ذلك وإن لم يتصل به التمكن من العمل عندنا على ما مر, ويستوي في ذلك أن يكون في عصرين أو عصر واحد أعني به في جواز النسخ, والله أعلم بالصواب.
ـــــــ
حكم ثبت بالإجماع ويظهر ذلك بتوفيق الله تعالى أهل الاجتهاد على إجماعهم على خلاف الإجماع الأول كما إذا ورد نص بخلاف النص الأول ظهر به أن مدة ذلك الحكم قد انتهت ولا يقال زمان الوحي قد انقطع بوفاة النبي عليه السلام فلا يجوز بعده نسخ شيء; لأنا نقول: زمان نسخ ما ثبت بالوحي قد انقطع بوفاته; لأنه متوقف على نزول الوحي وذلك غير متصور بعد فأما زمان نسخ ما ثبت بالإجماع فغير منقطع لبقاء زمان انعقاد الإجماع وحدوثه, وهذا مختار الشيخ فأما جمهور الأصوليين فقد أنكروا جواز كون الإجماع ناسخا ومنسوخا على ما مر بيانه في باب تقسيم الناسخ, والله أعلم.(3/387)
باب بيان سببه
قال الشيخ الإمام رضي الله عنه: وهو نوعان الداعي والناقل أما الداعي فيصلح أن يكون من أخبار الآحاد أو القياس, وقال بعضهم: لا بد من جامع آخر مما لا يحتمل الغلط وهذا باطل عندنا; لأن إيجاب الحكم به قطعا لم يثبت من قبل
ـــــــ
"باب بيان سببه"
أي سبب الإجماع, وهو نوعان: الداعي: أي السبب الذي يدعوهم إلى الإجماع ويحملهم عليه.
"والناقل" أي السبب الناقل ويجوز أن يكون المراد منه الخبر أي الخبر الذي ينقل الإجماع إلينا ويكون الإسناد مجازيا, ويجوز أن يكون المراد منه النقل ومن الناقل المعرف أي النقل الذي يعرفنا الإجماع, ولهذا سماه سببا; لأن الإجماع يثبت في حقنا بواسطته كالكتاب والسنة فيكون النقل طريقا إليه واعلم أن عند عامة الفقهاء والمتكلمين لا ينعقد إجماع إلا عن مأخذ ومستند; لأن اختلاف الآراء والهمم يمنع عادة من الاتفاق على شيء إلا عن سبب يوجبه ولأن القول في الدين بغير دليل خطأ إذ الدليل هو الموصل إلى الحق فإذا فقد لا يتحقق الوصول إليه فلو اتفقوا على شيء من غير دليل لكانوا مجمعين على الخطأ وذلك قادح في الإجماع. وأجاز قوم انعقاد الإجماع لا عن دليل بأن يوفقهم الله تعالى لاختيار الصواب ويلهمهم إلى الرشد بأن يخلق فيهم علما ضروريا بذلك مستدلين بأن خلق الله تعالى فيهم العلم بطريق الضرورة ليس بممتنع بل هو من الجائزات فيجوز أن يصدر الإجماع عنه كما يجوز أن يصدر عن دليل وبأن الإجماع حجة في نفسه فلو لم ينعقد إلا عن دليل لكان ذلك الدليل هو الحجة ولم يبق في كون الإجماع حجة فائدة, وبأن الإجماع لا عن دليل قد وقع كإجماعهم على بيع المراضاة أي التعاطي وأجرة الحمام وكل ذلك فاسد; لأن حال الأمة لا يكون أعلى من حال الرسول عليه السلام, ومعلوم أنه لا يقول إلا عن وحي ظاهر أو خفي أو عن استنباط من النصوص عليه فالأمة أولى أن لا يقولوا إلا عن دليل ولأن الإجماع لا يصدر إلا عن العلماء, وأهل الديانة لا يتصور منهم الاجتماع على حكم من أحكام الله جزافا بل بناء على حديث سمعوه ومعنى من النصوص رأوه مؤثرا في الحكم فأما الحكم جزافا أو بالهوى والطبيعة فهو عمل(3/388)
دليله بل من قبل عينه كرامة للأمة وإدامة للحجة وصيانة وتقريرا لهم على المحجة ولو جمعهم دليل موجب يوجب علم اليقين لصار الإجماع لغوا فثبت أن ما قاله هذا القائل حشو من الكلام. وأما السبب الناقل إلينا فعلى مثال نقل
ـــــــ
أهل البدعة والإلحاد, وقولهم لو انعقد عن دليل لم يبق في الإجماع فائدة باطل; لأنه يقتضي أن لا يصدر الإجماع عن دليل واحد لا نقول به, إذ الخلاف في أن الدليل ليس بشرط لا أن عدم الدليل شرط. على أن فيه فوائد وهي سقوط البحث عن ذلك الدليل وكيفية دلالته على الحكم وحرمة المخالفة بعد انعقاد الإجماع الجائزة قبله بالاتفاق. وأما ما ذكروا من بيع المراضاة وأجرة الحمام فالإجماع فيهما ما وقع إلا عن دليل إلا أنه لم ينقل إلينا استغناء بالإجماع عنه.
وإذا ثبت أنه لا بد للإجماع من مستند فذلك المستند يصلح أن يكون دليلا ظنيا كخبر الواحد والقياس عند جمهور العلماء كما صلح أن يكون دليلا قطعيا مثل نص الكتاب والخبر المتواتر وذهب داود الظاهري وأتباعه والشيعة ومحمد بن جرير والقاشاني من المعتزلة إلى أن مستند الإجماع لا يكون إلا دليلا قطعيا ولا ينعقد الإجماع بخبر الواحد والقياس; لأن الإجماع حجة قطعية وخبر الواحد والقياس لا يوجبان العلم قطعا فلا يجوز أن يصدر عنهما ما يوجب العلم قطعا إذ الفرع لا يكون أقوى من الأصل, كذا ذكر الاختلاف في الميزان وأصول شمس الأئمة وعليه يدل كلام الشيخ أيضا, ولكن المذكور في عامة الكتب أنهم وافقونا في انعقاد الإجماع عن خبر الواحد واختلفوا في انعقاده عن القياس. ووجهه أن الناس خلقوا على همم متفاوتة وآراء مختلفة فلا يتصور إجماعهم على شيء إلا لجامع جمعهم عليه وكلام من التزموا طاعته وانقادوا لحكمه يصلح جامعا, فأما الاجتهاد بالرأي مع اختلاف الدواعي فلا يصلح جامعا ولأن الإجماع منعقد على جواز مخالفة المجتهد فيما اجتهد فلو انعقد الإجماع عن اجتهاد لحرمت المخالفة الجائزة بالاتفاق ولأن الإجماع لا يكون إلا باتفاق أهل العصر ولا عصر إلا, وفيه جماعة من نفاة القياس فذلك يمنع من انعقاد الإجماع مسندا إلى القياس حجة الجمهور أن انعقاد الإجماع عن خبر الواحد والقياس أمر لا يستحيله العقل كانعقاده عن غيرهما والنصوص التي توجب كون الإجماع حجة لا تفصل وبينهما إذا كان مستنده دليلا قطعيا أو ظنيا فوجب القول به ولا يجوز اشتراط الدليل القطعي; لأنه يكون تقييدا لها من غير دليل, وهو فاسد. كيف وقد وقع الإجماع عن خبر الواحد والقياس مثل إجماعهم في وجوب الغسل مسندا إلى حديث عائشة رضي الله عنها في التقاء الختانين وإجماعهم على حرمة بيع الطعام قبل القبض مسندا إلى ما روى ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم "من ابتاع طعاما فلا يبيعه(3/389)
السنة فقد ثبت نقل السنة بدليل قاطع لا شبهة فيه, وقد ثبت بطريق فيه شبهة, فكذا هذا إذا انتقل إلينا إجماع السلف بإجماع كل عصر على نقله كان في معنى
ـــــــ
حتى يستوفيه1" ومثل إجماعهم على إمامة أبي بكر مسندا إلى الاجتهاد, وهو الاعتبار بالإمامة في الصلاة حتى قال بعضهم رضيه رسول الله لديننا أفلا نرضاه لدنيانا وإجماعهم في زمن عمر على حد شارب الخمر ثمانين استدلالا بحد القذف حيث قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه هذا حد وأقل الحد ثمانون, وقال علي إذا سكر هذى, وإذا هذى افترى فأرى أن يقام عليه حد المفترين. ثم أجاب الشيخ عن كلامهم فقال: وهذا أي اشتراط جامع لا يحتمل الغلط باطل; لأن إيجاب الحكم بالإجماع بطريق القطع وكونه حجة لم يثبت من قبل دليله أي مستنده ليشترط قطعية بل ثبت من قبل ذاته لأجل تكريم هذه الأمة ولاستدامة حجة الله تعالى في الأحكام إلى آخر الدهر ولأجل تقرير هذه الأمة على المحجة أي جادة الطريق المستقيم على ما مر تقريره, وهذه المعاني لا تفصل بين أن يكون مستنده قطعيا أو غير قطعي.
وقوله "ولو جمعهم دليل يوجب علم اليقين" لصار الإجماع لغوا يوهم بظاهره أن الإجماع عند الشيخ لا ينعقد عن دليل قطعي كما ذهب إليه البعض على ما نص عليه في الميزان; لأن الجامع لو كان قطعيا لم يبق في انعقاد الإجماع فائدة; لأن الحكم والقطع بصحته يثبتان بذلك الدليل فلم يبق للإجماع تأثير في إثبات شيء فيكون لغوا بخلاف ما إذا كان الجامع دليلا ظنيا; لأن أصل الحكم إن ثبت به لم يثبت القطع بصحته إلا بالإجماع فكان فيه فائدة وصار بمنزلة دليل ظني تأيد بآية من الكتاب أو بالعرض على الرسول عليه السلام والتقرير منه على موجبه ولأن الإجماع إنما جعل حجة للحاجة; فإنه متى وقعت حادثة لا يكون فيها دليل قاطع اضطروا إلى العمل بدليل محتمل للخطأ وحينئذ يجوز خروج الحق عن جميعهم, وقد بينا فساده, والحاجة إنما يثبت فيما إذا كان دليله ظنيا دون ما كان دليله قطعيا فلا ينعقد فيما لا حاجة فيه; لأن الشرع لا يرد بما لا فائدة فيه ولكن مذهب الشيخ كمذهب العامة في صحة انعقاد الإجماع عن أي دليل كان ظني أو قطعي; لأنه لما انعقد على مستند ظني فعن مستند قطعي أولى أن ينعقد; لأنه أدعى إلى الاتفاق الذي هو ركنه وبعدما انعقد به كان مؤكدا لموجبه بمنزلة ما لو وجد في حكم نصان قطعيان من الكتاب أو نص من الكتاب وخبر متواتر, فكان معنى قوله ولو جمعهم دليل
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في البيوع، ومسلم حديث رقم 1525. وأ[و داود حديث رقم 3492. وابن ماجة حديث رقم 2226.(3/390)
نقل الحديث المتواتر. وإذا انتقل إلينا بالأفراد مثل قول عبيدة السلماني: ما اجتمع أصحاب النبي عليه السلام على شيء كاجتماعهم على محافظة الأربع قبل الظهر وعلى إسفار الصبح وعلى تحريم نكاح الأخت في عدة الأخت. وسئل عبد الله بن مسعود عن تكبيرة الجنازة فقال: كل ذلك قد كان إلا أني رأيت
ـــــــ
موجب علم اليقين لو شرط أن يكون الجامع دليلا قطعيا بحيث لا يجوز غيره كان الإجماع لغوا لعدم إفادته أمرا مقصودا في صورة, إذ التأكيد ليس بمقصود أصلي بخلاف ما إذا لم يشترط ذلك; لأنه يفيد القطع إن صدر عن ظني والتأكيد إن صدر عن قطعي قال شمس الأئمة رحمه الله: فمن يقول بأنه لا يكون صادرا إلا عن دليل موجب للعلم; فإنه يجعل الإجماع لغوا وإنما يثبت العلم بذلك الدليل فهو ومن ينكر كون الإجماع حجة أصلا سواء. وقولهم الإجماع منعقد على جواز مخالفة المجتهد مسلم إذا لم يوافقه مجتهدو عصره أما إذا وافقوه فلا. وقولهم وجود نفاة القياس مانع من انعقاد الإجماع فاسد; لأن الخلاف في القياس لم يكن في العصر الأول بل هو حادث فإذن لا يمنع عن انعقاد الإجماع عن القياس مطلقا بل بعد وقوع الخلاف فيه, وهو مسلم. قال شمس الأئمة: كان في الصدر الأول اتفاق على استعمال القياس وكونه حجة وإنما أظهر الخلاف بعض أهل الكلام ممن لا بصر له في الفقه وبعض المتأخرين ممن لا علم بحقيقة الأحكام وأولئك لا يقتدى بهم ولا يؤنس بوفاقهم ومما يتعلق بهذه المسألة أن الإجماع إذا انعقد بدليل يكون منعقدا على الدليل الموجب للحكم عند بعض الأشعرية, وعند أكثر الفقهاء والمتكلمين يكون منعقدا على الحكم المستخرج من الدليل; لأن الحكم هو المطلوب ولأجله انعقد الإجماع فيكون منعقدا عليه ويبتنى عليه أن الإجماع المنعقد على موجب خبر من الأخبار يدل على صحة الخبر عند الفريق الأول إذا علم أنهم أجمعوا لأجله وعند الجمهور لا يكون دليلا على صحته وإنما يدل على صحة الحكم فقط; لأن لصحة الخبر طريقا مخصوصا في الشرع, وهو النقل فيطلب صحته وعدم صحته من ذلك الطريق.
قوله "وإذا انتقل" أي الإجماع إلينا بالأفراد أي بنقل الآحاد وجواب إذا قوله كان هذا أي انتقاله بالأفراد كنقل السنة بالآحاد ووقع في بعض النسخ فكان بالغا وليس بصحيح. واختلف في الإجماع المنقول بلسان الآحاد بعدما اتفقوا أنه لا يوجب العلم أنه هل يوجب العمل أم لا فذهب أكثر العلماء إلى أنه يوجب العمل; لأن الإجماع حجة قطعية كقول الرسول صلى الله عليه وسلم, ثم إذا نقلت السنة إلينا بطريق الآحاد كانت موجبة للعمل مقدمة على القياس, فكذا الإجماع المنقول بالآحاد. وذكر الضمائر الراجعة إلى السنة في قوله: وهو يقين(3/391)
أصحاب محمد صلي الله عليه ومسلم يكبرون أربعا وكما روي في توكيد المهر بالخلوة وكان هذا كنقل السنة بالآحاد, وهو يقين بأصله لكنه لما انتقل إلينا بالآحاد أوجب العمل دون علم اليقين وكان مقدما على القياس فهذا مثله, ومن الفقهاء من
ـــــــ
إلى آخره على تأويل الحديث أو قول الرسول عليه السلام فهذا أي الإجماع أو انتقال الإجماع مثله أي مثل الحديث أو مثل انتقال الحديث, وقال بعض أصحاب الشافعي منهم الغزالي: إنه لا يوجب العمل وهكذا نقل عن بعض أصحابنا; لأن الإجماع قاطع يحكم به على الكتاب والسنة المتواترة ونقل الواحد ليس بقطعي فكيف يثبت به قاطع. والجواب أنا لا نثبت بنقل الواحد إجماعا قاطعا موجبا للعلم ليمتنع ثبوته به بل نثبت به إجماعا ظنيا موجبا للعمل وثبوت مثله بنقل الواحد غير ممتنع كخبر الواحد ولكنهم يقولون: وجوب العمل بخبر الواحد ثبت بدلائل قاطعة وهي إجماع الصحابة ودلالات النصوص ولم يوجد هاهنا إجماع ولا نص يدل على وجوب العمل به فلو ثبت لكان بالقياس على خبر الواحد ولا مدخل للقياس في إثبات أصول الشريعة; لأنه نصيب شرع بالرأي ولا مدفع لهذا إلا بأن يجعل وجوب العمل به ثابتا بطريق الدلالة بأن يقال: نقل الواحد للدليل الظني موجب للعمل قطعا كالخبر الذي تخللت واسطة بين ناقله والرسول فنقل الواحد للدليل القطعي, وهو الإجماع الذي لم يتخلل بينه وبين ناقله واسطة أولى بأن يوجب العمل قطعا; لأن احتمال الضرر في مخالفة المقطوع به أكثر من احتماله في مخالفة المظنون به, وإذا ثبت وجوب العمل به في هذه الصورة يثبت فيما إذا تخلل في نقله واسطة أو وسائط لعدم القائل بالفصل.
قوله "مثل قول عبيدة السلماني" بفتح العين وكسر الباء وفتح السين وسكون اللام هو أبو مسلم عبيدة بن قيس بن سلم أو عمرو منسوب إلى سلمان حي من مراد وأصحاب الحديث يفتحون اللام, وهو من أصحاب علي وابن مسعود أسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين ولم يره وسمع عمر وابن الزبير ونزل الكوفة فروى عنه الشعبي والنخعي وابن سيرين وغيرهم ومات سنة اثنين أو ثلاث وسبعين من الهجرة وسئل ابن مسعود عن تكبير الجنازة يعني وسئل عنه أن تكبيرات الجنازة أربع أو خمس أو سبع أو تسع كما جاءت به الآثار فقال: كل ذلك قد كان إلى آخره, ثم رجع إلى أصل الكلام, وهو أن الإجماع حجة فقال من أنكر الإجماع أي أنكر كونه حجة فقد أبطل دينه; لأن مدار أصول الدين على الإجماع إذ المعرفة بالقرآن وأعداد الصلوات والركعات وأوقات العبادات ومقادير الزكوات وغيرها حصلت لنا بإجماع المسلمين على نقلها فكان إنكار الإجماع مؤديا إلى إبطالها إلا أن لهم أن يقولوا: لم يثبت(3/392)
أبى النقل بالآحاد في هذا الباب, وهو قول لا وجه له ومن أنكر الإجماع فقد أبطل دينه كله; لأن مدار أصول الدين كلها ومرجعها إلى إجماع المسلمين وصلى الله على نبيه محمد وآله أجمعين.
ـــــــ
أصول الدين بالإجماع بل بالنقل المتواتر, والفرق ثابت بين النقل المتواتر والإجماع; فإن النقل يوصل إلينا ما كان ثابتا والإجماع يثبت ما لم يكن ثابتا فلا يلزم من إنكاره إبطال أصول الدين بل يلزم منه عدم ثبوتها به وذلك لا يمنع من ثبوتها بدليل آخر, والله أعلم. وإذ قد فرغنا بتوفيق الله وإنعامه وتأييده وإكرامه عن بيان الأصول الثلاثة وتحقيق معانيها وتأسيس قواعدها وتمهيد مبانيها وتوضيح مسائلها المشكلة وتنقيح دلائلها المعضلة, فلنشرع في شرح الأصل الرابع الذي هو ميزان عقول أولي النهى وميدان الفحول ذوي الحجا به نعرف قدر الحذاقة والفطانة ويسبر غور الفقاهة والرزانة, وفيه تحار العقول والأفهام ويفرط الإغلاق والأوهام كاشفين النقاب عن الله وحقائقه رافعين الحجاب عن أسرار لطائفه ودقائقه حامدين لله تعالى على أفضاله ومصلين على سيدنا محمد وآله.(3/393)
باب القياس
قال الشيخ الإمام رضي الله عنه الكلام في هذا الباب ينقسم إلى أقسام: أولها الكلام في تفسير القياس والثاني في شرطه والثالث في ركنه والرابع في حكمه والخامس في دفعه ولا بد من معرفة هذه الجملة; لأن الكلام لا يصح إلا بمعناه ولا يوجد إلا عند شرطه ولا يقوم إلا بركنه ولم يشرع إلا لحكمه ثم لا يبقى إلا الدفع
ـــــــ
"باب القياس"
قوله: "لأن الكلام" لا يصح إلا بمعناه إثبات الشيء لا يمكن إلا بعد معرفة معناه فإذا لم يكن للفظ معنى لا يكون مفيدا, وإذا لم يكن مفيدا كان مهملا وصار كألحان الطيور ولا يوجد أي على وجه يعتبر إلا عند شرطه لأن شرط الشيء ما يتوقف وجوده عليه فلا يتصور وجود المشروط إلا بعد وجود الشرط, ألا ترى أن الصلاة لا تصح إلا بعد تحصيل الطهارة والنكاح لا يصح إلا بعد إحضار الشهود فلهذا قدم ذكر الشرط على الركن ولا يقوم إلا بركنه; لأن ركن الشيء نفس ذلك الشيء أو بعض ما هو داخل في ماهيته فلم يكن بد من معرفته ولم يشرع إلا لحكمة إذ الشيء إنما يخرج من حد السفه والعبث إلى حد الحكمة بكونه مفيدا وذلك إنما يكون بحكمة, ثم لا يبقى إلا الدفع أي لم يبق بعد تحقق هذه الأربعة إلا الدفع فكانت معرفته مؤخرة عن معرفة الجميع.(3/394)
باب تفسير القياس
للقياس تفسير هو المراد بظاهر صيغته, ومعنى هو المراد بدلالة صيغته ومثاله الضرب هو اسم لفعل يعرف بظاهره ولمعنى يعقل بدلالته على ما قلنا, أما الثابت بظاهر صيغته فالتقدير يقال قس النعل بالنعل أي أحذه به وقدره به وذلك أن يلحق الشيء بغيره فيجعل مثله ونظيره, وقد يسمى ما يجري بين اثنين من المناظرة قياسا, وهو مأخوذ من قايسته قياسا, وقد يسمى هذا القياس نظرا
ـــــــ
قوله: "للقياس تفسير هو المراد بظاهر صيغته" أي له معنى لغوي يدل ظاهر صيغته عليه بالوضع ومعنى هو المراد بدلالة صيغته أي معنى يدل صيغته عليه باعتبار معناها لا بظاهرها, ومثاله أي مثال القياس على التفصيل الذي قلنا الضرب; فإن له تفسيرا هو المراد بظاهره, وهو إيقاع الخشبة على جسم حي ومعنى يعقل بدلالته, وهو الإيلام فيتناول العض والخنق ومد الشعر في قول الرجل: والله لا أضرب فلانا بمعناه لا بظاهره وصورته كما يتناول التأفيف الضرب والشتم بمعناه, وهو الإيذاء لا بصورته. ومثال آخر قوله تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]; فإن ترك البيع يفهم من ظاهره وترك ما يشغله عن السعي يفهم من معناه حتى يحرم عليه الاشتغال بالشراء وسائر الأعمال التي تمنعه عن السعي.
قوله "أما الثابت بظاهر صيغته فالتقدير" يقال قست الأرض بالقصبة إذا قدرتها بها, ويقال قاس الطبيب الجرح إذا سبره بالمسبار ليعرف مقدار غوره, ثم التقدير لما استدعى أمرين يضاف أحدهما إلى الآخر بالمساواة استعمل بمعنى المساواة أيضا فقيل قس النعل بالنعل أي أحدهما أي سواها بصاحبتها, ومنه يقال يقاس فلان بفلان ولا يقاس بفلان أي يساويه ولا يساويه ومنه قول الشاعر:
خف بإلحاق كريم على عرض يدنسه ... مقال كل سفيه لا يقاس لكا
وإليه أشار الشيخ بقوله: "وذلك" أي التقدير أن يلحق الشيء بغيره فيجعل مثله ونظيره وكان غرضه من هذا الكلام أن التقدير في المعاني والأحكام بإلحاق الشيء بغيره ليجعل الشيء الملحق نظير الملحق به في الحكم الذي وقعت الحاجة إلى إثباته واسم النعل مؤنث سماعي إلا أن الشيخ ذكر ضميرها نظرا إلى ظاهر اللفظ وصلة القياس في(3/395)
مجازا; لأنه من طريق النظر يدرك, وقد يسمى اجتهادا; لأن ذلك طريقه فسمي به مجازا. وأما المعنى الثابت بدلالة صيغته فهو أنه مدرك في أحكام الشرع ومفصل من مفاصله وهذه جملة لا تعقل إلا بالبسط والبيان. وبيان ذلك أن الله
ـــــــ
اللغة هي الباء إلا أن في الشرع جعلت كلمة على فقيل قاس عليه بتضمين معنى البناء ليدل على أن القياس الشرعي للبناء لا للإثبات ابتداء.
قوله: "وقد يسمى ما يجري بين اثنين من المناظرة قياسا"; لأن كل واحد يقيس على أصله ويسعى في أن يجعل جوابه في الحادثة مثلا لما اتفقا على كونه أصلا بينهما كالحنفي في مناظرة الشافعي يسعى في إلحاق الفصد والحجامة بالسبيلين وصاحبه يسعى في إلحاقهما بالقيء القليل, وهو أي هذا القياس الذي أطلق على المناظرة مصدر قايسته قياسا لا مصدر قاس يقيس, وقد يسمى هذا القياس أي القياس الشرعي الذي يجري في المناظرة نظرا بطريق إطلاق اسم السبب على المسبب; فإنه يصاب بنظر القلب عن إنصاف فيكون قوله هذا احترازا عن القياس اللغوي أو العقلي, وقد يسمى أي القياس اجتهادا مجازا بطريق إطلاق اسم السبب على المسبب أيضا; لأن باجتهاد القلب أي ببذله مجهوده يحصل هذا المقصود.
وذكر في القواطع أنه اختلف في الاجتهاد فقال علي بن أبي هريرة: الاجتهاد والقياس واحد ونسبه إلى الشافعي رحمه الله, وقال أشار إليه في كتاب الرسالة. وأما الذي عليه جمهور الفقهاء فهو أن الاجتهاد أعم من القياس; لأن القياس يفتقر إلى الاجتهاد, وهو من مقدماته وليس الاجتهاد بمفتقر إلى القياس وحده هو بذل المجهود في طلب الحق بقياس وغيره, وقيل: هو طلب الصواب بالأمارات الدالة عليه والقياس هو الجمع بين الأصل والفرع قال: ولهذا دخل في باب الاجتهاد حمل المطلق على المقيد وترتيب العام على الخاص وأمثال ذلك وليس شيء من هذا بقياس.
قوله: "وأما المعنى الثابت بدلالة صيغته فهو أنه مدرك في أحكام الشرع" وذلك لأن معناه اللغوي لما كان جعل الشيء مثلا لآخر ومساويا له لزم أن يعرف به حكم الشرع; لأن ما لا نص فيه إذا صار مساويا للمنصوص عليه في المعنى الذي ترتب الحكم عليه يثبت ذلك الحكم فيه لا محالة فكان مدركا من مدارك أحكام الشرع أي موضع درك والدرك هو العلم أو في تسميته مدركا إشارة إلى أنه دليل يوقف به على الحكم لا أنه مثبت له كالدخان يوقف به على وجود النار لا أن يثبت وجودها به ومفصل من مفاصله أي موضع فصل; فإنه يفصل به الخصومة بين المتنازعين أي يقطع كما يفصل بغيرها بين الحجج أو يفصل به بين الحلال والحرام والجواز والفساد كما يفصل بسائر أدلة الشرع.(3/396)
تعالى كلفنا العمل بالقياس بطريق وضعه على مثال العمل بالبينات فجعل الأصول شهودا فهي شهود الله ومعنى النصوص هو شهادتها, وهو العلة الجامعة بين الفرع والأصل ولا بد من صلاحية الأصول, وهو كونها صالحة للتعليل
ـــــــ
ولم يذكر الشيخ رحمه الله تحديد القياس واختلفت عبارات الأصوليين في ذلك فقيل هو رد الحكم المسكوت عنه إلى المنطوق به, وهو فاسد لكونه غير مانع لدخول دلالة النص فيه وهي ليست بقياس وغير جامع لخروج القياس العقلي عنه وقيل: هو تعدية حكم الأصل بعلته إلى فرع هو نظيره, وهو فاسد أيضا لعدم اشتماله على قياس المعدوم على المعدوم; فإن الأصل والفرع أمران وجوديان إذ الأصل اسم لما يبتنى عليه غيره والفرع اسم لما يبتنى على غيره والمعدوم ليس بشيء ولأن حكم الأصل وعلته من أوصافه والانتقال على الأوصاف لا يجوز بل الثابت مثل حكم الأصل بمثل علته في الفرع. والمنقول عن الشيخ أبي منصور رحمه الله أنه إبانة مثل حكم أحد المذكورين بمثل علته في الآخر, واختار لفظ الإبانة دون الإثبات; لأن القياس مظهر وليس بمثبت بل المثبت هو الله تعالى وذكر مثل الحكم ومثل العلة احتراز عن لزوم القول بانتقال الأوصاف; فإنه لو لم يذكر لفظ المثل يلزم ذلك وذكر لفظ المذكورين ليشتمل القياس بين الموجودين وبين المعدومين كقياس عديم العقل بسبب الجنون على عديم العقل بسبب الصغر في سقوط الخطاب عنه بالعجز عن فهم الخطاب, وأداء الواجب ومختار القاضي الباقلاني والغزالي وعامة أصحاب الشافعي إنه حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما من إثبات حكم أو صفة أو نفيهما عنهما قال الغزالي وإنما قيل: حمل معلوم على معلوم ليشمل القياس بين المعدومين ولو قيل: حمل شيء على شيء لتناول الموجود دون المعدوم إذ المعدوم ليس بشيء وكذا لو قيل: حمل فرع على الأصل; لأن هذا اللفظ لا ينبئ عن المعدوم وإن كان لا يبعد إطلاقه عليه بتأويل ما والحكم قد يكون إثباتا ونفيا وكذا الجامع قد يكون حكما وصفة وكل واحد منهما قد يكون نفيا وإثباتا والاعتراضات الواردة على هذا الحد مع أجوبتها مذكورة في كتبهم قلت فلتطلب فيها.
قوله: "وهذه جملة" أي ما ذكرنا أنه مدرك في أحكام الشرع ومفصل أمر مبهم لا يعقل إلا بالبسط وعبارة شمس الأئمة وإنما يتبين هذا أي كونه مدركا ببسط الكلام. وبيان ذلك أي بيان كونه مدركا ومفصلا أن الله تعالى كلفنا العمل بالقياس كما نطقت به النصوص بطريق وضعه يعني للقياس على مثال العمل بالبينات في خصومات العباد وتعلق على بقوله كلفنا العمل أو بقوله وضعه فجعل الأصول وهي النصوص شهودا; فإنها شهود الله تعالى على حقوقه وأحكامه بمنزلة الشهود في حقوق العباد. ومعنى النصوص(3/397)
كصلاحية الشهود بالحرية والعقل والبلوغ ولا بد من صلاح الشهادة كصلاح شهادة الشاهد بلفظة الشهادة خاصة وعدالته واستقامته للحكم المطلوب فكذلك هذه الشهادة, ولا بد من طالب للحكم على مثال المدعي, وهو القائس ولا بد من مطلوب, وهو الحكم الشرعي ولا بد من مقتضى عليه, وهو القلب بالعقد ضرورة والبدن بالعمل أصلا أو الخصم في مجلس النظر والحاجة ولا بد
ـــــــ
هو شهادتنا أي معناها الذي تعلق الحكم به لا المعنى اللغوي وفسر بقوله: وهو العلة الجامعة دفعا لتوهم المعنى اللغوي, "ولا بد من صلاحية الأصول" أي للشهادة, وهو أي الصلاحية على تأويل الصلاح كونها أي الأصول صالحة للتعليل بأن لا يكون النص الذي هو أصل معدولا به عن القياس أو مخصوصا بحكمه بنص آخر كما سيأتي بيانه ولا بد من صلاحية الشهادة أي شهادة النص بأن يكون المعنى الدال على الحكم ملائما أي موافقا لتعليل السلف غير خارج عن نهجهم كما لا بد من صلاحية شهادة الشاهد بأن يشهد بلفظ خاص فيقول: أشهد حتى لو قال أعلم أو أتيقن أو أحلف لا يكون شهادة وعدالته أي عدالة لفظ الشهادة وهي كونه صدقا. واستقامته أي مطابقته للحكم المطلوب من الشهادة وهي أن يكون موافقا لدعوى المدعي حتى لو ادعى ألف دينار وشهد بألف درهم لا يصح وإن كان صدقا لعدم المطابقة, فكذلك هذه الشهادة أي فمثل شهادة الشاهد هذه الشهادة التي نحن بصددها فكما لا بد من الصلاحية والعدالة والاستقامة هناك لا بد منها هاهنا أيضا فصلاحية هذه الشهادة بالملاءمة كما قلنا وعدالتها بالتأثير واستقامتها بمطابقتها الحكم المطلوب وخلوها عن فساد الوضع ونحوه, ولا بد من مقتضى عليه, وهو القلب بالعقد ضرورة والبدن بالعمل أصلا; لأن المقصود من القياس هو العمل بالبدن دون العلم; لأنه لا يوجب العلم فكان البدن أصلا في إيجاب العمل عليه إلا أن صحة العمل لما كانت مبنية على الاعتقاد وجب على القلب العقد ضرورة وهذا إذا حاج نفسه فإن حاج غيره فالمقتضى عليه ذلك الغير; فإنه يلزم الانقياد والتسليم له ولا بد من حكم هو بمعنى القاضي, وهو القلب يحكم بعد فهمه تأثير وصف في حكم بثبوت ذلك الحكم بناء عليه كالقاضي في الخصومات يقضي بعد فهم الشهادة بثبوت المشهود به بناء على الشهادة.
"فإن قيل" قد صار القلب محكوما عليه فيما إذا حاج نفسه فكيف يصلح حاكما بعد وبينهما تباين. "قلنا" قد ذكرنا أن المحكوم عليه هو البدن حقيقة وقصدا والقلب صار مقتضيا عليه بطريق الضمن والضرورة وذلك غير مانع من كونه حاكما كالقاضي إذا قضى بثبوت الملك للمدعي بعد ظهور الحجة صار المدعى عليه مقضيا عليه قصدا وصار هو(3/398)
من حكم هو بمعنى القاضي, وهو القلب. وإذا ثبت ذلك بقي للمشهود عليه ولاية الدفع كما في سائر الشهادات هذا مذهب عامة أصحاب النبي عليه السلام, وهو مذهب عامة التابعين والصالحين وعلماء الدين رضي الله عنهم أجمعين; فإنهم اتفقوا على أن القياس بالرأي على الأصول الشرعية لتعدية أحكامها إلى ما لا نص فيه مدرك من مدارك أحكام الشرع لا حجة لإثباتها ابتداء, وقال أصحاب الظواهر من أهل الحديث وغيرهم: إن القياس ليس بحجة والعمل به باطل, وهو
ـــــــ
بنفسه مقضيا عليه ضمنا حتى لا يتمكن من دعواه لنفسه بعدما حكم به للمدعي وكما لو قضى بثبوت الرمضانية تصير العامة مقضيا عليهم قصدا ونفسه مقتضيا عليها ضمنا حتى وجب عليه الصوم أيضا; لأنه مثل العامة في وجوب التكليف, وإذا ثبت ذلك أي القياس بشرائطه بقي للمشهود عليه ولاية الدفع كما في سائر الشهادات; لأن تمام الإلزام يتبين بالعجز عن الدفع وذكر الإمام العلامة مولانا شمس الدين الكردري رحمه الله مثالا لهذه الجملة فقال: الخارج من غير السبيلين ناقض للطهارة والشاهد قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43] وصلاحيته للشهادة كونه غير مخصوص بنص آخر وشهادته دلالة وصفي النجاسة والخروج على الانتقاض وعدالة الوصفين ظهور أثرهما في غير موضع النص بالاتفاق كوجوب غسل موضع النجاسة إذا تعدت عن المخرج وانتقاض الطهارة بالخارج من السرة والطالب هو القائس والمطلوب انتقاض الطهارة والحكم القلب والمحكوم عليه البدن أو أصحاب الشافعي فلم يبق بعد هذه الجملة إلا أن يعارضه نفسه أو الخصم بأن هذا وإن دل على الانتقاض إلا أن دليلا آخر يمنع عنه, وهو أن النبي عليه السلام قاء فلم يتوضأ أو احتجم فلم يتوضأ وأمثاله.
قوله: "هذا" أي ما ذكرنا أن القياس مدرك في أحكام الشرع مذهب عامة أصحاب النبي عليه السلام أي جميعهم لتعدية أحكامها إلى ما لا نص فيه أي لإثبات مثل حكم النص فيما لا نص فيه والمراد من التعدية الإظهار.
واعلم أن القياس نوعان عقلي وشرعي فالعقلي ما استعمل في أصول الديانات. وقيل في حده: هو رد غائب إلى شاهد ليستدل به عليه, وهو حجة وطريق لمعرفة العقليات عند أهل القبلة سوى طائفة من أهل الحديث والإمامية من الروافض والحنابلة المشبهة والخوارج إلا النجدات منهم وهؤلاء أنكروا القياس الشرعي أيضا سوى الحنابلة; فإنهم جعلوه حجة في الفروع لحاجة الناس إليه باعتبار حدوث الحوادث التي لا يوجد حكمها في الكتاب بخلاف العقليات; فإنه لا حاجة إليه فيها لوجودها في الكتاب.(3/399)
قول داود الأصبهاني وغيره واختلف هؤلاء فقال بعضهم: لا دليل من قبل العقل أصلا والقياس قسم منه, وقال بعضهم لا عمل لدليل العقل إلا في الأمور العقلية
ـــــــ
وأما الشرعي فهو القياس المستعمل في أحكام الحوادث على ما ذكرنا تفسيره والخلاف فيه في موضعين: في جواز التعدية عقلا وفي وقوعه شرعا, فعند جميع أصحابه والتابعين وجمهور الفقهاء والمتكلمين هو جائز عقلا وواقع سمعا, وقالت الشيعة كلها والخوارج سوى النجدات منهم وإبراهيم النظام وجماعة من معتزلة بغداد ورود التعبد به ممتنع عقلا وهم المراد من قوله: وغيرهم وغيره, وقال داود بن علي الأصبهاني وابنه محمد وجميع أصحاب الظواهر والقاشاني والنهرواني1: إنه ليس بممتنع عقلا; فإن الشارع لو قال مثلا تعبدتكم بالقياس فمهما غلب على ظنونكم أن الحكم تعلق بعلة في صورة وإنها متحققة في صورة أخرى فقيسوها عليها لا يلزم منه استحالة ولكن الشرع لم يرد بالتعبد به بل منع من العمل بالقياس فكان باطلا واتفق القائلون بورود التعبد به سمعا على أن الدليل السمعي بتعبد به قطعي سوى أبي الحسين البصري; فإنه قال: هو ظني, ولهذا عدل عن الأدلة السمعية إلى دليل العقل, وقال العقل يوجب التعبد بالأقيسة الشرعية; لأن النصوص لا تفي بجميع الأحكام لتناهيها وعدم تناهي الأحكام فقضى العقل بوجوب التعبد بالقياس تحرزا عن خلو الوقائع عن الأحكام الشرعية وإلى وجوب التعبد بالعقل ذهب القفال من أصحاب الشافعي أيضا كذا ذكر في عامة نسخ أصول الفقه, ثم قوله في الكتاب: فقال بعضهم لا دليل من قبل العقل أصلا إشارة إلى قول من أنكر القياس العقلي في أصول الدين. وأنكر جواز التعبد بالقياس الشرعي في فروعه عقلا, وهم الإمامية والخوارج.
وقوله القياس قسم منه أي من دليل العقل والقول الثاني إشارة إلى قول من أثبت القياس العقلي ونفى القياس الشرعي عقلا, وهم بقية الشيعة والنظام ومتابعوه, والقول الثالث يجوز أن يكون إشارة إلى قول من أنكر وقوعه سمعا كداود ومتابعيه; فإن القياس لما كان دليلا ضروريا عند هذا البعض لم يكن ممتنعا لكنه لما لم يرد نص يدل على اعتباره مع وجود الاستصحاب وترجحه عليه لم يكن معمولا به بل يكون ساقطا بالاستصحاب ويجوز أن يكون إشارة إلى قول طائفة من القائلين بامتناع التعبد بالقياس عقلا; فإنهم بعد اتفاقهم على امتناعه عقلا اختلفوا في مأخذ الامتناع العقلي على ما عرف فعند فريق منهم
ـــــــ
1 المعافي بن زكريا بن يحي النهرواني الجرري المعروف بابن طمرار، المتوفي سنة 390هـ. أنظر وفيات الأعيان 5/221.(3/400)
دون الشرعية, وقال بعضهم: هو دليل ضروري ولا ضرورة بنا إليه لإمكان العمل باستصحاب الحال.
واحتج من أبطل القياس بالكتاب والسنة والمعقول, أما الكتاب فقول الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 59] وقوله تعالى: {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] ومن جعل القياس حجة لم يجعل الكتاب كافيا. وأما السنة فقول النبي عليه السلام: "لم يزل أمر بني إسرائيل مستقيما حتى كثرت فيهم أولاد السبايا فقاسوا ما لم يكن بما قد كان فضلوا وأضلوا" وأما المعقول فلمعنى في الدليل ولمعنى في
ـــــــ
الامتناع بناء على أن العمل بالدليل الأضعف الضروري على مخالفة الدليل الأقوى الأصلي مما يرده العقل, وقد أمكن العمل بالدليل الأقوى في محل القياس, وهو الأصل الذي كان ثابتا بيقين فلا يجوز العمل بالقياس الذي هو ظني على خلافه كما لو وجد هناك نص بخلافه.
قوله: "واحتج من أبطل القياس" إلى آخره تمسك نفاة القياس بآيات من الكتاب مثل قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] أي ما تركنا من شيء إلا وقد بينا لكم مما بكم إليه حاجة, وقوله تعالى: {رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} ذكر الرطب واليابس للتعميم كما يقال ما ترك فلان من رطب ولا يابس إلا جمعه وقوله عز ذكره {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} من أمور الشرع إذ ليس فيه بيان كل الأشياء ففي هذه الآيات أن بيان الأحكام كلها في الكتاب إما في نصه أو إشارته أو دلالته أو اقتضائه فإن لم يوجد في شيء هاهنا فالإبقاء على الأصل الثابت من وجود أو عدم; فإن ذلك في الكتاب قال الله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] الآية فقد أمره بالاحتجاج بعدم نزول التحريم في كتاب الله تعالى لبقاء الإباحة الأصلية فيصير على هذا بيان كل الأحكام من رطب ويابس موجودا في الكتاب كما قيل.
جميع العلم في القرآن لكن ... تقاصر عنه أفهام الرجال
فيكون القياس مستغنى عنه, فمن جعله حجة لم يجعل الكتاب كافيا في الإبانة والتبيان وتعلقوا بالأخبار أيضا مثل حديث واثلة بن الأسقع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لم يزل أمر بني إسرائيل مستقيما حتى حدث فيهم أولاد السبايا فأفتوا برأيهم فضلوا وأضلوا1" وفي
ـــــــ
1 أخرجه ابن ماجة في المقدمة حديث رقم 56.(3/401)
المدلول أما الدليل فشبهة في الأصل; لأن النص لم ينطق بشيء من الأوصاف علة للحكم والحكم المطلوب حق الله تعالى فلا يصح إثباته بما هو شبهة في الأصل مع كمال قدرة صاحب الحق, وأما الذي في المدلول فلأن المدلول طاعة
ـــــــ
رواية أبي هريرة رضي الله عنه "فقاسوا ما لم يكن بما قد كان فضلوا وأضلوا" السبايا جمع سبية بمعنى مسبية وأراد بها الجواري أي اتخذوا الجواري سريات فولدن لهم أولادا ليسوا بنجباء إذ النجابة من قبيل الأمهات فصدر منهم ما يفضي إلى الضلال والإضلال, وهو القياس ومثل حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تعمل هذه الأمة برهة بكتاب الله وبرهة بسنة رسول الله وبرهة بالرأي فإذا فعلوا ذلك ضلوا" ومثل ما روى عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أضرها على أمتي قوم يقيسون الأمور بآرائهم فيحللون الحرام ويحرمون الحلال" ومثل ما روى عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله تعالى لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا1" والفتوى بالرأي فتوى بغير علم. وروي عن عمر رضي الله عنه إياكم وأصحاب الرأي; فإنهم أعداء الدين أعيتهم السنة أي لم يحفظوها فقالوا برأيهم فضلوا وأضلوا وعن ابن مسعود رضي الله عنه إياكم وأرأيت وأرأيت; فإنما هلك من كان قبلكم في أرأيت وأرأيت وعنه أنه قال: إن عملتم في دينكم بالقياس أحللتم كثيرا مما حرم الله وحرمتم كثيرا مما أحل الله وعن ابن سيرين أنه قال: أول من قاس إبليس وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس, وقال الشعبي: ما حدثوك عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فحدثه وما أخبروا عن رأيهم فألقه في الحش, وعن مسروق أنه قال: لا أقيس شيئا إني أخاف أن تزل قدمي بعد ثبوتها وفي مثل هذه الأخبار والآثار كثيرة.
قوله: "وأما المعقول فكذا" وتمسكوا بوجوه من المعقول منها ما ذكر في الكتاب, وهو أن العمل بالقياس لا يجوز لمعنى في الدليل, وهو القياس ولمعنى في المدلول, وهو ما ثبت به من الحكم الشرعي, أما الدليل أي المعنى الذي في الدليل فشبهة في الأصل أي أصل القياس واحترز به عن خبر الواحد كما سنقرره; لأن النص لم ينطق بشيء من الأوصاف علة للحكم يعني أن الوصف الذي تعلق به الحكم غير منصوص عليه صريحا ولا إشارة ولا دلالة ولا اقتضاء بل امتاز من بين سائر الأوصاف بالرأي الذي لا ينفك عن
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في العلم حديث رقم 2673، ورواه الترمذي في العلم حديث رقم 2652، وابن ماجة برقم 52، والإمام أحمد في المسند 2/162.(3/402)
الله تعالى ولا يطاع الله تعالى بالعقول والآراء, ألا ترى أن من الشرائع ما لا يدرك بالعقول مثل المقدرات ومنها ما يخالف المعقول ولا يلزم أمر الحروب
ـــــــ
احتمال الغلط والخطأ, ولهذا ترى الفقهاء يختلفون في علة نص واحد مثل اختلافهم في علة الربا والحكم المطلوب بالقياس من الجواز والفساد والحل والحرمة محض حق الله تعالى فلا يجوز إثباته بمثل هذا الدليل الذي في أصله شبهة; لأن من له الحق موصوف بكمال القدرة يتعالى عن أن ينسب إليه العجز والحاجة إلى إثبات حقه بما فيه شبهة بخلاف أخبار الآحاد; فإن أصلها قول الرسول صلى الله عليه وسلم, وهو حجة موجبة للعلم قطعا, وإنما تمكنت الشبهة في طريق الانتقال إلينا فيؤثر تمكن هذه الشبهة في انتفاء اليقين ولا يخرج الخبر بها من أن يكون حجة موجبة للعمل كالنص المؤول لا يخرج عن كونه حجة بالشبهة المتمكنة فيه بتأويلنا وبخلاف حقوق العباد; فإنها تثبت بدليل في أصله شبهة لعجزهم عن إثباتها بدليل قطعي. أما الذي في المدلول فهو أن المدلول طاعة الله تعالى; لأنه من أحكام الدين وقبول الدين بجميع أحكامه من باب الطاعة والانقياد للعبودية قال الله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] ولا يطاع الله تعالى بالعقول والآراء; لأنه لا يمكن أداء الطاعة إلا بكمية وكيفية ولا مدخل للرأي في معرفة كمية الطاعة وكيفيتها ولا للعقل وقوف على حسن المشروع وقبحه على وجه التفصيل, وإن كان يمكنه الوقوف على ذلك إجمالا لا كحسن شكر المنعم وقبح الكفر به بل طريق الطاعة هو الابتلاء, ألا ترى أن من الشرائع ما لا يدرك ألبتة بالعقول مثل المقدرات كأعداد الركعات ومقادير الزكوات والعقوبات وأروش الجنايات ومنه أي من المشروع أو من المذكور وهو الشرائع ما يخالف المعقول أي القياس الظاهر والدليل الظاهر الذي عرف أصلا في الشرع ولم يرد أنه يخالف دليل العقل على معنى أن العقل يقتضي خلاف ذلك; لأن الشرع والعقل من حجج الله سبحانه فلا يجوز أن يتناقضا بوجه وذلك مثل بقاء الصوم مع الأكل والشرب ناسيا وبقاء الصلاة مع السلام في القعدة ساهيا وبقاء الطهارة مع سلس البول وأشباهها, وإذا كان كذلك لا يمكن معرفته بالرأي فيكون العمل فيه بالرأي عملا بالجهالة لا بالعلم فلا يمكن إعمال الرأي فيه وبمثل هذه الشبهة تعلق النظام فقال: مدار الشرع على الفرق بين المتماثلات في الأحكام كإيجاب الغسل بالمني دون البول الذي هو مثله بل أنجس منه وكإيجاب القطع على سارق القليل دون غاصب الكثير. وكإيجاب الجلد بالنسبة إلى الزنا دون النسبة إلى الكفر والشرك الذي هو أغلظ منه وكإيجاب القتل بشاهدين دون إيجاب حد الزنا بهما مع أن الزنا دون القتل وكإثبات الإحصان بالحرة الشيخة الشوهاء وعدم إثباته بمائة من الجواري الحسان وكتحريم النظر إلى شعر الشيخة(3/403)
ودرك الكعبة وتقويم المتلفات أما على الأول فلأنها من حقوق العباد أما غير القبلة فلا يشكل, وأما القبلة فأصله معرفة أقاليم الأرض وذلك حق العباد فبني على وسعهم, وأما على الثاني فلأن هذه الأمور إنما تعقل بوجوه محسوسة, ألا
ـــــــ
الشوهاء وإباحته إلى شعر الأمة الحسناء, وكإباحة النظر إلى وجه الحرة الحسناء وتحريمه إلى شعرها مع اتفاقهما في تهييج الشهوة بل ربما يكون تهيجها عند النظر إلى الوجه أكثر منه عند النظر إلى الشعر. وعلى الجمع بين المختلفات كالجمع بين الردة والزنا في إيجاب القتل وكالجمع بين قتل الصيد عمدا وخطأ في إيجاب الضمان والجمع بين القاتل والمظاهر والمفطر عمدا في إيجاب الرقبة, وإذا كان كذلك استحلل ورود التعبد بالقياس من الشارع لكونه واردا على خلاف موضوع الشرع; فإن قضية العقل والقياس التسوية بين المتماثلات في أحكامها والاختلاف بين المختلفات في أحكامها.
قوله: "ولا يلزم أمر الحروب" جواب عما يرد نقضا على الوجهين; فإن الرأي مع احتماله للخطأ والغلط قد يستعمل في الحروب بالاتفاق وهي من أمور الدين وأركانه. وكذا يستعمل في درك الكعبة عند البعد عنها وعند اشتباه القبلة وهو من أمور الدين, وكذا قيم المتلفات تعرف بالرأي عند إيجاب ضمانها, وهو من أحكام الشرع فعرفنا أن حق الله تعالى قد يثبت بما فيه شبهة فينتقض به الوجه الأول وأن الله تعالى قد يطاع بالرأي فيفسد به الوجه الثاني فقالوا: ما ذكرتم ليس بلازم علينا. أما على الوجه الأول فلأن المدعى استحالة إثبات حقوق الله تعالى بالرأي دون حقوق العباد; فإنه يليق بحالهم العجز والاشتباه فيما يعود إلى مصالحهم العاجلة فيعتبر فيه الوسع ليتيسر عليهم الوصول إلى مقاصدهم وهذه الأشياء من حقوق العباد فيجوز أن يثبت بالرأي, أما غير القبلة فلا يشكل لأن يقع تقويم المتلفات راجع إليهم في العاجلة; فإنه من باب الانتصاف الذي تقوم به مصالح العباد في الدنيا. وكذا أمر الحروب فإنهم يدفعون به ضرا عن أنفسهم أو يجرون نفعا إليها فيكون من أمور الدنيا ومصالح العباد, وأما القبلة أي دركها فأصله بمعرفة أقاليم الأرض; فإن جهة القبلة تختلف باختلاف الأماكن والأقاليم, وذلك أي عرفان أقاليم الأرض من حقوق العباد لاحتياجهم إلى معرفتها في أسفارهم للتجارات وغيرها من المصالح فبني عرفانها على وسعهم لحاجتهم فلذلك صح استعمال الرأي في درك القبلة لاضطرارهم وعجزهم بخلاف حق صاحب الشرع; فإنه موصوف بكمال القدرة فلا يجوز إثباته بما في أصله شبهة وأجيب عنه أيضا بأن التنصيص إنما يشترط فيما لا امتناع في التنصيص عليه كأحكام(3/404)
ترى أن قيم المتلفات ومهور النساء وأمور الحرب تعقل بالأسباب الحسية وكذلك القبلة وكان يقينا بأصله على مثال الكتاب والسنة وحصل بما قلنا المحافظة على النصوص بمعانيها ولأن العمل بالأصل مواضع القياس ممكن وذلك دليل دعينا إلى العمل به قال الله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً
ـــــــ
القواعد الكلية دون ما يمتنع فيه التنصيص وهذه الأشياء تختلف باختلاف الأشخاص والأوقات والأمكنة والاعتبارات فالتنصيص عليها كالتنصيص على ما لا نهاية له, وهو محال فاعتبر فيها الرأي, وأما الثاني أي على الوجه الثاني, وهو أن طاعة الله تعالى لا تدرك بالعقول فلا يلزم ما ذكرتم أيضا لأن هذه الأمور إنما تعقل بوجوه محسوسة; فإن قيمة المتلف تعرف بالنظر إلى مثله في الصفات وكذا مهر المرأة يعرف بالنظر إلى مثلها في الأوصاف التي يمكن اعتبارها, وكذا المقصود من الحرب صيانة النفس عن التلف أو قهر الخصم وأصل ذلك محسوس مثل التوقي عن السم وعن الوقوع على السيف والسكين لعلمه بأن ذلك متلف. وكذا جهة الكعبة محسوسة في حق من عاينها وبعد البعد منها قد يصير كالمحسوسة بالنظر في دلائلها فكان إعمال الرأي في هذه الأشياء في معنى العمل بما لا شبهة في أصله بمنزلة العمل بالكتاب والسنة, ولقائل أن يقول: هذا الجواب لا يطابق ورود السؤال المذكور على الوجه الثاني; لأن غايته أن الرأي في هذه الأشياء مستند إلى الحس كخبر الواحد مستند إلى قول الرسول عليه السلام ولكن لا يخرج به من كونه رأيا مستعملا في طاعة الله تعالى, وقد ذكرتم أن الله تعالى لا يطاع بالرأي, وإنما يطابق وروده على الوجه الأول; فإنه لما استند إلى الحس لم يبق شبهة في أصله فيجوز أن يثبت به حق الله تعالى ولهم أن يجيبوا وإن كان لا يخلو عن ضعف بأن أصلها لما استند إلى الحس صار ملحقا بالكتاب والسنة فكان الثابت به بمنزلة الثابت بالكتاب والسنة فلم يكن طاعة بالرأي بل بالنص تقديرا, وكأن الشيخ أراد بقوله على مثال الكتاب والسنة ما قلنا والأولى أن يتمسكوا بالجواب الأول فيقولوا: لا نسلم أن هذه الأشياء من قبل الطاعة بل هي من حقوق العباد كما قررنا فيجوز أن يستعمل فيها الرأي. وحصل بما قلنا أي بالمنع من القياس المحافظة على النصوص بمعانيها أي مع معانيها; لأنه لا منع عن القياس احتاج عن التأمل في معاني النصوص لاستخراج الأحكام قال القاضي الإمام في التقويم قالوا: وفي الحجر عن القياس أمران أن بهما قوام الدين ونجاة المؤمنين; فإنا متى حجرنا عن القياس لزمنا المحافظة على النصوص والتبحر في معاني اللسان, وفي محافظة النصوص إظهار قالب الشريعة كما شرعت, وفي التبحر في معاني اللسان إثبات حياة القالب فتموت البدع بظهور القالب; فإن عند ظهوره يتبين الزيغ الذي هو بدعة عن الحق ويسقط الهوى بحياة القالب(3/405)
عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [النعام: 145] الآية وليس كذلك ما ذكرنا من أمور الحرب وغيرها; لأن العمل بالأصل غير ممكن وكذلك أمر القبلة فعملنا بالاجتهاد للضرورة ولا يلزم عليه الاعتبار بمن مضى من القرون في المثلات والكرامات; لأن ذلك أمر يعقل بالحس والعيان وعلى ذلك يحمل ما ورد في الكتاب من الأمر بالاعتبار على أمر الحرب يحمل مشاورة النبي عليه السلام ولعامة العلماء وأئمة الهدى الكتاب والسنة والدليل المعقول وهذا أكثر من أن
ـــــــ
لأن القالب لا يحيى إلا باستعمال الرأي في معاني النصوص ومعانيها غائرة جمة لن تنزف بالرأي, وإن فنيت الأعمار فيها فلا يفضل الرأي للهوى فيتم أمر الدين بموت البدع ويستقيم العمل بسقوط الهوى وفيها الفوز والنجاة للناس, ثم ذكر الشيخ جوابا آخر لهم عن ورود السؤال المذكور على الوجه الأول فقال: ولأن العمل بالأصل الذي كان ثابتا بيقين ممكن في مواضع القياس وذلك أي الأصل دليل دعينا إلى العمل به شرعا في قوله عز وجل: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} الآية فمع إمكان العمل به لا يجوز المصير إلى ما دونه لعدم الضرورة وليس كذلك أي لموضع القياس ما ذكرنا من أمر الحروب وغيرها من قيم المتلفات ومهور النساء; لأن العمل بالأصل فيها غير ممكن إذ لا يمكن أن يقال الضمان أو المهر لم يكن واجبا فلا يجب لأن سبب الوجوب قد ثبت قطعا, وكذا ليس في الحرب والقتل أصل نستصحبه ونعمل به فإذا لم نجد طريقا آخر نعمل به جوزنا العمل بالاجتهاد فيها للضرورة., ثم أجاب عن سؤال آخر يرد عليهم, وهو أن الاعتبار عمن مضى من القرون وإعمال الرأي بالتفكر في أحوالهم وما لحقهم من المثلات أي العقوبات والكرامات واجب وذلك من باب الدين فعرفنا أن الرأي معتبر في الدين وأن القياس حجة في الشرع, فقالوا: لا يلزم عليه أي على ما قلنا أن القياس ليس بحجة. ذلك لأن ذلك أي لحوق المثلاث والكرامات أمر يعقل أي يعلم بالحس والمشاهدة; لأنه قد عرف هلاك مثله بمثل ذنبه بالسماع أو بحس العين فكان الاحتراز عن مثله بسببه من مصالح الدنيا بمنزلة الاحتراز عن تناول ما يتلفه مما وقف على تلف مثله بتناوله قال شمس الأئمة رحمه الله المقصود من إعمال الرأي في أحوالهم الامتناع مما كان مهلكا لمن قبلهم حتى لا يهلكوا ومباشرة ما كان سببا لاستحقاق الكرامة لمن قبلهم حتى ينالوا مثل ذلك, وهو في الأصل من حقوق العباد بمنزلة الأكل الذي يكتسب به المرء سبب إبقاء نفسه وإتيان الإناث في محل الحرث بطريقه ليكتسب به سبب إبقاء النسل, ثم طريق ذلك الاعتبار بالتأمل في معاني اللسان; فإن أصله الخبر وذلك مما يعلم بحاسة السمع, ثم بالتأمل فيه يدرك المقصود وليس ذلك من حكم الشريعة في شيء فقد كان الوقوف على معاني(3/406)
يحصى وأوضح من أن يخفى وإنما نذكر طرفا منه تبركا واقتداء بالسلف قال الله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] والاعتبار رد الشيء إلى نظيره والعبرة البيان قال الله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] أي تبينون والقياس مثله سواء فإن قيل: إنما يصح الاعتبار بأمر ثابت بالنص دون الرأي, وهو أن يذكر سبب هلاك قوم أو نجاتهم وكذلك عندي ههنا
ـــــــ
اللغة في الجاهلية, وهو باق اليوم بين الكفرة الذين لا يعلمون حكم الشريعة وعلى ذلك يحمل أي على ما يدرك بالحس والعيان مثل المثلات والكرامات يحمل ما ورد من الأمر بالاعتبار في قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} وعلى أمر الحروب يحمل مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم يعني يحمل ما ورد من الأمر بالمشاورة للرسول عليه السلام بقوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] ومشاورته أصحابه على أمر الحروب بدليل أن المروي أنه يشاورهم في ذلك, ولم يعقل أنه شاورهم قط في حقيقة ما هم عليه ولا في ما أمرهم به من أحكام الشرع وإلى هذا المعنى أشار بقوله عليه السلام "إذا أتيتكم بشيء من أمر دينكم فاعملوا به, وإذا أتيتكم بشيء من أمر دنياكم فأنتم أعلم بدنياكم1" .
قوله: قال الله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} أمرنا بالاعتبار, وهو برد الشيء إلى نظيره كذا حكي عن ثعلب ومنه يسمى الأصل الذي يرد إليه النظائر عبرة ويقال: اعتبرت هذا الثوب بهذا الثوب أي سويته به في التقدير وهذا هو القياس; فإنه حذو الشيء بنظيره فكان مأمورا به بهذا النص, وقيل: الاعتبار التبيين ومنه قوله تعالى إخبارا {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ} تبينون والتبيين الذي يكون مضافا إلينا هو إعمال الرأي في معنى المنصوص ليتبين به الحكم في نظيره, كذا ذكر شمس الأئمة فكان الضمير في قوله والقياس مثله راجعا إلى الاعتبار أو إلى كل واحد منهما أو لأي المعنيين بتأويل المذكور أي القياس مثل رد الشيء إلى نظيره فيكون داخلا تحت الأمر أو القياس مثل المعنيين; لأنه رد الشيء إلى نظيره وبيان لحكمه أيضا بالرد إلى النظير فكان الأمر متناولا. وذكر بعض الأصوليين أن الاعتبار هو الانتقال والمجاوزة عن الشيء إلى غيره مشتق من العبور يقال عبرت النهر أي جاوزته والموضع الذي يعبر عليه والمعبر السفينة أو القنطرة التي يعبر بها والعبرة الدمعة التي عبرت من الجفن وعبر الرؤيا وعبرها جاوزها إلى ما يلازمها فثبت بهذه الاستعمالات كون الاعتبار حقيقة في الانتقال والمجاوزة إلى الغير وذلك متحقق في القياس; فإنه عبور من حكم الأصل إلى حكم الفرع فكان داخلا تحت الأمر. فإن قيل: لا نسلم أن حقيقة
ـــــــ
1 أخرجه نحوه مسلم في الفضائل حديث رقم 2362.(3/407)
إذا ذكرت العلة نصا مثل قول النبي في الهرة "إنها من الطوافات" والجواب ما نبين إن شاء الله. وقال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد: 3] {ويَعْقِلُونَ} [الروم: 28] ونحو ذلك وقال جل
ـــــــ
الاعتبار هي الانتقال والمجاوزة بل حقيقة الاعتبار الاتعاظ لتبادره إلى الفهم من إطلاق اللفظ ولصحة نفي الاعتبار عن القائس الذي لا يتفكر في أمر الآخرة ولا يتعظ بأن يقال هو غير معتبر ولترتبه في هذا النص على قوله: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ } [الحشر: 2]; فإنه إنما يحسن ترتبه عليه لو كان المراد الاتعاظ دون القياس لركاكة قول القائل يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فقيسوا الذرة على البر, ولئن سلمنا دلالته على القياس فنحمله على القياس في الأمور العقلية دون الشرعية أو على ما كانت عنه منصوصا عليها لعدم إمكان حمله على العموم; فإن التسوية بين الفرع والأصل في أنه لا يستفاد حكم الفرع إلا من النص كما أن حكم الأصل كذلك نوع من الاعتبار كما أن التسوية بينهما في إثبات الحكم كذلك وهما متنافيان فإجراء اللفظ على عمومه يؤدي إلى الأمر بالمتنافيين, وهو محال ولئن سلمنا إمكان حمله على العموم فقد خص منه ما لا يجوز القياس فيه كالمنصوص عليه وما لم ينصب عليه أمارة على الحكم والأقيسة المتعارضة فلم يبق حجة أو صار ظنيا ومسألة القياس قطعية فلا يجوز بناؤها عليه قلنا: حقيقة الاعتبار هي المجاوزة والانتقال إلى الغير كما ذكرنا لا الاتعاظ; فإنه يقال: اعتبر فلان فاتعظ فيجعل الاتعاظ معلول الاعتبار, ولو كان معناه الاتعاظ لما صح هذا الكلام إذ ترتب الشيء على نفسه ممتنع ولأن معنى المجاوزة والانتقال في الاتعاظ متحقق وأن المتعظ بغيره منتقل من العلم بحال ذلك الغير إلى العلم بحال نفسه. فأما تبادر الفهم إلى الاتعاظ دون غيره فممنوع بل يفهم منه غيره كما يفهم الاتعاظ فيجعل حقيقة في المعنى المشترك في الكل, وهو الانتقال نفيا للاشتراك والمجاز فأما صحة نفيه عن القائس الذي ليس بمتعظ فبالنظر إلى إخلاله بأعظم المقاصد إذ المقصود الأصل من الاعتبار الآخرة فإذا أخل به قيل: هو غير معتبر مجازا كما قيل لمن لا يتدبر في الآيات أعمى وأصم لا بالنظر إلى كونه قائسا; فإنه لا يصح. وأما ركاكة ما لو قيل يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فقيسوا الذرة على البر فمسلمة; لأنه لا مناسبة بين خصوص هذا القياس وبين تخريب البيوت ولكن المأمور به في الآية مطلق الاعتبار الذي يكون القياس الشرعي أحد جزئياته وذلك ليس بركيك. مثاله لو سئل واحد عن مسألة فأجاب بما لا يتناول تلك المسألة كان باطلا لكن لو أجاب بما يتناولها وغيرها كان حسنا كما لو سئل عمن أكل أو شرب في صوم رمضان أيجب عليه الكفارة لا يحسن أن يجيب بأن من(3/408)
ذكره {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [اللابقرة: 179] وهو إفناء وإماتة في الظاهر لكنه حياة من طريق المعنى بشرعه واستيفائه أما الأول; فإن من تأمل في شرع القصاص صده ذلك عن مباشرة سببه فيبقى حيا ويسلم المقصود بالقتل عنه
ـــــــ
جامع فعليه الكفارة, ولكن يحسن أن يقول: من أفطر فعليه الكفارة وقولهم لا يمكن إجراؤه على العموم للزوم التناقض فاسد; لأن إلحاق الفرع بالأصل في المنع من الحكم لا يسمى اعتبارا ولا يفهم ذلك منه بوجه ولم يقل أحد بأنه محتمل الآية ولو كان ذلك محتملها لصار معناها يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فلا تحكموا بهذا الحكم في حق غيرهم إلا بنص وارد في حق ذلك الغير وبطلانه ظاهر. ألا ترى أن السيد إذا ضرب بعض عبيده على ذنب, ثم قال الآخر اعتبر به فهم منه التسوية في الحكم لا المنع منه. وقولهم قد خص منه كذا فلا يتمسك به في المسألة القطعية ضعيف أيضا; فإنه قد قيل: إن تلك الصور لم تدخل تحت هذا النص ليثبت التخصيص; فإن الأمر بالاعتبار لا يتناول ما لم يوجد فيه أمارة على الحكم لعدم إمكان الاعتبار بدونها لا ما وجد فيه نص; لأن المقصود من رد الشيء إلى نظيره إثبات حكم النظير له فإذا كان له حكم لم يكن فائدة في رده إلى النظير ولا الأقيسة المتعارضة لعدم إمكان العمل بها لتساقطها بالتعارض, وإذا لم تدخل تحته لم يصح تخصيصها منه فبقي النص على عمومه موجبا لليقين كما كان, على أنا إن سلمنا أنه صار ظنيا فهو حجة عليكم; لأنه يوجب العمل بالقياس بطريق الظن وأنتم أنكرتموه أصلا والجواب ما نبين أراد به قوله وبيان ذلك في الأصل إلى آخره.
قوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} فالقصاص إفناء وتفويت للحياة, وقد جعل مكانا وظرفا للحياة في هذا النص وذلك من طريق المعنى بشرعه واستيفائه كما ذكر في الكتاب. أما الأول, وهو كونه حياة باعتبار شرعه فلأن القاصد للقتل لما تأمل في شرع القصاص وعلم أنه لو قتل يقتص منه, وصده أي منعه ذلك التأمل عن مباشرة سبب القصاص, وهو القتل فسلم هو من القود وسلم صاحبه من القتل فيصير أي شرع القصاص يعني مشروعيته حياة لهما أي القاصد القتل والمقصود قتله بقاء عليها أي بقاءهما على الحياة وفي بعض النسخ عليهما أي بقاء حياتهما عليهما, ولو قيل إبقاء لكان أحسن وإبقاء الحياة بدفع سبب الهلاك عنه يسمى إحياء قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة: 32]. وعلى هذا الوجه يكون الخطاب لكافة الناس, وأما في استيفائه أي كونه حياة باعتبار استيفائه فلأن القاتل يصير حربا على أولياء القتيل خوفا على نفسه منهم فيقصد قتلهم مستعينا في ذلك بأمثاله من السفهاء إزالة للخوف عن نفسه فإذا استوفى الولي القصاص عنه اندفع شره عنه وعن عشيرته فصار أي الاستيفاء(3/409)
فيبقى حيا فيصير حياة لهما أي بقاء عليهما. وأما في استيفائه فلأن من قتل رجلا صار حربا على أوليائه وصاروا كذلك عليه فلا يسلم لهم حياة إلا أن يقتل القاتل فيسلم به حياة أولياء القتيل الأول والعشائر فصاروا أحياء معنى وهذا لا يعقل إلا بالتأمل وأما السنة فأكثر من أن يحصى من ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
إحياء لهم معنى وعلى هذا يكون الخطاب للأولياء ولأن القاتل إذا قتل محي أثر القتل في دار الآخرة عنه فيبقى غير معذب به فيكون إحياء له بدفع سبب العذاب عنه. وعلى هذا يكون الخطاب للقتلة وتنكير لفظ الحياة إما للتعظيم; فإنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة وبالمقتول غير قاتله فتفور الفتنة ويقع التقاتل بينهم فبشرع القصاص انقطعت الفتنة وانقطع التقاتل فكانت فيه حياة عظيمة أو لأن الحاصل به نوع من الحياة; فإن بارتداع القاطع عن القتل تحصل حياة للمقصود قتله في المستقبل دون الماضي فوجب التنكير وامتنع التعريف; لأن التعريف يقتضي أن الحياة كانت من الأصل بالقصاص وليس الأمر كذلك ومثله تنكير الحياة في قوله عز ذكره: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة: 96]; فإن الحرص لما يكن متعلقا بالحياة على الإطلاق بل بها في بعض الأحوال وهي الحياة في المستقبل إذ الحرص لا يكون على الحياة الماضية والراهبة حسن التنكير. ولأن الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل لا يكون في حق الكل; فإن كثيرا من الناس قد لا يكون لهم عدو يقصد قتلهم حتى يمنعه خوف القصاص عنه فيحصل لهم الحياة بالارتداع بل يكون في حق البعض ولما دخل الخصوص في هذه القضية وجب تنكير لفظ الحياة كما وجب تنكير لفظ الشفاء في قوله عز وجل: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69] حيث لم يكن شفاء للجميع ليصح التعريف وهذا لا يعقل إلا بالتأمل أي كون القصاص حياة لا يدرك إلا بالتأمل واستعمال الرأي فعرفنا أن استعمال الرأي لاستخراج معان النصوص أمر سائغ في الشرع والقياس ليس إلا استعمال الرأي لاستخراج معنى النص فيكون مشروعا. قال القاضي الإمام في التقويم والله تعالى يقول: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} وفيه هلاك حسا وإنما الحياة في الاعتبار عن قتل فقتل لينزجر عن القتل ابتداء فلا يقتل جزاء وهذا ضرب من الرأي فإن قال الخصم: أنا لا أنكر استعمال الرأي لمثل هذا المعنى إذ لا بد من فهم معنى الكلام لغة واستعاراته وإشاراته وذلك لا يتأتى إلا به إنما الكلام في استعماله لإثبات الحكم الشرعي في محل غير منصوص عليه ولا دلالة للآية على جوازه فيه, فالجواب عنه هو الجواب عن السؤال المذكور في الكتاب كما سيجيء بيانه.
قوله: "وأما السنة فأكثر من أن يحصى" واحتج مثبتو القياس أيضا بما ثبت بالتواتر(3/410)
حين بعث معاذا إلى اليمن قال: "بم تقضي؟" قال: بما في كتاب الله. قال: "فإن لم تجد في كتاب الله؟" قال: أقضي بما قضى به رسول الله. قال: "فإن لم تجد فيما قضى به رسول الله؟" قال: أجتهد برأيي. قال: "الحمد لله الذي وفق رسول رسوله"
ـــــــ
المعنوي عن النبي صلى الله عليه وسلم وإليه أشير بقوله فأكثر من أن تحصى ما يدل على شرعية القياس ووجوب العمل به مثل حديث معاذ1 رضي الله عنه; فإنه لما قال: أجتهد برأيي; ضرب على صدره. وقال: " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله" فلم ينكر عليه في قوله: أجتهد برأيي, بل مدحه وحمد الله على ذلك فدل على جواز العمل بالقياس عند عدم النص وأمر به أبا موسى رضي الله عنه حين وجهه إلى اليمن فقال: اقض بكتاب الله فإن لم تجد فبسنة رسول الله فإن لم تجد فاجتهد رأيك, وقال لعمرو بن العاص اقض ما بين هذين فقال على ماذا أقضي فقال: على أنك إن اجتهدت فأصبت لك عشر حسنات وإن أخطأت فلك حسنة واحدة وقوله وهذا نص صحيح إشارة إلى الجواب عما قيل لا يصح التمسك بخبر معاذ; فإنه خبر مرسل فلا يكون حجة عند أصحاب الشافعي وخبر غريب فيما يعم به البلوى فلا يكون حجة عند أصحاب أبي حنيفة فكان الإجماع من الفريقين منعقدا على سقوط الاحتجاج, فقال هذا نص صحيح ليس بمرسل ولا غريب; فإن أئمة الحديث أسندوه في كتبهم وتلقوه بالقبول فيصح الاحتجاج به. قال الغزالي رحمه الله: هذا حديث تلقته الأمة بالقبول ولم يظهر أحد فيه طعنا وإنكارا وما كان كذلك لا يقدح فيه كونه مرسلا بل لا يجب البحث عن إسناده, وهو كقوله عليه السلام "لا وصية لوارث" "ولا تنكح المرأة على عمتها" "ولا يتوارث أهل ملتين شتى" وغير ذلك مما عملت به الأمة كافة وذكر غيره أن مثبتي القياس أبدا كانوا يتمسكون به في إثبات القياس ونفاته كانوا يشتغلون بتأويله فكان ذلك اتفاقا منهم على قوله. فإن قيل: إن سلمنا صحته لا نسلم كونه دالا على أن القياس حجة إذ الاجتهاد ليس نفس القياس لا غير بل هو عبارة عن استفراغ الجهد في الطلب فيحمله على طلب الحكم من النصوص الخفية أو على التمسك بالبراءة أو على القياس الذي علته منصوص عليها أو مومأ إليها أو يحمله على أنه كان ذلك قبل إكمال الدين واستقرار الشرع لوقوع الحاجة إليه إذ ذاك فأما بعد إكمال الدين واستقراره فلا لارتفاع الحاجة بما هو أقوى منه, إذ الإكمال لا يكون إلا بعد اشتمال الكتاب والسنة على جميع ما لا بد من معرفته فلا يجوز العمل بالقياس قلنا لا يجوز حمل الاجتهاد على الاستدلال بالنصوص الخفية هاهنا; لأن قوله فإن لم تجد يقتضي انتفاء النص على سبيل العموم جليا كان أو خفيا فتخصيصه بالجلي دون الخفي من غير دليل ممتنع. وكذا لا يجوز حمله على البراءة الأصلية لأنها معلومة لكل أحد فلا حاجة في
ـــــــ
1 أخرجه الإمام أحمد في المسند 5/230، وأبو داود في الأقضية حديث رقم 3592.(3/411)
وهذا نص صحيح وقد روينا ما هو قياس بنفسه من النبي عليه السلام
ـــــــ
معرفتها إلى الاجتهاد ولا على ما كانت علته منصوصا عليها; لأن الشارع إنما سكت عند قوله: أجتهد, لعلمه بأن الاجتهاد واف بجميع الأحكام فلو حمل على القياس المنصوص على علته لم يكن ذلك وافيا بمعرفة عشر عشير الأحكام فكان يجب أن لا يسكت عليه كما لم يسكت عند قوله أقضي بالكتاب والسنة ولا يصح حمله أيضا على أنه كان قبل الإكمال; فإن الإكمال لا يقتضي عدم جواز العمل بالقياس; فإنه إنما يتحقق ببيان جميع الأحكام وذلك قد يكون بلا واسطة وبواسطة والقياس من الوسائط, ثم أتم الاستدلال بالسنة بقوله, وقد روينا يعني حديث معاذ وغيره يدل على أنه عليه السلام أجاز قياس غيره. وقد روينا في باب تقسيم السنة في حقه ما هو قياس بنفسه مثل الخثعمية وحديث القبلة للصائم وغيرهما فيدل قوله وفعله جميعا على جواز القياس وكلمة من يجوز أن تكون متعلقة بروايتنا وأن تكون متعلقة بقياس وفي أمثال هذه الأخبار كثرة كقوله عليه السلام: "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها1" حكم بتحريم ثمنها قياسا على تحريم أكلها "وقوله عليه السلام لأم سلمة رضي الله عنها, وقد سألت عن قبلة الصائم "هلا أخبرتيه أني أقبل وأنا صائم" 2 تنبيها على قياس غيره عليه. وقوله عليه السلام حين سئل عن جواز بيع الرطب بالتمر "أينقص إذا جف فقيل نعم فقال "فلا إذن " "وقوله عليه السلام في محرم وقصت به ناقته "لا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيبا; فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا3" "وقوله عليه السلام في شهداء أحد "زملوهم بكلومهم ودمائهم; فإنهم يحشرون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دما4" . "وقوله عليه السلام "الهرة ليست بنجسة; فإنها من الطوافين والطوافات عليكم5" "وقوله عليه السلام في حديث المستيقظ "فإنه لا يدري أين باتت يده6" "وقوله عليه السلام في الصيد "فإن وقع في الماء فلا يؤكل لعل الماء أعان على قتله7" إلى غير ذلك من الأخبار المختلف لفظها المتحد معناها فنزل جملتها منزلة المتواتر وإن كانت آحادها آحادا. فإن
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في المساعاة حديث رقم 1582، وابن ماجة برقم 3383.
2 أخرجه مسلم بنحوه برقم 1109.
3 أخرجه مسلم في الحج حديث رقم 1206، وأبو داود برقم 32138، والترمذي برقم 951.
4 أخرجه الإمام أحمد في الطهارة حديث رقم 75.
5 أخرجه أبو داود في الطهارة حديث رقم 75.
6 أخرجه مسلم في الطهارة حديث رقم 278، وأبو داود برقم 103، والترمذي برقم 24، وابن ماجة برقم 393.
7 أخرجه مسلم فلي الصيد والذبائح حديث رقم 1929.(3/412)
وعمل أصحاب النبي عليه السلام في هذا الباب ومناظرتهم ومشاورتهم
ـــــــ
قيل: لا تمسك لكم في هذه الأخبار; فإن فيها بيان تعليل بعض الأحكام لا بيان جواز القياس ولا يلزم من التنصيص على العلة جواز إلحاق غير المنصوص به كما لو قال الرجل أعتقت غانما لسواده لم يعتق جميع عبيده السود. وكذا لو تملك بمؤثر بأن قال: أعتقت غانما لحسن خلقه لم يلزم عتق غيره وإن كان غيره أحسن خلقا منه.
قلنا بل التمسك صحيح; فإن فائدة التعليل بيان كون العلة باعثة على الحكم ومؤثرة فيه فلو لم يجز إلحاق غير المنصوص بالمنصوص عند اشتراكها في العلة لأدى إلى تخلف الأثر عن المؤثر من غير مانع, وهو غير جائز ولخلا ذكره عن الفائدة بخلاف قوله أعتقت غانما لسواده أو لحسن خلقه; لأنه لا أثر لذلك التعليل في العتق فيكون ذكره كعدمه وذلك لأن الشرع علق أحكام الأملاك حصولا وزوالا بالألفاظ دون الإرادات المجردة حتى لو قال أعتقت أو طلقت غير قاصد للعتق والطلاق يثبت العتق والطلاق, ولو نوى عتقا أو طلاقا من غير لفظ يدل عليه لا يثبت به شيء فأما أحكام الشرع فتثبت بكل ما دل على رضا الشارع وإرادته من قرينة ودلالة وإن لم يكن لفظا. يوضحه أن أحدا لو باع مال التاجر بمحضر منه بضعف ثمنه وظهر أثر الفرح عليه لم ينفذ البيع إلا بتلفظه بالإجازة ولو جرى بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل فسكت دل سكوته على رضاه ويثبت الحكم به.
قوله "وعمل أصحاب النبي في هذا الباب" إشارة إلى متمسك آخر عول عليه أكثر الأصوليين, وهو الإجماع; فإنه قد ثبت بالتواتر أن الصحابة رضي الله عنهم عملوا بالقياس وشاع وذاع ذلك فيما بينهم من غير رد وإنكار مثل ما اشتهر من مناظرتهم في مسألة الجد والإخوة ومسألة العول والمشتركة وميراث ذوي الأرحام وغيرها بالرأي واحتجاجهم فيها بالقياس ومثل مشاورتهم في أمر الخلافة; فإن كل واحد تكلم فيه برأيه إلى أن استقر الأمر على ما قاله عمر رضي الله عنه بطريق المقايسة والرأي حيث قال: ألا ترضون لأمر دنياكم بمن رضي به رسول الله لأمر دينكم فاتفقوا على رأيه وأمر الخلافة من أهم ما يترتب عليه أحكام الشرع, وقد اتفقوا على جواز العمل فيه بطريق القياس. وكذلك عمر رضي الله عنه جعل أمر الخلافة شورى بين ستة نفر فاتفقوا بالرأي على أن يجعلوا الأمر في التعيين إلى عبد الرحمن بعدما أخرج نفسه منها فعرض على علي رضي الله عنه على أن يعمل برأي أبي بكر وعمر فقال: أعمل بكتاب الله وسنة رسوله, ثم أجتهد رأيي, وعرض على عثمان رضي الله عنه هذا الشرط فرضي به فقلده وإنما كان ذلك منه عملا بالرأي لأنه علم أن الناس قد استحسنوا سيرة العمرين وشاوروا في حد شارب الخمر فقال علي رضي الله عنه: إذا شرب سكر, وإذا سكر هذى, وإذا هذى افترى فحده حد المفترين قاس حد(3/413)
في هذا الباب أشهر من أن يخفى على عاقل مميز. فإن طعن طاعن فيهم
ـــــــ
الشارب على حد القاذف فأخذوا برأيه واتفقوا عليه ولما ورث أبو بكر رضي الله عنه أم الأم دون أم الأب قال له عبد الرحمن بن سهل رجل من الأنصار, وقد شهد بدرا لقد ورثت امرأة لو كانت هي الميتة لم يرثها وتركت امرأة لو كانت هي الميتة ورثها فرجع أبو بكر إلى التشريك بينهما في السدس وروي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال في الكلالة: أقول فيها برأيي. وعن عمر رضي الله عنه أقضي في الجد برأيي. ولما سمع في الجنين الحديث قال: كدنا أن نقضي فيه برأينا وقضى عثمان بتوريث المبتوتة بالرأي وعن علي رضي الله عنه اجتمع رأيي ورأي عمر على حرمة بيع أمهات الأولاد, وقد رأيت الآن أن أرقهن, وقال ابن مسعود رضي الله عنه في قصة بروع أقول فيها برأيي وكتب عمر إلى أبي موسى في رسالته المشهورة اعرف الأشباه والنظائر, ثم قس الأمور برأيك وراجع الحق إذا علمته; فإن الرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل وأمثال هذه الآثار بحيث لا تحصى كثرة فلما ثبت عن هؤلاء العمل بالرأي ولم يظهر عن غيرهم إنكار عرفنا أنهم كانوا مجمعين على ذلك فيما لا نص فيه وكفى بإجماعهم حجة.
فإن قيل: لا نسلم عدم الإنكار; فإنه روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: لما سئل عن الكلالة أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي. وعن عمر رضي الله عنه إياكم وأصحاب الرأي إلى آخر ما ذكرنا وعن عثمان وعلي رضي الله عنهما أنهما قالا: لو كان الدين بالقياس لكان المسح على باطن الخف أولى من ظاهره وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال إن الله تعالى قال لنبيه {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] ولم يقل بما رأيت ولو جعل لأحد أن يحكم برأيه لجعل ذلك لرسوله إلى غير ذلك من الآثار, وقد مر بيان بعضها.
قلنا: قد اشتهر من هؤلاء الذين نقل الإنكار عنهم القول بالرأي والقياس بحيث لا وجه لإنكاره فيحمل ما نقل عنهم من الإنكار إن ثبت على ما كان من ذلك صادرا عمن ليس له رتبة الاجتهاد وما كان مخالفا للنص أو للقواعد الشرعية أو لم يكن له أصل يشهد له بالاعتبار أو مستعملا فيما تعبدنا الله تعالى فيه بالعلم دون الظن جمعا بين النقلين بقدر الإمكان وذكر الغزالي رحمه الله في جواب هذا السؤال أنه قد ثبت بالقواطع من جميع الصحابة الاجتهاد والقول بالرأي والسكوت عن القائلين به وثبت ذلك بالتواتر في وقائع مشهورة كميراث الجد والإخوة وتعين الإمام بالبيعة وجمع المصحف وما لم يتواتر كذلك فقد صح من آحاد الوقائع روايات صحيحة ولم ينكرها أحد من الأمة فأورث ذلك علما ضروريا بقولهم بالرأي كما عرف سخاوة حاتم وشجاعة علي بمثل هذا(3/414)
فقد ضل سواء السبيل ونابذ الإسلام. ومن ادعى خصوصهم فقد ادعى
ـــــــ
الدليل وما نقلوه بخلافه فأكثرها مقاطيع مروية من غير ثبت, وهي بأعيانها معارضة بروايات صحيحة عن صاحبها بنقيضها فكيف يترك المعلوم ضرورة بمثلها. ولو تساوت في الصحة لوجب طرح جميعها والرجوع إلى ما تواتر من مشاورات الصحابة واجتهاداتهم, ولو صحت هذه الروايات لوجب الجمع بينها وبين المشهور من اجتهاداتهم فيحمل ما أنكروه على الرأي المخالف للنص إلى آخر ما ذكرنا. فإن قيل سلمنا عدم الإنكار لكن الإجماع السكوتي ليس بقاطع والمسألة قطعية فلا يصح التمسك بمثله فيها قلنا: هو إجماع قاطع عند كثير من الأصوليين منهم شمس الأئمة وآثر المظفر السمعاني صاحب القواطع وغيرهما على أنا لا نسلم أنه إجماع سكوتي; فإن جميع أهل الاجتهاد والفقه من الصحابة شرعوا في القياس والعمل بالرأي عند عدم النص فكان ذلك إجماعا فعليا منهم والذين سكتوا لم يكونوا من أهل الاجتهاد فلا يقدح سكوتهم في قطعية الإجماع.
قوله "فإن طعن طاعن فيهم فقد ضل عن سواء السبيل" حكى الجاحظ عن النظام أنه قال: لم يخض من الصحابة في القياس إلا نفر يسير من قدمائهم كالخلفاء الأربعة وزيد بن ثابت وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل ونفر يسير من أحداثهم كابن مسعود وابن عباس وابن الزبير لكن لما كان منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وهؤلاء سلاطين ومعهم الرغبة والرهبة انقادت لهم العوام وجاز للنافين السكوت على التقية; لأنهم قد علموا أن إنكارهم غير مقبول., وقال: ولو أن الصحابة لزموا العمل بما أمروا به ولم يتكلفوا ما كفوا عن القول فيه من أعمال الرأي والقياس لارتفع بينهم الخلاف والتهارج ولم يسفكوا الدماء لكن لما عدلوا عما كلفوا وتحبروا وتأمروا وتكلفوا القول بالرأي جعلوا للخلاف طريقا وتورطوا فيما بينهم من القتل والقتال وبمثله طعنت الرافضة فيهم أيضا فزعموا أن الصحابة تأمروا وعدلوا عن طاعة الإمام المعصوم العالم بجميع النصوص المحيطة بالأحكام إلى يوم القيامة فتورطوا فيما شجر بينهم من الخلاف, فقال الشيخ رحمه الله من طعن فيهم فقد ضل على سواء السبيل; لأن ثناء الله تعالى عليهم في آيات من القرآن ومدح رسوله إياهم في أخبار كثيرة يدلان على علو منصبهم وارتفاع قدرهم عند الله ورسوله فكيف يعتقد العاقل القدح فيهم بقول مبتدع, مثل النظام وبقول الرافضة الذين هم أعداء الدين, ونابذ الإسلام أي أظهر عداوته ومحاربته لأن الدين وصل إلينا من قبلهم فمتى طعن فيهم لم يثبت بنقلهم شيء فكان الطعن فيهم عائدا إلى الإسلام في التحقيق.
قوله "ومن ادعى خصوصهم" إلى آخره زعم من عجز من نفاة القياس عن إنكار استعمال الصحابة الرأي في الأحكام وتحرز عن الطعن فيهم فرارا من الشنعة أن الصحابة(3/415)
أمرا لا دليل عليه بل الناس سواء في تكليف الاعتبار وأما المعقول فهو أن
ـــــــ
كانوا مخصوصين بجواز العمل بالرأي إما بمشاهدتهم الرسول وأحوال نزول الوحي ومعرفتهم بقرائن الأحوال أن المراد من الحكم المختص بصورة معينة رعاية الحكمة العامة وعدم ذلك في حق غيرهم أو بطريق الكرامة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مخصوصا بأن قوله موجب للعلم قطعا تكريما له, والدليل عليه أنهم عملوا بالرأي فيما فيه نص بخلاف النص وذلك لم يجز لغيرهم كما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج لصلح بين الأنصار فأذن بلال وأقام وتقدم أبو بكر رضي الله عنه فجاء رسول الله عليه السلام, وهو في الصلاة فأشار إلى أبي بكر أن امكث مكانك فرفع أبو بكر رضي الله عنه يده وحمد الله تعالى, ثم استأخر وتقدم رسول الله1", وقد كانت سنة الإمامة لرسول الله عليه السلام معلومة بالنص, ثم تقدم أبو بكر بالرأي, وقد أمره أن يثبت مكانه, ثم استأخر بالرأي. "وكتب علي رضي الله عنه في صلح الحديبية هذا ما صالح رسول الله فقال سهيل بن عمر: لو عرفناك رسولا ما حاربناك اكتب محمد بن عبد الله فأمر رسول الله عليه السلام عليا رضي الله عنه أن يمحو لفظ رسول الله فأبى حتى محاه الرسول عليه السلام بنفسه" وما كان هذا الإباء عملا بالرأي في مقابلة النص واشتغل معاذ حين سبق بنقض الصلاة بمتابعة الإمام بالرأي, وقد كان الحكم للمسبوق أن يبدأ بقضاء ما سبق به, ثم يتابع الإمام وكان هذا عملا بالرأي في موضع النص وفي نظائرها كثرة وكذلك عملوا بالرأي فيما لا يعرف بالرأي من المقادير نحو حد الشرب كما قال علي رضي الله عنه ثبت بآرائنا فيثبت أنهم كانوا مخصوصين بالعمل بالرأي فقال الشيخ رحمه الله من ادعى خصوصهم أي تفردهم بجواز العمل بالرأي فقد ادعى أمرا لا دليل عليه لأن النص الموجب للاعتبار يعم الجميع ولا دليل على أن المراد منه الصحابة خاصة دون غيرهم فكان ادعاء كونهم مخصوصين بالعمل به دعوى بلا دليل قال شمس الأئمة رحمه الله: ومن لا يرى إثبات شيء بالقياس مع أنه حجة كيف يرى إثبات أمر بمجرد الدعوى من غير دليل, وأما دعوى الخصوص بناء على مشاهدة أحوال الوحي ومعرفة المراد بقرائن الأحوال ففاسدة; لأنها تخالف الإجماع; فإن أحدا لم يفرق بين الصحابة وغيرهم. وكذا دعواهم ذلك بطريق الكرامة أن الكرامة إنما تثبت بطاعة الله ورسوله وتعظيم النص بترك الرأي في مقابلته لا بإظهار المخالفة لأمر الله ورسوله بالرأي وإنما عملوا بخلاف النص في بعض الحوادث لفهمهم بقرائن الأحوال أو غيرها أن ذلك ترخص, وأن التمسك بالعزيمة أولى, ففي حديث الإمامة على الصديق رضي الله عنه أن إشارة النبي عليه السلام بأن
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الصلاة حديث رقم 421. وأبو داود حديث رقم 940.(3/416)
الاعتبار واجب بنص القرآن, وهو النظر والتأمل فيما أصاب من قبلنا من المثلات
ـــــــ
يثبت مكانه كانت على سبيل الترخص والإكرام له فحمد الله تعالى على ذلك, ثم تأخر تمسكا بالعزيمة الثابتة بقوله جل جلاله {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] وإليه أشار بقوله ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله, وكذلك التمسك بالعزيمة كان في التقدم للإمامة قبل حضور رسول الله عليه السلام مراعاة لحق الله تعالى في أداء الصلاة في الوقت المعهود والتأخر إلى الحضور كان رخصة. وكذلك علم علي رضي الله عنه أن الأمر بالمحو لم يكن للإلزام فلم يقصد به إلا تتميم الصلح فرأى إظهار الصلابة في الدين بمحضر من المشركين عزيمة, ثم الرغبة في الصلح مندوب إليه للإمام بشرط أن يكون منه منفعة للمسلمين وتمام هذه المنفعة في أن يظهر الإمام المسامحة والمساهلة فيما يطلبون ويظهر المسلمون القوة والشدة في ذلك ليعلم العدو أنهم لا يرغبون في الصلح لضعفهم فلهذا أبى علي رضي الله عنه عن ذلك. وكذلك عرف معاذ رضي الله عنه أن في البداية بالفائت للمسبوق معنى الرخصة ليكون الأداء عليه أيسر وإن العزيمة متابعة رسول الله عليه السلام واغتنام ما أدركه معه فاشتغل بإحراز ذلك أولا تمسكا بالعزيمة لا مخالفة للنص, وأما حد الشرب فثابت بالإجماع وإن كان مستنده الاستدلال بحد القذف والحكم الثابت بالإجماع لا يكون محالا به على الرأي كذا ذكر الإمام شمس الأئمة رحمه الله.
قوله "وأما المعقول", فكذا استدل أولا بعموم قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا} على أن العمل بالقياس واجب وإنه داخل في عمومه فاعترض عليه أن النص إنما يتناول الاعتبار بأمر ثابت بالنص كالاعتبار بالمثلات دون الرأي فقال إن سلمنا أن النص ورد فيما ذكرتم فالقياس في معناه فيلحق به. والحاصل أن الأول استدلال بعبارة النص وهذا استدلال بدلالته لأنه ثابت بمعناه اللغوي إلا أنه سماه دليلا معقولا لأن الوقوف عليه يحصل بالتأمل والتفكر لا بظاهر النص وصيغته وهذا التقدير إلى آخره هو الجواب الموعود عن السؤال المذكور, وهو الكفر أي السبب المنقول عنهم الكفر ليكف عنها أي يمتنع عن تلك الأسباب للتحرز عن مثل ما أصاب من قبلنا من الجزاء يعني وجوب النظر والتأمل فيما أصابهم بتلك الأسباب ليس هو المقصود بعينه بل لنعتبر أحوالنا بأحوالهم فكيف عما أسبق جوابه ما لحقهم من العذاب; فإن المقصود من الاعتبار الاتعاظ بالغير. وإذا كان كذلك لم يكن فرق بين حكم هو هلاك في محل باعتبار معنى هو كفر وبين حكم هو تحليل أو تحريم في محل باعتبار معنى هو قدر وجنس فالتنصيص على الأمر بالاعتبار في أحد الموضعين يكون تنصيصا على الأمر به في الموضع الآخر دلالة. واللام في ليكف متعلقة بالنظر(3/417)
بأسباب نقلت عنهم لنكف عنها احترازا عن مثله من الجزاء, وكذلك التأمل في حقائق اللغة لاستعارة غيرها لها سائغ والقياس نظيره بعينه لأن الشرع شرع أحكاما بمعاني أشار إليها كما أنزل مثلات بأسباب قصها ودعانا إلى التأمل ثم الاعتبار وبيان ذلك في الأصل في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} [الحشر: 2] فالإخراج من
ـــــــ
والتأمل وكذلك التأمل أي كما أن التأمل في أحوال من قبلنا واجب لنعتبر أحوالنا بأحوالهم.
"التأمل في حقائق اللغة" أي في معاني الألفاظ لاستعارة غيرها أي غير ألفاظها الدالة عليها بالوضع لها أي لتلك الحقائق والمعاني سائغ أي جائز كالتأمل في معنى الشجاع, وهو الإنسان الموصوف بالشجاعة لاستعارة غير لفظه, وهو الأسد الدال على الهيكل المعلوم لذلك الإنسان باعتبار أن الشجاعة من الأوصاف المشهورة لذلك الهيكل سائغ بلا خلاف, فكذا التأمل في الأصل والفرع لتعرف المعنى الذي هو مناط الحكم وتعدية حكم الأصل إلى الفرع يكون جائزا أيضا ولو قيل: وكذلك التأمل في حقائق اللغة لاستعارتها لغير موضوعاتها سائغ لكان موافقا لما ذكر شمس الأئمة وغيره, وهو أن التأمل في معنى الثابت بإشارة صاحب الشرع بمنزلة التأمل في معنى اللسان الثابت بوضع واضع اللغة, ثم التأمل في ذلك للوقوف على طريق الاستعارة حتى نجعل ذلك اللفظ مستعارا في محل آخر بطريقه جائز مستقيم من عمل الراسخين في العلم فكذلك التأمل في معاني النص لإثبات حكم النص في كل موضع علم أنه مثل المنصوص عليه; لأنا لا نعرف المؤثر إلا بالسماع من صاحب الشرع كما لا يعرف طريق الاستعارة إلا من العرب فكان البابان واحدا غير أن المصير إلى أحدهما بالسماع من صاحب الشرع وفي الآخر من العرب. وقال القاضي الإمام أيضا إنا أحيينا بالقياس الحجج حتى عمت بالتعليل فأمكن العمل بها في غير ما تناوله النص لغة كما أحيا هو ونحن معه حقائق النصوص بالوقوف على طريق المجاز والاستعارات فأمكننا العمل بها في غير ما وضعها واضع اللغة في الأصل, ولم يكن ذلك اقتراحا على اللسان ولا وضعا من عند نفسه فكذلك هذا والقياس نظيره أي نظير كل واحد من الاعتبار الواجب والتأمل في حقائق اللغة, ودعانا إلى التأمل ثم الاعتبار; لأن الاعتبار يتوقف على سابقة التأمل فكان الدعاء إلى الاعتبار دعاء إلى التأمل.
قوله "وبيان ذلك" أي بيان التأمل المؤدي إلى الاعتبار في الأصل أي في النص الموجب للاعتبار يتحقق في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ(3/418)
الديار عقوبة بمعنى القتل والكفر يصلح داعيا إليه وأول الحشر دلالة على تكرار هذه العقوبة. وقوله تعالى: {مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا} [الحشر: 2] دليل على أن إصابة النصرة جزاء التوكل وقطع الحيل وأن المقت والخذلان جزاء النظر
ـــــــ
الْكِتَابِ} يعني يهود بني النضير من ديارهم من مساكنهم بالمدينة. وذلك أنهم صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة على أن لا يكونوا عليه ولا له فنقضوا العهد بعد وقعة أحد فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة فحالفوا عليه قريشا عند الكعبة فأمر محمد بن مسلمة الأنصاري بقتل كعب بن الأشرف فقتله غيلة وكان أخاه من الرضاعة, ثم خرج النبي عليه السلام بالكتائب وأمرهم بالخروج من المدينة فاستمهلوا عشرة أيام فدس المنافقون إليهم لا تخرجوا من الحصن فإن قاتلوكم فنحن معكم لا نخذلكم وإن خرجتم لنجرجن معكم فلما آيسوا من نصرهم طلبوا الصلح فأبى عليهم إلا الجلاء على أن يحمل كل ثلاث أبيات على بعير ما شاءوا من متاعهم فلحقوا بالشام بأذرعات وأريحا إلا أهل بيتين منهم آل أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب; فإنهم لحقوا بخيبر ولحقت طائفة بالحيرة.
واللام في {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} متعلقة بأخرج وهي مثل اللام في قدمت لحياتي وفي جئته لوقت كذا والمعنى أخرج الذين كفروا عند أول الحشر معنى أول الحشر أن هذا أول حشرهم إلى الشام وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء قط وهم أول من أخرج من أهل الكتاب من جزيرة العرب إلى الشام, أو هذا أول حشرهم والحشر الثاني إجلاء عمر إياهم من خيبر إلى الشام وإليه أشير في الكتاب, وقيل: الحشر الثاني حشر يوم القيامة; لأن المحشر يكون بالشام {مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا} لشدة بأسهم ومنعتهم ووثاقة حصونهم وكثرة عددهم وعدتهم وظنوا أن حصونهم تمنعهم من بأس الله فأتاهم أمر الله أو عذابه من حيث لم يحتسبوا لم يظنوا ولم يخطر ببالهم من جهة المؤمنين وما كانوا يحسبون أنهم يغلبونهم ويظهرون عليهم {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الأحزاب: 26] بقتل رئيسهم غرة على يد أخيه والرعب الخوف الذي يرعب الصدر أي يملؤه وقذفه إثباته وركزه, {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ} التخريب الإخراب والإفساد بالنقض والهدم, وقيل: التخريب الهدم والإخراب تركه لا ساكن فيه والانتقال عنه كانوا يخربون بواطنها والمسلمون ظواهرها لما أراد الله تعالى من استئصال شأفتهم وأن لا يبقى لهم بالمدينة دار ولا منهم ديار والذي دعاهم إلى التخريب حاجتهم إلى الخشب والحجارة ليسدوا أفواه الأزقة وأن لا يتحسروا بعد جلائهم على بقائها مساكن للمسلمين وأن ينقلوا معهم ما كان في أبنيتهم من الخشب والساج المليح. وأما المؤمنون فداعيهم إزالة متحصنهم ومتمنعهم وأن يتسع لهم مجال الحرب.(3/419)
إلى القوة والاغترار بالشوكة إلى ما لا يحصى من معاني النص ثم دعانا إلى الاعتبار بالتأمل في معاني النص للعمل به فيما لا نص فيه, وكذلك في مسألتنا هذه ومثال ذلك في مسألة الربا وذلك أن النبي عليه السلام قال: "الحنطة بالحنطة" أي بيعوا الحنطة بالحنطة; لأن الباء كلمة إلصاق فدل على إضمار فعل مثل قولك: بسم الله فدل عليه قوله "لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء"
ـــــــ
ومعنى تخريبهم لها بأيدي المؤمنين أنهم لما عرضوهم لذلك وكانوا السبب فيه فكأنهم أمروهم به وكلفوهم إياهم {فَاعْتَبِرُوا} فاتعظوا يا أولي الأبصار يا ذوي العقول ولا تفعلوا فعل بني النضير فينزل بكم ما نزل بهم هذا تفسير الآية. وبين الشيخ طريق المتأمل فيها للاعتبار فقال فالإخراج من الديار عقوبة بمنزلة القتل لأنه عديل القتل في قوله تعالى: {اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ} [النساء: 66] ولكونه مثل القتل أو أشد منه اختار بنو إسرائيل القتل على الجلاء, والكفر يصلح داعيا إليه أي إلى الإخراج الذي هو بمنزلة القتل; لأنه يصلح داعيا إلى القتل فيصلح داعيا إلى الإخراج أيضا وأول الحشر دلالة على تكرار هذه العقوبة لأن الأول يدل على ثان بعده, وهو إجلاء عمر كما بينا وإصابة النصرة جزاء التوكل وقطع الحيل; لأنهم لما لم يظنوا خروجهم رأوا أنفسهم عاجزين عن إخراجهم وحيلهم منقطعة عنه فتوكلوا على الله فجوزوا بالنصرة والنجاح وإن المقت أي السخط والبغض يقال: مقته أي أبغضه, والخذلان أي ترك العون والنصرة جزاء النظر إلى القوة والاغترار بالشوكة أي شدة البأس وحدة السلاح; فإنهم لما نظروا إلى قوتهم وظنوا أن حصونهم مانعتهم من الله جوزوا بذلك, ثم دعانا بقوله عز اسمه {فَاعْتَبِرُوا} إلى الاعتبار بالتأمل في معاني النص للعمل به أي لنعمل بما وضح لنا من المعنى فيما لا نص فيه فنقيس أحوالنا بأحوالهم فنحترز عن مثل ما فعلوا توقيا عن مثل ما نزل بهم فكذلك في مسألتنا هذه أي كما وجب لنا التأمل في معنى هذا النص للعمل به فيما لا نص فيه يجب التأمل في سائر النصوص لاستخراج المعاني التي تتعلق بها الأحكام بإشارة صاحب الشرع ليعمل بها فيما لا نص فيه.
قوله "وبيان ذلك" أي بيان التأمل لاستخراج المعنى الذي هو مناط الحكم بإشارة الشارع يتحقق في مسألة الربا وذلك أي ذلك البيان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الحنطة بالحنطة" الحديث, روي هذا الحديث بالرفع والنصب وعلى التقديرين لا بد من إضمار بدلالة كلمة الباء; فإنها يقتضي فعلا يلتصق بواسطتها بما دخلت فيه, وقد ذكرت في المعاوضات فيضمر فعل يناسبها فكان معنى رواية الرفع بيع الحنطة بالحنطة مثل بمثل بطريق حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ومعنى رواية النصب وهي مختارة الشيخ هاهنا بيعوا(3/420)
ودل عليه حديث عبادة بن الصامت أن النبي عليه السلام قال: "لا تبيعوا الذهب بالذهب والورق بالورق إلا سواء بالسواء والحنطة بالحنطة إلا سواء بسواء عينا بعين فمن زاد أو استزاد فقد أربى" والحنطة اسم علم لمكيل معلوم, وقد قوبل بجنسه وقوله مثلا بمثل حال لما سبق, والأحوال شروط أي بيعوا بهذا الوصف
ـــــــ
الحنطة بالحنطة مثلا بمثل مثل قولك بسم الله; فإنه لما اقتضى فعلا أضمر فيه الفعل الذي جعلت التسمية مبدأ له ودل عليه أي على أن المضمر ما ذكرنا هذان الحديثان والحنطة اسم علم لمكيل أي اسم موضوع غير معنوي لنوع من الطعام الذي يصح أن يكال ولم يرد تحقق الكيل فيه; فإنه لو لم يكل أصلا لا يخرج عن كونه مكيلا, وقد قوبل هذا المسمى بجنسه بقوله الحنطة بالحنطة. وقوله مثلا بمثل حال لما سبق, وهو الحنطة ويكون حالا عن المفعول والأحوال شروط لأنها صفات والصفات مقيدة كالشروط, ألا ترى أنه لو قال أنت طالق راكبة كان بمنزلة قوله: إن ركبت فأنت طالق والأمر للإيجاب يكون نظرا إلى الأصل, ولم يعمل في نفس البيع; لأنه ليس بواجب بالإجماع فينصرف إلى الحال التي هي شرط الجواز وصار كأنه قيل: إذا أقدمتم على بيع الحنطة بالحنطة فبيعوا في حالة المساواة دون غيرها, ولهذا اختار الشيخ رواية النصب المقتضية لإضمار الأمر; لأنه أظهر في إيجاب شرط المماثلة, وهذا لأن الشيء قد يصير مشروطا بشرائط يفترض مراعاتها عند الإقدام عليه وإن لم يكن في ذاته فرضا كالنكاح لما شرع بشرط الشهود يفترض إحضار الشهود لانعقاده وإن لم يكن بنفسه واجبا وكصلاة التطوع يفترض مراعاة شروطها من تقديم الطهارة وستر العورة واستقبال القبلة عند الإقدام عليها وإن لم تكن في نفسها واجبة. والمراد بالمثل المذكور في هذا الحديث المماثلة في القدر أي الكيل في المكيلات والوزن في الموزونات دون غيره; فإن محمدا رحمه الله ذكر هذا الحديث في أول كتاب الصرف وذكر مكان قوله مثلا بمثل كيلا بكيل ووزنا بوزن; فتبين بذلك أن المراد به المماثلة قدرا لا وصفا وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر بعضه بعضا فثبت بصيغة الكلام أي ثبت هذا المجموع, وهو إضمار البيع وإيجاب المماثلة وكون المماثلة في القدر مرادا منه المثل بإشارة صيغة الكلام والتأمل في معناها, والفضل اسم لكل زيادة أي زيادة ترجع إلى أحد البدلين سواء كانت باعتبار القدر بأن كانت من جنس البدلين كزيادة قفيز من أحد الجانبين أو من غير جنسها كزيادة درهم أو باعتبار الحال بأن كان أحدهما نقدا والآخر نسيئة. وقوله ربا اسم لزيادة وهي حرام بالنص, وهو قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275] لا لكل زيادة; فإن الربح في التجارة والنماء في الزراعة زيادة ولكنها لا تسمى ربا لأنها ليست بحرام, وهو أي الفضل الذي هو ربا فضل مال لا يقابله عوض في(3/421)
والأمر للإيجاب يكون والبيع مباح فلا بد من صرف الأمر إلى الحال التي هي شرط. والمراد بالمثل القدر لما روي في حديث آخر كيلا بكيل فثبت بصيغة الكلام, وقوله والفضل اسم لكل زيادة, وقوله ربا اسم لزيادة هي حرام وهو فضل مال لا يقابله عوض في معاوضة مال بمال والمراد بالفضل الفضل على القدر; لأن الفضل لا يتصور إلا بناء على المماثلة ليكون فضلا عليها والمراد بالمماثلة
ـــــــ
مقابلة مال بمال; لأن العقد لما كان معاوضة لا يجوز أن يستحق فضل خال عن العوض; لأن ذلك خلاف مقتضى العقد فيكون أخذه ظلما واشتراطه مفسدا للعقد, فيكون كما لو باع عبدا بجارية وشرط أن يسلم إليه مع العبد ثوبا أو يعمل المشتري للبائع عملا; فإنه يفسد العقد لخلو هذه الزيادة عن العوض في عقد المعاوضة ألا ترى أن التملك لو كان بلفظ الهبة بأن يقول ملكتك هذا العرض بهبة بلا مال يحل وإن كان بغير عوض; لأن عقد الهبة لما كان عقد تبرع جاز أن يستحق به ما لا يقابله عوض ولا يكون ذلك على خلاف مقتضاه فعرفنا أن الحرمة باعتبار الخلو عن العوض في عقد المعاوضة. فإن قيل: ينبغي أن يكون الربح حراما; لأنه فضل خال عن العوض; لأن ما يقابله العوض لا يكون ربحا وليس الربح بحرام بالإجماع; فإن الأسواق ما وضعت إلا للاسترباح, ألا ترى أن بيع عبد بعبدين وثوب بعشرة أثواب جائز والفضل فيه متحقق بدليل أنه يعتبر تبرعا في عقد المريض وبيع الأب والوصي. قلنا: لا نسلم أنه فضل خال عن العوض إذ لو كان كذلك لكان اشتراطه مفسدا للعقد لكونه مغيرا لمقتضاه لكن الربح زيادة تظهر عند البيع لا عند الشراء; فإن من اشترى ما يساوي درهما بعشرة جعل ذلك في حقه متقوما بعشرة لرغبته في شرائه بعشرة ولها أثر في إثبات زيادة المالية والتقوم; فإن تغير الأسعار برغائب الناس ولعل له فيه منفعة ومصلحة تساوى بعشرة فكان في حقه متقوما بعشرة وربح الآخر عليه تسعة أعشار لأن في السوق قيمتها عشرة وكذا لو باع ما يساوي عشرة بدرهم يجعل قيمته درهما في حق المتعاقدين لتراجع رغبتهما فيه فلم يخل فضل عن العوض ولكن لما وجده المشتري عند أهل السوق يساوى بعشرة ظهر الربح عند البيع فأما فيما نحن فيه فقد سقط اعتبار الجودة ورجعت المالية إلى الذات فلا يثبت برغبة المشتري مالية فيظهر الفضل الخالي عن العوض وكذا في تصرف المريض والأب والوصي; لأن إثبات زيادة المالية برغبة المشتري إنما تصح إذا كان ذلك تصرفا في خالص ملكه وتصرف الأب والوصي في مال الصغير واليتيم وتصرف المريض في مال تعلق به حق الغير لا في خالص ملكهم فلا يلتفت إلى رغبتهم لتأديتها إلى إبطال حق الغير فيظهر الفضل في تصرفاتهم أيضا. والمراد بالفضل الفضل على القدر أي القدر الشرعي, وهو الكيل لا مطلق الفضل; لأن فضل أحد الشيئين(3/422)
القدر بالنص فكذلك الفضل عليها لا محالة وصار حكم النص وجوب التسوية بينهما في القدر ثم الحرمة بناء على فوات حكم الأمر هذا حكم هذا النص عرفناه بالتأمل في صيغة النص فوجب علينا التأمل فيما هو داع إلى هذا الحكم مما هو ثابت بهذا النص, وهو إيجاب المماثلة عند البيع بجنسها, وإذا تأملنا
ـــــــ
على الآخر يستلزم مساواة بينهما بوجه على تقدير عدم الفضل ليمكن تحقيق فضل أحدهما على الآخر إذ لا يقال لفلان فضل على فلان في العلم إلا إذا كان بينهما نوع مساواة في شيء من العلم وامتاز أحدهما بزيادة فيه وهاهنا ذكرت المماثلة, ثم ذكر الفضل بعدها. والمراد من المماثلة المماثلة في القدر بالنص, وهو ما روينا من قوله عليه السلام كيلا بكيل وبالإجماع فكذلك الفضل على هذه المماثلة يكون فضلا على الكيل مبنيا عليه في الذكر كما لو قيل: زيد فقيه وعمرو فقيه إلا أن زيدا أفضل منه ينصرف قوله أفضل إلى صفة الفقه المذكورة لا إلى صفة لم تذكر, يوضحه أن البدلين لو تماثلا من سائر الوجوه والفضل على الكيل موجود حرم ولو كان على عكسه لم يحرم فعرفنا أن المراد به الفضل على الكيل. وذكر في بعض الشروح أن المراد من قوله فكذلك الفضل عليها لا محالة اشتراط الكيل في الفضل يعني كما أن المراد بالمماثلة هو المماثلة في الكيل لا مطلق المماثلة فكذلك الفضل على ملك المماثلة لا يكون حراما ما لم يكن مكيلا لأن السابق مثل بمثل. والمراد منه القدر أي الكيل والفضل معهود فوجب أن يكون من جنس السابق فيلزم أن يكون الفضل قدرا أي كيلا وهذا غير سديد; فإن هذا التركيب لا ينبئ عنه, وهو مخالف للروايات; فإنه قد نص في غير واحد من كتب الفقه أن أدنى ما يجري فيه الربا من الأشياء المكيلة نصف صاع وذلك مدان حتى لو باع مدين من الحنطة بثلاثة أمناء منها لا يجوز ومعلوم أن المن الواحد مما لا يدخل تحت الكيل, وكذا لو باع قفيزا من الحنطة بقفيز منها ودرهم لا يجوز بالإجماع فعرفنا أن الزيادة حرام وإن لم يبلغ الكيل.
قوله "فصار حكم النص وجوب التسوية بينهما في القدر" يعني ثبت بالتقرير الذي ذكرنا أن الحكم الأصلي في هذا النص وجوب التسوية بين البدلين المتجانسين في القدر شرطا لجواز العقد, ثم الحرمة أي ثبوت الحرمة بناء على فوات حكم الأمر وهو التسوية الواجبة بقوله عليه السلام "الحنطة بالحنطة مثلا بمثل" أي بيعوا الحنطة, وإذا كان كذلك كان محل الحكم ما يقبل المماثلة كيلا فلم يكن ما لا يجري فيه الكيل محلا للحكم ولا يتحقق فيه الفضل الحرام لعدم تصور ما تبتنى الحرمة عليه, وهو فوات التسوية مع إمكان رعايتها فيجوز بيع الحفنة بالحفنتين والتفاحة بالتفاحتين عند البيع بجنسها أي عند بيع الحنطة بجنسها أو بيع هذه الأموال المذكورة في النص بجنسها, وإذا تأملنا(3/423)
وجدنا الداعي إلى هذا القدر والجنس; لأن إيجاب التسوية بين هذه الأموال يقتضي أن تكون أمثالا متساوية ولن تكون أمثالا متساوية إلا بالجنس والقدر; لأن كل موجود من المحدث موجود بصورته ومعناه; فإنما تقوم المماثلة بهما فالقدر عبارة عن امتلاء المعيار بمنزلة الطول والعرض فصار به يحصل المماثلة صورة والجنس عبارة عن مشاكلة المعاني فتثبت به المماثلة معنى وسقطت قيمة الجودة بالنص, وهو قوله جيدها ورديئها سواء تبرها وعينها سواء. وبالإجماع
ـــــــ
وجدنا الداعي إلى هذا الحكم, وهو وجوب التسوية القدر والجنس قال الإمام البرغري في طريقته ولما ثبت أن حكم النص وجوب التسوية بينهما في الكيل احترازا عن الفضل الحرام, وهو الفضل على الكيل عللنا فقلنا: إنما وجبت هذه التسوية; لأن هذه الأموال أمثال متساوية المالية وكونها أمثالا متساوية المالية مؤثر في إيجاب التسوية دفعا للظلم; فإن البدلين لما تساويا كان الزائد فضلا خاليا عن العوض في البيع فيكون أخذه ظلما. وإنما صارت أمثالا متساوية بالكيل والجنس; لأن الكيل يسوي بينهما في الذات والجنس في المعنى والموجود ليس إلا الصورة والمعنى فإذا استويا صورة ومعنى استويا قطعا فصار وجوب التسوية مضافا إلى كونها أمثالا متساوية وكونها أمثالا ثابت بالكيل والجنس فيضاف وجوب التسوية إلى الكيل والجنس بهذه الواسطة; لأن الحكم يضاف إلى علة العلة على ما عرف في مسألة شراء القريب وصارت حرمة الفضل مضافة إلى الكيل والجنس; لأن إيجاب الفعل يقتضي نهيا عن ضده فإيجاب التسوية كيلا بكيل يكون تحريما للفضل على الكيل فالكيل ونعني به كون المحل قابلا للكيل جعل علما على الحل في المتماثلين وعلما على ثبوت الحرمة في المتفاضلين كالنكاح جعل علما للحل في حق الزوج وللحرمة في حق غيره بمنزلة الطول والعرض يعني فيما له طول وعرض; فإن ذراعا من الثوب يماثل ذراعا من اللبد صورة كما أن ذراعا من الثوب يماثل ذراعا آخر من الثوب صورة ومعنى.
قوله "وسقطت قيمة الجودة" جواب عما يقال لا نسلم أن المماثلة تثبت حقيقة بما ذكرتم; فإنه قد يبقى تفاوت بين البدلين في الوصف بعد استوائهما قدرا وجنسا; فإن المالية التي هي المقصودة من هذه الأشياء تزداد بالجودة وتنتقص بالرداءة, وإذا لم تثبت المماثلة لا يظهر الفضل كما في العبيد والثياب فقال هذا إنما يلزم لو بقيت للجودة قيمة في هذه الأموال عند المقابلة بجنسها ولكنها سقطت بالنص, وهو قوله عليه السلام "الذهب بالذهب تبره وعينه سواء والفضة بالفضة تبرها وعينها سواء" والعين اسم للمضروب وهو أجود من التبر, وقد جعلهما سواء وفي بعض الروايات جيدها ورديئها سواء(3/424)
فيمن باع قفيزا جيدا بقفيز رديء وزيادة فلس أنه لا يصح ولما عرف أن ما لا ينتفع به إلا بهلاكه فمنفعته في ذاته ولما صارت أمثالا بالقدر والجنس وسقط اعتبار القيمة للجودة شرطا لا علة لأن العدم لا يصلح علة
ـــــــ
فيكون نصا على سقوط قيمة الجودة. "وبالإجماع" أي بدلالته; فإنهم أجمعوا على أنه لو باع قفيز حنطة جيدة بقفيز من حنطة رديئة وزيادة فلس لا يجوز لوجود الفضل الخالي عن العوض وهذا يدل على سقوط قيمة الجودة إذ لو بقيت الجودة متقومة لأمكن جعل الفلس في مقابلة الجودة تصحيحا للعقد, إذ الاعتياض عن الجودة صحيح إذا كانت مع الأصل كما إذا اختلف الجنس وكما إذا لم يكن البدل أو أحدهما من أموال الربا, ولما عرف وهو الوجه المعقول أن ما لا ينتفع به إلا بهلاكه فمنفعته في ذاته لا في أوصافه لعدم إمكان الانتفاع بأوصافه مع بقاء ذاته والتقويم للأشياء إنما يثبت باعتبار منافعها فإذا لم تكن في الأوصاف نفسها منفعة لم يكن لها قيمة فهدر وتبقى العبرة للعين بخلاف ما ينتفع به بدون استهلاكه كالثياب ونحوها; لأن الانتفاع بها يتحقق مع بقاء أعيانها فتكون أوصافها معتبرة ولا يلزم عليه ما إذا باع الأب أو الوصي الجيد من مال الصغير بمثله رديئا; فإنه لا يصح, وما إذا باع المريض مرض الموت كرا من حنطة جيدة بكر من حنطة رديئة; فإنه يجعل تبرعا حتى يعتبر من الثلث ولو كانت الجودة ساقطة عند المقابلة بالجنس لجاز البيع في الصورة الأولى ولم يجعل تبرعا في الثانية كما لو باعوا فلوسا جيدة رائجة بفلوس رديئة رائجة; لأنا نقول: إن الجودة متقومة مع الأصل وإنما تسقط قيمتها إذا انفردت عن الأصل عند المقابلة بالجنس, وقد حجر هؤلاء عن المقابلة بالجنس لأنهم أمروا بالتصرف على الوجه الأنظر والمقابلة بالجنس طريق لإسقاط قيمة الجودة وليس فيه نظر فأما العاقل البالغ فمطلق التصرف في مال نفسه فصح منه التصرف النافع والضار جميعا, ولهذا نقول: إذا استهلك على رجل حنطة جيدة يضمن مثلها جيدة; لأن الجودة إنما تسقط إذا قوبل الجيد بالرديء, وله أن لا يرضى بمقابلته بالرديء حتى لو رضي بذلك سقط حقه أيضا.
قوله "ولما صارت" أي الأموال المذكورة أمثالا بالقدر والجنس وسقط اعتبار قيمة الجودة شرطا أي لصيرورتها أمثالا يعني لتحقق التسوية; فإن الشرع لما أوجب التسوية كيلا بكيل احترازا عن الفضل الحرام ولن يحصل التسوية من كل وجه إلا بسقوط قيمة الجودة سقط اعتبارها بطريق الشرط لتحقق التسوية لا علة يعني لم يجعل سقوط قيمة الجودة من أوصاف العلة كالقدر والجنس لأن سقوط قيمة الجودة عبارة عن عدم اعتبارها والعدم لا يصلح علة لأمر وجودي إذ الوجود لا يصلح أثرا للعدم ونتيجة له فلا يصلح التماثل الذي هو وجودي أثرا لعدم تقوم الجودة فيجعل سقوط التقوم شرطا لا علة(3/425)
صارت المماثلة ثابتة بهذين الوصفين وصار سائر الأعيان فضلا على هذين المتماثلين بالكيل والجنس بواسطة المماثلة فصار شرط شيء منها في البيع بمنزلة شرط الخمر ففسد به البيع فهذا أيضا معقول من هذا النص ليس بثابت بالرأي فلم يبق من بعد إلا الاعتبار, وهو أنا وجدنا الأرز والجص والدخن وسائر المكيلات والموزونات أمثالا متساوية فكان الفضل على المماثلة فيها فضلا خاليا عن العوض في عقد البيع مثل حكم النص بلا تفاوت فلزمنا إثباته
ـــــــ
"صارت المماثلة" جواب لما ثابتة بهذين الوصفين أي القدر والجنس بالكيل والجنس بواسطة المماثلة, الباء الأولى متعلقة بالمتماثلين والثانية بصار أي صار سائر الأعيان فضلا بواسطة ثبوت المماثلة بين البدلين بالكيل والجنس "فصار شرط شيء منها" أي من الأعيان "في البيع" أي في بيع المتجانسين بمنزلة شرط الخمر باعتبار أن كل واحد حرام خال عن العوض أو باعتبار أن كل واحد مفوت للمماثلة الواجبة بالأمر. فإن قيل: يبطل ما ذكرتم بما إذا باع جوزة بجوزتين أو بيضة ببيضتين حيث يجوز, وإن جعلت هذه الأموال أمثالا متساوية المالية قطعا بالعدد والجنس كالمكيلات بالكيل والجنس والموزونات بالوزن والجنس بدليل أنها تضمن بالمثل في ضمان العدوان ويجوز السلم فيها عددا مع التفاوت قلنا: لا نسلم أن العدد يجعلها أمثالا متساوية المال قطعا بخلاف الكيل; لأنه يوجب المساواة قدرا على وجه لا يبقى فيه تفاوت فيظهر الفضل ضرورة حتى لو أوجب العدد التسوية قطعا اعتبر علة موجبة للتسوية أيضا كما في الفلوس الرائجة; فإنها لما صارت أمثالا متساوية قطعا على وجه لا يجري فيها المماكسة لم يجز بيع فلس بفلسين وإنما جعلت أمثالا في ضمان العدوان مع قيام التفاوت بطريق الضرورة; لأن الإتلاف قد تحقق والخروج عن العدوان واجب والتفاوت في القيمة أكثر فلو لم نتحمل هذا التفاوت لوقعنا في تفاوت أعظم منه, وهو تفاوت القيمة والسلم عقد مشروع بطريق الرخصة فسوهل فيه, ألا ترى أن السلم يصح في الثياب وإن لم يكن من ذوات الأمثال ولا محلا للربا, كذا في الطريقة البرغرية فهذا أي كون الداعي إلى الحكم هو القدر والجنس معنى معقول أي مفهوم من هذا النص; فإن. قوله عليه السلام "الحنطة بالحنطة والشعير بالشعير" يشير إلى الجنسية وقوله مثلا بمثل يشير إلى القدر ليس بثابت بالرأي يعني ابتداء بل هو مستنبط من النص فلم يبق من بعد أي من بعد ما تبين أن حكم النص وجوب التسوية والمعنى الداعي إليه القدر والجنس إلا الاعتبار, وهو أي الاعتبار أي طريقه كذا مثل حكم النص بلا تفاوت أي مثل حكم النص في الأشياء المنصوص عليها من الحنطة والشعير وغيرهما فلزمنا إثباته أي إثبات الفضل الخالي عن العوض,(3/426)
على طريق الاعتبار, وهو كما ذكرنا من الأمثلة ما بينها وبين هذه الجملة افتراق وحصل بما قلنا إثبات الأحكام بظواهرها تصديقا وإثبات معانيها طمأنينة وشرحا للصدور وثبت به تعميم أحكام النصوص وفي ذلك تعظيم حدودها. ولزمنا بهذا
ـــــــ
وهو كما ذكرنا أي هذا الاعتبار مثل الاعتبار الذي ذكرنا من الأمثلة أي في الأمثلة أو هذا المثال الذي في صحة الاعتبار مثل الأمثلة المذكورة وهي المثلات والاستعارات ليس بين تلك الأمثلة وبين هذه الجملة التي ذكرناها فرق; فإن التأمل في إشارات نصوص المثلاث لتعرف المعاني الداعية إلى وقوعها لأجل الاعتبار والتأمل في حقائق اللغة لاستعارتها لغيرها, مثل التأمل في إشارات حديث الربا وأمثاله لتعرف المعاني الداعية إلى الحكم لأجل الاعتبار من غير تفاوت.
قوله "وحصل بما قلنا" لما فرغ من إقامة الدليل على صحة القياس أشار إلى الجواب عن كلمات الخصوم فقال: حصل بما قلنا من جواز القياس اعتقاد حقية ثبوت الأحكام المنصوصة بظواهر النصوص أي بنفسها ونظمها. وطمأنينة القلب وشرح الصدر بإثبات معانيها; فإن القلب يطمئن بالوقوف على المعنى الذي هو متعلق الحكم وإن حصل له اليقين قبله, ألا ترى أن إبراهيم صلوات الله عليه طلب اطمئنان القلب بقوله {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [البقرة: 260] بعدما قد حصل اليقين له حتى قال: {بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]، وطمأنينة القلب عبارة عن ثباته على ما اعتقده من الحق وسكونه إليه وشرح الصدر عبارة عن توسيعه وتفسيحه لقبول الحق والشرح يضاف إلى الصدر; لأنه فناء القلب والتوسع يضاف إلى الفناء يقال فلان رحب الفناء قال شمس الأئمة رحمه الله إن الله تعالى جعل هذه الشريعة نورا وشرحا للصدر فقال: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر: 22], وقال: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام: 125] والقلب يرى الغائب بالتأمل فيه كالعين ترى الحاضر بالنظر, ثم لا إشكال أن برؤية العين يحصل من الطمأنينة فوق ما يحصل بالخبر إذ ليس الخبر كالمعاينة, ونعلم أن من ضل الطريق إذا أخبره مخبر بالطريق واعتقد الصدق في خبره يحصل له بعض الانشراح وإنما يتم انشراحه إذا عاين أعلام الطريق فكذلك في رؤية القلب; فإنه إذا تأمل في معنى النصوص حتى وقعت عليه يتم به انشراح الصدر ويحصل طمأنينة القلب وذلك بالنور الذي جعله الله في قلب كل مسلم فالمنع من هذا التأمل والأمر بالوقوف على مواضع النص من غير طلب المعنى يكون نوع حجر ورفعا لتحقيق معنى انشراح الصدر وطمأنينة القلب الثابت بقوله تعالى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، فإن قيل: كيف يستقيم هذا والقياس لا يوجب العلم(3/427)
الأصل محافظة النصوص بظواهرها ومعانيها ومحافظة ما تضمنته من المعاني التي تعلقت بها أحكامها جمعا بين الأصول والفروع معا, وهو الحق وماذا بعد الحق إلا الضلال وما للخصم إلا التمسك بالجهل وصار تعليق الحكم بمعنى
ـــــــ
والمجتهد يخطئ ويصيب عندكم؟ قلنا: نعم ولكن يحصل له بالاجتهاد العلم من طريق الظاهر على وجه يطمئن قلبه وإن كان لا يدرك ما هو الحق باجتهاده, وهو نظير قوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10] بأن العلم يثبت به من حيث الظاهر. ويثبت به أي بإثبات المعاني تعميم أحكام النصوص; فإن حكم النص يكون مقتصرا قبل التعليل على المحل المنصوص عليه وبعد استخراج الوصف المؤثر يثبت فيه وفي غيره مما لم ينص عليه كحكم نص الربا كان مقتصرا على الأشياء الستة وبعد التعليل عم سائر المكيلات والموزونات, وفي ذلك أي وفي تعميم أحكامها تعظيم حدودها; لأن فيه عملا بظواهر النصوص فيما نص عليه وبمعانيها فيما لم ينص عليه من الفروع فكان أولى مما ذهب إليه الخصم من تخصيص إعمال النصوص فيما نص عليه وإهمالها فيما لم ينص عليه. ولزمنا بهذا الأصل أي بسبب استعمال القياس محافظة النصوص بظواهرها ومعانيها أي معانيها اللغوية ومحافظة ما تضمنته أي النصوص من المعاني التي تعلقت بها أحكام النصوص وهي المعاني الشرعية; لأنه ما لم يقف على النصوص ومعانيها اللغوية لا يعرف أن هذه الحادثة لا نص فيها وما لم يقف على معانيها الشرعية لا يمكنه رد الحادثة إلى ما يناسبها من النصوص جمعا أي لأجل حصول الجمع بين الأصول والفروع جميعا, وهو الحق أي حفظ النصوص بظواهرها ومعانيها اللغوية والشرعية هو الحق فكان ما يفضي إليه, وهو القياس حقا وليس بعد الحق إلا الضلال فكان ما قال الخصم أن في المنع عن القياس محافظة النصوص بمعانيها زعما باطلا ووهما خطأ وما للخصم, وهم نفاة القياس إلا التمسك بالجهل; فإنهم يتمسكون فيما لا نص فيه باستصحاب الحال ومآله إلى الجهل; فإن مداره على أن لا دليل على الحكم, وهو الجهل بالدليل المثبت فلا يجوز المصير إليه إلا عند الضرورة المحضة بمنزلة تناول الميتة, ثم أجاب عن قولهم لا يجوز التمسك بالقياس لمعنى في الدليل فقال تعلق الحكم بمعنى من معاني النصوص وإن صار بهذا الطريق ثابتا بدليل فيه ضرب شبهة; لأن في كل معنى عينه القائس لتعليق الحكم به احتمال أن لا يكون متعلق الحكم, لكن وضع الأسباب أي شرعها لأجل العمل دون العلم على هذا الوجه, وهو أن يكون فيها ضرب شبهة جائز كالنصوص المحتملة بصيغها مثل الآية المؤولة والعام الذي خص منه البعض من الكتاب وخبر الواحد من السنة, وصار الكتاب تبيانا لكل شيء من هذا الوجه وهو اعتبار المعنى, إذ لا يمكن أن(3/428)
من المعاني ثابتا بحجة فيها ضرب شبهة وفي التعيين احتمال وجائز وضع الأسباب للعمل على هذا الوجه كالنصوص المحتملة بصيغتها من الكتاب والسنة وصار الكتاب تبيانا لكل شيء من هذا الوجه; لأن ما ثبت بالقياس يضاف إليه فكان أولى من العمل بالحال التي ليست بحجة فإذا تعذر العمل بالقياس
ـــــــ
يقال كل شيء في القرآن باسمه الموضوع له لغة فكان بيانا بمعناه, ثم ذلك المعنى جلي يوقف عليه باعتبار الظاهر كحرمة الشتم والضرب بمعنى الأذى الموجود في التأفيف وخفي لا يوقف عليه إلا بزيادة تأمل كتعلق انتقاض الطهارة بوصفي النجاسة والخروج في الخارج من السبيلين فإذا كان إثبات الحكم بالمعنى الظاهر إثباتا له بالكتاب كان إثباته بالمعنى الخفي كذلك أيضا فيكون الكتاب تبيانا لكل شيء بظاهره ومعناه., وهذا هو الجواب عن تمسكهم بقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] وقوله عز اسمه {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] على أن المراد من الكتاب المبين اللوح المحفوظ في عامة الأقاويل لا القرآن وكان أولى أي كان العمل بالقياس عند عدم النص أولى من العمل بالحال لما قلنا, وثبت أن طاعة الله تعالى لا تتوقف على علم اليقين; لأنه لما جاز العمل بالآية المؤولة وخبر الواحد وباستصحاب الحال إذا عدم النص عندهم أو تعذر العمل بالقياس عندنا علم أنها لا تتوقف على علم اليقين. وقولهم: لا يطاع الله تعالى بالعقول والآراء مسلم فيما إذا كان ذلك بطريق الابتداء لا فيما إذا تعلق طاعة بمعنى من المعاني, ثم وجد ذلك المعنى في محل آخر; فإنه هو المتنازع فيه. وأما الجواب عن حديث واثلة, وهو حديث أولاد السبايا فهو أن المراد منه القياس المهجور; لأنهم كانوا يقيسون في نصب الشرائع وإليه وقعت الإشارة في قوله فقاسوا ما لم يكن بما قد كان لا القياس الذي نحن بصدده; فإنه في التحقيق إظهار ما قد كان ورد مشروع إلى نظائره. وكذا المراد من الرأي والقياس المذكور في سائر ما رووا من الأخبار الرأي المقترح المذموم الذي هو مدرجة إلى الضلال أو الرأي الذي يكون المقصود منه رد المنصوص نحو ما فعله إبليس لعنه الله لا الرأي الذي قصد به إظهار الحق; فإنه تعالى أمر به في إظهار قيمة الصيد بقوله جل جلاله {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] ورسول الله صلى الله عليه وسلم علم أصحابه والصحابة عن آخرهم أجمعوا على استعماله من غير نكير من أحدهم على من استعمله كما بينا فكيف يظن الاتفاق على ما ذمه رسول الله عليه السلام أو جعله مدرجة إلى الضلال هذا شيء لا يظنه إلا ضال. كذا قال شمس الأئمة رحمه الله وما قال النظام: إن القياس على خلاف موضوع الشرع غير مسلم لما ذكرنا من الدلائل. قوله: لأن الشرع ورد بالفرق بين المتماثلات والجمع بين المختلفات. قلنا: أما الفرق فلافتراقها في(3/429)
صير إلى الحال, وثبت أن طاعة الله تعالى لا تتوقف على علم اليقين.
ـــــــ
المعاني التي تعلقت الأحكام بها وانتفاء صلاحية ما توهمه الخصم جامعا أو لوجود معارض في الأصل أو الفرع, وأما الجمع بين المختلفات فلاشتراكها في معنى جامع أو لاختصاص كل من المختلفات بعلة صالحة لحكم خلافه إذ لا مانع عند اختلاف الصور, وإن اتحد نوع الحكم أن يعلل بعلل مختلفة. فإن قال الخصم: إن غرضي مما ذكرته بيان أن الشرع شهد بإبطال أماراتكم; فإنه لو حرم النظر إلى شعر الحرة ولم يذكر الأمة لعلمتم إنما حرم ذلك لخوف الفتنة, وهو قائم في شعر الأمة الحسناء فيحرم النظر إليه, ولكان ذلك من أقوى ما تذكرونه من أماراتكم في القياس فإذا شهد الشرع ببطلانه فقد صح قولي: إن وضعه يمنع من القياس فنجيبه بأن نفي الشرع حكم أمارة في بعض الصور لا يمنع من كونها أمارة في بعض الصور; فإن الغيم الرطب أمارة في الشتاء على المطر ولا ينقض كونه أمارة وجود غيم أرطب في صميم الشتاء من غير مطر فكذلك أماراتنا لا تخرج من كونها أمارات بوجود أمثالها متخلفة عنها أحكامها إذ الأكثر يوجد بدون التخلف والله أعلم.(3/430)
"فصل في تعليل الأصول"
قال الشيخ الإمام: واختلفوا في هذه الأصول, فقال بعضهم: هي غير شاهدة أي غير معلولة إلا بدليل, وقال بعضهم هي معلولة بكل وصف يمكن إلا بمانع, وقال بعضهم: هي معلومة لكن لا بد من دليل مميز وهذا أشبه بمذهب الشافعي
ـــــــ
"فصل في تعليل الأصول"
لما بين في أول الباب أن الأصول وهي النصوص شهود الله تعالى في حقوقه وأحكامه, وشهادتها معانيها الجامعة بين الفروع والأصول بين في هذا الفصل اختلاف الناس في ذلك فقال: واختلفوا يعني القائلين بالقياس في هذه الأصول, وهي النصوص المتضمنة للأحكام من الكتاب والسنة أو الأصول الثلاثة وهي الكتاب والسنة والإجماع والأول أظهر فقال بعضهم أي بعض القايسين: هي غير شاهدة أي غير معلولة في الأصل إلا بدليل أي إذا قام دليل في البعض على كونه معلولا فحينئذ يجوز تعليله ويصح اللازم به على الخصم واسترذل بعض أهل اللغة إطلاق لفظ المعلول على النص في عباراتهم فقالوا: العلة التي هي المصدر لازم, والنعت منه عليل فالصواب أن يقال: هذا النص معلل بكذا وأجيب عنه بأنه قد جاء عل فهو معلول أي ذو علة نص عليه في المغرب والصحاح, والعلة في اصطلاح الفقهاء عبارة عن المعنى الذي تعلق به حكم النص على ما عرف تفسيرها في أول التقويم مأخوذة من العلة بمعنى المرض فيجوز أن يقال: هذا النص معلول أي ذو علة بهذا المعنى كما يقال للمريض: معلول أي ذو علة بمعنى المرض وقال بعضهم: هي معلولة بكل وصف يمكن التعليل به, ويصلح لإضافة الحكم إليه إلا أن يمنع مانع أي يقوم دليل من نص أو إجماع في البعض يمنع من التعليل ببعض الأوصاف فحينئذ يمنع التعليل بالجميع, ويقتصر على ما عدم فيه المانع وقال بعضهم: وهم عامة مثبتي القياس هي معلولة أي الأصل فيها التعليل, ولكن بوصف قام الدليل على تميزه من بين سائر الأوصاف في كونه متعلق الحكم لا بكل وصف يعني لا حاجة في تعليل كل نص إلى إقامة الدليل على أن هذا النص معلول بل يكتفى فيه بأن الأصل في النصوص التعليل لكن يحتاج فيه إقامة الدليل على أن هذا الوصف من بين(3/431)
رحمه الله والقول الرابع قولنا إنا نقول: هي معلومة شاهدة إلا بمانع ولا بد من دلالة التمييز ولا بد قبل ذلك من قيام الدليل على أنه للحال شاهد, وعلى هذا اختلافنا في تعليل الذهب والفضة بالوزن وأنكر الشافعي رحمه الله التعليل فلا يصح الاستدلال بأن النصوص في الأصل معلومة إلا بإقامة الدليل في هذا النص
ـــــــ
سائر الأوصاف هو الذي تعلق الحكم به وهذا أي هذا القول أشبه بمذهب الشافعي رحمه الله; لأنه لما جوز التعليل بعلة قاصرة وليس فيه إلزام على الغير جاز الاكتفاء بهذا القدر وهو أن الأصل في النصوص كونها معلولة ولأنه لما جعل الاستصحاب حجة ملزمة على الغير مع أنه تمسك بالأصل لم يحتج إلى إقامة الدليل في كل نص أنه شاهد للحال بل التعليل يكون ملزما عنده نظرا إلى أن الأصل في النصوص التعليل وإنما قال: وهذا أشبه; لأن هذا المذهب لم ينقل عن الشافعي نصا بل استدل بمسائله عليه, وأسند صاحب الميزان هذا القول إلى الشافعي وإلى بعض أصحابنا أيضا والقول الرابع: قولنا إنا نقول هي معلولة شاهدة, أي الأصل فيها التعليل عندنا أيضا ومعلولة, شاهدة بمعنى واحد إلا بمانع مثل النصوص الواردة في المقدرات من العبادات والعقوبات ولا بد في ذلك أي في جواز التعليل من دلالة التمييز أي دليل يميز الوصف المؤثر من سائر الأوصاف ولا بد قبل ذلك أي قبل الشروع في التعليل وتمييز الوصف المؤثر من إقامة الدليل على أنه أي النص نريد استخراج العلة منه للحال شاهد أي معلول; لأن الظاهر وهو أن الأصل في النصوص التعليل يصلح للدفع لا للإلزام, وهذا القول مذهب بعض أصحابنا كذا ذكر في الميزان وإن كان القاضي الإمام والشيخان ذكروه مذهبا لأصحابنا على الإطلاق.
واختار صاحب الميزان القول الثالث كما هو مذهب العامة فقال: إن أحكام الله تعالي مبنية علي الحكم ومصالح العباد وهو المراد بقولنا:النصوص معلولة أي الأحكام الثابتة بها متعلقة بمعان ومصالح وحكم فإذا عقل ذالك المعني يجب القول بالتعدية.ولأن الأصل إن كان واحدا واستخرج منه كل من خالف علة لتعلق الحكم بها كان الأصل معلولا باتفاقهم وإن كان كل واحد استخرج من أصل علي حدة فمتي علله بوصف مؤثر ووجد فيه ما هو العلة يكون معلولا فلا حاجة إلي قيام النص أو الإجماع علي كونه معلولا.
وذكر في بعض نسخ أصول الفقه زعم بشر المريسي وأبو الحسن الكرخي أن من شرط صحة القياس أن ينعقد الإجماع علي كون حكم الأصل معللا او يقوم نص عليه وزعم عثمان السبتي أن القياس لا يجوز علي أصل حتي يقوم دليل خاص علي جواز القياس عليه. وكلاهما باطل لأن مدرك الإحتجاج بالقياس إجماع الصحابة وقد علمنا من تتبع أحوالهم في مجري اجنهاداتهم أنهم كانوا يقيسون لفرع علي الصل عند ظن وجود(3/432)
على الخصوص أنه معلول احتج أهل المقالة الأولى بأن النص موجب بصيغته وبالتعليل ينتقل حكمه إلى معناه, وذلك كالمجاز من الحقيقة فلا تترك إلا بدليل ألا ترى أن الأوصاف متعارضة. والتعليل بالكل غير ممكن وبكل وصف
ـــــــ
مايظن أنه علة في الأصل في الفرع من غير توقف علي دليل يدل علي كون الأصل معللا أو دليل خاص علي جواز القياس عليه حتي قاس بعضهم قوله: أنت علي حرام علي الإطلاق وبعضهم علي الظهار وبعضهم اليمين من غير أن يقوم دليل من نص أو إجماع علي كون تلك الأصول معللة ولا علي جواز القياس عليها ولم ينكر البعض علي بعض ولم يرد عليه بأن ما ذكرت من الأصل غير متفق عليه مما أدي إلي خلاف إجماعهم باطل.
قوله "احتج أهل المقالة الأولى" وهم الذين قالوا بأن الأصل في النصوص عدم التعليل بأن النص قبل التعليل يثبت الحكم بصيغته على موجب اللغة وليس المعنى الشرعي مما يدل عليه النص لغة; ولهذا اختص به الفقهاء دون أهل اللغة وبالتعليل يتغير ذلك الحكم بانتقاله من الصيغة إلى المعنى; إذ لو لم ينتقل لا يمكن التعدية ألا ترى حكم النص في قوله عليه السلام "الحنطة بالحنطة مثل بمثل والفضل ربا" حرمة فضل الحنطة على الحنطة في البيع وبالتعليل يصير حكمه بيع المكيل بالمكيل في الجنس سواء كان حنطة أو غيرها ثم المعنى الشرعي من الصيغة بمنزلة المجاز من الحقيقة فإن معرفة صيغة النص تتوقف على السماع توقف معرفة الحقيقة عليه, ومعرفة المعنى الشرعي من النص لا تتوقف عليه كمعرفة المجاز فكان الاشتغال بالتعليل تغييرا لحكم النص وتركا للحقيقة إلى المجاز بل أبعد; لأن المجاز أحد نوعي الكلام والمعنى المستنبط ليس من أنواع النص, ولا من أنواع الكلام, وإذا كان كذلك كان الأصل هو العلم بصيغة النص دون معناه فلا يجوز ترك هذا الأصل وتغييره إلا بدليل كما لا يجوز ترك الحقيقة وتغيير معناها إلا بدليل وذلك إشارة إلى المعنى أو إلى انتقال الحكم والضمير في فلا يترك راجع إلى النص. ثم استوضح هذا بذكر دليل آخر فقال ألا ترى أن الأوصاف متعارضة يعني يقتضي كل وصف من أوصاف النص غير ما يقتضيه الآخر فإن وصف الطعم في حديث الربا يقتضي حرمة بيع التفاحة بالتفاحتين وإباحة بيع قفيز من الجص بقفيزين منه على خلاف ما يقتضيه القدر والجنس.
"والتعليل بالكل" أي بجميع أوصاف النص بأن يجعل الكل علة واحدة غير ممكن; لأن ذلك لا يوجد في غير المنصوص عليه فالتعليل يوجب انسداد باب القياس لاقتضائه قصد الحكم على النص أو التعليل بكل واحد من الأوصاف بأن يجعل كل وصف علة غير ممكن لإفضائه إلى التناقض فإن التعليل بالقدر والجنس يوجب خلاف ما يوجبه(3/433)
محتمل فكان الوقف أصلا, واحتج أهل المقالة الثانية بأن الشرع لما جعل القياس حجة لا يصير حجة إلا بأن يجعل أوصاف النص علة وشهادة صارت الأوصاف كلها صالحة فصلح الإثبات بكل وصف إلا بمانع مثل رواية الحديث لما كان حجة, والاجتماع متعذر صارت رواية كل عدل حجة لا يترك إلا بمانع فكذلك هذا ولما صار القياس دليلا صار التعليل والشهادة من النص أصلا فلا يترك بالاحتمال, وإنما التعليل لإثبات حكم الفرع فأما النص فيبقى موجبا كما كان,
ـــــــ
التعليل كما قلنا أو التعليل بالقدر والجنس يوجب التعدية إلى الجنس والنورة والحديد وغيرها, والتعليل بالطعم والثمنية يوجب قصر الحكم على المنصوص عليه, وهو الطعام في قوله عليه السلام: "لا تبيعوا الطعام بالطعام, والذهب والفضة" في حديث الأشياء الستة, والتعدية وعدمها أمران متناقضان فيكون التعليل المؤدي إليه باطلا وبكل وصف محتمل يعني بعدما تحققت المعارضة ولم يمكن التعليل بالجميع وبكل وصف كما قلنا لا يمكن التعليل بواحد منها أيضا; لأن كل وصف عينه المجتهد للتعليل به يحتمل أن يكون هو المعنى الموجب للحكم, ويحتمل أن لا يكون, والمحتمل لا يكون حجة; إذ الحجة لا تثبت بالاحتمال والشك فكان الوقف أي الوقوف عن التعليل هو الأصل إلا إذا قام دليل يرجح بعض الأوصاف فحينئذ يجوز الاشتغال بالتعليل فإن الترجيح بعد المعارضة إنما يثبت بالدليل. ولأن الحكم ظهر عقيب كل الأوصاف التي اشتمل عليها النص فالتعليل بالبعض تخصيص فلا يثبت إلا بدليل وحاصل هذا القول أن التعليل لا يجوز إلا فيما يثبت علته بنص أو إجماع.
قوله: "واحتج أهل المقالة الثانية" وهم الذين قالوا: الأصل في النصوص التعليل, وأن التعليل يجوز بكل وصف يمكن وبأن الشرع أي الشارع لما جعل القياس حجة بما مر ذكره من الدلائل, ولا يتأتى القياس إلا بالوقوف على المعنى الذي صلح علة من النص كان جواز التعليل أصلا في كل نص; لأن تلك الدلائل لم تفصل بين نص ونص ولما صار التعليل أصلا ولا يمكن التعليل بجميع الأوصاف لتأديه إلى انسداد باب القياس, ولا بواحد منها للجهالة وفساد ترجيح الشيء بلا مرجح صارت الأوصاف كلها صالحة أي صار كل وصف صالحا للتعليل به فكانت صلاحية التعليل بكل وصف أصلا فصلح الإثبات أي إثبات الحكم بكل وصف إلا بمانع بأن يعارض بعض الأوصاف بعضا أو يخالف نصا أو إجماعا مثل رواية الحديث فإن الحديث لما كان حجة, والعمل به واجبا, ولا يثبت الحديث إلا بنقل الرواة واجتماع الرواة على رواية كل حديث متعذر صارت رواية كل عدل حجة لا تترك إلا بمانع بأن يخالف دليلا قطعيا من نص أو إجماع أو يظهر فسق الراوي فكذلك(3/434)
ووجه القول الثالث أنه لما ثبت القول بالتعليل وصار ذلك أصلا بطل التعليل بكل الأوصاف; لأنه ما شرع إلا للقياس مرة, وللحجر أخرى عند الشافعي وهذا يسد باب القياس أصلا فوجب التعليل بواحد من الجملة فلا بد من دليل يوجب التمييز; لأن التعليل بالمجهول باطل, والواحد من الجملة هو للتيقن بعد سقوط
ـــــــ
هذا أي فمثل رواية الحديث تعليل النص لما تعذر التعليل بالجميع يجعل كل وصف علة وظهر بهذا فساد قولهم: إن الأوصاف متعارضة; لأن بمجرد اختلاف الأوصاف لما لم يتحقق المعارضة إذا أمكن العمل بالكل لا يثبت أيضا عند كثرة أوصاف النص مع إمكان العمل بالكل إلا أن يمنع منه مانع. ثم أجاب عن قولهم: التعليل بكل وصف محتمل بقوله: ولما صار القياس دليلا أي في الشرع صار التعليل والشهادة من النص أي من كل نص أصلا لتعميم الحكم لكن يبقى في كل وصف احتمال أنه ليس بمراد بعد قيام الدليل على كونه حجة فلا يترك أي ذلك الأصل بالاحتمال; لأن ما ثبت أصلا بالدليل لا يخرج بالاحتمال من أن يكون حجة كما لا يثبت بالاحتمال كونه حجة وعن قولهم التعليل تغيير للحكم وترك للحقيقة إلى المجاز, وإنما التعليل لإثبات حكم الفرع يعني أثر التعليل في إثبات حكم الفرع لا في تغيير حكم الأصل فإن الحكم في المنصوص بعد التعليل ثابت بالنص لا بالعلة كما كان قبل التعليل, فلم يكن فيه تغيير للحكم, ولا ترك للحقيقة بل فيه تقريره بإظهار المعنى الذي يحصل به طمأنينة القلب وانشراح الصدر ووجه القول الثالث, وهو قول بعض أصحابنا والشافعي أنه لما يثبت القول بالتعليل بالدلائل الموجبة للقياس وصار ذلك أي التعليل أصلا في النصوص بطل التعليل بكل الأوصاف أي بجميعها بأن يجعل الكل علة; لأنه أي التعليل شرع للقياس مرة أي لتعدية الحكم إلى غير المنصوص عليه وإلحاقه به وللحجر أخرى عند الشافعي فإنه جوز التعليل بعلة قاصرة لا لمجرد الحجر فحسب وهذا أي التعليل بجميع الأوصاف يسد باب القياس أصلا لما بينا أن ما يوجد فيه جميع الأوصاف يكون فردا من جنس المنصوص عليه فيكون الحكم ثابتا فيه بالنص لا بالقياس فيكون التعليل حينئذ للحجر لا غير, وهو خلاف ما اتفق عليه القائلون بالقياس, ولما انتفى التعليل بالجميع وجب التعليل بواحد من الجملة وهو مجهول, والتعليل بالمجهول لتعدية الحكم باطل, فلا بد من دليل عين وصفا من سائر الأوصاف للتعليل وقوله: والواحد من الجملة جواب عما يقال: إن لم يكن التعليل بالجملة فلم وجب النقل إلى الواحد مع إمكان التعليل بالوصفين والأكثر منها فقال: لأن الواحد وهو المتيقن به بعد سقوط الجملة كما في وقت الصلاة لما تعذر سببية الجميع جعل الجزء الأدنى سببا للتيقن به, والتعليل بالوصفين وأكثر جائز لكن الزيادة على الواحد(3/435)
الجملة لكنه مجهول وقلنا نحن: إن دليل التمييز شرط على ما نبين إن شاء الله تعالى لكنا نحتاج قبل ذلك إلى قيام الدلالة على كون الأصل شاهدا للحال لا ناقدا وجدنا من النصوص ما هو غير معلول فاحتمل هذا أن يكون من تلك الجملة لكن هذا الأصل لم يسقط بالاحتمال, ولم يبق حجة على غيره, وهو الفرع بالاحتمال أيضا على مثال استصحاب الحال ولا يلزم عليه أن الاقتداء بالنبي
ـــــــ
لا يثبت إلا بالدليل أيضا هذا تقدير ما ذكر في الكتاب ولكن لأهل المقالة الثانية أن يقولوا: لا يلزم من عدم صحة التعليل بجميع الأوصاف عدم صحته بكل واحد منها إذا أمكن التعليل به لعدم سد باب القياس فيه بل فيه فتحة وزيادة تعميم لحكم النص فإذا جاز التعليل بكل وصف لم يجب النقل إلى الواحد المجهول الذي يحتاج إلى دليل مميز وفي كلام القاضي الإمام جواب عنه فإنه قال: الدلائل الموجبة للقياس جعلت النص معلولا ليمكن القياس; إذ لا قياس إلا بكون النص معللا, وإلا لكان يثبت بوصف من الجملة فلم يجب بتلك الدلائل أن يجعل كل وصف علة بل صار البعض من الجملة علة واحتمل الزيادة على الواحدة فلا تثبت الزيادة على الواحد إلا بدليل وذكر شمس الأئمة رحمه الله أن الصحابة إنما اختلفوا في الفروع لاختلافهم في الوصف الذي هو علة في النص; إذ كل واحد منهم ادعى أن العلة ما قاله فكان ذلك اتفاقا منهم أن أحد الأوصاف هو العلة فلا يجوز التعليل بجميع الأوصاف وبكل وصف; لأنه على مخالفة الإجماع.
قوله "وقلنا نحن: إن دليل التمييز شرط". يعني هذا الذي ذكرنا هو المختار ودليل التمييز شرط عندنا أيضا كما هو شرط عندهم إلا أن عندهم دليل التمييز الإخالة, وعندنا التأثير على ما نبين في باب ركن القياس إن شاء الله عز وجل لكنا نحتاج قبل ذلك أي قبل بيان التميز والشروع في التعليل إلى إقامة الدليل على كون الأصل أي النص الذي يريد تعليله شاهدا أي معللا في الحال وليس بمقتصر على مورده بل يعدي حكمه إلى غيره كالحكم الثابت بالخارج من السبيلين تعدى إلى مثقوب السرة بالإجماع فيجوز تعليله بعد بوصف قام إلى الدليل على كونه علة; لأن الأصل في النصوص, وإن كان هو التعليل إلا أنه ثابت من طريق الظاهر, وقد وجدنا من النصوص ما هو غير معلول بالاتفاق واحتمال أن يكون هذا النص المعين من تلك الجملة فلا يصح التمسك بذلك الأصل والإلزام به على الغير مع هذا الاحتمال; لأن الظاهر يصلح حجة للدفع لا للإلزام لكن هذا الأصل, وهو كون التعليل أصلا في النصوص لم يسقط بالاحتمال أيضا حتى جاز التعليل للعمل به قبل قيام الدليل على كونه معلولا وإن لم يصح الإلزام به على الغير وعلى مثال استصحاب الحال فإنه لما كان ثابتا بطريق الظاهر صلح حجة دافعة لا ملزمة حتى إن حياة(3/436)
عليه السلام واجب مع قيام الاختصاص في بعض الأمور; لأن الاقتداء بالنبي عليه السلام إنما صار واجبا لكونه رسولا وإماما وهذا لا شبهة فيه فلم يسقط العمل بما دخل من الاحتمال في نفس العمل. فأما هنا فإن النص نوعان معلول وغير معلول فيصير الاحتمال واقعا في نفس الحجة, ولأن الشرع ابتلانا بالموقف مرة وبالاستنباط أخرى كل ذلك أصل فلما اعتدلا لم يستقم الاكتفاء بأحد الأصلين,
ـــــــ
المفقود لما كانت ثابتة بطريق الاستصحاب نجعل حجة لدفع الاستحقاق حتى لا يورث ماله, ولا يصلح سببا للاستحقاق حتى لو مات قريبه لا يرثه المفقود لاحتمال الموت وكذلك مجهول الحال إذا شهد لا يرد شهادته باحتمال كونه عبدا; إذ الأصل في بني آدم هو الحرية. ولكن لو طعن الخصم في حريته لم يصر حجة عليه باعتبار الأصل لاحتمال زواله بعارض, ولا يبطل حرمة في نفسه أيضا بهذا الاحتمال فكذلك هذا, فإذا قام الدليل على كون الأصل شاهدا لم يبق الاحتمال فصار حجة.
قوله: "ولا يلزم" جواب عن سؤال يرد على هذا الأصل, وتقديره أن الاقتداء بالرسول في أفعاله أصل بقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران: 31] كما أن التعليل في النصوص أصل بالدلائل الموجبة للقياس, وقد ثبت اختصاص النبي عليه السلام ببعض الأفعال مثل إباحة صوم الوصال, وحل التسع وإباحة النكاح بغير مهر, وأخذ الصفي من الغنيمة وغيرها كما ثبت عدم التعليل في بعض النصوص ثم جاز العمل بذلك الأصل من غير اشتراط قيام دليل على عدم الاختصاص حتى جاز الاقتداء به في أفعاله, وصح الإلزام به على الغير ما لم يقم الدليل المانع فينبغي أن يجوز العمل بالأصل ها هنا أيضا من غير اشتراط قيام دليل على كون هذا النص المعين معللا ما لم يمنع عنه مانع فقال الاقتداء بالنبي عليه السلام إنما وجب لكونه رسولا وإماما صادقا بقوله تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] وليس في كونه رسولا وإماما شبهة فوجب علينا الاقتداء به لوجود العلة الموجبة له قطعا ولم يسقط العمل به بالاحتمال الداخل في نفس العمل دون العلة الموجبة وهو احتمال الاختصاص كما لا يسقط العمل بالعام باحتمال الخصوص لما كان أصله موجبا ما لم يقم دليل التخصيص. فأما فيما نحن فيه فالاحتمال في نفس الحجة للوجهين المذكورين في الكتاب فلم يكن بد من قيام الدليل على أنه معلول للحال ليصح العمل به بمنزلة المجمل لما كان الاحتمال في نفسه لم يصح العمل به ما لم يقم دليل يبين المراد منه ومن لم يعتبر هذا الشرط من أصحابنا متمسكا بإجماع الصحابة على ما بينا وبأن أحدا من العلماء لم يشغل بإقامة الدليل على كون الأصل معللا(3/437)
فأما الرسول عليه السلام فإنما بعث للاقتداء لا معارض لذلك فلم يبطل بالاحتمال ومثال هذا الأصل قولنا في الذهب والفضة: إن حكم النص في ذلك معلول فلا يسمع منا الاستدلال بالأصل وهو أن التعليل أصل في النصوص بل لا بد من إقامة الدلالة على أن هذا النص بعينه معلول, ودلالة ذلك أن هذا النص تضمن حكم التعيين بقوله يدا بيد, وذلك من باب الربا أيضا ألا ترى أن تعيين أحد
ـــــــ
في مناظراتهم ومقايساتهم ولم يطلب ذلك خصمه منه أجاب عن هذه الكلمات فقال بعدما ثبت أن الأصل في النصوص هو التعليل لا وجه إلى اشتراط دليل آخر لصحة التعليل; إذ التعليل لا يصح إلا بوصف مؤثر, والأثر إنما يعرف بالكتاب أو السنة والإجماع على ما ستعرفه فكان ظهور الوصف المؤثر من هذا النص دليلا على كونه معلولا; إذ لا معنى لكونه معلولا إلا تعلق حكمه بمعنى مؤثر يدرك بالعقل فأي حاجة إلى إقامة دليل آخر على كونه معلولا وليس هذا كاستصحاب الحال فإن الأصل فيه لم يثبت بدليل ألا ترى أن حياة المفقود وحرية الشاهد لم تثبتا بدليل بل بظاهر الحال, فأما كون الأصل معلولا فقد ثبت بقبول التعليل وظهور الوصف المؤثر فوضح الفرق وتبين أنه كالاقتداء بالرسول عليه السلام في صحة العمل به في هذا الفرد المعين كالعمل بالاقتداء في الفعل المعين. وكما أن النصوص نوعان معلول وغير معلول فأفعال النبي عليه السلام أيضا نوعان ما يقتدى به وما لا يقتدى به وكما ابتلينا بالوقف في غير المعلول وبالاستنباط في المعلول فقد ابتلينا بالاقتداء فيما يصلح الاقتداء به وبعدم الاقتداء فيما ثبت الاختصاص فيه فكانا من قبيل واحد فهذا كلام الفريقين في هذه المسألة فعليك بعد بالترجيح.
قوله: "ومثال هذا الأصل" وهو أنه لا بد في التعليل من إقامة الدليل على كون الأصل معلولا ولا يكتفي فيه بأن الأصل في النصوص التعليل وقولنا في الذهب والفضة إن حكم النص وهو حرمة الفضل وفي ذلك أي في النصوص معلول بعلة متعدية وهي الوزن والجنس على خلاف ما قال الشافعي رحمه الله أنه ليس بمعلول أو مخصوص بعلة الثمنية فلا يسمع منا الاستدلال أي التمسك بالأصل من غير إقامة الدليل على أن هذا النص وهو قوله عليه السلام "الذهب بالذهب والفضة بالفضة مثلا بمثل يدا بيد" بعينه معلول ودلالة ذلك أي الدليل على أن هذا النص بعينه معلول أن هذا النص تضمن حكم التعين أي حكما هو التعيين من قبيل قولك: علم الطب وحكم التطهير بقوله عليه السلام "يدا بيد" إذ المراد منه التعيين, فإن اليد آلة التعيين كالإحضار والإشارة كما تضمن وجوب المماثلة بقوله مثلا بمثل وذلك من باب الربا أيضا أي وجوب التعيين من باب الاحتراز عن الربا كوجوب المماثلة للاحتراز عن الربا يعني كلا الحكمين متعلق(3/438)
البدلين شرط جواز كل بيع احتراز عن الدين وتعيين الآخر واجب طلبا للاستواء بينهما احترازا عن شبهة الفضل الذي هو ربا, وقد قال النبي عليه السلام "إنما الربا في النسيئة" وقد وجدنا هذا الحكم متعديا عنه حتى قال الشافعي رحمه الله
ـــــــ
بمعنى واحد ألا ترى دليلا على أن وجوبه للاحتراز عن الربا يعني الدليل على أن وجوبه لما قلنا: إن تعيين أحد البدلين شرط جواز كل بيع للاحتراز عن الدين بالدين الذي هو نسيئة بنسيئة, وذلك من باب الربا لقوله عليه السلام "إنما الربا في النسيئة1" . وتعيين الأخرى أي وجوب تعيين البدل الآخر فيما نحن بصدده, وهو الصرف لطلب المساواة بين البدلين في العينية, فإن المساواة بينهما في القدر العينية شرط عند اتفاق الجنس بقوله: مثلا بمثل يدا بيد, والمساواة في العينية شرط عند اختلاف الجنس بقوله: وإذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم بعد أن يكون يدا بيد وقوله طلبا للتسوية متعلق بواجب وقوله: احتراز متعلق بالمجموع, أو بقوله: طلبا وهو أظهر وإنما وجب تحصيل المساواة بينهما في العينية احترازا عن شبهة الفضل الذي هو ربا فإن العين خير من الدين وإن كان حالا; ولهذا لم يجز أداء الزكاة العين من الدين ولم يحنث في قوله: إن كان له مال فعبده حر إذا لم يكن له مال عين, وله ديون على الناس كما وجبت المساواة في القدر احترازا عن حقيقة الفضل فثبت أن وجوب التعين للاحتراز عن الربا كوجوب المساواة.
وقد وجدنا هذا الحكم وهو وجوب التعيين متعديا عن هذا الأصل إلى الفروع حتى شرط الشافعي رحمه الله التقابض في المجلس في بيع الطعام بالطعام عند اتحاد الجنس واختلافه ليحصل التعيين كما شرطناه جميعا في بدلي الصرف عند اتحاد الجنس واختلافه لذلك. وقلنا جميعا فيمن اشترى حنطة بعينها بشعير بغير عينه غير مقبوض في المجلس أنه باطل وإن كان موصوفا; لأن بترك التعيين في أحد البدلين بعدم المساواة في اليد كما لو باع ذهبا بفضة ولم يقبض أحدهما في المجلس وإنما قال حالا غير مؤجل ليكون وجه الجواز ظهر يعني مع كونه حالا موصوفا لا يجوز لعدم التعيين لما قلنا من اشتراط تعين البديل طلبا للمساواة احترازا عن شبهة الفضل ووجب تعيين رأس مال السلم يعني بالقبض في المجلس سواء كان من الأثمان أو من غيرها; لأن المسلم فيه أبدا يكون دينا ورأس المال في الأغلب هو الدراهم والدنانير, وأنها لا يتعين إلا بالقبض فشرطنا القبض الذي يحصل به التعيين كي لا يكون افتراقا عن دين بدين ثم لو كان شيئا يتعين بالتعيين بدون القبض يشترط القبض أيضا, ولا يكتفى فيه بالتعيين دفعا لحرج التمييز عن العوام وإلحاقا للفرد بالأغلب
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في المساقاة حديث رقم 1596، وابن ماجة برقم 2257، والإمام أحمد في المسند 5/3.(3/439)
في بيع الطعام: إن التقابض شرط, وقلنا جميعا فيمن اشترى حنطة بعينها بشعير بغير عينه حالا غير مؤجل إنه باطل, وإن كان موصوفا لما قلنا, ووجب تعيين رأس مال السلم بالإجماع, وإذا ثبت التعدي في ذلك ثبت أنه معلول فلا تعدي بلا تعليل بالإجماع فقد صح التعدي ولم يكن الثمنية مانعة, وإذا ثبت فيه ثبت في مسألتنا; لأنه هو بعينه بل ربا الفضل أثبت منه, وقال الشافعي رحمه الله: إن تحريم الخمر معلول فلا بد من إقامة الدليل عليه, ولا دليل عليه من قبل
ـــــــ
فيثبت بما ذكرنا أن هذا الحكم قد تعدى إلى الفروع; إذ لا معنى للتعدي إلا وجود حكم النص في غير المنصوص عليه, وعدم اقتصاره عليه إذا ثبت التعدي في ذلك أي في حكم التعيين ثبت أنه أي النص معلول فلا يعدى بلا تعليل أي الحكم لا يعدى إلى الفرع بلا تعليل الأصل بالإجماع, وثبت أن التعليل بعلة قاصرة لا يمنع من التعدي بعلة متعدية; لأن التعدي قد صح ها هنا, ولم يكن الثمنية مانعة وإذا ثبت فيه أي ثبت للتعليل هذا النص في تعدي حكم التعيين إلى ما ذكرنا من الصور, ولم يكن الثمنية مانعة منه ثبت تعليله في مسألتنا أي فيما تنازعنا فيه وهو تعدي وجوب المماثلة إلى سائر الموزونات لأنه هو بعينه أي لأن التعليل لوجوب المماثلة عين التعليل لتعدي حكم التعيين فإن تعدي وجوب المماثلة للاحتراز عن الربا كما أن تعدي وجوب التعيين للاحتراز عن الربا أيضا بل ربا الفضل أثبت منه أي من ربا النسيئة يعني ربا الفضل الذي بني تعدي وجوب المماثلة عليه أسرع ثبوتا من ربا النسيئة الذي بني تعدي التعيين عليه; لأنه حقيقة الفضل وربا النسيئة شبهة الفضل, والحقيقة أولى بالثبوت من الشبهة.
فإن قيل: لا نسلم وجود التعدي في هذا الحكم; لأن معنى التعدي أن يوجد الحكم في الفرع الذي لا نص فيه بناء على علة جامعة بين الأصل والفرع, والتعيين فيما ذكرتم ثابت بالنص لا بالعلة فإنه عليه السلام قال في كل واحد من الأشياء الستة عند المقابلة بجنسه "يدا بيد قبضا بقبض" ثم قال: " وإذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم" بعد أن يكون يدا بيد فيجب القبض المعين عند اتفاق الجنس واختلافه بهذا النص في رأس مال السلم "بنهيه عليه السلام عن الكالئ بالكالئ" فكان القبض المعين واجبا في هذا المسائل بالنص لا بالتعليل وإذا كان كذلك لم يثبت كون هذا النص معلولا يوضحه أن من شرط صحة التعليل عدم النص في الفروع فمع وجود هذه النصوص فيما ذكرتم من الفروع كيف يمكن القول بتعدي الحكم من الذهب والفضة إليها قلنا: وجود النص في الفرع لا يمنع صحة التعدي من محل آخر إليه بالتعليل إذا كان التعليل موافقا للنص عند البعض, وإنما يمنع إذا كان على خلاف النص, ألا ترى أن الفقهاء عن آخرهم يقولون: هذا الحكم ثابت بالنص,(3/440)
النص بل الدليل دل على خلافه, فإن النص أوجب تحريم الخمر لعينها, وليست حرمة سائر الأشربة ونجاستها من باب التعدي لكنه ثبت بدليل فيه شبهة احتياطا ومثال هذا الشاهد لما قبلت شهادته مع صفة الجهل بحدود الشرع باطل
ـــــــ
والمعقول على معنى أنه لولا النص لكان الحكم ثابتا بالقياس, ولم يكن معدولا به عن القياس, فإذا وجد النص كان القياس مؤكدا له, وكان النص مقررا للقياس, ويتعاضد كل واحد منهما بالآخر كما إذا وجد نصان من الكتاب أو من السنة أو منهما جميعا فثبت أن وجود النص في الفرع لا يقدح فيما ذكرنا بل مؤكد كون الأصل المقيس عليه معلولا.
قوله: "قال الشافعي" علل الشافعي رحمه الله تحريم الخمر بوصف الإسكار. وقال: هذا وصف مؤثر; لأن المنع من شرب ما يستر العقل الذي صار به الإنسان أهلا للخطاب والتكليف ويجعله كالزائل, أمر معقول ولهذا لم يشربها نبي قط ولم يشربها كثير من الصحابة قبل التحريم فيلحق سائر الأشربة المسكرة بها بعلة الإسكار فيحرم قليلها وكثيرها, ويجب الحد بشرب القليل منها كالخمر فقال الشيخ رحمه الله: لا بد من إقامة الدليل أولا على كون النص المحرم لها معلولا ليصح تعليله بعد, ولا دليل عليه من قبل النص بل الدليل من النص دال على أنه غير معلول, فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى حرم الخمر لعينها قليلها وكثيرها, والسكر من كل شراب" فلو كانت الحرمة متعلقة بالسكر لم يثبت في القليل كما ذهب إليه بعض أهل الأهواء وقوله: ليست حرمة سائر الأشربة ونجاستها جواب عما يقال: قد تعدى حكم الحرمة حكم النجاسة من الخمر إلى بعض الأشربة المسكرة مثل المطبوخ أدنى طبخة إذا اشتد والنيء من نبيذ الزبيب والتمر إذا اشتد كما تعدى حكم التعيين في المثال المذكور إلى الفروع فثبت به أن النص المحرم للخمر معلول; إذ لا تعدي بلا تعليل فقال: ليست حرمة سائر الأشربة أي باقي الأشربة المحرمة ونجاستها من باب التعدي ألا ترى أنهما لم يثبتا على الوصف الذي ثبتا في الخمر حتى يكفر مستحل الخمر ولا يكفر مستحل سائر الأشربة ونجاسة الخمر غليظة لا يعفى عنها أكثر من قدر الدرهم, ونجاسة سائر الأشربة المحرمة خفيفة يعفى عنها ما دون ربع الثوب. كذا لا يجوز بيع الخمر بالإجماع ويجوز بيع سائر الأشربة المحرمة عند أبي حنيفة رحمه الله إليه أشير في المبسوط لكنه أي لكن الحكم وهو الحرمة والنجاسة فيه أي في سائر الأشربة ثبت بدليل فيه شبهة بطريق الاحتياط, وهو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الخمر من هاتين الشجرتين1" مشيرا إلى النخلة والكرمة فظاهره يوجب أن يكون حكم
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الأشربة حديث رقم 1985، والترمذي في الأشربة حديث رقم 1875، وأبو داود في الأشربة حديث رقم 3678، وابن ماجة برقم 3378، والإمام أحمد في المسند 2/496.(3/441)
الطعن بالجهل وصحح الطعن بالرق فكذلك ها هنا متى وجدنا النص شاهدا مع ما ذكر من الطعن بطل الطعن, ومتى وقع الطعن في الشاهد بما هو جرح وهو الرق لم يجز الحكم بظاهر الحرية إلا بحجة فكذلك هنا لا يصح العمل به مع الاحتمال إلا بالحجة والله أعلم.
ـــــــ
هذه الأشربة حكم الخمر; إذ النبي عليه السلام بعث مبينا للحكم لا للغة فكان معناه ما يتخذ منهما له حكم الخمر, وإذا كان كذلك لا يثبت به كون النص معلولا ومثال هذا أي نظير ما ذكرنا أن وصف الثمنية لما لم يمنع من تعدي حكم التعيين لا يصح الطعن به بأن يقال: هذا النص معلول بهذا الوصف فلا يصح أن يكون معلولا بوصف آخر, وأن التمسك بالأصل لما لم يصلح حجة يلزمه صح الطعن باحتمال كون هذا النص المعين غير معلول وطلب إقامة الدليل على كونه معلولا طعن الشاهد بالجهل والرق فإن الطعن بالجهل لا يصح وبالرق يصح على ما قرر في الكتاب متى وجد بالنص شاهدا أي معللا مع ما ذكر الخصم من الطعن بأنه معلول بالثمنية بطل هذا الطعن والله أعلم.(3/442)
باب شروط القياس
قال الشيخ الإمام:
1 وهي أربعة أوجه أن لا يكون الأصل مخصوصا بحكمه بنص آخر
ـــــــ
"باب شروط القياس"
قوله: "أن لا يكون الأصل مخصوصا بحكمه بنص آخر" اعلم أنه لا بد من بيان الأصل والفرع ها هنا لكثرة دورهما في المسائل في هذا الباب فنقول: الأصل في القياس عند أكثر العلماء من أهل النظر هو محل الحكم المنصوص عليه كما إذا قيس الأرز على البر في تحريم بيعه بجنسه كان الأصل هو البر عندهم; لأن الأصل ما كان حكم الفرع مقتبسا منه ومردودا إليه, وذلك هو البر في هذا المثال وعند المتكلمين هو الدليل الدال على الحكم المنصوص عليه من نص أو إجماع كقوله عليه السلام "الحنطة بالحنطة مثلا بمثل" في هذا المثال; لأن الأصل ما تفرع عليه غيره, والحكم المنصوص عليه متفرع على النص فكان هو الأصل وذهبت طائفة إلى أن الأصل هو الحكم في المحل; لأن الأصل ما ابتني عليه غيره وكان المعلم به موصلا إلى العلم أو الظن بغيره, وهذه الخاصية موجودة في الحكم لا في المحل; لأن حكم الفرع لا يتفرع على المحل ولا في النص والإجماع; إذ لو تصور العلم بالحكم في المحل دونهما بدليل عقلي أو ضرورة أمكن القياس فلم يكن النص أصلا للقياس أيضا وهذا النزاع لفظي لإمكان إطلاق الأصل على كل واحد منها لبناء حكم الفرع على الحكم في المحل المنصوص عليه وعلى المحل والنص; لأن كل واحد أصله, وأصل الأصل أصل, ولكن الأشبه أن يكون الأصل هو المحل كما هو مذهب الجمهور; لأن الأصل يطلق على ما يبتنى عليه غيره وعلى ما لا يفتقر إلى غيره, ويستقيم إطلاقه على المحل بالمعنيين أما بالمعنى الأول فلما قلنا وأما بالمعنى الثاني فلافتقار الحكم ودليله إلى المحل ضرورة من غير عكس; لأن المحل غير مفتقر إلى الحكم, ولا إلى دليله ولأن المطلوب بيان الأصل الذي يقبل الفرع في التركيب القياسي, ولا شك أنه بهذا الاعتبار هو المحل.
وأما الفرع فهو المحل المشبه عند الأكثر كالأرز في المثال المذكور, وعند الباقين(3/443)
"2" وأن لا يكون حكمه معدولا به عن القياس.
"3" وأن يتعدى الحكم الشرعي الثابت بالنص بعينه إلى فرع هو نظيره ولا نص فيه
ـــــــ
هو الحكم الثابت فيه بالقياس كتحريم البيع بجنسه متفاضلا, وهذا أولى; لأنه الذي يبتني على الغير ويفتقر إليه دون المحل إلا أنهم لما سموا المحل المشبه به أصلا سموا المحل الآخر فرعا وإذا ثبت هذا فنقول: إن كان المراد من الأصل ها هنا النص المثبت للحكم فالمراد من الخصوص التفرد كما في قولك: فلان مخصوص بعلم الطب أي منفرد به من بين العامة لا يشاركه فيه أحد لا المخصوص من صيغة عامة فإنه غير مانع عن القياس, ألا ترى أن أهل الذمة لما خصوا عن عموم نص القتال ألحق بهم الشيوخ والصبيان والرهابين وغيرهم بالقياس والباء في بحكمه بمعنى مع, وفي بنص آخر للسببية والمختص به غير مذكور الضمير راجع إلى الأصل أي يشترط أن لا يكون النص المثبت للحكم في المحل مختصا مع حكمه بذلك المحل بسبب نص آخر يدل على اختصاصه وتفرده به مثل قوله عليه السلام "ومن شهد له خزيمة فحسبه1" فإنه مختص مع حكمه, وهو قبول شهادة الفرد بمحل وروده, وهو خزيمة رضي الله عنه بسبب نص آخر يدل على اختصاصه به, وهو قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] فإنه لما أوجب على الجميع مراعاة العدد لزم منه نفي قبول شهادة الفرد فإذا ثبت بدليل في موضع كان مختصا به ولا يعدوه للنص النافي في غيره. وإن كان المراد منه محل الحكم كما هو مذهب الجمهور فالمراد من الخصوص التفرد كما قلنا والباء في بحكمه صلة الخصوص وفي بنص آخر للسببية أي يشترط أن لا يكون محل الحكم مختصا بالحكم المشروع فيه بسبب نص آخر يدل على اختصاصه بهذا الحكم مثل خزيمة رضي الله عنه فإنه مختص أي متفرد بقبول شهادته وحده لا يشاركه فيه غيره وعرف هذا الاختصاص بقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]، والمراد من الخصوص خصوص العموم إلا أنه أريد به خصوص بطريق الكرامة لا مطلق الخصوص فإنه لا يمنع من القياس والباء في بنص متعلقة بالخصوص, والنص الآخر الدليل المخصص, والمخصوص منه غير مذكور يعني يشترط أن لا يكون محل الحكم مخصوصا بحكمه عن قاعدة عامة بنص آخر يخصصه مثل خزيمة رضي الله عنه فإنه مخصوص بحكمه وهو قبول شهادته وحده عن العمومات الموجبة للعدد مثل قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ} [البقرة:
ـــــــ
1 أخرجه لإمام أحمد في المسند 5/179.(3/444)
"4" وأن يبقى الحكم في الأصل بعد التعليل على ما كان قبله
ـــــــ
282] {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] بقوله عليه السلام: "من شهد له خزيمة فحسبه" ولكن بطريق الكرامة فيمنع من إلحاق غيره به قياسا سواء كان مثله في الفضيلة أو فوقه أو دونه, وهذا الوجه أوفق لظاهر الكتاب.
قوله: "وأن لا يكون حكمه معدولا به عن القياس". الضمير في به راجع إلى الحكم والباء للتعدية فإن العدول لازم وهو الميل عن الطريق فلا يتأتى المجهول عنه إلا بالباء ويكون معناه مع الباء معنى الفاعل أي ومن شروطه أن لا يكون حكم الأصل عادلا عن سنن القياس أي مائلا عنه يعني لا يكون على خلافه وأن يتعدى الحكم الشرعي الثابت بالنص بعينه إلى فرع هو نظير ولا نص فيه الضمير في بعينه عائد إلى الحكم وفي نظيره إلى الأصل وفي فيه إلى الفرع وهذا الشرط وإن كان شرطا في الحقيقة لتضمنه اشتراط التعدية وكون الحكم شرعيا وعدم تغييره في الفرع فإن قوله بعينه يشير إليه ومماثلة الفرع الأصل وعدم وجود النص في الفرع إلا أن الكل لما كان راجعا إلى تحقق التعدية فإنها تتم بالجميع, جعل الكل شرطا واحدا بخلاف الشرطين الأولين فإنهما ليسا من التعدية بل هما من شروط التعدية كذا في بعض الشروح وأن يبقى الحكم في الأصل أي النص الذي في المقيس عليه بعد التعليل على ما كان قبل التعليل يعني يشترط أن لا يتغير في الفرع.
وزاد بعض الأصوليين شروطا لم يذكرها الشيخ ومنها ما ذكر شمس الأئمة رحمه الله أنه يشترط أن لا يكون التعليل متضمنا إبطال شيء من ألفاظ النص كإلحاق سائر السباع بالخمس المؤذيات في إباحة قتلها للمحرم بالتعليل فإنه يوجب إبطال لفظ الخمس المذكور في قوله عليه السلام "خمس من الفواسق يقتلن في الحل والحرم" ; لأنه لا يبقى على حاله بل يصير أكثر من خمس, فكان هذا التعليل مبطلا له فيبطل, ولم يذكره الشيخ لدخوله في الشرط الرابع.
ومنها ما ذكر غيره أن حكم الأصل يشترط أن يكون ثابتا, ولا يكون منسوخا; لأن الحكم يتعدى من الأصل إلى الفرع ولا يمكن ذلك إلا بعد ثبوت الحكم في الأصل, ويفهم هذا الشرط من قوله: وأن يتعدى الحكم إذ التعدي يتحقق في الثابت لا في المنسوخ.
ومنها أن يكون حكم الأصل غير متفرع عن أصل آخر وهو مذهب أبي الحسن وأكثر أصحاب الشافعي خلافا للحنابلة وأبي عبد الله البصري من المعتزلة; لأن الجامعة بين حكم الأصل وأصله أن أتحدث مع الجماعة بين حكم الأصل وفرعه فذكر الوسط ضائع; لأنه تطويل غير مفيد كقول الشافعي في السفرجل: إنه مطعوم فيكون ربويا قياسا على التفاح(3/445)
-------------------------------------------------------
ـــــــ
ثم يقيس التفاح على البر بواسطة الطعم فيضيع ذكر الوسط وهو التفاح وإن لم تتحد العلتان فسد القياس; لأن العلة التي بين الأصل وأصله لا يوجد في الفرع, والعلة التي بين الأصل وفرعه ليس بمعتبرة لثبوت الحكم في الأصل بدونها كقول بعض أصحاب الشافعي في الجذام: إنه عيب يفسخ به البيع فيفسخ به النكاح قياسا على الرتق ثم قاسوا الرتق على الجب عند توجه المنع بجامع فوات غرض الاستمتاع وفي قوله: الثابت بالنص إشارة إلى هذا الشرط يعني يشترط تعدي الحكم الشرعي الثابت بالنص لا بالقياس ومنها أن لا يكون الفرع متقدما على حكم الأصل; إذ لو كان كذلك يلزم منه ثبوت حكم الفرع قبل ثبوت العلة لتأخر الأصل. وذلك كقياس الشافعي الوضوء على التيمم في الانتقال إلى النية, فإن شرعية التيمم ثابتة بعد شرعية الوضوء فلا يجوز تعدية الحكم منه إلى الوضوء.
واعلم أن صاحب الميزان اعترض على الشروط الأربعة المذكورة في الكتاب بوجوه أحدها أن اشتراط الشرط الأول والثاني إنما يستقيم على قول من يرى تخصيص العلة مثل القاضي الإمام أبي زيد ومن وافقه فأما عند من أنكر تخصيص العلة مثل الشيخين وعامة المتأخرين فلا يستقيم; لأن النص إذا ورد بخلاف القياس تبين به أن ذلك القياس كان باطلا فكان اشتراط كون حكم الأصل غير معدول به عن القياس غير مستقيم ليتبين بطلان ذلك القياس بورود النص على خلافه بيانه أن الأكل لما جعل علة لفساد الصوم ثم ورد نص ببقاء الصوم مع الأكل ناسيا كان ذلك على فساد العلة فكيف يستقيم قولهم: إنه ورد على خلاف القياس مع تبين فساد القياس وبطلانه بوروده.
وثانيها أنه ذكر التعدي وهو التجاوز, وذلك لا يتحقق في الأوصاف, ولو ثبت يلزم منه خلو محل النص عن الحكم; إذ الشيء لا يثبت في محلين في زمان واحد وثالثها أن اشتراط تعدي حكم النص بعينه يمنع من ثبوت القياس فكيف يصلح شرطا; لأن حكم النص في قوله عليه السلام "الحنطة بالحنطة مثلا بمثل" حرمة الفضل على الكيل في الحنطة, ولا يتصور ثبوته في الفرع; لأن حرمة الفضل على الكيل في الجص والأرز مثلا غير حرمة الفضل في الحنطة. وأجيب عن الأول بأن المراد من كون حكم الأصل معدولا به عن القياس عند من أنكر تخصيص العلة الاعتبار بالقواعد المعلومة في الشرع في نظائره لو لم يرد النص فيه يدل على خلاف ما ورد النص به فكان ورود النص به مخالفا للقياس من حيث الصورة وعن الثاني أن المراد من التعدي ثبوت مثل الحكم المنصوص عليه من حيث الجواز والفساد والحل والحرمة في الفرع وعدم اقتصاره على الأصل لا التعدي الذي(3/446)
أما الأول فلأنه متى ثبت اختصاصه بالنص صار التعليل مبطلا له, وذلك باطل; لأنه لا يعارضه, وأما الثاني فلأن حاجتنا إلى إثبات الحكم بالقياس, فإذا جاء مخالفا للقياس لم يصح إثباته به كالنص النافي لا يصلح للإثبات وأما
ـــــــ
يوجد في الأجسام وعن الثالث بأن المراد من تعدي عين الحكم تعدي مثله من غير تغير في نفس الحكم, ومن غير نظر إلى المحل فإن كل عاقل يعرف أنه لما ذكر تعدي الحكم بعينه إلى الفرع لم يرد به عين ذلك الحكم متقيدا بذلك المحل بل أراد تعدي مثله إلى الفرع من غير أن يحدث بالتعليل فيه تغييرا مثل تعدية حكم نص الربا إلى الفروع, فإنا قد عرفنا بدليل قطعي أو بدليل اجتهادي أن حكم النص حرمة الفضل على الكيل مطلقة لا حرمة الفضل على الكيل في الحنطة تعديناه إلى الجص, والأرز بعلة القدر والجنس من غير تغيير فكان هذا تعدية حكم النص بعينه إلى فرع هو نظيره فكان صحيحا بخلاف تعدية صحة ظهار المسلم إلى ظهار الذمي فإنه تغيير للحرمة المتناهية في الأصل إلى إطلاقها في الفرع فكان فاسدا قوله: "أما الأول" أي اشتراط الشرط الأول فلأن الضمير للشأن متى ثبت اختصاصه أي يفرد الأصل بحكمه بالنص صار التعليل لتعديته إلى محل آخر مبطلا له أي للاختصاص الثابت بالنص. وذلك أي التعليل المؤدي إلى إبطال حكم النص باطل; لأنه أي التعليل أو القياس لا يعارض النص لدفع حكمه بوجه.
وأما الثاني أي اشتراط الشرط الثاني, وهو كونه غير معدول به عن القياس فلأن حاجتنا إلى إثبات الحكم في الفرع بالقياس; لأن القياس يرد هذا الحكم ويقتضي عدمه فلا يستقيم إثباته به كالنص إذا ورد نافيا لحكم لا يستقيم إثباته به; لأنه يصير نافيا ومثبتا لشيء واحد في زمان واحد واعلم أن بعض المحققين ذكر في تصنيف له في أصول الفقه أنه اشتهر بين الفقهاء أن المعدول به عن القياس لا يقاس عليه غيره, ولكنه إلى تفصيل فنقول: الخارج من القياس على أربعة أوجه أحدها: ما استثني وخصص عن قاعدة ولم يعقل فيه معنى التخصيص فلا يقاس عليه غيره كتخصيص أبي بردة بجواز تضحية العناق1 وتخصيص خزيمة بقبول شهادته وحده. وثانيها: ما شرع ابتداء ولا يعقل معناه فلا يقاس غيره عليه لتعذر العلة, وتسميته معدولا عن القياس وخارجا عنه تجوز; لأنه لم يسبق له عموم قياس, ولا استثني حتى يسمى خارجا عن القياس
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الأضاحي حديث رقم 1961. والترمذي حديث رقم 1508. وأبو داود حديث رقم 2800.(3/447)
الثالث فلأن القياس محاذاة بين شيئين فلا ينفعل إلا في محله, وهو الفرع والأصل معا, وإنما التعليل لإقامة حكم شرعي, وفي هذه الجملة خلاف, وأما الرابع فلما
ـــــــ
بعد دخوله فيه بل معناه أنه ليس منقاسا لعدم تعقل علته ومثاله أعداد الركعات ونصب الزكاة, ومقادير الحدود والكفارات, وجميع التحكمات المبتدأة التي لا يعقل فيها معنى.
