على من هو أهل له , ولا وجود لمن هو أهله على ما أجرى به سنته إلا والسبب يلازمه; لأن الإنسان المقصود به وغيره ممن يلزمه الإيمان عالم بنفسه سمي عالما; لأنه جعل علما على وجوده ووحدانيته ولهذا قلنا إن إيمان الصبي
ـــــــ
والسبب يلازمه إذ لا تصور للمحدث أن يكون غير محدث في شيء من الأوقات. والإنسان المقصود به أي بخلق العالم أو بالتكليف وغيره من الملك والجن ممن يجب الإيمان عليهم كل واحد منهم عالم بنفسه; لأن وجوده يدل على وجود الصانع ووحدانيته وصفاته الكاملة كما يدل عليه العالم الأكبر فكان وجوب الإيمان دائما بدوام سببه غير محتمل للنسخ والتبديل , وكان الشيخ إنما ذكر قوله; لأنا لا نعني به كذا جوابا عما يقال كيف يصلح حدوث العالم سببا للإيمان الذي هو مبني على ثبوت وحدانية الله تعالى , وهي أمر أزلي يستحيل أن يتعلق بسبب ويلزم منه تقدم المسبب على السبب أيضا. فقال لا نعني به أنه سبب للوحدانية , وإنما نعني به كذا. وذكر في بعض الشروح أنه جواب عما يقال الإيمان يوجد بتوفيق الله تعالى , وهدايته الذي هو غير مخلوق وبفعل العبد , وكسبه الذي هو مخلوق فلا يستقيم أن يجعل حدث العالم سببا لفعل الله الذي هو غير مخلوق فقال: إنما نجعله سببا لفعل العبد لا لفعل الله عز وجل , ولكن على هذا الوجه كان ينبغي أن يقول لا نعني بهذا أن يكون سببا لتوفيق الله تعالى وهدايته , وإنما نعني به كذا , والوجه الأول أوفق لنظم الكتاب.
فإن قيل: ما معنى قوله على ما أجرى به سننه , وأنه يذكر فيما أمكن أن يكون الأمر على خلاف المذكور , وها هنا لا يمكن أن ينفك السبب عن الوجوب لاستحالة زوال الحدوث عن المحدث , ولم يذكر هذا اللفظ في عامة الكتب في هذا الموضع.
"قلنا" ذكر في بعض الشروح أن معناه أنه تعالى خلق من هو أهل لوجوب الإيمان عليه مع وجود أشياء أخر من السموات والأرض وغيرهما , وكل ذلك سبب لوجوب الإيمان على من هو أهل له , وإن كان يتصور وجود من هو أهل للوجوب بدون هذه الأشياء , وهو مع ذلك يكون سببا لوجوب الإيمان عليه لكونه عالما بنفسه فمع وجود هذه الأشياء يتكثر أسباب وجوب الإيمان. والأوجه أن يقال معناه أنه تعالى جعل حدث العالم الذي هو لازم للوجوب سببا , وأمارة على إيجابه الذي هو فعله مع أنه يمكن أن يجعل شيئا آخر سببا , وأمارة على إيجابه الإيمان لا يكون ذلك الشيء لازما للوجوب كما فعل كذلك في حق الصوم والصلاة فإن الوقت الذي هو سبب ليس بملازم للوجوب فإن الوجوب ثابت بعد مضي الوقت وانقضاء الشهر , ولكنه جل جلاله أجرى سنته أن يكون سبب الإيمان شيئا دائما ملازما للوجوب ليدل على دوام الوجوب في جميع الأحوال.(2/500)
صحيح, وإن لم يكن مخاطبا ولا مأمورا; لأنه مشروع بنفسه وسببه قائم في حقه دائم لقيام دوام من هو مقصود به وصحة الأداء تبتنى على كون المؤدى مشروعا بعد قيام سببه ممن هو أهله لا على لزوم أدائه كتعجيل الدين المؤجل, وأما الصلاة فواجبة بإيجاب الله تعالى بلا شبهة وسبب وجوبها في الظاهر في حقنا الوقت الذي تنسب وجوبها في الظاهر في حقنا الوقت الذي تنسب إليه وما بين هذا وبين قول من قال إن الزكاة تجب بإيجابه وملك المال سببه والقصاص
ـــــــ
قوله "ولهذا قلنا" أي; ولأن السبب يلازم من هو أهل له. قلنا إن إيمان الصبي العاقل صحيح, وإن لم يكن مخاطبا بأداء الإيمان في الحال, ولا مأمورا به; لأن الإيمان مشروع بنفسه لا يحتمل أن يكون غير مشروع, وقد تحقق سببه في حقه, ووجد ركنه, وهو التصديق والإقرار عن معرفة وتمييز ممن هو أهله, وهو الصبي فوجب القول بصحته كما إذا ثبت تبعا لأحد أبويه. أما تحقق السبب فظاهر, وأما وجود الركن فكذلك إذ الكلام في صبي عاقل مميز يناظر في وحدانية الله تعالى بالحجج, وقد ضم الإقرار باللسان إلى التصديق بالقلب ولهذا صحت وصيته بأعمال البشر عند الخصم. وأما الأهلية فلأن الإيمان قد يتحقق في حقه تبعا لأحد أبويه, ولو لم يكن أهلا لما تحقق ذلك في حقه أصلا فبعد ذلك امتناع صحة الأداء لا يكون إلا بحجر شرعي, والقول بالحجر عن الإيمان بالله تعالى محال فلا يتصور أن يرد الشرع به فوجب القول بصحته ضرورة.
ثم سقوط الخطاب عنه بسبب الصبا يدل على سقوط لزوم الأداء الذي يحتمل السقوط في بعض الأحوال فإن الكافر إذا أراد أن يسلم فأكره على أن لا يسلم ولا يتكلم بكلمة الإسلام رخص له التأخير. والمسلم إذا أكره على إجراء كلمة الكفر على لسانه رخص له ذلك لكنه لا يدل على عدم صحة الأداء فإن صحة الأداء يبتنى على كون المؤدى مشروعا بنفسه بعد قيام سببه من أهله لا على لزوم أدائه أي المؤدى كالدين المؤجل صح أداؤه قبل حلول الأجل لتقرر سببه, وإن كان الخطاب بالأداء غير متوجه إليه في الحال, وكالمسافر أو المريض إذا صام في حال السفر أو المرض صح الأداء لتحقق السبب في حق الأهل, وإن لم يكن مخاطبا قبل إدراك عدة من أيام أخر.
قوله "وما بين هذا" أي ليس بين قولنا الصلاة واجبة بإيجاب الله تعالى وسبب وجوبها في الظاهر الوقت وبين قول من قال الزكاة واجبة بإيجاب الله تعالى, وملك المال النامي سببه فرق, وغرضه منه رد قول من فرق بين الواجبات البدنية وبين الواجبات المالية حيث جوز إضافة القسم الثاني إلى الأسباب دون القسم الأول. وقوله: وليس السبب بعلة(2/501)
يجب بإيجابه والقتل العمد سببه فرق, وليس السبب بعلة والدليل عليه أنها أضيفت إلى الوقت قال الله تعالى {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} "الإسراء: 78" فالنسبة باللام أقوى وجوه الدلالة على تعلقها بالوقت وكذلك يقال صلاة الظهر والفجر
ـــــــ
جواب عما قالوا لا تأثير للوقت في إيجاب العبادة ليكون سببا لها فأما المال فله تأثير في إيجاب المواساة وللجناية أثر في إيجاب العقوبة فيمكن أن يضاف وجوب الزكاة إلى المال ووجوب القصاص إلى القتل العمد الذي هو جناية فقال ليس السبب بعلة عقلية ليشترط التأثير لصحتها كالكسر مع الانكسار بل هي علة جعلية وضعها الشارع أمارة على الإيجاب فلا يشترط لصحتها التأثير. وذكر الشيخ رحمه الله في بعض نسخة في أصول الفقه في هذا الموضع أن الفرق بين العلة والسبب أن العلة ما يعقل معناه ويظهر تأثيره في الأحكام والسبب سبب, وإن كان لا يعقل معناه. قال: ومثال هذا أفعال العباد فإن الأصل في فعل العبد لمولاه أن لا يصلح سببا لاستحقاق الجزاء على مولاه, ولكن الله تعالى بفضله جعل أفعالهم سببا لإحراز الثواب في الآخرة فكذا هاهنا.
والدليل عليه أي على أن الوقت سبب وجوب الصلاة أنها أضيفت إلى الوقت بحرف اللام وبدونها قال الله تعالى {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} "الإسراء 78". نسب الصلاة إلى وقت الدلوك بحرف اللام والنسبة باللام أقوى وجوه الدلالة على تعلق الصلاة بالوقت; لأن اللام للتعليل والاختصاص كما يقال تطهر للصلاة وتأهب للشتاء, ويقال اتخذ فلان الضيافة لفلان أي بسببه, وخرج فلان لقدوم فلان يعني قدوم فلان سبب لخروجه كذا قاله أبو اليسر. وأما الإضافة بدون اللام فإجماعهم على إضافة هذه الصلوات إلى الأوقات يقال صلاة الفجر وصلاة الظهر ونحوهما, وقد ذكرنا أن الأصل في إضافة الشيء إلى الشيء أن يكون ثابتا به كإضافة الولد إلى الوالد إذ الأصل في الإضافة أن تكون بأخص الأوصاف, وأخص الأوصاف الوجوب; لأن معنى الثبوت بالسبب سابق على سائر وجوه الاختصاص. ومجموع قوله ويبطل قبل الوقت إلى قوله لزومها أي لزوم أدائها دليل واحد فثبت بمجموع ما ذكرنا أنه سبب. وعبارة شمس الأئمة ولهذا لا يجوز تعجيلها قبل الوقت ويجوز بعد دخول الوقت مع تأخر لزوم الأداء بالخطاب.
"فإن قيل" لا يفهم من وجوب العبادة شيء سوى وجوب الأداء, ولا خلاف أن وجوب الأداء بالخطاب فما الذي يكون واجبا بسبب الوقت.
"قلنا" الواجب بسبب الوقت ما هو المشروع نفلا في غير الوقت الذي هو سبب الوجوب وبيان هذا في الصوم فإنه مشروع نفلا في كل يوم وجد الأداء أو لم يوجد, وفي رمضان يكون مشروعا واجبا بسبب الوقت سواء وجد الخطاب بالأداء لوجود شرطه, وهو التمكن من الأداء أو لم يوجد.(2/502)
وعلى ذلك إجماع الأمة ويتكرر بتكرر الوقت ويبطل قبل الوقت أداؤه ويصح بعد هجوم الوقت, وإن تأخر لزومها فقد تقدم ذكر أحكام هذا القسم فيما يرجع
ـــــــ
وذكر الشيخ أبو المعين رحمه الله في طريقة الخلاف أن اللام في قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} , وقوله عليه السلام: "صوموا لرؤيته1" ليست للتعليل; لأنها لا تصلح لذلك إذ هي داخلة على الرؤية دون الوقت, وهي ليست بعلة بالإجماع فما لم تدخل فيه أولى أن لا تكون علة فإن قلتم المراد ما يثبت بالرؤية, وهو الشهر. قلنا أتعنون به أن الوقت الذي وجدت فيه الرؤية سبب لصوم جميع الشهر أم تعنون أن كل يوم سبب على حدة للصوم.
فإن قلتم بالأول قد أقررتم ببطلانه. وإن قلتم بالثاني فكيف عبر بالرؤية عن هذه الأوقات, وهل في اللفظ ما ينبئ وضعا أو دلالة أن تذكر الرؤية ويراد منها جزء من يوم يوجد بعد ثلاثين يوما أو عشرين من وقت الرؤية. فإن قلتم نعم فقد ادعيتم ما يعرف كل جاهل بطلانه, وإن قلتم لا فقد أبطلتم الاستدلال بالخبر. وكذا في قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} أي شئ تعنون بهذا أن العلة هي وقت الدلوك أم جزء واحد من الزمان هو معدوم عند الدلوك. فإن قلتم بالأول فقد تركتم مذهبكم, وإن قلتم بالثاني فنقول أي دلالة في الدلوك الذي هو فعل الشمس في زمان مخصوص على زمان آخر يوجد بعده من غير تعين بل على أجزاء متجددة يتعين بعضها سببا عند اتصال الأداء به على ما هو المذهب عندكم أفيه دليل على ما زعمتم من حيث العقل أم من حيث اللغة فأي الأمرين ادعيتم كلفتم بيانه, ولن تقدروا عليه. قال ثم ورود الحديث لبيان أن الصوم المأمور به في الشرع بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} . يؤدى في الشهر بعدد أيامه في الزيادة والنقصان ويبنى الأمر فيه على الرؤية دون العدد إلا إذا تعذر الوصول إلى معرفة العدد برؤية الهلال فحينئذ تكمل العدة ثلاثين يوما إبقاء لما كان على ما كان لا بيان العلة الموجبة للصوم, وكذا قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} . لبيان, وقت أداء الصلاة الواجبة بقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاة} . لا لبيان السبب., ومجيء اللام للوقت كثير شائع في الشرع واللغة قال عليه السلام: : "المستحاضة تتوضأ لكل صلاة" . أي لوقت كل صلاة. وقالت الخنساء:
تذكرني طلوع الشمس صخرا ... وأذكره لكل مغيب شمس
أي: لوقت مغيبها, ويمكن أن يجاب عنه بأن ورود اللام للتعليل أكثر من ورودها
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الصوم حديث رقم 1081 وابن ماجة في الصيام حديث رقم 1655.(2/503)
إلى الوقت.
وسبب وجوب الزكاة ملك المال الذي هو نصابه; لأنه في الشرع مضاف إلى المال والغناء وتنسب إليه بالإجماع ويجوز تعجيلها بعد وجود ما يقع به الغنى غير أن الغنى لا يقع على الكمال واليسر إلا بمال, وهو نام, ولا نماء إلا بالزمان فأقيم الحول, وهو المدة الكاملة لاستنماء المال مقام النماء وصار المال الواحد بتجدد النماء فيه بمنزلة المتجدد بنفسه فيتكرر الوجوب بتكرر
ـــــــ
بمعنى الوقت, وقد تأيد كونها للتعليل بتكرر الحكم عند تكرره, وإضافة الواجب إليه شرعا وعرفا فحملت على التعليل, وما ذكر من الترديدات وارد على تقدير كونها بمعنى الوقت أيضا; لأن وقت الرؤية ليس بوقت الصوم بالإجماع, وكذا زمان الدلوك, وهو ساعة لطيفة لم تتعين لوقت الصلاة, ولا دلالة لها على الزمان الذي يوجد قبيل صيرورة الظل مثلا ومثلين فكل جواب له عنها فهو جواب لنا.
قوله "وسبب وجوب الزكاة ملك المال الذي هو نصابه" أي نصاب وجوب الزكاة في ذلك المال مثل عشرين مثقالا في الذهب, ومائتي درهم في الفضة وخمس ذود في الإبل, وأربعين شاة في الغنم مضاف إلى المال والغنى قال عليه الصلاة والسلام: "هاتوا ربع عشور أموالكم" 1., وقال عليه السلام: "لا صدقة إلا عن ظهر غنى" . والغنى لا يحصل بأصل المال ما لم يبلغ مقدارا, وأحوال الناس في ذلك مختلفة فقدر بالنصاب في حق الكل. وينسب إليه بالإجماع فيقال زكاة المال ويتضاعف بتضاعف النصاب في وقت واحد أيضا. ويجوز تعجيله بعد وجود ما يقع به الغنى, وهو ملك النصاب فدل أنه سبب; لأن جواز الأداء لا يثبت قبل السبب ألا ترى أنه لو ملك ما دون النصاب فعجل الزكاة ثم تم له ملك النصاب وحال الحول لا ينوب المؤدى عن الزكاة لعدم السبب. وقوله غير أن الغنى جواب عما يقال لما تحقق السبب بملك النصاب وثبت الغنى ينبغي أن يجب الأداء في الحال, ولا يتأخر إلى مضي الحول. فقال أصل الغنى, وإن كان يثبت بملك النصاب إلا أن تكامله متوقف على النماء; لأن الحاجة إلى المال يتجدد زمانا فزمانا, والمال إذا لم يكن ناميا تفنيه الحوائج لا محالة عن قريب, وإذا كان ناميا تعين النماء لدفع الحوائج فبقي أصل المال فاضلا عن الحاجة فيحصل به الغنى, ويتيسر عليه الأداء منه فشرط النماء لوجوب الأداء تحقيقا للغنى واليسر اللذين بنيت هذه العبادة عليهما, ولا نماء إلا بالزمان فأقيم الحول مقام النماء; لأنه مدة مستجمعة للفصول الأربعة المختلفة التي لها تأثير في حصول النماء
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الزكاة حديث رقم 1572، والترمذي في الزكاة حديث رقم 620، وابن ماجه في الزكاة حديث رقم 1790.(2/504)
الحول على أنه متكرر بتكرر المال في التقدير.
وسبب وجوب الصوم أيام شهر رمضان قال الله تعالى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} "البقرة: 185"أي فليصم في أيامه والوقت متى جعل سببا كان ظرفا صالحا للأداء والليل لا يصلح له فعلم أن اليوم سببه بدلالة نسبته إليه وتعلقه به وتعليق الحكم بالشيء شرعا دليل على أنه سببه
ـــــــ
من عين السائمة بالدر والنسل, ومن أموال التجارة بالربح بزيادة القيمة لرغبات الناس في كل فصل إلى ما يناسبه فصار مضي الحول شرطا لوجوب الأداء. ثم يلزم على ما ذكرنا أن بتكرر الشرط لا يتكرر الواجب, وقد يتكرر الوجوب هاهنا في مال واحد باعتبار الأحوال المتكررة فأشار إلى الجواب عنه, وقال المال الواحد يتجدد النماء فيه بمنزلة المتجدد بنفسه; لأن المال بوصف النماء صار سببا للوجوب فيكون تجدده بمنزلة تجدد المال كالرأس في صدقة الفطر لما صار سببا بوصف المؤنة صار بمنزلة المتجدد بتجدد المؤنة فعرفنا أن تكرر الوجوب باعتبار تكرر السبب تقديرا.
قوله "وسبب وجوب الصوم" يعني صوم شهر رمضان واللام للعهد أيام شهر رمضان. اتفق المتأخرون من مشايخنا مثل القاضي الإمام أبي زيد وشمس الأئمة والشيخ المصنف وصدر الإسلام أبي اليسر, ومن تابعهم على أن سبب وجوب الصوم الشهر; لأنه يضاف إليه ويتكرر بتكرره ويصح الأداء بعد دخول الشهر, ولا يصح قبله لكنهم اختلفوا بعد ذلك. فذهب الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله إلى أن السبب مطلق شهود الشهر حتى استوى في السببية الأيام والليالي متمسكا بأن الشهر اسم لجزء من الزمان مشتمل على الأيام والليالي, وإنما جعله الشرع سببا لإظهار فضيلة هذا الوقت, وهي ثابتة للأيام والليالي جميعا والدليل عليه أن من كان مفيقا في أول ليلة من الشهر ثم جن قبل أن يصبح, ومضى الشهر, وهو مجنون ثم أفاق يلزمه القضاء, ولو لم يتقرر السبب في حقه بما شهد من الشهر في حال الإفاقة لم يلزمه القضاء, وكذلك المجنون إذا أفاق في ليلة ثم جن قبل أن يصبح ثم أفاق بعد مضي الشهر يلزمه القضاء. وكذا نية أداء الفرض تصح بعد وجود الليلة الأولى بغروب الشمس قبل أن يصبح, ومعلوم أن نية أداء الفرض قبل تصور سبب الوجوب لا تصح ألا ترى أنه لو نوى قبل غروب الشمس لا تصح نيته. ويؤيده قوله عليه السلام: "صوموا لرؤيته" . فإنه نظير قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} "الإسراء: 78". ولا معنى لقول من قال لو كان سببا لجاز الأداء فيه; لأن صحة السبب لا يتوقف على تمكن الأداء فيه فإن من أسلم في آخر الوقت يلزمه فرض الوقت, وإن لم يثبت التمكن من الأداء فيه بل الشرط احتمال الأداء في الوقت, وهو ثابت ولهذا لو أسلم في آخر(2/505)
هذا هو الأصل في الباب, وقد تكرر بتكرره ونسب إليه فقيل صوم شهر رمضان وصح الأداء بعده من المسافر وقد تأخر الخطاب به ولهذا وجب على صبي يبلغ في بعض شهر رمضان, وكافر يسلم بقدر ما أدركه; لأن كل يوم سبب لصومه بمنزلة كل من أوقات الصلاة, وقد مرت أحكام هذا القسم.
سبب
ـــــــ
يوم من رمضان بعد الزوال أو قبله لم يلزمه الصوم, وإن أدرك جزءا من الشهر لانقطاع احتمال الأداء في الوقت. وذهب القاضي الإمام أبو زيد والشيخ المصنف وصدر الإسلام أبو اليسر إلى أن سبب وجوب الصوم أيام شهر رمضان دون الليالي أي الجزء الأول الذي لا يتجزأ من كل يوم سبب لصوم ذلك اليوم فيجب صوم جميع اليوم مقارنا إياه; لأن الواجب في الشهر أشياء متغايرة إذ صوم كل يوم عبادة على حدة غير مرتبط بغيره لاختصاصه بشرائط وجوده, وانفراده بالارتفاع عند طروء الناقض كالصلوات في أوقاتها بل التفرق في الصيام أكثر منه في الصلوات فإن التفرق في الصلوات باعتبار أن أداء الظهر لا يجوز في وقت الفجر ويفوت بمجيء وقت العصر قبل أداء الظهر, وهذا المعنى فيما نحن فيه موجود وزيادة, وهي أن بين كل يومين وقتا لا يصلح للصوم لا أداء, ولا قضاء لما مضى, ولا نفلا, وإذا كان كذلك كان كل عبادة متعلقة بسبب على حدة وذلك بالطريق الذي قلنا; ولأن الله تعالى إذا جعل وقتا سببا لعبادة فذلك بيان شرف ذلك الوقت لحق تلك العبادة والعبادة في الأداء دون الإيجاب فإنه صنع الله تعالى فلم يستقم الوقت المنافي للأداء شرعا سببا لوجوبه فعلمنا أن الأسباب هي الأيام دون الليالي, وهو معنى قول الشيخ والوقت متى جعل سببا كان ظرفا للأداء أي محلا له كوقت الصلاة لما جعل سببا لوجوبها كان محلا لأدائها. والمراد من كونه ظرفا هاهنا أن الواجب يؤدى فيه لا أن الوقت يفضل عن الأداء.
وأما الجواب عن كلام شمس الأئمة فهو أن شرف الليالي باعتبار شرعية الصوم في أيامها فكان شرفها تابعا لشرف الأيام أو شرفها باعتبار كونها أوقاتا لقيام رمضان, وكلامنا في شرف يحصل باعتبار السببية, وذلك بأن يكون محلا لأداء مسببه. وأما عدم سقوط الصوم عن المجنون الذي لم يفق إلا في جزء من الليلة فلأنه أهل للوجوب مع الجنون إلا أن الشرع أسقط عنه عند تضاعف الواجبات دفعا للحرج واعتبر الحرج في حق الصوم باستغراق الجنون جميع الشهر, ولم يوجد. وأما جواز النية في الليل فباعتبار أن الليل جعل تابعا لليوم في حق هذا الحكم ضرورة تعذر اقتران النية بأول أجزاء الصوم الذي هو شرط على ما بينا في مسألة التبييت فأقيمت النية في الليل مقام النية المقترنة بأول الصوم, ولا ضرورة فيما نحن فيه, والله أعلم. هذا هو الأصل احتراز عن الشرط فإن الحكم قد يتعلق به وجودا ولهذا أي; ولأن كل يوم سبب لوجوب صومه, وقد مرت أحكام هذا القسم أيضا كأحكام الصلاة في باب تقسيم المأمور به في حق الوقت.(2/506)
وجوب صدقة الفطر على كل مسلم غني رأس يمونه بولايته عليه ثبت ذلك بقول النبي عليه السلام: "أدوا عن كل حر وعبد" بقوله عليه السلام "أدوا عمن تمونون" وبيانه أن كلمة "عن" لانتزاع الشيء فدل على أحد وجهين إما أن يكون سببا ينتزع الحكم عنه أو محلا يجب الحق عليه فيؤدي عنه وبطل
ـــــــ
قوله "وسبب وجوب صدقة الفطر" رأس يمونه أي يقوم المكلف بكفايته ويتحمل مؤنته بولايته أي بسبب ولايته عليه مثل التزويج والإجارة وغير ذلك. إذ الباء بمعنى مع, ومعنى الولاية تنفيذ القول على الغير شاء الغير أو أبى. وحاصله أن الرأس بصفة المؤنة والولاية جعل سببا لصدقة الفطر عندنا, وعند الشافعي رحمه الله السبب رأس يلزمه مؤنته ويعقبه كذا ذكر أبو اليسر. وذكر غيره أن السبب هو الوقت عند الشافعي بدليل إضافتها إليه يقال صدقة الفطر وبدليل تكررها بتكرر الوقت في رأس واحد. ولكنا نقول الأصل في هذا الباب رأسه والصدقة جعلت مؤنة شرعية, والمؤنة الأصلية تتعلق بكونه مالك رأسه ووليه فكذا الصدقة, وكذا رأس غيره يلتحق برأسه بمؤنة الرأس بسبب المالكية والولاية ليصير كرأسه كذا في الأسرار. فإذا عدمت الولاية في حق المرأة والابن الزمن البالغ المعسر لم يجب الصدقة على الزوج والأب, وإن وجدت المؤنة, وإذا عدمت المؤنة بأن كان للصغير مال حتى وجبت نفقته فيه لم تجب صدقته على الأب أيضا عند أبي حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله, وإن وجدت الولاية. قال نهج الإسلام خواهر زاده رحمه الله, وإنما اعتبرنا المعنيين جميعا بالشرع وبدلالة من المعنى. أما الشرع فلأنه عليه السلام. قال: "أدوا عمن تمونون" . فقد اعتبر المؤنة, وأما الولاية فلأنه عليه السلام لما أوجب في الصغار والمماليك فقد اعتبر الولاية أيضا فدل أنه لا بد من اعتبار المعنيين جميعا., وأما المعنى فلأن الأصل في الوجوب رأس الإنسان, وإنما يلحق رأس غيره به إذا كان في معناه إلى آخر ما ذكرنا. ثبت ذلك أي كون الرأس سببا بقوله عليه السلام كذا. وبيانه أي بيان ثبوت كون الرأس سببا بهذين الحديثين أن كلمة عن لانتزاع الشيء أي لانفصال الشيء عن الشيء وتعديه منه يقال رميت عن القوس, وأخذت عنه حديثا أي انفصل عنه إلي وبلغني عنه كذا أي تعدى وتجاوز عنه إلي وأخذت الدرة عن الحقة أي نزعتها عنها. فيدل أي حرف عن أو الحديث. على أحد الوجهين بالاستقراء. إما أن يكون ما دخل عليه عن. سببا ينتزع الحكم عنه أي عن السبب كما يقال أد الزكاة عن ماله, وأد الخراج عن أرضه أي بسببهما ويقال سمن عن أكل وشرب أي بسببهما, وكقوله تعالى: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} "الذاريات: 9". إذا جعل الضمير راجعا إلى قول مختلف أي يصدر إفكهم عن القول المختلف فيكون معناه أدوا الصدقة الواجبة الناشئة عن كذا. أو(2/507)
الثاني لاستحالة الوجوب على العبد والكافر والفقير فعلم به أنه سبب ولذلك يتضاعف الوجوب بتضاعف الرءوس , وأما وقت الفطر فشرطه حتى لا يعمل السبب إلا لهذا الشرط وإنما نسبت إلى الفطر مجازا والنسبة تحتمل الاستعارة فأما تضاعف الوجوب فلا يحتمل الاستعارة وبيان قولنا إن الإضافة تحتمل
ـــــــ
محلا يجب الحق عليه فيؤدى عنه كالدية تجب على القاتل ثم يتحمل العاقلة عنه لاستحالة الوجوب على العبد; لأنه لما لم يتصور أن يكون مالكا لشيء; لأنه مملوك استحال تكليفه بما ليس في وسعه ذلك. والكافر; لأنها قربة , وهو ليس من أهلها. والفقير; لأنه ليس على الجراب خراج فتعين أن المراد انتزاع الحكم عن سببه , وأن ما دخل عليه كلمة عن سبب. وذكر في الأسرار في مثلية وجوب صدقة الفطر عن عبده الكافر أن الوجوب على العبد على أصل الشافعي والمولى ينوب عنه كالنفقة; لأن النبي عليه السلام لما قال: "أدوا عن كل حر وعبد" . علم أن الوجوب على العبد إذا لو لم يكن كذلك لكان أداء المولى عن نفسه لا عن العبد ألا ترى أنه لا يقال في الزكاة أد عن الشاة أو أد عن العبد , وإنما يقال أدوا من أموالكم. ثم ذكر في الجواب عنه أن الوجوب ليس على العبد; لأنه صار كالبهيمة في باب الولاية والمؤنة فلا يتحقق السبب في حقه , ومعنى قوله عليه السلام أدوا عنه. على سبيل المجاز فإنه من حيث إنه إنسان مخاطب , وهذه صدقة فالظاهر أنها عليه كالنفقة والمولى ينوب عنه , ولكن في باطن المعنى فلا وجوب عليه; لأنه التحق بالبهيمة فيما ملك عليه والأجزاء التي تحتاج إلى النفقة مملوكة والصدقة كذلك تجب بسبب الرأس كالنفقة فعلى اعتبار أصل الخلقة الوجوب على العبد وعلى اعتبار العارض على المولى فصحت العبارة بكلمة عن إشارة إلى المعنى الأصلي.
ولذلك أي ولكون الرأس سببا تضاعف وجوب صدقة الفطر بتضاعف الرءوس في وقت واحد , ولو كان الوقت سببا لما تضاعف بتعدد الرأس فدل أن الرأس هو السبب دون الوقت , ولكن الوقت شرطه. حتى لا يعمل السبب أي لا يجب الأداء إلا بهذا الشرط , وهو الوقت كالنصاب لا يظهر عمله في إيجاب أداء الزكاة إلا عند مضي الحول.
قوله "وإنما نسبت إلى الفطر" جواب عما قال الشافعي رحمه الله إن إضافتها إلى الوقت تدل على أنه سبب فقال إنما نسبت إلى الفطر مجازا باعتبار أنه زمان الوجوب فلا يدل على كونه سببا. , وإنما حملناها على المجاز; لأن الإضافة تحتمل المجاز فإن الشيء قد يضاف إلى الشيء بأدنى ملابسة وأضيفت الحجة إلى الإسلام الذي هو شرطها فقيل حجة الإسلام ويقال بنو فلان لنوافله على سبيل المجاز فأما تضاعف الوجوب بتضاعف الرءوس فأمر حقيقي لا يقبل الاستعارة; لأنها من أوصاف اللفظ , وهذا ليس بلفظ فكان(2/508)
الاستعارة ظاهر; لأن الشيء يضاف إلى الشرط مجازا فأما تضاعف الوجوب فلا يحتمل الاستعارة; لأن الوجوب إنما يكون بسبب أو علة لا يكون بغير ذلك وهذا لا يتصور فيه الاستعارة وكذلك وصف المؤنة يرجح الرأس في كونه سببا, وقد بينا معنى المؤنة فيه في موضعه.وسبب وجوب الحج البيت; لأنه ينسب
ـــــــ
التضاعف بمنزلة المحكم في كونه دليلا على السببية فإن الحكم لا يحتمل أن يتكرر بتكرر الشرط بوجه., وإنما يكون أي الوجوب بسبب أو علة, وقد ذكرنا الفرق بين السبب والعلة فلذلك جعلنا الرأس سببا والوقت شرطها فإن قيل أليس يتكرر هذا الواجب بتكرر الوقت مع اتحاد السبب؟. قلنا لم يتكرر بتكرر الوقت بل بتكرر الحاجة والمؤنة أبدا يتكرر وجوبها بتكرر الحاجة فالشرع جعل يوم الفطر وقت الحاجة فإذا جاء يوم الفطر تجددت الحاجة فتجدد الوجوب لأجله. وذكر الشيخ في شرح التقويم أن الإضافة قد تحققت إلى الرأس والوقت فيجب أن يكون لكل واحد منهما حظ من الوجوب بحكم الإضافة وذلك إذا جعلنا الرأس سببا والوقت زمان الوجوب فيثبت لكل واحد منهما اتصال بالوجوب لأحدهما من حيث إنه سبب وللآخر من حيث إنه شرط فأما إذا جعلنا الفطر سببا فلا يبقى للرأس اتصال بالواجب; لأنه لا يجب على العبد والكافر شيء ليجعل الرأس شرطا باعتبار المحلية بل يجب على المولى لأجله فإذا أضيفت إلى رأس العبد فأي اتصال يبقى له بالواجب فلا وجه لهذا فثبت أن الرأس سبب.
"فإن قيل" نجعل الرأس شرطا من حيث الوجوب على المولى لا من حيث الوجوب على العبد كما جعلتم الوقت شرطا للوجوب على المولى بسبب الرأس.
"قلنا" حينئذ لا يتكرر بتكرر الشرط, وهو الرأس, وإنما يتكرر بتكرر السبب, وإن اتحد الشرط, وقد تكرر بتكرر الرأس بالاتفاق فدل أن السبب هو الرأس, والوقت شرط الوجوب كوقت الحج. وكذلك وصف المؤنة يرجح الرأس في كونه سببا; لأن هذه الصدقة وجبت وجوب المؤن فإن النبي عليه السلام أجراها مجرى المؤن في قوله: "أدوا عمن تمونون" . أي تحملوا هذه المؤنة عمن وجب عليكم مؤنتهم. والأصل في وجوب المؤن رأس يلي عليه لا الوقت فإن نفقة العبيد والدواب تجب بالرأس لا بالوقت إذ الرأس هو المحتاج إلى المؤنة دون الوقت, وكذلك مؤنة الشيء سبب لبقائه وذلك يتصور في الرأس دون الوقت فكان الرأس سبب الوجوب كما هو سبب وجوب النفقة, والفطر عن رمضان شرطه كالإقامة في حق المسافر والمراد بالفطر اليوم لا الفطر عن الصوم فإنه يكون كل ليلة فيكون المراد فطرا مخصوصا, وهو الفطر في وقت الصوم فإنه يتصف بهما والليل لا يتصف بالصوم شرعا والفطر بناء عليه فكان اليوم وقتا له. وقد بينا معنى المؤنة منه أي من هذا(2/509)
إليه ولم يتكرر قال الله تعالى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} "آل عمران: 97", وأما الوقت فهو شرط الأداء بدلالة أنه لا يتكرر بتكرره غير أن الأداء شرع متفرقا منقسما على أمكنة وأزمنة يشتمل عليها جملة وقت الحج فلم يصلح تغير الترتيب كما لا يصلح السجود قبل الركوع فلذلك لم يجز طواف الزيارة قبل يوم النحر والوقوف قبل يوم عرفة.
ـــــــ
الواجب في موضعه. وذكر الشيخ في نسخة من نسخ أصول الفقه التي صنفها أن الإنسان يحتاج إلى صيانة دينه, وإصلاحه كما يحتاج إلى صيانة نفسه بالإنفاق عليها, وهذه الصدقة مؤنة شرعية وجبت لإصلاح عبادة الصوم حيث قال عليه السلام: "صدقة الفطر طهرة للصائم عن اللغو والرفث" 1. والنفقة لإصلاح البدن والعبد محتاج إليهما جميعا فهذا هو معنى المؤنة فيها. وذكر الشيخ أبو الفضل الكرماني رحمه الله في إشارات الأسرار أن السبب رأس يمونه ويلي عليه والدليل عليه قوله عليه السلام: "صدقة الفطر طهرة للصائمين وطعمة للمساكين" فقوله طهرة إشارة إلى معنى العبادة, وقوله طعمة إشارة إلى معنى المؤنة فكانت الصدقة مشتملة على الوصفين معنى العبادة والمؤنة فتعلقت برأس يمونه ويلي عليه; لأن الولاية من باب العبادة والمؤنة من باب الغرامة ليكون الحكم على وفاق السبب ولهذا تضاف إلى الرأس فيقال زكاة الرأس وتضاف إلى الوقت أيضا فيقال زكاة الفطر والمراد به وقته فكانت الإضافة إلى الرأس إضافة الأحكام إلى أسبابها, والإضافة إلى الوقت على سبيل الشرطية; لأنه ظرف إذ لو قلت الوقت سبب لكانت الإضافة إلى الرأس لغوا. قال وذكر القاضي الإمام أبو نصر الزوزني رحمه الله: أن السبب كلاهما الرأس والوقت فكان حكما معلقا بعلة ذات وصفين ثم قال والمسائل تستغني عن هذا الأصل.
قوله "وسبب وجوب الحج البيت" دون الوقت; لأنه نسب إليه, ولو يتكرر أي لم يجب إلا مرة; لأن السبب, وهو البيت غير متجدد. قال أبو اليسر إن للبيت حرمة شرعا فيجوز أن يصير سببا لزيارته شرعا فإن المكان المحترم قد يزار تعظيما له واحتراما إلا أن احترامه لله تعالى فيكون زيارته تعظيما لله عز وجل لا له; ولأن هذا البيت لحرمته أمان للخلق فكان نعمة في نفسه فصار سببا لكونه نعمة., وأما الوقت فهو شرط الأداء أي شرط جواز الأداء لعدم صحة الأداء بدونه, وليس بسبب للوجوب بدليل أنه لا يتكرر بتكرره, ولم ينسب إليه أيضا. وتوقف صحة الأداء عليه مع انتفاء التكرر بتكرره دليل الشرطية, غير أن الأداء أي لكن الأداء جواب عما يقال: وقت الحج أشهر الحج, وهي شوال وذو القعدة وعشر
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الزكاة حديث رقم 1609، وابن ماجه في الزكاة، حديث رقم 1827.(2/510)
وأما الاستطاعة بالمال فشرط لا سبب لما ذكرنا أنه لا ينسب إليه, ولا يتكرر بتكرره ويصح الأداء دونه من الفقر ألا ترى أنها عبادة بدنية فلا يصلح المال سببا لها, ولكنها عبادة هجرة وزيادة فكان البيت سببا لها.وسبب وجوب العشر الأرض النامية بحقيقة الخارج; لأن العشر ينسب إلى الأرض, وفي العشر
ـــــــ
من ذي الحجة, والأداء غير جائز لأول شوال فكيف يقال إنه شرط الأداء فعلم أنه سبب الوجوب إذ لو لم يكن سببا له لم يكن إضافة الوقت إليه مفيدة, وقد يقال أشهر الحج كما يقال وقت الصلاة فدل أنه سبب. فقال: الوقت شرط الأداء كما ذكرنا ويجوز الأداء بعد دخوله لكن هذه عبادة ذات أركان شرع أداؤها متفرقا منقسما على أمكنة, وأزمنة واختص كل ركن بوقت على حدة كما اختص بمكان مخصوص فلم يجز قبل وقته الخاص كما لا يجوز في غير مكانه فلذلك لم يجز طواف الزيارة يوم عرفة مع أنه وقت أداء الركن الأعظم, وهو الوقوف, ولم يجز رمي اليوم الثاني في اليوم الأول, ولا قبل الزوال حتى أن ما كان منها غير موقت بوقت خاص يتأدى في جميع وقت الحج كالسعي فإن من طاف وسعى في رمضان لم يكن سعيه معتدا به من سعي الحج حتى إذا طاف للزيارة يوم النحر يلزمه السعي, ولو كان طاف وسعى في شوال كان سعيه معتدا به حتى لم يلزمه إعادته يوم النحر; لأن السعي غير موقت بوقت خاص فجاز أداؤه في أشهر الحج. وأما الاستطاعة بالمال فشرط أي شرط لوجوب الأداء لا لجوازه فإن الأداء صحيح من الفقير, وإن كان لا يملك شيئا, ولكنها شرط وجوب الأداء فإن السفر الذي يوصله إلى الأداء لا يتهيأ له بدون الزاد والراحلة إلا بحرج عظيم, وهو مدفوع فعرفنا أن المال شرط وجوب الأداء لا أنه سبب. والدليل عليه أن تفسير الاستطاعة ملك الزاد والراحلة, والأداء قبل ملكهما جائز كما ذكرنا لوجود السبب كما يجوز للمسافر أن يصوم قبل الإقامة; لأن السبب قد وجد, وكذلك لا يتجدد الوجوب بتجدد الاستطاعة, ولا يضاف إليها كما لا يضاف إلى الوقت, ولا يتجدد بتجدده فعلم أن الاستطاعة شرط كالوقت فصار تأويل الآية - والله أعلم – {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ} المستطيعين {حَجَّ الْبَيْتَ} حقا واجبا بسببه إذا جاء وقت الأداء كذا في التقويم.
قوله "وسبب وجوب العشر الأرض النامية بحقيقة الخارج" الباء يتعلق بالنامية, وهو احتراز عن الخراج فإن سببه الأرض بالنماء التقديري, وعند الشافعي الخارج سبب وجوب العشر, والأرض سبب وجوب الخراج حتى أنهما يجتمعان في أرض واحدة إن كانت الأرض خراجية; لأن العشر يتعلق بالخارج ويتكرر بتكرره ولهذا لا يجوز تعجيله, ولو كان الأرض هي السبب لجاز تعجيله كالخراج, وكالزكاة قبل الحول. ولنا أنه ينسب إلى الأرض(2/511)
معنى مؤنة الأرض; لأنها أصل, وفيه معنى العبادة; لأن الخارج للسبب وصف وصار السبب بتجدد وصفه متجددا في التقدير فلم يجز التعجيل قبل الخارج; لأن الخارج بمعنى السبب لوصف العبادة فلو صح التعجيل لخلص معنى
ـــــــ
يقال عشر الأراضي, والأرض توصف به فيقال أرض عشرية, والشيء يضاف إلى سببه في الأصل, ويتصف السبب بحكمه, والدليل عليه أن هذا حق مالي وجب لله تعالى فكان سببه مالا ناميا, والخارج غير موصوف بصفة النماء بل معد للانتفاع والإتلاف إنما الأرض هي الموصوفة به إلا أن نماء الأرض على وجهين نماء حقيقي, وهو الخارج ونماء حكمي, وهو التمكن من الانتفاع والزراعة, وكل واحد منهما يصلح سببا لوجوب حق الله تعالى كما في الزكاة فإنها تارة تجب بنماء حقيقي, وهو نماء الإسامة من الدر والنسل وتارة تجب بالنماء الحكمي, وهو كون المال معدا للتجارة فالعشر يتعلق بالنماء الحقيقي; لأنه مقدر بجزء من الخارج فلا يمكن أداؤه إلا بعد تحقق الخارج, والخراج مقدر بالدرهم فجاز أن يكون متعلقا بالنماء الحكمي.
"وفي العشر معنى المؤنة" أي وجوب العشر معنى مؤنة الأراضي; لأنها أي الأراضي أصل في وجوبه يعني إذا وجب العشر يجب مؤنة للأرض حتى لا يشترط فيه الأهلية الكاملة; لأن الله تعالى حكم ببقاء العالم إلى الحين الموعود, وسبب بقائه هو الأرض فإن القوت منها يخرج فوجب العشر, والخراج عمارة لها ونفقة عليها كما وجب على الملاك مؤنة عبيدهم ودوابهم وعمارة دورهم وعمارة الأراضي وبقاؤها بجماعة المسلمين; لأنهم يذبون عن الدار ويصونونها عن الأعداء فوجب الخراج للمقاتلة كفاية لهم ليتمكنوا من إقامة النصرة. والعشر للمحتاجين كفاية لهم; لأنهم هم الذابون عن حريم الإسلام معنى كما قال عليه السلام يوم بدر: "إنكم تنصرون بضعفائكم1" . فكان الصرف إليهم صرفا إلى الأرض وإنفاقا عليها فهذا هو معنى المؤنة فيه. وفيه معنى العبادة أيضا باعتبار كون الواجب جزءا من النماء قليلا من كثير كالزكاة تتعلق بالمال النامي بهذه الصفة فاشتمل على معنى المؤنة والعبادة, ولما كانت الأرض التي هي سبب لوجوبه أصلا والنماء الذي تعلق به معنى العبادة وصفا لها كان معنى المؤنة فيه أصلا, ومعنى العبادة فيه تبعا, وقوله: وصار السبب بتجدد وصفه متجددا جواب عن استدلال الخصم يعني تكرر الواجب عند تكرر الخارج باعتبار تجدد الأرض به تقديرا لا باعتبار أن الخارج سبب كما
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في الجهاذ حديث رقم 1702 وأبو داود في الجهاد حديث رقم 2594 والإمام أحمد في المسند 1/173 و 5/198.(2/512)
المؤنة فلما صارت الأرض نامية أشبه تعجيل زكاة السائمة والإبل العلوفة ثم أسامها.
وكذلك سبب الخراج إلا أن النماء معتبر في الخراج تقديرا لا تحقيقا بالتمكن به من الزراعة فصار مؤنة باعتبار الأصل وعقوبة باعتبار الوصف; لأن الزراعة عمارة الدنيا, وإعراض عن الجهاد فكان سببا لضرب من المذلة ولذلك لم
ـــــــ
قلنا في النصاب الواحد بتكرر الحول والرأس الواحد بتجدد الفطر, ولا يتكرر الخراج في سنة واحدة; لأن النماء التقديري غير متكرر. ولم يجز التعجيل أي تعجيل العشر قبل الخارج; لأن الخارج لما جعل بمعنى السبب لوصف العبادة في العشر كان التعجيل قبل الخارج مفوتا لمعنى العبادة عنه, ومبطلا له لاستحالة حصول المسبب قبل السبب, وإذا بطل معنى العبادة عنه بقي مؤنة خالصة متعلقة بالأرض وحدها, وهذا تغيير له فلا يجوز فصار تعجيل العشر قبل الخارج كتعجيل الزكاة في الإبل الحوامل والعلوفة قبل الإسامة بخلاف الخراج فإن تعجيله يجوز; لأنه مؤنة محضة, ولا يؤدي التعجيل فيه إلى تغيير كما يجوز تعجيل الزكاة بعد ملك النصاب النامي; لأنه لا يؤدي إلى التغيير.
قوله "وكذلك سبب الخراج" أي, وكما أن سبب العشر الأرض فإن سبب الخراج الأرض النامية أيضا لكن النماء معتبر في الخراج تقديرا لا تحقيقا بالتمكن من الزراعة لما قلنا إن الواجب من غير جنس الخارج فلم يتعلق بحقيقة الخارج وعلق بالتمكن من الزراعة لئلا يتعطل حق المقاتلة. فصار مؤنة باعتبار الأصل أي باعتبار تعلقه بأصل الأرض كما بينا في العشر, وعقوبة باعتبار الوصف, وهو التمكن من طلب النماء بالزراعة; لأن الاشتغال بالزراعة عمارة الدنيا, وإعراض عن الجهاد فيصلح سببا للمذلة التي هي نوع عقوبة; لأن عمارة الأرض من صنيع الكفار وعادتهم, وقد ذمهم الله تعالى بذلك في قوله عز اسمه: {وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} "الروم: 9". وقال عليه السلام: "إذا تبايعتم بالعينة واتبعتم أذناب البقر ذللتم وظهر عليكم عدوكم1" : "ورأى النبي عليه السلام شيئا من آلات الزراعة في بيت فقال "ما دخل هذا بيت قوم إلا ذلوا" ولهذا كان أصل الخراج على الكافر حيث لم يقبل الإسلام واشتغل بعمارة الدنيا فوضع عليهم الخراج لضرب من المذلة كما وضعت الجزية على رءوسهم لذلك, والخراج في الأراضي أصل; لأنه كان موجودا قبل الإسلام إلا أن الشرع نقل عنه إلى العشر في حق المسلم, وأوجب الصرف إلى مصارف الزكاة ليتصل به نوع عبادة تكرمة للمسلمين; ولهذا ل يبتدأ الخراج على المسلم; لأن فيه نوع صغار, ومذلة وجاز البقاء باعتبار المؤنة. ولا يقال بأن وجود الخارج لا
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود فلي البيوع حديث رقم 3462 والإمام أحمد في المسند 2/84.(2/513)
يجتمعا عندنا.
وسبب وجوب الطهارة الصلاة; لأنها تنسب إليها وتقوم بها, وهو شرطها فتعلق بها حتى لم يجب قصدا لكن عند إرادة الصلاة والحدث شرطه بمنزلة سائر شروط الصلاة, ومن المحال أن يجعل الحدث سببا ألا يرى أنه إزالة
ـــــــ
ينفك عن الزراعة, ومع ذلك يجب العشر; لأنه اعتبر في حق وجوب العشر اكتساب المال فقط كاكتساب مال تجب فيه الزكاة; لأن عمارة الدنيا والاشتغال بها في حق الكفار أصل, وفي حق المسلم عارض فلا يعتبر العارض في جعل العشر عقوبة.; ولأن الاشتغال بالزراعة مع الإعراض عن الدين والجهاد سبب للمذلة لا نفس الزراعة قال عليه السلام: "اطلبوا الرزق في خبايا الأرض" ,ولا يتحقق الإعراض في حق المسلم فكانت اكتسابا; ولأن معنى الزراعة غير معتبر في العشر حتى وجب العشر إن خرج من الأرض شيء من غير أن يزرع, ولذلك لم يجتمعا عندنا أي; ولأن سبب كل واحد منهما الأرض النامية لا يجتمع العشر والخراج في أرض واحدة وجوبا; لأن كل واحد مؤنة, وفي العشر معنى العبادة, وفي الخراج معنى المذلة والعقوبة وبسبب واحد لا يجب حكمان مختلفان. وقولهم: محل كل واحد مختلف لا يغني عنهم شيئا; لأن المحل قد يكون متحدا أيضا إذ الخراج قد يكون مقاسمة, وقد روى الإملي في مسنده عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يجتمع في أرض مسلم عشر وخراج" . وكذلك أئمة العدل والجور لم يشتغلوا بذلك مع كثرة احتيالهم لأخذ المال.
قوله "وسبب وجوب الطهارة الصلاة" اختلفوا في سبب وجوب الوضوء فقيل سببه الحدث لا الصلاة; لأن النبي عليه السلام: "لا وضوء إلا عن حدث" . وحرف عن في مثل هذا الموضع يدل على السببية كما قلنا في قوله عليه السلام: "أدوا عمن تمونون" . ولأنه يتكرر بتكرر الحدث وتكرر الصلاة بتكرر الوقت, ولا يتكرر بتكرر الصلاة فإنه متى قام إلى الصلاة, وهو طاهر لا يجب عليه الوضوء فعلمنا أن السبب هو الحدث., ولا معنى لقول من قال إنه لا يجتمع مع الوضوء فكيف يجعل سببا له; لأنا إنما جعلناه سببا لوجوب الوضوء لا لحصوله, ولا نسلم أنه لا يجتمع مع وجوبه. والصحيح أن سبب وجوب الطهارة الصلاة أعني وجوب الصلاة أو إرادة الصلاة; لأنها أي الطهارة تضاف إلى الصلاة شرعا وعرفا يقال طهارة الصلاة وتطهر للصلاة والإضافة دليل السببية في الأصل. وتقوم بها أي تثبت الطهارة بالصلاة حتى وجبت بوجوب الصلاة وسقطت بسقوطها, وهذا التعلق دليل السببية أيضا, وهي أي الطهارة شرط الصلاة, وما يكون شرطا للشيء كان وجوبه بوجوب الأصل كاستقبال القبلة وستر العورة وطهارة الثوب في الصلاة فإن وجوبها متعلق(2/514)
له وتبديل فلا يصلح سببا له, وأما أسباب الحدود والعقوبات فما نسب إليه من قتل وزنا وسرقة.
وسبب الكفارات ما نسب إليه من أمر دائر بين حظر, وإباحة مثل
ـــــــ
وجوب الصلاة, وكالشهادة في النكاح ثبوتها بثبوت النكاح., وهذا; لأن الشرط تبع للمشروط فيتعلق به فلو تعلق بسبب آخر كان تبعا له فلا يبقى تبعا للمشروط. ولا نسلم أن وجوب الوضوء يتكرر بتكرر الحدث بل يتكرر بتكرر الصلاة إلا أن الحدث شرط وجوبه كالاستطاعة في الحج; لأن الغرض منه تحصيل صفة الطهارة لحل الصلاة فإذا كانت هذه الصفة حاصلة لا يؤثر السبب في إيجابه كاستقبال القبلة وستر العورة وطهارة الثوب إذا كانت حاصلة لا يجب تحصيلها, وإن وجد السبب فكذا هاهنا. والدليل على أن الحدث ليس بسبب أن الوضوء على الوضوء مشروع حتى كان نورا على نور وبعد تحقق الحدث لا يجب بدون وجوب الصلاة فإن الجنب إذا حاضت لا يجب عليها الاغتسال ما لم تطهر. حتى لم تجب قصدا لكنها عند إرادة الصلاة حتى قيل إن من توضأ, ولم يصل بذلك الوضوء خاصمه ذلك الوضوء يوم القيامة وروي في ذلك حديث. ألا يرى أنه أي الحدث إزالة له أي للوضوء وتبديل لصفة الطهارة بصفة النجاسة, وما يكون رافعا للشيء, ومزيلا له لا يصلح سببا له. ولا يتخالجن في وهمك أن الطهارة شرط الصلاة بالاتفاق فيمنع ذلك من إضافتها إلى الصلاة; لأن كونها شرطا لها يقتضي تقدمها, وكونها مضافة إلى الصلاة وحكما لها يقتضي تأخرها فلا يمكن اجتماعهما فيضاف إلى الحدث; لأن وجودها شرط صحة أداء الصلاة لا وجوب الصلاة فكونها شرطا للأداء لا يمنع من إضافة وجوبها إلى وجوب الصلاة لتغايرهما. ولا يقال لو كان وجوبها مضافا إلى الصلاة ينبغي أن لا يجوز التوضؤ قبل الوقت; لأنه يؤدي إلى تقديم الحكم على السبب; لأنا نقول وجوب الصلاة, وإرادتها سبب لوجوب الطهارة لا لشرعيتها ووجوبها لا يثبت قبله إلا أنه لما توضأ قبل ودام وصف الطهارة إلى حال الأداء لا يجب عليه إعادة الوضوء لحصول الشرط كما إذا ستر العورة أو استقبل القبلة قبل الوقت واستدام إلى حال الأداء إذ الشرط يراعى وجوده لا وجوده قصدا.
قوله "وسبب الكفارات" أي سبب وجوبها ما أضيفت الكفارات إليه من أمر دائر أي متردد بين حظر, وإباحة. مثل الفطر في رمضان بصفة الجنابة فإنه من حيث إنه يلاقي فعل نفسه الذي هو مملوك له مباح, ومن حيث إنه جناية على العبادة محظور, كذا في شرح التقويم, وفيه وجه آخر يعرف في باب معرفة الأسباب. "وقتل الخطأ"; لأنه دائر بين الحظر والإباحة فمن حيث إنه لم يقصد القتل بل قصد الصيد ونحوه مباح, ومن حيث(2/515)
الفطر, وقتل الخاطئ وقتل الصيد واليمين ونحوها, وقتل العمد واليمين الغموس
ـــــــ
إنه مقصر محظور, "وقتل الصيد" فإنه مباح من حيث إنه اصطياد, ومحظور من حيث إنه جناية على الإحرام. وكذا الارتفاق باللبس والطيب والأهل فإن هذه الأشياء حلال في ذواتها إلا أنها حرمت عليه لمعنى في غيرها, وهو تحقيق معنى السفر فإن العادة جرت أن المسافر لا يتمتع بأهله, وماله إلا بعد بلوغه بما له فالله تعالى حرم التمتع بهذه الأشياء في هذا السفر لتحقيق معنى السفر فكانت حراما لمعنى في غيرها فدارت بين الحظر والإباحة فصلحت سببا للكفارة ولهذا لا يجب شيء من الكفارات على الصبي فإنها لما كانت دائرة بين العبادة والعقوبة, والعبادات شرعت ابتلاء, والصبي ليس من أهل الابتلاء, والعقوبات شرعت جزاء فعل محظور, وفعله لا يوصف بالحظر فلا يجب الكفارة عليه, كذا ذكر الشيخ رحمه الله.
واليمين. اليمين سبب للكفارة بلا خلاف لإضافة الكفارة إليها شرعا وعرفا قال الله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} "المائدة 89". ويقال كفارة اليمين إلا أنها سبب بصفة كونها معقودة عندنا وشرط وجوبها فوات البر, وموجبها الأصلي وجوب البر والكفارة وجبت خلفا عنه عند فواته ليصير باعتبارها كأنه تم على بره. وعند الشافعي رحمه الله هي سبب بصفة كونها مقصودة ويجب الكفارة بها أصلا لا خلفا عن البر, وشرطها فوت الصدق من الخبر الذي عقد عليه اليمين فيجب الكفارة في الغموس لوجود الشرط. هو يقول الكفارة مؤاخذة شرعت سترا للذنب, ومحوا للإثم فيتعلق بارتكاب محظور, وهو هتك حرمة اسم الله جل جلاله كالتوبة تجب بارتكاب الذنب محوا له ثم الهتك لا يحصل إلا عن قصد فأخرج الشرع اللغو عن السببية لعدم القصد وبقيت الغموس والمنعقدة سببين للكفارة باعتبار صفة القصد, وإليه أشير في قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} "البقرة 225",وقلنا نحن لما كانت الكفارة مشتملة على صفة العبادة والعقوبة لكونها عبادة في ذاتها, وكونها أجزية استدعت سببا دائرا بين الحظر والإباحة كما قلنا, ولم يوجد ذلك إلا في المنعقدة فيكون اليمين بصفة كونها معقودة سببا للكفارة ثم إن الحالف لما أكد المحلوف عليه بذكر اسم الله تعالى حرم عليه هتك حرمته, والاحتراز عن الهتك لا يحصل إلا البر فوجب البر باليمين احترازا عن الوقوع في المحرم كما وجب الكف عن الزنا فرارا عن الوقوع في المحرم فإذا فات البر وحصل الهتك وجبت الكفارة خلفا عن البر ليصير كأن لم يفت بأداء الكفارة ودفع الهتك فهذا هو تحقيق معنى الخلافة فيها. فإن قيل الخلف يجب بالسبب الذي وجب به الأصل فلا بد من أن يكون قائما ليثبت الخلف به أولا ثم يقام مقام الأصل.(2/516)
, وأشباه ذلك لا يصلح سببا للكفارة ويفسر ذلك في موضعه إن شاء الله عز وجل.وسبب المعاملات تعلق البقاء المقدور بتعاطيها, والبقاء معلق
ـــــــ
وهاهنا اليمين قد انحلت بالحنث وصارت معدومة فكيف يجعل سببا للكفارة. قلنا هذا يلزمك أيضا فإنك تجعلها موجبة للكفارة عند الحنث لا قبله فكيف تقول بالوجوب حالة الانحلال. ثم تقول إنها قد انحلت في حق البر لفواته وصارت سببا للكفارة الآن فهي منحلة معدومة في حق الحكم الأصلي, وهو البر, وهي قائمة لتصير سببا للكفارة فكانت واجبة بذلك السبب بعينه لكنه بطل في حق البر وانقلب سببا للكفارة إلا أن من شرط انعقاده سببا للكفارة أن يكون منعقدا لوجوب البر ابتداء; لأن الكفارة خلف عنه فيصير البر بعد فواته مبقى بالكفارة, وباقي الكلام مذكور في إشارات الأسرار.
قوله "ونحوها" مثل الظهار فإنه من حيث إنه كان طلاقا مباح, ومن حيث إنه منكر من القول محظور فيصلح سببا للكفارة. وذكر الشيخ أن الظهار مع العود سبب للكفارة فإن الظهار محظور والعود مباح فإذا اجتمعا صار السبب دائرا بين الحظر والإباحة قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} "المجادلة: 3". الآية أضاف إليهما, وإنما ذكر بكلمة ثم, وهي كلمة التراخي; لأن المظاهر عزم على التحريم, والظاهر أن من عزم على شيء لا يرجع من ساعته فأدخل كلمة التأخير بناء على العادة, وتفسير ذلك أي بيان كون هذه الأشياء دائرة بين الحظر والإباحة أو بيان أن العمد والغموس, وأشباههما لا يصلح سببا. نذكره في موضعه أي في المبسوط إن كان تصنيفه بعد تصنيف هذا الكتاب أو في هذا الكتاب بعد باب القياس.
قوله "وسبب المعاملات" أي سبب شرعيتها "تعلق البقاء المقدور" أي المحكوم من الله تعالى واللام للعهد. بتعاطيها أي بمباشرتها من قولك فلان يتعاطى كذا أي يخوض فيه ويتناوله. فإن قيل لما كان البقاء متعلقا بها كانت هي سببا للبقاء فكيف يكون البقاء سببا لها ؟. قلنا: وجودها سبب للبقاء, ولكن تعلق البقاء وافتقاره إليها سبب لشرعيتها, وهو أمر سابق على شرعيتها فيصلح سببا. وبيانه ما ذكر المشايخ الثلاثة القاضي الإمام أبو زيد وشمس الأئمة والشيخ المصنف رضي الله عنهم أن الله تعالى خلق هذا العالم, وقدر بقاءه إلى قيام الساعة, وهذا البقاء إنما يكون ببقاء الجنس وبقاء النفس, فبقاء الجنس بالتناسل, وذلك بإتيان الذكور الإناث في مواضع الحرث فشرع له طريق يتأدى به ما قدر الله عز وجل من غير أن يتصل به فساد, ولا ضياع, وهو طريق الازدواج بلا شركة; لأن في التغلب فسادا, وفي الشركة ضياعا فإن الأب متى اشتبه يتعذر إيجاب المؤنة عليه, وليس للأم قوة كسب الكفايات في أصل الجبلة. وكذا لا طريق لبقاء النفس إلى أجله غير إصابة(2/517)
بالنسل, والكفاية وطريقها أسباب شرعية موضوعة للملك والاختصاص.
ـــــــ
المال بعضهم من بعض, وما يحتاج إليه كل نفس لكفايتها لا يكون حاصلا في يدها, وإنما يتمكن من تحصيله بالمال فشرع سبب اكتساب المال وسبب اكتساب ما فيه كفاية لكل أحد, وهو التجارة عن تراض لما في التغالب من الفساد والله لا يحب الفساد.
هذا الذي ذكرنا هو طريقة القاضي الإمام أبي زيد وتابعه فيها عامة المتأخرين من المشايخ.
فأما المتقدمون من أصحابنا فقالوا سبب وجوب العبادات نعم الله تعالى على كل واحد من عباده فإنه تعالى أسدى إلى كل واحد منا من أنواع النعم ما يقصر العقول عن الوقوف على كنهها فضلا عن القيام بشكرها, وأوجب هذه العبادات علينا بإزائها, ورضي بها شكرا لسوابغ نعمه بفضله وكرمه, وإن كان بحيث لا يمكن لأحد الخروج عن شكر نعمه, وإن قلت مدة عمره وإن طالت, وهذا; لأن شكر النعمة واجب بلا شك عقلا أو نصا على ما قال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} "لقمان: 14",وقال عليه السلام: "من أنزلت عليه نعمة فليشكرها" . في نصوص كثيرة وردت فيه وكل عبادة صالحة لكونها شكرا لنعمة من النعم. وقد ورد النص الدال على كون العبادة شكرا, وهو ما روي: "أنه عليه السلام صلى حتى تورمت قدماه فقيل له إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك, وما تأخر قال: "أفلا أكون عبدا شكورا1" . أخبر أنه يصلي لله تعالى شكرا على ما أنعم عليه. ثم نعم الله تعالى على عباده أجناس مختلفة, منها إيجاده من العدم وتكريمه بالعقل والحواس الباطنة. ومنها الأعضاء السليمة, وما يحصل له بها من التقلب والانتقال من حالة إلى ما يخالفها من نحو القيام والقعود والانحناء. ومنها ما يصل إليه من منافع الأطعمة الشهية والاستمتاع بصنوف المأكولات. ومنها صنوف الأموال التي بها يتوصل إلى تحصيل منافع النفس ودفع المضار عنها فعلى حسب اختلافها وجبت العبادات. فالإيمان وجب شكرا لنعمة الوجود, وقوة النطق, وكمال العقل الذي هو أنفس المواهب التي اختص الإنسان بها من بين سائر الحيوانات وغيرها من النعم فالوجوب بإيجاب الله تعالى لكن بالعقل يعرف أن شكر المنعم واجب فكان النعم معرفا له وجوب شكر المنعم بواسطة آلة المعرفة, وهي العقل, وهذا معنى قول الناس العقل موجب أي دليل, ومعرف لوجوب الإيمان بالنظر في سببه
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في الرقاق ومسلم في صفات المنافقين حديث رقم 2819 والترمذي في الصلاة حديث رقم 412 وابن ماجة في إقامة الصلاة حديث رقم 1741 والإمام أحمد في المسند 6/115.(2/518)
---------------------------------------------------------
ـــــــ
وهو النعم بالعقل. ووجبت الصلاة شكرا لنعمة الأعضاء السليمة فيعرف بما يلحقه من المشقة قدر الراحة التي ينالها بالتقلب على حسب إرادته إذ النعمة مجهولة فإذا فقدت عرفت. ووجب الصوم شكرا لنعمة اقتضاء الشهوات والاستمتاع بها مدة فيعرف بما يقاسي من مرارة الجوع وشدة الظمأ في الهواجر قدر ما يتناول من صنوف الأطعمة الشهية والأشربة الباردة. ووجبت الزكاة شكرا لنعمة المال فيعرف بما يجد طبيعته من المشقة في زوال المحبوب إلى من لا يتحمل له منه, ولا تكثر له عددا, ولا يطمع منه مكافأة قدر ما حول من أصناف المال وأوتي من النشطة في فنونها. ووجب الحج شكرا للنعمة أيضا فإن الله تعالى لما أضاف البيت إلى نفسه كرامة له, وإظهارا لشرفه صار أمان الخلق لحرمته فوجب زيارته أداء لشكر هذه النعمة وتحصيلا للأمان من النيران وليعرف بمقاساة شدائد السفر قدر التقلب في النعم في حالة الإقامة بين الأهل والأولاد.
فثبت بما ذكرنا أن أسباب هذه العبادات النعم. وإلى هذا الطريق مال صدر الإسلام أبو اليسر وشيخ الإسلام علاء الدين صاحب الميزان من المتأخرين, والله أعلم. وإذ قد فرغنا عن شرح القسم الأول من الكتاب بتوفيق الملك العزيز الوهاب, كاشفين للحجب عن حقائق معانيه, رافعين للأستار عن دقائق مبانيه, فلننتقل إلى تحقيق القسم الثاني وتقريره, مستمدين للتوفيق من الله عز وجل على تهديته وتنقيره, شاكرين له على نعمه, وأفضاله, ومصلين على خير البرية محمد وآله, والحمد لله أولا وآخرا.(2/519)
"باب بيان أقسام السنة"
قال الشيخ الإمام رضي الله عنه اعلم أن سنة النبي عليه السلام جامعة للأمر والنهي والخاص والعام وسائر الأقسام التي سبق ذكرها, وكانت السنة فرعا للكتاب في بيان تلك الأقسام بأحكامها فلا نعيدها, وإنما هذا الباب لبيان وجوه الاتصال وما يتصل بها فيما يفارق الكتاب وتختص السنن به وذلك أربعة أقسام قسم في كيفية الاتصال بنا من رسول الله عليه السلام, وقسم في الانقطاع,
ـــــــ
"باب بيان أقسام السنة"
إنما اختار لفظ السنة دون لفظ الخبر كما ذكر غيره; لأن لفظ السنة شامل لقول الرسول, وفعله عليه السلام, ومنطلق على طريقة الرسول والصحابة على ما مر بيانه والشيخ قد ألحق بآخر هذا القسم بيان أفعال النبي عليه السلام, وأقوال الصحابة رضوان الله عليهم فاختار لفظة تشمل الكل.
ثم السنة والمراد بها قول الرسول هاهنا تشارك الكتاب في الأقسام المذكورة من الخاص إلى المقتضى; لأن قوله عليه السلام حجة مثل الكتاب, وهو كلام مستجمع لوجوه الفصاحة والبلاغة فيجري فيه هذه الأقسام أيضا ويكون بيانها في الكتاب بيانا فيها; لأنها فرع الكتاب في كونها حجة. وتفارقه في طرق الاتصال إلينا فإن الكتاب ليس له إلا طريق واحد, وهو التواتر وللسنة طرق مختلفة كما ستقف عليها فهذا الباب, وهو الذي شرع فيه إلى باب المعارضة لبيان تلك الطرق, وما يتعلق بها., وقوله ويختص السنن به تأكيد, ولا يقال التواتر لا يختص بالسنن بل هو موجود في الكتاب فكيف يصح إيراده هاهنا; لأنا نقول اختلاف الطرق مختص بالسنن والتواتر داخل في الطرق فيصح إيراده., ولما كان هذا القسم كلاما في أخبار لا بد من بيان حقيقة الخبر, وأقسامه.
فنقول: الخبر يطلق على قول مخصوص من الأقوال ويطلق على الإشارات الحالية والدلالات المعنوية كما يقال أخبرتني عيناك. ومنه قول أبي الطيب:
وكم لظلام الليل عندي من يد ... تخبر أن المانوية تكذب
ولكنه حقيقة في الأول لتبادر الفهم إليه عند إطلاق لفظ الخبر دون الثاني, واختلفوا(2/520)
وقسم في بيان محل الخبر الذي جعل حجة فيه وقسم في بيان نفس الخبر فأما الاتصال برسول الله عليه السلام فعلى مراتب اتصال كامل بلا شبهة واتصال فيه ضرب شبهة صورة, واتصال فيه شبهة صورة, ومعنى أما المرتبة الأولى فهو المتواتر.وهذا
ـــــــ
في تحديده فقيل إنه لا يحد; لأنه ضروري التصور إذ كل واحد يعلم بالضرورة الموضع الذي يحسن فيه الخبر ويفرق بينه وبين الموضع الذي يحسن فيه الأمر, ولولا أن هذه الحقائق متصورة ضرورة لما كان كذلك. ورد بأن العلم الضروري بالتفرقة بين ما يحسن فيه الأمر, وما يحسن فيه الخبر بعد معرفتهما أما قبل ذلك فغير مسلم, وقيل هو الكلام الذي يدخل فيه الصدق والكذب, وقيل يدخله التصديق والتكذيب, وقيل يحتمل الصدق والكذب.
واعترض على هذه الحدود بأن خبر الله تعالى وخبر رسوله لا يدخلهما الكذب, ولا التكذيب, ولا يحتملان الكذب أيضا فلا تكون جامعة; ولأن صاحب الحد الأول, وهو الجبائي, ومن تابعه عرف الصدق بأنه الخبر الموافق لمخبره والكذب نقيضه فكان تعريفه الخبر بالصدق والكذب دورا. وقيل هو كلام يفيد بنفسه إضافة مذكور إلى مذكور بالنفي أو بالإثبات. واعترض عليه بأنه ليس بمانع لدخول نحو قولك الغلام الذي لزيد أو ليس لزيد فيه; لأنه كلام عند صاحب هذا الحد, وهو أبو الحسين البصري إذ الكلمة عنده كلام. ومختار بعض المتأخرين أن الخبر هو ما تركب من أمرين حكم فيه بنسبة أحدهما إلى الآخر نسبة خارجية يحسن السكوت عليها. وإنما قال أمرين دون كلمتين أو لفظين ليشمل الخبر النفساني., وقال حكم فيه بنسبة ليخرج ما تركب من غير نسبة. وقال يحسن السكوت عليها ليخرج المركبات التقييدية, وقيد النسبة بالخارجية ليخرج الأمر ونحوه إذ المراد بالخارجية أن يكون لتلك النسبة أمر خارجي بحيث يحكم بصدقها إن طابقته وبكذبها إن خالفته, وليس للأمر ونحوه ذلك.
ثم إنه ينقسم أقساما ثلاثة
خبر يعلم صدقه بيقين مثل خبر الرسول والخبر الموافق للكتاب, ونحو ذلك وخبر يعلم كذبه بيقين ما بضرورة العقل أو نظره أو الحس والمشاهدة كمن أخبر عن الجمع بين الضدين أو أخبر بما يحس بخلافه أو أخبر بما يخالف النص القاطع من الكتاب والسنة ونحو ذلك.
وخبر يحتمل الصدق والكذب, وهو على مراتب ما ترجح جانب صدقه كخبر العدل, وما ترجح جانب كذبه كخبر الفاسق, وما استوى طرفاه كخبر المجهول.(2/521)
"باب المتواتر"
قال الشيخ الإمام رحمه الله الخبر المتواتر الذي اتصل بك من رسول الله صلى الله عليه وسلم اتصالا بلا شبهة حتى صار كالمعاين المسموع منه وذلك أن يرويه
ـــــــ
فمن القسم الأول الخبر المتواتر, وهو خبر جماعة مفيد بنفسه العلم بصدقه, وقيد بنفسه ليخرج الخبر الذي عرف صدق القائلين فيه بالقرائن الزائدة كخبر جماعة وافق دليل العقل أو دل قول الصادق على صدقهم. والتواتر لغة تتابع أمور واحدا بعد واحد مأخوذ من الوتر يقال تواترت الكتب أي جاءت بعضها في إثر بعض وترا وترا من غير أن تنقطع, ومنه جاءوا تترى أي متتابعين واحدا بعد واحد., وإنما قيد الشيخ المتواتر بقوله اتصل بك من رسول الله صلى الله عليه وسلم; لأنه في بيان المتواتر من السنة إذ هو في بيان أقسامها فأما تعريف نفس المتواتر بالنظر إلى ذاته فلا يحتاج إلى هذا القيد كالخبر عن البلدان القاصية والملوك الماضية.
ثم اتفقوا على أن من شرطه تكثر المخبرين كثرة تمنع صدور الكذب منهم على سبيل الاتفاق وعلى سبيل المواضعة, وهو معنى قوله لا يتوهم تواطؤهم أي توافقهم على الكذب, وأن يكونوا عالمين بما أخبروا علما يستند إلى الحس لا إلى غيره كدليل العقل مثلا فإن أهل بغداد لو أخبروا عن حدث العالم لا يحصل لنا العلم بخبرهم. وأن يكون المخبرون في الطرفين والوسط مستوين في هذه الشروط أعني في الكثرة والاستناد, وإليه أشير بقوله ويدوم هذا الحد.
واختلفوا في أقل عدد يحصل معه العلم فقيل هو خمسة; لأن ما دونها كأربعة بينة شرعية يجوز للقاضي عرضها على المزكين ليحصل غلبة الظن, ولو كان العلم حاصلا بقول الأربعة لما كان كذلك.
وقيل اثنا عشر بعدد نقباء بني إسرائيل فإنهم خصوا بذلك العدد لحصول العلم بقولهم.
وقيل أربعون بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}(2/522)
قوم لا يحصى عددهم, ولا يتوهم تواطؤهم على الكذب لكثرتهم وعدالتهم وتباين أماكنهم ويدوم هذا الحد فيكون آخره كأوله, وأوسطه كطرفيه وذلك مثل نقل القرآن والصلوات الخمس, وأعداد الركعات ومقادير الزكوات وما أشبه
ـــــــ
"الأنفال: 64", وكانوا أربعين فلو لم يفد قولهم العلم لم يكونوا حسبا لاحتياجه إلى من يتواتر به أمره. وقيل سبعون لقوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا} "الأعراف: 155" وإنما خصهم لما مر.
ولا يخفى أن هذه تحكمات فاسدة, وأن ما تمسكوا به ليس شبهة فضلا عن حجة; لأنها مع تعارضها وعدم مناسبتها المطلوب مضطربة إذ ما من عدد يفرض حصول العلم به لقوم إلا ويمكن أن لا يحصل به لآخرين وللأولين في واقعة أخرى, ولو كان ذلك العدد هو الضابط لحصول العلم لما اختلف والصحيح أنه غير منحصر في عدد مخصوص. وضابطه ما حصل العلم عنده فبحصول العلم الضروري يستدل على أن العدد الذي هو كامل عند الله تعالى قد توافقوا على الأخبار لا أنا نستدل بكمال العدد على حصول العلم. والدليل على أنه غير مختص بعدد أنا نقطع بحصول العلم بالخبر المتواتر من غير علم بعدد مخصوص أصلا بل لو كلفنا أنفسنا معرفة ذلك العدد الحالة التي يكمل فيها لم نجد إليها في العادة سبيلا; لأنها تحصل بتزايد الظنون على تدريج خفي كما يحصل كمال العقل بالتدريج, وكما يحصل الشبع بالأكل, والري بالماء والسكر بالخمر بالتدريج والقوة البشرية قاصرة عن الوقوف على مثل ذلك.
ثم لفظ الكتاب يشير إلى شروط بعضها متفق عليه وبعضها مختلف فيه بقوله لا يتوهم تواطؤهم, وقوله ويدوم هذا الحد يشير كل واحد إلى شرط متفق عليه كما ذكرنا. وقوله وذلك أي صيرورته بمنزلة المسموع أن يرويه قوم لا يحصى عددهم يشير إلى اشتراط خروج عدد المخبرين عن الإحصاء والحصر, وإليه ذهب قوم; لأنهم متى كانوا محصين كان لإمكان التواطؤ مدخل في خبرهم عادة فشرط خروجهم عن الإحصاء والحصر دفعا لذلك الإمكان وذهب الجمهور إلى أنه ليس بشرط فإن الحجيج أو أهل الجامع لو أخبروا عن واقعة صدتهم عن الحج أو عن الصلاة يحصل العلم بخبرهم مع كونهم محصورين. وقوله: "وعدالتهم" يشير إلى اشتراط الإسلام والعدالة كما قاله; لأن الإسلام والعدالة ضابطا الصدق والتحقيق, والكفر والفسق مظنتا الكذب والمجازفة فشرط عدمهما. وعند العامة ليس بشرط للقطع, وقوله "وتباين أماكنهم" أي تباعدها(2/523)
ذلك, وهذا القسم يوجب علم اليقين بمنزلة العيان علما ضروريا, ومن الناس من أنكر العلم, بطريق الخبر أصلا, وهذا رجل سفيه لم يعرف نفسه, ولا دينه, ولا دنياه ولا أمه, ولا أباه مثل من أنكر العيان, وقال قوم إن المتواتر يوجب علم طمأنينة لا
ـــــــ
يشير إلى اشتراط اختلاف بلدانهم أو أوطانهم ومحلاتهم, وهو مختار البعض; لأنه أشد تأثيرا في دفع إمكان التواطؤ. وعند الجمهور لا يشترط ذلك أيضا لحصول العلم بأخبار متوطني بقعة واحدة أو بلدة واحدة; ولأن اشتراط الكثرة إلى كمال العدد كما بينا يدفع هذا الإمكان. وكأن الشيخ إنما أشار إلى هذه المعاني; لأنها أقطع للاحتمال, وأظهر في الإلزام على الخصوم, لا لأنها شرط حقيقة بحيث يتوقف ثبوت العلم بالتواتر عليها بل الشرط فيه حقيقة ما ذكرناه بدءا. والدليل عليه أنه أجاب عن أخبار المجوس, وأخبار اليهود بأن استواء الطرفين لم يوجد, ولم يجب بأنهم كانوا كفرة فلا يكون تواترهم موجبا للعلم حتى صار كالمعاين المسموع منه أي حتى صار هذا الخبر بمنزلة ما إذا عاينت الرسول عليه السلام وسمعته منه بحاسة سمعك, وليس لفظ المعاين في سائر الكتب والمذكور في التقويم, ومتى ارتفعت الشبهة ضاهى المتصل منه بك بحاسة سمعك., ولو قيل كالمعاين والمسموع لكان أحسن, ويحتمل أنه إنما ذكر لفظ المعاين; لأن سماع الكلام مع معاينة المتكلم والنظر إلى وجهه أقرب إلى الفهم من السماع بدون معاينته, وكان ينبغي على هذا أن يصف المتكلم بالمعاين دون الكلام إلا أنه جعل حركة الشفة التي تدرك بالبصر بمنزلة الكلام فيصح بهذا الطريق وصف الكلام بكونه معاينا كما يصح وصفه بكونه مسموعا, وما أشبه ذلك مثل أروش الجنايات, وأعداد الطواف والوقوف بعرفات.
قوله "وهذا القسم" ولما بين تفسير المتواتر وشروطه شرع في بيان حكمه فقال, وهذا القسم أي المتواتر من الأخبار "يوجب علم اليقين بمنزلة العيان علما ضروريا". وهو مذهب جمهور العقلاء وذهبت السمنية, وهم قوم من عبدة الأصنام. والبراهمة, وهم قوم من منكري الرسالة بأرض الهند إلى أن الخبر لا يكون حجة أصلا, ولا يقع العلم به بوجه لا علم يقين, ولا علم طمأنينة بل يوجب ظنا. وذهب قوم إلى أن المتواتر يوجب علم طمأنينة لا علم يقين ويريدون به أن جانب الصدق يترجح فيه بحيث تطمئن إليه القلوب مثل ما يثبت بالدليل الظاهر, ولكن لا ينتفي عنه توهم الكذب والغلط. ولا فرق بين القولين إلا من حيث إن الطمأنينة أقرب إلى اليقين من الظن ولهذا كان متمسك الفريقين واحدا, ثم القائلون بأنه يوجب اليقين اختلفوا فذهب عامتهم إلى أنه يوجب علما ضروريا. وذهب أبو القاسم الكعبي وأبو الحسين البصري من المعتزلة وأبو بكر الدقاق من أصحاب الشافعي إلى أنه يوجب علما استدلاليا وسنبينه في آخر الباب.(2/524)
يقين ومعنى الطمأنينة عندهم ما يحتمل أن يتخالجه شك أو يعتريه وهم قالوا إن المتواتر صار جمعا بالآحاد, وخبر كل واحد منهم محتمل, والاجتماع
ـــــــ
قوله : "وهذا" أي من أنكر حصول العلم بالخبر أصلا رجل سفيه, وهو الذي يشتغل بما ليس له عاقبة حميدة ويلحقه ضرر ذلك. "لم يعرف نفسه"; لأن معرفة كونه مخلوقا من ماء مهين لا تثبت له إلا بالخبر فإذا أنكر كون الخبر موجبا للعلم لا يحصل له معرفة نفسه. ولا يقال لعل معرفة كونها مخلوقة من الماء حصلت بالاستدلال بالولد فإنه لما عاينه أنه خلق من الماء اعتبر وجود نفسه به فلا يلزم من إنكار الخبر عدم معرفة النفس; لأنا نقول مآل ذلك إلى الخبر أيضا فإن كونه مخلوقا من الماء ليس بمحسوس, ولا معقول إذ الفعل لا يوجب ذلك فتبين أنه ثابت بالخبر, ولا دينه; لأن طريق معرفته الخبر والسماع أيضا خصوصا فيما يرجع إلى الأحكام, ولا دنياه; لأن معرفة الأغذية والأدوية تحصل بالخبر; لأن فيها ما هو مهلك, ومنها ما هو نافع والعقل لا يطق التجربة لاحتمال الهلاك, وكذا معرفة الأب والأم تحصل بالخبر; لأن التربية والقيام بأموره يحصل من الملتقطة والظئر كما يحصل من الأبوين ثم كل أحد يجد نفسه ساكنة بمعرفة هذه الأشياء وتحصل له العلم بها قطعا بالخبر بمنزلة العلم الحاصل له بالعيان والمشاهدة فكان منكره كالمنكر للمشاهدات من السوفسطائية فلا يستحق المكالمة.
قال شمس الأئمة رحمه الله : لا يكون الكلام مع هذا المنكر على سبيل الاحتجاج والاستدلال, وكيف يكون ذلك, وما ثبت من الاستدلال بالعلم دون ما يثبت بالخبر المتواتر فإنه يوجب علما ضروريا والاستدلال لا يوجب ذلك, وإنما الكلام معه من حيث التقرير عند العقلاء بما لا يشك هو, ولا أحد من الناس في أنه مكابرة وجحد لما يعلم اضطرارا بمنزلة اللازم مع من يزعم أنه لا حقيقة للأشياء المحسوسة. فنقول إذا رجع المرء إلى نفسه علم أنه مولود اضطرارا بالخبر كما علم أن ولده مولود بالمعاينة. وعلم أن أبويه كانا من جنسه بالخبر كما علم أن أولاده من جنسه بالعيان, وعلم أنه كان صغيرا ثم شاب بالخبر كما علم ذلك من ولده بالعيان ، وعلم أن السماء والأرض كانتا قبله على هذه الصفة بالخبر كما يعلم أنهما على هذه الصفة للحال بالعيان فمن أنكر شيئا من هذه الأشياء فهو مكابر جاحد لما هو معلوم ضرورة بمنزلة من أنكر العيان
قوله "ومعنى الطمأنينة عندهم ما يحتمل أن يتخالجه" أي يقع فيه شك, أو يعتريه أي يغشاه ويدخله وهم أي غلط من وهم يهم إذا غلط, وإنما قيد بقوله عندهم; لأنا نوافقهم في أنه يوجب علم طمأنينة أيضا, ولكنا نعني بالطمأنينة اليقين هاهنا; لأنها تطلق على اليقين أيضا لاطمئنان القلب إليه قال الله تعالى إخبارا عن إبراهيم عليه السلام(2/525)
يحتمل التواطؤ وذلك كإخبار المجوس قصة زرادشت اللعين, وإخبار اليهود صلب عيسى عليه السلام, وهذا قول باطل نعوذ بالله من الزيغ بعد الهدى. بل المتواتر يوجب علم اليقين ضرورة بمنزلة العيان بالبصر والسمع بالأذن وضعا
ـــــــ
{وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} "البقرة: 260". أراد به كمال اليقين فقال معناها عندهم كذا ليتحقق الخلاف قالوا; لأن المتواتر صار جمعا بالآحاد وخبر كل واحد محتمل للكذب حالة الانفراد بانضمام المحتمل إلى المحتمل لا يزداد إلا الاحتمال إذ لو انقطع الاحتمال. ولم يجز الكذب عليهم حالة الاجتماع لانقلب الجائز ممتنعا, وهو ممتنع فثبت أن الاجتماع محتمل للتواطؤ على الكذب. ألا ترى أن المعنى الذي لأجله لا يثبت علم اليقين حالة الانفراد, وهو كون المخبر غير معصوم عن الكذب موجود حالة الاجتماع, وإذا جاز الكذب عليهم حالة الاجتماع انتفى اليقين عن خبرهم على أن اجتماع الجم الغفير على الإخبار بخبر واحد مع اختلافهم في الآراء, وقصد الصدق والكذب غير متصور كما لا يتصور اتفاقهم على أكل طعام واحد ووقوع العلم اليقيني به مبني على تصوره لا محالة ثم إذا انتفى اليقين عنه فأما أن يثبت به ظن كما قال الفريق الأول أو طمأنينة كما قال الفريق الثاني وذلك أي الاجتماع على التواطؤ على الكذب مثل إخبار المجوس عن زرادشت1 اللعين فإنه خرج في زمن ملك يسمى كشتاسب ببلخ وادعى الرسالة من أصلين قديمين وآمن به الملك, وأطبقت المجوس على نقل معجزاته, وقد كانوا أكثر منا عددا ثم كان ذلك كذبا بيقين إذ لو كان صدقا لزم منه صحة دعواه, وهي باطلة بيقين, وكذلك اليهود اتفقوا على قتل عيسى عليه السلام وصلبه والنصارى وافقوهم على ذلك ونقلوا ذلك نقلا متواترا, وعددهم لا يخفى كثرة ووفورا ثم قد ثبت كذبهم بالنص القاطع فثبت أن احتمال الكذب لا ينقطع بالتواتر, ومع بقائه لا يثبت علم اليقين, ولكن يثبت به طمأنينة للقلب بمنزلة من يعلم حياة رجل ثم يمر بداره فيسمع النوح ويرى آثار التهيؤ لغسل الميت ودفنه فيخبرونه أنه قد مات فيتبدل بهذا الحادث علمه بحياته بعلمه بموته على وجه طمأنينة القلب مع احتمال أن ذلك كله حيلة منهم وتلبيس لغرض كان لأهله في ذلك فهذا مثله كذا ذكر شمس الأئمة.
"وهذا" أي القول بأن المتواتر يوجب علم طمأنينة لا يقين قول باطل يؤدي إلى الكفر فإن وجود الأنبياء, ومعجزاتهم لا يثبت خصوصا في زماننا إلا بالنقل فإذا لم يوجب
ـــــــ
1 عاش زرادشت في منتصف القرن السابع قبل المسيح عليه السلام وتوفي علي الأرجح سنة 582 ق. م. أنظر مروج الذهب 1/229- 244.(2/526)
وتحقيقا أما الوضع فإنا نجد المعرفة بآبائنا بالخبر مثل المعرفة بأولادنا عيانا ونجد المعرفة بأنا مولودون نشأنا عن صغر مثل معرفتنا به في أولادنا وتجد المعرفة بجهة الكعبة خبرا مثل معرفتنا بجهة منازلنا سواء, وأما التحقيق فلأن الخلق خلقوا على همم متفاوتة وطبائع متباينة لا تكاد تقع أمورهم إلا مختلفة فلما وقع الاتفاق كان ذلك لداع إليه, وهو سماع أو اختراع وبطل الاختراع; لأن
ـــــــ
المتواتر يقينا لا يثبت العلم لأحد في زماننا بنبوتهم وحقيتهم حقيقة, وهذا كفر صريح, وضعا أي يوجب بوضعه وذاته العلم اليقيني من غير توقف على استدلال, وتحقيقا أي يدل الدليل العقلي على أنه يوجب اليقين لو رجعت إلى الاستدلال. وذكر في الميزان ونوع من المعقول يدل عليه أيضا, وهو أن الخبر المتواتر إما أن يكون صدقا أو كذبا, ولا يجوز أن يكون كذبا; لأنه إما أن يقع اتفاقا أو للتدين أو للمواضعة منهم عليه أو لداع دعاهم إليه. والأول فاسد; لأن صدور الكذب اتفاقا من جماعة كثيرة خرجوا عن حد الإحصاء لا يتصور عادة كما لا يتصور أن يجتمعوا على مأكل واحد, ومشرب واحد في زمان واحد اتفاقا. وكذا الثاني; لأن اجتماع مثل هذه الجماعة على الكذب تدينا مع كون العقل صارفا عنه وداعيا إلى الصدق, وعدم دعوة الطبع والهوى إليه لعدم اللذة والراحة في نفس الكذب أمر غير متصور عادة.
وكذا الثالث; لأن كثرتهم وتفرق أماكنهم واختلاف هممهم يمنع عن المواضعة عادة., وكذا الرابع; لأن الداعي إما الرغبة أو الرهبة فإنه يحتمل أن المرء يقدم على الكذب لرغبته إلى الجاه والمال, وأنواع النفع أو لخوف الإضرار على نفسه, وماله, وأهله بالامتناع عنه ممن يأمره بذلك, وهذا الداعي مما لا يتصور شموله في الجماعة العظيمة لاستغناء البعض على حشمة الأمر وجاهه, وماله بالكذب لكمال جاهه, وكثرة أمواله, وكذا احتمال خوف الضرر معدوم في حق البعض لكمال قوته بنفسه, وأتباعه نحو السلاطين والأمراء والرؤساء, وإذا لم يجز أن يكون كذبا تعين كونه صدقا إذ لا واسطة بين الصدق والكذب في الأخبار فكان مفيدا للعلم.
واعلم أن فتح باب الاستدلال في هذه المسألة يفضي إلى تطويل الكلام ويزداد ذاك إشكالات واعتراضات لا يتم المقصود إلا بالجواب القاطع عنها, ولا يمكن الجواب عنها إلا بعد تدقيقات عظيمة, ومن البين لكل عاقل أن علمه بوجود مكة, ومحمد صلى الله عليه وسلم أظهر من علمه بصحة الاستدلالات المذكورة في هذه المسألة, والتمسك بالدليل الخفي مع وجود الدليل الظاهر, وبناء الواضح على الخفي غير جائز فتبين أن الحق ما ذكرنا أن حصول العلم به ضروري والتشكيك والترديد في الضروريات باطل لا يستحق الجواب كذا قال بعض المحققين.(2/527)
تباين الأماكن وخروجهم عن الإحصاء مع العدالة يقطع الاختراع فتعين الوجه الآخر والطمأنينة على ما فسره المخالف إنما يقع بغفلة من المتأمل لو تأمل حق تأمله لوضح له فساد باطنه فلما اطمأن بظاهره كان أمرا محتملا فأما أمر يؤكد باطنه ظاهره, ولا يزيد التأمل إلا تحقيقا فلا كالداخل على قوم جلسوا للمأتم يقع له العلم به عن غفلة عن التأمل, ولو تأمل حق تأمله لوضح له الحق من الباطل فأما العلم بالمتواتر قلما يجب عن دليل أوجب علما بصدق المخبر به لمعنى في الدليل لا لغفلة من المتأمل, وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنهم - كانوا قوما عدولا أئمة لا يحصى عددهم, ولا يتفق أماكنهم طالت صحبتهم واتفقت كلمتهم بعدما تفرقوا شرقا وغربا, وهذا يقطع
ـــــــ
قوله "والطمأنينة على ما فسره المخالف" جواب عما يقال سلمنا أن تواطؤ مثل هذا الجمع خلاف العادة, ولذلك أثبتنا علم طمأنينة القلب, ولكن لا نسلم أن توهم الاتفاق منقطع بالكلية فلبقاء هذا التوهم لم يثبت علم اليقين كما ذكرنا من حال من رأى آثار الموت في دار إنسان, وأخبر بموته. فقال الطمأنينة أي الاطمئنان على ما فسره المخالف فإنه علم يتخالجه شك أو يعتريه وهم. وما مصدرية أي على تفسير المخالف إنما يقع فيما يقع من الصور لغفلة من المتأمل حيث يكتفى بالظاهر, ولا يتأمل في حقيقة الأمر, ولو تأمل في الأمر حق تأمله وجد في طلب حقيقته لوضح له فساد باطنه فأما أمر يؤكد باطنه ظاهره, ولا يزيده التأمل إلا تحقيقا فلا أي لا يوجب طمأنينة على التفسير المذكور بل يوجب يقينا ثم بين نظير ما يوجب طمأنينة فقال كالداخل, وهو متصل بقوله لوضح له فساد باطنه, جلسوا للمأتم أي للمصيبة والمأتم عند العرب النساء يجتمعن في فرح أو حزن والجمع المآتم وعند العامة المصيبة يقولون كنا في مأتم فلان قال ابن الأنباري1: والصواب أن يقال في مناحة فلان كذا في الصحاح. يقع له العلم أي علم الطمأنينة. وقوله فأما العلم بالمتواتر نظير قوله فأما أمر يؤكد باطنه ظاهره لمعنى في الدليل, وهو انقطاع توهم المواطأة, وفي مثل هذا كلما زاد المرء تأملا ازداد يقينا فالتشكيك فيه يكون دليل نقصان العقل بمنزلة التشكيك في حقائق الأشياء المحسوسة. ثم أشار إلى المعنى الذي في الدليل بقوله وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم كانوا كذا وذكر أوصافا يؤثر كل واحد في قطع توهم الكذب من العدالة, وكثرة العدد واختلاف الأماكن وطول صحبة الرسول عليه السلام واتفاق الكلمة بعد الافتراق. ثم قال: وهذا أي جميع ما ذكرنا
ـــــــ
1 أبهو محمد بن القاسم بن محمد بن بشار الأنباري أبو بكر الأديب النحوي واللغوي والمفسر ولد سنة 271.توفي سنة 328ه أنظر تأريخ بغداد 3/181-186.(2/528)
الاختراع, ولما تصور الخفاء مع بعد الزمان ولهذا صار القرآن معجزة; لأنهم عجزوا عن ذلك واشتغلوا ببذل الأرواح فكان خبرهم في نهاية البيان قاطعا احتمال الوضع يقينا بلا شبهة إذ لو كان شبهة وضع لما خفي مع كثرة الأعداء واختلاط أهل النفاق قال الله تعالى: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} "التوبة: 47" ذلك مثل سلامة كتاب الله تعالى عن المعارضة وعجز البشر عن ذلك إذ لو كان ذلك لما خفي مع كثرة المتعنتين, وهذا مثله.فأما أخبار زرادشت فتخييل كله فأما ما روي أنه أدخل
ـــــــ
يقطع الاختراع أي الإنشاء والابتداء من عند أنفسهم عادة. وقوله, "ولما تصور الخفاء مع بعد الزمان" جواب شرط محذوف إن صح ذلك أي, ولو تصور الاختراع منهم لما تصور خفاء اختراعهم مع بعد الزمان. ولفظ بعض الكتب, ولو كان لظهر لنا خصوصا مع بعد الزمان, وكأنه جواب سؤال يرد على قوله, وهذا يقطع الاختراع بأن يقال توهم التواطؤ على الكذب غير منقطع بما ذكرتم; لأنه لما تصور منهم الاجتماع على الصدق وصحبة الرسول عليه السلام مع تباين أماكنهم, وكثرتهم يتصور منهم الاختراع أيضا. فقال لو تصور الاختراع منهم لم يتصور خفاؤه وعدم ظهوره مع بعد الزمان, وكثرة المخالفين والمعاندين فيهم لدعوة الطباع إلى إفشاء الأسرار فإن الإنسان يضيق صدره عن سره حتى يفشيه إلى غيره ويستكتمه ثم السامع يفشيه إلى غيره فيصير ظاهرا عن قريب فلو كان هنا اختراع لظهر ذلك خصوصا عند طول المدة, وكثرة الأعداء. ولهذا أي; ولأن تصور احتمال الخفاء منقطع. صار القرآن معجزة أي تحقق وظهر كونه معجزا; لأن إعجازه توقف على عجزهم عن الإتيان بمثله, وقد تحقق عجزهم; لأنهم لو قدروا عليه لأتوا به بعد تحديهم في محافلهم بذلك, ولما اشتغلوا ببذل الأنفس والأموال, ولو أتوا به لما خفي ذلك مع كثرة المشركين وتباعد الزمان كما لم تخف خرافات مسيلمة, وهذيانات المتنبئين قاطعا احتمال الوضع أي احتمال الاختراع والتقول, وذلك أي انقطاع احتمال الاختراع. المتعنتين أي الطالبين لمعايب الإسلام يقال جاءني فلان متعنتا إذا جاء يطلب زلتك.
