالغبن الفاحش ولو حصل من المريض يعتبر من الثلث كالهبة ثم الصبي لا يملك الهبة بالإذن فلا يملك التصرف بالغبن الفاحش لأنه إتلاف كالهبة يوضحه أن هذا التصرف لا ينفذ من الولي لدفع الضرر عن الصبي وإذنه لتوفير المنفعة لا للإضرار به فحاله فيما يلحق الضرر به من التصرفات بعد الإذن كحاله قبله وأبو حنيفة رحمه الله يقول التصرف بالغبن الفاحش تجارة ومبادلة مال بمال ولهذا يجب به الشفعة للشفيع في الكل فيدخل تحت الإذن. بخلاف الهبة فإنها ليست بتجارة بخلاف الولي لأنه لم يثبت له ولاية التجارة في مال الصغير مطلقة بل مقيدة بشرط الأحسن والأصلح لا يبدو أن لا يصح التصرف من الولي ويصح ذلك من الصبي كالإقرار بالدين أو بالعين والعقد بالغبن الفاحش(4/363)
الولي وعن أبي حنيفة رحمه الله في التصرف مع الولي روايتان في الغبن الفاحش في رواية أجاز لما قلنا وفي رواية أبطله بشرط النيابة وذلك أنه في الملك أصيل وفي الرأي أصيل من وجه دون وجه ألا يرى أن له أصل الرأي دون وصفه فيثبت شبهة النيابة فاعتبرت في موضع التهمة وسقطت في غير موضع التهمة, وعلى هذا قلنا في المحجور إذا توكل لم يلزم العهدة وبإذن الولي يلزمه.
ـــــــ
من صنيع التجار فإنهم يقصدون بذلك استجلاب قلوب المجاهزين لتحصيل مقصودهم من الربح في تصرفات أخر بعد ذلك فكان هذا والغبن اليسير سواء وبأن كان يعتبر في حق المريض من الثلث لعدم الرضاء من غرمائه وورثته لا يدل على أنه لا ينفذ من المأذون كالغبن اليسير وعن أبي حنيفة رحمه الله في تصرف الصبي المأذون مع الولي بغبن فاحش روايتان في رواية أجازه لما قلنا أنه صار كالبالغ بانضمام رأي وليه إلى رأيه فلم يكن فرق بين أن يكون معاملته مع أجنبي أو مع وليه وهذا لأنه عامل لنفسه في خالص ملكه لا أن يكون نائبا عن وليه وفي رواية أخرى رده أي التصرف بغبن فاحش مع الولي لشبهة النيابة وذلك أي بيان الشبهة أن الصبي في الملك أصيل لأنه مالك حقيقة وأصل العقل والرأي ثابت له فيشبه تصرفه تصرف الملاك من هذا الوجه ويشبه تصرف الوكلاء من حيث إن في رأيه خللا ويجبر ذلك برأي الولي فتثبت شبهة النيابة في هذا التصرف نظرا إلى الوصف فاعتبرت شبهة النيابة في موضع التهمة وهو التصرف مع الولي إذ يتمكن فيه تهمة أن الولي إنما أذن له ليحصل مقصوده ولم يقصد بالإذن النظر للصبي فكما لا يبيع الولي ماله من نفسه بغبن فاحش لا يبيعه الصبي منه بغبن فاحش وسقطت هذه الشبهة في غير موضع التهمة وهو التصرف مع الأجنبي ومع الولي بمثل القيمة أو بما يتغابن الناس في مثله نظرا إلى الأصل. قال الشيخ رحمه الله في بعض تصانيفه لما تحقق في تصرف الصبي شبهة الوكالة اعتبرناها في حق الولي لأن الوكالة عقد خاص فيعتبر في محل التخصيص واعتبرنا جهة الملك في حق سائر الناس لأن مبنى الملك على العموم فاعتبرناه في محل العموم.
قوله: "وعلى هذا الأصل" وهو أن ما فيه احتمال ضرر لا يتملكه الصبي بنفسه ويتملكه بإذن الولي قلنا في المحجور أي الصبي المحجور إذا توكل أي قبل الوكالة أو تولى الوكالة لغيره لم تلزمه العهدة أي الأحكام التي تتعلق بالوكالة من تسليم المبيع والثمن والخصومة في العيب ونحوها لأن في إلزامها معنى الضرر ولا يثبت ذلك بالأهلية القاصرة وبإذن الولي تلزمه لأن قصور رأيه اندفع بإذن الولي فصار أهلا للزوم العهدة وفي بعض النسخ وبإذن المولى تلزمه فكان المراد من المحجور على هذه النسخة العبد(4/364)
وأما إذا أوصى الصبي بشيء من وصايا البر بطلت وصيته عندنا وإن كان فيها نفع ظاهر لأن الإرث شرع نفعا للمورث ألا يرى أنه شرع في حق الصبي وفي الانتقال إلى الإيصاء ترك الأفضل لا محالة إلا أنه مشروع في حق البالغ كما شرع له الطلاق في النكاح ولم يشرع في حق الصغير فكذلك هذا. ولذلك قلنا:
ـــــــ
المحجور وحكمه وإن كان حكم الصبي فيما ذكرنا حتى صح توكله بدون إذن المولى باعتبار كمال عقله ولم تلزمه العهدة دفعا للضرر عن المولى وبإذن المولى تلزمه لالتزام المولى الضرر بالإذن لكن بناء هذه المسألة على الأصل المذكور لا يصح إلا بأن يفسر الأصل بمعنى آخر يستقيم تخريجها عليه ولا يخلو عن تمحل فتكون النسخة الأولى أظهر.
قوله: "من وصايا البر" ليس بقيد فإن وصيته باطلة عندنا سواء كانت في البر أو لم تكن لكن لما كان الخلاف في وصايا في البر دون غيرها عين هذه الصورة ليمكنه الإشارة إلى الخلاف بقوله عندنا.
واختلف العلماء في وصية الصبي فأهل المدينة يجوزون من وصاياه ما وافق الحق وبه أخذ الشافعي رحمه الله لأن هذه الوصية نفع محض لأنه يحصل له الثواب بها في الآخرة بعدما استغنى عن المال نفسه بالموت لأن أوان نفوذ الوصية بعد الموت ولا يحصل له ذلك بغيره فكان وليا فيها بنفسه باعتبار كونها نفعا محضا والدليل عليه أن الوصية أخت الميراث والصبي في الإرث عنه بعد الموت يساوي البالغ فكذا في الوصية بخلاف تبرعه بالهبة والصدقة في حال الحياة لأنه يتضرر بزوال ملكه عنه في حال حاجته وبخلاف إيمانه بنفسه حيث لا يصح في أحكام الدنيا لأنه يحصل له بغيره وهو الولي فلا يكون فيه وليا بنفسه كيف وقد أجاز عمر رضي الله عنه وصية غلام نافع وهو الذي قارب البلوغ ولم يبلغ وسئل شريح عن وصية غلام لم يبلغ فقال إن أصاب الوصية فهي جائزة وهكذا نقل عن الشعبي. وعندنا وصيته باطلة سواء مات قبل البلوغ أو بعده لأنها إزالة الملك بطريق التبرع مضافة إلى ما بعد الموت فيكون ضررا محضا في الأصل فتعتبر بإزالته بطريق التبرع في حال الحياة فلا تصح وما فيها من النفع حصل باتفاق الحال وهو أنها حالة الموت فيزول عنه الملك لو لم يوص وما ينقلب نفعا باتفاق الحال لا يعتبر. كما لو باع شاة أشرفت على الهلاك لم يصح البيع مع أنه نفع محض في هذه الحالة إذ لو لم يصح البيع يزول ملكه بغير بدل ولكن النفع في أصله لما تضمن ضررا لم يصح وكما لو باع شيئا من ماله بأضعاف قيمته لم يجز وإن انقلب نفعا باتفاق الحال وكما لو طلق امرأته المعسرة الشوهاء ليتزوج أختها المعسرة الحسناء لم يجز وإن انقلب الطلاق نفعا محضا في هذه الحالة لأن أصل(4/365)
لا يجوز أن يخير الصبي بين الأبوين بعد الفرقة لأنه من جنس ما يتردد بين الضرر والنفع, والغالب من حاله الميل إلى الهوى والشهوة والولي في موضع النزاع
ـــــــ
التصريف من المضار وذلك لأن في اعتبار الأحوال حرجا فيعتبر في كل باب أصله تيسيرا للأمر على الناس ولئن سلمنا أن في إيصائه نفعا من حيث الظاهر وهو حصول الثواب ففي القول بصحته ترك نفع أعلى منه لأن الإرث شرع نفعا للمورث فإن نقل ملكه إلى أقاربه عند استغنائه عنه يكون أولى عنده من النقل إلى الأجانب وهو أفضل شرعا لأنه إيصال النفع إلى القريب وصلة للرحم وإليه أشار النبي عليه السلام بقوله لسعد رضي الله عنه: "لأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس" أي خير لك من أن تتركهم فقراء يسألون الناس أكفهم وإنه بالانتقال إلى الإيصاء ترك هذا الأفضل وهو ضرر لا محالة فلا يكون مشروعا في حقه إلا أنه أي الإيصاء كذا جواب عما يقال لو كان الإيصاء ضررا ينبغي أن لا يكون مشروعا في حق البالغ فقال إنما شرع في حقه لأن أهليته كاملة فيجوز أن يشرع في حقه المضار ألا ترى أنه شرع في حق البالغ الطلاق ولم يشرع في حق الصغير لقصور أهليته فكذلك هذا أي فكالطلاق الإيصاء يكون مشروعا في حق البالغ دون الصبي. وتأويل حديث عمر رضي الله عنه أن الغلام ما كان بالغا ولكنه كان قريب العهد بالبلوغ ومثله يسمى يافعا بطريق المجاز كذا في المبسوط وقول شريح والشعبي ليس بحجة لأنهما من التابعين دون الصحابة.
قوله: "ولذلك" أي ولأن ما يتردد بين النفع والضرر لا يملكه الصبي بنفسه قلنا كذا إذا وقعت الفرقة بين الزوجين وبينهما ولد فعند الشافعي رحمه الله حق الحضانة للأم إلى سبع سنين ثم يخير الولد بين الأبوين فأيهما اختاره يكون عنده سواء كان الولد ذكرا أو أنثى لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خير غلاما بين الأبوين1 وعن عمارة الجرمي قال خيرني علي رضي الله عنه بين عمي وأمي وكنت ابن سبع سنين أو ثماني سنين ولأن المقام مع الذي اختاره الصبي نفع محض له لأن أحدهما يكون أشفق عليه وأرفق به وأنه يختار المقام معه فيكون منفعة محضة في حقه وهو ليس بمولى عليه في هذا الباب فيكون وليا بنفسه وعندنا إن كان الولد ذكرا فحق الحضانة للأم إلى أن يستغني عنها بأن يأكل وحده ويشرب وحده ويلبس وحده ويستنجي وحده ثم يدفع إلى الأب وإن كان أنثى فالأم أحق بها إلى أن تحيض ثم تدفع إلى الأب ولا يخير بوجه ولا تعتبر
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الطلاق حديث رقم 2277 والترمذي في الأحكام حديث رقم 1357 وابن ماجه في الأحكام حديث رقم 2351 والإمام أحمد في المسند 2/246.(4/366)
ليس بولي فبطل اختياره وقد خالفنا الشافعي رحمه الله في هذه الجملة خلافا متناقضا لا يستقيم على شيء من أصول الفقه وكفى به حجة عليه ولم يعتد بخلافه لأنه قد قال بصحة كثير من عباراته في اختيار أحد الأبوين وفي الإيصاء
ـــــــ
عبارته فيه شرعا لأنه من جنس ما يتردد بين النفع والضرر بل جانب الضرر فيه متعين لأن الغالب من حاله الميل إلى الهوى والشهوة فيختار من يدعه يلعب ولا يؤاخذه بالآداب ويتركه خليع العذار لقلة نظره في عواقب الأمور وأنه يتضرر بذلك. ولا يقال إنما يتحقق الضرر بفعل ذلك الغير لا باختياره لأنا نقول اختياره علة العلة فتصير الأخيرة مضافة مع حكمها إلى الأولى كما في شراء القريب والولي في موضع النزاع ليس بولي جواب عما يقال قد يندفع الضرر بإذن الولي فينبغي أن يصح اختياره إذا رضي الولي بذلك كما في البيع فقال لا يعتبر اختياره في هذا الموضع لأن هذا موضع نزاعه الأم وأنه في هذا الاختيار عامل لنفسه فلا يصلح عاملا للصبي وناظرا له فلا يكون وليا في هذه الحالة وقد يجوز أن لا يعتبر قول الصبي في ذلك ولا قول أبيه كما إذا كان في رهن المشركين عند المسلمين صبيان فأسلموا ثم رضوا بردهم على المشركين لاسترداد رهن المسلمين منهم لا تعتبر رضاهم في ذلك ولا رضاء آبائهم ولا يردون بخلاف الرجال البالغين فهذا نوع اختيار منه ثم لا تعتبر عبارته فيه ولا عبارة وليه لأنه يبتنى على الأهلية الكاملة بمنزلة التصرف الذي يتمحض ضررا فإن قيل إذا أقر الصبي العاقل على نفسه بالرق وهو مجهول الحال يصح إقراره وفيه اعتبار عبارته فيما يتمحض ضررا في حقه وهو إبطال الحرية وتبدل صفة المالكية بالمملوكية. قلنا ثبوت الرق ها هنا ليس بعبارته ولكن بدعوى ذي اليد أنه عبدي لأن عند معارضته إياه بدعوى الحرية لا يتقرر يده عليه وعند عدم هذه المعارضة يتقرر يده عليه فيكون القول قوله في رقه بمنزلة الصبي الذي لا يعقل إذا كان في يده فقال هو عبدي أو لأن الحرية إنما تثبت له إذا ادعى الحرية ولا يمكن أن يجعل بإقراره بالرق مدعيا للحرية بوجه فكان هذا نظير ما قلنا في صحة ردته من حيث إنه مع جهله بالله تعالى لا يمكن أن يجعل عالما به حتى يكون محكوما بإسلامه كذا ذكر الإمام شمس الأئمة رحمه الله. والجواب عما روي من الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لذلك الغلام فقال: "اللهم سدده" 1 فببركة دعائه عليه السلام اختار ما هو الأنفع له ولا يوجد مثله في حق غيره كذا في المبسوط.
قوله: "وقد خالفنا الشافعي في هذه الجملة" أي: جملة ما ذكرنا من الأحكام خلافا متناقضا ثم بين التناقض بقوله لأنه قد قال بصحة كثير من عباراته في اختيار أحد الأبوين
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الطلاق حديث رقم 2244 وابن ماجه في الأحكام حديث رقم 2353.(4/367)
وفي العبادات وقال بلزوم الإحرام من غير نفع وأبطل الإيمان وهو نفع محض وليس له في شيء من ذلك الأشياء موضوعا, وهو أن من كان موليا عليه لم يصلح وليا لأن أحدهما سمة العجز والباقي آية القدرة وهما متضادان فأجرى هذا الأصل في الفروع فطرده لأفقه معقول فقال يصح اختيار أحد الأبوين ولا يصح اختيار الولي عليه, وكذلك قبول الهبة في قول صحيح منه دون الولي وفي قول عكسه ولا فقه فيه لأنه بنى الأمر على
ـــــــ
وفي الإيصاء كما بينا وفي العبادات حيث قال بصحة صلاة الصبي وصحتها متوقفة على صحة العبارة فإن التحريمة تنعقد بالعبارة والقراءة والأذكار في الصلاة عبارات أيضا وهي صحيحة من الصبي كما تصح من البالغ وقال بلزوم الإحرام من غير نفع يعني إذا أحرم الصبي يلزمه المضي عنده وليس في القول باللزوم له نفع وكذا لو ارتكب محظور إحرامه يلزمه الجزاء عنده وليس له في ذلك نفع بل هو ضرر محض وأبطل الإيمان أي أبطل عبارته في الإيمان حتى لو سمع منه الإقرار عن معرفة وطوع لا يحكم بإسلامه عنده مع أنه نفع محض كما مر بيانه وهذا تناقض حيث صحح عبارته في تلك المسائل لمعنى النفع ولم يصححها في الإيمان الذي هو أظهر نفعا في الدنيا والآخرة من الوصية واختيار أحد الأبوين. وليس له فقه أي أنه لم ينظر في كل مسألة إلى المعنى الفقهي المودع فيها وإنما له حرف واحد وضعه بنفسه يطرده في المسائل وهو أن ما يمكن حصوله له من المنافع بمباشرة وليه لا يعتبر عبارته فيه وما لا يمكن حصوله له بمباشرة وليه يعتبر عبارته فيه لأن من كان موليا عليه في شيء لم يصلح وليا فيه لأن أحدهما وهو كونه موليا عليه سمة العجز أي علامته. والثاني وهو كونه وليا بنفسه آية القدرة وهما أي كونه عاجزا وكونه قادرا في شيء واحد متضادان فلا يجتمعان فلما جعله الشرع موليا عليه في شيء دل على سقوط ولايته فيه إذ لو بقيت لما ثبت للغير ولاية فيه كما بعد البلوغ فلذلك فسدت عبارته فيما صار موليا عليه وإن كان فيه نفع وكذا فيما لم يصر موليا عليه إذا كان فيه ضرر فقال يصح اختياره أحد الأبوين لأن منفعة هذا الاختيار لا تحصل له بمباشرة الولي فتعتبر عبارته فيه وإذا اعتبرت عبارته فيه لا تعتبر عبارة الولي عليه في ذلك فلا يعتبر اختياره وكذلك أي وكاختيار أحد الأبوين قبول الهبة في قول يصح منه إذا بلغ سبع سنين لأنه نفع محض فيملك مباشرته وإذا ملكه بنفسه لا يملكه الولي عليه وفي قول لا يصح منه ويصح من الولي كالبيع ولا فقه فيه أي فيما ذكرنا من الجواب في هذه المسائل لأنه أي الشافعي رحمه الله لم يبن الأمر على دليل الصحة والعدم من الصبي أي على دليل تبين صحته من الصبي أو عدم صحته منه بل بنى الأمر على شيء خارج عن الفقه وعندنا لما كان الصبي قاصر الأهلية صلح موليا عليه باعتبار قصور العقل ولما كان(4/368)
دليل الصحة والعدم من الصبي وعندنا لما كان قاصر الأهلية صلح موليا عليه ولما كان صاحب أصل الأهلية صلح وليا ومتى جعلناه موليا عليه لم نجعله وليا فيه وإنما هذا عبارة عن الاحتمال وهو راجع إلى توسع طريق النيل والإصابة وذلك هو المقصود لأن المقصود من الأسباب أحكامها فوجب احتمال هذا التردد في السبب لسلامة الحكم على الكمال وإنما الأمور بعواقبها والله أعلم بالصواب.
ـــــــ
صاحب أصل الأهلية بوجود أصل العقل صلح وليا بنفسه ولا منافاة في الجمع بينهما لأنا متى جعلناه وليا في تصرف لم نجعله فيه أي فيما جعلناه وليا موليا عليه. وإذا جعلناه موليا عليه في تصرف لم نجعله وليا فيه فإنا متى جعلناه مسلما بإسلام نفسه لم نجعله مسلما تبعا لأحد وإذا جعلناه مسلما تبعا لأحد أبويه لم نجعله مسلما بإسلام نفسه وهو كالعبد يكون تبعا لمولاه في السفر والإقامة في حالة ويكون أصلا بنفسه في حالة وهي ما إذا خلى بينه وبين ذلك وإنما هذا أي الجمع بين كونه وليا وموليا عليه عبارة عن الاحتمال أي المراد منه أنه يحتمل أن يوجد هذا التصرف بمباشرته فيكون وليا فيه ويحتمل أن يوجد بمباشرة الولي عليه فيكون موليا عليه لا أن يوجد التصرف بالطريقين جميعا فيكون وليا وموليا عليه فيه بل لا يوجد إلا بطريق واحد ولا يستحيل الجمع بينهما بهذا الوجه كما في إرسال الطلاق وتعليقه فإنهما يتنافيان وجودا على معنى أنه لو وقع بالإرسال لا يقع بالتعليق وكذا عكسه فأما ما قبل الوجود فيحتمل الوقوع بكل واحد من الطريقين وهو راجع أي الجمع بين كونه وليا وموليا عليه في تصرف راجع إلى توسع طريق النيل أي نيل الحكم والنفع الذي في ذلك التصرف فإنه متى صح قبوله الهبة بنفسه وصح قبول وليه له أيضا كان حصول نفع الهبة له بطريقين ولو لم يجمع بينهما كان طريقه واحدا ولا شك أن حصوله بطريقين أنفع له من حصوله بطريق واحد. وذلك أي توسع طريق الإصابة أو نيل نفع التصرف هو المقصود من جعله وليا بنفسه وموليا عليه لأن المقصود من الأسباب أحكامها لا ذواتها فكان المقصود من الجمع بين الأمرين حكمه وهو حصول النفع فوجب احتمال هذا التردد في السبب أي وجب تحمل التردد الذي في السبب فإنه يحتمل أن يكون بمباشرة نفسه ويحتمل أن يثبت بمباشرة وليه من غير تعين أحدهما لسلامة الحكم على الكمال أي ليحصل النفع له على كلا التقديرين من غير تردد وإنما الأمور بعواقبها أي المعتبر عواقب الأمور لا ابتداؤها وعاقبة ما ذهبنا إليه تحصيل المنافع للصبي من غير تردد بتوسيع طريقه وإن كان في ابتدائه تردد فيجب اعتباره والله أعلم.(4/369)
"باب الأمور المعترضة على الأهلية"
العوارض نوعان سماوي ومكتسب أما السماوي فهو الصغر والجنون والعته والنسيان والنوم والإغماء والمرض والرق والحيض والنفاس والموت. وأما المكتسب فإنه نوعان منه ومن غيره أما الذي منه فالجهل
ـــــــ
"باب الأمور المعترضة على الأهلية"
ولما فرغ الشيخ رحمه الله من بيان الأهلية وما يبتنى عليها من الأحكام شرع في بيان أمور تعترض عليها فتمنعها عن إبقائها على حالها فبعضها يزيل أهلية الوجوب كالموت وبعضها يزيل أهلية الأداء كالنوم والإغماء وبعضها يوجب تغييرا في بعض الأحكام مع بقاء أصل أهلية الوجوب والأداء كالسفر على ما ستقف على تفصيلها إن شاء الله عز وجل والعوارض جمع عارضة أي خصلة عارضة أو آفة عارضة من عرض له كذا إذا ظهر له أمر يصده عن المضي على ما كان فيه من حد ضرب ومنه سميت المعارضة معارضة لأن كل واحد من الدليلين يقابل الآخر على وجه يمنعه عن إثبات الحكم ويسمى السحاب عارضا لمنعه أثر الشمس وشعاعها وسميت هذه الأمور التي لها تأثير في تغيير الأحكام عوارض لمنعها الأحكام التي تتعلق بأهلية الوجوب أو أهلية الأداء عن الثبوت ولهذا لم يذكر الشيخوخة والكهولة ونحوهما في جملة العوارض وإن كانت منها لأنه لا تأثير لها في تغيير الأحكام وإنما لم يذكر الحمل والإرضاع والشيخوخة القريبة إلى الفناء من العوارض وإن تغير بها بعض الأحكام لدخولها في المرض فكان ذكر المرض ذكرا لها كذا قيل وأورد عليه الجنون والإغماء فإنهما من الأمراض وقد ذكرهما على الانفراد وأجيب عنه بأنهما وإن دخلا في المرض لكنهما اختصا بأحكام كثيرة يحتاج إلى بيانها فأفردهما بالذكر سماوي وهو ما يثبت من قبل صاحب الشرع بدون اختيار للعبد فيه ولهذا نسب إلى السماء فإن ما لا اختيار للعبد فيه ينسب إلى السماء على معنى أنه خارج عن قدرة العبد نازل من السماء ومكتسب وهو ما كان لاختيار العبد فيه مدخل. وقدم السماوي على المكتسب ذكرا لأنه أظهر في العارضية لخروجه عن اختيار العبد(4/370)
والسكر والهزل والسفه والخطأ والسفر وأما الذي من غيره فالإكراه بما فيه إلجاء وبما ليس فيه إلجاء. أما الجنون فإنه في القياس مسقط للعبادات كلها لأنه مناف للقدرة فينعدم به الأداء فينعدم الوجوب لانعدامه لكنهم استحسنوا فيه إذا
ـــــــ
وأشد تأثيرا في تغيير الأحكام من المكتسب وذكر الصغر من العوارض مع أنه ثابت بأصل الخلقة لكل إنسان لأن الإنسان قد يخلو عن الصغر كآدم وحواء صلى الله عليه ورضي عنها فإنهما خلقا كما كانا من غير تقدم صغر ثم اعترض الصغر على أولادهما ولأن ماهية الإنسان قد تعرف بدون وصف الصغر ولهذا كان الكبير إنسانا فكان الصغر أمرا عارضا على حقيقة الإنسان ضرورة وجعل الجهل من العوارض المكتسبة مع أنه أصلي لا اختيار له فيه قال الله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً} [النحل: 78] باعتبار أن العبد قادر على إزالته بتحصيل العلم فكان ترك تحصيل العلم بالاختيار مع القدرة عليه بمنزلة اختيار الجهل وكسبه وهذا كالكافر يجعل قادرا على أداء العبادات عند أصحابنا العراقيين بواسطة قدرته على الإسلام فكان تركه الإسلام مع القدرة عليه تركا لأداء العبادات مع القدرة على أدائها فلذلك جاز أن يعذب على تركها وهذا بخلاف الرق فإنه لم يجعل من العوارض المكتسبة وإن كان العبد متمكنا من إزالته في الأصل بواسطة الإسلام لأنه ثبت جزاء على الكفر ولا اختيار للعبد في ثبوت الأجزئة بل هي تثبت جبرا كحد الزنا والقذف والسرقة وبعدما يثبت لا يتمكن العبد من إزالته فكان من العوارض السماوية ثم إنه قدم الصغر في تعداد العوارض السماوية والجهل في تعداد العوارض المكتسبة لأنهما يثبتان في أول أحوال الآدمي. وقدم الجنون على الصغر في تفصيل العوارض السماوية لأن حكم الصغر في بعض أحواله حكم الجنون فقدم بيان الجنون ليمكنه إلحاق الصغر به.
"الجنون"
قوله: "أما الجنون" فكذا قال الشيخ أبو المعين رحمه الله لا يمكن الوقوف على حقيقة الجنون إلا بعد الوقوف على حقيقة العقل ومحله وأفعاله فالعقل معنى يمكن به الاستدلال من الشاهد على الغائب والاطلاع على عواقب الأمور والتمييز بين الخير والشر ومحله الدماغ والمعنى الموجب انعدام آثاره وتعطيل أفعاله الباعث للإنسان على أفعال مضادة لتلك الأفعال من غير ضعف في عامة أطرافه وفتور في سائر أعضائه يسمى جنونا والأسباب المهيجة له إما نقصان جبل عليه دماغه وطبع عليه في أصل الخلقة فلم يصلح لقبول ما أعد لقبوله من العقل كعين الأكمه ولسان الأخرس وهذا النوع مما لا يرجى زواله(4/371)
زال قبل الامتداد فجعلوه عفوا وألحقوه بالنوم والإغماء وذلك لما كان منافيا
ـــــــ
ولا منفعة في الاشتغال بعلاجه وإما معنى عارض أوجب زوال الاعتدال الحاصل للدماغ خلقة إلى رطوبة مفرطة أو يبوسة متناهية وهذا النوع مما يعالج بما خلق الله تعالى لذلك من الأدوية وفي النوعين يتيقن بزوال العقل لفساد أصلي أو عارض في محله كما يتيقن بزوال القوة الباصرة عن العين العمياء لفساد فيها بأصل الخلقة أو بعارض أمر أصابها وإما استيلاء الشيطان عليه فيخيله الخيالات الفاسدة ويفزعه في جميع أوقاته فيطير قلبه ولا يجتمع ذهنه مع سلامة في محل العقل خلقة وبقائه على الاعتدال ويسمى هذا المجنون ممسوسا لتخبط الشيطان إياه وموسوسا لإلقائه الوسوسة في قلبه ويعالج هذا النوع بالتعاويذ والرقى. وفي هذا النوع لا يحكم بزوال العقل فالقسم الأول وهو ما كان لنقصان جبل عليه غير زائل عادة لعدم جريان التبديل على خلق الله تعالى بمنزلة الكمه فهو بمعزل عما اختلف فيه العلماء فأما ما حصل منه بزوال الاعتدال أو بمس الشيطان فهو عارض على الأصل ثم القياس في الجنون أن يكون مسقطا للعبادات كلها أي مانعا لوجوبها أصليا كان أو عارضا قليلا كان أو كثيرا وهو قول زفر والشافعي رحمهما الله حتى قالا: لو أفاق المجنون في بعض شهر رمضان لم يجب عليه قضاء ما مضى كالصبي إذا بلغ أو الكافر إذا أسلم في خلال الشهر وكذا إذا أفاق قبل تمام يوم وليلة لم يجب عليه قضاء ما فاته من الصلاة عندهما وذلك لأن الجنون ينافي القدرة لأنها تحصل بقوة البدن والعقل والجنون يزيل العقل فلا يتصور فهم الخطاب والعلم به بدون العقل والقدرة على الأداء لا تتحقق بدون العلم لأن العلم أخص أوصاف القدرة فتفوت القدرة بفوته وبفوت القدرة يفوت الأداء وإذا فات الأداء عدم الوجوب إذ لا فائدة في الوجوب بدون الأداء. وحاصله أن أهلية الأداء تفوت بزوال العقل وبدون الأهلية لا يثبت الوجوب فلا يجب القضاء.
والدليل عليه أن الصبي أحسن حالا من المجنون فإنه ناقص العقل في بعض أحواله عديم العقل في بعض أحواله إلى الإصابة عادة والمجنون عديم العقل لا إلى الإصابة عادة وإذا كان الصغر يمنع الوجوب حتى لم يلزم الصبي قضاء ما مضى من الشهر إذا بلغ في خلال الشهر فالجنون أولى. وهذا بخلاف المغمى عليه حيث يجب عليه قضاء ما مضى من الصوم عند الإفاقة وقضاء الصلاة إذا كان الإغماء أقل من يوم وليلة لأن أهليته قائمة لقيام العقل إذ الإغماء لا ينافي العقل بل هو عجز عن استعمال آلة القدرة كالنوم فكان العقل ثابتا كما كان كمن عجز عن استعمال السيف لم يؤثر ذلك في السيف بالإعدام فكذا الإغماء لكنهم يعني علماءنا الثلاثة استحسنوا فيه أي في الجنون إذا زال قبل(4/372)
لأهلية الأداء كان القياس فيه ما قلنا ألا ترى أن الأنبياء عليهم السلام عصموا
ـــــــ
الامتداد فجعلوه عفوا أي ساقطا كأن لم يكن وألحقوه بالنوم والإغماء وبيانه أن الجنون من العوارض كالإغماء والنوم وقد ألحق النوم والإغماء بالعدم في حق كل عبادة لا يؤدي إيجابها إلى الحرج على المكلف بعد زوالهما وجعلا كأنهما لم يوجدا أصلا في حق إيجاب القضاء وأن العبادة كانت واجبة ففاتت من غير عذر فيلحق الجنون الموصوف بكونه عارضا بهما بجامع أن كل واحد عذر عارض زال قبل الامتداد وكذا الحكم في كل عذر عارض كالحيض والنفاس في حق الصوم هذا في حق إيجاب القضاء فأما في حق لحوق المأثم فالأمر مبني على الحقيقة لورود النص المنبئ وأن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها وإلا ما آتاها. ألا ترى أن الشرع ألحق العارض بالعدم في حق صحة الأداء حتى إن من نوى من الليل الصوم ثم نام ولم ينتبه إلا بعد غروب الشمس أو أغمي عليه أو جن ولم يفق إلى ذلك الوقت حكم بجواز الصوم مع أنه عبادة خالصة والإمساك ركن وهو فعل مقصود ولا بد في مثله من التحصيل بالاختيار وما به من العذر قد سلب اختياره لكن عند زوال العذر جعل هذا الفعل بمنزلة الفعل الاختياري بطريق إلحاق العذر الزائل بالعدم وإذا كان في حق الأداء الذي هو المقصود ففي حق الوجوب الذي هو وسيلة أولى أن يكون كذلك. يوضحه أن الشرع ألحق العارض بالعدم في حق الأداء وقت تقرره حيث حكم بصحة الفعل الموجود في حالة النوم والإغماء ونحن في حق الوجوب ألحقنا العارض بالعدم بعد زواله وجعلنا السبب الموجود في تلك الحالة معتبرا في حق إيجاب القضاء عند زوال العارض فكان أولى بالصحة.
ولا يلزم عليه المرتد إذا أسلم في بعض الشهر حيث لا يلزمه قضاء ما مضى في حالة الردة وإن كانت الردة عارضة زالت وقد ظهر أثر كونها عارضة في حق التصرفات خصوصا على أصل أبي حنيفة رحمه الله فإن تصرفاته تنعقد على التوقف حتى لو أسلم يظهر أنه انعقدت على الصحة وجعلت كأن الردة لم تكن ففيما نحن فيه لأن تلحق بالعدم عند زوالها حتى وجب عليه القضاء كان أولى لأنا نقول الردة عندنا تلتحق بالكفر الأصلي في حق العبادات نصا حتى أوجبت إبطال ما مضى من الأعمال في حالة الإسلام وألحقت تلك الأعمال بالموجودة منها في حالة الكفر بقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5] وقد عرف الحكم في الكفر الأصلي أنه لا يوجب قضاء ما مضى نصا فكذا هذا ولأن أهلية الوجوب تزول بالكفر فلا يثبت الوجوب فلا يمكن إيجاب القضاء بدون الوجوب.
قوله: "وذلك" أي كون الجنون مسقطا للعبادات في القياس قل أو كثر وغير مسقط(4/373)
عنه لكنه إذا لم يمتد لم يكن موجبا حرجا على ما قلنا وقد اختلفوا فيه فقال أبو يوسف رحمه الله هذا إذا كان عارضا غير أصلي ليلحق بالعوارض فإذا بلغ الصبي مجنونا فإذا زال صار في معنى الصبي إذا بلغ وقال محمد رحمه الله هما سواء واعتبر فيما يزول عنه فيلحق بأصله وهو في أصل الخلقة يتفاوت بين
ـــــــ
لها في الاستحسان إذا قل باعتبار أن الجنون لما كان منافيا لأهلية الأداء لما بينا أن ثبوت هذه الأهلية بالعقل فزواله يكون منافيا لها كان القياس فيه ما قلنا إنه يسقط العبادات قل أو كثر ثم استوضح كونه منافيا للأهلية بقوله. ألا ترى أن الأنبياء عليهم السلام عصموا عن الجنون لأنه يوجب بطلان الأهلية والتحاق الشخص بالبهائم وذلك لا يليق بحال الأنبياء عليهم السلام ولهذا كانت نسبتهم إلى الجنون كفرا لكنه أي الجنون إذا لم يمتد لم يكن موجبا حرجا أي لم يكن عدم اعتباره وإلحاقه بالعدم وإيجاب العبادة معه موقعا في الحرج على ما قلنا يعني قوله في باب أهلية الوجوب وإذا لم يمتد في شهر رمضان إلى آخره وقد اختلفوا فيه أي في الجنون الذي جعل عفوا إذا زال قبل الامتداد فقال أبو يوسف رحمه الله هذا أي إلحاقه بالنوم والإغماء وإيجاب القضاء عند زواله قبل الامتداد إذا كان عارضا يعني من كل وجه بأن حدث بعد البلوغ ليلحق بالعوارض أي ليمكن إلحاقه بها وجعله عفوا عند عدم الامتداد فأما إذا بلغ الصبي مجنونا كان حكم هذا الجنون حكم الصبا فإذا زال هذا الجنون في خلال الشهر صار في معنى الصبي إذا بلغ أي صار هذا المجنون في معنى الصبي إذا بلغ في خلال الشهر فلا يجب عليه قضاء ما مضى وقوله فإذا زال مع جوابه جواب أما. وقال محمد رحمه الله هما سواء أي الجنون الأصلي والعارضي سواء في أن غير الممتد من كل واحد منهما ملحق بالعدم.
وقوله واعتبر ببيان المساواة أي اعتبر محمد رحمه الله حال الجنون الأصلي وهي امتداده وعدم امتداده وفرق بين الأمرين فيما يزول أي في الشيء الذي يزول هذا الجنون عنه من الواجبات مثل الصوم والصلاة ويلحق أي محمد الجنون الأصلي بأصل الجنون وهو كونه عارضا يعني الأصل في الجنون أن يكون عارضا نظرا إلى أن الأصل في الجبلة سلامتها عن الآفات فكان كون الجنون أصليا أمرا عارضا فيه فيلحق محمد رحمه الله هذا العارض بأصل ثم أشار إلى الفرق بينه وبين الصبا الذي ألحق أبو يوسف هذا الجنون به فقال وهو أي الجنون في أصل الخلقة متفاوت بين مديد يوجب سقوط الواجبات وقصير لا يوجب سقوطها بخلاف الصبا فإنه أمر أصلي ممتد مسقط للعبادات جميعا أو الضمير للجنون الأصلي أي الجنون الأصلي في أصل الخلقة متفاوت بين مديد موجب للحرج وبين قصير لا يوجبه كالعارضي فيلحق محمد هذا الأصل أي كون(4/374)
مديد وقصير فيلحق هذا الأصل في الحكم الذي لم يستوعبه بالعارض وذلك في الجنون الأصلي إذا زال قبل انسلاخ شهر رمضان. وحد الامتداد يختلف
ـــــــ
الجنون أصليا في الحكم الذي لم يستوعبه هذا الجنون بالعارض أي جعل هذا الوصف فيه عارضا فلم يعتبره ولم يلحقه بالصبا بواسطته واعتبر أصله وهو كونه عارضا ففرق بين الممتد منه وغيره أو يلحق هذا الأصل أي الجنون الأصلي بالجنون العارض في الحكم الذي يستوعبه. وذلك أي إلحاقه الأصل بالعارض أو إلحاق الجنون الأصلي بالجنون العارضي إنما يتحقق في زوال الجنون الأصلي قبل انسلاخ شهر رمضان فإنه يلحقه بزوال الجنون العارضي قبل الانسلاخ ويوجب قضاء ما مضى من الشهر بزواله ولا يوجبه أبو يوسف رحمه الله وكذا الحكم في الصلاة بأن بلغ مجنونا ثم زال الجنون قبل مضي يوم وليلة لزمه قضاء صلاة ما مضى عند من جعل الجنون الأصلي كالعارضي ولا يلزمه قضاؤها عند من فرق بينهما كذا في بعض الفوائد وذكر الاختلاف في المبسوط وفتاوى قاضي خان وعامة الكتب على عكس ما ذكر ها هنا فقيل وإن كان جنونه أصليا بأن بلغ مجنونا ثم أفاق في بعض الشهر فالمحفوظ عن محمد رحمه الله أنه ليس عليه قضاء ما مضى لأن ابتداء الخطاب يتوجه عليه الآن فيكون بمنزلة الصبي يبلغ وروى هشام عن أبي يوسف رحمهما الله أنه قال في القياس لا قضاء عليه ولكني أستحسن فأوجب عليه قضاء ما مضى من الشهر لأن الجنون الأصلي لا يفارق الجنون العارضي في شيء من الأحكام وليس فيه رواية عن أبي حنيفة رحمه الله, واختلف فيه المتأخرون على قياس مذهبه والأصح أنه ليس عليه قضاء ما مضى وذكر الشيخ أبو المعين رحمه الله في طريقته ما يوافقه فقال في ظاهر الرواية لا فرق بين الجنون الأصلي والعارضي وروى ابن سماعة عن محمد رحمه الله أنه جعل الذي بلغ مجنونا بمنزلة الصبي والكافر ولم يرد عن أبي حنيفة رحمه الله في هذا شيء منهم من جعل ما روي عن محمد تفسيرا لما أبهم في ظاهر الرواية ومنهم من يجعل هذا قول محمد رحمه الله خاصة وجه الفرق أن الجنون الحاصل قبل البلوغ حصل في وقت نقصان الدماغ لآفة فيه مانعة له عن قبول الكمال مبقية له على ما خلق عليه من الضعف الأصلي فكان أمرا أصليا فلا يمكن إلحاقه بالعدم فتلزمه الحقوق مقتصرة على الحال فأما الحاصل بعد البلوغ فقد حصل بعد كمال الأعضاء واستيفاء كل منها القوة فكان معترضا على المحل الكامل بلحوق آفة عارضة فيمكن إلحاقه بالعدم عند انتفاء الحرج في إيجاب الحقوق ووجه المساواة بينهما في الحكم أن الجنون الحاصل قبل البلوغ من قبيل العارض أيضا لأنه لما زال فقد دل ذلك على حصوله عن أمر عارض على أصل الخلقة لا لنقصان جبل عليه دماغه فكان مثل العارض بعد البلوغ.(4/375)
باختلاف الطاعات فأما في الصلاة فبأن يزيد على يوم وليلة باعتبار الصلاة عند محمد رحمه الله ليصير ستا فيدخل في حد التكرار وأقام أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله الوقت فيه مقام الصلاة تيسيرا فيعتبر الزيادة بالساعات وفي الصوم بأن يستغرق شهر رمضان ولم يعتبر التكرار لأن ذلك لا يثبت إلا بحول وبالزكاة
ـــــــ
قوله: "وحد الامتداد يختلف باختلاف الطاعات" لأن بعضها مؤقت باليوم والليلة وبعضها بالشهر وبعضها بالسنة فأما الصلاة فكذا اعلم أن الامتداد في حق الصلاة وسائر العبادات يحصل بالكثرة الموقعة في الحرج لأن الجنون إذا امتد لا بد من أن يكون إيجاب العبادة معه موقعا في الحرج لا يمكنه أداء العبادة مع هذا الوصف وإذا زال وقد وجبت العبادات عليه في حال الجنون اجتمعت واجبات حال الجنون وحال الإفاقة في وقت واحد فيحرج في أدائها لكثرتها ثم لما لم تكن للكثرة نهاية يمكن ضبطها اعتبر أدناها وهو أن يستوعب العذر وظيفة الوقت إلا أن وقت جنس الصلاة يوم وليلة وهو وقت قصير في نفسه فأكدت كثرتها بدخولها في حد التكرار.
ثم اختلف أصحابنا فيما يحصل به التكرار فاعتبر محمد رحمه الله دخول نفس الصلوات في حد التكرار بأن تصير الصلوات ستا لأن التكرار يتحقق به وأقام أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله الوقت فيه أي في دخول الصلاة في حد التكرار مقام الصلاة يعني أنهما اعتبرا الزيادة على يوم وليلة باعتبار الساعات هكذا ذكر الاختلاف الفقيه أبو جعفر رحمه الله وفائدة الاختلاف تظهر فيما إذا جن بعد طلوع الشمس ثم أفاق في اليوم الثاني قبل الزوال أو قبل دخول وقت العصر فعند محمد رحمه الله يجب عليه القضاء لأن الصلاة لم تصر ستا فلم يدخل الواجب في حد التكرار حقيقة. وعندهما لا قضاء عليه لأن وقت الصلوات الخمس وهو اليوم والليلة قد دخل في حد التكرار وإن لم يدخل الواجب فيه والوقت سبب فيقام مقام الواجب الذي هو مسببه للتيسير على المكلف بإسقاط الواجب عنه قبل صيرورته مكررا كما أقيم السفر مقام المشقة وقد روي أن ابن عمر رضي الله عنهما أغمي عليه أكثر من يوم وليلة فلم يقض الصلاة والعبرة في المنصوص عليه لعين النص لا للمعنى والجنون فوق الإغماء في هذا الحكم فيلحق به دلالة والامتداد في الصوم بأن يستغرق الجنون شهر رمضان وهذا اللفظ يشير إلى أنه لو أفاق في جزء من الشهر ليلا أو نهارا يجب القضاء وهو ظاهر الرواية وذكر في الكامل نقلا عن الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله أنه لو كان مفيقا في أول ليلة من رمضان فأصبح مجنونا واستوعب الجنون باقي الشهر لا يجب عليه القضاء وهو الصحيح لأن الليل لا يصام فيه فكان الجنون والإفاقة فيه سواء وكذا لو أفاق في ليلة من الشهر ثم أصبح(4/376)
بأن يستغرق الحول عند محمد رحمه الله وأقام أبو يوسف رحمه الله أكثر الحول مقام كله فيما يمتد عملا بالتيسير والتخفيف فإذا زال قبل هذا الحد وهو أصلي كان على هذا الاختلاف وقد بينا من قبل أن الجنون لا ينافي أهلية
ـــــــ
مجنونا ولو أفاق في آخر يوم من رمضان في وقت النية لزمه القضاء وإن أفاق بعده اختلفوا فيه والصحيح أنه لا يلزم القضاء لأن الصوم لا يفلح فيه. ثم لم يعتبر التكرار في حق الصوم كما اعتبر في حق الصلاة لوجهين:
أحدهما أنا إنما شرطنا دخول الصلاة في حد التكرار تأكيدا لوصف الكثرة فإن أصل الكثرة يحصل باستيعاب الجنس وإنما يصار إلى المؤكد إذا لم يزدد المؤكد على الأصل وفي باب الصوم لا يمكن اعتباره لأن المؤكد فيه يزداد على الأصل إذ لا يأتي وقت وظيفة أخرى ما لم يمض أحد عشر شهرا فيزداد ما شرع تابعا على ما شرع بطريق الأصالة وهو فاسد ولا يلزم عليه زيادة المرتين على المرة الواحدة في الوضوء فإنها شرعت لتأكيد الفرض مع أنها أكثر عددا من الأصل لأنها لم تشرع شرطا لاستباحة الصلاة بطريق الوجوب بل الزائد سنة والسنن والنوافل وإن كثرت لا تماثل الفرض فلا يرد نقضا لأن المطلوب نفي المماثلة بين التبع والأصل وقد حصل بخلاف ما نحن فيه لأن الزائد فيه شرط كالأصل فلم يجز أن يكون مثلا له.
والثاني أن الصوم وظيفة السنة لا وظيفة الشهر وإن كان أداؤه في بعض أوقاتها كالصلوات الخمس وظيفة اليوم والليلة وإن كان أداؤها في بعض الأوقات ولهذا كان رمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما وجعل صوم رمضان مع ست من شوال بمنزلة صيام الدهر كله كما ورد به الحديث ثم كما مضى الشهر دخل وقت وظيفة أخرى إذ الاستيعاب لا يتحقق إلا بوجود جزء من شوال فكان الجنس كالمتكرر بتكرر وقته ويتأكد الكثرة به فلا حاجة إلى اعتبار تكرار حقيقة الواجب فكان هذا مثل ما قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله في الصلاة.
قوله: "وفي الزكاة" أي الامتداد في حق الزكاة بأن يستغرق الجنون الحول عند محمد وهو رواية ابن رستم عنه ورواية الحسن عن أبي حنيفة والمروي عن أبي يوسف رحمهم الله في الأمالي قال صدر الإسلام وهذا هو الأصح لأن الزكوات تدخل في حد التكرار بدخول السنة الثانية. وروى هشام عن أبي يوسف رحمهما الله أن امتداده في حق الزكاة بأكثر السنة ونصف السنة ملحق بالأقل لأن كل وقتها الحول إلا أنه مديد جدا فقدر بأكثر الحول عملا بالتيسير والتخفيف فإن اعتبار أكثر السنة أيسر وأخف على المكلف من اعتبار تمامها لأنه أقرب إلى سقوط الواجب من اعتبار الجميع كما أن اعتبار الوقت(4/377)
الوجوب لأنه لا ينافي الذمة ولا ينافي حكم الواجب وهو الثواب في الآخرة إذا احتمل الأداء. ألا يرى أن المجنون يرث ويملك وذلك ولاية إلا أن ينعدم الأداء
ـــــــ
في حق الصلاة أيسر من اعتبار حقيقتها فإذا زال الجنون قبل هذا الحد الذي ذكرنا في كل عبادة وهو أصلي كان على الاختلاف المذكور بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وقد بينا ذلك في حق الصوم والصلاة وبيانه في حق الزكاة فيما إذا بلغ الصبي مجنونا وهو مالك لنصاب فزال جنونه بعد مضي ستة أشهر ثم تم الحول من وقت البلوغ وهو مفيق وجبت عليه الزكاة عند محمد رحمه الله لأنه لا يفرق بين الأصلي والعارضي ولا تجب عند أبي يوسف رحمه الله بل يستأنف الحول من وقت الإفادة لأنه بمنزلة الصبي الذي بلغ الآن عنده. ولو كان الجنون عارضيا فزال بعد ستة أشهر يجب الزكاة بالإجماع لأنه زال قبل الامتداد عند الكل ولو زال الجنون بعد مضي أحد عشر شهرا يجب الزكاة عند محمد سواء كان الجنون أصليا أو عارضيا لوجود الزوال قبل الامتداد ولمساواة الأصلي العارضي عنده وعند أبي يوسف رحمه الله لا تجب بوجود الزوال بعد الامتداد.
قوله: "وقد بينا" يعني في آخر باب دفع العلل الطردية وباب بيان الأهلية أن الجنون لا ينافي أهلية الوجوب لأنها تثبت بالذمة والصلاحية لحكم الوجوب أي فائدته المقصودة منه وهو استحقاق ثواب الآخرة وباحتمال الأداء, والجنون لا ينافي الذمة لأنها ثابتة لكل مولود من البشر على ما مر بيانه ولا ينافي حكم الواجب أيضا لأنه لا ينافي الإسلام إذ المجنون يبقى مسلما بعد جنونه فلا ينافي استحقاق ثواب الآخرة ولا ينافي احتمال الأداء أيضا لأن الأداء مرجو عنه بالإفاقة في الوقت وخلفه وهو القضاء متوهم بالإفاقة خارج الوقت وذلك كاف للوجوب كما في الإغماء فثبت أنه لا ينافي أهلية الوجوب يبينه أن الأداء متصور عنه فإنه لو نوى الصوم ليلا ثم أصبح مجنونا يصح منه صوم ذلك اليوم لأن الركن بعد النية ترك المفطرات وأنه يتصور منه كما يتصور من العاقل والترك من حيث هو ترك لا يفتقر إلى القصد والتمييز وإذا تصور منه الأداء كان أهلا للوجوب لأن من كان أهلا للأداء كان أهلا للوجوب ألا ترى متعلق بقوله لا ينافي الذمة أي أن المجنون يرث ويملك وثبوت الإرث من باب الولاية لأن الوراثة خلافة والوارث يخلف المورث ملكا تصرفا حتى إن ما يقطع الولاية كالرق واختلاف الدين يمنع التوارث. ولا يلزم عليه وراثة الصبي وإن لم يكن من أهل الولاية لأنه عدم في حق الصبي أهلية مباشرة التصرف ولم ينعدم أهلية الملك والوراثة خلافة الملك والولي يقوم مقامه في التصرف وكذا الملك ولاية لأنه استيلاء على المحل شرعا والولاية لا تثبت بدون الذمة إلا أن ينعدم متعلق بقوله لا ينافي أهلية الوجوب أي إلا أن ينعدم الأداء تحقيقا وتقديرا بأن لزم منه حرج فحينئذ يصير(4/378)
فيصير الوجوب عدما بناء عليه ولهذا قلنا إن المجنون مؤاخذ بضمان الأفعال في الأموال على الكمال لأنه أهل لحكمه على ما قلنا فإذا ثبتت الأهلية كان العارض من أسباب الحجر. والحجر عن الأقوال صحيح ففسدت عباراته وقلنا لما لم يصح إيمانه لعدم ركنه وهو العقد والأداء أيضا فلم يكن حجرا لأن عدم الحكم لعدم الركن ليس من باب الحجر ولكن الإيمان مشروع في حقه حتى
ـــــــ
الوجوب معدوما أي لا يثبت أصلا بناء على عدم الأداء لهذا أي ولعدم منافاته أهلية الوجوب قلنا إن المجنون يؤاخذ بضمان الأفعال في الأموال على الكمال حتى لو أتلف مال إنسان يجب عليه الضمان كما يجب على العاقل لأن المجنون أهل لحكم وجوب المال وهو الأداء على ما قلنا في باب الأهلية أن المال هو المقصود في حقوق العباد دون الفعل والمقصود يحصل بأداء النائب فكان المجنون من أهل وجوبه كالصبي واحترز بقوله على الكمال عن ضمان الأفعال في الأنفس فإنه لو جنى جناية موجبة للقصاص لا يجب عليه القصاص الذي هو ضمان هذا الفعل على الكمال ويجب الدية على العاقلة كما في الخطأ.
قوله: "وإذا ثبتت الأهلية للمجنون كان هذا العارض" وهو الجنون من أسباب الحجر يعني أن المجنون ليس بعديم الأهلية بحيث لا يعتبر أفعاله وأقواله جميعا كالبهائم بل له أصل الأهلية حيث يثبت له الإرث والملك واعتبر من أفعاله ما لا يتوقف صحته على العقل ولكن لما فات عقله بعارض الجنون كان هذا العارض من أسباب الحجر عليه فيما يتوقف صحته على العقل نظرا له كالصبا والرق فإنهما من أسباب الحجر نظرا للصغير والمولى والحجر عن الأقوال صحيح لأن اعتبارها بالشرع فيجوز أن يسقط اعتبارها شرعا بعارض بخلاف الأفعال فإنها توجد حسا لا مرد لها فلا يتصور الحجر عنها شرعا ففسدت عباراته حتى لم تصح أقاريره وعقوده وغيرها مما يتعلق بالعبارة لأن صحة الكلام بالعقل والتمييز فبدونهما لا يمكن اعتباره وقلنا لم يصح إيمان المجنون حتى لو كان أبواه كافرين فأقر بوحدانية الله تعالى وصحة الرسالة لا يحكم بإسلامه لأن ركن الإيمان لم يوجد وهو عقد القلب والأداء الصادران عن عقل بخلاف الصبي حيث صح إيمانه لوجود ركنه على ما مر فلم يكن حجرا أي لم يكن القول بعدم صحة إيمانه حجرا عن الإيمان وهذا جواب عما يقال ما ذكرتم حجر عن الإيمان لأن عدم اعتبار إقراره بالتوحيد مع وجوده حقيقة ليس إلا بطريق الحجر وقد أنكرتم الحجر عن الإيمان في مسألة إيمان الصبي فقال ليس هذا من باب الحجر لأن عدم الحكم لعدم الركن لا يعد حجرا وكذا الحكم في سائر عباراته أيضا فإنها ليست بمعتبرة أصلا لفوات العقل حتى لم تنفذ بإجازة الولي فكان المراد من الحجر فيها إخراجها من الاعتبار من الأصل وتسميته محجورا عنها توسع بخلاف(4/379)
صار مؤمنا تبعا لأبويه كذلك قال في الجامع فلم يصح التكليف بوجه إلا في حقوق العباد فإن امرأة المجنون إذا أسلمت عرض الإسلام على ولي المجنون دفعا للظلم بقدر الإمكان. وما كان ضررا يحتمل السقوط فغير مشروع في حقه
ـــــــ
الحجر في أقوال العبد والصبي لأنها صادرة عن عقل فيجوز أن تعتبر ولكنها لم تعتبر لحق المولى والصبي فيكون إطلاق الحجر فيها بطريق الحقيقة. ولكن الإيمان مشروع متعلق بقوله لم يصح إيمانه أي لم يصح إيمانه بنفسه ولكنه مشروع في حقه بطريق التبعية حتى صار مؤمنا تبعا لأبويه كما شرع في حق الصبي كذلك أي كما بينا ذكر محمد رحمه الله في الجامع الكبير وسنبينه.
ولم يصح التكليف بوجه أي لم يصح تكليف المجنون بالإيمان بوجه سواء كان بالغا أو لم يكن لأن صحة التكليف مبنية على العقل الذي هو آلة القدرة وقد عدم إلا في حقوق العباد فإن تكليفه بالإيمان يصح فيما يرجع إلى حقوقهم بالطريق المذكور في الكتاب وبيانه مجنون نصراني زوجه أبوه النصراني امرأة نصرانية فأسلمت المرأة فالقياس أن لا يعرض الإسلام على الأب ولكن يؤخر حتى يعقل وفي الاستحسان يعرض على الأب وجه القياس أن العرض وجب على الزوج وثبت له حق الإمساك بإسلامه فوجب تأخيره إلى حال عقله كما في الصغير وجه الاستحسان أن الجنون ليس له غاية معلومة فالتأخير إلى حال العقل يعد إبطالا لحقها مع أن فيه فسادا لأن المجنون قادر على الوطء فصار التأخير ضررا محضا وفسادا وكلاهما غير مشروع فتعذر الإمساك بالأصل وهو إسلامه بنفسه فوجب النقل إلى ما يخلفه وهو الإمساك بإسلامه تبعا وفيه صيانة الحقين بقدر الإمكان فصار أولى من إبطال أحدهما فإن أسلم الأب بقيا على النكاح وإلا يفرق بينهما وهذا بخلاف الصغير إذا أسلمت امرأته حيث يؤخر العرض إلى حال عقله لأن للصغر غاية فصار انتظار عقله تأخيرا جامعا للحقين ولم يكن إبطالا فلم يصح النقل إلى الخلف مع القدرة على الأصل إليه أشير في شرح الجامع للمصنف قال شمس الأئمة رحمه الله ليس المراد من عرض الإسلام على والده أن يعرض بطريق الإلزام ولكن على سبيل الشفقة المعلومة من الآباء على الأولاد عادة فلعل ذلك يحمله على أن يسلم ألا ترى أنه لو لم يكن له والدان جعل القاضي له خصما وفرق بينهما فهذا دليل على أن الآباء سقط اعتبارهم هاهنا للتعذر وأن ما ذكر محمد من العرض على سبيل الشفقة حتى قالوا الأب والأم في ذلك سواء.
قوله: "وما كان ضررا يحتمل السقوط" مثل الصلاة والزكاة والصوم وسائر العبادات فإن إلزامها نوع ضرر في حقه وإنها تسقط بأعذار ومثل الحدود والكفارات فإنها تسقط(4/380)
وما كان قبيحا لا يحتمل العفو فثابت في حقه حتى يصير مرتدا تبعا لأبويه. وأما الصغر في أول أحواله فمثل الجنون أيضا لأنه عديم العقل والتمييز وأما إذا عقل فقد أصاب ضربا من أهلية الأداء لكن الصبي عذر مع ذلك فقد سقط بعذر
ـــــــ
بالشبهات فغير مشروع في حق المجنون لأنها لما سقطت بأعذار وشبهات لأن تسقط بعذر الجنون المزيل للعقل كان أولى وكذا الطلاق والعتاق والهبة وما أشبهها من المضار غير مشروع في حقه حتى لا يملكها عليه وليه كما لا تشرع في حق الصبي لأنها من المضار المحضة وما كان قبيحا لا يحتمل العفو مثل الكفر فثابت في حقه حتى أنه يصير مرتدا تبعا لأبويه لأن التصرف الضار وإن كان غير ثابت في حقه إلا أن الكفر بالله قبيح لا يحتمل العفو فلا يمكن القول برده بعد تحققه من الأبوين وإذا ثبت في حقهما ثبت في حقه أيضا لأنه تبع لهما في الدين.
ألا ترى أن الإسلام لا يمكن أن يثبت في حقه بطريق الأصالة لعدم تصور ركنه منه وإنما يثبت بطريق التبعية فإذا ارتد أبواه وزالت التبعية في الإسلام لا وجه إلى جعله مسلما بطريق الأصالة فلو لم يحكم بردته لوجب أن يعفو ردتهما وهو فاسد فلزم القول بثبوت الردة في حقه ضرورة وإنما ثبتت الردة في حقه تبعا إذا بلغ مجنونا وأبواه مسلمان فارتدا ولحقا به بدار الحرب. فإن لحقا بدار الحرب وتركاه في دار الإسلام لا تثبت الردة في حقه لأنه مسلم تبعا للدار إذ الإسلام يستفاد بأحد الأبوين بالدار فإذا بطل حكم الإسلام من جهة الأبوين ظهر أثر دار الإسلام لأنه كالخلف عن الأبوين ولو أدرك عاقلا مسلما وأبواه مسلمان ثم جن فارتدا ولحقا به بدار الحرب لم يصر تبعا لهما في الردة لأنه صار أصلا في الإيمان فلا يصير تبعا بعده بحال وكذا لو أسلم قبل البلوغ وهو عاقل ثم جن لم يتبع أبويه بحال لأنه صار أصلا في الإيمان بتقرر سببه وهو الاعتقاد والإقرار فلم ينعدم ذلك بالأسباب التي اعترضت فبقي مسلما إليه أشير في نكاح الجامع.
قوله: "وأما الصغر في أول أحواله فمثل الجنون" فيسقط عن الصغير ما يسقط عن المجنون ولم يصح إيمانه ولا تكليفه به بوجه لأنه أي الصغير والضمير راجع إلى مدلول الصغر عديم التمييز والعقل كالمجنون والتمييز معنى يعم جميع الحيوانات به تعرف ما تحتاج إليه من المنافع والمضار التي يتعلق بها بقاؤها ركبه الله في طباعها والعقل مختص بالإنسان به يدرك عواقب الأمور وحقائق الأشياء وقد عدم الصغير كليهما في أول أحواله فكان مثل المجنون بل أدنى حالا منه لأنه قد يكون للمجنون تمييز وإن لم يكن له عقل وهو عديم الأمرين وأما إذا عقل أي ترقى الصبي عن أولى درجات الصغر إلى أوساطها وظهر فيه شيء من آثار العقل فقد أصاب ضربا أي نوعا من أهلية الأداء فكان ينبغي أن(4/381)
الصبي ما يحتمل السقوط عن البالغ فقلنا لا يسقط عنه فرضية الإيمان حتى إذا أداه كان فرضا لا نفلا ألا يرى أنه إذا آمن في صغره لزمه أحكام ثبتت بناء على صحة الإيمان وهي جعلت تبعا للإيمان الفرض وكذلك إذا بلغ ولم يعد كلمة الشهادة لم يجعل مرتدا. ولو كان الأول نفلا لما اجتزئ عن الفرض ووضع عنه
ـــــــ
يثبت في حقه وجوب الأداء بحسب ذلك لكن الصبا عذر مع ذلك أي مع أنه قد أصاب ضربا من الأهلية لأنه ناقص العقل بعد لبقاء الصبا وعدم بلوغ العقل غاية الاعتدال فسقط به أي بهذا العذر ما يحتمل السقوط عن البالغ من حقوق الله تعالى مثل الصلاة والصوم وسائر العبادات فإنها تحتمل السقوط بأعذار وتحتمل النسخ في أنفسها وتثبت بأسباب جعلية مثل الوقت والمال والبيت فيجوز أن تسقط بهذا العذر الذي هو رأس الأعذار وأن لا يجعل تلك الأسباب أسبابا في حق الصبي لعدم الخطاب ولكن لا يسقط ما لا يحتمل السقوط فقلنا لا يسقط عنه فرضية الإيمان لأنه فرض دائم لا يحتمل السقوط لأنه تعالى إله دائم منزه عن التغير والزوال فكان وجوب التوحيد دائما بدوام الألوهية لكن العبد ربما يعذر عن الإجابة بعذر حقيقي أو تقديري بأن لم يكن له قدرة الفعل والعقل أو العقل كالصلاة المشروعة في الوقت فرضا فإن العبد يعذر عن الإجابة بعذر حقيقي أو تقديري كالنوم وفقد الطهارة فإذا الإجابة واجبة على العبد بشرط الطاقة فيعذر بزوال الطاقة عن الإجابة مع بقاء وجوب التوحيد كذا قرر الشيخ رحمه الله في بعض مصنفاته حتى إذا أداه الصبي كان فرضا لا نفلا لأنه ليس بمتنوع إلى فرض ونفل. ألا ترى أن الصبي إذا آمن في صغره لزمه أحكام بنيت على صحة الإيمان من حرمان الميراث ووقوع الفرقة ووجوب صدقة الفطر عليه وهي أحكام جعلت تبعا للإيمان الفرض فعرفنا أن إيمانه في حال الصبا وقع فرضا. وقوله: الإيمان الفرض تأكيد لا أنه بيان نوع الإيمان فإن الإيمان ليس بمتنوع إلى فرض ونفل كما قلنا وكذلك أي وكما تلزمه هذه الأحكام لم يجعل مرتدا إذا بلغ ولم يعد كلمة الشهادة ولو كان الإيمان السابق منه نفلا لما أجزأ عن الإيمان الفرض لأن النفل أدنى حالا من الفرض لفوات وصف الفرضية عنه فلا يجزئ عن الفرض كما لو صلى صبي في أول الوقت ثم بلغ في آخره لا ينوب المؤدى عن الفرض ولا يلزم عليه الوضوء قبل الوقت لأنه نفل وينوب عن الوضوء الفرض في الوقت لأن الوضوء تبع للصلاة غير مقصود ولهذا يصح بدون نية كستر العورة وإنما المقصود حصول الطهارة لتوقف صحة الصلاة عليه وهذا المقصود يحصل بالنفل كما يحصل بالفرض بخلاف الإيمان فإنه رأس الطاعات وأصل العبادات فلا يمكن أن يتأدى الفرض منه بغيره كذا في بعض الفوائد.
قوله: "ووضع" أي أسقط عن الصبي التكليف بأداء الإيمان لأن وجوب الأداء يثبت بالخطاب ولا خطاب في حقه ولأن أداء الإيمان يحتمل السقوط عن البالغ فإن من لم(4/382)
التكليف وإلزام الأداء, وجملة الأمر ما قلنا أن يوضع عنه العهدة ويصح منه وله ما لا عهدة فيه لأن الصبا من أسباب المرحمة فجعل سببا للعفو عن كل عهدة تحتمل العفو ولذلك لا يحرم الميراث بالقتل ولا يلزم عليه حرمانه بالكفر
ـــــــ
يصادف وقتا يتمكن فيه من الإقرار فصدق بقلبه صح إيمانه بالإجماع وكذا إذا أكره على الكفر يسقط عنه وجوب الإقرار ويرخص له الإقدام على كلمة الكفر مع طمأنينة القلب فإذا سقط الوجوب عن البالغ بعذر الإكراه يجوز أن يسقط عن الصبي بعذر الصبا أيضا كذا قيل وهذا في حق سقوط وجوب الإقرار مستقيم فأما وجوب الاعتقاد فينبغي أن لا يسقط عن الصبي لأنه لا يسقط عن البالغ بحال وسياق كلام الشيخ وهو قوله وجملة الأمر ما قلنا أن يوضع عنه العهدة يدل على سقوط وجوب الاعتقاد عنه أيضا لأن إيجابه عليه لا يخلو عن عهدة أي تبعة وهي لزوم عذاب الآخرة على تقدير الترك كما في حق البالغ وذكر في بعض الشروح أن معنى قوله وضع عنه التكليف وإلزام الأداء أن إلزام أداء الإيمان بالنظر في الآيات ووصف الله تعالى كما هو بأسمائه وصفاته ساقط عنه وهو مما يحتمل السقوط عن البالغ بالنوم والإغماء وكذا إذا وصف باللسان مرة لا يلزمه بعد فيصح القول بالسقوط عن الصبي.
قوله: "وجملة الأمر" أي الأمر الكلي في باب الصغر, وحاصل أحكامه أن يوضع عن الصبي العهدة أي يسقط عنه عهدة ما يحتمل العفو والمراد بالعهدة هاهنا لزوم ما يوجب التبعة والمؤاخذة ويصح منه وله أي من الصبي بأن يباشر بنفسه وللصبي بأن يباشر غيره لأجله ما لا عهدة أي لا ضرر فيه كقبول الهبة وقبول الصدقة وغيرهما مما هو نفع محض لأن الصبا من أسباب المرحمة طبعا فإن كل طبع سليم يميل إلى الترحم على الصغار. وشرعا لقوله عليه السلام: "من لم يرحم صغيرنا ولم يوقر كبيرنا فليس منا" 1 فجعل سببا للعفو عن كل عهدة يحتمل العفو أي جعل الصبا سببا لإسقاط كل تبعة وضمان يحتمل السقوط عن البالغ بوجه واحترز به عن الردة فإنها لا يحتمل العفو وعن حقوق العباد فإنها حقوق محترمة تجب لمصالح المستحق وتعلق بقائه بها فلا يمنع وجوبها بسبب الصبا كما لا يمتنع في حق البالغ بعذر ولذلك أي ولكون الصبا سببا للعفو عن كل عهدة تحتمل العفو لا يحرم الصبي الميراث بسبب القتل حتى لو قتل مورثه عمدا أو خطأ يستحق ميراثه لأن موجب القتل يحتمل السقوط بالعفو وبأعذار كثيرة فيسقط بعذر الصبا
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في البر والصلة حديث رقم 1919 وأبو داود في الأدب حديث رقم 4943. والإمام أحمد في المسند 2/185.(4/383)
والرق لأن الرق ينافي الأهلية للإرث. وكذلك الكفر لأنه ينافي أهلية الولاية, وانعدام الحق لعدم سببه أو عدم أهليته لا يعد جزاء, والعهدة نوعان خالصة لا تلزم الصبي بحال ومشوبة يتوقف لزومها على رأي الولي ولما كان الصبا عجزا صار من أسباب ولاية النظر وقطع ولايته عن الأغيار. وأما العته بعد البلوغ فمثل
ـــــــ
ويجعل كأن المورث مات حتف أنفه ولأن الحرمان ثبت بطريق العقوبة وفعل الصبي لا يصلح سببا للعقوبة لقصور معنى الجناية في فعله بخلاف الدية فإنها تجب لعصمة المحل وهو أهل لوجوبه عليه إذ الصبا لا ينفي عصمة المحل ولا يلزم عليه أي على عدم حرمان الصبي عن الإرث بالقتل حرمانه عنه بالرق والكفر حتى لو ارتد الصبي العاقل والعياذ بالله أو استرق لا يستحق الإرث عن قريبه لأن الرق ينافي أهلية الإرث لأن أهليته بأهلية الملك إذ الوراثة خلافة الملك والرق ينافي الملك لما سنبينه ولأن توريث الرقيق عن قريبه توريث الأجنبي عن الأجنبي حقيقة لأن الرقيق لما لم يكن أهلا للملك يثبت الملك ابتداء لمولاه وذلك باطل ولأنه ألحق بالأموال والمال ليس بأهل للإرث. وكذلك الكفر أي وكالرق الكفر في أنه ينافي الإرث لأن الكفر ينافي أهلية الولاية على المسلم بقوله عز وجل: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141] والإرث مبني على الولاية. ألا ترى إلى قوله عز وجل إخبارا عن زكريا عليه السلام: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً*يَرِثُنِي} [مريم: 5, 6] فإنه يشير إلى أن الإرث مبني على الولاية كذا ذكر الشيخ رحمه الله في شرح التقويم.
وانعدام الحق وهو الإرث هاهنا لعدم سببه وهو الولاية كما في الكفر أو عدم أهليته أي أهلية المستحق كما في الرق لا يعد جزاء أي عقوبة فلا يمتنع بسبب الصبا. ألا ترى أن من لا يملك الطلاق لعدم ملك النكاح أو العتق لعدم ملك الرقبة لا يعد ذلك عقوبة فكذلك هذا ثم الشيخ رحمه الله أشار هاهنا إلى أن الولاية سبب الإرث وذكر في عامة الكتب أن سبب الإرث هو اتصال الشخص بالميت بقرابة أو زوجية أو ولاء فعلى هذا كانت الولاية من شروط الأهلية كالحرية إلا أن الشيخ لما نظر إلى أن الكافر لا يخرج بكفره عن أهلية الإرث مطلقا فإنه يرث من كافر آخر وذلك لا يثبت بدون الأهلية بخلاف الرقيق فإنه لا يرث من أحد أصلا فلم يكن أهلا للميراث بوجه جعل الكفر مزيلا للسبب والرق مزيلا للأهلية فعلى هذا يكون الاتصال بالميت مع الولاية سببا فبانتفاء الولاية ينتفي السببية.
"العته"
قوله: "وأما العته بعد البلوغ" فكذا العته آفة توجب خللا في العقل فيصير صاحبه مختلط الكلام فيشبه بعض كلامه كلام العقلاء وبعضه كلام المجانين وكذا سائر أموره(4/384)
الصبي مع العقل في كل الأحكام حتى أنه لا يمنع صحة القول والفعل لكنه يمنع العهدة وأما ضمان ما يستهلك من المال فليس بعهدة لكنه شرع جبرا وكونه صبيا معذورا أو معتوها لا ينافي عصمة المحل ويوضع الخطاب عنه كما
ـــــــ
فكما أن الجنون يشبه أول أحوال الصبا في عدم العقل يشبه العته آخر أحوال الصبا في وجود أصل العقل مع تمكن خلل فيه فكما ألحق الجنون بأول أحوال الصغر في الأحكام ألحق العته بآخر أحوال الصبا في جميع الأحكام أيضا حتى أن العته لا يمنع صحة القول والفعل كما لا يمنعها الصبا مع العقل فيصح إسلام المعتوه وتوكله ببيع مال غيره وطلاق منكوحة غيره وعتاق عبد غيره ويصح منه قبول الهبة كما يصح من الصبي لكنه أي العته يمنع العهدة أي ما يوجب إلزام شيء ومضرة كالصبا فلا يطالب المعتوه في الوكالة بالبيع والشراء بنقد الثمن وتسليم المبيع ولا يرد عليه بالعيب ولا يؤمر بالخصومة فيه ولا يصح طلاقه امرأة نفسه ولا إعتاقه عبد نفسه بإذن الولي وبدون إذنه ولا بيعه وشراؤه لنفسه بدون إذن الولي لأن كل ذلك من العهدة والمضار ولما ذكر أن العهدة ساقطة عن الصبي والمعتوه لزم عليه وجوب ضمان ما يستهلك المعتوه والصبي من الأموال عليهما فإنه من العهدة وقد ثبت في حقهما فأجاب عنه بقوله وأما ضمان ما يستهلك من المال فليس بعهدة أي ليس من العهدة المنفية عنهما لأن المنفي عنهما عهدة تحتمل العفو في الشرع وضمان المتلف لا يحتمل العفو شرعا لأنه حق العبد ولأن العهدة إذا استعملت في حقوق العباد يراد بها ما يلزم بالعقود في أغلب الاستعمال وهو المراد بها هاهنا وضمان المستهلك ليس من هذا القبيل فلا يكون عهدة. لكنه أي الضمان شرع جبرا لما استهلك من المحل المعصوم ولهذا قدر بالمثل وكون المستهلك صبيا معذورا أو معتوها أي بالغا معتوها لا ينافي عصمة المحل لأنها ثابتة لحاجة العبد إليه لتعلق بقائه وقوام مصالحه به وبالصبا والعتة لا يزول حاجته إليه عنه فبقي معصوما فيجب الضمان على المستهلك ولا يمتنع بعذر الصبا والعته بخلاف حقوق الله تعالى فإنها تجب بطريق الابتلاء وذلك يتوقف على كمال العقل والقدرة وبخلاف الحقوق الواجبة بالعقود لأنها لما وجبت بالعقد وقد خرج كلامهما عن الاعتبار عند استلزامه المضار لم يجعل العقود أسبابا لتلك الحقوق في حقهما.
قوله: "ويوضع عنه" أي عن المعتوه الخطاب كما يوضع عن الصبي فلا يجب عليه العبادات ولا يثبت في حقه العقوبات كما في حق الصبي وهو اختيار عامة المتأخرين وذكر القاضي الإمام أبو زيد رحمه الله في التقويم أن حكم العته حكم الصبا إلا في حق العبادات فإنا لم نسقط به الوجوب احتياطا في وقت الخطاب وهو البلوغ بخلاف الصبا لأنه(4/385)
وضع عن الصبي ويولى عليه ولا يلي على غيره, وإنما يفترق الجنون والصغر في أن هذا العارض غير محدود فقيل إذا أسلمت امرأته عرض على أبيه الإسلام أو أمه ولا يؤخر والصبي محدود فوجب تأخيره وأما الصبي العاقل والمعتوه
ـــــــ
وقت سقوط الخطاب وذكر صدر الإسلام مشيرا إلى هذا القول أن بعض أصحابنا ظنوا أن العته غير ملحق بالصبا بل هو ملحق بالمرض حتى لا يمنع وجوب العبادات وليس كما ظنوا بل العته نوع جنون فيمنع وجوب أداء الحقوق جميعا إذ المعتوه لا يقف على عواقب الأمور كصبي ظهر فيه قليل عقل وتحقيقه أن نقصان العقل لما أثر في سقوط الخطاب عن الصبي كما أثر عدمه في حقه أثر في سقوط الخطاب بعد البلوغ أيضا كما أثر عدمه في السقوط بأن صار مجنونا لأنه لا أثر للبلوغ إلا في كمال العقل فإذا لم يحصل الكمال بحدوث هذه الآفة كان البلوغ وعدمه سواء قال الشيخ رحمه الله الخطاب يسقط عن المجنون كما يسقط عن الصبي في أول أحوال الصبا تحقيقا للعدل وهو أن لا يؤدي إلى تكليف ما ليس في الوسع ويسقط عن المعتوه كما يسقط عن الصبي في آخر أحوال الصبا تحقيقا للفضل وهو نفي الحرج عنه نظرا ومرحمة عليه. ويولى عليه أي يثبت الولاية على المعتوه لغيره كما يثبت على الصبي لأن ثبوت الولاية من باب النظر ونقصان العقل مظنة النظر والمرحمة لأنه دليل العجز ولا يلي هو على غيره لأنه عاجز عن التصرف بنفسه فلا يثبت له قدرة التصرف على غيره.
ولما جمع الشيخ بين أول أحوال الصبا والجنون وبين آخر أحواله والعته ذكر ما يقع به الفرق بين هذه الأشياء من الحكم فقال وإنما يفترق الجنون والصغر أي لا فرق بين الجنون والصغر والمراد به أول أحوال الصبا الذي لا عقل فيه للصبي إلا في أن هذا العارض أي الجنون غير محدود إذ ليس لزواله وقت معين ينتظر له فقيل إذا أسلمت امرأة المجنون عرض على أبيه أو أمه الإسلام في الحال ولا يؤخر العرض إلى أن يعقل المجنون لأن فيه إبطالا لحق المرأة والصغر محدود فوجب تأخير العرض حتى لو زوج النصراني ابنه الصغير الذي لا يعقل امرأة نصرانية أسلمت المرأة وطلبت الفرقة لم يفرق بينهما وتركا عليه حتى يعقل الصبي ولا يجب عرض الإسلام على أحد في الحال لأن للصغير حق الإمساك للنكاح بإسلام مثله وفي التعجيل تفويته وليس في ترك الفرقة إلا تأخير من غير ضرر ولا فساد في الحال لأن عقل الصبي في أوانه معهود على ذلك أجرى الله العادة فكان التأخير أولى فإذا عقل عرض عليه القاضي الإسلام فإن أسلم وإلا فرق بينهما. وإنما صح العرض وإن كان الصبي لا يخاطب بأداء الإسلام لأن الخطاب إنما يسقط عنه فيما هو حق الله تعالى دون حق العباد ووجوب العرض هاهنا لحق المرأة فيتوجه الخطاب عليه ولا(4/386)
العاقل فلا يفترقان. وأما النسيان فلا ينافي الوجوب في حق الله تعالى ولكنه يحتمل أن يجعل عذرا ولكن حقوق العباد محترمة لحقهم وحاجتهم لا ابتلاء
ـــــــ
يؤخر إلى بلوغ الصبي لأن إسلام الصبي العاقل صحيح عندنا فيتحقق الإباء منه فلا يؤخر حق المرأة إلى البلوغ كذا في شرح الجامع.
قوله: "وأما الصبي العاقل والمعتوه العاقل فلا يفترقان يعني" في وجوب العرض في الحال كما لا يفترقان في سائر الأحكام حتى لو أسلمت امرأة المعتوه الكافر يجب العرض على نفسه في الحال كما يجب في إسلام امرأة الصبي العاقل لأن إسلام المعتوه صحيح لوجود العقل كإسلام الصبي العاقل نص على صحة إسلامه في مختصر التقويم بخلاف المجنون لأن إسلامه لما لم يصح لعدم العقل لم يفد العرض عليه فوجب العرض على وليه دفعا للظلم عن المرأة بقدر الإمكان فإن قيل قد وضع محمد رحمه الله العرض على ولي المعتوه في الجامع فقال معتوه نصراني زوجه أبوه النصراني امرأة نصرانية فأسلمت المرأة يعرض على أبيه الإسلام إلى آخره قلنا المراد منه المجنون فإن سياق الكلام في تلك المسألة ونظائرها يدل عليه. وقد يطلق المعتوه على المجنون لأن العته يشابه الجنون وإنما قيد المعتوه بالعاقل احترازا عن المجنون فإن الصبي العاقل والمجنون وإن استويا في وجوب العرض في الحال قد افترقا في أن الواجب في حق الصبي على نفسه دون وليه وفي المجنون العرض على وليه دون نفسه فحصل مما ذكرنا أن المجنون يساوي المعتوه والصبي العاقل في وجوب العرض في الحال ويفارقهما في أن الواجب في حقه العرض على وليه وفي حقهما العرض على أنفسهما ويفارق المجنون الصغير في الوجوب في الحال وفي الوجوب على الولي أيضا ويفارق المعتوه الصغير الذي لا يعقل في الوجوب في الحال ويساويه في الوجوب على النفس دون الولي وكذا الصبي العاقل.
"النسيان"
"قوله وأما النسيان فكذا" قيل النسيان معنى يعتري الإنسان بدون اختياره فيوجب الغفلة عن الحفظ وقيل هو عبارة عن الجهل الطارئ ويبطل اطراد هذين التعريفين بالنوم والإغماء وقيل هو جهل الإنسان بما كان يعلمه ضرورة مع علمه بأمور كثيرة لا بآفة واحترز بقوله مع علمه بأمور كثيرة عن النائم والمغمى عليه فإنهما خرجا بالنوم والإغماء من أن يكونا عالمين بأشياء كانا يعلمانها قبل النوم والإغماء وبقوله لا بآفة عن الجنون فإنه جهل بما كان يعلمه الإنسان قبله مع كونه ذاكرا لأمور كثيرة لكنه بآفة وقيل هو آفة تعترض للمتخيلة مانعة من انطباع ما يرد من الذكر فيها وقيل هو أمر بديهي لا يحتاج إلى التعريف إذ كل عاقل يعقل النسيان من نفسه كما يعلم الجوع والعطش. ثم إنه لا(4/387)
وحقوق الله تعالى ابتلاء لكن النسيان إذا كان غالبا يلازم الطاعة إما بطريق الدعوة مثل النسيان في الصوم وإما باعتبار حال البشر مثل التسمية في الذبيحة جعل من أسباب العفو في حق الله تعالى لأنه من جهة صاحب الحق اعترض فجعل سببا للعفو في حقه بخلاف حقوق العباد لأن النسيان ليس بعذر من
ـــــــ
ينافي الوجوب لأنه لا ينافي العقل ولا حكم الفعل ولا القول كذا في مختصر التقويم.
ولكنه يحتمل أن يجعل عذرا في حق الله تعالى لأنه يعدم القصد إذ القصد إلى فعل بعينه لا يتصور قبل العلم به كقصد زيارة زيد لا يتصور بدون زيد فصار في حكم العجز فلا جرم يمكن أن يجعل عذرا في بعض حقوق الله عز وجل قال أبو اليسر النسيان سبب للعجز لأن الناسي يعجز عن أداء الحقوق بسبب النسيان فيمنع وجوب أداء الحقوق كسائر الأعذار عند عامة أصحابنا لكنه لا يمنع وجوب الحقوق فإنه لا يخل بالأهلية وإيجاب الحقوق على الناس لا يؤدي إلى إيقاعه في الحرج ليمتنع الوجوب به إذ الإنسان لا ينسى عبادات متوالية تدخل في حد التكرار غالبا فصار في حكم النوم ولهذا قرن النبي صلى الله عليه وسلم بين نسيان الصلاة والنوم عنها في قوله: "من نام عن صلاة أو نسيها" الحديث وفي حقوق العباد لا يجعل النسيان عذرا حتى لو أتلف مال إنسان ناسيا يجب عليه ضمانه لأن حقوق العباد محترمة لحاجتهم كما مر بيانه لا للابتلاء لأنه ليس للعبد على العبد حق الابتلاء ليظهر طاعته له بل حقه في نفسه وأنها محترمة فيستحق حقوقا تتعلق بها قوامها كرامة من الله تعالى وبالنسيان لا يفوت هذا الاستحقاق فلا يمتنع وجوبها وحقوق الله تعالى ابتلاء لأنه جل جلاله غني عن العالمين وله أن يبتلي عباده بما شاء فكان إيجاب الحقوق منه على العباد ابتلاء لهم مع غناء عن أفعالهم وأقوالهم قال الله تعالى: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:6].