وثالثها القواعد المبتدأة العديمة النظير لا يقاس عليها غيرها مع أنها يعقل معناها; لأنه لم يوجد لها نظير خارج ما تناوله النص والإجماع, وتسميته خارجا عن القياس تجوز أيضا, وذلك كرخص السفر والمسح على الخفين ورخصة المضطر في أكل الميتة فإنا نعلم أن المسح على الخف إنما جوز لعسر النزع ومسيس الحاجة إلى استصحابه ولكن لا يقيس عليه العمامة والقفازين وما لا يستر جميع القدم; لأنها لا تساوي الخف في الحاجة وعسر النزع وعموم الوقوع وكذلك رخصة السفر لا يشك في ثبوتها بالمشقة, ولكن لا يقاس عليها مشقة أخرى; لأن غيرها لا يشاركها في جملة معانيها ومصالحها, فإن المرض لا يحوج إلى قصر الذات, وإنما يحوج إلى قصر الحل بالرد من القيام إلى القعود, ومن الركوع والسجود إلى الإيماء, وكذا إباحة الميتة للمضطر للحاجة بلا شك ولكن لا يقاس غيره عليه; لأن غيره ليس في معناه فهذه الأقسام لا يجري فيها القياس بالاتفاق.
ورابعها ما استثني عن قاعدة سابقة تطرق إلى استثنائه معنى فيجوز أن يقاس عليه كل مسألة دارت بين المستثنى والمستبقى وشاركت المستثنى في علة الاستثناء عند عامة الأصوليين خلافا لبعض أصحاب أبي حنيفة رحمه الله كما سيأتيك بيانه في آخر هذا الفصل إن شاء الله عز وجل. فتبين بهذا أن المراد من العدول به عن القياس ها هنا أنه لا يعقل معناه أصلا, ويخالف القياس من كل وجه فإنه إذا كان موافقا له من وجه يجوز القياس عليه.
قوله: "وأما الثالث" أي اشتراط الشرط الثالث فلأن القياس أي المقايسة محاذاة أي مساواة بين شيئين فلا ينفعل إلا في محله أي محل القياس يعني لا يثبت وجوده إلا في محل قابل له; إذ محل الانفعال شرط في كل فعل كالحياة شرط ليصير الصدم ضربا, والقطع قتلا, والمحازاة لا تتصور في شيء واحد, ولا في شيئين لم يكن أحدهما نظيرا للآخر, فلو لم يتعد الحكم إلى فرع بالتعليل كان المحل شيئا واحدا فلا يتحقق فيه المقايسة. وكذا إذا لم يكن الفرع نظيرا للأصل, لاستحالة تحقق المساواة بين المختلفين; فلذلك شرطنا التعدي من الأصل إلى فرع هو نظيره, وإنما التعليل لإقامة حكم شرعي أي لإثباته يعني إنما شرطنا أن يكون الحكم شرعيا لا لغويا; لأن الكلام في القياس على أصول(3/448)
قلنا: إن القياس لا يعارض النص فلا يتغير به حكمه مثال الأول أن الله تعالى شرط العدد في عامة الشهادات, وثبت بالنص قبول شهادة خزيمة وحده لكنه
ـــــــ
ثابتة شرعا فلا يعرف بالتأمل فيها إلا ما كان ثابتا شرعا فإن الطب أو اللغة لا يعرف بالتأمل في أصول الشرع وأما دليل اشتراط تعدي الحكم بعينه وخلو الفرع عن النص فقد دخل فيما ذكر; لأن المحاذاة لا يتحقق مع تغيير الحكم كذا إذا كان في الفرع نص; لأنه يمنع من ثبوت حكم بالقياس في الفرع على خلافه وفي هذه الجملة خلاف يعني في بعض ما تضمنه الشرط الثالث من القيود خلاف كما سيقرع سمعك بيانه عن قريب إن شاء الله تعالى.
قوله: "وأما الشرط الرابع" أي اشتراطه فلما قلنا أي في دليل الشرط الأول: إن القياس لا يعارض النص على وجه يدفع حكم النص ويغيره فلو لم يبق حكم النص بعد التعليل في المنصوص على ما كان قبله كان هذا قياسا مغيرا لحكم النص فيكون باطلا "فإن قيل": تغيير حكم الأصل من لوازم القياس, فإن حكم النص بالتعليل من الخصوص إلى العموم, والعموم غير الخصوص, وإذا كان كذلك أنى يستقيم أن يجعل بقاؤه على ما كان قبله من شرائط القياس, وفيه سد باب القياس قلنا: المراد من التغير أن يتغير بالتعليل ما كان مفهوما فيه لغة قبله مثل اشتراط التمليك في طعام الكفارة بالرأي كما قال الشافعي رحمه الله فإنه يلزم منه تغيير النص الوارد فيه وهو قوله تعالى: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] إذ الإطعام لغة جعل الغير طاعما ويحصل الخروج عن عهدته بالإجابة باشتراط التمليك بتغير هذا الحكم ولا يحصل الخروج عن العهدة إلا بالتمليك فأما تعليل نص الربا أو تعدية حكمه إلى سائر المكيلات والموزونات فلا يوجب تغييرا فيه إذ الحكم في الأشياء الستة بعد التعليل بقي على ما كان قبله.
قوله: "مثال الأول" أي نظير الشرط الأول أن الله تعالى شرط العدد في عامة الشهادات أي في جميع الشهادات المطلقة بقوله عز ذكره {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282], {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ} [المائدة: 106] {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] ويثبت بالنص قبول شهادة خزيمة وحده وهو ما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى ناقة من أعرابي, وأوفاه ثمنها ثم جحد استيفاء وجعل يقول هلم شهيدا فقال عليه السلام من يشهد لي فقال خزيمة بن ثابت: أنا أشهد لك يا رسول الله إنك أوفيت الأعرابي ثمن الناقة فقال عليه السلام "كيف تشهد لي, ولم تحضرنا فقال يا رسول الله إنا نصدقك فيما تأتينا به من خبر السماء أفلا نصدقك فيما تخبره به من أداء ثمن الناقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شهد له(3/449)
ثبت كرامة له فلم يصح إبطاله بالتعليل وحل للنبي صلى الله عليه وسلم تسع نسوة إكراما له فلم يصح تعليله وكذلك ثبت بالنص أن للبيع محلا مملوكا مقدورا, وجوز السلم
ـــــــ
خزيمة فحسبه" كذا في المبسوط. وروى أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني1 في سننه "أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع فرسا من أعرابي فاستتبعه ليقضيه ثمن فرسه فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم المشي وأبطأ الأعرابي فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس لا يعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاعه حتى زاد بعضهم الأعرابي في السوم على ثمن الفرس فقال للنبي صلى الله عليه وسلم إن كنت مبتاعا هذا الفرس فابتعه وإلا بعته فقال النبي عليه السلام حين سمع من الأعرابي ذلك "أوليس قد ابتعته منك" فقال الأعرابي لا والله ما بعتك فقال النبي صلى الله عليه وسلم "بل ابتعته منك" فطفق الناس يلوذون بالنبي والأعرابي وهما يتراجعان وطفق الأعرابي يقول هلم شهيدا يشهد أني قد بايعتك فمن جاء من المسلمين قال للأعرابي ويلك إن النبي لم يكن ليقول إلا حقا حتى جاء خزيمة بن ثابت فاستمع بمراجعتهما, وطفق الأعرابي يقول: هلم شهيدا يشهد أني قد بايعتك فقال خزيمة أنا أشهد أنك قد بايعته فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال "بم تشهد" قال بتصديقك يا رسول الله فجعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بن ثابت شهادة رجلين" وقوله لكنه تثبت كرامة له إشارة إلى الفرق بين تخصيص العام وبين تخصيص خزيمة بقول شهادته وحده حيث يجوز تعليل الدليل المخصص في العام, ولا يجوز التعليل ها هنا; لأن تخصيص خزيمة تثبت بطريق الكرامة, وهي توجب انقطاع شركة الغير فتعليله لإلحاق غيره به سواء كان مثله في الفضيلة أو فوقه أو دونه يتضمن إبطال الحكم الثابت بالنص فيكون باطلا بخلاف تخصيص العام فإن تعليله لا يوجب إبطال شيء لبقاء صيغة العموم والدليل المخصص على ما كانا عليه قبله فيجوز حتى لو أدى إلى إبطال العموم بأن لم يبق بعد التعليل إلا واحد أو اثنان لا يجوز أيضا على ما مر; لأنه يصير حينئذ إبطالا للنص بالقياس قال شيخنا العلامة مولانا حافظ الملة والدين رحمه الله: إنما اختص بهذه الكرامة لاختصاصه من بين الحاضرين بفهم جواز الشهادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بناء على قوله كجواز الشهادة لغيره بناء على العيان فإن قول عليه السلام في إفادة العلم بمنزلة العيان والشرع قد جعل التسامع في بعض الأحكام بمنزلة العيان فكان قول الرسول عليه السلام بذلك أولى وحل لرسول الله صلى الله عليه وسلم تسع نسوة إكراما له; لأنه تعالى قصر الحال في النساء على الأربع بقوله عز اسمه {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} " ثم خص رسول الله صلى الله عليه وسلم بإباحة التسع ولا شك أن إباحة النكاح من باب
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الأقضية حديث رقم 3607.(3/450)
في الدين بالنص, وهو قوله صلى الله عليه وسلم "من أسلم منكم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" وما ثبت بهذا النص إلا مؤجلا فلم يستقم إبطال
ـــــــ
الكرامة; لأنه إثبات الولاية على حرة مثله; ولهذا لا يملك العبد إلا تزوج امرأتين لنقصان حاله فكان إباحة الزيادة على الأربع للرسول صلى الله عليه وسلم إكراما له فلم يجز تعليله أي تعليل حل التسع الثابت لرسول الله عليه السلام لتعديته إلى غيره كما فعله الرافضة حيث جوزوا تزوج تسع نسوة لغير الرسول عليه السلام اعتبارا به فإنه أسوة لأمته في ما شرع له وعليه; لأنه ثابت بطريق الكرامة, وفي تعليله وتعديته إلى غيره إبطال الكرامة كما قلنا.
قوله: "وكذلك" أي وكما ثبت اشتراط العدد في عامة الشهادات بالنص ثبت بالنص, وهو "قوله عليه السلام لحكيم بن حزام لا تبع ما ليس عندك" أي في ملكك, ونهيه عن بيع الآبق وعن بيع الخمر أن البيع يقتضي محلا مملوكا مقدورا أي مقدور التسليم حسا وشرعا حتى لو باع ما لا يملكه ثم اشتراه وسلمه أو باع العبد الآبق أو الخمر لا يجوز لعدم الملك في الأول, وعدم القدرة على التسليم حسا وشرعا في الباقين وجوز السلم في الدين أي جوز السلم فيما ليس في ملكه ولا في يده على خلاف ذلك الأصل بالنص أيضا وهو قوله عليه السلام "من أسلم منكم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" وما ثبت أي السلم بهذا النص إلا مؤجلا; لأن ظاهر هذا النص يقتضي اشتراط هذه الأوصاف, واقتصار الجواز عليها, كما لو قيل: من دخل داري فليدخل غاض البصر, ومن كلمني فليتكلم بالصواب كان موجبه حرمة الدخول والتكلم إلا بصفة غض البصر والصواب, فكان تقدير الكلام من أسلم منكم فلا يسلم إلا في كذا فكان الجواز مختصا بالسلم حال وجود هذه الأوصاف جميعا كاختصاص قبول شهادة المفرد بخزيمة وحل التسع بالنبي عليه السلام فلم يستقم إبطال الخصوص بالتعليل كما قال الشافعي رحمه الله: لما جاز السلم مؤجلا يجوز حالا لكونه أبعد من الغرر, ولأن المسلم فيه عوض دين وجب في عقد البيع فيثبت حالا ومؤجلا كثمن المبيع; لأن التعليل لا يصلح لإبطال ما ثبت بالنص. فإن قيل: قد عديتم حكم هذا النص من الكيل والموزون إلى الثياب والعدديات المتقاربة وغيرها بالتعليل فنحن نعديه إلى السلم الحال أيضا قلنا: لا نسلم أن الحكم في غير المكيل والموزون ثبت بالتعليل بل بإشارة النص أو دلالته فإن قوله عليه السلام في كيل معلوم ووزن معلوم يشير إلى أن الجواز باعتبار حصول العلم بالقدر فكل ما يحصل العلم بمقداره بالاستيضاف يكون في معناه فيلحق به بخلاف السلم الحال فإنه ليس في معنى المؤجل على ما سيأتيك بيانه إن شاء الله عز وجل ثم فرع الشافعي رحمه الله على هذا الأصل عدم انعقاد النكاح بلفظ الهبة فقال: قد ثبت اختصاص رسول(3/451)
الخصوص بالتعليل, وقال الشافعي رحمه الله: لما صح نكاح النبي عليه السلام بلفظة الهبة على سبيل الخصوص بقوله: {خَالِصَةً لَكَ} [الأحزاب: 50] بطل التعليل, وقلنا بل الاختصاص في سلامته بغير عوض, وفي اختصاصه بأن لا تحل لأحد بعده قال الله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6], وقال {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} [الأحزاب: 50] وهذا مما لا يعقل
ـــــــ
الله صلى الله عليه وسلم بالنكاح بلفظ الهبة بالنص وهو قوله تعالى: {خَالِصَةً لَكَ} بعد قوله عز اسمه {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 50] والخالصة مصدر مؤكد ك وعد الله ونظيرها العافية والكاذبة والخاطئة أي خلص لك انعقاد النكاح بالهبة خلوصا فلم يجز إبطال هذا الاختصاص بالتعليل لتعدية الحكم إلى نكاح غيره.
"وقلنا": لا نسلم أن المراد من الخلوص ما قلت بل المراد اختصاصه عليه السلام بسلامتها بغير عوض أي مهر, والمعنى قد خلص لك إحلال الموهوبة بغير بدل خلوصا. وذلك; لأنه تعالى قال في أول الآية {إنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} [الأحزاب: 50] أي مهورهن وساق الكلام إلى أن قال: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 50] فكان فيه بيان المنة عليه في كلا النوعين من النكاح ببدل وبغير بدل والدليل عليه أنه تعالى قال في سياق الآية {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} [الأحزاب: 50] يعني فرضنا المهر عليهم وأحللنا لك بغير مهر, وقال: {لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} [الحزاب: 50] اللام متعلقة بقوله: خالصة لك أي خالصة لك من دون المؤمنين لكي لا يكون عليك بضيق في أمر النكاح, والحرج إنما يلحق الناس في لزوم المهر فأما في العدول من لفظ إلى لفظ فلا حرج خصوصا في حق من هو أفصح العرب والعجم. والمراد اختصاصه عليه السلام بأن لا تحل منكوحته لأحد بعده والمعنى خلص إحلال ما أحللنا لك من النساء خلوصا حتى لا يحل لأحد بعدك فإنه عليه السلام كان يتأذى بأن يكون الغير شريكا له في فراشه من حيث الزمان, وعليه دل على قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً} [الأحزاب: 53] وقوله جل جلاله: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} وهذا أي الاختصاص من الوجهين اللذين ذكرناهما مما يعقل كرامة فأما الاختصاص باللفظ فلا; لأن الاستعارة لا تختص بأحد بل الناس كلهم في الاستعارة ووجوه الكلام سواء, والواو في قوله: وفي اختصاصه بمعنى أو ولفظة في أو لفظة اختصاصه في قوله وفي اختصاصه زائدة, ولو قيل واختصاصه بأن لا يحل أو قيل: وفي أن لا يحل أحد بعده لكان أحسن.(3/452)
كرامة فأما الاختصاص باللفظ فلا وقد أبطلنا التعليل من حيث ثبت كرامة وكذلك ثبت للمنافع حكم التقوم والمالية في باب عقود الإجارة بالنص مخالفا للقياس المعقول; لأن التقوم والتمول يعتمد الوجود ليصلح الإحراز والتقوم عبارة عن اعتدال المعاني وبين العين والمنافع تفاوت في نفس الوجود فلا يصح إبطال
ـــــــ
قوله: "وكذلك ثبت للمنافع" أي وكما ثبت جواز السلم بالنص على خلاف القياس مختصا به ثبت للمنافع المعدومة حكم التقوم والمالية في باب عقود الإجارة أي في جميع أنواعها صحيحها وفاسدها بالنص مثل قوله تعالى: {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 25] في حق الأظآر وقوله تعالى إخبارا {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} .[القصص: 27] وقوله عليه السلام: "أعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه1" وقوله صلى الله عليه وسلم "ثلاثة أنا خصمهم من استأجر أجيرا فلم يعطه أجره2" الحديث مخالفا للقياس المعقول لما ذكرنا أن محل البيع مال متقوم مملوك مقدور التسليم والتقوم إنما يعتمد الوجود; لأنه يثبت بالإحراز, وأنه يتحقق في الموجود دون المعدوم, والمنافع ليست بموجودة فضلا من أن يكون محرزة وبعد ما وجدت لا يمكن إثبات التقوم لها أيضا; لأن التقوم عبارة عن اعتدال المعاني يقال: قيمة هذا الثوب كذا من الدراهم أي يعادل هذا الثوب هذا القدر من الدراهم من حيث المعنى, وهو المالية ولا بد في ذلك من المساواة في نفس الوجود ليمكن بعدها إثبات المساواة في المعنى, وبين العين والمنافع تفاوت في نفس الوجود; لأن العين جوهر يبقى ويقوم به العرض, والمنفعة عرض لا يبقى ويقوم بالجوهر وبين ما يبقى ويقوم به غيره وبين ما لا يبقى ويقوم بغيره تفاوت فاحش فلا يمكن إثبات المعادلة بينهما معنى كما لا يمكن صورة إلا أنه تثبت تقومها بالنص في باب العقود غير معقول المعنى فيكون مختصا به كاختصاص قبول الشهادة بخزيمة وجواز السلم في المؤجل فلا يصح إبطال هذا الخصوص بالتعليل والتعدية إلى الإتلاف والغصب لما مر غير مرة ثم إيراد هذا المثال. وإن كان أليق بالشرط الثاني لكونه معدولا به عن القياس إلا أن بين الشرطين لما كان تأخيرا وارتباطا جاز إيراده في هذا الفصل فإنه مع كونه غير معقول المعنى مخصوص بحكمه عن قاعدة عامة بنص آخر يخالفها; فلذلك أورده ها هنا.
قوله: "ومثال الثاني من الشروط" وهو أن لا يكون الأصل معدولا به عن القياس أن أكل الناسي أي حكم أكل الناسي للصوم وهو بقاء الصوم بعد تحقق الأكل معدول به
ـــــــ
1 أخرجه ابن ماجة في الرهون حديث رقم 2443.
2 أخرجه ابن ماجه حديث رقم 2442. والإمام أحمد في المسند 2/358.(3/453)
الخصوص بالتعليل.ومثال الثاني من الشروط أن أكل الناسي معدول به عن القياس, وهو فوات القياس, وهو فوات القربة بما يضاد ركنها هو القياس المحض, وثبت حكم النسيان بالنص معدولا به عن القياس لا مخصوصا من النص فلم يصح التعليل للقياس وهو معدول عنه فيصير التعليل حينئذ لضد ما وضع له
ـــــــ
عن القياس; لأن القياس الصحيح يوجب أن يفسد صومه; لأن الشيء لا يبقى مع ما يضاده, والأكل يضاد الصوم; لأنه ترك للكف الواجب فوجب أن يفسد صومه, وإن كان ناسيا; لأن النسيان لا يعدم الفعل الموجود ولا يوجد الفعل المعدوم ألا ترى أن من أتلف مال إنسان ناسيا يضمن كما لو أتلفه ذاكرا, ولو ترك ركنا من الصلاة ناسيا يفسد صلاته كما لو تركه ذاكرا فثبت أنه لا تأثير للنسيان في إعدام الموجود وإيجاد المعدوم فإن من ترك الصلاة أو الحج أو الزكاة ناسيا لا يجعل مؤديا بحال إلا أن حكم النسيان, وهو كونه غير مؤثر في الإفساد ثبت بالنص وهو "قوله عليه السلام لذلك الأعرابي "تم على صومك فإنما أطعمك الله وسقاك" معدولا به عن القياس لا مخصوصا من النص. زعم الشافعي رحمه الله أن قوله تعالى: {أتموا الصيام إلى الليل} [البقرة: 187] يقتضي بعمومه أن يفسد صوم الناسي; لأن الإمساك المأمور به فات عنه بالنسيان وكذا عموم قوله عليه السلام "الفطر مما دخل" يقتضي ذلك إلا أن الناسي خص من هذين النصين بالحديث المشهور الذي ذكرنا, والمخصوص من النص يقبل التعليل فيعلل بعدم القصد, ويلحق به المخطئ والمكره والنائم الذي صب الماء في حلقه فقال الشيخ رحمه الله: ليس هذا من قبيل التخصيص فإنه إنما يتحقق فيما كان داخلا في العموم ثم يخرج بالمخصص في تعليل النبي عليه السلام بقوله فإن الله أطعمك وسقاك إشارة إلى أن الناسي لم يكن داخلا فيه; لأن الفعل غير مضاف إليه فلم يكن هو تاركا للكف بالأكل بل هو كان كما كان فلم يكن هذا تخصيصا بل هو حكم ثابت بخلاف القياس كما قلنا ويجوز أن يكون قوله: لا مخصوصا من النص ردا لما ذكره بعض مشايخنا في أصول الفقه أن الشرع حكم ببقاء صوم الناسي كرامة له مع فوات ركنه فكان الناسي مخصوصا بهذا الحكم كخزيمة بقبول الشهادة فلم يجز إلحاق غيره به فقال: ليس هذا من قبيل التخصيص بطريق الكرامة; إذ لو كان كذلك لم يجز إلحاق الغير به قياسا ولا دلالة وقد ألحق غير الأعرابي به وألحق الجماع ناسيا بالأكل بالاتفاق بطريق الدلالة فثبت أنه ليس بتخصيص بل هو ثابت معدولا به عن القياس. وإذا كان كذلك لم يصح التعليل أي تعليل ذلك النص أو الحكم ليقاس عليه, والحال أن ذلك الحكم معدول به عن القياس فيصير التعليل بالنصب أي يصير التعليل حينئذ لضد ما وضع له أي وضع الحكم له; لأنه إنما وضع معدولا به عن القياس ليقتصر(3/454)
ولم يثبت هذا الحكم في مواقعة الناسي بالتعليل بل بدلالة النص لأنهما سواء في قيام الركن بالكف عنهما ألا ترى أن معنى الحديث لغة أن الناسي غير
ـــــــ
على المحل الذي ثبت فيه فلو علل وعدي إلى محل آخر يكون التعليل لضد ما وضع الحكم له; إذ التعدي ضد الاقتصار, أو الضمير في وضع للقياس أي يصير التعليل حال كونه معدولا به عن القياس لضد ما وضع القياس له; لأن القياس يقتضي ثبوت الفطر وانتفاء الصوم في هذا الصورة كما قلنا فالتعليل لبقاء الصوم وتعديته إلى محل آخر يكون لضد ما وضع القياس له; لأن انتقاء الصوم مع بقائه ضدان فلا يجوز أن يثبت به ضده كما لا يجوز أن يثبت الحكم بالنص النافي له فإن قيل: هذا إنما يلزم إذا كان هذا الحكم مخالفا للقياس من كل وجه, وليس كذلك, فإن بقاء صوم الناسي باعتبار صيرورة الأكل معدوما لعدم القصد معقول فيجوز أن يلحق به المخطئ والمكره وغيرهما. قلنا قد بينا أنه لا أثر لعدم القصد في إيجاد المعدوم وإعدام الموجود كما قلنا فيكون مخالفا للقياس من كل وجه ولئن سلمنا أنه محل للقياس فلا يمكن إلحاق المخطئ والمكره به لما سيأتي بيانه.
قوله: "ولم يثبت هذا الحكم" جواب عما يقال: إن حكم هذا النص قد تعدى بالتعليل إلى الجماع بالإجماع فلو كان مخالفا للقياس من كل وجه لما ثبت هذا الحكم في غير الأكل والشرب فقال: لم يثبت هذا الحكم وهو بقاء الصوم في مواقعة الناسي بالتعليل بل بدلالة النص; لأن الأكل والجماع سواء في قيام الركن وهو الصوم بالكف عنهما لثبوتهما بخطاب واحد وهو قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] بعد قوله: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [البقرة: 187] أي أتموا الكف عن هذه الأشياء الثلاثة إلى الليل فلم يكن للجماع اختصاص, وكان النص الوارد في بعضها واردا في الكل; لأن أحد المتساويين إذا ثبت له حكم يثبت للآخر أيضا ضرورة المساواة بينهما; إذ لو لم يثبت لاختلفا فيثبت عدم المساواة حالة المساواة, وهو فاسد. ولا يقال: إن الصلاة وجبت بنص واحد ثم التفاوت في الأركان ثابت; لأنا نقول: ليس كذلك بل كل ركن ثبت بنص على حدة مثل قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238], {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] فيجوز أن يظهر التفاوت بينهما فأما فيما نحن فيه فالإمساك عن الأشياء الثلاثة ثبت بنص واحد ولم يختص كل واحد بنص على حدة ونظيرهما الاغتسال والتوضؤ فإن الاغتسال لما ثبت بأمر واحد وهو قوله تعالى: {فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] جعلت الأعضاء كلها كعضو واحد حتى جاز غسل عضو ببلل عضو آخر وفي التوضؤ لما اختص كل عضو بأمر على حدة جعل كل عضو منفردا عن الآخر حتى لم يجز غسل اليد ببلل الوجه وغسل الرجل ببلل اليد ثم استوضح ثبوته بطريق(3/455)
جان على الصوم ولا على الطعام فكان الجماع مثله بدلالة النص على ما مر وكذلك ترك التسمية على الذبيح ناسيا يجعل عفوا بالنص معدولا عن القياس فلا يحتمل التعليل, وكذلك حديث "الأعرابي الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "كل أنت وأطعم عيالك" كان الأعرابي مخصوصا بالنص فلم يحتمل التعليل فأما المستحسنات فمنها ما ثبت بقياس خفي لا معدولا, وأما الأصل إذا عارضه
ـــــــ
الدلالة بقوله: ألا ترى أن معنى الحديث لغة: أن الناسي غير جان يعني من سمع قوله عليه السلام: "تم على صومك" ومن أهل اللسان فقيها كان أو غير فقيه يفهم منه أن بقاء الصوم والأمر بالإتمام بعد الأكل باعتبار أن الناسي غير جان بالأكل على الصوم; لأنه لما كان ناسيا للصوم لم يتصور منه الجناية عليه, والقصد إلى هتك حرمته ولا على الطعام; لأنه ليس بمحل للجناية, وهذا المعنى بعينه ثابت في الجماع من غير تفاوت; لأنه ليس بجناية على الصوم للنسيان ولا على البضع; لأنه ليس بمحل لها فلم يبق بينهما فرق سوى اختلاف الاسم وذلك غير مانع من ثبوت الحكم بالدلالة كمن به سلس البول يتوضأ لوقت كل صلاة كالمستحاضة, وكان الحكم فيه ثابتا بالدلالة لا بالقياس فكذا ها هنا على ما مر أي في باب الوقوف على أحكام النظم قوله: وكذلك ترك التسمية أي وكالأكل نسيا ترك التسمية على الذبح ناسيا جعل عفوا بالنص, وهو "قوله عليه السلام حين سئل عمن ذبح فترك التسمية ناسيا "كلوه فإن تسمية الله في فم كل امرئ مسلم" وفي رواية "ذكر الله في قلب كل مسلم" معدولا به عن القياس, فإن القياس يأبى حله لعدم شرطه; إذ التسمية شرط للحل بالاتفاق أما عندنا فظاهر. وأما عند الشافعي فلأنه شرط الملة لتقوم مقام التسمية حتى لا يحل ذبائح أهل الشرك لعدم الملة, وقد بينا أنه لا أثر للنسيان في إيجاب الشرط المعدوم كما لو صلى بغير طهارة ناسيا أو ترك إحضار الشهود في النكاح ناسيا فلم يحتمل التعليل بأن يقال: الملة في الناسي قامت مقام التسمية, وثبت به الحل فيتعدى الحكم به إلى العامد; لأنه معدول به عن القياس مع أنه لا مساواة بينهما; لأن الناسي لم يوجد منه قصد الترك والإعراض فبقيت الحالة الأصلية معتبرة له حكما, فأما العامد فقد تعمد الإعراض والترك, فلا يمكن إبقاؤها مع تحقق ما يردها منه كمن قدم إليه طعام حل له أكله بغير إذن لدلالة الحال, ولو قيل له: لا تأكل لا يحل ولأن حالة النسيان حال عذر وقيام الملة مقام التسمية ضرب من الخفة, وثبوت الخفة حالة العذر لا يدل على ثبوتها بلا عذر. وقد روى الكلبي بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما في الناسي أنه يحل ذبيحته وتسمية ملته وإذا تعمد لم تحل كذا في الأسرار.
قوله: "وأما المستحسنات" جواب عما قال بعض أصحابنا: إن المستحسنات كلها(3/456)
أصول فلا يسمى معدولا; لأن التعليل لا يقضي عددا من الأصول ولكنه مما
ـــــــ
معدول بها عن القياس لمخالفة القياس الظاهر إياها; إذ الاستحسان لا يذكر إلا في مقابلة القياس, وإذا كان كذلك لا يجوز تعدية الحكم الثابت بالاستحسان إلى غيره لكونه معدولا به عن القياس فقال: من المستحسنات ما ثبت معدولا به كما قلتم ومنها ما ثبت بدليل خفي أي بنوع من القياس إلا أنه خفي لا معدولا به عن القياس من كل وجه كما سنبينه فيجوز تعليله وتعديته إلى غيره.
قوله: "وأما الأصل إذا عارضه أصول" يعني إذا ثبت حكم بنص, وفيه معنى معقول إلا أنه يعارض ذلك الأصل أصول أخرى تخالفه فلا يسمى ذلك الأصل معدولا به عن القياس أي مخالفا له حتى جاز تعليله والحاصل أن الشرع إذا ورد بما يخالف في نفسه الأصول يجوز القياس عليه إذا كان له معنى يتعداه عند عامة أصحابنا منهم القاضي الإمام أبو زيد والشيخان ومن تابعهم من المتأخرين إليه, وذهب عامة أصحاب الشافعي وعامة المتكلمين, وليس هذا من قبيل المعدول به عن القياس وحكي عن بعض أصحابنا أنهم لم يجوزوا القياس عليه وعن الشيخ الإمام أبي الحسن الكرخي أنه منع جواز القياس عليه إلا إذا كانت علة منصوصة مثل ما روي أنه عليه السلام علل سؤر الهرة بأنها من الطوافين عليكم والطوافات; لأن النص على العلة تنصيص بوجوب القياس أو كانت الأمة مجمعة على تعليله; لأن الإجماع كالنص. أو كان ذلك الحكم موافقا لبعض الأصول, وإن كان مخالفا للبعض كخبر التحالف عند اختلاف المتبايعين فإنه وإن كان مخالفا لقياس الأصول من وجه لكنه لما كان موافقا لبعض الأصول, وهو أن ما يملك على الغير كان القول قوله فيه قيس عليه الإجارة وعن محمد بن شجاع البلخي أن الحكم المخالف للقياس إن ثبت بدليل مقطوع به جاز القياس عليه وإلا فلا تمسك من لم يجوز القياس عليه بأن إثبات الشيء لا يصح مع وجود ما ينافيه, فإذا كان القياس مانعا مما ورد به الأثر لم يجز استعمال القياس فيه; لأنه يكون استعمالا للقياس مع ما ينافيه يوضحه أنه إذا جاز القياس على هذا الأصل لم يكن فرق بين هذا الأصل وبين سائر الأصول فيخرج حينئذ من كونه مخصوصا من القياس بخلاف ما إذا نص على علته; لأن كل فرد وجدت فيه تلك العلة يصير كالمنصوص عليه, ويصير كأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بأن نقيس عليه كل ما شاركه في العلة وكذا إذا حصل إجماع على جواز القياس عليه; لأن الإجماع بمنزلة النص ولأن القياس على الأصل المعدول به عن القياس لا ينفك عن قياس يعارضه, وهو القياس على سائر الأصول, والقياس إذا لم ينفك عن قياس يعارضه يكون ساقطا; لأن من شروطه انفكاكه عن المعارض فإن معارضة الدليل بالدليل توجب التوقف.(3/457)
يصلح للترجيح على مثال ما قلنا في عدد الرواة.وأما الثالث فأعظم هذه الوجوه
ـــــــ
واحتج من جوز القياس عليه بأن ما يثبت بخلاف الأصول أصل يجب العمل به فجاز أن يستنبط منه, ويقاس عليه غيره كما إذا كان موافقا للأصول, وكان القياس عليه بعدما صار أصلا بنفسه كالقياس على سائر الأصول. غاية ما فيه أنه يلزم تعارض القياسين أعني القياس على هذا الأصل والقياس على سائر الأصول, وذلك غير مانع عن القياس بل يجب على المجتهد الترجيح ويجوز أن يرجح القياس على سائر الأصول على القياس على هذا الأصل إن كان ثبوته بدليل غير مقطوع به; لأن القياس على ما يفيد العلم أولى من القياس على ما يفيد الظن فأما إذا كان دليله مقطوعا به فلا ترجيح بما قلنا; لأن الكل ثبت بدليل يفيد العلم فيطلب الترجيح من وجه آخر وتبين أن إثبات الحكم بهذا القياس لم يكن إثباتا بما ينافيه القياس ويمنعه; لأنه ليس بثابت بالقياس الذي ينافيه, وهو القياس على سائر الأصول بل القياس الذي يوافقه, وهو القياس على الأصل الثابت بخلاف ذلك القياس كما لو كان في الحادثة نصان أحدهما ناف, والآخر مثبت لا يمتنع ثبوت الحكم بأحدهما إذا ظهر له نوع رجحان باقتضاء الآخر خلافه وإنما يمتنع إضافة النفي إلى النص المثبت أو عكسه فكذا ها هنا.
يوضحه أن الثابت بالاستحسان معدول به عن القياس الظاهر ثم جاز تعديته إلى غيره إذا كان معناه معقولا كما بينا وإن كان القياس الظاهر يقتضي خلافه وكذا الدليل المخصص للعام إذا عقل معناه يجوز تعليله وتخصيص عموم الكتاب به فلما لم يمنع العموم من قياس يخصه فأولى أن لا يكون القياس على العموم مانعا من قياس يخالفه; لأن العموم أقوى من القياس على العموم. وذكر في المحصول إذا كان الحكم في المقيس عليه بخلاف قياس الأصول قال قوم من الشافعية والحنفية: يجوز القياس عليه مطلقا ثم قال: والحق أن ما ورد بخلاف قياس الأصول إن كان دليلا مقطوعا به كان أصلا بنفسه فكان القياس عليه كالقياس على غيره فوجب أن يرجح المجتهد أحد القياسين وإن كان غير مقطوع به فإن لم يكن علته منصوصة فلا شبهة في أن القياس على الأصول أولى من القياس عليه; لأن القياس على ما طريق حكمه معلوم أقوى من القياس على ما طريقه غير معلوم وإن كانت منصوصة فالأقرب أنه يستوي القياس; لأن القياس على الأصول طريق حكمه معلوم وإن كان طريق علته غير معلوم وهذا القياس طريق حكمه مظنون وطريق علته معلوم فكل واحد منهما قد اختص بحظ من القوة; لأن التعليل لا يقتضي عدا من الأصول أي ليس من شرط صحة التعليل أن يكون للفرع أصول حتى تعلل ويعدى حكمها إلى الفرع ولكنه أي العدد من الأصول مما يصلح للترجيح أي يمكن ترجيح القياس المستنبط من(3/458)
فقها وأعمها نفعا وهذا الشرط واحد تسمية وجملة تفصيلا من ذلك أن يكون
ـــــــ
الأصول على المستنبط أصل واحد على مثال ما قلنا أي في آخر باب المعارضة في عدد الرواة فإن الأصل بمنزلة الراوي, والوصف الذي به يعلل بمنزلة الحديث وفي رواية الأخبار قد يقع الترجيح بكثرة الرواة, ولكن لا يخرج به من أن يكون رواية الواحدة معتبرة فكذا النص إذا كان معقول المعنى يجوز تعليله بذلك المعنى ليتعدى الحكم به إلى غيره وإن عارضه أصول أخرى.
قوله: "من ذلك" أي مما تضمنه هذا الشرط كون الحكم المعلول شرعيا أي الحكم الذي يعلل الأصل لتعديته إلى محل آخر يشترط أن يكون شرعيا لا لغويا عند جمهور العلماء, وقال ابن شريح من أصحاب الشافعي والقاضي الباقلاني: لا يشترط أن يكون الحكم شرعيا بل يجري القياس في الأسامي واللغات وهو مذهب جماعة من أهل العربية قالوا: إنا رأينا أن عصير العنب لا يسمى خمرا قبل الشدة المطربة فإذا حصلت تلك تسمى خمرا وإذا زالت مرة أخرى زال الاسم, والدوران يفيد ظن العلية فيحصل ظن أن العلة لذلك الاسم هي الشدة ثم رأينا الشدة حاصلة في النبيذ ويلزم من حصول علة الاسم ظن حصول الاسم وإذا حصل ظن أنه مسمى بالخمر وقد علمنا أن الخمر حرام حصل ظن أن النبيذ حرام والظن حجة فوجب الحكم بحرمة النبيذ ولأنه قد ثبت بالتواتر عن أهل اللغة أنهم جوزوا القياس في اللغة, ألا ترى أن كتب النحو والتصريف والاشتقاق مملوءة من الأقيسة وأجمعت الأمة على وجوب الأخذ بتلك الأقيسة; إذ لا يمكن تفسير القرآن والأخبار إلا بتلك القوانين فكان ذلك إجماعا بالتواتر وتمسك الجمهور بقوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] فإنه يدل على أنها بأسرها توقيفية فيمتنع أن يثبت شيء منها بالقياس, ولأن القياس إنما يجوز عند تعليل الحكم في الأصل, وتعليل الأسماء غير جائز; لأنه لا مناسبة بين شيء من الأسماء وبين شيء من المسميات, وإذا لم يصح التعليل لم يصح القياس ألبتة قال الغزالي رحمه الله: إن العرب إن عرفتنا بتوقيفها أنا وضعنا اسم الخمر مثلا للمسكر المعتصر من العنب خاصة فوضعه لغيره تقول عليهم واختراع فلا يكون لغتهم بل يكون وضعا من جهتنا وإن عرفتنا أنها وضعته لكل ما يخامر العقل فاسم الخمر ثابت للنبيذ بتوقيفهم لا بقياسنا كما أنهم عرفونا أن كل مصدر له فاعل, فإذا سمينا فاعل الضرب ضاربا كان ذلك عن توقيف لا عن قياس. وإن سكتوا عن الأمرين احتمل أن يكون الخمر اسم ما يعتصر من العنب خاصة واحتمال غيره فلم يحكم عليهم بأن لغتكم هذه, وقد رأيناهم يضعون الاسم لمعاني ويخصصونها بالمحل كما يسمون الفرس أدهم لسواده وكميتا لحمرته ولا يسمون الثوب المتلون به بذلك بل الآدمي المتلون(3/459)
الحكم المعلول شرعيا لا لغويا إن من علل بالرأي لاستعمال ألفاظ الطلاق في باب العتاق كان باطلا; لأن الاستعارة من باب اللغة لا تنال إلا بالتأمل في معاني اللغة فكذلك جواز النكاح بألفاظ التمليك, واستعارة كلمة النسب للتحرير. وكذا التعليل بشرط التمليك في الطعام في كفارة اليمين باطل عندنا; لأن
ـــــــ
به بذلك الاسم; لأنهم وضعوا الأدهم والكميت لا للأسود والأحمر بل لفرس أسود وأحمر وكما سموا الزجاج الذي يقر فيه المائعات قارورة أخذا من القرار ولا يسمون الكوز والحوض قارورة وإن قر فيه الماء, فإذن كل ما ليس على قياس التصريف الذي عرف منهم بالتوقف لا سبيل إلى إثباته ووضعه بالقياس فثبت بهذا أن اللغة وضع كلها توقيف لا مدخل للقياس فيها أصلا.
"فإن قيل": سلمنا أنه لا يجوز إثبات الأسامي لغة بالقياس, ولكنا نثبت الأسماء الشرعية به, فإن الشريعة لما وضعت أسماء لمعاني مثل الصلاة والزكاة والحج لاختصاصها بأحكام شرعية جاز قياس كل محل وجد فيه ذلك المعنى, وتسميته بذلك الاسم وكل اسم بني عليه حكم شرعي فهو اسم شرعي لا لغوي فعلى هذا يثبت اسم الخمر للنبيذ شرعا ثم يحرم بالآية ويثبت اسم الزنا للواطة شرعا ثم يترتب عليها الحد بالنص, وكذا النباش.
"قلنا": الأسماء الثابتة شرعا تكون ثابتة بطريق معلول شرعا كالأسماء الموضوعة لغة تكون ثابتة بطريق يعرفه أهل اللغة ثم ذلك لا يختص بعلم واحد من أهل اللغة بل يشترك فيه جميع أهل اللغة لاشتراكهم في طريق معرفته فكذلك هذا الاسم يشترك في معرفته جميع من يعرف أحكام الشرع وما يكون بطريق الاستنباط والرأي لا يعرفه إلا القايس فتبين أنه لا يجوز إثبات الاسم بالقياس على أي وجه كان قاله شمس الأئمة رحمه الله تبين أيضا أن الدوران إنما يفيد ظن العلية فيما يحتمل الغلبة وها هنا لم يوجد الاحتمال لانتفاء المناسبة بين الألفاظ والمعاني أصلا وحصول العلم بأن شيئا من المعاني لم يكن داعيا للواضع إلى تسميته بذلك الاسم وإذا لم يوجد احتمال العلية لم يكن الدوران مفيدا ظن العلية وتبين أيضا أن الأقيسة المذكورة في اللغة ثابتة بالتوقيف في التحقيق.
قوله: "ولهذا قلنا" أي ولاشتراط كون الحكم شرعيا قلنا: إن من علل أي أراد أن يثبت بالتعليل جواز استعمال ألفاظ الطلاق للعتق بأن يقول إنما يجوز استعمال لفظ الطلاق في العتاق لحصول زوال الملك فيه به, وزوال الملك في العتق موجود فيجوز استعماله فيه أيضا, أو نقول: لما جازت استعارة ألفاظ العتق للطلاق جازت استعارة ألفاظ(3/460)
الإطعام اسم لغوي, وكذلك الكسوة فلا يكون ما يعقل بالكسوة حكما شرعيا ليصح تعديته بالتعليل إلى غيره بل يجب العمل بحقيقة الإطعام, وهو أن يصير المرء طاعما ثم يصح التمليك بدلالة النص, فأما الكسوة فاسم لما يلبس لا لمنافع اللباس فبطل التعليل من كل وجه, وكذلك التعليل لإثبات اسم الزنا للواطة واسم الخمر لسائر الأشربة واسم السارق للنباش باطل لما بينا والثاني من
ـــــــ
الطلاق للعتق أيضا بالقياس عليه, والجامع كون كل واحدة منهما مزيلة للملك كان رأي التعليل باطلا; لأن الاستعارة باب أي نوع من اللغة لا بيان إلا بالتأمل في معاني اللغة فإن الألفاظ نوعان حقيقة ومجاز الحقيقة لا تعرف إلا بالسماع, والمجاز لا يعرف إلا بالتأمل في معاني اللغة والوقوف على طريق الاستعارة عند أهل اللغة, ومعلوم أن طريق الاستعارة فيما بين أهل اللغة غير طريق التعدية في أحكام الشرع فلا يمكن معرفة هذا النوع بالتعليل الذي هو لتعدية حكم الشرع; فلهذا كان الاشتغال فيه بالتعليل باطلا وكذلك أي ومثل التعليل المذكور التعليل لجواز النكاح بألفاظ التمليك مثل البيع والهبة واستعارة كلمة النسب للتحرير مثل قوله لعبده: هذا ابني باطل أيضا لما قلنا: إن طريقة التأمل فيما هو طريق الاستعارة عندهم دون القياس الشرعي فلا يفيد الاشتغال به شيئا, وكذلك التعليل لشرط التمليك في الطعام أي التعليل لإثبات اشتراط التمليك في طعام كفارة اليمين ونحوها باطل عندنا; لأن المقصود من هذا التعليل إما معرفة المعنى المراد من الإطعام أو تعدية حكم الكسوة إليه, والإطعام اسم لغوي, ولا مدخل للقياس في معرفة معنى الاسم لغة, وكذلك الكسوة اسم لغوي فلا يكون ما يعقل أي يفهم بالكسوة حكما شرعيا ليصح تعديته بالتعليل إلى غيره بل يجب العمل بحقيقة كل واحد منهما. والإطعام فعل متعد لازمه طعم, فحقيقة جعل الغير طاعما, وذلك يحصل بالتمكين من الطاعم فيخرج به عن العهدة ثم يصح التمليك بدلالة النص لوجود معنى المنصوص فيه وزيادة على ما مر بيانه في باب الوقوف على أحكام النظم وأما الكسوة في الحقيقة فاسم لما يلبس أي للملبوس, وهو الثوب لا لمنافع اللباس, وفعل اللبس وعين الملبوس لا يصير كفارة إلا بالتمليك; فلذلك شرط فيها التمليك فبطل التعليل من كل وجه يعني لا يصح أن يقال: شرط في الكسوة فيشترط في الإطعام قياسا ولا أن يقال: حصل الخروج عن العهدة بالإباحة في الإطعام فيحصل بها في الكسوة أيضا; لأن كل واحد اسم لغوي لا مدخل للقياس في معناه وكذلك التعليل لإثبات اسم الزنا للواطة بأن يقال: سمي الزنا زنا; لأنه إيلاج في فرج بطريق الحرمة, وفي اللواطة هذا المعنى فيثبت فيها اسم الزنا فيدخل اللائط تحت قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] الآية واسم الخمر لسائر الأشربة(3/461)
هذه الجملة التعدية فإن حكم التعليل التعدية عندنا فبطل التعليل بدونه, وقال الشافعي رحمه الله: هو صحيح من غير شرط التعدية حتى جوز التعليل بالثمنية واحتج بأن هذا لما كان من جنس الحجج وجب أن يتعلق به الإيجاب مثل سائر الحجج ألا يرى أن دلالة كون الوصف علة لا تقتضي تعدية بل يعرف ذلك بمعنى في الوصف ووجه قولنا أن دليل الشرع لا بد من أن يوجب علما أو
ـــــــ
يعني المسكرة بأن يقال: سمي الخمر خمرا; لأنها تخمر العقل فيسمى سائر الأشربة المسكرة خمرا لتحقق ذلك المعنى فيه قياسا حتى يدخل في عموم قوله عليه السلام "حرمت الخمر لعينها" فيحد بشرب القليل والكثير منها كالخمر. واسم السارق للنباش بأن يقال: سمي السارق سارقا; لأنه يأخذ مال الغير في خفية; ولهذا لا يسمى الغاصب به, وهذه العلة موجودة في النباش فيثبت له اسم السارق قياسا ليدخل تحت عموم قوله عز وجل: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] الآية باطل لما بينا أن من شرط القياس تعدية الحكم الشرعي, وهذه أسماء لغوية فلا يجري فيها القياس.
قوله: "والثاني من هذه الجملة" التي تضمنها الشرط الثالث التعدية فإن حكم التعليل التعدية عندنا أي تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع بحيث يبطل التعليل دونه أي دون هذا الحكم, وهو التعدية يعني ليس للتعليل حكم سوى التعدية عندنا فمتى خلا تعليل عن التعدية كان باطلا فعلى هذا يكون التعليل والقياس بمنزلة المترادفين, وقال الشافعي هو صحيح أي التعليل صحيح من غير اشتراط التعدية, وحكمه ثبوت الحكم في المنصوص بالعلة ثم إن كانت العلة متعدية يثبت الحكم بها في الفرع ويكون قياسا, وإن لم يكن متعدية بقي الحكم مقتصرا على الأصل, ويكون تعليلا مستقيما بمنزلة النص الذي هو عام, والذي هو خاص فعلى هذا يكون التعليل أعم من القياس, والقياس نوعا منه.
وحاصل هذا الفصل أن الأصوليين اتفقوا على أن تعدية العلة شرط صحة القياس, وعلى صحة العلة القاصرة الثابتة بنص أو إجماع واختلفوا في صحة القاصرة المستنبطة كتعليل حرمة الربا في النقدين بعلة الثمنية فذهب أبو الحسن الكرخي من أصحابنا المتقدمين, وعامة المتأخرين مثل القاضي الإمام أبي زيد ومتابعيه إلى فسادها, وهو قول بعض أصحاب الشافعي أو أبي عبد الله البصري من المتكلمين. وذهب جمهور الفقهاء المتكلمين مثل الشافعي وعامة أصحابه أحمد بن حنبل والقاضي الباقلاني وعبد الجبار وأبي الحسين البصري إلى صحتها, وهو مذهب مشايخ سمرقند من أصحابنا رئيسهم الشيخ أبو منصور رحمه الله وهو مختار صاحب الميزان تمسكوا في ذلك بأن هذا أي الرأي المستنبط من الكتاب والسنة من جنس الحجج التي تعلق بها أحكام الشرع لما مر(3/462)
عملا وهذا لا يوجب علما بلا خلاف ولا يوجب عملا في المنصوص عليه لأنه ثابت بالنص, والنص فوق التعليل فلا يصح قطعه عنه به فلم يبق للتعليل حكم إلا التعدية إلى الفروع, فإن قال: إن حكم النص ثابت بالعلة كان باطلا; لأن التعليل
ـــــــ
من الدلائل في باب القياس فوجب أن يتعلق به الإيجاب أي إثبات الحكم مطلقا سواء تعدى إلى فرع, أو لم يتعد كسائر الحجج من الكتاب والسنة يثبت الحكم به خاصا كان أو عاما وهذا; لأن الشرط في الوصف الذي يعلل الأصل به قيام دلالة التمييز بينه وبين سائر الأوصاف من التأثير أو الإخالة والمناسبة, وذلك يتحقق في الوصف الذي يقتصر على المنصوص كما يتحقق في الوصف الذي يتعدى عن المنصوص إلى فرع آخر وبعدما وجد فيه شرط صحة التعليل به لا يثبت الحجر عن التعليل به إلا بمانع وكونه غير متعد لا يصلح أن يكون مانعا للإجماع على صحة العلة القاصرة المنصوصة إنما المانع ما يخرجه من أن يكون حجة كما في النص ولم يوجد وبأن صحة العلة لو كانت موقوفة على تعديها لما كان تعديها موقوفا على صحتها; لأنه يلزم من ذلك توقف الصحة على التعدي, وتوقف التعدي على الصحة, وهو دور, والتعدي متوقف على الصحة بالإجماع فلزم منه بطلان توقف الصحة على التعدي. وتمسك الفريق الأول بأن دليل الشرع لا بد من أن يوجب علما أو عملا إذ لو خلا عنهما لكان عبثا واشتغالا بما لا يفيد وهذا أي التعليل لا يوجب علما أصلا فإنه لا يوجب إلا غلبة الظن بلا خلاف ولا يوجب عملا في المنصوص عليه; لأن وجوب العمل في المنصوص عليه مضاف إلى النص لا إلى العلة; لأن النص فوق التعليل فلا يصح قطع الحكم, وهو إيجاب العمل عن النص بالتعليل أو العدول عن أقوى الحجتين مع إمكان العمل به إلى أضعفهما مما يرده العقل فلم يبق للتعليل أثر إلا في الفرع, ولا يثبت ذلك إلا بالتعدي فعرفنا أنه ليس للتعليل حكم سوى التعدية إلى الفروع, فإذا خلا التعليل عنه كان باطلا.
"فإن قيل": الحكم بعد التعليل مضاف إلى العلة عندي في الأصل كما في الفرع لا إلى النص فكانت العلة دليل الحكم والنص دليل الدليل إذ لو لم يكن كذلك لم يمكن التعدية إلى الفرع; إذ لا بد لها من اشتراك الأصل والفرع في العلة ألا ترى أنك تقول: هذا الحكم ثبت في الأصل بهذا المعنى, وهو موجود في الفرع فيتعدى الحكم به إليه, ولأن الحكم لو لم يثبت بالعلة في المنصوص عليه لأدى إلى المناقضة فإن تخلف الحكم عن العلة دليل التناقض والفساد وذلك باطل ولأن العلة إنما تكون علة لتعلق الحكم بها, فإذا(3/463)
لا يصلح لتغيير حكم النص, فكيف لإبطاله, فإن قيل: إن التعليل بما لا يتعدى يفيد اختصاص النص به قيل له: هذا يحصل بترك التعليل على
ـــــــ
لم يكن حكم النص متعلقا بها لا تكون علة وإذا كان كذلك كان التعليل مبينا أن الموجب للحكم هو العلة فيكون مفيدا كما إذا كانت العلة منصوصة.
"قلنا": إضافة الحكم في المنصوص عليه إلى العلة غير مستقيم; لأن الحكم قبل التعليل كان مضافا إلى النص فلو أضيف بعد التعليل إلى العلة كان التعليل مبطلا للنص; لأنه لا يبقى له حكم, والتعليل على وجه يكون مغيرا لحكم النص باطل فكيف إذا كان مبطلا له يوضحه أن العلة إنما جعلت موجبة عند عدم النص بإجماع الصحابة والمسلمين فلو جعلت موجبة في مورد النص لجعلت علة في غير موضعها, وأنه لا يجوز; لأنها علة شرعية فلا يمكن أن تجعل علة فيما لم يجعلها الشرع علة فيه وقوله: العلة وما يتعلق به الحكم مسلم ولكن في الفرع لا في الأصل وأما اعتبارهم الأصل بالفرع في أن الحكم فيه مضاف إلى العلة ففاسد; لأن الفرع يعتبر بالأصل فأما الأصل فلا يعتبر بالفرع في معرفة حكمه بحال. وأما صحة التعدية فلأن الحكم في الأصل بالنسبة إلى الفرع مضاف إلى العلة, وإن كان مضافا إلى النص بالنسبة إلى نفسه فيتحقق شرط التعدية, وهو اشتراك الأصل والفرع في العلة, وهذا كتوقف أول الكلام على آخره إذا عطفت عليه جملة ناقصة, فإن التوقف ثابت بالنسبة إلى الناقصة ليتحقق الاشتراك في الخبر لا بالنسبة إلى نفسه كما مر تحقيقه في باب أحكام الحقيقة والمجاز وهذا بخلاف العلة القاصرة المنصوصة, فإن الشارع لما نص عليها أفادنا بذلك علما بأنها هي المؤثرة في الحكم, ولا فائدة أعظم منه ولم يلزم منه تغيير حكم النص بالرأي أيضا بل الحكم مضاف إلى العلة ابتداء بالنص فكانت صحيحة وأما ما ذكروا من لزوم المناقضة فوهم; لأن المناقضة فيما إذا وجدت العلة, ولا حكم معها لفساد فيها أما إذا استحق بما هو فوقه فلا يكون مناقضة, ولا يخرج به من أن يكون علة, ألا ترى أن الجار عندنا لا يستحق الشفعة مع وجود الشريك فوقه, ولا يدل ذلك على أن الجواز ليس بسبب, وأن الأخوين يحجبان الأم من الثلث إلى السدس, وإن كانا محجوبين بالأب; لأن استحقاق نصيبها بالأبوة لم يخرج الأخوة من كونها سببا للحجب والاستحقاق كذا في "مختصر التقويم".
ولا يقال يلزم مما ذكرتم تخصيص العلة; لأنا نقول: إنما يلزم ذلك لو قطع الحكم عن العلة في المنصوص عليه من كل وجه, ولم يجعل كذلك بل أضيف الحكم إلى العلة(3/464)
أن التعليل بما لا يتعدى لا يمنع التعليل بما يتعدى فيبطل هذه الفائدة ومن هذه الجملة أن يكون المتعدي حكم النص بعينه من غير تغيير لما ذكرنا أن ثمرة التعليل التعدية لا غير فأما التغيير فلا فإذا كان التعليل مغيرا
ـــــــ
فيه بالنسبة إلى الفرع كما بينا فلا يكون تخصيصا إليه أشار أبو اليسر رحمه الله فإن قيل لا نسلم انحصار الفائدة على ما ذكرتم بل لها فوائد إحداها: إثبات اختصاص النص بالحكم كما ذكر في الكتاب فلا يشتغل المجتهد بالتعليل للتعدية إلى الفرع بعدما عرف اختصاص النص به وثانيتها: معرفة الحكمة المميلة للقلوب إلى الطمأنينة والقبول بالطبع والمسارعة إلى التصديق, فإن القلوب إلى قبول الأحكام المعقولة أميل منها إلى قهر التحكم ومرارة التعبد وثالثها المنع من تعدية الحكم عند ظهور علة أخرى معتدية إلا بدليل يدل على استقلال المعتدية بالعلية, وعلى ترجحها على القاصرة, ولولا القاصرة لتعدى الحكم بها من غير توقف على دليل مرجح, وهي من الفوائد الجليلة, وإذا ظهرت هذه الفوائد وجب القول بصحتها قلنا: حصول هذه الفوائد بها ممنوع أما الأولى فلأن الاختصاص يحصل بترك التعليل; لأنه كان ثابتا قبل التعليل; إذ النص لا يدل بصيغته إلا على ثبوت الحكم في المنصوص عليه, وإنما يتعمم بالتعليل فإذا ترك التعليل يبقى على الاختصاص على ما كان ضرورة فلم يحصل بهذا التعليل ما لم يكن ثابتا على أن التعليل بما لا يتعدى لا يمنع التعليل بما يتعدى; لأنه كما يجوز أن يجتمع في الأصل وصفان كل واحد منهما يتعدى إلى فروع, وأحدهما أكثر تعدية من الآخر يجوز أن يجتمع وصفان يتعدى أحدهما, ولا يتعدى الآخر فيجب التعليل حينئذ بالوصف المتعدي; لأنه أقرب إلى الاعتبار المأمور به من غير المتعدي فثبت أن بهذا التعليل لم يثبت اختصاص أصلا وكيف يثبت وبالإجماع بيننا وبينهم عدم العلة لا يوجب عدم الحكم لجواز أن يثبت الحكم بعلة أخرى فوجود القاصرة لا يدل على عدم الحكم في غير المنصوص لجواز ثبوته بعلة أخرى أيضا إليه أشار شمس الأئمة رحمه الله.
وأما الثانية فلأن الوقوف على الحكمة من باب العلم لا من باب العمل, والرأي لا يوجب علما بالاتفاق فلا تحصل هذه الفائدة بهذا التعليل غايته أنه يفيد ظنا بحكمة الحكم, ولكن الشرع لم يعتبر الظن إلا لضرورة العمل بالبدن, والقاصرة لا يتعلق بها عمل فوجب الإعراض عنها بالنظر إلى ما يفيد العلم أو يوجب العمل وأما الثانية فلأنا لا نسلم أن القاصرة تعارض المتعدية على وجه يحتاج إلى دليل مرجح; لأن المتعدية إذا ظهرت في موضع القاصرة, وظهر تأثيرها فهي العلة عندنا دون القاصرة وعندكم المتعدية راجحة على القاصرة لكونها أكثر فائدة, ولكونها متفقا عليها على ما نص في "القواطع" و"المحصول"(3/465)
كان باطلا ومن ذلك ما قلنا أن السلم الحال باطل; لأن من شرط جواز البيع أن
ـــــــ
وغيرهما فإذن لم يتوقف ترجح المتعدية على دليل آخر وإذا كان كذلك لم يكن القاصرة دافعة للمتعدية بوجه فثبت أنه ليس فيها فائدة فكان وجودها وعدمها بمنزلة وأما ما ذكروا من الدور فليس بلازم; لأنه إنما يلزم لو كان توقف كل واحد من الصحة والتعدية توقف تقدم أعني مشروطا بتقدم كل منهما على الآخر, وليس كذلك بل هو توقف معية كتوقف وجود كل واحد من المتضايفين على الآخر فلا يكون دورا.
قوله: "ومن هذه الجملة" أي مما تضمنه الشرط الثالث: أن يكون المتعدي حكم النص بعينه من غير تغيير أي يشترط أن يثبت بالتعليل مثل حكم النص في الفرع من غير أن يثبت له تغير في الفرع بزيادة وصف أو سقوط قيد, ونعني به المثلية في نفس الحكم من الجواز والفساد والحل والحرمة ونحوها لا في كونه قطعيا; لأن ذلك لا يثبت بالقياس, وإن استجمع شرائطه قال الشيخ في مختصر التقويم: وهذا فصل دقيق يجب تحفظه فإن أكثر المقايسين غيروا حكم النص ولم يعدوه إلى فرعه بعينه من ذلك أي مما اعتبر فيه هذا الشرط قولنا: بطلان السلم الحال فإن التعليل لتعدية حكم النص إليه لما أوجب تغييره في الفرع لزم القول ببطلانه لفوات شرطه وهو عدم التغير. وبيانه أن الشافعي رحمه الله جوز السلم الحال في الموجود دون المعدوم متمسكا بأن "النبي عليه السلام نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم من غير اشتراط أجل" وكان اشتراطه زيادة عليه فيكون مردودا ومعللا بأن السلم المؤجل لما جاز مع أن الأجل فيه خلاف ما يقتضيه العقد فإن مقتضاه ثبوت الملك, ووجوب التسليم في الحال, والأجل يخالفه جاز السلم الحال بالطريق الأولى; لأن اشتراط البدل حالا تقرير لموجب العقد وتحقيقه أنه شرع رخصة ومعنى الترخيص فيه من وجهين أحدهما: سقوط مؤنة إحضار المبيع وإراءته للمشتري دفعا للحرج الذي يلحق الباعة بإحضاره مكان العقد أو بتأخر العقد إلى حضور المبيع والثاني دفع حاجة الإفلاس. والمعنى الأول أولى بالاعتبار; لأن في قول الراوي ورخص في السلم مبنيا على قوله نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان إشارة إليه فإن عند يدل على الحضرة لا على الملك ولأن من له أكرار من حنطة لو باع الحنطة سلما يجوز إذا كان مؤجلا مع عدم حاجته إلى بيع الدين لقدرته على بيع العين, ولو كان المعتبر فيه دفع حاجة الإفلاس لما جاز في هذه الصورة ثم لما جاز مؤجلا بناء على المعنى الثاني; لأن يجوز حالا بناء على المعنى الأول كان أولى ويكون التزامه حالا دليلا على أن مقصوده دفع حاجة الإحضار, والتزامه مؤجلا دليلا على أن مقصوده دفع حاجة الإفلاس فيكون كلا النوعين مشروعا.وقلنا: السلم الحال باطل; لأن الشرع ورد بجواز السلم المؤجل وتعليله لتعدية حكمه إلى(3/466)
يكون المبيع موجودا مملوكا مقدورا, والشرع رخص في السلم بصفة لأجل, وتفسيره نقل الشرط الأصلي إلى ما يخلفه, وهو الأجل; لأن الزمان يصلح للكسب الذي هو من أسباب القدرة فاستقام خلفا عنه, وإذا كان النص ناقلا للشرط وكانت رخصة نقل لم يستقم التعليل للإسقاط والإبطال; لأنه تغيير محض ومن
ـــــــ
الحال غير ممكن لتأديته إلى تغيير حكم النص فكان باطلا وذلك أن محل البيع مال مملوك متقوم مقدور التسليم بالإجماع حتى لو باع الميتة أو باع ما لا يملكه ثم اشتراه وسلمه أو باع الخمر أو باع الآبق أو المغصوب المجحود لم يجز لفوات المالية في المسألة الأولى وعدم الملك في الثانية وعدم التقوم في الثالثة والعجز عن التسليم في الرابعة, والمعقود عليه في السلم ليس بموجود قبل العقد فضلا من أن يكون مملوكا أو مقدور التسليم, وبالعقد لا يصير موجودا حسا ولا مملوكا; إذ لا يتصور أن يتملك الإنسان ما في ذمته بالسبب الذي وجب عليه; لأنه إنما وجب في ذمته مملوكا عليه للغير لا له فلو ملكه لسقط عنه فكان الحكم الأصلي في السلم عدم الجواز إلا أن الشرع كما جوز بيع المنفعة في الإجارة قبل وجودها للحاجة جوز هذا العقد مع قيام المانع رخصة للحاجة, وهي أن المفلس المعدم قد يحتاج إلى مباشرته ليحصل البدل مع عجزه عن تسليم المعقود عليه في الحال وقدرته على ذلك بعد مضي مدة معلومة بطريق العادة إما بالاكتساب أو بإدراك غلاته بمجيء أوانه فجوز له الشرع هذا العقد مع عدم الملك والعجز عن التسليم ولكن على وجه يقدر على التسليم عند وجوب التسليم. وذلك بأن يكون مؤجلا فإن الأجل لما كان سببا للقدرة أقيم مقامها في تصحيح العقد كما أقيمت العين مقام المنفعة في صحة إضافة العقد إليها فصار الأجل شرطا لا لعينه بل خلفا عن القدرة التي هي الشرط الأصلي في البيع فتبين أن هذه رخصة نقل للشرط الأصلي إلى ما يصلح خلفا عنه, وهو الأجل; لأنه يصلح وسيلة إليه فإن تيسر الأداء بعد مدة بالتكسب أو بمجيء وقت الحصاد ظاهر وإذا كان النص أي النص المرخص ناقلا أي للشرط الأصلي وهو القدرة الحقيقية إلى خلفه, وهو القدرة الاعتبارية بإقامة الأصل مقامها لم يستقم التعليل للاستقاط, اللام للعاقبة أي يجز تعليله على وجه يؤدي إلى إسقاط هذا الشرط أصلا والإبطال أي إبطاله أو إبطال حكم النص فإنه متى سقط الأجل الذي هو القدرة الاعتبارية لم يكن هذا تعدية حكم النص يكون إبطالا له وإثباتا لحكم آخر في الفرع لم يتناوله النص ألا ترى أن الشرع لما نقل الطهارة بالماء عند العجز إلى التيمم لم يجز تعليله على وجه يؤدي إلى إسقاط الطهارة(3/467)
ذلك قولهم في الخاطئ: إن فعلهما لا يكون فطرا لعدم القصد كفعل الناسي, وهذا تعليل باطل; لأن نقاء الصوم مع النسيان ليس لعدم القصد; لأن فوات الركن يعدم الأداء, وليس لعدم القصد أثر في الوجود مع قيام حقيقة العدم, ألا ترى أن من لم ينو الصوم; لأنه لم يشعر بشهر رمضان لم يكن صائما, والقصد لم يوجد
ـــــــ
أصلا; لأنه تغيير لحكم النص فكذا هذا ولا يقال: لا يصلح أن يكون الأجل شرطا لصحة العقد بطريق الخلف عن القدرة; لأن القدرة تشترط سابقة على العقد, والأجل يثبت بعد انعقاد العقد حكما له فكيف يقوم مقامها ألا ترى أنه لو أسقط الأجل عقيب العقد من ساعته لم يفسد العقد.
وكذا لو مات المسلم إليه عقيب العقد من ساعته ينقلب السلم حالا من غير أن يثبت القدرة; لأنا نقول: القدرة على التسليم شرط لتوجه الخطاب عليه بالتسليم فيراعى وجودها وقت وجوب التسليم, ووجوب التسليم حكم العقد يثبت بعده, والعقد لا ينعقد إلا والأجل المقدر على التسليم يثبت به فاستوفى العقد حكمه فلا حاجة إلى القدرة قبل العقد وأما عدم فساد العقد بسقوط الأجل فلأن العقد إذا صح بوجوب الأجل القائم مقام القدرة لا يفسد بفواته بعد كما إذا أبق العبد المبيع قبل القبض إليه أشير في الطريقة البرغرية وأما بناء الرخصة على سقوط مؤنة الإحضار ففاسد; لأن معنى الرخصة اليسر والسهولة, والتسليم إذا لزمه حالا عقيب العقد لا بد من أن يحضر المبيع قبل العقد ليمكنه التسليم عقيبه وإذا أحضر فأي فرق بين أن يبيعه سلما أو عينا وأي تفاوت في حق المشتري بين أن ينتظر إحضاره قبل العقد وبين أن ينتظر إحضاره عقيب العقد يوضحه الرخصة لو بنيت عليه يكون النهي عنه في قوله: صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان" بيع ما غاب عن المجلس وهو جائز بالإجماع فإنه لو باع شيئا غائبا له قد رآه المشتري وأشار إلى مكانه أو بينه صح. وبيان المكان والإشارة إليه غير متعذر, ولو باع ما يحضر به قبل الملك ثم ملك وسلم لم يجز فثبت أن المراد من النهي بيع ما ليس في ملكه لا بيع ما ليس بحضرته وأن الرخصة في قوله صلى الله عليه وسلم: له " ورخص في السلم " واقعة على عدم الملك الذي هو مفسد بالإجماع لا على الغيبة عن المجلس. وأما قوله: لو باع ما هو موجود عنده سلما يجوز فلا يجد به نفعا; لأن إقدامه على السلم دليل على أن ما عنده مستحق بحاجة أخرى فصار بمنزلة المعدوم كالماء المستحق بالشرب يجعل عدما في حق جواز التيمم ولأن الشرع لما بنى هذه الرخصة على العدم, وهو أمر باطن أقيم السبب الظاهر الدال على العدم والعجز عن البيع الرابح وهو الإقدام على البيع بأوكس الأثمان, مقامه كما أقيم السفر الذي هو سبب المشقة مقام المشقة التي هي أمر باطن في حق الترخص.
وقوله: "ومن ذلك قولهم" أي ومن التعليل الذي غير فيه حكم الأصل في الفرع قول(3/468)
لكنه لم يجعل فطرا بالنص غير معلول على ما قلنا وعلى هذا الأصل سقط فعل الناسي; لأن النسيان أمر جبل عليه الإنسان فكان سماويا محضا فنسب إلى صاحب الحق فلم يصلح لضمانه حقه فالتعدية إلى الخطأ, وهو تقصير من
ـــــــ
أصحاب الشافعي في الخاطئ والمكره يعني في الإفطار بأن تمضمض ذاكرا لصومه غير مبالغ فيه فسبق الماء حلقه أو صب الماء في حلقه أو أكره على الإفطار إن فعلهما لا يكون فطرا لعدم القصد كفعل الناسي فإنه لما لم يقصد الفطر لتعذر القصد إلى الشيء مع عدم العلم به لم يجعل فعله فطرا, وإن وجد منه القصد إلى نفس الفعل فلأن لا يكون فعل الخاطئ فطرا مع أنه لم يقصد الفطر, ولا الفعل كان أولى وكذا المكره على الفطر; لأن الإكراه إذا كان بغير حق ينقل فعل المكره إلى الحامل عليه, وإذا انتقل إليه لم يبق له فعل كالأكل ناسيا لما أضيف إلى صاحب الحق لم يبق للأكل فعل وهذا بخلاف ما إذا بالغ في المضمضة فسبق الماء حلقه حيث يفسد صومه عند بعض أصحاب الشافعي وإن لم يقصد الفطر; لأن المبالغة في المضمضة محظورة منهي عنها في حالة الصوم فما تولد منها كان مضمونا عليه كمن حفر في الطريق يضمن ما تولد منه من تلف مال أو إنسان. قال الشيخ رحمه الله: وهذا تعليل باطل وبين فساده من وجهين أحدهما: أن بقاء الصوم مع النسيان أي مع الأكل ناسيا ليس لعدم القصد فإن الركن يفوت بعدم الأداء, وبعد ما فات ليس لعدم القصد إلى تفويته أثر في وجوده; لأن العدم ليس بشيء فلا يصلح مؤثرا في الوجود ألا ترى أن من تسحر عن ظن أن الفجر لم يطلع وقد كان طلع يفسد صومه لفوات ركنه, وإن لم يوجد منه قصد إلى الفطر فإن القصد كما ينعدم بنسيان الصوم ينعدم بجهل اليوم وإن أغمي عليه قبل غروب الشمس وبقي كذلك إلى آخر الغد لا يكون صائما, وإن انعدم منه القصد إلى ترك الصوم وأن من لم ينو الصوم أصلا لأنه لم يعلم شهر رمضان ولم يأكل شيئا لم يكن صائما, والقصد إلى تفويت الصوم لم يوجد فإذا لم يكن لعدم القصد أثر في إيجاد الصوم مع عدم ما ينافي الصوم من الأكل لم يكن له أثر في وجود الصوم مع وجود ما ينافيه فعرفنا أن بقاء صوم الناسي ليس لعدم القصد لكنه متصل بقوله: لعدم القصد أي لكن فعل الناسي وهو الأكل لم يجعل فطرا بالنص, وهو قوله عليه السلام أتم على صومك غير معلول أي غير معقول المعنى فلا يقاس عليه غيره وعلى ما قلنا أي في بيان أمثلة الشرط الثاني. وقوله: وعلى هذا الأصل بيان الوجه الثاني في بطلان ذلك التعليل يعني يخرج فساد تعليله على هذا الأصل الذي نحن في بيانه هو أنه إن سلمنا أن نص الناسي معلول فإلحاق الخاطئ والمكره به غير مستقيم; لأنه لا مساواة بين الناسي وبين الخاطئ والمكره في العذر وعدم القصد, وذلك; لأن النسيان أمر جبل أي خلق عليه الإنسان(3/469)
الخاطئ أو إلى المكره, وهو من جهة غير صاحب الحق من وجه يكون تغييرا لا تعدية, ومن ذلك أن حكم النص في الربا تحريم متناه, وقد أثبت الخصم فيما لا معيار له غير متناه ومن ذلك قولهم في تعيين النقود في المعاوضات: إنه
ـــــــ
لا صنع له فيه ولا يمكنه الاحتراز عنه بوجه فكان سماويا محضا, فكان منسوبا إلى صاحب الحق من كل وجه كما أشار إليه قوله عليه السلام "إنما أطعمك الله وسقاك" فلم يصلح لضمان حقه; لأنه صدر منه فاستقام أن يجعل الركن باعتباره قائما حكما فأما الخطأ والإكراه فقد يمكن الاحتراز عنهما بالتثبت والاحتياط في المقدمات والالتجاء إلى الإمام العادل أنهما ليسا من جهة صاحب الحق فتعدية الحكم من الناسي إليهما يكون تغييرا; لأن النص لما أوجب الحكم في المنصوص بمعنى فإثباته في الفرع بمعنى آخر لا يصلح علة لذلك الحكم يكون تغييرا له في الفرع لا تعدية; لأن حكم الأصل ثابت بعلة, وحكم الفرع ثابت بلا علة فكان غيره, ألا ترى أن المريض لما سقط عنه القيام بسبب العذر الذي جاء من قبل صاحب الحق وهو المرض, لم يجب عليه الإعادة قائما بعد البرء لم يجز تعديته إلى المقيد مع تحقق عجزه; لأن عذره ليس من جهة صاحب الحق حتى وجب عليه الإعادة قائما بعد رفع القيد فكذا ها هنا فتبين بما ذكرنا أن حكم الأصل عدم ضمان حق أتلفه صاحب الحق, والثابت في الفرع عدم ضمان حق أتلفه غير صاحب الحق بقدر له مدفع فكان تغييرا لا محالة. وإنما قيد بقوله: من وجه; لأن فعل العبد مضاف إلى الله تعالى خلقا; إذ هو خالق أفعال العباد عند أهل السنة وإن كان مضافا إلى العبد كسبا; فلهذا قال: ومن وجه.
قوله "ومن ذلك" أي ومما غير حكم الأصل في الفرع بالتعليل أن حكم النص في الأشياء الأربعة, وهي الحنطة والشعير والتمر والملح تحريم متناء بالتساوي في المعيار بقوله إلا سواء بسواء وقد أثبته الخصم بعلة الطعم فيما لا معيار له كالتفاحة والسفرجل والحفنة غير متناه فكان خلاف ما أثبته الشرع; إذ الحرمة المتناهية غير المؤبدة كالحرمة الثابتة بالرضاع أو المصاهرة غير الحرمة الثابتة بالطلقات الثلاث فيكون هذا تعليلا باطلا ولا يلزم عليه حرمة بيع المقلية بغير المقلية والدقيق بالحنطة فإنها غير متناهية بالكيل; لأن الحرمة ما ثبتت في هذا المحل وإنما يثبت قبل القلي متناهية بالمساواة كيلا لكن العبد أبطل الكيل على نفسه بالقلي والطحن فإن الأجزاء بالقلي تكثر; إذ تنتفخ الحنطة وبالطحن تنفرق فلا تعرف المساواة بعد بالكيل الذي جعل مسويا ومنهيا للحرمة فبقيت الحرمة غير متناهية, ويجوز أن تثبت الحرمة متناهية, ثم تبطل النهاية بصنع العباد فتبقى غير متناهية فأما إن ثبتت غير متناهية بإثبات الشرع وما أثبتها الشارع إلا متناهية فلا, كذا في الطريقة البرغرية. ولكن لهم أن يقولوا: نحن ما أثبتنا الحرمة بالتعليل بل بعموم النص, وهو قوله(3/470)
تصرف حصل من أهله مضافا إلى محله مفيدا في نفسه فيصح كتعيين السلع
ـــــــ
عليه السلام "لا تبيعوا الطعام بالطعام" على ما مر بيانه والتعليل بالطعم لقصر الحكم على المنصوص كالتعليل بالثمنية لا للتعدية فلا يكون فيه تغيير ونحن وإن بينا أن التعليل بعلة قاصرة فاسدة لكن ذلك يوجب أن يكون فساد هذا التعليل باعتبار القصر لا باعتبار تغيير الحكم في الفرع فلم يكن من أمثلة هذا الفصل.
قوله: "ومن ذلك" أي ومن التعليل المغير للحكم في الفرع قول مخالفنا في تعيين النقود إلى آخره الدراهم والدنانير والفلوس الرائجة لا تتعين بالتعيين في عقود المعاوضات عندنا, وعند زفر والشافعي وأصحابه تتعين وثمرة الاختلاف تظهر فيما إذا هلكت الدراهم المعينة أو استحقت لا ينفسخ العقد عندنا وعندهم ينفسخ ولو أراد المشتري أن يحبسها أو يعطي البائع مثلها قدرا وصفة له, وذلك عندهم ليس له ذلك ولو مات المشتري مفلسا كان البائع أسوة للغرماء فيها وعندهم كان البائع أحق بها من غيره عللوا فيما ذهبوا إليه بأن التعيين تصرف حصل من أهله مضافا إلى محله مفيدا في نفسه فيصح كتعيين السلع أما الأهلية فظاهرة; لأنها تثبت بالعقل والبلوغ والملك, والجميع حاصل له; ولهذا صح منه تعيين السلعة للبيع وأما المحلية فلأن محل التعيين حقيقة يشغل حيزا من المكان لتمكن الإشارة إليه والنقد بهذه المثابة فكان محلا للتعيين; ولهذا يتعين في الودائع والمغصوب حتى لو أراد المودع أو الغاصب أن يحبس الدراهم المودعة أو المغصوبة ويرد مثلها لم يكن له ذلك, وكذا يتعين في الهبة حتى يكون للواهب حق الرجوع في عينها لا في مثلها. ويتعين في البيع أيضا حتى إن الغاصب إذا اشترى بالدراهم المغصوبة بعينها طعاما ونقدها لا يباح له تناوله, ولو لم يتعين فحل له ذلك كما لو اشترى بدراهم مطلقة ثم نقد تلك الدراهم فثبت أنها محل للتعين وأما كونه مفيدا ففي حق البائع والمشتري جميعا أما في حق البائع فلأنه يملك العين, والملك في العين أكمل منه في الدين ولهذا لو أدى زكاة العين من الدين لا يجوز, ولو حلف لا مال له, وله على الناس ديون لا يحنث في يمينه.
ولأنه إذا ملك العين كان أحق بها من سائر غرمائه بعد موته, ولا يملك المشتري إبطال حقه بالتصرف فيه فربما يكون ذلك من كسب حلال فيرغب فيه ما لا يرغب في غيره. وأما في حق المشتري فلأن ذمته لا تصير مشغولة بالدين, ولا يطالب بشيء إذا هلكت الدراهم في يده, وبهذا الطريق تتعين الدراهم في الوكالة حتى لو دفع دراهم ليشتري بها شيئا فهلكت بطلت الوكالة وإذا ثبتت هذه الجملة وجب أن يصح كتعيين السلع وإنما قيد بكونه مقيدا في نفسه احترازا عن تعيين صنجات الميزان, فإنه لا يصح مع وجود الأهلية والمحلية لعدم الفائدة فإن ما عين من الصنجات وغيره سواء في الوزن.(3/471)
هذا تغيير لحكم الأصل; لأن حكم الشرع في الأعيان أن البيع يتعلق به وجوب ملكها لا وجودها, وحكم البيع في جانب الأثمان وجودها ووجوبها معا بدلالة ثبوتها في الذمة ديونا بلا ضرورة وبدلالة جواز الاستبدال بها وهي ديون, ولم
ـــــــ
ولأن الحكم قد يمتنع بعد ثبوت الأهلية والمحلية لعدم الفائدة, فإن من اشترى عبد نفسه من نفسه لا يصح لعدم الفائدة, ولو اشترى عبده وعبد غيره بثمن معلوم صح, ودخل عبده في البيع لظهور الفائدة, وهو انقسام الثمن عليهما بعد دخولهما في العقد ولم يدخل كان بيعا بالحصة ابتداء. قالوا: ولا معنى لقولكم: إن موجب العقد في جانب الثمن إيجاده في الذمة ابتداء; لأن البيع ما شرع لإيجاد الأموال بل شرع لنقل الملك إلى الغير ولإثبات الملك فيها وذلك يقتضي أن يكون محل الملك موجودا في الجانبين تحقيقا لمعنى المعارضة فكانت العينية فيه أصلا, والانتقال إلى الدين رخصة, كما في جانب البيع.
قوله: "هذا" أي التعليل الذي ذكروه تغيير لحكم الأصل أي للحكم الأصلي في الفرع فيكون باطلا وذلك; لأن حكم الشرع في الأعيان أن البيع يتعلق به وجوب ملكها يعني حكم الشرع في الأعيان أن يتعلق بالبيع ثبوت ملك الأعيان لا وجودها في نفسها; ولهذا لا بد من وجودها في ملك البائع عند العقد ليصح العقد إلا في موضع الرخصة وحكم البيع في جانب الأثمان وجودها ووجوبها معا أي حكم البيع في جانب الثمن أن يوجد الثمن في ذمة المشتري, ويجب عليه للبائع; لأن الثمن لم يكن موجودا في الذمة قبل البيع فيوجد بعد البيع بصفة الوجوب فكان وجوده ووجوبه من أحكامه ثم استدل على أن ما ذكر هو الحكم الأصلي في جانب الثمن بوجوه ثلاثة فقال بدلالة ثبوتها في الذمة ديونا بلا ضرورة يعني أنها تثبت ديونا في الذمة مع القدرة على العين فإن من اشترى شيئا بدراهم غير عين, وفي يده أو كيسه دراهم أو بين يديه دراهم موضوعة صح البيع ويثبت الثمن في الذمة, فلو لم يكن ثبوته في الذمة أصليا, وكان بحيث لا يجوز إلا من عذر لما جاز البيع عند عدم العذر ولنهي الشارع عنه واستثنى حالة العذر ليظهر لنا جهة فساده من جوازه كما فعل في جانب المبيع بأن "نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان, ورخص في السلم" فعلمنا أن ثبوت الثمن دينا في الذمة حكم أصلي لا ضروري لثبوته في الذمة مطلقا سواء كان له دراهم أو لم تكن. فاندرج فيما ذكرنا الجواب عما يقال: المبيع يثبت دينا في الذمة بلا ضرورة أيضا فإن من له أكرار حنطة لو باع حنطة سلما يجوز ثم لم يدل ذلك على أنه حكم أصلي فكذا ها هنا; لأن النهي لما ورد عن بيع ما ليس عند الإنسان, وثبت في مقابلته الرخصة في السلم علم أن ذلك ليس بأمر أصلي وأن الجواز في الصورة المذكورة بناء على الحاجة تقديرا كما مر بيانه وها هنا لم يرد نهي عن الشراء بثمن ليس في ملكه بل(3/472)
تجعل في حكم الأعيان فيما وراء الرخصة وبدلالة أنه لم يجبر هذا النقص بقبض ما يقابله, فإذا صح التعيين انقلب الحكم شرطا وهذا تغيير محض, وقال الشافعي: الحكم في كفارة اليمين والظهار أنه تحرير في تكفير فكان الإيمان من شرطه, وهذا تغيير بقيد الإطلاق مثل إطلاق المقيد هذا وما أشبهه تغيير
ـــــــ
قرر الشرع على العادة الجارية في الأسواق في الشراء بدراهم غير معينة فعلم أنه أمر أصلي وقوله: وبدلالة جواز الاستبدال بها أي بالأثمان وجه ثان في الاستدلال بأن الدينية في الثمن أصل يعني جواز الاستبدال بالثمن قبل القبض يدل أيضا على أن ثبوته في البيع أمر أصلي لا ضروري; إذ لو كانت العينية فيه أصلا, وكان العدول عنها إلى الدين رخصة بطريق الضرورة كما في السلم لبقي فيما وراء موضع الضرورة, وهو الجواز بالثبوت في الذمة على حكم العينية; لأن ما ثبت بالضرورة يتقدر بقدرها, ولو بقي على حكم العينية لم يجز الاستبدال به قبل القبض كما لم يجز الاستبدال بالمبيع العين ألا ترى أن العينية لما كانت أصلا في البيع, وكان العدول عنها إلى الدين رخصة بطريق الضرورة لم يظهر الدينية فيما وراء موضع الضرورة وكان للمسلم فيه حكم العين في حرمة الاستبدال به قبل القبض وصحة الفسخ عليه وحده بعد هلاك رأس المال, ولما جاز الاستبدال بالثمن قبل القبض, ولم يرد عليه الفسخ وحده بعد هلاك المبيع علم أن الثمن بخلاف السلعة وأن الدينية فيه أصل إليه أشير في الأسرار. فبهذا عرفت أن قوله: وهي ديون أي حال كونها ديونا إلى آخره لبيان الفرق بينه وبين السلم بأن دينيته أصل, ودينية السلم عارض وقوله: وبدلالة أنه لم يجبر هذا النقص بقبض ما يقابله دليل ثالث على أصالة دينية الثمن يعني لو كانت العينية أصلا في الثمن لتمكن بالنقل إلى الدين ضرب عذر فيه لا محالة فإنه أبعد عن صاحبه من العين, وهذا نقص فيه فكان يجب جبر هذا النقص بقبض ما يقابله, وهو المبيع في المجلس كما وجب جبر غرر الدينية في المسلم فيه بقبض رأس المال في المجلس دينا كان أو عينا, ولما لم يجب جبر هذا النقص بقبض المبيع علم أن الدينية فيه أصل فإذا صح التعيين انقلب الحكم شرطا يعني لما ثبت أن الحكم الأصلي في الثمن وجوده ووجوبه في الذمة لو صح التعيين لخرج وجود الثمن عن كونه حكما للبيع ولصار محلا لثبوت الملك فيه كما في جانب السلعة وقد عرفت أن المحال شروط وكان في التعيين انقلاب ما هو الحكم شرطا, وهذا أي انقلاب المذكور تغيير محض فكان باطلا.
قال القاضي الإمام في الأسرار: حكم العقد ما يجب به, والثمن نفسه يجب بالعقد والمحل, وما يشترط وجوده ليحله حكمه وحكم العقد غير محله, فإن المحل شرط يراعى قبله كشروط كل عمل من عبادة أو معاملة, والحكم ما يثبت بالعقد فكانا في طرفي نقيض, فإذا جعل(3/473)
للحكم في الفروع وقد صح ظهار الذمي عند الشافعي فصار تغييرا للحرمة
ـــــــ
الثمن محلا لتعينه وشرطه كان شرطا تغير موجبه به إلى ضده, فكان فاسدا كما إذا أراد أن يجعل المحل بشرطه حكما.
"فإن قيل": إن سلمنا أن الدينية أصل في الثمن, ولكن لا نسلم أن العينية غير مشروعة فيه بل الدينية تكون أصلا عند عدم التعيين, والعينية تكون أصلا في حال التعيين كما في المكيلات والموزونات والمعدودات والبقرة فإنها تثبت في الذمة ثمنا ثم إذا عينت صح التعيين قلنا لما ثبت أن الدينية أصل فيه لم يجز أن يكون العينية معها أصلا; لأن التعيين أنفى للغرر من الدين, والملك في العين أكمل منه في الدين فكيف تكون الدينية مساوية للعينية فلما كانت الدينية أصلا لم يكن العينية مشروعة معها أصلا إلا بترخص من الشارع, ولم يوجد بخلاف المكيلات والموزونات, فإن فيها شبهة الأثمان وشبه السلع, فإن الثمن ما يقوم به نفسه وغيره كالدراهم والدنانير فإنها تقيم أنفسها في الإتلافات, ويقوم بها الأموال أيضا والسلع ما يقوم بالأثمان ولا يقع التقويم بها في الإتلاف كالأعيان والمكيلات والموزونات كانت تقيم أنفسها في الشرع والعرف, ولم يجب بمقابلتها دراهم, ولا يقوم بها غيرها عند الإتلاف كما يقوم الدراهم والدنانير, فقيل: إذا عقد العقد بها في الذمم كما يعقد بالدراهم ثبتت أثمانا لشبهها بالأثمان, وإذا عينت أو عقد العقد عليها كما يعقد على السلع تثبت سلعا لشبهها بالسلع فكان التعيين فيها تمييزا لإحدى الجهتين لا تغييرا لموجبها الأصلي فيصح وبما ذكرنا خرج الجواب عن قولهم: إنه تصرف في محله; لأنه لما كان مغيرا للموجب الأصلي في هذا العقد لم يكن ملاقيا محله وأما تعينها في الودائع والمغصوب والتبرعات فلأنه لا يلزم منه تغيير موجب العقد بل يتقرر به موجبه فإن الغصب أو الإيداع أو الهبة لا يرد قط إلا على العين فإن غصب الدين وإيداعه غير ممكن, وكذا تمليكه من غير من عليه فكانت العينية شرطا لتحقق هذه التصرفات وأما تعينها في الوكالة فغير مسلم فإنه لو اشترى الوكيل بمثل تلك الدراهم في ذمته كان مشتريا للموكل, ولو هلكت بعد الشراء رجع على الموكل بمثلها, فأما إذا هلكت قبل الشراء فإنما بطلت الوكالة; لأنها غير لازمة في نفسها, والموكل لم يرض بكون الثمن في ذمته عند الشراء فلو تعينت الوكالة لاستوجب الوكيل بالشراء الدين في ذمته الموكل وهو لم يرض به وكذا في مسألة الشراء بالدراهم المغصوبة لا بتعين تلك الدراهم حتى لو أخذها المغصوب منه كان على الغاصب مثلها دينا, ولكنه استعان في العقد والنقد بما هو حرام فتمكن فيه شبه الخبث فلم يحل له تناوله وأما ما ذكروا من الفوائد فليس من مقاصد العقد, وإنما تطلب فائدة التعيين فيما هو المقصود بالعقد, وفيما هو المقصود, وهو ملك المال الدين أكمل من(3/474)
المتناهية بالكفارة في الأصل إلى إطلاقها في الفرع عن الغاية. ومن ذلك ما قلنا إلى فرع هو نظيره فأما إذا خالفه فلا, وذلك مثل ما قلنا في تعدية الحكم من
ـــــــ
العين وبالتعيين ينتقض فإنه إذا استحق العين أو هلك بطل ملكه وإذا ثبت دينا في الذمة لا يتصور هلاكه ولا بطلان الملك فيه بالاستحقاق وأما قولهم: المقصود من العقد نقل الملك في الموجود لا الإيجاد, فكذلك إلا أنا حكمنا بوجود الثمن بالعقد لأجل المشتري لا لأجل البائع; إذ المشتري محتاج إلى تحصيل الملك, وذلك بالثمن فأوجدناه بالعقد ليثبت فيه الملك للبائع, ويحصل مقصود المشتري بواسطته وهو ثبوت الملك له في المبيع فثبت أن المقصود به ليس إلا ثبوت الملك في البدلين للمتعاقدين, وأن وجوده من ضرورات حصول المقصود إليه أشار الإمام أبو الفضل الكرماني رحمه الله.
واعلم أنه قد قيل: هذا المثال ليس من فروع الأصل الذي نحن بصدده في التحقيق, فإن بالتعليل لم يتغير حكم الأصل, وهو السلع في الفروع, وهو الثمن بل تغير الحكم الأصلي الذي في الثمن به وكذا المثال الذي بعده; لأن بالتعليل فيه, وهو قوله: إنه تحرير في تكفير فكان الإيمان من شرطه قياسا على كفارة القتل إنما يغير الحكم الأصلي الذي في الفرع, وهو الإطلاق لا حكم الأصل, وهو كفارة القتل إلا أن الشيخ أوردهما ها هنا باعتبار مجرد حصول التغير بالتعليل في الفرع ويمكن أن يقال في المثال الأول: قد حصل تغيير حكم الأصل, وهو السلع في الفرع بالتعليل فإن حكم الأصل وجوب التعيين, ولا بد فيه من اشتراط قيام السلعة عند العقد, والحكم الثابت بالتعليل في الفرع جوازه لا وجوبه به فلا يلزم منه اشتراط قيام الثمن عند العقد فيكون تغييرا. ويؤيده ما ذكر شمس الأئمة في آخر هذه المسألة فتبين بهذا أنه ليس في هذا التعليل تعدية حكم الأصل بعينه بإثبات حكم آخر في الفرع فأما المثال الثاني فلا تغيير لحكم الأصل في الفرع كما قيل والله أعلم مثل الإطلاق في المقيد فإنه تغيير حتى لو قيل في كفارة القتل تحرير في تكفير فلم يكن الإيمان من شرطه قياسا على كفارة اليمين والظهار كان باطلا بالإجماع; لأنه تغيير للقيد إلى الإطلاق فكذا عكسه هذا أي جميع ما ذكرنا من الأمثلة.
قوله: "وقد صح ظهار الذمي" ظهار الذمي باطل عندنا, وعند الشافعي رحمه الله صحيح; لأن موجب الظهار الحرمة, وهو من أهل الحرمة كالمسلم وهو أهل الكفارة; لأنه من أهل الإطعام والإعتاق وبأن لم يكن أهلا للصوم لا يمتنع صحة ظهاره كالعبد ليس بأهل للتكفير بالمال, وظهاره صحيح ولئن لم يكن أهلا للكفارة فهو أهل للحرمة فيعتبر ظهاره في حق الحرمة كما اعتبر أبو حنيفة رحمه الله إيلاء الذمي في حق الطلاق وإن لم يعتبره في الكفارة وقلنا: هذا التعليل باطل; لأن حكم الظهار في حق المسلم حرمة متناهية(3/475)
الناسي في الفطر إلى الخاطئ والمكره: إن ذلك ثبت منه والعذر في الخاطئ والمكره دون العذر في الناسي فصار تعدية إلى ما ليس بنظيره وعدى حكم التيمم إلى الوضوء في شرط النية, وليس بنظيره; لأن التيمم تلويث, وهذا تطهير
ـــــــ
بالكفارة, ولا يمكن إثبات مثل تلك الحرمة في حق الذمي فإنه ليس بأهل للكفارة فلو صح ظهاره لثبتت به حرمة مطلقة فيكون تغييرا لحكم الأصل في الفرع, وهو باطل وإنما قلنا: إنه ليس بأهل للكفارة; لأن المقصود بالكفارة التطهير والتكفير; ولهذا ترجح فيها معنى العبادة حتى تتأدى بالصوم الذي هو عبادة محضة, ولا تتأدى إلا بنية العبادة ويفتى بها ولا تقام عليه كرها, والكافر ليس بأهل للتكفير والتطهير ولا لأداء العبادة بخلاف العبد; لأنه من أهل الكفارة إلا أنه عاجز عن التكفير بالمال لعدم الملك بمنزلة الفقير حتى لو عتق وأصاب مالا كانت كفارته بالمال أيضا كالفقير إذا استغنى. وبخلاف الإيلاء; لأنه طلاق مؤجل والذمي من أهل الطلاق, ولأن الحرمة الثابتة باليمين مطلقة لا مؤقتة بالكفارة; ولهذا لا يجوز التكفير قبل الحنث بخلاف الظهار فصار أي تصحيح ظهاره أو التعليل لصحة ظهاره; إذ معنى قوله: وقد صح ظهار الذمي عند الشافعي أنه قال بصحته بالتعليل إلى إطلاقها في الفرع عن الغاية أي إلى إثباتها في الفرع مطلقة عن الغاية غير مقيدة بها فكانت هذه الحرمة شبيهة بالحرمة الثابتة في الجاهلية, فإنها كانت في الجاهلية مؤبدة.
قوله: "ومن ذلك" أي ومما تضمنه الشرط الثالث وما قلنا أي قولنا إلى فرع هو نظيره أي نظير الأصل في الوصف الذي تعلق الحكم به لا في جميع الأوصاف فإنها لا توجد إلا في المنصوص عليه فأما إذا خالفه أي خالف الفرع الأصل فيما قلنا فلا أي فلا تعدي يعني لا يصح التعدي; لأن من شرطه المماثلة بين المحلين على ما مر وذلك أي خلاف الفرع الأصل مثل ما قلنا في تعدية الحكم أي تعدية الشافعي الحكم وهو بقاء الصوم ومن الناسي في الفطر أي في الأكل والشرب حالة الصوم وكلمة في لبيان محل النسيان لأصله له كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ} [الصافات: 72] وإلى الخاطئ والمكره في الفطر أن ذلك متعلق بقلنا أي قلنا: إن بقاء الصوم ثبت بطريق المنة على الناسي بقوله عليه السلام أتم على صومك والعذر في الخاطئ والمكره دون العذر في الناسي فيما هو المقصود بالحكم, وهو التفصي عن العهدة; لأن عذر الخاطئ لا ينفك عن تقصير من جهته بترك المبالغة في التحرز; ولهذا تجب الدية والكفارة على الخاطئ في القتل وكذا عذر المكره; لأنه حدث بصنع مضاف إلى العباد لا إلى صاحب الحق; ولهذا لا يحل له الإقدام على الفطر بالإكراه فصار تعدية أي صار التعدية من الناسي إليهما تعدية إلى ما ليس بنظيره أي نظير الناسي أو نظير الأصل "وعدى حكم التيمم إلى(3/476)
وغسل وقال الشافعي رحمه الله: أنتم عديتم حرمة المصاهرة من الحلال إلى الحرام وليس بنظيره في إثبات الكرامة فقلنا ما عدينا من الحلال إلى الحرام لأن الوطء ليس بأصل في التحريم حلالا كان أو حراما, وإنما الأصل هو الولد المستحق لكرامات البشر فلما خلق من الماءين تعدى إليهما الحرمات كأنهما صارا شخصا واحدا فصار آباؤه وأبناؤه كآبائها وأبنائها, وأمهاتها وبناتها
ـــــــ
الوضوء" أي عدى الشافعي ما ثبت في التيمم ومن اشتراط إلى الوضوء فقال: إنه طهارة فلا يتأدى إلا بالنية كالتيمم وليس بنظيره أي ليس الفرع, وهو الضوء بنظير الأصل, وهو التيمم في افتقاره إلى النية وكونه طهارة; لأن التيمم تلويث في ذاته والتلويث لا يكون تطهيرا حقيقة لكنه صار مطهرا شرعا في حالة الضرورة بالنية وهذا أي الوضوء تطهير في نفسه, وغسل في ذاته فلا يدل افتقار ما هو تلويث جعل تطهيرا ضرورة إلى النية على افتقار ما هو تطهير بنفسه إليها لعدم تساويهما في المعنى الذي تعلق الحكم به كافتقار إباحة الميتة في حالة الاضطرار إلى الاحتراز عن الادخار والأكل فوق سد الرمق لا يدل على افتقار إباحة الذكية إلى ذلك لعدم تساويهما في المعنى الموجب له. ثم ذكر الشيخ رحمه الله ما يرد علينا نقضا فقال: وقال الشافعي رحمه الله: أنتم عديتم حرمة المصاهرة من الوطء الحلال, وهو الوطء بالنكاح أو بملك اليمين إلى الوطء الحرام, وهو الزنا ولا شك أن هذه الحرمة تثبت بطريق الكرامة والنعمة حيث تلحق الأجنبية بالأم; ولهذا من الله تعالى علينا بهذه الحرمة بقوله: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً} [الفرقان: 54] وليس بنظيره أي ليس الوطء الحرام نظير الحلال في إثبات الكرامة واستجلاب النعمة; لأن الحرام سبب المقت والخذلان لا سبب الإكرام والإحسان, وإذا لم يكن الحرام نظيره كانت التعدية فاسدة وأجاب بقوله: فقلنا: ما عدينا الحكم من الحلال نفسه إلى الحرام بل الأصل في ثبوت حرمة المصاهرة الولد الذي هو المقصود بالنكاح فإنه لما استحق سائر كرامات البشر من الولاية والملك ونحوهما استحق هذه الكرامة, وهي حرمة المحارم فتحرم عليه أمهات أمه وبناتها إن كان ذكرا وآباء أبيه وأبناؤه إن كان أنثى, ولما كان الولد مخلوقا من ماءي الرجل والمرأة تعدى إليهما الحرمات الثابتة في حق الولد.
وذلك; لأن الماءين لما امتزجا بحيث لا يمكن تمييز أحدهما عن الآخر, وخلق منهما الولد, ونسب إلى كل واحد منهما بكماله صار ما هو جزء الأم منه مضافا إلى الأب بالبعضية وما هو جزء الأب منه مضافا إلى الأم بالبعضية فثبت بينهما بواسطته نوع بعضية واتحاد كما يثبت بين الأخوين بواسطة أن كل واحد منهما جزء أبيه حقيقة. وهو معنى قوله كأنهما صارا شخصا واحدا يعني في حصول ما هو المقصود بالنكاح كزوجي باب(3/477)
مثل أمهاته وبناته ثم تعدى ذلك إلى سببه, وهو الوطء فصار عاملا بمعنى الأصل فلم يجز تخصيصه لمعنى في نفسه, وهو الحل ولا إبطال الحكم بمعنى في نفسه وهو الحرمة وصار هذا مثل قولنا في الغصب: إنه من أسباب الملك تبعا لوجوب الضمان لا أصلا فثبت بشروط الأصل, فكان هذا الأصل مجمعا عليه في
ـــــــ
وزوجي خف هما باب واحد وخف واحد باعتبار تعلق المقصود بهما جميعا وإذا ثبت بينهما هذا النوع من الاتحاد بواسطته تعدت الحرمات الثابتة في حقه إليهما فيصير آباء الوطء وأبناؤه في الحرمة بمنزلة آباء الموطوءة وأبنائها, وأمهات الموطوءة وبناتها بمنزلة أمهات الواطئ وبناته ثم تعدى ذلك أي الحكم الثابت للولد, وهو إثبات الحرمة المذكورة إلى سببه وهو الوطء; لأن حقيقة العلوق أمر باطني لا يمكن الوقوف عليه, ولا يدري أن الولد يخلق من مائه أو من ماء غيره فأقيم ما هو سبب مفض إليه مقامه كما أقيمت الخلوة مقام الدخول في تكميل المهر وإيجاب العدة والسفر مقام المشقة في تعلق الرخص به فصار أي الوطء عاملا في إثبات الحرمة بمعنى الأصل, وهو الولد أو الجزئية الثابتة بين الشخصين فلم يجز تخصيصه أي تخصيص الوطء الحلال بإثبات هذا الحكم باعتبار معنى في نفسه وهو الحل ولا إبطال الحكم عن الوطء الحرام باعتبار معنى في نفسه, وهو الحرمة; إذ لا أثر لصفة الحرمة في منع هذا المعنى الذي لأجله أقيم هذا السبب مقام ما هو الأصل في إثبات الحرمة ولا لصفة الحل في إثباته; إذ الولد يوجد بالوطء بأي صفة كان, وولد الرشيدة وغيره سواء في استحقاق الكرامة ولا يقال: الاتحاد إنما ثبت بواسطة نسبة الولد على ما قلتم, وذلك في الوطء الحلال دون الحرام; لأن الولد لا ينسب إلى الزاني بوجه فلا يصير جزء الأم مضافا إليه فكيف يتعدى حرمة أمهاتها وبناتها إليه; لأنا نقول: إن لم ينسب الولد إليه بالبنوة فقد نسب بالجزئية; لأنه مخلوق من مائه حقيقة; ولهذا حرمت البنت المخلوقة من الزنا على الزاني, وهذا القدر كاف في ثبوت الاتحاد وتعدي الحرمة. على أنه لا فصل بين هذه الحرمات نفيا وإثباتا فمتى ثبت في جانب المرأة لعدم انقطاع النسبة عنها شرعا ثبت في جانب الرجل أيضا ضرورة عدم الفصل كذا قيل وصار هذا أي صيرورة الزنا سببا لهذه الحرمة باعتبار قيامه مقام الولد مثل قولنا في الغصب: إنه من أسباب الملك في المغصوب للغاصب مع كونه عدوانا محضا تبعا لوجوب ضمان الغصب الذي هو مشروع; لأن وجوب الضمان بطريق الجبر وأنه يعتمد الفوات, والفوات لا يتم إلا بزوال الملك فكان زوال الملك إلى الغاصب باعتبار أن البدل يجب عليه من شرائط وجوب الضمان وشرط الشيء تبع له فكان سببية الغصب للملك بطريق التبعية كسببية الزنا للحرمة لا بطريق الأصالة كسببية البيع للملك فثبت بشروط الأصل أي ثبت كون الغصب(3/478)
الحرمات التي بنيت على الاحتياط فأما النسب فما بني على مثله من الاحتياط فوجب قطعه عن الاشتباه, ولا يلزم على هذا أن هذه الحرمة لا تتعدى إلى الأخوات والإخوة ونحوهم; لأن التعليل لا يعمل في تعبير الأصول وهو امتداد التحريم وهذا مما يكثر أمثلته ولا تحصى, ومن ذلك قولنا ولا نص فيه; لأن
ـــــــ
سببا للملك بالشرائط التي ثبت بها الأصل وهو وجوب الضمان لا بشروط نفسه والأصل مشروع لا عدوان فيه كالبيع فلم يلتفت بعد إلى صفة العدوان في التبع كما أن التيمم ثبت بشروط وجوب التوضؤ خلفا عنه, ولم يلتفت إلى كونه تلويثا في نفسه قال شمس الأئمة رحمه الله: إنا لا نثبت الملك بالغصب حكما له كما نوجبه بالبيع, وإنما ثبت الملك به شرطا للضمان الذي هو حكم الغصب وذلك الضمان حكم مشروع كالبيع, وكون الأصل مشروعا يقتضي أن يكون شرطه مشروعا.
وقوله: وكان هذا الأصل إلى آخره جواب عما يقال: قد أقمتم الوطء الحرام مقام الولد في إثبات حرمة المصاهرة, وما أقمتموه مقامه في إثبات النسب حتى لم تثبتوا النسب بالزنا بوجه مع أن النسب يحتاط في إثباته كما يحتاط في إثبات حرمة المصاهرة. فقال: هذا الأصل, وهو إقامة السبب مقام المسبب أصل متفق عليه فيما بني على الاحتياط من الحرمات مثل إقامة النكاح مقام الوطء في إثبات حرمة المصاهرة واستحداث الملك مقام الشغل في وجوب الاستبراء والنوم مقام الحدث في انتقاض الطهارة المتضمن لحرمة أداء الصلاة, وذلك لأن الشارع لما نهى عن الريبة كما نهى عن الربا علمنا أن الشبهة ملحقة بالحقيقة في محل الاحتياط, والسبب دال على المسبب فثبت به شبهة وجود المسبب فقام مقام حقيقة وجوده في محل الاحتياط, فأما النسب فما بني على مثله من الاحتياط; لأنه تعالى قال: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 50] والنبي عليه السلام قطع النسب عن الزاني بقوله "وللعاهر الحجر1" فعلم أنه ليس بنظير ما نحن فيه في الاحتياط فوجب قطعه أي قطع النسب عن الوطء عند لزوم الاشتباه, وذلك في الزنا; لأن المرأة ربما يزني بها غير واحد من الرجال, وربما كانت ذات زوج مع ذلك فلو اعتبر نفس الوطء في إثبات النسب لاشتبهت الأنساب وضاع النسل وفيه من الفساد ما لا يخفى فقطع الشرع النسب عن الزاني, ولم يثبته إلا بالفراش لهذه الحكمة ألا ترى أنه لا يثبت بالوطء الحلال وهو الوطء بملك اليمين فكيف يثبت بالحرام المحض. ولا يلزم على هذا أي على ما ذكرنا أن الوطء والموطوءة يصيران بمنزلة شخص واحد بواسطة الولد وتتعدى
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الرضاع باب الولد حديث رق 1457 و 1458، وأبو داود حديث رقم 2273. وابن ماجة حديث رقم 2004، والإمام أحمد في المسند رقم 4/186.(3/479)
التعدية إليه بمخالفة النص مناقضة حكم النص بالتعليل وهو باطل, والتعدية بموافقة النص لغو من الكلام; لأن النص يغني عن التعليل ومثال ذلك قول
ـــــــ
الحرمات من كل جانب إلى الآخر حتى صار آباؤه وأبناؤه كآبائها وأبنائها وعلى العكس إن هذه الحرمة أي الحرمة الثابتة بالبعضية بين الرجل والمرأة لا تتعدى إلى الإخوة والأخوات حتى لم يصر أخو الواطئ كأخي المرأة, ولا أخت المرأة كأخته في الحرمة ونحوهم كالأعمام والعمات والأخوال والخالات لأن التعليل لا يعمل في تغيير الأصول, وهو امتداد التحريم يعني أثر التعليل في إثبات الحكم في الفرع لا في تغيير الحكم الثابت في الأصل والنص إنما ورد بالحرمة في الأصل مقتصرة على الآباء والأبناء والأمهات والبنات فلو أثبتنا الحرمة في الأصل ممتدة إلى الإخوة والأخوات ونحوهم أو في الفرع ممتدة إليهم لكان التعليل مغيرا حكم النص في الأصل أو في الفرع وكلاهما باطل أو المعنى أن حرمة الإخوة والأخوات ونحوهم ثبت في الأصل مؤقتة بالنكاح بقوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] وقوله عليه السلام "لا تنكح المرأة على عمتها" الحديث فلو ثبت بالوطء الحرام لصارت مؤبدة في الفرع; إذ لا نكاح ها هنا تتوقت الحرمة به فكان هذا تعليلا مغيرا لحكم النص في الفرع, ولا عمل للتعليل في تغير الأصول أي أحكامها بوجه, والأول أوجه وهذا أي التعدي إلى ما ليس بنظير للأصل مما يكثر أمثلته كتعدية الإيجاب الكفارة من جماع الأهل في رمضان إلى جماع الميتة والبهيمة وتعدية إيجاب الحد من الزنا إلى اللواطة بالتعليل وتعدية إيجاب الحد من شرب الخمر إلى شرب النبيذ بعلة المخامرة; لأن البهيمة والميتة ليست مثل المنصوص عليه في اقتضاء الشهوة الذي تعلقت الكفارة به. وكذا اللواطة ليست مثل الزنا في الحاجة إلى الزاجر لما مر وكذا النبيذ ليس نظير الخمر في الاحتياج إلى شرع الحد لعدم استدعاء قليله إلى كثيره بخلاف الخمر.
قوله: "ولا نص فيه" التعليل لتعدية الحكم إلى موضع فيه نص لا يجوز عند عامة أصحابنا سواء كان وفاق النص الذي في الفرع أو على خلافه, وهو اختيار القاضي الإمام أبي زيد ومن تابعه من المتأخرين وعند الشافعي رحمه الله إن كان على خلاف النص الذي في الفرع كان باطلا, وإن كان على وفاقه من غير أن يثبت زيادة فيه, أو أثبت زيادة لم يتعرض لها النص كان صحيحا; لأنه إذا كان موافقا له كان مؤكدا لموجب, وإن كان مثبتا لزيادة كان النص عنها ساكتا يكون بيانا, والكلام وإن كان ظاهرا فهو محتمل لزيادة البيان فيجوز التعليل فيحصل زيادة البيان, ولكنه لا يحتمل خلاف موجبه فيبطل التعليل على خلافه وكنا نقول: التعليل لإثبات الحكم في محل فيه نص, وإن كان موافقا للحكم الثابت(3/480)
الشافعي في كفارة القتل العمد واليمين الغموس وشرط الإيمان في مصرف
ـــــــ
فيه بالنص فلا فائدة فيه; لأن الحكم لما ثبت بالنص لا يجوز إضافته إلى العلة, كما لا يجوز إضافته في النص المعلول إلى العلة, وإن كان مخالفا له فهو باطل; لأن التعليل لا يصلح مبطلا لحكم النص بالإجماع. وإن كان مثبتا لزيادة لم يتعرض لها النص فهو باطل أيضا; لأن إثبات زيادة لم يتناولها النص بمنزلة النسخ والرفع فإن جميع الحكم في موضع النص كان ما أثبته النص وبعد الزيادة يصير بعضه, وقد بينا أن ذلك نسخ فلا يجوز بالرأي.
واختيار مشايخ سمرقند على ما يشير إليه كلام صاحب الميزان أن يجوز التعليل على موافقة النص من غير أن يثبت فيه زيادة, وهو الأشبه; لأن فيه تأكيد النص على معنى أنه لولا النص لكان الحكم ثابتا بالتعليل, ولا مانع في الشرع والعقل عن تعاضد الأدلة وتأكيد بعضها ببعض, فإن الشرع قد ورد بآيات كثيرة وأحاديث متعددة في حكم واحد, وقد ملأ السلف كتبهم بالتمسك بالنص والمعقود في حكم واحد فقالوا: هذا الحكم ثابت بالكتاب والسنة والمعقول ولم تنقل عن واحد في ذلك نكير فكان ذلك إجماعا منهم على جواز ذلك يوضحه أن الحديث الغريب يجب قبوله إن كان موافقا بالكتاب لقوله عليه السلام "إذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فما وافق فاقبلوه, وما خالف فردوه" ومع أنه لا فائدة في قبوله إلا تأكيد دليل الكتاب به فكذا التعليل على موافقته الكتاب يجوز لهذه الفائدة وهذا بخلاف التعليل بعلة قاصرة حيث لا يجوز لفائدة التأكيد; لأن التأكيد لا يحصل به; لأنه مستفاد من النص الذي ثبت الحكم به وتأكيد الشيء إنما يحصل بما يستفاد من غيره لا بما يستفاد من نفسه ألا ترى أن معنى التأكيد ها هنا أنه لولا النص لثبت الحكم به, وفي العلة القاصرة لولا النص لم يثبت الحكم بها أصلا; لأنها تستفاد من النص فتنعدم بعدمه لا محالة فثبت أن التعليل بعلة قاصرة خال عن الفائدة بخلاف ما نحن فيه. ومثال ذلك أي مثال تعدي الحكم إلى ما فيه نص على وجه يوجب إبطاله أو تغيره قول الشافعي في كفارة القتل واليمين الغموس أي إيجابه الكفارة فيهما اعتبارا بالقتل الخطأ واليمين المنعقدة فإن الكفارة فيهما متعلقة بمعنى الجناية وذلك أكمل في العمد والغموس وهذا تعليل على خلاف النص الوارد فيهما وهو قوله عليه السلام "خمس من الكبائر لا كفارة فيهن وعد منها الغموس وقتل النفس بغير حق" وكذا قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 93] يقتضي أن تكون جهنم كل جزائه فإيجاب الكفارة كان زيادة على النص بالرأي وشرط الإيمان في مصرف الصدقات شرط الشافعي رحمه الله الإيمان في مصرف الصدقات الواجبة مثل الكفارات وصدقة الفطر اعتبارا بمصرف الزكاة فإن الإيمان فيه شرط بالإجماع وقلنا نصوص الكفارات وصدقة الفطر غير مقيدة بالإيمان فلا يجوز إبطال إطلاقها بالتعليل كما لا يجوز إبطال التقييد به(3/481)
الصدقات اعتبارا بالزكاة, ومثل شرط التمليك في طعام الكفارات وشرط الإيمان في رقبة كفارة اليمين والظهار وهذا كله تعدية إلى ما فيه نص بتغييره بالتقييد. وأما الشرط الرابع وهو أن يبقى حكم النص على ما كان قبل التعليل فلأن تغيير
ـــــــ
وكذا قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ}[ الممتحنة: 8] الآية يدل على جواز صرفها إلى أهل الذمة فكان اشتراط الإيمان بالتعليل مخالفا له وإنما شرط الإيمان في مصرف الزكاة بالحديث المشهور الذي يزاد بمثله على الكتاب, وهو قوله عليه السلام لمعاذ حين بعثه إلى اليمن "ثم أعلمهم أن الله تعالى فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم1" ومثل شرط التمليك في طعام الكفارات فإن الشافعي شرط التمليك فيه اعتبارا بالكسوة وهو فاسد; لأن الإطعام جعل الغير طاعما وذلك يحصل بالإباحة فاشتراط التمليك فيه يكون تقييدا للنص الواحد فيكون باطلا.
"وشرط الإيمان في رقبة اليمين والظهار" أي اشتراط صفة الإيمان في رقبة كفارة اليمين والظهار اعتبارا بكفارة القتل فاسد أيضا; لأن إطلاق النص الوارد في الفرع, وهو قوله تعالى: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89] {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] يقتضي الخروج عن العهدة بإعتاق الرقبة الكافرة فتقييدها بالمؤمنة يكون تغييرا لموجب هذا النص بالرأي فإن تقييد المطلق تغيير كإطلاق المقيد هذا أي ما ذكرنا من التعليل في هذه الأمثلة كله أي أكثره تعدية إلى ما فيه نص بتغييره بالتقييد وفي اليمين الغموس تعدية إلى ما فيه نص بالإبطال.
قوله: "وأما الشرط الرابع" أي اشتراط الشرط الرابع, وهو أن يبقى حكم النص أي النص المعلل على ما كان قبل التعليل فلأن تغيير حكم النص في نفسه أي في ذاته بالرأي باطل سواء حصل التغيير لحكم نص في الأصل أي المقيس عليه أو حصل التغيير لحكم نص في الفرع كالأمثلة المذكورة في قوله: ولا نص فيه وهو معنى قوله كما أبطلناه في الفروع والضمير في نفسه وأبطلناه راجع إلى التغيير ويجوز أن يكون معناه أن تغيير حكم النص المعلل في نفسه باطل بالرأي كما أن تغيير حكم نص الأصل في الفرع باطل على ما بينا في ظهار الذمي والسلم الحال وجريان الربا فيما لا معيار له. وذلك أي تغيير حكم الأصل فيما قاله الشافعي على ما قلنا أي في باب الوقف على أحكام النظم أو في بيان الشرط الثالث ومثل قوله أي قول الشافعي في حد القذف أنه لا يبطل الشهادة حتى لو
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الإيمان حديث رقم 19، والترمذي حديث رقم 625، وأبو داود حديث رقم 1584، وابن ماجة حديث رقم 1783.(3/482)
حكم النص في نفسه بالرأي باطل كما أبطلناه في الفروع وذلك مثل قول الشافعي في طعام الكفارة بشرط التمليك: إنه تغيير لحكم النص بعينه; لأن الإطعام اسم لفعل يسمى لازمه طعما, وهو الأكل على ما قلنا, ومثل قوله في حد القذف: إنه لا يبطل الشهادة, وهذا تغيير; لأن النص يوجب أن يكون حكم القذف إبطال الشهادة حدا, وقد أبطله فجعل بعض الحد حدا; لأن الوقت من الأبد بعضه, وأثبت الرد بنفس القذف دون مدة العجز, وهو تغيير وزاد النفي على
ـــــــ
تاب كان مقبول الشهادة; لأنه محدود في كبيرة فتقبل شهادته بعد التوبة قياسا على المحدود وفي سائر الجرائم كالزنا وشرب الخمر.
وهذا أي قوله: إن حد القذف لا يبطل الشهادة تغيير لحكم النص; لأن النص الوارد في حد القذف يوجب أن يكون حكم القذف إبطال الشهادة على سبيل التأبيد حدا; ولهذا فوض إلى الأئمة, وهو يصلح حدا; لأنه إيلام معنوي بإخراج شهادته من الاعتبار كالجلد يصلح حدا; لأنه إيلام ظاهرا وقد أبطله أي أبطل الشافعي هذا الحكم فجعل بعض الحد حدا; لأن الوقت من الأبد بعضه يعني أنه لم يقبل شهادته قبل التوبة, وقبلها بعد التوبة, والنص يقتضي رد شهادته في كلا الحالين, فيكون اقتصار عدم القبول على ما قبل التوبة جعل بعض الحد حدا; لأن الوقت أي الوقت المعين, وهو الزمان الذي قبل التوبة من الأبد بعضه فيكون هذا تغييرا لموجب النص وهذا الكلام إنما يستقيم إذا جعل الشافعي رحمه الله رد الشهادة قبل التوبة بطريق الحد, وليس من مذهبه ذلك بل الشهادة مردودة عنده قبل التوبة للفسق. فالأولى ما قال شمس الأئمة رحمه الله: إن القاذف ساقط الشهادة بالنص أبدا على وجه يكون ذلك متمما لحده, وبعده التعليل يتغير هذا الحكم, فإن الجلد قبل هذا التعليل كان بعض الحد في حقه, وبعده يكون تمام الحد فيكون تغييرا على نحو ما قلنا في التغريب: إن الجلد إذا لم يضم إليه التغريب يكون حدا كاملا وإذا ضم إليه يكون بعض الحد وأثبت الرد بنفس القذف يعني أثبت الشافعي رد شهادة القاذف بنفس القذف بدون اعتبار مدة العجز عن الإتيان بالشهود حتى لو شهد قبل تحقق العجز لا تقبل شهادته اعتبارا بسائر الجرائم للشهادة كالزنا وشرب الخمر ونحوهما, فإنه إذا ارتكب كبيرة يصير ساقط الشهادة من غير توقف على مضي زمان وهو تغيير أي إثبات الرد بنفس القذف تغيير لموجب النص فإنه تعالى قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} [النور: 4]، رتب الرد على القذف وعدم الإتيان بأربعة شهداء كما رتب الجلد عليهما, والعجز لا يثبت إلا بمضي مدة فإثبات الرد بدون مدة العجز يكون تغييرا لموجب النص كإثبات الجلد بدون اعتبار العجز, وزاد(3/483)
الجلد, وهو تغيير وجعل الفسق مبطلا للشهادة والولاية, وهو تغيير; لأن حكم الفسق بالنص التثبت والتوقف دون الإبطال, ومثله كثير وقال الشافعي: أنتم غيرتم حكم النص بالتعليل في مسائل: منها أن نص الربا
ـــــــ
النفي على الجلد في زنا البكر بعلة أنه صالح للمنع من الزنا كالجلد, وهو تغيير; لأن الله تعالى جعل الجلد كل الحد بقوله: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]; إذ الفاء تدخل على الأجزئة, والجزاء اسم للكافي فمتى زيد عليه النفي لا يكون بنفسه كافيا فيكون تغييرا للنص ثم إنه وإن زاد النفي في الحقيقة بخبر الواحد, وهو قوله عليه السلام "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب" لا بالقياس إلا أن التغيير كما لا يجوز بالتعليل لا يجوز بخبر الواحد; لأنه لا يصلح معارضا للكتاب كالقياس فأورده الشيخ في هذه الأمثلة على سبيل استطراد.
وجعل الفسق مبطلا للشهادة حتى لا ينعقد النكاح بشهادة الفساق ولو قضى القاضي بشهادة الفاسق لا ينفذ قضاؤه عنده اعتبارا بالعبد والصبي والولاية حتى إنه لم يصلح للقضاء بوجه لم يكن له ولاية تزويج بنته في أحد قوليه; لأن الفسق نقص يؤثر في الشهادة فيمنع ولاية الإنكاح كالرق وهو تغيير لحكم النص; لأن الحكم الثابت بالنص في حق الفاسق التثبت والتوقف في خبره لا الإبطال, وبعدما نعين جهة البطلان فيه لا يبقى التوقف فحكم النص بعد التعليل لا يبقى على ما كان قبله.
واعلم أن الأمثلة المذكورة في هذا الفصل ليست بملائمة; لأن في جميع هذه الأمثلة تغيير حكم النص الذي في الفرع لا يعتبر حكم النص المعلل في المقيس عليه فإن في طعام الكفارة لم يتغير حكم النص في المقيس عليه, وهو الكسوة وفي قبول شهادة القاذف بعد التوبة لم يتغير حكم المقيس عليه أيضا. وكذا البواقي فالنظير الملائم ما ذكر في كتاب الحج في باب جزاء الصيد أن الشافعي ألحق السباع التي لا يؤكل لحمها بالخمس الفواسق حتى لو قتل المحرم شيئا منها ابتداء لا يجب عليه شيء; لأن النبي عليه السلام إنما استثنى الخمس; لأن من طبعهن الإيذاء وكل ما يكون من طبعه الإيذاء كان مستثنى من النص بمنزلة الخمس وقلنا: هذا تعليل باطل; لأنا لو جعلنا الاستثناء باعتبار معنى الإيذاء خرج المستثنى من أن يكون محصورا بعدد الخمس فكان تغيرا لحكم النص المعلل بالتعليل. وما ذكر المصنف في شرح الجامع الصغير أن اشتراط الخيار فوق ثلاثة أيام يجوز عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله; لأن الخيار للنظر, والناس يتفاوتون في الحاجة إلى مدة النظر فوجب أن يكون ذلك مفوضا إلى رأيهم, وقال أبو حنيفة رحمه الله: هذا تعليل باطل; لأن فيه إبطال حكم النص, وهو التقدير بثلاثة أيام فلم يكن تعدية لحكم النص مع أن هذه مدة تامة صالحة(3/484)
يعم القليل والكثير, وهو قوله عليه السلام: "لا تبيعوا الطعام بالطعام" فخصصتم منها القليل بالتعليل, والنص أوجب الشاة في الزكاة بصورتها, ومعناه فأبطلتم
ـــــــ
لاستيفاء النظر ودفع المعين, فإذا زيدت المدة ازداد الخطر مع قلة الحاجة إلى النظر وذكر الشيخ في بيوع الجامع الصغير أيضا أن عبدا أبق فقال رجل: إن عبدك قد أخذه فلان فبعنيه وصدقه فلان فباعه فالبيع باطل; لأن النهي عن بيع الآبق, وإن كان معللا بالمعجز عن التسليم إلا أنا لو جوزنا بيعه باعتبار أنه مقدور التسليم لكان التعليل مبطلا للنص; لأن هذا العبد آبق في حق المتعاقدين, والحكم في المنصوص عليه ثابت بالنص لا بمعناه ورأيت في بعض نسخ أصول الفقه أن تعليل حرمة الربا في الأشياء الأربعة بالقوت كما قال مالك رحمه الله من هذا القبيل لاقتضائه عدم الحكم في الملح. ثم ذكر الشيخ رحمه الله النقوض الواردة على هذا الأصل مع أجوبتها فقال, وقال الشافعي أنتم غيرتم حكم النص بالتعليل في مسائل فقد وقعتم فيما أبيتم منها أن نص الربا يعم القليل والكثير, وهو قوله عليه السلام "لا تبيعوا الطعام بالطعام" يعني هذا النص لا يفصل بين القليل والكثير فيوجب الحرمة في القليل الذي لا يكال كما يوجبها في الكثير الذي يكال وبعدما عللتموه بالكيل والجنس وعلقتم الحرمة بصفة الكيل لم يبق النص متناولا للقليل; لأنه ليس بمكيل فكان تغييرا لموجبه بالتعليل لا تعدية لحكمه وهو معنى قوله: فخصصتم منها أي من الحنطة; إذ المراد من الطعام الحنطة, ودقيقها في العرف القليل, وهو الذي لم يدخل في الكيل بالتعليل ولا معنى لقولكم: إن الاستثناء يكون من جنس المستثنى منه, وأنه استثنى المكيل; لأن المراد من التساوي هو المساواة في الكيل فكان المستثنى منه هو المكيل أيضا; لأن المستثنى منه الطعام بالطعام والمستثنى الطعام بالطعام أيضا فكان الجنس واحدا إلا أنه قيل حرام بيع الطعام بالطعام إلا أن يوجد المخلص, وهو التساوي بمعياره فكان المستثنى بيع طعام بطعام حالة التساوي, والمستثنى منه بيع طعام بطعام حالة عدم التساوي لا أن يقال: المستثنى مكيل, فإن بيع المكيل منه بجنسها حرام كذلك ما لم يتساويا فعرفنا أن المستثنى بيع طعام بطعام إذا تساويا إلا أن التساوي إنما يعرف بالمعيار لا بما سواه من المقدار كذا في الأسرار. ومنها أن النص أوجب الشاة في الزكاة بصورتها ومعناها للفقير; لأن الله تعالى أوجب الصدقة للفقراء مجملة, وفسرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "في خمس من الإبل شاة وفي أربعين شاة شاة" وأمثالهما فصار كأن الله تعالى قال: إنما الشاة للفقير فصارت الشاة مستحقة بصورتها ومعناها له كالدار المشفوعة للشفيع وأنتم أبطلتم أي أسقطتم الحق عن صورة الشاة بالتعليل بالمالية وهو تغيير لموجب النص لا تعدية لحكمه; لأن الشاة كانت هي الواجبة عينا قبل التعليل بحيث لا يسعه تركها إلى غيرها(3/485)
الحق عن صورتها بالتعليل, والحق المستحق مراعى بصورته ومعناها, كما في حقوق الناس, وأوجب النص الزكاة للأصناف المسمين بقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} [التوبة: 60] وقد أبطلتموه بجواز الصرف إلى صنف واحد بطريق التعليل, وأوجب الشرع التكبير لافتتاح الصلاة وعين الماء لغسل العين النجس, وقد أبطلتم هذه الواجب بالتعليل والجواب أن هذا وهم أما الأول فلأن
ـــــــ
وبعده, ولم تبق واجبة; لأنه يسعه تركها إلى غيره, وهو القيمة فكان هذا مثل نقل حق الشفيع من الدار إلى الثوب بالتعليل, ومثل تعليل الركوع والسجود بعلة الخضوع للتعدية إلى محل آخر, وهو إقامة الحد مقام الجبهة, أو إقامة الركوع مقام السجود والحق المستحق مراعى بصورته ومعناه يعني قد استحق الفقير على صاحب المال الشاة بالنص, والحق المستحق واجب الرعاية صورة ومعنى, كما في سائر حقوق العباد, فاستعمال القياس لإبطال الحق عن الصورة أو المعنى كان باطلا; لأنه موضوع لتعدية حكم الشرع لا لنقل الحق من محل إلى محل. ومنها أن النص أوجب الزكاة للأصناف المسمين بفتح الميم وسكون الياء بقوله أي في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} ولو قيل: الشرع أوجب الزكاة إلى آخره لكان أحسن أضيفت الصدقات إليهم باللام, وهي للتمليك لغة فكانت هذه الأصناف للقسمة بأن جعلها حقا لهم, وجعلهم مستحقين للتملك على صاحب المال كما لو أوصى بثلث ماله لأمهات أولاده وللفقراء والمساكين كان الثلث بينهم أثلاثا ويدل عليه قوله عليه السلام "إن الله تعالى لم يرض لقسمة الصدقات بملك مقرب ولا نبي مرسل حتى قسم بنفسه فوق سبعة أرقعة1" فبين أن الإضافة للقسمة بينهم ثبوتا أي الحق الواجب مقسوما بينهم وجوبا لا يختص به صنف منهم فثبت أن حكم النص جعلها مشتركة بين الأصناف المذكورة, وأنتم أبطلتم الشركة, وحق سائر الأصناف بتجويز الصرف إلى صنف واحد بل إلى فقير واحد بالتعليل, وأنه خلاف موجب النص لا تعدية لحكمه, ومنها أن الشرع أوجب التكبير لافتتاح الصلاة بقوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 3] وقوله عليه السلام: "مفتاح الصلاة الطهور, وتحريمها التكبير" , وقوله عليه السلام للأعرابي الذي علمه الصلاة: "إذا أردت الصلاة فتطهر كما أمرك الله تعالى, ثم استقبل القبلة ثم قل: الله أكبر2" وأنتم بالتعليل بالثناء وذكر الله على سبيل التعظيم غيرتم هذا الحكم في المنصوص حيث جوزتم افتتاح الصلاة بغير لفظ التكبير مثل قوله: الله أجل أو الرحمن أعظم. ومنها أن
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الزكاة حديث رقم 1630.
2 أخرجه الترمذي في الصلاة حديث رقم 302، وأبو داود في الصلاة حديث رقم 858، والإمام أحمد في المسند 4/340.(3/486)
المخصوص إنما ثبت بصيغة النص, وذلك لأن المستثنى منه إنما يثبت على وفق المستثنى فيما استثنى من النفي كما قال في الجامع إن كان في الدار إلا زيد فعبدي حر أن المستثنى منه بنو آدم ولو قال: إلا حمار كان المستثنى منه الحيوان; لأن المستثنى حيوان, ولو قال: إلا متاع كان المستثنى منه كل شيء وهنا استثنى الحال بقوله عليه السلام "إلا سواء بسواء" واستثناء الحال من
ـــــــ
الشرع عين الماء لغسل الثوب النجس بقوله عليه السلام لتلك المرأة ثم اغسليه بالماء وقد غيرتم بالتعليل بكونه مزيلا للعين والأثر هذا الحكم حيث جوزتم تطهير الثوب النجس باستعمال سائر المائعات سوى الماء مثل الخل وماء الورد ونحوهما.
قوله: "والجواب أن هذا" أي ما زعمت أنا غيرنا النص بالتعليل وهم أي شيء ذهب إليه قلبك من غير دليل أما الأول, وهو نص الربا فلأن الخصوص إنما يثبت فيه بصيغة النص لا بالتعليل وذلك أي ثبوت الخصوص بالصيغة أن المستثنى منه يعني إذا لم يكن مذكورا, وإنما يثبت على وفق المستثنى من النفي أي المنفي; لأن حذف المستثنى في النفي جائز بعلة أن المستثنى يدل على المحذوف, وإذا صح حذفه وجب إثباته على وفق المستثنى تحقيقا للاستثناء فإنه لا يصح إلا في الجنس من حيث الحقيقة وإنما قيد بالنفي; لأن حذف المستثنى منه في الإثبات لا يجوز لا تقول: جاءني إلا زيدا; لأنه لو قدر فيه أحد من الناس كما قدر في النفي يكون استثناء الواحد من الواحد; لأن النكرة في الإثبات تخص وهو غير مستقيم بخلاف النفي; لأن النكرة فيه تعم فيكون استثناء الواحد من العام ولو أضمر فيه القوم حتى صار كأنه قال: جاءني القوم إلا زيدا لا يصح أيضا; لأن القوم مجهولة ولو قدر فيه أعم العام وهو جميع الناس لم يصح أيضا; لأن مجيء جميع الناس عنده سوى زيد غير متصور فثبت أن حذفه لا يصح إلا في النفي كما قال أي محمد في الجامع: إن كان في الدار إلا زيد فعبدي حر كان المستثنى منه بني آدم أي إن كان في الدار أحد من آدم فكذا حتى لو كان فيها صبي أو امرأة يحنث ولو كان فيها دابة, أو متاع لا يحنث; لأن الدابة أو العرض لا يجانس المستثنى فلا يدخل تحت اليمين. ولو قال إلا حمار كان المستثنى منه الحيوان أي الحيوان الذي يقصد بالسكنى حتى لو كان فيها إنسان أو شاة حنث, ولو كان فيها متاع لم يحنث ولو قال: إلا متاع أي ثوب فإن المتاع في اللغة اسم لما يتمتع به, وفي العرف صار عبارة عن الثوب كذا ذكر في بعض الحواشي, وصرح شمس الأئمة بذكر لفظ الثوب فقال: ولو كان قال: إلا ثوب, وهكذا في الجامع أيضا كان المستثنى منه كل شيء أي كل شيء يقصد بالسكنى والإمساك في الدور حتى لو كان فيها إنسان أو دابة أو شيء سوى الثوب ما يقصد(3/487)
الأعيان باطل في الحقيقة فوجب أن يثبت عموم صدره في الأحوال بهذه الدلالة, وهو حال التساوي والتفاضل والمجازفة ثم استثنى منه حال التساوي, ولن يثبت اختلاف الأحوال إلا في الكثير فصار التغيير بالنص مصاحبا بالتعليل لا به وأما الزكاة فليس فيها حق واجب للفقير يتغير بالنص; لأن الزكاة عبادة محضة فلا
ـــــــ
بالإمساك في الدور يحنث, وإن كان فيها شيء من سواكن البيوت مثل الفأرة والحية والعقرب لا يحنث استحسانا; لأن كل عاقل يعلم أن الحالف لم يقصد نفي هذه الأشياء بيمينه عن الدار فيثبت أن المستثنى منه إذا لم يكن مذكورا يقدر على وفق المستثنى. وها هنا استثنى الحال بقوله إلا سواء بسواء إذ المراد منه حال تساويهما في الكيل, والمذكور في صدر الكلام هو العين واستثناء الحال من الأعيان باطل في الحقيقة وإن كان يحتمل الصحة بطريق المجاز بأن يجعل الاستثناء منقطعا ولكن المجاز خلاف الأصل فدل أن الاستثناء لم يقع عما تناوله ظاهر اللفظ; إذ لو كان الاستثناء عنه لقيل إلا الحنطة أو الشعير أو التفاح أو نحوها بل عمل يضمن اللفظ من أحوال البيع فوجب أن يثبت عموم صدره أي صدر الكلام بهذه الدلالة أي بدلالة استثناء الحال كما في قولك: ما أتاني زيد إلا راكبا أي ما أتاني في شيء من أحواله إلا على حالة الركوب وكما في التنزيل {وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى} [التةبة: 554] أي لا يأتونها في شيء من أحوالهم إلا في حالة الكسل {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} [الأحزاب:53] أي لا تدخلوها في الأحوال إلا حالة الإذن وهو أي عموم الأحوال حال التساوي والتفاضل والمجازفة; إذ لا حالة لبيع الطعام بالطعام سوى هذه الأحوال على ما بيناه في الاستثناء. ولن يثبت هذه الأحوال المختلفة إلا في الكثير; لأن المراد من التساوي هو المساواة في الكيل بالإجماع, والتفاضل عبارة عن فضل على أحد المتساويين كيلا, والمجازفة عبارة عن عدم العلم بالمساواة والمفاضلة فكان آخر هذا الكلام دليلا على أن أوله لم يتناول القليل فصار التغيير بالنص أي حاصلا بالنص يعني حصل تغيير أول الكلام عن العموم إلى الخصوص بالنص أي بدلالته مصاحبا للتعليل أي موافقا له وهو منتصب على الحال ويجوز أن يكون خبر صار, والتقدير فصار التغيير الحاصل بالنص مصاحبا, أو يكون خبرا بعد خبر يعني تعليلنا بالكلية وافق التغيير الذي حصل بدلالة الاستثناء في هذا النص فإن الاستثناء يدل على أن القليل ليس بمراد عن هذا الكلام وتعليلنا بالكيل يدل على أن القليل ليس بمحل للربا فتوافقا أن التغيير حصل بالتعليل على ما زعمت وباقي الكلام مذكور في فصل الاستثناء.
قوله: "وأما الزكاة فليس فيها حق واجب للفقير يتغير بالتعليل" أي ما أبطلنا(3/488)
تجب للعباد بوجه, وإنما الواجب لله تعالى, وإنما سقط حقه في الصورة بإذنه بالنص لا بالتعليل; لأنه وعد أرزاق الفقراء ثم أوجب مالا مسمى على الأغنياء لنفسه ثم أمر بإنجاز المواعيد من ذلك المسمى, وذلك لا يحتمله مع
ـــــــ
بالتعليل حقا مستحقا للفقير; لأن الزكاة ليست بحق للفقير واعلم أن لمشايخنا في جواب هذه المسألة طريقين أحدهما أنا ما أبطلنا الحق المستحق عن عين الشاة; لأنه لا حق للفقير في صورة الشاة, وإنما حقه في ماليتها, فإن النبي عليه السلام جعل الإبل ظرفا للشاة بقوله "في خمس من الإبل شاة" وعينها لا توجد في الإبل وإنما يوجد فيها مالية الشاة فعرفنا أنه أراد بالشاة ماليتها إلا أن المالية بعض الشاة فكني بذكر الكل عن البعض فلم يكن في تعليلنا إبطال حق الفقير عن صورة الشاة ألا ترى أنه لو أدى واحدا منها جاز بالإجماع. ولو كان حقه متعلقا بالصورة لكان ينبغي أن لا يجوز كما لو أدى عن خمسة دراهم خمسة دنانير على أصل الخصم.
والثاني وإليه مال الشيخ وأكثر المحقين من أصحابنا أنه لا حق للفقير في الزكاة يتغير بالتعليل; إذ لو كان له فيها حق لما حل وطء الجارية المشتراة لتجارة بعد الحول قبل أداء الزكاة كالجارية المشتركة, ولما حل أكل طعام وجبت فيه الزكاة قبل أدائها, ولما جاز تصرف المالك في مال الزكاة بعد وجوبها بدون إذن الإمام بل الزكاة عبادة خالصة أصلية من أركان الدين شرعت شكرا على نعمة المال كالصلاة شرعت شكرا على نعمة البدون, وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله "بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة1" الحديث; ولهذا لا يتأدى بدون النية ولا يجوز أن يجب للعباد بوجه; لأنه يؤدي إلى الاشتراك, وهو ينفي معنى العبادة بل المستحق للعبادة هو الله تعالى لا غير فيثبت أن الواجب لله تعالى على الخلوص ثم حق الله تعالى, وإن كان لا يقبل التغيير بالتعليل كحق العباد إلا أن حقه ها هنا سقط عن الصورة بإذنه الثابت بمقتضى النص لا بالتعليل. وذلك أنه تعالى وعد إرزاق العباد بقوله جل ذكره {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] وأوجب لنفسه حقا في مال الأغنياء بالنصوص الموجبة للزكاة ثم أمر الأغنياء بصرف هذا الحق الواجب له عليهم في الفقراء إيفاء للرزق الموعود لهم عند الله تعالى, وهو معنى قولهم: أمرنا بإنجاز المواعيد من ذلك المسمى, وحق الفقراء في مطلق المال لا في مال معين; لأن حوائجهم مختلفة كثيرة لا تندفع إلا بمطلق المال فلما
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الإيمان حديث رقم 16، والترمذي حديث رقم 2609، والإمام أحمد في المسند 4/363.(3/489)
اختلاف المواعيد إلا بالاستبدال كالسلطان يجيز لأوليائه بمواعيد كتبها
ـــــــ
أمر الله تعالى الأغنياء بالصرف إلى الفقراء مع أن حقهم في مطلق المال دل ذلك على إذنه باستبدال حقه ضرورة كالسلطان يجيز أي يعطى من الجائزة وهي العطية الراتبة بجوائز مختلفة ثم أمر بعض وكلائه بأن ينجز تلك المواعيد من مال معين له في يده يكون إذنا باستبدال هذا المال المعين الذي في يد هذا المأمور ضرورة وكمن أودع عينا عند آخر أمره بقضاء الديون عنها يصير ذلك أمرا بالبيع وقضاء الديون عن ثمنها فكذلك ها هنا فتبين أن سقوط الحق عن صورة الشاة ثبت ضرورة الأمر بالصرف إلى الفقير والثابت بضرورة النص كالثابت بالنص فإن قيل: فيما ذكرت من المثال الاستبدال ضروري; إذ لا يمكن إنجاز المواعيد المختلفة من المال المعين, ولا قضاء الدين من العين, فأما ها هنا فلا ضرورة; لأنه يمكن إيفاء الرزق الموعود من عين الشاة ألا ترى أنه لو أداها يجوز بالإجماع فلا حاجة إلى التغيير وإقامة الغير مقامها قلنا: إنما نتكلم فيما إذا أدى عين الشاة لا فيما إذا أدى قيمتها فإن ذلك درجة أخرى فيقول: إذا أدى عين الشاة أيصير الفقير قابضا حقه من حيث إنها مال, وإن قيمتها عشرة دراهم مثلا أو من حيث إنها مال مقيد مسمى بأنها شاة أو لحم ولا إشكال أنه يقبضها من حيث إنها مال متقوم مطلق; لأنه هو الموعود وقبض حق الله تعالى يحصل مقتضى قبض حق نفسه, فإنه إنما يقبض الله تعالى ما يصير قابضا إياه لنفسه بدوام اليد عليه فلا يكون الفقير قابضا مالا مقيدا; لأن المطلق غير المقيد فتحققت الحاجة إلى إبطال قيد الشاة, ويصير حق الله تعالى مطلقا ليمكنه قبضه حقا لنفسه; إذ الأصل في كل حقين مختلفين يتأديان بقبض واحد أن يجعل الحق الأول على وصف الحق الثاني ليتأدى الأول بقبض صاحب الثاني حقه كرجل له على آخر كر حنطة, وعليه مائة درهم لآخر فقال للذي عليه الحنطة: أد الدراهم التي علي بمالي عندك من الحنطة فأدى الدراهم إلى صاحبها كان صاحب الدراهم قابضا حق نفسه, وانتقل حق صاحب الحنطة عنها إلى الدراهم في ضمن الأداء ليمكن جعله قابضا للدراهم بقبض صاحب الدراهم, فإن قبضه يتضمن قبض صاحب الحنطة حق نفسه إلا أن الفرق أن هناك يحتاج إلى الاستبدال بمال آخر, وها هنا يحتاج إلى إبطال القيد وإذا ثبت أنه عند أداء الشاة يصير مؤديا حق الله تعالى بماليتها من حيث إنها متقومة بعشرة دراهم لا من حيث إنها شاة كانت الشاة وغيرها في ذلك سواء فإذا أدى يجوز بطريق الدلالة, كذا في الطريقة البرغرية فصار التغيير مجامعا للتعليل بالنص أي اجتمع التغيير بالنص, والتعليل واقترنا لا أن التغيير حصل بالتعليل. وإنما التعليل بحكم شرعي جواب عما يقال لما حصل التغيير وجواز استبدال بالنص لا فائدة في التعليل بعد; إذ فائدته تعدية الحكم إلى محل لا نص فيه ولم يوجد ها هنا فأجاب بأن جواز الاستبدال ثبت مطلقا فيتناول الاستبدال بما يصلح لدفع حاجة(3/490)
بأسمائهم ثم أمر بعض وكلائه بأن ينجزها من مال بعينه كان إذنا بالاستبدال فصار تغييرا مجامعا للتعليل بالنص لا بالتعليل, وإنما التعليل لحكم شرعي, وهو كون الشاة صالحة للتسليم إلى الفقير وهذا حكم شرعي فبيانه أن الشاة يقع لله تعالى بابتداء قبض الفقير قربة مطهرة فتصير من الأوساخ كالماء المستعمل قال النبي عليه السلام: "يا بني هاشم إن الله تعالى كره لكم أوساخ الناس وعوضكم
ـــــــ
الفقير, وما لا يصلح له فالتعليل لبيان أن الاستبدال إنما يجوز بما يصلح لدفع حاجة الفقير من الأموال إلا بما لا يصلح له لو أسكن الفقير داره مدة بنية الزكاة لا يجوز عن الزكاة; لأن المنفعة لا يصلح بدلا عن العين في هذا الباب لأن العين خير من المنفعة على ما عرف أو هو رد لكلام الخصم فإنه لما زعم أن تعليلنا وقع لإبطال حق مستحق للفقير لا لتعدية حكم شرع إلى موضع لا نص فيه بين أولا أنه لا حق للفقير, وأن التغيير إن حصل حصل بمقتضى النص وبين ثانيا أن التعليل لم يقع إلا لحكم شرعي فإن لهذا النص حكمين وجوب الشاة وصلاحية الشاة لكفاية حق الفقير فنحن نعلل صلاحية الشاة ونبين المعنى الذي به صارت الشاة صالحة كفاية حق الفقير لتعديها به إلى ما لا نص فيه. وبيانه أي بيان أن كون الشاة صالحة للتسليم إلى الفقير حكم شرعي أن الشاة يقع لله تعالى بابتداء قبض الفقير يعني يقع تسليم الشاة إلى الفقير لله تعالى على الخلوص في ابتداء القبض كما قال الله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 104], وقال عليه السلام "الصدقة تقع في كف الرحمن قبل أن تقع في كف الفقير". ثم يصير للفقير بدوام يده عليه كمن أمر لآخر أن يهب لفلان عشرة على أنه ضامن فوهب يصير الموهوب له قابضا للآمر أولا ثم قابضا لنفسه بدوام يده قربة مطهرة يعني مطهرة لنفسه عن الآثام كما قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103] ولما له من الخبث كما قال عليه السلام "إن هذه البياعات يحضرها اللغو والكذب فشوبوها بالصدقة1" أمر بالصدقة ليرتفع الخبث المتمكن في البياعات بسبب اللغو والكذب, وإذا ارتفع الخبث عن السبب, وهو البيع يرتفع عن المسبب, وهو المال وإذا وقعت قربة مطهرة صارت من الأوساخ كالماء المستعمل على ما وقعت الإشارة النبوية إليه في قوله صلى الله عليه وسلم "يا معشر بني هاشم إن الله تعالى كره لكم أوساخ الناس2" وفي رواية "غسالة الناس وعوضكم منها بخمس الخمس" ولهذا كانت النار تترك في الأمم الماضية
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في البيوع حديث رقم 3326، والترمذي في البيوع حديث رقم 10208، وابن ماجة حديث رقم 2145، والإمام أحمد في المسند 4/6و280.
2 أخرجه مسلم في الزكاة حديث رقم 1072، وأبو داود في الإمارة حديث رقم 2985.(3/491)
منها بخمس الخمس" وقد كانت النار تنزل في الأمم الماضية فتحرق المتقبل من الصدقات, وأحلت لهذه الأمة بعد أن ثبت خبثها بشرط الحاجة والضرورة كما تحل الميتة بالضرورة وحرمت على الغني فصار صلاح الصرف إلى الفقير بعد الوقوع لله تعالى بابتداء اليد ليصير مصروفا إلى الفقير بدوام يده حكما شرعيا في الشاة فعللناه بالتقويم وعديناه إلى سائر الأموال على موافقة سائر العلل ولما
ـــــــ
فيحرق المتقبل من الصدقات والقرابين, ولم يكن ينتفع بها أحد, وأحلت لهذه الأمة بعد أن ثبت خبثها بشرط الحاجة كما أحلت الميتة بالضرورة ولهذا لم تحل للغني إذا لم يكن عاملا لعدم الحاجة فثبت أن حكم النص صلاحية المحل للصرف إلى كفاية الفقير; لأن حكم النص ما أوجبه النص والنص الموجب للشاة أوجب صلاحيتها للصرف إلى الفقير فيكون ثبوت الصلاحية حكم النص ولا يقال صلاحية الشاة لأداء حق الفقير لم يثبت بالنص بل كانت بأصل الخلقة; لأنا نقول نحن ما عللنا تلك الصلاحية بل صلاحية حدثت بعدما قد بطلت في الأمم المتقدمة على ما قررنا, وهي تثبت بالنص لهذه الأمة فيكون حكم النص. فعللناه بالتقويم يعني قلنا: إنما حدثت صلاحية الصرف للشاة إلى الفقير باعتبار كونها مالا متقوما; لأن حاجة الفقير تندفع باعتبار التقوم, ألا ترى أن الدراهم الخمسة الواجبة في المائتين منها أو نصف مثقال من الذهب الواجب في عشرين مثقالا منه لو لم يكن متقومة لم يندفع بها حاجة الفقير أصلا فعللنا هذه الصلاحية بعلة التقوم, وعديناها إلى سائر الأموال للاشتراك في العلة على موافقة سائر العلل, فإن حكمها تعميم حكم النص من بقاء حكم النص في المنصوص عليه على قراره, وها هنا بهذه المثابة, فإن صلاحية الشاة لأداء حق الفقير لم تبطل بهذا التعليل بل بقيت كما كانت قال القاضي الإمام في الأسرار: الزكاة وجبت عبادة لله تعالى, وما يجب لله تعالى عبادة يجب بلا شركة, وما يأخذه الفقير يأخذه حقا لنفسه لا شركة لأحد فيه فعلمت أن الشاة يتأدى بها حق الله تعالى عبادة ثم حق الفقير لا بد من القول به ضرورة, والتعليل لم يقع لحق الله تعالى, فإنه متعين فيما عين الله عز وجل; إذ الزكاة لا تشغل إلا النصاب بالإجماع, وكذلك يجوز بالإجماع أداء حق الفقير من غير النصاب, والوجوب لله تعالى لا يشغل إلا النصاب فعلم أنها غيران. قال: وإذا ثبت هذا علم ضرورة, قال: الواجب بالنص شاة وجب إخراجها إلى الله تعالى حقا له كما يخرج المسجد والقربان وهي صالحة لحق الفقير; لأن حق الفقير لما كان على الله تعالى, وحق الله تعالى على الغني لم يتصور ثبوت ما يصير الله تعالى حقه للفقير إلا بعد صيرورته لله تعالى برزقه على الله فتصير الشاة قبل أن تصير لله تعالى صالحة لحق الفقير ضرورة كرجل يستوفي دراهم على رجل ثم يوفيها غيره فتكون صالحة(3/492)
ثبت أن الواجب خالص حق الله تعالى كان اللام في قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ}
ـــــــ
لإيفاء حق الغير حين استوفاها لنفسه فثبت أن الحكم في الشاة التي هي لله تعالى في حق الفقير أنها صالحة لإيفاء حق لا أنها حق له, وإنما تصير حقا له بعدما تصير لله تعالى, وكونها صالحة لإيفاء حق الفقير حكم شرعي فمحال التصرفات تعرف شرعا كقولنا: الخمر لا تصلح محلا للبيع, والخل يصلح لا بكون الصلاحية حقا للعباد, وإنما يثبت لهم الحق بالسبب, ولما كان حكما شرعيا قبل التعليل ليتعدى الصلاحية إلى غيرها مع القرار عليها كما قبل التعليل إنما كانت الحقية لله تعالى, فلا جرم لم يقبل التعليل ولم يتعد إلى غير النصاب بالإجماع فإن قيل: التعليل باطل; لأن الشاة الصالحة للفقير هي التي وجبت لله تعالى بحق الله تعالى, والتعليل لغو في حق الله تعالى, فيجب إخراج عين المسمى والنزاع فيه قلنا: إن الله تعالى لما أمرنا بإيفاء رزق الفقير منها بالتسليم إليه, ورزقه مال مطلق دلنا على إلغاء الاسم في حق الإيفاء, وحقهم مال مطلق, ودل أنه ذكر الاسم تفسيرا على من وجب عليه فيده أوصل إلى ما في نصابه أو من جنسه فسقط اعتبار اسم الشاة بأمر الله تعالى بإيفاء الرزق لا بالتعليل فكونها حق الله تعالى مما لا يقبل التعليل على ما مر وأنه مثل قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]. لما قام الدليل أنه نهي لإكرام الأبوين بكف الأذى عنهما, وذلك في جنس الأذى لا في الأذى بهذه الكلمة سقط اعتبار الاسم, وبقيت العبرة للأذى المطلق فصار الحاصل أن وجوب الشاة يتضمن أمرين: كون الشاة حق الله تعالى عينا, وصلاحية الشاة لكفاية حق الفقير, والأول لا يقبل التعليل, والثاني يقبله, ولكن قبوله للتعليل لا يفيد المقصود مع بقاء الأول على حاله; لأن التغير إنما يأخذ حق الله تعالى من العبد يرزقه لا حق العبد, وحق الله تعالى لما بقي في الشاة عينا كيف يمكنه أخذ غير الشاة من العبد باعتبار أنه صالح لكفايته مع أن حق الله تعالى لم يثبت فيه إلا أنه لما ثبت بدلالة النص أن حقه جل جلاله في مطلق المال لا في غير الشاة أمكنه أخذ غير الشاة لثبوت حق الله تعالى فيه بالدلالة وتعدية الصلاحية إليه بالتعليل ولو ثبت حق الله تعالى فيه أعني في غير الشاة بدليل ولم يتعد الصلاحية إليه لم يثبت الجواز كما في عكسه فثبت أنه لا بد من كلا الأمرين; فلذلك ذكر الشيخ قوله: وإنما التعليل لحكم شرعي إلى آخره بعدما بين أن سقوط حق الله تعالى في الصورة حصل بإذنه.
قوله: "ولما ثبت" إلى آخره بنى الخصم كلامه في المسألتين على حرف واحد, وهو أن الزكاة يجب حقا للفقير ابتداء فجعل اللام في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] لام الملك, ولما أبطل الشيخ كلامه في المسألة المتقدمة, وفيه جواب عن(3/493)
لام العاقبة أي يصير لهم لعاقبته أو لأنه واجب لهم بعد ما صار صدقة, وذلك بعد الأداء إلى الله تعالى فصاروا على هذا التحقيق مصارف باعتبار الحاجة. وهذه الأسماء أسباب الحاجة وهم بجملتهم للزكاة مثل الكعبة للصلاة, وكل صنف
ـــــــ
المسألة الثانية أشار إلى ذلك فقال: ولما ثبت أن الواجب, وهو الزكاة خالص حق الله تعالى لما ذكرنا لم يمكن أن يحمل اللام على حقيقتها, وهي التمليك كما زعم الخصم; لأن ما هو حق الله تعالى على الخلوص لا يكون حقا لغيره بل يحمل على أنها لام العاقبة أي يصير المؤذي لهم بعاقبته كما في قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8] فإن أخذهم موسى لم يكن لغرض العداوة والحزن ولكن لما أدى عاقبته إلى الأمرين كأنهم التقطوه لهما ومنه قول الشاعر:
لدوا للموت وابنوا للخراب ... فكلكم يصير إلى التراب
ومعلوم أن الولادة والبناء ليسا لغرض الموت والخراب ولكن لما لم يكن بد للمولود من الموت, وللبناء من الخراب صار كأن الأمرين وقعا لهذين الغرضين وذكر في المطلع أن اللام لقصر جنس الصدقات على الأصناف المعدودة, وأنها مختصة بها لا يتجاوزها إلى غيرها لا لاستحقاقهم جميعا كما يقال: إنما الخلافة لقريش يراد لا تتعداهم, ولا تكون لغيرهم, ويحتمل أن تصرف الأصناف كلها, وأن تصرف إلى بعضها وهو مذهب عمر وعلي وابن مسعود وحذيفة وسعيد بن جبير والضحاك وأبي العالية وإبراهيم النخعي وميمون بن مهران وغيرهم من الصحابة والتابعين وعليه علماؤنا أو لأنه أوجب لهم بعدما صار صدقة يعني ولئن سلمنا أنها للتمليك لا تدل أيضا على أن الصدقة تكون ملكا للفقير قبل الأداء; لأن الله تعالى أوجب لهم أي أثبت لهم الملك في المال بعد ما صار صدقة حيث قال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] ولم يقل: إنما الأموال للفقراء. وذلك أي صيرورة المال صدقة إنما يكون بعد الأداء إلى الله تعالى وذلك لا يتحقق قبل قبض الفقير فلا يكون في الآية دليل على أن الزكاة قبل القبض حق الفقير فلا يجب صرفها إلى الأصناف المذكورة أو هو دليل آخر على كون اللام للعاقبة معطوف على الأول من حيث المعنى يعني; لأن الواجب خالص حق الله تعالى كانت اللام أو; لأنه أوجب لهم بعدما صار صدقة وذلك بعد الأداء إلى الله كانت اللام للعاقبة; لأن الواجب قبل التسليم صلاحية أن يصير صدقة فيكون ملكا للفقير لا أن الملك في الحال له فيكون اللام للعاقبة وفي الوجهين بعد, ولا أعرف وجه عطف; لأنه على تقدم وتبين أنا ما أبطلنا حق الباقين بالصرف إلى صنف واحد; لأنه لا حق لهم فيها فصاروا على هذا التحقيق مصارف باعتبار الحاجة يعني لما ثبت أن الواجب خالص حق الله تعالى, وأن ذكر هذه الأصناف ليس لبيان الاستحقاق; لأنهم لا يصلحون لذلك للجهالة كان ذكرهم لبيان المصرف الذي يكون المال(3/494)
منهم مثل جزء من الكعبة واستقبال جزء من الكعبة جائز كاستقبال كلها فكذلك ها هنا, وكان قول الشافعي رحمه الله تغييرا بأن جعل الزكاة حقا للعبادة,
ـــــــ
بقبضهم لله تعالى خالصا أي السبيل في هذا الحق الواجب لله تعالى الصرف إلى هؤلاء باعتبار الحاجة. وبيانه ما ذكر القاضي الإمام رحمه الله أن الواجب من الزكاة حق إخراج إلى الله بقطع المالك ملكه عن ذلك القدر لا حق لأحد فيه, وحق الفقير في رزقه على الله تعالى حال حاجته لا تعلق لحقه بالنصاب إلا أن الله تعالى لما أمر بقضاء حق الفقير بماله على صاحب المال يصير كف الفقير بالآية في حق الزكاة شرطا لتأدي حق الله به يصير مستحقا لما وجب على الغني بغناه. وإذا صار هكذا قلنا: الأصناف السبعة ما صاروا مستحقين بالآية للزكاة بل صاروا مصارف صالحين لصرف الزكاة إليهم كالكعبة صالحة للصلاة إليها لا أن تكون مستحقة ثم إنا عللنا فقلنا: إنما صاروا مصارف بفقرهم وحاجتهم واستحقاقهم الرزق لذي الحاجة على مولاهم, وهو الله جل جلاله بوصف آخر لم يعرف سببا شرعا من الغرم والغربة والرزق ونحوها ألا ترى أن الغارم وابن السبيل والغازي في سبيل الله لم يكونوا فقراء لا يحل لهم الزكاة, ولو صاروا مصارف بالاسم لجاز الصرف إليهم مطلقا من غير اشتراط الحاجة كما في المواريث. وكذا لو اجتمع في شخص واحد أسام مختلفة بأن كان مكاتبا وابن سبيل ومسكينا وغارما لا يستحق إلا سهما واحدا, ولو كان الاستحقاق بالاسم لا يستحق بكل اسم سهما على حدة, كما في الإرث إذا اجتمع سببان في شخص إن كان زوجا وابن عم يستحق بهما جميعا فعلم أن الوجوب متعلق بالحاجة غير أن الحاجة تقع بهذه الأسباب في الأغلب فذكر الله تعالى هذه الأسماء التي هي أسباب الحاجة ليدل على أن الفقير يستحقه بحاجته حتى شاركه غيره لما احتاج. وإن لم يكن بسبب الفقر فعلم أنهم مصارف بعلة الحاجة فصاروا جنسا واحدا كأنه قيل: إنما الصدقات للمحتاجين بأي سبب احتاجوا ثم تعلق الحكم بأدنى ما ينطلق عليه اسم الجنس على ما مر بيانه ثم هذا التعليل لا يرفع حكم النص; لأنهم بالنص كانوا مصارف للزكاة, وهم مصارف أي صالحون للصرف إليهم صرفت إليهم أم لا كالكعبة, وصالحة لصرف الصلاة إليها أداء واستقبالا فعل العبد أم لا وتبين أن التعليل وقع لحكم شرعي, وهو معرفة شرط جواز أداء الزكاة كالكعبة للصلاة لا لحق العبد وتبين أن المقسوم بينهم حكم إن كانوا مصارف الزكاة وقد بينوا كذلك فلا يجوز لأحد أن ينكر كونهم مصارف إلا ما انتسخ من المؤلفة قلوبهم بأنهم كانوا مصارف بعلة أخرى, وهي إعلاء كلمة الله, وإعزاز دينه بالإحسان لا لحاجة المصروف إليه إلى الرزق فكان ذلك بابا على حدة كتاب العامل اليوم يعطى لا رزقا على الحاجة بل جزاء على حسبته في العمل للفقراء في(3/495)
وهو خطأ عظيم وأما التكبير فما وجب لعينه بل الواجب تعظيم الله بكل جزء من البدن, واللسان منه; لأنها من ظاهر البدن من وجه فوجب فعلها والثناء آلة فعلها فصار حكم النص أن يجعل التكبير آلة فعله لكونه ثناء مطلقا فعديناه إلى
ـــــــ
جباية الصدقات وهذا بخلاف مسألة الوصية; لأنا إنما ألغينا الاسم في الواجب عليه صدقة; لأن ما يجب صدقة يجب الإخراج إلى الله تعالى, ثم الصرف إلى الرزق حتى إن رجلا لو نذر فقال: لله علي أن أتصدق بمالي على الأصناف السبعة كان له أن يؤديها إلى فقير واحد; لأنه التزم بلفظ الصدقة فأما الوصي فلم يثبت له ولاية التصرف بحكم أنها صدقة في حق صرفه إليهم بل لثبوت الولاية على الموصي بأمره التصرف في ماله بالصرف إلى حيث سماه وإنما سمى ثلاثة أسمائه فيجب الصرف على ذلك لما بلغت عبرة الصدقة في حق الوصي كمن أمر بالتصدق بشاة لا يحل له التصدق بغيرها. وفيما ألزمه الله تعالى يحل له ذلك كذا في الأسرار ولأن في أوامر الله تعالى يراعى المعنى; لأن كلامه لا يعرى عن حكمة وفائدة, وليس كذلك أوامر العباد لاحتمال أن العبد لم يقصد الفائدة بل قصد الاسم; لأن قوله وفعله قد يخلو عن فائدة; فلذلك روعي في أمر العباد الاسم والمعنى جميعا.
قوله: "وأما التكبير فما وجب لعينه" إلى آخره الاختلاف في هذه المسألة أيضا راجع إلى أن الزكاة في التحريمة عين التكبير عنده فلم يجز إقامة غيره مقامه كإقامة الخد مقام الجبهة, وعندنا الركن فيها عمل اللسان ثناء على الله عز وجل, والتكبير شرع لتحصيل عمل الثناء بذكره بمنزلة الآلة للفعل; لأن الصلاة عبادة بدنية, والمستحق فيها أفعال تحل على أعضاء مخصوصة تنبئ عن التعظيم, كالقيام للقدم والركوع للظهر والسجود للجبهة, واللسان من جملة البدن, ومن الأعضاء الظاهرة من وجه فكان المستحق استعماله بما يحصل به التعظيم مما هو ثناء على الله سبحانه فعين الشرع التكبير; لأن به يحصل الثناء; لأنه هو المستحق في نفسه كما أن المستحق في السجود أن يصير الجبهة لا أن يصير الأرض مسجودا بها, وكما أن المستحق في ذكر كلمة الشهادة أذانا على اللسان من عمل الإيمان, وهذه الكلمة آلة بها يحصل الأداء إلا أن يكون الركن أن تصير هذه الكلمة مذكورة بلسانه ولهذا قام مقامها سائر الكلمات بالفارسية والعربية وغيرهما وإذا ثبت أن الواجب عمل اللسان صح التعليل, وإقامة غير التكبير مقامه; لأن عمل اللسان لا يتبدل به. وإنما تبدل الآلة, والآلة في تحصيل العمل لا تجب مقصودة بل الضرورة تحصيل العمل بها لصلاحها لذلك العمل كالبيع للجمعة واستعمال القلم للكتابة والسكين للتضحية فلم يكن لها صفة في نفسها إلا الصلاحية للعمل وبالتعليل وإقامة آلة أخرى مقامها لا يتبدل حكمها فإنها تبقى صالحة بعد التعليل كما كانت, ويبقى استعمالها واجبا إذا اضطر(3/496)
سائر الأثنية مع بقاء حكم النص, وهو كون التكبير ثناء صالحا للتعظيم, وإنما ادعينا هذا دون أن يكون التكبير بعينه واجبا; لأنا وجدنا سائر الأركان أفعالا لا توجد من البدن ليصير البدن فاعلا فكذلك اللسان وكذلك استعمال الماء ليس
ـــــــ
إلى تحصيل العمل بأن لا يجد آلة أخرى, وهو كقوله عليه السلام: "وليستنج بثلاثة أحجار" فإن تعيين الحجر لا يدل على عدم جواز إقامة المدر مقامه بل الحجر آلة بجواز أن يتعين, ويجوز أن يتخير بينهما وبين ما في معناها وهذا بخلاف الجبهة للسجود حيث لا يقام غيرها مقامها; لأن الركن المستحق ضرورة للجبهة ساجدة بالأرض فيصير الجبهة مستحقة حكما; لأن وضعها لا ينفصل عنها فلا يقوم غيرها مقامها وهذا كأجير الواحد لا يستحق الأجر بعمل غيره له; لأن المستحق بالعقد منافعه, ومنافعه لا يتصور إلا منه فصارت نفسه بمنزلة المستحق فلم يقم غيره مقامه والأجير المشترك يستحق الأجر بعمل غيره له; لأن المستحق عليه يحصل صفة في المعمول بعمله وعمله آلة لا مقصود, وتلك الصفة تحصل بعمل غيره له; لأن عمل غيره له بأمره ينتقل إليه حكما; لأنه مما يملك بالاستعارة والإجارة, وإذا صار صارت الصفة الحاصلة به له كما لو عمل بنفسه فاستحق الأجرة, وإن تبدلت الآلة. ولا يلزم على ما ذكرنا القراءة حيث لا يقوم ذكر آخر مقامها; لأن الواجب عمل اللسان عمل قراءة, وللقراءة فضيلة ليست لغيرها من الأذكار, وهي أن المقروء من عند الله تعالى, ويحرم على الحائض والجنب قراءته فلا يجوز إقامة غيرها من الأذكار مقامها ألا ترى أن غير الفاتحة من السور لما ساوى الفاتحة في الفضيلة قام مقامها في الجواز, وإن تعينت الفاتحة بالحديث ولا يلزم عليه الأذان أيضا حيث لا يتأدى بلغة أخرى, ولا بثناء آخر; لأن الركن ليس عمل الثناء على الله تعالى, فإنه لو تكلم به, وأخفاه لم يجز, والثناء حاصل, ولكن الواجب إعلام الناس بحضور الصلاة, والإعلام إنما يقع بصوت مقدر بتلك الحروف فمتى تغيرت الحروف تغير الصوت فلا يبقى إعلاما وروي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه يجوز ذلك, والله أعلم والثناء آلة فعلها أي فعل اللسان, واللسان بمعنى الرسالة يؤنث, وبمعنى العضو لا يؤنث, ولعل الشيخ أنث الضمير على تأويل اللسان بالجارحة, وذكره بعده في قوله: آلة فعله على الأصل وأشار بقوله: ثناء مطلقا أي ثناء خالصا إلى أنه لا يجوز إلحاق ما ليس بثناء محض بالتكبير مثل قوله: اللهم اغفر لي حتى لا يصير شارعا به وإنما ادعينا هذا أي أن الواجب بالنص هو التعظيم باللسان, والتكبير آلته.
قوله: "وكذلك استعمال الماء" أي وكما أن التكبير ليس بواجب بعينه استعمال الماء في إزالة النجاسة الحقيقية ليس بواجب بعينه; لأن من ألقى الثوب النجس أو قطع موضع النجاسة بالمقراض أو أحرقه بالنار سقط عنه استعمال الماء, ولو كان استعماله واجبا(3/497)
بواجب بعينه; لأن من ألقى الثوب النجس سقط عنه استعمال الماء لكن الواجب إزالة العين النجس, والماء آلته فإذا عدينا حكمه إلى سائر ما يصلح آلة بقي حكم النص بعينه, وهو كون الماء آلة صالحة للتطهير, وهو حكم شرعي, وهو أنه لا
ـــــــ
بعينه لم يسقط بدون العذر لكن الواجب إزالة العين النجسة لئلا يكون مستعملا لها عند لبسه, والماء آلته أي آلة الإزالة على تأويل الإسقاط, والأبعاد. والواجب في الحقيقة هو التحرير عن النجاسة حالة الصلاة إلا أن التحرير عنها إذا أراد الصلاة في الثوب الذي قامت به نجاسة إنما يتحقق بإزالتها فكان الواجب في هذه الحالة الإزالة, والماء آلته فإذا عدينا حكمه أي حكم النص أو حكم الماء إلى سائر ما يصلح آلة كالخل وماء الورد, وكل ما ينعصر بالعصر فقد بقي حكم النص على ما كان قبله من غير تغيير وهو حكم شرعي أي كون الماء آلة صالحة للتطهير حكم شرعي ثم فسر صلاحه للتطهير, فقال: وهو أنه لا ينجس حالة الاستعمال يعني إنما أردت بكونه آلة صالحة للتطهير أنه لا ينجس حالة الاستعمال لا أنه مطهر بالقوة قبل الاستعمال فإن ذلك أمر حسي أو طبعي لا يصلح تعليله وإنما التعليل لحكم شرعي في المزيل وهو عدم تنجسه حالة الاستعمال والحكم في المحل, وهو ثبوت الطهارة فيه هذا حكم شرعي أي الحكم الثابت بالنص عدم ثبوت صفة النجاسة في المزيل وهو الماء بملاقاة النجس إلى أن يزال الثوب, وثبوت صفة الطهارة في المحل بواسطة الإزالة فعدينا هذا الحكم الشرعي إلى نظيره بالتعليل. وبيانه أن الماء طهور في الأصل بالنص والإجماع قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} [الفرقان: 48] والطهور اسم لما يتطهر به كالركوب, والمحلوب اسم لما يركب ويحلب وأنه إنما كان طهورا; لأنه مزيل للنجاسة عن المحل لا أنه تبدل حكم النجاسة إلى طهارة شرعا بدليل أن المحل لا يطهر ما لم تزل عين النجاسة عنه. وإذا كان التطهير بحكم الإزالة, وغير الماء يشارك الماء في الإزالة فيشارك في حكمه, وهو أن يكون طهورا مثله, وإذا صار طهورا سقط تنجسه بملاقاة النجس, وثبت الطهارة في المحل بعد تحقق الإزالة كما في الماء ولا يقال: الماء مع كونه طهورا تنجس بالغسل به قياسا وسقط حكم القياس في حقه بالنص ضرورة إمكان التطهير به, ولم يرد نص في غيره ولم يتحقق ضرورة لاندفاعها باستعمال الماء فيبقى على أصل القياس لأنا نقول: لا نسلم أن الماء تنجس بالغسل به; لأنه متى تنجس لم يبق طهورا, فإن هذا الاسم لا يتحقق إلا حالة الغسل; إذ لا حقيقة للطهورية إلا حالة الغسل فكان طهورا حالة الاستعمال بالنص لا بحكم الضرورة كحل الميتة بل; لأن هذه الصفة أصلية له كحل الذبيحة, ألا ترى أن الضرورة ترتفع بمياه الأودية ثم جعل ماء البحر طهورا بلا ضرورة فثبت أنه طهور من غير ضرورة ولما ثبت أنه أصل(3/498)
ينجس حالة الاستعمال هذا حكم شرعي في المزيل والطهارة في محل العمل فعديناه إلى نظيره ولا يلزم أن الحدث لا يزول بسائر المائعات لأن عمل الماء لا يثبت في محل الحدث إلا بإثبات المزال وذلك أمر شرعي ثبت في محل الغسل غير معقول عند استعمال الماء الذي يوجد مباحا لا يبالي بخبثه, ولم يستقم
ـــــــ
قبل التعليل, وقد ثبت أنه صار طهورا باعتبار الإزالة فصار كل مزيل طهورا مثله حتى إن السيف إذا أصابه دم فيبس, ومسح بحجر أو خشبة طهور, وكان ذلك طهورا; لأنه أزال عينه وأثره كالماء كذا في الأسرار وذكر الشيخ أبو الفضل الكرماني رحمه الله في جواب هذه الشبهة أن بعض النجاسة التي كانت مجاورة للثوب جاور الماء; لأن نجاسة الماء بالملاقاة ما كان بتبدله في نفسه بل بالمجاورة, ومن ضرورة إثبات المجاورة في حق الماء عدم المجاورة في الثوب بقدره, والنجاسة في نفسها متناهية فلا بد من أن ينقطع المجاورة عن الثوب بتكرر الغسل لتناهي النجاسة ضرورة إلا أن الشرع تصرف بالحكم بتناهي النجاسة بإزالة العين والأثر فيما له أثر وبالثلث فيما أثر له فثبت أن القول بعدم الزوال عن المحل وعدم تناهي النجاسة مردود عقلا, وأن التنجس بأول الملاقاة إن سلم غير مانع عن ثبوت الطهارة في المحل. وكذا الطهارة في المحل كانت ثابتة بأصل الخلقة, ولم تبق بالمجاورة فإذا زال المجاور وظهرت الطهارة الأصلية لا أن تثبت طهارة بالنص ابتداء.
قوله: "ولا يلزم أن الحدث لا يزول بسائر المائعات" ووجه وروده أنه لما جاز في إزالة النجاسة الحقيقية إلحاق غير الماء به في كونه طهورا بعلة الإزالة جاز في النجاسة الحكمية الإلحاق بهذه العلة أيضا; لأن طهورية الماء فيها باعتبار الإزالة كما في النجاسة الحقيقية, وقد أنكرتم ذلك فيكون مناقضة منكم فقال: لا يلزم علينا ذلك; لأن عمل الماء, وهو التطهير لا يثبت في محل الغسل إلا بإثبات المزال, وهو المانع الحكمي من أداء الصلاة المسمى بالحدث ليثبت بواسطة إزالته الطهارة في المحل, وذلك أي المزال أمر شرعي ثبت في محل الغسل غير معقول المعنى لطهارة المحل حقيقة وشرعا أما حقيقة فظاهر وأما شرعا فلأنه لو أدخل يده في الإناء لا يغسل وكذا حل له تناول الطعام باليد من غير غسل إلا أن الشرع أثبته عند استعمال الماء الذي لا يبالى بخبثه بقوله جل ذكره: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6] فلم يستقم إثبات هذا المزال الذي هو غير معقول المعنى عند استعمال سائر المائعات بالرأي; لأن ما ثبت غير معقول المعنى لا يمكن تعليله للتعدية إلى محل آخر مع أنه لو كان معقول المعنى لا يمكن التعدية أيضا عن سائر المائعات ليس بنظيره للماء, فإن الماء يوجد مباحا لا يبالى بخبثه فلا يكون في إثبات المزال الذي يلزم منه خبثه عند الاستعمال حرج فيمكن إثباته. فأما سائر المائعات فأموال لا توجد مباحة إلى(3/499)
إثباته في أوان استعمال سائر المائعات بالرأي هو مما لا يعقل مع أن سائر المائعات يلحقنا الحرج بخبثها لأنها أموال لا توجد مباحة غالبا ولا يلزم أن الوضوء صح مع هذا بغير النية; لأن التغير ثبت في محل العمل بوجه لا يعقل فبقي الماء عاملا بطبعه من الوجه الذي يعقل, وهذه حدود لا يهتدى لدركها إلا بالتأمل والإنصاف وتعظيم حدود الشرع وتوقير السلف رحمهم الله منة من الله وفضلا.
ـــــــ
الغالب فيكون في إثبات المزال الذي يلزم منه خبثها, وحرمة الانتفاع بها حرج عظيم فلا يدل إثبات المزال فيما لا حرج في خبثه على إثباته فيما فيه حرج فيمتنع الإلحاق قياسا ودلالة ولا يقال إذا لم يثبت المزال في المحل عند استعمال المائع ينبغي أن يجوز الصلاة بدون استعمال الماء; لأنا لا ننكر وجود المانع من أداء الصلاة في المحل فإنه ثابت بالإجماع ولكنا نقول: إنه لا يصير مزالا باستعمال المائع; لأن إزالته بالماء تثبت غير معقول المعنى فلا يتعدى إلى المانع أو نقول: هو ثابت في حق المنع عن أداء الصلاة بالإجماع, ولكنه غير ثابت في حق استعمال المائع وظهور أثر طهوريته بإزالته وصيرورته خبيثا باستعماله فيه, وإذا لم يثبت في حقه بقي غير طهور لتوقف الطهورية على الإزالة فكان استعماله وعدم استعماله سواء.
قوله: "ولا يلزم" يعني على هذا الجواب أن الوضوء صح مع هذا أي مع أن المزال غير معقول المعنى بغير النية يعني لما اعتبرت جانب المزال في الوضوء ومنعت عن إلحاق غير الماء به لكون المزال غير معقول المعنى أن ينبغي أن تشترط النية في الوضوء لثبوت الطهارة غير معقول المعنى كما في التيمم فقال: الماء مطهر بطبعه لم يحدث فيه معنى لا يعقل, وإنما حدث في المحل نجاسة غير المعقول حتى صار الماء مطهرا ومزيلا له, والنية من شرائط العمل فإذا بقي الماء طهورا بطبعه, ولم يتغير لا يحتاج إلى نية التطهير مطهرا بخلاف التراب فإنه ليس بمطهر بنفسه بل فيه تلويث. وإنما جعله الشرع مطهرا, وكساه صفة الطهورية عند إرادة الصلاة فيشترط لطهوريته إرادة الصلاة, فإذا وجدت حدثت له صفة الطهورية فالتحق بالماء فبعد ذلك لا يحتاج إلى النية كذا في شرح التقويم قال القاضي الإمام رحمه الله: هذه المسائل لا يستقيم الكلام فيها إلا بعد تمييز الآلة من الركن فالركن بالإجماع لا يقوم مقام ركن, والآلة يقوم مقام الآلة, والله أعلم.(3/500)
"باب الركن"
قال الشيخ الإمام ركن القياس ما جعل علما على حكم النص مما اشتمل عليه النص وجعل الفرع نظيرا له في حكمه بوجوده فيه وهو جائز أن يكون
ـــــــ
"باب الركن"
قوله: "ركن القياس ما جعل علما على حكم النص" ركن الشيء جانبه الأقوى لغة وفي عرف الفقهاء ركن الشيء ما لا وجود لذلك الشيء إلا به كالقيام والركوع والسجود للصلاة ولما لم يكن للقياس وجود إلا بالمعنى الذي هو مناط الحكم كان ذلك المعنى ركنا فيه, وإنما سماه علما; لأن الموجب في الحقيقة هو الله تعالى والعلل أمارات على الأحكام في الحقيقة لا موجبات فكان ذلك المعنى معرفا لحكم الشرع في المحل, وهو معنى العلم. ثم الحكم في المنصوص عليه إن كان مضافا إلى النص وفي الفرع إلى العلة كما هو مذهب مشايخ العراق والقاضي الإمام والشيخين ومتابعيهم بكون ذلك المعنى علما على وجود حكم النص في الفرع وإن كان الحكم مضافا إلى العلة في الأصل والفرع جميعا كما هو مذهب مشايخ سمرقند من أصحابنا وجمهور الأصوليين يكون ذلك المعنى علما على ثبوت حكم النص في الأصل والفرع معا وذكر بعض الأصوليين أن العلة في الأصل بمعنى الباعث, وهي أن يكون مشتملة على حكمة صالحة لأن تكون مقصودة للشارع من شرع الحكم لا بمعنى الأمارة المجردة, لأنها إذا كانت مجرد أمارة وهي مستنبطة من حكم الأصل لزم الدور; لأنها من حيث كونها مستنبطة من حكم الأصل تكون متفرعة عنه ومن حيث إنها أمارة مجردة ولا فائدة للأمارة سوى تعريف الحكم كان الحكم متفرعا عنها وهو دور. قال ومن كون الأمارة المجردة لا فائدة لها سوى تعريف الحكم يعلم بطلان التعليل بها; لأن الحكم في الأصل معرف بالنص, أو بالإجماع مما اشتمل عليه النص يعني يشترط أن يكون ذلك المعنى الذي جعل علما على حكم النص من الأوصاف التي اشتمل عليها النص إما بصيغته كاشتمال نص الربا على الكيل والجنس, أو بغير صيغته كاشتمال نص النهي عن بيع الآبق على العجز عن التسليم لأن ذلك المعنى لما كان مستنبطا من النص لا بد من أن يكون ثابتا به صيغة أو ضرورة. وجعل الفرع نظيرا له في(3/501)
وصفا لازما مثل الثمنية جعلناها علة للزكاة في الحلي والطعم جعله الشافعي علة للربا, أو وصفا عارضا أو اسما كقول النبي صلى الله عليه وسلم في المستحاضة: "إنه دم
ـــــــ
حكمه بوجود الضمير في له وحكمه راجع إلى النص وفي بوجوده راجع إلى ما, والباء للسببية يعني وجعل الفرع مماثلا للنص أي المنصوص عليه في حكمه من الجواز والغسل والحل والحرمة; بسبب وجود ذلك المعنى في الفرع وقيل هو احتراز عن العلة القاصرة وذكر بعض الأصوليين أن أركان القياس أربعة: الأصل والفرع وحكم الأصل والوصف الجامع أما حكم الفرع فثمرة القياس لتوقفه عليه ولو كان ركنا فيه لتوقف على نفسه, وهو محال, وهذا حسن; لأن انعقاد القياس كما توقف على المعنى الذي هو العلة توقف على الثلاثة الباقية وذكر في الميزان أن ركن القياس هو الوصف الصالح المؤثر في ثبوت الحكم في الأصل متى وجد مثاله في الفرع يثبت مثل ذلك الحكم فيه قياسا عليه; لأن القياس لما كان رد الفرع إلى أصل لإثبات حكم الأصل فيه ولا يمكن إثبات حكم الأصل في الفرع بالنص لأنه لا يتناول الفرع لم يكن بد من أن يكون في الأصل وصف يجب به الحكم شرعا حتى يثبت مثله في الفرع بمثل ذلك الوصف إذ لو لم تكن لا يمكن إثبات الحكم في الفرع فدل أن الركن ما قلنا, وإن كان لإثبات الحكم بالقياس سوى الوصف الذي ذكرنا شرائطه لكن الحكم يضاف إلى الركن عند وجود الشرائط لا إليها كالنكاح ينعقد بالإيجاب والقبول عند وجود الشرائط من الأهلية والشهادة ونحوهما وثبوت الحكم يضاف إلى الإيجاب والقبول دون الشرائط فكذا هذا, قال صاحب الميزان هذا هو الصحيح, وهو قول مشايخ سمرقند رحمهم الله.
قوله. "وهو جائز أن يكون وصفا لازما" أي المعنى الذي جعل علما على حكم النص يجوز أن يكون وصفا لازما للمنصوص عليه مثل الثمنية جعلناها علة للزكاة في الحكم فقلنا يجب فيها الزكاة سواء صيغت صياغة تحل أو تحرم كما تجب في غير المصوغ من الذهب والفضة; لأنها إنما تجب في غير المصوغ لوصف أنه ثمن بأصل الخلقة وهذه الصفة لا تبطل بصيرورته حليا فإن الذهب والفضة خلق جوهري الأثمان لا يعارضهما هذا الوصف بحال, ألا ترى أن الربا لما تعلق عنده هذا الوصف بقي الحكم بعدما صار حليا لبقاء الوصف.
"فإن قيل" الزكاة لا تتعلق بكونه ثمنا فإن الدراهم إذا استعملت حليا لم يجب فيها شيء عندي بل بمعنى تحت الثمن, وهو أنه للتجارة به, وهذا وصف عارض يتصل به من قبلنا فإذا جعل حليا سقط هذا الوصف فتسقط الزكاة المتعلقة به كما لو جعلت السائمة علوفة(3/502)
عرق انفجر", وهو اسم علم وانفجر صفة عارضة غير لازمة وعللنا بالكيل وهو غير
ـــــــ
"قلنا" لا فرق بين قولنا ثمن وبين قولنا إنه مال التجارة فالتجارة تكون بالأثمان وبالثمنية يصير نصابا لا باستعمالنا فثبت أن الثمنية التي بها صار الذهب والفضة نصابا صفة لازمة بمنزلة صفة ذاته لا تزول بحال كذا في الأسرار والطعم جعله الشافعي علة للربا باعتبار أن الطعم ينبئ عن خطر المحل لتعلق بقاء العلم به فلا بد من إظهار الشرف في العقد بشرط زائد, وهو المماثلة كما قيد تملك الأبضاع بشروط ثم الطعم وصف لازم للمطعوم كالثمنية للجوهرين فثبت أن التعليل بمثل هذا الوصف جائز ووصفا عارضا واسما يعني كما يجوز أن يكون ذلك المعنى وصفا لازما يجوز أن يكون وصفا عارضا ويجوز أن يكون اسما فإن النبي صلى الله عليه وسلم علل لانتقاض الطهارة في حق المستحاضة بقوله لفاطمة بنت حبيش: "توضئي وصلي فإنما هو أي دم الاستحاضة دم عرق انفجر1" وهو أي الدم اسم علم أي اسم موضوع لم يسبق عن معنى انفجر صفة عارضة إذ الدم موجود في العرق, وليس بمنفجر. فالتعليل بالاسم يدل على اعتبار صفة النجاسة وبالانفجار يدل على اعتبار صفة الخروج فيتعلق الانتقاض بهذين الوصفين.
"فإن قيل" لا نسلم أن تعليل النبي صلى الله عليه وسلم كان لانتقاض الطهارة بل لنفي وجوب الاغتسال أو لنفي سقوط الصلاة فإن الإشكال كان واقعا فيهما لا في وجوب الوضوء فإنه يجب بالبول الذي هو أدنى منه فكان التعليل لبيان نفي وجوب الاغتسال عنها أو لسقوط الصلاة فإن كل واحد متعلق بدم الرحم لا بدم العرق "قلنا" قد أشكل وجوب الوضوء على إمام مجتهد من أئمة المسلمين, وهو مالك بن أنس حيث لم يقل بأن دم الاستحاضة حديث فكيف لا يشكل على امرأة حديث عهدها بالإسلام, على أنا نجعل هذا التعليل لكل ما يصلح علة له من المنظوم والمفهوم جميعا فيكون بالنص دليلا على وجوب الوضوء عن كل دم عرق ينفجر أي بسيل وبالحال دليلا على أن الاغتسال وسقوط الصلاة لا يتعلقان بدم العرق بل بدم الرحم كذا في الأسرار, ولا يذهبن بك الوهم في قوله وصفا عارضا واسما إلى أنه لا بد من اجتماع الأمرين لصحة التعليل بالوصف العارض فإن التعليل بكل واحد منهما منفردا صحيح, ولهذا ذكر بعده وصف الكيل منفردا بدون ذكر الاسم وقد صرح شمس الأئمة بذكر أو مكان الواو فقال: وقد يكون وصفا عارضا أو اسما وهكذا ذكر في التقويم أيضا فقيل وأنه يجوز أن يكون وصفا لازما, أو عارضا أو اسما أو
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الحيض حديث رقم 333 و334، وأبو داود حديث رقم 280، والترمذي حديث رقم 125، وابن ماجة حديث رقم 620.(3/503)
لازم ويكون جليا وخفيا ويجوز أن يكون حكما كقول النبي صلى الله عليه وسلم في التي سألته
ـــــــ
حكما إلا أن الشيخ رحمه الله ذكر الواو. ولأن في المثال المذكور لا بد لانتقاض الطهارة من الأمرين وذكر صاحب القواطع تفصيلا واختلافا في هذا الفصل فقال إن الاسم إذا جعل علة فإن كان مشتقا من فعل كالضارب والقاتل يجوز أن يجعل علة; لأن الأفعال يجوز أن تجعل عللا في الأحكام وإن لم يكن مشتقا بأن كان علما كزيد وعمرو ولا يجوز التعليل به لعدم لزومه وجواز انتقاله, وإنما يوضع موضع الإشارة وليست الإشارة بعلة فكذا الاسم القائم مقامها وإن كان اسم جنس كالرجل والمرأة والبعير والفرس فمن الأصحاب من جوز التعليل به للزومه ومنهم من لم يجوز وهو الصحيح عندي; لأن التعليل بالأسامي يشبه التعليل بالطرد وهو فاسد بخلاف الأسامي المشتقة فإن التعليل فيها لموضع الاشتقاق لا بنفس الاسم.