قوله "وأما أخبار زرادشت" جواب عن تمسكهم بنقل المجوس قصة زرادشت بالتواتر. والجواب عنه من وجهين: أحدهما ما ذكر في الكتاب أن ما نقل المجوس عنه من أفعاله الخارجة عن العادة مثل عدم تضرره بوضع طست من نار على صدره, ونحو ذلك من جنس فعل المشعوذين ليس له حقيقة, وعدم تضرره بالنار من باب خواص الأشياء لا من باب الإعجاز فأنا قد رأينا المشعوذين يلعبون بالنار من غير إضرار بهم, ومثله في ملاعبهم وشعوذتهم كثير. وأما ما روي أنه أدخل قوائم الفرس في بطن الفرس فبقي معلقا في الهواء ثم أخرجه فلم يوجد فيه شرط التواتر, وهو استواء الطرفين والوسط; لأنهم رووا أنه فعل ذلك(2/529)
قوائم الفرس في بطن الفرس فإنما رووا أنه فعل ذلك في خاصة الملك وحاشيته وذلك آية الوضع والاختراع إلا أن ذلك الملك لما رأى شهامته تابعه على التزوير والاختراع فكان العلم به لغفلة المتأمل دون صحة الدليل وكذلك أخبار اليهود
ـــــــ
في خاصة الملك وحاشيته أي صغار قومه لا في كبارهم ولا في الأسواق, ومجامع الناس, وقد يتصور من مثل هذا القوم التواطؤ على الكذب فلا يثبت به التواتر, ولا حقيقة دعواه, إلا أن أي: لكن ذلك الملك, وهو كشتاسب لما رأى شهامته أي دهاءه وذكاءه تابعه على التزوير والاختراع وواطأه على أن يؤمن به ويجعله أحد أركان مملكته ليدعو الناس إلى تعظيم الملوك وتحسين أفعالهم, ومراعاة حقوقهم في كل حق وباطل, ويكون الملك من ورائه بالسيف يجبر الناس على الدخول في دينه, وإنما حمله على هذه المواطأة حاجته إليها فإنه لم يكن له بيت قديم في الملك, وكان الناس لا يعظمونه فاحتالوا بهذه الحيلة ثم نقلوا عنه أمورا لا أصل لها ترويجا لأمره وتحصيلا لمقصود الملك. وقد سمعت عن بعض الثقات أنه كان للملك أخت جميلة في نهاية الحسن, وقد شغف بها الملك, وكان يريد أن يتزوجها لكنه كان يمتنع من ذلك خوفا من انقلاب الرعية والملك واحترازا عن الملامة فتفرس زرادشت اللعين منه وادعى النبوة, وأباح نكاح المحارم فوافق ذلك رأي الملك فقبل ذلك منه, وأمر الناس بمتابعته ففشا أمره بين الناس ونقلوا عنه أمورا كلها كذب لا أصل لها. والثاني أنا إن سلمنا تسليم جدل أن ما نقل عنه من أفعاله الخارجة عن العادة لم يكن كذبا لم يدل ذلك على صدق دعواه أيضا; لأن ظهور خلاف العادة لا يجوز على يد المتنبي إذا ادعى شيئا لا يرده العقل; لأنه لو جاز ذلك أدى إلى اشتباه أمر النبوة فأما إذا ادعى ما يدل العقل على كذبه وبطلانه فلا يبعد أن يظهر على يده خلاف العادة استدراجا كما يجوز ظهوره على يد المتأله لعدم تأديته حينئذ إلى اشتباه الأمر على الناس فإن من ادعى أن الخمسة ثلث العشرة, وظهر على يده خلاف عادة لا يدل على صدقه, ولا تقبل دعواه لظهور كذبه عند جميع العقلاء ثم إن اللعين ادعى أنه رسول من أصلين قديمين يزدان وآهرمن, وهذا قول بين التناقض ظاهر البطلان عرف بالدلائل العقلية القطعية فساده وبطلانه فيجوز أن يظهر على يديه خلاف العادة استدراجا لظهور كذب دعواه كما يجوز ظهوره على يدي الدجال اللعين كما جاء به الأثر.
قوله. "وكذلك" أي ومثل أخبار المجوس أخبار اليهود مرجعها إلى الآحاد فإن الذين دخلوا على عيسى عليه السلام وزعموا أنهم قتلوه كانوا سبعة نفر أو ستة, واحتمال التوطؤ على الكذب فيهم ثابت. وقد روي أنهم كانوا لا يعرفون المسيح بحليته, وإنما جعلوا لرجل جعلا فدلهم على شخص في بيت فهجموا عليه, وقتلوه وزعموا أنهم قتلوا(2/530)
مرجعها إلى الآحاد فإنهم كانوا سبعة نفر دخلوا عليه, وأما المصلوب فلا يتأمل عادة مع تغير هيئاته وعلى أنه ألقي على واحد من أصحاب عيسى عليه السلام شبهه كما قص الله تعالى, {وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} وذلك جائز استدراجا, ومكرا على قوم
ـــــــ
عيسى, وأشاعوا الخبر وبمثله لا يحصل التواتر. وكذلك أخبار النصارى بقتله لم تثبت بالتواتر فإن خبر قتله منهم مسند إلى أربعة منهم يوحنا, ومتى ولوقا, ومرعش, وفي بعض الروايات يوحنا ويوفنا, ومتى, ومارقيش ويتحقق الكذب منهم.
قوله "وأما المصلوب" جواب عما يقال الصلب أمر معاين, وقد شاهده جماعة لا يتصور تواطؤهم على الكذب فقال المصلوب ينظر من بعيد, ولا يتأمل فيه عادة; لأن الطباع تنفر عن التأمل فيه مع أن الحلية والهيئة تتغير به أيضا فيتمكن فيه الاشتباه فعرفنا أن التواتر لم يتحقق في صلبه كما لم يتحقق في قتله على أن العيسوية1 من النصارى, وهو فرقة كثيرة توافقنا أن عيسى عليه السلام لم يقتل بل رفعه الله عز وجل وعليه نصارى الحبشة, وفي اليهود من يقول به أيضا كذا ذكر صاحب القواطع.
وقوله "على أنه ألقي على واحد من أصحاب عيسى عليه السلام شبهه" جواب آخر للسؤال المقدر يعني سلمنا أن التواتر في قتل رجل ظنوه عيسى وصلبه قد وجد, ولكن ذلك الرجل لم يكن عيسى, وإنما كان مشبها به كما بين الله تعالى بقوله: {وَلَكِنْ شُبِّهَ لهم} "النساء: 157". وقد جاء في الخبر: "أن عيسى عليه السلام قال لمن كان معه من يريد منكم أن يلقي الله شبهي عليه فيقتل, وله الجنة فقال رجل أنا فألقى الله تعالى شبه عيسى عليه السلام فقتل الرجل ورفع عيسى عليه السلام إلى السماء". ثم يرد على هذا الجواب إشكال, وهو أن القول بإلقاء الشبه يؤدي إلى إبطال الحقائق كما قاله السوفسطائية فإنه لما جاز إلقاء شبه عيسى على غيره جاز إلقاء شبه كل شيء على غيره. ويؤدي أيضا إلى أن ما نقل بالتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكون موجبا للعلم; لأن من الجائز أن السامعين تلقوه من رجل ظنوه أنه رسول الله, ولم يكن بل ألقي شبه الرسول عليه. ويؤدي أيضا إلى أن الإيمان بالرسل لا يتحقق لمن يعاينهم لجواز أن يكون شبههم ملقى على غيرهم كيف والإيمان بالمسيح كان واجبا عليهم في ذلك الوقت فمن ألقي عليه شبه المسيح كان الإيمان به واجبا على زعمكم, وفي هذا قول بأن الله سبحانه أوجب على عباده الكفر بالحجة, وهي المعجزة التي جرت على يد عيسى عليه السلام فكان باطلا. فأجاب عنه
ـــــــ
1 العيسوية من فرق اليهود كما في كتب المقالات وهم أتباع أبي عيسي إسحاق بن يعقوب الأصفهاني أنظر شأن هذه الفرقة في الملل والنحل للشهرستاني 1/215.(2/531)
متعنتين حكم الله تعالى عليهم بأنهم لا يؤمنون فكان محتملا مع أن الرواة
ـــــــ
بقوله "وذلك جائز استدراجا" يعني إلقاء الشبه بطريق الاستدراج جائز في حق قوم علم الله أنهم لا يؤمنون ليزدادوا طغيانا, ومرضا إلى مرضهم, ولكنه لا يجوز في حق قوم الرسول ليؤمنوا به حتى لو جاءه قوم في تلك الحالة ليؤمنوا به رفع الله الشبه منه لئلا يؤدي إلى التلبيس فإنه قد قيل لو ادعى أحد النبوة بين قوم, وفي يده حجر المغناطيس, ولم يعرف القوم الحجر, وقال الدليل على صحة دعواي أن يجذب هذا الحجر الحديد رفع الله تلك الخاصية عن ذلك الحجر لئلا يصير تلبيسا. ثم فيه حكمة بالغة, وهي دفع شر الأعداء عن المسيح بوجه لطيف ولله تعالى لطائف في دفع المكاره عن الرسل كما دفع شر أبي لهب عن الرسول عليه السلام بمنعه عن رؤية الرسول, وقد كان جالسا مع أبي بكر حيث قال أبو لهب أين صاحبك الذي هجاني أراد به قول الله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} "المسد: 1". وقوله فكان أي خبرهم محتملا للكذب متصل بقوله مرجعها إلى الآحاد. مع أن الرواة يعني السبعة الداخلين على عيسى عليه السلام فبطلت هذه الوجوه التي تمسك بها المخالف من قصة زرادشت, وأخبار اليهود عن قتل عيسى وصلبه بالمتواتر فإنه ليس بتخييل, ولا من خاصة ملك, وليس مرجعه إلى الآحاد أيضا يعني لا يلزم من بطلان هذه الوجوه تمكن الشبهة في المتواتر; لأن ما نشأ منه فسادها لم يوجد في المتواتر أصلا. أو معناه لما كانت قصة زرادشت, وأخبار اليهود مبنية على التخييل وراجعة إلى الآحاد كانت محتملة للكذب, وقد وردت نصوص قاطعة متواترة بخلافها مثل قوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} "النساء: 157". والنصوص الدالة على الوحدانية بطلت تلك الأخبار المحتملة أي ظهر كذبها وبطلانها بهذه النصوص المتواترة التي لا مدخل للاحتمال فيها; لأن الدليل المحتمل لا يبقى معتبرا إذا اعترض عليه ما هو أقوى منه كمن أخبر بهلاك زيد ثم رآه بعد حيا. وأما اعتبارهم حالة الاجتماع بحالة الانفراد فسيأتي جوابه. ثم من قال المتواتر يوجب علما استدلاليا تمسك بأن الاستدلال ليس إلا ترتيب مقدمات صادقة, وهو موجود فيه; لأن العلم به لا يحصل إلا بعد أن يعلم أن المخبر عنه أمر محسوس, وأن المخبرين جماعة لا حامل لهم على التواطؤ على الكذب, وأن يعلم أن ما كان كذلك لا يكون كذبا فيلزم منه الصدق لعدم الواسطة وبأنه لو كان ضروريا لما اختلفوا فيه كما لم يختلفوا في أن الشيء أعظم من جزئه, وأن الموجود لا يكون معدوما وحيث اختلفوا فيه علمنا أنه مكتسب بمنزلة ما يثبت من العلم بالنبوة عند معرفة المعجزات. وجه قول العامة أنه لو كان استدلاليا لاختص به من يكون من أهل الاستدلال, وقد رأينا أنه لا يختص بهم فإن واحدا في صغره يعلم أباه وأمه بالخبر كما يعلمهما بعد البلوغ مع أنه لا يعرف(2/532)
أهل تعنت وعداوة فبطلت هذه الوجوه بالتواتر والله أعلم فصار منكر المتواتر, ومخالفه كافرا.
ـــــــ
الاستدلال أصلا. وأنه لو كان استدلاليا لجاز الخلاف فيه عقلا; لأن شأن العلوم الاستدلالية كذلك. قال صاحب الميزان: العلم بالملوك الماضية والبلدان النائية حاصل من غير استدلال وصنع من جهة العالم به, وهو حد العلم الضروري, وإنما اشتغل بعض أصحابنا بالاستدلال للإلزام على من ينكر الضرورة تعنتا, ومكابرة, وهو يعتقد العلم الاستدلالي فيقوم عليه الحجة فإن قيل لو كان هذا معلوما لما خالفناكم قلنا من يخالف في هذا فإنما يخالف بلسانه أو لخبط في عقله أو عناد, ولو تركنا ما علمنا ضرورة بقولكم للزمكم ترك المحسوسات بسبب خلاف السوفسطائية., وقولهم لا بد فيه من ترتيب المقدمات قلنا لا يلزم من ترتيبها كون القضية الحاصلة منها نظرية; لأن صورة الترتيب أو التركيب ممكنة في كل ضروري حتى في أظهر الضروريات كقولنا الشيء إما أن يكون, وإما أن لا يكون بأن يقال الكون, وهو الوجود واللا كون, وهو العدم متقابلان والمتقابلان يمتنع إنصاف الشيء الواحد بهما فالشيء إما أن يكون, وإما أن لا يكون, وإنما كان كذلك; لأن إمكان صورة الترتيب لا يكفي في كون العلم نظريا بل يحتاج مع ذلك إلى العلم بارتباط تلك المقدمات بالمطلوب, وأنها الواسطة المفضية إليه, والله أعلم.(2/533)
باب المشهور من الأخبار
قال الشيخ الإمام رضي الله عنه المشهور ما كان من الآحاد في الأصل ثم انتشر فصار ينقله قوم لا يتوهم تواطؤهم على الكذب, وهم القرن الثاني بعد الصحابة رضي الله عنهم, ومن بعدهم وأولئك قوم ثقات أئمة لا يتهمون فصار
ـــــــ
"باب المشهور من الأخبار"
"في هذا الباب لبيان القسم الثاني"
من أقسام الاتصال, وهو الذي فيه ضرب شبهة صورة لا معنى; لأنه لما كان من الآحاد في الأصل كان في الاتصال ضرب شبهة صورة, ولما تلقته الأمة بالقبول مع عدالتهم وتصلبهم في الدين كان بمنزلة المتواتر. وهو اسم لخبر كان من الآحاد في الأصل أي في الابتداء ثم انتشر في القرن الثاني حتى روته جماعة لا يتصور تواطؤهم على الكذب, وقيل هو ما تلقته العلماء بالقبول. والاعتبار للاشتهار في القرن الثاني والثالث, ولا عبرة للاشتهار في القرون التي بعد القرون الثلاثة فإن عامة أخبار الآحاد اشتهرت في هذه القرون, ولا تسمى مشهورة فلا يجوز بها الزيادة على الكتاب مثل خبر الفاتحة والتسمية في الوضوء وغيرهما. ويسمى هذا القسم مشهورا, ومستفيضا من شهر يشهر شهرا وشهرة فاشتهر أي وضح, ومنه شهر سيفه إذا سله. واستفاض الخبر أي شاع وخبر مستفيض أي منتشر بين الناس.
وأما حكمه فقد اختلف فيه فذهب بعض أصحاب الشافعي إلى أنه ملحق بخبر الواحد فلا يفيد إلا الظن. وذهب أبو بكر الجصاص وجماعة من أصحابنا إلى أنه مثل المتواتر فيثبت به علم اليقين لكن بطريق الاستدلال لا بطريق الضرورة, وإليه ذهب بعض أصحاب الشافعي فقد ذكر في القواطع: خبر الواحد الذي تلقته الأمة بالقبول يقطع بصدقه مثل خبر عبد الرحمن بن عوف في أخذ الجزية وخبر أبو هريرة في تحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها وخبر حمل بن مالك في الجنين, وما أشبه هذه الأخبار. وذهب(2/534)
بشهادتهم وتصديقهم بمنزلة المتواتر حجة من حجج الله تعالى حتى قال الجصاص: إنه أحد قسمي المتواتر وقال عيسى بن أبان: إن المشهور من الأخبار يضلل جاحده, ولا يكفر مثل حديث المسح على الخفين وحديث الرجم وهو الصحيح عندنا; لأن المشهور بشهادة السلف صار حجة للعمل به كالمتواتر فصحت الزيادة به على كتاب الله تعالى, وهو نسخ عندنا وذلك مثل زيادة الرجم والمسح على الخفين والتتابع في صيام كفارة اليمين لكنه لما كان في الأصل من الآحاد ثبت به شبهة فسقط به علم اليقين, ولم يستقم اعتباره في العمل
ـــــــ
عيسى بن أبان من أصحابنا إلى أنه يوجب علم طمأنينة لا علم يقين فكان دون المتواتر, وفوق خبر الواحد حتى جازت الزيادة به على كتاب الله التي هي تعدل النسخ, وإن لم يجز النسخ به مطلقا, وهو اختيار القاضي الإمام أبي زيد والشيخين وعامة المتأخرين. قال أبو اليسر وحاصل الاختلاف راجع إلى الإكفار فعند الفريق الأول يعني من أصحابنا يكفر جاحده وعند الفريق الثاني لا يكفر ونص شمس الأئمة رحمه الله على أن جاحده لا يكفر بالاتفاق, وإليه أشير في الميزان أيضا وعلى هذا لا يظهر أثر الخلاف في الأحكام. وجه قول الفريق الأول من أصحابنا أن التابعين لما أجمعوا على قبوله والعمل به ثبت صدقه; لأنه لا يتوهم اتفاقهم على القبول إلا بجامع جمعهم عليه, وليس ذلك إلا تعيين جانب الصدق في الرواة ولهذا سمينا العلم الثابت به استدلاليا لا ضروريا إلا أنه لا يكفر جاحده; لأن إنكاره وجحوده لا يؤدي إلى تكذيب الرسول عليه السلام; لأنه لم يسمع من الرسول عليه السلام عدد لا يتصور تواطؤهم على الكذب بل هو خبر واحد قبله العلماء في العصر الثاني, وإنما يؤدي إلى تخطئة العلماء في القبول واتهامهم بعدم التأمل في كونه عن الرسول غاية التأمل, وتخطئة العلماء ليست بكفر بل هي بدعة وضلال بخلاف إنكار المتواتر فإنه يؤدي إلى تكذيب الرسول عليه السلام إذ المتواتر بمنزلة المسموع منه وتكذيب الرسول كفر. وجه قول الفريق الآخر ما ذكر في الكتاب أنه, وإن صار حجة بشهادة السلف بحيث صحت الزيادة به على الكتاب لكن بقي فيه شبهة الانفصال, وتوهم الكذب باعتبار أن رواته في الأصل لم يبلغوا حد التواتر فيسقط به علم اليقين ولهذا لم يكفر جاحده; لأنه لا يثبت إلا بإنكار اليقين., ولم يستقم اعتباره أي اعتبار ما يثبت فيه من الشبهة أو اعتبار كونه من الآحاد في الأصل. في العمل أي في كونه موجبا للعمل; لأن الشبهة الثابتة في خبر الواحد والقياس التي هي فوق هذه الشبهة لا تؤثر في إسقاط العمل بهما فهذه أولى. فاعتبرناه في العلم فأثرت في سقوط اليقين, إلا بما يشق دركه فيكون من هذا الوجه كالمتواتر لكن العلم بالمتواتر كان لصدق في نفسه لانقطاع توهم الكذب بالكلية, والعلم(2/535)
فاعتبرناه في العلم; لأنا لا نجد وسعا في رد المتواتر, وإنما يشك فيه صاحب الوسواس, ونخرج في رد المشهور; لأنه لا يمتاز عن المتواتر إلا بما يشق دركه لكن العلم بالمتواتر كان لصدق في نفسه فصار يقينا, والعلم بالمشهور لغفلة عن ابتدائه وسكون إلى حاله فسمي علم طمأنينة, والأول علم اليقين.
ـــــــ
بالمشهور لغفلة عن ابتدائه وسكون إلى حاله يعني إنما يحصل له العلم بلا اضطراب وشبهة إذا غفل عن كونه خبر واحد في الأصل وسكن إلى شهرته الحادثة في الحال, وكونه مقبولا عند العلماء لكن لو تأمل في ابتدائه لاعتراه وهم وتخالجه شك فلذلك سمي علم طمأنينة.
قوله "وذلك" أي الزيادة على النص بالخبر المشهور. مثل زيادة الرجم في حق المحصن بقوله عليه السلام: "والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة" . وبرجم النبي عليه السلام ماعزا وغيرهما. والمسح على الخفين بحديث المغيرة وغيره. والتتابع في صوم كفارة اليمين بقراءة ابن مسعود رضي الله عنه فصيام ثلاثة أيام متتابعات. وقد تحقق النسخ معنى في هذه الصور بهذه الزيادات فإن عموم قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} "النور: 2". يتناول المحصن كما يتناول غيره فبزيادة الرجم انتسخ حكم الجلد في حقه. وكذا قوله تعالى {وَأَرْجُلَكُمْ} "المائدة: 6". يتناول حالة التخفف في إيجاب الغسل فبزيادة المسح انتسخ الحكم في هذه الحالة. وكذا إطلاق قوله عز اسمه: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} "البقرة: 196"و"المائدة: 89". يوجب جواز التفرق والتتابع فيه فبتقييده بالتتابع انتسخ جواز التفرق., وليس ما ذكرنا من قبيل التخصيص; لأن من شرطه عندنا أن يكون المخصص مثل المخصوص منه في القوة, وأن يكون متصلا لا متراخيا, ولم يوجد الشرطان جميعا. ثم النظائر الثلاثة المذكورة, وإن كانت متساوية في جواز الزيادة بها على الكتاب, ولكنها متفاوتة في حق تضليل جاحدها فقد قال عيسى بن أبان إن هذا القسم يعني الخبر الذي دون المتواتر ثلاثة أنواع.
قسم يضلل جاحده, ولا يكفر مثل خبر الرجم لاتفاق العلماء من الصدر الأول والثاني على قبوله. وقسم لا يضلل جاحده, ولكن يخطأ ويخشى عليه المأثم نحو خبر المسح على الخف لشبهة الاختلاف فيه في الصدر الأول فإن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم كانا يقولان سلوا هؤلاء الذين يرون المسح مثل مسح رسول الله عليه السلام بعد سورة المائدة, وقد نقل رجوعهما عن ذلك فلشبهة الاختلاف لا يضلل جاحده, ولكن يخشى(2/536)
---------------------------------------------------------
ـــــــ
عليه الإثم; لأن باعتبار الرجوع يثبت الإجماع, وقد ثبت الإجماع على قبوله في الصدر الثاني والثالث, ولا يسع مخالفة الإجماع فلذلك يخشى على جاحده المأثم. وقسم لا يخشى على جاحده المأثم, ولكن يخطأ في ذلك مثل الأخبار التي اختلف فيها الفقهاء في باب الأحكام; لأنه لما ظهر الاختلاف فيها في كل قرن كان لكل من ترجح عنده جانب الصدق أن يخطئ صاحبه, ولكن لا يؤثم في ذلك; لأنه صار إليه عن اجتهاد, والإثم في الخطأ موضوع عن المجتهد كذا ذكر الإمام شمس الأئمة رحمه الله.(2/537)
"باب خبر الواحد"
وهو الفصل الثالث من القسم الأول, وهو كل خبر يرويه الواحد أو الاثنان فصاعدا لا عبرة للعدد فيه بعد أن يكون دون المشهور والمتواتر, وهذا يوجب العمل ولا يوجب العلم يقينا عندنا, وقال بعض الناس لا يوجب العمل; لأنه لا
ـــــــ
"باب خبر الواحد"
وهو الفصل الثالث, وهو الاتصال الذي فيه شبهة صورة ومعنى من القسم الأول, وهو الاتصال أما ثبوت الشبهة فيه صورة فلأن الاتصال بالرسول عليه السلام لم يثبت قطعا., وأما معنى فلأن الأمة ما تلقته بالقبول. وهو كل خبر يرويه الواحد أي المخبر الواحد والاثنان أي أو الاثنان. لا عبرة للعدد فيه يعني لا يخرج عن كونه خبر واحد حكما, وإن كان المخبر متعددا بعد أن لم يبلغ درجة التواتر والاشتهار. ويجوز أن يكون احترازا عن قول من فرق بين خبر الاثنين والواحد فقبل خبر الاثنين دون الواحد. وبعضهم قبل خبر الأربعة دون ما عداها فسوى الشيخ بين الكل.
قوله "وهذا" أي خبر الواحد يوجب العمل, ولا يوجب العلم يقينا أي لا يوجب علم يقين, ولا علم طمأنينة, وهو مذهب أكثر أهل العلم وجملة الفقهاء. وذهب بعض الناس إلى أن العمل بخبر الواحد لا يجوز أصلا, وهو المراد من قوله لا يوجب العمل. ثم منهم من أبى جواز العمل به عقلا مثل الجبائي وجماعة من المتكلمين, ومنهم من منعه سمعا مثل القاشاني, وأبي داود والرافضة. واحتج من منع عنه سمعا بقوله تعالى {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} "الإسراء: 36". أي لا تتبع ما لا علم لك به وخبر الواحد لا يوجب العلم فلا يجوز اتباعه والعمل به بظاهر هذا النص. قالوا, ولا معنى لقول من قال إن العلم ذكر نكرة في موضع النفي فيقتضي انتفاءه أصلا وخبر الواحد يوجب نوع علم, وهو علم غالب الظن الذي سماه الله تعالى علما في قوله عز اسمه {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} "الممتحنة: 10". فلا يتناوله النهي; لأنا إن سلمنا أنه يفيد الظن فهو محرم الاتباع أيضا بقوله تعالى. {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} "النجم: 38". ثم(2/538)
يوجب العلم, ولا عمل إلا عن علم قال الله تعالى {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} "الإسراء: 36", وهذا; لأن صاحب الشرع موصوف بكمال القدرة فلا ضرورة له في التجاوز عن دليل يوجب علم اليقين بخلاف المعاملات; لأنها من ضروراتنا وكذلك الرأي من ضروراتها فاستقام أن يثبت غير موجب علم اليقين وقال بعض أهل الحديث يوجب علم اليقين لما ذكرنا أنه أوجب العمل, ولا عمل من غير علم, وقد ورد الآحاد في أحكام الآخرة مثل عذاب القبر ورؤية الله تعالى بالأبصار ولا حظ لذلك إلا العلم قالوا: وهذا العلم يحصل كرامة من الله تعالى فثبت على الخصوص للبعض دون البعض كالوطء تعلق من بعض دون
ـــــــ
أشار الشيخ إلى شبهة من منع عنه عقلا بقوله, "وهذا" أي عدم جواز العمل; لأن صاحب الشرع أي من يتولى وضع الشرائع, وهو الله تعالى إذ الرسول مبلغ عنه موصوف بكمال القدرة فكان قادرا على إثبات ما شرعه بأوضح دليل فأي ضرورة له في التجاوز عن الدليل القطعي إلى ما لا يفيد إلا الظن. كيف, وأنه يؤدي إلى مفسدة عظيمة, وهي أن الواحد لو روى خبرا في سفك دم أو استحلال بضع وربما يكذب فنظر أن السفك والإباحة بأمر الله تعالى, ولا يكونان بأمره فكيف يجوز الهجوم بالجهل, ومن شككنا في إباحة بضعه وسفك دمه لا يجوز الهجوم بالشك فيقبح من الشارع حوالة الخلق على الجهل, واقتحام الباطل بالتوهم بل إذا أمر الله تعالى بأمر فليعرفنا أمره لنكون على بصيرة إما ممتثلون أو مخالفون. بخلاف المعاملات فإن خبر الواحد يقبل فيها بلا خلاف; لأنه من ضروراتنا أي قبوله فيها من باب الضرورة; لأنا نعجز عن إظهار كل حق لنا بطريق لا يبقى فيه شبهة فلهذا جوزنا الاعتماد فيها على خبر الواحد. وقوله: "وكذلك الرأي من ضروراتنا" جواب عن تمسكهم بالقياس في الأحكام مع أنه لا يفيد إلا الظن فقال هو من باب الضرورة أيضا; لأن الحادثة إذا وقعت, ولم يكن فيها نص يعمل به يحتاج إلى القياس ضرورة.; ولأن القياس ليس بمثبت بل هو مظهر وخبر الواحد مثبت والإظهار دون الإثبات. وهذا على قول من جوز التمسك بالقياس منهم فأما على قول من لم يجعل القياس حجة مثل النظام, وأهل الظاهر فلا حاجة إلى الفرق.
قوله "وقال بعض أصحاب الحديث" كذا ذهب أكثر أصحاب الحديث إلى أن الأخبار التي حكم أهل الصنعة بصحتها توجب علم اليقين بطريق الضرورة, وهو مذهب أحمد بن حنبل. وذهب داود الظاهري إلى أنها توجب علما استدلاليا, وأشار الشيخ إلى شبهة الفريقين فمن قال إنه يوجب العلم الاستدلالي تمسك بأن خبر الواحد لو لم يفد(2/539)
بعض ودليلنا في أن خبر الواحد يوجب العمل واضح من الكتاب والسنة والإجماع والدليل المعقول أما الكتاب قال الله تعالى {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ} "آل عمران: 187" وكل واحد إنما يخاطب بما في وسعه, ولو لم يكن خبره حجة لما أمر ببيان العلم وقال جل ذكره {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ
ـــــــ
العلم لما جاز اتباعه لنهيه تعالى عن اتباع الظن بقوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} "الإسراء: 36". وذمه على اتباعه في قوله جل جلاله: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} "الأنعام: 116 و"يونس: 66" و"النجم 23-28", {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} "البقرة: 196"و"الأعراف: 33". وقد انعقد الإجماع على وجوب الاتباع على ما تبين فيستلزم إفادة العلم لا محالة. ومن قال إنه يوجب علما ضروريا قال إنا نجد في أنفسنا في خبر الواحد الذي وجد شرائط صحته العلم بالمخبر به ضرورة من غير استدلال ونظر بمنزلة العلم الحاصل بالمتواتر. ويرد عليهم أنه لو كان ضروريا لما, وقع الاختلاف فيه, ولاستوى الكل فيه فقالوا هذا العلم يحصل كرامة من الله تعالى فيجوز أن يختص به البعض ووقوع الاختلاف لا يمنع من كونه ضروريا كالعلم الحاصل بالمتواتر فإنه ضروري, وقد وقع الاختلاف فيه.
قوله قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} "آل عمران: 187" الآية, أخبر الله تعالى أنه أخذ الميثاق والعهد من الذين أوتوا الكتاب ليبينوه للناس, ولا يكتموه عنهم فكان هذا أمرا بالبيان لكل واحد منهم ونهيا له عن الكتاب; لأنهم إنما يكلفون بما في وسعهم, وليس في وسعهم أن يجتمعوا ذاهبين إلى كل واحد من الخلق شرقا وغربا بالبيان فيتعين أن الواجب على كل واحد منهم أداء ما عنده من الأمانة والوفاء بالعهد; ولأن الحكم في الجمع المضاف إلى جماعة أنه يتناول كل واحد منهم; ولأن أخذ الميثاق من أصل الدين والخطاب لجماعة بما هو أصل الدين يتناول كل واحد من الأفراد ثم ضرورة توجه الأمر بالإظهار إلى كل واحد أمر السامع بالقبول منه والعمل به إذ أمر الشرع لا يخلوا عن فائدة حميدة, ولا فائدة في الأمر بالبيان والنهي عن الكتمان سوى هذا. واعترض عليه بأن انحصار الفائدة على القبول غير مسلم بل الفائدة هي الابتلاء فيستحق الثواب إن امتثلوا والعقاب إن لم يمتثلوا ألا ترى أن الفاسق منهم داخل في هذا الخطاب مأمور بالبيان بحيث لو امتنع عنه يأثم ثم لا يقبل ذلك منه, وكذا الأنبياء عليهم السلام مأمورين بالتبليغ, وإن علم قطعا بالوحي أنه لا يقبل منهم. وأجيب عنه بأن للبيان والتبليغ طرفين طرف(2/540)
فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} "التوبة: 122", وهذا في كتاب الله أكثر من أن يحصى. وأما السنة فقد صح عن النبي عليه السلام قبوله خبر الواحد مثل خبر بريرة
ـــــــ
المبلغ وطرف السامع, ولا بد من أن يتعلق بكل طرف فائدة ثم ما ذكرتم من الفائدة مختص بجانب المبلغ, وليس في طرف السامع فائدة سوى وجوب القبول والعمل به. ولا يقال بل فيه فائدة أخرى, وهي جواز العمل به; لأنا نقول جواز العمل مستلزم لوجوبه; لأن من قال بالجواز قال بالوجوب, ومن أنكر الوجوب أنكر الجواز, وأما الفاسق فلا نسلم وجوب البيان عليه قبل التوبة بل الواجب عليه التوبة ثم ترتيب البيان عليه فعلى هذا بيانه يفيد وجوب القبول والعمل به كذا قال شمس الأئمة قوله جل ذكره: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} الآية وجه التمسك به أنه تعالى أوجب على كل طائفة خرجت من فرقة الإنذار, وهو الإخبار المخوف عند الرجوع إليهم, وإنما أوجب الإنذار طلبا للحذر لقوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} . والترجي من الله تعالى محال فيحمل على الطلب اللازم, وهو من الله تعالى أمر فيقتضي وجوب الحذر, والثلاثة فرقة, والطائفة منها إما واحد أو اثنان فإذا روى الراوي ما يقتضي المنع من فعل وجب تركه لوجوب الحذر على السامع, وإذا وجب العمل بخبر الواحد أو الاثنين هاهنا وجب مطلقا إذ لا قائل بالفرق. ولا يقال الطائفة اسم للجماعة بدليل لحوق هاء التأنيث بها فلا يصح حملها على الواحد والاثنين.; لأنا نقول اختلف المتقدمون في تفسيرها فقيل هي اسم لعشرة, وقيل لثلاثة, وقيل لاثنين, وقيل لواحد, وهو الأصح فإن المراد من قوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} "النور: 3". الواحد فصاعدا كما قال قتادة, وكذا نقل في سبب نزول قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} "الحجرات: 9". أنهما كانا رجلين أنصاريين بينهما مدافعة في حق فجاء أحدهما إلى النبي دون الآخر. وقيل كان أحدهما من أصحاب النبي عليه السلام والآخر من أتباع عبد الله بن أبي المنافق على ما عرف على أنا لو حملناها على أكثر ما قيل, وهو العشرة لا ينتفي توهم الكذب عن خبرهم, ولا يخرج خبرهم عن الآحاد إلى التواتر. ولا يقال سلمنا أن الراجع مأمور بالإنذار بما سمعه, ولكن لا نسلم أن السامع مأمور بالقبول كالشاهد الواحد مأمور بأداء الشهادة, ولا يجب القبول ما لم يتم نصاب الشهادة وتظهر العدالة بالتزكية; لأنا نقول وجوب الإنذار مستلزم لوجوب القبول على السامع كما بينا كيف, وقوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} . يشير إلى وجوب القبول والعمل. فأما الشاهد الواحد فلا نسلم أن عليه وجوب أداء الشهادة; لأن ذلك لا ينفع المدعي, وربما يضر بالشاهد بأن يحد حد القذف إذا كان المشهود به زنا, ولم يتم نصاب الشهادة.(2/541)
في الهدية وخبر سلمان في الهدية والصدقة وذلك لا تحصى عدده,
ـــــــ
وهذا أي الدليل على قبول خبر الواحد في كتاب الله أكثر من أن يحصى منه قوله تعالى {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} "النحل: 43". أمر بسؤال أهل الذكر, ولم يفرق بين المجتهد وغيره وسؤال المجتهد لغيره منحصر في طلب الأخبار بما سمع دون الفتوى, ولو لم يكن القبول واجبا لما كان السؤال واجبا. ومنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} "النساء: 135". أمر بالقيام بالقسط والشهادة لله, ومن أخبر عن الرسول بما سمعه فقد قام بالقسط وشهد لله, وكان ذلك واجبا عليه بالأمر, وإنما يكون واجبا لو كان القبول واجبا, وإلا كان وجوب الشهادة كعدمها, وهو ممتنع. ومنه قوله جل جلاله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} "البقرة: 195". الآية أوعد على كتمان الهدى فيجب على من سمع من النبي عليه السلام إظهاره فلو لم يجب علينا قبوله لكان الإظهار كعدمه., ومنه قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} "الحجرات: 6". أمر بالتبين والتثبت وعلل بمجيء الفاسق بالخبر إذ ترتيب الحكم على الوصف المناسب يشعر بالعلية, ولو كان كون الخبر من أخبار الآحاد مانعا من القبول لم يكن لهذا التعليل فائدة إذ علية الوصف اللازم تمنع من علية الوصف العارض فإن من قال الميت لا يكتب لعدم الدواة والقلم عنده يستقبح ويسفه; لأن الموت لما كان وصفا لازما صالحا لعلية امتناع صدور الكتابة عن الميت استحال تعليل امتناع الكتابة بالوصف العارض, وهو عدم الدواة والقلم. وفي كل من هذه التمسكات اعتراضات مع أجوبتها تركناها احترازا عن الإطناب.
قوله "مثل خبر بريرة في الهدية" فإنه روي أنه عليه السلام قبل قولها في الهدايا. وخبر سلمان في الهدية والصدقة فإنه روي أن سلمان رضي الله عنه كان من قوم يعبدون الخيل البلق فوقع عنده أنه ليس على شيء وجعل ينتقل من دين إلى دين طالبا للحق حتى قال له بعض أصحاب الصوامع لعلك تطلب الحنيفية, وقد قرب أوانها فعليك بيثرب, ومن علامة النبي المبعوث أنه يأكل الهدية, ولا يأكل الصدقة وبين كتفيه خاتم النبوة فتوجه نحو المدينة فأسره بعض العرب وباعه من اليهود بالمدينة, وكان يعمل في نخيل مولاه بإذنه حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فلما سمع بمقدم النبي عليه السلام أتاه بطبق فيه رطب ووضعه بين يديه فقال ما هذا فقال صدقة فقال لأصحابه كلوا, ولم يأكل فقال سلمان في نفسه هذه واحدة ثم أتاه من الغد بطبق فيه رطب فقال ما هذا يا سلمان فقال هدية فجعل يأكل ويقول لأصحابه كلوا فقال سلمان هذه أخرى ثم تحول خلفه فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم مراده فألقى الرداء عن كتفه حتى نظر سلمان إلى خاتم النبوة بين كتفيه(2/542)
ومشهور عنه أنه بعث الأفراد إلى الآفاق مثل علي, ومعاذ وعتاب بن أسيد ودحية وغيرهم رضي الله عنهم, وهكذا أكثر من أن يحصى, وأشهر من أن
ـــــــ
فأسلم1 فقبل النبي عليه السلام قوله في الصدقة والهدية مع أنه كان عبدا حينئذ.
"وذلك" أي قبول خبر الواحد منه كثير فإنه قبل خبر أم سلمى في الهدايا أيضا. وكانت الملوك يهدون إليه على أيدي الرسل, وكان يقبل قولهم, ولا شك أن الإهداء منهم لم يكن على أيدي قوم لا يتصور تواطؤهم على الكذب. وكان يجيب دعوة المملوك ويعتمد على خبره أني مأذون. وقبل شهادة الأعرابي في الهلال, وقبل خبر الوليد بن عقبة حين بعثه ساعيا إلى قوم فأخبر أنهم ارتدوا حتى أجمع النبي عليه السلام على غزوهم ونزل قوله تعالى {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ} "الحجرات: 6" الآية, وكان يقبل إخبار الجواسيس والعيون المبعوثة إلى أرض العدو. ومشهور عنه أي قد اشتهر واستفاض بطريق التواتر عن النبي عليه السلام أنه بعث الأفراد إلى الآفاق لتبليغ الرسالة وتعليم الأحكام. فإنه بعث عليا رضي الله عنه إلى اليمن أميرا. وبعده بعث معاذا أيضا إلى اليمن أميرا لتعليم الأحكام والشرائع. وبعث دحية بن خليفة الكلبي بكتابه إلى قيصر أو هرقل بالروم. وبعث عتاب بن أسيد إلى مكة أميرا معلما للشرائع. وبعث عبد الله بن حذافة السهمي بكتابه إلى كسرى. وعمرو بن أمية الضمري إلى الحبشة. وعثمان بن العاص إلى الطائف. وحاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب الإسكندرية. وشجاع بن وهب الأسدي إلى الحارث بن أبي شمر الغساني بدمشق. وسليط بن عمرو العامري إلى هوذة بن خليفة باليمامة., وأنفذ عثمان بن عفان إلى أهل مكة عام الحديبية. وولى على الصدقات عمر وقيس بن عاصم, ومالك بن نويرة والزبرقان بن بدر وزيد بن حارثة وعمرو بن العاص وعمرو بن حزم وأسامة بن زيد وعبد الرحمن بن عوف, وأبا عبيدة بن الجراح وغيرهم ممن يطول ذكرهم. وإنما بعث هؤلاء ليدعو إلى دينه وليقيم الحجة, ولم يذكر في موضع مع أنه بعث في وجه واحد عددا يبلغون حد التواتر, وقد ثبت باتفاق أهل السير أنه كان يلزمهم قبول قول رسوله وسعاته وحكامه, وإن احتاج في كل رسالة إلى إنفاذ عدد التواتر لم يف بذلك جميع أصحابه وخلت دار هجرته عن أصحابه, وأنصاره وتمكن منه أعداؤه, وفسد النظام والتدبير وذلك وهم باطل قطعا فتبين بهذا أن خبر الواحد موجب للعمل مثل المتواتر, وهذا دليل قطعي لا يبقى معه عذر في المخالفة كذا ذكر الغزالي وصاحب القواطع.
قوله "وكذلك أصحابه" عملوا بالآحاد وحاجوا بها في وقائع خارجة عن العد
ـــــــ
1 أخرجه الإمام أحمد في المسند 5/438.(2/543)
يخفى.وكذلك أصحابه رضي الله عنهم عملوا بالآحاد وحاجوا بها قد ذكر
ـــــــ
والحصر من غير نكير منكر, ولا مدافعة دافع فكان ذلك منهم إجماعا على قبولها وصحة الاحتجاج بها. فمنها ما تواتر أن يوم السقيفة لما احتج أبو بكر رضي الله عنه على الأنصار بقوله عليه السلام: "الأئمة من قريش" ,قبلوه من غير إنكار عليه,ومنها رجوعهم إلى خبر أبي بكر رضي الله عنه في قوله عليه السلام: "الأنبياء يدفنون حيث يموتون1" ,وقوله عليه السلام: "ونحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة2" . ومنها رجوعه إلى توريث الجدة بخبر المغيرة,ومحمد بن مسلمة أن النبي عليه السلام أعطاها السدس. ونقضه حكمه في القضية التي أخبر بلال أن رسول الله عليه السلام حكم فيها بخلاف ما حكم هو فيها. ورجوع عمر رضي الله عنه عن تفصيل الأصابع في الدية حيث كان يجعل في الخنصر ستة من الإبل, وفي البنصر تسعة, وفي الوسطى والسبابة عشرة عشرة,وفي الإبهام خمسة عشر إلى خبر عمرو بن حزام أن في كل إصبع عشرة. وعن عدم توريث المرأة من دية زوجها إلى توريثها منها بقول: "الضحاك بن مزاحم أن النبي عليه السلام كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها3". وعمله بخبر عبد الرحمن بن عوف في أخذ الجزية من المجوسي, وهو قوله عليه السلام: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" . وعمله بخبر حمل بن مالك, وهو قوله: "كنت بين حاذتين لي يعني ضرتين فضربت أحدهما الأخرى بمسطح فألقت جنينا ميتا فقضى فيه رسول الله عليه السلام بغرة فقال عمر رضي الله عنه لو لم نسمع هذا لقضينا فيه برأينا4". ومنها أن عثمان رضي الله عنه أخذ برواية: "فريعة بنت مالك حين قال جئت إلى رسول الله عليه السلام أستأذنه بعد وفاة زوجي في موضع العدة فقال: "امكثي حتى تنقضي عدتك5" . ولم ينكر الخروج للاستفتاء في أن المتوفى عنها زوجها تعتد في منزل الزوج, ولا تخرج ليلا, ولا نهارا إذا وجدت من يقوم بأمرها., ومنها ما
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في الجنائز حديث رقم 1018.
2 أخرجه الترمذي في الفرائض حديث رقم 2101 وابن ماجة في الفرائض حديث رقم 2724.
3 أخرجه الإمام أحمد في المسند 4/79 وأبو داود في الفرائض حديث رقم 2927 والترمذي في الفرائض حديث رقم 2111
4 أخرجه مسلم في القسامة حديث رقم 1628 والترمذي في الديات حديث رقم 1411 وأبو داود في الديات حديث رقم 4568-4573 وابن ماجة في الديات حديث رقم 2640 والإمام أحمد في المسند 2/244.
5 أخرجه أبو داود في الطلاق حديث رررقم 2300 والترمذي في الطلاق حديث رقم 1204 وابن ماجة في الطلاق حديث رقم 2031 والإمام أحمد في المسند 6/420.(2/544)
---------------------------------------------------
ـــــــ
اشتهر من عمل علي رضي الله عنه برواية المقداد في حكم المذي1, ومن قبوله خبر الواحد واستظهاره باليمين حتى قال في الخبر المشهور كنت إذا سمعت من رسول الله حديثا نفعني الله بما شاء, وإذا حدثني غيره حلفته فإذا حلف صدقته2, والتحليف إنما كان للاحتياط في سياق الحديث على وجه ولئلا يقدم على الرواية بالظن لا لتهمة الكذب. ومنها رجوع الجمهور إلى خبر عائشة رضي الله عنها في وجوب الغسل بالتقاء الختانين. ومنها عمل ابن عباس بخبر أبي سعيد الخدري رضي الله عنهم في الربا في النقد بعد أن كان لا يحكم بالربا في غير النسيئة,ومنها عمل زيد بن ثابت بخبر امرأة من الأنصار أن الحائض تنفر بلا وداع3 بعد أن كان لا يرى ذلك ومنها ما روي عن أنس رضي الله عنه قال كنت أسقي أبا عبيدة, وأبا طلحة وأبي بن كعب شرابا إذ أتانا آت, وقال الخمر قد حرمت فقال أبو طلحة قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها فقمت إلى مهر ليس لنا فضربتها إلى أسفله حتى تكسرت4.
ومنها ما اشتهر مع عمل أهل قباء في التحول عن القبلة إلى الكعبة حيث أخبرهم واحد أن القبلة نسخت5. ومنها ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال كنا نخابر أربعين سنة, ولا نرى به بأسا حتى روى لنا رافع بن خديج أن النبي عليه السلام نهى عن المخابرة فانتهينا6.
وعلى ذلك جرت سنة التابعين كعلي بن الحسين ومحمد بن علي وسعيد بن جبير ونافع بن جبير وخارجة بن زيد وأبي سليمان بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار وعطاء بن يسار وطاوس وسعيد بن المسيب, وفقهاء الحرمين, وفقهاء البصرة كالحسن وابن سيرين, وفقهاء الكوفة وتابعيهم كعلقمة والأسود والشعبي ومسروق. وعليه جرى من بعدهم من الفقهاء من غير إنكار عليهم من أحد في عصر.
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الحيض حديث رقم 303 وأبو داود في الطهارة حديث رقم 206 والترمذي في الطهارة حديث رقم 114
2 أخرجه الإمام أحمد في مسنده 1/154 وأبو داود في الصلاة حديث رقم 1521 والترمذي في التفسير حديث رقم 3006 وابن ماجة في إقامة الصلاة حديث رقم 1395.
3 أخرجه مسلم في الحج حديث رقم 1328.
4 أخرجه مسلم في الأشربة حديث رقم 1980 وأبو داود في الأشربة حديث رقم 3673.
5 أخرجه مسلم في المساجد حديث رقم 526 والترمذي في الصلاة حديث رقم 340.
6 أخرجه الشيخ أحمد في المسند 2/11.(2/545)
محمد رحمه الله في هذا غير حديث في كتاب الاستحسان واختصرنا على هذه الجملة لوضوحها واستفاضتها, وأجمعت الأمة على قبول أخبار الآحاد من
ـــــــ
واعلم أن هذه الأخبار, وإن كانت أخبار آحاد لكنها متواترة من جهة المعنى كالأخبار الواردة بسخاء حاتم وشجاعة علي فلا يكون لقائل أن يقول ما ذكرتموه في إثبات كون خبر الواحد حجة هي أخبار آحاد وذلك يتوقف على كونها حجة فيدور., ولئن قال الخصوم لا نسلم أنهم علموا بها بل لعلهم علموا بغيرها من نصوص متواترة أو أخبار آحاد مع ما اقترن بها من المقاييس, وقرائن الأحوال فلا وجه له; لأنه عرف من سياق تلك الأخبار أنهم إنما علموا بها على ما قال عمر رضي الله عنه لو لم نسمع بهذا لقضينا برأينا وحيث قال ابنه حتى روى رافع بن خديج إلى آخره.
فإن قيل: ما ذكرتم من قبولهم خبر الواحد معارض بإنكارهم إياه في وقائع كثيرة. فإن أبا بكر رضي الله عنه أنكر خبر المغيرة في ميراث الجدة حتى انضم إليه رواية محمد بن مسلمة. وأنكر عمر رضي الله عنه خبر فاطمة بنت قيس في السكنى., وأنكرت عائشة خبر ابن عمر رضي الله عنهم في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه. ورد علي رضي الله عنه خبر معقل بن سنان الأشجعي في قصة بروع بنت واشق قلنا إنهم إنما أنكروا لأسباب عارضة من وجود معارض أو فوات شرط لا لعدم الاحتجاج بها في جنسها فلا يدل على بطلان الأصل كما أن ردهم بعض ظواهر الكتاب وتركهم بعض أنواع القياس ورد القاضي بعض الشهادات لا يدل على بطلان الأصل.
قوله "قد ذكر محمد في هذا" أي في قبول خبر الواحد غير حديث أي أحاديث كثيرة, وقد ذكرنا أكثرها فيما أوردناه. واختصرنا هذه الجملة أي اكتفينا بإيراد ما ذكرنا من خبر بريرة وسلمان وتبليغ معاذ وغيرها لوضوحها. أو معناه لم تذكر ما أورده محمد لشهرتها. ولفظ التقويم ونحن سكتنا عنها اختصارا واكتفاء بما فعل الناس
قوله "وأجمعت الأمة على" كذا أي الإجماع منهم في هذه الصور على القبول يدل على ثبوت الحكم في المتنازع فيه. وبيانه أن الإجماع قد انعقد منهم على قبول خبر الواحد في المعاملات فإن العقود كلها بنيت على أخبار الآحاد مع أنه قد يترتب على خبر الواحد في المعاملات ما هو حق الله تعالى كما في الإخبار بطهارة الماء ونجاسته والإخبار بأن هذا الشيء أو هذه الجارية أهدى إليك فلان وأن فلانا وكلني ببيع هذه الجارية أو بيع هذا الشيء. وأجمعوا أيضا على قبول شهادة من لا يقع العلم بقوله مع أنها قد تكون في إباحة دم, وإقامة حد واستباحة فرج. وعلى قبول قول المفتي للمستفتي مع أنه قد يجب بما بلغه عن الرسول بطريق الآحاد فإذا جاز القبول فيما ذكرنا من أمور الدين والدنيا جاز في(2/546)
الوكلاء والرسل والمضاربين وغيرهم, وأما المعقول فلأن الخبر يصير حجة بصفة الصدق, والخبر يحتمل الصدق والكذب وبالعدالة بعد أهلية الأخبار يترجح الصدق وبالفسق الكذب فوجب العمل برجحان الصدق ليصير حجة للعمل ويعتبر احتمال السهو والكذب لسقوط علم اليقين, وهذا; لأن العمل صحيح من غير علم اليقين ألا ترى أن العمل بالقياس صحيح بغالب الرأي وعمل الحكام بالبينات صحيح بلا يقين فكذلك هذا الخبر من العدل يفيد علما بغالب الرأي وذلك كاف للعمل, وهذا ضرب علم فيه اضطراب فكان دون علم الطمأنينة. وأما دعوى علم اليقين به فباطل بلا شبهة لأن العيان يرده من قبل أنا قد بينا أن المشهور لا يوجب علم اليقين فهذا أولى; وهذا لأن خبر الواحد محتمل لا محالة, ولا يقين مع الاحتمال, ومن أنكر هذا فقد سفه نفسه,
ـــــــ
سائر المواضع. فإن قيل الفرق بين المحلين ثابت فإن في بعض المعاملات قد يقبل خبر من يسكن القلب إلى صدقه من صبي, وفاسق بل كافر, ولا يقبل خبر هؤلاء في أخبار الدين فكيف يحتج بهذا الفصل مع وقوع الفرق بينهما. قلنا محل الاستدلال هو استعمال قول من لا يؤمن الغلط عليه ووقوع الكذب منه, وهو موجود في الأمرين, وإن كان أحدهما يتساهل فيه في الآخر, وإنما يراعى في الجمع والفرق الوصف الذي يتعلق به الحكم دون ما عداه. وما ذكروا من الفرق بين المعاملات, وأخبار الدين ليس بصحيح; لأن الضرورة متحققة في الأخبار لتحققها في المعاملات; لأن المتواتر لا يوجد في كل حادثة فلو رد خبر الواحد لشبهة في النقل لتعطلت الأحكام فأسقطنا اعتبارها في حق العمل كما في القياس والشهادة.
وأما الجواب عن تمسكهم بالآيتين فنقول لا نسلم أن المراد منهما المنع عن اتباع الظن مطلقا بل المراد المنع عن اتباعه فيما المطلوب منه العلم اليقيني من أصول الدين أو فروعه. وقيل المراد من الآية أعني قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} "الإسراء: 36". منع الشاهد عن جزم الشهادة إلا بما يتحقق. على أنا ما اتبعنا الظن فيه, وإنما اتبعنا الدليل القاطع الذي يوجب العمل بخبر الواحد من السنة المتواترة والإجماع.
قوله "لأن العيان يرده" أراد به أنا نجد في أنفسنا عدم حصول العلم به بطريق الضرورة كما نجد حصول العلم بالمتواتر. قال الغزالي رحمه الله: خبر الواحد لا يفيد العلم, وهو معلوم بالضرورة فإنا لا نصدق بكل ما نسمع, ولو صدقناه لو تعارض خبران فكيف نصدق بالضدين. قال, وما حكي عن بعض المحدثين أنه يورث العلم لعلهم أرادوا(2/547)
وأضل عقله.
وإذا اجتمع الآحاد حتى تواترت حدث حقية الخبر ولزوم الصدق باجتماعهم, وذلك وصف حادث مثل إجماع الأمة إذا ازدحمت الآراء سقطت الشبهة فأما الآحاد في أحكام الآخرة فمن ذلك ما هو مشهور, ومن ذلك ما هو دونه لكنه يوجب ضربا من العلم على ما قلنا, وفيه ضرب من العمل أيضا, وهو عقد القلب عليه إذ العقد فضل على العلم والمعرفة, وليس من ضروراته قال الله
ـــــــ
به أنه يفيد العلم بوجوب العمل إذ العمل بخبر الواحد معلوم الوجوب بدليل قاطع أوجبه عند ظن الصدق أو سموا الظن علما, ولهذا قال بعضهم يورث العلم الظاهر, والعلم ليس له ظاهر وباطن, وإنما هو الظن.
قوله "وإذا اجتمع الآحاد حتى تواترت" إلى آخره يحتمل أن يكون جوابا عما ذكر في الباب الأول من كلام الخصوم أن المتواتر صار جمعا بالآحاد وخبر كل واحد محتمل فلا يثبت به اليقين. ويجوز أن يكون جوابا عما يتمسك لمن قال من أهل الحديث بثبوت العلم الاستدلالي بخبر الواحد بأن الخبر المتواتر لما أوجب العلم, وليس فيه إلا اجتماع الآحاد لزم أن يوجب خبر الواحد العلم أيضا; لأنه لا أثر للاجتماع في تغيير ذوات الأفراد فإن الغنم المجتمعة لا تصير بقرا, وإبلا بالاجتماع وتقرير الجواب أنا قد رأينا في المحسوس والمعقول والمشروع أنه قد يثبت باجتماع الأفراد ما لا يثبت بالأفراد بدون الاجتماع فإن باجتماع الطاقات في الحبل يحدث من القوة ما لا يوجد في طاقة أو طاقتين, وباجتماع المقدمات الصادقة تثبت الحجة العقلية, ولا يوجد ذلك في إفرادها, وباجتماع الحروف والكلمات صار القرآن معجزا, ولا يوجد الإعجاز في آحادها. ويجب بشهادة اثنين أو أربعة على القاضي ما لا يجب بشهادة واحد. ويثبت بغسل الأعضاء الأربعة من حل الصلاة ما لا يثبت بغسل عضو واحد. ويثبت بالطلقات الثلاث ما لا يثبت بطلقة فعرفنا أن اعتبار الاجتماع بحالة الانفراد وعكسه غير صحيح, وأنه يحدث للخبر عند الاجتماع من القوة ما لا يكون له في غير هذه الحالة
قوله "إذ العقد" أي اعتقاد القلب فضل على العلم; لأن العلم قد يكون بدون عقد القلب كعلم أهل الكتاب بحقية النبي عليه السلام مع عدم اعتقادهم حقيته, وكعلمنا بدلائل الخصوم في الأصول والفروع من غير أن يعتقدها وعلى العكس, والعقد قد يكون بدون العلم أيضا كاعتقاد المقلد, وإذا كان كذلك جاز أن يكون خبر الواحد موجبا للاعتقاد الذي هو عمل القلب, وإن لم يكن موجبا للعلم. قال أبو اليسر: الأخبار الواردة في أحكام الآخرة من باب العمل فإن العمل نوعان عمل الجوارح واعتقاد القلب فالعمل بالجوارح إن تعذر لم يتعذر العمل بالقلب اعتقادا على أنا إنما عرفنا عذاب القبر بدلالات(2/548)
تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} "النمل: 14", وقال تعالى {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} "البقرة: 146" و"الأنعام 2" فصح الابتلاء بالعقد كما صح بالعمل بالبدن ولهذا جوزنا القول بالنسخ قبل العمل, وقبل التمكن من العمل, والله أعلم.وإذا ثبت أن خبر الواحد حجة قلنا: إنه منقسم وهذا
ـــــــ
النصوص من كتاب الله, وإشاراتها لا بأخبار الآحاد. "ولهذا" أي; ولأن الابتلاء بعقد القلب يصح بدون عمل البدن جوزنا النسخ قبل التمكن من العمل لحصول الفائدة, وهو الابتلاء لعقد القلب, والله أعلم بالصواب.(2/549)
"باب تقسيم الراوي الذي جعل خبره حجة"
قال الشيخ الإمام رضي الله عنه وهو ضربان معروف ومجهول والمعروف نوعان من عرف بالفقه والتقدم في الاجتهاد ومن عرف بالرواية دون الفقه والفتيا وأما المجهول فعلى وجوه إما أن يروي عنه الثقات ويعملوا بحديثه ويشهدوا له بصحة حديثه ويسكتوا عن الطعن فيه أو يعارضوه بالطعن والرد أو اختلف فيه أو لم يظهر حديثه بين السلف فصار قسم المجهول على خمسة أوجه أما المعروفون فالخلفاء الراشدون وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وأبو موسى الأشعري وعائشة رضي الله عنهم وغيرهم ممن اشتهر بالفقه والنظر وحديثهم حجة إن وافق القياس أو خالفه فإن وافقه تأيد به, وإن خالفه ترك القياس به, وقال
ـــــــ
"باب تقسيم الراوي الذي جعل خبره حجة"
وإذا ثبت أن خبر الواحد حجة فاعلم أن كل خبر وليس المراد بالقبول التصديق, ولا بالرد التكذيب بل يجب علينا قبول قول العدل, وربما يكون كاذبا أو غالطا, ولا يجوز قبول قول الفاسق, وربما يكون صادقا بل المقبول ما يجب العمل به والمردود ما لا تكليف علينا في العمل به ثم للقبول شرائط بعضها متفق عليه وبعضها مختلف فيه وهذا الباب لبيان بعض شرائطه; لأن حاصله اشتراط كون الراوي معروفا بالرواية والعدالة والضبط والفقاهة لقبول خبره مطلقا, موافقا للقياس أو مخالفا وليست الفقاهة فيه شرطا عند البعض.
"أما المعروفون" يعني بالفقه من الصحابة وغيرهم مثل أبي بن كعب وعبد الرحمن بن عوف وحذيفة بن اليمان وعبد الله بن الزبير, قوله "وحديثهم حجة إن وافق القياس أو خالفه" وهو مذهب الجمهور من الفقهاء وأئمة الحديث فإن وافقه تأيد به أي(2/550)
مالك رحمه الله فيما يحكى عنه بل القياس مقدم عليه; لأن القياس حجة بإجماع السلف وفي اتصال هذا الحديث شبهة والجواب أن الخبر يقين
ـــــــ
قوي الحديث بالقياس يعني يكون التمسك بالحديث لا بالقياس بل يكون القياس مؤيدا له وقال مالك رحمه الله فيما يحكى عنه: بل القياس مقدم على الحديث أراد أنه لم يشتهر هذا المذهب عنه قال صاحب القواطع وقد حكي عن مالك أن خبر الواحد إذا خالف القياس لا يقبل وهذا القول باطل سمج مستقبح عظيم, وأنا أجل منزلة مالك عن مثل هذا القول ولا يدرى ثبوته منه. وذكر أبو الحسين البصري في المعتمد أن القياس إذا عارضه خبر واحد فإن كانت علة القياس منصوصة بنص قطعي وخبر الواحد ينفي موجبها, وجب العمل بالقياس بلا خلاف; لأن النص على العلة كالنص على حكمها فلا يجوز أن يعارضها خبر الواحد. وإن كانت منصوصة بنص ظني يتحقق المعارضة ويكون العمل بالخبر أولى من القياس بالاتفاق; لأنه دال على الحكم بصريحه والخبر الدال على العلة يدل على الحكم بواسطة, وإن كانت مستنبطة من أصل ظني كان الأخذ بالخبر أولى بلا خلاف; لأن الظن والاحتمال كلما كان أقل كان أولى بالاعتبار وذلك في الخبر, وإن كانت مستنبطة من أصل قطعي والخبر المعارض للقياس خبر واحد فهو موضع الخلاف وإن كان الأصوليون ذكروا الخلاف مطلقا. فعند الشافعي وجمهور أئمة الحديث الخبر راجح سواء كان الراوي عالما فقيها أو لم يكن بعد إن كان عدلا ضابطا وهو مذهب الشيخ أبي الحسن الكرخي وقال عيسى بن أبان إن كان الراوي عدلا ضابطا عالما وجب تقديم خبره على القياس وإلا كان موضع الاجتهاد. وحكي عن مالك أنه رجح القياس على خبر الواحد فإنه عمل بالقياس في الصائم إذا أكل أو شرب ناسيا ولم يعمل بالخبر الوارد فيه واحتج في ذلك بأنه قد اشتهر من الصحابة الأخذ بالقياس ورد خبر الواحد فإن ابن عباس لما سمع أبا هريرة رضي الله عنهم يروي: "توضئوا مما مسته النار" قال لو توضأت بماء سخن أكنت تتوضأ منه1 ولما سمعه يروي: "من حمل جنازة فليتوضأ" قال أيلزمنا الوضوء من حمل عيدان يابسة2 ورد علي رضي الله عنه حديث بروع بالقياس3 ورد عمر رضي الله عنه حديث فاطمة بنت قيس بالقياس ورد إبراهيم النخعي والشعبي ما
ـــــــ
1 أخرجه الترمذفي الطهارة حديث رقم 79 وابن ماجة في الطهارة حديث رقم 485 والإمام أحمد في المسند 1/236.
2 أخرجه أبود داود في الجنائز حديث رقم 3161 والترمذي في الجنائز حديث رقم 993 وابن ماجة مختصرا حديث رقم 1463 والإمام أحمد في المسند 2/545.
3 أخرجه أبو داود في النكاح حديث رقم 2114- 2116 والترمذي في النكاح حديث رقم 1145 وابن ماجة في النكاح حديث رقم 1891(2/551)
بأصله; وإنما دخلت الشبهة في نقله والرأي محتمل بأصله في كل وصف على الخصوص فكان الاحتمال في الرأي أصلا وفي الحديث عارضا ولأن الوصف في
ـــــــ
يروى أن ولد الزنا شر الثلاثة, وقال: لو كان ولد الزنا شر الثلاثة لما انتظر بأمه أن تضع حملها وهذا نوع قياس وبأن القياس حجة بإجماع السلف من الصحابة وفي اتصال خبر إلى النبي عليه السلام شبهة فكان الثابت بالقياس الذي هو ثابت بالإجماع أقوى من الثابت بخبر الواحد فكان العمل به أولى وبأن القياس أثبت من خبر الواحد لجواز السهو والكذب على الراوي, ولا يوجد ذلك في القياس وبأن القياس لا يحتمل تخصيصا والخبر يحتمله فكان غير المحتمل أولى من المحتمل.
واحتج من قدم خبر الواحد على القياس بإجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنهم كانوا يتركون أحكامهم بالقياس إذا سمعوا خبر الواحد فإن أبا بكر رضي الله عنه نقض حكما حكم فيه برأيه لحديث سمعه من بلال وترك عمر رضي الله عنه رأيه في الجنين وفي دية الأصابع بالحديث حتى قال كدنا نقضي فيه برأينا وفيه سنة رسول الله عليه السلام وترك رأيه في عدم توريث المرأة من دية زوجها بالحديث الذي رواه الضحاك بن مزاحم وترك ابن عمر رضي الله عنهما رأيه في المزارعة بالحديث الذي سمعه من رافع بن خديج ونقض عمر بن عبد العزيز ما حكم به من رد الغلة على البائع عند الرد بالعيب بما روي عن النبي عليه السلام أن: "الخراج بالضمان" وفي نظائره كثرة.
وأما ما ذكر من ردهم خبر الواحد فذلك لأسباب عارضة لا لترجيحهم القياس عليه وبأن الخبر يقين بأصله; لأنه قول الرسول عليه السلام لا احتمال للخطأ فيه; وإنما الشبهة في طريقه وهو النقل; ولهذا لو ارتفعت الشبهة كان حجة قطعا بمنزلة المسموع منه عليه السلام والرأي محتمل بأصله في كل وصف أي كل وصف من أوصاف النص يحتمل أن يكون هو المؤثر في الحكم, ويحتمل أن لا يكون فكان الاحتمال الثابت في الأصل أقوى من الاحتمال الثابت في الطريق بعد التيقن بالأصل فكان الأخذ بما هو أضعف احتمالا وهو الخبر أولى. وقوله فكان الاحتمال في الرأي أصلا يعني الأصل في الرأي الاحتمال وعدم اليقين; لأن الوقوف على الوصف الذي هو مناط الحكم لا يتحقق بطريق التيقن إلا بالنص أو بالإجماع, وذلك أمر عارض واليقين في الخبر أصل; لأنه الكلام المسموع من الرسول صلى الله عليه وسلم وهو حجة بلا شبهة; وإنما تحققت الشبهة بعارض النقل وتخلل الواسطة واحتمال الغلط والنسيان فكان الاحتمال فيه عارضا والاحتمال الأصلي أقوى من الاحتمال العارض فلهذا كان العمل بالخبر أولى وذكر بعض الأصوليين أن التمسك بالخبر لا يتم إلا بثلاث مقدمات ثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ودلالته على الحكم ووجوب العمل(2/552)
النص كالخبر, والرأي والنظر فيه كالسماع, والقياس عمل به والوصف ساكت عن البيان والخبر بيان نفسه فكان الخبر فوق الوصف في الإبانة, والسماع فوق الرأي في الإصابة. ولهذا قدمنا خبر الواحد على التحري في القبلة فلا يجوز التحري معه, وأما رواية من لم يعرف بالفقه ولكنه معروف بالعدالة والضبط مثل أبي هريرة وأنس بن مالك رضي الله عنهما فإن وافق القياس عمل به, وإن خالفه
ـــــــ
به والأولى ظنية والثانية والثالثة يقينيتان فأما التمسك بالقياس فلا يتم إلا بأربع مقدمات أو خمس ثبوت حكم الأصل. وكونه معللا بالعلة الفلانية وحصول تلك العلة في الفرع وعدم المانع في الفرع عند من يجوز تخصيص العلة ووجوب العمل به, والأولى والخامسة يقينيتان, والبواقي ظنية وإذا كان كذلك كان العمل بالخبر أقل ظنا من العمل بالقياس فوجب أن يكون الخبر راجحا.
قوله "ولأن الوصف في النص كالخبر" أي الوصف الذي عينه المجتهد لتعليق الحكم به بمنزلة الخبر من حيث إن الحكم يضاف إليه كالخبر والنظر فيه أي التأمل والوقوف على تأثيره بمنزلة سماع الخبر من الراوي والقياس عمل به أي تعدية الحكم بوساطته إلى الفرع وهو العمل بذلك الوصف بمنزلة العمل بالخبر. والوصف ساكت عن البيان أي عن إثبات المدعى نصا; لأن القايس إنما جعله شاهدا على الحكم بضرب إشارة من الشرع والخبر بيان نفسه حقيقة; لأنه ناطق بالحكم فكان أقوى من الوصف في الإبانة أي في إظهار الحكم وإثباته, والسماع فوق الرأي في الإصابة إذ لا مدخل للاحتمال فيه; لأنه ثابت حسا, والغلط لا يجري في المحسوسات, ولا كذلك الرأي فلا يجوز ترك القوي بالضعيف وأما ما تمسك الخصم به من رد الصحابة الخبر بالقياس فليس كذلك بل ردوه لعدم فقه الراوي أو لمعان عارضة ذكرناها ونذكرها أيضا. وقوله بأن القياس حجة بالإجماع وفي اتصال خبر الواحد شبهة في غاية السقوط; لأن خبر الواحد حجة بالإجماع أيضا والشبهة في القياس أكثر منها في خبر الواحد فكيف يكون أقوى منه وقوله لاحتمال الكذب والسهو مدخل في الخبر دون القياس معارض بأن احتمال كون الحكم غير متعلق بالوصف المستنبط ثابت في القياس دون الخبر وقوله الخبر محتمل للتخصيص, والقياس لا يحتمله قلنا: الكلام في خبر يرد ويخالفه القياس وفي هذه الصورة لا احتمال
قوله "فإن وافق" أي خبر من عرف بالعدالة والضبط دون الفقه القياس عمل به أي يجب العمل بذلك الخبر, وإن خالف القياس لم يترك الخبر إلا بالضرورة وانسداد باب الرأي من كل وجه حتى إذا كان موافقا لقياس مخالفا لقياس آخر لم يترك الحديث بخلاف(2/553)
لم يترك إلا بالضرورة وانسداد باب الرأي ووجه ذلك أن ضبط حديث النبي عليه السلام عظيم الخطر وقد كان النقل بالمعنى مستفيضا فيهم فإذا قصر فقه الراوي عن درك معاني حديث النبي عليه السلام وإحاطتها لم يؤمن من أن يذهب عليه شيء من معانيه بنقله فيدخله شبهة زائدة يخلو عنها القياس فيحتاط في مثله وإنما نعني بما قلنا قصورا عند المقابلة بفقه الحديث فأما الازدراء بهم فمعاذ
ـــــــ
خبر المجهول فإنه إن كان موافقا لقياس مخالفا لآخر جاز تركه والعمل بالقياس المخالف كذا ذكر في بعض فوائد هذا الكتاب. وقوله وانسداد باب الرأي تفسير للضرورة وفي قوله لم يترك إلا بالضرورة لطف ورعاية أدب كما ترى ووجه ذلك أي وجه عدم القبول عند انسداد باب الرأي أن ضبط حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عظيم الخطر; لأنه عليه السلام قد أوتي جوامع الكلم واختصر له اختصارا كما أخبر عن ذلك, والوقوف على كل معنى ضمنه في كلامه أمر عظيم; ولهذا قلت رواية الكبار من الصحابة رضي الله عنهم, ألا ترى إلى ما روي عن عمرو بن ميمون أنه قال صحبت ابن مسعود رضي الله عنه سنين ما سمعته يروي حديثا إلا مرة واحدة فإنه قال سمعت رسول الله عليه السلام ثم أخذه البهر والفرق وجعلت فرائصه ترتعد فقال نحو هذا أو قريبا منه أو كلاما هذا معناه سمعت رسول الله عليه السلام يقول كذا1 وقد كان نقل الحديث بالمعنى مستفيضا فيهم على ما جاء في كثير من الأخبار أمر النبي عليه السلام بكذا ونهى عن كذا ولما ظهر ذلك منهم احتمل أن هذا الراوي نقل معنى كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبارة لا تنتظم المعاني التي انتظمها عبارة الرسول عليه السلام لقصور فقهه عن دركها إذ النقل لا يتحقق إلا بقدر فهم المعنى فيدخل هذا الخبر شبهة زائدة تخلو عنها القياس فإن الشبهة في القياس ليست إلا في الوصف الذي هو أصل القياس وهاهنا تمكنت شبهة في متن الخبر بعدما تمكنت شبهة في الاتصال فكان فيه شبهتان وفي القياس شبهة واحدة فيحتاط في مثل هذا الخبر بترجيح ما هو أقل شبهة وهو القياس عليه;
ولهذا قال أصحابنا لا يجوز للقاضي نقل عبارة الشهود إلى عبارة نفسه إذا لم يكن فقيها لاحتمال الزيادة في محل النقصان أو النقصان في محل الزيادة. ثم هذا الكلام لما أوهم أنه ازدرى ببعض الصحابة وطعن فيهم بالغلط وعدم الفهم كما ترى اعتذر عنه بقوله; وإنما نعني بما قلنا من قصور فقه الراوي قصورا عند المقابلة بفقه الحديث أي عند المقابلة بما هو فقه لفظ النبي عليه السلام فإما أن نعني به الازدراء أي الاستخفاف بهم فمعاذ الله عن ذلك فإن محمدا حكى عن أبي حنيفة رحمهما الله
ـــــــ
1 أخرجه ابن ماجة في المقدمة حدبث رقم 23.(2/554)
الله من ذلك فإن محمدا رحمه الله يحكي عن أبي حنيفة رضي الله عنه في غير موضع أنه احتج بمذهب أنس بن مالك رضي الله عنه وقلده فما ظنك في أبي هريرة رضي الله عنه حتى أن المذهب عند أصحابنا رحمهم الله في ذلك أنه لا يرد حديث أمثالهم إلا إذا انسد باب الرأي والقياس; لأنه إذا انسد صار الحديث
ـــــــ
أنه احتج في مواضع كثيرة مثل تقدير الحيض وغيره بمذهب أنس بن مالك رضي الله عنه مقلدا له فما ظنك في أبي هريرة مع أنه أعلى درجة في العلم من أنس رضي الله عنهما لاشتراكهما في الصحبة واختصاص أبي هريرة بدعاء الرسول عليه السلام له بالفهم ونفثه في ردائه على ما روي عنه أنه قال: "حضرت مجلسا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "من يبسط منكم رداءه حتى أفيض فيه مقالتي فيضمها إليه ثم لا ينساها" فبسطت بردة كانت علي فأفاض رسول الله عليه السلام فيها مقالته فضممتها إلى صدري فما نسيت بعد ذلك شيئا1"; لأنه إذا انسد باب الرأي صار الحديث ناسخا يعني إذا تحققت الضرورة بانسداد باب الرأي من كل وجه وجب ترك الخبر; لأنه لو عمل به وترك القياس صار الحديث مع التوهم الذي ذكرنا ناسخا للكتاب وهو, قوله تعالى {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} "الحشر: 2" فإنه يقتضي وجوب العمل بالقياس والحديث المشهور وهو حديث معاذ وغيره معارضا للإجماع فإن الأمة أجمعت على كون القياس حجة عند عدم دليل أقوى منه ونفاة القياس حدثوا بعد القرون الثلاثة فلا يعبأ بخلافهم بخلاف خبر الفقيه; لأن التوهم المذكور لما انقطع عنه كان أقوى من القياس لبقاء الشبهة في طريقه دون أصله فلا يلزم من تقديمه عليه مخالفة هذه الأدلة; لأنها توجب العمل به عند عدم الأقوى فأما عند وجوده فتوجب العمل بالأقوى وترك العمل بالقياس فلا يتحقق النسخ والمعارضة. وإنما قال معارضا; لأنه لا نسخ للإجماع بالحديث; وإنما ينسخ بإجماع آخر مثله
قوله "وذلك" أي كون الحديث ناسخا عند انسداد باب الرأي, مثل حديث أبي هريرة أو مثال ما ذكرنا حديث أبي هريرة في المصراة وهو ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها, وإن سخطها ردها وصاعا من تمر2" ويروى "بأحد النظرين" ،
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في فضائل الصحابة حديث رقم 2492 والترمذي في المناقب حديث رقم 3834 والإمام أحمد في المسند 2/240. 1 أخرجه مسلم في البيوع حديث رررقم 1524 وأبو داود حديث رقم 3443 والترمذي في البيوع حديث رقم 1251 وابن ماجة في التجارات حديث رقم 2239 والإمام أحمد في المسند 2/242(2/555)
ناسخا للكتاب والحديث المشهور ومعارضا للإجماع, وذلك مثل حديث أبي هريرة رضي الله عنه في المصراة أنه انسد فيه باب الرأي فصار ناسخا للكتاب والسنة المعروفة معارضا للإجماع في ضمان العدوان بالمثل والقيمة دون التمر
ـــــــ
ويروى: "من اشترى شاة محفلة فهو بخير النظرين ثلاثة أيام" الحديث والتصرية في اللغة الجمع يقال صريت الماء وصريته أي جمعته والمراد بها في الحديث جمع اللبن في الضرع بالشد وترك الحلب مدة ليتخيل المشتري أنها غزيرة اللبن والتحفيل بمعناها أيضا وقوله بأحد النظرين قيل النظر الأول عند الحلبة الأولى والنظر الآخر عند الحلبة الأخرى, ومعنى قوله بخير النظرين نظره لنفسه بالاختيار والإمساك, ونظره للبائع بالرد والفسخ ثم الشافعي رحمه الله جعل التصرية عيبا حتى كان للمشتري الخيار إذا تبين بعد الحلب خلاف ما تخيله تمسكا بهذا الحديث وهو حديث صحيح مخرج في الصحيحين وإذا صح الحديث يترك القياس بمقابلته مع أن الحديث موافق للأصول; لأن الخيار إنما يثبت لغرور كان من البائع, والغرور يثبت للمشتري حق الرجوع كما لو اشترى صبرة حنطة فوجد في وسطها دكانا أو اشترى قفة من الثمار فوجد في أسفلها حشيشا. والمذكور في بعض كتبهم أن التغرير الفعلي منزل منزلة الالتزام اللفظي فصار كما لو شرط الغزارة, وعندنا التصرية ليست بعيب, ولا يكون للمشتري ولاية الرد بسببها من غير شرط; لأن البيع يقتضي سلامة المبيع وبقلة اللبن لا ينعدم صفة السلامة; لأن اللبن ثمرة وبعدمها لا تنعدم صفة السلامة فبقلتها أولى, ولا يجوز أن يثبت الخيار للغرور; لأن المشتري مغتر لا مغرور فإنه ظنها غزيرة اللبن بناء على شيء مشتبه فإن انتفاخ الضرع قد يكون بكثرة اللبن وقد يكون بالتحفيل وهو أظهر على ما عليه عادات الناس في ترويج السلعة بالحيل فيكون هو مغترا في بناء ظنه على المحتمل والمحتمل لا يكون حجة.
فأما الحديث فمخالف للقياس فكان ناسخا للكتاب والسنة الموجبين للعمل بالقياس معارضا للإجماع الموجب للعمل به كما ذكرنا فيكون مردودا; لأن من أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه إنما يقبل ما لا يخالف القياس فأما ما خالفه فالقياس مقدم عليه كذا في الأسرار والمبسوط وأما الذي يدل عليه سوق الكلام في الكتاب فهو أن حديث المصراة ورد مخالفا للقياس وانسد فيه باب الرأي; لأن ضمان العدوان فيما له مثل مقدر بالمثل بالكتاب وهو قوله تعالى {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} "البفرة: 149". وفيما لا مثل له مقدر بالقيمة بالحديث المعروف وهو, قوله عليه السلام: "من أعتق شقصا له في عبد قوم عليه نصيب شريكه إن كان موسرا" على ما بيناه في باب الأداء والقضاء وقد انعقد الإجماع أيضا على وجوب المثل أو القيمة عند فوات العين وتعذر(2/556)
وفي وجوه أخر ذكرناها في موضعها.وأما المجهول فإنما نعني به
ـــــــ
الرد ثم اللبن إن كان من ذوات الأمثال يضمن بالمثل ويكون القول في بيان المقدار قول من عليه, وإن لم يكن منها يضمن بالقيمة فإيجاب التمر مكانه يكون مخالفا للحكم الثابت بالكتاب والسنة والإجماع فيكون نسخا ومعارضة كما ذكر في الكتاب. وقوله: "في ضمان العدوان" متعلق بمجموع قوله صار ناسخا للكتاب والسنة معارضا للإجماع أي يلزم من العمل بهذا الحديث نسخ الكتاب والسنة ومعارضة الإجماع في حق هذا الحكم وقوله وفي وجوه أخر ذكرناها في موضعها عطف عليه أي صار معارضا للإجماع في هذا الوجه وفي وجوه أخر وهي ما ذكر الشيخ في بعض مصنفاته في أصول الفقه والقاضي الإمام في الأسرار أن حديث المصراة ورد مخالفا للقياس من وجوه: أحدها أنه أوجب رد صاع من تمر بإزاء اللبن واللبن الذي يحلب بعد الشراء والقبض لا يكون مضمونا على المشتري; لأنه فرع ملكه الصحيح فلا يضمن بالتعدي لعدم التعدي. ولا يضمن بالعقد; لأن ضمان العقد ينتهي بالقبض ألا ترى أنه لا يضمن اللبن الذي يحدث بعد القبض فكذلك اللبن الذي كان حين العقد ثم حلب بعد القبض; لأن اللبن الذي كان عند العقد لم يكن مالا; لأنه باطل كالحبل; وإنما يصير مالا بالحلب فلا يدخل تحت العقد وهو في حكم ما ليس بمال فيصير بمنزلة الحادث بعد القبض ويصير كالكسب ولئن كان مالا كان صفة للشاة فيعتبر مالا تبعا كالصوف فلا يكون له حصة من الثمن ما لم يزايل الأصل ولو زال قبل القبض بآفة لم يسقط شيء من الثمن نقدا فكذا إذا قبض والوصف متصل بالأصل لا يصير حصة من الثمن, ولا يصير مضمونا ولئن جاز أن يقابله ضمان فهو ضمان العقد ينبغي أن يسقط من البائع حصته من الثمن كما لو اشترى شيئين ثم رد أحدهما ولئن كان ضمان التعدي وجب أن يضمن مثل اللبن كيلا أو دراهم كما قلنا أما الصاع من التمر بلا تقويم قل اللبن أو كثر فلا وجه له في الشرع ومع هذا كله ظاهره يدل على توقيت خيار العيب وهو غير موقت بوقت بالإجماع فثبت أنه مخالف للقياس من جميع الوجوه فوجب رده بالقياس أو حمله على تأويل وإن بعد احترازا عن الرد وهو أن الخصومة في شاة محفلة فندب النبي عليه السلام البائع إلى الاسترداد صلحا لا حكما فأبى بعلة اللبن في ثلاثة أيام فزاد النبي عليه السلام بذلك السبب صاعا من تمر فقبل البائع الشاة والتمر ورد الثمن صلحا لا حكما, وكان هذا شراء مبتدأ لا حكما فظن الراوي أنه كان حكما وكانوا يستجيزون نقل الخبر بما عندهم من المعنى فنقل على ما ظن بعبارته فإن قيل إنكم حملتم بخبر القهقهة على مخالفة القياس مع أن راويه معبد الجهني وأنه لم يعرف بالفقه بين الصحابة فخبر المصراة أولى بالقبول والعمل به; لأنه أثبت(2/557)
-------------------------------------------------
ـــــــ
متنا وأقوى سندا وراويه وهو أبو هريرة أعلى رتبة في العلم من معبد. قلنا: قد روى خبر القهقهة كثير من الصحابة مثل أبي موسى الأشعري وجابر وأنس وعمران بن الحصين وأسامة بن زيد وعمل به كبراء الصحابة والتابعين مثل علي وابن مسعود وابن عمر والحسن وإبراهيم ومكحول فلذلك وجب قبوله وتقديمه على القياس إليه أشير في الأسرار. وذكر الشيخ أبو الفضل الكرماني في إشارات الأسرار أن بعض أصحاب الشافعي شنع علينا ونسب أصحابنا إلى الطعن على أبي هريرة وأمثاله من أصحاب رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وكان ذلك منه سلوكا للمعاندة; لأنا إنما نتبع الصحابة فنقول: لا إشكال أن ابن عباس وعائشة من فقهاء الصحابة رضي الله عنهم وكانا مقدمين على أبي هريرة في الفقه والفتوى وكانا لا يريان ترك القياس الجلي بقول أبي هريرة فإنه روى أن الوضوء مما مسته النار فرد عليه ابن عباس بالقياس ولم يشتغل بالسنة وكذا عائشة وعلي رضي الله عنهم فاتبعنا الصحابة في ترك روايته بالقياس ولكنا لا نظن به وبجميع الصحابة إلا الصدق.
واعلم أن ما ذكرنا من اشتراط فقه الراوي لتقديم خبره على القياس مذهب عيسى بن أبان واختاره القاضي الإمام أبو زيد وخرج عليه حديث المصراة وخبر العرايا وتابعه أكثر المتأخرين. فأما عند الشيخ أبي الحسن الكرخي ومن تابعه من أصحابنا فليس فقه الراوي بشرط لتقديم خبره على القياس بل يقبل خبر كل عدل ضابط إذا لم يكن مخالفا للكتاب والسنة المشهورة ويقدم على القياس قال أبو اليسر وإليه مال أكثر العلماء; لأن التغيير من الراوي بعد ثبوت عدالته وضبطه موهوم. والظاهر أنه يروي كما سمع ولو غير لغير على وجه لا يتغير المعنى هذا هو الظاهر من أحوال الصحابة والرواة العدول; لأن الأخبار وردت بلسانهم فعلمهم باللسان يمنع من غفلتهم عن المعنى وعدم وقوفهم عليه وعدالتهم وتقواهم تدفع تهمة التزايد عليه والنقصان عنه قال: ولأن القياس الصحيح هو الذي يوجب وهنا في روايته, والوقوف على القياس الصحيح متعذر فيجب القبول كي لا يتوقف العمل بالأخبار. واستدل غيره على صحة هذا القول بأن عمر رضي الله عنه قبل حديث حمل بن مالك في الجنين وقضى به, وإن كان مخالفا للقياس; لأن الجنين إن كان حيا وجبت الدية كاملة, وإن كان ميتا لا يجب فيه شيء; ولهذا قال كدنا أن نقضي فيه برأينا وفيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل أيضا خبر الضحاك في توريث المرأة من دية زوجها وكان القياس خلاف ذلك; لأن الميراث إنما يثبت فيما كان يملكه المورث قبل الموت والزوج لا يملك الدية قبل الموت; لأنها تجب بعد الموت ومعلوم أنهما لم يكونا من فقهاء الصحابة وله شواهد كثيرة.(2/558)
المجهول في رواية الحديث بأن لم يعرف إلا بحديث أو بحديثين مثل
ـــــــ
ولم ينقل هذا القول عن أصحابنا أيضا بل المنقول عنهم أن خبر الواحد مقدم على القياس ولم ينقل التفضيل, ألا ترى أنهم عملوا بخبر أبي هريرة رضي الله عنه في الصائم إذا أكل أو شرب ناسيا, وإن كان مخالفا للقياس حتى قال أبو حنيفة رحمه الله لولا الرواية لقلت بالقياس ونقل عن أبي يوسف - رحمه الله - في بعض أماليه أنه أخذ لحديث المصراة وأثبت الخيار للمشتري. وقد ثبت عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال ما جاءنا عن الله وعن رسوله فعلى الرأس والعين ولم ينقل عن أحد من السلف اشتراط الفقه في الراوي فثبت أن هذا القول مستحدث وأجاب عن حديث المصراة والعرية وأشباههما فقال: إنما ترك أصحابنا العمل بها لمخالفتها الكتاب أو السنة المشهورة لا لفوات فقه الراوي وأن حديث المصراة مخالف لظاهر الكتاب والسنة كما بينا وحديث العرية مخالف للسنة المشهورة وهي, قوله عليه السلام: "والتمر بالتمر مثل بمثل كيل بكيل" على أنا لا نسلم أن أبا هريرة رضي الله عنه لم يكن فقيها بل كان فقيها ولم يعدم شيئا من أسباب الاجتهاد وقد كان يفتي في زمان الصحابة وما كان يفتي في ذلك الزمان إلا فقيه مجتهد وكان من علية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم وقد دعا النبي عليه السلام له بالحفظ فاستجاب الله تعالى له فيه حتى انتشر في العالم ذكره وحديثه وقال إسحاق الحنظلي ثبت عندنا في الأحكام ثلاثة آلاف من الأحاديث روى أبو هريرة منها ألفا وخمسمائة وقال البخاري روى عنه سبعمائة نفر من أولاد المهاجرين والأنصار وقد روى جماعة من الصحابة عنه فلا وجه إلى رد حديثه بالقياس.
قوله "وأما المجهول" إلى آخره واعلم أن عامة السلف وجماهير الخلف اتفقوا على عدالة جميع الصحابة رضي الله عنهم; لأن عدالتهم ثبتت بتعديل الله تعالى إياهم وثنائه عليهم في آي كثيرة مثل قوله تعالى {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} "التوبة: 100" الآية وقوله عز اسمه {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} "الفتح: 29" وقوله جل ثناؤه {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} "الفتح: 18" في شواهد لها كثيرة وبقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" , ولا شك أنه لا اهتداء من غير عدالة وقوله عليه السلام: "لا تذكروا أصحابي إلا بخير فلو أنفق أحدكم ملء الأرض ذهبا ما أدرك مد أحدهم, ولا نصيفه1" . وقوله عليه السلام: "إن الله تعالى اختار لي أصحابا
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في فضائل الصحابة حديث رقم 2540 وأبو داود في السنة حديث رقم 4658 والترمذي في المناقب حديث رقم 3861 وابن ماجة في االمقدمةحديث رقم 161.(2/559)
-------------------------------------------------
ـــــــ
وأصهارا وأنصارا" واختيار الله عز وجل لا يكون لمن ليس بعدل, ولا تعديل أعلى من تعديل علام الغيوب وتعديل رسوله كيف ولو لم يرد الثناء لكان ما اشتهر وتواتر من حالهم في الهجرة والجهاد وبذلهم الجهد والأموال وقتلهم الآباء والأولاد في موالاة الرسول ونصرته كافيا في القطع بعدالتهم. وأما ما جرى بينهم من الفتن فبناء على التأويل والاجتهاد فإن كل فريق ظن أن الواجب ما صار إليه, وأنه أوفق للدين وأصلح لأمور المسلمين فلا يوجب ذلك طعنا فيهم.
ولكنهم اختلفوا في تفسير الصحابي فذهب عامة أصحاب الحديث وبعض أصحاب الشافعي إلى أن من صحب النبي عليه السلام لحظة فهو صحابي; لأن اللفظ مشتق من الصحبة وهي تعم القليل والكثير وذهب جمهور الأصوليين إلى أنه اسم لمن اختص بالنبي عليه السلام وطالت صحبته معه على طريق التتبع له والأخذ منه; ولهذا لا يوصف من جالس عالما ساعة بأنه من أصحابه وكذا إذا أطال المجالسة معه إذا لم يكن على طريق التتبع له والأخذ عنه. وكذا لو حلف زيد أنه ليس صاحب عمرو وقد صحبه لحظة لا يحنث بالاتفاق قال الغزالي رحمه الله الاسم لا ينطلق إلا على من صحبه ثم يكفي للاسم من حيث الوضع الصحبة ولو ساعة, ولكن العرب تخصص الاسم بمن كثرت صحبته ويعرف ذلك بالتواتر والنقل الصحيح, ولا حد لتلك الكثرة بتقدير بل بتقريب قلت وسمعت عن شيخي رحمه الله أن أدناها ستة أشهر وذكر في الكفاية لأبي بكر أحمد بن علي البغدادي أن سعيد بن المسيب كان يقول: الصحابة لا نعدهم إلا من أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة أو سنتين وغزا معه غزوة أو غزوتين.
وإذا عرفت هذا علمت أن المجهول في الصدر الأول لا يكون من الصحابة; لأن المراد منه من لم يعرف ذاته إلا برواية لحديث النبي رواه ولم يعرف عدالته, ولا فسقه, ولا طول صحبته وقد عرفت عدالة الصحابة واشتهر طول صحبتهم فكيف يكون هو داخلا فيهم وعلمت أن وابصة وسلمة ومعقلا, وإن رأوا النبي عليه السلام ورووا عنه لا يعدون من الصحابة على ما اختاره الأصوليون لعدم معرفة طول صحبتهم ويؤيده ما ذكر شمس الأئمة رحمه الله; وإنما نعني بهذا اللفظ أي بالمجهول من لم يشتهر بطول الصحبة مع الرسول عليه السلام; وإنما عرف بما روى من حديث أو حديثين. وإنما فسر الشيخ المجهول بقوله: نعني به المجهول في رواية الحديث; لأنه قد يراد بهذا اللفظ مجهول النسب وتلك الجهالة مانعة عن القبول عند البعض, وإن لم تكن مانعة عند عامة الأصوليين وأهل الحديث فكأنه احترز به عنها وسلمة بن المحبق بكسر الباء لا غير كذا في المغرب وأصحاب(2/560)
وابصة بن معبد وسلمة بن المحبق ومعقل بن سنان فإن روى عنه السلف وشهدوا له بصحة الحديث صار حديثه مثل حديث المعروف بشهادة أهل المعرفة, وإن سكتوا عن الطعن بعد النقل فكذلك; لأن السكوت في موضع
ـــــــ
الحديث يروونه بفتح الباء واسم المحبق صخر بن البليد بن الحارث ويقال سلمة بن عمرو بن المحبق نسب إلى جده روى عن: النبي عليه السلام أنه قال فيمن وطئ جارية امرأته فإن "طاوعته فهي له وعليه مثلها, وإن استكرهها فهي حرة وعليه مثلها1" ولم نعمل بهذا الحديث; لأن القياس الصحيح يرده وهو كالمخالف للكتاب والسنة المشهورة والإجماع كحديث المصراة. ومعقل بن سنان وفي بعض النسخ معقل بن يسار وكلاهما ممن روى عن النبي عليه السلام فمعقل بن يسار من مزينة مضر وهو ممن بايع تحت الشجرة سكن البصرة مات في ولاية عبد الله بن زياد في آخر سني معاوية ومعقل بن سنان من أشجع بن ريث بن غطفان أبي محمد ويقال أبو عبد الرحمن شهد فتح مكة مع رسول الله عليه السلام سكن الكوفة وقتل يوم الحرة بالمدينة صبرا سنة ثلاث وستين ووابصة وهو ابن معبد بن عبيد بن قيس بن كعب نزل الكوفة ثم تحول إلى الجزيرة وبها مات. وعن وابصة أن "رجلا صلى خلف الصفوف وحده فأمره النبي عليه السلام أن يعيد"
وقوله :وشهدوا له بصحة الحديث بيان أن روايتهم عنه للقبول والعمل به لا للرد عليه "صار حديثه مثل حديث المعروف بشهادة أهل المعرفة" يعني مثل حديث المعروف بالفقه والعدالة والضبط فيقبل ويقدم على القياس; لأنهم كانوا أهل فقه وضبط وتقوى ولم يتهموا بالتقصير في أمر الدين وكانوا لا يقبلون الحديث حتى يصح عندهم أنه مروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ظهر منهم رد ما خالف القياس من روايتهم فلا يكون قبولهم إلا لعلمهم بعدالة هذا الراوي وحسن ضبطه أو; لأنه موافق لما سمعوه من رسول الله عليه السلام أو لرواية بعض المشهورين عنه وهو معنى قوله بشهادة أهل المعرفة وهو في الحقيقة جواب عما يقال كيف يقبل روايته وهو مجهول لم يظهر عدالته ولا ضبطه فقال قد صار مثل المعروف بشهادة أهل المعرفة وتعديلهم إياه, وإن سكتوا عن الطعن بعد النقل فكذلك يعني إن سكتوا عن الرد بعدما بلغهم روايته الحديث فهو مقبول أيضا; لأن السكوت في موضع الحاجة لا يحل إلا على وجه الرضاء بالمسموع والمرئي فكان
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الحدود حديث رقم 4460 وابن ماجة في الحدود حديث رقم 553 والإمام أحمد في المسند 3/476.(2/561)
الحاجة إلى البيان بيان, ولا يتهم السلف بالتقصير, وإن اختلف فيه مع نقل الثقات عنه فكذلك عندنا مثل حديث معقل بن سنان أبي محمد الأشجعي في حديث: "بروع بنت واشق الأشجعية أنه مات عنها هلال بن أبي مرة ولم يكن فرض لها ولا دخل بها فقضى لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمهر مثل نسائها" فعمل بحديثه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ورده علي رضي الله عنه لما خالف رأيه, وقال: ما نصنع
ـــــــ
سكوتهم عن الرد دليل التقرير بمنزلة ما لو قبلوه ورووا عنه إذ لو لم يكن كذلك لتطرقت نسبة التقصير إليهم وأنهم لم يتهموا بذلك,وإن اختلف فيه مع نقل الثقات عنه فكذلك أي إن عمل به البعض ورد البعض يقبل أيضا; لأنه لما قبله بعض الفقهاء المشهورين صار كأنه رواه بنفسه مثل حديث معقل بن سنان الأشجعي في حديث بروع أي قصتها وذلك أن ابن مسعود رضي الله عنه سئل عمن تزوج امرأة ولم يسم لها مهرا حتى مات عنها فلم يجب شهرا وكان السائل يتردد إليه ثم قال بعد شهر: أجتهد فيه برأيي فإن يك صوابا فمن الله, وإن يك خطأ فمن ابن أم عبد وفي رواية فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه بريئان منه أرى فيها مهر مثل نسائها لا وكس فيه, ولا شطط أي لا نقص ولا مجاوزة حد فقام معقل بن سنان الأشجعي وأبو الجراح صاحب راية الأشجعيين وقالا: نشهد: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في بروع بنت واشق الأشجعية من بني رآس بن كلاب بمثل قضائك هذا وقد كان هلال بن مرة مات عنها من غير فرض مهر ودخول" فسر ابن مسعود رضي الله عنه بذلك سرورا لم يسر مثله بعد إسلامه لما وافق قضاؤه قضاء رسول الله عليه السلام ورده علي رضي الله عنه فقال ما نصنع بقول إعرابي بوال على عقبيه حسبها الميراث ولما اختلف في قبوله أخذنا به لما ذكرنا وفي قوله لما خالف رأيه إشارة إلى أنه إنما رده لمخالفته القياس الذي عنده وهو أن المعقود عليه عاد إليها سالما فلا يستوجب بمقابلته عوضا كما لو طلقها قبل الدخول بها وجعل الرأي أولى من رواية مثل هذا المجهول وهو مذهبنا أيضا كما سنبين وقيل إنما رده لمذهب تفرد به وهو أنه كان تخلف الراوي ولم ير هذا الرجل لتخلفه. وقوله أعرابي بوال على عقبيه إشارة إلى أنه من الذين غلب فيهم الجهل من أهل البوادي وسكان الرمال إذ من عادتهم الاحتباء في الجلوس من غير إزار والبول في المكان الذي جلسوا فيه إذا احتاجوا إليه وعدم المبالاة بإصابته أعقابهم وذلك من الجهل وقلة الاحتياط وذكر في الصحاح بروع اسم امرأة وهي بروع بنت واشق وأصحاب الحديث يقولونه بكسر الباء والصواب الفتح; لأنه ليس في الكلام فعول إلا خروع وعتود اسم واد واعلم أن خبر المجهول مردود عند الشافعي رحمه الله; لأن الصحابة رضي الله عنهم ردوا أخبار المجاهيل فإن عمر رضي الله عنه رد خبر فاطمة بنت قيس وعليا رضي الله(2/562)
بقول أعرابي بوال على عقبيه ولم يعمل الشافعي رحمه الله بهذا القسم; لأنه خالف القياس عنده وعندنا هو حجة; لأنه وافق القياس عندنا; وإنما يترك إذا خالف القياس وقد روى عنه الثقات, مثل عبد الله بن مسعود وعلقمة ومسروق
ـــــــ
عنه رد خبر الأشجعي ومن رد خبر المجهول منهم لم ينكر عليه غيره فكان ذلك بمنزلة الإجماع على رده وعندنا خبر المجهول من القرون الثلاثة مقبول; لأن العدالة كانت أصلا في ذلك الزمان بخبر رسول الله عليه السلام: "خير الناس قرني الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم1" الحديث: "والنبي عليه السلام قبل شهادة الأعرابي في رؤية الهلال من غير تفحص عن عدالته; وإنما تفحص عن إسلامه فقط فقال حين أخبر عن رؤية الهلال "أتشهد أن لا إله إلا الله" قال نعم فقال: "أتشهد أن محمدا رسول الله قال نعم فأمر بلالا أن يؤذن في الناس بالصوم2", وهذا يرد تأويلهم أنه عليه السلام عرف عدالته إما بالوحي أو بالخبرة; لأنه عليه السلام لم يكن عالما بإسلامه فكيف بعدالته وأما رد بعض الصحابة أخبار المجاهيل فبناء على عوارض على ما عرف كذا ذكر في عامة الكتب.