قوله: "لكن النسيان" استدراك من قوله وفي حقوق العباد لا يجعل عذرا يعني أنه لا يجعل عذرا في حقوق العباد بوجه لكنه إذا كان غالبا يصلح عذرا في حقوق الله تعالى. وقوله: يلازم الطاعة صفة لغالبا وقوله جعل من أسباب العفو خبر لكن أي إذا كان النسيان غالبا في عبادة بحيث يلازمها وأراد بالملازمة أن لا يخلو الطاعة عنه في الأغلب إما بطريق الدعوة أي دعوة الطبع إلى ما يوجب النسيان مثل النسيان في الصوم فإنه غالب فيه لأن الطبع لما دعا إلى الأكل والشرب بسبب الصوم أوجب ذلك النسيان الصوم لأن النفس لما اشتغلت بشيء يكون ذلك سببا لغفلتها عن غيره عادة وإما باعتبار حال البشر مثل التسمية أي مثل نسيان التسمية في الذبيحة فإن ذبح الحيوان يوجب خوفا وهيبة لنفور الطبع عنه ويتغير منه حال البشر ولهذا لا يحسن الذبح كثير من الناس فيكثر الغفلة عن التسمية في(4/388)
جهتهم والنسيان ضربان ضرب أصلي وضرب يقع فيه المرء بالتقصير وهذا يصلح للعتاب والنسيان في غير الصوم لم يجعل عذرا, وكذلك في غير الذبيحة لأنه ليس مثل المنصوص عليه في غلبة الوجود فبطلت التعدية حتى أن سلام الناسي لما كان غالبا عد عذرا. فأما النوم فعجز عن استعمال قدرة الأحوال
ـــــــ
تلك الحالة لاشتغال قلبه بالخوف وليس المراد بيان حصر غلبة النسيان على هذين الوجهين بل المراد بيان بعض أسباب الغلبة بدليل أن سلام الناسي في الصلاة غالب وليس بهذين الطريقين جعل أي النسيان الموصوف من أسباب العفو في حق الله تعالى فجعل كأن المفطر لم يوجد فيبقى الصوم وجعل كأن التسمية قد وجدت فتحل الذبيحة وإنما جعلت التسمية على الذبيحة من حقوق الله عز وجل لأن الثابت عند وجودها الحل وعند عدمها الحرمة وهما من حقوق الله عز وجل لأنه من جهة صاحب الحق اعترض لحدوثه بصنع الله تعالى وانقطاع اختيار العبد عنه بالكلية ثم قسم النسيان ليميز بين ما لا يصلح عذرا وما يصلح فقال والنسيان ضربان: ضرب أصلي وأراد به ما يقع فيه الإنسان من غير أن يكون معه شيء من أسباب التذكر وهذا القسم يصلح عذرا لغلبة وجوده وضرب يقع المرء فيه بالتقصير بأن لم يباشر سبب التذكر مع قدرته عليه وهذا الضرب يصلح للعتاب أي لا يصلح عذرا للتقصير لعدم غلبة وجوده قال الشيخ رحمه الله إنما يصير النسيان عذرا في حق الشرع إذا لم يكن غفلة فأما إذا كان عن غفلة فلا يكون عذرا كما في حق آدم عليه السلام وكنسيان المرء ما حفظه مع قدرته على تذكاره بالتكرار فإنه إنما يقع فيه بتقصيره فيصلح سببا للعتاب ولهذا يستحق الوعيد من نسي القرآن بعدما حفظه مع قدرته على التذكار بالتكرار. ولهذا قال أبو يوسف رحمه الله في مسافر نسي الماء في رحله وتيمم وصلى أنه يعيد لأن هذا نسيان صدر عن تقصير لأن رحل المسافر معدن الماء عادة بمنزلة قربة عامرة فكان مقصرا بترك الطلب فلا يعذر بهذا النسيان.
قوله: "والنسيان في غير الصوم" والذبيحة لم يجعل عذرا مثل مباشرة المحرم أو المعتكف ما يفسد إحرامه واعتكافه ناسيا لإحرامه واعتكافه ومثل تكليم المصلي في صلاته في أي ركن كان ناسيا لصلاته ومثل تسليمه في غير القعدة ناسيا أو تسليمه على الغير في أي حال كان حتى فسد الحج والاعتكاف والصلاة بهذه الأشياء ولم يجعل النسيان عذرا لأن هذا النسيان ليس مثل النسيان المنصوص عليه في غلبة الوجود وهو نسيان الصوم والتسمية في الذبيحة لوجود هيئة مذكرة لهؤلاء تمنعهم عن النسيان إذا نظروا إليها فكان وقوعهم فيه لغفلتهم وتقصيرهم فلا يمكن إلحاقه بالمنصوص عليه حتى إن سلام الناسي لما كان غالبا بأن سلم في القعدة الأولى ظانا أنها القعدة الأخيرة عد عذرا حتى لا تفسد صلاته به لأن القعدة محل السلام وليس للمصلي هيئة تذكره أنها القعدة الأولى فيكون مثل النسيان في الصوم فلذلك يجعل عذرا.(4/389)
فأوجب تأخر الخطاب للأداء لأن النوم لا يمتد فلا يكون في وجوب القضاء عليه حرج, وإذا كان كذلك فلا يسقط الوجوب قال النبي عليه السلام: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها" وينافي الاختيار أصلا حتى بطلت عباراته في الطلاق والعتاق والإسلام وغير ذلك والمصلي إذا قرأ في صلاته وهو نائم في حال قيامه لم يصح قراءته وإذا تكلم النائم في
ـــــــ
"النوم"
قوله: "وأما النوم" فكذا النوم فترة طبيعية تحدث في الإنسان بلا اختيار منه وتمنع الحواس الظاهرة والباطنة عن العمل مع سلامتها واستعمال العقل مع قيامه. فيعجز العبد به عن أداء الحقوق وهو معنى قوله فيعجز عن استعمال قدرة الأحوال أي يعجز عن الإدراكات الحسية بعدم قدرته على استعمال الحواس والأحوال أيضا أفعاله الاختيارية كالقيام والقعود والذهاب ونحوها فهو يعجز بالنوم عن تحصيل القدرة التي يحصل بها هذه الأحوال عند استعمال الآلات السليمة لأنه لا اختيار له في تلك الحالة وفي عبارة أهل الطب هو سكون الحيوان بسبب منع رطوبة معتدلة منحصرة في الدماغ الروح النفساني من الجريان في الأعضاء. وقوله: فعجز عن كذا ليس بتحديد النوم إذ الإغماء ونحوه داخل فيه لكنه بيان أثر النوم فأوجب تأخير الخطاب للأداء اللام متعلقة بالخطاب يعني حكم النوم تأخير حكم الخطاب في حق العمل به لا سقوط الوجوب لاحتمال الأداء حقيقة بالانتباه أو احتمال خلفه وهو القضاء على تقدير عدم الانتباه وهذا لأن نفس العجز لا يسقط أصل الوجوب وإنما يسقط وجوب العمل إلى حين القدرة إلا أن يطول زمان الوجوب ويتكثر الواجب فحينئذ يسقط دفعا للحرج والنوم لا يمتد عادة بحيث يخرج العبد في قضاء ما يفوته في حال نومه فإنه لا يمتد ليلا ونهارا عادة وإذا كان أي النوم كذلك أي كما بينا أنه غير ممتد وغير مستلزم للحرج لم يسقط الوجوب به لأنه لا يخل بالأهلية لأهلية وجود العبادات بالذمة وبالإسلام والنوم لا يخل بهما قال أبو اليسر وقد أجمع المسلمون على هذا ثم أوضح الشيخ ما ذكر بإيراد قوله عليه السلام: "من نام عن صلاة" الحديث فإن قوله: "فليصلها إذا ذكرها" دليل على أن الوجوب ثابت في حق النائم والناسي. وقال الإمام البرغري في هذا الحديث إشارة إلى أن الصلاة واجبة حالة النوم ولكن تأخر وجوب أدائها بعذر النوم لأنه عليه السلام قال من نام عن صلاة ولو لم تكن واجبة حالة النوم لما كان نائما عن الصلاة.
قوله: "وينافي الاختيار أصلا" لأن الاختيار بالتمييز ولم يبق للنائم تمييز فلذلك بطلت عبارات النائم فيما بني على الاختيار مثل الطلاق والعتاق والإسلام والردة والبيع والشراء وصار كلامه لعدم التمييز والاختيار بمنزلة ألحان الطيور فلا يعتبر فإن قيل لا(4/390)
صلاته لم تفسد صلاته وإذا قهقه النائم في صلاته فقد قيل تفسد صلاته ويكون حدثا وقيل تفسد صلاته ولا يكون حدثا وقيل يكون حدثا ولا تفسد صلاته, والصحيح أنه لا يكون حدثا لأن القهقهة جعلت حدثا لقبحها في مواضع المناجاة وسقط ذلك بالنوم ولا يفسد أيضا لأن النوم يبطل حكم
ـــــــ
يشترط الاختيار في الطلاق والعتاق بدليل وقوعهما في حالة الخطأ والإكراه والهزل وقد قال عليه السلام: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد" الحديث فينبغي أن يقعا في حالة النوم أيضا قلنا لا بد فيهما من الاختيار لأن الكلام لا يعتبر بدونه ولكن لا يشترط فيهما الرضاء بالحكم وفي الهزل والخطأ والإكراه أصل الاختيار موجود وإن عدم الرضاء فيها بالحكم فلا تمنع وقوعهما فأما النوم فيعدم أصل الاختيار وإليه أشار بقوله أصلا فيمنع صيرورة العبارة كلاما.
قوله: "والمصلي إذا قرأ في صلاته وهو نائم في حال قيامه لم تصح قراءته" هو المختار لما قلنا وكذا لا يعتد قيامه وركوعه وسجوده من الفرض لصدورها لا عن اختيار وأما القعدة الأخيرة فلا نص فيها عن محمد وقيل إنها تعتد من الفرض لأنها ليست بركن ومبناها على الاستراحة فيلائمه النوم فيجوز أن يحتسب من الفرض بخلاف سائر الأفعال فإن مبناها على المشقة فلا يتأدى في حالة النوم. وذكر في المنية إذا نام في القعدة كلها ثم انتبه فعليه أن يقعد قدر التشهد فإن لم يفعل فسدت صلاته وذكر في النوادر أن قراءة النائم تنوب عن الفرض لأن الشرع جعل النائم كالمسقط في حق الصلاة كذا في الذخيرة وإذا تكلم النائم في صلاته لم تفسد صلاته لأنه ليس بكلام لصدوره ممن لا تمييز له وهو مختار المصنف وذكر في المغني وفتاوى قاضي خان والخلاصة أن المصلي إذا نام وتكلم في حالة النوم تفسد صلاته من غير ذكر خلاف وفي النوازل إذا تكلم في الصلاة وهو في النوم تفسد صلاته هو المختار وإذا قهقه النائم في صلاته لا رواية في هذه المسألة عن محمد أيضا فقال الحاكم أبو محمد الكفيني تفسد صلاته ويكون حدثا لأنه قد ثبت بالنص أن القهقهة في صلاة ذات ركوع وسجود حدث وقد وجدت ولا فرق في الأحداث بين النوم واليقظة ألا ترى أنه لو احتلم يجب الغسل كما لو أنزل بشهوة في اليقظة وتفسد صلاته لأن النائم في الصلاة كالمستيقظ وبهذا أخذ عامة المتأخرين احتياطا, كذا في المغني. وعن شداد بن أوس عن أبي حنيفة رحمهما الله أنها تكون حدثا ولا تفسد صلاته حتى كان له أن يتوضأ ويبني على صلاته بعد الانتباه لأن فساد الصلاة بالقهقهة باعتبار معنى الكلام فيها وقد زال بالنوم لفوات الاختيار أما تحقق الحدث فلا يفتقر إلى الاختيار فلا يمتنع بالنوم وكأن القهقهة في هذه الحالة حدثا سماويا بمنزلة الرعاف فلا تفسد الصلاة وقيل تفسد صلاته ولا تكون حدثا وهذا هو المذكور في عامة نسخ الفتاوى(4/391)
الكلام. وأما الإغماء فإنه ضرب مرض وفوت قوة حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم غير معصوم عنه والإغماء في فوت الاختيار وفي فوت استعمال القدرة مثل النوم حتى منع صحة العبادات وهو أسند منه لأن النوم فترة أصلية, وهذا عارض ينافي القوة أصلا ألا يرى أن النائم إذا كان مستقرا لم يكن نومه حدثا لأنه بعينه لا يوجب الاسترخاء لا محالة والإغماء بكل حال يكون حدثا والنوم لازم بأصل الخلقة
ـــــــ
لأن فساد الصلاة باعتبار معنى الكلام في القهقهة والنوم كاليقظة في حق الكلام عند الأكثر كما قلنا وأما كونها حدثا فباعتبار معنى الجناية وقد زال بالنوم ألا ترى أن قهقهة الصبي في الصلاة لا يكون حدثا لزوال معنى الجناية عن فعله ومختار المصنف رحمه الله أنه أي فعل القهقهة من النائم لا يكون حدثا ولا يفسد الصلاة لما ذكر في الكتاب.
"الإغماء"
قوله: "وأما الإغماء" فكذا الإغماء فتور يزيل القوى ويعجز به ذو العقل عن استعماله مع قيامه حقيقة كذا فسره الشيخ أبو المعين رحمه الله. وقال غيره هو آفة توجب انحلال القوة الحيوانية بغتة وإنه لا يخل بالأهلية كالنوم لأن العجز عن استعمال العقل لا يوجب عدم العقل فيبقى الأهلية ببقائه كمن عجز عن استعمال السيف لم يؤثر ذلك في السيف بالإعدام. ألا ترى أنه لا يولى عليه كما يولى على الصبي والمجنون وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن معصوما عنه ولو كان فيه زوال العقل يعصم عنه كما عصم عن الجنون قال الله تعالى: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم: 2] وهو أي الإغماء أشد من النوم يعني في كونه عارضا وفي فوت الاختيار والقوة لأن النوم فترة أصلية أي طبيعية بحيث لا يخلو الإنسان عنه في حال صحته فمن هذا الوجه يختل كونه عارضا وإن تحققت العارضية فيه باعتبار أنه زائد على معنى الإنسانية ولا يزيل أصل القوة أيضا وإن أوجب العجز عن استعمالها ويمكن إزالته بالتنبيه وهذا أي الإغماء عارض من كل وجه لأن الإنسان قد يخلو عنه في مدة حياته فكان أقوى من النوم في العارضية وهو ينافي القوة أصلا لما قلنا أنه مرض مزيل للقوى ولهذا لا يمكن إزالته بفعل أحد بخلاف النوم لأنه عجز عن استعمال القوة مع وجودها ولهذا يزول بالتنبيه ألا ترى توضيح لكونه أشد من النوم يعني ظهر أثر شدته في الحكم حيث صار الإغماء حدثا في كل حال مضطجعا كان أو قاعدا أو قائما أو راكعا أو ساجدا والنوم ليس بحدث في بعض الأحوال لأنه بذاته لا يوجب استرخاء المفاصل إلا إذا غلب فحينئذ يصير سببا للاسترخاء فيكون حدثا ثم ذكر فرقا آخر بين الإغماء والنوم فقال والنوم لازم للإنسان بأصل الخلقة فيكون كثير الوقوع فلهذا كان النوم من المضطجع في الصلاة إذا لم يتعمده حدثا لا يمنع البناء بمنزلة الرعاف وقيد بالمضطجع لأن نوم الراكع والساجد والقائم في الصلاة ليس بحدث وبعدم(4/392)
وكان النوم للمضطجع في الصلاة إذا لم يتعمده حدثا لا يمنع البناء والإغماء من العوارض النادرة في الصلاة وهو فوق الحدث فلم يكن يلحق به ومنع البناء على كل حال ويختلفان فيما يجب من حقوق الله تعالى جبرا لأن الإغماء مرض ينافي القدرة أصلا وقد يحتمل الامتداد على وجه يوجب الحرج فيسقط به الأداء, وإذا بطل الأداء بطل الوجوب لما قلنا وهذا استحسان وكان القياس أن لا
ـــــــ
التعمد لأن المصلي إذا نام مضطجعا متعمدا انتقض وضوءه وبطلت صلاته بلا خلاف. فأما إذا نعس في الصلاة من غير تعمد فمال نائما حتى اضطجع فقد اختلف فيه قال بعضهم ينتقض طهارته ولم يفسد صلاته لأنه حدث سماوي فله أن يتوضأ ويبني وقال بعضهم لا تفسد صلاته ولا ينتقض طهارته كما لو نام في السجود كذا في فتاوى قاضي خان ثم بين وجهين في الإغماء كل واحد منهما يمنع البناء فقال والإغماء من العوارض النادرة في الصلاة فلم يكن في معنى ما ورد به النص وهو الحدث الذي يغلب وجوده في جواز البناء وهو أي الإغماء فوق الحدث في المنع من الصلاة لأنه مع كونه حدثا في جميع الأحوال مخل بالعقل وكل واحد منهما مؤثر في المنع من الأداء لأنه مفتقر إلى كل واحد منهما كذا في بعض الفوائد فلم يلحق الإغماء بالحدث لهذين الوجهين كما لم تلحق الجنابة به ومنع البناء على كل حال مضطجعا كان المغمى عليه أو غير مضطجع قليلا كان الإغماء أو كثيرا ويختلفان أي النوم والإغماء فيما يجب من حقوق الله تعالى بطريق الخبر فيصلح الإغماء عذرا مسقطا في البعض ولا يصلح النوم عذرا مسقطا بحال لأن الإغماء مرض ينافي القوة أصلا فلا يجب الأداء في الحال للعجز وقد يحتمل الامتداد يعني في حق بعض الواجبات على وجه يوجب الحرج أي يوجب عدم اعتبار امتداده الحرج بدخول الواجب في حد التكرار فيسقط به أي بالحرج أو بالامتداد أداء الواجب عنه أصلا يعني يسقط عنه حقيقة الأداء للعجز وخلفه وهو القضاء للحرج وإذا بطل الأداء أي سقط وجوب الأداء أصلا بطل الوجوب أي نفس الوجوب. لما قلنا في باب الأهلية أن الوجوب غير مقصود بنفسه بل المقصود منه الأداء فلما سقط لم تبق الوجوب لعدم الفائدة وهذا أي سقوط الأداء بالإغماء عند امتداده استحسان وكان القياس أن لا يسقط بالإغماء شيء وإن طال كما ذهب إليه بشر بن غياث المريسي لأنه مرض لا يؤثر في العقل ولكنه يوجب خللا في القدرة الأصلية فيؤثر في تأخير الأداء ولا يوجب سقوط القضاء كالنوم والفرق ما ذكرنا أن الإغماء قد يقصر وقد يطول عادة في حق بعض الواجبات فإذا قصر اعتبر بما يقصر عادة وهو النوم فلا يسقط به القضاء وإذا طال اعتبر بما يطول عادة وهو الجنون والصغر فيسقط القضاء وامتداد الإغماء في الصلاة أن يزيد على يوم وليلة باعتبار الأوقات عند أبي حنيفة وأبي يوسف وباعتبار الصلوات عند محمد(4/393)
يسقط به شيء من الواجبات مثل النوم امتداده في الصلاة أن يزيد على يوم وليلة على ما فسرنا وفي الصوم لا يعتبر امتداده لأن امتداده في الصوم نادر وكذلك في الزكاة وفي الصلاة غير نادر وفي ذلك جاءت السنة فلم يوجب حرجا. وأما الرق فإنه عجز حكمي شرع جزاء في الأصل لكنه في البقاء صار من الأمور
ـــــــ
رحمهم الله على ما فسرناه في الجنون وقال الشافعي رحمه الله امتداده باستيعاب وقت الصلاة حتى لو كان مغمى عليه وقت صلاة كامل لا يجب عليه القضاء لأن وجوب القضاء يبتنى على وجوب الأداء وفرق بين النوم والإغماء فإن النوم عن اختيار منه بخلاف الإغماء. ولكنا استحسناه لحديث علي رضي الله عنه فإنه أغمي عليه أربع صلوات فقضاهن وعمار بن ياسر أغمي عليه يوما وليلة فقضى الصلوات وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما أغمي عليه أكثر من يوم وليلة فلم يقض الصلوات فعرفنا أن امتداده في الصلاة بما ذكرنا كذا في المبسوط وذكر في بعض المواضع أن القضاء يجب على المغمى عليه بالإجماع إذا لم يزدد الإغماء على يوم وليلة وذلك يدل على أن قوله فيه مثل قولنا فيحمل على أن له فيه قولين وفي الصوم لا يعتبر امتداده حتى لو كان مغمى عليه في جميع الشهر ثم أفاق بعد مضيه يلزمه القضاء إن تحقق ذلك إلا عند الحسن البصري رحمه الله فإنه يقول سبب وجوب الأداء لم يتحقق في حقه لزوال عقله بالإغماء ووجوب القضاء يبتنى عليه وقلنا إن الإغماء عذر في تأخير الصوم إلى زواله لا في إسقاطه لأن سقوطه بزوال الأهلية أو بالحرج ولا تزول الأهلية به لما بينا ولا يتحقق الحرج به أيضا لأنه إنما يتحقق فيما يكثر وجوده وامتداده في حق الصوم نادر لأنه مانع من الأكل والشرب وحياة الإنسان شهرا بدون الأكل والشرب لا تتحقق إلا نادرة فلا يصلح لبناء الحكم عليه وفي الصلاة امتداده غير نادر فيوجب حرجا فيجب اعتباره وفي ذلك أي في اعتبار امتداده في حق الصلاة جاءت السنة كما بينا فلم يوجب حرجا متصل بقوله وفي الصوم نادر أي لم يوجب امتداده في الصوم حرجا.
"الرق"
قوله: "أما الرق" فكذا الرق في اللغة هو الضعف يقال ثوب رقيق أي ضعيف النسج ومنه رقة القلب وفي عرف الفقهاء هو عبارة عن ضعف حكمي يتهيأ الشخص به لقبول ملك الغير فيتملك بالاستيلاء كما يتملك الصيد وسائر المباحات واحترز بالحكمي عن الحسي فإن العبد ربما يكون أقوى من الحر حسا لأن الرق لا يوجب خللا في سلامة البنية ظاهرا وباطنا لكنه وإن قوي عاجز عما يملكه الحر من الشهادة والقضاء والولاية والتزوج ومالكية المال وغيرها ولا يلزم عليه أن أهل الحرب أرقاء حتى ملكوا(4/394)
الحكمية به يصير المرء عرضة للتملك والابتذال وهو وصف لا تحتمل التجزي فقد قال في الجامع في مجهول النسب إذا أقر أن نصفه عبد لفلان أنه يجعل عبدا في شهادته وفي جميع أحكامه وكذلك العتق الذي هو ضده حتى إن
ـــــــ
بالاستيلاء ثم إن تصرفاتهم نافذة وأنكحتهم صحيحة وشهادتهم فيما بينهم مقبولة وأملاكهم ثابتة لأن ثبوت وصف الرق فيهم بالنسبة إلينا حتى صاروا عرضة للتملك في حقنا فأما فيما بينهم فلهم حكم الأحرار بناء على ديانتهم فيما بينهم بالحرمة فيثبت هذه الأحكام في حقهم شرع أي الرق جزاء في الأصل أي في أصل وضعه وابتداء ثبوته فإن الكفار لما استنكفوا عبادة الله عز وجل وصيروا أنفسهم ملحقة بالجمادات حيث لم ينتفعوا بعقولهم وسمعهم وأبصارهم بالتأمل في آيات الله تعالى والنظر في دلائل وحدانيته جازاهم الله تعالى في الدنيا بالرق الذي صاروا به محال الملك وجعلهم عبيد عبيده وألحقهم بالبهائم في التملك والابتذال ولكونه جزاء الكفر في الأصل لا يثبت على المسلم ابتداء. ولكنه في البقاء صار من الأمور الحكمية أي صار في حالة البقاء ثابتا بحكم الشرع حكما من أحكامه من غير أن يراعي فيه معنى الجزاء ومن غير أن يلتفت إلى جهة العقوبة فيه حتى يبقى العبد رقيقا وإن أسلم وصار مع الأتقياء ويكون ولد الأمة المسلمة رقيقا وإن لم يوجد منه ما يستحق به الجزاء وهو كالخراج فإنه في الابتداء يثبت بطريق العقوبة حتى لا يبتدئ على المسلم لكنه في حال البقاء صار من الأمور الحكمية حتى لو اشترى المسلم أرض الخراج لزم عليه الخراج والعرضة: المعرض للأمر; أي الذي نصب لأمر; فعلة من العرض يقال فلان جعل عرضة للبلاء أي منصوبا له بحيث يعرض عليه ومنه قوله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224] أي معرضا لها فتبتذلوه بكثرة الحلف به والمعنى هاهنا أن الإنسان بسبب الرق يصير معرضا ومنصوبا للتملك والابتذال أي الامتهان.
قوله: "وهو وصف لا يحتمل التجزي" أصله التجزؤ بالهمز لكن الفقهاء لينوا الهمزة تخفيفا كما هو مذهب بعض العرب في المهموزات فصار تجزوا بالواو ثم قلبوا الواو ياء لوقوعها طرفا مضموما ما قبلها فقالوا التجزي ومثله التوضؤ والتوضي, أي الرق لا يحتمل التجزي ثبوتا وزوالا. وقال محمد بن سلمة البلخي من مشايخنا أنه يحتمل التجزي ثبوتا حتى لو فتح الإمام بلدة ورأى الصواب في أن يسترق أنصافهم نفذ ذلك منه والأصح أنه لا يتجزأ لأن سببه وهو القهر لا يتجزى إذ لا يتصور قهر نصف الشخص شائعا دون النصف والحكم يبتنى على السبب كذا في المبسوط ولأنه أثر الكفر وهو لا يتجزأ ولأنه شرع عقوبة وجزاء ولا يتصور إيجاب العقوبة على النصف مشاعا دون النصف والحاصل أن1
ـــــــ
1 هو محمد بن سلمة أبو عبد الله البلخي الفقيه 192 – 278 هـ انظر الفوائد البهية 168.(4/395)
معتق البعض لا يكون حرا أصلا عند أبي حنيفة رحمهما الله في شهاداته وسائر أحكامه وإنما هو مكاتب. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله الإعتاق انفعاله
ـــــــ
المحل لا يتجزأ في قبول هذا الوصف كما لا يتجزأ في اتصافه بالعلم والجهل وكما أن المرأة لا تتجزأ في اتصافها بالحل والحرمة ثم استدل على أن ما ذكره هو مذهب أصحابنا بالمسألة المذكورة فإن محمدا ذكرها في آخر دعوى الجامع من غير ذكر خلاف فدل أنه مذهب أصحابنا جميعا أنه يجعل عبدا في شهادته وإن لم يثبت الملك للمقر له إلا في النصف حتى لو انضم إليه مثله لم يجعلا بمنزلة حر واحد في الشهادة كما جعلت المرأتان بمنزلة رجل واحد فيها وفي جميع أحكامه مثل الحدود والإرث والنكاح والحج والجمعة.
قوله: "وكذلك" أي ومثل الرق العتق الذي هو ضد الرق في أنه لا يقبل التجزي لأن العتق في الشرع عبارة عن قوة حكمية يصير الشخص به أهلا للمالكية والشهادة والولاية ويمتنع بها عن يد المستولي حتى لا يملكه وإن قهره كذا قال القاضي الإمام في الأسرار وثبوت مثل هذه القوة لا يتصور في البعض الشائع دون البعض وفي قوله هو ضده إشارة إلى دليل عدم تجزيه فإن الرق لما لم يكن متجزيا لزم منه أن لا يكون العتق متجزيا لأن هذا المحل لا يخلو عن أحد هذين الضدين إذ لا واسطة بين الحرية والرق فلزم من عدم تجزي الرق عدم تجزي العتق ضرورة. وهذا باتفاق بين أصحابنا حتى أن معتق البعض لا يكون حرا أصلا أي لا يثبت له حرية في البعض ولا في الكل عند أبي حنيفة رحمه الله وإن كان مذهبه أن الإعتاق يتجزأ بل هو رقيق في شهادته وسائر أحكامه كما كان وإنما هو مكاتب جواب ما يقال إن معتق البعض لما كان مثل العبد في الأحكام فما فائدة الإعتاق فقال إن معتق البعض مكاتب أي صار حكمه بالإعتاق حكم المكاتب من حيث إن المولى لا يملك بيعه وأن العبد أحق بمكاسبه وأنه يخرج إلى الحرية بالسعاية وأن بعض الملك زال عنه كما زال عن المكاتب ملك اليد للمولى إلا أنه لا يرد إلى الرق بالتعجيز بخلاف المكاتب لأن السبب في المكاتب عقد يحتمل الفسخ وهو الكتابة والسبب هاهنا إزالة ملك لا إلى أحد وذلك لا يحتمل الفسخ فأبو حنيفة رحمه الله في معتق البعض اعتبر جانب الشريك فالملك لما بقي عنده في نصيبه تعذر إثبات العتق في الحال لأنه لو ثبت لثبت في الكل لعدم تجزيه فتوقف في الحكم بالعتق إلى أن يؤدي السعاية ويسقط الملك بالكلية فحينئذ يحكم بالعتق وأبو يوسف ومحمد رحمهما الله نظرا إلى جانب العبد فإنه لما استحق العتق في النصف عملا بإضافة الإعتاق إليه ثبت في الكل لعدم تجزيه كما في الطلاق. فثبت بما ذكرنا أن الرق والعتق لا يقبلان التجزي باتفاق بين أصحابنا وعند الشافعي رحمه الله إن صدر العتق من موسر فكذلك وإن صدر من معسر فإنه يحتمل التجزي وكذلك الرق حتى لو أعتق أحد الشريكين نصيبه من العبد وهو(4/396)
العتق فلا يتصور دونه وإذا لم يكن الانفعال متجزيا لم يكن الفعل متجزيا كالتطليق والطلاق وقال أبو حنيفة رحمه الله الإعتاق إزالة الملك متجزى تعلق
ـــــــ
معسر عتق نصيبه وبقي الباقي رقيقا كما كان يباع ويوهب لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أعتق شقصا له في عبد ضمن لشريكه إن كان موسرا وإلا عتق ما عتق ورق ما رق" 1 ولأن الإعتاق وجد في النصف فيثبت موجبه في القدر الذي أضيف إليه ولا استحالة في اتصاف البعض منه بالحرية والبعض بالرق لأن هذه أوصاف شرعية تذكر فكما قال أبو حنيفة رحمه الله في الملك أنه زال عن البعض وبقي في البعض فاتصف البعض بكونه مملوكا والبعض بكونه غير مملوك أقول في حق العتق النصف الذي زال الملك عنه حر والنصف الآخر رقيق إلا أن لهذا الوصف آثارا منها ما يمكن إظهار الأثر في البعض وهو المالكية ومنها ما لا يمكن وهو الشهادة والولاية فأثبتنا ما أمكن وتوقفنا فيما تعذر إلى حين تمام العتق والجواب ما بينا أن الجمع بين الرق والحرية في شخص واحد مستحيل لأنهما وصفان متضادان لا يتجزيان كما لا يمكن الجمع بين الحل والحرمة في شخص واحد وما ذكر من الحديث معارض بما سنذكره فلا يصح التمسك به أو ما دل بأن المراد من قوله عتق ما عتق يعتق سماه عتيقا باعتبار المآل ومن قوله رق ما رق حقيقة لأنه رقيق ولا كلام فيه إنما الكلام في أنه هل يبقى على حاله رقيقا أم يخرج إلى العتق بالسعاية ولا ذكر له في هذا الخبر كذا في الطريقة البرغرية.
ثم إن أصحابنا كما اتفقوا على عدم تجزي الرق والعتق اتفقوا على أن الملك وهو المعنى المطلق للتصرف الحاجز للغير عنه قابل للتجزؤ ثبوتا وزوالا بل أجمع الكل عليه فإن الرجل لو باع عبده من اثنين يجوز بالإجماع وثبت الملك لكل واحد منهما في النصف ولو باع نصف عبده يبقى الملك له في النصف الآخر بالإجماع ويزول عن النصف المبيع لا غير وإذا عرفت أحكام الرق والعتق والملك في التجزي فاعلم أنهم اختلفوا في تجزي الإعتاق فقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله الإعتاق لا يتجزأ حتى لو أعتق نصف عبده أو أعتق أحد الشريكين نصيبه يعتق كله لقوله عليه السلام: "من أعتق شقصا له في عبد أعتق كله ليس لله فيه شريك" 2 ولأن الإعتاق انفعاله العتق أي لازمه الذي يتوقف وجوده عليه يقال أعتقته فعتق كما يقال كسرته فانكسر فلا يتصور الإعتاق بدون العتق كما لا يتصور الكسر بدون الانكسار لاستحالة وجود الملزوم بدون اللازم وإذا لم
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في العتق حديث رقم 1501 وأبو داود برقم 3940 والترمذي برقم 1346 وابن ماجه برقم 2528 والإمام أحمد في المسند 2/2.
2 أخرجه أبو داود في العتق حديث رقم 3933.(4/397)
به حكم لا يتجزى وهو العتق لأنه عبارة عن سقوط الرق وسقوط الرق حكم
ـــــــ
يكن الانفعال هاهنا وهو العتق متجزئا لم يكن الفعل وهو الإعتاق متجزيا ضرورة كالتطليق والطلاق فإن الطلاق الذي هو انفعال التطليق لما لم يكن متجزيا لم يكن التطليق الذي هو الفعل متجزئا ولا وجه للقول يتوقف الإعتاق لأنه صدر من المالك فوجب تنفيذه ونفاذه في البعض يستدعي ثبوت العتق في الكل. ولا معنى لقول من قال إن الإعتاق تصرف في المالية دون إثبات العتق لأن الحيوان يثبت دينا في الذمة في باب الإعتاق وأن إعتاق ما ليس بما يصح كالجنين وكأم الولد على أصل أبي حنيفة رحمه الله ولو كان الإعتاق تصرفا في المالية لما ثبت الحيوان دينا في الذمة فيه لأنه لا يثبت في الذمة بدلا عن المال يوضحه أن الاستيلاد الذي هو حق العتق لا يتجزأ حتى لو استولد الجارية المشتركة صارت كلها أم ولد له فحقيقة العتق بعدم التجزي أولى.
وكذلك إعتاق أم الولد لا يتجزأ حتى لو ادعى الشريكان ولد جارية مشتركة بينهما وصارت أم ولد لهما ثم أعتق أحدهما نصيبه عتق نصيب الآخر في الحال فكذا إعتاق القنة. وقال أبو حنيفة رحمه الله الإعتاق يتجزأ حتى لو أعتق شقصا من عبد لا يعتق الكل ولكن يفسد الملك في الباقي حتى لم يكن له أن يملكه الغير ولا أن يبقيه في ملكه بل يصير كالمكاتب على ما بينا لقوله عليه السلام: "من أعتق شقصا له في عبد قوم عليه نصيب شريكه إن كان موسرا وإن كان معسرا يبقى العبد في نصيبه غير مشقوق عليه" 1 أي يؤخذ منه على المهلة والرق ولما روى سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من أعتق شقصا له في عبد كلف عتق بقيته" وهو المراد من قوله عليه السلام "عتق كله" أي سيصير عتيقا بإخراج الباقي إلى العتق بالسعاية فكان بيانا أنه لا يستدام فيه الرق. ولأن الإعتاق إزالة ملك اليمين بالقول فيتجزأ من المحل كالبيع وذلك لأن نفوذ تصرف المالك باعتبار ملكه وهو مالك للمالية دون الرق لأنه اسم لضعف شرعي ثابت في أهل الحرب مجازاة وعقوبة على كفرهم كما قلنا وهو لا يحتمل التملك لأنه شرع عقوبة بالجناية على حق الله تعالى فإن حرمة الكفر حقه على الخصوص فيكون جزاؤه حقا له كحد الزنا فلا يصلح أن يكون مملوكا للمولى وتعلق بقاء الملك ببقاء الرق في المحل لا يدل على أنه مملوك له كتعلقه بالحياة فإنها شرط للملك ثبوتا وبقاء وذلك لا يدل على أن الحياة مملوكة له وإذا ثبت أنه لا يملك إلا المالية كان الإعتاق منه تصرفا في إزالة ملك المالية فيقبل التجزي لأن العبد من حيث إنه مال متجز كالثوب إلا أنه إذا أزاله إلى العبد والعبد لا يملك نفسه كان
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في العتق حديث رقم 1503 وأبو داود برقم 3937 والترمذي برقم 1348.(4/398)
لسقوط كل الملك فإذا سقط بعضه فقد وجد شطر علة العتق وصار ذلك كإعداد الوضوء أنها متجزية تعلق بها إباحة الصلاة وهو غير متجزية كذلك إعداد الطلاق للتحريم. وهذا الرق يبطل مالكية المال لقيام المملوكية مالا حتى
ـــــــ
إسقاطا للمالية وإسقاطها يوجب زوال الرق وثبوت العتق فكان فعله إعتاقا بواسطة إزالة المالية على معنى أنه إذا تم إزالة الملك بطريق الإسقاط يعقبه العتق لا أن يكون فعل المزيل ملاقيا للرق كالقاتل فعله لا يحل الروح وإنما يحل البنية ثم بنقض البنية تزهق الروح فيكون فعله قتلا وكشراء القريب يكون إعتاقا بواسطة التملك لا بدون الواسطة فهذا معنى قوله الإعتاق إزالة لملك متجز تعلق به أي بهذه الإزالة على تأويل الإسقاط حكم لا يتجزأ. وقوله لأنه أي العتق عبارة عن سقوط الرق دليل على أن العتق متعلق بالإعتاق بواسطة أي لا نعني ثبوت العتق الذي هو القوة الشرعية إلا سقوط الرق الذي هو الضعف الشرعي لأن زوال الضعف يوجب قوة بحبسه لا محالة وسقوط الرق حكم لسقوط كل الملك وذلك لأن ثبوت الرق في الأصل لما كان بطريق العقوبة كان ينبغي أن لا يبقى الرق بعد صيرورته من أهل دار الإسلام وإن ثبتت الحرية بالمعنى الأصلي وهو أن الآدمي مكرم محترم إلا أنه يمتنع ثبوت الحرية لقيام ملك المولى فكان بقاء الرق بعد صيرورته من أهل دار الإسلام لتعلق حق المولى فما دام حق المولى قائما في المحل يبقى الرق وينبغي العتق وإذا زال الملك والمالية بالكلية انتفى الرق وحدث العتق فثبت أن سقوط الرق حكم سقوط الملك بالكلية. وقوله: لأنه أي العتق عبارة عن سقوط الرق تسامح في العبارة لأنه عبارة عن ثبوت القوة إلا أن سقوط الرق من لوازمه فيعتبر به عنه كما أن الحركة ليست بعبارة عن زوال السكون بل معنى يلزم من وجوده زوال السكون فيجوز أن يعبر بالحركة عن زوال السكون ومثله تفسير الموت بزوال الحياة فإنه تفسير بلازمه أو هو أمر وجودي يلزم منه زوال الحياة عند أهل السنة وصار ذلك أي إسقاط الملك الذي هو متجز وتعلق العتق الذي هو غير متجز به كإعداد أعضاء الوضوء في حكم الغسل فإنها متجزئة فيه وتعلق بها أي بغسلها إباحة الصلاة التي هي غير متجزئة حتى كان غاسل بعض الأعضاء متطهرا ومزيلا للحدث عن ذلك البعض ويتوقف إباحة الصلاة على غسل الباقي. وكذلك أي كإعداد أعضاء الوضوء إعداد الطلاق للتحريم فإنها متجزئة وتعلق بها الحرمة الغليظة التي هي غير متجزئة حتى كان موقع الطلقة والطلقتين مطلقا ويتوقف ثبوت الحرمة على كمال العدد فكذا هاهنا إلا أن العبد استحق بإزالة الملك حق العتق لأن الإزالة لما صحت استحق أن يعتق بقدره لأن الإعتاق أقوى من التدبير والاستيلاد ولما استحق العتق للحال ولم يحتمل النقض وجب تكميله من طريق السعاية فيجعل العبد مكاتبا بين(4/399)
................................................................................................
حر وعبد ولأن في الكتابة تأخر حق العبد في العتق وفي القول يعتق الكل بطلان ملك الذي لم يعتق فكان التأخير أولى كذا في الأسرار وبما ذكرنا خرج الجواب عما يقال قد ذكرتم في مسألة استعارة ألفاظ العتق للطلاق أن معنى اللفظ إثبات العتق الذي هو القوة وذلك موجب التصرف شرعا وقلتم أيضا في مسألة الشهادة على إعتاق المولى عبده أنها لا تقبل بدون دعوى العبد لأن الإعتاق إثبات العتق وهو حقه ثم ذكرتم هاهنا أنه إزالة الملك لا إثبات العتق وهو تناقض لأن تصرف المولى وإن كان ملاقيا للملك والمالية لكنه طريق لثبوت العتق فكان العتق مضافا إلى تصرفه لأنه سلك طريق حدوثه وأعمل العلة فيعطى لتصرفه حكم العلة كما لو قطع الحبل حتى سقط القنديل يقال أسقط لأنه أعمل العلة وهي الثقل بإزالة المسكة ومتى ثبت أنه تصرف في المالية بالإسقاط لإحداث العتق كان المقصود من التصرف العتق وبه يسمى التصرف ثم إذا أردت الاستعارة لا بد من أن ينظر إلى المعنى الذي قصد بالتصرف وهو إثبات العتق الذي ينبئ عن القوة لأن الاتصال بين اللفظين إنما يكون في المعنى الخاص الذي هو مقصود التصرف دون الطريق الذي ليس بمقصود وفي مسألتنا العتق غير ثابت بعد وإنما نحن في طريق الوصول إلى المقصود فنراعي معنى إزالة الملك والمالية فنقول هو متصرف في الملك وهو متجز وما دام شيء من المالية قائما في المحل لا يثبت العتق كالقنديل يبقى معلقا ما دام شيء من المسكة قائما وعلى هذا النمط يجري تخريج المسائل في اعتبار المقصود من التصرف واعتبار طريق ما هو المقصود كذا ذكر الشيخ أبو الفضل رحمه الله في إشارات الأسرار.
وأما استدلالهم بأن الحيوان لا يثبت دينا في الذمة فيه فليس بصحيح لأنه إنما لا يثبت دينا في الذمة في عقد تمليك المال بالمال لئلا يؤدي إلى الربا إذ فيه ضرب جهالة فيحتمل استيفاء الزيادة وأما في عقد إسقاط المال فلا يؤدي إليه فيثبت وإنما جاز إعتاق الجنين لأنه في البطن مال على ما عرف في الغصب وكذا أم الولد مال عند أبي حنيفة رحمه الله ولكن لا قيمة لها فيصح إعتاقها لوجود المالية ولا يجب الضمان باستهلاكه لعدم التقوم. وقولهم: الاستيلاد لا يتجزأ غير مسلم أيضا بدليل أن مدبرة بين اثنين لو استولدها أحدهما صار نصيبه أم ولد له ونصيب الآخر بقي على حاله وكذا مكاتبا بين اثنين استولدها أحدهما لا يصير نصيب الآخر أم ولد له فأما القنة فإنما يصير كلها أم ولد له لا لأنه غير متجز ولكن لأن السبب قد تحقق في جميعها وهو ثبوت نسب الولد والنسب قد ثبت في جميعها فقلنا بانتقال ملك الشريك إليها بالقيمة إن كان ممكنا وذلك في القنة دون المدبرة والمكاتبة فيقتصر حكمه فيهما على نصيبه ويتعدى إلى(4/400)
................................................................................................
نصيب الشريك في القنة وكذا إعتاق أم الولد متجز إذ لم يعتق بإعتاقه إلا النصف ولكن النصف الآخر يعتق لعدم الفائدة في إبقاء الرق فإن رق أم الولد لما لم يكن متقوما عنده لم يمكن إيجاب المال عليها باعتبار احتباس ملك الشريك عندهما فلم يكن في إبقاء الملك فائدة فيعجل عتق الباقي وفي القنة في إبقاء الرق فائدة فيبقى للسعاية.
قوله: "وهذا الرق" أي الذي نحن بصدده وكأنه احترز بلفظ الإشارة عن النكاح فإنه يسمى رقا ولا يمنع مالكية المال يبطل مالكية المال حتى لا يملك العبد شيئا من المال وإن ملكه المولى لقيام المملوكية مالا يعني مملوكيته من حيث المالية لا من حيث الإنسانية فلا يتصور أن يكون مالكا من هذا الوجه لأن المالكية تنبئ عن القدرة والمملوكية تنبئ عن العجز وهما متنافيان فلا يجتمعان بجهة واحدة فإن قيل يجوز أن يكون مملوكا من حيث إنه مال ومالكا من حيث إنه آدمي كما قلنا في مالكية غير المال قلنا لو قيل بمالكيته من حيث إنه آدمي يلزم منه أن يكون المال مالكا وذلك لا يجوز لأن المالك مبتذل للمال والمال مبتذل ولا يجوز أن يكون المبتذل مبتذلا في حالة بخلاف مالكية ما ليس بمال لأن الضرورة داعية إلى إثباتها كما سنبينه كذا في بعض الشروح.
فإن قيل ينبغي أن لا يبقى بالرق أهلية ملك التصرف كما لا يبقى أهلية ملك المال لأن العبد مملوك تصرفا كما أنه مملوك له مالا قلنا إنه مملوك له تصرفا في نفسه بيعا وترويجا وقد فاتت له أهلية هذا التصرف وكان نائبا عن المولى متى باشره بأمره ولكنه لم يصر مملوكا من حيث التصرف في ذمته أن المولى لا يملك الشراء بثمن يجب في ذمة عبده ابتداء فيبقى له الأهلية في ملك هذا التصرف كما إنه لما يصر مملوكا تصرفا عليه في الإقرار بالحدود والقصاص بقي مالكا لذلك التصرف كذا في مأذون المبسوط وإذا ثبت أن الرق يبطل مالكية المال لا تثبت الأحكام المبنية على الملك في حق الرقيق فلا يملك العبد والمكاتب التسري وإن أذن لهما المولى بذلك كما لا يملكان الإعتاق لأنه من أحكام الملك كالإعتاق. وقال مالك رحمه الله يجوز لهما التسري لأن ملك المتعة يثبت بعد النكاح أو الشراء فإذا كان العبد أهلا لملك المتعة كان أهلا بالطريق الآخر لأن ملك المتعة الذي يثبت بالنكاح أقوى مما يثبت بالشراء. والجواب ما بينا أن سببه وهو ملك الرقبة لا يثبت في حق العبد لعدم أهليته فكذا حكمه بخلاف النكاح ولا تأثير لإذن المولى في إثبات الأهلية إنما تأثيره في إسقاط حقه عند قيام أهلية العبد والسرية الأمة التي بوأتها بيتا وأعددتها للوطء فعلية من السر وهو النكاح يقال(4/401)
لا يملك العبد المكاتب التسري وحتى لا يصح منهما حجة الإسلام لعدم أصل القدرة وهي البدنية لأنها للمولى لأن ملك الذات يوجب ملك الصفات القائمة لكونها تبعا إلا ما استثنى عليه في سائر القرب البدنية بخلاف الفقير لأنه مالك لما يحدث من قدرة الفعل إذا حدثت وهي الاستطاعة الأصلية فأما الزاد والراحلة
ـــــــ
تسررت جارية وتسريت كما يقال تظننت وتظنيت وخص المكاتب بالذكر مع أن حكم المدبر كذلك لأنه صار أحق بمكاسبه لحريته يدا فيوهم ذلك جواز التسري له فأزال الوهم بذكره.
قوله: "وحتى لا يصح منهما حجة الإسلام" يعني لما أبطل الرق مالكية المال لا يصح من العبد والمكاتب حجة الإسلام لأن القدرة والاستطاعة من شرائط وجوب الحج ولا قدرة للرقيق أصلا لأنها بمنافع البدن والمال والعبد لا يملك شيئا منهما أما المال فلما قلنا وأما المنافع فلأن المولى لما ملك رقبته كانت المنافع حادثة على ملكه لأن ملك الذات علة لملك الصفات فكانت منافعه للمولى إلا ما استغنى عليه أي المولى في سائر القرب البدنية من الصلاة والصوم فإن القدرة التي يحصل بها الصوم الفرض والصلاة الفرض ليست للمولى بالإجماع والعبد فيها مبقى على أصل الحرية وإذا كان كذلك كان الحج المؤدى قبل وجود شرطه نفلا فلا ينوب عن الفرض. بخلاف الفقير إذا حج ثم استغنى حيث جاز ما أدى عن الفرض لأن ملك المال ليس بشرط الوجوب لذاته وإنما شرط للتمكن من الوصول إلى موضع الأداء. ألا ترى أن المكي الذي هو في موضع الأداء لا يعتبر في حقه ملك المال الموجود وفي حق الأفاقي لا يتقدر المال بنصاب بل يختلف ذلك باعتبار القرب والبعد فعرفنا أن الشرط هو التمكن من الوصول إلى موضع الأداء فبأي طريق وصل إليه الفقير وجب عليه الأداء وكان أداؤه حاصلا بمنافعه التي هي حقه فكان فرضا فأما منافع العبد فلمولاه وبإذن المولى لا يخرج المنفعة عن ملكه فإنما أداه بما هو ملك غيره فلا يتأدى به الفرض كما لو أدى الكفارة بالمال لا يصح لأنها يتأدى بتمليك المال وهو للمولى لا لنفسه وهذا بخلاف الجمعة إذا أداها بإذن المولى حيث يقع عن الفرض لأن الجمعة تؤدى في وقت الظهر خلفا عن الظهر ومنافعه لأداء الظهر مستثنى من حق المولى فكان أداؤه الجمعة بمنافع مملوكة له فجاز عن الفرض كذا في المبسوط. وقوله: فأما الزاد والراحلة جواب عما يقال إن القدرة على الزاد والراحلة شرط للوجوب كقدرة البدن فكان أداء الفقير قبل هذه القدرة أداء قبل الوجوب كأداء العبد والصبي فينبغي أن لا يتأدى به الفرض ولا يقع عن حجة الإسلام فقال اشتراط الزاد والراحلة لليسر يعني اليسر الذي يندفع به الحرج ويخرج به الواجب عن الإمكان البعيد إلى الإمكان العادي لا اليسر الذي به(4/402)
فلليسر فلم يجب وصح الأداء. والرق لا ينافي مالكية غير المال وهو النكاح والدم
ـــــــ
يصير الواجب سمحا سهلا لينا كيسر الزكاة فإن ذلك لا يحصل إلا بأعوان وخدم ومراكب على ما مر بيانه وهي ليست بشرط فلم يجب الأداء على الفقير لعدم القدرة على الزاد والراحلة وصح الأداء منه لوجود أصل القدرة. قال القاضي الإمام أبو زيد رحمه الله في الأسرار السبب هو البيت وهو موجود فتوجه الخطاب إذا جاء وقته على من هو أهل الخطاب بالحج والفقير منهم لأنه ملك استطاعة الأداء لكن يلحقه المشقة بلا زاد وراحلة فتأخر الوجوب عنه إلى ملك الزاد والراحلة تيسيرا له وحقا له فلم يمنع ذلك صحة التعجيل كالمسافر يعجل الصوم.
قوله: "والرق لا ينافي مالكية غير المال وهو النكاح والدم والحياة" لأن الجهة مختلفة فإن العبد لم يصر بالرق مملوكا من حيث النكاح والدم والحياة فلم يمتنع مالكيته لهذه الأشياء به وكان في حق هذه الأشياء مبقيا على أصل الحرية لأنه من خواص الإنسانية والضرورة داعية إلى إثبات هذه المالكية أيضا لأن العبد مع صفة الرق أهل للحاجة إلى النكاح وإلى البقاء فيكون أهلا لقضائها وهو لا يملك الانتفاع بأمة المولى وطئا عند الحاجة كما يملك الانتفاع بمال مولاه أكلا ولبسا عند الحاجة وليست له أهلية ملك اليمين فإذا لا طريق له لدفع هذه الحاجة إلا النكاح فيثبت له مالكية النكاح. وإنما توقف نفاذه منه على إذن المولى دفعا للضرر عنه فإن النكاح مستلزم للمهر وفي إيجابه بدون رضاء المولى إضرار به لأن المهر يتعلق برقبة العبد إذ لم يوجد مال آخر يتعلق به وماليتها حق المولى فلم يكن بد من إجازته. ألا ترى أن المولى لو أسقط حقه عن المالية بالإعتاق نفذ النكاح الصادر من العبد بدون إجازته ولو أجاز بدون الإعتاق كان المالك للبضع العبد دون المولى ويشترط الشهود عند النكاح لا عند الإجازة فعرفنا أن حكم النكاح يثبت للعبد وأنه هو المالك للنكاح دون المولى ولا يقال إن المولى يملك إجباره على النكاح ولو كان مالكا لا يملك إجباره عليه لأنا نقول إنما يملك إجباره تحصينا لملكه عن الزنا الذي هو سبب الهلاك والنقصان لأنه مالك ولهذا كان العبد هو المالك للبضع بعد الإجبار دون المولى وهو المالك للطلاق الذي هو رفع النكاح فثبت أنه هو المالك للنكاح وكذا الدم والحياة لأنه محتاج إلى البقاء ولا بقاء له إلا ببقائهما فثبت له ملك الدم والحياة كما يثبت مالكية النكاح ولهذا لا يملك المولى إتلاف دمه لأنه لا ملك له فيه وصح إقرار العبد بالقصاص لأنه إقرار بأن ولي القصاص يستحق إراقة دمه وهو في ذلك مثل الحر فكان هذا إقرارا على نفسه لا على حق المولى فيصح ويؤخذ به في الحال وتقبل الحرية لأنه مبق على أصل الحرية في حق الدم والحياة.(4/403)
والحياة. وينافي كمال الحال في أهلية الكرامات الموضوعة للبشر في الدنيا مثل الذمة والحل والولاية حتى أن ذمته ضعفت برقه فلم يحتمل الدين بنفسها وضمت إليها مالية الرقبة والكسب ولذلك قلنا إن الدين متى ثبت بسبب لا تهمة فيه أنه يباع به رقبته مثل دين التجارة لأن حاجتنا إلى
ـــــــ
قوله: "وينافي" أي الرق كمال الحال في أهلية الكرامات الموضوعة للبشر في الدنيا واحترز به عن الكرامات الموضوعة له في الآخرة فإن العبد يساوي الحر فيها لأن أهليتها بالتقوى ولا رجحان للحر على العبد في التقوى مثل الذمة فإن الإنسان بها يصير أهلا للإيجاب ولا استيجاب ويمتاز بها عن سائر الحيوان فتكون كرامة والحل فإن استفراش الحرائر وتوسعة طرق قضاء الشهوة على وجه لا يستلزم لحوق إثم سلامة كرامة بلا شبهة ولهذا اتسع الحل في حق النبي صلى الله عليه وسلم لزيادة شرفه وكرامته على كافة الخلق والولاية فإنها تنفيذ الأمر على الغير شاء أو أبى ولا شك أن ذلك كرامة لأنه من باب السلطنة حتى أن ذمته أي ذمة الرقيق ضعفت بسبب رقه لأنه من حيث إنه صار مالا بالرق صار كأنه لازمه له أصلا ومن حيث إنه إنسان مكلف لا بد من أن يكون له ذمة فقلنا بوجود أصل الذمة ولكنها ضعفت بالرق فلم يحتمل الدين أي لم تقو على تحمل بنفسها لضعفها حتى لا يمكن المطالبة به بدون انضمام مالية الرقبة أو الكسب إليها إذا لا معنى لاحتمالها الدين إلا صحة المطالبة فإذا ضمت إليها مالية الرقبة والكسب تعلق الدين بها فيستوفى من الرقبة والكسب كذمة المريض لما ضعفت بانعقاد سبب الخراب وجب ضم الكسب إليها لتعلق الدين بها وليس المراد من تعلق الدين بالكسب أن العبد يستسعى فيه بل المراد منه أن الكسب الموجود في يده يصرف إلى الدين أولا فإن لم يف به أو لم يكن له كسب فحينئذ تصرف مالية الرقبة إليه ولا تباع الرقبة بالدين ما بقي الكسب بالإجماع إليه أشير في الأسرار إلا أن لا يمكن بيعه فيستسعى في الدين كالمدبر والمكاتب ومعتق البعض عند أبي حنيفة رحمه الله. ولذلك أي ولأن مالية الرقبة والكسب يضم كل واحد إلى ذمة العبد لتحتمل الدين قلنا إن الدين متى ثبت بسبب لا تهمة فيه أي بسبب ظهر في حق المولى أنه الضمير للشأن يباع بسبب ذلك الدين رقبة العبد ليستوفى الدين من الثمن إن لم يختر المولى لهذا مثل دين الاستهلاك بأن استهلك العبد المأذون والمحجور مال الأجنبي يجب الضمان ويستوفى من رقبته إن لم يفده المولى ولم يكن له كسب في يده وهذا بلا خلاف لأنه دين ظاهر في حق المولى لثبوته حسا وعيانا ودين التجارة بأن تصرف المأذون وركبه دين يستوفى من كسبه أو مالية رقبته عندنا إن لم يكن كسب ولم يفده المولى فيباع في الدين وقال الشافعي رحمه الله لا يباع العبد في دين التجارة لأن(4/404)
ظهور التعلق في حق المولى ثم لا بد من استيفائه من موضعه وإذا لم يثبت في حق المولى تأخر إلى عتقه ولم يتعلق برقبته ولا بكسبه مثل دين ثبت بإقرار
ـــــــ
رقبته كسب المولى فلا تباع بدين التجارة كسائر أكسابه وهذا لأن مال المولى إنما يشتغل بهذا الدين بالإذن وإنما أذن له في التجارة فلا يشتغل غير مال التجارة بدينها لأن الإذن لم يحصل لغيرها بخلاف دين الاستهلاك لأنه كان يشغل رقبته قبل الإذن فكذا بعده ولأن دين الاستهلاك لم يجد محلا آخر سوى الرقبة يتعلق به فلو لم يتعلق بها هدر أملاك الناس فعلقناه بها إذ يجوز أن يكون الرقبة هالكة في جناية ودين التجارة وجد محلا آخر يتعلق به وهو الكسب الحاصل بالتجارة فإن دين التجارة لا يجب إلا ويدخل الكسب في يده فلما كان الكسب حاصلا بالتجارة وهو مقابل بدين التجارة أمكن تعليقه به فلا حاجة إلى التعليق برقبة. وقلنا هذا دين وجب على العبد مطلقا لأنه ظهر وجوبه بإقرار المولى والعبد جميعا أو ثبت بسبب معاين وهو الشراء فيتعلق برقبته كدين الاستهلاك وهذا لأن حاجتنا في تعلق الدين برقبة العبد إلى ظهور التعلق في حق المولى لا إلى رضاه به فإن دين الاستهلاك يتعلق برقبته بدون رضاه فإذا ظهر لا بد من استيفاء من موضعه وهو مالية الرقبة لأنها أقرب الأموال إليه وهو محتاج إلى تفريع ذمته فكان التعلق بها أولى.
"فإن قيل" لو كانت الرقبة محلا لتعلق دين التجارة بها لكان الاستيفاء منها مقدما على الاستيفاء من الكسب لكونها أقرب إليه من الكسب قلنا حق الغريم متى وصل إليه من أي موضع وصل لم يصح مطالبته بالاستيفاء من موضع آخر لأنه لا فائدة فيه ألا ترى أن المولى إذا قضى دين العبد من ماله واستخلص الكسب لنفسه لم يكن للغريم حق المطالبة من الكسب ولا يدل ذلك على أن الدين غير متعلق بالكسب فكذلك إذا وصل إليه من الكسب لم يكن له حق المطالبة بالاستيفاء من الرقبة. وفي البداية بالكسب نظر للمولى حيث لا يزول ملكه عن رأس ماله فيتصرف ويربح ونظر للغريم حيث لم ينقطع حقه عن الكسب بالبيع ولم يضق محل حقه فلهذا قدمنا الاستيفاء من الكسب وإن كان التعلق بالرقبة أسبق من التعلق بالكسب كذا في الأسرار والطريقة البرغرية وإذا لم يثبت أي الدين في حق المولى بأن لم يظهر سببه في حقه تأخر الدين إلى عتقه أي لا يطالب العبد به في الحال بل يؤخر إلى أن يعتق ولم يتعلق هذا الدين برقبته أي بمالية رقبته ولا بكسبه لأنهما حق المولى وهو غير ظاهر في حقه مثل دين ثبت بإقرار المحجور وكذبه المولى فإنه لا يثبت في حق المولى لتكذيبه إياه فيه ولكنه ثابت في حق العبد لأنه غير متهم في حق نفسه فيؤاخذ به بعد العتق كرجل أخبر بحرية عبد في يد رجل وأنكر ذو اليد لم يظهر حكمه ما لم يملكه المخبر وإن كان خبره صحيحا لأنه ليس بحجة على غيره وهو حجة(4/405)
المحجور ومثل أن يتزوج امرأة بغير إذن مولاه ويدخل بها لأن تقوم البضع إنما يثبت بشبهة عقد عدمت في حق المولى وكذلك الحل انتقص بالرق لأنه من كرامات البشر فيتسع بالحرية ويقصر بالرق إلى النصف حتى لا ينكح العبد إلا امرأتين وكذلك حل النساء يقصر بالرق إلى النصف حتى صح نكاح الأمة إذا
ـــــــ
عليه فكان ثبوت حكمه بقدر كونه حجة ودين التجارة كخبر اتصل به تصديق ذي اليد واحترز بقوله المحجور عن المأذون له فإن إقراراه بالدين صحيح في حق المولى ومثل أن يتزوج العبد امرأة بغير إذن مولاه ويدخل بها حتى وجب العقر لا يؤاخذ به في الحال لأنه دين وجب على العبد قيمة للبضع بشبهة العقد وهي العقد الفاسد الواقع بدون إذن المولى وهذه الشبهة معدومة في حق المولى لعدم رضاه به فلا يظهر ثبوته في حقه.
قوله: "وكذلك الحل" أي وكما ضعفت الرقبة بالرق انتقص الحل الذي يبتنى عليه ملك النكاح ويصير المرء به أهلا للنكاح فيتسع ذلك الحل بالحرية لزيادة فضيلتها على الرق كما اتسع بفضيلة النبوة في حق النبي صلى الله عليه وسلم فيتزوج الحر أربعا ويقصر بسبب الرق إلى النصف حتى لا ينكح العبد إلا مرأتين حرتين كانتا أو أمتين. وقال مالك رحمه الله له أن يتزوج أربعا لأن الرق لا يؤثر في مالكية النكاح حتى لا يخرج العبد من أهلية النكاح وما لا يؤثر فيه الرق فالحر والعبد فيه سواء كملك الطلاق وملك الدم في حق الإقرار بالقود وقلنا إن الرق مؤثر في تنصيف ما كان متعددا في نفسه كالجلد في الحدود وعدد الطلاق وأقراء العدة وذلك لأن استحقاق النعم بوصف الإنسانية وقد أثر الرق لانتصافها حتى انتقصت أهلية استحقاق النعم فلا بد أن يؤثر لانتصاف النعمة والحل نعمة فلذلك أثر الرق في نقصانه إلى النصف كما يدل عليه إشارة قوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لا يتزوج العبد أكثر من ثنتين وكذلك أي وكما يقصر حل الرجال إلى النصف بالرق حل النساء يقصر بالرق إلى النصف أيضا لأن الحل الذي يبتنى عليه عقد النكاح نعمة لأجانب النساء كما هو نعمة لأجانب الرجال لأنه سبب للسكن والأزواج والمحبة وتحصين النفس وتحصيل الولد والمرأة تحتاج إلى هذه الأمور كالرجل وسبب لحصول المهر ووجوب النفقة الدارة وهما تختصان بها فكان الحل نعمة لأحقها بالطريق الأولى ألا ترى للأب ولاية تزويج الصغيرة مع أن الولاية عليها نظر فكما ينتصف ذلك الحل برق الرجل ينتصف برق المرأة ولا يمكن إظهار التنصيف لأجانبها بتنقيص العدد لأن المرأة الواحدة لا تحل إلا لواحد فيظهر التنصيف باعتبار الأحوال. ثم نقول الأحوال ثلاث حال التقدم على نكاح الحرة وحال التأخر عنه وحال المقارنة ولكن الحالة الواحدة لا تحتمل التجزؤ فتغلب(4/406)
تقدم على الحرة ولا يصح إذا تأخر أو قارن لتعذر التنصيف في المقارنة والعدة يتنصف لكن الواحدة لا تقبل التنصيف فيتكامل لكن عدد الطلاق لما كان عبارة عن اتساع المملوكية اعتبر بالنساء وعدد الأنكحة لما
ـــــــ
الحرمة على الحل فيجعل الأمة محللة لإحالة التقدم على الحرة محرمة لإحالتي المقارنة والتأخر أو نقول لا الحقيقة ليس إلا حالتين حالة الانضمام إلى الحرة وحالة الانفراد عنها فنجعل محللة لإحالة الانفراد محرمة لإحالة الانضمام إلى الحرة والعدة يتنصف لأنها نعمة لا حق النساء لما فيها من تعظيم ملك النكاح فيؤثر الرق لا تنصيفها فكانت عدة الأمة حيضتين والطلاق ينتصف لما سنبين فكان طلاقها اثنين وكان ينبغي أن يكون عدتها حيضة ونصفا وطلاقها طلقة ونصفا لكن الواحد لا يقبل التنصيف فيتكامل ولا يسقط لأن جانب الوجود راجح على جانب العدم والاحتياط فيه أيضا.
قوله: "لكن عدد الطلاق" استدراك من قوله ويقصر بالرق إلى النصف حتى لا ينكح العبد إلا امرأتين يعني أثر رق الرجل لا عدد الأنكحة فكان ينبغي أن يؤثر لا عدد الطلاق كما قال الشافعي رحمه الله لأن ملك الطلاق مختص بالرجال كملك النكاح أو هو مبني على ملك النكاح لكن لم يؤثر لأن عدد الطلاق كذا وكشفه أن عدد الطلاق معتبر بالنساء عندنا حتى كانت المرأة حرة يملك الزوج عليها ثلاث تطليقات وإن كان عبدا وإن كانت المرأة أمة لا يملك الزوج عليها إلا تطليقتين وإن كان حرا وهو مذهب علي وابن مسعود رضي الله عنهما. وقال الشافعي رحمه الله عدده معتبر بالرجال فيعتبر فيه رق الرجل وحريته وهو مذهب عثمان وزيد وعائشة رضي الله عنهم وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول ينتقص برق أيهما كان احتج الشافعي رحمه الله بقوله عليه السلام: "الطلاق بالرجال والعدة بالنساء" وبأن الرجل هو المالك للطلاق كما أنه هو المالك للنكاح فوجب أن يعتبر حاله فيه دون حالها لأن المرأة مملوكة لا النكاح والطلاق, ونقصان حال المملوك بالرق يوجب زيادة لا المملوكية ولا نقصانا فيها. ألا ترى أن رق المرأة فتح عليه بابا من المملوكية كان مسدودا قبله فإنها قبل الرق كانت تملك وتوطأ بملك النكاح لا غير وبعد الاسترقاق تملك وتوطأ بملك اليمين والنكاح جميعا وإذا كان كذلك يستحيل أن يسد عليها ما كان مفتوحا قبله بخلاف رق الرجل فإنه يسد عليه بابا من الملك كان مفتوحا عليه فإنه قبل الاسترقاق كان يستمتع بملك اليمين والنكاح وبعد الاسترقاق لا يمكنه الاستمتاع بملك اليمين فلما ظهر لرقه أثر لا تنقص مالكيته النكاح ولم يظهر لرقها أثر في تنقيص المملوكية يعتبر رقه في تنصيف عدد الطلاق ومالكيته دون رقها. ولنا أن ملك التصرف مع كمال حال المتصرف يزداد بزيادة محل التصرف وينتقص(4/407)
كان عبارة عن اتساع المالكية اعتبر فيه رق الرجال وحريتهم فكان الطلاق بالنساء. ولذلك يتنصف الحدود في حق العبد ولذلك يتنصف
ـــــــ
بانتقاصه فإن من ملك عبدا واحدا ملك إعتاقا واحدا ومن ملك عبدين ملك إعتاقين وعلى هذا سائر التصرفات وهاهنا محل التصرف حل المحلية فإن الطلاق مشروع لتفويت الحل الذي صارت المرأة به محلا للنكاح فمتى كان حلها أزيد كان محلية الطلاق في حقها أوسع وعلى العكس بالعكس.
وهو معنى قوله وعدد الطلاق عبارة عن اتساع المملوكية, وحل الأمة على النصف من حل الحرة كما أن حل العبد على النصف من حل الحر وإذا كان حلها على النصف فإن نصف ما يفوت به حل الحرة وهو تطليقة ونصف - إلا أن الطلاق الواحد لا يتجزأ - مكمل وصار ما يفوت به حل الأمة طلاقين ولأن المرأة لما صارت محل النكاح بالحل الذي ذكرنا كان النكاح في حق الأمة أنقص منه في حق الحرة والطرق من حقوق النكاح مستفاد به فينتقص بنقصان النكاح كما ينتقص سائر حقوقه من العدة والقسم ومدة الإيلاء هذا الكلام في الحر إذا تزوج أمة فأما العبد إذا تزوج حرة فنقول الرق أثر في حله فرده من الأربع إلى اثنتين فوجب أن يبقى في هذا النصف كالحر على ما هو الأصل في الأحكام المتشطرة بأعذار وأسباب أن يبقى الشطر على ما كان قبله يوضحه أن الحر يملك ثنتي عشرة تطليقة يوقعها على أربعة نسوة فينبغي أن يملك العبد ست تطليقات يوقعها على امرأتين ليتحقق التنصيف فلو قلنا بأن الباقي ينتصف في حق العبد مرة أخرى لبقي الربع وتأثير الرق في التنصيف لا في التربيع. وما روي من الحديث معارض بقوله عليه السلام: "طلاق الأمة ثنتان وعدتها حيضتان" ومؤول بأن مباشرة الطلاق إلى الرجال وقوله رق الأمة يفتح عليها بابا من المملوكية فلا يسد بابا كان منفتحا إنما يستقيم إذا لم يكن بين المنفتح بالرق والذي كان منفتحا قبله تناف بل التنافي ثابت بين المتعة بملك اليمين وملك النكاح فإن الاستمتاع بملك اليمين إذا ثبت بطل الآخر فإن من اشترى امرأته فسد النكاح ثم نقول لما صارت عرضة للمتعة بالمالية اختل كونها محلا للنكاح لأن الاستباحة بملك اليمين قهر واستذلال فلا يكون زيادة على النعمة والاستباحة بملك النكاح نعمة وازدواج فيتنصف بالرق. وقوله في الكتاب: عدد الطلاق عبارة عن اتساع المملوكية توسع وتسمية للحال باسم المحل لأن الطلاق إنما يتعدد إذا اتسعت المملوكية فكان اتساع المملوكية متسعة بخلاف ثم الطلاق وذكر في الفوائد أن النكاح والطلاق متقابلان فإذا كان عدد الأنكحة عبارة عن اتساع المالكية كان عدد الطلاق عبارة عن اتساع المملوكية تحقيقا للمقابلة.(4/408)
القسم ولذلك انتقصت قيمة نفسه لما قلنا من انتقاص المالكية كما
ـــــــ
قوله: "ولذلك" أي ولأن الرق ينافي كمال الحال في أهلية الكرمات تنصفت الحدود في حق العبد والأمة لأن تغلظ العقوبة بتغلظ الجناية وتغلظ الجناية بتوافر النعم فإن النعمة لما كملت في حق شخص كانت جنايته على حق المنعم أعظم من جناية من لم تكمل النعمة في حقه والدليل عليه أن النعمة لما كملت في حق المحصن باستيفاء حظه من الحرة المنكوحة كانت جناية الزنا منه أغلظ حتى استحق الرجم ولما كملت النعمة في حق أزواج النبي صلى الله عليه ورضي عنهن بتشرفهن بمصاحبته كان شرع العقوبة على تقدير الجناية ضعف العقوبة المشروعة في حق غيرهن كما قال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30] وقد أثر الرق في تنصيف النعم في حق العبد والأمة كما بينا أثره في تنصيف العقوبة أيضا قال تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] وهذا في الحد الذي يمكن تنصيفه فأما فيما لا يمكن ذلك فيتكامل كالقطع في السرقة فإن الحر والعبد فيه سواء تنصف القسم حتى كان للأمة الثلث من القسم وللحرة الثلثان لأنه نعمة فينتصف بالرق كسائر النعم وقد روي أنه عليه السلام قال: "للحرة يومان من القسم وللأمة يوم" .
قوله: "ولذلك" أي ولما ذكرنا من منافاة الرق كمال الحال انتقصت قيمة نفس العبد حتى إذا قتل العبد خطأ وجبت على عاقلة الجاني قيمته عندنا قلت القيمة أو كثرت ولكن لا تزاد على دية الحر حتى لو كانت قيمته عشرين ألف درهم مثلا لا يزاد الواجب على عشرة آلاف درهم ويتنقص من عشرة آلاف عشرة دراهم. وعند الشافعي رحمه الله تجب قيمته على الجاني لا على العاقلة بالغة ما بلغت وهو قول أبي يوسف الآخر وروى ابن سماعة عنه أن مقدار الدية من قيمة العقد بتحمله على العاقلة وما زاد على ذلك إلى تمام القيمة في مال الجاني وأجمعوا على أن في الغصب تجب قيمته بالغة ما بلغت وعلى أن الجمع بين ضمان النفس والمال غير ممكن كذا في إشارات الأسرار وعلى أن معنى النفسية والمالية موجودان في العبد لكن الخلاف في الترجيح فرجحنا معنى النفسية ورجح الخصم المالية مستدلا بأن القيمة إذ انتقصت عن الدية تجب القيمة وإن هذا الضمان يجب للمولى وملكه في العبد ملك مال وأنه يجب فيه جنس نقد السوق الذي يختص بضمان المال ولا مدخل للإبل فيه كذا في المبسوط وأنه يختلف باختلاف أوصاف المتلف في الحسن والجمال والصفات تعتبر في ضمان الأموال دون الدماء فثبت أن الواجب بدل المالية فيجب تقديره بالقيمة بالغة ما بلغت كما في الغصب.(4/409)
انتقصت بالأنوثة فوجب نقصان بدل دمه عن الدية لكن نقصان الأنوثة في أحد ضربي المالكية بالعدم فوجب التنصيف وهذا نقصان في أحدهما لا بالعدم.
ـــــــ
ونحن نقول إن النفسية من العبد معصومة مصونة عن الهدر معتبر في إيجاب الضمان بالقصاص والكفارة حقا لله تعالى فكان اعتبارها في إيجاب الضمان أولى من اعتبار المالية لأنها أصل والمالية قائمة بها فإن المالية لو زالت بالعتق تبقى النفسية ولو زالت النفسية بالموت لم تبق المالية وكذا الفعل يسمى قتلا لوروده على النفسية فإن الأموال لا تقصد بالقتل عادة وإنما تقصد به النفوس لمعنى التشفي أو لانتقام, وفوات المالية فيه تبع فعرفنا أن الأصل فيه معنى النفسية ثم إيجاب الضمان بمعنى النفسية لإظهار حظر المحل وخطره باعتبار صفة المالكية لأن كمال حال الإنسان في الإضافة ينتهي بكمال المالكية وتمام المالكية بالحرية والذكورة فإن بالحرية تثبت مالكية المال وبالذكورة تثبت مالكية النكاح. وقد انتقصت مالكية العبد بالرق فإنه ينافي مالكية المال كما بينا فلا بد من أن ينقص بدله كما انتقصت دية الأنثى عن دية الرجل بصفة الأنوثية التي توجب نقصانا في المالكية وذلك لأن بني آدم خلقوا أزواجا ذكورا أو إناثا وعلق مصالح معاشهم وبقاؤهم إلى يوم القيامة بالازدواج والنساء مملوكات للرجال في الازدواج فانتقصت دياتهن بصفة الأنوثة التي بها صرن مملوكات فعرفنا أن نقصان المالكية هو المؤثر في نقصان الدية دون غيرها من الأوصاف ولهذا لم ينتقص بالفسق ولا بالزمانة ولا بفوات الأطراف لعدم انتقاص المالكية بهذه المعاني.
قوله: "لكن نقصان الأنوثة" إلى آخره جواب سؤال وهو أن يقال قد ألحق الرق بالأنوثة في إيجاب تنقيص المالكية فوجب أن يستويا في قدر النقصان حتى كان النقصان في الرق بقدر النصف كما في الأنوثة فقال إنهما قد استويا في إثبات أصل النقصان لكن لم يستويا في مقداره فإن نقصان الأنوثة أي النقصان الحاصل بها في أحد ضربي المالكية وهما مالكية المال ومالكية النكاح بالعدم فإن المرأة تملك المال رقبة وتصرفا ويدا ولا تملك النكاح أصلا بل هي مملوكة فيه فزوال إحدى المالكيتين بالكلية عادت ديتها إلى النصف وهذا أي الانتقاص الحاصل بالرق نقصان في أحدهما أي أحد ضربي المالكية لا بالعدم فإن العبد في مالكية النكاح مثل الحر, ومالكية المال لم تزل عنه بالكلية فإنها بأمرين ملك الرقبة وملك التصرف وأقوى الأمرين ملك التصرف لأن الغرض المتعلق بالمالكية وهو الانتفاع بالملك يحصل به وملك الرقبة وسيلة إليه والعبد وإن لم يبق أهلا للملك رقبة فهو أهل للتصرف في المال الذي هو أصل وأهل لاستحقاق اليد على المال فإن المأذون استحق اليد على كسبه كالمكاتب فلهذا يتعلق الدين بكسبه(4/410)
ألا يرى أن العبد ليس بأهل لملك المال لكنه أهل للتصرف في المال وأهل لاستحقاق اليد على المال فوجب القول بنقصان في الدية وهذا عندنا في
ـــــــ
الذي في يده لأن يد المكاتب لازمة ويده غير لازمة كالإجارة مع العارية. وكذا لو أودع العبد مالا غيره لا يملك المولى الاسترداد من المودع مأذونا كان العبد أو محجورا كذا في عامة شروح الجامع الصغير فوجب القول بنقصان في الدية لا بالتنصيف وبما ذكرنا خرج الجواب عما يقال يجب على هذا التخريج أن ينتقص ديته عن دية الحر بمقدار الربع لانتقاص مالكيته من مالكية الحر لأنا قد بينا وتبين أيضا أن مالكية اليد والتصرف أقوى من مالكية الرقبة فلذلك لا يمكن في التنقيص اعتبار الربع بل ينقص ماله خطر في الشرع وهو عشرة دراهم لأنها أقل ما يستولى به على الحرة استمتاعا وأقل ما يستحق به قطع اليد المحترمة التي لها حكم نصف البدن في بعض الأحكام ويؤيد ما ذكرنا قول ابن مسعود رضي الله عنه لا يبلغ بقيمة العبد دية الحر وينقص منها عشرة دراهم ومثل هذا الأثر في حكم المسموع من الرسول صلى الله عليه وسلم فإن قيل لا نسلم أن مالكية النكاح كاملة للعبد بل هي ناقصة الوجهين أحدهما توقفها على إذن المولى بخلاف الحر. والثاني اقتصارها على امرأتين بخلاف الحر حيث تجاوزت مالكيته إلى الأربع قلنا التوقف على الإذن لا يدل على النقصان كما في حق الصبي فإن مالكيته كاملة مع توقفها على إذن الولي وذلك لأن التوقف لدفع الضرر عن المولى أو عن الصبي لا لثبوت المالكية فلا يدل على نقصانها وكذا تنصيف عدد الأنكحة في حق العبد ليس لنقصان المالكية ولكن لتنصيف الحل فإن مالكيته فيما ملكه من النكاح مثل مالكية الحر بلا نقصان. وأما الجواب عن استدلالهم بما إذا انتقصت قيمة المقتول عن دية الحر فهو أن الضمان ضمان الدم في قليل القيمة أيضا ولهذا يجري فيه القسامة وتتحمله العاقلة إلا أن الموجب لنقصان دمه صيرورته مالا التي انتقصت بها مالكيته فما دام يمكننا نقص ديته باعتبار قيمته مالا نقصنا بذلك السبب الذي انتقص به وهو المالية ويكون ذلك الناقص بسبب الاعتبار بالمال بدل دمه لا بدل ماليته وإذا لم يكن إثبات النقصان بالإعتاق بالاعتبار مالا بأن ازدادت قيمة المالية على دية الحر وجب النقص شرعا لكن يقدر له خطر وهو عشرة على ما بينا ووجوب الضمان للمولى لا يدل على أنه بدل المالية لأن القصاص وجب للمولى أيضا وهو بدل النفس بالإجماع بل الضمان يجب للعبد ولهذا يقضى دين العبد من بدل دمه ولكن العبد لا يصلح مستحقا للمال فيستوفيه المولى الذي هو أولى الناس به كما يستوفي القصاص قال الإمام أبو الفضل الكرماني الواجب في نفسه ضمان النفس ولكن في جانب المستحق هو ضمان مال فيظهر حكم المالية في حق اليد.(4/411)
المأذون أنه يتصرف لنفسه ويجب له اليد بالإذن غير لازمة وبالكتابة يد لازمة وقال الشافعي رحمه الله لما لم يكن أهلا للملك لم يكن أهلا لسببه لأن السبب شرع لحكمة ولم يكن أهلا لاستحقاق اليد أيضا قلنا أن أهلية التكلم
ـــــــ
قوله: "وهذا عندنا" أي كون العبد أهلا للتصرف في المال ولاستحقاق اليد على المال مذهبنا فإن المأذون يتصرف بنفسه بطريق الأصالة ويثبت له اليد على إكسابه فكان الإذن فك الحجر الثابت بالرق ورفعا للمانع من التصرف حكما وإثبات اليد للعبد في كسبه بمنزلة الكتابة إلا أن اليد الثابتة بالإذن غير لازمة لحد الإذن عن العوض واليد الثابتة بالكتابة لازمة لأنها بعوض بمنزلة الملك المستفاد بالهبة مع المستفاد بالبيع. وعند الشافعي رحمه الله هو ليس بأهل للتصرف بنفسه ولا لاستحقاق اليد ولكنه يستفيد التصرف واليد بالإذن من المولى فهو يتصرف للمولى بطريق النيابة كالوكيل بتصرف للموكل ويده في الأكساب يد نيابة بمنزلة يد المودع ويبتنى عليه أن الإذن في نوع من التجارة يكون إذنا في الأنواع كلها عندنا وعند الشافعي لا يكون كذلك بل يختص الإذن بذلك النوع وأن الحجر في نوع بعد الإذن العام أو الخاص لا يصح عندنا وعنده يصح وأن الإذن لم يقبل التوقيت عندنا لو أذن لعبده شهرا أو سنة كان مأذونا أبدا إلى أن يحجر عليه لأن هذا إسقاط الحق والإسقاط لا يقبل التوقيت وعنده يحتمل أن يقبل التوقيت احتج الشافعي رحمه الله بأن المقصود من التصرف حكمه وهو الملك وأنه يحصل للمولى للعبد لأنه بالرق خرج من أن يكون أهلا للملك ولهذا لو اشترى زوجة المولى يفسد النكاح ولو تزوج أمة من مكاسبه يصح لعدم ملكه في الكسب وإذا لم يكن أهلا للملك الذي هو المقصود من التصرف لم يكن أهلا لسببه وهو التصرف لأن التصرف شرع لحكمه لا لذاته فلا ينفصل عنه وإذا لم يكن أهلا للتصرف بنفسه لم يكن أهلا لاستحقاق اليد أيضا لأن اليد لا يستفاد إلا بملك التصرف أو بملك الرقبة وقد عدم الأمران في حقه وإذا ثبت أنه ليس بأهل للتصرف بنفسه كان تصرفه بعد الإذن واقعا للمولى بطريق النيابة كتصرف الوكيل. يوضحه أن التصرف تمليك أو تملك فإنه إذا اشترى شيئا كان متملكا لذلك الشيء والملك يثبت للمولى بلا خلاف فالتملك يقع له وإذا باع ما اشترى فقد باع ملك المولى فكان التمليك واقعا للمولى ولا معنى لقول من قال التصرف يقع له والحكم يثبت للمولى لأنا لا نعقل من قول القائل أن العقد له سوى وقوع الحكم له لأن العقد كلام موجب للحكم وبدون الحكم هو كلام ولا ينطلق عليه اسم التصرف فإذا أخذ اسم التصرف من ناحية الحكم كان قول القائل وقع التصرف له إشارة إلى الحكم لا محالة وهذا هو المراد من قولنا الوكيل متصرف للموكل فإن تصرفه من حيث إنه كلام لا يقع له ولكن(4/412)
غير ساقطة بالإجماع. وكذلك الذمة مملوكة للعبد قابلة للدين وإذا صار أهلا
ـــــــ
من حيث كونه مستجلبا للحكم الشرعي يقع فكذا المولى بالإذن استعمله فيما يوجده العبد من التصرف فكان تصرفه واقعا للمولى فيقصر على ما وقع الإذن فيه ولا يثبت له عموم التصرف إلا بالتنصيص كالوكيل وقلنا إن أهلية التكلم غير ساقطة إلى آخره يعني أن التصرف كلام معتبر جعل سببا لحكم شرعا ومحله ذمة صالحة لالتزام الدين واعتبار الكلام بصدوره عن الأهل, وأهلية التكلم للعبد غير ساقطة بالإجماع لأنها تثبت بالعقل والعقل لا يختل بالرق وهذا صح توكله وقبلت رواياته في الدين وإخباراته في الديانات نحو الهدايا وطهارة الماء ونجاستها وقبلت شهادته بهلال رمضان.
وكذلك أي وكما أن الأهلية غير ساقطة بالرق الذمة مملوكة للعبد لا للمولى لأن الذمة عبارة عن وصف في الشخص يصير به أهلا للإيجاب والاستيجاب كما بينا ومن هذا الوجه لم يصر مملوكا للمولى ولهذا بقي مخاطبا بحقوق الله تعالى ويصح إقراره بالحدود والقصاص وكذا قابل للدين حتى يؤاخذ به بعد العتق ولو أراد المولى أن يتصرف في ذمته بأن يشتري شيئا على أن الثمن في ذمته لا يقدر عليه ولو كانت مملوكة للمولى لقدر عليه فثبت أنها مملوكة للعبد وقابلة للدين بدليل ثبوت دين الاستهلاك في ذمته وبدليل أن العبد المحجور لو أقر على نفسه بالدين صح الإقرار ووجب الدين في ذمته حتى لو كفل به إنسان يصح ويؤاخذ به في الحال وإن كان العبد يؤاخذ به بعد العتق وهذا لأن صلاحية الذمة لالتزام الديون من كرامات البشر وبالرق لم يخرج من أن يكون من البشر.