"فإن قيل: ما الفرق بين التعليل باسم الدم وبين التعليل باسم الخمر حيث لم يجز على ما مر بيانه؟ قلنا الفرق أن التعليل هناك لتعدية اسم الخمر إلى النبيذ ثم ترتيب الحرمة على الاسم فيكون قياسا في اللغة فلا يجوز, والتعليل هاهنا بمعنى الاسم لتعدية الحكم به إلى الفرع لا بمجرد الاسم فيكون تعليلا بالوصف حقيقة فيصح. وقد ذكر صاحب الميزان فيه أن ركن القياس قد يكون اسما عند بعضهم كحرمة الخمر تثبت باسم الخمر هو علتها حتى لا تتعدى إلى الثلث وتثبت في قليل الخمر لوجود الاسم وإن لم يسكر. وكذا الحدود يتعلق باسم الزنا والقذف والسرقة ونحوها قال ولكنا نقول إن عني به أنه تعلق بعين الاسم لا يصح; لأن الاسم يثبت بوضع أرباب اللغة, ولهم أن يسموا الخمر باسم آخر وإن عني به المعنى القائم بالذات الذي استحق به الاسم وهو كون المائع من ماء العنب بعدما غلى أو اشتد فهذا مسلم ولكن حينئذ يكون هذا تعليق الحكم بالمعنى لا بالاسم وعللنا يعني نص الربا بوصف الكيل, وهو غير لازم; لأن ذلك وصف عارض يختلف باختلاف عادات الناس في الأماكن والأوقات, ويكون جليا أي يكون ذلك المعنى ظاهرا لا يحتاج فيه إلى زيادة تأمل مثل الطوف جعل علة لسقوط النجاسة في الهرة وسواكن البيوت وخفيا مثل القدر والجنس في الأشياء الستة, أو المراد من الجلي المعنى القياسي ومن الخفي المعنى الاستحساني وذكر بعضهم أن التعليل بالأوصاف الخفية الباطنة مثل تعليل ثبوت حكم البيع برضاء المتعاقدين لا يجوز; لأن الوصف المعلل به معرف للحكم الشرعي الذي هو خفي فلا بد من أن يكون جليا; لأن الخفي لا يعرف بالخفي. والجواب أن الوصف وإن كان خفيا لكنه بدلالة الصيغ الظاهرة عليه كدلالة الإيجاب والقبول على الرضا, أو بدلالة التأثير صار من الأوصاف الظاهرة فيجوز التعليل به.(3/504)
عن الحج "أرأيت لو كان على أبيك دين" وهذا حكم وكقولنا في المدبر إنه مملوك تعلق عتقه بمطلق موت المولى, وهذا حكم أيضا ويجوز أن يكون فردا وعددا كما في باب الربا, أو يجوز أن يكون في النص وهذا لا يشكل ويجوز في
ـــــــ
قوله "ويجوز أن يكون حكما" أي يجوز أن يكون ما جعل علما على حكم النص حكما من أحكام الشرع فإنه صلى الله عليه وسلم علل بقضاء دين العباد في حديث الخثعمية, وهو حكم. وقال بعض الأصوليين: لا يجوز تعليل الحكم الشرعي بالحكم الشرعي; لأن الحكم الذي فرض علة إن كان متقدما على الحكم الذي جعل معلولا لزم انتقاض العلة لتخلف حكمها عنها فلا يصح علة وكذا إن تأخر عنه لأن المتأخر لا يكون علة للمتقدم وكذا إن قارنه إذ ليس جعل أحدهما علة للآخر أولى من العكس لاحتمال أن يكون هو علة وأن يكون غيره فهو إذن على تقديرات ثلاث لا يكون علة وعلى تقدير واحد يكون علة, والعبرة في الشرع للغالب لا للنادر فوجب الحكم; بأنه ليس بعلة ولأن شرط العلة التقدم على المعلول وتقدم أحد الحكمين على الآخر غير معلوم فكان شرط العلية مجهولا فلا يجوز الحكم بالعلية وذهب الجمهور منهم إلى أن التعليل بالحكم يجوز لما ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم علل به في حديث الخثعمية حيث قال: "أرأيت لو كان على أبيك دين" والدين عبارة عن ثابت في الذمة وذلك بالوجوب وأنه حكم. وقال في حديث القبلة للصائم "أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكان يضرك" وفي حرمة الصدقة على بني هاشم "أرأيت لو تمضمضت بماء, ثم مججته أكنت شاربه" وفي إتيان الرجل أهله " أرأيت لو وضعه في حرام أكان يأثم" فهذا كله تعليل بالحكم ولأن العلة إن جعلت بمعنى الأمارة المعرفة فلا امتناع في أن يجعل الشارع حكما علما لحكم آخر بأن يقول إذا حرمت كذا فاعلموا أني حرمت كذا أو إذا أوجبت كذا فاعلموا أني حكمت بكذا وإن جعلت بمعنى الباعث فلا امتناع أيضا في أن يكون ترتيب أحد الحكمين على الآخر مستلزما حصول مصلحة لا تحصل من أحدهما بانفراد فثبت أن التعليل بالحكم جائز وخرج بما ذكرنا الجواب عن كلامهم; لأنا لا نسلم انتقاض العلة على تقدير التقديم; لأن الحكم لم يكن علة بذاته بل بجعل الشارع إياه علة بقران الحكم الآخر به ولا نسلم أيضا عدم صلاحيته للعلية على تقدير التأخير; لأن العلة بمعنى المعرف, والمتأخر يصلح معرفا للمتقدم ولا على تقدير المقارنة; لأن الكلام مفروض فيما إذا كان أحد الحكمين مناسبا للحكم الآخر من غير عكس ولا نسلم أيضا أن التقدم شرط العلية على ما يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله عز وجل. وقولنا في المدبر إنه مملوك تعلق عتقه بمطلق موت المولى فلا يجوز بيعه كأم الولد من قبيل التعليل بالحكم لأن التعلق حكم ثابت بالتعليق. وقوله:(3/505)
-------------------------------------------------------
ـــــــ
"بمطلق موت المولى" احتراز عن المدبر المقيد فإن بيعه جائز بالاتفاق قبل وجود الشرط مثل أن يقول إن شفى الله مريضي, أو قدم غائبي فأنت حر بعد موتي أو قال: إن مت من مرضي هذا أو من المرض الفلاني فأنت حر بعد موتي.
قوله "ويجوز أن يكون" أي ما جعل علما على حكم النص فردا أي وصفا فردا, وهو بلا خلاف ويجوز أن يكون عددا من الأوصاف ومعناه أنه لا بد لثبوت الحكم من اجتماع تلك الأوصاف حتى لو كان كل وصف يعمل في الحكم بانفراده كاجتماع البول والغائط والمذي والرعاف فإن كل واحد مستقل في إثبات حكم الحدث وكاجتماع القتل العمد والردة في شخص واحد فإن كل واحد مستبد في إيجاب القتل لا يكون ذلك مما نحن بصدده وفيه خلاف معروف بين أهل الأصول على ما عرف في موضعه.
ثم التعليل بعدد من الأوصاف جائز عند الجمهور; لأن ما ثبت به علية الوصف الواحد ثبت به علية الأوصاف المتعددة إذ لا يمتنع أن تكون الهيئة الاجتماعية من الأوصاف المتعددة علة بما يقوم الدليل على ظن التعليل بها من تأثير, أو مناسبة أو إخالة, أو غيرها من مسالك العلة. وذهب بعض الأصوليين منهم أبو الحسن الأشعري وبعض المعتزلة إلى أن التعليل لا يجوز إلا بوصف واحد لا تركيب فيه; لأن تركيب العلة لو صح لكانت العلية صفة زائدة على مجموع الأوصاف; لأنا نعقل مجموع الأوصاف ونجهل كونها علة والمجهول غير المعلوم بعدما ثبت أنها زائدة فأما أن يقال: حصلت تلك الصفة بتمامها لكل واحد من تلك الأوصاف وحينئذ يلزم أن يكون كل وصف علة لا أن يكون المجموع علة وهو خلاف الفرض وأما أن يقال حصلت تلك الصفة للمجموع وحينئذ يلزم إن ثبت لكل واحد من الأوصاف جزء من تلك الصفة وهو فاسد; لأن انقسام الصفة العقلية بحيث يكون لها نصف وثلث وربع محال. والجواب عنه أنه لا امتناع في حصول الصفة للمجموع من حيث هو مجموع من غير نظر إلى الأفراد; لأنه من حيث هو مجموع شيء واحد على أن ما ذكرتم ينتقض بالحكم على المتعدد من الألفاظ والحروف بأنه خبر واستخبار أو غير ذلك من أقسام الكلام; لأن كونه خبرا زائد عليه ثم إما أن يقوم كونه خبرا بكل حرف أو بمجموع الحروف ويلزم منه انقسام المعنى إلى آخر ما ذكرتم والتحقيق فيه أن معنى كون مجموع الأوصاف علة هو أن الشارع قضى بالحكم عنده رعاية لما اشتملت عليه الأوصاف من الحكمة وليس ذلك صفة لها فضلا عن كونه صفة زائدة ليلزم ما ذكروه وقوله كما في الربا يجوز أن يكون متعلقا بقوله عددا فإن حرمة الربا متعلقة بوصفين وهما القدر والجنس. ويجوز أن يكون متعلقا بالجميع فإن حرمة ربا النسيئة(3/506)
غيره إذا كان ثابتا به كما جاء في الحديث أنه رخص في السلم, وهو معلول بإعدام العاقد وليس في النص والنهي عن بيع الآبق معلول بالجهالة, أو العجز عن التسليم وليس في النص وعلل الشافعي رحمه الله في نكاح الأمة على الحرة
ـــــــ
متعلقة بوصف واحد, وهو الجنس أو القدر عندنا وحرمة ربا الفضل متعلقة بوصفين كما قلنا فيكون الربا مثالا للفرد والعدد جميعا والتعليل بالأوصاف مثل تعليلنا في نجاسة سؤر السباع بأن السباع حيوان محرم الأكل لا لكرامته ولا بلوى في سؤره فيكون سؤره نجسا كسؤر الخنزير والكلب وكتعليل وجوب القصاص بالقتل بالمحدد من الخشب بأنه قتل عمد عدوان محض فيكون موجبا للقصاص كالقتل بالسيف, ثم من جوز التعليل بالأوصاف لم يقتصر على عدد إلا ما نقل عن أبي إسحاق الشيرازي أنه قال لا يجوز أن يزيد الأوصاف على سبعة وجهه أن أقصى ما يتوقف عليه الحكم محله ومعنى يقتضيه إما مطلقا, أو مشروطا بوجود شرط, أو عدم مانع وقد يتعلق المعنى المقتضي بالفاعل فيعتبر أهليته وأقصاها العقل والبلوغ, ثم قد لا يشتغل به الشخص الواحد بصيغ المعارضات فيحتاج إلى غيره فيكون مجموع ما يتوقف عليه الحكم إيجابا وقبولا صدورا من العاقل البالغ في المحل مع قران الشرط وانتفاء المانع وهي سبعة وكل ما زاد على ذلك فهو تفصيل هذه الجملة فيمكن رده إليها ولما لم يخل هذا عن تكلف كما نرى أعرض عنه العامة ولم يقتصروا على عدد.
قوله "ويجوز في النص" يعني يجوز أن يكون ذلك المعنى مذكورا في النص لو يجوز أن يكون ذلك المعنى ثابتا في المنصوص عليه كالتعليل بالطواف في الهرة فإنه مذكور في النص, وهو قوله صلى الله عليه وسلم "إنها من الطوافين والطوافات عليكم" , أو هو ثابت في المنصوص عليه, وهو الهرة, وكذا التعليل بالقدر في الأشياء الستة فإنه مذكور في النص, وهو قوله صلى الله عليه وسلم كيلا بكيل وزنا بوزن, أو ثابت في المنصوص عليه, وهو الأشياء الستة. وهذا لا يشكل أي جواز التعليل بوصف في النص غير مشكل; لأن النص هو الذي يعلل فالتعليل بوصف فيه يكون صحيحا لا محالة. ويجوز في غيره إذا كان ثابتا به معنى ويجوز أن لا يكون ذلك المعنى ثابتا بصريح النص, أو لا يكون ثابتا في المحل المنصوص عليه بل يكون في غيره ولكنه من ضروراته مثل تعليل جواز السلم بإعدام العاقد أي بفقره واحتياجه وليس ذلك في النص; لأن الإعدام معنى في العاقد لا في السلم لكنه ثابت به أي بالنص باعتبار أن وجود السلم المنصوص عليه يقتضي عاقدا والإعدام صفته فكان ثابتا باقتضائه فيكون بمنزلة الثابت بعين النص وعلل الشافعي عدم جواز نكاح الأمة على الحرة الثابت بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تنكح الأمة على الحرة" بأنه أي نكاح(3/507)
بإرقاق جزء منه وليس في النص لكنه ثابت به وإنما استوت هذه الوجوه; لأن العلة إنما تعرف صحتها بأثرها وذلك لا يوجب الفصل, واتفقوا أن كل أوصاف النص بجملتها لا يجب أن تكون علة.
واختلفوا في دلالة كونه علة على قولين
ـــــــ
الأمة إرقاق جزء منه, وهو الولد مع الغنية عنه فلا يجوز وعداه إلى نكاح الأمة مع طول الحرة وليس في النص فإن قوله صلى الله عليه وسلم "لا تنكح الأمة على الحرة" لا يدل على هذا المعنى بصريحه ولكنه ثابت به فإن ذكر النكاح يقتضي ناكحا كما أن ذكر السلم يقتضي عاقدا والإرقاق صفته فكان ثابتا بمقتضى النص. وذكر في الميزان أنهم اختلفوا في اشتراط كون الوصف قائما بمحل الحكم فعند مشايخ العراق هو شرط استدلالا بالعلل العقلية كالحركة علة لصيرورة الذات متحركا, ويستحيل أن يكون الحركة في محل علة لصيرورة ذات آخر متحركا فكذا في العلل الشرعية ومشايخنا قالوا إنه ليس بشرط بل يجوز أن يكون ذلك الوصف في غير محل الحكم فإن البيع والنكاح والطلاق ونحوها علل لثبوت الأحكام في المحال بهذه العبارات قائمة بالعاقدين. وكذا كون الشخص معدما محتاجا, علة جواز السلم والإجارة, وهذا الوصف قائم بالعاقد لا بمحل الحكم قال: ويجب أن لا يكون وجوده شرطا في محل الحكم; لأن علل الشرع أمارات ودلالات على الأحكام وقيام الدليل بالمدلول ليس بشرط لصحة الدليل كالعالم دليل وجود الصانع; ولهذا قلنا إن السحر علة لتغير المسحور. وكذا العين علة لتغير الشيء الذي أصابته العين وإن لم يوجد الاتصال وإنما يختص العلة بهذا الشرط عند المعتزلة ولهذا أنكروا السحر والعين لعدم الاتصال بمحل الحكم والله أعلم.
قوله "وإنما استوت هذه الوجوه" يعني الوجوه التي ذكرها من قوله, وهو جائز أن يكون وصفا لازما إلى قوله ويجوز في غيره إذا كان ثابتا به في صحة التعليل بها; لأن التعليل الذي ثبت به كون الوصف حجة ويعرف به كونه علة هو الأثر على ما نبين وذلك أي الأثر لا يوجب الفصل بين هذه الوجوه لجواز ظهور التأثير لكل واحد منها فمتى ظهر لشيء منها التأثير فقد قام الدليل على كونه حجة فوجب إضافة الحكم إليه. واتفقوا أن كل أوصاف النص بجملتها لا يجوز أن يكون علة; لأنه لا تأثير لكثير من الأوصاف في الحكم فإن من المعلوم أنه لا مدخل بوصف الأعرابي المذكور في "قوله صلى الله عليه وسلم للمجامع في نهار رمضان أعتق رقبة" في الحكم فإن التركي والهندي فيه سواء ولا لمعنى الحرية فإن الكفارة تجب على العبد ولا لوقاع الأهل فإنها تجب بالزنا وبوطء الأمة ولا لليوم المعين من الشهر المعين الذي وقع فيه فإن سائر الأيام من ذلك الشهر وسائر شهور رمضان في وجوب الكفارة سواء وكذا الحكم في سائر الحوادث فإنها(3/508)
فقال أهل الطرد: إنه يصير حجة بمجرد الاطراد من غير معنى يعقل وقال أئمة الفقه من السلف والخلف: إنه لا يصير حجة إلا بمعنى يعقل وهذا المعنى هو
ـــــــ
تشتمل على مكان كذا وزمان كذا ولا دخل لمثل هذه الأوصاف في الحكم بالاتفاق فعرفنا أن التعليل بجميع الأوصاف غير مستقيم; ولأن التعليل بجميع الأوصاف تعليل بما لا يتعدى; لأن جميع الأوصاف لا يوجد إلا في المنصوص عليه وذلك فاسد على ما مر بيانه.
وكما اتفقوا على عدم جواز التعليل بالجمع اتفقوا على عدم جواز التعليل بكل وصف لما بينا أنه لا تأثير لجميع الأوصاف في الحكم, ألا ترى أن الحنطة يشتمل على أنها مكيلة مطعومة مقتاتة مدخرة جب جثم شيء ولم يقل أحد إن كل وصف من هذه الأوصاف علة لحكم الربا فيها بل العلة بعض هذه الأوصاف واتفقوا أيضا على أنه لا يجوز للمعلل أن يعلل بأي وصف شاء من غير دليل; لأن ادعاه وصفا من الأوصاف أنه علة بمنزلة دعواه الحكم فكما لا يسمع منه دعوى الحكم بلا دليل لا يسمع دعوى كون الوصف علة بلا دليل. وذكر بعض الجدليين أنه لا حاجة إلى إقامة الدليل على صحة العلة ولكن للمعترض أن يبطل معنى الذي ذكره المعلل إن كان عنده مبطل فإن عجز عنه لزمه الانقياد وهذا فاسد لما قلنا إن المعلل مدع فلا يكون له بد من إقامة البرهان على دعواه لئلا يكون متحكما على شرع.
"فإن قيل" عجز السائل عن الاعتراض, أو انتفاء المفسد هو الدليل على صحة العلة "قلنا" ومن أين ثبت أن العجز عن الاعتراض يدل على صحة العلة والسائل مسترشد يطلب دليل العلة لينقاد لقضيتها فكان على المعلل إقامة الدليل وكيف يمكن جعل انتفاء المفسد دليل الصحة مع إمكان قلبه للسائل بأن يقول لا بل عدم المصحح دليل فساده. يوضحه أن المدعي لو قال للمدعى عليه عجزك عن الاعتراض على دعواي وعن نقضها دليل على صحتها فلا حاجة لي إلى إقامة البينة, أو قال المدعى عليه للمدعي عجزك عن إقامة البينة دليل على أني محق كان ذلك باطلا ولا يسقط بهذا إقامة البينة عن المدعي ولا اليمين عن المدعى عليه فكذا هاهنا, وإذا ثبت أنه لا بد من إقامة البينة على صحة العلة فاعلم أن القياس يحتاج إلى إقامة الدليل على وجوب العلة في الأصل والفرع جميعا; لأن القياس كما يتوقف على وجود العلة في الأصل يتوقف على وجودها في الفرع إلا أن وجودها في الفرع يجوز أن يثبت بسائر أنواع الأدلة من الحس ودليل العقل والعرف والشرع, ووجودها في الأصل لا يثبت إلا بالأدلة الشرعية لأن كون الوصف علة وضع شرعي كما أن الحكم كذلك فلم يمكن إثباته إلا بالدليل الشرعي والأدلة الشرعية النصوص(3/509)
صلاح الوصف, ثم عدالته وذلك على مثال الشاهد لا بد من صلاحه بما يصير به
ـــــــ
والإجماع والاستنباط ولا خلاف أن النص يصلح دليلا على العلة سواء دل عليها بطريق التصريح بأن يذكر الشارع لفظا من ألفاظ التعليل بأن يقول لكذا, أو لعلة كذا أو لأجل كذا, أو ما يجري مجراها مثل قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ} [المائدة: 32] {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] وقوله صلى الله عليه وسلم "كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي" لأجل الرأفة على القافلة أو بطريق التنبيه والإشارة مثل قوله صلى الله عليه وسلم "أرأيت لو تمضمضت بماء" "أرأيت لو كان على أبيك دين" "أينقص الرطب إذا جف" "تمرة طيبة وماء طهور" "من بدل دينه فاقتلوه1" وكقول الراوي "وسها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجد" "زنى ماعز فرجم" وكذا الإجماع يصلح دليلا عليها بالإجماع مثل وصف الصغر فإنه علة لثبوت الولاية على المال بالإجماع فأثبتنا به ولاية الإنكاح في الثيب الصغير ومثل تقديم الأخ لأب وأم على الأخ لأب في الميراث فإن امتزاج الأخوة علة التقديم فيه بالإجماع فيقاس عليه النكاح وبعدم الأخ لأب وأم فيه أيضا بهذه العلة.
وعند عدم النص والإجماع اختلف القايسون فيما يصلح دليلا على العلة كما قرره الشيخ بقوله واختلفوا في دلالة كونه علة أي فيما يدل كون الوصف علة على قولين فقال جماعة منهم الاطراد, وهو وجود الحكم عند وجود الوصف من غير أن يعقل فيه معنى من تأثير, أو إخالة يصلح دليلا على العلة ويصير الوصف به حجة على الغير وهم المسمون بأهل الطرد وسيأتي بيان أقوالهم واختلافهم فيما بينهم في الباب الذي يلي هذا الباب وقال عامتهم لا يصير الوصف حجة بمجرد الاطراد ولا بد لصيرورته علة من معنى يعقل, وهذا قول جمهور الفقهاء من السلف والخلف رضي الله عنهم ويسمون أهل الفقه, وهذا أي المعنى المعقول الذي لا بد لصيرورة الوصف حجة منه, وهو أن يكون صالحا للحكم, ثم يكون معدلا وذلك أي الوصف في اعتبار الصلاح والعدالة بمنزلة الشاهد فإنه لا بد من اعتبار صلاحه للشهادة أولا بوجود العقل والبلوغ والحرية والإسلام إن كان شاهدا على المسلم فيه ثم اعتبار عدالته ثانيا بأن يكون مجتنبا عن محظورات دينه ليصح منه الأداء. ثم لا يصح الأداء إلا بلفظ خاص ينبئ عن الوكادة والتحقيق, وهو لفظ أشهد, أو ما يساويه في المعنى من سائر اللغات فكذا هاهنا لا بد لجعل الوصف علة من صلاحه للحكم بوجود الملاءمة ومن عدالته بوجود التأثير ومن اختصاصه من بين سائر الأوصاف كاختصاص الشهادة بلفظ أشهد فإن التعليل بجميع الأوصاف, أو بكل وصف لا يصح على ما قلنا
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الأضاحي حديث رقم 1971، وأبو داود حديث رقم 2812(3/510)
أهلا للشهادة ثم عدالته ليصح منه أداء الشهادة, ثم لا يصح الأداء إلا بلفظ خاص واتفقوا في صلاحه أنه إنما يراد به ملاءمته وذلك أن يكون على موافقة ما جاء عن السلف من العلل المنقولة; لأنه أمر شرعي فتعرف منه ولا يصح كما
ـــــــ
ثم الشيخ رحمه الله جعل الوصف هاهنا بمنزلة الشاهد وجعله في أول باب القياس بمنزلة الشهادة, والأصل بمنزلة الشاهد وهكذا ذكر في مختصر التقويم في بيان اشتراط الملاءمة فقال: الملاءمة شرط; لأن الأصل شاهد والوصف المستنبط شهادة والشهادة مختصة بلفظ, وهو أشهد فمتى أتى به يجب القبول وإذا أتى بغيره ينظر إن كان في معناه يجب القبول وإلا فلا فكذا القايس إذا أتى بلفظ منقول عن السلف يقبل وإذا أتى بغيره ينظر إن كان في معناه يجب القبول والعمل به وإلا فلا. ويوافقه ما ذكر في التقويم وهو أن التعليل لم يقبل ما لم يقم الدليل على أن الوصف ملائم وإذا صار ملائما لم يجب العمل به إلا بالعدالة وذلك بكونه مؤثرا في الحكم وإن عمل به قبل التأثير صح فأما قبل الملاءمة فلا يصح العمل به كالشاهد إذا شهد لم يقبل حتى يأتي بلفظ أشهد أو بما يماثله بلغة أخرى ولا يصح العمل به قبل ذلك وإذا جاء بلفظ أشهد لم يجب العمل به حتى يعدل وإن عمل به صح ونفذ إذا كان مستورا بلا خلاف فعلى ما ذكر هاهنا لو لم يذكر قوله, ثم لا يصح الأداء إلا بلفظ خاص لتم التمثيل وعلى ما ذكر في التقويم ومختصره لا بد من ذكره لتمام التمثيل.
قوله "واتفقوا" أي الشارطون لصلاح الوصف وعدالته على أن المراد بصلاح الوصف ملاءمته أي موافقته ومناسبته للحكم بأن يصح إضافة الحكم إليه ولا يكون نابيا عنه كإضافة ثبوت الفرقة في إسلام أحد الزوجين إلى إباء الآخر عن الإسلام, لأنه يناسبه لا إلى وصف الإسلام; لأنه ناب عنه; لأن الإسلام عرف عاصما للحقوق لا قاطعا لها. وكذا المحظور يصلح سببا للعقوبة والمباح سببا للعبادة ولا يجوز عكسه لعدم الملاءمة وهو المراد من قوله ذلك أي الملاءمة أن يكون الوصف على موافقة ما جاء عن السلف من العلل المنقولة فإنهم كانوا يعللون بأوصاف ملائمة للأحكام غير نابية عنها فما كان موافقا لها يصلح أن يكون علة وما لا فلا قال الغزالي رحمه الله: المراد بالمناسب ما هو على منهاج المصالح بحيث إذا أضيف إليه الحكم انتظم كقولنا حرمت الخمر; لأنها تزيل العقل الذي هو ملاك التكليف, وهو مناسب لا كقولنا حرمت; لأنها تقذف بالزبد وتحفظ في الدن فإن ذلك لا يناسب ونقل بعض أصحاب الشافعي في مصنفه عن القاضي الإمام أبي زيد رحمه الله أن المناسب ما لو عرض على العقول تلقته بالقبول, ثم اعترض عليه بأن هذا التفسير وإن كان موافقا للوضع اللغوي حيث يقال هذا الشيء مناسب لهذا(3/511)
العمل به قبل الملاءمة لا يصح العمل بشهادة قبل الأهلية لكن لا يجب العمل به إلا بعد العدالة والعدالة عندنا: هي الأثر وإنما نعني بالأثر ما جعل له أثرا في
ـــــــ
الشيء أي ملائم له غير أنه لا طريق للمناظر إلى إثبات المناسب بهذا التفسير على خصمه في مقام الاستدلال لاحتمال أن يقول السائل هذا مما لا يتلقاه عقلي بالقبول, وليس الاحتجاج على بما يتلقاه عقل غيري بالقبول أولى من الاحتجاج على ذلك الغير بعدم تلقي عقلي له بالقبول. ثم قال فكان الأولى أن يقال: المناسب وصف ظاهر منضبط يحصل عقلا من ترتب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصودا من حصول مصلحة أو دفع مفسدة ويمكن أن يجاب عنه بأنا لا نعتبر الملاءمة للإلزام على الخصم بل لصحة العمل في حق نفسه والذي يناظر نفسه لا يكابر نفسه فيما يقتضي عقله والملاءمة بالهمز الموافقة ومنه قولهم هذا طعام لا يلائمني أي لا يوافقني, ولا يقال ملاومة بالواو فإنها من اللوم وقوله ولكن لا يجب العمل به أي بالوصف إلا بالعدالة استدراك من مفهوم الكلام الأول, وتقديره ولا يصح العمل بالوصف قبل الملاءمة ويصح بعدها ولكن لا يجب إلا بعد العدالة قال أبو اليسر إذا كان الوصف ملائما يصلح أن يكون علة ويجوز العمل به ولكن لا يجب ما لم يكن مؤثرا عندنا, وعند أصحاب الشافعي ما لم يكن مخيلا فإذا ظهر أثر إخالته فحينئذ يجب العمل به فالملاءمة شرط لجواز العمل بالعلل والتأثير, والإخالة شرط لوجوب العمل بها قال ومعنى قولنا يجوز العمل بالعلة قبل ظهور التأثير أنه لو عمل بها عامل نفذ العمل, ولم يقبح كما لو قضى القاضي بشهادة شهود غير ظاهر العدالة.
قوله "والعدالة عندنا هي الأثر" يعني ليس الخلاف في تفسير صلاح الوصف إنما الخلاف في تفسير العدالة فعندنا عدالة الوصف تثبت بالتأثير, ثم فسر الوصف المؤثر فقال: وإنما نعني بالأثر أي بالوصف المؤثر ما جعل له أثر في الشرع. ولعله إنما فسره بما ذكر ردا لما فسره البعض بالدوران وجودا وعدما فإن صاحب القواطع روى عن أبي الطيب أن التأثير عنده أن يوجد الحكم بوجود العلة ويعدم بعدمها كالشدة في الخمر يثبت التحريم بوجودها ويزول بزوالها وكالرق في نقصان الحد يوجد النقصان بوجوده, ويزول بزواله وفسر الشيخ في بعض مصنفاته بهذه العبارة ونعني بالتأثير أن يكون لجنس ذلك الوصف تأثير في إثبات جنس ذلك الحكم في مورد الشرع إما مدلولا عليه بالكتاب أو بالسنة, أو بالإجماع أي يثبت أثر هذا الوصف بهذه الحجج وذكر بعض الأصوليين أن أعلى أنواع القياس المؤثر, وهو باعتبار النظر إلى عين العلة وجنسها, وعين الحكم وجنسه أربعة أقسام فالأول هو أن يظهر تأثير عين الوصف في عين ذلك الحكم, وهو المقطوع الذي ربما يقر به منكر القياس إذ لا يبقى بين الفرع والأصل مباينة إلا تعدد المحل فإنه إن(3/512)
الشرع وقال بعض أصحاب الشافعي عدالته بكونه مخيلا ثم العرض على الأصول احتياطا سلامته عن المناقضة والمعارضة وقال بعض أصحابه: بل عدالته
ـــــــ
ثبت أن علة الربا في التمر الكيل فالجص ملحق به بلا شبهة وإن ثبت أن علته الطعم فالزبيب ملحق به قطعا إذ لا يبقى إلا اختلاف عدد الأشخاص التي هي مجاري المعنى ويكون ذلك كظهور أثر الوقاع في إيجاب الكفارة على الأعرابي إذ يكون التركي والهندي في معناه.
والثاني أن يظهر أثر عينه في جنس ذلك الحكم أي جنسه القريب كتأثير الأخوة لأب وأم في التقديم في الميراث فيقاس عليه ولاية الإنكاح فإن الولاية ليست هي عين الميراث لكن بينهما مجانسة في الحقيقة فإن هذا حق وذلك حق, وهذا دون الأول; لأن المفارقة بين جنس وجنس غير بعيدة بخلاف المفارقة بين محل ومحل فإنهما لا يفترقان أصلا فيما يتوهم أن له مدخلا في التأثير والثالث أن يؤثر جنسه القريب في عين ذلك الحكم كإسقاط قضاء الصلوات المتكثر بعذر الإغماء فإن تأثير جنسه وهو عذر الجنون والحيض ظهر في عينه أيضا باعتبار لزوم المشقة والحرج.
والرابع ما ظهر أثر جنسه في جنس ذلك الحكم كإسقاط الصلوات عن الحائض بالمشقة فإنه قد ظهر تأثير جنسه, وهو مشقة السفر فإن مشقة السفر ليست عين مشقة الحائض في جنس هذا الحكم, وهو إسقاط الركعتين الزائدتين فإنه ليس عين الإسقاط عن الحائض فإن هذا إسقاط أصل الصلاة وذلك إسقاط البعض. ولكنه من جنسه القريب باعتبار أنه تخفيف في الصلاة وكتعليل القتل بالمثقل في إيجاب القصاص بجناية القتل العمد العدوان فإن جنس الجناية العمد معتبر في جنس القصاص كالأطراف مع أنه ظهر تأثير عين القتل العمد العدوان في عين الخصم, وهو وجوب القصاص في المحدد.
ثم قال: ولا خلاف بين القائسين في الأقسام الثلاثة الأولى أنها حجة, والقسم الأخير مختلف فيه بينهم والمختار أنه حجة لكونه مغلبا على الظن.
قوله "وقال بعض أصحاب الشافعي عدالته بكونه مخيلا" أي موقعا في القلب خيال القبول والصحة فيثبت صحته بشهادة القلب وذكر في بعض كتبهم أن الإخالة من أخالت السماء إذا كانت ترجي المطر; لأن المناسبة ترجي العلية لإشعارها بها, ثم العرض على الأصول احتياطا أي بعد ثبوت الإخالة يعرض الوصف على الأصول بطريق الاحتياط لا بطريق الوجوب ليتحقق سلامته عن المناقضة والمعارضة. والفرق بينهما أن مناقضة الوصف إبطال نفسه بأثر, أو نص, أو إجماع يرد على خلافه أو إيراد صورة تخلف الحكم فيها(3/513)
بالعرض على الأصول فإن لم يرده أصل مناقضا ولا معارضا صار معدلا وإنما يعرض على أصلين فصاعدا فعلى القول الأول يصح العمل به قبل العرض, وعلى الثاني لا يصح; لأنه به يصير حجة وعلى القول الأول صار حجة بكونه مخيلا, وإنما النقض جرح والمعارضة دفع واحتج أهل المقالة الأولى أن الأثر معنى لا يعقل فنقل عنه إلى شهادة القلب, وهو الخيال, وهو كالتحري جعل حجة بشهادة
ـــــــ
عن الوصف, ومعارضة الوصف إيراد وصف آخر يوجب خلاف ما أوجبه ذلك له بوصف من غير تعرض لنفس الوصف, ثم معنى عرض الوصف على الأصول أن يقابل بقوانين الشرع فإن طابقها وسلم عن المبطلات والعوارض فقد شهدت الأصول بصحته وصار حجة. وقال صاحب القواطع ناقلا عن القاضي أبي الطيب: مثال شهادة الأصول قولنا لا تجب الزكاة في إناث الخيل; لأنها لا تجب في ذكورها فالأصول شاهدة لهذه العلة لأنها مبنية على التسوية بين الذكور والإناث في وجوب الزكاة وسقوطها قال وهذا طريق يقضي إلى غلبة الظن; لأن الإنسان إذا علم أن فلانا إذا أعطى بناته شيئا يعطي بنيه مثله فإذا سمع أنه أعطى البنات شيئا غلب على ظنه إعطاء البنين مثله فثبت أن شهادة الأصول دليل الصحة من هذا الوجه قال ومن نظيره قول المعلل من صح طلاقه صح ظهاره وقوله من لزمه العشر لزمه ربع العشر حتى يجب الزكاة على الصبي. وقوله ما حرم فيه النساء حرم فيه التفرق قبل التقابض, قال وأمثال هذا تكثر, فالأصول تشهد بصحة هذا التعليل, وإنما تعرض على أصلين فصاعدا قال شمس الأئمة رحمه الله وأدنى ما يكفي لذلك أي للعرض أصلان بمنزلة عدالة الشاهد فإن معرفتها بعرض حالهم على المزكين وأدنى ما يكفي لذلك عنده اثنان يصح العمل به أي بالوصف المخيل لأنه أي; لأن الوصف بالعرض يصير حجة وإنما النقض جرح أي النقض يجرح الوصف بعد صحته فيخرجه عن كونه حجة كجرح الشاهد بالرق يخرج كلامه من أن يكون شهادة بعدما صح ظاهرا والمعارضة دفع أي أنها لا تمنع الوصف عن العلية ولكن تدفع الحكم كإقامة الشهود على الإلغاء, أو الإبراء من المدعى عليه لا يمنع شهادة شهود المدعي ولكن تدفع حكمها, وهو الإلزام, وإذا كان كذلك لا يتوقف صيرورة الوصف حجة على انقطاع احتمالهما كما لا يتوقف شهادة الشاهد على انقطاع احتمال الجرح والدفع.
احتج أهل المقالة الأولى وهم الذين أثبتوا العدالة بالإخالة ولم يشترطوا التأثير بأن الأثر معنى من الوصف لا يحس ليعلم بالحس ولكنه مما يعقل أي يدرك بالعقل فكان طريق الوقوف عليه تحكيم القلب; لأنه هو المعتبر عند انقطاع الأدلة المحسوسة فإذا وقع في القلب خيال القبول وأثر الحجة صار حجة للعمل به كذا ذكر في أصول شمس الأئمة(3/514)
القلب عند تعذر العمل بسائر الأدلة, ثم العرض بعد ذلك للاحتياط بخلاف الشاهد; لأنه يتوهم أن يعترض فيه بعد أصل الأهلية ما يبطل الشهادة من فسق أو غيره فأما الوصف فلا يحتمل مثله فإذا كان ملائما غير ناب صار صالحا وإذا كان مخيلا كان معدلا ووجه القول الآخر أنه إذا كان على مثال العلل الشرعية كان
ـــــــ
والتقويم وغيرهما. وذكر الشيخ في الكتاب أن الأثر معنى لا يعقل وأراد به أن الأثر من الوصف ليس بمعنى يوجبه العقل ويقتضيه; لأن ثبوت الوصف علة بالشرع لا بالعقل إذ العقل لا يهتدي إليه ولم يرد به أن أثره إذا ثبت شرعا لا يدرك بالعقل أنه أثره, وإذا ثبت أنه غير محسوس ولا معقول وجب النقل عنه إلى شهادة القلب التي هي المعتبرة عند انقطاع الأدلة, وهو كالتحري أي جعل الوصف حجة شهادة القلب: مثل جعل التحري حجة في باب القبلة بشهادة القلب عند تعذر العمل بسائر الأدلة المحسوسة ويؤيده "قول النبي صلى الله عليه وسلم لوابصة بن معبد "ضع يدك على صدرك واستفت قلبك فما حاك في صدرك فدعه وإن أفتاك الناس به1" فثبت أن العدالة تحصل بالإخالة. ثم العرض أي عرض الوصف على الأصول بعد ثبوت إخالته للاحتياط لا للوجوب بمنزلة ما لو كان الشاهد معلوم العدالة عند القاضي فإن العمل بشهادته جائز له والعرض على المزكين بعد ذلك نوع احتياط لجواز أن يظهر له بالعرض عليهم ما لم يكن معلوما له بخلاف الشاهد المستور الحال حيث يجب العرض على المزكين لتعرف حاله وإن كان الأصل هو العدالة; لأنه أي الشاهد يتوهم أن يعترض فيه بعد وجود أصل الأهلية من الحرية والعقل والبلوغ والإسلام ما يبطل شهادته من فسق أو غيره من ردة وحدوث زوجية وإقامة حد في قذف, فإذا لم يكن حاله معلوما للقاضي لا يثبت عدالته عنده مع احتمال هذه العوارض ما لم يعرض على المزكين, فأما الوصف الذي هو علة بعدما ثبت صفة الصلاحية فيه فلا يحتمل مثله أي مثل ما احتمل الشاهد من اعتراض ما يخرجه عن كونه علة بعدما ثبتت صلاحيته بالملاءمة وعدالته بالإحالة فكان العرض على الأصول هاهنا احتياطا, فإن سلم عما يناقضه ويعارضه بكونه مطردا في الأصول فحكم وجوب العمل به يزداد وكادة وإن ورد عليه نقص فذلك يكون جرحا بمنزلة الشاهد الذي هو معلوم العدالة إذ ظهر فيه طعن من بعض المزكين فإن ذلك يكون جرحا في عدالته لا أن يتبين به أنه لم يكن عدلا وإن ظهر له معارض فإن ذلك يكون دفعا بمنزلة شاهد آخر يشهد بخلاف ما شهد به الأول كذا ذكر شمس الأئمة رحمه الله.
ووجه القول الآخر: وهو إثبات عدالة الوصف بالعرض على الأصول أنه أي
ـــــــ
1 أخرجه الإمام أحمد في المسند 4/228، والدارمي حديث رقم 2533.(3/515)
صالحا كالشاهد ثم قد يحتمل أن يكون مجروحا فلا بد من العرض على المزكين وهم الأصول هنا وأدنى ذلك أصلان ولا يعتبر وراء ذلك; لأن التزكية بالاحتمال لا يرد ووجه قولنا أنا احتجنا إلى إثبات ما لا يحسن ولا يعاين وهو الوصف الذي جعل علما على الحكم في النص, وما لا يحسن فإنما يعلم بأثره الذي ظهر في موضع من المواضع, ألا ترى أنا نتعرف صدق الشهادة باحترازه
ـــــــ
الوصف إذا كان صالحا على مثال العلل الشرعية غير ناب عن الحكم كان صالحا لإضافة الحكم إليه كالشاهد إذا كان حرا عاقلا بالغا مسلما وقد أتى بلفظ أشهد وما هو في معناه كان صالحا لأن يعمل بشهادته, ثم قد يحتمل أي الوصف أن يكون مجروحا بأن يكون منتقضا كالشاهد يحتمل أن يكون مجروحا بالفسق فلا بد من العرض أي عرض الوصف على المزكين, وهو الأصول هاهنا دفعا للاحتمال كما لا بد من عرض الشاهد على المزكين هناك لذلك فإذا سلم عن النقض والمعارضات ثبت عدالته وذلك; لأن الأصول شهداء الله تعالى على أحكامه كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم في حال حياته فيكون العرض على الأصول, وامتناع الأصول من رده بمنزلة العرض على الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته وسكوته عن الرد وأدنى ذلك أصلان, وذهب بعض من أوجب العرض إلى أنه لا بد من العرض على كل الأصول; لأن احتمال النقض والمعارضة لا ينقطع إلا بالعرض على جميع فرد ذلك وقال أدنى ذلك أي أقل ما يجب العرض عليه أصلان. ولا يعتبر وراء ذلك أي وراء الأصلين في وجوب العرض; لأن التزكية بالاحتمال لا ترد يعني العرض بمنزلة التزكية, والتزكية وإن كانت أمرا محتملا لكونها إخبارا عن عدم العلم بما يوجب الجرح لا عن العلم بعدم ما يوجبه وربما وقف غير المزكي على بعض أسباب الجرح وربما يكون المزكي كاذبا في التعديل فكان ينبغي أن يجب العرض على جميع المزكين قطعا للاحتمال بقدر الإمكان إلا أنها لا ترد بالاحتمال; لأن في الوجوب إلى جميع المزكين لقطع الاحتمال جرحا بينا وقد أسقط الشرع ذلك عنا بقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] فكذلك هاهنا العرض على كل الأصول متعذر لكونه غير محصور فسقط اعتباره ووجب الاقتصار على الأولى, وهو أصلان. قال شمس الأئمة رحمه الله ومن شرط العرض على كل الأصول لم يجد بدا من العمل بلا دليل لأنه وإن استقصى في العرض فالخصم يقول: وراء هذا أصل آخر هو معارض, أو ناقض لما تدعيه فلا يجد بدا من أن يقول لم يقم عندي دليل النقض والمعارضة, ومثل هذا لا يصلح حجة لإلزام الخصم.
قوله "وجد قولنا", وهو أن عدالة الوصف تثبت بالتأثير إذ حاجتنا إلى إثبات كون الوصف الذي لا يحس ولا يعاين حجة, وترجيح احتمال الصواب على احتمال الغلط وما لا(3/516)
عن محظور دينه وذلك مما يعرف بالبيان, والوصف يوجه مجمع عليه على ما نبين فوجب المصير إليه كالأثر الدال على غير المحسوس, وأما الخيال فأمر باطل لأنه ظن لا حقيقة له ولأنه باطن لا يصلح دليلا على الخصم ولا دليلا
ـــــــ
يوقف عليه من طريق الحس فطريق معرفته الاستدلال بأثره الذي ظهر في موضع من المواضع, ألا ترى أنا تعرفنا أي طلبنا معرفة صدق الشاهد باحترازه عن محظور دينه فإن أثر دينه لما ظهر في منعه عن ارتكاب سائر محظورات دينه يستدل به على منعه عن الكذب الذي هو محظور دينه أيضا; لأن كل المحظورات من حيث يميل الطبع إليها سواء, وذلك أي صدق الشاهد مما يعرف وجوده بأثره أي أثر دينه كما بينا لا بالحس فثبت أن طريق معرفة ما لا يحس الاستدلال بالأثر. أو معناه أن صدق الشاهد مما يعرف وجوده بظهور أثر نفس الصدق في غير هذا الموضع بأن احترز عن الكذب في سائر المواضع فيستدل به على احتراز عنه في الشهادة أيضا كما يعرف بالاحتراز عن سائر المحظورات فكان الاستدلال بالاحتراز عن سائر المحظورات استدلالا بظهور أثر على أثر آخر والمؤثر هو الدين, والاستدلال بالاحتراز عن الكذب في غير هذا الموضع قريبا من الاستدلال هو الصدق, وكذلك أي وكما نعرف صدق الشاهد بما ذكرنا نعرف الصانع جل جلاله بالاستدلال بآثار صنعه كما أشار إليه تعالى في آيات كثيرة مثل قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [البقرة: 164] وإلى قوله: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164] وقوله عز اسمه {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الروم: 20] إلى قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم: 25] وقوله جل ذكره {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الجاثية: 3] إلى آخر الآيات وقال علي رضي الله عنه: البعرة تدل على البعير وآثار المشي تدل على المسير, وهذا الهيكل العلوي والمركز السفلي أما تدلان على الصانع العليم الخبير, واستدلالا يجوز أن يكون منتصبا على الحال إذ المصدر يقع حالا يعرف الصانع مستدلين بإثار صنعه. وذلك أي معرفة الصانع إنما يعرف بالوصف والبيان يعني أنا إنما نعرف حصول المعرفة للمستدل إذا قدر على الوصف والبيان بوجه مجمع عليه بأن يقول: الأشياء المحكمة المتقنة موجودة على وجه تقتضيه الحكمة فعرفنا أن لها موجدا ولا بد من أن يكون واحدا حيا قديما عالما قادرا حكيما وبين سائر الأوصاف الذي يجب الإيمان به لا أن يقول عرفت بالاستدلال أنه متمكن, أو ذو جهة, أو ذو صورة; لأنا لا نرى في الشاهد موجودا إلا متحيزا أو ذا جهة, أو ذا صورة فإن ذلك ليس باستدلال بل هو ضلال فهذا معنى قوله بوجه مجمع عليه على هذا الوجه على ما نبين يعني في باب العقل, والأظهر أنه إشارة إلى الجواب عن قولهم:(3/517)
شرعيا; ولأنه دعوى لا ينفك عن المعارضة; لأن كل خصم يحتج بمثله فيما يدعيه على خصمه; لأنه إن كان يقول: عندي كذا فالخصم يعارضه بمثله فيقول
ـــــــ
الأثر ليس بمحسوس فوجب النقل إلى تحكيم القلب وإن ذلك إشارة إلى الأثر يعني أثر الوصف إن لم يكن محسوسا فهو مما يعرف بالبيان والوصف بوجه مجمع عليه أي بأن تبين ظهور أثره في محل مجمع عليه فإنه لو بينه في محل مختلف فيه لم يصلح للإلزام على الخصم على ما نبين أي في هذا الباب.
وإذا كان الأثر مما يعلم بالوصف والبيان وجب المصير إليه لمعرفة صحة الوصف كما يجب المصير إلى الأثر المحسوس الدال على غير المحسوس, مثل البناء الدال على الباني والسماوات والأرض الدالة على وجود الصانع عز وجل ويؤيده ما ذكر الشيخ في مختصر التقويم أما قولهم الأثر غير محسوس فمسلم لكنه معقول, وليس كل معلوم يكون معلوما بالحس بل يكون معلوما بالعقل أيضا وما كان معقولا فوق الذي كان محسوسا. ألا ترى أن الشاهد يتعرف صدقه بمجانبته عن محظورات دينه وفي الحقيقة الاجتناب عن المعاصي ترك وذلك غير محسوس. ولما فرغ عن إقامة الدليل على مدعاه شرع في الجواب عن كلمات الخصوم فقال: وأما الخيال الذي اعتبره الفريق الأول فأمر باطل لأنه عبارة عن مجرد الظن; لأن الخيال والظن واحد والظن لا يغني من الحق شيئا ولا يقال: الظن معتبر في الشرع في وجوب العمل به كخبر الواحد والقياس; لأنا نقول المعتبر هو الظن الذي قام دليل قطعي على اعتباره في وجوب العمل, لا مطلق الظن ولم يقم هاهنا دليل على اعتباره شرعا فوجب إهداره; ولأنه أي الخيال أمر باطن أي لا يمكن الوقوف عليه لغيره فلا يصح دليلا ملزما على الغير لأن الحجة على الغير ما يقر الغير به, ألا ترى أن التحري لما كان أمرا باطنا لا يوقف عليه لم يكن حجة على الغير حتى أن كل أحد يعمل بتحريه دون صاحبه وكلامنا فيما يصلح حجة على الغير ولا دليلا شرعيا يعني أنه إذا لم يصلح دليلا على الخصم لا يصلح أن يكون دليلا شرعيا لأن ما جعل دليلا في الشرع يصلح للإلزام لأنه حجة على الجميع, أو معناه أنه كما لا يصلح للإلزام على الغير لا يصلح دليلا شرعيا يصح العمل به لأن غايته أن يجعل من باب الإلهام والإلهام ليس بحجة أصلا, أو أنه كما لا يصلح للإلزام لا يصلح أن يكون دليلا شرعيا في نفسه; لأن مبنى أدلة الشرع على الظهور يقف عليها كل واحد, وهذا مما لا يقف عليه غير صاحبه ولأنه دعوى لا تنفك عن المعارضة فإنه إذا قال وقع في قلبي خيال أن هذا حق يتمكن الخصم من أن يقول: وقع في قلبي خيال أنه فاسد, أو وقع في قلبي خيال أن علتي صحيحة فيصير به معارضا وهذه معارضة لازمة; لأنها لا تندفع بوجه.(3/518)
عندي كذا ودلائل الشرع لا يحتمل لزوم المعارضة كما لا يحتمل لزوم المناقضة وأما العرض على الأصول فلا يقع به التعديل; لأن الأصول شهود لا مزكون وأنى لها التزكية من غير درك الأحوال الشاهد ومعاينته وهل يصح التزكية ممن لا خبر له ولا معرفة له بالشهود فأما فرقهم بأن الشاهد مبتلى بالطاعة منهي عن المعصية فيتوهم سقوط شهادته بخلاف الوصف فليس بصحيح; لأن الوصف مع كونه ملائما يجوز أن يكون غير علة بذاته بل يجعل الشرع إياه علة فكان الاحتمال في المعترض على أصله
ـــــــ
والحجة إذا لم تنفك عن المعارضة لم تكن حجة; لأن حجج الشرع لا تحتمل لزوم المعارضة كما لا تحتمل لزوم المناقضة; لأنهما من أمارات العجز والجهل والسفه, وصاحب الشرع منزه عنها وأما العرض على الأصول فلا يقع به التعديل; لأن الأصول شهود لا مزكون على ما زعموا فإن كل أصل شاهد مثل الأصل المعلل, وأقصى ما في الباب أن يكون النصوص موافقة للوصف فيحصل به كثرة النظائر وبكثرة النظير لا يحدث قوة في الوصف كالشاهد إذ الخصم إليه أمثاله لا يظهر به عدالته هذا إن جعل الوصف بمنزلة الشاهد وإن جعل بمنزلة الشهادة فكذلك أيضا; لأن بكثرة الشهود لا تطهر صحة الشهادة وقولهم فائدة العرض معرفة عدم ما ينقض الوصف أو يعارضه غير مسلم; لأنها إنما يحصل إذا كانت الأصول محصورة وليست كذلك فأما فرقهم أي فرق الفريق الأول من أصحاب الشافعي بين الشاهد والوصف بأن الشاهد مبتلى بالطاعة منهي عن المعصية فبعد صلاحه للشهادة يتوهم منه ما يوجب سقوط شهادته لبقاء اختباره فيجب عرض حاله على المزكين بخلاف الوصف فإنه بعد ملاءمته لا يحتمل أن يحدث فيه ما يبطل صلاحيته فيكون العرض فيه احتياطا لا حتما فليس بصحيح; لأن الوصف بعد وجود الملاءمة فيه يحتمل أن لا يكون علة كالأكل ناسيا مع صلاحه علة للإفطار لم يجعل علة له; لأن الوصف ليس بعلة لذاته بل بجعل الشرع إياه علة فتمكن في أصله بعد ثبوت الملاءمة احتمال أنه علة أم لا فإن ورد عليه معارض, أو مناقض ظهر أن الشرع ما جعله علة; لأن المعارضة والمناقضة اللازمتين لا تكونان في حجج الشرع. وإن لم يظهر بقي محتملا فكان الاحتمال في أصله أي فكان اعتبار الاحتمال المتمكن في أصل الوصف أولى من اعتبار الاحتمال المتمكن في المعترض على الأصل وهو الفسق المعترض على العدالة فإن الأصل في الشاهد هو العدالة وفي كلامه الصدق نظرا إلى العقل والدين الزاجرين عن القبيح, ثم لو ثبت المحتمل في الوصف الملائم, وهو عدم اعتبار الشرع إياه لم يبق علة أصلا مع ملاءمته ولو ثبت المحتمل في الشاهد وهو الفسق بقي أهلية الشهادة فيه لبقاء الحرية والعقل والإسلام فكان الاحتمال(3/519)
ألا ترى أن الوصف لا يبقى علة مع الرد مع قيام الملامة, والجواب عن كلامه أن الأثر معقول من كل محسوس لغة وعيانا ومن كل مشروع معقول دلالة على ما بينا وإنما يظهر ذلك بأمثلته, وذلك مثل "قول النبي صلى الله عليه وسلم في الهرة " إنها ليست بنجسة, وإنما هي من الطوافين عليكم" تعليل للطهارة بما ظهر أثره, وهو الضرورة فإنها من أسباب التخفيف وسقوط الحضر بالكتاب قال الله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3] والطوف من أسباب الضرورة فصح التعليل به لما يتصل به من الضرورة ومثل قوله للمستحاضة: "إنه دم عرق انفجر توضئي لكل صلاة"
ـــــــ
في الوصف أقوى من الاحتمال في الشاهد فلما منع الاحتمال في العارض عن العمل بشهادة المستور فلأن يمنع الاحتمال في الأصل عن العمل بالوصف كان أولى وأحرى, ألا ترى توضيح لقوله لكان الاحتمال في أصله. والجواب عن كلامه أي كلام الخصم, وهو أن الأثر معنى لا يحس أو لا يعقل أن الأثر معقول أي معلوم من كل محسوس لغة أي بطريق اللغة, فإن أهل اللغة يقولون سقاه فأرواه وضربه فأوجعه وكسره فانكسر وهدمه فانهدم, فهذه وأمثالها لغات وضعت لآثار أفعال مؤثرة وعيانا أي بطريق المعاينة فإن أثر الدواء المسهل في الإسهال وأثر المشي في الطريق وأثر فعل الباني في البناء يعرف بالحس والمشاهدة. ومن كل مشروع معقول أي مفهوم دلالة أي بطريق الاستدلال على ما بيناه من تعرف صدق الشاهد بالاحتراز عن محظور دينه.
قوله "وإنما يظهر ذلك" أي كون الأثر معقولا في المشروعات أي معلوما بأمثلة نذكرها وذلك أي ظهور الأثر بالأمثلة على تأويل المذكور تعليل خبر مبتدأ محذوف أي هذا تعليل للطهارة أي طهارة الهرة فإنها لما لم تكن نجسة كانت طاهرة بما ظهر أثره, وهو الضرورة, كلا الضميرين راجع إلى ما فصح التعليل به أي بالطوف لما يتصل به من الضرورة أي لاتصال الضرورة بالطوف بالتعليل به لدفع نجاسة سؤر الهرة, أو لإثبات حكم التخفيف في سؤره يكون استدلالا بعلة مؤثرة, ألا ترى أن من أصابته مخمصة فيتناول الميتة أو الدم فإنه سقط اعتبار النجاسة حتى لا يجب عليه غسل الفم ولا غسل اليد لمكان الضرورة كذا رأيت في بعض نسخ أصول الفقه وذكر الشيخ في مختصر التقويم أن قوله صلى الله عليه وسلم "إنما هي من الطوافين والطوافات عليكم" إشارة إلى وصف مؤثر; لأن الهرة لما كانت من الطوافين علينا لا يمكن الاحتراز عن سؤرها إلا بحرج عظيم والله تعالى ما جعل في الدين من حرج فسقط اعتبار النجاسة دفعا للضرر والحرج وهذا وصف ظهر تأثيره شرعا فإن النجاسة يسقط حكما لمكان العجز والضرورة فإن الميتة(3/520)
أوجب بهذا النص الطهارة بالدم بمعنى النجاسة; ولقيام النجاسة أثر في التطهير وعلقه بالانفجار وله أثر في الخروج; لأنه غير معتاد, والانفجار آفة ومرض لازم فكان له أثر في التخفيف في قيام الطهارة مع وجوده في وقت الحاجة ومثل "قوله
ـــــــ
نجسة بالإجماع خبيثة ثم سقط اعتبار النجاسة حتى حلت عند الضرورة. وكذا طهارة البدن شرط لصحة الصلاة; لأنها قيام إلى الله تعالى فيشترط أن يكون طاهرا ثم إذا كان نجسا وليس معه ما يغسلها يصلي مع النجاسة, وإنما سقطت النجاسة لمكان الضرورة, وكذا الحدث يسقط العبادة عند عدم الماء فثبت أنه أشار إلى وصف مؤثر شرعا وعقلا. أوجب أي النبي صلى الله عليه وسلم بهذا النص وهو حديث المستحاضة الطهارة بالدم أي بسببه باعتبار معنى النجاسة الذي له أثر في إيجاب التطهير لا باعتبار معان أخرى من كونه جسما ومائعا ونحوهما, أو لم يوجد لها أثر في إيجاب الطهارة وعقله أي إيجاب الطهارة بالانفجار الذي له أثر في الخروج; لأنه أي; لأن انفجار دم العرق غير معتاد فيجوز أن ينفي معه وجوب الصلاة والتوضؤ بخلاف دم الحيض والنفاس; لأن كل واحد منهما معتاده مستدام فيجوز أن يسقط به وجوب الصلاة والتوضؤ للحرج, ثم أشار الشيخ إلى أن في هذا الحديث إشارة إلى التعليل لحكم آخر بوصف مؤثر فقال: والانفجار آفة ومرض لازم ليس في وسعها رده وإمساكه ولهذا ترد المبيعة به فكان له أي للانفجار اللازم أثر في التخفيف وذلك التخفيف قيام الطهارة مع وجوده في وقت الحاجة, وهو وقت الصلاة للضرورة قال الشيخ رحمه الله في بعض مصنفاته أن "قوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت حبيش حين سألت عن دم الاستحاضة "إنها دم عرق انفجر توضئي وصلي لوقت كل صلاة" إشارة إلى أحكام ثلاثة وتعليل لها بأوصاف مؤثرة: أحدها وجوب الصلاة والثاني وجوب التوضؤ. والثالث الاكتفاء بطهارة واحدة لوقت الصلاة أما الأول; فلأن دم الحيض إنما أوجب سقوط الصلاة; لأنها عادة راتبة في بنات آدم فإن الله تعالى خلقه في أرحامهن لا يمكنهن الاحتراز عنه فلو أوجبنا الصلاة عليهن لأدى إلى الحرج وما في الدين من حرج فسقطت الصلاة عنهن بتلك الدم فأما دم الاستحاضة فدم عرق يوجد بعارض علة لا يكون عادة راتبة فيهن فإيجاب الصلاة معه لا يؤدي إلى الحرج فلم يصر عذرا في سقوط الصلاة. والثاني أنه صلى الله عليه وسلم علل لوجوب التوضؤ بانفجار الدم, وهو تعليل بمعنى مؤثر لأن انفجار الدم مؤثر في إثبات النجاسة إذ الدم بالانفجار يصل إلى موضع يجب تطهير ذلك الموضع منه وللنجاسة أثر في إيجاب الطهارة إذ العبد يقوم بين يدي الله تعالى, ولا يكون أهلا لذلك إلا بأن يكون طاهرا والثالث قال: "توضئي لوقت كل صلاة" وأشار إلى وصف مؤثر فقال: "إنها دم عرق انفجر" والانفجار عبارة عن السيلان الدائم ومع السيلان(3/521)
لعمر رضي الله عنه وقد سأله عن القبلة للصائم فقال "أرأيت لو تمضمضت بماء فمججته أكان يضرك" تعليل بمعنى مؤثر; لأن الفطر نقيض الصوم والصوم كف عن شهوة البطن والفرج وليس في القبلة قضاؤها لا صورة ولا معنى مثل المضمضة "وقال في تحريم الصدقة على بني هاشم "أرأيت لو تمضمضت بماء, ثم مججته أكنت شاربه" فعلل بمعنى مؤثر, وهو أن الصدقة مطهرة للأوزار فكانت وسخا كالماء المستعمل. واختلف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الجد
ـــــــ
لو وجبت عليها الطهارة لكل حدث لبقيت مشغولة بالطهارة أبدا لا تجد فراغا عنها فلا يمكنها إذا الصلاة فأوجب التوضؤ في وقت الصلاة مرة واحدة ليمكنها أداء الصلاة وأسقط اعتبار الحدث بعده لمكان الضرورة للعجز تأثير في إسقاط النجاسة لما قلنا.
قوله: "ومثل قوله" أي قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر عطف على قوله وذلك مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم في الهرة وكلمة فقال وقعت زائدة لا حاجة إليها وقوله تعليل خبر مبتدأ محذوف, أي هذا تعليل بمعنى مؤثر; لأن الفطر نقيض الصوم أي ضده ويجوز أن يكون بمعنى الناقض أي الفطر هو الناقض للصوم; لأنه ينافي ركنه, وهو الكف عن اقتضاء الشهوتين وليس في القبلة قضاء شهوة الفرج لا صورة لعدم إيلاج فرج في فرج. ولا معنى لعدم الإنزال مثل المضمضة فإنه ليس فيها قضاء شهوة البطن لا صورة لعدم وصول شيء إلى الباطن ولا معنى لعدم حصول صلاح البدن بل كل واحد منهما مقدمة لقضاء شهوة فكما أن المضمضة لا تفسد الصوم لعدم معنى الفطر فيها فكذلك القبلة فعلل بمعنى مؤثر, وهو أن الصدقة مطهرة للأوزار بقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 3] والوزر الحمل الثقيل. والمراد الإثم هاهنا فكانت وسخا كالماء المستعمل, وكما أن الامتناع من شرب الماء المستعمل أخذ بمعالي الأمور وكذلك حرمة الصدقة على بني هاشم تعظيم وإكرام لهم ليكون لهم خصوصية بما هو من معالي الأمور. فهذا بيان تعليل النبي صلى الله عليه وسلم بأوصاف مؤثرة.
ثم شرع في بيان تعليل الصحابة بها فقال: "واختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم في الجد" يعني مع الإخوة في الميراث فذهب أبو بكر وابن عباس وجماعة رضي الله عنهم إلى تفضيل الجد على الإخوة وذهب علي وزيد بن ثابت وجماعة أخرى رضي الله عنهم إلى توريث الإخوة مع الجد فضربوا فيه أي في الجد, أو فيما اختلفوا فيه بأمثال فقال علي رضي الله عنه إنما مثل الجد مع الإخوة مثل شجر أنبت غصنا ثم تفرع من الغصن فرعان فالقرب بين الغصنين أقوى من القرب بين الفرعين والأصل; لأن الغصن بين الفرعين والأصل واسطة ولا واسطة بين الفرعين فهذا يقتضي رجحان الأخ على الجد إلا أن بين(3/522)
فضربوا بالأمثال مثل فروع الشجر وشعوب الوادي والأنهار والجداول واحتج ابن عباس رضي الله عنهما فيه بقرب أحد طرفي القرابة وهذه أمور معقولة بآثارها وقد قال عمر رضي الله عنه لعبادة بن الصامت حين قال ما أرى النار تحل شيئا
ـــــــ
الفرعين والأصل جزئية وبعضية ليست بين الفرعين نفسهما فكان لكل واحد منهما ترجيح فاستويا وقال زيد بن ثابت رضي الله عنه مثل الجد مع الحافد كمثل نهرين ينشعبان من واد ثم ينشعب من هذا النهر جدول ومثل الأخوين كمثل نهرين ينشعبان من واد فالقرب بين النهرين المنشعبين من الوادي أكثر من القرب بين الوادي, والجدول بواسطة النهر. والشعوب جمع شعب, وهو ما تشعب من قبائل العرب والعجم وكأنه مستعار هاهنا لما تشعب من الوادي, والجدول النهر الصغير واحتج ابن عباس رضي الله عنهما فيه أي في ترجيح الجد بقرب أحد طرفي القرابة فقال, ألا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أبا الأب أبا اعتبر أحد طرفي القرابة وهو طرف الأصالة بالطرف الآخر, وهو الجزئية في القرب. وهذه أمور معقولة بآثارها أي ما ذكروا من التمثيل والاحتجاج بأحد طرفي القرابة على الآخر تعليلات بأوصاف مؤثرة فإن استحقاق الميراث بالقرابة, والتمثيل بفروع الشجر وشعوب الوادي لبيان تفاوت القرب بطريق محسوس إلا أن العباس رجح الجد; لأن قربه منشعب عن الجزئية كقرب الحافد إذ الحافد متصل بالبنت بواسطة أبيه اتصال جزئية, والجد متصل به بواسطة ابنه اتصال جزئية أيضا ثم الحافد وإن سفل باعتبار الجزئية مقدم على الأخ فكذا الجد, وهذا; لأن القرب باعتبار الجزئية معنى يرجع إلى ذات القرابة والقرب باعتبار المجاورة معنى يرجع إلى حال القرابة والترجيح بالذات أولى من الترجيح بالحال.
قوله "وقد قال عمر لعبادة" عن محمد بن الزبير قال استشار الناس عمر رضي الله عنه في شراب يرزقه فقال رجل من النصارى إنا نصنع شرابا في صومنا فقال عمر ائتني بشيء منه فأتاه بشيء منه قال ما أشبه هذا بطلاء الإبل كيف تصنعونه قال: نطبخ العصير حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه فصب عمر رضي الله عنه عليه ماء وشرب منه, ثم ناوله عبادة بن الصامت وهو عن يمينه فقال عبادة ما أرى النار تحل شيئا فقال له عمر يا أحمق أليس يكون خمرا, ثم يصير خلا, ثم تأكله. وفي هذا دليل إباحة شرب المثلث وإن كان مشتدا فإن عمر رضي الله عنه إنما استشارهم في المشتد دون الحلو, وهو ما يكون ممرئا لطعام مقويا على الطاعة في ليالي الصيام وقد أشكل على عبادة فقال ما أرى النار تحل شيئا يعني أن المشتد من هذا الشراب قبل أن يطبخ بالنار حرام فبعد الطبخ كذلك إذ النار لا تحل الحرام فقال له عمر يا أحمق أي يا قليل النظر والتأمل أليس يكون خمرا, ثم(3/523)
أليس يكون خمرا ثم يصير خلا فنأكله فعلل بمعنى مؤثر وهو تغير الطباع وقال أبو حنيفة رحمه الله في اثنين اشتريا عبدا, وهو قريب أحدهما أنه لا يضمن لشريكه لأنه أعتقه برضاه وللرضاء أثر في سقوط العدوان وقال محمد
ـــــــ
يكون خلا فتأكله يعني أن صفة الخمرية بالتخلل تزول فكذلك صفة الخمرية بالطبخ إلى أن ذهب منه الثلثان تزول. ومعنى هذا الكلام أن النار لا تحل ولكن بالطبخ تنعدم صفة الخمرية كالذبح في الشاة عينه لا يكون محللا, ولكنه منهر للدم والمحرم هو الدم المسفوح يكون محللا لانعدام ما لأجله كان محرما كذا في المبسوط, وهو قوله فعلل بمعنى مؤثر, وهو تغير الطباع يعني الطبخ بغير طبعه وللتغير أثر في تبدل الحكم كالمني إذا صار حيوانا صار طاهرا وكذا الحمار إذا وقع في المملحة وصار ملحا والسرقين إذا صار رمادا.
قوله "وقال أبو حنيفة في اثنين اشتريا عبدا" إذا ملك الرجل مع آخر قريبه بشراء, أو هبة أو صدقة, أو وصية عتق نصيبه منه عند أبي حنيفة رحمه الله, ويسعى العبد لشريكه في نصيبه ولا ضمان على الذي عتق من قبله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يضمن لشريكه قيمة نصيبه إن كان موسرا ويسعى العبد لشريكه إن كان معسرا; لأن القريب بالشراء صار معتقا لنصيبه فإن شراء القريب إعتاق; ولهذا تؤدى به الكفارة والمعتق ضامن لنصيب شريكه إذا كان موسرا كما لو كان العبد بين شريكين فاشترى قريب العبد نصيب أحدهما منه يضمن نصيب الآخر إن كان موسرا, ولأبي حنيفة رحمه الله أنه أعتقه برضاه أي برضا الشريك فلا يضمن له شيئا; لأن للرضاء أثرا في سقوط ضمان العدوان. وهذا; لأن ضمان العتق يجب بالإفساد, أو الإتلاف لملك الشريك فيكون واجبا بطريق الجبران ورضاه بالسبب يغني عن الحاجة إلى الجبران; لأن الحاجة إلى ذلك لدفع الضرر عنه وقد اندفع ذلك حكما حين رضي به كما لو أذن له نصا أن يعتقه, وكما لو أتلف مال الغير بإذنه وإثبات الرضاء بوجهين أحدهما أنه لما ساعد شريكه على القبول مع علمه أن قبول شريكه موجب للعتق صار راضيا بعتقه على شريكه فهو كما لو استأذن أحد الشريكين صاحبه في أن يعتق نصيبه فأذن له في ذلك. والثاني أن المشتريين صارا كشخص واحد لاتحاد الإيجاب من البائع; ولهذا لو قيل أحدهما دون الآخر لم يصح قبوله ولم يملك نصيبه به ولا شك أن كل واحد منهما راض بالتملك في نصيبه فيكون راضيا بالتملك في نصيب صاحبه أيضا لما ساعده على القبول بل يصير مشاركا له في السبب بهذا الطريق, والمشاركة في السبب فوق الرضاء به إلا أن بهذا السبب يتم علة العتق في حق القريب, وهو الملك ولا يتم به علة العتق في حق الأجنبي فكان القريب معتقا دون الأجنبي ولكن(3/524)
رحمه الله في إيداع الصبي; لأنه سلطه على استهلاكه وقال الشافعي رحمه الله في الزنا لا يوجب حرمة المصاهرة; لأنه أمر رجمت عليه والنكاح أمر حمدت عليه وهذه أوصاف ظاهرة الآثار وقال الشافعي في النكاح لا يثبت بشهادة النساء مع الرجال; لأنه ليس بمال, ولذلك أثر في هذا الحكم; لأن هذا المال هو
ـــــــ
بمعاونته فيسقط حقه في تضمينه لما عاونه على السبب. وهذا الكلام يتضح لأبي حنيفة رحمه الله في الشراء, ولهذا عين في الكتاب الشراء فقال في اثنين اشتريا عبدا فأما في الهبة والصدقة والوصية فكلامهما أوضح; لأنه قبول أحدهما في نصيبه صحيح بدون قبول الآخر إلا أن أبا حنيفة رحمه الله يقول هما كشخص واحد أيضا لكن في الهبة والصدقة والوصية قبول الشخص في النصف دون النصف صحيح ثم لا فصل في ظاهر الرواية بين أن يكون الشريك عالما بأن المشتري معه قريب العبد, أو لا يكون عالما به. وهكذا روى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله; لأن سبب الرضاء يتحقق وإن لم يكن عالما به فهو كمن قال لغيره كل هذا الطعام, وهو لا يعلم أنه طعامه فأكله المخاطب فليس للآذن أن يضمنه شيئا, وكذلك لو قال لشريكه أعتق هذا العبد, وهو لا يعلم أنه مشترك بينهما وقد روى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله أن رضاه إنما يتحقق إذا كان عالما به فأما إذا كان لا يعلم بذلك فله أن يضمن شريكه وروى بشر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهم الله أنه إذا لم يكن عالما فله أن يرد نصيبه بالعيب; لأنه لا يتم رضاه وقبوله حين لم يكن عالما بأن شريكه معتق وبدون تمام القبول لا يعتق نصيب الشريك فكان هذا بمنزلة العيب في نصيبه فإن لم يكن عالما به كان له أن يرده ولو كان عالما به لم يكن له أن يرده كذا في المبسوط وقال محمد في إيداع الصبي أي في مسألة إيداع الصبي; لأنه أي المودع سلطه أي الصبي على استهلاكه أي استهلاك الشيء المودع. وهذا إشارة منه إلى المعنى المؤثر; لأنه لما مكنه من المال قد سلطه على إتلافه حسا والتسليط يخرج فعل المسلط من أن يكون جناية في حق المسلط بل يكون رضا بالاستهلاك, والرضاء بالاستهلاك يسقط الضمان على المسلط للمسلط, ثم إنه بقوله احفظ يريد أن يجعل التسليط مقصورا على الحفظ بطريق العقد, وهذا في حق البالغ صحيح وفي حق الصبي لا يصح أصلا, وفي حق العبد المحجور لا يصح في حالة الرق وخص محمدا بالذكر وإن كان قول أبي حنيفة رحمهما الله مثل قوله باعتبار التصنيف وقال الشافعي رحمه الله في الزنا لا يوجب حرمة المصاهرة; لأنه أمر رجمت عليه أي هو أمر يفضي إلى أشد العقوبات وأقبحها, وهو الرجم والنكاح أمر حمدت عليه لما ورد فيه من الفضائل فأنى يتشابهان؟ وهذا استدلال منه في الفرق بوصف مؤثر فإن ثبوت حرمة المصاهرة بطريق النعمة والكرامة فيجوز أن يكون(3/525)
المبتذل فاحتيج فيه إلى الحجة الضرورية وأما ما ليس بمال فغيره مبتذل فيجب إثباته بالحجة الأصلية وليزداد خطره على ما هو مبتذل وعلى هذا الأصل جرينا في الفروع فقلنا في مسح الرأس إنه مسح فلا يسن تثليثه كمسح الخف; لأن معنى المسح معنى مؤثر في التخفيف في فرضه حتى لم يستوعب محله ففي سننه أولى فأما قول الخصم إنه ركن في الوضوء غير مؤثر في إبطال
ـــــــ
سببها ما يحمد المرء عليه ولا يجوز أن يكون سببها ما يعاقب المرء عليه, وهو الزنا الموجب للرجم وأشار أيضا إلى أن الزنا لما كان أمرا يرجم عليه كان واجب الإعدام بأحكامه ولذلك وجب درؤه بالشبهات لينعدم ولا يظهر فثبت أن السبيل فيه الإعدام بآثاره في إثبات حرمة المصاهرة تقريره وإبقاؤه وما يجب إعدامه لا يجوز أن يتعلق به ما يترتب عليه بقاؤه, وهذه أي الأوصاف التي ذكرها السلف في هذه المسائل أوصاف ظاهرة الآثار كما بينا وقال الشافعي رحمه الله في النكاح إنه لا يثبت بشهادة النساء مع الرجال; لأنه أي النكاح ليس بمال ولذلك أي وللمعنى الذي ذكره, وهو أنه ليس بمال أثر في هذا الحكم. وهو عدم اعتبار شهادتهن في النكاح; لأن المال هو المبتذل أي المستهان تجري المساهلة فيه وكثير المعاملة به بين الناس فاحتيج فيه إلى الحجة الضرورية وهي شهادة النساء مع الرجال التي فيها شبهة دفعا للحرج فإن الأصل أن لا يكون لهن شهادة لبناء أمرهن على التستر وعلى الغفلة والضلالة كما قال تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} [البقرة: 282] فأما ما ليس بمال مثل النكاح, والطلاق ونحوهما فغير مبتذل ولا يكثر فيه البلوى والمعاملة ويكون في محافل الرجال فيجب إثباته بالحجة الأصلية وهي شهادة الرجال وحدهم لعدم تأديته إلى الحرج.
قوله "وليزداد خطره عطف" على ما قبله من حيث المعنى, وتقديره وأما ما ليس بمال فيجب إثباته بالحجة الأصلية لعدم ابتذاله ولازدياد خطره على ما هو مبتذل فإن احتاج النكاح إلى المقدمات مثل الخطبة والمشاورة في العادات والاستشفاع بالعظماء وإحضار الشهود, والولي دل على خطره فلا يثبت إلا بحجة أصلية خالية عن الشبهة فثبت بما قلنا أن طريق تعليل السلف رحمهم الله هو التعليل بالوصف المؤثر.
قوله "وعلى هذا الأصل", وهو أن اعتبار الملاءمة والتأثير واجب اتباعا للسلف جرينا في الفروع التي اختلفنا فيها مع الفقهاء فقلنا في مسح الرأس يعني في أنه لا يشترط فيه التكرار لإكمال السنة أنه مسح فلا يسن تثليثه كمسح الخف. وهو مؤثر لأن معنى المسح مؤثر في التخفيف فإن المسح أيسر من الغسل وتأدي الفرض به دليل التخفيف, وقد(3/526)
التخفيف وعللنا في ولاية المناكح بالصغر والبلوغ, وهو المؤثر; لأنها ما شرعت إلا حقا للعاجز كالنفقة فصح التعليل بالعجز والقدرة للوجود والعدم ولم يكن للبكارة والثيابة في ذلك أثر, وقلنا في صوم رمضان إنه عين وهذا مؤثر; لأن النية في الأصل للتعيين والتمييز وذلك يحتاج إلى ذكره عند المزاحمة دون الانفراد وعلل بأنه فرض ولا أثر للفرضية إلا في إصابة المأمور وهذا أكثر من أن يحصى.
ـــــــ
ظهر أثر التخفيف في فرضه حتى لم يشترط استيعاب المحل بالمسح بخلاف المغسولات فلأن يظهر في سنته بأن لم يبق التكرار سنة فيه كان أولى; لأن السنة تبع الفرض وأضعف منه فكانت أولى بظهور أثر التخفيف فيها من الفرض فأما قول الخصم: إنه ركن في وضوء فغير مؤثر في إبطال التخفيف أي لا ينفي ما ذكرنا من معنى التخفيف; لأن مسح الخف ركن ولا يسن تثليثه. وكذا المسح في التيمم فعرفنا أنه لا أثر للركنية في إبطال التخفيف وإثبات التكرار, وعللنا في ولاية المناكح أي في إثبات ولاية الإنكاح بالصغر وفي انتفائها بالبلوغ حتى كان للأب أن يزوج الثيب الصغيرة كالبكر الصغيرة, وليس له أن يزوج البكر البالغة إلا برضاها كالثيب البالغة عندنا. والمناكح جمع منكح اسم المكان, أو الزمان من النكاح أي ولاية تثبت وقت النكاح, أو في مكان النكاح, أو جمع منكح بمعنى المصدر من الإنكاح ومجيء المصدر على وزن المفعول قياس في المزيد, وهو أي الصغر وصف مؤثر; لأنها أي ولاية الإنكاح ما شرعت إلا على وجه النظر للمولى عليه باعتبار عجزه عن مباشرة النكاح بنفسه مع حاجته إلى مقصوده كالنفقة تجب على الولي حقا للعاجز عنها, والمؤثر في ذلك الصغر والبلوغ دون الثيابة والبكارة بدليل ثبوت الولاية وانتفائها في المال بالصغر والبلوغ. وكذا الولاية على الذكر وانتفاؤها بالصغر والبلوغ فصح التعليل بالعجز, وهو الصغر والقدرة, وهو البلوغ للوجود والعدم أي لوجود الولاية وعدمها ولم يكن للبكارة والثيابة في ذلك أي في إثبات الولاية وإعدامها أثر وقلنا في صوم رمضان: إنه صوم عين فيتأدى بمطلق النية وهذا أي وصف العينية مؤثر في إسقاط وجوب التعيين; لأن إيجاب النية في أصل وضعها للتميز بين المحتملين فإيجاب أصل النية في العبادات للتمييز بين العادة والعبادة وإيجاب تعيين الجهة للتمييز بين تلك الجهة وغيرها وذلك أي التمييز إنما يحتاج إلى ذكرها أي ذكر التمييز على تأويل النية عند مزاحمة الغير كما في الصلاة فأما إذا كان المشروع عينا ليس معه غيره فقد ارتفعت الحاجة إلى تمييز الجهة فلا يشترط التعيين وعلل أي الشافعي في اشتراط التعيين بأنه صوم فرض فلا بد من تعيين جهة الفرض كصوم القضاء وكالصلاة ولا أثر للفرضية إلا في إصابة المأمور أي في الإتيان بالمأمور به يعني لا أثر لهذا الوصف في إيجاب التعيين(3/527)
فإن قيل: التعليل بالأثر لا يكون قياسا لأنه لا قياس إلا بالأصل. قلنا مجمع عليه مثل قولنا في إيداع الصبي إنه سلطه على استهلاكه; لأن أصله إباحة الطعام على أنا نسمي ما لا أصل له علة شرعية لا قياسا والصحيح أنه قياس على ما قلنا لكنه مسكوت لوضوحه والله تعالى أعلم.
ـــــــ
وإسقاطه إنما أثره فيما ذكر لا غير فثبت أنا سلكنا طريق السلف في اعتبار الوصف المؤثر في القياس. "وهذا" أي اعتبارنا الوصف المؤثر في الفروع المختلف فيها أكثر من أن يحصى.
قوله "فإن قيل التعليل بالأثر" إلى آخره قال الإمام شمس الأئمة رحمه الله في تقرير هذا السؤال كيف يستقيم هذا أي التعليل بالمؤثر والقياس لا يكون إلا لفرع وأصل فإن المقايسة تقدير الشيء بالشيء وبمجرد ذكر الوصف بدون الرد إلى أصل لا يكون قياسا, ثم أجاب فقال قد قال بعض مشايخنا هذا النوع من التعليل عند ذكر الأصل يكون مقايسة وبدون ذكر الأصل يكون استدلالا بعلة مستنبطة بالرأي بمنزلة ما قاله الخصم إن تعليل النص بعلة تتعدى إلى الفرع يكون مقايسة وبعلة لا تتعدى لا يكون مقايسة لكن يكون بيان علة شرعية للحكم ثم قال والأصح عندي أن يقال هو قياس على كل حال فإن مثل هذا الوصف يكون له أصل في الشرع لا محالة ولكن يستغنى عن ذكره لوضوحه وربما لا يقع الاستغناء عنه فذكر مما يقع الاستغناء عن ذكره ما قلنا في إيداع الصبي; لأنه سلطه على ذلك فإنه لهذا الوصف يكون مقيسا على أصل واضح, وهو أن من أباح الصبي طعاما فتناوله لم يضمن لأنه بالإباحة سلطه على تناوله وتركنا ذكر هذا الأصل لوضوحه. ومما يذكر فيه الأصل ما قال علماؤنا رحمهم الله في طول الحرة إنه لا يمنع نكاح الأمة أن كل نكاح يصح من العبد بإذن المولى فهو صحيح من الحر كنكاح حرة وهذا إشارة إلى معنى مؤثر وهو أن الرق ينصف الحل الذي يبتني عليه عقد النكاح شرعا ولا يبدله بحل آخر فيكون الرقيق في النصف الباقي بمنزلة الحر في الكل; لأنه ذلك الحال بعينه ولكن في هذا المعنى نوع غموض فيقع الحاجة إلى ذكر الأصل فيثبت أن جميع ما ذكرنا استدلال بالقياس في الحقيقة وأنه موافق لطريق السلف في تعليل الأحكام الشرعية يسمى ما لا أصل له علة شرعية أي ثابتة بالشرع جعلها الشرع علة فيكون بمنزلة نص لا يحتاج إلى أصل آخر مثل قوله عليه السلام "إنها من الطوافين والطوافات عليكم" على ما قلنا يعني في أول هذا الكلام أن الأثر لا يكون إلا بأصل مجمع عليه لكنه أي الأصل مسكوت عنه لوضوحه أي لظهوره والله أعلم.(3/528)
باب بيان المقالة الثانية
"وتقسيم وجوهه وهو الطرد"
اعلم بأن الاحتجاج بالطرد احتجاج بما ليس بدليل ولا حجة ومن عدل عن طريق الفقه إلى الصورة أفضى به تقصيره إلى أن قال لا دليل على الحكم يصلح دليلا وكفى به فسادا, والكلام في الباب قسمان:. قسم في بيان الحجة والثاني في تقسيم الجملة, وقد اتفق أهل هذه المقالة أن الاطراد دليل الصحة لكنهم اختلفوا في تفسيره فقال بعضهم هو الوجود عند الوجود في جميع الأصول وزاد بعضهم العدم مع العدم أيضا وزاد بعضهم أن يكون النص قائما في
ـــــــ
"باب بيان المقالة الثانية"
"الإطراد"
وتقسيم وجوهه وهو الطرد, ذكر في الباب المتقدم أن القائسين اختلفوا في دلالة كون الوصف علة على قولين وذكر أحد القولين في ذلك الباب وهو قول أهل الفقه فكان القول الآخر, وهو قول أهل الطرد ثانيا بالنسبة إليه فعقد هذا الباب لبيانه وذكر الضمير الراجع إلى المقالة في وجوهه بتأويل القول أو الطرد قسم في بيان الحجة أي في بيان كون الطرد حجة وغير حجة, أو في بيان الحجة لأصحاب الطرد والحجة عليهم. والثاني في تقسيم الجملة أي جملة ما هو عمل بلا دليل من أقسام الطرد وما يشابه من جملة ما ليس بحجة وقد اتفق أهل هذه المقالة أي أهل الطرد على أن الاطراد دليل على صحة العلة من غير اشتراط ملاءمة, أو تأثير لكنهم اختلفوا في تفسير الاطراد الذي هو دليل على الصحة فقال بعضهم هو الوجود عند الوجود أي المراد من الطرد وجود الحكم عند وجود الوصف من غير اشتراط ملاءمة أو تأثير في جميع الأصول أي في جميع الصور وزاد بعضهم يعني على ما ذكره الفريق الأول العدم مع العدم يعني جعل هؤلاء الطرد مع العكس وهو المسمى بالدوران وجودا وعدما دليل صحة العلة دون مجرد الطرد, ثم اختلف هؤلاء فقال بعضهم: إنه يدل عليها قطعا وهو مذهب بعض المعتزلة وقال بعضهم: إنه يدل عليها ظنا(3/529)
الحالين ولا حكم له واحتجوا جميعا بأن دلائل صحة القياس لا تخص وصفا دون وصف وكل وصف بمنزلة نص من النصوص; ولأن علل الشرع أمارات غير
ـــــــ
وهو مذهب بعض الأصوليين وأكثر أبناء الزمان من أهل الجدل وزاد بعضهم أي على الطرد والعكس أن يكون النص قائما في الحالين ولا حكم له يعني شرط أن يكون المنصوص عليه قائما في حال وجود الوصف وحال عدمه ولا يكون الحكم مضافا إليه بل إلى الوصف كما أن قوله صلى الله عليه وسلم "لا يقضي القاضي وهو غضبان" معلل بشغل القلب لدوران الحكم معه وجودا وعدما, ولا حكم للمنصوص عليه, وهو الغضب, أو لنفس النص في الحالين فإن الغضب إذا وجد ولم يوجد شغل القلب لا يثبت حرمة القضاء مع أن ظاهر النص يقتضي حرمته لوجود الغضب المنصوص عليه وإذا وجد الشغل بدون غضب بالجوع أو بالعطش, أو نحوهما نثبت الحرمة مع أن النص لا يقتضي حرمته لعدم الغضب المنصوص عليه فتعلق الحكم بالشغل وجودا وعدما وانقطاعه عن الغضب المنصوص عليه حتى لم يؤثر وجوده في وجوده ولا عدمه في عدمه دليل على كون الشغل علة. وقيل: اشتراط قيام النص ولا حكم له في الحالين إنما يستقيم على قول من جعل المفهوم حجة فأما عند من لم يجعله حجة فلا; لأن قيام النص وعدم حكمه إن تصور في حال عدم الوصف كما قلنا لا يتصور في حال وجود الوصف فإن شغل القلب إن وجد بالغضب يكون النص قائما مع حكمه وهو ثبوت الحرمة وإن وجده بغيره لا يكون النص قائما; لأن معنى قيام النص ولا حكم له قيامه في هذه الصورة وتناوله لها مع عدم حكمه فيها لا قيامه في نفس الأمر فإذا لم يكن المفهوم حجة لا يكون للنص عند عدم الوصف المنصوص عليه موجب في نفي الحكم ولا في إثباته فلا يكون النص قائما في هذه الحالة لكن إذا جعل المفهوم حجة يكون عدم الحكم عند عدم الوصف من موجب النص فيكون النص قائما ولا حكم له.
قوله "واحتجوا" أي أهل الطرد جميعا على كون الطرد دليل صحة العلة بأن الدلائل التي جعلت القياس حجة لم تخص وصفا دون وصف فظواهرها يقتضي جواز التعليل لكل وصف إلا ما قام عليه دليل يمنع عن التعليل به فكان كل وصف بمنزلة نص من المنصوص في جواز التعليل والعمل به فيجوز إثبات الحكم به من غير أن يفعل فيه معنى إلا أنه إذا لم يكن مطردا دل على عدم اعتبار الشرع إياه; لأن تخلف الحكم عن العلة أمارة النقض وذلك غير جائز على صاحب الشرع. ولأن علل الشرع أمارات أي علامات على ثبوت الأحكام فإنها غير مثبتة بذواتها إذ المثبت في الحقيقة هو الله جل جلاله وإذا كانت أمارات لم يشترط فيها أن يكون معقولة المعاني; لأن أمارة الشيء ما يكون ذلك الشيء(3/530)
موجبة فلا حاجة بنا إلى معنى يعقل والجواب أن الشرع جعل الأصل شاهدا, وذلك لا تقتضي الشهادة بكل كما جعل كامل الحال من الناس شاهدا, ثم لم يجب أن يكون كل لفظة شهادة إلا بمعنى معقول يوجب تمييزا فأما قوله إنها أمارات وكذلك في حق الله فأما في حق العباد فإنهم مبتلون بنسبة الأحكام إلى العلل كما نسبت الأجزئة إلى أفعالهم ونسب الملك إلى البيع والقصاص إلى
ـــــــ
موجودا عنده من غير أن يشترط فيها معنى معقول يضاف وجود ذلك الشيء إليه كالمنارة للمسجد والميل للطريق ولأن الدوران مهما حصل ولم يكن مانع من الحكم بالعلية حصل العلم, أو الظن عادة بكون المدار, وهو الوصف علة للدائر وهو الحكم كما إذا دعي إنسان باسم يغضب ثم ترك دعاؤه به فلم يغضب وتكرر ذلك منه مرارا علم أن دعاءه بذلك هو سبب الغضب حتى إن الأطفال يعلمون ذلك منه ويتبعون له داعين بذلك الاسم المغضب له; ولأن عدم الاطراد لما كان دليل فساد العلة يكون الاطراد دليل صحتها; لأنه ليس بين الصحة والفساد واسطة.
قوله "والجواب" أي عن كلام أهل الطرد أن الشرع جعل الأصل شاهدا يعني النصوص التي جعلت القياس حجة جعلت الأصل شاهدا والوصف منه شهادة على ما مر وذلك أي صيرورته شاهدا لا يقتضي الشهادة بكل وصف أي لا يقتضي أن يكون كل وصف منه شهادة; لأن القياس متحقق ببعض الأوصاف بل يقتضي أن يكون شهادته بوصف خاص متميز من بين سائر الأوصاف بدليل كما جعل الشرع كامل الحال من الناس, وهو الحر العاقل البالغ العدل شاهدا. ثم لم يجب أي لم يدل ذلك أن يكون لفظة منه شهادة بل بعض الألفاظ, ثم لا بد من معنى معقول يميزه عن سائر الألفاظ مثل قوله أشهد فإنه تميز من بين الألفاظ التي تصلح للإخبار عن المشهود به من قوله أعلم, أو أتيقن أو أخبر, أو أعلم بالوكادة التي فيه فإنه ينبئ عن المشاهدة التي هي السبب المطلق لأداء الشهادة وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "إذا رأيت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع" ولهذا كان أشهد من ألفاظ اليمين فكذا هاهنا لا بد من أن يكون الوصف متميزا من بين سائر الأوصاف بدليل معقول; ولأن كل وصف لو صلح علة والأوصاف محسوسة مسموعة لشارك السامعون وأهل اللغة كلهم الفقهاء في المقايسات, ولما اختص بها الفقهاء فعلم أن المقايسة مبنية على معان تفقه لا أوصاف تسمع كذا في التقويم ولا أعرف وجه تعلق الاستثناء في قوله إلا بمعنى معقول وكان من حق الكلام أن يقال, ثم لم يجب أن يكون كل لفظة شهادة بل وجب أن يكون بعض الألفاظ شهادة وذلك البعض لا يتميز إلا بمعنى معقول يوجب تميزا "وأما قوله" أي قول الخصم "نها" أي العلل أمارات "فكذلك" أي فيما ذكر(3/531)
القتل وما يجري مجراه فكانت غير موجبة في الأصل, ولكنها جعلت موجبة شرعا في حقنا على ما يليق بها, وهي النسبة أليس وجب القصاص على القاتل وقد مات القتيل بأجله وإذا كان كذلك لم يكن بد من التمييز بين العلل والشروط, ومجرد الاطراد لا يميز وكذلك العدم عند عدمه; لأنه يزاحمه الشرط فيه ولأن
ـــــــ
لكن في حق الله تعالى; لأنه هو الشارع للأحكام في الحقيقة والموجب لها فأما في حق العباد فلا; لأنهم مبتلون بنسبة الأحكام إلى العلل وإن كانت الأحكام ثابتة بشرعه جل جلاله كما نسبت الأجزئة إلى أفعالهم بقوله عز اسمه {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] و[الأحقاف: 14] و[الواقعة: 24] مع أن الأجزئة فضل من الله, أو عدل ويجوز أن يكون معناه أن العقوبات المشروعة أجزئة مثل الرجم والجلد والقطع منسوبة إلى أفعالهم من الزنا والقذف والسرقة "وما يجري مجراه" أي مجرى ما ذكرنا مثل نسبة الحل إلى النكاح والحرمة إلى الطلاق فكانت أي العلل غير موجبة في الأصل بذواتها ولهذا لم يكن موجبة قبل الشرع. ولكنها أي العلل جعلت موجبة شرعا في حقنا على ما يليق بها, وهو النسبة يعني كونها موجبة ثبت في حقنا بالطريق الذي يليق بها, وهو أن ينسب الأحكام إليها بأن يقال القصاص حكم القتل, والملك حكم البيع والحل حكم النكاح فهذا النوع من النسبة يليق بها فأما نسبة حقيقة الإيجاب إليها في حق الله تعالى وفي علمنا أيضا فلا, وهذا كإيجاب القصاص على القاتل فإنه مضاف إلى القتل وإن كان المقتول ميتا بأجله في حق علمنا فثبت أن علل الشرع ليست أمارات على الإطلاق وإذا كان كذلك أي كان الأمر كما قلنا, وهو أن العلل صارت موجبة شرعا في حقنا لم يكن بد من التمييز بين العلل والشروط أي من دليل يميز بينهما ومجرد الاطراد لا يميز; لأنه يوجد مع الشرط أيضا. وكذلك العدم عند عدمه هذا جواب عما قال الفريق الثاني أن وجود الحكم عند وجود الوصف قد يكون اتفاقا وقد يكون علة فلا يتعين جهة كونه علة إلا بعدم الحكم عند عدمه فيصلح العدم عن العدم دليلا مميزا للعلة عن غيرها فقال وكذلك العدم عند عدمه أي كما لا يصلح الاطراد دليلا مميزا لا يصلح عدم الحكم عند عدم الوصف دليلا مميزا أيضا. لأنه أي الوصف يزاحمه الشرط فيه أي في عدم الحكم عند عدمه فإن دوران الحكم كما يوجد مع العلة وجودا وعدما يوجد مع الشرط كذلك أيضا فإن وجوب أداء الزكاة ووجوب صدقة الفطر ووجوب الطهارة كما يدور مع النصاب والرأس وإرادة الصلاة التي هي أسبابها وجودا وعدما يدور مع الحول ويوم الفطر والحدث التي هي شروطها وجودا وعدما أيضا وكذا العتق كما يدور مع الإعتاق يدور مع الدخول في قوله إن دخلت الدار فأنت حر وذلك; لأن الأحكام لا تدور مع الأسباب إلا بوجود الشروط فتدور الأحكام مع الشروط وجودا بوجود الأسباب وتنعدم عند عدمها على الإطلاق قال الشيخ في "شرح التقويم"(3/532)
نهاية الطرد الجهل لأنه يقال له: وما يدريك أنه لم يبق أصل مناقض, أو معارض وهل ثبت ذلك لك إلا بأن وقفت عن الطلب وقد كان يتأدى لك ذلك قبل الطرد وأما العدم فليس بشيء فلا يصلح دليلا وكيف يصلح مع احتمال أن يثبت بعلة أخرى فلا يصح شرط عدمه ألا ترى أن مثل هذا لا يوجد في علل السلف وأما
ـــــــ
أما قولهم العدم عند العدم دليل على أن الوجود لم يكن اتفاقا فليس بشيء; لأن الوجود عند الوجود كما يكون اتفاقا يكون العدم عند العدم اتفاقا أيضا فلا يصلح حجة ولأن نهاية الطرد الجهل أي الجهل بوجود المعارض والمناقض فإنه لا يمكنه أن يقول ليس لهذا الوصف مناقض ولا معارض أصلا بل غاية أمره أن يقول إلى ما وجدت له معارضا ولا مناقضا; لأنه لا يمكنه الطرد في جميع الأصول وهل ثبت ذلك أي وما ثبت عدم المعارض والمناقض عندك إلا بالوقوف عن طلبهما وقد كان يتأدى أي يتهيأ لك ذلك أي الوقوف عن طلب والحكم بانتفاء المعارض والمناقض قبل الطرد وأما العدم فليس بشيء فلا يصلح دليلا أي لا يصلح في نفسه دليلا على شيء لأن الدليل على الشيء أمر وجودي وكيف يصلح أي عدم الحكم عند عدم الوصف دليلا على كون الوصف علة مع احتمال أن يثبت الحكم بعلة أخرى يعني ولئن سلمنا أنه يصلح دليلا في نفسه فلا يصلح دليلا هاهنا; لأنه لو كان دليلا على صحة الوصف لامتنع ثبوت الحكم عند عدم علة بعلة أخرى ولاقتضى ذلك أن لا تكون لحكم واحد إلا علة واحدة وقد ثبت في الشرع لحكم واحد علل متعددة كالنوم والإغماء وخروج النجاسة من السبيلين ومن غيرهم لانتقاض الطهارة وكالبيع والهبة والصدقة والميراث والاستيلاء للملك وكالردة والكفر المفضي إلى المحاربة والبغي والزنا بعد الإحصان لإباحة القتل. فلا يصلح شرط عدمه برفع الطاء والشرط مصدر مضاف إلى المفعول والضمير للحكم أي لا يصلح اشتراط عدم الحكم عند عدم الوصف لصحة كون الوصف علة. وصحح في بعض الشروح بنصب الطاء فقيل معناه فلا يصلح عدم العلة شرط عدم الحكم لاحتمال أن يثبت الحكم بعلة أخرى وإذا لم يصلح شرطا له كيف يستدل بعدم الحكم عند عدم الوصف على صحة ذلك الوصف ولهذا إذا كانت العلة منحصرة يصح الاستدلال بعدم الحكم على عدم العلة وبالعكس والوجه هو الأول وعبارة بعض المحققين ولو كان العدم عند العدم دليل الصحة لكان الوجود عند العدم دليل الفساد; لأن بالوجود عند العدم لا يبقى دليل الصحة, وهو العدم عند العدم كالوجود عند الوجود عندكم لما كان دليل الصحة كان العدم عند الوجود دليل الفساد لزوال دليل الصحة به واتفاق الكل هاهنا على جواز الحكم في محل بعلل تدل على أن الوجود عند العدم ليس دليل الفساد فلا يصلح العدم عند العدم دليل(3/533)
من شرط أن يكون النص قائما في الحالين ولا حكم له فقد احتج بآية الوضوء
ـــــــ
الصحة ضرورة وأما استدلالهم بحصول الظن, أو العلم بالدعاء باسم مغضب فليس بصحيح; لأنا لا نسلم حصول العلم أو الظن بكون ذلك الاسم سبب الغضب بمجرد الدوران فإنه لولا ظهور انتفاء غير ذلك من الأوصاف ببحث أو بأنه الأصل لم يظن والبحث طريق مستقل بنفسه ويقوى بالدوران. وذكر في القواطع أن أحكام الشرع مرتبطة بطريق علمي, أو ظني يستند إلى سبب وإذا خلا عن هذين الطريقين يكون مجرد احتكام على الشرع, والطرد لا يفيد علما ولا ظنا; لأن الحكم الذي ربطه به إثباتا لو ربطه به نفيا لم يترجح في مسلك الظن أحدهما على الآخر فبطل التعلق به, ألا ترى أن القياس الفاسد قد يطرد كما سيجيء بيانه ولو كان الاطراد دليل صحة العلة لم يقم هذا الدليل على الأقيسة الفاسدة وكذا استدلالهم بدلالة عدم الاطراد على الفساد على دلالة الاطراد على الصحة فاسد; لأن عدم الاطراد دليل النقض, والنقض باطل فأما الاطراد فغايته أنه يدل على عدم النقض أو لا يدل على النقض فلا يلزم منه كونه علة فإن قيل قد اتفقنا أن الطرد والعكس يصلح دليلا على العلة في الأحكام العقلية فكذا في الأحكام الشرعية وهذا; لأن العلة ما يثبت به الحكم والمثبت في الحقيقة هو الله تعالى في الحقائق والحكميات جميعا فإن الجاعل للذات متحركا هو الله تعالى, ولكن بواسطة الحركة كما أن المثبت للملك هو الله تعالى ولكن بسبب البيع, ثم العلة في الحقائق تثبت بالطرد والعكس فكذا في الشرعيات قلنا: الحقائق لا تختلف باختلاف الأزمان فيجوز أن يكون أن يكون الطرد والعكس فيها دليلا على العلة فأما العلل الشرعية فمبنية على مصالح العباد وأنها تختلف باختلاف الأزمان وأحوال الناس فلا يصلح الدوران دليلا عليها بل تعرف علل الشرع بالشرع والشرع هو النص والاستدلال على الوجه الذي ذكرنا في الباب المتقدم, إليه أشير في الميزان, ألا ترى أن مثل هذا أي مثل التمسك بالطرد لا يوجد في علل السلف فإنه لم يرو عن أحد من الصحابة أنه تمسك بطرد لا يناسب الحكم ولا يؤثر فيه وأقوى دليل في صحة القياس إجماعهم, وإنما نظروا في الأقيسة من حيث المعاني وسلكوا طريق المراشد والمصالح التي تشير إلى محاسن الشريعة ولو كان الطرد صحيحا لما عطلوه ولا أهملوه ولا تركوا التعليل به وكذلك سائر الأمة المقتدى بهم. قال صاحب القواطع وإذا انتهى التصرف في الشرع إلى هذا المنتهى كان ذلك استهزاء بقواعد الدين واستهانة بضبطها وتطريقا لكل قائل أن يقول ما أراد ويحكم بما شاء; ولهذا صرف علماء الشرع سعيهم إلى البحث عن المعاني المخيلة المؤثرة.
قوله "وأما من شرط قيام النص" إنما شرط الفريق الثالث مع الدوران قيام النص وعدم حكمه في الحالين; لأن الحكم إذ وجد مع وجود الاسم والمعنى وعدم بعدمهما لم(3/534)
وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يقضي القاضي وهو غضبان" أنه معلول بشغل القلب; لأنه يحل له القضاء وهو غضبان عند فراغ القلب ولا يحل القضاء عند شغله بغير الغضب إلا أن هذا شرط لا يكاد يوجد إلا نادرا في بعض الأصول ظاهرا فكيف يجعل أصلا وذلك غير مسلم أيضا; لأن الحدث لم يثبت في باب الوضوء بالتعليل بل بدلالة النص وصيغته أما الصيغة, فلأنه ذكر التيمم بالتراب الذي هو
ـــــــ
يكن إضافة الحكم إلى المعنى بأولى عن إضافته إلى الاسم كتحريم العصير إذا اشتد وسمي خمرا وزوال الحرمة عند زوال الشدة والاسم أما إذا كان الاسم قائما في الحالين والحكم دائر مع المعنى وجودا وعدما زالت شبهة تعلق الحكم بالاسم فيتعين المعنى لكونه علة وصار كما إذا تعين جهة المجاز في النص لا يبقى للحقيقة حكم بوجه واحتج بآية الوضوء فإن وجوب الوضوء فيها رتب على القيام إلى الصلاة ولما عللت بالحدث دار الحكم معه وجودا وعدما حتى لم يجب الوضوء عند القيام بدون الحدث ووجب عند الحدث بدون القيام إلى الصلاة والمنصوص عليه وهو القيام إلى الصلاة أو النص قائم في الحالين ولا حكم له وبقول النبي صلى الله عليه وسلم "لا يقضي القاضي, وهو غضبان" فإن حرمة القضاء فيه رتب على الغضب ولما علل بشغل القلب دار الحكم وجودا وعدما حتى حل القضاء مع وجود الغضب عند فراغ القلب, ولا يحل عند شغله مع عدم الغضب والنص قائم في الحالين ولا حكم له, إلا أن هذا أي ما ذكر الفريق الثالث من اشتراط قيام النص وعدم كلمة شرط لا يكاد يوجد إلا نادرا. وذلك من حيث الظاهر أيضا لا من حيث الحقيقة فكيف فكيف يجعل أصلا أي لا يمكن أن يجعل أصلا لأن النادر لا حكم له على أن من شرط صحة التعليل أي يبقى الحكم في المنصوص بعد التعليل على ما كان قبله فإذا علل على وجه لا يبقى للنص حكم بعده يكون ذلك أنه فساد القياس لا دليل صحته وكيف يجوز أن لا يبقى للنص حكم بعد التعليل, وليس المقصود بالتعليل إلا تعدية حكم النص إلى محل لا نص فيه فإذا لم يبق له حكم فأي شيء يتعدى إلى الفرع وذلك غير مسلم أي قيام النص ولا حكم له بناء على دوران الحكم مع الوصف المعلل به غير مسلم فيما ذكرت من النصين أيضا ومعنى قوله أيضا أنه مع ندرته غير مسلم هاهنا; لأن الحدث ثابت بالنص لا بالتعليل قال الشيخ رحمه الله في نسخة أخرى العلة الموجبة للوضوء إرادة الصلاة على ما مر فإن سلمنا أن الحدث سبب فنقول: ذلك حدث بالاستدلال بالنص بما ذكر وكذلك ذكر الغسل أي وكما ذكر التيمم معلقا بالحدث ذكر الغسل معلقا به أيضا والنص في البدل النص في الأصل; لأنه أي البدل يفارق الأصل بحاله لا بسببه من حيث إنه يجب في حال لا يجب فيه الأصل فكان ذكر(3/535)
بدل عن الماء معلقا بالحدث وكذلك ذكر الغسل, وهو أعظم الطهرين فقال جل ذكره {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] وقال {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] والنص في البدل نص في الأصل; لأنه يفارقه بحاله لا بسببه وأما الدلالة فقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] أي من مضاجعكم, وهو كناية عن النوم والنوم دليل الحدث
ـــــــ
لسبب في البدل بقوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} بيانا أنه هو السبب للأصل, ألا ترى أنه تعالى لما ذكر الغسل بقوله جل ذكره: {فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6], أو لم يذكر ما يغسل به وذكر الماء في البدل بقوله عز اسمه {تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} كان ذلك بيانا أن الغسل واجب بالماء فكذا هذا. فإن قيل هذا إثبات للحدث في الوضوء بطريق الدلالة لا بالصيغة فإنه استدلال بذكره في البدل على ثبوته في المبدل, وهو في بيان ثبوته بالصيغة. قلنا أراد بالثبوت بالصيغة هاهنا أن لفظا من ألفاظ النص يدل عليه فإنه تعالى لما ذكر الأحداث, ثم ذكر عدم الماء بقوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} ثم رتب الحكم على وجود الحدث عند عدم الماء, عرف بصيغة هذا الكلام أن الأمر بالتوضؤ عند وجود الماء مرتب على الحدث وأراد بثبوته بالدلالة على الثبوت بمضمر فإن قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} لما دل على إضمار لأن العمل بظاهره غير ممكن لاقتضائه وجوب الوضوء عند كل قيام بل في كل ركعة من الصلاة, وهو خلاف الإجماع أضمر فيه من مضاجعكم أي إذا قمتم من مضاجعكم إلى الصلاة فاغسلوا وقد نقل عن بعض الصحابة أنه لو كان يقرأ هكذا والقيام من المضاجع كناية عن النوم أي عن التنبه عن النوم والنوم دليل الحدث; لأنه سببه بواسطة استرخاء المفاصل وإذا ثبت أن اشتراط الحدث لهذين الوجهين لم يكن ثابتا بالتعليل لا يكون النص ساقطا بل هو قائم مع حكمه في الحال قال القاضي الإمام رحمه الله الحدث شرط زيد في الآية لا بالرأي ولكن بدلالة النص فإنه قال: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [النساء: 43] وقال في الاغتسال: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} وقال في بدل الوضوء {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} وإنما يتعلق وجوب التيمم الذي هو بدل بما يجب به الأصل فتعين أن المراد بصدر الآية إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون ولكن سقط ذكر الحدث اختصارا لما في الآية ما يدل عليه ونحن لم ننكر الاختصار والزيادة بدلالة النص, وإنما أنكرنا الزيادة بالرأي فإنها تجري مجرى النسخ فهذا يشير إلى أن الوجهين المذكورين من باب الدلالة. وإليه يشير تقرير شمس الأئمة أيضا.(3/536)
وهذا النظم والله أعلم لأن الوضوء مطهر فدل على قيام النجاسة فاستغنى عن ذكره بخلاف التيمم, والوضوء متعلق بالصلاة والحدث شرطه. فلم يذكر الحدث ليعلم أنه سنة وفرض فكان الحدث شرط لكونه فرضا لا لكونه سنة فأما الغسل فلا يسن لكل صلاة بل هو فرض خالص فلم يشرع إلا مقرونا بالحديث وكذلك الغضب معلول بشغل القلب وقط لا يوجد الغضب بلا شغل ولا يحل
ـــــــ
قوله: "وهذا النظم" أي اختير هذا النظم, وهو أن الحدث لم يذكر في الوضوء الذي هو الأصل وذكر في البدل, وهو التيمم لأن الوضوء مطهر بنفسه وحقيقته كما قال تعالى: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6] فدل كونه مطهرا على قيام النجاسة; لأن المطهر ما يثبت الطهارة ويقتضي ذلك ثبوت النجاسة ليصح إثبات الطهارة فإن إثبات الثابت مستحيل فاستغنى عن ذكر الحدث بخلاف التيمم; لأنه ليس بمطهر بنفسه بل هو تلويث حقيقة فلم يدل ذكره على قيام نجاسة فلو لم يذكر الحدث فيه صريحا لتوهم أن الحدث ليس بشرط فيه بل يجب التيمم لكل صلاة عند عدم الماء تعبدا ويلزم على هذا التقرير أن الحدث قد ذكر في الغسل بقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} مع أنه تطهير حقيقة كالوضوء فأشار إلى الفرق بينه وبين الوضوء فقال, والوضوء متعلق بالصلاة أي شرعه لأجل الصلاة وسبب وجوبه إرادة الصلاة. والحدث شرطه أي شرط وجوبه عرف ذلك بذكره في البدل كما بينا فلم يذكر الحدث في الوضوء صريحا ليعلم بظاهر النص أن الوضوء مشروع لكل صلاة إما بطريق الفرض أو الندب فإذا كان محدثا كان الأمر في حقه للإيجاب فيكون الوضوء فرضا وإذا لم يكن محدثا كان الأمر في حقه للندب فيكون الوضوء سنة عند إرادة الصلاة فأما الغسل فليس بمسنون لكل صلاة بل هو فرض خالص أي الغسل الذي تعلق به الصلاة نوع واحد, وهو الفرض فلم يشرع إلا مقرونا بالحدث بقوله عز اسمه {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} ولا يلزم عليه غسل الجمعة والعيدين; لأن المدعى أن الغسل لكل صلاة ليس بمسنون وبشرعية الغسل للجمعة والعيدين لا يثبت كون الغسل سنة لكل صلاة على أن كلامنا فيما ثبت بالكتاب وبإشارته وذلك ثبت بالسنة. وذكر في الكشاف فإن قلت ظاهر الآية يوجب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة محدث وغير محدث فما وجهه؟ قلت يحتمل أن يكون الأمر للوجوب فيكون الخطاب للمحدثين خاصة وأن يكون للندب وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده أنهم كانوا يتوضئون لكل صلاة فإن قلت هل يجوز أن يكون الأمر شاملا للمحدثين وغيرهم, لهؤلاء على وجه الإيجاب ولهؤلاء على وجه الندب؟ قلت لا; لأن تناول الكلمة لمعنيين مختلفين من باب الإلغاز والتعمية وقيل كان الوضوء لكل صلاة أول ما فرض ثم نسخ.(3/537)
القضاء إلا بعد سكونه وإنما التعليل للتعدية. وأما تقسيم هذه الجملة فإن أول أقسامه الاطراد وجودا أو وجودا وعدما والذي يليه الاحتجاج باستصحاب الحال والذي يليه الاحتجاج بالنفي والعدم والذي يليه الاحتجاج بتعارض الأشباه والذي يليه الاحتجاج بما لا يستقل إلا بوصف يقع به الفرق والذي يليه أن يكون الوصف مختلفا ظاهر الاختلاف والذي يليه ما لا يشك في فساده والذي يليه الاحتجاج بأن لا دليل أما الأول فلأن الاطراد لا يثبت به إلا كثرة الشهود أو
ـــــــ
قوله وكذلك الغضب أي وكما أن الحدث ثابت بدلالة النص لا بالرأي الغضب معلول بشغل القلب أي المراد منه شغل القلب لأن الغضب سببه وقد يسمى الشيء باسم سببه كذا ذكر الشيخ في بعض مصنفاته وقط لا يوجد غضب بلا شغل فلا يستقيم قول الخصم النص قائم ولا حكم له لإباحة القضاء مع وجود الغضب عند فراغ القلب; لأنا لا نسلم ذلك بل لا يحل القضاء إلا عند سكون الغضب وإن قل; لأنه لا يخلو عن شغل ألبتة فتبين أن الحكم في جميع المواضع ثابت بالنص لا بالعلة مع قيام النص ولا حكم له قال القاضي الإمام رحمه الله وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا يقضي القاضي حين يقضي, وهو غضبان" كناية عن القضاء وهو مشغول القلب عرف ذلك بدلالة الإجماع كما صار قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] كناية عن الإيذاء حتى صار الشتم بمنزلته عقل ذلك بدلالة محل الخطاب ما هو من التعليل بالرأي للقياس في شيء. وإنما التعليل للتعدية أي التعليل إبداء لتعدية الحكم الثابت بالنص إلى محل لا نص فيه فاشتراط وجود النص ولا حكم له يمنع التعليل فيكون فاسدا.
قوله "وأما تقسيم هذه الجملة" أي جملة ما هو احتجاج بلا دليل من الاطراد ونحوه فأول أقسامه الاطراد; لأنه على نهج العلل فإن الوصف المطرد من أوصاف النص قد يكون ملائما وقد يكون مؤثرا في نفسه وإن لم يبين الطارد تأثيره فيكون مقدما على سائر الأقسام. والذي يليه الاحتجاج بالنفي والعدم; لأنه يصلح حجة للدفع في بعض المواضع والذي يليه الاستصحاب; لأنه ليس بدليل لإثبات الحكم, ولكنه حجة لإبقاء ما كان على ما كان والذي يليه تعارض الأشباه; لأنه حجة عند البعض والذي يليه ما لا يستقل إلا بوصف يقع به الفرق إلا أنه وصف مجمع عليه فكان مقدما على وصف مختلف فيه ثم الوصف المختلف فيه مقدم على ما لا يشك في فساده; لأن ذلك الوصف المختلف فيه حجة عند الخصم ثم هو مقدم على الاحتجاج بأن لا دليل; لأنه ليس بأقل من العدم كذا ذكر في بعض الشروح(3/538)
كثرة أداء الشهادة وصحة الشهادة لا تعرف بكثرة العدد ولا بتكرير العبارة بل بأهلية الشاهد وعدالته واختصاص أدائه; ولأن الوجود قد يكون اتفاقا والعدم قد يقع; لأنه شرطه, ألا ترى أن وجود الشيء ليس بعلة لبقائه فكيف يصلح علة للوجود في غيره بنفسه, وكذلك وجود الحكم ولا علة, لا يصلح دليلا لجواز
ـــــــ
أما الأول أي عدم صحة الوجه الأول, فلأن الاطراد لا يثبت به إلا كثرة الشهود أي بالنظر إلى الأصول التي يوجد فيها هذا الوصف, أو كثرة أداء الشهادة يعني بالنظر إلى نفس الوصف وهو كقولهم في المسح ركن في الوضوء فيسن تثليثه فوصف الركنية موجود في غسل الوجه وغسل اليدين وغسل الرجلين وكل واحد منها أصل بنفسه فكان فيه كثرة الشهود إلا أن هذا الوصف لما كان واحدا كان فيه تكثير أداء الشهادة قال القاضي الإمام: الاطراد إنما يثبت بكون الوصف شاهدا أينما وجد في كل أصل على العموم فلا يكون عموم شهادته دليلا على عدالته بمنزلة شاهد كرر شهادته في كل مجلس قضاء فلا يصير التكرار والثبات على الأداء تعديلا, أو نقول: كل أصل شاهد بنفسه بذلك الوصف فيه فيكون بمنزلة شهود ورواة كثيرة فلا تصير الكثيرة تعديلا لمن لم يكن عدلا قبل الكثرة ولأن الوجود قد يكون اتفاقا أي وجود الحكم عند وجود وصف قد يقع بطريق الاتفاق والعدم قد يقع; لأنه شرط أي العدم عند العدم قد يقع باعتبار أنه شرط فإن المعلق بالشرط معدوم قبل وجوده فلا يصلح الوجود عند الوجود ولا العدم دليلا على صحة العلة, ثم استوضح ما ذكر من أن الاطراد لا يصلح دليل الصحة بقوله, ألا ترى أن وجود الشيء أي مجرد وجود شيء ليس بعلة لبقاء ذلك الشيء فإن الوجود لو كان علة للبقاء لما فنى شيء في الدنيا. ولهذا صح أن يقال وجد ولم يبق فكيف يصلح علة للوجود في غيره بنفسه أي يصلح الوجود بنفسه علة لوجود غيره من غير نظر إلى معنى آخر من تأثير, أو إخالة; لأن البقاء أسهل من الابتداء فلما لم يصلح نفس الموجود سببا للبقاء فلأن لا يصلح سببا للإيجاد ابتداء, وهو اتحاد الحكم كان أولى. وهذا بخلاف العلل المؤثر فإنها علة الوجود في غيرها ولم تكن علة للبقاء في نفسها; لأنها كانت علة باعتبار الأثر لا باعتبار الوجود وأثرها يظهر في الغير لا في نفسها أما الوجود فثابت بالنسبة إلى نفسه وغيره فلو صلح علة في غيره باعتبار الوجود لكن علة في نفسه بالطريق الأولى وأما ما يقال الوجود علة الرؤية فالمراد أن الوجود هو الذي قبل الرؤية لا أنه مؤثر في الرؤية. وكذلك وجود الحكم أي كما أن الوجود عند الوجود لا يصلح دليلا على صحة العلة لا يصلح العدم عند العدم دليلا على الفساد أيضا; لأن موجب العلة ثبوت الحكم بها لا أن يثبت الحكم بها ولا يثبت بغيرها بل كما يجوز أن يثبت بها يجوز أن يثبت بغيرها فلا يدل عدمها على(3/539)
وجوده بغيره ووجود العلة ولا حكم بنفسه لا يصلح مناقضا لجواز أن يقف الحكم لفوت وصف من العلة ليس بعلة بنفسه فلا يكون مناقضة وقد دل عليه
ـــــــ
عدم الحكم ولا وجود الحكم عند عدم العلة على فساد العلة لجواز وجوده أي وجود الحكم بغيره أي بغير الوصف الذي هو علة.
قوله: "ووجود العلة ولا حكم بنفسه لا يصلح مناقضا" أهل الطرد لا يزول تخصيص العلة فتخلف الحكم عن الوصف الذي جعل علة يدل على انتقاضه عندهم, وأهل التأثير لا يجعلون عدم الحكم عند وجود العلة صورة دليل المناقضة لكن القائلين بجواز التخصيص منهم مثل القاضي الإمام أبي زيد وعنده يقولون لا يتخلف الحكم عن العلة المؤثرة إلا لمانع فوجود المانع يكون تخصيصا للعلة ومن أنكر جواز تخصيص العلة منهم يقولون تخلف الحكم عن العلة المؤثرة إنما يكون لفوات وصف من العلة فينعدم به العلة بمنزلة علة ذات وصفين إذا عدم أحدهما فيكون عدم الحكم لعدم العلة لا لمانع تخصيصها مع وجودها. فالشيخ رحمه الله رد المذهب الأول بقوله: ووجود العلة أي وجود صورة العلة ولا حكم بنفسه أي لا يثبت حكم بنفس ذلك الوصف الذي هو علة لا يصلح مناقضا أي لا يكون نقضا لجواز أن يقف الحكم أي يمتنع لفوت وصف من العلة ذلك الوصف ليس بعلة بنفسه فكان عدم الحكم لعدم علته, كالنصاب علة لوجوب الزكاة ولكن بصفة النماء فبدونه لا يعمل في الإيجاب لعدم تمام العلة بفوات وصفها فلا يكون مناقضة ورد المذهب الثاني بقوله ولا ذكره وقد دل عليه التعليل تخصيصا ويحتمل هذا الكلام وجوها أن يكون الضميران في ذكره وعليه للعلة على تأويل الوصف والواو للحال هو المعنى لا يكون ذكر الوصف الذي هو علة بدون الحكم تخصيصا للعلة مع أن التعليل يدل على كون ذلك الوصف علة بل يكون عدم الحكم لعدم العلة بناء على فوات وصف من العلة أو المعنى لا يكون ذكر الوصف بأنه علة لهذا الحكم والحال أن التعليل يدل على أن ذلك الوصف علة له تخصيصا للحكم بتلك العلة بل يجوز أن يكون للحكم علة أخرى ثبت الحكم بها عند عدم هذا الوصف لما بينا. وأن يكون الضمير الأول للمعلل بطريق إضافة المصدر إلى الفاعل, والثاني للعلة على تأويل الوصف ويكون قوله: وقد دل عليه التعليل مفعول الذكر أي ولا يكون ذكر المعلل هذا الكلام وهو قوله قد دل التعليل على هذا الوصف علة لكن لم يثبت حكمه لمانع تخصيصا للعلة بل هو امتناع الحكم لعدم العلة بفوت وصف منها, وإن كانت صورتها موجودة وأن يرجع الضمير الأول إلى فوت الوصف من العلة. والثاني إلى الوصف الغائب منها والواو للحال أي لا يكون ذكر فوت الوصف من العلة مع أن التعليل يدل على اشتراط ذلك الوصف لتمام العلة تخصيصا(3/540)
التعليل تخصيصا على ما تبين إن شاء الله تعالى إلا أن هذا نهج العلل ظاهرا فكان مقدما في أقسامه.
ثم التعليل بالنفي مثل قول الشافعي رحمه الله في النكاح لا يثبت بشهادة النساء مع الرجال; لأنه ليس بمال وفي الأخ لا يعتق لأنه ليس بينهما بعضية ولا يلحق المبتوتة طلاق; لأنه نكاح بينهما ويجوز الإسلام
ـــــــ
للعلة يعني إذا فات وصف من العلة وامتنع الحكم عنها بفواته يسميه من جوز التخصيص مانعا مخصصا, ويقول العلة موجودة موجبة للحكم إلا أنه امتنع حكم لهذا المانع, وهو فوات الوصف فخصت به فقال الشيخ لا يصلح ذكر فوات ذلك الوصف تخصيصا أي مخصصا للعلة; لأن التخصيص إنما يستقيم إذا وجدت العلة بتمامها أصلا ووصفا, ثم لا يثبت حكمها بالمانع ولم يوجد العلة هاهنا بتمامها; لأن التعليل يدل على أنه لا بد من الوصف الفائت لتمام العلة فلا يكون فوات ذلك الوصف مانعا مخصصا بل ينعدم العلة بفواته فينعدم الحكم لانعدامها, ولما ثبت أن وجود الحكم عند عدم العلة لا يدل على فسادها وأن وجود صورة العلة بدون حكمها لا يدل على المناقضة, والتخصيص لا يدل الوجود عند الوجود ولا العدم عند العدم على الصحة اعتبارا لحالة الموافقة بحال المخالفة في الصحة والفساد على ما تبين أي في باب تخصيص العلل إن شاء الله تعالى إلا أن هذا أي الاحتجاج بالاطراد على نهج العلل بسكون الهاء أي طريقها من حيث إنه وصف من أوصاف النص يدور الحكم معه كما يدور مع الوصف المؤثر, وتحريك الهاء لحن; لأن النهج بالتحريك البهر وتتابع النفس ولا معنى له هاهنا.
قوله "التعليل بالنفي" يعني بعد الاحتجاج بالاطراد في الرتبة التعليل بعدم الوصف لعدم الحكم, وهو فاسد لأن العدم ليس بشيء وما ليس بشيء لا يصلح علة للأحكام ولأن عدم وصف لا ينافي وجود وصف آخر يثبت الحكم به لما قلنا إن الحكم يجوز يرى أن يثبت بعلل شتى لا يرى أن العدم ليس بأعلى حالا وصف من الوجود ووجود وصف لا يمنع وجود آخر فكيف يمنع العدم وكذلك الوجود لا يصلح علة للبقاء ولا لوجود شيء آخر فكيف يصلح العدم علة لوجود الأحكام مثل قول الشافعي في النكاح إنه لا ينعقد بشهادة الرجال مع النساء لأنه ليس بمال فأشبه الحدود وفي الأخ إذا ملك أخاه لا يعتق; لأنه ليس بينهما بعضية فأشبه ابن العم ولا يلحق المبتوتة طلاق يقال بت طلاق المرأة وأبته أي طلقها طلاقا لا رجعة فيه, والمبتوتة المرأة وأصلها المبتوت طلاقها يعني لا يلحقها صريح الطلاق في العدة كما لا يلحقها البائن فيها; لأنه لا نكاح بينهما فصار كما بعد انقضاء العدة ويجوز إسلام المروي في المروي أي الثبوت المروي في جنسه وهذه النسبة إلى بلد بالعراق على شط الفرات; لأنهما أي البدلين مالان لم يجمعهما طعم ولا(3/541)
المروي في المروي; لأنهما مالان لم يجمعهما طعم ولا ثمنية, وهذا في الظاهر جرح على مثال العلل لكنه لما كان عدما لم يكن شيئا فلا يصلح حجة للإثبات, ألا ترى أن استقصاء العدم لا يمنع الوجود من وجه آخر إلا أن يقع الاختلاف في حكم سبب معين وفي حكم ثبت دليله بالإجماع واحدا لا ثاني له مثل قول محمد في ولد الغصب لأنه لم يغصب الولد ومثل قوله فيما لا خمس فيه من اللؤلؤ; لأنه لم يوجف عليه المسلمون; لأن ذلك لم يوجد بغيره فأما قوله ليس
ـــــــ
ثمينة يعني المعنى الموجب لحرمة النسيئة التي هي من أنواع الربا الطعم أو الثمنية ولم يوجد واحد منهما فلا يثبت حرمة النسيئة كما إذا اختلف الجنس, وهذا في الظاهر أي هذا النوع من التعليل, وهو التعليل بالنفي جرح في الظاهر على مثال العلل أي العلل الصحيحة; لأنه ترتيب الحكم على علة يتوهم أنها مؤثرة إذ عدم الوصف يصلح دليلا في بعض المواضع على انتفاء الحكم لكنه أي التعليل بالنفي لما كان عدما أي استدلالا بعدم وصف على عدم حكم لم يكن شيئا إذ العدم ليس بشيء فلا يصلح حجة للإثبات أي لإثبات أحكام الشرع ولا يقال ما ذكرتم مسلم إذا كان الحكم ثبوتيا فأما إذا كان عدميا فلا; لأن العدم يصلح علة للعدم. وهذه أحكام عدمية عللت بالعدم فينبغي أن يجوز; لأنا نقول هذا عين المتنازع فيه بل العدم لا يصلح علة أصلا وعدم الحكم لا يحتاج إلى علة أيضا لأنه ثابت بالعدم الأصلي.
"ألا ترى أن استقصاء العدم" أي عدم العلة لا يمنع الوجود من وجه آخر أي لا يمنع وجود الحكم من طريق آخر فإنك لو قلت: زيد ليس بموجود لأنه ليس في مكان كذا ولا في بلد كذا. وكذا لا يصح; لأنه يحتمل أن يكون في مكان لا تعلمه.
قوله "إلا أن يقع الاختلاف" استثناء من قوله فلا يصلح حجة للإثبات, وهو جواب عما يقال إنكم قد عللتم بالنفي في مواضع كثيرة مثل قول محمد رحمه الله في ولد الغصب أي المغصوب: إنه ليس بمضمون لأنه أي الغاصب لم يغصب الولد ومثل قوله فيما لا خمس فيه من اللؤلؤ; لأنه لم يوجف عليه المسلمون فأشار إلى الجواب وقال إلا أن يقع الاختلاف في حكم سببه معين كما في ولد الغصب فإن الاختلاف واقع في أن ضمان الغصب هل يجب في زوائد المغصوب أم لا لا في مطلق الضمان فإن الضمان كما يجب بالغصب يجب بالإتلاف والبيع الفاسد وغيرهما وفي حكم الواو بمعنى أو يعني أو أن يقع الاختلاف في حكم ثبت دليله بالإجماع واحدا لا ثاني له مثل وجوب الخمس فإن سببه في الشرع واحد بالإجماع وهو الإيجاف بالخيل والركاب فحينئذ يصح الاستدلال(3/542)
بمال فلا يمنع قيام وصف له أثر في صحة الإثبات بشهادة النساء مع الرجال, وهو
ـــــــ
بعدم العلة على عدم الحكم "لأن ذلك" أي حكم سبب معين, أو حكم سبب لا ثاني له لا يوجد بغير ذلك السبب, فانتفاء ذلك السبب يدل على انتفاء الحكم ضرورة. وذكر القاضي الإمام رحمه الله أمثلة من هذا الجنس, ثم قال إنما قالها محمد رحمه الله على سبيل الاستدلال دون التعليل والمقايسة; لأن حكم العلة لا بد من أن ينعدم إذا عدمت العلة كما كان معدوما قبل العلة, وإنما أتينا إضافة العدم إلى عدم العلة واجبا به وإذا بطلت الإضافة لم يكن علة, وإنما يبقى الحكم مع عدم العلة لعلة أخرى فتكون مثل الأولى لا عينها في الوجوب والتعلق بها وإذا كان كذلك صح الاستدلال بعدم العلة على عدم الحكم إذا وقع الاختلاف في حكم علة بعينها فأما قوله ليس بمال فكذا يعني ما ذكره الشافعي ليس من قبيل ما ذكره محمد رحمهما الله فإن قول الشافعي النكاح ليس بمال فلا يثبت بشهادة النساء مع الرجال تعليل بعدم الوصف لا استدلال; لأن قبول شهادة النساء مع الرجال لم يثبت اختصاصه بالأموال في الشرع ليصح الاستدلال بعدم المال على عدم القبول وإذا كان تعليلا لا يمنع كونه غير مال قيام وصف له أثر في صحة إثباته بشهادة النساء مع الرجال. وهو أي ذلك الوصف أن النكاح وإن لم يكن مالا فهو من جنس ما لا يسقط بالشبهات يعني إذا طرأت عليه شبهة بعد ثبوته لا يسقط بها بل هو من جنس ما يثبت مع الشبهات يعني إذا كانت مقارنة له لا تمنعه من الانعقاد نحو نكاح الهازل ونكاح المكره والدليل عليه أنه يثبت بالشهادة على الشهادة وبكتاب القاضي إلى القاضي مع أن فيها زيادة شبهة يمكن الاحتراز عنها; ولهذا لا يثبت بهما الحدود والقصاص فعرفنا أنه من جنس ما يثبت بالشبهات فصار فوق الأموال من هذا الوجه بدرجة يعني صار النكاح فوق الأموال من هذا الوجه بدرجة وهي أنه يثبت مع الشبهات, والمال لا يثبت بها, ألا ترى أن البيع لا يثبت مع الهزل وأن تفريق الصفقة في البيع مفسد للبيع حتى لو قبل البيع في أحد العبدين فيما إذا قال البائع بعت منك هذين العبدين بكذا لا يصح, ولو قبل نكاح إحدى المرأتين صح, وكذا لو جمع بين حر وقن وباعهما لا يصح البيع أصلا ولو جمع بين من يحل له نكاحها وبين من لا يحل وتزوجهما صح العقد في حق من يحل له نكاحه فيثبت أن النكاح فوق الأموال في ثبوته مع الشبهة دونها ولما ثبت المال بشهادة النساء مع الرجال مع أنه لا يثبت بالشبهة وإن لم يسقط بها فلأن يثبت النكاح الذي لا يؤثر الشبهة في ثبوته وسقوطه كان أولى وذكر في الأسرار في بيان ثبوت النكاح مع الشبهة وعدم سقوطه بها أن النكاح يثبت مع شرط أن لا مهر, ومهر فاسد والبيع لا يصح معهما فكان أسهل جوازا. وكذا النكاح الفاسد يوجب بشبهة النكاح حتى لو دخل بها الناكح لم يجب عليهما الحد, ثم لو تزوجها(3/543)
أن النكاح من جنس ما لا يسقط بالشبهات بل هو من جنس ما يثبت بها فصار فوق الأموال في هذا بدرجة وكذلك في أخواتها على ما عرف وأما الاحتجاج
ـــــــ
رجل صح ولم يجعل شبهة نكاح الذي تزوج فاسدا مانعة من صحة هذا النكاح. وكذا النكاح الثابت لا يبطل بنكاح آخر, وإن دخل بها, ويثبت له شبهة النكاح حتى وجبت العدة عليها ولم يجب الحد, وكذا لو اشترى المكاتب منكوحة مولاه لم يبطل النكاح وقد ثبت للمولى شبهة ملك في مال مكاتبه بل حق الملك حتى استولد أمة مكاتبة النسب ولم يوجب الحد ولو تزوجها ابتداء لم يصح لحق الملك فلما لم يبطل النكاح بحق الملك فبالشبهة أولى وكذا رجوع الشاهد بعد القضاء لا يبطل القضاء ولو كان من جنس ما يسقط بالشبهة لبطل القضاء به كما في الحدود فثبت أن النكاح يثبت مع الشبهة, ولا يسقط بها. وكذلك في أخواتها يعني كما أن التعليل بالعدم في هذه المسألة لا يمنع من قيام وصف آخر يثبت الحكم به لا يمنع التعليل بالعدم في أخوات هذه المسألة, وهي مسألة عتق الأخ وطلاق المبتوتة وإسلام المروي في المروي من قيام أوصاف آخر يثبت الحكم بها في تلك المسائل ففي مسألة عتق الأخ إن لم يوجد البعضية فقد وجدت القرابة التي صينت عن الاستدلال بأدنى الذلين, وهو ذل ملك النكاح فيصان عن الاستدلال بأعلى الذلين بالطريق الأولى. وفي المبتوتة إن لم يوجد النكاح فقد وجدت العدة التي هي من آثاره وصحة الطلاق تستغني عن زوال ملك النكاح حكما له فإن صريح الطلاق بعد صريح الطلاق منعقد ولا أثر له في إزالة الملك فإن الأول قد انعقد لإزالة الملك فلا حاجة إلى انعقاد الثاني لها. وكذا لو طلقها طلاقا رجعيا يبقى النكاح منعقدا ولا يزيل الملك بحال فثبت أن زوال الملك ليس بحكم لازم من الطلاق بل حكمه اللازم إبطال حل المحلية إذا تم ثلثا وإذا كان كذلك أمكن إعماله في تفويت الحل وإبطاله بعد الإبانة فوجب القول بصحته إلا أنا شرطنا قيام العدة لأنه لا بد من ضرب ملك لنفاذ تصرفه عليها وذلك يحصل بالعدة تارة وبقيام النكاح أخرى فأيهما وجد ينفذ تصرفه عليها, إليه أشير في الأسرار والطريقة البرغرية وفي إسلام المروي في المروي إن لم يوجد الطعم أو الثمنية فقد وجدت الجنسية التي هي أحد وصفي علة ربا الفضل وأنها تصلح بانفرادها علة لربا النسيئة كالوصف الآخر وهو الطعم عنده والكيل عندنا فإن من باع قفيز حنطة بقفيز شعير نسيئة لا يجوز بالاتفاق, وقول الخصم الجنسية شرط وليست بأحد وصفي العلة فاسد; لأن العلة تتميز من الشرط بالتأثير وقد ظهر تأثير الجنسية في إثبات التسوية على ما بينا فيكون من العلة. وكذا قوله الجنسية بعض العلة فلا نثبت به الحكم فاسد أيضا; لأنها بعض العلة في ربا الفضل فأما في(3/544)
باستصحاب الحال فصحيح عند الشافعي وذلك في كل حكم عرف وجوبه بدليله, ثم وقع الشك في زواله كان استصحاب حال البقاء على ذلك موجبا بعد
ـــــــ
الربا النسيئة فهي جميع العلة استدلالا بالوصف الآخر فإنه كان بعض العلة في ربا الفضل وصار جميع العلة في ربا النسيئة فإن قيل فساد البيع لفوات القبض لا لربا النسيئة. قلنا هذا الكلام يهدم قاعدة الشريعة فإنه يؤدي إلى إنكار ربا النسيئة وأنه ثابت بالنصوص المشهورة حتى كان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: لا ربا إلا في النسيئة بل ربا النسيئة أثبت من ربا الفضل فإن الصحابة قد اتفقت عليه فكان ما يؤدي إلى إنكاره باطلا فصار حاصل هذا الفصل ما أشير إليه في الميزان أو التعليل بالنفي على وجهين: أحدهما أن يعلل لنفي الحكم بنفي وصف من أوصاف المنصوص عليه, وهو فاسد; لأنه يجوز أن يكون الحكم متعلقا بوصف آخر غيره, وهو في الحقيقة تعليل بعلة قاصرة ويجوز أن يكون الحكم ثابتا بعلل والثاني أن يكون الحكم ثابتا بعلة معينة ليست له علة أخرى كضمان الغصب لا يجب بدون الغصب وحد السرقة لا يجب بدون السرقة فكان نفي الحكم بنفي الغصب والسرقة نفيا صحيحا ألا ترى إلى قوله تعالى : {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} [الأنعام: 145] الآية فإن التحريم لما كان لا يعرف إلا بالوحي انعدم عند عدمه.
قوله "وأما الاحتجاج باستصحاب الحال" إلى آخره الاستصحاب في اللغة طلب الصحبة ويقال استصحب الكتاب وغيره, وكل شيء لازم شيئا فقد استصحبه وسمي هذا النوع استصحاب الحال; لأن المستدل يجعل الحكم الثابت في الماضي مصاحبا للحال, أو يجعل الحال مصاحبا لذلك الحكم وفي الشريعة هو الحكم بثبوت أمر في الزمان الثاني بناء على أنه كان ثابتا في الزمان الأول وقيل هو التمسك بالحكم الثابت في حال البقاء لعدم الدليل المغير, وعبارة بعضهم هو الحكم ببقاء الحكم الثابت للجهل بالدليل المغير لا للعلم بالدليل المتقي وقال بعضهم هو عبارة عن الحكم ببقاء حكم ثابت بدليل غير متعرض لبقائه ولا لزواله محتمل للزوال بدليله لكنه التبس عليك حاله, وهذه العبارات تؤدي معنى واحدا في التحقيق, ثم لا خلاف أن استصحاب حكم عقلي, وهو كل حكم عرف وجوبه وامتناعه وحسنه وقبحه بمجرد العقل, أو استصحاب حكم شرعي ثبت تأبيده, أو توقيته نصا, أو ثبت مطلقا وبقي بعد وفاة النبي عليه السلام واجب العمل به لقيام دليل البقاء وعدم الدليل المزيل قطعا ولا خلاف أن استصحاب حكم ثبت بدليل مطلق غير معترض للزوال, والبقاء ليس بحجة قبل الاجتهاد في طلب الدليل المزيل لا في حق غيره ولا في حق نفسه; لأن جهله بالدليل المزيل بسبب تقصير منه لا يكون حجة على غيره ولا في(3/545)
الإحتجاج به على الخصم وعندنا هذا لا يكون حجة للإيجاب لكنها حجة دافعة على ذلك دلت مسائلهم فقد قلنا في الصلح على الإنكار إنه جائز ولم نجعل براءة الذمة وهي أصل حجة على المدعي بل صار قول المدعي معارضا
ـــــــ
حق نفسه أيضا إذا كان متمكنا من الطلب إلا أن لا يكون متمكنا منه. فأما إذا كان الحكم ثابتا بدليل مطلق غير معترض للزوال, وقد طلب المجتهد الدليل المزيل بقدر وسعه ولم يظهر فقد اختلف فيه فقال جماعة من أصحاب الشافعي مثل المزني والصيرفي وابن شريح وابن خيران إنه حجة ملزمة متبعة في الشرعيات, وإليه مال الشيخ أبو منصور رحمه الله فإنه ذكر في مأخذ الشرائع أن هذا القسم يصلح حجة على الخصم في موضع النظر ويجب العمل به على كل مكلف إذا لم يجد دليلا فوقه من الكتاب, والسنة ولا يجوز تركه بالقياس قبل الترجيح وتابعه في ذلك جماعة من مشايخ سمرقند وهو اختيار صاحب الميزان وقال كثير من أصحابنا وبعض أصحاب الشافعي وأبو الحسين البصري وجماعة من المتكلمين: إنه ليس بحجة أصلا لا لإثبات أمر لم يكن ولا لإبقاء ما كان على ما كان وقال أكثر المتأخرين من أصحابنا مثل القاضي الإمام أبي زيد والشيخين وصدر الإسلام أبي اليسر ومتابعيهم إنه لا يصلح حجة لإثبات حكم مبتدأ ولا للإلزام على الخصم بوجه ولكنه يصلح لإبلاء العذر وللدفع فيجب عليه العمل به في حق نفسه, ولا يصح له الاحتجاج به على غيره.
قوله. "وذلك في كل حكم" بيان الاستصحاب أي الاستصحاب, أو الاحتجاج بالاستصحاب إنما يتحقق في كل حكم عرف وجوبه أي ثبوته بدليل, ثم وقع الشك في زواله كان استصحاب حال البقاء على ذلك أي على ذلك الوجوب يعني كأن جعل حال البقاء مصاحبا للوجوب دليلا موجبا أي ملزما يصح الاحتجاج به على الخصم وعندنا هذا أي الاستصحاب لا يكون للإيجاب أي لا يصلح للإلزام, لكنها حجة دافعة أي يدفع إلزام الغير واستحقاقه, والضمير للاستصحاب وتأنيثه لتأنيث الخبر كقوله تعالى: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} أو تأويل الحال أي لكن الحال حجة دافعة على ذلك دلت مسائلهم أي على ما قلنا من كون الاستصحاب موجبا عنده دافعا عندنا دلت مسائل الفريقين: منها مسألة الصلح على الإنكار فإنه جائز عندنا ويصح الاعتياض عما ادعاه وعنده لا يجوز; لأن الأصل في الذمة هو البراءة عن الحقوق; لأنها خلقت فارغة, والشغل بعارض والتمسك بالأصل حجة للدفع والإلزام عنده وكما يدفع التمسك بهذا الأصل الدعوى عن المدعى عليه يتعدى إلى المدعي في إبطال دعواه وصار كأنه أقام بينة على أن ذمته فارغة عن حق الغير ونحن جعلنا البراءة دافعة للدعوى ولم نجعلها حجة على المدعي بل صار(3/546)
لقوله على السواء والشافعي رحمه الله جعله موجبا حتى تعدى إلى المدعي فأبطل دعواه وأبطل الصلح وقلنا في الشقص: إذا باع من الدار فطلب الشريك الشفعة فأنكر المشتري ملك الطالب فيما يده أن القول قوله فلا تجب الشفعة إلا ببينة وقال الشافعي: يجب بغير بينة وكذلك رجل قال لعبده: إن لم تدخل الدار اليوم فأنت حر
ـــــــ
دعوى المدعي إلى أن المدعى حقي وملكي معارضا لإنكار المنكر على السواء فإنه خبر محتمل أيضا فكما لا يكون خبر المدعي حجة على المدعى عليه في إلزام التسليم إليه لكونه محتملا فكذلك خبر المدعى عليه لا يكون حجة على المدعي في إبطال دعواه وفساد الاعتياض بطريق الصلح ولهذا لو صالحه أجنبي على مال جاز بالاتفاق ولو ثبت براءة ذمته في حق المدعي بدليل كما ذكره الخصم لم يجز صلحه مع الأجنبي كما لو أقر أنه مبطل في دعواه, ثم صالح مع أجنبي كذا ذكر شمس الأئمة رحمه الله.
وتقرير آخر أن قول المدعي معتبر في حقه دون خصمه, وإنكار خصمه ليس بمعتبر في حق المدعي فكانا سواء في أنهما ليسا بحجتين في حق كل واحد منهما فجوزنا الصلح في حق المدعي اعتياضا عن حقه, وفي حق المنكر افتداء باليمين وقطعا لخصومة عنه; لأن خبر كل واحد منهما حجة في حق نفسه فلو لم يجز الصلح لكان قول المنكر حجة على المدعي, ولا يقال لو جاز الصلح لجعل قول المدعي حجة في حق الخصم; لأن الجواز في جانبه بجهة افتداء اليمين لا; لأن الحق ثبت عليه, ومنها مسألة الشفعة ما هي ما إذا بيع من الدار شقص وطلب الشريك الشفعة من المشتري فأنكر المشتري أن يكون ما في يد الشفيع من الدار ملك الشفيع بأن قال يدك ليست بيد ملك بل كانت يد إجارة وإعادة وأنكر الطالب أن يكون يده يد إجارة أو إعارة كان القول قول المشتري حتى أن الشفيع ما لم يقم بينة على أن ما في يده من الدار ملكه لا يستحق الشفعة عندنا لأنه يتمسك بالأصل فإن اليد دليل الملك في الظاهر, وهو لا يصح حجة للإلزام وقال الشافعي رحمه الله أنه يستحق الشفعة يعني إن أقام بينة ملكه وأن يده يد ملك; لأن التمسك بالأصل يصلح حجة للدفع والإلزام جميعا عنده. وإنما وضع المسألة في الشقص احترازا عن موضع الخلاف فإن الشفعة بالجواز ليست بثابتة عنده والشقص الجزء من الشيء والنصيب, ومنها مسألة تعليق عتق العبد فإنه إذا قال لعبده إن لم تدخل الدار اليوم فأنت حر, ثم اختلف بعد مضي اليوم فقال المولى: قد دخلت وقال العبد: لم أدخل كان القول قول(3/547)
فمضى اليوم ثم اختلفا ولا يدري أدخل أم لا فإن القول قول المولى عندنا لما ذكرنا واحتج بأن الحكم إذا ثبت بدليله بقي بذلك الدليل أيضا, ألا يرى أن حكم النص يبقى به بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى تعذر نسخه واحتج بإجماعهم على أن من تيقن بالوضوء لم يلزمه وضوء آخر ولزمه أداء الصلاة بما
ـــــــ
المولى عندنا حتى لا يعتق العبد; لأن العبد متمسك بالأصل, وهو عدم الوجود والتمسك به لا يصلح حجة للإلزام على الغير فلا يبطل به إنكار المولى عدم الدخول فيجعل كأن العبد أقام البينة على ذلك فيعتق ويكون القول قوله لما ذكرنا أن الاستصحاب حجة دافعة لا ملزمة.
ثم استدل من جعله حجة على الإطلاق بالنص, وهو قوله عليه السلام: "إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول أحدثت أحدثت فلا ينصرفن حتى يسمع صوتا, أو يجد ريحا1" حكم باستدامة الوضوء عند الاشتباه, وهو عين الاستصحاب وبالإجماع وهو أنه إذا تيقن بالوضوء, ثم شك في الحدث جاز له أداء الصلاة ولم يكن الوضوء ولو تيقن بالحدث, ثم شك في الوضوء يبقى الحدث وكذا إذا تيقن بالنكاح, ثم شك في الطلاق لا يزول النكاح بما حدث من الشك وهذا كله استصحاب. وبالدليل المعقول, وهو أن الحكم إذا ثبت بدليل ولم يثبت له معارض قطعا ولا ظنا يبقى بذلك الدليل أيضا, ألا ترى أن الحكم الثابت بالنص يبقى به أي بذلك بالنص بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تعذر نسخه أي نسخ ذلك الحكم لبقاء النص الموجب له وبعد وفاته عليه السلام واستدل صاحب الميزان للشيخ أبي منصور رحمهما الله بأن الحكم حتى ثبت شرعا فالظاهر دوامه لما تعلق به من المصالح الدينية والدنيوية, ولا يتغير المصلحة في زمان قريب, وإنما تحتمل التغير عند تقادم العهد فمتى طلب المجتهد الدليل المزيل ولم يظفر به فالظاهر عدمه وهذا نوع اجتهاد, وإذا كان البقاء ثابتا بالاجتهاد لا يترك باجتهاد مثله بلا ترجيح ويكون حجة على الخصم كمن تعلق بقياس صحيح فأنكر خصمه وعارضه بقياس لا رجحان له على الأول يجب أن يكون المنكر محجوجا به; لأن ذلك حكم قد ثبت بقاؤه بالاجتهاد فلا يزول إلا بدليل يترجح على الأول وإن كان أوجب شبهة في الأول وهذا معنى قول الفقهاء أن ما أمضى بالاجتهاد لا ينتقض باجتهاد مثله.
ألا ترى أن الحكم المطلق في حال حياة النبي عليه السلام كان محتملا للنسخ ثم هو ثابت في حق من كان بعيدا عنه في حق وجوب العمل به والإلزام على الغير ودعوة الناس
ـــــــ
1 أخرجه الإمام أحمد في المسند 3/12.(3/548)
علمه وإن شك في الحدث وإذا علم بالحدث, ثم شك في الوضوء يبقى الحدث ولو ثبت ملك الشفيع بإقرار المشتري أنه كان له وأنه اشتراه من فلان وفلان كان يملكه وجبت الشفعة وإنما يبقى ملكه لعدم ما يزيله, ومع ذلك قد صلح حجة موجبة وكذلك لو شهد شهود المدعي أن هذا الشيء كان ملكا له صار حجة موجبة ولنا أن الدليل الموجب لحكم لا يوجب بقاءه كالإيجاد لا يوجب
ـــــــ
في ذلك فعرفنا أن الاستصحاب حجة ملزمة كذا في الميزان وتمسك من لم يجعله حجة أصلا بالمستصحب ليس له دليل عقلي ولا شرعي على ثبوت الحكم في موضع الخلاف فإن العقل لا يدل على تغاير الحكم الشرعي بعد ثبوته. وكذا دلائل الشرع الكتاب والسنة والإجماع والقياس ولم يدل شيء منها بقاء الحكم بعد الثبوت فكان العمل بالاستصحاب عملا بلا دليل وكيف يجعل حجة لإبقاء ما كان على ما كان والبقاء لا يضاف إلى الدليل الموجب بل حكمه الثبوت لا غير ولأن التمسك بالاستصحاب يؤدي إلى التعارض في الأدلة فإن من استصحب حكما من صحة فعل له وسقوط فرض كان لخصمه أن يستصحب خلافه في مقابلته كما لو قيل إن المتيمم إذا رأى الماء قبل صلاته وجب عليه التوضؤ فكذلك إذا رآه بعد دخوله في الصلاة باستصحاب ذلك الوجوب أمكن أن يعارض بأن الإجماع قد انعقد على صحة شروعه في الصلاة وانعقاد الإحرام وقد وقع الاشتباه في بقائه بعد رؤية الماء في الصلاة فيحكم ببقائه بطريق الاستصحاب وما ادعى إلى مثل هذا كان باطلا. ولنا أن الدليل الموجب أي المثبت لحكم في الشرع لا يوجب بقاءه; لأن حكمه الإثبات والبقاء غير الثبوت فلا يثبت به البقاء كالإيجاد لا يوجب البقاء; لأن حكمه الوجود لا غير يعني لما كان الإيجاد علة للوجود لا للبقاء لم يثبت به البقاء حتى صح الإفناء بعد الإيجاد ولو كان الإيجاد موجبا للبقاء كما كان موجبا للوجوب لما تصور الإفناء بعد الإيجاد لاستحالة الفناء مع المبقي كما لم يتصور الزوال حالة الثبوت لاستحالة الجمع بين الوجود والعدم ولما صح الإفناء علم أن الإيجاد لا يوجب البقاء فكذا الحكم لما احتمل النسخ بعد الثبوت علم أن دليله لا يوجب البقاء لاستحالة الجمع بين المزيل والمثبت, ألا ترى أنه لما كان موجبا لم يجز نسخ الحكم في حال ثبوته لأن رفع الشيء في حال ثبوته محال. وهذا أي ما قلنا إن الدليل الموجب لشيء لا يوجب بقاءه ثابت; لأن ذلك أي البقاء, ويعبر به عن الكون في الزمان الثاني بعد الكون في الزمان الأول بمنزلة أعراض تحدث فإن البقاء معنى وراء الباقي بدليل أن الشيء في أول أحواله يوصف بالوجود ولا يوصف بالبقاء فإنه صح أن يقال وجد ولم يبق فلو كان بقاؤه نفس وجوده لما انفك وجوده عن البقاء في الزمان الأول. ولصح اتصافه في تلك الحالة بالبقاء. وإذا ثبت أنه معنى(3/549)
البقاء حتى صح الإفناء. وهذا لأن ذلك بمنزلة أعراض تحدث فلا يصلح أن يكون وجود شيء علة لوجود غيره
ـــــــ
آخر وراء الوجود ولا قياما له بنفسه حقيقة كسائر الصفات كان بمنزلة الأعراض التي تحدث في الشيء بعد وجوده من البياض والسواد والحركة والسكون فلم يصلح أن يكون وجود شيء علة لوجود غيره أي لم يصلح أن يكون نفس وجود شيء من غير انضمام دليل آخر إليه علة لوجود غيره من الأعراض التي تقوم به فلا يصلح نفس وجود الحكم علة لبقائه الذي هو غيره بمنزلة العرض القائم به فثبت أن الدليل الموجب للحكم لا يوجب بقاء فلا يكون البقاء ثابتا بدليل بل بناء على عدم العلم بالدليل المزيل مع الاحتمال وجوده فلا يصلح حجة على الغير لكنه لما بذل جهده في طلب المزيل ولم يظفر به جاز له العمل به إذ ليس في وسعه وراء ذلك جاز له العمل بالتحري عند الاشتباه ورأيت بخط شيخي رحمه الله قال الشافعي رحمه الله استصحاب حكم ثبت بدليله في الزمان الثاني لم يكن قولا بدليل; لأن الموجب للوجود, أو العدم أوجب البقاء. والحكم الشرعي مما يوصف بالبقاء عدميا كان أو وجوديا فيبقى موصوفا بالوصف الذي ثبت بدليله إلى أن يوجد المغير بخلاف الأعراض التي لا توصف بالبقاء; لأنها لا تستغني عن العلة في كل ساعة ولحظة لحدوثها جزءا فجزءا فيحتاج إلى علة حسب حاجة الأول إليها. فالشيخ تعرض لإبطال هذا الكلام وقال البقاء بمنزلة أعراض تحدث بالترادف والتوالي فلا يستغنى عن الدليل وقد وقع الشك في الدليل المبقي فلا يكون حجة على الغير مع الشك.
"فإن قيل" لما كان البقاء أمرا حادثا سوى الثبوت لا بد له من دليل وسبب كالثبوت لا بد له من سبب فلا يستقيم أن يقال البقاء ثابت بلا دليل, أو يضاف إلى عدم المزيل؟ "قلنا" بقاء الموجود في الحقيقة ثابت بإبقاء الله تعالى إياه إلى زمان وجود المزيل كما أن الوجود ثابت بإيجاده إلا أن للوجود سببا ظاهرا يضاف إليه, وليس للبقاء سبب ظاهر فقيل البقاء ثابت بلا دليل على معنى أنه لا يحتاج في الظاهر إلى سبب يضاف إليه لا على معنى أنه لا يحتاج إلى مبق أصلا وذلك أنه إذا ثبت موت إنسان, أو بناء دار كان ابتداؤه مفتقرا إلى سبب ظاهر بعدما علمنا يقينا أنه ثابت بإيجاد الله تعالى على ما عرف في مسألة المتولدات فأما بقاؤه فلا يفتقر إلى سبب ظاهر بل يبقى بإبقاء الله تعالى إلى أن يوجد القاطع من غير سبب يضاف إليه فكذا الحكم الشرعي يفتقر في ابتداء ثبوته إلى دليل ولما ثبت بدليل يبقى بإبقاء الله تعالى إلى أن يوجد المزيل من غير دليل ظاهر يدل على بقائه ولما لم يحصل العلم بعدم المزيل لم يحصل العلم بالبقاء فكان البقاء ثابتا لعدم العلم بالمزيل لا للعلم بعدم المزيل فلم يصلح حجة على الغير.(3/550)
ألا يرى أن عدم الملك لا يمنع الملك وعدم الشراء لا يمنع حدوث الشراء ووجود الملك لا يمنع الزوال, وهذا لا يشكل, ألا يرى أن النسخ في دلائل الشرع إنما صح لما ذكرنا ولما صارت الدلائل موجبة قطعا بوفاة النبي عليه السلام على تقريرها لم تحتمل النسخ لبقائها بدليل موجب وأما فصل الطهارة والملك بالشراء وما أشبه ذلك فلا يشبه هذا الباب وذلك من جنس ما يفي بدليله, لأن حكم الشراء الملك المؤبد وكذلك حكم الوضوء والحدث ألا ترى أنه لا يصح
ـــــــ
"فإن قيل" إن لم يحصل العلم بالبقاء فقد حصل الظن الغالب به فالاجتهاد في طلب المزيل وعدم الظفر به, والدليل الظني حجة في الشرع كاليقيني فيصح الإلزام به على الغير كما يصح بالقياس "قلنا" لا نسلم أن كل ظن معتبر في الشرع بل المعتبر هو الدليل الظني الذي قام دليل قطعي على اعتباره مثل القياس وخبر الواحد ولم يقم هاهنا دليل قطعي ولا ظني على اعتباره فلا يصح الاحتجاج به على الغير كما لا يصح الاحتجاج بالظن الحاصل بالتحري على الغير.
قوله: "ألا ترى" توضيح لقوله الدليل الموجب لحكم لا يوجب بقاءه وإشارة إلى أن استصحاب العدم مثل استصحاب الوجود وذكر القاضي الإمام في التقويم أن الاحتجاج بالاستصحاب عمل بلا دليل وذكر مثال الاستصحاب في المعدوم والموجود ثم قال: وهذا; لأن ثبوت العدم لا يوجب بقاء ولا ينفي حدوث علة موجودة ولا ثبوت الوجود بعده يوجب بقاءه ولا ينفي قيام ما تقدم, ألا ترى أن عدم الشراء منك لا يمنعك عن الشراء ولا يوجب أيضا دوام العدم بل يدوم لعدم الشراء منك للحال لا بحكم العدم فيما مضى وإذا اشتريت فهذا الشراء منك أوجب الملك ولا يوجب بقاءه, وإنما يبقى بعدم ما يزيله ولا يمنع حدوث ما يزيله, وحياة الإنسان بعلتها لا يوجب البقاء ولا تمنع طريان الموت وما في هذه الجملة إشكال فإذا أراد إثبات دوام الحالة الثانية في المستقبل بكونه ثابتا, وهو لا يوجبه بل يبقى لاستغنائه عن الدليل في بقائه كان محتجا بلا دليل. وقوله, ألا ترى أن الفسخ توضيح لقوله وهذا لا يشكل لما ذكرنا إشارة إلى قوله الدليل الموجب لا يوجب البقاء, ثم أجاب عما استدل الشافعي به من المسائل فقال وأما فصل الطهارة والملك بالشراء وما أشبه ذلك, وهي مسألة الشهادة فليس مما نحن بصدده بل هي من قبيل ما ثبت بقاؤه بدليل كدلائل الشرع بعد وفاة الرسول عليه السلام وذلك; لأن حكم الشراء ملك مؤبد. وكذا حكم أخواته من النكاح والوضوء والحدث بدليل أنه لا يصح توقيت هذه الأحكام صريحا فإنه لو قال اشتريت إلى كذا, أو توضأت إلى كذا, أو قال اشتريت على أن يثبت الملك في سنة أو سنتين, أو توضأت على أن تثبت الطهارة إلى وقت كذا. أو(3/551)
توقيته صريحا لكنه يحتمل السقوط بالمعارضة على سبيل المناقضة فقبل المعارض له حكم التأبيد فكان البقاء بدليله, وكلامنا فيما ثبت بقاؤه بلا دليل كحياة المفقودة وكذلك الأمر المطلق في حياة الرسول عليه السلام إنما يتناول حكما يحتمل التوقيت فيصير في البقاء احتمال فأما حكم الطهارة وحكم الحدث فلا يحتمل التوقيت ولذلك قلنا جميعا في رجل أقر بحرية عبد ثم اشتراه أنه صحيح على اختلاف الأصلين أما عندنا فلما أن قول كل واحد من
ـــــــ
تزوجت على أن يثبت الحل إلى مدة كذا لا يصح بل يفسد العقد, أو الشرط ولو لم يكن هذه الأحكام مؤبدة وكان بقاؤها بالاستصحاب لجاز توقيتها كالحكم الثابت ابتداء بدليل شرعي في زمان الرسول عليه السلام وكسائر ما ثبت بقاؤه بالاستصحاب.
ألا إن هذه الأحكام مع كونها مؤبدة تحتمل السقوط بالمعارض على سبيل المناقضة يعني بمعارض يناقض الأول ويضاده كالفسخ للبيع والطلاق البات النكاح والحدث للطهارة فقبل وجود المعارض كان لها حكم التأبيد فكان بقاؤها بالدليل لا بالاستصحاب فيصلح حجة على الغير, ثم الشيخ رحمه الله ذكر في محل النسخ أن الشراء يثبت به الملك دون البقاء. وذكر هاهنا أن الثابت بالشراء ملك مؤبد, وهذا يقتضي أن الشراء يوجب البقاء كما يثبت أصل الملك, وهذا يتراءى تناقضا والتقصي عنه أن المراد من قوله: الشراء يوجب الملك دون البقاء أنه يوجب الملك على وجه لا يحتمل أن يتخلف عنه لكنه يوجب البقاء على وجه يحتمل طروء انقطاع عليه فثبوت بقاء الملك بالشراء ليس كثبوت الملك به فإنه يحتمل الانتقاض, وثبوت الملك لا يحتمله. ثم بين الشيخ مسألة تخرج على القولين فقال ولذلك أي ولأن الاستصحاب ليس بحجة ملزمة عندنا, وهو ملزمة عنده قلنا في رجل أقر بحرية عبد يعني عبد الغير ثم اشتراه منه أنه أي العقد صحيح بالنسبة إلى البائع على اختلاف الأصلين حتى كان له ولاية مطالبة الثمن بالاتفاق أما عندنا فلما قلنا يعني في موضعه, أو بينا في هذا الكتاب من حيث المعنى أن قول كل واحد من العاقدين لا يعدو قائله أي لا يتجاوزه أما البائع فلأنه في قوله بعت هذا العبد مستصحب للملك السابق الثابت له بدليله فلا يصلح مبطلا لزعم المشتري أنه حر. وأما المشتري فلأن قوله هو حر ليس بمبني على دليل كالاستصحاب فلا يتعدى إلى البائع ولا يصلح مبطلا لكلامه فلو لم يجز البيع لكان قوله متعديا إلى البائع وذلك لا يجوز ولا يقال لو جاز البيع لزم أن يكون قول البائع أنه عبد متعديا إلى المشتري حيث نفذ البيع في حقه ووجب الثمن عليه; لأنا نقول إنما يلزم ذلك لو جعل البيع منعقدا في حق المشتري, وصار العبد ملكا له بهذا العقد ولم يجعل كذلك فإن العقد ليس بمنعقد في حق(3/552)
العاقدين لا يعدو قائله ولو لم يجز البيع لعدا قائله وعلى قوله قول البائع رجع إلى ما عرفه بدليله, وهو الملك فصار حجة على خصمه. وأما قول المشتري إنه حر فليس يرجع إلى أصل عرف بدليله فلم يكن حجة على خصمه وأما الاحتجاج بتعارض الأشباه فمثل قول زفر أن غسل المرافق في الوضوء ليس بفرض; لأن من
ـــــــ
المشتري بل هو في حقه فداء وتخليص للعبد لأن قوله حجة في حق نفسه وإن لم يكن متعديا إلى البائع وهو بمنزلة الصلح على الإنكار فإن بدل الصلح فداء عن اليمين في حق المدعى عليه وعوض عن الحق في حق المدعي. ثم الولاء لا يثبت لأحد إن كان في زعمه أنه حر الأصل وإن كان يزعم أنه حر بإعتاق البائع فالولاء موقوف; لأن كل واحد منهما ينفيه عن نفسه فإن البائع يقول أنا ما أعتقته بل عتق بإقرار المشتري فله ولاؤه والمشتري يقول بل أعتقه البائع فالولاء له فيتوقف ولاؤه إلى أن يرجع أحدهما إلى تصديق صاحبه فيكون الولاء له; لأن الولاء لا يحتمل القبض بعد ثبوته ولا يبطل بالتكذيب أصلا, ولكنه يبقى موقوفا فإذا صدقه ثبت منه كذا في المبسوط وعلى قوله أي قول الشافعي قول البائع يعني قوله بعت يرجع إلى ما عرف بدليله, وهو الملك فإن الملك لما ثبت بدليله من الشراء أو الهبة, أو الإرث أو نحوها يبقى بذلك الدليل فيصلح حجة على خصمه, وهو المشتري فأما قول المشتري هو حر فليس يرجع إلى أصل عرف بدليله إذ ليس للمشتري دليل على ثبوت الحرية ليستصحبه بذلك الدليل فلم يكن حجة على خصمه, وهو البائع وذكر في الوسيط للغزالي لو شهد بحرية عبد غيره وردت شهادته, أو لم يشهد معه ثان فلم يحكم به, ثم جاء واشتراه صحت المعاملة واختلفوا في حقيقته منهم من قال هو بيع من الطرفين فإن المشتري لما قال اشتريته منك كان مقرا له بالملك, وهو رجوع عن الشهادة السابقة فقد توافق المتعاقدان على صحة البيع. ولا يظهر حكم الشهادة في مؤاخذة المشتري به بعده ومنهم من قال إنه مفاداة من الجانبين فإن البائع لما عرف أن العبد حر بعد الشراء كان ما يأخذه مال فداء ومنهم من قال هو بيع في حق البائع, وفداء في حق المشتري, وهو الصحيح نظرا في حق كل واحد إلى قوله فلا يثبت للمشتري خيار المجلس والشرط بالاتفاق لأنه لا يشتريه ليملكه بل ليخلصه عن الرق فأما ثبوت الخيار للبائع فيبنى على ما ذكرناه إن قلنا هو فداء من الجانبين فلا خيار له أيضا وإن قلنا إنه بيع من الجانبين, أو من جانب البائع ثبت له الخيار.
قوله "وأما الاحتجاج بتعارض الأشباه" فكذا الاستدلال بتعارض الاشتباه, وهو إبقاء الحكم الأصلي في المتنازع فيه بناء على تعارض الأصلين اللذين يمكن إلحاقه بكل واحد منهما, وهو فاسد; لأنه في الحقيقة احتجاج بلا دليل وذلك مثل زفر في غسل(3/553)
الغايات ما يدخل ومنها ما لا يدخل فلا يدخل بالشك وهذا عمل بغير دليل لأنه أمر حادث فلا يثبت بغير علة ولأنه يقال له: أتعلم أن هذا من أي القسمين؟ فإن قال لا أدري فقد جهل وإن قال نعم لزمه التأمل والعمل بالدليل.وأما الذي لا
ـــــــ
المرافق أنه ليس بفرض في الوضوء; لأن الله تعالى جعل المرافق غاية لغسل الأيدي بقوله عز ذكره {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] ومن الغايات ما يدخل في المغيا كما في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1] فإن المسجد داخل في الإسراء وكما في قوله عليه السلام "ليس فيما زاد على الخمس شيء إلى التسع" وكما يقال حفظت القرآن من أوله إلى آخره ومنها ما لا يدخل كما في قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] وقوله عز وجل: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]، ولهذه الغاية شبه بكل واحد من القسمين بدخول حرف الغاية عليها فلشبهها بالقسم الأول يدخل في المغيا ويجب الغسل ولشبهها بالقسم الثاني لا يجب وليس أحد الشبهين أولى من الآخر ولم يكن الغسل واجبا فلا يجب بالشك وهذا أي الاحتجاج بهذا الطريق عمل بغير دليل لأن ما ادعى من ثبوت الشك غير مسلم له, لأنه أمر حادث فلا بد له من دليل ولم يوجد فإن قال دليله تعارض الأشباه قلنا إنه أمر حادث أيضا فلا يثبت إلا بدليل فإن قال دليله دخول بعض الغايات في المغيا وعدم دخول بعضها فيه كما بينا فحينئذ نقول له: أتعلم أن هذا المتنازع فيه من أي القسمين أم لا؟ فإن قال: أعلم ذلك قلنا إذا لا يكون فيه شك; لأن العلم مع الشك لا يجتمعان لتنافيهما بل يلحق بما هو من نوعه بدليله وإن قال لا أعلم فقد أقر بالجهل وأنه لا دليل معه, ثم إن كان هذا مما يمكن الوقوف عليه بعد الطلب كان معذورا في الوقوف لكن عذره لا يصير حجة له على غيره ممن يزعم أنه قد ظهر عنده دليل إلحاقه بأحد النوعين فعرفنا أن حاصله احتجاج بلا دليل, ولأن أكثر ما في الباب أن الأشباه متعارضة وأن تعارضها يحدث الشك لكن أثر الشك في التوقف وترك الميل إلى أحدهما ما لم يقل دليل الترجيح لأحدهما. أما الحكم بنفي وجوب الغسل فلا هذا هو الترتيب المذكور في هذه المسألة في التقويم والميزان وغيرهما إلا أن الشيخ لم يذكر بعض المقدمات وجعل الاستفسار دليلا آخر وتقريره أن الشك أمر حادث فلا يثبت إلا بدليل لم يوجد ولئن سلمنا أنه ثابت بدليل, وأن دليله انقسام الغايات إلى قسمين كما أشير إليه في قوله من الغايات ما يدخل ومنها ما لا يدخل فلا يدخل بالشك يقال له القلم إلى آخره وذكر في بعض الشروح في قوله الشك أمر حادث فلا يثبت بغير علة أن كل حادث يفتقر إلى السبب وما قاله زفر لا يصلح سببا للشك; لأن ما دخل من الغايات في المغيا دخل بدليل(3/554)
يستقل إلا بوصف يقع به الفرق فباطل مثل قول بعض أصحاب الشافعي في مس الذكر إنه حدث لأنه مس الفرج فكان حدثا كما إذا مسه, وهو يبول وليس هذا بتعليل لا ظاهرا ولا باطنا ولا رجوعا إلى أصل وكذلك قولهم هذا مكاتب فلا
ـــــــ
ومالم يدخل لم يدخل بدليل فلا يكون ذلك تعارضا في المرفق لأنه لم يجتمع دليل الدخول وعدم الدخول في نفس المرفق ومن شرط التعارض اتحاد المحل فلا يكون الدخول في محل وعدم الدخول في محل آخر تعارضا فيه فلا يصلح سببا للشك بخلاف سؤر الحمار لأن التعارض في الدليلين ثبت في نفس السؤر أحدهما يوجب نجاسته والآخر يوجب طهارته فيصلح سببا للشك عند تعذر الترجيح كذلك هاهنا.
قوله "وأما الذي لا يستقل أي الاحتجاج" بالوصف الذي لا يستقل بنفسه في إثبات الحكم بل ينضم إليه وصف آخر يقع به الفرق بين المقيس والمقيس عليه باطل مثل قول بعض أصحاب الشافعي ممن لم يشم رائحة الفقه في مسألة مس الذكر: إنه حدث; لأنه مس الفرج فكان حدثا كما إذا مسه, وهو يبول فهذا القياس لا يستقيم إلا بزيادة وصف في الأصل به يقع الفرق بين الفرع والأصل وبه يثبت الحكم في الأصل وقوله; لأنه مس الفرج متعلق بالبول ومعموله وهذا أي التعليل بمثل هذا الوصف ليس بتعليل لا ظاهرا; لأنه ليس على موافقة تعليلات السلف ولا باطنا لأنه لا تأثير لمس الفرج في انتقاض الطهارة كما أشار إليه علي رضي الله عنه بقوله لا أبالي أمسست ذكري أم أنفي. وقيل لا ظاهرا أي لا قياسا جليا ولا باطنا أي لا قياسا خفيا يعني ليس هذا بقياس ولا استحسان.
"ولا رجوعا إلى أصل" أي مقيس عليه يعني هذا قياس بلا مقيس عليه; لأنه لما جعل مس الذكر مقيسا وجعل مسه مع وصف آخر مقيسا عليه مع أن الفرق بهذا الوصف يقع بين الأصل والفرع باعتبار أنه علة تامة للانتقاض ولم يوجد في الفرع لم يعتبر انضمامه إليه فلم يبق إلا قياس مس الذكر على مس الذكر وذلك باطل لعدم الأصل الذي يلحق الفرع وكذلك قولهم أي ومثل قولهم في مس الذكر قولهم في عدم جواز إعتاق المكاتب الذي لم يؤد شيئا من بدل كتابته عن الكفارة هذا مكاتب فلا يصح التكفير بإعتاقه كما لو أدى بعض بدل الكتابة ثم أعتقه عنها; لأن بهذا الوصف, وهو أداء بعض البدل يقع الفرق بين الأصل والفرع; لأن المستوفى من البدل يكون عوضا, والعوض في الإعتاق مانع من جواز التكفير ولم يوجد هذا المانع في الفرع فلم يبق إلا قوله لا يجوز التكفير بتحرير المكاتب; لأنه مكاتب وهو دعوى بلا دليل فيكون باطلا.(3/555)
يصح التكفير بإعتاقه كما إذا أدى بعض البدل; لأن أداء بعض البدل عوض مانع عندنا فلا يبقى إلا الدعوى.
وأما الذي يكون مختلفا فمثل قولهم فيمن ملك أخاه أنه شخص يصح التكفير بإعتاقه فلا يعتق في الملك كابن العم وقولهم في الكتابة الحالة إنه عقد كتابة لا يمنع من التكفير فكان فاسدا كالكتابة بالخمر وهذا في نهاية الفساد; لأن الاختلاف في ذلك ظاهر فلا يبقى وصف أصلا وأما
ـــــــ
قوله "وأما الذي يكون مختلفا" أي الاحتجاج بالوصف الذي يكون مختلفا فيه فكذلك إذا ملك ذا رحم محرم منه عتق عليه عندنا سواء كانت القرابة قرابة ولاد أولم تكن وعند الشافعي رحمه الله يختص هذا الحكم بقرابة الولاد فلا يثبت العتق في بني الأعمام ومن في معناهم بالإجماع لعدم الولاد والمحرمية ويثبت في الوالدين والمولودين بالإجماع لوجود المعنيين وتثبت في الإخوة والأخوات ومن في معناهم عندنا لوجود القرابة المحرمة للنكاح ولا يثبت عنده لعدم الولاد, ثم إنه إذا اشترى قريبه الذي يعتق عليه مثل الأب والابن ناويا عن الكفارة يصح ويخرج به عن عهدة الكفارة عندنا, وعنده لا يصح التكفر به لما عرف في موضعه فإذا علل في أن الأخ لا يعتق على أخيه بالملك بأنه شخص يصح التكفير بإعتاقه فلا يعتق بالملك كابن العم وعكسه الأب كان هذا تعليلا بوصف مختلف فيه اختلافا ظاهرا; لأن عتق القريب وإن كان مستحقا عند وجود الملك تتأدى به الكفارة عندنا كما إذا اشترى أباه بنية الكفارة فلا بد له من إقامة الدليل على أن حصول العتق في الملك صلة للقريب يمنع جواز الصرف إلى الكفارة ليمكنه الاستدلال بجواز الصرف إلى الكفارة على عدم وقوع العتق في الملك فقبل إقامة الدليل ومساعدة الخصم إياه في ذلك لم يكن هذا الوصف معتبرا فكان هذا تعليلا بلا وصف في الحقيقة فكان باطلا. وكذا تعليلهم لبطلان الكتابة الحالة بأنه أي هذا العقد عقد كتابة لا يمنع من التكفير فكان فاسدا كالكتابة بالخمر تعليل بوصف مختلف فيه اختلافا ظاهرا; لأن الكتابة لا يمنع جواز الإعتاق عن الكفارة عندنا حالة كانت, أو مؤجلة فيلزم عليه إقامة الدليل على أن الكتابة الصحيحة يمنع جواز الإعتاق عن الكفارة ليصح له الاستدلال بجواز الإعتاق عن الكفارة على فساد الكتابة فقبل إقامة الدليل وإلزام الخصم كان الاستدلال به فاسدا وذكر وجه آخر في أن التكفير بإعتاق الأخ مختلف فيه, وهو أن صحة التكفير بإعتاق الأخ عندنا ليس كما قاله الشافعي فإن عنده إنما يصح التكفير بإعتاق قصدي يتحقق بعد الملك كما في العبد الأجنبي إذ الأخ لا يعتق بالملك عنده وعندنا يصح التكفير بإعتاق مقارن للملك يثبت في ضمن الشراء بنية التكفير ولا مدخل للإعتاق القصد في حقه فكان هذا وصفا مختلفا فيه فلم يصح التعليل به على ما بينا.(3/556)
الذي لا يشكل فساده فمثل قول بعضهم أن السبع أحد عددي صوم المتعة فكان شرطا لجواز الصلاة كالثلاث يريد به قراءة الفاتحة ولأن الثلاث أحد عددي مدة المسح فلا يصح به الصلاة كالواحد ولأن الثلاث أو الآية ناقص العدد عن السبع فلا يتأدى به الصلاة كالواحد ولأن الثلاث, أو الآية ناقص العدد عن السبع فلا يتأدى به الصلاة كما دون الآية; ولأن هذه عبادة لها تحليل وتحريم فكان من أركانها ما له عدد سبعة كالحج وكما قال بعض مشايخنا إن فرض الوضوء فعل يقام في أعضائه فلم تكن النية شرطا في أدائه قياسا على القطع
ـــــــ
قوله "وأما الذي لا يشكل فساد, أو لا يشك في فساده فمثل قولهم إن السبع" إلى آخر ما ذكر في الكتاب ومثل قوله من قال في منع إزالة النجاسة بغير الماء: مائع لا يبنى على جنسه القنطرة ولا يصطاد فيه السمك فأشبه الدهن والمرق ومثل قول من قال في القهقهة اصطكاك أجرام علوية فلا ينتقض به الطهارة كالرعد ومثل قوله من قال من أصحابنا في مس الذكر: إنه مس آلة الحرث فأشبه مس الفدان, وقال طويل مشقوق فمسه لا ينقض الوضوء كمس القلم. وفي قولهم إن السبع كذا إشارة إلى أنه لا بد من رعاية هذا العدد عند الإمكان حتى قالوا: قراءة فاتحة ركن للمنفرد وللإمام وللقوم وعلى العاجز عن الفاتحة أن يقرأ سبع آيات من القرآن متوالية فإن لم يحسن شيئا من القرآن سبح وكبر وهلل بقدر الفاتحة كذا في المخض, وهذا أي هذا النوع من التعليل مما لا يخفى فساده على من له أدنى فطانة فإنه لا مشابهة ولا مناسبة بين غسل أعضاء في الطهارة والقطع في القصاص أو السرقة ولا بين مدة المسح والقراءة ولا بين الطواف بالبيت وقراءة الفاتحة وكذا البواقي فضلا من أن يكون فيها معنى مؤثر ولم ينقل شيء من هذا الجنس عن السلف, وإنما أحدثه بعض الجهال ممكن بعيدا عن طريق الفقهاء فالاشتغال بأمثاله هزل لعب بالدين قال صاحب القواطع بعد ذكر هذا النوع: سائر أنواع الأقيسة الطردية الفاسدة وعندي أن الاشتغال بأمثال هذا تضييع الوقت العزيز وإهمال العمر النفيس, ومثل هذه التعليلات لا يجوز أن يكون معتصم العباد والأحكام ولا مناط شرائع هذا الدين الرفيع بل هي صد للمبتدئين عن سبيل الرشد ومسالك الحق وقد كانت هذا الأنواع مسلوكا طريقها من قبل يجري النظار على سنتها ويناطحون عليها غير أن زماننا هذا قد غلب فيه معاني الفقه قد جرى الفقهاء فيه على مسلك واحد يطلبون الفقه المحض والحق الصريح وقد تناهت معاني الفقه إلى نهاية قاربت في الوضوح الدلائل العقلية التي يوردها المتكلمون في أصول الدين فالنزول عن تلك المعاني إلى مثل هذه الأنواع زلة في الدين وضلة في العقل والله العاصم بمنه.(3/557)
قصاصا أو سرقة, وهذا مما لا يخفى فساده.وأما الاحتجاج بلا دليل فقد جعله
ـــــــ
قوله "وأما الاحتجاج بلا دليل" آخره اتفقوا على أنه لا يطلب الدليل ممن قال لا أعلم أن لله حكما في هذه الحادثة; لأن من جهل أمرا كان جاهلا بدليله فإذا أقر به كان طلب الدليل منه سفها فأما إذا اعتقد وقال أعلم أن حكم الله تعالى في هذه الحادثة من وجوب فعل, أو تركه نحو أن يقول ليس على المجنون والصبي زكاة ويدعي ذلك مذهبا ويدعو غيره إليه فهل عليه دليل إذا طالب الخصم في المناظرة بدليل النفي, أو هل يجوز له أن يعتقد نفي حكم شرعي بلا دليل في غير موضع المناظرة قال أصحاب الظاهر لا دليل على معتقد النفي لا في حق نفسه ولا عند مطالبة الخصم في المناظرة بل يكفيه التمسك بلا دليل, وهو المراد من قوله فقد جعله بعضهم حجة للنافي يعني ليس عليه إقامة دليل بل تمسكه بلا دليل حجة له على خصمه وقال أهل العلم: يجب على النافي إقامة الدليل في العقليات دون الشرعيات وقال بعضهم لا دليل حجة دافعة لا موجبة. والذي دل عليه مسائل الشافعي أنه حجة لإبقاء ما ثبت بدليله لا لإثبات ما لم يعلم ثبوته بدليله هكذا ذكر في التقويم وأصول شمس الأئمة وأنكر صاحب القواطع هذا مذهبا للشافعي فقال: والذي ادعاه القاضي أبو زيد على الشافعي من مذهبه فيما قاله لا ندري كيف وقع له ذلك؟ والمنقول من الأصحاب ما بينا أن النافي يجب عليه الدليل مثل المثبت وعندنا لا دليل لا يكون حجة لأحد الخصمين على الآخر في الدفع ولا في الإيجاب لا في الإبقاء في الإثبات ابتداء وهو قول الجمهور فإنه ذكر في الميزان أنه يجب على النافي الدليل عند العامة كما يجب على المثبت ولا يجوز أن يعتقد الإنسان نفي حكم ولا أن يناظر غيره فيه ويدعوه إلى معتقده إلا بدليل تمسك الفريق الأول بالنص, وهو قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] الآية فإنه تعالى علم نبيه عليه السلام الاحتجاج بلا دليل لانتفاء الحرمة عن غير الأشياء المذكورة في هذه الآية وبالمعقول, وهو أن النافي متمسك بالظاهر إذ الأصل عدم ثبوت الأحكام فلا يجب عليه الدليل لأن المعتاد المعروف من أحوال الشرع أن إقامة الحجة على من يدعي أمرا عارضا لا على من تمسك بالظاهر فإن من تمسك بعام أو بحقيقة لا يحتاج إلى إقامة الدليل على أنه على عمومه أو حقيقته; لأن الأصل في صيغة العام هو العموم وفي الكلام هو الحقيقة بل الدليل على من يدعي الخصوص أو المجاز. وكذا القول في الدعوى قول المنكر وإقامة البينة على المدعي لأن المنكر, وهو المتمسك بالأصل بالظاهر والمدعي يدعي أمرا عارضا فكذا النافي متمسك بالظاهر فلا يجب عليه الدليل بخلاف المثبت فإنه يدعي أمرا عارضا فلا بد له من إقامه الدليل عليه يوضحه أن أقوى الخصومات الخصومة في النبوة, والنبي عليه السلام كان مثبتا والقوم نفاة وكانوا لا يطالبون بحجة سوى أن لا(3/558)
بعضهم حجة للنافي, وهذا باطل بلا شبهة لأن لا دليل بمنزلة لا رجل في الدار, وهذا لا يحتمل وجوده فلا دليل كيف احتمل وجود وكيف صار دليلا ولا يلزم
ـــــــ
دليل على النبوة. ولا معنى قولنا لا دليل على النافي لا دليل على المتمسك بالعدم; لأن العدم ليس بشيء والدليل يحتاج إليه لشيء, وهو مدلول عليه فإذا لم يكن العدم شيئا لم يحتج المتمسك به إلى دليل يدل عليه وتمسك من فرق بين العقليات والشرعيات بأن مدعي النفي والإثبات في العقليات يدعي حقيقة الوجود أو العدم فيطالب بالدليل فأما في الشرعيات فمدعي الإثبات يدعي حكما شرعيا من الوجوب أو الإباحة, أو الندب أو نحوها فيطالب بالدليل لكن النافي ينكر وجوده ويدعي انتفاءه وليس ذلك بحكم شرعي فلا يطالب بالدليل.
واحتج الفريق الثالث بأن العدم حجة على من ليس عنده دليل الوجود والخصم إذا ادعى دليل الوجود لا يكون العدم حجة عليه لأن العدم احتمال التغيير بدليله, وهو مدعيه, وقول الآخر عندي دليله محتمل يجوز أن يكون ويجوز أن لا يكون فلا يكون حجة على الخصم فبقي كل واحد منهما محتملا فجعل حجة في حق نفسه دون صاحبه ووجه قول الشافعي أن لا دليل ليس بحجة إلا أن العدم إذا كان ثابتا بدليل يبقى إلى أن يوجد المغير; لأن دليل العدم يوجب بقاء العدم إلى أن يعتريه الزوال فكان قوله لا دليل احتجاجا بذلك الدليل وذلك الدليل حجة على خصمه فأما إذا لم يستند إلى دليل فلم يبق إلا الاحتجاج بقوله لا دليل. وهو ليس بحجة وحجة الجمهور النص وهو قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [البقرة: 111] أخبر عن اليهود الذين نفوا دخول المسلمين الجنة وأثبتوا دخول اليهود والنصارى فيها ثم أمر نبيه عليه السلام بطلب الحجة والبرهان على النفي والإثبات جميعا فثبت أنه لا بد للنفي من الحجة وبالمعقول, وهو أن نفي كون الشيء حلالا أو حراما, أو واجبا أو مندوبا من أحكام الشرع كالإثبات فإن انتفاء وجوب صوم شوال وصلاة الضحى من أحكام الشرع كوجوب رمضان وصلاة الظهر وانتفاء الحل عن الخمر حكم الشرع كثبوت الحل في الخل, والأحكام لا يثبت إلا بأدلتها فمن ادعى في شيء من الأشياء حكما من إثبات, أو نفي فعليه إقامة الدليل ولا دليل لا يصلح أن يكون دليلا; لأنه نفي للدليل ونفي الشيء لا يحتمل أن تكون إثبات ذلك الشيء كقول الإنسان لا بيع ليس ببيع ولا زيد ليس بزيد فكان التمسك بالنفي تمسكا بعدم الدليل, وعدم الدليل لا يكون دليلا.
فإن قيل قوله لا دليل نفي للدليل المثبت فيكون انتفاؤه دليلا على النفي ضرورة; لأنه لا واسطة بين النفي والإثبات قلنا: إنما يكون دليلا إذا كان النافي ممن له علم بجميع(3/559)
ما ذكر محمد رحمه الله في العنبر أنه لا خمس فيه; لأنه لم يرد فيه الأثر; لأنه قد ذكر أنه بمنزلة السمك والسمك بمنزلة الماء ولا خمس في الماء يعني أن القياس ينفيه ولم يرد أثر يترك به القياس أيضا فوجب العمل بالقياس, وهو أنه لم يشرع الخمس إلا في الغنيمة, ولم يوجد ولأن الناس يتفاوتون في العلم والمعرفة بلا شبهة فقول القائل لم يقم الدليل مع احتمال قصوره عن غيره في درك الدليل لا يصلح حجة, ولهذا صح هذا النوع من صاحب الشرع بقوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145]; لأنه هو
ـــــــ
الأدلة فأما ممن لا علم له بذلك فهو جهل بالدليل لا علم بانتفاء الدليل فلا يكون حجة على الغير والتحقيق فيه أنه يقال للنافي ما ادعيت نفيه عرفت انتفاه بيقين, أو أنت شاك فيه فإن أقر بالشك فلا تطالب بالدليل; لأنه معترف بالجهل على ما قلنا. وإن قال أتيقن بالنفي فيقال بعينك هذا حصل عن ضرورة, أو غيرها ولا يمكنه أن يقول عن ضرورة; لأنه لو كان عن ضرورة لشاركه جميع العقلاء فيه لعدم اختصاص الضروريات بأحد ولم يحصل لنا العلم بانتفائه ضرورة ولما لم يعرفه عن ضرورة لا يخلو من أن يدعي المعرفة عن تقليد, أو نظر واستدلال والتعليل لا يفيد العلم فإن الخطأ جائز على المقلد والمقلد معترف بعمى نفسه وإنما يدعي البصيرة لغيره وإن ادعى المعرفة عن نظر واستدلال فقد أقر أنه نفي الحكم بدليل فلا بد من بيانه قال الغزالي رحمه الله ويلزم على إسقاط الدليل عن النافي أمران شنيعان: أحدهما أن لا يجب الدليل على نافي حدث العالم ونافي الصانع ونافي النبوات ونافي تحريم الزنا والخمر والميتة ونكاح المحارم, وهو محال والثاني أن الدليل إذا سقط عن هؤلاء لم يعجز أن يعبر المثبت عن مقصود إثباته بالنفي فيقول بدل قوله محدث إنه ليس بقديم وبدل قوله قادر إنه ليس بعاجز وما يجري مجراه.
قوله. "ولا يلزم ما ذكر محمد يعني" لا يلزم على ما ذكرنا من بطلان الاحتجاج بلا دليل ما ذكر محمد في كتاب الزكاة حاكيا عن أبي حنيفة رحمهما الله لا خمس في العنبر; لأن الأثر لم يرد به فإنه تمسك بلا دليل لنفي الخمس وقوله لأنه ذكر جواب السؤال أي لم يكتف على هذا القدر بل ذكر أيضا أنه بمنزلة السمك حيث قال حاكيا عنه: لا خمس في العنبر قلت لم قال; لأنه بمنزلة السمك قلت وما بال السمك لا يجب فيه الخمس قال; لأنه بمنزلة الماء. وهذا إشارة إلى قياس مؤثر لأنا أخذنا خمس المعادن من خمس الغنائم, وإنما نوجب الخمس فيما يصاب من المعادن إذا كان أصله في يد العدو, ثم وقع في أيدي المسلمين بإيجاف الخيل والركاب فيكون في معنى الغنيمة والمستخرج من البحر(3/560)
الشارع فشهادته بالعدم دليل قاطع على عدمه إذا لا يجري عليه السهو ولا يوصف بالعجز فأما البشر فإن صفة العجز يلازمهم, والسهو يعتريهم ومن ادعى أنه يعرف كل شيء نسب إلى السفه أو العته فلم يناظر ومن شرع في العمل بلا دليل اضطر إلى التقليد الذي هو باطل والله أعلم بالصواب.