ثم هو منقسم على الأقسام الخمسة المذكورة في الكتاب, ولا خلاف أن القسم الأول مقبول لما بينا. وقد ذكر في القواطع, وإن عمل الراوي بالخبر كان ذلك تعديلا للمروي عنه إلا أن يعمل بموجب الخبر لا لأجل الخبر, وينبغي أن يكون القسم الثاني مقبولا بلا خلاف أيضا; لأنه لا يظن بهم السكوت عند معرفة بطلانه, ولا خلاف أن القسم الرابع مردود فكان القسم الخامس موضع الخلاف ويجوز أن يكون القسم الثالث كذلك أيضا وإليه يشير, قوله عندنا في هذا القسم دون القسمين الأولين فيقبل عندنا لما ذكرنا, ولا يقبل عنده; لأن الرد عارض القبول فيتساقطان ويصير الخبر بمنزلة ما لو لم يلحقه رد ولا قبول فيلتحق بالقسم الخامس ويجوز أن يكون هذا القسم مقبولا بالاتفاق بشرط أن يكون موافقا للقياس فإن خالفه يرد; لأن الخلاف الواقع في قبوله كان أدنى حالا من الذي اتفق على قبوله فيشترط تأيده بالقياس كالقسم الخامس عندنا إلا أن هذا المثال وهو حديث معقل موافق للقياس عندنا; لأن المهر يجب بنفس العقد عندنا ويتأكد بالموت كما يتأكد بالوطء; لأن بالموت ينتهي النكاح الذي هو عقد العمر والشيء إذا انتهى تقرر
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في فضائل الصحابة حديث رقم 1964 وأبو داود في السنة حديث رقم 4657 والإمام أحمد في المسند 4/426
2 أخرجه أبو داود في الصيام حديث رقم 2340 والترمذي في الصوم حديث رقم 691 وابن ماجة في الصيام حديث رقم 1652.(2/563)
ونافع بن جبير والحسن فثبت بروايتهم عدالته مع أنه من قرن العدول فلذلك صار حجة, وساعده عليه أناس من أشجع منهم أبو الجراح وغيره.فأما إذا كان ظهر حديثه ولم يظهر من السلف إلا الرد لم يقبل حديثه وصار مستنكرا لا يعمل به
ـــــــ
كانتهاء الصلاة بالسلام فيكون بمنزلة تسليم المعقود عليه وهو الوطء; ولهذا وجبت العدة فيجب تمام مهر المثل وإذا كان موافقا للقياس وجب العمل به. وعند الشافعي رحمه الله هو مخالف للقياس; لأن الأصل عنده أن المهر لا يجب إلا بالفرض وبالتراضي أو بقضاء القاضي أو باستيفاء المعقود عليه فإذا لم يوجد واحد منها إلى أن مات الزوج لا يجب شيء; لأن المعقود عليه رجع إليها سالما فكان بمنزلة ما لو طلقها قبل الدخول بها وبمنزلة هلاك المبيع قبل القبض وإذا كان مخالفا للقياس وجب رده به فعلى هذا كان, قوله ولم يعمل الشافعي بهذا القسم إلى آخره بيانا أن خلاف الشافعي في المثال لا في الأصل وهو قوله, وإن اختلف فيه فكذلك وكان معنى قوله بهذا القسم بهذا المثال الذي هو من هذا القسم ولو جعلت اسم الإشارة راجعا إلى قوله, وإن اختلف فيه فكذلك لا يلائمه التعليل الذي ذكره وعلى التقديرين لا يخلو الكلام عن نوع اشتباه والله أعلم بمراد المصنف وقوله وقد روى أي هذا الحديث عنه أي عن معقل الثقات أي العدول مثل ابن مسعود من القرن الأول وعلقمة وغيره من القرن الثاني فثبت بروايتهم عنه وعلمهم به عدالته دليل ثان على وجوب العمل به. وقوله مع أنه أي معقلا من قرن العدول دليل ثالث, وإشارة إلى الجواب عما قال بعض أصحاب الشافعي إن رواية المجهول في الكفر والصبا لا تقبل فكذا رواية مجهول الحال في الفسق فأشار إلى أن العدالة في ذلك الزمان أصل بشهادة الرسول عليه السلام فوجب التمسك به إلى أن يظهر معارض ينقضه فأما الصبا والكفر في مجهول الحال فيهما فأصل فلا يترك إلا بيقين يعارضه فيفترقان.
قوله "فأما إذا ظهر حديثه ولم يظهر من السلف إلا الرد" فلا يجوز العمل به إذا خالف القياس; لأنهم كانوا لا يتهمون برد الحديث الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولا يترك العمل به وترجيح الرأي بخلافه عليه فاتفاقهم على الرد دليل على أنهم اتهموه في هذه الرواية ولو قال الراوي أوهمت لم يعمل بروايته فإذا ظهر ذلك ممن فوقه وهو رد الفقهاء من الصحابة كان أولى كذا قال شمس الأئمة رحمه الله ويسمى هذا النوع منكرا ومستنكرا; لأن أهل الحديث لم يعرفوا صحته وهو دون الموضوع فإن الموضوع لا يحتمل أن يكون حديثا مثل ما روى محمد بن سعيد عن حميد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنا خاتم النبيين لا نبي بعدي إلا أن يشاء الله" فوضع هذا الاستثناء لما كان يدعو إليه من الإلحاد والزندقة ويدعي التنبؤ فأما المنكر فيحتمل أن يكون حديثا; لأن كونه حديثا إن لم(2/564)
على خلاف القياس وصار هذا غير حجة يحتمل أن يكون حجة على العكس من المشهور أنه حجة يحتمل شبهة عند التأمل وأما إذا لم يظهر حديثه في السلف فلم يقابل برد, ولا قبول لم يترك به القياس ولم يجب العمل به لكن العمل به جائز
ـــــــ
يكن معلوما عند أهل الصنعة فكونه موضوعا ليس بمعلوم لهم أيضا فكان من الجائز أن يكون الراوي صادقا في الرواية ولكنه مع هذا الاحتمال ليس بحجة لا في حق الجواز, ولا في حق الوجوب. وذكر الشيخ أبو عمرو الدمشقي إذا انفرد الراوي بشيء فإن كان ما انفرد به مخالفا لما رواه من هو أولى منه بالحفظ لذلك والضبط كان ما انفرد به شاذا مردودا, وإن لم يكن فيه مخالفة لما رواه غيره بل هو أمر رواه هو ولم يروه غيره فإن كان عدلا حافظا موثوقا بإتقانه وضبطه قبل ما انفرد به, وإن لم يكن ممن يوثق بحفظه كان انفراده به جازما له مزحزحا له عن حيز الصحيح ثم هو بعد ذلك دائر بين مراتب متفاوتة بحسب الحال فيه فإن كان المنفرد به غير بعيد من درجة الحافظ الضابط المقبول تفرده استحسنا حديثه ذلك ولم نحطه إلى قبيل الحديث الضعيف, وإن كان بعيدا من ذلك رددنا ما انفرد به وكان من قبيل الشاذ المنكر فحصل من هذا أن الشاذ المردود قسمان: أحدهما الحديث الفرد المخالف والثاني الفرد الذي ليس في راويه من الثقة والضبط ما يقع جابرا لما يوجبه التفرد والشذوذ من النكارة والضعف ثم قال والصواب في المنكر التفصيل الذي بيناه في الشاذ فإنه بمعناه فالمنكر يكون قسمين على ما ذكرناه في الشاذ.
قوله "وأما إذا لم يظهر حديثه" أي لم يبلغهم حديث هذا المجهول ولم يظهر فيه منهم رد, ولا قبول فلم يترك به القياس ولم يجب العمل به في زماننا يعني إذا ظهر حديثه في زماننا لا يجب العمل به ولكن العمل به يجوز إذا وافق القياس; لأن من كان في الصدر الأول فالعدالة ثابتة له باعتبار الظاهر لما بينا من غلبة العدالة في ذلك الزمان فباعتبار هذا الظاهر يترجح جانب الصدق في خبره وباعتبار أنه لم يشتهر في السلف يتمكن تهمة الوهم فيه فيجوز العمل به إذا وافق القياس على وجه حسن الظن به ولكن لا يجب العمل به; لأن الوجوب شرعا لا يثبت بمثل هذا الطريق الضعيف كذا قال شمس الأئمة فإن قيل: إذا وافقه القياس ولم يجب العمل به كان الحكم ثابتا بالقياس فما فائدة جواز العمل به قلنا: هي جواز إضافة الحكم إليه فلا يتمكن نافي القياس من منع هذا الحكم لكونه مضافا إلى الحديث.; ولذلك أي ولكون العدالة أصلا في تلك الأزمنة جوز أبو حنيفة رحمه الله القضاء بظاهر العدالة أي بشهادة المستور ولم يجب على القاضي القضاء به; لأنه كان في القرن الثالث, والغالب على أهله الصدق فأما في زماننا فخبر مثل هذا المجهول لا يقبل, ولا يصح العمل به ما لم يتأيد بقبول العدول لغلبة الفسق على أهل هذا الزمان; ولهذا لم يجوز(2/565)
لأن العدالة أصل في ذلك الزمان ولذلك جوز أبو حنيفة رحمه الله القضاء بظاهر العدالة من غير تعديل حتى أن رواية مثل هذا المجهول في زماننا لا تحل العمل به لظهور الفسق فصار المتواتر يوجب علم اليقين والمشهور علم طمأنينة وخبر الواحد علم غالب الرأي والمستنكر منه يفيد الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا والمستتر منه في حيز الجواز للعمل به دون الوجوب والله أعلم.
ـــــــ
أبو يوسف ومحمد رحمهما الله القضاء بشهادة المستور; لأنهما كانا في زمان فشو الكذب كذا ذكر شمس الأئمة وذكر صدر الإسلام أبو اليسر رحمهما الله أن الراوي إذا كان مجهولا لا يعرف عدالته إن عمل به الصحابة أو التابعون رضي الله عنهم بما روى يجب قبول خبره; لأنهم لا يعملون به إلا بعد معرفة الراوي بالعدالة وثبوت ما روى وأما إذا لم يظهر عمل الصحابة, ولا عمل التابعين فأصحاب أبي حنيفة رحمهم الله اختلفوا فيه قال بعضهم: يجب العمل به ما لم يخالف القياس الصحيح فإذا خالفه لا يجب العمل به حينئذ وبعضهم قالوا: لا يجب العمل به ما لم يوافق القياس وهذا قول الشافعي وأصحابه رحمهم الله وقال بعضهم يجب العمل به, وإن خالف القياس والصحيح هو القول الأول فالشافعي رحمه الله يقول بأن المجهول لا يعرف عدالته وهي شرط لقبول الأخبار فلا يقبل خبره; ولهذا لم يقبل خبر معقل بن سنان في إيجاب المهر في المفوضة. وأصحابنا قالوا الظاهر من حالهم العدالة, والفسق بأمور عارضة فيجب بناء الحكم على الظاهر كما يجعل في حق الإسلام وأما حديث معقل فقد قبله عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ولا يقبل إلا بعد معرفته بالعدالة فثبت عدالته فيجب قبول خبره على أن معقلا رجل معروف عدل عدله جماعة من الثقات منهم البخاري قال ويجوز أن يكون قول أبي يوسف ومحمد في هذه المسألة كقول أبي حنيفة رحمهم الله, وإن كانا يشترطان العدالة حقيقة ولا يكتفيان بالعدالة الظاهرة; لأن في ذلك الزمان هو زمان الصحابة كان الغالب العدالة فيهم بخلاف سائر الأزمنة.
ثم لخص الشيخ الكلام وبين حاصله فقال: فصار المتواتر من الخبر يوجب علم اليقين وفي مقابلته الموضوع لانقطاع احتمال كونه حجة بالكلية والمشهور علم طمأنينة وفي مقابلته المنكر; لأن المشهور حجة يحتمل أن يكون غير حجة والمنكر على عكسه. والمراد من الظن في قوله والمستنكر منه أي من الخبر يفيد الظن الوهم فإن الظن ما كان جانب الثبوت فيه راجحا وهو الذي عبر عنه بغالب الرأي والوهم ما كان عدم الثبوت فيه راجحا والمستنكر بهذه المثابة وخبر الواحد علم غالب الرأي أي خبر الواحد الذي هو معروف بالضبط والعدالة أو في حكم المعروف وفي(2/566)
ومثال المستنكر مثل حديث: "فاطمة بنت قيس أن النبي عليه السلام لم يجعل لها نفقة, ولا سكنى" فقد رده عمر رضي الله عنه فقال لا ندع كتاب
ـــــــ
مقابلته المستتر أي خبر المجهول الذي هو لم يقابل برد, ولا قبول; لأن ذلك يوجب العمل وهذا لا يوجبه.
قوله "ومثال المستنكر" كذا المبتوتة تستحق النفقة والسكنى عندنا ما دامت في العدة وهو مذهب عمر وعبد الله بن مسعود وإبراهيم النخعي والثوري وجماعة من أهل العلم. وقالت طائفة منهم لها السكنى دون النفقة إلا أن تكون حاملا حكي ذلك عن ابن المسيب وبه قال الزهري ومالك والشافعي والليث والأوزاعي وابن أبي ليلى وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه لا نفقة لها, ولا سكنى إلا أن تكون حاملا وهو قول الحسن وعطاء بن أبي رباح والشعبي وأحمد بن حنبل وإسحاق لحديث فاطمة بنت قيس أخبرت أن زوجها أبا عمرو بن حفص المخزومي طلقها ثلاثا فأمر بنفقة أصوع من شعير فاستقلتها وكان النبي صلى الله عليه وسلم بعثه مع علي رضي الله عنهما نحو اليمن فانطلق خالد بن الوليد في نفر من بني مخزوم إلى النبي عليه السلام فقال: يا رسول الله إن أبا عمرو طلق فاطمة ثلاثا فهل لها نفقة فقال صلى الله عليه وسلم: "ليس لها نفقة, ولا سكنى وأرسل إليها أن تنتقل إلى أم شريك" ثم أرسل إليها أن أم شريك يأتيها المهاجرون الأولون فانتقلي إلى ابن أم مكتوم فإنك إذا وضعت خمارك لم يرك وأما الفريق الثاني فيقولون ليس في روايات أهل الحجاز ذكر السكنى في حديث فاطمة والمذكور في بعض الروايات: "لا نفقة لك إلا أن تكوني حاملا إنما النفقة لمن يملك الزوج رجعتها" فأوجبنا السكنى بعموم قوله تعالى {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} "الطلاق: 1" الآية. وقوله عز اسمه {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} "الطلاق: 6" فإن كل واحد يعم المبتوتة والمطلقة الرجعية ولم يوجب النفقة بالحديث وبمفهوم قوله تعالى {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} "الطلاق: 6" فإنه بمفهومه يدل على انتفائها عند عدم الحمل والمعنى فيه أنها إنما تستحق النفقة صلة للزوجية وقد انقطعت بالطلاق البائن إلا أنها إذا كانت حاملا تستحق النفقة صيانة للولد وحضانة له كما بعد انقضاء العدة بالولادة إذا كانت ترضعه وعلماؤنا قالوا إنها محتبسة بحق نكاحه فتستحق النفقة كالحامل والمطلقة الرجعية وكما تستحق السكنى فإن كل واحد منهما حق مالي مستحق لها بالنكاح, والعدة حق من حقوق النكاح فكما يبقى باعتبار هذا الحق ما كان لها من استحقاق السكنى فكذلك النفقة.(2/567)
ربنا, ولا سنة نبينا صلى الله عليه وسلم بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت أحفظت أم نسيت قال عيسى بن أبان فيه أنه أراد بالكتاب والسنة القياس وقد رده
ـــــــ
ولأن في قراءة ابن مسعود رضي الله عنه أسكنوهن من حيث سكنتم وأنفقوا عليهن من وجدكم وقد بينا فيما تقدم أن بقراءته يزاد على الكتاب فدل ذلك على أن النفقة مستحقة لها بسبب العدة وأن قوله تعالى {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} "الطلاق: 6" لإزالة إشكال كان يقع عسى, فإن مدة الحمل تطول عادة فكان يشكل أنها هل تستوجب النفقة بسبب العدة في مدة الحمل وإن طالت فأزال الله تعالى هذا الإشكال بقوله {حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} "الطلاق: 6". وأما حديث فاطمة فقد ذكر في الأسرار أن الزيادة المذكورة في بعض الروايات: "لا نفقة لك إلا أن تكوني حاملا" غير ثابتة في موضع يعتمد عليه من الكتب والروايات وأما متن الحديث فقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال حين روي له هذا الحديث لا ندع كتاب ربنا, ولا سنة نبينا بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت أحفظت أم نسيت فهذا من عمر رضي الله عنه طعن مقبول فإنه أخبر أنها متهمة بالكذب والغفلة والنسيان ثم أخبر أنه ورد مخالفا للكتاب والسنة فدل على أن في كتاب الله تعالى وسنة رسوله عليه السلام نفقة لهذه المعتدة قال عيسى بن أبان إنه أراد بقوله كتاب ربنا وسنة نبينا القياس الصحيح فإنه ثابت بالكتاب والسنة إذ لو كان المراد عين النص لتلاه ولروى السنة فيكون بيانا أنه ورد مخالفا للقياس فلا يقبل إلا أن يكون مشهورا أو الراوي فقيها. وأشار أبو جعفر الطحاوي في شرح الآثار إلى أنه أراد من الكتاب قوله تعالى {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} "الطلاق: 1" الآية ومن السنة ما قال عمر رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لها السكنى والنفقة" وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت ما لفاطمة إلا تتقي الله تعني في قولها لا سكنى, ولا نفقة وكانت تقول تلك امرأة فتنت العالم وعن أسامة بن زيد زوجها أنها إذا ذكرت من ذلك شيئا رماها بكل شيء تناله يده وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن أنكر الناس على فاطمة ما كانت تحدث به من خروجها قبل أن تحل وعن أبي إسحاق قال كنت جالسا مع الأسود في المسجد الأعظم ومعنا الشعبي فحدث الشعبي بحديث فاطمة فأخذ الأسود كفا من حصباء فقال ويلك تحدث بمثل هذا. ورده إبراهيم النخعي والثوري ومروان بن الحكم وهو أمير بالمدينة ورد عمر رضي الله عنه كان بحضرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم ولم ينكر ذلك عليه أحد فدل تركهم النكير على أن مذهبهم فيه كمذهبه وقيل لسعيد بن المسيب: أين تعتد المطلقة ثلاثا ؟ فقال في بيتها فذكر له حديث فاطمة فقال تلك المرأة فتنت الناس إنها استطالت على أحمائها فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن(2/568)
غيره من الصحابة أيضا وكذلك حديث بسرة بنت صفوان في مس الذكر
ـــــــ
تعتد في بيت أم مكتوم وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لفاطمة إنما لم يقض لك بالنفقة; لأنك كنت ناشزة أو تأويله أن زوجها كان غائبا ووكل أخاه بالنفقة عليها من الشعير فأبت فلم يقض لها بشيء آخر لغيبة الزوج كذا في الأسرار وغيره
فإن قيل: قد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه عمل بهذا الحديث وتابعه جماعة وقد سميناهم فكان من القسم الثالث فينبغي أن يكون مقبولا عندكم كخبر الأشجعي في المفوضة, ولا يكون مستنكرا. قلنا: إنما يقبل القسم الثالث بشرط أن لا يكون مخالفا للكتاب والسنة والقياس الصحيح كما بينا وهذا الحديث مع لحوق الرد به ممن ذكرنا مخالف لظاهر الكتاب والسنة على ما أشار إليه عمر رضي الله عنه وللقياس أيضا فلا يعتبر قبول هذه الطائفة في مقابلة رد تلك الجماعة فلذلك كان مستنكرا.
قوله "وكذلك حديث بسرة1" أي وكحديث بسرة بنت صفوان الذي تمسك به الشافعي في أن مس فرج نفسه أو غيره بباطن الكف بلا حائل حدث من هذا القسم وهو المستنكر فإن عمر وعليا وابن مسعود وابن عباس وعمارا وأبا الدرداء وسعد بن أبي وقاص وعمران بن الحصين رضي الله عنهم لم يعملوا به حتى قال علي رضي الله عنه لا أبالي أمسسته أم أرنبة أنفي, وكذا نقل عن جماعة من الصحابة وقال بعضهم إن كان نجسا فاقطعه وتذاكر عروة ومروان الوضوء من مس الفرج فقال مروان حدثتني بسرة بنت صفوان أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالوضوء من مس الفرج فلم يرفع عروة بحديثها رأسا وروى ابن زيد عن ربيعة أنه كان يقول: هل يأخذ بحديث بسرة أحد والله لو أن بسرة شهدت على هذه النقلة لما أجزت شهادتها إنما قوام الدين الصلاة; وإنما قوام الصلاة الطهور فلم يكن في صحابة رسول الله عليه السلام من يقيم هذا الدين إلا بسرة قال ابن زيد على هذا أدركنا مشايخنا ما منهم أحد يرى في مس الذكر وضوء وعن يحيى بن معين أنه قال ثلاثة من الأخبار لا تصح عن رسول الله عليه السلام منها خبر مس الذكر ووقعت هذه المسألة في زمن عبد الملك بن مروان فشاور الصحابة فأجمع من بقي منهم على أنه لا وضوء فيه قالوا لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت يعنون بسرة بنت صفوان. ومعنى قولهم كتاب ربنا أن الله تعالى بين الأحداث وكانت نجسة من دم حيض وغائط ومني وشرع الاستنجاء بالماء بقوله عز ذكره {فيه
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في الطهارة حديث رقم 82 وأبو داود في الطهارة حديث رقم 181 وابن ماجة في الطهارة حديث رقم 479 والإمام أحمد في المسند 6/406.(2/569)
من هذا القسم; وإنما جعل خبرا لعدل حجة بشرائط في الراوي.وهذا
ـــــــ
رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} "التوبة: 108"والاستنجاء بالماء لا يتصور إلا بمس الفرجين فلما ثبت بالنص أنه من التطهير لم يجز أن يجعل حدثا بمثل هذا الخبر وأما السنة فما روي عن قيس بن طلق عن أبيه أنه قال: "قلت يا رسول الله أفي مس الذكر وضوء فقال "لا1" وروت عائشة رضي الله عنها: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن مس الذكر فقال "ما أبالي مسسته أم مسست أنفي" فنبه على العلة وهي أنه عضو طاهر وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت مسست ذكري وأنا في الصلاة فقال " لا بأس به" وقد رويت آثار توافق حديث بسرة إلا أنها مضطربة الأسانيد وحديث قيس بن طلق مستقيم الإسناد غير مضطرب قال علي بن المديني حديث قيس أحسن من حديث بسرة كذا في الأسرار و"شرح الآثار" والله أعلم
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الطهارة حديث رقم 183 والترمذي في الطهارة حديث رقم 85.(2/570)
"باب بيان شرائط الراوي"
التي هي من صفات الراوي وهي أربعة العقل والضبط والإسلام والعدالة أما العقل فهو شرط; لأن المراد بالكلام ما يسمى كلاما صورة ومعنى ومعنى الكلام لا يوجد إلا بالتمييز والعقل; لأنه وضع للبيان, ولا يقع البيان بمجرد الصوت والحروف بلا معنى ولا يوجد معناه إلا بالعقل وكل موجود من الحوادث فبصورته ومعناه يكون فلذلك كان العقل شرطا ليصير الكلام موجودا, وأما الضبط فإنما يشترط; لأن الكلام إذا صح خبرا فإنه يحتمل الصدق والكذب,
ـــــــ
"باب بيان شرائط الراوي"
"التي هي من صفات الراوي"
ما ذكر في الباب المتقدم من كون الراوي معروفا أو مجهولا ليس بصفة له حقيقة, وإن كان له تعلق به; لأن المعرفة أو الجهل ليس بقائم به بل يقوم بغيره كالعلم لا يقوم بالمعلوم بل بالعالم فأما المذكور في هذا الباب من العقل والضبط والإسلام والعدالة فقائم بالراوي وصفة له فلهذا قيد بقوله من صفات الراوي.
قوله "لأن المراد بالكلام" كذا يعني الخبر الذي يرويه كلام لا محالة والكلام في العرف ماله صورة وهي أن ينظم من حروف مهجاة ومعنى وهو أن يدل على مدلوله والدلالة على معنى لا توجد بدون العقل; لأنه أي الكلام وضع للبيان أي لإظهار المعنى الذي وقع في القلب, ولا يحصل البيان بمجرد الصوت والحروف بلا معنى, ولا يوجد المعنى بدون العقل ألا ترى أنه قد يسمع من الطيور حروف منظومة ويسمى ذلك لحنا لا كلاما لعدم صدورها عن عقل وتمييز; ولهذا لا يجب سجود التلاوة بقراءة الببغاء عند أكثر المحققين لعدم صدورها عن عقل وتمييز وكذلك لو سمع من إنسان حروف منظومة لا تدل على معنى معلوم لا تسمى كلاما فعرفنا أن معنى الكلام في الشاهد ما يكون مميزا بين أسماء الأعلام فما لا يكون بهذه الصفة يكون كلاما صورة لا معنى بمنزلة(2/571)
والحجة هو الصدق فأما الكذب فباطل والكلام في خبر هو حجة فصار الصدق والاستقامة شرطا للخبر ليثبت حجة بمنزلة المعرفة والتمييز لأصل الكلام, والصدق بالضبط يحصل فأما العدالة فإنما شرطت; لأن كلامنا في خبر مخبر غير معصوم عن الكذب فلا يثبت صدقه ضرورة بل بالاستدلال والاحتمال وذلك بالعدالة وهو الانزجار عن محظورات دينه ليثبت به رجحان الصدق في خبره وأما الإسلام فليس بشرط لثبوت الصدق; لأن الكفر لا ينافي الصدق ولكن
ـــــــ
ما لو صنع من خشب صورة آدمي لا يكون آدميا لعدم معناه فيها, ثم التمييز الذي يتم به الكلام بصورته ومعناه لا يكون إلا بعد وجود العقل فلذلك شرطناه في المخبر ليصير خبره كلاما بمنزلة المعرفة والتمييز لأصل الكلام يعني لا بد لأصل الكلام عن أن يصدر عن معرفة أي عن عقل وتمييز ليقع صحيحا هكذا لا بد لهذا النوع منه وهو الخبر عن أن يصدر عن ضبط ليكون محتملا للصدق; لأن المرء بدون الضبط لا يتمكن من التكلم صادقا وبالضبط يتمكن منه. ثم الضابط قد يكذب وقد يصدق; لأن كلامنا في خبر مخبر غير معصوم فلا يثبت صدقه في خبره ضرورة أي لا يكون جهة الصدق متعينة في خبره بطريق الضرورة كما في خبر الرسول بل بالاستدلال والاحتمال أو بل يثبت الصدق في خبره بالاستدلال وذلك بالعدالة والانزجار أي الامتناع عن محظورات دينه ليثبت به أي بالانزجار عن المحظورات رجحان الصدق في خبره; لأن الكذب محظور دينه فيستدل بانزجاره عن سائر ما يعتقده محظورا على انزجاره عن الكذب الذي يعتقده محظورا أو لما كان منزجرا عن الكذب في أمور الدنيا كان ذلك دليل انزجاره عن الكذب في أمور الدين وأحكام الشرع بالطريق أولى وإذا لم يكن عدلا في تعاطيه فاعتبار جانب اعتقاده, وإن دل على الصدق في خبره فاعتبار جانب تعاطيه يرجح معنى الكذب في خبره; لأنه لم يبال من ارتكاب سائر المحظورات مع اعتقاد حرمتها فالظاهر أنه لا يبالي من الكذب مع اعتقاد حرمته أيضا فيقع المعارضة ويجب التوقف للعمل شرعا فعرفنا أن العدالة في الراوي شرط لكون خبره حجة.
قوله "وأما الإسلام" فكذا ذكر بعض الأصوليين أن اشتراط الإسلام في الراوي باعتبار أن الكفر أعظم أنواع الفسق, والفاسق غير مقبول الرواية فالكافر أولى بأن لا يوثق به فشرط الإسلام لترجح الصدق كما شرطت العدالة والضبط. فأشار الشيخ إلى ضعف هذا الدليل وقال ليس الإسلام بشرط لثبوت الصدق إذ الكفر لا ينافي الصدق; لأن الكافر إذا كان مترهبا عدلا في دينه معتقدا لحرمة الكذب تقع الثقة بخبره كما لو أخبر عن أمر من(2/572)
الكفر في هذا الباب يوجب شبهة يجب بها رد الخبر; لأن الباب باب الدين, والكافر ساع لما يهدم الدين الحق فيصير متهما في باب الدين فثبت بالكفر تهمة زائدة لا نقصان حال بمنزلة الأب فيما يشهد لولده; ولهذا لم يقبل شهادة الكافر على المسلم لما قلنا: من العداوة ولانقطاع الولاية.
ـــــــ
أمور الدنيا بخلاف الفاسق فإن جرأته على فعل المحرمات مع اعتقاد تحريمها تزيل الثقة عن خبره ولكن اشتراط الإسلام باعتبار أن الكفر يورث تهمة زائدة في خبره يدل على كذبه; لأن الكلام في الأخبار التي تثبت بها أحكام الشرع وهم يعادوننا في الدين أشد العداوة فتحملهم المعاداة على السعي في هدم أركان الدين بإدخال ما ليس منه فيه وإليه أشار الله تعالى في قوله عز ذكره {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} "آل عمران 118" أي لا يقصرون في الإفساد عليكم وقد ظهر منهم هذا بطريق الكتمان فإنهم كتموا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبوته من كتابهم بعدما أخذ عليهم الميثاق بإظهار ذلك فلا يؤمن من أن يقصدوا مثل ذلك بزيادة هي كذب لا أصل له بطريق الرواية بل هذا هو الظاهر فلهذا شرطنا الإسلام في الراوي فتبين بهذا أن رد خبر الكافر ليس لعين الكفر بل لمعنى زائد: تمكن تهمة الكذب في خبره وهو المعاداة بمنزلة شهادة الأب لولده فإنها لا تقبل لمعنى زائد: تمكن تهمة الكذب في شهادته وهو الشفقة والميل إلى الولد طبعا.
وذكر بعض الأصوليين أن الاعتماد في رد رواية الكافر على الإجماع المنعقد على سلب أهلية هذا المنصب في الدين عن الكافر لخسته. وإن كان عدلا في دين نفسه; ولهذا أي ولثبوت التهمة لم تقبل شهادة الكافر على المسلم; لأن العداوة ربما تحملهم على القصد إلى الإضرار بالمسلم بشهادة الزور كما لا تقبل شهادة ذي الضغن لظهور عداوته بسبب باطل وقبلنا شهادة بعضهم على بعض لانتفاء هذه التهمة فيما بينهم ثم أشار إلى معنى آخر لرد شهادته بقوله ولانقطاع الولاية يعني لو لم تكن هذه التهمة لم تقبل شهادته على المسلم أيضا; لأن الشهادة من باب الولاية وانقطعت ولاية الكافر عن المسلم شرعا بقوله عز اسمه {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} "النساء: 141". واعلم أن حاصل الشروط الأربعة, وإن كان يرجع إلى اثنين وهما الضبط والعدالة; لأن الضبط بدون العقل لا يتصور وكذا العدالة بدون الإسلام; لأن تفسيرها الاستقامة في الدين وهي بدون الإسلام لا توجد; ولهذا قال بعض الأصوليين: ملاك الأمر شيئان صدق اللهجة وجودة الضبط لما يرويه إلا أن عامتهم لما رأوا المغايرة بين العقل والضبط وبين العدالة والإسلام من حيث إن العقل لا يستلزم الضبط والإسلام لا يستلزم العدالة فصلوا بينها وجعلوا كل واحد شرطا على حدة ولأنهم لو ذكروا الضبط ولم يذكروا العقل لا يحصل(2/573)
-----------------------------------------------------
ـــــــ
الاحتراز عن رواية الصبي; لأنه قد يكون له الضبط الكامل كالبالغ إلا أن يجعل الضبط الكامل متوقفا على العقل الكامل وهو بعيد ولو اقتصروا على ذكر العدالة ربما لا يحصل الاحتراز عن رواية الكافر فإن الكافر قد يوصف بالعدالة لاستقامته على معتقده ويسمى معتقده دينا. وإن كان باطلا; ولهذا يسأل القاضي عن عدالة الكافر إذا شهد على كافر آخر عند طعن الخصم فثبت أنه لا بد من ذكر الكل - والله أعلم.(2/574)
"باب تفسير هذه الشروط وتقسيمها"
قال الشيخ رضي الله عنه
"1" أما العقل فنور يضاء به طريق يبتدأ به من حيث ينتهى إليه درك الحواس فيبتدئ المطلوب للقلب فيدركه القلب بتأمله بتوفيق الله تعالى وإنه
ـــــــ
"باب تفسير هذه الشروط وتقسيمها"
قوله "أما العقل" فكذا أكثر الناس الاختلاف في العقل قبل الشرع وبعده; ولهذا قال بعضهم:
سل الناس إن كانوا لديك أفاضلا ... عن العقل وانظر هل جواب محصل
فقال بعضهم العقل جوهر لطيف يفصل به بين حقائق المعلومات واعترض عليه بأنه لو كان جوهرا لصح قيامه بذاته فجاز أن يكون عقل بلا عاقل كما جاز أن يكون جسم بغير عقل وحين لم يتصور ذلك دل أنه ليس بجوهر كذا في القواطع.
وقيل معنى العقل: هو العلم لا فرق بينهما; لأن أهل اللغة لم يفصلوا بين قولهم عقلت وعلمت فاستعملوهما لمعنى واحد وقالوا هذا أمر معلوم ومعقول.
وهو فاسد أيضا; لأن الله تعالى يوصف بالعلم, ولا يوصف بالعقل فدل أنهما مفترقان ونحن لا ننكر استعمال العقل بمعنى العلم ولكن كلامنا في المعنى الذي به يتميز من اتصف به عن الطفل الرضيع والبهيمة والمجنون ولا شك أنه غير العلم, ولذلك يوصف به عامة الخلق, ولا يوصف بالعلم إلا قليل منهم.
وقيل: هو قوة ضرورية بوجودها يصح درك الأشياء ويتوجه تكليف الشرع وهو مما يعرفه كل إنسان من نفسه.
ومختار الشيخ والقاضي الإمام وشمس الأئمة وعامة الأشعرية أن العقل نور يضاء به طريق إصابة الحق والمصالح الدينية والدنيوية فيدرك القلب به كما يدرك العين بالنور الحسي المبصرات. وإنما سماه نورا; لأن معنى النور هو الظهور للإدراك فإن النور هو(2/575)
لا يعرف في البشر إلا بدلالة اختياره فيما يأتيه ويذره ما يصلح له في عاقبته وهو نوعان: قاصر لما يقارنه ما يدل على نقصانه في ابتداء وجوده وهو عقل الصبي
ـــــــ
الظاهر المظهر والعقل بهذه المثابة للبصيرة التي هي عبارة عن عين الباطن كالشمس والسراج لعين الظاهر بل هو أولى بتسمية النور من الأنوار الحسية; لأن بها لا يظهر إلا ظواهر الأشياء فتدرك العين بها تلك الظواهر لا غير فأما العقل فيستنير به بواطن الأشياء ومعانيها ويدرك حقائقها وأسرارها فكان أولى باسم النور وقوله يبتدأ مسند إلى الظرف وهو الجار والمجرور والجملة صفة لطريق والضمير في به راجع إلى الطريق وفي بتأمله إلى القلب يعني ابتداء عمل القلب بنور العقل من حيث ينتهي إليه درك الحواس فإن الإنسان إذا أبصر شيئا يتضح لقلبه طريق الاستدلال بنور العقل فإذا نظر إلى بناء رفيع وانتهى إليه بصره يدرك بنور عقله أن له بانيا لا محالة ذا حياة وقدرة وعلم إلى سائر أوصافه الذي لا بد للبناء منه وإذا نظر إلى السماء ورأى إحكامها ورفعتها واستنارة كواكبها وعظم هيئتها وسائر ما فيها من العجائب استدل بنور عقله أنه لا بد لها من صانع قديم مدبر حكيم قادر عظيم حي عليم فهو معنى قوله فيبتدي أي يظهر المطلوب للقلب فيدرك القلب المطلوب إذا تأمل - إن وفقه الله لذلك.
قوله "وإنه" أي العقل لا يعرف في البشر أي الإنسان إلا بدلالة اختيار الإنسان فيما يأتيه من العقل وما يترك منه ما يصلح له في عاقبته أمره. ويجوز أن يكون الضمير في عاقبته راجعا إلى ما في قوله فيما يأتيه ويذره أي يختار فعله وتركه ما يصلح له في عاقبة ذلك الفعل فإن الفعل والترك قد يكون كل واحد لحكمة وعاقبة حميدة وقد يكون لغير حكمة كما يكون من البهائم وبالعقل يوقف على العواقب الحميدة فإذا وقع فعله على نهج أفعال العقلاء كان ذلك دليلا على حصول العقل فيه وهو من قبيل الاستدلال بالأثر على المؤثر قال الشيخ في مختصر التقويم فصار في الحاصل العقل ما يوقف به على العواقب والعاقل من يكون أكثر أفعاله على سنن أفعال العقلاء ثم العقل لا يكون موجودا بالفعل في الإنسان في أول أمره كما أخبر الله تعالى بقوله {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً} "النحل: 78" ولكن فيه استعداد وصلاحية لأن يوجد فيه العقل فهذا الاستعداد يسمى عقلا بالقوة وعقلا غريزيا ثم يحدث العقل فيه شيئا فشيئا بخلق الله تعالى إلى أن بلغ درجات الكمال ويسمى هذا عقلا مستفادا فقبل بلوغه إلى أولى درجات الكمال يكون قاصرا لا محالة, ولما تعذر الوقوف على وجود كل جزء منه بحسب ما يمضي من الزمان إلى أن يبلغ أولى درجات الكمال, ولا طريق لنا إلى الوقوف عن حد ذلك بل الله تعالى هو العالم بحقيقته أقيم السبب الظاهر في حقنا وهو(2/576)
; لأن العقل يوجد زائدا ثم هو بحكم الله تعالى وقسمته متفاوت لا يدرك تفاوته فعقلت أحكام الشرع بأدنى درجات كماله واعتداله وأقيم البلوغ الذي هو دليل عليه مقامه تيسيرا والمطلق من كل شيء يقع على كماله فشرطنا لوجوب الحكم وقيام الحجة كمال العقل فقلنا: إن خبر الصبي ليس بحجة; لأن الشرع لما لم يجعله وليا في أمر دنياه ففي أمر الدين أولى وكذلك المعتوه.
ـــــــ
البلوغ من غير آفة مقام كمال العقل تيسيرا وبني التكليف عليه; لأن اعتدال العقل يحصل عنده غالبا; لأن بكمال البنية يكمل قوى النفس فيكمل بكمال البنية العقل إذا لم تعارضه آفة, وسقط اعتبار ما يكون موجودا قبله من العقل في الصبي مرحمة وفضلا فصار الصبي في حكم من لا عقل له فيما يخاف لحوق عهدة به
"والمطلق من كل شيء يقع على كماله"أي كماله في مسماه" فشرطنا لوجوب الحكم" أي لوجوب حكم الشرع عليه وصيرورته مكلفا وقيام الحجة بخبره على الغير كمال العقل فقلنا: إن خبر الصبي ليس بحجة في الشرع احترز بقوله في الشرع عن المعاملات; لأن الشرع لما لم يوله أمور نفسه لنقصان عقله فلأن لا يوليه أمر شرعه أولى, ولا يلزم عليه العبد فإنه يقبل روايته, وإن لم يفوض إليه أموره; لأن ذلك لحق المولى لا لنقصان في العقل فلا يظهر ذلك في أمر الشرع فأما عدم تولية أمور الصبي إلى نفسه فلنقصان العقل فيظهر في أمر الدين أيضا ولأن خبر الفاسق مردود مع أنه أوثق من الصبي; لأنه يخاف الله تعالى لعلمه بالتكليف والصبي لا يخافه, ولا رادع له من الكذب أصلا لعلمه بعدم التكليف فكان خبره أولى بالرد وذكر بعضهم أن رواية الصبي إذا كان مميزا ووقع في ظن السامع صدقه مقبولة; لأن خبره في المعاملات والديانات مقبول مع تحكيم الرأي فكذا هذا.
ألا ترى أن أهل قباء قبلوا إخبار ابن عمر بتحويل القبلة وهو يومئذ ابن أربع عشرة سنة; لأن التحويل كان قبل بدر بشهرين وقد رده النبي عليه السلام فيه لصباه ثم إنهم اعتمدوا خبره فيما لا يجوز العمل به إلا بعلم وهو الصلاة إلى القبلة ولم ينكر عليهم رسول الله عليه السلام والأصح هو الأول; لأن المعتمد في قبول خبر الواحد إجماع الصحابة رضي الله عنهم ولم يرو عن أحد منهم أنه رجع إلى رواية صبي. ولأن غالب أحواله اللهو واللعب والمسامحة والمساهلة فيعتبر ما هو الغالب من حاله احتياطا في أمر الرواية وأما أهل قباء فالصحيح أن الذي أتاهم أنس رضي الله عنه فكان اعتمادهم على خبره أو كان(2/577)
"الضيط"
"2" وأما الضبط فإن تفسيره سماع الكلام كما يحق سماعه ثم فهمه
ـــــــ
ابن عمر بالغا يومئذ إلا أن النبي عليه السلام رده لضعف بنيته يومئذ لا; لأنه لم يكن بالغا; لأن ابن أربع عشرة سنة يجوز أن يكون بالغا وهذا إذا كان السماع والرواية قبل البلوغ فإن كان السماع قبله والرواية بعده يقبل خلافا لقوم إذ لا خلل في تحمله لكونه مميزا, ولا في روايته لكونه عاملا مكلفا ألا ترى أن الشهادة بعد البلوغ مقبولة بالإجماع, وإن كان التحمل قبل البلوغ فكذا الرواية ويدل عليه إجماع الصحابة رضي الله عنهم على قبول خبر ابن عباس وابن الزبير والنعمان بن بشير وغيرهم من أحداث الصحابة من غير فرق بين ما تحملوه بعد البلوغ وقبله وقد اتفق السلف والخلف على إحضار الصبيان مجالس الرواية وإسماعهم الأحاديث وقبول رواية ما تحملوه في الصبا بعد البلوغ ثم قيل أقل مدة يصير الصبي فيها أهلا للتحمل: أربع سنين لحديث: "محمود بن الربيع حفظت مجة مجها رسول الله عليه السلام في وجهي من دلو كانت معلقة في دارهم1" وكان ابن أربع سنين أو خمس سنين والأصح أن لا تقدير.
وكذا الحكم إذا كان فاسقا أو كافرا عند التحمل عدلا مسلما عند الرواية وقد روي عن عثمان بن عفان قال في النصراني والمملوك والصبي يشهدون شهادة فلا يدعون لها حتى يسلم هذا ويعتق هذا ويحتلم هذا ثم يشهدون بها فإنها جائزة وإذا كان هذا جائزا في الشهادة فهو في الرواية أولى; لأن الرواية أوسع في الحكم من الشهادة مع أنه قد ثبتت روايات كثيرة لغير واحد من الصحابة كانوا حفظوها قبل إسلامهم وأدوها بعده كذا في الكفاية البغدادية
وكذلك المعتوه أي وكالصبي المعتوه وهو ناقص العقل من غير صبا ولا جنون فيشبه كلامه وأفعاله تارة بكلام المجانين وأفعالهم وتارة بكلام العقلاء وأفعالهم فلا تقبل روايته أيضا; لأن نقصان العقل بالعته فوق النقصان بالصبا إذ الصبي قد يكون أعقل من البالغ, ولا يكون المعتوه كذلك قال تعالى {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} "مريم: 12" فكان خبره أولى بالرد من خبر الصبي وقوله ثم هو بحكم الله تعالى وقسمته متفاوت بيان النوع
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في المساجد حديث رقم 33 وابن ماجة في الطهارة حديث رقم 660 والإمام أحمد في المسند 5/427.(2/578)
بمعناه الذي أريد به ثم حفظه ببذل المجهود له ثم الثبات عليه بمحافظة حدوده مراقبته بمذاكرته على إساءة الظن بنفسه إلى حين أدائه وهو نوعان: ضبط المتن بصيغتيه ومعناه لغة, والثاني أن يضم إلى هذه الجملة ضبط معناه فقها وشريعة وهذا أكملهما والمطلق من الضبط يتناول الكامل; ولهذا لم يكن
ـــــــ
الثاني من العقل أي القاصر ما يقارنه ما يدل على نقصانه وهو الصبا والكامل لا حد لأعلاه, ولا يدرك إذ هو في التزايد إلى آخر العمر مع أنه في القسمة متفاوت فاعتبر أدنى درجات كماله وذلك خفي أيضا فأقيم البلوغ مقامه تيسيرا إلى آخر ما ذكرنا وقوله واعتداله بيان أدنى درجات الكمال وتفسير له.
قوله "وأما الضبط" فكذا ضبط الشيء لغة حفظه بالجزم ومنه الأضبط الذي يعمل بكلتا يديه وضبط الخبر سماعه كما يحق سماعه بأن يصرف همته إليه ويقبل بكليته عليه لئلا يشذ منه وقد بينه الشيخ في آخر هذا الفصل ثم فهمه أي فهم الكلام ملتبسا بمعناه الذي أريد به يعني معناه اللغوي أو اللغوي والشرعي جميعا ثم حفظه ببذل المجهود له أي حفظ الكلام ببذل الطاقة في حفظه بأن يكرره إلى أن يحفظه ثم الثبات عليه أي على الحفظ بمحافظة حدود ذلك الكلام بأن يعمل بموجبه ببدنه ويذاكره بلسانه فإن ترك العمل والمذاكرة يورث النسيان على إساءة الظن بنفسه بأن لا يعتمد على نفسه: أني لا أنساه, ولا يسامح في حفظ الحديث بل يسيء الظن بنفسه ويذاكره دائما مقدرا في نفسه: أني إذا تركت المذاكرة نسيته إذ الجزم سوء الظن.
ولهذا كان ابن مسعود رضي الله عنه إذا روى حديثا أخذه البهر وجعلت فرائصه ترتعد باعتبار سوء الظن بنفسه مع أنه في أعلى درجات الزهد والعدالة والضبط والفقاهة إلى حين أدائه متعلق بقوله ثم الثبات عليه; وإنما فسر الضبط بما ذكرناه; لأن بدون السماع لا يتصور الفهم وبعد السماع إذا لم يفهم معنى الكلام لم يكن ذلك سماعا مطلقا بل يكون سماع صوت لا سماع كلام هو خبر وبعد فهم المعنى يتم التحمل وذلك يلزمه الأداء كما تحمل, ولا يتأتى ذلك إلا بالحفظ والثبات عليه إلى أن يؤدي, ثم الأداء إنما يكون مقبولا عنه باعتبار معنى الصدق فيه وذلك لا يتأتى إلا بهذا; ولهذا لم يجوز أبو حنيفة أداء الشهادة لمن عرف خطه في الصك ولم يتذكر الحادثة; لأنه غير ضابط لما تحمل وبدون الضبط لا يجوز له أداء الشهادة كذا قال شمس الأئمة رحمه الله.
قوله "وهو" أي الضبط نوعان ضبط المتن بصيغته ومعناه لغة أي الضبط نفس الحديث ولفظه من غير تحريف وتصحيف مع معرفة معناه اللغوي, مثل أن يعلم أن قوله(2/579)
خبر من اشتدت غفلته خلقة أو مسامحة ومجازفة حجة لعدم القسم الأول من الضبط; ولهذا قصرت رواية من لم يعرف بالفقه عند معارضة من عرف بالفقه في باب الترجيح, وهو مذهبنا في الترجيح, ولا يلزم عليه أن نقل القرآن ممن لا ضبط له جعل حجة لأن نقله في الأصل إنما ثبت بقوم هم أئمة الهدى وخير
ـــــــ
عليه السلام: "الحنطة بالحنطة مثل بمثل" بالرفع أو النصب وأن معناه على تقدير الرفع بيع الحنطة بالحنطة وعلى تقدير النصب بيعوا الحنطة بالحنطة فهذا هو ضبط الصيغة بمعناها لغة.
والثاني أن يضم إلى هذه الجملة ضبط معناه فقها وشريعة مثل أن يعلم أن حكم هذا الحديث وهو وجوب المساواة متعلق بالقدر والجنس مثلا وأن يعلم أن حرمة القضاء في قوله عليه السلام: "لا يقضي القاضي وهو غضبان1" متعلقة بشغل القلب وهذا أي ضبط الحديث بمعناه اللغوي والشرعي أكمل النوعين أي الكامل منهما وهو من قبيل قولك الأشج والناقص أعدلا بني مروان; ولهذا قال بعده والمطلق من الضبط يتناول الكامل أي الضبط الذي هو من شرائط الراوي الضبط الكامل لا الناقص كما بينا في العقل أن الشرط منه هو الكامل وذلك لما مر أن النقل بالمعنى مشهور بينهم فإذا لم يضبط الراوي فقه الحديث ربما يقع خلل في النقل بأن يقصر في أداء المعنى بلفظه بناء على فهمه ويؤمن عن مثله إذا كان فقيها; ولهذا أي ولاشتراط أصل الضبط لم يكن خبر من اشتدت غفلته خلقة بأن كان سهوه ونسيانه أغلب من ضبطه وحفظه أو مسامحة أي مساهلة لعدم اهتمامه بشأن الحديث حجة, وإن وافق القياس كذا رأيت في بعض الحواشي والمجازفة التكلم من غير خبرة وتيقظ فارسي معرب.; ولهذا أي ولاشتراط كمال الضبط قصرت رواية من لم يعرف بالفقه أي لا تعارض رواية غير الفقيه رواية الفقيه بل يترجح الثاني على الأول لفوات كمال الضبط في الأول ووجوده في الثاني وقد روي عن عمرو بن دينار أن جابر بن زيد أبي الشعثاء روى له عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم2" قال عمرو فقلت لجابر أن ابن شهاب أخبرني عن يزيد بن
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الأقضية حديث رقم 1717 والترمذي في الأحكام حديث رقم 1334 وأبو داود في الأقضية حديث رقم 3589 وابن ماجة في الأحكام حديث رقم 2316 والإمام أحمد في المسند 5/36
2 أخرجه مسلم في النكاح حديث رقم 1410 وأبو داود في المناسك حديث رقم 1844 والترمذي في الحج حديث رقم 842(2/580)
الورى ولأن نظم القرآن معجز يتعلق به أحكام على الخصوص مثل جواز الصلاة وحرمة التلاوة على الحائض والجنب فاعتبر في نقله نظمه وبني عليه معناه فأما السنة فإن المعنى أصلها والنظم غير لازم فيها; لأن نقل القرآن ممن لا يضبط الصيغة بمعناها إنما يصح إذا بذل مجهوده واستفرغ وسعه ولو فعل ذلك في السنة لصار ذلك حجة إلا أنه لما عدم ذلك عادة شرطنا كمال الضبط ليصير
ـــــــ
الأصم: "أن النبي عليه السلام تزوجها وهو حلال" فقال: إنها كانت خالة ابن عباس فهو أعلم بحالها فقلت وقد كانت خالة يزيد بن الأصم أيضا فقال أنى يجعل يزيد بن الأصم البوال على عقبيه إلى ابن عباس, فدل أن رواية غير الفقيه لا تعارض رواية الفقيه وليس ذلك إلا باعتبار تمام الضبط من الفقيه وما ذكرنا مذهب عامة الأصوليين من أصحابنا وأصحاب الشافعي فقد ذكر في المحصول وغيره أن رواية الفقيه راجحة على رواية غير الفقيه وقال قوم هذا الترجيح إنما يعتبر في خبرين مرويين بالمعنى أما المروي باللفظ فلا, والحق أنه يقع به الترجيح مطلقا; لأن الفقيه يميز بين ما يجوز, وبين ما لا يجوز فإذا حضر المجلس وسمع كلاما لا يجوز إجراؤه على ظاهره بحث عنه وسأل عن مقدمته وسبب وروده فيطلع على ما يزيل الإشكال أما من لم يكن عالما فإنه لا يميز بين ما يجوز وبين ما لا يجوز فينقل القدر الذي سمعه فربما كان ذلك القدر وحده سببا للضلال. وكذا إذا كان أحدهما أفقه من الآخر كانت روايته راجحة; لأن الوثوق باحتراز الأفقه عن ذلك الاحتمال المذكور أتم من الوثوق باحتراز الأضعف وكذا ذكر في القواطع أيضا فتبين أن قول الشيخ وهو مذهبنا في الترجيح ليس لبيان خلاف أصحاب الشافعي بل لبيان نفس المذهب ويحتمل أن يكون فيه خلاف لا نعرفه ممن لا ضبط له أي لا يضبط المعنى الشرعي, ولا اللغوي; لأن نقله في الأصل أي أصل نقل القرآن ثبت لقوم كانوا أئمة الهدى وخير الورى أي الخلق وكذلك في كل قرن إلى يومنا هذا فوقع الأمن عن الغلط والتصحيف بنقلهم فيكون نقل من لا ضبط له تبعا لنقلهم فيقبل ولأن نظم القرآن معجز فإن إعجازه متعلق بالنظم والمعنى جميعا فكان النظم فيه مقصودا كالمعنى والمعنى مودع في اللفظ فيكون المعنى تبعا للفظ ولذلك حرم على الحائض والجنب قراءة القرآن وما حرم ذكر معناه بعبارة أخرى وكذلك جواز الصلاة يتعلق بقراءة النظم دون المعنى عند العامة أو عند الكل على تقدير صحة الرجوع عن أصل المذهب وإذا كان الأصل هو النظم والكل في ضبط النظم سواء صح النقل عن الكل, وفي الإخبار المعنى هو المقصود والناس مختلفون في النقل بالمعنى فصح النقل ممن يعقل المعنى, وهو الفقيه دون من لا يعقله بذل مجهوده واستفرغ وسعه ترادف إذ استفراغ الوسع بذل الطاقة أيضا "ولو فعل ذلك في السنة" أي بذل مجهوده في(2/581)
حجة ومعنى قولنا أن يسمعه حق سماعه أن الرجل قد ينتهي إلى المجلس وقد مضى صدر من الكلام فربما يخفى على المتكلم هجومه ليعيد عليه ما سبق من كلامه فعلى السامع الاحتياط في مثله ثم قد يزدري السامع بنفسه فلا يراها أهلا لتبليغ الشريعة فيقصر في بعض ما ألقي إليه ثم يفضى به فضل الله تعالى إلى أن يتصدى لإقامة الشريعة وقد قصر في بعض ما لزمه فلذلك شرطنا مراقبته.
ـــــــ
ضبط اللفظ من غير ضبط المعنى في الخبر كان حجة أيضا وهو معنى ما ذكر في المعتمد وغيره أن حديث من لا يعرف معنى ما ينقله كالأعجمي لا يرد; لأن جهله بمعنى الكلام لا يمنع من ضبطه للحديث; ولهذا يمكن للأعجمي أن يحفظ القرآن, وإن لم يعرف معناه وقد قبلت الصحابة أخبار الأعراب, وإن لم يعرفوا كثيرا من معاني الكلام التي يفتقر إليها في الاستدلال. وقد يزدري السامع بنفسه أي يستخفها ويستحقرها إلى أن يتصدى لإقامة الشريعة أي يتعرض لها على ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه عنه أنه قال لقد أتى علينا زمان لسنا نسأل ولسنا هناك ثم قضى الله أن بلغنا من الأمر ما ترون قيل هذا إشارة منه إلى زمن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فقد كانت الصحابة متوافرين في ذلك الوقت وما كان يحتاج إلى ابن مسعود رضي الله عنه وقيل هذا منه إشارة إلى حاصل صغره وجهله; وإنما قصد بهذا التحدث بنعمة الله تعالى حيث رفعه من تلك الدرجة إلى ما بلغه إليه; لأنه قال هذا حين كان بالكوفة وله أربعة آلاف تلميذ يتعلمون بين يديه حتى روي أنه لما قدم علي رضي الله عنه الكوفة خرج إليه ابن مسعود مع أصحابه حتى سدوا الأفق فلما رآهم علي رضي الله عنه قال ملئت هذه القرية علما وفقها كذا في المبسوط.
"فلذلك شرطنا مراقبته" أي مراقبة السماع فإن تحقق سماعه كما هو حقه وتم ضبطه على الوجه المذكور يرويه وإلا لم يجازف في الرواية فإن بكثرة رواية من كان بهذه الصفة في الابتداء يستدل على قلة مبالاته فيرد خبره; ولهذا ذم السلف الصالح رضوان الله عليهم كثرة الرواية وكان الصديق رضي الله عنه أكبر الصحابة وأدومهم صحبة وكان أقلهم رواية وقال عمر رضي الله عنه أقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا شريككم يعني في تقليل الرواية. ولما قيل لزيد بن أرقم, ألا تروي لنا عن رسول الله عليه السلام شيئا قال قد كبرنا ونسينا, والرواية عن رسول الله أمر شديد1; ولهذا قلت روايات أبي حنيفة رحمه
ـــــــ
1 أخرجه ابن ماجة في المقدمة حديث رقم 25.(2/582)
العدالة
وأما العدالة فإن تفسيرها الاستقامة يقال طريق عدل للجادة وجائر للبنيات وهي نوعان أيضا: قاصر وكامل أما القاصر فما ثبت منه بظاهر الإسلام واعتدال العقل; لأن الأصل حالة الاستقامة لكن هذا الأصل لا يفارقه هوى يضله ويصده عن الاستقامة وليس الكمال إلا استقامة حد يدرك مداه; لأنها بتقدير الله
ـــــــ
الله حتى قال بعض الطاغين إنه كان لا يعرف الحديث وليس الأمر كما ظنوا بل كان أعلم عصره بالحديث ولكن لمراعاة شرط كمال الضبط قلت روايته كذا قال شمس الأئمة رحمه الله.
قوله "أما العدالة فكذا" هي في اللغة عبارة عن ضد الجور وهو اتصاف الغير بفعل ما يجب فعله وترك ما يجب له تركه, وعن الاستقامة يقال فلان عادل أي مستقيم السيرة في الحكم بالحق ويقال للجادة طريق عادل لاستقامتها وجائر للبنيات بضم الباء وفتح النون وهي الطرق الحادثة من الجادة بغير حق وهي في الشريعة عبارة عن الاستقامة على طريق الرشاد والدين وضدها الفسق وهو الخروج عن الحد الذي جعل له وفسرها البعض بأنها عبارة عن أهلية قبول الشهادة والرواية عن النبي عليه السلام
قال الغزالي رحمه الله: "هي عبارة عن استقامة السيرة والدين, وحاصلها يرجع إلى هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعا حتى يحصل ثقة النفوس بصدقه فلا ثقة بقول من لا يخاف الله خوفا وازعا عن الكذب".
"أما القاصر فما ثبت منه" أي من العدالة على تأويل المذكور بظاهر الإسلام واعتدال العقل مع السلامة عن فسق ظاهر فإن من اتصف بهما فهو عدل ظاهرا; لأنهما يحملانه على الاستقامة ويزجرانه عن المعاصي والخروج عن حد الشريعة وبهذه العدالة لا يصير الخبر حجة; لأن هذا الظاهر عارضه ظاهر مثله وهو هوى النفس فإنه الأصل قبل العقل وحين رزق العقل والنهى ما زايله الهوى وأنه داع إلى العمل بخلاف العقل والشرع فكان عدلا من وجه دون وجه كالمعتوه والصبي عاقلان من وجه دون وجه فتردد الصدق في خبره بين الوجود والعدم من غير رجحان فشرط كمال العدالة وهو أن يكون مجانبا لمحظور دينه ليثبت رجحان دليل العقل على الهوى فيترجح الصدق في خبره ولا يفارقه هوى يضله قال تعالى {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} "ص: 26".
وقوله: "وليس لكمال الاستقامة" بيان النوع الثاني كأنه قال: والكامل من الاستقامة بالانزجار عن المعاصي إلا أن هذا كمال لا يدرك مداه أي غايته فاعتبر في ذلك أي في(2/583)
تعالى ومشيئته يتفاوت فاعتبر في ذلك ما لا يؤدي إلى الحرج والمشقة وتضييع حدود الشريعة وهو رجحان جهة الدين والعقل على طريق الهوى والشهوة فقيل: من ارتكب كبيرة سقطت عدالته وصار متهما بالكذب وإذا أصر على ما دون الكبيرة كان مثلها في وقوع التهمة وجرح العدالة فأما من ابتلي بشيء من غير الكبائر من غير إصرار فعدل كامل العدالة وخبره حجة في إقامة الشريعة والمطلق من العدالة ينصرف إلى أكمل الوجهين فلهذا لم يجعل خبر الفاسق والمستور
ـــــــ
كمال الاستقامة ما لا يؤدي اعتباره إلى الحرج وتضييع حدود الشريعة أي أحكامها فاشترط الامتناع عن الكبائر والاحتراز عن الإصرار على الصغائر حتى لو ارتكب كبيرة تبطل عدالته, وإن أصر على صغيرة فكذلك, وإن ارتكب صغيرة ولم يصر عليها لا تبطل وكان ينبغي أن تبطل; لأنه حصل الخروج عن الحد المحدود له شرعا إلا أن التحرز عن جميع الصغائر متعذر عادة فإن غير المعصوم لا يتحقق منه التحرز عن الزلات جميعا فاشتراط التحرز عن جميعها لإثبات العدالة حينئذ إلا نادرا فسقط فأما الاجتناب عن الكبائر وعن الإصرار على الصغائر فغير متعذر فلم يجعل عفوا واضطربت كلمة الأمة في الكبائر فروى ابن عمر عن أبيه رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال1: "الكبائر تسع الإشراك بالله. وقتل النفس المؤمنة, وقذف المحصنة واليمين الغموس, والفرار عن الزحف والسحر, وأكل مال اليتيم وعقوق الوالدين المسلمين, والإلحاد في الحرم" أي الظلم في البيت الحرام: من ألحد الرجل إذا ظلم في الحرم. وروى أبو هريرة رضي الله عنه مع ذلك أكل الربا2 وروي عن علي رضي الله عنه أنه أضاف إلى ذلك السرقة وشرب الخمر وقيل ما خصه الشارع بالذكر فهو كبيرة وذكر الغزالي رحمه الله في المستصفى لا خلاف أنه لا يشترط العصمة من جميع المعاصي, ولا يكفي أيضا اجتناب الكبائر بل من الصغائر ما يرد به كسرقة بصلة أو تطفيف في حبة قصدا وبالجملة كل ما يدل على ركاكة دينه إلى حد يستجرئ على الكذب بالأغراض الدنيوية يرد به كيف وقد شرط في العدالة التوقي عن بعض المباحات القادحة في المروءة نحو الأكل في الطريق والسوق لغير السوقي والبول في الشارع وصحبة الأرذال وأفراد المزح والحرف الدنية من دباغة وحجامة وحياكة ممن لا يليق به من غير ضرورة; لأن مرتكبها لا يجتنب الكذب غالبا فلا يكون قوله موثوقا به. قال والضابط في ذلك فيما جاوز محل الإجماع أن يرد إلى اجتهاد الحاكم فما دل عنده
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الوصايا حديث رقم 2875.
2 أخرجه مسلم في الإيمان حديث رقم 89 وأبو داود في الوصايا حديث رقم 2874.(2/584)
حجة وقال الشافعي رحمه الله لما لم يكن خبر المستور حجة فخبر المجهول أولى والجواب أن خبر المجهول من الصدر الأول مقبول عندنا على الشرط الذي قلنا: بشهادة النبي عليه السلام على ذلك القرن بالعدالة.وأما الإيمان والإسلام فإن تفسيره التصديق والإقرار بالله سبحانه وتعالى كما هو بصفاته وقبول شرائعه وأحكامه وهو نوعان: ظاهر بنشوه بين المسلمين, وثبوت حكم
ـــــــ
على جرأته على الكذب يرد الشهادة به وما لا فلا وهذا يختلف بالإضافة إلى المجتهدين وتفصيل ذلك من الفقه لا من الأصول ورب شخص يعتاد الغيبة ويعلم الحاكم أن ذلك له طبع لا يصبر عنه ولو حمل على شهادة الزور لم يشهد أصلا فقبوله شهادته بحكم اجتهاده جائز في حقه ويختلف ذلك بعادات البلاد وأحوال الناس في استعظام بعض الصغائر دون بعض فهذا يدل على الشرط هو الاجتناب عن الكبائر والتحرز عن الصغائر والمباحات التي تدل على دناءة الهمة وقلة المبالاة وتقدح في المروءة, وترك الإصرار على سائر الصغائر.
"ولهذا" أي ولاشتراط العدالة لم يجعل خبر الفاسق والمستور حجة لفوات أصل العدالة في حق الفاسق وفوات كمالها في حق المستور وهو الذي لم يعرف عدالته, ولا فسقه; ولهذا لم يجز القضاء بشهادة الفاسق ولم يجب بشهادة المستور وقال الشافعي رحمه الله لما لم يكن خبر المستور حجة فخبر المجهول أولى; لأن المستور معلوم الذات مجهول الحال والمجهول غير معلوم بالذات والحال; لأن معرفته بالحديث الذي رواه وثبوت ذلك مبني على معرفة عدالته وهي غير معلومة فيكون هو أدنى حالا من المستور وتقدير الكلام: ولما لم يكن خبر المستور في غير قرون الثلاثة حجة مع أنه معلوم الذات كان خبر المجهول من القرون الثلاثة إذا لم يقابل بقبول, ولا برد أولى بالرد وقد بيناه في الباب المتقدم.
وفي بعض الشروح أن معناه لما لم يكن خبر المستور حجة فخبر المجهول أولى; لأن المستور من لا يرد عليه رد من السلف والمجهول قد رده بعض السلف فأولى أن لا يقبل, والكلام في مثل هذا المجهول الذي رده بعض السلف وفي الحقيقة المجهول والمستور واحد إلا أن خبر المجهول في القرون الثلاثة مقبول لغلبة العدالة فيهم وخبر المجهول بعد القرون الثلاثة مردود لغلبة الفسق. من الصدر الأول أي منهم وممن هو في معناهم من القرنين الآخرين لشمول دليل القبول وهو شهادة الرسول بالعدالة للجميع على الشرط الذي قلنا بأن شهد الثقات بصحته وعملوا به أو سكتوا عنه أو اختلفوا أو لم يظهر فيما(2/585)
الإسلام بغيره من الوالدين, وثابت بالبيان بأن يصف الله تعالى كما هو إلا أن هذا
ـــــــ
بينهم ولكن يوافقه القياس, ولا يرده وذكر أبو عمرو الدمشقي المعروف بابن الصلاح في كتابه أن المجهول أقسام أحدها المجهول العدالة ظاهرا وباطنا وروايته غير مقبولة عند الجماهير والثاني المجهول الذي جهلت عدالته الباطنة وهو عدل في الظاهر وهو المستور على ما فسره بعض أئمتنا فيقبل روايته بعض من رد رواية الأول وهو قول بعض الشافعية; لأن أمر الأخبار مبني على حسن الظن بالراوي; ولأن رواية الأخبار تكون عند من يتعذر عليه معرفة العدالة في الباطن فاقتصر فيها على معرفتها في الظاهر ويشبه أن يكون العمل على هذا في كثير من كتب الحديث المشهورة في غير واحد من الرواة الذين تقادم العهد بهم وتعذرت الخبرة الباطنة في حقهم والثالث - المجهول العين وقد يقبل رواية المجهول العدالة من لا يقبل رواية المجهول العين, ومن روى عنه عدلان وعيناه فقد ارتفعت عنه هذه الجهالة فإن أبا بكر الخطيب البغدادي قال: وأقل ما يرفع الجهالة أن يروي عن الرجل اثنان من المشهورين بالعلم إلا أنه لا يثبت له حكم العدالة بروايتهما عنه.
قوله "وأما الإيمان والإسلام" فكذا هما هاهنا عبارتان عن معنى واحد; ولهذا قال فإن تفسيره ولم يقل تفسيرهما وذكر في التأويلات أن الإيمان والإسلام إذا ذكرا معا كان المراد منهما واحدا, وإن ذكر كل واحد منهما منفردا كان المراد من الإيمان التصديق الباطني ومن الإسلام الطاعات وعن بعض المشايخ أن الإيمان تصديق الإسلام والإسلام تحقيق الإيمان وتفسيره التصديق والإقرار بالله عز وجل أي يصدق بقلبه ويقر بلسانه بوجود الصانع جل جلاله وبكونه متصفا بصفات الكمال مثل الوحدانية والعلم والقدرة والحياة وسائر الأوصاف التي لا بد من وجودها للألوهية وبأسمائه الحسنى مثل الرحمن والرحيم والقادر والعليم إلى سائر أسمائه - جل ذكره - وذلك; لأن الله تعالى غائب عن الحس والغائب يعرف بالصفات والأسماء ويضم إليه أيضا التصديق والإقرار بملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وبأن القدر خيره وشره من الله عز وجل وبسائر ما يجب الإيمان به ظاهر بنشوئه بين المسلمين وبأن ولد فيهم ونشأ على طريقتهم شهادة وعبادة يقال نشأت في بني فلان نشئا أو نشوءا إذا شببت فيهم. وثابت بالبيان بأن يصف الله تعالى كما هو ويصف جميع ما وجب الإيمان به وصفا عن علم وتيقن لا عن ظن وتلقن; لأن حفظ اللغة غير العلم بالمعنى, والواجب هو العلم فلا يفيد حفظ اللغة بدونه فإذا وصف على هذا الوجه كان مسلما حقيقة.
"إلا أن هذا" استثناء منقطع بمعنى لكن وجواب عما قال بعض المشايخ ذكر الوصف على سبيل الإجمال لا يكفي بل لا بد من العلم بحقيقة ما يجب الإقرار به وبيانه(2/586)
كمال يتعذر شرطه; لأن معرفة الخلق بأوصافه على التفسير متفاوتة; وإنما شرط الكمال بما لا حرج فيه وهو أن يثبت التصديق والإقرار بما قلنا: إجمالا, وإن عجز عن بيانه وتفسيره; ولهذا قلنا: إن الواجب أن يستوصف المؤمن فيقال أهو كذا فإذا قال نعم فقد ظهر كمال إسلامه ألا ترى أن النبي عليه السلام استوصف فيما روي عنه عن ذكر الجمل دون التفسير وكان ذلك دأبه صلى الله عليه وسلم والمطلق من هذا يقع على الكامل أيضا بذلك أمرنا بالكتاب والسنة قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} "الممتحنة: 10" وكان النبي عليه السلام يمتحن الأعراب بعد دعوى الإيمان
ـــــــ
على التفصيل حتى لو لم يعلم شيئا من ذلك كان كافرا. ألا ترى أن من قال محمد رسول الله ولا يعرف من هو لا يكون مؤمنا فقال الشيخ ما ذكرتم وهو الوصف على التفصيل كمال يتعذر اشتراطه لصحة الإيمان; لأن معرفة الخلق بأوصاف الله تعالى متفاوتة وأكثرهم لا يقدرون على بيان تفسير صفات الله تعالى وأسمائه على الحقيقة والاستقصاء فيشترط الكمال الذي لا يؤدي إلى الحرج وهو أن يصدق ويقر إجمالا بما يجب الإيمان به فهذا القدر يكفي لثبوت الإيمان حقيقة; ولهذا أي ولأن الإيمان يثبت حقيقة بالبيان إجمالا قلنا: الواجب لا يستوصف المؤمن فيقال: أتؤمن بأن الله تعالى واحد لا شريك له قادر عالم حي سميع بصير مريد خالق إلى آخر أوصافه التي يجب ذكرها في الإيمان أو يقال: أتؤمن بأن الله تعالى موصوف بصفات الكمال وأن ما جاء به محمد رسول الله حق فإذا قال نعم حكم بصحة إسلامه ولا يطلب منه حقيقة الوصف قالوا وهذا إذا وافق هذا الاستفهام ما في قلبه ولم يعتقد ما يخالف الإسلام فإن اعتقده فلا يفيد هذا الاستيصاف إلا بتبديل ذلك الاعتقاد. ثم استوضح هذا بفعل النبي عليه السلام فقال, ألا يرى أن النبي عليه السلام استوصف فيما يروى عنه عن ذكر الجمل دون التفسير حتى: "قال للأعرابي الذي شهد برؤية الهلال "أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله" فقال نعم فقال "الله أكبر يكفي المسلمين أحدهم" وحين سأله جبريل عليهما السلام عن الإيمان والإسلام تعليما للناس معالم الدين بين هو صلى الله عليه وسلم على سبيل الإجمال والمطلق من هذا يقع على الكامل أيضا يعني لا يكتفى في الإسلام بظاهر الإسلام وهو القسم الأول بل يشترط فيه الكمال وهو البيان إجمالا كما في سائر الشروط ويدل عليه الكتاب والسنة أما الكتاب فقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} "الممتحنة: 10" أي اختبروهن ببيان الشهادتين أمر بالامتحان والاستيصاف بعد أن سماهن مؤمنات ولم يكتف بما في ضميرهن ودعواهن الإيمان وهجرتهن إلى دار الإسلام فعرفنا أن الاستيصاف فيه شرط(2/587)
إلا أن تظهر أماراته فيجب التسليم له كما قال النبي عليه السلام: "إذا رأيتم الرجل يعتاد الجماعة فاشهدوا له بالإيمان1" وقال النبي عليه السلام: "من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فاشهدوا له بالإيمان" فأما من استوصف فجهل فليس بمؤمن كذلك قال محمد في الجامع الكبير في الصغيرة بين أبوين مسلمين إذا لم تصف الإيمان حتى أدركت فلم تصفه أنها تبين من زوجها وإذا ثبت هذه الجملة كان الأعمى والمحدود في القذف والمرأة
ـــــــ
ولكن على وجه لا يؤدي إلى الحرج وأما السنة فهي أن النبي عليه السلام كان يمتحن الأعراب بعد دعوى الإيمان منهم.
قوله "إلا أن تظهر أماراته" استثناء من قوله والمطلق من هذا يقع على الكامل يعني لا يكتفي في الإسلام بالظاهر ويشترط الاستيصاف إلا أن تظهر أمارات الإسلام فحينئذ لا يشترط الاستيصاف وحاصل المعنى أن الاستيصاف إنما يجب في حق من لم يوجد منه الدلالات الظاهرة على الإسلام فأما في حق من وجدت منه نحو إقامة الصلاة بالجماعة وإيتاء الزكاة وأكل ذبيحتنا فإنه يحكم بإسلامه ويكون ذلك مقام الوصف منه في الحكم بإيمانه للحدثين المذكورين في الكتاب فأما من استوصف فجهل بأن وصف بين يديه فقال لا أعرف ما تقول فليس بمؤمن فإن محمدا رحمه الله ذكر في نكاح الجامع مسلم تزوج صبية مسلمة فأدركت ولم تصف الإسلام قبله, ولا بعده بانت من زوجها; لأنها كانت مسلمة تبعا وقد انقطعت التبعية فإذا لم تصف الإسلام كان ذلك جهلا محضا والجهل بالصانع كفر منها بعد الإسلام فصارت مرتدة, قال الشيخ رحمه الله في شرح الجامع: وهذا مما يجب حفظه والاحتراز عنه بأن تلقن الإسلام قبل البلوغ حتى تؤديه احترازا عن هذا وعلى الزوج الاحتياط بالنظر في هذا حين تزف إليه قال شمس الأئمة رحمه الله وتأويل قوله لم تصف الإسلام أنها لا تحسن الوصف, ولا تعرف إن وصف بين يديها حتى إذا أراد الزوج أن يستوصفها الإسلام لا ينبغي أن يقول لها صفي الإسلام فإنها تعجز عن ذلك, وإن كانت تحسنه حياء من زوجها ولكن يصف بين يديها ويقول هذا اعتقادي وظني بك أنك تعتقدين هذا فإن قالت نعم كفى ذلك وكانت مسلمة حلالا له, وإن قالت لا أعرف شيئا مما تقول فلا نكاح بينهما حينئذ.
قوله "فإذا ثبت هذه الجملة" وهي أن العقل والضبط والعدالة والإسلام من شرائط الراوي كان الأعمى والمحدود في القذف والعبد من أهل الرواية لتحقق هذه الشرائط
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في التفسير حديث رقم 3093 وابن ماجة حديث رقم 802.(2/588)
والعبد من أهل الرواية وكان خبرهم حجة بخلاف الشهادات في حقوق الناس; لأنها تفتقر إلى تمييز زائد ينعدم بالعمى وإلى ولاية كاملة متعدية ينعدم بالرق وتقصر بالأنوثة وبحد القذف على ما عرف فأما هذا فليس من باب الولاية لوجهين: أحدهما أن ما يلزم السامع من خبر المخبر بأمور الدين فإنما يلزمه بالتزامه طاعة الله ورسوله كما يلزم القاضي الفصل والقضاء والسماع بالتزامه لا بإلزام الخصم, والثاني أن خبر المخبر في الدين يلزمه أولا ثم يتعدى إلى غيره, ولا يشترط بمثله قيام الولاية بخلاف الشهادة في مجلس الحكم وقد ثبت عن
ـــــــ
في حقهم, وإن لم يكونوا من أهل الشهادة; لأن الشهادة توقفت على معان أخر لا تشترط في الخبر أما الأعمى فلأن العمى إنما منع قبول الشهادة; لأن الشاهد يحتاج إلى التمييز بين المشهود له والمشهود عليه عند الأداء والإشارة إليهما وإلى المشهود به فيما يجب إحضاره مجلس الحكم وذلك يحصل من البصير بالمعاينة ومن الأعمى بالاستدلال وبينهما تفاوت يمكن التحرز عنه في جنس الشهود, وفي رواية الأخبار لا حاجة إلى هذا التمييز فكان الأعمى والبصير فيه سواء وهو معنى قوله تمييز زائد وأما العبد والمرأة والمحدود في القذف فلأن الشرط في الشهادة الولاية الكاملة; لأن الولاية تنفيذ القول على الغير شاء الغير أو أبى, والشهادة بهذه المثابة وبالرق تنعدم الولاية أصلا وبالأنوثة تنتقض; لأن الولاية تستفاد من المالكية والمرأة, وإن صلحت مالكة للمال لا تصلح مالكة في النكاح بل هي مملوكة فيه; ولهذا أقيمت شهادة اثنتين منهن مقام شهادة رجل واحد. وكذا انتقصت ولاية الشهادة بحد القذف أيضا, وإن لم تنعدم حتى انعقد النكاح بشهادة المحدود في القذف فلفوات الولاية أو لنقصانها ردت شهادة هؤلاء فأما هذا أي قبول الرواية فليس من باب الولاية لوجهين أحدهما أن المخبر لا يلزم أحدا شيئا ولكن السامع قد التزم باعتقاده أن المخبر عنه مفترض الطاعة فإذا ترجح جانب الصدق في الخبر شابه ذلك المسموع ممن هو مفترض الطاعة فيلزمه العمل باعتبار اعتقاده كما يلزم القاضي القضاء والفصل عند سماع الشهادة بالتزامه وتقلده هذه الأمانة لا بإلزام الخصم أي الشاهد فإن كلام الشاهد يلزم المشهود عليه دون القاضي فصار تقلده في حقه بمنزلة الشاهد في حق المشهود عليه أو المراد من الخصم المدعي أي لا يلزم المدعي القضاء عليه بعد إقامة البينة بل يلزمه بتقلده أمانة القضاء من صاحب الشرع. ألا ترى أنه يلزمه الاستماع إلى دعوى المدعي الكافر وإلى إنكاره وإلى شهادته على كافر مثله ويلزمه القضاء بموجب تلك الشهادة ولو كانت الشهادة ملزمة عليه القضاء لا يلزمه الاستماع في هذه الصورة: وبيان هذا أن قوله عليه السلام: "لا صلاة إلا بقراءة" ليس في ظاهره إلزام شيء على أحد بل فيه(2/589)
أصحاب رسول الله رواية الحديث ممن ابتلي بذهاب البصر, وقبول رواية النساء والعبد ورجوعهم إلى قول عائشة رضي الله عنها وقبول النبي عليه الصلاة والسلام خبر بريرة وسلمان وغيرهما - والله أعلم.
ـــــــ
بيان صفة تتأدى بها الصلاة إذا أرادها بمنزلة قول القائل: لا خياطة إلا بالإبرة والثاني أن حكم الخبر يلزم المخبر أولا ثم يتعدى الحكم إلى غيره, ولا يشترط في مثله قيام الولاية; ولهذا جعل العبد بمنزلة الحر في الشهادة التي يكون فيها التزام على الوجه الذي يكون في الخبر وهو الشهادة برؤية هلال رمضان. بخلاف الشهادة في مجلس الحكم فإنها تلزم على الغير ابتداء فلا بد من كمال الولاية فالوجه الأول منع كون الخبر ملزما والوجه الثاني تسليم ذلك وبيان الفرق بينه وبين الشهادة وقد ثبت رواية الحديث ممن ابتلي بذهاب البصر من الصحابة, مثل عبد الله بن أم مكتوم وعتبان بن مالك وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وجابر وواثلة بن الأسقع رضي الله عنهم والأخبار المروية عنهم مقبولة ولم يتفحص أحد أنهم رووا قبل العمى أم بعده وكذلك كانوا يرجعون إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهن فيما يشكل عليهم من أمر الدين فيعتمدون خبرهن خصوصا إلى عائشة رضي الله عنها وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تأخذون ثلثي دينكم من عائشة" وقد كانت رضي الله عنها من علماء الصحابة رأيا ورواية وقد صح أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجيب دعوة المملوك1 فدل أنه كان يعتمد خبره أن مولاه أذن له وسلمان رضي الله عنه حين كان عبدا أتاه بصدقة فاعتمد خبره وأمر أصحابه بالأكل ثم أتى بهدية فاعتمد خبره وأكل منه, وكان يعتمد خبر بريرة قبل أن تعتق وبعد عتقها وكثير من الموالي نقلوا أخبارا وتلقته الأمة بالقبول من غير تفحص عن التاريخ مثل نافع وسالم وعبد الله بن جبير ومحمد بن جبير فدل أن الأعمى والمملوك والأنثى في ذلك كالبصير والحر والذكر.
ثم المحدود في القذف في رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله ليس بمقبول الرواية; لأنه محكوم بكذبه بالنص قال الله تعالى {فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} "النور: 13". والمحكوم بالكذب فيما يرجع إلى التعاطي لا يكون عدلا مطلقا ومن شرط كون الخبر حجة العدالة مطلقة وفي ظاهر المذهب روايته بعد التوبة مقبولة فإن أبا بكرة مقبول الخبر ولم يشتغل أحد بطلب التاريخ في خبره أنه روى بعدما أقيم عليه الحد أم قبله بخلاف الشهادة فإن رد شهادته من تمام حده ثبت ذلك بالنص ورواية الخبر ليس في معنى الشهادة ثم التائب من أسباب الفسق والكذب تقبل روايته إلا التائب من الكذب
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في الجنائز حديث رقم 1017 وابن ماجة في الزهد حديث رقم 4178.(2/590)
---------------------------------------------------------
ـــــــ
معتمدا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا تقبل روايته أبدا, وإن حسنت توبته على ما ذكر عن غير واحد من أهل العلم منهم أحمد بن حنبل وأبو بكر الحميدي1 شيخ البخاري وذكر أبو بكر الصيرفي في شرحه لرسالة الشافعي أن كل من أسقطنا خبره من أهل النقل بكذب وجدناه عليه لم نعد لقبوله بتوبة تظهر ومن ضعفنا نقله لم نجعله قويا بعد ذلك وذكر أن ذلك مما افترقت فيه الرواية والشهادة.
وذكر أبو المظفر السمعاني2 أن من كذب في خبر واحد وجب إسقاط ما تقدم من حديثه وكذا ذكر أبو عمرو في كتاب "معرفة أنواع علم الحديث"
قوله: "وأما المرتبة الثانية" أي من الأقسام الأربعة المذكورة في أول باب أقسام السنة باب بيان قسم الانقطاع والحمد لله رب العالمين وصلواته على سيدنا محمد وآله أجمعين.
ـــــــ
1 هو أبو بكر عبدالله بن الزبير بن عيسي الحميدي الأسدي المتوفي سنة 219هـ،أنظر البداية 10/282.
2 هو أبو المظفر منصور بن محمد بن عبدالجبار بن أحمد التميمي المروزي "426 – 489"،أنظر طبقات السبكي 4/21 – 26.(2/591)
المجلد الثالث
باب بيان قسم الانقطاع
...
بسم الله الرحمن الرحيم
أما المرتبة الثانية:
باب بيان قسم الانقطاع
وهو نوعان ظاهر وباطن أما الظاهر فالمرسل من الأخبار وذلك أربعة أنواع ما أرسله الصحابي والثاني ما أرسله القرن الثاني والثالث ما أرسله العدل في كل عصر والرابع ما أرسل من وجه واتصل من وجه آخر أما القسم الأول فمقبول بالإجماع وتفسير ذلك أن من الصحابة من كان من الفتيان قلت صحبته فكان يروي عن غيره من الصحابة فإذا أطلق الرواية فقال قال رسول الله عليه
ـــــــ
"باب بيان قسم الانقطاع"
الإرسال خلاف التقييد لغة, وكأن هذا النوع الذي نحن بصدده سمي مرسلا لعدم تقيده بذكر الواسطة التي بين الراوي والمروي عنه, وهو في اصطلاح المحدثين أن يترك التابعي الواسطة التي بينه وبين الرسول عليه السلام فيقول قال رسول الله عليه السلام كذا كما كان يفعله سعيد بن المسيب ومكحول الدمشقي وإبراهيم النخعي والحسن البصري وغيرهم. فإن ترك الراوي واسطة بين الراويين مثل أن يقول من لم يعاصر أبا هريرة قال أبو هريرة فهذا يسمى منقطعا عندهم. هذا إذا كان المتروك واسطة واحدة فإن كان أكثر من واحدة فهو المسمى بالمعضل عندهم. قال أبو عمر وعثمان بن عبد الرحمن الدمشقي المعروف بابن الصلاح في كتاب معرفة أنواع علم الحديث المعضل لقب لنوع خاص من المنقطع, وهو الذي سقط عن إسناده اثنان فصاعدا وأصحاب الحديث يقولون أعضله فهو معضل بفتح الضاد, وهو اصطلاح مشكل المأخذ من حيث اللغة وبحثت فوجدت له قولهم أمر عضيل أي مستغلق شديد ولا التفات في ذلك إلى معضل بكسر الضاد وإن كان مثل عضيل في المعنى.(3/3)
السلام كان ذلك منه مقبولا وإن احتمل الإرسال; لأن من ثبتت صحبته لم يحمل حديثه إلا على سماعه بنفسه إلا أن يصرح بالرواية عن غيره. وأما إرسال القرن الثاني والثالث فحجة عندنا, وهو فوق المسند كذلك ذكره عيسى بن أبان, وقال الشافعي رحمه الله لا يقبل المرسل إلا أن يثبت اتصاله من وجه آخر ولهذا قبلت مراسيل سعيد بن المسيب لأني وجدتها مسانيد وحكى أصحاب مالك بن أنس عنه أنه كان يقبل المراسيل ويعمل بها مثل قولنا احتج المخالف بأن
ـــــــ
والكل يسمى إرسالا عند الفقهاء والأصوليين وتقسيمه ما ذكر في الكتاب فالقسم الأول, وهو مرسل الصحابة مقبول بالإجماع; فإنه حكي عن الشافعي رحمه الله أنه خص مراسيل الصحابة بالقبول, وحكي عنه أيضا أنه قال: إذا قال الصحابي قال النبي عليه السلام كذا وكذا قبلت إلا إن أعلم أنه أرسله, كذا في المعتمد.
وأما إرسال القرن الثاني والثالث فحجة عندنا, وهو مذهب مالك وإحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل وأكثر المتكلمين, وعند أهل الظاهر وجماعة من أئمة الحديث لا يقبل المرسل أصلا, وقال الشافعي رحمه الله: لا يقبل إلا إذا اقترن به ما يتقوى به فحينئذ يقبل وذلك بأن يتأيد بآية أو سنة مشهورة أو موافقة أو غيرها قياس أو قول صحابي أو تلقته الأمة بالقبول أو عرف من حال المرسل أنه لا يروي عمن فيه علة من جهالة أو غيرها أو اشترك في إرساله عدلان ثقتان بشرط أن يكون شيوخهما مختلفة أو ثبت اتصاله بوجه آخر بأن أسنده غير مرسله أو أسنده مرسله مرة أخرى. قال: ولهذا أي ولثبوت الاتصال بوجه آخر قبلت مراسيل سعيد بن المسيب لأني اتبعتها فوجدتها مسانيد وأكثر ما رواه مرسلا إنما سمعه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. والمذكور في كتبهم قال: وأقبل مراسيل سعيد بن المسيب لأني اعتبرتها فوجدتها بهذه الشرائط قال ومن هذا حاله أحب قبول مراسيله ولا أستطيع أن أقول: إن الحجة ثبتت به كثبوتها بالمتصل. وفي المغرب المراسيل اسم جمع للمرسل كالمناكير للمنكر, وفي غيره المراسيل جمع المرسل والياء فيها للإشباع كما في الدراهيم والصياريف تمسك من أبى قبول المرسل بأن الخبر إنما يكون حجة باعتبار أوصاف في الراوي ولا طريق لمعرفة تلك الأوصاف في الراوي إذا كان غير معلوم والعلم به إنما يحصل بالإشارة عند حضرته وبذكر اسمه ونسبه عند غيبته فإذا لم يذكره أصلا لم يحصل العلم به ولا بأوصافه فتحقق انقطاع هذا الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يكون حجة, يوضحه أنه لو ذكر المروي عنه ولم يعدله وبقي مجهولا لم يقبله فإذا لم يذكره فالجهل أتم; لأن من لا يعرف عينه لا يعرف عدالته ولا معنى لقول من قال رواية العدل عنه تعديل له وإن لم يذكر اسمه; لأن طريق معرفة الجرح(3/4)
الجهل بالراوي جهل بصفاته التي بها يصح روايته لكنا نقول لا بأس بالإرسال استدلالا بعمل الصحابة والمعنى المعقول أما عمل الصحابة; فإن أبا هريرة لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أصبح جنبا فلا صوم له" فردت عائشة رضي الله عنها قال سمعته من الفضل بن عباس فدل ذلك على أنه كان معروفا عندهم ولما روى ابن عباس أن النبي عليه السلام قال: "لا ربا إلا في النسيئة" فعورض في ذلك بربا النقد قال سمعته من أسامة بن زيد, وقال البراء بن عازب رضي الله عنه ما كل ما نحدث سمعناه من رسول الله عليه السلام وإنما حدثنا عنه لكنا
ـــــــ
والعدالة الاجتهاد, وقد يكون الواحد عدلا عند إنسان مجروحا عند غيره بأن يقف منه على ما كان الآخر لا يقف عليه والمعتبر عدالته عند المروي له فلو قبلنا الرواية من غير كشف لكنا قبلناها تقليدا لا علما. وكيف يجعل رواية العدل تعديلا للمروي عنه وقد رووا حديثا وقديما عمن لم يحمدوا في الرواية أمره؟, قال الشعبي حدثني الحارث1 وكان والله كذابا, وروى شعبة وسفيان عن جابر الجعفي2 مع ظهور أمره في الكذب, وروى عنه أبو حنيفة رحمه الله قال: ما رأيت أحدا أكذب من جابر وروى الشافعي عن إبراهيم محمد بن يحيى الأسلمي وكان قدريا رافضيا ورضي بالكذب أيضا وروى مالك بن أنس رحمه الله عن عبد الكريم أبي أمية البصري, وهو ممن تكلموا فيه وروى أبو يوسف ومحمد عن الحسن بن عمارة وعبد الله بن المحرر3 وغيرهما من المجروحين وأرسل الزهري فقيل له: من حدثك؟ فقال: رجل على باب عبد الملك بن مروان, وإذا كان كذلك لا يمكن أن يجعل إرساله تعديلا للمروي عنه, بخلاف ما إذا قال حدثني فلان, وهو عدل; لأنه يمكن للمروي له أن يتأمل فيه فإن سكنت نفسه إلى قوله قبله, وإلا يتفحص عنه وبأن الناس تكلفوا لحفظ أسانيد في باب الأخبار فلو كانت الحجة تقوم بالمرسل لكان تكلفهم اشتغالا بما لا يفيد فيبعد أن يقال اجتمع الناس على ما لا يفيد.
وتمسك من قبله بالإجماع والدليل المعقول. أما الإجماع فمن وجهين أحدهما اتفاق الصحابة رضي الله عنهم على قبول المرسل; فإنهم اتفقوا على قبول روايات ابن عباس رضي الله عنهما مع أنه لم يسمع من النبي عليه السلام إلا أربعة أحاديث لصغر سنه كذا
ـــــــ
1 هو الحارث بن عبد الله الهمذاني الأعور، أنظر ميزان الإعتدال 1/435.
2 هو جابر بن يزيد بن الحارث الجعفي الكوفي.ِ أحد علماء الشيعة.. أنظر ميزان الإعتدال 1/379-384.
3 هو عبد الله بن المحرر الجزري. أنظر ميزان 2/500.(3/5)
لا نكذب, وأما المعنى فهو أن كلامنا في إرسال من لو أسند عن غيره قبل إسناده ولا يظن به الكذب عليه فلأن لا يظن به الكذب على رسول الله عليه
ـــــــ
ذكر الغزالي وذكر شمس الأئمة إلا بضعة عشر حديثا وصرح بذلك في حديث الربا في النسيئة حيث قال حدثني به أسامة بن زيد وروي أن "رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زال يلبي حتى رمى جمرة العقبة" فلما روجع قال حدثني به أخي الفضل بن عباس1. وروى ابن عمر رضي الله عنهما "من صلى على جنازة فله قيراط" 2 الحديث ثم أسنده إلى أبي هريرة, وروى أبو هريرة رضي الله عنه وأسنده إلى الفضل كما ذكر في الكتاب, وحديث البراء مذكور فيه أيضا ونعمان بن بشير لم يسمع من رسول الله عليه السلام إلا حديثا واحدا, وهو قوله صلى الله عليه وسلم "إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح سائر الجسد, وإذا فسدت فسد سائر الجسد ألا وهي القلب" 3, ثم كثرت روايته عن رسول الله عليه السلام مرسلا ولما أرسل هؤلاء وقبل الصحابة مراسيلهم ولم يرو عن أحد منهم إنكار ذلك وتفحص أنهم رووه عن رسول الله عليه السلام بواسطة أو بغير واسطة صار ذلك إجماعا منهم على جواز ذلك ووجوب قبوله.
"فإن قيل" نحن نسلم ذلك في الصحابة ونقبل مراسيلهم لثبوت عدالتهم قطعا بالنصوص وإنما الكلام فيمن بعدهم.
"قلنا": لا فرق بين صحابي يرسل وتابعي يرسل; لأن عدالتهم ثبتت بشهادة الرسول أيضا خصوصا إذا كان الإرسال من وجوه التابعين مثل عطاء بن أبي رباح من أهل مكة وسعيد بن المسيب من أهل المدينة وبعض الفقهاء السبعة, ومثل الشعبي والنخعي من أهل الكوفة وأبي العالية4 والحسن من أهل البصرة ومكحول5 من أهل الشام; فإنهم
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الحج حديث رقم 1281.والترمذي في الحج حديث رقم 918. وأبو داود في المناسك حديث رقم:1815. وابن ماجه في المناسح حديث رقم 3039-3040. والإمام أحمد في المسند 1/210.
2 أخرجه مسلم في الجنائز حديث رقم 946. وأبو داود في الجنائز حديث رقم 3168-3169. والترمذي في الجنائز حديث رقم 1040. وابن ماجه في الجنائز حديث رقم: 1539، والإمام أحمد في المسند 2/233.
3 مسلم في المساقاة حديث رقم 1599. وأبو داود في البيوع حديث رقم 3329-3330 والترمذي في البيوع حديث رقم 1205. وابن ماجه في الفتن حديث رقم 3984. والإمام أحمد في المسند 2/279.
4 هو أبو العالية رفيع بن مهران الرياحي التابعي الفقيه المقرئ، تذكرة الحفاظ للذهبي 1/61-62.