"فإن قيل" لا نسلم أن الذمة مملوكة للعبد بل هي مملوكة للمولى بدليل أنه لو أقر على العبد بدين صح إقراره ولو لم تكن مملوكة له لما صح إقراره بالدين عليه كما لم يصح على الأجنبي "قلنا" صحة إقراره باعتبار أن مالية العبد مملوكة له لا باعتبار ملكه في ذمته بدليل أنه يصح إقراره بقدر مالية الرقبة ولو كانت صحته باعتبار الملك في الذمة وهي متسعة لكان ينبغي أن يصح الإقرار بما زاد على المالية وإن كثر كما لو أقر على نفسه. وهو كالوارث يقر بالدين على مورثه يصح وإن لم تكن ذمته مملوكة له لأن موجب إقراره استحقاق التركة من يده كذلك هاهنا موجب هذا الإقرار استحقاق مالية الرقبة والكسب فيصح ولا يقال إن العبد يؤاخذ بهذا الدين بعد العتق ولو لم يكن الدين واجبا في ذمته بإقرار المولى لما أخذ بعد العتق لأنا نقول إنما يؤاخذ به بعد العتق لأن مالية رقبته صارت مشغولة بالدين وقد أتلفها المولى بالإعتاق فيضمن ويضمن العبد أيضا لأن منفعة الإعتاق سلمت له وصارت المالية المشغولة مصروفة إليه فيلزمه السعاية كالراهن المعسر إذا أعتق عبده المرهون يلزم العبد السعاية وإن لم يكن عليه دين لأنه صرف إليه مالية رقبة مشغولة بالرهن كذلك هاهنا.(4/413)
للحاجة كان أهلا للقضاء وأدنى طرقه اليد وهو الحكم الأصلي لأن الملك ضرب قدرة شرع للضرورة. وكذلك ملك اليد بنفسه غير مال ألا يرى أن الحيوان يثبت
ـــــــ
ثم ذكر الشيخ مقدمة أخرى فقال وإذا صار أي كان العبد أهلا للحاجة فإنه مع الرق أهل لها كان أهلا لقضاء الحاجة أيضا إذ لو لم يكن أهلا له لوقع في الحرج وهو مدفوع وأدنى طرق قضاء الحاجة ملك اليد كما أن أعلاها ملك الرقبة مع ملك اليد وهذا الكلام جواب عما قالوا إنه بالرق خرج من أهلية التصرف لأنه لم يبق أهلا لحكمه وهو الملك فقال إنه باعتبار الحاجة بقي أهلا لملك اليد الذي هو من أحكام التصرف وهو أي ملك اليد الحكم الأصلي للتصرف لأن شرع التصرف لدفع الحاجة وهي تندفع باليد لأن تمكنه من الانتفاع يحصل بها فكان ملك اليد الحكم الأصلي للتصرف وملك العين شرع للتوصل إليه لقطع طمع الأغيار عن العين إذا الملك هو المطلق الحاجز أي المطلق للتصرف للمالك والحاجز للغير عن التصرف في المملوك بدون إذن المالك وهو المراد من قوله ضرب قدرة شرع للضرورة أي لضرورة التوصل إلى المقصود. وتسميته قدرة توسع لأنه الاختصاص المطلق الحاجز كما قلنا إلا أنه لما كان مطلقا للتصرف كان من أسباب القدرة على الانتفاع فلذلك سماه قدرة.
وكذلك أي وكما أن ملك اليد يثبت للعبد للحاجة وملك اليد بنفسه غير مال أيضا فجاز أن يثبت للعبد لأن الرق لا ينافي مالكية غير المال والدليل على أنه ليس بمال أن الحيوان يثبت دينا في الذمة في عقد الكتابة بمقابلة ملك اليد كما يثبت في النكاح والطلاق ولو كان ملك اليد مالا لما ثبت الحيوان دينا في الذمة بمقابلته كما لا يثبت في البيع لأن الحيوان لا يثبت دينا في الذمة بمقابلة المال لما عرف ولا يلزم عليه أن الحيوان يثبت دينا في الذمة في النكاح مع أن المملوك بالنكاح وهو منافع البضع في حكم المال لأنا لا نسلم أن المملوك بالنكاح مال. ألا ترى أنه لا يضمن بالإتلاف بقتل المرأة وبالشهادة الكاذبة على الطلاق ولئن سلمنا أنه في حكم الأموال فذلك أمر حكمي يظهر أثره في بعض المسائل لا في المنع من ثبوت الحيوان دينا في الذمة فيه فإنه ليس بمال حقيقة على أنا نلزم الخصم على أصله وعنده المملوك بالنكاح ليس بمال حقيقة ولا حكما وإذا كان كذلك أي إذا كان الأمر كما بينا من بقاء أهلية العبد للتكلم وكون الذمة مملوكة له وكونه أهلا لملك اليد الذي هو الحكم الأصلي للتصرف كان العبد أصلا في حكم العقد الذي هو محكم أي أمر أصلي مقصود منه وهو منه وهو ملك اليد والمولى يخلف العبد فيما هو من الزوائد وهو ملك الرقبة لعدم أهليته. فالحاصل أن للتصرف حكمين أحدهما مقصود أصلي وهو ملك اليد والآخر أمر زائد شرع وسيلة إلى الأول وهو ملك الرقبة والعبد إن لم(4/414)
دينا في الذمة في الكتابة وإذا كان كذلك كان العبد أصلا في حكم العقر الذي
ـــــــ
يبق أهلا للثاني فهو أهل لما هو مقصود منهما وهو ملك اليد فكان في التصرف عاملا لنفسه لثبوت حكمه الأصلي له وكان تصرفه كشراء رب المال شيئا من مال المضاربة فإنه يصح لإفادته ملك اليد واعلم أن لمشايخنا رحمهم الله في ثبوت الملك للمولى طريقين أحدهما أن ملك اليد بالتصرف يقع للعبد وملك الرقبة للمولى والعبد مع هذا عامل لنفسه لأن عمل الإنسان متى دار بين أن يقع له وبين أن يقع لغيره كان واقعا له كالمكاتب لما كان كسبه للسيد من وجه ولنفسه من وجه لم يجعل نائبا عن المولى بل هو عامل لنفسه فكذا هذا. والثاني أن ملك الرقبة لا يقع للمولى حكما للتصرف لأنه ينعقد للعبد فيكون حكمه له لأنه نتيجة تصرفه إلا أنه لما لم يبق أهلا للملك تعذر الإيقاع له فاستحقه المولى لا بالتصرف ولكن بطريق الخلافة عن العبد لأنه أقرب الناس إليه لقيام ملكه لا الرقبة ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله دين العبد يمنع ملك المولى في كسبه, المولى إنما يتلقى الملك من جهة العبد كالوارث مع المورث فثبت أن المولى يملك إكسابه بسبب ملكه في رقبته لا بتصرف العبد. وإلى هذا الطريق أشار الشيخ بقوله والمولى يخلفه فيما هو من الزوائد ولا يقال لو كان العبد متصرفا لنفسه وكان حكم تصرفه واقعا له لكان ينبغي أن ينفذ تصرف العبد المحجور فيما إذا اشترى ثم أعتق لسقوط حق المولى. كما لو تزوج ثم أعتق وكما لو باع الراهن الرهن ثم افتكه ينفذ البيع لسقوط حق المرتهن ولما لم ينعقد هاهنا علم أنه نائب عن المولى في التصرف لأنا نقول العبد وإن كان متصرفا لنفسه يقع ملك الرقبة لمولاه فلما انعقد التصرف موجبا للملك للمولى لا يمكن تنفيذه على العبد بعد العتق عند زوال المانع من ثبوت الملك له لأن التصرف متى وقع لجهة لا ينفذ لجهة أخرى بخلاف النكاح لأنه ينفذ على الوجه الذي توقف إذ الملك واقع للعبد فيه وكذا في الرهن يكون الملك في الثمن للراهن فيمكن تنفيذهما عند زوال المانع من غير تغيير.
فثبت بما ذكرنا أن العبد المأذون يتصرف لنفسه وأن حكمه الأصلي يثبت له كالمكاتب إلا أنه قبل الإذن كان ممنوعا عن التصرف لحق المولى مع قيام الأهلية لأن الدين إذا وجب في الذمة يتعلق بمالية الرقبة والكسب استيفاء فإذا أذن فقد رضي بسقوط حقه فكان الإذن فكا للحجر كالكتابة فلا يقبل التخصيص بنوع دون نوع ثم فك الحجر بهذين السببين بمنزلة الفك العام الذي يحصل بالعتق وذلك لا يختص بنوع دون نوع سواء أطلق أو صرح بالنهي عن سائر الأنواع لأن هذا التقييد تصرف في غير ملكه فكذا هاهنا.(4/415)
هو محكم والمولى يخلفه فيما هو من الزوائد وهو الملك ولذلك جعلنا العبد في حكم الملك وفي حكم بقاء الإذن كالوكيل في مسائل مرض
ـــــــ
قوله: "ولذلك" أي ولأن الملك لا يثبت للعبد بل المولى يخلفه فيه ولأن الإذن غير لازم جعلنا العبد في حكم الملك وفي حكم بقاء الإذن كالوكيل وإن كان هو أصيلا في نفس التصرف وثبوت ملك اليد لأنه لما لم يكن أهلا لملك الرقبة حتى وقع الملك للمولى كان هو كالوكيل والمولى كالموكل حيث ثبت الملك له ولما كان للمولى حق الحجر عليه بعد الإذن بدون رضاه كما كان للموكل عزل الوكيل بدون رضاه كان العبد المأذون في حكم بقاء الإذن بمنزلة الوكيل أيضا بخلاف المكاتب فإن المولى لا يملك عزله بدون تعجيزه نفسه فلم يمكن جعله بمنزلة الوكيل في حكم بقاء الكتابة. وقوله في مسائل مرض المولى متعلق بقوله في حكم الملك, وقوله وعامة مسائل المأذون أو أكثرها متعلق ببقاء الإذن أي جعلناه في حكم الملك في مسائل مرض المولى وفي حق بقاء الإذن في عامة مسائل المأذون كالوكيل.
فمن أمثلة القسم الأول ما إذا أذن لعبده في التجارة ثم مرض المولى فباع العبد بعض ما كان في يده من تجارته أو اشترى شيئا فحابى في ذلك بغبن فاحش أو يسير ثم مات المولى فجميع ما فعل العبد جائز عند أبي حنيفة رحمه الله من ثلث مال المولى لأن الملك لما كان واقعا للمولى كما كان واقعا للموكل في تصرف الوكيل يتغير تصرف العبد بمرض المولى لتعلق حق ورثته بملكه كما يتغير تصرف الوكيل بمرض الموكل وصار كما إذا باشره المولى بنفسه لاستدامته الإذن بعد مرضه فيعتبر من الثلث. وكذا الحكم عندهما في المحاباة بغبن يسير فأما المحاباة بغبن فاحش فباطلة وإن كانت تخرج من ثلث المال لأن المأذون عندهما لا يملك هذه المحاباة حتى لو باشرها في صحة المولى كانت باطلة ولو كان الذي حاباه بعض ورثة المولى كانت المحاباة باطلة لأن مباشرة العبد كمباشرة المولى المريض لا يملك المحاباة في شيء مع وارثه ولو أقر المأذون في مرض مولاه بدين أو غصب أو وديعة قائمة أو مستهلكة أو غيرها من ديون التجارة وعلى المولى دين ثبت في صحته بدئ بدين الصحة من تركته ومن رقبة العبد وكسبه فإن فضل من رقبته وكسبه شيء فهو للذي أقر له العبد لأن رقبته وكسبه ملك المولى فإقراره فيه كإقرار المولى ولو أقر المولى كان دين الصحة مقدما فهذا مثله.
ففي هذه المسائل وأمثالها جعل المأذون فيما يرجع إلى الملك والمولى بمنزلة المولى الموكل حتى اعتبر مرضه في هذه التصرفات ولم يعتبر صحة العبد ومن أمثلة(4/416)
المولى وعامة مسائل المأذون. والرق لا يؤثر في عصمة الدم وإنما يؤثر في قيمته وإنما العصمة بالإيمان ودار الإيمان والعبد فيه مثل الحر ولذلك قتل الحر بالعبد
ـــــــ
القسم الثاني أن العبد المأذون إذا أذن لعبده في التجارة فحجر المولى الأول لا ينحجر الثاني كالوكيل إذا وكل وقد كان قال له الموكل اعمل برأيك لا ينعزل بعزل الأول ولو مات المولى صار محجورين كما لو مات الموكل صار معزولين ويشترط العلم للمأذون بالحجر لصحته كما يشترط علم الوكيل بالعزل ولو أخرج المأذون من ملكه لم تبق للعبد ولاية أن يقبض شيئا مما كان على غريمه وقت الإذن كالوكيل بالبيع ليس له ولاية قبض الثمن بعد العزل ولو أذن لعبده في التجارة ثم جن المولى جنونا مطبقا أو ارتد والعياذ بالله وقتل فيه لو لحق بدار الحرب صار العبد محجورا كالوكيل يصير معزولا ففي هذه المسائل ونظائرها جعل العبد كالوكيل في حال بقاء الإذن.
قوله: "والرق لا يؤثر في عصمة الدم" إلى آخره عصمة الدم وهي حرمة تعرضه بالإتلاف حقا له ولصاحب الشرع على نوعين عندنا مؤثمة وهي التي توجب الإثم على تقدير التعرض للدم ولا توجب الضمان أصلا ومقومة وهي التي توجب الإثم والضمان جميعا على تقدير التعرض ثم إن كان التعرض عمدا فالضمان هو القصاص وإن كان خطأ فالدية والإثم يرتفع في العصمتين بالكفارة إن كان القتل خطأ وبالتوبة والاستغفار إن كان عمدا فالرق لا يؤثر في عصمة الدم مؤثمة كانت أو مقومة بالإسقاط والتنقيص وإنما في قيمة أي قيمة الدم جواب عما يقال كيف لا يؤثر الرق في عصمة الدم وقد انتقصت قيمته الواجبة بسبب العصمة بالرق فقال أثره في تنقيص القيمة لما بينا لا في العصمة لأن العصمة المؤثمة تثبت بالإيمان والمقومة تثبت بدار الإيمان أي بالإحراز بها والعبد فيه أي في كل واحد من الأمرين مثل الحر بلا نقصان أما في الإيمان فظاهر وأما في الإحراز بالدار فلأنه يتم بعد وجوده حقيقة بما يوجب القرار في هذه الدار بأن أسلم لو التزم عقد الذمة والرق مما يوجب ذلك لأن الإنسان بالرق يصير تبعا للمولى فإذا كان المولى محرزا بدار الإسلام يصير العبد محرزا بها أيضا كسائر أمواله ولذلك أي ولكون العبد مماثلا للحر في العصمة يقتل الحر بالعبد قصاصا عندنا. وقال الشافعي رحمه الله لا يقتل الحر به لانتفاء المماثلة بينهما فيما يبتنى عليه القصاص وهو النفسية لأنها عبارة عن ذات موصوفة بأنواع الكرامات التي اختص بها وصارت بها أشرف من سائر الحيوان وقد تمكن في العبد معنى المالية التي تخل بتلك الكرامات فاختلت النفسية بمجاوزة المالية فكان العبد في مقابلة الحر دونه في النفسية فالحر نفيس من كل وجه والعبد نفس ومال فامتنع القصاص والدليل في انتقاص النفسية انتقاص البدل ولا يلزم عليه قتل الذكر(4/417)
قصاصا. وأوجب الرق نقصا في الجهاد لما قلنا في الحج أن الاستطاعة للجهاد
ـــــــ
بالأنثى مع أنها دون الذكر في استحقاق الكرامات ولهذا انتقص بدل دمها عن بدل دم الرجل لأن ذلك ثبت بالنص على خلاف القياس ولما ما ذكرنا أن نفس العبد معصومة على سبيل الكمال لمساواته الحر في سبب العصمة. والدليل على كمال العصمة وجوب القصاص بقتله إذا كان القاتل عبدا ولو اختلت العصمة لما وجب القصاص بقتله أصلا لأن ذلك يوجب شبهة الإباحة ولا يجب القصاص مع الشبهة, ومجاورة المالية لا تخل بالنفسية والعصمة لأن الوصف الذي يبتنى عليه القصاص وتثبت لأجله العصمة كونه متحملا أمانة الله عز وجل إذ التحمل والأداء لا يمكن إلا بالبقاء والبقاء لا يتحقق بدون العصمة وهذا وصف أصلي لا ينفك عنه وما عداه من الحرية والمالكية والعقل صفات زائدة أثبتت لتكميل الوصف المطلوب ولا تعلق للقصاص بها وقد وجدت المساواة هاهنا في المعنى الأصلي يبتنى عليه القصاص وكانت العصمة لأجله فلا وجه لمنع القصاص فأما نقصان البدل فلنقصان الأوصاف الزائدة فهي معتبرة في تنقيص البدل وتكميله فأما حق القصاص فلا بدليل جريان القصاص بين الذكر والأنثى وثبوت التفاوت بينهما في البدل يوضحه أن العبد لو قتل عبدا ثم أعتق يستوفى القصاص منه ولو لم يتساوى الحر والعبد في المعنى الموجب للقصاص لمنع العتق عن الاستيفاء إذ المانع قبل الاستيفاء بمنزلة المانع حالة الوجوب.
قوله: "وأوجب الرق نقصا في الجهاد" لا شبهة في أن الرق لا يوجب خللا في قوى البدن حسا لكن القدرة على نوعين قدرة بالمال وقدرة بالبدن والرق كما ينافي مالكية المال ينافي مالكية منافع البدن لأنها تبع للبدن لقيامها به والبدن ملك المولى وملك الأصل علة لملك التبع فكانت المنافع ملكا أيضا تبعا للبدن غير أن الشرع استثنى منافع بدنه عن ملك المولى في بعض العبادات كالصلاة والصوم نظرا للعبد ولم يستثن في البعض نظرا للمولى كالحج والجهاد فلهذا لا يحل له القتال بغير إذن المولى بالإجماع ولذلك أي ولأن الرق أوجب نقصا فيه قلنا لا يستوجب العقد السهم الكامل من الغنيمة بحال وهو مذهب العامة لأنه إن حضر ولم يقاتل لا يكون له شيء لأن مولاه التزم مؤنته للخدمة لا للقتال به فكان كالتاجر وإن قاتل بإذن مولاه أو بغير إذنه يرضخ له ولا يسهم وعند أهل الشام يسهم للعبد والصبي والمرأة لأنه عليه السلام أسهم يوم خيبر للنساء والصبيان والعبد وتمسكت العامة بحديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه أنه عليه السلام كان يرضخ للمماليك ولا يسهم لهم وبأن العبد غير مجاهد بنفسه فإن للمولى أن يمنعه من الخروج والقتال ولا يستوي بينه وبين الحر الذي هو أهل للجهاد بنفسه ولكن يرضخ له إذا قاتل لمعنى التحريض.(4/418)
والحج غير مستثناة على الولي ولذلك قلنا لا يستوجب السهم الكامل وانقطعت الولايات كلها بالرق لأنه عجز ولذلك بطل أمانه عند أبي حنيفة وأبي يوسف
ـــــــ
فإن قيل أليس أن الإمام إذا نفل عاما بأن قال من قتل قتيلا فله سلبه فإنه يستوي في استحقاق السلب بين الحر والعبد وربما كان سلب قتيله أكثر من سهم الحر فلم لا يجوز أن يستوي بينهما في استحقاق السهم قلنا لأن استحقاق السلب بعد التنفيل إما أن يكون بالقتل أو بالإيجاب من الإمام ولا تفاوت بينهما في ذلك بخلاف استحقاق الغنيمة فإنه باعتبار معنى الكرامة والعبد أنقص حالا في أهلية الكرامات من الحر ألا يرى أن في الاستحقاق في التنفيل يستوي بين الفارس والراجل ولا يدل ذلك على أنه يجوز التسوية بينهما في استحقاق الغنيمة وما تمسكوا به من الحديث محمول على الرضخ لما روي عن عمير مولى آبي اللحم أنه قال شهدت خيبر وأنا مملوك فلم يسهم لي رسول الله صلى الله عليه وسلم1 كذا في السير الكبير والمبسوط فتبين بما ذكرنا أن ما ذكر في بعض شروح المختصر أن المحجور هو الذي يستوجب الرضخ فأما المأذون له في القتال فيستوجب السهم الكامل لالتحاقه بالحر بالإذن وهم.
قوله: "وانقطعت الولايات" متصل بقوله مثل الذمة والحل والولاية فبين الذمة والحل ثم شرع في بيان الولاية يعني لا تثبت الولاية المتعدية مثل ولاية الشهادة والقضاء والتزويج وغيرها للعبد لأنها تنبئ عن القدرة الحكمية إذ الولاية تنفيذ الأمر على الغير شاء أو أبى والرق عجز حكمي فينافي الولاية كما ينافي مالكية المال ثم الأصل في الولايات ولاية المرء على نفسه ثم التعدي منه إلى غيره عند وجود شرط التعدي ولا ولاية للعبد على نفسه فكيف تتعدى إلى غيره ولذلك أي ولانقطاع الولايات كلها بالرق بطل أمان العبد المحجور عليه عن القتال عند أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أبي يوسف. وعند محمد والشافعي والرواية الأخرى عن أبي يوسف رحمهم الله صح أمانة لأنه مسلم من أهل نصرة الدين بما يملكه والإيمان نصرة الدين بالقول فإنه شرع لمنفعة تعود إلى المسلمين وهي دفع شر الكفار عنهم والنصرة بالقول مملوكة له إذ ليس فيها إبطال حق المولى بوجه فكان العبد فيها مثل الحر بخلاف القتال بالنفس فإنه نصرة بما لا يملكه لأن فيه إبطال حق المولى عن منافعه وتعريض ماليته للهلاك فلا يملكه العبد ولأنه بالإيمان يلتزم حرمة التعرض لهم في نفوسهم وأموالهم ثم يتعدى ذلك إلى غيره فصار كشهادته على هلال
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في السير حديث رقم 1557 وأبو داود في الجهاد حديث رقم 2730 وابن ماجه في الجهاد حديث رقم 2855 ولإمام أحمد في المسند 5/232.(4/419)
رحمهما الله لأنه ينصرف على الناس ابتداء. ولأنه غير مالك للجهاد أصلا وإذا كان مأذونا بالجهاد لم يصر أهلا للولاية لكن الأمان بالإذن يخرج عن أقسام
ـــــــ
رمضان لأنه يملك عقد الذمة فيملك الإيمان لأنه أقوى من عقد الذمة واحتج أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله بأن الإيمان منه تصرف على الغير ابتداء فلا يصح وإن لم يكن فيه ضرر للمولى كالشهادة وذلك لأنه إلزام على الغير من غير أن يلزمه شيء لأنه لا حق له في أموال الناس ولا في أنفسهم اغتناما واسترقاقا حتى لو قاتل لا يملك الرضخ بل يملكه مولاه وليس له حق القتل أيضا لأنه ممنوع عنه لحق المولى شرعا. وإذا ثبت أنه لا حق له تبين أن إيمانه تصرف على الغير ابتداء بطريق الولاية ولا ولاية على الغير لأنها إنما تثبت إذا كان كامل الولاية في نفسه والكمال في حقه لا يثبت إلا بالحرية فلذلك لا يصح إيمانه وبأنه غير مالك للجهاد أصلا يعني أن الإيمان من توابع القتال والعبد لا يملك الجهاد لأنه يكون بالنفس أو بالمال ونفسه مملوكة لغيره وليس هو من أهل ملك المال فلا يملك الإيمان كالذمي والصبي والمجنون بيانه أن الإيمان وإن كان ترك القتال صورة لكنه من جملة الجهاد معنى لأنه قد تتفق حالة يكون بالمسلمين ضعف فتكون المصلحة في الإيمان ليستعدوا للجهاد بعد والاستعداد للجهاد من جملته وتوابعه ولأن المقصود دفع شر الكفار وإعزاز الدين وبالإيمان يحصل هذا المقصود كما يحصل بالجهاد وإذا ثبت أنه تبع وهو لا يملك الأصل وهو الجهاد فلا يملك ما هو من توابعه لأن عدم الأصل بأي علة كانت يدل على عدم التابع لأن وجود التبع بوجود الأصل لا بعلة الأصل ولا معنى لما قالوا إنه بالإيمان التزم حرمة التعرض لهم في نفوسهم لأنه إنما يكون كذلك إذا كان متمكنا من الجهاد فإذا لم يكن متمكنا منه كان ملزما غيره ابتداء لا ملتزما وليس للعبد هذه الولاية. فأما عقد الذمة فيتمحض منفعة للمسلمين لأن الكفار إذا طلبوا ذلك يفترض على الإمام إجابتهم إليه فيصح من العبد كقبول الهبة والصدقة أما الإيمان فمتردد بين المنفعة والضرر ولهذا لا يفترض إجابة الكفار إليه إذا طلبوا ذلك وفيه إبطال حق المسلمين في الاستغنام والاسترقاق فلا يملكه ألا ترى أن التصرف الذي يوهم الضرر في حق المولى خاصة كالبيع والشراء لا يملكه العبد بنفسه فما فيه إلحاق الضرر بالمسلمين أولى أن لا يملكه ويلزم على ما ذكرنا صحة إيمان العبد المأذون له في القتال بالإجماع فأجاب وقال وإذا كان العبد مأذونا له بالجهاد لم يصر بالإذن أهلا للولاية لبقاء المنافي وهو الرق فينبغي أن لا يصح إيمانه بعد الإذن كما لا يصح شهادته وقضاؤه وجميع ما يتعلق بالولاية لكنه إنما صح لأن الأمان أي الإيمان بسبب الإذن في الجهاد يخرج عن أقسام الولاية باعتبار أن المأذون له في الجهاد صار شريكا في الغنيمة من حيث إنه استحق رضخا فيها(4/420)
الولاية من قبل أنه صار شريكا في الغنيمة فلزمه ثم تعدى فلم يكن من باب
ـــــــ
وإذا آمن فقد أسقط حق نفسه في الغنيمة فلزمه حكم الإيمان ثم تعدى إلى الغير لعدم تجزئه فلم يكن هذا الإيمان من باب الولاية فيصح مثل شهادته برؤية هلال رمضان حيث تصح لأنها ليست من باب الولاية بل هي التزام الصوم على نفسه أولا ثم تعدى الحكم إلى غيره فإن قيل العبد المحجور عن القتال مثل المأذون له استحقاق الرضخ إذا قاتل فينبغي أن يصح إيمانه لشركته في الغنيمة أيضا قلنا قد ذكر في السير الكبير أن العبد إذا قاتل بغير إذن مولاه في القياس لا شيء له لأنه ليس من أهل القتال وإنما يصير أهلا له عند إذن المولى فيكون حاله كحال الحربي المستأمن إن قاتل بإذن الإمام يستحق الرضخ وإلا فلا. وفي الاستحسان يرضخ له لأنه غير محجور عن الاكتساب وعما يتمحض منفعة فيكون هو كالمأذون فيه من جهة المولى دلالة لأنه إنما حجر عن القتال لدفع الضرر عن المولى لأنه لا يكون مشغولا بخدمة المولى حالة القتال وربما يقتل فإذا فرغ عن القتال سالما وأصاب الغنيمة وزال الضرر يثبت الإذن منه دلالة وهو نظير القياس والاستحسان في العبد المحجور إذا آجر نفسه وسلم من العمل وإذا تقرر هذا تبين أنه لم يكن شريكا في الغنيمة حين آمنهم أما على وجه القياس فظاهر وكذا على وجه الاستحسان لأن الشركة إنما تثبت له بعد الفراغ من القتال لا قبله وحين ثبتت الشركة لم يبق وقت الإيمان وحين آمنهم لم تكن الشركة ثابتة فيكون الإيمان منه تعريضا لحق المسلمين بالإبطال ابتداء لأن حقهم حين آمن ثابت بالنظر إلى السبب فكان من باب الولاية وأجاب الإمام البرغري رحمه الله عنه بأن الإيمان إنما شرع لكونه وسيلة إلى القتال في المستقبل بالاستعداد كما ذكرنا فيملكه من يملك القتال في المستقبل وهذا العبد الذي قاتل بغير إذن المولى واستحق الرضخ محجور عن القتال في المستقبل لأنا حكمنا بصحة قتاله ورفعنا الحجر عنه في الماضي لا في المستقبل فلا يملك الإيمان وهو مثل العبد المحجور إذا اشترى شيئا وباعه وربح ربحا كثيرا كان تصرفه نافذا والربح سالما للمولى لأن تنفيذ تصرفه نفع محض في هذه الحالة ولكنه لو تبرع بشيء لا يصح لأن التبرع إنما صار مشروعا في حقه لكونه وسيلة إلى التجارة في المستقبل والحجر في المستقبل قائم فلا يصح التبرع منه.
فإن قيل كيف تثبت الشركة للعبد في الغنيمة وقد ثبت أن الرق ينافي مالكية المال بل الشركة إنما تثبت لمولاه لأن رضخ العبد له لا للعبد. والدليل عليه ما ذكر في السير الكبير أن العبد المقاتل إذا أعتق بعدما أصابوا غنائم فإنه يرضخ لمولاه منها ولو أسلم الذمي المقاتل بعد إصابة الغنيمة فإنه يسهم له لأن بإسلام الذمي لا يتبدل المستحق(4/421)
الولاية مثل شهادته بهلال رمضان. وعلى هذا الأصل صح إقراره بالحدود والقصاص وصح بالسرقة المستهلكة وبالقائمة صح من المأذون وفي المحجور
ـــــــ
فيمكن أن يجعل الإسلام كالموجود عند ابتداء السبب ويعتق العبد بتبدل المستحق لأن الرضخ يكون لمولاه مستحقا بالعبد كما يكون السهم له مستحقا بالفرس وبعد العتق الاستحقاق للعبد فلا يمكن أن يجعل العتق كالموجود عند ابتداء السبب لأن ذلك يبطل استحقاق المولى أصلا فتبين أنه لا شركة للعبد أصلا في الغنيمة فينبغي أن لا يصح إيمانه وإن كان مأذونا في الجهاد لأنه يصير إلزاما على الغير ابتداء.
قلنا الاستحقاق ثابت للعبد لأنه إنسان مخاطب ولكن المولى يخلفه في ملك المستحق كما يخلفه في ملك سائر أكسابه فيكون الشركة ثابتة نظرا إلى السبب بخلاف الفرس فإنه ليس من أهل الاستحقاق أصلا والدليل عليه أن العبد المقاتل بإذن مولاه لو مات قبل الإحراز والقسمة لا شيء لمولاه اعتبارا بموت من له سهم ولو مات الفرس في هذه الحالة أو بعدما جاوز الدرب لا يبطل سهم الفارس والله أعلم.
قوله: "وعلى هذا الأصل" وهو أن الرق لا ينافي مالكية غير المال من الدم والحياة صح إقرار العبد محجورا كان أو مأذونا بالحدود والقصاص أي بما يوجب الحدود والقصاص عليه لأنه لما كان مبقى على أصل الحرية في حق الدم والحياة حتى لم يملك المولى إراقة دمه وإتلاف حياته ولم يصح إقرار المولى عليه بالحدود والقصاص كان إقراره ملاقيا حق نفسه قصدا فيصح كما يصح من الحر ولا يمنع صحته لزوم إتلاف ماليته التي هي حق المولى لأنه بطريق التبع كما بينا في الأمان بخلاف إقرار العبد المحجور بالمال لا يصح في حق المولى لأنه يلاقي حق الغير وهو المالية قصدا فيمنع الصحة ضرورة وصح إقرار العبد بالسرقة المستهلكة مأذونا كان أو محجورا عندنا حتى وجب القطع ولم يجب ضمان المال. وقال زفر رحمه الله لا قطع عليه ويؤخذ بضمان المال في الحال إن كان مأذونا وبعد العتق إن كان محجورا لأن إقراره في حق المال يلاقي حقه إن كان مأذونا فإنه يلاقي ذمته وهو منفك الحجر في ذلك فأما في حق القطع فيلاقي نفسه والفك بحكم الإذن لم يتناولها ألا ترى أنه لو أقر بأن نفسه لفلان كان إقراره باطلا فكذا إقراره بما يوجب استحقاق نفسه أو جزءا منها يكون باطلا. وجه قولنا أن وجوب الحد على العبد باعتبار أنه آدمي مخاطب لا باعتبار أنه مال مملوك وهو في هذا المعنى مثل الحر مأذونا كان أو محجورا فإقراره فيما يرجع إلى استحقاق الجزء كإقرار الحر ولهذا لا يملك المولى الإقرار عليه بذلك وما لا يملك المولى على عبده فالعبد فيه ينزل منزلة الحر كالطلاق.
يوضحه أنه لا تهمة في إقراره لأن ما يلحقه من الضرر باستيفاء العقوبة منه فوق ما(4/422)
اختلاف معروف عند أبي حنيفة رحمه الله يصح بهما وعند محمد رحمه الله لا يصح بهما وعند أبي يوسف رحمه الله يصح بالحد دون المال وذلك إذا كذبه المولى. وعلى هذا الأصل قلنا في جنايات العبد خطأ أن رقبته يصير جزاء لأن
ـــــــ
يلحق المولى والإقرار حجة عند انتفاء التهمة وبالقائمة صح من المأذون يعني إذا أقر العبد المأذون بسرقة مال قائم بعينه في يده صح في حق المال بالإجماع فيرد على المسروق منه لأن إقراره في حق المال لا في حق نفسه وهو الكسب لأنه منفك الحجر في ذلك فيصح وفي حق القطع صح عندنا خلافا لزفر رحمه الله لما مر من الوجهين وفي المحجور اختلاف معروف وإذا أقر العبد المحجور بسرقة مال قائم في يده بعينه فعند أبي حنيفة رحمه الله يصح إقراره بهما أي بالحد والمال فيقطع يده ويرد المال على المسروق منه وعند محمد رحمه الله لا يصح بهما فلا يجب القطع ولا الرد على المسروق منه وهو قول زفر رحمه الله أيضا وعند أبي يوسف رحمه الله يصح بالحد دون المال فيقطع يده ويكون المال للمولى وذلك أي الاختلاف المذكور فيما إذا كذبه المولى وقال المال مالي فأما إذا صدقه فإنه يقطع ويرد المال إلى المسروق منه بلا خلاف. وجه قول محمد رحمه الله أن إقرار المحجور عليه باطل لأن كسبه ملك مولاه وما في يده كأنه في يد المولى ألا ترى أنه لو أقر فيه بالغصب لا يصح فكذلك بالسرقة وإذا لم يصح إقراره في حق المال بقي المال على ملك مولاه فلا يمكن أن يقطع في هذا المال لأنه ملك المولى ولا في مال آخر لأنه لم يقر بالسرقة فيه ثم المال أصل في هذا الباب بدليل أن المسروق منه لو قال أبغي المال دون القطع تسمع خصومته وعلى العكس لا تسمع وإن المال يثبت بدون القطع ولا يتصور ثبوت القطع قبل ثبوت المال فإذا لم يصح إقراره فيما هو الأصل لم يصح فيما يبتنى عليه أيضا وجه قول أبي يوسف رحمه الله أنه أقر بشيئين بالقطع وبالمال للمسروق منه وإقراره حجة في حق القطع دون المال فيثبت ما كان إقراره فيه حجة دون الآخر لأن أحد الحكمين ينفصل عن الآخر ألا ترى أنه قد يثبت المال دون القطع كما إذا شهد بالسرقة رجل وامرأتان ويجوز أن يثبت القطع دون المال كما لو أقر بسرقة مال يستهلك.
وجه قول أبي حنيفة رحمه الله أنه لا بد من قبول إقراره في حق القطع لما بينا أنه في ذلك مبقى على أصل الحرية ولأن القطع هو الأصل فإن القاضي يقضي بالقطع إذا ثبت السرقة عنده بالبينة ثم من ضرورة وجوب القطع عليه كون المال مملوكا لغير مولاه لاستحالة أن يقطع العبد في مال هو مملوك لمولاه وبثبوت الشيء يثبت ما كان ضرورته كما لو باع أحد التوأمين فأعتقه المشتري ثم ادعى البائع نسب الذي عنده يثبت(4/423)
العبد ليس من أهل ضمان ما ليس بمال ولكنه صلة إلا أن يشاء المولى الفداء
ـــــــ
نسب الآخر منه ويبطل عتق المشتري فيه للضرورة فهذا مثله كذا في المبسوط.
قوله: "وعلى هذا الأصل" وهو أن الرق ينافي مالكية المال أو أن الرق ينافي كمال الحال في أهلية الكرامات حتى أن ذمته ضعفت برقه بحيث لم تحتمل الدين بنفسها قلنا في جنايات العبد خطأ أن رقبته تصير جزاء أي يصير العبد للمجني عليه جزاء بجنايته والوجوب على المولى دون العبد فيقال للمولى عليك تسليم العبد بالجناية إلى وليها إلا أن يختار الفداء بالأرش فيخير المولى بين الدفع بالجناية كما وجب أو الفداء بالأرش. وقال الشافعي رحمه الله حكم جنايته على الآدمي كحكم جنايته على البهيمة وإتلاف المال فيقال للمولى إما أن تؤدي أو يباع عليك العبد فيكون الوجوب على العبد في الأصل كذا في الأسرار والخلاف يظهر في اتباعه بعد العتق فعنده يؤاخذ بتكميل الأرش بعد العتق وعندنا لا يؤاخذ به هو يقول الأصل في ضمان الجناية وجوبه على الجاني وأوجب الشرع على العاقلة حمالة عنه بطريق المواساة بعذر الخطأ ولا عاقلة للعبد لأن العقل بالقرابة وقد انقطع حكمها بالرق بالإجماع فبقي الضمان عليه فيباع فيه ويستوفى منه بعد العتق فأما وجوب الدفع فغير مشروع في موضع على أن في شرع الدفع تسوية بين قلة الجناية وكثرتها وهي مما يرده القياس ونحن نقول الواجب في باب القتل ضمان هو صلة في جانب من وجب عليه كأنه يهب شيئا مبتدأ لأن كون المتلف غير مال ينافي وجوب الضمان على المتلف وكون الدم مما لا ينبغي أن يهدر يوجب الحق للمتلف عليه فوجب الضمان صلة في جانب المتلف وعوضا في جانب المتلف عليه ولكونه صلة لا تصح الكفالة بالدية كما لا تصح ببدل الكتابة كأنها لم تجب بعد ولا يجب الزكاة فيها إلا بحول بعد القبض كأنها هبة ثم كون هذا الضمان صلة يمنع الوجوب على العبد لأنه ليس بأهل للصلة ولهذا لا يستحق عليه صلة الأقارب ولا يمكن أن يهب شيئا وإذا لم يمكن إيجابه عليه لكونه صلة ولا عاقلة له بالإجماع ليجب عليهم ولا يمكن إهدار الدم جعل الشرع رقبة العبد مقام الأرش حتى لا يكون الاستحقاق على العبد ولا يصير الدم هدرا أيضا إذ الأصل في الدم أن يضمن بقدر الممكن ولأن في ضمان الاستهلاك وجب الضمان في ذمة العبد وإذا تبع فيه صار في المال ذاهبا فيه وقد تعذر اعتبار الوجوب في الذمة هاهنا لكون الواجب صلة فيصار إلى الدفع لأن فيه ذهابه بالجناية وهو مال ضمان الاستهلاك ولهذا لم يختلف الحكم بقلة الجناية وكثرتها لأن ذلك يظهر في حكم الوجوب في الذمة وقد تعذر ذلك هاهنا يصير إلى ذهابه فيه وهذا لا يوجب التفرقة. وقوله ولكنه صلة من تتمة قوله ما ليس بمال والضمير راجع إلى ما وكأنه احترز به عن وجوب المهر في ذمة العبد(4/424)
فيصير عائدا إلى الأصل عند أبي حنيفة رحمه الله حتى لا يبطل بالإفلاس وعندهما يصير بمعنى الحوالة وهذا أصل لا يحصى فروعه. وأما المرض فإنه لا
ـــــــ
فإنه يجب مقابلا بما ليس بمال وهو ملك النكاح أو منافع البضع إلا أنه يجب عوضا عما حصل له من الملك أو المنافع المستوفاة فلا يكون صلة والضمان هاهنا يجب عما ليس بمال من غير أن يدخل في ملكه شيء فكان صلة.
قوله: "إلا أن يختار المولى الفداء" متصل بقوله يصير جزاء أي يصير رقبته جزاء في جميع الأحوال إلا حال مشية المولى الفداء فيصير أي الواجب عائدا إلى الأصل وهو الأرش فإنه هو الأصل في الخطأ عنده والنقل إلى الدفع لعارض الرق فإذا أعاد الأمر إلى الأصل لا يبطل بالإفلاس وعندهما يصير الواجب بمعنى الحوالة أي بمعنى الحال به على المولى أو يصير التزامه الفداء بمعنى الحوالة كان العبد أحال بالواجب على المولى فيعود بالإفلاس إلى رقبته كما في الحوالة الحقيقة وحاصل المسألة أن المولى إذا اختار الفداء وليس عنده ما يؤديه إلى ولي الجناية كان الأرش دينا في ذمته والعبد عبده عند أبي حنيفة رحمه الله لا سبيل لغيره عليه. وعندهما إن أدى الدية مكانه وإلا دفع العبد إلى الأولياء إلا إن رضوا بأن يبيعوه بالدية فلم يكن لهم بعد ذلك أن يرجعوا على العبد وجه قولهما أن نفس العبد صار حقا لولي الجناية إلا أن المولى يتمكن من تحويل حقهم من العبد إلى الأرش باختياره الفداء فإذا أعطاهم الأرش كان هذا تحويلا لحقهم من محل إلى محل فيه وفاء لحقهم فيكون صحيحا منه وإذا كان مفلسا كان هذا إبطالا لحقهم لا تحويلا إلى محل يعد له فيكون ذلك باطلا من المولى وهذا لأن الخيار للمولى بطريق النظر من الشرع له إنما ثبت على وجه لا يتضرر به صاحب الحق فإذا آل إلى الضرر كان باطلا كما في الحوالة فإن انتقال الدين إلى ذمة المحتال عليه ثابت بشرط أن يسلم لصاحب الحق فإذا لم يسلم عاد إلى المحيل كما كان ولأن الأصل أن يكون الجاني هو المصروف إلى جنايته كما في العمد وإنما صير إلى الأرش في الخطأ إذا كان الجاني حرا لتعذر الدفع فكان اختيار المولى الفداء نقلا من الأصل إلى العارض فكان بمعنى الحوالة كان صاحب الحق أحيل على المولى فإذا توى ما عليه بإفلاسه يعود إلى الأصل كما في سائر الحوالات وأبو حنيفة رحمه الله يقول في جناية العبد قد خير المولى بين الدفع والفداء والمخير بين شيئين إذا اختار أحدهما تعين ذلك واجبا من الأصل كالمكفر إذا اختار أحد الأنواع الثلاثة فهاهنا باختياره الفداء تبين أن الواجب هو الدية في ذمة المولى من الأصل وإن العبد فارغ من الجناية فلا يكون لأولياء الجناية عليه سبيل ولأن الموجب الأصلي في القتل الخطأ هو الأرش فإنه هو الثابت بالنص وهو قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ(4/425)
ينافي أهلية الحكم ولا أهلية العبارة ولكنه لما كان سبب الموت والموت عجز خالص كان المرض من أسباب العجز ولما كان الموت علة الخلافة كان المرض
ـــــــ
وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92]. وفي العبد إنما صير إلى الدفع ضرورة أنه ليس بأهل للصلة فلما ارتفعت الضرورة باختيار المولى الفداء عاد الأمر إلى الأصل فلا يبطل بالإفلاس وقيل هذه المسألة مبنية في التحقيق على اختلافهم في التفليس فعنده لما لم يكن التفليس معتبرا لأن المال غاد ورائح كان هذا التصرف من المولى تحويلا لحق الأولياء إلى ذمته لا إبطالا وعندهما لما كان التفليس معتبرا والمال في ذمة المفلس كان تاويا كان هذا الاختيار من المولى إبطالا لحق الأولياء كذا في المبسوط وغيره وهذا أي الرق بجميع أحكامه التي بينا أصل لا يحصى فروعه.
"المرض"
قوله: "وأما المرض فكذا" قيل المرض حالة للبدن خارجة عن المجرى الطبيعي وعبارة بعضهم هو هيئة للحيوان يزول بها اعتدال الطبيعة والمذكور في بعض كتب الطب أن المرض هيئة غير طبيعية في بدن الإنسان يجب عنها بالذات آفة في الفعل وآفة الفعل ثلاث التغير والنقصان والبطلان فالتغير أن يتخيل صورا لا وجود لها خارجا والنقصان أن يضعف بصره مثلا والبطلان العمى وأنه لا ينافي أهلية الحكم أي ثبوت الحكم ووجوبه على الإطلاق سواء كان من حقوق الله تعالى كالصلاة والزكاة أو من حقوق العباد كالقصاص ونفقة الأزواج والأولاد والعبد. ولا أهلية العبارة لأنه لا يخل بالعقل ولا يمنعه عن استعماله حتى صح نكاح المريض وطلاقه وإسلامه وانعقد تصرفاته وجميع ما يتعلق بالعبارة ولما لم يكن المرض منافيا للأهليتين كان ينبغي أن يجب على المريض العبادات كاملة كما تجب على الصحيح وأن لا يتعلق بماله حق الغير ولا يثبت الحجر عليه بسببه لكنه لما كان سبب الموت بواسطة ترادف الآلام والموت عجز خالص حقيقة وحكما ليس فيه يشوب القدرة بوجه كان المرض من أسباب العجز أي موجبا له بزوال القوة وانتقاصها ولما كان الموت علة لخلافة الورثة والغرماء في المال لأن بالموت يبطل أهلية الملك فيخلفه أقرب الناس إليه والذمة تخرب بالموت فيصير المال الذي هو محل قضاء الدين مشغولا بالدين فيخلفه الغريم في المال كان المرض من أسباب تعلق حق الوارث والغريم بماله في الحال لأن الحكم يثبت بقدر دليله ولأن التعلق لما ثبت بالموت حقيقة يستند هذا الحكم إلى أول المرض لأن الحكم يستند إلى أول السبب كمن جرح رجلا خطأ ثم كفر قبل السراية ثم سرى يصح التكفير لأن وجوب التكفير حكم(4/426)
من أسباب تعلق حق الوارث والغريم بما له ولما كان عجزا شرعت العبادات عليه بقدر المكنة ولما كان من أسباب تعلق الحقوق فكان من أسباب الحجر بقدر ما يقع به صيانة الحق حتى لا يؤثر المرض فيما لا يتعلق به حق غريم ولا وارث وإنما يثبت به الحجر إذا اتصل بالموت مستندا إلى أوله فقيل كل تصرف واقع يحتمل الفسخ فإن القول بصحته واجب للحال ثم التدارك بالنقص إن احتيج إليه مثل الهبة وبيع المحاباة وكل تصرف لا يحتمل النقص جعل كالمتعلق بالموت
ـــــــ
متعلق بالموات فيستند إلى سبب القتل فيظهر في الآخرة أنه أداها بعد الوجوب فيجوز فكذلك في مسألتنا هذه خراب الذمة وتعلق الدين بالمال حكم الموت فيستند إلى سببه وهو المرض ثم لكون المرض من أسباب العجز شرعت العبادات على المريض بقدر المكنة أي الطاعة قائما أو قاعدا أو مستلقيا على ما عرف في فروع الفقه ولكونه من أسباب تعلق حق الوارث والغريم بالمال كان من أسباب الحجر على المريض بقدر ما يقع به صيانة الحق أي حق الوارث والغريم وهو مقدار الثلثين في حق الوارث لتعلق حقه بهذا القدر. وجميع المال في حق الغريم إن كان الدين مستغرقا حتى لا يؤثر المرض أي في الحجر فيما لا يتعلق به حق غريم مثل ما زاد على الدين ولا وارث مثل ما زاد على ثلثي ما بقي من الدين أو على ثلثي الجميع إن لم يكن عليه دين ومثل ما يتعلق به حاجة المريض كالنفقة وأجرة الطبيب والنكاح بمهر المثل ونحوها.
قوله: "وإنما يثبت به" أي بالمرض الحجر إذا اتصل بالموت مستندا إلى أول المرض لأن علة الحجر مرض مميت لا نفس المرض فقبل وجود الوصف لا يثبت الحجر لعدم التمام بوصفه وإذا اتصل بالموت صار أصل المرض موصوفا بالأمانة والسراية إلى الموت من أوله لأن الموت يحصل بضعف القوى وترادف الآلام وكل جزء من المرض مضعف موجب لألم بمنزلة جراحات متفرقة سرت إلى الموت فإنه يضاف إلى كلها دون الأخيرة فتم المرض علة الحجر باتصاله بالموت من حين أصل المرض الذي أضناه كالنصاب صار متصفا بالنماء عند تمام الحول من أول الحول فيستند حكمه وهو الحجر إلى أصل المرض والتصرف وجد بعده فصار تصرف المحجور عليه ولكن لما لم يعلم قبل اتصاله بالموت أنه يتصل به أم لا لم يمكن إثبات الحجر بالشك إذ الأصل هو الإطلاق فقيل كل تصرف واقع من المريض إلى آخره كالإعتاق إذا وقع على حق غريم بأن أعتق المريض عبدا من ماله المستغرق بالدين. أو وارث بأن أعتق عبدا قيمته تزيد على الثلث فحكم هذا المعتق حكم المدبر قبل الموت حتى كان عبدا في شهادته وسائر أحكامه وإذا لم يقع إعتاقه على(4/427)
كالإعتاق إذا وقع على حق الغريم أو الوارث وكان القياس أن لا يملك المريض الإيصاء لما قلنا لكن الشرع جوز ذلك نظرا له بقدر الثلث استخلاصا على الورثة بالقليل ليعلم أن الحجر والتهمة فيه أصل ولما تولى الشرع الإيصاء للورثة وأبطل
ـــــــ
حق غريم أو وارث بأن كان في المال وفاء بالدين وهو يخرج من الثلث نفذ في الحال لعدم تعلق حق أحد به.
قوله: "وكان القياس أن لا يملك المريض الإيصاء لما قلنا" أن المرض سبب تعلق حق الغير بالمال وذلك موجب للحجر, والإيصاء تبرع فلا يصح منه لكونه محجورا عليه كما لا يصح من العبد والصبي لكن الشرع جوز ذلك أي الإيصاء نظرا له بقدر الثلث بقوله عليه السلام: "إن الله تعالى تصدق عليكم بثلث أموالكم في آخر أعماركم زيادة في أعمالكم فضعوه حيث شئتم" 1 وبقوله عليه السلام في حديث سعد بن مالك رضي الله عنه حين قال أفأوصي بمالي كله إلى أن قال فبثلثه الثلث والثلث كثير لأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس استخلاصا أي استخصاصا واستيثارا له على الورثة بالقليل وهو الثلث ليعلم باستخلاص القليل دون الكثير أن الحجر والتهمة أي تهمة إيثاره الأجنبي على الوارث باعتبار ضغينة كانت معه له فيه أي في الإيصاء أصل حتى يستحب أن ينقص الوصية من الثلث ولا يبلغها إلى الثلث لما عرف وقوله نظرا تعليل لجواز الإيصاء. وقوله استخلاصا تعاليل لاكتفاء على الثلث إن جاز ذلك ولو قيل لكن الشرع جوز له ذلك بقدر الثلث نظرا له واستخلاصا لكان أوضح ويحتمل أن يكون استخلاصا بدلا من نظرا فيستقيم بغير واو أو يكون عطفا بغير واو على مذهب من جوزه.
قوله: "ولما تولى الشرع الإيصاء للورثة" كان الإيصاء للورثة مفوضا إلى المريض في ابتداء الإسلام بقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 180] وقد كان يجري في ذلك ميل إلى البعض ومضارة للبعض فنسخ ذلك بقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] الآية بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: "إن الله تعالى أعطى كل ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث" فالشيخ رحمه الله أشار إلى ما ذكرنا بقوله ولما تولى الشرع الإيصاء للورثة أي بقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] وأبطل إيصاءه أي نسخ إيصاء المريض للورثة بتولية بنفسه لعجز العبد عن حسن التدبير في مقدار ما يوصي به
ـــــــ
1 أخرجه ابن ماجه في الوصايا حديث رقم 2709 والإمام أحمد في المسند 6/441.(4/428)
إيصاءه لهم بطل ذلك صورة ومعنى وحقيقة وشبهة حتى لا تصح منه البيع أصلا عند أبي حنيفة رحمه الله وبطلت أقاريره له للتهمة لأن شبهة الحرام حرام ولم يصح إقراره باستيفاء دينه من الوارث وإن لزمه في صحته وتقومت الجودة في
ـــــــ
لكل واحد لجهله بذلك كما قال تعالى: {لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} [النساء: 11] أو لقصده مضارة البعض كما وقعت الإشارة إليه في قوله تعالى: { غَيْرَ مُضَارٍّ} وكان هذا نسخ تحويل كنسخ القبلة إلى الكعبة بطل ذلك أي إيصاء العبد لهم من كل وجه ويمكن أن يجعل هذا جواب سؤال وهو أن يقال لما أجاز الشرع له الإيصاء بالثلث واستخلصه للمريض كان ينبغي أن يجوز إيصاؤه بذلك للوارث لعدم تعلق حق الورثة كما جاز للأجنبي وكما لو وهب شيئا من ماله لبعض ورثته في حال الصحة مع أن الشرع شرع في حق المريض الوصية للورثة بقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [البقرة: 180] الآية لكن الشرع لما تولى إيصاء الورثة بنفسه ونسخ إيصاءه لهم بطل ذلك من كل وجه صورة ومعنى وحقيقة وشبهة لأن الشرع لما حجره عن إيصال النفع إلى وارثه من ماله في هذه الحالة صارت صورة إيصال النفع ومعناه وحقيقته وشبهته سواء لأن الصورة والشبهة ملحقتان بالحقيقة في موضع التحريم. ثم بين أمثلة هذه الأشياء فمثال الصورة بيع المريض من الوارث شيئا من أعيان التركة فإنه لا يصح أصلا عند أبي حنيفة رحمه الله سواء كان بمثل القيمة أو لم يكن وعندهما يصح بمثل القيمة لأنه ليس في تصرفه إبطال حق الورثة عن شيء مما يتعلق حقهم به وهو المالية فكان الوارث والأجنبي فيه سواء يوضحه أنه كما كان ممنوعا من الوصية للوارث كان ممنوعا من الوصية بما زاد على الثلث للأجنبي ثم البيع بمثل القيمة من الأجنبي في جميع ماله صحيح ولا يكون ذلك وصيته بشيء فكذلك مع الوارث وأبو حنيفة رحمه الله يقول إنه آثر بعض ورثته بعين من أعيان ماله بقوله وهو محجور عن ذلك لحق سائر الورثة فلا يجوز كما لو أوصى بأن يعطي أحد ورثته هذه الدار بنصيبه من الميراث وهذا لأن حق الورثة كما يتعلق بالمالية يتعلق بالعين فيما بينهم حتى لو أراد بعضهم أن يجعل شيئا لنفسه بنصيبه من الميراث لا يملك ذلك بدون رضاء سائر الورثة فكما أنه لو قصد إيثار البعض بشيء من المالية رد عليه قصده فكذلك إذا قصد إيثاره بالعين فلذلك يمنع بيعه منه بمثل القيمة بأكثر بخلاف الأجنبي فإنه غير ممنوع من التصرف معه فيما يرجع إلى العين وإنما يمنع من إبطال حق الورثة عن ثلثي ماله وليس في البيع بمثل القيمة من الأجنبي إبطال حق الورثة بشيء من ماله.
وتبين بما ذكرنا أن البيع من الوارث إيصاء له صورة من حيث إنه إيثار له بالعين وإن(4/429)
حقهم لتهمة العدول عن خلاف الجنس كما تقومت في حق الصغار وحجر
ـــــــ
لم يكن إيصاء معنى لاسترداد العوض منه نقيضه عقد المعاوضة فلذلك لا يصح ومثال الإيصاء معنى الأقارير فإن المريض إذا أقر بعين أو بدين لوارثه لا يصح عندنا. وقال الشافعي رحمه الله يصح لأن الحجر بسبب المرض إنما ثبتت عن التبرع بما زاد على الثلث مع الأجنبي وعن التبرع مع الوارث أصلا ولا حجر عليه فيما يرجع إلى السعي في فكاك رقبته فكان إقراره في الصحة والمرض سواء. ألا ترى أن إقراره بالوارث صحيح مع أن فيه إضرارا بالوارث المعروف فكذا إقراره للوارث ولنا أن في إقراره لبعض الورثة تهمة الكذب إذ من الجائز أن يكون غرضه في هذا الإقرار إيصال مقدار المال المقر به إلى الوارث بغير عوض فيكون وصية من حيث المعنى وإن كان إقرارا صورة فيكون حراما لأن شبهة الحرام حرام ولأن الإقرار وإن كان إخبارا فقد جعل كالإيجاب من وجه حتى إن من أقر لإنسان بجارية لا يستحق أولادها وإذا كان كالإيجاب من وجه فهو إيجاب مال لا يقابله مال والمريض ممنوع عن مثله مع الوارث أصلا فرجحنا هذا الجانب في حق الوارث ورجحنا جانب الإقرار في حق الأجنبي وصححناه في جميع المال وهذا بخلاف الإقرار بالوارث لأنه لم يلاق محلا تعلق به حق الورثة مع أن النسب من الحوائج الأصلية فيكون مقدما على حق الورثة وكذا لم يصح إقرار المريض باستيفاء دينه الذي على الوراث منه وإن لزم الوارث الدين في حال صحة المقر لأن هذا إيصاء له بمالية الدين من حيث المعنى فإنها تسلم له بغير عوض وكذا لو كان وارثه كفيلا عن أجنبي للمريض عليه دين أو كان أجنبي كفيلا عن وارثه الذي له عليه دين بطل إقراره باستيفائه لتضمنه براءة الوارث عن الدين أو عن الكفالة.
وقوله وإن لزمه في الصحة رد لما روي عن أبي يوسف رحمه الله أنه إذا أقر باستيفاء دين كان له على الوارث في حال الصحة يجوز لأن الوارث لما عامله في الحصة فقد استحق براءة ذمته عند إقراره باستيفاء الدين منه فلا يتغير ذلك الاستحقاق بمرضه. ألا ترى أنه لو كان دينه على أجنبي فأقر باستيفائه في مرضه كان صحيحا في حق غرماء الصحة لكنا نقول إقراره بالاستيفاء في الحاصل إقرار بالدين لأن الديون تقضى بأمثالها فيجب للمديون على صاحب الدين عند القبض مثل ما كان له عليه ثم يصير قصاصا بدينه فكان هذا بمنزلة الإقرار بالدين فلا يصح بخلاف إقراره بالاستيفاء من الأجنبي لأن المنع هناك لحق غرماء الصحة, وحق الغرماء عند المرض لا يتعلق بالدين إنما يتعلق بما يمكن استيفاء ديونه منه فلم يصادف إقراره بالاستيفاء محلا تعلق حقهم به, فأما حق الورثة بالعين والدين جميعا لأن الوراثة خلافة والمنع من الإقرار للوارث إنما كان لحق الورثة(4/430)
المريض عن الصلة إلا من الثلث لما قلنا, ولذلك قلنا إذا أدى في مرض موته حقا لله تعالى ماليا كان من الثلث وكذلك إذا وصى بذلك عندنا ولما تعلق حق
ـــــــ
فإقراره بالاستيفاء في هذا الإقرار بالدين لأنه يصادف محلا هو مشغول بحق الورثة فلا يجوز مطلقا كذا في المبسوط.
ومثال الحقيقة ظاهر ولهذا لم يذكره الشيخ. وأما مثال الشبهة فهو ما إذا باع المريض الحنطة الجيدة بالرديئة أو الفضة الجيدة بالرديئة من وارثه فإنه لا يجوز لأن فيه شبهة الوصية بالجودة إذ عدوله عن خلاف الجنس إلى الجنس يدل على أن غرضه إيصال منفعة الجودة إليه فإنها لا تتقوم عند المقابلة بالجنس فقومت الجودة في حقه دفعا للضرر عن الورثة فإن حقهم تعلق بالأصل والوصف جميعا كما تقومت في حق الصغار دفعا للضرر عنهم فإن الأب أو الوصي لو باع مال الصغير من نفسه أو من غيره تتقوم الجودة فيه حتى لم يجز له بيع الجيد من ماله بالرديء من جنسه أصلا كذا هاهنا. ألا ترى أنه لو باع الجيد بالرديء من الأجنبي يعتبر خروجه من الثلث ولو لم يكن الجودة معتبرة لم يتوقف على خروجه من الثلث بل جاز مطلقا كما لو باع شيئا بمثل القيمة.
قوله: "وحجر المريض عن الصلة" نحو الهبة والصدقة والمحاباة وغيرها إلا من الثلث لما قلنا من تعلق حق الغير بماله الموجب للحجر ومن استخلاص الثلث له بطريق النظر ولذلك أي ولكونه محجورا عن الصلة فيما وراء الثلث والحاصل إن ما يجب لله تعالى خالصا من الحقوق المالية إن أداه بنفسه في مرضه يعتبر من الثلث سواء وجبت مالا من الابتداء كالزكاة وصدقة الفطر أو صارت مالا بسبب العجز كالفدية في الصلاة والصوم والإنفاق في الحج. وإن لم يؤده بنفسه لا يصير دينا في التركة بعد الموت مقدما على الميراث ثم إن أوصى به ينفذ من الثلث كسائر التبرعات وإن لم يوص به يسقط في أحكام الدنيا وإن كان مؤاخذا به في الآخرة وعند الشافعي رحمه الله إن أداه بنفسه كان معتبرا من جميع المال وإن لم يؤد يصير دينا في جميع التركة مقدما على الميراث والوصية كديون العباد أوصى به أو لم يوص فتبين به أن قوله عندنا متعلق بالمسألتين وإشارة إلى الخلاف فيها احتج الشافعي بحديث الخثعمية فإنه عليه السلام شبه فيه دين الله تعالى بدين العباد بقوله: "أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت تقضينه"؟ الحديث. ثم دين العباد يقضى من جميع التركة مقدما على الميراث فكذا دين الله تعالى وبأنه حق كان مطالبا به في حياته وتجري النيابة في إبقائه فيستوفى من تركته بعد وفاته كديون العباد وذلك لأن المال خلف عن الذمة بعد الموت في الحقوق التي تقضى بالمال والوارث قائم مقام المورث في أداء ما يجري النيابة في أدائه. ألا ترى أن بعد الإيصاء يقوم مقامه في(4/431)
الغرماء والورثة بالمال صورة ومعنى في حق أنفسهم ومعنى في حق غيرهم صار إعتاقه واقعا على محل مشغول بعينه بخلاف إعتاق الراهن لأن حق المرتهن في
ـــــــ
الأداء فكذلك قبله ولنا أن المال خرج من ملك الذي كان في ملكه وصار ملكا للوارث ولم يجب على الوارث شيء ليؤخذ ملكه به فلا يصير دينا في التركة لأن حق الله تعالى متى اجتمع مع حق العبد في محل يقدم حق العبد ثم الواجب في حقوق الله تعالى فعل الإيتاء لا نفس المال ولا يصلح فيه إقامة المال مقام الذمة بعد الموت ولا يمكن أن يجعل الوارث نائبا في الأداء لأن الواجب عبادة فلا بد فيه من فعل ممن يجب عليه حقيقة أو حكما وخلافة الوارث تثبت جبرا بدون اختيار من المورث وبمثلها لا يتأدى العبادة واستيفاء الواجب لا يجوز إلا من الوجه الذي وجب فإذا لم يمكن إيجابه من ذلك الوجه لم يبق أصلا إلا أن يوصي فيكون نظير وصيته بسائر التبرعات فينفذ من الثلث.
قوله: "ولما تعلق حق الغرماء إلى آخره" إشارة إلى الجواب عما قيل حق المرتهن قد تعلق بالمرهون كما تعلق حق الغريم والوارث بالمال في المرض بل هو أقوى لأنه مانع عن التصرف في الرهن والانتفاع به للراهن وحق الوارث والغريم لا يمنع من ذلك ثم حق المرتهن لا يمنع نفاذ إعتاق الراهن لبقاء الملك فينبغي أن لا يمنع حق الوارث والغريم أيضا لبقاء الملك فقال إنما تعلق حق الغرماء والورثة بالمال صورة ومعنى في حق أنفسهم. أما معنى فظاهر وأما صورة فلأن المريض لا يملك البيع من وارثه بمثل القيمة وبأكثر كما لا يملك أن يحابيه ولا يملك الوارث أن يأخذ بنصيبه عينا من التركة أيضا بدون رضاء الباقي ومعنى في حق غيرهم وهم الأجانب حتى جاز بيعه من الأجنبي بمثل القيمة وسوق هذا الكلام يشير إلى أن حق الغرماء متعلق بالمال صورة ومعنى كحق الوارث لكنه نص في المبسوط أن حق الغرماء متعلق بالمعنى وهو المالية لا بعين المال ولهذا كان للوارث أن يستخلص العين لنفسه بقضاء الدين من موضع آخر وذكر في الذخيرة أيضا أن الحر المحجور عليه بسبب الدين إذا باع ماله من أحد الغرماء بمثل قيمته صح كما لو باعه من أجنبي آخر بمثل القيمة ولكن لو حاص الثمن بدينه لا يجوز لأن في المقاصد إيثارا للبعض بالقضاء وأنه ممنوع عنه كالمريض مرض الموت فهذه الرواية تدل على أن بيع المريض من الغريم بمثل القيمة يجوز فتبين بهذا أن حق الغرماء متعلق بالمعنى دون الصورة في حق أنفسهم كما في حق الأجانب فكان الضمير في أنفسهم وغيرهم راجعا إلى الورثة دون الغرماء وكان لفظ الغير متناولا للغرماء والأجانب جميعا أي حق الكل متعلق بالمال فحق الورثة متعلق به صورة ومعنى في حق أنفسهم ومتعلق به معنى في حق غيرهم من الأجانب والغرماء وحق الغرماء متعلق به معنى لا صورة في حق(4/432)
ملك اليد دون ملك الرقبة فلذلك نفذ هذا ولم ينفذ ذلك وهذا أصل لا تحصى فروعه. وأما الحيض والنفاس فإنهما لا يعدمان أهلية بوجه لكن الطهارة للصلاة شرط وقد شرعت بصفة اليسر الأداء وفي وضع الحيض والنفاس ما يوجب الحرج في القضاء فلذلك وضع عنهما وقد جعلت الطهارة عنهما شرطا لصحة الصوم
ـــــــ
أنفسهم وفي حق غيرهم وإذا كان كذلك صار إعتاق المريض واقعا على محل مشغول بعينه بحق الغير أي حق ملك الرقبة صورة ومعنى بالصورة فلم ينفذ إلى آخر ما ذكر في الكتاب وهذا أي المرض مع أحكامه أصل كثير الفروع.
"الحيض والنفاس"
قوله: "وأما الحيض والنفاس" فكذا الحيض في الشريعة دم ينفضه رحم المرأة السليمة عن الداء والصغر واحترز بقوله رحم المرأة عن الرعاف والدماء الخارجة من الجراحات وعن دم الاستحاضة فإنه دم عرق لا رحم وبقوله السليمة عن الداء عن النفاس فإن النفساء في حكم المريضة حتى اعتبر تصرفها من الثلث وبالصغر عن دم تراه من هي دون بنت تسع السنين فإنه ليس بمعتبر في الشرع والنفاس الدم الخارج من قبل المرأة عقيب الولادة وأنهما لا يعدمان أهلية لا أهلية الوجوب ولا أهلية الأداء لأنهما لا يخلان بالذمة ولا بالعقل والتمييز ولا بقدرة البدن فكان ينبغي أن لا تسقط بهما الصلاة كما لا يسقط الصوم لكن الطهارة عن الحيض والنفاس شرطت للصلاة على وفاق القياس كالطهارة عن سائر الأحداث والأنجاس وقد شرعت الصلاة بصفة اليسر فإنها وإن وجبت بقدرة ممكنة لكن في شرعها نوع يسر من حيث إنها وجبت خمس مرات في اليوم والليلة ولم تجب خمسين مرة كما في الأمم الماضية ومن حيث إن الحرج مدفوع فيها حتى لو لحق المصلي حرج في القيام سقط القيام عنه إلى القعود ثم إلى الإيماء والاستلقاء على الظهر على ما عرف. وفي فوت الشرط فوت الأداء ضرورة لتوقف المشروط على الشرط وفي وضع الحيض والنفاس ما يوجب الحرج في القضاء أي قضاء الصلوات فإن الحيض لما لم يكن أقل في ثلاث أيام ولياليها كان الواجب داخلا في حد التكرار لا محالة وكذا النفاس في العادة يكون أكثر من مدة الحيض فيتضاعف الواجبات فيه أيضا وهو مستلزم للحرج وهو مدفوع شرعا فلذلك أي للزوم الحرج وضع أي أسقط القضاء عن الحائض والنفساء وقد جعلت الطهارة عنهما أي عن الحيض والنفاس شرطا لصحة الصوم أيضا نصا وهو ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الحائض تدع الصوم والصلاة في أيام أقرائها" وما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لامرأة سألتها ما بالنا نقضي الصوم ولا نقضي الصلاة في الحيض أحرورية أنت كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نقضي الصوم ولا نقضي(4/433)
أيضا بخلاف القياس فلم يتعد إلى القضاء ولم يكن في قضائه حرج فلم يسقط أصله وأحكام الحيض والنفاس كثيرة لا يحصى عددها.
وأما الموت فإنه عجز كله مناف لأهلية أحكام الدنيا مما فيه تكليف حتى
ـــــــ
الصلاة1 بخلاف القياس لأن الصوم يتأدى مع الحدث والجنابة بالاتفاق فيجوز أن يتأدى مع الحيض والنفاس أيضا لولا النص فيؤثر اشتراطها في المنع من الأداء ولم يتعد إلى القضاء أي إلى إسقاط القضاء يعني لما كانت الطهارة عن الحيض والنفاس شرطا لأداء الصوم بخلاف القياس لا يظهر لزومها فيما وراء صحة الأداء بل جعل في حق القضاء كأن الطهارة ليست بشرط وأنها تركت الأداء مختارا فيجب القضاء ولم يكن في قضائه أي قضاء الصوم حرج لأن الحيض لا يزيد على عشرة أيام ولياليها فلا يتصور أن يكون مستغرقا لوقت الصوم وهو الشهر فلم يسقط أصل الصوم أي أصل وجوبه عن الذمة وإن سقط أداؤه كمن أغمي عليه ما دون يوم وليلة.
فإن قيل ينبغي أن يكون النفاس مسقطا للقضاء إذا استوعب الشهر كما كان مسقطا لقضاء الصلاة قلنا حكمه مأخوذ من الحيض في الصلاة والصوم فلما لم يكن الحيض مسقطا للصوم بوجه كان حكم النفاس كذلك وإن استوعب الشهر ولما أسقط الحيض الصلاة لا محالة أسقط النفاس أيضا وإن لم يستوعب اليوم والليلة وكذا وقوعه في وقت الصوم من النوادر فلا يبنى الحكم عليه كالإغماء إذا استوعب الشهر بخلاف الصلاة فإن وقوعهما في آوان الصلاة من اللوازم فأثر في إسقاط القضاء لدخول الواجب في حد التكرار لا محالة ولا يلزم عليه الجنون فإنه يسقط القضاء عند استغراق الشهر وإن كان وقوعه في وقت الصوم من النوادر أيضا لأن الجنون معدم للأهلية أصلا فكان القياس فيه أن يسقط وإن لم يستوعب إلا أنا تركناه بالاستحسان إذا لم يستوعب كما بينا فأما النفاس فلا يخل بالأهلية فلا يوجب سقوط القضاء فاقترفا كذا في بعض فوائد هذا الكتاب.
"الموت"
قوله: "وأما الموت" فكذا, الموت ضد الحياة لأنه أمر وجودي عند أهل السنة لقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك: 2] ولهذا قيل تفسير الموت بزوال الحياة تفسير بلازمه لأنه لما كان ضد الحياة يلزم من وجوده زوال الحياة ولما كانت الحياة
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الحيض حديث رقم 335 وأبو داود في الطهارة حديث رقم 262 والترمذي برقم 130 وابن ماجه برقم 631 والإمام أحمد في المسند 6/97.(4/434)
وضعت العبادات كلها عنه والأحكام نوعان أحكام الدنيا وأحكام الآخرة فأما أحكام الدنيا فأنواع أربعة قسم منها ما هو من باب التكليف والثاني ما شرع عليه لحاجة غيره ومنها ما شرع له لحاجته ومنها ما لا يصلح لقضاء حاجته هذه أحكام الدنيا فأما القسم الأول فقد وضع عنه لفوات غرضه وهو الأداء عن اختيار ولهذا قلنا إن الزكاة يبطل عنه وكذلك سائر القرب وإنما يبقى عليه المأثم وأما القسم الثاني فإنه إن كان حقا متعلقا بالعين يبقى ببقائه لأن فعله فيه غير مقصود وإن كان دينا لم يبق بمجرد الذمة حتى يضم إليه مال أو ما
ـــــــ
من أسباب القدرة كان الموت موجبا للعجز لا محالة لفوات الشرط فلهذا قال إنه عجز كله أي ليس فيه جهة القدرة بوجه. واحترز عن المرض والرق والصغر والجنون فإن العجز بهذه العوارض متحقق ولكنه ليس بخالص لبقاء نوع قدرة فيها للعبد بخلاف الموت مناف لأهلية أحكام الدنيا مما فيه تكليف لأن التكليف بأحكام الدنيا يعتمد القدرة فإذا تحقق العجز اللازم الذي لا يرجى زواله سقط التكليف بها في الدنيا ضرورة وهو الأداء عن اختيار هذا الغرض بالنسبة إلى المكلف من حيث الظاهر فأما بالنسبة إلى صاحب الشرع فالمقصود من التكليف تحقق الابتلاء ليظهر ما علم مع بقاء اختيار العبد فيكون مبتلى بين أن يفعله باختياره فيثاب به وبين أن يتركه باختياره فيعاقب عليه ولهذا أي ولفوت الغرض وهو الأداء عن اختيار قلنا إن الزكاة تبطل أي تسقط عن الميت في حكم الدنيا حتى لا يجب أداؤها من التركة خلافا للشافعي رحمه الله بناء على أن الفعل هو المقصود في حقوق الله تعالى عندنا وقد فات وعنده المال هو المقصود دون الفعل حتى لو ظفر الفقير بمال الزكاة كان له أن يأخذ مقدار الزكاة وسقط الزكاة به عنده كما في دين العباد وعندنا ليس له ولاية الأخذ ولا يسقط به الزكاة كما مر بيانه وكذلك أي ومثل حكم الزكاة حكم سائر القرب في السقوط وإنما يبقى عليه المأثم لا غير لأن الإثم من أحكام الآخرة وهو ملحق بالأحياء في تلك الأحكام.
قوله: "وأما القسم الثاني" وهو الذي شرع عليه لحاجة غيره فلا يخلو من أن يكون متعلقا بالعين أو لم يكن. فإن كان حقا متعلقا بالعين كالمرهون والمستأجر والمغصوب والمبيع الوديعة يبقى ببقائه أي ببقاء العين على تأويل المعين لأن فعل العبد في العين غير مقصود إذ المقصود في حقوق العباد هو المال والفعل تبع لتعلق حوائجهم بالأموال وإذا كان كذلك يبقى حق العبد في العين بعد موت من كانت العين في يده لحصول المقصود وإن فات الفعل منه وإن لم يكن متعلقا بالعين بل كان متعلقا بالذمة فلا يخلو من أن يكون وجوبه بطريق الصلة كالنفقة أو لم يكن كالديون الواجبة بالمعاوضة فإن كان(4/435)
يؤكد به الذمم وهو ذمة الكفيل لأن ضعف الذمة بالموت فوق الضعف بالرق لأن الرق يرجى زواله غالبا وهذا لا يرجى زواله غالبا فقيل إنها لا تحتمل الدين بنفسها ولهذا قيل أن الكفالة عن الميت المفلس لا يصح وهو قول أبي حنيفة رحمه الله كأن الدين ساقط لأن ثبوته بالمطالبة وقد عدمت بخلاف العبد
ـــــــ
دينا لم يبق بمجرد الذمة حتى يضم إليه أي إلى الذمة على تأويل المذكور أو الضمير راجع إلى المجرد لأن الرق يرجى زواله غالبا يعني بالإعتاق لأنه أمر مندوب إليه وهذا أي الموت لا يرجى زواله غالبا وإن احتمل ذلك بطريق الكرامة كما كان في زمان عيسى وعزير عليهما السلام بطريق المعجزة فلما لم يحتمل ذمة العبد الدين بدون انضمام مالية الرقبة والكسب إليها لضعفها لا تحتمله ذمة الميت بالطريق الأولى.
قوله: "ولهذا" أي ولأن الذمة لا تحتمل الدين بنفسها قال أبو حنيفة رحمه الله إن الكفالة عن الميت المفلس لا تصح إذا لم يبق كفيل لأن الذمة لما خربت أو ضعفت بالموت بحيث لا يحتمل الدين بنفسها صار الدين كالساقط في أحكام الدنيا لفوات محله وإن بقي في أحكام الآخرة وذلك لأن الذمة ثابتة للإنسان بكونه مخاطبا متحملا أمانة الله عز وجل وبالموت خرج من أهلية الخطاب والتحمل لعدم صلاحه لهما فعرفنا أن ذمته لم تبق صالحة لوجوب الحقوق في أحكام الدنيا وإن بقيت في حق أحكام الآخرة لكون الميت معدا للحياة الآخرة كالجنين معدا للحياة الدنيا. ألا ترى أنها لم تبق محلا لوجوب الحقوق فيها ابتداء بعد الموت وكما يشترط المحل لابتداء الالتزام يشترط لبقاء الحق لأن ما يرجع إلى المحل الابتداء والبقاء فيه سواء فثبت أن الدين لم تبق في أحكام الدنيا لعدم محله ويدل على سقوطه في أحكام الدنيا ما أشير إليه في الكتاب وهو أن ثبوت الدين أي وجوده يعرف بالمطالبة ولهذا فسر الدين بأنه وصف شرعي يظهر أثره في توجيه المطالبة وقد سقطت المطالبة هاهنا لاستحالة مطالبة الميت بالدين وعدم جواز مطالبة غيره إذ لم يبق مال يؤمر الوارث أو الوصي بالأداء منه ولا كفيل يطالب به والكفالة شرعت لالتزام المطالبة بما على الأصيل لا لالتزام أصل الدين بدليل بقاء الدين بعد الكفالة على الأصيل كما كان قبلها واستحالة حلول الشيء الواحد محلين في وقت واحد وقد عدمت المطالبة هاهنا فلا يصح التزام المطالبة بعد سقوطها ألا ترى أن هذا الدين في حكم المطالبة دون دين الكتابة إذ المكاتب يطالب بالمال وإن كان لا يحبس فيه وهناك لا تصح الكفالة لتأديها إلى أن يكون ما على الكفيل أزيد مما على الأصيل فهنا أولى أن لا يصح لأنها تؤدي إلى أن يلزم على الكفيل ما ليس على الأصيل أصلا. بخلاف العبد المحجور يقر بالدين فتكفل عنه رجل صح هذا التكفل منه وإن لم يكن العبد مطالبا به لأن ذمة العبد في(4/436)
المحجور يقر بالدين فيكفل رجل عنه صح لأن ذمته في حقه كاملة وإذا ضمت المالية إليها في حق المولى. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله صح لأن الدين مطالب به لكنا عجزنا عنها والجواب عنه أنه غير مطالب به لأن ذلك
ـــــــ
حق نفسه كاملة لأنه حي عاقل بالغ مكلف فتكون محلا للدين والمطالبة ثابتة إذ يتصور أن يصدقه المولى فيطالب في الحال ويتصور أن يعتقه المولى فيطالب بعد العتق فلما تصورت المطالبة في الحال وفي ثاني الحال بقيت المطالبة مستحقة عليه فيصح التزامها بعقد الكفالة ثم إذا صحت الكفالة يؤخذ الكفيل به في الحال وإن كان الأصيل غير مطالب به لأن تأخر المطالبة عن الأصيل مع توجهها لعذر عدم في حق الكفيل كمن كفل بدين عن مفلس حي يؤاخذ به في الحال وإن لم يؤاخذ الأصيل به لأن العذر المؤخر وهو الإفلاس مختص بالأصيل بخلاف ما إذا كفل بدين مؤجل على الأصيل حيث لا يطالب به الكفيل قبل حلول الأجل لأن المطالبة قد سقطت عن الأصيل إلى انقضاء الأجل فلا يقدر الكفيل على التزامها حالة وقوله وإنما ضمت المالية إليها جواب عما يقال لما كملت ذمته في حقه ينبغي أن لا يجب ضم مالية الرقبة إليها لاحتمالها الدين كما في حق الحر فقال إنما ضمت مالية الرقبة إلى الذمة لأجل احتمال الدين في حق المولى ليمكن استيفاء الدين من المالية التي هي حق المولى إذا أظهر الدين في حقه لا لأن الذمة ليست بكاملة في حق العبد.
وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله تصح الكفالة عن الميت وإن لم يخلف مالا ولا كفيلا لأن الدين واجب عليه بعد موته إذ الموت لم يشرع مبرما للحقوق الواجبة عليه ولا مبطلا لها. ألا ترى أنه لو أخلف كفيلا به ثم كفل به إنسان بعد موته صح ولو كان موته مفلسا يوجب سقوط الدين عنه لما صحت الكفالة بعد الموت وإن كان به كفيل لأن براءة الأصيل توجب براءة الكفيل ألا ترى أن الميت أهل لوجوب الدين عليه ابتداء فإنه لو حفر بئرا في الطريق فتلف فيها مال أو إنسان بعد موته يجب الضمان عليه فلأن يبقى عليه الدين الواجب في حياته كان أولى فثبت أن الدين باق في الذمة بعد الموت وهو واجب التسليم والإيفاء موصوف بأنه مطالب حقا للمدعي ولهذا يطالب به في الآخرة بالإجماع ولو ظهر له مال يطالب به في الحال ولو تبرع أحد عن الميت بالأداء يثبت حق الاستيفاء وهو فوق المطالبة إذ الاستيفاء هو المطلوب منها فلما كان حق الاستيفاء باقيا علم أن المطالبة مملوكة أيضا لكنه عجز عن المطالبة لإفلاس الميت وعدم قدرته على الأداء كدرة لإنسان أسقطها آخر في البحر كانت مملوكة لصاحبها ولا يأخذها للعجز والعجز عن المطالبة لا يمنع صحة الكفالة كما لو كفل عن حي مفلس وكما لو كان(4/437)
انعدم لمعنى في محل الدين لا لعجزنا لمعنى فينا فلهذا لزمته الديون مضافا إلى سبب صح في حياته لهذا صح الضمان عنه إذا خلف مالا أو كفيلا وإن كان
ـــــــ
الدين مؤجلا قالوا وجميع ما ذكرنا مؤيد بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بجنازة رجل من الأنصار فقال لأصحابه: "هل على صاحبكم دين" فقالوا نعم درهمان أو ديناران فامتنع عن الصلاة عليه فقال علي وأبو قتادة رضي الله عنهما هما علي يا رسول الله فصلى عليه1. فلو لم تصح الكفالة لما صلى لأن المانع كان هو الدين ومتى لم تصح الكفالة لم يتغير حكمه فبقي مانعا. والجواب عنه أنا لا نسلم أن هذا الدين مطالب به في أحكام الدنيا لأن ذلك العدم أي عدم المطالبة باعتبار معنى في المحل وهو ضعف الذمة أو خرابها فيكون الدين غير مطالب بنفسه لمعنى فيه وهو سقوطه لعدم المحل لا لعجز بالمعنى فينا كالذي ليس له على أحد دين لا يمكن له المطالبة بالدين لعدم الدين لا لعجز فيه عن المطالبة كذا هنا بخلاف الدرة الساقطة في البحر فإن العجز عن الأخذ لمعنى فينا لا لأنها غير ممكن الأخذ في نفسها وبخلاف الكفالة عن المفلس الحي فإن الذمة كاملة محتملة للدين بنفسها فيبقى الدين مستحق المطالبة كما كان إذ لا يستحيل مطالبة المفلس خصوصا عند أبي حنيفة رحمه الله لأن الإفلاس لا يتحقق عنده فتصح الكفالة وبخلاف الدين المؤجل لأن المطالبة فيه مستحقة على سبيل التأجيل فيصح التزامها بعقد الكفالة واستدلالهم بالحديث ليس بصحيح إذ ليس في الحديث أنه لم يكن هناك مال ويحتمل أنه قد كان وعرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس فيه أيضا أن هذه كفالة صحيحة مبتدأة على وجه يبتنى عليه أحكام الكفالة من توجه المطالبة والملازمة والحبس والجبر على القضاء بل احتمل الإقرار واحتمل العدة وهي أقرب الوجوه لأن الكفالة لا تصح للغائب عند الأكثر ولا يصح للمجهول بلا خلاف وكان النبي صلى الله عليه وسلم كما كان يتبين بالمال لأن الظاهر هو إمكان القضاء قبل الهلاك كذا في الأسرار.
قوله: "ولهذا" أي ولأن سقوط الدين عن الميت وتعذر الإيجاب عليه لضرورة ضعف الذمة أو خرابها لذمة الميت المديون. مضافا صفة مصدر محذوف أي لزوما مضافا إلى سبب صح في حياته بأن حفر بئرا في الطريق فتلف فيها إنسان أو مال بعد موته لزم ضمان النفس على عاقلته وضمان المال في ماله مع أنه لم يبق أهلا لوجوب الحقوق عليه لأن سبب الضمان لما وجد منه في حالة الحياة أمكن إسناد الوجوب إلى أول السبب
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في الجنائز حديث رقم 1069 وابن ماجه في الصدقات حديث رقم 2407 وأبو داود في البيوع حديث رقم 3343.(4/438)
شرع عليه بطريق الصلة بطل إلا أن يوصي فيصح من الثلث أو أما الذي شرع له
ـــــــ
وقد كانت الذمة صالحة للوجوب في ذلك الوقت فوجب القول بالضمان لاندفاع الضرورة المانعة عن الإيجاب بإمكان إسناده إلى حال كمال الذمة ولهذا أي ولأن الذمة لا يحتمل الدين بنفسها ولكنها إذا تفوت بالمؤكد احتملته صح الضمان عن الميت إذا خلف مالا أو كفيلا لأنه ترك مالا فقد تفوت الذمة به لأنه محل الاستيفاء الذي هو المقصود من الوجوب وقد صار المال عونا للذمة في بعض المحال لتحمل الدين كما في العبد والمريض وإذا كان كذلك يبقى الدين ببقائه فتصبح الكفالة وكذا إذا خلف كفيلا لأن ذمة الكفيل لما انضمت إلى ذمة الأصيل في تحمل المطالبة تفوت ذمته بعد موته ببقاء ذمة الكفيل فيبقى الدين في ذمته فتصح الكفالة وقيل معناه ولأن السقوط لضرورة ضعف الذمة صح الضمان عن الميت إذا خلف مالا أو كفيلا لاندفاع الضرورة وذلك أنه إذا خلف مالا أمكن استيفاء الدين من المال ومطالبة الوصي به لتعلق حق الغريم بالمال في حال المرض ولما تعلق الدين بالمال حال قيام الذمة والمتعلق بالمال لا يكون إلا للاستيفاء بقي الدين بعد الموت لأن سقوطه لم يكن باعتبار براءة من عليه الحق أصلا بل لضرورة راجعة إلى المحل فيتقدر بقدرها فإذا وجد له محل بوجه يبقى والمال محل الاستيفاء فيبقى في حق الاستيفاء ولما بقي صحت الكفالة. وإذا خلف كفيلا تحول الدين إلى ذمته بخراب ذمة الأصيل لأن الكفالة وإن كانت ضم الذمة إلى الذمة في المطالبة لا في أصل الدين ولكنها ينعقد مجوزة لتحول الدين إلى ذمة الكفيل عند الضرورة كما إذا أدى الكفيل الدين أو وهب له يتحول الدين من ذمة الأصيل إلى ذمة الكفيل ضرورة صحة الأداء والهبة وقد دعت الضرورة هاهنا إلى التحول ليمكن إيفاء حكم الكفالة فوجب القول به فلذلك تصح الكفالة فالطريق الأول يقتضي أن يصح الكفالة عن الأصيل وعن الكفيل أيضا والطريق الثاني يوجب أن يصح عن الكفيل دون الأصيل إليه أشير في الطريقة البرغرية. ولا يلزم على ما ذكرنا ما إذا قتل المفلس المديون عمدا فكفل بالدين الذي عليه إنسان صحت وإن لم يكن القصاص مالا لأنه بعرض أن يصير مالا بعفو بعض الشركاء أو بتمكن الشبهة فلتوهم توجه المطالبة في الدنيا بقضاء ذلك الدين يجعل الدين باقيا حكما فتصح الكفالة وأما المتبرع إذا أدى فإنما صح لأن الأداء يلاقي جانب صاحب الحق دون المديون حتى لو كان في حال حياته لم يصر المديون مؤديا بل يبرأ كما لو أبرأه رب الدين عنه والدين باق في حق صاحب الدين لأنه لم يخرج من أن يكون مستحقا بموت الآخر وحكم السقوط عن المديون لضرورة فوت المحل فيتقدر بقدر الضرورة فيظهر في حق من عليه دون من له كذا في الأسرار.