ـــــــ
لم يكن في يد العدو لأن قهر الماء يمنع قهر آخر على ذلك الموضع فكان القياس نافيا وجوب الخمس فيه ولم يرد أثر بخلاف القياس يعمل به ويترك به القياس فوجب العمل بالقياس فكان ما ذكره إشارة إلى العمل بالقياس لا احتجاجا بلا دليل ثم أقام الشيخ دليلا آخر وأجاب عن تمسك الفريق الأول بالنص فقال: ولأن الناس يتفاوتون في العلم بالأدلة ومعرفة الحجج تفاوتا لا سبيل إلى إنكاره; لأنه شبه المحسوس لمن يرجع إلى أحوال فإن بعضهم يقف على ما لا يقف عليه البعض وإليه أشار الله عز وجل في قوله: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 73] فمع هذا التفاوت واحتمال قصور النافي عن غيره في درك الدليل لا يكون تمسكه بلا دليل حجة على الغير; ولهذا أي ولأن فساد الاحتجاج بلا دليل لاحتمال القصور عن الغير في درك الأدلة صح هذا النوع أي الاحتجاج بلا دليل من صاحب الشرع; لأن علمه محيط بالأدلة الشرعية لأنه هو الشارع للأحكام والواضع للدلائل فكانت شهادته بالعدم دليلا قاطعا على العدم ومن شرع في العمل أي احتج بلا دليل وفتح بابه اضطر إلى التقليد الذي هو باطل لأنه يحتج به لعدم المعرفة بالموجب لا لحصول المعرفة بالنفي عن سبب ولما لم يحصل معرفته بالنفي عن صورة ولا عن نظر واستدلال لما بينا كانت حاصلة بالتقليد, أو ليس بعد الاستدلال شيء سوى التقليد ويجوز أن يكون معناه ومن شرع أي جوز العمل بلا دليل. اضطر إلى التقليد أي إلى القول بجواز التقليد; لأنه من أقسام العمل بلا دليل, والتقليد باطل لأنه اتباع الرجل غيره على ما يسمعه ويراه بفعله على تقدير أنه محق بلا نظر واستدلال وتأمل وتمييز بين كونه حقا أو باطلا على احتمال كونه حقا وباطلا كذا في التقويم ولا شك أنه بهذا التفسير باطل, وليس بحجة لأنه فعل غيره وقوله محتمل للصواب والخطأ والمحتمل لا يصلح دليلا وحجة ولهذا رد الله تعالى على الكفرة احتجاجهم باتباع الآباء بنفس الرؤية والسماع من غير نظر واستدلال وليس اتباع الأمة صاحب الوحي ولا رجوع العامي إلى قول المفتي ولا القاضي إلى قول العدول من هذا القبيل; لأن التمييز بين النبي وغيره لا يقع إلا بالاستدلال وقيام المعجزة فوجب تصديقه. وكذا وجب قبول الإجماع بقول الرسول ووجب قبول المفتي والشاهدين بالنص والإجماع فلم يكن هذا تقليدا; لأن شرطه عدم الحجة وقد قامت الحجة.
وتبين بما ذكرنا أن تمسكهم بأن لا دليل على المدعى عليه; لأنه ناف, وإنما الدليل(3/561)
---------------------------------------------------------
ـــــــ
على المدعي لأنه مثبت ليس بشيء فإن الشرع أوجب اليمين على المنكر كما أوجب البينة على المدعي إلا أنه جعل البينة حجة المدعي واليمين حجة المدعى عليه; لأنه لا سبيل إلى إقامة الدليل على النفي بل يستحيل فلم يكلف المدعى عليه إقامة الحجة على ما يستحيل إقامتها عليه وأوجب عليه أن يعضد جانبه باليمين كما ألزم المدعي أن ينور دعواه بالحجة وقولهم النفي ليس بحكم شرعي فلا يطلب عليه دليل فاسد أيضا لأن قبل ورود الشرع لا حكم في حقنا نفيا ولا إثباتا ولكن بعد ورود الشرع يثبت الوجوب في حق البعض والانتفاء في حق البعض والإباحة في حق البعض والحرمة في حق البعض. وقد ورد الشرع بالنفي نصا في بعض المواضع مثل قوله عليه السلام "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" "لا صدقة إلا عن ظهر غنى" "لا زكاة في العلوفة" "ليس في النخة ولا في الجبهة ولا في الكسعة صدقة" وإذا كان النفي حكم الشرع لا يثبت من غير دليل كذا في الميزان وأما نفي الكفار نبوة الرسول عليه السلام وقولهم لا دليل على ثبوته فلم يكن لهم حجة عليه بوجه ولكن كان ذلك إظهارا منهم لجهلهم وكان على الرسول عليه السلام إزالة ذلك الجهل عنهم بإظهار المعجزات الدالة على ثبوته. وإذا عرف معنى القياس وشرطه وركنه لا بد من معرفة حكمه فشرع في بيانه وقال:
ـــــــ
"1" أخرجه أبو داود في الزكاة حديث رقم 1573، وأخرجه ابن ماجة في الزكاة حديث رقم 1792، والإمام أحمد في المسند 1/148.(3/562)
باب حكم العلة
فأما الحكم الثابت بتعليل النصوص فتعدية حكم النص إلى ما لا نص فيه ليثبت بغالب الرأي على احتمال الخطأ وقد ذكرنا أن التعدية حكم لازم عندنا جائز عند الشافعي وإذا ثبت ذلك قلنا إن جملة ما يعلل له أربعة أقسام إثبات
ـــــــ
"باب حكم العلة"
أي القياس وأشار بقوله فأما إلى تعلقه بما تقدم, يعني قد مر بيان الشرط والركن فأما الحكم الثابت بتعليل النصوص يعني بالقياس فتعدية حكم النص إلى ما لا نص فيه وزاد القاضي الإمام: ولا إجماع ولا دليل فوق الرأي, وإنما قال: الحكم الثابت بالتعليل كذا ولم يقل حكم القياس كذا; لأنه لا خلاف أن حكم القياس التعدية, وإنما الخلاف في التعليل فعندنا القياس والتعليل واحد وعنده التعليل أعم من القياس على ما سنبينه.
"فإن قيل" إنه قد جعل التعدية من شروط القياس بقوله وأن يتعدى الحكم الثابت إلى آخره وذلك يقتضي أن يتوقف القياس عليها, وأن تكون مقدمة على القياس وجعلها هاهنا حكم القياس وذلك يوجب تأخره عنه ووجودها به. وبين الأمرين تناف إذ يستحيل ثبوتها بالقياس وتوقف القياس عليها "قلنا" المراد من كون التعدية شرط القياس اشتراط كونها حكما له يعني يشترط أن يكون التعدية حكمه لا غير; ليكون صحيحا في نفسه لا أن يكون حقيقة وجود التعدية شرطا له بمنزلة الشهود للنكاح والطهارة للصلاة إذ لا تصور لوجود التعدية قبل القياس ولو وجدت التعدية قبله لما احتيج إلى القياس; لحصول المقصود بدونه فكان تصور وقوع القياس موجبا للتعدية شرط صحته وهو موجود قبل القياس فيصلح شرطنا. ويمكن أن يجاب بأن المراد من كون التعدية شرط القياس أنها شرط للعلم لصحة القياس لا شرط نفس القياس والعلم بصحته موقوف على وجودها بخلاف الشهادة فإنها شرط لوجود النكاح شرعا. وكذا الطهارة للصلاة وقد ذكرنا يعني في باب شروط القياس أن التعدية حكم لازم للتعليل عندنا حتى لو لم يفد التعليل تعدية كان فاسدا فيكون التعليل والقياس عبارتين عن معنى واحد, جائز عند الشافعي يعني يجوز عنده أن يفيد(3/563)
الموجب أو وصفه وإثبات الشرط أو وصفه وإثبات الحكم أو وصفه والرابع هو تعدية حكم معلوم بسببه وشرطه بأوصاف معلومة والتعليل للأقسام الثلاثة الأول
ـــــــ
التعليل التعدية إلى الفرع وحينئذ يكون قياسا ويجوز أن لا يفيد تعدية ويكون مقتصرا على محل النص فكان حكم التعليل عنده تعلق حكم النص بالوصف الذي تبين علة والتعدية من ثمراته. وهذا بناء عن أن الحكم في محل النص ثابت بالعلة عنده كما في الفرع والنص معرف لثبوت الحكم بها; لأن الحكم لو لم يكن مضافا إلى العلة في محل النص لم يمكن إثباته في الفرع بتلك العلة وإذا كان كذلك كان التعليل بدون التعدية صحيحا لإفادته ظهور تعلق الحكم بالوصف الذي جعل علة كما في العلة العقلية والعلة المنصوصة فإن الأسباب الموجبة الحدود والكفارات جعلت أسبابا شرعا ليتعلق الحكم بها من غير اعتبار تعدية, وعندنا: الحكم في محل النص ثابت بالنص دون العلة; لأن في إضافته إلى العلة في محل النص إبطال عمل النص بالتعليل وإسناد الحكم إلى الدليل الأضعف مع وجود الدليل الأقوى وإذا كان كذلك لم يفد التعليل بدون التعدية, وكان لغوا على ما مر بيانه.
قوله "وإذا ثبت ذلك" أي أن حكم التعليل التعدية قلنا إن جملة ما يعلل له أي جميع ما يقع التعليل لأجله ويتكلم القائسون فيه بالتعليل أربعة أقسام.: الأول إثبات الموجب أو وصفه والثاني إثبات الشروط ووصفه والثالث إثبات الحكم أو وصفه والرابع هو تعدية حكم معلوم بسببه وشرطه بأوصاف معلومة الباء الأولى يتعلق بمحذوف والثانية بمعلوم, أي تعدية حكم ثابت بسببه, وشرطه معلوم بأوصافه ويجوز أن تكون الباء الثانية مع معمولها في محل الحال ويصلح الحكم ذا الحال باعتبار الوصف, أي تعدية حكم معلوم ثابت بسببه وشرطه ملتبسا بأوصاف معلومة. وعبارة شمس الأئمة في بيان القسم الرابع: والحكم المتفق على كونه مشروعا معلوما بصفته أهو مقصور على المحل الذي ورد فيه النص أم تعدى إلى غيره من المحال الذي يماثله بالتعليل؟ والتعليل للأقسام الأول باطل لا خلاف بين الفقهاء أن إثبات سبب أو شرط أو حكم بالرأي ابتداء من غير أن يكون له أصل يرد إليه باطل ولا خلاف أن إثبات الحكم بطريق التعدية من أصل فرع بالشرائط المعروفة صحيح واختلفوا في إثبات الأسباب والشروط بطريق التعدية بأن ثبت سبب أو شرط لحكم بالنص أو الإجماع هل يجوز أن يتعدى السببية أو الشرطية إلى شيء آخر بمعنى جامع ليصير ذلك الشيء سببا أو شرطا لذلك الحكم فذهب بعض المحققين من أصحاب الشافعي إلى أنه لا يجوز وأظنه مذهبا لعامة أصحابنا وذهب عامة الأصوليين إلى أنه يجوز وهو مختار بعض أصحابنا منهم صاحب الميزان وهو مذهب(3/564)
باطل; لأن التعليل شرعا مدركا لأحكام الشرع على ما بينا وفي إثبات الموجب وصفته إثبات الشرع وفي إثبات الشرط وصفته إبطال الحكم ورفعه وهذا نسخ ونصب أحكام الشرع بالرأي باطل وكذلك رفعها وما القياس إلا اعتبار بأمر مشروع فيبطل التعليل لهذه الأقسام جملة وبطل التعليل لنفيها أيضا; لأن
ـــــــ
الشيخ المصنف رحمه الله فإنه ذكر في آخر الباب, وإنما أنكرنا هذه الجملة إذا لم يوجد له في الشريعة أصل يصح تعليله فأما إذا وجد فلا بأس به فتبين بما ذكرنا أن المراد من قوله والتعليل للأقسام الأول باطل التعليل لإثباتها ابتداء لا التعليل بطريق التعدية, وإنما بطل التعليل لإثباتها ابتداء; لأن حكم التعليل إما التعدية كما هو مذهبنا أو تعلق حكم النص بالعلة كما هو مذهب من خالفنا ولا تصور للتعدية في إثبات هذه الأقسام بالرأي ابتداء ولا لتعلق حكم النص بالعلة فيما لا نص فيه فبطل التعليل لفوات حكمه. ولما ذكر في الكتاب وهو أن التعليل شرع مدركا لأحكام الشرع على ما قلنا يعني في أول باب القياس لا للإثبات ابتداء وفي إثبات الموجب وصفته أي أو صفته ابتداء إثبات الشرع بالرأي أما في إثبات الموجب فظاهر وأما في إثبات صفته فلأن الموجب لما لم يعلم بدون صفته كان إثباتها بالتعليل بمنزلة إثبات أصل السبب به فكان ذلك نصب شرع بالرأي أيضا, وليس إلى العباد نصب الشرع بل لهم مباشرة الأسباب المشروعة وفي إثبات الشرط وصفته ابتداء إبطال الحكم ورفعه; لأن الحكم كان ثابتا قبل الشرط وبعدما شرط له شرط كان متعلقا به ومعدوما قبل وجوده فكان إثبات الشرط بالتعليل ابتداء رفعا للحكم الثابت ونسخا له. وكذا التعليل لإثبات وصف الشرط; لأن الوصف بمنزلة الشرط يتوقف الحكم عليه كما يتوقف على الشرط فيكون إثبات الوصف رفعا للحكم كإثبات أصل الشرط وقوله ونصب أحكام الشرع بالرأي باطل وكذلك رفعها دليل القسم الثالث أي التعليل لإثبات الحكم أو وصفه ابتداء باطل أيضا; لأنه نصب الشرع ابتداء وليس ذلك إلى العباد, ويجوز أن يكون من تتمة الكلام السابق يعني إثبات الأسباب نصب لأحكام الشرع, وإثبات الشروط رفع لها ولا يجوز نصب أحكام الشرع ولا رفعها بالرأي بالإجماع فلا يجوز إثبات الأسباب والشروط به أيضا. وقد اندرج فيه دليل القسم الثالث وبطلان التعليل لنفيها أي لنفي هذه الأقسام أيضا كما بطل لإثباتها; لأن من نفاها لا يخلو من أن ينكر ثبوتها أصلا أو أن يدعي رفعها بعد الثبوت فإن أنكر ثبوتها بأن قال هي لم تشرع أصلا فلا يمكنه إثباته بالتعليل; لأن ما ليس بمشروع لا يمكن إثباته بالدليل الشرعي وإن ادعى رفعها بعد الثبوت وكذلك النسخ بالتعليل لا يجوز أيضا. ولم يذكر الشيخ هذا الشق; لأنه مندرج في قوله وكذلك رفعها ووجه قول من جوز إثبات الأسباب والشروط بطريق(3/565)
نفيها ليس بحكم شرعي فبطلت هذه الوجوه كلها فلم يبق إلا الرابع فأما تفسير القسم الأول فمثل قولهم في الجنس بانفراده إنه يحرم النسيئة
ـــــــ
التعدية أعني بالقياس أن حكم الشرع نوعان: أحدهما نفس الحكم والثاني, نصب أسباب الحكم فإن لله تعالى في إيجاب الرجم والقطع على الزاني والسارق حكمان: أحدهما إيجاب الرجم والقطع والآخر نصب الزنا والسرقة سببا لوجوب الرجم والقطع, فيجوز لنا إذا علقنا المعنى في السبب ووجدناه موجودا في غيره أن يجعل ذلك الغير سببا أيضا كما جاز ذلك في نفس الحكم مثل أن يقول إنما نصب الزنا سببا لوجوب الرجم لعلة كذا وتلك العلة موجودة في اللواطة فنجعلها سببا وإن كان لا يسمى زنا وهذا; لأن القياس ليس إلا إثبات ما ثبت في الأصل بالمعنى الذي ثبت في الأصل في فرع هو نظيره وهذا يتحقق في الأسباب والشروط كما يتحقق في الأحكام; لأن المعنى الذي تعلقت السببية أو الشرطية به يمكن معرفة كالمعنى الذي تعلق الحكم به فيجري القياس في الجميع قال صاحب الميزان ولا معنى لقول من يقول إن القياس حجة في الفصل الأخير دون الفصول الأخر; لأنه إن أراد به معرفة علة الحكم بالرأي والاجتهاد فذلك جائز في الجميع; لأن المعرفة لا تختلف. وإن أراد به أن الجمع بين الأصل والفرع لا يتصور إلا في الفصل الأخير فهو ممنوع أيضا; لأنه يتصور في جميع الفصول وإن أراد به أن القياس لا يثبت به شيء فهو مسلم ولكن في الفصول الثلاثة الأول لا يثبت به شيء كما في الفصل الأخير بل يعرف به الحكم وتمسك من أنكر جريان القياس في الأسباب والشروط أصلا بأنه لا بد للقياس من معنى جامع بين الأصل والفرع فإذا قسنا اللواطة على الزنا مثلا في كونها سببا للحد لا بد من أن يقول: الزنا سبب للحد بوصف مشترك بينه وبين اللواطة ليمكن جعل اللواطة سببا أيضا وحينئذ يكون الموجب للحد في ذلك المعنى المشترك ويخرج الزنا واللواطة عن كونهما موجبين له; لأن الحكم لما استندا أن المعنى المشترك استحال مع ذلك استناده إلى خصوصية في كل واحد منهما ويلزم منه بطلان القياس; لأن شرط القياس بقاء حكم الأصل, والقياس في الأسباب والشروط ينافي في بقاء حكم الأصل بخلاف القياس في الأحكام فثبوت الحكم في الأصل لا ينافي كونه معللا بالمعنى المشترك بينه وبين الفرع "فإن قيل": الجامع بين الوصفين لا يكون له تأثير في حكم بل تأثيره في علية الوصفين, وأما الحكم فإنما يحصل من الوصفين "قلنا" هذا فاسد; لأن ما يصلح لعلية العلة كان صالحا لعلية الحكم فلا حاجة حينئذ إلى الواسطة.
قوله "فأما تفسير القسم الأول" أي بيان مثاله فمثل قولهم أي اختلافهم يعني(3/566)
فهذا خلاف وقع في الموجب للحكم فلم يصح إثباته بالرأي ولا نفيه به إنما يجب الكلام فيه بإشارة النص أو دلالته أو اقتضائه وكذلك اختلافهم في السفر أنه مسقط لشطر الصلاة أم لا لا يصح التكلم فيه بالقياس بل بما ذكرنا فقلنا في مسألة الجنس إنا وجدنا الفضل الذي لا يقابله عوض في عقد المعاوضة محرما بما ذكر من العلة, ووجدنا هذا حكما يستوي شبهته بحقيقته حتى لا
ـــــــ
اختلاف الفقهاء في أن الجنس بانفراده هل يحرم النسيئة أو لا؟ هذا خلاف أي اختلاف وقع في الموجب للحكم فلم يصح إثباته أي إثبات كون الجنس موجبا للحكم بالرأي; لأنا لا نجد أصلا نقيسه عليه ولا نفيه بالرأي أيضا; لأن من ينفي إنما يتمسك بالعدم الذي هو أصل فعليه الاشتغال بإفساد دليل خصمه; لأنه متى ثبت أن ما ادعاه الخصم دليل صحيح لا يبقى له حق التمسك بعدم الدليل أما الاشتغال بالتعليل ليثبت العدم به فظاهر الفساد إنما يجب الكلام فيه أي في الموجب أو في أن الجنس بانفراده يحرم النسيئة بإشارة النص أو دلالته أو اقتضائه; لأنه الثابت بالنص فقلنا في مسألة الجنس كذا يعني أثبتنا سببه الجنس بالاستدلال لا بالتعليل فإنا وجدنا الفضل الذي لا يقابله عوض في عقد المعاوضة محرما بما ذكرنا من العلة وهي القدر والجنس يعني ثبت حرمة الفضل الخالي عن العوض بالنص وهو قوله عليه السلام "والفضل ربا" وبالإجماع فإن من باع عبدا بجارية بشرط أن يسلم المشتري إليه ثوابا لا يقابله شيء من العوض لا يجوز; لأنه فضل مال خال عن العوض في عقد المعاوضة وثبت بإشارة النص أن علة حرمة هذا الفضل القدر والجنس على ما هو بيانه في باب القياس ووجدنا أن هذا الحكم أي تحريم الفضل حكما يستوي شبهته بحقيقته بالخبر وهو ما روي أن النبي عليه السلام نهى عن الربا أو الريبة أي عن الفضل الخالي عن العوض وشبهته. وبالإجماع فإنهم اتفقوا على أن من باع صبرة حنطة بصبرة حنطة وغالب رأيهما أنهما شيئان لا يجوز لاحتمال الفضل ولو لم تكن الشبهة ملحقة بالحقيقة لجاز البيع لعدم تحقق الفضل الحقيقي الذي هو المانع من الصحة وقد وجدنا في النسيئة شبهة الفضل وهي الحلول فإن النقد خير من النسيئة وهو يشبه المال; لأنه صفة مرغوب فيها; ولهذا ينقص الثمن إذا كان حالا ويزاد إذا كان نسيئة بمنزلة الجودة فإن الثمن ينقص عند وجود الجودة ويزاد عند فواتها. ولا يقال هذا فضل من حيث الوصف فينبغي أن يجعل عفوا كالفضل من حيث الجودة; لأنا نقول: إنما سقط في الشرع اعتبار التفاوت من حيث الوصف فيما ثبت بصنع الله تعالى دفعا للحرج فإن الاحتراز يتعذر عنه فأما ما حصل بصنع العباد فمعتبر وإن كان فيه حرج; لأن الاحتراز عنه ممكن, ألا ترى أن من نذر أن يحج مائة حجة لزمته وإن كان فيه حرج والشرع ما أوجب إلا(3/567)
يجوز البيع مجازفة لاحتمال الربا وقد وجدنا في النسيئة شبهة الفضل وحلول الفضل وحلول المضاف إلى صنع العباد وقد وجدنا شبهة العلة وهو أحد وصفي العلة فأثبتناه بدلالة النص وكذلك فعلنا في السفر; لأن النبي عليه السلام
ـــــــ
حجة تيسيرا وأقرب مما ذكرنا الحنطة المقلية بغير المقلية فإن فيهما تفاوتا من حيث الصفة لكن لما كان بصنع العباد كان معتبرا حتى لم يجز بيع أحديهما بالأخرى والحنطة العلكة بغير العلكة فإن فيهما تفاوتا أيضا لكن لما كان بخلق الله تعالى جعل عفوا حتى جاز أحديهما بالأخرى وهذا معنى قوله: وهو الحلول المضاف إلى صنع العباد. وقد وجدنا شبهة العلة يعني لما وجدنا شبهة الفضل معتبرة لا بد من أن تضاف إلى سبب فوجدنا شبهة العلة أي علة حرمة حقيقة الفضل وهي أحد وصفي العلة فإن العلة التامة هي القدر والجنس والجنس شطر العلة, وشطر العلة له حكم الوجود في نفسه وحكم العدم من حيث الشطر الآخر فدار بين الوجود والعدم فيثبت له شبهة الوجود فانعقد علة لثبوت شبهة الحكم احتياطا لباب الربا; لأن الشبهة فيما يحتاط فيه العمل عمل الحقيقة فأثبتناه بدلالة النص أي أثبتنا هذا الحكم وهو حرمة النسيئة عند وجود الجنس الذي هو أحد وصفي علة الربا بدلالة النص أو أثبتنا كون الجنس بانفراده سببا لثبوت حرمة النسيئة بدلالة النص فإن النص الذي يوجب سببية القدر والجنس لحرمة حقيقة الفضل يدل على سببية الجنس لحرمة النسيئة.
وتحقيقه ما ذكر الإمام البرغري رحمه الله أن فقه هذه المسألة يبنى على أن الشرع أوجب في بيع الحنطة بالحنطة التسوية كيلا بكيل ويدا بيد وتفسير اليد باليد النقد وحرم الفضل بناء على وجوب التسوية وهو الفضل على الكيل, والفضل من حيث النقدية; لأن النقد خير من النسيئة فأوجب التسوية من وجهين احترازا عن هذين النوعين من الفضل, وعلة هذا الحكم الكيل مع الجنس ثم قال في آخر الحديث "وإذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم بعد أن يكون يدا بيد ولا خير فيه نسيئة" فأسقط أحد الحكمين وهو التسوية كيلا عند زوال أحد الوصفين وهو الجنس وحكم ببقاء الحكم الآخر وهو التسوية من حيث النقدية عند بقاء الوصف الآخر وهو الكيل فعرفنا أن حكم هذا النص أعني قوله إذا اختلف النوعان إلى آخره وجوب التسوية من وجه احترازا عن الفضل من وجه وهو فضل النقد على النسيئة, وأن علة هذا الحكم كون هذه الأمثال متساوية المالية من وجه وهو من حيث الصورة لا من حيث المعنى فالكيل المسوى من وجه لما أوجب هذا الحكم يستدل به على الجنس المسوي بين الأموال من وجه أن يوجب الحكم أيضا; لأنه مثله في إثبات التسوية بل أولى; لأن الكيل يؤثر في إثبات التسوية صورة لا معنى والجنس يؤثر في إثباتها(3/568)
قال: "إن الله تعالى تصدق عليكم فاقبلوا صدقته" وذلك إسقاط محض فلا يصح رده, ولأن القصر تعين تخفيفا بخلاف الفطر في السفر, ولأن التخير على وجه لا يتضمن رفقا بالعبد ونفعا من صفات الألوهية دون العبودية على ما عرف فهذه دلالات النصوص وأما صفة السبب فمثل صفة السوم في الأنعام أيشترط للزكاة
ـــــــ
معنى. وفضل النقد على النسيئة من حيث المعنى لا من حيث الصورة فلما أوجب الكيل المسوي للأموال من حيث الصورة تسوية معنوية, وحرم فضلا معنويا فالجنس المسوي من حيث المعنى لأن يحرم الفضل المعنوي كان أولى.
وهذا كله; لأن باب الربا مبني على الاحتياط وتبين بآخر الحديث أن الحكم الأول في قوله عليه السلام "الحنطة بالحنطة مثل بمثل يد بيد" متعلق بالوصفين حيث عدم بعدم أحدهما فكانا علة واحدة والحكم الثاني متعلق بكل واحد من الوصفين حيث لم ينعدم الحكم بعدم أحدهما فكان كل واحد منهما علة كاملة يثبت الحكم به.
قوله "وكذلك فعلنا في السفر" أي كما حكمنا بسببية الجنس بالدلالة لا بالقياس حكمنا بكون السفر مسقطا لشطر الصلاة بالدلالة أيضا لا بالتعليل فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى تصدق عليكم فاقبلوا صدقته" "وذلك إسقاط محض" أي التصدق بشطر الصلاة إسقاط محض; لأنه تصدق بما لا يحتمل التمليك فكان إسقاطا كالتصدق بملك القصاص, وإذا كان إسقاطا لا يرتد بالرد ولا يتوقف على القبول خصوصا إذا صدر من صاحب الشرع وقوله محض, احتراز عن التصدق بما فيه معنى التمليك كإبراء الدين فإنه وإن لم يتوقف على القبول لوجود معنى الإسقاط يرتد بالرد لوجود معنى التمليك ولأن القصر تعين تخفيفا يعني السفر من أسباب التخفيف كرامة من الله عز وجل وجهة التخفيف متعينة في القصر فإنه لا تخفيف في الإكمال في مقابلة القصر بوجه فيكون القصر هو المشروع دون غيره بخلاف الفطر في السفر; لأن جهة التخفيف غير متعينة في الإفطار; لأن في الصوم ضرب يسر على ما مر بيانه فيختار أي اليسرين شاء ولأن التخيير على وجه لا يتضمن رفقا أي يسرا وفي بعض النسخ دفعا أي دفعا لمضرة ونفعا من صفات الألوهية فإن الله تعالى هو الذي يفعل ما يشاء ويختار من غير نفع يعود إليه دون العبودية فإنه لا يثبت للعبد إلا اختيار ما كان له فيه رفق ونفع وفي اختيار إكمال الصلاة لا رفق له أصلا; لأنه لا يتعلق به ثواب ليس في القصر فكان اختيارا مطلقا فلا يثبت للعبد على ما عرف يعني في باب العزيمة والرخصة فهذه أي المعاني التي ذكرناها وأثبتنا كون السفر مسقطا لشطر الصلاة بها دلالات النصوص وليست بأقيسة. وفي هذا الكلام نوع تسامح فإن(3/569)
أم لا ومثل صفة الحل في الوطء لإثبات حرمة المصاهرة ومثل اختلافهم في صفة القتل الموجب للكفارة وفي صفة اليمين الموجبة للكفارة وأما اختلافهم في الشرط فمثل اختلافهم في
ـــــــ
الدليل الأول من قبيل الإشارة دون الدلالة وأما صفة السبب أي إثبات صفة الموجب ابتداء فمثل صفة السوم في الأنعام أيشترط لوجوب الزكاة أم لا يعني هل يشترط صفة النمو في مال الزكاة ناطقا كان أو صامتا فعند العامة تشترط فلا تجب الزكاة إلا في المال المعد للتجارة أو السائمة وعند مالك رحمه الله لا تشترط فيجب الزكاة في أموال القنية والإبل المعلوفة فلا يتكلم فيه بالقياس بل يستدل بالنص على اشتراطه أو عدم اشتراطه فيتمسك لعدم اشتراطه بإطلاق قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] وقوله عليه السلام لمعاذ "خذ من الإبل في أربعين شاة شاة وفي خمس من الإبل شاة" إلى أخبار كثيرة من غير تقييد بوصف ويحتج لاشتراطه بقوله عليه السلام "ليس في الإبل الحوامل صدقة" "ليس في البقرة المثيرة صدقة" "في خمس من الإبل السائمة شاة" فصار النماء شرطا بهذه الأخبار ومثل صفة الحل في الوطء لإثبات حرمة المصاهرة فعندنا صفة الحل ليست بشرط بل تثبت بمطلق الوطء حلالا كان أو حراما وعند الشافعي رحمه الله عليه لا بد من صفة الحل حتى لا تثبت بالزنا فلا وجه للتمسك فيه بالرأي بل يرجع فيه إلى النص والاستدلال فالشافعي رحمه الله أثبت صفة الحل بالنص وهو قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] الآية ونحن جعلنا الزنا سببا بالنص وهو قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22] الآية، وبالاستدلال فإن الزنا سبب للولد الذي هو الأصل في استحقاق هذه الحرمة مثل الوطء الحلال فيلحق به الدلالة كما مر بيانه في آخر باب النهي ومثل اختلافهم في صفة القتل الموجب للكفارة أنه سبب بصفة أنه حرام أم باشتماله على الوصفين الحظر والإباحة فعند الشافعي هو سبب بصفة أنه حرام فيجب الكفارة في العمد كما يجب في الخطأ وعندنا هو سبب باشتماله على الوصفين فلا تجب في القتل العمد فيتكلم فيه بالدلالة لا بالقياس وفي صفة اليمين الموجبة لكفارة أنها سبب بصفة العقد أم بصفة القصد فعنده هي سبب بصفة القصد فيجب الكفارة في الغموس كما في المعقودة, وعندنا هي سبب بصفة أنها معقودة مشتملة على وصفي الحظر والإباحة فلا تجب في الغموس; لأنها حرام محض فيتكلم في ذلك بالاستدلال لا بالقياس, ولا يلزم عليه الفطر في رمضان فإنه محظور محض وقد تعلق به الكفارة; لأنا نقول ما حرم الفطر لمعنى في عينه بل لمعنى في غيره; لأن الفطر ليس إلا ترك الإمساك والإمساك فعله فكان تركه وإبطاله مملوكا له لكن الحرمة باعتبار أن حق الغير متعلق بالإمساك هو حق الله تعالى فصار الترك والإبطال حراما لغيره لا لعينه فكان نظير إتلاف مال(3/570)
الشرط فمثل شرط اختلافهم في شرط التسمية في الذبيحة ومثل صوم الاعتكاف ومثل الشهود في النكاح ومثل شرط النكاح لصحة الطلاق عند الشافعي والاختلاف في صفته مثل صفة الشهود في النكاح رجال أم رجال ونساء عدول
ـــــــ
الغير فلم يكن عدوانا محضا بل هو دائر بين الحظر والإباحة فيصلح سببا للكفارة, وقد مر الكلام في المسألتين في باب الوقوف على أحكام النظم.
قوله "وأما اختلافهم في الشرط فمثل اختلافهم في شرط التسمية" أي اشتراطها لحل الذبيحة فعندنا هي شرط فلم يحل متروك التسمية عمدا وعنده ليست بشرط بل الشرط الملة لا غير, ومثل صوم الاعتكاف فإنه شرط لصحته عندنا, وليس بشرط عنده ومثل الشهود في النكاح شرط عند العامة وعند مالك ليست بشرط بل الشرط هو الإعلام ومثل شرط النكاح لصحة الطلاق عند الشافعي فإن عنده قيام ملك النكاح شرط لنفوذ الطلاق, ولا عبرة بالعدة حتى لا يقع الطلاق في العدة إذا انقطع الملك بالبينونة وعندنا شرط النفوذ إما النكاح أو العدة فتبقى المرأة محلا لصريح الطلاق في العدة بعد البينونة ما دامت تحل له عقد أو لم تصر من المحرمات كما كانت محلا عند قيام النكاح وفي الطلاق الرجعي تبقى محلا بالاتفاق لبقاء الحل عندنا ولبقاء أصل الملك عنده; ولهذا كان له أن يستدرك ما فاته من الحل بالرجعة بغير رضاها ورضاء وليها وبغير مهر. وكذا بغير شهود في قول وقيل معناه أن النكاح شرط لصحة اليمين بالطلاق فإن التعليق بالملك باطل عنده والدليل عليه ما ذكر في بعض نسخ أصول الفقه وكذلك علل الشافعي لإثبات ملك النكاح شرطا لانعقاد اليمين بالإطلاق ولكن ما ذكرناه أولا هو المذكور في التقويم والأسرار. فهذه شروط لا طريق إلى نفيها وإثباتها ابتداء بالتعليل بل السبيل فيها الرجوع إلى النصوص وإشارتها ودلالاتها ففي اشتراط التسمية يتمسك بقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] وفي اشتراط الصوم للاعتكاف بقوله عليه السلام أو بقول علي وابن عباس وابن عمر وعائشة رضي الله عنهم لا اعتكاف إلا بالصوم. وفي اشتراط الشهود بقوله صلى الله عليه وسلم "لا نكاح إلا بشهود" وفي وقوع الطلاق على المبتوتة في العدة بقوله عليه السلام "المختلعة تلحقها الطلاق ما دامت في العدة" وباستدلالات قوية عرفت في مواضعها من الأسرار والمبسوط وغيرهما لا بالقياس والاختلاف في صفته أي صفة الشرط مثل صفة الشهود أي مثل اختلافهم في صفة الشهود فيشترط صفة الذكورة والعدالة فيهم عند الشافعي رحمه الله حتى لا ينعقد النكاح بشهادة رجل وامرأتين ولا بشهادة الفساق وعندنا لا يشترط صفة الذكورة في الجميع ولا صفة العدالة فينعقد النكاح بشهادة رجل وامرأتين وينعقد بشهادة الفساق كما ينعقد بشهادة العدول وهو(3/571)
لا محالة أم شهود موصوفون بكل وصف وكقولنا: إن الوضوء شرط بغير نية وأما الاختلاف في الحكم فمثل اختلافهم في الحكم فمثل اختلافهم في الركعة الواحدة وفي صوم بعض اليوم وفي حرم المدينة ومثل إشعار البدن وأما صفته فمثل الاختلاف في صفة
ـــــــ
معنى قوله أم شهود موصوفون بكل وصف, فلا يجوز إثبات هذين الوصفين ابتداء ولا نفيهما بالرأي بل يتمسك في إثباتهما بقوله عليه السلام : "ولا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل" فإن عبارته تدل على اشتراط العدالة ويشير لفظ التثنية إلى نفي شهادة النساء فإن عدد الاثنين لا يكفي إلا من الرجال ويتمسك في نفيهما بإطلاق قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] وبإطلاق قوله عليه السلام "لا نكاح إلا بشهود" وكقولنا: الوضوء شرط بغير نية يعني شرط لصحة الصلاة لكن بدون صفة القربة حتى صح من غير نية وعند الشافعي رحمه الله هو شرط بصفة القربة فلا يصح بدون النية ولا يمكن إثبات هذا الصفة, ولا نفيها بالقياس ابتداء بل يتمسك من يثبتها بعموم قوله عليه السلام "الأعمال بالنيات" ويحتج من نفاها بدلالة محل الإجماع فإنا أجمعنا أنه لو صلى صلوات بوضوء واحد جازت الصلوات فلو كان يشترط صفة القربة في الوضوء لكان يشترط نية كل صلاة وإرادتها في الوضوء ولما لم تشترط علم أن صفة القربة ليست بشرط بل الشرط كونه طاهرا إذا أراد القيام إلى الصلاة ليكون أهلا لخدمة الله تعالى والقيام بحضرته.
قوله "وأما الاختلاف في الحكم" الركعة الواحدة ليست بصلاة مشروعة عندنا, وقال الشافعي رحمه الله هي مشروعة فلا يمكن إثبات شرعيتها بالقياس فمن أثبت شرعيتها يتمسك بما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: "صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشيت الصبح فأوتر بركعة1" وبما روي عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم "من أحب أن يوتر بركعة فعل ومن أحب أن يوتر بثلاث فعل2" ومن أنكر شرعيتها يتمسك بما اشتهر "أن النبي عليه السلام كان يوتر بثلاث لا يسلم إلا في الآخرة" وبما روي عن محمد بن كعب القرظي "أن النبي عليه السلام نهى عن البتراء3" أو بما قال ابن مسعود رضي الله عنه ما أجزت ركعة قط وبنوع من الاستدلال فإن السفر سبب لسقوط شطر الصلاة كما في الأربع فلو كانت الركعة صلاة لسقط الشطر أيضا في الفجر فلما لم يسقط
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في صلاة المسافرين، حديث رقم 753، والترمذي برقم 437، وأبو داود في الصلاة حديث رقم 1327، والإمام أحمد في المسند 2/26.
2 أخرجه أبو داود في الصلاة حديث رقم 1422، وابن ماجة في إقامة الصلاة‘ حديث رقم 1190.
3 أخرجه ابن ماجة برقم 1176.(3/572)
-----------------------------------------------------
ـــــــ
مع قيام العلة علم أنه إنما امتنع; لأن الباقي لا يبقى صلاة فيكون إسقاطا للكل, ألا ترى أن شطر المغرب لم يسقط لما لم يكن ركعة ونصف صلاة وفي صوم بعض اليوم فإنه غير مشروع عندنا وعند بعض أصحاب الشافعي منهم أبو زيد القاشاني مشروع حتى لو أكل في أول النهار ثم بدا له أن يصوم باقيه جاز عندهم, واعتبروه بيوم الأضحى فإن إمساك بعض اليوم قربة فيه فيجوز أن يكون قربة في غيره من الأيام وقاسوه بالصدقة فإن القليل منها مشروع كالكثير وهذا فاسد; لأن الصدقة إنما صارت قربة مشروعة لما فيها من صلة الفقير وفي القليل صلة الفقير كما في الكثير أما الصوم فإنما شرع قربة لما فيه من قهر النفس بكفها عن اقتضاء الشهوتين في وقت ممتد وهو النهار من أوله إلى آخره فلا يمكن إثبات صفة القربة فيما دونه وجعله مشروعا بالقياس, والإمساك في أول يوم الأضحى ليس بصوم بل شرع ليكون أول التناول من ضيافة الله عز وجل فلا يصح اعتباره به ويجوز أن يكون المراد منه أن صوم بعض اليوم مشروع عند الشافعي رحمه الله لكن بشرط عدم الأكل في أول النهار حتى لو نوى النفل قبل انتصاف النهار أو بعده في قول ولم يأكل فيما مضى من النهار يجوز ويصير صائما من حين نوى, وعندنا ليس بمشروع ويصير صائما من أول النهار وقد مر بيانه في باب تقسيم المأمور به في حق الوقت. وفي حرم المدينة لا حرم للمدينة عندنا وعند الشافعي لها حرم مثل حرم مكة في حق الأحكام فلا يمكن إثباته ولا نفيه بالتعليل بل يرجع فيه إلى النصوص فقوله عليه السلام: "إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها1" وقوله عليه السلام "إني أحرم ما بين لابتي المدينة أن يقطع عضاهها أو يقتل صيدها" وقوله عليه السلام "من قتل صيدا بالمدينة يؤخذ سلبه2" يدل على أن لها حرما مثل حرم مكة كما قال الشافعي وما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كان لآل محمد وحوش يمسكونها3 وقوله عليه السلام لأبي عمير "يا أبا عمير ما فعل النغير4" وكان طيرا يمسكه. وانعقاد الإجماع على جواز دخولها بغير إحرام يدل على أنه لا حرم لها كما قلنا وإن الأحاديث المروية في الباب محمولة على إثبات الاحترام لا على إثبات الأحكام ومثل إشعار البدن الإشعار أن يضرب بالمبضع في أحد
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الحج، حديث رقم 1361.
2 أخرجه أبو داود في المناسك حديث رقم 2038.
3 أخرجه الإمام أحمد في المسند 666/112.
4 أخرجه مسلم فلي الأدب، حديث رقم 2150، وأبو داود في الأدب، حديث رقم 4969، والترمذي في الصلاة،حديث رقم 333، وابن ماجة برقم 3740.(3/573)
الوتر وفي صفة الأضحية وفي صفة العمرة وفي صفة حكم الرهن بعد اتفاقهم
ـــــــ
جانبي سنام البدن حتى يخرج منه الدم ثم يلطخ بذلك سنامها سمي بذلك; لأنها أعلم به أنها هدي والإشعار الإعلام لغة والبدن بضم الباء جمع بدنة وهي ناقة أو بقرة تنحر بمكة ويقع على الذكر والأنثى ثم الإشعار مكروه عند أبي حنيفة وهو قول إبراهيم النخعي رحمهما الله وقال أبو يوسف ومحمد هو حسن في البدنة وإن تركه لم يضره وقال الشافعي رحمه الله هو سنة فلا يحكم فيه بالرأي بل المفزع فيه الأخبار وفعل النبي عليه السلام فما روي أنه صلى الله عليه وسلم أشعر البدنة بيده يدل على كونه سنة. وما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال إن شئت فأشعر وإن شئت فلا يدل على أنه حسن وأن تركه لا يضر, وما روي عن ابن عباس في رواية أخرى وعائشة رضي الله عنهم أن الإشعار ليس بسنة, وإنما أشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم كي لا تنالها أيدي المشركين يدل على أنه ليس بسنة ولا مستحب وهو في نفسه مثلة وتعذيب الحيوان فيكون مكروها والأصح أنه ليس بمكروه; لأن الآثار فيه مشهورة, وإنما كره أبو حنيفة رحمه الله إشعار أهل زمانه; لأنه رآهم يستقصون في ذلك على وجه يخاف منه هلاك البدنة بسرايته خصوصا في حر الحجاز فرأى الصواب في سد هذا على العامة; لأنهم لا يقفون على الحد إليه أشير في المبسوط والأسرار.
قوله "وأما صفته أي" الاختلاف في صفة الحكم فمثل اختلاف في صفة الوتر أنه سنة أم واجب بعد اتفاقهم على أنه مشروع ولا مدخل للرأي في معرفته فذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أنه واجب متمسكا بقوله عليه السلام "إن الله تعالى زادكم صلاة إلى صلواتكم الخمس, ألا وهي الوتر فحافظوا عليها1" وقوله صلى الله عليه وسلم "الوتر حق واجب فمن لم يوتر فليس منا2" وذهب أبو يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله إلى أنه سنة معتصمين بالسنة أيضا وهو قوله عليه السلام "ثلاث كتب علي وهي لكم سنة الوتر والضحى والأضحى3" أي الأضحية. وفي صفة الأضحية أي ومثل اختلافهم في صفة الأضحية أنها واجبة أم سنة بعد اتفاقهم على شرعيتها فعندنا هي واجبة وعند الشافعي رحمه الله سنة ومفزع الفريقين السنة دون الرأي فنحن نتمسك في الإيجاب بقوله عليه السلام "ضحوا فإنها سنة أبيكم إبراهيم من وجد سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا4"
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في لاصلاة، حديث رقم 1418، والترمذي في الوتر حديث رقم 452، وابن ماجة في الإقامة حديث رقم 1168.
2 أخرجه أبو داود في الصلاة، حديث رقم 1419، والإمام أحمد في المسند 5/357.
3 أخرجه الإمام أحمد في المسند 1/231.
4 أخرجه ابن ماجة في الأضاحي، حديث رقم 3127، والإمام أحمد في المسند 4/368.(3/574)
أنه وثيقة لجانب الاستيفاء وكاختلافهم في كيفية وجوب المهر وفي كيفية
ـــــــ
وهو يتعلق في نفي الإيجاب بما روينا وفي صفة العمرة فعندنا هي سنة مؤكدة كصلاة العيد, وعند الشافعي رحمه الله هي فريضة كالحج ولا يعرف ذلك بالرأي فأوجبها الشافعي بقوله تعالى: {يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} فإنه يدل على أن من الحج ما هو أصغر وبقوله عليه السلام "العمرة واجبة" وقلنا إنها سنة بما روى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه "سئل عن العمرة أواجبة هي؟ فقال: " لا, وأن تعتمر خير لك1" . وبما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه السلام أنه قال: " الحج جهاد والعمرة تطوع2" وغيرهما من الأحاديث, وحملنا ألفاظ الوجوب على التأكيد.
قوله: "وفي صفة حكم الرهن بعد اتفاقهم أنه وثيقة لجانب الاستيفاء" لا خلاف أن الرهن عقد وثيقة لجانب الاستيفاء حتى لا يصح رهن ما لا يصلح للاستيفاء كالخمر وأم الولد كما أن الكفالة وثيقة لجانب الوجوب وأنه لا بد من تسليم الرهن إلى المرتهن وأن الحكم الثابت به للمرتهن بعد التسليم إليه حق الحبس وثبوت اليد لكنهم اختلفوا في صفة الحكم فعندنا اليد الثابتة له عليه في حكم يد الاستيفاء والحبس ثابت بصفة الدوام حكما أصليا للرهن فلو هلك في يده يتم الاستيفاء ويسقط من الدين بقدره ولا يكون للراهن حق الاسترداد للانتفاع كما في حقيقة الاستيفاء وعند الشافعي رحمه الله ليست هذه يد استيفاء بل ثبوت اليد والحبس لتعلق الدين بالعين بإيفائه من ماليته بالبيع فإذا هلك في يده هلك أمانة لا مضمونا وكان للراهن حق الاسترداد للانتفاع ثم الرد إلى المرتهن بعد الفراغ. وذكر في الوسيط: حقيقة الرهن توثيق الدين بتعليقه بالعين ليسلم المرتهن به عن مزاحمة الغرماء عند الإفلاس ويتم ذلك بالقبض ليحفظ محل حقه ليوم حاجته ويثبت للمرتهن في الحال استحقاق اليد على المرهون وفي ثاني الحال استحقاق البيع في قضاء حقه إذا لم يوفه الراهن من مال آخر ثم ما ذكرنا لا يمكن إثباته بالقياس; لأنا لا نجد حكم الرهن في عقد آخر لتعديه إليه بالقياس, ولكن يرجع إلى الاستدلال فقال الشافعي الرهن وثيقة لجانب الاستيفاء بالإجماع ومعنى التوثق إنما يظهر بما قلت فإنه من قبل كان مطالبا بالإيفاء من غير تعيين محل وبعد الرهن بقي ما كان وازداد به شيء آخر وهو مطالبته بالإيفاء من هذا المحل بعينه تبعا, وإيفاء للدين من ثمنه وإنه على مثال الكفالة على أصله فإن موجبها ثبوت الدين في الذمة الثانية مع بقائه في الذمة الأولى فحصل معنى التوثق في جانب الوجوب بضم ذمة إلى ذمة وهاهنا حصل معنى التوثق
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في الحج، حديث رقم 931.
2 أخرجه ابن ماجة في المناسك، حديث رقم 2989.(3/575)
-----------------------------------------------------
ـــــــ
بتعيين محل مع بقائه مطلقا في غيره. وإذا ثبت هذا كان للراهن أن ينتفع بالرهن; لأن انتفاع المالك به لا يبطل حق البيع بالدين فلا يحجر المالك عنه لحقه كما لا يحجر المولى عن استخدام الأمة المنكوحة لحق الزوج; لأنه حقه في ملك الوطء ولا يبطل ذلك باستخدامها ويدل عليه قول الرسول صلى الله عليه وسلم "الرهن مجلوب ومركوب" وأنه ليس بمجلوب ولا مركوب للمرتهن فيثبت أنه للراهن, ونحن نقول أحكام العقود الشرعية تقتبس من ألفاظها الدالة عليها فإن التعريف وقع بهذا الاسم فلا بد من مراعاة معنى الاسم فيه ليكون التعريف به صحيحا وقد ورد الشرع بإطلاق اسم الرهن عليه وأنه منبئ عن الحبس قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38] أي محتبسة فجعلنا موجبه احتباس العين بالدين وهذا الاحتباس وإن كان أمرا حقيقيا اتصف بكونه حكما شرعيا لاتصافه بكونه مطلقا شرعا وأما الاستدلال بنظيره من عقد الكفالة فظاهر على ما عليه مذهبنا فإن موجبه صيرورة ذمة الكفيل مضمونة إلى ذمة الأصيل في المطالبة دون أصل الدين حتى يكون الثابت به وثيقة فإن الوثيقة إثبات شيء هو من جنس ما ثبت بالحقيقة حتى يزداد وثوقا ولا يمكن إثبات أصل الدين; لأنه حينئذ يصير الثابت به حقيقة ثم ما هو الفرع في الدين وهو المطالبة جعل أصلا في عقد الكفالة لتكون موصلة إلى الحقيقة فكذا اليد على المحل فرع حقيقة الاستيفاء فجعلت أصلا في عقد الرهن وإبداء ما هو الاتباع والفروع في الأصول يجعل أصولا في التوثقات. فإن قيل: ما معنى الوثيقة في هذه اليد ومن أي وجه جعلت وثيقة؟ "قلنا" معنى الوثيقة في إثبات شيء زائد هو من جنس الأصل مع بقاء الأول على ما كان فإذا احتبس عنده حقيقة يصير هذا الاحتباس وسيلة إلى النقد من محل آخر وهذا هو المتعاهد فيما بين الناس أن ملك الإنسان متى صار محبوسا عنه بدين يتسارع إلى فكاكه بإيفاء الدين, والدليل على هذا المحل من جنس يد الاستيفاء, والدين بالاستيفاء يصير محصنا فإذا بقيت له المطالبة على ما كانت من قبل وازدادت يد هي من جنس الأول ازداد الأول توثقا به فهذا تفسير معنى الوثيقة في حقيقة الاحتباس واليد الثابتة على المحل فأما ما ذكره الخصم فلا ينبئ عنه اللفظ ولا يستدعي أن يكون وثيقة; لأن البيع في الدين حكم يأتي بعد عقد الرهن. وكذا تعينه للبيع غير ثابت; لأن الإيفاء من محل آخر يكون في العادات فإن الإنسان يرهن الشيء ليوفي الدين من محل آخر لا ليبيعه في الدين وكيف يكون البيع في الدين موجب عقد الرهن ولا يملك المرتهن ذلك بعد تمام الرهن إلا بتسليط الراهن إياه على ذلك وكم من رهن ينفك عن البيع في الدين موجب العقد ما لا يخلو العقد عنه بعد تمامه.
قوله "وفي كيفية وجوب المهر" من أحكام النكاح بالإجماع لكنهم اختلفوا في(3/576)
-------------------------------------------------------
ـــــــ
صفته فعندنا هو واجب عوضا عن ملك البضع, وليس فيه معنى الصلة وقد تعلق حق الشرع بوجوبه في الابتداء وفي البقاء تمحض حقا للمرأة. وعند الشافعي رحمه الله هو مشتمل على معنى العوض والصلة وقد تمحض حقا للمرأة ابتداء وبقاء كالثمن في البيع ويتفرع منه أنه إذا تزوجها ولم يسم لها مهرا يجب المهر بنفس العقد عندنا حتى لو مات أحدهما قبل الدخول تأكد المهر وعند الشافعي لا يجب بنفس العقد حتى لو مات أحدهما قبل الدخول لا يجب لها شيء ولو دخل بها قال بعض أصحاب الشافعي لا يجب المهر كما لا يجب بالعقد وقال بعضهم يجب المهر بالدخول وبالاتفاق كان لها أن تطالبه بعد العقد بأن يفرض لها مهرا ويبتنى عليه أيضا أن المهر مقدر شرعا حتى لم يجز أقل من عشرة عندنا; لأن حق الشرع تعلق به وجوبا فيكون التقدير إليه وعند الشافعي رحمه الله التقدير إلى المتعاقدين; لأنه خالص حق العبد فكان حكمه حكم سائر الأعراض ولا مجال للقياس فيه; لأنه لم يوجد لأحد الفريقين أصل تعدى الحكم منه إلى المتنازع فيه فيتكلم فيه بالاستدلال من النص أو الإجماع فقال الشافعي رحمه الله المهر زائد على ما يقتضيه النكاح فإن المناكحة تقوم ببدن المتناكحين فكان الركن في العقد ذكرهما ليتحقق موجب اللفظ أما المال فأمر زائد, وبهذا صح العقد بدون التسمية ومع نفيها فكان فيه معنى الصلة من هذا الوجه. ومن حيث إنه يثبت للزوج عليها ضرب ملك لم يوجد ذلك في جانبها كان فيه معنى العوض فلكونه عوضا إذا شرط في العقد تملك ملك الأعواض وإذا نفى أو لم يشترط لا يجب كالثمن في البيع ولكونه صلة تستحق المرأة مطالبة الفرض كالنفقة أو يقال إذا تحقق فيه معنى العوض والصلة فلكونه صلة ينعقد أصل العقد بدون المهر ولكونه عوضا لا يخلو عنه ملك البضع فيتأخر وجوبه إلى حين الدخول وتستحق الفرض لئلا يخلو البضع عنه قال وهو خالص حقها; لأنه وجب مقابلا بالبضع بالإجماع وله حكم الإجزاء أو حكم المنافع فكيف ما كان هو حقها فوجب أن يكون بدله خالص حقها, والدليل عليه أنها تملك الاستيفاء والإبراء ولو كان فيه حق لصاحب الشرع لما صح إسقاطها أصلا., ونحن نقول حكم النكاح ثبوت الملك بالإجماع, والازدواج والسكن من ثمراته وهذا الملك لم يشرع إلا بمال بقوله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] فكان وجوبه على سبيل المعاوضة دون الصلة ثم هذا المال مع كونه عوضا يثبت من غير شرط على خلاف سائر الأعواض فإن الأب يزوج ابنته من غير مهر ويجب العوض باعتبار أن وجوب هذا المال لتحصيل الملك المشروع فإذا شرع في العقد وحصل الملك وجب المال وإن لم يذكر وصار الإقدام على العقد تحصيلا للملك بمال وفيه حق الشرع أيضا; لأن المحل الذي ورد عليه العقد محل النسل ولله تعالى فيه حق من حيث الاستعباد فظهر حق(3/577)
حكم البيع أنه ثابت بنفسه أم متراخ إلى قطع المجلس ولا يلزم اختلاف الناس بالرأي في صوم يوم النحر; لأنهم لم يختلفوا أن الصوم مشروع في الأيام, وإنما
ـــــــ
الشرع في العقد الذي هو سبب تحصيل النسل, ألا ترى أنه لا يجري فيه البذل, والإباحة ولا يخلو التصرف في هذا المحل عن حد وعقد, وإن رضيت به المرأة ولو كان البضع محض حق المرأة لعمل رضاها في إسقاط الواجب إن لم يعمل في إباحة الفعل كما في قطع الأطراف وقتل النفس لا يحل الفعل بالإباحة ولكن لا يجب الضمان في الأطراف ولا القصاص في النفس. وكذا إباحة المال إن كانت بطريق مشروع تثبت الإباحة وإن لم تكن لا تثبت الإباحة, ولكن لا يجب الضمان فعرفنا أن حق الشرع متعلق بالمحل وإذا كان كذلك لم يكن بد من رعاية حق الشرع فيما يتعلق بالسبب من اعتبار المهر والشهود, وإنما شرع على هذا الوجه إبانة لحظر المحل وصونا له عن الهوان فأما البقاء فلا تعلق له بالسبب فعمل رضاها في الإسقاط; لأنه حقها على التمحض في حالة البقاء فهذا معنى قولنا ظهر حق الشرع فيه وجوبا والبقاء حق المرأة على التمحض.
قوله "وفي كيفية حكم البيع" اختلفوا في صفة حكم البيع وهو الملك أنه ثابت بنفس البيع على صفة اللزوم أم بتراخ إلى آخر المجلس فعندنا يثبت بنفس البيع لازما فلا يكون لواحد من المتعاقدين خيار المجلس وعند الشافعي يتراخى ثبوت الملك بالبيع إلى آخر المجلس في قول وإليه أشير في الكتاب, وفي قوله يثبت بنفس البيع ولكن يتراخى اللزوم إلى آخر المجلس فيثبت على القولين خيار المجلس لكل واحد منهما ولا يتعرف إثباته ولا نفيه بالقياس فرجع الشافعي رحمه الله في إثباته إلى الحديث وهو قوله عليه السلام "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا" ونحن أثبتنا اللزوم بنفس البيع بعموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وقوله عليه السلام: "المسلمون عند شروطهم1" وقول عمر رضي الله عنه البيع صفقة أو خيار والصفة عند العرب عبارة عن النافذة اللازمة والحديث الذي رواه لم تجر المحاجة به بين الصحابة بعدما اختلفوا في خيار المجلس فدل على زيافته وهو محمول على خيار الإيجاب والقبول فإنه سماهما متبايعين, وذلك في حال إقدامهما على البيع وبعد الفراغ يسميان به مجازا لا حقيقة ولا يلزم اختلاف الناس يعني لا يلزم على ما قلنا: إن إثبات الحكم ابتداء بالرأي لا يجوز اختلاف الناس في صوم يوم النحر وتكلمهم فيه بالرأي وهو حكم لا مدخل للرأي فيه. وقوله; لأنهم لم يختلفوا جواب السؤال يعني أنهم لم يختلفوا في أن الأيام محال
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي فيل الأحك، حديث رقم 1352، وأبو داود في الأقضية حديث رقم 3594.(3/578)
اختلفوا في صفة حكم النهي وذلك لا يثبت بالرأي, وإنما أنكرنا هذه الجملة إذا لم يوجد في الشريعة أصل يصح تعليله فأما إذا وجد فلا بأس به, ألا ترى أنهم اختلفوا في التقابض في بيع الطعام بالطعام وتكلموا فيه بالرأي; لأنا وجدنا لإثباته
ـــــــ
للصوم بل محلية الأيام للصوم ثابتة بالإجماع وهو من جملتها فيكون محلا للصوم بالنظر إلى أنه يوم إنما اختلفوا في صفة حكم النهي أي اختلفوا في أن النهي يوجب الانتهاء على وجه يبقى فيه اختيار للمنهي فيلزم منه بقاء مشروعية الصوم في هذا اليوم أم يوجبه على وجه لا يبقى له فيه اختيار بأن صار المنهي عنه منسوخا بالنهي, ولم يبق مشروعا أصلا وذلك لا يثبت بالرأي أي حكم النهي على الوصف الذي ذكرنا ليس بثابت بالرأي بل بالنص وهو أن الله تعالى قال: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وقال: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: 2] فمقتضى هذين النصين أن يكون ما كلف العبد وابتلي به داخلا تحت قدرته واختياره والنهي من باب التكليف فيشترط أن يكون الانتهاء الواجب به أمرا اختياريا ليكون العبد بين أن ينتهي فيثاب وبين أن يباشر المنهي عنه فيعاقب ويلزم منه بقاء مشروعية الصوم على ما مر في باب النهي.
قوله "وإنما أنكرنا هذه الجملة" أي إنما لم نجوز استعمال الرأي في هذه الأقسام الثلاثة أو في هذه الأمثلة المذكورة إذا لم يوجد له أي لما وقع الاختلاف فيه من هذه الأقسام في الشريعة أصل يصح تعليل ذلك الأصل وتعدية حكمه إليه فأما إذا وجد فلا بأس به أي باستعمال الرأي فيه وإثباته بالقياس, ألا ترى أنهم اختلفوا في التقابض أي في اشتراط قبض البدلين لبقاء العقد على الصحة في بيع الطعام بالطعام أي بيع طعام بعينه بطعام بعينه وتكلموا فيه بالرأي فقال الشافعي رحمه الله يشترط التقابض فيه اتحد الجنس بأن باع قفيز حنطة بقفيز حنطة أو اختلف بأن باع كر حنطة بكر تمر أو شعير; لأنهما مالان يجري بينهما ربا الفضل فيشترط قبضهما في المجلس لبقاء العقد على الصحة كالذهب والفضة. وقلنا لا يشترط التقابض اتحد الجنس أو اختلف; لأنهما مالان عينان فلا يشترط قبضهما في المجلس لبقاء العقد على الصحة كما في بيع الثوب بالثوب أو بالدراهم, وإنما صح الكلام فيه بالرأي; لأنه قد وجد لإثبات اشتراط التقابض أصل وهو عقد الصرف ووجد للجواز بدون القبض أصل أيضا وهو بيع سائر السلع فاستقام تعليل كل أصل لتعدية الحكم به إلى الفرع. فإذا وجد مثله في غيره أي وجد أصل يمكن تعليله في غير التقابض مما ذكرنا من الأمثلة صحت التعدية أيضا.
"فإن قيل" قد وجد في جواز النكاح بغير شهود أصل وهو عقود المعاملات فإن النكاح منها بدليل أنه يصح من الكافر والمسلم ولم يشترط الشهود لصحة المعاملات(3/579)
أصلا وهو الصرف ووجدنا لجوازه بدونه أصلا وهو بيع سائر السلع. فإذا وجد مثله في غيره صحت التعدية, ألا ترى أن من ادعى إيجاب التسمية في الذبيحة شرطا بالقياس لم يجد له أصلا ومن أراد إيجاب الصوم في الاعتكاف شرطا بالقياس لم يجد له أصلا أيضا وهذا باب لا يحصى عدد فروعه فاقتصرنا فيه على الإشارة إلى الجمل. وأما النوع الرابع فعلى وجهين في حق الحكم: وهما القياس والاستحسان.
ـــــــ
شرعا وإن ترتب على بعضها حل الاستمتاع كبيع الأمة فيعلل ذلك الأصل لتعدية الحكم به إلى الفرع, وكذلك وجد لسقوط اشتراط التسمية لحل الذبيحة أصل وهو الناسي فيعلل لتعدية الحكم به إلى الفرع.
"قلنا" لم يشترط الشهود في النكاح من حيث إنه معاملة ولكن اشتراط الشهود فيه باعتبار أنه عقد مشروع للتناسل وإنه يرد على محل له خطر وهو مصون عن الابتذال فلإظهار خطره يختص بشرط الشهود ولا يوجد أصل في المشروعات بهذه الصفة ليعلل ذلك الأصل فيعدى الحكم به إلى الفرع. وأما الناسي فلم يسقط عنه شرط التسمية ولكنه جعله كالمسمى حكما للعذر بدلالة قوله عليه السلام "تسمية الله في قلب كل امرئ مسلم" كما جعل الناسي في الصوم كالمباشر لركن الصوم حكما بالنص وهو قوله عليه السلام "تم على صومك فإنما أطعمك الله وسقاك" وهذا حكم معدول به عن القياس وتعليل مثله لتعدية الحكم باطل مع أن العامد ليس كالناسي لانعدام العذر في حقه, ألا ترى أن قياس العامد على الناسي في الصوم لا يجوز فكذا هاهنا, ألا ترى أن من ادعى متصل بقوله إذا لم يوجد له في الشريعة أصل يصح تعليله فصار حاصل الباب أن إثبات السبب أو الشرط أو الحكم بالتعليل ابتداء لا يجوز فأما بطريق التعدية فجائز عند وجود شرائط التعدية وفيما ذكرنا من النظائر إنما حكمنا بفساد التعليل لعدم أصول تقاس هذه الأمثلة عليها لا; لأنها ليست بمحل للقياس وأما النوع الرابع وهو تعدية حكم معلوم إلى آخره فعلى وجهين في حق الحكم يعني القياس والاستحسان, الثابت بالتعليل واحد من حيث إن كل واحد منها مبني على الرأي مستنبط بالعلة إلا أنهما في حق الحكم نوعان فإن أحدهما يثبت ما ينفيه الآخر ثم الحكم إذا تعلق بالمعنى فلا يخلو إما أن يكون المعنى جليا أو لم يكن فإن كان جليا سميناه قياسا وإن لم يكن سميناه استحسانا.(3/580)
المجلد الرابع
باب القياس والاستحسان
...
بسم الله الرحمن الرحيم
"باب القياس والاستحسان"
قال الشيخ الإمام رضي الله عنه: وكل واحد منهما على وجهين أما أحد نوعي القياس فما ضعف أثره والنوع الثاني ما ظهر فساده واستترت صحته
ـــــــ
"باب بيان القياس والاستحسان"
الاستحسان في اللغة استفعال من الحسن, وهو عد الشيء واعتقاده حسنا تقول استحسنت كذا أي اعتقدته حسنا, وفي الاصطلاح ما سنبينه. قوله: "وكل واحد منهما على نوعين" ولما كان كل واحد من القياس والاستحسان حجة باعتبار الأثر, والأثر قد يكون قويا وغير قوي صار كل واحد على وجهين باعتبار ضعف الأثر, وقوته. وهذه تقسيم القياس الذي قابله استحسان معنوي وتقسيم هذا الاستحسان المعارض لا تقسيم نفس القياس والاستحسان باعتبار ذاتهما فإن القياس الخالي عن معارضة الاستحسان خارج عن هذا التقسيم. وكذا الاستحسان الثابت بالنص والإجماع والضرورة خارج عنه أيضا فكان معناه فكل واحد منهما في مقابلة الآخر على وجهين فما ضعف أثره أي بالنسبة إلى قوة أثر مقابله, وهو الاستحسان.
والثاني ما ظهر فساده أي ضعفه; لأنه إذا ضعف بمقابلة الآخر فسد. والمراد في الضعف والفساد هاهنا واحد. واستترت صحته, وأثره أي انضم إليه معنى خفي هو المؤثر في الحكم في التحقيق فاندفع به فساد ظاهره وصار راجحا على مقابله, ونوعا الاستحسان على عكس نوعي القياس كما ذكر. فإن قيل ينبغي أن يكون النوع الثاني من القياس استحسانا لخفاء أثره والنوع الثاني من الاستحسان قياسا لظهور أثره فإن الاستحسان هو القياس الخفي لا الظاهر قلنا ظهور أثر الاستحسان بالنسبة إلى خفاء فساده, ولكنه خفي بالنسبة إلى وجه القياس الذي ظهر فساده كما في سائر صور القياس والاستحسان ألا ترى أن وجه الاستحسان في مسألة سجدة التلاوة أخفى, وأقوى من وجه القياس بالنظر إلى(4/3)
وأثره وأحد نوعي الاستحسان ما قوي أثره, وإن كان خفيا, والثاني ما ظهر أثره وخفي فساده, وإنما الاستحسان عندنا أحد القياسين لكنه يسمى به إشارة
ـــــــ
نفسهما إلا أنه انضم إلى وجه القياس معنى أدق من وجه الاستحسان فقوي به وجه القياس وضعف وجه الاستحسان وفسد. فبالنظر إلى وجهي القياس والاستحسان أولا كان وجه الاستحسان أخفى, وأقوى من وجه القياس فصح تسميته استحسانا كما في سائر صور القياس والاستحسان بالنظر إلى المعنى الخفي اللاحق بالقياس ثانيا كان وجه القياس أقوى فترجح وجه القياس وضعف وجه الاستحسان فهذا معنى دقيق يندفع به سؤالات الخصوم فافهم. واعلم أن بعض القادحين في المسلمين طعن على أبي حنيفة, وأصحابه رحمهم الله في تركهم القياس بالاستحسان, وقال: حجج الشرع الكتاب والسنة والإجماع والقياس, والاستحسان قسم خامس لم يعرف أحد من حملة الشرع سوى أبي حنيفة, وأصحابه أنه من دلائل الشرع, ولم يقم عليه دليل بل هو قول بالتشهي فكان ترك القياس به تركا للحجة لاتباع هي أو شهوة نفس فكان باطلا ثم قال إن القياس الذي تركوه بالاستحسان إن كان حجة شرعية فالحجة الشرعية حق, وماذا بعد الحق إلا الضلال, وإن كان باطلا فالباطل واجب الترك, ومما لا يشتغل بذكره, وإنهم قد ذكروا في بعض المواضع أنا نأخذ بالقياس ونترك الاستحسان به فكيف يجوزون الأخذ بالباطل والعمل به, وذكر من هذا الجنس ما يدل على قلة الورع, وكثرة التحيز والعداوة. ونقل عن الشافعي أيضا أنه بالغ في إنكار الاستحسان, وقال من استحسن فقد شرع وكل ذلك طعن من غير روية, وقدح من غير وقوف على المراد فأبو حنيفة رحمه الله أجل قدرا, وأشد ورعا من أن يقول في الدين بالتشهي أو عمل بما استحسنه من دليل قام عليه شرعا فالشيخ رحمه الله عقد الباب لبيان المراد من هذا اللفظ والكشف عن حقيقته دفعا لهذا الطعن فقال: بعدما قسم كل واحد من القياس والاستحسان على نوعين, وإنما الاستحسان عندنا أحد القياسين واختلف عبارات أصحابنا في تفسير الاستحسان الذي قال به أبو حنيفة رحمه الله قال بعضهم هو العدول عن موجب قياس إلى قياس أقوى منه كما أشار إليه الشيخ, ولكن لم يدخل في هذا التعريف الاستحسان الثابت بدليل آخر غير القياس مثل ما ثبت بالأثر أو الإجماع والضرورة إلا أن مقصود الشيخ ما سنذكره. وقال بعضهم هو تخصيص قياس بدليل أقوى منه, وهذا اللفظ, وإن عم جميع أنواع القياس, ولكنه يشير إلى أن الاستحسان تخصيص العلة, وإنه ليس بتخصيص وعن الشيخ أبي الحسن الكرخي رحمه الله أن الاستحسان هو أن يعدل الإنسان عن أن يحكم في المسألة بمثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه لوجه أقوى يقتضي العدول عن الأول ويلزم عليه أن يكون العدول عن العموم(4/4)
............................................................................................
إلى التخصيص وعن المنسوخ إلى الناسخ استحسانا, وليس كذلك ويلزم على جميع هذه العبارات قول أبي حنيفة رحمه الله في بعض المواضع تركت الاستحسان بالقياس; لأنه يصير حينئذ كأنه, قال تركت القياس الأقوى أو الدليل الأقوى بالأضعف, وإنه غير جائز. وأجيب عنه بأن المتروك سمي استحسانا; لأنه أقوى من القياس وحده, ولكن اتصل بالقياس معنى آخر صار ذلك المجموع أقوى من الاستحسان فلذلك ترك العمل به, وأخذ بالقياس. وقال بعض أصحابنا الاستحسان هو القياس الخفي, وإنما سمع به; لأنه في الأكثر الأغلب يكون أقوى من القياس الظاهر فيكون الآخذ به مستحسنا, ولما صار اسما لهذا النوع من القياس, وإنه قد يكون ضعيفا أيضا بقي الاسم, وإن صار مرجوحا فإذا قال أبو حنيفة رحمه الله تركت الاستحسان أراد بذلك التنبيه على أن فيه علة سوى علة الأصل أو معنى آخر يوجب ذلك الحكم, وأن الأحب أن يذهب إليه لكن لما لم يترجح عندي ما أخذت به وذكر صدر الإسلام أن الاستحسان إذا كان أكثر تأثيرا كان استحسانا تسمية ومعنى, وإن كان القياس أكثر تأثيرا كان الاستحسان استحسانا تسمية لا معنى, والاستحسان معنى هو القياس.
واعلم أيضا أن المخالفين لم ينكروا على أبي حنيفة رحمه الله الاستحسان بالأثر والإجماع أو الضرورة; لأن ترك القياس بهذه الدلائل مستحسن بالاتفاق, وإنما أنكروا عليه الاستحسان بالرأي فإن ترك القياس بالتشهي على زعم فأشار الشيخ إلى دفع طعنهم بقوله إنما الاستحسان أي الاستحسان الذي وقع التنازع فيه عندنا أي عند أصحابنا أحد القياسين لا أن يكون قسما آخر اخترعوه بالتشهي من غير دليل, ولا شك أن القياسين إذا تعارضا في حادثة وجب ترجيح أحد القياسين ليعمل به إذا أمكن لكنه سمي به أي لكن أحد القياسين سمي بالاستحسان إشارة إلى أنه الوجه الأولى في العمل به لترجحه على الآخر قال شمس الأئمة رحمه الله سموه استحسانا للتميز بين القياس الظاهر الذي تذهب إليه الأوهام, وبين الدليل المعارض له, وهو نظير عبارات أهل الصناعات في التمييز بين الطرق لمعرفة المراد فإن أهل النحو يقولون هذا نصب على التفسير, وهذا نصب على الظرف, وهذا نصب على المصدر للتمييز بين المعاني الناصبة, وأهل العروض يقولون هذا من البحر الطويل, وهذا من البحر المتقارب, وهذا من البحر المديد فكذلك علماؤنا استعملوا عبارة القياس والاستحسان للتمييز بين الدليلين المتعارضين وخصصوا أحدهما بالاستحسان لكون العمل به مستحسنا, ولكونه مائلا عن سنن القياس الظاهر فسموه بهذا الاسم لوجود معنى الاسم فيه بمنزلة الصلاة فإنها اسم للدعاء ثم أطلقت على العبادة(4/5)
إلى أنه الوجه الأولى في العمل به, وأن العمل بالآخر جائز كما جاز العمل بالطرد, وإن كان الأثر أولى منه. وللاستحسان أقسام وهو ما ثبت بالأثر مثل السلم
ـــــــ
المعهودة لما فيها من الدعاء عادة. فظهر بما ذكرنا أن مقصود الشيخ من هذا الكلام دفع الطعن, وإبانة المراد من الاستحسان المتنازع فيه لا تعريف الاستحسان على وجه يدخل فيه جميع أقسامه ويدل عليه سياق كلامه فإنه قال: وإنما غرضنا هاهنا أي في هذا الباب تقسيم وجوه العلل في حق الأحكام لا بيان جميع أقسام الاستحسان.
قوله: "إنه الوجه الأولى في العمل" ظاهر هذا الكلام يوهم أن العمل بالقياس الذي عارضه استحسان جائز لكن العمل بالاستحسان أولى, وأن العمل بالطرد جائز, وإن كان الأثر أي العمل بالمؤثر أولى من العمل بالطرد وليس كذلك فإن شمس الأئمة رحمه الله ذكر في أصول الفقه أن بعض المتأخرين من أصحابنا ظن أن العمل بالاستحسان أولى مع جواز العمل بالقياس في موضع الاستحسان وشبه ذلك بالطرد مع المؤثر, وقال العمل بالمؤثر أولى, وإن كان العمل بالطرد جائزا قال شمس الأئمة, وهذا وهم عندي فإن اللفظ المذكور في عامة الكتب إلا أنا تركنا هذا القياس, والمتروك لا يجوز العمل به وربما قيل إلا أني أستقبح ذلك, وما يجوز العمل به من الدليل شرعا فاستقباحه يكون كفرا فعرفنا أن القياس متروك في معارضة الاستحسان أصلا, وأن الأضعف يسقط في مقابلة الأقوى. وقد ذكر الشيخ بعده بأسطر ما يوافق هذا حيث قال فسقط حكم القياس بمعارضة الاستحسان لعدمه في التقدير, وقال فصار هذا باطنا ينعدم ذلك الظاهر في مقابلته فسقط حكم الظاهر لعدمه وهكذا حكم الطرد مع الأثر فإن الطرد ليس بحجة والأثر حجة فكيف يجوز العمل بما ليس بحجة في مقابلة ما هو حجة بل العمل بالأثر واجب, والطرد بمقابلته ساقط, وهذا هو الحكم في كل معارضة فإن الدليلين إذا تعارضا وظهر لأحدهما رجحان على الآخر وجب العمل به وسقط الآخر أصلا فكذلك في القياس مع الاستحسان وإذا ثبت هذا كان المراد من قوله إنه الوجه الأولى في العمل به أنه هو الوجه المأخوذ به دون غيره, ومن قوله إن العمل بالآخر جائز إن العمل بالقياس جائز عند سلامته عن معارضة الاستحسان الذي هو أقوى منه, وكذلك هذا في الطرد مع الأثر يعني إذا لم يعارض الطرد أثر جاز العمل به إذا كان ملائما, وإذا ظهر الأثر فالمعمول هو الأثر والطرد ساقط, وكان الحمل على ما ذكرنا, وإن كان خلاف ظاهر اللفظ أولى من حمله على المناقضة. قوله: "وللاستحسان أقسام" يعني ليس الاستحسان مقتصرا على ما ذكرنا من نوعيه بل له أنواع أخر مثل الاستحسان الثابت بالأثر والإجماع والضرورة إلا أن غرضنا في هذا المقام لما كان تقسيم أنواع العلل إذ نحن في بيان حكم(4/6)
والإجارة وبقاء الصوم مع فعل الناسي ومنه ما ثبت بالإجماع وهو الاستصناع, ومنه ما ثبت بالضرورة, وهو تطهير الحياض والآبار والأواني, وإنما غرضنا هنا تقسيم وجوه العلل في حق الأحكام ولما صارت العلة عندنا علة بأثرها سمينا
ـــــــ
العلة قسمنا الاستحسان الذي هو قياس خفي فانقسم على نوعين كما بينا, وهو ما ثبت بالأثر الضمير إما أن يعود إلى الاستحسان أو إلى أقسام وكلا الوجهين مشتبه, ولو لم يذكر لفظة هو, ومنه فيما بعد لكان أوضح مثل السلم والإجارة وبقاء الصوم مع فعل الناسي. فإن القياس يأبى جواز السلم; لأن المعقود عليه الذي هو محل العقد معدوم حقيقة عند العقد, والعقد لا ينعقد في غير محله إلا أنا تركناه بالأثر الموجب للترخص, وهو قول الراوي ورخص في السلم, وقوله عليه السلام: "من أسلم منكم فليسلم في كيل معلوم" 1 الحديث, وأقمنا الذمة التي هي محل المسلم فيه مقام ملك المعقود عليه في حكم جواز السلم. وكذا القياس يأبى جواز الإجارة; لأن المعقود عليه, وهو النفقة معدوم في الحال, ولا يمكن جعل العقد مضافا إلى زمان وجوده; لأن المعاوضات لا تحتمل الإضافة كالبيع والنكاح إلا أنا تركناه بالأثر, وهو قوله عليه السلام: "أعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه" فالأمر بإعطاء الأجر دليل صحة العقد وكذا الأكل ناسيا يوجب فساد الصوم في القياس; لأن الشيء لا يبقى مع وجود ما ينافيه كالطهارة مع الحدث والاعتكاف مع الخروج من غير حاجة إلا أنه متروك بالأثر, وهو قوله عليه السلام: "أتم على صومك فإنما أطعمك الله وسقاك" , وإليه أشار أبو حنيفة رحمه الله حيث قال لولا قول الناس لقلت يقتضي يعني به رواية الأثر. ومنه أي ومن الاستحسان ما ثبت بالإجماع مثل الاستصناع يعني فيما فيه للناس تعامل مثل أن يأمر إنسانا ليخرز له خفا مثلا بكذا ويبين صفته ومقداره, ولا يذكر له أجلا ويسلم إليه الدراهم أو لا يسلم فإنه يجوز والقياس يقتضي عدم جوازه; لأنه بيع معدوم للحال حقيقة, وهو معدوم وصفا في الذمة. ولا يجوز بيع شيء إلا بعد تعينه حقيقة أي ثبوته في الذمة كالسلم فأما مع العدم من كل وجه فلا يتصور عقد لكنهم استحسنوا تركه بالإجماع الثابت بتعامل الأمة من غير نكير; لأن بالإجماع يتعين جهة الخطأ في القياس كما يتعين بالنص فيكون واجب الترك, وقصروا الأمر على ما فيه تعامل; لأنه معدول به عن القياس.
فإن قيل: الإجماع وقع معارضا للنص, وهو قوله عليه السلام: "لا تبع ما ليس
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في المساقاة حديث رقم 1604 والترمذي في البيوع حديث رقم 1463 وأبو داود في الإجارة حديث رقم 3463 وابن ماجه حديث رقم 22280.(4/7)
الذي ضعف أثرها قياسا وسمينا الذي قوي أثرها استحسانا أي قياسا مستحسنا, وقدمنا الثاني, وإن كان خفيا على الأول, وإن كان جليا; لأن العبرة لقوة الأثر دون الظهور والجلاء ألا يرى أن الدنيا ظاهرة والعقبى باطنة وقد ترجح الباطن بقوة الأثر, وهو الدوام والخلود والصفوة وتأخر الظاهر لضعف أثره, وكالنفس مع القلب
ـــــــ
عندك" 1 قلنا: قد صار النص في حق هذا الحكم مخصوصا بالإجماع فبقي القياس النافي للجواز معارضا للإجماع فسقط اعتباره بمعارضة الإجماع.
ومنه ما ثبت بالضرورة, وهو تطهير الحياض والآبار والأواني. فإن القياس ناف طهارة هذه الأشياء بعد تنجسها; لأنه لا يمكن صب الماء على الحوض أو البئر ليتطهر. وكذا الماء الداخل في الحوض أو الذي ينبع من البئر تتنجس بملاقاة النجس والدلو تتنجس أيضا بملاقاة الماء فلا تزال تعود, وهي نجسة. وكذا الإناء إذا لم يكن في أسفله ثقب يخرج الماء منه إذا أجري من أعلاه; لأن الماء النجس يجتمع في أسفله فلا يحكم بطهارته إلا أنهم استحسنوا ترك العمل بموجب القياس للضرورة المحوجة إلى ذلك لعامة الناس وللضرورة أثر في سقوط الخطاب.
ثم بين وجه ترجيح الاستحسان على القياس فقال: ولما صارت العلة عندنا علة بأثرها خلافا لأهل الطرد وغيرهم كما مر بيانه. سمينا الذي أي الشيء الذي ضعف أثرها قياسا. وسمينا الشيء الذي قوي أثرها استحسانا ذكر الاسم الموصول بتأويل الشيء, وأنث الضمير بتأويل العلة. ولو قال سمينا الذي ضعف أثره أو سمينا التي ضعف أثرها لكان أبعد من الاشتباه. ويلزم عليه أنه قد سمي الذي ضعف أثره استحسانا أيضا وعلى العكس, وقد مر الجواب عنه. وقدمنا الثاني, وهو الاستحسان الذي قوي أثره, وإن كان خفيا على الأول, وهو القياس الذي ضعف أثره, وإن كان جليا. وقد يرجح الباطن بقوة أثره, وهو البقاء حتى وجب الاشتغال لطلبه. وتأخر الظاهر لضعف أثره, وهو الغناء حتى وجب الإعراض عنه, وقال علي رضي الله عنه لو كانت الدنيا من ذهب والآخرة من خزف لاختار العاقل الخزف الباقي على الذهب الفاني كيف, وقد كان الأمر على العكس. وكالنفس مع القلب فإن القلب ترجح على النفس, وإن كانت النفس ظاهرة والقلب باطنا; لأن أثر عمل القلب أقوى من عمل النفس; لأنه موضع الإيمان والتوحيد والعلم والبصر مع العقل فإن العقل راجح, وإن كان باطنا لقوة أثر إدراكه وضعف أثر إدراك البصر بالنسبة إليه.
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في البيوع حديث رقم 1232 وأبو داود في الإجارة حديث رقم 3502 وابن ماجه في التجارات حديث رقم 2187 والإمام أحمد في المسند 3/402.(4/8)
والصبر مع العقل فسقط حكم القياس بمعارضة الاستحسان لعدمه في التقدير. مثال ذلك أن سؤر سباع الطير في القياس نجس; لأنه سؤر ما هو سبع مطلق فكان كسؤر سباع البهائم, وهذا معنى ظاهر الأثر; لأنهما سواء في حرمة الأكل, وفي الاستحسان هو ظاهر; لأن السبع ليس بنجس العين بدليل جواز الانتفاع به شرعا وقد ثبت نجاسته ضرورة تحريم لحمه فأثبتنا حكما بين الحكمين, وهو النجاسة
ـــــــ
قوله: "مثال ذلك" أي مثال تقدم الاستحسان الذي قوي أثره على القياس الذي ضعف أثره, وهذا في الحقيقة مثال القسم الأول من القياس والقسم الأول من الاستحسان. أن سؤر سباع الطير كالصقر والبازي والشاهين في القياس نجس; لأن السؤر معتبر باللحم, ولحم هذه الطيور حرام كلحم سباع البهائم, وكان سؤرها نجسا, وفي الاستحسان هو طاهر مكروه; لأن السبع كذا. اعلم أن مشايخنا عللوا في نجاسة سؤر سباع البهائم بأن لعابها متولد من اللحم, ولحمها نجس فيكون السؤر نجسا أيضا. ويرد عليه أن اللحم إن كان نجسا لذاته باعتبار الحرمة ينبغي أن لا يجوز بيع السبع, ولا الانتفاع به, ولا يطهر جلده بالدباغ كالخنزير, وإن كان نجسا بالمجاور, وكانت عينه طاهرة كالجلد ينبغي أن لا يتنجس السؤر; لأن النجاسة المجاورة لا تؤثر في نجاسة السؤر كما في سؤر الشاة والآدمي فسلك الشيخ طريقة يندفع عنه هذا السؤال. فقال السبع ليس بنجس العين لدليل جواز الانتفاع به يعني من غير ضرورة إذ لو كان نجس العين حرم الانتفاع به من غير ضرورة كما حرم بالخنزير وسائر الأنجاس لقوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:5] {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30] {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] وهذا يقتضي أن يكون السبع طاهرا كالشاة والآدمي.
وقد ثبت نجاسته أي نجاسة السبع باعتبار حرمة لحمه فإن مثل هذه الحرمة تدل على النجاسة فإن الحرمة إما أن تثبت لعدم صلاحية الغذاء كالذباب والتراب إذ الأكل أبيح للغذاء فيصير بدونه عبثا. أو للخبث طبعا كالضفدع والسلحفاة. أو للاحترام كالآدمي أو للنجاسة; لأنه تعالى حرم كل نجس بنفسه أو بمجاور كالخمر والخنزير والطعام النجس, ولا احترام للسباع, وهي صالحة للغذاء, ولم تستخبثها الطباع فإنها كانت مأكولة قبل التحريم فثبت أن حرمتها للنجاسة. فإن قيل: لم تثبت الحرمة للنجاسة بل لفساد طبع فإنها حيوانات ناهبة ويتعدى إلى الآكلين فحرمها الشرع صيانة عن ذلك. قلنا هذه مصلحة وحكمة مطلوبة في العاقبة, والمصالح والحكم أدلة على صحة الأسباب, ولا تكون علة بأنفسها; لأنها لا تنال بغالب الرأي والقياس قول بغالب الرأي فتثبت النجاسة لتكون الحرمة مبنية على سبب ظاهر دون الحكمة, وإن كانت معتبرة في حق المشروعية على أن ما ذكرت(4/9)
المجاورة فيثبت صفة النجاسة في رطوبته ولعابه وسباع الطير يشرب بالمنقار على سبيل الأخذ ثم الابتلاع والعظم طاهر بذاته خال عن مجاورة النجس ألا يرى أن عظم الميت طاهر فعظم الحي أولى فصار هذا باطنا ينعدم ذلك الظاهر في مقابلته فسقط حكم الظاهر لعدمه, وعدم الحكم لعدم دليله لا يعد من باب
ـــــــ
من السبب يوجب الحرمة بنجاسة ليكون آكد في إيجاب التجنب كما في الخمر فإنها حرمت; لأنها مفسدة عقولنا بطبعها فحرمت بنجاسة, وكذلك الخنزير والكلب. ولما ثبت أن حرمة لحم السبع لنجاسته اقتضى ذلك أن يكون السبع نجس العين كالخنزير. فأثبتنا يعني للسبع حكما بين حكمين أي بين الطهارة الحقيقية والنجاسة الحقيقية, وهو النجاسة المجاورة وذلك; لأنه اجتمع فيه ما لا يؤكل, وهو طاهر كالجلد والعظم والعصب والشعر, وما يؤكل, وهو نجس كاللحم والشحم فأشبه دهنا ماتت فيه فأرة فيجوز بيعه والانتفاع به كما يجوز بيع الدهن النجس والاستصباح به عندنا, ويحرم أكل لحمه لنجاسته.
فإن قيل: فعلى هذا يلزم أن لا يطهر لحمه بالذكاة كلحم الخنزير, وقد نص في موضعين من الهداية أنه يطهر بالذكاة كالجلد. قلنا: مختار المحققين من أصحابنا أنه لا يطهر بالذكاة فقد ذكر القاضي الإمام أبو زيد رحمه الله في الأسرار أن من مشايخنا من يقول اللحم طاهر, وإن لم يحل الأكل, ومنهم من يقول نجس, وهو الصحيح عندنا; لأن الحرمة في مثله تدل على النجاسة ونقل عن الفقيه أبي جعفر أنه إذا صلى, ومعه لحم سبع مذبوح من سباع الوحش لا يجوز صلاته, ولو وقع في الماء القليل أفسده, وهكذا عن الناطفي كذا في فتاوى القاضي الإمام فخر الدين, وهو اختيار صاحب الخلاصة أيضا. ولما ثبتت صفة النجاسة في لحمه ثبتت في رطوبته ولعابه; لأن رطوبته متولدة من لحمه الذي هو نجس لا مما هو طاهر منه, وإنه يشرب بلسانه الذي هو رطب من لعابه فيتنجس سؤره ضرورة بمخالطة لعابه وسباع الطير تشرب بالمنقار على سبيل الأخذ ثم الابتلاع والمنقار طاهر بذاته خال عن مجاورة النجس خلقة; لأنه عظم جاف ليس فيه رطوبة فلا يجاور الماء بملاقاة نجاسة فيبقى طاهرا. إلا أنا أثبتنا صفة الكراهة; لأنها لا يحترز بها عن الميتة والنجاسة فكانت كالدجاجة المخلاة. ولهذا قال أبو يوسف رحمه الله في غير رواية الأصول إن ما يقع على الجيف من سباع الطير فسؤره نجس; لأن منقاره لا يخلو عن نجاسة عادة كذا ذكر شمس الأئمة في المبسوط. والجواب أنها تدلك منقارها بالأرض بعد الأكل, وهو شيء صلب فيزول ما عليه بذلك فيطهر; ولأنا لم نتيقن بالنجاسة على منقاره فيثبت الكراهة بالعادة دون النجاسة كما في الدجاجة المخلاة. ثم تأيد ما ذكرنا بالعلة المنصوص عليها في الهرة فإن معنى البلوى يتحقق في سؤر سباع الطير; لأنها تنقض من الهواء, ولا(4/10)
الخصوص على ما نبين في باب إبطال تخصيص العلل إن شاء الله عز وجل. وأما الذي ظهر فساده واستترت صحته, وأثره فهو القياس الذي عمل به علماؤنا رحمهم الله قابله استحسان ظهر أثره واستتر فساده فسقط العمل به مثاله أنهم قالوا فيمن تلا آية السجدة في الصلاة أنه يركع بها قياسا; لأن النص قد ورد
ـــــــ
يمكن صون الأواني عنها خصوصا في الصحاري بخلاف سباع الوحش فعلى هذا يكون مستحسنا بالضرورة أيضا, وإثبات الكراهة على هذا الوجه أن الضرورة فيها ليست بلازمة فلوجود أصل الضرورة انتفت النجاسة ولكونها غير لازمة بقيت الكراهة. طعن بعض المخالفين أنا سلمنا أن الاستحسان ليس قولا بالتشهي, ولكنه تخصيص العلة; لأن القياس إذا كان ثابتا في صورة الاستحسان, وفي سائر الصور ثم ترك العمل به في صورة الاستحسان وبقي معمولا به في غير تلك الصورة كان ذلك تخصيصا له, وهو باطل لما سنذكر. فأشار إلى الجواب بقوله فصار هذا أي المعنى الذي يوجب الطهارة بصفة الكراهة باطنا ينعدم ذلك الظاهر, وهو القياس في مقابلته فسقط حكم الظاهر لعدمه في نفسه لا أن ينعدم حكمه مع وجوده, وعدم الحكم لعدم العلة ليس من باب تخصيص العلة. قال شمس الأئمة رحمه الله: ومن ادعى أن القول بالاستحسان قول بتخصيص العلة فقد أخطأ; لأن بما ذكرنا تبين أن المعنى الموجب لنجاسة سؤر سباع الوحش الرطوبة النجسة في الآلة التي تشرب بها, وقد انعدم ذلك في سباع الطير فانعدم الحكم لانعدام العلة, وذلك لا يكون من تخصيص العلة في شيء وعلى اعتبار الصورة يتراءى ذلك, ولكن يتبين عند التأمل انعدام العلة; لأن العلة وجوب التحرز عن الرطوبة النجسة التي يمكن التحرز عنها من غير حرج, وقد صار هذا معلوما بالتنصيص على هذا التعليل في الهرة ففي كل موضع ينعدم بعض أوصاف العلة كان انعدام الحكم لانعدام العلة فلا يكون تخصيصا.
قوله: "وأما الذي ظهر فساده" أي القياس الذي ظهر فساده, وهذا بيان القسم الثاني من القياس ويتضمن بيان القسم الثاني من الاستحسان أيضا. مثاله أي مثال القياس الموصوف أنهم يعني علماءنا قالوا فيمن تلا آية السجدة في الصلاة إنه يركع بها قياسا. ذكر في الذخيرة إذا تلا آية السجدة في صلاته, وهي في آخر السورة إلا آيات بقين فإن شاء ركع لها, وإن شاء سجد. واختلف المشايخ في معنى قوله إن شاء ركع, وإن شاء سجد بعضهم قالوا معناه إن شاء سجد لها سجدة على حدة, وإن شاء ركع ركوعا على حدة غير أن الركوع يحتاج إلى النية ينوي الركوع للتلاوة, والسجدة لا تحتاج إليها; لأن الواجب الأصلي السجدة والركوع إن كان يخالف السجدة صورة يوافقها معنى فمن حيث إنه يوافقها معنى يتأدى به الواجب, ومن حيث إنه يخالفها صورة يحتاج إلى النية بخلاف(4/11)
به قال الله تعالى: {وَخَرَّ رَاكِعاً} [صّ: 24], وفي الاستحسان لا يجوز; لأن الشرع أمرنا بالسجود, والركوع خلافه كما في سجود الصلاة فهذا أثر ظاهر. فأما
ـــــــ
السجدة; لأنها هي الواجبة الأصلية فلا يحتاج فيها إلى النية. وبعضهم قالوا معنى قوله إن شاء ركع لها, وإن شاء أقام ركوع الصلاة مقام سجدة التلاوة. قلت: وإلى هذا القول قال شيخ الإسلام خواهر زاده, وأكثر المحققين. وذكر شمس الأئمة في المبسوط بعد ذكر هذه المسألة إن كانت السجدة في وسط السورة ينبغي أن يسجد لها ثم يقوم فيقرأ ما بقي ثم يركع, وإن ركع في موضع السجدة أجزأه, وإن ختم السورة ثم ركع لم يجزه ذلك عن السجدة نواها أو لم ينوها; لأنها صارت دينا عليه بفوات محل الأداء وبصيرورتها دينا صارت مقصودة بنفسها; لأن ما لا يكون مقصودا لا يجب دينا في الذمة كالطهارة لا تصير دينا في الذمة بحال فصارت بمنزلة الصلبية فلا يتأدى بالركوع, ولا بسجدة الصلاة. ثم قال فإن أراد أن يركع بالسجدة بعينها فالقياس أن الركوع والسجود في ذلك سواء وبالقياس نأخذ, وفي الاستحسان لا يجزيه إلا السجدة فمن أصحابنا من قال مراده إذا تلاها في غير الصلاة وركع في القياس يجزيه; لأن الركوع والسجود يتقاربان فينوب أحدهما عن الآخر كما ينوب في الصلاة, وفي الاستحسان الركوع خارج الصلاة ليس بقربة فلا ينوب عما هو قربة بخلاف الركوع في الصلاة, وإلا ظهر أن مراده القياس والاستحسان في الركوع في الصلاة عند وضع السجدة فالشيخ بقوله في الصلاة رد القول الأول واختار القول الثاني. ثم يحتاج هاهنا إلى بيان وجه القياس والاستحسان أولا ثم إلى بيان قوة أثر القياس وضعف أثر الاستحسان ثانيا كما أشار إليه الشيخ. فوجه القياس أن الركوع والسجود يتشابهان في معنى الخضوع ولهذا أطلق اسم الركوع على السجود في قوله تعالى: {وَخَرَّ رَاكِعاً} أي ساجدا; لأن الخرور هو السقوط, وإنه موجود في السجود دون الركوع, ويقال ركعت النخلة وسجدت إذا طأطأت رأسها, ولما ثبت التشابه بينهما يسقط الواجب عنه بالركوع كما يسقط بالسجود. أو يقال لما ثبت التشابه ينوب الركوع عن السجود كما تنوب القيمة عن الواجب في باب الزكاة فهذا قياس ظاهر لا حاجة فيه إلى زيادة تأمل بل هو اعتبار لأحد الفعلين بالآخر بظاهر الشبه. وظاهر قوله; لأن النص قد ورد به أي بالركوع في مقام السجود قال الله تعالى: {وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} , وإن كان يدل على أن هذا تمسك بظاهر النص, وليس بقياس فإنه ذكر في نسخة أخرى أن قوله تعالى: {وَخَرَّ رَاكِعاً} يقتضي وجوب الركوع عقيب التلاوة, سواء كانت في الصلاة أو خارج الصلاة, وهذا ليس بقياس. قوله لكن المقصود منه ما ذكرنا. ووجه الاستحسان أن الشرع أمرنا بالسجود بقوله: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ} [لنجم: 62] {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19] والركوع خلاف السجود أي غيره(4/12)
وجه القياس فمجاز محض لكن القياس أولى بأثره الباطن, والاستحسان متروك لفساده الباطن وبيانه أن السجود لم يجب عند التلاوة قربة مقصودة ألا ترى أنه غير مشروع مستقلا بنفسه, وإنما الغرض مجرد ما يصلح تواضعا عند هذه التلاوة
ـــــــ
حقيقة ألا ترى أن الركوع في الصلاة لا ينوب عن سجود الصلاة, ولا السجود عن الركوع فلأن لا ينوب عن سجود التلاوة كان أولى; لأن القرب بين ركوع الصلاة وسجودها من حيث إن كل واحد منهما موجب التحريمة أظهر من القرب بينه وبين سجود التلاوة ولهذا لو تلا خارج الصلاة فركع لها لم يجز عن السجدة ففي الصلاة أولى إن أقام ركوع الصلاة مقام السجود; لأن الركوع مستحق بجهة أخرى. فهذا أي ما ذكرنا أن الركوع خلاف السجود حقيقة إلى آخره أثر ظاهر; لأن المأمور به لا يتأدى بإتيان ما يخالفه ففسد به وجه القياس, وصار مرجوحا; لأن هذا عمل بحقيقة كل واحد منهما فأما وجه القياس فمجاز محض أي ثابت بدليل هو مجاز محض; لأن المراد بالركوع السجود باتفاق المفسرين فإثبات التشابه والقرب بينهما بهذا الدليل, وبناء القياس عليه يكون بمنزلة العمل بالمجاز في مقابلة الحقيقة ولهذا سمينا الثاني استحسانا; لأنه أقوى, وأخفى بالنسبة إلى الأول كما ترى. فهذا بيان ظهور أثر الاستحسان وظهور فساد القياس بمقابلته. لكن القياس أولى بالعمل بأثره الباطن أي بسبب قوة أثره الباطن. والاستحسان متروك العمل لفساده الباطن أي الخفي. بيانه أي بيان الأثر الباطن الذي يظهر به فساد الاستحسان أن السجود عند التلاوة لم يجب قربة مقصودة أي لم يجب قربة لعينه, والدليل على أنه غير المقصود بنفسه; لأنه غير مشروع بطريق الاستبداد بنفسه ولهذا لا يلتزم بالنذر كما لا يلتزم الطهارة به, وإنما الغرض مجرد ما يصلح تواضعا لتحصل به مخالفة المشركين الذين امتنعوا عن السجود استكبارا إذ الاقتداء بالمقربين الذين تبادروا إلى السجود تقربا وافتخارا كما أخبر الله عز وجل عن الفريقين في مواضع السجود, وفي النصوص المذكورة في تلك المواضع مثل قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ} [النحل: 48] {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الحج: 18] {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ} [الرعد: 15] {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ} [النحل: 49] إشارة إلى أن المراد من السجود التواضع والخضوع والانقياد. وكذا عدم اقترانه بالركوع كما في سجود الصلاة, وشرعية التداخل فيه دليل على أن عينه ليس بمقصود بل المقصود منه التواضع لكن بشرط أن يكون عبادة بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأعراف: 206] وبالإجماع ولهذا شرط فيه الوضوء واستقبال القبلة.(4/13)
والركوع في الصلاة بعمل هذا العمل بخلاف الركوع في غير الصلاة وبخلاف سجود الصلاة فصار الأثر الخفي مع الفساد الظاهر أحق من الأثر الظاهر مع الفساد الباطن وهذا قسم عز وجوده فأما القسم الأول فالأكثر من أن يحصى, وفرق ما بين المستحسن بالأثر أو الإجماع أو الضرورة, وبين المستحسن بالقياس الخفي أن هذا يصح تعديته بخلاف الأقسام الأولى; لأنها غير معلولة ألا ترى أن
ـــــــ
والركوع في الصلاة يعمل هذا العمل أي يحصل ما هو المقصود من السجود بالركوع في الصلاة لحصول معنى التواضع والعبادة فيه فيسقط عند السجود به كما سقطت الطهارة للصلاة بطهارة وقعت لغير الصلاة, وكالسعي إلى الجمعة يسقط بالسعي لعيادة المريض. وتأيد ما ذكرنا بما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا تلا آية السجدة في الصلاة ركع. بخلاف الركوع في غير الصلاة; لأنه ليس بعبادة بخلاف سجود الصلاة حيث لا يجوز إقامة الركوع مقامه, ولا عكسه; لأن كل واحد منهما مقصود بنفسه ثبت ذلك بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77], وقوله عليه السلام: "مكن جبهتك من الأرض"1 "وأمرت أن أسجد على سبعة أعضاء" 2 وغير ذلك من الآثار فلا تتأدى بغيره. فصار الأثر الخفي للقياس, وهو حصول المقصود بالركوع. مع الفساد الظاهر, وهو العمل بالمجاز مع إمكانه بالعمل بالحقيقة واعتبار نفس الشبه أحق من الأثر الظاهر للاستحسان, وهو العمل بالحقيقة مع الفساد الباطن, وهو جعل غير المقصود مساويا للمقصود.
قوله: "وهذا" أي القسم الثاني من القياس, وهو الذي ترجح على الاستحسان بقوة أثره الباطن قسم عز وجوده. وسمعت من شيخي رحمه الله أنه لم يوجد إلا في ست مسائل أو سبع. منها ما إذا ادعى الرهن الواحد رجلان كل واحد منهما يقول رهنتني بألف, وقبضته ويقيم البينة في الاستحسان يقتضي بأنه مرهون عندهما ويجعل كأنهما ارتهنا معا لجهالة التاريخ كما في الغرقى والهدمى, وكما لو ادعيا الشراء, وفي القياس تبطل البينتان لتعذر القضاء بالكل لكل واحد منهما للاستحالة تعذر القضاء لواحد بعينه لعدم الأولوية ولكل واحد بنصفه لتأديته إلى الشيوع المانع من صحة الرهن فتعين التهاتر. وأخذنا بالقياس لقوة أثره الباطن فإن كل واحد منهما يدعي عقدا على حدة ويثبت ببينته حبسا
ـــــــ
1 أخرجه الإمام أحمد في المسند 1/287.
2 أخرجه مسلم في الصلاة حديث رقم 490 وأبو داود في الصلاة حديث رقم 889 والترمذي حديث رقم 273 وابن ماجه حديث رقم 883 والإمام أحمد في المسند 1/255.(4/14)
............................................................................................
يكون وسيلة إلى مثله في الاستيفاء وبهذا القضاء يثبت عقد واحد وحبس يكون وسيلة إلى شطره في الاستيفاء فيكون قضاء على خلاف مقتضى الحجة. بخلاف الرهن من رجلين فإن العقد هناك واحد فيمكن إثبات موجب العقد به متحدا في المحل وبخلاف دعوى الشراء فإنا لم نجعل ذلك كأنهما اشتريا معا إذ لو جعل كذلك لما ثبت الخيار لهما كما لو باع منهما جميعا بعقد واحد. ومنها ما إذا وقع الاختلاف بين المسلم إليه وبين رب السلم في درعان المسلم فيه في القياس يتخالفان وبه نأخذ, وفي الاستحسان القول قول المسلم إليه. وجه الاستحسان أن المسلم فيه مبيع فالاختلاف في درعانه لا يكون اختلافا في أصله بل في صفته من حيث الطول والسعة, وذلك لا يوجب التخالف كالاختلاف في درعانه الثوب المبيع بعينه. وجه القياس أنهما اختلفا في المستحق بعقد السلم, وذلك يوجب التخالف, ثم أثر القياس مستتر, ولكنه قوي من حيث إن عقد السلم إنما يعقد بالأوصاف المذكورة لا بالإشارة إلى المعين, وكان الموصوف بأنه خمس في سبع غير الموصوف بأنه أربع في ست فبهذا يتبين أن الاختلاف هاهنا في أصل المستحق بالعقد, وذلك يوجب التخالف فلذلك أخذنا بالقياس.
ومنها ما إذا قرأ السجدة في ركعة فسجدها ثم أعادها في الركعة الأخرى ففي الاستحسان قول محمد يلزمه سجدة أخرى في القياس لا يلزمه, وهو قول أبي يوسف الآخر.
ومنها أن الرهن بمهر المثل رهن بالمتعة في الاستحسان, وهو قول محمد, وفي القياس لا يكون رهنا بها, وهو قول أبي يوسف رحمهما الله.
ومنها أن العبد إذا جرح حرا خطأ فخير مولاه بعد البرء فاختار الفداء ثم انتقضت الجراحة وصارت نفسا يخير ثانية في الاستحسان هو قول محمد, وفي القياس لا يخير ويكون مختارا للدية, وهو قول أبي يوسف الآخر.
ومنها غاصب العقار في الاستحسان ضامن, وهو قول محمد, وفي القياس ليس بضامن, وهو قول أبي يوسف فرجع أبو يوسف رحمه الله في هذه المسائل من الاستحسان إلى القياس لقوته.
ثم بين الشيخ الفرق بين المستحسن بالقياس الخفي وبين المستحسن بالأثر أو الإجماع أو الضرورة فقال المستحسن بالقياس الخفي يصح تعديته; لأن حكم القياس الشرعي التعدية, وهذا القسم, وإن اختص باسم الاستحسان لم يخرج عن كونه قياسا فيكون(4/15)
الاختلاف في الثمن قبل قبض المثمن لا يوجب يمين البائع قياسا; لأن المشتري لا يدعي عليه شيئا, وإنما البائع هو المدعي, وفي الاستحسان يجب اليمين عليه; لأنه ينكر تسليم المبيع بما يدعيه المشتري ثمنا, وهذا حكم قد تعدى إلى الوارثين وإلى الإجارة, وما أشبه ذلك. وأما ما بعد القبض فلم يجب يمين
ـــــــ
حكمه التعدية بخلاف الأقسام الأول; لأنها غير معلولة بل هي معدول بها عن القياس فلا يقبل التعدية. ثم بين مثالا لما ذكر فقال ألا ترى أن الاختلاف في الثمن قبل قبض المثمن يعني قبل قبض الثمن والمبيع; لأن البائع إذا لم يقبض الثمن فالظاهر أنه لا يسلم المبيع إلى المشتري. لا يوجب يمين البائع قياسا; لأنهما لما اتفقا على البيع قد اتفقا على أن المبيع ملك المشتري فالمشتري لا يكون مدعيا على البائع شيئا في الظاهر, وإنما البائع هو المدعي; لأنه يدعي زيادة الثمن فكان القياس نظرا إلى سائر الخصومات أن يسلم المبيع إلى المشتري ويؤخذ منه ما أقر به ويحلف على الباقي. وفي الاستحسان يجب الثمن على البائع كما يجب على المشتري; لأن المشتري يدعي وجوب التسليم عند إحضار أقل الثمنين الذي يقر به والبائع ينكر تسليم المبيع بما يقر به ثمنا والبيع كما يوجب استحقاق الملك على البائع يوجب استحقاق اليد عليه عند وصول الثمن إليه. وهذا حكم أي وجوب التحالف قبل القبض حكم قد تعدى إلى الوارثين حتى لو مات المتعاقدان ووقع الاختلاف بين وارثيهما في مقدار الثمن قبل القبض يجري التحالف بينهما; لأن الوارث قائم مقام المورث في حقوق العقد فوارث البائع يطالب وارث المشتري بتسليم الثمن ووارث المشتري يطالبه بتسليم المبيع فيمكن تعدية حكم التحالف إليهما, وإلى الإجارة حتى لو اختلف القصار ورب الثوب في مقدار الأجرة قبل أن يأخذ القصار في العمل يتحالفان; لأن التحالف مشروع لدفع الضرر عن كل واحد منهما بطريق الفسخ ليعود إليه رأس ماله وعقد الإجارة محتمل للفسخ قبل إقامة العمل كالبيع, ويمكن أن يجعل كل واحد منهما مدعيا, ومنكرا على الوجه الذي قلنا فيجري التحالف بينهما. وما أشبه ذلك مثل ما إذا اختلفت الزوجان في مقدار المهر يجب التحالف عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله; لأن النكاح يحتمل للفسخ في الجملة فإنه يقع بخيار العتق وخيار البلوغ وعدم الكفارة ويستحق فيه التسليم, والتسليم يشبه البيع من هذا الوجه, ويمكن جعل كل واحد منهما مدعيا, ومنكرا فيجري فيه التحالف أيضا. ومثل ما إذا وقع الاختلاف بعد هلاك السلعة, وقد اختلفتا بدلا بأن قبل العبد المبيع قبل القبض يجري التحالف; لأن القيمة الواجبة قبل القبض لما ورد عليها القبض المستحق بالعقد كانت في حكم المعقود عليه فكانت مثل العين في إمكان فسخ العقد عليها. فأما بعد القبض أي الاختلاف الذي وقع بعد القبض(4/16)
البائع إلا بالأثر بخلاف القياس عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله فلم يصح تعديته إلى الوارث, وإلى حال هلاك السلعة, وإنما أنكر على أصحابنا بعض الناس استحسانهم لجهلهم بالمراد وإذا صح المراد على ما قلنا بطلت المنازعة
ـــــــ
في الثمن فلم يجب أي لم يجب به يمين البائع; لأن المشتري لا يدعي لنفسه على البائع شيئا إذ المبيع مسلم إليه فكان ثبوت التحالف بالأثر على خلاف القياس عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله فيقتصر على مورد النص لا يتعدى إلى الوارث حتى لو اختلف وارث البائع بعد موته والمشتري في الثمن. أو وارث المشتري بعد موته مع البائع. أو اختلف الوارثان بعد موت المتعاقدين والسلعة مقبوضة قائمة في المسائل كلها كان من القول قول المشتري أو وارثه, ولا يجري التحالف بينهما, ولا إلى ما بعد هلاك السلعة سواء أخلفت بدلا أو لم تخلف لما ذكرنا أن التخالف بعد القبض معدول به عن القياس مستحسن بالأثر فلا يتعدى إلى غير المنصوص عليه.
فإن قيل: عدم جريان التحالف في الوارث بعد القبض مسلم, ولكنه حال هلاك السلعة في حق المتعاقدين غير مسلم لدخول تحت إطلاق النص, وهو قوله عليه السلام: "إذا اختلف المتبايعان تحالفا وترادا" قلنا: النص المقيد بقيام السلعة, وهو قوله عليه السلام: "إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة تحالفا وترادا" يدل على اشتراط قيام السلعة. وكذا المطلق; لأن المراد من التراد إن كان رد المأخوذ حسا وحقيقة فذلك لا يتأتى إلا عند قيام السلعة, وإن كان المراد رد العقد فالفسخ لا بد له من قيام السلعة أيضا; لأن الفسخ لا يرد إلا على ما ورد عليه العقد فإذا فات من غير بدل فقد فات محل الفسخ, ولا يمكن إبقاء المحل بإقامة القيمة مقامه; لأن القيمة ليست بواجبة قبل الفسخ على أحد. وعند محمد رحمه الله يجري التحالف في جميع هذه الصور; لأن التحالف إنما يصار إليه عنده باعتبار أن كل واحد منهما يدعي عقدا ينكره الآخر إذ البيع بألف غير البيع بألفين ألا ترى أن شاهدي البيع إذا اختلفا في مقدار الثمن لا تقبل, والدليل عليه أنه لو انفرد كل واحد منهما بإقامة البينة وجب قبول بينته فعرفنا أن كل واحد منهما يدعي عقدا ينكره صاحبه فيحلف كل واحد على دعوى صاحبه, وهذا المعنى يتحقق قبل القبض وبعده وحال قيام السلعة وحال هلاكها فيثبت التحالف في الجميع. والجواب أنا لا نسلم أن كل واحد منهما يدعي عقدا آخر فإن العقد لا يختلف باختلاف الثمن ألا ترى أن الوكيل بالبيع بألف يملك البيع بألفين, وأن البيع بألف قد يصير بألفين بالزيادة في الثمن والبيع بألفين يصير بألف عند حط بعض الثمن. وكذا لو كان المشتري جارية حل للمشتري وطؤها, ولو كان الاختلاف في الثمن يوجب اختلاف العقد لما حل له وطؤها كما إذا ادعى أحدهما البيع(4/17)
في العبارة وثبت أنهم لم يتركوا الحجة بالهوى والشهوة, وقد قال الشافعي رحمه الله في بعض كتبه أستحب كذا, وما بين اللفظين فرق والاستحسان أفصحهما, وأقواهما والاستحسان بالأثر ليس من باب خصوص العلل أيضا على ما نبين إن شاء الله تعالى. وقولنا في بيان حكم العلة إنه ثابت في الفرع بغالب
ـــــــ
والآخر الهبة. واختلاف الشاهدين في مقدار الثمن لم يمنع من قبول الشهادة لاختلاف العقد بل; لأن المدعي يكذب أحدهما, وقبول بينة المشتري عند الانفراد باعتبار أنه مدع صورة لا معنى وذلك كان لقبول بينته, ولكن لا يتوجه به اليمين على خصمه, وإن كانت بينته تقبل عليه.
قوله: "وإذا صح المراد" أي ثبت وظهر على ما قلنا إنه اسم لأحد القياسين أو اسم للدليل الأقوى في مقابلة القياس, ولا خلاف لأحد في صحة العمل به بطلت المنازعة في العبارة. وهو جواب عما قال بعض الطاعنين نحن لا ننازعكم في الاستحسان بالمعنى الذي ذكرتم, ولكن لا معنى لتخصيص هذا النوع من الدليل بتسميته استحسانا; لأن كل الشرع استحسان كذا في القواطع. فأجاب عن ذلك بأنه نزاع في العبارة, وهو باطل إذ لا طائل تحته, ولا مشاحة في الاصطلاح. على أنا قد بينا أنهم وضعوا هذا الاسم لهذا النوع من الدليل للتمييز بين الدليلين باعتبار وجود الحسن في أحدهما دون الآخر كما أن الخصوم وضعوا لكل نوع من الأقيسة اسما كقياس الدلالة, وقياس العلة, وقياس الشبه ونحوها باعتبار معنى. ووجود معنى الاسم في غير ما وضعوه له باعتباره لا يمنع من صحة التسمية فإن العرب سمت الزجاج قارورة لقرار المائع فيه مع أن هذا المعنى موجود في غيره من الأواني, وكيف يصح الطعن باستعمال هذا اللفظ, وهو منقول عن سائر المجتهدين فإن ابن مسعود رضي الله عنه كان يستعمل هذا اللفظ كثيرا في المسائل. وذكر مالك بن أنس رحمه الله لفظ الاستحسان في كتابه في موضع, وقال الشافعي رحمه الله في المتعة أستحسن أن يكون ثلاثين درهما, وقال في باب الشفيع أستحسن أن تثبت للشفيع الشفعة إلى ثلاثة أيام. وقال في المكاتب أستحسن ترك شيء للمكاتب من نجوم الكتابة. وذكر محيي السنة في التهذيب ووضع المصحف في حجر الحالف عند التحليف استحسنه الشافعي تغليظا. وقد قال الشافعي رحمه الله في بعض كتبه أستحب كذا, وليس بين اللفظين فرق بل الاستحسان أفصحهما; لأنه أوفق لكلام صاحب الشرع الذي هو أفصح الكلام قال الله تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا(4/18)
الرأي على احتمال الخطأ راجع إلى فصل من أحكام العلل; لأنه لا يثبت به الحكم قطعا وتبتنى عليه مسائل أحوال المجتهدين.
ـــــــ
أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر: 55] {فَبَشِّرْ عِبَادِ*الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 17, 18] {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} [الأعراف: 145]. وقال عليه السلام: "ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن" وأقواهما يعني في الدلالة على المقصود إذ المراد بيان حسن ما دل عليه ذلك الدليل, وهذا اللفظ يدل عليه بوضعه إذ الاستحسان وجدان الشيء وعده حسنا فأما الاستحباب فيدل بوضعه على ميلان الطبع إلى الشيء والمحبة له وذلك لا يدل على الحسن الذي هو المقصود لا محالة فإن الطبع قد يميل إلى ما هو قبيح في الشرع والعقل كالزنا وشرب الخمر ألا ترى أنه استعمل هذا اللفظ في مقام الذم كما في قوله تعالى: {يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} [ابراهيم: 3] {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} [النحل: 107] فعرفنا أن الاستحسان أفصح, وأقوى من الاستحباب على ما تبين يعني في باب تخصيص العلل. ثم ذكر وجه التلفيق بين البابين فقال: وقولنا كذا راجع إلى فصل من أحكام العلل أي أحكام القياس أنه الضمير للشأن. لا يثبت به أي بالقياس الحكم بطريق القطع. ويبتنى عليه أي على أن الحكم لا يثبت على سبيل القطع بالقياس كذا.(4/19)
"باب معرفة أحوال المجتهدين ومنازلهم في الاجتهاد"
والكلام فيه في شرطه وحكمه: أما شرطه فأن يحوي علم الكتاب بمعانيه
ـــــــ
"باب معرفة أحوال المجتهدين"
إنهم مصيبون في اجتهادهم لا محالة إذ احتمال الخطأ قائم في اجتهادهم, ومنازلهم في الاجتهاد أي المصيب منهم مأجور بلا خلاف والمخطئ مأجور أو معذور أو معاتب مخطأ.
قوله: "والكلام في هـ" أي في الاجتهاد في شرطه, وإنما لم يبين نفس الاجتهاد لشهرته بين الفقهاء, وهو في اللغة عبارة عن استفراغ الوسع في تحقيق أمر من الأمور, ولا يستعمل إلا فيما فيه كلفة, ومشقة فيقال اجتهد في حمل الرحى, ولا يقال اجتهد في حمل خردلة أو نواة لكن صار في اصطلاح الأصوليين مخصوصا ببذل المجهود في طلب العلم بأحكام الشرع. والاجتهاد التام أن يبذل الوسع في الطلب بحيث يحس من نفسه بالعجز عن مزيد طلب. وعبارة بعضهم هو بذل الجهد في استخراج الأحكام من شواهدها الدالة عليها بالنظر المؤدي إليها, وقيل هو طلب الصواب بالأمارة الدالة عليه. وقيل هو استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم شرعي. واحترز بالفقيه عن غيره فإن استفراغ النحوي أو المتكلم الذي لا فقه له لتحصيل ما ذكر لا يسمى اجتهادا. وبقوله لتحصيل ظن عن استفراغ وسعه لتحصيل علم كطلبه النص في حادثة وظفره به. وبقوله لحكم شرعي عن الحكم العقلي والحسي والعرفي ونحوها, وقد عرف من تفسير الاجتهاد المجتهد والمجتهد فيه فالمجتهد من اتصف بصفة الاجتهاد والمجتهد فيه هو الحكم الشرعي الذي لا قاطع فيه لاستحالة أن يكون المطلوب الظن به مع وجود القاطع فيخرج عنه الحكم العقلي, ومسائل الكلام ووجوب أركان الشرع, وما اتفقت الأمة عليه من جليات الشرع; لأنها وإن كانت أحكاما شرعية لكن فيها دلائل قطعية. ثم قيل هو ثلاثة أنواع. فرض عين, وفرض كفاية وندب أما الأول ففي حالتين إحداهما اجتهاد المجتهد في حق نفسه فيما نزل به; لأن المجتهد لا يجوز له أن يقلد غيره في حق نفسه, ولا في حق غيره.(4/20)
ووجوهه التي قلنا وعلم السنة بطرقها, ومتونها ووجوه معانيها, وأن يعرف وجوه
ـــــــ
والثانية اجتهاده في حق غيره إذا تعين عليه الحكم فيه بأن ضاق وقت الحادثة فإنه يجب على الفور حينئذ. وأما الثاني ففي حالتين. إحداهما إذا نزلت حادثة بأحد فاستفتى أحد العلماء كان الجواب فرضا على جميعهم, وأخصهم بفرضه من خص بالسؤال عن الحادثة فإن أجاب واحد سقط الفرض عن جميعهم, وإن أمسكوا مع ظهور الجواب والصواب لهم أثموا, وإن أمسكوا مع التباسه عليهم عذر, ولكن لا يسقط عنهم الطلب, وكان فرض الجواب باقيا عند ظهور الصواب. والحالة الثانية أن يتردد الحكم بين قاضيين مشتركين في النطق فيكون فرض الاجتهاد مشتركا بينهما فأيهما تفرد بالحكم سقط الفرض. وأما الثالث ففي حالتين أيضا أحديهما أن يجتهد العالم قبل نزول الحادثة ليسبق إلى معرفة حكمها قبل نزولها. والثانية أن يستفتيه سائل قبل نزولها به فيكون الاجتهاد في الحالتين ندبا كذا في القواطع.
قوله: "وأما شرطه" أي شرط الاجتهاد فأن يحوي أي يجمع المجتهد علم الكتاب بمعانيه أي مع معانيه أو ملتبسا بمعانيه لغة وشرعا. ووجوهه أي أقسامه التي قلنا في أول الكتاب.
وزاد بعضهم حفظ نظمه; لأن الحافظ أضبط لمعانيه من الناظر فيه. وقيل لا يشترط بل يجوز الاقتصار على الطلب والنظر فيه كما في السنن. وقيل يجب أن يحفظ ما اختص بالأحكام دون ما سواه. وعلم السنة بطريقها أي ملتبسة لطرقها من التواتر والشهرة والآحاد. ومتونها يعني يعرف نفس الأخبار أنها رويت بلفظ الرسول أو نقلت بالمعنى. ووجوه معانيها أي لغة وشرعا مثل الخاص والعام وسائر الأقسام المذكورة في الكتاب. وذكر في القواطع أي في معرفة السنة خمسة شروط: معرفة طرقها من تواتر وآحاد ليكون المتواترات معلومة والآحاد مظنونة. ومعرفة صحة طرق الآحاد ورواتها ليعمل بالصحيح منها ويعدل عما لا يصح. ومعرفة أحكام الأقوال والأفعال ليعلم ما يوجبه كل واحد منها, ومعرفة معاني ما انتفى الاحتمال عنه وحفظ ألفاظ ما وجد الاحتمال فيه. وترجيح ما تعارض من الأخبار.
وذكر الغزالي رحمه الله أن للاجتهاد شرطين: أحدهما أن يكون محيطا بمدارك الشارع متمكنا من استثمار الظن بالنظر فيها وتقديم ما يجب تقديمه وتأخير ما يجب تأخيره. والثاني أن يكون عدلا مجتنبا عن المعاصي القادحة في العدالة, وهذا شرط لجواز الاعتماد على قوله فمن ليس عدلا لا تقبل فتواه أما هو في نفسه إذا كان عالما فله أن يجتهد لنفسه ويأخذ باجتهاد نفسه فكانت العدالة شرط قبول الفتوى لا شرط صحة(4/21)
.............................................................................................
الاجتهاد. ثم قال, وإنما يكون متمكنا من الفتوى بأن يعرف المدارك المثمرة للأحكام, وأن يعرف كيفية الاستثمار. والمدارك المثمرة أربعة الكتاب والسنة والإجماع والعقل, وطريق الاستثمار تتم بأربعة علوم اثنان مقدمان واثنان متممان فهذه ثمانية فلنفصلها ولننبه فيها على دقائق أهملها الأصوليون.
أما كتاب الله تعالى فهو الأصل فلا بد من معرفته ولنحقق عنه أمرين: أحدهما أنه لا يشترط معرفة جميع الكتاب بل ما يتعلق بالأحكام منه وذلك مقدار خمسمائة آية. الثاني أنه لا يشترط حفظها من ظهر القلب بل يكفي أن يكون عالما بمواقعها حتى يطلب الآية المحتاج إليها في وقت الحاجة. وأما السنة فلا بد من معرفة الأحاديث التي يتعلق منها بالأحكام, وهي وإن كانت زائدة على ألوف فهي محصورة, وفيها التحقيقان المذكوران إذ لا يلزمه معرفة ما يتعلق من الأحاديث بالمواعظ, وأحكام الآخرة وغيرها. والثاني لا يلزمه حفظها بل يكفيه أن يكون عنده أصل مصحح بجميع أحاديث الأحكام كالجامع الصحيح للبخاري والجامع لمسلم وسنن أبي داود ويكفيه أن يعرف مواقع كل باب فيراجعه وقت الحاجة إلى الفتوى, وإن كان على حفظه فهو أحسن وأكمل. وأما الإجماع فينبغي أن يتميز عنده مواقع الإجماع حتى لا يفتي بخلاف الإجماع كما تلزمه معرفة النصوص حتى لا يفتي بخلافها والتحقيق في هذا الأصل أنه لا يلزمه أن يحفظ جميع مواقع الإجماع والخلاف بل كل مسألة يفتي فيها ينبغي أن يعلم أن فتواه ليست مخالفة للإجماع أما بأن يعلم أنها موافقة مذهب أي مذهب من العلماء أو يعلم أن هذه الواقعة متولدة في العصر لم يكن لأهل الإجماع فيها خوض فهذه القدر فيه كفاية.
وأما العقل فنعني به مستند النص والمستند الأصلي للأحكام فإن العقل قد دل على نفي الجرح في الأقوال والأفعال وعلى نفي الأحكام منها في صور لا نهاية لها إلا ما استثناه الأدلة السمعية من الكتاب والسنة والمستثنيات محصورة, وإن كانت كثيرة فينبغي أن يرجع في كل واقعة إلى النفي الأصلي والبراءة الأصلية ويعلم أن ذلك لا يغير إلا بنص أو قياس على منصوص, وما هو في معنى النص من الإجماع, وأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم فهذه هي المدارك الأربعة.
وأما العلمان المقدمان فأحدهما معرفة نصب الأدلة وشروطها التي بها تصير البراهين والأدلة منتجة, والحاجة إليه تعم المدارك الأربعة. والثاني معرفة اللغة والنحو ويختص فائدته بالكتاب والسنة ونعني به القدر الذي يفهم به خطاب العرب وعادتهم في الاستعمال إلى حد يميز بين صريح الكلام وظاهره, ومجمله وحقيقته, ومجازه وفحواه,(4/22)
.............................................................................................
ومنظومه ومفهومه, ولا يشترط أن يبلغ مبلغ الخليل والمبرد, وأن يعرف جميع اللغة ويتعمق في النحو بل القدر الذي يتعلق بالكتاب والسنة ويستدل به على مواقع الخطاب ودرك دقائق المقاصد فيه. وأما العلمان المتممان فأحدهما معرفة الناسخ والمنسوخ من الكتاب والسنة, ولا يشترط أن يكون جميعه على حفظه بل كل واقعة يفتي فيها بآية أو حديث فينبغي أن يعلم أن ذلك الحديث أو الآية ليس من جنس المنسوخ, وهذا يعم الكتاب والسنة. والثاني, وهو يختص بالسنة معرفة الرواة وتمييز الصحيح من الفاسد والمقبول من المردود. والتحقيق فيه أن كل حديث يفتي به مما قبلته الأمة لا حاجة به إلى النظر في إسناده فإن خالفه بعض العلماء فينبغي أن يعرف رواته وعدالتهم. والبحث عن أحوال الرجال في زماننا هذا مع طول المدة, وكثرة الوسائط أمر متعذر فلو جوزنا الاكتفاء بتعديل أئمة الدين الذين اتفق الخلف على عدالتهم والاعتماد على الكتب الصحيحة التي ارتضى الأئمة روايتها كان حسنا, وقصر الطريق على المفتي فهذه هي العلوم الثمانية يستفاد بها مناصب الاجتهاد. ومعظم ذلك يشتمل عليه ثلاثة فنون: علم الحديث, وعلم اللغة, وعلم أصول الفقه فأما علم الكلام فليس بمشروط فإنا لو فرضنا إنسانا جازما باعتقاد الإسلام تقليدا لأمكنه الاستدلال بالدلائل الشرعية على الأحكام على أن المجاوزة عن حد التقليد إلى معرفة الدليل تقع من ضرورة منصب الاجتهاد فإنه لا يبلغ رتبة الاجتهاد إلا وقد قرع سمعه أدلة خلق العالم, وأوصاف الصانع جل جلاله وبعثة الرسول عليه السلام, وإعجاز القرآن فإن كل ذلك يشتمل عليه كتاب الله عز وجل وذلك محصل للمعرفة الحقيقة مجاوز لصاحبه حد التقليد. وأما تفاريع الفقه فلا حاجة إليها للاجتهاد; ولأن هذه التفاريع ولدها المجتهدون بعد حيازة منصب الاجتهاد فكيف يكون شرطا في منصب الاجتهاد, وتقدم الاجتهاد عليها شرط. نعم إنما يحصل منصب الاجتهاد في زماننا بممارستها فهي طريق تحصيل الدراية في هذا الزمان, ولم يكن الطريق في زمان الصحابة ذلك ويمكن الآن سلوك طريق الصحابة أيضا. واعلم أن اجتماع هذه العلوم إنما يشترط في حق المجتهد المطلق الذي يفتي في جميع أحكام الشرع, وليس الاجتهاد عند العامة منصبا لا يتجزأ بل يجوز أن يفوز العالم بمنصب الاجتهاد في بعض الأحكام دون بعض. فمن عرف طرف النظر في القياس فله أن يفتي في مسألة قياسية, وإن لم يكن ماهرا في علم الحديث. ومن نظر في المسألة المشتركة أو مسألة العول يكفيه أن يكون فقيه النفس عارفا بأصول الفرائض ومعانيها, وإن لم يكن حصل الأخبار التي وردت في باب الربا والبيوع فلا استمداد لنظر هذه المسألة منها, ولا تعلق لتلك الأحاديث بها فمن أين تضر الغفلة عنها(4/23)
القياس على ما تضمنه كتابنا هذا. وأما حكمه فالإصابة بغالب الرأي حتى قلنا إن المجتهد يخطئ ويصيب, وقال المعتزلة كل مجتهد مصيب.
فالحاصل أن الحق في موضع الخلاف واحد أو متعدد فعندنا الحق واحد
ـــــــ
والقصور عن معرفتها. وليس من شرط المفتي أن يجيب عن كل مسألة بجواب فقد سئل مالك رحمه الله عن أربعين مسألة فقال في ست وثلاثين لا أدري وتوقفت الصحابة وعامة المجتهدين رضي الله عنهم في المسائل. فإذن لا يشترط إلا أن يكون على بصيرة فيما يفتي فيفتي فيما يدري ويدري أنه يدري ويميز بين ما يدري وبين ما لا يدري فيتوقف فيما لا يدري ويفتي فيما يدري. هذا كله من كلامه.
"هل كل مجتهد مصيب؟"
قوله: "فالحاصل أن الحق في موضع الخلاف واحد" أراد بموضع الخلاف المسائل التي اختلفوا فيها, وكلموا بالاجتهاد يعني محل النزاع الحوادث الفقهية المجتهد فيها لا المسائل العقلية التي هي من أصول الدين فإن الحق فيها واحد بالإجماع والمخطئ فيها كافر مخلد في النار إن كان على خلاف ملة الإسلام كاليهود والنصارى والمجوس. ومضلل مبتدع إن لم يكن كأصحاب الأهواء من أهل القبلة, وذهب عبد الله بن الحسين العنبري1 إلى أن كل مجتهد في المسائل الكلامية التي لا يلزم منها كفر كمسألة خلق القرآن والإرادة وخلق الأفعال مصيب, ولم يرد به أن ما اعتقده كل مجتهد في المسائل الكلامية مطابق للحق إذ يلزم منه أن يكون القرآن مخلوقا وغير مخلوق والمعاصي داخلة تحت إرادة الله وخارجة عن إرادته, والرؤية ممكنة وغير ممكنة, وفساد ذلك معلوم بالضرورة, وإنما أراد به نفي الإثم والخروج عن عهدة التكليف. وزاد الجاحظ أن مخالف ملة الإسلام كاليهود والنصارى والمجوس إن نظر فعجز عن درك الحق فهو معذور غير آثم, وإن لم ينظر باعتبار أنه لم يعرف وجوب النظر فهو معذور أيضا, وإن عاند على خلاف اعتقاده فهو آثم معذب, واحتجا بأن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها, وهؤلاء الكفار, وأهل الأهواء من أهل القبلة قد عجزوا عن درك الحق, ولازموا عقائدهم خوفا من الله سبحانه إذا انسد عليهم طريق المعرفة فلا يليق بكرم الله تعالى ورحمته تعذيبهم على ما لا قدرة لهم عليه ولهذا كان الإثم مرتفعا عن المجتهدين في الأحكام الشرعية. قال العنبري الآيات في مسائل الأصول متشابهة, وأدلة الشرع فيها متعارضة وكل فريق ذهب إلى أن آراءه أوفق بكلام الله
ـــــــ
1 هو القاضي المحدث الفقيه عبيد الله بن الحسن بن حصين العنبري توفي سنة 168 هـ انظر تهذيب التهذيب 7/8.(4/24)
وقال بعض الناس, وهم المعتزلة: الحقوق متعددة وكل مجتهد مصيب فيما أدى إليه اجتهاده ثم اختلف من قال بالحقوق فقال بعضهم باستوائها في المنزلة, وقال عامتهم: بل واحد من الجملة أحق واختلف أهل المقالة الصحيحة فقال بعضهم: إن المجتهد إذا أخطأ كان مخطئا ابتداء وانتهاء, وقال بعضهم: بل هو مصيب في ابتداء اجتهاده لكنه مخطئ انتهاء فيما طلبه, وهذا القول الآخر هو المختار عندنا, وقد روي ذلك عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: كل مجتهد مصيب والحق عند الله
ـــــــ
تعالى, وكلام رسوله, وأليق بعظمة الله, وإثبات دينه فكانوا معذورين. وكان يقول في مثبتي القدر هؤلاء عظموا الله, وفي نفاة القدر هؤلاء نزهوا الله. وهذا كله باطل بأدلة سمعية ضرورية فإنا كما نعلم أن الرسول عليه السلام أمر بالصلاة والزكاة نعلم ضرورة أنه أمر اليهود والنصارى بالإيمان به واتباعه وذمهم على إصرارهم على عقائدهم, ولذلك قاتل جميعهم, وكان يكشف عن عورة من بلغ منهم ليقتله ويعذبه ونعلم يقينا أن المعاند العارف مما يقل, وإنما الأكثر مقلده اعتقدوا دين آبائهم, ولم يعرفوا معجزة الرسول وصدقه. والآيات الدالة على هذا مما لا يحصى كقوله تعالى: {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [صّ: 27] {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [صّ: 27] [الذاريات: 60] {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} [فصلت: 23] {إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24] {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} [المجادلة: 18] {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة: 10] وعلى الجملة ذم المكذبين من الكفار مما لا ينحصر من الكتاب والسنة. وقولهم إنه تكليف ما ليس في الوسع فاسد; لأنه أقدرهم على إصابة الحق بما رزقهم من العقل ونصب من الأدلة وبعث من الرسل المؤيدين بالمعجزات الذين نبهوا الغفول وحركوا دواعي النظر حتى لم يبق لأحد على الله حجة بعد الرسل., وما قاله العنبري يبطل بإجماع سلف الأمة قبل حدوث المخالفين على ذم المبتدعة, ومهاجرتهم, وقطع الصحبة معهم وتشديد الإنكار عليهم مع ترك التشديد على المختلفين في مسائل الفروع. ورفع الإثم في المجتهدات الفقهية إنما كان; لأن المعقود منها هو الظن بها, وقد حصل بخلاف ما نحن فيه فإن المطلوب هو العلم, ولم يحصل. والحاصل أن أدلة التوحيد والرسالة وكل ما كان من أصول الدين ظاهرة متوافرة فلا يعذر أحد فيها بالجهل والغفلة.
قوله: "وقال بعض الناس" إلى آخره. اختلف الناس في أنه هل يكون لله تعالى حكم معين في المسألة الاجتهادية قبل الاجتهاد أم لا. فذهب كل من قال كل مجتهد مصيب مثل عامة الأشعرية والقاضي الباقلاني والغزالي والمزني وبعض متكلمي أهل الحديث, وكثير من المعتزلة كأبي هذيل والجبائي, وأبي هاشم, وأتباعهم إلى أنه لا حكم لله تعالى فيها قبل(4/25)
............................................................................................
الاجتهاد بل الحكم فيها تابع لظن المجتهد حتى كان حكم الله تعالى في حق كل مجتهد ما أدى إليه اجتهاده, وهو المراد بتعدد الحقوق, وهؤلاء يسمون المصوبة. وذهب طائفة منهم إلى أنه لم يكن حكم متعين في الحادثة قد وجد منها ما لو حكم الله تعالى منها بحكم لما حكم إلا به, وهذا هو القول بالأشبه, وهو المراد من قوله بل واحد من الجملة أحق. وفسر الغزالي هذا القول بأن لله تعالى في الحادثة حكما معينا عندهم إليه يتوجه الطلب إذ لا بد للطلب من مطلوب لكن لم يكلف المجتهد إصابته فلذلك كان مصيبا, وإن أخطأ ذلك الحكم الذي لم يؤمر بإصابته بمعنى أنه أتى ما كلف به فأصاب ما عليه. وذهب كل من قال المجتهد يخطئ أو يصيب مثل أصحابنا وعامة أصحاب الشافعي وبعض متكلمي أهل الحديث كعبد الله بن سعيد1 والحارث المحاسبي2 وعبد القاهر البغدادي وغيرهم, وإليهم أشار الشيخ بقوله: واختلف أهل المقالة الصحيحة إلى أن لله تعالى حكما معينا في الحادثة المجتهد فيها. ثم اختلفوا على خمسة أقوال فقالت طائفة منهم ليس على الحكم دليل, وإنما هو مثل دفين يعثر الطالب عليه بحكم الاتفاق فلمن عثر عليه أجران ولمن اجتهد, ولم يعثر أجر واحد لأجل سعيه وطلبه. وقال قوم عليه دليل ظني إلا أن المجتهد لم يكلف بإصابته لخفائه وغموضه فلذلك كان معذورا ومأجورا, وهو قول عامة الفقهاء. وذهبت جماعة إلى أن عليه دليلا ظنيا أمر المجتهد بطلبه فإذا أخطأ لم يكن مأجورا لكن حط عنه الإثم تخفيفا ومنهم من قال إن عليه دليلا قطعيا أمر المجتهد بطلبه فإذا أخطأ لا يصح عمله وينقض قضاء القاضي فيه, ولكن يحط عنه الإثم لغموض الدليل وخفائه, وهو قول أبي بكر الأصم وابن علية, وإليه مال الشيخ أبو منصور على ما ذكر في الميزان. وإلى هذا القول مال بشر المريسي إلا أنه قال المخطئ فيه آثم غير معذور كما في سائر القطعيات, وهو القول الخامس هذا تفصيل المذاهب على ما ذكر في عامة نسخ الأصول فالشيخ بقوله إذا أخطأ كان مخطئا ابتداء وانتهاء يعني كان مخطئا في اجتهاده, وما أدى إليه اجتهاده أشار إلى القول الرابع. وبقوله هو مصيب في ابتداء اجتهاده يعني في نفس الاجتهاد, ولكنه مخطئ فيما طلبه, وهو الحكم في الحادثة أشار إلى القول الثاني واختاره. قال القاضي الإمام أبو زيد رحمه الله قال قوم إذا لم يصب المجتهد الحق
ـــــــ
1 هو عبد الله بن سعيد بن محمد بن كلاب القطان البصري أبو محمد المتكلم المتوفي سنة240 هـ انظر معجم المؤلفين 6/59.
2 هو أبو عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي الصوفي المتكلم توفي سنة 243 هـ انظر تهذيب التهذيب 2/134.(4/26)
تعالى واحد, ومعنى هذا الكلام ما قلنا احتج من ادعى الحقوق بأن المجتهدين جميعا لما كلفوا إصابة الحق ولا يتحقق ذلك على ما في وسعهم إلا أن يجعل الحق متعددا وجب القول بتعدده تحقيقا لشرط التكليف كما قيل في المجتهدين في القبلة إنهم جعلوا مصيبين حتى تأدى الفرض عنهم جميعا ولا يتأدى الفرض عنهم إلا بإصابة المأمور به مع إحاطة العلم بخطأ من استدبر الكعبة وجائز تعدد الحقوق في الحظر والإباحة عند قيام الدليل كما صح ذلك
ـــــــ
عند الله تعالى كان مخطئا ابتداء وانتهاء حتى أن عمله لا يصح, وقال علماؤنا كان مخطئا للحق عند الله تعالى مصيبا في حق عمله حتى أن عمله به يقع صحيحا شرعا كأنه أصاب الحق عند الله تعالى. قال بلغنا عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال ليوسف بن خالد السمتي1 وكل مجتهد مصيب والحق عند الله واحد فبين أن الذي أخطأ ما عند الله مصيب في حق عمله. ثم قال فصار قولنا هذا القول الوسط بين الغلو والتقصير.
قوله: "احتج من ادعى الحقوق" وهم المصوبة بأن المجتهدين قد كلفوا إصابة الحق; لأنهم لما كلفوا الفتوى بغالب الرأي بقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] كان ذلك تكليفا بإصابة الحق إذ ليس بعد الحق إلا الضلال, والشرع منزه عن أن يكلف بالضلال والخطأ فعلم أنهم في تكليفهم بالفتوى بغالب الرأي مكلفون بإصابة الحق. ولا يتحقق ذلك أي التكليف بالإصابة بالنظر إلى وسعهم إلا بأن يجعل الحق متعددا إذ لو لم يكن متعددا, وكان واحدا لم يكن في وسع كل واحد إصابته لغموض طريقه وخفاء دليله فكان التكليف بالإصابة حينئذ تكليف ما ليس في الوسع, وإذا كان كذلك وجب القول بتعدد الحق. تحقيقا بشرط التكليف بإصابة الحق أو القدرة عليها تثبت به فلا يتحقق التكليف بدونه. كما قيل في المجتهدين في القبلة إنهم جعلوا مصيبين للقبلة حالة الاشتباه وجعلت الجهات كلها قبلة في حقهم على ما قال الله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] حتى لو صلى كل واحد إلى جهة تأدى عنهم الفرض جميعا. ولا يتأدى الفرض عنهم أي لا يسقط إلا بإصابة المأمور به, وهو التوجه إلى الكعبة فلو لم يصر كل الجهات بمنزلة الكعبة في حقهم لما تأدى فرض من استدبر الكعبة منهم لظهور خطئه بيقين, وإنما عين هذا الوجه; لأنه ليس يتوجه إلى الكعبة بوجه فكان خطؤه من كل وجه فأما من وقع يمينه أو يساره إلى جهة الكعبة في تحريه فليس بمخطئ من كل وجه لوجود توجه الكعبة منه بجزء من وجهه, وهو العذار ولهذا أمر
ـــــــ
1 هو يوسف بن خالد السمتي انظر ميزان الإعتدال 4/462 – 464.(4/27)
عند اختلاف الرسل وعلى اختلاف الزمان فكذلك عند اختلاف المكلفين, ومن قال باستواء الحقوق قال: لأن دليل التعدد لم يوجب التفاوت ووجه القول الآخر أن استواءها يقطع التكليف; لأنها إذا استوت أصيبت بمجرد الاختيار من غير
ـــــــ
الشافعي رحمه الله بإعادة صلاة من استدبر الكعبة في تحريه, ولم يأمر بإعادة صلاة من توجه إلى جهة أخرى. وقوله وجائز تعدد الحقوق جواب عن سؤال يرد عليهم, وهو أن القول بتعدد الحقوق يؤدي إلى الجمع بين المتنافيين, وهما الحل والحرمة والصحة والفساد في شيء واحد إذ يلزم أن يكون متروك التسمية عمدا حلالا وحراما, وقليل النبيذ حلالا وحراما, والنكاح الأولى صحيحا وفاسدا وذلك محال. فقال وجائز تعدد الحقوق في الحظر والإباحة يعني يجوز أن يكون الحق متعددا بأن كان الحظر حقا والإباحة حقا أيضا في شيء واحد. عند قيام الدليل على التعدد. كما صح ذلك أي التعدد عند اختلاف الرسل بأن بعث الله رسولين في قومين مختلفين على اقتصار رسالة كل واحد منهما على قومه. وعلى اختلاف الزمان كما إذا نسخ الحظر بالإباحة بالحظر في شريعة رسول واحد في زمانين. فكذلك عند اختلاف المكلفين أي فكما جاز التعدد عند اختلاف المكان والزمان جاز عند اختلاف المكلفين فيثبت الحظر في حق شخص والإباحة في حق آخر. ألا ترى أن الميتة أبيحت في حق المضطر وحرمت في حق غيره والمنكوحة أحلت للزوج وحرمت على غيره. والمطلقة ثلاثا حرمت على الزوج وأحلت لغيره فيجوز أن يثبت إباحة النبيذ في حق مجتهد وحرمته في حق آخر ويكون كل واحد منهما حقا ويلزم قوم كل واحد منهما اتباع إمامه كما في الرسولين. وهذا; لأن الله تعالى ابتلى عباده بهذه الأحكام ليمتاز الخبيث من الطيب, وقد يختلف الابتلاء باختلاف الأزمان لاختلاف أحوال الناس فيجوز أن يختلف باختلاف الطبقات في زمان واحد أيضا; لأن دليل التعدد, وهو التكليف بإصابة الحق للكل لم يوجب التفاوت بين الحقوق بل يوجب أن يكون ما أدى إليه اجتهاد كل مجتهد حقا في حقه, وإذا كان كذلك لا يمكن ترجيح البعض بلا مرجح.
قوله: "ووجه القول الآخر" وهو أن واحدا من الجملة أحق, وهو القول بالأشبه أن استواء الحقوق يقطع التكليف أي يؤدي إلى سقوط التكليف ببذل المجهود في الطلب; لأن الكل لما كان حقا عند الله تعالى على السواء لم يكن في إتعاب النفس, وإعمال الفكر في الطلب فائدة بل يختار كل مجتهد ما غلب على ظنه من غير امتحان كالمصلي في جوف الكعبة يختار أي جهة شاء من غير بذل مجهود, وإجالة تفكر لكن الفريق الأول يقولون إنما يلزم هذا لو كان ما ذهب إليه كل واحد حقا عند الله تعالى قبل الاجتهاد, وليس كذلك بل الحكم بحقية ما أدى إليه اجتهاد كل واحد تابع لاجتهاده فقبل الاجتهاد لا(4/28)
امتحان وسقطت درجة العلماء وبطلت الدعوة وسقطت وجوه النظر ألا ترى أن الاختلاف في اختيار وجوه كفارة اليمين باطل, وأن اختياره بمجرد العزيمة
ـــــــ
يمكن إصابة الحق بمجرد الاختيار فلا يثبت له ولاية الاختيار وبعدما اجتهد لا يجوز له الاختيار أيضا لازما أدى إليه اجتهاده هو الحق في حقه دون ما أدى إليه اجتهاد غيره. ولهذا لم يذكره القاضي الإمام في التقويم وعبارته فيه والذين قالوا إن الواحد حق ذهبوا إلى أنا لو سوينا بينهما لبطلت مراتب الفقهاء وساوى الباذل كل جهده في الطلب المبلي عذره بأدنى طلب.
قوله: "وبطلت الدعوة وسقطت وجوه النظر" يعني لو ثبت استواؤها في الحقية بطلت دعوة المجتهد غيره من المجتهدين إلى مذهبه وسقطت المناظرة وطوي بساطها; لأن المقصود منها إظهار الصواب بإقامة الدليل عليه ودعوة المخالف إليه عند ظهوره بالدليل فإذا كان الكل على السواء في الحقيقة لم يستقم دعوة الغير إلى مذهبه فلم يبق للمناظرة فائدة بل ينبغي أن يقول لصاحبه إن ما اعتقدته حق فلازمه إذ لا فضل لمذهبي على مذهبك. ألا ترى أنه لا مناظرة بين المسافر والمقيم في أعداد ركعات صلاتيهما لما ثبت الحقية على السواء. ولكن من قال بالاستواء يقول ليست فائدة المناظرة منحصرة فيما ذكرتم بل لها فوائد أخر كتبين الترجيح عند تساوي الدليلين في نظر المجتهد حتى يجزم بالنفي أو بالإثبات. أو تبين التساوي حتى يثبت له الوقف أو التخيير لكونه مشروطا بعدم الترجيح.
وكالتمرين في الاجتهاد واكتساب الملكة على استثمار الأحكام من الأدلة وتشحيذ الخاطر وتنبيه المستمعين على مدارك الأحكام لتحريك دواعيهم إلى طلب مرتبة الاجتهاد ونيل الثواب, وإذا كان كذلك لا يلزم من سقوط فائدة الدعوة سقوط المناظرة لبقاء هذه الفوائد ثم استوضح ما ذكر من سقوط فائدة المناظرة وسقوط التكليف عند استواء الكل في الحقيقة بقوله ألا ترى أن الاختلاف أي المناظرة. في اختيار وجوه كفارة اليمين أي اختيار أحد أنواع كفارة اليمين باطل; لأن كل واحد منها حق, وليس أحدها أحق من الباقي فلم يكن للاختلاف والاجتهاد فيه فائدة. وإن اختاره أي اختيار أحد الوجوه بمجرد القصد الذي انضم إليه الفعل صحيح بلا تأمل أي بلا اجتهاد فيه. واحتج القاضي الإمام لهؤلاء بأن المجتهدين ما اجتهدوا إلا لإصابة ما يشهد النصوص بالحقية خلفا عن شهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم دعا الناس كلهم إلى حكم واحد ما ترى بين أعدادهم اختلافا إلا باختلاف أحوالهم كالمرض والسفر والغناء والفقر ونحوها, فالاجتهاد يجب أن يكون كذلك, وكان يقتضي هذا أن يكون الحق واحدا في حق الكل إلا أنا تركنا(4/29)
صحيح بلا تأمل فلذلك وجب القول بأن بعضها أحق ووجه قولنا: إن الحق واحد أن المجتهد يصيب مرة ويخطئ أخرى قال الله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} [الانبياء: 79], وإذا اختص سليمان صلوات الله
ـــــــ
القول به ضرورة أن لا يصيروا مكلفين بما ليس في وسعهم, وهذه الضرورة ترتفع بإثبات نفس الحقية لفتواهم فيبقى الواحد أحق بناء على أصل الشريعة الثابتة بالوحي قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} دخل رجلان على داود وعنده ابنه سليمان عليهما السلام أحدهما صاحب حرث, وقيل كان كرما قد تدلت عناقيده والآخر صاحب غنم فقال صاحب الحرث إن هذا انفلتت غنمه فوقعت في حرثي فلم تبق منه شيئا فقال لك رقاب الغنم, وقد كانت قيمتاهما مستويتين فقال سليمان عليه السلام غير هذا أوفق للفريقين ينطلق أهل الحرث بالغنم فيصيبون من ألبانها, ومنافعها ويقوم أصحاب الغنم على الكرم حتى إذا كانت كليلة نفشت فيه دفع هؤلاء إلى هؤلاء غنمهم, وهؤلاء إلى هؤلاء كرمهم فقال داود عليه السلام القضاء ما قضيت فأخذ الله عز وجل عن ذلك بقوله: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} [الانبياء: 78] أي واذكرهما {إِذْ} بدل اشتمال منهما: {إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [الانبياء: 78] النفش أن ينتشر الغنم بالليل ترعى بلا راع من حد دخل وضرب جميعا: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الانبياء: 78] لم يفت عنا من أمرهم شيء وجمع الضمير; لأنه أرادهما والمتحاكمين إليهما أو أريد به التثنية. {ففهمناها} الهاء ضمير الحكومة المدلول عليها بقوله: {إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} {وَكُلّاً} أي وكل واحد منهما: {آتَيْنَا حُكْماً} فصلا بين الخصوم, {وَعِلْماً} بأمور الدين. ووجه التمسك به أن هذا الحكم كان بالاجتهاد إذ لو كان بالوحي لما جاز لسليمان خلافه, ولما جاز لداود الرجوع إلى قوله ثم إنه تعالى خص سليمان بالفهم في القضية, ومن عليه, وكمال المنة في إصابة الحق حقيقة فلو كانا مصيبين لم يكن لتخصيص سليمان بالفهم فائدة; لأن داود قد فهم من الحكم الصواب على ذلك التقدير ما فهم سليمان عليهما السلام. ولا يقال كان ما قضى به داود جائزا, وما قضى به سليمان أفضل فلذلك اختصه بالفهم; لأنا نقول لو كان ذلك من داود ترك الأفضل لما وسع سليمان الاعتراض عليه; لأن الافتيات على رأي من هو أكبر منه إذا كان صحيحا في نفسه غير مستحسن خصوصا على الأب النبي كذا قيل. واعترض الغزالي على التمسك بهذه الآية فقال كيف يصح أنهما حكما بالاجتهاد, ومن العلماء من يمنع اجتهاد الأنبياء عقلا, ومنهم من منع سمعا, ومنهم من أجازوا حال الخطأ عليهم فكيف ينسب الخطأ إلى داود عليه السلام, ومن أين يعلم أنه قال ما قال عن اجتهاد. والآية على نقيض مذهبكم أدل; لأنه قال: {وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} , والخطأ يكون ظلما وجهلا لا حكما وعلما, ومن قضى بخلاف حكم الله تعالى(4/30)
وسلامه عليه بالفهم, وهو إصابة الحق بالنظر فيه كان الآخر خطأ, وقال النبي عليه السلام لعمرو بن العاص: "احكم على أنك إن أصبت فلك عشر حسنات, وإن أخطأت فلك حسنة" , وقال ابن مسعود إن أصبت فمن الله, وإن أخطأت فمني, ومن الشيطان والله تعالى ورسوله منه بريئان, وقال
ـــــــ
لا يوصف بأنه حكم بحكم الله تعالى, وأن الحكم والعلم الذي آتاه الله تعالى لا سيما في معرض المدح والثناء. والجواب عنه أنا قد دللنا على أنه كان بالاجتهاد وثبت ذلك بالنقل أيضا, وقد بينا فيما تقدم أن الاجتهاد للأنبياء والخطأ عليهم في اجتهادهم جائزان, وإن لم يجز تقريرهم على الخطأ. وليس في قوله عز وجل: {وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} أنه آتى كل واحد منهما حكما وعلما فيما حكما به في تلك الحادثة فيجوز أن يكون المراد به إيتاء العلم بوجوه الاجتهاد وطرق الأحكام في نفس الأمر والخطأ في مسألة لا يمنع إطلاق القول بأنه أوتي حكما وعلما فلا نبقي للخصم حجة. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص: "اقض بين هذين قال أقضي, وأنت حاضر قال نعم قال على ماذا أقضي قال على أنك إن اجتهدت فأصبت فلك عشر حسنات, وإن أخطأت فلك حسنة" 1. وفي حديث آخر: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران, وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد" 2 ففيهما دليل على أن في الاجتهاد خطأ وصوابا حيث صرح بذكر الخطأ وبتفاوت الأجر, وفي حديث طويل رواه محمد عن أبي حنيفة عن علقمة عن عبد الله بن يزيد عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وإذا حاصرتم أهل حصن أو مدينة فأرادوكم أن تنزلوهم على حكم الله" 3 الحديث. قال شمس الأئمة في المبسوط, وفي هذا اللفظ دليل على أن المجتهد يخطئ ويصيب فإنه قال فإنكم لا تدرون ما حكم الله فيهم؟. ولو كان كل مجتهد مصيبا لكان يعلم حكم الله بالاجتهاد لا محالة.
فإن قيل: فقد قال: "ولكن أنزلوهم على حكم ثم احكموا فيهم بما رأيتم", ولو لم يكن المجتهد مصيبا للحق لما أمر بإنزالهم على حكمنا فإنه كان لا يأمر بالإنزال على الخطأ, وإنما كان يأمر بالإنزال على الصواب. قلنا: نحن لا نقول المجتهد يكون مخطئا لا محالة,
ـــــــ
1 حديث "اقض بين هذين..." أخرجه الإمام أحمد 2/3574.
2 أخرجه مسلم في الأقضية حديث رقم 1716 وأبو داود في الأقضية حديث رقم 3574.
3 أخرجه مسلم في الجهاد حديث رقم 1731 والترمذي في السير حديث رقم 1617 وأبو داود في الجهاد حديث رقم 2612 وابن ماجه في الجهاد حديث رقم 2858 والإمام أحمد في المسند 5/352.(4/31)
النبي عليه السلام: "إذا حاصرتم حصنا فأرادوكم أن تنزلوهم على حكم الله فلا تنزلوهم فإنكم لا تدرون ما حكم الله فيهم" , وهذا دليل على احتمال الخطأ ولأن تعدد الحقوق ممتنع استدلالا بنفس الحكم وسببه أما السبب فلأنا قلنا إن القياس تعدية وضع لدرك الحكم فما ليس بمتعدد لا يتعدى متعددا; لأنه يصير تغييرا حينئذ فيوجب ذلك أن يكون الحق متعددا بالنص بعينه, وهذا خلاف الإجماع
ـــــــ
ولكنه على رجاء من الإصابة, وهو أتى بما في وسعه فلهذا أمرنا بالإنزال على ذلك لا; لأنه يكون مصيبا بالاجتهاد لا محالة, وفائدة ذلك أنه لا يمكن فيه شبهة الخلاف إذا أنزلوا على حكمنا وحكمنا فيهم بما رأينا ويتمكن إذا أنزلوا على حكم الله تعالى باعتبار أن المجتهد يخطئ ويصيب. والدليل المعتمد عليه في هذه المسألة إجماع الصحابة فإنهم أطلقوا الخطأ في الاجتهاد كثر أو شاع وتكرر, ولم ينكر بعضهم على بعض في التخطئة فكان ذلك إجماعا منهم على أن الحق من أقاويلهم ليس إلا واحد فمن ذلك ما روي عن علي وزيد بن ثابت وغيرهما أنهم خطئوا ابن عباس رضي الله عنهم في ترك القول بالعول وخطأهم ابن عباس في القول به, وقال من باهلني باهلته إن الله تعالى لم يجعل, وفي رواية إن الذي أحصى رمل عالج عددا لم يجعل في مال واحد نصفين وثلاثا. ومنه ما روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال أقول في الكلالة برأيي فإن يكن صوابا فمن الله, وإن يكن خطأ فمني, ومن الشيطان والله ورسوله منه بريئان وعن عمر رضي الله عنه أنه حكم بحكم فقال رجل هذا والله الحق فقال عمر رضي الله عنه إن عمر لا يدري أنه أصاب الحق لكنه لم يأل جهدا. وعنه أنه قال لكاتبه اكتب هذا ما رأى عمر فإن كان خطأ فمنه, وإن كان صوابا فمن الله. وعن علي رضي الله عنه في المرأة التي استحضرها عمر فأجهضت, وقد قال له عثمان وعبد الرحمن بن عوف إنما أنت مؤدب لا نرى عليك شيئا فقال علي إن كانا قد اجتهدا فقد أخطأ, وإن لم يجتهدا فقد غشاك أرى عليك الدية يعني الغرة. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال في المفوضة أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله ورسوله, وإن كان خطأ فمني, ومن الشيطان. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال ألا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا, ولا يجعل أبا الأب أبا إلى غير ذلك من الوقائع.
واعترض على هذه الحجة بأنه قد يكون التخطئة فيما وقع فيه التقصير من المجتهد أو فيما خالف فيه نصا أو إجماعا وحينئذ لا ينتهض حجة. وأجيب بأن التخطئة, وقعت في المسائل الاجتهادية التي لا نص, ولا إجماع فيها, ولا تقصير في مجتهد من الصحابة, وإلا وجب التأثيم, وهو باطل. ثم استدل الشيخ رحمه الله على امتناع تعدد الحقوق بنفس الحكم وسببه, وهو القياس الثابت بالاجتهاد. أما السبب فلأنا قد بينا أن القياس تعدية, وضع(4/32)
ألا ترى لو توهمنا غير معلوم لم يكن حكمه متعددا وذلك مما يحتمله صيغته بيقين فلا يتعدد بالتعليل, وفيه تغيير ويصير الفرع به مخالفا للأصل. وأما الاستدلال بنفس الحكم فهو أن الفطر والصوم, وفساد الصلاة وصحتها, وفساد النكاح وصحته ووجود الشيء وعدمه, وقيام الحظر والإباحة في شيء واحد تستحيل اجتماعه, ولا يصلح المستحيل حكما شرعيا.
ـــــــ
لدرك الحكم فقوله وضع خبر بعد خبر أي القياس لتعدية حكم النص إلى ما لا نص فيه, وإنه وضع مدركا لحكم النص لا مثبتا للحكم ابتداء ولهذا حد بأنه إبانة مثل الحكم المنصوص عليه في الفرع. فما ليس بمتعدد لا يتعدى متعددا يعني حكم النص إذا لم يكن متعددا في نفسه لا يتصور أن يتعدى متعددا; لأنه أي التعدية بصفة التعدد يصير تغييرا لحكم النص إذا لم يكن حكمه متعددا. فيوجب ذلك أي تعدد الحق في الفرع أو تعدية الحكم متعددا أن يكون الحق متعددا بالنص بعينه ليثبت تعدده في الفرع بالتعدية. وهذا أي كون الحق متعددا في النص خلاف الإجماع فإنهم أجمعوا عند تعارض النصين في الحظر والإباحة أو النفي والإيجاب على أن الحق واحد منهما, وأن العمل لا يجب بهما جميعا بل يجب الوقف إلى أن يظهر الرجحان لأحدهما أو يعرف التاريخ فيكون الآخر ناسخا للأول, وإذا تعذر تعدد الحق في الأصول بطل القول بتعدده في الفروع المبنية عليها. ثم استوضح ما ذكر أنه تغيير بقوله ألا ترى أنا لو توهمناه أي النص. غير معلول أي غير معلل, وذلك أي التعدد. واعترض عليه بأن ما ذكرتم غير لازم فإن الحكم يتعدى إلى الفرع من الأصل متحدا غير متعدد, ولكن التعدد فيه باعتبار تعدد الأصل فإن أصل كل مجتهد في الفرع المختلف فيه غير أصل خصمه فإن من جوز بيع الجص متفاضلا اعتبره بالمذروع, ومن لم يجوزه اعتبر بالحنطة والجواز وعدم الجواز في الأصلين ثابتان بلا خلاف وتعدى كل واحد من الحكمين إلى الفرع من غير تعيير وتعدد فيه, ولكن التعدد حصل بتعدد الأصل, وإنما يلزم ما ذكرتم أن لو اعتبر الفرع كل واحد من الخصمين بأصل واحد بأن اعتبره المجوز بالحنطة كما اعتبر غير المجوز بها أو اعتبره غير المجوز بالمذروع كما اعتبره المجوز به وذلك ممتنع فتبين بهذا أن في هذا الاستدلال اشتباها. وأما الاستدلال بنفس الحكم فظاهر في شيء واحد يستحيل اجتماعه أي اجتماع المذكور يعني في زمان واحد في حق شخص واحد وذلك; لأن القياس حجة في حق الجميع كالنص; لأنه خلف النص, والحكم الثابت بالنص لا يختص بقوم دون قوم فكذا الثابت بالقياس فكان حكمه شاملا للجميع كحكم النص فيجتمع الحظر والإباحة في حق كل واحد. ألا ترى أن المقلد لو استفتى أحد المجتهدين لأفتاه بالحظر الذي ثبت عنده على أنه حكم الشرع في حق(4/33)
وصحة التكليف يحصل بما قلنا من صحة الاجتهاد, وإصابته ابتداء. وقال أبو حنيفة رحمه الله في مدعي الميراث إذا لم يشهد شهوده أنا لا نعلم له وارثا غيره; لأني لا أكفل المدعي, وهذا شيء احتاط به القضاة, وهو جور سماه جورا,
ـــــــ
الجميع, ولو استفتى الآخر لأفتاه بالإباحة على هذا الوجه أيضا فكان الحظر والإباحة مجتمعين في حق شخص واحد في زمان واحد, وهو مستحيل. بخلاف اجتماع الحظر والإباحة في الميتة; لأن الإباحة مختصة بالمضطر لا يتعداه والحرمة مختصة بغير المضطر فلا يكون اجتماعا في حق شخص واحد. قال القاضي الإمام رحمه الله لو كان الحق متعددا لجاز للذي يعمل باتباع العلماء أن يختار من كل مذهب ما تهواه نفسه كما أن الله تعالى لما أثبت الكفارة في باب اليمين أنواعا كان للعبد الخيار بينهما على ما يهواه بلا دليل, ومن أباح هذا فقد أبطل الحدود وشرع طريق الإباحة وبنى الدين على الهوى والله تعالى ما نهج الدين إلا على دليل غير الهوى من نص ثابت بوحي أو قياس شرعي فمن جعل الحق حقوقا أثبت الخيار للعامي بهواه, ومن قال الحق في واحد ألزم العامي أن يتبع إماما واحدا, وقع عنده بدليل النظر أنه أعلم, ولا يخالفه في شيء بهوى نفسه. فإن قيل: أليس القياسان إذا تعارضا ثابت للمجتهد الخيار يعمل بأيهما شاء قلنا نعم, ولكن لا بهوى نفسه بل بالضرورة فإن الحق في أحدهما ويلزمه العمل به, ولم يبق قبله لله تعالى دليل يوصله إليه سوى شهادة قلبه فلزمه العمل بها; لأنها من حجج الشرع في هذا الموضع فإذا عمل بأحدهما لزمه الإعراض عن الآخر إلا بدليل يدل على الحقيقة فيه. فإن قيل لو كان الحق واحدا لوجب اتباع الخطأ لانعقاد الإجماع على وجوب اتباع الاجتهاد, وهو باطل باستحالة الأمر باتباع الخطأ. قلنا لا نسلم استحالة الأمر باتباع الخطأ عند تعذر إصابة الحق فإن المسألة إذا كان فيها نص أو إجماع, ولم يطلع عليه اجتهد بعد استفراغ وسعه في الطلب كان مأمورا باتباع ظنه مع أنه خطأ حقيقة لوجود نص على خلافه فعرفنا أن الخطأ جائز الاتباع في الفروع عند ظن الإصابة وتعذر الوقوف على حقيقة الحق.
قوله: "وصحة التكليف تحصيل بما قلنا" جواب عن قولهم لا بد لصحة التكليف بالاجتهاد من تعدد الحق إذ لو كان واحدا لزم تكليف ما ليس في الوسع. فقال صحة التكليف يحصل بما قلنا من صحة الاجتهاد, وإصابته ابتداء يعني إنما لم يصح التكليف إذا كلفوا بإصابة ما عند الله تعالى من الحق, ولم يكلفوا بها إما لعدم الدليل عليه أو لخفائه بحيث لا يصل إليه كل أحد بل كلفوا الاجتهاد للإصابة فإن أصابوا أجروا, وإن أخطئوا عذروا وأجروا على الطلب فكانوا مصيبين في الاجتهاد, وإن أخطأ بعضهم الحق فلم يلزم تكليف ما ليس في الوسع. وهذا كمن أمر خدامه بطلب فرس ضل عنه فخرج كل واحد(4/34)
وهو اجتهاد; لأنه في حق المطلوب مائل عن الحق, وهو معنى الجور والظلم, وقال محمد رحمه الله في المتلاعنين ثلاثا ثلاثا إذا فرق القاضي بينهما نفذ الحكم, وقد أخطأ السنة.
ـــــــ
إلى جانب في طلبه صح هذا الأمر, وكان كل واحد مصيبا في الطلب ممتثلا للأمر, ولكن من وجد الفرس مصيب ابتداء لصحة طلبه وانتهاء لظفره بالفرس والباقون مصيبون ابتداء لبذل جهدهم في الطلب وامتثال الأمر لا انتهاء لحرمانهم عن إصابة الفرس فكذا هاهنا.
قوله: "وقال أبو حنيفة" إلى آخره لما زعمت المعتزلة أن أبا حنيفة رحمه الله كان على مذهبهم استدلالا بما نقل عنه أنه قال كل مجتهد مصيب أنكر الشيخ رحمه الله أن يكون ذلك مذهبا له, وأقام الدليل على أن المذهب عنده أن المجتهد يخطئ ويصيب. فقال: وقال أبو حنيفة في مدعي الميراث إذا لم يشهد شهوده أنا لا نعلم له وارثا غيره يعني شهدوا أن المدعي هذا وارث فلان الميت, ولم يقولوا لا نعلم له وارثا غيره. إني لا أكفل المدعي يعني لا أكلفه بإعطاء الكفيل إذا سلمت المال إليه, وهذا أي أخذ الكفيل شيء احتاط به القضاة, وهو جور, سماه أي أخذ الكفيل بطريق الاجتهاد جورا, وهو اجتهاد. الواو للحال أي مع أن أخذ الكفيل ثبت عنده بالاجتهاد, وهو أن القاضي مأمور بالنظر وربما يظهر للميت وارث آخر فيأخذ كفيلا من الحاضر نظرا للغائب كالملتقط إذا رد اللقطة على صاحبها يأخذ كفيلا منه احتياطا فلو كان الحق متعددا عنده لم يكن لتسميته الحكم الثابت بالاجتهاد جورا معنى فثبت أن الحق عنده في المجتهدات واحد.
ولما كان لقائل أن يقول: الحق وإن كان واحدا في المجتهدات لكن كل مجتهد مصيب في حق العمل مأمور بالعمل باجتهاده فلا يجوز تسمية ما ثبت بالاجتهاد جورا أشار الشيخ إلى الجواب في الدليل فقال إنما سماه جورا; لأنه أي القاضي الذي أمر بأخذ الكفيل احتياطا في حق المطلوب, وهو أخذ الكفيل مائل عن الحق, وهو عدم تكليف المدعي بإعطاء الكفيل; لأن حق الحاضر معلوم قد ثبت بالحجة وحق الآخر موهوم فلا يجوز تأخير حق الحاضر لآخر موهوم لا أمارة عليه. ومسألة اللقطة فيما إذا دفعها بالعلامة; لأن حق الحاضر ليس بثابت ولهذا كان له أن لا يدفعها إليه فأما إذا دفعها بالبينة فلا حاجة إلى أخذ الكفيل عنده في الصحيح من الرواية. وهو معنى الجور يقال جار عن الطريق إذا مال عن قصده. والظلم يعني إن كان المراد من الجور الظلم على معنى أنه يأخذ الكفيل عن المدعي ظالم في حقه فهو بمعنى الميل أيضا; لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه فإذا كلفه القاضي بإعطاء الكفيل جبرا, والحق على خلافه كان ذلك وضعا للشيء في غير موضعه, وكان ميلا عن الحق. وقال محمد يعني ذكر محمد رحمه الله في(4/35)
ودليل ما قلنا من المذهب لأصحابنا في أن المجتهد يخطئ ويصيب في كتب أصحابنا أكثر من أن يحصى, وأما مسألة القبلة فإن المذهب عندنا في ذلك أن المتحري يخطئ ويصيب أيضا كغيره من المجتهدين ألا ترى أنه قال في كتاب الصلاة في قوم صلوا جماعة وتحروا القبلة واختلفوا فمن علم منهم
ـــــــ
المبسوط في المتلاعنين إذا التعن كل واحد منهما ثلاث مرات ثم فرق القاضي بينهما أن الفرقة جائزة, وأن حكمه ينفذ عندنا, وقد أخطأ السنة أي الطريقة المسلوكة في الشرع في هذا الباب فقد حكم أصحابنا بصحة الاجتهاد حيث نفذوا قضاء القاضي ثم أطلقوا اسم الخطأ عليه فعرفنا أن الاجتهاد قد يقع خطأ عندهم, وإن كان جائز العمل به. فإن قيل: كان ينبغي أن لا ينفذ حكمه في هذه الصورة كما قال زفر والشافعي رحمهما الله; لأنه حكم بخلاف الكتاب والسنة فإن اللعان في الكتاب والسنة خمس مرات, والحكم بخلاف النص باطل كما لو حكم بشهادة ثلاثة نفر في حد الزنا. قلنا هذا حكم في موضع الاجتهاد فينفذ كما لو حكم بشهادة المحدود في القذف وذلك; لأن تكرار اللعان للتغليظ, ومعنى التغليظ يحصل بأكثر كلمات اللعان; لأنه جمع متفق عليه, وأدنى الجمع كأعلاه في بعض المواضع فإذا اجتهد القاضي, وأدى اجتهاده إلى هذا الطريق نفذ حكمه, ولا نسلم أن قضاءه مخالف للنص; لأن أصل الفرقة, ومحلها غير مذكورين في النص, وهذا الاجتهاد في محل الفرقة فإن من أبطل هذا القضاء يقول لا تقع الفرقة, وإن أتمت المرأة اللعان بعد ذلك, ولا ينفذ حكمه, وإن تم الزوج اللعان, وإنما يقع الفرقة عنده بلعان الزوج كذا في المبسوط.
قوله: "ودليل ما قلنا من المذهب" يعني الدليل على أن مذهب أصحابنا ذكرنا أن المجتهد يخطئ ويصيب كثير في كتبهم سوى هاتين المسألتين المذكورتين مثل مسألة التحري, ومثل ما قال محمد رحمه الله في غير موضع من كتبه إذا قضى القاضي برأي نفسه في حادثة اختلف فيها الفقهاء نفذ على الكل وثبت صحته في حق من يخالفه, وإن كان عند المخالف هذا القاضي مخطئا للحق عند الله تعالى. ويجوز أن يكون معناه إن على صحة ما ذهب إليه أصحابنا من أن المجتهد يخطئ ويصيب كثير في كتبهم سوى الدلائل المذكورة في هذا الباب, والأول أظهر. ثم أجاب عن مسألة الاجتهاد في القبلة التي استدلوا بها على أن كل مجتهد مصيب. فقال فأما مسألة القبلة إلى آخره يعني لا نسلم أن المجتهد في القبلة مصيب لا محالة بل المجتهد فيها يخطئ ويصيب كغيره من المجتهدين استدلالا بالمسألة المذكورة في الكتاب. ويلزم عليه أنه لو لم يكن المجتهد في القبلة مصيبا لا محالة لوجب على المخطئ إعادة الصلاة بعدما تبين خطؤه بيقين كما(4/36)
حال إمامه, وهو مخالفه فسدت صلاته; لأنه مخطئ للقبلة عنده ولو كان الكل صوابا والجهات قبلة لما فسدت ولما كلفوا التحري والطلب كالجماعة إذا صلوا في جوف الكعبة. وأما قوله إن المخطئ للقبلة لا يعيد صلاته فلأنه لا يكلف إصابة الكعبة يقينا بل كلف طلبه على رجاء الإصابة لكن الكعبة غير مقصودة بعينها, وإنما المقصود وجه الله تعالى واستقبال القبلة ابتلاء فإذا حصل الابتلاء بما في قلبه من رجاء الإصابة وحصل المقصود, وهو طلب وجه الله سقطت حقيقته ألا ترى أن جواز الصلاة, وفسادها من صفات العمل, والمخطئ في
ـــــــ
لو صلى في ثوب نجس على ظن أنه طاهر. فتعرض للجواب بقوله: وأما قوله أي قول من ادعى الحقوق إن المخطئ للقبلة لا يعيد صلاته وجواب أما محذوف من حيث المعنى والتقدير أما قوله إن المخطئ لا يعيد صلاته فلا يصلح دليلا على ما ادعاه; لأنه أي المجتهد في القبلة أو المأمور بالتوجه إلى الكعبة لم يكلف إصابة حقيقة الكعبة; لأنها ليست في وسعه لانقطاع الأدلة بالكلية عند الاشتباه. بل كلف طلبه أي طلب الكعبة بتأويل البيت على رجاء الإصابة., ولكن الكعبة استدراك من قوله بل كلف طلبه يعني التكليف بطلب الكعبة, وإن تحقق لكن الكعبة غير مقصودة بعينها في هذا التكليف ولهذا لو قصد بالتوجه التعظيم للكعبة والعبادة لها يكفر, ألا ترى أن عينها كانت موجودة قبل الشرع, ولم تكن قبله. وقد ينتقل وجوب التوجه من عينها إلى جهتها عند الغيبة, ومن جهتها إلى ما يقع عليه التحري عند الضرورة, وإلى أي جهة توجهت الدابة أو السفينة في الصلاة على الدابة والسفينة فثبت أن عينها ليست بمقصودة, وإنما المقصود وجه الله تعالى أي رضاه بدليل قوله عز ذكره: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] واستقبال الكعبة ابتداء كما كان استقبال بيت المقدس ابتداء. فإذا حصل الابتداء في حالة الاشتباه بالتوجه إلى ما شهد قلبه أنه جهة الكعبة وحصل المقصود, وهو طلب وجه الله سبحانه في هذا التوجه. سقطت حقيقته أي حقيقة التوجه إلى الكعبة; لأن عند حصول المقصود لا يبالي بفوات الوسيلة وصار التوجه إلى جهة التحري عند الاضطرار كالتوجه إلى جهة الكعبة عند الاختيار باعتبار حصول المقصود فلذلك لم يجب الإعادة. ثم استوضح فساد استدلالهم بهذه المسألة فقال ألا ترى أن جواز العبادة, وفسادها من صفات العمل يقال عمل جائز وعمل فاسد لا من صفات ما هو الحق حقيقة, ونحن نساعدكم على أن المجتهد في حق نفس العمل مصيب فكان الاجتهاد في القبلة والاجتهاد في سائر الأحكام سواء فلا يصح الاستدلال بهذه المسألة على أن كل مجتهد مصيب للحق حقيقة.(4/37)
حق نفس العمل مصيب فثبت أن مسألة القبلة, ومسألتنا سواء وهذا عندنا
ـــــــ
قوله: "وهذا عندنا" أي ما ذكرنا أن المتحري لم يكلف إصابة الكعبة, وإنما كلف طلبه على رجاء الإصابة مذهبنا. فأما عند الشافعي فالمتحري كلف إصابة حقيقة الكعبة حتى إذا أخطأ من كل وجه بأن استدبر الكعبة وجبت عليه الإعادة إذا علم به فعلى قوله لا يصح استدلالهم بهذه المسألة أصلا. احتج الشافعي رحمه الله في أن الأمر بالتوجه إلى الكعبة في حق الغائبين عنها, وانقطاع دليل العيان ثابت على تحقيق الإصابة يقينا بأن طريق الإصابة مما توقف عليه لو تكلف العبد لمعرفة تركيب السماء والأرض, وكيفية جهات الأقاليم إلا أنه عذر دونه بسبب الحرج فكان مبيحا لا مسقطا أصلا فبقي أصل الأمر متعلقا بالإصابة حقيقة فمتى ظهر الخطأ يقينا لزمت الإعادة كالعمل بالرأي أبيح بشرط أن لا يخالف النص وعذر في العمل به, وإن لم يتحقق عدم النص, ولم يتكلف كل التكليف في طلب النص, ولكن لم يسقط به أصل الخطاب فأبيح له العمل بشرط أنه إن ظهر نص بخلافه فسد عمله.
وأصحابنا رحمهم الله بنوا وجوب طلب الكعبة بعد الغيبة عنها على الدلائل المعتادة التي ليس فيها كثير حرج لا على ما ليس بمعتاد, ولا مأمور به بالشرع من علم الهندسة, وكيفية تركيب السماء والأرض والدلائل المعتادة من الشمس والنجوم لا توصلنا إلى حقيقة الكعبة بل هي مطمعة فسقط الخطاب بإصابة الحقيقة لقصور الحجة, ولزمه العمل بالتوجه إلى جهة فيها رجاء إصابة الكعبة فإذا فقدت النجوم والمحاريب المنصوبة, وأخبار الناس عن هذه الأدلة ووجب العمل برأي القلب, وهذا الرأي لا يوصله إلى الجهة الظاهرة حال ظهور الشمس والمحاريب سقط إصابة تلك الجهة, ولزمه التوجه إلى جهة فيها رجاء إصابة المحراب الظاهر فإذا عمل بذلك القدر صار مؤتمرا بالأمر فلا يقع عمله فاسدا بترك ما ترك; لأنه لو لم يؤمر به بخلاف حادثة فيها نص, ولم يشعر به وعمل بالرأي بخلافه; لأنه كلف العمل بالرأي بشرط أن لا يخالفه نص, والنص الذي يخالفه مما يناله حالة الحاجة إلى العمل به لولا تقصير منه في الطلب فإنه لو كان طلبه من قبل أمكنه العمل به حال حاجته هذه. ألا ترى أن زوال هذا الجهل مقرون بمعنى يوجد منه لا يتبدل حال الدليل من الله تعالى فأما الخطأ في باب القبلة فيتبدل به حال الدليل بزوال الغيم وظهور النجم, وذلك أمر سماوي تبدل به حال الدليل فكان وراءه نزول نص بعدما عمل بالاجتهاد بخلافه ولهذا المعنى نقول فيمن اجتهد وتوضأ بماء ثم تبين أنه نجس أنه يعيد الصلاة, وكذلك الثوب; لأن طريق العلم بتلك النجاسة الخبر كما في المسألة الأولى ولقصور منه في طلبه وقع الجهل, والخبر عن القبلة, وإن بلغه في موضعه لا ينفعه في هذا الموضع فلا يبقى إلا النجم كذا في التقويم.(4/38)
وعند الشافعي رحمه الله كلف المتحري إصابة حقيقة الكعبة حتى إذا أخطأ أعاد صلاته فأما من جعله مخطئا ابتداء وانتهاء فقد
ـــــــ
فإن قيل: ما ذكرتم من الدليل معارض بأن النبي عليه السلام جعل الاقتداء بكل واحد من أصحابه هدى بقوله: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" مع اختلافهم في أحكام نفيا, وإثباتا فلو كان الحق واحدا لم يكن الاقتداء بالكل هدى. وبالإجماع فإن الصحابة اختلفوا في المسائل, وقال كل واحد قولا وصوب بعضهم بعضا بدليل أنه بقي بينهم تعظيم بعضهم للبعض وترك إنكار بعضهم قول البعض, ولو اعتقد كل واحد منهم أن صاحبه مخطئ لأنكره; لأن إنكار المنكر واجب. وبأن الحق لو كان واحدا لنصب عليه دليل قاطع لإزاحة الإشكال, ولوجب نقض كل حكم خالفه كما قاله المريسي والأصم وابن علية.
قلنا: لا نسلم أن الحق لو كان واحدا لم يكن الاقتداء بالكل هدى بل هو هدى; لأنه كما صح أن يقال لكل مجتهد في اتباع ظنه مهتد صح للعامي إذا قلده ذلك; لأنه فعل ما يجب عليه إجماعا مقلدا كان أو مجتهدا إذ المراد من الاهتداء هو الإتيان بما يجب; ولأن الاقتداء بآحادهم إذا كان اهتداء كان الاقتداء بجميعهم أولى بالاهتداء, وقد ذكرنا أنهم أطبقوا على تخطئة بعضهم بعضا ويلزم منه أنهم يرون الحق واحدا فكان الاقتداء بهم في هذا اهتداء. وأما قولهم صوب بعضهم بعضا فغير مسلم, وإنما بقي التعظيم وترك الإنكار; لأنهم أجمعوا على وجوب اتباع كل مجتهد ظنه والمخطئ غير معين حتى لو كان معينا يجب الإنكار حينئذ. وقولهم لو كان الحق واحدا لنصب عليه دليل قاطع فاسد إذ لا مانع من أن يكون المصلحة طلب الظن بالحكم بالأدلة الظنية لنيل ثواب الاجتهاد لا طلب العلم من أنه منتقض بنصب الأدلة الظاهرة مع إمكان نصب الأدلة القطعية. وإنما امتنع نقض ما خالف الصواب لعدم معرفة الخطأ من الصواب.
قوله: "فأما من جعله" أي المجتهد إذا أخطأ مخطئا ابتداء وانتهاء أي مخطئا من الأصل في نفس الاجتهاد, وفيما هو الحق حقيقة فقد احتج بما روينا من إطلاق الخطأ في الحديث فإن النبي عليه السلام قال: "وإن أخطأت فلك حسنة" ذكر الخطأ مطلقا والخطأ المطلق ما هو الخطأ ابتداء وانتهاء. قالوا والاجتهاد المؤدي إلى الخطأ لا يجوز أن يكون مأمورا به كالرجل المأمور بدخول بلد إذا سلك طريقا لا يوصله إليه لا يجوز أن يقول إنه مصيب في قطع المسافة التي قطعها, ولا إنه كان مأمورا بقطعها. قالوا: وإنما ألزمنا المجتهد العمل بقياسه على تقدير أنه صواب كما يلزمنا العمل بالنص على تقدير أنه غير منسوخ, ومتى ظهر انتساخه بطل العمل به فكذلك متى عمل بالقياس ثم روي له نص بخلافه حتى تبين خطؤه يقينا بطل ما أمضى بقياسه. وكذلك من حضرته الصلاة, ومعه(4/39)
احتج بما روينا من إطلاق الخطأ في الحديث وبقول النبي صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر حين نزل قوله تعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ} [الأنفال: 68] الآية "لو نزل بنا عذاب ما نجا إلا عمر" واحتج أصحابنا بحديث عمرو بن
ـــــــ
ثوب أو ماء شك في طهارتهما فإنه يستعملهما على تقدير الطهارة بحكم الاستصحاب فإذا تبين نجاستهما فسد عمله من الأصل, وما روي من إطلاق الإصابة على المجتهدين جميعا فعلى ما إذا لم يتبين وجه الخطأ واشتبه فإن الواجب عند الاشتباه العمل بأي قياس كان فيكون العمل من كل مجتهد بقياسه صوابا ظاهرا ما لم يتبين خطؤه. قالوا: وهكذا تقول في قوم اختلفوا في جهة الكعبة عند الاشتباه وصلوا إن صلاة كل واحد منهم جائز حتى يتبين عليه خطؤه فحينئذ نأمره بالإعادة.
قوله: ولقول النبي عليه السلام في أسارى بدر استشار النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر رضي الله عنهما في أسارى بدر1 فقال أبو بكر رضي الله عنه قومك, وأهلك استان بهم لعل الله يتوب عليهم وخذ منهم فدية تتقوى بها على الكفار, وقال عمر: رضي الله عنه كذبوك, وأخرجوك قدمهم واضرب أعناقهم فإن هؤلاء أئمة الكفر, وإن الله تعالى أغناك عن الفداء فمال النبي صلى الله عليه وسلم إلى رأي أبي بكر فنزل قوله عز وجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [لأنفال: 67] إلى آخر الآيات الثلاث فقال النبي عليه السلام: "لو نزل بنا عذاب ما نجا إلا عمر" . ففيه دليل أن اجتهاد عمر رضي الله عنه كان صوابا, وأن الاجتهاد الآخر كان خطأ من الأصل لاستيجابه العذاب الأليم لولا المانع, وهو الكتاب السابق, ولو كان صوابا في حق العمل لما استوجب به العذاب الأليم لوجود امتثال الأمر, وقيل المراد من الكتاب السابق ما كتب الله في اللوح المحفوظ أن لا يعذب أهل بدر. وقيل أن يحل لهم الغنائم والفداء, وقيل أن لا يعذب قوما إلا بعد تأكيد الحجة وتقديم النهي, ولم يتقدم النهي عن ذلك. ثم بظاهر هذا النص تمسك المريسي, ومن تابعه, وقال المجتهد يأثم بالخطأ ويعاتب عليه; لأن استحقاق العذاب الأليم دليل الإثم; ولأن الخطأ إنما يقع لتقصير في الطلب, والتقصير في طلب الواجب دليل الإثم ألا ترى أن الخطأ في أصول الدين موجب للإثم لقصور في الطلب والتأمل. ويدل عليه ما نقل عن الصحابة والمجتهدين على سبيل الشهرة تشنيع بعضهم على بعض مثل قول ابن عباس رضي الله عنهما ألا يتقي الله زيد بن ثابت., وقوله من شاء باهلته., وقول عائشة رضي الله عنها أبلغ زيد بن أرقم أن الله تعالى أبطل حجه وجهاده مع رسول الله إن لم يتب. وقول أبا حنيفة رحمه الله هذا شيء
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الجهاد حديث رقم 1763 والترمذي في تفسير القرآن حديث رقم 3084 وأبو داود في الجهاد حديث رقم 2690 والإمام أحمد في المسند 1/383.(4/40)
العاص رضي الله عنه وبقول الله تعالى: {وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} [الانبياء: 79] والحكم والعلم إنما أريد به العمل فأما إصابة المطلوب فمن أحدهما, وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لمسروق والأسود كلاكما أصاب وصنيع مسروق أحب إلي فيما سبقا من ركعتي ولأن كل مجتهد يكلف بما في وسعه فاستوجب
ـــــــ
احتاطه بعض القضاة, وهو جور, وقول الشافعي رحمه الله من استحسن فقد شرع فدل ما ذكرنا أن الخطأ يصلح سببا للعتاب والإثم, وإلا لم يكن للتشنيع وجه. قوله: "واحتج أصحابنا بحديث عمرو بن العاص" فإنه عليه السلام لما قال له, "وإن أخطأت فلك حسنة" , وقال في آخر: "وإن أخطأ فله أجر واحد" والخطأ المطلق لا يكون حسنة, ولا سببا للأجر بوجه عرفنا أنه مصيب في نفس الاجتهاد, ومستحق للأجر به, وإن أخطأ الحق الحقيقي. وبقول الله تعالى في قصة داود وسليمان: {وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} [الانبياء: 79] أخبر أنهما جميعا أوتيا من الله علما وحكما بعدما بين أن سليمان اختص بفهم ما هو الحق عند الله عز وجل, ومعلوم أن الخطأ المحض لا يكون حكم الله تعالى فيثبت أن تأويله أنه حكم الله تعالى من حيث إنه صواب في حق العمل. وهذا التمسك إنما يستقيم إذا سلم الخصم أن المراد إتيان العلم والحكم في تلك الحادثة, ولكنه لا يسلم بل يقول المراد إتيان العلم والحكم في غيرهما كما مر بيانه. وقال عبد الله كذا روي أن مسروقا وعلقمة أو الأسود سبقا بركعتين من صلاة المغرب فلما قاما إلى القضاء صلى مسروق ركعة وجلس ثم ركعة وجلس وسلم وصلى الآخر ركعتين ثم جلس فذكرا ذلك لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال كلاكما أصاب, ولكن صنيع مسروق أحب إلي فنظر أحدهما إلى الفائت, ولم يكن بينهما قعدة والآخر إلى الباقي فقوله كلاكما أصاب دل على أن كل واحد منهما مصيب, وقوله صنيع مسروق أحب إلي دل على أن الحق واحد منهما فقلنا أراد بأول الكلام أن كل واحد منهما مصيب فيما عمل باجتهاده, ومن آخره أن الحق الحقيقي مع مسروق عنده.
فإن قيل: هذا لا يدل على أن الحق واحد بل يدل على أن كلا الاجتهادين حق, ولكن العمل بما ذهب إليه مسروق أفضل كما هو مذهب القائلين بالأشبه.