5 هو أبو عبد الله بن أبي مسلم الهذلي الفقيه من التابعين حلية الأولياء 5/177-193.(3/6)
السلام أولى والمعتاد من الأمر أن العدل إذا وضح له الطريق واستبان له الإسناد طوى الأمر وعزم عليه فقال قال رسول الله عليه السلام, وإذا لم يتضح له الأمر
ـــــــ
كانوا يرسلون ولا يظن بهم إلا الصدق, وقال الحسن كنت إذا اجتمع لي أربعة من الصحابة على حديث أرسلته إرسالا وعنه أنه قال: متى قلت لكم حدثني فلان فهو حديثه لا غير ومتى قلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته من سبعين أو أكثر, وقال ابن سيرين ما كنا نسند الحديث إلى أن وقعت الفتنة, وقال الأعمش قلت لإبراهيم إذا رويت لي حديثا عن عبد الله فأسنده لي فقال: إذا قلت لك حدثني فلان عن عبد الله فهو الذي روى لي ذلك, وإذا قلت لك قال عبد الله فقد رواه لي غير واحد.
ثم تقول: إرسال هؤلاء الكبار, إما أن كان باعتبار سماعهم ممن ليس بعدل عندهم أو باعتبار سماعهم من عدل مع اعتقادهم أن ذلك ليس بحجة أو على اعتقادهم أن المرسل حجة كالمسند والأول باطل; فإن من يستجيز الرواية ممن يعرفه غير عدل من غير بيان لا تقبل روايته مرسلا ولا مسندا ولا يظن بهم هذا والثاني باطل أيضا; لأنه قول بأنهم كتموا موضع الحجة بترك الإسناد مع علمهم أن الحجة لا تقوم بدونه فتعين الثالث وهم أنهم اعتقدوا أن المرسل حجة كالمسند وما قيل إنهم أرسلوا ليطلب ذلك في المسانيد فاسد; لأنه إما أن يقال لم يكن عندهم إسناد ذلك أو كان ولم يذكروا والأول باطل; لأنه قول بأنهم تقولوا ما لم يسمعوا ليطلب ذلك في المسموعات ولا يظن هذا بمن دونهم فكيف بهم والثاني كذلك; لأنه إذا كان عندهم الإسناد, وقد علموا أن الحجة لا تقوم بدونه فليس في تركه إلا القصد إلى إتعاب النفس بالطلب ولو قال من لا يرى الاحتجاج بخبر الواحد إنهم إنما رووا ذلك ليطلب ذلك في المتواتر لا يكون هذا الكلام مقبولا منه بالاتفاق فكذلك هذا.
وذكر الشيخ في "شرح التقويم" إنا أجمعنا أن مراسيل الصحابة إنما قبلت لكونهم عدولا لا لكونهم صحابة كما قبلت شهادتهم وصار إجماعهم حجة لذلك ثم شهادة غيرهم من العدول مقبولة وإجماع كل عصر حجة لوجود العدالة فوجب قبول إرسالهم أيضا لوجود العلة, والثاني أن من زمان الرسول عليه السلام إلى يومنا هذا يرسلون من غير تحاش وامتناع وملؤا الكتب من المراسيل ولم يروا أن أحدا من الأمة أنكر عليهم ذلك, ولم يزل العلماء من سلفهم وخلفهم يقولون قال رسول الله كذا وقال فلان كذا ولو كان المرسل مردودا لامتنعوا من روايته ولم يقروا عليه فكان ذلك إجماعا منهم على قبوله.
وأما المعنى فما ذكر في الكتاب, وهو ظاهر والإسناد في قوله لو أسند عن غيره ضمن معنى الرواية فعدى بكلمة عن "عزم عليه" أي اعتمد عليه وحكم بثبوته عن النبي(3/7)
نسبه إلى من سمعه لتحمله ما تحمل عنه فعمد أصحاب ظاهر الحديث فردوا أقوى الأمرين وفيه تعطيل كثير من السنن.
إلا أنا أخرناه مع هذا عن المشهور; لأن هذا ضرب مزية للمراسيل بالاجتهاد فلم يجز النسخ بمثله بخلاف المتواتر والمشهور فأما قوله إن الجهالة تنافي شروط الحجة فغلط; لأن الذي أرسل إذا كان ثقة يقبل إسناده
ـــــــ
عليه السلام "فعمد" بفتح الميم أي قصد يقال عمدت للشيء أعمد عمدا إذا قصد له أي تعمدت, وهو نقيض الخطاء.
"أقوى الأمرين" : وهو المرسل والأمران المسند والمرسل وفيه أي في رد المرسل تعطيل كثير من السنن; فإن المراسيل جمعت فبلغت قريبا من خمسين جزءا وهذا تشنيع عليهم; فإنهم سموا أنفسهم أصحاب الحديث وانتصبوا لحيازة الأحاديث والعمل بها, ثم ردوا منها ما هو أقوى أقسامها مع كثرته في نفسه فكان هذا تعطيلا للسنن وتضييعا لها لا حفظا لها وإحاطة بها, ثم المعنى المذكور في الكتاب يشير إلى ترجيح المرسل على المسند عند المعارضة, وقد نص الشيخ عليه في بعض تصانيفه أيضا فقال المرسل عندنا مثل المسند المشهور وفوق المسند الواحد إلا أنه لا يجوز الزيادة به على الكتاب.
والحاصل أن الذين جعلوا المراسيل حجة اختلفوا عند تعارض المرسل والمسند على ثلاثة مذاهب فذهب عيسى بن أبان إلى ترجيح المرسل, وهو اختيار الشيخ على ما دل عليه سياق كلامه وذهب عبد الجبار إلى أنهما يستويان وذهب الباقون إلى ترجيح المسند على المرسل لتحقق المعرفة برواة المسند وعدالتهم دون رواة المرسل, ولا شك أن رواية من عرفت عدالته أولى ممن لا يعرف عدالته ولا نفسه وتمسك من سوى بينهما بأن الإرسال لا يمكن إجراؤه على ظاهره; لأنه يقتضي الجزم بصحة خبر الواحد, وهو غير جائز فيحمل قوله قال رسول الله عليه السلام كذا, على أن المراد منه أني أظن أنه قال كذا, وإذا كان كذلك كان مثل الإسناد; لأن معنى الإسناد هذا أيضا. فإن قال الراوي إذا أرسلت الحديث فقد حدثته عن جماعة من الثقات فحينئذ يكون مرسله أقوى من حديث أسنده إلى واحد لأجل الكثرة. واحتج من رجح المرسل بما ذكر في الكتاب.
قوله "إلا أنا أخرناه" استثناء بمعنى لكن وجواب عما يقال لما كان المرسل عندكم فوق المسند كان مثل المشهور فينبغي أن يجوز الزيادة به على الكتاب كما يجوز بالمشهور, فقال هذه مزية ثبتت للمراسيل بالاجتهاد والرأي فيكون مثل قوة ثبتت بالقياس وقوة المشهور ثبتت بالتنصيص وما ثبتت بالتنصيص فوق ما ثبتت بالرأي فلا يكون المرسل مثل المشهور فلا يجوز الزيادة به.(3/8)
لم يتهم بالغفلة عن حال من سكت عن ذكره وإنما علينا تقليد من عرفنا عدالته لا معرفة ما أبهمه ألا ترى أنه إذا أثنى على من أسند إليه خيرا
ـــــــ
قوله: "وإنما علينا تقليد من عرفنا عدالته" جواب عما يقال ما ذكرتم لا يكفي للتعديل; لأن الراوي ساكت عن الجرح ولو كان السكوت عن الجرح تعديلا لكان السكوت عن التعديل جرحا وليس كذلك فقال الواجب علينا تقليد من عرفنا عدالته, وهو المرسل لا اتباع من أبهمه, وهو المروي عنه والمرسل عدل فلا يتهم بالغفلة عن حال من روي عنه, وما ذكروا أن العدول قد نقلوا عن المجروحين فكذلك إلا أنهم نبهوا على جرحهم وأخبروا عن حالهم, فأما إن سكتوا بعد الرواية عن حالهم فلا وكيف يظن بهم ذلك وفيه تلبيس الأمر على المروي له وتحميل له على العمل بما ليس بحجة كما بينا وما ذكروا من الاحتمالات الأخر ليس بمانع, بدليل أن العنعنة كافية في الرواية وتلك الاحتمالات موجودة فيها; فإن من قال: روى فلان عن فلان, يحتمل أنه لم يسمع فلان عن فلان بل بلغه بواسطة هي مجهولة ويحتمل أن تلك الواسطة لا يكون عدلا أو يكون عدلا عند الراوي غير عدل عند المروي له ومع هذا يقبل بالإجماع فكذلك هذا.
وما ذكره الشافعي رحمه الله من اشتراط انضمام بعض ما ذكرنا إلى المرسل لقبوله فليس بصحيح; لأن المنضم إليه إن كان حجة بنفسه يكون الحكم ثابتا به ولا يكون للمرسل تأثير في مقابلته وإن لم يكن حجة فاقترانه إلى ما ليس بحجة لا يفيد أيضا; لأنه لا يجوز أن ينضم ما ليس بحجة إلى ما ليس بحجة فيصير حجة كذا في المعتمد. واعترض عليه بأن الظن قد يحصل أو يتقوى بانضمام ما لا يفيد الظن إلى مثله كانضمام شاهد إلى شاهد وكانضمام أخبار آحاد إلى أمثالها يفيد العلم.
قوله "ألا ترى أنه إذا أثنى على من أسند إليه خيرا ولم يعرفه" : يحتمل وجهين: أحدهما: أن الراوي إذا ذكر المروي عنه, وقال: هو ثقة عندي أو عدل لزم قبول خبره بالاتفاق كذا في المعتمد والقواطع ولا يلزم التفحص عن حاله مع احتمال أنه لو تفحص عنها يقف على بعض أسباب الجرح أو يقف على ما لم يعده الراوي جرحا, وهو جرح عنده, فكذا هذا. وعلى هذا الوجه يكون الضمير البارز في "لم يعرفه" راجعا إلى الخير.
والثاني: وهو الذي يدل عليه ظاهر الكلام أن الراوي إذا أبهم المروي عنه وأثنى عليه خيرا بأن قال حدثني الثقة أو سمعته عن عدل أو أخبرني من لا أتهمه صحت الرواية ويكون الخبر مقبولا, فكذا إذا أرسل يكون مقبولا; لأن الرواية مع السكوت عن الطعن في المروي عنه تعديل له أيضا, ولكن هذا لا يصح إلزاما عليهم; فإن الشرط عندهم أن يسمي الراوي كل واحد من الرواة باسمه المشهور الذي يتميز به عن غيره ليثبت الاتصال فيكون(3/9)
ولم يعرفه بما يقع لنا العلم به صحت روايته؟ فكذلك هذا وأما إرسال من دون هؤلاء فقد اختلف فيه فقال بعض مشايخنا يقبل إرسال كل عدل. وقال
ـــــــ
هذا من الشيخ ردا للمختلف إلى المختلف وسيأتي بيانه, أو يكون إلزاما على الشافعي; فإنه قد قال في كثير من المواضع حدثني الثقة حدثني من لا أتهمه ثم لم يقبل المرسل الذي هو في معناه.
ورأيت في بعض كتبهم أنه إنما قال ذلك; لأنه قد اشتهر من عناه الشافعي بهذا الكلام فأراد بمن يثق به إبراهيم بن إسماعيل وبمن لا يتهمه يحيى بن حسان فصارت الكناية كالتسمية وقيل: إنه إنما قال ذلك احتجاجا لنفسه ولم يقله احتجاجا على خصمه وله في حق نفسه أن يعمل بما يثق بصحته وإن لم يكن له ذلك في حق غيره ولكن هذا لا يخلو عن تكلف فعلى هذا الوجه يكون الضمير عائدا إلى من. وقولهم إذا سمى المروي عنه ولم يعدله وبقي مجهولا لم يقبله قلنا عند بعض مشايخنا: يقبل خبره إذا كان الراوي عدلا ويكون روايته مع السكوت عن الجرح تعديلا له كما لو قال هو عدل صريحا ولئن سلمنا أنه لا يقبل فالفرق بينهما أن المرسل قد حكم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه قال ذلك والعدل المتدين لا يقدم عليه إلا إذا كان من سمعه عنه ثقة عنده فيكون هذا تعديلا عنه تقديرا بخلاف ما إذا سماه; فإنه لم يحكم على النبي عليه السلام بذلك بل ينسب ذلك إلى المخبر الذي سماه فلا يستدل به على أنه عدل عنده بل يحتمل أنه مع كونه مستورا عنده يروي عنه بناء على ظاهر حاله وفوض تعرف حاله إلى السامع حقيقة حيث ذكر اسمه.
وقولهم: لو جاز العمل بالمراسيل لم يكن للاستيثاق والتفحص عن عدالة الرواة فائدة: قلنا: فائدته من وجهين: أحدهما: أنه إذا أسند أمكن للسامع الفحص عن عدالتهم فيكون ظنه بعدالتهم آكد من ظنه بها عند الإرسال; لأن ظن الإنسان إلى فحصه وخبرته أقوى من طمأنينته إلى خبرة غيره وهذا يقتضي ترجيح المسند على المرسل. والثاني: أنه قد يشتبه عليه حال من أخبره به فلا يقدم على جرحه وتزكيته فيذكره ليتفحص عنه غيره. قال شمس الأئمة رحمه الله: اشتغال الناس بالإسناد كاشتغالهم بالتكلف لسماع الخبر من وجوه مختلفة وذلك لا يدل على أن خبر الواحد لا يكون حجة فكذلك اشتغالهم بالإسناد لا يكون دليلا على أن المرسل لا يكون حجة.
قوله "وأما إرسال من دون هؤلاء" أي دون القرون الثلاثة فقد اختلف فيه قال الشيخ أبو الحسن الكرخي: يقبل إرسال كل عدل في كل عصر; لأن العلة التي توجب قبول مراسيل القرون الثلاثة وهي العدالة والضبط تشمل سائر القرون, وقال عيسى بن أبان لا يقبل إلا مراسيل من كان من أئمة النقل مشهورا بأخذ الناس العلم منه فإن لم يكن كذلك(3/10)
بعضهم: لا يقبل. أما وجه القول الأول فما ذكرنا, وأما الثاني فلأن الزمان زمان فسق فلا بد من البيان إلا أن يروي الثقات مرسله كما رووا مسنده مثل إرسال محمد بن الحسن وأمثاله. وأما الفصل الأخير فقد رد بعض أهل الحديث
ـــــــ
وكان عدلا لا يقبل مسنده ويوقف مرسله إلى أن يعرض على أهل العلم, وقال أبو بكر الرازي: لا يقبل إرسال من بعد القرون الثلاثة إلا إذا اشتهر بأنه لا يروي إلا عمن هو عدل ثقة لشهادة النبي عليه السلام على من بعد القرون الثلاثة بالكذب بقوله ثم يفشو الكذب فلا يثبت عدالة من كان في زمن شهد النبي عليه السلام على أهله بالكذب إلا برواية من كان معلوم العدالة بعلم أنه لا يروي إلا عن عدل كذا ذكر شمس الأئمة وذكر في المعتمد إذا قال الإنسان في عصرنا: قال النبي عليه السلام كذا يقبل إن كان ذلك الخبر معروفا في جملة الأحاديث وإن لم يكن معروفا لا يقبل لا لأنه مرسل بل لأن الأحاديث قد ضبطت وجمعت فما لا يعرفه أصحاب الحديث منها في وقتنا هذا فهو كذب وإن كان العصر الذي أرسل فيه المرسل عصرا لم يضبط فيه السنن قبل مرسله.
قوله "إلا أن يروي الثقات مرسله كما رووا مسنده" بالإضافة والهاء استثناء من قوله لا يقبل ومعناه لا يقبل مرسل من بعد القرون الثلاثة إلا إذا روى الثقات مرسله عنه وقبلوه كما رووا مسنده فحينئذ يقبل ذلك المرسل; لأن رواية الثقات عنه وقبولهم ذلك المرسل تعديل له وشهادة على اتصال المرسل برسول الله صلى الله عليه وسلم فيقبل كإرسال القرون الثلاثة وهذا معنى قول عيسى بن أبان يوقف إلى أن يعرض على أهل العلم, وهو اختيار الشيخ واختار شمس الأئمة قول أبي بكر الرازي رحمهم الله.
قوله "وأما الفصل الأخير" وهو ما أرسل من وجه واتصل من وجه آخر, وهو على وجهين: إما أن أسنده هذا المرسل أو غيره ففي الوجه الأول بعض من لم يقبل المراسيل لا يقبل هذا الخبر وإن أسنده هذا الراوي; لأن إرساله يدل على أنه إنما لم يذكر الراوي لضعف فيه فستره له والحال هذه خيانة منه فلم يقبل وهذا لم يقبل بعض أهل الحديث سائر مسانيد هذا المرسل وجعلوه بالإرسال ساقط الحديث وعامتهم على أنه يقبل منه هذا المسند وغيره من المسانيد; لأنه يجوز أن يكون سمع الحديث مسندا ونسي من يروي عنه, وقد علم أنه سمعه مسندا متصلا فأرسله اعتمادا عليه ثم تذكره فأسنده ثانيا أو كان ذاكرا للإسناد فأسنده ثم نسي من يروي عنه فأرسله ثانيا فلا يقدح إرساله في إسناده ولكن إنما يقبل إسناده عندهم إذا أتى بلفظ صريح مثل أن يقول حدثني فلان أو سمعت فلانا ولا يقبل إذا أتى بلفظ موهم مثل أن يقول عن فلان ونحوه هكذا نقل عن الشافعي رحمه الله أيضا إليه أشير في المعتمد., وأما في الوجه الثاني فقد ذكر أبو عمرو المعروف بابن(3/11)
الاتصال بالانقطاع وعامتهم على أن الانقطاع يجعل عفوا بالاتصال من وجه آخر.
وأما الانقطاع الباطل فنوعان انقطاع بالمعارضة وانقطاع لنقصان وقصور في الناقل أما الأول; فإنما يظهر بالعرض على الأصول فإذا خالف شيئا من ذلك كان مردودا منقطعا وذلك أربعة أوجه أيضا ما خالف كتاب الله والثاني ما خالف السنة المعروفة والثالث ما شذ من الحديث فيما اشتهر من الحوادث
ـــــــ
الصلاح في كتاب "معرفة أنواع علم الحديث" أن الحديث الذي رواه بعض الثقات مرسلا وبعضهم متصلا مثل حديث "لا نكاح إلا بولي" رواه إسرائيل بن يونس في أخرى عن جده أبي إسحاق السبيعي عن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسندا هكذا متصلا, ورواه سفيان الثوري وشعبة عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا قد اختلف فيه فحكى الخطيب الحافظ أن أكثر أصحاب الحديث يرون الحكم في هذا وأشباهه للمرسل وعن بعضهم أن الحكم للأحفظ فإذا كان من أرسله أحفظ ممن وصله فالحكم لمن أرسله لا يقدح ذلك في عدالة من وصله وأهليته ومنهم من قال من أسند حديثا قد أرسله الحافظ فإرسالهم له يقدح في مسنده وفي عدالته وأهليته ومنهم من قال الحكم من أسنده إذا كان ضابطا عدلا فيقبل خبره وإن خالفه غيره سواء كان المخالف له واحدا أو جماعة قال وهذا القول هو الصحيح, وهو المأخوذ في الفقه وأصوله ويلتحق بهذا ما إذا كان الذي وصله هو الذي أرسله, وهكذا إذا رفع بعضهم الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم ووقفه بعضهم على الصحابي أو رفعه واحد في وقت ووقفه هو أيضا في وقت آخر فالحكم على الأصح لما زاده الثقة من الوصل والرفع. فوجه عدم القبول أن الراوي لما سكت عن تسميته المروي عنه كان ذلك بمنزلة الجرح فيه وإسناد الآخر بمنزلة التعديل, وإذا استوى الجرح والتعديل يغلب الجرح لما عرف. ووجه القبول أن عدالة المسند يقتضي قبول الخبر وليس في إرسال من أرسله ما يقتضي أن لا يقبل إسناد من يسنده; لأنه يجوز أن يكون من أرسله سمعه مرسلا أو نسي المروي عنه كما ذكرنا ومن أسنده سمعه مسندا فلا يقدح إرساله في إسناد الآخر ولأن المسند مثبت والمرسل ساكت ولو كان نافيا فالمثبت مقدم عليه; لأنه علم ما خفى عليه.
قوله "انقطاع بالمعارضة", وهو أن تعارض الخبر دليل أقوى منه يمنع ثبوت حكمه; لأنه لما عارضه ما هو فوقه سقط حكمه; لأن المغلوب في مقابلة الغالب ساقط فينقطع معنى ضرورة لنقصان وقصور في الناقل بفوات بعض شرائطه التي ذكرناها من العدالة والإسلام والضبط والعقل شيئا من ذلك أي مما يعرض عليه, وهو الأصول, "وذلك" أي(3/12)
وعم به البلوى فورد مخالفا للجماعة. والرابع أن يعرض عنه الأئمة من أصحاب النبي عليه السلام أما الأول فلأن الكتاب ثابت بيقين فلا يترك بما فيه شبهة ويستوي في ذلك الخاص والعام والنص والظاهر, حتى إن العام من الكتاب لا يخص بخبر الواحد عندنا خلافا للشافعي رحمه الله ولا يزاد على الكتاب بخبر الواحد عندنا ولا يترك الظاهر من الكتاب ولا ينسخ بخبر الواحد وإن كان نصا; لأن المتن أصل والمعنى فرع له والمتن من الكتاب فوق المتن من السنة لثبوته ثبوتا بلا شبهة فيه فوجب الترجيح به قبل المصير إلى المعنى
ـــــــ
الانقطاع المعنوي الحاصل بمخالفة الأصول أربعة أوجه أيضا كالانقطاع الظاهر "السنة المعروفة" أي المشهورة أو المتواترة "مخالفا للجماعة" أي لقول الجماعة ولو لم يكن مخالفا لقولهم لصار مثل الخبر المشهور بموافقتهم على ما بينا.
قوله "ويستوي في ذلك الخاص والعام" اعلم أن خبر الواحد إذا ورد مخالفا لمقتضى العقل. فإن أمكن تأويله من غير تعسف يقبل التأويل الصحيح وإن لم يمكن تأويله إلا بتعسف لم يقبل; لأنه لو جاز التأويل مع التعسف لبطل التناقض من الكلام كله ويجب فيما لا يمكن تأويله القطع على أن النبي عليه السلام لم يقله إلا حكاية عن الغير أو مع زيادة أو نقصان.
وإن كان مخالفا لنص الكتاب أو للسنة المتواترة أو للإجماع فكذلك; لأن هذه الأدلة قطعية وخبر الواحد ظني ولا تعارض بين القطعي والظني بوجه بل الظني يسقط بمقابلة القطعي.
فإن خالف خبر الواحد عموم الكتاب أو ظاهره فهو محل الخلاف فعندنا لا يجوز تخصيص العموم وترك الظاهر وحمله على المجاز بخبر الواحد كما لا يجوز ترك الخاص والنص من الكتاب به, وإليه أشار الشيخ بقوله ويستوي في ذلك أي في عدم جواز الترك بخبر الواحد الخاص والعام والنص والظاهر حتى إن العام من الكتاب مثل قوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران: 97]، لا يخص بقوله عليه السلام "الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم" ولا يترك ظاهر قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]، بقوله عليه السلام "الطواف بالبيت صلاة وشرطه شرط الصلاة" ولا ظاهر قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] الآية، بحديث التسمية على ما مر بيانه.
وعند الشافعي وعامة الأصوليين يجوز تخصيص العموم به ويثبت التعارض بينه وبين ظاهر الكتاب, وعموماته لا توجب اليقين عندهم وإنما تفيد غلبة الظن كخبر الواحد(3/13)
وقد قال النبي عليه السلام "تكثر لكم الأحاديث من بعدي فإذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله تعالى فما وافق كتاب الله تعالى فاقبلوه وما خالفه فردوه" فلذلك نقول: إنه لا يقبل خبر الواحد في نسخ الكتاب ويقبل
ـــــــ
فيجوز تخصيصها ومعارضتها به عندهم. وعند العراقيين من مشايخنا والقاضي الإمام أبي زيد ومن تابعه من المتأخرين لما أفادت عمومات الكتاب وظواهر اليقين كالنصوص والخصوصات لا يجوز تخصيصها ومعارضتها به فأما عند من جعلها ظنية من مشايخنا مثل الشيخ أبي منصور ومن تابعه من مشايخ سمرقند فيحتمل أن يجوز تخصيصها به كما ذهب إليه الفريق الأول, والأوجه أنه لا يجوز عندهم أيضا; لأن الاحتمال في خبر الواحد فوق الاحتمال في العام والظاهر من الكتاب; لأن الشبهة فيهما من حيث المعنى, وهو احتمال إرادة البعض من العموم وإرادة المجاز من الظاهر ولكن لا شبهة في ثبوت متنهما أي نظمهما وعبارتهما والشبهة في خبر الواحد في ثبوت متنه ومعناه جميعا; لأنه إن كان من الظواهر فظاهر وإن كان نصا في معناه فكذلك; لأن المعنى مودع في اللفظ وتابع له في الثبوت, وهو معنى قوله المتن أصل والمعنى فرع له فلا بد من أن يؤثر الشبهة المتمكنة في اللفظ في ثبوت معناه ضرورة, ولهذا لا يكفر منكر لفظه ولا منكر معناه بخلاف منكر الظاهر والعام من الكتاب; فإنه يكفر. وإذا كان كذلك لا يجوز ترجيح خبر الواحد على ظاهر الكتاب ولا تخصيص عمومه به; لأن فيه ترك العمل بالدليل الأقوى بما هو أضعف منه وذلك لا يجوز.
فإن قيل إن الصحابة خصوا قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11]، بقوله عليه السلام "لا ميراث لقاتل" وقوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12]، {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء: 12] بقوله عليه السلام: "لا يتوارث أهل ملتين شتى" 1 وقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24]، بقوله عليه السلام: "لا تنكح المرأة على عمتها" في شواهد لها كثيرة فثبت أن تخصيص الكتاب بخبر الواحد جائز.
قلنا: هذه أحاديث مشهورة يجوز الزيادة بمثلها على الكتاب ولا كلام فيها إنما الكلام في خبر شاذ خالف عموم الكتاب هل يجوز التخصيص به وليس فيما ذكرتم دليل على جوازه والدليل على عدم الجواز أن عمر وعائشة وأسامة رضي الله عنهم رووا خبر
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الفرائض، حديث رقم 2911، ابن ماجه في الفرائض حديث رقم: 2731. والإمام أحمد في المسند 2/178.(3/14)
فيما ليس من كتاب الله على وجه لا ينسخه ومن رد أخبار الآحاد فقد أبطل
ـــــــ
فاطمة بنت قيس ولم يخصوا به قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6]، حتى قال رضي الله عنه: "لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة لا ندري صدقت أم كذبت حفظت أم نسيت".
قوله: "وقد قال النبي عليه السلام "تكثر لكم الأحاديث" الحديث أهل الحديث طعنوا فيه وقالوا روى هذا الحديث يزيد بن ربيعة عن أبي الأشعث عن ثوبان ويزيد بن ربيعة مجهول ولا يعرف له سماع عن أبي الأشعث عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان فكان منقطعا أيضا فلا يصح الاحتجاج به وحكي عن يحيى بن معين أنه قال هذا حديث وضعته الزنادقة, وهو علم هذه الأمة في علم الحديث وتزكية الرواة على أنه مخالف للكتاب أيضا, وهو قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، فيكون الاحتجاج به ساقطا على ما يقتضيه ظاهره والجواب أن الإمام أبا عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري أورد هذا الحديث في كتابه, وهو الطود المتبع في هذا الفن وإمام أهل هذه الصنعة فكفى بإيراده دليلا على صحته ولم يلتفت إلى طعن غيره بعد, ولا نسلم أنه مخالف للكتاب; لأن وجوب القبول بالكتاب إنما يثبت فيما تحقق أنه من عند الرسول عليه السلام بالسماع منه أو بالتواتر ووجوب العرض إنما يثبت فيما تردد ثبوته من الرسول عليه السلام إذ هو المراد من قوله إذا روي لكم عني حديث فلا يكون فيه مخالفة للكتاب بوجه على أن المراد من الآية والله أعلم ما أعطاكم الرسول من الغنيمة فاقبلوه وما نهاكم عنه أي عن أخذه فانتهوا, وعن ابن عباس والحسن وما نهيتكم عنه هو الغلول, وقد تأيد هذا الحديث بما روي عن محمد بن جبير بن مطعم أن النبي عليه السلام قال: "ما حدثتم عني مما تعرفون فصدقوا به وما حدثتم عني مما تنكرون فلا تصدقوا فإني لا أقول المنكر" وإنما يعرف ذلك بالعرض على الكتاب.
"ولذلك" أي ولأن ترك الكتاب لا يجوز بخبر الواحد يقول لا يقبل خبر الواحد في نسخ الكتاب وهذا بالاتفاق في النسخ صورة ومعنى; لأن ما ثبت بالدليل القطعي لا يجوز رفعه بالدليل الظني لاشتراط المماثلة في النسخ, وأما النسخ من حيث المعنى فكذلك عندنا وعند المخالف يجوز على أنه بيان لا على أنه نسخ كما سيأتي بيانه إن شاء الله عز وجل. "ويقبل فيما ليس في كتاب الله تعالى على وجه لا ينسخه" أي يعمل به على وجه لا يؤدي إلى النسخ فإذا أدى إليه يترك مثال الأول حديث حل متروك التسمية عمدا يقتضي نسخ ظاهر الكتاب فلا يجوز العمل به ولا يقبل أصلا. ومثال الثاني خبر تعيين الفاتحة وتعديل الأركان ووجوب الطهارة في الطواف يجب العمل به فيما لا يؤدي إلى نسخ(3/15)
الحجة فوقع في العمل بالشبهة وهو القياس أو استصحاب الحال الذي ليس بحجة أصلا ومن عمل بالآحاد على مخالفة الكتاب ونسخه فقد أبطل اليقين والأول فتح باب الجهل والإلحاد. والثاني فتح باب البدعة وإنما سواء السبيل فيما قاله أصحابنا في تنزيل كل منزلته ومثال هذا مس الذكر أنه يخالف الكتاب; لأن الله تعالى مدح المتطهرين بالاستنجاء بقوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108]، والمستنجي يمس ذكره, وهو بمنزلة البول عند من
ـــــــ
الكتاب فيشترط التعيين والتعديل والطهارة على وجه يتحقق النقصان بفواتها في العبادة ولم يفت أصل الجواز إذ لو فات لأدى إلى نسخ الكتاب ومن أراد أخبار الآحاد فقد أبطل الحجة لما مر أن خبر الواحد من حجج الشرع فوقع في العمل بالشبهة, وهو القياس; لأن الشبهة في القياس في أصله بحيث لا يخلو عنها وفي الخبر عارض أو استصحاب الحال الذي ليس بحجة أصلا ثم بعض من رد خبر الواحد عمل بالقياس عند وقوع الحادثة وبعضهم رد القياس أصلا وعمل بالاستصحاب في الحوادث فالشيخ أشار إلى فساد المذهبين جميعا.
"فقد أبطل اليقين" يعني بما فيه شبهة والأول فتح باب الجهل والإلحاد; لأن ترك الحجة والأخذ بالشبهة أو بما ليس بحجة عدول عن الصواب ومنشؤه الجهل, والثاني: وهو العمل بالآحاد على مخالفة الكتاب ونسخه فتح باب البدعة; لأن السلف لم يعملوا بالآحاد على مخالفة الكتاب على ما حكينا من قول عمر رضي الله عنه لا ندع كتاب ربنا بكذا.
قوله "ومثال هذا" أي مثال الانقطاع بمخالفة الكتاب حديث مس الذكر فإنه مخالف للكتاب; لأن الله تعالى مدح المتطهرين بالاستنجاء بالماء بقوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108]، فإنه نزل فيه على ما روي أن "النبي صلى الله عليه وسلم حين نزلت الآية مشى إلى مسجد قباء فإذا الأنصار جلوس فقال يا معشر الأنصار إن الله عز وجل قد أثنى عليكم فما الذي تصنعون عند الوضوء وعند الغائط؟ فقالوا: يا رسول الله نتبع الغائط الأحجار الثلاثة ثم نتبع الأحجار الماء فتلا النبي عليه السلام: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108]، والاستنجاء بالماء لا يتصور إلا بمس الفرجين جميعا, وقد ثبت بالنص أنه من التطهر فلو جعل المس حدثا لا يتصور أن يكون الاستنجاء تطهرا; لأن التطهر إنما يحصل بزوال الحدث فلا يحصل مع إثبات حدث آخر كما لو توضأ مع سيلان الدم والبول من غير عذر, ولكنهم يقولون: نحن لا نجعله تطهرا عن الحدث ليكون المس منافيا له بل هو تطهر عن النجاسة الحقيقية بمنزلة تطهير الثوب وباعتبار هذه الطهارة استحقوا المدح لا باعتبار(3/16)
جعله حدثا. ومثل حديث فاطمة بنت قيس الذي رويناه في النفقة أنه يخالف الكتاب, وهو قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6]، الآية ومعناه وأنفقوا عليهن من وجدكم, وقد قلنا: إن الظاهر من الكتاب أحق من نص الآحاد وكذلك مما خالف الكتاب من السنن أيضا حديث القضاء بالشاهد واليمين; لأن الله تعالى: قال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]، ثم فسر ذلك بنوعين برجلين بقوله: {مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]، وبقوله: {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282]، ومثل هذا إنما يذكر لقصر
ـــــــ
الطهارة عن الحدث إذ الكل كانوا فيها سواء وهذه الطهارة لا تزول بالمس كما لو فسا أو رعف بعد الاستنجاء فلا يكون الحديث مخالفا للكتاب وأجيب عنه بأنه تعالى جعل الاستنجاء تطهرا مطلقا فينبغي أن يكون تطهرا حقيقة وحكما فلو جعل المس حدثا لا يكون تطهرا من كل وجه ولا يخلو هذا الجواب عن ضعف.
قوله: "وكذلك" أي وكحديث المس وحديث فاطمة حديث القضاء بالشاهد واليمين الذي تمسك به الشافعي رحمه الله في إيجاب القضاء بالشاهد الواحد إذا انضم إليه يمين المدعي, وهو ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن "رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بشاهد" وفي بعض الروايات بشاهد ويمين الطالب1, وهو مذهب علي وأبي بن كعب رضي الله عنهما. وعلماؤنا لم يعملوا بهذا الحديث لمخالفته الكتاب من وجوه: أحدها: أن الله تعالى قال: {وَاسْتَشْهِدُوا} أمر بالاستشهاد لإحياء الحق, وهو مجمل في حق ما هو شهادة, كقول القائل كل يكون مجملا ثم فسره بنوعين برجلين وبرجل وامرأتين أما على المساواة أو الترتيب فيقتضي ذلك اقتصار الاستشهاد المطلوب بالأمر على النوعين; لأن المجمل إذا فسر كان ذلك بيانا لجميع ما يتناوله اللفظ كقول الرجل: كل طعام كذا أو طعام كذا, كان التفسير اللاحق بيانا لجميع ما أريد من المأكول بقوله كل. وكذا لو قال تفقه من فلان أو فلان كان التفسير الملحق به قصر الأمر بالتفقه عليهما حتى لا يكون التفقه على غيرهما من موجبات الأمر, وكذا لو قال: استشهد زيدا على صفقتك أو خالدا. لم يكن استشهاد غيرهما من المأمور استشهادا لحكم الأمر لا محالة بل يكون زيادة عليه فكذلك هاهنا يصير المذكور بيانا للكل فمن جعل الشاهد واليمين حجة فقد زاد على النص بخبر الواحد, وهو جار مجرى النسخ فلا يجوز به.
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الأقضية حديث رقم 1712. وأبو داود في الأقضية حديث رقم 3608. والترمذي في الأحكام حديث رقم 1343. وأخرجه ابن ماجه في الأحكام حديث رقم 2368.(3/17)
الحكم عليه ولأنه قال {وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282]، ولا مزيد على الأدنى ولأنه انتقل إلى غير المعهود, وهو شهادة النساء ولو كان الشاهد واليمين
ـــــــ
وثانيها: أنه تعالى قال: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282]، نص على أدنى ما ينتفي به الريبة شهادة شاهدين أو شهادة رجل وامرأتين وليس وراء الأدنى شيء ينتفي به الريبة, وهو معنى قوله "ولا مزيد على الأدنى" يعني في جانب القلة والتسفل فلو كان الشاهد مع اليمين حجة لزم منه انتفاء كون المذكور في الكتاب أدنى في انتفاء الريبة وذلك لا يجوز فكان في جعله حجة إبطال موجب الكتاب.
وثالثها: أنه تعالى نقل الحكم من المعتاد, وهو استشهاد الرجال إلى غير المعتاد, وهو استشهاد النساء مبالغة في البيان مع أن حضورهن مجالس الحكام ومحافل الرجل غير معهود بل هو حرام من غير ضرورة; لأنهن أمرن بالقرار في البيوت بقوله عز ذكره {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33]، فلو كان يمين المدعي مع الشاهد الواحد حجة وأمكن للمدعي الوصول إلى حقه بها لما استقام السكوت عنها في الحكمة والانتقال إلى ذكر من لا يستشهد عادة مع كل هذا الاستقصاء في البيان بل كان الابتداء باليمين والشاهد أولى; لأنه أعم وأيسر وجودا من الشهيدين أو كان ذكر الشاهد واليمين بعد ذكر الرجلين أولى; لأن الشاهد الواحد لما كان موجودا وبانضمام عين المدعي إليه يتمكن المدعي من الوصول إلى حقه لم يتحقق الضرورة المبيحة لحضور النساء محفل الرجال كما لو وجد الرجلان فكان النص دليلا من هذا الوجه بطريق الإشارة على أن الشاهد واليمين ليس بحجة.
"وكان ذلك" أي الانتقال من المعهود, وهو استشهاد الرجال إلى غير المعهود, وهو استشهاد النساء بيانا على الاستقصاء أنه ليس وراء الأمرين المذكورين شيء آخر يصلح حجة للمدعي وإن الشاهد واليمين ليس بحجة فهذا تقرير ما ذكر في الكتاب. ولكن للخصم أن يقول على الوجه الأول: لا أسلم القصر; لأن له طرقا أربعة على ما ذكر في أول هذا الكتاب ولم يوجد واحد منها فكيف تستقيم دعوى القصر من غير دليله ولئن سلمنا القصر على ما زعمتم فهو ثابت بطريق المفهوم, وهو ليس بحجة عندكم وعندي وإن كان حجة ولكن إذا لم يعارضه دليل آخر فإذا عارضه سقط الاحتجاج به فلا يكون في العمل بهذا الحديث مخالفة الكتاب وأن يقول على الوجه الثاني: لا دلالة لهذا النص من هذا الوجه على ما ذكرتم; لأن نظم الكتاب ليس على ما هو المذكور في الكتب بل نظمه {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282]، واسم الإشارة راجع إلى أن تكتبوه في قوله عز اسمه {وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ}(3/18)
حجة لكان مقدما على غير المعهود وصار ذلك بيانا على الاستقصاء, وقال في آية أخرى {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106]، فنقل إلى شهادة الكافر حين كانت حجة على المسلمين وذلك غير معهود في موت المسلمين ووصاياهم فيبعد أن يترك المعهود ويأمر بغيره ولأنه ذكر في ذلك يمين الشاهد بقوله {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} [المائدة: 106]، ويمين الخصم في الجملة مشروع
ـــــــ
[البقرة: 282]، والأدنى بمعنى الأقرب لا بمعنى الأقل أي ذلكم الكتب أقسط أي أعدل عند الله وأقوم للشهادة أي أعدل على أدائها {وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282]، أي أقرب من انتفاء الريب, كذا في الكشاف وغيره ولا يجوز أن يصرف الإشارة إلى قوله: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282]، وأن يجعل الأدنى بمعنى الأقل; لأن قوله تعالى: {أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ} [البقرة: 282]، لا ينقاد له, وإذا كان كذلك لا يكون الحديث مخالفا للكتاب من هذا الوجه أيضا ثم أكد الشيخ الوجه الأخير بيان وجهين آخرين:
أحدهما أنه تعالى نقل الحكم عن استشهاد مسلمين على وصية المسلم إلى استشهاد كافرين حين كانت شهادة الكفار حجة على المسلمين باعتبار قلة المسلمين في قوله عز ذكره {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106]، أي عدد الشهود فيما بينكم إذا حضر أحدكم الموت وقت الوصية اثنان عدلان من أهل دينكم أو آخران من غير أهل دينكم إن لم يجدوا مسلمين و"أو" للترتيب, كذا فسره ابن عباس وسعيد بن جبير وجماعة من أهل العلم فلو كان اليمين مع الشاهد حجة لنقل الحكم إليه لا إلى شهادة الكفار; لأن تجويز شهادتهم على المسلمين كان باعتبار الضرورة, وقد أمكن دفعها بالشاهد واليمين الذي هو أقرب إلى الحق من شهادة الكفار وأيسر وجودا منها فعلم أنه ليس بحجة.
والثاني أنه تعالى نقل الحكم عند وقوع الارتياب والشك في صدق الشاهد إلى تحليف الشاهد بقوله عز اسمه: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً} [المائدة: 106]، الآية وتحليف الشاهد حينئذ كان مشروعا ثم نسخ, ولو كان المتنازع فيه حجة لكان النقل إليه أولى; لأنه أقرب إلى اليمين المشروعة إذ اليمين المشروعة على المدعى عليه وأنه أحد الخصمين والمدعي يشبهه من حيث إنه خصم وتحليفه في الجملة مشروع أيضا كما في التحالف وكما في القسامة على مذهب البعض, فأما يمين الشاهد فلا أصل له في الشرع; لأنه أمين ولا يمين على الأمين في موضع فكان النقل إلى يمين الشاهد في غاية البيان أن يمين المدعي ليست بمشروعة. وأمثال هذا أي نظائر ما ورد مخالفا للكتاب(3/19)
فأما يمين الشاهد فلا فصار النقل إلى يمين الشاهد في غاية البيان بأن يمين المدعي ليست بحجة وأمثال هذا كثير ومثله خبر المصراة.
وكذلك ما خالف السنة المشهورة أيضا لما قلنا: إنه فوقه فلا ينسخ به وذلك مثل حديث الشاهد واليمين; لأنه خالف المشهور, وهو قوله "البينة على المدعي واليمين على من أنكر" يعني المدعى عليه ومثل حديث سعد بن وقاص رضي الله عنه في بيع التمر بالرطب مخالف
ـــــــ
من السنن الغريبة كثيرة مثل خبر متروك التسمية وخبر وجوب الملتجئي إلى الحرم وخبر وجوب الطهارة في الطواف وسائر ما مر بيانه.
قوله "وكذلك ما خالف السنة المشهورة أيضا" أي ومثل الخبر المخالف للكتاب الخبر المخالف للسنة في أنه يكون مردودا أيضا وهذا هو القسم الثاني من الانقطاع الباطن "لما قلنا إنه" أي الخبر المشهور فوق خبر الواحد حتى جازت الزيادة على الكتاب بالمشهور دون خبر الواحد فلا يجوز أن ينسخ المشهور الذي هو أقوى بخبر الواحد الذي هو أضعف وذلك أي مثال هذا الأصل حديث الشاهد واليمين أيضا; فإنه ورد مخالفا للحديث المشهور, وهو ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه" 1 وفي رواية "على من أنكر" وبيان المخالفة من وجهين: أحدهما: أن الشرع جعل جميع الأيمان في جانب المنكر دون المدعي; لأن اللام يقتضي استغراق الجنس فمن جعل يمين المدعي حجة فقد خالف النص ولم يعمل بمقتضاه, وهو الاستغراق. والثاني: أن الشرع جعل الخصوم قسمين: قسما مدعيا وقسما منكرا, والحجة قسمين: قسما بينة وقسما يمينا, وحصر جنس اليمين على من أنكر وجنس البينة على المدعي وهذا يقتضي قطع الشركة وعدم الجمع بين اليمين والبينة في جانب والعمل بخبر الشاهد واليمين توجب ترك العمل بموجب هذا الخبر المشهور فيكون مردودا. كيف وقد طعن فيه يحيى بن معين وإبراهيم النخعي والزهري حتى قال الزهري والنخعي أول من أفرد الإقامة معاوية وأول من قضى بشاهد ويمين معاوية وقد "قال النبي صلى الله عليه وسلم للخضرمي حين امتنع عن استحلاف الكندي في دعوى أرض "ليس لك منه إلا ذلك" 2 فهذا يقتضي الحصر ولو كانت يمين المدعي مشروعة لكان له طريق آخر غير الاستحلاف.
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في الأحكام حديث رقم 1341.
2 أخرجه مسلم في الإيمان حديث رقم 139. أبو داود في الإيمان حديث رقم 3245. والترمذي في الأحكام حديث رقم 1340. والإمام أحمد في المسند 4/317.(3/20)
لقوله عليه السلام: "التمر بالتمر" بزيادة مماثلة هي ناسخة للمشهور, باعتبار
ـــــــ
قوله "ومثل حديث سعد" إلى آخره بيع الرطب بالتمر كيلا بكيل يجوز عند أبي حنيفة ولا يجوز عند أبي يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله لحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال: "أينقص إذا جف قالوا نعم قال فلا إذا" , فالنبي عليه السلام أفسد البيع وأشار بقوله أتنقص إذا جف إلى وجوب بناء معرفة المساواة على أعدل الأحوال وعند البناء عليه يصير أجزاء الرطب أقل فلا يجوز لتفاوت قائم للحال عند الاعتبار بأجزاء التمورة كما لا يجوز المقلي بغير المقلي لتفاوت قائم في الحال عند الاعتبار بأجزاء غير المقلي.
واستدل أبو حنيفة رحمه الله بالحديث المشهور, وهو قوله عليه السلام: "التمر بالتمر مثل بمثل" ; فإنه يستدعي الجواز وذلك; لأن التمر ينطلق على الرطب; لأنه اسم جنس للتمرة الخارجة من النخل من حين ينعقد إلى أن يدرك وبما يتردد عليها من الأحوال والصفات لا يختلف اسم الذات كاسم الآدمي لا يتبدل باختلاف أحواله. والدليل عليه ما روي "أنه عليه السلام نهى عن بيع التمر حتى يزهى1 فقيل: وما يزهى فقال أن يحمر أو يصفر" فسماه تمرا وهو بسر, وقال شاعرهم:
وما العيش إلا نومة وتشرق ... وتمر على رأس النخيل وماء
والمراد الرطب. وكذا لو أوصى برطب على رأس النخيل فيبس قبل أن يموت الموصي لا يبطل الوصية ولو تبدل الجنس باليبس لبطلت كما لو أوصى بعنب فصار زبيبا قبل الموت وكذا لو أسلم في تمر فاقتضى رطبا أو على العكس صح ولو اختلفا لكان هذا استبدالا, وهو غير جائز, وإذا ثبت أنه تمر, وقد وجد شرط العقد, وهو المماثلة حالة العقد فيجوز ولا يعتبر المماثلة في أعدل الأحوال; لأن شرط العقد يعتبر عند العقد فيجب أن يعتبر المساواة في البدلين اللذين ورد عليهما العقد وهما الرطب والتمر فأما اعتبار حالة مفقودة يتوقع حدوثها في بابي الحال فلا فكان اعتبار الأعدل كاعتبار الأجود وأنه ساقط بالنص.
واعلم أن صاحب الشرع أسقط اعتبار التفاوت في الجودة بقوله عليه السلام: "جيدها ورديها سواء" واعتبر التفاوت بين النقد والنسيئة حيث شرط اليد باليد وصفة الجودة لا تكون حادثة بصنع العباد والتفاوت بين النقد والنسيئة حادث بصنع العباد, وهو
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في السلام، باب رقم 3-4، ومسلم في المساقاة حديث رقم 1555، وأبو داود في البيوع، حديث رقم 3368، والترمذي في البيوع، حديث رقم 1226.(3/21)
جودة ليست من المقدار إلا أن أبا يوسف ومحمدا رحمهما الله عملا به
ـــــــ
اشتراط الأجل فصار هذا أصلا إن كل تفاوت يبتنى على صنع العباد فذلك مفسد للعقد وفي المقلية بغير المقلية والحنطة بالدقيق التفاوت بهذه الصفة وكل تفاوت يبتنى على ما هو ثابت بأصل الخلقة من غير صنع العباد فهو ساقط الاعتبار والتفاوت بين الرطب والتمر بهذه الصفة فلا يكون معتبرا كالتفاوت بين الجيد والرديء, وأما الجواب عن الحديث فمن وجهين أحدهما ما ذكر الشيخ في الكتاب, وهو أن هذا الحديث مخالف للحديث المشهور; فإنه يقتضي اشتراط المماثلة في الكيل مطلقا لجواز العقد حتى لو وجدت المساواة في حال يبوسة البدلين أو في حال رطوبتهما أو في حال يبوسة أحدهما ورطوبة الآخر جاز العقد فالتقييد باشتراط المماثلة في أعدل الأحوال, وهو حال يبوستهما كما هو مقتضى حديث سعد متضمن لنسخ ذلك الإطلاق فلا يجوز بخبر الواحد, وهو معنى قوله بزيادة مماثلة هي ناسخة للمشهور والباء للسببية أي المخالفة بسبب اقتضائه زيادة مماثلة لا يقتضيها الخبر المشهور وهي المساواة في حالة الجفاف, والباء في باعتبار جودة متعلقة بالزيادة أي اشتراط تلك الزيادة باعتبار جودة وجدت في أحدهما وفقدت في الآخر لا باعتبار زيادة في القدر في أحدهما دون الآخر وذلك لأن للتمر فضل جودة على الرطب من حيث الادخار من غير انتقاص ولكن لا تفاوت بينهما من حيث الإجزاء; لأن للتمر إن كان فضل اكتناز ففي الرطب فضل رطوبة هي مقصودة شاغلة للكيل لا يظهر التفاوت بينهما إلا بعد ذهابها بالجفاف, وقد عرفت أن الفضل والمساواة في الجودة ساقطا الاعتبار شرعا إنما المعتبر المساواة والفضل قدرا فكيف يصلح اعتبار المماثلة الراجعة إلى الجودة ناسخا لما ثبت بالحديث المشهور. وقوله ليست من المقدار يحتمل أن يكون احترازا عن فوات المماثلة باعتبار القلي; فإن بالقلي ينتفخ الحبات إذا كانت رطبة وتضمر إذا قليت يابسة فلا تساوي المقلية في الدخول في الكيل غير المقلية باعتبار الانتفاخ والضمور وهذا التفاوت رجع إلى القدر فيجوز أن يؤثر في منع الجواز وذكر في مختصر التقويم أن الحديث المشهور يوجب أحكاما ثلاثة:
أحدها: وجوب المماثلة شرطا للجواز فيجوز البيع حال وجود المماثلة بهذا النص.
والثاني: أنه يدل على تحريم فضل قائم; لأن المراد منه الفضل على الذات.
والثالث: الفضل الذي ينعدم به المماثلة وخبر الواحد يخالفه في هذه الأمور الثلاثة; لأنه أوجب حرمة البيع حال وجود المماثلة في المعيار وأوجب حرمة فضل لا ينعدم به المماثلة; لأن المماثلة شرط للجواز حالة العقد والفضل الذي يوجد بعد الجفاف لا يعدم(3/22)
على أن اسم التمر لا يتناول الرطب في العادة كما في اليمين. وأما القسم الثالث
ـــــــ
المماثلة الموجودة حال العقد وهذا الفضل موهوم غير قائم حال العقد فإذا خالف المشهور في هذه الأحكام لم يقبل. والثاني أنه غير ثابت على ما حكي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لما دخل بغداد سألوه عن هذه المسألة وكانوا أشداء عليه لمخالفته الخبر فقال: الرطب لا يخلو من أن يكون تمرا أو لم يكن فإن كان تمرا جاز العقد لقوله عليه السلام: "التمر بالتمر مثل بمثل" وإن لم يكن تمرا جاز أيضا لقوله عليه السلام: "إذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم" فأورد عليه حديث سعد فقال: هذا الحديث دار على زيد أبي عياش وهو ممن لا يقبل حديثه واستحسن أهل الحديث منه هذا الطعن حتى قال ابن المبارك: كيف يقال: أبو حنيفة لا يعرف الحديث وهو يقول زيد أبو عياش ممن لا يقبل حديثه؟, كذا في المبسوط ولكن يرد عليه أن الحنطة المقلية إن كانت حنطة ينبغي أن يجوز بيعها بغير المقلية كيلا بكيل لقوله عليه السلام: "الحنطة بالحنطة مثل بمثل" وإن لم يكن حنطة ينبغي أن يجوز أيضا لقوله عليه السلام: "إذا اختلفا النوعان فبيعوا كيف شئتم" والحكم بخلافه, ولهذا قال القاضي الإمام في الأسرار وشمس الأئمة في المبسوط ما ذكر أبو حنيفة رحمه الله حسن في المناظرات لدفع الخصم ولكن الحجة لا تتم به لجواز قسم ثالث كما في الحنطة المقلية معناه يجوز أن يكون الرطب قسما ثالثا لا يكون تمرا مطلقا لفوات وصف اليبوسة عنه ولا يكون غيره مطلقا لبقاء أجزائه عند صيرورته تمرا كالحنطة المقلية ليست عين الحنطة على الإطلاق لفوات وصف الإثبات عنها بالمقلي وليست غيرها أيضا لوجود أجزاء الحنطة فيها, وكذا الحنطة مع الدقيق, وإذا كان كذلك كان الاعتماد على ما ذكرنا أولا.
قوله "إلا أن" أي لكن أبا يوسف ومحمدا عملا به أي بحديث سعد جواب عما يقال: إنهما وافقا أبا حنيفة رحمهم الله في أن خبر الواحد يرد بمخالفته المشهور ثم إنهما عملا بحديث سعد مع مخالفته الخبر المشهور فقال: إنهما إنما عملا به; لأنهما لم يسلما مخالفته للمشهور بناء على أن المشهور تناول التمر والرطب ليس بتمر عادة أي عرفا بدليل أن من حلف لا يأكل تمرا فأكل رطبا أو حلف لا يأكل هذا الرطب فأكله بعدما صار تمرا لم يحنث, وإذا كان كذلك لا يكون المشهور متناولا لما تضمنه حديث سعد فلا يتحقق المخالفة فيجب العمل به. وأجيب عنه بأنه قد ثبت أن الرطب من جنس التمر لما قلنا لكن اليمين قد يختلف باختلاف الداعي مع قيام الجنسية والرطوبة في الرطب وصف داع إلى المنع مرة وإلى الإقدام أخرى فيتقيد اليمين بالوصف كما لو قال لامرأته إن خرجت من هذه الدار فعبدي حر يتقيد بحال قيام النكاح; لأنه يدعوه إلى المنع عن الخروج والخروج(3/23)
فلأن الحادثة إذا اشتهرت وخفي الحديث كان ذلك دلالة على السهو; لأن الحادثة إذا اشتهرت استحال أن يخفى عليهم ما يثبت به حكم الحادثة, ألا ترى أنه كيف اشتهر في الحلف فإذا شذ الحديث مع اشتهار الحادثة كان ذلك زيافة
ـــــــ
في الأحوال جنس واحد لكن لما اختلف الداعي اختلفت اليمين كذا هاهنا, ألا ترى أنه لو حلف لا يأكل هذا الرطب وهو تمر انعقدت يمينه ولو كان غيره لما انعقدت كما لو تبين أنه عنب, إليه أشير في مختلفات المصنف رحمه الله قال شمس الأئمة رحمه الله بعد بيان القسمين ففي هذين النوعين من الانتقاد للحديث علم كثير وصيانة للدين بليغة; فإن أصل الأهواء والبدع إنما ظهر من قبل ترك عرض أخبار الآحاد على الكتاب والسنة; فإن قوما جعلوها أصلا مع الشبهة في اتصالها برسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أنها لا توجب علم اليقين ثم تأولوا عليها الكتاب والسنة المشهورة فجعلوا التبع متبوعا وجعلوا الأساس ما هو غير متيقن به فوقعوا في الأهواء والبدع بمنزلة من أنكر خبر الواحد; فإنه كما لما لم يجوز العمل به احتاج إلى القياس ليعمل به وفيه أنواع من الشبهة أو إلى استصحاب الحال وهو ليس بحجة أصلا, وترك العمل بالحجة إلى ما ليس بحجة يكون فتحا لباب الإلحاد وجعل ما هو غير متيقن به أصلا, ثم يخرج ما فيه التيقن عليه يكون فتحا لباب الأهواء والبدع وكل واحد منهما مردود وإنما سواء السبيل ما ذهب إليه علماؤنا رحمهم الله من إنزال كل حجة منزلتها; فإنهم جعلوا الكتاب والسنة المشهورة أصلا ثم خرجوا عليها ما فيه بعض الشبهة, وهو المروي بطريق الآحاد مما كان منه موافقا للكتاب أو المشهور قبلوه وأوجبوا العمل به وما كان مخالفا لهما ردوه على أن العمل بالكتاب والسنة أوجب من العمل بالغريب بخلافه وما لم يجدوه في شيء من الأخبار صاروا حينئذ إلى القياس في معرفة حكمه لتحقق الحاجة إليه.
قوله "وأما القسم الثالث" فكذا خبر الواحد إذا ورد موجبا للعمل فيما يعم به البلوى أي فيما يمس الحاجة إليه في عموم الأحوال لا يقبل عند الشيخ أبي الحسن الكرخي من أصحابنا المتقدمين, وهو مختار المتأخرين منهم, وعند عامة الأصوليين يقبل إذا صح سنده, وهو مذهب الشافعي وجميع أصحاب الحديث تمسك من قبله بعمل الصحابة رضي الله عنهم فإنهم عملوا به فيما يعم به البلوى مثل ما روي عن "ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: كنا نخابر أربعين سنة حتى روى لنا رافع بن خديج أن النبي عليه السلام نهى عن ذلك فانتهينا" ومثل رجوعهم إلى خبر عائشة رضي الله عنها في وجوب الغسل بالتقاء الختانين وبأن خبر العدل في هذا الباب يفيد ظن الصدق فيجب قبوله كما إذا لم يعم به البلوى, ألا ترى أن القياس يقبل فيه مع أنه أضعف من خبر الواحد فلأن يقبل فيه الخبر كان أولى.(3/24)
وانقطاعا وذلك مثل حديث الجهر بالتسمية ومثل حديث مس الذكر وما أشبه ذلك.
ـــــــ
واحتج من لم يقبله بأن العادة تقتضي استفاضة نقل ما يعم به البلوى وذلك; لأن ما يعم به البلوى كمس الذكر لو كان مما ينتقض به الطهارة لأشاعه النبي عليه السلام ولم يقتصر على مخاطبة الآحاد بل يلقيه إلى عدد يحصل به التواتر أو الشهرة مبالغة في إشاعته لئلا يفضي إلى بطلان صلاة كثير من الأمة من غير شعور به, ولهذا تواتر نقل القرآن واشتهر أخبار البيع والنكاح والطلاق وغيرها ولما لم يشتهر علمنا أنه سهو أو منسوخ.
ألا ترى أن المتأخرين لما قبلوه اشتهر فيهم فلو كان ثابتا في المتقدمين لاشتهر أيضا ولما تفرد الواحد بنقله مع حاجة العامة إلى معرفته, ولهذا لم تقبل شهادة الواحد من أهل المصر على رؤية هلال رمضان إذا لم تكن بالسماء علة ولم يقبل قول الصبي فيما يدعي من إنفاق مال عظيم على اليتيم في مدة يسيرة وإن كان ذلك محتملا; لأن الظاهر يكذبه في ذلك, ولهذا لو انفرد واحد بنقل قتل ملك في السوق لا يقبل; لأن في العادة يبعد أن لا يستفيض مثله, فكذا هذا يوضحه أنا لم نقبل قول الرافضة في دعواهم النص على إمامة علي رضي الله عنه; لأن أمر الإمامة مما يعم به البلوى لحاجة الجميع إليه فلو كان النص ثابتا لنقل نقلا مستفيضا وحين لم ينقل دل أنه غير ثابت. ولكن المخالفين يقولون: لا يلزم من عموم البلوى اشتهار حكمها; فإن حكم الفصد والحجامة والقهقهة في الصلاة وإفراد الإقامة وتثنيتها وقراءة الفاتحة خلف الإمام وتركها والجهر بالتسمية وإخفائها وعامة تفاصيل الصلاة لم تشتهر مع أن هذه الحوادث عامة والسر فيه أن الله تعالى لم يكلف الرسول صلى الله عليه وسلم بإشاعة جميع الأحكام بل كلفه بإشاعة البعض وجوز له رد الخلق إلى خبر الواحد في البعض كما جوز له ردهم إلى القياس في قاعدة الربا مع أنه يسهل عليه أن يقول: لا تبيعوا المطعوم بالمطعوم أو المكيل بالمكيل حتى يستغنى عن الاستنباط عن الأشياء الستة فيجوز أن يكون ما يعم به البلوى من جملة ما يقتضي مصلحة الخلق أن يردوا فيه إلى خبر الواحد وعند ذلك يكون صدق الراوي ممكنا فيجب تصديقه. وأجيب عنه بأن الأصل فيما عم به البلوى اشتهار حكمه لما ذكرنا من الدليل ولكنه قد لا يشتهر أيضا إما لترك كل واحد من النقلة الرواية اعتمادا على غيره أو لعارض آخر من موت عامتهم في حرب أو وباء أو نحو ذلك كما نقل أن محمد بن إسماعيل رحمه الله لما جمع الصحيح سمعه منه قريب من مائة ألف ولم يثق عند الرواية إلا محمد بن يوسف بن مطر الفربري لكن العوارض لا تعتبر في مقابلة الأصل من غير دليل فقولهم يجوز أن يكون كذا لا يقدح فيما ذكرنا; لأنا لم ندع الاشتهار عند عموم البلوى قطعا بل ادعيناه ظاهرا,(3/25)
وأما القسم الأخير فلأن الصحابة رضي الله عنهم هم الأصول في نقل الشريعة فإعراضهم يدل على انقطاعه وانتساخه وذلك أن يختلفوا في حادثة بآرائهم
ـــــــ
وكذا الصحابة إنما عملوا بخبر الواحد في تلك الحوادث لقرائن اختصت به أو لصيرورته مشهورا عند بلوغه إياهم وقولهم: إنه يفيد ظن الصدق غير مسلم; لأن عدم شهرته يعارض ظن الصدق فلا يحصل الظن مع المعارض بخلاف القياس; لأنه لا معارض له وذلك أي شذوذ الحديث مع اشتهار الحادثة مثل حديث الجهر بالتسمية, وهو ما روى أبو هريرة رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم" وروى أبو قلابة عن أنس رضي الله عنه أن "النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم"1 ولما شذ مع اشتهار الحادثة ومع أنه معارض بأحاديث أقوى منه في الصحة دالة على خلافه لم يعمل به ومثل حديث مس الذكر الذي روته بسرة; فإنه شاذ لانفرادها بروايته مع عموم الحاجة إلى معرفته فدل ذلك على زيافته إذ القول بأن النبي عليه السلام خصها بتعليم هذا الحكم مع أنها لا تحتاج إليه ولم يعلم سائر الصحابة مع شدة الحاجة إليه شبه المحال, كذا ذكر شمس الأئمة رحمه الله. ولا يقال: قد روى هذا الحديث أيضا ابن عمر وأبو هريرة وجابر وسالم وزيد بن خالد وعائشة وأم حبيبة وغيرهم فكيف يكون شاذا مع رواية هؤلاء الكبار؟, لأنا نقول: تلك الروايات مضطربة الأسانيد غير صحيحة لضعف رجالها ولمعارضتها أيضا بروايات صحيحة تخالفها على ما بينها أبو جعفر الطحاوي رحمه الله في شرح الآثار فلا ينتفي الشذوذ بها وما أشبه ذلك مثل خبر الوضوء مما مسته النار وخبر الوضوء من حمل الجنازة وخبر رفع اليدين عن الركوع وعند رفع الرأس من الركوع ونحوها.
قوله "وأما القسم الأخير" أي من النوع الأول من الانقطاع الباطن, وقد تفرد بهذا النوع من الرد للحديث بعض أصحابنا المتقدمين وعامة المتأخرين وخالفهم في ذلك غيرهم من الأصوليين وأهل الحديث قائلين بأن الحديث إذا ثبت وصح سنده فخلاف الصحابي إياه وتركه العمل والمحاجة به لا يوجب رده; لأن الخبر حجة على كافة الأمة والصحابي محجوج به كغيره; فإن قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، وقوله عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، وردا عامين من غير تخصيص لبعض الأمة دون البعض ومن رده احتج بأن الصحابة رضي الله عنهم هم الأصول في نقل
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في البسملة رقم 245.(3/26)
ولم يحاج بعضهم في ذلك بحديث كان ذلك زيافة; لأن استعمال الرأي والإعراض عن النص غير سائغ وذلك مثل حديث الطلاق بالرجال والعدة بالنساء; لأن الصحابة اختلفوا ولم يرجعوا إليه وكذلك اختلفوا في زكاة الصبي
ـــــــ
الدين لم يتهموا بترك الاحتجاج بما هو حجة والاشتغال بما ليس بحجة مع أن عنايتهم بالحجج كانت أقوى من عناية غيرهم بها فترك المحاجاة والعمل به عند ظهور الاختلاف فيهم دليل ظاهر على أنه سهو ممن رواه بعدهم أو منسوخ ولكنهم يقولون: إنما يكون ذلك دليلا إذا بلغهم الخبر ثم لم يحاجوا به فلعلهم لم يحاجوا به لعدم بلوغه إياهم; فإنهم قد تفرقوا في البلاد بعد وفاة الرسول عليه السلام فيجوز أن من سمع الخبر لم يكن حاضرا عند اختلافهم ولم يبلغه اختلافهم ليروي لهم الخبر فلا يجوز أن يرد بمثله لحديث إذا ثبتت عدالة رواته "وذلك" أي الحديث المنقطع بهذا الطريق مثل حديث الطلاق بالرجال الذي تمسك به الشافعي رحمه الله في اعتبار عدد الطلاق بحال الرجل, وهو ما روى زيد بن ثابت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الطلاق بالرجال والعدة بالنساء" فإن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في هذه المسألة فذهب عمر وعثمان وزيد وعائشة رضي الله عنهم إلى أنه معتبر بحال الرجل في الرق والحرية كما هو قول الشافعي وذهب علي وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما إلى أنه معتبر بحال المرأة كما هو مذهبنا. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه يعتبر بمن رق منهما حتى لا يملك الزوج عليها ثلاث تطليقات إلا إذا كانا حرين, ثم إنهم تكلموا في هذه المسألة بالرأي وأعرضوا عن الاحتجاج بهذا الحديث مع أن راويه وهو زيد فيهم فدل ذلك على أنه غير ثابت أو منسوخ.
"وكذلك اختلفوا في زكاة الصبي" أي في وجوب الزكاة عليه اختلافا ظاهرا, فذهب علي وابن عباس رضي الله عنهم إلى أنه لا زكاة في ماله كما هو مذهبنا وذهب عبد الله بن عمر وعائشة رضي الله عنهم إلى الوجوب كما هو مذهب الشافعي وذهب ابن مسعود رضي الله عنه إلى أن الوصي يعد السنين عليه ثم يخبره بعد البلوغ إن شاء أدى وإن شاء لم يؤد ولم تجز المحاجة بينهم بالحديث الذي رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ابتغوا في أموال اليتامى خيرا كي لا تأكلها الصدقة" وفي رواية كي لا تأكلها الزكاة وفي رواية "من ولي يتيما له مال فليتجر فيه ولا يتركه حتى تأكله الصدقة" 1 ولو كان ثابتا لجرت المحاجاة به بعد تحقق الحاجة بظهور الخلاف كما تجري اليوم; لأنهم كانوا أولع بالنص منا ولو احتجوا به لاشتهر أكثر من شهرة الفتوى ولرجع
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في الزكاة، حديث رقم 641.(3/27)
ولم يرجعوا إلى قوله "ابتغوا في أموال اليتامى خيرا" كي لا تأكلها الزكاة فهذا انقطاع باطن معنوي أعرض عنه الخصم وتمسك بظاهر الانقطاع كما هو دأبه.
وأما القسم الآخر فأنواع أربعة: خبر المستور وخبر الفاسق وخبر
ـــــــ
المحجوج عليه إليه إذا ثبت عنده; لأنهم أشد انقيادا للحق من غيرهم ولما لم يثبت شيء من ذلك علم أنه مزيف.
واعلم أن من لا يرد الحديث بهذين الوجهين الأخيرين من مشايخنا أجابوا عن الأحاديث التي زيفت بهما بأنها معارضة بأحاديث أخر أقوى منها في الصحة; فإن حديث الجهر بالتسمية معارض بما روى البخاري بإسناده عن أنس رضي الله عنه "صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وكانوا يستفتحون القراءة ب {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] 1، وروى مسلم هذا الخبر في صحيحه وفيه أنهم لا يذكرون {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1]، وفي رواية أخرى ولم أسمع أحدا منهم قال {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} , وفي رواية رابعة ولم يجهر أحد منهم ب {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1].
وحديث مس الذكر معارض بما مر ذكره وحديث الطلاق بالرجال معارض بما روت عائشة رضي الله عنها "طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان," مع أنه قد قيل: إنه كلام زيد ولم يثبت رفعه إلى النبي عليه السلام وأنه مؤول بأن إيقاع الطلاق إلى الرجال وحديث عمرو محمول على النفقة بمعارضة دلائل ذكرت في موضعها; فإن النفقة قد تسمى صدقة قال عليه السلام: "نفقة الرجل على نفسه صدقة" وفسر الإنفاق في قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3]، بالتصدق والدليل عليه أنه أضاف الأكل إلى جميع المال والزكاة لا يأكل ما دون النصاب والنفقة تأتي على الكل ولفظ الزكاة في الرواية الأخرى محمول على زكاة الرأس والله أعلم.
قال القاضي الإمام أبو زيد رحمه الله: إن الخبر يصير مزيفا بالوجهين الأولين أي مخالفة الكتاب والسنة المشهورة بمقابلة ما هو فوقه كنقد بلد رايج يصير زيفا في مقابلة نقد فوقه ببلد آخر ويصير مزيفا بالوجهين الأخيرين لتهمة الكذب إما قصدا أو غفلة كالزيف من نقد بلده لزيادة غش وقع فيه "فهذا" أي النوع الأول من الانقطاع المعنوي
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في الآذان باب رقم 189. ومسلم في الصلاة حديث رقم 399. وأبو داود في الصلاة حديث رقم 782. والترمذي في الصلاة حديث رقم 246.(3/28)
الصبي العاقل والمعتوه والمغفل والمساهل وخبر صاحب الهوى.
أما خبر المستور فقد قال في كتاب الاستحسان: إنه مثل الفاسق فيما يخبر من نجاسة الماء وفي رواية الحسن هو مثل العدل وهذه الرواية بناء على القضاء بظاهر العدالة والصحيح ما حكاه محمد أن المستور كالفاسق لا يكون خبره حجة حتى تظهر عدالته وهذا بلا خلاف في باب الحديث احتياطا إلا في الصدر الأول على ما قلنا في المجهول.
ـــــــ
المنقسم على الأقسام الأربعة انقطاع باطن معنوي لاتصال الخبر برسول الله صلى الله عليه وسلم صورة باعتبار الإسناد وانقطاعه عنه معنى لما ذكرنا أعرض عنه الخصم أي الشافعي حيث لم يلتفت إلى هذا النوع من الانقطاع "وتمسك بظاهر الانقطاع" أي اعتبر الانقطاع الظاهر حتى رد المراسيل لانقطاعها صورة وإن كانت متصلة معنى كما هو دأبه أي عادته في بناء الأحكام على الظواهر.
قوله "وأما القسم الآخر" بفتح الخاء يعني من الانقطاع الباطن, وهو الانقطاع لقصور ونقصان في الناقل فأربعة أنواع: أحدها: خبر المستور, وهو الذي لم يعرف عدالته ولا فسقه. وثانيها: خبر الفاسق, وهو المسلم الذي صدرت عنه كبيرة أو واظب على صغيرة على ما قيل. وثالثها: خبر المعتوه, وهو الناقص العقل من غير جنون على ما يعرف بعد إن شاء الله عز وجل والمغفل على لفظ اسم المفعول من التغفيل, وهو الذي لا فطنة له وقيل الغفلة للعقل كالنوم للعين والمساهل, وهو الذي لا يأخذ في الأمور بالحزم, وإنما جعل الجميع قسما لاستواء أحكامه. والرابع: خبر صاحب الهوى, وهو المخطئ في الأصول المعاند بعد تبين الحق لدعاء هواه إلى خلاف الحق, "وأما خبر المستور فقد قال" أي محمد "في كتاب الاستحسان إنه مثل الفاسق فيما يخبر من نجاسة الماء" فقال وإذا حضر المسافر الصلاة ولم يجد ماء إلا في إناء أخبره رجل أنه قذر, وهو عنده مسلم مرضي لم يتوضأ به وإن كان فاسقا فله أن يتوضأ بذلك الماء وكذلك إن كان مستورا لحق المستور بالفاسق, وهو ظاهر الرواية وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله المستور في هذا الخبر كالعدل, وهو ظاهر على مذهبه; فإنه يجوز القضاء بشهادة المستورين إذا لم يطعن الخصم لثبوت عدالتهم ظاهرا بقوله عليه السلام "المسلمون عدول بعضهم على بعض" . وكذا نقل عن عمر رضي الله عنه فهذا من صاحب الشرع تعديل لكل مسلم وتعديل صاحب الشرع أولى من تعديل المزكي ولكن الأصح ما ذكره محمد رحمه الله في الكتاب; لأنه لا بد من اشتراط العدالة لترجح جانب الصدق في الخبر(3/29)
وأما خبر الفاسق فليس بحجة في الدين أصلا لرجحان كذبه على صدقه, وقد قال محمد رحمه الله في الفاسق إذا أخبر بحل أو حرمة أن السامع يحكم رأيه فيه; لأن ذلك أمر خاص لا يستقيم طلبه وتلقيه من جهة العدول فوجب
ـــــــ
وما كان شرطا لا يكتفي بوجوده ظاهرا كمن قال لعبده: إن لم تدخل الدار اليوم فأنت حر, ثم مضى اليوم فقال العبد: لم أدخل, وقال المولى: دخلت; فالقول قول المولى; لأن عدم الدخول شرط فلا يكفي ثبوته ظاهرا ليزول العتق كذا في المبسوط.
"وهذا" أي كون المستور كالفاسق ثابت بلا خلاف في باب الحديث احتياطا; لأن أمر الدين أهم فلا يكون رواية المستور حجة باتفاق الروايات إنما اختلاف الرواية في إخباره عن نجاسة الماء لا غير "إلا في الصدر الأول" أي في القرون الثلاثة; فإن رواية المستور منهم مقبولة لكون العدالة أصلا فيهم على ما قلنا في المجهول بينهم في الباب المتقدم. وذكر شمس الأئمة رحمه الله ما يدل على أن الخلاف ثابت في الحديث أيضا; فإنه قال: وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله أن المستور بمنزلة العدل في رواية الأخبار لثبوت العدالة ظاهرا إلا أن ما ذكره محمد في الاستحسان أصح; لأن الفسق في أهل الزمان غالب فلا يعتمد رواية المستور ما لم يثبت عدالته كما لا يعتمد شهادته في القضاء قبل أن يظهر عدالته وهذا لحديث عباد بن كثير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحدثوا عمن لا تعملون بشهادته" ولأن في رواية الحديث معنى الإلزام فلا بد من أن يعتمد فيه دليل ملزم, وهو العدالة التي تظهر بالتفحص عن أحوال الراوي ولا اعتبار بظاهر العدالة وإن بين في قوله عليه السلام "المسلمون عدول" الاكتفاء بها; لأنه معارض بقوله عليه السلام يفشو الكذب ولا يلزم على ما ذكرنا رواية العبد; فإنها تقبل مع أن شهادته لا تقبل; لأن في الحديث إشارة إلى عدم قبول رواية من كانت له شهادة ثم لا تقبل كالفاسق والعبد لا شهادة له أصلا فلا يتناوله الحديث.
قوله "فليس بحجة في الدين أصلا" زعم بعض المشايخ أن في رواية الفاسق يجب تحكيم الرأي فإن كان أكبر رأي السامع أنه صادق وجب عليه أن يعمل به استدلالا بما إذا أخبر بنجاسة الماء أو طهارته أو بحل الطعام وحرمته; فإنه يجب تحكيم الرأي فيه مع أنه أمر ديني فكذلك هاهنا فرد الشيخ ذلك, وقال خبره في الدين أي نقله للحديث غير مقبول أصلا سواء وقع في قلب السامع صدقه أم لا; لأن الخبر إنما يصير حجة بترجح الصدق فيه وبالفسق يزول ترجحه بل يترجح جانب الكذب فيه; لأنه لما لم يمنعه العقل والدين عن ارتكاب محظور الدين لا يمنعانه عن الكذب أيضا فلا يكون خبره حجة بخلاف أخباره عن حرمة طعام أو حله أو نجاسة ماء أو طهارته حيث يقبل إذا تأيد بأكبر الرأي; "لأن ذلك"(3/30)
التحري في خبره فأما هنا فلا ضرورة في المصير إلى روايته وفي العدول كثرة وبهم غنية إلا أن الضرورة في حل الطعام والشراب غير لازمة; لأن العمل بالأصل ممكن, وهو أن الماء طاهر في الأصل فلم يجعل الفسق هدرا بخلاف خبر الفاسق في الهدايا وجه والوكالات ونحوها; لأن الضرورة ثمة لازمة وفيه آخر نذكره في
ـــــــ
أي الحرمة والحل والنجاسة والطهارة أمر خاص بالنسبة إلى رواية الحديث ربما يتعذر الوقوف عليه من جهة غيره لحصول العلم له بذلك دون غيره فتقبل إذا انضم إليه التحري أي تحكيم الرأي للضرورة "فأما هاهنا" أي في رواية الحديث فلا ضرورة في المصير إلى قبول روايته; لأن في العدول الذين تلقوا نقل الأخبار كثرة تمكن الوقوف على معرفة الحديث بالسماع منهم فلا حاجة إلى الاعتماد على خبر الفاسق, وذكر في المبسوط بعد بيان مسألة إخبار الفاسق بنجاسة الماء ثم بين أي محمد في الفاسق والمستور أنه يحكم رأيه فإن كان أكبر رأيه أنه صادق يتيمم ولا يتوضأ به; لأن أكبر الرأي فيما بني على الاحتياط كاليقين, وإن أراقه ثم تيمم كان أحوط وإن كان أكبر رأيه أنه كاذب توضأ به ولا يتيمم.
"فإن قيل" كان ينبغي أن يتيمم احتياطا لمعنى التعارض في خبر الفاسق كما في سؤر الحمار يجمع بين التوضؤ والتيمم احتياطا لتعارض الأدلة في سؤر الحمار قلنا حكم التوقف في خبر الفاسق معلوم بالنص وفي الأمر بالتيمم هاهنا عمل بخبره من وجه فكان بخلاف النص, وإذا ثبت التوقف في خبره بقي أصل الطهارة للماء فلا حاجة إلى ضم التيمم إليه, واستدل بحديث عمر رضي الله عنه حين ورد ماء حياض مع عمرو بن العاص فقال عمرو لرجل من أهل الماء أخبرنا عن السباع أترد ماءكم هذا فقال عمر رضي الله عنه لا تخبرنا عن شيء فلولا أن خبره عد خيرا ما نهاه عن ذلك وعمرو بن العاص بالسؤال قصد الأخذ بالاحتياط, وقد كرهه عمر رضي الله عنهما لوجود دليل الطهارة باعتبار الأصل فعرفنا أنه ما بقي هذا الدليل لا حاجة إلى احتياط آخر, ثم فرق الشيخ بين قبول خبره في حرمة الطعام ونجاسة الماء وبين قبوله في الهدايا والوكالات والمضاربات وسائر المعاملات التي تنفك عن معنى الإلزام حيث يجب التحري في القسم الأول ولا يجب في القسم الثاني بل يجوز الاعتماد على خبره مطلقا من غير تحكيم الرأي فقال إلا أن الضرورة أي لكن الضرورة غير لازمة إلى آخره, وكان من حق الكلام; لأن العمل بالأصل ممكن, وهو أن الطعام والشراب حلال في الأصل لتقدم ذكر حل الطعام والشراب دون نجاسة الماء وطهارته لكن المسألتين لما اتفقتا في الحكم قال الماء طاهر في الأصل فيفهم منه أن الأصل في الطعام والشراب الحل أيضا فلم يجعل الفسق هدرا أي باطلا ساقطا بل وجب ضم التحري إليه(3/31)
باب محل الخبر إن شاء الله تعالى. وأما الصبي والمعتوه فقد ذكر محمد رحمه الله في كتاب الاستحسان بعد ذكر العدل والفاسق والكافر, وكذلك الصبي والمعتوه إذا عقلا ما يقولان.
فقال بعضهم هما مثل العدل المسلم البالغ والصحيح أنهما مثل الكافر لا يقوم حجة بخبرهما ولا يفوض أمر الدين إليهما لما قلنا: إن خبرهما لا
ـــــــ
بخلاف خبر الفاسق في الهدايا والوكالات بأن قال إن فلانا أهدى إليك هذا الشيء أو قال إن فلانا وكلك ببيع هذا الشيء أو وكلني به, ونحوها من المعاملات حيث يجوز الاعتماد على خبره من غير وجوب ضم التحري إليه; "لأن الضرورة ثمه" بسكون الهاء لازمة; لأن كل من يبعث هدية لا يجد عدلا يبعثها على يديه وكذا في الوكالة وليس فيها أصل يمكن العمل به فجعل الفسق هدرا وجوز قبول قوله مطلقا كخبر العدل. "وفيه" أي في الفرق وجه آخر, وهو أن الحل والحرمة فيه معنى الإلزام من وجه فلم يجعل خبر الفاسق فيهما معتمدا عليه على الإطلاق حتى ينضم إليه أكبر الرأي وما ذكرنا من المعاملات ينفك عن معنى الإلزام فجاز الاعتماد فيها على خبره مطلقا.
قوله: "قال بعضهم" كذا إنما نشأ الخلاف من تعدد المعطوف عليه; فإنه سبق ذكر العدل والفاسق والكافر فذكر محمد في المبسوط, وإذا حضر المسافر الصلاة ولم يجد ماء إلا في إناء أخبره رجل أنه قذر, وهو عنده مسلم مرضي لم يتوضأ به وإن كان فاسقا فله أن يتوضأ به وكذلك إن كان مستورا فإن كان الذي أخبره بنجاسة الماء رجلا من أهل الذمة لم يقبل قوله وكذلك الصبي والمعتوه إذا عقلا ما يقولان فقال بعض أصحابنا مراده بهذا العطف أن الصبي كالبالغ إذا كان مرضيا فجعله عطفا على العدل لا على الكافر بدليل أنه قيده بقوله إذا عقلا ما يقولان ولو كان عطفا على الكافر لم يكن لهذا التقييد فائدة; لأنهما إذا لم يعقلا ما يقولان لم يقبل خبرهما أيضا, وهذا لما ذكرنا أن اعتبار الحرية والذكورة لما سقط في هذا الباب سقط اعتبار البلوغ كما في المعاملات, والدليل عليه أن أهل قباء قبلوا خبر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لما أخبرهم بتحويل القبلة إلى الكعبة حتى استداروا كهيئتهم وكان ابن عمر حينئذ صغيرا; فإنه عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر أو أحد, وهو ابن أربع عشرة سنة فرده لصغره وتحويل القبلة كان قبل بدر بشهرين. وقال بعضهم مراده العطف على الفاسق حتى وجب ضم التحري إلى خبره كما في خبر الفاسق والمستور "والصحيح" أن مراده العطف على الكافر; لأنه أقرب إليه فلا يجعل عطفا على الأبعد من غير ضرورة "لما قلنا" يعني في أول باب تفسير الشروط "أن خبرهما لا يصلح(3/32)
يصلح ملزما بحال; لأن الولاية المتعدية فرع للولاية القائمة وليس لهما ولاية ملزمة في حق أنفسهما وإنما هي مجوزة فكيف يثبت متعدية ملزمة وإنما. قلنا: إنها متعدية ملزمة; لأن ما يخبر عنه الصبي من أمور الدين لا يلزمه; لأنه غير مخاطب فيصير غيره مقصودا بخبره فيصير من باب الإلزام بمنزلة خبر الكافر بخلاف العبد لما قلنا والمعتوه مثل الصبي نص على ذلك محمد في غير موضع من المبسوط ألا ترى أن الصحابة تحملوا في صغرهم ونقلوا في كبرهم, وقد قال محمد في الكافر يخبر بنجاسة الماء: إنه لا يعمل بخبره ويتوضأ
ـــــــ
ملزما بحال" يعني سواء انضم إليه التحري أولم ينضم إليه; "لأن الولاية المتعدية فرع للولاية القائمة" أي ثبوت الولاية على الغير فرع لثبوتها على نفسه إذ الأصل في الولايات ولاية المرء على نفسه ثم تتعدى إلى غيره عند وجود شرط التعدي; لأن الولاية قدرة ومن لا يقدر في نفسه لا يمكنه إثباتها لغيره, "وليس لهما" أي للصبي والمعتوه ولاية ملزمة على أنفسهما بالإجماع "وإنما هي مجوزة" يعني تصرفهما جائز الثبوت حتى لو انضم إليه رأي الولي يصير ملزما ولو كان ملزما ابتداء لم يحتج إلى انضمام رأيه إليه. "وإنما قلنا: إنها متعدية" يعني لو قبلنا خبرهما صارت ولايتهما متعدية إلى الغير ملزمة عليه بمنزلة خبر الكافر; فإنه لما لم يلزمه موجب ما أخبر به لكونه غير مخاطب بالشرائع كان خبره ملزما على الغير ابتداء والكافر ليس من أهل الإلزام, فكذا الصبي "بخلاف العبد لما قلنا" أي في آخر باب تفسير الشروط, وهو قوله: "والمرأة والعبد من أهل الرواية" إلى آخره وذلك لأنه عاقل بالغ مخاطب مساو للحر في أمور الدين فلا يكون الغير مقصودا بخبره بل يلزمه أولا ثم يتعدى إلى الغير كما في الشهادة بهلال رمضان فلا يكون هذا من باب الولاية وبالرق إن خرج من أهلية الولاية لم يخرج من أهلية الالتزام وما فيه التزام يساوي العبد الحر فيه لكونه مخاطبا وقوله, ألا ترى متصل بقوله لا يقوم الحجة بخبرهما أوبقوله فكيف يثبت متعدية ملزمة, ومعناه أن الصحابة أي بعضهم تحملوا الأخبار عن الرسول صلى الله عليه وسلم في صغرهم ونقلوها في كبرهم دون صغرهم, ولو كانت رواية الصغار حجة لنقلوها في صغرهم كما نقلوها في كبرهم, وقد بيناه من قبل, والجواب عن حديث أهل قباء أنه قد روي أيضا أن الذي أتاهم أنس رضي الله عنه فيحمل على أنهما جاءا جميعا وأنهم اعتمدوا على رواية البالغ, وهو أنس دون عبد الله بن عمر رضي الله عنه أو كان ابن عمر بالغا يومئذ; فإنه ابن أربع عشرة سنة يجوز أن يكون بالغا إلا أن النبي عليه السلام رده في القتال لضعف بنيته يومئذ لا لأنه كان صغيرا كذا ذكر شمس الأئمة رحمه الله.
قوله "وقال محمد" إلى آخره فرق محمد رحمه الله بين خبر الفاسق والكافر فيما(3/33)
به فإن تيمم وأراق الماء فهو أحب إلي, وفي الفاسق جعل الاحتياط أصلا ويجب أن يكون كذلك في رواية الحديث فيما يستحب من الاحتياط وكذلك رواية الصبي فيه يجب أن يكون مثل رواية الكافر دون الفاسق المسلم, ألا ترى أن الفاسق شاهد عندنا بخلاف الصبي والكافر غير شاهد على المسلم أصلا فصار الصبي المسلم والكافر البالغ في أمور الدين سواء والفاسق فوقهما حتى أنا
ـــــــ
يرجع إلى الاحتياط فأوجب الاحتياط, وهو الاحتراز عن النجاسة في خبر الفاسق ولم يوجبه في خبر الكافر فقال في الكافر إذا أخبر بنجاسة الماء لا يعمل المخبر عنه بخبره وإن وقع في قلبه صدقه بل يتوضأ بذلك الماء ولكن إن أراق الماء إذا وقع في قلبه صدقه ثم تيمم بعد كان ذلك أحب إلي, وإن تيمم من غير إراقة وصلى لا تجوز صلاته والفاسق إذ أخبر بنجاسة الماء ووقع في قلبه صدقه فالأولى أن يريق الماء ثم يتيمم فإن تيمم ولم يرق الماء جازت صلاته ولو توضأ به وصلى من غير أن يتيمم لا يجوز صلاته فأوجب الاحتراز عن النجاسة في مسألة الفاسق حيث جوز التيمم من غير إراقة ولم يجوز التوضؤ به, وهو معنى قوله جعل الاحتياط أصلا أي بنى الحكم, وهو الجواز وعدم الجواز على الاحتياط ولم يجعل كذلك في مسألة الكافر حيث لم يجوز التيمم بدون الإراقة وجوز التوضؤ به, وقيل: معناه أنه جعل الاحتياط أي التحري أصلا في خبر الفاسق; فإن التحري هو الاحتياط حيث قال يحكم السامع رأيه فلم يجعل خبره حجة ولا هدرا بل جعل التحري فيه أصلا ولم يجعل الاحتياط أي التحري أصلا في خبر الكافر حيث لم يعمل بخبره أصلا وذكر الشيخ في بعض تصانيفه, وقد دلت على هذه التقاسيم مسائل ذكرها محمد بن الحسن رحمه الله قال أخبره عدل بنجاسة الماء; فإنه يجب عليه التيمم ولا يجب الإراقة; لأن العمل بخبره واجب وفي خبر الفاسق يجب التيمم لكن الإراقة أفضل; لأن خبره يوجب العمل بعد التثبت لكن مع شبهة فلقيام شبهة عدم الوجوب أي وجوب العمل أمرناه بالإراقة ولوجود أصل الوجوب أوجبنا التيمم, وفي خبر الكافر لا يجب التيمم لكن أحب إلي أن يريق الماء; لأن العمل بخبره وإن لم يجب; لأنه لا ولاية له على المسلم ولا عدالة له في حق المسلمين لكن شبهة وجوب العمل ثابتة بشهادته; لأنه ذو ولاية على جنسه وفي خبر الصبي اختلاف المشايخ وينبغي أن لا يجب بخبره شبهة وجوب العمل.
قوله "ويجب أن يكون كذلك" أي يجب أن يكون شأن الكافر في رواية الحديث كشأنه في الإخبار عن نجاسة الماء فيما يستحب من الاحتياط أي من الأخذ به يعني لا يقبل خبره في الدين ولا يكون حجة كما لم يقبل في نجاسة الماء إلا أن الاحتياط لو كان في العمل به يستحب الأخذ به من غير وجوب كما استحب الإراقة ثم التيمم هناك ويجوز(3/34)
نقول في خبره بنجاسة الماء إذا وقع في قلبه أنه صادق يتيمم من غير إراقة الماء فإن أراق الماء فهو أحوط للتيمم, وأما في خبر الكافر إذا وقع في قلب السامع صدقه بنجاسة الماء توضأ به ولم يتيمم فإن أراق ثم تيمم فهو أفضل, وكذلك الصبي والمعتوه; لأن الذي يلي هذا العطف في كتاب الاستحسان الكافر وفي رواية الحديث يجب أن يكون كذلك في حكم الاحتياط خاصة, وأما
ـــــــ
أن يكون معناه ويجب أن يكون الفرق ثابتا بين خبر الكافر والفاسق في رواية الحديث فيما يستحب من الاحتياط أيضا وإن لم يكن خبر خبرهما حجة كثبوته في إخبارهما عن نجاسة الماء فإذا روى الكافر حديثا لا يكون حجة أصلا ولكن لو كان الاحتياط في الأخذ به يكون الاستحباب في العمل به فوق الاستحباب في العمل بخبر الكافر وعلى هذا الوجه يدل سياق الكلام, "فإن أراق الماء فهو أحوط للتيمم" أي الإراقة ثم التيمم أحوط من التيمم بلا إراقة لاحتمال كون الماء طاهرا وكون المخبر كاذبا فيكون الاحتياط في الإراقة ليصير عادما للماء فيحصل الطهارة بيقين, "فإن أراقه ثم تيمم فهو أفضل" أي الإراقة ثم التيمم أفضل من التوضؤ به لاحتمال أن يكون صادقا إذ الكفر لا ينافي الصدق فلا يحصل الطهارة بالتوضؤ به ويتنجس الأعضاء فكان الاحتياط في إراقته ثم التيمم بعده ليحصل الطهارة والاحتراز عن النجاسة بيقين. وقوله إذا وقع في قلبه صدقه يتوضأ به في مسألة الكافر ليس بمذكور على جهة الشرط للتوضؤ كما هو مذكور على جهة الشرط لصحة التيمم في مسألة الفاسق; فإنه لو لم يقع في قلبه صدق الكافر في إخباره يتوضأ بالطريق الأولى ولكن الغرض من ذكره تحقيق الفرق بين خبره وخبر الفاسق إذ الفرق بينهما يظهر في هذه الحالة فأما إذا لم يقع الصدق في قلب السامع فالكافر والفاسق في ذلك سواء.
قوله: "وكذلك الصبي والمعتوه" أي وكالكافر الصبي والمعتوه في حكم الإخبار عن نجاسة الماء وطهارته لما ذكر وفي رواية الحديث يجب أن يكون كذلك أي يكون الصبي أو كل واحد منها كالكافر أيضا حتى لا يقبل خبره لما مر. وقوله: "حكم الاحتياط خاصة" يجوز أن يكون معناه أن الاحتياط في رد خبر الصبي والمعتوه كما أن الاحتياط في رد خبر الكافر لتحقق التهمة في خبر هؤلاء فسوينا بينهما وبين الكافر في هذا الحكم الذي كان الاحتياط في القول به خاصة دون سائر الأحكام فرقا بينه وبين المسلم فيها ويجوز أن يكون معناه وفي رواية الحديث يجب أن يكون الصبي كالكافر فلا يكون خبره حجة خصوصا في حكم الاحتياط; فإن العمل بالاحتياط في خبر الكافر مستحب مع كفره واتهامه بعداوة المسلمين فكان العمل بالاحتياط في خبر الصبي المسلم أولى بالاستحباب أو خصوصا في حكم الاحتياط; فإن العمل بالاحتياط في خبر الكافر مستحب لا واجب مع(3/35)
المغفل الشديد الغفلة, وهو مثل الصبي والمعتوه فأما تهمة الغفلة فليس بشيء ولا يخلو عامة البشر عن ضرب غفلة إذا كان عامة حاله التيقظ, وأما المساهل; فإنما نعني به المجازف الذي لا يبالي من السهو والخطأ والتزوير وهذا مثل المغفل إذا اعتاد ذلك فقد يكون العادة للزم من الخلقة. وأما صاحب الهوى; فإن أصحابنا رحمهم الله عملوا بشهادتهم إلا الخطابية; لأن صاحب الهوى وقع فيه لتعمقه وذلك يصده عن الكذب فلم يصلح شبهة وتهمة إلا من
ـــــــ
كمال عقله وتدينه بحرمة الكذب فكان الاستحباب وانتفاء الوجوب في خبر الصبي أولى لنقصان عقله وعدم احترازه عن الكذب لا منه من العقاب, وإنما قال وجب أن يكون كذا هاهنا وفيما تقدم; لأن الرواية غير محفوظة عن السلف في نقل هؤلاء الحديث.
"وأما المغفل الشديد الغفلة" أي قويها وذلك بأن غلب طبعه الغفلة والنسيان في عامة الأحوال فمثل الصبي والمعتوه في أن خبره لا يكون حجة أصلا كخبرهما; لأن معنى السهو والغلط يترجح في الرواية باعتبار غلبة الغفلة كما يترجح جانب الكذب باعتبار الفسق, ولا يقال ينبغي أن يقبل خبره إذا كان عدلا; لأن العدل لا يروى إلا عن تيقظ وضبط ولا يجوز الرواية عن غفلة; لأنا نقول أن من لا يضبط قد يظن أنه قد ضبط ومن سها يظن أنه ما سها فيروي على حسب ظنه, وكذا الحكم فيمن يساوي ذكره وغفلته إلا عند قاضي القضاة من المعتزلة; فإنه يقبل خبره عنده; لأن الأصل في الخبر الصحة وكونه حجة إلا بعارض فإذا لم يترجح غفلة الراوي على تيقظه وذكره بقي حجة كما كان ولم يترك بالاحتمال كما إذا شك في الحدث بعد الطهارة. ونحن نقول الخبر لا يصير حجة إلا إذا تكاملت شرائطه وذلك عند ترجح ذكر الراوي على غفلته فقبل ترجحه لا يكون حجة بخلاف الشك في الطهارة; فإن سبق الطهارة يرجحها حتى لو انفرد الشك عن سبق الطهارة لم يحكم بها "فأما تهمة الغفلة" أي وهمها بأن يوهم السامع أن الراوي روى عن غفلة; لأنه قد يغفل في بعض الأمور فيرد خبره فليس بشيء; لأن الغالب إذا كان عليه التيقظ وجودة الضبط فهو بمنزلة من لا غفلة به في الرواية والشهادة فيقبل خبره ما لم يعلم أنه سها فيه والمساهل المجازف الذي لا يبالي من السهو والغلط ولا يشتغل فيه بالتدارك بعد أن يعلم به, وقيل المساهل هو الذي لا يصرف اهتمامه إلى أمور الدين ولا يحتاط في موضع الاحتياط, والتزوير تزيين الكذب وزورت الشيء حسنته وقومته كذا في الصحاح.
قوله "فأما صاحب الهوى" الهوى ميلان النفس إلى ما تستلذ به من الشهوات من غير داعية الشرع واحترز به عما أبيح في الشرع من الشهوات وذلك; لأن الهوى مما يذم(3/36)
يتدين بتصديق المدعي إذا كان ينتحل بنحلته فيتهم بالباطل والزور مثل
ـــــــ
عليه الشخص ويهان به ونفس الالتذاذ بالشهوات قد كان موجودا في الأنبياء عليهم السلام مع براءتهم عن الهوى وعصمتهم عنه فعلم أنه لا بد من هذا القيد, واعلم أن ممن اتبع الهوى من يجب إكفاره كغلاة المجسمة والروافض وغيرهم ويسمى الكافر المتأول, ومنهم من لا يجب إكفاره ويسمى الفاسق المتأول.