قوله: "وإن كان شرع عليه بطريق الصلة" أي وإن كان ما وجب عليه لحاجة الغير(4/439)
فبناء على حاجته لأن مرافق البشر إنما شرعت لهم لحاجتهم لأن العبودية لازمة للبشر والموت لا ينافي الحاجة فبقي له ما ينقضي به الحاجة ولذلك بقيت التركة على حكم ملكه عند قيام الديون عليه ولذلك قدم جهازه ثم ديونه ولذلك صحت وصاياه كلها واقعة ومفوضة ولذلك بقيت الكتابة وهي مشروعة لحاجة المكاتب
ـــــــ
مشروعا عليه بطريق الصلة كنفقة المحارم والزكاة وصدقة الفطر ونحوها بطل بالموت أي سقط به لأن ضعف الذمة بالموت فوق ضعفها بالرق والرق يمنع وجوب الصلاة فالموت به أولى إلا أن يوصي فيصح من الثلث لأن الشرع جوز تصرفه في الثلث نظرا له ونفع الوصية راجع إليه فيجب تصحيحها نظرا له.
قوله: "وأما الذي" أي الحكم الذي شرع للعبد وهو القسم الثالث. فبناء على حاجته لأن مرافق البشر أي ما يرتفقون به من المشروعات إنما شرعت لحاجتهم لأن العبودية لازمة للبشر فإنها صفة تثبت فيهم لكونهم مخلوقين محدثين بخلق الله عز وجل وبإحداثه ولا يتصور زوال هذه الصفة عنهم والعبودية مستلزمة للحاجة لأنها تنبئ عن العجز والافتقار فشرعت لهم من المرافق ما تندفع به حوائجهم والموت لا ينافي الحاجة لأنها تنشأ عن العجز الذي هو دليل النقصان ولهذا قيل الحاجة نقص يرتفع بالمطلوب وينجبر به ولا عجز فوق الموت فعرفنا أن الموت لا ينافي الحاجة وإذا كان كذلك يبقى له أي للميت مما كان مشروعا له لحاجته ما يقتضى به الحاجة ولذلك أي ولأن بقاء التركة على ملكه للحاجة قدم جهازه ثم ديونه لأن الحاجة إلى التجهيز أقوى منها إلى قضاء الدين فوجب تقديم التجهيز على قضاء الدين. ألا ترى أن في حال الحياة لباسه مقدم على حق الغرماء حتى لم يكن لهم أن ينزعوا ثيابه لمساس حاجته إليها فكذا بعد الممات وإنما يقدم التجهيز على الدين إذا لم يكن حق الغير متعلقا بالعين فأما إذا كان متعلقا بها كما في المستأجر والمرهون والمشترى قبل القبض والعبد الجاني ونحوها فصاحب الحق أحق بالعين وأولى بها من صرفها إلى التجهيز لتعلق حقه بالعين تعلقا مؤكدا. ولذلك أي ولبقاء الحاجة صحت وصاياه كلها إذا لم تجاوز الثلث لأن الشرع لما نظر له وقطع حق الوارث عن الثلث لحاجته إلى تدارك ما فرط في حياته صحت وصاياه واقعة أي منفذة بأن أوصى بنفسه بشيء أو تبرع في حال مرضه بشيء أو أعتق عبدا أو دبره أو ما أشبه ذلك ومفوضه أي إلى الورثة بأن أوصى بإعتاق عبد بعد موته أو ببناء مسجد أو رباط من ثلث ماله ونحوها ولذلك أي ولبقاء ما ينقضي به حاجته بقيت الكتابة بعد موت المولى بلا خلاف لأن صحة الكتابة باعتبار مالكيته ليصير معتقا ويحصل له البدل مع ذلك بمقابلة فوات ملك الرقبة وحاجته إلى الأمرين بعد الموت باقية لأنه يحتاج إلى حصول الإعتاق منه(4/440)
وهي أقوى الحوائج ألا ترى أنه ندب فيه حط بعض البدل فإذا جاز بقاء
ـــــــ
بعد الموت ليحصل الولاء له وليتخلص به من العذاب على ما قال عليه السلام: "أيما مسلم أعتق مؤمنا أعتق الله تعالى بكل عضو منه عضوا من النار" ويحتاج إلى حصول بدل الكتابة على ملكه ليستوفى منه ديونه فيتخلص به من العذاب أيضا فلذلك تبقى الكتابة بعد موته.
قوله: "ولذلك" أي وللاحتياج إلى بقاء الكتابة بقيت الكتابة عندنا بعد موت المكاتب عن وفاء فتؤدي كتابته ويحكم بحريته في آخر أجزاء حياته حتى يكون ما بقي ميراثا لورثته وهو مذهب علي وابن مسعود رضي الله عنهما. وقال زيد بن ثابت رضي الله عنه ينفسخ الكتابة بموته والمال كله للمولى وبه أخذ الشافعي رحمه الله لأن المعقود عليه هو الرقبة إذ العقد يضاف إليها وعن فساد العقد يرجع إلى قيمتها كما يرجع إلى قيمة المبيع عند فساد العقد وقد فات بموته قبل سلامته له فيوجب انفساخ العقد كما لو مات عاجزا وكما لو هلك المبيع قبل القبض. ولأنه لو بقي إنما يبقى ليعتق المكاتب بوصول البدل إلى المولى إذا المقصود من العقد في جانبه تحصيل الحرية والميت ليس بمحل للعتق ابتداء لما في العتق من إحداث قوة المالكية وذلك لا يتصور في الميت ولأن الرق من شرطه والميت لا يوصف بالرق ولا يجوز أن يستند العتق إلى حال حياته لأن المتعلق بالشرط لا يسبق الشرط وفي إسناده إلى حال حياته إثبات العتق قبل وجود الشرط وهو الأداء وهذا بخلاف ما إذا مات المولى لأن بعد موت المولى أمكن القول ببقاء الكتابة لأن محل العقد قائم قابل للعتق والمولى إنما يصير معتقا عند أداء البدل بالكلام السابق وذلك قد صح ولزم في حال الحياة فموته لا يبطل الكتابة فأما العبد فمحل العتق وإنما يحتاج إلى محلية التصرف حال نفوذه وثبوت حكمه وقد بطلت المحلية فيبطل الحكم. يوضح ما ذكرنا أن الصحيح إذا علق طلاق امرأته بشرط ثم جن أو أغمي عليه فوجد الشرط يقع الطلاق وإن لم يكن المجنون أو المغمى عليه أهلا للإيقاع عند وجود الشرط ولو أبانها وانقضت عدتها ثم وجد الشرط لا يقع الطلاق لأنها لم تبق محلا للطلاق ولو أوصى بعتق عبده أو قال لعبده أنت حر بعد موتي كان صحيحا ولو قال بعد موتك كان لغوا فعرفنا أن الفرق ثابت بين موت المولى وبين موت المكاتب ونحن نقول المكاتبة عقد معاوضة وتمليك على سبيل الاستحقاق واللزوم فإن المكاتب ملك بها يده وتصرفه من حيث الاكتساب ومكاسبه من حيث اليد والتصرف أيضا على سبيل اللزوم وهو معنى قوله المكاتب مالك بحكم عقد الكتابة والمولى ملك في مقابلته مال الكتابة من حيث يطالبه بذلك ويحبسه عليه وإن لم يملك أصل المال وثبت للمكاتب بما ملك حق أن يؤدي(4/441)
مالكية المولى بعد موته ليصير معتقا فلأن يبقى هذه المالكية ليصير معتقا أولى وأما المملوكية فهي تابعة في الباب ولهذا وجبت المواريث
ـــــــ
الكتابة من ملكه فيحرز به نفسه وحريته كما يثبت للمالك حق أن يقبض فيتمم ملكه في أصل المال فهذا يتمم ملكه بالقبض في رقبة المال والمكاتب يتم إحراز نفسه بالأداء من ملكه لكل أحد حق قبل صاحبه بالعقد بحق المالكية الثابتة بهذا العقد. وتبين أن مالكية المكاتب تثبت لحاجته إلى إحراز نفسه وصيرورته معتقا بواسطة هذه المالكية كما أن مالكية المولى الثابتة بهذا العقد شرعت لحاجته إلى ملك البدل وصيرورته معتقا بواسطته وإحرازه الولاء الذي صار المعتق به بمنزل الولد وهي أي حاجة المكاتب إلى الحرية أقوى الحوائج لأن الحرية رأس مال الحي في أحكام الدنيا إذ الرقيق في حكم الأموات لأن الرق أثر الكفر الذي هو موت حكما ويدخل بالعتق في أحكام الأحياء والدليل على كونها أقوى الحوائج أنه ندب في هذا العقد إلى حط بعض البدل بقوله عز ذكره: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] ليكون أقرب إلى حصول المقصود وهو العتق ثم ما ثبت من المالكية للمولى يبقى بعد موته لحاجته إلى ملك البدل ونسبة الولاء إليه بصيرورته معتقا فلأن ما ثبت للمكاتب من المالكية بعد موته لحاجته إلى حصول الحرية كان أولى لأن حاجته إلى تحصيل الحرية فوق حاجة مولاه إلى الولاء. وقوله: وأما المملوكية فتابعة في الباب جواب عما يقال لو قلتم ببقاء ملكية المكاتب لزم القول ببقاء مملوكيته إذ المكاتب عبد ما بقي عليه درهم ولا يمكن القول ببقاء مملوكيته بعد الموت لأن إبقاء المالكية لمعنى الكرامة ولا كرامة في إبقاء المملوكية لأنها تنبئ عن الذل والهوان وإذا لم تبق المملوكية لا يتصور أن يصير معتقا بعد موته فنفسخ الكتابة فقال بقاء المملوكية يكون تبعا لبقاء المالكية لا مقصودا بنفسه. وبيانه أنا قد احتجنا إلى بقاء المالكية ولا يمكن ذلك إلا ببقاء المملوكية ومحلية التصرف إلى وقت الأداء فيبقى المملوكية شرطا لتحقيق المالكية وليست هي بمقصودة بالبقاء إنما المالكية هي المقصودة استدلالا بجانب المولى لكن من شرط بقائها بقاء المملوكية ليمكن إبدال العتق فيها فتحقق المالكية والشروط اتباع فبقيناها تبعا يوضحه أن المكاتب يبقى بعد الموت مالكا من وجه لا من كل وجه لأنه في حال الحياة كذلك ومن ضرورة بقائه مالكا من وجه أن يبقى معه مملوكية من وجه إذ لو لم يبق مملوكا من وجه لصار مالكا من كل وجه ولم يكن في حال الحياة كذلك ولما ثبت أن المملوكية باقية من وجه حكمنا بنفوذ العتق لوجود شرطه وتقررت به مالكيته التي استفادها بالعقد وإذا ثبت استندت إلى آخر أجزاء حياته لأن الإرث ثبت من وقت الموت فلا بد من إسناد المالكية والعتق المقرر لها(4/442)
................................................................................................
إلى وقت الموت كما في جانب المولى ثبت ملك البدل عند القبض واستند ملكه إلى حال حياته فكذلك هاهنا كذا في الطريقة البرغرية ومن أصحابنا من حكم بقاء المملوكية قصدا فقال لما جاز أن تبقى مالكية المولى بعد موته ليصير معتقا جاز أن تبقى مملوكية المكاتب بعد موته ليصير حرا لأن المملوكية التي هي تنبئ عن الضعف أليق بحال الميت من المالكية التي هي ضرب قوة والدليل على جواز بقاء المملوكية بعد موته لحاجته أن كفن العبد بعد موته على مولاه ولا سبب لاستحقاقه عليه سوى المملوكية. ومنهم من يقول لا نحكم ببقاء المملوكية ولا نجعله حرا بعد الموت ولكنا نسند حريته إلى حال حياته لأن بدل الكتابة كان في ذمته والدين يتحول من الذمة إلى التركة لأن الذمة لا تبقى محلا صالحا للدين بعد الموت ولهذا حل الأجل بالموت فإذا تحول بدل الكتابة إلى التركة فرغت الذمة منه وفراغ ذمة المكاتب يوجب حرمته إلا أنه لا نجوز الحكم بحريته ما لم يصل المال إلى المولى فإذا وصل المال إليه حكم بحريته في آخر جزء من أجزاء حياته.
ومنهم من يقول لا حاجة إلى إبقاء المملوكية فإن حكمنا بحريته بعد الموت ثم أسندناها إلى حال الحياة لأن المقصود من إبقاء حرية أولاده وسلامة أكسابه لا حريته قصدا والولد قائم قابل للعتق والكسب قابل للملك ولكن الشرط نفوذ العتق في المكاتب فيثبت عتقه شرطا لا مقصودا فلا يراعى فيه كون المحل قابلا لهذا الحكم كما أن الملك في المغلوب لما ثبت شرطا لملك البدل لا مقصودا بنفسه ثبت عنه إذ البدل مستندا إلى وقت الغصب وإن كان المغصوب مالكا وآبقا وقت الأداء ولا يلزم على ما ذكرنا ما إذا قتل المكاتب خطأ وقد ترك وفاء بمكاتبته حيث يضمن القاتل قيمته لا ديته ولو حكم بموته حرا لكان المضمون ديته لأنا أسندنا حريته إلى آخر أجزاء حياته والجرح وجد قبله ومن جرح مكاتبا ثم عتق ثم توى يضمن قيمته لا ديته لأن الوجوب مضاف إلى الجرح وهو عبد في تلك الحالة. ولا يلزم أيضا ما إذا أوصى إلى رجل أو لرجل بشيء لا يجوز إيصاؤه ووصيته وكذا لو قذفه إنسان بعد موته عن وفاء وأداء بدل كتابته لا يحد ولو حكم بحريته في حال حياته لجاز إيصاؤه ولحد قاذفه لأنا قد بينا أن إسناد حريته في حكم الكتابة للضرورة فلا يظهر فيما لا ضرورة فيه ولأن الحرية الثابتة بالإسناد ثابتة من وجه دون وجه فلا يثبت بها الإحصان والحد لا يجب بقذف غير المحصن فأما الحرية فيثبت مع الشبهة وكذا الميراث فلا يمنع للإسناد بثبوتها.
قوله: "ولهذا" أي ولأنه تبقى بعد الموت ما ينقضي به حاجة الميت وجبت المواريث أي ثبتت بطريق الخلافة عن الميت لأن حاجته إلى من يخلفه في أمواله بعد(4/443)
بطريق الخلافة عن الميت نظر له من جهة حتى صرفت إلى من يتصل به نسبا أو سببا أو دينا أو دينا بلا نسب وسبب ولهذا صار التعليق بالموت بخلاف سائر وجوه التعليق لأن الموت من أسباب الخلافة فيصير التعليق به وهو كائن بيقين
ـــــــ
موته وخروجه عن أهلية الملك باقية فأقام الشرع أقرب الناس إليه مقامه ليكون انتفاعه بملك الميت بمنزلة انتفاعه بنفسه فيكون نظرا من هذا الوجه ولكن من حيث إن حقيقة الانتفاع لا يحصل له وفي الانتفاع الحكمي وهو حصول الثواب له الوارث والأجنبي سواء لا يكون فيه زيادة نظر فكان نظرا له من وجه فهذا معنى قوله نظرا له من وجه بخلاف تعلق الغريم بماله وأيضا دينه فإن نفعه راجع إليه لأن الدين حائل بينه وبين الجنة فكان إيفاؤه سببا بوصوله إلى الجنة وخلاصه من العذاب فكان نظرا له من كل وجه وقوله دينا متعلق بالنسب والسبب جميعا ودينا كمولى العتاقة والموالاة والزوج والزوجة أو دينا بلا نسب وسبب كعامة المسلمين فإن من مات ولا وارث له يوضع ماله في بيت المال الذي أعد لحوائج المسلمين.
قوله: "ولهذا" أي ولأن الموت من أسباب الخلافة لما بينا أن المواريث تجب بهذا الطريق صار التعليق بالموت أي تعليق الإيجاب به سواء كان إسقاطا بأن قال إذا مت فأنت حر أو تمليكا بأن أوصى بشيء من ماله والمراد من التعليق الإضافة يخالف سائر وجوه التعليق حتى صح تعليق التمليك به إذ معنى الوصية بالمال هو التعليق ولم يصح بسائر الشروط ولزم تعليق العتق به بحيث لم يجز إبطاله بالبيع عندنا ولم يلزم تعليقه بسائر الشروط بهذه المثابة حتى جاز إبطاله بالبيع وكذا التعليق بالموت لا يمنع انعقاد السبب في الحال كشرط الخيار في البيع بخلاف سائر التعليقات وحاصل هذا الفصل أن بيع المدبر المطلق وهو الذي علق عتقه بمطلق موت المولى بأن قال لعبده إذا مت فأنت حر أو أنت حر عن دبر مني أو دبرتك لا يجوز عندنا وعند الشافعي يجوز.
واتفقوا على أن بيع المدبر المقيد بأن قال المولى إن مت من مرضي هذا وإن قدم غائبي أو إن شفى الله مريضي فأنت حر بعد موتي يجوز احتج الشافعي رحمه الله بأن التدبير وصية لأنه إيجاب مضاف إلى ما بعد الموت ولهذا يعتبر من الثلث ولو كان إيجابا للحال لما اعتبر من الثلث والوصية لا تمنع التصرف كما إذا أوصى به لرجل ولا يقال هذه وصية لازمة لأنها تعليق عتق بشرط. لأنا نقول اللزوم من هذا الوجه لا يمنع التصرف في أن بيع العبد المحلوف بعتق جائز سواء علق عتقه بشرط كائن كمجيء غد أو بشرط فيه خطر كدخول الدار ونحن نقول هذا شخص تعلق عتقه بمطلق موت المولى فوجب أن لا يجوز بيعه كما في أم الولد وتحقيقه ما أشير إليه في الكتاب أن الموت من أسباب الخلافة لما بينا في المواريث.(4/444)
إيجاب حق للحال بطريق الخلافة عنه ألا يرى أن الخلافة إذا ثبت سببها وهو مرض الموت للوارث ثبت به حق يصير به المريض محجورا فكذلك إذا ثبت بالنص وصار المال من ثمراته فينظر من بعد فإن كان الحق لازما بأصله مثل حق
ـــــــ
فيصير التعليق أي تعليق الإيجاب إسقاطا كان أو تمليكا بالموت وهو أمر كائن بيقين إيجاب حق لمن وقع له الإيجاب في الحال بطريق الخلافة عن الميت وقوله وهو كائن بيقين لبيان تحقيق الخلافة فإن الموت لما كان كائنا لا محالة كان التعليق به إثبات الخلافة بلا شك قال القاضي الإمام أبو زيد والإمام فخر الدين البرغري رحمهما الله إن الإيصاء إثبات عقد الخلافة في ملكه للموصى له مقدما على الوارث فاعتبر للحال سببا لإثبات الخلافة كالنسب والولاء وذلك لأن حال الموت حال زوال الملك وتعليق الإيجاب إسقاطا كان أو تمليكا بحال زوال الملك لا يصح فعلم أن السبب يكون منعقدا حال بقاء الملك والحق ثابت لكن على سبيل التأجيل ألا ترى أن الخلافة يعني الخلافة الثابتة بالشرع إذا ثبت سببها وهو مرض الموت ثبت بذلك السبب حق للخليفة وهو الوارث يصير المريض بثبوت ذلك الحق له محجورا عن التصرف الذي يبطل ذلك الحق فكذلك إذا ثبت سبب الخلافة بالنص أي بتنصيص الأصل بأن قال أوصيت لفلان بكذا أو قال لعبده أنت حر بعد موتي أو إذا مت فأنت حر يثبت للموصى له وللعبد بهذا السبب حق في الموصى به وفي الرقبة في الحال على وجه يصير الموصى محجورا عن إبطاله إذا كان لازما. وصار المال من ثمراته أي ثمرات ثبوت سبب الخلافة يعني به أن الإيصاء إثبات للخلافة والملك يثبت حكما لثبوت سبب الخلافة لا أن يكون الإيصاء تصرفا في المال قصدا فإنه لو قال أوصيت لفلان بثلث مالي ولا مال له يصح حتى لو حدث له مال ثم مات كان ثلثه للموصى له ولو كان تمليكا للمال قصدا كان قيام المال شرطا وبدليل أن الملك يثبت للموصى له بموت الموصي من غير قبول كما يثبت في المواريث ويمتنع بالدين كما يمتنع به ملك وارث فثبت أن الإيصاء إيجاب سبب الخلافة للحال ويثبت حكمه عند الموت ولما كان سببا للحال يثبت للموصى له حق في الحال يصير حقيقة عند الموت كما في حق الوارث فينظر من بعد أي من بعد ثبوت الحق بثبوت سبب الخلافة فإن كان الحق غير لازم بأصله كما في الوصية بالمال كان للموصي ولاية إبطاله بالبيع والهبة والرجوع ونحوها لأن سبب الخلافة وإن كان منعقدا لكن الحق الثابت به وهو حق الملك غير لازم فلم يلزم سببه أيضا قال القاضي الإمام رحمه الله الخلافة في المال لا تلزم لأنها خلافة تبرع بالمال ولو وهب ونجز الإيجاب لم يلزم ما لم يسلم ويقع الملك فهذا أولى وإن كان الحق لازما بأصله مثل حق العتق بالتدبير منع هذا الحق الاعتراض عليه من المولى بما(4/445)
العتق بالتدبير منع الاعتراض عليه من المولى للزومه وهو معنى التعليق فلذلك بطل بيع المدبر وصار ذلك كأم الولد فإنها استحقت شيئين حق العتق لما بينا وسقوط القوم لما بينا وسقوط القوم عند أبي حنيفة رحمه الله لأن التقوم بالإحراز يكون
ـــــــ
يبطله للزوم هذا الحق في نفسه لأن العتق لازم لا يحتمل النقض فحق العتق الثابت بناء على ثبوت السبب لا يحتمله أيضا كما في أم الولد وللزم في سببه وهو معنى التعليق فإن تعليق العتق سائر الشروط لازم لا يحتمل النقض لكونه يمينا فتعليقه بالموت الذي هو كائن لا محالة وسبب للخلافة أولى باللزوم. وإنما قال معنى التعليق لأن قوله أنت حر بعد موتي إضافة وليس بتعليق صورة ولكن فيه معنى التعليق باعتبار تأخر الحكم عن زمان الإيجاب فلذالك أي للزوم حق العتق من الوجهين بطل بيع المدبر قال شمس الأئمة رحمه الله هذا السبب يعني التدبير تقوى من وجهين أحدهما أن المتعلق مما لا يحتمل الإبطال. والثاني أن التعليق بما هو كائن لا محالة وهو موجب للخلافة فلهذه القوة لا يحتمل الإبطال والفسخ بالرجوع عنه ويجب للمدبر به حق الحرية في الحال على وجه يمتنع بيعه ويثبت استحقاق الولاء للمولى على وجه لا يجوز إبطاله بخلاف التعليق بسائر الشروط فإن دخول الدار ونحوه ليس بكائن لا محالة والتدبير المقيد ليس بكائن لا محالة والتعليق بمجيء رأس الشهر ليس بسبب للخلافة والوصية برقبة العبد لغيره تمليك يحتمل الإبطال بعد ثبوته وإلى هذا المعنى أشار القاضي الإمام رحمه الله أيضا فقال التدبير عتق مضاف إلى وقت فيلزم كالإضافة إلى غد وإنما أضيف إلى الموت الذي هو سبب الخلافة فيعتبر سببا في الحال لاستحقاق العتق بعد الموت كالنسب فيصير حكمه مأخوذا من أصلين لا من أصل واحد كقول الرجل لآخر أعتق عبدي إن شئت فإنه يلزم ويقتضي الجواب في المجلس بخلاف التوكيل وبخلاف اليمين لأنه من حيث إنه تعليق بشرط المشيئة يمين بالعتق فيلزم ومن حيث إنه مفوض إلى مشيئته تمليك إذ المالك هو الذي يفعل إن شاء وإن شاء يترك فيقتضي الجواب في المجلس كما لو قال أمر عبدي بيدك فيؤخذ حكمه من أصلين لا من أصل واحد. فتبين بهذا أنه لا بد من الأمرين المذكورين في الكتاب للتفصي عن عهدة ما يرد سؤالا على هذا الأصل وصار ذلك أي المدبر في عدم جواز البيع لاستحقاق حق العتق كأم الولد فإنها استحقت بسبب الاستيلاد شيئين حق العتق للحال لما بينا ممن تعلق العتق بالموت الذي هو أمر كائن وهذا بالاتفاق وسقوط التقويم عند أبي حنيفة رحمه الله حتى لا تضمن بالغصب ولا بإعتاق أحد الشريكين نصيبه منها عنده وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله هي متقومة لأن الثابت حق العتق وذلك مؤثر في امتناع البيع دون سقوط التقوم كما في المدبرة إلا أن المدبرة تسعى للغرماء(4/446)
وقد ذهب لأن الأمة في الأصل يحرز لماليتها والمتعة تابعة فإذا صارت فراشا صارت محصنة محرزة للمتعة والمالية تابعة فصار الإحراز عدما في حق المالية فلذلك ذهب التقوم وهو غرة المالية وانتسخت بغرة المتعة فتعدى الحكم الأول إلى المدبر لوجود معناه دون الثاني. ولهذا قلنا إن المرأة تغسل زوجها بعد الموت في عدتها لأن الزوج مالك فبقي ملكه إلى انقضاء العدة فيما هو من
ـــــــ
والورثة وأم الولد لا تسعى لهم لأنها مصروفة إلى حاجته الأصلية وحاجته مقدمة على حق الغرماء والورثة كحاجته إلى الجهاز والكفن أما التدبير فليس من أصول حوائجه فيعتبر من الثلث. وأبو حنيفة رحمه الله يقول إن التقوم يثبت بالإحراز فإن الصيد قبل الإحراز لا يكون متقوما وبعده يصير متقوما وقد ذهب الإحراز هاهنا لأن الأمة في الأصل أي الأصل في الأمة أنها تحرز لماليتها والمتعة منها تابعة ولهذا صح شراء أخته من الرضاع وشراء الأمة المجوسية وشراء الأختين وإن لم يوجد فيهن المتعة فإذا صارت فراشا بالاستيلاد صارت محصنة محرزة للمتعة كالمنكوحة وصارت المالية منها تابعة وذلك لأنه لم يوجد في الشرع صورة يكون الإحراز للأمرين مقصودا فإذا ثبت الإحراز للفراش مقصودا لم يبق الإحراز للمالية مقصودا فصار الإحراز عدما في حكم المالية.
فلذلك أي لعدم الإحراز ذهب التقوم وقد ينفصل ملك المتعة عن ملك المالية كما في المنكوحة فيجوز أن تبقى المتعة وتذهب المالية فتعدى الحكم الأول وهو ثبوت حق العتق في الحال على وجه يمنع من البيع إلى المدبر لوجود معناه وهو تعلق العتق بالموت الذي هو كائن لا محالة دون الثاني وهو سقوط التقوم لعدم ما يوجبه وهو الإحراز للمتعة ولهذا فارقت المدبرة أم الولد في أنها لا تسعى للورثة والغرماء وتسعى المدبرة لهم لأن صفة المالية والتقوم لما لم تبق في أم الولد لا يتعلق بها حق الغرماء والورثة فلا تسعى لهم بل تعتق من كل المال والمدبرة لما أحرزت للمالية لا للمتعة تقومت في حق الغرماء والورثة فيتعلق بها حقهم فلذلك وجب عليها السعاية لهم.
قوله: "ولهذا" أي ولأن المالكية تبقى بعد الموت بقدر ما ينقضي به حاجة الميت قلنا إن المرأة تغسل زوجها بعد الموت في عدتها لأن النكاح في حكم القائم للحاجة ما لم ينقض العدة لأن ملك النكاح لا يحتمل التحول إلى الورثة فبقي موقوفا على الزوال بانقضاء العدة كما بعد الطلاق الرجعي ولو ارتفع النكاح بالموت فقد ارتفع إلى خلف وهو العدة وهي حق النكاح فتقوم مقام حقيقته في إبقاء حل المس والنظر كيف وقد قالت عائشة رضي الله عنها لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا(4/447)
حوائجه خاصة بعد الموت بخلاف المرأة إذا ماتت لأنها مملوكة وقد بطلت أهلية المملوكية فلا تبقي حقا لها لأن ذلك حق عليها. ألا ترى أنه لا عدة عليه بعدها ولو بقي ضرب من الملك لوجبت مراعاته بالعدة لأن ملك النكاح لم
ـــــــ
نساؤه تعني لو علمنا أن الرسول عليه السلام يغسل بعد الوفاة لما غسله إلا نساؤه1 وقد أوصى أبو بكر رضي الله عنه إلى امرأته أسماء أن تغسله وكذا أبو موسى الأشعري رضي الله عنه بخلاف المرأة إذا ماتت لم يكن لزوجها أن يغسلها وقال الشافعي رحمه الله له ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها: "لو مت غسلتك وكفنتك وصليت عليك" 2 وقد غسل علي فاطمة رضي الله عنها بعد موتها ولأن الملك جعل كالقائم في حق الرجل لحاجته إلى الغسل فجعل كذلك في حقها أيضا لأن ملك الحل مشترك بينهما ولنا أن النكاح بموتها ارتفع بجميع علائقه فلا يبقى حل المس والنظر كما لو طلقها قبل الدخول بها وذلك لأن المرأة مملوكة في النكاح وقد بطلت أهلية المملوكية بالموت فلا تبقى أي المملوكية حقا للمرأة لأن ذلك أي المملوكية حق عليها فلا يمكن إبقاؤها حكما بعد فوات المحل بالموت لعدم الحاجة إلى إبقائها نظرا إلى الأصل لأنها لم تشرع لحاجة المملوك إليها بخلاف المالكية فإنها شرعت للحاجة فيجوز أن يحكم ببقائها بعد الموت عند بقاء محل الملك للحاجة. ثم استوضح انقطاع النكاح في جانبها بالكلية بقوله ألا ترى أنه لا عدة على الزوج بعد موت المرأة حتى حل له التزوج بأختها وأربع سواها من غير تراخ ولو بقي بعد موتها ضرب من الملك لوجبت مراعاته بالعدة لأن ملك النكاح ثبوتا لم يشرع غير مؤكد حتى تأكد بالحجة أي الشاهد والمال أي المهر والمحرمية أي حرمة المصاهرة فكذا في حال الزوال بالموت وجب مراعاة حقه بالعدة لأن النكاح إذا تأكد لا يمكن قطعه بمرة بل تجب العدة ليستحق الانقطاع بمضيها فيصير حق الزوج مؤدى بالبقاء على ملكه مدة ويعود حق المرأة في نفسها إليها وهاهنا لم يجب العدة أصلا فعلم أن في جانبها لم يوجد شيء من الملك ومعنى قوله عليه السلام غسلتك قمت بأسباب غسلك وقد روي أن أم أيمن غسلت فاطمة رضي الله عنهما ولو ثبت أن عليا غسلها فذلك لادعائه الخصوصية به حيث قال لابن مسعود رضي الله عنه حين أنكر عليه ذلك أما علمت أن رسول الله عليه السلام قال: "فاطمة زوجتك في الدنيا والآخرة" .
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الجنائز حديث رقم 3141 والإمام أحمد في المسند 6/267.
2 أخرجه ابن ماجه في الجنائز حديث رقم 1465 والإمام أحمد في المسند 6/228.(4/448)
يشرع غير مؤكد ألا ترى أنه يؤكد بالحجة والمال والمحرمية وأما الذي لا يصلح لحاجته فالقصاص لأنه شرع عقوبة لدرك الثأر وقد وجب عند انقضاء الحياة وعند ذلك لا يجب له إلا ما يضطر إليه حاجته وقد وقعت الجناية على حق أوليائه من وجه لانتفاعهم بحياته فأوجبنا القصاص للورثة ابتداء والسبب قد
ـــــــ
قوله: "وأما الذي لا يصلح لحاجته" أي الميت وهو رابع الأقسام الأربعة فالقصاص لأنه شرع لدرك الثأر ولتشفي الصدور ولإبقاء الحياة على الأولياء بدفع شر القاتل والميت لم يبق أهلا لهذه الأشياء ولا حاجة له إليها وقد وجب القصاص عند انقضاء حياة المقتول وعند انقضاء حياته لا يجب له أي لا يثبت له إلا ما يصلح لقضاء حوائجه من تجهيزه وتكفينه وقضاء ديونه وتنفيذ وصاياه والقصاص لا يصلح لهذه الحوائج أصلا. وقد وقعت الجناية على حق أولياء الميت من وجه لانتفاعهم بحياته فإنهم كانوا يستأنسون به وينتصرون به على الأعداء وينتفعون بماله عند الحاجة فأوجبنا القصاص للورثة ابتداء يعني لا يثبت للميت أولا ثم ينتقل إليهم بحيث تجري فيه سهام الورثة كما ينتقل سائر الحقوق بل يثبت لهم ابتداء لحصول منفعة التشفي لهم دون الميت ولوقوع الجناية على حقهم من وجه والسبب انعقد للميت لأن المتلف نفسه وحياته وقد كان منتفعا بحياته أكثر من انتفاع أوليائه بها فكانت الجناية واقعة على حقه فينبغي أن يجب القصاص له من هذا الوجه لكنه لما خرج عند ثبوت الحكم عن أهلية الوجوب له وجب ابتداء الولي لقائم مقامه على سبيل الخلافة كما ثبت الملك للمولى في كسب عبده المأذون ابتداء على سبيل الخلافة عن العبد وكما ثبت الملك للموكل ابتداء عند تصرف الوكيل بالشراء خلافة عن الوكيل ويؤيده قوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [الاسراء: 33] بين أن ابتداء ثبوت القصاص للولي القائم مقام المقتول كذا في المبسوط وغيره.
قوله: "ولهذا" أي ولما ذكرنا من الوجهين صح عفو الوارث عنه أي عن القصاص أو عن القاتل قبل موت المجروح استحسانا والقياس أن لا يصح لأن حقه إنما يثبت بعد موت المورث فعفوه قبل موت المجروح يكون إسقاطا للحق قبل ثبوته فيكون باطلا كما لو أبرأ الوارث من عليه دين لمورثه قبل موته. وصح عفو المجروح استحسانا أيضا والقياس أن لا يصح لأن القصاص إنما يجب بعد الموت للوارث لا للمورث لما بينا أن الوارث هو المنتفع به دون المورث فيكون المورث بعفوه مسقطا حق الغير ومسقطا للحق قبل وجوبه أيضا وكلاهما باطل وجه الاستحسان أن السبب يجعل قائما مقام حقيقة وجوب الحق في صحة العفو ثم باعتبار نفس الواجب الحق للوارث لما قلنا إن القصاص في النفس لا يجب(4/449)
انعقد للميت ولهذا صح عفو الوارث عنه قبل موت المجروح وصح عفو المجروح أيضا ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله إن القصاص غير موروث لما قلنا إن الغرض به درك الثأر وإن تسلم حياة الأولياء والعشائر وذلك يرجع إليهم لكن القصاص واحد لأنه جزاء قتل واحد وكل واحد منهم كأنه يملكه وحده
ـــــــ
إلا بعد الموت والمورث بعد الموت ليس بأهل أن يجب هذا الحق له فيجب للوارث وباعتبار أصل السبب الحق للمورث لأن السبب جناية على حقه وبعد وجود هذا السبب هو من أهل أن يجب له الحق فصححنا عفو الوارث استحسانا مراعاة للواجب وصححنا عفو المورث أيضا استحسانا مراعاة للسبب وهذا لأن العفو مندوب إليه قال الله تعالى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45] {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى:43] فيجب تصحيحه بقدر الإمكان.
قوله: "ولهذا قال أبو حنيفة" أي ولأن القصاص يجب بعد انقضاء الحياة قال أبو حنيفة رحمه الله إن القصاص غير مورث يعني لا يثبت على وجه يجري فيه سهام الورثة بل يثبت ابتداء للورثة لما قلنا الغرض من درك الثأر أي الحقد يقال أدرك ثأره إذا قتل قاتل حميمه وإن تسلم أي وسلامة حياة أولياء المقتول وعشائره كما قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] وذلك أي الغرض المذكور يرجع إلى الورثة لا إلى الميت فعرفنا أنه لا يثبت على سبيل الإرث بل يثبت لهم ابتداء. وقوله لكن القصاص واحد جواب عما يقال لما كان وجوب القصاص لدرك خمر وسلامة الحياة للأولياء كان ينبغي أن لا يملك البعض استيفاء القصاص بدون حضور الباقين فأجاب بقوله لكن القصاص إلى آخره كذا قيل والأولى أن يقال لما بين أنه يثبت للورثة ابتداء شرع في بيان أنه يثبت لكل واحد على الكمال لا أنه يثبت قصاص واحد للجميع كما قال الخصوم فقال لكن القصاص واحد يعني في جانب المحل وهو القاتل بلا خلاف لأنه لم يباشر إلا قتلا واحدا فلا يجب عليه الإجزاء واحدا ولا حاجة لصحة الوجوب إلى إثبات التعدد حكما وكل واحد كأنه يملك وحده يعني في جانب المستحقين هو في حكم المتعدد لأن الإيجاب لهم لم يستقم إلا بهذا الطريق ذلك لأن القصاص لا يحتمل التجزيء إذ لا يمكن إزالة الحياة عن بعض المحل دون البعض وقد ثبت بسبب لا يحتمل التجزيء وهو القتل وقد تعذر إيجاب البعض ابتداء بالإجماع فأما إن تكامل في حق كل واحد منهم أو يبطل لتعذر إثباته متجزئا ولم يبطل بالإجماع فثبت أنه تكامل في حق كل واحد كأن ليس معه غيره. بمنزلة ولاية النكاح فإنها تثبت لكل واحد من الأولياء كأن ليس معه غيره وهذا ليس بإيجاب زيادة في حق القاتل لأن هذا التعدد لا يظهر في حقه بوجه وإذا كان(4/450)
فإذا عفا أحدهم أو استوفاه بطل أصلا وملك الكبير استيفاءه إذا كان سائرهم
ـــــــ
كذلك ملك كل واحد منهم الاستيفاء بانفراده لأنه لا زيادة في حق من عليه القصاص فإذا عفا أحدهم أو استوفاه سقط القصاص أصلا لأن في صورة الاستيفاء قد فات المحل فيستحيل بقاؤه بدون المحل وفي صورة العفو لو بقينا القصاص للباقين بعد عفو أحدهم كان من ضرورته تعدد القصاص الواجب في المحل وهو غير متعدد في المحل بالإجماع وقبل العفو لو قلنا كل واحد منهم يكون متمكنا من الاستيفاء لا يكون ممن ضرورته تعدد القصاص كذا في المبسوط.
ثم القصاص وإن بطل في الصورتين لكن المال يجب في صورة العفو للباقين ولا يجب شيء في صورة الاستيفاء للباقين ولا للقاتل الذي وجب القصاص عليه بناء على أن تعذر القصاص إن كان من جانب من عليه القصاص يجب المال لأن القتل حينئذ يصير في معنى الخطأ فيوجب المال وإن كان من جانب من له القصاص لا يجب شيء لأن الامتناع من جهته فالتعذر في مسألة العفو من جانب من عليه القصاص إذ الامتناع لمرعاة الحرمة لبعض نفسه فإن بعض نفسه قد حبي بالعفو فصار في معنى الخطأ فيجب المال لغير العافي ولا يجب شيء لأن تعذر الاستيفاء في حقه كان بإسقاطه. والتعذر في مسألة الاستيفاء من جانب من له القصاص لأنه لا يقدر على الاستيفاء بعد فوات المحل بالقتل كما لا يقدر عليه بعد فواته بالموت فلذلك لا يجب شيء.
قوله: "وملك الكبير استيفاءه إذا كان سائرهم صغارا" في قول أبي حنيفة رحمه الله. وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي وابن أبي ليلى رحمهم الله لم يملك ذلك بل يتوقف حتى يكبروا لأن القصاص حق مشترك بين الورثة فلا ينفرد أحدهم باستيفائه كالدية وكالعبد المشترك بين اثنين إذا قتل لا ينفرد أحدهما بالاستيفاء وكالورثة إذا كان فيهم كبير غائب وهذا لأن الواجب قصاص واحد لأن المقتول نفس واحدة ويكون ذلك واجبا للمقتول بمنزلة الدية لأن الجناية وردت عليه ثم تثبت للورثة إرثا عنه بطريق الخلافة ولهذا تثبت على قدر سهامهم ويظهر ذلك عند انقلاب القصاص مالا يعفو أحدهم فإن نصيب الباقين ينقلب مالا على قدر سهامهم فكان نصيب كل واحد منهم جزءا منه لأن استحقاق الميراث بسهام منصوص عليها كالنصف والثلث والربع ونحوها وبملك بعض القصاص لا يمكن استيفاء الكل. ولا يقال إنه غير متجزئ لاستحالة قتل بعض الشخص دون بعضه فلا يتصور أن يثبت للورثة متبعضا لأنا نقول إنه لا يتجزأ وقوعا في المحل فأما في حق الاستحقاق فيجوز أن يتجزأ لأنه حكم شرعي فيجوز أن يثبت للمستحق الحق في البعض شرعا ولهذا لو عفا واحد لم يسقط كل الحق حتى انقلب مالا إلا أنه لما(4/451)
صغارا عند أبي حنيفة رحمه الله ولا يمكنه إن كان فيهم كبير غائب لاحتمال
ـــــــ
لم يتجزأ وقوعا في المحل كان طريق استيفائه أن يجتمعوا فيستوفوا ويتنزلوا بإجماعهم منزلة الميت كما إذا كان القصاص موروثا بأن قتل وله ابن ثم مات الابن عن ابنين وجب القصاص لهما واستوفيا دفعة واحدة فأما إطلاق الاستيفاء لكل واحد فيستدعى إثبات الحق لكل واحد على الكمال وأنه ممتنع لأنه تعديد المتحد وفيه إثبات على خلاف ما يقتضيه السبب وهو الإرث فإن المزاحمة متى ثبتت منع الإثبات له كلا. والجواب أن وجوب القصاص للاستيفاء لأنه حكم شرعي يعرف بأثره والوجوب فيما يرجع إلى الاستيفاء لا يتجزأ لأن الاستيفاء لا يتجزأ وما لا يتجزأ إذا أضيف إلى جماعة وسبب ثبوت الكل موجود في حق كل واحد منهم ثبت لكل واحد منهم كلا كما بينا وإذ وجب كلا أطلقنا الاستيفاء لكل واحد فلا نحتاج إلى إنزالهم منزلة شخص واحد واندفع قولهم بأنه إثبات التعدد لأنا لا نثبت التعدد فيما يرجع إلى المحل بل نضيف هذا المتحد إلى كل واحد كأنه المتفرد به كما إذا قتل جماعة واحدا يقتص الكل به بهذا الطريق فإن القتل الحاصل في المحل يضاف إلى فعل كل واحد منهم إذا صلح للإضافة إليه وأما أحد الموليين فإنما لا ينفرد بالاستيفاء لأن السبب لم يكمل في حقه لأن حق الاستيفاء يثبت له بالملك وإنه ليس بكامل ولهذا لم يكن لأحد الموليين في الأمة ولاية تزويجها بانفراده أما القرابة فسبب كامل لاستحقاق الكل وإنما لا يثبت عند المزاحمة للتضايق لا لخلل في السبب بمنزلة المجتمعة في التركة ولا تجري هاهنا لأن المحل لا يقبله فأثبتنا كلا وكذا الحكم في القصاص الموروث لأن كل وارث استحق جزءا منه بعد موت المورث بالنص وثبوت الجزء مما لا يتجزأ كثبوت الكل وذكر الجزء فيما لا يحتمل الوصف بالتجزؤ كذكر الكل فيثبت لكل واحد منهم الكل باعتبار أن السبب لكل واحد منهم وهو القرابة كامل كذا في المبسوط.
قوله: "ولا يملكه إذا كان فيهم كبير غائب" أي لا يملك الكبير الحاضر استيفاء القصاص إذا كان في الورثة كبير غائب وإن كان ثبت للحاضر جميع القصاص لأن في استيفائه شبهة العفو موجودة لاحتمال أن يكون الغائب قد عفا عن القاتل والحاضر لا يشعر به وعفو الغائب صحيح سواء علم بوجوده أو لم يعلم فلهذه الشبهة يمتنع الاستيفاء وهذا المعنى لا يوجد عند صغر بعض الورثة لأن الصغير ليس من أهل العفو وإنما يتوهم عفوه بعد بلوغه وشبهة عفو يتوهم اعتراضه لا يمنع استيفاء القصاص ويلزم على هذا الجواب أن السارق يقطع بخصومة المودع عند غيبة المالك إن احتمل أن المالك قد وهبه من السارق أو أقر له بالملك وكذا يقطع بغيبة الشهود مع توهم(4/452)
العفو ورجحان جهة وجوده لكونه مندوبا شرعا ولذلك قال أبو حنيفة رحمه الله في الوارث الحاضر إذا أقام بينة على القصاص ثم حضر الغائب كلف إعادة البينة وإذا انقلب القصاص مالا صار موروثا لأن موجب القتل في الأصل القصاص وعند الضرورة يجب الدية خلفا عن القصاص فإذا جاء الخلف جعل كأنه هو
ـــــــ
الرجوع. فأشار إلى الجواب بقوله ورجحان جهة وجوده لكونه مندوبا إليه شرعا يعني إنما اعتبرنا هذا الموهوم لأن المولى مندوب إلى العفو والإنسان يرغب فيما يندبه الشرع إليه فاعتبر هذا الاحتمال لرجحان جهة وجوده في المنع من الاستيفاء فأما الشاهد فغير مندوب إلى الرجوع والمالك غير مأمور بالإقرار فبقي مجرد الوهم فلا يعتبر على أن اعتبار الموهوم في هذه المسألة يوجب تأخير الاستيفاء إلى حضور الغائب لا إسقاط القود أصلا وهناك اعتبار يوجب إسقاط القطع لأنه يسقط بالتقادم فلا يدل اعتبار الموهم هاهنا على اعتباره هناك.
قوله: "ولذلك" أي ولأن القصاص يجب للورثة ابتداء لا بطريق الإرث قال أبو حنيفة رحمه الله فيما إذا ادعى رجل دم أبيه على رجل وأخوه غائب وأقام بينة على ذلك تقبل ويحبس القاتل لأنه صار متهما بالدم فإذا حضر الغائب كلف أن يعيد البينة ولا يقضى لهما بالقصاص قبل إعادة البينة وعندهما لا يكلف إعادة البينة لأن عندهما القصاص واجب بطريق الإرث وأحد الورثة ينتصب خصما عن الميت فيما يثبت له وعليه والبينة متى أقامها خصم لم يجب إعادتها بعد ذلك. ألا ترى أن القتل لو كان خطأ لم يكن على الغائب إذا حضر أن يعيد البينة ليستوفي نصيبه من الدية فكذلك هذا وعند أبي حنيفة رحمه الله كان القصاص واجبا للورثة ابتداء لا إرثا على المقتول لا يكون بعضهم نائبا عن البعض في إثبات حقه بغير وكالة منه كما لو اشتروا عبدا و جحد البائع فأقام أحدهم البينة فالبينة التي أقامها الحاضر لا تثبت القصاص في حق الغائب فلا بد له من إعادة البينة ليتمكن من الاستيفاء لأنا نجعل كل وارث في حق القصاص كأنه ليس معه غيره وليس من ضرورة ثبوت القصاص للذي أقام البينة ثبوته لغيره وهذا بخلاف الخطأ فإن المال وهو موروث للورثة عن الميت بعد الفراغ من حاجته بمنزلة سائر الأموال فينتصب كل وارث خصما عن الميت وعن سائر الورثة في إثباته كذا في المبسوط.
قوله: "وإذا انقلب القصاص مالا" إشارة إلى الجواب عما قالوا إن القصاص يثبت بطريق الإرث بدليل أن خلفه وهو المال موروث بالإجماع فقال وإذا انقلب القصاص مالا بالصلح أو بعفو البعض أو بشبهة صار موروثا حتى يقتضي منه ديون الميت وينفذ وصاياه ويجري فيه سهام الورثة لأن موجب القتل في الأصل القصاص لأنه هو المثل صورة ومعنى(4/453)
الواجب في الأصل وذلك يصلح لحوائج الميت فجعل موروثا ألا ترى أن حق الموصى له لا يتعلق بالقود ويتعلق بالدية فاعتبر سهام الورثة في الخلف دون الأصل وفارق الخلف الأصل لاختلاف حالهما ولهذا وجب القصاص للزوج وللزوجة لأن النكاح يصلح سببا للخلافة ودرك الثأر ولهذا وجب بالزوجية
ـــــــ
وعند الضرورة وهي تعذر الاستيفاء تجب الدية خلفا عن القصاص كما تجب القيمة عند فوت المثل صورة ومعنى وكما تجب الفدية عند تعذر القضاء في باب الصوم. فإذا جاء الخلف جعل كأنه هو الواجب في الأصل لأن الخلف يجب بالسبب الذي يجب به الأصل والسبب وهو القتل انعقد للميت فيستند وجوب الحلف إليه وصار كأنه هو الواجب بهذا القتل كالدية في القتل خطأ وذلك أي الخلف يصلح لحوائج الميت من التجهيز والتكفين وقضاء الديون وتنفيذ الوصايا فيجعل موروثا كسائر التركة حتى يقدم حقوق الميت فيه على حق الورثة وكان له الأصل في القصاص أن يجب للميت أيضا لأنه واجب بمقابلة تفويت دمه وحياته لكنا أثبتنا للورثة ابتداء لمانع وهو أنه لا يصلح لحاجة الميت وإن درك الثأر الذي هو المقصود الأصلي حاصل للورثة لا للمقتول وفي الخلف عدم هذا المانع فجعل موروثا ألا ترى توضيح لقوله كأنه هو الواجب في الأصل أو توضيح لمفارقة الخلف الأصل في الميت لاختلاف حالهما أي حاليهما وهو أن الأصل لا يصلح لدفع حوائج الميت ولا يثبت مع الشبهة والخلف يصلح لذلك ويثبت مع الشبهة والخلف قد يفارق الأصل عند اختلاف الحال كالتيمم يفارق الوضوء في اشتراط النية لاختلاف حاليهما وهو أن الماء مطهر بنقسه والتراب ملوث كذلك هاهنا.
قوله: "ولهذا" أي ولأن القصاص يجب ابتداء للورثة عند أبي حنيفة رحمه الله لأن درك الثأر حاصل لهم ويجب للمقتول ثم ينتقل إلى الورثة بطريق الخلافة عندهما وجب القصاص للزوج والزوجة عندنا وقال ابن أبي ليلى ليس لهما حق في القصاص لأن سبب استحقاقهما العقد والقصاص لا يستحق بالعقد لأن المقصود في القصاص التشفي والانتقام ويختص به الأقارب الذين ينصر بعضهم بعضا ولهذا لم يثبت للموصى له حق في القصاص. ونحن نقول النكاح يصلح سببا للخلافة أي لاستحقاق الإرث بطريق الخلافة كالقرابة حتى لا يتوقف الملك على القبول ولا يرتد بالرد بخلاف الوصية ويصلح سببا لدرك الثأر أيضا لأنه بناء على المحبة والمحبة الثابتة بالزوجية مثل المحبة الثابتة بالقرابة بل فوقها فثبت أن الزوجية تصلح لاستحقاق القصاص على الأصلين إلى الأصلين وإلى الأصلين أشار الشيخ رحمه الله بقوله سببا للخلافة ودرك الثأر ولهذا أي ولأن النكاح يصلح سببا وجب بالزوجية نصيب في الدية وقال مالك رحمه الله لا يرث الزوج والزوجة من(4/454)
نصيب في الدية ألا يرى أن للزوجية مزية تصرف في الملك فصار كالنسب وأما أحكام الآخرة فأربعة ما يجب له وما يجب عليه مما اكتسبه في حياته وما يلقاه من ثواب وكرامة أو عقاب وملامة لأن القبر للميت كالرحم للماء والمهاد
ـــــــ
الدية شيئا لأن وجوبها بعد الموت والزوجية تنقطع بالموات ونحن نقول إنها مال الميت حتى تقضى منها ديونه فيرث منها جميع ورثته كسائر أمواله وقوله الزوجية ترتفع بالموت مسلم, ولكن سبب الخلافة زوجية قائمة إلى وقت الموت منتهية به لا زوجية قائمة في الحال. ألا ترى أن سائر الأموال يستحق بهذه الزوجية فكذا الدية وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لضحاك بن سفيان الكلابي أن يورث امرأة أشيم الضبابي من عقل زوجها أشيم وهو مذهب عمر وعلي وعامة الصحابة رضي الله عنهم ثم استوضح المسلمين بقوله ألا ترى أن للزوجية مزية تصرف في الملك أي في المال فإن بين الزوجين من البسوطة في الأموال ما لم يوجد مثلها بين الأقارب وذلك دليل المحبة والاتحاد. فصار أي النكاح كالنسب في صلاحيته لاستحقاق القصاص والدية.
قوله: "وأما أحكام الآخرة فأربعة" أيضا كأحكام الدنيا أحدها ما يجب له على الغير من الحقوق المالية والمظالم التي ترجع إلى النفس والعرض والثاني ما يجب للغير عليه من الحقوق والمظالم والثالث ما يلقاه من ثواب وكرامة بواسطة الإيمان واكتساب الطاعات والخيرات. والرابع ما يلقاه من عقاب وملامة بواسطة المعاصي والتقصير في العبادات لأن القبر أي ثبوت هذه الأحكام في حق الميت باعتبار أن القبر للميت كالرحم للماء والمهاد للطفل من حيث إن الميت وضع فيه للخروج وللحياة بعد الفناء ولأحكام الآخرة روضة دار إن كان من أهل الكرامة والثواب أو حفرة نار إن كان من أهل الشقاوة والعقاب فكان للميت فيه حكم الأحياء فما يرجع إلى أحكام الآخرة كما أن للجنين في الرحم حكم الأحياء فما يرجع إلى أحكام الدنيا وذلك أي ما ذكرنا من الأحكام ثابت في حقه بعدما يمضي أي يجزئ عليه في هذا المنزل وهو القبر للابتلاء في الابتداء وهو سؤال المنكر والنكير فإن سؤالهما من الابتلاء والفتنة ولهذا سميا فتاني القبر. وقد روي عن سفيان الثوري رحمه الله أنه قال إذا سئل الميت من ربك تراءى له الشيطان في صورة فيشير إلى نفسه أي أنا ربك فهذه فتنة عظيمة جعلها الله تعالى مكرمة للمؤمن إذا ثبته ولقنه الجواب فلذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت يدعو له بالثبات ويقول لأصحابه: "سلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل" 1 تنويها متعلق بمعنى الابتلاء أي
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الجنائز حديث رقم 3221.(4/455)
للطفل وضع فيه لأحكام الآخرة روضة دار أو حفرة نار فكان له حكام الأحياء وذلك كله بعد ما يمضي عليه في هذا المنزل الابتلاء في الابتداء والله أعلم.
ـــــــ
جريان الابتلاء في ابتداء الوضع في القبر لأجل إعلاء أمره ومباهاته على أقرانه فإنه لما سئل وأجاب على مقتضى الإيمان وأمن فيه من فتنة الشيطان بعون الله الكريم المنان بشر بالراحة والرضوان وجعل قبره روضة من رياض الجنان ولا شك أن ذلك إعلاء الشأن وسبب المباهاة على الأقران وهذا في حق المسلم فأما في حق الكافر فالسؤال للإلزام والتخجيل لا للإكرام والتبجيل نرجو الله تعالى أن يصيره لنا روضة بكرمه وفضله وأن يعيذنا من فتنة القبر وعذابه بمنه وطوله إنه الكريم المنعم الديان ذو الطول والفضل والإحسان.(4/456)
باب العوارض المكتسبة
الجهل
...
"باب العوارض المكتسبة"
وهي نوعان من المرء على نفسه ومن غيره عليه أما التي من جهته فالجهل والسكر والهزل والسفه والخطأ والسفر والذي من غيره عليه الإكراه أما الجهل فأربعة أنواع جهل باطل بلا شبهة لا يصلح عذرا أصلا في الآخرة
ـــــــ
"باب العوارض المكتسبة"
إنما جعل الجهل من العوارض وإن كان أمرا أصليا; لأنه أمر زائد على حقيقة الإنسان وثابت في حال دون حال كالصغر ومن المكتسبة; لأن إزالته باكتساب العلم في قدرة العبد فكان ترك تحصيل العلم منه اختيارا بمنزلة اكتساب الجهل باختيار بقائه فكان مكتسبا من هذا الوجه وجعل السكر من العوارض المكتسبة وإن لم يكن حصوله في قدرة العبد; لأن سببه وهو شرب المسكر باختياره وغرضه من الشرب حصول السكر كما أن غرض شارب الماء حصول الري فكان السكر مضافا إلى كسبه نظرا إلى السبب والغرض ولا يلزم عليه الرق فإنه جعل من العوارض السماوية وإن كان سببه وهو الكفر باختيار العبد; لأن غرضه من الكفر ليس حصول الرق ولأن السبب هو الاستيلاء على الكافر لا الكفر المجرد والاستيلاء ليس في قدرته واختياره فكان الرق سماويا.
"الجهل"
قوله: "أما الجهل فكذا" قيل الجهل اعتقاد الشيء على خلاف ما هو به واعترض عليه بأنه يستلزم كون المعدوم شيئا إذ الجهل يتحقق بالمعدوم كما يتحقق بالموجود أو كون المعدوم المجهول غير داخل في الحد وكلاهما فاسد وقيل هو صفة تضاد العلم عند احتماله وتصوره واحترز به عن الأشياء التي لا علم لها فإنها لا توصف بالجهل لعدم تصور العلم فيها قال السيد الإمام أبو القاسم رحمه الله في كتاب رياضة الأخلاق الجهل يذكر ويراد به عدم الشعور ويذكر ويراد به الشعور بالشيء على خلاف ما هو به ويذكر ويراد به السفه قال الله تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] وقال عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا(4/457)
وجهل هو دونه لكنه باطل لا يصلح عذرا أيضا في الآخرة وجهل يصلح شبهة وجهل يصلح عذرا أما الأول فالكفر من الكافر لا يصلح عذرا; لأنه مكابرة وجحود بعد وضوح الدليل واختلف في ديانة الكافر على خلاف حكم الإسلام أما أبو حنيفة رحمه الله فقد قال إنها تصلح دافعة للتعرض ودافعة لدليل الشرع
ـــــــ
فالقسم الأول فطرية وليس بعيب لشموله قال الله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً} [النحل: 78] وإنما العيب التقصير في إزالة الجهل ودواؤه التعلم. والقسم الثاني هو الغلط ودواؤه التوقف والتثبت وسببه الجهل الخلقي مع العجلة والعجب. والقسم الثالث سيذكر في موضعه إن شاء الله عز وجل المكابرة والجحود الإنكار بعد حصول العلم ووضوح الدليل قال الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل: 14] وعن هذا قيل لو سأل القاضي المدعى عليه بعد دعوى المدعي أتجحد أم تقر فبأيهما أجاب يكون إقرارا فالكفر جحود بعد وضوح الدليل; لأن الآيات الدالة على وحدانية الصانع جل جلاله وكمال قدرته وعظمة ألوهيته لا تعد كثرة ولا تخفى على من له أدنى لب كما قال أبو العتاهية:
فيا عجبا كيف يعصى الإله ... أم كيف يجحده جاحد
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد.
وكذا الدليل على صحة رسالة الرسل من المعجزات القاهرة والحجج الباهرة ظاهرة محسوسة في زمانهم لا وجه إلى ردها وإنكارها وقد نقلت تلك المعجزات بعد انقراض زمانهم بالتواتر قرنا بعد قرن إلى يومنا هذا فكان إنكارها بمنزلة إنكار المحسوس فلذلك لم يجعل عذرا بوجه.
قوله: "وقد اختلف في ديانة الكافر على خلاف الإسلام" أي في اعتقاده حكما من الأحكام على خلاف ما ثبت في الإسلام فقال أبو حنيفة رحمه الله إنها تصلح دافعة للتعرض حتى لو باشر ما دان به لا يتعرض له بوجه وهذا بالاتفاق ودافعة لدليل الشرع يعني ديانته تمنع بلوغ دليل الشرع إليه في الأحكام التي تحتمل التغير مثل تحريم الخمر والخنزير وتحريم نكاح المحارم ونحوها فلا يثبت الخطاب في حقه فيبقى الحكم الذي كان قبل الخطاب في حقه على الصحة كما كان لقصور الخطاب عنه. والدليل على قصور الخطاب عنه أن الأصل فيما يتبدل من الأحكام بشرع جديد أن لا يثبت في حقنا بنزول الخطاب حتى يبلغنا; لأنه لا يمكن الإيمان والعمل به قبل البلوغ إلا أن الخطاب بعدما شاع يلزم لكل من علم به ومن لم يعلم; لأن الرسول عليه السلام لا يمكنه التبليغ إلى كل واحد من(4/458)
في الأحكام التي تحتمل التغير ليصير الخطاب قاصرا عنهم في أحكام الدنيا استدراجا بهم ومكرا عليهم وتركا لهم على الجهل وتمهيدا لعقاب الآخرة والخلود في النار وتحقيقا لقول النبي عليه السلام: "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر" فأما في حكم لا يحتمل التبدل فلا حتى إنه لا يعطي للكفر حكم الصحة بحال ولا يبتنى على هذا أنه جعل حكم الصحة بحال ويبتنى على هذا أنه جعل الخطاب بتحريم الخمر كأنه غير نازل في حقهم في أحكام الدنيا من
ـــــــ
أفراد الناس وإنما في وسعه الإشاعة في الناس لا غير فصارت الإشاعة بمنزلة التبليغ إلى كل واحد منهم فلا يعذر الجاهل بالخطاب بعد الإشاعة لبلوغ الخطاب إليه حكما يصير بمنزلة من بلغه الخطاب فلم يعمل به ثم بلوغ الخطاب لم يثبت في حق الكافر; لأنه لا يعتقد صدق المبلغ ولا يرى كلامه حجة والشرع أمرنا أن لا يتعرض له إذا قبل الذمة فبقي على الجهل كما في الخطاب الذي لم يشع وخطاب نبي لم يثبت معجزته بعد وخرج الخطاب بإنكاره الرسول ويأمر الشرع إيانا أن نتركهم عليه عن كونه حجة في حقه فصار البلوغ وعدمه في حقه بمنزلة.
قوله: "استدراجا" متعلق بقاصر أي قصور الخطاب عن الكافر ليس للتخفيف عليه ولكن للاستدراج وهو التقريب إلى العذاب بوجه لا شعور له به يقال استدرجه إلى كذا أي أدناه منه على التدريج ومكرا وهو الأخذ على غرة وتحقيقا لقوله عليه السلام : "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر" 1 فإنه لا خطاب في الجنة ولا تكليف بل فيها ما تشتهي الأنفس والدنيا للكافر بهذه المثابة. وهذا في كل حكم يثبت بالشرع لا يثبت في حقنا إلا بعد العلم بالخطاب وقبله يبقى على ما كان ثابتا فأما في كل حكم لا يحتمل التبدل فلا أي لا يكون ديانته دافعة لدليل الشرع حتى إنه الضمير للشان لا يعطي للكفر حكم الصحة بحال يعني لا يعتبر ديانة الكافر بعبادة الأوثان والنار وبما يباشره من الكفر أصلا; لأنه مما لا يحتمل أن يحل بحال والمغير إنما يعمل فيما يحتمل ويبتنى على هذا أي على أن ديانتهم دافعة عنده للتعرض والخطاب جميعا أنه أي أبا حنيفة رحمه الله جعل الخطاب بتحريم الخمر كأنه غير نازل في حقهم في أحكام الدنيا بمنزلة الخطاب بتحريم الميتة في حق المضطر وما أشبه ذلك نحو هبة الخمر والوصية والتصدق بها وأخذ العشر من قيمتها وكذلك أي ومثل تحريم الخمر تحريم الخنازير في أن الخطاب بالتحريم غير
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الزهد والرقائق حديث رقم 2956 والترمذي في الزهد حديث رقم 2324 وابن ماجه في الزهد حديث رقم 4113 والإمام أحمد في المسند 2/323.(4/459)
التقوم وإيجاب الضمان وجواز البيع وما أشبه ذلك وكذلك الخنازير وجعل لنكاح المحارم بينهم حكم الصحة حتى قال إذا وطئها بذلك ثم أسلما كانا محصنين لو قذفا حد قاذفهما وإذا طلبت المرأة النفقة بذلك النكاح قضي بها عنده ولا يفسخ حتى يترافعا فإن قيل لا خلاف أن الديانة لا تصلح حجة متعديا, ألا يرى أن المجوسي إذا تزوج ابنته ثم هلك عنها وعن ابنة أخرى أنهما ترثان الثلثين ولا ترث المنكوحة منهما بالنكاح; لأن ديانتها لا تصح حجة على الأخرى فكذلك في إيجاب الحد على القاذف واستحقاق القضاء بالنفقة وإيجاب الضمان على متلف الخمر وجب أن لا تجعل حجة متعدية قلنا عنه هذا تناقض; لأنا نجعل الديانة معتبرة; لأنا نأخذ نصف العشر من خمور أهل الذمة والعشر من خمور أهل الحرب خلافا للشافعي رحمه الله وهذه غير
ـــــــ
نازل في حقهم حتى كان الخمر والخنزير في حقهم كالشاة والخل في حقنا وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله أيضا وعند الشافعي رحمه الله لا يجب بإتلاف خمر الذمي شيء سواء أتلفه مسلم أو ذمي وجعل أي أبو حنيفة رحمه الله لنكاح المحارم بين الكفار حكم الصحة إذا دانوا بصحته بمنزلة نكاح المجوسية; لأن التحريم لم يثبت في حقهم لقصور الخطاب عنهم حتى لو تزوج المجوسي بمحرم ودخل بها لم يسقط إحصانها حتى وجب الحد لهما على قاذفهما وعند أبي يوسف ومحمد والشافعي رحمهما الله لا يجب وإذا طلبت المرأة النفقة بذلك النكاح قضى بها عنده خلافا لهم ولو رفع أحدهما الأمر إلى القاضي وطلب حكم الإسلام لا يفرق بينهما عنده حتى يحتمل على الترافع ويفرق عندهم; لأنه أي ديانة البنت المنكوحة لا تصلح حجة متعدية على البنت الأخرى وضمن التعدي معنى الإجماع فوصل بكلمة على. فكذلك أي فكما لم تجعل الدية متعدية في الإرث وجب أن لا تجعل متعدية في هذه المسائل وحاصله أنه ينبغي أن لا يعتبر ديانتهم في إثبات هذه الأحكام; لأن في اعتبارها إثبات التعدي على الغير كما لم تعتبر في الإرث.
قوله: "هذا يتناقض" أي ما ذكرت من عدم اعتبارها في هذه الصور يؤدي إلى التناقض; لأنا قد اعتبرنا ديانتهم في أخذ العشر; لأنا نأخذ نصف العشر من خمور أهل الذمة أي من قيمتها إذا مروا بها على العاشر والعشر من خمور أهل الحرب أي من قيمتها باعتبار ديانتهم ويجب ذلك على من تولى ذلك الأمر حتى لو لم يأخذا ثم ولم تعتبر ديانتهم في حقنا لما أخذنا منهم شيئا كما ذهب إليه الشافعي رحمه الله وكذا الأنكحة(4/460)
متعدية بل هي حجة عليهم إلا أنه لا يؤخذ من الخنزير; لأن إمام المسلمين ليس له ولاية حماية الخنزير نفسه فلا يتعدى وله ولاية حماية الخمر لنفسه للتخليل فيتعدى وحقيقة الجواب أنا لا نجعل الديانة متعدية; لأن الخمر إذا بقيت متقومة لم يثبت بالديانة إلا دفع الإلزام بدليل, فأما التقوم فباق على الأصل وذلك
ـــــــ
التي هي فاسدة بين المسلمين تقع صحيحة فيما بينهم إذا دانوا بصحتها فإن عامة العلماء قالوا في ذمي تزوج أختين أو عشر نسوة ثم فارق إحدى الأختين أيتهما كانت أو فارق الست من العشر في حال الكفر بقي نكاح من بقي إذا أسلموا على الصحة. وقال محمد والشافعي رحمهما الله في الحربي تزوج خمس نسوة في عقد متفرقة أو عقدة واحدة ثم أسلموا جميعا كان له أن يختار الأربع منهن ولو وقع فاسدا لم ينقلب صحيحا ولذلك قال الشافعي رحمه الله في أهل الذمة تبايعوا الخمور وتقابضوا إن العشر يؤخذ من أثمان الخمور وإن علم به العاشر وإن أسلموا بقوا على ذلك ولو وقع على الفساد لم يطلب الملك الفاسد بالإسلام ولم يثبت الملك على أصله فثبت أن هذه العقود تقع على الصحة بلا خلاف باعتبار ديانتهم كذا في الأسرار فلو لم تعتبر ديانتهم فيما بيننا لم تثبت هذه الأحكام بعد الإسلام وإذا ثبت أن ديانتهم معتبرة بالاتفاق كان القول بعدم اعتبارها بعد ذلك تناقضا وهذه غير متعدية أي هذه الديانة التي توجب علينا أخذ العشر وإثبات هذه الأحكام لا تسمى متعدية بالاتفاق مع وجود إلزام فيها بل هي حجة عليهم في أخذ العشر منهم فكذا فيما نحن فيه. وقوله: إلا أنه أي العشر أو نصف العشر لا يؤخذ من الخنزير جواب عما يقال لما كان أخذ العشر بناء على ديانتهم وأنهم قد دانوا بتقوم الخنزير كما دانوا بتقوم الخمر فوجب أن يؤخذ العشر أو نصف العشر من قيمة الخنزير كما يؤخذ من قيمة الخمر فأجاب بأن حق الأخذ للإمام بالحماية وليس له ولاية حماية الخنزير لنفسه فلا يملك حمايته لغيره وله ولاية حماية الخمر لنفسه للتخليل فيتعدى إلى غيره.
قوله: "وحقيقة الجواب" كذا يعني ما قلنا إنه تناقض لمنع ورود السؤال وصحته في نفسه فأما على تقدير صحة السؤال فالجواب أنا لا نجعل الديانة متعدية في جميع ما ذكرنا من المسائل. أما في مسألة الخمر فلأنها كانت متقومة في الأصل لكن سقط تقومها بالنص وديانتهم لما منعت الإلزام بالدليل أي ألزامنا إياهم سقوط التقوم بالدليل بقي تقومها على ما كان في الأصل فكانت ديانتهم دافعة للإلزام لا مثبتة للتقوم وذلك أي لتقوم شرط الضمان; لأنه وصف المحل والمحال بأوصافها شروط والضمان وجب جزاء على الجناية فلا يجب بتقوم المتلف لكن يجب بإتلاف المتلف الذي هو فعله القائم به ولهذا سمي ضمان التعدي والكافر بديانته دفع سقوط التقوم فبقي التقوم على ما كان فيجب(4/461)
شرط الضمان; لأن الضمان لا يجب بتقوم المتلف لكن بإتلاف المتلف وإذا لم تضف إلى تقوم المحل لم تصر متعدية وكذلك إحصان المقذوف شرط لا علة وإنما العلة هي المقذوف. وأما النفقة فإنما شرعت بطريق الدفع في الأصل. ألا يرى أن الأب يجلس بنفقة الابن الصغير كما يحل دفعه إذا قصد قتله ولا يحبس بدينه جزاء كما لا يقتل قصاصا وإذا كان كذلك صارت الديانة دافعة لا موجبة بخلاف الميراث; لأنه صلة مبتدأة لو وجب بديانتها كانت الديانة بذلك
ـــــــ
الضمان بوجود شرطه مضافا إلى سببه وهو إتلاف مال الذمي الذي في زعم المتلف أنه متقوم في حق الذمي وإذا لم يضف الضمان إلى تقوم المحل لم تصر الديانة متعدية إذ لو كان مضافا إليه لكانت الديانة متعدية حينئذ; لأن التقوم ساقط في حق المسلم فلم يكن السبب موجودا في حقه فلو وجب الضمان لوجب بإثبات التقوم في حقه بديانة الكافر وذلك غير جائز.
وكذلك أي وكما أن التقوم شرط الضمان إحصان المقذوف شرط وجوب حد القذف لا علته إنما العلة هي القذف; لأنه هو الجناية الموجبة للجزاء ولهذا يضاف إليه والكافر بديانته منع سقوط إحصانه الثابت قبل الوطء فيبقى على ما كان فيجب الحد على القاذف مضافا إلى قذفه الذي هو جناية بوجود شرطه وهو الإحصان فكانت الديانة دافعة لا موجبة; لأن وجوب الحد لم يضف إلى الإحصان.
فأما النفقة فإنها شرعت أي وجبت بطريق الدفع في الأصل أي دفع الهلاك عن المنفق عليه; لأن سبب النفقة عجز المنفق عليه ومن أسباب العجز الاحتباس الدائم فإن دوامه من غير إنفاق يؤدي إلى الهلاك إذ لا بقاء للإنسان عادة بدون النفقة فتبين أن إيجاب النفقة على الزوج لدفع الهلاك عن المرأة لكونها محبوسة على الدوام لحقه فكانت المرأة في طلب النفقة دافعة للهلاك عن نفسها بديانتها لبقائها محبوسة لحقه فلا يكون ديانتها موجبة عليه شيئا. والدليل على أن النفقة تجب بطريق الدفع أن الأب يحبس بنفقة الابن الصغير أي بسبب منعها عنه; لأنه بمنع النفقة عنه يصير بمنزلة القاصد لهلاكه إذ لا بقاء له عادة بدون النفقة فيحل للابن دفع الهلاك عن نفسه بحبس أبيه أو يحل للقاضي دفع الهلاك عن الصغير العاجز بحبس أبيه لأجل النفقة كما يحل دفعه أي دفع الأب بالقتل أو دفع الابن أباه بالقتل إذا قصد الأب قتل الابن. ولا يحل حبس الأب بدين الابن جزاء إذ الحبس جزاء الظلم والمماطلة كما لا يحل قتل الأب بسبب قتل الابن قصاصا فثبت أن وجوب النفقة بطريق الدفع. وإذا كان كذلك أي كان وجوب النفقة بطريق الدفع أو كان الشأن كما بينا أن وجوب الضمان والحد والنفقة لم يثبت والديانة بل بشيء آخر كانت الديانة دافعة لا موجبة بخلاف الميراث; لأنه صلة(4/462)
موجبة لا دافعة وإذا لم يفسخ بمرافعة أحدهما فقد جعلنا الديانة دافعة أيضا هذا جواب قد قيل والجواب الصحيح عندي عن فصل النفقة أنهما لما تناكحا فقد دانا بصحته فقد أخذ الزوج بديانته ولم يصح منازعته من بعد بخلاف منازعة من ليس في نكاحهما; لأنه لم يلتزم هذه الديانة وأما القاضي فإنما يلزمه
ـــــــ
مبتدأة ليس فيه معنى الدفع. فلو وجب أي ثبت الميراث للبنت المنكوحة بديانتها كانت ديانتها بصحة النكاح موجبة على البنت الأخرى استحقاقها زيادة الميراث لا دافعة. ولا يقال البنت الأخرى قد تدينت بصحة هذا النكاح أيضا حيث اعتقدت المجوسية فيكون استحقاق زيادة الميراث عليها بناء على التزامها بديانتها لأنا نقول لما خاصمت إلى القاضي في الميراث دل على أنها لم تعتقد ذلك. وقد ذكر في الأسرار ولا ترث المنكوحة بالنكاح; لأنه فاسد في حق التي نازعت في الإرث ودانت بالفساد. وذكر في الطريقة البرغرية أن كثيرا من مشايخنا قالوا المذكور في هذه المسألة قولهما فأما على قياس قول أبي حنيفة رحمه الله فينبغي أن تستحق الميراث بالزوجية أيضا; لأن عنده هذا النكاح محكوم بالصحة. وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله أن النكاح وإن كان محكوما بالصحة لا يثبت الإرث به; لأنه ثبت لنا بالدليل جواز نكاح المحارم في شريعة آدم عليه السلام ولم يثبت كونه سببا للميراث في دينه فلا يثبت سببا للميراث باعتقادهم وديانتهم; لأنه لا عبرة لديانة الذمي في حكم إذا لم يعتمد على شرع ولم يثبت بديانتنا; لأن نكاح المحارم في ديانتنا فاسد. بخلاف نكاح الأجانب; لأنه سبب للميراث في ديننا فيكون سببا في حقهم إذا اعتقدوا ذلك.
وإذا لم يفسخ أي نكاح المحارم بمرافعة أحد الزوجين فلم يجعل ديانة الذي لم يرفع الأمر إلى القاضي ملزمة على الذي رفعه إليه ولكن جعلنا ديانته دافعة لما ألزمه صاحبه عليه. وذلك لأنهما قد دانا جميعا بصحة هذا النكاح حين أقدما على مباشرته فإذا جاء أحدهما طالبا لحكم الإسلام فهو الملزم على صاحبه شيئا لم يعتقده والآخر مصر على اعتقاده كما كان فيكون دافعا بديانته إلزام الغير عليه بخلاف ما إذا ترافعا جميعا; لأنهما قد التزما حكم الإسلام في هذه الحادثة فيجري عليهما. هذا أي ما أجبنا عن فصل النفقة جواب قد قيل. فكأنه رحمه الله لم يرض بهذا الجواب; لأن أبا يوسف ومحمدا رحمهما الله لم يسلما أن النفقة تجب بطريق الدفع وجعلاها صلة مبتدأة كالنكاح وسببها النكاح أيضا كما أن سبب الميراث وهو النكاح فلذلك اختار جوابا آخر وأشار إلى فساد هذا الجواب بقوله الجواب الصحيح عندي عن فصل النفقة إنهما لما تناكحا فقد دانا بصحته فأخذ الزوج بديانته; لأن ديانته حجة عليه فوجب عليه النفقة. ولم تصح منازعة الزوج في منع(4/463)
القضاء بالتقليد دون الخصومة. وأما أبو يوسف ومحمد رحمهما الله فكذلك قالا أيضا إلا أنهما قالا إن تقوم الخمر وإباحة شربها وتقوم الخنزير وإباحته كان حكما ثابتا أصليا فإذا قصر الدليل بالديانة بقي على الأمر الأول فأما نكاح المحارم فلم يكن إلا أصليا يرى أنه كان لا يصلح للرجل أخته من بطن واحد في زمن آدم صلوات الله عليه وإذا كان كذلك لم يجز استبقاؤه بقصر الدليل ولأن
ـــــــ
النفقة بدعوى فساد النكاح من بعد أي من بعد ما أقدم على التزوج ودان بصحته; لأنه التزم موجب النكاح حين أقدم عليه فلا يملك إسقاطه بدون رضا صاحب الحق. بخلاف منازعة من ليس في نكاحهما في مسألة الإرث وهي البنت الأخرى. لأنها لم تلزم هذه الديانة أي الديانة بصحة النكاح حيث نازعت في الإرث ولم يسبق منها ما يدل على الالتزام. وقوله وأما القاضي جواب عما يقال إن ديانته لو صلحت حجة عليه في الإيجاب لم يصلح حجة على القاضي في إيجاب القضاء عليه بهذه الخصومة فكانت ديانته متعدية إليه فقال إنما لزم القاضي القضاء بالتقلد دون الخصومة فلا يكون الخصومة ملزمة عليه بل تكون شرطا.
قوله: "وأما أبو يوسف ومحمد رحمهما الله فكذلك قالا أيضا" أي قالا كما قال أبو حنيفة رحمه الله إن ديانتهم دافعة للتعرض ودافعة للتعرض لدليل الشرع في الأحكام فيبقى الحكم الثابت قبل الخطاب على ما كان في حقهم لكن هذا في كل حكم كان أصليا قبل الخطاب على وجه لو لم يرد الخطاب لبقي مشروعا في حق المسلمين فأما في حكم ضروري لم يثبت بطريق الأصالة في شريعة قط ولو لم يرد الخطاب في شريعتنا لم يمكن إبقاؤه في حق المسلمين فلا. فتقوم الخمر وإباحة شربها وتقوم الخنزير وإباحته كانت أحكاما أصلية قبل شريعتنا فبقصور الدليل بسبب ديانتهم يمكن أن يبقى على الأمر الأول أي على التقوم والإباحة فيجب القول بتقوم الخمر والخنزير في حقهم وبوجوب الضمان على متلفهما وبصحة تصرفاتهم فيهما كما قال أبو حنيفة رحمه الله. فأما نكاح المحارم فلم يكن أصليا في شريعة وإنما شرع في شريعة آدم عليه السلام بطريق الضرورة بدليل أنه لم يكن يحل للرجل أخته من بطنه وإنما كان يحل له أخته من بطن آخر ولم يبق مشروعا بعده فعلم أنه كان ضروريا. وإذا كان كذلك أي كان جواز نكاح المحارم غير أصلي لم يجز استبقاء جوازه أو حله لقصر الدليل أي بسبب قصوره عنهم. فهذا الطريق يقتضي عدم صحة نكاح المحارم في حقهم إلا أنا لما أمرنا بترك التعرض لهم لم نمنعهم عن ذلك كما لم نمنعهم عن عبادة الأوثان. فإذا رفع أحدهما الأمر إلى القاضي وجب عليه القضاء بالفسخ لفساد النكاح. وإذا وطئها بهذا النكاح سقط إحصانه; لأنه وطئ بالنكاح الفاسد فلا يجب الحد بقذفه. ولأن حد القذف يعني ولئن سلمنا أن النكاح(4/464)
حد القذف من جنس ما يدرأ بالشبهات فلا بد من أن يصير قيام دليل التحريم شبهة وبالقضاء بالنفقة على الطريق الأول باطل لما قلنا. وأما على هذا الطريق فلأنه من جنس الصلات المستحقة ابتداء حتى لم يشترط لها حاجة المستحق. والجواب لأبي حنيفة رحمه الله أن الحاجة الدائمة بدوام الجنس لا يردها المال المقدر فتحققت الحاجة لا محالة. وأما الشافعي رحمه الله فإنه جعل الديانة دافعة للتعرض لا غير حتى لا يحد الذمي بشرب الخمر فأما سائر الأحكام فلا
ـــــــ
صحيح فيما بينهم لا يجب الحد على قاذفه أيضا. لأن قيام دليل التحريم أي تحريم الشرع المحارم عاما يصير شبهة في درء الحد عن القاذف فإن في زعم القاذف أنه صادق في قوله يا زان لقيام دليل الحرمة وإن كان في زعم المقذوف أنه كاذب. وهذا الطريق يشير إلى أن النكاح صحيح. والقضاء بالنفقة على الطريق الأول وهو أن نكاح المحارم ليس بأمر أصلي باطل لما قلنا إنه لما لم يكن أصليا لم يجز استبقاؤه لقصور الدليل فلا يوجب النفقة لفساده كالأنكحة الفاسدة بين المسلمين. وأما على هذا الطريق الثاني فكذا يعني أن الطريق الثاني هو أن النكاح صحيح والحد يسقط بالشبهة وإن كان يقتضي أن يصح القضاء بالنفقة; لأنها لا تسقط بالشبهة لكنه لا يصح أيضا على هذا الطريق; لأن النفقة من جنس الصلات المستحقة بالنكاح ابتداء كالميراث لا أنها تجب بطريق الدفع كما قاله أبو حنيفة رحمه الله بدليل أنه لم يشترط لوجوب النفقة على الزوج حاجة المرأة إليها فإنها وإن كانت غنية فائقة في اليسار تستوجب النفقة على الزوج ولو كان وجوبها بطريق الدفع لما وجبت عند عدم الحاجة بوجود اليسار كما لا يجب نفقة الصغير على الأب ونفقة الأبوين على الولد إذا كان لهم مال. وإذا كان كذلك لا يمكن القول بإيجابها على الزوج; لأن ديانتها تصير حينئذ موجبة كما قلنا جميعا في مسألة الميراث وهو خلاف الإجماع. والجواب لأبي حنيفة رحمه الله عن هذا الكلام أن الحاجة الدائمة بدوام الحس لا يردها المال المقدر يعني أنها وإن كانت غنية تحتاج إلى النفقة; لأن احتباسها لحقه على الدوام ومالها وإن كان كثيرا مقدر فلا يفي بالحاجة الدائمة; لأنه لا يبقى مع دوام الحبس فثبت أن وجوب النفقة بطريق الدفع كما قلنا. ولما لم يحل هذا لجواب عن تكلف اختار الشيخ في فصل النفقة جوابا آخر كما بينا.