قلنا: هب أنه كذلك لكنه لا يخرج من أن يكون دليلا على أن كل واحد منهما مصيب في حق العمل إلا أنه لما قام الدليل على أن الحق واحد, وأن مذهب عبد الله حيث قال, وإن أخطأت فمني, ومن الشيطان عرفنا أنه لم يرد به أن كليهما أصاب الحق حقيقة, وأن أحدهما أحق بل أراد ما ذكرنا ألا ترى أن من قال بأنه مخطئ ابتداء وانتهاء ساعدنا في أنه مخطئ للحكم فلا يمكنه حمل قوله كلاكما قد أصاب على أنهما أصابا الحكم(4/41)
الأجر على ابتداء فعله وحرم الصواب والثواب في آخره إما بتقصير منه أو حرمانا من الله تعالى ابتداء. وأما قصة بدر فقد عمل النبي صلى الله عليه وسلم بإشارة أبي بكر الصديق رضي الله عنه فكيف يكون خطأ إلا أن هذا كان رخصة. والمراد بالآية على حكم العزيمة لولا الرخصة فالمخطئ في هذا الباب لا يضلل ولا يعاتب إلا أن يكون
ـــــــ
فيحمل على أنهما أصابا في الاجتهاد; ولأن كل مجتهد مكلف بما في وسعه, وفي وسع كل أحد منهم طلب ما عند الله من الحق دون إصابته ألا ترى أن المجتهد أمر بالقياس عند عدم النص, وأنه لا يوصله إلى الحق الذي هو عند الله تعالى قطعا بلا خلاف فثبت أنه لم يؤمر بالعمل به على شرط إصابة الحق حقيقة; لأنه لا يوصله إليه, ولكن على تحري الإصابة; لأن الدليل مطمع في الإصابة فاستوجب الأجر على ابتداء فعله; لأنه أدى ما كلف به وحرم الصواب, والثواب في آخره أي ثواب إصابة الحق إما بسبب تقصير منه أو بابتداء حرمان من الله عز وجل. وهذا كمن قاتل الكفار على تحري النصرة كان مصيبا في قتاله ممتثلا أمر الله تعالى في إعلاء كلمته قتل أم قتل مستحقا للأجر العظيم; لأنه مصيب لما قاتل على تحري إصابة النصرة أصاب أو لم يصب, وكالرماة إذا نصبوا غرضا فرموا على تحري الإصابة كانوا مصيبين في تحريهم الإصابة, وإذا أخطأ بعضهم الغرض, وأصاب البعض لم يصر واحد مخطئا في تحريه الإصابة بطريقه.
"فإن قيل" خطؤه في تقصيره في طلب طريق الإصابة لا في قصد الإصابة فإن الله تعالى أعطاه من الرأي ما لو بذل مجهوده كل البذل لأصاب الحق على الحقيقة. "قلنا" إن الله تعالى كما لم يكلف بما ليس في الوسع لم يكلف بما فيه الحرج قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78], وفي بناء الخطاب على هذه المبالغة في استعمال الرأي حرج عظيم فيصير عفوا ويجب بناء الخطاب على المعتاد من الاستعمال وذلك لا يوصلنا إلى حقيقة العلم بلا خلاف, وهذا بخلاف الاجتهاد في أصول الدين فإن المخطئ لما عند الله تعالى مخطئ في حق نفسه أيضا; لأن لله تعالى دلائل عليها يوجب العلم يقينا في أصل الوضع فلم يجب الخطأ إلا بقلة التأمل. فأما قصة بدر فقد عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم بإشارة أبي بكر رضي الله عنه أي باجتهاده ورأيه يعني لا يمكن أن يحمل اجتهاده على الخطأ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عمل برأيه, وأقر عليه بقوله عز اسمه: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} [الأنفال: 69], ولما أقر عليه لم يحتمل الخطأ بوجه.(4/42)
طريق الصواب بينا فيعاتب, وإنما نسبنا القول بتعدد الحقوق إلى المعتزلة لقولهم بوجوب الأصلح, وفي تصويب كل مجتهد وجوب القول بالأصلح وبأن يلحق الولي بالنبي, وهذا عين مذهبهم والمختار من العبارات عندنا أن يقال إن
ـــــــ
إلا أن هذا أي أخذ الفداء كان رخصة. والمراد بالآية على حكم العزيمة لولا الرخصة أي العتاب بناء على تقدير بقاء العزيمة. قال القاضي الإمام وتأويل العتاب - والله أعلم -: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} وكان ذلك كرامة خصصت بها رخصة: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} بهذه الخصوصية لمسكم العذاب بحكم العزيمة على ما قاله عمر. والوجه الآخر: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} قبل الإثخان, وقد أثخنت يوم بدر فكان لك الأسرى كما كان لسائر الأنبياء عليهم السلام, ولكن كان الحكم في الأسرى المن أو القتل دون المفاداة فلولا الكتاب السابق في إباحة الفداء لك لمسكم العذاب كذا في التقويم.
قوله: "فالمخطئ في هذا الباب" أي في الفروع التي لا نص فيها لا يضلل, واحترز به عن المخطئ في الأصول فإنه مضلل, وقد اختلفوا في المخطئ في الفروع فقيل هو مأجور لما روينا من الحديث. وقيل هو معذور; لأن الخطأ ضد الصواب, وهو محظور في الأصل إلا أن حكم الحظر يزول بعذر الخطأ فأما أن ينال أجر الصواب, ولا صواب فلا كالنائم لا يأثم بترك الصلاة, ولكن لا ينال ثواب المصلي. وقيل هو معاقب مخطأ لما ذكرنا, وقلنا إذا كان طريق الإصابة بينا فهو معاتب لعلمنا أنه ما أخطأ إلا بتقصير من قبله فأما إذا كان خفيا فليس بمعاتب; لأن الخطأ إنما وقع لخفاء دليل الإصابة وذلك من الله تعالى. والخفي مما لا يدركه كل فهم وكل قلب فإن إدراك البصائر على التفاوت كإدراك الأبصار بحكم الخلقة فلا يجوز العتاب على فعل الله تعالى فيصير معذورا فيما لم يدرك مصيبا فيما استعمل من الاجتهاد مأجورا. وما روي من التخطئة والتشنيع فعلى النوع الذي طريقه عند الذي خطأ وشنع, وفي تصويب كل مجتهد وجوب القول بالأصلح فإنه لا شك أن الأصلح للعبد إصابة الحق واستحقاق الثواب عليه فإذا حرم من الإصابة من غير تقصير منه لم يكن ذلك أصلح له, وهو واجب له عندهم فلذلك وجب القول بإصابة الكل. وبأن يلحق الولي بالنبي فإنهم يقولون لا يجوز أن يفعل الله تعالى في حق نبي من الإكرام والإفضال ما لا يفعله في حق غيره إلا أن العبد يبطل ذلك بفعله واجتساره فالولي ملحق بالنبي عندهم في حق الإفضال والإنعام عليه, وفي تصويب كل مجتهد إلحاق الولي بالنبي فإنه لما كان مصيبا للحق في اجتهاده لا محالة كان قوله في الحقية مثل قول النبي فثبت أن القول بالتصويب مبني على مذهبهم.
واعلم أن القول بالتصويب لا يؤدي إلى القول بالأصلح لا محالة فإن كثيرا من أهل(4/43)
المجتهد يصيب ويخطئ على تحقيق المراد به احترازا عن الاعتزال ظاهرا وباطنا وعلى هذا أدركنا مشايخنا وعليه مضى أصحابنا المتقدمون, والله أعلم, ولو كان كل مجتهد مصيبا لسقطت المحنة وبطل الاجتهاد ويتصل بهذا الأصل مسألة تخصيص العلل وهذا.
ـــــــ
السنة ذهبوا إليه مع إنكارهم القول بالأصلح, ولكن مبنى التصويب على أمرين. أحدهما وجوب الأصلح كما ذكر الشيخ رحمه الله. والثاني امتناع تكليف ما ليس في الوسع أو ما فيه حرج فمن قال من أهل الاعتزال بالتصويب بناء على وجوب الأصلح, ومن قال به من أهل السنة بناء على امتناع تكليف ما ليس في الوسع أو ما فيه حرج.
قوله: "على تحقيق المراد به" أي بهذا القول بأن يراد إصابة الحق الحقيقي, وإخطاء الحق الحقيقي ليحصل الاحتراز عن مذهب المعتزلة ظاهرا وباطنا وذلك; لأن القائلين بالأحق منهم قد يقولون إن المجتهد يخطئ ويصيب ويريدون بذلك إصابة الأحق وإخطاءه, ولكن المخطئ للأحق مصيب للحق حقيقة عندهم فإذا لم نرد بقولنا يخطئ ويصيب حقيقة كل واحد منهما على التفسير الذي ذكرنا يكون هذا احترازا عن الاعتزال ظاهرا حيث حصل به الاحتراز عن مذهب من قال باستواء الحقوق منهم لا باطنا حيث لم يحصل الاحتراز عن مذهب القائلين بالأحق فأما إذا أردنا بهما إصابة الحق الحقيقي, وإخطاءه فقد حصل الاحتراز عن المذهبين فكان ذلك احترازا عن مذهبهم ظاهرا وباطنا. قال صاحب القواطع: ولقد تدبرت فرأيت أكثر من يقول بالتصويب المتكلمين الذين ليس لهم في الفقه, ومعرفة أحكام الشريعة كثير حظ, ولم يقفوا على شرف هذا العلم, ومنصبه في الدين, ومرتبته في مسالك الكتاب والسنة, وإنما نهاية رأس مالهم المجادلات الموحشة, وإلزام بعضهم بعضا في منصوبات, وموضوعات اتفقوا عليها فيما بينهم فنظروا إلى الفقه, ومعانيه بأفهام كليلة وعقول حسيرة فعدوا ذلك ظاهرا من الأمر, ولم يعتقد لها كثير معان يلزم الوقوف عليها, وقالوا لم يكلف المجتهد إلا في محض ظن يعثر عليه بنوع أمارة, ولا يستقيم تكليفه سوى ذلك, وليس في محل الاجتهاد حق واحد مطلوب بل مطلوب المجتهد هو الظن ليعمل به, وهذا الذي قالوه في غاية البعد, وهو أن يكون مطلوب المجتهد مجرد ظن, والظن قد يستوي فيه العالم والعامي, وقد يكون بدليل. وقد يكون بلا دليل بل المطلوب هو حكم الله تعالى في الحادثة بالعلل المؤثرة, ولا يقف عليها إلا الراسخون في العلم الذين عرفوا معاني الشرع وطلبوها بالجهد الشديد والكد العظيم حتى أصابوها فأما من ينظر إليه من بعد ويظنه سهلا من الأمر, ولا يعرف إلا مجرد ظن يظنه الإنسان فيعثر هذه العثرة العظيمة التي لا انتعاش عنها ويعتقد تصويب كل المجتهدين(4/44)
.........................................................................................
بمجرد ظنونهم فيؤدي قوله إلى اعتقاد الأقوال المتناقضة في أحكام الشرع, وإلى خرق الإجماع والخروج على الأمة وحمل أمرهم على الجهل, وقلة العلم وترك المبالاة فيما نصبوا من الأدلة, وأسهروا لياليهم, وأتعبوا فكرهم في استخراجها, وإظهار تأثيرات ما ادعوها من العلل ثم نهاية أمرهم عند هؤلاء أنهم وصلوا إلى مثل ما وصل مخالفوهم, وأن ما وصلوا إليه عند الله حق وضده حق, وقولهم وقول مخالفيهم سواء فيكون سعيهم شبه ضائع وثمرته كلا ثمرة, وبطلان مثل هذا القول ظاهر, ولعل حكايته تغني كثيرا من العقلاء عن إقامة البرهان عليه, والله أعلم. ويتصل بهذا الأصل أي ببيان أحكام العلة مسألة تخصيص العلة. أو يتصل بمسألة تصويب المجتهدين وتخطئتهم مسألة تخصيص العلل كما سيأتيك بيانه, وهذا أي ما نشرع فيه.(4/45)
"باب فساد تخصيص العلل"
قال الشيخ الإمام رضي الله عنه من أصحابنا من أجاز تخصيص العلل المؤثرة وذلك بأن يقول كانت علتي توجب ذلك لكنه لم توجب لمانع فصار مخصوصا من العلة بهذا الدليل واحتج بأن التخصيص غير المناقضة لغة, وهذا
ـــــــ
"باب فساد تخصيص العلل"
تخصيص العلة عبارة عن تخلف الحكم في بعض الصور عن الوصف المدعى علة لمانع كما أشار إليه الشيخ في الكتاب. وإنما سمي تخصيصا; لأن العلة, وإن كانت معنى, ولا عموم للمعنى حقيقة; لأنه في ذاته شيء واحد, ولكنه باعتبار حلوله في محال متعددة يوصف بالعموم فإخراج بعض المحال التي توجد فيها العلة عن تأثير العلة فيه, وقصر عمل العلة على الباقي يكون بمنزلة التخصيص كما أن إخراج بعض أفراد العام عن تناول لفظ العام إياه, وقصره على الباقي تخصيص. وأجمعوا على أن العلة متى ورد عليها نقض تبطل; لأن المنتقض لا يصلح أن يكون علة شرعية. واختلفوا في تخصيص العلة فقال القاضي الإمام أبو زيد والشيخ أبو الحسن الكرخي وأبو بكر الرازي, وأكثر أصحابنا العراقيين إن تخصيص العلة المستنبطة جائز, وهو مذهب مالك وأحمد بن حنبل وعامة المعتزلة. وذهب مشايخ ديارنا قديما وحديثا إلى أنه لا يجوز, وهو أظهر قولي الشافعي, وأكثر أصحابه. هذا الاختلاف في العلة المستنبطة فأما في العلة المنصوصة فاتفق القائلون بالجواز في المستنبطة على الجواز فيها. ومن لم يجوز التخصيص في المستنبطة فأكثرهم جوزه في المنصوصة وبعضهم منعه في المنصوصة أيضا, وهو مختار عبد القاهر البغدادي وأبي إسحاق الإسفراييني, وقيل إنه منقول عن الشافعي رحمه الله.
احتج المجوزون بأن العلة الشرعية أمارة على الحكم, وليست بموجبة بنفسها, وإنما صارت أمارة بجعل جاعل فجاز أن تجعل أمارة للحكم في محل, ولم تجعل أمارة في محل كما جاز أن تجعل أمارة في وقت دون وقت وبتخلف الحكم عنها في بعض المواضع لا يخرج عن كونها أمارة; لأن الأمارة لا تستلزم وجود الحكم في كل المواضع بل الشرط فيها(4/46)
ظاهر; لأنه بيان أنه لم يدخل لا نقض ولا إبطال, وقد صح الخصوص على الكتاب
ـــــــ
غلبة وجود الحكم عندها كالغيم الرطب في الشتاء أمارة للمطر قد يتخلف في بعض الأحايين, ولا يدل ذلك على أنه ليس بأمارة.
وبأن تخصيص العلة المنصوصة جائز فإن الله تعالى جعل السرقة والزنا علتين للقطع والحد, وقد يوجد سارق لا يقطع وزان لا يحد وجعل المشاقة علة لقتل الكفار بقوله عز اسمه في سورة الأنفال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 13] بعد قوله: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} [الأنفال: 12], وقد وجدت العلة في حق المرأة بدون القتل وجعل وقوع العداوة والبغضاء علة لحرمة الخمر والميسر بقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [المائدة: 91] والعلة موجودة في حالة الإكراه مع تخلف حكمها عنها, ولما جاز تخصيص المنصوصة جاز تخصيص المستنبطة; لأن ما يجوز على الشيء أو ما يستحيل جوازه عليه لا يختلف لاختلاف طرقه, ولم يوجد في العلتين اختلاف الطريق فإنه في أحديهما النص, وفي الأخرى الاستنباط, وذلك لا يوجب الاختلاف فيهما بعدما ثبت أن كل واحد منهما علة. ألا ترى أن دلالة العلة على ثبوت الحكم في محالها كدلالة العام على أفراده فلما جاز تخصيص العام جاز تخصيص العلة.
وبأن خصوص العلة ليس إلا امتناع ثبوت موجب الدليل في بعض المواضع لمانع يمنع بطريق المعارضة وذلك مما لا يرده العقل, ولا يكون دليل الفساد كما في العلة المحسوسة فإن النار علة للإحراق ثم إنها لم تؤثر في إبراهيم عليه السلام, ولا في الطلق لمانع لا يدل على أن النار ليست بمحرقة.
وبما ذكر الشيخ في الكتاب أن التخصيص غير المناقضة, وإنما ذكر هذا; لأن من أنكر التخصيص جعله من باب المناقضة إذ يلزم منه القول بتصويب كل مجتهد وذلك يستلزم اعتقاد حقية الحظر والإباحة والجواز والفساد في شيء واحد, وهو تناقض فقال التخصيص غير المناقضة. وتقريره ما ذكر القاضي الإمام أبو زيد وشمس الأئمة رحمهما الله في كتابهما أن التخصيص غير المناقضة لغة وشرعا, وإجماعا, وفقها. أما اللغة فلأن النقض اسم لفعل يرد فعلا سبق على سبيل المضادة كنقض البنيان ونقض كل مؤلف والخصوص بيان أنه لم يدخل في الجملة لا أنه رفع الثبوت ألا ترى أن ضد الخصوص العموم, وضد النقض البناء والتأليف. وأما الشرع فلأن التخصيص جائز في النصوص الشرعية من الكتاب والسنة, والتناقض لا يجوز فيها أصلا فيتغايران, وإليه أشار الشيخ لقوله, وقد صح الخصوص إلى آخره., وأما الإجماع فلأن القائسين أجمعوا على أن الأحكام(4/47)
والسنة دون المناقضة قال ولأن العدول عن القياس بسنة أو إجماع أو ضرورة أو استحسان مخصوص منه بالإجماع ولأن الخصم ادعى أن هذا الوصف علة فإذا وجد ولا حكم له احتمل أن يكون العدم لفساد العلة فيتناقض واحتمل أن يكون العدم لمانع فوجب أن يقبل بيانه إن أبرز مانعا, وإلا فقد تناقض ولذلك لا يقبل مجرد قوله خص بدليل الاحتمال الفساد بخلاف النصوص; لأنها لا يحتمل فسادا وبني على هذا تقسيم الموانع, وهي خمسة حسا وحكما مانع يمنع
ـــــــ
قد تثبت على خلاف القياس الشرعي في بعض المواضع بدليل أقوى منه من نص أو إجماع أو ضرورة وذلك يكون تخصيصا لا مناقضة ولهذا سماها الشافعي مخصوصة عن القياس, ونحن نسميها معدولا بها عن القياس ألا ترى أن ذلك القياس بقي معمولا به في غير ذلك الموضع, والقياس المنتقض فاسد لا يجوز العمل به في موضع وأما الفقه فلأن الخصم أي المعلل ادعى أن هذا الوصف علة فلما أورد عليه ما وجد فيه ذلك الوصف بدون ذلك الحكم احتمل أن يكون عدم الحكم لفساد في أصل علته فيكون ذلك تناقضا ويحتمل أن يكون عدم الحكم لمانع منع ثبوت الحكم ألا ترى أن البيع علة لثبوت الملك بلا شبهة ثم إذا لم يثبت الملك به في صورة خيار الشرط لم يدل ذلك على فساد العلة; لأن الامتناع لمانع, وهو الخيار المشروط في العقد فإذا ادعى المعلل أن ذلك الموضع صار مخصوصا من علتين لمانع فقد ادعى أمرا محتملا فيكون مطالبا بالحجة. فإن أبرز مانعا صالحا يقبل بيانه أي بيان المعلل; لأنه بيان أحد المحتملين. وإلا فقد تناقض أي ظهر أنه متناقض في جعل هذا الوصف علة حيث لم يجعله علة في هذا الموضع. أو ظهر أن وصفه متناقض; لأنه لما لم يظهر لامتناع الحكم عنه مانع كان موجبا وغير موجب, وهو تناقض., ولذلك أي ولاحتمال أن يكون العدم لفساد العلة وللمانع لا يقبل من المعلل مجرد قوله خص بدليل لاحتمال الفساد أي لاحتمال تعين جهة فساد العلة بأن يعجز عن إبراز المانع أصلا ويبين ما لا يصلح مانعا إذ لا بد للمانع من أن يكون أقوى منه أو مثله بخلاف النصوص يعني إذا تمسك في حادثة بعموم نص فاعترض عليه بأن حكم هذا العام لم يثبت في بعض المواضع فدل ذلك أنه ليس بمعمول فأجاب بأن ذلك البعض خص من هذا العام بدليل يقبل, ولا يطلب منه دليل على ذلك; لأن النص العام ليس فيه احتمال الفساد والغلط بوجه فلا يبقى لعدم الحكم مع وجود النص وجه إلا الخصوص الذي يليق بكلام صاحب الشرع فلم يحتج إلى إثباته بدليل. فأما احتمال الفساد في العلة فقائم فما لم يتبين دليل الخصوص فيما ادعى أنه مخصوص من علته لا ينتفي جهة الفساد فلا يصلح حجة مع الاحتمال. ولا يقال يحتمل أن يكون فيه مانع, ولا يمكنه إبرازه فلا يثبت فساد الوصف بالاحتمال أيضا; لأنا نقول الأصل في التخلف هو التناقض.
قوله: "وبنى" أي من أجاز التخصيص على هذا أي على جواز التخصيص(4/48)
انعقاد العلة, ومانع يمنع تمام العلة, ومانع يمنع حكم العلة, ومانع يمنع تمام الحكم, ومانع يمنع لزوم الحكم وذلك في الرامي إذا انقطع وتراه أو انكسر فوق سهمه فلم ينعقد علة, وإذا حال بينه وبين مقصده حائط منع تمام العلة حتى لم يصل إلى المحل, ومانع يمنع ابتداء الحكم, وهو أن يصيبه فيدفعه بترس أو غيره والذي يمنع تمام الحكم أن يجرحه ثم يداويه فيندمل, والذي يمنع لزومه أن يصيبه فيمرض به ويصير صاحب فراش ثم يصير له كطبع خامس فيأمن منه غالبا بمنزلة من ضربه الفالج فيصير مفلوجا كان مريضا فإن امتد فصار طبعا صار في
ـــــــ
تقسيم الموانع أي موانع الحكم مع وجود العلة. وهي خمسة حسا وحكما أي في الحسيات والشرعيات عرف ذلك بالاستقراء. وذلك أي ما قلنا من الموانع حسا يتبين في الرمي فإنه قتل أو أصاب ويلزم الرامي أحكام القتل والرمي عبارة عن فعل معلوم, وهو إغراق القوس بالسهم, وإرساله. فالرامي إذا انقطع وتره أي وتر قوسه أو انكسر فوق سهمه, وهو موضع الوتر من السهم يمنع ذلك من انعقاد الرمي علة بعد تمام قصد الرامي إلى مباشرة حتى أن شيئا من حكم الرمي لا يظهر مع هذا المانع من مضي السهم أو إصابته شيئا بقوته.
وإذا حال بين الرامي وبين مقصده حائط في مسافة مرور السهم يعارض السهم فيمنعه من المرور ويرده عن سننه فهو مانع يمنع تمام العلة; لأن الفعل انعقد رميا لكن الرمي إنما يصير قتلا إذا أصاب المرمى بامتداد السهم إلى المرمى بقوته, وهذا المانع منع تمام الامتداد إليه فمنع تمام العلة. وهذان ليسا من أقسام تخصيص العلة; لأن معنى التخصيص تخلف الحكم لمانع مع وجود العلة, وقد عدمت العلة في هذين القسمين أصلا فيكون تخلف الحكم فيهما لعدم العلة لا لمانع منع وجود العلة فلا يستقيم بناؤهما عليه وجعلهما من أقسامه إلا أن هذا القائل لما شرع في بيان الموانع ذكرهما تتميما للتقسيم لا أنه بناهما على التخصيص. ومانع يمنع ابتداء الحكم هو أن يصيبه أي يصيب السهم المرمى. فيدفعه أي المرمى السهم بترس أو غيره من درع أو جوشن أو قباء; لأن السهم لما امتد إليه واتصل به فقد تمت العلة فكان من حكمه الجرح الذي هو قتل, وهذا المانع أعني الترس ونحوه منه أصل الحكم. ولا يقال الترس مانع من الاتصال كالحائط فينبغي أن يكون كلاهما من قبيل واحد; لأنا نقول الترس أو الدرع متصل بالمرمى فكان بمنزلة بدنه فكان اتصال السهم به بمنزلة اتصاله ببدنه بخلاف الحائط فإنه غير متصل به فلا يكون اتصال السهم بالحائط بمنزلة اتصال السهم بالمرمى فكان قسما آخر. والذي يمنع تمام الحكم أن يجرحه أي السهم المرمى ثم يداويه أي المرمى الجرح فيندمل فالمداواة مع الاندمال أو الاندمال بنفسه مانع من تمام الحكم; لأن الجرح إنما يتم قتلا إذا سرى ألمه إلى(4/49)
حكم الصحيح. ومثاله من الشرعيات البيع إذا أضيف إلى حر لم ينعقد, وإذا أضيف إلى مال غير مملوك للبائع منع تمام الانعقاد في حق المالك, وخيار
ـــــــ
الموت فما يقطع السراية يكون مانعا تمام حكم العلة. والذي يمنع لزوم الحكم أن يصيب السهم المرمى فيمرض به ويصير صاحب فراش ثم يصير ذلك المرض والجرح له كطبع خامس أي زائد على الطباع الأربعة فيأمن أي المرمى المصاب منه أي من ذلك المرض في الغالب أي يأمن المصاب من أن يقضي ذلك الجرح إلى الهلاك, وإن لم يندمل. فصيرورته طبعا خامسا منع لزوم الحكم أي منع الجرح أن يصير قتلا إذ معنى لزومه صيرورته قتلا, وهو كالاندمال في التحقيق; لأنه مانع من زهوق الروح كالاندمال ولهذا لم يذكر القاضي الإمام هذا القسم في أقسام الموانع. إلا أن الجرح الذي هو أثر الرمي لما بقي بعد صيرورته طبعا فلم يندمل لم يندفع الحكم بهذا المانع بالكلية واحتمل أن يصير قتلا في العاقبة, ولكن الدفع بصيرورته طبعا إفضاؤه إلى القتل في الحال فكان مانعا لزوم الحكم, وفي أصله لبقائه بعد وجوده وبالاندمال قد اندفع الجرح الحاصل بالرمي بالكلية فكان الاندمال أقوى منعا للحكم من صيرورة الجرح طبعا, ولذلك جعلهما الشيخ قسمين. وفي الجملة جعل صيرورته طبعا مانعة من لزوم الحكم مشكل; لأنه يقتضي أن يكون نفس الحكم ثابتا, ولكنه غير لازم للمانع ثم المراد من الحكم إن كان هو القتل فنفسه غير ثابت في هذه الصورة كما في الاندمال فلا يستقيم أن يجعل ثابتا غير لازم, وإن كان المراد منه الجرح فهو لازم بعدما صار طبعا فلا يستقيم أن يجعل كونه طبعا مانعا من اللزوم أيضا وذكر بعض الشارحين أن حكم الرمي الجرح على وجه لا يقاومه المرمى فيفضي إلى القتل فإذا اندمل لم يتم الحكم; لأن المرمى يصلح مقاوما له فيكون الاندمال مانعا تمام الحكم, وإذا لم يندمل وصار صاحب فراش فقد تحقق عدم المقاومة إلا أنه ما دام حيا يحتمل أن يزول عدم المقاومة بالاندمال ويحتمل أن يصير لازما بإفضائه إلى القتل فإذا صار طبعا فقد منع ذلك إفضاءه إلى القتل فكان صيرورته طبعا مانعة لزوم الحكم, وهو لا يخلو عن تكلف كما ترى.
قوله: "ومثاله" أي مثال ما تحقق منه الموانع الخمسة من الشرعيات البيع فإنه علة لملك الثمن والمثمن جميعا ثم إذا أضيف إلى حر أو ميتة يمنع ذلك من أصل الانعقاد لعدم المحل. وإذا أضيف إلى مال غير مملوك للبائع بغير إذن مالكه منع يعني كونه غير مملوك للبائع تمام الانعقاد في حق الملك, ولم يمنع من أصل الانعقاد; لأنه لا ضرر للمالك فيه. والدليل على الانعقاد أنه يلزم بإجازته وغير المنعقد لا يصير لازما, ومنعقدا بالإجازة. والدليل على أنه غير تام أنه يبطل بموته, ولا يتوقف على إجازة الوارث, وإنما قيد بقوله في(4/50)
الشرط يمنع ابتداء الحكم, وخيار الرؤية يمنع تمام الحكم, وخيار العيب يمنع لزوم الحكم. وأما الدليل على صحة ما ادعينا من إبطال خصوص العلل أن تفسير
ـــــــ
حق المالك; لأنه في حق البائع تام حتى لم يكن له ولاية إبطاله وذكر في بعض الشروح أن بائع مال الغير لما لم يكن مالكا للتصرف من جهة الشرع, ولا من جهة الملك وجب أن لا ينعقد البيع أصلا, ولما كان ركن البيع صادرا من الأهل في محل صالح للتصرف وجب أن ينعقد تاما معلنا أنه انعقد غير تام في حق المالك حملا بالشبهين. وذكر القاضي الإمام أن إضافة البيع إلى مال الغير تمنع التام فإنه في حق المالك كأنه لم ينعقد لعدم ولاية العاقد عليه. وخيار الشرط أي الخيار الثابت بالشرط يمنع ابتداء الحكم, وهو الملك حتى لا يخرج البدل الذي في جانب من له الخيار عن ملكه إلى ملك صاحبه, وإن انعقد البيع في حقهما على التمام, وإنما امتنع الحكم بالخيار لتعلق الثبوت بسقوطه. وخيار الرؤية يمنع تمام الحكم دون أصله حتى لا يمنع ثبوت الملك, ولكن لا يتم الصفة بالقبض معه ويتمكن من له الخيار من الفسخ بدون قضاء, ولا رضاء لعدم التمام. وصار العيب يمنع لزوم الحكم يعني ثبت الحكم معه تاما حتى كان له ولاية التصرف في البيع, ولم يتمكن من الفسخ بدون رضاء, ولا قضاء, ولكنه غير لازم حيث ثبت له ولاية الرد فثبت أنه مانع من اللزوم. وإنما اختلفت مراتب هذه الخيارات; لأن خيار الشرط يثبت بالشرط, وقد عرفت أن الشرط فيه داخل على الحكم دون السبب فصار الحكم معلقا بالشرط فعدم قبل وجوده. وخيار الرؤية يثبت بناء على فوات تمام الرضاء; لأن الرضاء يحصل بالعلم وأصله, وإن كان يحصل بالوصف والإشارة, ولكن لا يتم إلا بالرؤية فقبل الرؤية ينعقد البيع موجبا للملك لوجود أصل الرضاء, ولكن لا يتم ما لم يتم الرضاء بالرؤية. وخيار العيب يثبت بناء على ثبوت حق المطالبة له بتسليم الجزء الفائت لا على فوات الرضاء; لأن العلم بالأوصاف قبل رؤية موضع العيب يثبت على الوجه الذي اقتضاه العقد, وهو صفة السلامة لكن لما اطلع على عيب ثبت له حق المطالبة بتسليم ما فات فإذا عجز عن تسليمه, ولا يمكن إسقاط بعض الثمن بمقابلته; لأن الأوصاف لا يقابلها شيء من الثمن ثبت له ولاية الرد والفسخ دفعا للضرر.
قوله: "وأما الدليل على صحة ما ادعينا من إبطال تخصيص العلل" أراد به ما أشار إليه في قوله باب فساد تخصيص العلل, ولم يذكر مذهبه صريحا فيما تقدم. واعلم أن المانعين من التخصيص تمسكوا بوجوه منها أن وجود العلة مع تخلف حكمها مناقضة والمناقضة من آكد ما تفسد به العلة; لأنه يفضي إلى العبث والسفه ونسبة ذلك إلى الشرع لا يجوز, وبيان ذلك أن الوصف الذي جعله المعلل علة إذا وجد متعريا عن الحكم لا(4/51)
الخصوص ما مر ذكره أن دليل الخصوص يشبه الناسخ بصيغته ويشبه
ـــــــ
يخلو من أن يقول امتناع الحكم لمانع مع وجود العلة أولا لمانع, والثاني ظاهر الفساد; لأن تخلف الحكم بدون المانع دليل الفساد والمناقضة. وكذا الأول; لأن علل الشرع أمارات, وأدلة على أحكام الشارع فكان بمنزلة ما لو نص الشارع في كل وصف أن هذا الوصف دليل على هذا الحكم أينما وجد فإذا خلا الدليل عن المدلول كان مناقضة.
ومنها أن معنى التخصيص قيام الدليل على أن العلة لا تدل في هذا الموضع, ولا يجوز قيام الدليل على أن الدليل لا يدل أن في ذلك عزل الدليل عن دلالته, وهو باطل. فإن دل ذلك الدليل يدل على أن العلة دليل في حال دون حال. فنقول له لأي معنى صار علة في تلك الحالة إن قال بالأثر أو بالإحالة أو بغيرهما فنقول ذلك المعنى يوجب أن يكون الوصف دليلا على كل حال, وإلا فلا يكون علة. فإن قال هذا الوصف علة بشرط أن لا يمنعه مانع إلا أنا تركنا ذكره, وأضمرناه كما أنكم تقولون العمل بالعموم واجب وتعنون به ما لم يقم دليل المنع من إجرائه على عمومه. فنقول إن كان هذا الشرط مقرونا بالعلة لم يكن تخصيصا للعلة, وإنما يكون استيفاء لإجرائها فزالت المنازعة, وإن لم يكن مقرونا بها كان ذلك نقضا, ومنها ما ذكر أبو الحسين البصري أن أقوى ما يمكن أن يحتج به المانعون من تخصيص العلة أن يقال معنى قولنا إنه لا يجوز تخصيص العلة هو أن تخصيصها يمنع من كونها أمارة وطريقا إلى الوقوف على الحكم في شيء من الفروع, وإذا منع تخصيصها من كونها طريقا إلى الحكم فقد تم ما أردناه.
وبيان ذلك أنا إذا علمنا أن علة تحريم الذهب بالذهب متفاضلا هي كونه موزونا ثم علمنا مثلا إباحة بيع الرصاص بالرصاص متفاضلا مع أنه موزون لم يخل من أن يعلم ذلك بعلة أخرى تقتضي إباحته, وهي أقوى من علة تحريم الذهب أو أن يعلم ذلك بنص. فإن دل على إباحته علة يقاس بها الرصاص على أصل مباح فحينئذ يعلم أن حرمة بيع الذهب بالذهب متفاضلا بالوزن وبعدم ذلك الوصف الذي هو علة الإباحة فيتبين بعد التحقيق أن العلة لم تكن كونه موزونا فقط وأنت جعلت الوزن هو العلة. وإن دل على إباحة بيع الرصاص بالرصاص نص, وقد علمنا علة إباحته فالكلام فيه مثل الكلام فيما تقدم. وإن لم يعلم علة إباحته كانت العلة مقصورة على الرصاص غير متعدية عنه; لأنها لو تعدت لوجب في الحكمة أن يثبت الشارع علما على ذلك ليعلم ثبوت حكمها فيما عدا الرصاص. وإذا كان كذلك لم يعلم تحريم بيع الذهب بالذهب بالوزن فقط بل; لأنه موزون, وأنه ليس برصاص فيبطل بهذا الوجه أيضا أن يكون العلة هي الوزن فقط فثبت أن التخصيص يخرج العلة من كونها أمارة. قال والذي تبين ما قلنا من اشتراط نفي المخصص أن الإنسان لو(4/52)
الاستثناء بحكمه, وإذا كان كذلك, وقع التعرض بين النصين فلم يفسد أحدهما بصاحبه ولكن النص العام لحقه ضرب من الاستعارة بأن أريد به بعضه مع بقائه حجة على ما مر وهذا لا يكون في العلل أبدا; لأن ذلك يؤدي إلى تصويب كل مجتهد ويوجب عصمة الاجتهاد عن الخطأ والمناقضة, وفي ذلك قول بالأصلح
ـــــــ
استدل على طريقه في برية بأميال منصوبة ثم رأى ميلا لا يدل على طريقه وعلم أنه لا يدل على الطريق; لأنه أسود فإنه لا يستدل فيما بعد على طريقه بوجود ميل دون أن يعلم أنه غير أسود فقد صح ما أردناه أن تخصيص العلة يخرجها عن كونها أمارة على الحكم. ومنها ما ذكر الشيخ رحمه الله في الكتاب: أن تفسير الخصوص أي تخصيص العام ما مر ذكره في أبواب العام أن دليل الخصوص شبه الناسخ بصيغته لاستقلاله بنفسه ويشبه الاستثناء بحكمه; لأنه بين أن الخصوص لم يدخل في العموم كالاستثناء, ولهذا شرط أن يكون مقارنا ليمكن أن يجعل العام عبارة عما وراء المخصوص كما شرط ذلك في الاستثناء ليمكن جعله تكلما بالباقي بعد الاستثناء, وإذا كان كذلك أي إذا كان دليل الخصوص كما ذكرنا أنه يشبه الأمرين, ومع التعارض ظاهرا بين النصين, وهما صيغة العام ودليل الخصوص. فلم يفسد أحدهما بالآخر أي لم يبطل النص العام بلحوق دليل الخصوص به كما ذهب إليه البعض, ولم يبطل دليل الخصوص إذا كان مجهولا بالعام أيضا كما هو مذهب آخرين بل صار النص العام مستعارا لما بقي بعد التخصيص وقع حجة فيه. وهذا أي التخصيص على هذا الوجه, وهو أن يبقي العلة حجة فيما وراء موضع التخصيص لا يكون في العلل أبدا أي لا يستقيم فيها بوجه; لأن ذلك أي التخصيص على هذا التفسير يؤدي إلى تصويب كل مجتهد; لأن صحة الاجتهاد إنما تثبت بعد تأثيره بسلامته عن المناقضة ويظهر فساده وخطؤه بانتقاضه فإذا جاز تخصيص العلة أمكن لكل مجتهد إذا ورد عليه نقض في علته أن يقول خصصت علتي بدليل ويتخلص عن النقض فسلم اجتهاده عن الخطأ والمناقضة فيكون اجتهاد كل مجتهد صوابا, ولم يوجد في الدنيا مناقض. وفي ذلك أي في تصويب كل مجتهد وعصمة الاجتهاد قول بوجوب الأصلح. لكن المجوزين يقولون إنما يلزم من التخصيص تصويب كل مجتهد إذا قبل منه مجرد قوله خص لمانع أما إذا اشترط بيان مانع صالح للتخصيص فلا يلزم ذلك إذ لا يتيسر لكل مجتهد أن يبين علة مؤثرة فيما ذهب إليه ثم يبين عند ورود النقض عليها مانعا صالحا. ولئن كان التخصيص بهذا الشرط مؤديا إلى التصويب لكان ما ذهبتم إليه من إضافة عدم الحكم في صورة التخصيص إلى عدم العلة مؤديا إلى التصويب أيضا وذلك; لأن كل علة مؤثرة ثبت تخصيصها عندنا بدليل فهي عندكم صحيحة غير منتقضة أيضا لكنكم تنسبون عدم(4/53)
لكن الحكم إنما يمتنع لزيادة وصف أو نقصانه الذي تسميه مانعا مخصصا
ـــــــ
الحكم إلى عدم العلة باعتبار فوات وصف ونحن ننسب إلى المانع, وإذا كان كذلك يمكن لكل مجتهد إذا ورد عليه نقض أن يقول قد عدمت علتي في صورة النقض لزيادة وصف أو نقصانه ويتخلص عن النقض بذلك كما يتخلص بالتخصيص فتبقى علته على الصحة فيكون كل مجتهد مصيبا.
ولئن سلمنا أن التخصيص يؤدي إلى تصويب كل مجتهد لا يلزم من ذلك وجوب القول بالأصلح فإن كثيرا من المتجرين في العلم من أهل السنة ذهبوا إلى التصويب مع إنكارهم القول بالأصلح غاية الإنكار, وبنوا ذلك على الاستحالة تكليف ما لا يطاق. قال الإمام العلامة مولانا حميد الدين رحمه الله في فوائده والقول بتخصيص العلة يؤدي إلى تصويب كل مجتهد على الحقيقة إذ هذه المسألة فرع تلك المسألة فمن قال بتصويب كل مجتهد يحتاج إلى القول بتخصيص العلة; لأن العلة إذا وجدت, ولا حكم تكون منقوضة فيكون المعلل مخطئا ضرورة, وهو خلاف ما اعتقدوا فدعاهم ذلك إلى أن القول بجواز التخصيص; لأن عندهم لا يجوز أن تكون علة المجتهد منقوضة ضرورة كون المجتهد مصيبا; لأنه الأصلح في حق المجتهد وعندنا لما جاز الخطأ على المجتهد جاز انتقاض العلة فهو معنى قوله يؤدي إلى تصويب كل مجتهد فعندهم كما لا يجوز الفساد على الكتاب والسنة لا يجوز على العلل أيضا فصار تخصيص العلة نظير تخصيص الكتاب والسنة وعندنا لما جاز فساد العلة لم يكن نظير الكتاب والسنة. وعبر بعضهم عما ذكر الشيخ من لزوم تصويب كل مجتهد بأن القول بالتخصيص يؤدي إلى تكافؤ الأدلة, وأن يتعلق بالعلة الواحدة حكمان متضادان وذلك أنه إذا وجدت العلة في أصلين واقتضت التحليل في أحدهما دون الآخر لم ينفصل من علق عليها التحليل في الفرع اعتبارا بأحد الأصلين ممن علق عليها التحريم في ذلك الفرع اعتبارا بالأصل الآخر فيتكافأ الدليلان ويستوي القولان. مثاله من علل عدم وجوب الجزاء على المحرم في قتل السبع بأنه سبع فلا يجب الجزاء بقتله قياسا على الكلب فإذا نقضت عليه العلة بالضبع أجاب بأنه خصها فيصير هذه الوصف, وهو السبعية علة لحكمين متضادين بالقياس على أصلين كل واحد منهما متفق على كلمة. وليس لمن أجاز تخصيص العلة أن ينفصل عن هذا بدعواه الترجيح في أحد وجه العلة الموجبة للحكمين المتضادين; لأنه يتعذر ترجيح الشيء على نفسه في تخصيصه بأحد حكميه, وإذا استحال ذلك تبين أن تخصيص العلة يؤدي إلى تكافؤ الأدلة, وهو باطل كذا ذكره عبد القاهر البغدادي وصاحب القواطع.
وذكر بعضهم أن القول بالتخصيص يجر إلى مذهب الاعتزال باعتبار أن بعض المعتزلة يقولون إن لله تعالى مشيئة, وهي علة حدوث كل شيء ثم المشيئة توجد, ولا(4/54)
............................................................................................
حادث عندها; لأن الله تعالى شاء من الكفار الإيمان, ولم يحدث الإيمان منهم فكانت علة الحدوث موجودة, ولكن امتنع حكمها لمانع, وهو اختيار الكفر. قال صدر الإسلام هذا غير مستقيم; لأن من قال بتخصيص العلة الشرعية لا يجب أن يكون قائلا بتخصيص المشيئة كما أن القائل بتخصيص الكتاب لا يكون قائلا بتخصيص المشيئة ألا ترى أنهم لم يقولوا بتخصيص العلة العقلية; لأنها موجبة بذاتها فلأن لا يقولوا بتخصيص المشيئة أولى على أن ما ذكر أن مشيئة الله تعالى علة كل حادث ليس بثابت عندهم.
ولئن كان ثابتا فإنما يلزم تخصيص المشيئة على مذهبهم دون مذهب أهل السنة فإنهم قائلون بأن الكفر والمعاصي كلها بمشيئة لله تعالى وقضائه. فلا يلزم على القول بجواز التخصيص تخصيص المشيئة عندهم, وقال بعضهم إنه يؤدي إلى مذهبهم في الاستطاعة قبل الفعل; لأن قوة الفعل علة الفعل وعندهم القوة موجودة, ولا فعل لمانع منع المستطيع من الفعل حتى إن عندهم للمقيد قوة الفرار, ولكن لا يقدر أن يفر لمانع القيد فإذا جاز وجود علة الفعل, ولا فعل لمانع جاز أن توجد العلة الشرعية, ولا حكم لها كالإيمان والطاعات لمانع. ولكنهم يقولون نحن نسلم أن القول بالاستطاعة قبل الفعل يستلزم جواز تخصيص العلة الشرعية, ولكن لا نسلم أن تجويز تخصيص العلة الشرعية يستلزم القول بالاستطاعة قبل الفعل لما ذكرنا أن العلل الشرعية أمارات في الحقيقة فيجوز مدلولاتها عنها فأما العلل العقلية فموجبة بذواتها فلا يتصور انفكاك معلولاتها عنها كالكسر مع الانكسار, ومسألة الاستطاعة من هذا القبيل. قال صدر الإسلام أنا لا أنسب من ذهب إلى جواز تخصيص العلة إلى الاعتزال; لأنه يجوز أن يخفى عليهم أن هذه المسألة تتصل بتلك المسألة يعني مسألة الاستطاعة, ولكن لما صار القول به في ديارنا من شعار المعتزلة وجب التحرز عنه كما وجب التحرز عن التختم باليمين; لأنه من شعار الروافض, وكما وجب التحرز عن التزيي بزي الكفرة; لأنه من شعارهم.
قوله: "لكن الحكم" استدراك من قوله, وهذا لا يكون في العلل أبدا يعني لا يقع التخصيص في العلل المؤثرة بوجه لكن الحكم قد يمتنع بعد وجود ركن العلة بزيادة وصف أو نقصانه, وهو الذي يسميه أهل التخصيص مانعا مخصصا وبزيادة وصف في العلة أو نقصانه منها تتبدل العلة لا محالة; لأن بالزيادة يصير ما هو كل العلة قبل الزيادة بعض العلة بعدها وبالنقصان يفوت بعض العلة, والكل ينتفي بانتفاء بعضه فيحصل التغير ضرورة, وإذا تغيرت العلة صارت معدومة حكما فينسب عدم الحكم إلى عدم العلة لا إلى مانع أوجب(4/55)
وبزيادته أو نقصانه يتبدل العلة فيجب أن يضاف العدم إلى عدم العلة لا إلى مانع أوجب الخصوص مع قيام العلة وفرق ما بيننا وبينهم في العلل المؤثرة أنهم ينسبون عدم الحكم إلى مانع مع قيام العلة فصار كدليل الخصوص في بعض ما تناوله العام مع قيام دليل العموم ونحن ننسب العدم إلى عدم العلة; لأن العلة ينعدم وصف العلة أو زيادتها, والعدم بالعدم ليس من باب الخصوص وهذا طريق أصحابنا في الاستحسان; لأن القياس إن ترك بالنص قد عدم حكم العلة لعدمها; لأن العلة لم تجعل علة في مقابلة النص فبطل حكمها لعدمها لا مع قيامها بدليل الخصوص بخلاف النصين; لأن أحدهما لا يفسد صاحبه فوجب
ـــــــ
التخصيص. ألا ترى أن الشاهد مع استجماع شرائط الأداء إذا ترك لفظة الشهادة أو زاد عليه فقال فيما أعلم لا يجوز العمل بشهادته لانعدام العلة الموجبة للعمل بشهادته معنى. ونظير زيادة الوصف البيع بشرط الخيار فإن البيع المطلق سبب للملك شرعا, ومع شرط الخيار لا يبقى مطلقا بل يصير في حق الحكم كالمتعلق بالشرط, والمتعلق بالشرط غير المطلق فيكون ما هو العلة معدوما كذا قيل. ونظير النقصان الزنا حالة الإحصان فإنه سبب للرجم فإذا فات الإحصان لم يبق الزنا بدون هذا الوصف علة للرجم.
قوله: "وهذا طريق أصحابنا في الاستحسان" ذهب الشيخ أبو الحسن الكرخي رحمه الله إلى أن تخصيص العلة جائز وزعم أن ذلك مذهب أصحابنا; لأنهم قالوا بالاستحسان, وليس ذلك إلا تخصيص العلة فإن معنى التخصيص وجود العلة مع عدم الحكم لمانع والاستحسان بهذه الصفة فإن حكم القياس قد امتنع في صورة الاستحسان لمانع مع وجود العلة فعرفنا أنهم قائلون بالتخصيص. فرد الشيخ ذلك, وقال: وهذا أي, وما ذكرنا من إضافة عدم الحكم إلى عدم العلة هو طريق أصحابنا في الاستحسان لا طريق التخصيص; لأن الاستحسان إذا عارض القياس لم يبق القياس علة; لأن دليل الاستحسان سواء كان نصا أو إجماعا أو ضرورة أو قياسا أقوى من الأول يوجب عدم القياس المعارض له في نفسه إذا من شرطه عدم هذه الأدلة لما مر فكان عدم الحكم لعدم علة المانع أوجب الخصوص. بخلاف النصين أي النص العام والنص الخاص إذا تعارضا حيث يكون الخاص مخصصا للعام; لأن أحدهما لا يفسد الآخر لما بينا فوجب القول بالتخصيص ضرورة.
قال شمس الأئمة في تقرير هذا الفرق: إن النصين إذا كان أحدهما عاما والآخر خاصا فالعام لا ينعدم بالخاص حقيقة, ولا حكما, وليس في واحد من النصين توهم الفساد فعرفنا أن الخاص كان مخصصا للموضع الذي تناوله من حكم العام مع بقاء العام حجة(4/56)
القول بالخصوص, وكذلك إذا عارضه إجماع أو ضرورة لم يبق الوصف علة; لأن في الضرورة إجماعا أيضا والإجماع مثل الكتاب والسنة. وأما إذا عارضه استحسان أوجب عدم الأول لما ذكرنا في باب الاستحسان فصار عدم الحكم لعدم العلة فلم يكن من باب الخصوص, وكذلك نقول في سائر العلل المؤثرة. وبيان ذلك في قولنا في الصائم إذا صب الماء في حلقه يفسد الصوم; لأنه فات ركنه ويلزم عليه الناسي فمن أجاز الخصوص قال امتنع حكم هذا التعليل ثمة
ـــــــ
فيما وراء ذلك, وإن تمكن فيه نوع شبهة من حيث إنه صار كالمستعار فيما هو حقيقة حكم العام فأما العلة, وإن كانت مؤثرة ففيها احتمال الخطأ والفساد, وهي تحتمل الإعدام حكما فإذا جاء ما يغيرها جعلناها معدومة حكما في ذلك الموضع ثم انعدام الحكم لانعدام العلة, وكذلك نقول أي مثل ما قلنا في القياس مع الاستحسان من عدم الحكم لعدم العلة نقول في سائر العلل إذا تخلف أحكامها عنها في بعض المواضع يعني العدم مضاف إلى عدم العلة في جميع الصور لا إلى المانع. وبيان ذلك أي بيان ما قلنا من عدم الحكم لعدم العلة قولنا في الصائم إذا صب الماء في حلقه, وهو ذاكر لصومه بطريق الإكراه إن صومه يفسد عندنا خلافا للشافعي رحمه الله; لأن ركن الصوم, وهو الإمساك قد فات لوصول المغذي إلى جوفه, وهذا تعليل بوصف مؤثر. ويلزم عليه الناسي فإن صومه لا يفسد مع فوات الركن حقيقة. فمن أجاز الخصوص أي تخصيص العلة قال امتنع حكم هذا التعليل في صورة النسيان لمانع, وهو الأثر مع قيام العلة. ونحن نقول عدم الحكم في الناسي لعدم هذه العلة فإنها عدمت بسبب زيادة التحقت بها, وهي أن فعل الناسي نسب إلى صاحب الشرع الذي هو صاحب الحق بقوله: "إنما أطعمك الله وسقاك" فصار فعله بهذه النسبة ساقط الاعتبار, وإذا لم يبق فعله معتبرا شرعا كان ركن الصوم باقيا فكان عدم الحكم, وهو الفطر لعدم العلة الموجبة للفطر لا لمانع منع من الفطر مع قيام العلة الموجبة له. قالوا فيه إنكار الحس والعقل والشرع وانقلاب الحقيقة. أما الحس فلأن الأكل قد وجد حسا والفعل الحسي لا يقبل الارتفاع حقيقة, ولا حكما إذ الأصل هو المطابقة. وأما العقل فلأن المنافاة بين الأكل والكف متحققة عقلا, وقد حكم صريح العقل بوقوع أحد المتنافيين بلا ريب فانتفى الآخر ضرورة. وأما الشرع فلأنه لو حلف لا يفطر فأكل ناسيا يحنث في يمينه. وأما انقلاب الحقيقة فلوجود الأكل حقيقة فلو قلنا بعدمه يؤدي إلى ما ذكرنا. والجواب أنا لا نجعل الأكل غير أكل حقيقة, ولكن لا نجعله سببا للفطر بنسبته إلى صاحب الحق من حيث التسبيب, ومسألة الفطر ممنوعة. ومثل قولنا في الغصب إنه لما صار سبب ملك بدل المال المغصوب, وهو ضمان القيمة وجب أن يكون سبب ملك(4/57)
لمانع, وهو الأثر وقلنا نحن: العدم لعدم هذه العلة; لأن فعل الناسي منسوب إلى صاحب الشرع فسقط عنه معنى الجناية, وصار الفعل عفوا ففي الصوم لبقاء ركنه لا لمانع مع فوات ركنه, ومثل قولنا في الغصب إنه لما صار سبب ملك بدل المال وجب أن يكون سبب ملك المبدل. وأما المدبر فإنما امتنع حكم هذه العلة فيه لمانع, وهو أن المغصوب لا يحتمل الانتقال فكان هذا تخصيصا, وهذا باطل. وإنما الصحيح ما قلنا إن الحكم عدم لعدم هذه العلة, وهو كون الغصب سببا لملك بدل العين المغصوبة; لأن ضمان المدبر ليس ببدل عن العين المغصوبة لكنه بدل عن اليد الفائتة لما قلنا إنه ليس بمحل النقل فالذي جعل عندهم دليل الخصوص جعلناه دليل العدم, وهذا أصل هذا الفصل احفظه, وأحكمه ففيه فقه كثير, ومخلص كبير, وإنما يلزم الخصوص على العلل الطردية;
ـــــــ
البدل, وهو المغصوب تحقيقا للتساوي واحترازا عن اجتماع البدل والمبدل في ملك واحد. وأما المدبر يعني يلزم عليه المدبر فإن غصبه يوجب تقرر الملك في قيمته للمغصوب منه بدون أن يثبت الملك للغاصب فيه فلو قيل إنما امتنع ثبوت الحكم في المدبر مع وجود العلة لمانع, وهو أن المدبر لا يحتمل الانتقال من ملك إلى ملك كان ذلك تخصيصا, وهو باطل. وإنما الصحيح ما قلنا إن الحكم عدم لعدم العلة لانتقاص وصف منها, وهو كون الغصب سبب ملك بدل اليد لا سبب ملك بدل العين وذلك; لأن العلة تقرر الملك في ضمان هو بدل عن العين وضمان المدبر ليس ببدل عن عينه; لأن شرط كون الضمان بدلا عن العين أن يكون العين محتملة للتمليك, ولم يوجد ذلك في المدبر بل هو بدل عن اليد الفائتة للمالك فيه; لأن المدبر مع جريان العتق فيه من وجه مملوك للمالك, وماليته مستحقة له, وله يد معتبرة كما في القن والغاصب قد فوتها عليه فكان الضمان بمقابلتها لتعذر إيجابه بمقابلة العين فتبين أن العلة قد عدمت; لأنا جعلنا الغصب الذي هو سبب ملك بدل العين سببا لملك المبدل والغصب في المدبر ليس سبب ملك بدل العين فكيف يكون سببا لملك المبدل فكان عدم الحكم لعدم العلة لا للمانع. فالذي جعل عندهم دليل الخصوص أي جعل مانعا للحكم مع قيام العلة من نص أو غيره. جعلناه أي ذلك الدليل دليل عدم العلة, وهذا أي جعل دليل الخصوص دليل العدم. أصل هذا الفصل, وهو تخصيص العلة فاحفظ هذا الأصل, وأحكمه بفتح الهمزة; لأن فيه فقها كثيرا, ومخلصا كبيرا. أما الأول فلأن المعلل يحتاج في رعاية هذا الأصل إلى ضبط جميع أوصاف العلة في كل صورة ليمكنه رد ما يرد نقضا عليه بهذا الطريق. وأما الثاني فلأن جميع صور التخصيص يبطل بهذا الأصل فكانت رعايته واجبة.(4/58)
لأنها كشف قائمة بصيغتها, والخصوص يرد على العبارات دون المعاني الخالصة ومن ذلك قولنا في الزنا يوجب حرمة المصاهرة إنه حرث للولد فأقيم مقامه, ولما خلق الولد من مائهما أو اجتمعا على الوطء جاءت بينهما شبهة البعضية بواسطة الولد صارت بناتها وأمهاتها كبناته وأمهاته وآباؤه كآبائها, وأبنائها فلزم على هذا أنه لم يحرم الأخوات والعمات والخالات فقال أهل المقالة الأولى: إنه مخصوص بالنص مع قيام العلة, وقلنا نحن بل العلل صارت عللا شرعا لا بذواتها, وهي لم تجعل علة عند معارضة النص, وفي هذا معارضة; لأن حكم النص يزداد بامتداد
ـــــــ
قوله: "وإنما يلزم الخصوص على العلل الطردية" أي يلزم القول بالتخصيص في العلل الطردية; لأنها قائمة بصيغها أي بصورها لا بمعانيها; لأن أهل الطرد جعلوا نفس الوصف علة من غير نظر إلى تأثير فكان موجبا بصيغته كالنص فإذا تخلف الحكم عنه يلزم حمل ذلك على التخصيص كما في النص, وإلا يلزم التناقض بخلاف المعاني الخالصة; لأنها لا تحتمل التخصيص أصلا; لأنه من وظائف اللفظ دون المعنى فيحمل تخلف الحكم فيها على عدم العلة إن أمكن, وإلا يكون تناقصا., وإنما قيد بالمعاني الخالصة; لأن التخصيص قد يجري في المعاني تبعا للألفاظ إذ المعاني لازمة للألفاظ فإذا خصصت الألفاظ فقد خصصت معانيها أيضا لكنه لا يجري في المعاني المجردة قصدا فلهذا قال دون المعاني الخالصة. ثم ما ذكره الشيخ يدل على أن التخصيص عند أهل الطرد جائز, ولكن ذكر القاضي الإمام أن أهل الطرد زعموا أن العلل قياسية لا تقبل الخصوص وسموا الخصوص نقضا لزعمهم أن الحكم متعلق بعين الوصف فلم يجز وجوده بلا مانع, ولا حكم له فهذا يدل على أنهم أشد إنكارا للتخصيص من أهل التأثير ثم إذا تأملت فيما ذكر الفريقان عرفت أن الخلاف راجع إلى العبارة في التحقيق; لأن العلة في غير موضع تخلف الحكم عنها صحيحة عند الفريقين, وفي موضع التخلف الحكم معدوم بلا شبهة إلا أن العدم مضاف إلى مانع عندهم وعندنا إلى عدم العلة.
قوله: "ومن ذلك" أي, ومما يضاف فيه عدم الحكم إلى عدم العلة قولنا في الزنا كذا, وقد بينا هذه المسألة فيما تقدم فأقيم أي الزنا مقام الولد. فيلزم على هذا أنه الضمير للشأن أي يلزم على هذا الدليل عدم تحريم أخوات المزنية بها وعماتها وخالاتها حيث لم يصرن كأخواته وعماته وخالاته حتى حل له التزوج بهن. أنه أي عدم تحريمهن مخصوص بالنص يعني أنهم يقولون العلة الموجبة للحرمة المؤبدة, وهي شبهة البعضية موجودة في حق هؤلاء, ولكن الحكم لم يثبت لمانع, وهو قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] فإنه يوجب إباحة غير المذكورات. أو قوله عز ذكره: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ(4/59)
الحرمة إلى الأخوات وغيرهن فلا يبقى علة عند معارضة النص فيكون عدم الحكم لعدم العلة وليس هذا من باب الخصوص في شيء, وهذا واضح جدا, ومن أحكم المعرفة, وأحسن الطوية سهل عليه تخريج الجمل على هذا الأصل إن شاء الله تعالى.
ـــــــ
الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23], وقوله عليه السلام: "لا تنكح المرأة على عمتها" الحديث فإنهما يوجبان حرمة الجمع بين المرأة وبين هؤلاء نكاحا أو وطئا بملك اليمين لا حرمة الذوات فخصت تلك العلة بهذين النصين., وقلنا في هذا أي في تحريمهن على سبيل التأبيد معارضة النص; لأن النصوص الموجبة لحرمة المصاهرة مثل قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23] {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ} [النساء: 23] {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22] {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} [النور: 31] توجب حرمة الأمهات والبنات والآباء والبنين خاصة فلو أثبتنا حرمة الأخوات وغيرهن بهذه العلة في الفرع, وهو الزنا لازداد حكم النص في الفرع على حكمه في الأصل, وهو النكاح فيكون هذا تغييرا للنص, وإثباتا لحرمة أخرى بالعلة في معارضة النص إذ الحرمة الثابتة في الأمهات والبنات الممتدة إلى الأخوات والعمات غير الحرمة المقتصرة على البنات والأمهات, وقد عرفت أن العلة لا تصلح معارضة للنص بوجه بل تعدم في مقابلته فيكون عدم الحكم لعدم العلة لا لمانع مع قيام العلة. وهذا من أمثلة عدم العلة لفوات وصف منها, وهو عدم تحقق شرطها إذ من شرطها عدم النص على ما مر. ومن أحكم المعرفة, وأحسن الطوية أي العقيدة يعني ترك التعنت وتأمل عن إنصاف سهل عليه تخريج الجمل التي لم نذكرها ويتراءى أنها تخصيص. على هذا الأصل, وهو إضافة عدم الحكم إلى عدم العلة. وأما ما ذكروا أن علل الشرع أمارات فيجوز تخلف الحكم عنها إلى آخره فغير صحيح; لأن الأمارة المعتبرة لبناء الحكم عليها الأمارة المقوية للظن وبالنقض يزول قوة الظن. أو نقول هي أمارات بشرط أن لا تنتقض كما أنها أمارات بشرط أن لا يعارضها نص. وبه خرج الجواب عن تمثيلهم بالغيم الرطب في الشتاء; لأنه لم يجعل أمارة بشرط أن لا يتخلف المطر عنه أصلا; ولأنه لا بد من توفر قوة الظن في كون الوصف أمارة على الحكم; لأن هذا ظن يفيد حكما شرعيا فلا بد من بلوغه نهاية القوة وذلك بأن يكون مؤثرا مطردا وبالتخلف يزول ذلك, ولا حاجة إلى ذلك في الغيم الرطب. وكذا اعتبارهم جواز تخصيص العلة المستنبطة بالمنصوصة فاسد فإنه لا يجوز عند كثير من الأصوليين تخصيص المنصوصة أيضا. ويحتمل أن يكون هو مختار الشيخ; لأن التخصيص تناقض, وكما لا يجوز التناقض على المستنبطة لا يجوز(4/60)
.............................................................................................
في المنصوصة فإذا وجدت في بعض المواضع متخلفا عنها حكمها علم أنها كانت بعض العلة في موضع النص كما قلنا في المستنبطة. ولئن سلمنا جواز تخصيصها فالفرق بينهما أن دليل صحة المنصوصة هو النص فحسب, وقد وجد فصحت وحمل تخلف حكمها عنها على التخصيص كما في العام فأما دليل صحة المستنبطة فالتأثير بشرط الاطراد ويبطل ذلك بالتخصيص لفتور قوة الظن به. وقولهم امتناع موجب الدليل لمانع مما لا يرده العقل فاسد أيضا; لأنا قد أقمنا الدليل على فساده. واعتبارهم بالعلة المحسوسة غير صحيح أيضا; لأن العلة لا تؤثر إلا في محلها والطلق ليس بمحل للإحراق كالماء فامتناع الحكم فيه لا يكون من باب التخصيص. وكذا النار لم تبق علة في حق إبراهيم عليه السلام معجزة له بدليل قوله تعالى: {يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الانبياء: 69], وكان عدم الحكم لعدم العلة لا لمانع أوجب تخصيصها. وفي المسألة كلام طويل للفريقين, وفيما ذكرناه مقنع, والله أعلم.(4/61)
"باب وجوه دفع العلل"
قال الشيخ الإمام: رضي الله عنه العلل قسمان طردية, ومؤثرة وعلى كل قسم ضروب من الدفع أما العلل المؤثرة فإن دفعها بطريق فاسد وبطريق صحيح. وأما الفاسد فأربعة أوجه المناقضة, وفساد الوضع, وقيام الحكم مع عدم العلة والفرق بين الفرع والأصل.
أما المناقضة فلما قلنا: إن الصحيح من العلل ما ظهر أثره الثابت بالكتاب
ـــــــ
"باب وجوه دفع العلل"
ولما بين الشيخ رحمه الله شروط القياس وركنه وحكمه شرع في بيان القسم الرابع, وهو الدفع. فقال العلل قسمان طردية, ومؤثرة. والاحتجاج بالطرد, وإن كان فاسدا إلا أنه لما عم بين الجدليين, ومال إليه عامة أهل النظر ذكر العلل الطردية في التقسيم ليبين الاعتراضات الواردة عليها. وعلى كل قسم ضروب من الدفع أي أنواع من الاعتراضات بعضها صحيح وبعضها فاسد كما ذكر.
المناقضة تخلف الحكم عن الوصف المدعى عليه سواء كان لمانع أو لغير مانع عند من لم يجوز تخصيص العلة إذ التخصيص مناقضة عندهم. وعند من جوز التخصيص هي تخلف الحكم عما ادعاه المعلل علة لا لمانع. وفساد الوضع عبارة عن كون الجامع في القياس بحيث قد ثبت اعتباره بنص أو إجماع في نقيض الحكم. وعبارة بعضهم فساد الوضع أن لا يكون القياس على الهيئة الصالحة لاعتباره في ترتيب الحكم كتلقي التضييق من التوسع والتخفيف من التغليظ والإثبات من النفي وبالعكس. وصورة الفرق أن يقول السائل ليس المعنى في الأصل ما ذكرت, ولكن المعنى فيه كذا, ولم يوجد ذلك في الفرع.
قوله: "أما المناقضة" أي الفساد الدفع بالمناقضة فلأن المناقضة لا ترد على العلل المؤثرة إذ التأثير لا يثبت إلا بدليل الكتاب أو السنة أو الإجماع, وهذه الأدلة لا تحتمل(4/62)
والسنة, وذلك لا يحتمل المناقضة لكنه إذا تصور مناقضة وجب تخريجه على ما قلنا من عدم الحكم لعدم العلة لا لمانع يوجب الخصوص مثل قولنا مسح في وضوء فلا يسن تكراره كمسح الخف لا يلزم الاستنجاء; لأنه ليس بمسح بل إزالة
ـــــــ
التناقض فكذا التأثير الثابت بها; لأن في مناقضته مناقضة هذه الأدلة. مثال ذلك ما قال علماؤنا رحمهم الله في شهادة أحد الزوجين لصاحبه هذه شهادة تمكنت فيها تهمة فلا تقبل كشهادة الولد لوالده وبالعكس فلو أورد عليه شهادة صاحب الدين لمديونه أو شهادة أحد الشريكين لصاحبه فإنها تقبل مع وجود التهمة في الفرع كان باطلا; لأن الإجماع منعقد على أن التهمة مانعة من القبول فكان الاشتغال بنقيضه سفها; لأنه لا ينتقض لكن يجب على المجيب أن يبين أن التهمة غير متحققة فيما ذكر السائل, ويجب على السائل أن يشتغل بأن التهمة في الفرع أعني شهادة أحد الزوجين لصاحبه غير متحققة لا بالنقض كذا ذكر الشيخ في شرح التقويم.
فإن قيل العلل المؤثرة تحتمل المعارضة بالاتفاق مع أن هذه الأدلة تحتمل حقيقة التعارض كما لا تحتمل حقيقة التناقض, وإذا كان كذلك وجب أن يصح الاعتراض عليها بالمناقضة كما يصح بالمعارضة.
"قلنا" النصوص قد تحتمل لزوم التعارض صورة بحيث يجب التهاتر ويرجع إلى دليل آخر لجهلنا بالناسخ والمنسوخ فكذا العلل المستنبطة منها يجوز أن تتعارض لجهلنا بما هو علة الحكم حقيقة فأما النصوص فلا تحتمل التناقض فكذا العلل الثابتة بها. وحقيقة المعنى منه أن التناقض يبطل نفس الدليل ويلزم منه نسبة الجهل والسفه إلى صاحب الشرع, وهو منزه عنهما فأما التعارض فلا يبطل الدليل بل يقرره ويؤدي إلى نسبة الجهل إلينا لا إلى صاحب الشرع وذلك جائز كذا قيل. لكنه الضمير للشأن إذا تصور مناقضته أي مناقضة الصحيح من العلل أي إذا وقع صورة نقض في العلة الصحيحة وجب تخريجه أي تخريج النقض على الأصل الذي بيناه من عدم الحكم لعدم العلة باعتبار نقصان وصف أو زيادته. مثل قولنا في مسألة تكرار المسح إنه مسح مشروع في الطهارة فلا يسن تكراره كمسح الخف. ولا يلزم عليه الاستنجاء بالأحجار نقضا; لأنه ليس بمسح بل المشروع فيه إزالة النجاسة بدليل أنه إذا لم يعقب أثرا بأن خرج منه ريح لا يسن مسحه بل الاستنجاء من الريح بدعة على ما قيل. وبدليل أن غسل المخرج بالماء أفضل, ولو كان المشروع مسحا لكان الغسل بدعة كما في مسح الرأس, ومسح الخف.
ثم ما ذكر الشيخ رحمه الله من فساد دفع العلل المؤثرة بالمناقضة مختار القاضي الإمام أبي زيد والشيخين, ومتابعيهم. ومذهب عامة الأصوليين أن النقض سؤال صحيح(4/63)
للنجاسة ألا ترى الحدث إذا لم يعقب أثرا لم يسن مسحه, وهذا يذكر في آخر هذا الفصل على الاستقصاء إن شاء الله تعالى. وكذلك فساد الوضع لا يتصور بعد ثبوت الأثر إذ لا يوصف الكتاب والسنة والإجماع بالفساد. وأما عدم العلة, وقيام الحكم فلا بأس به لاحتمال علة أخرى ألا ترى أن العكس ليس
ـــــــ
يبطل به العلة خصوصا عند من لم يجوز تخصيص العلة فإن التخصيص إذا لم يجز لا بد أن يكون النقض مبطلا للعلة وذلك; لأن المعلل متى نصب علة قد التزم طردها, وادعى أن هذه العلة متى وجدت فالحكم يتبعها فإذا لم يف بقوله ووجد عليه مناقضة بطلت علته لعدم وفائه لدعواه وتصحيحه ما يدعيه ثم على المعلل الدفع ببيان أنه لم يرد على المعنى الذي جعله علة فإذا لم يقدر عليه لزم النقض وبطلت العلة وظهر أنها لم تكن مؤثرة. قلت فعلى هذا يجوز أن يكون مراد الشيخ ما ذكر أن سؤال المناقضة فاسد على العلل المؤثرة فساده بعدما ظهر تأثيرها باتفاق الخصمين كما ذكرنا من المثال فأما قبل تسليم الخصم ظهور التأثير فهو صحيح كما هو مذهب الجمهور, وهو ممانعة في نفس الوصف في التحقيق. ونقل عن بعض الأصوليين أن النقض ليس من مبطلات العلة, ومن ألزم عليه نقض فعليه تعليل تلك المسألة التي نقضت بها. وبيان الفرق بينها وبين المسائل التي يدعي اطراد العلة فيها. ولكن الحق, وهو مذهب الجمهور أنه من مفسدات العلة; لأن العلة لما كانت مستلزمة للحكم لا يجوز تخلف الحكم عنها إلا لمانع أو لزوال قيد, ولما رأيناها قد تخلف حكمها بدون المانع أو بدون زوال وصف علمنا أنها ليست بعلة.
قوله: "وكذلك فساد الوضع" أي, وكما لا يتصور المناقضة بعد صحة الأثر وظهوره لا يتصور فساد الوضع أيضا; لأن التأثير لا يثبت إلا بدليل مجمع عليه فبعد ذلك دعواه أن الوصف يأبى عن هذا الحكم, وأنه في وضعه فاسد لا تسمع; لأن الكتاب والسنة والإجماع لا يضع الفاسد, وهو مثل النقض بل أقوى منه على ما يأتيك بيانه في موضعه.
وأما عدم العلة, وقيام الحكم فلا بأس به أي لا يدل على فساد العلة; لأن الغرض بيان أن هذه العلة موجبة لهذا الحكم فإذا ظهر أثرها في جنس ذلك الحكم وجب إثبات ذلك الحكم بها. فأما ثبوته بعلة أخرى فجائز; لأن التعليل لم يقع لإبطال علة أخرى بل لإيجاب الحكم بها, ومع كونه ثابتا بها يجوز أن يثبت بغيرها; لأن الثبوت بعلة لا ينافي الثبوت بعلة أخرى ألا ترى أن الحكم يجوز أن يثبت بشهادة الشاهدين, ويجوز أن يثبت بشهادة أربعة حتى إذا رجع اثنان قبل القضاء يبقى القضاء واجبا بشهادة الباقين فلا يكون عدم العلة مع بقاء الحكم في موضع ثابتا بعلة أخرى دليل فساد العلة. وحاصله يرجع إلى(4/64)
بشرط لصحة العلة لكنه دليل مرجح وأما الفرق فإنما فسد لوجوه ثلاثة.
ـــــــ
أن تعليل الحكم الواحد بعلتين مستقلتين أو بعلل مستقلة جائز عند جمهور الأصوليين, وأنكره بعض أصحاب الشافعي وبعض المعتزلة وعليه يبتنى اشتراط العكس, وهو انتفاء الحكم عند انتفاء العلة لصحة العلة فمن منع من تعليل الحكم بعلتين لزمه القول بانحصار علة الحكم في واحدة, ولزم منه اشتراط الانعكاس; لأن الحكم لا بد له من علة فإذا اتحدت العلة انتفى الحكم بانتفائها إذ لو بقي لكان ثابتا من غير سبب. ومن جوز تعليله بعلتين لا يلزمه القول باشتراط الانعكاس إذ لا يلزم من انتفاء بعض الأدلة انتفاء الحكم مع وجود دليل آخر.
احتج المانعون بأنه لو جاز تعليل الحكم الواحد بعلتين مستقلتين أو بعلل مستقلة لكانت كل واحدة مستقلة في التعليل غير مستقلة به, وذلك تناقض وذلك; لأن معنى كون العلة مستقلة بالتعليل ثبوت الحكم بها وحدها دون غيرها فإذا تعددت العلة يلزم من استقلال كل واحدة منها عدم استقلال كل واحدة منها لاستلزام علية كل واحدة عدم علية الغير فضلا عن استقلالها. يبينه أن الأئمة تعلقوا بالترجيح في علة الربا فرجح بعضهم الكيل وبعضهم الطعم وبعضهم القوت تفاديا عن لزوم تعليل الحكم الواحد بعلتين, ولولا امتناعه لم يرجحوا البعض بل جوزوا كون كل واحد من الثلاثة علة من صحة استقلال واحدة منها بالعلية; لأن الاستقلال من ضرورة الترجيح بعد التعارض, ولا تعارض إلا أن يكون أحدهما في قوة صاحبه أو قريبا منه فعلى هذا لولا صحة استقلال كل بالعلية لما رجحوا. واحتج من جوز ذلك بأن العلل الشرعية أمارات في الحقيقة, ولا يمتنع نصب علامتين على شيء واحد, وإنما يمتنع ذلك في العلل العقلية. ودليل جوازه وقوعه فإن الحدث يقع بالبول والغائط والمذي وخروج الدم من الجراحة معا مع استقلال كل منها في إيجاب الحدث. وكذا القتل حكم واحد; لأن إبطال حياة الواحد شيء واحد ثم إنه قد يقع بالقصاص والردة معا كمن قتل وارتد مع استقلال كل منهما في إيجاب القتل. وكذا لو جمعت لبن زوجة أخيك, ولبن أختك, وأوجرت مرتضعة دفعة منها تحرم عليك; لأنك عمها وخالها مع أن الحرمة حكم واحد معلل بالخؤولة والعمومة إذ لا يمكن أن تحال إلى أحديهما دون الأخرى.
فإن قيل: العلل إذا كانت متعددة كانت الأحكام متعددة تقديرا; لأن قتل القصاص مثلا مغاير لقتل الردة, ولذلك ينتفي قتل القصاص بالعفو ويبقى الآخر, وهو قتل الردة لعدم عوده إلى الإسلام وبالعكس إذا عاد إلى الإسلام, ولم يعف عنه ينتفي قتل الردة ويبقى قتل القصاص, ولولا تغاير القتلين لما كان كذلك. قلنا: إضافة الشيء إلى أحد دليليه لا يوجب تعددا في ذلك الشيء, وإلا لزم مغايرة حدث البول حدث الغائط, وهو باطل. وأما العقل فلا(4/65)
أحدها أن السائل منكر فسبيله الدفع دون الدعوى فإذا ذكر في الأصل معنى آخر انتصب مدعيا; ولأن دعواه ذلك المعنى الذي لا يصلح للتعدية إلى هذا الفرع لا يمنع التعليل بعلة متعدية فلم يبق لدعواه اتصال بهذه المسألة; ولأن الخلاف في حكم الفرع ولم يصنع بما قال في
ـــــــ
تعدد فيه بل في استناده ولهذا كان الزائل بالعفو هو استناده إلى القتل العمد العدوان, والزائل بالإسلام هو استناده إلى الردة لا نفس القتل فإنه باق على ما كان, ولم يزل عما عليه. وأما دعواهم لزوم التناقض ففاسد; لأنه إنما يلزم لو كان معنى الاستقلال ما ذكروا, ولا نسلم لهم ذلك بل معناه عندنا أن كل علة إذا انفردت استقلت على أنه ثبت بها لا غير, وإذا كان كذلك فلا تناقض في التعدد إذ قد يجتمع لحكم واحد علل لو انفردت استقلت بإثباته كما اجتمع للملك, وهو حكم واحد أسباب متعددة من البيع والهبة والميراث وغيرها. وكذا تعلقهم ترجيح الأئمة علة الربا فاسد; لأنا لا نسلم أنهم تعرضوا للترجيح بل إنما تعرضوا لإبطال كون الغير علة, ولو سلم أنهم تعرضوا للترجيح فلا نسلم أنهم تعرضوا له لامتناع التعليل بعلتين بل لانعقاد الإجماع على اتحاد العلة في الربا, ولا يمكن أن يكون اتحاد العلة هاهنا بكون المجموع علة إذ يلزم منه جعل علل الربا المختلف فيها آخر العلة, ولا قائل به. وإذا حققت هذا علمت أن ما ذكر الشيخ من عدم فساد العلة لوجود الحكم عند عدمها وعدم اشتراط العكس لصحة العلة قول الجمهور, وإن على قول أولئك البعض وجود الحكم بدون العلة يدل على فسادها فيصح الدفع بهذا الوجه عندهم.
قوله: "فأما الفرق فإنما فسد لوجوه ثلاثة" وصورته أن يقول السائل ليس المعنى في الأصل ما ذكرت, ولكن المعنى منه كذا, وهو مفقود في الفرع ولهذا فسروه بأنه بيان وصف في الأصل له مدخل في التعليل, ولا وجود له في الفرع واختلف فيه فزعم بعض المتأخرين من أصحابنا, وأصحاب الشافعي أن الفرق اعتراض صحيح وسموه فقها. قال صدر الإسلام وعليه أكثر فقهاء خراسان, وفقهاء غزنة مستدلين في ذلك بأن شرط صحة العلة خلوها عن المعارضة فإذا عورضت امتنعت صحتها. قالوا وحقيقته راجعة إلى أن المعلل لا يستقر كلامه ما لم يبطل بمسلك السير كل ما عدا علته مما يمكن التعليل به فإذا علل, ولم يسير فعورض معنى الأصل فكأنه طولب بالوفاء بالسير وتتبع كل ما عدا علته بالنقض والإبطال. وقد ثبت اعتناء السلف بالفرق ونقل ذلك في وقائع جرت في مجامع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - ورضي عنهم - منها قصة إجهاض المرأة فإن عمر رضي الله عنه لما استشار الصحابة في ذلك قال عبد الرحمن بن عوف إنما أنت مؤدب, ولا أرى عليك شيئا, وقال علي رضي الله عنه إن لم يجتهد فقد غشك, وإن اجتهد فقد أخطأ أرى أن عليك(4/66)
الفرع إلا إن أرانا عدم العلة, وعدم العلة لا يصلح دليلا عند مقابلة
ـــــــ
الغرة. فعبد الرحمن - رضي الله عنه - شبه فعله بالمباحات التي لا توجب ضمانا وجعل الجامع أنه فعل ما له أن يفعله. واعترض عليه علي رضي الله عنه وتشبث بالفرق, وأبان أن المباحات المضبوطة النهايات ليست كالتعزيرات التي يجب الوقوف فيها دون ما يؤدي إلى الإتلاف, ولو تتبعنا معظم ما خاض فيه الصحابة من المسائل علمنا أنهم كانوا يفرقون ويجمعون.
ثم الغرض من الفرق ليس مقابلة علة الأصل بعلة الفرع بل الغرض بيان مناقضة الجمع, وإبطال فقهه, وإلحاقه بالطرد وذلك; لأن الجمع ينتظم بفرع, وأصل, ومعنى رابط بينهما على شرائط معلومة والفرق معنى يشمل ذكر أصل, وفرع, وهما يفترقان في المعنى فكان وقوعه على نقيض غرض الجمع ويظهر له فقه يشعر بمفارقة الفرع الأصل على مناقضة الجمع, وإذا كان كذلك يكون هذا اعتراضا صحيحا. وذهب المحققون من الفريقين إلى أنه اعتراض فاسد لا يبطل به العلة لوجوه ثلاثة كما ذكر الشيخ رحمه الله.
أحدها أن السائل جاهل مسترشد في موقف الإنكار إلى أن يتبين له الحجة لا في موضع الدعوى فإذا ذكر في الأصل معنى آخر انتصب مدعيا, ولم يبق سائلا فيكون تجاوزا عن حده وذلك لا يجوز. بخلاف ما إذا عارضه في الفرع; لأنه لم يبق سائلا بعد حيث تم دليل المعلل بل يكون مدعيا ابتداء فأما ما دام في موقف الإنكار فلم يسع له الدعوى.
والثاني أن الحكم في الأصل يجوز أن يكون معلولا بعلتين ثم يتعدى الحكم إلى بعض الفروع بإحدى العلتين دون الأخرى فبأن عدم في الفرع الوصف الذي يدوم به السائل الفرق إن سلم له أنه علة لإثبات حكم في الأصل لا يمنع من أن يعدي حكم الأصل إلى الفرع بالوصف الذي يدعيه أنه علة للحكم فلم يبق لدعوى السائل اتصال بالمسألة إذ كل سؤال يمكن للمعلل الاعتراف به مع الاستقرار على مدعاه كان فاسدا, ولا يكون قدحا في كلام المعلل فكان الاشتغال به عبثا.
والثالث أن الخلاف وقع في حكم الفرع لا في حكم الأصل, ولم يصنع السائل بما ذكر من الفرق في الفرع إلا أن أرانا عدم العلة فيه. وعدم العلة لا يصلح دليلا على عدم الحكم عند مقابلة العدم يعني إذا لم يوجد دليل آخر يوجب وجود الحكم حتى لو علل, وقال الحكم معدوم; لأن علته معدومة لا يصح, وإن لم يعارضه دليل موجب للحكم على ما مر ذكره في باب المقالة الثانية في بيان فساد التعليل بالنفي. فلأن لا يصلح عدم العلة دليلا على عدم الحكم عند مقابلة الحجة الموجبة للحكم كان أولى. قال صدر الإسلام: المفارقة بين(4/67)
العدم على ما مر ذكره فلأن لا يصلح دليلا عند مقابلة الحجة أولى. وأما القسم الصحيح فوجهان الممانعة والمعارضة.
ـــــــ
الفرع والأصل من أفسد الاعتراضات إلا أن يذكر معنى في الفرع يفيد خلاف الحكم الذي أفاده المعنى الأول, وأسنده إلى أصل فحينئذ يصير معارضة, ولم يبق فرقا. وأما ما ذكروا أن من شرط صحة العلة خلوها عن المعارضة فمسلم, ولكن المعارضة إنما تتحقق في حكمين على التضاد فأما إذا ذكرت علتان لحكم واحد فليس ذلك بمعارضة. وقولهم لا يصح تعليل المعلل ما لم يبطل كل ما عدا علته باطل إذ لم يكلف المعلل سوى تصحيح علته ببيان التأثير فأما السبر والتقسيم فليس بشيء, وإنما اختاره بعض المتكلمين الذين لا حظ لهم في الفقه. وكذا ما ذكروا من اعتناء السلف بالفرق ليس بصحيح إذ لم ينقل المفارقة على الوجه الذي يخوض فيه عنهم أصلا. ومن تأمل فيما نقل عنهم على أنهم كانوا يطلبون المعاني المؤثرة, وما ذكر عبد الرحمن بن عوف في قصة الإجهاض معنى صحيح, والذي أشار إليه علي رضي الله عنه معنى ألطف من الأول; لأن ما فعل عمر رضي الله عنه كان جائز الإتيان به والترك, ولم يكن على حد مضبوط في الشرع, ومثله مطلق بشرط السلامة كالمشي في الطريق, وهذا ليس من الفرق والجمع الذي نحن فيه بوجه. وما ذكروا من ظهور فقه إلى آخره ليس بصحيح أيضا; لأن المفاقهة في هذا الموضع في الممانعة دون المفارقة قال شمس الأئمة: رحمه الله من الناس من ظن أن المفارقة مفاقهة, ولعمري المفارقة مفاقهة, ولكن في غير هذا الموضع بل الاعتراض بها على العلل المؤثرة مجادلة لا فائدة فيها في موضع النزاع, وإنما المفاقهة في الممانعة حتى يبين المجيب تأثير علته فالفقه حكمة باطنة, وما يكون مؤثرا في إثبات الحكم شرعا فهو الحكمة الباطنة فالمطالبة به تكون مفاقهة فأما الاعتراض عنها والاشتغال بالفرق فيكون قبولا لما فيه احتمال أن لا يكون حجة لإثبات الحكم واشتغالا لا بإثبات الحكم بما ليس بحجة أصلا في موضع النزاع, وهو عدم العلة فتبين أن هذا ليس من المفاقهة في شيء.
قوله: "وأما القسم الصحيح" أي دفع العلل المؤثرة بالطريق الصحيح فوجهان الممانعة والمعارضة. واعلم أن الشيخ رحمه الله في هذا الباب جعل الدفع بالمناقضة, وفساد الوضع فاسدا أو الدفع بالممانعة صحيحا. واعترض عليه بأنه إن أراد بفساد القسم الأول فساده قبل ظهور أثر الوصف وصحته فذلك غير مسلم; لأن الاعتراض بالممانعة لما صح لاحتمال أن لا يكون الوصف صحيحا أو لا يكون مؤثرا صح الاعتراض بالمناقضة, وفساد الوضع أيضا كما في العلل الطردية. وإن أراد به أنه فاسد بعد ظهور صحة الوصف وتأثيره كما يدل عليه عبارة التقويم حيث قيل فيه دعوى فساد الوضع بعد ثبوته مؤثرا(4/68)
..............................................................................................
لا يتصور. وكذا دعوى المناقضة; لأن النقض لا يتصور بعد ثبوت التأثير بدليل مجمع عليه فذلك مسلم, ولكن الممانعة بعد ثبوت الأثر فاسدة أيضا; لأن تأثير الوصف لما ثبت بدليل مجمع عليه لم يبق محل الممانعة, ولم يصح بعده إلا المعارضة فثبت أن الفرق المذكور غير صحيح. وأجيب بأنه أراد فساده قبل ظهور التأثير لكنه تبين بالتأثير; لأنه لما ثبت بالدليل تأثير الوصف تبين أنه لم يكن محتملا للمناقضة, وفساد الوضع بخلاف الممانعة فإنها طلب الدليل على صحة الوصف وتأثيره وبعد ظهوره لم يتبين أن ذلك الطلب كان باطلا.
ولا يخلو هذا الجواب عن وهاء وتمحل كما ترى. وذكر صدر الإسلام أبو اليسر أن الاعتراضات الصحيحة على العلل خمسة أوجه: أولها الممانعة, وبعدها بيان فساد الوضع, وبعده المناقضة, وبعد الثلاثة القلب والعكس, والخامس وهو الأخير المعارضة, وبين هذه الأقسام ثم قال: وأما الاعتراضات الفاسدة فلا نهاية لها; لأن كل إنسان فاسد الخاطر يعترض بما بدا له فلا يقدر أحد على حصر الاعتراضات الفاسدة, وهكذا ذكر عامة الأصوليين, وهو الأظهر على ما بينا, والله أعلم.(4/69)
"باب الممانعة"
قال الشيخ الإمام, وهي أساس النظر; لأن السائل منكر فسبيله أن لا يتعدى حد المنع والإنكار, وهي أربعة أوجه الممانعة في نفس الحجة, والممانعة في الوصف الذي جعل علة أموجود في الفرع والأصل أم لا, والممانعة في شرط العلة, والممانعة في المعنى الذي به صار دليلا.
ـــــــ
"باب الممانعة"
الممانعة أوقع سؤال على العلل, وهي أساس النظر أي أصل المناظرة; لأنها وضعت على مثال الخصومات في الدعاوى الواقعة في حقوق العبادة فالمعلل يدعي لزوم الحكم الذي رام إثباته على السائل, والسائل مدعى عليه فكان سبيله الإنكار كما أن سبيل المدعى عليه في الحقوق الإنكار ودفع الدعاوى عن نفسه والأصل في الإنكار الممانعة فكانت الممانعة أساس المناظرة فلا ينبغي له أن يتجاوز إلى غيرها إلا عند الضرورة, وهي أنه إذا ثبت ما ادعاه المجيب مؤثرا في الحكم فيتجاوز عنها إلى القول بموجب العلة إن أمكنه ذلك, وإلا فيشتغل بالقلب ثم العكس ثم بالمعارضة فإذا آل الكلام إلى المعارضة سهل الأمر على المجيب فثبت أن الأساس هو الممانعة فلا بد من معرفة وجوهها كذا في شرح التقويم.
وهي أربعة أوجه. الممانعة في نفس الحجة أي بمنع كون ما تمسك به المجيب علة بأن يقول لا أسلم أن ما ذكرت من الوصف صالح لكونه علة ثم الممانعة في الوصف يعني بعدما ثبت صلاحية الوصف لكونه دليلا على الحكم لا بد من وجوده في المقيس والمقيس عليه فله أن يمنع ذلك ليثبته المجيب بالدليل.
ثم الممانعة في شروط العلة, وهي التي مر ذكرها في باب شروط القياس.
ثم الممانعة في المعنى الذي صار الوصف به دليلا على الحكم, وهو الأثر.
أما الأول أي صحة الوجه الأول, وهو الممانعة في نفس الحجة فلأن من الناس من يتمسك بما لا يصلح دليلا ويعتقده حجة. مثل قول الشافعي كذا فإنه تمسك بلا دليل;(4/70)
أما الأول فلأن من الناس من يتمسك بما لا يصلح دليلا مثل قول الشافعي رحمه الله في النكاح إنه ليس بمال فلا يثبت بشهادة النساء مع الرجال; لأنا قد قلنا إن الاحتجاج بالنفي والتعليل به باطل, وكذلك من تمسك بالطرد. وأما الممانعة في الوصف; فلأن التعليل قد يقع بوصف مختلف فيه مثل قولنا في إيداع الصبي إنه مسلط على الاستهلاك, ومثل قولنا في صوم يوم النحر إنه منهي, وإن النهي يدل على التحقق; لأن هذا نسخ عند الخصم, والنهي عن الشرعي لا يدل على التحقق عنده. ومثل قول الشافعي رحمه الله في الغموس إنها معقودة وذلك أكثر من
ـــــــ
لأنا قد قلنا يعني في باب المقالة الثانية إن الاحتجاج بالنفي والتعليل به باطل. وكذا من تمسك بالطرد واستصحاب الحال وتعارض الحال وتعارض الأشباه محتج بلا دليل فلو تركت الممانعة يكون قبولا من الخصم ما لا يكون حجة أصلا وذلك دليل الجهل فكانت الممانعة في هذا الموضع دليل الفقاهة كذا قال شمس الأئمة. وأما الممانعة في الوصف أي صحة الممانعة في وجود الوصف بعدما سلم أنه صالح فلأن التعليل قد يقع بوصف مختلف فيه أي مختلف في وجوده لا في كونه علة. مثل قولنا يعني قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله في إيداع الصبي أي فيما إذا أودع من الصبي شيئا أنه مسلط على الاستهلاك لما مر بيانه فهذا الوصف ممنوع عند الخصم; لأن الإيداع ليس بتسليط عنده إذ لو كان تسليطا عنده لما بقي النزاع في الحكم. ومثل قول الشافعي في إيجاب الكفارة في الغموس أنها معقودة, هذا تعليل بوصف مختلف فيه; لأن معنى العقد عنده القصد وعندنا ارتباط اللفظين لإيجاب حكم البر على ما عرف فلا يصح الاحتجاج به على الخصم بل كان له أن يقول لا أسلم أنها معقودة; لأن معنى العقد عندي كذا أو لم يوجد. وذلك أي التعليل بالوصف المختلف فيه أكثر من أن يحصى. مثل قول الشافعي: المذهب في السلم الحال أسلم في مقدور التسليم فيجوز فيقال له لم قلت إنه مقدور التسليم بل القدرة معدومة; لأنها تحصل بالأجل, ولم يوجد. ومثل قوله في شراء ما لم يره هذا شراء شيء مجهول فلا يجوز فيقال لا نسلم أنه مجهول; لأن الشراء عندنا واقع على العين, وهي معلومة فلم يكن الوصف الذي ادعاه علة موجودا. ومثل قول أبي حنيفة رحمه الله فيمن اشترى قريبه مع غيره إن الأجنبي رضي بالذي وقع العتق به بعينه فيقول الخصم لا أسلم أن الرضاء كان موجودا.(4/71)
أن يحصى, وأما الممانعة في الشرط فقد ذكرنا شروط التعليل وإنما يجب أن يمنع شرطا منها هو شرط بالإجماع, وقد عدم في الفرع أو الأصل مثل قول الشافعي في السلم الحال إنه أحد عوضي البيع فثبت حالا, ومؤجلا كثمن البيع فيقال له لا خلاف أن من شرط التعليل أن لا يغير حكما, والنص أن لا يكون الأصل معدولا به عن القياس بحكمه, وأنا لا نسلم هذا الشرط ههنا والممانعة في المعنى الذي به صار دليلا فهو ما ذكرنا من الأثر; لأن مجرى الوصف بلا أثر ليس بحجة عنده فلا يصح الاحتجاج به من الخصم على من لا يراه دليلا حتى
ـــــــ
قوله: "وإنما يجب أن يمنع السائل شرطا منها" أي من شروط القياس ما هو شرط بالإجماع ليفيد منعه بطلان التعليل في عين المتنازع فيه فأما إذا منع شرطا مختلفا فيه فيقول المعلل ذلك ليس بشرط عندي وحينئذ يؤول الكلام إلى أن ما منعه السائل هل هو شرط لصحة القياس أم لا وذلك يخل بالمقصود إذ المقصود إثبات حكم المتنازع فيه دون إثبات شرط القياس ومع هذا لو منع شرطا مختلفا فيه يجوز; لأنه يفيد دفع إلزام المعلل عن نفسه, وإن لزم منه انتقال الكلام إلى محل آخر. ولفظ ما في قوله ما هو شرط في محل النصب على البدل من "شرطا" لا على أنه مفعول به. مثل قول الشافعي أي الشافعي المذهب بدليل قوله فيقال له: ونحن لا نسلم هذا الشرط أي وجود هذين الشرطين هاهنا; لأن حكم النصب يتغير بهذا التعليل فيصير ما هو رخصة نقل رخصة إسقاط على ما مر بيانه. وكذا جواز السلم ثبت معدولا به عن القياس أيضا لكون المبيع معدوما حقيقة فلا يجري فيه القياس.
وأما الممانعة في المعنى يعني إذا ثبت صلاح الوصف ووجوده في الأصل والفرع وتحقق شرائط القياس كان للسائل أن يقول لا أسلم أن العمل بهذا الوصف واجب بل العمل به جائز, وليس كل ما جاز وجب كالنوافل فإنها جائزة غير واجبة, وكالقضاء بشهادة مستور الحال فإذ لا بد من بيانه أنه واجب العمل ليتم الإلزام على السائل وذلك ببيان الأثر كالكافر يقيم الشهادة على المسلم إن كان الشاهد مسلما يكون شهادته حجة يجب العمل بها, وإن كان كافرا لا تكون حجة على المسلم, وإن كان حجة عند المدعي; لأن المدعي بإقامة البينة يريد الإيجاب على المسلم كذا هاهنا. وسبيله أي سبيل السائل في هذا كله أي فيما ذكرنا من وجوه الممانعة الإنكار, وأن لا يتعرض للدعوى, ولا يتكلم بكلام هو في صورة الدعوى. فإذا تكلم بما هو في صورة الدعوى لم يضره ذلك إذا كان إنكارا بمعناه; لأن العبرة للمعاني دون الصور كالمودع إذا ادعى رد الوديعة, وأنكره المودع كان(4/72)
يبين أثره وسبيله في هذا كله الإنكار, وإنما يعتبر الإنكار معنى لا صورة مثل قولنا في المودع يدعي الرد, إن القول قوله, وهو مدع صورة, والله أعلم.
ـــــــ
القول قول المودع; لأنه ينكر وجوب الضمان عليه معنى, وإن كان مدعيا للرد صورة. وكذا البكر إذا قالت بلغني خبر النكاح فرددت, وقال الزوج ما ردت بل سكتت كان القول قولها عند علمائنا الثلاثة خلافا لزفر; لأنها تنكر ثبوت ملك النكاح عليها ولزوم العقد معنى, وإن كانت تدعي الرد صورة فالوجوه المذكورة من الممانعة إنكار صورة, ومعنى فكانت صحيحة. ولو قال السائل إن الحكم ما تعلق بهذا الوصف فقط بل به وبقرينة أخرى يكون إنكارا معنى, وإن كان دعوى صورة; لأن الحكم المتعلق بعلة ذات وصفين لا يثبت بوجود أحد الوصفين فيكون هذا ممانعة صحيحة. وذلك كما لو علل في اليمين المعقودة على أمر في المستقبل بأنها يمين بالله مقصودة فيتعدى الحكم بهذا الوصف إلى الغموس فيقول: الحكم ثبت في الأصل بهذا الوصف مع قرينة, وهي توهم البر فيها فيكون هذا منعا لما ادعاه الخصم ويحتاج الخصم إلى إثبات دعواه بالحجة فأما قول السائل ليس المعنى في الأصل ما ذكرت, وإنما المعنى فيه كذا فإنكار صورة, ولكنه من حيث المعنى دعوى فلا يكون ممانعة بل هو دعوى في موضع النزاع غير مفيدة كما بينا, والله أعلم.(4/73)
"باب المعارضة"
قال الشيخ الإمام رضي الله عنه وليس للسائل بعد الممانعة إلا المعارضة,
ـــــــ
"باب المعارضة"
قد مر تفسير المعارضة فيما سبق والمراد من المعارضة هنا تسليم المعترض دلالة ما ذكره المستدل من الوصف على مطلوبه, وإنشاء دليل آخر يدل على خلاف مطلوبه وقيل هي ممانعة في الحكم مع بقاء دليل المستدل إذ السائل يقول للمجيب ما ذكرت من الوصف, وإن دل على الحكم لكن عندي من الدليل ما يدل على خلافه فليس فيه تعرض لدليله بالإبطال ثم المعارضة من السائل مقبولة عند جمهور المحققين من الفقهاء والمتكلمين وزعم بعض الجدليين أنها غير مقبولة منه; لأنه ينتهض حينئذ مستدلا, وليس له ذلك بل له الاعتراض المحض وذلك; لأن العلة لا تصح إلا بعد إقامة الدليل على صحتها فإذا انتصب السائل لذلك كان بانيا مستدلا لا هادما معترضا. وحجة الجمهور: أن المعارضة اعتراض على العلة فتكون مقبولة كالممانعة وذلك; لأن العلة التي تمسك بها المجيب لا تتم حجة ما لم تسلم عن المعارضة فإن المعارضة توجب وقوف الحجة بدليل البينات وبدليل أن القول إنما صار حجة عند السلامة عن المعارضة فكانت المعارضة اعتراضا على العلة من حيث المعنى فتكون مقبولة. وإن المعتمد في القياس قوة الظن, وإذا تعارض الدليلان يفوت به قوة الظن ويخرج كل واحد منهما حينئذ من أن يترجح أحدهما فكانت المعارضة بيان أن ما ذكره المستدل ليس بعلة فتكون اعتراضا صحيحا.
فإن قيل إن السائل, وإن قصد الاعتراض ولكنه أتى بدليل مبتدأ صورة فيكون ممنوعا عن ذلك كما في المفارقة بين الأصل والفرع قلنا صورة الأدلة ما امتنعت عن السائل من حيث إنها أدلة, وإنما امتنعت إذا كان السائل معرضا عن الاعتراض آتيا بكلام مبتدأ, وقد بينا أنه معترض بهذه المعارضة فتسمع. ألا ترى أنه يسمع منه اعتراض لا يستقل بنفسه إفادة فلأن يقبل منه اعتراض يستقل بالإفادة وبقدح في كلام الخصم كان أولى. ثم ذكر الشيخ هاهنا أنه ليس للسائل بعد الممانعة إلا المعارضة. وذكر في نسخة أخرى بعد بيان(4/74)
وهي نوعان معارضة فيها مناقضة ومعارضة خالصة أما المعارضة التي فيها مناقضة فالقلب وهو نوعان ويقابله العكس وهو نوعان لكن العكس ليس من هذا الباب أما القلب فله معنيان في اللغة يقوم بكل واحد منهما ضرب من
ـــــــ
أنواع الممانعة أن التأثير إذا ثبت للوصف تجاوز السائل عن الممانعة إلى القول بموجب العلة إن أمكن ثم إلى القلب ثم إلى العكس الكاسر ثم إلى المعارضة, وهو أوضح; لأن الدفع إذا أمكن بتسليم ما علله الخصم مع بقاء الخلاف مع أنه أقرب إلى الممانعة من المعارضة كان أولى من الذهاب إلى المعارضة التي هي أسوأ أحوال السائل معارضة فيها مناقضة أي معارضة متضمنة لإبطال تعليل المعلل ومعارضة خالصة أي محضة لا تتضمن إبطالا.
فإن قيل كيف يصح الجمع بين المعارضة والمناقضة وبينهما تناف إذ المعارضة تستلزم تسليم دليل المعلل وصحة دلالته على الحكم والمناقضة تتضمن بطلان دليله, وفساد دلالته على الحكم, وقد اختار الشيخ أيضا أن المناقضة لا ترد على العلل المؤثرة فكيف يقبل هذا النوع من المعارضة بعد ظهور التأثير. قلنا لا نسلم أن المعارضة تسليم الدليل مطلقا بل هي ممانعة في الحكم صورة, وممانعة للدليل معنى بدعوى عدم سلامته عن المعارض فلا يكون بينهما تناف إذ المقصود من كل واحد منهما الإبطال ثم هذه المناقضة تثبت في ضمن المعارضة فلا تمنع القبول إذ الاعتبار في مثل هذا للمتضمن دون المتضمن; ولأن الدليل بعد بيان التأثير لما قبل الإبطال علم أنه لم يكن مؤثرا, وإن ما ذكره المعلل مشبه بالأثر, وليس بأثر في التحقيق والمناقضة إنما تمتنع على ما هو مؤثر حقيقة كذا ذكره الإمام العلامة مولانا حميد الملة والدين رحمه الله.
ويقابله العكس أي يقابل القلب العكس; لأن القلب يذكر لإبطال تعليل المستدل, والعكس يذكر لتصحيحه ولهذا يذكره المعلل دون السائل فكان في مقابلته ولهذا لم يكن من هذا الباب أي باب المعارضة; لأن أحد نوعيه على ما ذكر في هذا الكتاب من مرجحات العلة, والنوع الثاني ليس بعكس حقيقة بل هو من أنواع القلب على ما سيأتيك بيانه فلا يكون من هذا الباب في التحقيق لكن القلب لما ذكر في هذا الباب ذكر العكس بمقابلته أيضا لا باعتبار معنى المعارضة.
قوله: "أما القلب فله معنيان في اللغة" معنى القلب في اللغة تغيير هيئة الشيء على خلاف الهيئة التي كان عليها والمعنيان المذكوران يرجعان إليه وبالمعنيين استعمل في باب القياس, ويرجع المعنيان فيه إلى معنى واحد أيضا, وهو تغيير التعليل إلى هيئة تخالف(4/75)
الاعتراض أما الأول فأن يجعل الشيء منكوسا أعلاه أسفله وأسفله أعلاه ومثاله من الاعتراض أن يجعل المعلول علة والعلة معلولا; لأن العلة أصل والحكم تابع فإذا قلبته فقد جعلته منكوسا, وكان هذا معارضة فيها مناقضة; لأن ما جعله المعلل علة لما صار حكما في الأصل واحتمل ذلك فساد الأصل فبطل القياس, وإنما يصح هذا فيما يكون التعليل بالحكم فأما بالوصف المحض فلا
ـــــــ
الهيئة التي كان عليها أما الأول أي المعنى الأول لغة فهو أن يجعل الشيء منكوسا أعلاه أسفله بنصب اللام, وأسفله برفعها أعلاه كقلب الإناء ومثاله أي مثال هذا المعنى اللغوي من الاعتراض على التعليل جعل المعلول علة والعلة معلولا; لأن العلة أصل يعني في إثبات الحكم حيث يفتقر ثبوت الحكم إليها, ولا يفتقر وجودها إلى الحكم لسبقها عليه ذهنا كما هو مذهب العامة وزمانا كما هو مذهب البعض. والحكم تابع يعني في الوجود حيث يفتقر وجوده إليها فإذا قلبته يعني التعليل فقد جعلته منكوسا بجعل الأصل الذي هو أعلى من الفرع تابعا له وجعل الفرع الذي هو دون الأصل أعلى منه فكان هذا أي هذا النوع من القلب معارضة أي من حيث الصورة فيها مناقضة أي إبطال لتعليل المعلل.
ولم يذكر القاضي الإمام شمس الأئمة وعامة الأصوليين معنى المعارضة في هذا النوع من القلب; لأن حقيقة المعارضة, وهي ذكر دليل يوجب خلاف ما أوجبه دليل المستدل لم يوجد إذ الحكم الثابت بتعليل القالب لا يتعرض للحكم الثابت بتعليل المستدل بنفي, ولا إثبات وإنما يدل تعليله على فساد تعليل المستدل فكان هذا إبطالا لا معارضة لكن الشيخ اعتبر صورة المعارضة من حيث إن القالب عارض تعليل المستدل بتعليل يلزم منه بطلان تعليل المستدل ثم يلزم منه بطلان حكمه المرتب عليه فجعله من أقسام المعارضة ثم أقام الدليل على معنى المناقضة فقال ما جعله المعلل علة لما صار حكما في الأصل أي في المقيس عليه بتعليل القالب واحتمل ذلك أي احتمل ما جعله علة صيرورته حكما فسد الأصل أي خرج من أن يكون مقيسا عليه للمستدل في الحكم المطلوب فبقي قياسه بلا مقيس عليه فبطل وإنما يصح هذا النوع من القلب فيما إذا علل المستدل بالحكم بأن جعل حكما في الأصل علة لحكم آخر فيه ثم عداه إلى الفرع. فأما إذا علل بالوصف المحض أي بالمعنى فلا يرد عليه هذا القلب; لأن الوصف لا يصير حكما بوجه, ولا يصير الحكم الثابت علة له أصلا; لأنه سابق على الحكم فإذا عللنا في الجص مثلا بأنه مكيل جنس فيجري فيه الربا كالحنطة لا يمكن قلبه بأن يقال إنما كانت الحنطة مكيل جنس; لأنه يجري فيه الربا; لأن كونه مكيل جنس سابق عليه.(4/76)
يرد عليه القلب مثاله قولهم الكفار جنس يجلد بكرهم مائة فيرجم ثيبهم كالمسلمين, ومثل قولهم القراءة تكررت في الأوليين فكانت فرضا في الأخريين كالركوع والسجود فقلنا المسلمون إنما جلد بكرهم مائة; لأن ثيبهم يرجم, وإنما تكرر الركوع والسجود فرضا في الأوليين; لأنه تكرر فرضا في الأخريين.
ـــــــ
مثاله أي مثال ما يتحقق فيه هذا النوع من القلب قولهم أي قول أصحاب الشافعي في أن الإسلام ليس من شرائط الإحصان حتى لو زنى الذمي الحر الثيب يرجم عندهم, الكفار جنس يجلد بكرهم مائة فيرجم ثيبهم كالمسلمين الأحرار منهم وبقوله مائة أشار إلى ذلك فإن البكر من العبيد لما لم يجلد مائة لم يرجم الثيب منهم والبكر والثيب يقعان على الذكر والأنثى ومثل قولهم في فرضية القراءة في جميع الركعات القراءة تكررت فرضا في الأوليين إلى آخره, واحترزوا بقولهم فرضا عن السورة فإنها تكررت, ولكن غير فرض فجعلوا جلد المائة علة لوجوب الرجم, والتكرر في الأوليين علة للوجوب في الباقي فقلنا المسلمون إنما يجلد بكرهم لأن ثيبهم يرجم لا أنه يرجم ثيبهم; لأنه يجلد بكرهم فجعلنا ما نصبه علة في الأصل, وهو جلد المائة حكما, وما جعله حكما فيه, وهو رجم الثيب علة فانتقض تعليلهم بهذا القلب وبطل لبقائه بلا أصل إذ لم يبق إلا قولهم: الكفار جنس يجلد بكرهم مائة فيرجم ثيبهم, وهذا ليس بشبهة فضلا من أن يكون حجة إذ لا مستند له أصلا. وذكر في بعض الشروح, وكان هذا معارضة أيضا; لأنه تعرض للمتنازع فيه من حيث عدم الدليل على ثبوته فإن القالب لما ادعى أن علة ثبوت الجلد في حق المسلم الرجم لم يبق الجلد علة للرجم فعدم في حق المتنازع فيه, وهو الكافر الذمي علة الرجم فيكون الرجم منتفيا لانتفاء دليله فيكون معارضة من هذا الوجه, ولعمري هو أقرب إلى الممانعة منه إلى المعارضة; لأنه في الحقيقة منع نفس الدليل وصلاحيته لإثبات الحكم المتنازع فيه مع أنه تعليل بالعدم, وهو فاسد فكيف يصلح معارضا للتعليل بالمعنى الوجودي.
واعلم بأن تجويز الشيخ رحمه الله الاعتراض على العلل المؤثرة بالقلب بعد منعه الاعتراض عليها بالمناقضة, وفساد الوضع, مشكل; لأن العلة بعدما ثبت تأثيرها بدليل مجمع عليه لا يحتمل القلب كما لا يحتمل المناقضة, وفساد الوضع فإنه لو ثبت التأثير لوجوب الجلد في إيجاب الرجم في حق المسلمين لا يمكن قلبه بجعل الرجم علة للجلد ألا ترى أن في قولنا في المدبر مملوك تعلق عتقه بمطلق موت المولى فلا يجوز بيعه كأم الولد لما ظهر التأثير لتعليق العتق بالموت في المنع عن البيع في أم الولد لا يمكن قلبه بأن يقال إنما تعلق العتق بالموت; لأن البيع لم يجز. وكذا لا يمكن للقالب بيان التأثير لتعليله بعدما(4/77)
والمخلص عن هذا أن يخرج الكلام مخرج الاستدلال; لأن الشيء يجوز أن يكون دليلا على شيء, وذلك دليل عليه أيضا, وإنما يصح المخلص إذا ثبت أنهما نظيران مثل التوأم وذلك قولنا ما يلتزم بالشروع إذا صح كالحج فقالوا الحج
ـــــــ
ظهر تأثير التعليل الأول وبدون بيان التأثير لا يقبل منه قلبه; لأن القلب معارضة وغير المؤثر لا يصلح معارضا للمؤثر إذا كان كذلك ينبغي أن لا يرد القلب على العلل المؤثرة كفساد الوضع والمناقضة, وإنما يرد على الطردية. يؤيده ما ذكر صدر الإسلام أبو اليسر بعد بيان نوعي القلب, والقلب الأول إنما يجيء في كل طرد جعل الحكم علة, والقلب الثاني يجيء على كل طرد ما لم يظهر التأثير, وما ذكر في نسخة أخرى من أصول الفقه والمخلص من القلب بذكر تأثير الوصف في الحكم الذي علل دون الحكم الذي قاله خصمه فتبين أن الاعتراض بالقلب بعد التأثير غير صحيح وأنه كالمناقضة, وفساد الوضع من غير فرق.
قوله: "المخلص من هذا" أي من هذا النوع من القلب, وليس المراد أنه إذا ورد يدفعه بهذا الطريق بعد وروده بل معناه أنه إذا أراد أن لا يرد عليه هذا القلب فطريقه أن يخرج الكلام بطريق الاستدلال لا بطريق التعليل; لأن الشيء يجوز أن يكون دليلا على شيء وذلك الشيء يكون دليلا عليه كما في العقليات فإنه يجوز أن يقال موجود فيجوز رؤيته, وأن يقال يجوز رؤيته فيكون موجودا, وكذا يكون الدخان دليلا على النار والنار دليلا على الدخان والاستدلال بحكم على حكم طريق السلف في الحوادث على ما مر بيانه. وإنما يصح هذا المخلص إذا ثبت أن الشيئين نظيران أي مثلان متساويان فيدل كل واحد منهما على صاحبه بمنزلة التوأمين فإنه يثبت حرية الأصل لأحدهما بثبوتها في الآخر ويثبت الرق في أيهما كان بثبوته في الآخر, وكذا النسب يثبت فيهما بثبوته لأحدهما وهذا; لأن الدليل غير مثبت بل هو مظهر فجاز أن يكون كل واحد منهما دليلا على الآخر في عين ما كان هو مدلوله كما بينا في التوأمين فأما العلة فمثبتة فلا يجوز أن يكون الشيء ثابتا بشيء, ومثبتا له; لأن العلة لا بد من أن تكون سابقة على الحكم رتبة, ولا يتصور أن يسبق كل واحد منهما على الآخر والتوأم اسم للولد إذا كان معه آخر في بطن واحد يقال هما توأمان, وقولهم هما توأم خطأ كذا في المغرب وذلك أي المخلص وهو الإخراج مخرج الاستدلال يتحقق فيما قال علماؤنا في هاتين المسألتين المذكورتين لوجود شرطه, وهو المساواة في الحكمين لا فيما ذكر الشافعي فإن علماءنا استدلوا في أن الشروع في النافلة ملزم كالنذر فقالوا ما يلتزم بالنذر يلتزم بالشروع إذا صح الشروع واحترز به عن صوم يوم النحر, كالحج فإنه يلزم بالشروع كما يلزم بالنذر.(4/78)
إنما يولى عليها في مالها فيولى عليها في نفسها كالبكر الصغيرة فقالوا إنما يولى على البكر في مالها; لأنه يولى عليها في نفسها فقلنا: النذر لما وقع لله تعالى على سبيل التقرب إليه تسبيبا لزمته مراعاته بابتداء المباشرة, وهو منفصل عن النذر وبالشروع حصل فعل القربة فلأن يجب مراعاته بالثبات عليه أولى وكذلك الولاية شرعت للعجز والحاجة على من هو قادر على قضاء الحاجة,
ـــــــ
وقالوا في ثبوت ولاية التزويج على الثيب الصغيرة للولي إنه - الضمير للشان - يولى عليها في مالها فيولى عليها في نفسها كالبكر الصغيرة فقلب عليهم في المسألتين كما ذكر في الكتاب. فأشار الشيخ إلى بيان المخلص بقوله فقلنا النذر لما وقع لله تعالى على سبيل التقرب إليه تسببا يعني النذر سبب قربة يباشره العبد على سبيل التقرب ثم لزمته مراعاة النذر الذي هو سبب القربة وليس بقربة بابتداء مباشرة فعل الذي هو حقيقة القربة صيانة للسبب عن البطلان مع أن ابتداء المباشرة منفصل عن النذر وبالشروع حصل فعل القربة حقيقة فلأن يجب مراعاة هذا الفعل الموجود قربة بالثبات عليه أي بإلزام الإتمام صيانة له عن البطلان كان أولى; لأن البقاء أسهل من الابتداء وحقيقة القربة أولى بالصيانة من سببها, وقد مر بيانه في باب العزيمة والرخصة. قال شمس الأئمة رحمه الله: ولا يستقيم قلبهم علينا; لأنا نستدل بأحد الحكمين على الآخر بعد ثبوت المساواة بينهما من حيث إن المقصود بكل واحد منهما تحصيل عبادة زائدة هي محض حق الله تعالى على وجه يكون المضي فيها لازما والرجوع عنها بعد الأداء حرام, وإبطالها بعد الصحة جناية فبعد ثبوت المساواة بينهما يجعل هذا دليلا على ذلك تارة وذلك على هذا تارة قال الشيخ رحمه الله في شرح التقويم الشروع مع النذر في الإيجاب بمنزلة توأمين لا ينفصل أحدهما عن الآخر; لأن النذر إنما صار سببا; لأن الناذر عهد أن يطيع الله تعالى فلزمه الوفاء به بقوله: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] فكذا الشارع في عبادة عازم على إبقائه فلزمه الوفاء بإبقاء ما أدى بقوله عز اسمه: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] ولا يتصور إبقاء ما أدى إلا بانضمام سائر الأجزاء إليه فوجب عليه الضم صيانة لما أدى عن البطلان ثم إبطال ما أدى فوق ترك الأداء, وقد وجب عليه الأداء تحقيقا للوفاء بالعهد فلأن يلزم إتمام ما أدى وإبقاؤه عبادة بعد الأداء تحقيقا للوفاء كان أحرى وأولى. وكذلك الولاية أي, وكما أن النذر والشروع متساويان في معنى الإيجاب الولاية على المال والولاية على النفس متساويتان في الثبوت أيضا; لأن الولاية شرعت أي ثبتت ووجبت للعجز أي لعجز المولى عليه عن التصرف لنفسه بنفسه مع حاجته إليه على من هو قادر على قضاء حوائجه وهو الولي وذلك; لأن الأصل عدم الولاية لحر على حر مثله وثبوت الولاية للشخص(4/79)
والنفس والمال والثيب والبكر فيه سواء فأما الجلد والرجم فليسا بسواء في أنفسهما وفي شروطهما أيضا حتى افترقا في شرط الثانية, وكذلك القراءة والركوع والسجود ليسا بسواء; لأن القراءة ركن زائد تسقط بالاقتداء عندنا وتسقط لخوف فوت الركعة عنده, ومن عجز عن الأفعال لم يصلح الذكر أصلا بخلاف الأفعال, وكذلك الشفع الأول والثاني ليسا بسواء في القراءة ألا ترى أن أحد شطري القراءة سقط عنه, وهو السورة ويسقط أحد وصفيه, وهو الجهر فلم
ـــــــ
على نفسه إذ الأصل رأيه لكن إذا عدم رأيه بالصغر أو الجنون أقيم رأي الغير مقام رأيه وانتقلت الولاية إلى الغير نظرا للمولى عليه ولهذا كانت تصرفاته مقيدة بشرط النظر فالولاية, وإن كانت ثابتة للولي على المولى عليه ظاهرا, ولكنها وجبت على الولي للمولى عليه معنى نظرا له في قضاء حوائجه لنفسه والمالية, ولهذا لا يتمكن الولي من ردها, ولو امتنع عن إقامة مصالح المولى عليه, وقضاء حوائجه يأثم. والنفس والمال والثيب والبكر فيه أي في المعنى الذي ثبتت به الولاية, وهو العجز والحاجة سواء ألا ترى أن الولايتين حال وجود الرأي على السواء فكذا تستويان في حال عدمه, وإذا ثبت التساوي بينهما يمكن الاستدلال بثبوت إحداهما على الأخرى ولا يقال المساواة بين النفس والمال غير مسلمة; لأن النفس مبتذل والمال مبتذل; لأنا نقول: المساواة بين الشيئين غير مشروطة من كل الوجوه لصحة الاستدلال بل المشروط المساواة في المعنى الذي بني الاستدلال عليه, وقد وجد هاهنا; لأن النفس والمال في الحاجة إلى التصرف النافع التي بني الاستدلال عليها سواء. فإن قيل لا نسلم المساواة في الحاجة أيضا; لأن الحاجة إلى التصرف في المال متحققة في الحال للتثمير كي لا تأكله النفقة لكن الحاجة في حق النفس متأخرة إلى ما بعد البلوغ فينبغي أن لا تثبت الولاية على النفس عملا بالأصل. قلنا: الحاجة في النفس قد تتحقق في الحال على تقدير فوات الكفؤ, وفي المال قد لا يقع الحاجة بأن كان كثيرا فكانا سواء لاجتماع جهة الحاجة في كل واحد منهما. ثم شرع في بيان أن لا مخلص للخصم عن القلب الذي ذكرنا فقال فأما الجلد والرجم فليسا بسواء في أنفسهما; لأن أحدهما نهاية في العقوبة يأتي على النفس والآخر تأديب محله ظاهر البدن. وفي شروطها فإن الثيابة بصفة الكمال, وهي الثيابة بملك النكاح دون ملك اليمين شرط في وجوب الرجم دون وجوب الجلد, وإذا انتفى التساوي بينهما لا يصح الاستدلال بوجودهما على الآخر, وكيف يستدل بالأخف على الأغلظ وبالابتداء على النهاية وكذلك القراءة والركوع والسجود ليسوا بسواء, ولو قيل ليست بسواء, أو ليس بسواء لكان أحسن, ومن عجز عن الأفعال لم يصلح الذكر أصلا يعني لو كان عاجزا عن الأفعال دون الأذكار كالمريض الذي لا يقدر على الإيماء لم يجب عليه أداء الصلاة بخلاف الأفعال فإن من قدر عليها دون الأذكار(4/80)
يجهر بحال ففسد الاستدلال. وأما النوع الثاني منه فهو قلب الشيء ظهرا لبطن وذلك أن يكون الوصف شاهدا عليك فقلبته فجعلته شاهدا لك, وكان ظهره إليك فصار وجهه إليك فنقض كل واحد منهما صاحبه فصارت معارضة فيها مناقضة بخلاف المعارضة بقياس آخر; لأنه يوجب الاشتباه إلا بترجيح ولا يوجب تناقضا إلا أن هذا لا يكون إلا بوصف زائد فيه تقرير للأول وتفسيره فكان دون القسم الأول مثاله قولهم في صوم رمضان إنه صوم فرض فلا يتأدى إلا بتعين النية كصوم القضاء فقلنا لما كان صوما فرضا استغنى عن
ـــــــ
كالأخرس والأمي تجب الصلاة عليه, يسقط منه أي من الشفع الثاني أو من المصلي في الشفع الثاني أحد وصفيه أي أحد وصفي الواجب, وهو القراءة فلم يجهر بحال إماما كان أو منفردا ففسد الاستدلال أي لم يصح الاستدلال بوجوب الركوع والسجود في جميع الركعات على وجوب القراءة في الجميع لعدم المساواة.
قوله: "وأما" "النوع الثاني منه" أي من القلب فهو من قلب الشيء أي مأخوذ من قلب الشيء ظهرا لبطن أي جعل ظهره بطنا وبطنه ظهرا مثل قلب الجراب, وذلك أي القلب المأخوذ من هذا المعنى أن يكون الوصف شاهدا أي حجة عليك فقلبته فجعلته شاهدا لك فنقض أي أبطل كل واحد منهما أي من الشهادتين أو من التعليلين صاحبه لما نبين فصارت أي صار هذا النوع من القلب, والتأنيث لتأنيث الخبر معارضة; لأنه يوجب خلاف ما أوجبه تعليل المعلل ومعنى المعارضة في هذا النوع أظهر منه في النوع الأول لوجود حد المعارضة فيه فيها مناقضة أي إبطال للتعليل الأول; لأن المطلوب هو الحكم والوصف الذي يشهد بثبوته من وجه وبانتفائه من وجه آخر تكون متناقضا في نفسه بمنزلة الشاهد الذي يشهد لأحد الخصمين على الآخر في حادثة ثم للخصم الآخر عليه في عين تلك الحادثة فإنه يتناقض كلامه بخلاف المعارضة بقياس آخر حيث لا تكون مناقضة; لأنه أي التعارض يوجب الاشتباه فيتعذر العمل للاشتباه إلى أن يتبين رجحان لأحدهما على الآخر, وهذا لا يوجب تناقضا أي إبطالا للأول إلا أن هذا أي هذا النوع من القلب لا يكون أي لا يتحقق إلا بوصف زائد على الوصف الذي ذكره المعلل. فيه أي في ذلك الوصف الزائد تقرير للوصف الأول, وهذا جواب عما يقال القلب يكون بتعليق الحكم بذلك الوصف بعينه فإذا زيد عليه وصف آخر لم يبق بعينه علة فيكون هذا تعليق الحكم بعلة أخرى فيكون معارضة محضة غير متضمنة لمعنى الإبطال فقال هذه الزيادة تفسير للوصف الأول, وتقرير له لا تغيير فلا تجعله في حكم شيء آخر, وإنما قلنا ذلك; لأن(4/81)
تعيين النية بعد تعينه كصوم القضاء لكنه إنما يتعين بالشروع, وهذا تعين قبل الشروع, ومثل قولهم في مسح الرأس إنه ركن في الوضوء فيسن بثلاثة
ـــــــ
الخصم قال في صوم رمضان هذا صوم فرض, ولم يبين أنه متعين في هذا الوقت لعدم بقاء غيره من الصيامات مشروعا معه في هذا الوقت تلبيسا علينا فنحن فسرنا الصوم المذكور تفسيرا تركه الخصم وبينا محل النزاع فكان قياس هذا الصوم من القضاء ما بعد الشروع وكذلك قال في مسح الرأس إنه ركن, ولم يفسر أنه إكمال بأمثال الفرض في محل الفرض فنحن بينا ذلك فلم يكن تغييرا بل كان قلبا لذلك الوصف بعينه فبطل الأول; لأن الوصف لا يتعلق به حكمان مختلفان في حالة واحدة فإذا تعارضا سقط كلام المجيب لكنه أي القضاء تعين بالشروع وهذا أي صوم رمضان تعين قبل الشروع وبهذا القدر لا تقع المفارقة. واعلم أن القلب على هذا التفسير والتقسيم هو المذكور في عامة كتب أصحابنا, ولم يذكر عامة أصحاب الشافعي القسم الأول في كتبهم, وفسروا القلب بأنه تعليق نقيض الحكم المذكور على العلة المذكورة في قياس بالرد إلى ذلك الأصل بعينه, وأرادوا بالنقيض ما ينافي الحكم المذكور ولا يجمع معه, وإنما اشترط الرد إلى ذلك الأصل بعينه; لأنه لو رد إلى أصل آخر فحكم ذلك الأصل الآخر إن وجد في هذا الأصل كان الرد إليه أولى; لأن المستدل لا يمكنه منع وجود تلك العلة فيه ويمكنه منع وجودها في أصل آخر, وإن لم يوجد فيه كان أصل القياس الأول نقضا على تلك العلة; لأن ذلك الوصف حاصل فيه مع عدم الحكم.
ثم قسموه على قسمين: أحدهما أن يبين المعترض أن ما ذكره المستدل يدل على الحكم, ولا يدل عليه. والثاني أن يبين أن ما ذكره دليل على المستدل, وإن كان دليلا له أيضا والأول قلما يتفق له مثال في الشرعيات في غير النصوص وذلك كما لو استدل من ورث الخال بقوله عليه السلام: "الخال وارث من لا وارث له" 1 فيعترض عليه بأن المراد به نفي توريث الخال بطريق المبالغة كما في قولهم الجرع زاد من لا زاد له والصبر حيلة من لا حيلة له.
والثاني ثلاثة أقسام أحدها أن يتعرض القالب في القلب لتصحيح مذهبه, وثانيها أن يتعرض لإبطال مذهب الخصم صريحا. وثالثها أن يتعرض لإبطاله بطريق الالتزام بأن
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في الفرائض حديث رقم 1204 وأبو داود في الفرائض حديث رقم 2899 والإمام أحمد في المسند 4/131.(4/82)
.............................................................................................
يرتب على الدليل حكما يلزم منه إبطال مذهب المستدل مثال الأول ما لو قال الحنفي في مسألة الاعتكاف: لبث مخصوص فلا يكون قربة بنفسه بل لا بد من اعتبار عبادة في كونه قربة كالوقوف بعرفة فيقول الشافعي: لبث مخصوص فلا يكون الصوم من شرطه كالوقوف بعرفة فقد تعرض كل منهما لتصحيح مذهبه إلا أن المستدل أشار بعلته إلى اشتراط الصوم بطريق الالتزام والمعترض أشار إلى نفي اشتراطه صريحا. وقد يتفق تعرض كل منهما لتصحيح مذهبه صريحا كقول الشافعية في إزالة النجاسة طهارة تراد لأجل الصلاة فلا تجوز بغير الماء كطهارة الحدث, وقول الحنفية اعتراضا طهارة لأجل الصلاة فتصح بغير الماء كطهارة الحدث فقد تعرض كل منهما لتصحيح مذهبه صريحا. ومثال الثاني ما لو قال الحنفي في مسألة مسح الرأس عضوا من أعضاء الوضوء فلا يكتفي فيه بأقل ما ينطلق عليه اسم الرأس كغيره من أعضاء الوضوء فيقول الشافعي عضو من أعضاء الوضوء فلا يتقدر بالربع كسائر أعضاء الوضوء فقد تعرض كل منهما في دليله لإبطال مذهب خصمه صريحا وليس ما يدل على تصحيح مذهب أحدهما فإنه لا يلزم من إبطال كل منهما تصحيح الآخر لجواز أن يكون الصحيح مذهب مالك رحمه الله, وهو الاستيعاب, وإنما يلزم ذلك لو كان القائل في المسألة قائلين, والاتفاق واقعا على نفي قول ثالث. ومثال الثالث: ما لو قال الحنفي في مسألة بيع الغائب عقد معاوضة فيصح مع الجهل بالمعوض كالنكاح. فيقول الشافعي عقده معاوضة فلا يشترط فيه خيار الرؤية كالنكاح فالمعترض لم يتعرض لإبطال مذهب المستدل وهو القول بالصحة صريحا بل بطريق الالتزام; لأن من قال بالصحة قال بخيار الرؤية فهما متلازمان عنده فيلزم من انتفاء خيار الرؤية انتفاء الصحة.
قلت هذه أقيسة ليست بمناسبة فضلا من أن تكون مؤثرة بل بعضها طردية وبعضها شبهية فأصحاب أبي حنيفة رحمه الله الشارطون للتأثير المعترضون من الطرد والشبه كيف يخطر ببالهم مثل هذه الأقيسة, وكيف يعللون بها, والالتفات إلى مثلها ليس من دأبهم وهجيرهم لكن المخالفين وضعوها من عند أنفسهم ونسبوها إلى أصحابنا, وأوردوها أمثلة في كتبهم ليتضح فهم أقسام القلب التي ذكروها ثم ذكروا أن القلب على الأوجه التي ذكرناها نوع معارضة لكنها تفارق مطلق المعارضة بأنها نشأت من نفس دليل المستدل, وبأنها لا يمكن فيها الزيادة على العلة لوجوب اتحاد العلة فيها, وبأنها لا يمكن فيها منع وجود العلة في الفرع والأصل; لأن أصل القالب, وفرعه هو أصل المستدل. وفرعه بخلاف سائر المعارضات فيما ذكرنا ولهذا كان القلب أولى بالقبول من مطلق المعارضة(4/83)
كغسل الوجه فيقال لهم: لما كان ركنا في الوضوء وجب أن لا يسن تثليثه بعد إكماله بزيادة على الفرض كغسل الوجه. وبيانه أن مسح الرأس يتأدى بالقليل فيكون استيعابه تكميلا للفرض في محله بزيادة عليه بمنزلة التكرار في الوجه. وأما العكس فليس من هذا الباب لكنه لما استعمل في مقابلة القلب ألحق به,
ـــــــ
لأن الاشتراك في الأصل والجامع أقوى في الناقصة مما إذا لم يكن كذلك; لأنه مانع للمستدل من ترجيح أصله وجامعه على أصل القالب وجامعه للاتحاد بخلاف سائر المعارضات. وزعم بعض الأصوليين أن القلب مردود; لأن المعترض إن لم يتعرض في القلب لنقيض حكم المستدل فلا يقدح ذلك في الدليل لجواز أن يكون للعلة الواحدة وللأصل الواحد حكمان غير متنافيين, وإن تعرض لنقيضه فلا يمكن اعتباره بأصل المستدل, ولا إثباته بعلته لاستحالة اجتماع النقيضين في محل واحد واستحالة اقتضاء العلة الواحدة حكمين متنافيين لتعذر مناسبتها إياهما. والجواب عن الأول أنه إن لم يتعرض لنقض حكم المستدل فلا يخرج بذلك عن كونه قادحا في الدليل إذا كان ما تعرض لنفيه من لوازم حكم المستدل كما ذكرنا في الأمثلة. وعن الثاني إن شرط القلب اشتمال الأصل على حكمين غيره متنافيين في ذاتيهما قد امتنع اجتماعهما في النوع بدليل منفصل, وأن لا يكون مناسبة الوصف للحكم ونقيضه حقيقة لاستحالته. وإذا كان كذلك يصح حصولهما في الأصل من غير استحالة لعدم تنافيهما في ذاتيهما ويمكن أن يكون العلة مناسبة لحكم في نظر المستدل ولنقيضه في نظر السائل, وإذا اندفعت الاستحالة صح القلب. ولما ثبت أن القلب صحيح, وهو معارضة كان للمستدل أن يمنع حكم القالب في الأصل, وأن يقدح في تأثير العلة فيه بالنقض وعدم التأثير وأن يقول بموجبه إذا أمكنه بيان أن اللازم من ذلك القلب لا ينافي حكمه وأن يقلب قلبه إذا لم يكن قلب القلب مناقضا لحكمه; لأن قلب القالب إذا أفسد بالقلب الثاني سلم أصل القياس من القلب كذا في عامة نسخ الأصول ورأيت في بعض فوائد هذا الكتاب أنه لا يسمع القلب والنقض على القلب; لأنه خرج مخرج الإفساد لكلام الخصم لا على سبيل التعليل, ولا يندفع إلا ببيان أن هذا القلب لا يخرج في دلالة الوصف على الحكم, ولكن الأول أصح; لأنه تعليل في مقابلة تعليل المعلل فيرد عليه ما يرد على الأول. قوله: "وأما العكس فليس من هذا الباب" أي ليس بمعارضة; لأن المعارضة للدفع والعكس للتصحيح فلا يكون العكس من المعارضة فكان ينبغي أن لا يذكر في هذا الباب. لكنه أي العكس لما استعمل في مقابلة القلب لما قلنا إن القلب للإبطال والعكس للتصحيح ألحق العكس بالقلب أي بيان العكس ببيان القلب; لأن ذكر مقابل الشيء بعد ذكره من محسنات الكلام والثاني معارضة فاسدة لا يقال لما كان هذا(4/84)
وهو نوعان أحدهما يصلح لترجيح العلل والثاني معارضة فاسدة وأصله رد الشيء على سننه الأول مثل عكس المرآة إذا رد نور البصر بنوره حتى انعكس فأبصر نفسه كأن له وجها في المرآة وذلك مثل قولنا ما يلتزم بالنذر يلتزم
ـــــــ
النوع من العكس معارضة فاسدة كان من هذا الباب فلم يستقم نفيه بالعكس من هذا الباب على الإطلاق ولا يندفع بأن نفيه يصح باعتبار الفساد إذ الفاسد في حكم العدم فإنه قد ذكر أنواع المعارضة في الأصل مع فسادها من هذا الباب; لأنا نقول المراد من قوله العكس ليس من هذا الباب القسم الأول دون الثاني; لأن الثاني ليس بعكس حقيقة بل هو قلب على ما ذكر في الكتاب لكنه لما تشابه العكس من وجه أدخله في هذا القسم. وأصله أي أصل العكس لغة رد الشيء على سننه أي رجعه من ورائه على طريقه الأول مثل عكس المرآة إذا ردت المرآة نور بصر الناظر بنورها حتى انعكس نور البصر فأبصر الناظر بانعكاس نور بصره إلى نفسه نفسه كان له وجهان في المرآة قال صدر الإسلام: وهذا قول ثمامة1 المتكلم, وهو قول المعتزلة وقال عامة أهل السنة والأشعرية: إن الانعكاس لا يستقيم بل يرى ما يرى بإرادة الله تعالى فإنه جل جلاله يحدث صور الأشياء فيها عند مقابلة مخصوصة إذا توسط بينهما جسم شفاف كما يحدث الروح في البدن عند استعداده وصلاحيته للقبول والدليل على أنه ليس بطريق الانعكاس إن صور الأشياء تحدث فيها عند المقابلة, وإن لم يكن هناك ناظر ونعلم قطعا أن الأعمى إذا قابل المرآة بوجهه يحدث صورته فيه, ولم يكن لبصره نور ينعكس. وكذا لو نظر من انطبع صورته في المرآة في تلك الحالة إلى شيء آخر خارج المرآة لا تزول صورته عنها, ولو كان بطريق الانعكاس ينبغي أن لا يبقي الصورة فيها بعدما صرف طرفه عن المرآة فعرفنا أن القول بالانعكاس ليس بصحيح إلا أن غرض الشيخ منه التمثيل, وقد وقع عند الناس أن إبصار الصور في المرآة بهذا الطريق فذكره على ما وقع عندهم تقريبا إلى الفهم. وذكر في بعض نسخ الأصول أن العكس في اللغة هو رد أول الشيء إلى آخره وآخره إلى أوله, وأصله شد رأس البعير بخطامه إلى ذراعه, وفي اصطلاح الفقهاء والأصوليين هو انتقاء الحكم لانتفاء علته, وقيل هو تعليق نقيض الحكم المذكور بنقيض العلة المذكورة ورده إلى أصل آخر.
وذلك أي العكس بالمعنى المذكور مثل قولنا في أن الشروع في النفل فلزم ما يلتزم بالنذر ويلتزم بالشروع كالحج وعكسه الوضوء يعني عكسه أن ما لا يلتزم بالنذر لا
ـــــــ
1 هو أبو معين ثمامة بن أشرش النميري المعتزلي المتوفي سنة 213 هـ انظر مروج الذهب 3/420 – 421.(4/85)
بالشروع كالحج, وعكسه الوضوء, وهذا وما أشبهه مما يصلح لترجيح العلل على ما نذكره إن شاء الله تعالى والنوع الثاني إن رد على خلاف سننه مثل قولهم هذه عبادة لا يمضي في فسادها فلا تلتزم بالشروع كالوضوء فيقال لهم لما كان كذلك وجب أن يستوي فيه عمل النذر والشروع كالوضوء, وهذا ضعيف
ـــــــ
يلتزم بالشروع كالوضوء فعكست الحكم بقلب الوصف الذي جعلته علة في الطرد. وهذا أي العكس المذكور في هذه المسألة, وما أشبهه كقولنا في الثيب الصغيرة يولى عليها في مالها فيولى عليها في نفسها كالبكر الصغيرة, وعكسه الثيب البالغة فإنه لا يولى عليها في مالها فلا يولى عليها في نفسها مما لا يصلح لترجيح العلل يعني هذا النوع من العكس ليس بقادح في العلل أصلا بل هو يصلح مرجحا للعلة التي تطرد وتنعكس على التي تطرد, ولا تنعكس; لأن الانعكاس يدل على زيادة تعلق للحكم بالوصف ويوجب زيادة قوة في ظن كون الوصف علة. والثاني أن يرد على خلاف سننه أي يرد الحكم إلى خلافه لا على سننه بل سنن غير سننه كذا لفظ التقويم وهذا النوع ليس بعكس حقيقة; لأنه ليس بداخل في تعريف العكس بل هو في أقسام القلب, ولهذا ذكره صدر الإسلام وعامة الأصوليين في أقسام القلب, ولم يذكروه في العكس لكنه لما كان يشبه العكس من حيث إنه رد للحكم الذي اطرد, وإن كان على خلاف سننه أورده الشيخ في هذا القسم مثل قولهم هذا أي الصوم النفل عبادة لا يمضي في فاسدها يعني إذا فسدت لا يجب, ولا يجوز إتمامها والمضي فيها, واحترز به عن الحج فإنه وجب بالشروع; لأن المضي يجب فيه بعد الفساد فيحتمل أن يلزم بالشروع لما كان كذلك أي لما كان الشأن كما قلنا إن الصوم عبادة لا يمضى في فاسدها أو لما كان صوم النفل على الوصف الذي ذكرنا وجب أن يستوي فيه أي في الصوم النفل عمل النذر والشروع كما استوى عملهما في الوضوء يعني استوى عملهما في الوضوء باعتبار أنه لا يمضى في فاسده, وهذا المعنى موجود في التنازع فيه; لأنه لا يمضى في فاسده أيضا فوجب أن يثبت استواؤهما فيه كما في الوضوء وهذا أي هذا النوع ضعيف أي فاسد من وجوه القلب, ويسمى هذا قلب التسوية. وقد اختلفوا فيه فذهب بعض من صحح القلب إلى قبول هذا النوع لوجود حد القلب فيه إذ السائل قد جعل الوصف المذكور بعدما كان شاهدا عليه شاهدا لنفسه فيما ادعاه من الحكم المستلزم لمخالفة دعوى المستدل; لأن استواء الشروع والنذر لو ثبت يلزم منه كون الشروع ملزما كالنذر, وهو خلاف دعوى المستدل وذهب آخرون إلى أنه لا يقبل بوجوه أربعة ذكرت في الكتاب أحدها أن السائل جاء بحكم آخر ليس بناقض للحكم الأول; لأن المستدل لم ينف التسوية ليكون إثباتها مناقضا لمدعاه, وإذا كان كذلك ذهبت المناقضة التي هي شرط(4/86)
من وجوه القلب; لأنه لما جاء بحكم آخر ذهبت المناقضة, ولذلك لم يكن من هذا الباب في الحقيقة; ولأنه لما جاء بحكم مجمل لا يصح من السائل إلا بطريق الابتداء; ولأن المفسر أولى; ولأن المقصود من الكلام معناه, والاستواء مختلف في المعنى سقوط من وجه وثبوت من وجه على التضاد وذلك مبطل للقياس. وأما المعارضة الخالصة فخمسة أنواع في الفرع وثلاثة في الأصل
ـــــــ
صحة القلب فلم يكن دفعا لدعوى المستدل فلا يقبل إلا أن الفريق الأول يقولون ليس تناقض الحكمين ذاتا شرطا لصحة القلب بل انتفاء الجمع بينهما بدليل منفصل كاف لصحته, وقد وجد; لأن ثبوت الاستواء مستلزم لانتفاء مدعى المستدل, وفي بيان الوجه الرابع دفع هذا السؤال.
ولذلك أي ولانتفاء المناقضة بين الحكمين لم يكن هذا النوع من باب المعارضة في الحقيقة, وإن كان معارضة صورة, وإيراده في هذا الباب باعتبار الصورة ولهذا كان معارضة فاسدة.
والثاني أن السائل جاء بحكم مجمل إذ الاستواء يحتمل المساواة في الإلزام المساواة في السقوط, ولا يمكنه البيان إلا بكلام مبتدأ بأن يثبت التسوية بين الشروع والنذر في الإلزام وليس إلى السائل ذلك.
والثالث أن الحكم الذي ذكره السائل مجمل لما قلنا والحكم الذي ذكره المستدل مفسر والمجمل لا يصلح معارضا للمفسر لثبوت الاحتمال في المجمل وانتفائه عن المفسر.
والرابع إن المقصود من الكلام معناه فإن ما لا معنى له من الألفاظ ليس بكلام والسائل, وإن علق بالوصف المذكور حكم الاستواء, ولكن المقصود شيء آخر يختلف معنى الاستواء فيه بالنسبة إلى الفرع والأصل فإن استواء النذر والشروع في الأصل, وهو الوضوء باعتبار عدم الإلزام فإنه لا أثر للنذر, ولا للشروع في إيجاب الوضوء بالإجماع واستواؤها في الفرع, وهو الصوم النفل باعتبار الإلزام, وهو معنى قوله ثبوت من وجه سقوط من وجه. والمعنيان مختلفان على وجه التضاد أي التنافي واختلاف المعنى في الأصل مبطل للقياس; لأنه إبانة مثل حكم أحد المذكورين بمثل علته في الآخر, ويستحيل أن يتعدى من الأصل إلى الفرع حكم لا يوجد في الأصل فكان هذا نظير إثبات الحرمة في الفرع بالقياس على الحل من حيث المعنى, وإنما يستقيم هذا التعليل إذا كان الاستواء بنفسه مقصودا, وذلك ليس بمقصود.(4/87)
أما التي في الفرع فأصح وجوهها المعارضة بضد ذلك الحكم فيقع بذلك محض المقابلة فيمتنع العمل وينسد الطريق إلا بترجيح مثاله قولهم إن المسح ركن في وضوء فيسن تثليثه كالغسل فيقال إنه مسح فلا يسن تثليثه كمسح الخف. والثاني معارضة بزيادة هي تفسير للأول وتقرير له فمثل قولنا إن المسح
ـــــــ
قوله: "وأما المعارضة الخافضة" أي المعارضة التي خلصت عن معنى المناقضة والإبطال فثمانية أنواع, خمسة منها تتحقق في الفرع, وثلاثة في الأصل ثم اثنان من الخمسة الواقعة في الفرع صحيحان بلا شبهة وثلاثة منها فيها شبهة الصحة, والثلاثة التي في الأصل فاسدة كلها من كل وجه, وإنما أورد الفاسدة منها في هذا الباب لبيان جميع أقسامها, وإحاطة سائر أنواعها.
أما التي في الفرع أي المعارضات التي في الفرع فأصح وجوهها. المعارضة بضد ذلك الحكم أي بما يخالف حكم المستدل بأن يذكر علة أخرى توجب خلاف ما توجبه علة المستدل من غير زيادة وتغيير فيه في ذلك المحل بعينه فيقع بذلك أي بإيراد الضد محض المقابلة من غير تعرض لإبطال علة الخصم فيمتنع العمل بهما بمدافعة كل واحدة منهما ما يقابلها ويفسد طريق العمل إلا بترجح إحدى العلتين على الأخرى فإذا ترجحت إحداهما وجب العمل بالراجحة حينئذ. قال صدر الإسلام, وهذه المعارضة تجيء على كل علة يذكرها المعلل. مثاله أي مثال هذا النوع من المعارضة يتحقق في قول أصحاب الشافعي في تثليث المسح ركن في الوضوء فيسن تثليثه كالغسل فيقال لهم: إنه مسح فلا يسن تثليثه كمسح الخف فهذه معارضة خالصة صحيحة لما فيها من إثبات حكم مخالف للحكم الأول بعلة أخرى في ذلك المحل من غير زيادة وتغيير. والنوع الثاني, وهو قولنا في هذا الموضع ركن في الوضوء فلا يسن تثليثه بعد إكماله كالغسل معارضة بتغيير هو تفسير للحكم الأول وتقرير له وهي صحيحة أيضا حتى وجب المصير إلى الترجيح فيها كما في المعارضة الأولى ولكنها دون الأولى فإن الأولى تصح بدون الزيادة, وهذه لا تصح بدونها كذا ذكر في بعض نسخ أصول الفقه لأصحابنا. وكان ينبغي أن يكون هذا القسم أقوى من القسم الأول في الدفع, ومقدما عليه; لأنه أحد وجهي القلب, والقلب مقدم على المعارضة المحضة عند عامة الأصوليين لتضمنه إبطال علة الخصم ثم إيراد الشيخ رحمه الله هذا النوع هاهنا مشكل; لأنه في بيان المعارضة المحضة الخالصة عن تضمن معنى الإبطال, وهذا النوع ليس بمعارضة خالصة, وقد ذكره في المعارضة التي فيها مناقضة فكيف يصح إيراده في المعارضة الخالصة وما ذكر في بعض الشروح أن هذا القسم معارضة ذاتا, ومناقضة ضمنا فيصح إيراده هاهنا باعتبار معنى المعارضة, ويصح إيراده(4/88)
ركن في الوضوء فلا يسن تثليثه بعد إكماله كالغسل, وهذا أحد وجهي القلب على ما قلنا. وأما الثالث فما فيه نفي لما أثبته الأول أو إثبات لما نفاه لكن بضرب تغيير مثل قولنا في الثيب اليتيمة إنها صغيرة فتنكح كالتي لها أب أي فقالوا هي صغيرة فلا يولى عليها بولاية الأخوة كالمال, وهذا تغيير للأول; لأن التعليل لإثبات الولاية لا لتعيين الولي إلا أن تحت هذه الجملة نفي للأول; لأن
ـــــــ
في القسم الأول أيضا باعتبار معنى المناقضة, وما ذكر في بعض نسخ الأصول لأصحابنا أن هذه معارضة فيها معنى القلب فالسائل بالخيار إن شاء يأتي به على وجه المعارضة, وإن شاء يأتي به على وجه القلب لا يدفعان هذا الإشكال; لأن الشيخ قيد المعارضة بالخالصة وبإيراد هذا النوع في هذا الموضع لا يحدث الخلوص فيه. وكذا بإيراد السائل إياه على وجه المعارضة لا يصير معارضة خالصة فلا يستقيم إيراده في المعارضة الخالصة بوجه وذكر القاضي الإمام وشمس الأئمة رحمهما الله أقسام المعارضة في الفرع والأصل على وجه المذكور في الكتاب لكنهما ذكرا القلب والعكس في فصل على حدة, وذكرا أقسام المعارضة في فصل آخر, ولم يقيدا المعارضة بالخلوص فاستقام إيراد هذا القسم منهما في أقسام المعارضة كما استقام إيراده في أقسام القلب ولكن الشيخ لما تصرف وجعل الكل من باب المعارضة ثم قسم المعارضة على قسمين خالصة وغيرها اشتبه إيراده في القسمين لاستلزامه كون هذا النوع معارضة خالصة وغير خالصة, ولا أعرف وجه التقصي عنه.
قوله: "وأما الثالث" أي القسم الثالث من أقسام المعارضة الخالصة في الفرع فما فيه أي فالمعارضة التي فيها نفي لما أثبته المستدل أو إثبات لما نفاه, ولكن بضرب تغير فيه إخلال بموضع النزاع. مثل قولنا في أن لغير الأب والجد من الأولياء كالأخ والعم ولاية تزويج الصغيرة عند عدم الأب والجد عندنا خلافا للشافعي رحمه الله أنها أي اليتيمة صغيرة عليها فيثبت ولاية التزويج كالتي لها أب فقالوا أي أصحاب الشافعي هذه صغيرة فلا يولى عليها بولاية الأخوة قياسا على المال فإنه لا ولاية للأخ على مال الصغيرة بالاتفاق, وهذا تغيير الأول أي تعيين الأخ زيادة توجب تغييرا للحكم الأول الذي وقع النزاع فيه; لأن التعليل وقع لإثبات ولاية التزويج عليها على الإطلاق لا لتعيين الولي الزوج لها والخصم بهذه المعارضة علل لنفي الولاية في محل خاص, وهو الأخ فمن هذا الوجه لم يكن هذا الحكم عين ذلك الحكم فلم تكن هذه المعارضة دفعا إلا أن أي لكن تحت هذه الجملة, وهي التعليل لنفي ولاية الأخ في التزويج نفي الحكم الأول, وهو إثبات ولاية الإنكاح على الصغيرة لغير الأب والجد من الأولياء على الإطلاق; لأن قرابة الأخوة أقرب القرابات بعد قرابة الولادة, والأخ هو الأصل بعد الأب والجد في الولاية; لأن الولاية لسائر(4/89)
ولاية الأخوة إذا بطلت بطل سائرها بناء عليها بالإجماع. وأما الرابع فالقسم الثاني من قسمي العكس على ما بينا ففيه صحة من وجه وعلى ذلك ما قلنا الكافر يملك بيع العبد المسلم فيملك شراءه كالمسلم فقالوا بهذا المعنى وجب أن يستوي ابتداؤه وقراره كالمسلم. وأما الخامس فالمعارضة في حكم غير الأول
ـــــــ
الأقارب تثبت بعد ولاية الأخ بالإجماع كما تثبت ولاية الأخ بعد ولاية الأب والجد فلما انتفى بهذه المعارضة ولاية الأخ الذي هو الأقرب والأصل; فلأن تنتفي ولاية سائر الأقارب التي هي مبنية على ولاية الأخ كان الأخ أولى, أو يقال ولاية الأخ منتفية عنها بهذه المعارضة وولاية من سوى الأخ من الأولياء منتفية عنها بالأخ فيكون كل الولايات منتفية بهذه المعارضة فمن هذا الوجه يظهر معنى الصحة فيها, وإن لم يكن قويا.
قوله: "ففيه صحة من وجه" يعني إيراده في المعارضة بعدما بينا فيه ما يوجب فساده باعتبار أن فيه صحة من وجه, وهو أنه لو ثبت ما ادعاه السائل من الاستواء على الإطلاق يلزم منه انتفاء حكم المستدل فمن حيث إنه لم يثبت بهذه المعارضة خلاف حكم المستدل صريحا وقصدا لم يتحقق معنى المعارضة فيه فتكون فاسدة, ومن حيث إن ما ادعاه السائل من الحكم يستلزم نفي حكم المستدل يظهر فيها جهة الصحة وعلى ذلك أي على أن في هذه المعارضة جهة الصحة قلنا كذا فقالوا كذا. الكافر إذا اشترى عبدا مسلما يجوز شراؤه عندنا ولكنه يؤمر بإخراجه من ملكه بالبيع من مسلم أو بالإعتاق أو نحو ذلك, ويجبر عليه وعند الشافعي رحمه الله لا يجوز شراؤه فعلل أصحابنا بأن العبد المسلم مال يملك الكافر بيعه فيملك شراءه قياسا على المسلم فعارضوه بأن الكافر لما ملك بيعه, وهو المراد بقوله بهذا المعنى وجب أن يستوي ابتداؤه أي ابتداء الملك. وقوله كالمسلم وفي التقويم وجب أن يستوي حكم الشراء والتقرير عليه كالمسلم ثم العبد المسلم ليس بمحل لقرار ملك الكافر فيه بالاتفاق فوجب أن لا يكون محلا لثبوت الملك فيه ابتداء ففي هذه المعارضة إثبات ما لم ينفه المستدل; لأنه لم ينف التسوية بين الابتداء والقرار, وإنما أثبت التسوية بين البيع والشراء فلا تكون متصلة بموضع النزاع فتكون فاسدة إلا أن فيها شبهة الصحة; لأنه إذا ثبت استواء البقاء والابتداء ظهرت المفارقة بين البيع والشراء فيصح البيع, ولا يصح الشراء; لأنه يوجب الملك ابتداء فيتصل بموضع النزاع من هذا الوجه لكن الاتصال لما لم يثبت إلا بعد البناء بإثبات التسوية بين الابتداء والبقاء, وليس إلى السائل البناء ترجحت جهة الفساد في هذه المعارضة فلا تصلح لدفع تعليل المستدل إليه أشير في التقويم وفي إيراد هذا النوع من المعارضة في أقسام المعارضة الخالصة من السؤال ما في إيراد النوع الثاني; لأن جهة صحة المعارضة في هذا النوع يستلزم إبطال تعليل المستدل أيضا فعلى تقدير كونه معارضة لا يكون خالصة.(4/90)
لكن فيه نفي للأول أيضا مثل قول أبي حنيفة في التي نعي إليها زوجها فنكحت وولدت ثم جاء الأول حيا أن الأول أحق بالولد; لأنه صاحب فراش صحيح فإن عارضه الخصم بأن الثاني صاحب فراش فاسد فيستوجب به نسب الولد كرجل تزوج امرأة بغير شهود فولدت فهذه المعارضة في الظاهر فاسدة لاختلاف الحكم إلا أن النسب لما لم يصح إثباته من زيد بعد ثبوته من عمرو صحت المعارضة بما يصلح سببا لاستحقاق النسب فاحتاج الخصم إلى الترجيح بأن فراش الأول
ـــــــ
قوله: "وأما الخامس فالمعارضة في حكم غير الأول" يعني يأتي السائل بحكم يخالف حكما آخر, وإلا يخالف الحكم الأول صورة لكن فيه أي فيما يثبت بهذه المعارضة من الحكم نفي من الحكم الأول من حيث المعنى كما في القسم الثالث والرابع, وإليه أشير بلفظه أيضا فإن قول السائل في المثال المذكور إن الثاني يستوجب نسب الولد يعارض عدم ثبوت النسب للثاني, ولا يعارض ثبوت النسب للأول صورة إلا أن الفرق بين هذا النوع وبين ما تقدم إن محل حكمي المستدل والسائل مختلف في هذا النوع. وفيما تقدم كان المحل واحدا مثل قول أبي حنيفة أي مثل معارضة قول أبي حنيفة رحمه الله في المرأة التي نعي إليها زوجها أي أخبرت بموته من نعى الناعي الميت نعيا إذا أخبر بموته, وهو منعي فاعتدت المرأة وتزوجت بزوج آخر وجاءت بولد ثم حضر الزوج الأول أن الولد يكون للأول; لأنه صاحب فراش صحيح لقيام النكاح بينهما بصفة الصحة فكان أحق بالولد كما إذا لم تتزوج بزوج آخر وجاءت بالأولاد في حال غيبته بأن الثاني صاحب فراش فاسد إلى آخره فهذه معارضة فاسدة في الظاهر لاختلاف الحكم يعني من شرط المعارضة أن يكون الحكم الذي يتوارد عليه النفي والإثبات واحدا; لأنها صارت حجة للمدافعة والمدافعة إنما تتحقق فيما قلنا, وهاهنا الحكم مختلف; لأن المستدل علل لإثبات النسب من الأول, والسائل علل لإثباته من الثاني, وكان ينبغي أن يعلل لنفيه عن الأول ليتوارد النفي والإثبات على حكم واحد ففسدت المعارضة من هذا الوجه ولم يتعرض في التقويم وغيره لاختلاف الحكم في هذا النوع, وإنما تعرض لاختلاف المحل فقيل هو إثبات للحكم الأول في محل غير الأول, وهو أوضح; لأن التعليل لإثبات النسب من الأول. والسائل أثبت النسب للثاني فكان محل الحكم مختلفا ففسدت المعارضة لاختلاف المحل إذ من شرطها اتحاد المحل, ولم يوجد إلا أن فيها صحة من وجه, وهو أن النسب متى ثبت من عمرو مثلا وهو الثاني لا يمكن إثباته من زيد, وهو الأول لعدم تصور ثبوته من شخصين فتضمنت هذه المعارضة نفي النسب عن الأول, وقد وجد ما يصلح سببا لاستحقاق النسب في حق الثاني, وهو الفراش الفاسد فصحت من هذا الوجه. قال الشيخ رحمه الله في شرح(4/91)
صحيح ثم عارضه الخصم بأن الثاني شاهد والماء ماؤه فتبين به فقه المسألة, وهو أن الصحة والملك أحق بالاعتبار من الحضرة; لأن الفاسد شبهة فلا يعارض الحقيقة فيفسد الترجيح. وأما المعارضات في الأصل فثلاثة معارضة بمعنى لا يتعدى وذلك باطل لعدم حكمه ولفساده لو أفاد تعدية والثاني أن يتعدى إلى
ـــــــ
التقويم: إن فيها شبهة الصحة; لأن النسب لو ثبت من الحاضر انتفى من الغائب لكن الحكم الذي ادعاه المجيب لا ينتفي إلا بعد إثبات السائل الحكم الذي ادعاه, وليس إليه إثباته, وإنما إليه الإبطال بالمدافعة وذلك إنما يتحقق في محل واحد فتكون معارضة فاسدة فاحتاج الخصم إلى الترجيح, ولما صحت المعارضة من الوجه الذي ذكر احتاج الخصم, وهو المجيب إلى ترجيح ما ادعاه على ما ذكره السائل بأن يقول فراش الزوج الأول صحيح والملك قائم حقيقة, وفراش الزوج الثاني فاسد لا حقيقة له فكان الأول أحق بالاعتبار. كما لو كانا حاضرين, واحد الفراشين صحيح والآخر فاسد, ثم عارضه الخصم, وهو السائل بأن الثاني شاهد أي حاضر والماء ماؤه, وقد وجد ما يثبت به النسب, وهو الفراش الفاسد فيكون أولى بالاعتبار من الأول فيتبين بهذا أي بالترجيح من الجانبين فقه المسألة, وهو أن صحة فراش الأول, وقيام ملكه مع غيبته أحق بالاعتبار من حضرة الثاني, وكونه صاحب الماء مع فساد فراشه وانتفاء ملكه حقيقة; لأن الفاسد يوجب الشبهة, والصحيح يوجب الحقيقة فكانت الحقيقة أولى بالاعتبار من الشبهة كذا في بعض نسخ أصول الفقه قال شمس الأئمة رحمه الله الفراش الصحيح الذي للغائب يوجب استحقاق النسب للأول, والفراش الفاسد مع قرائنه المذكورة ليس مثلا للصحيح فلا ينسخ به حكم الاستحقاق الثابت بالصحيح; لأن الشيء لا ينسخ إلا بما هو فوقه أو مثله وبعدما صار النسب مستحقا لزيد لا يمكن إثباته لعمرو بوجه ما.
قوله: "وأما المعارضات في الأصل" أي في المقيس عليه المعارضة في الأصل أن يذكر السائل علة أخرى في المقيس عليه تفقد هي في الفرع, ويسند الحكم إليها معارضا للمجيب في علته, وهي باطلة لما عرفت أن الوصف الذي يدعيه السائل متعديا كان أو غير متعد لا ينافي الوصف الذي يدعيه المجيب إذ الحكم في الأصل يجوز أن يثبت بعلل مختلفة. كما لو وقعت في دن قطرة بول ودم وخمر تنجس بنجاسة البول والدم والخمر حتى لو توهمنا زوال البعض يبقى الباقي منجسا.
ثم أشار الشيخ إلى بيان فساد أنواعها مفصلة فقال: وأما المعارضات في الأصل فثلاثة أي ثلاثة أنواع معارضة بمعنى لا يتعدى أي بذكر السائل علة في الأصل لا يتعدى إلى فرع كما إذا علل المجيب في بيع الحديد بالحديد بأنه موزون قوبل بجنسه فلا(4/92)
............................................................................................
يجوز بيعه به متفاضلا كالذهب والفضة فيعارضه السائل بأن العلة في الأصل الثمينة دون الوزن, وأنها عدمت في الفرع فلا يثبت فيه الحرمة, وذلك باطل أي هذا النوع من المعارضة باطل إذ التعليل بمعنى لا يتعدى باطل; لعدم حكمه, وهو التعدية فإنا قد بينا أن حكم التعليل ليس إلا التعدية فإذا خلا تعليل عن التعدية بطل الخلوة عن الفائدة إذ الحكم في الأصل ثابت بالنص دون العلة ولا فرع يثبت الحكم فيه بالعلة, وإذا بطل التعليل بطلت المعارضة به. ولفساده لو أفاد تعدية يعني لو عارض السائل بمعنى يفيد تعدية كانت المعارضة فاسدة أيضا سواء تعدى إلى فرع مجمع عليه أو إلى فرع مختلف فيه لعدم اتصال هذه المعارضة بموضع النزاع إلا من حيث إنه تنعدم تلك العلة في هذا الموضع, وقد مر غير مرة أن عدم العلة لا يوجب عدم الحكم, ولا يصلح دليلا عند عدم حجة أخرى فكيف يصلح دليلا عند مقابلة حجة. مثال التعدية إلى فصل مجمع عليه ما إذا علل المجيب في حرمة بيع الجص بجنسه متفاضلا بأنه مكيل قوبل بجنسه فيحرم بيعه به متفاضلا كالحنطة والشعير فيعارضه السائل بأن المعنى ليس في الأصل ما ذكرت, ولكنه الاقتيات والادخار, وقد فقد هذا المعنى في الفرع, وهذا المعنى يتعدى إلى فصل مجمع عليه, وهو الأرز والدخن ونحوهما إذ لا يناقش المجيب السائل فيها لكن المعارضة في هذا الموضع لا تفيد للسائل إلا من حيث إنه ليس بموجود في الجص, وقد قلنا إن عدم العلة لا يصلح دليلا. ومثال ما إذا تعدى إلى فرع مختلف فيه ما إذا عارض السائل في هذه المسألة أيضا بأن يقول ليس المعنى في الأصل ما ذكرت, ولكنه الطعم, ولم يوجد في الفرع فهذا المعنى يتعدى إلى فرع مختلف فيه وهو الفواكه, وما دون الكيل وأقوى الوجوه الثلاثة المعارضة بمعنى يتعدى إلى فرع مجمع عليه, وإذا ثبت فساد هذا الوجه كان فساد ما سواه أولى بالثبوت ثم في لفظ الكتاب نوع اشتباه فإن اللام في قوله ولفساده متعلقة بقوله: وذلك باطل كاللام الأولى والضمير فيه راجع إلى المعنى فصار التقدير المعارضة بالمعنى الذي لا يتعدى باطلة لكذا ولفساد المعنى الذي لا يتعدى لو أفاد تعدية, وهذا لا يصلح تعليلا لما ذكره; لأن ما لا يتعدى لا يفيد تعدية بوجه إذ لو أفاد تعدية لم يبق غير متعدد. وكان ينبغي أن يقال بهذا الترتيب المعارضات في الأصل ثلاثة أنواع معارضة بمعنى لا يتعدى, ومعارضة بمعنى يتعدى إلى فرع مجمع عليه, ومعارضة بمعنى يتعدى إلى فرع مختلف فيه, والكل باطل لعدم حكم التعليل, وهو التعدية إن كان المعنى الذي عارض به السائل غير متعد ولفساده لو أفاد تعدية; لأنه لا يتعلق بمواضع النزاع إلا أن نظر المشايخ لما كان إلى تصحيح المعنى لم يلتفتوا إلى رعاية اللفظ في جميع المواضع.(4/93)
فصل مجمع عليه; لأنه لا ينفي العلة الأولى, والثالث أن يتعدى إلى معنى مختلف فيه ومن أهل النظر في أصحابنا من جعل هذه المعارضة حسنة لإجماع الفقهاء على أن العلة أحدهما فصارتا متدافعتين بالإجماع فيصير إثبات
ـــــــ
ثم إن الشيخ ذكر لفظ البطلان فيما إذا كان المعنى غير متعد, ولفظ الفساد فيما إذا كان متعديا; لأن الفساد في الأول من وجهين عدم صحته في نفسه; لأن التعليل بعلة قاصرة غير صحيح وعدم تعلقه بموضع النزاع, وفي الثاني من وجه واحد, وهو عدم تعلقه بالمتنازع فيه.
قوله: "ومن أهل النظر من أصحابنا من جعل هذه المعارضة" أي المعارضة في الأصل بأقسامها الثلاثة حسنة كذا في بعض الفوائد وهذا لا يستقيم في القسم الأول; لأن أحدا من أصحابنا لم يقل بجواز التعليل بعلة قاصرة فيكون المعارضة بمعنى لا يتعدى فاسدة بلا خلاف بينهم ثم سياق كلام القاضي الإمام أبي زيد وشمس الأئمة رحمه الله يشير إلى أن الخلاف في القسم الأخير, وهو المعارضة بمعنى يتعدى إلى فرع مختلف فيه فإنهما ذكرا إفساد القسمين الأولين, وأقاما الدليل عليه من غير ذكر خلاف ثم قالا وكذلك ما يتعدى إلى فرع مختلف فيه وبينا الخلاف فيه فقالا, ومن الناس من زعم أن هذه معارضة حسنة وكذا الدليل المذكور في الكتاب يشير إليه أيضا فإنهم تمسكوا بأن العلة أحد الوصفين لا كلاهما بالإجماع فصارتا متدافعتين أي متنافيتين بالإجماع فيصير إثبات العلة الأخرى من السائل إبطالا لعلة المجيب من طريق الضرورة فيكون في هذه المعارضة معنى الممانعة والمدافعة فتصح فهذا الاستدلال منهم إنما يستقيم في القسم الأخير دون الأولين إذ لا يمكن للمجيب فيه أن يقول ثبت الحكم في الأصل بالمعنيين جميعا لإنكاره ثبوت الحكم بالعلة التي ذكرها السائل, ولا يمكن ذلك للسائل أيضا فيثبت التدافع بالاتفاق فيبطل المعنيان بالتعارض ويبقى الأصل بلا معنى فلا يبقى حجة فيتحقق معنى الممانعة في هذه المعارضة من هذا الوجه, فأما في القسمين الأولين فيمكن للمجيب أن يجمع بين المعنيين ويقول الحكم ثابت بالمعنيين جميعا فلا يتحقق الإجماع في هذين القسمين على أن العلة أحد المعنيين فلا يثبت التدافع فتكون المعارضة فاسدة بالاتفاق لفوات معنى الممانعة أصلا. وبيان ما ذكرنا أن السائل إذا عارض في تعليل الحنطة بالكيل والجنس للتعديد إلى الجص بأن المعنى في الأصل الطعم دون الكيل والجنس لا يمكن للمجيب أن يقول يجوز أن يكون الحكم ثابتا بالعلتين لإنكاره ثبوت الحرمة في التفاحة بالتفاحتين والحفنة بالحفنتين الذي هو موجب علة السائل فيثبت التدافع فأما إذا عارض في هذه الصورة بالاقتيات والإدخار أو عارض في مسألة بيع الحديد بأن العلة في الأصل الثمنية دون الوزنية فيمكن له أن يجمع بينهما فيقول يجوز أن يكون الحكم ثابتا(4/94)
الأخرى إبطالا من طريق الضرورة والجواب: أن الإجماع انعقد على فساد أحدهما لمعنى فيه لا لصحة الآخر كالكيل والطعم والصحيح أحدهما لا غير لكن الفساد ليس لصحة الآخر لكن لمعنى فيه يفسده فإثبات الفساد لصحة الآخر
ـــــــ
بالمعنيين فلا يكون في هذه المعارضة معنى الممانعة فتكون فاسدة بالاتفاق. والجواب عن كلامهم أن الإجماع لم ينعقد على أن العلة أحد الوصفين قصدا بل الاتفاق واقع على أنه لا تنافي بينهما ذاتا لجواز تعلق الحكم بكل واحد منهما بانفراده ولهذا لو نص الشارع على ذلك جاز وحينئذ يتعدى الحكم بأحدهما إلى فروع وبالآخر إلى فروع أخر. وإنما أجمعوا على فساد إحدى العلتين لمعنى فيها لا لصحة الأخرى ألا ترى أن أصحابنا, وأصحاب الشافعي, وإن اتفقوا على أن العلة في الحنطة الكيل أو الطعم, وأن الصحيح أحدهما دون الآخر لم يقولوا بفساد أحدهما لصحة الآخر, ولا بصحة أحدهما لفساد الآخر بل قال كل فريق بصحة ما ادعاه علة لمعنى فيه يوجب الصحة وبفساد علة صاحبه لمعنى فيها يوجب الفساد, وإذا كان كذلك كان إثبات الفساد لإحدى العلتين بثبوت صحة الأخرى باطلا بل لا بد من ذكر معنى مفسد في نفس الوصف لثبوت الفساد فيه كما لا بد من ذكر معنى مصحح لثبوت الصحة فيه ألا ترى أن لظهور فساد إحدى العلتين لا يثبت التأثير في الأخرى بالإجماع كذلك عكسه.
فإن قيل لو لم يثبت فساد إحدى العلتين عند ثبوت صحة الأخرى لزم اجتماعهم على الباطل; لأن الإجماع انعقد على صحة أحديهما دون صحتهما. قلنا: إنما يلزم ذلك أن لو ثبت صحتها قطعا ولكنها لم تثبت بل احتمل أن تكون الفاسدة هي التي بين صحتها والأخرى هي الصحيحة أو يقول الإجماع غير مسلم بدون بيان المفسد.
واعلم أن المعارضة في الأصل هي المفارقة التي ذكرناها عند جمهور الأصوليين, وهو مختار الشيخ رحمه الله; لأن المقصود منهما واحد, وهو نفي الحكم عن الفرع لانتفاء العلة وعند بعضهم إن صرح السائل في هذه المعارضة بالفرق بأن يقول لا يلزم مما ذكرت ثبوت الحكم في الفرع لوجود الفرق بينه وبين الأصل باعتبار أن الحكم في الأصل متعلق بوصف كذا, وهو مفقود في الفرع فهي متفارقة, وإن لم يصرح بالفرق بل قصد بالمعارضة بيان عدم انتهاض الدليل عليه, وقال دليلك إنما كان ينتهض علي لو كان ما ذكرته مستقلا بالعلية وليس كذلك لدلالة الدليل على أنه لا بد من إدراج الوصف الذي أقوله في التعليل فهي ليست بمفارقة ولهذا قبلوا هذه المعارضة, ولم يقبلوا المفارقة; لأن حاصل هذه المعارضة راجع إلى الممانعة. وقال بعضهم المفارقة هي المعارضة في الأصل والفرع جميعا حتى لو اقتصر على أحدهما لا يكون فرقا ولما كانت هذه المعارضة مفارقة, وهي من الأسئلة(4/95)
باطل فبطلت المعارضة, وكل كلام صحيح في الأصل يذكر على سبيل المفارقة فاذكره على سبيل الممانعة كقولهم في إعتاق الراهن أنه تصرف من الراهن يلاقي حق المرتهن بالإبطال, وكان مردودا كالبيع فقالوا ليس كالبيع; لأنه يحتمل الفسخ بخلاف العتق والوجه فيه أن نقول إن القياس لتعدية حكم النص دون تغييره, وإنا لا نسلم وجود هذا الشرط هنا, وبيانه أن حكم الأصل وقف ما
ـــــــ
الفاسدة التي لا تقبل من السائل مع أنه قد يقع الفرق بمعنى فقهي صحيح في نفسه بين الشيخ وجه إيراده على طريق يقبل منه فقال: وكل كلام صحيح في الأصل أي في نفسه يذكر على سبيل المفارقة أي يذكره أهل الطرد على وجه الفرق ولا يقبل منهم فاذكره أنت على سبيل الممانعة ليكون ذلك مفاقهة صحيحة على حد الإنكار فيقبل منك لا محالة كقولهم في إعتاق الراهن. إذا أعتق الراهن العبد المرهون نفذ عتقه عندنا سواء كان الراهن موسرا أو معسرا إلا أنه إذا كان معسرا يؤمر العبد بالسعاية في أقل من قيمته, ومن الدين ثم يرجع على المولى عند اليسار وعند الشافعي رحمه الله لا ينفذ إعتاقه إذا كان معسرا قولا واحدا, وله قولان في الموسر فعلل أصحابه في هذه المسألة بأن الإعتاق تصرف من الراهن إلا في حق المرتهن بالإبطال أي يبطل حقه في الرهن بدون رضاء به, وهو البيع بالدين عنده, فكان مردودا كالبيع أي كما إذا باع الراهن المرهون بغير إذن المرتهن.
فقالوا أي فرق أهل الطرد من أصحابنا بين البيع هو الأصل وبين الإعتاق الذي هو الفرع فقالوا ليس الإعتاق مثل البيع لأن البيع يحتمل الفسخ بعد وقوعه فيظهر أثر حق المرتهن في المنع من النفاذ فينعقد على وجه يتمكن المرتهن من فسخه بخلاف الإعتاق فإنه لا يحتمل الفسخ بعدما صدر من الأصل في محله فلا يظهر أثر حق المرتهن في المنع من النفاذ فينعقد لازما, وهذا فرق فقهي صحيح في نفسه, ولكنه فسد لصدوره ممن ليس له ولاية الفرق وهو السائل فلم يقبل. والوجه في إيراده على وجه الممانعة ليقبل أن يقول السائل إن القياس لتعدية حكم النص أي الأصل دون تغييره, وأنا لا أسلم وجود هذا الشرط, وهو التعدية بدون التغيير في المتنازع فيه وبيانه أي بيان فوات هذا الشرط أن حكم الأصل, وهو البيع, وقف أي توقف ما يحتمل الرد في ابتدائه والفسخ بعد ثبوته; لأن حق المرتهن لا يمنع انعقاد البيع عليه من الراهن بالإجماع حتى لو تربص إلى أن يذهب حق المرتهن تم البيع كذا في الأسرار وأنت في الفرع, وهو الإعتاق تبطل أصلا ما لا يحتمل الفسخ والرد أي تلغي من الأصل شيئا لا يحتمل الفسخ بعد ثبوته والرد في ابتدائه فإن العبد لو رد الإعتاق لا يرتد, ولو أراد هو والمولى أن يفسخاه لا ينفسخ بوجه بخلاف البيع. وهذا تغيير لحكم الأصل; لأن الإبطال من الأصل غير الانعقاد على وجه(4/96)
يحتمل الرد والفسخ وأنت في الفرع تبطل أصلا ما لا يحتمل الرد والفسخ كذلك إن اعتبره بإعتاق المريض; لأن حكم الإجماع ثمة توقف العتق ولزوم الإعتاق وأنت قد عديت البطلان أصلا فإن ادعى في الأصل حكما غير ما قلنا لا نسلم ومثل قولهم قتل آدمي مضمون فيوجب المال كالخطأ; لأن ثمة المثل
ـــــــ
التوقف وأصلا نصب على التمييز أو على المصدر لا على أنه مفعول به كما ظنه البعض وما مفعول به, وكذلك إن اعتبره بإعتاق المريض أي, ومثل اعتبار الخصم الإعتاق بالبيع اعتباره إياه بإعتاق المريض في لزوم تغيير حكم الأصل فإنه لما لزمه ما ذكرنا من الفساد في اعتباره الإعتاق بالبيع ألحقه بإعتاق المريض; لأنه لا ينفذ مع أنه لا يقبل الرد والفسخ. وقال: إنه تصرف يبطل حق المرتهن المتعلق بالعبد فلا يصح كإعتاق المريض المديون عبده ولا مال له غيره وهذا; لأن حق المرتهن في العبد المرهون أقوى من حق الغرماء في عبد المريض بدليل أنه لا يمتنع البيع على المريض لحق الغرماء ويمتنع على الراهن ثم إن حقهم يمنع نفوذ إعتاق المريض إذا مات في مرضه فحق المرتهن أولى ففي هذا التعليل تغيير لحكم الأصل; لأن حكم الإجماع ثمة في إعتاق المريض توقف العتق إلى أداء ما وجب عليه من السعاية; لأنه كالمكاتب ما دام يسعى في بدل رقبته ولزوم الإعتاق بحيث لا سبيل إلى إبطاله ورد العبد إلى الرق أصلا وأنت عديت الإبطال أصلا أي أبطلت الإعتاق في الفرع من الأصل بحيث لو أجازه المرتهن بعد لا ينفذ فكان تغييرا لحكم الأصل في الفرع. قال شمس الأئمة رحمه الله في المبسوط وعتق المريض عندنا لا يلغوا قيام حق الغرماء, ولكنه يخرج إلى الحرية بالسعاية لا محالة فهاهنا أيضا ينبغي أن لا يلغو إلا أن هناك هو بمنزلة المكاتب ما دام يسعى, وهاهنا يكون حرا, وإن لزمته السعاية عند اعتبار الراهن; لأن العتق في المرض وصية والوصية تتأخر عن الدين إلا أن العتق لا يمكن رده فيجب عليه السعاية في قيمته لرد الوصية قال وبهذا يتبين أن هناك الواجب عليه بدل رقبته, ولا يسلم له المبدل ما لم يرد البدل, وهاهنا السعاية على العبد ليست في بدل رقبته بل في الدين الذي في ذمة الراهن; لأن حق المرتهن ذلك فوجوب السعاية عليه لا يكون مانعا نفوذ عتقه في الحال ولهذا قلنا لو أيسر الراهن هذا رجع العبد عليه بما أدى من السعاية, وهناك لا يرجع العبد على أحد بما سعى فيه من قيمته فإن ادعى أي المعلل في الأصل, وهو البيع أو إعتاق المريض حكما غير ما قلنا بأن يقول حكم البيع البطلان لا التوقف, وكذا حكم إعتاق المريض فلا يكون في هذا التعليل تغيير حكم الأصل لم نسلم; لأن عندنا حكمهما ما ذكرنا فإن وافقنا فيه يلزم التغيير ضرورة, وإن خالفنا فيه بأن قال عندي حكمهما البطلان يكون هذا رد المختلف إلى المختلف, وهو فاسد أيضا; لأنه ليس بحجة على الخصم.(4/97)
غير مقدور عليه وسبيله ما قلنا أن لا نسلم قيام شرط القياس وتفسيره أن حكم الأصل شرع المال خلفا عن القود وأنت جعلته مزاحما له وقد بينا أن المناقضة لا ترد على العلل المؤثرة بعد صحة أثرها, وإنما تبين ذلك بوجوه أربعة, وهذا.
ـــــــ
قوله: "ومثل قولهم" أي مثل تعليل أصحاب الشافعي في إيجاب الدية في القتل العمد بأنه قتل آدمي مضمون فيوجب المال كالقتل الخطأ فإن فرق السائل بأن العمد ليس كالخطأ في لزوم المال; لأن وجوب المال في الخطأ باعتبار تعذر إيجاب المثل من جنسه; لأن الخاطئ معذور لعدم القصد فيصير إلى إيجاب المال خلفا عنه صونا للدم عن الهدر, وقد عدم هذا المعنى في الفرع وهو العمد لوجوب القصاص فيه بالاتفاق, فهذا فرق صحيح في نفسه, ولكنه غير مقبول من السائل فسبيله أن يقول لا أسلم قيام شرط القياس, وهو عدم تغيير حكم الأصل. وتفسيره أي بيان عدم قيام شرط القياس أن حكم الأصل وهو القتل خطأ شرع المال خلفا عن القود عند العجز عن استيفائه, وأنت بهذا التعليل جعلت المال مزاحما للقود حيث أثبته بطريق الأصالة كالقود, والخلف قط لا يزاحم الأصل فكان هذا تقليلا يوجب تغيير حكم الأصل فكان باطلا, وهو نظير مذهبه في إيجاب الفدية على الحائض مع الصوم إذا أخرت القضاء إلى السنة الثانية فإنه جعل الفدية التي هي خلف عن الصوم مزاحما له في الوجوب حيث أوجبهما جميعا. وقد بينا يعني في أول باب دفع العلل أن المناقضة الحقيقية لا ترد على العلل المؤثرة بعد صحة أثرها; لأن تأثيرها لا يثبت إلا بدليل مجمع عليه, ومثل ذلك الدليل لا يقبل النقض, وإنما يرد المناقضة على العلل الطردية; لأن دليل صحتها الاطراد وبالمناقضة لم يبق الإطراد, ولكن قد يرد النقض صورة على العلل المؤثرة فيحتاج إلى دفعه ببيان أنه ليس بنقض, وإنما نبين ذلك أي عدم ورود النقض على العلل المؤثرة حقيقة, وإن يتراءى نقضا صورة بطرق أربعة, والله أعلم.(4/98)
"باب بيان وجوه دفع المناقضة"
قال الشيخ الإمام رضي الله عنه وحاصل ذلك أن المجيب متى أمكنه الجمع بين ما ادعاه علة وبين ما يتصور مناقضة بتوفيق بين بطلت المناقضة كما يكون ذلك في المناقضات في مجلس القضاء بين الدعوى والشهادة وبين الشهادات أنه متى احتمل التوفيق وظهر ذلك بطل التناقض أما الأول فبالوصف
ـــــــ
"باب بيان وجوه دفع المناقضة"
وحاصل ذلك أي حاصل دفع المناقضة والخروج عنها أن المجيب متى أمكنه الجمع بين ما ذكره علة وبين ما يتصور مناقضة لم يكن ذلك نقضا; لأن الجمع بين النقيضين غير متصور, ومتى لم يمكنه الجمع لزمه النقض ثم بهذه الوجوه الأربعة يمكنه الجمع من غير رجوع عن الأول وبها يتبين الفقه كما سنبينه; لأن الفقه هو الوقوف على المعنى الخفي فالدفع على طريق الفقه إنما يكون بوجوه لا تنال إلا بضرب تأمل أما الدفع بألفاظ ظاهرة فلا يكون فقها بين الدعوى والشهادة كما إذا ادعى ألفا, وأقام شاهدين فشهد أحدهما بألف والآخر بألف وخمسمائة لا يقبل الشهادة إلا أن يوفق فيقول كان الواجب خمسمائة إلا إني قبضت خمسمائة. وكذلك إذا ادعى أنه اشترى من فلان هذا العين فشهد شاهدان أنه وهبه منه لا يقبل إلا إذا قال: وهبني فجحد فاشتريته منه وبين الشهادات بأن شهد أحدهما بألف, والآخر بألف وخمسمائة والمدعي يدعي الأكثر يقبل الشهادة على الألف لاتفاقهما على الألف, وإن كانا مختلفين في الحقيقة, وكذا لو شهدا بسرقة بقر, وقال أحدهما لونه أحمر, وقال الآخر لونه أسود تقبل عند أبي حنيفة رحمه الله لإمكان التوفيق بأن شهد كل منهما على ما وقع عنده من لون البقر كما عرف في موضعه.
قوله: "أما الأول" أي الوجه الأول من وجوه الدفع الدفع بالوصف بأن يقول ما ذكرته علة ليس موجودا في صورة النقض فتخلف الحكم فيها لا يدل على فساد العلة. والثاني بمعنى الوصف وهو دلالة أثره أي أثر الوصف على الحكم بأن يقول ليس المعنى الذي جعل الوصف به علة, وهو التأثير موجودا في صورة النقض فلا يكون الوصف بدونه علة, وإذا(4/99)
الذي جعله علة والثاني بمعنى الوصف الذي به صار الوصف علة, وهو دلالة أثره, والثالث بالحكم المطلوب بذلك الوصف, والرابع بالغرض المطلوب بذلك الحكم. أما الأول فظاهر مثل قولنا في مسح الرأس أنه مسح فلا يسن تثليثه كمسح الخف ولا يلزم الاستنجاء; لأنه ليس بمسح ولكنه إزالة النجاسة ألا ترى أنه إذا أحدث فلم يتلطخ به بدنه لم يكن الاستنجاء سنة, وكذلك قولنا في الخارج من غير السبيلين
ـــــــ
لم يكن علة لم يكن نقضا. والثالث بالحكم المطلوب بذلك الوصف بأن يقول ليس الحكم المطلوب بالوصف متخلفا عن الوصف بل هو موجود لكن لم يظهر لوجود المانع فلا يكون نقضا إذ النقض أن يتخلف الحكم عن الوصف عند عدم المانع, وهذا النوع من الدفع إنما يستقيم على قول من جوز تخصيص العلة فأما عند من يأباه فلا يتأتى هذا الدفع على مذهبه. والرابع بالغرض المطلوب بذلك الحكم, وفي أصول شمس الأئمة بالغرض المطلوب بالتعليل, وهو أوضح, ولفظ التقويم ثم بالغرض الذي قصد المعلل التعليل لأجله, وأثبت الحكم بقدره. أما الأول فظاهر أي الدفع بالوجه الأول, وهو الدفع بالوصف ظاهر الصحة; لأن الوصف ركن العلة فعدم الحكم عند عدمه يكون دليل صحته فيصح الدفع به. مثل قولنا في مسح الرأس إنه مسح فلا يسن تثليثه كمسح الخف فيورد عليه الاستنجاء بالأحجار نقضا فإنه مسح, ويسن فيه التثليث فإن العدد, وإن لم يكن مسنونا عندنا لكن إذا احتيج إلى التثليث فإنه يقع سنة بالإجماع. وكذا الاستنجاء بحجر له ثلاثة أحرف سنة, وإن لم يكن العدد مسنونا عندنا كذا في بعض الشروح فندفعه بالوصف بأن نقول إن الاستنجاء ليس بمسح أي لا اعتبار للمسح فيه بل المعتبر فيه إزالة النجاسة بدليل أنه شرع بشيء له أثر في الإزالة كالحجر والمدر والماء وبدليل أنه لو أحدث, ولم يتلطخ به بدنه بأن خرج منه ريح لم يكن المسح سنة, ولو كان الاستنجاء مسحا لم يتوقف على تلطخ البدن كمسح الرأس والخف. وبدليل أن غسله بالماء أفضل; لأنه أبلغ في الإزالة, ولو كان مسحا لكره تبديله بالغسل إذ الغسل في محل المسح مكروه كما في مسح الرأس والخف وكذلك أي, ومثل قولنا في الخارج من غير السبيلين أنه نجس خارج من بدن الإنسان فكان حدثا كالبول وزاد بعضهم قيد الحياة فقالوا من بدن الإنسان الحي احترازا عن النجس الخارج من الميت فإنه لا يوجب إعادة غسله ثانيا, ولا حاجة إليه; لأنه بعد الموت لم يبق إنسانا على الإطلاق فلا يكون داخلا تحت مطلق لفظ الإنسان ثم أورد عليه ما إذا لم يسل عن رأس الجرح نقضا فإنه خارج نجس, وليس بحدث, ومثله حدث في السبيلين بلا خلاف وبهذا زاد بعضهم لفظ الكثير فقالوا الخارج الكثير النجس من غير السبيلين(4/100)
أنه خارج من الإنسان فكان حدثا كالبول ولا يلزم عليه إذا لم يسل; لأنه ظاهر وليس بخارج; لأن تحت كل جلدة رطوبة وفي كل عرق دما فإذا زايله الجلد كان ظاهرا لا خارجا ألا ترى أنه لا يجب به الغسل بالإجماع. وأما الدفع بمعنى الوصف فإنما صح; لأن الوصف لم يصر حجة بصيغته, وإنما صار حجة بمعناه الذي يعقل به,
ـــــــ
حدث احترازا عنه. فوجب دفع هذا النقض بمنع الوصف بأن يقال لا نسلم أن ذلك خارج; لأن الخروج هو الانتقال من مكان باطن إلى مكان ظاهر كالرجل يخرج من الدار لم يوجد هذا المعنى فيما إذا لم يسل; لأن النجاسة بعد في محلها لم ينتقل عنه فإن تحت كل جلدة رطوبة في كل عرق دما والجلدة ساترة لها فإذا زالت الجلدة صار ما تحتها ظاهرا لا خارجا لعدم الانتقال كمن كان في بيت أو خيمة متسترا به إذا رفع عنه ما كان متسترا به يكون ظاهرا لا خارجا, وإنما يسمى خارجا إذا فارق البيت أو الخيمة ألا ترى أنه لا يجب غسل ذلك الموضع بالإجماع, وإن جاوز قدر الدرهم ولو ثبت وصف الخروج لوجب غسل ذلك الموضع عنده قليلا كان ذلك أو كثيرا, ولوجب عندنا إذا جاوز قدر الدرهم ويسن إذا كان ما دون الدرهم وحيث لم يجب, ولم يسن بالإجماع دل على أنه ليس بخارج; لأن هذا حكم النجاسة التي في محلها, وكذا لو أزيلت عن ذلك المحل بقطنة أو بالمسح على جدار لا ينتقض الطهارة, وإن حصل الانفصال; لأنه مخرج وليس بخارج ألا ترى أنه إذا خرج مع البزاق دم والبزاق غالب لا ينقض الطهارة; لأنه لم يخرج بقوة نفسه بل بقوة غيره, وهو البزاق. ولا نسلم أنه نجس أيضا على ما روي عن أبي يوسف رحمه الله أن ما لا يكون حدثا لا يكون نجسا.