واختلف في القسم الأول فذهب جماعة من الأصوليين إلى أن شهادة من كفر في هواه مقبولة وكذا روايته; لأنه إذا لم يخرج عن أهل القبلة وكان متحرجا معظما للدين غير عالم بكفره يحصل ظن الصدق في خبره فيقبل كخبر المسلم العدل, وذهب أكثرهم إلى ردهما; لأن الكافر ليس بأهل للشهادة ولا للرواية لما بينا وكونه متأولا ممتنعا عن المعصية غير عالم بكفره لا نجعله أهلا لهما; فإن كل كافر متأول إذ اليهود لا يعلمون بكفرهم وتورعه عن الكذب كتورع النصراني فلا يلتفت إليه بل هذا المنصب لا يستفاد إلا بالإسلام كذا ذكر الغزالي في المستصفى.
واختلف في القسم الثاني أيضا فذهب القاضي أبو بكر الباقلاني ومن تابعه إلى رد شهادته وروايته جميعا; لأن الفسق في العمل مانع من القبول فالفسق في الاعتقاد أولى; لأنه أقوى. أقصى ما في الباب أنه جاهل بفسقه لكن جهله بفسقه فسق آخر انضم إلى فسق فكان أولى بالمنع ولم يكن عذرا كجهله بكفره وبرقها, وذهب الجمهور إلى أن قبول شهادة الفاسق إنما لا يقبل لتهمة الكذب; فإنه لما تعاطى محظور دينه مع علمه بحرمته دل ذلك على جرأته على الكذب فيقدح في الظن بصدقه فأما الفسق من حيث الاعتقاد ولا يدل عليه; لأنه إنما وقع فيه لغلوه في الاحتراز عن المحظور حيث قال بكفر من ارتكب الذنب أو بخروجه من الإيمان به فهذا الاعتقاد يحمل على التحرز عن الكذب أشد الاحتراز لا على الإقدام عليه فكان هذا الفسق نظير تناول متروك التسمية عمدا أو شرب المثلث على اعتقاد الإباحة فلا يصير به مردود الشهادة "إلا الخطابية" وهم قوم من الروافض نسبوا إلى أبي الخطاب محمد بن أبي وهب الأجدع فإن شهادتهم لا تقبل; لأنهم يتدينون بتصديق المدعي إذا حلف عندهم أنه محق ويقولون: المسلم لا يحلف كاذبا فاعتقاده هذا تمكن تهمة الكذب في شهادته كذا في المبسوط, وذكر في التهذيب لمحيي السنة وتقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية; فإنهم يرون الكذب كفرا فربما يسمع ممن يوافقه في الاعتقاد أن لي على فلان كذا فيشهد على موافقة قوله لما يرى أنه لا يخبر الكذب إلا أن يقول: أقر فلان لفلان بكذا أو رأيت فلانا أقرض فلانا أو قتل فلانا فيقبل, وهو معنى قوله إلا من تدين بتصديق المدعي أي اعتقد ذلك "إذا كان ينتحل بنحلته" أو ينتسب إلى ملته يقال: فلان ينتحل مذهب كذا أي ينتسب إليه ويتدين به والنحلة الملة والاستثناء(3/37)
الخطابية وكذلك من قال بالإلهام: إنه حجة يجب أن لا تجوز شهادته أيضا, وأما في باب السنن; فإن المذهب المختار عندنا أن لا يقبل رواية من انتحل الهوى والبدعة ودعا الناس إليه على هذا أئمة الفقه والحديث كلهم; لأن المحاجة والدعوة إلى الهوى سبب داع إلى التقول فلا يؤتمن على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس كذلك الشهادة في حقوق الناس; لأن ذلك لا يدعو إلى
ـــــــ
متعلق بمحذوف يعني فلم يصلح تعمقه شبهة وتهمة فيكون صاحب الهوى مقبول الشهادة إلا الذي تدين بكذا, "وكذلك" أي وكمن تدين بتصديق المدعي "من قال بالإلهام" أي من اعتقد أن الإلهام حجة موجبة للعلم لا يقبل شهادته أيضا; لأن اعتقاده ذلك تمكن تهمة الكذب فربما أقدم على أداء الشهادة بهذا الطريق, والإلهام ما حرك القلب بعلم يدعوك إلى العمل به من غير استدلال بدليل ولا نظر في حجة.
قوله "فأما في باب السنن" إلى آخره هذا الذي ذكرنا حكم الشهادة فأما رواية هذا القسم, وهو الفاسق المتأول فمقبولة على الإطلاق عند بعض من قبل شهادتهم لما ذكرنا من انتفاء تهمة الكذب; فإن من احترز عن الكذب على غير الرسول كان أشد تحرزا من الكذب عليه; لأنه أعظم جناية فتقبل روايته كما تقبل شهادته وعند بعضهم تقبل إذا لم يكن داعيا للناس إلى هواه ولا يقبل إذا كان كذلك بخلاف الشهادة حيث يقبل على كل حال لما ذكر من الفرق في الكتاب, وهو مذهب عامة أهل الفقه والحديث; فإن الإمام الحافظ أبا عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري1 من أئمة الحديث ذكر في كتاب معرفة الإكليل أن روايات المبتدعة وأهل الأهواء مقبولة عند أكثر أهل الحديث إذا كانوا فيها صادقين فقد حدث محمد بن إسماعيل البخاري في الجامع الصحيح عن عباد بن يعقوب الرواجني, وكان الإمام أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة2 يقول: حدثنا الصدق في روايته المتهم في دينه عباد بن يعقوب3, وقد احتج البخاري أيضا في الصحيح بمحمد بن زياد الألهاني وجرير بن عثمان الرحبي, وقد اشتهر عنهما النصب واتفق البخاري ومسلم على الاحتجاج بأبي معاوية محمد بن خازم وعبيد الله بن موسى وقد اشتهر عنهما الغلو
ـــــــ
1 هو المعروف بالحاكم النيسابوري، ولد سنة 404هـ. أنظر وفيات الأعيان 4/280-281.
2 هو الإمام أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة بن صالح السلمي (223-311هـ، أنظر البداية والنهاية 11/149.
3 هو أبو سعيد عباد بن يعقوب الرواجني البخاري.(3/38)
التزوير في ذلك فلم ترد شهادته فإذا صح هذا كان صاحب الهوى بمنزلة الفاسق في باب السنن والأحاديث.
وأما المرتبة الثالثة:
ـــــــ
فأما مالك بن أنس فإنه يقول: لا يوجد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه, ولا من كذاب يكذب على رسول الله عليه السلام. وذكر أبو الحسين البصري أيضا في "المعتمد" الفسق في الاعتقاد إذا كان صاحبه متحرجا في أفعاله عند جل الفقهاء لا يمنع من قبول الحديث لا من تقدم قبل بعضهم حديث بعض بعد الفرقة وقبل التابعون رواية الفريقين, قال. وكذا الكفر بتأويل إذا لم يخرج من أهل القبلة وكان متحرجا; لأن الظن بصدقه غير زائل وكثير من أصحاب الحديث قبلوا رواية سلفنا كالحسن وقتادة وعمرو بن عبيد1 مع علمهم بمذهبهم وإكفارهم من يقول بقولهم, وقد نصبوا على ذلك فأما من يظهر عنه العناد في مذهبه مع ظهوره عنده; فإنه لا يقبل حديثه كما لا يقبل حديث الفاسق بأفعال الجوارح. وذكر أبو اليسر أيضا المبتدع إن كان ممن يكفر لا يقبل خبره وإن كان ممن لا يكفر فإن كان ممن يعتقد وضع الأحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقبل خبره أيضا لتوهم الكذب كالكرامية; فإنهم يعتقدون جواز وضع الحديث للترغيب والترهيب وإن لم يكن ممن يعتقد الوضع وكان عدلا يقبل خبره لرجحان صدقه على كذبه فثبت بما ذكرنا أن الصحيح في رواية المبتدع هو التفصيل كما أشار إليه الشيخ والله أعلم.
قوله "وأما المرتبة الثالثة" أي القسم الثالث من الأقسام المذكورة في أول باب أقسام السنة.
ـــــــ
1 أبو عثمان عمرو بن عبيد توفي سنة 144هـ. أنظر وفيات الأعيان 2/101-102.(3/39)
"باب بيان محل الخبر"
وهو الذي جعل الخبر فيه حجة وذلك خمسة أنواع ما يخلص حقا لله تعالى من شرائعه مما ليس بعقوبة والثاني ما هو عقوبة من حقوقه والثالث من حقوق العباد ما فيه إلزام محض, والرابع من حقوق العباد ما ليس فيه إلزام, والخامس من حقوق العباد ما فيه إلزام من وجه دون وجه, فأما الأول فمثل عامة
ـــــــ
"باب محل الخبر"
أي المحل الذي يقبل فيه خبر الواحد وكان يجب أن يقال فباب بالفاء للزومها في جواب أما لكن المشايخ قد تركوها كثيرا في كلامهم نظرا منهم إلى حصول المقصود, وهو فهم المعنى ثم خبر الواحد لما لم يفد اليقين لا يكون حجة فيما يرجع إلى الاعتقاد; لأنه مبني على اليقين وإنما كان حجة فيما قصد فيه العمل فقسم الشيخ ذلك على ما ذكر في الكتاب.
قوله "فمثل عامة شرائع العبادات" أي مثل الشرائع التي هي من فروع الدين لا من أصوله سواء كانت ابتداء عبادة أو بناء عليها; فإن خبر الواحد فيها حجة عند الجمهور وزعم بعض العلماء أنه لا يقبل فيما هو ابتداء عبادة ويقبل فيما هو فرع عليها فلا يقبل خبر الواحد مثلا في ابتداء نصاب الفصلان والعجاجيل; لأنه أصل وابتداء عبادة ويقبل في النصاب الزائد على خمس أواق; لأنه فرع وبناء على الأول, ووجهه أن أصل العبادة من أركان الدين وقواعده فلا يجوز إثباته بدليل فيه شبهة فأما ما هو بناء عليه فيجوز أن يثبت بالقياس, ووجه ما ذهب إليه العامة أن المقصود من العبادة المبتدأة لما كان هو العمل يجوز أن يثبت بالدليل الموجب للعمل كما يثبت ما هو مبني عليها به إذ الدلائل الموجبة للعمل بخبر الواحد لا يفصل بين ما هو ابتداء عبادة وبين ما هو فرع عليها والصحابة رضي الله عنهم كانوا يتقبلون أخبار الآحاد في الجميع من غير فصل, "وما شاكلها" أي من الشرائع التي ليست بعبادة كالوضوء أو معنى العبادة فيها تابع كالعشر أو ليس بخالص كصدقة الفطر والكفارات "وخبر الواحد فيها حجة"; لأن العبادة يجب مع الشبهات فيثبت(3/40)
شرائع العبادات وما شاكلها وخبر الواحد فيها حجة على ما قلنا من شرائطه.
وأما في القسم الثاني; فإن أبا يوسف قال فيما روي عنه أنه يجوز إثبات
ـــــــ
بخبر الواحد على ما قلنا أي بشرط رعاية ما قلنا من شرائطه من العدالة وعدم مخالفته الكتاب إلى آخر ما ذكرنا من غير اشتراط شيء آخر.
وشرط بعضهم العدد أيضا فقالوا: لا تقبل فيها إلا رواية العدلين استدلالا بأن "النبي عليه السلام لم يقبل خبر ذي اليدين حتى شهد له غيره1. وأبو بكر رضي الله عنه لم يقبل خبر المغيرة في الجدة حتى شهد له محمد بن مسلمة ولم يعمل عمر بخبر أبي موسى رضي الله عنهما في الاستئذان, وهو قوله سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا استأذن أحدكم على صاحبه ثلاثة فلم يؤذن له فلينصرف" حتى روى معه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه واعتبار بالشهادة بل أولى; لأن الرواية تقتضي شرعا عاما والشهادة شرعا خاصا فإذا لم يقبل قول الواحد في حق الإنسان الواحد فلأن لا يقبل في حق كل الأمة كان أولى. والحق أن العدد ليس بشرط كما ذهب إليه العامة; لأن الأصل في قبول خبر الواحد إجماع الصحابة وأنهم قد عملوا بأخبار الآحاد من غير اشتراط عدد; فإن أبا بكر عمل بخبر رواه بلال رضي الله عنهما وعمل عمر رضي الله عنه بخبر رواه حمل بن مالك في الجنين وبخبر عبد الرحمن رضي الله عنه في المجوس وعمل علي رضي الله عنه بخبر المقداد في المذي وعملوا جميعا بخبر عائشة رضي الله عنها في التقاء الختانين ولأن المعتبر فيه رجحان جانب الصدق لا انتفاء تهمة الكذب وذلك حاصل عند انعدام العدد ووجود الشرائط المذكورة وليس لزيادة العدد تأثير في انتفاء تهمة الكذب واشتراطه في الشهادة بالنص غير معقول المعنى فلا يلحق به غيره, ألا ترى أنه لا يعتبر في الرواية سائر ما يعتبر في الشهادة من الحرية والذكورة والبصر وعدم القرابة فلا يعتبر العدد أيضا. وأما عدم اعتبار النبي عليه السلام خبر ذي اليدين فلقيام التهمة; لأن الحادثة كانت في محفل عظيم والواجب في مثلها الاشتهار. وكذا ما نقل عن الصحابة من اعتبار العدد في بعض الصور فلقيام تهمة فيها أيضا مختصة بها فطلبوا العدد للاحتياط لا للاشتراط كما أن عليا رضي الله عنه كان يحلف الراوي للتهمة ثم عمل بخبر أبي بكر رضي الله عنه بدون التحليف لانتفاء التهمة فثبت أن ذلك كان بطريق الاحتياط ولو كان شرط لروعي في جميع الصور كما في باب الشهادة.
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في السهو، باب رقم 4، ومسلم في المساجد رقم 573، وأبو داود في الصلاة، حديث رقم 1008-1012 والترمذي في الصلاة حديث رقم 399، وابن ماجه في إقامة الصلاة حديث رقم 1214، والإمام أحمد في المسند 2/235.(3/41)
العقوبات بالآحاد, وهو اختيار الجصاص واختيار الكرخي أنه لا يجوز ذلك, وجه القول الأول أن خبر الواحد يفيد من العلم ما يصلح العمل به في إقامة الحدود كما في البينات في مجالس الحكم وكما يجوز إثباتها بدلالة النص, ووجه القول الآخر أن إثبات الحدود بالشبهات لا تجوز فإذا تمكن في الدليل شبهة لم يجز كما لم يجز بالقياس فأما البينة; فإنما صارت حجة بالنص الذي لا شبهة فيه قال الله تعالى: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15], ألا ترى
ـــــــ
قوله "فأما القسم الثاني" إلى آخره, ذهب جمهور العلماء إلى أن إثبات الحدود بأخبار الآحاد جائز, وهكذا نقل عن أبي يوسف رحمه الله في "الأمالي", وهو اختيار أبي بكر الجصاص وأكثر أصحابنا. وذهب أبو الحسن الكرخي إلى أنه لا يجوز وإليه مال المصنف وشمس الأئمة على ما يدل عليه سياق كلامهما, وهو مذهب أبي عبد الله البصري من المتكلمين تمسك الفريق الأول بأن الحدود شرع عملي من الشرائع فجاز إثباتها بخبر الواحد كسائر الشرائع وتحقق الشبهة في خبر الواحد غير مانع عن قبوله في هذا الباب كتحقق الشبهة في البينات لا يمنع من ذلك, وهو معنى قوله خبر الواحد يفيد من العلم ما يصح العمل به, ألا ترى أنها يثبت بدلالة النص; فإن الرجم في حق غير ماعز ثابت بالدلالة مع أن الدلالة دون الصريح; لأنها غير ثابتة بالنظم ولبقاء الاحتمال فيها حتى ترجح الصريح عليها فعرفنا أن مجرد الاحتمال غير معتبر في هذا الباب, واحتج الفريق الثاني بأن مبنى الحدود على الإسقاط بالشبهات بالنص وخبر الواحد فيه شبهة بالاتفاق فلا يجوز إثباتها به كما لا يجوز بالقياس فأما إثباتها بالبينات فجوز بالنص الموجب للعلم على خلاف القياس, وهو قوله تعالى: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15], وقد انعقد الإجماع على ذلك أيضا فكان ثبوتها مضافا إلى النص والإجماع فيجوز ومن رجح القول الأول قال خبر الواحد صار حجة بدلائل موجبة للعلم أيضا من إجماع الصحابة وسائر الدلائل التي مر تقريرها فكان مثل الشهادة من غير فرق فيثبت به الحدود, ألا ترى أن القصاص يثبت بخبر الواحد; فإن علماءنا تمسكوا في قتل المسلم بالذمي بخبر مرسل, وهو ما روي "أن النبي عليه السلام أقاد مسلما بكافر, وقال: "أنا أحق بمن وفى ذمته" . وثبت قتل الجماعة بالواحد بأثر عمر رضي الله عنه, وهو دون خبر الواحد ولما ثبت القصاص به يثبت الحدود أيضا; لأنه لا فرق بينهما من حيث إن كل واحد يسقط بالشبهة.
فإن قيل: فعلى هذا ينبغي أن يثبت بالقياس أيضا; لأن وجوب العمل به ثابت بدلائل موجبة للعلم أيضا على ما يأتي بيانها إن شاء الله عز وجل, وقد اتفق أصحابنا أنها لا تثبت(3/42)
أن أبا حنيفة رحمه الله لم يوجب الحد في اللواطة بالقياس ولا بالخبر الغريب من الآحاد.
وأما القسم الثالث فلا يثبت إلا بلفظ الشهادة والعدد عند الإمكان وقيام الأهلية بالولاية مع سائر شرائط الأخبار لما فيها من محض الإلزام وتوكيدا لها لما
ـــــــ
به قلنا: عدم الثبوت به باعتبار أن العقوبة إنما تجب مقدرة مكيفة بحسب كل جناية ولا مدخل للرأي في معرفة ذلك فامتنع إثباتها به بخلاف خبر الواحد; فإنه كلام صاحب الشرع وإليه إثبات كل حكم فيجب قبوله ثم استوضح القول الأخير وأكده بقوله: ألا ترى أن أبا حنيفة رحمه الله لم يوجب الحد في اللواطة بالقياس يعني على الزنا بجامع أن في كل واحد منهما قضاء الشهوة بسفح الماء في محل مشتهى محرم من كل وجه ولا بالخبر الغريب, وهو قوله عليه السلام "اقتلوا الفاعل والمفعول به" 1 وقوله عليه السلام "ارجموا الأعلى والأسفل" 2 وأجابوا عنه بأنه إنما لم يعمل بهذا الحديث; لأن الصحابة رضي الله عنهم تركوا الاحتجاج به مع اختلافهم في حكم اللواطة فدل على زيافته.
قوله: "وأما القسم الثالث" وهو الذي فيه إلزام محض من حقوق العباد عند الإمكان متصل بقوله والعدد, وهو احتراز عما لا يطلع عليه الرجال مثل البكارة والولادة والعيوب التي بالنساء في مواضع لا يطلع عليها الرجال; فإن شهادة النساء فيها مقبولة من غير اشتراط عدد وإن اشترط لفظ الشهادة.
"وقيام الأهلية بالولاية" يعني يكون أهلا للشهادة بأن يكون له ولاية على نفسه ليتعدى إلى غيره وذلك بالعقل والبلوغ والحرية مع سائر شرائط الأخبار من العدالة والضبط, لما فيها أي في هذه الحقوق من محض الإلزام متعلق بقوله وقيام الأهلية بالولاية ودليل عليه.
قوله: "وتوكيدا لها" عطف عليه من حيث المعنى أي ولتوكيدها كقوله تعالى: {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8], وهو دليل على اشتراط لفظ الشهادة والعدد وبيانه أن هذه الحقوق لما كانت من قبيل الإلزامات لا بد من أن يكون الخبر المثبت لهذه الحقوق ملزما ولا شك أن الإلزام من باب الولاية إذ الولاية تنفذ القول على الغير شاء الغير أو أبى والإلزام بهذه المثابة فإذا لا بد من أن يكون المخبر من أهل الولاية ليصلح خبره للإلزام
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في الحدود حديث رقم 1456، وأبو داود في الحدود حديث رقم 4462، وابن ماجه في الحدود رقم 2561.
2 أخرجه ابن ماجه في الحدود حديث رقم 2562.(3/43)
يخاف فيها من وجوه التزوير والتلبيس صيانة للحقوق المعصومة وذلك مما يطول ذكره والشهادة بهلال الفطر من هذا القسم.
ـــــــ
وذلك بالعقل والبلوغ والحرية فلهذا شرطنا الأهلية بالولاية ولما حصل معنى الإلزام في الخبر بعد وجود شرائطه كان ينبغي أن لا يشترط العدد ولفظ الشهادة فيه كما في القسم الأول فقال إنما شرع اللفظ والعدد على سبيل التوكيد فإن المصير إلى التزوير والاشتغال بالحيل من الناس في هذه الحقوق ظاهر فشرط الشرع العدد ولفظ الشهادة توكيدا للخبر الذي هو حجة وتقليلا للحيل وهما قد يصلحان للتوكيد; فإن العلم في أداء الشهادة شرط, كما قال علي رضي الله عنه: إذا علمت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع. ولفظة الشهادة في إفادة العلم أبلغ; لأنها مأخوذة من الشاهدة التي هي المعاينة وهي أبلغ أسباب العلم فلذلك اختص هذا الخبر به توكيدا, وكذا في زيادة العدد أيضا معنى التوكيد; لأن طمأنينة القلب إلى قول المثنى أظهر وإن لم ينتف احتمال الكذب عنه; لأن الواحد يميل إلى الواحد عادة وقلما يتفق الاثنان على الميل إلى الواحد في حادثة واحدة إليه أشار شمس الأئمة رحمه الله. وذكر القاضي الإمام في التقويم أن اشتراط العدد واللفظ باعتبار أن الشهادة شرعت حجة لفصل منازعة ثابتة كانت بين اثنين بخبرين صحيحين متعارضين من الدعوى والإنكار فلم يقع الفصل لجنسه خبرا بل بنوع خبر ظهرت مزيته في التوكيد على غيره من يمين أو شهادة ثم ضرب احتياط بزيادة العدد.
وذكر الشيخ في بعض مصنفاته أنه لا تأثير لزيادة العدد في زيادة الصدق إلا أن القاضي لما احتاج إلى إثبات أحد الخبرين عند المنازعة وإبطال الآخر بذلك الخبر احتاج إلى زيادة تأكيد فيه فشرط الشرع العدد تأكيدا بخلاف القياس, أو لمعنى معقول وهو أن خبر كل واحد من المتخاصمين صحيح في نفسه محتمل للصدق فإذا أتى المدعي بشاهد فقد تقوى صدقه ولكن صدق المنكر قد تقوى أيضا بشهادة الأصل له, وهو براءة الذمة فاستويا في الصدق فاحتيج إلى الترجيح بشاهد آخر, بخلاف حقوق الله تعالى; لأن المقصود فيها ظهور الصدق فإذا ظهر الصدق بقول الواحد يلزم السامع الانقياد لأمر الله تعالى; لأن المخبر يصير موجبا له فإذا لم يكن فيه إيجاب لا يشترط فيه زيادة تأكيد, ألا ترى أن من روى قول النبي عليه السلام "لا صلاة إلا بقراءة" ليس في صيغة لفظ الراوي إيجاب بل إخبار عن النبي عليه السلام فإذا ثبت صدقه لزم كل سامع موجبه بأمر الله تعالى.
والدليل على صحة الفرق بينهما أن الخبر يلزم كل سامع من غير قضاء والحقوق لا تلزم بقول الشاهد ما لم يقض بها فتبين بهذا أن قوله من محض الإلزام احتراز عن القسم الأول, ويجوز أن يكون احترازا عن القسم الخامس أو عنهما جميعا.(3/44)
وأما القسم الرابع فيثبت بأخبار الآحاد بشرط التمييز دون العدالة وذلك مثل الوكالات والمضاربات والرسالات في الهدايا والإذن في التجارات وما أشبه ذلك وقبل فيها خبر الصبي والكافر, ولهذا قلنا في الفاسق إذا أخبر رجلا أن فلانا وكلك بكذا فوقع في قلبه صدقه حل له العمل به وذلك لوجهين: أحدهما:
ـــــــ
وقوله: "لما يخاف" متعلق بتوكيدا لها, وقوله: "صيانة للحقوق المعصومة" متعلق بمجموع قوله توكيدا لها لما يخاف فيها من كذا يعني المجوز للتأكيد احتمال التزوير والتلبيس والمعنى الموجب له بناء على هذا الاحتمال صيانة الحقوق المعصومة, وهو نظير التوكيد في قولك جاءني زيد نفسه; فإن المعنى المجوز له احتمال مجيء خبره أو كتابه والمعنى الحامل عليه رفع الالتباس عن السامع, وذلك مما يطول ذكره أي مثال هذا القسم كثير والشهادة بهلال الفطر من هذا القسم باعتبار أن الناس ينتفعون بالفطر فكان الفطر من حقوقهم. وكذا يلزمهم الامتناع عن الصوم في وقت الفطر لقوله عليه السلام ألا لا تصوموا الحديث فكان فيه معنى الإلزام أيضا, وإذا كان كذلك يشترط فيه العدد ولفظة الشهادة والحرية وسائر شرائط الشهادة, ولا يلزم عليه ما إذا قبل الإمام شهادة الواحد في هلال رمضان وأمر الناس بالصوم فصاموا ثلاثين يوما ولم يروا الهلال; فإنهم يفطرون على ما روى ابن سماعة عن محمد رحمهما الله; لأن الصوم الفرض لا يكون أكثر من ثلاثين يوما وهذا فطر بشهادة الواحد; لأنا نقول: الفطر غير ثابت بشهادة وإن كانت تفضي إليه بل بحكم الحاكم; فإنه لما حكم بدخول شهر رمضان وأمر الناس بالصوم كان من ضرورته الحكم بانسلاخ رمضان بعد مضي ثلاثين يوما فكان نظير شهادة القابلة على النسب; فإنها تقبل وإن أفضت إلى استحقاق الميراث على أن الحسن قد روى عن أبي حنيفة رحمهما الله أنهم لا يفطرون وإن أكملوا العدة بدون التيقن بانسلاخ رمضان أخذا بالاحتياط في الجانبين كذا في "المبسوط".
قوله "فوقع في قلبه" أي في قلب السامع صدق المخبر "حل للسامع العمل" وهو الاشتغال بالتصرف بهذا الخبر; فإن "رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل هدية الطعام من البر التقي وغيره وكان يشتري من الكافر" والمعاملات بين الناس في الأسواق من لدن رسول الله عليه السلام إلى يومنا هذا ظاهرة لا يخفى على أحد أنهم لا يشترطون العدالة فيمن يعاملونه وأنهم يعتمدون خبر كل مميز يخبرهم بذلك لما في اشتراط العدالة فيه من الحرج البين كذا ذكر شمس الأئمة رحمه الله ثم هذا القيد, وهو قوله فوقع في قلبه صدقه لازم; فإن الشيخ ذكر في شرح المبسوط فيمن علم بجارية لرجل ورأى آخر يبيعها مدعيا للوكالة في ذلك أن القائل إن كان عدلا لا بأس بأن يصدقه على ذلك ويشتريها منه, وإن كان غير(3/45)
عموم الضرورة الداعية إلى سقوط شرط العدالة. والثاني: أن الخبر غير ملزم فلم يشترط شرط الإلزام بخلاف أمور الدين مثل
ـــــــ
ثقة إن كان أكبر رأيه أنه صادق, فكذا الجواب وإن كان أكثر رأيه أنه كاذب يمتنع عنه وإن استوى الوجهان يمتنع أيضا; لأنه لم يثبت ما يقول, وهكذا ذكر شمس الأئمة أيضا فقيل في هذه المسألة إن سأل ذا اليد فقال إني قد اشتريتها منه أو وهبها لي أو تصدق بها علي أو وكلني ببيعها فإن كان ثقة فلا بأس بأن يصدقه على ذلك ويشتريها منه ويطأها وإن كان غير ثقة إلا أن أكبر رأيه أنه فيه صادق فكذلك أيضا; لأن أكبر الرأي إذا انضم إلى خبر الفاسق يتأيد به وإن كان أكبر رأيه أنه كاذب لم ينبغ له أن يعرض لشيء من ذلك; لأن أكبر الرأي فيما لا توقف على حقيقته كاليقين فإن قيل قد ذكر الشيخ في الباب المتقدم أن تحكيم الرأي ليس بلازم في خبر الفاسق في الهدايا والوكالات وما ذكر هاهنا يدل على اشتراطه وهذا يتراءى لي تناقصا فما وجه التقصي عنه. قلنا ذكر محمد رحمه الله في كراهية الجامع الصغير في الرجل رأى جارية الغير في يد آخر يبيعها وأخبرها البائع أن فلانا وكله ببيعها وسعه أن يبتاعها ويطأها ولم يذكر تحكيم الرأي فقال أبو جعفر رحمه الله في كشف الغوامض يجوز أن يكون المذكور في كتاب الاستحسان تفسيرا لهذا فيكون معناه وسعه أن يبتاعها إذا كان أكبر رأيه أنه صادق, ويجوز أن يوفق بين الروايتين; فإن المذكور في كتاب الاستحسان في هذه المسألة وأمثالها فإن كان أكبر رأيه أنه كاذب لم يسع له أن يشتريها منه ولم يقل لا يسعه فيحمل على الاستحباب والمذكور في الجامع وسعه أن يبتاعها ويطأها فيحمل على الرخصة, ويجوز أن يكون في المسألة روايتان هذا حاصل كلامه فنخرج ما ذكر في الكتاب على الوجه الثاني والثالث ظاهر فكان المذكور في الباب المتقدم أصل الجواب والمذكور هاهنا احتياطا واستحبابا أو المذكور هناك على إحدى الروايتين والمذكور هاهنا على الرواية الأخرى فأما تخريجه على الوجه الأول فالمذكور أولا على تقدير عدم تسليم الحمل وإجرائه على الظاهر والمذكور ثانيا على تقدير تسليمه يعني لو أجرى لفظ الجامع على ظاهره ولم يشترط التحكيم فالفرق بين إخبار الفاسق بنجاسة الماء وإخباره بالوكالة والهدية ونحوهما ما ذكر في ذلك الباب ولكن جواب المسألة على الحقيقة ما ذكر هاهنا; فإن الشيخ ذكر في شرح هذه المسألة أن خبر الواحد حجة في المعاملات; لأن في ذلك ضرورة ولذلك جعلنا خبر الفاسق حجة في هذا الباب لكنه يحكم رأيه في الفاسق بخلاف العدل, والله أعلم.
قوله: "وذلك لوجهين" أي ثبوت هذا القسم بخبر كل مميز وسقوط اشتراط العدالة وغيرها فيه لوجهين "أحدهما عموم الضرورة الداعية إلى سقوط شرط العدالة" وسائر(3/46)
طهارة الماء ونجاسته ولهذا الأصل لم تقبل شهادة الواحد بالرضاع في النكاح
ـــــــ
الشرائط سوى التمييز فإن الإنسان قلما يجد العدل الحر البالغ المسلم في كل زمان ومكان ليبعثه إلى وكيله أو غلامه فلو شرط في هذا القسم ما شرط في الأقسام المتقدمة لتعطلت المصالح وفيه حرج عظيم فسقط للضرورة; لأن لها أثرا في التخفيف بخلاف القسم الأول; فإن شرط العدالة فيه لم يسقط لما بينا من عدم تحقق الضرورة فيه إذ في العدول الذين تلقوا نقل الأخبار كثرة, وقد يتمكن السامع من الرجوع إلى دليل آخر يعمل به إذا لم يصح الخبر عنده, وهو القياس الصحيح وبخلاف الإخبار بنجاسة الماء وطهارته; فإن الضرورة فيه ليست مثلها فيما نحن فيه على ما مر تقريره. وذكر في المبسوط في مسألة الإخبار بنجاسة الماء إن كان المخبر فاسقا فله أن يتوضأ بذلك الماء لعدم ترجح الصدق في خبره; فإن اعتبار دينه وإن دل على صدقه في خبره فاعتبار تعاطيه وارتكابه ما يعتقد الحرمة فيه دليل على كذبه في خبره فيتحقق المعارضة بينهما, ولهذا وجب التثبت في خبره والأصل في الماء هو الطهارة فيتمسك به ويتوضأ وهذا بخلاف المعاملات; فإنه يجوز الأخذ فيها بخبر الفاسق لتحقق الضرورة وعدم دليل يتمسك به سوى الخبر.
والثاني وهو الموعود بيانه في ذلك الباب أن الخبر هاهنا أي في هذا القسم غير ملزم أي ليس فيه شيء من معنى الإلزام; لأن العبد والوكيل يباح لهما الإقسام على التصرف من غير أن يلزمهما ذلك فلا يشترط فيه ما شرط للإلزام من العدالة وغيرها إذ العدالة شرطت ليترجح جانب الصدق في الخبر فيصلح أن يكون ملزما. وكذا العدد ولفظ الشهادة شرطا لتأكيد الإلزام فيما تحققت فيه منازعة وخصومة فلا وجه لاشتراطهما عند المسالمة وانقطاع الإلزام ثم الوجه الأول يدل على سقوط اشتراط العدالة إذا كان المبلغ رسولا, فأما إذا كان فضوليا فينبغي أن يكون على الاختلاف المذكور في القسم الخامس لانتفاء الضرورة في حقه إلا أن الوجه الثاني يدل على سقوط اشتراطها في حق الفضولي أيضا بالاتفاق; لأن الاختلاف في حقه في ذلك القسم إنما نشأ من جهة كونه ملزما وهذا القسم خلا عن معنى الإلزام فهذه فائدة الجمع بين الوجهين.
قوله: "بخلاف أمور الدين مثل طهارة الماء ونجاسته" فإن شرط العدالة فيها لم يسقط; لأن فيها معنى الإلزام من وجه باعتبار أن السامع يلزمه الطهارة بالماء إذا أخبر بطهارته ويلزمه التحرز إذا أخبر بنجاسته وليس فيها معنى الإلزام من وجه باعتبار أنه لا يجبر عليه بل يفوض إلى اختياره بخلاف حقوق العباد وكذا الحل والحرمة, وإذا كان كذلك لا بد من اعتبار أحد شرطي الشهادة ليكون ملزما من وجه, وقد سقط اعتبار العدد بالاتفاق فتعين اعتبار العدالة.(3/47)
وفي الملك باليمين وبالحرية لما فيه من إلزام حق العباد, ولهذا لم يقبل خبر الواحد
ـــــــ
قلت وهذا الفرق إنما يستقيم إذا لم يجعل تحكيم الرأي شرطا في قبول خبر الفاسق في المعاملات كذا في الباب المتقدم وحمل ما ذكر هاهنا على الاستحباب, فأما إذا جعل شرطا فيه وحمل المذكور هاهنا على ظاهره فلا لاستواء الموضعين في اشتراط التحكيم وتوقف القبول فيهما عليه فلا يتأتى الفرق.
قوله "ولهذا الأصل" وهو أن ما فيه إلزام محض من حقوق العباد يشترط فيه شرائط الشهادة لم تقبل شهادة الواحد بالرضاع "في النكاح" بأن تزوج امرأة فأخبره مسلم ثقة أو امرأة أنهما ارتضعا من امرأة واحدة "وفي ملك اليمين" بأن اشترى أمة فأخبره عدل أنها أخته من الرضاع وبالحرية أي في ملك اليمين بأن أخبره عدل أنها حر الأبوين بل يشترط شهادة رجلين أو رجل وامرأتين, وقال مالك رحمه الله يقبل في الرضاع قول المرأة الواحدة إذا كانت ثقة. وكذا روي عن عثمان رضي الله عنه لحديث ابن أبي مليكة "أن عقبة بن الحارث تزوج بنت أبي إهاب فجاءت امرأة سوداء وأخبرت أنها أرضعتهما فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأعرض عنه ثم ذكر ثانيا فأعرض عنه ثم ثالثا فقال فارقها إذا فقال إنها سوداء يا رسول الله "قال كيف وقد قيل" وفي بعض الرويات ففرق رسول الله عليه السلام بينهما1. وحجتنا في ذلك حديث عمر رضي الله عنه لا يقبل في الرضاع إلا شهادة رجلين أو رجل وامرأتين ولأن هذه شهادة تقوم لإبطال الملك; لأن الحرمة لا تقبل الفضل عن زوال الملك في باب النكاح فلا يتم الحجة فيه إلا بشاهدين كالعتق والطلاق, وهو معنى قوله لما فيه أي في ثبوت الرضاع والحرية أو في قبول شهادة الواحد من إلزام حق العباد أي إلزام إبطال حق العباد, وحديث عقبة دليلنا; فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرض عنه في المرة الأولى والثانية فلو كانت الحرمة ثابتة لما فعل ذلك ثم لما رأى منه طمأنينة القلب إلى قولها حيث كرر السؤال أمره أن يفارقها احتياطا على وجه التنزه وإلى التنزه أشار بقوله عليه السلام كيف وقد قيل والزيادة المروية غير ثابتة عندنا. وهذا بخلاف الطعام والشراب حيث تثبت الحرمة هناك بخبر الواحد العدل ولم تثبت هاهنا; لأن الحل أو الحرمة فيما سوى البضع مقصود بنفسه لما كان يثبت الحل بدون ملك المحل حتى لو قال لغيره كل طعامي هذا أو توضأ بمائي هذا أو اشربه وسعه أن يفعل ذلك وتثبت الحرمة مع قيام الملك كالعصير إذا تخمر وكمن اشترى لحما فأخبره عدل أنه
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في كتاب العلم باب رقم 26 وأبو داود في الأقضية حديث رقم 3603-3604. والترمذي في الرضاع حديث رقم 1151.(3/48)
العدل في موضع المنازعة لحاجتنا إلى الإلزام وقبلنا في موضع المسالمة.وعلى ذلك بنى "محمد" مسائل في آخر كتاب الاستحسان مثل خبر الرجل أن فلانا كان غصب مني هذا العبد فأخذته منه لم يقبل, ولو قال تاب
ـــــــ
ذبيحة مجوسي يحرم عليه تناوله ولا يسقط ملكه حتى لم يكن له حق الرجوع على بائعه, وإذا كان كذلك كان الإخبار به إخبارا بأمر ديني وقول الواحد فيه ملزم فأما في الوطء فالحل أو الحرمة يثبت حكما للملك وزواله لا مقصودا حتى لو قال لآخر طأ جاريتي هذه قد أذنت لك فيه أو قالت له ذلك حرة في نفسها لم يحل له الوطء لعدم ثبوت الملك به وقول الواحد في إبطال الملك ليس بحجة فكذلك في الحل الذي يبتنى عليه, ولأن في الوطء معنى الإلزام على الغير; لأن المنكوحة يلزمها الانقياد للزوج في الاستفراش والمملوكة يلزمها الانقياد لمولاها وخبر الواحد لا يكون حجة في إبطال الاستحقاق الثابت لشخص على شخص فأما حل الطعام والشراب فليس فيه استحقاق حق على أحد يبطل بثبوت الحرمة بل هو أمر ديني وخبر الواحد في مثله حجة كذا في المبسوط.
قوله: "ولهذا" أي ولأن ما فيه الإلزام المحض من حقوق العباد لا يقبل فيه خبر الواحد بل يشترط العدد وفي غير موضع الإلزام يقبل لم يقبل خبر الواحد العدل في موضع المنازعة; لأنه موضع الإلزام ويقبل في موضع المسالمة مثل الوكالات ونحوها لخلوه عن معنى الإلزام.
"وعلى ذلك" أي على هذا الأصل, وهو اعتبار المنازعة والمسالمة "بنى محمد رحمه الله مسائل في آخر كتاب الاستحسان" فقال: لو أن رجلا علم أن جارية لرجل يدعيها ثم رآها في آخر يبيعها ويزعم أنها قد كانت في يد فلان وأنه كان يدعيها غير أنها كانت لي وإنما أمرته بذلك لأمر خفته وصدقته الجارية بذلك, والرجل البائع مسلم ثقة فلا بأس بشرائها منه, ولو لم يقل هذا ولكنه قال ظلمني وغصبني فأخذتها منه لم ينبغ أن يعرض لها بشراء ولا قبول إن كان المخبر ثقة أو غير ثقة; لأن في الفصل الأول أخبر عن حال مسالمة ومواضعة كانت بينهما فيعتمد خبره إذا كان ثقة وفي الفصل الثاني أخبر عن حال منازعة بينهما في غصب الأول منه واسترداد هذا منه فلا يكون خبره حجة فإن قال: إنه كان ظلمني وغصبني ثم رجع عن ظلمه فأقر لي بها ودفعها إلي, فإن كان عنده ثقة فلا بأس بشرائها منه وقبول قوله; لأنه أخبر عن حال مسالمة وهي إقراره له بها ودفعها إليه, وكذلك إن قال: خاصمته إلى القاضي فقضى لي بالبينة وبالنكول وأخذها منه فدفعها إلي أو قال قضى لي بها فأخذتها من منزله بإذنه أو بغير إذنه; لأنه أخبر أن أخذه كان بقضاء(3/49)
فرده علي قبل خبره, ولهذا قبلنا خبر الفاسق في إثبات الإذن للعبد, ولهذا قلنا: خبر المخبر في الرضاع الطارئ على النكاح أو الموت أو الطلاق إذا أراد الزوج أن ينكح أختها أو أرادت المرأة نكاح زوج آخر; لأنه مجوز غير ملزم وأمثلته أكثر من أن يحصى والشهادة بهلال رمضان من هذا القسم.
ـــــــ
القاضي أو أن القاضي دفعها إليه, وهو بمنزلة حال مسالمة معنى; لأن كل ذي دين يكون مستسلما لقضاء القاضي, وإن قال قضى لي بها فجحدني قضاءه فأخذتها لم ينبغ له أن يشتريها منه; لأنه لما جحد القضاء جاءت المنازعة; فإنما أخبر بالأخذ في حال المنازعة وخبر الواحد فيها لا يكون حجة لما فيها من الإلزام.
ونظير تغير الحكم بتغير العبارة ما إذا قدم رجل ليقتل بالخشب فقال اقتلوني بالسيف يأثم ولو قال لا تقتلوني بالخشب لا يأثم ولو قدم الأب والابن للقتل فقال الأب: قدموا ابني لأحتسب بالصبر على قتله يأثم ولو قال لا تقدموني على ابني لا يأثم فعرفنا أن بتغير العبارة قد يتغير الحكم مع اتحاد المقصود, "ولهذا قبلنا" أي ولأن في موضع المسالمة يجوز الاعتماد على خبر الواحد قبلنا خبر المخبر في الرضاع الطارئ على النكاح بأن تزوج صغيرة فأخبر ثقة أنها قد ارتضعت من أمه أو أخته أو الموت أو الطلاق بأن غاب رجل عن امرأته فأخبره مسلم ثقة أنها قد ماتت أو أخبرها مسلم ثقة أن زوجها قد مات أو طلقها ثلاثا يجوز الاعتماد على خبره ويحل للزوج التزوج بأربع سواها أو بأختها وللمرأة التزوج بزوج آخر بعد انقضاء العدة; لأنه ليس في الحرمة الطارئة بالرضاع أو الفرقة الطارئة بالموت أو الطلاق معنى المنازعة. بخلاف ما إذا أخبر أن النكاح كان فاسدا بسبب رضاع متقدم أو ردة قائمة عند العقد من الرجل أو المرأة; لأن في الحرمة المقارنة معنى المنازعة إذ إقدام كل واحد على مباشرة العقد تصريح بثبوت الحل فلذلك اعتبر فيه شرائط الشهادة.
قوله "والشهادة بهلال رمضان من هذا القسم" الرابع لا خلاف أن خبر الواحد يقبل في هلال رمضان لحديث عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما "أن الناس أصبحوا يوم الشك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم أعرابي وشهد برؤية الهلال فقال عليه السلام: "أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله" فقال نعم فقال عليه السلام: "الله أكبر يكفي المسلمين أحدهم فصام وأمر الناس أن يصوموا بشهادته" ولا خلاف أيضا في اشتراط الإسلام والبلوغ وعدم اشتراط الحرية والذكورة ولكنهم اختلفوا في اشتراط العدالة ففي ظاهر الرواية هي شرط وذكر الطحاوي رحمه الله أن شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان مقبولة عدلا كان أو غير عدل لانتفاء التهمة من خبره هذا لأنه يلزمه من الصوم ما(3/50)
وأما القسم الخامس فمثل عزل الوكيل وحجر المأذون ووقوع العلم للبكر البالغة بإنكاح وليها إذا سكتت ووقوع العلم بفسخ الشركة والمضاربة ووجوب الشرائع على المسلم الذي لم يهاجر ففي هذا كله إذا كان المبلغ وكيلا أو رسولا ممن إليه الإبلاغ لم يشترط فيه العدالة; لأنه قائم مقام غيره, وإذا أخبره
ـــــــ
يلزم غيره ووجه الظاهر أن هذا أمر من أمور الدين, ولهذا يكتفى فيه بخبر الواحد وخبر الفاسق في باب الدين غير مقبول بمنزلة رواية الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكأن الشيخ بقوله " من القسم الرابع " اختار مذهب الطحاوي; لأن في هذا القسم لا يشترط العدالة كما مر بيانه وإنما جعله من هذا القسم باعتبار أن خبره ليس بملزم للصوم بل الموجب هو النص وجعله شمس الأئمة من القسم الأول حتى يشترط فيه العدالة, وهو الأصح; لأن الصوم ليس من حقوق العباد ليكون من القسم الرابع بل هو أمر ديني إلا أنه يشترط فيه الإسلام والبلوغ بالإجماع كما في القسم الأول ولو كان من القسم الرابع لم يشترط ذلك والشهادة على هلال الأضحى كالشهادة على هلال رمضان فيما روي عن أبي حنيفة رحمه الله في النوادر لتعلق أمر ديني به, وهو ظهور وقت الحج الذي هو محض حق الله تعالى وفي ظاهر الرواية كهلال الفطر; لأن فيه منفعة للناس بالتوسع بلحوم الأضاحي في اليوم العاشر.
قوله "وأما القسم الخامس" وهو الذي فيه إلزام من وجه دون وجه من حقوق العباد فمثل عزل الوكيل وحجر المأذون وسائر الصور المذكورة في الكتاب وسيأتي بيان الوجهين فيها والإخبار بالشرائع وإن لم يكن من حقوق العباد لكنه ألحق بها لما سنذكره ففي هذا كله إذا كان المبلغ وكيلا أو رسولا ممن إليه الإبلاغ بأن قال الموكل أو المولى أو الشريك أو رب المال أو الإمام أو الأب وكلتك بأن تخبر فلانا بالعزل والحجر ونحوهما وأرسلتك إلى فلان لتبلغ عني إليه هذا الخبر لم يشترط فيه العدالة بالاتفاق; فإن عبارة الرسول كعبارة المرسل وكذا عبارة الوكيل في هذا كعبارة الموكل إذ الوكيل في هذه الصورة كالرسول وإن اختلفا في غيرها ثم في الموكل والمرسل لا يشترط العدالة, فكذا فيمن قام مقامهما وإن كان المخبر فضوليا فلا بد من اشتراط العدالة عند أبي حنيفة رحمه الله بلا خلاف بين مشايخنا. فأما إذا أخبره فضوليان فقد اختلفوا في اشتراط العدالة على قوله قال بعضهم: يشترط كما لو كان المخبر واحدا, وقال بعضهم: لا تشترط العدالة في المثنى وإنما وقع الاختلاف لاشتباه لفظ الكتاب أي المبسوط; فإن محمدا رحمه الله ذكر في المأذون الكبير إذا حجر المولى على عبده وأخبره بذلك من لم يرسله مولاه لم يكن حجرا في قياس قول أبي حنيفة حتى يخبره رجلان أو رجل عدل يعرفه العبد, فالفريق الأول قالوا معناه رجلان عدل أو رجل عدل; فإن قوله عدل يصلح نعتا للواحد(3/51)
فضولي بنفسه مبتديا; فإن أبا حنيفة قال: لا يقبل فيه إلا خبر الواحد العدل وفي الاثنين كذلك عند بعضهم, وقال بعضهم: لا يشترط العدالة في المثنى ولفظ الكتاب في الاثنين محتمل قال حتى يخبره رجل واحد عدل أو رجلان ولم يشترط العدالة فيهما نصا ويحتمل أن يشترط سائر شرائط الشهادة إلا العدد عند أبي حنيفة رحمه الله أو العدد مع سائر الشرائط غير العدالة فلا يقبل خبر العبد والصبي والمرأة فأما عندهما; فإن الكل سواء; لأنه من باب المعاملات
ـــــــ
والمثنى والجماعة والمذكر والمؤنث باعتبار كونه مصدرا. قال عليه السلام: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل" ولم يقل عدلين ووجهه أن خبر الفاسقين كخبر الفاسق الواحد في أنه لا يصلح ملزما وإن التوقف يجب فيه فلا يكون لزيادة العدد فائدة والفريق الثاني قالوا: القيد المذكور يختص بالواحد والمثنى على الإطلاق كما يدل عليه ظاهر اللفظ, وهو الأصح وذلك; لأن لزيادة العدد تأثيرا في سكون القلب كما أن للعدالة تأثيرا فيه بل تأثير العدد أقوى; فإن القاضي لو قضى بشهادة الواحد لا ينفذ ولو قضى بشهادة الفاسقين ينفذ وإن كان على خلاف السنة ثم إذا وجدت العدالة بدون العدد يثبت المخبر به فكذلك إذا وجد العدد دون العدالة, ثم لا بد لاشتراط العدد أو العدالة من تكذيب المخبر له ولا بد لثبوت المخبر به من أن يكون الخبر صدقا على الحقيقة فإذا أخبر بالعزل مثلا رجل عدل أو رجلان عدلان أو غير عدلين يثبت العزل بالإجماع صدقه الوكيل أو لم يصدقه إذا ظهر صدق المخبر. وإن كان المخبر واحدا غير عدل وكذبه الوكيل لا ينعزل عند أبي حنيفة رحمه الله وإن ظهر صدق الخبر وعندهما ينعزل إذا ظهر صدقه, وإن صدقه ينعزل بالإجماع, وهذا في الوكالة التي لم يتعلق بها حق الغير حتى ينفرد الموكل بعزله أما إذا تعلق بها حق الغير كالوكالة الثابتة في عقد الرهن فلا ينعزل وإن أخبره بذلك عدلان.
قوله "ويحتمل" كذا يعني أن العدد أو العدالة شرط عنده ويحتمل أن يكون سائر شرائط الشهادة من الذكورة والحرية والبلوغ شرطا مع أحد هذين الشرطين حتى لو كان المخبر واحدا عدلا يشترط أن يكون رجلا حرا بالغا عاقلا. وكذا إذا كان اثنين غير عدلين فعلى هذا لا يقبل خبر العبد والمرأة والصبي أصلا وإن وجدت العدالة أو العدد لعدم سائر الشرائط وإنما قال يحتمل; لأن محمدا لم يذكرها في المبسوط نفيا وإثباتا, وأما عندهما; فإن الكل سواء أي القسم الخامس والرابع سواء فيثبت العزل والحجر بقول كل مميز كالتوكيل والإذن; "لأنه" أي هذا القسم "من باب المعاملات" يعني ما خلا الإخبار بالشرائع فوجب أن لا يتوقف على شرائط الشهادة كالقسم الرابع, وهذا لأن للناس في باب المعاملات ضرورة توكيلا وعزلا على ما يعرض لهم الحاجات فلو شرطت العدالة في الخبر عنها لضاق الأمر على الناس فلم يشترط دفعا للحرج, كذا في "الأسرار".(3/52)
ولكن أبا حنيفة رحمه الله قال: إنه من جنس الحقوق اللازمة; لأنه يلزمه حكما بالعزل والحجر فيلزمه فيه العهدة من لزوم عقد أو فساد عمل ومن وجه يشبه سائر المعاملات; لأن الذي يفسخ يتصرف في حقه كما يتصرف في حقه بالإطلاق فشرطنا فيه العدد أو العدالة لكونها بين المنزلتين بخلاف المخبر إذا
ـــــــ
فأما الإخبار بالشرائع وإن لم يكن من المعاملات فقد ألحق بها; لأن الضرورة قد تحققت في حقه إذ لو توقف على العدالة يؤدي إلى الحرج وتفويت المصلحة; لأن انتقال العدول من دار الإسلام إلى دار الحرب قلما يكون فلهذه الضرورة ألحق بالمعاملات ولكن أبا حنيفة رحمه الله قال إنه أي القسم الخامس من جنس الحقوق اللازمة دون الجائزة والحقوق اللازمة هي التي تلزم على الغير ولا ينفرد بإبطالها والجائزة على خلافها; "لأنه" أي الموكل أو المولى "يلزمه" أي الوكيل أو العبد حكما بالعزل أو الحجر, ثم فسر ذلك الحكم بقوله يلزمه فيه العهدة من لزوم عقد يعني في الوكيل; فإنه إذا انعزل يقتصر الشراء عليه ويلزم عليه عهدته أو فساد عمل يعني في الحجر على العبد; فإنه كان نافذ التصرف وبالحجر يخرج تصرفاته من الصحة إلى الفساد فمن هذا الوجه كان هذا القسم من قبيل الإلزامات ومن وجه يشبه سائر المعاملات; لأن الموكل أو المولى أو من بمعناهما متصرف في حقه بالعزل والحجر والفسخ كما هو متصرف في حقه بالتوكيل والإذن والإجارة إذ لكل واحد من هؤلاء ولاية المنع من التصرف كما له ولاية الإطلاق وكذا الإخبار بالشرائع في المسلم الذي لم يهاجر; لأنه من حيث إن الشرائع لم تكن ثابتة في حقه قبل الإخبار حتى لم يلحقه ضمان ولا إثم بتركها, وقد ثبت الوجوب في حقه بعد الإخبار كان ملزوما ومن حيث إن وجوبها مضاف إلى الشرع والتزامه أو أمره لا يكون ملزما فثبت أن هذا القسم أخذ شبها من أصلين ثم شبه الإلزام يوجب اشتراط العدالة والعدد وشبه المعاملات يوجب سقوطهما فشرطنا أحدهما وأسقطنا الآخر توفيرا على الشبهين حظهما. قال شمس الأئمة رحمه الله: خبر الفاسق في هذا القسم غير معتبر عند أبي حنيفة رحمه الله إذا أنشأ الخبر من عنده; لأن فيه معنى اللزوم; فإنه يلزمه الكف عن التصرف إذا أخبره بالحجر والعزل ويلزمها النكاح إذا سكتت بعد العلم والكف عن طلب الشفعة إذا سكت بعد العلم وخبر الفاسق لا يصلح ملزما; لأن التوقف في خبر الفاسق ثابت بالنص ومن ضرورته أن لا يكون ملزما بخلاف الرسول; فإن عبارته كعبارة المرسل ثم بالمرسل حاجة إلى تبليغ ذلك وقلما يجد عدلا يستعمله في الإرسال إلى عبده ووكيله فأما الفضولي فمتكلف لا حاجة به إلى هذا التبليغ والسامع غير محتاج إليه أيضا; لأن معه دليلا يعتمد للتصرف إلى أن يبلغه ما يرفعه فلهذا شرطنا العدالة في الخبر في هذا القسم ولم يشترط العدد; لأن اشتراطهما لأجل منازعة متحققة وهي غير موجودة هاهنا وذكر شمس الأئمة في شرح المأذون الكبير:(3/53)
كان رسولا لما قلنا وفي شرط المثنى من غير عدالة على ما قاله بعض مشايخنا فائدة لتوكيد الحجة والعدد أثر في التوكيد بلا إشكال والله أعلم.
والتزكية من القسم الرابع عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله, وقال محمد هو من جنس القسم الثالث على ما عرف والله أعلم.
ـــــــ
واختلفوا على قول أبي حنيفة رحمه الله في الذي أسلم في دار الحرب إذا أخبره فاسق بوجوب الصلاة عليه هل يلزمه القضاء باعتبار خبره فمنهم من يقول: ينبغي أن لا يجب القضاء عندهم جميعا; لأن هذا من أخبار الدين والعدالة فيها شرط بالاتفاق وأكثرهم على أنه على الخلاف كالحجر والعزل, قال والأصح عندي أنه يلزمه القضاء هاهنا; لأن من يخبره فهو رسول رسول الله عليه السلام بالتبليغ قال النبي عليه السلام: "نضر الله امرءاً سمع منا مقالة فوعاها كما سمعها ثم أداها إلى من لم يسمعها" 1. وفي حديث آخر "ألا فليبلغ الشاهد الغائب" وخبر الرسول بمنزلة كلام المرسل ولا يشترط فيه العدالة, فكذا هذا ولا يدخل على هذا رواية الفاسق الأخبار; لأن هناك لا يظهر رجحان جانب الصدق في خبره وبذلك يتبين كون المخبر به حقا وهاهنا نحن نعلم أن ما أخبر به حق فيثبت حكمه في حق من أخبره الفاسق به حتى يلزمه القضاء فيما يتركه بعد ذلك.
قوله "والتزكية من القسم الرابع عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله" يعني في حق سقوط شرط العدد لا في حق سقوط شرط العدالة; فإن محمدا نص في الجامع الصغير في كتاب القضاء على أن المزكي الواحد إن كان عدلا أمضى شهادة الشاهدين بقول هذا الواحد في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله, وقد نص في المبسوط أيضا على أنه يشترط أن يكون المترجم عدلا مسلما بلا خلاف وحكم المترجم والمزكي واحد في جميع الأحكام, ولهذا عد شمس الأئمة رحمه الله التزكية من القسم الأول على قولهما, وهو أصح; لأن وجوب القضاء على القاضي من حقوق الشرع لا من حقوق العباد, "قال محمد: هو" أي المذكور, وهو التزكية "من القسم الثالث" حتى يشترط فيها سائر شرائط الشهادة سوى لفظة الشهادة; لأن المذكي بمعنى الشاهد; فإنه يلزم القضاء على القاضي بالشهادة وهذا آكد ما يكون من الإلزام فيشترط العدد لطمأنينة القلب, ألا ترى أنه يعتبر فيها ما يعتبر في الشهادة من الحرية والعدالة والإسلام, فكذا العدد إلا أنه لا يشترط لفظة الشهادة; لأن اشتراطها ليس لمعنى الإلزام بل يثبت بالنص بخلاف القياس أو لمعنى الزجر عن الشهادة بالباطل بقوله اشهد; فإنه بمنزلة قوله احلف والمدعي يأتي بالشهود
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في العلم حديث رقم 2656-2658.وأبو داود في العلم حديث رقم 3660 وابن ماجه في المقدمة حديث رقم 230. والإمام أحمد في المسند 1/437.(3/54)
---------------------------------------------------------
ـــــــ
فلاحتمال المواضعة والتلبيس بينهم شرطنا لفظة الشهادة. وأما المذكي فيختاره القاضي فينعدم في حقه مثل هذه التهمة فلا يشترط في حقه لفظة الشهادة ولكنهما قالا: المذكي مخبر بخبر ديني فلا يكون العدد فيه شرطا كما في رواية الإخبار والدليل عليه أنه لا يعتبر لفظة الشهادة ولا مجلس القاضي ولو كان في معنى الشهادة لشرط فيه ما اختص به الشهادة, وإذا لم يجعل بمنزلة الشهادة فيه ففي العدد أولى; لأن العدد أمر مؤكد غير معقول; لأن خبر الواحد والاثنين في العلم والعمل سواء واشتراط العدالة والإسلام بمنزلة اشتراطهما في رواية الإخبار واشتراط الحرية; لأنه يلزم الغير ابتداء من غير أن يلتزم شيئا فكان من باب الولاية والرق ينفي الولاية على الغير بخلاف رواية الإخبار; فإنه يلتزم ذلك بنفسه ثم يتعدى إلى غيره فلا يشترط الحرية, وكذا المرأة الواحدة تكفي لذلك كما في رواية الإخبار ولكن رجل أو رجل وامرأتان أوثق; لأنه إلى الاحتياط أقرب, كذا في المبسوط. وذكر في شرح "أدب القاضي" للخصاف1 أن العدد شرط في تزكية العلانية عند الكل وإن كان لا يشترط في تزكية السر عندهما; لأنها في معنى الشهادة لاختصاصها بمجلس القاضي فيشترط فيها العدد, ولهذا لم يشترط أهلية الشهادة لتزكية السر حتى إن الرجل إذا عدل أباه أو ابنه أو المرأة عدلت زوجها أو العبد عدل مولاه صح وتشترط في تزكية العلانية حتى أن من كان من أهل الشهادة كان من أهل التعديل في العلانية, وإلا فلا وفيه أيضا قال أبو يوسف رحمه الله أجيز في التزكية سرا تزكية العبد والمرأة والمحدود في القذف والأعمى إذا كانوا عدولا; لأن ذلك خبر وخبر هؤلاء مقبول في باب الدين. وأما التزكية علانية فلا تقبل إلا ممن كان من أهل الشهادة لما قلنا.
ثم ما ذكرنا في تزكية الشاهد أما في تزكية الراوي فلا شك أن عندهما لا يشترط العدد; لأن الشهادة آكد في الرواية فلما لم يشترط العدد في تزكية الشهادة لا يشترط في تزكية الرواية بالطريق الأولى, وأما عند محمد رحمه الله فيحتمل أن يكون كذلك أيضا; لأن العدد إنما شرط في تزكية الشاهد لوجود معنى الإلزام فيها باعتبار استحقاق المدعي القضاء على القاضي بالشهادة ولم يوجد ذلك في تزكية الراوي بل هي أخبار فلا يشترط العدد في قبوله كنص الرواية, ومن الأصوليين من شرط العدد في تعديل الراوي والشاهد جميعا اعتبارا بالشهادة ومنهم من شرطه في تعديل الشاهد دون الراوي إلحاقا للتعديل الذي هو شرط بمشروطه في كل باب والعدد شرط في الشهادة دون الرواية, فكذا بالملحق بهما والله أعلم.
ـــــــ
1 هو أبو بكر بن عمرو الشيباني الخصاف، متوفى سنة 261هـ، أنظر الفوائد البهية 29-30.(3/55)
"باب بيان القسم الرابع"
"من أقسام السنة"
وهو الخبر: هذا الباب قسمان قسم رجع إلى نفس الخبر وقسم رجع إلى معناه فأما نفس الخبر فله طرفان طرف السامع وطرف المبلغ وكل واحد منهما على قسمين عزيمة ورخصة, أما الطرف الذي هو طرف السامع; فإن العزيمة في ذلك ما يكون من جنس الأسماع الذي لا شبهة فيه والرخصة ما ليس فيه أسماع أما الأسماع الذي هو عزيمة فأربعة أقسام قسمان في نهاية العزيمة
ـــــــ
"باب بيان قسم الرابع, وهو الخبر"
قوله: "أما الطرف الذي هو طرف السامع" وقع في بعض النسخ التبليغ مكان السامع وقيل هذا أصح; فإن قوله ما يكون من جنس الأسماع يدل عليه إذ الإسماع إنما يتحقق من جهة المبلغ والظاهر أن الأول هو الأصح; فإن قوله وأنت تسمعه, وهو يسمع. وقوله في آخر الباب, وإذا صح السماع وجب الحفظ يدل على أن المقصود تقسيم جانب السماع. وكذا قوله في آخر الباب يليه, وأما طرف التبليغ, فكذا يدل عليه أيضا إذ لا يستقيم إقامة لفظ السامع مقام التبليغ هناك; لأن نقل الحديث بالمعنى من قبل التبليغ لا من قبل السماع, وإذا كان كذلك لا بد من أن يكون هاهنا لفظ السامع دون التبليغ وليس لقوله ما يكون من جنس الأسماع دلالة على ما قالوا; لأن معناه العزيمة في ذلك أي في السماع ما يكون أي يحصل أو يحدث من جنس الأسماع حقيقة, يوضحه ما ذكر شمس الأئمة رحمه الله, ولهذا النوع أطراف ثلاثة طرف السماع وطرف الحفظ وطرف الأداء فطرف السماع نوعان عزيمة ورخصة فالعزيمة ما يكون بحسن الاستماع, وهو أربعة أوجه إلى آخره فثبت أن الصحيح ما ذكرنا.
قوله: "أما القسمان الأولان" إلى آخره إذا قال الشيخ حدثني فلان بكذا أو أخبرني أو سمعت فلانا يقول كذا يلزم السامع العمل بهذا الخبر ويجوز له الرواية عنه(3/56)
وأحدهما أحق من صاحبه وقسمان آخران يخلفان القسمين الأولين هما من باب العزيمة أيضا لكن على سبيل الخلافة فصار لهما شبه بالرخصة.
أما القسمان الأولان فما يقرؤه عليك من كتاب أو حفظ وأنت تسمعه وما تقرأ عليه من كتاب أو حفظ, وهو يسمع فتقول له أهو كما قرأت عليك؟ فيقول: نعم.
ـــــــ
بقوله حدثني أو أخبرني مطلقا أو بقوله قال فلان أو سمعته يقول وقيل: إن الشيخ إن قصد إسماعه خاصة ذلك الكلام أو كان هو في جمع قصد الشيخ إسماعهم فله أن يقول هاهنا حدثني وأخبرني وسمعته يحدث عن فلان, وأما إذا لم يكن يقصد إسماعه لا على التفصيل ولا على الجملة فله أن يقول سمعته يحدث عن فلان لكن ليس له أن يقول حدثني ولا أخبرني; لأنه لم يحدثه ولم يخبره, وإذا قيل له: هل سمعت هذا الحديث عن فلان فيقول نعم أو يقول بعد الفراغ من القراءة الأمر كما قرئ علي من غير استفهام فهو كالقسم الأول في وجوب العمل به وجواز الرواية بقوله حدثني أو أخبرني لما ذكر في الكتاب وإن قرئ عليه فسكت ولم يوجد منه إقرار ولا نكير فهو كالقسم الأول أيضا في وجوب العمل إذا غلب على ظن السامع أنه ما سكت إلا لأن الأمر كما قرئ عليه; لأنه حصل ظن أنه قول الرسول والعمل بالظن واجب. وكذا يجوز له الرواية عند الجمهور, وقال بعض أصحاب الظاهر لا يجوز وإليه ذهب صاحب القواطع وأبو إسحاق الشيرازي1 وأبو الفتح سليم الرازي2 وأبو نصر الصباغ3 من فقهاء الشافعية.
لأن الإنسان إذا قرئ عليه كتابه فيه حكاية إقراره بدين أو بيع أو نحوهما فلم يقر به ولم يعترف بصحته لا يثبت الإقرار ولا يجوز لأحد أن يشهد عليه به, فكذا هذا., وتمسك الجمهور بأن العرف دال على أن سكوت الشيخ في هذا المقام تقرير له على الرواية وإقرار بصحة ما قرئ عليه ولو لم يكن صحيحا لما جاز تقريره عليها ولكان سكوته على الإنكار مع القدرة عليه فسقا لما فيه من إيهام الصحة فأما الإقرار فلم يجز فيه عرف أن السكوت فيه تصديق ثم عند القائلين بالجواز يجوز للسامع في هذا القسم أن يقول قرأت على فلان أو قرئ عليه أو حدثني أو أخبرني
ـــــــ
1 هو أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي الفيروز آبادي ولد سنة 393. توفي سنة 476هـ، أنظر البداية والنهاية 12/124.
2 هو أبو الفتح سليم بن أيوب بن سليم الرازي الشافعي، أنظر وفيات الأعيان 2/397-39.
3 هو أبو نصر عبد السيد بن محمد البغدادي المعروف بابن الصباغ ولد سنة 400هـ وتوفي سنة 477هـ، أنظر طبقات السبكي 3/230-237.(3/57)
قال عامة أهل الحديث إن القسم الأول على المنزلتين, ألا ترى أنها طريقة الرسول عليه السلام, وهو المطلق, من الحديث المشافهة, وقال أبو حنيفة إن ذلك كان أحق من رسول الله عليه السلام; لأنه كان مأمونا عن السهو وما كان يكتب وكلامنا فيمن يجري عليه السهو ويقرأ من المكتوب دون المحفوظ
ـــــــ
قراءة عليه بلا خلاف, فأما إذا قال حدثني أو أخبرني مطلقا أو سمعت فلانا فقد اختلف فيه فذهب الغزالي وأبو الحسين البصري وجماعة إلى أنه لا يجوز; لأنه يشعر بالنطق إذ الخبر والحديث والمسموع نطق كلها ولم يوجد منه نطق فيكون قوله أخبرني أو حدثني أو سمعت كذبا إلا إذا علم تصريح قول السامع أو بقرينة خالية أنه يريد القراءة على الشيخ دون سماع حديثه ولا يقال إمساكه عن النكير جار مجرى إباحته أن يتحدث عنه لأنهم يقولون بإباحته لم يجز لهم التحدث عنه إذا لم يحدثهم; لأن الكذب لا يصير مباحا بإباحته. وذهب جمهور الفقهاء المحدثين إلى أنه يجوز; لأن الإخبار في أصل اللغة لإفادة الخبر والعلم وهذا السكوت قد أفاد العلم بأن هذا المسموع كلام الرسول عليه السلام فوجب أن يكون إخبارا وأيضا فلا نزاع أن لكل قوم من العلماء اصطلاحات مخصوصة يستعملونها في معاني مخصوصة أما; لأنهم نقلوها بحسب عرفهم إلى تلك المعاني أو; لأنهم استعملوها فيها على سبيل التجوز ثم صار المجاز شائعا والحقيقة مغلوبة ولفظ أخبرني وحدثني هاهنا كذلك; لأن هذا السكوت يشابه الإخبار في إفادة الظن والمشابهة إحدى أسباب المجاز. وإذا جاز هذا الاستعمال مجازا ثم استقر عرف المحدثين عليه صار ذلك كالاسم المنقول بعرف المحدثين أو كالمجاز الغالب, وإذا ثبت ذلك وجب جواز استعماله قياسا على سائر الاصطلاحات "فما يقرؤه عليك" أي المحدث أو المبلغ, وهو من قبيل قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْر} [القدر: 1]، "أعلى المنزلتين" أي أرفع وأحوط, ألا ترى أنها أي المنزلة الأولى طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم; فإنه كان يبلغ بنفسه ويقرأ على الصحابة لا أن يقرأ عليه ثم يقال له: أهكذا الأمر فيقول نعم ولما كانت قراءة المحدث تشبه فعل النبي عليه السلام وأنه أبعد من السهو والخطأ كان ذلك أحوط وأولى.
"وهو المطلق من الحديث والمشافهة" أي مطلق قولك حدثني فلان بكذا أو شافهني به يدل على أن التكلم صدر عنه وأنت تسمع لا على العكس ودلالة المطلق على الكامل على ما عرف فدل أن الوجه الأول أكمل, ولهذا قال بعض المحدثين أن السامع في القسم الأول تقول حدثني وفي القسم الثاني أخبرني; لأن الإخبار أعم.
قوله "كان مأمونا عن السهو" أي عن التقرير عليه في تبليغ الوحي وبيان الأحكام وغيره ليس بهذه الصفة فلذلك كانت قراءته عليه السلام أولى فأما غير النبي عليه السلام(3/58)
وهما في المشافهة سواء; لأن اللغة لا يفصل بين بيان المتكلم بنفسه وبين أن يقرأ عليه فيستفهم فيقول: نعم ألا ترى أنهما سواء في أداء الشهادات, وهذا لأن نعم كلمة وضعت للإعادة اختصارا على ما مر والمختصر لغة مثل المشبع سواء وما قلناه أحوط لأن رعاية الطالب أشد عادة وطبيعة فلا يؤمن على الذي يقرأ الغلط ويؤمن الطالب في مثله فأنت على قراءتك أشد اعتمادا منك على قراءته, وإنما يبقى احتمال الغفلة منه عن ما قرأته عليه وهذا أهون من ترك شيء من
ـــــــ
فجاز عليه السهو والغلط والتقرير عليه فكانت قراءة المحدث وقراءة غيره سواء. "وما كان يكتب دليل آخر" أي ولأنه عليه السلام لم يكن كاتبا ولا قارئا من المكتوب شيئا وإنما يقرأ ما يقرأ عن حفظ فكانت قراءته أولى فأما إذا كانت الرواية عن كتاب والسماع في كتاب "فهما سواء" أي قراءة المحدث والقراءة عليه سواء في معنى التحدث بما في الكتاب وكون كل واحد منهما مشافهة حتى لو كانت الرواية عن حفظ كانت قراءة المحدث أولى; لأنه أشد عناية في الضبط ولأنه يتحدث به حقيقة.
"لأن اللغة لا يفصل" أي لا فصل في اللغة بين كذا. وكذا; فإن من عليه الحق لو قرأ ذكر إقراره عليك أو تقرأ عليه ثم تستفهمه هل تقر لجميع ما قرأته عليك فيقول: نعم كأنا سواء.,"ألا ترى أنهما" أي الوجهين سواء في أداء الشهادة حتى لو قال القاضي للشاهد أتشهد بكذا فيقول نعم كان مثل قوله أشهد بكذا في إثبات الحق وإيجاب حكم على القاضي مع أن باب الشهادة أضيق لاختصاصها بشرائط لم توجد في الرواية. وقوله وما قلناه أحوط يشير إلى أن التسوية بين الوجهين أحوط من ترجيح الأول على الثاني; لأنه لم يسبق إلا ذكر المعنيين وليس المراد ذلك بل الغرض أن الوجه الثاني أحوط من الوجه الأول وإن كان هذا اللفظ لا ينقاد له بدليل ما ذكر في بعض نسخ أصول الفقه وأظنه تصنيفه, قال أبو حنيفة رحمه الله الوجهان سواء بل الثاني أحوط ويترجح على الأول; لأن السامع إذا قرأه بنفسه كان هو أشد عناية في ضبط المتن والسند من المبلغ لحاجته إلى ذلك فإن لم يترجح هذا الجانب فلا أقل من المساواة.
"أشد عادة وطبيعة" لأن الإنسان في أمر نفسه أحوط منه في أمر غيره ثم الطالب عامل لنفسه والمحدث عامل لغيره فيحتمل أن يسهو عن البعض ويشذ منه أكثر ما يشذ من الطالب فلا يؤمن على الذي يقرأ. وهو المحدث الغلط في بعض ما يقرأه لقلة رعايته إذ هو لا يحتاط في أمر غيره كما يحتاط الغير في أمر نفسه.
وقوله: "وإنما بقي احتمال الغفلة... إلى آخره" إشارة إلى الجواب عما يقال قد(3/59)
المتن أو السند حتى إن الرواية إذا كانت عن حفظ كان ذلك الوجه أحق كما قلتم وأما الوجهان الآخران فأحدهما الكتاب والثاني: الرسالة أما الكتاب فعلى رسم الكتب ويقول فيه حدثنا فلان إلى أن يذكر متن الحديث ثم يقول فإذا بلغك كتابي هذا وفهمته فحدث به عني لهذا الإسناد وهذا من الغائب
ـــــــ
يتوهم عند قراءة الطالب أن يسهو المحدث عن بعض ما قرئ عليه وينتفي هذا التوهم عند قراءة المحدث لشدة رعاية الطالب في ضبط ما يسمع منه فأجاب أن كلا الأمرين موهوم إلا أن سهو المحدث عن سماع البعض الذي لا يمكن التحرز عنه عادة أهون من ترك شيء في المتن أو السند ولا بد من تحمل أحد الأمرين فيحتمل أيسرهما.
وذكر في كتاب "معرفة أنواع علم الحديث" أنهم اختلفوا في أن القراءة على الشيخ ويسمى عرضا عند أكثر المحدثين من حيث إن القارئ يعرض على الشيخ ما يقرأه كما يعرض القرآن على المقرئ مثل السماع من لفظ الشيخ في المرتبة أو دونه أو فوقه فنقل عن أبي حنيفة وابن أبي ذئب وغيرهما ترجيح القراءة على الشيخ على السماع من لفظه وروي ذلك عن مالك أيضا وروي عن مالك وغيره أنهما سواء, وقد قيل: إن التسوية بينهما مذهب معظم علماء الحجاز والكوفة ومذهب مالك وأصحابه وأشياخه من علماء المدينة ومذهب البخاري وغيرهم.
قوله: "وأما الكتاب فعلى رسم الكتب" وذلك بأن يكون مختوما بختم معروف معنونا, وهو أن يكتب فيه قبل التسمية من فلان بن فلان إلى فلان بن فلان ثم يبدأ بالتسمية ثم بالثناء ثم بالمقصود قال الشيخ رحمه الله في شرح التقويم فإن كان الكتاب على جهة الكتب مرسوما برسم الكتب مصدرا تصدير الكتب وثبت الكتاب لحجة صحيحة وكان فيه أخبرني فلان عن فلان حتى اتصل بالنبي عليه السلام فإذا جاءك هذا الحديث فحدثه عني بهذا الإسناد حلت له الرواية; لأن الكتاب من الغائب بمنزلة الخطاب من الحاضر إلى آخره, ثم الكتاب على نوعين: أحدهما: أن يقترن به الإجازة كما ذكر الشيخ في الكتاب, وهو مثل السماع في جواز الرواية بالاتفاق. والثاني: ما يتجرد عن الإجازة وأجاز الرواية به كثير من المتقدمين والمتأخرين منهم أيوب السختياني ومنصور والليث بن سعد وغير واحد من الشافعيين وأتى ذلك قوم آخرون منهم القاضي الماوردي1 لأنه لم يحتمل منه شيئا لا بالسماع ولا بالإجازة فكيف يسند إليه والصحيح
ـــــــ
1 هو الإمام أبو الحسن علي من محمد بن حبيب الماوردي ولد سنة 370. وتوفي سنة 450هـ، انظر وفيات الأعيان 3/282.(3/60)
مثل الخطاب, ألا ترى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرى الكتاب تبليغا يقوم به الحجة وكتاب الله تعالى أصل الدين وكذلك الرسالة على هذا الوجه, ألا ترى أن تبليغ الرسول عليه السلام كان الإرسال أيضا وذلك بعد أن يثبتنا بالحجة والمختار في القسمين الأولين أن يقول السامع حدثنا; لأن ذلك يستعمل في المشافهة قال في الزيادات فيمن قال إن كلمت فلانا أو حدثت به أنه يقع على المكالمة
ـــــــ
هو الأول عند أهل الحديث; لأن في الكتابة إشعارا بمعنى الإجازة فهي وإن لم تقترن بالإجازة لفظا فقد تضمنت الإجازة معنى كذا ذكر أبو عمرو.
قوله "وكذلك" أي وكالكتاب الرسالة في جواز الرواية على هذا الوجه أي على الوجه الذي ذكرنا في الكتاب بأن يقول المحدث للرسول بلغ عني فلانا أنه قد حدثني بهذا الحديث فلان بن فلان, ويذكر إسناده فإذا بلغك رسالتي هذه فاروه عني بهذا الإسناد وهذا لأن الكتاب والرسالة إلى الغائب بمنزلة الخطاب للحاضر شرعا وعرفا.
أما شرعا فلأن النبي صلى الله عليه وسلم كان مأمورا بتبليغ الرسالة إلى الناس كافة, وقد بلغ الغيب بالكتاب والرسالة كما بلغ الحضور بالخطاب. وكذلك الطلاق والعتاق وسائر العقود المتعلقة بالكلام يثبت بهما كما يثبت بالخطاب.
وأما عرفا فلأن الناس يعدونهما مثل الخطاب حتى قلد الخلفاء والملوك القضاء والإمارة والإيالة بالكتاب والرسالة كما قلدوها بالمشافهة وعدوا مخالفهما مخالفا للأمر فعرفنا أنهما مثل الخطاب فكانا من باب العزيمة بخلاف المناولة والإجازة في حق الحاضر; لأن الأصل في حقه الخطاب, ولهذا لم يوجد التبليغ من النبي عليه السلام إلى الحضور بهذين الطريقين فلم يكونا مثل الخطاب إلا أنا جوزناهما ضرورة فكانا من باب الرخصة لا من باب العزيمة.
"وذلك" أي حل الرواية بالكتاب والرسالة بعد أن يثبتا بالحجة أي بالبينة التي تثبت بمثلها الكتب على ما عرف في كتاب القاضي إلى القاضي وعند عامة أهل الحديث لا حاجة إلى البينة بل يكفي في ذلك أن يعرف المكتوب إليه خط الكاتب أو يغلب على ظنه صدق الرسول.
قوله: "والمختار في القسمين الأولين أن يقول السامع حدثنا"; لأن المحدث حدثه وشافهه بالإسماع على ما ذكرنا وقيل هذا معظم مذهب الحجازيين والكوفيين وكقول(3/61)
مشافهة وفي القسمين الآخرين المختار أن يقول أخبرنا; لأن الكتاب والرسالة ليسا بمشافهة, ألا ترى أنا نقول: أخبرنا الله وأنبأنا نبأنا بالكتاب والرسالة ولا
ـــــــ
الزهري1 ومالك وسفيان بن عيينة2 ويحيى بن سعيد القطان3 في آخرين من الأئمة المتقدمين, وهو مذهب البخاري4 في جماعة من المحدثين وعند بعض أهل الحديث لا يقول في القسم الثاني حدثنا بل يقول أخبرنا, وهو مذهب الشافعي وأصحابه, وهو منقول عن مسلم5 صاحب الصحيح وجمهور أهل المشرق, وعند بعضهم لا يجوز في هذا القسم أن يقول حدثنا ولا أخبرنا وإنما يقول قرأت عليه أو قرئ عليه وأنا أسمع فأقر به وقيل: إنه قول ابن المبارك6 ويحيى بن يحيى التميمي7 وأحمد بن حنبل والنسائي8 وغيرهم; لأن المحدث لم يحدثه ولم يخبره بشيء ولم يتلفظ إلا بقوله نعم والجواب ما تقدم أن المختصر والمطول من الكلام سواء وكلمة نعم يتضمن إعادة ما في السؤال لغة فكان هذا تحديثا وإخبارا, وفي القسمين الأخيرين المختار أن يقول أخبرنا قال بعض المحدثين لا يجوز أن يقول في هذين القسمين أخبرنا كما لا يجوز أن يقول: حدثنا; لأن الإخبار والتحديث واحد بل يقول كتب إلي فلان أو أرسل إلي بكذا وذكر أبو الحسين البصري في المعتمد أيضا أن أصحاب الحديث يفرقون بين قول الإنسان حدثني فلان وأخبرني فلان فيجعلون الأول دالا على أنه شافهه بالحديث ويجعلون الثاني
ـــــــ
1 هو الإمام أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهابد الزهري المتوفى سنة 124هـ، أنظر حلية الأولياء 3/360-361.
2 هو سفيان بن عيينة بن ميمون الهلالي الكوفي المكي، أبو محمد، ولد بالكوفة 107هـ، أنظر تهذيب التهذيب 4/117-122.
3 هو يحيى بن سعيد بن فروخ القطان، أبو سعيد 120-194هـ، أنظر تذكرة الحفاظ 1/298-300.
4 هو الإمام محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري 194-256هـ، أنظر وفيات الأعيان 4/188-191.
5 هو الإمام مسلم بن الحجاج القشيري، النيسابوري 204-261هـ، أنظر تهذيب التهذيب 10/126-128.
6 هو الإمام الصوفي أبو عبد الرحمن عبد ا لله بن المبارك بن واضح الحنظلي التميمي 118-181هـ. أنظر حلية الأولياء 8/162-165.
7 هو الإمام الحافظ أبوزكريا، يحيى بن يحيى التميمي المنقري النيسابوري 142-226هـ، أنظر تذكرة الحفاظ 2/415-416.
8 هو الإمام أبو عبد الرحمن أحمد بن علي بن شعيب بن علي النسائي 215-303هـ، أنظر شذرات الذهب رقم 2/239.(3/62)
تقول: حدثنا ولا كلمنا إنما ذلك خاص لموسى صلوات الله عليه قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء: 164], ولهذا قلنا فيمن حلف لا يحدث بكذا ولا يكلم به أنه لا يحنث بالكتاب والرسالة بخلاف ما حلف لا يخبر بكذا أنه يحنث بذلك, وأما الرخصة فما لا أسماع فيه وهو الإجازة والمناولة وكل ذلك على وجهين إما أن يكون المجاز له عالما بما في الكتاب أو
ـــــــ
مترددا بين الإجازة والكتابة والمشافهة, وهو اصطلاح, وإلا فظاهر قوله أخبرني تفيد أنه تولى إخباره بالحديث وذلك لا يكون إلا بالمشافهة فاختار أن الإخبار والتحديث واحد ففرق الشيخ بينهما بما ذكر في الكتاب, وقال أبو الوفاء عبد الرحيم بن علي البلخي في رسالته المصنفة في تنويع السماع وتجنيس الإجازة المواضعة بين أهل العلم بالحديث أن يقول المستفيد في كل نوع مما ذكر ما هو حكاية الحال حدثنا حدثني أخبرنا أخبرني منوطا ببيان صفة نفسه في ذلك أما في الحقيقة عند الأئمة الكبار المحققين من المتقدمين والمتأخرين فلا فرق بين حدثنا وأخبرنا وحدثني وأخبرني إذا كان الضبط والإتقان والاحتياط على وجهه سواء قرأ المحدث بلفظه أو قرأت عليه فأقر به أو قرئ عليه فأقر به كله سماع جيد أو قرار منه بالمسموع كالصك والإشهاد قال: وجاء في الروايات أنبأنا وأنبأني وخبرنا وخبرني ولم أسمع فيها شيئا أرتضيه إلا أني أحسب أن خبرنا وخبرني للكثرة والمبالغة في الإخبار مرة بعد أخرى في الوحدة خبرني وفي الجمع خبرنا.
قوله "وهو الإجازة والمناولة" الضمير عائد إلى ما والإجازة أن يقول المحدث لغيره أجزت لك أن تروي عني هذا الكتاب الذي حدثني به فلان ويبين إسناده أو يقول أجزت لك أن تروي عني جميع ما صح عندك من مسموعاتي وحينئذ يجب تعيين المسموع من غيره وسيأتيك بيان أنواعها والمناولة أن يعطي الشيخ كتاب سماعه بيده إلى المستجيز ويقول هذا كتابي وسماعي عن شيخي فلان فقد أجزت لك أن تروي عني هذا كما يوجبه الاحتياط.
والمناولة لتأكيد الإجازة; لأن مجرد المناولة بدون الإجازة غير معتبر والإجازة بدون المناولة فكان الاعتبار للإجازة دون المناولة غير أنها زيادة تكلف أحدثها بعض المحدثين تأكيدا للإجازة فكانت المناولة قسما من الإجازة.
واختلف في الإجازة فأبطلها جماعة منهم إبراهيم بن إسحاق الحربي1 وأبو محمد
ـــــــ
1 هو أبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق الحربي "198-285هـ"، أنظر البداية والنهاية 11/79.(3/63)
جاهلا به فإن كان عالما به قد نظر فيه وفهم ما فيه فقال له المجيز إن فلانا قد حدثنا بما في هذا الكتاب على ما فهمته بأسانيده هذه فأنا أحدثك منه وأجزت لك الحديث به فيصح الإجازة على هذا الوجه إذا كان المستجيز مأمونا بالضبط والفهم ثم المستحب في ذلك أن يقول: أجاز لي فلان ويجوز أن
ـــــــ
الأصبهاني1 وأبو نصر الوائلي2 السجزي والشافعي في رواية الربيع عنه وأبو طاهر الدباس من أصحابنا فيما حكاه محمد بن ثابت الخجندي عنه وغيرهم; لأن ظاهرها إباحة التحدث والإخبار عنه من غير أن يحدثه أو يخبره وهذا إباحة الكذب وليس له ذلك ولا لغيره أن يستبيح الكذب إذا أبيح, وجوزها الجمهور من الفقهاء والمحدثين, وهو الظاهر من مذهب الشافعي أيضا; لأن الضرورة دعت إلى تجويزها; فإن كل محدث لا يجد من يبلغ إليه ما صح عنده ولا يرغب كل طالب إلى سماع جميع ما صح عند شيخه فلو لم يجوز الإجازة لأدى إلى تعطيل السنن واندراسها وانقطاع أسانيدها ولذلك كانت الإجازة من قبيل الرخصة لا من العزيمة فكان قوله أجزت لك أن تروي عني ما صح من مسموعاتي في العرف جاريا مجرى قوله ما صح عندك من أحاديثي قد سمعته فاروه عني فلا يكون كذبا إليه أشير في "المحصول" و"المعتمد"3.
والإجازة مأخوذة من جواز الماء الذي يسقاه المال من الماشية والحرث يقال: استجزت فلانا فأجازني, إذا أسقاك ماء لأرضك أو ماشيتك كذلك طالب العلم يسأل العالم أن يجيزه علمه فيجيزه إياه فعلى هذا للمجيز أن يقول أجزت فلانا مسموعاتي أو مروياتي فيعد به بغير حرف جر من غير حاجة إلى ذكر لفظ الرواية, ويحتاج إلى ذلك من يجعل الإجازة بمعنى التسويغ والإذن والإباحة وذلك هو المعروف فتقول أجزت لفلان رواية مسموعاتي مثلا ومن يقول منهم أجزت له مسموعاتي فعلى سبيل الحذف الذي لا يخفى نظيره. ثم الإجازة إن كانت لموجود معين وكان المجاز له عالما بما في الكتاب الذي أجازه بروايته على ما ذكره الشيخ في الكتاب صحت الإجازة عند القائلين بجوازها وحلت له الرواية; لأن الشهادة تصح بهذه الصفة; فإن الشاهد إذا وقف على جميع ما في الصك وكان
ـــــــ
1 هو أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حبان الأنصاري الأصفهاني المعروف بأبي الشيخ (274-369)هـ، انظر الأعلام 4/264.
2 هو أبو نصر عبد الله بن سعيد بن حاتم السجزي الوائلي المتوفى سنة 469هـ، انظر معجم المؤلفين 6/58.
3 هو محمد بن ثابت بن الحسن بن إبراهيم الخجندي الشافعي توفي سنة 483هـ، انظر معجم المؤلفين 9/143.(3/64)
يقول: حدثني أو أخبرني. والأولى أن يقول: أجاز لي ويجوز أخبرني، لأن ذلك دون المشافهة. وإذا لم يعلم بما فيه بطلت الإجازة عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وصح في قياس قول أبي يوسف رحمه الله وأصل ذلك في كتاب
ـــــــ
ذلك معلوما لمن عليه الحق فقال: أجزت لك أن تشهد علي بجميع ما في هذا الكتاب كان صحيحا, فكذا رواية الخبر.
"ثم المستحب في ذلك" أي في هذا القسم, وهو الإجازة أن يقول عند الرواية أجاز لي, وهو العزيمة في الباب ويجوز أن يقول أخبرني أو حدثني بطريق الرخصة لوجود الخطاب والمشافهة فيهما, وهو قوله أجزت لك بخلاف الكتاب والرسالة إذ الخطاب لم يوجد فيهما أصلا إلا أن ما ذكرنا دون حقيقة القراءة فكانت العزيمة فيه ما قلنا هذا هو مختار الشيخ والقاضي الإمام أبي زيد والأصح ما ذكره شمس الأئمة رحمه الله أن الأحوط أن يقول: أجاز لي فلان وإن قال: أخبرني فهو جائز أيضا ولا ينبغي أن يقول: حدثني; فإن ذلك يختص بالإسماع ولم يوجد. وقولهم قد وجد الخطاب فيجوز أن يقول: حدثني قلنا إنما وجد الخطاب بقوله أجزت لك لا بالحديث والكتاب الذي يرويه فلا يجوز أن يقول حدثني بناء على ذلك الخطاب; لأن المقصود منه حدثني بالكتاب أو الحديث لا بالإجازة, وعامة الأصوليين والمحدثين ذهبوا إلى امتناع جواز حدثني وأخبرني مطلقا لإشعارهما بصريح نطق الشيخ وهما من غير نطق منه كذب بخلاف المقيد نحو حدثني أو أخبرني إجازة وهذا بناء على أن الإخبار كالتحديث عندهم كما ذكره صاحب "المعتمد".
وذهب البعض إلى امتناع المقيد أيضا احتياطا, ونقل عن الأوزاعي أنه خصص الإجازة بقوله خبرنا بالتشديد والقراءة على الشيخ بقوله أخبرنا وذكر الحاكم النيسابوري في "معرفة علوم الحديث" أن الذي عليه أكثر مشايخ الحديث أنه يقول فيما يأخذ من المحدث لفظا ليس معه غيره حدثني فلان وفيما يأخذه منه لفظا مع غيره حدثنا فلان وفيما قرأه على المحدث بنفسه أخبرني فلان وفيما قرئ عليه, وهو حاضر أخبرنا فلان وفيما عرض على المحدث وأجاز له روايته شفاها أنبأني فلان وفيما كتب إليه ولم يشافهه بالإجازة كتب إلى فلان ولا يجوز في الإجازة والمناولة أن يقول حدثنا ولا أخبرنا; لأنه إضافة فعل التحديث والإخبار إلى من لم يفعل ذلك ولكن يقول أجاز لي فلان أو أنبأني إجازة والأولى تحري الصدق ومجانبة الكذب بما يمكنه.
وذكر في "رسالة" أبي الوفاء أن في الرواية بالإجازة تقول أجاز لي فلان بن فلان أن(3/65)
القاضي إلى القاضي والرسائل أن علم ما فيهما شرط لصحة الإشهاد عندهما خلافا لأبي يوسف وإنما جوز ذلك أبو يوسف فيما كان من باب الإسرار في
ـــــــ
فلان بن فلان أخبره أو حدثه أو يقول أخبرني فلان بن فلان إجازة أن فلان بن فلان أخبره أو حدثه ولا يتلفظ لشيخه بقال; فإن ذلك يكون كذبا عليه, فإنه لم يتلفظ له بالإخبار والتحدث.
قوله "وإذا لم يعلم بما فيه" أي لم يعلم المجاز له في الكتاب فإن كان الكتاب محتملا للزيادة والنقصان غير مأمون عن التغيير لا يحل له الرواية بالاتفاق وإن كان مأمونا عن التغيير غير محتمل للزيادة والنقصان ينبغي أن لا يحل الرواية ولا يصح الإجازة عند أبي حنيفة ومحمد ويحل ويصح عند أبي يوسف رحمهم الله وأصل ذلك أي أصل هذا الاختلاف اختلافهم في كتاب القاضي إلى القاضي وكتاب الرسالة; فإن علم الشهود بما في الكتاب والرسالة شرط لصحة الإشهاد, وهو قول أبي يوسف الأول ثم رجع, وقال إذا شهدوا أنه كتابه وخاتمه قبل وإن لم يعرفوا ما فيه, وهو قول ابن أبي ليلى; لأن كتاب القاضي إلى القاضي قد يشتمل على أشياء لا يعجبهما أن يقف عليها غيرهما, ولهذا يختم الكتاب ومعنى الاحتياط قد يحصل إذا شهدا أنه كتابه وختمه فلم يشترط علمهما بما فيه وهما يقولان لا بد من أن يكون ما هو المقصود معلوما للشاهد والمقصود ما في الكتاب لا عين الكتاب والختم وكتب الخصومات لا تشتمل على شيء سوى الخصومة فللسر كتاب آخر على حدة فأما ما يبعث على يد الخصم فلا يشتمل إلا على ذكر الخصومة ولفظ الشهادة كذا في المبسوط وكتاب الرسالة أن يكتب رسالة ويبعث إلى من يريده ويشهد شاهدين بأن هذه رسالتي إلى فلان فيشترط علم ما في الكتاب عند هما خلافا لأبي يوسف كذا في بعض الشروح.
قوله "وإنما جوز ذلك" أي الإشهاد بدون علم ما في الكتاب فيما كان من باب الأسرار مثل كتاب القاضي إلى القاضي على ما ذكرنا فلو شرط علم الشهود بما فيه ربما أفشى الشهود بسرهم فيتضررون به حتى لم يجوز أي الإشهاد بدون علم ما في الصكوك; لأنها بنيت على الشهرة ولم تشتمل على سر يكتم من الشهود فشرط علم ما فيها لصحة الإشهاد, وفي نكاح مختلفات القاضي الغني رحمه الله أجمعوا في الصك أن الإشهاد لا يصح ما لم يعلم الشاهد ما في الكتاب فاحفظ هذه المسألة; فإن الناس يعملون بخلاف ذلك; فإنهم يشهدون على ما في الصك من غير قراءة الحدود, وذكر في "التقويم" و"الغنية" الاختلاف في الصك أيضا.(3/66)
العادة حتى لا يجوز في الصكوك وكذلك المناولة مع الإجازة مثل الإجازة المفردة سواء فيحتمل أن لا يجوز في هذا الباب ويحتمل الجواز بالضرورة
ـــــــ
وقوله: فيحتمل كذا متصل بقوله حتى لم يجوز في الصكوك وقوله وكذلك المناولة إلى آخره معترض أي يحتمل أن لا يصح الإجازة بغير علم ما في الكتاب عنده أيضا في باب الحديث كما في الصكوك لانتفاء الضرورة وهي اشتمال الكتاب على الأسرار إذ كتب الأخبار لا تشتمل على سر يخفى من أحد إليه أشار شمس الأئمة1. ويحتمل الجواز بالضرورة أي يحتمل أن يجوز الإجازة عنده بغير علم ما في الكتاب كما جاز الإشهاد في كتاب القاضي بالضرورة وهي أن المحدث يحتاج إلى تبليغ ما صح عنده من الأخبار إلى الغير ليتصل الإسناد ويبقى الدين إلى آخر الدهر, وقد ظهر التكاسل والتواني في الناس في أمور الدين وربما لا يتيسر للطالب القراءة على المحدث وفي اشتراط العلم بما في الكتاب نوع تنفير فجوزت الإجازة من غير علم للضرورة كما جوزت مع العلم للضرورة وذكر أبو عمرو الدمشقي في كتابه أن الإجازة يستحسن إذا كان المجيز عالما بما يجيز والمجاز له من أهل العلم; لأنها توسع وترخيص يتأهل له أهل العلم لمسيس حاجتهم إليها وبالغ بعضهم في ذلك فجعله شرطا, وحكاه أبو العباس الوليد بن بكر المالكي عن مالك, وقال الحافظ أبو عمر الصحيح أنها لا يجوز إلا لماهر بالصناعة وفي شيء معين لا يشكل إسناده.