قوله: "وأما الشافعي رحمه الله فإنه جعل الديانة دافعة للتعرض لا غير" يعني لم يجعلها دافعة للخطاب; لأن خطاب التحريم تناول الكافر كما تناول المسلم وقد بلغه الخطاب حقيقة أو تقديرا بالإشاعة في دار الإسلام وهو من أهل الدار وإنكاره تعنت وجهل والجهل لا على سبيل التعنت ليس بعذر رفع التعنت أولى إلا أن الشرع أمرنا أن لا(4/465)
يثبت والجواب عنه أن تقويم الأموال وإحصان النفوس من باب العصمة وتفسير العصمة الحفظ فيكون في تحقيق العصمة بديانتهم حفظ عن التعرض أيضا وقد بينا ما يبطل به مذهبه وتبين أن ما قلنا من باب الدفع ولا يلزم عليه استحلالهم الربا وذلك لأن ذلك ليس بديانة بل هو فسق في ديانتهم; لأن من أصل ديانتهم
ـــــــ
نتعرض لهم بسبب عقد الذمة وذلك لا يدل على صحة ما دانوا به من الأحكام كما لا يدل على صحة ما دانوا من الكفر فما يرجع إلى التعرض من الأحكام لا يثبت في حقهم وما لا يرجع إليه يثبت. فلا يجب على الذمي حد الشرب; لأنه شرع زاجرا في المستقبل وفي إيجابه عليه تعرض له في المستقبل. فأما سائر الأحكام مثل إثبات التقوم وإيجاب الضمان على المتلف وصحة البيع وإيجاب النفقة على الزوج وإيجاب الحد على القاذف فلا يثبت; لأن ديانة الكافر ليست بحجة على غيره بل أثرها في دفع التعرض عنه لا غير.
والجواب عنه أي عن كلام الشافعي لأبي حنيفة رحمهما الله أن تقويم الأموال وإحصان النفوس من باب العصمة وتفسيرها الحفظ عن التعرض فيكون في تحقيق العصمة لنفوسهم وأموالهم تحقيق الحفظ لها عن التعرض أيضا يعني كما أن إسقاط حد الشرب عن الكافر بديانته له من باب ترك التعرض, وحفظه عنه إثبات تقوم الخمر وإبقاء الإحصان بديانته من باب الحفظ عن التعرض أيضا; لأن الأموال والنفوس لا تصير معصومة عن تعرض المسلمين إلا بإيجاب الضمان عليهم عند الإتلاف فكان ذلك من ضرورات الحفظ عن التعرض كسقوط حد الشرب. ولا يلزم عليه أي على ما ذكرنا أن ديانتهم معتبرة في دفع التعرض, ودفع الخطاب عنهم عدم اعتبار ديانتهم في استحلال الربا حتى إن الذمي إذا باع درهما بدرهمين من ذمي آخر ثم ترافعا إلى القاضي أو أسلما أو أسلم أحدهما يجب نقضه كما لو باشره مسلم ولم يعتبر في ذلك ديانته لحل ذلك التصرف وجوازه. لأن ذلك أي استحلال الربا منهم ليس بديانة; لأن من ديانتهم تحريم الربا قال الله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً*وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 160, 161]. وذلك أي استحلال الربا منهم في كونه فسقا مثل خيانتهم فيما اؤتمنوا من كتبهم بتغيير الأحكام وتبديل صفات النبي صلى الله عليه وسلم. لأنهم نهوا عن ذلك أي عن الخيانة على تأويل المذكور فكانت الخيانة منهم فسقا لا ديانة. ولهذا ذمهم الله بقوله: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 13]. فكذلك الربا وذلك الاستحلال منهم بمنزلة ما لو استحلوا الزنا أو السرقة فإن ذلك لا يعتبر في حقهم حتى يجب إقامة الحد عليهم; لأنه فسق منهم وليس بديانة; لأن الزنا والسرقة حرمان في الأديان كلها فكذلك استحلال الربا ولهذا يستثنى عليهم هذه الأشياء في عقد الذمة فشرط عليهم أن لا(4/466)
تحريم الربا وذلك مثل خيانتهم فيما اؤتمنوا في كتبهم; لأنهم نهوا عنه فكذلك الربا كاستحلالهم الزنا. وأما القسم الثاني فجهل صاحب الهوى في صفات الله عز وجل وأحكام الآخرة وجهل الباغي; لأنه مخالف للدليل الواضح الصحيح
ـــــــ
يقتلوا وأن لا يسرقوا وأن لا يزنوا وأن لا يستربوا. وإلا يقال ينبغي أن يكون استحلال الربا فسقا من اليهود فإن النهي تحقق في حقهم دون غيرهم من المجوس وعبدة الأوثان الذين لم يؤمنوا بكتاب ولا نبي. لأنا نقول كان شرع تحريم الربا عاما ولم يكن الربا مشروعا قط في دين من الأديان; لأنه من باب الظلم وهو حرام في الأديان كلها ولم يكن عقد الذمة مشروعا في ذلك الوقت ليعتبر مانعا من بلوغ الخطاب فيثبت التحريم في حق الجميع. قال القاضي الإمام أبو زيد رحمه الله وإنما استثنى عليهم أنواع تصرف يقع بيننا وبينهم على الشركة كالربا ونحوه; لأنه لو جاز لهم مباشرتها واعتادوا فيما بينهم فعلوا مثل ذلك في عقودهم معنا فتعذر على التاجر الاحتراز عنه فأما عقود معاملات تجري بينهم خاصة لا يتعدى شرها إلينا فتركوا وديانتهم كالأنكحة وشرب الخمر.
قوله: "وأما القسم الثاني" وهو الجهل الذي دون جهل الكافر ولكنه لا يصلح عذرا أيضا فجهل صاحب الهوى في صفات الله عز وجل مثل جهل المعتزلة بالصفات فإنهم أنكروها حقيقة بقولهم أنه تعالى عالم بلا علم قادر بلا قدرة سميع بلا سمع بصير بلا بصر وكذا في سائر الصفات.
ومثل جهل المشبهة فإنهم قالوا بجواز حدوث صفات الله عز وجل وزوالها عنه مشبهين الله تعالى بخلقه في صفاته. وهذا الجهل باطل لا يصلح عذرا في الآخرة; لأنه مخالف للدليل الواضح الذي لا شبهة فيه سمعا وعقلا. أما السمع فقوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255]. {أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166]. {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذريات:58]. {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 243] إلى غيرها من الآيات فإنها تدل على أن لله تعالى صفات هي معان وراء الذات. وأما العقل فهو أن المحدثات كما دلت على وجود الصانع جل جلاله دلت على كونه حيا عالما قادرا سميعا بصيرا فوجب أن يكون له حياة وعلم وقدرة وسمع وبصر وأن تكون هذه الصفات معاني وراء الذات إذ يحيل العقل أن يحكم بعالم لا علم له وحي لا حياة له وقادر لا قدرة له ولا يفرق بين قول القائل ليس بعالم وبين قوله لا علم له وكذا في جميع الصفات. وقد عرف بدلالة العقل أيضا أن ما هو محل الحوادث حادث فلا يجوز أن تكون صفاته تعالى حادثة لاستلزامه حدوث الذات الذي هو محال فثبت بالدليل الواضح الذي لا شبهة فيه أنه تعالى موصوف بصفات الكمال منزه عن النقيصة والزوال وأن(4/467)
................................................................................................
صفاته قائمة بذاته وليست بأعراض تحدث وتزول بل هي أزلية لا أول لها أبدية لا آخر لها فكان ما ذهب إليه أهل الأهواء باطلا وجهلا بعد وضوح الدليل فلا يصلح عذرا في الآخرة.
وكذا جهلهم بأحكام الآخرة مثل جهل المعتزلة بسؤال المنكر والنكير وعذاب القبر والميزان والشفاعة لأهل الكبائر وجواز العفو عما دون الشرك وجواز إخراج أهل الكبائر الموحدين من النار وإنكارهم إياها. ومثل إنكار الجهمية خلود الجنة والنار وأهاليهما جهل باطل; لأن الدلائل الناطقة بهذه الأحكام من الكتاب والسنة كثيرة واضحة لا تخفى على من تأمل فيها عن إنصاف فالجهل بها لا يكون عذرا في الآخرة كجهل الكافر. وكذلك جهل الباغي وهو الذي خرج عن طاعة الإمام الحق ظانا أنه على الحق والإمام على الباطل متمسكا في ذلك بتأويل فاسد فإن لم يكن له تأويل فحكمه حكم اللصوص كما سنبينه لا يصلح عذرا; لأنه مخالف للدليل الواضح فإن الدلائل على كون الإمام العادل على الحق مثل الخلفاء الراشدين ومن سلك طريقتهم لائحة على وجه يعد جاحدها مكابرا معاندا. وتوضيحه يتوقف على معرفة قصة البغاة وهي ما روي أن المخالفة لما استحكمت بين علي ومعاوية رضي الله عنهما وكثر القتال والقتل بين المسلمين جعل أصحاب معاوية المصاحف على رءوس الرماح وقالوا لأصحاب علي رضي الله عنه بيننا وبينكم كتاب الله تعالى ندعوكم إلى العمل به فأجاب أصحاب علي رضي الله عنه إلى ذلك وامتنعوا عن القتال ثم اتفقوا على أن يأخذوا حكما من كل جانب فمن اتفق الحكمان على إمامته فهو الإمام وكان علي رضي الله عنه لا يرضى بذلك حتى اجتمع عليه أصحابه فوافقهم عليه فاختير من جانب معاوية عمرو بن العاص وكان داهيا ومن جانب علي أبي موسى الأشعري وكان من شيوخ الصحابة فقال عمرو لأبي موسى نعزلهما أولا ثم نتفق على واحد منهما فأجابه أبو موسى إليه ثم قال لأبي موسى أنت أكبر سنا مني فاعزل عليا أولا عن الإمامة فصعد أبو موسى المنبر وحمد الله تعالى وأثنى عليه ودعا للمؤمنين والمؤمنات, وذكر الفتنة ثم أخرج خاتمه من أصبعه. وقال أخرجت عليا عن الخلافة كما أخرجت خاتمي من أصبعي ونزل ثم صعد عمرو المنبر فحمد الله تعالى وأثنى عليه ودعا للمؤمنين والمؤمنات, وذكر الفتنة ثم أخذ خاتمه وأدخله في أصبعه وقال أدخلت معاوية في الخلافة كما أدخلت خاتمي هذا في أصبعي فعرف علي رضي الله عنه أنهم أفسدوا عليه الأمر فخرج على علي رضي الله عنه قريب من اثني عشر ألف رجل من عسكره زاعمين أن عليا كفر حين ترك حكم الله وأخذ بحكم الحكمين فهؤلاء هم الخوارج الذين تفرقوا في البلاد(4/468)
الذي لا شبهة فيه فكان باطلا كالأول إلا أنه متأول بالقران فكان دون الأول ولكنه لما كان من المسلمين أو ممن ينحل الإسلام لزمنا مناظرته وإلزامه فلم
ـــــــ
وزعموا أن من أذنب فقد كفر. وكان هذا منهم جهلا باطلا; لأنه مخالف للدليل الواضح فإن إمامة علي رضي الله عنه ثبتت باختيار كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار كما ثبتت إمامة من قبله به والرضاء بحكم الحكم فيما لا نص فيه أمر أجمع المسلمون على جوازه منصوص عليه في الكتاب فكيف يكون معصية. وكذا المسلم لا يكفر بالمعصية فإن الله تعالى أطلق اسم الإيمان على مرتكب الذنب في كثير من الآيات كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [التحريم: 8]. {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} [النور: 31] ونحوها فجهلهم بعد وضوح الأدلة لا يكون عذرا كجهل الكافر.
إلا أنه أي لكن صاحب الهوى أو الباغي. متأول بالقرآن أي متمسك به مؤول له على وفق رأيه فإن نافي الصفات تمسك بأنه تعالى وصف ذاته بالوحدانية في القرآن ونزه نفسه عن الشريك في آيات كثيرة فلو أثبتنا الصفات له لكانت قديمة ولكانت أغيارا للذات., وإثبات الأغيار في الأزل مناف للتوحيد. ومجوز الحدوث في الصفات تعلق بنحو قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22]. {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة: 210]. {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} [الأنعام: 158]. والباغي احتج بقوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57]. {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا} [النساء: 14]. {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً} [النساء: 93] فكان هذا الجهل دون الجهل الأول من هذا الوجه وإن كان لا يصلح عذرا في الآخرة. ولكنه أي هذا الجاهل وهو الباغي وصاحب الهوى لما كان من المسلمين; لأنه بالبغي لم يخرج عن الإسلام وكذلك بالهوى إذا لم يغل فيه. أو ممن ينتحل الإسلام يعني إذا غلا في هواه حتى كفر ولكنه ينتسب إلى الإسلام مع ذلك كغلاة الروافض والمجسمة. لزمنا مناظرته وإلزامه قبول الحق بالدليل فلم نعمل بتأويله الفاسد. فإذا استحل الباغي الأموال أو الدماء بتأويل أن مباشرة الذنب كفر لا يحكم بإباحتها في حقه بتأويله كما حكمنا بإباحة الخمر في حق الكافر بديانته; لأنه يعتقد الإسلام حقا فأمكن مناظرته وإلزام الحجة عليه بخلاف الكافر; لأن ولاية المناظرة والإلزام منقطعة فوجب العمل بديانته في حقه. فلذلك قلنا إذا أتلف الباغي مال العادل أي(4/469)
نعمل بتأويله الفاسد وقلنا في الباغي إذا أتلف مال العادل أو نفسه ولا منعة له يضمن وكذلك سائر الأحكام تلزمه فإذا صار للباغي منعة سقط عنه ولاية الإلزام فوجب العمل بتأويله الفاسد فلم يؤخذ بضمان ووجبت المجاهدة لمحاربتهم
ـــــــ
نفسه ولا منعة له يضمن كما لو أتلفه غيره لبقاء ولاية الإلزام وكذلك أي وكوجوب الضمان سائر الأحكام التي تلزم المسلمين تلزمه; لأنه مسلم وولاية الإلزام باقية. فإذا صار للباغي منعة سقط عنه ولاية الإلزام بالدليل حسا وحقيقة فوجب العمل بتأويله الفاسد فلم يؤخذ بضمان في نفس ولا مال بعد التوبة كما لم يؤخذ أهل الحرب به بعد الإسلام. وقال الشافعي رحمه الله يلزم الضمان وإن كان له منعة; لأنه مسلم ملتزم أحكام الإسلام وقد أتلف بغير حق فيجب عليه الضمان; لأنه من أحكام الإسلام ولا عبرة لتأويله; لأنه مبطل في ذلك وكيف يعتبر اعتقاده بعدما التزم أحكام الإسلام لإثبات أمر على خلافه. بخلاف الحربي; لأنه غير ملتزم حكم الإسلام أصلا. ولنا حديث الزهري قال وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا متوافرين فاتفقوا على أن كل دم أريق بتأويل القرآن فهو موضوع وكل مال أتلف بتأويل القرآن فهو موضوع وكل فرج استحل بتأويل القرآن فهو موضوع. وأن تبليغ الحجة الشرعية قد انقطعت بمنعه قائمة حسا فلم تثبت حجة الإسلام في حقهم كما لو انقطعت بحجر شرعي بأن قبل الكافر الذمة; لأن حجج الشرع فيما يحتمل الثبوت والسقوط لا تلزم إلا بعد البلوغ فإذا انقطع البلوغ عدمت الحجة فكان تدين كل قوم عن تأويل بمنزلة تدين الآخر من غير مزية لأحدهما على الآخر, والاستحلال بحكم مخالفة الدين حكم يجوز أن يكون كما جاز لنا في البغاة وإن كانوا مسلمين فساوى تدينهم تديننا حال قيام الحرب وانقطاع ولاية الإلزام بالمنعة القائمة كما جعل كذلك في أهل الحرب وحق الأنكحة. وهذا بخلاف الإثم فإن الباغي يأثم وإن كان له منعة; لأن المنعة لا تظهر في حق الشارع والخروج على الله تعالى حرام أبدا والجزاء واجب لله تعالى أبدا إلا أن يعفو فأما ضمان العباد فيحتمل أن لا يكون كما في الخمر وإنما وجب شرعا فلا يجب إلا بعلم الخطاب والتأمل فيه. وبخلاف الباغي الذي ليس بممتنع; لأن المانع من التبليغ وهو المنعة لم يتحقق فكان جهله بالحجة بسبب تعنته في الإعراض عن سماع الحجة والتأمل فيه ولا عبرة للتعنت فصار العدم به كأن لا عدم, كذا في الأسرار.
وهذا إذا هلك المال في يده فإن كان قائما في يده وجب رده على صاحبه; لأنه لم يملك ذلك بالأخذ كما لا نملك مال أهل البغي, والتسوية بين الفئتين المقاتلتين بتأويل الدين في الأحكام أصل. وقد روي عن محمد رحمه الله أنه قال أفتي في أهل البغي إذا تابوا بأن يضمنوا ما أتلفوا من النفوس والأموال ولا ألزمهم ذلك في الحكم; لأنهم كانوا معتقدين الإسلام وقد ظهر لهم خطؤهم في التأويل إلا أن ولاية الإلزام كانت منقطعة(4/470)
ووجب قتل أسراهم والتذفيف على جريحهم ولم نضمن نحن أموالهم ودماءهم ولم نحرم عن الميراث بقتلهم; لأن الإسلام جامع والقتل حق وهم لم يحرموا أيضا إن قتلوا أيضا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله; لأن القتل منهم في حكم الدنيا بشرط المنعة في حكم الجهاد بناء على ديانتهم وإن كان باطلا في حقيقة
ـــــــ
للمنعة فلا يجبرون على أداء الضمان في الحكم ولكن نفتي به فيما بينهم وبين ربهم ولا نفتي أهل العدل بمثله; لأنهم محقون في قتالهم وقتلهم ممتثلون للأمر كذا في المبسوط. وحاصل هذا الفصل أن المغير للحكم اجتماع التأويل والمنعة فإذا تجرد أحدهما عن الآخر لا يتغير الحكم في حق ضمان المصاب حتى لو أن قوما غير متأولين غلبوا على مدينة فقتلوا الأنفس واستهلكوا الأموال ثم ظهر عليهم أهل العدل أخذوا بجميع ذلك لتجرد المنعة عن التأويل.
قوله: "ووجبت المجاهدة لمحاربتهم" أي لأجل محاربتهم يعني إنما وجبت مقاتلتهم بطريق الدفع لا أن تجب ابتداء كما تجب مقاتلة الكفار فإن عليا رضي الله عنه قال للخوارج في خطبته ولن نقاتلكم حتى تقاتلونا يعني حتى تعزموا على القتال بالتجمع والتحيز عن أهل العدل فدل أنهم ما لم يعزموا على الخروج لا يتعرض لهم بالقتل والحبس فإذا تجمعوا وعزموا على الخروج وجب على كل من يقوى على القتال أن يقاتلهم مع إمام المسلمين لقوله تعالى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] والأمر للوجوب ولأنهم قصدوا أذى المسلمين وتهييج الفتنة, وإماطة الأذى وتسكين الفتنة من أبواب الدين. وخروجهم معصية ففي القيام بقتالهم نهي عن المنكر وهو فرض. والإمام فيه علي رضي الله عنه فإنه قام بالقتال وأخبر أنه مأمور بذلك بقوله أمرت بقتال المارقين والناكثين والقاسطين. ووجب قتل أسرائهم والتذفيف على جريحهم ذكر هاهنا لفظ الوجوب, وذكر في المبسوط بلفظه لا بأس فقيل لا بأس بقتل أسيرهم إذا كانت لهم فئة; لأن شره لم يندفع ولكنه مقهور لو تخلص لتحيز إلى فئته فإذا رأى الإمام مصلحة في قتله فلا بأس بأن يقتله. وإذا لم يبق لهم فئة لا يقتل; لأن إباحة القتل لدفع البغي وقد اندفع وكان علي رضي الله عنه يحلف من باشره منهم أن لا يخرج عليه ثم يخلي سبيله. وكذلك لا بأس بأن يجهز على جريحهم إذا كانت فئتهم باقية; لأنه إذا برئ عاد إلى الفتنة والشر بقوة تلك الفئة. ولأن في قتل الأسير والإجهاز كسر شوكة أصحابه فإذا بقيت لهم فئة يحصل هذا المقصود بذلك بخلاف ما إذا لم تبق لهم فئة والتذفيف الإسراع في القتل والمراد من التذفيف هاهنا إتمام القتل ولم نضمن نحن أموالهم بالإتلاف لما ذكر في الكتاب ودماءهم; لأن قتلهم واجب على المسلمين(4/471)
ووجب حبس أموالهم زجرا لهم ولم نملك أموالهم; لأن أصل الدار واحدة وهي بحكم الديانة مختلفة فثبتت العصمة من وجه وهو الإسلام دون وجه فلم يجب الضمان بالشك ولم يجب الملك بالشبهة بخلاف أهل الحرب; لأن الدار مختلفة والمنعة متباينة من كل وجه فبطلت العصمة لنا في حقهم ولهم في حقنا من كل وجه
ـــــــ
فلا يوجب ضمانا. ولم نحرم عن الميراث حتى لو قتل العادل في الحرب مورثه الباغي ورثه; لأن الإسلام جامع بين الوارث والمورث في الدين فلم يثبت اختلاف الدين الذي هو مانع من الإرث باختلاف ديانتهما والقتل بحق فلا يصلح سببا للحرمان كالقتل رجما أو قصاصا; لأن حرمان الميراث عقوبة شرعت جزاء على قتل محظور فالقتل المأمور به لا يصلح أن يكون سببا له. وهم أي أهل البغي لم يحرموا عن الميراث حتى لو قتل الباغي أخاه العادل وقال كنت على الحق وأنا الآن على الحق ورثه عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وإن قال كنت على باطل لم يرثه وقال أبو يوسف رحمه الله لا يرثه بحال; لأنه قتل بغير حق فيحرم به عن الميراث كما لو قتله ظلما من غير تأويل وهذا; لأن اعتقاده وتأويله لا يكون حجة على مورثه العادل ولا على سائر ورثته إنما يعتبر ذلك في حقه خاصة. يوضحه أن تأويل أهل البغي عند انضمام المنعة إليه يعتبر على الوجه الذي يعتبر في حق أهل الحرب وتأثير ذلك في إسقاط ضمان النفس والمال لا في حكم التوريث فكذلك تأويل أهل البغي. ولهما أن المقاتلة بين الفئتين بتأويل الدين فتستويان في الأحكام وإن اختلفا في الإمام كما في سقوط الضمان, وذلك لأن ولاية الإلزام لما انقطعت بالمنعة كان القتل منهم في حكم الدنيا في حكم الجهاد بناء على ديانتهم; لأنهم اعتقدوا أنفسهم على الحق وخصومهم على الباطل فكانت مقاتلتهم الخصوم جهادا في زعمهم وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر وإن كان باطلا في الحقيقة. وقوله اعتقاده لا يكون حجة على مورثه العادل فاسد; لأن اعتقاده كما لا يكون حجة على العادل في حكم التوريث لا يكون حجة في حكم سقوط حقه عن الضمان ولكن لما انقطعت ولاية الإلزام بانضمام المنعة إلى التأويل جعل الفاسد من التأويل كالصحيح في ذلك الحكم فكذا في حق التوريث كذا في المبسوط.
قوله: "ووجب حبس الأموال" أي أموال أهل البغي زجرا لهم عن البغي وعقوبة كما وجب قتل نفوسهم. فإذا تفرق جمعهم وانكسرت شوكتهم ترد عليهم أموالهم; لأنها لم تتملك لبقاء العصمة والإحراز فيها. ولأن الملك بطريق الاستيلاء لا يثبت ما لم يتم بالإحراز بدار تخالف دار المستولى عليه ولم يوجد; لأن دار الفئتين واحدة. وقيل لعلي رضي الله عنه يوم الجمل ألا تقسم بيننا ما أفاء الله علينا قال فمن يأخذ منكم عائشة(4/472)
وكذلك جهل من خالف في اجتهاده الكتاب والسنة من علماء الشريعة وأئمة الفقه أوعمل بالغريب من السنة على خلاف الكتاب أو السنة المشهورة فمردود باطل ليس بعذر أصلا مثل الفتوى ببيع أمهات الأولاد ومثل القول بالقصاص في القسامة ومثل استباحة متروك التسمية عمدا والقضاء بالشاهد
ـــــــ
وإنما قال ذلك استبعادا لكلامهم وإظهارا لخطئهم فيما طلبوا وقد جمع ما أصاب من عسكر أهل النهروان في رحبة الكوفة فمن كان يعرف شيئا أخذه. وهي بحكم الديانة مختلفة حيث اعتقد كل واحد من الفريقين أن الفريق الآخر على الباطل وأن دماءهم مباحة وقد غلبوا على دار الإسلام وجعلوها دار الحرب حيث لزمنا محاربتهم.
قوله: "وكذلك" أي ومثل جهل الباغي وصاحب الهوى جهل من خالف في اجتهاده الكتاب والسنة. الواو بمعنى أو مثل الفتوى ببيع أمهات الأولاد. كان بشر المريسي وداود الأصبهاني ومن تابعه من أصحاب الظواهر يقولون بجواز بيع أم الولد متمسكين في ذلك بما روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبأن المالية والمحلية للبيع قبل الولادة معلومة فيها بيقين فلا ترتفع بعد الولادة بالشك. وعند جمهور العلماء لا يجوز بيعها لدلالة الآثار المشهورة عليه مثل قوله عليه السلام لمارية: "أعتقها ولدها" 1. وقوله عليه السلام: "أيما أمة ولدت من سيدها فهي معتقة عن دبر منه" 2 رواه ابن عباس رضي الله عنهما. وما روي عن سعيد بن المسيب رحمه الله أنه قال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعتق أمهات الأولاد من غير الثلث وأن لا يبعن في دين. وما روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان ينادي على المنبر إلا أن بيع أمهات الأولاد حرام ولا رق عليها بعد موت مولاها وقد تلقاها القرن الثاني بالقبول وانعقد الإجماع على عدم جواز بيعها فكان القول بالجواز مخالفا للأحاديث المشهورة والإجماع فكان مردودا.
ومثل القول بالقصاص في القسامة. إذا وجد القتيل ولا يدرى قاتله تجب القسامة على أهل المحلة والدية على عواقل أهل المحلة عندنا ولا يجب القصاص بحال. وقال مالك وأحمد بن حنبل والشافعي في القديم إن كان بين القتيل وأهل المحلة عداوة ظاهرة أو لوث وهو ما يغلب به على ظن القاضي والسامع صدق المدعي يؤمر الولي بأن يعين القاتل منهم ثم يحلف الولي خمسين يمينا أنه قتله عمدا فإذا حلف يقتص له من القاتل,
ـــــــ
1 أخرجه ابن ماجه في العتق حديث رقم 2516.
2 أخرجه ابن ماجه في العتق حديث رقم 2515 والإمام أحمد في المسند 1/317.(4/473)
الواحد ويمين المدعي; لأنا أمرنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح لكل مسلم وعلى هذا يبتنى ما ينفذ فيه قضاء القاضي وما لا ينفذ وأما القسم
ـــــــ
متمسكين في ذلك بظاهر قوله عليه السلام لأولياء المقتول الذي وجد في خيبر: "أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم" الحديث أي دم قاتل صاحبكم. وحجة من أبى وجوب القصاص بالقسامة الأحاديث المشهورة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالقسامة والدية على اليهود في قتيل وجد بين أظهرهم. وروى زياد بن أبي مريم أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني وجدت أخي قتيلا في بني فلان فقال: "اختر من شيوخهم خمسين رجلا فيحلفون بالله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا فقال وليس لي من أخي إلا هذا قال: "نعم ولك مائة من الإبل" وفي الحديث. أن قتيلا وجد بين وداعة وأرحب وكان إلى وداعة أقرب فقضى عمر رضي الله عنه عليهم بالقسامة والدية فقالوا لا أيماننا تدفع عن أموالنا ولا أموالنا تدفع عن أيماننا فقال حقنتم دماءكم بأيمانكم وأغرمكم الدية بوجود القتيل بين أظهركم وكان ذلك منه بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد فحل محل الإجماع فكان القول بوجوب القصاص بها مخالفا لهذه الأدلة الظاهرة المشهورة, ولقوله عليه السلام: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر" فكان مردودا.
ومثل استباحة متروك التسمية عمدا عملا بقوله عليه السلام: "تسمية الله في قلب كل مؤمن" وبالقياس على متروك التسمية بالنسيان مخالف لقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121]. ومثل إيجاب القضاء بالشاهد الواحد ويمين المدعي عملا بما روي أن النبي عليه السلام قضى بذلك مخالف للكتاب وهو قوله: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] إلى أن قال: {وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282] وللحديث المشهور وهو قوله عليه السلام: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر" كما مر بيانه في باب الانقطاع فيكون مردودا. ففي هذه المسائل ونظائرها إن اعتمد الخصم على القياس فهو منه عمل بالاجتهاد على خلاف الكتاب أو السنة, وإن اعتمد على الخبر فهو عمل منه بالغريب من السنة على خلافهما أو خلاف أحدهما فيكون فاسدا. لأنا أمرنا متصل بقوله ليس بعذر أصلا أي أمرنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح لكل مسلم ومن المعروف العمل بالكتاب والسنة المشهورة ومن المنكر مخالفتهما أو مخالفة أحدهما ومن النصيحة الإرشاد إلى الصواب وإظهار الحق بالمناظرة وإقامة الدليل فيجب علينا ذلك ويجب على الخصم الطلب والقبول فلا يكون جهله عذرا بوجه. وعلى هذا وهو أن العمل بالاجتهاد على خلاف الكتاب أو السنة المشهورة باطل يبتنى ما ينفذ فيه قضاء القاضي وما لا ينفذ فإن وجد فيه العمل بخلاف الكتاب أو السنة كما في هذه الأمثلة لا ينفذ; لأنه باطل وإن عدم فيه ذلك كما في عامة المجتهدات ينفذ.(4/474)
الثالث فهو الجهل في موضع الاجتهاد الصحيح أو في غير موضع الاجتهاد لكن في موضع الشبهة أما الأول فإن من صلى الظهر على غير وضوء ثم صلى العصر بوضوء وعنده أن الظهر قد أجزأه فالعصر فاسدة; لأن هذا جهل على خلاف الإجماع وإن قضى الظهر ثم صلى المغرب وعنده أن العصر أجزأ عنه جاز ذلك; لأنه جهل في موضع الاجتهاد في ترتيب الفوائت وقال أصحابنا رحمهم
ـــــــ
قوله: "وأما القسم الثالث" وهو الجهل الذي يصلح شبهة فهو الجهل في موضع تحقق فيه الاجتهاد من غير أن يكون مخالفا للكتاب أو السنة وهو المراد بالصحيح. أو في غير موضع الاجتهاد أي لم يوجد فيه اجتهاد ولكنه موضع الاشتباه. صلى الظهر على غير وضوء يعني غير عالم بعدم الوضوء. ثم صلى العصر على وضوء ذاكرا لذلك وهو يظن أن الظهر أجزأه لكونه غير عالم بعدم الوضوء فيه فالعصر فاسدة كالظهر عندنا فكان عليه أن يعيدهما جميعا; لأن ظنه بجواز الظهر جهل واقع على خلاف الإجماع; لأن ظهره فاسد بلا خلاف فكان من القسم الثاني لا من هذا القسم. وكان الحسن بن زياد رحمه الله يقول إنما يجب مراعاة الترتيب على من يعلم فأما من لا يعلم به فليس عليه ذلك; لأنه ضعيف في نفسه فلا يثبت حكمه في حق من لا يعلم به. وكان زفر رحمه الله يقول إذا كان عنده أن ذلك يجزيه فهو في معنى الناسي للفائتة فيجزيه فرض الوقت. ولأن العصر لو لم يجز إنما لا يجوز باعتبار الترتيب وهو مجتهد فيه فكان ظنه في موضع الاجتهاد فيعتبر. لكنا نقول إن كان الرجل مجتهدا قد ظهر عنده أن مراعاة الترتيب ليست بفرض فهو دليل شرعي وكذلك إن كان ناسيا فهو معذور غير مخاطب بأداء الفائتة قبل أن يتذكر فأما إذا كان ذاكرا وهو غير مجتهد فمجرد ظنه ليس بدليل شرعي فلا يعتبر. فإن قضى الظهر وحدها وهذا الفرع هو المقصود من إيراد هذا المثال ثم صلى المغرب وهو يظن أن العصر أجزأته جاز المغرب ويعيد العصر فقط; لأن ظنه بجواز العصر جهل في موضع الاجتهاد في ترتيب الفوائت فإن الخلاف بين العلماء في وجوب الترتيب خلاف معتبر فكان دليلا شرعيا. وحاصل الفرق أن فساد الظهر بترك الوضوء فساد قوي مجمع عليه فكانت متروكة بيقين فيظهر أثر الفساد فيما يؤدي بعدها ولم يعذر بالجهل فأما فساد العصر بسبب ترك الترتيب فضعيف مختلف فيه فلا تكون متروكة بيقين فلا يتعدى حكمه إلى صلاة أخرى; لأن وجوب الترتيب ثبت بالسنة في متروكة بيقين علما وعملا وهو كمن جمع بين حر وعبد في البيع بثمن واحد بطل العقد فيهما بخلاف ما إذا جمع بين قن ومدبر كذا في المبسوط.
قوله: "وقال أصحابنا" إلى آخره إذا كان الدم بين اثنتين فعفا أحدهما ثم قتله الآخر عمدا فإن لم يعلم بعفو الشريك أو علم بذلك ولم يعلم أن بعفو أحدهما يسقط(4/475)
الله فيمن قتل وله وليان فعفا أحدهما عن القصاص ثم قتله الثاني وهو يظن أن القصاص باق له على الكمال وأنه وجب لكل واحد منهم قصاص كامل فإنه لا قصاص عليه; لأن جهله حصل في موضع الاجتهاد وفي حكم يسقط بالشبهة
ـــــــ
القود فعليه الدية كاملة في ماله عندنا. وقال زفر رحمه الله عليه القصاص; لأن القود سقط بعفو أحدهما علم الآخر به أو لم يعلم اشتبه عليه حكمه أو لم يشتبه فبقي مجرد الظن في حق الآخر والظن غير مانع من وجوب القصاص بعدما تقرر سبب كما لو قتل رجلا على ظن أنه قتل وليه ثم جاء وليه حيا كان عليه القصاص. وحجتنا في ذلك أنه قد علم وجوب القصاص وما علم ثبوته فالأصل بقاؤه واجبا في حقه ظاهرا والظاهر يصير شبهة في درء ما يندرئ بالشبهات. وكذا إذا علم بالعفو ولم يعلم أن القود سقط به; لأن الظاهر أن تصرف الغير في حقه غير نافذ وسقوط القود عند عفو أحدهما باعتبار معنى خفي وهو أن القصاص لا يحتمل التجزي فإنما اشتبه عليه حكم قد يشتبه فيصير ذلك بمنزلة الظاهر في إيراث الشبهة. بخلاف ما إذا علم أن القود سقط بالعفو ثم قتله عمدا حيث يجب القصاص; لأن هناك قد ظهر المسقط عنده وأقدم على القتل مع العلم بالحرمة. وقد يجوز أن يسقط القود باعتبار ظنه كما لو رمى إلى شخص ظنه كافرا فإذا هو مسلم وإذا سقط القود عنه بالشبهة لزمته الدية في ماله; لأن فعله عمد ثم يحسب له منها بنصف الدية لأن يعفو الشريك وجب له نصف الدية على المقتول فيصير نصف الدية قصاصا بالنصف ويؤدي ما بقي كذا في المبسوط. فعلى هذا كان المراد من قوله; لأن جهله حصل في موضع الاجتهاد أن الاجتهاد يقتضي أن يثبت لكل واحد منهما ولاية الاستيفاء على الكمال; لأن إثبات ما لا يتجزأ لاثنين يوجب ثبوته لكل واحد منهما كاملا كولاية الإنكاح على ما مر بيانه لا أن المراد منه أن بقاء ولاية الاستيفاء بعد عفو أحد الشريكين للآخر أمر مجتهد فيه كما أن الترتيب في المسألة الأولى أمر مجتهد فيه فإن أحدا من الفقهاء لم يقل بذلك. وذكر في التهذيب أن القصاص إذا ثبت لاثنين كان لكل واحد منهما أن ينفرد بقتله عند بعض أهل المدينة حتى لو عفا أحدهما كان للآخر قتله. فعلى هذا كان سقوط القصاص بعفو البعض أمرا مجتهدا فيه إن كان ذلك الاجتهاد صحيحا فلا يحتاج كلام الشيخ إلى تأويل. وفي حكم يسقط بالشبهة يعني بعدما حصل جهله في موضع الاجتهاد حصل في حكم يسقط بالشبهة وهو القصاص فكان أولى بالاعتبار من الجهل في المسألة الأولى.
قوله: "وكذلك" أي وكالولي القاتل في أن الجهل يصلح شبهة. صائم احتجم ثم أفطر على ظن أن الحجامة فطرته. وظن أن على ذلك التقدير أي تقدير أن الحجامة فطرته لم تلزمه الكفارة بالإفطار بعدها. أو ظن أن على تقدير الأكل بعد حصول الإفطار(4/476)
وكذلك صائم احتجم ثم أفطر على ظن أن الحجامة فطرته وعلى ذلك التقدير لم تلزمه الكفارة لما قلنا ومثله كثير ومن زنى بجارية امرأته أو جارية والده وظن
ـــــــ
بالحجامة لم تلزمه الكفارة. وقوله لما قلنا متعلق بكذلك; لأنه يتضمن جواب المسألة فإن جوابها ليس بمذكور صريحا على هذا الوجه الذي بينا يعني وكما يسقط القصاص بجهل الولي تسقط الكفارة بجهل صائم إلى آخره لما قلنا إن حصول الجهل في موضع الاجتهاد وفي حكم يسقط بالشبهة معتبر, وظن هذا الصائم في موضع الاجتهاد, إذ الأوزاعي يقول بفساد الصوم بالحجامة معتمدا على قوله عليه السلام حين رأى رجلين حجم أحدهما صاحبه: "أفطر الحاجم والمحجوم" 1. وفي موضع يسقط بالشبهة; لأن كفارة الصوم تسقط بالشبهات لترجح جانب العقوبة فيها على ما مر بيانه. وظني أن قوله وعلى ذلك التقدير زيادة وقعت من الكاتب وأن قوله لم تلزمه الكفارة جواب المسألة ولما قلنا متعلق به; لأن الكلام مستقيم متضح بدون تلك الزيادة.
ثم ما ذكر الشيخ من سقوط الكفارة بالظن في هذه المسألة ليس بمجرى على ظاهره فإن شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله ذكر في شرح كتاب الصوم أن الصائم لو احتجم فظن أن ذلك يفطره ثم أكل متعمدا ولم يستفت عالما ولم يبلغه الحديث نسخه أو بلغه وعرف تأويله وجبت عليه الكفارة; لأن ظنه حصل في غير موضعه فإن انعدام ركن الصوم بوصول الشيء إلى باطنه ولم يوجد وفساده بالاستقاء والحيض بخلاف القياس فيكون ظنه مجرد جهل وهو غير معتبر. فإن استفتى فقيها يؤخذ منه الفقه ويعتمد على فتواه فأفتاه بالفساد فأفطر بعد ذلك متعمدا لا تجب عليه الكفارة; لأن على العامي أن يعمل بفتوى المفتي إذا كان المفتي ممن يؤخذ منه الفقه ويعتمد على فتواه وإن كان يجوز أن يكون مخطئا فيما يفتي; لأنه لا دليل للعامي سوى هذا فكان معذورا فيما صنع ولا عقوبة على المعذور ولو لم يستفت ولكن بلغه الحديث ولم يعرف نسخه ولا تأويله, قال أبو حنيفة ومحمد والحسن بن زياد رحمهما الله لا كفارة عليه; لأن الحديث وإن كان منسوخا لا يكون أدنى درجة من الفتوى إذا لم يبلغه النسخ فيصير شبهة. وقال أبو يوسف رضي الله عنه عليه الكفارة; لأن معرفة الأخبار والتمييز بين صحيحها وسقيمها وناسخها ومنسوخها مفوض إلى الفقهاء فليس للعامي أن يأخذ بظاهر الحديث لجواز أن يكون مصروفا عن ظاهره أو منسوخا إنما له الرجوع إلى الفقهاء والسؤال عنهم فإذا لم يسأل فقد قصر فلا يعذر وهكذا ذكر الإمام شمس الأئمة رحمه الله أيضا فتبين أن الظن في هذه المسألة
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في الصيام حديث رقم 774 وأبو داود في الصوم حديث رقم 2367 – 2371.(4/477)
أنها تحل له لم يلزمه الحد فيصير الجهل والتأويل في موضع الاشتباه شبهة في الحدود دون النسب والعدة بخلاف ما إذا وطئ جارية أخيه وأخته وكذلك
ـــــــ
بدون اعتماده على فتوى أو حديث ليس بمعتبر وأن قول الأوزاعي لا يصير شبهة; لأنه مخالف للقياس.
قوله: "ومن زنى بجارية امرأته" بيان القسم الثاني وهو الجهل في موضع الشبهة أي الاشتباه. واعلم أن الشبهة الدارئة للحد نوعان شبهة في الفعل وتسمى شبهة اشتباه; لأنها تنشأ من الاشتباه. وشبهة في المحل وتسمى شبهة الدليل والشبهة الحكمية فالأولى هي أن يظن الإنسان ما ليس بدليل الحل دليلا فيه ولا بد فيها من الظن ليتحقق الاشتباه والثانية أن يوجد الدليل الشرعي النافي للحرمة في ذاته مع تخلف حكمه عنه لمانع اتصل به وهذا النوع لا يتوقف تحققه على ظن الجاني واعتقاده فمن هذا القسم ما لو وطئ الأب جارية ابنه فإنه لا يجب عليه الحد وإن قال علمت أنها علي حرام; لأن المؤثر في إيراث الشبهة الدليل الشرعي وهو قوله عليه السلام: "أنت ومالك لأبيك" وهو قائم فلا يفترق في الحال بين الظن وعدمه في سقوط الحد ومن القسم الأول ما إذا وطئ الابن جارية أبيه وجارية أمه أو وطئ الرجل جارية امرأته فإن قال ظننت أنها تحل لي لا يجب الحد عليهما عندنا وقال زفر رحمه الله يجب عليهما الحد; لأن السبب وهو الزنا قد تقرر بدليل أنهما لو قالا علمنا بالحرمة يلزمهما الحد فلو سقط إنما يسقط بالظن والظن لا يغني من الحق شيئا كمن وطئ جارية أخيه أو أخته وقال ظننت أنها تحل لي ولكنا نقول قد تمكنت بينهما شبهة اشتباه; لأن مال المرأة من وجه مال لزوج. وقيل في تأويل قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى:8] أي بمال خديجة ولأنها حلال له فربما يشتبه عليه أن حال جاريتها كحالها وكذا في جارية الأب والأم قد يشتبه ذلك باعتبار أن الأملاك متصلة بين الآباء والأبناء والمنافي دائرة والولد جزء أبيه وأمه فربما يشتبه أنها لما كانت حلالا للأصل تكون حلالا للجزء أيضا.
فيصير الجهل أي الجهل بالحرمة والتأويل أي تأويل أن الجارية تحل لي كما تحل نفس المرأة وكما تحل جاريتي لأبي بالتملك شبهة في سقوط الحد; لأن شبهة الاشتباه مؤثرة في سقوط الحد على من اشتبه عليه كقوم سقوا على مائدة خمرا فمن علم منهم أنه خمر يجب عليه الحد ومن لم يعلم لا يحد دون النسب والعدة يعني يثبت النسب بهذه الشبهة وإن ادعاه ولا تجب العدة بها; لأن الفعل تمحض زنا في نفسه فيمنع ثبوت النسب ووجوب العدة وإن سقط الحد للاشتباه بخلاف الشبهة الحكمية حيث لا يثبت بها النسب ويجب بها العدة كما يسقط بها الحد; لأن الفعل لم يتمحض زنا نظرا إلى(4/478)
حربي أسلم ودخل دارنا فشرب الخمر وقال لم أعلم بالحرمة لم يحد بخلاف ما إذا زنى وبخلاف الذمي إذا أسلم ثم شرب الخمر وقال لم أعلم بحرمتها فإنه يحد هذا بناء على هذا الأصل الذي ذكرنا. وأما القسم الرابع فهو الجهل في دار الحرب من مسلم لم يهاجر أنه يكون عذرا في الشرائع حتى إنها لا تلزمه; لأن
ـــــــ
قيام الدليل لهذا لم يفترق الحال فيها بين العلم بالحرمة وعدمه وهذا بخلاف ما لو زنى بجارية أخيه أو أخته وقال ظننت أنها تحل لي حيث لم يجعل الجهل شبهة في سقوط الحد; لأن منافع الأملاك بينهما متباينة عادة فلا يكون هذا محل الاشتباه فلا يصير الجهل شبهة. وكذلك أي كما لا يحد الولد بوطء جارية أبيه عند عدم العلم بالحرمة ويصير جهله شبهة في سقوط الحد لا يحد الحربي الذي أسلم ودخل دارنا فشرب الخمر إذا لم يعلم بالحرمة يصير جهله شبهة في سقوطه بخلاف ما إذا زنى ظانا أنه ليس بحرام وبخلاف الذمي الذي أسلم وشرب الخمر ظانا أنها حلال حيث يحدان جميعا وهذا أي التفرقة بين شرب الخمر وبين الزنا في الحربي والتفرقة بين الحربي وبين الذمي في شرب الخمر بناء على الأصل الذي ذكرناه وهو أن الجهل في موضع الاشتباه يصلح شبهة دارئة للحد وفي غير موضع الاشتباه لا يصلح لذلك فجهل الحربي بحرمة الخمر في موضع الاشتباه; لأنها ثبتت بالخطاب وهو منقطع عن أهل الحرب ودارهم دار الجهل وضياع الأحكام فيصلح جهله شبهة دارئة للحد. فأما جهله بحرمة الزنا ففي غير محله; لأن الزنا حرام في الأديان كلها فلم يتوقف العلم بحرمته على بلوغ خطاب الشرع لتحقق حرمته قبله فلا يصلح شبهة في سقوط الحد وكذا جهل الذمي بحرمة الخمر; لأنه من أهل دار الإسلام وتحريم الخمر شائع فيها فلم يصر جهله شبهة لعدم مصادفته محله بل الاشتباه وقع من تقصيره في الطلب فلا يعذر.
قوله: "وأما القسم الرابع" وهو الذي يصلح عذرا فهو كذا والفرق بين هذا القسم وبين القسم الثالث أن هذا القسم بناء على عدم الدليل والقسم الثالث بناء على اشتباه ما ليس بدليل بالدليل كذا قيل فالجهل في دار الحرب من مسلم لم يهاجر يكون عذرا في الشرائع حتى لو مكث مدة ولم يصل فيها أو لم يصم ولم يعلم أن عليه الصلاة والصوم لا يكون عليه قضاؤهما وقال زفر رحمه الله يجب عليه قضاؤهما; لأن بقبول الإسلام صار ملتزما لأحكامه ولكن قصر عنه خطاب الأداء لجهله به وذلك لا يسقط القضاء بعد تقرر السبب الموجب كالنائم إذا انتبه بعد مضي وقت الصلاة ونحن نقول إن الخطاب النازل خفي في حقه لعدم بلوغه إليه حقيقة بالسماع ولا تقديرا باستفاضته وشهرته; لأن دار الحرب ليست بمحل استفاضة أحكام الإسلام. فيصير الجهل بالخطاب عذرا; لأنه غير مقصر(4/479)
الخطاب النازل خفي فيصير الجهل به عذرا; لأنه غير مقصر وإنما جاء من قبل خفاء الدليل في نفسه وكذلك الخطاب في أول ما ينزل فإن من لم يبلغه كان معذورا مثل ما روينا في قصة أهل قبا وقصة تحريم الخمر قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] الآية فأما إذا انتشر
ـــــــ
في طلب الدليل وإنما جاء الجهل من قبل خفاء الدليل في نفسه حيث لم يشتهر في دار الحرب بسبب انقطاع ولاية التبليغ عنهم وكذلك أي وكالخطاب في حق أهل الحرب في الخفاء الخطاب في أول ما ينزل فإنه خفي في حق من لم يبلغه من المسلمين لعدم استفاضته بينهم فيصير الجهل به عذرا مثل ما روينا بضم الراء في قصة أهل قباء فإنهم صلوا صلاة الظهر إلى بيت المقدس بعد نزول فرض التوجه إلى الكعبة وافتتحوا العصر متوجهين إليه أيضا فأخبروا بتحول القبلة إلى الكعبة وهم في الصلاة فتوجهوا إليها وأتموا صلاتهم وجوز ذلك لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم; لأن الخطاب لم يبلغهم وعليه حمل الشيخ قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أي صلاتكم إلى بيت المقدس والمذكور في التفسير أن النبي عليه السلام لما توجه إلى الكعبة قالوا كيف من مات قبل التحويل من إخواننا فنزلت هذه الآية1 وقصة تحريم الخمر فإن بعض الصحابة كانوا في سفر فشربوا بعد التحريم لعدم علمهم بحرمتها فنزل قوله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} الآية وعن ابن كيسان لما نزل تحريم الخمر والميسر قال أبو بكر رضي الله عنه يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وقد شربوا الخمر وأكلوا الميسر وكيف بالغاصبين عنا في البلدان لا يشعرون بتحريمها وهم يطعمونها فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي من الأموات والأحياء في البلدان إثم فيما طعموا من الخمر والقمار: {إِذَا مَا اتَّقَوْا} [المائدة: 93] ما حرم الله عليهم سواهما. وقيل اتقوا الشرك وآمنوا بالله وعملوا الصالحات في إيمانهم: {ثُمَّ اتَّقَوْا} يعني الأحياء في البلدان الخمر والقمار إذا جاءهم تحريمها وآمنوا صدقوا بتحريمها ثم اتقوا ما تحرم عليهم بعد هذا بنص يرد في التحريم لبعض ما أحل لهم: {وَأَحْسَنُوا} فيما تعبدهم الله والله يحب المحسنين فهذا معنى ذكر التقوى ثلاثا في هذه الآية كذا في التيسير.
فثبت بما ذكرنا أن حكم الخطاب لا يثبت في حق المخاطب قبل علمه به إذ ليس
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في التفسير حديث رقم 2964 وأبو داود في السنة حديث رقم 4680 وابن حبان حديث رقم 1718 والإمام أحمد في المسند 1/347.(4/480)
الخطاب في دار الإسلام فقد تم التبليغ من صاحب الشرع فمن جهل من بعد فإنما أتي من قبل تقصيره لا من قبل خفاء الدليل فلا يعذر كمن لم يطلب الماء في العمران ولكنه تيمم والماء موجود فصلى لم يجزه وكذلك جهل الوكيل بالوكالة وجهل المأذون بالإذن يكون عذرا; لأنه فيه ضرب إيجاب وإلزام فلا بد من
ـــــــ
في وسعه الائتمار قبل العلم فلذلك يعذر, فأما إذا انتشر الخطاب في دار الإسلام فقد تم التبليغ من صاحب الشرع إذ ليس في وسعه التبليغ إلى كل واحد إنما الذي في وسعه الإشاعة ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل نفسه مبلغا إلى الكافة يبعث الكتب والرسل إلى ملوك الأطراف حتى كان يقول ألا هل بلغت اللهم فاشهد فعلم أن التبليغ يتم باشتهار الخطاب واستفاضته فمن جهل من بعد شهرته فإنما أتي من قبل تقصيره أي ابتلي بالجهل من هذه الجهة يقال من هاهنا أتيت أي من هاهنا دخل عليك البلاء ومنه قول الأعرابي وهل أتيت إلا من الصوم أي وهل أتاني المحذور إلا من الصوم; لأن الخطاب صار متيسر الإصابة بالاشتهار لا من قبل خفاء الدليل. فلذلك قلنا إذا أسلم الذمي في دار الإسلام ومكث مدة ولم يصل ولم يعلم بوجوبها كان عليه قضاؤها; لأنه في دار شيوع الأحكام ويرى شهود الناس الجماعات ويمكنه السؤال عن أحكام الإسلام فترك السؤال والطلب تقصير منه فلا يعذر كمن لم يطلب الماء في العمر ظانا أن الماء معدوم فتيمم وصلى والماء موجود لم تجز صلاته; لأنه مقصر في ترك الطلب في موضع الماء غالبا بخلاف ما إذا ترك الطلب في المفازة على ظن عدم الماء وتيمم وصلى حيث جازت صلاته; لأنه ليس بمقصر بترك الطلب في هذا الموضع فإذا لم يكن على طمع من الماء لم يلزمه الطلب لعدم الفائدة وإنما قيد بقوله والماء موجود; لأنه إذا لم يكن موجودا في الواقع جازت صلاته كذا في بعض الحواشي.
قوله: "وكذلك" أي وكجهل من أسلم في دار الحرب جهل الوكيل بالوكالة وجهل المأذون بالإذن يكون عذرا حتى لو تصرفا قبل بلوغ الخبر إليهما لم ينفذ تصرفهما على الموكل والمولى. ولو وكله ببيع شيء يتسارع إليه الفساد ولم يعلم بالوكالة حتى فسد ذلك الشيء لم يضمن شيئا ولو وكله بشراء شيء بعينه فاشتراه الوكيل لنفسه قبل العلم بالوكالة يصح وبعد العلم لا يصح ولو باع متاعا للموكل قبل العلم بالوكالة لا ينفذ على الموكل بل يتوقف على إجازته كبيع الفضولي لأن فيه أي في التوكيل والإذن ضرب إيجاب وإلزام حيث يلزمهما حقوق العقد من التسليم والتسلم ونحوهما ويمتنع على الوكيل شراء شيء وكل بشرائه بعينه وبيع شيء وكل بيعه ممن لا يقبل شهادته له ويطالب العبد بعهدة تصرفاته بعد الإذن في الحال ولم يكن مطالبا بها قبل الإذن فكما لا يثبت(4/481)
عمله إلا أنه لا يشترط فيمن يبلغه العدالة وإن كان فضوليا; لأنه ليس بإلزام محض بل هو مخير وجهل الوكيل بالعزل وجهل المأذون بالحجر وجهل مولى العبد الجاني فيما يتصرف فيه وجهل الشفيع بالشفعة يكون عذرا; لأن الدليل خفي وفيه إلزام فشرط أبو حنيفة رحمه الله في الذي يبلغه من غير رسالة العدالة أو العدد وكذلك جهل المرأة البكر بإنكاح الولي مثله, وكذلك قوله في تبليغ
ـــــــ
حكم العزل والحجر في حقهما قبل العلم لدفع الضرر عنهما لا يثبت حكم الوكالة والإذن لذلك أيضا ألا ترى أن حكم الشرع لا يلزم في حقه مع كمال ولايته قبل العلم به فلأن لا يثبت حكم من جهة العبد الذي هو قاصر الولاية كان أولى. إلا أنه أي لكنه لا يشترط فيمن يبلغ الوكيل أو العبد أو يبلغ الإذن أو الوكالة إليهما العدالة بالاتفاق وإن كان المبلغ فضوليا; لأن التوكيل أو الإذن ليس بإلزام محض وإن كان فيه إلزام من الوجه الذي قلنا بل هو أي الوكيل أو العبد يخير بعد بلوغ الخبر إليه في قبول الوكالة والإذن, وتحقق معنى الإلزام من الوجه الذي بينا لا يخل بهذا الاختيار بوجه فلذلك لا يشترط فيه شيء من شرائط الإلزام أي الشهادة وجهل الوكيل بالعزل وجهل المأذون بالحجر عذر لخفاء الدليل ولزوم الضرر على كل واحد منهما بصحة العزل والحجر إذ الوكيل يتصرف على أن يلزم تصرفه على الموكل والعبد يتصرف على أن يقضي دينه من كسبه ورقبته وبالعزل والحجر يلزم التصرف على الوكيل ويتأخر دين العبد إلى العتق ويؤدي بعد العتق من خالص ملكه وفيه من الضرر ما لا يخفى.
قوله: "وجهل مولى العبد الجاني فيما يتصرف فيه" أي في العبد إذا جنى العبد جناية يخير المولى بين الدفع والفداء فإذا تصرف المولى في هذا الجاني بالبيع أو بالإعتاق ونحوهما بعد العلم بجنايته يصير مختارا للفداء وهو الأرش فإن لم يعلم بالجناية حتى تصرف فيه ببيع ونحوه لا يصير مختارا للفداء بل يجب عليه الأقل من القيمة ومن الأرش ويصير جهله بالجناية عذرا وجهل الشفيع بالشفعة أي بسبب ثبوت الشفعة وهو البيع يكون عذرا حتى إذا علم بالبيع بعد زمان يثبت له حق الشفعة لأن الدليل أي دليل العلم في الصور الأربع خفي في حق هؤلاء; لأن هذه الأمور لا تكون مشهورة ويستبد الموكل بالعزل والمولى بالحجر والعبد بالجناية وصاحب الدار بالبيع فأنى يحصل العلم للوكيل والعبد والمولى والشفيع بهذه الأمور وفيه أي في كل واحد من هذه الأمور إلزام ضرر حيث يلزم التصرف بالعزل على الوكيل وتصير العين مضمونة عليه وتبطل ولاية المأذون في التصرفات بالحجر ويلزم على المولى الدفع أو الفداء بجناية العبد ويلزم على الشفيع ضرر الجار بالبيع وإذا كان كذلك يتوقف ثبوتها على العلم كأحكام الشرع فشرط(4/482)
الشرائع إلى الحربي الذي أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا إذا لم يكن المبلغ رسول الإمام, وكذلك جهل الأمة المنكوحة إذا أعتقت بالإعتاق أو بالخيار بعد العلم بالإعتاق يجعل عذرا; لأن الدليل خفي في حقها ولأنها دافعة بخلاف
ـــــــ
أبو حنيفة يعني ولما كان في كل واحد منها معنى الإلزام شرط أبو حنيفة رحمه الله في الذي يبلغه من غير رسالة العدد أو العدالة ولم يشترط كليهما; لأنه من حيث إنه تصرف في حق نفسه دون الإلزامات المحضة في الأموال وغيرها فلذلك لم يشترط فيه إلا أحد شطري الشهادة وقد مر تحقيقه في باب بيان محل الخبر وكذلك أي ومثل قوله في اشتراط أحد شطري الشهادة في تبليغ هذه الأمور قوله في تبليغ الشرائع إلى الحربي الذي أسلم ولم يهاجر يعني تشترط العدالة أو العدد عنده ولا تشترط عندهما. ومنهم من يقول تشترط العدالة في قولهم جميعا; لأنه من أخبار الدين والعدالة فيها شرط بالاتفاق ومنهم من يقول لا تشترط وهو الأصح; لأن كل أحد مأمور من صاحب الشرع بالتبليغ قال عليه السلام: "نضر الله امرأ سمع منا مقالة فوعاها كما سمعها ثم أداها إلى من لم يسمعها" فهذا المبلغ نظير الرسول من المولى والموكل وفي خبر الرسول لا تشترط العدالة في المخبر فكذا هذا وقد مر بيان هذه المسألة أيضا وكذلك أي ومثل جهل هؤلاء المذكور من جهل المرأة البكر البالغة بإنكاح الولي يكون عذرا حتى لا يكون سكوتها قبل العلم رضا بالنكاح; لأن دليل العلم خفي في حقها لاستبداد الولي بالإنكاح وفيه إلزام حكم النكاح عليها فيشترط العدد أو العدالة في المبلغ عنده ولا يشترط عندهما وكان قوله مثله وقع زائدا لا حاجة إلى ذكره; لأن قوله وكذلك يدل على ما يدل هو عليه.
قوله: "وكذلك" أي وكجهل هؤلاء جهل الأمة إذا أعتقت الأمة المنكوحة ثبت لها الخيار إن شاءت أقامت مع الزوج وإن شاءت فارقته لقول النبي صلى الله عليه وسلم لبريدة حين عتقت: " ملكت بضعك فاختاري" وهو يمتد إلى آخر المجلس; لأنه ثابت بتخيير الشرع فيكون بمنزلة الثابت بتخيير الزوج ويسمى هذا خيار العتاقة. فإن لم تعلم بالإعتاق أو علمت به ولكن لم تعلم بثبوت الخيار لها شرعا كان الجهل منها عذرا حتى كان لها مجلس العلم بعد ذلك لأن الدليل أي دليل العلم بكل واحد منهما خفي في حقها أما في الإعتاق فظاهر; لأن المولى مستبد به فلا يمكنها الوقوف عليه قبل الإخبار وأما في الخيار فلما ذكر شمس الأئمة رحمه الله أن سبب ثبوت الخيار وهو زيادة الملك عليها خفي لا يعلمه إلا الخواص من الناس ولأنها مشغولة بخدمة المولى فلا تتفرغ لمعرفة أحكام الشرع فلا يقوم اشتهار الدليل في دار الإسلام مقام العلم ولأنها دافعة عن نفسها لزوم زيادة الملك عليها والجهل يصلح عذرا للدفع بخلاف الصغيرة إذا زوج الصغير أو الصغيرة غير الأب من(4/483)
الصغيرة البكر إذا بلغت وقد أنكحها أخوها فلم يعلم بالخيار لم تعذر وجعل سكوتها رضا; لأن دليل العلم في حقها مشهور غير مستور ولأنها تريد بذلك إلزام الفسخ ابتداء لا الدفع عن نفسها والمعتقة تدفع الزيادة عن نفسها ولهذا افترق الخياران في شرط القضاء وعلى هذا الأصل قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله
ـــــــ
الأولياء يصح النكاح ويثبت لهما الخيار في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وهو قول ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما; لأن التزويج صدر ممن هو قاصر الشفقة بالنسبة إلى الأب وقد ظهر تأثير القصور في امتناع ثبوت الولاية في المال فيثبت لهما الخيار إذا ملكا أمر نفسهما بالبلوغ كالأمة إذا أعتقت ويسمى هذا خيار البلوغ وهو يبطل بالسكوت في جانبها إذا كانت بكرا; لأن ثبوت الخيار لها لعدم تمام الرضاء منها ورضاء البكر البالغة يتم بسكوتها شرعا كما لو زوجت بعد البلوغ فسكتت ولذا لو بلغت ثيبا لا يبطل خيارها بالسكوت كما لا يبطل خيار الغلام به. فإن لم تعلم بالنكاح وقت البلوغ كان الجهل منها عذرا لخفاء الدليل إذ الولي مستبد بالإنكاح وإن علمت بالنكاح ولم تعلم بالخيار لم تعذر وجعل سكوتها رضاء; لأن دليل العلم بالخيار في حقها مشهور غير مستور لاشتهار أحكام الشرع في دار الإسلام وعدم المانع من التعلم قال شمس الأئمة رحمه الله خيار البلوغ أمر ظاهر يعرفه كل أحد ولظهوره ظن بعض الناس أنه يثبت في إنكاح الأب أيضا وهي لم تكن مشغولة قبل البلوغ بشيء يمنعها عن التعلم فكان سبيلها أن تتعلم ما تحتاج إليه بعد البلوغ فلا يتعذر بالجهل ولأنها أي الصغيرة تريد بذلك أي بالجهل بالخيار إلزام فسخ إنكاح على الزوج; لأن خيار البلوغ شرع لإلزام النقض لا للدفع; لأن من له الخيار لا يدفع ضررا ظاهرا فإن المسألة مصورة فيما إذا كان الزوج كفؤا والمهر وافرا ولم يفعل ذلك مجانة وفسقا فثبت أنه شرع للإلزام في حق الخصم الآخر والجهل لا يصلح حجة للإلزام والمعتقة تدفع الزيادة عن نفسها والجهل يصلح حجة للدفع ولهذا أي ولأن خيار البلوغ للإلزام وخيار المعتقة للدفع افترق الخياران في شرط القضاء فشرط القضاء لوقوع الفرقة في خيار البلوغ حتى لو مات أحدهما بعد الاختيار قبل القضاء يرثه الآخر ولم يشترط في خيار العتق بل تثبت الفرقة بنفس الخيار; لأن السبب زيادة ملك الزوج عليها فإنه قبل العتق كان يملك مراجعتها في قرأين ولم يملك عليها تطليقتين وقد ازداد ذلك بالعتق فكان لها أن تدفع الزيادة ولا تتوصل إلى دفع الزيادة إلا بدفع أصل الملك فكما أن إثبات دفع الملك عند عدم رضاها يتم بها ولا يتوقف على القضاء فكذلك دفع زيادة الملك فأما في خيار البلوغ فلا يزداد الملك وإنما كان ثبوت الخيار لتوهم ترك النظر من الولي وذلك غير متيقن به فلا تتم الفرقة إلا بالقضاء. فصار الحاصل أن الدفع في خيار العتاقة ظاهر مقصود(4/484)
في صاحب خيار الشرط في البيع إذا فسخ العقد بغير محضر من صاحبه: إن ذلك لا يصح إلا بمحضر منه; لأن الخيار وضع لاستثناء حكم العقد لعدم الاختيار فيصير العقد به غير لازم ثم يفسخ لفوت اللزوم لا أن الخيار للفسخ لا محالة فصير هذا بالفسخ متصرفا على الآخر بما فيه إلزام فلا يصح إلا بعلمه فإن بلغه
ـــــــ
والإلزام ضمني فلا يتوقف على القضاء في خيار البلوغ الإلزام قصدي والدفع متوهم ضمني فيتوقف عليه.
قوله: "وعلى هذا الأصل" وهو أن ما فيه إلزام على الغير لا يثبت بدون علمه قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله في صاحب خيار الشرط في البيع مشتريا كان أو بائعا إذا فسخ بغير محضر من صاحبه أي بغير علمه أن ذلك الفسخ لا يصح وله أن يرضى بعد ذلك ما لم يعلم الآخر بفسخه في مدة الخيار فإن علم ذلك في المدة تم الفسخ وليس له أن يرضى بعد ذلك وإن لم يعلم حتى مضت المدة بطل ذلك الفسخ وتم البيع وقال أبو يوسف رحمه الله فسخه جائز بغير محضر من الآخر وبغير علمه; لأن الخيار خالص حق من له الخيار ولهذا لا يشترط رضاء صاحبه في تصرفه بحكم الخيار وموجب الخيار الفسخ أو الإجازة ثم الإجازة تتم بغير محضر الآخر كما تتم بغير رضاه فكذا الفسخ بل أولى; لأن الخيار يشترط للفسخ لا للنفاذ إذ النفاذ ثابت بدون الخيار وهذا لأنه بمساعدة صاحبه على الشرط صار مسلطا على الفسخ من جهته ولهذا لا يشترط رضاه في تصرفه فلا يتوقف تصرفه على علمه كالوكيل إذا تصرف بغير حضرة الموكل وكالمخيرة إذا اختارت نفسها بغير حضرة الزوج بأن بلغها الخبر وهي غائبة. وهذا بخلاف عزل الوكيل حيث يتوقف على علمه; لأن الموكل ما تسلط على عزله بمعنى من قبل الوكيل وبخلاف خيار العيب; لأن المشتري هناك غير مسلط على الفسخ وإنما له حق المطالبة بتسليم الجزء الفائت فإذا تحقق عجز البائع عنه تمكن من الفسخ فلا يتحقق عجزه إلا بمحضر منه ولهما أنه بالفسخ يلزم غيره حكما جديدا لم يكن فلا يثبت حكم تصرفه في حق ذلك الغير ما لم يعلم به كالموكل إذا عزل الوكيل حال غيبته يثبت حكم العزل في حقه ما لم يعلم به وهذا لأن الخيار وضع في الشرع لاستثناء حكم العقد لعدم الاختيار أي يمنع حكم العقد وهو الملك عن الثبوت لعدم رضاء صاحب الخيار به; لأن هذا الشرط أو الخيار داخل في الحكم دون السبب فيؤثر فيه بالمنع بمنزلة الاستثناء يمنع دخول المستثنى في صدر الكلام فيصير العقد به أي باستثناء الحكم وامتناعه عن الثبوت أو بعدم الاختيار غير لازم; لأن لفوات الاختيار والرضاء أثر في سلب اللزوم عن العقد كما في بيع المكره والهازل ثم يفسخ سائر العقود الجائزة من الوكالات والشركات والمضاربات لا أن الخيار(4/485)
رسول صاحب الخيار صح في الثلث بلا شرط عدالة وبعد الثلاث لا يصح وإن بلغه فضولي شرط فيه العدد أو العدالة عند أبي حنيفة خلافا لمحمد رحمهما
ـــــــ
للفسخ لا محالة يعني لا أن يكون شرع الخيار لأجل الفسخ قصدا بغير علم صاحبه كما قال أبو يوسف رحمه الله إذ لو كان الخيار للفسخ لا محالة لم يكن له ولاية الإجازة; لأنها ضد الفسخ وكيف يكون للفسخ وفيه سعي في نقض ما تم من جهته وهو باطل., ألا ترى أنهما نصا على العقد وإثبات الخيار لا على الفسخ والفسخ ضد العقد فلا يكون موجبه كذا في الأسرار توضيحه أن اشتراط الخيار في العقود التي هي غير لازمة كالوكالة والشركة والمضاربة لا يجوز ولو كان اشتراط الخيار ليتمكن به من الفسخ بغير علم صاحبه لصح في هذه العقود لكونه محتاجا إليه فيها إذ هو لا يتمكن من فسخها بدون علم صاحبه وإن كان يتمكن بغير رضاه وحيث لم يصح عرفنا أن موجبه رفع صفة اللزوم فقط قال القاضي الإمام رحمه الله إن الخيار كان ثابتا للعاقد في أصل مباشرة العقد وإلزام الحكم جميعا فاستثناء أحد الخيارين ليبقى على ما كان لا يكون بإيجاب الغير له ذلك وتسليطه عليه كما إذا باع العبد إلا نصفه بقي النصف في ملكه كما كان لا أن المشتري أوجب له ملك النصف وإنما اعتبر مساعدة صاحبه; لأنه لا يرضى بعقد لا حكم له والعقد يقوم بهما فلا يثبت إلا على الوجه الذي يتراضيان عليه ثم إذا رضي به فامتناع الحكم لعدم المثبت فثبت بما ذكرنا أن ولاية الفسخ له لانتفاء صفة اللزوم في حقه لا للتسليط فيصير هذا أي صاحب الخيار بالفسخ متصرفا على الآخر بما فيه إلزام أي إلزام يوجب الفسخ عليه بغير رضاه أو إلزام الضرر عليه; لأنه ربما يتصرف في الثمن بعد مضي المدة معتمدا على صيرورة العقد لازما فيضمن فلا يصح إلا بعلمه كعزل الوكيل وحجر المأذون فصار الحاصل أن أبا يوسف رحمه الله يقول إن الخيار وإن شابه الاستثناء لكن لا بد فيه من مساعدة صاحبه في ثبوت الشرط فأشبه التسليط وهما نظرا إلى الحقيقة فقالا لما كان الخيار استثناء وهو منع الثبوت وذلك غير ثابت يعني بمعنى من الآخر كان حق الفسخ غير مسند إلى تسليط الآخر فشابه عزل الوكيل فعلى هذا الحرف تدور المسألة. فإن قيل فائدة الخيار أن لا يلزمه حكم العقد إلا برضاه وفي التوقيف على علم صاحبه إضرار به; لأن مدة الخيار مقدرة ومن الجائز أن يغيب في مدة الخيار فتفوت فائدة شرط الخيار; لأن العقد يلزمه بدون رضاه قلنا إن التصرف متى توقف على شرطه فامتناع نفاذه لعدم الشرط لا يعد من باب الإضرار كالموكل لا يملك عزل الوكيل وتدارك حقه فيما بدا له من العزل لعدم شرط استيفاء حقه بلا شرط عدالة; لأن الرسول قائم مقام المرسل وبعد الثلث لا يصح أصلا كما لو أخبره بنفسه للزوم العقد بمضي المدة وإن بلغه فضولي شرط العدد(4/486)
الله فإن وجد أحدهما صح التبليغ في الثلاث ونفذ الفسخ وبعد الثلاث لا يصح وبطل الفسخ وأبو يوسف جعل صاحب الخيار مسلطا على الفسخ من قبل صاحبه فأضيف ما يلزمه صاحبه إلى التزامه والله أعلم.
ـــــــ
أو العدالة عند أبي حنيفة رحمه الله لوجود معنى الإلزام في هذا الخبر خلافا لمحمد رحمه الله; لأنه وإن وافقه في تحقق معنى الإلزام فيه لكنه لا يشترط في مثل هذا الخبر عددا ولا عدالة ونفذ الفسخ لوجود شرطه وهو علم صاحبه به في مدة الخيار وبعد الثلاث لا يصح التبليغ وإن وجد العدد والعدالة جميعا لصيرورة العقد; لأنه ما يمضي المدة وبطل الفسخ لفوات شرطه وهو حصول العلم في المدة واشتراط الثلاث في هذه المسائل على أصل أبي حنيفة فأما عند محمد رحمهما الله فيعتبر نفس المدة ثلثا كانت أو غيره والله أعلم.(4/487)
فصل في السكر
وهو القسم الثاني السكر
نوعان سكر بطريق مباح وسكر بطريق محظور أما السكر بالمباح مثل من أكره على شرب الخمر بالقتل فإنه يحل له, وكذلك المضطر إذا شرب منها ما يرد به العطش فسكر به, وكذلك إذا شرب دواء فسكر به مثل البنج والأفيون أو
ـــــــ
"فصل السكر"
وهو القسم الثاني يعني من أقسام العوارض المكتسبة قيل هو سرور يغلب على العقل بمباشرة بعض الأسباب الموجبة له فيمنع الإنسان عن العمل بموجب عقله من غير أن يزيله ولهذا بقي السكران أهلا للخطاب فعلى هذا القول لا يكون ما حصل من شرب الدواء مثل الأفيون من أقسام السكر; لأنه ليس بسرور وقيل هو غفلة تلحق الإنسان مع فتور في الأعضاء بمباشرة بعض الأسباب الموجبة لها من غير مرض وعلة وقيل هو معنى يزول به العقل عند مباشرة بعض الأسباب المزيلة فعلى هذا القول بقاؤه مخاطبا بعد زوال العقل يكون أمرا حكميا ثابتا بطريق الزجر عليه لمباشرته المحرم لا أن يكون العقل باقيا حقيقة; لأنه يعرف بأثره ولم يبق للسكران من آثار العقل شيء فلا يحكم ببقائه قال الشيخ الحكيم محمد بن علي الترمذي رحمه الله في نوادره العقل في الرأس وشعاعه في الصدر والقلب فالقلب يهتدي بنوره لتدبير الأمور وتمييز الحسن من القبيح فإذا شرب الخمر خلص أثرها إلى الصدر فحال بينه وبين نور العقل فبقي الصدر مظلما فلم ينتفع القلب بنور العقل فسمي ذلك سكرا; لأنه سكر حاجز بينه وبين نور العقل فمن أجاز طلاق السكران يفرق بينه وبين الصبي فيقول إن السكر سد والعقل وراء السد قائم والصبي لم يعط عقل الحجة وهو تمام العقل الذي تقوم به حجة الله تعالى على عباده.
قوله: "مثل البنج" ذكر القاضي الإمام فخر الدين المعروف بخان رحمه الله في فتاويه وشرحه للجامع الصغير ناقلا عن أبي حنيفة وسفيان الثوري أن الرجل إن كان عالما بفعل البنج وتأثيره في العقل ثم أقدم على أكله فإنه يصح طلاقه وعتاقه وذكر في(4/488)
شرب لبنا فسكر به, وكذلك على قول أبي حنيفة إذا شرب شرابا يتخذ من الحنطة والشعير والعسل فسكر منه حتى لم يحد على قوله في ظاهر الجواب فإن السكر في هذه المواضع بمنزلة الإغماء يمنع من صحة الطلاق والعتاق وسائر التصرفات; لأن ذلك ليس من جنس اللهو فصار من أقسام المرض, وبعض
ـــــــ
المبسوط لا بأس أن يتداوى الإنسان بالبنج فإذا أراد أن يذهب عقله منه به فلا ينبغي له أن يفعل ذلك; لأن الشرب على قصد السكر حرام.
قوله: "حتى لم يحد على قوله في ظاهر الجواب" ذكر الشيخ رحمه الله في شرح الجامع الصغير أن ما يتخذ من الحنطة والشعير والذرة والعسل حلال في قول أبي حنيفة رحمه الله حتى إن الحد لا يجب وإن سكر في قوله وروي عن محمد رحمه الله أن ذلك حرام يجب الحد بالسكر منه وكذلك السكران منه إذا طلق امرأته لم يقع عند أبي حنيفة رحمه الله بمنزلة الطلاق من النائم والمغمى عليه وعند محمد رحمه الله يقع بمنزلة السكران من الأشربة المحرمة ولم يذكر تفصيلا بين المطبوخ وغيره وذكر القاضي الإمام فخر الدين رحمه الله في شرح الجامع الصغير أن المتخذ من الحبوب والفواكه والعسل إذا غلى واشتد إن كان مطبوخا أدنى طبخة يحل في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله بمنزلة نقيع الزبيب إذا طبخ أدنى طبخة واختلف المشايخ على قول محمد رحمه الله قال بعضهم يحل شربه إلا القدح المسكر. وروى القاضي أبو جعفر رواية عن محمد أنه يكره وإن لم يطبخ حتى غلى واشتد فعن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله روايتان في رواية لا يحل شربه كنقيع الزبيب إذا لم يكن مطبوخا وفي رواية يحل شربه; لأن هذه الأشربة لم تتخذ من أصل الخمر فلا يشترط فيه الطبخ بخلاف نقيع الزبيب وهذا إذا لم يستكثر فإن استكثر حتى سكر فالسكر حرام بالإجماع واختلف في وجوب الحد وفي نفاذ تصرفاته فمن أوجب الحد ألحقه بنبيذ التمر ومن لم يوجب قال هو متخذ مما ليس من أصل الخمر فكان بمنزلة لبن الرماك. وذكر شمس الأئمة في المبسوط بعد ذكر الأشربة المحرمة ولا بأس بالشرب من سائر الأنبذة من العسل والذرة والحنطة والشعير معتقا كان أو غير معتق مطبوخا أو غير مطبوخ في ظاهر الرواية, وروي في النوادر هشام عن محمد رحمهما الله إن شرب النيء منه بعدما اشتد لا يحل. وذكر الدلائل من الجانبين ثم قال ولا حد على من شرب مما يتخذ من العسل والحنطة والشعير والذرة والفانيذ والكمثرى وما أشبه ذلك سكر أو لم يسكر; لأن النص ورد بالحد في الخمر وهذا ليس في معناه فلو أوجبنا فيه الحد كان بطريق القياس ولم يذكر فيه خلافا لأن ذلك أي ما ذكرنا من الأشربة ليس من جنس ما يتلهى به أو السكر الحاصل بها ليس من جنس اللهو وبعض هذه الجملة(4/489)
هذه الجملة مذكور في النوادر. وأما السكر المحظور فهو السكر من كل شراب محرم, وكذلك السكر من النبيذ المثلث أو نبيذ الزبيب المطبوخ المعتق; لأن هذا وإن كان حلالا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله فإنما يحل بشرط أن لا يسكر منه وذلك من جنس ما يتلهى به فيصير السكر منه مثل السكر من الشراب المحرم. ألا ترى أنه يوجب الحد وهذا السكر بالإجماع لا ينافي الخطاب قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] وإن كان هذا خطابا في حال السكر فلا شبهة فيه وإن كان في
ـــــــ
وهو البنج ولبن الرماك والأفيون مذكور في النوادر فأما المتخذ من الشعير والحنطة والعسل فمذكور في الجامع الصغير والمبسوط.
قوله: "وكذا السكر من النبيذ المثلث" عصير العنب إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه بالنار وبقي ثلثه ثم رقق بالماء وترك حتى اشتد يسمى مثلثا ويحل شربه عند أبي حنيفة وأبي يوسف لاستمراء الطعام والتداوي والتقوي دون التلهي واللعب. وقال محمد رحمه الله لا يحل شربه ويروى عنه أنه مكروه واتفق أصحابنا أنه لو سكر منه يجب الحد وإن طلاق السكران منه وبيعه وإقراره جائز ونبيذ الزبيب ونقيعه هو الماء الذي ألقي فيه الزبيب ليخرج حلاوته إليه ثم هو إن لم يطبخ حتى اشتد وغلى وقذف بالزبد فهو حرام للآثار الواردة فيه وإن اشتد بعد ما طبخ أدنى طبخة يحل شرب القليل منه عندهما في ظاهر الرواية وروى هشام في النوادر عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله أنه ما لم يذهب ثلثاه بالطبخ لا يحل كالعصير فقوله من النبيذ المثلث يحتمل أن يكون المراد منه المثلث الذي بينا; لأنه في معنى النبيذ من حيث إنه يخلط بالماء للترقيق. ويجوز أن يراد منه نبيذ الزبيب المثلث على رواية هشام ومن الثاني المطبوخ أدنى طبخة والشرب إلى السكر من جميع هذه الأشربة حرام بالاتفاق لقوله عليه السلام: "حرمت الخمر لعينها والسكر من كل شراب" والمعتق المشتد وتعتيق الخمر تركها لتصير عتيقة أي قديمة شديدة لأن ذلك أي المثلث أو نبيذ الزبيب من جنس ما يتلهى به; لأنه متخذ من العنب كالخمر والفساق يستعملونه استعمال الخمر للتلهي والفسق فيكون السكر منه محظورا, ألا يرى أنه يوجب الحد; لأنه مشروع للزجر عن ارتكاب سببه ودعا الطبع إلى الشراب المتخذ من العنب والزبيب حاصل فيحتاج إلى الزاجر بخلاف المتخذ من الحبوب.
قوله: "وهذا السكر" أي السكر المحظور لا ينافي الخطاب بالإجماع; لأنه تعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}(4/490)
حال الصحو فكذلك, ألا ترى أنه لا يقال للعاقل إذا جننت فلا تفعل كذا وإذا ثبت أنه مخاطب ثبت أن السكر لا يبطل شيئا من الأهلية فيلزمه أحكام الشرع
ـــــــ
[النساء: 43] فإن كان هذا خطابا في حال سكره بلا شبهة فيه أي في أنه لا ينافي الخطاب وإن كان في حال الصحو فكذلك أي يدل على أنه لا ينافي الخطاب أيضا إذ لو كان منافيا له لصار كأنه قيل لهم إذا سكرتم وخرجتم عن أهلية الخطاب فلا تصلوا; لأن الواو للحال والأحوال شروط وحينئذ يصير كقولك للعاقل إذا جننت فلا تفعل كذا وفساده ظاهر; لأنه إضافة الخطاب إلى حالة منافية له ولما صح هاهنا عرفنا أنه أهل للخطاب في حالة السكر فإن قيل السكر يعجزه عن استعمال العقل وفهم الخطاب كالنوم والإغماء فينبغي أن يسقط الخطاب عنه أو يتأخر كالنائم والمغمى عليه وإن لا يصح منه ما تبتنى على صحة العبارة.
قلنا الخطاب إنما يتوجه على العبد باعتدال الحال وأقيم السبب الظاهر وهو البلوغ عن عقل مقامه تيسيرا لعذر للوقوف على حقيقته وبالسكر لا يفوت هذا المعنى ثم قدرته على فهم الخطاب إن فاتت بآفة سماوية يصلح عذرا في سقوط الخطاب أو تأخره عنه لئلا يؤدي إلى تكليف ما ليس في الوسع وإلى الحرج فأما إذا فاتت من جهة العبد بسبب هو معصية عدت قائمة زجرا عليه فبقي الخطاب متوجها عليه, وذلك لأنه لما كان في وسعه دفع السكر عن نفسه بالامتناع عن الشرب كان هو بالإقدام على الشرب مضيعا للقدرة فيبقى التكليف متوجها عليه في حق الإثم وإن لم تبق في حق الأداء وبهذا الطريق بقي التكليف بالعبادات في حقه وإن كان لا يقدر على الأداء ولا يصح منه الأداء كذا في شرح التأويلات وإذا ثبت أن السكران مخاطب ثبت أن السكر لا يبطل شيئا من الأهلية; لأنها بالعقل والبلوغ, والسكر لا يؤثر في العقل بالإعدام فيلزمه أحكام الشرع كلها من الصلاة والصوم وغيرهما وتصح عباراته كلها بالطلاق والعتاق وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله وفي قوله الآخر لا يصح وهو قول مالك أو اختيار أبي الحسن الكرخي وأبي جعفر الطحاوي من أصحابنا ونقل ذلك عن عثمان رضي الله عنه أيضا; لأن غفلته فوق غفلة النائم فإن النائم ينتبه إذا نبه والسكران لا ينتبه ثم طلاق النائم وعتاقه لا يقع فطلاق السكران وعتاقه أولى وقد مر الجواب عنه. ويصح بيعه وشراؤه وإقراره وتزويجه الولد الصغير وتزوجه وإقراضه واستقراضه وسائر تصرفاته قولا وفعلا عندنا; لأنه مخاطب كالصاحي وبالسكر لا ينعدم عقله إنما يغلب عليه السرور فيمنعه من استعمال عقله وذلك لا يؤثر في تصرفه سواء شرب مكرها أو طائعا كذا في أشربة المبسوط, وذكر في شرح الجامع الصغير لقاضي خان رحمه الله وإن شرب المسكر مكرها ثم طلق أو أعتق اختلفوا(4/491)
كلها ويصح عباراته كلها بالطلاق والعتاق والبيع والشري والأقارير وإنما ينعدم بالسكر القصد دون العبارة حتى إن السكران إذا تكلم بكلمة الكفر لم تبن منه امرأته استحسانا وإذا أسلم يجب أن يصح إسلامه كإسلام المكره وإذا أقره
ـــــــ
به والصحيح أنه كما لا يجب عليه الحد لا ينفذ تصرفه وإنما ينعدم بالسكر القصد أي القصد الصحيح وهو العزم على الشيء; لأن ذلك ينشأ عن نور العقل وقد احتجب ذلك عنه بالسكر دون العبارة; لأنها توجد حسا وصحتها تبتنى على أهل العقل حتى إن السكران إذا تكلم بكلمة الكفر لم تبن منه امرأته استحسانا وفي القياس وهو قول أبي يوسف على ما ذكر في شرح التأويلات تبين منه امرأته; لأنه مخاطب كالصاحي في اعتبار أقواله وأفعاله وجه الاستحسان أن الردة تبتنى على القصد والاعتقاد ونحن نعلم أن السكران غير معتقد لما يقول بدليل أنه لا يذكره بعد الصحو وما كان عن عقد القلب لا ينسى خصوصا المذاهب فإنها تختار عن فكر ورؤية وعما هو الأحق من الأمور عنده وإذا كان كذلك كان هذا عمل اللسان دون القلب فلا يكون اللسان معبرا عما في الضمير فجعل كأنه لم ينطق به حكما كما لو جرى على لسان الصاحي كلمة الكفر خطأ كيف ولا ينجو سكران من التكلم بكلمة الكفر عادة وهذا بخلاف ما إذا تكلم بالكفر هازلا; لأنه بنفسه استخفاف بالدين وهو كفر وقد صدر عن قصد صحيح فيعتبر. وتمسك بعضهم بما روي أن واحدا من كبار الصحابة سكر حين كان الشراب حلالا فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم هل أنتم إلا عبيدي وعبيد آبائي ولم يجعل ذلك منه كفرا وقرأ سكران سورة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] في صلاة المغرب وترك اللاءات فنزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} 1 [النساء: 43] ولم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بكفره ولا بالتفريق بينه وبين امرأته ولا بتجديد الإيمان فدل أن بالتكلم بكلمة الكفر في حال السكر لا يحكم بالردة كما لا يحكم بها في حالة الخطأ والجنون فلا تبين منه امرأته.