قوله: "وأما الدفع بمعنى الوصف", وهو التأثير فإنما يصح; لأن الوصف لم يصر حجة بصيغته أي بمجرد صورة اللفظ لما بينا أن العمل بمجرد الوصف لا يجوز ما لم يظهر ملائمته, ولا يجب ما لم يظهر عدالته, وإنما صار حجة بمعناه الذي يعقل به أي يعلم ويفهم من الوصف ضربان أحدهما ثابت بنفس الصيغة ظاهرا يعني ظاهر لفظه لغة يدل عليه كدلالة لفظ الخروج لغة على الانتقال من الباطن إلى الظاهر ودلالة لفظ المسح لغة على الإصابة. والثاني بمعناه الثابت به أي بالوصف دلالة, وهو التأثير فإن الوصف بواسطة معناه اللغوي يدل على معنى آخر هو مؤثر في الحكم فإن وصف المسح بواسطة معناه اللغوي يدل على التخفيف الذي هو المؤثر في إسقاط التكرار ووصف الخروج في مسألة السبيلين بواسطة معناه أيضا يدل على قيام النجاسة بمحل الطهارة الذي هو المؤثر في إيجاب التطهير على ما ذكرنا فيما سبق يعني في باب تفسير القياس في بيان علة الربا, وفي باب ركن القياس في قوله الأثر معقول من كل محسوس لغة وعيانا ومن كل مشروع(4/101)
وذلك ضربان أحدهما ثابت بنفس الصيغة ظاهر أو الثاني بمعناه الثابت به دلالة على ما ذكرناه فيما سبق فكان ثابتا به لغة فصح الدفع به كما صح بالقسم الأول فكان دفعا بنفس الوصف, وهذا أحق وجهي الدفع لكن الأول أظهر فنبدأ به وذلك مثل قولنا مسح في الوضوء فلم يكن التكرار فيه مسنونا كمسح الخف ولا يلزم الاستنجاء; لأن معنى المسح تطهير حكمي غير معقول والتكرار لتوكيد التطهير فإذا لم يكن مرادا بطل التكرار ألا ترى أنه يتأدى ببعض
ـــــــ
معقول دلالة فكان أي المعنى الثاني, وهو المعنى المؤثر ثابتا أي بالوصف لغة كالمعنى الأول; لأنه ثبت بواسطة المعنى الأول وهذا كشراء القريب يصير إعتاقا بواسطة الملك فإن الموجب للعتق في الحقيقة هو الملك لكن لما كان الملك مضافا إلى الشراء صار العتق بواسطة الملك مضافا إلى الشراء أيضا حتى صار المشتري معتقا فكذا التأثير بواسطة المعنى اللغوي صار مضافا إلى الوصف به موجبا للحكم في الفرع فصح الدفع به أي بالقسم الثاني كما صح بالقسم الأول وهو المعنى اللغوي فإن الدفع في القسم الأول, وهو الدفع بنفس الوصف بالمعنى اللغوي فكان أي الدفع بالأثر دفعا بنفس الوصف أي بمنع نفس الوصف كالقسم الأول. وهذا أي الدفع بالتأثير أحق وجهي الدفع بالاعتبار وهما الدفع بنفس الوصف والدفع بالتأثير; لأن التأثير هو المقصود من الوصف شرعا دون المعنى اللغوي منه لكن الأول أي الدفع بالمعنى الأول أظهر; لأن المعنى اللغوي مفهوم كل أحد من أهل اللسان فبدأنا به وذلك أي الدفع بالتأثير يتحقق في هذين المثالين أيضا وقوله; لأن معنى المسح دليل على المجموع يعني إنما لا يكون التكرار فيه مسنونا, وإنما لا يلزم الاستنجاء; لأن معنى المسح أي تأثيره أنه تطهير حكمي غير معقول المعنى ليس المقصود منه حصول التطهير حقيقة; لأنه لا يحصل بالمسح بل يزداد به النجاسة التي في المحل, وكذا الغسل في موضع المسح مكروه, ولو كان التطهير مقصودا لكان الغسل أفضل بل هو أمر تعبدي مبني على التخفيف كالتيمم والتكرار فيما شرع, وهو الغسل إنما شرع لتوكيد التطهير فإذا لم يكن التظهير هاهنا مرادا بطل التكرار الذي شرع لتوكيده, وكان مكروها; لأنه مقرب إلى الأمر المكروه وهو الغسل. ألا ترى أن المسح يتأدى ببعض محله توضيح لكون التطهير غيره مقصود فيه يعني الغرض يتأدى بمسح بعض الرأس, وهو الربع أو مقدار ثلاثة أصابع عندنا وعنده مقدار ثلاث شعرات, ولو كان التطهير مقصودا لما تأدى ببعض المحل كالغسل بخلاف الاستنجاء; لأن التطهير فيه مقصود إذ هو إزالة عين النجاسة ولهذا كان الغسل فيه أفضل وكان هو الأصل فيه إلا أنه اكتفى بالحجر والمدر تخفيفا وفي التكرار توكيده أي توكيد الإزالة المقصودة في الاستنجاء. ألا ترى(4/102)
محله بخلاف الاستنجاء; لأنه لإزالة عين النجاسة وفي التكرار توكيده. ألا ترى أنه لا يتأدى ببعضه فصار ذلك نظير الغسل, وهذا معنى ثابت باسم المسح لغة وكذلك قولنا أنه نجس خارج فكان حدثا كالبول ولا يلزم إذا لم يسل; لأن ما سال منه نجس أوجب تطهيرا حتى وجب غسل ذلك الموضع فصار
ـــــــ
توضيح لكون إزالة النجاسة التي هي تطهير فيه مقصودا يعني لو استعمل الحجر في بعض المحل دون البعض لا يتم الاستنجاء, ولو كان نفس المسح فيه مقصودا لتأدى ببعضه كمسح الرأس والخف فصار ذلك أي الاستنجاء باعتبار الاستيعاب والقصد إلى تطهير المحل نظير الغسل في الأعضاء المغسولة سنة كالمضمضة أو فرضا كغسل الوجه لا نظير المسح فلذلك شرع التكرار فيه, وهذا معنى ثابت أي كونه تطهيرا حكميا غير معقول المعنى مؤثرا في المنع من التكرار ثابت باسم المسح لغة; لأنه يدل على الإصابة, وهي لا تنبئ عن التطهير الحقيقي, وإنما يدل على التخفيف فكان الدفع بهذا المعنى كالدفع بنفس الوصف وعبارة التقويم إن وصف المسح إنما صار علة لمنع التثليث; لأنه قد ظهر أثره في نفسه من حيث التخفيف في مقابلة الغسل فعلا يعني من حيث إنه يتأدى ببعض الأصابع, وذاتا من حيث إنه أصابه, وكذلك قدرا من حيث التأدي ببعض المحل, وهذا المعنى معدوم في الاستنجاء.
"قوله:" وكذلك أي, ومثل قولنا في الخارج من غير السبيلين أنه نجس خارج فكان حدثا كالبول ولا يلزم عليه ما إذا لم يسل; لأن ما سال منه نجس أوجب تطهيرا يعني الخارج النجس إنما صار حدثا باعتبار أنه مؤثر في تنجيس ذلك الموضع, وإيجاب تطهيره حتى وجب غسل ذلك الموضع للتطهير بالإجماع كما يجب بخروج البول فلما ساوى البول في إيجاب الطهارة الحقيقة ساواه في إيجاب الحكمية بل أولى; لأنها دون الطهارة الحقيقية وأخف منها من حيث إنها طهارة. وهذا أي الذي ظهر, ولم يسل لم يوجب تنجيس المحل, ولم يؤثر في إيجاب التطهير حتى لم يجب غسل ذلك الموضع بالإجماع فلم يكن كالبول في إيجاب الطهارة في محلها فكذا في غير محلها فتبين بدلالة التأثير أن غير السائل لم يدخل تحت التعليل, وإن عدم الحكم هناك لعدم الوصف معنى, وإن وجد صورة ومثله يكون مرجحا للعلة فكيف يكون نقضا. وقوله غير خارج إذا لم يسل, وإن لم يحتج إلى ذكره; لأنه في بيان الدفع بالتأثير لا في بيان الدفع بنفس الوصف بل كان يكفيه أن يقول, وهذا لم يتعلق به وجوب التطهير إلا أنه ذكره ليضم الدفع بالوصف إلى الدفع بالتأثير توكيدا.(4/103)
بمعنى البول, وهذا غير خارج إذا لم يسل حتى لم يتعلق به وجوب التطهير. وأما الدفع بالحكم فمثل قولنا في الغصب إنه سبب لملك المبدل فكان سببا لملك المبدل ولا يلزم المدبر; لأنا جعلناه سببا فيه أيضا لكنه امتنع حكمه لمانع
ـــــــ
فإن قيل ما ذكرتم أنه مؤثر في إيجاب غسل ذلك الموضع غير مستقيم على أصلكم على الإطلاق; لأن الخارج النجس إذا تجاوز عن رأس الجرح لا يؤثر في إيجاب غسل ذلك الموضع إذا لم يتجاوز قدر الدرهم عندكم حتى لو توضأ من غير غسل ذلك الموضع جازت صلاته, وإذا لم يؤثر خروج ما دون الدرهم في إيجاب الطهارة الحقيقية فكيف يؤثر في إيجاب الحكمية قلنا: غرضنا من هذا التعليل إلحاقه بالبول وقد ثبت بالإجماع أن الشرع عفا عن القليل في السبيلين حيث اكتفى بالأحجار, ولم يوجب الغسل فألحقنا غير السبيلين بهما في هذا الحكم أيضا, وهذا لا يدل على عدم تأثيره في إيجاب الغسل بل القليل مؤثر في إيجاب الطهارة الحقيقة والحكمية جميعا كالكثير في الموضعين أعني في الأصل والفرع إلا أن الشرع عفا في القليل عن إيجاب إحدى الطهارتين فبقيت الأخرى واجبة به على أن عند الخصم الحكم في القليل والكثير سواء حتى وجب غسل القليل كغسل الكثير. وعند مشايخنا يجب غسل القليل أيضا حتى قالوا لو رأى المصلي في ثوبه نجاسة دون قدر الدرهم يقطع الصلاة ويغسلها إن لم يخف فوت الوقت ثم يصلي وقالوا أيضا لو اشتغل بغسل ما دون الدرهم من النجاسة تفوته الجماعة, ولكن لا تفوته الصلاة في الوقت أنه يشتغل بغسلها ويصلي منفردا فعرفنا أن القليل مؤثر في الإيجاب كالكثير.
قوله: "وأما الدفع بالحكم" فكذا دفع المناقضة بالحكم أن يدفع المعلل ما يرد عليه من النقض بمنع عدم الحكم في صورة النقض بأن يقول لا أسلم أن الوصف إن وجد لم يوجد حكمه بل الحكم موجود فيها أيضا تقديرا كما إذا قال المجيب إن الغصب سبب لملك البدل, وهو الضمان فيكون سببا لملك المبدل, وهو المغصوب فإذا ورد عليه المدبر نقضا حيث كان غصبه سببا لملك البدل, وليس بسبب لملك المبدل يدفعه بالحكم بأن يقول لا أسلم تخلف الحكم عنه بل الغصب فيه سبب للملك كالبيع; لأنه مال مملوك بدليل أنه لو جمع بين مدبر وقن في البيع دخل المدبر في البيع, وأخذ حصته من الثمن حتى يبقى العقد في القن بحصته, ولو لم يكن السبب منعقدا في حق المدبر لما انعقد العقد في القن; لأنه يصير بائعا إياه بحصته من الثمن ابتداء, وأنه لا يجوز كما لو جمع بين حر, وقن وباعهما.
لكنه أي السبب, وهو الغصب امتنع حكمه, وهو ثبوت الملك لمانع وهو حق(4/104)
كالبيع يضاف إليه ومثل قولنا في الجمل الصائل إن المصول عليه أتلفه لإحياء نفسه والاستحلال لإحياء المهجة لا ينافي عصمة المتلف كما إذا أتلفه دفعا للمخمصة, ولا يلزم مال الباغي, وما يجري مجراه; لأن عصمته لم تبطل بهذا
ـــــــ
المدبر نظرا للمدبر لا; لأن السبب لم يوجد كالبيع يضاف إلى المدبر ينعقد سببا في حقه لما قلنا, وإن امتنع حكمه للمانع, وإذا كان امتناع الحكم لمانع كان الحكم موجودا تقديرا نظرا إلى اقتضاء العلة إياه فلا يكون نقضا بل يكون طردا وهذا على قول من يجوز تخصيص العلة فأما عند من أنكره فالغصب في المدبر ليس بسبب لملك العين فكان عدم الحكم لعدم لا لمانع مع وجوده على ما مر في باب التخصيص. وإنما أورد الشيخ رحمه الله هذا القسم في هذا الباب مع إنكاره تخصيص العلة اتباعا للقاضي الإمام أبي زيد رحمه الله فإنه أورده في التقويم على هذا الوجه ولكنه ليس بصحيح عنده بدليل أنه قد ذكر في شرح التقويم بعد بيان هذا الوجه أن الدفع بهذا الوجه لا يسلم عن القول بتخصيص العلة, وأنه لا يجوز فعرفنا أنه منكر لهذا الوجه من الدفع مثل إنكاره تخصيص العلة. ورأيت في نسخة أخرى أظنها من مصنفات الشيخ في بيان هذا الوجه أن الغصب سبب لأمارة ملك المبدل في المواضع كلها إلا أن في فصل المدبر إنما لا ينعقد سببا; لأن في المحل مانعا كما في البيع فإنه سبب لإفادة الملك ثم إذا أضيف إلى المدبر لا ينعقد سببا لمانع في المحل فكذا هاهنا فجعل السبب غير منعقد للمانع فكان الحكم معدوما لعدم العلة لا لوجودها مع المانع.
قوله: "ومثل قولنا في الجمل الصائل" الجمل إذا صال على إنسان فقتله المصول عليه يجب الضمان عندنا وعند الشافعي رحمه الله لا ضمان عليه; لأنه قتله دفعا للهلاك عن نفسه فصار كالحر الصائل والعبد الصائل. ونحن نقول: إن المصول عليه أتلف مالا متقوما معصوما حقا للمالك لإحياء نفسه فيجب الضمان عليه كما لو أتلفه قبل الصيال, وهذا; لأن إباحة القتل لإحياء المهجة لا تنافي عصمة المحل; لأن دفع الهلاك يحصل مع بقاء عصمة المحل بإباحة الإتلاف بشرط الضمان كما في الإتلاف لدفع المخمصة, وكما في مباشرة محظور الإحرام عند العذر بشرط الضمان, وهو الكفارة. ويلزم عليه إذا أتلف العادل مال الباغي حال القتال والبغي وما يجري مجراه مثل إتلاف نفس الباغي, وإتلاف عبد الغير إذا صال عليه بالسلاح فإن كل واحد منها إتلاف لإحياء المهجة ثم عصمة المحل قد سقطت في هذه الصور حتى لم يجب الضمان على المتلف; لأنه أتلفه إحياء لنفسه, فيدفع هذا النقض بالحكم بأن يقال لا نسلم أن العصمة في تلك الصور سقطت لهذا المعنى, وهو إحياء المهجة لكنها سقطت بالبغي في حق الباغي وبالصيال في حق(4/105)
المعنى فكان طردا لا نقضا, وكذلك متى قلنا في الدم إنه نجس خارج فكان حدثا لم يلزم دم الاستحاضة; لأنه حدث أيضا لكن عمله امتنع لمانع. وأما الرابع فمثل قولنا نجس خارج ولا يلزم دم استحاضة ودم صاحب الجرح السائل الدائم; لأن غرضنا التسوية بين هذا وبين الخارج من المخرج المعتاد وذلك
ـــــــ
العبد; لأن العبد آدمي مكلف, وأنه في حق الدم والحياة مبقى على أصل الحرية فبطلت حرمته بصياله كما تبطل حرمة الحر بصياله, وبطلان حق المولى بطريق التبع كما في إقراره بالحدود والقصاص فكان أي إتلاف مال الباغي, وما يجري مجراه طردا أي موافقا لما ذكرنا من المعنى لا نقضا عليه; لأنه إنما يكون نقضا أن لو وجد الإتلاف منافيا للعصمة موجبا سقوطها في صور النقض, ولم يوجد بل السقوط وجد بعلة أخرى لا بالإتلاف فكان حكم الإتلاف, وهو عدم منافاته للعصمة موجودا في هذه الصور كما في إتلاف الجمل الصائل لكنه لا يمنع وجود معنى آخر مسقط للعصمة ألا ترى أن الإسلام مع كونه موجبا للعصمة لا يمنع حدوث معنى آخر يوجب سقوط العصمة فهذا أولى; لأنه ليس بموجب للعصمة كما أنه ليس بمسقط لها فهذا معنى الدفع بالحكم في هذه المسألة. والصول والصيال الوثب والمهجة الدم ويقال المهجة دم القلب خاصة والمراد منها هاهنا الروح يقال خرجت مهجته إذا خرجت روحه وكذلك أي, وكما لا يلزم المدبر, ومال الباغي على المسألتين المتقدمتين لوجود حكم العلة في صور النقض لا يلزم دم الاستحاضة في هذه المسألة يعني لو قيل إنه دم خارج نجس, وليس يحدث حيث لم ينتقض به الطهارة ما دام الوقت باقيا أو ما دامت تصلي الفرض, وما يتبعه من النوافل لا نسلم أنه ليس بحدث بل نقول إنه حدث, ولكن تأخر حكمه إلى ما بعد خروج الوقت للعذر ولهذا تلزمها الطهارة لصلاة أخرى بعد خروج الوقت بذلك الحدث فإن خروج الوقت ليس بحدث بالإجماع والحكم تارة يتصل بالسبب وتارة يتأخر عنه لمانع كالبيع بشرط الخيار فهذا معنى قوله امتنع عمله لمانع, وهذا على قول من جوز تخصيص العلة أيضا.
"قوله: وأما الرابع, وهو الدفع" فالغرض بأن يقول الغرض من هذا التعليل إلحاق الفرع بالأصل والتسوية بينهما في المعنى الموجب للحكم, وقد حصل فما يرد نقضا على الفرع الذي هو محل الخلاف فهو وارد على الأصل الذي هو مجمع عليه فالجواب الذي للخصم في محل الوفاق هو الجواب لنا في محل النزاع وذلك مثل تعليلنا في الخارج من غير السبيلين أنه خارج نجس فيكون حدثا كالخارج من أحد السبيلين فأورد عليه دم الاستحاضة ودم صاحب الجرح السائل فإن الأول يرد نقضا على الأصل إذ هو خارج نجس عن أحد السبيلين, وليس بحدث. والثاني يرد نقضا على الفرع فإنه خارج نجس من بدن(4/106)
حدث فإذا لزم صار عفوا لقيام وقت الصلاة فكذلك هذا. وكذلك قولنا في التأمين إنه ذكر فكان سبيله الإخفاء, ولا يلزم عليه الأذان وتكبيرات الإمام; لأن غرضنا أن أصل الذكر الإخفاء, وكذلك أصل الأذان والتكبيرات إلا أن في تلك الأذكار معنى زائدا, وهو أنها أعلام فلذلك أوجب فيها حكما عارضا
ـــــــ
الإنسان, ومن غير السبيلين وليس بحدث فيدفع بالغرض, وهو أن يقال إن المقصود من هذا التعليل التسوية بين الفرع, وهو الخارج من غير السبيلين وبين الأصل, وهو الخارج من أحد السبيلين, وقد حصل فإن الخارج من أحد السبيلين حدث فإذا لزم أي دام صار عفوا لقيام, وقت الصلاة أي بسبب قيام وقت الصلاة فإنها مخاطبة بالأداء فيلزم أن تكون قادرة, ولا قدرة إلا بسقوط حكم الحدث في هذه الحالة فكذلك هذا أي فمثل الأصل الفرع, وهو الخارج من غير السبيلين في أنه إذا صار لازما يصير عفوا لقيام وقت الصلاة, ولو لم يجعل عفوا في الفرع عند اللزوم لكان الفرع مخالفا للأصل وذلك لا يجوز فثبت أن التسوية التي هي المقصودة من التعليل في جعله عفوا كالأصل فلا يكون ذلك نقضا.
قوله: "وكذلك" أي, وكما يدفع بالغرض في هذه المسألة يدفع بالغرض في مسألة التأمين فإن علماءنا قالوا السنة في التأمين الإخفاء دون الجهر خلافا للشافعي; لأنه ذكر أي دعاء فإن معناه استجب دعاءنا قال الله تعالى لموسى, وهارون: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس: 89] وروي أن موسى كان يدعو, وهارون عليهما السلام كان يؤمن فكان سنته الإخفاء كما في سائر الأدعية إذا الأصل فيها الإخفاء لقوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] ولقوله عليه السلام: "خير الدعاء الخفي وخير الرزق ما يكفي" أو هو ذكر حقيقة; لأن آمين بالمد اسم من أسماء الله تعالى كذا في الأسرار وهو قول مجاهد فكانت سنته الإخفاء كما في سائر الأذكار لقوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} [الأعراف: 205] الآية. وقوله عليه السلام للذي رفع صوته بالذكر: "إنك لن تدعوا أصم ولا غائبا" 1 ويلزم عليه الأذان وتكبيرات الإمام في الصلاة فإنها أذكار شرعت بالجهر فيدفع بالغرض بأن يقال غرضنا من هذا التعليل أن يجعل الذكر سببا لشرع المخافتة, وأن يسوي بين التأمين وبين سائر الأذكار في هذا المعنى, وقد حصل ذلك; لأن في صور النقض الأصل هو الإخفاء أيضا إلا أن في تلك الأذكار معنى زائدا يوجب الجهر بها على خلاف الأصل, وهو أنها أعلام بفتح الهمزة أي دلالات على انتقالات الإمام من حالة إلى حالة وعلى دخول, وقت الصلاة أو أنها إعلام
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الذكر والدعاء حديث رقم 2704 والترمذي في الدعوات حديث رقم 3374 وأبو داود في الصلاة حديث رقم 1526 والإمام أحمد في المسند 4/394.(4/107)
ألا ترى أن المنفرد والمقتدي لا يجهر بالتكبير, ومن صلى وحده أذن لنفسه وهذا معنى قول مشايخنا في الدفع أنه لا يفارق الأصل لكن
ـــــــ
بكسر الهمزة أي هي إخبار وتنبيه لمن خلف الإمام بانتقاله إلى ركن آخر وللناس بدخول الوقت, ولهذا سمي أذانا فذلك المعنى الزائد أوجب في هذه الأذكار حكما عارضا على الأصل وهو الجهر; لأنها لا تصلح إعلاما إلا بصفة الجهر. فببيان الغرض المطلوب بالتعليل, وهو التسوية بين هذا الذكر وسائر الأذكار اندفع النقض ويمكن أن يجعل هذا من قبيل الدفع بالحكم بأن يقال هذا المعنى, وهو كونه ذكرا يوجب الإخفاء في صور النقض إلا أنه امتنع لمانع أقوى وهو ما ذكرنا; لأن وجود علة لا يمنع وجود علة أخرى يوجب الحكم على خلاف الأولى, وكان الإخفاء فيها ثابتا تقديرا ولهذا لو جهر المقتدي أو المنفرد فقد أساء, وكذا لو جهر الإمام فوق حاجة الناس إلى العلم فقد أساء لزوال المعنى الموجب للجهر فيما وراء موضع الإعلام.
فإن قيل سلمنا أن الأصل في كل ذكر هو الإخفاء إلا أنه قد قام في التأمين معنى آخر يوجب الجهر, وهو إعلام القوم أيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم علق تأمين القوم بتأمين الإمام في قوله: "إذا أمن الإمام فأمنوا" 1 أو لم يكن تأمين الإمام مسموعا لما صح تعليق تأمين القوم به. ويؤيده ما روى أبو وائل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بالتأمين وما روي عن عطاء أنه قال أدركت مائتين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكانوا إذا أمنوا سمع لتأمينهم ضجة في المسجد قلنا قد حصل الإعلام ببيان الموضع حيث قال في حديث آخر: "وإذا قال الإمام: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] فقولوا آمين" 2 فلا حاجة إلى الإعلام بالجهر فيبقى على الأصل, وهو الإخفاء ألا ترى إلى قوله عليه السلام في هذا الحديث فإن الإمام يقولها, ولو كان تأمينه مسموعا لاستغني عن هذا الكلام, وقد اختلف أخبار في فعل النبي عليه السلام فيحمل الجهر على التعليم أو على ابتداء الأمر على أن إبراهيم النخعي رد حديث أبي وائل فقال أشهد أبو وائل وغاب عبد الله, وأبو وائل من الأعراب وما روي عن عطاء معارض بما روي عن عمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم بخلافه فإن مذهبهم في التأمين الإخفاء, وأكثر ما في الباب أن يكون بين الصحابة اختلاف فيدل اختلافهم على اختلاف الأخبار فيصار إلى الترجيح بما ذكرنا إليه أشير في الأسرار. قوله: "وهذا" أي
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الصلاة حديث رقم 410 وأبو داود في الصلاة حديث رقم 936 والترمذي في الصلاة حديث رقم 250 وابن ماجه برقم 851 والإمام أحمد في المسند 2/459.
2 أخرجه مسلم في الصلاة حديث رقم 410 وأبو داود في الصلاة حديث رقم 935.(4/108)
ما قلناه أبين في وجوه الدفع وإذا قامت المعارضة كان السبيل فيه الترجيح, وهذا.
ـــــــ
الدفع بالغرض معنى قول مشايخنا يعني أهل النظر منهم في باب الدفع أنه أي الفرع لا يفارق الأصل يعني أنهم إذا دفعوا النقض بأن قالوا إن الفرع مع ورود هذا النقض لا يفارق الأصل فهو الدفع بالغرض الذي ذكرنا إلا أنهم لقبوه بأنه لا يفارق حكم أصله ونحن لقبناه بالغرض; لأنه أبين في وجه مما قالوا إذ ليس فيه بيان أن عدم مفارقتهما في الحكم المطلوب من التعليل أو في ورود النقض عليهما فكان بمنزلة المجمل وفيما قلنا بيان تسويتهما في الغرض, وهو الحكم المطلوب من التعليل مع ورود النقض فكان بمنزلة المفسر فلهذا اخترنا هذه العبارة, قال القاضي الإمام رحمه الله وبهذه الوجوه الأربعة من الدفع تبين الفقه فإنه اسم لضرب معنى ينال بالتأمل والاستنباط فالدفع على طرق الفقه هو أن يكون بوجوه لا ينال إلا بضرب تأمل فأما الدفع بألفاظ ظاهرة فمما يقع بها الاحتراز عن النقوض بمجرد السماع فلا يكون فقها. قال: وقد زاد مشايخنا من أصحاب الطرد في هذه العلل المؤثرة فعللوا لمسح الرأس أنه مسح بالماء فأشبه مسح الخف احترازا عن الاستنجاء بلفظ ظاهر وعللوا للدم السائل بأنه نجس خارج إلى موضع يلحقه حكم التطهير في نفسه احترازا عن غير السائل بلفظ ظاهر وعللوا لإيجاب الملك في المغصوب بالغصب عند أداء الضمان بأنه سبب أوجب ملك البدل فيوجب ملك المبدل القابل للملك احترازا عن المدبر, وأنه سمج سماعا, ولغو ذكرا لوقوع الغنية عنه بما دونه, والله أعلم.
قوله: "وإذا قامت المعارضة" ولما فرغ عن بيان الممانعة والمعارضة بذلك في بيان دفع المعارضة بعد تحققها فقال: وإذا قامت المعارضة أي تحققت بأن لم تندفع بطريق من الطرق المسلوكة في دفع العلل من الممانعة والقلب ونحوهما كان السبيل فيه أي في دفع المعارضة الترجيح فإن أسوأ أحوال المجيب أن يساويه السائل في الدرجة بإقامة دليل يوجب خلاف ما اقتضاه دليل المجيب فوجب دفعه ببيان الترجيح إذا لم يندفع بطريق آخر فإن لم يتأت للمجيب الترجيح صار منقطعا وإن رجح المجيب علته فللسائل أن يعارض ترجيحه بترجح علته كما كان له أن يعارض علته بعلته فإن لم يمكنه ترجيح علته لزمه ما ادعاه المجيب; لأن العمل بالراجح, وإهمال المرجوح واجب عند العامة على ما سنبينه, والله أعلم.(4/109)
"باب الترجيح"
قال الشيخ الإمام: الكلام في هذا الباب أربعة أضرب أحدها في تفسير
ـــــــ
"باب الترجيح"
اعلم أن العلماء اختلفوا في جواز التمسك بالترجيح عند التعارض ووجوب العمل بالراجح فقال بعضهم الواجب عند التعارض التوقف أو التخيير دون الترجيح لقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] فقد أمر بالاعتبار, والعمل بالمرجوح اعتبار. وقوله عليه السلام "ونحن نحكم بالظاهر" والحكم بالمرجوح حكم بالظاهر; ولأن الأمارات الظنية لا تزيد على البينات, والترجيح غير معتبر في البينات حتى لم ترجح شهادة الأربعة على شهادة الاثنين فكذا في الأمارات وذهب الجمهور إلى صحة الترجيح ووجوب العمل بالراجح متمسكين في ذلك بإجماع الصحابة والسلف على تقديم بعض الأدلة الظنية على البعض إذا اقترن به ما يقوى به على معارضة فإنهم قدموا خبر عائشة رضي الله عنها في التقاء الختانين على خبر من روى أن: "لا ماء إلا من الماء" , وقدموا أيضا من روت من أزواجه أنه عليه السلام كان يصبح جنبا, وهو صائم على ما روى أبو هريرة عن الفضل بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم - ورضي عنهم –: "من أصبح جنبا فلا صيام له" . وقوى علي خبر أبي بكر رضي الله عنهما فلم يحلفه وحلف غيره وقوى أبو بكر رضي الله عنه خبر المغيرة في ميراث الجدة لما روى معه محمد بن مسلمة إلى غير ذلك مما يكثر تعداده; ولأن العقلاء يوجبون العمل بالراجح بعقولهم في الحوادث, والأصل تنزيل الأمور الشرعية على وزان الأمور العرفية لكونه أسرع إلى الانقياد ولهذا قال عليه السلام: "ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن" والجواب عن تمسكهم بالآية أن مقتضاها وجوب النظر, وليس فيها ما ينافي القول بوجوب العمل بالراجح, وعن احتجاجهم بالسنة منع كون المرجوح ظاهرا; لأن الظاهر هو ما ترجح أحد طرفيه على الآخر والمرجوح مع الراجح ليس كذلك وعن تعلقهم بمسألة الشهادة ما سيأتي. واعلم أيضا أن الترجيح إنما يقع بين المظنونين; لأن الظنون تتفاوت في القوة, ولا يتصور ذلك في معلومين إذ ليس بعض العلوم أقوى من بعض, وإن كان بعضها أجلى وأقرب حصولا, وأشد استغناء عن التأمل, ولذلك قلنا إذا تعارض نصان قاطعان فلا سبيل إلى(4/110)
الترجيح, ومعناه لغة وشريعة والثاني في الوجوه التي تقع بها بترجيح. والثالث بيان المخلص في تعارض وجوه الترجيح, والرابع في الفاسد من وجه الترجيح. أما الأول فإن الترجيح عبارة عن فضل أحد المثلين على الآخر وصفا فصار الترجيح بناء على المماثلة وقيام التعارض بين مثلين يقوم بهما التعارض قائما بوصف هو تابع لا يقوم به التعارض بل ينعدم في مقابلة أحد ركني التعارض, وأصل ذلك رجحان الميزان وذلك أن يستوي الكفتان بما يقوم به التعارض من الطرفين ثم
ـــــــ
الترجيح بل المتأخر هو الناسخ إن عرف التاريخ, وإلا وجب المصير إلى دليل آخر أو التوقف ولا في معلوم, ومظنون لاستحالة بقاء الظن في مقابلة العلم فثبت أن محل الترجيح الدلائل الظنية فبعد ذلك الكلام في ترجيح الأقيسة على الأوجه التي ذكرها الشيخ في الكتاب.
قوله: "في تفسير الترجيح ومعناه لغة وشريعة" يحتمل أن يكون من اللف والنشر المستقيم أي في تفسير الترجيح لغة, ومعناه شريعة ويجوز أن يكون من اللف والنشر المشوش أي في تفسير الترجيح شريعة, ومعناه لغة. أما الأول, وهو تفسير الترجيح لغة وشريعة والثاني في الوجوه التي يقع بها الترجيح أي الوجوه الصحيحة التي يقع بها الترجيح في الأقيسة فأما وجوه الترجيح في الأخبار فقد مر الكلام فيها فإن الترجيح عبارة عن كذا فيه توسع; لأن ما ذكر معنى الرجحان لا معنى الترجيح فإن الترجيح إثبات رجحان. ولهذا قال القاضي الإمام: الترجيح لغة إظهار الزيادة لأحد المثلين على الآخر وصفا لا أصلا من قولك أرجحت الوزن إذا زدت جانب الموزون حتى مالت كفته وطفت كفة السنجات ميلا لا يبطل معنى الوزن فصار الترجيح بناء على المماثلة فقوله بناء خبر صار, وقائما خبر بعد خبر أو بناء مصدر بمعنى المفعول وقع موقع الحال, وقائما خبر صار أي صار الترجيح على هذا التفسير الذي ذكرنا مبنيا على المماثلة قائما بكذا; لأنه لما كان عبارة عن فضل أحد المثلين لا بد من المماثلة, وقيام التعارض, ولما كان ذلك الفضل من حيث الوصف لا بد من أن يكون قائما أي ثابتا بوصف هو تابع إذ الأوصاف أتباع للذوات ثم يحتمل أن يكون قوله فصار الترجيح إلى آخره بيان المعنى الشرعي والأول بيان المعنى اللغوي. ويحتمل أن يكون هذا تحقيق المعنى اللغوي, وقوله كذلك معنى الترجيح شرعا إشارة إلى المعنى الشرعي وأصل ذلك أي أصل الترجيح بالتفسير الذي ذكرناه رجحان الميزان أي هو مأخوذ منه فإنه عبارة عن زيادة بعد ثبوت المعادلة بين كفتي الميزان وتلك الزيادة على وجه لا يقوم بها المماثلة ابتداء, ولا تدخل تحت الوزن منفردة عن المزيد عليه قصدا في العادة كالدانق ونحوه مثل الحبة والشعيرة فإن الدانق في مقابلة العشرة لا يعتبر وزنه عادة,(4/111)
ينضم إلى أحدهما شيء لا يقوم به التعارض ولا يقوم به الوزن لولا الأصل فسمي ذلك رجحانا كالدانق ونحوه في العشرة فأما الستة والسبعة إذا ضم إلى إحدى العشرتين فلا. ألا يرى أن ضد الترجيح التطفيف وذلك ينقصان في الوزن والكيل بوصف لا يقوم به التعارض ولا ينفي أصل التعارض, وذلك معنى الترجيح شرعا ألا يرى أنا جوزنا فضلا في الوزن في قضاء الديون قال النبي عليه السلام
ـــــــ
ولا يفرد له الوزن في مقابلتها بل يهدر ويجعل كأن لم يكن أما الستة والسبعة الواو بمعنى أو إذا ضمت إلى إحدى العشرتين يعني إذا قوبلت عشرة بعشرة وضمت إلى إحداهما ستة أو سبعة أو نحوهما لا يسمى ذلك ترجيحا; لأن الستة ونحوها يعتبر وزنها في مقابلة العشرة, ولا يهدر قال شمس الأئمة تسمى زيادة درهم على العشرة في أحد الجانبين رجحانا; لأن المماثلة تقوم به أصلا وتسمى زيادة الحبة ونحوها رجحانا; لأن المماثلة لا تقوم بها عادة ويجوز أن يكون مراد الشيخ من إحدى العشرتين حقيقة العشرة, ومن الآخر السنجة التي في مقابلتها.
قوله: "وكذلك معنى الترجيح شرعا" أي, وكما بينا معنى الترجيح لغة فهو في الشرع بذلك المعنى أيضا إذ هو في الشرع عبارة عن إظهار قوة لأحد الدليلين المتعارضين لو انفردت عنه لا تكون حجة معارضة وهو معنى قول صاحب الميزان الترجيح أن يكون لأحد الدليلين زيادة قوة مع قيام التعارض ظاهرا. وعبارة بعض الأصوليين أنه تقوية أحد الطريقين على الآخر ليعلم الأقوى فيعمل به ويطرح الآخر وفسره بعضهم بأنه عبارة عن اقتران أحد الصالحين للدلالة على المطلوب مع تعارضهما بما يقوى على معارضة فقوله أحد الصالحين احتراز عما لا يكون أحدهما أو كلاهما صالحي الدلالة وقوله مع تعارضهما احتراز عن الصالحين اللذين لا تعارض بينهما إذ الترجيح إنما يكون مع التعارض لا مع عدمه.
قوله: "ألا ترى أنا جوزنا" التوضيح لما ذكر أن الترجيح في الشرع كالترجيح في اللغة من حيث إن ما يقع به الترجيح يكون وصفا لا أصلا فإنا قد جوزنا فضلا في الوزن في قضاء الديون بقوله عليه السلام للوزان حين اشترى سراويل بدرهمين: "زن وأرجح فإنا معاشر الأنبياء هكذا نزن" 1 ولم يجعله أي ذلك الفضل هبة حتى منع من الجواز; لأن الفضل الذي يحصل به الرجحان زيادة تقوية وصفا بالموزون لا مقصودا بسببه فإن كان
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في البيوع حديث رقم 1305 وأبو داود في البيوع حديث رقم 3336 وابن ماجه في التجارات حديث رقم 222 والإمام أحمد في المسند 4/352.(4/112)
للوازن: "زن وأرجح" ولم يجعله هبة فإن كان ذلك أكثر مما يقع به الترجيح, وكان من قبل ما يقع التعارض بصفة التطفيف صار هبة, وكان باطلا ولهذا قلنا إن الترجيح لا يقع بما يصلح أن يكون علة بانفراده, وإنما يقع بوصف لا يصلح لإثبات الحكم بانفراده كرجل أقام شاهدين على عين, وأقام آخر أربعة لم يترجح;
ـــــــ
ذلك الفضل أكثر مما يقع الترجيح كالدرهم على العشرة وكان من قبيل ما يقع به التعارض بصفة التطفيف يعني بوزن قصد في مقابلة الآخر, وإن كان فيه صفة التطفيف. صار ذلك الفضل هبة حتى كان باطلا لو لم يكن متميزا كهبة المشاع; لأنه مما يقوم به المماثلة فإنه يكون مقصودا بالوزن فلا بد من أن يجعل مقصودا في التمليك بسببه, وليس ذلك إلا الهبة فإن قضاء العشرة يكون بمثلها عشرة فتبين أن بالرجحان لا يفوت أصل المماثلة; لأنه زيادة وصف بمنزلة زيادة وصف الجودة, وما يكون مقصودا بالوزن يفوت به المماثلة, ولا يكون ذلك من الرجحان في شيء.
قوله: "ولهذا قلنا" أي, ولما ذكرنا أن الترجيح لغة وشريعة إنما يقع بوصف هو تابع لا بما هو أصل قلنا في ترجيح العلل: إنه لا يقع بما يصلح علة بانفراده; لأنه لا يصلح تبعا, وإنما يقع الترجيح بوصف لا يصلح علة بانفراده, وهو قوة الأثر. واعلم أن العلماء اختلفوا في الترجيح بكثرة الأدلة مثل أن يكون في أحد الجانبين حديث واحد أو قياس واحد, وفي الآخر حديثان أو قياسان فذهب بعض أهل النظر من أصحابنا وبعض أصحابي إلى أنه يصح الترجيح بها; لأن الدليل الواحد لا يقاوم إلا دليلا واحدا من جنسه فيتساقطان بالتعارض فيبقى الدليل الآخر سالما عن المعارضة فيصح الاحتجاج به; ولأن المقصود من الترجيح قوة الظن الصادر عن إحدى الأمارتين المتعارضتين, وقد حصلت قوة الظن في الدليل الذي عارضه دليل آخر مثله في إثبات الحكم فيترجح على الآخر ألا ترى أن العلة المنتزعة من أصول تترجح على المنتزعة من أصل واحد لتقويها بكثرة أصولها بالعلل المنتزعة من أصول, وكلها يدل على حكم واحد تكون أولى بالترجح من العلة الواحدة من المنتزعة من أصل واحد لتقويها بكثرتها في أنفسها, وكثرة أصولها أيضا. وذهب عامة الأصوليين إلى أن الترجيح لا يقع بكثرة الأدلة; لأن الشيء إنما يتقوى بصفة توجد في ذاته لا بانضمام مثله إليه كما في المحسوسات, وهذا; لأن الوصف لا قوام له بنفسه فلا يوجد إلا تبعا لغيره فيتقوى به الموصوف فأما الدليل المستبد بنفسه فلا يكون تبعا لغيره بل يكون كل واحد معارضا للدليل الذي يوجب الحكم على خلافه فيتساقط الكل بالتعارض وهذا بخلاف العلة المنتزعة من أصول; لأنها باعتبار شهادة الأصول بصحتها تقوت في نفسها فتترجح على الأخرى بتقويها فأما العلل فلا تتقوى بكثرتها, ولا بكثرة أصولها; لأن كل أصل(4/113)
لأن ذلك علة انضم إلى مثلها فلم يصلح وصفا, وإنما يقع الترجيح بوصف مؤكد لمعنى الركن ولذلك لم يقع الترجيح بشاهد ثالث على الشاهدين; لأنه لا يزيد الحجة قوة, ولا الصدق توكيدا لهذا قالوا: إن القياس لا يترجح بقياس آخر ولا الحديث بحديث آخر لا القياس بالنص ولا نص الكتاب بنص آخر, وإنما يترجح النص بقوة فيه على ما مر ذكره حتى صار الحديث المشهور أولى من الغريب; لأن الشهرة توجب قوة في اتصاله بالرسول عليه السلام وكذلك إذا جرح رجل رجلا
ـــــــ
يشهد بصحة علته المنتزعة منه لا بصحة علة أصل آخر ولا نسلم أن قوة الظن تحصل بكثرة الأدلة فإنه لو اجتمع ألف قياس وعارض تلك الأقيسة خبر واحد من أخبار الآحاد كان ذلك الخبر راجحا كما لو كان القياس واحدا. ولو كان للكثرة أثر في قوة الظن لترجحت الأقيسة المتكثرة بتعاضدها على الحديث الواحد ويؤيد ما ذكرنا اتفاقهم على عدم ترجيح الشهادة بكثرة العدد فإن أحد المدعيين لو أقام شاهدين والآخر أربعة لا يترجح شهادة الأربعة على شهادة الاثنين; لأن شهادة الاثنين علة تامة للحكم فلا تصلح مرجحة للحجة, وكذا لو أقام ثلاثة; لأن زيادة شاهد واحد من جنس ما يقوم به الحجة بطريق الأصالة كالذي يشهد بهلال رمضان وحده, وفي السماء غيم فإن تلك الشهادة حجة حتى وجب على القاضي الأمر بالصوم فلا يقع به الترجيح ولو أقام أحدهما شاهدين مستورين والآخر شاهدين عدلين يترجح شهادة العدلين لظهور ما يؤكد معنى الصدق في شهادتهما فثبت أن الترجيح بكثرة الأدلة غير صحيح, وأن الترجيح إنما يحصل بما يزيد قوة لما جعل حجة ويصير وصفا له.
قوله: "ولهذا" أي; ولأن الترجيح لا يقع بما يصلح دليلا بانفراده قالوا إن القياس لا يترجح بقياس آخر لما قلنا بل يترجح بقوة الأثر فيه يتأكد ما هو الركن في القياس ولا القياس بالنص; لأن النص متى شهد لصحة القياس صارت العبرة للنص وسقط القياس في أن يضاف الحكم إليه في المنصوص نفسه على ما مر أن تعليل النص بعلة لا تتعدى ساقط; ولأن النص فوق القياس, وقد بينا أن القياس لا يترجح بقياس آخر; لأنه لا يصير تبعا له فبالنص أولى ولا نص الكتاب بنص آخر يعني إذا وقعت المعارضة بين اثنين لا يترجح أحدهما بآية أخرى بل تترجح بقوة في النص بأن يكون مفسرا أو محكما والذي يعارضه دونه بأن كان مجملا أو مؤولا على ما ذكره في أول الكتاب. حتى صار الحديث المشهور أولى من الغريب أي من الخبر الذي دونه من أخبار الآحاد; لأن الحجة هي الخبر المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم والاشتهار يوجب قوة ثبوت في النقل الذي به يثبت الخبر عن النبي عليه السلام ويصير حجة ويصير وصفا للخبر; لأنا نقول خبر مشهور ومتواتر وشاذ وبهذا خرج(4/114)
جراحة وجرحه آخر جراحات فمات منها وذلك خطأ أن الدية تجب نصفين ولا بترجيح صاحب الجراحات حتى يجعل وحده قاتلا; لأن كل جراحة تصلح علة
ـــــــ
الجواب عما يقال كان ينبغي أن يترجح الخبر بكثرة الرواة حتى لو كان لخبر راو واحد ولمعارضه راويان أو رواة يترجح على الأول إذ ليس في الاشتهار إلا كثرة الرواة, وقد أنكر الشيخ ذلك في باب المعارضة; لأن بكثرة الرواة إذا لم يبلغوا حد التواتر أو الشهرة لا يحدث وصف في الخبر يتقوى به بل هو في خبر الآحاد كما كان فأما إذا بلغ حد التواتر أو الشهرة فقد حدث فيه وصف تقوى به حيث يقال خبر مشهور, ومتواتر فيعتبر هذه الكثرة في الترجيح دون الأولى. ونقل عن بعض مشايخنا أن أحد النصين المتعارضين, وإن كان لا يترجح بنص آخر, ولكنه يترجح بالقياس; لأن القياس غير معتبر في مقابلة النص فكان بمنزلة الوصف للنص الذي يوافقه وتابعا له فيصلح مرجحا. وذكر شمس الأئمة رحمه الله أن أحد الخبرين لا يترجح بالقياس وينبغي أن يكون هذا أصح; لأنه من جنس ما يصلح حجة بنفسه حالة الانفراد, وإن لم يبق حجة مع النص كالشاهد الثالث لا يصلح مرجحا لإحدى البينتين; لأنه من جنس ما يصلح حجة بنفسه بطريق الأصالة, وإن لم يكن حجة في هذا الموضع.
وكذلك أي, وكما لا يترجح أحد الدليلين بدليل آخر فيما ذكرنا من الأمثلة لا يترجح صاحب الجراحات على صاحبه فيما إذا جرح رجل رجلا جراحة يعني جراحة يقصد بها القتل وجرحه آخر جراحات كذلك أيضا حتى لو خدش أحدهما وجرح الآخر فالضمان إن كان خطأ والقصاص إن كان عمدا على الجارح دون الخادش. فمات منها أي من جميع الجراحات بأن مات, ولم تندمل واحدة منها حتى لو جرحه أحدهما واندمل ثم جرحه الآخر أو اندمل جرح أحدهما بعدما جرحاه ثم مات قبل اندمال جرح الآخر كان الدية أو القصاص على من لم يندمل جرحه دون الآخر وذلك خطأ إنما قيد به مع أنه لو كان عمدا لا يترجح صاحب الجراحات على الآخر بل يجب القصاص عليهما أيضا ليبين أن صاحب الجراحات, وإن لم يترجح يساوي صاحب الجراحة الواحدة في وجوب الدية, ولا يعتبر عدد الجراحات مع إمكان اعتباره بقسمة الدية عليه وبيانه أنه لو جرح أحدهما جراحة واحدة والآخر تسع جراحات فلو قيل بالترجيح لكان الدية في الخطأ والقصاص في العمد على صاحب التسع دون الآخر, ولما سقط الترجيح كان اعتبار عدد الجراحات ممكنا في الخطأ بقسمة الدية عليه, وإيجاب عشرها على صاحب الجراحة الواحدة وتسعة أعشارها على الآخر, ومع ذلك لم يعتبر بل اعتبر عدد الجاني لا عدد الجنايات وفي العمد بعد سقوط الترجيح لا يمكن اعتبار عدد الجنايات بعدم تجزؤ القصاص فوضع المسألة في الخطأ ليبين(4/115)
معارضة فلم تصلح وصفا يقع به الترجيح وكذلك قلنا نحن في الشفيعين في الشقص الشائع المبيع بسهمين متفاوتين إنهما سواء في استحقاقه; لأن كل جزء من أجزاء السهم علة صالحة لاستحقاق الجملة فقامت المعارضة بكل جزء, وإن قل فلم يصلح شيء منه وصفا لغيره فقد وافقنا الشافعي على هذا; لأنه لم يرجح صاحب الكثير أيضا لكنه جعل الشفعة من مرافق الملك كالثمر والولد فجعله
ـــــــ
أن بعد سقوط الترجيح المصير إلى عدد الجاني لا إلى عدد الجنايات, وإنما وجب المصير إلى عدد الجاني دون عدد الجنايات; لأن الإنسان قد يموت من جراحة واحدة, وقد لا يموت من جراحات كثيرة فلا يعتبر العدد في الجراحات ويعتبر الجراحات الحاصلة من الواحد بمنزلة جراحة واحدة. ألا ترى أنه لو انفرد صاحب الجراحات لم تكن عليه إلا دية واحدة ولو انفرد صاحب الجراحة الواحدة كان عليه دية كاملة فعرفنا أن المعتبر عدد الجاني لا عدد الجنايات حتى يجعل وحده قاتلا إنما ذكر هذا ليعلم أن الترجيح في جعله قاتلا وحده, وإهدار جناية الآخر لا في اعتبار عدد جناياته مع اعتبار جناية الآخر; لأن كل جراحة يعني من جراحات صاحب الجنايات المتعددة يصلح معارضة لجراحة صاحب الواحدة فلم تصلح وصفا لجناية أخرى فلا يقع بها الترجيح, ولو قطع أحدهما يده ثم جز الآخر رقبته فالقاتل هو الذي جز رقبته دون الآخر صاحب بزيادة قوة فيما هو علة النقل من فعله, وهو أنه لا يتوهم بقاؤه حيا بعد فعله بخلاف الآخر.
قوله: "وكذلك قلنا" أي, وكما قلنا بمساواة صاحب الجراحات المتعددة صاحب الجراحة الواحدة قلنا بمساواة صاحب القليل صاحب الكثير في استحقاق الشقص الشائع المبيع في الشفعة, والشقص الجزء من الشيء والنصيب, وإنما وضع المسألة في الشقص, وإن كان حكم الجواز عندنا كذلك حتى من كان جوازه من جانبين لا يترجح على من كان جوازه من جانب واحد ليمكنه بيان قول الشافعي رحمه الله بقوله, وقد وافقنا الشافعي في هذا. وصورته دار بين ثلاثة لأحدهم نصفها وللآخر ثلثها وللثالث سدسها فباع صاحب النصف نصيبه وطلب الآخران الشفعة لم يترجح صاحب الثلث على الآخر في استحقاق الشفعة حتى لم يكن له أن يأخذ جميع المبيع بالاتفاق لكن كان لكل واحد منهما استحقاق الشفعة بقدر نصيبه عند الشافعي فيقضى بالشقص المبيع بينهما أثلاثا بقدر ملكهما, وإن كان البائع صاحب الثلث قضى به بين الباقيين أرباعا, وإن كان صاحب السدس قضى به بين الآخرين أخماسا, وعندنا يقضي بالمبيع بين الباقين أنصافا بكل حال. وقوله: لأن كل جزء إلى آخره دليل على المفهوم من هذا التقرير لا على الملفوظ, وهو المساواة يعني قلنا إنهما سواء في استحقاق الشقص, ولا رجحان لصاحب الكثير على(4/116)
منقسما على قدر الملك, وكان هذا منه غلطا بأن جعل حكم العلة متولدا من العلة, ومنقسما على أجزائها, وأجمع الفقهاء في ابني عم أحدهما زوج المرأة أن التعصيب لا يترجح بالزوجية بل يعتبر كل واحد علة بانفراده وقال عامة الصحابة رضي الله عنهم في ابني عم أحدهما أخ لأم إن السدس له بالأخوة والباقي بينهما
ـــــــ
صاحب القليل; لأن كل جزء من أجزاء السهم يعني السهم الذي في يد صاحب الأكثر علة تامة لاستحقاق جملة المبيع بالشفعة فقامت المعارضة لصاحب الكثير مع صاحب القليل بكل جزء مما في يده, وإن قل, فلم يصلح شيء من السهم الذي في يده وصفا لغير ذلك الشيء, وهو باقي السهم فلا يقع به الترجيح إذ لم يوجد في جانب صاحب الكثير إلا كثرة العلة, وهي غير صالحة للترجيح.
وقوله: قد وافقنا الشافعي على هذا إشارة إلى المفهوم أيضا أي وافقنا على عدم الترجيح حيث لم يقل باستحقاق صاحب الكثير كل المبيع أيضا, ولو رجح صاحب الكثير لحكم باستحقاقه الجميع وبحرمان صاحبه, لكنه جعل حق الشفعة من مرافق الملك أي من منافعه وثمراته كالثمر والولد المتولدين من الأشجار والحيوانات المشتركة فجعله أي حق الشفعة منقسما على قدر الملك, وكان هذا أي ما ذهب إليه الشافعي غلطا بأن جعل حكم العلة, وهو استحقاق الشفعة متولدا من العلة, وهي ملك الشفيع ما يشفع به, ومنقسما على أجزائها وكلاهما غير مستقيم; لأن الحكم يثبت بالعلة لا بطريق التولد بل بإيجاب الله تعالى إياه مقارنا للعلة, وكذا الحكم لا ينقسم على أجزاء العلة لاستلزامه صيرورة كل جزء من العلة علة لكل جزء من الحكم والشرع جعل جميعها علة لجميع الحكم لا غير فالقول بالانقسام كان نصبا للشرع بالرأي وذلك فاسد بل الشفيع يأخذ المبيع باعتبار أن ملكه القديم جعله أحق من الدخيل لا من حيث إن المأخوذ صار حقا لملكه شرعا, وإذا لم يصر المأخوذ من مرافق ملكه لم يتوزع عليه ولئن كان مرفقا فهو مرفق من حيث إن الأصل علة وثبوت حق التملك للمبيع حكم له ثم الملك يثبت له من الثمن الذي يعطيه فكان مرفقا من حكم العلة لا من العلة فلم يؤثر فيه زيادة العلة بخلاف الثمرة; لأنها تتولد من الشجر فثلث الشجر لا يولد إلا ثلث الثمرة, والغلة بدل المنفعة فثلث المنفعة لا يكون له إلا ثلث البدل.
قوله: "وأجمع الفقهاء في ابني عم أحدهما زوج المرأة" يعني ماتت امرأة وتركت ابني عم أحدهما زوجها وصورته ظاهرة أن التعصيب الذي في الزوج لا يترجح بالزوجية بل يعتبر كل واحد من التعصيب والزوجية علة للاستحقاق بانفراده بمنزلة ما لو كانا في شخصين فيستحق النصف بالزوجية, والباقي بينهما بالتعصيب وتصح من أربعة ثلاثة للزوج وسهم للآخر وقال عامة الصحابة في ابني عم أحدهما أخ لأم.(4/117)
بالتعصيب خلافا لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه ولم يجعلوا الأخوة مرجحة لما كانت علة بانفرادها لا يصلح وصفا; لأنها أقرب من العمومة بخلاف الأخوة لأم فإنها جعلت وصفا للأخوة لأب; لأن هذه الجهة تابعة, والمنزل واحد, وإنما يجب طلب الرجحان من قبل الأوصاف مثل العدالة في الشاهد, وما يجري
ـــــــ
وصورة المسألة أخوان زيد وعمرو ولكل واحد منهما ابن فمات زيد وتزوج امرأته التي هي أم ابنه عمرو فولدت له ابنا فهذا الابن الذي كان لعمرو من غير هذه المرأة ابنا عم لابن زيد أحدهما أخوه لأم, ومات هذا الابن وترك ابني عمه هذين لا غير كان للذي هو أخوه لأم السدس بالفرضية والباقي بينهما بالعصوبة ويصح من اثني عشر سهما سبعة أسهم للأخ وخمسة للآخر, وهو مذهب علي وزيد وعامة الصحابة رضي الله عنهم. وقال ابن مسعود رضي الله عنه المال كله لابن العم الذي هو أخ لأم, وهو إحدى الروايتين عن عمر رضي الله عنه; لأنه اجتمع للميت عصبتان استويا في قرابة الأب وتفردت إحداهما بقرابة الأم فتترجح على الأخرى كأخوين لأب أحدهما لأم, وهذا; لأن العلة تترجح بزيادة من جنسها إذا كانت الزيادة لا تصلح علة بنفسها لو انفردت كما بينا والزيادة هاهنا, وهي الأخوة لأم من جنس العمومة; لأنها قرابة كالعمومة, ولو انفردت لم يصلح علة للتعصيب فتصلح مرجحة لقرابة العصوبة كما في الأخوين لأب أحدهما لأم. بخلاف ابني عم أحدهما زوج حيث لم يترجح أحدهما بالزوجية; لأن الزوجية ليست من جنس القرابة, والعلة إنما تترجح بالزيادة من جنسها لا من خلاف جنسها. وجه قول العامة إنه اجتمع في ابن العم الذي هو أخ سببان للميراث الأخوة والعمومة فيستحق بكل واحد منهما ولا يصير أحدهما تبعا للآخر كما لو وجدا في شخصين, وهذا لأن الترجيح إنما يقع بما لم يصلح علة بانفراده فأما ما يصلح علة بانفراده فلا يقع به الترجيح كما بينا في الجراحات والشهادات. وهاهنا الأخوة بانفرادها علة صالحة للاستحقاق, ولا تصلح وصفا للعمومة; لأنها ليست من جنس العمومة, وهي أقرب من العمومة فإن استحقاق العم وابن العم بعد استحقاق الأخ فلا تصلح مرجحة للعمومة بل تعتبر علة بانفرادها كالزوجية في المسألة الأولى بخلاف الأخوين لأب أحدهما لأم حيث يرجح أحدهما بقرابة الأم; لأن السبب واحد, وهو الأخوة والأخوة لأم في معنى زيادة وصف في الأخوة لأب ألا ترى أن الأخ لأب وأم لو انفرد لم يكن قرابة الأم فيه سببا لاستحقاق حتى لم يستحق بالفرضية شيئا, وإنما يستحق بالعصوبة لا غير, وإذا لم يصلح علة والمنزل واحد, وهو الأخوة صلحت مرجحة, ولا يلزم عليه الأخوان لأم أحدهما لأب حيث لا يترجح الأخ الذي لأب وأم على الأخ الذي لأم بل يرث الذي لأم ما يفرض والآخر بالعصوبة مع أن المنزل واحد, وهو قرابة الأخوة; لأن ذلك(4/118)
مجراها. وأما القسم الثاني فعلى أربعة أوجه. الترجيح بقوة الأثر, والترجيح بقوة ثباته على الحكم المشهود به, والترجيح بكثرة أصوله, والترجيح بالعدم عند عدمه. أما الأول فلأن الأثر معنى حجة فمهما قوي كان أولى لفضل وصف في الحجة على مثال الاستحسان في معارضة القياس هو كالخبر لما صار حجة بالاتصال ازداد قوة بما يزيده قوة في ذلك المعنى بضبط الراوي, وإتقانه وسلامته عن الانقطاع على ما مر ذكره وليس كذلك فضل عدالة بعض الشهود على عدالة
ـــــــ
امتنع لمعنيين أحدهما أن قرابة الأب أقوى من قرابة الأم فلا تصلح تبعا لقرابة الأم بوجه. والثاني أن استحقاق الأخ بالفرض واستحقاق الآخر بالعصوبة فلم يكن بينهما مزاحمة لاختلاف الحكم فلم يحتج إلى الترجيح وما يجري مجراه أي مجرى المذكور, وهو العدالة مثل فقه الراوي وحسن ضبطه, وإتقانه ومثل التأثير في القياس.
"قوله: وأما الثاني", وهو الوجوه التي بها يقع الترجيح على وجه الصحة فأربعة أحدها الترجيح بقوة الأثر يعني إذا كان القياسين المؤثرين المتعارضين أقوى تأثيرا من الآخر كان راجحا عليه وسقط العمل به فأما إذا لم يكن أحدهما مؤثرا فلا يكون حجة فلا يتأتى الترجيح. والثاني بقوة ثباته أي ثبات الوصف المؤثر على الحكم المشهود به والمراد به أن يكون وصف أحد القياسين ألزم للحكم المتعلق به من وصف القياس الآخر لحكمه والثالث بكثرة أصوله أي أصول أحد القياسين أو أصول الوصف والرابع الترجيح بالعدم أي عدم الحكم عند عدمه أي عدم الوصف, وهو العكس الذي مر بيانه. أما الأول أي صحة الوجه الأول; فلأن الأثر معنى الحجة يعني المعنى الذي صار الوصف به حجة هو الأثر فمهما قوي أي كان أقوى كان الاحتجاج به أولى لفضل وصف في الحجة أي لزيادة أثر, وكان في الوصف الذي هو حجة على مثال الاستحسان في معارضة القياس فإن القياس, وإن كان مؤثرا ترجح عليه الاستحسان لزيادة قوة فيه, وكذا عكسه وهو أي القياس في ترجحه بقوة الأثر مثل الخبر في ترجحه بقوة الاتصال, أو ترجيح القياس بقوة الأثر مثل ترجيح الخبر فإنه لما صار حجة بالاتصال بالرسول صلى الله عليه وسلم ازداد الخبر قوة بما يزيد قوة في ذلك المعنى, وهو الاتصال بضبط الراوي الباء متعلقة بيزيد, وسلامته أي سلامة الخبر عن الانقطاع باتصال الإسناد على ما مر ذكره في بيان أقسام السنة.
قوله: "وليس كذلك فضل عدالة بعض الشهود" جواب عما يقال إن الشهادة صارت حجة بالعدالة كما صار الوصف حجة بالأثر والخبر بالاتصال ثم الشهادة لا تترجح(4/119)
بعض; لأنه ليس بذي حد ولا متنوع بل هو التقوى ولا وقوف على حدوده مثاله ما قلنا في طول الحرة إنه لا يمنع الحر من نكاح الأمة. وقال الشافعي: رحمه الله يمنع; لأنه يرق ماءه على غنية وذلك حرام على كل حر كالذي تحته حرة, وهذا
ـــــــ
بقوة العدالة عند التعارض حتى لو وجد أصل العدالة في الجانبين تحقق التعارض, وإن كانت العدالة في أحد الجانبين أقوى منها في الجانب الآخر فكذا القياسان بعدما ظهر تأثيرهما ينبغي أن لا يترجح أحدهما بقوة الأثر فقال: وليس كذلك أي كما ذكرنا من قوة الأثر الاتصال فضل عدالة بعض الشهود; لأنه أي الفضل أو العدالة على تأويل المذكور ليس بذي حد ليمكن معرفة ترجح البعض بزيادة قوة فيه عند الرجوع إلى حده, ولا متنوع أي ليس بذي أنواع متفاوتة بعضها فوق بعض ليظهر لبعضها قوة عند المقابلة بالبعض بل هو أي العدالة هي التقوى والانزجار عن ارتكاب ما يعقد الحرمة فيه, ولا تفاوت فيه بين الناس, وكذا الوقوف على حقيقته متعذر; لأنه أمر باطن فربما كان الذي يظن أنه أعدل أدنى درجة في التقوى من الذي يظن أنه دونه فيها بخلاف تأثير العلة فإن قوة الأثر عند المقابلة تظهر على وجه لا يمكن إنكاره وذلك; لأن تأثير العلة إنما يثبت بأدلة معلومة متفاوتة الأثر بعضها فوق بعض يمكن العمل بها على أنا لا نسلم أن الشهادة صارت حجة بالعدالة بل بالولاية الثابتة بالحرية. والناس كلهم سواء في أصل الولاية الثابتة بأصل الحرية, وإنما شرطت العدالة لظهور جانب الصدق فإذا ظهر الصدق بأصل العدالة وجب على القاضي القضاء, ولا يلتفت إلى زيادة قوة في العدالة من أحد الجانبين فأما القياس فما صار حجة إلا بالتأثير, والتفاوت فيه ثابت على ما بينا. مثاله أي مثال الترجيح بقوة الأثر ما قلنا في طول الحرة أي الغناء والقدرة على تزوج الحرة وفي المغرب الطول الفضل يقال لفلان على فلان طول أي زيادة, وفضل وعن الشعبي إذا وجد الطول إلى الحرة بطل نكاح الأمة فعداه بإلى. وأما قولهم طول الحرة فمتسع فيه, أنه لا يمنع الحر من نكاح الأمة حتى لو كان مالكا لمهر الحرة فتزوج أمة جاز عندنا, وقيد بالحر; لأنه لا يمنع العبد بالاتفاق. وقال الشافعي: رحمه الله يمنع يعني لم يجز له نكاح الأمة مع طول الحرة المؤمنة أو الكتابية; لأنه يرق ماءه بنكاح الأمة إذ الولد يتبع الأم في الرق والحرية على غنية أي حال كونه مستغنيا عن إرقاق جزئه بقدرته على نكاح الحرة, وذلك أي استرقاق الجزء مع الاستغناء عنه حرام على كل حر; لأنه كالإهلاك حكما إذ الرق في الأصل عقوبة الكفر الذي موجبه القتل ولهذا كان للإمام الخيار في الكافر المغنوم بين القتل والإرقاق; ولأنه استدلال الجزء, وكان حراما إلا لضرورة, وهي خوف الوقوع في الزنا المشار إليه في قوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء: 25]. وذلك; لأن طريق اقتضاء(4/120)
وصف بين الأثر. وقلت: إنه جائز; لأنه نكاح يملكه العبد بإذن مولاه إذا دفع إليه مهرا يصلح للحرة والأمة جميعا, وقال تزوج من شئت فيملكه الحر كسائر الأنكحة
ـــــــ
الشهوة في الأصل النكاح لا غير وهذه الشهوة مركبة في الطباع فمتى اشتهى, وهو عاجز لم يؤمن من الوقوع في الزنا فأبيح له حال العدم نكاح الأمة لدفع الضرورة والضرورة ترتفع بإصابة الطول فيرتفع الإباحة كحل الميتة وفي قوله على حر احتراز عن العبد فإنه لا يحرم عليه إرقاق جزئه بنكاح الأمة مع قدرته على نكاح الحرة; لأنه رقيق حقيقة فلا يكون في نكاحه للأمة إرقاق جزئه الحر بل كان امتناعا من تحصيل صفة الحرية للجزء وذلك لا يحرم عليه. وهذا وصف بين الأثر, وهو ما بينا أن الإرقاق كالإهلاك إلى آخره, ولا يلزم عليه ما إذا تزوج حرة على أمة حيث يبقى نكاح الأمة صحيحا مع أن فيه إرقاق الولد أيضا مع الغنية; لأنا أقمنا السبب, وهو العقد مقام حقيقة الإرقاق في الحرمة بلا ضرورة فيكون إذا للبقاء على السبب حكم البقاء على رق ثبت والإرقاق ابتداء حرام; لأنه عقوبة الكفر لا البقاء عليه فإنه يبقى بعد الإسلام والتوبة, ولا يلزم أيضا إباحة العزل مع أن فيه إعدام الولد أصلا لأن في العزل تضييع الماء والامتناع من تحصيل الولد وكان دون التسبب لإهلاك الولد الموجود. ولا يلزم أيضا ما إذا كان الزوج مجبوبا أو عنينا أو كانت الأمة المنكوحة عجوزا أو عقيما أو صغيرة حيث لا يباح النكاح, ولم يكن فيه إرقاق الولد; لأن الإرقاق أمر يحصل بالعلوق من مائه وذلك أمر باطن لا يوقف عليه فأقيم نكاح الأمة مقام الإرقاق كما أقيم النكاح مقام الوطء والعلوق في إثبات حرمة المصاهرة وثبوت النسب. وقلنا: إنه أي نكاح الأمة مع طول الحرة جائز; لأنه نكاح يملكه العبد بإذن المولى فيملكه الحر كسائر الأنكحة التي يملكها العبد, وهذا قوي الأثر أي هذا القياس أقوى أثرا من القياس الأول; لأن الحرية من صفات الكمال فإن الآدمي يصير بها أهلا للولايات وتملك الأشياء واستحقاق الكرامات الموضوعة للبشر فكان تأثيرها في الإطلاق, وفتح باب النكاح الذي هو من النعم لا في المنع والحجر, والرق من أسباب تنصيف الحل فإن العبد لا يملك إلا نكاح امرأتين لنقصان حاله بالرق والحر يملك نكاح أربع بشرف الحرية فيجب أن يكون الرقيق في النصف مثل الحر في الكل في اعتبار الشروط لأنهما مختلفان في أصل الحل لا في الشروط ألا ترى أن العبد في الثنتين مثل الحر في الأربع في اشتراط الشهود ووجوب المهر والخلو عن عدة الغير والمولى على أصل الخصم فلو كان عدم الطول شرطا لجواز نكاح الأمة في حق الحر لكان شرطا في حق العبد أيضا; لأنه لا أثر للرق في إسقاط الشروط وتنصيفها وكيف يجوز أن يتسع الحل الذي يثبت بطريق الكرامة بالرق الذي هو من أوصاف النقصان ويتضيق بالحرية التي هي من أوصاف الكمال وأسباب الكرامات فيحل للعبد تزوج الأمة(4/121)
وهذا قوي الأثر; لأن الحرية من صفات الكمال وأسباب الكرامة, والرق من أسباب تنصيف الحل فيجب أن يكون الرقيق في النصف مثل الحر في الكل فإما أن يزداد أثر الرق ويتسع حله فلا, وهذا أثر ظهرت قوته ويزداد وضوحا بالتأمل في أحوال البشر ألا يرى أنه حل لرسول الله عليه السلام التسع أو إلى ما لا يتناهى لفضله وشرفه فأما ما ذكر من الأثر فضعيف بحقيقته; لأن الإرقاق دون التضييع, وذلك جائز بالعزل بإذن الحرة فالإرقاق أولى. وضعيف بأحواله فإن نكاح الأمة
ـــــــ
مع طول الحرة وتزوج الأمة على أمة وعلى حرة, ولا يحل شيء منهما للحر, وهذا عكس المعقول ونقض الأصول. وهذا أي ما بينا أن الحرية من صفات الكمال إلى آخره أثر ظهرت قوته في نفسه بالنظر إلى الأصل, وازداد قوة ووضوحا بالتأمل في أحوال البشر فإن ما يثبت بطريق الكرامة في حق البشر ازداد بزيادة الشرف حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان أشرف الناس أبيح له نكاح تسع نسوة أو ما لا يتناهى على ما روت عائشة رضي الله عنها ما قبض رسول الله حتى أبيح له من النساء ما شاء فثبت أن زيادة الكرامة توجب زيادة الحل فلا يجوز القول بزيادة حل العبد مع نقصان حاله على الحر.
فإن قيل نحن نسلم أن تأثير الرق في المنع وتأثير الحرية في الإطلاق, ولكن ما لم يؤد إلى الإرقاق فإذا أدى حرم كرامة له لا بحسابه كما حرمت المجوسية على المسلم دون الكافر قلنا نحن لا نسلم أنه إرقاق, ولئن سلمنا أنه إرقاق فلا نسلم أن الإرقاق بهذا الطريق حرام لما سنبين فأما ما ذكر الشافعي من الأثر وهو أن الإرقاق إهلاك حكما فضعيف بحقيقته أي في نفسه; لأن إرقاق الحر دون التضييع; لأن بالإرقاق يفوت صفة الحرية لا أصل الولد مع أنه أمر يرجى زواله بالعتق وبالتضييع يفوت أصل الولد على وجه لا يرجى وجوده ثم التضييع بالعزل بإذن الحرة وبنكاح الصبية والعجوز والعقيم مع أنه إتلاف حقيقة جائز فالإرقاق الذي هو إهلاك حكما كان أولى بالجواز فإن قيل في العزل امتناع من اكتساب سبب الوجود لكن إذا أراد مباشرة سبب الوجود ينبغي أن يباشر على وجه لا يفضي إلى الإهلاك لا يوصف بالرق, ولا بالحرية إلا بطريق التبع للأصل فإذا انفصل لم يقبل صفة الرق, ولا صفة الحرية, وإنما يصير ولدا بعد الاختلاط بمائها فقبله له حكم العدم; لأنه بمنزلة أحد شطري العلة, ولا حكم ببعض العلة قبل وجود الباقي, وإذا اختلط ترجح ماؤها على مائه بحكم الحضانة فيتخلق الولد من الماءين رقيقا ابتداء فلم يثبت له صفة الحرية أصلا فلم يكن هذا إرقاق الحر, ومعنى العقوبة والإهلاك في إرقاق الحر.
وضعيف بأحواله أي بأحوال الأثر فإن نكاح الأمة جائز لمن ملك سرية أو أم ولد يستغني بها عن نكاح الأمة, وإرقاق الجزء فإنها إذا جاءت بولد يكون حر الأصل, وكذا لو(4/122)
جائز لمن يملك سرية يستغني بها عنه ومن ذلك قولهم في نكاح الأمة الكتابية إنه لا يجوز للمسلم; لأن الرق من الموانع, وكذلك الكفر فإذا اجتمعا ألحق بالكفر الغليظة ولأن الضرورة انقضت بإحلال الأمة المسلمة وقلنا نحن لا بأس به; لأنه
ـــــــ
كانت تحته أمة ثم تزوج حرة فإن نكاحها لا يبطل, وقد استغنى عن إرقاق الولد فإن الرق صفة الولد فلا يحدث قبل وجوده, وإنما يوجد بالوطء فكان ينبغي أن يحرم الوطء, وإذا حرم الوطء يبطل النكاح, ومع هذا لم يبطل, وإذا كان كذلك لم يكن وصف الإرقاق مطردا في إثبات الحرمة في جميع الأحوال فتفسد العلة بفوات الإطراد الذي هو شرط صحتها وأما عدم جواز نكاح الأمة على الحرة فليس باعتبار حرمة إرقاق الجزء كما ذكره الشافعي بل باعتبار نقصان حالها بالرق كما سنبينه. واعلم أن ما ذكر الشيخ رحمه الله من جواز نكاح الأمة لمن ملك سرية مذهبنا فأما عند الخصم فلا يجوز فقد ذكر في التهذيب, وإن كان في ملكه أمة يحل له وطؤها أو كان قادرا على أن يشتري أمة لا يحل أن ينكح الأمة; لأنه مستغن عن إرقاق ولده بما معه فعلى هذا لا يصح الاحتجاج به على الخصم; لأنه احتجاج بالمختلف على المختلف, وهو غير جائز والسرية الأمة التي اتخذها مولاها للفراش وحصنها وطلب ولدها فعلية من السر أي الجماع أو فعولة من السر والسيادة.
قوله: "ومن ذلك" أي, ومن الترجيح بقوة الأثر قول أصحاب الشافعي وكان ينبغي أن يقال, ومن ذلك ما بينا في هذه المسألة كذا; لأن ما بينا هو الذي ترجح بقوة الأثر دون قولهم إلا أن الشيخ تسامح في العبارة فإن بسياق الكلام يفهم أن مراده بيان مثال آخر ترجح فيه قولنا بقوة الأثر فكان التقدير, ومن الأمثلة التي ترجح قولنا بقوة الأثر هذه المسألة في نكاح الأمة الكتابية أنه لا يجوز للمسلم يعني إذا فات طول الحرة حتى حل نكاح الأمة إنما يجوز نكاح الأمة المسلمة ولا يجوز نكاح الأمة الكتابية; لأن الرق من الموانع يعني له تأثير في تحريم النكاح حتى لم يجز نكاح الأمة على الحرة, وكذلك الكفر في الجملة حتى لم يجز نكاح الكافر للمسلمة أصلا, ولم يجز للمسلم تزوج كل كافرة فإذا اجتمعا تأيدا أحدهما بالآخر وألحق المجموع بالكفر الغليظ, وهو كفر غير أهل الكتاب كالمجوسية والارتداد في المنع من النكاح; ولأن جواز نكاح الأمة ضروري لما فيه من إرقاق الجزء على ما بينا والضرورة انقضت بإحلال الأمة المسلمة التي هي أظهر من الكافرة فلا حاجة إلى إحلال الكافرة كالمضطر إلى الطعام إذا وجد الميتة وذبيحة المسلم, وهو غائب لم يحل له الميتة; لأن الذبيحة أظهر, وإن كانت حراما بدون إذن المالك في غير حالة الضرورة فلما وقعت الغنية بالأظهر لم تحل الأخرى. وقلنا نحن: لا بأس به أي بنكاح الأمة الكتابية عند عدم الطول ووجوده, وإن كان تركه أولى عند وجود الطول; لأنه(4/123)
دين يصح معه نكاح الحرة فكذلك نكاح الأمة كدين الإسلام, وهو نكاح يملكه العبد المسلم, وهذا أثر ظهرت قوته لما قلنا إن أثر الرق في التنصيف فيما يقبله كما قيل في الطلاق والعدة والقسم والحدود وذلك يختص بما يقبل العدد من الأحكام, ونكاح المرأة في نفسه مقابلا بالرجال ليس بمتعدد فلا يحتمل التنصيف لكنه ذو أحوال متعددة, وهي التقدم والتأخر والمقارنة فصح متقدما, ولم يصح متأخرا قولا بالتنصيف, وبطل مقارنا; لأنه لا يحتمل التنصيف فغلب
ـــــــ
الضمير راجع إلى المفهوم أي; لأن دين أهل الكتاب دين يصح معه نكاح الحرة فيصح نكاح الأمة كدين الإسلام, وهو نكاح يملكه العبد فيملكه الحر فكل واحد من النكتتين في مقابلة إحدى نكتتي الخصم وقوله, وهذا أثر ظهرت قوته ببيان تأثير النكتة الأولى فإنه قد بين تأثير النكتة الثانية في المسألة المتقدمة. وتقريره أن الرق لا يؤثر في تحريم أصل النكاح بل أثره في التنصيف فيما يقبله حتى كان طلاق الأمة ثنتين وعدتها حيضتين, وقسمها على النصف من قسم الحرة وحد العبد والأمة في الزنا والقذف على النصف من حد الحر. وقوله: فيما يقبله احتراز عن نحو حد السرية والطلقة الواحدة والحيضة الواحدة وما يتعلق بالعبادات فإنها لا تقبل التنصيف فلم يؤثر الرق فيها, وذلك أي التنصيف يختص بما يقبل العدد من الأحكام والتجزئة; لأن تنصيف الشيء بدون أن يكون ذا عدد وذا أجزاء لا يتصور والنكاح الذي يبتني على الحل في جانب الرجل متعدد حيث يجوز له تزوج أربع من النسوة فيظهر التنصيف فيه بالرق فيحل للعبد نكاح امرأتين فأما نكاح المرأة في نفسه مقابلا بالرجال فليس بمتعدد إذ لا تحل المرأة لرجلين بحال ليتنصف بالرق إلى رجل واحد فتعذر التنصيف من هذا الوجه لكنه أي نكاح المرأة ذو أحوال متعددة حال اجتماعها مع الضرة قد يكون متقدما على نكاح الضرة, ومتأخرا عنه, ومقارنا إياه فيقبل التنصيف بالرق باعتبار الأحوال فيصح نكاح الأمة متقدما على نكاح الحرة, ولم يصح متأخرا عنه قولا بالتنصيف فبقي حالة المقارنة, وهي لا تقبل التنصيف وقد اجتمع فيها معنى الحل والحرمة; لأن إلحاقها بحالة التقدم اقتضى الحل, وإلحاقها بحالة التأخير اقتضى الحرمة فيغلب معنى الحرمة احتياطا كالطلاق الثلاث والأقراء لما أوجب الرق تنصفها, والطلقة المتوسطة, والقرء المتوسط لم يقبلا التنصيف. وقد اجتمع فيهما جهتا الثبوت والسقوط بالنظر إلى طرفيهما رجحنا جانب الثبوت احتياطا. أو يقال لنكاح الأمة حالتان حالة الانفراد عن الحرة بالسبق وحالة الانضمام إلى الحرة بالمقارنة أو التأخر فتكون محلة في إحدى الحالتين دون الأخرى.(4/124)
التحريم كالطلاق الثلاث والأقراء أنها صارت ثنتين بالرق لما قلنا فهذا وصف قوي أثره. ولذلك قلنا في الحر إذا نكح أمة على أمة إنه صحيح كالعبد إذا فعله وضعف أثر وصفه; لأن الرق ليس من أسباب التحريم لكنه من أسباب التنصيف كرق الرجال لم يحرم على الرجل شيئا حل للحر لكنه أثر في التنصيف, وقد جعلت الرق من أسباب فضل الحل وهذا عكس المعقول ونقض الأصول, ودين الكتابي
ـــــــ
فإن قيل سلمنا أن رق الرجل يؤثر في تنقيص الحل; لأن الرق يؤثر في تنقيض مالكيته التي عليها يبتني الحل, ولكن لا نسلم أن رق المرأة في تنقيص حلها; لأن حلها بناء على المملوكية, والرق يزيد في مملوكيتها فكيف يؤثر في تنقيص الحل المبني عليها والدليل عليه أن الرق يفتح عليها بابا من الحل كان مسدودا قبله فإنها تحل بملك اليمين والنكاح جميعا, وقبل الاستراق لم تكن تحل إلا بملك النكاح فاستحال أن يسد عليها بابا كان مفتوحا قبله, وإذا كان يثبت حل جديد فيها بالرق لا يجوز أن ينتقص الحل الثابت فيها بالرق قلنا كما أن الحل في الرجل كرامة فكذلك في حق المرأة كرامة; لأن النكاح نعمة من الجانبين على ما عرف فلما كان حل الرجل يتنصف برقه فكذلك حل الأمة وقوله انفتح بسبب رقها باب من الحل قلنا حل ملك اليمين بطريق العقوبة ولهذا لا تطالبه بالوطء ولا تستحق عليه شيئا فالاستمتاع بها كالاستمتاع بسائر الأموال, ولما كان كذلك أثر الرق في فتحه فأما ملك النكاح وحله من الجانبين فقد ثبت كرامة فأثر الرق في الجانبين جميعا ولهذا ينتقص قسم الأمة وعدتها بالاتفاق وطلاقها عندنا.
وإذا ثبت أن أثر الرق في التنصيف لا في تغيير أصل النكاح لا يتغير حكم النصف الباقي وبقي على ما كان فيجوز نكاح الأمة المسلمة والكتابية متقدما على نكاح الحرة لا متأخرا أو مقارنا عملا بالتنصيف كما يجوز نكاح الحرة المسلمة والكتابية مطلقا فهذا وصف أي الوصف الذي اعتمدنا عليه, وهو أن دين الكتابية دين يصح معه نكاح فيصح نكاح الأمة. وصف قوي أثره لما بينا أن الحل الذي به تصير المرأة محلا للنكاح ولا يختلف بدين أهل الكتاب كما في الحرة, وأصل هذا الحل لا يتغير بالرق فبقيت كالأمة المسلمة, وكالحرة في أصل العقد ولذلك أي; ولأن أثر الرق في التنصيف لا غير أو; لأن ما يملكه العبد من الأنكحة يملكه الحر قلنا في الحر إذا تزوج أمة على أمة إنه صحيح خلافا للشافعي كالعبد فعله; لأن أثر الرق في التنصيف لا في إزالة الحل وإثباته, وقد كانت الإماء من المحللات فبقين على ما كن عليه قبل الرق وضعف أثر وصف الشافعي فإنه جعل الرق أي رق المرأة من أسباب التحريم وليس كذلك بل هو من أسباب التنصيف كرق الرجل, وقد جعل أي الشافعي الرق من أسباب فضل الحل حيث أباح للعبد مع(4/125)
ليس من أسباب التحريم أيضا, وأثرهما مختلف أيضا فلا يصلح أن يجعلا علة واحدة وغير مسلم له أن يكون نكاح الأمة في حكم الجواز ضروريا لكنه في حكم الاستحباب مثل نكاح الحرة الكتابية لما قلنا من سقوط حرمة الإرقاق. ومثاله أيضا ما قال الشافعي في إسلام أحد الزوجين إنه من أسباب الفرقة عند انقضاء
ـــــــ
نقصان حاله من الأنكحة ما لم يبح للحر مع شرفه, وفضله على العبد. وهذا أي جعل الرق من أسباب فضل الحل عكس المعقول; لأن الحل نعمة تستحق بالشرف والفضل, والعقل يأبى أن يكون الحر الشريف أنقص نعمة من العبد الخسيس ونقض الأصول, وهي أن يكون أثر الرق في التنصيف لا غير وأن يكون الحر أوسع حلا من العبد, وأن يكون العبد أدنى درجة من الحر في استحقاق الكرامة, وفيما ذهب إليه نقض هذه الأصول. وقوله ودين الكتابي جواب عن قوله وكذلك الكفر يعني كما أن الرق ليس من أسباب التحريم دين الكتابي كذلك ألا ترى أن النكاح يصح معه ابتداء وبقاء حتى جاز للمسلم تزوج الكتابية وبقي النكاح بعدما أسلم زوج الكتابية حتى لو أبت عن الإسلام لا يفرق بينهما, وإذا كان كذلك لا يوجب انضمام الرق البيع تغلظا فيه وتحريما للنكاح لعدم تأثيرهما في التحريم ولو كان كفر الكتابية يتغلظ بالرق في حكم النكاح لكان كذلك في ملك اليمين أيضا كالمجوسية وأثرهما مختلف يعني إن سلمنا أن الرق والكفر من الموانع لا يمكن الجمع بينهما أيضا ليصيرا بمنزلة علة ذات وصفين; لأن منع الرق النكاح باعتبار نقصان الحال, ومنع الكفر إياه باعتبار خبث الاعتقاد فكان منع الكفر بطريقة غير طريقة منع الرق فلا يمكن أن يجعل الكل علة واحدة وبدون الاتحاد لا يثبت معنى التغلظ فكان اجتماعهما بمنزلة اجتماع علتين في شخص واحد فلم يقو أحدهما بالآخر كابني عم أحدهما زوج أو أخ لأم. قال القاضي الإمام في الأسرار: أما اعتبار الخبث ففاسد; لأن الخبث بالكفر من طريق الشرع وبالرق لا يزداد خبث الكفر فالرقيق ربما يكون أنقى, وأتقى من الحر فيكون أطهر شرعا إنما سقوط منزلته عند الناس, وما له أثر في تحريم الحل. وقوله: وغير مسلم جواب عن النكتة الثانية يعني لا نسلم أن جواز نكاح الأمة بطريق الضرورة لما بينا أن الرقيق في النصف مثل الحر, وكما أن نكاح الحرة بطريق الأصالة في جميع الأحوال لا بطريق الضرورة فكذلك نكاح الأمة في النصف الباقي لها والدليل عليه أنه لو تزوج أمة ثم تزوج حرة لا يبطل نكاح الأمة, ولو كان جواز نكاح الأمة ضروريا لما بقي بعدما زالت الضرورة بنكاح الحرة كما لو قدر المتيمم على الماء في خلال الصلاة أو قدر المضطر على الطعام الحلال في خلال أكل الميتة ولا يقال القدرة على الأصل لا يبطل حكم البدل بعد حصول المقصود, وهاهنا لما جاز العقد وتم فقد حصل المقصود; لأنا نقول: نحن لا(4/126)
العدة لا بنفسه, وكذلك الردة سوى بينهما, وهذا وصف ضعيف الأثر لا يخفى على أحد وقلنا نحن إن الإسلام ليس من أسباب الفرقة; لأنه من أسباب العصمة وبقاء الآخر على ما كان ليس من أسبابه أيضا بالإجماع فوجب إثبات الحكم
ـــــــ
نسلم حصول المقصود فإن النكاح عقد عمر, وحصول المقصود عنه بانقضاء العمر فقبل الانقضاء لا يتم المقصود, لكنه في حكم الاستحباب يعني أنه في حكم الجواز ليس بضروري, ولكنه في حكم الاستحباب ضروري مثل نكاح الحرة الكتابية مع وجود المؤمنة لما قلنا من سقوط حرمة الإرقاق هذا تعليل لكونه غير ضروري يعني لا نسلم أنه ضروري; لأن كونه ضروريا مبني على ثبوت حرمة الإرقاق, وقد بينا أن حرمة الإرقاق ساقطة فانتفى كونه ضروريا لانتفاء دليله.
قوله: "ومثاله أيضا" أي مثال آخر للترجيح بقوة الأثر ترجيح دليلنا في هذه المسألة إذا أسلم أحد الزوجين في دار الإسلام, ولا يمكن إبقاء النكاح بينهما إن أسلمت المرأة وبقي الزوج كافرا أو أسلم والمرأة وثنية أو مجوسية لا يقع الفرقة عندنا بنفس الإسلام بل يجب عرض الإسلام على الآخر فإن أسلم بقي النكاح, وإن أبى فرق القاضي بينهما, سواء كان بعد الدخول أو قبله. وإذا ارتد أحد الزوجين - والعياذ بالله - وقعت الفرقة بنفس الردة قبل الدخول وبعده. وقال الشافعي: رحمه الله إن لم تكن المرأة مدخولا بها وقعت الفرقة للحال في الفصلين أعني في الإسلام والردة, وإن كانت مدخولا بها تتوقف الفرقة على انقضاء العدة في الفصلين أيضا فتبين بهذا أن المراد من قوله من أسباب الفرقة إلى آخره أن الإسلام من أسباب الفرقة عند انقضاء العدة إن كانت المرأة من أهل وجوب العدة بأن كانت مدخولا بها, وإن لم تكن كذلك فالفرقة واقعة بمجرد الإسلام وحصول الاختلاف والمراد بالعدة انقضاء ثلاثة أطهار على ما عرف من أصله. واحتج في ذلك بأن هذه فرقة وجبت بسبب طارئ غير مناف للنكاح بحكمه موجب حرمة الاستمتاع فوجب أن يتعجل في غير المدخول بها ويتأجل إلى انقضاء العدة في المدخول بها قياسا على الفرقة بطلاق. وإنما قلنا طارئ; لأنها تجب لاختلاف الدينين, وأنه طارئ, وإنما قلنا: إنه غير مناف حكما بدليل أن النكاح باق مع الاختلاف إلى العرض والإباء عندكم, وإلى انقضاء العدة عندي, وكذلك مع ردتها جميعا أصلكم, وما ينافي حكما لا يتصور معه البقاء كملك اليمين وحرمة الرضاع والمصاهرة وهذا معنى مؤثر; لأن لمثل هذا الاختلاف أثرا في إيجاب الفرقة بدليل أنه يمنع ابتداء النكاح فصحت إضافة الفرقة إليه, وقلنا نحن إن الإسلام ليس من أسباب الفرقة; لأنه من أسباب العصمة أي عصمة الحقوق وتأكيد الإملاك بقوله عليه السلام: "فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم" فلا يجوز أن يستحق به زوال(4/127)
مضافا إلى سبب جديد, وهو فوات أغراض النكاح مضافا إلى امتناع الآخر عن أداء الإسلام حقا للذي أسلم وهو سبب ظاهر الأثر كما في اللعان والإيلاء والجب
ـــــــ
الملك بحال. والدليل عليه أن قرار النكاح توقف على الإسلام الآخر حتى لو أسلم بقيا عليه, وما يوجب الفرقة لا يجوز أن يتوقف قرار النكاح على وجوده فثبت أنه لا تأثير للإسلام في إيجاب الفرقة وبقاء الآخر على ما كان من الكفر ليس من أسباب التفريق أيضا بالإجماع فإن كفر ما كان موجودا وصح معه النكاح ابتداء وبقاء فلا يجوز أن يكون سببا للفرقة; لأن ما لم يكن قاطعا لا يوجب قطعا ضرورة فإن قيل إنا نسلم أن كفره لم يكن سببا مع كفر الآخر لبقاء الاتفاق فأما مع إسلامه فلا نسلم أنه ليس بسبب; لأنه قد حدث أمر مؤثر. وهو اختلاف الدينين ألا ترى أن كفره لم يكن مانعا ابتداء العقد ومحرما للوطء مع كفر الآخر, والآن هو مانع ومحرم قلنا صيرورته مانعا, ومحرما بتبدل الحال لا تدل على صيرورته قاطعا فإن كثيرا من الأشياء يمنع, ولا يقطع, والنزاع وقع في القطع فصار في حق القطع كأن الحالة لم تتبدل ألا ترى أن قيام العدة وعدم الشهود يمنعان ابتداء النكاح, ولا يمنعان البقاء والاستغناء عن نكاح الأمة بنكاح الحرة يمنع نكاحها ابتداء, ولا يمنع البقاء إذا تزوج الحرة بعد الأمة, ولما لم يصلح الإسلام سببا للفرقة, ولا كفر الباقي لم يصلح اختلاف الدين الناشئ منهما سببا; لأنه ليس لكل واحد منهما أثر في الفرقة فإذا اجتمعا يكون كذلك أيضا, ولو جعل الاختلاف سببا وجب إضافة الحكم إلى الإسلام الذي هو الوصف الأخير منهما; لأن الكفر سابق عليه, وكذا الاختلاف وجد به وقد بينا أنه لا يصلح سببا. وإذا ظهر أن واحدا من هذه الأشياء لا يصلح سببا لاستحقاق الفرقة, ولا بد من دفع ضرر الظلم; لأن ما هو المقصود بالنكاح, وهو الاستمتاع فات شرعا وجب إثبات الحكم مضافا إلى سبب جديد وهو فوات أغراض النكاح من حل الوطء والمس والتقبيل مضافا إلى امتناع الآخر عن أداء الإسلام يعني فوات هذه الأغراض بتحقيق بامتناع الآخر عن أداء الإسلام لا بإسلام الأول; لأنه لو أسلم الثاني بقي النكاح بأغراضه بالإجماع فوجب إصابة استحقاق الغربة إلى الامتناع الحادث لا إلى الإسلام العاصم وكفر الباقي.
حقا للذي أسلم متعلق بقوله فوجب إثبات الحكم أي وجب إثبات استحقاق الفرقة رعاية لحق المسلم فإن المسلم إن كان هو الزوج وجب عليه إدرار النفقة من غير أن يكون له فائدة الاستمتاع, وإن كانت المرأة صارت كالمعلقة بفوات أغراض النكاح مع بقائه والتعليق ظلم وتفويت للإمساك بالمعروف, وإذا كان كذلك صار مفوضا إلى القاضي; لأنها فرقة لإزالة الظلم والقاضي قد ولي لإزالة الظلم عن الناس, وهو أي فوات الأغراض سبب للفرقة ظاهر الأثر فإن الأسباب تراعى لأحكامها فإذا خلت عنها وجب القول بإلغائها كما(4/128)
والعنة وأما الردة فمنافية; لأنها من أسباب زوال العصمة وذلك أمر بين, ولا يلزم
ـــــــ
في الصور المذكورة فإن وقوع الفرقة فيها بناء على فوات أغراض النكاح محالا به على من كان فوات الإمساك بالمعروف من جهته أما في الجب والعنة فظاهر, وأما في اللعان فلأن الاستمتاع لما حرم بالتلاعن, وفات غرض النكاح بسبب فعل الزوج وهو الرمي بقيت المرأة معلقة مظلومة لا يصل إليها حقها فوجب دفع الظلم عنها بالتفريق. وكذا في الإيلاء فإن الزوج ظلمها بمنع حقها في المدة فجوزي بزوال نعمة النكاح عند مضي المدة وعلى أصل الشافعي صار الزوج ظالما بعد مضي المدة بمنع حقها فوجب التفريق إذا أصر على الظلم ولا يلزم على ما ذكرنا الحرمة بسبب الإحرام والعدة والحيض والنفاس; لأن هذه حرمات لا تدوم بل هي بعرض الزوال فلا يؤدي إلى تفويت أغراض النكاح فلا يتحقق الظلم بخلاف ما نحن فيه.
قوله: "فأما الردة فمنافية; لأنها من أسباب زوال العصمة" يعني هي موجبة للفرقة على سبيل المنافاة لا لأنها موضوعة للفرقة فثبت بالحرمة بنفسها من غير توقف على انقضاء عدة ولا قضاء قاض كما في طروء الرضاع وحرمة المصاهرة وذلك لأنا وجدنا الردة قد أبطلت النكاح بالإجماع, ولا تخلو من أن تكون مبطلة وضعا أو بطريق المنافاة. ولا وجه إلى الأول; لأن المبطل لشيء وضعا لا يتصور وجوده غير مبطل له; لأنه وضع لإبطاله فإذا لم يبطل لا يكون موجودا كالعتق لما وضع لإبطال الملك وإزالة الرق لم يكن عتقا عند عدم الإبطال والإزالة, وقد وجدنا الردة متحققة غير مبطلة للنكاح فيما إذا ارتد, ولم يكن له امرأة فعلمنا أنها لم توضع لإبطال ملك النكاح; ولأن الموضع لإبطال أمر شرعي يكون مشروعا لإبطاله لا محالة, والردة ليست بمشروعة بوجه ولما ثبت أنها ليست موضوعة لإبطال ملك النكاح, وقد أبطلت النكاح علمنا أنها إنما تبطله بطريق المنافاة كالرضاع والمصاهرة فإنهما ليسا بموضوعين لإبطال النكاح لتحققهما في غير ملك النكاح, ولكنهما منافيان للنكاح على معنى أنهما سببا الجزئية والبعضية, والحرمة المبنية على الجزئية منافية للنكاح فكذلك الردة تبديل الدين, وذلك توجب إبطال عصمة الشخص وعصمة أملاكه فتوجب بطلان عصمة ملك النكاح; لأن ملك النكاح دون نفسه, وكذا الشخص ببطلان العصمة يلتحق بالموتى والجمادات, والميت ليس بأهل لملك النكاح بوجه. وإذا كان كذلك وجب أن يتعجل الفرقة على كل حال; لأن الشيء لا يبقى مع ما ينافيه.
وذلك أمر بين أي كون الردة من أسباب زوال العصمة التي عليها مبنى النكاح أمر ظاهر لا خفاء فيه إذ الردة تؤثر في إزالة عصمة النفس والمال بالإجماع. ولا يلزم إذا ارتدا معا يعني لا يقال لو كان بطلان النكاح بالردة للمنافاة لزم أن تبطل بارتدادهما بالطريق(4/129)
إذا ارتدا معا; لأنا أثبتنا حكمه بنص آخر, وهو إجماع الصحابة رضي الله عنهم, والقياس ليس بحجة في معارضة الإجماع; ولأن حال الاتفاق دون حال الاختلاف فلن يصح التعدية إليه في تضاد حكمين وضعف أثر قوله إن الردة غير منافية بدلالة ارتدادهما; لأنا وجدنا اختلاف الدين يمنع ابتداء النكاح, والاتفاق على
ـــــــ
الأولى لازدياد المنافي كما لو اجتمع الرضاء والنسب أو المصاهرة; لأنا نقول كان القياس أن يكون ارتدادهما مبطلا أيضا للمنافاة كما قال زفر رحمه الله إلا أنا تركناه بإجماع الصحابة رضي الله عنهم فإن العرب ارتدوا في عهد أبي بكر رضي الله عنه فلما أسلموا لم يأمرهم بتجديد الأنكحة, ولم ينكر عليه أحد من الصحابة رضي الله عنهم فحل محل الإجماع, وهذا; لأن الأصل في كل شيئين ظهرا, ولم يعرف التاريخ بينهما أن يجعلا كأنهما وقعا معا كما في الغرقى والحرقى, وقد تحقق ارتداد العرب ولم يعرف التاريخ أن المرأة ارتدت أولا أم الرجل فجعل كالواقع معا فصار إجماعا من هذا الوجه; ولأن حال الاتفاق دون حال الاختلاف يعني لو لم يكن الإجماع منعقدا لا يدل منافاة ارتداد أحدهما للنكاح على منافاة ارتدادهما إياه; لأن حال اتفاقهما على الارتداد في اقتضاء الحرمة دون حال اختلافهما فيه; لأن في حال الاختلاف ليس الكافر منهما بمعصوم في حق المسلم فلانقطاع العصمة بينهما بطل النكاح, وهذا المعنى في حال الاتفاق معدوم فلم يصلح التعدية أي تعدية حكم الاختلاف إليه أي إلى الاتفاق في تضاد حكمين أي مع تضاد حكمي الاتفاق والاختلاف فإن الاتفاق يقتضي الحل وبقاء النكاح, والاختلاف يوجب الحرمة والفرقة. وضعف أثر قوله يعني ضعف أثر قياس الشافعي واعتباره ارتداد أحدهما بارتدادهما جميعا في عدم منافاته النكاح. وقوله: لأنا وجدنا دليلا على قوله فلم يصح التعدية, وقوله وضعف أثر قوله إن الردة كذا يعني لا يمكن اعتبار ارتدادهما بارتداد أحدهما في إثبات المنافاة فيه, ولا ارتداد أحدهما بارتدادهما في نفي المنافاة عنه; لأنا وجدنا لاختلاف الدين تأثيرا في الحرمة فإنه يمنع ابتداء النكاح بلا خلاف ويقطعه أيضا عنده كما بينا ولاتفاق الدين تأثير في الحال حتى جاز نكاح مجوسيين, ولو أسلم أحدهما لم يجز فثبت أن الاتفاق ليس مثل الاختلاف فلا يمكن إلحاق أحدهما بالآخر ولا يلزم من منافاة أحدهما منافاة الآخر, ولا من عدم منافاة أحدهما عدم منافاة الآخر وذكر شمس الأئمة رحمه الله, ولا يجوز أن يجعل امتناع صحة النكاح بينهما ابتداء بعد الردة علة للمنع من بقاء النكاح لا بابتناء فساد اعتبار حالة البقاء بحالة الابتداء, وهذا; لأن البقاء لا يستدعي دليلا مبقيا, وإنما يستدعي الفائدة في الإبقاء وبعد ردتهما يتوهم منهما الرجوع إلى الإسلام وبه يظهر فائدة البقاء فأما الثبوت ابتداء فيستدعي الحل في المحل وذلك(4/130)
الكفر لا يمنع, ومثاله قوله في مسح الرأس إنه ركن في الوضوء وهذا ضعيف الأثر; لأن الركنية لا يؤثر في التكرار ولا يختص به فقد سن تكرار المضمضة, وأثر المسح في التخفيف بين لا شبهة فيه قوي لا ضعف فيه, وهذا أكثر من أن يحصى. وأما الثاني, وهو قوة ثباته على الحكم المشهود به فلأن الأثر إنما صار أثرا لرجوعه إلى الكتاب والسنة والإجماع فإذا ازداد ثباتا ازداد قوة بفضل معناه وذلك في قولنا في مسح الرأس إنه مسح فهذا أثبت في دلالة التخفيف من قولهم ركن في دلالة التكرار ألا ترى أن الركن وصف عام في الوضوء وفي أركان الصلاة وغيرها, وهي الركوع والسجود, وكان من قضية الركن إكماله بالإطالة في
ـــــــ
معدوم بعد الردة وعند ردة أحدهما لا يظهر في الإبقاء فائدة مع ما هما عليه من الاختلاف. ومثاله أي مثال قول الشافعي إن الردة غير منافية في النصف قوله في مسح الرأس: إنه ركن في الوضوء فيسن فيه التكرار كالغسل. هذا أي وصف الركن ضعيف الأثر; لأن الركنية لا تؤثر في التكرار بدليل عدم تأثيرها فيه في غير هذا الموضع بل تأثيرها في الوجود لا غير, ولا يختص فيه أي لا يختص التكرار بالركن في الوضوء أيضا فإن التكرار مسنون في المضمضة والاستنشاق وهما ليسا بركنين يعني أنهما ليسا بمتلازمين فإن الركن قد يوجد بدون التكرار كما في أركان الصلاة والحج وغيرها والتكرار قد يوجد بدون الركنية كما في المضمضة, وتعليلنا بأنه مسح فلا يسن فيه التكرار تعليل بوصف قوي أثره فإن أثر المسح في التخفيف بين لا شبهة فيه إذ الاكتفاء بالمسح مع إمكان الغسل ما كان إلا للتخفيف, وتأدي الفرض ببعض المحل مع إمكان الاستيعاب للتخفيف أيضا. وكذا سقوط التكرار في مسح الخف والجبيرة والتيمم للتخفيف فعرفنا أن تأثيره في التخفيف قوي لا ضعف فيه, وهذا أي الترجيح بقوة الأثر في مسائل أصحابنا أكثر من أن يحصى.
قوله: "وأما الثاني" أي صحة الوجه الثاني من الترجيح, وهو قوة ثباته أي ثبات الوصف على الحكم المشهود به أي الحكم الذي شهد الوصف بثبوته; فلأن الوصف المؤثر إنما صار حجة بأثره, ومرجع أثره الكتاب أو السنة أو الإجماع يعني يعتبر أثره لثبوته بأحد هذه الأدلة فإذا ازداد الوصف ثباتا على الحكم ازداد قوة بفضل معناه الذي صار به حجة, وهو رجوع أثره إلى هذه الأدلة فإن وصف المسح لما ظهر أثره في التخفيف كان زيادة ثباته على هذا الحكم ثابتة بالنص أو الإجماع أيضا كثبوت أصل الأثر فيترجح على ما لم يوجد فيه هذه القوة.(4/131)
الركوع والسجود لا تكراره ووجدناه في الباب ما ليس ركنا ويتكرر, وهو المضمضة والاستنشاق. وأما أثر المسح في التخفيف فثابت لازم لا محالة في كل ما لا يعقل تطهيرا كالتيمم, ومسح الخف, ومسح الجبائر, ومسح الجوارب وكذلك قولنا في صوم رمضان: إنه متعين أولى من قولهم صوم فرض; لأن الفرضية لا توجب إلا الامتثال به والتعيين لا محالة وذلك وصف خاص في الباب. وأما التعيين فلازم حتى تعدى إلى الودائع والغصوب ورد البيع الفاسد
ـــــــ
وذلك أي الترجيح بقوة الثبات. ألا ترى توضيح لعدم ثبات وصف الركنية على التكرار, لازم تفسير لثابت إذ المراد من الثبات على الحكم لزومه له في كل ما لا يعقل تطهيرا أي في كل مسح شرع للتطهير, ولم يعقل منه معنى التطهير, وهو احتراز عن الاستنجاء بغير الماء فإنه مسح وقد شرع فيه التكرار; لأنه عقل فيه معنى التطهير إذا المقصود منه التنقية, والتكرار يؤثر في تحصيل هذا المقصود, ومسح الجوارب, يعني على قول من يجيزه, وكذلك قولنا أي مثل قولنا في المسح قولنا في صوم رمضان إنه متعين فلا يشترط تعيينه كصوم النفل فإنه أولى من قول أصحاب الشافعي صوم فرض فيشترط تعيينه كصوم القضاء لكونه أثبت على حكمه مما ذكروا; لأن وصف الفرضية لا يوجب إلا الامتثال به أي لا يقتضي إلا الإتيان بالمفروض لا التعيين لا محالة أي لا يقتضي التعيين ألبتة فإن الحج يجوز بمطلق النية وبنية النفل على أصله, وذلك أي وصف الفرضية وصف خاص في الباب أي في باب الصوم. يعني التعليل بوصف الفرضية لإيجاب التعيين لو صح إنما يصح في باب الصوم دون سائر المواضع; لأنه لا يقتضي التعيين في غير هذه الصورة بل التعيين في غيرها إنما يجب بمعان أخر لا بوصف الفرضية فأما التعيين أي سقوط التعيين فلازم لوصف التعيين أو المراد من التعيين التعيين بطريق إطلاق اسم السبب, وإرادة المسبب يعني التعليل بوصف العينية في سقوط اشتراط التعيين لازم أي ثابت في كل عين حتى تعدى أي ثبت في رد الودائع والغصوب ورد البيع الفاسد حتى لو رد الوديعة أو المغصوب إلى المالك أو رد المبيع إلى البائع في البيع الفاسد لا يشترط تعيينه لأجل الوديعة أو الغصب أو لرد البيع بل بأي طريق وجد يقع في الجهة المستحقة لتعين المحل, ولو أدى الدين يشترط التعيين. وعقد الإيمان بالله تعالى يعني لا يشترط نية التعيين في الإيمان بالله عز وجل بأن يعين أنه يؤدي الفرض مع أنه أقوى الفروض بل على أي وجه يأتي به يقع على الفرض لكونه متعينا غير متنوع إلى فرض ونفل, وفي بعض النسخ: وعقد الأيمان بفتح الهمزة يعني إذا حلف على فعل عين أو على الامتناع عن فعل بأن حلف ليصومن يوم الجمعة أو لا يكلم فلانا اليوم ففعل ذلك أو امتنع عنه لا على قصد البر يقع عن(4/132)
وعقد الأيمان ونحوها فكان أولى, وكذلك قولنا في المنافع إنها لا تضمن مراعاة لشرط ضمان العدوان بالاحتراز عن الفضل أولى من قولهم إن ما يضمن بالعقد يضمن بالإتلاف تحققت للجبر, وإثبات المثل تقريبا, وإن كان فيه فضل; لأنه فضل على المتعدي أو إهدار على المظلوم ولأنه إهدار وصف أو إهدار أصل فكان
ـــــــ
البر للتعين أو معناه إذا وجد الفعل الذي هو شرط الحنث على أي وجه وجد نسيانا أو كرها أو خطأ لتعينه ونحوها كتصديق النصاب على الفقير بدون الزكاة فإنه مسقط للزكاة لتعين المحل, وكإطلاق النية في الحج يتأدى به الفرض لتعين حجة الإسلام بدلالة الحال, وكالسيف المحلى بالذهب أو الفضة إذا بيع بجنس الحلية, وقد أدى بعض ثمن السيف في المجلس ثم افترقا يتعين المؤدى للحلية سواء أطلق أو عين أو قيل من ثمنهما لتعين ثمن الحلية للقبض.
قوله: "وكذلك قولنا" يعني, وكما كان قولنا فيما تقدم أولى وأرجح لقوة ثبات الوصف المذكور كان قولنا في المنافع أنها لا تضمن بالإتلاف لأجل مراعاة شرط ضمان العدوان; لأن ضمان العدوان بالنص, وهو قوله تعالى: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] مقدر بالمثل صورة, ومعنى بلا صورة,, وإيجاب الزيادة على المثل حرام بالإجماع, والأعيان ليست بمماثلة للمنافع في المالية للتفاوت الفاحش بينهما من حيث إن الأعيان تبقى وتدوم, ولا بقاء للمنافع, وإذا كان كذلك لا يمكن إيجاب ما هو فوق المتلف في صفة المالية على المتعدي كما لا يمكن إيجاب الجيد مكان الرديء, وهو معنى قوله بالاحتراز عن الفصل أولى من قولهم إن ما يضمن بالعقد يضمن بالإتلاف تحقيقا للجبر كالأعيان وذلك; لأن المنفعة مال كالعين بدليل أن الحيوان لا يثبت دينا في الذمة بدلا عنها, والناس يتمولونها والتفاوت الثابت باعتبار العينية والعرضية مجبور بكثيرة الأجزاء في أحد الجانبين; لأن منفعة شهر واحد أكثر أجزاء عند المقابلة بالدرهم الواحد فيجبر النقصان بتلك الزيادة فاستويا قيمة فبقي بعد ذلك التفاوت فيما وراء القيمة وذلك غير معتبر كالتفاوت في الحنطة من حيث الحبات واللون ونحوها فيما إذا أتلف حنطة, وأتى بمثلها, وهذا معنى قوله, وإثبات المثل تقريبا يعني إيجاب المثل ثابت بقدر الإمكان فإذا لم يكن إلا بأدنى تفاوت يتحمل كما في إيجاب القيمة عن العين عند تعذر إيجاب المثل صورة مع أنها تستدرك بالظن والحزر. وإن كان فيه أي في إيجاب الضمان إيجاب فضل; لأنه الضمير راجع إلى المفهوم أي الواجب في المسألة إما إيجاب فضل على المتعدي أو إهدار على المظلوم حقه يعني لما لم يمكن إيجاب المثل بدون الفضل لم يكن بد من التزام أحد محذورين إما إيجاب الفضل على المتعدي رعاية(4/133)
الأول أولى; لأن التقييد بالمثل واجب في كل باب كما في الأموال كلها والصيام والصلاة وغيرها ووضع الضمان في المعصوم أمر جائز مثل العادل يتلف مال الباعي, والحربي يتلف مال المسلم, والفضل على المتعدي غير مشروع, وهذا; لأنه,
ـــــــ
لجانب المظلوم بجبر حقه أو إهدار حق المظلوم بعدم إيجاب الضمان على المتعدي احترازا عن إيجاب الفضل فكان الأول أولى; لأن إلحاق الخسران بالظالم أحق, وفيه دفع الظلم وسد باب العدوان أو الضمير راجع إلى الفضل, ومعناه أن ذلك الفضل إن اعتبر فهو فضل واجب على المتعدي ذلك ليس بمستبعد في حقه لتعديه, وإن لم يعتبر فهو إهدار لجهة الفضيلة على المظلوم تحقيقا لإيجاب المثل جبرا لحقه, وهو جائز أيضا كإهدار المودة في باب الربا تحقيقا للمساواة; ولأنه الضمير راجع إلى المفهوم أيضا أي; ولأن الثابت في هذه المسألة إما إهدار وصف عما وجب على الظالم, وهو العينية الموجبة للبقاء على تقدير إيجاب الضمان أو إهدار أصل أي إسقاط أصل حق المظلوم على تقدير عدم إيجاب الضمان فكان الأول, وهو إهدار الوصف أولى تحملا لأدنى الضررين لدفع أعلاهما.
ولو صرفت الضمير في; لأنه إلى شيء مما تقدم من إيجاب الضمان ونحوه لفسد المعنى; لأن ما حكمت عليه بأنه إهدار وصف غير ما حكمت عليه بأنه إهدار أصل, ولا بد في مثل هذا الكلام أن يكون المحكوم عليه واحدا. وقوله: لأن التقييد دليل على قوله أولى من قولهم يعني قولنا كذا أولى من قولهم كذا; لأن التقييد بالمثل واجب في كل باب أي في كل نوع من الضمانات ماليا كان أو بدنيا فإن ضمان الصيام والصلاة والاعتكاف والحج مقيد بالمثل بالإجماع عند الإمكان فكان هذا الوصف أثبت مما ذكروا فكان أرجح.
ووضع الضمان في المعصوم أي إسقاط الضمان عمن أتلف مالا معصوما أمر جائز في الشرع مثل العادل يتلف مال الباغي فإن ماله مع بغيه معصوم لا يباح لغير العادل إتلافه, ولا يجوز استغناؤه وتملكه لأحد, وفي التقويم كإتلاف الباغي أموالنا ونفوسنا في حال المنعة, وهو أظهر, والفضل على المتعدي أي إيجاب الفضل على المتعدي غير مشروع فإنا لم نجد تعديا أوجب زيادة على المثل بعذر من الأعذار في الدنيا والآخرة فثبت أن ما ذكرنا في نفي الزيادة عن المتعدي أثبت مما ذكروا, وهذا أي عدم إيجاب الفضل; لأن الفضل, وإن قل فإنه أي إيجاب حكم شرعي ينسب إلى صاحب الشرع; لأن الضمان يجب بقضاء القاضي, وهو ثابت الشرع فيكون هذا إضافة الظلم إلى الشرع بغير واسطة يعني بدون جناية من العبد إذ لم يوجد من التعدي في مقابلة الفضل الواجب عليه تعد على الغير فيكون جورا, ونسبة الجور إلى صاحب الشرع باطلة, وقد يظن أن قوله بدون واسطة فعل العبد هاهنا غير محتاج إليه; لأنه يوهم أن نسبة الجور إليه بواسطة فعل العبد جائزة, وليس(4/134)
وإن قل فإنه حكم شرعي ينسب إلى صاحب الشرع بغير واسطة, ونسبة الجور إليه بدون واسطة فعل العبد باطل, وأن لا يضمن مضاف إلى عجزنا عن الدرك, وذلك سائغ حسن; ولأن الوصف, وإن قل فائت أصلا بلا بدل, والأصل, وإن عظم فائت إلى
ـــــــ
كذلك بل نسبة الجور إليه لا تجوز بحال, وما يضاف إلى صاحب الشرع من إيجاب الجزاء بواسطة فعل العبد ليس بجور. وعبارة التقويم تؤيده فإن المذكور فيه أن الزيادة راجعة إلى ما يتبين من حكم الله بفتوانا وحكم الله تعالى مصون عن الجور إلا أنه ذكر في نسخة من نسخ أصول الفقه, وأظنها للشيخ أن إضافة الظلم إلى الشرع بواسطة فعل العبد يجوز من حيث الإرادة والتقدير والمشيئة دون الرضاء والأمر به فعلى هذا يكون ذكره مفيدا, ومحتاجا إليه, وأن لا يضمن أي عدم وجوب الضمان وسقوطه مضاف إلى عجزنا عن الدرك أي درك المثل الواجب في هذا الموضع فإنا نعلم أنه قد وجب على ذمة المتلف ضمان ما أتلفه مقدرا بالمثل فإن إيجاب المثل من العدل, ولكنا عجزنا عن معرفته فسقط ذلك للعجز, وذلك أي عدم وجوب الضمان وسقوطه للعجز سائغ حسن كسقوط وجوب المثل صورة عند العجز في ضمان العدوان وسقوط فضل الوقت في ضمان الصوم والصلاة; ولأن الوصف, وهو الفضل على تقدير إيجاب الضمان فائت أصلا بلا بدل إذ لا يبقى للمتلف حق فيه في الدنيا, ولا في الآخرة لوجوبه بحكم الشرع فكان إيجابه إبطالا له أصلا والأصل, وهو حق المظلوم, وإن عظم بالنسبة إلى الوصف فائت على تقدير عدم إيجاب الضمان إلى الضمان في دار الجزاء فكان عدم إيجابه تأخيرا لا إبطالا, والتأخير أهون من الإبطال في الضرر فكان أولى مع أن تأخير الحق بالعذر أمر مشروع بقوله عز اسمه: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280], وتأخير الحقوق إلى دار الآخرة أصل فإنها دار الجزاء على الحقيقة. وهذا أي اشتراط المماثلة في سائر الأحكام كذلك أي مثل اشتراطها هاهنا أو اشتراطها هاهنا مثل اشتراطها في عامة الأحكام يعني ما اعتبرناه من رعاية شرط المماثلة ليس بوصف خاص بل هو ثابت في عامة الأحكام التي تتعلق بالضمان فأما ضمان العقد فباب خاص; لأنه ثابت بخلاف القياس للحاجة مختصا بالعقد على ما مر بيانه فلا يكون ثباته على الحكم مثل ثبات الأول فكان الأول أرجح. وأما اعتباره ضمان المنافع بضمان القيمة عن العين فليس بصحيح لأنه لا يلزم من إيجاب القيمة إيجاب زيادة بالفتوى ونسبة جور إلى الشرع بل الواجب قيمة عدل على الحقيقة فإن لكل عين متقومة قيمة مثل على الحقيقة عند الله تعالى وربما يوصل إليها باتفاق الحال, وهي الواجبة بالفتوى إلا أنه إذا آل الأمر إلى الاستيفاء وذلك يبتني على الوسع قلنا يتقدر بقدر الوسع ويسقط اعتبار أدنى تفاوت في القيمة; لأنه لا يستطاع التحرز عنه فأما هاهنا فالتفاوت في أصل الواجب لا في(4/135)
ضمان في دار الجزاء فكان تأخرا والأول إبطالا والتأخير أهون من الإبطال وهذا كذلك في عامة الأحكام فأما ضمان العقد فباب خاص فكان ما قلناه أولى. وأما الثالث, وهو كثرة الأصول فهو من جنس الإشهار في السنن, وهو قريب من القسم
ـــــــ
الاستيفاء, ولا يلزم عليه الشاهد على إبراء الدين إذا رجع فإنه يضمن النقد, وله فضل على الدين; لأنا نقول: إنه أتلف على المشهود عليه دينا يتعين بالقبض فيضمن دينا يتعين بالقبض فليس فيه إيجاب فضل. وأما ما اعتبر من ترجيح جانب المظلوم فهو ضعيف جدا; لأن الظالم لا يظلم, ولكن ينتصف منه مع قيام حقه في ملكه فلو لم يوجب الضمان سقط حق المظلوم لا بفعل مضاف إلينا وعند إيجاب الضمان سقط حق الظالم في الوصف بمعنى مضاف إلينا, وهو أنا نلزمه إذا ذلك بطريق الحكم به عليه, ومراعاة الوصف في الوجوب كمراعاة الأصل ألا ترى أن في القصاص الذي يبتني على المساواة التفاوت في الوصف يمنع جريان القصاص كالصحيحة مع الشلاء, ولا ينظر إلى ترجيح جانب المظلوم, وإلى ترجيح جانب الأصل على الوصف فعرفنا أن قوة الثبات فيما قلنا, كذا ذكر شمس الأئمة رحمه الله.
قوله: "وأما الثالث, وهو كثرة الأصول" معنى الترجيح بكثرة الأصول أن يشهد لأحد الوصفين أصلان أو أصول فيرجح على الوصف الذي لم يشهد له إلا أصل واحد مثل وصف المسح في مسألة التثليث فإنه لما شهد لصحة التيمم ومسح الخف, ومسح الجبيرة وغيرها, ولم يشهد لصحة وصف الخصم, وهو الركنية إلا الغسل ترجح عليه.
ثم زعم بعض أصحابنا وبعض أصحاب الشافعي أن الترجيح بكثرة الأصول غير صحيح; لأن كثرة الأصول في القياس بمنزلة كثرة الرواة في الخبر, والخبر لا يترجح بكثرة الرواة على ما مر بيانه. فكذا هذا; ولأنه من جنس الترجيح بكثرة العلة; لأن شهادة كل أصل بمنزلة علة على حدة, وعند الجمهور هو صحيح; لأن الحجة هي الوصف المؤثر, الأصل المستنبط منه لكن كثرة الأصول يوجب زيادة تأكيد ولزوم للحكم بذلك الوصف من وجه آخر غير ما ذكرنا من شدة التأثير والثبات على الحكم فيحدث بها قوة في نفس الوصف فلذلك صلحت للترجيح فهو أي الوجه الثالث من الترجيح من جنس الاشتهار في السن فإن كثرة الرواة ليست بحجة بل الخبر هو الحجة, ولكن يحدث بكثرة الرواة قوة وزيادة اتصال في نفس الخبر فيصير مشهورا أو متواترا فيترجح على ما ليس بتلك الصفة فتبين بما ذكرنا أنه في الحقيقة ترجيح الوصف القوي على ما ليس بقوي لا ترجيح الأصول على أصل, وهو أي الترجيح بكثرة الأصول قريب من القسم الثاني, وهو الترجيح بقوة إثبات من هذا الباب أي باب الترجيح. قال شمس الأئمة رحمه الله: وما من نوع من هذه(4/136)
الثاني في هذا الباب. وأما الرابع فهو العكس الذي ذكرنا هو أضعف وجوه الترجيح; لأن العدم لا يتعلق به حكم لكن الحكم إذا تعلق بوصف ثم عدم عند عدمه كان ذلك أوضح لصحته فصلح أن يدخل في أقسام الترجيح وذلك قولنا في مسح الرأس إنه مسح, وهو ينعكس بما لا ليس بمسح وقولهم ركن لا ينعكس; لأن المضمضة تتكرر وليس بركن, وكذلك قولنا في الأخوة: إنها قرابة محرمة
ـــــــ
الأنواع إذا قرر به في مسألة إلا ويتبين به إمكان تقدير النوعين للآخر فيه أيضا, وهكذا في التقويم وذلك; لأن الأقسام الثلاثة راجعة إلى معنى واحد, وهو الترجيح بقوة تأثير الوصف إلا أن الجهات مختلفة فتعددها باعتبار الجهات فالترجيح بقوة التأثير بالنظر إلى نفس الوصف, والترجيح بالثبات بالنظر إلى الحكم, والترجيح بكثرة الأصول بالنظر إلى الأصل, وذكر في بعض فوائد هذا الكتاب أن الفرق بين هذا القسم والقسم الثاني أن في القسم الثاني أخذ الترجيح من قوة هذا الوصف, وفي هذا أخذ من نظائره, ولا يكون هذا ترجيح القياس بالقياس; لأن ذلك إنما لا يجوز باعتبار أن كل قياس علة على حدة, وفيما نحن فيه القياس واحد, والمعنى واحد إلا أن أصوله كثيرة.
قوله: "وأما الرابع فهو العكس" اختلف في الترجيح بالعكس فعند بعض المتأخرين لا عبرة به; لأن العدم لا يتعلق به حكم أي لا يوجب عدم العلة عدم الحكم ولا وجوده; لأنه ليس بشيء فلا يصلح مرجحا; لأن الرجحان لا بد له من سبب. ومختار عامة الأصوليين أنه صالح للترجيح; لأن عدم الحكم عند عدم الوصف الذي جعل حجة دليل على اختصاص الحكم بذلك الوصف ووكادة تعلقه به فصلح مرجحا من هذا الوجه لكنه ترجيح ضعيف لاستلزامه إضافة الرجحان إلى العدم الذي ليس بشيء كما قال الفريق الأول, ويظهر ثمرته عند المعارضة فإنه إذا عارض هذا النوع ترجيح آخر من الأنواع الثلاثة كان ذلك مقدما عليه كالترجيح في الذات على الترجيح في الحال, وهو ينعكس بما ليس بمسح أي ينعدم الحكم المرتب على المسح, وهو سقوط التكرار بعدم وصف المسح كما في غسل الوجه واليد والرجل فإنه يسن فيه التكرار, وكذا في كل ما يعقل تطهيرا يسن فيه التكرار أيضا. وكذلك أي, ومثل قولنا في المسح قولنا فيما إذا ملك الرجل أخاه أو أخته إن قرابة الأخوة محرمة للنكاح الذي هو استدلال فيوجب العتق كقرابة الولادة. أحق من قول أصحاب الشافعي هذه قرابة يجوز وضع زكاة أحدهما في الآخر فلا توجب العتق كقرابة بني الأعمام; لأن ما قلنا ينعكس في بني الأعمام فإن قرابتهم لما لم توجب حرمة النكاح لم توجب العتق. وقولهم لا ينعكس فإن الوصف الذي ذكروه, وهو جواز وضع الزكاة قد انعدم في الكافر, ولم ينعدم الحكم المرتب عليه, وهو عدم العتق فإن الكافر لا يعتق على(4/137)
للنكاح لإيجاب العتق أحق من قولهم يجوز وضع زكاة أحدهما في الآخر; لأن ما قلنا ينعكس في بني الأعمام, وقولهم لا ينعكس; لأن وضع الزكاة في الكافر لا يحل ولا يجب به عتق, وكذلك قولنا في بيع الطعام إنه مبيع عين فلا يشترط قبضه أولى من قولهم مالان لو قوبل كل واحد منهما بجنسه حرم ربا الفضل لأنه ينعكس ببدل الصرف ورأس مال السلم; لأنه دين بدين ولا ينعكس تعليله; لأن بيع السلم لم يشمل أموال الربا, ومع ذلك وجب فيه القبض احترازا عن الكالئ
ـــــــ
المسلم إذا ملكه. وكذلك أي, وكقولنا فيما تقدم قولنا في بيع الطعام بالطعام إلى آخره. إذا باع طعاما بعينه بطعام بعينه لا يشترط القبض في المجلس عندنا; لأنه أي لأن كل واحد من البدلين مبيع عين فلا يشترط قبضه في المجلس كما إذا باع ثوبا بثوب. وقال الشافعي: رحمه الله يشترط القبض في المجلس; لأن البدلين مالان لو قوبل كل واحد منهما بجنسه يحرم التفاضل فيشترط التقابض في بيع أحدهما بالآخر كالذهب والفضة ثم ما ذكرناه أولى; لأنه ينعكس ببدل الصرف ورأس مال السلم; لأنه أي; لأن كل واحد منهما دين بدين يعني قد عدمت العينية في هذين العقدين فعدم الحكم المرتب عليها, وهو عدم اشتراط التقابض وذلك; لأن الأصل في الصرف النقود, وهي لا تتعين في العقود فكان دينا بدين. وكذا المسلم فيه دين ورأس المال في الغالب من النقود أيضا فكان دينا بدين فشرط فيهما القبض فثبت أن ما ذكرنا منعكس, ولا ينعكس تعليله أي تعليل الخصم; لأن بيع السلم لم يشمل أموال الربا أي لم يقتصر عليها إن جاز حمل الشمول على الاقتصار يعني كما يكون السلم في مال الربا بأن أسلم دراهم في حنطة يكون في غيره بأن يكون رأس المال ثوبا أو معناه أن بيع السلم قد يكون غير مشتمل على أموال الربا بأن أسلم ثوبا في عدد متقارب. وعبارة التقويم أوضح من عبارة الكتاب, وهي وعلتهم لا توجب العدم لعدمها فإن القبض شرط في المجلس في باب السلم, وإن لم يشتمل على أموال الربا, ومع ذلك أي مع كونه غير مشتمل على أموال الربا وجب فيه القبض للاحتراز عن النسيئة بالنسيئة فثبت أن ما ذكروا غير منعكس ببقاء الحكم عند عدم الوصف.
فإن قيل ما ذكرنا, وإن لم يكن منعكسا فهو مطرد, وما ذكرتم ليس بمطرد فإن بيع إناء من فضة بإناء من فضة أو ذهب يوجب القبض في المجلس, وإن كانا عينين, وكذا لو كان رأس المال ثوبا يشترط قبضه في المجلس, وإن كان عينا فكان ما قلناه أولى قلنا الأصل في الصرف والسلم ورودهما على الدين بالدين وربما يقع على عين بدين ويتعذر على عامة التجار معرفة ما يتعين وما لا يتعين فأقيم اسم الصرف والسلم مقام الدين بالدين وعلق وجوب القبض بهما تيسيرا على الناس ووجب القبض بهما سواء وردا على دين بدين أو(4/138)
بالكالئ. وأما القسم الثالث فإن الأصل في ذلك أن كل موجود مما يحتمل الحدوث موجود بصورته, ومعناه الذي هو حقيقة وجوده, ويقوم به أحواله الحادثة على وجوده فإذا تعارض ضربان ترجح أحدهما في الذات والثاني في الحال على مضادة الوجه الأول كان الرجحان في الذات أحق منه في الحال لوجهين أحدهما أن
ـــــــ
عين بدين أو عين بعين; لأن الكل في حكم الدين تقديرا, وهذا; لأن الشيء إذا أقيم مقام شيء فالمنظور نفسه لا الشيء الذي هو أقيم هو مقامه كالنوم لما أقيم مقام الحدث عند الاسترخاء, والسفر لما أقيم مقام المشقة لم يتلفت بعد إلى حقيقة الحدث والمشقة.
فإن قيل ما ذكرنا, وإن لم يكن منعكسا موافق للنص, وهو قوله: عليه السلام: "الحنطة بالحنطة مثل بمثل يد بيد" أي قبض بقبض, وفي بعض الروايات قبض بقبض. وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم بعد أن يكون يدا بيد" وما ذكرتم مخالف للنص فكان مردودا. قلنا: قد ثبت بالدليل أن المراد بقوله يد بيد عين بعين نقد بنقد يقال لما ليس بنسيئة بيع يد بيد; وهذا لأن اليد آلة التعيين كالإشارة والإحضار كما هي آلة القبض, وكذلك القبض باليد للتعيين فيجوز أن يعبر باليد والقبض عنه فيحمله عليه لئلا يزيد على كتاب الله تعالى وهو قوله جل ذكره: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275] وقوله جل جلاله: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء: 29] شرطا ليس منه; لأنه بمنزلة النسخ كذا في الأسرار. ولا يقال قد زدتم اشتراط العينية على الكتاب بنهيه عليه السلام عن الكالئ بالكالئ فزيدوا القبض بهذا النص أيضا; لأنا نقول انضم الإجماع, وقبول الأمة إلى هذا الخبر فيجوز الزيادة به على الكتاب, ولم يوجد ذلك في خبر القبض فافترقا.
قوله: "وأما القسم الثالث" يعني من أقسام أول الباب, وهو بيان المخلص في تعارض وجوه الترجيح فإن الترجيحين إذا تعارضا يحتاج إلى ترجيح أحدهما على الآخر دفعا للتعارض, أحدهما في الذات أي بمعنى راجع إلى الذات والثاني في الحال أي بوصف في الذات على مضادة الوجه الأول أي على مخالفته إذ لو كان على موافقته لا يحتاج إلى الترجيح ثانيا: أحدهما أن الذات أسبق وجودا من الحال زمانا أو رتبة فبعدما وقع الترجيح لمعنى في الذات لا يتغير لما حدث من معنى في حال الآخر بعد ذلك كاجتهاد أمضى حكمه لا يحتمل النسخ بما يحدث من اجتهاد آخر بعده, وإذا اتصل الحكم بشهادة المستورين بالنسب أو النكاح لرجل لم يتغير بعد ذلك بشهادة عدلين لآخر كذا ذكر شمس الأئمة. ولا يقال الذات أسبق على حال نفسها لا على حال ذات أخرى وترجيح الخصم يقع بحال ذات أخرى فيتساويان; لأنا نقول المنظور كون الذات في نفس الأمر(4/139)
الذات أسبق من الحال فيصير كاجتهاد أمضي حكمه لا يحتمل النسخ بغيره; ولأن الحال قائمة فلو اعتبرنا على مضادة الأول كان ناسخا للأول مبطلا له, والتبع لا يصلح مبطلا للأصل ناسخا له, وهذا عندنا والشافعي خفي عليه هذا الحد, وهو معذور في مزل القدم, والمصيب في مراكز الزلل مأجور. وبيانه فيما هو موضع الإجماع قولنا في ابن ابن الأخ لأب وأم أو لأب أنه أحق بالتعصيب من العم; لأن هذا راجح في ذات القرابة, والعم راجح بخالة, وكذلك العمة لأم مع الخال لأب وأم أحق بالثلثين والثلث للخال; لأنها راجحة في ذات القرابة, والخال راجح بخالة وابن الأخ لأب وأم أحق من ابن الأخ لأب لاستوائهما في الذات فيترجح بالخال وابن
ـــــــ
مقدمة على الحال على أن الترجيح بالحال وبالذات قد يقعان في شيء واحد كما في مسألة التبييض رجحنا بالكثرة, وهي راجعة إلى ذات الصوم, ورجح الخصم بالفساد احتياطا وهو راجع إلى حال الصوم أيضا; ولأن الحال قائمة بالذات. بيان الوجه الثاني أي الحال قائمة بغيرها, وما هو قائم بغيره له حكم العدم في حق نفسه لعدم قيامه وبقائه بنفسه فكانت الحال موجودة من وجه دون وجه تابعة لغيرها والذات موجودة من كل وجه, وأصل بنفسها فكان الترجيح بها أولى وبعدما صار الدليل راجحا باعتبار الذات لا يجعل الآخر راجحا باعتبار الحال; لأنه يصير نسخا, وإبطالا لما هو أصل بنفسه بما هو تبع لغيره, والتبع لغيره لا يصلح مبطلا لما هو أصل بنفسه وناسخا له وقد يرد عليه أيضا أن تبع الشيء لا يصلح مبطلا لذات الشيء, ولكنه يصلح مبطلا لشيء آخر. والجواب مثل الأول, وهذا عندنا أي هذا النوع من الترجيح مذهبنا, والشافعي وإن كان لا يخالفنا في هذا الأصل, ولكن خفي عليه هذا الأصل في بعض المسائل, وهو معذور في مزل القدم فإن المجتهد إذا أخطأ في موضع الخفاء كان معذورا, وإنما المأخوذ عليه الخطأ في موضع الظهور, والمصيب في مراكز الزلل مأجور يعني, ومن أصاب الحق في مواضع تزل فيها أقدام الخواطر فهو مأجور أراد به أبا حنيفة, وأصحابه رحمه الله فإنهم أمعنوا في طلب الحق فأصابوا حقيقة المعنى فلم تزل أقدامهم عن الصواب. وبيانه أي بيان رجحان الترجيح بالذات على الترجيح بالحال في المواضع المتفق عليها قولنا في ابن ابن الأخ لأب وأم أو لأب أنه أحق بالتعصيب من العم; لأن هذا أي ابن ابن الأخ راجح في ذات القرابة فإن قرابته قرابة أخوة, وهي مقدمة على العمومة بالاتفاق; لأن الأخ مجاوره في الصلب والعم مجاور أبيه, والعم راجح بحالة, وهي زيادة القرب; لأنه يتصل بواسطة واحدة وهي الأب وابن ابن الأخ بواسطتين, وكذلك العمة لأم مع الخال لأب وأم أحق بالثلثين من الخال, والثلث للخال; لأن العمة راجحة في ذات القرابة لإدلائها إلى الميت بالأب والخال راجح بحالة, وهي الذكورة, وقوة القرابة(4/140)
ابن الأخ لأب وأم لا يرث مع ابن الأخ لأب للرجحان في الذات, ومثله كثير وعلى هذا قال أصحابنا رحمهم الله في مسائل صنعة الغاصب في الخياطة والصياغة والطبخ والشي ونحوها إنه ينقطع حق المالك; لأن الصنعة قائمة بذاتها من كل وجه ولا يضاف حدوثها إلى صاحب العين وأما العين فهالكة من
ـــــــ
فإنه يتصل بأم الميت من الجانبين, والعمة متصلة بأبيه من جانب واحد لاستوائهما في الذات أي ذات القرابة فإن الكل قرابة أخوة فيترجح أي الأول بالحال, وهي زيادة الاتصال لأحدهما.
وابن ابن الأخ لأب وأم لا يرث مع ابن الأخ لأب للرجحان في الذات يعني أنهما, وإن استويا في ذات القرابة; لأن منزلهما واحد, وهو الأخوة لكن لأحدهما, وهو ابن الأخ لأب معنى مرجح في ذاته, وهو القرب فإن نفسه أقرب إلى الميت بواسطة وللآخر معنى مرجح يرجع إلى غيره, وهو زيادة الاتصال لجده فكان الأول أحق بالعصوبة. ومثله أي, ومثل الترجيح المذكور في الفرائض كثير فإن ابن العم لأب أولى من ابن ابن العم لأب وأم لما قلنا والجد, وإن علا أولى من العم وبنت العمة, وإن سلفت أولى بالثلثين من الخال والخالة للرجحان في ذات القرابة, والعمة لأب وأم أولى من العمة لأب أو لأم, وإن استويا في الذات للرجحان في الحال, وقس على هذا.
قوله: "وعلى هذا" أي على أن الترجيح بالذات أقوى من الترجيح بالحال عند تعارض الترجيحين قال أصحابنا في مسائل صنعة الغاصب بأن أحدث في المغصوب صنعة متقومة, وهي ما تزداد قيمة العين به في الخياطة بدل من قوله في مسائل صنعة الغاصب مع تكرير العامل وتفسير له أي بأن غصب ثوبا فقطعه قميصا وخاطه والصياغة بأن غصب نقرة فصاغها حليا أو ضربها دراهم والطبخ, والشي بأن غصب طعاما فطبخه أو شاة فذبحها وشواها ونحوها بأن غصب ساجة أو أجرة فأدخلها في بنائه أو حديدا فضربه سيفا أو صفرا فضربه آنية أنه ينقطع حق المالك يعني من العين إلى القيمة لا أنه ينقطع أصلا, وهذا الجواب في مسألة الصياغة على قول أبي يوسف ومحمد فأما عند أبي حنيفة رحمهم الله فلا ينقطع بالصياغة حق المالك من العين لما سنبين; وذلك لأن الوصف الحادث في المغصوب بصنعة الغاصب متقوم, وهو حق الغاصب بدليل أن المغصوب منه لا يأخذ العين إلا ويعطيه ما زادت الصنعة فيها من الخياطة والشي, والأصل متقوم حقا للمغصوب منه, ولا يمكن التمييز بينهما في الشي والطبخ ونحوهما أصلا, وفي الخياطة ونحوها إلا بنقضها, والنقض إبطال لحق الغاصب وحقه محترم لا يجوز الإبطال عليه كحق المغصوب منه, ولا سبيل إلى إثبات الشركة لاختلاف الملكين جنسا فلا بد من تملك أحدهما بالآخر(4/141)
وجه, وهي من ذلك الوجه مضاف إلى صنعة الغاصب فصارت الصنعة راجحة في الوجود. وقال الشافعي: رحمه الله صاحب الأصل أحق; لأن الصنعة باقية
ـــــــ
بالقيمة. فقلنا: حق الغاصب أولى بالاعتبار; لأن حقه في الصنعة قائم; لأنها موجودة من كل وجه لبقائها على الوجه الذي حدثت من غير تغيير, وهو المراد من قوله قائمة بذاتها لا القيام بالذات الذي يكون للعين; لأن المراد بالصنعة أثرها, ولا بد له من القيام بمحل, ولا يضاف حدوثها إلى صاحب العين; لأنه لم يحدث في الثوب شيئا, والثوب ليس بعلة أيضا لصيرورته مخيطا فثبت أنه مضاف إلى فعل الغاصب لا غير, وكأنه احتراز عن الزوائد المتولدة من العين فإنها حق المالك لتولدها من ملكه, وعما إذا هبت الريح بحنطة مغصوبة, وألقتها في طاحونة فطحنتها أو ألقتها في أرض الغاصب فنبتت حيث لم يقطع به حق المالك; لأن صيرورتها دقيقا وزرعا لما لم يكن بفعل أحد, وفعل الطاحونة والريح لا يصلح للإضافة إليه بقيت مضافة إلى الحنطة فيصير ملكا لصاحب الحنطة إليه أشير في الأسرار.
وحق المالك في المغصوب ثابت من وجه دون وجه; لأنه قائم من وجه هالك من وجه; وذلك لأن حقه في الثوب, ولم يبق صورة, ومعنى من وجه; لأنه كان ثوبا بالتركيب, وقد زال بالقطع من وجه, وبعض المنافع القائمة به زالت بالقطع وحدث بالخياطة ما لم يكن, وكذا حدث بفعل الشي صفة النضج, وهي متقومة; لأنها تزيد في قيمة اللحم واللحم يصير بها مستهلكا صورة, ومعنى من وجه. أما الصورة فظاهرة, وأما المعنى فلأنه كان صالحا لوجوده من الأغذية والآن لم يصلح إلا لما آل إليه وكذا الطبخ بالماء فثبت أن العين هالكة من وجه ولهذا كان للمالك حق الترك في هذه الصورة وتضمين كل القيمة, وهي من ذلك الوجه أي الوجه الذي صارت هالكة تضاف إلى صنعة الغاصب; لأن الصنعة متى أوجبت تبديل المحل من جميع الوجوه يصير وجوده مضافا إلى الفعل كما إذا غصب حنطة فزرعها فنبتت أو طحنها أو بيضا فحضنها تحت دجاجة حتى أفرخت أو تالة فأنبتها حتى غرست فإذا تغير من وجه دون وجه يصير الوجود في حق المالك مضافا إلى الفعل من وجه, وقد بينا أن الثوب تبدل من وجه صورة ومعنى, فمن ذلك الوجه يصير مضافا إلى فعل الغاصب وجودا, والصنعة وجدت بفعله من كل وجه وليس لها حكم الوجود بالثوب, والوجود معنى راجع إلى الذات فرجحنا الصنعة باعتبار أنها في الوجود راجحة لكونها موجودة من وجه, وأن وجود الثوب من وجه مضاف إليها, وهي غير مضافة إليه كذا في شرح التقويم.
ولا يلزم على هذا ما إذا صبغ الثوب أحمر أو أصفر أو قطعه قباء ولم يخطه أو ذبح(4/142)
بالمصنوع تابعة له والجواب عنه ما قلنا أن البقاء حال بعد الوجود فإذا تعارضا كان الوجود أحق من البقاء وكذلك على هذا قلنا في صوم رمضان وكل صوم
ـــــــ
الشاة وسلخها, وأربها, ولم يشوها حيث لم ينقطع في هذه الصور حق المالك مع وجود صنعة الغاصب وتغير المغصوب بها; لأنا نقول إن كان حق الغاصب في صورة الصنع قائما من كل وجه فحق المالك في الثوب قائم من كل وجه أيضا; لأنه لم يفت الاسم والهيئة, ولا المعاني فإن الثوب الأحمر يصلح لجميع ما يصلح له الأبيض إلا أن الناس ما اعتادوا الانتفاع به إلا بجهة مخصوصة فأما صلاحيته لجميع الانتفاعات فعلى ما كان من قبل, ولما كان كل واحد منهما قائما من كل وجه ترجح الأصل على الوصف, وفي قطع الثوب وذبح الشاة بدون الخياطة والشي وجد الاستهلاك من وجه إلا أنه لم يعارضه فعل الغاصب; لأنه ليس بمتقوم فلم يبطل به حق المالك لكنه يخير إن شاء مال إلى جهة الهلاك فيضمنه القيمة, وإن شاء مال إلى جهة القيام فيأخذ الثوب ويضمنه النقصان. ولا يلزم عليه أيضا مسألة الصياغة على قول أبي حنيفة رحمه الله فإن عنده لا ينقطع بها حق مالك حتى كان له أن يأخذ العين من غير أن يضمن للغاصب شيئا; لأن الصنعة هناك قائمة من وجه دون وجه إذ هي قائمة صورة لا معنى; لأن الجودة بانفرادها لا قيمة لها في أموال الربا فصارت الصنعة والأصل سواء فترجح الأصل على الوصف بخلاف الصفراء أو الحديد فإنه يخرج بالصنعة من أن يكون مال الربا فإنه يباع بعد الصنعة عددا لا وزنا فكانت الجودة فيه متقومة فافترقا. وقال الشافعي: رحمه الله صاحب الأصل راجح على صاحب الصنعة; لأن الصنعة باقية بالمصنوع; لأنها لا تقوم بنفسها لكونها عرضا تابعة لها; لأنها وصف والأوصاف أتباع لموصوفاتها. والجواب ما قلنا أن البقاء حال بعد الوجود فإذا تعارضا أي الترجيح بالوجود والترجيح بالحال كان الوجود أحق من البقاء ثم كون الشيء تابعا ووصفا لغيره لا يبطل حق صاحبه فإن حق الإنسان في التبع محترم كما أن حقه في الأصل محترم فأما هلاك الشيء فمبطل للحق فمتى كان الشيء هالكا من وجه فمن ذلك الوجه ليس بمستحق فلا يعارض حقا مستحقا قائما من كل وجه سواء كان تابعا أو أصلا بنفسه فلهذا رجحنا حق الغاصب.
قوله "وكذلك" أي, وكما قلنا في صنعة الغاصب قلنا على هذا الأصل في كذا فإذا وجدت العزيمة في البعض دون البعض تعارضا أي البعض الذي وجدت العزيمة فيه والبعض الذي لم توجد فيه أو تعارض وجود العزيمة في البعض وعدمها في البعض فإن وجودها يقتضي الجواز وعدمها يوجب الفساد فرجحنا بالكثرة أي رجحنا البعض الذي وجدت العزيمة فيه أو وجود العزيمة بالكثرة التي هي معنى راجع إلى الذات وحكمنا بالصحة ورجح الشافعي البعض الذي لم يوجد فيه العزيمة فحكم بالفساد احتياطا في(4/143)
عين إنه يجوز بالنية قبل انتصاف النهار; لأنه ركن واحد تعلق جوازه بالعزيمة فإذا وجدت العزيمة في البعض دون البعض تعارضا فرجحنا بالكثرة وقال الشافعي رحمه الله بل ترجح الفساد احتياطا في العبادة والجواب ما ذكرنا أن هذا يؤدي إلى نسخ الذات بالحال. وعلى هذا قال أبو حنيفة رحمه الله في رجل له خمس من الإبل السائمة مضى من حولها عشرة أشهر ثم ملك ألف درهم ثم تم حول الإبل فزكاها ثم باعها بألف درهم أنه لا يضمها إلى الألف التي عنده لكنه يستأنف الحول فإن وهبت له ألف أخرى ضمها إلى الألف الأولى; لأنها أقرب فإن تصرف في ثمن الإبل فربح ألفا ضم الربح إلى أصله, وإن كان بعد عن الحول ولا يعتبر
ـــــــ
العبادة فإنه إذا اجتمع فيها جهة الصحة وجهة الفساد ترجح جانب الفساد بالاتفاق, وما اعتبره معنى في الحال; لأن الفساد من الأحوال والجواب عما قال الشافعي رحمه الله أن الترجيح بالفساد يؤدي إلى نسخ الذات بالحال فإن اعتبار الكثرة يقتضي الجواز وبترجيح الفساد يبطل ذلك لا محالة فيكون فيه نسخ الذات بالحال, وهو غير جائز لما مر. ولا يقال ليس كذلك بل فيه نسخ الحال بالحال; لأن الكثرة والقلة من الأوصاف أيضا; لأنا نقول الكثرة تحصل بانضمام الأجزاء وهو معنى راجع إلى الذات والفساد حال طارئ على الذات من كل وجه فكان الأول أولى.
وعلى هذا على الأصل المذكور فإن وهبت له ألف ضمها إلى الألف أولى, وهي الألف المملوكة دون ثمن السائمة; لأنها أقرب الألفين إلى الحول يعني قد استحق عليه الضم بمعنى المجانسة, وقد تعارض هذا المعنى في الألفين على السواء فوجب الترجيح بالقرب إلى الحول; لأنه يرجع إلى الاحتياط في حق الله تعالى كعروض التجارة يقوم بما هو الأنفع للفقراء احتياطا فإن تصرف في ثمن الإبل فربح ألفا ضم الربح إلى أصله, وإن بعد أصله عن الحول, ولا يعتبر الرجحان بالاحتياط في الزكاة بأن يضم إلى الألف الأخرى باعتبار القرب إلى الوجوب; لأن التبعية معنى يرجع إلى ذات المستفاد فإن كون الشيء متفرعا من الشيء معنى يرجع إلى ذاته; لأن ذاته جزء منه والقرب إلى الحول حال زائدة فيه فكان الترجيح بمعنى راجع إلى الذات أحق من الترجيح بالحال, وهذا كعروض التجارة إذا كانت مشتراة بأحد النقدين يقوم في حكم الزكاة به, وإن كان التقويم بالنقد الآخر أنفع لحصول ذاتها به.
ثم استوضح محمد رحمه الله في الجامع هذا الكلام فقال لو كان باع الغنم بجارية تساوي ألف درهم فزادت زيادة متصلة حتى صارت تساوي ألفين فلو قلنا بضم الزيادة إلى(4/144)
الرجحان بالاحتياط في الزكاة لما قلنا إن الألف الربح متصل بأصله ذاتا متصل بالألف الأخرى حالا, وهي القرب إلى مضي الحول, والذات أحق من الحال, والله أعلم, وإنما ذكرنا من هذه الأقسام أمثلة معدودة لتكون أصلا لغيرها من الفرع. وأما الرابع فعلى أربعة أوجه. ترجيح القياس بقياس آخر, وما يجري مجراه على ما قلنا, والثاني الترجيح بغلبة الأشباه مثل قولهم إن الأخ يشبه الولد بوجه, وهو المحرمية ويشبه ابن العم بسائر الوجوه مثل وضع الزكاة وحل الحليلة وقبول الشهادة ووجوب القصاص من الطرفين فكان أولى, وهذا باطل; لأن كل شبه
ـــــــ
المال الآخر إذا كان أقرب إلى الحول لأدى إلى أمر قبيح, وهو أن يزكى أصل الجارية باعتبار حول وصفتها باعتبار حول آخر فلهذا يضم المتولد إلى ما تولد منه كذا في شرح الجامع لشمس الأئمة رحمه الله ليكون أصلا لغيرها من الفروع كما إذا أحرم المكي لعمرة وطاف لها شوطا ثم أحرم بالحج يرفض إحرام العمرة عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله; لأن العمرة أيسر قضاء, وأقل أعمالا ويرفض إحرام الحج عند أبي حنيفة رحمه الله; لأن العمرة راجحة في ذاتها لوجود جزء من أركانها بخلاف الحج, وما قالاه ترجيح بالحال.
قوله: "وأما الرابع يعني" من أقسام أول الباب, وهو بيان الفاسد من وجوه الترجيح وترجيح القياس بقياس آخر, وقد مر الكلام فيه وما يجري مجراه مثل ترجيح أحد القياسين بالخبر; لأن القياس متروك بالخبر فلا يكون حجة في مقابلته والمصير إلى الترجيح بعد وقوع التعارض باعتبار المماثلة, ومثل ترجيح أحد الخبرين بنص الكتاب; لأن الخبر لا يكون حجة في معارضة النص على ما قلنا يعني في أول الباب إن الترجيح لا يقع مما يصلح علة بانفراد. والثاني من الترجيحات الفاسدة الترجيح بغلبة الأشباه, وهو أن يكون للفرع بأحد الأصلين شبه من وجه واحد وبالأصل الآخر الذي يخالف أصل الأول شبه من وجهين أو من وجوه وهو صحيح عند عامة أصحاب الشافعي, وقد نقل صاحب القواطع عن الشافعي رحمه الله أنه قال في كتاب أدب القاضي: الشيء إذا أشبه أصلين ينظر إن أشبه أحدهما في خصلتين والآخر في خصلة ألحقته بالذي أشبهه في خصلتين وهذا تنصيص على ترجيح إحدى العلتين بكثرة الشبه, وهذا لأن القياس لم يجعل حجة إلا لإفادته غلبة الظن, ولا شك أن الظن يزداد قوة عند كثرة الأشباه كما يزداد عند كثرة الأصول. وهذا باطل عندنا; لأن الأشباه أوصاف وأحكام تجعل عللا, وكثرة العلل لا توجب ترجيحا ككثرة الآيات والأخبار, ولا فرق بين أوصاف تستنبط من أصل أو أصول, ولو كانت من أصول شتى توجب ترجيحا فكذا هذا وهذا بخلاف كثرة الأصول فإن هناك الوصف واحد, وكل أصل يشهد بصحته فيوجب قوته وثباته على الحكم فأما هاهنا فأصل واحد, والأوصاف متعددة; لأن كل شبهة(4/145)
يصلح قياسا فيصير كترجيح القياس بقياس آخر والثالث الترجيح بالعموم مثل قولهم إن الطعم أحق; لأنه يعم القليل والكثرة, وهذا باطل; ولأن الوصف فرع النص والنص العام والخاص سواء عندنا وعندكم الخاص يقضي على العام فكيف صار العام أحق من الذي هو فرعه ولأن التعدي غير مقصود عندكم فبطل الترجيح, وعندنا صار علة بمعناه لا بصورته, والعموم صورة.
ـــــــ
وصف على حدة يصلح للجمع بين الأصل والفرع فكان من قبيل الترجيح بكثرة الأدلة. قال الغزالي رحمه الله ترجيح العلة بكثرتها شبها بأصلها على التي هي أقل شبها بأصلها ضعيف عند من لا يرى مجرد الشبه في الوصف الذي يتعلق الحكم به موجبا للحكم, ومن رأى ذلك موجبا فغايته أن يكون كعلة أخرى, ولا تجب ترجيح علتين علة واحدة; لأن الشيء يترجح بقوته لا بانضمام مثله إليه كما لا يرجح الحكم الثابت بالكتاب والسنة الإجماع على الثابت بأحد هذه الأصول.
والثالث من الترجيحات الفاسدة الترجيح بالعموم مثل ترجيح أصحاب الشافعي التعليل بوصف الطعم في الأشياء الأربعة على التعليل بالكيل والجنس; لأن وصف الطعم يعم القليل, وهو الحفنة مثلا والكثير, وهو المكيل, والتعليل بالكيل والجنس لا يتناول الكثير فكان أولى; لأن المقصود من التعليل تعميم حكم النص فكونه أعم كان أوفق لمقصوده وهذا باطل عندنا; لأن الوصف فرع النص لكونه مستنبطا منه وثابتا به, والنص الخاص والعام سواء عندنا, وعند الخصم الخاص يقضي أي يترجح على العام فكيف صار العام أحق من الذي هو فرعه هو راجع إلى العام والضمير المجرور راجع إلى الذي يعني كيف صار العام في الفرع أحق من الخاص الذي هو أي العام دونه في الرتبة ويؤيده عبارة شمس الأئمة وعنده الخاص يقضي على العام كيف يقول في العلل أن ما يكون أعم فهو مرجح على ما يكون أخص. أو يقال معناه كيف صار العام من الوصف أحق أي أقوى من النص الذي هو فرعه حيث لم يترجح العام من النص على الخاص منه وترجح العام من الوصف على الخاص منه; ولأن التعدي غير مقصود من التعليل عند الخصم حيث جوز التعليل بعلة قاصرة فكان وجود التعدي وعدمه في التعليل بمنزلة لصحته بدونه قبل الترجيح بالعموم الذي هو عبارة عن زيادة التعدي. ألا ترى أن كثيرا من أصحاب الشافعي لم يرجحوا المتعدية على القاصرة, وقالوا هما سواء منهم صاحب القواطع والغزالي ورجح بعضهم القاصرة على المتعدية منهم أبو إسحاق الإسفراييني, ولو كان العموم مقصودا لترجحت المتعدية بعمومها على القاصرة قال الغزالي رحمه الله ترجيح المتعدية على القاصرة ضعيف عند من لا يفسد القاصرة; لأن كثرة الفروع بل وجود أصل الفروع لا تبين قوة في(4/146)
والرابع الترجيح بقلة الأوصاف فيقال ذات وصف أحق من ذات وصفين, وهذا باطل; لأن العلة فرع النص, والنص الذي خص نظمه بضرب من الإيجاز والاختصار والنص الذي أشبع بيانه سواء إنما الترجيح في هذا الباب بالمعاني التي مر ذكرها فأما بالصور فلا, والقلة والكثرة صورة, ولم يعتبر ذلك في الذي جعل نظمه حجة ففي هذا أولى.
ـــــــ
ذات العلة بل ينقدح أن يقال القاصرة أوفق للنص وآمن من الزلل فكانت أولى. وعندنا صار الوصف علة بمعناه وهو التأثير, ولا مدخل للعموم في ذلك بل العموم صورة ولا اعتبار لها في العلل.
والرابع من الترجيحات الفاسدة الترجيح بقلة الأوصاف مثل ترجيح بعض الشافعية وصف الطعم في باب الربا على الكيل والجنس بوحدة الوصف إذ الجنس شرط عندهم قالوا علة هي ذات وصف واحد أقرب إلى الضبط, وأبعد عن الخلاف, وأكثر تأثيرا من ذات وصفين لعدم توقفها في إثارة الحكم على شيء آخر فكانت أولى ومنهم من قال التي هي أكثر وصفا أولى; لأنها أكثر شبها بالأصل والصحيح أنهما سواء; لأن ثبوت الحكم بالعلة فرع لثبوته بالنص والنص الموجز لا يترجح على المطول في البيان فكذا العلة. ولم يعتبر ذلك أي الرجحان بالقلة والكثرة في النص الذي جعل نظمه حجة مع تحقق الاختصار والإشباع فيه, ومع كونه أصلا. ففي هذا أي في التعليل الذي هو فرع النص, ولا يتحقق فيه الاختصار والإشباع أولى أن لا يعتبر القلة والكثرة إذ الاعتبار فيه للتأثير لا للقلة والكثرة بخلاف اعتبار الكثرة في الصوم; لأن الصوم إنما صار صوما باعتبار صورته, ومعناه فكان اعتبار الكثرة فيه اعتبارا للذات في مقابلة الحال فأما هاهنا فلا اعتبار للصورة إذ العلة صارت علة بمعناها لا بصورتها فلم يكن فيها اعتبار الكثرة. واعلم أن الأصوليين ذكروا وجوها كثيرة في الترجيح الصحيحة والفاسدة بحيث لا تكاد تضبط; لأن الشيخ رحمه الله اقتصر في بيان الوجوه الصحيحة على الأربعة المتقدمة; لأنها هي المبنية على المعاني الفقهية والمتداولة بين أهل الفقه; ولأن ما سواها من الوجوه الصحيحة قد اندرج فيما تقدم من الأبواب واقتصر في بيان الوجوه الفاسدة على هذه الأربعة; لأنها هي المتداولة بين أهل النظر, وقد يحصل الوقوف ببيان فسادها على فساد ما سواها من الوجوه الفاسدة, فنقل الفائدة في الاشتغال بتفاصيلها, والله أعلم.(4/147)
"باب وجوه دفع العلل الطردية"
وهو القسم الثاني من هذا الباب وذلك أربعة أوجه القول بموجب العلة; لأنه رفع الخلاف فهو أحق بالتقديم, ثم الممانعة, ثم بيان فساد الوضع, ثم المناقضة أما القول بموجب العلة فالتزام ما يلزمه المعلل بتعليله وأنه يلجئ أصحاب الطرد إلى القول بالمعاني الفقهية وذلك مثل قولهم في مسح الرأس أنه
ـــــــ
"باب وجوه دفع العلل الطردية"
الأوصاف الطردية نوعان: نوع منها أوصاف فاسدة في ذواتها لخلوها عن التأثير والملاءمة ونوع منها أوصاف صحيحة في أنفسها لكونها ملائمة ومؤثرة إلا أن أهل الطرد تمسكوا باطرادها لا بتأثيرها ومناسبتها إذ المنظور عندهم نفس الاطراد لا غير فهذا الباب لبيان وجوه الاعتراض على هذا النوع من الأوصاف الطردية وهو القسم الثاني من هذا الباب أي هذا الباب هو القسم الثاني من باب دفع العلل فإنه قد ذكر في أول ذلك الباب أن العلل نوعان: مؤثرة وطردية وعلى كل قسم ضروب من الدفع وقد فرغ من بيان وجوه دفع العلل المؤثرة وما يتعلق بها فشرع في بيان القسم الثاني من ذلك الباب; لأنه يرفع الخلاف أي عما أوجبه علة المستدل لا عن الحكم المقصود فهو أحق بالتقديم يعني لما كان هذا النوع من الاعتراض رافعا للخلاف كان أولى بالتقديم; لأن المصير إلى النزاع مع إمكان الوفاق وحصول المقصود به اشتغال بما لا يفيد ونوع من السفه, ثم الحجة على الخصم بما يكون مناقضا لدعواه فإذا وافقه الخصم فيما قال لم يكن مناقضا لدعواه فلا يكون حجة قوله: "وأما القول بموجب العلة فالتزام ما يلزمه المعلل بتعليله" أي أنه قبول السائل ما يوجب المعلل عليه بتعليله يعني مع بقاء الخلاف في الحكم المقصود ويدل عليه عبارة عامة. الأصوليين هو تسليم ما اتخذه المستدل حكما لدليله على وجه لا يلزم منه تسليم الحكم المتنازع فيه وهذا النوع من الاعتراض إنما يستقيم فيما إذا ثبت المعلل بعلته ما يتوهم أنه محل النزاع ولا يكون كذلك فيمكن للسائل دفعه بالتزام موجبه مع بقاء مقصوده في الحكم. أو أثبت المعلل بدليله إبطال ما يتوهم أنه مأخذ الخصم فبالتزام السائل(4/148)
ركن في وضوء فيسن تثليثه كغسل الوجه فيقال لهم عندنا: يسن تثليثه; لأن فرضه يتأدى بقدر الربع عندنا وعندكم بأقل منه فما يجاوزه إلى استيعابه فتثليث وزيادة إذ ليس مقتضى التثليث اتحاد المحل لا محالة ألا ترى أن من دخل ثلاثة دور كان ثلاث دخلات بمنزلها في دار واحدة. وإذا كان كذلك فقد ضم إلى الفرض أمثاله فكان تثليثا وزيادة فإن غير العبارة فقال وجب أن يسن تكراره لم يسلم ذلك في الأصل; لأن التكرار في الأصل غير مسنون ولكن المسنون تكميله وهو الأصل في الأركان وتكميله بإطالته في محله إن أمكن بمنزلة إطالة
ـــــــ
موجب دليله مع بقاء نزاعه في الحكم يتبين أن ذلك ليس مأخذه فمسألة التثليث ومسألة التعيين من أمثلة القسم الأول والمسائل الباقية إلى آخر الفصل من أمثلة القسم الثاني وأكثر القول بالموجب يتحقق في هذا القسم لخفاء مأخذ الأحكام لكثرتها وتشعبها وعدم الوقوف على ما هو معتمد الخصم من جملتها بخلاف محل النزاع وهو الأحكام المختلف فيها فإنه قل ما يتفق الذهول عنها ولهذا يشترك في معرفة الأحكام المنقولة عن الأئمة الخواص والعوام دون معرفة المدارك وأنه أي القول بموجب العلة يلجئ أي يضطر أصحاب الطرد إلى القول بالمعاني الفقهية المؤثرة يعني لما رأوا أن الاشتغال بالطرد لم يغن عنهم شيئا أعرضوا عنه وذكروا بعد في المناظرة أوصافا مؤثرة ومعاني فقهية لا يمكن ردها بهذا النوع من الاعتراض أو معناه أنهم لما تمسكوا باطراد وصف ورد عليهم بهذا النوع من الاعتراض اضطروا إلى بيان التأثير لذلك الوصف ليصير حجة على الخصم. والوجه الأول أظهر; لأن هذا الاعتراض لما توجه على المستدل صار منقطعا عند عامة الأصوليين لتبين أن ما يصيبه من الدليل لم يكن متعلقا بمحل النزاع وإذا كان كذلك لم ينفعه بيان التأثير للوصف بعدما صار منقطعا فكان الوجه الأول أولى وذلك أي القول بالموجب يتحقق في هذا الفصل فما تجاوزه أي تجاوز المقدار المفروض إلى استيعاب الرأس الذي هو سنة بالإجماع تثليث وزيادة ولكن في غير المحل الذي أدى فيه الفرض وذلك ليس بمانع عن التثليث إذ ليس مقتضى التثليث اتحاد المحل لما ذكر وإذا كان أي الأمر كذلك أي كما ذكرنا أن اتحاد المحل ليس مقتضى التثليث فقد ضم الماسح إلى الفرض أمثاله فكان هذا الضم تثليثا وزيادة إذ التثليث ضم المثلين إلى الأول وهذا ضم ثلاثة أمثال أو أكثر فإن غير أي المستدل العبارة بطريق العناية فقال: وجب أن يسن تكراره أي أردت بالتثليث التكرار الذي هو مقتضى لاتحاد المحل لا محالة أو بطريق الانتقال من حكم إلى حكم فإنه صحيح يعني هذا الوصف كما اقتضى التثليث اقتضى التكرار أيضا فيثبت به هذا الحكم لم نسلم ذلك أي سنية التكرار في الأصل وهو الغسل فيقول: لا نسلم أن(4/149)
القيام والركوع والسجود ولكن الفرض لما استغرق محله اضطررنا إلى التكرار خلفا عن الأصل والأصل ها هنا مقدور عليه في مسح الرأس لاتساع محله فبطل الخلف. وظهر بها فقه المسألة وهو أن لا أثر للركنية في التكرار أصلا كما في أركان الصلاة ولا أثر لها في التكميل لا محالة ألا يرى أن مسح الرأس يشاركه مسح الخف في الاستيعاب سنة وهو رخصة وكذلك المضمضة فأما المسح
ـــــــ
التكرار في الأصل مسنون قصدا بل المسنون تكميله إذ هو الأصل في الأركان وتكميله أي تكميل الأصل أو تكميل الركن أو الفرض بإطالته في محله بمنزلة إطالة القيام والركوع والسجود لا بتكراره; لأن النص الذي يوجبه لا يقتضي التكرار, ولكنه يقتضي الكمال فيكون في الإطالة امتثال به, لكن الفرض لما استغرق في الغسل محله لم يمكن التكميل بالإطالة; لأنه يقع إكمالا في غير محل الفرض اضطررنا إلى المصير إلى التكرار ليحصل التكميل بالزيادة من جنسه في محله خلفا عن الأصل وهو التكميل بالإطالة. والأصل هاهنا مقدور عليه في مسح الرأس لاتساع محله فبطل الخلف وهو التكميل بالتكرار وقوله في مسح الرأس بدل من هاهنا قال القاضي الإمام رحمه الله: التكميل إنما يحصل بزيادة من جنس الأصل في محل الأصل; لأنه في غير محله لا يكون إكمالا وهاهنا التكميل بهذا الطريق يمكن من غير. ماء جديد; لأنه يحصل بالاستيعاب تكميل الطهارة المطلوبة بالمسح فرضا بماء طهور يستعمله في محل الفرض; لأن الرأس كله محل المسح والبلل طهور ما لم يستوعب العضو كالماء في الغسل يبقى طهورا في آخر العضو على حكم الابتداء فيزداد بالأمداد طهارة قدر الفرض الذي لو اقتصر عليه أجزأه بطهارة مثلها بماء مثل ماء الأصل في محل مثل محل الأصل فيلحق بالغسل إذا ثلث فيكره الزيادة عليه بماء طهور كما كره في الغسل بعد الثلاث ويظهر بهذا أي بما ذكرنا من القول بالموجب والممانعة فقه المسألة فإن المعلل يضطر إلى الرجوع إلى طلب التأثير لوصف الركنية في التكرار وإلى التأمل في وصف المسح الذي هو معتمد خصمه فتبين حينئذ أن لا أثر للركنية في التكرار أصلا فإن في أركان الصلاة لم يشرع التكرار فرضا ولا سنة مع قيام وصف الركنية ولا أثر لها أي للركنية في التكميل لا محالة يعني ليس التكميل مختصا بالركنية مع كونها مؤثرة فيه بل هو ثابت فيما هو رخصة وفيما هو سنة أيضا فلا يكون هذا الوصف منعكسا ألا ترى أن مسح الرأس شاركه مسح الخف في الاستيعاب سنة يعني يسن الاستيعاب في مسح الخلف بالمد إلي الساق التي هي منتهى بها محل الغسل كما يسن في مسح الرأس. وهو أي مسح الخف رخصة وليس بركن بدليل أنه لو نزع خفيه وغسل رجليه جاز وكان أفضل ولو كان ركنا لا يتأدى الوضوء بدونه كمسح الرأس وكذلك أي وكمسح الخف المضمضة في أنها(4/150)
فله أثر في التخفيف لا محالة; لأنه لا يؤدي إلى طهر معقول فلما كان كذلك كان الإطالة فيه سنة لا التكميل بالتكرار ألا يرى أن التكميل بالتكرار ربما يلحقه بالمحظور وهو الغسل فكيف يصلح تكميلا وأما الغسل فقد شرع لطهر معقول فكان التكرار تكميلا ولم يكن محظورا فقد أدى القول بموجب العلة إلى الممانعة وهذا كله بناء على أن الفرض في المسح يتأدى ببعض الرأس لا محالة وذلك غير مسلم على مذهبهم بل الفرض يتأدى بكله ولكن الشرع رخص في الحط إلى أدنى المقادير وذلك كالقراءة عندكم وإن طالت كانت فرضا وقد تتأدى بآية واحدة وإذا كان كذلك لم يلزمه شيء من هذه الوجوه. والجواب عنه أن هذا خلاف الكتاب قال الله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ}
ـــــــ
ليست بركن وقد شرع التكميل فيها أيضا بالتكرار كغسل الوجه فثبت أن وظائف الوضوء أركانها ورخصها وسننها سواء في معنى التكميل لا اختصاص للركنية به فأما المسح فقد ظهر تأثيره في التخفيف وثبت اختصاص التخفيف به وهو معنى قوله لا محالة فكان منعكسا; لأنه لا يؤدي لطهر معقول يعني إنما كان مؤثرا في التخفيف; لأن المسح لا يعقل فيه معنى التطهير بدليل أن الطهارة لا تحصل بالمسح أو تحققت نجاسة في المحل فلما كان كذلك أي كان المسح كما بينا أنه يؤدي لطهر غير معقول يعني لما كان المطلوب منه طهارة حكمية لا حقيقية كانت الإطالة فيه سنة ليزداد بها طهر حكمي مثل الأول مع رعاية صفة التخفيف. لا التكميل بالتكرار; لأن التكميل به شرع فيما عقل معنى التطهير فيه وهو التطهير بتسييل الماء ليكون أقرب إلى طمأنينة القلب كما في غسل النجاسة العينية من البدن والثوب وهذا كله أي ما ذكرنا أن الاستيعاب تثليث وزيادة وأن إكمال المسح بطريق السنة يحصل بالإطالة دون التكرار بناء على كذا يتأدى ببعض الرأس لا محالة أي بكل حال سواء استوعب أو اقتصر على مقدار الفرض. وذلك أي التأدي بالبعض بكل حال وذلك أي تأدي الفرض بالكل والحط إلى الأدنى بطريق الرخصة مثل القراة عندكم فإنها وإن طالت كانت فرضا مع أن فرضها يتأدى بآية واحدة وكذا الركوع والسجود والجواب عنه أي عما ذكروا أن الفرض يتأدى بالكل والحط إلى الأدنى رخصة فصار البعض هو المراد ابتدأ بالنص بخلاف النص الموجب للقراءة فإنه لا يقتضي تبعيضا بل هو دال على وجوب مطلق القراءة فيتأدى الفرض بمطلق ما يسمى قراءة والقليل والكثير داخلان تحت المطلق فلذلك يتأدى الفرض بالكثير كما يتأدى بالقليل. والفضل على نصاب التكميل بدعة كالفضل على الثلاث في الغسل والفضل على الاستيعاب في مسح الخف.(4/151)
[المائدة: 6] وقد يتنافى أبواب حروف المعاني أن الاستيعاب غير مراد بالنص فصار البعض هو المراد ابتداء بالنص فصار أصلا لا رخصة فصار استيعابه تكميلا للفرض والفضل على نصاب التكميل بدعة بالإجماع ومن ذلك قولهم في صوم رمضان أنه صوم فرض لا يصح إلا بتعيين النية فقلنا نحن بموجبه; لأن هذا الوصف يوجب التعيين لكنه لا يمنع وجود ما يعينه فيكون إطلاقه تعيينا; ولأنه لا يصح عندنا إلا بتعين النية; لأنا إنما نجوزه بإطلاق النية على أنه تعيين. ومن ذلك قولهم باشر نفل قربة لا يمضي في فاسد فلا يلزم القضاء بالإفساد كما قيل في الوضوء فقلنا لهم: لا يجب القضاء عندنا بالإفساد حتى أنه يجب إذا فسد لا باختياره بأن وجد المتيمم في النفل ماء لكنه بالشروع يصير مضمونا عليه
ـــــــ
قوله: "ومن ذلك" أي ومما يمكن أن يقال فيه بموجب العلة; لأن هذا الوصف وهو الفرضية يوجب التعيين; لأن تحصيل الوصف واجب كتحصيل الأصل فلم يكن بد من نية الفرض لتميزه عن غيره بالتعيين., لكنه وإن أوجب التعيين لا يمنع وجود ما يعينه وقد وجد المعين وهو انفراده بالشرعية وعدم المزاحم فإن الله تعالى لم يشرع في شهر رمضان صوما سوى صوم الفرض فيكون متعينا بتعيين الشارع فإذا أطلق صار كأنه نوى الصوم المشروع فيه وثمة يجوز بدون التعيين فكذا هاهنا ينصرف مطلق الاسم إليه فيكون إطلاقه تعيينا أي إصابة للمشروع المعين ولأنه أي صوم رمضان لا يجوز عندنا إلا بتعيين النية من العبد ابتداء كما قلتم, ولكن التعيين قد وجد من العبد; لأن إطلاق النية منه تعيين في هذه الصورة لا أن التعيين ساقط عنه. والفرق بين النكتتين أن النكتة الأولى تشير إلى أن التعيين ساقط عن العبد لحصول التعيين بتعيين الشارع والنكتة الثانية تشير إلى أن التعيين لم يسقط عنه, ولكن إطلاق النية منه تعيين فكان التعيين مضافا إلى العبد ففي هاتين المسألتين إنما أمكن للسائل القول بموجب العلة; لأن الحكم المذكور فيهما وهو التثليث في المسألة الأولى والتعيين في المسألة الثانية ليس محل النزاع وإنما النزاع في أن الاستيعاب تثليث وأن الإطلاق تعيين.
قوله: "ومن ذلك" أي ومما يتأتى فيه القول بموجب العلة قول أصحاب الشافعي في أن الشروع في صلاة التطوع أو صوم النفل غير ملزم باشر نفل قربة إلى آخره. حتى إنه أي القضاء يجب إذا فسد لا باختياره بأن شرع في صلاة النفل بالتيمم ناسيا الماء في رحله, ثم وجده أي تذكره في خلال الصلاة أو شرع في صوم النفل فصب الماء في حلقه في النوم وجب عليه القضاء عندنا وإن لم يوجد منه الإفساد ولما وجب القضاء بالفساد كما(4/152)
وفوات المضمون في ضمانه يوجب المثل فإن قيل وجب أن لا يلزمه القضاء بالشروع ولا بالإفساد قلنا: عندنا القربة بهذا الوصف لا تضمن وإنما تضمن بوصف أنه يلتزم بالنذر وذلك مثل قولهم العبد مال فلا يتقدر بدله بالقتل كالدابة عندنا لا يتقدر بدله بهذا الوصف بل بوصف الآدمية وهذا كلام حسن ألا يرى أن الموجود قد يكون ببعض صفاته حسنا وببعض صفاته رديا
ـــــــ
وجب بالإفساد علم أنه مضاف إلى معنى آخر شامل لهما وهو الشروع الذي يصير الأداء به مضمونا عليه وفوات المضمون موجب للمثل.
فإن قيل: أي غير المعلل العبارة فقال: باشر نفل قربة لا يمضي في فاسدها فوجب أن لا يلزمه القضاء بالشروع ولا بالإفساد كالوضوء. قلنا كذا يعني نلتزم هذا الموجب أيضا ونقول لا تضمن القربة بالشروع المضاف إلى عبادة لا يمضي في فاسدها وإنما تضمن بالشروع في عبادة تلتزم بالنذور ولا بد من إضافة الحكم إلى هذا الوصف; لأن الوصف إنما يذكر علة للحكم وما ذكر لا يصلح علة للوجوب فلا بد من إضافته إلى وصف يصلح علة للوجوب وهو أنه مما يلتزم بالنذر وعدم اللزوم باعتبار الوصف الذي ذكره لا يمتنع اللزوم باعتبار الوصف الذي ذكرنا.
وإذا آل الكلام إلى ما قلنا يضطر المعلل إلى إقامة الدليل على أن الشروع غير ملزم وأنه ليس نظير النذر في كونه ملزما فيظهر به فقه المسألة وذلك أي قولهم في هذه المسألة إنه باشر نفل قربة لا يمضي في فاسدها فلا يلزمه القضاء مثل قولهم في العبد إلى آخره وصورة المسألة ما إذا قتل العبد خطأ يجب على القاتل قيمته ولا تزاد عن دية الحر وتنقص منها عشرة دراهم وعندهم تجب قيمته بالغة ما بلغت قالوا: العبد مال فلا يتقدر بدله بالقتل كالدابة وغيرها. وقلنا: لا يتقدر بدله بهذا الوصف وهو المالية, ولكنه لا يمنع وجود وصف آخر يتقدر بدله به وهو وصف الآدمية; لأن العبد بهذا الوصف ليس بمال بل هو مبقي على أصل الحرية على ما عرف فيقدر بدله بهذا الوصف كدية الحر لا بوصف المالية وأما تنقيص ديته من دية الحر بعشرة فسيأتيك بيانه إن شاء الله تعالى في باب العوارض. وهذا كلام حسن أي التزام السائل ما ذكره المعلل من الحكم بناء على الوصف الذي ذكره وإثبات مقصوده بوصف آخر طريق حسن فإن الموجود قد يكون ببعض صفاته حسنا وببعض صفاته رديا أي قبيحا مع أن الحسن والقبح متضادان وله أمثلة في المحسوسات والمشروعات فإن الإنسان قد يوصف بالحسن باعتبار حسن وجهه وبالقبح باعتبار قصر قامته وقتل الجاني حسن باعتبار جنايته قبيح باعتبار تخريب بنيان الرب وكذا الصوم المنهي عنه والصلاة المنهي عنها وكذا العبد بين اثنين إذا أمره أحدهما(4/153)
فيجوز أن تكون القربة مضمونة بوصف خاص غير مضمونة بسائر الأوصاف. ومن ذلك قولهم أسلم مذروعا في مذروع فجاز ونحن نقول بهذا الوصف لا يفسد عندنا وذلك لا يمنع وجود الفساد بدليله كما إذا قرن به شرط فاسد وكذلك قولهم في المختلعة أنها منقطعة النكاح فلا يلحقها الطلاق كمنقضية العدة ونحن نقول بموجبه; لأن الطلاق لا يلحقها بهذا الوصف بل بوصف أنها معتدة عن نكاح صحيح ومن ذلك قولهم تحرير في تكفير فلا يقع به التكفير إلا بإيمان المحرر ونحن نقول هذا الوصف يوجب الإيمان عندنا لكن قيام الموجب لا
ـــــــ
بفعل ونهاه الآخر عن عين ذلك الفعل كان إقدامه عليه وانتهاؤه عنه حسنا من وجه قبيحا من وجه. وإذا كان كذلك جاز أن يكون القربة مضمونة بوصف خاص وهو أنه تلتزم بالنذر غير مضمونة بسائر الأوصاف وهي كونها قربة وكونها مما لا يمضي في فاسدها وكونها غير واجبة بالأمر ونحوها.
قوله: "ومن ذلك" أي ومما قيل فيه بموجب العلة قولهم فيما إذا أسلم مذروعا في جنسه بأن أسلم هرويا في هروي فإنه لا يجوز عندنا ويجوز عندهم أنه أسلم مذروعا في مذروع فيجوز كما إذا أسلم هرويا في هروي ونحن نقول بموجبه فإن بهذا الوصف وهو أن هذا إسلام مذروع في مذروع لا يفسد العقد عندنا, ولكن ذلك الوصف لا يمنع وجود الفساد بمعنى آخر موجب للفساد ألا ترى أنه لو لم يقبض رأس المال في المجلس أو قرن بهذا العقد شرط فاسد بأن أسلم بذراع رجل عينه كان فاسدا بالاتفاق مع وجود هذا الوصف فيجوز أن يفسد بمعنى الجنسية أيضا فإنها أحد وصفي علة الربا فتصلح محرمة للنسيئة كالوصف الآخر وهو الكيل فإنه لو أسلم حنطة في شعير لا يجوز لما قلنا من وجود أحد وصفي علة الربا كذا هاهنا فحينئذ يضطر المعلل إلى بيان أن الجنسية لا تصلح علة لفساد هذا العقد بها إن أمكنه. وكذلك أي ومثل قولهم في هذه المسألة قولهم في المختلعة إلى آخره ونحن نقول بموجبه أي بموجب هذا التعليل فإن عندنا لا يلحقها الطلاق بوصف أنها منقطعة النكاح ولكن بوصف أنها معتدة عن نكاح صحيح فإن العدة أثر من آثار النكاح وببقائها يبقى ملك للزوج عليها حتى كان له ولاية منعها عن الخروج فتكون المرأة بهذا الوصف محلا للطلاق واحترز بقوله نكاح صحيح عن المعتدة عن نكاح فاسد فإنها ليست بمحل للطلاق; لأنها في حال عدم المتاركة ليست بمحل للطلاق ففي حال المتاركة التي هي حالة العدة أولى ومن ذلك قولهم في اشتراط الإيمان في رقبة كفارة الظهار والصوم تحرير في تكفير. ونحن نقول هذا الوصف وهو كونه تحريرا في تكفير يوجب اشتراط إيمان المحرر كما قلتم, لكن قيام الموجب لاشتراط الإيمان لا يمنع معارضة ما(4/154)
يمنع معارضة ما يسقطه وهو إطلاق صاحب الشرع الذي هو صاحب الحق كالدين يسقط وكذلك قولهم في السرقة إنها أخذ مال الغير بلا تدين فيوجب الضمان قلنا: نحن نقول به لكن لا يمنع اعتراض ما يسقطه كالإبراء فكذلك استيفاء الحد.
ـــــــ
يسقط اشتراطه وهو إطلاق صاحب الشرع الذي هو صاحب الحق بقوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] كالدين يسقط يعني قيام الدين في الذمة يوجب الأداء, ولكنه لا يمنع وجود ما يسقطه كما إذا أبرأ صاحب الحق من عليه الدين عن حقه وإذا كان كذلك حصل الامتثال بالأمر بإعتاق الكافرة كما حصل بإعتاق المؤمنة فيخرج به عن العهدة فيضطر المعلل عند ذلك إلى الرجوع إلى فقه المسألة وهو أن الامتثال لا يحصل بتحرير الكافرة كما لا يحصل به في كفارة القتل; لأن المطلق محمول على المقيد. وكذلك وكقولهم في مسألة الكفارة قولهم في السرقة يغني في أن القطع في السرقة لا يوجب سقوط ضمان المسروق عن السارق أنهما أخذ مال الغير بلا تدين أي بلا اعتقاد إباحة وتأويل في الأخذ فيوجب الضمان كالغصب بخلاف أخذ الحربي مال المسلم وأخذ الباغي مال العادل فإنه لا يوجب الضمان; لأنه أخذ بطريق التدين إذ الحربي يعتقد إباحته والباغي يأخذ بتأويل فيعتبر في إسقاط الضمان عند وجود المتعة وإنا نقول به أي نسلم أن ما ذكروا من الوصف وهو أنه أخذ مال الغير موجب للضمان, ولكنه لا يمنع اعتراض ما يسقطه. كالإبراء أي كإبراء صاحب الحق وهو المسروق منه السارق عن الضمان فكذلك أي فكالإبراء استيفاء الحد عندنا في إسقاط الضمان فيئول الكلام حينئذ إلى أن استيفاء الحد هل يوجب الضمان أم لا فيظهر فقه المسألة ففي هذه المسائل قصد المعلل بالتعليل إبطال مذهب خصمه فيما ذهب إليه من الحكم فالسائل بالقول بالموجب بين أن ما ذكرت ليس بمأخذ الحكم عندي وإن هذا التعليل لا يقدح فيما ذهبت إليه من الحكم, ثم اختلف في أنه هل يجب على السائل بعدما رد المأخذ الذي ذكره المعلل بيان مأخذه فقيل: يجب لاحتمال أن يكون هذا هو المأخذ عنده ولعلمه بعدم التكليف يقول به عنادا قصدا لاتفاق كلام خصمه ولا كذلك إذا وجب عليه فكأن الوجوب أفضى إلى صيانة الكلام عن الخبط والعناد فكان أولى. وقيل: لا يجب إذ لا وجه لتكليفه بذلك بعد الوفاء بشرط الموجب وهو استبقاء محل النزاع; لأنه عاقل متدين وهو أعرف بمأخذ نفسه أو بمأخذ إمامه فكان الظاهر من حاله الصدق فيما ادعاه فوجب تصديقه كيف ولو لم يصدق وأوجب عليه بيان المأخذ فإن أمكن للمستدل الاعتراض عليه انقلب المستدل معترضا ولا يخفى ما فيه من الخبط وإن لم يكن فلا فائدة في إبداء المأخذ لإمكان ادعائه(4/155)
.............................................................................................
ما لا يصلح للتعليل ترويجا لكلامه ثقة منه بامتناع ورود الاعتراض عليه فإن قيل: القول بالموجب في هذا القسم وهو ما إذا كان التعليل لإبطال مأخذ الخصم يؤدي إلى القول بتخصيص العلة; لأن السائل لما سلم أن علة المعلل توجب ما رتب عليها من الحكم كان يخلف الحكم عنها لمانع ثبت عنده فيكون تخصيصا فيستقيم القول به ممن جوز تخصيص العلة ولا يستقيم ممن أنكره والشيخ المصنف رحمه الله من هذه الفرقة فينبغي أن لا يصح منه تصحيح القول بالموجب في هذا القسم. قلنا: لا نسلم أنه تخصيص من حيث المعنى وإن كان يتراءى أنه تخصيص صورة; لأن المقصود من التخصيص دفع النقض عن العلة التي رام المعلل تصحيحها ببيان مانع المخصص وليس فيما نحن فيه مقصود السائل من القول بالموجب تصحيح علة المعلل بل المقصود منه إفحامه وإيقاف كلامه لا غير فلم يكن تخصيصا بل كان إبطالا لكلامه معنى فلذلك صح من الكل..(4/156)
"الفصل الثاني الممانعة"
وهي أربعة أوجه ممانعة في نفس الوصف والثاني في نفس الحكم والثالث في صلاحه للحكم والرابع في نسبة الحكم إلى الوصف. أما الأول فمثل قولهم عقوبة متعلقة بالجماع فلا يجب بالأكل كحد الزنا وهذا غير مسلم عندنا;
ـــــــ
"الفصل الثاني"
"وهو الممانعة"
قوله: "والرابع في نسبة الحكم إلى الوصف"; لأن أصحاب الطرد يشترطون صلاح الوصف وتعلق الحكم به وجودا وعدما فإذا انقطعت نسبة الحكم عنه كان فاسدا وقيل. في الفرق بين هذا القسم والقسم الأول: إن الممانعة في الوصف هي عدم تسليم وجود الوصف المذكور في محل النزاع والممانعة في نسبة الحكم إلى الوصف هي عدم تسليم كون الحكم منسوبا إلى الوصف المذكور مع تسليم وجود ذلك الوصف المذكور في محل النزاع وقيل الممانعة في نفس الوصف هي منع تعلق الحكم بالوصف المذكور في الفرع مع تسليم تعلقه به في الأصل والممانعة في نسبة الحكم إلى الوصف هي منع تعلق الحكم بالوصف المذكور في الأصل.
أما الأول وهو الممانعة في نفس الوصف فمثل قول أصحاب الشافعي في كفارة الإفطار في رمضان إنها عقوبة متعلقة بالجماع فلا تجب بغيره من الأكل والشرب كحد الزنا وهذا الوصف وهو كونها متعلقة بالجماع غير مسلم عندنا بل هي متعلقة بالإفطار إذا كمل جناية لا بالجماع بدليل أنه لو جامع ناسيا لصومه لا يفسد صومه لعدم الفطر وإن كان الوطء زنا يوجب الحد ولو جامع ذاكرا لصومه يفسد لوجود الفطر وإن كان الوطء حلالا في نفسه. وهذا; لأن الجماع آلة الفطر والحكم لا يتعلق بالآلة وإنما يتعلق بالحاصل بالآلة كما في الجرح فإن من جرح إنسانا ومات المجروح به يجب القصاص ولا يتعلق وجوبه بالآلة وإنما يتعلق بالجرح الحاصل بالآلة فعرفنا أنها متعلقة بالإفطار على وجه الجناية وهذا الوصف عام يتناول الجماع والأكل والشرب على السواء فيثبت الحكم بكل واحد وعند(4/157)
لأن كفارة الفطر متعلقة بالفطر دون الجماع ومن ذلك قولهم في بيع التفاحة بالتفاحة أنه بيع مطعوم بمطعوم مجازفة فيبطل كبيع الصبرة بالصبرة; لأنا نقول مجازفة ذات أو وصف فلا بد من القول بالذات, ثم نقول مجازفة في الذات بصورته أو بمعياره فلا بد من القول بالمعيار; لأن المطعوم بالمطعوم كيلا بكيل جائز وإن تفاوتا في الذات فإن قال: لا حاجة إلى هذا لم نسلم له المجازفة
ـــــــ
إلحاق هذا المنع يضطر إلى بيان حرف المسألة وهو أن الفطر بالجماع فوق الفطر بالأكل والشرب في الجناية فلا يمكن إلحاق الأكل والشرب به قياسا ولا دلالة, ثم قيل: إيراد هذا المثال هاهنا غير ملائم; لأنه من أمثلة القسم الرابع فإن السائل منع فيه نسبة الحكم إلى الجماع وأضافه إلى وصف آخر وهو الفطر وأجيب بأنه وإن كان كذلك فهو ممانعة في الوصف أيضا من حيث إن المعلل جعل كون الكفارة متعلقة بالجماع علة للمنع من الوجوب في الأكل والسائل منع كونه متعلقا بالجماع فيكون مانعا لنفس الوصف عن كونه علة فيصح إيراده هاهنا من هذا الوجه.