قوله "وكذلك المناولة مع الإجازة مثل الإجازة المفردة" أي المناولة التي وجدت فيها الإجازة مثل الإجازة المفردة في جميع ما تقدم من الأحكام ولا اعتبار لها بدون الإجازة; لأنها لتأكيد الإجازة ولا اعتبار للمؤكد بدون المؤكد كذا في عامة نسخ أصول الفقه وذكر في المعتمد المناولة أن يشير الإنسان إلى كتاب يعرف ما فيه من الأحاديث فيقول لغيره قد سمعت ما في هذا الكتاب فيكون بذلك محدثا بأنه سمعه ويجوز لذلك الغير أن يرويه عنه فيقول حدثني فلان أو أخبرني فلان وسواء قال اروه أو لم يقل ذلك فأما إذا قال له حدث عني بما في هذا الجزء ولم يقل قد سمعته; فإنه لا يكون محدثا له به وإنما أجاز له التحدث به عنه فليس له أن يحدث به عنه; لأنه يكون بالتحدث كاذبا ولا يصير ذلك مباحا بإباحته.
وذكر أبو عمرو الدمشقي أن المناولة على نوعين أحدهما المناولة المقرونة لإجازة وهي أعلى أنواع الإجازة على الإطلاق, ولها صور.
ـــــــ
1 هو أبو العباس الوليد بن أبي بكر بن مخلد الغمري، والفقيه المالكي، توفي سنة 392هـ، أنظر معجم المؤلفين 13/170.(3/67)
-----------------------------------------------------
ـــــــ
منها أن يدفع الشيخ إلى الطالب أصل سماعه أو فرعا مقابلا به ويقول هذا سماعي أو روايتي عن فلان فاروه عني أو أجزت لك روايته عني ثم تملكه إياه أو يقول خذه وانسخه وقابل به ثم رده إلي أو نحو هذا.
ومنها أن يجيء الطالب إلى الشيخ بكتاب أو جزء من حديثه فيعرضه عليه فيتأمله الشيخ, وهو عارف متيقظ ثم يعيده إليه ويقول له وقفت على ما فيه, وهو حديثي عن فلان أو روايتي عن شيوخي فيه فاروه عني أو أجزت لك روايته عني, وقد سمى هذا غير واحد من أئمة الحديث عرضا, وقد قلنا إن القراءة على الشيخ تسمى عرضا أيضا إلا أن الأول يسمى عرض القراءة وهذا عرض المناولة, وهذه المناولة المقترنة بالإجازة حالة محل السماع عند جماعة جمة من المحدثين مثل الزهري وربيعة ويحيى بن سعيد ومالك بن أنس ومجاهد وأبي الزبير1 وابن عيينة وعلقمة2 وإبراهيم والشعبي وقتادة وأبي العالية وغيرهم والصحيح أن ذلك غير حال محل السماع وأنه منحط عن درجة التحديث لفظا والإخبار قراءة. قال الحاكم أبو عبد الله: أما فقهاء الإسلام الذين أفتوا في الحلال والحرام فلم يرده سماعا وبه قال أبو حنيفة والشافعي والأوزاعي والبويطي والمزني وأحمد بن حنبل وابن المبارك وإسحاق بن راهويه3 قال: وعليه عهدنا أئمتنا وإليه نذهب.
ومنها: أن يناول الشيخ الطالب كتابه ويجيز له روايته عنه ثم تمسكه الشيخ عنده ولا يمكنه منه فهذا يتقاعد عما سبق لعدم احتواء الطالب على ما تحمله وغيبته عنه وجاز له رواية ذلك عنه إذا ظفر بالكتاب أو بما هو مقابل به على وجه يثق معه بموافقته لما تناولته الإجازة على ما هو معتبر في الإجازات المجردة عن المناولة, ثم إن مثل هذه المناولة لا يكاد يظهر لها حصول مزية على الإجازة من غير مناولة, وقد صار غير واحد من الفقهاء والأصوليين إلى أنه لا تأثير لها ولا فائدة غير أن شيوخ أهل الحديث في القديم والحديث يرون لذلك مزية معتبرة.
ومنها: أن يأتي الطالب الشيخ بكتاب أو جزء فيقول هذا روايتك فناولنيه وأجز لي
ـــــــ
1 هو محمد بنمسلم بن تدرس المكي الحافظ الصدوق مولى حكيم بن حزام القرشي، توفي سنة 126هـ، أنظر تهذيب التهذيب 9/442.
2 هو علقمة بن قيس بن عبد الله، أنظر تذكرة الحفاظ 1/48.
3 هو إسحاق بن إبراهيم من مخلد بن راهوية الحنظلي المروزي (116-238)هـ، أنظر حلية الأولياء 9/234-238.(3/68)
وإنما يجوز عنده إذا أمن الزيادة والنقصان والأحوط قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله. ويحتمل أن يكون قول أبي يوسف مثله أيضا; لأن السنة أصل في الدين وأمرها عظيم وخطبها جسيم وفي تصحيح الإجازة من غير علم ومعرفة رفع الابتلاء وحسم لباب المجاهدة وفتح لباب التقصير والبدعة وإنما ذلك نظير
ـــــــ
روايته فيجيبه إلى ذلك من غير أن ينظر فيه ويتحقق روايته لجميعه فهذا لا يجوز ولا يصح إلا إذا كان الطالب موثوقا بخبره ومعرفته فحينئذ جاز الاعتماد عليه في ذلك وكان ذلك إجازة جائزة; فإن الخطيب أبا بكر ولو قال حدث بما في هذا الكتاب عني إن كان من حديثي مع براءتي من الغلط والوهم كان ذلك جائزا حسنا.
والثاني المناولة المجردة عن الإجازة بأن يناوله الكتاب كما تقدم ذكره يقتصر على قوله هذا من حديثي أو من سماعاتي ولا يقول اروه عني أو أجزت لك روايته عني ونحو ذلك فهذه مناولة مختلة لا يجوز الرواية بها وعليها غير واحد من الفقهاء والأصوليين على المحدثين الذين أجازوها وسوغوا الرواية بها, وحكي عن جماعة أنهم صححوها مثل ابن جريج وأبي نصر بن الصباغ وأبي العباس بن الوليد والقاضي أبي محمد بن خلاد وغيرهم.
قوله: "وإنما يجوز عنده" أي إنما يجوز الرواية من غير علم ما في الكتاب عند أبي يوسف على تقدير ثبوت الجواز إذا كان الكتاب مأمونا عن الزيادة والنقصان; فإن عامة الأصوليين وجميع أهل الحديث قالوا: إن الرجل إذا سمع على شيخ نسخته في كتاب مشهور مثل صحيح البخاري مثلا لا يجوز له أن يشير إلى غير تلك النسخة من ذلك الكتاب فيقول: قد سمعته; لأن النسخ من الكتاب الواحد قد تختلف إلا أن يعلم أن النسختين تتفقان, فكذا هنا. "والأحوط كذا" أي الأقرب إلى الاحتياط أن يقال: لا يصح الإجازة بدون علم ما في الكتاب في قولهم جميعا كما اختاره بعض المشايخ; لأن السنة أصل الدين لبناء أكثر أحكامه عليها "وخطبها جسيم" فلا وجه للحكم بصحة تحتمل الإمامة فيها قبل أن تصير مفهومة معلومة, ألا ترى أنه لو قرأ عليه المحدث فلم يسمع ولم يفهم لم يجز له أن يروي ففي الإجازة التي هي دون القراءة أولى أن لا يجوز, وفي تصحيح الإجازة من غير علم رفع للابتلاء; فإن الناس مبتلون بالتعليم والتعلم وتحمل المشاق في ذلك من هجر الإخوان والخلاف وقطع الأسفار البعيدة والصبر على مكاره الغربة كما وقعت إليه الإشارة النبوية في قوله عليه السلام "اطلبوا العلم ولو بالصين" فلو جوزت الإجازة بدون علم لرغب الناس عن التعليم اعتمادا على صحة الرواية بدونه.
"وحسم لباب المجاهدة" أي قطع للجهاد; فإن طلب العلم جهاد فإذا تمكن من(3/69)
سماع الصبي الذي ليس من أهل التحمل وذلك أمر يتبرك به لا طريق تقوم به
ـــــــ
رواية الحديث بدون العلم تكاسل في طلبه وانقطع عنه "وفتح لباب التقصير والبدعة" إذا لم ينقل عن السلف مثل هذه الإجازة فتكون بدعة, "وإنما ذلك" أي ما ذكرنا من الإجازة والمناولة بدون علم نظير سماع الصبي الذي ليس من أهل التحمل بأن يكون جاهلا به فأما إذا كان عالما به; فإنه يكون أهلا للتحمل في الحال والرواية بعد البلوغ على ما مر بيانه وكأنه جواب عما يقال: قد أقدم المشايخ على إجازة من ليس له علم ومعرفة بالرواية عند حصول العلم وشاع ذلك فيهم فدل ذلك على صحتها على ما سيأتيك بيانه فقال ذلك نظير سماع الصبي الذي ليس بأهل للتحمل; فإنهم قد أحضروا الصبيان مجالس أهل الحديث على وجه التبرك; فإنهم قوم لا يشقى جليسهم لا على أنه طريق يقوم به الحجة فكذلك هاهنا.
ونبين الآن أنواع الإجازة على ما ذكرها الحافظ أبو عمرو الدمشقي في كتاب معرفة علوم الحديث فقال الإجازة أنواع:
أولها: أن يجيز لمعين في معين مثل أن أجزت لك الكتاب الفلاني أو ما اشتملت عليه فهرستي هذه فهي أعلى أنواع الإجازة المجردة عن المناولة, حتى زعم بعضهم أنه لا خلاف في جوازها إنما الخلاف في غير هذا النوع.
والثاني: أن يجيز لمعين في غير معين مثل أن يقول أجزت لك أو لكم جميع مسموعاتي أو جميع مروياتي والخلاف في هذا النوع أقوى وأكثر والجمهور من الفقهاء والمحدثين على تجويز الرواية بها أيضا وإيجاب العمل بما روي بها.
والثالث: أن يجيز لغير معين بوصف العموم مثل أن يقول أجزت للمسلمين أو لكل أحد أو لمن أدرك زماني وما أشبهها, وقد تكلم فيه المتأخرون ممن جوز أصل الإجازة, ثم إن كان ذلك مقيدا بوصف حاضر أو نحوه فهو إلى الجواز أقرب ومن جوز ذلك كله أبو بكر الخطيب الحافظ وأبو عبد الله بن منده1 الحافظ وأبو عبد الله بن عتاب2 وأبو محمد بن سعيد الأندلسي وجماعة من المتأخرين قال أبو عمرو ولم نر ولم نسمع عن أحد ممن يقتدى به أنه استعمل هذه الإجازة فروي بها ولا عن الشرزمة المتأخرة الذين
ـــــــ
1 هو الحافظ أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن منده العبدي الأصفهاني ولد سنة 310هـ، توفي سنة 395ه،، أنظر طبقات الحنابلة 2/167.
2 هو أبو العباس عبد الله بن عبات بن أحمد بن كثير البصري الأصل الدمشقي ابن الزفتي 224-320هـ، أنظر شذرات الذهب 2/285-286.(3/70)
الحجة فكذلك ها هنا, وأما من جلس مجلس السماع, وهو يشتغل عنه بنظر في كتاب غير الذي يقرأ أو يخط بقلم أو يعرض عنه بلهو ولعب أو يغفل عنه بنوم
ـــــــ
سوغوها والإجازة في أصلها ضعف وتزداد بهذا التوسع والاسترسال ضعفا كثيرا لا ينبغي احتماله.
والرابع: الإجازة للمجهول أو بالمجهول مثل أن يقول: أجزت لمحمد بن جعفر الدمشقي, وقد اشتركت جماعة في هذا الاسم والنسب أو يقول أجزت لفلان أن يروي عني كتاب السنن, وهو يروي جماعة من كتب السنن المعرفة بذلك ثم لا يعين فهذه إجازة فاسدة لا فائدة لها.
والخامس: الإجازة للمعدوم مثل أن يقول أجزت لمن يولد لفلان واختلف المتأخرون في جوازه; فإن عطف المعدوم على الموجود بأن قال أجزت لفلان ولمن يولد له أو أجزت لك ولولدك ولعقبك ما تناسلوا كان ذلك أقرب إلى الجواز, وإن أجيز للمعدوم ابتداء من غير عطف على الموجود فقد جوزه قوم بناء على أن الإجازة إذن في الرواية لا محاد به, والصحيح عدم الجواز; لأن الإجازة في حكم الإخبار حمله بالمجاز فكما لا يصح الإخبار للمعدوم لا يصح الإجازة له ولو قدرنا أيضا أن الإجازة إذن فلا يصح ذلك للمعدوم أيضا كما لا يصح الإذن في باب الوكالة للمعدوم لوقوعه في حالة لا يصح فيها المأذون فيه من المأذون له وهذا أيضا يوجب بطلان الإجازة للطفل الصغير الذي لا يصح سماعه قال الخطيب سألت القاضي أبا الطيب الطبري عن الإجازة للطفل الصغير هل يعتبر في صحتها سنه أو تمييزه كما يعتبر ذلك في صحة سماعه فقال لا يعتبر ذلك قال فقلت له إن بعض أصحابنا قال لا يصح الإجازة لمن لا يصح سماعه فقال قد يصح أن يجيز للغائب عنه ولا يصح السماع والدليل على صحتها إن الإجازة إباحة المجيز للمجاز له أن يروي عنه والإباحة يصح للعاقل وغير العاقل قال وعلى هذا رأينا شيوخنا كافة يجيزون للأطفال الغيب عنهم من غير أن يسألوا عن مبلغ أسنائهم وحال تميزهم ولم نرهم أجازوا لمن لم يكن مولودا وكأنهم رأوا الطفل أهلا لتحمل هذا النوع من أنواع تحمل الحديث ليؤدي به بعد حصول أهليته حرصا على توسيع السبيل إلى بقاء الإسناد.
والسادس: إجازة ما لم يسمعه المجيز ليرويه المجاز له إذا تحمله المجيز بعد ذلك والصحيح فيه عدم الجواز; لأن الإجازة إخبار ولا يصح الإخبار بما لا خبرة عنده منه وعلى هذا يجب على من يريد أن يروي بالإجازة عن شيخ إجازة له جميع مسموعاته مثلا أن يروي ما سمعه شيخه قبل الإجازة لا بعدها.
والسابع: إجازة المجاز مثل أن يقول أجزت لك مجازاتي وأجزت لك رواية ما أجيز(3/71)
وكسل فلا ضبط له ولا أمانة وتخاف عليه أن يحرم خطه والعياذ بالله ولا تقوم
ـــــــ
لي روايته ومنع ذلك بعض من لا يعتد به من المتأخرين اعتبار بامتناع توكيل الوكيل بغير إذن الموكل والصحيح الذي عليه العمل أن ذلك جائز.
قوله "وكذلك" أي وكما لا تحل الرواية بالإجازة لمن لا معرفة له بالمجاز لا تحل الرواية بالسماع لمن جلس مجلس السماع, "وهو يشغل" أي يغفل عنه بسبب نظر في كتاب غير الذي يقرأ كما حكى شيخنا رحمه الله أن الشيخ الإمام سيف الملة والدين الباخرزي1 رحمه الله كان يقرأ صحيح البخاري على الشيخ الإمام المحقق جمال الدين المحبوبي2 رحمه الله في جماعة وكان مع واحد منهم نسخة عتيقة ينظر فيه فاشتبه لفظ يوما فقيل انظروا في تلك النسخة العتيقة فنظروا فإذا هي شرح الطحاوي يستمع صاحبه عليه صحيح البخاري.
"فلا ضبط له ولا أمانة إلى آخره" قال الشيخ أبو الوفاء عبد الرحيم بن علي في رسالته إن سماع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم له شأن عظيم ولمباشرته واقتباسه حرمة قوية فلا يباشر إلا بالتوقير والاحترام ولا يقدم إلا عليه بالتعظيم والإكرام قال ولقيت من مشايخي من لا يدخل بيت كتبه والمواضع المعهودة لكتب الحديث إلا بالطهارة ولا يبيت في موضع فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأيت منهم من لا يستجيز من نفسه ومن غيره الضحك والمزاج والانبساط والكلام مثلا بحضرة كتب الحديث وفي مجلس الحديث فهذا هو الطريقة المرضية فأما من يجازف ويستخف بهذا الأمر ويتهاون به وقت التحمل والأداء فلا كرامة له ولا يسمع منه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ولا ممن يكون مكثارا مهذارا صاحب هذيان ووقوع في أعراض الناس وغيبة للمسلمين ولا ممن لا يتمكن من حفظ لسانه من الفحش وإنما يسمع الحديث والأثر من شيخ صالح عفيف وقور سكوت إلا عما يعنيه من الكلام ويحتاج إليه مراع للجماعات والجمع كاف للسان عما ذكرت ويعرف ما يخرج من حديثه وكتبه إلى الناس ويعرف صوابه من خطئه ويغلب صوابه على خطئه ويحسن مراعاة عين سماعه والمقابلة, وإذا خطأ ونبه عليه رجع إلى الصواب, وإذا كان الخطأ من عنده لا يلح ولا يدعي أنه كذا سمعه دفعا عن نفسه قال وهذا أمر الاحتياط والتنزه فيه أكثر من
ـــــــ
1 هو الإمام سيف الدين أبو المعالي سعيد بن المطر بن سعيد بن علي القائدي الباخرزي نزيل بخاري توفي 659هـ، أنظر الوافي بالوفيات 15/262.
2 هو جمال الدين عبيدالله بن إبراهيم بن أحمد بن عبد الملك المحبوبي العبادي 546-630هـ، أنظر الفوائد البهية ص 108.(3/72)
الحجة بمثله ولا يتصل الإسناد بخبره إلا ما يقع من ضرورة; فإنه عفو وصاحبه معذور قف.
وإذا صح السماع وجب الحفظ إلى وقت الأداء وذلك نوعان أيضا تام وما دونه عند المقابلة فالأول عزيمة مطلقة والثاني رخصة انقلبت عزيمة أما الأول
ـــــــ
أن يوقف عليه بحال ومن كان في هذا الأمر أيقن وأعرف فهو أجبن وأخوف ومن كان فيه أجهل وأغمر فهو فيه أغفل وأجسر.
وذكر أبو عمرو الدمشقي أن اعتبار مجموع ما ذكره أهل الحديث من الشروط في رواة الحديث ومشايخه قد تعذر الوفاء بها في هذا الزمان فليعتبر من الشروط ما يحصل به الغرض من المحافظة على خصيصة هذه الأمة في الأسانيد والمجاوزة من انقطاع سلسلتها وليكتف في أهلية الشيخ بكونه مسلما بالغا عاقلا غير متظاهر بالفسق والسخف وفي ضبطه بوجود سماعه مثبتا بخط غير متهم وبروايته من أصل موافق لأصل شيخه وذكر عن الحافظ أبي بكر البيهقي أن الأحاديث التي قد صحت أو وقعت بين الصحة والسقم قد دونت وكتبت في الجوامع التي جمعها أئمة الحديث ولا يجوز أن يذهب شيء منها على جميعهم وإن جاز أن يذهب على بعضهم لضمان صاحب الشريعة حفظها فمن جاء اليوم بحديث لا يوجد عند جميعهم لم يقبل منه ومن جاء بحديث معروف عندهم فالذي يرويه لا ينفرد بروايته والحجة قائمة بحديثه برواية غيره, والقصد من روايته والسماع منه أن يصير الحديث مسلسلا بحدثنا وأخبرنا وتبقى هذه الكرامة التي خصت بها هذه الأمة شرفا لنبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وقوله: "إلا ما يقع عن ضرورة" استثناء عن قوله يشتغل ويعرض ويغفل من حيث المعنى أي الاشتغال بالنظر والإعراض والغفلة يمنع من صحة الضبط والسماع إلا مقدار ما لا يمكن الاحتراز عنه وهو القليل فإنه جعل عفوا; لأن مواضع الضرورة مستثناة عن قواعد الشرع.
قوله "وإذا صح السماع" ذكر في طرف السماع قسما آخر لم يذكره في التقسيم الأول, وهو الحفظ إلى وقت الأداء, وهو في الحقيقة قسم آخر كما قال شمس الأئمة رحمه الله إلا أن الشيخ جعله من توابع السماع فقال: وإذا صح السماع أي حصل إما بقراءة المحدث أو بقراءة نفسه عليه أو بالكتاب إليه أو بالرسالة أو بالإجازة أو بالمناولة وجب حفظ المسموع إلى وقت الأداء; لأن الغرض من السماع العمل والتبليغ ولا بد لهما من الحفظ " وذلك أي الحفظ نوعان أيضا كالسماع والتبليغ; فإن كل واحد قسمان تام أي كامل وما دون التام عند المقابلة به يعني قصوره إنما يظهر إذا قوبل بالقسم الأول الذي(3/73)
فالحفظ من غير واسطة الخط وهذا فضل خص به رسول الله عليه السلام لقوة نور القلب استغنى عن الخط, وكانوا لا يكتبون من قبل ثم صارت الكتابة سنة في الكتاب والحديث صيانة للعلم لفقد العصمة من النسيان.
ـــــــ
كان موجودا في ذلك الزمان, فأما في زماننا فالقسم الثاني الذي انقلب عزيمة أقوى من القسم الأول حتى كانت الرواية عن الكتاب أقوى من الرواية عن الحفظ لتمكن الخلل فيه. أما الأول وهو العزيمة المطلقة فالحفظ من وقت السماع إلى وقت الأداء من غير واسطة الخط أي من غير احتياج إلى كتابة المسموع خوفا من النسيان ومن غير احتياج إلى الرجوع إلى كتاب للتذكر بل الحفظ مستدام إلى وقت الأداء والحفظ بالقلب غاية الكمال; لأنه موضع الحفظ ومعدنه.
"وكانوا لا يكتبون" أي الصحابة رضي الله عنهم لا يكتبون الأخبار بل يحفظونها ويروونها عن ظهر القلب ببركة صحبة النبي صلى الله عليه وسلم فلما دنا انقراض عصرهم وبعد زمان النبوة صارت الكتابة سنة أي طريقة مرضية "في الكتاب" أي في كتاب الله تعالى والحديث قال إبراهيم النخعي: كانوا يأخذون العلم حفظا ثم أبيح لهم الكتاب أي الكتابة لما حدث بهم من الكسل, وقد جاء في الحديث "قيدوا العلم بالكتاب" 1 أي بالكتابة.
وذكر أبو عمرو رحمه الله أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا مختلفين في جواز كتابة الحديث فكرهها عمر وابن مسعود وزيد بن ثابت وأبو موسى وأبو سعيد الخدري في جماعة آخرين من الصحابة والتابعين وأباحها علي وابنه الحسن وأنس وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم.
فالحجة للفريق الأول ما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تكتبوا عني شيئا إلا القرآن ومن كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه" 2 أخرجه مسلم في صحيحه. والحجة للفريق الثاني حديث "أبي شاه اليمني في التماسه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب له شيئا سمعه من خطبته عام فتح مكة". وقوله صلى الله عليه وسلم "اكتبوا لأبي شاه" 3 ولعله صلى الله عليه وسلم أذن في الكتابة عنه لمن خشى عليه النسيان ونهى عن الكتابة عنه من وثق بحفظه محافظة الاتكال على الكتاب أو نهى عن كتابة ذلك حين خاف عليهم اختلاط ذلك
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الزهد حديث رقم 3004، والإمام أحمد في المسند 3/12.
2 أخرجه البخاري في العلم باب رقم 39. ومسلم في الحج حديث رقم 1355 وأبو داود في المناسك حديث رقم 2017. والترمذي في العلم حديث رقم 2667.
3 وأخرجه أبو داود حديث رقم 907، والإمام أحمد في المسند 4/74.(3/74)
---------------------------------------------------------------------------------
ـــــــ
بصحف القرآن وأذن في كتابته حين أمن من ذلك ثم أنه زال ذلك الخلاف وأجمع المسلمون على تسويغ ذلك وإباحته ولولا تدوينه لدرس في الأعصر الآخرة, وهو معنى قوله: "صيانة للعلم" عن الاندراس, وهذا تعليل لقوله صارت الكتابة سنة. وقوله: "لفقد العصمة عن النسيان" تعليل للمجموع أي صيرورة الكتابة سنة لأجل الصيانة باعتبار فقد العصمة عن النسيان بفوات النبي عليه السلام, وقوله: "ثم صارت الكتابة" بيان القسم الثاني. "وهذا" أي الذي نشرع فيه.(3/75)
"وهذا باب الكتابة والخط"
وهذا يتصل بما سبق ذكره من باب الضبط. وهو نوعان ما يكون مذكرا, وهو الأصل الذي انقلب عزيمة وما يكون إماما لا يفيد تذكره.
ـــــــ
"باب الكتابة والخط": وهما واحد وهذا أي هذا القسم أو هذا الباب يتصل بباب الضبط; لأنه قد يكون بالحفظ, وقد يكون بالكتابة, "وهو نوعان" أي الحاصل بالكتابة والخط, وهو الكتاب نوعان "ما يكون مذكرا" وهو ما يتذكر بالنظر فيه ما كان مسموعا له وما لم يكن كذلك; لأن المقصود هو الذكر فلا يبالي بعد حصوله بأن حصل بالتفكر أو بالنظر في الكتاب والنسيان الواقع قبل التذكر معفو; لأنه لو اعتبر في حق عدم جواز الرواية أدى إلى تعطيل الأخبار والأحاديث كيف والنسيان مركب في الإنسان ولا يمكنه الاحتراز عنه إلا بحرج بين وذلك مدفوع وبعد النسيان النظر في الكتاب طريق للتذكر وعود إلى ما كان عليه من الحفظ, وإذا عاد كما كان فالرواية تكون عن حفظ تام "وإنما كان دوام الحفظ لرسول الله صلى الله عليه وسلم" يعني أنه كان مخصوصا بالحفظ الدائم لقوة نور قلبه ومع ذلك كان النسيان متصورا في حقه بدليل الاستثناء في قوله عز وجل: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى، إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى: 6-7], وقد "وقع له عليه السلام تردد في قراءة سورة المؤمنين في صلاة الفجر حتى قال لأبي رضي الله عنه "هلا ذكرتني" 1, وإذا تصور في حقه فكيف لا يتصور في حق غيره قوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} [الأعلى: 6-7]، أي نعلمك القرآن ونجعلك قارئا له فلا تنسى منه شيئا إلا ما شاء الله أن ينسخه فيزيل حفظه عن القلوب وقيل: معناه فلا تنسى إلا أن يريد الله إنساءك; فإنه قادر على ما شاء ثم هو لا ينسيك وإن كان قادرا عليه كما قال تعالى: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: 86], وهو لم يشأ ذلك فكان هذا من قبيل قولك لأعطينك كل ما سألت إلا أن أشاء أن أمنعك وأنت لا تريد أن تمنعه كذا في "التيسير".
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود بنحوه برقم 907، والإمام أحمد في المسند، 4/74.(3/76)
أما الذي يكون مذكرا فهو حجة سواء كان خطه أو خط رجل معروف أو مجهول; لأن المقصود هو الذكر والاحتراز عن النسيان غير ممكن وإنما كان دوام الحفظ لرسول الله عليه السلام مع قوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى، إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} الأعلى[: 6-7], وأما إذا كان الخط أماما لا يذكره شيئا; فإن أبا حنيفة كان يقول لا يحل الرواية بمثله بحال; لأن الخط للقلب بمنزلة المرآة للعين والمرآة إذا لم تفد للعين دركا كان عدما فالخط إذا لم يفد للقلب ذكرا كان هدرا, وإنما يدخل الخط في ثلاثة فصول فيما يجد القاضي في ديوانه مما لا
ـــــــ
قوله "وأما إذا كان الخط إماما لا يذكره شيئا" بأن وجد سماعا مكتوبا بخطه أو بخط أبيه أو بخط رجل معروف ولم يتذكر السماع; "فإن أبا حنيفة رحمه الله لا يجوز الرواية بمثله بحال" أي بمثل هذا الخط الذي لا يذكر شيئا سواء كان خطه أو خط غيره; لأن المقصود من الكتاب أن يتذكر إذا نظر فيه; لأن الكتاب للقلب كالمرآة للعين وإنما يعتبر المرآة ليحصل الإدراك بالعين, وإذا لم يحصل كان وجودها كعدمها, فكذا الخط للتذكر بالقلب عند النظر فيه فإذا لم يتذكر كان وجوده كعدمه, ومعنى كون الخط إماما أن الراوي إذا لم يستفد التذكر به كان اعتماده على الخط لا غير كاعتماد المقتدي على الإمام فكان الخط إمامه دون الحفظ.
وذكر أبو الحسين في "المعتمد" إذا روى الراوي الحديث من كتابه, فإن علم أنه قرأه على نهجه أو حدثه به وتذكر ألفاظ قراءته ووقتها أو لم يتذكر جازت الرواية والأخذ بها; لأنه عالم في الحال بأنه قرأ جميع ما في الكتاب أو سمعه منه وإن علم أنه لم يسمع ذلك الكتاب أو يظن ذلك أو يجوز الأمرين تجويزا على السوية فلا يجوز له روايته; لأنه ليس له أن يخبر بما يعلم أنه كاذب فيه أو ظان أو شاك وإن لم يتذكر سماعه لما في الكتاب ولا قراءته ولكن يغلب على ظنه ذلك لما يرى من خطه فهذا هو الذي ينبغي أن يكون محل الخلاف فعند أبي حنيفة رحمه الله لا يجوز له أن يروي ولا يجوز العمل بروايته وعند أبي يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله يجوز له الرواية ويجب العمل بها; لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يعملون على كتب النبي عليه السلام نحو كتابه لعمرو بن حزم من غير أن راويا روى ذلك الكتاب لهم بل عملوا لأجل الخط وأنه منسوب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاز مثله لغيرهم.
قوله "وإنما يدخل الخط في ثلاثة فصول" أي يتحقق الاعتماد على الخط وعدمه(3/77)
يذكره وما يكون في السنن والأحاديث وما يكون في الصكوك وروى بشر بن الوليد عن أبي حنيفة رحمهما الله عن أبي يوسف أنه لم يعمل به في ذلك كله وروي عن أبي يوسف أنه يعمل به في ديوان القاضي وروى ابن رستم عن محمد أنه يعمل بالخط في الكل والعزيمة في هذا كله ما قاله أبو حنيفة ولهذا قلت رواياته والرخصة فيما قالا فصارت الكتابة للحفظ عزيمة وبلا حفظ رخصة والعزيمة نوع واحد والرخصة أنواع:
ـــــــ
في ثلاثة مواضع فيما يجد القاضي في ديوانه من صحيفة فيها شهادة شهود لا يتذكر أنهم شهدوا بذلك أو سجل بخطه من غير أن يتذكر الحادثة.
وما يكون في الأحاديث كما بينا.
وما يكون في الصكوك بأن يرى الشاهد خطه في صك ولا يتذكر الحادثة.
"والعزيمة" أي الأصل في هذا كله ما قاله أبو حنيفة رحمه الله إنه لا يعتمد على الخط من غير تذكر; لأن الرواية والشهادة وتنفيذ القضاء لا يكون إلا بعلم والخط يشبه الخط شبها لا يمكن التمييز بينهما فبصورة الخط لا يستفيد علما من غير تذكر بل يقع بالبناء عليه ضرب شبهة يمكن الاحتراز عنها بالجد في الحفظ فلا يلغو اعتبار تلك الشبهة بنسيان يكون بالتقصير في الحفظ, وما فسد دين من الأديان إلا بالبناء على الصور دون المعاني, ألا ترى أنا لا نقبل رواية الأخرس وإن كانت له إشارة معقولة لضرب شبهة فيها يقع الاحتراز عنها بغيرها فاعتبرناها ولم نعتبر فيما يتصرف لنفسه وعليها فيثبت بها النكاح والطلاق والعتاق; لأنه لا يمكن الاحتراز عنها في حقه.
"والرخصة فيما قالاه" يعني ما قاله أبو حنيفة رحمه الله وإن كان هو العزيمة إلا أن ما قالاه ليس بفاسد أيضا بل هو رخصة وللرخصة مجال في هذا الباب; فإن اشتراط دوام الحفظ من وقت السماع إلى وقت التبليغ قد سقط وذلك بطريق الرخصة. وكذا الرواية بناء على الكتاب والرسالة, والإجازة والمناولة من باب الرخصة فلما كان للرخصة مدخل في هذا الباب وجب العمل بها "فصارت الكتابة للحفظ" أي مع الحفظ أو لأجل الحفظ عزيمة ويجوز أن يكون اللام للعاقبة أي صارت الكتابة التي عاقبتها الحفظ والتذكر عزيمة الضمير في بيده في المواضع الثلاثة راجع إلى ما يرجع إليه الضمير في بخطه "وذلك كله ثلاثة أنواع" أي جميع ما ذكرنا من الأقسام يوجد في ثلاثة مواضع, "وأما أبو يوسف فقد عمل به" أي بالخط الذي لا يفيد تذكرا في ديوان القاضي الديوان الجريدة, من دون الكتب إذا جمعها; لأنها قطع من القراطيس مجموعة ويروى أن عمر رضي الله عنه(3/78)
ما يكون بخط موثقا بيده لا يحتمل تبديلا وكذلك ما يوجد بخط معروف لرجل ثقة موثق بيده وما يكون بخط مجهول وذلك كله ثلاثة أنواع في الحديث والصكوك وديوان القاضي, أما أبو يوسف فقد عمل به في ديوان القاضي إذا كان تحت يده للأمن عن التزوير وعمل به في الأحاديث إن كان لهذا الشرط, وأما إذا لم يكن في يده لم يحل العمل به في الديوان; لأن التزوير في بابه غالب لما يتصل بالمظالم وحقوق الناس, وأما في باب الحديث; فإن العمل به جائز إذا كان خطا معروفا لا يخاف عليه التبديل في غالب العادة ويؤمن فيه الغلط; لأن التبديل فيه غير متعارف والمحفوظ بيد الأمين مثل المحفوظ بيده, وأما في الصكوك فلا يحل العمل به; لأنه تحت يد الخصم إلا أن يكون في يد الشاهد, وكذلك قول محمد رحمه الله إلا في الصكوك; فإنه جوز العمل به وإن
ـــــــ
أول من دون الدواوين أي رتب الجرائد للولاة والقضاة إذا كان تحت يده أي محفوظا بيده مختوما بخاتمه سواء كان بخطه أو بخط معروف; لأن القاضي لكثرة اشتغاله يعجز عن أن يحفظ كل حادثة, ولهذا يكتب وإنما يحصل المقصود بالكتاب إذا جاز له أن يعتمد عليه عند النسيان; فإن الإنسان ليس في وسعه التحرز عن النسيان فلو لم يجز له الاعتماد على الكتاب عند النسيان أدى إلى الحرج وتعطيل أحكام الشرع فإذا كان الكتاب في قمطرة مختوما بخاتمه محفوظا بيده أو بيد أمينة فالظاهر أنه حق وأنه لم يصل إليه يد مغيرة ولا زائدة فيه والقاضي مأمور باتباع الظاهر فجاز له العمل به وإن لم يحصل التذكر "وعمل به" أي بالخط من غير تذكر في الأحاديث أيضا إن كان الخط بهذا الشرط, وهو أن يكون تحت يده; لأن الناس يتفاوتون في التذكر والحفظ فلو شرطنا التذكر لصحة الرواية لا محالة أدى إلى تعطيل الأحاديث; "لأن التزوير في بابه" أي ديوان القاضي غالب "لما يتصل" أي لاتصاله وما مصدرية يعني ديوان القاضي يتعلق بالمظالم وهي جمع مظلمة بكسر اللام وهي ما تطلبه عند الظالم. "وأما في باب الحديث فإن العمل به" أي بالخط "جائز" وإن لم يكن في يده "إذا كان خطا معروفا" مأمونا عن التبديل والغلط في غالب العادة; لأن التبديل فيه غير متعارف; لأنه من أمور الدين ولا يعود بتغييره نفع إلى من يغيره فكان المحفوظ منه بيد أمين مثل المحفوظ بيده فيجوز الرواية عنه.
فأما في الصكوك فلا يجب العمل بالخط من غير تذكر; لأن الصك تحت يد الخصم فلا يحصل الأمن من التبديل والتغيير فيه فلا يحصل الشهادة ما لم يتذكر الحادثة حتى لو كان الصك في يد الشاهد جاز له الشهادة أيضا من غير تذكر لوقوع الأمن حينئذ عن التبديل(3/79)
لم يكن في يده استحسانا توسعة على الناس إذا أحاط علما بأنه خطه ولم يلحقه شك وشبهة والغلط في الخط نادر بقي فصل, وهو ما يحدث بخط أبيه أو بخط رجل معروف في كتاب معروف فيجوز أن يقول وجدت بخط أبي أو بخط
ـــــــ
كالسجل الذي في يد القاضي, "وكذلك قول محمد" أي ومثل قول أبي يوسف قول محمد رحمهما الله في جميع ما ذكرنا إلا في الصكوك; فإنه جوز العمل فيها بالخط وإن لم يكن الصك في يد الشاهد; لأنه لا يجري فيه التبديل والتغيير; فإنه لو ثبت يثبت بالخط والخط قلما يشبه الخط; لأن الله تعالى كما خلق الأجسام متفاوتة إظهارا لقدرته خلق الأفعال كذلك فالخط لا يشبه الخط إلا نادرا والنادر لا حكم له ولا اعتبار لتوهم التغيير; فإن له أثرا يوقف عليه فإذا لم يظهر ذلك جاز الاعتماد عليه.
قوله "بقي فصل" يعني بقي فصل لم يدخل في الأقسام المذكورة, وهو أنه إذا وجد كتابا بخط أبيه أو بخط رجل إلى آخره قال أبو الوفاء ونوع من الروايات الوجادة وتلك طريقة مسلوكة في الرواية أيضا فإذا احتاج إلى رواية شيء في تصنيف له وليس له فيه سماع, وهو موجود في كتاب صحيح أو سماع شيخ ثقة معروف بخطه أو بخط غيره ولكنه سماعه الثابت ويجب أن يرويه عنه أو يورده في كتابه وروايته يقول وجدت في كتاب فلان بخطه وسماعه أن فلان بن فلان أخبره أو حدثه أو وجدت في سماع فلان بن فلان أن فلان بن فلان أخبره أو حدثه ثم الفرق بين هذا القسم وبين ما تقدم أن ذلك في وجدان سماع نفسه بخطه أو بخط غيره وهذا في وجدان سماع الغير وعند بعض أهل الحديث حل له أن يقول في هذا القسم أخبرنا فلان عن فلان; لأن الكتاب إذا كان بخط أبيه أو بخط رجل معروف لا يتخلف عن الكتاب المبعوث إليه ولو بعث إليه كتابا حل له أن يروي ويقول أخبرنا فلان فهنا كذلك والأصح أنه لا يزيد على قوله وجدت بخط أبي أو بخط فلان أو في كتاب فلان ليكون أبعد عن التهمة هكذا في بعض مصنفات الشيخ رحمه الله.
وذكر شمس الأئمة رحمه الله أن الكتب المصنفة التي هي مشهورة في أيدي الناس لا بأس لمن نظر فيها وفهم شيئا منها وكان متقنا في ذلك أن يقول قال فلان كذا أو مذهب فلان كذا من غير أن يقول حدثني أو أخبرني; لأنها مستفيضة بمنزلة الخبر المشهور يوقف به على مذهب المصنف وإن لم يسمع منه فلا بأس بذكره على الوجه الذي ذكرنا بعد أن يكون أصلا معتمدا يؤمن فيه التصحيف والزيادة والنقصان.
وذكر الغزالي رحمه الله في المستصفى إذا رأى مكتوبا بخط ثقة أني سمعت عن فلان كذا لا يجوز له أن يروي عنه; لأن روايته شهادة عليه بأنه قاله والخط لا يعرفه هذا(3/80)
فلان لا يزيد عليه فأما الخط المجهول فعلى وجهين إما أن يكون مفردا وذلك باطل وإما أن يكون مضموما إلى جماعة لا يتوهم التزوير في مثله والنسبة تامة
ـــــــ
نعم يجوز أن يقول رأيت مكتوبا في كتاب بخط ظننت أنه خط فلان; فإن الخط قد يشبه الخط, أما إذا قال هذا خطي فيقبل قوله ولكن لا يروى عنه ما لم يسلطه على الرواية بصريح قوله أو بقرينة حاله كالجلوس لرواية الحديث, أما إذا قال عدل هذه نسخة صحيحة من نسخ صحيح البخاري مثلا فرأى فيه حديثا فليس له أن يروي عنه ولكن هل يلزمه العمل به إن كان مقلدا فعليه أن يسأل المجتهد وإن كان مجتهدا فقال قوم لا يجوز العمل به ما لم يسمعه. وقال قوم إذا علم صحة النسخة بقول عدل جاز له العمل; لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم كانوا يحملون صحف الصدقات إلى البلاد وكان الخلق يعتمدون تلك الصحف بشهادة حاملي الصحف بصحتها دون أن يسمعها كل واحد منه; فإن ذلك يفيد سكون النفس وغلبة الظن وعلى الجملة فلا ينبغي أن يروي إلا ما يعلم سماعه أولا وحفظه وضبطه إلى وقت الأداء بحيث يعلم أن ما أداه هو الذي سمع ولم يتغير منه حرف فإن شك في شيء فليترك الرواية فإذا كان في مسموعاته من الزهري مثلا حديث واحد شك في أنه سمعه من الزهري أم لا لم يجز أن يقول سمعت الزهري ولا أن يقول قال الزهري; لأن قوله قال الزهري شهادة عليه ولا تجوز إلا عن علم فلعله سمعه من غيره فهو كمن سمع إقرارا ولم يعلم أن المقر زيد أم عمرو لا يجوز له أن يشهد على زيد بل يقول إنه لو سمع مائة حديث من شيخ وفيها حديث واحد علم أنه لم يسمعه ولكنه التبس عليه عينه فليس له رواية شيء من تلك الأحاديث عنه إذ ما من حديث إلا ويمكن أن يكون هو الذي لم يسمعه. ولو غلب ظنه في حديث أنه سمعه من الزهري لم تجز الرواية بغلبة الظن, وقال قوم: يجوز; لأن الاعتماد في هذا الباب على غلبة الظن, وهو بعيد; لأن الاعتماد في الشهادة على غلبة الظن يجوز ولكن في حق الحاكم; فإنه لا يعلم صدق الشاهد أما الشاهد فينبغي أن يتحقق; لأن تكليفه أن لا يشهد إلا على المعلوم فيما يمكن فيه المشاهدة ممكن وتكليف الحاكم أن لا يحكم إلا بالصدق محال فكذلك الراوي لا سبيل له إلى معرفة صدق الشيخ ولكن له طريق إلى معرفة قوله بالسماع فإذا لم يتحقق ينبغي أن لا يروى".
قوله: "وأما أن يكون مضموما إلى جماعة" يحتمل أن يكون معناه أنه وجد سماعه مكتوبا بخط لا يعرف كاتبه في طبقة سماع; فإن من دأب أهل الحديث أنهم يكتبون في آخر ما سمعوه من كتاب على شيخ سمع هذا الكتاب من الشيخ فلان أو على الشيخ فلان فلان بن فلان وفلان بن فلان إلى أن يأتوا على أسماء السامعين أجمع فإذا وجد سماعه مكتوبا بخط مجهول مضموما إلى سماع جماعة حل له أن يروي لانتفاء تهمة التزوير عنه(3/81)
يقع بها التعريف فيكون كالمعروف, والله أعلم. وأما طرف التبليغ فقسمان أيضا عزيمة ورخصة أما العزيمة فالتمسك باللفظ المسموع, وأما الرخصة فالنقل إلى اللفظ يختاره الناقل وهذا.
ـــــــ
لأن الكاتب يخاف في مثله أن المكتوب لو عرض عليهم لأنكروا عليه ولظهر كذبه إذ النسيان وعدم التذكر على الجماعة نادر فيحترز عنه بخلاف ما إذا وجد مفردا, ويجوز أن يكون معناه أنه وجد سماعه مكتوبا بخطوط مختلفة مجهولة بأن وجده مكتوبا بخط لا يعرف كاتبه, وقد انضم إليه خطوط أخر تشهد بصدق ما تضمنه ذلك الخط ويؤيد هذا الوجه ما ذكر الشيخ في بعض مصنفاته فيما أظن أن الراوي إذا وجد سماعه مكتوبا مجهولا مفردا لا يحل له أن يروي إلا إذا كان مكتوبا بخطوط كثيرة; فإنه يحل له أن يروي وإن كانت الخطوط مجهولة; لأنهم لا يجتمعون هاهنا على الزور والكذب فقلنا بأنه يحل له أن يروي, فأما إذا كان منفردا فقد تمكنت فيه شبهة فلا يحل. قال شمس الأئمة رحمه الله وهذا في الأخبار خاصة فأما في الشهادة والقضاء فلا; لأن ذلك من مظالم العباد ويعتبر فيه من الاستقصاء ما لا يعتبر في رواية الأخبار واشتراط العلم منصوص عليه قال تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} "الزخرف: 86", وقال عليه السلام "إذا رأيت مثل الشمس فاشهد, وإلا فدع" والنسبة تامة أي كتب اسمه واسم أبيه وجده والله أعلم.(3/82)
باب شرط نقل المتون
قال بعض أهل الحديث لا رخصة في هذا الباب وأظنه اختيار ثعلب من أئمة اللغة قالوا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال "نضر الله امرءاً سمع مني مقالة فوعاها وأداها كما
ـــــــ
"باب شرط نقل المتون"
المتون جمع متن وهو ما دون الريش من السهم إلى وسطه واستعير هاهنا لنفس الحديث. واعلم أن الإنسان إذا سمع من أحد شعرا مثلا ثم أنشده كما سمعه يقال هذا شعر فلان وإن كان ما يقرؤه لفظه حقيقة لكونه محاكيا ومطابقا للفظ المسموع منه فكذلك في باب الرواية إذا كان لفظ الراوي محاكيا للفظ الرسول عليه السلام يقال هذا حديث النبي عليه السلام ونقله بلفظه وإن كان ذلك لفظ الراوي حقيقة, وإن لم يكن لفظه محاكيا للفظ الرسول صلى الله عليه وسلم بل كان مطابقا لمعناه يقال نقله بالمعنى وعلى هذا الحكم في القرآن وفي كل كلام.
ثم لا خلاف أن نقل الحديث بلفظه أولى فأما نقله بالمعنى فقد اختلف فيه فذهب جمهور الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الفقهاء وأئمة الحديث إلى القول بجوازه بشرط أن يكون الناقل عارفا بدلالات الألفاظ واختلاف مواقعها مع شرائط أخر سنبينها, وقال بعض أهل الحديث لا يجوز نقله بالمعنى بحال وهو مذهب عبد الله بن عمر من الصحابة ومحمد بن سيرين وجماعة من التابعين وهو اختيار أبي بكر الرازي من أصحابنا وتمسكوا في ذلك بالنص وهو قوله عليه السلام "نضر الله امرءاً سمع منا مقالة فوعاها وأداها كما سمعها" حث على الأداء كما سمع وذلك بمراعاة اللفظ المسموع, ومعنى قوله عليه السلام "نضر الله امرءاً" حسن وجهه من حد دخل وزاد في جاهه وقدره بين خلقه, ويروى نضر بالتشديد أي نعمه.
وبالمعقول وهو أن النقل بالمعنى ربما يؤدي إلى اختلال معنى الحديث فإن الناس متفاوتون في إدراك معنى اللفظ الواحد كما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله "فرب حامل فقه إلى غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" ولهذا يحمل كل واحد منهم اللفظ(3/83)
سمعها" ولأنه صلى الله عليه وسلم مخصوص بجوامع الكلم سابق في الفصاحة والبيان فلا يؤمن في النقل التبديل والتحريف, وقال عامة العلماء لا بأس بذلك في الجملة رخصة
ـــــــ
الواحد على معنى لا يحمله عليه غيره, وقد صادفنا من المتأخرين من يتنبه في آية أو خبر لفوائد لم يتنبه لها أهل الأعصار السالفة من العلماء المحققين فعلمنا أنه لا يجب أن يقف السامع على جميع فوائد اللفظ في الحال وإن كان فقيها ذكيا مع أنه عليه السلام قد أوتي جوامع الكلم وكان أفصح العرب لسانا وأحسنها بيانا فلو جوزنا النقل بالمعنى ربما حصل التفاوت العظيم مع أن الراوي يظن أنه لا تفاوت ولأنه لو جاز تبديل لفظه عليه السلام بلفظ آخر لجاز تبديل لفظ الراوي أيضا بالطريق الأولى; لأن التغيير في لفظ غير الشارع أيسر منه في لفظ الشارع ولجاز ذلك في الطبقة الثالثة والرابعة وذلك يفضي إلى سقوط الكلام الأول; لأن الإنسان وإن اجتهد في تطبيق الترجمة لا يمكنه الاحتراز عن تفاوت وإن قل, فإذا توالت هذه التفاوتات كان التفاوت الآخر تفاوتا فاحشا بحيث لا يبقى بين الكلام الأول وبين الآخر مناسبة. ونقل عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب1 أنه كان يذهب هذا المذهب ويقول إن عامة الألفاظ التي لها نظائر في اللغة إذا تحققتها وجدت كل لفظة منها مختصة بشيء لا يشاركها صاحبتها فيه فمن جوز العبارة ببعضها عن البعض لم يسلم عن الزيغ عن المراد والذهاب عنه, ومعنى تخصيص الشيخ إياه بالذكر في قوله وأظنه أي أظن هذا القول اختيار ثعلب أنه هو المنفرد باستخراج هذا الدليل, والتبديل والتحريف في قوله فلا يؤمن في النقل التبديل والتحريف بمعنى واحد وهو التغيير, وتمسك الجمهور في تجويزه في الجملة أي في تجويزه في بعض الصور على الخصوص لا في تجويزه على العموم مما روى يعقوب بن سليمان الليثي عن أبيه عن جده قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا له بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله إنا لنسمع منك الحديث ولا نقدر على تأديته كما سمعناه منك قال صلى الله عليه وسلم "إذا لم تحلوا حراما ولا تحرموا حلالا وأصبتم المعنى فلا بأس" كذا رأيت بخط الإمام الحافظ أبي الرشيد الأصبهاني2 وأورده أبو بكر الخطيب البغدادي في كتاب الكفاية في معرفة أصول علم الرواية, وباتفاق الصحابة على روايتهم بعض الأوامر والنواهي بألفاظهم مثل ما روى صفوان بن عسال المرادي أن النبي عليه السلام كان يأمرنا إذا كنا سفرا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليها
ـــــــ
1 هو أحمد بن يحيى الشيباني مولاهم الكوفي المعروف بأبي العباس توفي سنة 291هـ، أنظر البداية والنهاية 11/98.
2 هو عبدالله بن عمر أبورشيد الأصبهاني المتوفى سنة 574هـ. أنظر شذرات الذهب 4/248.(3/84)
لاتفاق الصحابة على قولهم أمرنا رسول الله عليه السلام بكذا ونهانا عن كذا, ومعروف عن ابن مسعود وغيره قال رسول الله عليه السلام كذا أو نحوا منه قريبا
ـــــــ
الحديث1. وما روى "أبو محذورة رضي الله عنه أنه عليه السلام أمره بالترجيع"2 وما روى عامر بن سعيد عن أبيه قال: "أمر النبي عليه السلام بقتل الوزغ وسماه فويسقا"3 وما روى جابر رضي الله عنه أنه عليه السلام "نهى عن المحاقلة والمزابنة ورخص في العرايا" وما روى أنس رضي الله عنه أنه عليه السلام "نهى عن بيع الثمار حتى تزهي" وما روى أبو هريرة رضي الله عنه صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيعتين في بيعة صفقة واحدة" 4 وما روى حكيم بن حزام أو غيره أنه عليه السلام "نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم" في شواهد لها كثيرة لا تحصى فحكوا معاني خطابه عليه السلام من غير قصد إلى لفظه إذ لم يقولوا قال النبي عليه السلام افعلوا كذا أو لا تفعلوا كذا, وكانوا ينقلون أيضا الحديث الواحد الذي جرى في مجلس واحد في واقعة معينة بألفاظ مختلفة, مثل ما روي في حديث "الأعرابي الذي بال في المسجد ودعا بعد الفراغ فقال اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم بعدنا أحدا أنه عليه السلام قال له "لقد تحجرت واسعا" 5 وروي لقد ضيقت واسعا لقد منعت واسعا ومثل ما روي في الحديث الذي رواه مسلم رحمه الله رحم الله امرأ, مكان نضر الله وروي فرب حامل فقه لا فقه له مكان غير فقيه ولم ينكر عليهم أحد في جميع ما قلنا فكان ذلك إجماعا منهم على الجواز.
وبما روي عن ابن مسعود وأنس وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يقولون عند الرواية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو نحوا منه أو قريبا منه ولم ينكر عليهم منكر ولا دفعهم دافع فكان إجماعا على الجواز أيضا.
وبأنا نعلم بالضرورة أن الصحابة الذين رووا هذه الأخبار ما كانوا يكتبونها في ذلك المجلس وما كانوا يكررون عليها في ذلك المجلس بل كما سمعوها تركوها وما ذكروها
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في الطهارة حديث رقم 96، وابن ماجه في الطهارة حديث رقم 478.
2 أخرجه مسلم في الصلاة حديث رقم 379، وأبو داود في الصلاة حديث رقم 500-505، والترمذي في الصلاة حديث رقم 191-192، وابن ماجه في الأذان حديث رقم 708-709.
3 أخرجه مسلم في السلام حديث رقم 2238، وأبو داود في الأدب حديث رقم 5262، والإمام أحمد في المسند 1/176.
4 أخرجه الترمذي فيا لبيوع حديث رقم 1231، والإمام أحمد 2/71 و174.
5 أخرجه الترمذي في الطهارة حديث رقم 147، وأبو داود في الطهارة حديث رقم 380، وابن ماجه في الطهارة حديث رقم 529، والإمام أحمد في المسند 2/239.(3/85)
منه, وفي تفصيل الرخصة جواب عما قال وهذا لأن النظم من السنة غير معجز وإنما النظم لمعناه بخلاف القرآن.
والسنة في هذا الباب أنواع: ما يكون محكما لا يشتبه معناه ولا يحتمل غير ما وضع له, وظاهر يحتمل غير ما ظهر من معناه من عام يحتمل الخصوص أو حقيقة يحتمل المجاز, ومشكل أو مشترك لا يعمل به إلا بتأويل, ومجمل أو
ـــــــ
إلا بعد الأعصار والسنين وذلك يوجب القطع بتعدد روايتها على تلك الألفاظ, وبأن الإجماع منعقد على جواز شرح الشرع للعجم بلسانهم, وإذا جاز إبدال العربية بالعجمية فلأن يجوز إبدالها بعربية أخرى أولى إذ التفاوت بين العربية وترجمتها بالعربية أقل مما بينها وبين العجمية, فإن قيل لا نزاع في جواز تفسيره بالعجمية أو بالعربية إنما النزاع في أنه لو لم ينقل بلفظه لا يكون حجة ولو قلتم بأنه بعد التعبير بلفظ آخر عربي أو عجمي يبقى حجة قلنا لأن سفراء رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يبلغون أوامره ونواهيه إلى البلاد بلغتهم ويعلمونهم الشرع بألسنتهم, وقد كان ذلك حجة بالاتفاق, ولقائل أن يقول جواز التفسير بلغة أخرى لا يدل على جواز النقل بالمعنى; لأن في التفسير ضرورة إذ العجمي لا يفهم اللفظ العربي إلا بالتفسير ولا ضرورة في النقل بالمعنى ألا ترى أن تفسير القرآن بجميع اللغات جائز ولم يجز نقله بالمعنى بالاتفاق فثبت أن اعتبار النقل بالتفسير لا يصح, وبأنا نعلم قطعا أن اللفظ غير مقصود في باب الحديث كالشهادة. ولهذا كان النبي عليه السلام يذكر المعنى الواحد بألفاظ مختلفة بل المقصود هو المعنى وهو حاصل فلا يلتفت إلى اختلاف اللفظ كالشهادة لما كان المقصود فيها المعنى دون اللفظ صح أداؤها بالمعنى ويعتبر اتفاق الشهود بخلاف القرآن والأذان والتشهد وسائر ما تعبد فيه باللفظ; لأن اللفظ فيها مقصود كالمعنى حتى تعلق جواز الصلاة وحرمة القراءة على الجنب والحائض بالآية المنسوخة فلا يجوز الإخلال به كما لا يجوز بالمعنى وهو معنى قول الشيخ وهذا لأن النظم من السنة غير معجز إلى آخره أي إذا لم يكن معجزا لا يكون مقصودا.
قوله: "والسنة في هذا الباب" أي في النقل بالمعنى. ما يكون محكما لا يشتبه معناه ولا يحتمل غير ما وضع له إنما فسره به إشارة إلى أنه لم يرد به المحكم الذي لا يحتمل النسخ في ذاته إنما أراد به المحكم على التفسير المذكور ونظيره قوله عليه السلام "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن" كذا ذكر الشيخ في شرح التقويم قال الغزالي رحمه الله إنما جاز النقل بالمعنى عند جماهير الفقهاء إذا كان ظاهرا مفسرا بأن قال قعد رسول الله على رأس الركعتين مكان ما روي عنه جلس, أو أقام لفظ العلم مقام المعرفة أو الاستطاعة مكان القدرة أو الحظر مقام التحريم ونحوها.(3/86)
متشابه, وقد يكون من جوامع الكلم التي اختص بها رسول الله عليه السلام قال عليه السلام فيما يحكي من اختصاصه "وأوتيت جوامع الكلم" فهي خمسة أقسام:
أما الأول فلا بأس لمن له بصر بوجوه اللغة أن ينقله إلى لفظ يؤدي معناه; لأنه إذا كان محكما مفسرا أمن فيه الغلط على أهل العلم بوجوه اللغة فثبت النقل رخصة وتيسيرا, وقد ثبت في كتاب الله ضرب من الرخصة مع أن النظم معجز قال النبي صلى الله عليه وسلم "أنزل القرآن على سبعة أحرف" وإنما ثبت ذلك ببركة دعوة النبي عليه السلام غير أن ذلك رخصة إسقاط وهذه رخصة تخفيف وتيسير مع
ـــــــ
"جوامع الكلم" هي الألفاظ اليسيرة التي تجمع المعاني الكثيرة والأحكام المختلفة واختص بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روي أنه قال: "فضلت بست أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب. وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون" 1 وإنما ثبت ذلك أي الترخص ببركة دعوة النبي عليه السلام أي دعائه وهو ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال لأبي رضي الله عنه "يا أبي أرسل إلي أن اقرأ القرآن على حرف فرددت أن هون على أمتي فرد إلي الثانية اقرأه على حرف فرددت أن هون على أمتي فرد إلي الثالثة اقرأه على سبعة أحرف" 2 وتمام الحديث في "المصابيح". غير أن ذلك أي الترخص الذي ثبت في كتاب الله تعالى رخصة إسقاط أي رخصة لازمة وهي التي لم تبق العزيمة فيها مشروعة مثل رخصة القصر للمسافر ورخصة المسح للابس الخف فلم يبق لزوم رعاية النظم المنزل أولا مشروعا ولم تبق له أولوية بل ساوى الأحرف الباقية في القرآنية وإحراز الثواب وسائر الأحكام لا أن يكون أحد الأحرف أصلا والباقي رخصة. "وهذه" أي الرخصة الثابتة في نقل الحديث رخصة تيسير وتخفيف حتى كان العمل بالعزيمة وهو النقل باللفظ المسموع أولى من النقل بالمعنى بالاتفاق كأولوية الصوم في حق المسافر من الإفطار وأولوية الصبر على القتل في حق المكره على الكفر من إجراء كلمة الكفر.
وأما القسم الثاني وهو ما كان ظاهرا يحتمل غير ما ظهر من معناه فلا رخصة فيه أي لا يجوز نقله بالمعنى إلا لمن جمع بين العلمين اللغة والفقه "من خصوص أو مجاز" بيان
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في المساجد حديث رقم 523، والترمذي في السير حديث رقم 1553.
2 أخرجه مسلم في صلاة المسافرين حديث رقم 820، وأبو داود في الصلاة حديث رقم 1478، والإمام أحمد في المسند 5/127.(3/87)
قيام الأصل على نحو ما مر تقسيمه في باب العزيمة والرخصة. وأما القسم الثاني فلا رخصة فيه إلا لمن حوى إلى علم اللغة فقه الشريعة "كشف" والعلم بطريق الاجتهاد; لأنه إذا لم يكن "ثالث" كذلك لا يؤمن عليه أن ينقله إلى ما لا يحتمل ما احتمله اللفظ المنقول من خصوص أو مجاز ولعل المحتمل هو المراد ولعله يزيده عموما فيخل بمعانيه فقها وشريعة.
ـــــــ
لما احتمله اللفظ يعني إذا لم يكن فقيها ربما ينقله إلى عبارة لا تكون في احتمال الخصوص والمجاز مثل العبارة الأولى بأن يضم إليها من المؤكدات ما يقطع احتمال الخصوص إن كانت عامة والمجاز إن كانت حقيقة ولعل المحتمل هو المراد فيفسد المعنى ويتغير الحكم, مثاله قوله عليه السلام: "من بدل دينه فاقتلوه" 1 فموجبه العموم; لأن كلمة من تتناول الذكر والأنثى والصغير والكبير لكن المراد منه محتمله وهو الخصوص إذ الأنثى والصغير ليسا بمرادين منه لما عرف فلو لم يكن للناقل معرفة بالفقه ربما ينقله بلفظ لم يبق فيه احتمال الخصوص بأن قال مثلا كل من ارتد فاقتلوه ذكرا كان أو أنثى وحينئذ يفسد المعنى. وقوله عليه السلام: "لا وضوء لمن لم يسم" فإن موجبه وحقيقته نفي الجواز ومحتمله نفي الفضيلة والمحتمل هو المراد لدلائل دلت عليه فلو لم يكن الناقل بالمعنى فقيها ربما ينقله بلفظ لا يبقى فيه هذا الاحتمال بأن قال مثلا لا يجوز وضوء من لم يسم فيتغير الحكم ويفسد المعنى, ولعله أي الناقل يريده عموما بأن يذكر جمع الكثرة مقام جمع القلة أو يذكر لفظ الجماعة مكان الطائفة أو يذكر لفظ الجنس مقام العام صفة ومعنى.
وأما القسم الثالث وهو المشكل والمشترك فلا يخل نقله بالمعنى لما ذكر في الكتاب وذلك مثل قوله عليه السلام: "الطلاق بالرجال" فإن معناه إيجاد الطلاق أو إظهار الطلاق فكان بمنزلة المشترك ومثل قوله عليه السلام: "المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا" 2 فإن التفرق اسم مشترك يحتمل التفرق في القول والبدن كذا رأيت بخط شيخي رحمه الله.
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في الجهاد باب رقم 149، والترمذي في الحدود حديث رقم 1458، وأبو داود في الحدود حديث رقم 4351، وابن ماجه في الحدود حديث رقم 2535، والإمام أحمد (2/7) و282.
2 أخرجه البخاري في البيوع باب رقم 32، ومسلم في البيوع حديث رقم 45، والنسائي في البيوع باب رقم 9.(3/88)
وأما القسم الثالث فلا يخل فيه النقل; لأنه لا يفهم معناه إلا بتأويل وتأويله على غيره ليس بحجة. وأما الرابع فلا يتصور فيه النقل لما مر أن المجمل ما لا يفهم مراده إلا بالتفسير والمتشابه ما انسد علينا باب دركه وابتلينا بالكف عنه. وأما الخامس فإنه لا يؤمن فيه الغلط لإحاطة الجوامع بمعان قد يقصر عنها عقول ذوي الألباب, وكل مكلف بما في وسعه, وذلك مثل قول النبي عليه السلام "والخراج بالضمان" وذلك أكثر من أن يحصى ويعد ومن مشايخنا من لم يفصل بين الجوامع وغيرها لكن هذا أحوط الوجهين عندنا والله أعلم بالصواب.
ـــــــ
قوله "وأما القسم الخامس" وهو جوامع الكلم فلا يؤمن فيه أي في نقله بالمعنى الغلط لإحاطة الجوامع به فلا يخل نقله بالمعنى وكل مكلف بما وسعه كأنه جواب عما يقال لما كان المعنى هو المقصود من السنة لألفاظها ولا يمكن درك معاني جوامع الكلم ينبغي أن لا يجب نقله باللفظ فقال إن لم يقدر على درك المعاني فهو قادر على تبليغ اللفظ فكلف بما كان في وسعه, وذلك مثل قوله عليه السلام "الخراج بالضمان" 1 أي غلة العبد المشترى الحاصلة قبل الرد بالعيب طيبة للمشتري; لأنه لو هلك قبل الرد هلك من ماله كذا في لبات الغربيين. وفي الفائق كل ما خرج من شيء فهو خراجه فخراج الشجر ثمره, وخراج الحيوان دره ونسله. قوله عليه السلام "الغرم بإزاء الغنم" "العجماء جبار" 2 "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" 3 "البينة على المدعي واليمين على من أنكر" . ومن مشايخنا من لم يفصل بين الجوامع وغيرها يعني إن كانت الكلمة الجامعة ظاهرة المعنى يجوز نقلها بالمعنى عندهم كما يجوز نقل سائر الظواهر ولكن بالشرط الذي ذكرنا في الظاهر وهو أن يكون جامعا لعلم اللغة وفقه الشريعة; لأنه إذا كان كذلك يؤمن في نقله عن زيادة أو نقصان يخل بمعنى الكلام كما بينا في الظاهر.
"لكن هذا" أي عدم الجواز الذي دل عليه فحوى الكلام أحوط الوجهين وهما الجواز وعدم الجواز لما ذكر في الكتاب قال شمس الأئمة رحمه الله والأصح عندي أنه
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في البيوع حديث رقم 1285-1286، وأبو داود في الإجازة حديث رقم 3508-3510، والإمام أحمد في المسند 6/48.
2 أخرجه مسلم في الحدود حديث رقم 1710، والترمذي في الزكاة حديث رقم 642، وأبو داود في الديات حديث رقم 4593، وابن ماجه حديث رقم 2673، والإمام أحمد في المسند 2/228.
3 أخرجه ابن ماجه في الأحكام حديث رقم 2340، وابن ماجه عن ابن عباس حديث رقم 2341، والإمام أحمد في المسند 5/327.(3/89)
---------------------------------------------------------
ـــــــ
لا يجوز ذلك; لأن النبي عليه السلام كان مخصوصا بهذا النظم على ما روي أنه قال: "أوتيت جوامع الكلم" أي خصصت بها فلا يقدر أحد بعده على ما كان هو مخصوصا به ولكن كل مكلف بما في وسعه وفي وسعه نقل ذلك اللفظ ليكون مؤديا إلى غيره ما سمعه منه بيقين, وإذا نقله إلى عبارته لم نأمن القصور في المعنى المطلوب به ونتيقن بالقصور في النظم الذي هو من جوامع الكلم وكان هذا النوع هو مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله ثم أداها كما سمعها. وبما ذكرنا خرج الجواب عما قالوا إن النبي عليه السلام مخصوص بجوامع الكلم فلا يؤمن في النقل التبديل والتحريف; لأنا لم نجوز النقل في الجوامع ولا فيما لا يؤمن فيه عن التحريف والتبديل إنما جوزناه فيما لا يحتمل إلا وجها واحدا بشرط أن يكون الناقل عالما بأوضاع الكلام أو فيما له معنى ظاهر بشرط أن يكون الناقل جامعا بين العربية والفقه, وإذا كان كذلك يؤمن فيه عن التحريف والتبديل عادة وهو معنى قول الشيخ وفي تفصيل الرخصة جواب عما قال.
وأما الحديث فلا تمسك لهم فيه; لأن الأداء كما سمع ليس بمقتصر على نقل المعنى أيضا فإن الشاهد أو المترجم إذا أدى المعنى من غير زيادة ونقصان يقال إنه أدى كما سمع وإن كان الأداء بلفظ آخر ولئن سلمنا أن التأدية حسب ما سمع إنما يكون باللفظ في هذه الصورة لرجوع الضمائر إلى المقابلة فلا نسلم أن فيه ما يدل على الوجوب والمنع من غيره; لأنه عليه السلام دعا لمن حفظ اللفظ ويدل ذلك على أنه مرغوب فيه لا على أنه واجب ونحن نقول بالأولوية والله أعلم(3/90)
"باب تقسيم الخبر من طريق المعنى"
وهو خمسة أقسام: ما هو صدق لا شبهة فيه وهو خبر الرسول عليه السلام وذلك هو المتواتر منه, وقسم فيه شبهة وهو المشهور, وقسم محتمل ترجيح جانب صدقه وهو ما مر من أخبار الآحاد, وقسم محتمل عارض دليل رجحان الصدق منه ما أوجب وقفه فلم يقم به الحجة وذلك مثل ما سبق من أنواع ما يسقط به خبر الواحد, والقسم الخامس الخبر المطعون الذي رده السلف وأنكروه وهذا القسم نوعان: نوع لحقه الطعن والنكير من راوي الحديث ونوع آخر ما لحقه ذلك من جهة غير الراوي. وهذا.
ـــــــ
"باب تقسيم الخبر من حيث المعنى"
قسم الخبر في أول باب بيان القسم الرابع على قسمين: قسم يرجع إلى نفس الخبر وقسم يرجع إلى معناه, وقد فرغ من بيان القسم الأول وما يتعلق به فشرع في بيان القسم الثاني وإنما كان هذا التقسيم راجعا إلى المعنى; لأن التفاوت بين هذه الأقسام باعتبار اختلاف درجاتها في القوة لا باعتبار اللفظ ودلالته على المعنى إذ المتواتر والمشهور وسائر الأقسام في الدلالة على المعنى سواء, ولا شك أن القوة أمر معنوي لا صوري.
قوله "وقسم محتمل عارض دليل رجحان الصدق منه ما أوجب وقفه" أي عارض كونه حجة موجبة للعمل ما يوجب كونه غير حجة ويمنعه عن إيجاب العمل ويجب فيه التوقف مثل خبر الفاسق ونحوه.(3/91)
باب مايلحقه النكير من قبل الراوي
...
"باب ما يلحقه النكير من قبل الراوي"
وهذا النوع أربعة أقسام: ما أنكره صريحا, والثاني أن يعمل بخلافه قبل أن يبلغه أو بعد ما بلغه أو لا يعرف تاريخه, والقسم الثالث أن يعين بعض ما احتمله الحديث من تأويل أو تخصيص, والرابع أن يمتنع عن العمل به. أما إذا أنكر المروي عنه الرواية فقد اختلف فيه السلف فقال بعضهم لا يسقط العمل
ـــــــ
"باب ما يلحقه النكير من قبل راويه"
النكير اسم للإنكار أي يلحقه إنكار من قبل المروي عنه ويسمى راويا باعتبار نقله الحديث عن النبي عليه السلام أو عن غيره ومن قبل عينه باعتبار نقل السامع عنه, وفي الصحاح النكير والإنكار تغير المنكر فكأن المروي عنه بالطعن والتكذيب يغير المنكر الذي ارتكبه الراوي على زعمه.
قوله "أما إذا أنكره المروي عنه الرواية فقد اختلف السلف فيه" ذكر الاختلاف في هذا الفصل مطلقا وهو على وجهين, أما إن أنكر المروي عنه إنكار جاحد مكذب بأن قال ما رويت لك هذا الحديث قط أو كذبت علي أو أنكره إنكار متوقف بأن قال لا أذكر أني رويت لك هذا الحديث أو لا أعرفه ونحو ذلك ففي الوجه الأول يسقط العمل به بلا خلاف; لأن كل واحد من الأصل والفرع مكذب للآخر فلا بد من كذب واحد غير معين وهو موجب للقدح في الحديث ولكن لا يقدح ذلك في عدالتهما للتيقن بعدالة كل واحد ووقوع الشك في زوالها فلا يترك اليقين بالشك كبينتين متكافئتين متعارضتين لم تقبلا ولم تسقط عدالتهما وفائدته تظهر في قبول رواية كل واحد منهما في غير ذلك الخبر كذا في عامة نسخ الأصول, وذكر في القواطع إذا جحد المروي عنه وكذب بالحديث سقط الحديث هكذا ذكره الأصحاب وأقول يجوز أن لا يسقط; لأنه قال ما قال بحسب ظنه. وإن قال ما رويته أصلا فيعارضه قول الراوي إنه سمعه منه وكل واحد منهما ثقة ويجوز أن يكون المروي عنه رواه ثم نسيه فلا يسقط رواية الراوي بعد أن يكون ثقة وأما في الوجه الثاني فقد اختلف فيه فذهب الشيخ أبو الحسن الكرخي وجماعة من أصحابنا وأحمد بن(3/92)
به وقال بعضهم يسقط العمل به وهذا أشبه, وقد قيل إن قول أبي يوسف أن يسقط الاحتجاج به وقال محمد رحمه الله لا يسقط وهو فرع اختلافهما في شاهدين شهدا على القاضي بقضية وهو لا يذكرها قال أبو يوسف رحمه الله لا تقبل وقال محمد تقبل. أما من قبله فقد احتج بما روي في حديث ذي اليدين أن النبي عليه السلام لم يقبل خبره حيث قال أقصرت الصلاة أم نسيتها فقال كل ذلك لم يكن فقد قال بعض ذلك قد كان, وقال لأبي بكر وعمر أحق ما يقول ذو اليدين فقالا نعم فقبل شهادتهما على نفسه بما لم يذكر ولأن النسيان محتمل من المروي عنه بخلاف الشهادة; لأنها لا تصح إلا بتحميل الأصول فلذلك بطلت بإنكارهم, والحجة للقول الثاني ما روي عن "عمار بن ياسر أنه قال لعمر أما تذكر حيث كنا في إبل فأجنبت فتمعكت في التراب فذكرت
ـــــــ
حنبل في رواية عنه إلى أن العمل يسقط به كما في الوجه الأول وهو مختار القاضي الإمام والشيخين وبعض المتكلمين وذهب مالك والشافعي وجماعة من المتكلمين إلى أنه لا يسقط العمل به كما لو لم ينكر.
وما قيل إن على قياس قول علمائنا ينبغي أن لا يبطل الخبر بإنكار راوي الأصل وعلى قول زفر يبطل بناء على أن زوج المعتدة لو قال أخبرتني أن عدتها قد انقضت, وقد أنكرت المرأة الإخبار فعندنا يجوز العمل به بعد إنكارها حتى يحل له التزوج بأختها وأربع سواها وعند زفر رحمه الله لا يبقى معمولا به إلا في حقها حتى حل له نكاح الأخت والأربع ولم يحل لها التزوج بزوج آخر وهو غير صحيح; لأن جواز نكاح الأخت والأربع له باعتبار ظهور انقضاء العدة في حقه بقوله لكونه أمينا في الإخبار عن أمر بينه وبين ربه لا لاتصال الخبر بها وإسناده إليها, ولهذا لو قال انقضت عدتها ولم يضف الخبر إليها كان الحكم كذلك في الصحيح من الجواب كذا قال شمس الأئمة رحمه الله. واحتج من قبله بما روى أبو هريرة رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بنا صلاة العصر فسلم في ركعتين فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان وفي القوم أبو بكر وعمر فهاباه أن يكلماه وفي القوم رجل في يديه طول يقال له ذو اليدين قال يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت فقال كل ذلك لم يكن فقال قد كان بعض ذلك فأقبل على الناس فقال "أحق ما يقوله ذو اليدين" فقالا نعم فقام وأتم صلاته أربع ركعات" والاستدلال به أن النبي عليه السلام رد حديث ذي اليدين ثم لم يرد حديثه حتى عمل بقول الناس أو بقول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بناء على خبره فلو لم يبق حجة بعد الرد لما عمل به عليه السلام(3/93)
ذلك لرسول الله عليه السلام فقال "إنما كان يكفيك ضربتان" فلم يذكره عمر فلم يقبل خبره مع عدالته وفضله ولأنا قد بينا أن خبر الواحد يرد بتكذيب العادة فتكذيب الراوي وعليه مداره أولى, وحديث ذي اليدين ليس بحجة; لأن النبي عليه السلام ذكره فعمل بذكره وعلمه وهو الظاهر من حاله فما كان يقر على
ـــــــ
هكذا ذكر في نسخة من أصول الفقه وأظنها للشيخ. قال الواقدي1 اسم ذي اليدين عمرو بن عبد ود وقيل اسمه عبد عمرو بن نضلة وقيل اسمه ذو الشمالين استشهد يوم بدر, وقال القتبي ذو الشمالين الذي استشهد يوم بدر غير ذي اليدين واسم ذو اليدين عمير بن عبد عمرو.
وقال القتبي سمي بذلك لأنه كان يعمل بيديه جميعا, وقيل لقبه الخرباق, وبأن حال كل واحد منهما محتملة فإن حال المدعي يحتمل السهو والغلط وحال المنكر يحتمل النسيان والغفلة إذ النسيان قد يروي شيئا لغيره ثم ينسى بعد مدة فلا يتذكره أصلا وكل واحد منهما عدل ثقة فكان مصدقا في حق نفسه ولا يبطل ما ترجح من جهة الصدق في خبر الراوي بعدالته بنسيان الآخر كما لا يبطل بموته وجنونه فحل للراوي الرواية. وهذا بخلاف الشهادة على الشهادة فإن الأصل إذا أنكر لا يحل للفرع الشهادة; لأن مبناها على التحميل فإذا أنكر الأصل سقط التحميل وبقي العلم فلا يحل له الشهادة فأما الرواية فمبنية على السماع دون التحميل. ألا ترى أنه لو سمع الحديث ولم يحمله المحدث ولم يعلم بسماعه حل للسامع الرواية عنه فإذا أنكرها والمدعي مصدق في حق نفسه بقي السماع فحل له الرواية كذا في شرح التقويم, واحتج من رده بما روي عن عمار بن ياسر أنه قال لعمر رضي الله عنهما وكان لا يرى التيمم للجنب أما تذكر إذ كنا في إبل يعني إبل الصدقة وفي بعض الروايات في سرية فأجنبت فتمعكت في التراب أي تمرغت فصليت فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إنما يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ثم تمسح بهما وجهك وذراعيك" 2 فلم يرفع عمر رضي الله عنه رأسه ولم يقبل روايته مع أنه كان عدلا; لأنه روى عنه شهود الحادثة ولم يتذكر هو ما رواه وكان لا يرى التيمم للجنب بعد ذلك, وبأن بتكذيب العادة يرد الحديث بأن كان الخبر غريبا في حادثة مشهورة
ـــــــ
1 هو أبو عبد الله محمد بن عمر الواقدي ، ولد سنة 130هـ وتوفي سنة 207هـ، أنظر البداية والنهاية 10/261.
2 أخرجه مسلم في الحيض حديث رقم (368، وأبو داود في الطهارة حديث رقم 321 و322، وابن ماجه في الطهارة حديث رقم 569، والإمام أحمد في المسند 4/263.(3/94)
الخطأ, والحاكي يحتمل النسيان بأن سمع غيره فنسيه وهما في الاحتمال على
ـــــــ
فبتكذيب الراوي أولى; لأن تكذيبه أدل على الوهن من تكذيب العادة; لأنه يدور عليه وهو تكذيب صريحا وذلك تكذيب دلالة والصريح راجح على الدلالة, وحقيقة المعنى فيه أن الخبر إنما يكون حجة ومعمولا به بالاتصال بالرسول صلى الله عليه وسلم وبإنكار الراوي ينقطع الاتصال; لأن إنكاره حجة في حقه فينتفي به رواية الحديث أو يصير هو مناقضا بإنكاره ومع التناقض لا تثبت الرواية وبدون الرواية لا يثبت الاتصال فلا يكون حجة كما في الشهادة على الشهادة, وبأنه إذا لم يتذكر بالتذكير كان مغفلا ورواية المغفل لا تقبل, وبأن أكثر ما في الباب أن يصدق كل واحد منهما في حق نفسه فيحل للراوي أن يعمل به ولا يحل لغيره لتحقق الانقطاع في حق غيره بتكذيب المروي عنه وأما حديث ذي اليدين فليس بحجة; لأنه محمول على أن النبي عليه السلام تذكر أنه ترك الشفع من الصلاة; لأنه معصوم عن التقرير على الخطأ يعمل بعلمه لا بإخبار أحد. ألا يرى أنه لو لم يتذكر واحد بقولهما لكان هذا تقليدا منه فإنه لما لم يتذكر لا يحصل له العلم والعمل بدون العلم بناء على قول الغير تقليدا وتقليده للأنبياء غير جائز فكيف يجوز لغير الأنبياء, أو تذكر غفلته عن حاله لشغل. قلب اعترض فيعرف عن غيره, وعلى هذا يجوز أن يقال في الخبر إن راوي الأصل ينظر في نفسه فإن كان رأيه يميل إلى غلبة نسيان أو كانت عادته ذلك في محفوظاته قبل رواية غيره عنه وإن كان رأيه يميل إلى جهله أصلا بذلك الخبر رده وقلما ينسى الإنسان شيئا ضبطه نسيانا لا يتذكر بالتذكير والأمور تبنى على الظواهر لا على النوادر كذا في "التقويم".
قوله: "والحاكي يحتمل النسيان" جواب عن قولهم النسيان محتمل من المروي عنه يعني كما يتوهم نسيان الأصل بعد المعرفة يتوهم نسيان الفرع وغلطه فإن الإنسان قد يسمع حديثا فيحفظه ولا يحفظ من سمع منه ويظن أنه سمعه من فلان, وقد سمعه من غيره, وإذا كان كذلك يثبت المعارضة لتساويهما في الاحتمال فلم يثبت أحدهما, يدل عليه أن الإنسان كما يعلم بسماعه عن أمر يقين يعلم بتركه الرواية عن سبب يقين فلا فرق بينهما بوجه كذا في التقويم أيضا, لكن هذا إنما يستقيم فيما إذا كان إنكار الأصل إنكار جحود والخصوم قد سلموا فيه أنه مردود فأما إذا كان إنكاره إنكار متوقف وهو الذي وقع التنازع فيه فلا يستقيم; لأن الفرع عدل جازم بروايته عن الأصل والأصل ليس بمكذب له; لأنه يقول لا أدري فلا يكون الاحتمال في الفرع مثل الاحتمال في الأصل بل الاحتمال في الأصل أقوى فلا يتحقق المعارضة فوجب قبول رواية الفرع حينئذ لحصول غلبة الظن بصدقه وسلامته عن المعارضة. وذكر في المحصول في هذه المسألة أن(3/95)
السواء ومثال ذلك حديث ربيعة عن سهيل بن أبي صالح في الشاهدين واليمين أن سهيلا سئل عن رواية ربيعة عنه فلم يعرفه وكان يقول حدثني ربيعة عني ومثل حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي عليه السلام "أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها نكاحها باطل" رواه سليمان بن موسى عن الزهري وسأل
ـــــــ
راوي الفرع إما أن يكون جازما بالرواية أو لا يكون, فإن كان جازما فالأصل إما أن يكون جازما بالإنكار أو لا يكون فإن كان الأول فقد تعارضا فلا يقبل الحديث, وإن كان الثاني فإما أن يقول الأغلب على الظن أني رويته أو الأغلب أني ما رويته أو الأمران على السواء أو لا يقول شيئا من ذلك ويشبه أن يكون الخبر مقبولا في كل هذه الأقسام لكون الفرع جازما, وإن كان الفرع غير جازم بل يقول أظن أني سمعته منك فإن جزم الأصل أبى ما رويته لك تعين الرد, وإن قال أظن أني ما رويته لك تعارضا والأصل العدم, وإن ذهب إلى سائر الأقسام فالأشبه قبوله, والضابط أنه إذا كان قول الأصل معادلا لقول الفرع تعارضا, وإذا ترجح أحدهما على الآخر فالمعتبر هو الراجح.
قوله: "ومثال ذلك" أي مثال الحديث الذي أنكره المروي عنه حديث ربيعة بن عبد الرحمن عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم "قضى بشاهد ويمين" فإن عبد العزيز بن محمد الدراوردي قال لقيت سهيلا فسألته عن رواية ربيعة عنه هذا الحديث فلم يعرفه وكان يقول بعد ذلك حدثني ربيعة عني, فأصحابنا لم يقبلوا هذا الحديث لانقطاعه بإنكار سهيل وتمسك به بعض من قبل هذا النوع فقال لما قال سهيل حدثني ربيعة عني وشاع وذاع ذلك بين أهل العلم ولم ينكر عليه أحد فكان ذلك إجماعا منهم على قبوله وهذا فاسد; لأنه ليس فيه ما يدل على وجوب العمل به, غايته أنه يدل على جواز أن يقول الأصل بعد النسيان حدثني الفرع عني وهو لا يستلزم وجوب العمل به ولا جوازه.
قوله: "ومثل حديث عائشة" روى سليمان بن موسى لعبد الملك بن بنذر عن محمد بن شهاب الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل" 1 الحديث. فذكر ابن جريج أنه سأل عنه ابن شهاب فلم يعرفه كذا ذكره يحيى بن معين عن ابن أبي علية عن ابن جريج, فلما رده المروي عنه وهو الزهري لم يقم به الحجة عند أبي حنيفة وأبي يوسف. ويجوز أن
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في النكاح حديث رقم 2083، والترمذي في النكاح حديث 1102، وابن ماجه في النكاح حديث رقم 1879، والإمام أحمد في المسند 6/66.(3/96)
ابن جريج الزهري عن هذا الحديث فلم يعرفه فلم تقم به الحجة عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله ومثال ذلك أن أبا يوسف أنكر مسائل على محمد حكاها عنه في الجامع الصغير فلم يقبل شهادته على نفسه حين لم يذكر وصحح ذلك محمد وأما إذا عمل بخلافه فإن كان قبل روايته وقبل أن
ـــــــ
يكون قول محمد رحمه الله في هذا الأصل على خلاف قولهما كما دل عليه مسألة الشاهدين شهدا على القاضي يقضيه وهو الظاهر, ويجوز أن يكون على وفاق قولهما إلى أنه لم يجوز النكاح بغير ولي لأحاديث أخر ورد فيه مثل قوله عليه السلام "لا تنكح المرأة المرأة ولا المرأة نفسها فإن الزانية هي التي تنكح نفسها" 1. وقوله عليه السلام "كل نكاح لم يحضره أربع فهو سفاح خاطب وولي وشاهدا عدل" وقوله عليه السلام "لا نكاح إلا بولي" , ونحوها إلا أن تلك الأحاديث عندهما غير معمول بها لمعارضتها بأحاديث أخر مثل ما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الأيم أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها" 2, وما روي عن علي رضي الله عنه أن امرأة زوجت ابنتها برضاها فجاء أولياؤهما فخاصموها إلى علي فأجاز النكاح. وقوله عليه السلام "ليس للولي مع الثيب أمر" 3 وغيرها من الأحاديث التي ذكرت في الأسرار وشرح الآثار والمبسوط, ورأيت في نسخة نقلا عن خط الشيخ الإمام سيف الحق والدين الباخرزي رحمه الله أن مدار حديث "أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها" على سليمان بن موسى الدمشقي4 صاحب المناكير ضعفه محمد بن إسماعيل.
ثم السؤال إذا كان بمعنى الالتماس يتعدى إلى مفعوليه بنفسه يقال سألته الرغيف, وإذا كان بمعنى الاستفسار يتعدى إلى الأول بنفسه وإلى الثاني بعن قال الله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} [طه: 105], {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ} [الأعراف: 163]، فعرفت بهذا أن كلمة عن في قوله عن الزهري لم يقع موقعها وأن الضمير في قوله وسأله ابن جريج كما وقع في بعض النسخ لا وجه له بل الصواب وسأل ابن جريج الزهري عن هذا الحديث.
ـــــــ
1 أخرجه ابن ماجه في النكاح حديث رقم 1882.
2 أخرجه مسلم في النكاح حديث رقم 1421، والترمذي في النكاح حديث رقم 1108، وأبو داود في النكاح حديث رقم 2098، وابن ماجه في النكاح حديث رقم 1870.
3 أخرجه أبو داود في النكاح حديث رقم 2100.
4 هو سليمان بن موسى الأسدي الأشدق أبو أيوب الدمشقي.(3/97)
يبلغه لم يكن جرحا; لأن الظاهر أنه تركه بالحديث إحسانا للظن به, وأما إذا عمل بخلافه بعده مما هو خلاف بيقين فإن ذلك جرح فيه; لأن ذلك إن كان حقا فقد بطل الاحتجاج به وإن كان خلافه باطلا فقد سقط به روايته إلا أن يعمل
ـــــــ
قوله "ومثال ذلك" أي مثال إنكار المروي عنه في غير الأحاديث ما روي أن أبا يوسف كان يتوقع من محمد رحمهما الله أن يروي عنه كتابا فصنف محمد كتاب الجامع الصغير وأسنده إلى أبي حنيفة بواسطة أبو يوسف رحمهم الله فلما عرض على أبي يوسف استحسنه. وقال حفظ أبو عبد الله إلا مسائل خطأه في روايتها عنه فلما بلغ ذلك محمدا قال بل حفظتها ونسي هو فلم يقبل أبو يوسف شهادة محمد على نفسه لما لم يذكره ولم يعتمد على إخباره عنه, "وصحح ذلك محمد" أي أصر على ما روي ولم يرجع عنه بإنكاره فهذا يدل على أن عند محمد رحمه الله لا يسقط الخبر بإنكار المروي عنه وهو الظاهر من مذهبه, واختلف في عدد تلك المسائل فقيل هي ثلاث وقيل هي أربع وقيل ست والاختلاف محمول على الاختلاف العرض وجميعها مذكور في أول شرح الجامع الصغير للمصنف رحمه الله.
قوله: "وأما إذا عمل بخلافه" عمل الراوي بخلاف الحديث الذي رواه أو فتواه بخلافه لا يخلو من أن يكون قبل روايته الحديث وقبل بلوغه إياه, أو بعد البلوغ قبل الرواية, أو بعد الرواية ولا يخلو كل واحد من أن يكون خلافا بيقين أي لا يحتمل أن يكون مرادا من الخبر بوجه أو لا يكون, فإن كان قبل الرواية وقبل بلوغه إياه لا يوجب ذلك جرحا في الحديث بوجه; لأن الظاهر أن ذلك كان مذهبه وأنه ترك ذلك الخلاف بالحديث ورجع إليه فيحمل عليه إحسانا للظن. ألا ترى أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم كانوا يشربون الخمر بعد تحريمها قبل بلوغه إياهم معتقدين إباحتها فلما بلغهم انتهوا عنه حتى نزل قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} [المائدة: 93]، وإن كان العمل أو الفتوى منه بخلاف الحديث بعد الرواية أو بعد بلوغه إياه وذلك خلاف يقين, "فإن ذلك" أي الخلاف "جرح فيه" أي في الحديث; لأن خلافه إن كان حقا بأن خالف للوقوف على أنه منسوخ أو ليس بثابت وهو الظاهر من حاله, "فقد بطل الاحتجاج به" أي بالحديث; لأن المنسوخ أو ما هو ليس بثابت ساقط العمل والاعتبار. وإن كان خلافه باطلا بأن خالف لقلة المبالاة والتهاون بالحديث أو لغفلة أو نسيان فقد سقطت به روايته; لأنه ظهر أنه لم يكن عدلا وكان فاسقا أو ظهر أنه كان مغفلا وكلاهما مانع من قبول الرواية, فإن قيل إنه إنما صار فاسقا بالخلاف مقتصرا عليه فلا يقدح ذلك في قبول ما روي قبله كما لو مات أو جن بعد الرواية, قلنا قد بلغ الحديث إلينا بعدما ثبت فسقه(3/98)
ببعض ما يحتمله الحديث على ما نبين إن شاء الله تعالى, وإذا لم يعرف تاريخه لم يسقط الاحتجاج به; لأنه حجة في الأصل فلا يسقط بالشبهة وذلك مثل حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي عليه السلام قال "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فهو باطل" ثم إنها زوجت بنت عبد الرحمن وهو غائب وكان ذلك بعد الرواية فلم يبق حجة ومثل حديث ابن عمر في رفع اليدين في الركوع سقط
ـــــــ
ولا بد في الرواية من الإسناد إليه فكان بمنزلة ما إذا رواه في الحل وهذا لأن العدالة أمر باطن لا يوقف عليه إلا بالاستدلال بالاحتراز عن محظور دينه فإذا لم يحترز ظهر أنها لم تكن ثابتة, وقد روي عن غير واحد من أهل العلم مثل أحمد بن حنبل وابن المبارك وغيرهما أنه إن كذب في خبر واحد وجب إسقاط جميع ما تقدم من حديثه, وهذا بخلاف الموت والجنون; لأن الحياة والعقل كانا ثابتين قطعا فلا يظهر الموت والجنون عدمهما.
"وإن لم يعرف تاريخه" أي لا يعلم أنه عمل بخلافه قبل البلوغ إليه والرواية أو بعد واحد منها لا يسقط الاحتجاج به; لأن الحديث حجة في الأصل بيقين, وقد وقع الشك في سقوطه; لأنه إن كان الخلاف قبل الرواية والبلوغ إليه كان الحديث حجة وإن كان بعد الرواية والبلوغ لم يكن حجة فوجب العمل بالأصل, ويحمل على أنه كان قبل الرواية; لأن الحمل على أحسن الوجهين واجب ما لم يتبين خلافه.
قوله. "وذلك مثل حديث عائشة" أي الحديث الذي عمل الراوي بخلافه بعد الرواية مثل حديث عائشة الذي ذكره في الكتاب فإنها زوجت بنت أخيها حفصة بنت عبد الرحمن المنذر بن زبير, وعبد الرحمن كان غائبا بالشام فلما قدم غضب, وقال أمثلي يصنع به هذا ويفتات عليه فقالت عائشة رضي الله عنها أوترغب عن المنذر ثم قالت للمنذر لتملكن عبد الرحمن أمرها فقال المنذر إن ذلك بيد عبد الرحمن فقال عبد الرحمن ما كنت أرد أمرا قضيتيه فقرت حفصة عنده فلما رأت عائشة رضي الله عنها أن تزويجها بنت أخيها بغير أمره جائز ورأت ذلك العقد مستقيما حتى أجازت فيه التمليك الذي لا يكون إلا عن صحة النكاح وثبوته استحال أن يكون ترى ذلك مع صحة ما روت فثبت فساد ما روي عن الزهري في ذلك كذا في "شرح الآثار", وذكر في غيره فلما أنكحت فقد جوزت نكاح المرأة نفسها دلالة; لأن العقد لما انعقد بعبارة غير المتزوجة من النساء فلأن ينعقد بعبارتها أولى فيكون فيه عمل بخلاف ما روت, أو يقال لما أنكحت فقد اعتقدت جواز نكاحها بغير إذن وليها بالطريق الأولى; لأن من لا يملك النكاح لا يملك الإنكاح بالطريق الأولى ومن ملك الإنكاح ملك النكاح بالطريق الأولى.(3/99)
برواية مجاهد أنه قال صحبت ابن عمر سنين فلم أره يرفع يديه إلا في تكبيرة الافتتاح.
وأما عمل الراوي ببعض محتملاته فرد لسائر الوجوه لكنه لم يثبت الجرح بهذا; لأن احتمال الكلام لغة لا يبطل بتأويله وذلك مثل حديث ابن عمر "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا" وحمله على افتراق الأبدان والحديث محتمل
ـــــــ
قوله "ومثل حديث ابن عمر في رفع اليدين" روى جابر عن "سالم بن عبد الله أنه رفع يديه حذاء منكبيه في الصلاة حين افتتح الصلاة وحين ركع وحين رفع رأسه فسأله جابر عن ذلك فقال رأيت ابن عمر رضي الله عنهما يفعل ذلك. وقال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك1" ثم روي عنه من فعله بعد النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ذلك على ما قال مجاهد صليت خلف ابن عمر فلم يكن يرفع يديه إلا في التكبيرة الأولى فعمله بخلاف ما روي لا يكون إلا بعد ثبوت نسخه فلا يقوم به الحجة, فإن قيل ما ذكر مجاهد معارض بما ذكر طاوس2 أنه رأى ابن عمر يفعل ما يوافق ما روي عنه عن النبي عليه السلام قلنا يجوز أنه فعل ذلك كما رواه طاوس قبل العلم بنسخه ثم تركه بعدما علم به وفعل ما ذكره عنه مجاهد وهكذا ينبغي أن يحمل ما روي عنهم وينفى عنهم الوهم حتى يتحقق ذلك وإلا سقط أكبر الروايات, إليه أشير في "شرح الآثار".
قوله: "وأما عمل الراوي ببعض محتملاته" أي محتملات الحديث بأن كان اللفظ عاما فعمل بخصوصه دون عمومه أو كان مشتركا أو بمعنى المشترك فعمل بأحد وجوهه فذلك رد منه لسائر الوجوه لكن لا يثبت الجرح في الحديث بهذا أي بعمل الراوي ببعض محتملاته وتعيينه, ذلك; لأن الحجة هي الحديث وبتأويله لا يتغير ظاهر الحديث واحتماله للمعاني لغة وتأويله لا يكون حجة على غيره كما لا يكون اجتهاده حجة في حق غيره فوجب عليه التأمل والنظر فيه فإن اتضح له وجه وجب عليه اتباعه. "وذلك" أي الحديث الذي عمل الراوي ببعض محتملاته مثل حديث ابن عمر رضي الله عنهما "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا" ليس في الحديث بيان ما وقع التفرق عنه فيحتمل أن يكون المراد منه التفرق بالأقوال فإن البائع إذا قال بعت والمشتري إذا قال اشتريت فقد تفرقا بذلك
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الصلاة رقم 390 وأبو داتود في الصلاة حديث رقم 721 – 722 ، والترمذي في الصلاة حديث رقم 255 وابن ماجة في الإقامة حديث رقم 858.
2 هو طاوس بن كيسان أبو عبدالرحمن اليماني الجندي توفي سنة 106هـ، أنظر تذكرة الحفاظ 1/9 – 92.(3/100)
افتراق الأقوال وهو معنى المشترك; لأنهما معنيان مختلفان والاشتراك لغة لا يسقط بتأويله ومن ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنه "من بدل دينه فاقتلوه" وقال ابن عباس رضي الله عنه لا تقتل المرتدة فقال الشافعي رحمه الله لا يترك عموم الحديث بقوله وتخصيصه, والامتناع عن العمل به مثل العمل
ـــــــ
القول وانقطع ما كان لكل واحد منهما من خيار إبطال كلامه بالرجوع وإبطال كلام صاحبه بالرد وعدم القبول. وهذا التأويل منقول عن محمد رحمه الله, ويحتمل التفرق بالأبدان وهو على وجهين, أحدهما أن الرجل إذا قال بعت عبدي بكذا فللمخاطب أن يقبل ما لم يفارق صاحبه فإذا افترقا لم يكن له أن يقبل وهو منقول عن أبي يوسف رحمه الله, والثاني ثبوت الخيار لكل واحد منهما بعد انعقاد البيع قبل أن يفترقا بدنا فإذا تفرقا سقط الخيار ويسمى ذلك خيار المجلس فحمل هذا الحديث راويه وهو ابن عمر رضي الله عنهما على الوجه الأخير, ولهذا كان إذا بايع رجلا وأراد أن لا يقيله قام يمشي ثم يرجع وهذا الحديث في احتمال هذه المعاني المختلفة المذكورة بمنزلة المشترك وإن لم يكن مشتركا لفظا فلا يبطل هذا الاحتمال بتأويله وكان للمجتهد أن يحمله على وجه آخر بما اتضح له من الدليل.