ولقائل أن يقول هذا التمسك غير مستقيم هاهنا أن كلامنا في السكر المحظور وكان ذلك السكر مباحا; لأن الشرب كان حلالا فصيرورته عذرا في عدم اعتبار الردة لا يدل على صيرورته المحظور عذرا فيه. وإذا أسلم الكافر في حال السكر يجب أن يصح إسلامه بوجود أحد الركنين ترجيحا لجانب الإسلام كما في المكره ولا يقال ينبغي أن لا يصح إيمانه أن دليل الرجوع وهو السكر يقارنه فيمنعه من الثبوت لأنا نقول إنه لا يقبل الرجوع; لأن الرجوع ردة فلا يؤثر فيه دليل الرجوع ولو أثبتنا الردة فالسكر مانع من صحتها فلا
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في التفسير حديث رقم 3026 وأبو داود في الأشربة حديث رقم 3671.(4/492)
بالقصاص أو باشر سبب القصاص لزمه حكمه وإذا قذف أو أقر به لزمه الحد; لأن السكر دليل الرجوع وذلك لا يبطل بصريحه فبدليله أولى وإن زنى في سكره حد إذا صحا وإذا أقر أنه سكر من الخمر طائعا لم يحد حتى يصحو فيقر أو يقوم عليه البينة وإذا أقر بشيء من الحدود لم يؤخذ به إلا بحد القذف وإنما لم يوضع عنه الخطاب ولزمه أحكام الشرع; لأن السكر لا يزيل العقل لكنه سرور غلبه فإن كان سببه معصية لم يعد عذرا, وكذلك. إذا كان مباحا مقيدا وهو مما
ـــــــ
يمكن إثباتها بما يمنع عن ثبوتها; لأن السكر دليل الرجوع إذ السكران لا يكاد يستقر على أمر ويثبت على كلام وذلك أي الإقرار بالقصاص والقذف ومباشرة سببهما لا يبطل بصريح الرجوع; لأن مباشرة السبب أمر معاين لا يقبل الرجوع وكذا الإقرار بالقصاص والقذف; لأنهما من حقوق العباد فبدليل الرجوع وهو السكر أولى أن لا يبطل وفي المبسوط وإذا قذف السكران رجلا حبس حتى يصحو ثم يحد للقذف ثم يحبس حتى يجف عليه الضرب ثم يحد للسكر; لأن حد القذف فيه معنى حق العباد فيقدم على حد السكر ولا يوالي بينهما في الإقامة لئلا يؤدي إلى التلف وسكره لا يمنع وجوب الحد عليه بالقذف; لأنه مع سكره مخاطب. ألا ترى أن بعض الصحابة رضي الله عنهم أخذوا حد الشرب من حد القذف على ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال إذا شرب هذى وإذا هذى افترى وحد المفترين في كتاب الله تعالى ثمانون جلدة وإذا زنى في سكره حد إذا صحا يعني إذا ثبت ذلك بالبينة; لأنه أمر مشاهد لأمر دله والسكر لا يصلح شبهة دارئة; لأنه حصل بسبب هو معصية فلا يصلح سببا للتخفيف لكن الحد يؤخر إلى الصحو; لأن المقصود وهو الانزجار لا يحصل بالإقامة في حالة السكر. وإذا أقر أنه سكر من الخمر طائعا لم يحد حتى يصحو فيقر ثانيا أو تقوم عليه البينة أنه سكر طائعا لما قلنا إن السكر أن لا يثبت على كلام ولكنه يتكلم بالشيء وضده والإصرار على الإقرار بالسبب لا بد منه لإيجاب حد الخمر وإذا أقر بشيء من الحدود لم يؤخذ به إلا بحد القذف; لأن الرجوع عن الإقرار بالحدود يصح فيما سوى حد القذف وقد قارنه هاهنا دليل الرجوع وهو السكر فمنعه عن الثبوت; لأن المنع أسهل من الرفع ثم أشار الشيخ رحمه الله إلى دلائل ما ذكر بقوله من الأحكام وإنما لم يوضع عن السكران إلى آخره فإن كان سببه أي سبب السكر معصية بأن شرب الخمر أو الباذق أو نحوهما من الأشربة المحرمة لم يعد السكر عذرا في سقوط الخطاب; لأن المعصية لا تصلح سببا للتخفيف وكذلك أي وكذا الحكم إن كان سببه مباحا مقيدا بشرط الاحتراز عن السكر وذلك السبب مما يتلهى به في أصل وضعه كالمثلث ونبيذ الزبيب المطبوخ المعتق ونحوهما. وقوله: وهو مما يتلهى به بيان التقيد(4/493)
يتلهى به في الأصل وإذا كان مباحا جعل عذرا. وأما ما تعتمد الاعتقاد مثل الردة فإن ذلك لا يثبت استحسانا لعدم ركنه لا أن السكر جعل عذرا وما يبتنى على صحة العبارة فقد وجد ركنه والسكر لا يصلح عذرا. وأما الحدود فإنها تقام عليه إذا صحا لما بينا أن السكر بعينه ليس بعذر ولا شبهة إلا أن من عادة السكر أن اختلاط الكلام هو أصله ولا ثبات له على الكلام, ألا ترى أنهم اتفقوا أن السكر لا يثبت بدون هذا الحد وقد زاد أبو حنيفة في حق الحدود فيحتمل أن يكون حده في غير الحد هو أن يختلط كلامه ويهذي غالبا وإذا كان ذلك أقيم السكر
ـــــــ
بالاحتراز عن السكر فيما يتلهى به لا في غيره وإذا كان سببه مباحا يعني على الإطلاق غير مقيد بالاحتراز عن السكر كالأشربة المتخذة من الحبوب ونحوها جعل عذرا; لأن هذه الأشياء لم تكن للتلهي في الأصل بل هي للتغذي ولا أثر لتغيرها في الحرمة; لأن تغير الطعام لا يؤثر في الحرمة وكذا نفس الشدة لا توجب الحرمة; لأنها توجد في بعض الأدوية كالبنج وفي بعض الأشربة كاللبن كذا في المبسوط.
قوله: "لأن السكر جعل عذرا" إشارة إلى الجواب عما يقال قد جعل السكر المحظور عذرا في الردة حتى منع صحتها فيجوز أن يجعل عذرا في غيرها أيضا فقال عدم صحة الردة لفوات ركنها وهو تبدل الاعتقاد, لا لأن السكر جعل عذرا فيها بخلاف ما يبتنى على العبارة من الأحكام مثل الطلاق والعتاق والعقود; لأن ركن التصرف قد تحقق فيها من الأهل مضافا إلى المحل فوجب القول بصحتها إلا أن أي لكن استدراك من قوله أما الحدود فإنها تقام عليه يعني السكر غير مانع من صحة الإقرار بسببه; لأن من عادة السكران اختلاط الكلام وعدم الثبات على كلام هو أصله أي اختلاط الكلام أصل في السكر ألا ترى أن أصحابنا اتفقوا أن السكر لا يثبت بدون هذا الحد أي بدون اختلاط الكلام فعرفنا أنه هو الأصل فيه وزاد عليه أي على اشتراط اختلاط الكلام لثبوت السكر أبو حنيفة رحمه الله شرطا آخر في حق وجوب الحد عليه فقال السكر الذي يتعلق به الحد أن لا يعرف الأرض من السماء ولا الأنثى من الذكر اعتبارا للنهاية في السبب الموجب للحد كما في الزنا والسرقة; لأنه إذا كان يميز بين الأشياء كان مستعملا لعقله من وجه فلا يكون ذلك نهاية السكر وفي اليقظان شبهة العدم والحد يندرئ بالشبهات فيحتمل أن يكون حده أي حد السكر على قوله في حق غير وجوب الحد من الأحكام هو اختلاط الكلام وغلبة الهذيان كما هو مذهبهما حتى لا يصح إقراره بالحدود ولا ارتداده في هذه الحالة بالاتفاق; لأن من اختلط كلامه بالشرب يعد سكران في الناس عرفا ويؤيده قوله تعالى: {لا(4/494)
مقام الرجوع فلم تعمل فيما يعاين من أسباب الحد وعمل في الإقرار الذي يحتمل الرجوع ولم يعمل فيما لا يحتمله وهو الإقرار بحد القذف والقصاص.
ـــــــ
تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] قال شمس الأئمة رحمه الله وقد وافقهما يعني أبا حنيفة رحمه الله في أن المعتبر في السكر الذي يحرم عنده الشرب هو اختلاط الكلام; لأن اعتبار النهاية فيما يندرئ بالشبهة فأما الحل والحرمة فيؤخذ فيهما بالاحتياط قال وأكثر مشايخنا على قولهما. وإذا كان كذلك أي كان السكران مختلط الكلام أو كان اختلاط الكلام أصلا في السكر أقيم السكر مقام الرجوع إلى آخره والله أعلم.(4/495)
"فصل الهزل"
وهو القسم الثالث
وأما الهزل فتفسيره اللعب وهو أن يراد بالشيء ما لم يوضع له وهو ضد الجد وهو أن يراد بالشيء ما وضع له فصار الهزل ينافي اختيار الحكم والرضا به ولا ينافي الرضاء بالمباشرة واختيار المباشرة فصار بمعنى خيار الشرط في البيع
ـــــــ
"فصل الهزل"
وأما الهزل فتفسيره اللعب وهو أن يراد بالشيء ما لم يوضع له ليس المراد من الوضع هاهنا وضع أهل اللغة لا غير كالأسد للهيكل المعلوم والإنسان للحيوان الناطق بل المراد وضع العقل أو الشرع فإن الكلام موضوع عقلا لإفادة معناه حقيقة كان أو مجازا والتصرف الشرعي موضوع لإفادة حكمه فإذا أريد بالكلام غير موضوعه العقلي وهو عدم إفادة معناه أصلا أريد بالتصرف غير موضوعه الشرعي وهو عدم إفادته الحكم أصلا فهو الهزل وتبين بما ذكرنا الفرق بين المجاز والهزل فإن الموضوع العقلي الكلام وهو إفادة المعنى في المجاز مرادا وإن لم يكن الموضوع له اللغوي مرادا وفي الهزل كلاهما ليس بمراد ولهذا فسره الشيخ باللعب إذ اللعب ما لا يفيد فائدة أصلا وهو معنى ما نقل عن الشيخ أبي منصور رحمه الله أن الهزل ما لا يراد به معنى وعبارة بعضهم أن الهزل كلام لا يقصد به ما صلح له الكلام بطريق الحقيقة ولا ما صلح له بطريق المجاز. وقوله وهو ضد الجد إشارة إلى أنه مخالف للمجاز كما أنه مخالف للحقيقة; لأن مقابل المجاز الحقيقة ومقابل الهزل الجد والمجاز داخل في الجد كالحقيقة فكان الهزل مخالفا لهما ولهذا جاز المجاز في كلام صاحب الشرع ولا يجوز الهزل فيه لاستلزامه خلوه عن الإفادة وهو باطل فصار الهزل ينافي اختيار الحكم والرضاء به يعني لما كان تفسير الهزل ما قلنا إنه لا يرد به ما وضع له كان الهزل منافيا لاختيار الحكم والرضاء به ضرورة ولكنه لا ينافي الرضاء بمباشرة السبب واختيار المباشرة; لأن الهازل يتكلم بما هزل به عن اختيار ورضاء فصار الهزل في جميع التصرفات بمنزلة خيار الشرط فإن الخيار بعدم الرضاء والاختيار(4/496)
أنه بعدم الرضاء والاختيار جميعا في حق الحكم ولا يعدم الرضاء والاختيار في حق مباشرة السبب هذا تفسير الهزل وأثره وشرطه أن يكون صريحا مشروطا باللسان إلا أنه لا يشترط ذكره في نفس العقد بخلاف خيار الشرط والتلجئة هي الهزل وإذا كان كذلك لم يكن منافيا للأهلية ولا لوجوب شيء من الأحكام ولا عذرا في وضع الخطاب بحال لكنه لما كان أثره ما. قلنا وجب النظر في الأحكام كيف ينقسم في حق الرضاء والاختيار فيجب تخريجها على هذا الحد وذلك على وجوه إما إن يدخل التلجئة والهزل فيما لا يحتمل النقض أو فيما يحتمله فهذا وجه ووجه آخر أن يدخل على الإقرار بما ينفسخ أو لا ووجه آخر أن يدخل فيما
ـــــــ
جميعا في حق الحكم; لأن عمله في الحكم لا غير ولا يعدم الرضاء والاختيار في حق مباشرة السبب; لأن قوله بعت واشتريت يوجد برضاء العاقد واختياره فكذا في الهزل يوجد الرضاء والاختيار في حق السبب ولا يوجد في حق الحكم إلا أن الهزل في البيع يفسده وخيار الشرط لا يفسده على ما سنبينه وإنما جمع بين الرضاء والاختيار; لأن الاختيار قد ينفك عن الرضاء كما في مسائل الإكراه وشرطه أي شرط ثبوت الهزل واعتباره في التصرفات أن يكون صريحا مشروطا باللسان بأن تقول إني أبيع هذا الشيء هازلا أو أتصرف التصرف الفلاني هازلا ولا يكتفى فيه بدلالة الحال. إلا أنه لا يشترط ذكر الهازل في العقد إذ لو شرط ذلك لا يحصل المقصود وهو أن يعتقد الناس التصرف الذي هزل به جدا ولا يكون كذلك حقيقة بخلاف خيار الشرط فإنه يشترط ذكره في نفس العقد ولا يكتفى باشتراطه باللسان قبل العقد; لأنه لدفع الغبن ومنع الحكم عن الثبوت بعد انعقاد السبب ولا يحصل ذلك إلا بأن يكون متصلا بالعقد والتلجئة هي الهزل ذكر في المغرب أن التلجئة أن تلجئك إلى أن تأتي أمرا باطنه خلاف ظاهره فتكون التلجئة نوعا من الهزل والهزل أعم منها; لأن اشتراطه قد يكون سابقا على العقد وقد يكون مقارنا له بأن نقول بعتك هازلا واشتراط التلجئة لا يكون إلا سابقا على العقد كذا قيل والأظهر أنهما سواء في الاصطلاح كما أشار إليه الشيخ وفي المبسوط معنى قوله ألجئ إليك داري أجعلك ظهرا لا تمكن بجاهك من صيانة ملكي يقال التجأ فلان إلى فلان وألجأ ظهره إلى كذا والمراد هذا المعنى وقيل معناه أنا ملجأ مضطر إلى ما أباشره من البيع معك ولست بقاصد حقيقة لكنه الضمير للشأن لما كان أثر الهزل ما قلنا إنه ينافي اختيار الحكم والرضاء به فيجب تخريجها أي تخريج الأحكام مع الهزل على هذا الحد أي على انقسامها في حكم الرضاء والاختيار فكل حكم يتعلق بالسبب ولا يتوقف ثبوته على الرضاء والاختيار يثبت مع الهزل وكل حكم يتعلق بالرضاء والاختيار لا يثبت مع الهزل كما(4/497)
يبتنى على الاعتقاد وذلك وجهان الإيمان والردة, فأما إذا دخل فيما تحتمل النقض مثل البيع والإجارة وذلك على ثلاثة أوجه إما أن يهزلا بأصله أو بقدر العوض أو بجنسه وكل وجه على أربعة أوجه إما إن يتواضعا على الهزل ثم يتفقا على الإعراض أو على البناء أو على أن لا يحضرهما شيء أو يختلفا فأما إذا تواضعا على الهزل بأصله ثم اتفقا على البناء فإن البيع منعقد لما قلنا إن الهازل مختار وراض بمباشرة السبب لكنه غير مختار ولا راض بحكمه وكان بمنزلة خيار الشرط مؤبدا فانعقد العقد فاسدا غير موجب للملك كخيار المتبايعين معا على احتمال الجواز كرجل باع عبدا على أنه بالخيار أبدا أو على أنهما بالخيار
ـــــــ
سيأتيك بيانه. وذلك أي تخريج الأحكام مع الهزل بحسب انقسامها في الرضاء على وجوه فيما يحتمل النقض, مثل البيع والإجارة أو فيما لا يحتمله, مثل الطلاق والعتاق فهذا وجه إنما جعلهما وجها ليصير الجميع أربعة إذ أكثر تقاسيم الكتاب عليها. المواضعة الموافقة يقال واضعته في الأمر إذا وافقته عليه والتواضع هاهنا بمعنى التوافق على الشيء فانعقد العقد فاسدا غير موجب للملك وإن حصل القبض بخلاف ما إذا كان الفساد في البيع بوجه آخر حيث يوجب الملك عند القبض; لأن الهزل ألحق بشرط الخيار وأنه يمنع ثبوت الملك في العقد الصحيح ففي العقد الفاسد أولى أن يمنع كخيار المتبايعين معا يعني إذا شرط الخيار لكل واحد من المتبايعين في العقد لا يثبت الملك به لواحد منهما; لأن خيار كل واحد يمنع زوال ملكه عما في يده فكذا الهزل; لأنهما لما اتفقا عليه صار كل واحد منهما هازلا فكان بمنزلة اشتراط الخيار لهما على احتمال الجواز متصل بقوله انعقد فاسدا فإن نقض العقد أحدهما يعني في مسألة الهزل انتقضت; لأن لكل واحد منهما ولاية النقض فينفرد به وإن أجازاه جاز; لأن البيع إنما لم يكن مفيدا حكمه لعدم اختيارهما للحكم وقد اختار ذلك بالإجازة وإن أجاز أحدهما وسكت الآخر لم يجز على صاحبه; لأن الهزل لما كان بمنزلة اشتراط الخيار لهما كان المخير مسقطا خياره ولكن خيار الآخر يكفي في المنع من جواز العقد فإن أجاز صاحبه بعد فالبيع جائز; لأنهما قد أسقطا خيارهما. وعند أبي حنيفة رحمه الله يجب أن يكون وقت الإجازة مقدرا بالثلاث حتى لو أجازاه في الثلاث صح العقد بعده لم يصح كما في الخيار المؤبد لو أسقطاه في الثلث يصح لتقرر الفساد بمضي المدة كذا هاهنا.
ولهذا أي ولأن الهزل بمنزلة خيار المتبايعين لم يقع الملك بهذا البيع هزلا وإن اتصل به القبض حتى لو كان المبيع عبدا فقبضه المشتري وأعتقه لا ينفذ; لأن الملك غير(4/498)
أبدا فإن نقضه أحدهما ينقض وإن أجازاه جاز وعند أبي حنيفة رحمه الله يجب أن تكون مقدرا بالثلاث وهذا لم يقع الملك بهذا البيع وإن اتصل به القبض ودلالة هذه الجملة أن الهزل لا يؤثر في النكاح بالسنة فعلم به أنه لا ينافي الإيجاب وإنما دخل على الحكم. وأما إذا اتفقا على الإعراض فإن البيع صحيح وقد بطل الهزل بإعراضهما عن المواضعة وإن اتفقا على أنه لم يحضرهما شيء أو اختلفا في البناء والإعراض فإن العقد صحيح عند أبي حنيفة رحمه الله في الحالين فجعل صحة الإيجاب أولى إذا سكتا, وكذلك إذا اختلفا, وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله إذا سكتا واتفقا على أنه لم يحضرهما شيء فإن العقد باطل وإن اختلفا فالقول قول من يدعي البناء فاعتبر المواضعة وأوجب العمل بها إلا أن يوجد النص على ما ينقضها كذلك حكى محمد عن أبي
ـــــــ
ثابت لعدم اختيارهما للحكم بالقصد إلى الهزل فيتوقف الحكم على اختيارهما له فقبل الاختيار لا ملك للمشتري فلا ينفذ إعتاقه بخلاف المشتري من المكره مختارا للحكم غير راض به; لأن الحكم للجد من الكلام وإنما أكره على الجد وأجاب إلى ذلك فلهذا ينفذ إعتاقه بعد القبض حتى لو كان أكره على بيع تلجئة فباعه لم يجز إعتاق المشتري فيه أيضا ودلالة هذه الجملة أي الدليل على ما ذكرنا أن الهزل لا ينافي الأهلية ولا الاختيار والرضاء بمباشرة السبب أن الهزل لا يؤثر في النكاح بالنسبة وهي قوله عليه السلام: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق واليمين" فعلم به أي بعدم تأثيره في النكاح أنه لا ينافي الإيجاب أي السبب إذ لو كان منافيا لنفس الكلام وانعقاده سببا لما صح النكاح; لأنه لا ينعقد بالكلام الفاسد, ألا ترى أنه لا ينعقد بعبارة المجنون لفسادها فعلم أن كلام الهازل صحيح في انعقاده سببا.
قوله: "وأما إذا اتفقا على الإعراض" عن المواضعة فالبيع صحيح لازم; لأن تلك المواضعة لم تكن لازمة فترتفع بما قصدا من الجد, ألا ترى أن العقد بعد العقد يكون ناسخا للعقد الأول فالعقد بعد المواضعة أولى أن يكون ناسخا لها وإن اتفقا أنه لم يحضرهما شيء عند العقد أو اختلفا في البناء والإعراض فقال أحدهما بنينا على تلك المواضعة وقال الآخر بل أعرضنا عنها فإن العقد صحيح عند أبي حنيفة رحمه الله في الحالين أي فيما إذا لم يحضرهما شيء وفيما إذا اختلفا فإن العقد باطل أي فاسد إلا أن يوجد النص على ما ينقضها وهو اتفاقهما على الإعراض كذلك أي كما بينا أن العقد صحيح قوله أي قول أبي حنيفة رحمه الله في كتاب الإقرار لكن أبا يوسف قال قال أبو(4/499)
يوسف عن أبي حنيفة رحمهم الله قوله في كتاب الإقرار لكنه قال: قال أبو حنيفة رحمه الله فيما أعلم, وقول أبي يوسف فيما أعلم ليس بشك في الرواية; لأن مذهب أبي يوسف رحمه الله أن من قال لفلان علي ألف درهم فيما أعلم أنه لازم ومنهم من اعتبر هذا بقول الشاهد عند القاضي أشهد أن لهذا على هذا ألف درهم فيما أعلم أنه باطل فلم يثبت الاختلاف. والصحيح هو الأول وقوله فيما أعلم ملحق برواية أبي يوسف لا بفتوى أبي حنيفة قال أبو حنيفة
ـــــــ
حنيفة رحمهما الله فيما أعلم يعني ذكر أبو يوسف لفظة فيما أعلم حين روى قول أبي حنيفة وذلك لا يوجب شكا في الرواية; لأن من مذهب أبي يوسف رحمه الله أن من قال لفلان علي ألف درهم فيما أعلم أنه لازم; لأنه يخبر عن واجب عليه والإنسان يعرف حقيقة الحال فيما عليه فكان قوله فيما أعلم بمنزلة قوله فيما أتيقن به وكان الإخبار عن نفسه بالعلم مؤكدا لإقراره لا مبطلا له فكذلك هاهنا يكون قوله فيما أعلم تأكيدا للرواية أنه يخبر عن تحقق لا تشكيكا فيكون الخلاف ثابتا في المسألتين ومنهم أي ومن المشايخ من اعتبر هذا أي قوله فيما أعلم هاهنا بقول الشاهد أشهد أن لهذا على هذا ألف درهم فيما أعلم أنه أي قول الشاهد باطل بالاتفاق; لأن قوله فيما أعلم استثناء ليقينه وبيان لشكه بمنزلة فيما أحسب أو أظن فكذا هاهنا يكون قوله فيما أعلم تشكيكا; لأن الرواية عن الغير كالشهادة عليه فلم يثبت الاختلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه رحمهم الله; لأن ما روي لما لم يثبت للشك والأصل هو الموافقة لم يثبت الاختلاف فيكون البيع فاسدا في المسألتين بالاتفاق. والصحيح هو الأول وهو أن قوله هاهنا للتحقيق لا للتشكيك فكان الاختلاف ثابتا; لأن المعلى روى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهم الله مطلقا أن البيع جائز ولأن اعتبار قوله هاهنا فيما أعلم بمسألة الإقرار أولى من اعتباره بمسألة الشهادة; لأن الإقرار إخبار محض عما كان ثابتا في الزمان الماضي ولم يشترط لصحته زيادة توكيد والرواية مثله فتلحق به فأما الشهادة ففيها معنى الإلزام ويشترط فيها زيادة توكيد حتى اختصت بلفظة الشهادة الدالة على المعاينة وحضور الحادثة ولا تتأدى بلفظة أعلم أو أتيقن فكان قول الشاهد فيما أعلم موهما للشك في الشهادة فلذلك ترد الشهادة كذا في بعض الشروح وقوله فيما أعلم ملحق برواية أبي يوسف لا بفتوى أبي حنيفة رد لما زعم بعض المشايخ أنه ملحق بجواب أبي حنيفة لا بكلام أبي يوسف رحمهما الله حتى قال الإمام خواهر زاده رحمه الله في هاتين المسألتين قال أبو حنيفة رحمه الله في كتاب الإقرار البيع جائز فيما أعلم. وذكر في كتاب الإكراه أن البيع جائز على قول أبي حنيفة فيما يعلمه أبو يوسف رحمهما الله وقالا البيع فاسد فألحق قوله(4/500)
رحمه الله العقد المشروع لإيجاب حكمه في الظاهر جد; لأن الهزل غير متصل به نصا فهو أولى بالتحقيق من المواضعة وهما اعتبرا لعادة وهو تحقيق المواضعة ما أمكن. ألا ترى أنها أسبق الأمرين وقال أبو حنيفة رحمه الله الآخر ناسخ وأما
ـــــــ
فيما أعلم بقول أبي حنيفة وعلى تقدير أن يكون ملحقا بقوله لا يكون الاختلاف ثابتا; لأن من مذهبه أن قوله فيما أعلم موجب للشك في جميع المواضع فلا يثبت قوله مع التردد والشك. كما لو قال أنا أشك في جواب هذه المسألة فلا يثبت الاختلاف وغرض الشيخ رحمه الله إثبات الاختلاف فقال هو ملحق برواية أبي يوسف وقد تبين أن عنده هذا اللفظ لا يوجب شكا في الرواية فيكون الاختلاف ثابتا فصار كأن أبا يوسف قال إن فيما أتيقن وأعلم ما قال أبو حنيفة رحمه الله في هاتين المسألتين أن البيع جائز.
وجه قول أبي حنيفة رحمه الله أن الأصل في العقود الشرعية الصحة واللزوم وإنما يتغير لعارض فمن ادعى عدم البناء على المواضعة فهو متمسك بالأصل فكان القول قوله وكان دعوى الآخر البناء على المواضعة كدعواه خيار الشرط فلا يقبل يوضحه أن تلك المواضعة لم تكن لازمة بل ينفرد أحدهما بإبطالها فإعراض أحدهما عن تلك المواضعة كإعراضهما وإذا بطلت المواضعة بقي العقد صحيحا ثم اختلافهما في بناء العقد على المواضعة بمنزلة اختلافهما في أصل المواضعة ولو ادعى أحدهما المواضعة السابقة وجحده الآخر كان القول قول المنكر وكان البيع صحيحا حتى تقوم البينة للآخر على هذا القول منهما فكذا إذا اختلفا في البناء عليها. وفيما إذا اتفقا على أنه لم يحضرهما شيء إنما صح البيع; لأن مطلقه يقتضي الصحة والمواضعة السابقة لم تذكر في العقد فلا تكون مؤثرة فيه. كما لو تواضعا على شرط خيار أو أجل ولم يذكرا ذلك في العقد لم يثبت الخيار والأجل فهذا مثله وهو معنى قوله العقد المشروع لإيجاب حكمه في الظاهر جد أي العقد شرع لإيجاب حكمه وهو الملك في الأصل وهو في الظاهر جد هاهنا لعدم اتصال الهزل به نصا فهو أي الجد أولى بالتحقيق لكونه أصلا من المواضعة التي هي عارضة وجه قولهما أن الظاهر يشهد لمن يدعي البناء على المواضعة; لأنهما ما تواضعا إلا ليبنيا عليه صونا للمال عن يد المتغلب فيكون فعلهما بناء على تلك المواضعة باعتبار الظاهر ما لم يتحقق خلافه; لأنه إذا لم يجعل بناء عليها كان اشتغالهما بها اشتغالا بما لا يفيد ولو سلمنا أن الظاهر هو الصحة كما قال أبو حنيفة رحمه الله كان هذا الظاهر معارضا له فترجح السابق منهما إذ السبق من أسباب الترجيح, وذلك لأن حالة الهزل لم يعارضها شيء فثبت حكمه بلا معارض والسكوت في حالة العقد أو الاختلاف في البناء والإعراض لا يصلح معارضا; لأنه غير متعرض للجد ولا للهزل فلذلك وجب العمل بالسابق. والجواب لأبي(4/501)
إذا اتفقا على الجد في العقد لكنهما تواضعا على البيع بألفين على أن أحدهما هزل وتلجئة فإن اتفقا على الإعراض كان الثمن باليقين وإن اتفقا أنه لم يحضرهما شيء أو اختلفا فالهزل باطل والتسمية صحيحة عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما العمل بالمواضعة واجب والألف الذي هزلا به باطل لما ذكر من الأصل وأما إذا اتفقا على البناء على المواضعة فإن الثمن ألفان عند أبي حنيفة رحمه الله; لأنهما جدا في العقد, والعمل بالمواضعة يجعله شرطا فاسدا فيفسد
ـــــــ
حنيفة رحمه الله أن الآخر يصلح ناسخا للأول إذا لم يتصل به ما يوجب تغيره نصا; لأن الجد هو الأصل في الكلام شرعا وعقلا وكما يجب حمل الكلام عليه إذا لم تسبقه مواضعة على الهزل يجب حمله عليه إذا سبقه مواضعة إن أمكن عملا بالأصل وقد أمكن هاهنا لخلوه عن الهزل نصا وعدم اتفاقهما على البناء على الهزل فيحمل عليه ويجعل ناسخا للمواضعة السابقة; لأنها تحتمل الإبطال. بخلاف ما إذا اتفقا على البناء على المواضعة لوجود التصريح بالعمل بخلاف موجب الشرع والعقل فلا يمكن الحمل على الصحة والتسمية صحيحة عند أبي حنيفة رحمه الله حتى ينعقد البيع بألفين عنده وهو أصح الروايتين عنه وفي الرواية الأخرى ينعقد البيع بينهما بألف والألف الذي هزلا به باطل وهو قولهما لما ذكرنا من الأصل يعني من الجانبين فإن عنده الأصل هو الجد والعمل به أولى ما أمكن وعندهما الأصل هو المواضعة فكان العمل بها أحق عند الإمكان.
قوله: "وأما إذا اتفقا على البناء على المواضعة فإن الثمن ألفان عند أبي حنيفة رحمه الله" أيضا في إحدى الروايتين عنه وهي رواية كتاب الإقرار وهي الأصح وعندهما ينعقد البيع بألف درهم وهو رواية محمد في الإملاء عن أبي حنيفة رحمهما الله; لأنهما قصدا السمعة بذكر أحد الألفين ولا حاجة في تصحيح العقد إلى اعتبار تسميتهما الألف الذي هزلا به فكان ذكره والسكوت عنه سواء كما في النكاح ولأبي حنيفة رحمه الله أن المواضعة السابقة إنما تعتبر إذا لم يوجد منهما ما يدل على الإعراض عنها وقد وجد هاهنا ما يدل عليه; لأنهما جدا في أصل العقد وقصدا بيعا جائزا ولو اعتبرت المواضعة في البدل لصار العقد فاسدا; لأن أحد الألفين غير داخل في العقد فيصير قبول العقد فيه شرطا لانعقاد البيع بألف ويصير كأنه قال بعتك بألفين على أن لا يجب أحد الألفين; لأن عمل الهزل في منع الوجوب لا في الإخراج بعد الوجوب بمنزلة شرط الخيار وهذا شرط فاسد; لأنه ليس من مقتضيات العقد وفيه نفع لأحد المتعاقدين أو لهما فيفسد به العقد كما إذا جمع بين حر وعبد في البيع وفصل الثمن. وإذا كان كذلك لم يمكن العمل بما قصدا من تصحيح العقد وهو المراد بالمواضعة في أصل العقد مع العمل بالمواضعة في البدل لاندفاع كل(4/502)
البيع فكان العمل بالأصل عند التعارض أولى من العمل بالوصف أعني تعارض المواضعة في البدل والمواضعة في أصل العقد بخلاف تلك المواضعة, وقد ذكر أبو يوسف رحمه الله عليه في هذا الفصل في روايته فيما أعلم كما في الفصل الأول. وأما إذا تواضعا على البيع بمائة دينار وأن ذلك تلجئة وإنما الثمن كذا كذا درهما فإن البيع جائز على كل حال ها هنا ففرق أبو يوسف ومحمد رحمهما الله بين هذا وبين الهزل في القدر قالا; لأن العمل بالمواضعتين ممكن ثمة; لأن البيع يصح بأحد الألفين, والهزل بالألف الأخرى شرط لا طالب له فلا
ـــــــ
واحد من المواضعتين بالأخرى فكان العمل بالمواضعة في أصل العقد وهي أن ينعقد البيع صحيحا عند تعارض المواضعتين أولا من العمل بالمواضعة في الوصف وهي أن لا يجب الألف الثاني; لأن الوصف تابع والأصل متبوع فكان هو أولى بالاعتبار من الوصف ودليل كون الثمن بمنزلة الوصف قد مر في باب النهي وإذا كان العمل بالأصل أولى وجب اعتبار التسمية فكان الثمن ألفين بخلاف تلك المواضعة يعني المواضعة على الهزل بأصل العقد إذا اتفقا على البناء حيث العمل بها بالاتفاق; لأنه لم يوجد هناك معارض يمنع عن العمل بها, وقد وجد المعارض هاهنا وهو قصدهما إلى تصحيح العقد فلذلك سقط العمل بها وقد ذكر أبو يوسف رحمه الله في هذا الفصل أي في الهزل بقدر البدل في روايته قول أبي حنيفة رحمه الله فيما أعلم كما ذكره في الفصل الأول وهو الهزل بأصل العقد ولكن المعلى روى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهم الله قوله مطلقا من غير قيد فيحتمل قوله فيما أعلم على التحقيق لا على التشكيك.
قوله: "وأما إذا تواضعا على البيع بمائة دينار" على أن يكون الثمن ألف درهم فإن البيع جائز بالمسمى بالاتفاق على كل حال سواء اتفقا على الإعراض أو على البناء أو على أنه لم يحضرهما شيء أو اختلفا وهذا استحسان وفي القياس البيع فاسد; لأنهما قصدا الهزل بما سميا ولم يذكرا في العقد ما قصدا أن يكون ثمنا ولا يكتفى بالذكر قبل العقد بل يشترط ذكر البدل فيه فبقي البيع بلا ثمن وجه الاستحسان أن البيع لا يصح إلا بتسمية البدل وهما قصدا الجد في أصل العقد هاهنا فلا بد من تصحيحه وذلك بأن ينعقد البيع بما سميا من البدل يوضح ما ذكرنا أن المعاقدة بعد المعاقدة في البيع إبطال للعقد الأول فإنهما لو تبايعا بمائة دينار ثم تبايعا بألف درهم كان البيع الثاني مبطلا للأول فكذلك يجوز أن يكون البيع بعد المواضعة بخلاف جنس ما تواضعا عليه مبطلا للمواضعة كذا في المبسوط ففرق أبو يوسف ومحمد رحمهما الله بين هذا أي بين الهزل في جنس البدل وبين الهزل في قدره وقالا ينعقد البيع هناك بالألف; لأن العمل بالمواضعتين وهما(4/503)
يفسد البيع فأما ها هنا فإن العمل بالمواضعة في العقد مع المواضعة بالهزل غير ممكن; لأن البيع لا يصح لغير ثمن فصار العمل بالمواضعة في العقد أولى. وأما ما لا يحتمل النقض فثلاثة أنواع ما لا مال فيه وما كان المال فيه تبعا وما كان المال فيه مقصودا أما الذي لا مال فيه هو الطلاق والعتاق والعفو عن القصاص واليمين والنذر وذلك كله صحيح والهزل باطل بقوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق واليمين" ولأن الهازل مختار للسبب راض به دون حكمه وحكم هذه الأسباب لا يحتمل الرد والتراخي, ألا ترى أنه لا يحتمل
ـــــــ
المواضعة على صحة أصل العقد والمواضعة على الهزل في مقدار البدل ممكن بأن يجعل العقد منعقدا بألف وإن كان المسمى ألفين; لأن الألف في الألفين موجود والهزل بالألف الآخر شرط لا طالب له; لأنهما وإن ذكراه في العقد لا يطلبه واحد منهما لاتفاقهما على أنه هزل وليس لغيرهما ولاية المطالبة وكل شرط لا طالب له من جهة العباد لا يفسد به العقد كما إذا اشترى فرسا على أن يعلفه كل يوم كذا منا من الشعير أو اشترى حمارا على أن لا يحمل عليه أكثر من كذا منا من الحنطة لا يفسد به العقد كذا هنا. وهو جواب عن كلام أبي حنيفة رحمه الله وإذا كان كذلك ينعقد البيع بألف ويبطل الآخر فأما هاهنا أي في الهزل بجنس البدل فالعمل بالمواضعة في العقد وهي أن يقع العقد صحيحا مع المواضعة بالهزل أي مع العمل بها غير ممكن لما ذكر فصار العمل بالمواضعة في العقد وهي أن ينعقد صحيحا أولى; لأن العقد أصل والثمن تبع ولا يمكن العمل بها إلا باعتبار التسمية فلذلك انعقد البيع على الدنانير المسماة لا على الدراهم.
قوله: "أما فيما لا يحتمل النقض" أي لا يجري فيه الفسخ والإقالة بعد ثبوته فكذا لا مال فيه أصلا أي لا يثبت المال فيه بدون الشرط والذكر ولم يذكر أيضا قوله عليه السلام: "ثلاث جدهن جد" الحديث ففي المنصوص عليه الحكم ثابت بالنص وفي الباقي ثابت بالدلالة لا بالقياس كذا قيل وحكم هذه الأسباب أي العلل لا يحتمل الرد والتراخي أي لا يحتمل الرد بالإقالة والفسخ ولا التراخي بخيار الشرط وبالتعليق بسائر الشروط; لأن خيار الشرط لا يؤثر في هذه الأشياء بل يبطل والتعليق بسائر الشروط يؤخر السبب بحكمه إلى حين وجود الشرط ولا يلزم عليه الطلاق المضاف فإنه سبب في الحال وقد تراخى حكمه لأنا نقول المراد من الأسباب العلل, والطلاق المضاف سبب مفض إلى الوقوع وليس بعلة في الحال ولهذا لا يستند حكمه إلى وقت الإيجاب ولو كان علة لاستند كما في البيع بشرط الخيار فثبت أن هذه الأسباب لا تقبل الفصل عن أحكامها فلا يؤثر فيها الهزل كما لا يؤثر خيار الشرط; لأن الهزل لا يمنع من انعقاد السبب وإذا انعقد وجد(4/504)
خيار الشرط. وأما الذي يكون المال تبعا مثل النكاح فعلى أوجه إما أن يهزلا بأصله أو بقدر البدل أو بجنسه أما الهزل بأصله فباطل والعقد لازم وأما الهزل بالقدر فيه فإن اتفقا على الإعراض فإن المهر ألفان وإن اتفقا على البناء فالمهر ألف بخلاف مسألة البيع عند أبي حنيفة رحمه الله; لأنه بالشرط الفاسد يفسد والنكاح بمثله لا يفسد وإن اتفقا على أنه لم يحضرهما شيء أو اختلفا فإن محمدا رحمه الله ذكر عن أبي حنيفة رحمه الله أن النكاح جائز بألف بخلاف البيع; لأن المهر تابع في هذا فلا يجعل مقصودا بالصحة وروى أبو يوسف عن
ـــــــ
حكمه لا محالة بخلاف البيع فإنه يقبل الرد والفسخ, وحكمه يقبل التراخي عنه بشرط الخيار فلا جرم أثر فيه الهزل ألا ترى أنه أي هذا النوع.
قوله: "أما الهزل بأصله فباطل" وصورته أن يقول لامرأة إني أريد أن أتزوجك بألف تزوجا باطلا وهزلا ووافقته المرأة ووليها على ذلك وحضر الشهود هذه المقالة ثم تزوجها كان النكاح لازما في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى بما سميا من المهر للحديث ولما ذكرنا أن الهزل إنما يؤثر فيما يحتمل الفسخ بعد تمامه والنكاح غير محتمل للفسخ ولهذا لا يجري فيه الرد بالعيب وخيار الرؤية فلا يؤثر فيه الهزل.
وأما الهزل بالقدر فيه أي بقدر البدل في النكاح بأن يقول لامرأة ووليها أو قال لوليها دونها إني أريد أن أتزوجك أو أتزوج فلانة بألف درهم وأظهر في العلانية ألفين وأجابه الولي أو المرأة إلى ذلك فتزوجها على ألفين علانية كان النكاح جائزا بكل حال والمهر ألفان إن اتفقا على الإعراض وألف بالاتفاق إن اتفقا على البناء; لأنهما قصدا الهزل بذكر أحد الألفين والمال مع الهزل لا يجب بخلاف مسألة البيع عند أبي حنيفة رحمه الله في هذا الوجه حيث يجب تمام الألفين عنده; لأن ذكر أحد الألفين على وجه الهزل بمنزلة شرط فاسد والشرط الفاسد يؤثر في البيع ولا يؤثر في النكاح لا في أصل العقد ولا في الصداق كذا في المبسوط أن النكاح جائز بألف بخلاف البيع حيث ينعقد بألفين في هاتين الصورتين; لأن المهر تابع في النكاح إذ المقصود الأصلي فيه ثبوت الحل في الجانبين الذي به يحصل التناسل وإنما شرع المال فيه إظهارا لخطر المحل لا مقصودا ولهذا يصح النكاح بدون ذكر المهر ويتحمل فيه من الجهالة ما لا يتحمل في غيره. فلا يجعل أي المهر مقصودا بالصحة أي بصحة التسمية بأن يرجح جانب الجد على الهزل إذ لو اعتبرت صحة التسمية فيه كما في البيع وجعل المهر ألفين لصار المهر بنفسه مقصودا بالصحة إذ أصل النكاح صحيح بلا شبهة لعدم تأثير الهزل فيه ولعدم افتقاره في الصحة إلى(4/505)
أبي حنيفة رحمهما الله أن المهر ألفان فإن التسمية في الصحة مثل ابتداء البيع جعل أبو حنيفة رحمه الله العمل بصحة الإيجاب أولى من العمل بصحة المواضعة فكذلك هذا وهذا أصح. وأما إذا تواضعا على الدنانير على أن المهر في الحقيقة دراهم فإن اتفقا على الإعراض فالمهر ما سميا وإن اتفقا على البناء
ـــــــ
ذكر المهر وهو لا يصلح مقصودا فيه بخلاف الثمن في البيع فإنه مقصود فيه بالصحة; لأنه أحد ركني البيع ولهذا يفسد البيع بفساده وجهالته كما يفسد بفساد المبيع وجهالته ولا يصح البيع بدون ذكره وإذا كان مقصودا وجب تصحيحه بترجيح جانب الجد على الهزل إذا أمكن ولا يقال الثمن تابع في البيع أيضا; لأنه بمنزلة الوصف على ما مر لأنا نقول وهو تابع بالنسبة إلى المبيع في محلية البيع ولكنه مقصود بالنسبة إلى البائع إذ لا غرض له في البيع سوى حصول الثمن ولهذا كان أحد ركني البيع; لأنه مبادلة مال بمال ولا يتحقق المبادلة بدونه إلا أنه ركن زائد كالقراءة في الصلاة مع سائر الأركان والإقرار مع التصديق في الأيمان فأما المهر في النكاح فليس بمقصود أصلا; لأن الغرض منه ثبوت الحل في الجانبين كما بينا فلذلك افترقا. وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله أن المهر ألفان في هذين الوجهين كما في البيع; لأن التسمية في الصحة مثل ابتداء البيع أي التسمية بالمهر في حكم الصحة وافتقاره إليها مثل ابتداء البيع من حيث إن التسمية في النكاح لا تثبت إلا قصدا ونصا كابتداء البيع لا يثبت إلا قصدا ونصا وكذا الجهالة الفاحشة تمنع صحتها كما تمنع صحة البيع وكذا الهزل يؤثر فيها بالإفساد كما يؤثر في ابتداء البيع وفي ابتداء البيع أي فيما هزلا بأصل البيع واتفقا أنه لم يحضرهما شيء أو اختلفا جعل أبو حنيفة رحمه الله العمل بصحة الإيجاب في الصورتين أولى من العمل بالمواضعة ترجيحا للصحة على الفساد فكذلك هذا أي فكالبيع المهر; لأن الهزل مؤثر في تسميته بالإفساد كما في البيع وهذا أصح; لأن فيه إهدار جانب الهزل واعتبار الجد الذي هو الأصل في الكلام.
قوله: "وإن اتفقا على البناء وجب مهر المثل" بالإجماع; لأنهما قصدا الهزل بما سمياه في العقد ومع الهزل لا يجب المال وما تواضعا على أن يكون صداقا بينهما لم يذكراه في العقد والمسمى لا يثبت بدون التسمية فإذا لم يثبت واحد منهما صار كأنه تزوجها على غير مهر فيكون لها مهر مثلها بخلاف فصل الألف والألفين; لأن هناك قد سميا ما تواضعا على أن يكون مهرا وزيادة; لأن في تسمية الألفين تسمية الألف وبخلاف البيع; لأن البيع لا يصح إلا بتسمية الثمن فيجب الإعراض عن المواضعة واعتبار التسمية ضرورة والنكاح يصح بلا تسمية فيمكن العمل بالمواضعة وتؤثر في فساد التسمية. وإن(4/506)
وجب مهر المثل بالإجماع بخلاف البيع; لأنه لا يصح إلا بتسمية الثمن والنكاح يصح بلا تسمية وإن اتفقا أنه لم يحضرهما شيء أو اختلفا فعلى شيء أو اختلفا فعلى رواية محمد وجب مهر المثل بلا خلاف وعلى رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله يجب المسمى ويطلب المواضعة وعندهما يجب مهر المثل. وأما الذي يكون المال فيه مقصودا, مثل الخلع والعتق على مال والصلح عن دم العمد فإن ذلك على هذه الأوجه أيضا فإن هزلا بأصله واتفقا على البناء فقد ذكر في كتاب الإكراه في الخلع أن الطلاق واقع والمال لازم وهذا عندنا قول أبي يوسف ومحمد
ـــــــ
اتفقا أنه لم يحضرهما شيء أو اختلفا فعلى رواية محمد وجب مهر المثل بلا خلاف; لأن المهر تابع فيجب العمل بالهزل لئلا يصير مقصودا بالصحة إذ لا حاجة لانعقاد النكاح إلى صحته كما في الألف والألفين في هذين الوجهين وإذا وجب العمل بالهزل بطلت التسمية فيبقى النكاح بلا تسمية فيجب مهر المثل وعلى رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله يجب المسمى وبطلت المواضعة كما في البيع; لأن التسمية في حكم الصحة مثل ابتداء البيع إلى آخر ما بينا.
قوله: "وأما الذي يكون المال فيه مقصودا" إنما كان المال في هذا القسم مقصودا; لأن المال لا يجب فيه بدون الذكر فلما شرطا المال فيه علم أنه فيه مقصود فإن ذلك على هذه الأوجه أيضا يعني الأوجه الثلاثة المنقسمة على اثني عشر وجها فإنهما إما إن هزلا بأصل التصرف أو بقدر البدل فيه أو بجنسه وكل وجه على أربعة أوجه فإن هزلا بأصله الضمير راجع إلى الذي بان طلق امرأته على مال أو خالعها بطريق الهزل أو أعتق عبده على مال على وجه الهزل أو صالح عن دم العمد هازلا وقد تواضعا قبل ذلك على أنه هزل ثم اتفقا على البناء فقد ذكر في كتاب الإكراه في الخلع; لأن الطلاق واقع والمال لازم من غير ذكر خلاف. قال الشيخ رحمهم الله وهذا الجواب عندنا أراد به نفسه قول أبي يوسف ومحمد فأما عند أبي حنيفة رحمه الله فالطلاق لا يقع; لأن الهزل بمنزلة خيار الشرط لما مر. وقد نص عن أبي حنيفة رحمه الله يعني في الجامع الصغير إلى آخره فقد ذكر فيه رجل قال لامرأته أنت طالق ثلاثا على ألف درهم على أنك بالخيار ثلاثة أيام فقالت قبلت إن ردت الطلاق في الثلاثة الأيام بطل الطلاق وإن اختارت الطلاق في الثلاثة الأيام أو لم ترد حتى مضت المدة فالطلاق واقع والألف لازم للزوج وأما على قولهما فالطلاق واقع والمال لازم والخيار باطل; لأن قبولها شرط لليمين فلا يحتمل الخيار كسائر الشروط ولأبي حنيفة رحمه الله إن جانبها يشبه البيع; لأنه تمليك مال بعوض. ألا ترى أن البداية لو كانت من جانبها فرجعت قبل قبول الزوج صح رجوعها ولو قامت عن مجلسها قبل قبول الزوج(4/507)
رحمهما الله فأما عند أبي حنيفة رحمه الله فإن الطلاق لا يقع; لأنه بمنزلة خيار الشرط وقد نص عن أبي حنيفة رحمه الله في خيار الشرط في الخلع في جانب المرأة أن الطلاق لا يقع ولا يجب المال حتى تشاء المرأة فيقع الطلاق ويجب المال لما عرف ثمة وعندهما الطلاق واقع والمال واجب والخيار باطل فكذلك هذا لكنه غير مقدر بالثلاث في هذا بخلاف البيع وإن هزلا بالكل لكنهما أعرضا
ـــــــ
بطل كما في البيع وإنما جعل ذلك شرطا في حق الزوج فأما في نفسه فهو تمليك مال جعل شرطا بهذا الوصف كرجل قال لآخر إن بعتك هذا العبد بكذا فعبدي هذا الآخر حر إنه معلق بالمعارضة فكذلك هذا وإذا كان كذلك ثبت فيه الخيار فإذا بطل بحكم الخيار بطل كونه شرطا; لأن كونه شرطا بهذا الوصف وهو أنه تمليك مال كذا في شرح الجامع الصغير للمصنف رحمه الله وهو المراد من قوله لما عرف ثمة أي في الموضع الذي نص عليه فيه فكذلك هذا أي مثل الخيار الهزل يكون على الاختلاف لكنه أي لكن خيار الشرط غير مقدر بالثلاث في الخلع وأمثاله عنده حتى لو اشترطا الخيار أكثر من ثلاث جاز بخلاف البيع; لأن الشرط في باب الخلع على وفاق القياس إذ الطلاق من الإسقاطات وتعليقها بالشروط جائز مطلقا فلا يجب التقدير بمدة. أما الشرط في البيع فعلى خلاف القياس; لأنه من الإثباتات وتعليقها بالشروط لا يجوز لكنه ثبت فيه بالنص مقدرا بالثلث فيجب اعتبار هذه المدة ويبطل اشتراط الخيار فيما وراء الثلاث عملا بالقياس كذا في بعض الشروح فعلى هذا لا يبطل خيار المرأة فيما نحن فيه بمضي الثلاث; لأن الهزل بمنزلة شرط الخيار مؤبدا فيكون لها خيار ثابت فيما فوق الثلاث كما هو ثابت لها في الثلاث فكان لها ولاية النقض والإثبات متى شاءت عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما يبطل الهزل.
ولقائل أن يقول ينبغي أن يكون الخيار مقدرا بالثلاث في الخلع وأمثاله; لأن ثبوته في جانب من وجب عليه المال باعتبار معنى المعاوضة لا باعتبار معنى الطلاق وإذا كان كذلك وجب أن يتقدر بالثلاث كما في حقيقة البيع ويمكن أن يجاب عنه بأن المال وإن كان مقصودا فيه بالنظر إلى العاقد لكنه تابع في الثبوت للطلاق الذي هو مقصود العقد كمال الثمن تابع في البيع وبالنظر المقصود يلزم أن لا يتقدر بالثلاث كما بينا.
وإن هزلا بالكل أي بأصل التصرف والبدل جميعا لكنهما أعرضا عن المواضعة وقع الطلاق ووجب المال بالإجماع أما عندهما فظاهر إذ الهزل لا يمنع من وقوع الطلاق ووجوب المال وأما عنده فكذلك لبطلان الهزل باتفاقهما على الإعراض عنه وإن اختلفا فالقول قول من يدعي الإعراض عند أبي حنيفة رحمه الله حتى لزم التصرف ووجب المال;(4/508)
عن المواضعة وقع الطلاق ووجب المال بالإجماع وأن القول قول من يدعي الإعراض عند أبي حنيفة رحمه الله; لأنه جعل ذلك مؤثرا في أصل الطلاق وعندهما هو جائز ولا يفيد الاختلاف وإن سكتا ولم يحضرهما شيء فهو جائز لازم بإجماع. وأما إذا تواضعا على الهزل في بعض البدل فإن اتفقا على البناء فعندهما الطلاق واقع والمال كله لازم; لأنهما جعلا المال لازما بطريق التبعية وعند أبي حنيفة رحمه الله يجب أن يتعلق الطلاق باختيارها; لأن الطلاق يتعلق
ـــــــ
لأنه جعل الهزل مؤثرا في أصل الطلاق بالمنع من الوقوع كما جعله مؤثرا في البيع ثم عند اختلاف المتعاقدين في البيع يعتبر قول من يدعي الإعراض ترجيحا للجد الذي هو أصل عنده على الهزل الذي هو خلاف الأصل وكذلك هاهنا وعندهما هو أي التصرف جائز أي لازم والمال واجب. ولا يفيد الاختلاف أي اختلاف المتعاقدين في البناء على الهزل والإعراض عنه; لأن الهزل عندهما لا يؤثر في أصل التصرف ولا في المال في حال اتفاقهما على البناء ففي حال الاختلاف أولى وإن سكتا ولم يحضرهما شيء فالتصرف جائز لازم حتى وقع الطلاق ولزم المال بالإجماع لبطلان الهزل عندهما ولرجحان الجد عنده فصار الجواب في الفصلين واحدا وحصل الاتفاق على الجواب فيهما مع اختلاف التجرع.
قوله: "فإن اتفقا على البناء فعندهما الطلاق واقع"; لأن الهزل لا يؤثر فيه بالمنع عندهما مع أنهما جادان في أصل التصرف والمال كله لازم; لأن الهزل وإن كان مؤثرا في المال لكن المال ثابت في ضمن الخلع تبعا فلا يؤثر فيه الهزل إذ العبرة للمتضمن لا للمتضمن كالوكالة الثابتة في ضمن عقد الرهن تلزم بلزومه فلذلك يجب تمام المسمى فإن قيل لا يستقيم جعل المال في هذا النوع تبعا; لأنه سماه فيه مقصودا بقوله وأما الذي يكون المال فيه مقصودا ولئن سلمنا أنه فيه تبع لا نسلم أن الهزل لا يؤثر فيه كما لا يؤثر في أصله; لأن المال في النكاح تابع وقد أثر الهزل فيه حتى كان المهر ألفا فيما إذا هزلا فيه بقدر البدل دون الألفين كما مر بيانه قلنا المال هاهنا مقصود بالنظر إلى العاقد. فأما في حق الثبوت فهو تابع للطلاق أو العتاق الذي هو مقصود العقد; لأنه بمنزلة الشرط فيه والشروط أتباع على ما عرف فيؤخذ حكمه من الأصل فلا يؤثر فيه الهزل فأما المال في النكاح فتابع بالنظر إلى العاقدين; لأن مقصود كل واحد في الأصل حل الاستمتاع بالآخر وحصول الازدواج دون المال فأما في حق الثبوت فله نوع أصالة حيث لا يتوقف ثبوته على اشتراط العاقدين بل يثبت بلا ذكر ويثبت مع النفي صريحا وإذا كان كذلك يعتبر هو بنفسه في حكم الهزل فيؤثر فيه الهزل كما يؤثر في سائر الأموال على أن الإمام شمس الأئمة رحمه الله ذكر في شرح كتاب الإكراه في باب التلجئة أنهما لو تواضعا في النكاح(4/509)
بكل البدل وقد تعلق بعضه بالشرط وإن اتفقا على الإعراض لزم الطلاق والمال كله وإن اتفقا على أنه يحضرهما شيء وقع الطلاق ووجب المال كله عند أبي حنيفة رحمه الله; لأنه حمل ذلك على الجد وجعل ذلك أولى من المواضعة وعندهما كذلك لما قلنا, وكذلك إن اختلفا. وأما إذا هزلا بأصل المال فذكرا الدنانير تلجئة وغرضهما الدراهم فإن المسمى هو الواجب عندهما في هذا بكل
ـــــــ
على ألف في السر ثم عقدا في العلانية بألفين كان النكاح جائزا بألف ثم قال وكذا الطلاق على مال والعتاق عليه ولم يذكر خلافا فعلى هذه الرواية كان الطلاق على مال مثل النكاح إذا كان الهزل في قدر البدل في أن البدل ما تواضعا عليه في السر دون المسمى فلا يحتاج إلى فرق وعند أبي حنيفة رحمه الله يجب على الأصل الذي ذكرنا له أن يتعلق الطلاق باختيارها أي باختيار المرأة الطلاق بجميع المسمى على سبيل الجد لأن يتعلق بكل البدل; لأنه إنما يتعلق بما علقه الزوج به إذ هو المالك للطلاق وهو إنما علقه بجميع البدل حيث ذكر الألفين في العقد دون الألف وقد عرف أن الهزل غير مؤثر في جانبه كما لا يؤثر خيار الشرط; لأن الخلع في جانبه يمين فإنه تعليق الطلاق بقبول المرأة البدل والهزل لا يؤثر في اليمين فكان الهزل والجد فيه سواء, وإذا كان كذلك كان الطلاق متعلقا بجميع البدل. وقد تعلق بعضه أي بعض البدل بالشرط وهو اختيار المرأة يعني لما تعلق الطلاق بجميع البدل كان شرط وقوعه قبول الجميع, والمرأة لم تقبل الجميع; لأنها هازلة في قبول أحد الألفين والهزل مؤثر في جانبها كخيار الشرط فصار كأنها قبلت أحد الألفين في الحال وتعلق قبولها الألف الآخر بإعراضها عن الهزل وقبولها إياه بطريق الجد فهو معنى قوله وقد تعلق بعضه بالشرط وإذا كان كذلك لا يقع الطلاق في الحال كما لو قال أنت طالق على ألفين فقبلت أحد الألفين ولم تقبل الآخر وعلى رواية المبسوط يقع الطلاق ويلزم الألف.
فإن قيل لما ألحق جانب المرأة بالبيع ينبغي أن يقع الطلاق في الحال بجميع البدل عنده كما في البيع في هذا الفصل فإنه ينعقد بجميع المسمى قلنا إنما ينعقد البيع بتمام المسمى لعدم إمكان العمل بالمواضعة فإنه يؤدي إلى فساد العقد على ما بينا فأما الخلع فلا يفسد بالشروط الفاسدة فأمكن العمل بالمواضعة فيه والعمل بها يوجب هاهنا أن يتعلق الطلاق بجميع البدل ولا يقع في الحال فلذلك افترقا.
قوله وأما إذا هزلا بأصل المال أي بجنسه فذكرا الدنانير تلجئة وغرضهما الدراهم فإن المسمى في العقد هو الواجب عندهما في هذا الوجه بكل حال سواء اتفقا على البناء أو على الإعراض أو على أنه لم يحضرهما شيء أو اختلفا; لأن الهزل غير مؤثر في(4/510)
حال وصار كالذي لا يحتمل الفسخ تبعا. وأما عند أبي حنيفة رحمه الله فإن اتفقا على الإعراض وجب المسمى وإن اتفقا على البناء توقف الطلاق وإن اتفقا أنه لم يحضرهما شيء وجب المسمى ووقع الطلاق وإن اختلفا فالقول قول من يدعي الإعراض, وكذلك هذا في نظائره. وأما تسليم الشفعة فإن كان قبل طلب المواثبة فإن ذلك كالسكوت مختار فتبطل الشفعة وبعد الطلب والإشهاد السلم باطل; لأنه من جنس ما يبطل بخيار الشرط, وكذلك إبراء الغريم. وأما القسم
ـــــــ
أصل التصرف عندهما ولا في المال تبعا له فصار المسمى بمنزلة ما لا يحتمل الفسخ أيضا تبعا للأصل وأما عند أبي حنيفة رحمه الله فإن اتفقا على البناء توقف الطلاق على قبول المرأة المسمى بطريق الجد واختيارها الطلاق; لأن الهزل لما كان بمنزلة شرط الخيار منع صحة قبول المرأة المسمى في العقد فصار كأنه علق الطلاق بقبول الدنانير وهي لم تقبل فيتوقف إلى القبول كما في شرط الخيار وفي الوجوه الثلاثة الباقية وقع الطلاق ووجب المال اعتبارا للجد وأشير في المبسوط إلى أن الطلاق يقع ويجب المسمى بكل حال من غير ذكر خلاف وكذلك هذا في نظائره أي مثل ثبوت الحكم والتفريع في الخلع ثبوت الحكم والتفريع في نظائره من الإعتاق على مال والصلح عن دم العمد يعني الكل سواء في الحكم والتفريع. قوله وأما تسليم الشفعة أي بطريق الهزل طلب الشفعة على ثلاثة أوجه طلب المواثبة وهو أن يطلبها كما علم بالبيع حتى لو لم يطلب على الفور بطلت شفعته. والثاني طلب التقرير والإشهاد وهو أن ينهض بعد الطلب ويشهد على البائع أو على المشتري أو عند العقار على طلب الشفعة فيقول إن فلانا اشترى هذه الدار وأنا شفيعها وقد طلبت الشفعة وأطلبها الآن فاشهدوا على ذلك وبهذا الطلب تستقر شفعته حتى لا تبطل بالتأخير بعد في ظاهر الرواية. والثالث طلب الخصومة والتملك فإذا سلم الشفعة هازلا قبل طلب المواثبة بطلت شفعته; لأن التسليم بطريق الهزل كالسكوت مختارا إذ اشتغاله بالتسليم هازلا سكوت عن طلب الشفعة على الفور ضرورة وأنها تبطل بحقيقة السكوت مختارا بعد العلم بالبيع; لأنه دليل الإعراض فكذا بالسكوت حكما وبعد الطلب والإشهاد أي بعد طلب المواثبة وطلب الإشهاد التسليم بطريق الهزل باطل والشفعة باقية; لأن التسليم من جنس ما يبطل بخيار الشرط حتى لو سلم الشفعة بعد طلب المواثبة والتقرير على أنه بالخيار ثلاثة أيام بطل التسليم وبقيت الشفعة; لأن تسليم الشفعة في معنى التجارة; لأنه استبقاء أحد العوضين على ملكه ولهذا يملك الأب والوصي تسليم شفعة الصبي عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله كما يملكان البيع والشراء له فيتوقف على الرضاء بالحكم, والخيار يمنع الرضاء به فيبطل التسليم فكذا الهزل يمنع(4/511)
الثاني وهو الإقرار فإن الهزل يبطله سواء كان إقرارا بما يحتمله الفسخ أو بما لا يحتمله; لأنه يعتمد صحة المخبر به, والهزل يدل على عدم المخبر به فصار ذلك كله مما يحتمل النقض, ألا ترى أن الإقرار بالطلاق والعتاق يبطل بالكره. وأما
ـــــــ
الرضاء بالحكم فيبطل به التسليم كما يبطل بخيار الشرط وتبقى الشفعة. وكذلك أي ومثل تسليم الشفعة إبراء الغريم في أنه يبطل بالهزل حتى لو أبرأه هازلا لا يصح ويبقى الدين على حاله; لأنه لو قال أبرأتك على أني بالخيار لا يسقط الدين; لأن في الإبراء معنى التمليك ولهذا يرتد بالرد وإلى معنى التمليك أشير في قوله تعالى: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 280] فيؤثر فيه خيار الشرط فكذا الهزل يؤثر فيه; لأنه بمنزلة خيار الشرط. وكذا لو أبرأ الكفيل هازلا لا يصح مع أنه مما لا يرتد بالرد; لأنه يحتمل الفسخ بدليل أنه لو صالح الكفيل على عين وهلكت العين أو ردها بعيب ينفسخ الصلح وتعود الكفالة فإذا كان كذلك يعمل فيه الهزل فيمنعه من الثبوت كالخيار كذا رأيت مكتوبا بخط شيخي قدس الله روحه.
قوله: "وأما القسم الثاني" أي من الأقسام الأربعة المذكورة في أول هذا الفصل ذكر في المبسوط ولو تواضعا على أن يخبرا أنهما تبايعا هذا العبد أمس بألف درهم ولم يكن بينهما بيع في الحقيقة ثم قال البائع للمشتري قد كنت بعتك عبدي هذا يوم كذا بكذا وقال الآخر صدقت فليس هذا ببيع; لأن الإقرار خبر متميل بين الصدق والكذب والمخبر عنه إذا كان باطلا فبالإخبار به لا يصير حقا. ألا ترى أن فرية المفترين وكفر الكافرين لا يصير حقا بإخبارهم به وهاهنا ثبت كون المخبر عنه كذبا بالمواضعة السابقة فلا يصير حقا بالإقرار ولو أجمعا على إجازته بعد ذلك لم يكن بيعا; لأن الإجازة إنما تلحق العقد المنعقد وبالإقرار كاذبا لا ينعقد العقد فلا تلحقه الإجازة. ألا ترى أنهما لو صنعا مثل ذلك في طلاق أو عتاق أو نكاح لم يكن ذلك نكاحا ولا طلاقا ولا عتاقا وكذلك لو أقر بشيء من ذلك من غير تقدم المواضعة لم يكن ذلك نكاحا ولا طلاقا ولا عتاقا فيما بينه وبين ربه عز وجل وإن كان القاضي لا يصدقه في الطلاق والعتاق على أنه كذب إذا أقر به طائعا فثبت الفرق بين الإقرار والإنشاء في هذه التصرفات مع التلجئة كما ثبت مع الإكراه. لأنه أي الإقرار يعني صحته يعتمد صحة المخبر به أي وجوده وتحققه في الماضي. والهزل يدل على عدم المخبر به في الماضي فيمنع انعقاده أصلا فصار ذلك كله أي الإقرار بما يحتمل الفسخ وبما لا يحتمله من جنس ما يحتمل النقض من حيث إن الجميع يعتمد وجود المخبر به فيؤثر الهزل في الكل ألا ترى أن الإقرار بالطلاق والعتاق يبطل بالكره أصلا حتى كانت المرأة زوجته والعبد عبده كما كانا لما قلنا(4/512)
القسم الثالث فإن الهزل بالردة كفر لا بما هزل به لكن بعين الهزل; لأن الهازل جاد في نفس الهزل مختار راض والهزل بكلمة الكفر استخفاف بالدين الحق فصار مرتدا بعينه لا بما هزل به إلا أن أثرهما سواء بخلاف المكره; لأنه غير معتقد لعين ما أكره عليه بخلاف مسألتنا هذه فأما الكافر إذا هزل بكلمة الإسلام وتبرأ
ـــــــ
إن الإقرار خبر متردد بين الصدق والكذب والإكراه دليل ظاهر على أنه كاذب فيما يقر به قاصد إلى دفع الشر عن نفسه فكذلك أي فكما يبطل بالإكراه يبطل بالهزل; لأنه دليل ظاهر على أنه كاذب فيه إذ لو لم يكن كاذبا لما كان هذا الإقرار منه هزلا بطلانا لا يحتمل الإجازة; لأن الإجازة تلحق بشيء ينعقد ويحتمل الصحة والبطلان وهذا الإقرار لم ينعقد موجبا لشيء أصلا لكونه كذبا وبالإجازة لا يصير الكذب صدقا بوجه فكان كبيع الحر بخلاف البيع أو الإجارة هزلا; لأنه إنشاء يعتمد انعقاده أهلية المتكلم وصحة العبارة وقد تحققنا وهو محتمل للصحة والفساد فيجوز أن ينعقد موقوفا على الإجازة.
قوله: "لا بما هزل به" جواب عما يقال إن مبنى الردة على تبدل الاعتقاد ولم يوجد هاهنا لوجود الهزل فإنه ينافي الرضاء بالحكم فينبغي أن لا يكون الهزل بالردة كفرا كما في حال الإكراه والسكر فقال الهزل بالردة كفر لا بما هزل به لكن بعين الهزل يعني أنا لا نحكم بكفره باعتبار أنه اعتقد ما هزل به من الكفر بل نحكم بكفره باعتبار أن نفس الهزل بالكفر كفر; لأن الهازل وإن لم يكن راضيا بحكم ما هزل به لكونه هازلا فيه فهو جاد في نفس التكلم به مختار للسبب راض به فإنه إذا سب النبي عليه السلام هازلا مثلا أو دعا لله تعالى شريكا هازلا فهو راض بالتكلم به مختار لذلك لذلك وإن لم يكن معتقدا لما يدل عليه كلامه والتكلم بمثل هذه الكلمة هازلا استخفاف بالدين الحق وهو كفر قال الله تعالى: { قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ*لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65, 66] فصار المتكلم بالكفر بطريق الهزل مرتدا بعين الهزل لاستخفافه بالدين الحق لا بما هزل به أي لا باعتقاد ما هزل به إلا أن أثرهما أي أثر الهزل بالكفر وأثر ما هزل به سواء في إزالة الإيمان وإثبات الكفر بخلاف المكره على الكفر; لأنه غير راض بالسبب والحكم جميعا بل يجريه على لسانه اضطرارا ودفعا للشر عن نفسه غير معتقد له أصلا. ولا يقال إن الهازل لا يعتقد الكفر أيضا لأنا نقول هو معتقد للكفر; لأن مما يجب اعتقاده حرمة الاستخفاف بالدين وعدم الرضاء به ولما رضي بالهزل معتقدا له كان كافرا كذا في بعض الشروح.
فأما الكافر إذا هزل بكلمة الإسلام وتبرأ عن دينه هازلا فيجب أن يحكم بإيمانه في أحكام الدنيا; لأن الإيمان هو التصديق بالقلب والإقرار باللسان وقد باشر أحد الركنين وهو(4/513)
عن دينه هازلا يجب أن يحكم بإيمانه كالمكره; لأنه بمنزلة إنشاء لا يحتمل حكمه الرد والتراخي والله أعلم.
ـــــــ
الإقرار باللسان على سبيل الرضاء, والإقرار هو الأصل في أحكام الدنيا فيجب الحكم بالإيمان بناء عليه كالمكره على الإسلام إذا أسلم يحكم بإسلامه بناء على وجود أحد الركنين مع أنه غير راض بالتكلم بكلمة الإسلام وهو بمنزلة إنشاء لا يقبل حكمه الرد والتراخي فإنه إذا أسلم لا يحتمل أن يكون حكم الإسلام متراخيا عنه ولا يحتمل أن يرد إسلامه بسبب كما يرد البيع بخيار العيب والرؤية فكان بمنزلة الطلاق والعتاق فلا يؤثر فيه الهزل.(4/514)
فصل السفه
...
"السفه"
القسم الرابع وهو السفه السفه هو العمل بخلاف موجب الشرع من وجه واتباع الهوى وخلاف دلالة العقل فإن كان أصله مشروعا وهو السرف والتبذير; لأن أصل البيع والبر والإحسان مشروع إلا أن الإسراف حرام كالإسراف من الطعام
ـــــــ
"السفه"
قوله: "وأما القسم الرابع" أي من أقسام العوارض المكتسبة فهو السفه السفه في اللغة وهو الخفة والتحرك يقال تسفهت الرياح الثوب إذا استخفته وحركته ومنه زمام سفيه أي خفيف وفي الشريعة هو عبارة عن خفة تعتري الإنسان فتحمله على العمل بخلاف موجب العقل والشرع مع قيام العقل حقيقة كذا ذكر في عامة الشروح وهذا التعريف يتناول ارتكاب جميع المحظورات فإن ارتكابها من السفه حقيقة إلا أن الشيخ رحمه الله قيد بقوله من وجه; لأن في اصطلاح الفقهاء غلب هذا الاسم على تبذير المال وإتلافه على خلاف مقتضى العقل والشرع ولم يفهم عند إطلاقه ارتكاب معصية أخرى مثل شرب الخمر والزنا والسرقة وإن كان ذلك سفها حقيقة فكأنه بذكر هذا القيد يشير إلى أن غرضه تعريف السفه المصطلح الذي تكلم الفقهاء فيه وتعلق الأحكام به من منع المال ووجوب الحجر لا جميع أنواع السفه ولهذا فسره بقوله وهو السرف والتبذير الضمير راجع إلى العمل أي نعني بالعمل بخلاف موجب الشرع من وجه إلى آخره السرف والتبذير لأن أصل البر متعلق بقوله وإن كان أصله أي أصل ذلك العمل مشروعا والسرف والإسراف مجاوزة الحد والتبذير تفريق المال إسرافا وذلك أي السفه لا يوجب خللا في الأهلية; لأنه لا يخل بالقدرة ظاهرا لسلامة التركيب وبقاء القوى الغريزية على حالها ولا باطنا لبقاء نور العقل بكماله إلا أنه يكابر عقله في عمله فلا جرم يبقى مخاطبا بتحمل أمانة الله عز وجل فيخاطب بالأداء في الدنيا ابتلاء ويجازى عليه في الآخرة. وإذا بقي أهلا لتحمل أمانة(4/514)
والشراب وذلك لا يوجب خللا في الأهلية ولا يمنع شيئا من أحكام الشرع ولا يوجب وضع الخطاب بحال وأجمعوا أنه يمنع منه ماله في أول ما بلغ بالنص قال الله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] ثم علق الإيتاء بإيناس من الرشد فقال: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] قال أبو حنيفة رحمه الله أول أحوال البلوغ قد لا يفارقه السفه فإذا امتد الزمان
ـــــــ
الله عز وجل ووجوب حقوقه بقي أهلا في حقوق العباد وهي التصرفات بالطريق الأولى; لأن حقوق الله تعالى أعظم فإنها لا تحمل إلا على من هو كامل الحال. ألا ترى أن الصبي أهل للتصرفات مع أنه ليس بأهل لإيجاب حقوق الله عز وجل وتحمل أمانته فمن هو أهل لتحمل أمانته أولى أن يكون أهلا للتصرفات فثبت أن السفه لا يمنع أحكام الشرع ولا يجب سقوط الخطاب عن السفيه بحال سواء منع منه المال أو لم يمنع حجر عليه أو لم يحجر وأجمعوا أن السفيه يمنع ماله في أول ما يبلغ بالنص يعني إذا بلغ سفيها يمنع عنه ماله لقوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} [النساء: 5] أي لا تؤتوا المبذرين أموالكم الذين ينفقونها فيما لا ينبغي أموالهم التي في أيديكم أضاف الأموال إلى الأولياء وهي في الحقيقة أموال غيرهم; لأنها من جنس ما يقيم الناس به معايشهم كما قال: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] وكما تقول لمن قدم طعاما بين يديك هذا طعامي في منزلي كل يوم أي من جنسه أو لأنهم القوامون عليها والمتصرفون فيها: {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} أي تقومون بها ولو ضيعتموها لضعتم فكأنها في أنفسها قيامكم وانتعاشكم ثم علق الإيتاء بإيناس الرشد أي بإبصاره فقال جل جلاله: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً} أي عرفتم ورأيتم فيهم صلاحا في العقل وحفظا للمال: {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} فقال أبو حنيفة رحمه الله إذا بلغ السفيه خمسا وعشرين سنة ولم يؤنس منه الرشد دفع المال إليه وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله لا يدفع إلى السفيه ما لم يؤنس منه الرشد; لأنه تعالى علق الإيتاء بإيناس الرشد فلا يجوز قبله; لأن المعلق بالشرط معدوم قبل وجود الشرط, ألا ترى أن عند البلوغ إذا لم يؤنس منه الرشد لا يدفع إليه المال بهذه الآية فكذا إذا بلغ خمسا وعشرين سنة; لأن السفه يستحكم بطول المدة. ولأن السفه في حكم منع المال بمنزلة الجنون والعته وإنهما يمنعان دفع المال إليه بعد خمس وعشرين سنة كما قبله فكذلك السفه واستدل أبو حنيفة رحمه الله بقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6] معناه مخافة أن يكبروا فيلزمكم دفع المال إليهم وبقوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2] والمراد البالغون وسموا يتامى لقرب عهدهم به فهذا تنصيص على وجوب دفع مال اليتيم إليه بعد البلوغ إلا أنه قام الدليل على منع المال منه عند البلوغ إذا لم(4/515)
وظهرت الخبرة والتجربة حدث ضرب من الرشد لا محالة والشرط رشد نكرة فسقط المنع; لأنه إما عقوبة وإما حكم لا يعقل معناه فيتعلق بغير النص فإذا دخله شبهة أو صار الشرط في حكم الوجود بوجه وجب جراؤه واختلفوا في وجوب النظر للسفيه فقال أبو حنيفة رحمه الله لما كان السفه مكابرة وتركا لما هو
ـــــــ
يؤنس منه الرشد فإنه تعالى قال : {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً} [النساء: 6] وحرف الفاء للوصل والتعقيب فيكون بيانا إن دفع المال إليه عقيب البلوغ بشرط إيناس الرشد وما يقرب من البلوغ في معنى حالة البلوغ فأما إذا بعد عن ذلك فوجوب دفع المال إليه مطلق لما تلونا غير معلق بشرط والمعنى فيه أن منع المال بعد البلوغ لبقاء أثر الصبي وبقاء أثره كبقاء عينه في منع المال وأثره قد يبقى إلى أن يمضي عليه زمان, وينقطع بعدما بلغ خمسا وعشرين سنة لتطاول الزمان فيجب دفع المال ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله لو بلغ رشيدا ثم صار سفيها لم يمنع منه المال; لأن هذا ليس بأثر الصبا فلا يعتبر في منع المال أو منع المال على سبيل التأديب له, والاشتغال بالتأديب ما لم ينقطع رجاء التأديب فإذا بلغ خمسا وعشرين سنة ولم يؤنس رشده فقد انقطع رجاء التأديب; لأنه يتوهم أن يصير جدا في هذه المدة فلا معنى بعد ذلك لمنع المال منه بطريق التأديب. ثم نقول إن الإنسان في أول أحوال البلوغ قد لا يفارقه السفه لقربه بزمان الصبا وبعد تطاول الزمان به لا بد من أن يستفيد رشدا ما بطريق التجربة والامتحان إذ التجارب تفاح العقول والشرط رشد نكرة فيتحقق بأدنى ما ينطلق عليه الاسم كما في سائر الشروط المنكرة فسقط المنع أي منع المال بوجود هذا النوع من الرشد; لأنه أي منع المال إما عقوبة ثبتت زجرا له عن الفعل الحرام وهو التبذير أو حكم لا يعقل معناه; لأن منع المال عن مالكه مع كمال عقله وتميزه غير معقول إذ الملك هو المطلق الحاجز فيتعلق الحكم بعين النص أي المنصوص عليه وهو ما إذا لم يوجد منه رشد تحقيقا ولا تقديرا; لأن ما كان عقوبة أو غير معقول المعنى لا يمكن تعديته فإذا دخله أي منع المال الثابت بطريق العقوبة شبهة بحصول الشرط من وجه وهو إصابة نوع من الرشد بالتجربة سقط; لأن العقوبة تسقط بالشبهة أو صار الشرط أي شرط الدفع في حكم الوجود من وجه بوجود دليله وهو استيفاء مدة التجربة يعني على تقدير أن يكون حكما ثابتا بالنص غير معقول المعنى يسقط أيضا; لأن الشرط الثابت بالنص رشد نكرة فإذا وجد رشد ما فقد تحقق الشرط فوجب جزاؤه وهو دفع المال إليه.
قوله: "واختلفوا في وجوب النظر للسفيه" بجعله محجورا عن التصرفات وإثبات الولاية للغير على ماله صونا لماله عن الضياع كما وجب للصبي والمجنون فقال أبو حنيفة(4/516)
الواجب عن علم ومعرفة لم يجز أن يكون سببا للنظر, ألا ترى أنه من قصر في حقوق الله عز وجل مجانة وسفها لم يوضع عنه الخطاب نظرا بل كان مؤكدا لازما وقد يحبس عقوبة ولا يوضع عنه الخطاب ولا يبطل في ذلك عباراته ولا يعطل عليه أسباب الحدود والعقوبات وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله النظر
ـــــــ
رحمه الله لا يجوز الحجر عليه عن التصرفات; لأنه حر مخاطب فيكون مطلق التصرف في ماله كالرشيد فإن كونه مخاطبا يثبت أهلية التصرف إذ التصرف كلام ملزم وأهلية الكلام بكونه مميزا والكلام الملزم بكونه مخاطبا وبالحرية تثبت الملكية وبكون المال خالص ملكه تثبت المحلية وبعدما صدر التصرف من أهله في محله لا يمتنع نفوذه إلا لمانع والسفه لا يصلح مانعا من نفوذ التصرف; لأن بالسفه لا ينتقص العقل ولكن السفيه يكابر عقله في التبذير مع علمه بقبحه وفساد عاقبته فلم يجز أن يكون السفه سببا للنظر لكونه معصية والدليل أن السفيه يحبس في ديون العباد بطريق العقوبة ولا يسقط عنه الخطاب بحقوق الشرع حتى يعاقب على تركها ولا يبطل في ذلك أي فيما ذكرنا من حقوق الشرع وحقوق العباد عباراته حتى صح طلاقه وعتاقه ونكاحه ونذره ويمينه وإقراره على نفسه بالأسباب الموجبة للعقوبة. ولا يعطل عليه أسباب الحدود والعقوبات حتى لو شرب الخمر أو زنى أو سرق أو قتل إنسانا عمدا يقام عليه الحدود ويجب عليه القصاص وهذه العقوبات تندرئ بالشبهات فلو بقي السفه معتبرا بعد البلوغ عن عقل في إيجاب النظر لكان الأولى أن يعتبر فيما يندرئ بالشبهات ولو جاز الحجر عليه بطريق النظر لكان الأولى أن يحجر عليه عن الإقرار بالأسباب الموجبة للعقوبة; لأن ضرره يلحق بنفسه والمال تابع للنفس فإذا لم ينظر له في دفع الضرر عن نفسه فعن ماله أولى. وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله يجوز الحجر عليه بهذا السبب عن التصرفات المحتملة للفسخ وهي ما يبطله الهزل دون ما لا يبطله كالنكاح والطلاق ونحوهما إلا أن أبا يوسف ومحمدا رحمهما الله قالا إن الحجر عليه على سبيل النظر له, وقال الشافعي رحمه الله على سبيل الزجر والعقوبة ويظهر الخلاف فيما إذا كان مفسدا في دينه مصلحا في ماله كالفاسق فعنده يحجر عليه بهذا النوع من الفساد بطريق الزجر والعقوبة ولهذا لم يجعل الفاسق أهلا للولاية وعندهما لا يحجر عليه. احتج أبو يوسف ومحمد رحمهما الله بقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] نص على إثبات الولاية على السفيه وذلك لا يتصور إلا بعد الحجر عليه وبما روي أن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما كان يفني ماله في اتخاذ الضيافات حتى اشترى للضيافة دارا بمائة ألف وفي رواية بأربعين ألف دينار فطلب علي من(4/517)
واجب حقا للمسلمين وحقا له لدينه لا لسفهه, ألا ترى أن العفو عن صاحب الكبيرة حسن في الدنيا والآخرة وإن أصر عليها وقاساه بمنع المال وقال أبو
ـــــــ
عثمان رضي الله عنهما أن يحجر عليه فقال الزبير بن العوام لعبد الله أشركني فيها فأشركه فبلغ ذلك عثمان رضي الله عنه فقال كيف أحجر على رجل شريكه الزبير وهو كان معروفا بالكياسة في التجارة فثبت أنهم كانوا يرون الحجر بسبب التبذير وبأن السفيه مبذر في ماله فيحجر عليه نظرا له كالصبي بل أولى; لأن الصبي إنما يحجر عليه لتوهم التبذير وهو متحقق هاهنا فلأن يكون محجورا عليه كان أولى وكان هذا الحجر بطريق النظر واجبا حقا للمسلمين فإن أبا بكر الجصاص رحمه الله كان يقول ضرر السفه يعود إلى الكافة فإنه لما أفنى ماله بالسفه والتبذير صار وبالا على الناس وعيالا عليهم يستحق النفقة من بيت المال والحجر على الحر لدفع الضرر عن العامة مشروع بالإجماع كما في المفتي لما جن والطبيب الجاهل والمكاري المفلس وحقا لدينه لا لسفه; لأنه وإن كان عاصيا لسفه فهو مستحق النظر باعتبار أصل دينه فإنه بالنظر إلى أصل دينه حبيب الله تعالى ولهذا لو مات يصلى عليه وكذا كل فاسق حقا لإسلامه والدليل عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنهما شرعا بطريق النظر للمأمور والمنهي حقا لدينه وللمسلمين.