قوله: "ومن ذلك" أي ومما يتحقق فيه ممانعة نفس الوصف قولهم في بيع التفاحة بالتفاحة أنه بيع مطعوم بمطعوم من جنسه مجازفة فيبطل كبيع الصبرة من الحنطة بصبرة منها; لأنا نقول تريدون بالمجازفة مجازفة ذات أو وصف أي تريدون مجازفة ترجع إلى نفس البدلين أو إلى وصفهما من الرداءة والجودة فلا بد من القول بالذات; لأن التفاوت والتساوي في الوصف ساقطا الاعتبار في الأحوال الربوية بالإجماع, ثم نقول مجازفة في الذات أي تريدون مجازفة في الذات أو تقولون: هي مجازفة في الذات باعتبار صورتها التي بها عرفت تفاحة أم هي مجازفة بالنظر إلى المعيار الذي وضع لمعرفة القدر من الأشياء والضمير في صورته راجع إلى المبيع أو إلى الذات على تأويل المذكور. فلا بد من القول بالمعيار أي بالمجازفة من حيث المعيار; لأن المجازفة من حيث الصورة لا تمنع جواز البيع بالاتفاق فإن بيع قفيز من حنطة بقفيز منها جائز مع وجود المجازفة في الذات صورة فربما يكون أحدهما أكبر من الآخر في عدد الحبات والأجزاء فإن قيل: أي إن ذكر المعلل أنه لا حاجة لي إلى هذا التفصيل بل أريد بها مطلق المجازفة لم نسلم له المجازفة مطلقة أي لا نسلم له أن مطلق المجازفة مانع من صحة هذا البيع لما بينا أن من المجازفة ما لا يمنع بيع. المطعوم بالمطعوم بالإجماع فإذا لا يجد المعلل بدا من أن يفسر المجازفة بالمجازفة في المعيار وهو الكيل وإذا فسرها بها لم نسلم في وجودها بيع التفاحة بالتفاحة; لأن التفاحة لا تدخل تحت كيل المعيار والمجازفة فيما لا يدخل تحت الكيل لا تتصور فقد أدى الاستفسار إلى الممانعة في الوصف فيضطر المعلل بعد الاستفسار والممانعة إلى(4/158)
مطلقة فيضطر إلى إثبات أن الطعم علة لتحريم البيع بشرط الجنس مع أن الكيل الذي يظهر به الجواز لا يعدم إلا الفضل على المعيار. ومن ذلك قولهم في الثيب الصغيرة أنها ثيب ترجى مشورتها فلا تنكح إلا برأيها كالثيب البالغة; لأنا نقول برأي حاضر أم برأي مستحدث فأما الحاضر فلم يوجد في الفرع وأما
ـــــــ
الرجوع إلى حرف المسألة وهو أن الأصل هو الحرمة في بيع المطعوم بالمطعوم; لأن الطعم عنده علة لتحريم البيع في المطعومات والجنسية شرط والمساواة كيلا مخلص عن الحرمة ففي بيع التفاحة بالتفاحة قد وجدت العلة والشرط ولم يوجد المخلص لعدم تصور المساواة فيهما كيلا فثبتت الحرمة كما لو فاتت المساواة بالفصل على أحد الكيلين وعندنا الأصل في هذه الأموال جواز العقد كما في سائر الأموال والفساد باعتبار فضل هو حرام وهو الفضل على المعيار ولا يتحقق ذلك إلا فيما يتحقق فيه المساواة في المعيار إذ الفضل يكون بعد تلك المساواة ولا تتحقق هذه المساواة فيما لا يدخل تحت المعيار أصلا فيجوز بيع التفاحة بالتفاحة عملا بالأصل وقوله مع أن الكيل متصل بقوله لا نسلم له المجازفة مطلقة يعني لا نسلم أن مطلق المجازفة مانع من صحة البيع; لأن الجواز متعلق بالمساواة كيلا بالإجماع وبها يقع المخلص عن فضل هو ربا ولا يزول بالمساواة كيلا إلا فضل على الكيل فثبت أن الحرمة متعلقة بالمجازفة كيلا لا بمطلق المجازفة. أو هو متصل بقوله الطعم علة لتحريم البيع يعني أنه يجعل الطعم علة لتحريم البيع عند المقابلة بالجنس وهو يقتضي تحريم البيع في القليل والكثير عند فوات التساوي كيلا مع أن الكيل أي التساوي في الكيل الذي يظهر به الجواز لا يعدم إلا الفضل على المعيار أي لا يقتضي إلا الاحتراز عن الفضل على المعيار فكان إثبات العلة على وجه يوجب الحرمة مطلقة في القليل والكثير على خلاف مقتضى النص.
قوله: "ومن ذلك" أي ومما يمكن فيه ممانعة الوصف قولهم كذا الولي يملك تزويج الثيب الصغيرة عندنا كما يملك تزويج البكر الصغيرة وعند الشافعي رحمه الله لا يملك أحد من الأولياء تزويجها أصلا حتى تبلغ; لأن ولايته عليها زالت بالثيابة فإذا بلغت فحينئذ يزوجها بمشورتها وإن كانت الثيب مجنونة يجوز للأب والجد تزويجها صغيرة كانت أو كبيرة ولا يجوز لغير الأب والجد تزويجها إن كانت صغيرة. فإن بلغت زوجها السلطان بمشورة الأولياء أو يأذن لهم في تزويجها كذا في التهذيب قالوا هذه ثيب يرجى مشورتها واحترزوا به عن المجنونة فإن مشورتها لا ترجى في الغالب فلا تنكح إلا برأيها كالثيب البالغة النائمة والمغمى عليها والغائبة; لأنا نقول اللام متعلقة بقوله من ذلك برأي حاضر أم برأي مستحدث أي تريدون بقولكم لا تنكح إلا برأيها رأيا قائما في(4/159)
المستحدث فلا يوجد في الأصل فإن قال: لا حاجة إلى هذا قلنا له: عندنا لا تنكح إلا برأيها; لأن رأي الولي رأيها فإن قال: بأيهما كان انتقض بالمجنونة; لأن لها رأيا مستحدثا أيضا; لأن الجنون يحتمل الزوال لا محالة. فيظهر به فقد المسألة وهو أن الولاية ثابتة فلا يمنعها إلا الرأي القائم فأما المعدوم قبل الوجود فلا يحتمل أن يكون شرطا مانعا أو دليلا قاطعا وهذا الذي ذكرنا أمثلة ما يدخل في
ـــــــ
الحال أو رأيا سيحدث فإن أردتم الأول فلا نسلم وجوده في الفروع وهو الصغيرة إذ ليس لها رأي قائم في الحل لا في المنع ولا في الإطلاق فإن من لم يجوز تزويجها لم يفصل في ذلك بين أن يكون العقد برأيها وبدون رأيها ومن جوز العقد فكذلك لم يفصل فعرفنا أنه ليس لها رأي قائم. وإن عنيتم الثاني فلا نسلم وجوده في الأصل وهو الثيب البالغة; لأن لها رأيا قائما لا مستحدثا ولهذا كان للولي تزويجها بمشورتها في الحال بالاتفاق وكان لها أن تتزوج بنفسها أيضا عندنا فكان هذا ممانعة لنفس. الوصف في الفرع أو الأصل فإن قال المعلل: لا حاجة لي إلى التفصيل بل اشترط رأيها على الإطلاق قلنا له نحن نقول: بموجب ما ذكرت فإن عندنا لا تنكح إلا برأيها أيضا; لأن رأي الولي قائم مقام رأيها كما في عامة التصرفات فإن قال: بأيهما كان يعني لا أريد بإطلاق الرأي رأي الغير بل أريد رأي نفسها قائما كان أو مستحدثا انتقض بالثيب المجنونة البالغة فإنها تزوج وإن كان رأيها مرجوا بالإفاقة إذ الجنون محتمل للزوال لا محالة كالصبي, لكنهم يفرقون بين الصغيرة والمجنونة بأن الصغيرة بالبلوغ تصير من أهل الإذن ولبلوغها أوان منتظر وليس لإفاقة المجنونة أوان منتظر إليه أشير في التهذيب.
فيظهر به أي بما قلنا من الممانعة فقه المسألة وهو أن ولاية الولي ثابتة فلا يقطعها إلا رأي قائم وهو رأي البالغة فأما المعدوم قبل الوجود وهو الرأي الذي سيحدث للصغيرة فلا يحتمل أن يكون شرطا مانعا لولاية الولي من الثبوت أو دليلا قاطعا لولايته عنها بعد الثبوت; لأن ما سيحدث من مانع أو علة لا يصلح أن يكون مؤثرا في الحكم قبل ثبوته في المنع ولا في الإثبات إذ الحكم لا يسبق علته فكيف يصلح الرأي المعدوم مانعا أو قاطعا. ولو كان الرأي المعدوم الذي سيحدث قاطعا للولاية لما ثبت الولاية على صبي وصبية.
ورأيت بخط شيخي رحمه الله أن الشافعي رحمه الله جعل الرأي المستحدث غالبا دليلا على قطع استبداد ولاية الولي وفي نكتة جعل ذلك مانعا من النفاذ فصار محجوزا بسبب رأيها فالشيخ بقوله شرطا مانعا أو دليلا قاطعا أشار إلى المعنيين والمذكور في بعض الشروح أن معناه أن المعدوم وهو الرأي المستحدث لا يحتمل أن يكون مانعا من ثبوت(4/160)
الفرع وفيه قسم آخر وهو ما يدخل في الأصل مثل قولهم في مسح الرأس: إنه طهارة مسح فيسن تثليثه كالاستنجاء فنقول: إن الاستنجاء ليس بطهارة المسح بل طهارة عن النجاسة الحقيقية فيضطر إلى الرجوع إلى فقه المسألة وهو بيان ما يتعلق به التكرار وهو الغسل وما يتعلق به التخفيف وهو المسح وهما في طرفي نقيض التكرار في أحدهما يحقق غرضه وفي الثاني يفسده ويلحقه بالمحظور وهذا أكثر من أن يحصى. وأما الممانعة في الحكم فمثل قولهم في
ـــــــ
الولاية للجد فيما إذا مات أبو الثيب الصغيرة وانتقلت الولاية إلى الجد أو دليلا قاطعا لولاية الولي فيما إذا ثابت والولي باق وهذا الذي قلنا أي ما ذكرنا من ممانعة الوصف في هذه المسائل أمثلة ممانعة الوصف في الفرع فإن في المسألة الأولى كون الحكم متعلقا بالجماع في الأصل وهو الجد مسلم, ولكنه في الفرع وهو كفارة الصوم ممنوع. وفي المسألة الثانية المجازفة في بيع الصبرة بالصبرة مسلم ولكنها في التفاحة بالتفاحة ممنوعة وفي المسألة الثالثة منع رجاء المشورة عن صحة النكاح مسلم في الأصل وهو البالغة دون الفرع وهو الصغيرة وفيه أي في هذا الوجه وهو ممانعة الوصف في الأصل فإن في مسألة التثليث الوصف وهو قوله طهارة مسح مسلم في الفرع غير مسلم في الأصل وهو الاستنجاء بل هو طهارة عن النجاسة الحقيقية ولهذا كان الغسل فيه أفضل ولو أحدث ولم يحصل التلويث بأن خرج منه ريح لا يلزمه المسح ولا يسن أيضا فعلم أنه إزالة نجاسة حقيقية. فيضطر المعلل إلى الرجوع إلى فقه المسألة وهو بيان ما يتعلق به التكرار إلى آخره يعني فقه المسألة يدور على معرفة معنى الغسل الذي تعلق به التكرار وعلى معرفة معنى المسح الذي تعلق به التخفيف وهما أي المسح والغسل في اقتضاء التكرار في طرفي نقيض يعني لا يمكن الجمع بينهما; لأنهما متناقضان في اقتضاء التكرار فإن التكرار في أحدهما وهو الغسل يحقق غرضه وهو التنظيف والتطهير الذي وضع الغسل له فيصلح التكرار مكملا له وفي الثاني وهو المسح يفسده أي يفسد التكرار حقيقته ويلحقه بالمحظور وهو الغسل لما مر أن الغسل في موضع المسح مكروه وإذا كان كذلك لا يمكن اعتبار أحدهما بالآخر في شرعية التكرار عبارة شمس الأئمة فيضطر المعلل عند هذا المنع إلى الرجوع إلى حرف المسألة وهو إثبات التسوية بين الممسوح والمغسول بوصف صالح لتعلق حكم التكرار به أو التفرقة بينهما بوصف المسح والغسل فإن أحدهما يدل على الاستيعاب والآخر يدل على التخفيف.
قوله: "وأما الممانعة في الحكم" وهو الوجه الثالث من وجوه الممانعة فنقول كذا يعني لا نسلم أن المسنون في غسل الوجه التثليث بل المسنون فيه التكميل بعد(4/161)
مسح الرأس إنه ركن في وضوء فيسن تثليثه كغسل الوجه فنقول: إن غسل الوجه لا يسن تثليثه بل يسن تكميله بعد تمام فرضه وقد حصل التكميل ها هنا ولكن التكرار صير إليه في الغسل لضرورة أن الفرض استغرق محله وهذا المعنى معدوم في هذا أو; لأن المشروع في الأصل وجب بالضرورة لما قلنا من الأركان
ـــــــ
تمام فرضه بالزيادة على القدر المفروض في محله من جنسه كما في أركان الصلاة فإن إكمال ركن القراءة بالزيادة على القدر المفروض في محله من جنسه وهو تلاوة القرآن وكذلك الركوع والسجود وقد حصل التكميل هاهنا أي في المسح بالاستيعاب الذي هو سنة فيه; لأنه زيادة على القدر المفروض في محله من جنسه, ولكن التكرار الاستدراك متعلق بقوله لا يسن تثليثه بل يسن تكميله يعني التكرار في الغسل ليس بأمر مقصود بل المقصود هو التكميل إلا أن الفرض لما استغرق محله في الغسل لا يمكن تكميله بزيادة من جنسه في محله إلا بالتكرار فكان شرعية التكرار سنة ضرورة فرضية الاستيعاب لا لغير التكرار قصدا وهذا المعنى وهو استيعاب الفرض محله معدوم في المسح; لأن الاستيعاب فيه سنة وليس بركن فلا يحتاج إلى التكرار لإقامة سنة التكميل فيه لحصول المقصود باستيعاب جميع الرأس مرة واحدة. قال شمس الأئمة رحمه الله: التكرار مشروع لغيره وهو تحصيل الإكمال به لا لعينه وما كان مشروعا لغيره قائما يشرع باعتبار ذلك الغير في موضع يتحقق الحاجة إليه فإما إذا كان ما شرع لأجله يحصل بدونه لا يفيد اعتباره ألا ترى أنه لو كرر المسح في ربع الرأس أو أدنى ما يتناوله الاسم لا يحصل به كمال السنة ما لم يستوعب جميع الرأس بالمسح فبهذا يتبين أن التكميل هاهنا بالاستيعاب وأنه هو الأصل فيجب المصير إليه إلا في موضع يتحقق العجز عنه بأن يكون الاستيعاب ركنا في المغسولات فحينئذ يصار إلى الإكمال بالتكرار.
ولا يلزم على ما ذكرنا مسح الأذنين فإنه شرع لإكمال المسح بالرأس وإن لم يكن في محل الفرض حتى لم يتأد فرض المسح به بحال; لأن ذلك المسح لإكمال السنة في المسح بالرأس ولهذا لا يأخذ لأذنيه ماء جديدا عندنا ولكن يمسح مقدمهما ومؤخرهما مع الرأس والمسح فيهما أفضل من الغسل إلا أن كون الأذنين من الرأس لما كان ثابتا بالسنة دون نص الكتاب يثبت اتحاد المحل فيما يرجع إلى إكمال السنة به ولا يثبت المحلية فيما يتأدى به الفرض الثابت بالنص فقلنا: لا ينوب مسح الأذنين عن المسح بالرأس لهذا ولأن المشروع في الأصل وهو الغسل إطالته الفرق بين النكتتين أن الأولى لبيان مشروعية نفس التكميل في الأصل أي التكميل سنة فيه دون التثليث والثانية لبيان مشروعية سبب التكميل فيه فإن بالإطالة يحصل التكميل كما في أركان الصلاة لما قلنا من استغراق الفرض محله.(4/162)
لكن التكرار إطالته لا تكراره كما في غيره. ومثل قولهم في صوم رمضان أنه صوم فرض فلا يصح إلا بتعيين النية يقال له بعد التعيين أو قبله فإن قال بعده لم نجده في الأصل فصحت الممانعة فإن قال قبله لم نجده في الفرع فصحت الممانعة أيضا فإن قال: لا حاجة لي إلى هذا قلنا: عندنا لا يصح إلا بالتعيين غير أن إطلاقه تعيين ومثل قولهم في بيع التفاحة بالتفاحة أنه بيع مطعوم بجنسه مجازفة فيحرم كالصبرة بالصبرة يقال له: يحرم حرمة مؤقتة أو مطلقة فإن قال: مؤقتة لم نجدها في الفرع لعدم المخلص وإن قال: مطلقة لم نجدها في الأصل;
ـــــــ
قوله: "ومثل قولهم في صوم رمضان" أي في منع جوازه بمطلق النية إنه صوم فرض فلا يصح أداؤه إلا بتعيين النية كصوم القضاء والكفارة يقال له أي للمعلل بعد التعين أو قبله أي أتريد بوجوب التعين وجوبه بعد تعين الصوم أو قبله فإن قال: بعده لم نجده أي هذا الحكم وهو وجوب التعيين بعد التعيين في الأصل وهو صوم القضاء والكفارة; لأن التعيين بعد التعين ليس بشرط فيه فيكون هذا ممانعة الحكم في الأصل وإن قال قبله أي قال أريد بوجوب التعيين وجوبه قبل تعين الصوم. لم يجده أي لم يمكنه إيجابه قبل التعين في الفرع وهو صوم رمضان; لأن التعين حاصل فيه بأصل الشرع في هذا الزمان إذ المشروع في هذا الزمان ليس إلا صوم الوقت فصحت الممانعة أيضا أي صحت ممانعة هذا الحكم وهو وجوب التعيين في الفرع كما صحت في الأصل فإن قال: لا حاجة لي إلى هذا أي إلى بيان أن التعيين وجب قبل التعيين أو بعده بل التعيين واجب مطلقا من غير نظر إلى أنه قبل التعين أو بعده قلنا له كذا نعني بدفعه حينئذ بالقول بالموجب فنقول: لا يصح عندنا إلا بالتعيين أيضا غير أن إطلاقه أي إطلاق النية على تأويل العزم تعيين للصوم أو إطلاق الصائم النية تعيين فيضطر إلى الرجوع إلى حرف المسألة وهو أن نية التعيين هل يسقط اشتراطه بكون المشروع متعينا في ذلك الزمان أم لا يسقط اعتباره ومثل قولهم في بيع التفاحة بالتفاحة أنه أي هذا البيع كذا يقال له أي للمستدل حرمة مطلقة أي يثبت بهذا البيع حرمة مطلقة أو موقتة أي مغياة إلى غاية وجود التساوي. فإن قال: موقتة أي يثبت به حرمة موقتة لم نجدها في الفرع وهو بيع التفاحة بالتفاحة لعدم المخلص إذ ليس للتفاحة حالة مساواة يجوز البيع فيها عند الخصم لعدم دخولها تحت الكيل فيكون هذا ممانعة الحكم في الفرع وإن قال: يثبت به حرمة مطلقة لم نجدها في الأصل وهو بيع الصبرة بالصبرة فيكون ممانعة الحكم في الأصل وذلك; لأن الحرمة متناهية موقتة إلى غاية وهي المساواة في القدر فإن البدلين إذا كيلا ولم يظهر فضل في أحدهما يعود العقد إلى الجواز عندنا لزوال المعنى المفسد كذا في بعض الشروح(4/163)
لأن الحرمة عندنا في الأصل متناهية فصحت الممانعة. ومثله ما قلنا في قولهم ثيب ترجى مشورتها فلا تنكح كرها يقال له ما معنى الكره فلا بد من أن يقال: عدم رأيها فيقال في الأصل عدم الرأي غير مانع لكن الرأي القائم المعتبر مانع ولم يوجد في الفرع رأي معتبر. ومثله قوله ما يثبت مهرا دينا يثبت سلما
ـــــــ
فصحت الممانعة أي ممانعة الحكم على التقديرين. فإن قال: لا حاجة إلى بيان أنها مطلقة أو موقتة لا نسلم له ذلك; لأن الحرمة الموقتة إلى غاية غير الحرمة المطلقة والحكم الذي يقع التعليل له لا بد من أن يكون معلوما متحدا في الأصل والفرع فيظهر حينئذ حرف المسألة وهو أن الحكم حرمة نزول بالمساواة كيلا لا حرمة مطلقة فلا يثبت إلا في محل قابل للمفاضلة الحرمة والمساواة فلا تنكح كرها يعني قياسا على الثيب البالغة يقال له: ما معنى الكره أي ما تعني بقولك لا تنكح كرها فلا بد من أن يقول: أريد أنها لا تنكح بدون رأيها إذ ليس هناك إكراه تخويف. فيقال في الأصل وهو البالغة عدم رأيها غير مانع عن صحة التزويج ونفوذ ولاية الغير عليها فيكون هذا ممانعة الحكم في الأصل, لكن الرأي القائم المعتبر مانع ولم يوجد في الفرع رأي معتبر فيكون هذا ممانعة الحكم في الفرع. وتبين به حرف المسألة وهو أن المعتبر في ثبوت الولاية هو الصغر عندنا دون البكارة وعنده على العكس وحقيقة المعنى فيه أن النكاح من المضار وضعا في جانب المرأة على أصل الشافعي; لأن حكمه إثبات الملك عليها وسلب موجب الحرية وهو إرقاق من وجه ولهذا صينت الأم عن نكاح الابن والمسلمة عن نكاح الكافر وإنما تحمل ذلك لمصلحة حاجتها إلى اقتضاء الشهوة كما يتحمل قطع اليد عند وقوع الأكلة ولا حاجة إلا بعد البلوغ فينبغي أن لا يثبت الجواز قبله إلا أنه جوز في حق البكر قبل البلوغ لدليل قام لنا على أن إجبارها على النكاح جائز فلا معنى للتوقيف على حال البلوغ إذا لم يعتبر إذنها بعده وفي حق الثيب التوقف مفيد فيؤخر إلى حال البلوغ لئلا يؤدي إلى تفويت الإذن عليها وعندنا النكاح من المصالح وضعا في جانبها; لأنه لتحصيل السكن والازدواج والولد واقتضاء الشهوة وكلها من المصالح وما أثبت من الملك فلما كان الحجر عليها لتحقيق المصلحة فلا يجوز أن يجعل ذلك أصلا فيخرج به عن عداد المصالح إلى ما هو من المضار بل نجعل الملك تابعا لإقامة المصلحة ومتى كان النكاح مصلحة كان الأصل فيه التحصيل وهي عاجزة عن التحصيل لصغرها فأقيم الولي مقامها كما في البكر.
قوله: "ومثله قولهم" أي مثل قولهم فيما مضى من المسائل قولهم في تجويز السلم في الحيوان ما يثبت دينا مهرا في الذمة يثبت دينا سلما كالمقدر المذروع والمكيل والموزون سوى الذهب والفضة. فيقال له أثبت دينا في الذمة معلوم بوصفه الباء للسببية(4/164)
كالمقدر فيقال: ثبت معلوما بوصفه أم بقيمته فإن قال بوصفه لم يسلم في الفرع وإن قال بقيمته لم يسلم في الفرع وإن قال: لا حاجة لي إلى هذا قلنا بل إليه حاجة لبيان استوائهما في طريق الثبوت وهما مختلفان أحدهما يحتمل
ـــــــ
أي سبب وصفه أو بسبب قيمته أو هي صلة معلوما أو زائدة أي يثبت دينا في الذمة معلوم الوصف أو معلوم القيمة فإن قال: يثبت في الذمة معلوما بوصفه لم يسلم له ذلك في الفرع وهو السلم وفي الأصل وهو المهر يعني لا نسلم أن الحيوان يصير معلوما بالوصف في السلم ولا في المهر بل يبقى مجهولا إلا أن مثل هذه الجهالة متحملة في المهر دون السلم; لأن مبنى النكاح على المساهلة دون المضايقة فلا يؤدي مثل هذه الجهالة فيه إلى المنازعة ومبنى البيع على المضايقة والمماكسة فيحترز فيه عن مثل هذه الجهالة لإفضائها فيه إلى المنازعة المانعة عن التسليم والتسلم المقصودين في البيع وفي تسمية المهر أصلا نوع تسامح فإن الشيخ جعل ثبوت الحيوان دينا مهرا وصف القياس والمقدر أصلا له وكان ينبغي أن يجعل النكاح أصل القياس ليستقيم له هذا الكلام كما جعله القاضي الإمام في الأسرار فقال: البيع عقد معاوضة فيستحق به الحيوان دينا قياسا على النكاح والخلع إلا أن حكم السلم لما كان مستفادا من المهر عند الخصم إذ الحكم يثبت بالوصف سماه أصلا من هذا الوجه. وإن قال بقيمته أي يصير معلوما بقيمته لم يسلم في الفرع فإن الحيوان بعد ذكر الأوصاف يتفاوت في المالية تفاوتا فاحشا فلا يصير قيمته معلومة بذكر الوصف وإنما خص الفرع; لأن في الأصل وهو المهر يصير الحيوان معلوما بالقيمة فإنه لو تزوج امرأة على عبد أو فرس يجب الوسط ويعرف ذلك بالقيمة ولهذا لو أتاها بالقيمة تجبر على القبول كما لو أتاها بالمسمى فثبت أنه يصير معلوما فيه بالقيمة فأما السلم فلا يصير معلوما بالقيمة لما ذكرنا أن الحيوان لا يصير معلوم المالية بالوصف ولا اعتبار للقيمة في باب السلم أصلا ولهذا يجب تسليم الحيوان عنده في السلم ولا يجوز أداء القيمة.
ورأيت في نسخة أظنها للشيخ بهذه العبارة فيقال له: يثبت الحيوان دينا في الذمة معلوم الوصف والقيمة أم معلوم الوصف مجهول القيمة أم مجهول الوصف معلوم القيمة فإن قال: معلوم الوصف فلا يوجد في الأصل فإن الحيوان لا يثبت دينا في الذمة معلوم الوصف وإن قال: معلوم القيمة فلا يوجد في الفرع فإن إعلام القيمة ليس بشرط لجواز عقد السلم وإن قال: لا حاجة لي إلى هذا أي إلى تعيين أنه يصير دينا بالوصف أو بالقيمة قلنا: بل إليه أي إلى التعيين حاجة لأجل بيان استواء الأصل والفرع في طريق الثبوت يعني لا بد من التسوية بين الأصل والفرع في طريق الثبوت ليصح القياس وقد اعتبرت أحد الدينين(4/165)
جهالة الوصف. والثاني لا يحتمله عندنا ومثل قولهم في بيع الطعام بالطعام إن القبض شرط لما قلنا كالأثمان; لأن عندنا الشرط في الأثمان التعيين لا القبض ومثله قولهم فيمن اشترى أباه ينوي عن الكفارة إن العتيق أب فصار كالميراث
ـــــــ
بالآخر ولا يصح ما لم يثبت أنهما يظهران ولا طريق لثبوت ذلك إلا الاتحاد في الطريق الذي يثبت به كل واحد من الدينين في الذمة وهما مختلفان أي لم يوجد الاتحاد هاهنا بل الأصل والفرع مختلفان في الثبوت. أحدهما وهو المهر يحتمل جهالة الوصف في الثبوت; لأنه يثبت دينا في الذمة بمجرد ذكر اسم الجنس كالعبد والشاة والفرس من غير ذكر وصف والثاني وهو السلم لا يحتمله أي لا يحتمل المذكور وهو جهالة الوصف فإن إعلام المسلم فيه عند العقد على وجه لا يبقى فيه تفاوت فاحش فيما هو المقصود وهو المالية على وجه يلتحق بذوات الأمثال في صفة المالية شرط لجواز عقد السلم ولا يتحقق ذلك في الحيوان وإذا كان كذلك لا يجوز اعتبار أحدهما بالآخر وقوله عندنا متعلق بالمجموع أي الاختلاف بين المهر والسلم في أن المهر يحتمل جهالة الوصف والسلم لا يحتملها مذهبنا وعند الشافعي رحمه الله هما متماثلان إذ المهر لا يحتمل جهالة الوصف أيضا كالسلم حتى لو تزوجها على عبد أو فرس غير موصوف يجب مهر المثل عنده دون المسمى كما لو تزوجها على دابة فيصح اعتبار أحدهما بالآخر على أصله لتماثلهما إلا أن هذا استدلال بفضل مختلف فيه فلا يصلح ملزما على الخصم وبعد هذه الممانعة لا يجد المعلل بدا من الرجوع إلى فقه المسألة وهو إثبات أن الحيوان يصير معلوما بيان الجنس والنوع والصفة فإنه متى ذكر التعين امتاز عن سائر أجناس الحيوانات ومتى ذكر أنه بختي امتاز عن سائر أنواعه وإذا قال حقة وسمين من نسل إبل فلأن امتاز عن سائر أسنانه وأوصافه فلا يبقى بعد ذلك إلا جهالة لا يمكن العبارة عنها فسقط اعتبارها كما في الثياب فإن الثوب وإن استقصى في وصفه يبقى بين الأمثال الداخلة تحت الوصف ضرب جهالة حتى لو استهلك أحد تلك الأمثال على آخر يضمن قيمته لا المثل للآخر ثوبا مثله في السلم فكذا فيما نحن فيه من الحيوان. ونحن نقول: إنما يثبت جواز السلم عند ذكر الجنس والنوع والصفة إذا ارتفعت الجهالة عن المسلم فيه والتحق ببيان هذه الأشياء بما ليس فيه تفاوت فمتى بقي بعد ذكر هذه الأشياء تفاوت فاحش لم يكن ذكرها مغنيا لبقاء الجهالة المفضية إلى المنازعة والحيوان بهذه المثابة فإنا نرى بعيرين متساويين في الهيئة والسن والسمن واللون وبينهما تفاوت عظيم في المالية وكذا العبيد والأفراس فتبقى الجهالة فيه بعد ذكر هذه الأشياء فتمنع جواز السلم كما في اللآلي والخلفات بخلاف الثياب إذا وصفت; لأن التفاوت فيها ليس بفاحش; لأنها مصنوعة العبد وهو يصنع بآلة ومتى(4/166)
فيقال لهم ما حكم العلة فإن قال: وجب أن لا يجزئ عن الكفارة قيل له: ماذا لا يجزئ وإنما سبق ذكر العتيق والأب وذلك لا يجزئ عندنا فإن قال: وجب أن لا يجزئ عتقه قلنا به وإن قال: إعتاقه لم نجده في الأصل ولم يقل به في الفرع ويظهر به فقه المسألة. وأما صلاح الوصف فما سبق ذكره في أنه لا يصح إلا
ـــــــ
اتحدت الآلة والصانع يتحد المصنوع في الوصف فأما ما يحدث بإحداث الله تعالى فبقدرته من غير آلة ومثال إليه أشير في الأسرار.
ومثل قولهم في بيع الطعام بالطعام إن القبض شرط في المجلس لما قلنا في باب الترجيح إنهما مالان لو قوبل كل واحد منهما بالآخر يحرم ربا الفضل فكان القبض شرطا فيه كما لو باع ثمنا بثمن; لأن عندنا اللام متعلقة بمحذوف أي هذا الحكم وهو اشتراط القبض ممنوع في بيع الثمن بالثمن; لأن عندنا الشرط في الأثمان التعيين لإزالة صفة الدينية لا القبض إلا أن التعيين لا يحصل في الأثمان ما لم تقبض فشرط القبض فيها لحصول التعيين لا لذاته وهاهنا التعيين حصل بالإشارة من غير قبض فلا يشترط فيه القبض. فيرجع المعلل إذا بالضرورة إلى معنى المسألة وهو بيان أن اشتراط القبض في الصرف ليس لإزالة صفة الدينية بل للصيانة عن معنى الربا بمنزلة المساواة في القدر ومثله قولهم فيمن اشترى أباه إذا اشترى أباه ناويا عن كفارة يجب فيها الإعتاق يجوز ويخرج به عن العهدة عندنا وعند زفر والشافعي رحمهما الله عتق الأب ولا يخرج به عن عهدة التكفير وكذا حكم سائر المحارم عندنا إلا أن الشيخ رحمه الله وضع المسألة في الأب ليترتب عليه خلاف الشافعي.
قالوا: العتيق أب فصار كالميراث أي العتيق موصوف بصفة الأبوة فكان شراؤه كميراثه في أنه لا ينوب عن الكفارة إذا نوى فيقال لهم: ما حكم العلة وهي قولهم العتيق أب فإن قال أي المعلل وجب أن لا يجزئ شراؤه عن الكفارة; لأن العتق وقع بالأبوة لا لأجل الكفارة كالمحلوف بعتقه قيل له: ماذا لا يجزئ أي أي شيء لا يجزئ عن الكفارة ولم يسبق إلا ذكر العتيق والأب فإن عنيت أن العتيق لا يجزئ أو الأب لا يجزئ أو كليهما لا يجزئ فنحن نقول بذلك أيضا فإن قال: وجب أن لا يجزئ عتقه عن الكفارة قلنا به أي بأن عتقه لا يجزئ عنها; لأن عندنا لا يتأدى الكفارة بالعتق إذ هي إنما تتأدى بفعل منسوب إلى المكفر والعتق وصف ثابت المحل شرعا بل تتأدى بالإعتاق وإن قال وجب أن لا يجزئ إعتاقه له أي إعتاق المكفر للأب عن الكفارة لم نجده أي الإعتاق في الأصل وهو الميراث; لأنه لا صنع للوارث في الإرث حتى يصير به معتقا فكان هذا ممانعة الحكم في الأصلي. ولم يقل به أي لم يقل المعلل بالإعتاق في الفرع فكان هذا(4/167)
بمعناه وهو الأثر فكل ما لم يظهر أثره منعناه من أن يكون دليلا فإن قال عندي الأثر ليس بشرط لم يقبل منه الاحتجاج بما لم يكن حجة على الخصم كمثل كافر أقام بينة كفار على مسلم لم تقبل لما قلنا. وأما نسبة الحكم إلى الوصف
ـــــــ
ممانعة الحكم في الفرع أيضا فيظهر به أي بما ذكرنا من السؤال والممانعة فقه المسألة وهو أن الشراء عند الخصم ليس بإعتاق حقيقة; لأنه لإثبات الملك والإعتاق لإزالته فيستحيل أن يكون ما هو مثبت للحكم مزيلا له وإنما المؤثر في العتق هو القرابة الموجبة للصلة والملك شرط إذ لا تأثير له في إيجاب العتق بحال, ثم العتق لما لم يحصل إلا عند الملك سمي المشتري معتقا مجازا; لأنه صاحب شرط كحافر البئر يسمى قاتلا; لأنه باشر الشرط وإذا لم يكن الشراء إعتاقا وكان العتق مستحق الثبوت بالقرابة عند الدخول في الملك لا يتأدى به الكفارة إذ لا بد لها من الإعتاق. كما لو قال الغير: إن اشتريتك فأنت حر, ثم اشتراه ينوي به الكفارة وعندنا شراء القريب إعتاق بطريق أنه متمم علة العتق إذ العتق عندنا مضاف إلى القرابة والملك جميعا; لأن العتق صلة وللقرابة تأثير في إيجاب الصلات بلا خلاف وكذا لملك مؤثر في إيجاب الصلة حتى وجب الزكاة باعتبار الملك صلة للفقراء واستحقاق العبد على مالكه النفقة صلة للملك ومتى تعلق الحكم بعلة ذات وصفين يضاف إلى أحدهما وجودا لما عرف وهو الملك هاهنا والشراء هو الموجب للملك فكان العتق المضاف إليه مضافا إلى الشراء بواسطته فينقلب الشراء إعتاقا بواسطة الملك وقد اقترنت نية التكفير بالإعتاق فيصح بخلاف المحلوف بعتقه; لأن الملك هناك شرط لا أثر له في استحقاق ذلك العتق فيكون معتقا بيمينه ولم تقترن نية الكفارة بها حتى لو اقترنت جاز أيضا كذا في المبسوط.
قوله: "أما صلاح الوصف فما سبق ذكره" يعني في باب القياس أن الوصف بمجرده غير صالح لإثبات الحكم وليس بحجة بنفسه وإنما يصير حجة بواسطة التأثير فكل وصف لم يظهر تأثيره منعناه من أن يكون دليلا وحجة وهذا كالجرح لما كان سببا لوجوب القصاص بوصف السراية فقبل ثبوت هذا الوصف لا يجب القصاص حتى لو أقيمت بينة على رجل بالجرح دون السراية لم يقض القاضي بالقصاص ما لم يشهدوا أن الجراحة سرت - كذا هنا وهذا هو القسم الثاني. من أقسام الممانعة فإن قال عندي الأثر ليس بشرط بل الطرد عندي حجة بدون التأثير فلا حاجة لي إلى بيان التأثير نقول إنك تحتاج إلى إثبات الحكم على الخصم ولما لم يكن الوصف بدون التأثير حجة عند الخصم لا يصح الاحتجاج به عليه كمثل كافر الكاف زائدة مثلها في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] أي على مثال كافر أقام بينة كفار على مسلم أن عليه كذا لم(4/168)
فلأن نفس الوجود لا يكفي بالإجماع. وذلك مثل قولهم في الأخ إنه لا يعتق على
ـــــــ
تقبل ولم يكن للمدعي أن يقول إنه أثبت حقي بما هو حجة عندي لما قلنا إن الاحتجاج على الخصم بما ليس بحجة عنده غير مقبول. قال الشيخ رحمه الله في شرح تقويم: وهذا; لأن الوصف كلام المتكلم وكلامه لا يصلح لإثبات حكم شرعي إلا إذا كان له أثر في إيجاب الحكم ولا يجوز لأحد أن يدعي أن كلامه موجب للحكم على الغير من غير معنى يعقل فإنه درجة الأنبياء عليهم السلام فتبين بما أشار إليه الشيخ أن المراد من صلاح الوصف هاهنا صلاحه للإلزام على الخصم وذلك بالتأثير والمراد من صلاحه فيما تقدم صلاحه للعمل به وذلك بموافقته العلل المنقولة عن السلف ومناسبته للحكم وأهل الطرد يوافقوننا في اشتراط الصلاح بهذا المعنى دون الأول فكانت هذه الممانعة ممانعة في التأثير في الحقيقة على ما اختاره الشيخ. وقيل: مثال هذه الممانعة قولنا في تعليلهم إثبات ولاية الأب بوصف البكارة باعتبار أنها جاهلة بأمر النكاح لعدم الممارسة لا نسلم أن وصف البكارة صالح لهذا الحكم وهو إثبات ولاية; لأنه لم يظهر له تأثير في موضع آخر سوى محل النزاع.
وإن فسر الصلاح بالمعنى الثاني فمثال الممانعة فيه قولنا في تعليلهم في الأشياء الستة بالطعم والثمنية لإثبات شرط المماثلة والتقابض فيها باعتبار أن كل واحد من الوصفين لشدة الحاجة إليه ينبئ عن الخطر والعزة فيختص جواز البيع في هذه الأشياء بزيادة شرط إظهارا للخطر كالنكاح أنا لا نسلم أن هذا الوصف صالح لما رتب عليه من الحكم; لأن السبيل فيما تشد الحاجة إليه الإطلاق بأبلغ الوجوه دون التضييق بزيادة الشرط. ومثال آخر قولنا في تعليلهم في مسح الرأس بأن هذه طهارة مسح فيسن فيها التثليث كالاستنجاء بالأحجار لا نسلم أن وصف المسح الذي يدل على التخفيف صالح لتعليق حكم التثليث الذي ينبئ عن التغليظ به إليه أشار شمس الأئمة رحمه الله وهذا وإن كان ردا للمختلف إلى المختلف, لكن المقصود إيراد المثال وبيانه لا تصحيح القياس ولو قيل طهارة مسح فيشرع فيه التكرار كالاستنجاء يكون ردا للمختلف إلى المتفق فيصح, ثم ممانعة صلاح الوصف بهذا المعنى وإن كان يئول إلى فساد الوضع في بعض الصور ولهذا أشار الشيخ إلى المعنى الأول دون الثاني إلا أنها غير فساد الوضع; لأن الوصف ربما يكون صالحا في نفسه ولكن لم يتبين للسائل صلاحه فكان له أن يطالب المعلل ببيان الصلاح كما في العلل المؤثرة كان للسائل مطالبة بيان التأثير فإذا بين صلاحه قبله السائل ويجاوز إلى سؤال آخر ولما صحت هذه الممانعة بدون فساد الوضع كانت قسما آخر غير فساد الوضع والله أعلم.(4/169)
أخيه لعدم البعضية; لأن حكم الأصل لم يثبت لعدم البعضية وكذلك لا يثبت النكاح بشهادة النساء مع الرجال; لأنه ليس بمال كالحد; لأن الحد عندنا لا يثبت بها; لأن ذلك ليس بمال وكذلك كل نفي وعدم جعل وصفا لزمه هذا الاعتراض;
ـــــــ
قوله: "وأما نسبة الحكم" أي صحة ممانعة نسبة الحكم إلى الوصف الذي ذكره المعلل فلأن نفس الوجود لا يكفي بالإجماع يعني أن أصحاب الطرد يضيفون الحكم إلى الوصف من غير دليل يوجب إضافته إليه سوى أنه يوجد عند وجوده وينعدم عند عدمه ونفس الوجود عند الوجود غير كاف في صحة إضافة الحكم لجواز أن يكون ذلك بطريق الاتفاق فإن في المنصوص عليه قد يكون أوصاف يوجد الحكم بوجودها ولا تكون مناط الحكم بالإجماع وكذا العدم لا يصلح لإضافة الحكم إليه على ما مر بيانه فلا بد من دليل يوجب نسبة الحكم إلى الوصف فمتى أضافه المعلل إلى وصف من غير دليل صحة ممانعة السائل نسبة الحكم إليه كما صح القول بموجب العلة فإنه في التحقيق منع إضافة الحكم إلى الوصف المذكور وهذه الممانعة مختصة بالأصل فإن قال: لا أعرف في الأصل معنى آخر سوى ما ذكرته قلنا له: هذا جهل منك فلا يصلح حجة على غيرك. على أنا إن سلمنا أنه ليس في الأصل معنى آخر لا نسلم أن الحكم ثابت به لجواز ثبوته بالإجماع أو بالنص وذكر الغزالي رحمه الله في هذا المقام أن المستدل إن كان مجتهدا يجب عليه العمل بما ظهر عنده متى عجز عن إبراز غيره وإن كان مناظرا يكفيه أن يقول هذا منتهى قدرتي في استخراج الوصف فإن شاركتني في الجهل بغير ملزمك ما لزمني وإن طلعت على غيره لزمك التنبيه حتى أنظر فيه فإن قال: لا يلزمني ذلك ولا أظهره وإن كنت أعرفه فهذا عناد محرم وصاحبه إما كاذب أو فاسق بكتمان حكم مست الحاجة إلى إظهاره ومثل هذا الجدل حرام وليس من الدين.
قوله: "وذلك" أي منع مع نسبة الحكم إلى الوصف يتحقق في قولهم في الأخ أنه يعتق على أخيه عند الدخول في ملكه لعدم البعضية كابن العم; لأن حكم الأصل وهو عدم العتق في ابن العم لم يثبت لعدم البعضية; لأن العدم لا يجوز أن يكون موجبا حكما بل لمعنى آخر وهو بعد القرابة وكذلك لا يثبت النكاح أي ومثل قولهم في الأخ كذا قولهم لا يثبت النكاح لم يثبت بها أي بشهادة النساء مع الرجال لا لأنه ليس بمال; لأن كونه ليس بمال لا يصلح علة لامتناع ثبوته بشهادة النساء مع الرجال بل لأن في هذه الشهادة شبهة زائدة والحدود تدرأ بالشبهات فكيف يثبت بما فيه شبهة وكذلك أي ومثل ما ذكرنا من المثالين كل نفي وعدم ترادف أو النفي تعرض لجانب المعلل والعدم تعرض(4/170)
لأن العدم لا يصلح وصفا موجبا ونفس الوجود لا يصلح حجة; لأنهم يسلمون شرط الصلاح فلا بد من إقامة الدلالة على نسبة الحكم إليه. النوع الثالث وهو فساد الوضع وهذا ينقض القاعدة أصلا وهو فوق المناقضة; لأنها خجلة مجلس يحتمل الاحتراز في مجلس آخر. وأما فساد الوضع فيفسد القاعدة أصلا مثاله
ـــــــ
لجانب الوصف مثل قولهم المبتوتة لا يلحقها الطلاق; لأنها ليست بمنكوحة; لأن العدم لا يصلح وصفا موجبا للحكم; لأنه ليس بشيء. ونفس الوجود لا يصلح حجة متعلق بأول الكلام أي نفس وجود الحكم عند وجود الوصف لا يصلح دليلا على كون الوصف حجة بالإجماع; لأنهم يعني أصحاب الطرد يسلمون أن صلاح الوصف شرط ليكون حجة مع أن الوجود يتحقق بدونه فثبت أن نفس الوجود ليس بحجة بالإجماع وأنه لا بد من إقامة دليل على نسبة الحكم إلى الوصف ومثاله تعليق كفارة الصوم بوصف الجماع باعتبار أنها توجد عند وجوده لتعدي الحكم به إلى جماع الميتة والبهيمة أو لتمنع عن تعدية الحكم إلى الأكل والشرب لا يكون حجة; لأنا لا نسلم أن الحكم منسوب إليه بل إلى الفطر الكامل على ما مر بيانه.
قوله: "والنوع الثالث" يعني من أقسام أول الباب هو فساد الوضع وقد مر تفسيره في باب بيان دفع العلل وهذا ينقض القاعدة أصلا أي القاعدة التي بنى عليها المجيب كلامه وهو فوق المناقضة في الدفع; لأن المناقضة خجل مجلس يمكن الاحتراز عنه في مجلس آخر بالتقصي عن عهدة النقض بالجواب أو بزيادة قيد يندفع به النقض فأما فساد الوضع فيفسد القاعدة أصلا. لأن بعد ظهوره لا يمكن الاحتراز عنه في هذا المجلس ولا في مجلس آخر ولا وجه سوى الانتقال إلى علة أخرى والتحقيق فيه أن المناقضة بيان أن المجيب بنى الكلام في محله لكن غير محكم حتى قبل النقض وفساد الوضع بيان أنه وضع الكلام في غير موضعه فكان أقوى في الدفع قال شمس الأئمة رحمه الله فساد الوضع في العلل بمنزلة فساد الأداء في الشهادة وأنه مقدم على النقض; لأن الاطراد إنما يطلب بعد صحة العلة كما أن الشاهد إنما يستقل لتعديله بعد صحة أداء الشهادة منه فأما مع فساد في الأداء فلا يصار إلى التعديل لكونه غير مفيد ورأيت في بعض نسخ أصول الفقه أن حاصل القول في فساد الوضع يحصره نوعان: أحدهما أن يبين المعترض أن القياس موضوع على خلاف ما يقتضيه ترتيب الأدلة. ومثال ذلك أن يقول: إن التعليل على خلاف الكتاب أو على خلاف السنة أو يقول: إنه بالقياس حاول الجمع بين شيئين فرق الشرع بينهما أو حاول التفريق بين شيئين جمع الشرع بينهما وملخص هذا النوع أن يكون القياس يخالف وضعه موجب متمسك في الشرع هو مقدم على القياس فإذا كان كذلك كان القياس فاسد(4/171)
تعليلهم لإيجاب الفرقة بإسلام أحد الزوجين ولا بقاء النكاح مع ارتداد أحدهما أنه في الوضع فاسد; لأن الإسلام لا يصلح قاطعا للحقوق والردة لا يصلح عفوا.
ـــــــ
الوضع مردودا. والثاني أن يكون الوصف مشعرا بخلاف الحكم الذي ربط به وهذا زائد في الفساد على فساد الطرد; لأن الطرد مردود من جهة أنه لا يناسب الحكم ولا يشعر به فالذي لا يشعر به ويخيل خلافه يكون أولى بالرد ومثاله ذكر وصف يشعر بالغليظ في روم تخفيف أو على العكس من ذلك فإذا اعتبر القايس الحد على المهر في طلب الثوب أو المهر على الحد في محاولة السقوط يكون فاسدا في الوضع; لأن العقوبات تدرأ بالشبهات والأموال تثبت مع الشبهات فاعتبار أحدهما بالآخر في الثبوت أو السقوط يكون فاسدا في الوضع ودفع هذا السؤال بإظهار الملاءمة والتأثير في القياس وبيان الجمع بين الفرع والأصل فإن تيسر وإلا صار منقطعا.
مثاله أي مثال فساد الوضع تعليل أصحاب الشافعي لإيجاب الفرقة بإسلام أحد الزوجين أي بسبب إسلام أحدهما أو الباء صلة التعليل أي جعلوا نفس الإسلام علة لإيجاب الفرقة في غير المدخول بها حيث قالوا: إسلام أحدهما يوجب اختلاف الدين فوجب الفرقة من غير توقف على قضاء القاضي وعلى انقضاء العدة في غير المدخول بها كردة أحدهما ولإبقاء النكاح أي وتعليلهم لإبقاء النكاح مع ارتداد أحدهما إلى انقضاء العدة في المدخول بها حيث قالوا: هذه فرقة وجبت بسبب طارئ على النكاح غير مناف إياه فوجب أن يتأجل إلى انقضاء العدة في المدخول بها كالطلاق. فأوجبوا الفرقة بنفس الإسلام في المسألة الأولى وحكموا ببقاء النكاح مع الردة في المسألة الثانية أنه فاسد أي تعليلهم في هاتين المسألتين فاسد في وضعه; لأن الاختلاف حصل في المسألة الأولى بإسلام أحدهما وبقاء الآخر على الكفر وفي المسألة الثانية حصل بردة أحدهما وبقاء الآخر على الإسلام والحكم يضاف إلى الحادث أبدا أو إلى آخر الأوصاف وجودا والحادث في المسألة الأولى هو الإسلام وكذا آخر الوصفين وجودا هو الإسلام لا غير فلو أثبتنا الفرقة لوجبت إضافتها إلى الإسلام الذي حدث الاختلاف به وذلك لا يجوز; لأن الإسلام شرع عاصما للحقوق والأملاك لا قاطعا لها وفي المسألة الثانية الحادث هو الارتداد وهو آخر الوصفين وجودا فوجب إضافة الفرقة إليه. وهو مناف للنكاح; لأنه يبطل عصمة النفس والمال جميعا والنكاح مبني على العصمة وإذا كان كذلك كان التعليل لإبقاء النكاح إلى انقضاء العدة بعد تحقق الارتداد فاسدا في وضعه; لأنه تعليل لإبقاء الشيء مع ما ينافيه وهو المراد من قوله والردة لا يصلح عفوا يعني لو بقينا النكاح مع الردة التي هي منافية له لزم أن يجعل الردة عفوا أي في حكم المعدوم ليمكن الحكم ببقاء النكاح كما جعل الأكل كذلك في مسألة الناسي وهو لا يصلح أن تكون معفوة لكونها في نهاية القبح.(4/172)
ومثله قولهم في الصرورة إذا حج بنية النفل أنه جائز عن الفرض; لأنه يتأدى بإطلاق النية فكذلك نية النفل وهذا فاسد في الوضع; لأن العلماء إنما اختلفوا في حمل المطلق على المقيد واعتباره به وهذا حمل المقيد على المطلق واعتباره به وهو فاسد في وضع الشرع ومثله التعليل بالطعم لتحريم الربا اعتبارا بالنكاح فاسد في الوضع; لأن الطعام يقع به القوام فلا يصلح للتحريم والحرية
ـــــــ
قوله: "ومثله قولهم في الضرورة" الضرورة وهو الذي لم يحج حجة الإسلام إذا حج عن نفل أو نذر أو عن الغير فإنه يقع عما نوى عندنا وعند الشافعي رحمه الله يقع عن الفرض كذا في الأسرار; لأن الحج يتأدى بإطلاق النية فكذا يتأدى بنية النفل; لأن مطلق النية للعبادة التي تتنوع إلى نفل وفرض يكون نية النقل كما في الصلاة والصوم في غير رمضان فإذا استحق المطلق للفرض دل على استحقاق نية النفل للفرض. ألا ترى أن الزكاة لما تأدت بتصدق النصاب على الفقير بمطلق النية تأدت بنية النفل أيضا وهذا فاسد أي اعتبارهم نية النفل بمطلق النية فاسد في الوضع; لأن العلماء إنما اختلفوا في حمل المطلق على المقيد واعتبار المطلق بالمقيد فعند الشافعي يحمل المطلق على المقيد في حادثتين أو في حكمين وعندنا في حادثة واحدة في حكم واحد كما في كفارة اليمين حملنا مطلق الكتاب على المقيد بالتتابع في قراءة ابن مسعود رضي الله عنه واحد لم يقل بأن المقيد يحمل على المطلق; لأن في ذلك إلغاء صفة زائدة منصوصة فكان نسخا وما ذهبوا إليه من هذا القبيل فكان فاسدا في وضعه لمخالفته وضع الشرع يوضح ما ذكرنا أن مطلق النقد ينصرف إلى نقد البلد المعروف لدلالة العرف فأما المقيد بنقد آخر فإنه لا يحمل على المطلق لينصرف إلى نقد البلد. ومثله أي مثل التعليل المتقدم التعليل بالطعم لتحريم الربا فإنهم قالوا: إن الطعم في المطعومات بمعنى له خطر لتعلق بقاء النفس وقوامها به فيوجب ذلك حرمة التصرف في المحل عند المقابلة بجنسه إلا بشرط زائد وهو المساواة في المعيار إظهار الخطر كالنكاح لما تعلق به بقاء الجنس شرط فيه من الشروط ما لم يشترط في غيره من العقود من الشهود والولي وغيرهما إظهار الخطر المحل وهذا فاسد في الوضع; لأن الطعم لما تعلق به قوام النفس كان من أعظم أسباب الحاجة ولمساس الحاجة أثر في الإطلاق والتوسعة دون التحريم والتضييق كما في إباحة الميتة عند الحاجة واعتبر هذا بالهواء والماء والطعام والدواء فإن تيسر الوصول إلى كل واحد من هذه الأشياء بقدر الحاجة إليه ولهذا حل لكل واحد من الغانمين تناول مقدار الحاجة من الطعام الذي يكون في الغنيمة في دار الحرب قبل القسمة فكانت العلة فاسدة وضعا مع أنه لا تأثير لها في إثبات المماثلة بين العوضين التي هي شرط جواز العقد بخلاف النكاح فإنه يرد على(4/173)
عبارة عن الخلوص فصلح للتحريم إلا بعارض. ومثله قولهم في الجنون لما نافى تكليف الأداء نافى تكليف القضاء وهو فاسد; لأن الوجوب في كل الشرائع بطريق الجبر والأداء بطريق الاختيار كما قيل في النائم والمغمى عليه والقضاء الذي هو بدل يعتمد انعقاد السبب للأداء على الاحتمال فصار هذا التعليل مخالفا
ـــــــ
الحرة والحرية تنبئ عن الخلوص يقال: طين حر أي خالص وفي التنزيل: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} [آل عمران: 35] أي مخلصا من أعمال الدنيا والخلوص يمنع ورود الملك عليها فيصلح أن يكون الأصل فيه التحريم فيثبت الحل بعارض الحاجة إلى بقاء الجنس وما ثبت بالعارض يجوز أن يتوقف على أشياء لما فيه من مخالفة الأصل والطعم بالفتح والضم مصدر طعم الشيء أكله. وذاته إلا أن الجاري على ألسنتهم في علة الربا الفتح ومرادهم كون الشيء مطعوما أو مما يطعم كذا في المغرب.
قوله: "ومثله قولهم في الجنون" الجنون ينافي وجوب الأداء بالاتفاق قل أو كثر حتى لا يأثم بترك الأداء في حالة الجنون وينافي وجوب القضاء أيضا بالاتفاق إذا كثر بأن زاد على يوم وليلة في حق الصلاة أو استغرق الشهر في حق الصوم وإن كان أقل من يوم وليلة في الصلاة أو ما دون الشهر في الصوم يلزمه القضاء عندنا إذا أفاق وعند الشافعي رحمه الله لا يلزمه; لأن الجنون ينافي تكليف الأداء; لأنه يثبت بالخطاب ساقط عن المجنون أصلا فينافي وجوب القضاء أيضا; لأنه يبتني على وجوب الأداء وهو أي اعتبارهم انتفاء القضاء بانتفاء الأداء فاسد في الوضع; لأن الوجوب أي نفس الوجوب في كل الشرائع أي المشروعات ثابت بطريق الخبر من غير توقف على قدرة العبد واختياره والأداء بطريق الاختيار يعني وجوب الأداء إنما يثبت في حال يمكن للعبد اختيار الفعل وتركه وهي حالة القدرة فإن وجوب الأداء وإن كان بطريق الخبر أيضا, لكنه متوقف على القدرة بخلاف نفس الوجوب كما قيل في النائم والمغمى عليه فإن أصل الوجوب ثابت في حقهما وإن كان وجوب الأداء متراخيا عنهما إلى حالتي الانتباه والإفاقة. والقضاء الذي هو بدل الأداء يعتمد انعقاد السبب للأداء على الاحتمال أي على احتمال الأداء يعني ليس من شرط وجوب القضاء أن يثبت وجود الأداء حقيقة, ثم يترتب عليه القضاء عند فواته بل الشرط فيه أن ينعقد السبب موجبا للأداء على وجه يحتمل أن يفضي إلى الأداء كما في قوله والله لأمسن السماء تنعقد موجبة للبر بطريق الاحتمال فيكفي ذلك وجوب الخلف وهو الكفارة وإن لم يكن الأصل ثابتا بطريق الحقيقة وفيما نحن فيه أصل الوجوب ثابت; لأنه يعتمد تحقق السبب وقيام الأهلية وبالجنون لا تزول الأهلية; لأن أهلية العبادة تبتني على كونه أهلا لثوابها وأهلية الثواب بكونه مؤمنا وبالجنون لا يبطل الإيمان ولهذا يرث قريبه(4/174)
للأصول وكذلك قولهم ما يمنع القضاء إذا استغرق شهر رمضان يمنع بقدر ما يوجد هذا فاسد أيضا في الوضع; لأن الفصل بين اليسر والحرج في حقوق صاحب الشرع مستمر في أصول الشرع كالحيض أسقط الصلاة دون الصوم والسفر أثر في الظهر دون الفجر وكالحيض إذا تخلل في كفارة القتل لا يوجب
ـــــــ
المسلم ولا يفرق بين المجنونة وزوجها المسلم ولا يبطل صومه به حتى لو جن بعد الشروع في الصوم بقي صائما فثبت أن الوجوب ثابت في حق المجنون وإن كان الخطاب بالأداء ساقطا عنه لعجزه عن فهم الخطاب كما في حق النائم والمغمى عليه واحتمال الأداء قائم في حقه أيضا بزوال الجنون ساعة فساعة كما في النوم والإغماء فيكفي ذلك وجوب القضاء فعلم أنه لا يلزم من منافاة الجنون وجوب الأداء منافاته وجوب القضاء عند الإفاقة فصار هذا التعليل مخالفا للأصول وهي أن الوجوب بطريق الخبر أصل وأن الجنون لا ينافي أصل الوجوب وأن القضاء يعتمد انعقاد السبب للوجوب على احتمال الأداء لا حقيقة وجوب الأداء فكان فاسدا في الوضع.
وأشار القاضي الإمام رحمه الله إلى أن أثر الجنون في تأخير لزوم الفعل حتى لا يأثم دون أصل الإيجاب كالنوم فجعل ما يسقط الخطاب بالفعل علة لإسقاط أصل الإيجاب حكم بخلاف النص والإجماع فيكون فاسدا وأراد بالنص قوله عليه السلام: "من نام عن صلاة أو نسيها" الحديث وبالإجماع اتفاق العلماء على وجوب القضاء على النائم كما هو موجب الحديث.
قوله: "وكذلك" أي ومثل قولهم المذكور في هذه المسألة قولهم فيها أيضا ما يمنع القضاء إلى آخره يعني لو عللوا في هذه المسألة. بأن ما يمنع القضاء إذا استغرق شهر رمضان منعه بقدر ما يوجد كما في الصباء والكفر لشمول العلة وهي عدم العقل والفهم كان فاسدا في الوضع أيضا مثل التعليل الأول; لأن الفصل بين اليسر والحرج أي بين ما تيسر أداؤه من حقوق صاحب الشرع وبين ما يؤدي إلى الحرج أصل مستمر أي جار مطرد في قواعد الشرع حتى سقط ما أدى إلى الحرج ولم يسقط ما لم يؤد إليه كالحيض أسقط الصلاة دون الصوم; لأنها تبتلى بالحيض في كل شهر في الغالب والصلاة تلزم في كل يوم وليلة خمس مرات فلو أوجبنا القضاء لأدى إلى الحرج بتضاعف الواجب عليها في زمان الطهر ولم يسقط بالحيض قضاء الصوم; لأن فرضية الصوم في السنة في شهر واحد وأكثر الحيض في ذلك الشهر عشرة أيام فإيجاب قضاء عشرة أيام أو دونها في أحد عشر شهرا لا يكون فيه كثير حرج ولا يؤدي إلى تضاعف الواجب في وقته والسفر أثر في الظهر دون الفجر; لأن في أداء الأربع حالة السير من حرج الانقطاع عن الرفقة ما ليس في أداء الركعتين.(4/175)
الاستقبال بخلاف كفارة اليمين عندنا وبخلاف ما إذا نذرت أن تصوم عشرة أيام متتابعة. لما ذكرنا فكذلك ها هنا في الاستغراق حرج وليس في القليل حرج مثله ولا كلام في الحدود الفاصلة ولا حرج في استغراق الإغماء; لأنه قلما يمتد شهرا وفي الصلوات استوى الإغماء والجنون في الفتوى وإن اختلفا في الأصل فكان
ـــــــ
وكالحيض أداء يملك في صوم كفارة القتل الواجب بصفة التتابع لم يوجب الاستقبال; لأنها لا تجد شهرين خاليين عن الحيض في العادة الغالبة فلو ألزمناها الاستقبال رعاية للتتابع لوقعت في الحرج بخلاف كفارات اليمين عندنا وبخلاف ما إذا أنذرت أن تصوم عشرة أيام متتابعة; لأنها تجد ثلاثة أيام أو عشرة أيام خالية عن الحيض فلا تخرج في الاستقبال وإنما قال عندنا; لأن التتابع في كفارة اليمين ليس بشرط عند الشافعي رحمه الله ولهذا ضم إليها مسألة البذر بعشرة أيام متتابعة; لأنها متفق عليها.
قوله: "لما ذكرنا" دليل المجموع أي هذه الأحكام ثابتة لما ذكرنا أن الفصل بين اليسر والحرج ثابت فكذلك هاهنا في الاستغراق حرج أي في إيجاب القضاء فيما إذا استغرق الجنون الشهر حرج بتضاعف العبادة المشروعة في وقتها فإن وظيفة السنة صوم شهر واحد فلو أوجبنا عليه القضاء صار فرض السنة شهرين ولا شك أن في التضاعف حرجا فيسقط بعذر الحرج.
وليس في القضاء أي في إيجاب القضاء في الجنون القليل وهو ما إذا لم يكن مستوعبا حرج مثل الحرج الثابت في الاستغراق فلم يسقط فثبت أن سقوط القضاء في الكثير للحرج لا للجنون فلا يدل على سقوطه فيما ليس فيه حرج. ولا كلام في الحدود الفاصلة يعني لا نزاع في أن الفصل بين اليسر والحرج ثابت على حدود اعتبرها الشرع إنما النزاع في أن القليل من الجنون ليس مثل الكثير في سقوط القضاء; لأن الكثير مستلزم للحرج دون القليل فكان اعتبار أحدهما بالآخر فاسدا في الوضع. وقوله ولا حرج في استغراق الإغماء جواب عما يقال سقوط القضاء المستغرق للحرج غير مسلم إذ لو كان للحرج لسقط في استغراق الإغماء أيضا لاستلزامه تضاعف الواجب كالجنون وحيث لم يسقط فيه دل على أن السقوط للجنون لا للحرج فيلزم منه السقوط في القليل أيضا فقال: لا نسلم أن استغراق الإغماء للشهر موجب للحرج; لأن الحرج إنما يتحقق فيما هو غالب الوجود وامتداد الإغماء شهرا قلما يقع إذ الإنسان لا يعيش في الغالب شهرا مغمى عليه بدون أكل وشرب ولو وقع كان في غاية الندرة فيلحق بالعدم بخلاف الجنون; لأنه قد يمتد شهرا أو سنة وسنين وإلى آخر العمر فيصلح عذرا مسقطا وفي الصلوات استوى الإغماء والجنون في الفتوى أي في الحكم حتى كان الإغماء الزائد على يوم وليلة مسقطا. لقضائها(4/176)
القياس في الإغماء أن لا يسقط واستحسنا في الكثير وكان القياس في الجنون أن يسقط واستحسنا في القليل لأنهما سواء في الطول والامتداد الداعي إلى الحرج والصبا ممتد أيضا وبخلاف الكفر; لأنه ينافي الأهلية وينافي استحقاق ثواب الآخرة بخلاف الجنون وكذلك التعليل لتعيين النقود اعتبارا بالسلع ولفسخ
ـــــــ
كالجنون الزائد على يوم وليلة; لأن الإغماء يوجد غالبا في هذا المقدار من الزمان كالجنون وإن اختلفا في الأصل فإن الجنون مما يمتد غالبا كالصبي والإغماء مما لا يمتد, ولكنهما مستويان في حق الصلاة في غلبة الوجود أو معناه أنهما مستويان في حكم الصلاة وإن اختلفا في ذاتيهما فإن بالجنون يزول العقل وبالإغماء لا يزول بل هو فترة ومرض يعتري الإنسان ويمنعه عن استعمال القدرة ولهذا ابتلي الأنبياء عليهم السلام بالإغماء دون الجنون. فكان القياس في الإغماء في الصلاة أن لا يسقط وإن كثر لوجود أصل العقل فيه كما في النوم واستحسنا في الكثير وهو يوم وليلة فجعلناه مسقطا للحرج وكان القياس في الجنون أن يسقط الواجب قل الجنون أو كثر لزوال العقل فيه واستحسنا في القليل فلم نجعله مسقطا لعدم الحرج وألحقناه بالعدم فحصل من هذا استواء الإغماء والجنون في حق الصلاة حتى كان قليل الجنون فيها كقليل الإغماء وكثير الإغماء فيها ككثير الجنون وقوله; لأنهما سواء متعلق بقوله استوى الإغماء والجنون في الفتوى أي هما مستويان في الامتداد في الصلاة بخلاف الصوم; لأن الجنون فيه ممتد دون الإغماء وقوله والصبا ممتد أيضا إلى آخره جواب عن اعتبارهم الجنون بالصبا والكفر حيث قالوا: الصبي إذا بلغ في خلال الشهر أو أسلم الكافر لم يلزمهما قضاء ما مضى فكذا المجنون إذا أفاق فقال الصبي ليس بمتنوع إلى ممتد وغير ممتد بل هو ممتد في نفسه كالجنون في حق الصوم والصلاة والإغماء في حق الصلاة وإليه أشار بقوله أيضا فلا يمكن إلحاقه بالعدم بوجه ويتحقق فيه معنى الحرج في إيجاب القضاء فكان استغراقه للشهر وعدم استغراقه بمنزلة وبخلاف الكفر عطف على قوله والصبا ممتد من حيث المعنى إذ معناه بخلاف الصبي فإنه ممتد ليس إلا وبخلاف الكفر حيث لا يجب فيه القضاء وإن كان قليلا; لأنه ينافي الأهلية لما بينا أن أهلية العبادة بأهلية ثوابها والكفر ينافي استحقاق ثواب الآخرة فينتفي عنه أصل الوجوب لعدم الأهلية فلا يمكن إيجاب القضاء عليه بخلاف الجنون; لأنه لا ينافي أهلية العبادة لعدم منافاته استحقاق الثواب ولهذا بقيت عباداته التي أداها في حال الإفاقة ولا يجب عليه إعادة حجة الإسلام بعد الإفاقة.
قوله: "وكذلك" أي وكالتعليل في المسألة المتقدمة التعليل لكذا ولكذا. جمع الشيخ رحمه الله بين المسألتين لابتنائهما على أصل واحد وهو التفرقة بين الثمن والمبيع(4/177)
البيع بإفلاس المشتري اعتبارا بالعجز عن تسليم المبيع فاسدا في الوضع. لما عرف من التفرقة بين المبيع والثمن في أصل وضع الشرع والبياعات تخالف التبرعات في أصل الوضع هذه للإيثار بالأعيان وهذه لالتزام الديون قال الله عز وجل
ـــــــ
كما أشار إليه ونحن نبين كل مسألة على حدة. أما بيان الأولى فهو أن الدراهم والدنانير تتعينان في عقود المعاوضات بالتعيين عند الشافعي رحمه الله; لأن هذا تعيين مقيد صدر من أهله مضافا إلى محله فيصح كما في المكيل والموزون وسائر السلع وكما في عقد الوصية والهبة والشركة والوكالة والمضاربة أما الأهلية فظاهرة ولهذا لو عين عرضا يتعين. وأما المحلية فلأنها أعيان موجودة بذواتها قابلة للتعيين حتى تعينت في العقود التي ذكرناها وهو مفيد; لأنه يتعين الملك في العين وملك العين أكمل من ملك الدين ونحن نقول هذا التعليل فاسد في الوضع; لأنه اعتبار الثمن بالثمن وتسوية بينهما في الحكم والشرع فرق بينهما فجعل حكم العقد في جانب المبيع ثبوت الملك واستحقاق اليد لا غير وهذا بلا خلاف فكان وجوده شرطا لجواز العقد إلا في موضع سقط ضرورة وهو المسلم فيه بحكم النص وجعل حكم العقد في جانب الثمن وجوده ووجوبه فإنه إذا اشترى شيئا يجب الثمن في الذمة وذلك لم يكن موجودا قبل العقد وإنما صار موجودا بالعقد ومملوكا به وهذا حكم أصلي في جانب الثمن لا يتغير إلا لضرورة كما في السلم بدليل جواز الشراء بدراهم في الذمة مع القدرة على التعين وبدليل جواز الاستبدال فيه قبل القبض كما في سائر الديون ولو كان الحكم الأصلي في جانب الثمن ثبوت الملك في موجود وكان ثبوته دينا بطريق الضرورة لبقي ملحقا بالأعيان فيما وراء تلك الضرورة وهو حكم الاستبدال كما في السلم ولما ثبتت التفرقة بينهما في وضع الشرع كان التعليل للتسوية بينهما في الحكم فاسدا في الوضع; لأن فيه تغيير حكم الشرع بجعل ما هو حكم العقد وهو صيرورة الثمن موجودا به شرط له. وهو معنى قوله لما عرف أي في هذا الكتاب في باب شروط القياس أو في موضع آخر من التفرقة بين المبيع والثمن هذا إذا اعتبروا النقود بالسلع فإن اعتبروها بالتبرعات مشروعة للإيثار بالعين لا لإيجاب شيء منها في الذمة فلا يكون التعيين فيها تغييرا لحكم العقد والمعاوضات لإيجاب بدل بها في الذمة ابتداء; لأن المتعارف بين الناس في المعاوضات عقدها بلا إشارة إلى الأثمان بل تسمية مطلقة وأنها توجب في الذمة ابتداء فكان اعتبار ما هو مشروع لنقل الملك واليد في العين من شخص إلى شخص في صحة التعيين فاسدا وضعا لعدم مصادفة التعيين محله وما كان تعيين النقد في المعاوضة إلا نظير الإيجاب في الذمة ابتداء بعقد الهبة فكما أن ذلك ينافي صحة العقد; لأن موجبه نقل الملك واليد في العين فبدون موجبه لا يكون صحيحا(4/178)
.............................................................................................
كذا التعيين هاهنا ينافي صحة العقد; لأنه يفوت به ما هو موجب هذا العقد في الثمن وهو الإلزام في الذمة ابتداء وأما بيان المسألة الثانية فهو أن المشتري إذا أفلس قبل نقد الثمن لم يثبت للبائع حق بقبض البيع واسترداد السلعة عندنا وعندنا الشافعي رحمه الله عليه يثبت له ذلك; لأن الثمن أحد عوضي العقد فالعجز عن تسليمه يوجب حق الفسخ للبائع دفعا للضرر عن نفسه كالعوض الآخر وهو المبيع إذا كان عينا فعجز البائع عن تسليمه بالإباق ونحوه أو كان دينا كالسلم فعجز المسلم إليه عن تسليمه بانقطاعه عن أيدي الناس. ونحن نقول هذا التعليل فاسد وضعا; لأن القدرة على تسليم المبيع شرط لجواز البيع; لأن موجب العقد في المبيع استحقاق ملك العين واليد على البائع ولا يتحقق ذلك إذا لم يكن ذلك ثابتا له عند العقد وكذا في المبيع الدين بشرط القدرة على التسليم حكما باشتراط الأجل الذي هو مؤثر في قدرته على التسليم باكتسابه أو إدراك غلاته وباشتراط عدم انقطاعه عن أيدي الناس أما القدرة على تسليم الثمن فليس بشرط لما قلنا: إن الثمن يصير موجودا بالعقد فلا يقدر على تسليمه قبل العقد; لأن المعدوم لا يتصور تسليمه. ولا يجوز أن يجعل القدرة على الثمن بعد العقد شرطا لجواز العقد; لأن الشرط أبدا يكون سابقا على الأصل كالطهارة للصلاة ولأن الثمن وصف والأوصاف لا تقبل التسليم فتبين بهذا أن بالعجز عن تسليم المبيع يتمكن خلل فيما هو موجب العقد فيه وبسبب العجز عن تسليم الثمن لا يتمكن خلل فيما هو موجب العقد فيه ولهذا جاز إسقاط حق قبض الثمن قبل القبض بالإبراء ولم يجز ذلك في المبيع المعين قبل القبض حتى إذا وهبه من البائع وقبله كان فسخا للبيع بينهما فإثبات حق الفسخ من غير تمكن خلل في موجب العقد اعتبارا بثبوته عند تمكن الخلل في موجب العقد يكون فاسدا ولا يلزم عليه تمكن المولى من الفسخ عند عجز المكاتب عن أداء البدل مع أن ذلك عجز عن أداء ثمنه; لأن موجب عقد الكتابة لزوم البدل على أن يصير ملكا للمولى بعد حلول الأجل بالأداء فإن المولى لا يستوجب على عبده دينا ولهذا لا تجب الزكاة في بدل الكتابة ولا تصح الكفالة به فعرفنا أن الملك هناك لا يسبق الأداء فإذا عجز عن الأداء فقد تمكن الخلل في الملك الذي هو موجب العقد فيه. فأما موجب العقد فيما نحن فيه فملك الثمن دينا في الذمة ابتداء. وذلك قد تم بنفس العقد وبسبب الإفلاس لا يتمكن الخلل فيما هو موجب العقد فلا يثبت للمشتري به حق الفسخ كذا ذكر شمس الأئمة رحمه الله فثبت بما ذكرنا أن قوله لما عرف من التفرقة بين المبيع والثمن في الأصل وضع الشرع متعلق بالمسألتين وأن قوله والبياعات إلى آخره متعلق بالمسألة الأولى ووجه إيراد الآية أن الله(4/179)
{إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة: 282] أي تبايعتم بنسيئة. فيطلب وجوه المقاييس في ذلك جملة على ما عرف شرحه في موضعه.
وأما النوع الرابع وهو المناقضة فيلجئ إلى القول بالأثر أيضا مثل قول
ـــــــ
تعالى سمى التبايع مداينة فلا بد من أن يكون فيه معنى الدينية ليصح تسميته بها وليس معنى الدينية في جانب المبيع إذ الشرط فيه أن يكون عينا فثبت أنه في جانب الثمن فكان في الآية إشارة إلى أن الأصل في الثمن الدينية وأن المبايعة لالتزام الدين في الذمة والمراد بالآية هو بيع العين بالدين في أكثر الأقاويل والله أعلم فيطلب وجوه المقاييس في ذلك أي فيما ذكرنا من تعيين النقود فإنهم اعتبروا النقود بالسلع في البيع وبالتبرعات وبالغصب والقياس على الكل فاسد الوضع أو أريد بوجوه المقاييس القياس الظاهر والاستحسان والقياس الطردي فإنه لما كان فاسدا في وضعه لا يتأتى فيه هذه الأقيسة; لأنها تفتقر إلى صلاح الوصف ومع فساد الوصف لا يكون الوصف صالحا كذا في بعض الشروح والأظهر أنه أراد به أنواع المقاييس فيما ذكر من أمثلة فساد الوضع جملة كما صرح القاضي الإمام رحمه الله به في التقويم فقال هذه الجملة أحسن عللهم وأظهرها للقلوب صحة وأبينها فقها فيعرف بهذه الجملة أن أكثر عللهم لا يخلو عن فساد الوضع وتبين بهذا أنه لا بد من القول بالتأثير الذي كان عليه السلف بلا خلاف وهكذا ذكر شمس الأئمة أيضا. والمقاييس جمع مقياس وهو من أوزان الآلة فكان المعنى أن المعاني التي هي آلات الأقيسة في هذه المسائل باطلة أو المراد بالمقاييس نفس الأقيسة والضمير في شرحه راجع إلى البطلان الذي دل عليه فبطلت وفي موضعه إلى الشرع وموضع الشرح الكتب الطوال مثل المبسوط والأسرار وغيرهما.
قوله: "وأما النوع الرابع" من أقسام أول الباب وهو المناقضة وقد مر تفسيرها فيلجئ أصحاب الطرد إلى القول بالأثر أيضا مثل الأقسام المتقدمة; لأن الطرد الذي تمسك به المجيب لما انتقض بما أورده السائل من النقض لا يجد المجيب بدا من المخلص عنه ببيان الفرق وعدم وروده بقضاء ولا يتحقق ذلك إلا بالعدول عن ظاهر الطرد إلى بيان المعنى. وهذا إن لم يجعل ذلك انقطاعا لو سامحه السائل ولم يناقشه في الشروع في بيان الفرق والتأثير فأما إذا جعل انقطاعا كما هو مذهب البعض ولم يسامحه السائل في ذلك بأن يقول: احتججت علي باطراد هذا الوصف وقد انتقض ذلك بما أوردته فلم يبق حجة فلا ينفعه بيان التأثير والشروع في الفرق في هذا المجلس; لأن ذلك انتفال عن حجة وهي الطرد إلى حجة أخرى وهي التأثير لإثبات المطلوب الأول فلا يسمع منه فيضطر إلى التمسك بالتأثير والرجوع عن الطرد فيما بعد من المجالس مثل قول الشافعي في اشتراط النية في(4/180)
الشافعي رحمه الله في الوضوء والتيمم أنهما طهارتان فكيف افترقتا; لأنه إن قال وجب أن يستويا كان باطلا بلا شبهة; لأنهما قد افترقا في عدد الأعضاء. وفي قدر الوظيفة وفي نفس الفعل وإن قال: وجب أن يستويا في النية انتقض ذلك بغسل الثوب وغسل البدن عن النجاسة فيضطر إلى بيان فقه المسألة وهو أن
ـــــــ
الوضوء أنهما طهارتا صلاة فكيف افترقتا. هو استفهام بمعنى الإنكار أي فلا تفترقان وهذه نكتة منقولة عن الشافعي رحمه الله; لأنه إن قال: وجب أن يستويا يعني أنه أنكر التفرقة بينهما على الإطلاق ولم يبين الحكم فإن فسر ذلك بأن قال: وجب أن يستويا على الإطلاق كان باطلا بلا شبهة; لأن التيمم والوضوء قد افترقا في عدد الأعضاء فإن أحدهما يؤدى في الأعضاء الأربعة والأخرى يؤدى في عضوين. وفي قدر الوظيفة حتى سن التكرار إلى الثلاث في الوضوء وكره ذلك في التيمم بالإجماع أو المراد أن وظيفة الوضوء الاستيعاب بالماء والاستيعاب بالتراب ليس بشرط في التيمم بالإجماع إنما الخلاف في الاستيعاب بمسح ففي رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله لا يشترط أيضا بل مسح الأكثر كاف وفي ظاهر الرواية يشترط أو هو من قبيل الإلزام على مذهب الخصم فإن عند الشافعي رحمه الله التيمم إلى الرسغ في قوله التقويم كذا في الأسرار وهو مذهب الأوزاعي وأبي بكر الأعمش1 وفي نفس الفعل يعني الفعل واجب في أحدهما مسح وهو الإصابة وفي الآخر غسل وهو الإسالة وهما مفترقان أو معناه أن الفعل في أحدهما تلويث حقيقة وفي الآخر تطهير وتنظيف حقيقة وحكما أو المراد أن نفس الفعل في التيمم شرط دون الوضوء حتى لو قام في مهب الريح أو موضع هدم حائط فأصاب الغبار وجهه وذراعيه أو ذر رجل على وجهه وذراعيه ترابا لم يجزه عن التيمم حتى يمسح وينوي التيمم ولو وقع في ماء وأصابه مطر وسال على أعضاء وضوئه يصير متوضئا من غير فعل. وإن قال: وجب أن يستويا في النية أي قيد الاستواء بالنية وهو الغرض من هذا التعليل انتفض ذلك بغسل الثوب أو البدن عن النجاسة الحقيقية فإنه طهارة ولا يشترط فيه النية فيضطر المجيب عند ذلك إلى بيان التأثير الذي يندفع به النقض ويقع به الفرق وهو أن الوضوء تطهير حكمي أي تعبدي غير معقول المعنى; لأنه لا يعقل في العين أي محل وجوب الغسل نجاسة تزول بهذه الطهارة; لأنه طاهر حقيقة وحكما بدليل أنه لو صلى وهو حامل محدث جازت صلاته والمحل الذي قام به النجاسة وهو المخرج لم يجب غسله فإذا ثبت أنه تعبدي كان مثل التيمم إلا أن معنى التعبد في التيمم في الآلة وفي الوضوء في المحل فيشترط فيه النية كما في التيمم
ـــــــ
1 هو أبو بكر محمد بن سعيد الأعمش المتوفي سنة 340 انظر الفوائد البهية ص 160.(4/181)
الوضوء تطهير حكمي; لأنه لا يعقل بالعين نجاسة فكان كالتيمم في شرط النية لتحقيق التعبد بخلاف غسل النجس ونحن نقول: إن الماء في هذا الباب عامل بطبعه وكان القياس غسل كل البدن; لأن مخرج النجاسة غير موصوف بالحدث وإنما البدن موصوف فوجب غسل كله. إلا أن الشرع اقتصر على أطراف البدن الأربعة التي هي مثل حدود البدن وأمهاته في هذا المعنى تيسيرا فيما يكثر
ـــــــ
تحقيقا لمعنى التعبد إذ العبادة لا تتأدى بدون النية. بخلاف غسل النجس; لأنه معقول المعنى إذ المقصود فيه إزالة عين النجاسة عن المحل لا معنى التعبد فلا يتوقف على النية. وذكر القاضي الإمام أبو زيد رحمه الله أن التيمم بدل فلو لم يكن النية شرطا في الأصل لما كانت شرطا في البدل; لأن النية لتحصيل معنى العبادة ومتى لم يكن معنى العبادة ثابتا في الأصل لا يثبت في البدل كما في إبدال الغصوب وعكسه إبدال الكفارات.
ونحن نقول: إن الماء في هذا الباب أي في الغسل عامل أي في التطهير بطبعه كما أنه مزيل ومر بطبعه; لأنه خلق طهورا في الأصل قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} [الفرقان: 48] والطهور هو الطاهر بنفسه المطهر لغيره كذا فسره ثعلب من أئمة اللغة أو هو مبالغة في صفة الطهارة وذلك بأن يكون مؤثرا في غيره وإذا كان كذلك يعمل في التطهير من غير قصد كما يعمل في الرأي من غير قصد وكما تعمل النار في الإحراق من غير قصد, ثم أشار إلى الجواب عن قوله هو تطهير حكمي; لأنه لا يعقل بالغين نجاسة فقال وكان القياس غسل كل البدن اعتبارا بما لو تنجس بدنه حقيقة وذلك; لأن بخروج النجاسة يثبت صفة الحدث بلا شبهة ومعلوم أن مخرج النجاسة غير موصوف بالحدث وحده فإنه لا يقال دبر محدث ولا فرج حائض وإنما البدن كله موصوف به أي بالحدث شرعا وعرفا وحقيقة. أما شرعا فلأنه يمنعه من أداء الصلاة وإن غسل المخرج وأما عرفا فلأنه يقال: رجل محدث وامرأة حائض كما يقال: رجل عالم ومؤمن وإن كان العلم والإيمان قائمين بالقلب وأما حقيقة فلأن نفيه لا يصح لا يقال إنه ليس بمحدث وإنه ليس بعالم وإنما المحدث فرجه والعالم قلبه بل يكذب نافيه كذا قيل فثبت أن البدن كله موصوف بالحدث دون موضع الخروج ألا ترى أن غسله ليس بشرط ولو كان هو الموصوف بالحدث لكان هو أولى بوجوب الغسل. وإذا ثبت ذلك ينبغي أن يجب غسل كل البدن.
إلا أن الشرع اقتصر إلى آخره يعني, لكن الشرع اقتصر على بعض الأعضاء تيسيرا ودفعا للحرج في الحدث الذي يكثر وقوعه وعين هذه الأعضاء; لأنها حدود البدن فإن(4/182)
وقوعه ويعتاد تكراره وأقر على القياس فيما لا حرج فيه وهو المني ودم الحيض والنفاس فلم يكن التعدي عن موضع الحدث إلا قياسا وإنما نعني بالنص الذي لا يعقل وصف محل الغسل من الطهارة إلى الخبث فأما الماء فعامل بطبعه والنية للفعل القائم بالماء لا للوصف بالمحل فكان مثل غسل النجس بخلاف التراب;
ـــــــ
بالرأس والرجل ينتهي طرفا الطول وباليدين ينتهي طرفا العرض وهي أمهات البدن أي أصول في معنى الغسل; لأنها مواقع النظر إليها ومحال إصابة الغبار وغيره لظهورها وكذا إقامة الغسل فيها أيسر من إقامته في غيرها فكانت أولى بالتنظيف والتطهير فلم يكن التعدي أي تعدي وجوب الغسل عن موضع الحدث وهو المخرج إلى الأعضاء الأربعة بل إلى جميع البدن إلا موافقا للقياس لاتصاف جميع البدن بالحدث على سبيل الحقيقة كما بينا إلا أن الاقتصار على الأعضاء الأربعة مع المقتضي لغسل جميع البدن بخلاف القياس وذلك لا يجعل الغسل في هذه الأعضاء بخلاف القياس بل عدم غسل غيرها بخلاف القياس وإنما يعني بالنص الذي لا يعقل كذا يعني إنما المراد من قولنا النص الموجب للوضوء وهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] الآية غير معقول المعنى أن الثابت به وهو وصف محل الغسل بالخبث غير معقول. وفي بعض النسخ وإنما تغير بالنص الذي لا يعقل يعني الثابت بهذا النص تغير وصف محل الغسل من الطهارة إلى الخبث غير معقول المعنى; لأن حكم الحدث وإن ثبت في أعضاء الوضوء عرفا وشرعا, لكنه غير ثابت حسا وإنما يثبت ضرورة الأمر بالتطهير إذ لا بد له من ثبوت خبث في المحل ليكون الغسل فيه إزالة الخبث فكان إثباته في المحل أمرا حكميا غير معقول لطهارة الأعضاء حقيقة وشرعا فإن المحدث لو غمس يده في الماء القليل لا يتنجس. وهذه النسخة أصح فإن الشيخ قد ذكر في شرح التقويم أن الثابت بالنص تغير محل الطهارة من صفة إلى صفة حتى أعطى له حكم النجاسة نصا غير معقول فلم يكن تغييرا لصفة المطهر وهو الماء فبقي الماء مطهرا بطبعه معقولا على ما كان وإنما ذكر الشيخ قوله وإنما تغير بالنص كذا دفعا لسؤال يرد عليه وهو أن تطهير هذه الأعضاء لما كان معقول المعنى ينبغي أن يثبت بسائر المائعات الطاهرة على أصلكم كإزالة النجاسة الحقيقية فقال: النجاسة في الأعضاء ثبت بالنص غير معقول المعنى والشرع أثبت النجاسة في حق الماء فبقيت النجاسة عدما في حق سائر المائعات فأما الماء فعامل بطبعه أي مطهر ومزيل للخبث بطبعه لا يتوقف عمله على قصد وإرادة. والنية للفعل القائم بالماء وهو التطهير يعني لو شرطت النية إنما تشترط ليصير الماء مطهرا إلا لأن يثبت خبث في المحل فإنه ثابت في المحل قبل النية ولهذا كان الشرط عند الخصم نية رفع الحدث لا إثباته وقد بينا(4/183)
لأنه لم يعقل مطهرا وإنما صار عند إرادة الصلاة وبعد صحة الإرادة وصيرورته مطهرا يستغني عن النية أيضا. ومسح الرأس ملحق بالغسل لقيامه مقامه وانتقاله إليه بضرب من الحرج فثبت أن النية لا يشترط. ولا يجوز أن يشترط لتصير قربة; لأنا نسلم أن النية لتصير قربة شرط لكنا لا نسلم أنه لم يشرع إلا قربة بل شرع بوصف القربة وبوصف التطهير أيضا كغسل الثوب والصلاة
ـــــــ
أن الفعل القائم بالماء غير متوقف على النية بل هو عامل بطبعه سواء كان الخبث في المحل معقولا أو غير معقول فكان أي غسل هذا المحل الذي ثبت فيه الحدث غير معقول المعنى مثل غسل النجس في عدم افتقاره إلى النية. بخلاف التراب فإنه ملوث بطبعه فكان إثبات التطهير به غير معقول المعنى فيحتاج فيه إلى النية ليظهر فعله على خلاف طبعه ويصير مطهرا أو بعدما صار مطهرا بالنية وصار بمنزلة الماء استغنى عن النية كما استغنى الماء عنها وتحصل الطهارة باستعماله بغير نية كما في استعمال الماء فثبت أنها بمنزلة واحدة إنما المفارقة في صفة الطهورية للآلة وأنه لا متمسك للخصم في مسألة التيمم بل هو دليل لنا.
قوله: "ومسح الرأس ملحق بالغسل" جواب عما يقال إن المسح شرع في الوضوء مطهرا أو هو غير معقول المعنى في التطهير; لأن أثره في تكثير النجاسة لا في إزالتها فكان مثل التراب في أنه ملوث لا مطهر فينبغي أن يشرط فيه النية كما في التيمم فقال: هو ملحق بالغسل لقيامه مقام الغسل في ذلك المحل فإن الأصل فيه الغسل لسراية الحدث إليه كسرايته إلى سائر الأعضاء إلا أن الحكم انتقل من الغسل إلى المسح بسبب ضرب من الحرج فإن في غسل الرأس في كل يوم خمس مرات خصوصا في أيام الشتاء لمن كان له شعر كثير حرجا عظيما وفيه إفساد الثياب والعمائم والقلانس فشرع فيه المسح ابتداء تخفيفا وتيسيرا ولما قام المسح في هذا المحل مقام الغسل أخذ حكمه فاستغنى عن النية كالغسل ولأن الطهارة غسل فيعتبر الجزء فيه بالكل. وذكر القاضي الإمام في الأسرار في جواب هذا السؤال أن الماء مطهر بنفسه لا بفعلنا إلا أنه إذا قال حتى لم يكن سيالا ضعف عن التطهير للنجاسة الحقيقية; لأن تطهيرها بإزالة عينها وفيما نحن فيه النجاسة ضعيفة; لأنها حكمية دون العين فاستغني عن الإزالة لإفادة الطهر فصار البلل كالسائل الذي يقدر على الإزالة في إفادة الطهر.
قوله: "ولا يجوز أن تشترط" أي النية ليصير الوضوء قربة جواب عن طريقة أخرى سلكها الشافعي رحمه الله في هذه المسألة وهي أن الوضوء عبادة; لأنه اسم لفعل يؤتى به تعظيما لله تعالى بأمره وحكمه الثواب وكل ذلك موجود في الوضوء وقال النبي صلى الله عليه وسلم:(4/184)
تستغني في ذلك عن وصف القربة وإنما تحتاج في ذلك إلى وصف التطهير حتى إن من توضأ للنفل صلى به الفرائض ومن توضأ للفرض صلى به غيره ومثله قوله
ـــــــ
"الطهارة على الطهارة نور على نور يوم القيامة" وإذا ثبت كونه عبادة لا يتأدى بدون النية; لأن الله تعالى أمرنا أن نعبده بشرط الإخلاص والإخلاص عمل القلب بالنية بجهة الأمر إلا أن هذه الطهارة تتأدى بالتراب فتبين به أن الطهارة الحقيقية غير مطلوبة في هذا الاستعمال بل المطلوب معنى العبادة وذلك لا يحصل بدون النية فقال: إنا نسلم أن النية ليصير الوضوء قربة شرط وإن معنى العبادة فيه لا يحصل بدون النية., لكنا لا نسلم أنه أي الوضوء لم يشرع إلا قربة بل الوضوء المشروع نوعان: نوع شرع بطريق القربة وهو لا يحصل بدون النية ونوع شرع تطهيرا مجردا وهو حاصل بدون النية كغسل الثوب يعني إذا نوى غسل الثوب للصلاة وقع عبادة موجبة للثواب وإذا لم ينو ذلك وقع معتبرا أيضا وإن لم يقع عبادة حتى جاز أداء الصلاة فيه; لأن المقصود هو الطهارة دون القربة والصلاة في ذلك أي في كون الوضوء من شرط صحتها يستغني عن وصف القربة في الوضوء; لأن النصوص التي أوجبت اشتراط الوضوء للصلاة لا تدل على تعلق جواز الصلاة بوصف القربة ولأنها لا نهاية في العبادات فلا تحتاج إلى قربة أخرى ليصير عبادة كذا في شرح التقويم وإنما يحتاج فيه أي في كون الوضوء من شرطها إلى وصف التطهير ليصير العبد به أهلا للقيام في مقام المناجاة وإليه الإشارة في قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6]. وقوله عليه السلام: "مفتاح الصلاة الطهور" وكذا في تسميته وضوءا وطهارة دليل عليه وهذا الوصف يحصل بدون النية حتى إن من توضأ لكذا صلى به غيره لبقاء صفة الطهارة إذ لو احتاجت الصلاة إلى وصف القربة لم تجز الصلاة في هاتين الصورتين; لأن حكم القربة قد انتهى بفراغه عن الصلاة التي قصدها في حالة الوضوء وإنما النافي وصف الطهارة لا غير ولما جازت بالإجماع عرفنا أنها متعلقة بوصف التطهير لا بوصف القربة. وذكر القاضي الإمام في الأسرار أن كثيرا من مشايخنا يظنون أن المأمور به من الوضوء يتأدى بغير نية وذلك غلط فإن المأمور به عبادة والوضوء بغير نية ليس بعبادة, ولكن العبادة متى لم تكن مقصودة سقطت لحصول المقصود بدون العبادة كالسعي إلى الجمعة والجهاد ونحوهما وذلك; لأن هذه عبادة غير مقصودة بل المقصود منها التمكن من إقامة الصلاة بالطهارة فإذا طهرت الأعضاء بأي سبب كأن سقط الأمر كالسعي إلى الجمعة يسقط بسعي لا للجمعة; لأن المقصود هو التمكن من الجمعة بالحصول في المسجد فعلى أي وجه حصل سقط الأمر.
قوله: "ومثله" أي مثل قوله في المسألة المتقدمة قوله في النكاح أنه ليس بمال فلا(4/185)
في النكاح إنه ليس بمال فلا يثبت بشهادة النساء مع الرجال وهو باطل بالبكارة وكل ما لا يطلع عليه الرجال فيضطره إلى الفقه وهو أن يقول إن شهادة النساء حجة ضرورية فكان حجة في موضع الضرورة وما يبتذل في العادة بخلاف
ـــــــ
يثبت بشهادة النساء اعتبارا بالحدود. وهو أي هذا التعليل بعد كونه تعليلا بالعدم الذي هو احتجاج بلا دليل باطل أي منتقض بالبكارة وكل ما لا يطلع عليه الرجال من الولادة والعيوب التي في مواضع العورة فإن شهادتهن فيها مقبولة مع أنها ليست بمال فيضطر ورود هذا النقض المعلل الطارد إلى الفقه أي إلى الرجوع إلى المعنى الفقهي الذي بنى الشافعي هذا الحكم عليه وهو شهادة النساء منفردة أو منضمة إلى شهادة الرجال حجة ضرورية عند الخصم وأن الأصل فيها عدم القبول; لأن الله تعالى نقل الأمر إلى النساء مع الرجال بشرط عدم الرجال بقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] كما نقل أمر الطهارة إلى التيمم عند عدم الماء فدل ذلك أنها ليست بحجة أصلية وإنما صير إليها للضرورة وكذا نقصان عقلهن كما وردت به السنة وقلة ضبطهن كما ورد به الكتاب واختلال ولايتهن في الإمارات وغير ذلك مخلة بما هو الركن في الشهادة فكان الأصل فيها عدم القبول فكانت حجة بانفرادها في موضع الضرورة مثل البكارة وما لا يطلع عليه الرجال ومنضمة إلى شهادة الرجال فيما يبتذل في العادة وهو أموال; لأنها للبذلة والتجارة دائمة بين الناس وأكثر ما يقع في بابها وكذا المبايعات تقع بغتة وربما يتعذر إحضار الذكور فلو لم يقبل شهادتهن في ذلك الباب لضاق الأمر فقبلت توسعة ودفعا للضرورة ولكن لما كان السبب المؤدي إليه كون المتنازع فيه مالا أقيم هذا السبب مقام الحاجة الداعية إلى قبول شهادتهن عند العدم فقبلت وإن فقدت الحاجة بوجود الرجال توسعة كما أقيم السفر مقام المشقة. بخلاف النكاح; لأنه عقد على الأبضاع ولم يجز الابتذال والإباحة فيها فكانت أعظم خطرا من الأموال ولهذا اختص النكاح بشرط الشهادة والولي ولا يوجد فيه الضرورة أيضا; لأنه لا يقع بغتة وفي كل وقت وإنما يقع بعد تدبر وتشاور في بعض الأوقات فاعتبار شهادتهن فيما فيه ضرورة ويبتذل عادة لا يدل على اعتبارها فيما لا ضرورة فيه وله خطر ليس لغيره فيظهر به أي بسبب بيانه أن شهادة النساء حجة ضرورية إلى آخره فقه المسألة لأصحابنا أيضا; لأنا لا نسلم كذا يعني أنه لما بين أنها حجة ضرورية احتجنا إلى المنع وإلى بيان مستنده ولا يتحقق ذلك إلا ببيان المعنى فيظهر الفقه من جانب أصحابنا أيضا وهو أن شهادتهن أصلية كشهادة الرجال; لأن الإنسان إنما يصير شاهدا بالولاية وهي مبنية على الحرية والعقل والنساء فيهما مثل الرجال وما ذكر من نقصان العقل ساقط العبرة; لأن عقلهن اعتبر كاملا في التكاليف(4/186)
النكاح فيظهر به فقه المسألة; لأنا لا نسلم أن هذه الحجة ضرورية بل هي أصلية إلا أن فيها ضرب شبهة. وهي مع ذلك أصلية; لأن عامة حقوق البشر نظير هذه الحجة في احتمال الشبهة والنكاح من جنس ما يثبت بالشبهات فكان فوق ما يسقط بالشبهات في أصل الوضع فبطل القياس به من كل وجه ألا ترى أنه يثبت مع الهزل الذي لا يثبت به المال فلأن يثبت بما يثبت به المال أولى. وإذا ثبت دفع العلل بما ذكرنا من وجوهه كانت غايته أن يلجئ إلى الانتقال.
ـــــــ
بالإجماع والقبول يبتنى على العدالة وانتفاء التهمة ولهن عدالة مثل الرجال ولهذا قبلت منهن رواية الأخبار والضلال المنصوص عليه في الكتاب مجبور بضم امرأة أخرى إليها فلئن نفي نوع شبهة بعد الخبر وهي شبهة ظاهر البدلية لا حقيقة البدلية فإن شهادتهن حجة مع وجود الرجال بالإجماع تعتبر فيما يسقط بالشبهات كالحدود وغيرها فأما فيما يثبت مع الشبهات فلا وعلى هذا كان ينبغي أن تكون شهادة النساء وحدهن حجة إلا أن الشرع لم يقبل شهادتهن منفردة على خلاف القياس. فعند الخصم قبول شهادتهن حكم مخصوص ثابت بخلاف القياس والأصل عدم القبول فيتبين حقيقة ذلك بالتحاكم إلى الأصول فمتى ثبت للخصم ظهور الخلل فيما هو ركن الشهادة تبين أن القبول على خلاف القياس ولم يثبت ذلك ومتى قام الدليل لنا أن ما هو الركن كامل تبين أن القبول أصل وعدم القبول على خلاف القياس وقد قام كما بينا.
قوله: "وهي مع ذلك" أي مع تمكن الشبهة فيها أصلية غير ضرورية; لأن عامة حقوق البشر أي حجج عامة حقوقهم يعني الحجج التي يثبت بها أكثر الحقوق نظير هذه الحجة في احتمال الشبهة فإنها تثبت بشهادة رجلين وهي لا تخلو عن احتمال كذب وسهو وغلط وإن ترجح فيها جانب الصدق, ثم إنها لم تخرج باحتمال الشبهة عن كونه أصلية ولم تصر ضرورية فكذا هذه والنكاح من جنس ما يثبت بالشبهات أي يثبت مع الشبهات المقارنة إياه فإنه يثبت مع الهزل والكره والشروط الفاسدة ولا يسقط بالشبهات الطارئة فإن رجلا لو تزوج امرأة الغير ودخل بها ويثبت له شبهة النكاح حتى سقط به الحد وجبت العدة لا يبطل النكاح الثابت بهذه الشبهة الطارئة فكان أي النكاح في الثبوت فوق ما لا يسقط بالشبهات ولا يثبت معها أيضا وهو المال فبطل القياس به أي بما يسقط بالشبهات فلا يستقيم قياسه به بوجه وعلى هذا التقدير لا يكون الضمير راجعا إلى المذكور; لأن المقيس عليه في قياس الشافعي غير مذكور في هذا الكتاب, ولكنه معلوم فيجوز عود الضمير إليه من غير ذكر وفي بعض النسخ فكان فوق ما يسقط بالشبهات أي النكاح الذي يثبت بالشبهات فوق الحد الذي يسقط بها في الثيوب فبطل قياس النكاح بالحد في اشتراط الذكورة لثبوته ألا ترى توضيحا لقوله النكاح من جنس ما يثبت بالشبهات والله أعلم.(4/187)
"وهذا باب وجوه الانتقال"
وهو أربعة أوجه:. الأول الانتقال من علة إلى أخرى لإثبات العلة الأولى والثاني الانتقال من حكم إلى حكم آخر بالعلة الأولى والثالث الانتقال إلى حكم آخر وعلة أخرى هذه كلها صحيحة والرابع الانتقال من علة إلى علة أخرى لإثبات الحكم الأول لا لإثبات العلة الأولى وهذا الوجه باطل عندنا ومن الناس من استحسن هذا أيضا أما الوجوه الأولى فإنما صحت لأنه لم يدع إلا الحكم بتلك العلة فما دام يسعى في إثبات تلك العلة لم يكن منقطعا وذلك مثل من
ـــــــ
"باب الانتقال"
القسم الأول من الانتقال إنما يتحقق في الممانعة; لأن السائل لما منع وصف المجيب عن كونه علة لم يجد من إثباته بدليل آخر والثاني والثالث منه في القول بموجب العلة; لأنه لما سلم الحكم الذي رتبه المجيب على العلة وادعى النزاع في حكم آخر لم يتم مرام المجيب فينتقل إلى إثبات الحكم المتنازع فيه بهذه العلة إن أمكنه أو بعلة أخرى إن لم يمكنه ذلك والرابع في فساد الوضع والمناقضة إن لم يمكنه دفعهما ببيان الملاءمة والتأثير; لأنه لم يدع أي في القسم الأول وذلك أي القسم الأول من الانتفال مثل من علل بوصف ممنوع أي غير مسلم عند السائل فقال في نفي الضمان عن الصبي المودع إذا استهلك الوديعة لم يضمن; لأنه مسلط على الاستهلاك فلما أنكر الخصم كونه استهلاكا احتاج المجيب إلى إثباته وهذا أي إثبات ما ادعاه حجة بدليل آخر من غير إعراض عن الدليل الأول واشتغال بعلة أخرى من باب الفقه فيكون حسنا مستقيما قال شمس الأئمة رحمه الله وعلى هذا اشتغل بإثبات الأصل الثاني تفرع منه موضع الخلاف حتى يرتفع الخلاف بإثبات الأصل فإن ذلك حسن صحيح نحو ما إذا وقع الاختلاف في الجهر بالتسمية فإذا قال المعلل: هذا يبتني على أصل وهو أن التسمية ليست بآية من الفاتحة, ثم يشتغل بإثبات ذلك الأصل حتى يثبت الفرع بثبوت الأصل يكون مستقيما. وكذا إذا علل بقياس فقال خصمه: القياس عندي ليس بحجة فاشتغل لإثبات كونه حجة(4/188)
علل بوصف ممنوع فقال في الصبي المودع إذا استهلك الوديعة لم يضمن; لأنه مسلط على الاستهلال فلما أنكره الخصم احتاج إلى إثباته وهذا هو الفقه بعينه وكذلك إذا ادعى حكما بوصف فسلم له ذلك لم يكن انقطاعا; لأن غرضه إثبات ما ادعاه والتسليم يحققه فلم يكن به بأس فإذا أمكنه إثبات حكم آخر بذلك الوصف كان ذلك آية كمال الفقه وصحة الوصف مثل قولنا إن الكتابة عقد يحتمل الفسخ بالإقالة فلا يمنع الصرف إلى الكفارة كالإجارة والبيع. فإن قال: عندي لا يمنع هذا العقد قيل له: وجب أن لا يوجب في الرق نقصا مانعا من الصرف إلى الكفارة أو لا يتضمن ما يمنع وإذا علل بوصف آخر لحكم آخر لم
ـــــــ
بقول صحابي فيقول خصمه: قول الواحد من الصحابة عندي ليس بحجة فاشتغل بإثبات كونه حجة بخبر الواحد فيقول خصمه: خبر الواحد عندي ليس بحجة فيحتج بالكتاب على أن خبر الواحد حجة فإنه يكون طريقا مستقيما ويكون هذا كله سعيا في إثبات ما رام إثباته في الابتداء.
قوله: "وكذلك" أي ومثل القسم الأول القسم الثاني في أنه ليس بانقطاع كان ذلك آية كمال الفقه أي في المجيب حيث علل على وجه أمكنه إثبات حكم آخر بتلك العلة وصحة الوصف في نفسه حيث أمكن إجراؤه في الفروع مثل قولنا في جواز إعتاق المكاتب الذي لم يؤد شيئا من بدل الكتابة عن كفارة اليمين إن الكتابة عقد يحتمل الفسخ بالإقالة عند التراضي وعند عجز المكاتب عن أداء البدل وهو احتراز عن التدبير فإنه لما لم يحتمل الفسخ لم يجز إعتاق المدبر عن الكفارة وكذا الاستيلاد فلا يمنع صرف الرقبة إلى الكفارة كالإجازة والبيع فإنه لو أجر العبد أو باعه بشرط الخيار لنفسه, ثم أعتقه عن الكفارة جاز بالإجماع وقيل: المراد أن البيع تصرف لا يخرج العبد المبيع عن صلاحيته للصرف إلى الكفارة لاحتماله الفسخ حتى لو أعتقه المشتري عن الكفارة أو عاد إلى ملك البائع بإقالة أو رد بعيب أو شراء كان له أن يعتقه عن الكفارة فكذا في الكتابة.
فإن قال السائل: أنا أقول بموجب هذه العلة فعندي لا يمنع هذا العقد عن الصرف إلى الكفارة, ولكن المانع نقصان تمكن في الرق بسبب هذا العقد; لأن العتق مستحق للعبد بسبب الكتابة كعتق أم الولد والمدبر. قيل له: وجب هذه العلة أن لا يوجب هذا العقد نقصانا مانعا من الصرف إلى الكفارة; لأن ما يمكن نقصانا لا يحتمل الفسخ بوجه; لأن نقصان الرق ثبوت الحرية من وجه وكما أن ثبوت الحرية من جميع الوجوه لا يحتمل الفسخ لا يحتمله ثبوتها من وجه فهذا إثبات الحكم الثاني بالعلة الأولى أيضا.(4/189)
يكن به بأس لما ذكرنا أن ما ادعاه صار مسلما فلم يكن به بأس لكن مثل ذلك لا يخلو عن ضرب غفلة. وأما الرابع فمن الناس من استحسنه واحتج بقصة إبراهيم
ـــــــ
قوله: "أو لا يتضمن ما يمنع" الخصم يقول: عقد الكتابة يوجب استحقاق العبد للعتق فوق الاستيلاد والتدبير ولهذا يصير أحق بمكاسبه ويمتنع على المولى التصرفات فيه, ثم إما أن يقال تمكن بهذا السبب نقصان في رقه أو يقال صار هو كالزائل عن ذلك المولى من وجه. وهذا لو جنى عليه يلزمه الأرش ولو أتلفه تضمن قيمته ولو وطئ مكاتبته تضمن العقر وثبوت حكم الزوال عن ملكه من وجه كاف للمنع من التكفير به أو يقال هو في حق المولى كفائت المنفعة; لأنه صار أحق بمنافعه ومكاسبه فلا يجوز صرفه إلى الكفارة كالرقبة العمياء كذا في ظهار المبسوط.
فالشيخ رحمه الله أراد بقوله وجب أن لا توجب نقصانا في الرق رد الوجه الأول. وبقوله أو لا يتضمن ما يمنع رد الوجهين الآخرين يعني لو قال: إنا نسلم أيضا أنه لا يوجب نقصانا في الرق, ولكنه تضمن معنى يمنع الصرف وهو صيرورية كالزائل عن ذلك أو كفائت المنفعة نقول: لما كان هذا العقد محتملا للفسخ وجب أن لا يتضمن معنى يمنعه من صرفه إلى الكفارة كالبيع والإجارة فإن بالبيع بشرط الخيار زوالا عن ملكه من وجه لانعقاد سبب الزوال وهذا لو مات من الخيار لزم البيع وبالإجارة فاتت المنافع عن ملكه, ثم إنهما لا يمنعان عن الصرف إلى الكفارة; لأنهما يحتملان الفسخ وكذا الكتابة ويجوز أن يكون معنى تضمن هذا العقد ما يمنع الصرف إلى الكفارة عند الخصم تضمنه استحقاق العتق وإن لم توجب نقصانا في الرق فنقول: إنه لا يتضمن ذلك لاحتماله الفسخ ويؤيده ما ذكر في المبسوط أن بسبب الكتابة لا يتمكن نقصان في رق المكاتب ولا يصير العتق مستحقا له; لأن حكم العتق في الكتابة متعلق بشرط الأداء ولو علق عتقه بشرط آخر لم يثبت به الاستحقاق فكذلك بهذا الشرط بل أولى; لأن التعليق بسائر الشروط يمنع الفسخ وهذا الشرط لا يمنع بخلاف الاستيلاد; لأن به يتمكن النقصان في الرق حتى لا تعود إلى الحالة الأولى بحال وبخلاف التدبير; لأن العتق بالتدبير صار مستحقا للمدبر ولهذا لا يحتمل التدبير الفسخ.
وإذا علل بوصف آخر لحكم آخر يعني إذا لم يمكنه إثبات الحكم الذي انتقل إليه بالعلة الأولى فانتقل إلى علة أخرى لإثباته فهو صحيح أيضا; لأن ما ادعاه من ثبوت الحكم الذي زعم أن خصمه ينازعه فيه بالعلة المذكورة صار مسلما فإذا احتاج إلى إثبات حكم آخر كان له أن يثبت بعلة أخرى ولا يعد ذلك انقطاعا. وذلك مثل(4/190)
في محاجة اللعين فإنه انتقل إلى دليل آخر لإثبات ذلك الحكم بعينه كما قص الله عز وجل عنه بقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة: 258] والصحيح أن مثل هذا يعد انقطاعا; لأن النظر شرع لبيان الحق فإذا لم يكن متناهيا لم يقع به الإبانة كما إذا لزمه النقض لم يقبل منه الاحتراز بوصف زائد فلأن لا يقبل منه التعليل المبتدأ أولى عليه فليس ما في قصة الحجة إبراهيم صلوات الله عليه من هذا القبيل; لأن الحجة الأولى
ـــــــ
أن نقول في هذه المسألة بعدما سلم الخصم إن هذا العقد بنفسه لا يمنع الصرف إلى الكفارة هذه رقبة مملوكة فوجب أن يجوز صرفها إلى الكفارة قياسا على ما ذكرنا, ولكن مثل ذلك التعليل الذي يحتاج فيه إلى الانتقال إلى علة أخرى وحكم آخر لا يخلو عن ضرب غفلة حيث لم يعرف المعلل موضع الخلاف في ابتداء تعليله.
قوله: "أما الرابع" وهو الانتقال عن علة إلى علة أخرى لإثبات الحكم الأول فصحيح عند بعض أهل النظر; لأن إبراهيم صلوات الله عليه حين حاج اللعين وهو نمرود بن كنعان وكان يدعي الألوهية بقوله: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258] وعارضه اللعين بقوله: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258] انتقل إلى حجة أخرى وهي قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} وكان هذا منه انتقالا إلى علة أخرى لإثبات ذلك الحكم الذي رام بالحجة الأولى هو بيان أن الألوهية لله تعالى وحده لا شريك له فيها وقد ذكر الله تعالى ذلك منه على سبيل المدح له به فثبت أنه صحيح وكذلك المدعي إذا أقام شاهدين فعورض بجرح فيهما كان له أن يقيم شاهدين آخرين لإثبات مدعاه والصحيح أن مثل هذا الانتقال يعد انقطاعا; لأن المناظرة شرعت لإبانة الحق فإن تفسير المناظرة النظر من الجانبين في النسبة بين الشيئين لإظهار الصواب. فإذا لم يكن أي النظر أو الدليل متناهيا لم يقع به إبانة الحق يعني لوجود الانتقال ولم يجعل انقطاعا لطال مجلس المناظرة من غير حصول المقصود وهو إبانة الحق; لأن المعلل كلما رد عليه دليل يتعلق بآخر فلا ينتهي المناظرة ولا يحصل المرام وهذا نظير نقض يتوجه على العلة فإنه يعد انقطاعا ولا يصح من المعلل إدراج وصف زائد يحصل به الاحتراز عن النقض مع أنه ساع في تصحيح العلة التي ذكرها وإن الوصف الزائد ليس بعلة بنفسه فلأن يعد انقطاعا مع أنه تعليل مستبد تام بنفسه دال على أن العلة الأولى غير صالحة أصلا لإثبات الحكم المطلوب بها كان أولى.
فأما قصة إبراهيم عليه السلام فليس من هذا القبيل أي من قبيل الانتقال الفاسد;(4/191)
كانت لازمة ألا يرى أنه عارض بأمر باطل وهو قوله تعالى: {قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258] فإذا كان كذلك كان اللعين منقطعا إلا أن إبراهيم صلوات الله عليه لما خاف الاشتباه والتلبيس على القوم انتقل إلى دفع آخر دفعا للاشتباه إلى ما هو حال عما يوجب لبسا وذلك حسن عند قيام الحجة وخوف الاشتباه والله أعلم.
ـــــــ
لأن الحجة الأولى التي ذكرها كانت لازمة على اللعين; لأن إبراهيم عليه السلام أراد بقوله: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} حقيقة الإحياء والإماتة وعارضه اللعين بأمر باطل وهو إطلاق أحد المسجونين وقتل الآخر وذلك ليس من الإحياء والإماتة في شيء إلا بطريق الشبهة والمجاز وإذا كان كذلك أي كان الأمر كما بينا أن الحجة الأولى لازمة وأن المعارضة باطلة كان اللعين منقطعا أي محجوجا بتلك الحجة وكان يمكن لإبراهيم صلوات الله عليه أن يقول: إني أردت بالإحياء والإماتة حقيقتهما لا ما أريت من الإطلاق والقتل بل أنا أفعل كما فعلت ولكن أن قدرت على الإماتة والإحياء فأمت هذا الذي أطلقته من غير مباشرة آلة وسبب وأحي هذا الذي قتلته فيظهر به بهت اللعين إلا أن القوم لما كانوا أصحاب الظواهر وكانو لا يتأملون في حقائق المعاني خاف الخليل عليه السلام الاشتباه والالتباس عليهم فضم إلى الحجة الأولى حجة ظاهرة لا يكاد يقع فيها الاشتباه فبهت الذي كفر.
وذلك أي الانتقال إلى حجة أخرى حسن عند قيام الحجة الأولى وخوف الاشتباه فإن المجيب إذا تكلم بكلام دقيق يخفى على القوم والخصم يلبس يجوز له أن يتحول إلى ظاهر يدركه القوم والمعلل إذا ثبت علته قد يقوم والذي يوضح ما ذكرت فيأتي بكلام أوضح من الأول في إثبات ما رامه وهذا; لأن حجج الشرع أنوار فضم حجة إلى حجة كضم سراج إلى سراج وذلك لا يكون دليلا على ضعف أحدهما أو بطلان أثره فكذلك ضم حجة إلى حجة وإنما جعلنا هذا انقطاعا في وضع يكون الانتقال للعجز عن إثبات الحكم بالعلة وأما الانتقال إلى بينة أخرى عند الجرح في التي أقامها فإنما يجوز صيانة لحقوق الناس إذ لو لم يجز الانتقال ضاع حقوق الناس بلا تدارك وذكر في عين المعاني أن إبراهيم عليه السلام رجح حجته بما يشاكلها دفعا للتلبيس; لأن الأول إماتة, ثم إحياء والثاني إزالة, ثم إنشاء فالنفس مشرقة بروحها, ثم زائله عند زهوقها والشمس مشرقة بنورها, ثم هي باطلة عند غروبها فكانت تأكيدا لا انتقالا ولم يقل اللعين فليأت ربك; لأنه كان معاندا خاف الفضيحة أو صرفه الله تعالى.
واعلم أن الانقطاع كما يتحقق من جانب المعلل يتحقق من جانب السائل فإن تفسيره عجز المناظر وقصوره عن بلوغ ما هم في أول ما شرع فيه من تصحيح مذهبه وذلك(4/192)
.............................................................................................
في جانب المعلل بالعجز عن الوفاء بما ضمن من تحقيق قوله بالحجة التي أبرزها وأرى تصديق قوله بها وفي جانب السائل بالعجز عن المنع أو عن تصحيح منعه بإسناده إلى مستند فإن كل واحد منهما لما شرع في التعليل أو المنع فقد أظهر أنه يريد تصحيحه فإذا لم يقدر فقد انقطع.
وأنه أنواع أربعة على ما ذكر شمس الأئمة رحمه الله: أحدهما وهو أظهرها السكوت كما أخبر الله تعالى به عن اللعين عند إظهار الخليل عليه السلام حجته بقوله: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} . والثاني جحد ما يعلم ضرورة أو بطريق المشاهدة جحد مثله يدل على أنه ما حمله على ذلك إلا عجزه عن دفع علة المعلل فكان انقطاعا. والثالث المنع بعد تسليم فإنه يدل على أنه يحمله على المنع بعد التسليم وتناقض الكلام إلا عجزه عن الدفع لما استدل به خصمه ولا يقال يحتمل أن يكون تسليمه عن سهو أو غفلة; لأن عند ذلك تبين وجه الدفع بطريق التسليم, ثم يبتني عليه استدراك ما سها فيه فأما أن يرجع عن التسليم إلى المنع من غير بيان الدفع بطريق التسليم فذلك لا يكون إلا للعجز. والرابع عجز المعلل عن تصحيح العلة التي قصد إثبات الحكم بها حتى انتقل منها إلى علة أخرى لإثبات الحكم فإن ذلك انقطاع; لأنه عجز عن إظهار مراده فكان بمنزلة العجز ابتداء عن إقامة الحجة على الحكم الذي ادعاه, ثم هذا النوع من الانتقال إنما يكون انقطاعا في حق المعلل دون السائل فإنه لو انتقل من دليل إلى دليل لا يكون به بأس; لأنه معارض لكلام المجيب فما دام في المعارضة بدليل يصلح معارضا لا يكون منقطعا بخلاف المجيب إليه أشير في الميزان والله أعلم.(4/193)
"باب معرفة أقسام الأسباب والعلل والشروط"
جملة ما يثبت بالحجج التي سبق ذكرها سابقا على باب القياس شيئان الأحكام المشروعة والثاني ما يتعلق به الأحكام المشروعة وإنما يصح التعليل للقياس بعد معرفة هذه الجملة فألحقناها بهذا الباب ليكون وسيلة بعد أحكام طرق التعليل أما الأحكام فأنواع حقوق الله عز وجل: خالصة وحقوق العباد
ـــــــ
"باب معرفة أقسام الإثبات والعلل والشروط"
لم يذكر الشيخ رحمه الله الأحكام في تلقيب الباب كما ذكر شمس الأئمة رحمه الله مع أنه ذكر الأحكام في هذا الباب; لأن عرضه من عقد الباب بيان الأسباب والعلل والشروط دون الأحكام ولم يذكر القاضي الإمام في التقويم بالحجج التي سبق ذكرها سابقا أي مر ذكرها قبل باب القياس من الكتاب والسنة والإجماع أو هو سيق من السوق لا من السبق وإنما قيد بقوله سابقا على باب القياس; لأن بالقياس لا يثبت هذه الأشياء عند الشيخ كما مر بيانه في باب حكم العلة وإنما يصح التعليل للقياس أي لأجل القياس بعد معرفة هذه الجملة وهي الأحكام وما يتعلق به; لأن القياس لتعدية حكم معلوم بسببه وشرطه بوصف معلوم على ما ذكر الشيخ في أول باب حكم العلة ولا يتحقق ذلك إلا بعد معرفة هذه الأشياء فألحقناها أي تلك الجملة يعني بيانها بهذا الباب وهو باب القياس ليكون معرفتها وسيلة إليه أي إلى القياس بعد أحكام طرف التعليل والوسيلة ما يتقرب به إلى الغير والجمع الوسل والوسائل. ولا يقال لما كانت معرفة هذه الجملة وسيلة إلى القياس كان ينبغي أن تذكر هذه الجملة قبل القياس إذ الوسائل مقدمة على المقاصد; لأنا نقول كون القياس أصلا من أصول الشرع وحجة من حججه أوجب وصله بالحجج المتقدمة وترتيبه عليها فلذلك لزم تأخير بيان هذه الجملة إلى الفراغ وإلحاقه به.
قوله: "حقوق الله تعالى خالصة" بالنصب على التمييز قال السيد الإمام أبو القاسم(4/194)
خالصة والثالث ما اجتمع فيه الحقان وحق الله تعالى غالب والرابع ما اجتمعا وحق العبد فيه غالب. وحقوق الله تعالى ثمانية أنواع. عبادات خالصة, وعقوبات خالصة, وعقوبات قاصرة وحقوق دائرة بين الأمرين وعبادة فيها معنى المؤنة ومؤنة فيها معنى العبادة ومؤنة فيها شبهة العقوبة وحق قائم بنفسه. والعبادات نوعان الإيمان وفروعه. وهي ثلاثة أنواع أصل وملحق به وزوائد أما الأصل فالتصديق في الإيمان أصل محكم لا يحتمل السقوط بحال بعذر الإكراه وبغيره من الأعذار ولا يبقى مع التبديل بحال والإقرار باللسان ركن في الإيمان ملحق بالتصديق وهو في الأصل دليل على التصديق فانقلب ركنا في أحكام
ـــــــ
رحمه الله في أصول الفقه: الحق الموجود من كل وجه الذي لا ريب فيه في وجوده ومنه السحر حق والعين حق أي موجود بأثره وهذا الدين حق أي موجود صورة ومعنى ولفلان حق في ذمة فلان أي شيء موجود من كل وجه قال: وحق الله تعالى ما يتعلق به النفع العام للعالم فلا يختص به أحد وينسب إلى الله تعالى تعظيما أو لئلا يختص به أحد من الجبابرة لحرمة البيت الذي يتعلق به مصلحة العالم باتحاده قبلة لصلواتهم ومثابة لاعتذار أجرامهم وكحرمة الزنا لما يتعلق بها من عموم النفع في سلامة الإنسان وصيانة الفرش وارتفاع السيف بين العشائر بسبب التنازع بين الزناة وإنما ينسب إليه تعظيما; لأنه تعالى يتعالى عن أن ينتفع بشيء فلا يجوز أن يكون شيء حقا له بهذا الوجه ولا يجوز أن يكون حقا له بجهة التخليق; لأن الكل سواء في ذلك بل الإضافة إليه لتشريف ما عظم خطره وقوي نفعه وشاع فضله بأن ينتفع به الناس كافة وحق العبد ما يتعلق به مصلحة خاصة كحرمة مال الغير فإنه حق العبد ليتعلق صيانة ماله بها فلهذا يباح مال الغير بإباحة الملك ولا يباح الزنا بإباحتها ولإباحة أهلها. وعقوبات قاصرة المراد بالواحدة إذ ليس من هذا الجنس إلا حرمان الميراث ولهذا قال شمس الأئمة: وعقوبة قاصرة وكذا في بعض نسخ المنتخب أيضا وهي ثلاثة أنواع يعني هذه الأنواع الثلاثة موجودة في مجموع النوعين لا أن كل نوع منقسم إلى ثلاثة أنواع لا يحتمل السقوط بحال كما يحتمله الإقرار بعذر الكره وبغيره من الأعذار مثل إن صار مثقل اللسان. ولا يبقى أي الإيمان مع تبديل التصديق بعده بحال سواء كان بالإكراه أو بغيره والإقرار ملحق بالتصديق والزوائد في الإيمان تكرار الشهادة مرة بعد أخرى كذا قيل وهو أي الإقرار في الأصول دليل على التصديق; لأن اللسان معبر عما في الضمير فانقلب أي الإقرار منضما إلى التصديق ركنا من الإيمان في أحكام الدنيا والآخرة بمنزلة علة ذات وصفين حتى لو صدق بقلبه ولم يقر بلسانه بعد التمكن منه فيكون مؤمنا في الحكم ولا عند الله ولو مات على ذلك كان من أهل النار عند الفقهاء(4/195)
الدنيا والآخرة وهو في أحكام الدنيا أيضا حتى إذا أكره الكافر على الإيمان فآمن صح إيمانه بناء على وجود أحد الركنين بخلاف الردة في الإكراه; لأن الأداء في الردة دليل محض لا ركن. والأصل في فروع الإيمان هي الصلاة وهي عماد الدين
ـــــــ
وأهل الحديث وعند المتكلمين الإقرار شرط إجراء الأحكام وركن الإيمان هو التصديق لا غير وقد مرت المسألة في باب بيان حسن المأمور به وهو أصل في أحكام الدنيا يعني التصديق والإقرار وإن كانا ركنين في مطلق الإيمان بمنزلة الكيل والجنس في باب الربا, لكن الإقرار صار أصلا بنفسه في أحكام الدنيا بمنزلة التصديق إعلاء للإسلام كما جعل أحد وصفي علة الربا علة الحرمة ربا النسيئة ولهذا حكمنا بالإيمان بوجود الإقرار وإن فات التصديق حتى لو أكره الحربي أو الذمي على الإيمان فإن صح إيمانه بناء على وجود الإقرار مع أن قيام السيف على رأسه دليل ظاهر على عدم التصديق كما حكمنا ببقاء الإيمان بناء على بقاء التصديق مع فوات الإقرار بالإكراه إعلاء للإسلام وهذا; لأن أحكام الدنيا مبنية على الظواهر والإقرار دليل ظاهر على ما في الضمير والضمير أمر باطن فبني حكم الإسلام عليه في الدنيا وجعل هو أصلا فيه وفي اعتبار مجرد الإقرار إعلاء الإسلام وتكثير سواد المسلمين وتحميل للكافر على الإيمان الحقيقي فإنه لما منع عن إظهار الكفر بعد الإقرار بطريق الخبر ربما يحمله ذلك على الإيمان بطريق الإخلاص كما أن الجزية وضعت عليه لتحمله على الإسلام إذا عاين عزة الإسلام ومذلة الكفر.
والدليل على أن بمجرد الإقرار يثبت الإيمان في أحكام الدنيا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرف المنافقين بالوحي كما نطق به النص والخبر ثم كان يعاملهم معاملة المسلمين في أحكام الدنيا بناء على الإقرار المجرد فعرفنا أنه هو الأصل في أحكام الدنيا بخلاف الردة حيث لم يثبت بمجرد الإقرار حتى لو أكره على الكفر فيتكلم بكلمة الكفر بلسانه لا يصير مرتدا; لأن الأداء أي الإقرار باللسان في الردة دليل محض على ما في الضمير من الاعتقاد كما هو الأصل في التكلم لا ركن فإن الركن في الردة تبديل الاعتقاد لا غير وهذا لو اعتقد الكفر بقلبه ولم يقر بلسانه يكفر وتبين منه امرأته فيما بينه وبين ربه وكان من أهل النار ولو جعلنا الإقرار في الردة ركنا لكان ذلك سعيا منا في إثبات الكفر وذلك لا يجوز كما كان جعل الإقرار في الإيمان ركنا سعيا في إعلاء الإسلام وإذا ثبت أنه دليل وليس بركن كان قيام السيف على رأسه دليلا معارضا له فلم يثبت الردة.
قوله: "والأصل في فروع الإيمان" التي هي النوع الثاني من العبادات الصلاة وهذا لم تخل عنها شريعة من شرائع المرسلين وهي عماد الدين كما وقعت إليه الإشارة النبوية في قوله عليه السلام: "الصلاة عماد الدين من أقامها فقد أقام الدين ومن تركها فقد هدم(4/196)
شرعت شكرا لنعمة البدن الذي يشمل ظاهر الإنسان وباطنه إلا أنها لما صارت أصلا بواسطة الكعبة كانت دون الإيمان الذي صار قربة بلا واسطة, ثم الزكاة التي تعلقت بأحد ضربي النعمة وهو المال وهي دون الصلاة; لأن نعمة البدن أصل
ـــــــ
الدين" شرعت شكرا لنعمة البدن الذي يشمل ظاهر الإنسان وباطنه وذلك; لأن أول درجات الشكر أن يعرف النعمة, ثم لا يستعملها بعد المعرفة في عصيان النعم, ثم يظهرها بمقاله وأفعاله لكون كتمانها كفرانا لها., ثم أول درجات الشكر الذي هو العلم بالنعمة إنما يحصل بكون الشكر من جنس النعم ونعمة البدن مشتملة على نعم ظاهرة من الأعضاء السليمة وما يحصل له بها من التقلب من حالة إلى حالة من القيام والقعود والانحناء وعلى نعم باطنة من القوى النفسانية المدركة للمعاني فشرعت الصلاة شكرا لنعم ظاهر البدن وباطنه فأركان الصلاة التي هي بمنزلة الصورة لها تعلق بظاهر البدن وجعل أفضل أركانها طول القنوت ليعرف مما يلحقه من المشقة قدر الراحة التي ينالها بالتقلب على حسب الإرادة وموافقة ما تهواه نفسه والنية والإخلاص والخضوع والخشوع التي هي روح الصلاة ومعناها تتعلق بالباطن والدليل على أنها شرعت بطريق الشكر ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى حتى تورمت قدماه فقيل له: إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال: "أفلا أكون عبدا شكورا" أخبر أنه يصلي لله تعالى شكرا على ما أنعم عليه.
إلا أنها أي, لكنها كذا وتقريره ما ذكر شمس الأئمة رحمه الله أن الصلاة صارت قربة بواسطة البيت الذي عظمه الله تعالى وأمرنا بتعظيمه لإضافته إلى نفسه فقال: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ} [البقرة: 125] الآية حتى لا تتأدى هذه القربة إلا باستقبال القبلة في حالة الإمكان وفي ذلك من معنى التعظيم ما أشار الله تعالى إليه في قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] ليعلم به أن المطلوب وجه الله عز وجل ووجه الله لا جهة له فجعل الشرع استقبال جهة الكعبة فإنما مقام ما هو المطلوب لأداء هذه القربة وأصل الإيمان فيه تقرب إلى الله تعالى بلا واسطة وفي الصلاة تقرب بواسطة البيت فكانت من شرائع الإيمان لا من نفس الإيمان.
قوله: "ثم الزكاة" أي بعد الصلاة في الرتبة الزكاة التي تعلقت بأحد ضربي النعمة وهو المال فإن العبادات مشروعة لإظهار شكر النعمة بها في الدينا ونيل الثواب في الآخرة فكما أن شكر نعمة البدن بعبادة تؤدى بجميع البدن وهي الصلاة فشكر نعمة المال بعبادة مؤداة بجنس تلك النعمة ليعرف بزوال المحبوب من المال المرغوب في اقتنائه إلى من لا يصل إليه منه نفع وبما يلحق طبيعة من المشقة في ذلك على ما قال بعض الأجواد إنا نجد في بذل المال ما يجده البخلاء, ولكنا نتصبر ولهذا كان الجود قرين الشجاعة وقلما(4/197)
ونعمة المال فرع والأولى صارت قربة هي بواسطة القبلة التي هي جماد وهذه صارت قربة بواسطة الفقير الذي له ضرب استحقاق في الصرف. ثم الصوم قربة تتعلق بنعمة البدن ملحقة بالأصل كأنها وسيلة إلى الأصل وهو لا يصير قربة إلا
ـــــــ
يفترقان لتولدهما من قوة القلب قدر ما أزال إليه من أصناف المال وأتى من البسيطة في فنونها إلا أن الزكاة دون الصلاة في الرتبة; لأن نعمة البدن أصل. ونعمة المال فرع; لأن المال وقاية النفس ولا ينتفع به بدونها وينتفع بالنفس بدون المال فكان المتعلق بالنعمة التي هي أصل أعلى رتبة مما تعلق بالنعمة التي هي فرع وقوله والأولى صارت قربة دليل آخر أي ولأن الأولى صارت قربة بواسطة القبلة التي هي جماد لا استحقاق لها في التوجه إليها بوجه وقد يسقط التوجه إليها عند خوف العدو والسبع والصلاة على الدابة. وهذه أي الزكاة صارت قربة بواسطة الفقير الذي له ضرب استحقاق في الصرف إليه فإن المؤدي يجعل المال المؤدى خالصا لله تعالى في ضمن صرفه إلى المحتاج ليكون كفاية له من الله تعالى فكانت الزكاة دون الصلاة بدرجة; لأن الخلوص في الأولى أزيد منه في الثانية فكان معنى العبادة فيها أكمل; لأنها به صارت عبادة قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] وفي قوله ضرب استحقاق في الصرف إشارة إلى نفي قول الشافعي رحمه الله فإن عنده للفقير حقيقة استحقاق المال حتى صار المال بمنزلة المشترك بينه وبين الفقير ولهذا كان للفقير عنده أن يأخذ مقدار الزكاة من المال إذا ظفر به فأشار إلى أنه ليس بمستحق له حقيقة ولكن له صلاحية أن يصرف إليه ويستحق هذا القدر على صاحب المال على معنى أنه إذا أراد الأداء يجب عليه أن يصرفه إلى الفقير دفعا لحاجته.
ولا يقال لما وجب الصرف إليه لفقره كان المال حقه فيكون هو مستحقا له حقيقة; لأنا نقول ما يجب لفقره يجب رزقا له على الله تعالى; لأنه تعالى هو الضامن للرزق دون العبيد إلا أن الله تعالى أمر بصرف هذا الواجب إليه فلا يصير المال حقه قبل الصرف إليه ولا يخرج الزكاة به عن كونها عبادة خالصة.
قوله: "ثم الصوم قربة" يعني بعد هاتين العبادتين في الرتبة الصوم فإنه قربة تتعلق بالبدن كالصلاة فكان ملحقا بالصلاة من حيث إنه بدني خالص, لكنه يجب على العبد بطريق الرياضة للركوب لا مقصودا بنفسه ولا يشتمل أيضا على أفعال متفرقة على أعضاء البدن بل يتأدى بركن واحد وهو الكف عن اقتضاء الشهوتين فكان دون الصلاة; لأنها عبادة مقصودة بنفسها مشتملة على أركان تتأدى بجميع البدن. ودون الزكاة أيضا; لأنه لا يصير قربة إلا بواسطة النفس وهي دون الواسطتين الأوليين يعني في المنزلة لا في كونها واسطة(4/198)
بواسطة النفس وهي دون الواسطتين الأوليين حتى صارت من جنس الجهاد. ثم الحج عبادة هجرة وسفر لا يتأدى إلا بأفعال تقوم ببقاع معظمة فكانت دون الصوم كأنها وسيلة إليه والعمرة سنة واجبة تابعة للحج, ثم الجهاد شرع لإعلاء الدين فرض في الأصل لكن الواسطة ها هنا هي المقصودة فصارت من فروض
ـــــــ
فإن البيت معظم بتعظيم صاحب الشرع إياه والفقير مستحق للصرف إليه بفقره ولا قبح في صفة الفقر, لكن النفس تستحق القهر لميلها إلى الشهوات ومخالفة أمر الله جل جلاله وكونها أمارة بالسوء وهذه صفة قبح فيكون هذه الواسطة دون الأوليين من هذا الوجه وكانت أقوى في كونها واسطة وأقرب إلى كونها مقصودة ولهذا صارت هذه القربة من جنس الجهاد; لأنه قهر عدو الله وعدوه الباطن كما أن الجهاد قهر عدو الله وعدوه الظاهر وإليه الإشارة في قوله عليه السلام : "أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك" . وقوله عليه السلام: "أفضل الجهاد أن تجاهد نفسك وهواك" وذكر في بعض الشروح أن معنى قوله وهي دون الواسطتين أنها دونهما في كونها واسطة; لأن الواسطة هاهنا ذات الفاعل وفي الصلاة والزكاة الواسطة غيرهما وخارجة عن ذاتهما وإذا كان كذلك لا يصلح ذاته واسطة; لأنها موجودة في الإيمان أيضا إذ الإيمان لا يوجد بدون الذات فعلى هذا يكون هذه الواسطة دون الأوليين لكونها في حكم العدم فينبغي أن يكون الصوم أعلى رتبة من الصلاة والزكاة مثل الإيمان, لكن الصوم شرع وسيلة إلى الصلاة كما بينا فكان بمنزلة التبع لها فكان دونها وكذا الزكاة أصل بنفسها ليست بتبع. لشيء فكانت فوق الصوم في الرتبة, ولكن الوجه الأول أوجه وأوفق لسياق الكلام.
قوله: "ثم الحج عبادة هجرة" أي عن الأولاد والأوطان والأقران والإخوان وسفر إلى زيارة بيت الرحمن لا يتأدى إلا بأفعال تقوم أي تختص ببقاع أو تقع في بقاع معظمة وأوقات شريفة من الطواف والوقوف والسعي والرمي وغيرها فكان الحج دون الصوم في الرتبة كأنها أي كأن عبادة الحج وسيلة إلى الصوم; لأنه لما هجر الأوطان وجانب الأهل والأولاد وانقطع عنه مواد الشهوات في البوادي وانسد عليه طريق الوصول إليها في الفيافي ضعف نفسه وزال عنها الجموحة وقدر على قهرها بالصوم فكان الحج من هذا الوجه بمنزلة الوسيلة إلى الصوم فكان دونه.
"فإن قيل" الوسائط في الحج جمادات ليست لها صلاحية الاستحقاق والواسطة في الصوم مستحقة للقهر فكان ينبغي أن يكون الحج فوق الصوم ومثل الصلاة قلنا: الوسائط وإن لم تكن صالحة للاستحقاق, لكن في هذه العبادة معنى التعظيم لتلك البقاع أكثر منه في الصلاة للكعبة إذ التوجه إليها في الصلاة ليس لتعظيمها وكذا معنى قهر النفس الذي(4/199)
الكفاية ألا ترى أن الواسطة كفر الكافر وذلك جناية قائمة بالكافر مقصودة بالرد والمحو والاعتكاف شرع لإدامة الصلاة على مقدار الإمكان فكان من التوابع ولذلك اختص بالمساجد. والعبادة التي فيها معنى المؤنة صدقة الفطر فلم تكن
ـــــــ
في الصوم موجود في الحج مع هذه الوسائط فلذلك كان دون الصوم والعمرة سنة واجبة أي قربة مؤكدة فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بها تابعة للحج كسنن الصلاة للصلاة وليست بفريضة كما قال الشافعي رحمه الله; لأن أفعالها من جنس أفعال الحج وما بينا من الوسيلة لا يوجب عددا من القربة ولهذا لا يتكرر فرضية الحج في العمر فعرفنا أنها ليست بفريضة, ثم الجهاد يعني بعد هذه العبادات في الرتبة الجهاد; لأنه من فروض الكفاية وما تقدم من فروض الأعيان. فرض في الأصل أي أصله فرض على الجميع; لأن إعلاء الدين فرض على الكل, لكن الواسطة هاهنا وهي كسر شوكة المشركين ودفع شرهم هي المقصودة بالرد والإعدام; لأن شرعية الجهاد لإزالة الكفر وإعدامه فصارت هذه العبادة من فروض الكفاية; لأن المقصود يحصل ببعض المسلمين بمنزلة صلاة الجنازة حتى لو لم يحصل كما في التغير العام يجب على كل فرد كالصلاة والصوم وذلك أي الكفر جناية قائمة بالكافر ثابتة باختياره فكان أمرا عارضا فيه فالجهاد الذي شرع لأجله لم يكن عبادة أصلية بخلاف الصلاة والزكاة والصوم والحج فإن الوسائط فيها أصلية ثابتة بخلق الله تعالى لا اختيار للعبد فيها فكانت تلك العبادات أصلية والاعتكاف أخر الاعتكاف عن الجهاد; لأن الجهاد من الفروض والاعتكاف من السنن وهو مشروع لإقامة الصلاة على مقدار الإمكان إذ العزيمة هي الاشتغال بالعبادة في جميع الأوقات لتواتر النعم على العبد في كل ساعة إلا أن الله تعالى تفضل على عباده بإسقاطها عنه في عامة الأوقات ورضي بأدائها في أزمنة قليلة بفضله وكرمه فكان الاعتكاف أخذا بالعزيمة; لأنه إدامة الصلاة إما بالاشتغال بحقيقة الأداء وبالانتظار للصلاة; لأن له حكم الصلاة ولذلك صح النذر بالاعتكاف وإن لم يكن في الشرع واجب من جنسه; لأنه نذر بالصلاة معنى والتابع للشيء له حكم الأصل ولذلك أي ولأن المقصود إدامة الصلاة اختص الاعتكاف بالمساجد التي هي أمكنة الصلاة والمعدة لها. قال شمس الأئمة رحمه الله: الاعتكاف قربة زائدة يعني على العبادات البدنية والمالية لما فيها من تعظيم المكان المعظم بالمقام فيه وهو المسجد ولما في شرطها من منع النفس عن اقتضاء الشهوتين وهو الصوم والمقصود بها تكثير الصلوات إما حقيقة أو حكما بانتظار الصلاة في مكانها على صفة الاستعداد بالطهارة.
قوله: "والعبادة التي فيها معنى المؤنة صدقة الفطر" المئونة الثقل فعولة من مأنت القوم أمأنهم إذا احتملت مئونتهم وقيل: العدة من قولهم أتاني فلان وما مأنت له مأنا إذا لم(4/200)
خالصة حتى لم يشترط لها كمال الأهلية. والمؤنة التي فيها معنى القربة هي العشر حتى لا يبتدأ على الكافر وأجاز محمد رحمه الله بقاءه على الكافر والخراج مؤنة فيها معنى العقوبة; لأن سببه الاشتغال بالزراعة وهي الذل في
ـــــــ
يستعد له وقيل: إنها من منت الرجل أمونه والهمزة فيها كهي في أدؤر وقيل: هي مفعلة من الأون وهو الخرج والعدل; لأنه ثقل على الإنسان أو من الأين وهو التعب والشدة والأول أصح كذا في المغرب والصحاح. وهذا الواجب مشتمل على معنى العبادة والمئونة; لأن تسميته في الشرع صدقة وكونه طهرة للصائم عن اللغو والرفث واعتبار صفة الغناء فيمن يجب عليه كما في الزكاة واشتراط النية في أدائه حتى لا يتأدى بدون النية بحال وعدم صحة أدائه من غير المالك حتى لو أدى المكاتب صدقة الفطر عن نفسه لا يجوز كما لو زكى ماله وتعلق وجوبه بالوقت ووجوب صرفه إلى مصارف الصدقات تدل على كونه عبادة. ووجوبه على الإنسان بسبب رأس الغير وكون الرأس فيه سببا يدلان على أن فيه معنى المئونة كالنفقة وإلى معنى المئونة أشار النبي عليه السلام في قوله: "أدوا عمن تمونون" إلا أن معنى العبادة لما كان راجحا لما ذكرنا من المعاني قلنا هذا الواجب عبادة فيه معنى المئونة ولما قصر معنى العبادة فيه حيث لم يكن عبادة خالصة لم يشترط له كمال الأهلية كما شرط للعبادات الخالصة حتى وجب على الصبي والمجنون الغنيين في مالهما كنفقة ذوي الأرحام وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله فإن عندهما تجب صدقة الفطر في مال الصبي والمجنون لأنفسهما ورقيقهما يتولى أداء ذلك عن مالهما الأب أو وصي الأب أو الجد إذا لم يكن لهما أب ولا وصي أب أو وصي الجد بعد الجد أو وصي نصبه القاضي لهما وعلى قول محمد وزفر رحمهما الله لا تجب صدقة الفطر عليهما في مالهما فإن كان الأب غنيا يجب عليه ولو أداها من مالهما ضمن وهو القياس; لأن الوجوب على الأب بسبب رأس الولد كما يجب بسبب رأس العبد الكافر فإذا أدى ما عليه من مال الصغير ضمن كما إذا أدى صدقة وجبت عليه بسبب عنده من مال الصغير ولأنها عبادة أو معنى العبادة فيها راجح فلا تجب على الصغير والمجنون لسقوط الخطاب عنهما وعليه يبنى الوجوب واستحسن أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله فقالا: في هذه الصدقة معنى العبادة ومعنى المئونة كما بينا فباعتبار معنى الصدقة لم تجب مع الفقر كالزكاة وباعتبار معنى المئونة صح الإيجاب على الصغير كالعشر وإن كان فيه معنى الصدقة إليه أشير في الأسرار وكلام محمد وزفر أوضح.
قوله: "والمئونة التي فيها معنى القربة هي العشر". لأن سببه الأرض النامية فباعتبار تعلقه بالأرض هو مئونة; لأن مئونة الشيء سبب بقائه والعشر سبب بقاء الأرض وباعتبار(4/201)
الشريعة وكل واحد منهما شرع مؤنة لحفظ الأرض وإنزالها ولذلك لا يبتدأ على المسلم وجاز البقاء عليه; لأنها لما تردد لا يجب بالشك ولم يبطل به وكذلك قال محمد رحمه الله في العشر. وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى:
ـــــــ
تعلقه بالنماء وهو الخارج كتعلق الزكاة به أو باعتبار أن مصرفه الفقراء كمصرف الزكاة تحقق فيه معنى العبادة وأخذ شبها بالزكاة إلا أن الأرض أصل والنماء وصف تابع وكذا المحل شرط والشرط تابع فكان معنى المئونة فيه أصلا ومعنى العبادة تبعا حتى لا يبتدأ على الكافر; لأن معنى القربة وإن كان تابعا, لكن الكافر ليس بأهل للقربة بوجه وأجاز محمد رحمه الله بقاءه على الكافر باعتبار معنى المئونة كما سنبينه والخراج مئونة; لأنه سبب بقاء الأرض كالعشر فيها معنى العقوبة; لأن سببه أي سبب شرعيته في الأصل أو سبب وضعه على الأرض لا سبب وجوبه فإنه هو الأرض على ما مر الاشتغال بالزراعة فإن الإمام إذا فتح بلدة عنوة وأقر أهلها فلم يسلموا واشتغلوا بالزراعة وضع على جماجمهم الجزية وعلى أراضيهم الخراج فكان سبب وضعه الاشتغال بالزراعة وهو سبب الذل في الشريعة على ما قال عليه السلام حين رأى آلة الزراعة في دار قوم: "ما دخل هذا دار قوم إلا ذلوا" وذلك لما في الاشتغال بالزراعة عمارة الدنيا والإعراض عن الجهاد وهما من عادة الكفار فكان وجوب الخراج باعتبار الأرض مئونة وباعتبار الاشتغال بالزراعة عقوبة. وكل واحد من العشر والخراج شرع مئونة لحفظ الأرض وإنزالها كما بيناه مشبعا في باب بيان أسباب الشرائع إلا أن صاحب الشرع جعل في العشر معنى العبادة كرامة للمسلمين وجعل في الخراج معنى العقوبة إهانة للكافرين وإنزال الأرض ريعها وما يحصل منها جمع نزل وهو الزيادة والفضل وذكر في الأسرار أن الخراج في الأراضي أصل; لأنه كان موجودا قبل الإسلام, لكن الشرع نقل عنه إلى العشر في حق المسلمين وأوجب الصرف إلى مصارف الزكاة ليصير به نوع عبادة تكرمة للمسلمين ولذلك أي ولكون الخراج متضمنا معنى العقوبة والذل لا يبتدأ الخراج على المسلم حتى لو أسلم أهل الدار طوعا أو قسمت الأراضي بين المسلمين لم يوضع الخراج على أراضيهم وجاز البقاء أي بقاء الخراج على المسلم حتى لو اشترى من كافر أرض خراج أو أسلم الكافر وله أرض خراج يؤخذ منه الخراج دون العشر; لأن الخراج لما تردد بين المئونة والعقوبة لم يجب بالشك أي لم يمكن إيجابه على المسلم ابتداء بمعنى المئونة لمعارضة معنى العقوبة إياه ولم يبطل به يعني لا يسقط بعد الوجوب بالشك أيضا فإنه لو سقط لسقط باعتبار معنى العقوبة وقد عارضه معنى المئونة فإنه يوجب البقاء فلا يسقط بالشك. وكذلك قال محمد رحمه الله في العشر أي وكما قالوا جميعا في الخراج قال محمد في العشر يعني لا يبتدأ العشر على الكافر ولكن يجوز البقاء عليه حتى لو ملك الذمي أرضا عشرية تبقى عشرية كما كانت;(4/202)
ينقلب خراجيا وقال أبو يوسف رحمه الله: يجب تضعيفه; لأن الكفر ينافي صفة القربة من كل وجه فلا يبقى العشر; لأنه قربة من وجه فلهذا يبقى الخراج وعن محمد رحمه الله روايتان في صرف العشر الباقي على الكافر كأنه جعله خراجيا
ـــــــ
لأن العشر يجب مئونة للأرض النامية كالخراج فيكون الكافر أهلا له; لأنه من أهل تحمل المؤن إلا أن في أداء العشر للمؤمن قربة وثوابا; لأنه يصرف إلى مصارف الزكاة ويقضى به رزق عبيد الله تعالى مثل ما يكون في نفقة الأبوين والأولاد وإذا كان معنى القربة في الأداء تابعا أمكن الإيجاب على الكافر بلا تضمين قربة في أدائها كما في النفقات ولأنا نوجب العشر ونصرفه إلى مصارف الجزية والخراج كصدقات بني ثعلب وهذا بخلاف ابتداء إيجاب العشر; لأن الكفر مانع منه لما فيه من ضرب كرامة مع إمكان وضع الخراج كما أن الإسلام مانع من وضع الخراج مع إمكان وضع العشر فأما بعدما صارت عشرية فيستقيم إيجابه على الكافر فلا تصير خراجية بكفره كالخراجية لا تصير عشرية بإسلام المالك وحاصل مذهبه أن ما صار وظيفة للأرض لا تتغير بتبدل المالك وقال أبو يوسف رحمه الله: يجب تضعيفه; لأن ما كان مأخوذا من المسلم يجب تضعيفه إذا وجب أخذه من الكافر كصدقات بني ثعلب وما يمر به الذمي على العاشر وقال أبو حنيفة رحمه الله: ينقلب خراجا; لأن معنى العبادة لا يمكن إلغاؤه من العشر; لأن. معنى القربة في صرفه إلى مصارف الزكاة التي هي عبادة والكافر ليس من أهله فلم يجب بحيث يصرف إلى الفقراء فإن قالا: يصرفه إلى المقاتلة فهو أداء حق آخر لما تبدل مستحقه; لأن العشر إنما عرف بوصف العبادة فإذا سلب عنه هذا المعنى لم يبق عشرا; لأن المشروع يعرف بوصفه وإذا سقط الأول ووجب الآخر كان الخراج به أولى من الغير تسمية كما في ابتداء المن عليهم بخلاف الخراج يبقى على المسلم; لأنه من أهل أن يؤخذ منه مئونة مالية بلا ثواب كنفقة دابته وما يجب صرفه إلى المقاتلة من الجعلات عند الحاجة. ولأن استبقاءه بعد الوجوب كاستبقاء الآخرة باعتبار التمكن من الانتفاع ومال المسلم يصلح لذلك وقوله; لأن الكفر ينافي صفة القربة يصلح دليلا لكلا القولين يعني لما كان الكفر ينافي القربة من كل وجه لمنافاته حكمها وهو الثواب يجب الخراج الذي هو أخذ مؤنتي الأرض عند أبي حنيفة رحمه الله لتعذر إيجاب الآخر وعند أبي يوسف يجب التضعيف الذي هو في حكم الخراج وليس فيه معنى العبادة بوجه; لأن التغيير في المصير إلى التضعيف أقل منه في المصير إلى الخراج; لأن في الخراج تغيير الأصل والوصف جميعا وفي التضعيف تغيير الوصف لا غير.
وأما الإسلام فلا ينافي العقوبة من كل وجه أي لا ينافي ما هو عقوبة من كل وجه(4/203)
في رواية والجواب عنه أنه غير مشروع إلا بشرط التضعيف لكن التضعيف ضروري فلا يصار إليه مع إمكان الأصل وهو الخراج فصار الصحيح ما قاله أبو حنيفة رحمه الله. وأما الحق القائم بنفسه فخمس المغانم والمعادن حق وجب
ـــــــ
كالرجم والقصاص فلا ينافي المئونة التي فيها معنى العقوبة بالطريق الأولى أو معناه أن الإسلام ينافي العقوبة من وجه وهو أنه سبب في العز والكرامة كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] فلا يصلح سببا للعقوبة التي هي ذل وهوان ولا ينافيها من وجه وهو أنه قد شرع في حق المسلم الحدود والقصاص وهي عقوبات محضة فيجوز أن يثبت في حقه ما هو مئونة فيه معنى العقوبة وإذا كان كذلك قلنا: لا يبتدأ الخراج على المسلم عملا بالوجه الأول ويجوز أن يبقى عليه عملا بالوجه الثاني فأما الكفر فينافى القربة من كل وجه فلا يمكن شروع العشر في حق الكافر ابتداء وبقاء وعن محمد رحمه الله روايتان في العشر الباقي على الكافر بعد تملكه للأرض العشرية ففي رواية السير يوضع موضع الصدقة; لأن حق الفقراء تعلق به فهو كتعلق حق المقاتلة بالأراضي الخراجية. وفي رواية ابن سماعة عنه يوضع في بيت مال الخراج; لأنه إنما يصرف إلى الفقراء ما صار لله تعالى بطريق العبادة ومال الكافر لا يصلح لذلك فيوضع موضع الخراج كالمال الذي يأخذه العاشر من أهل الذمة والجواب يعني لأبي حنيفة عما ذكر أبو يوسف ومحمد رحمهم الله أن العشر غير مشروع في حق الكافر إلا بشرط التضعيف فلا يمكن إيجاب عشر واحد عليه فهذا رد لكلام محمد. وقوله: لكن التضعيف إلى آخره رد لكلام أبي يوسف يعني أنه ضروري ثبت على خلاف القياس بإجماع الصحابة رضي الله عنهم في قوم بأعيانهم عند تعذر إيجاب الجزية والخراج عليهم خوفا من الفتنة فإنهم لما أبوا قبول الجزية والخراج ومالوا إلى التضعيف وقد كانوا ذوي سعة ومنعة حتى قيل: إنهم كانوا أربعين ألفا وكانوا قريبا من أرض الروم قبلوا ذلك منهم خوفا من التحاقهم بالروم وصيرورتهم حربا على المسلمين فأما غيرهم من الكفار فليسوا بمنزلتهم لإمكان أخذ الجزية والخراج منهم فلا يصار إلى التضعيف في حقهم مع إمكان إيجاب الأصل وهو الخراج فثبت أن الصحيح ما قال أبو حنيفة رحمه الله.
قوله: "وأما الحق القائم بنفسه" أي الحق الثابت بذاته من غير أن يتعلق بذمة العبد ومن غير أن يكون له سبب يجب باعتباره على العبد أداؤه بطريق الطاعة أو بغيرها مثل الصلاة والزكاة وسائر حقوق الله تعالى وحقوق العباد فخمس المغانم والمعادن والمغنم والغنيمة ما يأخذه المسلمون من أموال الكفار والمعدن اسم لما خلقه الله تعالى في الأرض من الذهب والفضة سمي به; لأن الناس يقيمون به الصيف والشتاء من عدن بالمكان(4/204)
لله تعالى ثابتا بنفسه بناء على أن الجهاد حقه فصار المصاب به له كله لكنه تعالى أوجب أربعة أخماسه للغانمين منة منه فلم يكن حقا لزمنا أداؤه طاعة له بل هو حق استبقاه لنفسه فتولى السلطان أخذه وقسمته ولهذا جوزنا صرف الخمس إلى من استحق أربعة أخماسه بخلاف الطاعات مثل الزكوات والصدقات فإنها لا ترد إلى الملاك بعد الأخذ منهم ولهذا حل الخمس لبني
ـــــــ
أقام به وقيل لإثبات الله تعالى فيه جوهرهما وإثباته إياه في الأرض حتى عدن فيها أي يثبت كذا في المغرب حق وجب أي هو حق ثبت لله تعالى بحكم ألوهيته لا حق لأحد فيه بناء على أن الجهاد حقه; لأنه إعزاز دينه وإعلاء كلمته فصار المصاب به له كله أي صار المصاب بالجهاد كله لله عز وجل كما أخبر عن ذلك بقوله جل ذكره: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1]. ومعنى الجمع بين ذكر الله والرسول أن الحكم والأمر فيها لله تعالى; لأنه خالص حقه لا حق لأحد فيه والرسول ينفذه فيما بين المؤمنين فثبت أن مجموع المصاب حقه على الخلوص, لكنه جل جلاله أوجب أي أثبت أربعة أخماس المصاب للغانمين منة منه أي بطريق المنة عليهم من غير أن يستوجبها بالجهاد; لأن العبد يعمله لمولاه لا يستحق على مولاه شيئا, لكنه تعالى أثبتها للغانمين جزاء معجلا في الدنيا فضلا منه ورحمة فلم يكن الخمس حقا لزمنا أداؤه بطريق الطاعة بل هو حق استبقاء لنفسه من المال الذي هو خالص حقه وأمر بالصرف إلى من سماهم في كتابه فتولى السلطان أخذه وقسمته بينهم; لأنه نائب الشرع ولهذا أي ولأنه حق ثابت بنفسه ولم يجب علينا على سبيل الطاعة جوزنا صرف خمس الغنيمة إلى من استحق أربعة أخماسها من الغانمين وإلى آبائهم وأولادهم وكذا جاز صرف خمس المعدن إلى الواحد عند حاجته أيضا بخلاف ما وجب على سبيل الطاعة مثل الزكوات والصدقات فإن صرفها لا يجوز إلى من أداها وإن افتقر حتى لو سلم الزكاة إلى الساعي بعد حولان الحول فافتقر قبل صرفها إلى الفقير لا يكون له أن يستردها من الساعي ويصرفها إلى حاجة نفسه وكذا لو لزمه كفارة وهو فقير فملك من الطعام مقدار ما يؤدي به الكفارة مثلا لا يجوز له أن يصرفه إلى نفسه أو إلى أبويه أو أولاده. وذلك; لأنها لما وجبت على سبيل الطاعة كان فعل الإيتاء هو المقصود ولا يحصل الإيتاء أو لا يتم بالصرف إلى نفسه وإلى ولده وأبويه فأما هاهنا فالفعل ليس بمقصود; لأنه لم يجب على سبيل الطاعة بل هو مال الله تعالى أمر بصرفه إلى جهة فإذا وجدت تلك الجهة في الغانم كان هو وغيره سواء ولهذا أي ولأنه ليس بحق لزمنا أداؤه بطريق الطاعة حل خمس الخمس لبني هاشم; لأنه أي خمس الخمس على ما قلنا من التحقيق أي أثبتنا أنه حق قائم بنفسه لله تعالى لم يصر من الأوساخ; لأن المال إنما يصير(4/205)
هاشم; لأنه على ما قلناه من التحقيق لم يصر من الأوساخ غير أنا جعلنا النصرة علة للاستحقاق; لأنها من الأفعال والطاعات فكان أولى بالكرامة واعتبارا بالأربعة الأخماس فإنها بالنصرة بالإجماع. فأما قرابة النبي فخلقة ولتكون لها صيانة
ـــــــ
وسخا بصيرورته آلة لأداء الواجب ومحلا لانتقال الآثام التي هي بمنزلة الدرن في البدن إليه فيصير خبيثا كالماء المستعمل في البدن يصير خبيثا طبعا بانتقال الأوساخ إليه أو شرعا بانتقال الحدث أو الآثام إليه وهذا المال لم يؤد به واجب فبقي طيبا كما كان فحل لبني هاشم بخلاف مال الزكاة فإنه صار خبيثا لما ذكرنا فلم يحل لبني هاشم لفضيلتهم.
قوله: "غير أنا" أي, لكنا جعلنا النصرة علة للاستحقاق في حق بني هاشم وغيرهم من ذوي القربى. وقال الشافعي رحمه الله: علة الاستحقاق القرابة في حقهم وتظهر فائدة الاختلاف في سقوط سهم ذوي القربى فعندنا يسقط بوفاة الرسول عليه السلام لانتهاء العلة وهي النصرة بوفاته كما سقط نصيب المؤلفة قلوبهم من الزكاة لانتهاء علة الاستحقاق وهي ضعف الإسلام إلا أن عند أبي الحسن الكرخي من مشايخنا سقط هذا السهم بموته في حق الأغنياء منهم دون الفقراء وهو مختار القاضي الإمام أبو زيد في الأسرار وعند الشيخ أبي جعفر الطحاوي سقط في حق الأغنياء والفقراء منهم جميعا وعند الشافعي رحمه الله هو ثابت لبقاء العلة وهي القرابة فيقسم عندنا على ثلاثة أسهم لليتامى والمساكين وأبناء السبيل ويدخل من اتصف من ذوي القربى بهذه الصفات فيهم عند المحققين من أصحابنا وسهم الرسول عليه السلام ساقط عندنا بوفاته أيضا كسهم ذوي القربى. وعنده يقسم على خمسة أسهم كما كان يقسم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم للإمام يصرفه إلى مصالح الدين وسهم لذوي القربى يقسم بين بني هاشم وبني المطلب دون غيرهم, وثلاثة أسهم لما ذكرناهم قال: والذي يدل على أن العلة هي القرابة أنه تعالى قال: {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] والمراد قرابة الرسول عليه السلام كما فسره أهل التفسير وهي اسم مشتق من القرابة فيكون مأخذ الاشتقاق علة للحكم كما في قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] ولأنه عليه السلام قال: "يا بني هاشم إن الله تعالى كره لكم غسالة الناس وعوضكم بما هو خير منها وهو خمس الخمس" سمي حقهم في الخمس عوضا عن حرمان الصدقة والعوضية إنما تثبت إذا جمعتهما علة واحدة; لأن العوض خلف عن المعوض فيثبت بما ثبت به الأصل وعلة حرمان الصدقة هي القرابة فوجب أن تكون القرابة علة لاستحقاق خمس الخمس الذي هو عوض أيضا يوضحه أن حرمانهم عن الصدقة كان بطريق الكرامة وإنما يحصل الكرامة إذا حرموا عن الصدقة التي هي مال خبيث وأعطوا من مال طيب فأما الحرمان من غير تخلفه(4/206)
.............................................................................................
شيء آخر يكون إهانة لا كرامة وما ذكرتم مؤد إليه إذ الحرمان ثابت من غير خلف على أصلكم.
والدليل لنا على أن النصرة علة الاستحقاق من النص ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم سهم ذوي القربى يوم خيبر بين بني هاشم بن عبد مناف وبني المطلب بن عبد مناف فجاءه عثمان بن عفان وهو من بني عبد شمس بن عبد مناف وجبير بن مطعم وهو من بني نوفل بن عبد مناف فقالا: إنا لا ننكر فضل بني هاشم لمكانك الذي وضعك الله فيهم ولكن نحن وبنو مطلب إليك سواء في النسب فما بالك أعطيتهم وحرمتنا فقال: "إنهم لن يزالوا معي هكذا في جاهلية وإسلام" 1 وشبك بين أصابعه فهما سألا عن تخصيص بني المطلب مع استوائهم في القرابة وقيل بنو نوفل وبنو عبد شمس كانوا أقرب إليه من بني المطلب; لأن نوفلا وعبد شمس كانا أخوي هاشم لأب وأم والمطلب كان أخا هاشم لأبيه دون أمه, ثم أعطى رسول الله عليه السلام بني المطلب ولم يعط بني نوفل وبني عبد شمس فأشكل عليهما فلهذا سألاه فبين النبي عليه السلام أن الاستحقاق بالنصرة والانضمام إليه صحبة لا بالقرابة والصحبة منقطعة بوفاته عليه السلام فبطل الاستحقاق ولا يقال: الكتاب يقتضي الاستحقاق بالقرابة فلا يجوز إبطال ما ثبت به بخبر الواحد; لأنا لا نسلم أنه من الآحاد بل هو خبر مشهور عمل به الأمة فإن سهم ذوي القربى عند من قال ببقائه بعد وفاة الرسول عليه السلام مقسوم بين بني هاشم وبني المطلب دون غيرهم بناء على هذا الخبر فيجوز الزيادة به على الكتاب, ثم أما أن يقال: ثبت أن النصرة علة بهذا الخبر فتضم إلى القرابة الثابتة علة بالكتاب وصارتا علة واحدة. ويضاف الحكم إلى آخرهما وجودا كما هو طريق بعض مشايخنا أو يقال: لفظ القربى مطلق فيتقيد بالنصرة كتقيد الأيام في كفارة اليمين بالتتابع أو هو مجمل فيلتحق الخبر بيانا به كما مر بيانه في الباب الأول من البيان ومن المعقول أشير إليه في الكتاب وهو أن سهم ذوي القربى ثبت لهم بطريق الكرامة فتعليق هذه الكرامة بنصرة الرسول عليه السلام على الوجه الذي وجد منهم في الجاهلية والإسلام أولى من تعليقه بالنسب; لأن النصرة فعل هو طاعة في الأصل والقرابة أمر ثبت خلقة لا صنع فيه لأحد وتعلق الكرامات بالطاعات أكثر من تعلقها بما ثبت خلقة واعتبار بالأربعة الأخماس فإنها لم تستحق إلا بالنصرة حتى لا يملكها من دخل تاجرا أو يملكها من دخل غازيا وإن لم يقاتل; لأنه دخل على قصد النصرة وإنها تحصل بالاجتماع على قصد القتال فثبت أن ما ذكرنا تعليل بوصف ظهر تأثيره في الشرع ولا يقال لو كان الحكم
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الخراج حديث رقم 2978 وابن ماجه في الجهاد حديث رقم 2881.(4/207)
.............................................................................................
متعلقا بالنصرة لما ثبت الاستحقاق للنساء والولدان كما في الأربعة الأخماس; لأنهم ليسوا من أهل النصرة; لأنا نقول: المراد من النصرة الاجتماع إليه في الشعب والوادي لا نصرة القتال ومثلها يكون من النسوان والولدان وإليها أشير في قوله عليه السلام: "إنهم لم يفارقوني في جاهلية وإسلام" . وقصة ذلك أن قريشا حين أرادوا بالنبي صلى الله عليه وسلم سوءا قام بنو هاشم وبنو المطلب بالذب عنه فتضافرت قريش على نصب العداوة لبني هاشم وبني المطلب وكتبوا صحيفة تعاقدوا فيها على قطع الرحم من بني هاشم وبني المطلب وأن لا يصاهروهم ولا يبايعوهم ولا يخالطوهم حتى تسلموا رسول الله عليه السلام إليهم ليقتلوه وعلقوها في الكعبة فلما رأى أبو طالب ذلك دخل شعبه الذي كان له بأسفل مكة ببني هاشم وبني المطلب غير أبي لهب فإنه دخل في عقد قريش فتحصنوا بالشعب وبقوا فيه ثلاث سنين مقطوعا عنهم الميرة والتفقد حتى ضاقت بهم الحال وجعل صبيانهم يتضاغون من الجوع, ثم سلط الله الأرضة على الصحيفة فأكلت منها كل ما كان فيها من ذكر جور وقطيعة وتركت ما كان من اسم الله تعالى وأوحي بذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكره لعمه فاجتمعوا ولبسوا أحسن ثيابهم وخرجوا إلى الحجر فجلسوا مجالس ذوي الأقدار من قريش, ثم قال أبو طالب: يا معشر قريش إنا قد جاءكم لأمر فأجيبوا فيه بالمعروف فقالوا مرحبا بك فقل ما تحب فعندنا ما يسرك فقال أبو طالب: إن محمدا أخبرني ولم يكذبني قط أن الله تعالى سلط على صحيفتكم الأرضة فلحست كل ما كان فيها من جور وقطيعة وتركت ما كان من ذكر الله تعالى فإن كان صادقا نزعتم عن سوء رأيكم وإن كان كاذبا دفعته إليكم فقتلتموه أو استبقيتموه فقالوا: قد أنصفتنا, ثم تمالأت جماعة من قريش في تقصي شأن الصحيفة فلما أحضرت ونشرت إذ هي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فعند ذلك سقط في أيديهم وعلموا أنهم كانوا ظالمين, ثم مزقت الصحيفة وخرج الناس من الشعب وأمن بعضهم بعضا. وفي رواية أنهم لما جهدوا جهدا شديدا رق لهم نفر من قريش منهم مطعم بن عدي وأظهروا الكراهة لما نالهم من الضر والبؤس فأجمعوا على نقض تلك الصحيفة القاطعة الظالمة فقام مطعم إلى الصحيفة فوجد الأرضة قد أكلتها إلا باسمك اللهم فلما مزقت وبطل ما فيها فرج الله تعالى عن بني هاشم وبني المطلب فخرجوا من الشعب فذلك معنى قوله عليه السلام: "إنهم لن يزالوا معي في جاهلية وإسلام" .
فإن قيل فإذا هذه. النصرة التي هي العلة عندكم لا تكون من الطاعات; لأنها وجدت في الجاهلية والكفر مناف لجميع الطاعات فلا تصلح سببا للكرامة قلنا: يجوز أن يكون هذا الفعل منهم مخصوصا بالصيانة عن الفساد بعد الإسلام لتعلقه بالنبي صلى الله عليه وسلم كما روي أن(4/208)
عن أعواض الدنيا ولم يجز أن يكون النصرة وصفا يتم بها القرابة علة ما سبق في باب الترجيح أن ما يصلح علة بنفسه لا يصلح للترجيح ولأنها تخالف جنس
ـــــــ
عليا رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل نفعت عمك أبا طالب فقال عليه السلام: "كان في طمطام من النار فأخرجته إلى ضحضاح منها" 1 ولم يكن ذلك التخفيف إلا بإحسانه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونصرته له ولم يبطل بسبب الكفر وكذلك روي أن العذاب يخفف عن أبي لهب ليلة الاثنين بذبحه نسيكة استبشارا بمولد النبي عليه السلام وكان ليلة الاثنين فلما صلح مثل هذه الأفعال مع الكفر سببا للتخفيف في الآخرة لأن يصلح سببا لاستحقاق سهم الغنيمة في الدنيا بعد الإسلام كان أولى.
قوله: "وليكون" عطف على الدليل الأول أي جعلنا النصرة علة للاستحقاق دون القرابة لكذا وليكون جعلنا النصرة علة صيانة لقرابة الرسول عن أعواض الدنيا أصلا; لأن درجة قرابته أعلى من أن تجعل علة لاستحقاق شيء من الدنيا ولهذا صارت سببا للحرمان عن الزكاة ولم تصلح سببا لاستحقاق الإرث حتى لم يرث أقرباء الرسول عليه السلام عنه فثبت أن جعل النصرة علة أولى.
قوله: "ولم يجز أن يكون النصرة وصفا يتم بها القرابة علة" يحتمل أن يكون جوابا عما قال الخصم أنا لا أهدر وصف النصرة ولكن أجعل القرابة علة كما اقتضاه النص وأجعل النصرة وصفا يتم بها القرابة علة ويترجح بها على القرابة التي لم يوجد فيها وصف النصرة كالعدالة في الشاهد والنماء في النصاب والتأثير في الوصف الملائم فإن بهذه الأوصاف تتم هذه الأشياء علة تترجح على ما لم يوجد فيه هذه الأوصاف ولهذا أعطينا بني هاشم وبني المطلب دون غيرهم لوجود هذا الوصف في قرابتهم دون قرابة من سواهم. فقال الشيخ رحمه الله: لا يمكن أن يجعل النصرة وصفا متمما للقرابة علة ومرجحا لها لما مر أن ما يصلح علة بنفسه لا يصلح للترجيح والنصرة بنفسها تصلح علة للاستحقاق كما في الأربعة الأخماس فلا يصلح وصفا مرجحا للقرابة; لأنها أي ولأن النصرة تخالف جنس القرابة; لأن القرابة ذات ليس فيها صنع لأحد والنصرة فعل من جنس الطاعات في الأصل. وأثرهما مختلف أيضا فإن القرابة سبب لإيجاب الصلة في مال القريب دون غيره والنصرة سبب لإيجاب الصلة في مال الغير وإذا كان كذلك لم تصلح النصرة وصفا للقرابة لتترجح القرابة به كما في ابني عم أحدهما أخ لأم أو زوج لا يصلح الزوجية أو الأخوة وصفا مرجحا لقرابة العمومة للاختلاف بخلاف أخوين لأب أحدهما أخ لأم حيث يصلح الأخوة لأم وصفا مرجحا للإخوة لأب لاتحاد جنس القرابة على ما مر بيانه على أنا
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الإيمان حديث رقم 209.(4/209)
.............................................................................................
إن سلمنا أن النصرة تصلح مرجحة للقرابة فإنما تصلح في حياة الرسول عليه السلام لا بعد وفاته لفوات هذا الوصف بعد وفاته فكانت القرابة بعد وفاة الرسول عليه السلام بمنزلة نصاب لم يبق نماؤه وبمنزلة شاهد لم تبق عدالته فسارت قرابة بني نوفل وبني عبد شمس فإن قيل: إذا لم يمكن أن تجعل النصرة وصفا للقرابة نجعل كل واحدة منهما علة على حدة فإن الحكم يجوز أن يكون معللا بعلتين. قلنا: لا يجوز ذلك; لأن القرابة بانفرادها لا تصلح علة بالإجماع فإن بني نوفل وبني عبد شمس لا يستحقون شيئا وإذا لم تصلح القرابة علة ولم يصلح النصرة وصفا لها كانت العلة هي النصرة لا غير كما بينا ويحتمل أن يكون ردا لما ذهب إليه بعض مشايخنا أن الله تعالى علق الاستحقاق بالقربى وحقيقتها للقرابة وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الاستحقاق بالنصرة فصار الحكم متعلقا بعلة ذات وصفين من غير أن يكون أحدهما تابعا للآخر وقد عدم أحد الوصفين وهو النصرة بعد وفاة الرسول عليه السلام فلا يبقى الحكم كما أنه لما عدم أحد الوصفين في حق بني نوفل وبني عبد شمس في حياته لم يثبت الاستحقاق فبنو هاشم وبنو المطلب بعد وفاته بمنزلة بني نوفل وبني عبد شمس في حياته. فقال: لما صلحت النصرة علة بنفسها لما بينا لا يصلح قرينة للقرابة متممة لكونها علة لما سبق أن ما يصلح علة بنفسه لا يصلح للترجيح; لأنه لا يصير تابعا لعلة أخرى فلأن لا يصلح جزء العلة أولى كان; لأن في جزء العلة إبطال كونه علة وليس في الترجيح به ذلك والوجه الأول أظهر; لأن قوله ولأنها يخالف جنس القرابة فلم يصلح وصفا لا يلائم هذا الوجه. وأما تمسك الخصم بخبر التعويض; لأن حرمة الصدقة على بني هاشم لكرامتهم ولم يدخل بها عليهم نقصان يحتاج إلى جبره بالتعويض ولو كان هذا السهم ثبت لهم عوضا عن حرمة الصدقة لكان ينبغي أن يستحق من يستحق الصدقة لولا قرابة الرسول عليه السلام وهم الفقراء دون الأغنياء لكان ينبغي أن لا يستحقه بنو المطلب لعدم الحرمة في حقهم فعرفنا أنه عليه السلام لم يرد به حقيقة التعويض عن الصدقة وإنما أراد به تطييب قلوبهم بأن الله تعالى إن حرم عليكم الصدقة كرامة فقد أعطاكم مالا آخر أطيب منه إلا أنه عليه السلام سماه تعويضا مجازا باعتبار الصورة فقد ذهب مال وحضر آخر كما سمي بيع الحر بيعا بحكم الصورة على أن عند بعض مشايخنا الاستحقاق في حق من ثبت التعويض في حقهم وهم الفقراء باق والخلاف في الأغنياء وبعضهم يقول: إن حديث التعويض يدل على أن استحقاقهم هذا السهم على نحو استحقاق الصدقة لولا القرابة واستحقاقهم للصدقة لولا القرابة كان على وجه جواز الصرف إليهم لا وجوب الصرف إليهم فكذلك هذا السهم ونحن نجوز صرف بعض الخمس إليهم وإنما ننكر وجوب الصرف إليهم بسبب القرابة فثبت أنه لا متمسك للخصم في حديث التعويض وقد ذكر في(4/210)
القرابة فلم يصلح وصفا لها وعلى مسائل أصحابنا رحمهم الله في أن الغنيمة تملك عند تمام الجهاد حكما بالأخذ مقصودا ويبتنى عليه مسائل لا تحصى.
ـــــــ
الأسرار أن محمدا رحمه الله احتج بإجماع الصحابة فإن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا رضي الله عنهم قسموا الخمس على ثلاثة أسهم لليتامى والمساكين وأبناء السبيل ولا معدل عن إجماع الخلفاء الراشدين من غير إنكار أحد عليهم ذلك والله أعلم.
قوله: "وعلى هذا مسائل أصحابنا" أي على أن الغنائم حق الله تعالى على الخلوص لابتنائها على الجهاد الذي هو خالص حقه بنيت مسائل أصحابنا في أن الغنيمة تملك عند تمام الجهاد حكما يعني يبتنى على ما ذكرنا أن الغنيمة تملك عند تمام الجهاد حكما وذلك بالإحراز بدار الإسلام. ويبتنى على أن الغنيمة تملك بكذا مسائل أصحابنا فكانت المسائل مبنية على الأصل الأول بواسطة الأصل الثاني وحاصله أن الملك في الغنائم لا يتم قبل الإحراز بدار الإسلام عندنا وعند الشافعي رحمه الله يتم بنفس الأخذ إذا استقرت الهزيمة ومما يبتني عليه أن قسمة الغنائم في دار الحرب لا تجوز عندنا خلافا له وإن واحدا من الغانمين لو مات بعد استقرار الهزيمة قبل الإحراز بدار الإسلام لم يورث نصيبه عندنا خلافا له وإن المدد إذا لحق الجيش قبل الإحراز بدار الإسلام بعد قرار الهزيمة شاركوهم في الغنائم عندنا خلافا له وإن الإمام إذا نقل جارية لم يحل للمنقل له أن يطأها ما لم يحرزها بدار الإسلام عند أبي حنيفة وأبي يوسف خلافا لمحمد والشافعي رحمهم الله وهو معنى قوله ويبتني عليه مسائل لا تحصى أي كثيرة هو يقول: الاستيلاء سبب الملك في المال المباح بلا خلاف والعاصم مفقود في أموالهم وقد سلطنا الشرع على تملك ما في أيديهم فكانت على الإباحة وقد تم الاستيلاء بكون المحل في يد المسلمين حسا وعيانا وكونهم في دارهم لا يمنع كون الشيء في يد المستولي المتصرف فيه حسا وحقيقة. والذي يدل عليه أنا حكمنا بزوال ملكهم عن الغنائم ومتى لم تمنع الدار زوال ملكهم لم تمنع تمام الاستيلاء وأنا نقول: تملك الغنائم ليس من جنس تملك المباحات فإنا أجمعنا على وجوب الخمس وثبوت المساواة بين المباشر والردء في الاستحقاق فلا بد من التعرف عن سببه فنقول باعتبار أصل الوضع وجب أن يكون فعل الجهاد واقعا لله تعالى من غير أن يكون سببا لتملك مال; لأنه يتردد حينئذ بين أن يكون قربة واقعة لله تعالى وبين أن يكون سببا لتملك المال كالبيع فيتحقق في الفعل معنى الشركة وذلك لا يجوز فيجب تجريد الفعل لله تعالى فيكون مشروعا لقهر الكفار وإعلاء الدين وأخذ الأموال والانتزاع من أيديهم واقع لله تعالى على سبيل القهر لأعدائه, ثم أنه جل جلاله جعل أربعة أخماس الغنيمة جزءا معجلا للمجاهد فكان الجهاد سبب استحقاق الغنيمة من(4/211)
وأما الزوائد فالنوافل كلها والسنن والآداب. وأما العقوبات الكاملة فمثل الحدود وأما القاصرة فنسميها أجزية. مثل حرمان الميراث بالقتل ولذلك لا يثبت في حق
ـــــــ
حيث الجزاء والثواب لا باعتبار الاستيلاء على ما قال تعالى: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا} [آل عمران: 148] والمراد به المغانم وفعل الجهاد لا يتم إلا بقهر جميع أهل الدار; لأنهم انتصبوا للذب عما يعتقدون فصاروا كشخص واحد بمنزلة المسلمين فلا بد من اتصال القهر بالكل بأقصى ما يتصور ومعنى القهر لا يتحقق إلا إذا لزم بحيث عجزوا عن دفعه ومقاومته, ثم أخذ المال وإن وقع منا على سبيل المغالبة لكن ما داموا يقدرون على الانتقام منا لم يلزم ذلك فلا يتحقق معنى القهر ومتى وجد الإحراز بدار الإسلام فقد عجزوا عن الدفع فلزم القهر في حق الكل فتم الجهاد بأقصى ما يمكن فيستحقه جزاء عليه. فهذا بيان بناء هذا الأصل وهو أن الغنيمة تملك عن تمام الجهاد حكما على ما تقدم فتبين بهذا أن الملك في الغنائم ثبت على سبيل الجزاء على الجهاد وأن الاستيلاء على المال وأخذه عمل لله عز وجل فعرف به وجه التمشية في المسائل وعرف أن الكلام في وقوع الاستيلاء تاما وغير تام مستغنى عنه وقوله إنا حكمنا بزوال ملكهم قلنا نحن: إنما نثبت الملك لهم باعتبار وقوع الشيء في تصرفهم حقيقة فأما في التحقيق فلا ملك لهم; لأنهم أرقاء بمنزلة الأموات في حقنا على ما عرف من أصلنا كذا ذكرنا الشيخ أبو الفضل في إشارات الأسرار.
قوله: "وأما الزوائد" وهي القسم الثالث من أقسام العبادات فنوافل العبادات كلها وسننها وآدابها; لأنها ليست بواجبة بل شرعت مكملات للفرائض زيادة عليها فلم تكن مقصودة. وأما العقوبات الكاملة أي المحضة التامة في كونها عقوبة فمثل الحدود نحو حد الزنا وحد السرقة وحد الشرب; لأنها وجبت بجنايات كاملة لا يشوبها معنى الإباحة فاقتضى كل واحدة منها أن يكون لها عقوبة زاجرة عن ارتكابها حقا لله تعالى على الخلوص وعن المبرد أنها إنما سميت عقوبة; لأنها يتلو الذنب من عقبه يعقبه إذا تبعه وأما القاصرة أي العقوبات القاصرة فنسميها أجزئة. فرقا بين ما هو كامل وقاصر والجزاء لفظ يطلق على ما هو عقوبة كما في قوله تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة: 38] وعلى. ما هو مثوبة كما في قوله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] فلقصور معنى العقوبة سميت أجزئة إذ مطلق اسم العقوبة ينطلق على الكامل منها وقد بينا أن المراد بالجمع الواحد إذ ليس في هذا النوع إلا هذا المثال ويجوز أن يلحق حرمان الوصية بالقتل ووجوب الكفارة من حيث إن معنى العقوبة فيها قاصر هذا القسم فيحمل اللفظ على حقيقته ولا يحتاج إلى حمله على الواحد.(4/212)
الصبي; لأنه لا يوصف بالتقصير بخلاف الخاطئ البالغ; لأنه مقصر فلزمه الجزء القاصر ولم يلزمه الكامل والصبي غير مقصر فلم يلزمه القاصر ولا الكامل.
ـــــــ
مثل حرمان الإرث خبر مبتدأ محذوف أي هي مثل حرمان الإرث ولو قيل وأما القاصرة ونسميها أجزئة فمثل حرمان الإرث لكان أحسن وأوفق لما تقدم وأكثر مطابقة للمقصود ومعنى العقوبة في الحرمان مع وجود علة الاستحقاق وهي القرابة ظاهر فإنه غرم لحق القاتل بجنايته وفي الغرم معنى العقوبة ولأن ما يجب لغير الله تعالى بالتعدي يجب لمن وقع التعدي عليه لا لغيره وليس في حرمان الإرث نفع عائد إلى المقتول المتعدى عليه فثبت أنه وجب جزاء لله تعالى زاجرا عن ارتكاب ما حرمه كالحدود; لأن ما لا يجب لغير الله تعالى يجب لله تعالى ضرورة ومعنى القصور فيه أنه عقوبة مالية لا يتصل بسببه ألم بظاهر بدنه بخلاف الحدود وكذا لا يلحقه نقصان في ماله بل يمتنع ثبوت ملك له في تركة المقتول فكان عقوبة قاصرة. ولذلك أي ولكون الحرمان عقوبة لا يثبت في حق الصبي حتى لو قتل مورثه عمدا أو خطأ لا يحرم عن الميراث عندنا. وقال الشافعي رحمه الله تعالى: يحرم; لأنه حكم متعلق بالقتل بقوله عليه السلام: "لا ميراث لقاتل" والصبي مثل البالغ في الأحكام المتعلقة بالأفعال ومعنى العقوبة فيه غير لازم بدليل أنه يثبت في حق الخاطئ والخطاء ينفي العقوبة كالصبي وإذا كان كذلك أمكن إيجابه على الصبي وإن عقل معنى العقوبة فيه في غير هذا الموضع ولئن سلمنا لزوم معنى العقوبة فيه فالصبا لا ينافي العقوبة المالية كالخراج; لأن ماله كامل بخلاف العقوبة البدنية; لأن بدنه ناقص ونحن نقول: الحرمان عقوبة ثبتت جزاء على ارتكاب القتل المحظور في نفسه فلا يثبت في حق الصبي كما لا يثبت جزاء الشرب والزنا. وذلك; لأن ما يثبت بطريق الجزاء قاصرا كان أو كاملا يستدعي حظر الإحالة والحظر يثبت بالخطاب ولا خطاب في حق الصبي فلا يوصف فعله بالحظر ولا بالتقصير أصلا فلا يمكن تعليق الجزاء به بخلاف الخاطئ إذا كان بالغا عاقلا; لأنه مخاطب إذ الخطأ جائز المؤاخذة; لأنه لا تقع إلا عن تقصير منه فكان الخطاب متوجها عليه في التثبت فيه والغرم كما أخبر الله تعالى في قوله تعليما: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] غير أنه تعالى رفع حكم الخطاء في بعض المواضع تفضلا منه ولم يرفع في القتل تعظيما لأمر الدم فعلق به الدية والكفارة فيجوز أن يتعلق به الجزاء القاصر وهو الحرمان للقصير في التثبت كما تعلقت به الكفارة ولا يتعلق به الجزاء الكامل وهو القصاص لعذر الخطاء فأما الصبا فينافي الخطاب أصلا لقصور الآلة فلا يوصف فعل الصبي بالتقصير الكامل والناقص فلا يثبت في حقه العقوبة الكاملة والقاصرة ولا يلزم عليه ما إذا ارتد الصبي حيث يحرم عن الميراث مع أنه لا تعاقب على الردة; لأن الحرمان ليس بجزاء الردة فإن الردة تبديل الدين ولو أسلم يحرم عن ميراث أبيه(4/213)
وحافر البئر وواضع الحجر والقائد والسائق والشاهد إذا رجع لم يلزمهم الحرمان; لأنه جزاء المباشرة فلا يجب على صاحب الشرط أبدا كالقصاص. والحقوق
ـــــــ
الكافر وهو تبديل مأمور به ولو كان جزاء لم يثبت بالحلال فعرف أن الحرمان بسبب آخر تحت اختلاف الدينين وهو انقطاع الولاية الثابتة بالقرابة كانقطاعها بالرق كذا في الأسرار.
وذهبت جماعة من أهل المدينة والأوزاعي إلى أن الحرمان لا يثبت في حق الخاطئ إلا في الدية وكذا نقل عن علي رضي الله عنه وعند عثمان البتي لا يحرم من الدية أيضا; لأن حرمان الميراث شرع عقوبة على قصده استعجال الميراث قبل أوانه وذلك لا يتحقق من المخطئ فإنه قصد قتل الصيد لا قتل مورثه كما لا يتحقق من الصبي والمجنون إلا أنا لم نورثه من الدية; لأنها تجب عليه وتتحمل عنه العاقلة فلو ورثناه منها, لكنا أوجبنا الدية عليه له وهو فاسد, لكن الجواب ما ذكرنا أنه جزاء القتل المحظور والقتل من الخاطئ مع أن الخطأ عذر شرعا محظور ولهذا تعلق به الكفارة وهي ستارة للذنب فما جاز مع كون الخطأ عذرا أن يؤاخذ بالكفارة جاز أن يؤاخذ بحرمان الميراث.
وقد تأيد ما ذكرنا بآثار الصحابة فإنه روي أن رجلا رمى رجلا بحجر فأصاب أمه خطأ فقتلها فغرمه علي رضي الله عنه الدية ونفاه من الميراث. وقال للقاتل: إنما حظك من ميراثها الحجر وروي أن رجلا قتل أخاه خطأ فسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن ذلك فلم يجعل له ميراثا وروي أن عرفجة المدلجي قذف ابنه بالسيف فأصاب رجليه بغير قصده ومات فغرمه عمر رضي الله عنه الدية مغلظة ونفاه من ميراثه وجعل ميراثه لأمه وأخيه ولم ينقل عن أحد منهم خلاف ذلك يحل محل الإجماع.
قوله: "وحافر البئر" يعني إذا حصل القتل بمباشرة الشرط أو بطريق التسبيب بأن حفر بئرا في غير ملكه فوقع فيها مورثه فهلك أو وضع حجرا على قارعة الطريق فمات به مورثة أو أخرج ظلة أو جناحا فسقط على مورثه فقتله أو قاد دابة فوطئت مورثه فمات أو شهد على مورثه بقتل فقتل, ثم رجع عن شهادة لا يثبت الحرمان عندنا. وعند الشافعي رحمه الله يثبت; لأنه قتل بغير حق كالقتل خطأ ولهذا وجبت فيه الدية وهي متعلقة بالقتل بغير حق وقلنا: الحرمان ثبت عقوبة على مباشرة القتل المحظور فإنه عليه السلام قال: "لا ميراث لقاتل" بعد صاحب البقرة رتب الحكم على القتل وهذا ليس بقتل بل هو مباشرة شرط القتل أو تسبيب له فلا يستقيم إثبات ما شرع عقوبة في القتل فيما دونه بالقياس فأما الدية فلم تجب بطريق الجزاء إنما هي بدل المحل وتلف المحل بالمباشرة والتسبيب على نمط واحد فلا يمتنع وجوبها بالتسبيب أما فعل المسبب فليس كفعل المباشر فلا يجازى(4/214)
الدائرة هي الكفارة فيها معنى العبادة في الأداء وفيها معنى العقوبة حتى لم يجب مبتدأة. وجهة العبادة فيها غالبة عندنا وهي مع ذلك جزاء الفعل حتى راعينا فيها
ـــــــ
بما يجازى به المباشر. ألا ترى أن الدية تجب على العاقلة ولا يثبت الحرمان في حقهم, ثم قيل: حد المباشرة أن يتصل فعل الإنسان بغيره ويحدث منه التلف كما لو جرحه أو ضربه فمات وحد التسبيب أن يتصل أثر فعله بغيره لا حقيقة فعله فيتلف به كما في حفر البئر فإن المتصل بالواقع أثر فعله وهو العمق فإنه تلف به لا حقيقة فإن حقيقته اتصلت بالمكان لا بالواقع فلا يجب أي جزاء المباشرة وهو الحرمان على صاحب الشرط كحفر البئر ولا على صاحب السبب أيضا كالباقين إلا أن الشيخ لم يذكر صاحب السبب; لأن حكمه يعرف من ذكر صاحب الشرط لتساويهما في الحكم.