"ومن ذلك" أي من هذا القبيل حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من بدل دينه فاقتلوه" أي دين الحق فكلمة "من" عامة تتناول الرجال والنساء, وقد خصه الراوي بالرجال على ما روى أبو حنيفة رحمه الله بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما, لا تقتل المرتدة, فلم يعمل الشافعي رحمه الله بتخصيصه; لأن تخصيصه ليس بحجة على غيره, وكان الشيخ أراد بإيراد هذا الحديث أن الشافعي رحمه الله يوافقنا في هذا الأصل إلا أنه خالفنا في حديث خيار المجلس وأثبت خيار المجلس لدلالة ظاهر الحديث عليه لا لتأويل ابن عمر كما خصصنا حديث ابن عباس رضي الله عنهم بالرجال لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء مطلقا من غير فصل بين المرتدة وغيرها لا لتخصيص ابن عباس رضي الله عنهما هذا الحديث بالرجال, "والامتناع عن العمل به" أي بالحديث مثل العمل بخلافه حتى يخرج به عن كونه حجة; لأن ترك العمل بالحديث الصحيح حرام كما أن العمل بخلافه حرام, والمراد بالامتناع هو أن لا يشتغل بالعمل بما يوجبه الحديث ولا بما يخالفه من الأفعال الظاهرة كما إذا لم يشتغل بالصلاة في وقت الصلاة ولا بشيء آخر حتى مضى الوقت كان هذا امتناعا عن أداء الصلاة لا عملا بخلافه ولو اشتغل بالأكل والشرب في وقت الصوم كان هذا عملا بخلافه إلا أن كليهما في التحقيق واحد; لأن الترك فعل فكان الاشتغال به كالاشتغال بفعل آخر فيكون عملا بالخلاف أيضا, ولهذا ذكر(3/101)
بخلافه; لأن الامتناع حرام مثل العمل بخلافه والله أعلم بالصواب.
ـــــــ
شمس الأئمة رحمه الله ترك ابن عمر رضي الله عنهما العمل بحديث رفع اليدين في القبيلين. ورأيت في "المعتمد" لأبي الحسين البصري أنه حكى عن بعض أصحاب أبي حنيفة وغيرهم أن الراوي للحديث العام إذا خصه أو تأوله وجب المصير إلى تأويله وتخصيصه; لأنه لمشاهدة النبي صلى الله عليه وسلم أعرف بمقاصده, وقال أبو الحسن الكرخي المصير إلى ظاهر الخبر أولى, ومنهم من جعل التمسك بظاهر الخبر أولى من تأويل الراوي إذا كان تأويله بخلاف ظاهر الخبر, وإن كان تأويله أحد محتملي الظاهر حملت الرواية عليه وهو ظاهر مذهب الشافعي رحمه الله; لأنه حمل ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما من حديث الافتراق على افتراق الأبدان; لأنه مذهب ابن عمر رضي الله عنهما, وقيل إن لم يكن لمذهب الراوي وتأويله وجه إلا أنه علم قصد النبي عليه السلام إلى ذلك التأويل ضرورة وجب المصير إلى تأويله وإن لم يعلم ذلك بل جواز أن يكون صار إلى ذلك التأويل لنص أو قياس وجب النظر في ذلك الوجه فإن اقتضى ما ذهب إليه الراوي وجب المصير إليه وإلا فلا, وكذلك إذا علم أنه صار إلى ذلك التأويل لنص جلي لا مساغ للاجتهاد في خلافه وتأويله فإنه يلزم المصير إلى تأويل كما لو صرح بالرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك التأويل وإن كان الخبر مجملا وبينه الراوي فإن بيانه أولى والله أعلم.(3/102)
"باب الطعن يلحق الحديث من قبل غير راويه"
وهذا على قسمين قسم من ذلك ما يلحقه من الطعن من قبل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقسم منه ما يلحقه من قبل أئمة الحديث وما يلحقه من قبل الصحابة فعلى وجهين إما أن يكون من جنس ما يحتمل الخفاء عليه أو لا يحتمله, والقسم الثاني على وجهين أيضا إما أن يقع الطعن مبهما بلا تفسير أو يكون مفسرا بسبب الجرح فإن كان مفسرا فعلى وجهين أيضا إما أن يكون السبب مما يصلح الجرح به أو لا يصلح فإن صلح فعلى وجهين إما أن يكون
ـــــــ
"باب الطعن يلحق للحديث من قبل غير راويه"
قوله "إما أن يكون من جنس ما يحتمل الخفاء عليه" أي يكون الحديث الذي طعن فيه من جنس ما يحتمل الخفاء عن الطاعن أم لا, والقسم الثاني وهو ما يلحقه النكير من أئمة الحديث, أما القسم الأول وهو ما لحقه طعن من الصحابة رضي الله عنهم فمثل ما روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام" أي حد زنا غير المحصن بغير المحصن, وبهذا الحديث تمسك الشافعي رحمه الله فجعل النفي إلى موضع بينه وبين موضع الزاني مدة السفر من تمام الحد ولم يعمل علماؤنا به; لأن عمر رضي الله عنه نفى رجلا فلحق بالروم مرتدا فحلف, وقال والله لا أنفي أحدا أبدا فلو كان النفي حدا لما حلف; لأن الحد لا يترك بالارتداد فعرفنا أن ذلك كان بطريق السياسة والمصلحة كما "نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم مبيت المخنث من المدينة" ومعلوم أن التخنث لا يوجب النفي حدا بالإجماع, وكما نفى عمر رضي الله عنه نصر بن الحجاج منها حين سمع قائلة تقول:
هل من سبيل إلى خمر فأشربها ... أو من سبيل إلى نصر بن حجاج
والجمال لا يوجب النفي ولكن فعل ذلك للمصلحة فإن قال ما ذنبي يا أمير المؤمنين فقال لا ذنب لك إنما الذنب لي حيث لم أطهر دار الهجرة عنك, وقال علي(3/103)
ذلك مجتهدا في كونه جرحا أو متفقا عليه, فإن كان متفقا عليه فعلى وجهين أيضا إما أن يكون الطاعن موصوفا بالإتقان والنصيحة أو بالعصبية والعداوة. أما القسم الأول فمثال ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام" فقد حلف عمر أن لا ينفي أحدا أبدا, وقال علي رضي الله عنه كفى بالنفي فتنة وهذا من جنس ما لا يحتمل الخفاء عليهما; لأن إقامة الحدود من خط الأئمة ومبناه على الشهرة وعمر وعلي رضي الله عنهما من أئمة الهدى فلو صح لما خفي وهذا لأنا تلقينا الدين منهم فيبعد أن يخفى عليهم فيحمل ذلك على الانتساخ وكذلك لما امتنع عمر من القسمة في سواد العراق علم أن القسمة من رسول الله عليه السلام لم تكن حتما, وقال محمد بن سيرين في
ـــــــ
رضي الله عنه كفى بالنفي فتنة ولو كان النفي حدا لما سماه فتنة, وهذا أي خروج الحديث من كونه حجة بمخالفة بعض الأئمة من الصحابة باعتبار انقطاع توهم أنه لم يبلغه; لأنا تلقينا الدين منهم فيبعد أن يخفى عليهم مثل هذا الحديث ولا يظن بهم مخالفة حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحال فأحسن الوجوه فيه أن من خالف علم انتساخه أو علم أن ذلك الحكم لم يجب حتما.
قوله: "وكذلك لما امتنع عمر" إذا فتح الإمام بلدة عنوة وقهرا كان للإمام أن يجعلهم أرقاء ويقسمهم وأراضيهم بين الغانمين وله أن يدعهم أحرارا يضرب عليهم الجزية ويترك الأراضي عليهم بالخراج ولا يقسمها, وقال الشافعي رحمه الله له ذلك في الرقاب دون الأراضي; لأن "النبي صلى الله عليه وسلم قسم خيبر حين فتحها بين الصحابة" وكذلك كان يفعل في كل بلدة فتحها, ولعلمائنا رحمهم الله أن عمر رضي الله عنه لما فتح السواد قهرا وعنوة من عليهم برقابهم وأراضيهم وجعل عليهم الجزية في رءوسهم والخراج في أراضيهم مع علمنا أنه لم يخف عليه قسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وغيرها بين الصحابة حين افتتحها عرفنا أن ذلك لم يكن حكما حتما منه عليه السلام على وجه لا يجوز غيرها في الغنائم إذ لو كان حتما لما امتنع عنه, وإنما فعل ذلك بعد ما شاور الصحابة فإنه روي أنه استشارهم مرارا ثم جمعهم فقال أما إني لو تلوت من كتاب الله تعالى استغنيت بها عنكم ثم تلا قوله عز وجل: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} "الحشر: 7"، إلى قوله عز ذكره {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} "الحشر: 10"، ثم قال أرى لمن بعدكم في هذا الفيء نصيبا ولو قسمتها بينكم لم يكن لما بعدكم نصيب فمن بها عليهم وجعل الجزية على رءوسهم والخراج على أراضيهم ليكون ذلك لهم ولمن يأتي بعدهم من المسلمين, ولم(3/104)
متعة النساء هم شهدوا بها وهم نهوا عنها وما عن رأيهم رغبة ولا في نصحهم تهمة, فإن قيل ابن مسعود لم يعمل بأخذ الركب بل عمل بالتطبيق ولم يوجب جرحا قلنا لأنه لم ينكر الوضع لكنه رأى رخصة ورأى التطبيق عزيمة والعزيمة أولى إلا أن ذلك رخصة إسقاط عندنا.
ـــــــ
يخالفه على ذلك إلا بلال وأصحابه لقلة بصرهم بفقه الآية فقد كانوا أصحاب الظواهر دون المعنى فلم يعتبر خلافهم مع إجماع أهل الفقه منهم ولم يحمدوا على هذا الخلاف حتى دعا عليهم على المنبر فقال اللهم أكفني بلالا وأصحابه فما حال الحول ومنهم عين تطرف أي ماتوا جميعا, التطبيق أن يضم المصلي إحدى الكفين إلى الأخرى ويرسلهما بين فخذيه في الركوع, ذكر الشيخ في السؤال لم يعمل بأخذ الركب أي بحديث أخذ الركب وذكر في الجواب أنه لم ينكر الوضع ولم يقل لم ينكر الأخذ وذلك لأن المذكور في بعض الروايات الأخذ على ما روي عنه عليه السلام أنه قال: "سننت لكم الركب فخذوا بالركب" 1. وقال عمر رضي الله عنه "يا معشر الناس أمرنا بالركب فخذوا بالركب" وفي بعض الروايات الوضع على ما روي عن وائل بن حجر أنه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ركع وضع يديه على ركبتيه". وكذا في حديث ابن مسعود رضي الله عنه وذكر في بعضها الجمع بينهما كما روى أبو حميد الساعدي رضي الله عنه "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ركع وضع يديه على ركبتيه كأنه قابض عليهما"2 لكنه رآه أي رأى الوضع أو الأخذ رخصة أي رخصة ترفيه; لأنه كان يلحقهم المشقة في التطبيق مع طول الركوع فإنهم كانوا يخافون السقوط على الأرض فأمروا بالأخذ بالركب تيسيرا عليهم كرخصة الإفطار في السفر لا تعيينا عليهم بالأخذ بالركب.
"إلا أن ذلك" أي الوضع أو الأخذ رخصة إسقاط عندنا كرخصة قصر الصلاة في السفر فلم تبق العزيمة وهو التطبيق مشروعا أصلا, وهو مذهب عامة الصحابة رضوان الله عليهم, والدليل عليه أن "سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه رأى ابنا له يطبق فنهاه فقال رأيت عبد الله يفعله فقال رحم الله ابن أم عبد كنا أمرنا بهذا ثم نهينا عنه"3 ولأن الإنسان إنما يخير بين العزيمة والرخصة إذا كان في العزيمة نوع تخفيف وفي الرخصة كذلك فحينئذ يفيد التخيير, فأما إذا لم يكن في العزيمة نوع تخفيف وفي الرخصة تخفيف
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في الصلاة حديث رقم 258.
2 أخرجه الترمذي في الصلاة حديث رقم 260، وأبو داود في الصلاة حديث رقم 730-735.
3 أخرجه أبو داود في الصلاة حديث رقم 868، والإمام أحمد في المسند (1/378).(3/105)
ومثال القسم الآخر ما روي عن أبي موسى الأشعري أنه لم يعمل بحديث الوضوء على من قهقه في الصلاة ولم تكن جرحا; لأن ذلك من الحوادث النادرة فاحتمل الخفاء, وأما الطعن من أئمة الحديث فلا يقبل مجملا; لأن العدالة في
ـــــــ
انقلبت تلك الرخصة عزيمة وهاهنا ليس في العزيمة تخفيف وفي الرخصة نوع تخفيف فانقلبت عزيمة.
قوله: "ومثال القسم الآخر" أي نظير القسم الآخر وهو ما يكون من جنس ما يحتمل الخفاء على الراوي ما روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه لم يعمل بحديث القهقهة وهو ما روى زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه إذ أقبل أعمى فوقع في بئر أو زبية فضحك بعض القوم فلما فرغ عليه السلام قال "من ضحك منكم قهقهة فليعد الوضوء والصلاة" ثم لم يوجب ما ذكر عن أبي موسى إن ثبت جرحا في الحديث; لأن ما رواه زيد من الحوادث النادرة فاحتمل الخفاء على أبي موسى فلذلك لم يعمل به, على أنا لا نسلم أنه لم يعمل به فإنه قد اشتهر عن أبي العالية رواية هذا الحديث مسندا ومرسلا عن أبي موسى كذا في الأسرار ولم ينقل عن أحد من الثقات أنه ترك العمل به فالظاهر أن ما ذكروه غير ثابت.
ثم في هذا القسم لم يخرج الحديث عن كونه حجة; لأن الحديث الصحيح واجب العمل به فلا يترك العمل به بمخالفة بعض الصحابة إذا أمكن الحمل على وجه حسن, وقد أمكن هاهنا بأن يقال إنما عمل أو أفتى بخلافه; لأنه خفي عليه النص ولو بلغه لرجع إليه فالواجب على من بلغه الحديث بطريق صحيح أن يعمل به.
قوله "وأما الطعن من أئمة الحديث فلا يقبل مجملا" أي مبهما بأن يقول هذا الحديث غير ثابت أو منكر أو فلان متروك الحديث أو ذاهب الحديث أو مجروح أو ليس بعدل من غير أن يذكر سبب الطعن وهو مذهب عامة الفقهاء والمحدثين, وذهب القاضي أبو بكر الباقلاني وجماعة إلى أن الجرح المطلق مقبول; لأن الجارح إن لم يكن بصيرا بأسباب الجرح فلا يصلح للتزكية وإن كان بصيرا بها فلا معنى لاشتراط بيان السبب إذ الغالب مع عدالته وبصيرته أنه ما أخبر إلا وهو صادق في مقاله, واختلاف الناس في أسباب الجرح وإن كان ثابتا إلا أن الظاهر من حال العدل البصير بأسباب الجرح أن يكون عارفا بمواقع الخلاف في ذلك فلا يطلق الجرح إلا في صورة علم الوفاق عليها وإلا كان مدلسا ملبسا بما يوهم الجرح على من لا يعتقده وهو خلاف مقتضى العدالة, ألا ترى أن التعديل المطلق مقبول بأن قال المعدل هو عدل أو ثقة أو مقبول الحديث أو مقبول الشهادة فكذا الجرح المطلق, ولعامة العلماء أن العدالة ثابتة لكل مسلم باعتبار العقل والدين(3/106)
المسلمين ظاهرة خصوصا في القرون الأولى فلو وجب الرد بمطلق الطعن لبطلت السنن ألا يرى أن شهادة الحكم أضيق من هذا ولا يقبل فيها من المزكي الجرح المطلق فهذا أولى, وإذا فسره بما لا يصلح جرحا لم يقبل وذلك مثل من
ـــــــ
خصوصا في القرون الأولى وهي القرون الثلاثة التي شهد النبي صلى الله عليه وسلم بعدالتها فلا يترك هذا الظاهر بالجرح المبهم; لأن الجارح ربما اعتقد ما لا يصلح سببا للجرح جارحا بأن ارتكب الراوي صغيرة من غير إصرار أو شرب النبيذ معتقدا إباحته أو لعب بالشطرنج كذلك فجرحه بناء عليه. وكذا العادة الظاهرة أن الإنسان إذا لحقه من غيره ما يسوءه فإنه يعجز عن إمساك لسانه عنه فيطعن فيه طعنا مبهما إلا إن عصمه الله عز وجل ثم إذا استفسر لا يكون له أصل فثبت أن لا بد فيه من بيان السبب, بخلاف التعديل; لأن أسبابه لا تنضبط ولا تنحصر فلا معنى للتكليف بذكرها, وقولهم الغالب أنه ما أخبر إلا وهو صادق في مقاله غير مسلم لجواز أن يكون إخباره بناء على اعتقاده. وكذا قولهم الظاهر أنه يكون عارفا بمواقع الخلاف لجواز أن لا يعرف ذلك, قال الغزالي رحمه الله والصحيح عندنا أن هذا مختلف باختلاف أحوال المعدل فمن حصلت الثقة ببصيرته وضبطه يكتفى بإطلاقه ومن عرفت عدالته في نفسه ولم يعرف بصيرته بأسباب الجرح والتعديل استخبرناه عن السبب, وذكر أبو عمرو الدمشقي في كتاب معرفة أنواع علم الحديث في هذه المسألة أن البخاري قد احتج بجماعة سبق من غيره الجرح لهم كعكرمة مولى ابن عباس وكإسماعيل بن أبي أويس وعاصم بن علي وعمرو بن مرزوق وغيرهم, واحتج مسلم بسويد بن سعيد وجماعة اشتهر الطعن فيهم وهكذا فعل أبو داود السختياني1 وذلك دال على أنهم ذهبوا إلى أن الجرح لا يثبت إلا إذا فسر سببه.
فإن قيل: قد اعتمد الناس في جرح الرواة على الكتب التي صنفها أئمة الحديث فيه وقلما يتعرضون فيها لبيان السبب بل يقتصرون على مجرد قولهم فلان ضعيف وفلان ليس بشيء أو هذا حديث ضعيف وهذا حديث غير ثابت ونحو ذلك فاشتراط بيان السبب يفضي إلى تعطيل ذلك, فالجواب أن ذلك وإن لم نعتمده في إثبات الجرح والحكم به فقد اعتمدناه في أن يوقفنا عن قبول حديث من قالوا فيه مثل ذلك بناء على أن ذلك أوقع عندنا فيهم ريبة قوية يوجب مثلها التوقف ثم من انزاحت عنه الريبة منهم نبحث عن حاله قبلنا حديثه ولم نتوقف كالذين احتج بهم صاحبا الصحيحين وغيرهما ممن منهم مثل هذا الجرح من غيرهم.
ـــــــ
1 هو سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد الأزدي السجستاني أبو داود الحافظ الفقيه 202-275هـ. طبقات الحنابلة 1/118-120.(3/107)
طعن في أبي حنيفة رحمه الله أنه دس ابنه ليأخذ كتب أستاذه حماد وهذا دلالة إتقانه; لأنه كان لا يستجيز الرواية إلا عن حفظ وإتقان ولا يأمن الحافظ الزلل وإن جد حفظه وحسن ضبطه فالرجوع إلى كتب الأستاذ آية إتقانه لا جرح فيه, ومن ذلك طعنهم بالتدليس وذلك أن تقول حدثني فلان عن فلان من غير أن
ـــــــ
قوله: "وذلك مثل من طعن" أي الطعن المفسر بما لا يصلح جرحا مثل طعن من طعن في أبي حنيفة رحمه الله من الحساد المتعنتين أنه دس ابنه أي أخفاه ليأخذ كتب أستاذه حماد عند وفاته فكان يروي منها وهذا ليس بصحيح; لأنه رحمه الله كان أعلى حالا وأجل منصبا من أن ينسب إليه ذلك ويأبى كل الإباء دقة نظره في دقائق الورع والتقوى, وعلو درجته في العلم والفتوى, وقد طعن الحساد في حقه بهذا الجنس كثيرا حتى صنفوا في طعنه كتبا ورسائل ولكن لم يزده طعنهم إلا شرفا وعلوا, ورفعة بين الأنام وسموا, فشاع مذهبه في الدنيا واشتهر, وبلغ أقطار الأرض نور علمه واشتهر, وقد عرف من له أدنى بصيرة وإنصاف, وجانب التعصب والاعتساف أن كل ما قالوه افتراء, ومثله عنه براء, ولئن سلمنا أنه صحيح فليس فيه ما يوجب طعنا فيه; لأنه إما أن أخذها تملكا وغصبا بغير رضاء مالكها أو أخذها برضاه, فالأول منتف; لأن ذلك لا يليق بحال من هو دونه في العلم والتقوى بل بحال أكثر العوام فكيف يليق بحاله, وإن أخذها بإذن المالك تملكا أو عارية, فإما أنه روى منها شيئا أو لم يرو فإن لم يرو فليس للطعن فيه مدخل وإن روى فإما إن روى منها ما سمعه من أستاذه أو ما أجاز له بروايته أو روى ما لم يسمعه منه ولم يجز له بروايته. فالأول دلالة الإتقان كما ذكر في الكتاب فلا يصلح سببا للجرح, والثاني كذلك; لأنه رواية بطريق الوجادة وهو طريق مسلوك صحيح على ما مر بيانه. الإتقان الإحكام., "وإن جد حفظه" أي عظم, أو معناه جد في حفظه أي اجتهد فحذف حرف في وأسند الفعل إلى الحفظ مجازا.
قوله "ومن ذلك" أي ومن الطعن المفسر الذي لا يصلح جرحا طعنهم بالتدليس, التدليس كتمان عيب السلعة عن المشتري, وهو في اصطلاحهم كتمان انقطاع أو خلل في إسناد الحديث بإيراد لفظ يوهم الاتصال والصحة, وقيل هو ترك اسم من يروى عنه وذكر اسم من يروي عنه شيخه, وذكر أبو عمرو الدمشقي أن التدليس قسمان أحدهما تدليس الإسناد وهو أن يروي عمن لقيه ما لم يسمعه موهما أنه سمعه منه أو عمن عاصره ولم يلقه موهما أنه قد لقيه وسمعه منه, وقد يكون بينهما واحد أو أكثر ومن شأنه أن لا يقول في ذلك حدثنا ولا أخبرنا وإنما يقول قال فلان أو عن فلان.(3/108)
يتصل الحديث بقوله حدثنا أو أخبرنا وسموه عنعنة; لأن هذا يوهم شبهة الإرسال وحقيقته ليس بجرح على ما مر فشبهته أولى ومن ذلك طعنهم بالتلبيس
ـــــــ
والثاني تدليس الشيوخ وهو أن يروي عن شيخ حديثا سمعه منه فيسميه أو يكتبه أو ينسبه أو يصفه بما لا يعرف به كي لا يعرف, ثم قال فالقسم الأول مكروه جدا ذمه أكثر العلماء حتى قال بعضهم التدليس أخو الكذب, وعن شعبة أنه قال لأن أزني أحب إلي من أن أدلس وهذا من شعبة إفراط محمول على المبالغة في الزجر عنه, والقسم الثاني أمره أخف وفيه تضييع للمروي عنه وتوعير لطريق معرفته على من يطلب الوقوف على حاله ويختلف الحال في كراهة ذلك بحسب الغرض الحامل عليه فقد يحمله على ذلك كون شيخه الذي غير سمته غير ثقة أو كونه متأخر الوفاة قد شاركه في السماع منه جماعة دونه أو كونه أصغر سنا منه أو كون الراوي كثير الرواية عنه فلا يجب الإكثار من ذكر شخص واحد على صورة واحدة. قال واختلف في قبول رواية من عرف بالنوع الأول من التدليس فجعله فريق من أهل الحديث والفقهاء مجروحا بذلك وقالوا لا يقبل روايته بين السماع أو لم يبين, والصحيح التفصيل وأن ما رواه المدلس بلفظ محتمل لم يبين فيه السماع والاتصال حكمه حكم المرسل وأنواعه وما رواه بلفظ مبين للاتصال نحو سمعت وحدثنا وأخبرنا وأشباهها فهو صحيح قال وفي الصحيحين وغيرهما من الكتب من هذا الضرب كثير جدا كقتادة والأعمش وسفيان وغيرهم وهذا لأن التدليس ليس كذبا وإنما هو ضرب من الإبهام بلفظ محتمل فلا ينسب الفسق به فيقبل ما بين فيه الاتصال ورفع عنه الإبهام, وذكر غيره أن من عرف بالتدليس وغلب عليه ذلك إن لم يخبر باسم من يروي عنه إذا استكشف يسقط الاحتجاج بحديثه; لأن التدليس منه تزوير وإيهام لما لا حقيقة له وذلك يؤثر في صدقه وإن أخبر باسمه إذا استكشف وأضاف الحديث إلى ناقله لا يسقط الاحتجاج بحديثه ولا يوجب قدحا فيه, وقد كان سفيان بن عيينة يدلس فإذا سئل عمن حدثه بالخبر نص على اسمه ولم يكتمه وهذا شيء مشهور عنه وهو غير قادح, قال علي بن خشرم كنا في مجلس سفيان بن عيينة فقال. قال الزهري فقيل له حدثكم الزهري فقال لا لم أسمعه من الزهري ولا ممن سمعه من الزهري حدثني عبد الرزاق عن معمر عن الزهري, هذا بيان التدليس ومذهب أصحاب الحديث فيه وتبين بهذا أن التدليس بترك اسم المروي عنه لا يصلح للجرح عندنا; لأن عدالة الراوي تقتضي أنه ما ترك ذكره إلا لأنه عدل ثقة عنده لما ذكرنا في المرسل ويجري ذلك مجرى تعديله صريحا والصحابة كانوا يروون أحاديث ويتركون أسامي رواتها كما ذكرنا في المرسل فلو كان ذلك يوجب سقوط الخبر لما استجازوا ذلك.(3/109)
على من كنى عن الراوي ولو يسمه ولم ينسبه مثل قول سفيان الثوري حدثني أبو سعيد وهو يحتمل الثقة وغير الثقة ومثل قول محمد بن الحسن
ـــــــ
وكذا التدليس بالكناية عن المروي عنه الذي سماه الشيخ تلبيسا; لأنه أدنى من الترك إلا إذا علم أنه فعل ذلك; لأن المروي عنه غير مقبول الحديث فحينئذ لا يقبل; لأنه خيانة وغش فيقدح في الظن, هكذا قال بعض الأصوليين وإليه أشار الشيخ في الكتاب بقوله وإنما يصير هذا جرحا إذا استفسر فلم يفسر.
فأما العنعنة التي ذكرها الشيخ من التدليس فهي كذلك عند بعضهم ولكن عند عامتهم هي ليست بتدليس فإن أبا عمرو قد ذكر في كتابه أن الإسناد المعنعن وهو الذي يقال فيه فلان عن فلان عد عند بعض الناس من قبيل المرسل والمنقطع حتى يتبين اتصاله بغيره والصحيح أنه من قبيل الإسناد المتصل. قال وإلى هذا ذهب الجماهير من أئمة الحديث وغيرهم وأودعه المشترطون للصحيح في تصانيفهم فيها وقبلوه وادعى أبو عمرو الداني1 المقرئ الحافظ إجماع أهل النقل على ذلك. قال وهذا بشرط أن يكون الذين أضيفت العنعنة إليهم قد ثبتت ملاقاة بعضهم بعضا مع براءتهم عن وصمة التدليس فحينئذ يحمل على ظاهر الاتصال إلا أن يظهر فيه خلاف ذلك, وذكر الحاكم أبو عبد الله الحافظ في كتاب معرفة علوم الحديث أن الأحاديث المعنعنة متصلة بإجماع أهل النقل إذا لم يكن فيها تدليس.
قوله: "ومن ذلك" أي ومما لا يصلح جرحا طعنهم بالتدليس على من كنى عن الراوي أي أبهم راوي الأصل وهو المروي عنه, "ولم يسمه" أي لم يذكر اسمه الذي عرف به, "ولم ينسبه" أي إلى أبيه وقبيلته فلم يقل أخبرني فلان بن فلان الفلاني, "وهو" أي قوله أبو سعيد يحتمل الثقة وهو الحسن البصري الزاهد رحمه الله, وغير الثقة مثل محمد بن السائب الكلبي فيما أظنه ومثل عطية العوفي يروي التفسير عن أبي سعيد وهو الكلبي يدلس به موهما أنه أبو سعيد الخدري.
ومن نظائره رجلان بصريان اسم كل واحد منهما إسماعيل بن مسلم2 حدثا عن الحسن البصري أحدهما يكنى أبا ربيعة وكان متروك الحديث يروي عنه سفيان الثوري
ـــــــ
1 هو المقرئ الحافظ المفسر أبو عمرو عثمان بن سعيد بن عثمان بن عمر الأموي. توفي سنة 444هـ، أنظر معجم الأدباء 12/121-124.
2 الأول هو إسماعيل بن مسلم المكي أبو أسحاق البصري والثاني أسماعيل بن مسلم أبو محمد البصري القاضي. تهذيب التهذيب 1/331-332.(3/110)
رحمه الله حدثني الثقة من أصحابنا من غير تفسير; لأن الكناية عن الراوي لا بأس به صيانة عن الطعن فيه وصيانة للطاعن واختصارا وليس كل من اتهم من وجه ما يسقط به كل حديثه ومثل سفيان الثوري مع جلال
ـــــــ
ويزيد بن هارون وأبو عاصم النبيل والآخر يكنى أبا محمد كان ثقة يروي عنه يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي ووكيع وأبو نعيم فيميز بينهما عند الرواية بالكنية, ورجلان بالكوفة اسم كل واحد منهما إسماعيل بن أبان أحدهما غنوي وهو غير ثقة والآخر ثقة وهو إسماعيل بن أبان الوراق.
قوله: "حدثني الثقة من أصحابنا" أراد به محمدا وأبا يوسف رحمهما الله وإنما أبهم لخشونة وقعت بينهما, واختلف في أن التعديل على الإبهام من غير تسمية المعدل بأن قال الراوي حدثنا الثقة أو من لا أتهمه أو من لا أثق به هل يكتفى به أم لا؟ فعند أبي بكر الصيرفي وبعض أصحاب الحديث لا يكتفى به; لأنه قد يكون ثقة عنده, وقد اطلع غيره على جرحه بما هو جارح عنده أو بالإجماع فيحتاج إلى أن يسميه حتى يعرف وعند بعضهم إن كان القائل لذلك عالما أجزأ ذلك في حق من يوافقه في مذهبه وإن لم يوافقه لا يكفي, وعندنا يكفي ذلك في حق الجميع; لأن العدل لا يحكم على أحد بكونه ثقة إلا بعد تحقق عدالته والتفحص عن أسبابها فيقبل هذا منه كما لو سماه. وقال هو ثقة أو عدل من غير بيان سبب; "لأن الكناية عن الراوي" يعني طعنهم بكذا لا يصلح للجرح; لأن الكناية عن الراوي أي عن المروي عنه كما تحتمل أن تكون لكون المروي عنه متهما تحتمل أن تكون لأجل صيانته عن الطعن الباطل فيه ولأجل صيانة الطاعن وهو السامع عن الوقوع في الغيبة والمذمة لمسلم من غير حجة ثم هذه الكناية وإن كانت مذمومة للمعنى الأول فهي للمعنى الثاني أمر لا بأس به فيحمل عليه بدلالة عدالة الراوي, ولئن سلمنا أنه كنى للمعنى الأول وهو كون المروي عنه متهما.
"فليس كل من اتهم من وجه ما يسقط به كل حديثه" أي ليس كل اتهام ما يسقط به جميع رواية الراوي إذ الأسباب الموجبة للطعن على نوعين: ما يوجب عموم الطعن وما لا يوجبه.
فالأول مثل الزنا وشرب الخمر والكذب وسائر الكبائر فإن من ارتكب واحدا منها وجب رد جميع رواياته; لأن عقله ودينه لما لم يمنعاه عن ارتكابه لا يمنعاه عن الكذب في الرواية أيضا.
والثاني مثل اختلاط العقل والسهو والغفلة فإنها توجب رد ما رواه في حالة(3/111)
قدره وتقدمه في العلم والورع وتسميته ثقة شهادة بعدالته فأنى يصير جرحا, ووجه الكناية أن الرجل قد يطعن فيه بباطل فيحق صيانته.
ـــــــ
الاختلاط والسهو والغفلة ولا توجب رد جميع رواياته إذا لم يغلب السهو والغفلة عليه لزوال العلة الموجبة للرد في غير هذه الأحوال ونظيره الشاهد يرد جميع شهاداته بالفسق لعموم العلة الموجبة للرد ولا ترد بتهمة الأبوة إلا ما اختص بها وهو ما شهد به لابنه لزوال العلة الموجبة للرد في غيره. وإذا كان كذلك لا يلزم في كتابته لأجل الاتهام رد ما رواه لجواز أن يكون السبب الموجب للطعن غير شامل للجميع "مثل الكلبي" هو أبو سعيد محمد بن السائب الكلبي1 صاحب التفسير ويقال له أبو النضر أيضا طعنوا فيه بأنه يروي تفسير كل آية عن النبي صلى الله عليه وسلم ويسمى زوائد الكلبي, وبأنه روى حديثا عن الحجاج فسأله عمن يرويه فقال عن الحسن بن علي رضي الله عنهما فلما جرح قيل له هل سمعت ذلك من الحسن فقال لا ولكني رويت عن الحسن غيظا له, وذكر في الأنساب أن الثوري ومحمد بن إسحاق يرويان عنه ويقولان حدثنا أبو النضر حتى لا يعرف, قال وكان الكلبي سبئيا من أصحاب عبد الله بن سبإ من أولئك الذين يقولون إن عليا لم يمت وإنه راجع إلى الدنيا قبل قيام الساعة فيملؤها عدلا كما ملئت جورا وإذا رأوا سحابة قالوا أمير المؤمنين فيها والرعد صوته والبرق صوته حتى تبرأ واحد منهم, وقال:
ومن قوم إذا ذكروا عليا ... يصلون الصلاة على السحاب
مات الكلبي سنة ست وأربعين ومائة "وأمثاله" مثل عطاء بن السائب وربيعة بن عبد الرحمن وسعيد بن أبي عروبة وغيرهم اختلطت عقولهم فلم يقبل رواياتهم التي بعد الاختلاط وقبلت الروايات التي قبله فإن قيل ما نقل عن الكلبي يوجب الطعن عاما فينبغي أن لا يقبل رواياته جميعا قلنا إنما يوجب ذلك إذا ثبت ما نقلوه عنه بطريق القطع فأما إذا اتهم به فلا يثبت حكمه في غير موضع التهمة وينبغي أن لا يثبت في موضع التهمة أيضا إلا أن ذلك يورث شبهة في الثبوت وبالشبهة ترد الحجة وينتفي ترجيح الصدق في الخبر فلذلك لم يثبت. أو معناه ليس كل من اتهم بوجه ساقط الحديث مثل الكلبي وعبد الله بن لهيعة والحسن بن عمارة وسفيان الثوري وغيرهم فإنه قد طعن في كل واحد منهم بوجه ولكن علو درجتهم في الدين وتقدم رتبتهم في العلم والورع منع من قبول ذلك الطعن في حقهم ومن رد حديثهم به إذ لو رد حديث أمثال هؤلاء بطعن كل واحد انقطع طريق الرواية واندرست الأخبار إذ لم يوجد بعد الأنبياء عليهم السلام من لا يوجد فيه أدنى
ـــــــ
1 هو أبو النضر محمد بن بشر بن عمرو بن الحارث الكلبي المفسر المتوفي سنة 146هـ، أنظر الوافي بالوفيات 3/83.(3/112)
وقد يروي عمن هو دونه في السن أو قرينه أو هو من أصحابه وذلك صحيح عند أهل الفقه وعلماء الشريعة وإن طال سنده فيكني عنه صيانة عن الطعن بالباطل وإنما يصير هذا جرحا إذا استفسر فلم يفسر ومن ذلك ما لا
ـــــــ
شيء مما يجرح به إلا من شاء الله تعالى فلذلك لم يلتفت إلى مثل هذا الطعن ويحمل على أحسن الوجوه وهو قصد الصيانة كما ذكر.
قوله: "وقد يروي عمن هو دونه في السن" كرواية الزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري عن مالك, أو قرينه أي مثله يقال قرنه في السن وقرينه إذا كان مثله فيه, وذلك على قسمين أحدهما أن يروي كل واحد منهما عن الآخر كرواية الزهري عن عمر بن عبد العزيز ورواية عمر عنه ويسمى هذا مدبجا, والثاني أن يروي أحدهما عن الآخر ولا يروي الآخر عنه مثل رواية سليمان التيمي عن مسعر وهما قرينان.
"أو هو من أصحابه" أي تلامذته كرواية عبد الغني الحافظ1 عن محمد بن علي الصوري2 وكرواية أبي بكر البرقاني3 عن أبي بكر الخطيب البغدادي.
واعلم أن العلو في الإسناد عند أهل الحديث سنة مرغوب فيها والنزول فيه مفضول مرغوب عنه; لأن العلو في الإسناد يبعد الإسناد من الخلل إذ كل رجل من رجال السند يحتمل أن يقع الخلل من جهته سهوا أو عمدا ففي قلتهم قلة جهات الخلل وفي كثرتهم كثرة جهاته لكن النقل بالطريقين صحيح بالاتفاق إذا وجدت الشرائط التي مر ذكرها فالشيخ نظر إلى الصحة في هذا المقام لحصول غرضه بها وهو دفع الطعن, فقال: "وذلك" أي ما ذكرنا وهو الرواية عن هؤلاء "صحيح عند أهل الفقه وعلماء الشريعة" أي أهل الحديث وإن طال سند الحديث بها لكثرة الوسائط فيها بالنسبة إلى الرواية عمن هو فوقه, وإذا كان كذلك صح الكناية عن المروي عنه صيانة لنفسه عن الطعن الباطل بأنه روي بإسناد نازل, "وإنما يصير هذا" أي المذكور وهو الكناية عن المروي عنه "جرحا في الراوي إذا استفسر الراوي" عن المروي عنه "فلم يفسر" كما بيناه.
قوله: "ومن ذلك" أي ومن الطعن بما لا يصلح له الطعن بما لا يعد ذنبا على
ـــــــ
1 وهو الحافظ عبدلاغني بن سعيد علي بن سعيد الأزدي المصري، أبو محمد 332-409هـ، أنظر البداية والنهاية 12/7.
2 هو أبو عبد الله محمد بن علي الصوري 376-441هـ، أنظر البداية والنهاية 12/60.
3 هو أبو بكر أحمد بن محمد بن أحد بن غالب الخوارزمي الشافعي البرقاني 336-425هـ، أنظر شذرات الذهب 3/228.(3/113)
يعد ذنبا في الشريعة مثل ما طعن الجاهل في محمد بن الحسن رحمه الله; لأنه سأل عبد الله بن المبارك أن يقرأ عليه أحاديث سمعها فأبى فقيل له فيه فقال لا تعجبني أخلاقه; لأن هذا إن صح فليس به بأس; لأن أخلاق الفقهاء تخالف أخلاق الزهاد; لأن هؤلاء أهل عزلة وأولئك أهل قدوة, وقد يحسن في منزل القدوة ما يقبح في منزل العزلة وينعكس ذلك مرة وقد قال فيه عبد الله بن المبارك لا يزال في هذه الأمة من يحمي الله به دينهم ودنياهم فقيل له ومن ذلك اليوم؟
ـــــــ
الشريعة ولا يوجب قدحا في المروءة. "لأنه": أي محمدا. "فقيل له": أي لعبد الله. "فيه": أي في إبائه عن الاستماع يعني قيل له لم لا تجيبه إلى استماع الأحاديث. "لأن أخلاق الفقهاء تخالف أخلاق الزهاد" واعتبر هذا بموسى والعبد الصالح فإن موسى عليه السلام لما كان من أهل القدوة لم يستطع صبرا على ما رأى من العبد الصالح من خرق السفينة وقتل النفس وإقامة الجدار حتى أنكرها عليه مع أنه قد واعد له الصبر, وقد يحسن في منزل القدوة ما يقبح في منزل العزلة حتى استحب للمفتي الأخذ بالرخص تيسيرا على العوام مثل التوضؤ بماء الحمام والصلاة في الأماكن الطاهرة ظاهرا بدون المصلى وعدم الاحتراز على طين الشوارع في موضع حكموا بطهارته فيها ولا يليق ذلك بأهل العزلة بل الأخذ بالاحتياط والعمل بالعزيمة أولى بهم. "وينعكس ذلك مرة" أي يحسن في منزلة العزلة ما يقبح في منزل القدوة مثل ما يحكى عن مشايخ العزلة من أمور ظاهرها مخالف للشريعة صدرت عنهم بناء على تأويل وأعذار ظهر لهم, مثل ما حكي عن المنصور الحلاج1 من قوله أنا الحق وما حكي عن أبي يزيد البسطامي2 رحمه الله ليس في الجنة سوى الله وقوله سبحاني ما أعظم شأني وما حكي عن الشبلي3 رحمه الله من إتلاف المال وإلقائه في البحر. وقوله "وقد قال فيه" كذا دليل عدم صحة هذا الطعن.
قوله: "ومثال ذلك" أي مثال الطعن بما ليس بذنب الطعن بركض الدابة وهو حثها على العدو على ما روي عن شعبة بن الحجاج أنه قيل له لم تركت حديث فلان؟ قال
ـــــــ
1 هو أبو المغيث الحسين بن منصور، الصوفي المعروف، قتل سنة 309هـ، أنظر وفيات الأعيان 2/140-157.
2 هوأبو يزيد طيفور بن عيسى بن آدم بن سروشان البسطامي، والمتوفي سنة 261هـ، أنظر وفيات الأعيان 2/531.
3 هو أبو بكر دلف بن جحد الشبلي، الصوفي، 247-334هـ، أنظر حلية الأولياء 10/366-375.(3/114)
فقال محمد بن الحسن الكوفي. ومثال ذلك من طعن بركض الدابة مع أن ذلك من أسباب الجهاد كالسباق بالخيل والأقدام ومثل طعن بعضهم بالمزاح وهو أمر ورد الشرع به بعد أن يكون حقا لا باطلا إلا أن يكون أمرا يستفزه الخفة فيتخبط ولا يبالي, ومن ذلك الطعن بالصغر وذلك لا يقدح بعد أن ثبت الإتقان عند التحمل والبلوغ والعدالة عند الرواية مع ما تقدم ذكره وذلك مثل حديث ثعلبة بن صعير العذري في صدقة الفطر أنها نصف صاع من حنطة. ألا ترى أن
ـــــــ
رأيته يركض على برذون فتركت حديثه, "مع أن ذلك" أي الركض من أسباب الجهاد إذ هو من جنس السباق بالخيل الذي هو مندوب في الشرع على ما قاله عليه السلام: "لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر" 1 فأنى يجعل ذلك طعنا, "ومن ذلك طعنهم بالصغر", شرط بعض أصحاب الحديث البلوغ عند التحمل والأداء جميعا فلم يعتبروا سماع الصبي أصلا, وقال قوم الحد في السماع خمس عشرة سنة وقيل ثلاث عشرة سنة, فقال الشيخ لا يقدح الصغر عند التحمل في الرواية إذا ثبت الإتقان عند التحمل, وقد بينا هذه المسألة من قبل, "وذلك" أي الحديث الذي طعن فيه بصغر رواية عند التحمل مثل حديث عبد الله بن ثعلبة بن صعير العذري أنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "أدوا عن كل حر وعبد صغير أو كبير نصف صاع من بر أو صاعا من تمر أو صاعا من شعير" فقالوا هذا الحديث لا يعادل حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه "كنا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر أو صاعا من أقط أو صاعا من زبيب"2; لأن أبا سعيد من أكابر الصحابة وعبد الله بن ثعلبة من أصاغرهم فإنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وهو صغير وهذا الطعن باطل لما مر أن كثيرا من الصحابة تحملوا في صغرهم وقبل ذلك منهم بعد الكبر والشافعي رحمه الله أخذ بحديث نعمان بن بشير في إثبات حق الرجوع للوالد فيما يهب لولده. وقد روي أنه نحله أبوه غلاما وهو ابن سبع سنين فعرفنا أن مثل هذا لا يكون طعنا عند الفقهاء, والصحيح في نسبة عبد الله العذري دون العدوي فإن أبا علي الغساني قال العدوي في نسبته كما قال أحمد بن صالح المصري تصحيف إنما هو من بني عذرة, وذكر في المغرب العذرة وجع في الحلق من الدم وبها سميت القبيلة
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الجهاد حديث رقم 4547، والترمذي في الجهاد حديث رقم 1700. وابن ماجه في الجهاد حديث رقم 2878. والإمام أحمد في المسند 2/256.
2 أخرجه مسلم في الزكاة حديث رقم 985. والترمذي في الزكاة حديث رقم 673 وأبو داود في الزكاة حديث رقم 1616.وابن ماجه في الزكاة حديث رقم 1829. والإمام أحمد في المسند 3/23.(3/115)
رواية ابن عباس لصغره لم تسقط ولذلك قدمناه على حديث أبي سعيد الخدري في صدقة الفطر أنها صاع من حنطة; لأنهما استويا في الاتصال وهذا أثبت متنا من حديث أبي سعيد وقد انضاف إلى ذلك رواية ابن عباس أيضا ومن ذلك الطعن بأن من لم يحترف رواية الحديث لم يصح حديثه; لأن العبرة لصحة الإتقان
ـــــــ
المنسوب إليها عبد الله بن ثعلبة بن صغير العذري ومن روى العدوي فكأنه نسبه إلى جده الأكبر وهو عدي بن صغير العبدي كذا في معرفة الصحابة لأبي نعيم والصحيح هو الأول.
"ولذلك قدمناه" أي ولأن الصغر لا يقدح في الرواية قدمنا حديث عبد الله ثعلبة على حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه; "لأنهما" أي الحديثين استويا في الاتصال بالنبي عليه السلام; لأن حديث عبد الله مع صغره مثل حديث أبي سعيد في صحة السند على أن عند أصحاب الحديث حديث أبي سعيد من قبيل الموقوف فإنهم قالوا قول الصحابي كنا نفعل كذا وكنا نقول كذا إن لم يضف إلى زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو من قبيل الموقوف. وإن أضافه إلى زمانه عليه السلام فكذلك عند أبي بكر الإسماعيلي1 وجماعة وعند الحاكم أبي عبد الله وغيره من قبيل المرفوع, وحديث أبي سعيد من القسم الأول, "وهذا" أي حديث عبد الله أثبت متنا أي أدل على المعنى وأبعد من الاحتمال من حديث أبي سعيد; لأنه ذكر الحديث مع القصة فقال: "خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال في خطبته "أدوا صدقة الفطر" الحديث وذلك دليل الإتقان وفيه ذكر الأمر ممن هو مفترض الطاعة وهو الرسول صلى الله عليه وسلم وليس حديث أبي سعيد كذلك; لأن القصة لم تذكر فيه وهو أيضا حكاية فعلهم; لأنه قال كنا نخرج وذلك ليس بموجب وليس فيه أيضا بيان أن أداء كل الصاع كان بطريق الوجوب فيجوز أن يكون أداء بصفة بطريق الوجوب وأداء الباقي بطريق التبرع, وانضاف إلى ذلك أي إلى حديث عبد الله حديث ابن عباس رضي الله عنهم وهو ما روي أنه قال: "أخرجوا صدقة صومكم فرض رسول الله عليه السلام هذه الصدقة صاعا من تمر أو شعير أو نصف صاع قمح على كل حر أو مملوك ذكر أو أنثى صغير أو كبير2.
قوله: "ومن ذلك" أي ومن الطعن الذي لا يقبل الطعن بعدم احتراف الرواية
ـــــــ
1 هو أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن العباس الإسماعيلي، الجرجاني الشافعي، المحدث الفقيه 277-271. أنظر شذرات الذهب 3/75.
2 أخرجه أبو داود في الزكاة حديث رقم 1622.(3/116)
وهذا مثل طعن من طعن في أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه لم يحترف رواية الحديث وإن كان قد فعله من هو دونه في المنزلة فكذلك في كل عصر إذا صح الإتقان سقطت العادة, وقد قبل النبي عليه السلام خبر الأعرابي على رؤية الهلال ولم يكن اعتاد الرواية, وقد يقع الطعن بسبب هو مجتهد فيه مثل الطعن بالإرسال ومثل الطعن بالاستكثار من فروع مسائل الفقه فلا يقبل, فإن وقع الطعن مفسرا بما هو فسق وجرح لكن الطاعن متهم بالعصبية والعداوة لم يسمع مثل طعن الملحدين في أهل السنة ومثل طعن من ينتحل مذهب الشافعي رحمه الله على بعض أصحابنا المتقدمين رحمة الله عليهم. وأما وجوه الطعن على الصحة فكثيرة قد تبلغ ثلاثين فصاعدا أو أربعين, وقد ذكرنا بعضه فيما تقدم وهذا الكتاب لا يسعها.
ـــــــ
واعتيادها مثل طعن بعض أصحاب الشافعي رحمه الله في القاضي الإمام أبي زيد رحمه الله وتقسيمه الأخبار بالمتواتر والمشهور والغريب والمستنكر في التقويم بأنه لم يكن من أهل هذا الفن ولم يكن له علم بصحيح الأخبار وسقيمها فكان الأولى به أن يترك الخوض في هذا المعنى ويحيله على أهله فإن من خاض فيما ليس من شأنه افتضح عند أهله. وهذا طعن باطل أعني بعدم الاعتياد; لأن العبرة للإتقان لا للاحتراف وربما يكون إتقان من لم يحترف الرواية أكثر من إتقان من اعتادها, وأما طعنهم على القاضي الإمام أبي زيد فغير متوجه; لأن ما ذكره أمر كلي وبيان اصطلاح لا حاجة فيه إلى معرفة أفراد الأحاديث وأسانيدها وصحتها وسقمها وإلى معرفة الرجال وأحوالهم من العدالة والفسق بل يعرفه من له أدنى بصيرة من المخلصين فكيف يخفى عليه ذلك مع غزارة علمه ومهارته في كل فن بل الحامل لهم على ذلك التعصب والحسد وإلا كيف لم يطعنوا على غيره من الأصوليين الذين لا ممارسة لهم بعلم الحديث من أصحاب الشافعي وغيرهم حيث ذكروا في كتبهم مباحث تتعلق بعلم الحديث أكثر مما ذكره القاضي الإمام رحمه الله, "إذا صح الإتقان سقطت العادة" أي إذا تحقق الإتقان سقط اعتبار العادة ولم يلتفت إليها بعد.
قوله: "وقد يقع الطعن بسبب هو مجتهد فيه مثل الطعن بالاستكثار" من فروع الفقه كما ذكر بعض المحدثين في حق أبي يوسف رحمه الله أنه كان إماما حافظا متقنا إلا أنه اشتغل بالفقه, ووجهه أنه لما اشتغل بالفقه وصرف همته إليه لا بد من أن يقع خلل في حفظ الحديث وضبطه وهو باطل أيضا; لأن ذلك دليل الاجتهاد وقوة الذهن فيستدل به على حسن الضبط والإتقان فكيف يصلح أن يكون طعنا؟ وجعله شمس الأئمة رحمه الله(3/117)
ومن طلبها في مظانها وقف عليها إن شاء الله تعالى وهذه الحجج التي ذكرنا وجوهها من الكتاب والسنة لا تتعارض في أنفسها وضعا ولا تتناقض; لأن ذلك من أمارات الفجر الحدث تعالى الله عن ذلك, وإنما يقع التعارض بينهما لجهلنا بالناسخ من المنسوخ فلا بد من بيان هذه الجملة والله أعلم وهذا
ـــــــ
من قبيل ما تقدم وهو أولى; لأنه أشبه بالطعن بعدم الاحتراف والطعن بالإرسال وهو باطل أيضا; لأنه دليل تأكيد الخبر واتقان الراوي في السماع من غير واحد, وقد ذكرنا بعضه أي بعض ما يصح به الجرح فيما تقدم من الأبواب مثل ارتكاب بعض الكبائر والإصرار على الصغائر ومخالفة الحديث الغريب الكتاب والسنة المشهورة وعمل الراوي بخلاف الحديث الذي رواه بعد بلوغه إياه ونحوها. ومن طلبها أي وجوه الطعن على الصحة في مظانها أي مواضعها وهي كتب الجرح والتعديل التي صنفها أئمة الحديث, ومظنة الشيء موضعه ومألفه الذي يظن كونه فيه.
قوله "لا تتعارض في أنفسها وضعا ولا تتناقض" فالتناقض عند من لم يجوز تخصيص العلة وجود الدليل في بعض الصور مع تخلف المدلول عنه سواء كان لمانع أو لا لمانع, وعند من جوزه هو وجود الدليل مع تخلف المدلول بلا مانع, والتعارض تقابل الحجتين المتساويتين على وجه لا يمكن الجمع بينهما بوجه فالتناقض يوجب بطلان الدليل والتعارض يمنع ثبوت الحكم من غير أن يتعرض الدليل, هذا هو الفرق بينهما إلا أن كل واحد منهما في النصوص مستلزم للآخر فإن تخلف المدلول عن الدليل لا يكون إلا لمانع فيكون ذلك المانع معارضا للدليل فيما تخلف عنه. وكذا إذا تعارض النصان يكون الحكم متخلفا عن كل واحد لا محالة فيتحقق التناقض فلذلك جمع الشيخ بينهما كذا قيل, والظاهر أنهما بمعنى المترادفين هاهنا; لأن التناقض في الكلام في عامة الاصطلاحات هو اختلاف كلامين بالنفي والإثبات بحيث يقتضي لذاته أن يكون أحدهما صدقا والآخر كذبا وهذا هو عين التعارض فيكون كلاهما بمعنى; لأن ذلك أي التعارض والتناقض من علامات العجز; لأن من أقام حجة متناقضة على شيء كان ذلك لعجزه عن إقامة حجة غير متناقضة وكذا إذا أثبت حكما بدليل عارضه دليل آخر يوجب خلافه كان ذلك لعجزه عن إقامة دليل سالم عن المعارضة. والله تعالى يتعالى عن أن يوصف به, وإنما يقع التعارض بين هذه الحجج والتناقض أي التناقض الذي استلزمه التعارض لجهلنا بالناسخ والمنسوخ فإن أحدهما لا بد من أن يكون متقدما فيكون منسوخا بالمتأخر فإذا لم يعرف التاريخ لا يمكن التمييز بين المتقدم والمتأخر فيقع التعارض ظاهرا بالنسبة إلينا من غير أن يتمكن التعارض في الحكم حقيقة. فلا بد من بيان هذه الجملة: أي التعارض وما يتعلق به من بيان شرطه وحكمه وغير ذلك. وهذا: أي الذي نشرع فيه.(3/118)
"باب المعارضة"
وإذا ثبت أن التعارض ليس بأصل كان الأصل في الباب طلب ما يدفع التعارض, وإذا جاء العجز وجب إثبات حكم التعارض وهذا الفصل أربعة أقسام في الأصل وهو معرفة التعارض لغة وشرطه وركنه وحكمه شريعة.
ـــــــ
"باب المعارضة"
أي باب بيانها قوله "وهذا الفصل" أي فصل بيان المعارضة أربعة أقسام في الأصل أي باعتبار نفس المعارضة من غير نظر إلى أنها وقعت في الحجج الشرعية أو في غيرها, وهذا ليس من قبيل تقسيم الجنس إلى أنواعه كتقسيم الحيوان إلى إنسان وفرس وحمار وغيرها ليشترط فيه اشتراط مورد التقسيم بين الأقسام بل هو من قبيل تقسيم الكل إلى أجزائه كتقسيم الإنسان إلى حيوان وناطق فإن مورد التقسيم بيان المعارضة, والبيان بصفة الكمال لا يحصل إلا ببيان الأقسام الأربعة فكان بيان كل قسم بمنزلة جزء من البيان فلذلك لم يشترط فيه اشتراط مورد التقسيم.
قوله: "وركن المعارضة كذا" ركن الشيء ما لا وجود لذلك الشيء إلا به وأنه يطلق على جزء من الماهية كقولنا القيام ركن الصلاة ويطلق على جميعها كما في هذه الصورة فإن ما فسر الركن به هو تفسير نفس التعارض أيضا كذا قيل. وإنما قيد بتساوي الحجتين ليتحقق التقابل والتدافع إذ لا مقابلة بين الضعيف والقوي بل يترجح القوي فالمشهور لا يقابل المتواتر وخبر الواحد لا يعارض المشهور.
"وقيد بتضاد الحكمين" أي بمخالفتهما; لأنهما إذا كانا متفقين يتأيد كل دليل بالآخر ولا يقع التعارض, وذلك أي اشتراط اتحاد المحل والوقت باعتبار أن المضادة والتنافي بين الشيئين لا تتحقق في محلين وكاجتماع الحل والحرمة في المنكوحة وأمها من أن الموجب واحد وهو النكاح فكيف إذا كان اثنين, ولا في وقتين لما ذكر في الكتاب ويندرج فيما ذكر اتحاد الحال أيضا فإن اختلافها من قبيل اختلاف المحل أو اختلاف الوقت, واتحاد النسبة شرط أيضا وإن لم يذكره الشيخ لجواز اجتماع الضدين في محل(3/119)
أما معنى المعارضة لغة فالممانعة على سبيل المقابلة يقال عرض إلي بكذا أي استقبلني بصد ومنع سميت الموانع عوارض, وركن المعارضة تقابل الحجتين على السواء لا مزية لأحدهما في حكمين كتضادين فركن كل شيء ما يقوم به. وأما الشرط فاتحاد المحل والوقت مع تضاد الحكم مثل التحليل والتحريم وذلك أن التضاد لا يقع في محلين لجواز اجتماعهما, مثل النكاح يوجب الحل في محل والحرمة في غيره وكذلك في وقتين لجواز اجتماعهما في محل واحد في وقتين مثل حرمة الخمر بعد حلها.
ـــــــ
واحد في وقت واحد بالنسبة إلى شخصين كاجتماع الحل والحرمة في المنكوحة بالنسبة إلى الزوج وغيره وكاجتماع الأبوة والبنوة في شخص واحد في واحد بالنسبة إلى ولده ووالده. قال شمس الأئمة رحمه الله ومن الشرط أن يكون كل واحد منهما موجبا على وجه يجوز أن يكون ناسخا للآخر إذا عرف التاريخ بينهما فيجري التعارض بين الآيتين والسنتين ولا يجري بين القياسين; لأن أحدهما لا يجوز أن يكون ناسخا للآخر فإن النسخ لا يكون إلا عن تاريخ وذلك لا يتحقق في القياسين ولا بين أقوال الصحابة رضي الله عنهم; لأن كل واحد منهم إنما قال ذلك عن رأيه فالرواية لا تثبت بالاحتمال وكما أن الرأيين من واحد لا يصلح أن يكون أحدهما ناسخا للآخر فكذا من اثنين. وقد سمى بعض العلماء التعارض الذي بينا تناقضا فقال إذا اختلف الكلامان في النفي والإثبات سميا متناقضين ويعني به أن يكذب أحدهما إذا صدق الآخر, ثم قال ولا يتحقق هذا التناقض إلا بوحدة المحكوم عليه فإنك إذا قلت الحمل يذبح ويشوى لا يناقضه قولك الحمل لا يذبح ولا يشوى إذا أردت به برج الحمل, وبوحدة المحكوم فإنك إذا قلت المكره مختار أي له قدرة على الامتناع لا يناقضه قولك المكره ليس بمختار على معنى أنه ما خلي ورأيه وشهوته.
ويندرج فيما ذكرنا ما ذكروا من اشتراط وحدة الزمان والمكان والإضافة والقوة والفعل والكل والجزء والشرط; لأنك إذا قلت زيد جالس أي في هذا الزمان أو المكان زيد ليس بجالس أي في زمان أو مكان آخر كان المحكوم في الأول غيره في الثاني. وكذا إذا قلت زيد أب أي لعمر زيد ليس بأب أي لخالد إذ المحكوم في الأول أبوة عمرو وفي الثاني أبوة خالد, أو قلت الخمر في الدن مسكر أي بالقوة الخمر في الدن ليس بمسكر أي بالفعل إذ المحكوم فيهما أمران متغايران, ولو قلت الزنجي أسود أي جلده الزنجي ليس بأسود أي جميع أجزائه كان المحكوم عليه في الأول بعض الأجزاء وفي الثاني كلها فيتغايران. وكذا إذا قلت الجسم مفرق للبصر أي بشرط كونه أبيض, الجسم ليس بمفرق للبصر أي بشرط كونه أسود فإن المحكوم عليه في الأول الجسم الموصوف بالبياض وفي(3/120)
وحكم المعارضة بين آيتين المصير إلى السنة وبين سنتين نوعان: المصير إلى القياس, وأقوال الصحابة رضي الله عنهم على الترتيب في الحجج إن أمكن; لأن الجهل بالناسخ يمنع العمل بهما وعند العجز يجب تقرير الأصول, وإذا ثبت أن الأصل في وقوع المعارضة الجهل بالناسخ والمنسوخ اختص ذلك
ـــــــ
الثاني الجسم الموصوف بالسواد وهما متغايران, وبالجملة يشترط أن لا يغاير أحد الكلامين للآخر في شيء ألبتة إلا في النفي والإثبات فينفي أحدهما ما يثبته الآخر بعينه من ذلك المحكوم عليه بعينه من غير تفاوت.
قوله: "وحكم المعارضة" كذا إذا تحقق التعارض بين النصين وتعذر الجمع بينهما فالسبيل فيه الرجوع إلى طلب التاريخ فإن علم التاريخ وجب العمل بالمتأخر لكونه ناسخا للمتقدم وإن لم يعلم سقط حكم الدليلين لتعذر العمل بهما وبأحدهما عينا; لأن العمل بأحدهما ليس بأولى من العمل بالآخر والترجيح لا يمكن بلا مرجح ولا ضرورة في العمل أيضا لوجود الدليل الذي يمكن العمل به بعدهما فلا يجب العمل بما يحتمل أنه منسوخ, وإذا تساقطا وجب المصير إلى دليل آخر يمكن به إثبات الحكم; لأن الحادثة التحقت بما إذا لم يكن فيه ذلك النصان بتساقطهما فلا بد من طلب دليل آخر يتعرف به حكم الحادثة. ثم إن كان التعارض بين الآيتين وجب المصير إلى السنة إن وجدت وهو معنى قوله إن أمكن أو إلى أقوال الصحابة والقياس إن لم توجد, وإن كان بين السنتين وجب المصير إلى ما بعد السنة مما يمكن به إثبات حكم الحادثة, وذلك نوعان أقوال الصحابة والقياس, ثم عند من أوجد تقليد الصحابي مطلقا فيما يدرك بالقياس وفيما لا يدرك به وجب المصير إلى أقوالهم أولا فإن لم يوجد فإلى القياس. ويؤيده ما ذكر الشيخ في شرح التقويم حكم المعارضة هو أنه إذا وقع التعارض بين آيتين فالميل إلى السنة واجب وإن وقع التعارض بين سنتين فالميل إلى أقوال الصحابة وإن وقع بين أقوال الصحابة فالميل إلى القياس ولا تعارض بين القياس وبين أقوال الصحابة.
وعند من لا يوجب تقليد الصحابي فيما يدرك بالقياس وجب المصير إلى ما ترجح عنده من القياس وقول الصحابي; لأن قوله لما كان بناء على الرأي كان بمنزلة قياس آخر فكان بمنزلة تعارض قياسين فيجب العمل بأحدهما بشرط التحري. ثم مختار الشيخ إن كان القول الأول يكون قوله على الترتيب في الحجج متعلقا بالمجموع أي حكم المعارضة بين الآيتين المصير إلى السنة وبين السنتين نوعان المصير إلى أقوال الصحابة والقياس لكن على الترتيب لا على التساوي, وإن كان القول الثاني يكون قوله على الترتيب في الحجج متعلقا بما تقدم لا بقوله إلى القياس وأقوال الصحابة أي الكتاب مقدم على السنة فعند العجز عن العمل به يصار إلى السنة والسنة مقدمة على القياس وأقوال الصحابة فعند العجز(3/121)
بالكتاب والسنة فكان بين آيتين أو قراءتين في آية أو بين سنتين أو سنة وآية.
ـــــــ
عن العمل بها يصار إلى أحدهما, وقيل معناه على الترتيب في الحجج بحسب اختلاف العلماء واتفاقهم في ذلك, وذكر في بعض الشروح وإنما قال وبين سنتين نوعان وإن كان يصار إلى قول الصحابي أولا ثم إلى القياس; لأن المصير إليهما من حكم المعارضة بين السنتين إلا أن قول الصحابي شبهة السماع فيقدم على القياس.
قوله: "وعند العجز" يعني عند العجز عن المصير إلى دليل آخر على الترتيب المذكور بأن لم يوجد بعد النصين المتعارضين دليل آخر يعمل به, أو يوجد التعارض في الجميع يجب تقرير الأصول أي يجب العمل بالأصل في جميع ما يتعلق بالنصين كما سيجيء بيانه, فصار الحاصل أن حكم المعارضة نوعان المصير إلى ما بعد المتعارضين من الدليل إن أمكن وتقرير الأصول إن لم يمكن ثم في النوع الأول إن كان التعارض بين آيتين فالمصير إلى السنة وإن كان بين سنتين فنوعان المصير إلى القياس وإلى أقوال الصحابة, وإن جعلت المصير إلى أقوال الصحابة والقياس نوعا واحدا وتقرير الأصول عند العجز نوعا آخر فله وجه, وبالجملة في هذا الكلام نوع اشتباه ولم يتضح لي سره. ثم المصير إلى السنة في تعارض الآيتين والمصير إلى أقوال الصحابة والقياس في تعارض السنتين إنما يجب إذا كان التساوي ثابتا في عدد الحجج بأن كان من كل جانب واحد أو أكثر فإن كان من جانب دليل واحد ومن جانب دليلان فاختلف فيه فقال بعضهم إن أحد الدليلين يسقط بالتعارض والدليل الآخر الذي سلم عن المعارضة يتمسك به ولا يجب المصير إلى ما بعده من الدلائل, وعند بعضهم لا عبرة لكثرة العدد وقلته في التعارض وسيأتي بيانه إن شاء الله عز وجل.
ثم قيل نظير التعارض بين الآيتين والمصير إلى السنة قوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20]، وقوله عز وجل: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204]، فإن الأول بعمومه يوجب القراءة على المقتدي لوروده في الصلاة باتفاق أهل التفسير وبدلالة السياق, والسياق الثاني ينفي وجوبها عنه إذ الإنصات لا يمكن مع القراءة وأنه ورد في القراءة في الصلاة أيضا عند عامة أهل التفسير فيتعارضان فيصار إلى الحديث وهو قوله عليه السلام "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة" وقوله عليه السلام في الحديث المعروف "وإذا قرأ فأنصتوا" 1 ولا يعارضهما قوله عليه السلام "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" ; لأنه محتمل في نفسه قد يراد به نفي الفضيلة على ما عرف.
ونظير التعارض بين السنتين والمصير إلى القياس ما روى النعمان بن بشير رضي الله
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الصلاة رقم: 404، وأبو داود في الصلاة حديث رقم: 973 وابن ماجه في إقامة الصلاة حديث رقم: 847، والإمام أحمد في المسند 4/415.(3/122)
لأن النسخ في ذلك كله سائغ على ما نبين إن شاء الله تعالى وإما بين قياسين أو قولي الصحابة رضي الله عنهم فلا لأن القياس لا يصلح ناسخا, وقول الصحابي بناء على رأيه فحل محل القياس أيضا, بيان ذلك أن القياسين إذا تعارضا لم
ـــــــ
عنه أن "النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الكسوف كما تصلون ركعة وسجدتين"1 وما روت عائشة رضي الله عنها "أنه صلاها ركعتين بأربع ركوعات وأربع سجدات"2. فإنهما لما تعارضا صرنا إلى القياس وهو الاعتبار بسائر الصلوات.
قوله: "أو قراءتين" مثل قوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ} بالمائدة: 6"، بالنصب والجر وقوله جل ذكره: {يطهرن} [البقرة: 222]، بالتشديد والتخفيف, ولا يقال ينبغي أن لا يقع التعارض بين القراءتين; لأنه إنما يقع للجهل بالناسخ ولا يتصور نسخ إحدى القراءتين بالأخرى لنزولهما في وقت واحد فلا يتحقق شرط النسخ وهو زمان يتمكن فيه من العمل أو الاعتقاد; لأنا نقول لا نسلم نزولهما في وقت واحد بل الإذن بالقراءة الثانية ثبت بسؤال الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ما نزلت القراءة الأولى بزمان طويل فيتحقق شرط النسخ وتكون القراءة الثانية ناسخة لحكم الأولى فيما لم يمكن الجمع بينهما, إلا أنا لما لم نعرف الأولى من الثانية وقع التعارض بينهما كما يقع بين الآيتين.
قوله: "لأن القياس لا يصلح ناسخا" أي لا يصلح ناسخا لشيء أصلا أما الكتاب والسنة والإجماع فلأن الناسخ لا بد أن يكون فوق المنسوخ أو مثله ولا مماثلة بين الكتاب والسنة والإجماع وبين القياس وأما القياس فلأن النسخ لبيان انتهاء مدة حسن المشروع, ولهذا لا بد من أن يكون بينهما مدة ولا مدخل للرأي في معرفة انتهاء حسن المشروع ولا يتحقق التقدم والتأخر في المعاني المودعة في النص أيضا. "وبيان ذلك" أي بيان عدم التعارض بين القياسين كذا يعني. المراد من قولنا لا تعارض بين القياسين أنهما لا يسقطان به بل يجب العمل بأحدهما لشرط التحري إذا احتاج إلى العمل وإن لم يقع له حاجة إلى العمل يتوقف فيه, وهذا عندنا وعند الشافعي رحمه الله يعمل بأيهما شاء من غير تحر, ولهذا صار له في مسألة واحدة قولان وأقوال وأما الروايتان اللتان رويتا عن أصحابنا في مسألة واحدة فإنما كانتا في وقتين مختلفين فإحداهما صحيحة والأخرى فاسدة ولكن لم تعرف الأخيرة منهما كالحديث الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بروايتين
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الصلاة حديث رقم 1193، وابن ماجه في الإقمة حديث رقم 1262، والإمام أحمد في المسند 4/267-269.
2 أخرجه البخاري في الكسوف باب رقم 9-12. ومسلم في الكسوف حديث رقم 901-903 وأبو داود في الصلاة حديث رقم 1177، والترمذي في الصلاة حديث رقم 561 وابن ماجه في الإقامة حديث رقم 1263، والإمام أحمد في المسند 6/32.(3/123)
يسقطا بالتعارض ليجب العمل به في الحال بل يعمل المجتهد بأيهما شاء بشهادة قلبه; لأن تعارض النصين كان لجهلنا بالناسخ والجهل لا يصلح دليلا شرعيا لحكم شرعي وهو الاختيار.
وأما تعارض القياسين فلم يقع من قبل الجهل من كل وجه; لأن ذلك وضع الشرع في حق العمل فأما في الحقيقة فلا من قبل أن الحق في المجتهدات واحد
ـــــــ
مختلفتين فإنه عليه السلام قد قالهما في زمانين ولكن لم يعرف السابق من اللاحق كذا ذكر أبو اليسر.
فصار حاصل ما ذكرنا أن التعارض يجري بين النصين اللذين يتحقق النسخ فيهما ولا يجري بين القياسين بل يعمل المجتهد بأيهما شاء بشهادة قلبه فأقام الشيخ دليلا على الحاصل فقال لأن تعارض النصين كذا. وتقريره ما ذكره القاضي الإمام في "التقويم" أن النصين لا يتعارضان إلا والأول منهما منسوخ لا يجوز العمل به لكنا جهلناه والجهل لا يصير عملا شرعيا والاختيار عمل شرعي وأما القياسان فيتعارضان على طريق أن كل واحد منهما صحيح العمل به; لأنه جعل حجة يعمل به أصاب المجتهد به الحق عند الله تعالى أو أخطأه, ولما كان كل واحد منهما حجة لم يسقط وجوب العمل فإن قيل لما كان كل واحد من القياسين حجة يجب العمل به وجب أن يختار أيهما شاء من غير تحر كما في أجناس ما يقع به التكفير. قلنا قد بينا أن القياس حجة صحيحة في حق العمل فإذا تعارض القياسان كان كل واحد منهما حجة في حق العمل به لكن كلاهما ليس بحجة في حق إصابة الحق; لأن الحق عند الله تعالى واحد والقياس لا يدل عليه من كل وجه ولقلب المؤمن نور يدرك به ما هو باطن لا دليل عليه كما قال عليه السلام "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله" 1 وإصابة الحق غيب فتصلح شهادة القلب حجة في ذلك فيعمل بما شهد به قلبه.
ولما ثبت أن القياس حجة في حق العمل دون الإصابة فمن حيث إنهما حجتان في العمل بهما يثبت الخيار من غير تحر كما في الكفارات ومن حيث إن الحق عند الله تعالى واحد صارا متعارضين فيجب أن يسقطا; لأن أحدهما خطأ والآخر صواب ولا يدرى أيهما الصواب كما في النصين فمن وجه يسقط ومن وجه لا يسقط فقلنا يحكم فيه برأيه ويعمل بشهادة قلبه بخلاف الكفارات كذا ذكر الشيخ في "شرح التقويم."
قوله: "فأما تعارض القياسين فلم يقع من قبل الجهل من كل وجه" أي من قبل الجهل بالدليل الذي يجب العمل به. "لأن ذلك": أي القياس. "وضع الشرع" أي دليل وضعه
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في التفسير حديث رقم 31.(3/124)
يصيبه المجتهد مرة ويخطئ أخرى إلا أنه لما كان مأجورا على عمله وجب التخيير لاعتبار شبهة الحقيقة في حق نفس العمل بشهادة القلب; لأنه دليل عند الضرورة لاختصاص القلب بنور الفراسة. وأما فيما يحتمل النسخ فجهل محض بلا شبهة ولأن القول بتعارض القياسين يوجب العمل بلا دليل هو الحال, وتعارض الحجتين من الكتاب والسنة يوجب العمل بالقياس الذي هو حجة
ـــــــ
الشرع لأجل العمل به وإن وقع خطأ فإن الشرع وضع القياس بطريقه وهو أن يجتهد في المنصوص ويبين الوصف المؤثر ويحافظ شرائطه فيكون كل قياس صحيحا بوضع الشرع فلا يكون التعارض بناء على الجهل من هذا الوجه, "فأما في الحقيقة" أي في إصابة الحق حقيقة ووقوع العلم فلا أي لم يضعه الشرع طريقا إليه فيكون سبب التعارض الجهل من هذا الوجه. "إلا أنه" أي لكن القايس لما كان مأجورا على عمله أي اجتهاده أخطأ الحق أو أصاب وجب التخيير أي الحكم بالتخيير "لاعتبار شبهة الحقيقة" أي بالنظر إلى كون كل واحد منهما حقا في وجوب العمل, ووجب العمل بشهادة القلب طلبا للحق حقيقة; لأنه واحد, ولهذا كان له أن يعمل بأحدهما بشهادة قلبه وليس له أن يعمل بالقياسين جميعا كما قال الشافعي رحمه الله; لأن الحق لما كان واحدا كان الجمع بينهما في العمل جمعا بين الحق والباطل كذا قال أبو اليسر; "لأنه" أي المذكور وهو شهادة القلب دليل لطلب الحق عند الضرورة وهي انقطاع الأدلة كما في اشتباه القبلة وغيره, والفراسة نظر القلب بنور يقع فيه. وفي الصحاح الفراسة بالكسر اسم من قولك تفرست فيه خيرا أي أبصرت وفهمت وهو يتفرس أي يتثبت وينظر وتقول منه رجل فارس النظر وأنا أفرس منه أي أعلم وأبصر ومنه قوله عليه السلام: "اتقوا فراسة المؤمن" . وأما فيما يحتمل النسخ: أي التعارض فيما يحتمل النسخ وهو الكتاب والسنة. "فجهل محض" أي بناء على جهل محض بالناسخ. "بلا شبهة" أي بلا شبهة حقية في كليهما في حق العمل بل الحق ليس إلا واحدا منهما في حق العلم أو العمل جميعا.
قوله: "ولأن القول بتعارض القياسين" يعني إذا قلنا بتحقق التعارض في القياسين فلا نجد بدا من ترتيب حكمه عليه وهو التساقط ويؤدي ذلك إلى العمل بلا دليل; لأنه حينئذ يضطر إلى معرفة حكم الحادثة الواقعة ولا يمكنه ذلك إلا بدليل وأحد القياسين حق عند الله تعالى لا محالة وحجة يقينا فكان العمل بأحدهما على احتمال أنه الحجة حقيقة أولى من العمل بلا دليل فحل له العمل بالمحتمل لهذه الضرورة, فأما في تعارض الحجتين من الكتاب أو السنة فلا ضرورة; لأنه يترتب عليهما دليل شرعي يرجع إليه في معرفة حكم الحادثة وهو القياس فلا ضرورة في العمل بما يحتمل أنه ليس بحجة أصلا وهو المنسوخ.
قوله: "ومثال ذلك" أي نظير ما ذكرنا من التساقط وعدم التخيير في تعارض النصين(3/125)
ومثال ذلك أن المسافر إذا كان معه إناءان في أحدهما ماء نجس وفي الآخر طاهر وهو لا يدري عمل بالتيمم; لأنه طهور مطلق عند العجز, وقد وقع العجز
ـــــــ
وعدم التساقط وثبوت التخيير بشرط التحري في تعارض القياسين مسألتا الإناءين والثوبين فإن المسافر إذا كان معه إناءان من الماء أحدهما نجس والآخر طاهر وليس له ماء طاهر سواهما وأنه لا يعرف الطاهر من النجس ليس له أن يتحرى للوضوء عندنا خلافا للشافعي رحمه الله بل يصلي بالتيمم; "لأنه" أي التيمم أو التراب طهور مطلق عند العجز عن الماء الطاهر, وقد تحقق العجز هاهنا بالتعارض فلم يكن مضطرا إلى استعمال التحري للوضوء لما أمكنه إقامة الفرض بالبدل فلذلك لا يجوز له التوضؤ بأحدهما بالتحري وبدونه فهذا نظير تعارض النصين.
ونظير تعارض القياسين مسألة الثوبين وهي ما لو كان معه ثوبان نجس وطاهر ولا يعرف الطاهر من النجس وليس له ثوب آخر طاهر ولا ماء يغسلهما به فإنه يتحرى ويصلي في الذي يقع تحريه على أنه طاهر; لأن الضرورة قد تحققت هاهنا; لأنه لا يجد بدا من ستر العورة في الصلاة وليس للستر بد يتوصل به إلى إقامة الفرض فجاز له التحري لهذه الضرورة حتى أن في مسألة الإناءين لو احتاج إلى الماء للشرب عند استيلاء العطش وعدم الماء الطاهر كان له أن يتحرى أيضا; لأن الماء لا خلف له في حق الشرب فكان مضطرا في إقامة الشرب به فيجوز له التحري للشرب ألا ترى أنه جاز له شرب الماء النجس حقيقة عند الضرورة فالتحري الذي فيه إصابة الطاهر مأمول فيه أولى بالجواز يوضحه أن في مسألة الإناءين لو كانا نجسين لا يؤمر بالتوضؤ بهما ولو فعل لا يجوز لوجود الخلف وهو التراب وفي مسألة الثوبين لو كان كلاهما نجسين يؤمر بالصلاة في أحدهما ويجزيه وذلك لأن ليس للستر أو للثوب خلف ينتقل الحكم إليه عند العجز فيجوز له التحري الذي فيه إصابة الطاهر مأمول أيضا. وقوله لضرورة في العمل بلا دليل معناه أنه لو لم يعمل بالتحري الذي هو دليل جائز العمل عند الضرورة لاحتاج إلى العمل باستصحاب الحال الذي هو ليس بدليل; لأنه يحتاج إلى أن يصلي في أيهما بناء على أن الأصل فيه الطهارة إذ لا يجوز له أن يصلي عريانا في هذه الحالة بالاتفاق لوجود الثوب الطاهر من وجه كما لا يجوز له الصلاة عريانا إذا وجد ثوبا ربعه طاهر لا غير لوجود الثوب الطاهر من وجه باعتبار أن للربع حكم الكل في بعض الصور والعدول عن العمل بالدليل إلى ما ليس بدليل فاسد.
ثم ما ذكرنا من عدم جواز التحري ووجوب التيمم في مسألة الإناءين مذهبنا وعند الشافعي رحمه الله يتحرى ويتوضأ بما يقع تحريه عليه أنه طاهر; لأن التراب إنما جعل طهورا في حالة العجز عند استعمال الطاهر قطعا ولم يوجد العجز; لأن دليل الوصول إلى الطاهر قائم وهو التحري. فقيام الدليل يمنع ثبوت صفة الطهورية ولأنه متى صلى وتوضأ(3/126)
بالتعارض فلم يقع بالضرورة فلم يجز العمل بشهادة القلب ولو كان معه ثوبان نجس وطاهر لا ثوب معه غيرهما عمل بالتحري لضرورة الوقوع في العمل بلا دليل وهو الحال.
وكذلك من اشتبهت عليه القبلة ولا دليل معه أصلا عمل بشهادة قلبه من
ـــــــ
بالماء الذي تحراه كانت صلاة بطهارة حقيقية من وجه ومتى صلى بتيمم كانت صلاة بغير طهارة حقيقية من كل وجه; لأن التيمم ليس بطهارة حقيقية على أصله فكان الأول أولى, وإنا نقول إن التحري حجة ضرورية فلا يظهر إلا عند فقد التحصيل من كل وجه, وقد أمكنه التحصيل بالخلف فلا يكون التحري معتبرا في هذه الحالة, وقوله إنه جعل خلفا حالة العجز عن استعمال الطاهر كذلك ولكن العجز عنه ثابت; لأنه لا يمكنه الاستعمال إلا بالتحري وشرع الخلف يمنع عنه ولأن حل الصلاة بتيمم علق بعدم ظهور مطلق لا بعدم ظهور من وجه دون وجه فصار الفرض أن الخصم جعل الشرع التحري مانعا من ثبوت الخلفية للتراب; لأن العجز لا يثبت مع التحري وقلنا التحري ليس بدليل موصل إليه وإنما اعتبر حجة لبناء الحكم عليه عند ضرورة فقد سائر الأدلة فإذا كان ثمة خلف مشروع يمنع ظهور حجية التحري فيثبت العجز فإذا لا يمكنه اعتبار التحري حجة إلا عند فقد الخلف; لأن الخلف أقوى من التحري كذا في إشارات الأسرار لأبي الفضل. وهذا الخلاف إذا كان الطاهر والنجس سواء أو كانت الغلبة للنجس فإن كانت الغلبة للطاهر بأن كان أحد الأواني الثلاثة نجسا واثنان طاهران يجب التحري بالاتفاق; لأن الاعتبار للغالب وباعتبار الغالب لزمه استعمال الماء الطاهر وإصابته بتحريه مأمولة, ثم فيما إذا كانا سواء أو كانت الغلبة للنجس حتى لزمه التيمم فالأحوط أن يريق الكل ثم يتيمم إليه أشار محمد رحمه الله ليكون تيممه في حال عدم الماء بيقين, وإن لم يرق أجزأه أيضا; لأنه عدم آلة الوصول إلى الماء الطاهر, وذكر الطحاوي رحمه الله أنه يخلط المائين ثم يتيمم وهذا أحسن; لأن بالإراقة ينقطع عنه منفعة الماء وبالخلط لا ينقطع فإنه يسقيه دوابه ويشربه عند الضرورة, وبعض المتأخرين من مشايخ بلخ كان يقول يتوضأ بالإناءين جميعا احتياطا; لأنه يتيقن بزوال الحدث عند ذلك; لأنه قد توضأ مرة بالماء الطاهر وحكم نجاسة الأعضاء أخف من حكم الحدث فإذا كان قادرا على إزالة أغلظ الحدث لزمه ذلك وقاس بسؤر الحمار يؤمر بالتوضؤ به مع التيمم احتياطا, ولسنا نأخذ به; لأنه إذا فعل ذلك كان متوضئا بما يتيقن بنجاسته ومنجسا أعضاءه أيضا خصوصا رأسه فإنه بعد المسح بالماء النجس لا يطهر بالمسح بالماء الطاهر فلا معنى للأمر به بخلاف سؤر الحمار فإنه ليس بمنجس, ولهذا لو غمس الثوب فيه جازت صلاته فيه فيستقيم الأمر بالجمع بينه وبين التيمم احتياطا كذا في المبسوط.
قوله: "وكذلك من اشتبهت عليه القبلة" عطف على مسألة الثوبين أي وكما أن(3/127)
غير مجرد الاختيار لما قلنا إن الصواب واحد منها فلم يسقط الابتلاء بل وجب العمل بشهادة قلبه وإذا عمل بذلك لم يجز نقضه إلا بدليل فوقه يوجب نقض الأول حتى لم يجز نقض حكم أمضي بالاجتهاد بمثله; لأن الأول ترجح بالعمل
ـــــــ
صاحب الثوبين يعمل بالتحري عند الاشتباه من اشتبهت عليه القبلة بانقطاع الأدلة يعمل به أيضا ولا يكون له أن يختار أي جهة شاء من غير تحر, "لما قلنا" يعني في تعارض القياسين إن الصواب في الحقيقة "واحد منهما" أي من الاجتهادين وإن كان كل واحد صوابا في حق العمل به فكذا الصواب في جهات الكعبة واحد في الحقيقة وإن كانت كل جهة صوابا في انتقال الحكم إليه عند الاشتباه, أو لما قلنا في موضعه في شرح المبسوط وغيره إن الصواب في مسألة القبلة في الحقيقة واحد من الظنين أو من الجهتين; لأن الكعبة ليست إلا واحدة, وإذا كان كذلك لم يسقط الابتلاء بإيجاب التحري لما مر في مسألة القياسين حتى لو توجه إلى جهة عند الاشتباه من غير تحر وجبت عليه إعادة الصلاة; لأن التحري صار فرضا من فروض صلاته فإذا تركه لا يجزيه صلاته كما لو ترك استقبال القبلة عند عدم العذر إلا إذا تبين أنه أصاب القبلة فحينئذ تجوز صلاته; لأن فرضية التحري لمقصود, وقد توصل إلى ذلك المقصود بدونه فسقطت فرضيته عنه
قوله "وإذا عمل بذلك" يعني إذا ثبت له الخيار في تعارض القياسين وعمل بأحدهما بالتحري, لم يجز نقضه أي نقض ذلك العمل إلا بدليل فوقه من الكتاب والسنة بأن ظهر نص بخلافه فتبين به أن العمل كان باطلا, حتى لم يجز نقض حكم أمضي أي أتم بالاجتهاد بمثله أي باجتهاد مثله, وقوله لأن الأول متصل بقوله لم يجز نقضه إلا بدليل فوقه; لأن الأول أي القياس الأول ترجح بالعمل به أي يقوى باتصال العمل به وترجحت جهة الصواب فيه به; لأن الحكم بصحة العمل يتضمن الحكم بكونه حجة وصوابا ظاهرا ومن ضرورته ترجح جانب الخطأ في الآخر فلا يجوز نقض ما ثبت بالدليل الأقوى بما هو أضعف منه. وقوله لم ينقض التحري باليقين في القبلة جواب عما يقال إنك قد قلت إن الاجتهاد لا ينقض بمثله ولكنه ينقض بدليل فوقه في مسألة اشتباه القبلة لم ينقض ما أدى بالتحري بدليل فوقه بأن تيقن بأنه كان مخطئا للقبلة في تحريه, كما ينقض حكم أمضي بالاجتهاد إذا ظهر نص بخلافه, فأجاب بأن ذلك اليقين حادث ليس بمناقض يعني هذا اليقين لم يكن موجودا عند الاجتهاد حقيقة ولم يكن له طريق إلى التوصل إليه لانقطاع الأدلة بالكلية وإنما حدث بعد العمل بذلك الاجتهاد فلا يؤثر ذلك في إبطال ما مضى بمنزلة ما إذا عمل بالاجتهاد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ثم نزل نص بخلافه لم يؤثر ذلك في انتقاض ذلك العمل; لأنه لم يكن موجودا قبل الاجتهاد والعمل ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم افتدى عن أسارى بدر بالاجتهاد ثم نزل نص بخلافه وهو قوله تعالى:(3/128)
به ولم ينقض التحري باليقين في القبلة; لأن اليقين حادث ليس بمناقض بمنزلة نص نزل بخلاف الاجتهاد أو إجماع انعقد بعد إمضاء حكم الاجتهاد على خلافه. وأما العمل به في المستقبل على خلاف الأول فنوعان إن كان الحكم المطلوب به يحتمل الانتقال من جهة إلى جهة حتى انتقل من بيت المقدس إلى الكعبة وانتقل من عين الكعبة إلى جهتها فصلح التحري دليلا على خلاف الأول وكذلك في سائر المجتهدات في المشروعات القابلة للانتقال والتعاقب. وأما
ـــــــ
{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67] ولم يؤثر ذلك في إبطال ما مضى لما ذكرنا فكذا هذا بخلاف العمل بالاجتهاد في زماننا فإنه إذا ظهر نص بخلافه ينتقض; لأن الموجب للبطلان كان موجودا وقت الاجتهاد وكان طريق الوصول إليه وهو الطلب قائما إلا أنه خفي عليه لتقصيره في الطلب فينقضي لفوات شرط صحة الاجتهاد وهو عدم النص, هذا هو الكلام في العمل بأحد القياسين فيما مضى فأما الكلام في العمل بالقياس الآخر في المستقبل فعلى ما ذكر في الكتاب أن الحكم المطلوب بالاجتهاد إن احتمل الانتقال من محل إلى محل أو الانتساخ والتعاقب وجب العمل بالاجتهاد الآخر إذا تبدل رأيه إليه. وإلا فلا أي إن لم يحتمل الانتقال والتعاقب لا يجوز العمل بالاجتهاد على خلاف الأول في المستقبل; لأنا لو قلنا بالجواز أدى إلى تصويب كل قياس لما بينا أنه إذا تحرى وعمل وجعل التحري حجة له ضرورة صار الذي عمل به هو الحق عند الله تعالى بدليل التحري, والآخر خطأ, فإذا جوزنا له العمل بالآخر صار هذا هو الحق عند الله تعالى أيضا فإذا كان الحكم مما لا يحتمل التعاقب والانتقال لزم القول بتعدد الحقوق عند الله تعالى لا محالة, فأما إذا كان مما يحتمل الانتقال والتعاقب فلا يلزم منه القول بالتعدد, وقد ابتلينا بالقياس في الحوادث, وقد استقر رأيه في هذه الحادثة على أن الصواب هو الآخر فيلزمه العمل به كما إذا لم يعارضه القياس الأول.
قوله "وكذلك في سائر المجتهدات" أي كما يعمل بتبديل التحري في المستقبل في مسألة القبلة يعمل بتبديل الرأي في المجتهدات القابلة للانتقال في المستقبل أيضا إذا استقر رأيه على أن الصواب هو الثاني; لأن تبدل الرأي يشبه النسخ فيعمل به في المستقبل ولا يظهر به بطلان الماضي كما في النسخ الحقيقي, وهذا إذا لم يلحق به حكم حاكم فإن لحق به حكم فلا يعمل بتبدل الرأي في المستقبل أيضا كما لا يعمل به في الماضي; لأن القضاء الذي نفذ في محل لا يحتمل الانتقال إلى محل آخر فيلزم ذلك المحل وإليه أشار الشيخ بقوله من المشروعات القابلة للانتقال. بيانه إذا أدى اجتهاد مجتهد إلى الخلع الفسخ مثلا فنكح امرأة خالعها ثلاثا ثم تغير اجتهاده لزمه تسريحها ولم يجز له إمساكها على خلاف اجتهاده الحادث ولكن لا يحرم الوطآت السابقة. ولو حكم حاكم بصحة النكاح بعد أن خالع الزوج ثم تغير اجتهاده لم يفرق بينهما ولم ينقض الاجتهاد(3/129)
الذي لا يحتمله فرجل صلى في ثوب على تحري طهارته حقيقة أو تقديرا ثم تحول رأيه فصلى في ثوب آخر على تحري أن هذا طاهر وأن الأول نجس لم يجز ما صلى في الثاني إلا أن يتيقن بطهارته; لأن التحري الأول أوجب الحكم بطهارة الأول ونجاسة الثاني وهذا وصف لا يقبل الانتقال من عين إلى عين فبطل العمل
ـــــــ
السابق بصحة النكاح في المستقبل فإنه لو نقض الاجتهاد بالاجتهاد لنقض النقض أيضا, ولتسلسل واضطربت الأحكام ولم يوثق بها كذا ذكر بعض الأصوليين
قوله "وأما الذي لا يحتمله" أي لا يحتمل الانتقال فرجل صلى في ثوب على تحري طهارته حقيقة أي وقع تحريه على ثوب هو في الحقيقة طاهر أو تقديرا أي صلى في ثوب بالتحري وهو في الحقيقة نجس لكن الشرع لما حكم بجواز الصلاة فيه ثبت طهارته تقديرا, أو معناه أن الشك وقع في الثوبين اللذين أحدهما نجس والآخر طاهر كله حقيقة أو الآخر ربعه أو أكثر منه طاهر فصلى في أحدهما على ظن أنه هو الطاهر حقيقة أو تقديرا ثم وقع أكبر رأيه على الآخر أنه هو الطاهر حقيقة أو تقديرا لم يجز ما صلى في الثاني ما لم يثبت طهارته حقيقة أو تقديرا بدليل موجب للعلم لأنا لما حكمنا بجواز الصلاة في الثوب الأول فقد حكمنا بأنه هو الطاهر ومن ضرورته الحكم بنجاسة الثوب الثاني, وهذا وصف أي تنجس الثوب وصف لا يقبل الانتقال من محل إلى محل; لأن النجاسة متى يثبت في محل لا يتحول عنه إلى مكان آخر ولا يرد الشرع بتحوله; لأن الشرع لا يرد بتغير الحقائق فلو قلنا بصحة التحري ثانيا كان تحويلا, فبطل العمل به أي بهذا التحري الثاني بخلاف أمر القبلة; لأنه ليس من ضرورته الحكم بجواز الصلاة إلى جهة الحكم بأن تلك الجهة هي الكعبة ألا ترى أنه وإن تبين الخطأ جازت صلاته فكان تحريه إلى جهة أخرى مصادفا محله وهاهنا من ضرورة الحكم بجواز الصلاة الأولى الحكم بأن الطاهر ذلك الثوب ألا ترى أنه لو تبين فيه النجاسة يلزمه الإعادة, بينه أن الصلاة إلى غير القبلة تجوز في حالة الاختيار ومع العلم وهو التطوع على الدابة, والصلاة في الثوب الذي فيه نجاسة كثيرة لا تجوز في حالة الاختيار فمن ضرورة جواز الأولى تعيين صفة الطهارة في ذلك الثوب والنجاسة في الثوب الآخر, والأخذ بالدليل الحكمي واجب ما لم يظهر خلافه. وعلى هذا قال محمد رحمه الله في المبسوط لو لم يعلم أن في أحدهما نجاسة حتى صلى وهو ساه في أحدهما الظهر وفي الآخر العصر وفي الأول المغرب وفي الآخر العشاء ثم نظر فإذا في أحدهما قذر ولا يدري أنه الأول أو الآخر فصلاة الظهر والمغرب جائزة وصلاة العصر والعشاء فاسدة; لأنه لما صلى الظهر في أحدهما جازت صلاته باعتبار الظاهر فذلك بمنزلة الحكم بطهارة ذلك الثوب وبنجاسة الثوب الآخر فكل(3/130)
به ومثال القسم الثاني من القسم الرابع سؤر الحمار والبغل; لأن الدلائل لما
ـــــــ
صلاة أداها في الثوب الأول فهي جائزة وما أداها في الثوب الآخر وجبت إعادتها ولا يلزمه إعادة المغرب لمكان الترتيب; لأنه حين صلى المغرب ما كان يعلم أن عليه إعادة العصر والترتيب بمثل هذا العذر يسقط.
قوله "ومثال القسم الثاني" وهو تقرير الأصول عند العجز من القسم الرابع وهو حكم المعارضة إذ هو رابع الأقسام المذكورة في أول باب سؤر الحمار والبغل فإن الدلائل لما تعارضت في سؤر الحمار ولم يمكن العمل بالقياس بقي مشتبها فوجب تقرير الأصول كما ذكر في الكتاب. ثم قيل في بيان التعارض إن الأخبار تعارضت في إباحة لحم الحمار وحرمته فإن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه روى أن "النبي صلى الله عليه وسلم حرم لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر1" وروى غالب بن أبجر "أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح لحوم الحمر الأهلية2" فأوجب ذلك اشتباها في لحمه ويلزم منه الاشتباه في سؤره; لأنه متولد من اللحم فيؤخذ منه حكمه منه وكذا اختلاف الصحابة رضي الله عنهم فيه ظاهر أيضا فإن ابن عمر رضي الله عنهما كان يكره التوضؤ بسؤر الحمار والبغل ويقول إنه رجس وابن عباس رضي الله عنهما كان يقول إن الحمار يعتلف القت والتبن فسؤره طاهر لا بأس بالتوضؤ به,
"والقياس لا يصلح شاهدا" أي لأحد الجانبين أو مثبتا للحكم هاهنا; لأنه لا يصلح لنصب الحكم ابتداء إذ القياس لتعديه الحكم لا للإثبات ابتداء; لأن نصب أحكام الشرع بالرأي باطل, ولهذا لا يجوز إثبات حرم المدينة وكون الوتر ركعة بالقياس كما سيأتي بيانه إن شاء الله عز وجل وما نحن فيه من هذا القبيل, وإذا لم يصلح القياس شاهدا وجب تقرير الأصول على ما ذكر في الكتاب هذا هو المذكور في عامة الكتب, ويؤيد ما ذفي الأسرار في مسألة سؤر السباع وأما سؤر الحمار فهو عندنا في حكم لحمه ولحمه مشكل وليس بحرام بات, وكذلك السؤر عندنا لا يفرق بينهما في حكم التحريم والنجاسة بوجه, إلا أن تحقق الاشتباه والإشكال بهذا الطريق غير مسلم عند البعض; لأنه إنما يتحقق إذا لم يثبت رجحان أحدهما على الآخر. وقد ثبت رجحان الخبر الموجب للحرمة على الموجب للحل هاهنا حتى حكم أكثر العلماء بحرمة لحمه, وقد ذكره الشيخ بعد هذا بورقة أيضا فينبغي أن يحكم بنجاسة سؤره أيضا, ألا ترى أن أصحابنا حكموا بنجاسة
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في الجهاد باب رقم 13 ومسلم في الصيد حديث رقم 1937 وابن ماجة في الذبائح حديث رقم 3192 والإمام أحمد في المسند 4/381.