قوله: "لا لسفه" إشارة إلى الجواب عما قال أبو حنيفة رحمه الله السفه جناية منه فلا يستحق به النظر وعما قال الشافعي رحمه الله السفيه جان فيستحق الحجر بطريق العقوبة لا بطريق النظر فقال النظر له واجب لا باعتبار أن الجناية مستدعية للنظر ولكن باعتبار أن العبد المسلم يستحق النظر في عامة أحواله وعند السفه يفوت له النظر وتظهر الحالة التي تمس الحاجة إلى وجوب النظر له فنظر الشرع له في هذه الحالة لوجود المعنى الداعي إلى النظر. ألا يرى أن العفو عن صاحب الكبيرة حسن حتى كان العفو عن القصاص وعن كل جناية مندوبا إليه قال تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178] {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] وكذا العفو عنه في الآخرة حسن وإن مات مصرا على الكبيرة من غير توبة عند أهل السنة حتى جاز أن يدخله الله الجنة بفضله وكرمه من غير تقديم عقوبة رغما لأنوف المعتزلة وقاساه بمنع المال فإن منع المال عنه كان بطريق النظر ليبقى مصونا عن التلف ولا يضيع بالتبذير والإسراف فكذلك الحجر عليه; لأن منع المال غير مقصود لعينه بل لإبقاء ملكه ولا يحصل هذا المقصود ما لم يقطع لسانه عن ماله تصرفا فإنه إذا كان مطلق التصرف لا يفيد منع المال شيئا وإنما يكون فيه زيادة مؤنة وكلفة على الولي في حفظ ماله إلى أن يتلفه بتصرفه. وإنما لم(4/518)
حنيفة رحمه الله النظر من هذا الوجه جائز لا واجب كما في صاحب الكبيرة وإنما يحسن إذا لم يتضمن ضررا فوقه وها هنا يتضمن ضررا فوقه وهو وقف أهليته وإلحاقه بالصبيان والمجانين والبهائم بخلاف منع المال لما قلنا إنه غير معقول ولأنه عقوبة لا يحتمل المقايسة ولأن اليد للآدمي نعمة زائدة, واللسان والأهلية نعمة أصلية فيبطل القياس لإبطال أعلى النعمتين باعتبار أدناهما.
ـــــــ
يثبت الحجر في حق الطلاق والعتاق والنكاح ونحوها; لأن المحجور عليه لسبب السفه في التصرفات كالهازل فإن الهازل يخرج كلامه على غير نهج كلام العقلاء لقصد اللعب به دون ما وضع الكلام له لا لنقصان في عقله فكذلك السفيه يخرج كلامه في التصرفات على غير نهج كلام العقلاء لاتباع الهوى ومكابرة العقل لا لنقصان في عقله فكل تصرف لا يؤثر فيه الهزل كالنكاح والطلاق لا يؤثر فيه السفه أيضا وكل تصرف يؤثر فيه الهزل وهو مما يحتمل الفسخ يؤثر فيه السفه.
قوله: "وقال أبو حنيفة رحمه الله" يعني في الجواب عن كلامهما أن النظر من هذا الوجه وهو أنه مستحق للنظر بعد الجناية جائز لا واجب كما في صاحب الكبيرة يجوز العفو ولا يجب ومن أصلهما أن الحجر واجب فلا يصح الاستدلال ثم النظر على هذا الوجه إنما يحسن إذا لم يتضمن ضررا فوق هذا النظر هاهنا قد تضمن ذلك كما ذكر في الكتاب بخلاف منع المال عنه; لأنه إنما ثبت بالنص غير معقول المعنى لما بينا فلا يمكن تعديته إلى غيره ولأنه ثبت بطريق العقوبة عند بعض مشايخنا لا بطريق النظر فإن سببه جناية وهو مكابرة العقل واتباع الهوى والحكم المتعلق به وهو منع المال يصلح جزاء كإيجاب المال فيجعل جزاء فإنا عرفنا سائر الأجزية بهذا الطريق وهو إنا نظرنا إلى سبب فوجدناه جناية ونظرنا إلى الحكم فوجدناه صالحا للعقوبة فسميناه عقوبة كالجلد في الزنا وقطع اليد في السرقة وإذا ثبت أنه عقوبة لا يمكن تعديته إلى منع اللسان وقصر العبارة; لأن القياس لا يجري في العقوبات.
ولا يقال إن المنع لو كان عقوبة لفوض أي الإمام والأولياء هم المخاطبون به دون الأئمة لأنا نقول هو عقوبة تعزير وتأديب لا حد فيجوز أن يفوض إلى الأولياء كما في تعزير العبيد والإماء ولئن سلمنا أن النص معقول المعنى وأنه معلول بعلة النظر لا بالعقوبة لا نسلم جواز قياس الحجر على المنع أيضا لعدم المساواة; لأن منع المال إبطال نعمة زائدة عليه وهي اليد وإلحاقه بالفقراء وإثبات الحجر إبطال ولايته وأهليته وإلحاقه بالبهائم وهي نعمة أصلية; لأن الإنسان يمتاز من سائر الحيوان بالبيان فبان جواز إلحاق ضرر يسير به في منع نعمة زائدة وإلحاقه بالفقراء لتوفير النظر عليه لا يستدل على جواز إلحاق الضرر العظيم(4/519)
وقالا هذه الأمور صارت حقا للعبد رفقا به فإذا أدى إلى الضرر وجب الرد لدفع الضرر عن المسلمين وإن لم يكن للمسلمين حق في عين المال وهذا قياس ما
ـــــــ
به بتفويت النعمة الأصلية وإلحاقه بالبهائم لمعنى النظر له. والجواب عن الآية أن المراد من السفيه على ما قيل هو الصبي الذي عقل فإن بعض تصرفاته يخرج عن نهج الاستقامة ومن الضعيف الصبي الصغير ومن الذي لا يستطيع أن يمل المجنون وقيل المراد من السفيه هو المبذر الذي اختلفنا فيه ولكن المراد من الولي هو ولي الحق لا ولي السفيه وفي الآية كلام طويل وعن الحديث أن عليا رضي الله عنه لم يطلب الحجر بسبب السفه بدليل أن عثمان رضي الله عنه ترك الحجر بسبب إشراك الزبير ومن يرى الحجة لا يترك بمثل هذا العذر فإن الغبن الواقع في العقد لا يرتفع بإشراك الغير ولكن يحتمل أن عليا رضي الله عنه رآه إسرافا حين أنفق مالا عظيما في شراء دار وهي حظ الدنيا; لأنه متى أنفق على هذا الوجه في كل حظوظ الدنيا ربما يقصر في حظوظ الآخرة فثبت أن ذلك كان على سبيل التخويف وعن قولهم لا فائدة في منع المال مع إطلاق التصرف أن السفيه إنما يتلف ماله عادة في التصرفات التي لا يتم إلا بإثبات اليد على المال من اتخاذ الضيافة والهبة والصدقة فإذا كانت يده مقصورة عن المال لا يتمكن من تنفيذ هذه التصرفات فيحصل المقصود بمنع المال منه وإن كان لا يحجر عليه ثم أجاب الشيخ لهما عما قال أبو حنيفة رحمه الله ميلا منه إلى قولهما بقوله وقالا هذه الأمور يعني اليد واللسان والأهلية صارت حقا للعبد رفقا به يعني ثبتت هذه الأمور للعبد لأجل أن يرتفق بها العبد فإذا أدى ثبوت هذه الأمور إلى الضرر في حقه وفي حق المسلمين وجب الرد أي رد هذه الأشياء لدفع الضرر عن نفسه كي لا يصير ثبوتها عائدا على موضوعه بالنقض ولدفع الضرر عن المسلمين وفي بعض النسخ بدون الواو وهو الأظهر. وقوله وإن لم يكن للمسلمين حق في عين المال أي مال السفيه إشارة إلى رد ما أجيب عن قولهما فإنهما لما قالا النظر واجب بالحجر حقا للمسلمين أجيب عنه بأنه لا ضرر في حقهم; لأنه يتصرف في خالص ملكه لا حق لأحد فيه فلا يجب الحجر فردا ذلك الجواب وقالا إنه وإن تصرف في خالص ملكه ولا حق للمسلمين في ماله يؤدي تصرفه إلى الإضرار بالمسلمين في المال فيجب دفعه عنهم بالحجر في الحال وهذا أي وجوب الرد لدفع الضرر عن المسلمين قياس ما روي عن أبي يوسف رحمه الله فيمن تصرف في خالص ملكه بما يضر جيرانه يمنع حتى لو اتخذ طاحونة للأجرة يمنع ولو نصب منوالا لاستخراج الإبريسم من الفيلق فللجيران المنع إذا تضرروا بالدخان ورائحة الديدان وللجيران منع دقاق الذهب لتضررهم بدقه وكذا النداف إذا كان ضرره بينا يمنع كذا في مختصر المنية من غير ذكر خلاف فثبت أن شرعية الحجر على السفيه عنه هما بطريق النظر.(4/520)
روي عن أبي يوسف رحمه الله فيمن تصرف في خالص ملكه بما يضر جيرانه أنه يمنع عنه فصار الحجر عندهما مشروعا بطريق النظر وإنما يجب أن ينظر إلى ما فيه نظر له أبدا فلا يلحق بالصبى خاصة ولا بالمريض ولا بالمكره لكن يجب إثبات النظر بأي أصل أمكن اعتباره على ما هو مذكور في المبسوط وهو أنواع عندهما حجر بسبب السفه مطلقا وذلك يثبت عند محمد رحمه الله
ـــــــ
قوله: "وإنما يجب أن ينظر إلى ما فيه نظر له أبدا" يعني لا يجعل السفيه عندهما كالهازل في جميع التصرفات ولا كالصبي ولا كالمريض بل المعتبر في حقه توفير النظر عليه; لأن الحجر ثبت لمعنى النظر له فبحسبه يلحق ببعض هذه الأصول. فإذا أعتق عبدا نفذ عتقه; لأن السفه كالهزل ولكنه يسعى في قيمته عند محمد رحمه الله; لأن الحجر ثبت بمعنى النظر له فيكون بمنزلة الحجر على المريض لغرمائه وورثته وهناك وجبت السعاية للغرماء في كل القيمة وللورثة في ثلثي القيمة إذا لم يكن عليه دين ردا للعتق بقدر الإمكان فكذا هاهنا وإن جاءت جارية بولد فادعاه ثبت نسبه منه وكان الولد حرا لا سبيل عليه والجارية أم ولد لا سبيل عليها لأحد بعد موته; لأن توفير النظر في إلحاقه بالمصلح في حكم الاستيلاء لحاجته إلى إبقاء نسله وصيانة مائه فيلحق في هذا بالمريض المديون إذا ادعى نسب ولد جاريته كان هو في ذلك كالصحيح حتى إنها تعتق من جميع ماله بموته ولا تسعى هي ولا ولدها في شيء; لأن حاجته مقدمة على حق غرمائه ولو اشترى هذا المحجور عليه ابنه وهو معروف وقبضه كان شراؤه فاسدا ويعتق الغلام حين قبضه ويجعل في هذا الحكم بمنزلة شراء المكره فيثبت له الملك بالقبض ويعتق عليه; لأنه ملك ابنه ثم يسعى في قيمته للبائع ولا يكون للبائع في مال المشتري شيء من ذلك; لأنه وإن ملكه للقبض فالتزام الثمن أو القيمة منه بالعقد غير صحيح لما فيه من الضرر عليه فهو في هذا الحكم ملحق بالصبي. ولو حلف بالله أو نذر نذورا من هدي أو صدقة لم ينفذ له القاضي شيئا من ذلك ولم يدعه يكفر أيمانه; لأنه محجور عليه عن التصرف في ماله فيما يرجع إلى الإتلاف فهو ملحق بالصبي في هذا الحكم أيضا ولكنه يصوم لكل يمين حنث فيها ثلاثة أيام متتابعة وإن كان هو مالكا; لأن يده مقصورة عن ماله فهو بمنزلة ابن السبيل المنقطع عن ماله فله أن يكفر بالصوم.
قوله: "وهو" أي الحجر بسبب النظر عندهما أنواع حجر بسبب السفه مطلقا يعني سواء كان أصليا بأن بلغ سفيها أو عارضا بأن حدث بعد البلوغ رشيدا وذلك أي هذا الحجر يثبت عند محمد بنفس السفه بدون حجر القاضي أصليا كان أو عارضا; لأن الدلالة قد قامت لنا على أن السفه في ثبوت الحجر به نظير الجنون والعته والصغر والرق,(4/521)
بنفس السفه إذا حدث بعد البلوغ أو بلغ كذلك وقال أبو يوسف رحمه الله لا بد
ـــــــ
والحجر يثبت بنفسها من غير حاجة إلى قضاء القاضي فكذلك بالسفه وأبو يوسف رحمه الله يقول لا يصير محجورا عليه ما لم يحجر عليه القاضي في الوجهين; لأن الحجر عليه لمعنى النظر له وهو متردد بين النظر والضرر ففي إبقاء الملك له نظر وفي إهدار قوله ضرر وبمثل هذا لا يترجح أحد الجانبين منه إلا بقضاء القاضي يوضحه أن السفه ليس بشيء محسوس وإنما يستدل عليه بأن يغبن في التصرفات وقد يكون ذلك للسفه وقد يكون حيلة لاستجلاب قلوب المجاهرين فإذا كان محتملا مترددا لا يثبت حكمه إلا بقضاء القاضي بخلاف الصغر والجنون والعته ولأن الحجر بهذا السبب مختلف فيه بين العلماء فلا يثبت إلا بقضاء القاضي كالحجر بسبب الدين. فلو أدرك سفيها فلم يرفع أمره إلى القاضي حتى باع شيئا من تركة والده وأقر بديون ووهب هبات وتصدق بصدقات صح جميعها عند أبي يوسف خلافا لمحمد. رحمهما الله النوع الثاني من الحجر أن المديون إذا امتنع عن بيع ماله لقضاء الدين باع القاضي عليه أمواله عروضا كان أو عقارا عندهما وعند أبي حنيفة رحمه الله لا يبيع عليه ماله إلا أحد النقدين بالآخر استحسانا لقضاء دينه احتجا في ذلك بحديث معاذ رضي الله عنه فإنه ركبته الديون فباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله وقسم ثمنه بين غرمائه بالحصص وقال عمر رضي الله عنه في خطبته إياكم والدين فإن أوله هم وآخره حزن وإن أسيفع جهينة قد رضي من دينه وأمانته أن يقال قد سبق الحاج فادان معرضا فأصبح وقد رين عليه ألا إني بائع عليه ماله وقاسم ثمنه بين غرمائه بالحصص ممن كان له عليه دين فليغد ولم ينكر عليه أحد من الصحابة فكان هذا اتفاقا منهم على أنه يباع على المديون ماله وبأن بيع المال لقضاء الدين من ثمنه مستحق عليه بدليل أنه يحبس إذا امتنع منه وهو مما تجري فيه النيابة والأصل أن من امتنع عن إيفاء حق مستحق عليه وهو مما تجري فيه النيابة ناب القاضي منابه كالذمي إذا أسلم عبده فأبى أن يبيعه باعه القاضي, والعنين بعد مضي المدة إذا أبى أن يفارقها ناب القاضي منابه في التفريق بينهما وأبو حنيفة رحمه الله استدل بقوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] وبيع المال على المديون بغير رضاه ليس بتجارة عن تراض وبأن بيع المال غير مستحق عليه فإن المستحق عليه قضاء الدين وبيع المال غير متعين لقضاء الدين فإنه يتمكن من قضائه بالاستيهاب والاستقراض وسؤال الصدقة من الناس فلا يكون للقاضي تعيين هذه الجهة عليه بمباشرة بيع ماله عند امتناعه كالإجارة والتزويج. الدليل عليه أنه يحبسه بالاتفاق ولو جاز له بيع ماله لم يشتغل بحبسه لما فيه من الإضرار به وبالغرماء في تأخير وصول حقهم إليهم فلا معنى للمصير إليه بدون الحاجة.(4/522)
من حكم القاضي; لأن باب النظر إلى القاضي. والنوع الثاني إذا امتنع المديون عن بيع ماله لقضاء الدين باع القاضي عليه أمواله والعروض والعقار في ذلك سواء
ـــــــ
وهذا بخلاف عبد الذمي إذا أسلم; لأن عند إصرار المولى على الشرك إخراج العبد عن ملكه مستحق عليه بعينه فينوب القاضي منابه. وكذلك في حق العنين لما تحقق عجزه عن الإمساك بالمعروف استحق عليه التسريح بعينه فأما مبادلة أحد النقدين بالآخر بأن كان عليه دراهم وماله دنانير ففي القياس ليس له أن يباشر هذه المصارفة لما بينا أن هذا الطريق غير متعين لما هو مستحق عليه وهو قضاء الدين وفي الاستحسان يفعل ذلك. الدراهم والدنانير جنسان صورة, وجنس واحد معنى ولهذا يضم أحدهما إلى الآخر في حكم الزكاة ولو كان ماله من جنس الدين صورة كان للقاضي أن يقضي به دينه فكذلك إذا كان ماله من جنس الدين معنى ولكن لا يكون لصاحب الدين ولاية الأخذ من غير قضاء كما لو ظفر بجنس حقه; لأنهما جنسان صورة وإن كانا جنسا واحدا حكما فلعدم المجانسة صورة لا ينفرد صاحب الدين بأخذه ولوجود المجانسة معنى كان للقاضي أن يقضي دينه وتأويل حديث معاذ رضي الله عنه أنه عليه السلام إنما باع ماله بسؤاله; لأنه لم يكن وفاء بدينه فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتولى بيع ماله لينال ماله بركة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصير وفاء بدينه. وهذا; لأن عندهما يأمر القاضي المديون ببيع ماله أولا فإذا امتنع فحينئذ يبيع ماله ولا يظن بمعاذ أنه كان يأبى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه ببيع ماله حق يحتاج ببيعه عليه بغير رضاه فإنه كان سمحا جوادا لا يمنع أحدا شيئا ولأجله ركبته الديون فكيف يمتنع من قضاء دينه بماله بعد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشهور في حديث أسيفع أن عمر رضي الله عنه قال إني قاسم ماله بين غرمائه فيحمل على أن ماله كان من جنس دينه وإن ثبت البيع فإنما كان برضاه. ألا ترى أن عندهما القاضي لا يبيعه إلا عند طلب الغرماء ولم ينقل أن الغرماء طالبوه بذلك وإنما المنقول أنه ابتدأهم بذلك وأمرهم أن يغدوا إليه فدل أنه كان ذلك برضاه كذا في المبسوط.
قوله: "والثالث أن يخاف على المديون" إلى آخره إذا خيف على من ركبته الديون أن يلجئ ماله بطريق الإقرار أو البيع فطلب الغرماء من القاضي أن يحجر عليه لا يحجر القاضي عليه عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما يحجر عليه وبعد الحجر لا ينفذ تصرفه في المال الذي كان في يده عند الحجر وينفذ تصرفاته فيما يكتسب من المال بعده وفي هذا الحجر نظر للمسلمين فإذا جاز الحجر عليه عندهما بطريق النظر له فلذلك يحجر عليه لأجل النظر للمسلمين. وعند أبي حنيفة رحمه الله كما لا يحجر على المديون نظرا له لا يحجر عليه نظرا للغرماء لما في الحيلولة بينه وبين التصرفات في ماله من الضرر عليه وإنما(4/523)
وذلك ضرب حجر. والثالث أن يخاف على المديون أن يلجئ أمواله ببيع أو إقرار فيحجر عليه على أن يصح تصرفه إلا مع هؤلاء الغرماء والرجل غير سفيه فإن ذلك واجب ليعلم أن طريق الحجر عندهما النظر للمسلمين فأما أن يكون السفه من أسباب النظر فلا لكنه بمنزلة العضل من الأولياء.
ـــــــ
يجوز النظر لغرمائه بطريق لا يكون فيه ألحق الضرر به إلا بقدر ما ورد الشرع به وهو الحبس في الدين لأجل ظلمه الذي تحقق بالامتناع من قضاء الدين مع تمكنه منه وخوف التلجئة ظلم موهوم منه فلا يجعل كالمتحقق ثم الضرر في إهدار قوله فوق الضرر في حبسه ولا يستدل بثبوت الأدنى على ثبوت الأعلى كما في منع المال من السفيه مع الحجر ثم هذا الحجر عندهما لا يثبت إلا بقضاء القاضي ومحمد رحمه الله يفرق بين هذا وبين الأول فيقول هذا الحجر لأجل النظر للغرماء فيتوقف على طلبهم وذلك لا يتم إلا بقضاء القاضي والحجر على السفيه لأجل النظر له وهو غير موقوف على طلب أحد فثبت حكمه بدون القضاء فتبين بما ذكرنا من إيجاب الحجر في هذين الوجهين أن طريق الحجر عندهما هو النظر للمسلمين لا أن تكون نفس السفه الذي هو معصية من أسباب النظر فإن السفه لم يوجد في هاتين الصورتين وقد وجب الحجر نظرا للمسلمين هو معنى قوله والرجل غير سفيه إلى آخره. لكنه أي السفه بمنزلة العضل أي المنع من الأولياء في أنه يوجب الحجر نظرا فإن الولي إذا امتنع عن تزويج المرأة عند خطبة الكفء وخيف فوته يزوجها القاضي منه ويصير الولي محجورا ساقط الولاية في هذا العقد حتى لم تكن له ولاية إبطاله نظرا للمرأة لا أن يكون العضل الذي هو ظلم من أسباب النظر له فكذا السفيه إذا أتلف ماله يحجر عليه نظرا للمسلمين لا أن يكون السفه بنفسه من أسباب النظر له.(4/524)
"السفر"
القسم الخامس وهو السفر السفر هو الخروج المديد وأدناه ثلاثة أيام ولياليها على ما عرف وأنه لا ينافي شيئا من الأهلية ولا يمنع شيئا من الأحكام لكنه من أسباب التخفيف
ـــــــ
"السفر"
قوله: "القسم الخامس" أي من العوارض المكتسبة وهو السفر السفر قطع المسافة لغة وفي الشريعة هو الخروج على قصد المسير إلى موضع بينه وبين ذلك الموضع مسيرة ثلاثة أيام فوقها سير الإبل ومشي الأقدام على ما عرف يعني في المبسوط وغيره أن ما ذكرنا هو المختار وأن قوله عليه السلام: "يمسح المقيم يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها" يدل على هذا التقرير المذكور وهو حديث مشهور وأنه لا ينافي شيئا من الأهلية أي لا يحل بها بوجه لبقاء القدرة الظاهرة والباطنة بكمالها. ولا يمنع شيئا أي(4/524)
بنفسه مطلقا; لأنه من أسباب المشقة لا محالة بخلاف المرض; لأنه متنوع على ما قلنا واختلفوا في أثره في الصلوات فهو عندنا سبب للوضع أصلا حتى إن ظهر المسافر وفجره سواء لا يحتمل الزيادة عليه وقال الشافعي رحمه الله هو سبب رخصة فلا يبطل العزيمة كما قيل في حق الصائم ولنا على ما قلنا دليلان ظاهران ودليلان خفيان أما الأولان فأحدهما أن القصر أصل والإكمال زيادة قالت عائشة رضي الله عنها فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فأقرت في السفر وزيدت في الحضر والأصل لا يحتمل المزيد إلا بالنص. والثاني أنا وجدنا الفضل على ركعتين إن أداه أثيب عليه وإن تركه لا يعاتب عليه وهذا حد النوافل. وأما الوجهان الخفيان أحدهما أن هذه رخصة إسقاط; لأن ذلك حق وضع عنا مثل وضع الإصر والأغلال, قال عمر رضي الله عنه يا رسول الله مالنا نقصر وقد أمنا فقال النبي عليه السلام: "إن الله تعالى تصدق عليكم بصدقة فاقبلوا صدقته"
ـــــــ
وجوب شيء من الأحكام نحو الصلاة والزكاة والصوم والحج وغيرها لكنه جعل في الشرع من أسباب التخفيف بنفسه مطلقا يعني من غير نظر إلى كونه موجبا للمشقة أو غير موجب لها لأنه أي السفر من أسباب المشقة لا محالة يعني في الغالب حتى لو تنزه سلطان من بستان إلى بستان في خدمه وأعوانه لحقه مشقة بالنسبة إلى حال إقامته فلذلك اعتبر نفس السفر سببا للرخص وأقيم مقام المشقة بخلاف المرض حيث لم تتعلق الرخصة بنفسه; لأنه متنوع إلى ما يضر به الصوم وإلى ما لا يضر به بل ينفعه فلذلك تعلقت الرخص بالمرض الذي يوجب المشقة بازدياد المرض لا بما لا يوجبها. ألا ترى أنه لو حدث به برص في حال الصوم لا يمكن أن يرخص له بالإفطار مع أنه من الأمراض الصعبة فعرفنا أن الحكم غير متعلق بنفس المرض كما ظنه بعض أصحاب الحديث.
واختلف في أثر السفر في الصلوات فأثره في حق الصلوات عندنا إسقاط الشطر من ذوات الأربع حتى لم يبق إلا كمال مشروع أصلا فكان ظهر المسافر وفجره سواء وعند الشافعي رحمه الله حكم السفر ثبوت حق الترخص له بأن يصلي ركعتين إن شاء كما في الإفطار حتى لو لم يشأ لم يجزه إلا الأربع وإذا فاتت لزمه قضاء الأربع عنده وقد أوضح الشيخ رحمه الله هذه المسألة هاهنا غاية الإيضاح وقد مر بيانها في باب العزيمة والرخصة فلا يحتاج إلى زيادة شرح دليلان ظاهران من النص والمعقول ودليلان خفيان منهما أيضا القصر أصل قال مقاتل كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بمكة ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي فلما عرج به إلى السماء أمر بالصلوات الخمس فصارت الركعتان للمسافر وللمقيم أربعا كذا في(4/525)
وحق الصلاة علينا حق لا يحتمل التمليك ولا مالية فيه وكانت صدقته إسقاطا محضا لا يحتمل الرد أرأيت عفو الله عنا إلا تاما وهبته العتق من النار أيحتمل الرد هذا أمر يعرف ببداءة العقول بخلاف الصوم; لأن النص أوجب تأخيره بالسفر لا سقوطه فبقي فرضا فصح أداؤه وثبت أنه رخصة تأخير وفي الصلاة رخصة إسقاط وفسخ فانعدم أداؤه الثاني أن العبودية تنافي المشيئة المطلقة والاختيار الكامل وإنما ذلك من صفات البار جل جلاله وإنما للعبد اختيار ما يرتفق به ولله تعالى الاختيار المطلق يفعل ما يشاء بلا رفق يعود إليه ولا حق يلزمه. ألا ترى أن الحالف إذا حنث في اليمين خير بين أنواع الثلاثة من الكفارة لرفق يختاره وفي مسألتنا لو ثبت له الاختيار بين القصر والإكمال لكان اختيارا في وضع الشرع; لأنه لا رفق له بل الرفق واليسر متعين في القصر من كل وجه فإذا
ـــــــ
التيسير إلا بنص والنص في حال الإقامة دون السفر: "أن الله تعالى تصدق عليكم فاقبلوا صدقته" يعني القصر المتعلق بالسفر صدقة من الله تعالى عليكم فاعملوا بها واعتقدوها والقصر المذكور في الكتاب المعلق بالخوف غير هذا القصر وهو قصر الأحوال على ما بيناه. لا يحتمل الرد; لأن إثبات حق يحتمل التمليك من الله تعالى لا يحتمل الرد كالإرث فإسقاط حق لا يحتمل التمليك أولى أن لا يحتمل الرد وهذا بخلاف إبراء الدين من العباد حيث يحتمل الرد; لأن فيه معنى التمليك من وجه; لأن الدين مال من وجه دون وجه فلا يكون إسقاطا محضا فيجوز أن يرتد بالرد عملا بجهة التمليك وإن لم يتوقف صحته على القبول عملا بجهة الإسقاط فأما هذا فإسقاط محض فلا يحتمل الرد بوجه; لأنه يتم بالمسقط وهو جواب عن تمسك الخصم بهذا الحديث فإنه قال سماه صدقة وأمر بالقبول فيتوقف الترخص على القبول فأجاب بما ذكر لكان اختيارا في وضع الشرع يعني لو علق الترخص باختياره على معنى إن شاء قبل وإن شاء رد لكان ذلك نصب شريعة مفوضا إلى رأي العباد وصار كأن الشارع قال اقصروا إن شئتم وهذا أمر لا نظير له فأمر الله تعالى من ندب أو إباحة أو وجوب غير متعلق برأي العبد بل حكمه نافذ في الحال ولو علق به لم يكن شرعا في الحال كالطلاق المعلق بالمشيئة وإذا شاء العبد كان الثبوت مضافا إلى المشيئة كما في الطلاق المعلق بالمشيئة بخلاف سائر الشروط; لأن التعليق بالمشيئة تمليك ولا يجوز إضافة نصب الشريعة إلا إلى الله عز وجل أو رسله عليهم السلام بخلاف صدقة العباد فإنها متعلقة باختيار المتصدق عليه; لأن ولاية المتصدق غير نافذة فلهذا تعلق به أما صيرورة الصلاة ركعتين أو أربعا فليس إلينا بل الأداء إلينا ومباشرة العلل من سفر وإقامة دون إثبات الأحكام. ولا يلزم عليه ثبوت الخيار بين المشروعين كما في الجمعة مع الظهر في حق العبد المأذون وكما في أنواع الكفارة; لأن خياره هناك في تعيين(4/526)
لم يتضمن الاختيار رفقا كان ربوبية لا عبودية وهذا غلط ظاهر وخطأ بين, ألا ترى أن المدبر إذا جنى جناية لم يخير مولاه بين قيمته وهي ألف درهم وبين الدية وهي عشرة آلاف درهم, وكذلك إذا جنى عبد ثم أعتقه وهو لا يعلم بجنايته غرم قيمته إذا كانت دون الأرش من غير خيار. وكذلك المكاتب في جناياته وإذا كان كذلك علم أن الاختيار للرفق ولا رفق في اختيار الكثير على القليل والجنس واحد ويخير في جناية العبدين إمساك رقبته, وقيمته ألف درهم وبين الفداء بعشرة آلاف; لأن ذلك قد يفيد رفقا وفي مسألتنا لا رفق في اختيار الكثير فبقي اختياره مطلقا ومشيئة وهي ربوبية وذلك باطل فإن قيل فيه فضل ثواب قلنا عنه ليس كذلك فما الثواب إلا في حسن الطاعة لا في الطول والقصر. ألا ترى أن ظهر المقيم لا يزيد على فجره ثوابا وأن ظهر العبد لا يزيد على جمعة الحر ثوابا فكذلك هذا على أن الاختيار وهو حكم الدنيا لا يصلح بناؤه على حكم الآخرة وهذا بخلاف الصوم في السفر; لأنه مخير بين وجهين كل
ـــــــ
المشروع لا في أصل المشروع أما هاهنا فليس مشروع الوقت إلا صلاة واحدة مقصورة أو كاملة فمتى تعين القصر مشروعا لم يبق إلا كمال; لأنهما لا يجتمعان كالظهر مع العصر في وقت واحد وهذا; لأن السفر متى أوجب القصر طارئا لم يبق الأربع كالإبراء عن بعض الدين إذا وجب السقوط لم يبق الكمال إلا بالرد فكذلك هاهنا لا تكمل الصلاة إلا برد هذا الشرع وما للعبد هذه الولاية وهذا أي إثبات الخيار على وجه يؤدي إلى الشركة في وضع الشرع غلط ظاهر ألا ترى توضيحا لقوله إنما للعبد اختيار ما يرتفق به وكذلك المكاتب في جناياته يعني يلزمه الأقل من قيمته ومن الأرش ولا يخير بينهما وإذا كان كذلك أي كان الأقل متعينا في هذا المسائل ولم يثبت الخيار والجنس واحد احتراز عن التخيير بين الجمعة والظهر للعبد المأذون في الجمعة الثواب في حسن الطاعة لا في الطول والقصر قال عليه السلام: "ركعتان من تقي خير من ألف ركعة من مخلط" فكذلك أي مثل ظهر العبد وجمعة الحر ظهر المقيم وظهر المسافر لا يصح بناؤه على حكم الآخرة بل يجب بناؤه على ما نعقله في الدنيا من لزوم وبراءة بلا أداء كما في الاختيار في أنواع كفارة اليمين فإنه مبني على اليسر الحالي في الدنيا لا على الثواب.
قوله: "وإنما الحكم" وهو قصر الصلاة بالسفر إذا اتصل السفر بسبب الوجوب وهو الجزء الذي يتصل بالأداء ثبت هذا إذ الجزء الأخير من الوقت حتى ظهر أثره أي أثر السفر في أصل الواجب وهو الأداء بالقصر فظهر في قضائه الذي هو خلفه فلهذا لو فاتته صلاة(4/527)
واحد منهما يتضمن يسرا من وجه وعسرا من وجه; لأن الصوم في السفر يتضمن يسرا موافقة المسلمين وذلك يسر بلا شبهة ويتضمن عسرا بحكم السفر والتأخير إلى حالة الإقامة يتضمن عسرا من وجه وهو عسر الانفراد ويسرا من وجه وهو الاستمتاع بحال الإقامة فصح التأخير لطلب الرفق بين وجهين مختلفين فكان ذلك عبودية لا ربوبية والله تعالى أعلم. وإنما يثبت هذا الحكم بالسفر إذا اتصل بسبب الوجوب حتى ظهر أثره في أصله وهو الأداء فظهر في قضائه إذا لم يتصل به فلا ولما كان السفر من الأمور المختارة ولم يكن موجبا ضرورة لازمة قيل له إن المسافر إذا نوى الصيام في رمضان وشرع فيه لم يحل له الفطر.
ـــــــ
في السفر قضاها في السفر وفي الحضر ركعتين وإذا لم يتصل السفر بالسبب فلا أي لا يثبت القصر حتى لو فاتته رباعية في الحضر قضاها في السفر أربعا وهذا; لأنه لا بد من أن يقارن المانع المثبت ليمنعه عن العمل فإذا تأخر ثبت الحكم وتقرر فلا يزول إلا بالأداء أو الرافع والسفر مانع لا رافع وعند الشافعي رحمه الله إذا مضى من الوقت مقدار ما يصلى فيه أربع ركعات ثم خرج مسافرا صلى أربعا وعندنا يصلي ركعتين بناء على أن وجوب الصلاة عنده يتعلق بأول الوقت فإذا كان مقيما في أوله وجب عليه صلاة المقيمين وعندنا الوجوب يتعلق بآخر الوقت; لأنه مخير في أول الوقت بين الأداء والتأخير والوجوب ينفي التخيير فإذا كان مسافرا في آخره كان عليه صلاة السفر.
قوله: "ولما كان السفر من الأمور المختارة" أي الأمور التي يتعلق وجودها باختيار العبد وكسبه ولم يكن موجبا ضرورة لازمه يعني بعدما تحقق لا يوجب ضرورة تدعو إلى الإفطار بحيث لا يمكن دفعها; لأن المسافر قادر على الصوم من غير تكلف ومن غير أن تلحقه آفة في بدنه أو معناه أن الضرورة الداعية إلى الفطر غير لازمة لإمكان دفعها بالامتناع عن السفر; لأنه من الأمور المختارة بخلاف المرض قيل له أي للمسافر إن المسافر هو من قبيل إقامة المظهر مقام المضمر ولو لم تذكر كلمة له لكان أوضح أي أجيب وأفتي في حق المسافر إذا نوى الصيام في رمضان وشرع فيه بأنه لم يحل له الفطر لعدم الضرورة الداعية إليه وتقرر الوجوب بالشروع وإنما قيد بقوله وشرع فيه; لأنه إذا عزم على الصوم ثم فسخه قبل انفجار الصبح يباح له الإفطار كمن عزم على صوم النفل ثم رجع عنه قبل الصبح يباح له الأكل ولا يلزمه القضاء; لأنه لم يوجد منه الشروع في الصوم فكذلك هاهنا بخلاف المريض إذا تكلف للصوم بتحمل زيادة المرض ثم بدا له أن يفطر حل له ذلك لأن الضمير راجع إلى المفهوم أي المرض سبب ضروري للمشقة أي هو(4/528)
بخلاف المريض إذا تكلف ثم بدا له أن يفطر حل له; لأنه سبب ضروري للمشقة وهذا موضوع لها ولكنه إذا أفطر كان قيام السفر المبيح عذرا وشبهة في الكفارة وإذا أصبح مقيما وعزم على الصوم ثم سافر لم يحل له الفطر بخلاف ما إذا مرض وإذا أفطر لم يلزمه الكفارة عندنا وإذا أفطر ثم سافر لم يسقط عنه الكفارة
ـــــــ
يوجب مشقة لازمة على تقدير الصوم إذ لو لم يوجب مشقة لما صلح سببا للترخص بالإفطار وكذا لا يمكن دفعه; لأنه أمر سماوي.
وهذا أي السفر موضوع للمشقة أي أقيم مقام المشقة في إباحة الإفطار لا أن يكون موجبا للمشقة حقيقة لا محالة فكانت المشقة فيه موجودة تقديرا لا تحقيقا فلا تؤثر في إباحة نقض الصوم الذي شرع فيه مع أن السفر لا ينافي استحقاق الصوم. ولكنه أي المسافر استدراك من قوله لم يحل له الفطر وإذا أصبح رجل مقيما وعزم على الصوم ثم سافر لم يحل له الفطر; لأن أداء الصوم وجب عليه في هذا اليوم حقا لله تعالى وإنما إنشاء السفر باختياره فلا يسقط به ما تقرر وجوبه عليه بخلاف ما إذا مرض المقيم حيث حل له الفطر; لأنه أمر سماوي موجب للمشقة حقيقة فيؤثر في إباحة الإفطار وإذا أفطر أي في حال السفر مع أنه يحل له الفطر لم تلزمه الكفارة عندنا لتمكن الشبهة في وجوب الكفارة باقتران السبب المبيح بالفطر فإن السفر مبيح للفطر في الجملة فصورته تمكن شبهة وإن لم توجب إباحة وذكر عن الشافعي رحمه الله في مختصر البويطي أنه تلزمه الكفارة اعتبارا لآخر النهار بأوله وهذا بعيد فإن في أوله يعري فطره عن شبهة وبعد السفر يقترن السبب المبيح بالفطر ولو وجد هذا السبب في أول النهار يباح له الفطر فإذا وجد في آخره يصير شبهة كذا في المبسوط. وإذا نظر أي المقيم العازم على الصوم ثم سافر لم تسقط عنه الكفارة بخلاف ما إذا مرض بعد الفطر مرضا يبيح الإفطار حيث تسقط به الكفارة عنه لما قلنا إن السفر مكتسب ولا يزيل استحقاق الصوم عليه حق لا يباح له الفطر ولا يصير شبهة في سقوط حكم تقرر عليه شرعا حقا لله تعالى; لأنه يصير كأنه أسقطه باختياره هذا أي المرض سماوي وإذا وجد في آخر النهار يزيل استحقاق الصوم; لأنه يبيح له الفطر لو كان صائما وزوال الاستحقاق لا يتجزأ فيصير زائلا من أوله كالحيض يعدم الصوم من أوله فيصير شبهة في سقوط الكفارة حتى لو صار السفر خارجا عن اختياره أيضا بأن أكرهه السلطان على السفر في اليوم الذي أفطر فيه متعمدا سقط عنه الكفارة أيضا في رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله كذا في فتاوى قاضي خان رحمه الله.
فإن قيل السبب المبيح إنما يعمل في القائم ولم يبق الصوم فكيف يعمل في(4/529)
بخلاف المرض لما قلنا إن السفر مكتسب وهذا سماوي وأحكام السفر تثبت بنفس الخروج بالسنة المشهورة عن رسول الله عليه السلام وإن لم يتم السفر علة بعد تحقيقا للرخصة. ألا ترى أنه إذا نوى رفضه صار مقيما وإن كان في غير موضع الإقامة; لأن السفر لما لم يتم علة كانت نية الإقامة نقضا للعارض لإقامة ابتداء علة وإذا سار ثلثا ثم نوى المقام في غير موضع إقامة لم يصح; لأن هذا ابتداء إيجاب فلا يصح في غير محله وإذا اتصل بهذا السفر عصيان مثل سفر الآبق وقاطع الطريق كان من أسباب الترخص عندنا وقال الشافعي رحمه الله ليس ذلك من أسباب الترخص لقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ}
ـــــــ
المعدوم قلنا ولو كان الصوم قائما لما أوجب الإباحة حقيقة من أول النهار لكنه لما كان معدوما صار شبهة; لأن الفطر إنما يكون علة لوجوب الكفارة باعتبار أن الصوم مستحق وإنما يكون ذلك الجزء مستحقا على تقدير عدم تحقق المبيح إلى آخر النهار; لأنه مما لا يتجزأ ثبوته فإذا زال في البعض زال في الكل.
قوله: "وأحكام السفر" أي الرخص التي تعلقت به ثبت بنفس الخروج من عمر أن المصرح بالسنة المشهورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه عليه السلام كان يترخص ترخص المسافرين حين يخرج إلى السفر وعلي رضي الله عنه حين خرج من البصرة يريد الكوفة صلى الظهر أربعا ثم نظر إلى خص أمامه وقال لو جاوزنا ذلك الخص صلينا ركعتين. وكان القياس أن لا يثبت الأحكام إلا بعد تمام السفر بالمسير ثلاثة أيام; لأن العلة تتم به والحكم لا يثبت قبل تمام العلة لكن ترك القياس بالسنة تحقيقا للرخصة في حق الجميع فإن شرعية رخص السفر للترفيه فلو توقف الترخص بها على تمام العلة بتمام ثلاثة أيام لتعطلت الرخص في حق من لم يكن مقصده سوى مسيرة ثلاثة أيام ولم تفد فائدتها في حقه فتعلقت بنفس الخروج تعميما للحكم في حق الجميع وإثباتا للترفيه في جميع مدة السفر ثم استوضح عدم تمام السفر علة بقوله. ألا ترى أن المسافر إذا نوى رفض السفر بأن بدا له أن يرجع إلى مصره قبل أن يسير ثلاثة أيام صار مقيما حتى صلى صلاة المقيم في انصرافه ولم يشترط لصيرورته مقيما محل الإقامة; لأن السفر لما لم يتم علة بالمسير ثلاثة أيام كانت نية الإقامة منه نقضا للعارض وهو السفر لا ابتداء علة وصار كأن السفر لم يكن وكأنه لم يزل مقيما كما كان فلم يشترط محل الإقامة. وإذا سار ثلاثا ثم نوى الإقامة في غير موضع إقامة لا تصح لأن هذا أي نية الإقامة على تأويل القصد إيجاب أي إثبات إقامة ابتداء لا نقض السفر; لأنه قد تم فلم يصح في غير محله أي لم يصح الإيجاب وهو الإقامة في غير محله وهو المفازة.
قوله لقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} وجه تمسكه به أنه تعالى(4/530)
[البقرة: 173] ولأنه عاص في هذا السبب فلم يصلح سبب رخصة وجعل معدوما زجرا وتنكيلا كما سبق في السكر وقلنا نحن إن سبب وجوب الترخص موجود وهو السفر. وأما العصيان فليس فيه بل في أمر ينفصل عنه وهو التمرد على من يلزمه طاعته والبغي على المسلمين والتعدي عليهم بقطع الطريق, ألا ترى أن ذلك ينفصل عنه فإن التمرد على المولى في المصر بغير سفر معصية, وكذلك البغي وقطع الطريق صار جناية لوقوعه على محل العصمة من النفس والمال والسفر فعل يقع على محل آخر. ألا ترى أن الرجل قد يخرج غازيا ثم قد يستقبله عير فيبدو له فيقطع عليهم فصار النهي عن هذه الجملة نهيا لمعنى في غير المنهي عنه من كل وجه وبذلك لا يمتنع تحقق الفعل مشروعا فلا
ـــــــ
أثبت الترخص بأكل الميتة للمضطر الموصوف بكونه غير باغ أي خارج على الإمام: {وَلا عَادٍ} أي على المسلمين بقطع الطريق فبقيت الحرمة في حق الباغي والعادي بأول الآية كما بقيت في حق غير المضطر وإذا ثبت هذا الشرط في الترخص بقصر الصلاة والإخطار وسائر رخص السفر بطريق الدلالة أو بالقياس أو بعدم القائل بالفصل. ولأنه أي الباغي ومن في معناه عاص في مباشرة هذا السبب; لأن عينه معصية فلم يصلح سبب رخصة; لأنها نعمة وهي لا تستحق بالمعصية وجعل معدوما زجرا وعقوبة كما جعل السكر المحظور معدوما في حق الأحكام بهذا الطريق ولنا أن سبب الترخص وهو السفر موجود; لأنه إنما يتحقق بالخروج والقصد إلى مكان بعيد وقد تحقق ذلك منه مع قصد الإغارة والتمرد فينظر أنه كان مسافرا بقصد الإغارة والتمرد أو بقصده مكانا بعيدا عينه للإغارة فيه فوجدناه مسافرا بقصده المكان البعيد; لأنه لو قصد ذلك الموضع بدون قصد الإغارة يصير مسافرا ولو قصد الإغارة بدون القصد إلى المكان البعيد لم يصر مسافرا وإن طاف الدنيا بهذا القصد فإذا وجد الأمران هاهنا جعلناه مسافرا بقصده ذلك المكان وألغينا قصد الإغارة; لأنه منفصل عنه على ما قرر في الكتاب بخلاف السكر; لأنه حدث من شربه وشرب ما يسكره حرام فصار النهي عن هذه الجملة أي عن سفر البغي وسفر الإباق وسفر قطع الطريق ونحوها من كل وجه احتراز عن النهي لمعنى في غير المنهي عنه متصل به وصفا كصوم يوم العيد. وبذلك أي بالنهي لمعنى في غير المنهي عنه من كل وجه لا يمتنع تحقق الفعل مشروعا بالاتفاق كالصلاة في أرض مغصوبة فلا يمتنع تحقق الفعل سببا للرخصة بهذا النهي بطريق الأولى لأن صفة الحل في السبب دون صفة القربة في المشروع مقصودة; لأنه مشروع للتقرب, وصفة الحل في السبب غير مقصودة; لأن السبب(4/531)
يمتنع تحقق الفعل سببا للرخصة; لأن صفة الحل في السفر دون صفة القربة في المشروع بخلاف السكر; لأنه عصيان بعينه فلم يصلح أن يتعلق الرخصة بأثره وتبين أن قوله عز وجل: {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة: 173] في نفس الفعل أن يتعدى المضطر عن الذي به يمسك مهجته, وصيغة الكلام أدل على هذا مما قال وأحكام السفر أكثر من أن تحصى.
ـــــــ
غير مقصود بنفسه بل هو وسيلة إلى المقصود وإنما يحتاج فيه إلى صفة الحل ليصلح سببا للمشروع, ومنافاة النهي القربة أقوى من منافاته الحل; لأن القربة لا تثبت بدون الطلب والندب والحل يثبت بنفس الإباحة فكان النهي الذي هو للمنع أقوى منافاة للطلب من منافاته للحل ثم النهي الذي ورد لمعنى في غير المنهي عنه من كل وجه لا يوجب زوال صفة القربة عن المشروع ولا يمنع تحققه كالنهي عن الصلاة في الأرض المغصوبة فلأن لا يوجب زوال صفة الحل عن السبب ولا يمنع تحققه كان أولى أو يقال زوال صفة القربة عن المشروع بمثل هذا النهي لا يمنع تحقق المشروع كالطلاق في حالة الحيض فلأن لا يمنع زوال صفة الحل عن السبب بهذا النهي عن تحقق السبب كان أولى كذا في بعض الشروح. والأول أوجه وتبين أن قوله تعالى: {غَيْرَ بَاغٍ} في نفس الفعل يعني تبين بما ذكرنا أن المراد من قوله تعالى: {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} البغي والعداء في نفس الفعل وكذلك أي البغي والعداء في نفس الفعل أن يتعدى المضطر إلى الميتة في الأكل عما يمسك به مهجته فعلى هذا كان البغي والعداء بمعنى واحد قال الإمام نجم الدين رحمه الله في التيسير قيل هما واحد ومعناهما مجاوزة قدر الحاجة والتكرار للتأكيد كقوله تعالى: {رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117] وقيل: {غَيْرَ بَاغٍ} أي طالب للمحرم وهو يجد غيره ولا عاد أي مجاوز قدر ما يقع به دفع الهلاك عن نفسه. وقيل هما تفسير قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ} [البقرة: 173] أي المضطر هو الذي يكون غير باغ ولا عاد في الأكل وهو كقوله تعالى: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء: 25] فإنه تفسير للمحصنات وقيل: {غَيْرَ بَاغٍ} أي متلذذ ولا عاد أي متزود وفي الكشاف غير باغ على مضطر آخر بالاستيثار عليه ولا عاد سدا لجوعة.
فتبين بهذه التأويلات أن المراد نفي البغي والعدو عن نفس الفعل وهو الأكل وأن التقدير فمن اضطر إلى المحرم فأكله غير باغ ولا عاد في أكله وصيغة الكلام أدل على هذا أي على رجوع البغي والعدو إلى الأكل مما قاله الشافعي من رجوعهما إلى الاضطرار; لأن الآية سيقت لبيان حرمة الأكل وحله فكان صرف البغي والعدو إلى الفعل الذي هو(4/532)
................................................................................................
مقصود الكلام أولى من صرفه إلى ما ليس بمقصود فيه وذكر في شرح التأويلات أنه لا فتوى أضيع من فتواه هذه; لأن أحدا من البغاة وقطاع الطريق لا يأخذ بفتياه; لأنه لما لم يمتنع عن البغي أو قطع الطريق مع أنه لا يلحقه كثير ضرر في الامتناع عنه فكيف يمتنع عن أكل الميتة وفي ذلك هلاكه ثم هذا مناقضة منه فإنه قال في الباغي المقيم يمسح يوما وليلة وإذا سافر هذا الباغي لم يرخص له المسح والمسح كما هو رخصة في السفر رخصة في الحضر فما باله حرم إحدى الرخصتين وأباح الأخرى مع وجود الظلم والبغي ولم يعتبر ما ذكر من المعنى؟.(4/533)
"الفصل السادس وهو الخطأ"
هذا النوع نوع جعل عذرا صالحا لسقوط حق الله تعالى إذا حصل عن اجتهاد وشبهة في العقوبة حتى قيل إن الخاطئ لا يأثم ولا يؤاخذ بحد ولا قصاص; لأنه جزاء كامل من أجزئة الأفعال فلا يجب على المعذور ولم يجعل عذرا في حقوق العباد حتى وجب ضمان العدوان على الخاطئ; لأنه ضمان مال
ـــــــ
"الفصل السادس وهو الخطأ"
قال الإمام اللامشي الصواب ما أصيب به المقصود بحكم الشرع والخطأ ضد الصواب والعدول عنه وقيل الخطأ فعل أو قول يصدر عن الإنسان بغير قصده بسبب ترك التثبت عند مباشرة أمر مقصود سواه قال السيد الإمام أبو القاسم رحمه الله الخطأ يذكر ويراد به ضد الصواب ومنه يسمى الذنب خطيئة ومنه قوله تعالى: {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً} [الاسراء: 31] هو ضد الصواب لا ضد العمد ويذكر ويراد به ضد العمد كما في قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً} [النساء: 92]. وقوله: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" ثم قال والخطأ أن يكون عامدا إلى الفعل لا إلى المفعول كمن رمى إلى إنسان على ظن أنه صيد فهو قاصد إلى الرمي لا إلى المرمي إليه وهو الإنسان هذا النوع جعل عذرا.
اختلف في جواز المؤاخذة على الخطأ فعند المعتزلة لا يجوز المؤاخذة عليه في الحكمة; لأن الخاطئ غير قاصد الخطأ, والجناية لا تتحقق بدون القصد وعند أهل السنة تجوز المؤاخذة عقلا; لأن الله تعالى أمرنا بأن نسأله عدم المؤاخذة بالخطأ في قوله عز ذكره إخبارا عن قول الرسول أو تعليما للعباد: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] ولو كان الخطأ غير جائز المؤاخذة به في الحكمة لكانت المؤاخذة جورا وصار الدعاء في التقدير ربنا لا تجر علينا بالمؤاخذة لكن المؤاخذة مع جوازها في الحكمة سقطت بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لما قال {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} استجيب له في دعائه فالشيخ رحمه الله بقوله جعل عذرا أشار(4/534)
لا جزاء فعل ووجبت به الدية لكن الخطأ لما كان عذرا صلح سببا للتخفيف بالفعل فيما هو صلة لا يقابل مالا ووجبت عليه الكفارة; لأن الخاطئ لا ينفك عن ضرب تقصير يصلح سببا لما يشبه العبادة والعقوبة; لأنه جزاء قاصر. وصح طلاقه عندنا وقال الشافعي لا يصح لعدم الاختيار منه وصار كالنائم ولو قام البلوغ
ـــــــ
إلى ما ذكرنا يعني أنه وإن كان جائز المؤاخذة باعتبار أنه لا يخلو عن تقصير جعل عذرا صالحا لسقوط حق الله تعالى إذا حصل عن اجتهاد حتى لو أخطأ في القبلة بعدما اجتهد جازت صلاته ولا إثم ولو أخطأ في الفتوى بعدما اجتهد لا يأثم ويستحق أجرا واحدا وكذا لو رمى إلى إنسان على اجتهاد أنه صيد فقتله لا يأثم القتل العمد وإن كان يأثم إثم ترك التثبت ولا يؤاخذ حتى لو زفت إليه غير امرأته فوطئها على ظن أنها امرأته لا يجب الحد. ولم يجعل الخطأ عذرا في سقوط حقوق العباد حتى لو أتلف مال إنسان خطأ بأن رمى إلى شاة أو بقرة على ظن أنها صيد وأكل مال إنسان على ظن أنه ملكه يجب الضمان; لأنه ضمان مال جزاء فعل فيعتمد عصمة المحل, وكونه خاطئا معذور لا ينافي عصمة المحل كما مر بيانه والدليل على أنه بدل المحل لا جزاء الفعل أن جماعة لو أتلفوا مال إنسان يجب على الكل ضمان واحد كما لو كان المتلف واحدا ولو كان جزاء الفعل لوجب على كل واحد ضمان كامل كما في القصاص وجزاء الصيد ووجبت به أي بسبب الخطأ الدية; لأنها من حقوق العباد وجبت ضمان للمحل فلا يمتنع وجوبها بعذر الخطإ وكان ينبغي أن يجب في الحال في مال القاتل كضمان الأموال لكنها وجبت بطريق الصلة على ما مر بيانه والخطأ في نفسه عذر صالح في سقوط بعض الحقوق فيصلح سببا للتخفيف أي في الفعل وهو الأداء فيما هو صلة; لأن مبنى الصلات على التوسع والتخفيف وإن لم يصلح سببا للتخفيف في أصل البدل فلذلك وجبت على العاقلة في ثلاث سنين ووجبت على الخاطئ الكفارة ولم يجعل الخطأ عذرا في وجوبها; لأن الخاطئ لا ينفك عن ضرب تقصير وهو ترك التثبت والاحتياط فصلح الخطأ سببا بالوجوب ما يشبه العبادة والعقوبة وهو الكفارة; لأنه جزاء قاصر فيستدعي سببا مترددا بين الحظر والإباحة والخطأ كذلك; لأن أصل الفعل وهو الرمي إلى الصيد مباح وترك التثبت فيه محظور فكان قاصرا في معنى الجناية فصلح سببا للجزاء القاصر.
قوله: "وصح طلاق الخاطئ" بأن أراد أن يقول مثلا اسقني فجرى على لسانه أنت طالق وقال الشافعي رحمه الله لا يصح; لأن الطلاق يقع بالكلام, والكلام إنما يصح إذا صدر عن قصد صحيح. ألا ترى أن الببغاء إذا لقن فهو والآدمي سواء في صورة الكلام وكذا المجنون والعاقل سواء في أصل الكلام إلا أنه فسد لعدم قصد الصحيح والمخطئ غير(4/535)
مقام اعتدال العقل لصح طلاق النائم ولقام البلوغ مقام الرضا أيضا فيما يعتمد الرضا. والجواب عنه أن الشيء إنما يقوم مقام غيره إذا صلح دليلا وكان في الوقوف على الأصل حرج فيقل تيسيرا وليس في أصل العمل بالعقل حرج في دركه ولنوم ينافي أصل العمل به ولا حرج في معرفته فلم يقم البلوغ مقامه والرضا عبارة عن امتلاء الاختيار حتى يفضي إلى الظاهر ولهذا كان الرضاء
ـــــــ
قاصد فلا يصح طلاقه كطلاق النائم والمغمى عليه وأصحابنا قالوا القصد أمر باطن لا يوقف عليه فلا يتعلق الحكم بوجوده حقيقة بل يتعلق بالسبب الظاهر الدال عليه وهو أهلية القصد بالعقل والبلوغ نفيا للحرج كما في السفر مع المشقة فأجاب الشافعي عن ذلك بقوله ولو قام البلوغ أي البلوغ عن عقل مقام اعتدال العقل أي مقام العمل باعتدال العقل وهو أن يكون كلامه عن قصد يعني لو كان البلوغ عن عقل مقام القصد في حق طلاق الخاطئ يصح طلاق النائم بهذا الطريق ولقام البلوغ يعني عن عقل مقام الرضا فيما يعتمد الرضا من البيع والإجارة ونحوهما كما قام مقام القصد; لأن الرضا أمر باطن كالقصد; لأنه من أعمال القلب وحيث لم يقم مقامه دل على أن المعتبر حقيقة القصد كحقيقة الرضا ولم يوجد في حقه والجواب عنه أي عن جواب الشافعي لكلامنا أن الشيء إنما يقوم مقام غيره بشرطين أحدهما أنه يصلح دليلا عليه. والثاني أن يكون في الوقوف على الأصل حرج لخفائه فينقل الحكم عند وجود الشرطين إلى دليل ويقام مقام المدلول تيسيرا ودفعا للحرج وأحد الشرطين في حق النائم مفقود; لأنه لا حرج في الوقوف على العمل بأصل العقل فإنه يعرف بالنظر فيما يأتيه ويذره ونحن نعلم يقينا أن النوم ينافي أصل العمل بالعقل; لأن النوم مانع عن استعمال نور العقل فكانت أهلية القصد معدومة بيقين من غير حرج في دركه فلا يصح في حقه إقامة البلوغ عن عقل مقام القصد لانتفاء الشرط. والرضا عبارة عن امتلاء الاختياري أي بلوغه نهايته بحيث يفضي أثره إلى الظاهر من ظهور البشاشة في الوجه ونحوها كما يفضي أثر الغضب إلى الظاهر من حماليق العين والوجه بسبب غليان دم القلب.
ولهذا أي ولأن معنى الرضا ما ذكرنا كان الرضا والغضب الذي هو ضده من المتشابه في صفات الله عز وجل; لأنه لا يمكن القول بثبوتهما في حقه جل جلاله بالمعنى المذكور; لأنه تعالى منزه عن امتلاء الاختيار وعن غليان دم القلب كما لا يمكن القول بثبوت اليد والوجه في حقه تعالى بمعنى الجارحة والعضو الذي هو موضوعهما فلم يجز إقامة غير الرضا وهو البلوغ عن عقل مقامه; لأنه ليس بأمر باطن بل يتعلق الحكم بذلك السبب الظاهر وهو ظهور أثره لا بأهلية الرضا. ولهذا أي ولأن الخطأ لم يصلح سببا(4/536)
والغضب من المتشابه في صفات الله عز وجل فلم يجز إقامة غيره مقامه فأما دوام العمل بالعقل بلا سهو ولا غفلة فأمر لا يوقف عليه إلا بحرج فأقيم البلوغ مقامه عند قيام كمال العقل ولما كان الخطأ لا يخلو عن ضرب تقصير لم يصلح سببا للكرامة, ألا تراه صالحا للجزاء ولهذا قلنا إن الناسي استوجب بقاء الصوم من غير أداء وجعل المناقض عدما في حقه فلم يلحق به الخاطئ. وإذا جرى البيع على لسان المرء خطأ بلا قصد وصدقه عليه خصمه يجب أن ينعقد ويكون كبيع المكره لوجود الاختيار وضعا ولعدم الرضا والله أعلم.
ـــــــ
للكرامة قلنا إن من أكل ناسيا للصوم استوجب بقاء الصوم من غير أداء وهذا كرامة ثبتت له شرعا فلم يلحق به الخاطئ وهو الذي أراد أن يمضمض فسبق الماء حلقه في استحقاق هذه الكرامة; لأنه ليس في معنى الناسي لتمكن التقصير في حقه بخلاف الناسي. وإذا جرى البيع على لسان المرء خطأ بأن أراد أن يقول سبحان الله فجرى على لسانه بعت هذا العين بكذا وقال الآخر قبلت وصدقه عليه أي على الخطإ خصمه ولا يمكن إثباته إلا بهذا الطريق يجب أن ينعقد يعني لا رواية فيه عن أصحابنا ولكنه يجب أن ينعقد انعقاد بيع المكره فاسدا لوجود الاختيار وضعا يعني جريان هذا الكلام على لسانه في أصل وضعه اختياري وليس بطبعي كجريان الماء وطول القامة فينعقد البيع لوجود أصل الاختيار ويفسد لفوات الرضا أو معناه أن الاختيار موجود تقديرا بإقامة البلوغ عن عقل مقام القصد ولكن الرضا فاتت لعدم القصد حقيقة فينعقد ولا ينفذ.(4/537)
وأما الفصل الآخر فهو:
فصل الإكراه
وهو ثلاثة أنواع نوع بعدم الرضا ويفسد الاختيار وهو الملجئ ونوع بعدم
ـــــــ
"الإكراه"
قوله: "وأما الفصل الآخر" من أقسام العوارض المكتسبة فهو فصل الإكراه قيل الإكراه حمل الغير على أمر يكرهه ولا يريد مباشرته لولا المحل عليه ويدخل في هذا التعريف الأقسام الثلاثة المذكورة في الكتاب وقال شمس الأئمة هو اسم لفعل يفعله الإنسان بغيره فينتفي به رضاؤه أو يفسد به اختياره ولم يدخل فيه القسم الثالث الذي ذكر في الكتاب وكأنه لم يجعله من أقسام الإكراه لعدم ترتب أحكامه عليه ثم قال في الإكراه يعتبر معنى في المكره ومعنى في المكره ومعنى فيما أكره عليه ومعنى فيما أكره به. فالمعتبر في المكره تمكنه من إيقاع ما هدده به فإنه إذا لم يكن متمكنا من ذلك فإكراهه هذيان والمعتبر في المكره أن يصير خائفا على نفسه من جهة المكره في إيقاع ما هدده به عاجلا; لأنه لا يصير ملجأ محمولا عليه طبعا إلا بذلك وفيما أكره به أن يكون متلفا أو مزمنا أو متلفا عضوا أو موجبا عما ينعدم الرضا باعتباره وفيما أكره عليه أن يكون المكره ممتنعا منه قبل الإكراه إما لحقه أو لحق إنسان آخر أو لحق الشرع وبحسب اختلاف هذه الأحوال يختلف الحكم فعلى هذه ينبغي أن يقال الإكراه حمل الغير على أمر يمتنع عنه بتخويف بقدر الحامل على إيقاعه ويصير الغير خائفا به فأتت الرضاء بالمباشرة فيتم التعريف بهذه القيود ويمكن أن يجعل فوات الرضا داخلا في الامتناع; لأنه إذا كان ممتنعا عنه قبل الإكراه لم يكن راضيا به فيكفي بذكر أحد القيدين نوع بعدم الرضا ويفسد الاختيار, نحو التهديد بما يخاف به على نفسه أو عضو من أعضائه; لأن حرمة الأعضاء كحرمة النفس تبعا لها والاختيار هو القصد إلى أمر متردد بين الوجود والعدم داخل في قدرة الفاعل بترجيح أحد الجانبين على الآخر كذا قيل. والصحيح منه أن يكون الفاعل في قصده مستبدا والفاسد منه أن يكون اختياره مبنيا على اختيار الآخر فإذا(4/538)
الرضا ولا يفسد الاختيار وهو الذي لا يلجئ ونوع آخر لا يعدم الرضا وهو أن يهتم بحبس أبيه أو ولده وما يجري مجراه. والإكراه بجملته لا ينافي أهلية ولا يوجب وضع الخطاب بحال; لأن المكره مبتلى والابتلاء يحقق الخطاب, ألا يرى
ـــــــ
اضطر إلى مباشرة أمر الإكراه كان قصده في المباشرة دفع الإكراه حقيقة فيصير الاختيار فاسدا لابتنائه على اختيار المكره وإن لم ينعدم أصلا ونوع بعدم الرضاء ولا يفسد الاختيار, نحو الإكراه بالقيد أو الحبس مدة مديدة أو بالضرب الذي لا يخاف به التلف على نفسه وإنما لم يفسد به الاختيار لعدم الاضطرار إلى مباشرة ما أكره عليه لتمكنه من الصبر على ما هدد به. ونوع آخر لا يعدم الرضا فلا يفسد به الاختيار ضرورة; لأن الرضا مستلزم لصحة الاختيار وهو أن يهتم أي يقصد المكره بحبس أبي المكره أو ولده أو يغتم المكره بسبب حبس أبيه وما يجري مجراه من حبس زوجته وأخته وأمه وأخيه وكل ذي رحم محرم منه; لأن القرابة المتأبدة بالمحرمية بمنزلة الولاد. وكان ما ذكر جواب القياس فإنه ذكر في المبسوط ولو قيل له لنحبس أباك وابنك في السجن أو لتبيعن عبدك هذا بألف درهم ففعل ففي القياس البيع جائز; لأن هذا ليس بإكراه فإنه لم يهدده بشيء في نفسه وحبس أبيه في السجن لا يلحق ضررا به فالتهديد به لا يمنع صحة بيعه وإقراره وهبته وكذلك في حق كل ذي رحم محرم. وفي الاستحسان ذلك إكراه ولا ينفذ شيء من هذه التصرفات; لأن حبس أبيه يلحق به من الحزن والهم ما يلحق به حبس نفسه أو أكثر فإن الولد إذا كان بارا يسعى في تخليص أبيه من السجن وإن كان يعلم أنه حبس وربما يدخل السجن مختارا ويجلس مكان أبيه ليخرج أبوه فكما أن التهديد بالحبس في حقه بعدم تمام الرضا فكذلك التهديد بحبس أبيه.
قوله: "والإكراه بجملته" أي بجميع أقسامه لا ينافي أهلية أي لا ينافي أهلية الوجوب ولا أهلية الإكراه; لأنها ثابتة بالذمة, والعقل والبلوغ والإكراه لا يحل بشيء منها ولا يوجب سقوط الخطاب عن المكره بحال سواء كان ملجأ أو لم يكن. ألا ترى أنه أي المكره في الإتيان بما أكره عليه متردد بين فرض أي بين كونه مباشر فرض كما لو أكره على أكل الميتة أو شرب الخمر بما يوجب الإلجاء فإنه يفترض عليه الإقدام على ما أكره عليه حتى لو صبر ولم يأكل ولم يشرب حتى قتل يعاقب عليه لثبوت الإباحة في حقه في هذه الحالة بالاستثناء المذكور في قوله تعالى: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] ومن أكره على مباح يفرض عليه فعله فكذا هاهنا وحظر أي محظور كما في الإكراه على الزنا وقتل النفس المعصومة وإباحة كما في إكراه الصائم على إفساد الصوم فإنه يبيح له الفطر ورخصت كما في الإكراه على الكفر فإنه ترخص له إجراء كلمة الكفر(4/539)
أنه متردد بين فرض وحظر وإباحة ورخصة وذلك آية الخطاب فيأثم مرة ويؤجر أخرى ولا ينافي الاختيار أيضا; لأنه لو سقط لبطل الإكراه. ألا يرى أنه حمل على الاختيار وقد وافق الحامل فكيف لا يكون مختارا ولذلك كان مخاطبا في عين ما أكره عليه فثبت بهذه الجملة أن الإكراه لا يصلح لإبطال حكم شيء من
ـــــــ
على اللسان ولا حاجة إلى ذكر الإباحة في التحقيق; لأنها داخلة في الفرض أو في الرخصة; لأنه إن أراد بها أن الإقدام على الفعل يباح له بالإكراه ولو صبر حتى قتل لا يأثم فهو معنى الرخصة. وإن أراد بها أنه يباح ولو تركه يأثم فهو معنى الفرض فإكراه الصائم على الفطر إن كان مسافرا من قبيل الإكراه على أكل الميتة وشرب الخمر حتى لو لم يفطر حتى قتل كان آثما وإن كان مقيما فهو من قبيل الإكراه الكفر حتى لو صبر عليه وقتل كان مأجورا ولا يؤجل هنا ما لا يتعلق بفعله ثواب ولا بتركه عقاب فيثبت أنه لا حاجة إلى ذكر لفظ الإباحة والدليل عليه ما ذكر الإمام البرغري مستدلا على أنه مخاطب أن أفعال المكره منقسمة منها ما هو حرام عليه كالقتل والزنا ومنها فرض عليه كشرب الخمر وأكل الميتة منها ما هو مرخص له فيه كإجراء كلمة الكفر والإفطار وإتلاف مال الغير وهذا علامة كون الشخص مخاطبا فذكر الفرض والحظر والرخصة ولم يذكر الإباحة فعرفنا أنها ليست بقسم آخر إلا أن في نفس الأمر بين الإفطار وبين إجراء كلمة الكفر فرقا في غير حال الإكراه فإن حرمة الإفطار قد تسقط بعذر السفر والمرض وحرمة الكفر لا يسقط بحال فلعل الشيخ فرق بينهما بهذا الاعتبار وذلك أي تردد المكره بين هذه الأمور علامة لثبوت الخطاب في حقه; لأن هذه الأشياء لا تثبت بدون الخطاب ويأثم المكره مرة بالإقدام كما في الإكراه على الزنا وقتل النفس ويؤجر أخرى كما في الإكراه على أكل الميتة فإن الإقدام لما صار فرضا يستحق به الإجراء كما في سائر الفروض أو يأثم بالامتناع مرة كما في الإكراه على الفطر للمسافر والإكراه على أكل الميتة وشرب الخمر فإن الصبر عنهما إلى أن قتل حرام ويؤجر أخرى كما في الإكراه على الكفر فإن الصبر عنه عزيمة والإثم والأجر متعلقان بالخطاب. ولا ينافي أي الإكراه الاختيار أيضا; لأن الاختيار لو سقط لتعطل الإكراه; لأن الإكراه فيما لا اختيار فيه لا يتصور فإن الطويل لا يكره على أن يكون قصيرا ولا لقصير على أن يكون طويلا وهذا; لأن المكره حمله على اختيار الفعل وقد وافق المكره الحامل فيكون مختارا في الفعل ضرورة إذ لو لم يكن مختارا لم يكن موافقا باله فلا يكون مكرها. ولذلك أي ولكونه مختارا كان مخاطبا في عين ما أكره عليه كما بينا; لأن الخطاب كما يعتمد الأهلية يعتمد الاختيار; لأنه يعتمد القدرة وهي بدون الاختيار لا يتحقق فيثبت بهذه الجملة وهي أن الإكراه لا ينافي أهليته ولا يوجب سقوط الخطاب ولا(4/540)
الأقوال والأفعال جملة إلا بدليل غيره على مثال فعل الطائع وإنما أثر الإكراه إذا تكامل في تبديل النسبة وأثره إذا قصر في تفويت الرضا وأما في الإهدار فلا فهذا أصل هذه الجملة خلافا للشافعي ثم الحاجة إلى التفصيل وترتيب هذه الجملة. والجملة عند الشافعي أن الإكراه الباطل متى جعل عذرا في الشريعة كان مبطلا للحكم عن المكره أصلا فعلا كان أو قولا لما قلنا إن الإكراه يبطل
ـــــــ
ينافي الاختيار أن الإكراه بنفسه لا يصلح لإبطال حكم شيء من الأقوال مثل الطلاق والعتاق والبيع ونحوها والأفعال مثل القتل وإتلاف المال وإفساد الصوم والصلاة ونحوها فيثبت موجب هذه الجملة لكونها صادرة عن أهلية واختيار إلا بدليل غيره على مثال فعل الطابع الضمير للحكم أي لكن يتغير الحكم بدليل غيره بعدما صح الفعل في نفسه كما يتغير فعل الطابع بدليل يلحق به يوجب تغيير موجبه فإن موجب قوله أنت طالق أو أنت حر وهو وقوع الطلاق أو العتاق يثبت عقيب التكلم به إلا إذا لحق به مغير من تعليق أو استثناء وكذا موجب فعله كشرب الخمر والزنا والسرقة ثابت في الحال إلا إذا تحقق مانع بأن تحققت هذه الأفعال في دار الحرب أو تحققت فيها شبهة فكذا يثبت موجب أقوال المكره وأفعاله إلا عند وجود المغير لما قلنا إنها صادرة عن عقل, والأهلية خطاب واختيار كأفعال الطابع وأقواله.
قوله: "وإنما أثر الإكراه" أي الإكراه جواب عما يقال لما لم يؤثر الإكراه في إبطال الأقوال والأفعال فأين يظهر أثره فقال لا أثر له إلا في أمرين فأثره إذا تكامل بأن كان ملجئا في تبديل النسبة إذا احتمل ما أكره عليه ذلك ولم يمنع عنه مانع حتى يصير الفعل منسوبا إلى المكره وأثره إذا قصر بأن لم يكن ملجئا كالإكراه بالحبس أو القيد في تفويت الرضا لا في تبديل النسبة فإما أن يكون الإكراه مؤثرا في إهدار قول أو فعل فلا. ألا ترى أن المكره على إتلاف المال لا يجعل فعله لغوا بمنزلة فعل البهيمة ولكن يجعل موجبا للضمان على المكره فلو اعتبر الإكراه لإعدام الفعل في جانب المكره من غير أن يصير منسوبا إلى المكره لكان تأثيره في الإلغاء وذلك لا يجوز كذا في المبسوط.
هذا أصل هذه الجملة أي ما ذكرنا أن أثر الإكراه تبديل النسبة أو تفويت الرضا أصل جملة أنواع الإكراه عندنا لا إبطال قول أو فعل خلافا للشافعي رحمه الله وما ذكرنا من أثر الإكراه هو الأصل في جملة الأحكام التي تترتب على الإكراه والجملة أي الأصل الجامع في هذا الباب عند الشافعي رحمه الله أن الإكراه الباطل وهو الذي يحرم الإقدام عليه كما سيأتي بيانه حتى جعل عذرا في الشرعية بقوله عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" وبالإجماع حتى سقط الإثم عن المكره في بعض(4/541)
الاختيار وصحة القول بالقصد والاختيار ليكون ترجمة عما في الضمير فتبطل عند عدمه والإكراه بالحبس مثل الإكراه بالقتل عنده. ألا يرى أنه يعدم الرضا وتحقيق العصمة في دفع الضرر عنه عند عدم الرضا ويبطل البيع والأقارير كلها وإذا وقع الإكراه على الفعل فإذا تم الإكراه بطل حكم الفعل عن الفاعل
ـــــــ
الصور بلا خلاف كان مبطلا للحكم عن المكره أصلا فعلا كان ما أكره عليه أو قولا لما قلنا يعني في المبسوط أن الإكراه يبطل الاختيار. أو لما قلنا في أول هذا الفصل أن الإكراه يبطل الاختيار أي يفسده وصحة القول بالقصد والاختيار ليكون القول باعتبار القصد ترجمة عما في الضمير ودليلا عليه فيبطل أي القول عند عدم القصد ألا يرى أن الكلام لا يصح من النائم لعدم الاختيار ولا من المجنون والصبي لعدم القصد الصحيح فعرفنا أن صحة الكلام باعتبار كونه ترجمة عما في القلب والإكراه دليل على أن المكره متكلم لدفع الشر لا لبيان ما هو مراد قلبه فصار في الإفساد فوق الذي لا قصد له ولم يرد شيئا آخر وكان كل كلامه بمنزلة الإقرار فإن الإكراه لما دل على أن المقر لم يرد إظهار أمر قد سبق بل قصد دفع الشر عن نفسه كان إقراره كإقرار المجنون فكذلك سائر كلامه; لأن الإكراه دال على عدم قصد القلب الذي صحة الكلام تبتنى عليه, والإكراه بالحبس الدائم مثل الإكراه بالقتل عنده في إبطال القول والفعل عن المكره أصلا, ألا يرى أن الإكراه بالحبس بعدم الرضا بالاتفاق وبطلان القول والفعل عن المكره في الإكراه بالقتل لتحقيق عصمة حقوق المكره عليه لئلا يفوت حقوقه بدون اختياره, وتحقيق العصمة هاهنا في دفع الضرر عن المكره عند عدم الرضا بزوال حقه فيجب إلحاق الإكراه بالقتل دفعا للضرر.
قال الشيخ رحمه الله في شرح كتاب الإكراه في جانب الشافعي رحمه الله الإكراه بعدم الرضاء فلو قلنا بأنه يزيل حقوقهم وأملاكهم من غير رضاهم به أدى إلى أن لا تظهر فائدة حرمة الحقوق, والرضا شرط في التصرف في المال فيكون شرطا في غير الأموال; لأن المعنى يجمع الكل وهو صيانة الحقوق المحترمة فوجب إلحاق الإكراه بالحبس لفوات الرضا فيه بالإكراه بالقتل.
وذكر الإمام محيي السنة رحمه الله وحد الإكراه أن يخوفه بعقوبة تنال من بدنه عاجلا لا طاقة له بها, مثل أن يقول إن فعلت كذا وإلا لأقتلنك أو لأقطعن عضوا منك ولأضربنك ضربا مبرحا أو لأخلدنك في السجن وكان القائل ممن يمكنه تحقيق ما يخوفه به فإن خوفه بعقوبة آجلة بأن قال لأضربنك غدا أو بضرب غير مبرح بأن قال لأضربنك سوطا أو سوطين أو بما لا ينال من بدنه بأن قال لأقتلن ولدك أو زوجتك فلا يكون إكراها. والنفي عن البلدان كان فيه تفريق بينه وبين أهله فهو إكراه كالتخليد في السجن وإن لم(4/542)
وتمامه بأن يجعل عذرا يبيح الفعل فإن أمكن أن ينسب إلى المكره نسب إليه وإلا فيبطل حكمه أصلا ولهذا قال في الإكراه على إتلاف المال أن الضمان على المكره وقال في الأقوال أجمع أنها تبطل وقال في إتلاف صيد الحرم والإحرام والإفطار أنه لا شيء على الفاعل ولكن الجزاء على المكره وقال في الإكراه على الزنا أنه يوجب الحد على الفاعل; لأنه لم يحل به الفعل وكذلك قال
ـــــــ
يكن فيه وجهان, أما ما يئول إلى إذهاب الجاه, مثل أن تقول للمحتشم لأسودن وجهك أو لأطوفن بك في البلد أو نحو ذلك أو لأتلفن مالك فلا يكون ذلك إكراها إذا كان يكرهه على قتل أو قطع وإن كان يكرهه على إتلاف مال أو على طلاق أو عتاق فهو إكراه على قول بعض أصحابنا وعند بعضهم ليس بإكراه; لأنه لا يصيب بدنه به ما لا يطيقه هذا كله من التهذيب. قوله: "وتمامه" بأن يجعل عذرا يبيح الفعل شرعا كالإكراه بالقتل أو الحبس الدائم على إتلاف مال الغير أو شرب الخمر أو الإفطار في نهار رمضان أو إجراء كلمة الكفر فإنه يبيح الفعل عنده ولكن لا يجب كلمة الردة بالإكراه ويجب غيرها ولا يباح القتل والزنا بالإكراه كذا في ملخصهم.
وإنما جعل الإباحة دليلا على تمام الإكراه; لأنها تدل على تمام العذر في حق الله تعالى كما في حق المضطر فإذا ثبتت الإباحة في حال الإكراه عرف أن الاضطرار قد تحقق وأن الإكراه صار ملجئا فكان تاما ولهذا أي ولما ذكرنا من الأصل له في الإكراه على إتلاف مال الغير أن الضمان يجب على المكره; لأن الفاعل يصلح آلة له في الإتلاف فيمكن أن ينسب الفعل إليه فيجب الضمان عليه. وقال في إتلاف صيد الحرم والإحرام والإفطار بأن إكراه الحلال على قتل صيد الحرم أو إكراه المحرم على قتل صيد أو إكراه الصائم على الإفطار ففعلوا لا شيء على الفاعل من جزاء الصيد ولكن جزاء الصيد على المكره; لأن هذا ضمان بهيمة مضمونة بالإتلاف فأشبه ضمان الشاة ويتصور قتل الصيد من الذي أكره بيد الذي باشر فينسب القتل إلى المكره إذا تم الإكراه وقد تم; لأن الذي باشر أبيح له الإقدام عليه ولا يفسد صومه في صورة الإفطار; لأن الحظر يزول بالإكراه فالتحق الإفطار بابتلاع البزاق والأكل ناسيا بخلاف بالمرض; لأن الحظر وإن زال فصوم العدة لزمه بالنص فالشرع أقام العدة في حقه مقام الشهر لا أن صوم العدة يلزمه قضاء بحكم الإفطار مع زوال الحظر ألا يرى أنه في حكم الأداء حتى لو مات في بعض العدة لم يلزمه قضاء ما بقي وما يجب بحكم الإفطار لا يسقط بالموت وكذلك أي وكما قال في الزنا قال في المكره على القتل إن المكره يقتل لما قلنا إنه لم يحل به الفعل فلم يتم الإكراه فلا يمكن أن يجعل المباشر آلة ولهذا يأثم بالاتفاق ولو صار آلة لما أثم.(4/543)
في المكره على القتل أنه يقتل لما قلنا. وأما المكره فإنما يقتل بالتسبيب وقال في الإكراه على الإسلام أن المكره إذا كان ذميا لم يصح إسلامه وإن كان حربيا يصح; لأن إكراه الذمي باطل وإكراه الحربي جائز فعد الاختيار قائما وكذلك القاضي إذا أكره المديون على بيع ماله فباعه صح; لأن هذا إكراه حق وكذلك المولى إذا أكره فطلق صح لما قلنا وذلك بعد المدة عنده وقد ذكرنا نحن أن الإكراه لا يعدم الاختيار لكنه يعدم الرضا فكان دون الهزل وشرط الخيار ودون
ـــــــ
قوله: "وأما المكره" جواب عما يقال كما اقتصر الفعل على المكره حتى وجب القصاص عليه ينبغي أن لا يقتص من المكره; لأنه ليس بمباشر حقيقة ولا حكما لاقتصار الفعل على المكره فقال إنما يقتل المكره بالتسبيب لا بالمباشرة حقيقة فإن التسبيب إذا تعين للقتل صار بمنزلة المباشرة, وذلك لأن القصاص شرع للإحياء بسد باب القتل عدوانا ابتداء خوفا من القصاص, والقتل بالإكراه باب مفتوح في الناس للأكابر والمتغلبة فلو لم يلزمه القصاص لما انسد الباب بقتل المباشر; لأنه مضطر إليه والاضطرار جاء من جهة المتغلب وهذا كما يقتل الجماعة بالواحد; لأن قتل الآدمي في العادات إنما يكون بالتغالب والاجتماع عليه; لأن الواحد يدفع الواحد عن نفسه فلو لم تقتل الجماعة بالواحد قصاصا لما انسد باب القتل عدوانا بالقصاص ثم أنه سبب على وجه التعيين; لأن المكره لا يمكنه التخلص إلا بقتل ذلك الشخص بعينه فصار كالسيف له بخلاف حفر البئر ووضع الحجر على الطريق; لأن إكراه الذمي باطل; لأنا أمرنا أن نتركهم وما يدينون وإكراه الحربي جائز; لأن الشرع أمر بقتال أهل الحرب جبرا لهم على الإسلام فعد الاختيار قائما في حقه إعلاء للإسلام كما عد قائما في حق السكران زجرا له حتى صحت تصرفاته والمعنى فيه أن الإكراه إذا كان بحق فقد أمرنا الشرع بإكراهه على ذلك التصرف فيكون ذلك من الشرع طلبا للتصرف وما كان مطلوبا شرعا يكون محكوما بصحته; لأن الشرع لا يأمر بشيء غير صحيح فأما إذا كان الإكراه باطلا فهو محظور وذلك التصرف ممنوع عنه شرعا فلا يثبت ولا يصح وكذلك أي وكالمديون المولى إذا أكره على التطليق فطلق صح طلاقه لما قلنا إن الإكراه حق وذلك أي وقوع الطلاق بالإكراه بعد المدة عنده أي يتصور بعد مضي مدة الإيلاء على أصله; لأن بمضي المدة لا يقع الطلاق عنده ولكنها تستحق التفريق عليه كامرأة العنين بعد الحول فإذا امتنع عن ذلك فأكره عليه كان الإكراه حقا لا باطلا فلا يمنع من وقوع الطلاق فأما قبل مضي المدة فالإكراه باطل فيمنع وقوع الطلاق.
قوله: "وقد ذكرنا نحن أن الإكراه لا يعدم الاختيار" في السبب والحكم جميعا; لأن المكره طلب منه أن يختار أهون الأمرين عليه فكيف لا يكون مختارا أو لكنه بعدم الرضاء(4/544)
الخطإ لكنه يفسد الاختيار فإذا عارضه اختيار صحيح وجب ترجيح الصحيح على الفاسد إن أمكن فيجعل الاختيار الفاسد معدوما في مقابلته وإذا جعل معدوما صار بمنزلة عديم الاختيار فيصير آلة للمكره فيما يحتمل ذلك وفيما لا يحتمله لا يستقيم نسبته إلى المكره فلا يقع المعارضة في استحقاق الحكم فبقي منسوبا إلى الاختيار الفاسد; لأنه صالح لذلك وإنما كان يسقط بالترجيح. ألا يرى أن هذا القدر من الاختيار صالح للخطاب وصارت التصرفات كلها
ـــــــ
في السبب والحكم فكان الإكراه دون الهزل وشرط الخيار دون الخطإ في المانعية وقد شبهه بعض مشايخنا بالهزل; لأن الهزل بعدم الرضا بحكم السبب مع وجود القصد والاختيار في نفس السبب وشبهه بعضهم باشتراط الخيار فإن شرط الخيار بعدم الرضا بحكم السبب دون نفس السبب كذا في المبسوط فقال الشيخ هو دونهما دون الخطإ; لأن في الهزل وشرط الخيار عم اختيار الحكم والرضا به أصلا وإن وجد الرضا بالسبب وفي الخطإ الاختيار موجود تقديرا لا تحقيقا فأما في الإكراه فالاختيار في السبب والحكم موجود حقيقة وإن كان فاسدا فكان دون تلك الأشياء في المنع وأقرب إلى فعل الطابع منها فكان تصرف المكره أولى بالاعتبار من تصرف الهازل والخاطئ ولا يقال الرضا بالسبب موجود في الهزل وشرط الخيار دون الإكراه واختيار الحكم موجود في الإكراه دون الهزل وشرط الخيار فيستوي الكل فلا يكون الإكراه دونهما; لأنا نقول الحكم هو المقصود دون السبب فلا يعادل الرضا بالسبب في الهزل وشرط خيار اختيار الحكم في الإكراه فلا تثبت المساواة بين الإكراه والهزل وشرط الخيار بل كان الإكراه دونهما كما بينا وقوله لكنه أي الإكراه يفسد الاختيار جواب عما يقال لما كان الإكراه دون هذه الأشياء في المنع لوجود الاختيار فيه ينبغي أن يقتصر الحكم على المكره كما في الهزل والخطأ. فقال الإكراه لا يعدم الاختيار ولكنه يفسده لما بينا فإذا عارض الاختيار الفاسد اختيار صحيح وهو اختيار المكره وجب ترجيح الصحيح على الفاسد إن أمكن وذلك باحتمال الفعل النسبة إلى المكره بجعل المكره آلة له نسبته أي نسبة الفعل; لأنه أي الاختيار الفاسد صالح لذلك أي لاستحقاق الحكم صالح للخطاب لما بينا أن المكره متردد بين فرض وحظر ورخصة.