قوله: "والحقوق الدائرة" يعني بين العبادة والعقوبة هي الكفارات فيها معنى العبادة في الأداء يعني أنها يتأدى بما هو عبادة كالصوم والإعتاق والصدقة فكان في أدائها معنى العبادة ويجوز أن يكون معناه أداءها يجب بطريق العبادة فإنها تجب بطريق الفتوى ويؤمر من عليه بالأداء بنفسه من غير أن تستوفي منه خبرا كالعبادات والشرع لم يفوض إلى المكلف إقامة شيء من العقوبات على نفسه بل هي مفوضة إلى الأئمة وتستوفى بطريق الخبر فكان في أدائها معنى العبادة مع أنها تتأدى بما هو محض العبادة وفيها معنى العقوبة فإنها لم تجب الأجزئة على أفعال توجد من العباد ولذلك سميت كفارات; لأنها ستارات للذنوب ولم تجب مبتدأة كما تجب العبادة بل تتوقف على أسباب توجد من العبد فيها معنى الحظر في الأصل كالعقوبات فمن هذا الوجه فيها معنى العقوبة فإن العقوبة هي التي تجب جزاء على ارتكاب المحظور الذي يستحق المأثم به وجهة العبادة فيها أي في الكفارات غالبة عندنا بدليل أنها تجب على أصحاب الأعذار مثل الخاطئ والناسي والمكره وكذا المحرم إذا اضطر إلى الاصطياد لمخمصة أصابته أو إلى حلق الرأس لأذى به من رأسه جاز له الاصطياد والحلق وتجب عليه الكفارة ولو كانت جهة العقوبة فيها غالبة لامتنع وجوبها بسبب العذر إذ المعذور لا يستحق العقوبة وكذا لو كانت مساوية; لأن جهة العبادة إن لم تمنع الوجوب على هؤلاء المعذورين فجهة العقوبة تمنع ذلك والأصل عدم الوجوب فلا يثبت الوجوب بالشك. يصح ما ذكرنا أنها تجب على من ليس بجان في اليمين ولا في الحنث بأن حلف لا يكلم هذا الكافر فإنه في اليمين ليس بجان; لأن هجران الكافر وترك التكلم معه أمر حسن فإذا أسلم هذا الكافر فكلمه حنث وهو في الحنث غير جان أيضا; لأن هجران المؤمن غير مشروع ومع ذلك وجبت الكفارة فعرفنا أن جهة العبادة فيها راجحة.(4/215)
صفة الفعل فلم نوجب على قاتل العمد وصاحب الغموس; لأن السبب غير موصوف بشيء من الإباحة وقلنا: لا يجب على المسبب الذي قلنا ولا على الصبي; لأنها من الأجزية والشافعي جعلها ضمان المتلف وذلك غلط في حقوق
ـــــــ
ويجوز أن تكون جهة العقوبة فيها راجحة عند الشافعي حيث أوجبها على قاتل العمد وصاحب الغموس فلذلك قيد بقوله عندنا وهي مع ذلك أي الكفارة مع أن جهة العبادة فيها غالبة جزاء الفعل يعني جهة العقوبة مع كونها مغلوبة فيها معتبرة غير مهدرة أيضا حتى راعينا أي في إيجابها صفة الفعل الذي وجبت هي جزاء عليه من كونه دائرا بين الحظر والإباحة كاليمين المعقودة على أمر في المستقبل والقتل بصفة الخطأ فلم توجب الكفارة على قاتل العمد وصاحب الغموس لخلو فعلهما عن معنى الإباحة فلا يصلح سببا لما هو عبادة. وقلنا: لا تجب يعني كفارة القتل على المسبب الذي قلنا وهو حافر البئر وواضع الحجر ومن بمعناهما ولا على الصبي; لأنها من الأجزئة فتقتضي مباشرة فعل فيه معنى الحظر والفعل لم يوجد من المسبب أصلا وفعل الصبي لا يوصف بالحظر لما ذكرنا أنه يثبت بالخطاب وهو معدوم في حق الصبي والشافعي رحمه الله جعلها أي كفارة القتل ضمان المتلف كالدية فأدار وجوب الكفارة على وجوب الدية والقصاص وذلك; لأن في المحل حقين حق الله تعالى من حيث الاستعباد وحق العبد فيجبر حق الله تعالى بالكفارة كما يجبر حق العبد بالدية ولهذا جمع الشارع بينهما فقال: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] وهو كالصيد المملوك في الحرم إذا قتل تجب قيمة لمالكه جبرا لحقه وقيمة أخرى لحرمة الحرم وإذا كان كذلك لا يفترق الحال بين أن يكون القتل بطريق التسبيب أو المباشرة وتجب على الصبي والمجنون كالدية ويجوز أن يكون الضمير راجعا إلى جميع الكفارات وعليه يدل عبارة شمس الأئمة رحمه الله حيث قال: وعند الشافعي هذه الكفارات وجوبها بطريق الضمان وذلك; لأن في كل موضع وجبت فيه كفارة حقا ثابتا لصاحب الشرع يفوت بمباشرة فعل يضاده فكان وجوب الكفارة ضمانا لذلك الحق الفائت كما أن وجوب سجدتي السهو ضمان لنقصان تمكن في حقه في الصلاة. وذلك أي جعلها ضمان المتلف غلط في حقوق الله تعالى; لأن تفويت حق الله تعالى ما أوجب الضمان على سبيل الجبر إذ النقص لا يتمكن في حقوقه من حيث يستدعي جبرا; لأنه تعالى منزه عن أن يلحقه جبر أن يقع الحاجة إلى جبره, لكن تفويت حقه يوجب ضمانا هو جزاء فيكون بمقابلة الفعل لا بمقابلة المحل. لهذا تعددت الكفارة بتعدد الأفعال مع اتحاد المحل كالجناية على الصيد في الإحرام بخلاف الدية فإنها وجبت بدلا عن المحل بطريق الجبر ولهذا وجبت(4/216)
الله تعالى بخلاف الدية وكذلك الكفارات كلها ولهذا لم يجب على الكافر ما خلا
ـــــــ
دية واحدة على الجماعة وإن تعددت الجناية كما في صيد الحرم وكذلك الكفارات أي ومثل كفارة القتل سائر الكفارات في أن جهة العبادة فيها راجحة ولهذا أي ولرجحان معنى العبادة فيها لم يجب شيء منها على الكافر; لأنه ليس بأهل لوجوب العبادة عليه وهذا لم يصح ظهار الذمي عندنا; لأنه لما لم يكن أهلا لكفارة صارت الحرمة في حقه مؤبدة لو صح ظهاره وهو خلاف مشروع الظهار.
قوله: "ما خلا كفارة الفطر" يجوز أن يكون استثناء من قوله وجهة العبادة فيها غالبة وأن يكون استثناء من قوله وكذلك الكفارات كلها يعني جهة العبادة في الكفارات راجحة على جهة العقوبة ما خلا كفارة الفطر فإن جهة العقوبة فيها راجحة على جهة العبادة وبيان ذلك أن الكفارة في نفسها عبادة محضة صالحة للتكفير بها إذ العبادات موضوعة لمحو السيئات على ما قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] وهي بآثرها صالحة للزجر فإن من دعته نفسه إلى الإفطار طلبا للراحة ودفعا للمشقة, ثم تأمل أنه لو أقدم عليه لزمته هذه الكفارة العظيمة على وجه لو امتنع عن أدائها يرتهن بالنار إلا أن يتفضل عليه بالعفو لا شك أنه ينزجر عنه أشد الانزجار فكانت بأثرها صالحة أن تكون زاجرة كالعقوبات المعجلة وهذه عبادة تحتاج تفويتها إلى الزاجر; لأن تفويتها يتحقق على وجه ليس في وسع المفوت استدراكه ودعوة الطبيعة إلى الجنابة عليها بالإفطار أمر لا يخفى على أحد فيحتاج في صيانتها إلى الزاجر وقد بينا أن هذه الكفارة صالحة للزجر فعرفنا أنها شرعت زاجرة عن الإفطار كما شرعت ماحية للجريمة فكانت بوجودها مكفرة للذنب ماحية له وبوجوبها والخوف عن لزومها زاجرة وقد ترجح معنى الزجر فيها على معنى التكفير بدليل أنها تسقط في كل موضع تحققت فيه شبهة إباحة كالحدود فإن من جامع على ظن أن الفجر لم يطلع أو على ظن أن الشمس قد غابت وقد تبين بخلافه لا تجب الكفارة بالإجماع وكذا الإفطار بعذر المرض أو السفر لا يوجب الكفارة وإن كان بالجماع فلما سقطت بالشبهة عرفنا أنها ملحقة بالعقوبات بخلاف سائر الكفارات فإنها لا تختلف بين محل ومحل بل يجب في موضع يندب إلى تحصيل ما تعلقت به الكفارة تعلق الأحكام بالعلل كالعود في باب الظهار أو يجب تحصيل ما تعلقت به تعلق الأحكام بالشروط كمن حلف لا يكلم أباه وشرع الزاجر فيما يندب إلى تحصيله أو يجب تحصيله لا يليق بالحكمة وكذا تعلق الكفارة بما يتعذر الانزجار عنه وهو الخطأ في باب القتل دليل على أن معنى الزجر فيها غير مقصود فعرفنا أن في سائر المواضع معنى العبادة الذي به يحصل التكفير مقصود ومعنى الزجر والعقوبة تابع وفيما نحن فيه معنى الزجر والعقوبة مقصود ومعنى العبادة تابع.(4/217)
كفارة الفطر فإنها عقوبة وجوبا وعبادة أداء حتى سقط بالشبهة على مثال الحدود وقلنا: تسقط باعتراض الحيض والمرض وتسقط بالسفر الحادث بعد الشروع في
ـــــــ
يزيد بما ذكرنا إيضاحا أن عند عدم الحاجة إلى الزاجر لا يثبت الوجوب وإن تحقق المأثم كما في ابتلاع الحصاة أو النواة والإفطار في غير الشهر فإن المأثم وإن اختل ليس بمعدوم وما شرع ماحيا لنوع إثم يبقى مشروعا لمحو ما دونه وإن قل في نفسه كالحانث فيما يجب عليه الحنث وكذا جانب الزجر أهم من جانب التكفير فإن. التكفير يحصل بالتوبة إذ هي ماحية لكل ذنب ولا شيء يقوم مقام الكفارة في حق الزجر مع أن الحاجة إلى الزجر أمس; لأنه يمنع من تفويت ما لا استدراك له ألبتة فأما الكفارة فتكفر ما لو لم تكن هي لكفر بالتوبة والندم أو بعفو الله تعالى عنه بفضله أو بشفاعة الأخيار من عباده فثبت أن جانب الزجر والعقوبة فيها راجح وأنه هو المقصود المعظم دون العبادة والتكفير فتبين بما ذكرنا أن معنى قول الشيخ فإنها عقوبة وجوبا وعبادة أداء مع أن سائر الكفارات بهذه المثابة على ما مر بيانه أن وجوبها بطريق العقوبة قصدا وإن كانت عبادة من حيث الأداء حتى سقط يعني هذا الواجب بالشبهة على مثال الحدود بخلاف سائر الكفارات فإن معنى العقوبة فيها تابع ليس بمقصود فإن قيل: لا نسلم أن معنى العقوبة في هذه الكفارة راجح بل هي عبادة محضة وركنها الإعتاق والصيام والإطعام كما في سائر الكفارات وكيف يمكن أن يقال الصوم مشروع بطريق العقوبة والدليل على أنها لا تسقط بالشبهة أنه لو أفطر بجماع الأهل أو بطعام مملوك له تلزمه الكفارة ولو كانت عقوبة تسقط بالشبهة لسقط هاهنا; لأن ملك النكاح مبيح للجماع وملك الطعام مبيح للأكل فإن لم تثبت الإباحة الحالة ثبت شبهة الإباحة فتوجب السقوط كما لو زنى بجاريته التي هي أخته من الرضاع يسقط الحد; لأن الوطء وإن كان حراما لقيام الملك الذي هو مبيح يورث شبهة الإباحة ولما لم يسقط عرفنا أنها لا تسقط بالشبهة قلنا: قد أقمنا الدليل على رجحان معنى العقوبة في هذه الكفارة وبينا أنها تسقط بالشبهات بالإجماع مع كونها عبادة في نفسها فلا معنى للمنع والاستبعاد بعد الإجماع وما ذكر أن الإفطار بجماع الأهل والطعام المملوك لا يصير شبهة غير سديد; لأن المعتبر هي الشبهة التي تورث جهة إباحة فيما هو محل الجناية وملك الطعام والجماع لا يورث إباحة في إفطار صوم رمضان بوجه كمن قتل غيره بسيف مملوك له أو شرب خمرا مملوكة له لا يصير ذلك شبهة تؤثر في سقوط القصاص والحد; لأن هذا الملك لا يؤثر في إباحة القتل والشرب بوجه بخلاف وطء الجارية التي هي أخته من الرضاع; لأن في الزنا محل الجناية منافع البضع والملك ثابت في البضع فيصلح شبهة مسقطة للحد.
قوله: "وقلنا يسقط" أي هذه الكفارة باعتراض الحيض والمرض إذا جامع الصائم(4/218)
الصوم إذا اعترض الفطر على السفر ويسقط بشبهة القضاء وظاهر السنة فيمن أبصر هلال رمضان وحده. لشبهة في الرؤية خلافا للشافعي فإنه ألحقها بسائر
ـــــــ
الصائمة في نهار رمضان عمدا لزمتهما الكفارة فحاضت المرأة ومرض الرجل مرضا يبيح الإفطار في آخر النهار سقطت الكفارة عنهما عندنا. وقال ابن أبي ليلى والشافعي على القول الذي يوجب الكفارة على المرأة لا تسقط; لأن السبب الموجب للكفارة وهو الجناية الكاملة على الصوم قد تم فوجبت الكفارة دينا وبوجود العذر بعد الفطر لا يختل معنى الجناية فيبقى حكم الجناية على ما كان كما لو أفطر, ثم سافر وكما لو زنى بامرأة, ثم تزوجها لا يسقط الحد كذا في الأسرار ونحن نقول هذا إفطار عن شبهة فلا يوجب الكفارة قياسا على من جامع على ظن أن الفجر لم يطلع, ثم تبين بخلافه وذلك لما بينا أن هذه الكفارة تسقط بالشبهات والمرض في آخر النهار يزيل استحقاق الصوم فإنه يباح له الفطر لو كان صائما وزوال الاستحقاق لا يتجزأ فيصير زائلا من أوله والحيض يعدم الصوم من أوله وإن وجد في آخره; لأنه مما لا يتجزأ في اليوم والكفارة لا تجب إلا بالفطر في صوم مستحق وقد تحقق في هذا اليوم ما ينافي الصوم أو ما ينافي صفة الاستحقاق منه فتمكنت شبهة منافاة الاستحقاق في أوله بخلاف ما إذا سافر في آخر النهار; لأن السفر لا يزيل الاستحقاق فإن الصائم إذا سافر لا يباح له الفطر فلا يتمكن بالسفر في آخر النهار شبهة في أوله ولأن السفر فعله والكفارة تجب حقا لله تعالى فلا تسقط بفعل العبد باختياره بخلاف المرض والحيض فإنهما سماويان لا صنع للعبد فيهما فإذا كانا من قبل من له الحق يجوز أن يسقط بهما الكفارة حتى لو أكره السلطان على السفر يسقط عنه الكفارة أيضا في رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله; لأن لا صنع له وفي ظاهر الرواية لا تسقط; لأنه من صنع العباد وليس من قبل صاحب الحق وتسقط بالسفر الحادث إذا أصبح المقيم صائما في رمضان, ثم سافر لا يباح له الإفطار في ذلك اليوم بالاتفاق فإن أفطر لم تلزمه الكفارة عندنا وعند الشافعي رحمه الله تلزمه; لأن هذا خروج لا يبيح له الإفطار فلا يصير شبهة في إسقاط الكفارة كالخروج إلى ما دون السفر وإنا نقول: السفر مبيح في نفسه للإفطار بالنص إلا أنا لم نعمل به لدليل آخر أولى منه وهو الإقامة في أول النهار فإنها تقتضي وجوب الصوم وأنه مما لا يتجزأ ثبوته فكان العمل مما يوجبه أولى من العمل بما يسقطه احتياطا فبقي السفر المبيح في نفسه مؤثرا في إيراث الشبهة فيسقط به الكفارة بخلاف الخروج إلى ما دون السفر; لأنه غير مبيح في نفسه فلا يورث شبهة كما بينا.
قوله: "وتسقط بشبهة القضاء" إلى آخره إذا رأى هلال رمضان وحده والسماء(4/219)
.............................................................................................
مصحية أو متغيمة فشهد عند الإمام فرد الإمام شهادته لتفرده أو لفسقه وجب عليه أن يصوم إلا على قول الحسن بن حي وعثمان البتي عملا بظاهر قوله عليه السلام: "صومكم يوم تصومون" وهذا ليس بيوم الصوم في حق الجماعة فكذا في حق الواحد وتمسك الجمهور بقوله عليه السلام: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" وأنه قد رأى الهلال حقيقة فلزمه الصوم, ثم وجوب الصوم برؤية الهلال أمر بينه وبين ربه فلا يؤثر فيه الحكم وقد كان لزمه الصوم قبل أن ترد شهادته فكذلك بعده فإن أفطر لم يلزمه الكفارة عندنا خلافا للشافعي رحمه الله فيما إذا أفطر بالجماع فإن لم يشهد عند الإمام وشرع في الصوم, ثم أفطر فقد اختلف مشايخنا في سقوط الكفارة لاختلاف الطريق في المسألة على ما نبين احتج الشافعي رحمه الله بأن العلم بكون هذا اليوم من رمضان حصل قطعا لوجود دليله وهو الرؤية حقيقة إذ لا دليل فوق العيان ولهذا كان مخاطبا بالأداء آثما بالترك فتكامل بالإفطار فيه معنى الجناية ولم يصر جهل غيره بكونه من رمضان شبهة في حقه; لأن موجب الجهل لا يعدو محله ولا يؤثر في يقينه. ألا ترى أن جماعة لو شربوا الخمر على مائدة وعلم به البعض دون البعض يجب الحد على العالم وجهل الجاهل لا يورث شبهة في حقه وكذا لو زفت إلى رجل غير امرأته فوطئها وهو يعلم أنها أجنبية ولم يعلم بذلك غيره يلزمه الحد ولم يصر جهل غيره شبهة في حقه فكذلك هاهنا بل أولى; لأن الحد أسرع سقوطا من الكفارة ونحن نقول: إنه أفطر عن شبهة فلا يوجب الكفارة; لأن هذه الكفارة تسقط بالشبهات كما بينا والدليل على تحقق الشبهة شيئان أشار إليهما الشيخ في الكتاب: أحدهما القضاء فإن القاضي لما قضى برد شهادته بدليل شرعي وهو تهمة الكذب أو الغلط فإن تفرده بالرؤية مع استواء الكل في النظر والمنظر يوجب ذلك أورث ذلك شبهة في رؤيته; لأن ذلك قضاء بأنه كاذب أو غالط وأن هذا اليوم من شعبان ولو كان حكمه هذا حقا ظاهرا وباطنا لكان يباح له الفطر فإذا كان نافذا ظاهرا يورث شبهة إباحة فتسقط به الكفارة فإن قيل: لا نسلم أن القضاء موجود; لأن هذا من باب العبادات وهي مما يفتى فيه ولا يقضى به ولو أفتاه مفت أن هذا اليوم من شعبان لم تصر فتواه شبهة في سقوط الكفارة عنه كذا هذا والدليل عليه أن القاضي لا يقضي بشيء بل يمتنع من قبول الشهادة ومن القضاء بها والامتناع من القضاء وعدم الالتفات إلى الشهادة لا يكون قضاء.
ولئن سلمنا أنه قضاء فلا نسلم أنه يصير شبهة في حق هذا الرجل; لأنه يزعم أن القاضي مخطئ في قضائه وأن قضاءه باطل كما إذا رجع واحد من شهود الزنا بعدما رجم(4/220)
................................................................................................
المشهود عليه يلزمه حد القذف وقضاء القاضي بكون الرجل رائيا قائم ولم يصر شبهة في درء الحد عنه; لأن في زعمه أن قضاءه باطل قلنا هذا مما يدخل تحت القضاء; لأنه إن ثبت عند القاضي صدق الشاهد بأن كانت السماء متغيمة فشهد وحده أو جاء من بعض القرى وهو عدل يلزم عليه أن يقضي بشهادته ويصير اليوم من رمضان في حق الجميع حتى يلزمهم الصوم ويجب عليهم الكفارة بالإفطار وتحل آجال الديون وينزل الطلاق والعتاق المعلقان بمجيء رمضان فإن اتهمه ترد شهادته ويبقى اليوم من شعبان فثبت أنه مما يدخل تحت القضاء. وقوله: الامتناع من القضاء لا يكون قضاء غير سديد; لأن امتناع القاضي من قبول الشهادة لتهمة دخلت في الشهادة قضاء يرد الشهادة كالفاسق إذا شهد فلم يقبل القاضي شهادته فأعادها بعد التوبة لا تقبل; لأنها لما ردت مرة كان ذلك قضاء ببطلانها كذا هاهنا وقوله لا يصير القضاء شبهة في حقه غير مستقيم أيضا; لأن القضاء حجة من حجج الشرع; لأن القاضي نائب الشرع فيما يقضي ولهذا لا يضمن إذا أخطأ فكان بمنزلة سائر حججه فيصلح شبهة وإن لم يكن معمولا به وزعمه أنه خطأ لا يخرجه من أن يكون شبهة كما إذا شهدوا بالقصاص على رجل فقضى القاضي به فقبله الولي وهو يعلم أن الشهود كذبة, ثم جاء المشهود بقتله حيا لا يجب القصاص على الولي عندنا للشبهة الثابتة بالقضاء; لأنه قضى بدليل ظاهر أوجب الشرع العمل به فأوجب الشبهة في حق الولي وإن كان عنده أنه مخطئ بيقين فأما في مسألة الرجوع فلم يجعل القضاء شبهة في سقوط حد القذف; لأن الشاهد لما رجع انفسخ القضاء في حقه; لأن شهادته قد انفسخت والقضاء مبني عليها والقضاء المفسوخ لا يصلح شبهة كمن اشترى جارية, ثم فسخ البيع, ثم زنى بها يحد ولا يصير البيع السابق شبهة وهاهنا لم ينفسخ القضاء; لأن دليله وهو التفرد بالرؤية قائم فيصلح شبهة.
ألا ترى أن في مسألة الرجوع لو قذفه رجل آخر لا يحد; لأن الراجع لا يصدق على غيره فيكون القضاء باقيا في حق غيره ببقاء الشهادة فيصير قاذف زان فلا يحد فعلى هذا الطريق لو أفطر قبل الرفع إلى القاضي يجب الكفارة وذكر في طريقة الصدر الحجاج قطب الدين رحمه الله ولو لم يشهد عند القاضي فأفطر إن كان يعلم أن القاضي يقبل شهادته قالوا: يلزمه الكفارة وإن كان يعلم أنه لا يقبل شهادته لا تلزمه الكفارة. والثاني ظاهر السنة وهي قوله عليه السلام: "صومكم يوم تصومون فيه وفطركم يوم تفطرون" أي وقت صومكم المفروض يوم تصومون فيه جميعا فظاهره يقتضي أن يوم الصوم في حق كل واحد من الناس ما يصوم فيه الجماعة لكن عارضه قوله عليه السلام: "صوموا لرؤيته" وأنه قد رأى أي الهلال فيقتضي أن يلزمه الصوم فعملنا بموجب هذا الخبر وأوجبنا عليه الصوم(4/221)
................................................................................................
احتياطا وبقي ظاهر النص الأول شبهة في سقوط الكفارة; لأنها مما يحتال لدرئه كما بقي قوله عليه السلام: "أنت ومالك لأبيك" شبهة في سقوط الحد عن الأب بوطئه جارية ابنه وسرقة ماله وإن كان المعمول قوله عليه السلام: "الرجل أحق بماله من والده وولده والناس أجمعين" وإنما لم يصر ذلك الحديث شبهة في سقوط الحد عن الأب إذا زنى بابنته; لأن النفس حرة ليست بمحل الملك فلم يكن الإضافة للتمليك لعدم قبول المحل ذلك بل كانت إضافة كرامة ونسب فلا يوجب شبهة الإباحة.
وأما عدم وجوب القصاص على الأب إذا قتل ولده فليس باعتبار أن هذا الحديث أوجب حقا أو شبهة في النفس ولكن إنما سقط القصاص; لأن الابن يحرم عليه أن يتعرض لأبيه بما يوجب إتلافه; لأنه كان سبب وجوده فيحرم عليه التعرض لإتلافه وإعدامه. ألا ترى أنه لو قتل الأب إنسانا وجب عليه القصاص, ثم ورث ابنه القصاص سقط لما قلنا ولم يصر هذا الحديث منسوخا بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] ولا بقوله عليه السلام: "صوموا لرؤيته" ; لأن النسخ لا يثبت إلا بمعرفة التاريخ ولم يعرف ذلك, لكن وجوب الصوم مما يحتاط فيه فعند قيام المعارضة عملنا بالدليل الموجب للصوم احتياطا وبالدليل المسقط للكفارة احتياطا أيضا; لأن هذه الكفارة يحتاط في درئها وأما قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] فلم يصر شبهة مسقطة للقصاص عمن قتل مشركا ذميا مع أن ظاهره يوجب إباحة قتل المشرك; لأن الإباحة قد انتهت بإعطاء الجزية وانتسخت فلم تبق أصلا وهاهنا بخلافه ولأن المشرك صار مجازا للمحارب كأنه قيل: اقتلوا المحاربين واللفظ متى صار مجازا لم يبق حقيقة أصلا ولا أورث شبهة في محل الحقيقة; لأنه انتقل عن محله بيقين حيث صار مجازا ولو بقي في محله لما انتقلت مجازا وهذا الطريق يوجب التسوية بينما إذا أفطر بعد القضاء وقبله فإن قيل: قوله عليه السلام: "صومكم يوم تصومون" متعرض لوجود الصوم دون الوقت فإن الصوم اسم للعبادة المعهودة دون الوقت فصار كأنه قال: وجود صومكم في اليوم الذي تصومون فيه والدليل عليه أنه مروي بنصب الميم من يوم على الظرف واليوم يكون ظرفا للفعل وهو الصوم دون الوقت وإذا كان الخبر بيانا لوجود الصوم لا للوقت الذي يجب فيه الصوم لا يكون معارضا للحديث الآخر فلا يصلح شبهة قلنا: حمله عليه يؤدي إلى إلغاء كلام صاحب الشرع وإخلائه عن الفائدة إذ لا يخفى على مجنون فضلا عن العاقل أن وجود الصوم يوم يوجد فيه وهل يليق بعاقل أن يقول ذهابك عن البلدة يوم تذهب وانتصاب اليوم ليس بطريق الظرف بل الزمان فارق جميع أجناس الأسماء في صحة إضافته إلى الأفعال وامتناع إضافة غيره إلى(4/222)
................................................................................................
الأفعال غير أنه إن أضيف إلى الفعل الماضي فاختيار الجمهور من أهل النحو أن يبنى على الفتحة ويخرج عن كونه معربا لاتحاده بما ليس بمعرب في نفسه إذ بين المضاف والمضاف إليه نوع اتحاد وإن أضيف إلى المستقبل فالمتكلم بالخيار إن شاء أعربه لكون ما أضيف إليه معربا في نفسه وإن شاء بناه لاتحاده بالفعل والاسم يبنى لشبهه بالفعل إذا تأكدت المشابهة فلأن يبنى عند اتحاده به أولى هذا التخيير ظاهر للمتكلم وإن كانت العرب تؤثر الإعراب لذي الإضافة إلى المستقبل على البناء وتؤثر البناء على الإعراب لذي الإضافة إلى الماضي على ما روى الفراء عن الكسائي عن العرب, ولكن البناء في الأول جائز بلا خلاف والإعراب في الثاني عند الكسائي ففيما نحن فيه إن كانت الرواية بالنصب فوردت على طريق البناء لا أن الميم انتصبت لكون اليوم ظرفا تحقق ما ذكرنا أن الإجماع منعقد على أن صوم هذا اليوم مجتهد فيه لم يبق فرضا حتى إن منكره لا يضلل ولو كان الحديث بيانا لوجود الصوم لا لوقت الوجوب بقي الصوم بقضية قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] فرضا ولضلل جاحده ولما لم يضلل دل أن المراد منه بيان وقت الصوم والله أعلم كذا ذكر الشيخ أبو المعين رحمه الله في طريقته وهذا ميل منه إلى مذهب الكوفيين فإن عندهم يجوز بناء الظرف على الفتح بالإضافة إلى نفس الفعل وعند البصريين إنما يبنى الظرف بالإضافة إلى الفعل إذا كان الفعل مبنيا فأما إذا كان معربا فلا يبنى الظرف بالإضافة إليه فيكون انتصاب يوم عندهم على الظرف بعامل مضمر هو خبر المبتدأ والتقدير وقت صومكم واقع أو ثابت يوم تصومون فيه جميعا وقوله لشبهة في الرؤية متعلق بشبهة القضاء يعني لما قضى القاضي برد شهادته أوجب ذلك شبهة في رؤيته وهي احتمال أنه أخطأ في الرؤية وهو في الحقيقة إشارة إلى الجواب عما قال الخصم إنه رأى الهلال حقيقة وثبت في حقه أن هذا اليوم من رمضان فطعن القاضي في رؤيته وجهل سائر الناس بما ثبت عنده لا يؤثر في حقه كما في مسألتي الخمر والزفاف مع أن الكفارة أمر بينه وبين ربه تلزمه بالجناية على صوم نفسه لا بالجناية على صوم غيره فيعتبر ما عنده لا ما عند غيره فلا يصير القضاء شبهة فقال: بالقضاء يتحقق شبهة في رؤيته فإن بعد المسافة ودقة المرئي وعدم رؤية سائر الناس توجب شبهة التخيل ولا يمكن دفع هذا التخيل أصلا وقد وقعت هذه الحادثة في زمن عمر رضي الله عنه وظهر من بعد أنه كان تخيلا من الذي زعم أنه رأى ولهذا إذا شكك يتشكك والإنسان لا يتشكك فيما عاينه, لكن الشرع أعرض عن هذه الشبهة; لأن الشبهة لا تقاوم الحقيقة وقد تعذر الاحتراز عنها فسقط اعتبارها فإذا رد القاضي شهادته فقد اعتبرت هذه الشبهة فتؤثر فيما يسقط بالشبهات بخلاف مسألتي الخمر والزفاف; لأن العلم فيهما غير مشتبه ولا يستبعد أن يعرف(4/223)
الكفارات إلا أنا أثبتنا ما قلنا استدلالا بقول النبي: "من أفطر في رمضان متعمدا فعليه ما على المظاهر" ولإجماعهم على أنها لا تجب على الخاطئ ولأنا وجدنا الصوم حقا لله تعالى خالصا تدعو الطباع إلى الجناية عليه فاستدعى زاجرا لكنه لما لم يكن حقا مسلما تاما صار قاصرا فأوجبناه بالوصفين
ـــــــ
البعض الخمر ولا يعرفها البعض لعدم التجزئة وأن يعرف الرجل امرأته ولا يعرفها غيره لعدم الرؤية والممارسة فلا يؤثر جهل الغير في علمه فأما هاهنا فالكل سواء في دليل المعرفة وتفرده يوجب خللا في الرؤية فإذا اعتبره الحاكم يصلح شبهة في سقوط الكفارة.
وقوله: خلافا للشافعي يتصل بقوله ما خلا كفارة الفطر فإنها عقوبة وجوبا أي معنى العقوبة فيها راجح حتى سقطت بالشبهة خلافا للشافعي رحمه الله فإنه ألحق هذه الكفارة بسائر الكفارات في أنها لا تسقط بالشبهات وأنها ضمان ما تلف من حق الله تعالى بجنايته إلا أنا أي لكنا أثبتنا ما قلنا من ترجيح معنى العقوبة فيها استدلالا بالنص والإجماع والمعقول فإن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "من أفطر في رمضان متعمدا فعليه ما على المظاهر" قيد الإفطار بصفة التعمد الذي به يتكامل معنى الجناية, ثم رتب وجود الكفارة عليه فعرفنا أن وجوبها يستدعي جناية كاملة وأن وجوبها بطريق العقوبة إذ الجناية الكاملة تقتضي أن يكون الجزاء الواجب عليها عقوبة وكذا الإجماع يدل عليه فإنهم لما اتفقوا على أنها تسقط بعذر الاشتباه على ما بينا علم أن صفة التعمد شرط لإيجاب الكفارة كما في القتل لإيجاب القود وأنها ملحقة بالعقوبات وكان الشيخ رحمه الله أراد بالخاطئ في قوله ولإجماعهم على أنها لا تجب على الخاطئ الذي جامع على ظن أن الفجر لم يطلع أو على ظن أن الشمس قد غربت; لأنه خاطئ في هذا الظن فيصح الاستدلال فأما لو أراد به الخاطئ الذي سبق الماء أو الطعام حلقه في المضمضة أو المضغ للصبي من غير قصده فلا يخلوا الاستدلال به عن نوع ضعف; لأن عند الخصم لا يفسد به الصوم فلا يتصور وجوب الكفارة ليمتنع بسبب الخطأ. ألا ترى أن صومه لو فسد بأن أكل أو شرب عمدا لا تجب الكفارة عنده فكيف إذا لم يفسد وإذا كان امتناع وجوب الكفارة لعدم الفساد لا للخطأ لا يتم الإلزام بهذا الاستدلال على الخصم إلا على الوجه الأول وكذا المعقول يدل عليه فإنا وجدنا الصوم حقا خالصا لله تعالى تدعو الطباع الجناية عليه وقد ظهر في الشرع أثر صيانة هذا الحق على العباد بتجويزه بنية متقدمة مع وجود ما طرأ عليها وأثر فيها بالإعدام وجعل الركن المعدوم موجودا في حق النائم والمغمى عليه فاستدعى زاجرا يمنع المكلف عن الجناية عليه ويبقى هو مصونا به عن الإبطال والكفارة تصلح زاجرة فعرفنا أنها شرعت بطريق الزجر والعقوبة وكان ينبغي أن يكون الزاجر من العقوبات المحضة كالحدود; لأن(4/224)
وقد وجدنا ما يجب عقوبة ويستوفى عبادة كالحدود; لأن إقامة السلطان عبادة
ـــــــ
هذه الجناية معصية خالصة كالجنايات الموجبة للحدود, لكن الصوم لما لم يكن حقا مسلما إلى صاحب الحق تاما وقت الجناية إذ الجناية عليه بالإفطار لا يتصور بعد التمام صار أي التعدي بالإفطار قاصرا في كونه جناية فيتمكن باعتبار القصور شبهة إباحة فيه فتعذر إيجاب الزاجر الذي هو عقوبة محضة فأوجبناه أي الزاجر بالوصفين وهما العبادة والعقوبة وجعلنا معنى العقوبة في الوجوب ومعنى العبادة في الأداء دون عكسه; لأنا وجدنا ما يجب بطريق العقوبة ويستوفى بطريق العبادة كالحدود; لأن إقامتها من السلطان عبادة إذ هو مأمور بإقامتها حتى يثاب على الإقامة ويعاقب على تركها ولم نجد ما يجب بطريق العبادة ويستوفى بطريق العقوبة أصلا فعلى هذا الطريق لا يحتاج إلى الجواب عما إذا زنى في نهار رمضان أو شرب الخمر عمدا حيث تجب الكفارة; لأن القصور في الجناية من الوجه الذي ذكره موجود فيمكن إيجاب الكفارة التي هي عقوبة قاصرة عليه وعلى الوجه الذي تقدم بيانه في دلالة النص يحتاج إلى الجواب عنه وقد بيناه هناك وذكر الشيخ أبو المعين رحمه الله في طريقته أن تعلق العبادة بما هو معصية في نفسه جائز إذا كان وجوبها بطريق التكفير وكانت جهة الزجر فيها راجحة إذ لا استحالة في ذلك إنما الاستحالة في جعل المعصية سببا لوجوب عبادة يتوصل بها إلى الجنة; لأن العبادة مع حكمها وهو الثواب الموصل إلى الجنة يصيران من أحكام المعصية فتصير المعصية بواسطة حكمها سببا للوصول إلى الجنة وهو محال; لأنها جعلت من أسباب استيجاب النار فأما عبادة حكمها تكفير المعصية ومحو أثرها فلا استحالة في جعل المعصية سببا لها خصوصا إذا صار معنى الزجر فيها مقصودا ولا يقال لو جوزنا هذا لصارت المعصية ماحية أثر نفسها بواسطة وهي العبادة ومن المحال أن يكون الشيء موجبا بطلان نفسه; لأنا نقول: لا استحالة في كون الشيء بواسطة حكمه موجبا عدم نفسه إذا كان ذلك الموجب يتعقبه وإنما يستحيل إذا كان يقارنه; لأن اقتران ما يوجب عدمه بحالة وجوده يؤدي إلى المناقضة وحكم المعصية هاهنا وجوب الكفارة لا وجودها والموجب لمحو أثر المعصية وجود الكفارة; لأن حصول الثواب الذي به يحصل المحو يتعلق بالوجود وبالوجوب وهو متعقب عن المعصية لا محالة لتعقب وجود الكفارة وجوبها فلم يكن في هذا استحالة ألا ترى أنه يجوز أن تكون الحدود أحكاما للمعاصي وإن كانت هي كفارات لها بشهادة صاحب الشرع ولم يلزم من ذلك استحالة فكذا فيما نحن فيه.
قوله: "ولهذا" أي لوجوب هذه الكفارة بطريق العقوبة حتى سقطت بالشبهة قلنا بتداخل الكفارات في الفطر حتى لو أفطر مرارا في رمضان واحد من غير تكفير لم يلزمه إلا كفارة واحدة ولو أفطر في رمضانين ولم يكفر للمرة الأولى فكذلك في رواية الطحاوي(4/225)
ولم نجد ما يوجب عبادة ويستوفى عقوبة فصار الأول أولى ولهذا قلنا بتداخل الكفارات في الفطر وحقوق العباد أكثر من أن تحصى. والمشتمل عليهما وحق
ـــــــ
عن أصحابنا وهو اختيار أكثر المشايخ وروي في الكيسانيات عن محمد رحمه الله أن عليه كفارتين, وعند الشافعي رحمه الله يجب لكل فطر كفارة على حدة كما إذا ظاهر مرارا أو قتل إنسانا خطأ; لأن التداخل من خصائص العقوبات المحضة وهذه ليست بعقوبة محضة بل هي عبادة فلا يمكن إلحاقها بما تمحض عقوبة ونحن نقول لما خصت هذه الكفارة من بين سائر الكفارات في إسقاطها بالشبهة لترجح معنى العقوبة فيها دل ذلك على أن السبيل فيها الدرء والتداخل من باب الدرء كما في الحدود وذلك; لأنها لو وجبت في المرة الثانية لوجبت لا على الوجه الذي شرعت فإنها زاجرة وقد حصل الزجر بالمرة الأولى فكان معنى الزجر في المرة الثانية معدوما أو فيه شبهة العدم فلا وجه لإيجابها في المرة الثانية كما في الحدود ولهذا قلنا: إذا كفر للمرة الأولى, ثم أفطر تلزمه أخرى; لأنه تبين أن الانزجار لم يحصل بالأولى فكان في الثانية فائدة كما في الحد سواء فعلى هذا الوجه ما سوى المرة الأولى لم ينعدم سببا فكان معنى التداخل امتناع الوجوب بعدما وجب مرة ومن أصحابنا من قال: إن الشرع قدر الزاجر في كل باب بالجنايات وإن كثرت من جنس واحد واستيفاء الزواجر يؤدي إلى جعل الزاجر زيادة على التقدير الذي ورد الشرع به وذلك لا يجوز ولذا لم يتكرر الاستيفاء في الحدود فعلى هذا الوجه يمكن أن يقال: ينعقد الجنايات عللا في أنفسها والزاجر المستوفى يكون حكما لكل علة كحرمة صيد الحرم على المحرم وحرمة المقدر المبيع بجنسه نسيئة فإنها تكون ثابتة بالجنس والقدر وكل واحد منهما علة تامة في تحريم النساء وهذا النوع من العلل يسمى عللا متعاورة عند أهل الأصول فكان معنى التداخل على هذا الوجه الاكتفاء بحكم واحد عن علل متعددة إليه أشار الشيخ أبو المعين رحمه الله.
وحقوق العباد أي الحقوق الخالصة لهم أكثر من أن تحصى نحو ضمان الدية وبدل المتلف والمغصوب وملك المبيع والثمن وملك النكاح والطلاق وما أشبهها.
قوله: "والمشتمل عليهما" أي على حق الله تعالى وحق العبد وحق الله تعالى غالب حد القذف مشتمل على الحقين بالإجماع فإن شرعه لدفع العار عن المقذوف دليل على أن فيه حق العبد وشرعه حدا زاجرا دليل على أنه حق الله تعالى والأحكام تشهد لذلك أيضا كما ستقف عليه ألا أن حق الله تعالى فيه غالب عندنا كما في سائر الحدود حتى لا يجري فيه الإرث ولا يسقط بعفو المقذوف إلا في رواية بشر بن الوليد عن أبي يوسف رحمهما الله ويجري فيه التداخل عند الاجتماع حتى لو قذف جماعة في كلمة(4/226)
................................................................................................
واحدة أو في كلمات متفرقة لا يقام عليه إلا حد واحد وعند الشافعي رحمه الله حق العبد فيه غالب فيجري فيه العفو والإرث ولا يجري فيه التداخل ورأيت في التهذيب أنه إن قذف شخصا واحدا مرارا بزنا واحد لا يجب إلا حد واحد وإن قذفه بزنيات مختلفة ففي قول يتجدد الحد; لأنه من حقوق العباد فلا يقع فيه التداخل وفي قول وهو الأصح لا يجب إلا حد واحد; لأنها حدود من جنس واحد لمستحق واحد كحدود الزنا فيتداخل ولو قذف جماعة كل واحد بكلمة على حدة يجب عليه لكل واحد حد كامل وإن قذفهم بكلمة واحدة بأن قال: أنتم زناة أو زنيتم ففي القديم لا يجب لكل إلا حد واحد اعتبارا لاتحاد اللفظ وفي الجديد وهو الأصح يجب لكل واحد حد كامل; لأنه أدخل على كل واحد معرة فصار كما لو قذفهم بكلمات احتج الشافعي رحمه الله لإثبات هذا الأصل بأن سبب الوجوب التناول من عرضه وعرضه حقه بدليل قوله عليه السلام: "أيعجز أحدكم أن يكون مثل أبي ضمضم إذا أصبح يقول: اللهم إني تصدقت بعرضي على عبادك" .
والمدح إنما يستحق على التصدق بما هو حقه وكذا المقصود دفع عار الزنا عن المقذوف وذلك حقه وإذا كان سببه الجناية على العبد ومنفعته تعود إليه علم أنه حقه كالقصاص وكذا الحكم يدل عليه فإن خصومة العبد شرط في نفس الحد فإنه يدعي أن له عليه حد القذف كما يدعي أن له عليه قصاصا ولا يلزم عليه السرقة; لأن الشرط هناك الخصومة في المال دون الحد حتى لو خاصم في الحد لا يلتفت إليه وكذا لا يعمل الرجوع فيه بعد الإقرار ولا يبطل بالتقادم ويقام على المستأمن بالاتفاق وإنما يؤخذ المستأمن بما هو من حقوق العباد إلا أن المقذوف لا يتمكن من الاستيفاء بنفسه كما يتمكن من استيفاء القصاص; لأن الضرب يختلف شدة وخفة ومن الجائز أن يزيد على الحد المشروع من حيث اعتبار الخفة لفرط غضبه ففوض إلى الإمام دفعا للموهوم بخلاف القصاص فإنه معلوم بحده وهو جزء الرقبة ولا يجري فيه الزيادة والنقصان ففوض إليه ونحن نستدل على ما قلنا بالسبب وبالحكم أما السبب فإن هذا الحد يجب بالقذف بالزنا فإنه لما قذف محصنا فقد ألحق به تهمة الزنا فأوجب الحد على القاذف ليكون بوجوبه زاجرا عن الإقدام عليه وليزول باستيفائه عن المقذوف تلك التهمة حتى لو كان المقذوف مجنونا لم يلحقه التهمة لم يحد القاذف ولما وجب لتعفية أثر الزناء وحرمة الزنا خالصة لله تعالى حتى كان الحد الواجب عليه خالصا له وجب أن يخلص الحد على إظهاره بوجه حرام يجب الكف عنه لله تعالى أيضا ولكن هتك بهذه التهمة حرمة عرض المقذوف ولله تعالى في عرض المقذوف حق وللمقذوف حق فثبت للعبد ضرب حق بهذه الطريقة. فالوجه الأول(4/227)
................................................................................................
أوجب فيه الحق لله تعالى خالصا والوجه الثاني أوجب الحق لله عز وجل وللعبد فقلنا معظم الحق فيه لله عز وجل بخلاف القصاص فإنه سببه ليس إلا لقتل الذي هو جناية على النفس وفيها لله تعالى حق وهو حق الاستعباد وللعبد حق وحق العبد أرجح بجعل الله تعالى له ذلك فصار معظم الحق فيه له وأما الحكم فهو أن حرمة القذف لا تسقط بجنايات العبد من الكفر والكبائر كما لا يسقط حرمة الزنا بالمرأة التي ثبتت حقا لله تعالى بكفرها وجنايتها ولو كان معظم الحق للعبد لسقط بكفره الذي يسقط به حرمة دمه وحياته وكذا تنصيفه بالرق من أظهر الدلائل على ما قلنا; لأن ما يجب للعباد لا ينتصف بالرق كإتلاف المال وإنما ينتصف ما يجب حقا لله تعالى من العقوبات التي تقبل التنصيف وهذا; لأن حرمة الجريمة عند الله تعالى تزداد بزيادة النعمة; لأن زيادة النعمة توجب زيادة الشكر فتزداد حرمة ترك الشكر بالمعصية بحسب زيادة وجوب الشكر وإذا ازدادت العقوبة والنعمة في حق الحر كاملة وفي حق العبد ناقصة فيتكامل العقوبة وتنتقص بحسبها فأما ما يجب للعبد فيجب جبرا لما فوت عليه والتفويت لا يختلف بجناية العبد والحر فلا تنتقص الواجب بكونه عبدا يوضحه أن في حقوق العباد يعتبر المماثلة التي تشير إلى معنى الجبر كما ورد به النص ولهذا ما وجب من العقوبات حقا للعبد وجب باسم القصاص الذي ينبئ عن المماثلة ليكون إشارة إلى المعنى الجبر ولا مماثلة بين النسبة إلى الزنا وبين ثمانين جلدة لا صورة ولا معنى كما لا مشابهة بين الحد والزنا فعرفنا أنه من حقوق الله عز وجل كسائر الحدود; لأن ما يجب لله تعالى لا يجب مثلا معقولا لمعصية كعذاب الآخرة مع الكفر والدليل عليه أيضا أن استيفاءه إلى الإمام وهو إنما يتعين ثانيا في استيفاء حق الله تعالى فأما ما كان حقا للعبد فاستيفاؤه إليه ولا معتبر بتوهم التفاوت فإن للزوج أن يعزر زوجته لما كان ذلك حقا له ولا ينظر إلى توهم التفاوت من هذا الوجه وهذا; لأن المبالغة كما تتوهم من صاحب الحق تتوهم من الجلاد ويمكن منع صاحب الحق تتوهم من الجلاد ويمكن منع صاحب الحق من ذلك إذا ظهر أثره كما يمنع الجلاد منه مع أنه يتوهم الزيادة لا يمتنع صاحب الحق عن استيفاء حقه كتوهم السراية في حق القصاص وتمسك الخصم بحديث أبي ضمضم غير صحيح; لأنه لم يرد به حقيقة التصدق; لأنه لا يقبل الصدق ولكنه أراد به أني لا أطالبهم بموجب الجناية وما استدل به من المسائل يدل على أن للعبد فيه حقا ونحن سلمنا ذلك وادعينا أن معظم الحق لله تعالى وأثبتناه بدليله, ثم لما كان للعبد فيه حق معتبر وأن المعظم لله تعالى شرط الدعوى في نفس الحد; لأن حقه لا يثبت بدون دعواه وحق الله تعالى لا يختل باشتراطها فإن الدعوى لا تنافي الحد كما في السرقة وبعد ما ثبت بالإقرار لا يعمل فيه الرجوع أيضا; لأن الخصم مصدق له في الإقرار مكذب له في الرجوع بالدعوى(4/228)
الله تعالى غالب حد القذف. والذي يغلب فيه حق العبد القصاص. فأما حد قطاع
ـــــــ
السابقة بخلاف ما كان محض حق الله تعالى فإن هناك ليس له مكذب ظاهر أفثبت فيه شبهة الصدق والحد يبطل بالشبهة. ألا ترى أنه إذا ثبت بالبينة لا يعمل فيه الإنكار; لأن البينة ترد إنكاره وكذلك لا يبطل بالتقادم; لأنه ليس بمسقط للحد بنفسه فإنه لو أقر بزنا متقادم يقام عليه الحد, ولكن التقادم إنما يمنع قبول الشاهد; لأن الشاهد مخير بين الستر والإظهار فمتى سكت فقد اختار معنى الستر فلم يجز الإظهار بعد ذلك فمتى أظهر دل أن ضغينته حملته على ذلك وفي حد القذف لما شرطت الدعوى لا يتمكن الشاهد من أداء الشهادة حسبة قبل طلب المدعي فلا يصير متهما بالضغينة ولا يلزم عليه الشهادة بالسرقة المتقادمة فإنها لا تقبل مع أنها لا تصح بدون الدعوى; لأن عدم قبولها لبطلان الدعوى فإن المدعي مخير بين أن يحتسب بدعواه إقامة الحد ليقام الحد وبين أن يختار الستر فيدعي الأخذ فإن اختار الحسبة حرم عليه التأخير فإذا أخر كأن بناه على ترك جهة الحسبة فإذا عاد يدعي السرقة لم تصح دعواه السرقة بعدما لزمته التهمة فبطلت الشهادة على السرقة وبقيت دعوى المال والشهادة به فوجب القضاء بالمال. فإذا ثبت هذا فعندنا لا يجري فيه الإرث; لأنه خلافة وحق الله تعالى لا يجري فيه الخلافة ولا يسقط بالعفو; لأن العبد إنما يملك إسقاط ما يتمحض حقا له أو ما غلب فيه حقه فأما حق الله تعالى فلا يملك إسقاطه وإن كان للعبد فيه حق كالعدة فإنها لا تسقط بإسقاط الزوج لما فيها من حق الله عز وجل كذا في الأسرار والمبسوط وغيرهما.
قوله: "والذي يغلب فيه حق العبد القصاص" القصاص مشتمل على الحقين لما ذكرنا أن القتل جناية على النفس ولله تعالى فيها حق الاستعباد كما أن للعبد حق الاستمتاع ببقائها فكانت العقوبة الواجبة بسببه مشتملة على الحقين وإن كان حق العبد راجحا بلا خلاف والدليل على أن فيه حق الله عز وجل أنه يسقط بالشبهات كالحدود الخالصة وأنه يجب جزاء الفعل في الأصل لا ضمان المحل حتى يقتل الجماعة بالواحد ولو كان ضمان المحل من كل وجه كالدية لا يقتلون به وأجزئة الأفعال تجب حقا لله عز وجل ولكن لما كان وجوبه بطريق المماثلة التي تنبئ عن معنى الجبر بقدر الإمكان وفيه معنى المقابلة بالمحل من هذا الوجه علم أن حق العبد راجح وكذا تفويض استيفائه إلى الولي وجريان الإرث فيه وصحة الاعتياض عنه بالمال بطريق الصلح دليل على رجحان حقه أيضا.
قوله: "وأما حد قطاع الطريق فخالص" أي خالص حق الله تعالى عندنا قطعا كان أو قتلا كالقطع في السرقة والرجم في الزنا ولهذا لا يوجبه على المستأمن إذا ارتكب سببه(4/229)
الطريق فخالص لله تعالى عندنا وهذا مما يطول به الكتاب. وكذلك في حق
ـــــــ
في دارنا بمنزلة حد الزنا والسرقة وعند الشافعي رحمه الله القتل الواجب فيه مشتمل على الحقين وفيه معنى الحدود; لأنه لا يسقط بالعفو ويستوفيه الإمام دون الولي وفيه معنى القصاص; لأنه لا يستحق إلا بالقتل والقتل المستحق بالقتل يكون قصاصا ومعنى القصاص غالب عنده في أصح القولين; لأن القتيل معصوم يجب القصاص بقتله في غير حال المحاربة ففي حال المحاربة أولى, ثم القصاص حق العبد فيكون مقدما على حق الله تعالى لما عرف فعلى هذا القول لو قتل حر عبدا أو مسلم ذميا أو قتل الأب ابنه في قطع الطريق لا يجب القتل وتجب الدية وقيمة العبد ولو قتل واحد جماعة قتل بالأول وللباقين الدية وإن قتله أجنبي غير الإمام يجب عليه الدية لورثته وإن مات تؤخذ الدية من تركته وإن قتل في قطع الطريق بمثقل أو قطع عضو يقتل بذلك الطريق كذا ذكر في التهذيب ونحن نقول: القتل والقطع في قطع الطريق حد واحد, ثم القطع حق الله تعالى على الخصوص فكذلك القتل ألا ترى أن الله تعالى سماه جزاء والجزاء المطلق ما يجب حقا لله تعالى بمقابلة الفعل فأما القصاص فواجب بطريق المساواة وفيه معنى المقابلة بالمحل والدليل عليه أن الله تعالى جعل سبب هذا القتل محاربة الله ورسوله بقوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] وما يجب بمثل هذا السبب يكون لله تعالى على الخلوص وسماه خزيا في قوله عز اسمه: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا} [المائدة: 33] فعرفنا أن الواجب في قطع الطريق خالص حق الله تعالى كذا في المبسوط وأما قوله إنه قتل يستحق بالقتل فغير مسلم عندنا بل السبب هو المحاربة كما أشار إليه النص ألا أنها متنوعة فالقطع جزاء المحاربة المتأكدة بأخذ المال والقتل جزاء المحاربة الكاملة بالقتل لأجزاء القتل ولهذا جعلنا ردأه كالمباشر حتى لو ولي واحد منهم القتل قتلوا جميعا عندنا; لأنه إذا دخل قطع الطريق قتل صار كاملا وصار نصف. الكمال مضافا إلى الجميع فيستوي فيه الردء والمباشر ولما قال الشافعي رحمه الله: إن أصله قصاص وإن ختامه حد لم يصح أن يقتل إلا المباشر والله أعلم وهذا أي بيان ما ذكرنا وتحقيقه مما يطول به الكتاب.
قوله: "وهذه الحقوق" أي الحقوق المذكورة كلها تنقسم إلى أصل وخلف وذلك أي الانقسام إلى الأصل والخلف في الإيمان أولا أصله التصديق والإقرار, ثم صار الإقرار بنفسه أصلا مستبدا في أحكام الدنيا خلفا عن التصديق أي عن الإيمان الذي هو التصديق والإقرار جميعا كما قلنا في المكره على الإسلام أنه يحكم بإسلامه بمجرد الإقرار حتى لو رجع عن الإقرار عند زوال الإكراه يصير مرتدا, ثم صار أداء أحد الأبوين ثابتا في حق(4/230)
المعتوه والمجنون لا يعتبر ذلك مع أداء الصغير بنفسه, ثم صار تبعية أهل الإسلام والغانمين خلفا عن تبعية الأبوين في إثبات الإسلام في صغير أدخل دارنا ووقع في سهم المسلم إذا لم يكن معه أحد أبويه وكذلك في شروط الصلاة الطهارة
ـــــــ
الصغير خلفا عن أداء الصغير بنفسه لعجزه عن ذلك وقصور عقله وكذلك أي وكما يثبت الإيمان في حق الصغير بأداء أحد الأبوين يثبت في حق المعتوه والمجنون فيجعل كل واحد منهما تبعا لأحد أبويه في الإسلام كالصغير لا يعتبر ذلك أي أداء أحد الأبوين في حق الصغير مع أداء الصغير بنفسه يعني إذا كان عاقلا بخلاف المجنون فإن أداءه بنفسه لا يخرجه عن تبعية الأبوين لصدوره لا عن عقل بخلاف أداء الصغير ورأيت في بعض الحواشي أن المعتوه كالمجنون في عدم صحة أدائه بنفسه وليس بصحيح; لأنه كالصبي دون المجنون إذ هو ناقص العقل دون عديم العقل كما سيأتي بيانه وفائدة اعتبار أداء الصبي بنفسه تظهر فيما إذا أسلم أحد أبويه, ثم أسلم الصغير بنفسه, ثم ارتد الذي أسلم من أبويه لا يصير الصبي مرتدا بل يبقى مسلما بإسلام نفسه ولو أسلم بنفسه يصح وإن كان أبواه كافرين, ثم صارت تبعية أهل الدار والغانمين أي أداء الغانمين خلفا عن تبعية الأبوين وجعل شمس الأئمة رحمه الله تبعية الدار خلفا عن تبعية الأبوين وتبعية الغانمين خلفا عن تبعية الدار فقال: ثم تبعية الدار فيمن سبى صغيرا وأخرج إلى دار الإسلام وحده خلف عن تبعية الأبوين في ثبوت حكم الإيمان له, ثم تبعية السابي إذا قسم أو بيع من مسلم في دار الحرب خلف عن تبعية الدار في ثبوت حكم الإيمان له حتى إذا مات يصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين.
واعلم أن المراد من خلفية هذه الأشياء ليس كون تبعية الغانمين أو الدار خلفا عن تبعية الأبوين, ثم كون تبعيتهما خلفا عن أداء الصغير كما يدل عليه اللفظ; لأنه يؤدي حينئذ إلى أن يكون للخلف خلف وهو فاسد لصيرورة شيء واحد أصلا وخلفا بل المراد أن كل واحد من هذه الأشياء خلف عن أداء الصغير بنفسه, ولكن البعض مقدم على البعض كابن الميت خلف عنه في الميراث وعند عدمه يكون ابن الابن خلفا عن الميت لا عن ابنه وكالفدية في باب الصوم خلف عن الصوم عند العجز عن القضاء لا أنها خلف عن القضاء هكذا قيل واعترض عليه بأنه لا ضرورة في العدول عن ظاهر اللفظ وجعل تبعية الدار والغانمين خلفا عن أداء الصغير دون تبعية الأبوين إذ لا استحالة في أن يكون للخلف خلف ولا فساد في أن يكون الشيء الواحد خلفا من وجه أصلا من وجه والحاصل أن مع حقيقة الأداء لا يعتبر تبعية شيء مع تبعية أحد الأبوين لا يعتبر دار الإسلام أو السابي حتى لو سبي الصبي مع أحد أبويه لا يصير مسلما بالدخول في دار الإسلام; لأن تبعية(4/231)
بالماء أصل والتيمم خلف عنه لكن هذا الخلف عندنا مطلق وعند الشافعي خلف ضرورة حتى لم يجوز أداء الفرائض بتيمم واحد وقال في إناءين نجس وطاهر في السفر: إن التحري فيه جائز ولم يجعل التراب طهورا لعدم الضرورة وقلنا نحن: هو خلف مطلق حتى جوزنا جميع الصلوات به وقلنا في الإناءين لا
ـــــــ
الأبوين أقوى من تبعية الدار ومع تبعية دار الإسلام لا يعتبر تبعية السابي حتى لو سرق ذمي صبيا. من دار الحرب وأدخله دار الإسلام يصير مسلما بتبعية الدار ولا يعتبر تبعية الآخذ حتى وجب تخليصه من يده ولو مات يجري عليه أحكام الإسلام.
قوله: "وكذلك" أي وكما أن في الإيمان التصديق والإقرار أصل والإقرار المجرد وتبعية الأبوين والدار والسابي خلف عنه في شروط الصلاة الطهارة بالماء وهي أي الاغتسال أصل والتيمم خلف عنها بلا خلاف, لكن هذا الخلف عندنا مطلق يعني به أن الحدث يرتفع بالتيمم إلى غاية وجود الماء فيثبت إباحة الصلاة بناء على ارتفاع الحدث وحصول الطهارة كما في الطهارة بالماء وعند الشافعي رحمه الله هو خلف ضرورة أي يثبت خلفيته ضرورة الحاجة إلى أداء الصلاة وإسقاط الفرض عن الذمة فيكون التيمم خلفا عن الوضوء لإباحة الصلاة مع قيام الحدث حقيقة كطهارة المستحاضة حتى لم يجوز أداء الفرائض بتيمم واحد; لأنه لما كان ضروريا يشترط قيام الضرورة لصحته; لأن ما ثبت بالضرورة يتقدر بقدرها وبعد الفراغ من الأداء قد انتهت الضرورة فلم يبق الخلف صحيحا فلا يجوز أداء فرض آخر به كما قال في المستحاضة إن الضرورة لما انتهت بالفراغ من الأداء لا يجوز أداء فرض آخر بتلك الطهارة لانقضائها بانقضاء الضرورة ولم يعتبر التيمم لأداء فرض قبل دخول وقته لعدم الضرورة كما قال في المستحاضة وقال في إناءين نجس وطاهر في سفر يعني في موضع لا قدرة له على ماء آخر سواهما: إن التحري فيه أي في مثل هذا الموضع جائز ولم يجعل التراب طهورا أي لم يجعل التيمم طهارة في هذا الموضع لعدم الضرورة; لأنها لا تتحقق مع وجود الماء الطاهر ومعه ماء طاهر بيقين ويمكنه الوصول إليه بالتحري; لأنه دليل معتبر في الشرع حالة العجز كما في أمر القبلة فلا يجوز له المصير إلى التيمم مع القدرة على الماء الطاهر ولهذا شرط الطلب لصحة التيمم; لأن الضرورة لا تتحقق قبل الطلب واحتج لإثبات هذا الأصل بأن المسح بالتراب تلويث وليس بتطهير. ألا ترى أن المتيمم إذا رأى الماء يعود الحدث السابق من جنابة أو غيرها فثبت أنه لم يرتفع إذ لو ارتفع لم يعد إلا بحدث جديد كطهارة المستحاضة تنتقض بالفراغ من الصلاة أو بذهاب الوقت عندكم وهو ليس بحدث فعلم أن الحدث الأول باق ولكن أبيحت لها الصلاة مع الحدث للضرورة كما في الإكراه على الردة أو الجناية على الصوم بالإفطار يباح الإقدام(4/232)
يتحرى; لأن التراب طهور مطلق عند العجز وقد ثبت العجز بالتعارض. لكن الخلاف بين الماء والتراب في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وعند
ـــــــ
على أجزاء كلمة الكفر والإفطار لدفع الضرورة مع قيام حرمة الكفر والفطر وقلنا نحن هذا أي هذا الخلف مطلق في حال العجز عن الأصل باتفاق بين أصحابنا فيثبت به الحكم على الوجه الذي يثبت بالأصل ما بقي العجز فيجوز جمع الصلاة به ويجوز الإيتان به قبل دخول الوقت كالطهارة بالماء ولا يجوز التحري في الإناءين; لأن التراب طهور مطلق عند العجز عن استعمال الماء وقد تحقق العجز بالتعارض; لأن حكم التعارض التساقط فصار كأن الإناءين في حكم العدم والدليل على أن هذا خلف مطلق رافع للحدث سواء جعلت الخلفية بين الماء والتراب أو بين التوضؤ والتيمم أن حكم الأصل إفادة الطهارة وإزالة الحدث فكذا ما شرع خلفا عنه يثبت له حكم الأصل كالصوم في الكفارات له حكم الإعتاق وكالأشهر في العدة لها حكم القرء وكالصوم في باب المتعة له حكم الهدي وهذا ظاهر إذا جعلت الخلفية بين الماء والتراب وإن جعلت بين الوضوء والتيمم فكذلك; لأن من حكم الوضوء إباحة الدخول في الصلاة بواسطة رفع الحدث بطهارة حصلت به لا مع الحدث فهذا الذي جعل خلفا مطلقا لا يبيح بدون تلك الواسطة; لأنه حينئذ يكون حكما آخر وللخلف حكم الأصل لا حكم آخر فمن قال هو خلف في حق الإباحة مع الحدث جعله غير خلف عن التوضؤ إذ التوضؤ لا يبيح الأداء مع قيام الحدث الموجود قبل التوضؤ بحال وإنما يبيح بواسطة رفعه فيكون الإباحة من غير رفع حكما آخر غير حكم الأصل فحينئذ لا يكون خلفا عنه كذا في الأسرار.
قوله: "لكن الخلاف" استدراك من قوله وقلنا نحن هو خلف مطلق أي هو خلف مطلق عند أصحابنا جميعا, لكن الخلافة بين الآلتين وهما الماء والتراب عند أبي حنيفة وأبي يوسف وعند محمد وزفر رحمهم الله بين الفعلين وهما الوضوء والاغتسال والتيمم; لأن الله تعالى أمر بالوضوء أولا بقوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] الآية وبالاغتسال بقوله فاغتسلوا, ثم أمر بالتيمم عند العجز بقوله: {فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] [المائدة: 6] فكانت الخلافة بين الوضوء والاغتسال والتيمم لا بين التراب والماء إلا أنهما يقولان إن الله تعالى نص على عدم الماء عند النقل إلى التيمم بقوله عز ذكره: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} [النساء: 43] [المائدة: 6] فدل أن الخلفية بين الماء والصعيد لا بين التوضؤ والتيمم كما أنه تعالى لما نص على المحيض في قوله عز اسمه: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} [الطلاق: 4] الآية علم أن الأشهر خلف عن الحيض لا عن التربص وإذا كان كذلك لا يترك ظاهر النص إلا بدليل(4/233)
زفر ومحمد رحمهما الله بين التيمم والوضوء. ويبتنى عليه مسألة إمامة المتيمم للمتوضئ وقد يكون الخلف ضروريا وهو التراب عند القدرة على الماء إذا
ـــــــ
يمنعنا عن العمل به ولم يوجد ولا يقال قد وجد الدليل; لأن الصعيد ليس بطهور بل هو ملوث فلا يصلح خلفا عن الماء في كونه طهورا فنجعل الخلافة بين الفعل والفعل; لأنا نقول هو ليس بطهور حقيقة, ولكن النجاسة في المحل حكمية وهذه طهارة حكمية فجاز إثباتها بالصعيد فكان الصعيد طهورا حكما فيصلح خلفا عن الماء في إثبات الطهارة الحكمية يؤيد ما ذكرنا قوله عليه السلام: "التراب طهور المسلم ولو إلى عشر حجج ما لم يجد الماء" 1. وقوله: صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" نص على طهورية التراب والأرض فدل على أن التراب خلف عن الماء في الطهورية قال القاضي الإمام رحمه الله فتبين أن الشافعي رحمه الله جعل التيمم بدلا عن الوضوء لإباحة الصلاة مع الحدث لا لرفع الحدث وعند محمد رحمه الله هو بدل عنه في حق رفع الحدث مطلقا في حق الصلاة وانقطاع الرجعة وقربان الزوج وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله جعلا الصعيد بدلا عن الماء عند عدم الماء في إفادة الطهارة الحكمية للصلاة لا غير وهو الأصح.
قوله: "ويبتني عليه" أي على الاختلاف الذي ذكرنا مسألة إمامة المتيمم للمتوضئين فعند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله يؤم المتيمم المتوضئين ما لم يجد المتوضئ الماء وهو مذهب ابن عباس رضي الله عنهما; لأن التراب لما كان خلفا عن الماء في حصول الطهارة كان شرط الصلاة بعد حصول الطهارة موجودا في حق كل واحد منهما بكماله فيجوز بناء أحدهما على الآخر بمنزلة الماسح يؤم الغاسلين وهذا; لأن الخف بدل عن الرجل في قبول الحدث لا أن المسح خلف عن الغسل بل المسح أصل كالمسح بالرأس فكانت طهارة الماسح طهارة أصلية غير منقولة إلى بدل فكذا هاهنا وعند محمد رحمه الله لا يؤم المتيمم المتوضئ بحال وهو قول علي رضي الله عنه لأن عنده لما كان التيمم خلفا عن الوضوء كان المتيمم صاحب الخلف والمتوضئ صاحب الأصل وليس لصاحب الأصل القوي أن يبني صلاته على صلاة صاحب الخلف كما لا يبني المصلي بركوع وسجود على الصلاة المومئ ألا ترى أنه لو كان مع المتوضئ ماء لا يجوز اقتداؤه بالمتيمم لقدرته على الأصل فكذا إذا لم يكن معه ماء; لأنه واجد للطهارة الأصلية. وعند زفر رحمه الله يجوز اقتداء المتوضئ بالمتيمم وإن كان المتوضئ قادرا على الماء وهو رواية عن أبي يوسف
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الطهارة حديث رقم 332 والترمذي في الطهارة حديث رقم 124 والإمام أحمد في المسند 5/146.(4/234)
خيف فوت الصلاة حتى إن من تيمم لجنازة فصلى, ثم جيء بأخرى لم يعد عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وأعاد عند محمد بناء على ما قلنا وهذا
ـــــــ
رحمه الله; لأن قدرته على الماء لا تغير ولا حال الإمام; لأن عدم الماء شرط في حق الإمام وهو باق في حقه ولهذا جازت صلاته وليس بشرط في حق المقتدي ولهذا لم ينتقض طهارته بالقدرة عليه فلا يمنع صحة البناء كما إذا لم يقدر على الماء إلا أنا نقول لما قدر المقتدي على الماء كان في زعمه أن الشرط لم يثبت في حق الإمام ففسدت صلاة الإمام في زعمه فلم يصلح اقتداؤه به كما لو كان في زعمه أن إمامه مخطئ في تحريه للقبلة لم يصح الاقتداء به وإن كانت صلاة الإمام صحيحة في نفسها وكالصحيح يقتدي بصاحب الجرح لا يصح; لأن طهارته ليست بطهارة في حق المقتدي وإن كانت صحيحة في حق الإمام بخلاف ما إذا لم يكن المقتدي المتوضئ قادرا على الماء; لأن العدم ثابت في حق الإمام والمقتدي جميعا فكان الصعيد طهورا في حق الكل إلا أن المقتدي استغنى عنه لكونه على طهر في حق نفسه ولهذا لو أحدث المقتدي جاز له التيمم فكانت طهارة الإمام طهارة في حقه فصلح إماما له. ومثاله قوم بهم جروح سائلة أمهم واحد منهم سال منه الدم بعد الطهارة ولم يسل من الباقين, ثم سال الدم في الوقت منهم بعد الصلاة جازت صلاتهم; لأن العذر الذي منع الدم أن يكون حدثا ثابت في حقهم جميعا فصح الاقتداء وإن كان القوم صلوا صلاتهم بطهارة صحيحة لا دم بعدها.
هكذا ذكر قول زفر في الأسرار والمبسوط وعامة الكتب.
وسياق كلام الشيخ هاهنا حيث ضم زفر إلى محمد يدل على أن عنده لا يجوز اقتداء المتوضئ بالمتيمم كما هو قول محمد على خلاف ما ذكر في عامة الكتب فلعله ظفر برواية أخرى عنه أنه قوله مثل قول محمد في هذه المسألة فأورد قوله موافقا لقول محمد بناء على تلك الرواية كما ذكر الإمام الإسبيجابي في شرح المبسوط فقال: ويؤم المتيمم المتوضئين في قول أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد وزفر رحمهم الله: لا يؤم فإن كان مع المتوضئين ماء لم يصح الاقتداء بلا خلاف فأما على الروايات المشهورة عنه فلا يصح ذكره مع محمد; لأن قوليهما متناقضان في هذه المسألة ولهذا لم يذكره شمس الأئمة وإن لم يثبت عنه رواية أخرى كان ذكر زفر هاهنا سهوا من الكاتب.
قوله: "وقد يكون الخلف" أي هذا الخلف الذي هو مطلق وهو التراب أو التيمم ضروريا عند القدرة على الماء يعني شرط ثبوته عدم الأصل, ثم إنه قد يثبت مع وجود الأصل ضرورة الاحتراز عن فوت الصلاة بأن فاتت أصلا إلى بدل فيجوز التيمم لصلاة الجنازة في المصر إذا خيف فوتها لو اشتغل بالوضوء وكذلك لصلاة العيد عندنا وعند(4/235)
إنما يستقصى في مبسوط أصحابنا وإنما غرضنا الإشارة إلى الأصل وذلك أن
ـــــــ
الشافعي رحمه الله لا يجوز التيمم لهما قياسا على الجمعة وسائر الصلاة وهذا; لأن التيمم طهارة شرعا عند عدم الماء فمع وجوده لا يكون طهارة ولا صلاة إلا بطهارة. إلا أنا نقول: إن صلاة الجنازة لا تقضى وكذلك صلاة العيد والظهار بالماء شرعت لأجل الصلاة فإذا خاف الفوت أصلا لو اشتغل بالوضوء صار عادما للماء في حق هذه الصلاة; لأنه لا يمكنه الصلاة بطهارة الماء قط على هذه الحالة فأبيح له التيمم كما لو خاف عطشا بخلاف سائر الصلوات فإنها تفوت إلى خلف وبخلاف الولي حيث لا يجوز التيمم; لأنه لا يخاف الفوت فإن الناس وإن صلوا عليه كان له حق الإعادة وقد نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما إذا فجأتك. جنازة فخشيت فوتها فصل عليها بالتيمم ونقل عن ابن عمر رضي الله عنهما في صلاة العيد مثله حتى إن من تيمم لجنازة فجيء بأخرى يعني من غير أن يدرك وقتا بين الجنازتين يتمكن فيه من الوضوء لم يعد التيمم عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لبقاء الضرورة وأعاد عند محمد رحمه الله بناء على ما قلنا من الاختلاف في الخلافة وذلك أن الخلافة هاهنا وإن كانت ضرورية, لكنها بين التيمم والوضوء عند محمد رحمه الله فتيممه الأول كان لحاجته إلى إحراز الصلاة على الجنازة الأولى وقد حصل مقصوده بالفراغ منها فانتهى حكم ذلك التيمم, ثم حدثت به حاجة جديدة إلى إحراز الصلاة على الجنازة الثانية فيلزمه أن يتيمم لها وأن يجد بين الجنازتين من الوقت ما يمكنه أن يتوضأ فيه; لأن الثابت بالضرورة يتقدر بقدرها ويتجدد بتجددها وقاس بما لو تمكن من الوضوء بين الجنازتين. وعندهما هذه الخلافة وإن ثبتت ضرورة إلا أنها بين التراب والماء كما إذا كانت مطلقة فيجوز له أن يصلي على الجنائز ما لم يدرك من الوقت مقدار ما يمكنه أن يتوضأ فيه على وجه لا تفوته الصلاة على جنازة; لأن المعنى الذي صار التراب طهورا لأجله وهو ضرورة خوف الفوت قائم بعد فيبقى تيممه ببقاء المعنى بخلاف ما إذا تمكن من الطهارة بين الصلاتين; لأن الضرورة قد انتهت بالقدرة على الماء من غير خوف فوت يوضحه أن التيمم بعدما صح لا ينتقض ألا بالقدرة على استعمال الماء وأنه لم يقدر عليه بالفراغ من الصلاة على الجنازة الأولى إذا كان يخاف فوت الثانية بخلاف ما إذا كان يتمكن من الطهارة بينهما وإذا لم يكن متمكنا من استعماله كان فرض استعماله ساقطا عنه فيكون وجود الماء وعدمه في حقه سواء كذا في نوادر المبسوط.
قوله: "وهذا" أي بيان هذه المسائل وتحقيق هذه الفروع إنما يستقصى أي يبلغ أقصاه في مبسوط أصحابنا أو بيان الأصل والخلف في كل واحد من الحقوق المذكورة فإن لكل منها خلفا إنما يعرف على وجه المبالغة والتحقيق في مبسوط أصحابنا فإن الفدية(4/236)
الخلافة لا تثبت إلا بالنص أو دلالة النص وشرطه عدم الأصل للحال على احتمال الوجود ليصير السبب منعقدا للأصل فيصح الخلف فإذا لم يحتمل أصل الوجود فلا مثل البر في الغموس لما لم يحتمل الوجود لم يثبت الكفارة خلفا عنه بخلاف مس السماء وسائر الإبدال فإنها لم تشرع إلا عند احتمال وجود الأصل أكثر والمسائل على هذا أكثر الأصل من أن تحصى وقد سبق بعضها فيمن أسلم في آخر وقت الصلاة ولهذا قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله في
ـــــــ
خلف عن الصوم عند العجز وكذا عن الصلاة والقضاء خلف عن الأداء في جميع الحقوق التي شرع فيها القضاء وإحجاج الغير خلف عن الحج بنفسه عند العجز والكفارة في اليمين خلف عن البر وكذا في أداء القيم في الزكاة وصدقة الفطر والعشر وسائر الصدقات الواجبة معنى الخلفية وكذا قيم المتلفات في حقوق العباد وهذا مما يكثر تعداده ويطول به الكتاب وإنما عرضنا الإشارة إلى الأصل وذلك الأصل أن الخلافة لا تثبت إلا بالنص أو دلالة النص لم يرد الشيخ الاقتصار عليهما بل يثبت بإشارة النص وباقتضائه أيضا وإنما أراد به انتفاء ثبوت الخلافة بالرأي يعني أن الخلف إنما يثبت بما يثبت به الأصل والأصل لا يثبت بالرأي فكذلك خلفه. وشرطه أي شرط ثبوت الخلف عدم الأصل للحال; لأن مع وجود الأصل لا يجوز المصير إلى الخلف لكن يشترط أن يكون عدما محتملا للوجود.
ليصير السبب المثبت للأصل, ثم بالعجز عنه يتحول الحكم إلى الخلف كما بينا في التيمم أن السبب الموجب للوضوء وهو إرادة الصلاة قد انعقد موجبا له لاحتمال حدوث الماء بطريق الكرامة, ثم بالعجز انتقل الحكم إلى التيمم فإذا لم يحتمل الأصل الوجود فلا أي فلا يثبت الخلف كالخارج من البدن إذا لم يكن موجبا للوضوء كالدمع والعرق لا يكون موجبا للخلف وهو التيمم وكالطلاق قبل الدخول لما لم يكن موجبا للأصل وهو الاعتداد بالأقراء لا يكون موجبا لما هو خلف عنه وهو الاعتداد بالأشهر ومثل البر في الغموس. لما لم يحتمل الوجود; لأنها أضيفت إلى ما لا يتصور فيه البر لا ينعقد موجبه لما هو خلف عن البر وهو الكفارة بخلاف مسألة مس السماء أي اليمين على مس السماء فإنها لما انعقدت موجبة للبر لمصادفتها محل البر كانت موجبة للخلف وهو الكفارة وسائر الأبدال كمسح الخف والتيمم والفدية في الصوم والصوم في كفارة اليمين وغيره على هذا الأصل وهو اشتراط احتمال وجود الأصل لثبوت الخلف. وقد سبق بعضها أي بيان بعضها فيمن أسلم في آخر الوقت ولم يبق من الوقت مقدار ما يمكنه أن يصلي فيه فإنا أوجبنا عليه القضاء لاحتمال الأداء; لأن ذلك الجزاء لما صلح موجبا للأداء صلح موجبا لما هو خلف عنه وهو القضاء.(4/237)
المشهود بقتله إذا جاء حيا وقد قتل المشهود عليه فاختار الولي تضمين الشهود أنهم يرجعون على الولي; لأن سبب الملك قد وجد وهو التعدي والضمان والمضمون وهو الدم محتمل للملك في الشرع غير مستحيل مثل مس السماء فعمل في بدله وهو الدية عند تعذر العمل بالأصل كما قيل في غاصب المدبر من الغاصب إذا مات المدبر عند الثاني أو أبق إن الأول إذا ضمن رجع على الثاني
ـــــــ
قوله: "ولهذا" أي; ولأن الخلف يثبت عند احتمال وجود الأصل وإن بعد قال أبو يوسف ومحمد إلى آخره إذا شهدت الشهود على رجل بقتل عمد وقتله الولي بشهادتهم, ثم رجع الشهود والولي جميعا أو جاء المشهود بقتله حيا فلولي المقتول الخيار بين أن يضمن الشهود الدية وبين أن يضمنها القاتل; لأن القاتل متلف للمقتول حقيقة والشهود متلفون له حكما والإتلاف الحكمي في حكم الضمان مثل الإتلاف الحقيقي فكان له أن يضمن أيهما شاء فإن اختار ولي المقتول تضمين القاتل لم يرجع على الشهود بشيء باتفاق أصحابنا; لأنه ضمن بفعل باشره لنفسه باختياره وإن اختار تضمين الشهود لم يرجعوا على القاتل في قول أبي حنيفة رحمه الله. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: إنهم يرجعون على الولي أي لهم ولاية الرجوع على القاتل إن شاءوا; لأنهم ضمنوا بشهادتهم وقد كانوا عاملين فيها للولي فيرجعون عليه بما يلحقهم من الضمان كما لو شهدوا بالقتل خطأ أو بالمال فقضى القاضي به واستوفاه المشهود له, ثم رجعوا جميعا وضمن المشهود عليه الشهود كان لهم أن يرجعوا على المشهود له وتعليل الشيخ بقوله; لأن سبب الملك إلى آخره إشارة إلى الجواب عما يقال: إن الشهود إنما يرجعون إذا كان المشهود به قابلا للملك فيملكونه بالضمان فيرجعون بعدما صار ملكا لهم إلى المشهود له وهاهنا المشهود به القصاص وهو لا يملك بالضمان فلا يكون لهم ولاية الرجوع فقال: لأن سبب الملك أي ملك المشهود به للشهود قد وجد وهو التعدي بالشهادة كذبا. والضمان أي وجوب الضمان أو أداء الضمان على ما عرف من أصلنا والمضمون وهو الدم محتمل للملك أي للمملوكية في الشرع غير مستحيل أي غير مستحيل تملكه فإن الشرع لو ورد بتملك الدم لا يستحيله العقل. ألا ترى أن نفس من عليه القصاص في حكم القصاص كالمملوك لمن له القصاص حتى كان له ولاية إهلاكه باستيفاء القصاص منه وولاية إبقائه بالعفو كالعبد كان للمولى ولاية إبقائه في ملكه وولاية إخراجه عن ملكه بالبيع والإعتاق وإذا كان كذلك كان السبب وهو الضمان الذي لزمهم بتعديهم منعقد الملك المضمون بناء على هذا الاحتمال, ولكن تعذر العمل به لعدم ورود الشرع به حقيقة فعمل أي السبب في بدل المضمون وهو الدية عند تعذر العمل بالأصل كما قيل في غاصب المدبر(4/238)
وإن لم يملك المدبر وكذلك شهود الكتابة إذا رجعوا بعد الحكم وضمنوا قيمته رجعوا ببدل الكتابة على المكاتب ولم يملكوا رقبته لما قلنا: إن سبب الملك وجد والأصل يحتمل الملك فإذا لم يثبت الملك قام البدل مقامه وأما أبو حنيفة رحمه الله فقد قال: إن الشهود متلفون حكما بطريق التسبيب والولي
ـــــــ
من الغاصب إن الغاصب الأول إذا ضمن رجع به أي بما ضمن على الغاصب الثاني وإن لم يملك الغاصب الأول المدبر بأداء الضمان; لأن سبب الملك وهو التعدي والضمان قد وجد والمدبر محتمل للملك في الشرع فإن الشرع لو ورد به لا يكون مستحيلا فينعقد السبب موجبا لملك الأصل وهو المدبر على أن يعمل في بدله وهو القيمة فيملك مثل ما ضمنه على الغاصب الثاني فيرجع به عليه وكذلك أي وكغاصب المدبر من الغاصب شهود الكتابة فإنهم إذا شهدوا أنه كاتب عبده هذا بألف إلى سنة فقضي بذلك, ثم رجعوا والعبد يساوي ألفين أو ألفا يضمنون قيمته; لأنهم حالوا بين المولى وبين مالية العبد بشهادتهم عليه بالكتابة فكانوا بمنزلة الغاصبين ضامنين للقيمة, ثم يرجعون على المكاتب ببدل الكتابة على نجومها وإن لم يملكوا رقبته; لأن المكاتب لا يقبل النقل من ملك إلى ملك كالمدبر ولهذا لو عجز ورد في الرق كان لمولاه دون الشهود. وقوله لما قلنا دليل المسألتين أي لما قلنا إن سبب الملك وهو التعدي والضمان قد وجد في المسألتين والأصل وهو المدبر في تلك المسألة والمكاتب في هذه المسألة يحتمل الملك لعدم استحالة ورود الشرع به كالدم في المسألة الأولى فإذا لم يثبت الملك للشهود في الرقبة لقيام المانع وهو التدبير والكتابة قام البدل وهو القيمة في المدبر وبدل الكتابة في المكاتب مقام الأصل وإنما يرجعون ببدل الكتابة دون القيمة; لأن العبد قد استحق العتق على المولى بإزاء البدل وأنهم قاموا مقام المولى في قبض بدل الكتابة حين ضمنوا قيمته فلا يكون لهم ولاية الرجوع عليه بما زاد على البدل كما لم يكن للمولى ذلك وأما أبو حنيفة رحمه الله فقد قال يعني في المسألة الأولى أن الشهود متلفون حكما بطريق التسبيب إذ لو لم يكونوا متلفين لما كانوا ضامنين مع مباشر الإتلاف; لأن مجرد التسبيب ساقط الاعتبار في مقابلة المباشرة. ألا ترى أنه لو دفع إنسانا في بئر حفرها غيره من الطريق كان الضمان على الدافع دون الحافر ولما ضمن الشهود هاهنا عرفنا أنهم جناة متلفون للنفس حكما وإن كان تمام ذلك الإتلاف عند استيفاء الولي فإن استيفاءه بمنزلة الشرط لتمام جنايتهم فعلم أنهم يضمنون بإتلاف باشروه حكما والولي ضامن بإتلاف باشره حقيقة وهما أي المتلف حكما والمتلف حقيقة أو المتلف بالتسبيب والمتلف بالمباشرة سواء في ضمان الدية وإن لم يتساويا في ضمان الفعل; لأن الدية بدل المحل وبدل المحل يعتمد فوات المحل فبأي(4/239)
متلف حقيقة بالمباشرة وهما سواء في ضمان الدم وإذا كان الولي لا يرجع لم يرجع الشهود أيضا بخلاف الشهود الخطاء فإنهم إذا ضمنوا وقد جاء المشهود بقتله حيا رجعوا; لأنهم لا يضمنون بالإتلاف لكن بما أوجبوا للولي فإذا ضمنوا صار الولي متلفا عليهم; لأن المضمون ثمة المال وهو محتمل للملك والجواب عن قولهما إن ملك الأصل المتلف وهو الدم غير مشروع أصلا ولا يحتمل فلا
ـــــــ
طريق حصل الفوات تجب الدية سواء كان مباشرة أو تسبيبا. ولهذا كان ولي القتيل مخيرا بين تضمين الولي وبين تضمين الشهود, ثم ولي القتيل إذا اختار تضمين المباشر المتلف وهو الولي لا يكون له أن يرجع على الشهود بشيء; لأنه ضمن بجنايته وهي الإتلاف حقيقة فكذلك إذا اختار تضمين الشهود لا يكون لهم ولاية الرجوع على الذي باشر القتل; لأنهم ضمنوا بجنايتهم ومن ضمن بجناية نفسه لا يكون له أن يرجع على غيره وهو معنى قوله في الكتاب وإذا كان الولي الذي باشر القتل ولا يرجع يعني على الشهود عند التضمين لم يرجع الشهود أيضا عليه عند التضمين بخلاف شهود الخطأ يعني إذا شهدوا بالقتل خطأ وأخذ المشهود له الدية من المشهود عليه, ثم جاء المشهود بقتله حيا فإن للمشهود عليه أن يضمن الشهود فإذا ضمنهم كان لهم ولاية الرجوع على الآخذ وهو المشهود له; لأنهم لا يضمنون بالإتلاف إذ لم يحصل بشهادتهم تلف نفس, لكنهم إنما يضمنون بما أوجبوا للولي أي لولي المشهود بقتله خطأ من المال على المشهود عليه فإذا ضمنوا ذلك المال ملكوه بأداء الضمان; لأن المال قابل للملك بسائر الأسباب فيملك بهذا السبب أيضا, ثم إنه إن كان قائما في يد الولي يأخذونه منه; لأنهم أحق بملكهم. وإن تلف في يده يرجعون عليه بمثله كما هو الحكم في الإتلافات والجواب عن قولهما أي عما قالا: إن الأصل محتمل للملك فانعقد السبب موجبا له إلى آخره إن ملك الأصل المتلف غير مشروع أصلا في الحال; لأن الأمة قد أجمعت عليه ولم يكن مشروعا في وقت من الأوقات أيضا ولا يحتمل أن يصير مشروعا; لأن احتمال المشروعية إنما يثبت باحتمال الوحي وقد انقطع احتمال الوحي بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينعقد السبب موجبا للأصل بوجه كما في اليمين الغموس فيبطل الخلف بخلاف اليمين المنعقدة على مس السماء; لأن الاحتمال قائم في الحال بطريق الكرامة فينعقد السبب موجبا للأصل فيعمل في الخلف وبخلاف المدبر والمكاتب; لأن احتمال الملك فيهما قائم في الحال لاختلاف العلماء في جواز بيع المدبر ولهذا لو قضى القاضي بجواز بيعه ينفذ ويجوز بيع المكاتب أيضا برضاه وأصل الملك في رقبته ثابت للمولى ويجوز رده إلى الرق بالعجز ويصير ملكا للمولى يدا ورقبة كما كان وإذا كان احتمال الملك ثابتا في الحال جاز أن ينعقد السبب موجبا(4/240)
ينعقد السبب له فيبطل الخلف ولأن الخلف يحكي الأصل والأصل هو الدم المتلف وملك الدم هو ملك القصاص والأصل بنفسه غير مضمون لو صار ملكا فكذلك خلفه وفي المدبر الأصل مضمون متى كان ملكا لا محالة فكذلك بدله. وأما القسم الثاني فأربعة السبب والعلة والشرط والعلامة أما السبب فإنه يذكر ويراد به الطريق قال الله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} [الكهف: 84] أي طريقا ويذكر ويراد به الباب قال الله تعالى: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ*أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} [غافر: 36, 37] يريد به أبوابها ومنه قول زهير: ولو نال
ـــــــ
للأصل ليعمل في الخلف ولأن الخلف يحكي الأصل يعني ولئن سلمنا أن الدم الذي هو الأصل قابل للملك ومحتمل له لم يكن للشهود ولاية إيجاب الضمان على الولي أيضا; لأن الخلف يحكي الأصل أي يشابهه ويثبت على الوجه الذي يثبت به الأصل والأصل هو الدم المتلف وملك الدم عبارة عن ملك القصاص, ثم لو كان القصاص ملكا لهم لم يضمنه المتلف عليهم سواء كان الإتلاف حقيقة أو حكما كما إذا قتل من عليه القصاص إنسان آخر أو شهد الشهود عليه بالعفو. ثم رجعوا لم يجب لمن له القصاص ضمان على القاتل والشهود وانعقاد السبب لا يكون أقوى من ثبوت الملك حقيقة وإذا امتنع ضمان الأصل لم يتصور زمان خلفه وهو الدية وفي المدبر والمكاتب الأصل وهو الرقبة مضمون متى كان مملوكا لا محالة يعني ما هو الأصل وهو ملك الرقبة في الموضع الذي يكون ثابتا يكون موجبا ضمان خلفه عند الإتلاف فكذلك إذا انعقد السبب موجبا للأصل, ثم لم يعمل بعارض التدبير والكتابة يكون موجبا لخلفه وهو القيمة في المدبر وبدل الكتابة في المكاتب فيكون لهم ولاية الرجوع بهما كذا قال شمس الأئمة رحمه الله.
قوله: "وأما القسم الثاني" يعني من التقسيم المذكور في أول الباب وهو القسم الذي يتعلق به الأحكام المشروعة فأربعة أنواع كما ذكرت والدليل على الحصر الاستقراء لا غير قال الله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} أي آتينا ذا القرنين من أسباب كل شيء إرادة من أغراضه ومقاصده في ملكه سببا أي طريقا موصلا إليه والسبب ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو آلة قال الله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ*أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} أي أبوابها في قول السدي وطرقها في قول أبي صالح وأبهم الأسباب, ثم أوضحها بأسباب السماوات; لأنه فخم ما أمل بلوغه من أسبابها وهو فائدة الإيضاح بعد الإبهام. ولأنه لما كان بلوغها أمرا عجيبا زاد في تعجيبه إلى هامان ومن يجري مجراه بالإيضاح بعد الإبهام ليعطيه حقه من التعجب ومنه أي ومما أريد بالسبب الباب قول زهير بن أبي سلمى:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... ولو نال أسباب السماء بسلم(4/241)
أسباب السماء بسلم ويذكر ويراد به الحبل قال الله تعالى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ} [الحج: 15] أي بحبل إلى السقف ومعنى ذلك واحد وهو ما يكون طريقا إلى الشيء وهو في الشريعة عبارة عما هو طريق إلى الشيء من سلكه وصل إليه فناله في طريقه ذلك لا بالطريق الذي سلك كمن سلك طريقا إلى مصر بلغه من ذلك الطريق لا به لكن يمشيه.
وأما العلة فإنها في اللغة عبارة عن المغير ومنه سمي المرض علة والمريض
ـــــــ
يعني ومن خاف الموت واحترز عن الأسباب الموصلة إليه لا ينفعه الاحتراز والحيلة فهو مصيبه لا محالة ولو نال أسباب السماء أي أبوابها بسلم أي صعد عليها فرارا منه ومعنى ذلك أي الجميع يرجع إلى معنى واحد وهو أن السبب ما يكون موصلا إلى الشيء فإن الباب موصل إلى البيت والحبل موصل إلى الماء وهو في الشريعة عبارة عما هو طريق إلى الشيء أي إلى الحكم يعني هو في عرف الفقهاء مستعمل فيما هو موضوعه لغة أيضا وهو أن يكون طريقا للوصول إلى الحكم المطلوب من غير أن يكون الوصول به كالطريق يتوصل به إلى المقصد وإن كان الوصول بالمشي وكالحبل يتوصل به إلى الماء وإن كان يحصل الوصول بالاستقاء ولهذا قال بعضهم: السبب في اللغة عبارة عما يتوصل به إلى مقصود ما, وفي اصطلاح أهل الشرع: عبارة عما هو أخس من المفهوم اللغوي وهو كل وصف ظاهر منضبط دل الدليل السمعي على كونه معرفا لحكم شرعي وفائدة نصبه سببا معرفا للحكم سهولة وقوف المكلفين على خطاب الشارع في كل واقعة من الوقائع بعد انقطاع الوحي حذرا من تعطيل أكثر الوقائع عن الأحكام الشرعية. فعلى هذا التفسير يكون السبب اسما عاما متناولا لكل ما يدل على الحكم ويوصل إليه من العلل وغيرها فيكون تسمية الوقت والشهر والبيت والنصاب وسائر ما مر ذكرها في باب بيان أسباب الشرائع أسبابا بطريق الحقيقة وعلى التفسير المذكور لا يتناول العلل بل يكون اسما لنوع من المعاني المفضية إلى الحكم فيكون تسمية تلك الأشياء أسبابا بطريق المجاز.
قوله: "وأما العلة في اللغة عبارة عن كذا" ذكر في الميزان أن العلة في اللغة عند البعض اسم لعارض يتغير وصف المحل بحلوله فيه من وصف الصحة والقوة إلى الضعف والمرض. وقال بعضهم: إن العلة مأخوذة من العلل وهو الشربة بعد الشربة وسمي المعنى الموجب للحكم في الشرع علة; لأن الحكم يتكرر بتكرره وقال بعضهم: إنها في اللغة مستعملة فيما يؤثر في أمر من الأمور سواء كان المؤثر صفة أو ذاتا وسواء أثر في الفعل أو في الترك يقال مجيء زيد علة لخروج عمرو ويجوز أن يكون مجيء زيد علة لامتناع خروج عمرو قال أبو الطيب:
والظلم في خلق النفوس وإن تجد ... ذا عفة فلعله لا يظلم(4/242)
عليلا فكل وصف حل بمحل فصار به المحل معلولا وتغير حاله معا فهو علة كالجرح بالمجروح وما أشبه ذلك. وهو في الشرع عبارة عمن يضاف إليه وجوب
ـــــــ
سمى المعنى المانع من الظلم علة وسمى المرض علة; لأنه يؤثر في ضعف المريض ويؤثر في منعه عن كثير من التصرفات. فعلى القول الأول سمي الوصف المؤثر في الحكم علة; لأنه يتغير به حال المنصوص عليه من الخصوص إلى العموم فإن الحكم كان مختصا بالمنصوص عليه وبعد معرفة الوصف بالمؤثر تغير حكم ظاهر النص من الخصوص إلى العموم فيثبت الحكم في أي موضع وجدت العلة فيه وعلى القول الثاني سمي علة لثبوت الحكم به على الدوام والتكرر عند تكره وعلى القول الثالث سمي بها; لأنه مؤثر في ثبوت الحكم إما في الأصل أو في الفرع قال: وهذا لا خير هو الصحيح بخلاف الأول فإن الشخص إذا ولد مريضا سمي عليلا والمرض فيه علة وليس بمغير لوصف الصحة وبخلاف الثاني; لأن الوصف يسمى علة في أول ما ثبت به الحكم من غير تكرر فكيف يصح اشتقاقه من العلل وأنه يقتضي التكرار ويمكن أن يجاب عن الأول بأنه إنما سمي عليلا بالنظر إلى الأصل فإن الأصل في المولود هو الصحة والسلامة وعن الثاني بأن الوصف إنما يسمى علة باعتبار أنه لو تكرر تكرر الحكم به وهذا بهذه المثابة وقوله وتغير به أي بذلك الوصف حال المحل معا إشارة إلى أن العلة وإن كانت مقدمة على المعلول رتبة فهي مقارنة له في الوجود. فإن حركة الإصبع التي هي علة حركة الخاتم مقارنة لحركة الخاتم إذ لو لم تكن كذلك لزم تداخل الأجسام وهو محال على ما عرف وكذا الحركة علة صيرورة الشخص متحركا والسواد علة لصيرورة الشيء أسود وهما يوجدان معا ولهذا جعلنا الاستطاعة التي هي علة الفعل مقارنة له وما أشبه ذلك أي الجرح كالكسر والهدم والقطع علل للانكسار والانهدام والانقطاع مقارنة في الوجود إياها وهو أي المذكور وهو العلة أو لفظ العلة عبارة عما يضاف إليه وجوب الحكم أي ثبوته ابتداء احترز بقوله يضاف إليه وجوب الحكم عن الشرط فإن الشرط يضاف إليه وجود الحكم من حيث إنه وجد عنده لا وجوبه وبقوله ابتداء عن السبب والعلامة وعلة العلة والشرط أيضا فإن المراد بالثبوت ابتداء الثبوت بلا واسطة وبهذه الأشياء لا يثبت الحكم بلا واسطة ويدخل في هذا الحد العلل الوضعية التي جعلها الشرع عللا كالبيع للملك والنكاح للحل والقتل للقصاص والأوقات للعبادات والعلل المستنبطة بالاجتهاد كالمعادن المؤثرة في الأقيسة فإن الحكم في المنصوص عليه مضاف إلى العلة بالنسبة إلى الفرع كما مر بيانه ويقرب من هذا التعريف ما ذكر السيد الإمام الشهيد أبو القاسم السمرقندي رحمه الله في أصول الفقه أن العلة في اصطلاح الفقهاء عبارة عما يثبت الحكم به في الحال من غير احتمال(4/243)
الحكم ابتداء مثل البيع للملك والنكاح للحل والقتل للقصاص وما أشبه ذلك لكن علل الشرع غير موجبة بذواتها وإنما الموجب للأحكام هو الله عز وجل لكن إيجابه لما كان غيبا نسب الوجوب إلى العلل فصارت موجبة في حق العباد وبجعل صاحب الشرع إياها كذلك وفي حق صاحب الشرع هي أعلام خالصة. وهذا كأفعال العباد من الطاعات ليس بموجبة للثواب بذواتها بل الله تعالى
ـــــــ
تخلف قال وبهذين الحرفين يفارق السبب; لأن العلة والسبب يتناوبان في الأبناء والملاءمة والمناسبة بينهما وبين الحكم غير أن السبب قد يتأخر عنه حكمه وقد يتخلف ولا يتصور التأخر والتخلف في العلة. وعن الشيخ أبي منصور رحمه الله أن العلة هي المعنى الذي إذا وجد يجب الحكم به معه واحترز بقوله معه عن قول بعض القدرية إن العلة هي الأمر الذي إذا وجد وجد الحكم عقيبه بلا فصل وقد بينا أن ثبوت الحكم بالعلة عندنا بطريق المقارنة لا بطريق التأخر ولهذا جعلنا الاستطاعة مقارنة للفعل لا سابقة عليه قال صاحب الميزان: هذا التعريف هو الصحيح فإن العلة ما يجب به الحكم فإن وجوب الحكم وثبوته بإيجاب الله تعالى, لكنه أوجب الحكم لأجل هذا المعنى وبسبب هذا المعنى ويجوز أن يقال: يجب به; لأن الله تعالى قد يفعل فعلا بسبب ويفعل فعلا ابتداء ويثبت حكما بسبب وحكما ابتداء بلا سبب وحكمة وفعله قط لا يخلو عن الحكمة عرفنا وجه الحكمة أو لم نعرف.
قوله: "لكن علل الشرع غير موجبة بذواتها" استدراك من قوله عما يضاف إليه وجوب الحكم يعني الأحكام وإن أضيف إلى العلل في الشرع, لكن العلل الشرعية غير موجبة بأنفسها فإن هذه العلل كانت موجودة قبل ورود الشرع ولم يكن بموجبة لهذه الأحكام بخلاف العلل العقلية فإنها موجبة بأنفسها فإن المراد من كون العلة موجبة بنفسها عدم تصور انفكاك الحكم عنها لا أنها موجبة له حقيقة إذ المتوالدات بخلق الله تعالى والعلل العقلية بهذه المثابة فإن الكسر لا يتصور بدون الانكسار والحركة بدون التحرك والإحراق بدون الاحتراق. وإنما الموجب للأحكام هو الله تعالى إذ له ولاية الإيجاب وهو قادر على أن يشرع الأحكام بلا علل, ولكن إيجابه لما كان غيبا عن العباد وهم عاجزون عن دركها شرع العلل التي يمكن لهم الوقوف عليها موجبات للأحكام في حق العمل ونسب الوجوب إليها فيما بين العباد تيسيرا فصارت العلل موجبة في الظاهر بجعل الله تعالى إياها كذلك أي موجبة لا بأنفسها وفي حق صاحب. الشرع هذه العلل إعلام خالصة أي في حقه هي الإعلام للعباد على الإيجاب لا أنها إعلام في حقه وهي نظير الإماتة فإن المميت والمحيي هو الله تعالى حقيقة, ثم جعلت الإماتة مضافة إلى القاتل بعلة القتل فيما يبتني عليه من(4/244)
بفضله جعلها كذلك فصارت النسبة إليها بفضله وكذلك العقاب يضاف إلى
ـــــــ
الأحكام في حق العباد من القصاص وحرمان الميراث والكفارة والدية وهذا أي ما ذكرنا أنها غير موجبة بذواتها بل بجعل الله تعالى إياها موجبة مثل أفعال العباد من الطاعات فإنها ليست بموجبة الثواب بذواتها; لأن العبد لا يستحق على مولاه بعمله له ثوابا قط وقد ينفك الأفعال عن الثواب أيضا كما قال عليه السلام: "رب قائم ليس له من قيامه إلا السهر ورب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش" 1 إلا أن الله تعالى بفضله جعل هذه الأفعال كذلك أي موجبة للثواب بقوله: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] {وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 85].
فصارت النسبة أي نسبة الثواب إلى الأفعال بفضله ورحمته وإليه يشير قوله جل ذكره: {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً} [النبأ:36] والعطاء ما كان من المعطي ابتداء بطريق الإنعام والإحسان ويؤيده قوله عليه السلام: "ينشر يوم القيامة ثلاثة دواوين ديوان النعم وديوان الأعمال أي الطاعات وديوان المعاصي فيقابل ديوان النعم بديوان الأعمال فيبقى ديوان المعاصي فيدخله الله الجنة بفضله" وكذلك العقوبات تضاف إلى الكفر من هذا الوجه أي وكما أن الثواب يضاف إلى الطاعات تضاف العقوبات إلى الكفر من الوجه الذي ذكرنا وهو أن الكفر ليس بموجب للعقوبات بذاته بل الله تعالى جعله سببا للعقوبات كما جعل الطاعات كذلك قال الشيخ الإمام مولانا حميد الملة والدين رحمه الله: هذا الكلام ينزع إلى مذهب فإن عنده يجوز العفو عن الكفر والشرك عقلا إلا أن السمع ورد أنه لا يفعل ذلك فأما عند أهل السنة فالحكمة تقتضي تعذيب الكافر على كفره وترك التعذيب ليس بحكمة كذا ذكر الشيخ أبو منصور رحمه الله في التأويلات فكان الكفر سببا للعقوبة بذاته فلا يستقيم هذا الكلام على أصل أهل السنة ويمكن أن يجاب عنه بأن الكفر وإن كان سببا للعقوبة بنفسه عقلا إلا أنه ليس بسبب بذاته للعقوبات التي ورد النصوص بها وإنما جعل سببا لتلك العقوبات بالشرع ولهذا جاز التخفيف في حق بعض الكفار والتغليظ في حق البعض فكان مثل الطاعات من هذا الوجه. وكانت اللام في قوله العقوبات للعهد أي العقوبات المذكورة في النصوص فأما أن يجعل الأفعال لغوا كما قالت الجبرية فإنهم لم يعتبروا أفعال العباد أصلا ونفوا عنها تدبير الخلق وجعلوها كلها اضطرارية كحركات المرتعش والعروق النابضة وجعلوا إضافة الأفعال إلى العبادة مجازا فقالوا: مشى زيد وذهب عمرو بمنزلة طال الغلام ومات زيد وابيض شعر بكر وشاخ عبد الله وإذا كان كذلك لا يكون أفعال العباد سببا للثواب ولا للعقاب بوجه بل الله تعالى يعذب
ـــــــ
1 أخرجه ابن ماجه في الصيام حديث رقم 1690 والإمام أحمد في المسند 1/431.(4/245)
الكفر عن هذا الوجه فأما أن تجعل لغوا كما قالت الجبرية أو موجبة بأنفسها كما قالت القدرية فلا فكذلك حال العلل وقد أجمع الفقهاء على أن الشاهد بعلة الحكم إذا رجع نسب إليه الإيجاب حتى صار ضامنا.
وأما الشرط فتفسيره في اللغة العلامة اللازمة ومنه أشراط الساعة ومنه
ـــــــ
من يشاء ويرحم من يشاء بحكم تصرفه في ملكه على حسب إرادته وموجبة بأنفسها كما قالت القدرية فإنهم قطعوا تدبير الله عز وجل عن أفعال العباد بالكلية وقالوا: يخترعها العباد ويتولون إيجادها شاء الله ذلك أو لم يشأ فيكون الأفعال أسبابا للثواب والعقاب بأنفسها عندهم ولهذا قالوا: إن العبد يستحق الثواب بعمله كما يستحق العقاب بفعله لكونه مستبدا به فلا أي فلا تجعل كما قالوا بل يقال: أفعال العباد موجودة منهم باختيارهم بها صاروا عصاة ومطيعين ومخلوقة الله تعالى داخلة تحت قدرته فيستفاد بالأول ثبوت العدل ونفي الظلم تحقيقا لقوله: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]. وإثبات الفضل تحقيقا لقوله: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} [النساء: 83] ويستفاد بالثاني معرفة أن الله تعالى موصوف بما وصف به نفسه محمودية كما قال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر: 62] فتكون الأفعال أسبابا للثواب بجعل الله تعالى لا بذواتها فكذلك حال العلل أي فكالأفعال العلل فلا يكون موجبة بذواتها كالعلل العقلية ولا تكون مهدرة كما ذهب إليه البعض بل تكون موجبة بجعل الله تعالى إياها كذلك في حق العمل قال الشيخ رحمه الله في شرح التقويم لو جعلنا العلل موجبة بذواتها يؤدي إلى الشركة في الألوهية فإن الموجب في الحقيقة هو الله تعالى ولا يجوز أن تجعل إعلاما محضة أيضا; لأن أفعال العباد تخرج حينئذ عن البين فيصير الأحكام كلها جبرية بدون أسباب والقصاص شرع جزاء على الفعل وكذلك الحدود فإذا جعلنا الأسباب إعلاما لا يكون العقوبات أجزية فثبت أن القول العدل ما ذكرنا, ثم استدل بدلالة الإجماع على أن العلل معتبرة غير مهدرة فقال: وقد أجمع الفقهاء على أن الشاهد بعلة الحكم إذا رجع نسب إليه الإيجاب حتى صار ضامنا إذا شهد الشاهدان على أنه طلق امرأته قبل الدخول بها أو عتق عبده فقضى القاضي بوقوع الطلاق والعتق وضمن الزوج نصف المهر, ثم رجعا ضمنا نصف المهر للزوج وقيمة العبد للمولى; لأنهما أثبتا علة التلف فكان التلف مضافا إليهما فإذا أضيف التلف إليهما مع أن الشهادة علة العلة فأولى أن يضاف إلى حقيقة العلة.
قوله: "الشرط العلامة اللازمة" فكأنه فسره بما ذكر للتمييز بينه وبين العلامة الحقيقية بهذا القيد ومنه أي ومن معنى العلامة أشراط الساعة أي علاماتها اللازمة جمع(4/246)
الشروط للصكوك ومنه الشرطي ومنه شرط الحجام وهو في الشرع اسم لما يتعلق به الوجود دون الوجوب فمن حيث لا يتعلق به الوجوب علامة ومن حيث
ـــــــ
شرط بالتحريك وجمع الشرط بالسكون الشروط كذا في الصحاح ومنه الشروط للصكوك; لأنها علامات دالة على الصحة والتوثق لازمة. والشرطة بالسكون والحركة خيار الجند والجمع شرط والشرطي بالسكون والحركة منسوب إلى الشرطة على اللغتين لا إلى الشرط; لأنه جمع كذا في المغرب سمي بذلك; لأنه نصب نفسه على زي وهيئة لا يفارقه في أغلب أحواله فكأنه لازم له ومنه شرط الحجام هو مصدر شرط الحاجم يشرط ويشرط إذا بزغ وإنما سمي فعله شرطا; لأن بفعله يحصل في المحاجم علامة لازمة والمشرط المبضع وهو في الشرع اسم لما يتعلق به الوجود دون الوجوب أي يتوقف عليه وجود الشيء بأن يوجد عند وجوده لا بوجوده كالدخول في قول الرجل لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق فإن الطلاق يتوقف على وجود الدخول ويصير الطلاق عند وجود الدخول مضافا إلى الدخول موجودا عنده لا واجبا به بل الوقوع بقوله أنت طالق عند الدخول. فمن حيث إنه لا أثر للدخول في الطلاق من حيث الثبوت به ولا من حيث الوصول إليه لم يكن الدخول سببا ولا علة بل كان علامة ومن حيث إنه مضاف إليه كان الدخول شبيها بالعلل وكان بين العلامة والعلة فسميناه شرطا ولهذا لا يجب الضمان على شهود الشرط بحال وإنما يجب الضمان على شهود التعليق إذا رجعوا قال السيد الإمام أبو القاسم هو في الشريعة عبارة عما يقف ثبوت الحكم على وجوده ولا يكون من جملة التصرف, ثم قال الأشياء التي يقف الحكم على وجودها خمسة أقسام العلة ووصف العلة والسبب والشرط والركن فالعلة هي المؤثرة في ثبوت الحكم عنها ولها تأثير تام. ووصف العلة له نوع تأثير, لكنه ليس بتام بل يتم بانضمام وصف آخر أو أوصاف إليه والسبب كالعلة في الإنباء عن الحكم والمناسبة بينه وبين الحكم إلا أن العلة لا يتأخر عنها الحكم والسبب قد يتأخر عنه الحكم ويجوز أن لا يثبت به الحكم والركن ما هو غير التصرف ولا يتم به كالقيام والركوع والسجود في الصلاة ولفظ العاقدين في العقود والركن لا يتأتى إلا في التصرفات فأما في غير التصرفات فلا وأما الشرط فما لا تأثير له بوجه كالطهارة في الصلاة والشهود في النكاح إلا أن الحكم لا يثبت شرعا إلا عنده. قال صاحب الميزان: تفسير الشرط بأنه ما يتوقف عليه وجود الحكم دون وجوبه فاسد; لأن الحكم لا يتوقف على الشرط بل العلة تقف عليه وعدم الحكم قبل وجود الشرط ليس لعدم الشرط بل لعدم العلة الذي هو العدم الأصلي فإذا وجد الشرط ووجدت العلة عند وجوده; لأنه يثبت الحكم بوجود العلة ولأنه إنما يستقيم على قول من قال بتخصيص العلة فإن من جوز ذلك يقول:(4/247)
يتعلق به الوجود يشبه العلل فسمي شرطا. وقد يقام مقام العلل على ما نبين إن شاء الله تعالى. وأما العلامة فما يعرف الوجود من غير أن يتعلق به وجوب ولا وجود مثل الميل والمنارة فكان دون الشرط فهذا تفسير هذه الجملة وكل ضرب من هذه الجملة منقسم في حق الحكم.
ـــــــ
إذا وجبت العلة ولم يوجد الشرط امتنع وجود الحكم لعدم الشرط مع بقاء العلة فأما عند من لم يجوز ذلك كان امتناع الحكم لعدم العلة لا لعدم الشرط فكان الأولى أن يقال الشرط ما يوجد الحكم عند وجوده أو ما يقف المؤثر على وجوده في إثبات الحكم ويمكن أن يجاب عنه بأن العلة إذا توقفت على الشرط كان حكمه متوقفا عليه بواسطة العلة فيصح هذا التعريف. وعبر بعضهم بأنه ما يقف عليه تأثير المؤثر وهو غير مطرد لصدقه على المؤثر ومؤثره إذ تأثير المؤثر يتوقف على ذات المؤثر وعلى المؤثر فيه وقيل: هو ما يستلزم نفيه نفي أمر على وجه لا يكون سببا لوجوده ولا داخلا فيه ويدخل فيه شرط الحكم وشرط السبب من حيث إنه يلزم من نفيه نفي السبب وليس هو السبب ولا جزأه وفيه احتراز عن انتفاء الحكم لانتفاء العلة أو السبب كما بينا وقد يقام الشرط مقام العلل على ما تبين يعني في باب تقسيم الشروط في مسألة حفر البئر فإنه شرط التلف دون علته والحكم يضاف إليه لتعذر إضافته إلى العلة.
وأما العلامة فهي الأمارة في اللغة كالميل للطريق والمنارة للمسجد وفي الشرع هي ما يعرف وجود الحكم من غير أن يتعلق به وجوده ولا وجوبه فيكون العلامة دليلا على ظهور الحكم عند وجودها فحسب مثل التكبيرات في الصلاة إعلاما على الانتقال من ركن إلى ركن والأذان علم الصلاة والتلبية شعار الحج. فهذا أي ما ذكرنا من المعاني اللغوية والاصطلاحية بيان هذه الجملة وهي السبب والعلامة قال القاضي الإمام رحمه الله هذه ضروب متشابهة ففي السبب معنى العلة وفي العلة الشرعية معنى العلامة وفي الشرط معنى العلة والعلامة قد تشتبه بالشرط والعلة ففيهما معنى العلامة لا يمتاز بعضها عن بعض إلا بحد تام.(4/248)
"باب تقسيم السبب"
وقد مر قبل هذا أن وجوب الأحكام متعلق بأسبابها وإنما يتعلق بالخطاب وجوب الأداء والسبب أربعة أقسام في حق الحكم سبب حقيقي وسبب سمي به مجازا وسبب له شبهة العلل وسبب هو في معنى العلة مضاف إليه وجوب
ـــــــ
"باب تقسيم السبب"
اعلم أن تقسيم مشايخنا رحمهم الله السبب والعلة والشرط والعلامة على الأقسام المذكورة ليس باعتبار أن حقائقها تنقسم إلى هذه الأقسام كانقسام حقيقة الإنسان إلى الرجل والمرأة; لأن ما هو حقيقة من كل قسم من هذه الأشياء أحد أقسامها المذكورة فلا يستقيم التقسيم باعتبار الحقيقة ولكن تقسيمهم إياها باعتبار معنى عام وهو ما يطلق عليه اسم السبب أو العلة أو الشرط سواء كان بطريق الحقيقة أو باعتبار ما يوجد فيه جهة السببية والعلية والشرطية بوجه فحينئذ يستقيم التقسيم ويدل على ما ذكرنا قوله قد مر من قبل هذا أن وجوب الأحكام متعلق بأسبابها يعني لما ثبت أن الوجوب متعلق بالأسباب يحتاج إلى بيان تقسيم أنواع السبب وبيان وجوه تعلق الحكم به فهذا يدل على أن التقسيم ليس باعتبار حقيقة السبب فإن الأسباب التي مر ذكرها ليست بأسباب حقيقة على ما اختاره المصنف في تعريف السبب بل هي علل سميت أسبابا بطريق المجاز لإفضائها إلى الأحكام فعرفنا أن وجه التقسيم ما قلناه.
ثم الشيخ رحمه الله جعل السبب المجازي قسما والسبب الذي له شبهة العلة قسما وذلك يقتضي أن يكون هذا القسم غير ذلك القسم وليس كذلك إذ السبب الذي له شبهة العلل غير السبب المجازي على ما ذكره الشيخ في آخر الباب فكانت الأقسام ثلاثة في الحقيقة فلا يستقيم تقسيمها على الأربعة إلا باعتبار الجهة بأن يجعل أحد الأقسام قسمين بالجهتين وقد بينا في أول الكتاب أن التقسيم باعتبار الجهة مهجور في مثل هذه المواضع; لأن هذه التقاسيم باعتبار التعدد في الخارج والشيء الواحد لا يتعدد في الخارج بتعدد الجهات ولو اعتبرت الجهات فيما نحن فيه وانقسم باعتبارها لم تنحصر الأقسام(4/249)
ولا وجود طريقا إلى الحكم من غير أن أما السبب الحقيقي فما يكون ولا يعقل فيه معاني العلل لكن يتخلل بينه وبين الحكم علة لا يضاف إلى السبب فإن أضيفت العلة إليه صار للسبب حكم العلل فيصير حينئذ من القسم الرابع وذلك مثل سوق الدابة وقودها هو سبب لما يتلف بها لأنه طريق إليه لكن بمعنى العلة وكذلك شهادة الشهود بالقصاص سبب لقتل المشهود عليه
ـــــــ
على الأربعة بل تزيد عليها بأن يجعل القسم الرابع باعتبار كونه سببا قسما وباعتبار معنى العلة قسما وأن يجعل السبب الحقيقي باعتبار كونه طريقا قسما وباعتبار عدم إضافة الوجوب إليه قسما وهلم جرا فتبين أن الأقسام في الحقيقة ليست إلا ثلاثة سبب حقيقي كدلالة السارق وسبب في معنى العلة كقود الدابة وسبب مجازي له شبهة العلل كالطلاق المعلق. ولهذا لم يذكر القاضي الإمام أبو زيد في التقويم القسم الذي فيه شبهة العلة وذكر مكانه السبب الذي هو علة وهو الموجب للحكم بنفسه في الزمان الثاني كالنصاب قبل الحول وسيأتي بيانه.
قوله: "أما السبب الحقيقي فما يكون" طريقا إلى الحكم هو بمنزلة الجنس يدخل تحته السبب والعلة والشرط وغيرها فاحترز بقوله من غير أن يضاف إليه وجوب عن العلة, وبقوله ولا وجود عن الشرط وعن العلة أيضا فإن وجود الحكم يضاف إلى العلة ثبوتا بها كما يضاف إلى الشرط ثبوتا عنده وبقوله ولا يعقل فيه معاني العلل أي لا يوجد له تأثير في الحكم بوجه بواسطة وبغير واسطة عن السبب الذي له شبهة العلة وعن السبب الذي فيه معنى العلة فإن كلا منهما طريق إلى الحكم من غير أن يضاف إليه وجود ولا وجوب ولكن لا يخلو عن معنى العلة كما ستعرف وقد تم التعريف.
ثم بين خلوه عن معنى العلة بقوله لكن يتخلل بينه وبين الحكم علة لا تضاف أي علة غير مضافة إلى السبب إلى آخره من القسم الرابع وهو السبب الذي في معنى العلة وذلك أي القسم الرابع مثل سوق الدابة وقودها هو سبب أي كل واحد منهما سبب لما يتلف بها أي بالدابة من المال والنفس حالة القود والسوق لا علة; لأنه أي السوق أو القود طريق الوصول إلى الإتلاف لا أنه موضوع له ليكون علة لكنه بمعنى العلة; لأن السوق أو القود يحمل الدابة على الذهاب كرها فصار فعلها مضافا إلى المكره فيما يرجع إلى بدل المحل فأما فيما يرجع إلى جزاء المباشرة فلا حتى لا يحرم من الميراث ولا يجب الكفارة والقصاص. قال القاضي الإمام ولهذا السبب حكم العلة من كل وجه; لأن علة الحكم لما حدثت بالأولى صارت العلة الأخيرة حكما للأولى مع حكمها; لأن حكم الثانية مضاف إليها وهي(4/250)
في حكم العلة لأن حد العلل فيه لم يوجد لكنه طريق إليه محض خالص فكان سببا ولهذا لم يجب به القصاص لأنه جزاء المباشرة وقد سلم الشافعي هذا لا أنه جعل السبب المؤكد بالعمد الكامل بمنزلة المباشرة وقد وجد لأن الشاهد غير المشهود عليه لكنا قلنا إن فعل الشهادة ليس بفعل قتل بلا شبهة وإنما
ـــــــ
مضافة إلى الأولى فصارت الأولى بمنزلة علة لها حكمان ومثاله الرمي المصيب القاتل فإنه سبب موجب للموت; لأن فعل الرمي ينقطع قبل الإصابة لكنه أوجب حراكا في السهم وصل به إلى المرمى وأوجب نقض بنيته ثم انتقاض البنية أحدث آلاما قتلته فكان الرمي سببا موجبا وله حكم جزاء الرقبة من كل وجه فصار الموت وسراية الألم وانتقاض البنية ونفوذ السهم أحكاما للرمي.
قوله: "وكذلك" أي وكالسوق شهادة الشهود بالقصاص سبب لقتل المشهود عليه في حكم العلة لا أنها علة; لأن حد العلل فيه أي في فعل الشهادة أو كلام الشهود لم يوجد لتخلل الواسطة بينه وبين الحكم كما سنبين لكنه أي فعل الشهادة طريق إلى القتل محض خالص; لأن الشهادة لم توضع للقتل في الأصل ولم يوجد فيها تأثير في القتل بوجه لتوسط فعل المختار بينها وبين الحكم فكان أي فعل الشهادة سببا لا علة; لأنه ليس بمباشرة للقتل. ولهذا أي ولكونه سببا لم يجب بفعل الشهادة القصاص عند الرجوع يعني إذا رجع الشهود بعد استيفاء الولي القصاص من المشهود عليه لا يجب القصاص على الشهود بشهادتهم الكاذبة عندنا خلافا للشافعي رحمه الله; لأن القصاص جزاء المباشرة التي هي علة ولم يوجد منهم المباشرة وقد سلم الشافعي رحمه الله أي سلم أن الشهادة سبب للقتل وليس بمباشرة له حقيقة وأن القصاص جزاء المباشرة ولكنه إنما أوجب القصاص في هذه الصورة; لأنه جعل السبب المؤكد بالعمد الكامل أي القصد الكامل إلى القتل بمنزلة المباشرة في إيجاب القصاص; لأن القصاص إنما وجب للزجر كما أشار إليه في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] والسبب إذا قوي وأدى إلى الهلاك غالبا ألحق بالقتل لوقوع الاحتياج حينئذ إلى الزجر فوجب القود به وإذا ضعف ولم يؤد إلى الهلاك غالبا استغنى عن الزجر فسقط القود وقد قوي السبب هاهنا; لأن الشاهد عين المشهود عليه يعني قصد بشهادته إتلاف شخص بعينه لا يمكنه التخلص عنه إلا بالتمكين فصارت شهادته سببا معينا للقتل في حق هذا الرجل بخلاف حفر البئر ووضع الحجر على الطريق; لأنه لم يقصد بهما إتلاف إنسان بعينه فلا يوجب القود ولأن الشهود ألجئوا القاضي إلى القضاء بالقتل فإنه يخاف العقوبة إن امتنع عنه وهو هلاك حكمي شر من الهلاك الحقيقي والملجئ كالمباشر في وجوب القصاص عليه; لأن فعل(4/251)
يصير قتلا بواسطة ليست في يد الشاهد وهو حكم القاضي واختيار الولي قتل المشهود عليه وقلنا نحن بأن لا كفارة على المسبب لما سبق من قبل وإنما صار
ـــــــ
المكره ينسب إليه فصار كأن الشهود أتلفوه بالقضاء فإن القضاء إتلاف حكما بأن صار نفسه لغيره حتى قتله. والدليل عليه أنهم ضمنوا الدية مع مباشرة الولي مختارا ولا يرجعون على الولي; لأنهم ضمنوا بمباشرتهم الإتلاف حكما ثم معنى قوله المؤكد بالعمد الكامل ما ذكر في التهذيب أن الشهود إن قالوا عند الرجوع تعمدنا وعلمنا أنه يقتل بشهادتنا يجب القصاص عليهم; لأنه تسبب لا تقطع المباشرة حكمه فكان كالإكراه وكذا إن قالوا تعمدنا ولم نعلم أنه يقتل بقولنا وهم ممن لا يخفى عليهم ذلك يجب القصاص كمن رمى سهما إلى إنسان فأصابه ثم قال لم أعلم أنه يتلفه يجب عليه القصاص وإن قالوا تعمدنا ولم نعلم أنه يقتل بقولنا وهم ممن يجوز أن يخفى عليهم مثله لقرب عهدهم بالإسلام حلفوا عليه ولا يجب به القصاص وعزروا وتجب دية مغلظة مؤجلة في أموالهم; لأنه ثبت بقولهم إلا أن تصدقهم العاقلة فتكون عليهم. وإن قالوا أخطأنا إليه من غيره حلفوا وتجب الدية مخففة في أموالهم إلا أن تصدقهم العاقلة فتكون عليهم لكنا نقول إن فعل الشهادة ليس بفعل قتل بنفسه بلا شبهة لكونه غير موضوع للقتل ويتخلف القتل عنه في كثير من الصور وإنما يصير قبل الشهادة قتلا بواسطة ليس في يد الشاهد تحصيله وهو أي تلك الواسطة وتذكير الضمير لتذكير الخبر حكم القاضي بوجوب القصاص ومباشرة الولي الصادرين عن اختيار إذا ليس في وسع الشاهد إيجاد ما يظهره القاضي بقضائه أو يوجبه ولا إيجاد اختيار القتل من الولي فبقي فعله تسبيبا فلا يجب به ما يجب بالقتل; لأنه شرع بطريق المماثلة ولا مماثلة بين النسب والمباشرة وقد بينا أن لا كفارة على المسبب كحافر البئر وواضع الحجر مع أنها جزاء قاصر; لأن وجوبها يعتمد المباشرة فالقصاص الذي هو جزاء كامل معتمد على المباشرة أولى أن لا يجب عليه ولا معنى لما ذكره من الإلجاء; لأن القاضي إنما يخاف العقوبة في الآخرة وبه لا يصير ملجأ فإن كل واحد منا يقيم الطاعة خوفا من العقوبة على تركها في الآخرة ولا يصير به مكرها ولئن سلمنا الإلجاء في حق القاضي فلا نسلم في حق الولي; لأنه مندوب إلى العفو شرعا فثبت أن فعلهم تسبيب وليس بمباشرة حكما ولئن سلمنا أنه مباشرة حكما فلا نسلم وجوب القصاص عليهم; لأنه قد ثبت من أصلنا أن على المباشر الحقيقي وهو الولي هاهنا لا يجب القصاص لشبهة قضاء القاضي فعلى المباشر حكما أولى أن لا يلزم; لأن الضمان بالقتل الذي باشره الولي لا بالشهادة وحدها فإن الولي لو لم يقتل المشهود عليه بعد الشهادة والقضاء لا يجب الضمان على أحد بالاتفاق فإن قيل قد روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قتل(4/252)
هذا القسم في حكم العلل لأن المباشرة أضيفت إليه فصار في حكم العلة مع كونه سببا من قبل أن المباشرة حادثة باختيار المباشر فبقي الأول سببا له حكم العلل ولهذا لم يصلح لإيجاب ما هو جزاء المباشرة. وإذا اعترض على السبب علة لا يضاف إليه بوجه كان سببا محضا مثل دلالة الرجل الرجل على مال رجل
ـــــــ
شهود القصاص بعدما رجعوا. وروي أن شاهدين شهدا عند علي رضي الله عنه على رجل بالسرقة فقطع يده ثم جيء بآخر فقالا أوهمنا إنما السارق هذا فقال لا أصدقكما على هذا وأغرمكما الدية ولو علمت أنكما تعمدتما على الأول لقطعت أيديكما فثبت بهذين الأثرين أن العمد فيه موجب للقصاص.
قلنا حديث أبي بكر رضي الله عنه غريب جدا لا يعتمد عليه ولو ثبت يحمل على السياسة وحديث علي رضي الله عنه خرج على وجه التهديد فإنه ثبت من مذهبه أن اليدين لا يقطعان بيد واحدة ولما بين جهة السببية في شهادة الشهود شرع في بيان معنى العلة فيها فقال وإنما صار هذا القسم يعني شهادة الشهود في حكم العلل حتى صلح موجبا للدية وإن لم يصلح موجبا للقصاص; لأن مباشرة القتل أضيفت إليه من حيث إنه لم يكن للولي ولاية الاستيفاء قبل شهادتهم وإنما حدثت بها فكان استيفاء مرتبا على شهادتهم وتمكينهم إياه منه فصار أي هذا القسم وهو الشهادة في حكم العلة بصيرورة المباشرة التي هي علة التلف مضافة إليه مع كونه في نفسه سببا من قبل أن المباشرة حادثة باختيار المباشر يعني باختياره الصحيح. بخلاف حدوث مباشرة المكره باختياره فإن ذلك لا يجعل الإكراه سببا حتى لم يمتنع وجوب القصاص به; لأن تلك المباشرة حادثة باختيار فاسد فأوجب نقل الفعل إلى الأول كأنه باشره فبقي الأول أي فعل الشهادة سببا له حكم العلل حتى صلح لإيجاب ما هو ضمان المحل وهو الدية ولم يصلح لإيجاب ما هو جزاء المباشرة من القصاص ووجوب الكفارة وحرمان الإرث قال القاضي الإمام رحمه الله المباشرة وجدت منهم في أداء الشهادة وقد انقطعت بالفراغ عن الأداء حكم الحاكم وما وجب به مضاف إليهم; لأنهم ألزموا الحاكم ذلك إلا أن التلف الواقع بالحكم تلف حكمي والإتلاف الحقيقي بمباشرة الولي وهو فيه مختار غير ملجأ حكما فيقتصر فعله عليه ولا ينتقل إلى الشهود فلا يلزمهم ضمان القتل حقيقة.
قوله: "وإذا اعترض على السبب" أي على السبب الذي هو طريق للوصول إلى الحكم علة يضاف الحكم إليها ولا تضاف تلك العلة إلى ذلك السبب بوجه كان ذلك السبب محضا أي سببا حقيقيا وهو بيان القسم الأول من الأسباب مثل دلالة الرجل الرجل على مال الغير ليسرقه ففعل لم يضمن الدال شيئا; لأن الدلالة سبب محض إذ هي(4/253)
ليسرقه أو ليقطع عليه الطريق أو ليقتله ومثل دلالة الرجل في دار الإسلام قوما من المسلمين على حصن في دار الحرب بوصف طريقه فأصابوه بدلالة لم يكن الدال شريكا لأنه صاحب سبب محض ومثل رجل قال لرجل تزوج هذه المرأة فإنها حرة فتزوجها ثم ظهر أنها أمة وقد استولدها لم يرجع على الدال بقيمة الولد لما بينا بخلاف ما إذا زوجها على هذا الشرط لأنه صار صاحب علة وكذلك قلنا في الموهوب له إذا استولد ثم استحقت لم يجعل قيمة الولد على
ـــــــ
طريق الوصول إلى المقصود وقد تخلل بينها وبين حصول المقصود ما هو علة غير مضافة إلى السبب الأول وذلك الفعل الذي يباشره المدلول باختياره لم يكن الدال شريكا في المصاب; لأنه صاحب سبب محض; لأن دلالته طريق للوصول إلى المقصود وتخلل بينها وبين المقصود علة غير مضافة إلى الدلالة وهي فعل القوم الصادر عن اختيارهم فلم يكن في دلالته شيء من معنى العلة فلا يكون له شركة في المصاب إلا إذا ذهب معهم ودلهم على الحصن فحينئذ يشركهم في المصاب; لأن فعله إذا تسبيب فيه معنى العلة.
ولا يلزم على ما ذكرنا ما إذا سعى إنسان إلى سلطان ظالم في حق آخر بغير حق حتى غرمه مالا كان الساعي ضامنا وهو صاحب سبب محض لتخلل فعل المختار بين فعله وبين الحكم كما في دلالة السارق; لأنا نقول ذلك اختيار بعض مشايخنا المتأخرين لغلبة السعاة في هذا الزمان دون المتقدمين. ويؤيده ما ذكره صدر الإسلام أبو اليسر في أصول الفقه إذا سعى إنسان إلى السلطان في حق آخر حتى غرمه مالا بغير حق بعض مشايخنا يفتون أن الساعي يضمن وبعضهم قالوا إن كان السلطان معروفا بالظلم وتغريم من سعي به إليه يضمن الساعي وإن لم يكن معروفا لا يضمن ولكن نحن لا نفتي به فإنه خلاف أصول أصحابنا رحمهم الله فإن السعي سبب محض لهلاك مال صاحب المال فإن السلطان يغرمه اختيارا لا طبعا ولكن لو رأى القاضي تضمين الساعي له ذلك; لأن الموضع موضع الاجتهاد فنحن نكل الرأي إلى القاضي حتى ينزجر السعاة عن السعي.
قوله: "ومثله" أي مثل الذي دل السارق أو الذي دل على الحصن رجل قال إلى آخره لم يرجع إلى المتزوج على الدال بقيمة الولد التي أداها إلى المالك لما بينا أنه صاحب سبب محض فإن إخباره سبب للوصول إلى المقصود ولكن تخلل بينه وبين المقصود وهو الاستيلاد علة غير مضافة إلى السبب وهي عقد النكاح الذي باشره الرجل والمرأة باختيارهما بخلاف ما إذا زوجها رجل على هذا الشرط أي بشرط أنها حرة بأن قال زوجتكما على أنها حرة حيث يرجع المستولد بضمان الولد على المزوج; لأنه صار صاحب(4/254)
الواهب لأن هبته سبب محض لا يضاف إليه مباشرة الاستيلاد بوجه وكذلك المستعير لا يرجع على المعير بضمان الاستحقاق لما قلنا بخلاف المشتري لأن البائع صار كفيلا عنه بما شرط عليه من البدل كأنه قال له إن ولدك حر بحكم بيعي فإن ضمنك أحد بحكم باطل فأنا كفيل عنه ولذلك لم يرجع بالعقر لأن ما ضمنه فهو قيمة ما سلم له فلم يكن غرما فلم يصح الكفالة به. ولا يلزم على هذا
ـــــــ
علة إذ الاستيلاد مبني على التزويج وشرط الحرية صار بمنزلة الوصف اللازم لهذا التزويج فيكون الاستيلاد بناء على التزويج وشرط الحرية بمنزلة العلة كالتزويج فكان الشارط لها صاحب علة وصار كأنه قال أنا كفيل بما يلحقك بسبب هذا العقد أو يقال ما لزمه من الضمان إنما لزم بالاستيلاد والاستيلاد حكم التزويج; لأنه موضوع له فكان المزوج صاحب العلة فيضاف الحكم إليه. وكذلك قلنا أي وكما قلنا إن المتزوج لا يرجع على المخبر; لأنه صاحب سبب قلنا في الموهوب له الجارية إذا استولدها ثم استحقت وضمن المستولد قيمة الولد لم يرجع بما ضمن على الواهب; لأن هبة الواهب سبب محض لضمان قيمة الولد; لأن الضمان وجب عليه بالاستيلاد لا بالهبة والاستيلاد ليس بمضاف إليه أي إلى السبب وهو الهبة إذ الهبة ليست بموضوعة للاستيلاد بل هي موضوعة لإظهار الجود والسماحة وإثبات الملك والملك يتحقق بدون الاستيلاد بخلاف النكاح; لأنه موضوع للاستيلاد وطلب النسل قال عليه السلام: "تناكحوا توالدوا تكثروا" الحديث. وكذلك أي وكما أن الموهوب له لا يرجع بقيمة الولد على الواهب لا يرجع المستعير على المعير بضمان الاستحقاق يعني إذا أتلف المستعير المستعار باستعماله ثم ظهر الاستحقاق وضمن المستعير قيمته لم يرجع بها على المعير لما قلنا إن السبب المحض لا يضاف إليه الحكم مع وجود العلة الصالحة للإضافة إليها والإعارة سبب محض لا يضاف الاستعمال الذي هو علة التلف إليه بخلاف المشتري إذا استولد الجارية المشتراة ثم ظهر الاستحقاق فإنه يرجع بقيمة الولد التي ضمنها للمستحق, وثمن الجارية على البائع; لأن البائع صار كفيلا عن المشتري أي للمشتري بما شرط عليه أي بسبب ما شرط البائع على المشتري من البدل; لأن مبنى البيع على مساواة البدلين في حكم الضمان فلما كان الثمن من جانب المشتري سالما للبائع ينبغي أن يكون المبيع سالما للمشتري وذلك بأن يجعل البائع كفيلا بسبب تملكه للبدل فصار كأنه قال للمشتري إن الملك قد ثبت لك في الجارية بحكم بيعي وأن ولدك منها حر بحكم بيعي فإن ضمنك أحد بحكم باطل فأنا كفيل لك بما ضمنك وهذا الضمان لا يمكن إثباته في عقد التبرع وإنما يثبت في عقد الضمان باشتراط البدل إنما قال بحكم باطل; لأن الحكم بالاستحقاق في زعم البائع باطل ولذلك أي ولأن الرجوع على البائع باعتبار معنى الكفالة لم يرجع المشتري بالعقر الذي(4/255)
دلالة المحرم على الصيد أنه يوجب الضمان عليه وإن كان سبب لأنه الدلالة في إزالة أمن الصيد مباشرة. ألا ترى أن الصيد لا يبقى آمنا على المدلول إذا صحت بالدلالة غير أنها يعرض الانتقاض فلم يجب الضمان بنفس الدلالة حتى يستقر وذلك بأن يتصل بها القتل فكان ذلك بمنزلة الجراحة فسيأتي فيها لمعرفة قرارها فأما
ـــــــ
ضمنه على البائع; لأن ما ضمنه من العقر قيمة ما سلم له من منافع البضع فلم يكن غرما فلم تصح الكفالة به أي لم يكن تقدير كفالة البائع بما ضمنه; لأنه ليس بغرامة والرجوع بحكم الكفالة إنما يصح إن لو كان الغرم لاحقا هذا طريق بعض المشايخ ومختار المصنف. وذكر شمس الأئمة رحمه الله أن المشتري إنما يرجع بقيمة الأولاد; لأن بمباشرة عقد الزمان قد التزم البائع للمشتري صفة السلامة عن العيب ولا عيب فوق الاستحقاق وبمباشرة عقد التبرع لا يصير ملتزما سلامة المعقود عليه عن العيب ولهذا لا يرجع بالعقر في الوجهين; لأنه لزمه بدلا عما استوفاه ولا رجوع له بسبب العيب فيما استوفاه بنفسه وإن كان البائع ضمن له صفة السلامة عن العيب قال وهذا أصح فقد ذكر في كتاب العارية أن العبد المأذون إذا آجر دابة فتلفت باستعمال المستأجر ثم ظهر الاستحقاق رجع المستأجر بما يضمن من قيمتها على العبد في الحال والعبد لا يؤاخذ بضمان الكفالة ما لم يعتق وهو مؤاخذ بالضمان الذي يكون سببه العيب بعدما التزم صفة السلامة عن العيب بعقد الضمان فعرفنا أن هذا الطريق هو الأصح.
قوله: "ولا يلزم على هذا" أي على أن الحكم لا يضاف إلى السبب المحض مع وجود العلة دلالة المحرم على الصيد أي أنه فعل الدلالة يوجب الضمان على المحرم الدال وإن كان فعل الدلالة سببا محضا; لأنه تخلل بين الدلالة وبين المقصود فعل مختار وهو القتل من المدلول وقوله; لأن الدلالة جواب السؤال يعني لا نسلم أنها سبب بل الدلالة في إزالة أمن الصيد مباشرة أي مباشرة جناية; لأن الأمن يزول بها عن الصيد فإنه أمن ببعده عن أعين الناس وتواريه عن أعينهم وأنه قد التزم بعقد الإحرام الأمن للصيد عنه فصار الدال جانيا بإزالة الأمن عنه بالدلالة فيضمن إذا صحت الدلالة أي وجدت شرائطها وهي أن لا يكون المدلول عالما بمكان الصيد إذ لو كان عالما به لم يحدث له تمكن من قبله بدلالته فكان وجودها وعدمها سواء وأن يصدقه المدلول في الدلالة حتى لو كذبه وصدق غيره لا ضمان على المكذب وأن يتصل القتل بهذه الدلالة وأن يكون الدال محرما عند القتل حتى لو كان محرما وقت الدلالة وحل وقت القتل لا يجب الجزاء; لأن الوجوب يتقرر عند القتل فيشترط الإحرام عند القتل وقوله غير أنها يعرض الانتقال أي الدلالة, جواب عما يقال(4/256)
الدلالة على مال الناس فليس بمباشرة عدوان لأنه غير محفوظ بالبعد عن أيدي الناس بل ما لعصمة ودفع المالك عن المال ولا يلزم دلالة المودع على الوديعة لأنها مباشرة خيانة على ما التزمه من الحفظ بالتضييع فصار ضامنا بالمباشرة دون أن يضمن بفعل المدلول مضافا إليه بطريق التسبيب وكان حكم المحرم في
ـــــــ
لو كانت الدلالة جناية بنفسها ينبغي أن لا يتوقف وجوب الجزاء على قتل المدلول الصيد فقال غير أنها يعرض الانتقاض والإبطال لاحتمال أن يتوارى الصيد عن المدلول فلا يقدر عليه فيعود آمنا كما كان وصار كما إذا أخذه ثم أرسله أو رماه فلم يصبه فلذلك لم يجب الضمان حتى يستقر فكان ذلك أي توقف الحكم إلى الاستقرار بمنزلة الجراحة فيستأني فيها أي ينتظر مآل أمرها لمعرفة قرارها في حق الضمان; لأن اندمالها بالبرء متوهم على وجه لا يبقى لها أثر وهو كالمضارب إذا أمره رب المال أن يبيع ويشتري في بلد كذا فجاوزه يجب الضمان بنفس المجاوزة ولكن لا يتأكد لاحتمال الانتقاض بالمعاودة إلى ذلك البلد قبل التصرف فإذا انصرف قبل المعاودة فحينئذ يتأكد الضمان كذا هاهنا فأما الدلالة على مال الناس فليست بنفسها بمباشرة; لأن المال غير محفوظ بالبعد عن أيدي الناس وأعينهم بل هو محفوظ بالقرب منهم وبأيديهم والدال لم يلتزم الحفظ أيضا فلا يصير جانيا بإزالته الحفظ بدلالته فبقيت دلالته سببا محضا.
قوله: "ولا يلزم دلالة المودع" جواب عن سؤال آخر يرد على ما ذكرنا أيضا فإن دلالة المودع السارق على الوديعة سبب محض كدلالة غير المودع لتخلل فعل المختار بينها وبين التلف ثم إنها توجب الضمان على الدال بالاتفاق فقال هو ضامن بجنايته على مال الوديعة من الحفظ وتضييعه إياها فكان ضامنا بالمباشرة دون التسبيب مضافا إليه أي إلى الدال على موجب العقد أي موجب عقد الإحرام فإنه ترك ما التزمه بعقد الإحرام من ترك التعرض للصيد وأمنه عنه كالمودع ترك ما التزمه بعقد الوديعة وكان صيد الحرم لكونه راجعا إلى بقاع الأرض مثل أموال الناس يعني لو دل حلال في الحرم على صيد الحرم فقتل بدلالته لم يضمن الدال شيئا كما لا يضمن الدال على مال إنسان ليسرقه; لأن صيد الحرم باعتبار كونه راجعا إلى بقاع الأرض مثل أموال الناس فإن الشارع جعل الحرم مأمنا آمنا لاستيناس زوار البيت ومجاوريه ليبقى معمورا إلى آخر الدهر بمجاورتهم وزيارتهم فإن العمارة لا تحصل إلا بالأمن فكانت حرمة الصيد باعتبار أنه من عمارة الحرم وزينته فأشبه تعرض الصيد فيه إتلاف الأموال المملوكة وإتلاف متاع المسجد والأموال المحترمة لحق الله تعالى كالأموال الموقوفة. ألا ترى أن الضمان الواجب فيه ضمان المحل كضمان الأموال حتى لا يتعدد بتعدد الجاني والضمان الواجب بالإحرام جزاء الفعل حتى تعدد(4/257)
الجناية على موجب العقد حكم المودع وكأن صيد الحرم لكونه راجعا إلى بقاء الأرض مثل أموال الناس. ومن دفع إلى صبي سكينا أو سلاحا آخر ليمسكه للدافع فوجأ به نفسه لم يضمن الدافع لأن ذلك سبب محض اعترض عليه علة لا تضاف إليه بوجه وإذا سقط عن يد الصبي عليه فجرحه كان ذلك الدافع لأنه أضيف إليه العطب ها هنا لأن السقوط أضيف إلى الإمساك فصار سببا له حكم العلل وشبه بها وكذلك من حمل صبيا ليس منه بسبيل له إلى بعض المهالك
ـــــــ
بتعدد الجاني مع إيجاد المحل كالجزاء الواجب بالجناية على النفس عمدا وإذا كان كذلك بقيت دلالته سببا محضا كدلالة غير المودع السارق على مال إنسان لتخلل فعل مختار بينها وبين التلف وهو فعل الصائد وانعدام عقد التزام لترك التعرض من الحلال.
قوله: "ومن دفع" مثال آخر للسبب المحض فوجأ به نفسه أي ضرب بذلك السكين أو السلاح نفسه فهلك من الوج وهو الضرب باليد أو بالسكين من باب منع; لأن ذلك أي الدفع إلى الصبي سبب محض; لأنه طريق إلى التلف اعترض عليه علة وهي قتل الصبي نفسه باختياره لا تضاف تلك العلة إلى السبب بوجه; لأن الدافع أمره بإمساك السلاح له باستعماله وأنه تلف باستعماله وهو مختار في ذلك غير مأمور من جهة الدافع فإذا سقط عن يد الصبي على الصبي فجرحه كان الضمان حينئذ على الدافع; لأنه الضمير للشأن أضيف إلى الدافع العطب أي الهلاك هاهنا; لأن الهلاك لم يحصل بمباشرته فعل الإهلاك اختيارا بل بإمساكه الذي هو حكم دفع الدافع وهو متعد في الدفع فيضاف ما لزم من الإمساك إليه فيضمن فصار أي الدفع في هذه الصورة سببا له حكم العلة باعتبار أن علة التلف وهي السقوط عن يد الصبي تضاف إليه وكذلك أي وكدافع السكين في المسألة الثانية من حمل صبيا يعني صبيا حرا لا يعبر عن نفسه. ليس منه بسبيل أي ليس له ولاية عليه إلى بعض المهالك فهلك بذلك الوجه أي بالحر في موضع الحر أو بالبرد في موضع البرد أو بالتردي من الشاهق أو كانت الأرض مسبعة أو محياة فهلك بافتراس سبع أو لدغ حية كان عاقلة الغاصب أي الذي حمله إلى المهلكة وصار بمنزلة الغاصب ضامنا للدية استحسانا ولو قيل ضامنة أو ضامنين لكان أحسن وفي القياس لا شيء عليهم وهو قول زفر والشافعي رحمهما الله; لأن الحر لا يضمن بالغصب فإن ضمان الغصب يختص بما هو مال متقوم والحر ليس بمال فلم يكن النقل إلى المهلكة غصبا فصار كما لو نقله بإذن وليه أو حصل في يده بغير صنعه والدليل عليه أنه لو مات حتف أنفه أو بمرض لا يجب الضمان وكذا لو كان للصبي مكاتبا; لأنه بمنزلة الحر. فالحر حقيقة أولى بذلك وكذا لو كان يعبر عن نفسه لا يجب الضمان فكذا لو لم يعبر; لأنهما سواء في أنهما لا يضمنان(4/258)
مثل الحر أو البرد أو الشواهق فعطب بذلك الوجه كان عاقلة الغاصب ضامنا إذا قتل الصبي في يده رجلا لم يرجع عاقلته على عاقلة الغاصب وكذلك إذا مات بمرض لم تضمن عاقلة غاصبه شيئا لما ذكرنا وكذلك من حمل صبيا ليس منه
ـــــــ
بالغصب وجه الاستحسان أنه سبب لإتلافه بغير حق باستيلائه عليه والمسبب إذا كان متعديا في تسببه كان ضامنا للدية على ما قلته كحافر البئر وذلك; لأن الصبي محفوظ بيد الولي فصارت يده عليه ممسكة لحفظه فإذا أزال يده بطريق التعدي فقد أزال الممسكة الحافظة وصار الصبي في يد الغاصب حقيقة وحكما لوجود الاستيلاء عليه بلا معارضة فإن الصبي لا يعارضه بيده ولا بلسانه إذ لا عبارة له فصار النقل إلى المهلكة مضافا إلى يد الغاصب كما في الدابة فكان تحصيله في ذلك الموضع تعديا والتلف مضاف إلى حصوله في ذلك المكان إذ لو كان بمكان آخر لما أصابه السبب الموجب للتلف فكان تقريبه إلى المهلكة سببا في معنى العلة باعتبار الإضافة فإنه يقال لولا تقريبه إياه من هذه المهلكة لما أصابته الآفة بخلاف ما إذا مات حتف أنفه أو بمرض; لأن سبب الهلاك أمر حدث من نفس الصبي ولا يضاف إلى إزالة الولي عنه ولا إلى نقله إلى مكان آخر بوجه إذ لا يقال لولا أخذه من يد وليه واستيلاؤه عليه أو لولا تقريبه من المكان الفلاني لم يمت إذ لو كان في يد الولي وفي المكان الأول لأصابه الموت أيضا إذ الموت محتوم على العباد فلم يكن فعله سببا فضلا من أن يكون في معنى العلة وبخلاف ما إذا كان الصبي يعبر عن نفسه; لأنه يعارضه بلسانه فلا تثبت يده حكما ألا ترى أنه لو ادعى أنه عبده حكم فيه قول الصبي لا يده. وبخلاف المكاتب الصغير; لأن الشرع قطع الولاية على المكاتب الصغير وجعل بمنزلة الكبير حكما حتى لا يولى على ما في يده من الأكساب ولا على نفسه فلا يزوج ولما ألحق بالكبير لم يثبت عليه يد للمستولي; لأن يده في نفسه أقرب كذا في الأسرار فتبين بما قلنا أن هذا ضمان جناية لا ضمان غصب والحر يضمن بالجناية مباشرة وتسبيبا وإذا قتل الصبي في يد الغاصب رجلا عمدا أو خطأ حتى ضمنت عاقلته الدية لم يرجع عاقلته بما ضمنت على عاقلة الغاصب; لأنه أنشأ القتل باختياره فلو ثبت للعاقلة حق الرجوع على الغاصب كان ذلك باعتبار يده على الصبي والحر لا يضمن باليد وكذلك أي وكما لا تضمن عاقلة الغاصب في هذه المسألة لم تضمن إذا مات الصبي بمرض لما ذكرنا دليل المسائل الثلاث يعني ذكرنا في مسألة سقوط السكين أن الدافع ضامن; لأن الدفع فيها سبب له حكم العلة لإضافة السقوط إليه فكذلك في مسألة الحمل إلى بعض المهالك وذكرنا في مسألة قتل الصبي نفسه أن الدافع لا يضمن شيئا لاعتراض علة تمنع إضافة الحكم إلى الدفع فكذلك في مسألة قتل الصبي رجلا في يد الغاصب وفي مسألة موت الصبي في يده بمرض.(4/259)
بسبيل على دابة كان سببا للتلف فإن سقط منها وهي واقفة أو سارت بنفسها ضمنه عاقلة الحامل إذا كان صبيا يستمسك أو لا لأنه صار بمنزلة صاحب العلة وإن ساقها الصبي وهو بحيث يصرفها انقطع التسبيب بهذه المباشرة الحادثة وكذلك رجل قال لصبي اصعد هذه الشجرة وانفض ثمرتها لتأكل أنت أو
ـــــــ
قوله: "وكذلك" أي ومثل من دفع سكينا في أنه إذا اعترض عليه فعل مختار انقطع الحكم عنه وبقي سببا محضا وإلا كان سببا في حكم العلة من حمل صبيا حرا على دابة وقال أمسكها لي وليس منه بسبيل كذا في المبسوط كان هذا أي حمله سببا للتلف; لأنه مفض إليه. فإن سقط الصبي من الدابة وهلك وهي واقفة وقد سارت بنفسها ضمنت عاقلة الحامل أي دية الصبي سواء كان الصبي ممن يستمسك على الدابة أي يقدر على إمساك نفسه وضبطها والثبات عليها أو لم يكن; لأن الحامل سبب لإتلافه حين حمله عليها فإنه لولا حمله لما سقط وهو متعد فيه; لأنه ليس بسبيل منه شرعا ولم توجد علة صالحة لإضافة الحكم إليها بعد فبقي الحكم مضافا إليه وصار الحامل بمنزلة صاحب العلة; لأن المسبب كالمباشر في هذا الباب إذا كان متعديا وإن ساقها الصبي وهو بحيث يصرفها أي يقدر على منع الدابة من السير وعلى أن يسيرها على وفق إرادته انقطع السبب أي لم يبق السبب معتبرا بهذه المباشرة الحادثة; لأن الصبي إذا كان مستمسكا على الدابة كان محتارا في تسيير الدابة والتلف حدث تسييرها فقد اعترض على السبب فعل مختار فانقطع به نسبة الحكم إلى السبب وإن كان بحيث لا يستمسك على الدابة ضمن الحامل الدية على عاقلته; لأن الصبي الذي لا يستمسك على الدابة بمنزلة متاع موضوع عليها فلا يمكن نسبة السير إليه وإذا لم يوجد ما يقطع به نسبة الحكم عن السبب بقي مضافا إليه وكذلك أي ومثل دافع السكين أو الحامل على الدابة في التفصيل الذي ذكرنا رجل قال لصبي اصعد هذه الشجرة وانفض ثمرتها لتأكل أنت أو لنأكل نحن ففعل فعطب لم يضمن الآمر; لأنه صاحب سبب فإنه تخلل بينه وبين السقوط والهلاك ما هو علة وهو صعود الصبي الشجرة باختياره لمنفعة نفسه فينقطع نسبة الحكم بها عن السبب.
فإن قيل هذا الجواب مستقيم في قوله لتأكل أنت ولكن في قوله لنأكل نحن لا يستقيم بل ينبغي أن يسقط نصف الضمان; لأن قوله لآكل أنا يوجب كل الدية. وقوله: لتأكل أنت لا يوجب شيئا فإذا قال لنأكل نحن كان جامعا بين ما يوجب الضمان وما لا يوجبه فيوجب سقوط نصفه كما إذا لدغته حية وجرحه إنسان يسقط نصف الضمان لاجتماع الموجب وغير الموجب: "قلنا" الأصل أن يضاف الحكم إلى العلة دون السبب وإنما يضاف إلى السبب عند تعذر الإضافة إلى العلة بالكلية وهاهنا لم يتعذر الإضافة; لأن(4/260)
لنأكل نحن ففعل فعطب لم يضمن لأنه صاحب سبب ولو قال لآكل أنا ضمن ديته على عاقلته لأنه صار بمنزلة صاحب العلة لما وقعت المباشرة له ومسائلنا على هذا أكثر من أن تحصى. فأما الذي يسمى سببا مجازا فمثل قول الرجل أنت طالق إن دخلت الدار وأنت حر إن دخلت الدار ومثل النذر المعلق بدخول
ـــــــ
صعود الصبي باختياره لمنفعة در نفسه قد وجد وهو صالح لإضافة الحكم إليه وانقطاعه عن السبب وإن كان إشراك الأمر نفسه في المنفعة بقوله لنأكل نحن صالحا للإضافة إليه إلا أنه سبب والحكم يضاف إلى العلة دون السبب فأما الجرح واللدغ بكل واحد منهما علة للتلف فإذا اجتمعا وتعذر الترجيح يضاف الحكم إليهما جميعا; لأنه أي الأمر صار بمنزلة صاحب العلة لما وقعت المباشرة له يعني لما وقعت مباشرة الصبي علة التلف وهي الصعود للأمر بحكم الأمر صار الأمر مستعملا له في التلف بمنزلة الآلة وأضيف فعل الصبي إليه فصار أمره سببا في معنى العلة بإضافة العلة إليه فيجب الضمان عليه على هذا الأصل وهو أن السبب المحض لا يضاف إليه الحكم ويضاف إلى السبب الذي فيه معنى العلة.
قوله: "وأما الذي يسمى سببا مجازا" أي السبب الذي يطلق عليه اسم السبب بطريق المجاز وإنما خص هذا القسم بهذه التسمية وإن كان غيره من الأقسام سوى القسم الأول مجازا أيضا; لأنه خلا عن معنى الإفضاء إلى الحكم في الحال بخلاف ما إذا وجد فيه معنى العلة; لأن معنى الإفضاء فيه موجود مع زيادة معنى وهو التأثير ومثل النذر المعلق بدخول الدار وسائر الشروط النذر قد يعلق بشرط يراد كونه مثل قوله إن شفى الله مريضي فعلي كذا وقد تعلق بشرط الإيراد كونه مثل قوله إن دخلت الدار فعلي كذا وقد يتوهم أن المعلق بشرط يراد كونه سببا في الحال إذ الغرض من هذا التعليق حصول الشرط فكان مقضيا إلى وجود المشروط بخلاف التعليق بشرط لا يراد كونه; لأن المقصود فيه عدم الشرط فلا يكون مفضيا إلى وجود المشروط فيكون تسميته سببا مجازا فأشار الشيخ بقوله المعلق بدخول الدار وسائر الشروط إلى أن الوجهين سواء في عدم السببية في الحال; لأن قوله لله علي لما تعلق بالشرط في الوجهين لم يصل إلى ذمته والتصرف في غير محله لا ينعقد سببا فكان تسميته سببا باعتبار الصورة لا باعتبار المعنى كبيع الحر إلا أنه ينعقد تصرف آخر وهو اليمين; لأنه عقد مشروع لمقصود وفي ذلك المقصود قد صادف التصرف محله بخلاف بيع الحر فإنه لا ينعقد أصلا وكان هذا قبل وجود الشرط بمنزلة الرمي قبل الوصول إلى المرمى فإنه يكون معتبرا على أن يصير قتلا بالوصول إليه ثم السراية إلى أن يموت فأما قبل الوصول إلى محله فلا يكون قتلا وإذا كان بينهما ترس فلا يكون سببا كذا في التقويم.(4/261)
الدار وسائر الشروط ومثل اليمين بالله سمي سببا للكفارة مجازا وسمي الأول للطلاق والعتاق سببا مجازا لما بينا أن أدنى درجات السبب أن يكون طريقا واليمين شرعت للبر وذلك قط لا يكون طريقا للجزاء ولا للكفارة لكنه لما كان يحتمل أن يئول إليه سمي سببا مجازا وهذا عندنا والشافعي رحمه الله جعله سببا هو بمعنى العلة وعندنا لهذا المجاز شبهة الحقيقة حكما خلافا لزفر رحمه
ـــــــ
ومثل اليمين بالله تعالى سمي سببا للكفارة يعني قبل الحنث وسمي الأول وهو أنت طالق وأنت حر في قوله أنت طالق إن دخلت الدار وأنت حر إن دخلت الدار سببا للطلاق والعتاق قبل وجود الشرط مجازا يعني سميت اليمين بالله تعالى للكفارة وسمي المعلق في اليمين بغير الله تعالى سببا للجزاء بطريق المجاز لا أن اليمين أو المعلق سبب حقيقة لما بينا في أول هذا الباب أن أدنى درجات السبب أن يكون طريقا إلى الحكم وإنما قال أدنى; لأن السبب الذي هو علة حقيقة أو السبب الذي فيه معنى العلة موجب للحكم أو طريق إليه مع نوع تأثير فالذي لا تأثير فيه يكون أدنى حالا منه بالنسبة إلى الحكم وإن كان في السببية حقيقة واليمين شرعت للبر سواء كانت بالله تعالى أو بغيره والبر قط لا يكون طريقا للجزاء في اليمين بغير الله تعالى ولا للكفارة في اليمين بالله عز وجل; لأن البر مانع من الحنث; لأنه ضده وبدون الحنث لا تجب الكفارة ولا ينزل الجزاء فلا يمكن أن يجعل المانع عن الحكم سببا لثبوته وطريقا إليه في الحال.
لكنه أي الحلف أو المذكور وهو المعلق أو اليمين يحتمل أن يئول إليه أي يفضي إلى الحكم وهو الجزاء والكفارة عند زوال المانع سمي سببا مجازا باعتبار ما يئول إليه كتسمية العنب خمرا في قوله تعالى إخبارا: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} [يوسف: 36] وتسمية البيض صيدا في قوله تعالى: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} [المائدة: 94] فإن المراد منه البيض في عامة الأقاويل وتسمية الأحياء أمواتا في قوله عز اسمه: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]. قوله: "وهذا عندنا" أي ما ذكرنا أن المعلق بالشرط واليمين ليسا بسببين في الحال فضلا من أن يكون فيهما معنى العلة مذهبنا حتى لم يجز التكفير بعد اليمين قبل الحنث وجوزنا التعليق بالملك في الطلاق والعتاق والشافعي رحمه الله جعله أي المذكور وهو اليمين والمعلق بالشرط سببا هو بمعنى العلة; لأن اليمين هي التي توجب الكفارة عند الحنث والمعلق هو الذي يوجب الجزاء عند وجود الشرط فكان كل واحد منهما سببا في الحال لا علة باعتبار تأخر الحكم ولكن في معنى العلة باعتبار أنه هو المؤثر في الحكم لا غير وإذا كان سببا في الحال بمعنى العلة لم يجز تعليق الطلاق والعتاق بالملك; لأن السبب لا ينعقد في غير محله والمرأة(4/262)
الله وذلك تبين في مسألة التنجيز هل يطلق التعليق أم لا فعندنا يبطله لأن اليمين شرعت للبر فلم يكن بد من أن يصير البر مضمونا بالجزاء وإذا صار مضمونا به صار لما ضمن به البر للحال شبهة الوجوب كالمغصوب مضمون بقيمته فيكون
ـــــــ
الأجنبية والعبد الذي ليس في ملكه ليسا بمحلين للطلاق والعتاق من جهة هذا المتكلم وقد مر بيان هذه المسائل فيما تقدم.
قوله: "وعندنا لهذا المجاز" يعني المعلق بالشرط الذي سميناه مجازا وهو قوله أنت حر أو طالق شبهة الحقيقة أي جهة كونه علة حقيقة من حيث الحكم خلافا لزفر رحمه الله فإن عنده المعلق بالشرط خال عن شبهة الحقيقة بل هو مجاز محض وذلك أي الخلاف يتبين في مسألة التنجيز هل يبطل التعليق وهي ما إذا قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق ثلثا ثم طلقها والتنجيز تفعيل من قولهم ناجز يناجز أي نقد ينقد وأصله التعجيل كذا في الطلبة فعندنا يبطل التنجيز التعليق حتى لو عادت إليه بعد زوج آخر ثم وجد الشرط لا يقع شيء; لأن اليمين شرعت للبر يعني المقصود من شرعية اليمين سواء كانت بالله تعالى أو بغيره تحقيق المحلوف عليه من الفعل أو الترك فإن المحلوف عليه قبل الحلف كان جائز الإقدام والترك فإذا قصد الحالف ترجيح أحد الجانبين وتحقيقه أكده باليمين التي هي عبارة عن القوة ليتقوى بها على تحقيق ما قصده فلم يكن بد من أن يصير البر مضمونا بالجزاء على معنى أنه لو فات البر يلزمه الجزاء لا محالة في اليمين بغير الله تعالى كما يلزمه الكفارة في اليمين بالله عز وجل ليتحقق معنى اليمين من الحمل والمنع وإذا صار البر مضمونا بالجزاء يعني في اليمين بغير الله تعالى صار لما ضمن به البر من الطلاق والعتاق ونحوهما شبهة الوجوب أي الثبوت في الحال يعني قبل فوات البر كالمغصوب مضمون بالقيمة على معنى أنه تلزمه القيمة عند فوات المغصوب لا محالة فيكون الغصب حال قيام العين المغصوبة في يد الغاصب شبهة إيجاب القيمة حتى صح الإبراء عن القيمة والرهن والكفالة بها حال قيام العين ولو لم يكن لها ثبوت بوجه لما صحت هذه الأحكام كما لا يصح قبل الغصب. وتحقيق ما ذكرنا أن البر وجب لغيره وهو الاحتراز عن هتك حرمة اسم الله تعالى أو خوف لزوم الجزاء لا لعينه إذ ليس إلى العبد إيجاب ما ليس بواجب شرعا; لأنه نصب شريعة وهو نزع إلى الشركة وما ثبت لغيره فهو ثابت من وجه دون وجه فالبر من حيث إنه واجب كان ثابتا موجودا ومن حيث إنه غير واجب لعينه كان معدوما في نفسه فثبت له عرضية العدم يثبت بقدرها عرضية الوجود للجزاء فثبت لسببه عرضية الوجود أيضا ليكون الحكم ثابتا عن قدر سببه فعرفنا أن لهذا السبب وهو المعلق بالشرط شبهة الثبوت في الحال إليه أشير في شرح التقويم ولا(4/263)
للغصب حال قيام العين شبهة إيجاب القيمة وإذا كان كذلك لم يبق الشبهة إلا في محله كالحقيقة لا يستغنى عن المحل فإذا فات المحل بطل وعلى قوله لا
ـــــــ
يقال سلمنا أنه ثبت للبر عرضية العدم من الوجه الذي قلتم ولكن لا نسلم أنه يثبت للجزاء بقدرها عرضية الثبوت; لأن ثبوت الجزاء متعلق بفوات البر بعد الثبوت لا بالعدم الأصلي ولهذا لا تجب الكفارة في الغموس; لأن عدم البر فيها أصلي بخلاف المنعقدة وعرضية العدم للبر لو ثبتت إنما تثبت من الأصل; لأن كون البر غير واجب لعينه يقتضي أن يكون عرضية العدم له من الأصل لا أن تثبت له عرضية العدم بعد الوجود وإذا كان كذلك لم تثبت عرضية الوجود للجزاء بهذه العرضية; لأنا نقول ما ذكرت مسلم في اليمين بالله تعالى ولكن في التعليق قد يثبت الجزاء عند عدم البر من الأصل كما يثبت عند فوات البر بعد الوجود فإنه لو قال إن فعلت أمس كذا فامرأتي طالق وقد كان فعل يقع الطلاق وما نحن بصدده من هذا القبيل فعرضية عدم البر فيه على أي وجه كانت توجب عرضية وجود الجزاء بقدرها. وإذا كان كذلك أي كان الأمر كما بينا من ثبوت شبهة السببية للمعلق قبل وجود الشرط لم يبق شبهة السبب إلا في محله أي محل السبب والضمير راجع إلى الشبهة وتذكيره باعتبار أن التأنيث غير مرتب على التذكير إذ لا يقال شبه وشبهة على ما مر بيانه في أول هذا الكتاب قال الشيخ رحمه الله لا بد لشبهة السبب من محل يبقى فيه كما لا بد لحقيقة السبب من المحل; لأن شبهة الشيء لا تثبت فيما لا تثبت حقيقة ذلك الشيء. ألا ترى أن شبهة النكاح لا تثبت في الرجال بالاتفاق ولا في حق المحارم عندهما وأن شبهة البيع لا تثبت في حق الحر والميتة; لأن حقيقة النكاح والبيع لا تثبت فيهما فإذا فات المحل بتنجيز الثلاث بطل أي التعليق وفي بعض النسخ بطلت أي اليمين; لأن التعليق أو اليمين يثبت بصفة وهي أن يكون للمعلق شبهة الثبوت قبل وجود الشرط فإذا بطلت تلك الشبهة بفوات المحل لم يبق التعليق لبطلان محل الجزاء كما يبطل ببطلان محل الشرط بأن جعل الدار بستانا وإنما لم يشترط بقاء الملك لبقاء التعليق كما شرط الحل; لأن محلية الطلاق تثبت بمحلية النكاح ومحلية النكاح تفتقر إلى بقاء الحل ولا تفتقر إلى بقاء الملك إليه أشير في الطريقة البرغرية وشرط الملك في الابتداء لما سنذكر.
قوله: "وعلى قوله" أي قول زفر لا شبهة له أصلا يعني ليس لهذا المجاز شبهة الحقيقة بوجه; لأنه لا بد للسبب, وشبهته من محل ينعقد فيه كالسبب الحسي والتعليق بالشرط حائل بين المعلق ومحله فأوجب قطع السببية بالكلية كالترس إذا حال بين الرمي والمرمي إليه وإذا لم يبق له جهة السببية بوجه لا يحتاج إلى المحل واحتمال صيرورته سببا في الزمان الثاني لا يوجب اشتراط المحل في الحال بل يكفيه احتمال حدوث(4/264)
شبهة له أصلا وإنما الملك للحال اعتبر لرجحان جانب الوجود ليصح الإيجاب فلم يشترط للبقاء فكذلك الحل وذلك مثل التعليق قبل الملك يصح في امرأة حرمت بالثلاث على الحالف بالملك وإن عدم الحل عند الحلف والجواب عنه أن ذلك الشرط في حكم العلل فصار ذلك معارضا لهذه الشبهة السابقة عليه. وأما
ـــــــ
المحلية وهو قائم لاحتمال عودها إليه بعد زوج آخر وهو في الحال يمين ومحلها ذمة الحالف فتبقى ببقائها. قوله: "وإنما الملك" جواب سؤال يرد عليه وهو أن يقال لما خلا المعلق عن السببية حقيقة وشبهة ينبغي أن لا يشترط الملك والحل في ابتداء التعليق كما لا يشترط لبقائه; لأن ما يرجع إلى المحل الابتداء والبقاء فيه سواء لما شرط الملك والحل في ابتداء عرفنا أنه لم يحل عن شبهة السببية فقال اشتراط الملك في الابتداء ليس لشبهة السببية ولكن اشتراطه باعتبار أن هذا تصرف يمين وهي وضعت لتحقيق البر وإنما يتحقق ذلك إذا كان مضمونا بالجزاء كما بينا فإنه إذا علم أنه يلزمه ما يتضرر به عند ترك البر يتحرز عنه وإذا علم أنه لا يلزمه شيء عند الترك لا يبالي بفوات البر فيفوت ما هو المطلوب من اليمين فشرط الملك في الابتداء ليكون الجزاء غالب الوجود باعتبار الحال الراهنة ثم إذا صحت اليمين بوجود الملك لم يشترط للبقاء بالاتفاق فكذلك أي فكالملك الحل يشترط في الابتداء ولا يشترط في البقاء. ثم استوضح ما ذكر بقوله وذلك مثل التعليق أي عدم اشتراط بقاء الحل لبقاء التعليق مثل عدم اشتراطه في الابتداء فإن تعليق الثلاث بالملك في امرأة حرمت على الحالف بالثلاث يصح بأن قال للمطلقة ثلاثا إن تزوجتك فأنت طالق ثلاثا فلأن يبقى بدون الحل كان أولى; لأن البقاء أسهل من الابتداء. والجواب يعني عما استدل به زفر وهو مسألة التعليق بالملك في المطلقة ثلاثا أن ذلك الشرط وهو النكاح الذي تعلق به الطلاق في حكم العلل; لأن ملك الطلاق يستفاد بالنكاح فكان النكاح بمنزلة العلة له وتعليق الحكم بحقيقة علته يبطل حقيقة الإيجاب لعدم الفائدة حتى لو قال لعبده إن أعتقتك فأنت حر كان باطلا وكذا لو قال لامرأته إن طلقتك فأنت طالق ونوى الطلاق الذي هو موجب هذا التطليق فالتعليق بشبهة العلة يبطل شبهة الإيجاب اعتبارا للشبهة بالحقيقة فصار ذلك أي كون هذا الشرط في حكم العلل معارضا لهذه الشبهة أي مانعا لها من الثبوت وهي شبهة وقوع الجزاء وثبوت السببية للمعلق قبل تحقق الشرط وهو معنى قوله السابقة عليه والضمير راجع إلى الشرط ومعنى المعارضة أن أصل التعليق يوجب ثبوت شبهة وقوع الجزاء وكون الشرط في معنى العلل يقتضي عدم ثبوتها فامتنع ثبوتها بمعارضته وإذا امتنع ثبوتها بمعارضة التعليق بالشرط الذي له حكم العلل لم يشترط قيام محل الجزاء بعد لزوال المعنى الموجب له بل يبقى(4/265)
الإيجاب المضاف فهو سبب للحال وهو من أقسام العلل على ما نبين إن شاء الله تعالى وأما السبب الذي له شبهة العلل فمثل ما قلنا في اليمين بالطلاق والعتاق والله أعلم بالصواب.
ـــــــ
التعليق مطلقا مجردا عن الشبهة ومحله ذمة الخالف; لأنه يمين محضة فتبقى ببقائها. وباقي الكلام في هذه المسألة قد مر في فصل التعليق بالشرط.
قوله: "وأما الإيجاب المضاف فهو سبب للحال" إذ المانع من انعقاد الإيجاب سببا فيها فيما تقدم بعد صدوره من أمثلة التعليق الذي هو حائل بين الإيجاب وبين محله ولم يوجد ذلك في الإيجاب المضاف فينعقد سببا إلا أن حكمه يتأخر إلى الوقت المضاف إليه للإضافة ألا ترى أن إضافة إيجاب الصوم على المسافر إلى عدة من أيام أخر لا يخرج شهود الشهر من أن يكون سببا في حقه حقيقة مثله في حق المقيم حتى صح الأداء منه كما يصح من المقيم فعرفنا أن الإضافة غير مانعة عن سببية الإيجاب ولهذا لو قال لله علي أن أتصدق بدرهم يوم الجمعة فتصدق به قبل مجيئه صح عن المنذور; لأن الإضافة دخلت على الحكم فأجله لا على نفس السبب فإذا عجل المؤجل صح كما إذا عجل الدين المؤجل أو عجل الصوم في السفر بخلاف ما إذا قال إذا جاء يوم الجمعة فلله علي أن أتصدق بكذا فعجل قبل مجيئه حيث لا يقع عن المنذور; لأن كلمة إذا للشرط والمعلق بالشرط لا ينعقد سببا قبل وجود الشرط فلا يصح التعجيل قبله وسيأتيك زيادة بيان لهذا الفصل إن شاء الله تعالى فمثل ما قلنا يعني السبب الذي قلنا إنه سبب مجازا هو السبب الذي له شبهة العلل على ما قرع سمعك تقريره والله أعلم.(4/266)
"باب تقسيم العلة"
وهي سبعة أقسام علة اسما وحكما ومعنى وهو الحقيقة في الباب وعلة اسما لا حكما ولا معنى وهو المجاز وعلة اسما ومعنى لا حكما وعلة هو في حيز الأسباب لها شبه بالأسباب ووصف له شبهة العلل وعلة معنى وحكما لا
ـــــــ
"باب تقسيم العلة"
أي تقسيم ما يطلق عليه اسم العلة أو ما يوجد فيه معنى العلة بوجه لا تقسيم حقيقة العلة فإنها ليست بمنقسمة على هذه الوجوه المذكورة ثم العلة الشرعية الحقيقة تتم بأوصاف ثلاثة أحدها أن تكون علة اسما بأن تكون في الشرع موضوعة لموجبها ويضاف ذلك الموجب إليها لا بواسطة وثانيها أن تكون علة معنى بأن تكون مؤثرة في إثبات ذلك الحكم وثالثها أن تكون علة حكما بأن يثبت الحكم بوجودها متصلا بها من غير تراخ فإذا تمت هذه الأوجه كانت علة حقيقة وإذا لم يوجد فيها بعض هذه الأوصاف كانت علة مجازا أو حقيقة قاصرة على اختيار الشيخ ثم إنها تنقسم بحسب استكمال هذه الأوصاف وعدم استكمالها إلى سبعة أقسام قسمة عقلية: علة اسما ومعنى وحكما وفي نظائرها كثرة, وعلة اسما ومعنى لا حكما كالبيع لشرط الخيار, وعلة اسما وحكما لا معنى كالسفر, وعلة معنى وحكما لا اسما كالوصف الأخير من علة ذات وصفين, وعلة معنى لا اسما ولا حكما كالوصف الأول منها وهو الذي سماه الشيخ وصفا له شبه العلل وعلة اسما لا معنى ولا حكما كالطلاق المعلق فهذه الأقسام الستة مذكورة في الكتاب والقسم المذكور رابعا فيه وهو العلة التي لها شبهة بالأسباب وإن كان غير خارج عن هذه الأقسام; لأنها إما علة اسما ومعنى لا حكما كالإيجاب المضاف أو علة معنى لا اسما ولا حكما كعلة العلة ولكن باعتبار شبهه بالأسباب الذي قد يخلو القسمان عنه جعله الشيخ قسما آخر فصارت الأقسام به سبعة. والقسم السابع بالقسمة العقلية وهو العلة حكما لا اسما ولا معنى مذكور في الباب الذي يليه وهو الشرط الذي سلم عن معارضة العلة.(4/267)
اسما وعلة اسما وحكما لا معنى أما الأول فمثل البيع المطلق للملك والنكاح للحل والقتل للقصاص وما يجري ذلك من العلل لما ذكرنا من تفسيرها وحقيقة ما وضعت له وإنما نعني بالمعنى ما تقدم وهو الأثر. وليس من صفة العلة الحقيقية تقدمها على الحكم بل الواجب اقترانهما معا وذلك كالاستطاعة مع الفعل عندنا فإذا تقدم لم يسم علة مطلقة ومن مشايخنا من فرق بين الفصلين
ـــــــ
والضمير في وهو الحقيقة وهو المجاز راجع إلى القسم معنى في حيز الأسباب أي في درجتها ومحلها والحيز كل مكان فيعل من الحوز هو الجمع وفي الصحاح الحيز ما انضم إلى الدار من مرافقها وكل ناحية حيز فمثل البيع المطلق أي البيع البات الخالي عن شرط الخيار ونحوه وما يجري مجرى ذلك أي مجرى ما ذكرنا من العلل مثل التطليق لوقوع الطلاق والإعتاق لإزالة الرق وإثبات الحرية والنذر لإيجاب المنذور ونحوها لما ذكرنا من تفسيرها, اللام متعلقة بكون هذه الأمثلة من القسم الأول يعني هذه الأشياء علل حقيقة لهذه الأحكام لما ذكرنا من تفسير العلة لغة أنها عبارة عن المغير وحقيقة ما وضعت له في الشرع أنها عبارة عما يضاف إليه الحكم ابتداء وهذه الأشياء بهذه المثابة فتكون عللا حقيقة قال شمس الأئمة رحمه الله بعد ذكر هذه الأمثلة كل واحد منها علة اسما من حيث إنه موضوع لأجل هذا الموجب وأن هذا الموجب مضاف إليه بغير واسطة وعلة معنى من حيث إنه مشروع لأجل هذا الموجب وعلة حكما من حيث إن هذا الحكم يثبت به ولا يجوز أن يتراخى عنه فكان علة حقيقة وإنما فسر المعنى بقوله وإنما نعني بالمعنى كذا لئلا يتوهم أنه أراد به المعنى اللغوي أو الاصطلاحي كما يشير إليه كلام شمس الأئمة.
قوله: "وليس من صفة العلة الحقيقية تقدمها على الحكم" لا خلاف في أن العلة عقلية كانت أو شرعية تتقدم في المعلول رتبة ولا خلاف بين أهل السنة في أن العلة العقلية تقارن معلولها زمانا كحركة الأصبع تقارن حركة الخاتم وفعل التحرك يقارن صيرورة الفاعل متحركا وكالكسر يقارن الانكسار وكالاستطاعة تقارن الفعل إذ لو لم يكونا متقارنين لزم بقاء الأغراض أو وجود المعلول بلا علة وكلاهما فاسد ولكنهم اختلفوا في جواز تقدم العلة الشرعية الحقيقية على معلولها وتأخر الحكم عنها تقدما وتأخرا زمانيا فذهب المحققون منهم إلى أنها مثل العلل العقلية في اشتراط المقارنة وإليه أشار الشيخ بقوله وذلك كالاستطاعة مع الفعل وقوله عندنا متعلق بقوله الواجب كذا يعني الواجب في العلة الشرعية الحقيقية اقتران العلة والحكم عندنا كما أن الواجب في الاستطاعة والفعل اقترانهما عند جميع أهل السنة فإذا تقدمت أي العلة الشرعية على(4/268)
وقال لا بل من صفة العلة تقدمها على الحكم والحكم يعقبها ولا يقارنها بخلاف الاستطاعة مع الفعل لأن الاستطاعة عرض لا بقاء لها ليكون الفعل عقيبها فلضرورة عدم البقاء تكون مقارنة للفعل فأما العلل الشرعية فلها بقاء وأنها في حكم الأعيان فيتصور بقاؤها وتراخي الحكم عنها بلا فصل وأما الذي
ـــــــ
الحكم لم تسم علة مطلقة أي تامة حقيقية بل تسمى علة مجازا أو سببا فيه معنى العلة ومن مشايخنا مثل أبي بكر محمد بن الفضل وغيره من فرق بين الفصلين أي العلة الشرعية والعلة العقلية أو العلة الشرعية والاستطاعة فلم يجوز تراخي الحكم عن العلة العقلية أو تراخي الفعل عن الاستطاعة وجوز ذلك في العلة الشرعية وقال لا يجوز خلوها عن الحكم ولكن يجوز أن لا يتصل الحكم بها ويتأخر عنها لمانع. كذا ذكر شمس الأئمة وهذا اللفظ يشير إلى جواز تأخر الحكم عنها عندهم دون الوجوب وإلى عدم اشتراط الاتصال ولفظ الكتاب يشير إلى وجوب التأخر وعدم جواز المقارنة عندهم.
ذكر صدر الإسلام أبو اليسر في أصول الفقه قال بعض الفقهاء حكم العلة يثبت بعد العلة بلا فصل وهذا يدل على جواز التأخير بشرط الاتصال وجه قولهم إن العلة ما لم توجد بتمامها لا يتصور أن تكون موجبة حكمها; لأن العدم لا يؤثر في شيء وإذا كانت العلة توجب الحكم بعد وجودها يثبت الحكم عقيبها ضرورة وإذا جاز تقدمها بزمان جاز بزمانين وأزمنة بخلاف الاستطاعة; لأنها عرض لا يبقى زمانين فلزم القول بمقارنة الفعل إياها لئلا يلزم وجود المعلول بلا علة أو خلو العلة عن المعلول فأما العلل الشرعية فموصوفة بالبقاء; لأنها في حكم الجواهر والأعيان ألا ترى أن فسخ البيع والإجارة والرهن والصرف والسلم الوديعة وسائر العقود جائز بعد أزمنة متطاولة ولو لم يكن لها بقاء شرعا لما تصور فسخها بعد مدة وإذا كان كذلك لا يلزم من تأخر الحكم عنها ما لزم في الاستطاعة وهو معنى قوله فيتصور بقاؤها وتراخى الحكم عنها بلا فصل أي بلا لزوم فصل بين العلة والمعلول; لأنها لما كانت باقية وقت وجود الحكم ثبت الاتصال بينهما ضرورة والجواب عنه أنه قد ثبت بالدليل مقارنة العلة العقلية معلولها ومقارنة الاستطاعة الفعل والأصل اتفاق الشرع والعقل فوجب أن يكون العلة الشرعية مقارنة لحكمها أيضا على أن علل الشرع أعراض في الحقيقة فكانت كالاستطاعة في عدم قبول البقاء. وما قالوا إنها موصوفة بالبقاء غير مسلم فإن كثيرا من الفقهاء ذهبوا إلى أنه لا بقاء للعقود الشرعية; لأن العقد كلام مخلوق ولا بقاء له حقيقة فلو بقي لبقي حكما لحاجة الناس ولا حاجة لهم إلى بقائها; لأنهم يحتاجون إلى الحكم وأنه يبقى بلا سبب; لأن ما وجد يبقى حتى يوجد ما يرفعه وهؤلاء يقولون الفسخ يرد على الحكم فيبطل الحكم لا على العقد ولئن سلمنا(4/269)
هو علة اسما فما سبق ذكره من الإيجاب المعلق بالشرط على ما مر ذكره. وأما العلة اسما ومعنى لا حكما فمثل البيع الموقوف هو علة اسما لأنه بيع مشروع ومعنى لأن البيع لغة وشرعا وضع لحكمة وذلك معناه لا حكما لأن حكمه
ـــــــ
أنها موصوفة بالبقاء كما هو مذهب البعض فذلك ضروري ثبت دفعا للحاجة إلى فسخ أحكامها إذ فسخ الحكم لا يمكن إلا بفسخ العقد; لأن الحكم ليس بمنعقد حتى يمكن فسخه فلم يثبت البقاء فيما وراء موضع الضرورة إليه أشار صدر الإسلام في أصول الفقه.
قوله وأما الذي" أي القسم الذي هو علة اسما فما سبق ذكره من الإيجاب المعلق واليمين قبل الحنث فإن كل واحد منهما علة اسما لوجود صورة العلة وكذا الحكم إذا ثبت يضاف إليه بلا واسطة فإن الكفارة تضاف إلى اليمين والطلاق والعتاق الواقع يضاف إلى التطليق أو للإعتاق السابق ولكنه ليس بعلة معنى; لأنه لا يؤثر في الحكم قبل وجود الشرط والحنث ولا حكما. وهو ظاهر وكذلك بيع الحر علة اسما لوجود صورة الإيجاب والقبول لا معنى ولا حكما لعدم التأثير والحكم قال شمس الأئمة رحمه الله العلة معنى وحكما ما يكون ثبوت الحكم عند تقرره لا عند ارتفاعه وبعد الحنث لا يبقى اليمين بل ترتفع وكذا بعد وجود الشرط في اليمين بالطلاق والعتاق لا يبقى اليمين فكيف يكون علة معنى وحكما.
قوله: "وأما العلة اسما ومعنى لا حكما فمثل البيع الموقوف" كبيع الفضولي مال غيره بغير إذنه هو علة اسما; لأنه بيع مشروع; لأن البيع المشروع هو أن يوجد ركنه من أهله مضافا إلى محله وقد وجد ومعنى; لأن البيع لغة وشرعا وضع لحكمة وذلك معناه أي أثر البيع أن يكون مفيدا للملك; لأن البيع لغة وشرعا موضوع لإفادة الملك وهذا البيع بهذه الصفة; لأنه انعقد لإفادة الملك وقد ظهر أثره في الحال فإن الملك في البيع ثبت للمشتري موقوفا على إجازة المالك حتى لو أعتق المبيع بتوقف إعتاقه ولا يبطل ولو لم يثبت الملك موقوفا لما توقف وبطل كما لو أعتقه قبل العقد ثم اشتراه فثبت أنه علة معنى ولهذا لو حلف لا يبيع فباع مال الغير بغير إذنه يحنث كذا في إجازات الأسرار لا حكما; لأن حكمه أي حكمه الأصلي وهو إثبات الملك البات تراخى إلى إجازة المالك لمانع وهو حق المالك; لأن ملكه محترم لا يجوز إبطاله عليه بغير إذنه فلو ثبت الملك البات قبل الإجازة لتضرر به لخروج العين عن ملكه بدون رضاه. فإذا زال المانع بالإجازة ثبت الحكم بهذا البيع من الأصل أي يستند إلى وقت العقد حتى يملكه المشتري بزوائده المتصلة والمنفصلة جميعا فيظهر به أنه كان علة لا سببا يعني لا يتوهم بتأخر الحكم عنه أنه سبب لا علة; لأن العلة قد يتأخر حكمها المانع فإن أصل البيع صحيح من المالك والحكم متأخر(4/270)
تراخى لمانع فإذا زال المانع ثبت الحكم به من الأصل فيظهر أنه كان علة لا سببا وكذلك البيع بخيار الشرط علة اسما ومعنى لا حكما لأن الشرط دخل على الحكم دون السبب لأن دخول الشرط فيه مخالف للقياس ولو جعل داخلا لا على السبب لدخل على الحكم أيضا وإذا دخل على الحكم لم يدخل على
ـــــــ
على أصل الشافعي إلى أن يتفرقا وهذا تأخر لمانع وهو الخيار وشهر رمضان سبب أي علة لوجوب الصوم في حق المسافر والحكم متأخر إلى إدراك عدة من أيام أخر كذا ذكر القاضي الإمام في الأسرار في هذه المسألة وهذا الكلام منه مستقيم; لأنه قابل لجواز تخصيص العلة ولكن ما ذكر الشيخ رحمه الله أن حكمه تراخى لمانع مشكل على أصله; لأنه ينكر تخصيص العلة وما ذكره يؤدي إلى القول بالتخصيص ويمكن أن يجاب عنه بأنه إنما أنكر التخصيص على معنى أن تكون العلة قائمة حقيقة وتخلف الحكم لمانع وهاهنا وإن وجدت العلة اسما ومعنى لكنها ليست بعلة حقيقية لتخلف الحكم عنها فلا يكون تخصيصا ولقائل أن يقول لا تصور للتخصيص مع قيام حقيقة العلة; لأن الحكم إذا تخلف عنها لمانع لم يبق علة حقيقة وحينئذ يجوز التخصيص ويرتفع الخلاف والأمر بخلافه وكذلك أي ومثل البيع الموقوف البيع بشرط الخيار علة اسما ومعنى لا حكما; لأن دخول الشرط في البيع مخالف للقياس فإن القياس يقتضي عدم جواز اشتراط الخيار فيه لكونه متضمنا تعليق التمليك بالخطر وهو قمار إلا أن الشرع جوزه للضرورة والحاجة والضرورة تندفع بإدخال الشرط في الحكم الذي هو أقل خطرا فكان أولى بالاعتبار من إدخاله في السبب الذي هو أكثر خطرا تقليلا للخطر بقدر الإمكان. فيبقى السبب وهو البيع مطلقا أي غير معلق بالشرط كالبيع الخالي عن الخيار فلذلك أي لكونه مطلقا كان علة اسما ومعنى لا حكما لتعلق الحكم بالشرط ودلالة لكونه علة لا سببا ما قلنا في البيع الموقوف أن المانع وهو الخيار إذا زال بمضي المدة أو بإسقاط من له الخيار وجب الحكم أي ثبت الملك للمشتري بهذا البيع من وقت الإيجاب حتى يملك المشترى بزوائده المتصلة والمنفصلة إلا أن أصل الملك لما صار معلقا بالشرط لم يكن موجودا قبل الشرط فالعتق الموجود في هذه الحالة من المشتري لا يتوقف على أن ينفذ ثبوت الملك له إذا سقط الخيار وفي البيع الموقوف ثبت في الملك صفة التوقف لا التعليق بالشرط وتوقف الشيء لا يعدم أصله فثبت إعتاقه بصفة التوقف أيضا على أن ينفذ ثبوت الملك له كذا ذكر شمس الأئمة رحمه الله وإنما ذكر قوله ودلالة كونه علة لا سببا إشارة إلى الفرق بينه وبين عقد الإجارة فإن له شبها بالسبب كما سنذكره وقوله هاهنا أي المانع إذا زال يشير إلى تخصيص العلة أيضا إلا أن الجواب ما مر.(4/271)