ولما فرغ الشيخ رحمه الله من تمهيد أصله وتأسيس قاعدته شرع في ترتيب الأحكام عليه وتفصيل الجملة كما أشار إليه في قوله ثم الحاجة إلى التفصيل وترتيب هذه الجملة فقال وصارت التصرفات الصادرة من المكره كلها منقسمة إلى هذين القسمين ما(4/545)
منقسمة إلى هذين القسمين الأقوال قسم واحد أن المتكلم فيها لا يصلح آلة لغيره فاقتصرت عليه والأفعال قسمان أحدهما مثل الأقوال. والثاني ما يصلح أن يكون الفاعل فيه آلة لغيره والأقوال قسمان أيضا ما يحتمل الفسخ ويتوقف على الرضا وما لا يحتمل الفسخ ويتوقف على القصد والاختيار دون الرضا والإكراه نوعان كامل يفسد الاختيار ويوجب الإلجاء وقاصر يعدم الرضا ولا يوجب الإلجاء والحرمات أنواع حرمة لا تنكشف ولا يدخلها رخصة بل هي محكمة وحرمة تحتمل السقوط أصلا وحرمة لا تحتمل السقوط لكن تحتمل الرخصة وحرمة تحتمل السقوط لكنها لم تسقط بعذر المكره واحتملت الرخصة أيضا وجملة الفقه فيه ما قلنا إن الإكراه لا يوجب تبديل الحكم بحال ولا
ـــــــ
يمكن نسبته إلى المكره بجعل المكره آلة له وما لا يمكن نسبته إليه فيقتصر على المكره.
والإكراه نوعان أي الإكراه الذي له أثر في الأحكام نوعان حرمة لا تنكشف أي لا تزول ولا تسقط نحو حرمة الزنا والقتل; لأن القتل لا يحل لضرورة ما فلا يحل بهذه الضرورة أيضا; لأن حرمة نفس غيره مثل حرمة نفسه فلا يجوز أن يجعل إهلاك نفس غيره طريقا لصيانة نفسه والزنا في حكم القتل أيضا وحرمة تحتمل السقوط أصلا مثل حرمة الميتة وشرب الخمر لما مر. وحرمة لا تحتمل السقوط لكنها تحتمل الرخصة نحو حرمة إجراء كلمة الكفر فإنها لا تحتمل السقوط أبدا لكن تدخلها الرخصة أي تسقط المؤاخذة بالمباشرة مع قيام الحرمة على ما مر بيانه في باب العزيمة والرخصة وحرمة تحتمل السقوط لكنها لم تسقط بعذر الإكراه واحتملت الرخصة كحرمة إتلاف مال الغير فإنها تحتمل السقوط بإباحة صاحبه ولم تسقط بعذر الإكراه كما لم تسقط بعذر المخمصة; لأن حرمته لحق الغير وحقه باق في حالة الإكراه والاضطرار لكنها تحتمل الرخصة حتى رخص له الإتلاف بالإكراه والأكل بالمخمصة مع بقاء الحرمة.
قوله: "وجملة الفقه" أي المعنى الذي تدور عليه الأحكام أن الإكراه عندنا لا يوجب تبديل الحكم بحال أي لا يوجب تغير حكم السبب وإبطاله عنه ملجئا كان أو غير ملجئ بل يبقى حكمه كما لو كان طائعا لصدوره عن عقل وتمييز وأهلية خطاب مثل صدوره عن الطائع ولا يلزم عليه أن الإكراه على إجراء كلمة الكفر قد أوجب تبديل الحكم حتى لا يحكم بكفر المكره ولا تبين منه امرأته ولو صدر عن الطائع حكم بكفره وبالبينونة بينه وبين امرأته; لأنا نقول الردة في الحقيقة تثبت بتبديل الاعتقاد, والتكلم باللسان دليل عليه وقيام الإكراه هاهنا منع كون التكلم دليلا على تبدل الاعتقاد كما في(4/546)
تبديل محل الجناية ولا يوجب النسبة إلا بطريق واحد وهو أن تجعل المكره آلة للمكره لا وجه لنقل الحكم بدون نقل الفعل ولا وجه لنقل الفعل ذاته إلا بهذا الطريق فإن أمكن وإلا وجب القصر على المكره ففي الأقوال كلها لا يصلح أن
ـــــــ
الإكراه على الإقرار فلذلك لم يثبت الارتداد فلا تقع البينونة ولا يوجب تبديل محل الجناية; لأن في تبديل محل الجناية تبديل محل الحكم أيضا على ما يعرف في مسألة إكراه المحرم على قتل الصيد ولا يوجب تبديل النسبة إلا بطريق واحد كأنه أشار به إلى رد ما ذكر بعض مشايخنا أن أثر الإكراه التام في نقل الفعل عن المكره إلى المكره فأشار إلى أنه ليس بصحيح فإنه لا تصور لنقل الفعل الموجود حقيقة من شخص إلى غيره والمسائل تشهد بخلاف هذا أيضا فإن البالغ إذا أكره صبيا على قتل الغير يجب القود على المكره وهذا الفعل في محله غير موجب للقود فلا يصير موجبا بانتقاله إلى محل آخر. بل الصحيح أن تأثير الإكراه في جعل المكره آلة للمكره عند الإمكان فيصير الفعل منسوبا إلى المكره ابتداء بهذا الطريق لا بطريق النقل وجعل المكره آلة لا باعتبار أن بالإكراه يفوت اختياره أصلا ولكن; لأنه يفسد اختياره به لتحقق الإلجاء إذ الإنسان مجبول على حب حياته وذلك بحمله على الإقدام على ما أكره عليه فيفسد به اختياره من هذا الوجه. والفاسد في معارضة الصحيح كالمعدوم فيصير الفعل منسوبا إلى المكره لوجود الاختيار الصحيح والمكره يصير آلة له لعدم اختياره حكما في معارضة الاختيار الصحيح وإلى ما ذكر أشار بقوله ولا وجه لنقل الفعل ذاته إلا بهذا الطريق فإن أمكن القول بالنقل بهذا الطريق وجب القول به وإلا وجب قصر الفعل بحكمه على المكره قال الإمام أبو الفضل الكرماني رحمه الله في الإيضاح والمراد من قولنا يصلح آلة أن المكره يمكنه إيجاد الفعل المطلوب بنفسه فإذا حمل غيره عليه بوعيد التلف صار كأنه فعل نفسه ومن قولنا لا يصلح آلة أنه لا يمكنه مباشرة ذلك الفعل بنفسه فإذا حمل عليه غيره يبقى مقصورا عليه ففي الأقوال كلها لا يصلح أن يتكلم المرء بلسان غيره حسا على وجه لا يبقى للسان المتكلم اختيار فاقتصر الأقوال بأحكامها على المتكلم ولا يجعل كأن المكره طلق امرأة المكره أو أعتق عبده.
فإن قيل لا نسلم أن المتكلم لا يصلح آلة للمكره فإن من وكل رجلا بطلاق امرأته وإعتاق عبده يصح ومتى طلق الوكيل كان عاملا للموكل حتى لو حلف الرجل لا يطلق ولا يعتق فوكل غيره بالطلاق والإعتاق حنث فعلم أن الوكيل صار آلة للموكل والدليل عليه أن المكره يرجع بقيمة العبد على المكره وفي الطلاق قبل الدخول يرجع بضمان نصف الصداق على المكره ولو لم يصر آلة له لما رجع وإذا صار آلة للمكره صار كأن المكره طلق امرأة المكره أو أعتق عبده فينبغي أن يلغو.
قلنا المكره إنما يصلح آلة المكره فيما لو أراد المكره مباشرته بنفسه لقدر عليه(4/547)
يتكلم المرء بلسان غيره فاقتصر على المتكلم ثم ينظر فإن كان من جنس ما لا ينفسخ ولا يتوقف على وجود الرضا والاختيار لم يبطل بالإكراه مثل الطلاق والعتاق والنكاح; لأن ذلك لا يبطل بالهزل وهو ينافي الاختيار والرضا بالحكم ولا يبطل شرط الخيار وهو ينافي الاختيار أصلا فلأن لا يبطل بما يفسد الاختيار أولى. وإذا اتصل الإكراه بقبول المال في الخلع فإن الطلاق يقع والمال لا يجب; لأن الإكراه لا يعدم الاختيار في السبب والحكم جميعا ويعدم الرضا بالسبب والحكم جميعا أو التزام المال ينعدم عند عدم الرضا فكأن المال لم
ـــــــ
فينزل فاعلا بمباشرة غيره تقديرا واعتبارا, فأما فيما لا يقدر عليه بنفسه فلا يمكن أن يجعل فاعلا حكما ففي تطليق امرأة نفسه وإعتاق عبده أمكن أن يجعل متصرفا بنفسه فإذا وكل غيره بذلك واستعمله جعل عاملا تقديرا واعتبارا فأما في تطليق امرأة المكره وإعتاق عبده فلا يمكن أن يجعل مباشرا بنفسه فكيف يجعل المكره آلة له فبقي الفعل مقتصرا على المكره وهكذا نقول في جميع التصرفات الشرعية نحو البيع والهبة وغيرهما فنحن لا ننظر إلى التكلم بلسان الغير; لأنه لا يتصور وإما ننظر إلى المقصود بالكلام وإلى الحكم فمتى كان في وسعه تحصيل ذلك الحكم بنفسه يجعل غيره آلة له ومتى لم يكن في وسعه لم يجعل غيره آلة له كذا في الطريقة البرغرية.
ولا يلزم عليه كلام الرسول فإنه بمنزلة كلام المرسل على ما قيل لسان الرسول لسان المرسل; لأن ما ذكرنا هو الأمر الحقيقي وذلك ضرب من المجاز فلا يرد نقضا عليه وذلك من باب التبليغ لا من باب التكلم بلسان الغير إذ التبليغ قد يكون بلا واسطة كالمشافهة وقد يكون بواسطة كالكتاب والإرسال على وجود الرضا والاختيار أي الاختيار الصحيح ولا يبطل بشرط الخيار وهو ينافي الاختيار أي اختيار الحكم والرضا به أيضا فلأن لا يبطل بما يفسد الاختيار ولا يعدمه أولى. قال القاضي الإمام: الهزل ضد الجد كالكذب ضد الصدق والأحكام الشرعية متعلقة بالجد فلما صحت هذه التصرفات مع الهزل الذي هو ضد الجد فلأن تصح مع الإكراه أولى; لأن المكره جاد في تصرفه; لأنه دعي إلى التصرف بطريق الجد فإن أجاب إلى ما دعي إليه فهو جاد وإن أتى بشيء آخر فهو طابع.
قوله: "وإذا اتصل الإكراه بقبول المال في الخلع" إلى آخره إنما تعرض بجانب المرأة; لأن الرجل إذا أكره على أن يخالع امرأته على ألف وقد دخل بها والمرأة غير مكرهة فالخلع واقع; لأنه من جانب الزوج طلاق والإكراه لا يمنع وقوع الطلاق والمال لازم على المرأة للزوج; لأنها التزمت المال طائعة بإزاء ما سلم لها من البينونة فأما إذا أكرهت امرأة(4/548)
يوجد فلم يتوقف الطلاق عليه بل وقع كطلاق الصغيرة على مال بخلاف البدل عند أبي حنيفة رضي الله عنه; لأنه يعدم الرضا والاختيار جميعا بالحكم ولا يمنع الرضا ولا الاختيار في السبب وإذا كان كذلك صح إيجاب المال فيتوقف الطلاق كشرط الخيار فإنه لما دخل على الحكم دون السبب أوجب توقف الطلاق على المال كذلك ههنا وأما عندهما فإن الإكراه يعدم الرضا بالسبب والحكم ولا يمنع الاختيار فيهما أيضا فلم يصح إيجاب المال لعدم الرضا بلزوم المال فكأن لم يوجد فوقع بغير مال بخلاف البدل; لأنه يعدم الرضا
ـــــــ
بوعيد تلف أو حبس على أن تقبل من زوجها الخلع على ألف درهم فقبلت لك منه وقد دخل بها فالطلاق يقع ولا يجب على المرأة شيء من المال; لأن التزام المال يعتمد تمام الرضا وبالإكراه يفوت الرضا سواء كان الإكراه بحبس أو بقتل ولكن وقوع الطلاق يعتمد وجود القبول لا وجود المقبول كما لو طلق امرأته الصغيرة على مال يتوقف الطلاق على قبولها فإذا قبلت وقع الطلاق ولا يجب المال وبالإكراه لا ينعدم القبول فلهذا كان الطلاق واقعا ثم إن أصحابنا جميعا احتاجوا إلى الفرق بين الإكراه والهزل في الخلع فأشار إلى ذلك بقوله بخلاف الهزل في أصل الخلع وبدله عند أبي حنيفة رحمه الله حيث لا يقع الطلاق ما لم ترض المرأة بالتزام المال; لأن الهزل يعدم الرضا والاختيار بالحكم ولا يمنع الرضا والاختيار في السبب. وإذا كان كذلك أي كان الهزل غير مانع للرضى والاختيار في السبب صح إيجاب المال أي التزامه بالهزل موقوفا على أن يلزم عند تمام الرضا به فيتوقف الطلاق عليه كشرط الخيار لما دخل على الحكم دون السبب وجد الاختيار والرضا بالسبب دون الحكم فيتوقف الحكم وهو وجوب المال ووقوع الطلاق على وجود الاختيار والرضا به فأما الإكراه فلا يعدم الاختيار في السبب والحكم وإنما يعدم الرضا بالحكم فلوجود الاختيار في السبب والحكم تم القبول ووقع الطلاق ولعدم الرضا لا يجب المال فكأن المال لم يذكر أصلا. هذا هو الفرق لأبي حنيفة رحمه الله بين الإكراه والهزل في الخلع أما بيان الفرق لهما بينهما فهو أن الإكراه بعدم الرضا بالسبب والحكم ولا يعدم الاختيار فيهما أيضا يعني جوابهما في الإكراه كجواب أبي حنيفة رحمه الله فلم يصح إيجاب المال لعدم الرضا فصار كأن المال لم يذكر أصلا فوقع الطلاق بغير مال ثم إن كان الإكراه على قبول الطلاق بمال بأن أكرهت على أن تقبل من زوجها تطليقه على ألف درهم كان الواقع رجعيا بالاتفاق; لأن الواقع بصريح اللفظ رجعي إذا لم يجب عوض بمقابلته وإن كان الإكراه على قبول الخلع بمال ينبغي أن يكون الواقع بائنا; لأنه من الكنايات بخلاف الهزل حيث يقع الطلاق ويجب المال عندهما على ما مر; لأن الهزل(4/549)
والاختيار في الحكم دون السبب وعندهما ما يدخل على الحكم دون السبب لا يؤثر في بدل الخلع أصلا كشرط الخيار وما دخل على السبب يؤثر في المال دون الطلاق; لأنه لا يجب إلا بالشرط فكان في الإيجاب مثل الثمن وبعد صحة الإيجاب الطلاق الذي هو المقصود وأما الذي يحتمل الفسخ ويتوقف على الرضا مثل البيع والإجارة فإنه يقتصر على المباشر أيضا إلا أنه يفسد لعدم الرضا ولا يصح الأقارير كلها; لأن صحتها تعتمد قيام المخبر به وقد قامت دلالة
ـــــــ
يعدم الرضا والاختيار في الحكم دون السبب فصح إيجاب المال لوجود الرضا في السبب. والأصل عندهما أن ما يدخل على الحكم دون السبب لا يؤثر في بدل الخلع بالمنع أصلا كشرط الخيار; لأن أثره في المنع ولم تؤثر في أحد الحكمين وهو الطلاق بالمنع حتى لم يتوقف على الاختيار فلا يؤثر في الحكم الآخر وهو لزوم المال; لأن المال فيه تابع فيتبع الطلاق ويلزم حسب لزومه فلم يعمل فيه الهزل وشرط الخيار وما دخل على السبب مثل الإكراه يؤثر في المال دون الطلاق; لأن المال لا يجب في الخلع إلا بالشرط بالذكر فيه كما أن الثمن لا يجب في البيع إلا بالذكر. فكان المال في الإيجاب أي في الإثبات في الخلع مثل الثمن في البيع وفي بعض النسخ مثل اليمين وليس بصحيح فكما أنه لا بد من صحة الإيجاب لثبوت الثمن في المبيع لا بد من صحته أيضا لثبوت المال في الخلع وما دخل على السبب بمنع صحة الإيجاب في البيع فكذلك في الخلع وما دخل على الحكم لا يمنع صحة الإيجاب في البيع فلا يمنع في الخلع أيضا إلا أن في البيع ما دخل على الحكم يمنع اللزوم وفي الخلع لا يمنع; لأن المقصود هو الطلاق هاهنا والمال تابع وهذا المانع لا يؤثر في منع لزوم ما هو المقصود فلا يؤثر في منع لزوم التابع أيضا; لأن حكم التابع يؤخذ من المتبوع أبدا.
وهو معنى قوله وبعد صحة الإيجاب يتبع الطلاق الذي هو المقصود.
قوله: "فأما الذي" أي التصرف الذي يحتمل الفسخ ويتوقف على الرضا مثل البيع والإجارة ونحوهما فإنه يقتصر على المباشر أيضا كالذي لا يحتمل الفسخ; لأن الأقوال كلها تقتصر على المتكلم إلا أنه أي لكن الذي يحتمل الفسخ ويتوقف على الرضا يفسد أي بعقد فاسد إلا أن الإكراه لا يمنع انعقاد أصل التصرف لصدوره من أهله في محله ولكنه يمنع نفاذه لفوات الرضا الذي هو شرط النفاذ بالإكراه فينعقد بصفة الفساد فلو أجاز التصرف بعد زوال الإكراه صريحا أو دلالة صح; لأن رضاءه قد تم وللفساد كان لمعنى في غير ما يتم به العقد فيزول المعنى المفسد بالإجازة كالبيع بشرط أجل فاسد أو خيار فاسد إذا أسقط من له الأجل أو الخيار ما شرط له قبل تقرره كان البيع جائزا فكذا هذا ولا يصح(4/550)
عدمه ولا نسلم قول الخصم أن الضرر موقوف على الرضا بل على الاختيار. ألا يرى أن الإنسان قد يختار الضرر كارها غير راض كالفصد وشرب الدواء وإنما الرضا للزوم فيما يحتمل الفسخ لا غير وهذا بخلاف أقارير السكران فإنها تصح على ما قلنا; لأن السكر لما لم يصلح عذرا لم يصلح دلالة على عدم المخبر به بل جعل دلالة على الرجوع بخلاف السكران إذا ارتد فإن امرأته لا تبين وجعل السكر دلالة على عدم المخبر به; لأن الردة تعتمد محض الاعتقاد وقد وقع فيه الشك والشبهة فلم يثبت وما يعتمد العبارة لا يبطل بالشبهة أيضا والكامل من الإكراه والقاصر في هذا سواء.
ـــــــ
الأقارير كلها حتى لو أكره بقتل أو إتلاف عضو أو حبس أو قيد على أن يقر بعتق ماض أو طلاق أو نكاح أو رجعة أو فيء في إيلاء أو عفو عن دم عمد أو بيع أو إجارة أو دين في ذمته لإنسان أو إبراء عن دين أو على أن يقر بإسلام ماض كان الإقرار باطلا; لأنه إذا هدد بما يخاف التلف على نفسه فهو ملجئ إلى الإقرار محمول عليه والإقرار خبر متميل بين الصدق والكذب وإنما يوجب الحق باعتبار رجحان جانب الصدق ودلالته على وجود المخبر به وذلك يفوت بالإلجاء; لأن قيام السيف على رأسه دليل على أن إقراره هذا لا يصلح للدلالة على المخبر به; لأنه يتكلم به دفعا للسيف عن نفسه وهو معنى قوله وقد قامت دلالة عدمه أي عدم المخبر به بهذا الإقرار. وكذا إن هدد بحبس أو قيد; لأن الرضا ينعدم بالحبس والقيد لما يلحقه من الهم, وعدم الرضا يمنع ترجيح جانب الصدق في إقراره ثم قد بينا أن الإكراه مثل الهزل في تفويت الرضا ومن هزل بإقرار لغيره وتصادقا على أنه هزل بذلك لم يلزمه شيء فكذا إذا أكره عليه.
فإن قيل أليس أن عند أبي حنيفة رحمه الله إذا قال لمن هو أكبر سنا منه هذا ابني يعتق عليه وهناك يتيقن بكذبه فيما قال فوق ما يتيقن بالكذب عند الإقرار مكرها فإذا نفذ العتق ثمة ينفذ هاهنا بالطريق الأولى قلنا أبو حنيفة رحمه الله جعل ذلك الكلام مجازا في الإقرار بالعتق كأنه قال عتق علي من حين ملكته وباعتبار هذا المجاز لا يظهر رجحان جانب الكذب في إقراره فأما عند الإكراه فلا يمكن أن يجعل إقراره مجازا في شيء; لأنه أمره بالتكلم بالحقيقة وقد يرجح جهة الكذب فيه بالإكراه فبطل.
قوله: "بخلاف السكران إذا ارتد" جواب عن نقض يرد على إقرار السكران فإن السكر لما لم يصلح دليلا على عدم المخبر به في الإقرار ينبغي أن لا يصلح دليلا على عدمه في الردة أيضا فقال الردة تعتمد محض الاعتقاد أي اعتقاد الكفر والتكلم(4/551)
والقسم الذي يصلح أن يكون فيه آلة لغيره فمثل إتلاف المال وإتلاف النفس; لأنه يحتمل أن يأخذه فيضرب به نفسا أو مالا فيتلفه فإن كان عليه ما أوجب جرحه وجب به القود في النفس بالإجماع وليس في ذلك تبديل محل
ـــــــ
بكلمة الكفر دليل محض عليه وقد وقع في الاعتقاد الشك; لأن كلامه بالنظر إلى أصل عقله يصلح دليلا على الاعتقاد مثل كلام الصاحي وبالنظر إلى انطماس نور العقل بالسكر لا يصلح دليلا عليه فلا يثبت اعتقاد الكفر بالشك فلا تثبت الردة ولا البينونة بينه وبين امرأته بالشك وما يعتمد العبارة نحو الطلاق والعتاق وغيرهما لا يبطل بالشبهة أيضا; لأن صدور كلامه عن عقل وأهلية خطاب يوجب وقوع الطلاق والعتاق وصحة سائر التصرفات إلا أن قيام السكر يورث شبهة عدم الصحة فيه فلا يبطل ما ثبت بأصل الكلام بهذه الشبهة والكامل من الإكراه وهو الإكراه بالقتل أو القطع والقاصر وهو الإكراه بالحبس أو القيد في هذا أي في الذي يحتمل الفسخ ويتوقف على الرضا والأقارير كلها سواء; لأن القاصر يعدم الرضا وعدمه يمنع النفاذ ويدل على عدم المخبر به والحد في الحبس الذي هو الإكراه ما يجيء منه الاغتمام البين به وفي الضرب الذي هو إكراه ما يجد منه الألم الشديد وليس في ذلك حد لا يزاد عليه ولا ينقص; لأن نصيب المقادير بالرأي لا يكون ولكن ذلك على قدر ما يرى الحاكم إذا رفع ذلك إليه فما رأى أنه إكراه أفسد العقد وأبطل الإقرار به; لأن ذلك يختلف باختلاف الناس فللوجيه الذي يضع الحبس من جاهه تأثير الحبس والقيد يوما في حقه فوق تأثير حبس شهر في حق غيره فلهذا لم يقدر فيه بشيء وجعل موكولا إلى رأي القاضي ليبني ذلك على حال من ابتلي به كذا في المبسوط.
قوله: "والقسم الذي يصلح أن يكون المكره فيه آلة لغيره فمثل إتلاف المال وإتلاف النفس"; لأنه أي المكره يحتمل أن يأخذه فيضرب المكره به نفسا أو مالا فيتلفه فإن كان على المكره أي معه ما أوجب جرح المقتول بأن قال اقتله بالسيف أو لأقتلنك فقتله به وجب به أي بسبب هذا الإكراه أو القتل أو الجرح القود على المكره بالإجماع وإنما شرط ذلك; لأنه لو أكرهه على القتل بعصا أو بحجر كان بمنزلة قتل المثقل وذلك لا يوجب القصاص عند أبي حنيفة رحمه الله ثم أنه ذكر الإجماع في هذه المسألة. وذكر في الأسرار والمبسوط أن عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله يجب القود على المكره وعند أبي يوسف رحمه الله لا يجب القود على أحد بل تجب الدية على المكره في ماله في ثلاث سنين وعند زفر رحمه الله يجب القود على المكره دون المكره; لأنه قتله لإحياء نفسه عمدا فيلزمه القود كما لو أصابته مخمصة فقتل إنسانا وأكل من لحمه. ألا يرى أنه لا يسقط عن المكره بالإكراه بسائر ما يتعلق بالقتل من الأحكام كالإثم والتفسيق ورد(4/552)
الجناية أيضا فلذلك جعل آلة فإذا جعل آلة له بالطريق الذي قلنا صار ابتداء وجود الفعل مضافا إليه فلزمه حكم الفعل ابتداء وخرج المكره من الوسط ولذلك وجب القصاص على المكره ولذلك قلنا فيمن أكره على رمي صيد
ـــــــ
الشهادة وإباحة قتله للمقصود بالقتل فكذا القود بل أولى; لأن تأثير الضرورة في إسقاط الإثم دوم الحكم حتى أن من أصابته مخمصة تباح له تناول مال الغير ولا يسقط الضمان وإثم القتل هاهنا لم يسقط عن المكره بالإكراه فلأن لا يسقط عنه حكم القتل أولى واستدل أبو يوسف رحمه الله بأن بقاء الإثم في حق المكره دليل على أن الفعل كله لم يصر منسوبا إلى المكره والقصاص لا يجب إلا بمباشرة جناية تامة وقد عدمت من المكره حقيقة وحكما فلا يلزمه القود. ولنا أن المكره ملجأ إلى هذا الفعل والإلجاء بأبلغ الجهات يجعل الملجأ آلة الملجئ فيما يصلح أن يكون آلة له إذا لم يلزم منه تغيير محل الجناية; لأن الإنسان مجبول على حب الحياة فلما هدد بالقتل يطلب لنفسه مخلصا عن الهلاك ولما لم يتوصل إليه إلا بالإقدام على ما أكره عليه يقدم عليه وإن كان حراما طلبا للخلاص فيفسد اختياره بهذا الطريق ويصير مجبولا على هذا الفعل بقضية الطبع وإذا فسد اختياره التحق بالآلة التي لا اختيار لها وصار بمنزلة سيف في يد المكره استعمله في قتله فيصير الفعل منسوبا إليه لا إلى الآلة ثم المكره هاهنا يصلح أن يكون آلة للمكره في القتل بأن يأخذ يده مع السكين فيقتل به غيره وليس في ذلك أي في جعله آلة تبديل محل الجناية أيضا; لأن هذا القتل لو كان طوعا من الفاعل لكان جناية على المقتول موجبة للقود وبأن جعل الفاعل آلة ونسب الفعل إلى المكره لا يفوت الجناية على القتيل بل محل الجناية نفس المقتول كما كانت فلذلك أي فلصلاحه للآلة وعدم لزوم تبدل محل الجناية جعل المكره آلة للمكره ونسب الفعل إليه وإذا جعل المكره آلة بالطريق الذي قلنا صار ابتداء وجود الفعل مضافا إلى المكره لا أنه نقل من المكره إليه كما اختاره بعض مشايخنا فلزم المكره حكم الفعل وهو وجوب القصاص ابتداء وخرج المكره من الوسط فلا يلزمه شيء من حكم الفعل من قصاص ولا دية ولا كفارة, ألا ترى أن شيئا من المقصود لا يحصل للمكره فلعل المقتول من أخص أصدقائه فعرفنا أنه بمنزلة الآلة له. ولذلك أي ولصيرورة الفعل منسوبا إلى المكره كأنه باشره بنفسه ثم إن المكره مع فساد اختياره يبقى مخاطبا فلبقائه مخاطبا كان عليه إثم القتل ولفساد اختياره لم يكن عليه شيء من حكم القتل ولا يدل لزوم الإثم على بقاء الحكم كما لو قال لغيره اقطع يدي فقطعها كان آثما ولا شيء عليه من حكم القطع بل في الحكم يجعل كأن الآمر فعل بنفسه كذا هنا وتبين بهذا أن ما استدل به أبو يوسف غير صحيح; لأن المكره مباشر شرعا بدليل أن سائر الأحكام سوى القود نحو(4/553)
فرماه فأصاب إنسانا أن الدية على عاقلة المكره والكفارة عليه; لأن الدية ضمان المتلف والكفارة جزاء الفعل المحرم لحرمة هذا المحل أيضا وكذلك إتلاف المال ينسب إلى المكره ابتداء وهذه نسبة ثبتت شرعا لما قلنا وهذا كالأمر فإنه متى صح استقام نقل الجناية به أيضا كمن أمر عبده بأن يحفر بئرا في فنائه
ـــــــ
حرمان الميراث والدية والكفارة تجب عليه فكذا القود والأصل فيه قوله تعالى: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [القصص: 4] فقد نسب الفعل إلى اللعين وهو ما كان يباشر صورته ولكنه كان مطاعا يأمر به وأمره إكراه.
قوله: "ولذلك" أي ولأن الفعل منسوب إلى المكره قلنا كذا والكفارة عليه أي على المكره; لأن الدية ضمان المتلف والإتلاف منسوب إلى المكره فيجب الضمان عليه والكفارة جزاء الفعل المحرم لأجل حرمة هذا المحل يعني أن حرمة قتل الآدمي لم تثبت من جهة الفاعل ليقتصر وجوب الكفارة على الفاعل كما في جزاء الصيد بل تثبت لاحترام المحل بدليل أن المحل لو لم يكن محترما لما ثبتت الحرمة ولم تجب الكفارة كما في قتل المرتد وإذا كان وجوب الكفارة باعتبار حرمة في المحل وجبت على المكره كالدية; لأن المكره جعل آلة فيما يرجع إلى المحل وإتلاف المحل بجميع أحكامه منسوب إليه بخلاف كفارة الصيد في حق المحرم; لأنها إنما وجبت لمعنى في الفاعل وهو كونه محرما لا لمعنى في المحل فلا يصلح المكره أن يصير آلة للمكره فيقتصر على الفاعل كما ستعرفه وكذلك أي وكقتل النفس إتلاف المال ينسب إلى المكره ابتداء حتى لا يكون على المكره شيء من حكم الإتلاف بالإجماع ومعلوم أن المباشر والمسبب إن اجتمعنا في الإتلاف وجب الضمان على المباشر دون المسبب لما وجب ضمان المال على المكره علم أن الإتلاف منسوب إلى المكره شرعا ولا طريق للنسبة سوى جعل المكره آلة فعرفنا أنه هو الأصل في باب الإكراه.
فإن قيل نحن لا نقول بأن المكره آلة في الإتلاف بل المتلف والضمان عليه ألا أنه يرجع على المكره; لأنه هو الذي أوقعه في هذه العهدة فكذا القاتل هو المباشر فيجب القصاص عليه ثم الرجوع بالقصاص لا يتصور قلنا لا يمكن القول بإيجاب الضمان على المكره المباشر; لأنه لو وجب عليه لما رجع به على المكره; لأن الأمر في ملك الغير فاسد فلا يجعل مستعملا إياه ليرجع بحكم الاستعمال فعلم أن وجوب الضمان على المكره بحكم أنه هو الفاعل لا بحكم الآمر كذا في الطريقة البرغرية.
قوله: "وهذا" أي الإكراه في كونه مؤثرا في تبديل النسبة مثل الأمر فإن الأمر متى(4/554)
وذلك موضع إشكال قد يخفى على الناس أنه ملكه أو حق المسلمين فحفر فوقع فيه إنسان ومات أن المولى هو القاتل لما قلنا من صحة الأمر وكذلك إذا استأجر حرا أو استعان به وذلك موضع إشكال ولم يبين فإن ضمان ما يعطب به على الآمر استحسانا لما قلنا من صحة الأمر وإذا كان في جادة الطريق لا يشكل حاله بطل الأمر واقتصرت الجناية على المباشر وكذلك من قتل عبد غيره بأمر المولى انتقل إلى المولى نفس القتل في حق حكمه كأنه باشره; لأنه موضع شبهة بخلاف ما إذا قتل حرا بأمر حر آخر في أن الضمان على المباشر والإكراه صحيح بكل
ـــــــ
صح بأن صدر ممن له ولاية على المأمور شرعا استقام نقل الجناية إلى الآمر أيضا كما استقام نسبة الفعل إلى المكره بالإكراه كمن أمر عبده بأن يحفر بئرا في فنائه وهو سعة أمام البيوت اختص صاحب البيت بالانتفاع به من حيث كسر الحطب وإيقاف الدابة وإلقاء الكناسة فيه وذلك الفناء موضع إشكال كما بينه في الكتاب وإنما قيد بالفناء; لأنه لو كان في غير فنائه كان الضمان في رقبة العبد يدفع به أو يفدي كذا في المبسوط وكذلك أي وكأمر العبد إذا استأجر حرا للحفر في ذلك الموضع أو استعان بالحر على الحفر ولم يبين أنه ملكه أم لا فإن ضمان ما يعطب به أي بالحفر أو بالمحفور على الآمر استحسانا والقياس أن يجب الضمان على الأجير أو المعين; لأنه باشر إحداثه في ذلك الموضع وصاحب الدار ممنوع عن إحداثه وإنما يعتبر أمره فيما له أن يفعله بنفسه. وجه الاستحسان أن الأجير يعمل للآجر ولهذا يستوجب عليه الأجر وقد صار مغرورا من جهته حين لم يعلمه أن ذلك الموضع ليس في ملكه أو تصرفه وإنما حفر اعتمادا على أمره وعلى أن ذلك من فنائه فلدفع ضرر الغرور ينقل فعلهم إلى الآمر فيصير كأنه حفر بنفسه وإذا كان الحفر في جادة الطريق لا يشكل حله أي يعلم أنه ليس في فنائه بطل الأمر; لأنه غير مالك للحفر بنفسه في ذلك الموضع وإنما يعتبر أمره لإثبات صفة الحل به أو لدفع الغرور عن الحافر وقد عدما جميعا في ذلك الموضع فسقط اعتبار أمره فاقتصرت الجناية على المباشر فكان الضمان عليه وكذلك أي وكالحر المستأجر من قتل عبد غيره بأمر مولاه انتقل إلى المولى نفس القتل في حق حكمه كأن المولى باشره بنفسه وإن لم ينتقل في حق الإثم حتى لم يجب ضمان ولا قود; لأنه أي قتل العبد بأمر مولاه موضع شبهة أي اشتباه; لأن العبد وإن كان مبقى على أصل الحرية في حق الدم والحياة فلا يصح الأمر بقتله من هذا الوجه ولكن ماليته للمولى فيصح أمره بإتلافها من هذا الوجه كما يصح الأمر بقتل شاة مملوكة له فيصير هذا الوجه شبهة في سقوط القود والضمان بخلاف ما إذا قتل حرا بأمر حر آخر يعني من غير إكراه فإن الضمان على المباشر; لأن هذا الأمر لم يصح بوجه لعدم(4/555)
حال فوجب أن ينسب الفعل إلى الذي أكرهه وأما الإكراه الذي لا يوجب الإلجاء فلا يوجب النقل; لأنه يعدم الرضا ولا يفسد الاختيار والمشيئة فلذلك لم يجعل آلة له. وأما القسم الذي لا يحتمل أن يجعل الفاعل فيه آلة لغيره فذلك مثل الأكل والوطء والزنا; لأن الأكل بفم غيره لا يتصور وكذلك إذا كان نفس الفعل مما يتصور أن يكون الفاعل فيه آلة لغيره صورة إلا أن المحل غير الذي يلاقيه الإتلاف صورة وكان ذلك يتبدل بأن يجعل آلة بطل ذلك واقتصر الفعل على
ـــــــ
الولاية فلا يصير شبهة في سقوط القود والضمان. وهذا إذا لم يكن الآمر ذا سلطنة فإن كان سلطانا فأمره بمنزلة الإكراه إذا كان المأمور يخاف على نفسه بمخالفة أمره; لأن من عادة المتجبرين الترفع عن التهديد بالقتل ولكنهم يأمرون ثم لا يعاقبون من خالف أمرهم إلا بالقتل فباعتبار هذه العادة كان الأمر من مثله بمنزلة التهديد بالقتل كذا في المبسوط والإكراه صحيح كل حال يعني إنما ينسب الفعل إلى الآمر بالأمر إذا صح الأمر وإذا لم يصح اقتصر على الفاعل كما بينا فأما في الإكراه فينسب الفعل إلى المكره إذا أمكن بكل حال سواء أكره حرا على قتل عبده أو على قتل حر آخر وسواء أكره على الحفر في موضع الاشتباه أو في غير موضع الاشتباه كجادة الطريق; لأن الإكراه صحيح أي متحقق في الوجوه كلها لا يمكن دفعه فوجب نسبة الفعل إلى المكره.
قوله: "وأما الإكراه الذي لا يوجب الإلجاء" كالإكراه بحبس أو بقيد أو بضرب لا يخاف منه على نفسه فلا يوجب نقل الفعل إلى المكره حتى اقتصر الضمان والقود على الفاعل; لأن المكره إنما يصير كالآلة عند تمام الإلجاء لفساد الاختيار باعتبار خوف التلف على نفسه وليس في التهديد بالحبس والقيد معنى خوف التلف على نفسه فبقي الفعل مقصورا على المكره.
قوله: "مثل الأكل والوطء" الأكل يحتمل النسبة إلى المكره من حيث هو أكل باتفاق الروايات عن أصحابنا حتى لو أكره على الأكل وهو صائم يفسد صومه ولا يفسد صوم المكره لو كان صائما; لأن المكره لا يصلح آلة للمكره في نفس الأكل فيقتصر على المكره فأما نسبته إلى المكره من حيث إنه إتلاف فقد اختلفت الروايات فذكر في شرح الطحاوي والخلاصة وغيرهما أنه لو أكره على أكل مال الغير يجب الضمان على المكره دون المكره وإن كان المكره يصلح آلة له من حيث الإتلاف كما في الإكراه على الإعتاق; لأن منفعة الأكل هاهنا حصلت للمكره فيجب الضمان عليه. كما لو أكره على الزنا لا يجب الحد ويجب العقر على الزاني ولا يرجع على المكره; لأن منفعة الوطء حصلت له(4/556)
المكره; لأن المحل الذي إذا تبدل كان في تبديله بطلان الإكراه; لأن الإكراه "رابع" لا أثر له في تبديل المحال وفي تبديل المحل خلاف للإكراه وفي خلافه بطلان الإكراه وإذا بطل اقتصر الفعل على الفاعل وعاد الأمر إلى المحل الأولى وبطل التبديل وذلك مثل إكراه المحرم على قتل الصيد أو إكراه الحلال على قتل صيد الحرم
ـــــــ
بخلاف الإكراه على الإعتاق حيث يجب الضمان على المكره; لأن مالية العبد تلفت بالإكراه من غير أن تحصل المنفعة للمكره, وذكر صاحب المحيط في التتمة أنه لو أكره على أكل طعام نفسه فأكل إن كان جائعا لا يرجع على المكره بشيء وإن كان شبعان يرجع عليه بقيمة الطعام; لأن في الفصل الأول حصلت منفعة الأكل للمكره ولم يحصل في الفصل الثاني. قال ولو أكره على أكل طعام الغير فأكل يجب الضمان على المكره لا على المكره وإن كان المكره جائعا وحصل له منفعة الأكل; لأن المكره أكل طعام المكره بإذنه; لأن الإكراه على الأكل إكراه على القبض; لأنه لا يمكنه الأكل بدون القبض في الغالب وكما قبض المكره الطعام صار قبضه منقولا إلى المكره فكأن المكره قبضه بنفسه وقال له كل ولو قبض بنفسه صار غاصبا ثم مالكا للطعام بالضمان ثم أذن له بالأكل وهناك لا يضمن الآكل شيئا; لأنه أكل طعام الغاصب بإذنه كذا هاهنا.
وفي طعام نفسه لم يصر آكلا طعام المكره بإذنه; لأنه لا يمكن أن يجعل المكره غاصبا للطعام قبل الأكل; لأن ضمان الغصب لا يجب إلا بإزالة يد المالك ولا يتصور الإزالة ما دام الطعام في يده أو فمه فتعذر إيجاب ضمان الغصب قبل الأكل فلا يصير الطعام ملكا له قبل الأكل وإذا لم يوجد سبب الضمان صار آكلا طعام نفسه لا طعام المكره إلا أن المكره متى كان شبعان لم يحصل له منفعة الأكل فكان هذا إكراها على إتلاف ماله فيجب الضمان عليه كله من التتمة وكذلك أي ومثل القسم الذي لا يصلح أن يكون المكره آلة في أن الحكم يقتصر عليه كون الفعل مما يتصور إلى آخره إلا أن المحل أي محل الإكراه وكان ذلك أي محل الإكراه بطل ذلك أي جعله آلة وفي تبديل المحل أي محل الإكراه خلاف المكره; لأنه لما أكرهه على إيقاع فعل في محل كان إيقاعه في محل آخر مخالفة له ضرورة.
قوله: "وذلك" أي مثال هذا الفصل إكراه المحرم على قتل الصيد وإكراه الحلال على قتل صيد الحرم أن ذلك يقتصر على الفاعل يعني في حق الإثم والجزاء جميعا في مسألة المحرم وفي حق الإثم دون الجزاء في حق الحلال. فقد ذكر في المبسوط ولو أن محرما قيل له لنقتلنك أو لتقتلن هذا الصيد فقتله لا شيء على الذي أمره; لأنه حلال لو باشر قبل الصيد بيده لم يلزمه شيء فكذا إذا أكره غيره ولا شيء على المأمور في القياس(4/557)
أن ذلك القتل يقتصر على الفاعل; لأن المكره إنما حمله على أن يجني على إحرام نفسه أو على دين نفسه وهو في ذلك لا يصلح آلة لغيره ولو جعل آلة لتبدل محل الجناية فيصير محل الجناية إحرام المكره ودينه ولهذا قلنا إن المكره على القتل يأثم; لأن القتل من حيث إنه يوجب المأثم جناية على دين
ـــــــ
أيضا; لأنه صار آلة للمكره بالإلجاء التام فينعدم الفعل في جانبه. ألا يرى أن في قتل المسلم لا يكون المكره ضامنا شيئا لهذا المعنى وإن كان لا يسعه الإقدام على القتل ففي قتل الصيد أولى وفي الاستحسان عليه كفارة; لأن قتل الصيد منه جناية على إحرامه وهو بالجناية على إحرام نفسه لا يصلح أن يكون آلة لغيره فيقتصر عليه إذ لا يمكن للمكره أن يجني على إحرام الغير بنفسه فكذلك بالإكراه ولما لم تجب الكفارة هاهنا على الآمر لا بد من إيجابها على المأمور إذا لو لم تجب كان تأثير الإكراه في الإهدار وقد بينا أنه لا تأثير للإكراه في الإهدار وإن كانا محرمين جميعا فعلى كل واحد منهما كفارة. وأما على المكره فلما بيناه وأما على المكره فلأنه لو باشر قتل الصيد بيده يلزمه الكفارة فكذا إذا باشر بالإكراه ولا حاجة في إيجاب الكفارة هاهنا إلى نسبة أصل الفعل إلى المكره; لأن هذه الكفارة تجب على المحرم بالدلالة والإشارة وإن لم يصر أصل الفعل منسوبا إليه فكذلك هاهنا. وبه فارق كفارة القتل إذا كان خطأ فإنه يكون على المكره دون المكره بمنزلة ضمان الدية والقصاص; لأن تلك الكفارة لا تجب إلا بمباشرة القتل ومن ضرورة نسبة المباشرة إلى المكره أن لا يبقى فعل في جانب المكره وهاهنا وجوب الكفارة لا يعتمد مباشرة القتل فيجوز إيجابها على المكره بالمباشرة وعلى المكره بالتسبيب. ولأن السبب هاهنا الجناية على الإحرام وكل واحد منهما جان على إحرام نفسه فأما السبب هناك فهو الجناية على المحل والمحل واحد فإذا أوجبنا الكفارة باعتباره على المكره قلنا لا تجب على المكره. ولو توعده بالحبس وهما محرمان ففي القياس الجزاء على القاتل دون الآمر; لأن قتل الصيد فعل ولا أثر للإكراه بالحبس في الأفعال وفي الاستحسان الجزاء على كل واحد منهما أما على القاتل فلا يشكل وأما على المكره فلأن تأثير الإكراه بالحبس أكثر من تأثير الدلالة والإشارة ويجب الجزاء بهما فبالإكراه بالحبس أولى ولو كانا حلالين في الحرم وقد توعده بقتل كانت الكفارة على المكره; لأن هذا الجزاء في حكم ضمان المال ولهذا لا يتأدى بالصوم ولا يجب بالدلالة ولا يتعدد بتعدد الفاعلين وهذا; لأن وجوبه باعتبار حرمة المحل فيكون بمنزلة ضمان المال وبمنزلة الكفارة في قتل الآدمي خطأ فتبين بما ذكرنا أن المراد من الاقتصار على الفاعل في قتل صيد الحرم الاقتصار في حق الإثم دون الجزاء على إحرام نفسه أي في صورة المحرم أو على دين نفسه أي في صورة الحلال; لأنه لا حرمة للصيد(4/558)
القاتل وهو في ذلك لا يصلح آلة فصار محل الجناية دين المكره لو جعل آلة فصاره في حق الحكم المكره فاعلا وصار المكره في حق المأثم فاعلا فقيل له لا تفعل وصار المكره آثما; لأنه اختار موته وحققه بما في وسعه فلحقه المأثم والمأثم يعتمد عزائم القلوب إذا اتصلت بالفعل ولهذا قلنا في المكره على البيع
ـــــــ
في نفسه بدليل أن الحلال لو اصطاد يحل للمحرم أكله إذا لم يوجد منه صنع من الإشارة ونحوها. وكذا الصيد إذا خرج من الحرم يحل اصطياده فكان محل الجناية هو الإحرام أو الدين في الحقيقة وهو في ذلك أي الجناية على الإحرام أو على الدين لا يصلح آلة لغيره وهو المكره ولو جعل آلة يعني مع أنه لا يصلح آلة لو جعل آلة لتبدل محل الجناية فيصير محل الجناية إحرام المكره لو كان محرما في الفصل الأول ودينه في الفصل الثاني وفي ذلك بطلان الإكراه.
قوله: "ولهذا قلنا" أي ولأن محل الجناية إذا تبدل بالنسبة يقتصر الفعل على الفاعل قلنا إن المكره على القتل يأثم إثم القتل وإن كان القتل مما يصلح الفاعل فيه آلة لغيره; لأن القتل من حيث إنه يوجب المأثم جناية على دين القتل والمكره في ذلك أي في الإثم لا يصلح آلة لغيره; لأن الإنسان في الجناية على الدين لا يصلح أن يكون آلة لغيره إذ لا يمكنه أن يكتسب الإثم على غيره ولو جعلنا المكره آلة كانت الجناية واقعة على دين المكره وأنه لم يأمره بذلك فتبين أنا لو أخرجنا المكره من أن يكون فاعلا في حق الإثم لتبدل به محل الجناية فصار في حق الحكم وهو وجوب القصاص والدية والكفارة وحرمان الإرث المكره فاعلا بنسبة الفعل إليه يجعل المكره آلة له إذ لا يلزم منه تبدل محل الجناية وصار المكره في حق المأثم فاعلا لتعذر النسبة إلى المكره بلزوم تبدل المحل فقيل له أي للمكره لا تفعل يعني لما بقي فاعلا صح أن ينهى عنه شرعا ويلحقه الإثم بالمباشرة ثم بين جهة تأثيمه فقال وصار المكره آثما; لأنه اختار موت المقتول وحقق موته بما في وسعه وهو الجرح الصالح لزهوق الروح وآثر روح نفسه على من هو مثله في الحرمة وأطاع المخلوق في معصية الخالق; لأنه تعالى نهاه عن الإقدام عليه وقصد ذلك وحققه بالفعل والقصد عمل القلب وهو لم يصلح فيه آلة لغيره إذ لا يتصور أن يقصد الإنسان تقلب غيره كما لا يتصور أن يتكلم بلسان غيره فلهذا بقي الإثم عليه وإنما قيد بقوله إذا اتصلت بالفعل إشارة إلى ما ثبت في الحديث "أن الله تجاوز عن هذه الأمة ما حدثت به أنفسهم" .
قوله: "ولهذا قلنا" أي ولما ذكرنا أن عند تبدل المحل يقتصر الفعل على الفاعل قلنا كذا إذا باع مكرها وسلم مكرها ملكه المشتري ملكا فاسدا حتى نفذ فيه إعتاقه(4/559)
والتسليم أن تسليمه يقتصر عليه وإن كان فعلا; لأن التسليم تصرف في البيع وإنما أكره ليتصرف في بيع نفسه بالإتمام وهو فيه لا يصلح آلة ولو جعل آلة
ـــــــ
وتدبيره واستيلاده عندنا. وقال زفر رحمه الله لا يملكه ولو سلم طائعا ينفذ البيع ويقع الملك به بالاتفاق; لأنه يصير إجازة للبيع دلالة بخلاف ما إذا أكره على الهبة فوهب وسلم طائعا حيث لا يكون إجازة; لأن الإكراه على الهبة إكراه على التسليم وجه قوله أنا حكمنا بانعقاد بيع المكره; لأنه لا يصلح فيه آلة لغيره فيبقى مقصورا عليه فأما التسليم فأمر حسي يصلح أن يكون المكره فيه آلة للمكره فينتقل إليه ولهذا وجب عليه الضمان الذي هو من أحكام التسليم وإذا انتقل إليه صار كأنه سلم بنفسه مال المكره إلى المشتري فلا يقع به الملك والدليل على أن الملك لا يقع بهذا التسليم أن المشتري لو وهبه أو تصدق به أو باعه تفسخ عليه هذه التصرفات ولو وقع الملك بهذا التسليم لكان لا تفسخ عليه كما في البيع الفاسد ولنا أن هذا البيع منعقد بصفة الفساد فيوجب الملك عند اتصال القبض كسائر البيوع الفاسدة أما الانعقاد فلمساعدة الخصم عليه فلهذا لو أجاز أو سلم طائعا ينفذ. وأما الفساد فلفوات شرطه وهو الرضا فإن فوات الشرط يوجب الفساد في البيع كفوات شرط المساواة في بدلي الربا يوجب الفساد دون البطلان والبيع الفاسد إذا اتصل به القبض يفيد الملك وقد وجد فإن التسليم قد تحقق من البائع ولم ينتقل إلى المكره بالإكراه; لأن التسليم من البائع متمم سبب الملك ولهذا كان له شبهة بابتداء العقد على ما عرف وقد أكرهه على التصرف في بيع نفسه بالإتمام وهو من هذا الوجه لا يصلح آلة له; لأن المكره لا يقدر على تمليك مال الغير وإتمام تصرفه ليجعل المكره آلة له فيه ولو جعل آلة لتبدل المحل; لأنه يصير حينئذ تصرفا في المغصوب وقد أمر بالتصرف في المبيع ولتبدل ذات الفعل فأنا لو خرجنا هذا التسليم من أن يكون متمما للعقد جعلناه غصبا محضا ابتداء بنسبته إلى المكره وإذا لم يجز أن يتبدل محل الفعل بالإكراه فكيف يجوز أن يتبدل ذاته وإذا كان كذلك بقي التسليم مقتصرا على البائع فيحصل الملك به للمشتري كما لو سلم طائعا وقد نسبناه إلى المكره من حيث هو غصب يعني أن هذا التسليم متمم للتصرف من وجه ومفوت يد المالك من وجه فجعلناه مقتصرا على البائع من حيث إنه إتمام للعقد; لأنه لا يصلح آلة للغير فيه ونسبناه إلى المكره من حيث إنه غصب; لأنه يصلح آلة له فيه فيرجع بالضمان عليه فأما أن يجعله غصبا محضا حتى لا ينفذ إعتاق المشتري أو تسليما محضا حتى لا يكون للبائع الرجوع على المكره بالضمان فلا. ثم هو بالخيار إن شاء ضمن المكره قيمته يوم سلم وإن شاء ضمن المشتري فأما الجواب عن قوله تفسخ التصرفات هاهنا وفي البيع الفاسد لا تفسخ فهو أن القبض مع كون البيع فاسدا حصل بغير(4/560)
لتبدل المحل ولتبدل دأب الفعل; لأنه حينئذ يصير غصبا محضا وقد نسبناه إلى المكره من حيث هو غصب وإذا ثبت أنه أمر حكمي صرنا إليه استقام ذلك فيما يعقل ولا يحس قلنا إن المكره على الإعتاق بما فيه إلجاء هو المتكلم ومعنى الإتلاف منه منقول إلى الذي أكرهه; لأنه من فصل في الجملة يحتمل للنقل
ـــــــ
رضا البائع وفي البيع الجائز لو حصل القبض قبل نقد الثمن بدون رضا البائع وتصرف المشتري فيه تصرفا يحتمل الفسخ يفسخ ففي الفاسد أولى وحقيقة المعنى فيه أن في البيع الفاسد وجوب الفسخ لحق الشرع فإذا باعه المشتري من غيره تعلق به حق العبد فإذا اجتمع الحقان يرجح حق العبد على حق الشرع إذ الأصل هو ترجيح حق العبد عند اجتماع الحقين لحاجة العبد وغناء الشرع فبطل حق الفسخ فأما هاهنا فحق الفسخ لحق البائع وإذا باعه من غيره وتعلق به حق المشتري أيضا فترجح حق البائع لكونه أسبق فبقيت له ولاية الفسخ إذا كان التصرف محتملا للفسخ وكذا في البيع الفاسد وجد التصرف من المشتري بتسليط صحيح من البائع إياه على ذلك التصرف ولم يوجد التسليط هاهنا ولو وجد فهو تسليط فاسد فافترقا.
"قوله وإذا ثبت أنه" أي انتقال الفعل من المكره إلى المكره يعني نسبته إليه أمر حكمي صرنا إليه في إتلاف النفس والمال لا حسي استقام ذلك الانتقال فيما يعقل ولا يحس أي فيما يعقل وجوده من المكره ولا يحس وجوده منه يعني من شرط هذه النسبة أن يتصور ذلك الفعل من المكره ولكن لا يوجد منه حسا إذ لو لم يتصور وجوده منه لا يستقيم النسبة إليه أصلا ولو تصور وجوده منه ووجد منه حسا كانت النسبة حقيقية لا حكمية. فقلنا إن المكره على الإعتاق بما فيه الإلجاء هو المتكلم حتى كان الولاء له; لأن التكلم بالإعتاق أعني التكلم بما يوجب عتق هذا العبد لا يعقل ولا يتصور من المكره; لأنه ليس بمالك للعبد والإعتاق من غير المالك لا يتصور فلا يمكن أن ينسب إليه بأن يجعل المكره آلة له فيه ومعنى الإتلاف منه أي من هذا الإعتاق منقول إلى الذي أكرهه أي هذا الإعتاق يتضمن إتلاف مالية العبد معنى فينقل ذلك الإتلاف المعنوي إلى المكره; لأنه يتصور منه الإتلاف حسا فيمكن نسبته إليه بجعل المكره آلة له فيه; لأنه أي الإتلاف منفصل عن الإعتاق في الجملة لتحققه بالقتل بلا إعتاق محتمل للنقل إلى المكره بأصله لتصوره من المكره ابتداء كما بينا فلذلك يرجع المكره على المكره بقيمة العبد موسرا كان المكره أو معسرا; لأن ضمان الإتلاف لا يختلف بالإيسار والإعسار ويجوز أن يجب الضمان عليه ويثبت الولاء للغير كما في الرجوع عن الشهادة على العتق فإن الضمان على الشاهد والولاء للمشهود عليه بالعتق وهذا لأن الولاء كالنسب ليس بمال متقوم فلا يمنع(4/561)
بأصله. وأما بيان ما ذكرنا من تقسيم الحرمات فإن القسم الأول هو الزنا بالمرأة والقتل والجرح لا يحل ذلك بعذر الإكراه ولا يرخص فيه; لأن دليل الرخصة خوف التلف والمكره والمكره عليه في ذلك سواء فسقط الإكراه في حق تناول دم المكره عليه للتعارض وفي الزنا فساد الفراش وضياع النسل وذلك بمنزلة القتل
ـــــــ
ثبوته للغير وجوب الضمان عليه; ولا سعاية على العبد لأحد; لأن العتق نفذ فيه من جهة مالكه ولا حق لأحد في ماله ولا يلزم على ما ذكرنا المحرم إذا قتل الصيد حيث لا يثبت له الرجوع على المكره بالضمان; لأنه ضمن ضمانا يفتى به ولا يقضى به فلو رجع بضمان يقضى به وقد عرف أن ضمان العدوان مقدر بالمثل فلا يجوز أن يجب عليه زيادة على ما أتلف.
قوله: "فإن القسم الأول" وهو الحرمة التي لا تنكشف ولا تحتمل الرخصة هو كالزناء بالمرأة قيد بالمرأة ليعلم أن المراد به زنا الرجل فإن زنا المرأة يحتمل الرخصة على ما سنذكره لا يحل ذلك أي كل واحد من هذه الأفعال بعذر الإكراه كما يحل شرب الخمر وأكل الميتة به ولا يرخص فيه مع بقاء الحرمة كما رخص في إجراء كلمة الكفر مع الحرمة; لأن دليل ثبوت الرخصة خوف التلف فإنه إذا خاف تلف النفس أو العضو جاز له الترخص بالمحرم وصيانة للنفس أو العضو عن التلف والمكره بفتح الراء والمكره عليه بفتحها أيضا وهو المقصود بالقتل في ذلك أي في استحقاق الصيانة عند خوف التلف سواء فلا يكون له أن يبذل نفس غيره لصيانة نفسه فسقط الإكراه في حق تناول دم المكره عليه للتعارض أي صار الإكراه في حكم العدم في حق إباحة قتل المقصود بالقتل والترخص به لتعارض الحرمتين فإن الترخص لو ثبت بالإكراه لصيانة حرمة نفس المكره منع ثبوته وجوب صيانة حرمة نفس المكره عليه; لأنه مثله في استحقاق الصيانة فلا يثبت للتعارض وفي الزنا فساد الفراش إن كانت المرأة منكوحة الغير وضياع النسل إن لم تكن وذلك بمنزلة القتل أيضا; لأن نسب الولد لما انقطع عن الزاني لا يمكن إيجاب النفقة عليه ولم تكن للمرأة قوة الإنفاق على الولد لعجزها عن الكسب فيهلك الولد ضرورة فكان الزنا بمنزلة الإهلاك حكما فلا يثبت الترخيص فيه بالإكراه للتعارض أيضا قيل فإن ألحق الزنا بالقتل فيما إذا لم تكن المرأة ذات زوج مسلم فأما إذا كانت منكوحة فغير مسلم; لأن الولد حينئذ ينسب إلى الفراش وإن خلق من الزنا لقوله عليه السلام: "الولد للفراش وللعاهر الحجر" وإذا كان كذلك وجبت نفقة الولد وتربيته على صاحب الفراش فلا يكون الزنا إهلاكا. قلنا الأصل أن ينسب الولد إلى من خلق من مائه وتجب نفقته عليه; لأنه جزؤه فلما انقطع النسب عن الزاني كان إهلاكا حكما بالنظر إلى الأصل وقد ينفي صاحب الفراش نسب مثل هذا الولد(4/562)
أيضا حتى إن من قيل له لنقتلنك أو لنقطعن يدك حل له; لأن حرمة نفسه فوق حرمة يده عند التعارض ويد غيره ونفسه سواء والحرمة التي تحتمل السقوط أصلا هي حرمة الخمر والميتة ولحم الخنزير فإن الإكراه الملجئ يوجب إباحته; لأن حرمة هذه الأشياء لم يثبت بالنص إلا عند الاختيار قال الله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] قال تعالى
ـــــــ
عن نفسه عادة فيؤدي إلى الهلاك أيضا وقوله حتى إن من قتل متعلق بالتعارض يعني لو لم يثبت التعارض في صورة التعارض ثبت الترخص كما لو أكره بالقتل على قطع يده حل له القطع وفي المبسوط كان في سعة من ذلك إن شاء الله تعالى; لأن حرمة الطرف تابعة لحرمة النفس والتابع لا يعارض الأصل ولكن يترجح جانب الأصل ففي إقدامه على قطع اليد مراعاة حرمة نفسه وفي امتناعه من ذلك تعريض النفس على التلف وتلفها يوجب تلف الأطراف لا محالة ولا شك أن إتلاف البعض لإبقاء الكل أولى من إتلاف الكل كمن وقعت في يده آكلة يباح له أن يقطع يده ليدفع به الهلاك عن نفسه فهذا المكره في معناه من وجه; لأنه يدفع الهلاك عن نفسه بقطع يده إلا أن محمدا رحمه الله علقه بالمشيئة; لأنه ليس في معنى الآكلة من كل وجه وحرمة النفس كحرمة الطرف من وجه فلهذا تحرز عن الإثبات وقال هو إن شاء الله في سعة من ذلك ويد غيره ونفسه أي نفس الغير أو نفس المكره سواء حتى لو قيل له لتقطعن يد فلان أو لنقتلنك لا يحل له ذلك ولو فعل كان آثما كما لو قيل له لتقتلن فلانا أو لنقتلنك لا يحل له ذلك ولو فعل كان آثما; لأن لطرف المؤمن من الحرمة ما لنفسه بالنسبة إلى غيره. ألا يرى أن المضطر لا يحل له أن يقطع طرف الغير ليأكله كما لا يحل له أن يقتله فيتحقق التعارض فلا يثبت الترخص إلا أن في الإكراه على قطع يد نفسه باعتبار مقابلة طرفه بنفسه جوزنا له أن يختار أدنى الضررين وهذا المعنى لا يتحقق عنده مقابلة طرف الغير بنفسه; لأن القطع أشد على الغير من قتل المكره بل من قتل جميع الخلق; لأنه لا يلزم من ذلك فوات طرفه فثبت أنهما في الحرمة سواء عند مقابلة أحدهما بالآخر.
ولا يقال الأطراف ملحقة بالأموال فينبغي أن يرخص في قطع يد الغير عند الإكراه التام كما رخص في إتلاف مال الغير; لأنا نقول إلحاق الطرف بالمال في حق صاحبه لا في حق الغير; لأن الناس لا يبذلون أطرافهم صيانة لنفس الغير ويبذلون أموالهم فيها فلا يلزم من ثبوت الرخصة في إتلاف المال ثبوتها في إتلاف طرفه.
قوله: "يوجب إباحته" أي إباحة كل واحد من هذه الأشياء قال الله: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} استثنى حالة الضرورة والاستثناء من التحريم(4/563)
{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] وإن كان التحريم في الأصل يثبت مقيدا بالاستثناء كان الاستثناء خارجة عن التحريم فيبقى على الإباحة المطلقة كالذي لا يضطر إلى ذلك لجوع أو عطش يرى أن رفق التحريم يعود إلى المتناول من خبث في المأكول والمشروب قال الله تعالى: {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91]. وقال تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] فإذا أدى ذلك إلى فوت الكل كان فوت البعض أولى من فوت الكل على مثال قولنا لنقطعن يدك أنت أو لنقتلنك نحن فإذا سقطت الحرمة أصلا كان الممتنع من تناوله وهو مكره مضيعا لدمه فصار آثما وهذا إذا تم الإكراه فأما إذا قصر لم يحل له التناول لعدم الضرورة إلا
ـــــــ
إباحة إذا الكلام صار عبارة عما وراء المستثنى وقد كان مباحا قبل التحريم فبقي على ما كان في حالة الضرورة. وقال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} نفى الإثم الذي هو نتيجة الحرمة عن المضطر فيدل على انتفاء الحرمة كالذي يضطر إلى ذلك أي إلى الأكل أو الشرب لجوع أو عطش الأصل فيه أن ما يباح تناوله حالة المخمصة يباح حالة الإكراه إذا كان ملجئا وما لا فلا ومعنى الضرورة في المخمصة أنه لو امتنع عن التناول يخاف تلف النفس أو العضو فمتى أكره بالقتل أو بقطع العضو على الأكل أو الشرب فقد تحققت الضرورة المبيحة لتناول الميتة; لأنه خاف على نفسه أو عضو من أعضائه فدخل تحت النص. فصار آثما يعني إذا كان عالما بسقوط الحرمة فإن كان لا يعلم أن ذلك يسعه يرجى أن لا يكون آثما; لأنه قصد إقامة حق الشرع في التحرز عن ارتكاب الحرام في زعمه وهذا لأن انكشاف الحرمة عند الضرورة ودليله خفي فيعذر فيه بالجهل كما أن عدم وصول الخطاب إليه قبل أن يشتهر يجعل عذرا في ترك ما ثبت بخطاب الشرع كالصلاة في حق من أسلم في دار الحرب ولم يعلم بوجوبها عليه كذا في المبسوط.
هذا أي سقوط الحرمة إذا تم الإكراه بأن كان ملجئا. فإن قصر بأن أكره بالحبس سنة أو بالحبس المؤبد أو بالقيد مع ذلك من غير أن يمنع عنه طعام ولا شراب لا يسعه الإقدام على شيء من ذلك لعدم الضرورة إذ الحبس أو القيد يوجب الهم والحزن ولا يخاف منه على نفس ولا عضو ولا يسعه تناول الحرام لدفع الحزن, ألا يرى أن شارب الخمر في العادة إنما يقصد بشربها دفع الهم والحزن عن نفسه ولو تحقق الإلجاء بالحبس لتحقق بحبس يوم أو نحوه وذلك بعيد كذا في المبسوط. وقال بعض مشايخ بلخ إنما أجاب(4/564)
إذا تناول لم يحد; لأنه لو تكامل أوجب الحل فإذا قصر صار شبهة بخلاف المكره على القتل بالحبس إذا قتل فإنه يقتص; لأنه لو تم لم يحل لكنه انتقل عنه فإذا قصر لم ينتقل ولم يصر شبهة. وأما الذي لا يسقط ويحتمل الرخصة فمثل إجراء كلمة الكفر على اللسان والقلب مطمئن بالإيمان فإن هذا ظلم في الأصل لكنه رخص فيه بالنص في قصة عمار بن ياسر وبقي الكفر عزيمة بحديث خبيب وذلك أن حرمته لا تحتمل السقوط وفي هتك الظاهر مع قرار القلب ضرب جناية لكنه دون القتل; لأن ذلك هتك صورة وهذا هتك صورة ومعنى
ـــــــ
محمد رحمه الله بناء على ما كان من الحبس في زمانه فأما الحبس الذي أحدثوه اليوم في زماننا فإنه يبيح التناول; لأنهم يحبسون تعذيبا كذا في المغني إلا أنه أي المكره بالإكراه القاصر إذا تناول ما يوجب الحد بأن شرب الخمر لم يحد استحسانا وفي القياس يحد; لأنه لا تأثير للإكراه بالحبس في الأفعال فوجوده كعدمه ألا يرى أن العطشان الذي لا يخاف على نفسه الهلاك إذا شرب الخمر يلزمه الحد فالمكره بالحبس كذلك وجه الاستحسان أن الإكراه لو تكامل بأن كان ملجئا أوجب الحل فإذا وجد جزء منه يصير شبهة كالملك في الجزء في الجارية المشتركة يصير شبهة في إسقاط الحد عنه بوطئها فإنه يقتص منه ولا يصير قيام الإكراه شبهة; لأن الإكراه لو تم لم يحل للمكره قتل المكره عليه كما بينا. لكنه أي القتل ينتقل به في حق الحكم عن المكره إلى المكره فإذا قصر لا يؤثر في نسبة الفعل إلى المكره ولا في إباحة القتل فلا يصير شبهة في إسقاط القود عن القاتل.
قوله: "وأما الذي" أي القسم الذي لا يسقط من الحرمات ويحتمل الرخصة فمثل إجراء كلمة الكفر على اللسان بشرط اطمئنان القلب فإن هذا أي الإجراء على اللسان ظلم في أصل وضعه; لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه والكفر بهذه الصفة ولهذا سمى الله تعالى الكافر ظالما في آي كثيرة من القرآن لكنه رخص في الإجزاء بالنص في قصة عمار وقد بينا قصته وقصة خبيب رضي الله عنهما في باب العزيمة والرخصة. وذلك أن حرمته أن حرمة إجراء كلمة الكفر لا تحتمل السقوط; لأن التوحيد واجب على العباد إلى الأبد وهو اعتقاد وحدانية الله تعالى والإقرار بها باللسان. والكفر بالله تعالى حرام دائما إلى الأبد لا تسقط حرمته بالإكراه بل بقي حراما مع الإكراه إلا أنه رخص للعبد إجراء كلمة الكفر; لأن فيه فوات التوحيد صورة لا معنى; لأنه معتقد وحدانية الله تعالى بالقلب وهو الأصل والإقرار باللسان مرة واحدة كاف لتمام الإيمان وما بعدها دوام على ذلك الإقرار وبالإجراء يفوت الدوام وذلك لا يوجب خللا في أصل الإيمان لبقاء الطمأنينة ولكن لما(4/565)
فوجبت الرخصة وبقي الكف عنه عزيمة لبقاء الحرمة نفسها فإذا صبر فقد بذل نفسه لإعزاز دين الله عز وجل فكان شهيدا وإذا أجرى فقد ترخص بالأدنى صيانة للأعلى وكذلك هذا في سائر حقوق الله عز وجل مثل إفساد الصلاة والصيام وقتل صيد الحرم أو في الإحرام لما قلنا وكذلك في استهلاك أموال الناس يرخص فيه بالإكراه التام; لأن حرمة النفس فوق حرمة المال فاستقام أن يجعل
ـــــــ
كان الإجراء كفرا صورة كان حراما; لأن الكفر حرام صورة ومعنى ولو امتنع عنه يفوت حقه في النفس صورة ومعنى فاجتمع هاهنا حقان حق العبد في النفس وحق الله تعالى في الإيمان فترجح حقه على حق الله تعالى لو استوى الحقان لشدة حاجته وغناء الله عز وجل فكيف إذا ترجح حقه هاهنا; لأنه يفوت في الصورة والمعنى وحق الله تعالى لم يفت معنى فلهذا رخص له الإقدام مع كونه حراما كذا في شرح التقويم. لكنه الضمير للضرب دون القتل هو مصدر قتل لا مصدر قتل أي الإجراء على اللسان في هتك حرمة الشرع وكونه جناية على حقه دون أن يقتل المكره; لأن فيه فوات الصورة والمعنى وفي الأولى فوات الصورة لا غير; لأن ذلك أي الإجراء وهذا أي القتل فكان شهيدا لما جاء في الأثر أن: "المخير في نفسه في ظل العرش يوم القيامة إن أبى الكفر حتى يقتل" ولحديث خبيب رضي الله عنه. وكذلك هذا أي وكما بينا من الحكم في صورة الإكراه على الكفر هو الحكم في سائر حقوق الله تعالى حتى لو أكره بما فيه الإلجاء على إفساد الصلاة أو على تركها أو على إفساد الصوم وهو مقيم كان له أن يترخص بما أكره عليه; لأن حقه في نفسه يفوت أصلا وحق صاحب الشرع يفوت إلى خلف فإن صبر ولم يفعل ما أمر به حتى قتل كان مأجورا; لأنه تمسك بالعزيمة; لأن حق الله تعالى وهو الصوم والصلاة لم يسقط عنه بالإكراه وفيما فعله إظهار الصلابة في الدين. وإن كان المكره على الإفطار مسافرا فأبى أن يفطر حتى قتل كان آثما; لأن الله تعالى أباح له الفطر بقوله عز اسمه: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] فعند خوف الهلاك أيام رمضان في حقه كلياليه وكأيام شعبان في حق غيره فيكون آثما في الامتناع بمنزلة المضطر في فصل الميتة بخلاف المقيم الصحيح لأن الصوم في حقه عزيمة قال الله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] والفطر له عند الضرورة رخصة فإن ترخص بالرخصة فهو في سعة من ذلك وإن تمسك بالعزيمة فهو أفضل له.
قوله: "وكذلك" أي ومثل إفساد حقوق الله تعالى استهلاك أموال الناس يرخص فيه أي استهلاكها بالإكراه التام دون القاصر حتى لو قيل له لنقتلنك أو لتأخذن مال هذا الرجل فتدفعه إلي أو ترميه في مهلكة كان في سعة من أن يفعل ذلك; لأن حرمة النفس(4/566)
وقاية لها ولكن أخذ المال وإتلافه ظلم وعصمة صاحبه فيه قائمة فبقي حراما في نفسه لبقاء دليله والرخصة ما يستباح بعذر مع قيام المحرم فإذا صبر حتى قتل فقد بذل نفسه لدفع الظلم ولإقامة حق محترم فصار شهيدا. وكذلك المرأة إذا أكرهت على الزنا بالقتل أو القطع رخص لها في ذلك; لأن ذلك تعرض لحق محترم بمنزلة سائر حقوق الله تعالى وليس في ذلك معنى القتل; لأن نسب الولد عنها لا ينقطع ولهذا قلنا: إنها إذا أكرهت على الزنا بالحبس أنها لا تحد; لأن
ـــــــ
فوق حرمة المال فاستقام أن يجعل المال وقاية للنفس وإن كان مال الغير بخلاف طرف الغير حيث لا يستقيم جعله وقاية للنفس; لأن المال مبتذل في نفسه والحرمة لحق الغير ولهذا يباح بإباحته فأما الطرف فمحترم احترام النفس ولهذا لا يباح قطعه بإذن صاحبه فلا يصلح جعله وقاية للنفس ولكن أخذ المال ظلم يعني كان ينبغي أن لا يجوز له الصبر عنه كما في مال نفسه; لأنه للابتذال في أصل الخلقة وحرمته دون حرمة النفس لكن أخذ مال الغير وإتلافه ظلم وعصمة صاحب المال في المال قائمة أي عصمته لأجل صاحب المال باقية حالة الإكراه; لأنها تثبت للحاجة وحاجته إليه باقية في هذه الحالة فبقي المال حرام التعرض في نفسه لبقاء دليل الاحترام. والرخصة ما يستباح مع قيام المحرم أي يعامل به معاملة المباح فإذا صبر عن التعرض حتى قتل فقد بذل نفسه لدفع الظلم عن مال الغير ولإقامة حق محترم وهو حق صاحب المال فصار شهيدا وألحق محمد رحمه الله الاستثناء بهذا الجواب فقال كان مأجورا إن شاء الله قال شمس الأئمة رحمه الله إنما قيد بالاستثناء; لأنه لم يجد فيه نصا بعينه وإنما قاله بالقياس على الإيمان والصلاة والصوم وليس هذا في معناها من كل وجه; لأن الامتناع من الأخذ هاهنا لا يرجع إلى إعزاز الدين فلهذا قيده بالاستثناء.
قوله: "وكذلك المرأة" أي ومن هذا القسم المرأة إذا أكرهت على الزنا بالقتل أو بالقطع رخص لها في ذلك أي في التمكين من الزنا حتى سقط الحد والإثم عنها ولو صبرت كانت مأجورة; لأن ذلك أي تمكينها من الزنا تعرض لحق محترم في المحل لصاحب الشرع بمنزلة سائر حقوقه من الإيمان والصلاة والصوم فيكون حراما وليس في التمكين معنى القتل الذي هو المانع من الترخص في جانب الرجل لما ذكر فيثبت الترخص عند الإكراه الكامل ولهذا أي ولأن الإكراه الكامل في جانبها يوجب الترخص صار القاصر وهو الإكراه بالحبس أو بالقيد شبهة في درء الحد عنها كما في شرب الخمر بخلاف الرجل فإن الكامل لما لم يوجب الترخص في حقه لا يصير القاصر شبهة في سقوط الحد عنه كما في الإكراه على القتل وكان القياس أن لا يسقط الحد عنه بالكامل أيضا كما قال(4/567)
الكامل يوجب الرخصة فصار القاصر شبهة بخلاف الرجل فصار هذا القسم قسمين قسم حق الله تعالى وفي الإيمان القائم يحتمل السقوط بحال. ألا ترى أنه لما لم يكن في العقيدة ضرورة لم تحتمل الرخصة بالتبديل ودخلت الرخصة في الأداء للضرورة ولما سبق أن أصل الشرع التوحيد والإيمان. والأصل فيه الاعتقاد والأداء فيه ركن ضم إليه فصارت عمدة الشرع وهو أساس الدين لا يحتمل السقوط والتعدي من البشر بحمد الله تعالى وصار غيره عرضة للعوارض وما كان من حقوق العباد من جنس ما يحتمل السقوط ومن حقوق الله
ـــــــ
أبو حنيفة أولا وهو قول زفر رحمهما الله; لأن الزنا لا يتصور من الرجل إلا بانتشار الآلة وذلك دليل الطواعية فإن الانتشار لا يحصل عند الخوف بخلاف المرأة فإن التمكين يتحقق منها مع الخوف فلا يكون تمكينها دليل الطواعية. إلا أن في الاستحسان يسقط كما رجع إليه أبو حنيفة رحمه الله وهو قولهما; لأن الحد مشروع للزجر ولا حاجة إليه في حالة الإكراه; لأنه كان منزجرا إلى أن تحقق الإكراه وخوف التلف على نفسه وإنما قصد بالإقدام دفع الهلاك عن نفسه لا اقتضاء الشهوة فيصير ذلك بشبهة في إسقاط الحد عنه وانتشار الآلة لا يدل على عدم الخوف فإنه قد يكون طبعا بالفحولية المركبة في الرجال وقد يكون طوعا ألا يرى أن النائم قد تنتشر آلته طبعا من غير اختيار له ولا قصد فلا يدل ذلك على عدم الخوف.
قوله: "فصار هذا القسم" أي الذي لا يسقط ويحتمل الرخصة قسمين قسم لا يحتمل السقوط أصلا مثل حق الله تعالى في الإيمان القائم أي الموجود فإنه مشتمل على ركنين أحدهما الاعتقاد الذي هو الأصل فيه وحرمة تبديله بضده حق الله تعالى لا يحتمل السقوط بوجه ولا يحتمل الرخصة; لأن الضرورة الداعية إلى الترخص لا يتحقق فيه لعدم احتماله التعدي من البشر. والركن الثاني الأداء وهو الإقرار باللسان وحرمة تبديله بضده لا يحتمل السقوط أيضا ولكنه يحتمل الترخص لاحتماله التعدي من البشر فهذا الركن هو أحد القسمين المذكورين.
والثاني منهما ما يحتمل السقوط في نفسه ولكن لما لم يثبت دليل السقوط بقي فعند الضرورة يثبت الترخص فيه مع بقاء الحرمة وذلك مثل حقوق العباد وما يحتمل السقوط من حقوق الله تعالى كحرمة ترك الصلاة والصوم فإنها تحتمل السقوط في ذاتها كما سقطت في حالة الحيض ولكن لما لم يثبت دليل السقوط عند الإكراه بقيت فتثبت الرخصة مع بقاء الحرمة وإنما لم يذكر الركن الأول من إيمان في القسم الأول الذي لا(4/568)
تعالى قسما آخر أنه يحتمل السقوط بأصله لكن دليل السقوط لما لم يوجد وعارضه أمر فوقه وجب العمل بإثبات الرخصة والعمل وجب بأصله بأن جعل أصله عزيمة وهذا كمن أصابته مخمصة حل له تناول طعام غيره رخصة لا إباحة مطلقة حتى إذا ترك فمات كان شهيدا بخلاف طعام نفسه وإذا استوفاه ضمنه لكونه معصوما في نفسه وذلك مثل تناول محظور الإحرام عن ضرورة بالمحرم أنه يرخص له ويضمن الجزاء فكذلك ههنا والله أعلم بالصواب.
ـــــــ
يحتمل السقوط رخصة; لأن ذلك القسم في بيان ما لا يحتمل الترخص مع تحقيق الضرورة وهذا الركن لا يحتمل الترخص لعدم احتماله التعدي من البشر المؤدي إلى الضرورة فلم يكن من ذلك القسم ولما سبق بكسر اللام ولأن فيه أي في الإيمان ركنا ضم إلى الاعتقاد أي هو ركن زائد وصار غيره أي غير الاعتقاد وهو الإقرار وعارضه أي هذا القسم أمر آخر فوقه وهو تلف النفس أو العضو وجب العمل به أي بالأمر الذي فوقه وهو صيانة النفس عن التلف والعمل وجب بأصله أي بأصل الحق بإبقاء الحرمة وهذا أي إبقاء العزيمة وإثبات الترخص بالإكراه فيما ذكرنا مثل إثبات الترخص وإبقاء العزيمة بالمخمصة فيمن اضطر إلى تناول طعام الغير حيث ثبت له التناول رخصة لا إباحة مطلقة ولا يصير كطعام نفسه في الإباحة حتى وجب عليه الضمان بالتناول لو صبر كان مأجورا بخلاف طعام نفسه والحمد لله رب العالمين.(4/569)
خاتمة الكتاب
قال العبد الضعيف أدام الله عليه عافيته وختم بالخير عاقبته هذا آخر ما يسر الله لي من شرح مشكلات هذا الكتاب وكشف معضلاته ووفق لي على حل عقده وفسر مجملاته فبذلت مجهودي في تصحيح ألفاظه وتنقيح معانيه وأنجزت موعدي في تشييد قواعده وتمهيد مبانيه واجتهدت في إيضاح ما استبهم من خفاياه بتفسير كاشف عن أسرارها وبالغت في إفصاح ما استعجم من خباياه ببيان رافع لأستارها بعد مطالعات طويلة لكتب المحققين من السلف ومراجعات كثيرة إلى المدققين في فحول الخلف في طلب ما يزيل الإغفال وتحصيل ما يزيح الإشكال. وقد كان يهجس في قلبي ويدور في خلدي من قديم الدهر أن أكتب لهذا الكتاب شرحا شافيا ينتفع به المتنبه المبتدئ ويرجع إليه المنبه المنتهي وكان يثبطني عن ذلك قلة البضاعة ويمنعني عنه عرفاني أني لست من أهل هذه الصناعة حتى أفضى به قضاء الله وقدره إلى أن شرعت في هذا الأمر الذي يحار فيه نحارير العلماء ويقصر دونه خطو الفصحاء والبلغاء فتيسر لي هذا الأمر العظيم بفضل الله وطوله واستتم هذا الخطب الجسيم بقوته وحوله ووصلت إلى ما قصدت ببره وإحسانه ووفيت بما عليه عقدت بجوده وامتنانه فبرز مصنفي هذا خريدة حسناء أرسلتها إلى خطابها وفريدة زهراء أهديتها إلى طلابها وتحفة للأصحاب أبهى من الدر والجوهر وهدية إلى الأحباب أزكى من المسك والعنبر لاحتوائه على حقائق المعاني الفقهية وانطوائه على دقاق اللطائف الملية واطلاعه على خفيات لم يفطن قبل بمسالكها ومناهجها وإبرازه عن مهمات لم يفطن بمداخلها ومخارجها فمن أحاط بما ضمن فيه من اللطائف الغريبة وأتقن ما بين فيه من الطرائف العجيبة تبين له في الخطاب منهاج التحقيق وسهل عليه في تخريج الصعاب سلوك مسالك التدقيق. وهذا وإني وإن بذلت طاقتي في التهذيب والتنقيح وحرفت همتي إلى التوضيح والتصحيح متيقن بأن غيري قد يطلع ما أخفي علي من معنى أدق ووجه أحق وتفسير أوضح وتقرير أفصح ومعترف بأن بعض الآحاد فضلا عن الأفراد قد يقف فيه على عثرات أو يعثر على زلات فإن التصون عن الخطأ والخلل في التصنيف والتحرز عن الهفوة والزلل في التأليف نجزت(4/570)
عن إحاطته القوى والقدر ويعجز عنه كافة البشر إلا من اختص بالهداية إلى مسالك الرشد والسداد والوقاية عن مهالك الغي والفساد فالمتوقع ممن نظر فيه وعثر على ما لا يرتضيه أن يكون عاذرا لا عاذلا وناصرا لا خاذلا فيسعى في إصلاح ما عثر عليه من الفساد متجنبا في ذلك طريق التحاسد والعناد راجيا حسن الثواب من الملك العزيز الوهاب. وأسأل الله العظيم الذي شمل إحسانه كافة البرايا والرب الكريم الذي عم غفرانه جميع الذنوب والخطايا أن يجعل ما قاسيت في هذا التصنيف وعانيت في هذا التأليف موجبا للثناء الجميل في الدنيا وسببا للثواب الجزيل في العقبى وأن يحفظنا من اختلال الآراء ويعصمنا من اتباع الأهواء وأن يجعل مطرح أبصارنا كمال ذاته ومسرح أفكارنا جلال صفاته ويصيرنا من الذاكرين لقسمه والشاكرين لنعمه ويجعل مراتعنا رياض اليمن والكرامة ومشارعنا حياض الأمن والسلامة بفضله ورحمته ومنه ورأفته إنه أرحم الراحمين وأكرم الغافرين وصلى الله على سيدنا محمد وآله أجمعين.(4/571)