2 أخرجه أبو داود في الأطعمة حديث رقم 3809.(3/131)
تعارضت ولم يصلح القياس شاهدا; لأنه لا يصلح لنصب الحكم ابتداء وجب تقرير الأصول فقيل إن الماء عرف طاهرا فلا يصير نجسا بالتعارض فقلنا إن
ـــــــ
سؤر الضبع مع تعارض أخبار الحل والحرمة في لحمها باعتبار ترجيح الحرمة, كيف والدليل الموجب للحل وهو حديث غالب مؤول فإنه عليه السلام قال له "كل من سمين مالك" وذلك محمول على أكل الثمن على ما عرف, أو على حال الضرورة على ما روي في بعض الروايات أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم إنه قد "أصابتنا سنة وإن سمين مالنا في الحمير فقال "كلوا من سمين مالكم" , وإذا كان كذلك لم يتحقق شرط التعارض وهو المساواة في الحجتين أو اتحاد المحل, وكذلك ادعاؤهم أن القياس لا يصلح شاهدا فيما نحن فيه لأنه لنصب الحكم في هذا المحل غير فرع أيضا; لأن ذلك فيما إذا لم يوجد له أصل يلحق به فأما إذا وجد فلا وهاهنا أمكن إلحاق سؤر الحمار بسؤر الكلب في النجاسة بعلة حرمة الأكل أو بسؤر الهرة في الطهارة بعلة الطوف فأنى يكون هذا نصب الحكم ابتداء ألا ترى أن سؤر سواكن البيوت ألحق بسؤر الهرة في الطهارة وسؤر السباع ألحق بسؤر الكلب في النجاسة ولم يكن ذلك نصب الحكم ابتداء فكذا هذا, فالأحسن في بيان التعارض ما ذكره شمس الأئمة البيهقي1 في الكفاية أن الأخبار تعارضت في طهارة سؤره ونجاسته فإن جابرا رضي الله عنه روى أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أنتوضأ بما أفضلت الحمر قال "نعم وبما أفضلت السباع"
وهذا يدل على أن سؤره طاهر وروى أنس رضي الله عنه أن "النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية" فإنها رجس2 وهذا يدل على أن سؤره نجس. وقد تعارضت الآثار عن الصحابة أيضا كما ذكرنا ولم يصلح القياس شاهدا; لأن السؤر إن اعتبر بالعرق ينبغي أن يكون طاهرا إذ العرق طاهر في الروايات الظاهرة وإن اعتبر باللبن ينبغي أن يكون نجسا إذ اللبن نجس في أصح الروايتين, وإذا ثبت التعارض في الدلائل وتحقق العجز عن العمل بها بقي الاشتباه وصار الحكم مشكلا فوجب تقرير الأصول وهو إثبات ما كان على ما كان فلا يتنجس به ما كان طاهرا ولا يطهر به ما كان نجسا; لأن الطهارة أو النجاسة عرفت ثابتة بيقين فلا تزول بالشك,
ـــــــ
1 هو الإمام الحافظ والمحدث أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي بن موسي الخسرجردي البيهقي الشافعي 384 – 458هـ أنظر وفيات الأعتيان 1/75.
2 أخرجه البخاري في الذبائح باب رقم 14، ومسلم في الصيد حديث رقم 1940 وابن ماجة في الذبائح حديث رقم 3169(3/132)
---------------------------------------------------------
ـــــــ
وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله أن لحمه حرام بلا إشكال وحرمة لحمه تدل على نجاسة سؤره من غير إشكال لكن الضرورة أوجبت سقوط النجاسة فإن الحمار يربط في الدور والأفنية ويشرب من الأواني كالهرة إلا أن الضرورة فيه دونها في الهرة; لأنه لا يدخل المضايق التي تدخلها الهرة فلو انتفت الضرورة أصلا لكان سؤره نجسا لحرمة لحمه كسؤر الكلب; لأن طوف الكلب حول الأبواب لا في داخل الدار والبيوت ولو تحققت من كل وجه لكان الماء طاهرا وطهورا كسؤر الهرة فلما استوى الوجهان من غير ترجيح تساقطا ووجب المصير إلى ما كان ثابتا والثابت قبل التعارض شيئان الطهارة في جانب الماء والنجاسة في جانب اللعاب وليس أحدهما بأولى من الآخر فبقي مشكلا فلا يطهر ما كان نجسا ولا ينجس ما كان طاهرا. بخلاف الماء إذا أخبر عدل بنجاسته وآخر بطهارته فإنه لا يصير مشكلا; لأن الأصل هناك بعد سقوط الخبرين بالتعارض شيء واحد وهو الطهارة فوجب المصير إليه فبقي الماء طاهرا من غير إشكال وهاهنا الأصل بعد التساقط شيئان الطهارة في الماء والنجاسة في اللعاب فبقي مشكلا
فإن قيل لما وجب تقرير الأصول, وقد عرف الماء طاهرا وطهورا بيقين لزم أن يبقى كذلك ولا يزول واحد منهما بالشك, قلنا من ضرورة تقرير الأصول زوال صفة الطهورية عن الماء; لأنها لو بقيت لزال الحدث والنجاسة به إذ لا معنى للطهورية في عرف الفقهاء إلا إزالة الحدث والنجاسة ولو قلنا بزوالهما به لا يكون هذا تقريرا للأصول بل يكون عملا بأحد الأصلين وإهدارا للآخر فوجب القول بزوال الطهورية, وأعني به وقوع الشك والاشتباه فيها إلا أنها زالت بالكلية بدليل وجوب الجمع بينه وبين التيمم, فإن قيل هلا سقط استعمال الماء عند التعارض ووجب المصير إلى الخلف لا غير كما في مسألة الإناءين التي مر تقريرها قلنا لأن استعمال المطهر قد وجب عليه وهذا الماء كان مطهرا بيقين ووقع الشك في زوال هذا الوصف فلا يسقط عنه استعماله بالشك ووجب ضم التيمم إليه احتياطا, فأما في مسألة الإناءين فأحدهما نجس بيقين كما أن الآخر طاهر بيقين, وقد وجب عليه الاحتراز عن النصين كما وجب استعمال المطهر, وقد عجز باعتبار عدم العلم عن استعمال المطهر منهما ولم يعجز عن الاحتراز عن النجس فلذلك سقط عنه استعمالهما ووجب المصير إلى الخلف.
ولا يقال وجب أن يسقط استعماله أيضا احترازا عن النجاسة كما في تلك المسألة; لأنه يحتمل أن يكون نجسا كما يحتمل أن يكون طاهرا; لأنا قد بينا أن الطاهر لا يتنجس به فلا يكون في ترك استعماله احتراز عن النجاسة, ولهذا لو وجد ماء مطلقا لا يجب عليه(3/133)
سؤر الحمار طاهر وهو منصوص عليه في غير موضع وكذلك عرقه ولبن الأتان ولم يزل الحدث به عند التعارض ووجب ضم التيمم إليه فسمي مشكلا لما قلنا
ـــــــ
غسل الرأس بعدما توضأ به, وقوله "فقلنا إن سؤر الحمار طاهر" يشير إلى أن الشك في طهوريته لا في طهارته عنده وهو اختيار عامة المشايخ رحمهم الله, ووجهه ما ذكرنا أن الماء عرف طاهرا بيقين فلا يزول هذا الوصف بالشك فكان السؤر طاهرا غير طهور.
وهو منصوص في غير موضع أي كونه طاهرا منصوص في مواضع كثيرة فقد ذكر في كتاب الصلاة إن أصاب لعاب دابة لا يؤكل لحمها أو عرقها ثوبا فصلى فيه أجزته الصلاة وإن فحش, وعن أبي يوسف رحمه الله لعاب الحمار إذا أصاب الثوب فصلى فيه أجزته وإن فحش, وعن محمد رحمه الله ثلاث مياه لو غمس فيه الثوب تجوز الصلاة فيه الماء المستعمل وسؤر الحمار وبول ما يؤكل لحمه, وعند بعضهم الشك في طهارته; لأن اللعاب إن كان طاهرا كان الماء طاهرا أو طهورا ما لم يغلب اللعاب عليه ولو كان نجسا كان الماء نجسا كسؤر الكلب فكان الشك فيهما جميعا وإنما لا يتنجس الثوب والعضو به; لأن اليقين لا يزول بالشك لا; لأنه طاهر حقيقة. وكأن هذا الاختلاف لفظي; لأن من قال الشك في طهوريته لا في طهارته أراد أن الطاهر لا يتنجس به ووجب الجمع بينه وبين التراب لا أنه ليس في طهارته شك أصلا; لأن الشك في طهوريته إنما نشأ من الشك في طهارته لتعارض الأدلة في طهارته ونجاسته
قوله "وكذلك عرقه" أي كسؤر الحمار عرقه في كونه طاهرا أو هذا جواب ظاهر الرواية وهو الصحيح لأن "النبي صلى الله عليه وسلم كان يركب الحمار معروريا والحر حر الحجاز" فلا بد من أن يعرق الحمار ولأن معنى الضرورة في عرقه ظاهر لمن يركبه, وذكر في شرح الجامع الصغير للقاضي الإمام فخر الدين رحمه الله وفي لعاب الحمار والبغل وعرقهما إذا أصاب الثوب أو البدن عن أبي حنيفة رحمه الله ثلاث روايات: في رواية قدره بالدرهم وفي رواية قدره بالكثير الفاحش وهي رواية الأمالي وفي رواية لا يمنع وإن فحش وعليه الاعتماد, وذكر شمس الأئمة الحلواني1 رحمه الله أن عرق الحمار نجس إلا أنه عفي عنه لمكان الضرورة فعلى هذا لو وقع في الماء القليل يفسد وهكذا روي عن أبي يوسف رحمه الله وذكر القدوري رحمه الله أن عرق الحمار طاهر في الروايات المشهورة كذا في المحيط.
ـــــــ
1 هو شمس الأئمة أبو محمد عبدالعزيز بن أحمد بن نصر بن صالح الحلواني البخاري الفقيه الحنفي المتوفي سنة 456هـ، أنظر الفوائد البهية 95 – 96.(3/134)
لا أنه يعني به الجهل وكذلك الجواب في الخنثى المشكل وكذلك جوابهم
ـــــــ
قوله "ولبن الأتان" أي هو طاهر كسؤرها وهو رواية عن محمد رحمه الله فإنه نقل عنه أن لبن الأتان طاهر ولا يؤكل وهو اختيار الشيخ وصاحب الهداية وفي ظاهر الرواية هو نجس كذا في المحيط, وذكر الإمام التمرتاشي في شرح الجامع الصغير وعن البزدوي أنه يعتبر فيه الكثير الفاحش, وعن عين الأئمة الصحيح أنه نجس نجاسة غليظة; لأنه حرام, وليس فيه ضرورة فسمي مشكلا لما قلنا. ذكر في المبسوط أن سؤر الحمار مشكوك فيه غير متيقن بطهارته ولا بنجاسته وكان أبو طاهر الدباس رحمه الله ينكر هذه العبارة ويقول لا يجوز أن يكون الشك من أحكام الشرع فقال الشيخ رحمه الله ليس المراد منه أنه مشكوك في الحقيقة أو أنه شرع مشكلا حقيقة بل سمي مشكلا لما قلنا من تعارض الأدلة ووجوب ضم التيمم إليه للاحتياط. لا أنه يعني به الجهل: أي لا أن يعني بهذه العبارة أن حكمه مجهول; لأن حكمه معلوم وهو وجوب الاستعمال وانتفاء النجاسة وضم إليه على ما بينا.
قوله "وكذلك الجواب في الخنثى" أي ومثل الجواب الذي ذكرنا في سؤر الحمار من تقرير الأصول والعمل بالاحتياط عند وقوع الإشكال الجواب في الخنثى المشكل أيضا وهو الشخص الذي له ما للرجال والنساء ولم يوجد فيه ما يترجح به أحد الجانبين على الآخر أعني الذكورة والأنوثة فإنه لما أشكل حاله بتعارض الجهتين وجب تقرير الأصول والعمل بالاحتياط في موضعه فيجعل بمنزلة الذكور في بعض الأحكام وبمنزلة الإناث في البعض على ما يدل عليه الحال في كل حكم فيقال أكبر النصيبين في الميراث أعني نصيبي الرجل والمرأة لم يكن ثابتا له فلا يثبت بالشك ويتأخر عن الرجال ويتقدم على النساء في الصلاة احتياطا ولا يختنه الرجل ولا المرأة لاشتباه حاله بل تشترى أمة تختنه من ماله أو مال بيت المال على ما عرف في كتاب الخنثى, والألف فيه للتأنيث كما في حبلى والبشرى وكان ينبغي أن يقال الخنثى المشكلة ويؤنث الضمير الراجع إليه كما هو المذكور في كلام الفصحاء إلا أن الفقهاء نظروا إلى عدم تحقق التأنيث في ذاته فلم يلحقوا علامة التأنيث في وصفه وضميره تغليبا للذكورة. وقد يوصف الرجل به أيضا فيقال رجل خنثى ورجال خناثى وخناث قال الشاعر:
لعمرك ما الخناث بنو قشير ... بنسوان يلدن ولا رجال
قوله "وكذلك جوابهم" أي جواب علمائنا في المفقود فإنه لما تعارض حياته ومماته وجب تقرير الأصول فجعل حيا في ماله حتى لا يورث عنه; لأن حياته كانت ثابتة(3/135)
في المفقود, ومثال ما قلنا في الفرق بين ما يحتمل المعارضة وبين ما لا يحتملها أيضا الطلاق والعتاق في محل منهم يوجب الاختيار; لأن وراء الإبهام محلا يحتمل التصرف فصلح الملك فيه دليلا لولاية الاختيار فإذا طلق عينا ثم نسي لم يجز الخيار بالجهل وإذا عرفت ركن المعارضة وشرطها وجب أن تبني
ـــــــ
فلا تزول بالشك وميتا في مال غيره حتى لا يرث عن أحد; لأن استحقاقه لم يكن ثابتا فلا يثبت بالشك أيضا.
قوله "ومثال ما قلنا" من الفرق بين ما يحتمل المعارضة من النصوص وبين ما لا يحتملها من القياس وأقوال الصحابة ما إذا أوقع الطلاق أو العتاق في محل مبهم بأن قال لامرأتيه إحديكما طالق أو قال لأمتيه أحديكما حرة وما إذا أوقع الطلاق أو العتاق في محل عين ثم نسيه بأن قال لإحدى امرأتيه أنت طالق أو لإحدى أمتيه أنت حرة ثم نسي المطلقة والمعتقة فإن في المسألة الأولى يثبت له خيار التعيين; لأن الإبهام لم ينشأ عن الجهل المحض كما في القياسين, وقد كان تعيين المحل مملوكا له شرعا كابتداء الإيقاع فبمباشرة الإيقاع أسقط ما كان له من الخيار في أصل الإيقاع ولم يسقط ما كان له من الخيار في التعيين فيبقى ذلك الخيار ثابتا له شرعا, وهو معنى قوله; لأن وراء الإبهام محل يحتمل التصرف أي بعدما أوقع أصل الطلاق أو العتاق مبهما بقي شيء آخر يحتمل التصرف أي الإيجاد من قبل المالك وهو تعيين المحل. أو معناه بعدما أوقع أصل الطلاق مبهما بقي محل يحتمل التصرف وهو ذات المرأة; لأن الطلاق المبهم لم ينزل في المحل على ما عرف فتبقى كل واحدة منهما محلا لتصرفه, فصلح الملك أي بقاء الملك في المحل دليلا لولاية الاختيار, وهو كالقياسين لما كان كل واحد حجة في حق العمل ثبت فيهما التخيير, وفي المسألة الثانية لا يثبت الخيار; لأن الطلاق أو العتاق قد نزل في أحديهما وخرج المحل عن ملكه والتعارض ثبت في حقه بين المحلين لجهله بالمحل الذي عينه عند الإيقاع وجهله لا يثبت الخيار له شرعا, ولو جعل إليه ذلك كان فيه إثبات صرف الحرمة عن محلها إلى غير محلها كما في تعارض النصين لما ثبت بناء على الجهل بالناسخ لم يثبت الخيار إذ لو ثبت ذلك لكان فيه صرف الحقيقة عن حجة إلى ما ليس بحجة.
قوله "وإذا عرفت ركن المعارضة" يعني لما علمت أن ركن المعارضة تقابل الحجتين على السواء وإن شرطها اتحاد المحل والوقت كما بينا, وجب أن تبني عليه أي على ما عرفت كيفية المخلص عن التعارض على سبيل العدم أي على وجه يعدمه من الأصل بأن يقول لا نسلم أن المعارضة ثابتة لعدم ركنها وهو المساواة في الحجتين أو عدم شرطها وهو عدم اتحاد المحل أو الوقت إلى آخر ما بينا فما ذكر من بيان حكم(3/136)
عليه كيفية المخلص عن المعارضة على سبيل العدم من الأصل وذلك خمسة أوجه: من قبل الحجة, ومن قبل الحكم, ومن قبل الحال, ومن قبل الزمان صريحا, ومن قبل الزمان دلالة. أما من قبل نفس الحجة فأن لا يعتدل الدليلان فلا يقوم المعارضة مثل المحكم يعارضه المجمل والمتشابه من الكتاب أو المشهور من السنة يعارضه خبر الواحد; لأن ركنها اعتدال الدليلين وأمثلة ذلك كثيرة لا تحصى, وأما الحكم فإن الثابت بهما إذا اختلف عند التحقيق سقط التعارض مثل قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] والمراد به الغموس, وقال: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة 89] والغموس داخل في هذا اللغو;
ـــــــ
المعارضة هو المخلص منها على تقدير تحققها وتسليمها وهذا هو المخلص منها على سبيل المنع مثل المحكم يعارضه المجمل أو المتشابه فإن قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشوري: 11] محكم في نفي المماثلة فلا يعارضه قوله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] لأنه متشابه لانتفاء ركن المعارضة وهو التساوي في الحجتين, ولو استدل مستدل في حل البيع في صورة من الصور بعموم قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] لا يكون لخصمه أن يعارضه بقوله عز اسمه {وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275] لأنه مجمل فلا يعارض الظاهر كذا في بعض الشروح, ومثل الكتاب المشهور من السنة مثل قوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] لا يعارضه قوله عليه السلام: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" ومثل قوله عليه السلام, "البينة على المدعي واليمين على من أنكر" لا يعارضه خبر القضاء بشاهد ويمين لانتفاء المساواة في الحجتين.
قوله "وأما الحكم" فكذا إنما يطلب المخلص من حيث الحكم; لأن من شرط المعارضة أن يكون الحكم الذي يثبته أحد الدليلين عين ما ينفيه الآخر بالتحقيق التدافع والتمانع فإذا اختلف الحكم عند التحقيق بأن ينفي أحدهما غير ما يثبته الآخر لا يثبت التدافع لإمكان الجمع بينهما فلا يتحقق التعارض مثل قوله تعالى في سورة البقرة: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} فإنه يوجب المؤاخذة في كل يمين مكسوبة بالقلب أي مقصودة سواء كانت معقودة أو غير معقودة فيتحقق المؤاخذة في الغموس, وقوله جل جلاله في سورة المائدة: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} يقتضي أن لا يتحقق المؤاخذة في الغموس; لأن الأيمان على نوعين معقودة فيها مؤاخذة, ولغو لا مؤاخذة فيه,(3/137)
لأن المؤاخذة المثبتة مطلقة وهي في دار الجزاء والمؤاخذة المنفية مقيدة بدار
ـــــــ
والآية سيقت لبيان المؤاخذة في المعقودة ونفيها عن اللغو, والغموس ليست بمعقودة فكانت لغوا في حق المؤاخذة إذ اللغو اسم لكلام لا فائدة فيه وليست في الغموس فائدة اليمين المشروعة لأنها ثلث خلت عنها; لأنها شرعت لتحقيق البر أو الصدق, وقد فات ذلك في الغموس أصلا فكانت لغوا أي كلاما لا عبرة به من حيث إنه لم ينعقد لحكمه كبيع الحر فكانت الغموس داخلة في عموم قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] وهو معنى قول الشيخ والغموس داخل في هذا اللغو أي اللغو المذكور في المائدة. ولم يقل داخلة لتأويل الغموس بالحلف, وإذا كان كذلك تحقق التعارض بين الآيتين من حيث الظاهر في حق الغموس إذ الأولى توجب المؤاخذة فيها والثانية تنفيها عنها, فيتخلص عنه بيان اختلاف الحكم بأن يقال المؤاخذة المثبتة وهي المذكورة في قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} , مطلقة والمطلق ينصرف إلى الكامل فيكون المراد منها المؤاخذة بالعقوبة في الآخرة; لأنها المؤاخذة الكاملة فإن الآخرة خلقت للجزاء وللمؤاخذة حقا لله تعالى بالعدل فأما الدنيا فدار ابتلاء يؤاخذ المطيع فيها بمحنة تطهيرا وينعم على العاصي استدراجا والمؤاخذات المعجلة في الدنيا لم تشرع إلا بأسباب لنا فيها ضرب ضرر لتكون زواجر عنها كلها لصلاحنا فلا تتمحض مؤاخذة لحق الله تعالى وإنما تتمحض في الآخرة فثبت أن المطلق من المؤاخذة ينصرف إلى المؤاخذة في الآخرة, والمؤاخذة المنفية وهي المذكورة في سورة المائدة في قوله عز وجل: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] مقيدة بدار الابتلاء أي المراد منها نفي المؤاخذة بالكفارة في الدنيا بدليل قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89] فيكون الحكم الذي أثبته أحد النصين غير الحكم الذي ينفيه الآخر فلم يتحد محل النفي والإثبات فأمكن الجمع بينهما وبطل التدافع.
ثم الشافعي رحمه الله نفى التعارض بطريق آخر فحمل المؤاخذة المذكورة في الآية الأولى على المؤاخذة بالكفارة; لأن المؤاخذة المذكورة في الآية الثانية مفسرة بالكفارة فيكون تفسيرا للأولى, وحمل العقد المذكور في الآية الثانية على كسب القلب الذي هو القصد لا العقد الذي ضده الحل; لأن العقد يطلق على قصد القلب وعزمه على الشيء كما يطلق على ربط أحد الكلامين بالآخر يقال عقدت على كذا أي عزمت واعتقدت كذا أي قصدت ومنه العقيدة للعزيمة قال الشاعر:
عقدت على قلبي بأن نكتم الهوى ... فصاح ونادى إنني غير فاعل(3/138)
الابتلاء فصح الجمع وبطل التدافع فلا يصح أن يحمل البعض على البعض ومثاله كثير
ـــــــ
وقوله تعالى: {بمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} مفسر لا يحتمل إلا القصد فيحمل المحتمل على المفسر فيكون الغموس على هذا التأويل داخلة في العقد لا في اللغو فيجب فيها الكفارة. والدليل على صحة هذا التأويل أنه تعالى شرع الكفارة بنفس اليمين من غير شرط حنث فقال: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} "الما ئدة: 89" وقال تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} "اىلمائدة: 89 ولم يقل إذا حنثتم ولا تجب الكفارة بنفس اليمين إلا في الغموس, فصار حاصل كلامه أن معنى الآيتين واحد وهو نفي الكفارة عن اللغو وإثباتها في الغموس والمعقودة فقال الشيخ رحمه الله لما بطل التدافع والتعارض بالطريق الذي بينا لا يصح أن يحمل البعض على البعض أي يحمل العقد على كسب القلب والمؤاخذة المطلقة على المؤاخذة المقيدة; لأن فيه تقليل فائدة النص فإنا متى حملنا أحدهما على الآخر كان تكرارا وحمل كلام صاحب الشرع على الإفادة ما أمكن أولى من حمله على الإعادة مع أن فيه عدولا عن الحقيقة من غير ضرورة; لأن حقيقة العقد ربط أحد طرفي الحبل بالآخر والعقد الشرعي يسمى عقدا لما فيه من ارتباط أحد الكلامين بالآخر أو ارتباط الكلام بمحل الحكم إن كان الكلام واحدا وعزيمة القلب لا ترتبط بشيء لأنها لا توجب حكما إلا أنها سبب العقد فإنه يقصد بقلبه ثم يتكلم بلسانه فانطلق عليه اسم العقد فكان مجازا, يوضحه أن الآية قرئت بالتشديد كما قرئت بالتخفيف, وبالتشديد لا يحتمل عقد القلب أصلا فكان حمل القراءة بالتخفيف على ما يوافق القراءة الأخرى وفيه رعاية الحقيقة, وتكثير الفائدة أولى من حملها على القصد.
وذكر الشيخ أبو منصور رحمه الله أنه تعالى نفى المؤاخذة عن اللغو في الآية الأولى وأثبتها في الغموس والمراد منها المؤاخذة بالإثم ونفاها في الآية الأخرى عن اللغو وأثبتها في المعقودة وفسرها هاهنا بالكفارة فكان بيانا أن المؤاخذة في المعقودة بالكفارة وفي الغموس بالإثم وفي اللغو لا مؤاخذة أصلا فلزم تسليم البيان والعمل بكل نص على حدة دون صرف النصوص بعضها في بعض وتقييد البعض بالبعض, فعلى هذا لا يكون الغموس داخلة في اللغو ولا في العقدة فلا تجب فيها الكفارة ولا يثبت التعارض أيضا, إلا أن الشيخ أثبت التعارض بأن جعلها داخلة في اللغو ليمكنه إيراده في هذا الفصل, وقوله; لأن المؤاخذة يتصل بقوله سقط التعارض, أو يتعلق بمحذوف وهو ولما كانت الغموس داخلة في اللغو كان التعارض بين النصين ثابتا في اليمين الغموس إلا أنه يندفع باختلاف الحكم; لأن المؤاخذة إلى آخره.(3/139)
وأما الحال فمثل قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] بالتخفيف ومعناه انقطاع الدم وبالتشديد قرئ, ومعناه الاغتسال وهما معنيان متضادان ظاهرا ألا ترى أن الحيض لا يجوز أن يمتد إلى الاغتسال مع امتداده إلى انقطاع الدم; لأن امتداد الشيء إلى غاية واقتصاره دونها معا ضدان
ـــــــ
قوله "وأما الحال" أي دفع التعارض باختلاف الحال فمثل قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} بالتخفيف والتشديد فإن القراءة بالتخفيف تقتضي أن يحل القربان بانقطاع الدم سواء انقطع على أكثر مدة الحيض أو على ما دونه; لأن الطهر عبارة عن انقطاع دم الحيض يقال طهرت المرأة إذا خرجت من حيضها والقراءة بالتشديد تقتضي أن لا يحل القربان قبل الاغتسال سواء كان الانقطاع على أكثر مدة الحيض أو على ما دونه كما ذهب إليه عطاء ومجاهد وزفر والشافعي رحمهم الله; لأن التطهر هو الاغتسال. والقول بهما غير ممكن; لأن حتى للغاية وبين امتداد الشيء إلى غاية وبين اقتصاره دونها تناف فيقع التعارض ظاهرا لكنه يرتفع باختلاف الحالين أي بأن تحمل كل واحدة من القراءتين على حال فتحمل القراءة بالتخفيف على الانقطاع على أكثر مدة الحيض لأنه انقطاع بيقين وحرمة القربان تثبت باعتبار قيام الحيض; لأنه تعالى أمر باعتزالهن لمعنى الأذى بقوله عز اسمه {قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] فبعد الانقطاع على أكثر مدة الحيض لا يجوز تراخي الحرمة إلى الاغتسال; لأنه يؤدي إلى جعل الطهر الذي هو ضد الحيض حيضا وهو تناقض وإبطال للتقدير الوارد في الحيض, أو يؤدي إلى منع الزوج عن حقه وهو القربان بدون العلة المنصوص عليها وهي الأذى وكلاهما فاسد, وتحمل القراءة بالتشديد على الانقطاع على ما دون أكثر مدة الحيض; لأن في هذه الحالة لا يثبت الانقطاع بيقين لتوهم أن يعاودها الدم ويكون ذلك حيضا فإن الدم ينقطع مرة ويدر أخرى فلا بد من مؤكد لجانب الانقطاع وهو الاغتسال أو ما يقوم مقامه. وقد أقامت الصحابة رضي الله عنهم الاغتسال مقام الانقطاع فإن الشعبي ذكر أن ثلاثة عشر نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا إن المرأة إذا كانت أيامها دون العشرة لا يحل لزوجها أن يقربها حتى تغتسل, وإذا حملناهما على ما ذكرنا من الحالين انقطع التعارض, فإن قيل قوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة: 222] في القراءة يأبى هذا التوفيق; لأنه يوجب الاغتسال في جميع الأحوال ولو كان كما زعمتم لكان ينبغي أن يقرأ في قراءة التخفيف فإذا طهرن فثبت أن المراد هو الجمع بين الطهر والاغتسال بالقراءتين أي حتى يطهرن بانقطاع حيضهن وحتى يتطهرن بالاغتسال.
قلنا لما بينا أن تأخير حق الزوج إلى الاغتسال في الانقطاع على العشرة لا يجوز لما فيه من الفساد يحمل قوله تعالى: {تَطَهَّرْنَ} : البقرة: 222 في قراءة التخفيف على(3/140)
لكن التعارض يرتفع باختلاف الحالين بأن يحمل الانقطاع على العشرة فهو الانقطاع التام الذي لا تردد فيه ولا يستقيم التراخي إلى الاغتسال لما فيه من بطلان التقدير ويحمل الاغتسال على ما دون مدة الانقطاع والتناهي; لأن ذلك
ـــــــ
طهرن فإن تفعل قد يجيء بمعنى فعل من غير أن يدل على صنع كتبين بمعنى بان أي ظهر وكما يقال في صفات الله: عز وجل تكبر وتعظم ولا يراد به صفة تكون بإحداث الفعل, إليه أشار شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله, وقد نقل عن طاوس ومجاهد أن معناه توضأن أي صرن أهلا للصلاة كذا في عين المعاني يلزم مما ذكرتم الجمع بين المعنيين المختلفين, فإن قيل التطهر حقيقة في الاغتسال وحمله على انقطاع الدم إن كان بطريق الحقيقة فهو إثبات العموم المشترك وإن كان بطريق المجاز فهو جمع بين الحقيقة والمجاز; لأن المعنيين أريدا من قوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة: 222] إذ هو ثابت في كل قراءة وإرادة المعنيين المختلفين من لفظ واحد غير جائزة. ولا يقال معنى التطهر الاغتسال لا غير عند من اختار التشديد وانقطاع الدم لا غير عند من اختار التخفيف فلا يكون فيه جمع بين المعنيين المختلفين; لأنا نقول جميع القراءات المشهورة حق عند جميع القراء وجميع أهل السنة فمن اختار التشديد فالتخفيف عنده حق ومن اختار التخفيف فالتشديد عنده كذلك فيلزم الجمع عند الجميع في كل قراءة, قلنا لا يلزم الجمع; لأن إرادة الانقطاع في حال اختيار التخفيف وفي هذه الحالة ليس له معنى غيره وإرادة الاغتسال في حال اختيار التشديد وليس له معنى آخر في هذه الحالة والحالتان لا يجتمعان إذ لا يقرأ بهما في حالة واحدة فلا يلزم الجمع بين المعنيين المختلفين إذ من شرطه اتحاد الحال ولم يوجد, وهو نظير قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ} "الروم: 2" فإن الغلب مصدر بمعنى اللازم على قراءة {غُلِبَتِ} "الروم: 2" على المجهول أي غلبوا وهم من بعد أن صاروا مغلوبين سيغلبون على عدوهم وبمعنى المتعدي على قراءة {غُلِبَتِ} "الروم: 2" على المعروف أي غلبوا وهم من بعد أن كانوا غالبين على خصمهم سيغلبون فالمعنيان مختلفان ولكنه جاز إرادتهما لاختلاف الحالتين كذلك هنا.
وذكر في شرح التأويلات أن الآية محمولة على ما دون العشرة; لأن الغالب في النساء أن لا يمتد حيضهن إلى أكثر مدة الحيض ولا يقتصر على الأقل بل يكون فيما بين الوقتين ألا ترى "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في صفة النساء "هن ناقصات العقل والدين" 1 ثم
ـــــــ
1 أخرجه الإمام أحمد في المسند 2/372.ومسلم في الإيمان حديث رقم 80.والترمذي في الإيمان حديث رقم 2613.وابن ماجة في الفتن حديث رقم 4003.وأبو داود في السنة حديث رقم 4679.(3/141)
هو المفتقر إلى الاغتسال فينعدم به التعارض, وكذلك قوله: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} بالخفض والنصب متعارضان ظاهرا فإذا حملنا النصب على ظهور القدمين والخفض على حال الاستتار بالخفين لم يثبت التعارض فصح ذلك; لأن الجلد أقيم مقام بشرة القدم فصار
ـــــــ
وصف نقصان دينهن بأن تتحيض إحداهن في الشهر ستا أو سبعا وصفهن جملة بنقصان الدين ثم فسر النقصان في جملتهن بما ذكر فدل أن ذلك هو الغالب في جملتين والخطاب ينصرف إلى ما هو الغالب فدل أن المراد من الآية هو النهي عن قربانهن إذا كانت أيامهن دون العشرة وبه نقول على القراءتين جميعا أما القراءة بالتشديد فظاهر. وأما بالتخفيف فلأن الانقطاع فيما دون العشرة لا يثبت إلا بالاغتسال أو ما يقوم مقامه لما ذكرنا فكان المراد من الطهر الاغتسال أيضا فلذلك قرئ في القراءة بالتخفيف {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة: 222] دون طهرن ليدل على أن الانقطاع بالاغتسال.
قوله "وكذلك قوله تعالى" أي وكما أن القراءتين في الآية المتقدمة متعارضتان من حيث الظاهر ويندفع ذلك التعارض باختلاف الحال فكذا القراءتان في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] بخفض اللام ونصبها متعارضتان إذ الخفض معطوف على الرأس فيقتضي وجوب مسح الرجل لا غير كما هو مذهب الروافض والنصب معطوف على الوجه فيوجب وجوب الغسل وعدم جواز الاكتفاء بالمسح فيتعارضان ظاهرا فيتخلص عنه باختلاف الحال على ما ذكر في الكتاب, وقوله "وصح ذلك" جواب عما يقال لا يستقيم الحمل على هذا الوجه; لأن الله تعالى أمر بالمسح على الرجل على قراءة الخفض لا على الخف إذ لم يقل وامسحوا برءوسكم وخفافكم, فقال قد صح ذلك أي حمل قراءة الخفض على المسح بالخف وإن أضيف المسح إلى الرجل; لأن الجلد لما أقيم مقام بشرة القدم لاتصاله بها صار مسحه بمنزلة مسح القدم فصار إضافة المسح إلى الرجل وإرادة الخف منها وفي بعض النسخ فصار مسحه بمنزلة غسل القدم أي الجلد لما قام مقام بشرة القدم كان المسح مصادفا بشرة القدم تقديرا كما أن الغسل يصادف بشرة القدم تحقيقا فيصح إضافة المسح إلى الرجل.
وفي ذكر الرجل دون الخف فائدة وهي أن المسح لو أضيف إلى الخف بأن قيل وامسحوا برءوسكم وخفافكم لأوهم جواز المسح على الخف وإن كان غير ملبوس ففي إضافته إلى الرجل وإرادة الخف إزالة ذلك الوهم, وما ذكر الشيخ هو اختيار بعض العلماء فإنهم أثبتوا شرعية المسح على الخف بالكتاب بهذا الطريق فأما عند عامة المحققين فالمسح ثابت بالسنة دون الكتاب وهو المذكور في المبسوط والهداية وعامة(3/142)
مسحه بمنزلة غسل القدم. وأما صريح اختلاف الزمان فبأن يعرف التاريخ فيسقط التعارض ويكون آخرهما ناسخا وذلك مثل قول ابن مسعود رضي الله عنه في المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملا أنها تعتد بوضع الحمل, وقال من شاء
ـــــــ
الكتب فإنه لو كان ثابتا به لكان مغيا إلى الكعبين كالغسل. وما قيل يحتمل أنه كان مغيا إلى الكعبين ثم نسخت الغاية بالسنة وبقي أصل المسح لا يخلو عن ضعف; لأن النسخ إنما يثبت بالنقل ولم ينقل عن أحد من السلف أنه كان مغيا ثم نسخ, ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله ما قلت بالمسح على الخفين حتى جاءني فيه مثل ضوء النهار أو قال مثل فلق الصبح, ولو كان ثابتا بالكتاب لما استقام هذا الكلام منه. ثم عند هؤلاء القراءة بالخفض وإن كان معطوفة على الرأس فهي موجبة للغسل أيضا; لأنه أريد بالمسح الغسل في حق الرجل للمشاكلة وهي أن يذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته كقوله تعالى: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشوري: 40] وقول الشاعر:
قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه ... قلت اطبخوا لي جبة وقميصا
وللتفاوت بين الفعلين إذ كل واحد منهما إمساس العضو بالماء والمتوضئ لا يقنع بصب الماء على الأعضاء حتى يمسحها في الغسل ويقال تمسحت للصلاة أي توضأت, وقال تعالى: {فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} [ص: 33] أي غسل أعناقها وأرجلها غسلا خفيفا في قول إزالة للغبار عنها لكرامتها عليه, ولا يقال فيه جمع بين الحقيقة والمجاز; لأن حقيقة المسح قد أريدت بقوله: {وَامْسَحُوا} [المائدة: 6] فلا يجوز أن يراد به الغسل; لأنا نقول إنما أريد الغسل بالمسح المقدر الدال عليه الواو في قوله: {وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6]إذ التقدير وامسحوا برءوسكم وامسحوا بأرجلكم دون المذكور صريحا فلا يكون فيه جمع بينهما فإن قيل أي فائدة في عطف المغسول على الممسوح؟ قلنا هي التحذير عن الإسراف المنهي عنه فعطف على الممسوح لا لتمسح ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها كذا في الكشاف.
قوله "وذلك مثل قول ابن مسعود رضي الله عنه" والمتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملا تعتد بوضع الحمل عند ابن مسعود, وقال علي رضي الله عنه تعتد بأبعد الأجلين أي بأطول العدتين; لأن كل آية توجب عدة على وجه فيجمع بينهما احتياطا, وقال ابن مسعود رضي الله عنه هذا إذا لم يعرف التاريخ فإذا عرف تعين الآخر للعمل به; لأنه ناسخ, وقد ثبت تأخر قوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ} [الطلاق: 4] عنده حتى دعا إلى(3/143)
باهلته إن سورة النساء الصغرى {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ} نزلت بعد التي في سورة البقرة وأراد به قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} [البقرة: 234 – 240] الآية وكان ذلك ردا على من قال بأبعد الأجلين. وأما الذي يثبت دلالة فمثل النصين تعارضا في الحظر والإباحة أن الحاظر يجعل آخرا ناسخا دلالة; لأنا نعلم أنهما وجدا في زمانين ولو كان الحاظر أولا كان ناسخا للمبيح ثم كان المبيح ناسخا فتكرر النسخ, وإذا تقدم المبيح ثم الحاظر لم يتكرر فكان المتيقن أولى
ـــــــ
المباهلة فلا معنى للجمع بينهما, والمباهلة مفاعلة من البهلة بضم الباء وفتحها وهي اللعنة ويروى لاعنته. وذلك أنهم كانوا إذا اختلفوا في شيء اجتمعوا وقالوا بهلة الله على الظالم كذا في المغرب فجعل ابن مسعود رضي الله عنه التأخر دليل النسخ ولم ينكره علي رضي الله عنه فثبت أنه كان معروفا فيما بينهم أن المتأخر من النصين ناسخ للمتقدم.
قوله "وأما الذي ثبت دلالة" إلى آخره إذا اجتمع المبيح والمحرم نقل عن عيسى بن أبان وأبي هاشم أنهما يطرحان ويرجع المجتهد إلى غيرهما من الأدلة كالوليين عقد كل واحد منهما على المولية ولا يعلم تقدم أحدهما أنهما يبطلان وكالغرقى بعضهم على البعض, وفي القواطع لأبي منصور السمعاني إذا اقتضى أحد الخبرين الحظر والآخر الإباحة ففيه وجهان أحدهما أنهما سواء; لأنهما حكمان شرعيان وصدق الراوي فيهما على وتيرة واحدة, والوجه الآخر وهو الأصح أن الحاظر أولى; لأنه أحوط, وعندنا يرجح المحرم لقوله عليه السلام: "ما اجتمع الحلال والحرام إلا وغلب الحرام الحلال" وقوله عليه السلام: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك1" ولا يريبه جواز ترك هذا الفعل; لأنه بين كونه حراما أو مباحا وإنما يريبه جواز فعله فيجب تركه, ولما روي عن عمر رضي الله عنه قال في الأختين المملوكتين أحلتهما آية وحرمتهما آية والتحريم أولى ولأن من طلق إحدى نسائه أو أعتق إحدى إمائه ونسيها يحرم عليه وطء جميعهن بالاتفاق ترجيحا للحرمة. وما ذكر في الكتاب من كون المحرم ناسخا; لأنا نعلم أنهما وجدا في زمانين إذ لو كانا في زمان واحد لكانا متناقضين ونسبة التناقض إلى الشارع محال ثم لو كان الحاظر متقدما يتكرر النسخ ولو كان المبيح متقدما لا يتكرر فكان المتيقن وهو النسخ مرة أولى من الأخذ بالتكرار الذي فيه احتمال, أو معناه أن الحاظر ناسخ بيقين
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في صفة القيامة حديث رقم 2518.والإمام أحمد في المسند 1/20.(3/144)
وهذا بناء على قول من جعل الإباحة أصلا ولسنا نقول لهذا في أصل الوضع; لأن البشر لم يتركوا سدى في شيء من الزمان وإنما هذا بناء على زمان الفترة قبل
ـــــــ
تقدم أو تأخر; لأنه إما ناسخ للإباحة الأصلية أو للإباحة العارضة والمبيح محتمل; لأنه إن تقدم كان مقررا للإباحة الأصلية لا ناسخا لها فكان العمل بما هو ناسخ بيقين أولى من العمل بالمحتمل
قوله "وهذا" أي جعل الحاظر ناسخا للمبيح. بناء على كذا اختلف العلماء في الأشياء التي تحتمل أن يرد الشرع بإباحتها وحظرها أنها قبل ورود الشرع على الإباحة أم على الحظر فذهب أكثر أصحابنا خصوصا العراقيون منهم وكثير من أصحاب الشافعي إلى أنها على الإباحة وأنها هي الأصل فيها حتى أن من لم يبلغه الشرع أبيح له أن يأكل ما شاء من المطعومات إليه أشار محمد رحمه الله في الإكراه حيث قال ولو تهدد بقتل حتى يأكل الميتة أو يشرب الخمر فلم يفعل حتى قتل خفت أن يكون آثما; لأن أكل الميتة وشرب الخمر لم يحرما إلا بالنهي عنهما فجعل الإباحة أصلا والحرمة بعارض النهي, وهو قول أبي علي الجبائي وابنه أبي هاشم وأصحاب الظواهر, وقال بعض أصحابنا وبعض أصحاب الشافعي ومعتزلة بغداد إنهما على الحظر حتى أن من لم يبلغه الشرع لا يباح له شيء إلا ما يدفع به الهلاك عن نفسه مثل التنفس والانتقال عن مكان إلى مكان. وقالت الأشعرية وعامة أهل الحديث إنها على الوقف لا توصف بحظر ولا إباحة حتى أن من لم يبلغه الشرع ينبغي أن يتوقف ولا يتناول شيئا فإن تناول شيئا لا يوصف فعله بالحظر ولا بالإباحة. قال عبد القاهر البغدادي وتفسير الوقف عندهم أن من فعل شيئا قبل ورود الشرع لم يستحق بفعله من الله تعالى ثوابا ولا عقابا, وإلى هذا القول مال الشيخ أبو منصور رحمه الله فإنه ذكر في شرح التأويلات, وقال أهل السنة والجماعة إن العقل لا حظ له في معرفة هذا القسم يعني فيما يجوز أن يرد الشرع بإباحته فيجب التوقف فيه إلى أن يرد الشرع إلا بقدر ما يحتاج إليه للبقاء. وجه القول الأول أنه تعالى غني على الحقيقة جواد على الإطلاق والغني الجواد لا يمنع ماله عن عباده إلا ما كان فيه ضرر فتكون الإباحة هي الأصل باعتبار غناه وجوده والحرمة لعوارض ولم يثبت فيبقى على الإباحة.
ووجه القول الثاني أن الأشياء كلها مملوكة لله تعالى على الحقيقة والتصرف في ملك الغير لا يثبت إلا بإباحة المالك فلما لم يثبت الإباحة بقيت على الحظر لقيام سببه وهو ملك الغير.(3/145)
شريعتنا وذلك ما روي عن النبي عليه السلام أنه حرم الضب وروي أنه أباحه وحرم لحوم الحمر الأهلية وروي أنه أباحه وكذلك الضبع وما يجري مجرى
ـــــــ
ووجه قول الواقفية أن الحرمة أو الإباحة لا تثبت إلا بالشرع فقبل وروده لا يتصور ثبوت واحد منهما فلا يحكم فيها بحظر ولا إباحة.
ثم الشيخ رحمه الله اختار القول الأول إلا أنه لم يقل بكون الإباحة أصلا على الإطلاق على معنى أن الله تعالى خلق الأشياء في أصل وضعها مباحة من غير تكليف بحظر وتحريم ثم بعث الأنبياء عليهم السلام وأوحى إليهم بحظر بعضها وإبقاء بعضها على الإباحة الأصلية لأن ذلك إنما يستقيم أن لو خلق الخلائق ولم يكلفوا بشيء مدة ثم بعث فيهم الأنبياء بالتكليف فكلفوا بتحريم البعض وإبقاء الباقي على ما كان وليس الأمر كذلك إذ الناس لم يتركوا سدى أي مهملا في زمان فإن أول البشر آدم عليه السلام وهو كان صاحب شرع قد أتى بالأمر والنهي والحظر والإباحة ولم يخل قرن بعده عن دليل سمعي وإن فتر بحيث يحتاج إلى تحديد النظر كما قال الله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} "فاطر: 24"، أي وما من أمة فيما مضى إلا جاءهم منذر. وإذا كان كذلك تعذر القول بكون الإباحة أصلا على الإطلاق فلذلك لم يقل الشيخ به وإنما قال بكونها أصلا في زمان الفترة وهو الزمان الذي بين عيسى ومحمد عليهما السلام; لأن الإباحة والحرمة قد ثبتتا في الأشياء بالشرائع الماضية وبقيتا إلى زمان الفترة ثم كانت الإباحة ظاهرة في زمان الفترة فيما بين الناس فيبقى إلى أن يثبت الدليل الموجب للحرمة في شريعتنا فهذا هو المراد بكون الإباحة أصلا لا أنها أصل على الإطلاق, وفي الحقيقة هو بيان محل الخلاف; لأنه لا يتصور القول بالإباحة أو الحظر أو التوقف قبل وجود الخلائق; لأن هذه الأحكام بالنسبة إليهم وبعدما وجدوا لم يتركوا سدى في زمان فلم يكن محل الخلاف إلا زمان الفترة. ويؤيده ما ذكر في شرح التأويلات في هذه المسألة وهذا الخلاف إنما يتحقق فيمن بلغ في شاهق جبل ولم يبلغه دليل السمع أو في زمان الفترة, وذكر عبد القاهر البغدادي وهذا أي الوقف مذهب أبي الحسن الأشعري وضرار1 وبشر المريسي وبه قال أكثر أصحاب الشافعي مع قولهم بأنه لم يخل زمان العقلاء عن شريعة وإنما تكلموا في هذه المسألة على تقدير كونها لا على تقدير حصولها, وذكر أبو اليسر في آخر هذه المسألة والصحيح من الأقوال أن ما يجوز أن يحرم تارة ويباح أخرى فقبل ورود الشرع أو في حق من لم يبلغ إليه الشرع لا يوصف بالحرمة ولا بالإباحة وفعل الإنسان
ـــــــ
1 هو ضرار بن عمرو كان أول أمره تلميذا لواصل بن عطاء ، مروج الذهب 3/26.(3/146)
ذلك أنا نجعل الحاظر ناسخا.واختلف مشايخنا فيما إذا تعارض نصان أحدهما
ـــــــ
فيه أيضا لا يوصف بالحل ولا بالحرمة كفعل من لا يدخل تحت الخطاب أما بعد ورود الشرع فالأموال على الإباحة بالإجماع ما لم يظهر دليل الحرمة; لأن الله تعالي أباح الأموال بقوله: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة 29] والأنفس مع الأطراف علي الحرمة لأن الله تعالى ألزمهم العبادات ولا يقدرون على تحصيلها إلا بالعصمة عن الإتلاف والعصمة لا تثبت إلا بتحريم إتلاف الأنفس والأطراف جميعا.
قوله "وذلك" أي ترجيح المحرم وجعله ناسخا للمبيح مثل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حرم الضب وهو ما روي "عن عائشة رضي الله عنها أنه أهدي لها ضب فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكله فكرهه فجاء سائل فأرادت أن تطعمه إياه فقال عليه السلام, "أتطعمين ما لا تأكلين" فدل أنه كرهه لحرمته إذ لو لم يكن كراهية الأكل للحرمة لأمرها بالتصدق كما أمر به في شاة الأنصاري بقوله: "أطعموها الأسارى1" وما روي عن عبد الرحمن بن حسنة أنه. قال: "نزلنا أرضا كثيرة الضباب فأصابتنا مجاعة وطبخنا منها وإن القدور لتغلي بها إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما هذا, فقلنا ضباب أصبناها فقال: "إن أمة من بني إسرائيل مسخت دواب في الأرض وأنا أخشى أن تكون هذه فاكفئوها2" وروي أنه أباحه وهو ما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الضب قال "لم يكن من طعام قومي فأجد نفسي تعافه فلا أحله ولا أحرمه3" وما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أكل الضب على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الآكلين أبو بكر رضي الله عنه ورسول الله عليه السلام كان ينظر إليه ويضحك" فنحن رجحنا المحرم على المبيح وحملنا دليل الإباحة على ما كان قبل التحريم, وحرم لحوم الحمر الأهلية وروي أنه أباحها كما بينا في مسألة السؤر فعلمنا بالمحرم وجعلناه ناسخا للمبيح, وكذلك الضبع أي وكالضب أو الحمار, الضبع في أن المحرم والمبيح فيه تعارضا, فالمبيح حديث "جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سئل عن الضبع أصيد هو قال نعم فقيل أيؤكل لحمه فقال نعم فقيل أشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال نعم4" والمحرم حديث
ـــــــ
1 أخرجه الإمام أحمد في المسند 6/105 و123.
2 أخرجه الإمام أحمد في المسند 4/196.
3 أخرجه مسلم في الصيد حديث رقم 1943 – 1944 ، والنرمذي في الأطعمة حديث رقم 1790 ، وابن ماجة محتصرا حديث رقم 3242 ، وأخرجه مسلم في الصيد حديث رقم 17-947.
3 أخرجه أبو داود في الأطعمة حديث رقم 3801 والترمذي في الأطعمة حديث رقم 1791 وابن ماجة في الصيد حديث رقم 3236 والإمام أحمد في المسند رقم 3/297.(3/147)
مثبت والآخر ناف مبق على الأمر الأول فقال الكرخي المثبت أولى, وقال عيسى بن أبان يتعارضان, وقد اختلف عمل أصحابنا المتقدمين في هذا الباب فقد روي أن بريرة أعتقت وزوجها حر وهذا مثبت, وروي أنها أعتقت وزوجها عبد
ـــــــ
ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير1" فرجحنا المحرم لما ذكرنا.
وحديث جابر إن صح فمحمول على الابتداء وما يجري مجرى ذلك أي مجرى ما ذكرنا من النظائر مثل الثعلب والقنفذ والسلحفاة
قوله "واختلف مشايخنا" إلى آخره الدليل المثبت هو الذي يثبت أمرا عارضا والنافي هو الذي ينفي العارض ويبقي الأمر الأول كما أشير إليه في الكتاب. فإذا تعارض نصان أحدهما مثبت والآخر ناف يترجح المثبت عند الشيخ أبي الحسن الكرخي وهو مذهب أصحاب الشافعي; لأن المثبت يخبر عن حقيقة والنافي اعتمد الظاهر فيكون قول المثبت راجحا على قول النافي لاشتماله على زيادة علم كما في الجرح والتعديل إذا تعارضا يقدم قول الجارح على قول المعدل; لأنه يخبر عن حقيقة والمعدل يخبر معتمدا على الظاهر, وكما إذا شهد شاهدان أن عليه كذا وشهد آخران لا شيء عليه يترجح المثبت, ولأن المثبت يفيد التأسيس والنافي يفيد التأكيد والتأسيس أولى من التأكيد, وقال عيسى بن أبان والقاضي عبد الجبار من المعتزلة أنهما يتعارضان; لأن ما يستدل به على صدق الراوي في المثبت من العقل والضبط والإسلام والعدالة موجود في النافي فيتعارضان ويطلب الترجيح من وجه آخر, وقد اختلف عمل أصحابنا المتقدمين يعني أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدا رحمهم الله في هذا الباب أي في تعارض النفي والإثبات ففي بعض الصور عملوا بالمثبت وفي بعضها عملوا بالنافي.
وحاصل ما ذكر هاهنا من المسائل التي اختلف عملهم فيها خمس مسائل إحداها مسألة خيار العتاقة وهي ما إذا أعتقت الأمة المنكوحة يثبت خيار فسخ النكاح إذا كان زوجها عبدا بالاتفاق وكذا إذا كان زوجها حرا عندنا, وعند الشافعي رحمه الله لا يثبت لها الخيار إذا كان زوجها حرا; لأن المساواة حصلت بالحرية فلا يثبت لها الخيار كما لو أيسرت والزوج موسر بخلاف ما إذا كان عبدا; لأنه ليس بكفو لها بعد العتق, ونحن نقول إن الملك يزداد عليها بالحرية على ما عرف في مسألة اعتبار الطلاق فلها أن تدفع الزيادة عن
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الصيد حديث رقم 1934 ،وأبو داود في الأطعمة حديث رقم 3803 ، وابن ماجة في الصيد حديث رقم 3234 ،والإمام أحمد في المسند رقم 1/244.(3/148)
وهذا مبق على الأمر الأول وأصحابنا أخذوا بالمثبت وروي "أن النبي عليه السلام تزوج ميمونة وهو حلال بسرف" وروي أنه تزوجها وهو محرم واتفقت الروايات أن النكاح لم يكن في الحل الأصلي إنما اختلفت في الحل المعترض على الإحرام فجعل أصحابنا العمل بالنافي أولى من العمل بالمثبت وروي أن "النبي عليه
ـــــــ
نفسها, والأصل فيه حديث بريرة رضي الله عنها فقد روى عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها "أن بريرة أعتقت وزوجها عبد فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم1" ولو كان حرا لما خيرها وروي عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها أن زوجها كان حرا حين عتقت فالنص الأول ناف; لأنه مبق على الأمر الأصلي إذ لا خلاف أن العبودية كانت ثابتة قبل العتق والثاني مثبت; لأنه يثبت أمرا عارضا وهو الحرية فأصحابنا أخذوا بالمثبت في هذه المسألة.
والثانية مسألة نكاح المحرم فعند الشافعي رحمه الله لا يجوز; لأن الوطء حرام بدواعيه والعقد داع إليه وضعا وشرعا; لأنه سبب موضوع فتعدت الحرمة إليه كما في حرمة المصاهرة وكما في شراء الصيد للمحرم. وعندنا يجوز; لأن حرمة المرأة على المحرم باعتبار الارتفاق إما كاملا كالوطء أو قاصرا كالمس والقبلة وليس في العقد فلا يحرم كشراء الجارية والطيب واللباس, والأصل فيه حديث ابن عباس رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم" وروى يزيد بن الأصم "أنه تزوجها وهو حلال بسرف" أي خارج عن الإحرام فالأول ناف; لأنه مبق على الأمر الأول فإن الإحرام كان ثابتا قبل التزوج والثاني مثبت; لأنه يدل على أمر عارض على الإحرام وعلماؤنا أخذوا فيها بالنافي, وسرف بوزن كتف جبل بطريق المدينة كذا في المغرب, وفي الصحاح وسرف اسم موضع, وعن المستغفري2 سرف على رأس ميل من مكة بها قبر ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنها وكانت ماتت بمكة فحملها ابن عباس إلى سرف, ويجوز ترك صرفه بتقدير التأنيث وصرفه بتقدير عدمه, وقوله واتفقت الروايات جواب عما قال أبو الحسن إن علماءنا إنما أخذوا بهذه الرواية; لأن الإحرام عارض والحل أصل فكان هذا منهم عملا بالمثبت لا بالنافي فقال اتفقت الروايات أنه لم يكن في الحل الأصلي وإنما اختلف في
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في العتق حديث رقم 1504 ، وابو داود في الطلاق حديث رقم 2233 ، والترمذي في الرضاع حديث رقم 1154 ، وابن ماجة في الطلاق حديث رقم 2074.
2 هو جعفر بن محمد بن المعتز بن محمد بن المستغفر النسفي أبو العباس ، شذرات الذهب 3/249 – 250.(3/149)
السلام رد ابنته زينب رضي الله عنها على زوجها بنكاح جديد" وروي أنه ردها بالنكاح الأول وأصحابنا عملوا فيه بالمثبت, وقالوا في كتاب الاستحسان في طعام أو شراب أخبر رجل بحرمته والآخر بحله أو طهارة الماء ونجاسته واستوى المخبر أن عند السامع أن الطهارة أولى ولم يعملوا بالمثبت وقالوا في الجرح والتعديل إذا تعارضا إن الجرح أولى وهو المثبت, فلما
ـــــــ
الحل المعترض على الإحرام فكان الحل عارضا والإحرام أصلا,. والمراد من اتفاق الروايات اتفاق عامتها فإنه قد روي أن رسول الله تزوجها صلى الله عليه وسلم بالمدينة قبل أن يحرم كذا في معرفة الصحابة للمستغفري.
والثالثة مسألة وقوع الفرقة بتباين الدارين وهي ما إذا خرج أحد الزوجين من دار الحرب تقع الفرقة عندنا وعند الشافعي رحمه الله لا تقع. وقد روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما "أن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم هاجرت من مكة إلى المدينة وزوجها أبو العاص بن الربيع كافر بمكة ثم إنه أسلم بعد ذلك بسنتين وهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه بالنكاح الأول1" وهو ناف; لأنه مبق على الأمر الأول, وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردها عليه بنكاح جديد2" وهو مثبت; لأنه يدل على أمر عارض فأخذ علماؤنا بالمثبت دون النافي.
والرابعة مسألة كتاب الاستحسان فالمخبر بالطهارة ناف; لأنه مبق على الأمر الأصلي والمخبر بالنجاسة مثبت; لأنه مخير عن أمر عارض وأخذوا فيها بالنافي دون المثبت
والخامسة مسألة تعارض الجرح والتعديل بأن أخبر مزك أنه عدل وأخبر آخر أنه مجروح يرجح خبر الجارح وهو مثبت; لأنه يثبت أمرا عارضا على خبر المعدل وهو ناف; لأنه مبق على الأمر الأول إذ العدالة هي الأصل فهذا بيان اختلاف عملهم في هذا الباب والأصل الجامع ما ذكر في الكتاب مما يعرف بدليله أي يكون بناء على دليل كالإثبات أو لا يعرف بدليله أي لا يكون مبنيا على دليل بل يكون مبنيا على الاستصحاب الذي هو ليس بدليل أو يشتبه حاله أي يجوز أن يكون مبنيا على دليل ويجوز أن يكون مبنيا على الاستصحاب.
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الطلاق حديث رقم 2240 , والترمذي في النكاح حديث رقم 1143 وابن ماجة في النكاح حديث رقم 2009
2 أخرجه الترمذي في النكاح حديث رقم 1142 ، وابن ماجة في النكاح حديث رقم 2010.(3/150)
اختلف عملهم لم يكن بد من أصل جامع وذلك أن نقول إن النفي لا يخلو من أوجه إما أن يكون مما يعرف بدليله أو لا يعرف بدليله أو يشتبه حاله, فإن كان من جنس ما يعرف بدليله كان مثل الإثبات وذلك مثل ما قال محمد رحمه الله في السير الكبير في رجل ادعت عليه امرأته أنها سمعته منه يقول المسيح ابن الله فقال الزوج إنما قلت المسيح ابن الله قول النصارى أو قالت النصارى المسيح ابن الله لكنها لم تسمع الزيادة فالقول قوله, فإن شهد شاهدان إنا سمعناه يقول المسيح ابن الله ولم نسمع منه غير ذلك ولا ندري أنه قال غير
ـــــــ
قوله "وذلك" أي النفي الذي هو مثل الإثبات مثل ما قال محمد في السير الكبير ولو أن امرأة قالت للقاضي إني سمعت زوجي يقول المسيح ابن الله, وقال الزوج قد وصلت بكلامي شيئا آخر فقلت النصارى يقولون المسيح ابن الله أو قلت المسيح ابن الله قول النصارى فلم تسمع المرأة بعض كلامي, وقالت المرأة كذب فالقول قول الزوج مع يمينه; لأنه ما أقر بالسبب الموجب للفرقة فإن عين هذه الكلمة لا تكون موجبة للفرقة فيكون منكرا لما تدعيه من السبب الموجب للفرقة, بخلاف ما لو قالت إني سمعته يقول المسيح ابن الله فقال الزوج إنما أردت بذلك حكاية عمن يقول هذا حيث بانت منه امرأته; لأن ما في ضميره لا يصلح ناسخا لحكم ما تكلم به فإن ما في الضمير دون ما تكلم به والشيء لا ينسخه إلا ما هو مثله أو فوقه, فإن شهد الشهود للمرأة أنا سمعناه يقول كذا ولم نسمع منه غير ذلك فالقول قول الزوج أيضا; لأنه لا تنافي بين أقوالهم لم نسمع وبين قول الزوج قلت: قالت النصارى كذا; لأنه صح أن يقال قال فلان قولا ولكني لم أسمع فلا يصلح حجة للإلزام. وإن قالوا نشهد أنه قال ذلك ولم يقل غير ذلك قبلت الشهادة; لأن الشهود أثبتوا السبب الموجب للفرقة وقوله غير مقبول فيما يبطل شهادة الشهود, وإنما قبلت هذه الشهادة وإن قامت على النفي; لأنها صدرت عن دليل موجب للعلم; لأن ما يكون من باب الكلام يكون مسموعا لمن كان بالقرب من المتكلم وما لم يسمع منه يكون دندنة لا كلاما, وذكر في شرح السير الكبير أنها إنما قبلت; لأن وقوع الفرقة ليس بهذه الشهادة بل بما سبق مما هو إثبات وهو بمنزلة شهادة الشهود على أن هذا أخو الميت ووارثه لا نعلم له وارثا غيره, يوضحه أن قولهم لم يقل شيئا غير ذلك فيه إثبات أن ما يدعي من الزيادة في ضميره لا في كلامه وذلك لا يصلح ناسخا لموجب كلامه حتى لو قال الشهود لا ندري قال ذلك أو لم يقل إلا أنا لم نسمع منه غير قوله المسيح ابن الله فالقول قول الزوج ولا يفرق بينه وبين امرأته; لأن الشهود ما أثبتوا أن الزيادة في ضميره لا في كلامه وإنما قالوا لم نسمع منه وكما لم تسمعوا ذلك منه فالقاضي لم يسمع أيضا.(3/151)
ذلك أم لا لم تقبل الشهادة وكان القول قوله أيضا. وإن قال الشاهدان نشهد أنه قال ذلك ولم يقل غير ذلك قبلت الشهادة ووقعت الحرمة, وكذلك في الطلاق إذا ادعى الزوج الاستثناء فقد قبلت الشهادة على محض النفي; لأن هذا نفي طريق العلم به ظاهر وذلك أن كلام المتكلم إنما يسمع عيانا فيحيط العلم بأنه زاد عليه شيئا أو لم يزد; لأن ما لا يسمع فليس بكلام لكنه دندنة, وإذا وضح طريق العلم وظهر صار مثل الإثبات. وأما ما لا طريق لإحاطة العلم به فإنه لا يقبل فيه خبر المخبر في مقابلة الإثبات مثل التزكية; لأن الداعي إلى التزكية في الحقيقة هو إن لم يقف المزكى منه على ما يخرج عدالته وقل ما يوقف من حال البشر على أمر فوقه في التزكية والجرح يعتمد الحقيقة فصار أولى وإن كان
ـــــــ
"وكذلك في الطلاق": أي ومثل الحكم المذكور في هذه المسألة حكم ادعاء الزوج الاستثناء في الطلاق أو في الخلع بأن قال قد قلت أنت طالق إن شاء الله أو خالعتك إن شاء الله وأنكرت المرأة الاستثناء فالقول قوله, فإن شهد الشهود عليه بطلاق أو خلع بغير استثناء بأن قالوا قد تكلم بالطلاق أو الخلع ولم يتكلم بالاستثناء قبلت الشهادة ولم يقبل قوله, وإن قالوا لم نسمع منه غير كلمة الطلاق كان القول قوله في ذلك ولم تقبل الشهادة لما ذكرنا إلا أن يظهر منه ما يكون دليل صحة الخلع من قبض البدل أو سبب آخر فحينئذ لا يقبل قوله في ذلك كذا في شرح السير الكبير لشمس الأئمة رحمه الله. الدندنة أن تسمع من الرجل نغمة ولا تفهم ما يقول.
قوله "وأما ما لا طريق لإحاطة العلم به فإنه لا يقبل عليه" أي فيه خبر المخبر في مقابلة الإثبات; لأنه خبر لا عن دليل موجب بل عن استصحاب حال وخبر المخبر صادر عن دليل موجب له, ولأن السامع والمخبر في هذا النوع سواء فإن السامع غير عالم بالدليل المثبت كالمخبر بالنفي فلو جاز أن يكون هذا الخبر معارضا لخبر المثبت لجاز أن يكون علم السامع معارضا لخبر المثبت الداعي إلى التزكية في الحقيقة, هو إن لم يقف المزكى منه أي من الشاهد على ما تجرح عدالته فكان مآل تزكيته الجهل بسبب الجرح إذ لا طريق للمزكي إلى الوقوف على جميع أحوال الشاهد في جميع الأوقات حتى يكون إخباره بعدالته عن دليل يوجب العلم بها.
"والجرح يعتمد الحقيقة" أي الجارح يخبر عن دليل يوجب العلم وهو المعاينة فصار أولى والقول قوله وقلما توقف عبارة عن العدم بطريق المجاز أي لا توقف. وما ذكرنا من ترجيح الجرح على التزكية مذهب عامة الفقهاء والأصوليين إلا أن بعضهم فصلوا(3/152)
أمرا تشتبه فيجوز أن يعرف المخبر بدليل ويجوز أن يعتمد فيه ظاهر الحال وجب السؤال والتأمل في المخبر, فإن ثبت أنه بنى على الحال لم يقبل خبره; لأنه اعتمد ما ليس بحجة وما يشاركه فيه السامع, وإذا أخبر عن دليل المعرفة حتى وقف عليه كان مثل المثبت في التعارض فحديث نكاح ميمونة من القسم الذي يعرف بدليله; لأن قيام الاحترام يدل عليه أحوال ظاهرة من المحرم فصار مثل الإثبات في المعرفة فوقعت المعارضة فوجب المصير إلى ما هو من أسباب الترجيح في الرواة دون ما يسقط به التعارض في نفس الحجة وهو أن يجعل رواية من اختص بالضبط والإتقان أولى وهو رواية ابن عباس رضي الله عنهما "أنه
ـــــــ
وقالوا الجارح إما أن يعين السبب أو لا فإن عين فإما أن ينفيه المعدل أم لا فإن نفاه فإما أن ينفيه بطريق يقيني أم لا, فإن عين السبب ونفاه المعدل بطريق يقيني مثل أن يقول الجارح رأيته قد قتل فلانا المسلم بغير حق في وقت كذا ويقول المعدل قد رأيته حيا بعد ذلك أو يقول الجارح رأيته شرب الخمر طوعا يوم الجمعة ويقول المعدل كنت مصاحبا له في جميع ذلك اليوم فلم يشربها أصلا فههنا يتعارضان ويرجح أحدهما على الآخر ببعض أسباب الترجيح وفي غير هذه الصورة يقدم الجرح; لأنه اطلاع على زيادة لم يطلع عليها المعدل وما نفاها يقينا فوجب تقديمه, وينبغي أن يكون مذهبنا هكذا أيضا; لأن هذا التعديل نفي عن دليل فيجوز أن يعارض الإثبات وهو الجرح.
قوله "دون ما يسقط به التعارض في نفس الحجة" وهو كون أحدهما نفيا والآخر إثباتا يعني لا يقال أحدهما نفي والآخر إثبات والنفي مبني على عدم الدليل فلا يعارض للإثبات; لأن هذا النفي ثبت بالدليل فصار مثل الإثبات. وهو أن يجعل أي الرجوع إلى أسباب الترجيح أي يجعل رواية ابن عباس رضي الله عنهما لفقاهته وضبطه وإتقانه أولى من رواية يزيد بن الأصم الذي لا يعادله في شيء مما ذكرنا فإن قوة الضبط تدل على قلة الوهم والغلط, والدليل على زيادة ضبطه وإتقانه أنه فسر القصة على ما روى عنه جابر بن زيد وعطاء بن أبي رباح ومجاهد أن "رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة بنت الحارث في سفره ذلك يعني في عمرة القضاء وهو حرام. وكان زوجه أياها العباس بن عبد المطلب فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثا فأتاه حويطب بن عبد العزى في نفر من قريش في اليوم الثالث وكانت قريش قد وكلته بإخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة فقالوا قد انقضى أجلك فاخرج عنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما عليكم لو تركتموني فأعرست بين أظهركم فصنعنا لكم طعاما فحضرتموه" قالوا لا حاجة لنا في طعامك فاخرج عنا فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف أبا رافع(3/153)
تزوجها وهو محرم"; لأنه فسر القصة فصار أولى من رواية يزيد بن الأصم; لأنه لا بعد له في الضبط والإتقان وحديث بريرة وزينب من القسم الذي لا يعرف إلا بناء على ظاهر الحال فصار الإثبات أولى ومسألة الماء والطعام والشراب من
ـــــــ
مولاه على ميمونة حتى أتاه بها بسرف فبنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم هنالك" هكذا في معرفة الصحابة للمستغفري وشرح الآثار للطحاوي, وحديث يزيد قد ضعفه عمرو بن دينار حيث قال للزهري وما يدري يزيد بن الأصم أعرابي بوال على عقبه أتجعله مثل ابن عباس ولم ينكر عليه الزهري. قال أبو جعفر رحمه الله في شرح الآثار والذين رووا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو محرم أهل علم وثبت أصحاب ابن عباس سعيد بن جبير وعطاء وطاوس ومجاهد وعكرمة وجابر بن زيد وهؤلاء كلهم أئمة وفقهاء يحتج برواياتهم وآرائهم والذين نقلوا عنهم كذلك أيضا منهم عمرو بن دينار وأيوب السختياني وعبد الله بن أبي نجيح فهؤلاء أيضا أئمة يقتدى برواياتهم, وقد روي عن عائشة رضي الله عنها ما يوافق رواية ابن عباس وروى ذلك عنها من لا يطعن أحد فيه أبو عوانة عن مغيرة عن أبي الضحى عن مسروق رحمهم الله فكل هؤلاء أئمة يحتج برواياتهم فما رووا من ذلك أولى مما روى من ليس كمثلهم في الضبط والثبت والفقه والأمانة, وما قالوا أن أبا رافع كان رسولا بينهما فكان هو أعرف بالبيان وهو يروي أنه تزوجها وهو حلال قلنا الرسول قد يغيب عند العقد أما الولي فلا والعباس ولي من جانبها فكان ابنه أعرف بحال أبيه, وما روي عن ميمونة رضي الله عنها أنه عليه السلام تزوجها وهو حلال1" محمول على أن الخبر بلغها بعد الحل; لأن العباس كان ينكحها.
قوله "وحديث بريرة وزينب لا يعرف إلا بناء على ظاهر الحال أي خبر النافي في هذين الحديثين وهو أنه عليه السلام خيرها وزوجها عبد وأنه عليه السلام رد زينب بالنكاح الأول بناء على ظاهر الحال أي على استصحاب الحال لا على دليل موجب للعلم فإن من روى أنه كان عبدا بنى خبره على أنه عرف العبودية ثابتة فيه ولم يعلم بالدليل المثبت للحرية, ومن روى الرد بالنكاح الأول بنى خبره على عدم العلم بالدليل الموجب أيضا وهو مشاهدة النكاح الجديد وأنه قد عرف النكاح بينهما قائما فيما مضى وشاهد ردها فروى أنه ردها بالنكاح الأول, وإذا كان كذلك كان الإثبات أولى لابتنائه على دليل موجب للعلم, مع أن رواية الرد بالنكاح الأول محمولة على أنه ردها عليه بحرمة
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في النكاح حديث رقم 1411 , وأبو داود حديث رقم 1843 ، والترمذي في الحج حديث رقم 845 ، والإمام أحمد في المسند رقم 6/333و335.(3/154)
جنس ما يعرف بدليله; لأن طهارة الماء لمن استقصى المعرفة في العلم به مثل النجاسة وكذلك الطعام واللحم والشراب, ولما استويا وجب الترجيح بالأصل; لأنه لا يصلح علة فيصلح مرجحا ومن الناس من رجح بفضل عدد الرواة واستدل بما قال محمد رحمه الله في مسائل الماء والطعام والشراب إن قول الاثنين أولى; لأن القلب يشهد بذلك
ـــــــ
النكاح الأول أي أنها كانت منكوحة قبل ذلك فردها عليه بنكاح جديد ولم يزوجها غيره. ثم إنهم قالوا خبر العبودية في حديث بريرة راجح على خبر الحرية; لأن رواية عروة بن الزبير والقاسم بن محمد بن أبي بكر عن عائشة رضي الله عنها وهي كانت خالة عروة وعمة قاسم فكان سماعهما مشافهة وراوي خبر الحرية للأسود عن عائشة وسماعه عنها من وراء الحجاب فكانت الرواية الأولى أولى لزيادة تيقن في المسموع عند عدم الحجاب. والجواب عنه أن التيقن فيما قلنا أكثر لابتنائه على الدليل كما ذكرنا ولأن فيما قلنا عملا بالروايتين فإنه لما روي أنه كان عبدا وأنه كان حرا جعلناه حرا في حال وعبدا في حال والحرية تكون بعد الرق ولا يكون الرق بعد الحرية العارضة فجعلنا الرق سابقا والحرية لاحقة جمعا بينهما مع أن الروايات لو اتفقت على أنه كان عبدا لم تنف ثبوت التخيير إذا كان زوج المعتقة حرا; لأنه ما قال: إني خيرتها لأن زوجها كان عبدا, ولو قال ذلك لا ينفي التخيير أيضا عند الحرية; لأن عدم العلة لا يدل على عدم الحكم, وقوله: لو كان حرا لم يخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم من كلام عائشة ويجوز أن يكون من كلام عروة فلا يدل ذلك على انتفاء الخيار عند الحرية.
"ومسألة الماء" أي النفي في مسألة الماء والطعام والشراب من جنس ما يعرف بدليله; لأنه إذا أخذ الماء من واد جار في إناء طاهر ولم يغب ذلك الإناء عنه كان في الإخبار بطهارته معتمدا على دليل موجب للعلم كالمخبر بنجاسته فيتحقق التعارض ويجب الترجيح بالأصل لما ذكر في الكتاب.
قوله "ومن الناس من رجح بفضل عدد في الرواة" ولا يرجح أحد الخبرين على الآخر بأن يكون رواته أكثر من رواة الآخر عند عامة أصحابنا وهو قول بعض أصحاب الشافعي وذهب أكثرهم إلى صحة الترجيح بكثرة الرواة وبه قال أبو عبد الله الجرجاني من أصحابنا وأبو الحسن الكرخي في رواية; لأن الترجيح إنما يحصل بقوة لأحد الخبرين لا توجد في الآخر ومعلوم أن كثرة الرواة نوع قوة في أحد الخبرين; لأن قول الجماعة أقوى في الظن وأبعد من السهو وأقرب إلى إفادة العلم من قول الواحد; لأن خبر كل واحد يفيد ظنا.(3/155)
لمزية في الصدق إلا أن هذا خلاف السلف فإنهم لم يرجحوا بزيادة العدد
ـــــــ
ولا يخفى أن الظنون المجتمعة كلما كانت أكثر كانت أغلب على الظن حتى ينتهي إلى القطع, ولهذا رجح محمد رحمه الله في كتاب الاستحسان قول الاثنين على قول الواحد فيما إذا أخبر واحد بطهارة الماء أو بحل الطعام والشراب واثنان بالنجاسة أو بالحرمة أو على القلب يجب العمل بخبر الاثنين لما ذكرنا, يؤيده أن في باب الشهادة يرجح خبر الاثنين على خبر الواحد حتى كان خبر المثنى حجة لطمأنينة القلب إليه دون خبر الواحد فكذلك في الأخبار, وقد اشتهر من الصحابة رضي الله عنهم الاعتماد على خبر المثنى دون الواحد.
ولنا أن خبر الواحد وخبر الاثنين والثلاثة وأكثر من ذلك في إيقاع العلم سواء فإن كل واحد يوجب علم غالب الرأي فلا يترجح أحد الخبرين بكثرة المخبرين كما في الشهادة فإنها لا تترجح بكثرة العدد لاستواء الاثنين وما فوقهما في إيقاع العلم وكون كل واحد حجة وليس هذا مثل الإخبار عن نجاسة الماء وطهارته فإن المخبر هناك يخبر عن معاينة وحقيقة فكان في معنى الشهادة وقول الواحد ليس بحجة من حيث الشهادة وقول الاثنين حجة فكان العمل به أوجب. أما هاهنا فالخبر لا يخبر عن معاينة فكان خبرا محضا وخبر الواحد والاثنين فيه سواء هذا هو الفرق بين المسألتين, كذا ذكره أبو اليسر.
ولقائل أن يقول المخبر هاهنا يخبر عن معاينة أيضا فإنه يخبر عن سماعه من الرسول عليه السلام أو من غيره من الرواة فكان في معنى الشهادة فينبغي أن يترجح خبر الاثنين على الواحد, والصحيح ما ذكره الإمام شمس الأئمة رحمه الله أن هذا النوع من الترجيح قول محمد خاصة فقد ذكر نظيره في السير الكبير أن أهل العلم بالسير ثلاث فرق: أهل الشام وأهل الحجاز وأهل العراق فكل ما اتفق فيه الفريقان منهم على قول أخذت بذلك وتركت ما انفرد به فريق واحد وهذا ترجيح بكثرة القائلين صار إليه محمد, وأبى ذلك أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله. قال والصحيح ما قالا فإن كثرة العدد لا تكون دليل قوة الحجة قال تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 37]و[الأعراف: 131]والأنفال: 34"و[يونس: 55]و[القصص: 13 – 57]و[الزمر: 39]و[الدخان: 39]و[الطور: 47] {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103] وقال : {مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} [الكهف: 22] {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24] ثم السلف من الصحابة وغيرهم لم يرجحوا بكثرة العدد في باب العمل بأخبار الآحاد فالقول به يكون قولا بخلاف إجماعهم أرأيت لو وصل إلى السامع أحد الخبرين بطريق واحد والآخر بطرق أكان يرجح ما وصل إليه بطريق إذا كان راوي الأصل واحدا فهذا لا يقول به أحد, وذكر في(3/156)
وكذلك لا يجب الترجيح بالذكورة والحرية في باب رواية الأخبار ولكنهم لا يسلمون هذا إلا في الأفراد فأما في العدد فإن خبر الحرين أولى وكذلك رواية
ـــــــ
الميزان يترجح الخبر بكثرة الرواة عند عامة مشايخنا; لأنه يحتمل أن يكون الخبر الذي رواته أقل متأخرا فيكون ناسخا لذلك وهذا المعنى لا يرفع الرواة.
قوله "وكذلك لا يجب الترجيح بالذكورة والحرية" إنما ذكر هذا جوابا عن اعتبارهم الخبر بالشهادة في خبر الاثنين في باب الشهادة راجح على خبر الواحد فكذلك في باب الأخبار, فقال وكما لا يصح ما ذكرتم; لأنه خلاف السلف لا يصح اعتباره بالشهادة أيضا فإن الترجيح بالذكورة والحرية ثابت في باب الشهادة حتى كانت شهادة الرجلين راجحة على شهادة المرأتين وشهادة الحرين راجحة على شهادة العبدين ولم يجب الترجيح لهما في رواية الأخبار حتى كان خبر المرأة مثل خبر الرجل وخبر العبد مثل خبر الحر فعرفنا أن اعتبار الأخبار بالشهادة غير مستقيم. قال شمس الأئمة رحمه الله ولا يؤخذ حكم رواية الأخبار من حكم الشهادات ألا ترى أن التعارض في رواية الأخبار تقع بين خبر المرأة وخبر الرجل وبين خبر المحدود في القذف بعد التوبة وخبر غير المحدود وبين خبر المثنى وخبر الأربعة وإن كان يظهر التفاوت بينهما في الشهادات حتى يثبت بشهادة الأربعة ما لا يثبت بشهادة الاثنين وهو الزنا. وكذلك طمأنينة القلب إلى قول الأربعة أكثر ومع ذلك يتحقق التعارض بين شهادة الاثنين وبين شهادة الأربعة في الأموال ليعلم أنه لا يؤخذ حكم الحادثة من حادثة أخرى ما لم يعلم المساواة بينهما من كل وجه. قوله "ولكنهم لا يسلمون هذا إلا في الأفراد" يعني أنهم يسلمون أن الترجيح بالذكورة والحرية لا يجب في الأفراد حتى لا يترجح خبر رجل واحد على خبر امرأة واحدة وخبر حر على خبر عبد لكنهم لا يسلمون عدم الترجيح بينهما في العدد بل يقولون خبر الحرين أولى من خبر العبدين وخبر الرجلين أولى من خبر المرأتين; لأن خبر الحرين والرجلين حجة تامة دون خبر العبدين والمرأتين فيترجح كما في الشهادة بخلاف الأفراد فإن كل واحد منهما ليس بحجة فكان خبر الحر كخبر العبد وخبر الرجل كخبر المرأة.
"كما في مسألة الماء" يعني إذا أخبره عبد ثقة بطهارة الماء وحر ثقة بنجاسته أو على القلب فيتحقق التعارض ويعمل بأكبر رأيه; لأن الحجة لا تتم من طريق الحكم بخبر حر واحد ومن حيث الدين الحر والمملوك سواء فلتحقق المعارضة يصير إلى الترجيح بأكبر الرأي, وإن أخبره بأحد الأمرين مملوكان ثقتان وبالأمر الآخر حران ثقتان أخذ بقول الحرين; لأن الحجة تتم بقول الحرين في الحكم ولا تتم بقول المملوكين فعند التعارض يترجح قول الحرين نص عليه في المبسوط. وإذا ثبت ترجيح خبر الحرين في مسألة الماء يثبت(3/157)
الرجلين كما في مسألة الماء إلا أن هذا متروك بإجماع السلف وهذه الحجج بجملتها تحتمل البيان فوجب إلحاقه بها
ـــــــ
في الأخبار أيضا, ثم إنهم لما لم يسلموا ذلك في العدد لا يتم الإلزام عليهم بما ذكر فأبطل عليهم كلامهم ليتم الإلزام, فقال إلا أن هذا أي ما ذكروا من ترجيح خبر الحرين والرجلين متروك بإجماع السلف فإن المناظرات جرت من وقت الصحابة إلى يومنا هذا بأخبار الآحاد ولم يرو في شيء منها اشتغالهم بالترجيح بالذكورة والحرية في الأفراد والعدد ولا بالترجيح بزيادة عدد الرواة ولو كان ذلك صحيحا لاشتغلوا به كما اشتغلوا بالترجيح بزيادة الضبط والإتقان وبزيادة الثقة, فأما ترجيح خبر المثنى على خبر الواحد وخبر الحرين على خبر العبدين في مسألة الماء فلظهور الترجيح في العمل به فيما يرجع إلى حقوق العباد فأما في أحكام الشرع فخبر الواحد وخبر المثنى في وجوب العمل بهما سواء كذا أجاب الإمام شمس الأئمة رحمه الله.
قوله "وهذه الحجج بجملتها" أي الحجج التي مر ذكرها من الكتاب بجميع أقسامه من الخاص والعام وغيرهما سوى المحكم منها, والسنة بجملة أنواعها من المتواتر والمشهور والآحاد تحتمل البيان أي تحتمل أن يلحقها بيان إما على وجه التقرير أو التفسير أو التغيير فوجب إلحاق باب البيان بذكر هذه الحجج رعاية للمناسبة, وهذا الذي نشرع فيه.(3/158)
"باب البيان"
البيان في كلام العرف عبارة عن الإظهار, وقد يستعمل في الظهور, وقال الله تعالى: {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الحمن: 4]و {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 138] وقال {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19] والمراد بهذا كله الإظهار والفصل, وقد يستعمل هذا مجاوزا وغير مجاوز والمراد به في هذا الباب عندنا الإظهار
ـــــــ
"باب البيان"
البيان لغة الإظهار والتوضيح قال الله تعالى: {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} أي الكلام الذي يبين به ما في قلبه وما يحتاج إليه من أمور دنياه ومنفصل به عن سائر الحيوانات. قال الإمام نجم الدين رحمه الله في التيسير ويدخل في البيان الكتابة والإشارة وما يقع به الدلالة وهو امتنان منه على العباد بتعليم اللغات المختلفة ووجوه الكلام المتفرقة. {هَذَا بَيَانٌ} أي هذا الذي ذكرت من سنتي في الماضين إيضاح لسوء عاقبة ما هم عليه من التكذيب أو القرآن فصل الحق من الباطل وقال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 18 – 19] أي إذا قرأه جبريل عليك بأمرنا فاتبع ما يحصل منه مقروءا عليك فاقرأه حينئذ, {إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} أي إظهار معانيه وأحكامه وشرائعه وقيل إذا أنزلناه فاستمع قراءته, ثم إن علينا إظهاره على لسانك بالوحي حتى تقرأه. والمراد بهذا أي بما ذكرنا من الآيات الإظهار والفصل فإن المظهر للشيء والمبين له فاصل بينه وبين ما ليس منه, وقد يستعمل هذا أي لفظ البيان مجاوزا وغير مجاوز أي متعديا كما بينا وغير متعد كما سنبينه. وكما أن البيان مصدر الثلاثي المجرد فهو مصدر المنشعبة أيضا كالسلام والكلام فالبيان الذي هو مصدر الثلاثي لازم والذي هو مصدر المنشعبة قد يكون متعديا وهو الأكثر. وقد يكون غير متعد كقولهم في المثل قد بين الصبح لذي عينين أي بان وإنما ذكر هذا اللفظ بعد قوله هو عبارة عن الإظهار, وقد يستعمل في الظهور ليبني عليه قوله. والمراد به أي بالبيان في هذا الباب أي فيما نحن بصدده من تقسيم البيان أو في هذا النوع المسمى بأصول الفقه الإظهار دون الظهور, وعند بعض أصحابنا(3/159)
دون الظهور ومنه قول النبي عليه السلام "إن من البيان لسحرا" أي الإظهار.والبيان على أوجه: بيان تقرير وبيان تفسير وبيان تغيير وبيان تبديل وبيان ضرورة فهي خمسة أقسام.
ـــــــ
وأكثر أصحاب الشافعي معناه ظهور المراد للمخاطب والعلم بالأمر الذي حصل له عند الخطاب; لأن أصله للظهور يقال بان هذا المعنى لي بيانا أي ظهر واتضح وبان الهلال أي ظهر وانكشف ولكنا نقول أكثر استعماله بمعنى الإظهار فإن الرجل إذا قال بين فلان كذا بيانا يفهم منه أنه أظهر إظهارا لم يبق معه شك, وإذا قيل فلان ذو بيان يراد منه الإظهار وكذا في التنزيل الذي هو أفصح اللغات ورد بمعنى الإظهار كما ذكرنا, وقول النبي صلى الله عليه وسلم "إن من البيان لسحرا" يدل عليه أيضا فإنه عبارة عن الإظهار أيضا. قال الجوهري والبيان الفصاحة واللسن ومنه قوله عليه السلام "إن من البيان لسحرا" وإذا كان كذلك كان جعله بمعنى الإظهار أولى. ومن جعله بمعنى الظهور دون الإظهار يلزمه القول بأن كثيرا من الأحكام لا يجب على من لا يتأمل في النصوص, ولا يجب الإيمان على من لا يتأمل في الآيات الدالة ما لم يتبين لهم; لأن الظهور عبارة عن العلم للمكلف بما أريد منه ولم يحصل له ذلك وهو فاسد قال شمس الأئمة رحمه الله قد "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مأمورا بالبيان للناس" قال الله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] وقد علمنا أنه بين للكل من وقع له العلم ببيانه فأقر ومن لم يقع له العلم فأصر, ولو كان البيان عبارة عن العلم الواقع للمبين له لما كان هو متمما للبيان في حق الناس كلهم.
قوله عليه السلام: "إن من البيان لسحرا" عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قدم رجلان من المشرق فخطبا فتعجب الناس لبيانهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحرا, وإن من الشعر لحكمة1" قيل معنى تسميته بالسحر أن بالسحر يستمال القلوب فكذا بالبيان الفصيح يستمال القلوب وكما أن في السحر إراءة ما ليس بحق في لباس الحق فكذا في الفصاحة والبيان إراءة المعنى الذي ليس بمتين في لباس المعنى الذي هو متين والأوجه أن يقال السحر في زعمهم هو الإتيان بشيء يتعجب الناس عنه ويعجزون عن الإتيان بمثله مع مساواتهم من أتى به في أسباب القدرة والآلات, والبيان الفصيح قد يبلغ في الحسن والملاحة غاية يتعجب الناس عنه ويعجزون عن الإتيان بمثله مع تساوي الكل في أسباب التكلم وآلات النطق فيسمى سحرا., ثم قيل معنى الحديث ذم التصنع في
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في الأدب حديث رقم 2845 ، وأبو داود في الأدب حديث رقم 5011 ، ومسلم في الجمعة حديث رقم 869 ، وأخرجه الإمام أحمد في المسند رقم 1/269.(3/160)
أما بيان التقرير فتفسيره أن كل حقيقة يحتمل المجاز أو عام يحتمل الخصوص إذا لحق به ما يقطع الاحتمال كان بيان تقرير وذلك مثل قول الله
ـــــــ
الكلام والتكليف لتحسينه ليروق قوله ويستميل به قلوبهم فإن أصل السحر في كلامهم الصرف وسمي السحر سحرا لأنه مصروف عن جهته فهذا المتكلم ببيانه يصرف قلوب السامعين إلى قبول قوله وإن كان غير حق, وقيل معناه: إن من البيان ما يكتسب به صاحبه من الإثم ما يكتسب الساحر بسحره, وقيل معناه مدح البيان والحث على تحسين الكلام; لأن أحد القرينين وهو قوله "وإن من الشعر لحكمة" على طريق المدح فكذا القرين الآخر في شرح السنة. وذكر بعض الأصوليين أن البيان عبارة عن أمر يتعلق بالتعريف والإعلام فإنه مصدر بين يقال بين تبيينا وبيانا وإنما يحصل الإعلام بدليل والدليل محصل للعلم فهنا أمور ثلاثة إعلام أي تبيين ودليل يحصل به الإعلام وعلم يحصل من الدليل والبيان يطلق على كل واحد من هذه المعاني الثلاثة, فمن نظر إلى إطلاقه على الإعلام الذي هو فعل المبين كأبي بكر الصيرفي من أصحاب الشافعي قال هو إخراج الشيء من الإشكال إلى التجلي. واعترض عليه بأنه غير جامع; لأن ما يدل على الحكم ابتداء من غير سابقة إجمال إشكال بيان بالاتفاق وليس بداخل في التعريف وكذا بيان التقرير والتغيير والتبديل لم يدخل فيه أيضا, وبأن لفظ البيان أظهر من هذا التعريف ومن حق التعريف أن يكون أظهر مما عرف به ومن نظر إلى إطلاقه على العلم الحاصل بالدليل أي يجعله بمعنى الظهور كأبي بكر الدقاق وأبي عبد الله البصري قال هو العلم الذي تبين به المعلوم فكان البيان والتبين عنده بمعنى واحد. ومن نظر إلى إطلاقه على ما يحصل به البيان كأكثر الفقهاء والمتكلمين قال هو الدليل الموصل بصحيح النظر فيه إلى اكتساب العلم بما هو دليل عليه وعبارة بعضهم هو الأدلة التي تتبين به الأحكام قالوا والدليل على صحته أن من ذكر دليلا لغيره وأوضحه غاية الإيضاح يصح لغة وعرفا أن يقال تم بيانه وهذا بيان حسن إشارة إلى الدليل المذكور, وإن لم يحصل منه المعرفة بالمطلوب للسامع ولا إخراج المطلوب من الإشكال إلى التجلي ويقال بينه له ولكنه لم يتبين وعلى هذا بيان الشيء قد يكون بالكلام والفعل والإشارة والرمز إذا لكل دليل ومبين ولكن غلب استعماله في الدلالة بالقول فيقال له بيان حسن أي كلام رشيق حسن الدلالة على المقاصد. قال وكل مفيد من كلام الشارع وفعله وسكوته واستبشاره حيث يكون دليلا وتنبيها لفحوى الكلام كل ذلك بيان; لأن جميع ذلك دليل وإن كان بعضها يفيد غلبة الظن فهو من حيث إنه يفيد العلم بوجوب العمل دليل وبيان. وذكر السيد الإمام أبو القاسم السمرقندي رحمه الله أن البيان هو الإيضاح والكشف عن المقصود ولهذا سمي القرآن(3/161)
تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30]; لأن اسم الجمع كان عاما يحتمل الخصوص فقرره بذكر الكل ومثله {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] وذلك مثل أن يقول الرجل لامرأته أنت طالق, وقال
ـــــــ
بيانا; لأنه إيضاح وكشف عن المقصود ومنه بيان المجمل, وأشار شمس الأئمة رحمه الله في فضل بيان التعبير في أثناء الكلام في حده فقال حد البيان غير حد النسخ; لأن البيان إظهار حكم الحادثة عند وجوده ابتداء والنسخ رفع الحكم بعد الثبوت فلم يكن بيانا وإليه أشار الشيخ أيضا في الباب الذي يلي هذا الباب فهذا حاصل ما قيل في تعريف البيان فعليك باعتبار ما صح عندك من هذه التعريفات.
قوله "بيان تقرير" إضافة البيان إلى التقرير والتغيير والتبديل من قبيل إضافة الجنس إلى نوعه كعلم الطب أي بيان هو تقرير وكذا الباقي., وإضافته إلى الضرورة من قبيل إضافة الشيء إلى سببه أي بيان يحصل بالضرورة, فهي خمسة أقسام اتفق الشيخان على تقسيم البيان على الأوجه الخمسة المسماة بالأسامي المذكورة إلا أن الشيخ رحمه الله جعل التعليق والاستثناء بيان تغيير, والنسخ بيان تبديل نظرا إلى أن النسخ بيان انتهاء مدة الحكم فيجوز أن يجعل من أقسام البيان والإمام شمس الأئمة رحمه الله جعل الاستثناء بيان تغيير والتعليق بيان تبديل متابعا للقاضي الإمام أبي زيد رحمه الله ولم يجعل النسخ من أقسام البيان فقال حد النسخ غير حد البيان إلى آخر ما ذكرنا نظرا إلى أن النسخ وإن كان بيان انتهاء مدة الحكم لكنه في حق صاحب الشرع, فأما في حق العباد فهو رفع الحكم الثابت كالقتل لانتهاء الأجل في حق صاحب الشرع وقطع الحياة في حق العباد حتى أوجب القصاص والدية, والبيان بالنسبة إلى العباد فإن جميع الأشياء ظاهر معلوم لصاحب الشرع فلا يمكن أن يجعل النسخ من أقسامه باعتبار كونه بيان انتهاء مدة الحكم كذا قيل, وقوله كل حقيقة تحتمل المجاز أو عام يحتمل الخصوص احتراز عن مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 38] {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 231] فإنه لا يحتمل المجاز والخصوص. " كان بيان تقرير " أي يكون مقررا لما اقتضاه الظاهر قاطعا لاحتمال غيره. وذلك أي بيان التقرير مثل قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} وهو نظير العام الذي يحتمل الخصوص فإن اسم الجمع وهو الملائكة كان عاما أي شاملا لجميع الملائكة على احتمال أن يكون المراد بعضهم فبقوله كلهم قرر معنى العموم فيه حتى صار لا يحتمل الخصوص. ومثله أي مثل ما ذكرنا في كونه بيان تقرير قوله تعالى: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} وهو نظير الحقيقة التي تحتمل المجاز فإن الطائر يحتمل الاستعمال في غير حقيقته يقال للبريد طائر لإسراعه في مشيه ويقال أيضا فلان يطير(3/162)
عنيت به الطلاق من النكاح وإذا قال لعبد أنت حر, وقال عنيت به العتق عن الرق والملك. وهذا البيان يصح موصولا ومفصولا لا لما قلنا إنه مقرر.وأما بيان التفسير فبيان المجمل والمشترك مثل قوله تعالى: " {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] ونحو ذلك. ثم
ـــــــ
بهمته فكان قوله يطير بجناحيه تقريرا لموجب الحقيقة وقطعا لاحتمال المجاز. وذكر في الكشاف أن معنى زيادة قوله في الأرض و "يطير بجناحيه" زيادة التعميم والإحاطة كأنه قيل وما من دابة قط في جميع الأرضين السبع وما من طائر قط في جو السماء من جميع ما يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم محفوظة أحوالها غير مهمل أمرها والغرض في ذكر ذلك دلالة على عظم قدرته ولطف علمه وسعة سلطانه وتدبيره تلك الخلائق المتفاوتة الأجناس المتكاثرة الأصناف وهو حافظ لما لها وما عليها مهيمن على أحوالها لا يشغله شأن عن شأن وأن المكلفين ليسوا مخصوصين بذلك دون من عداهم من سائر الحيوان, وذلك أي نظير البيان المقرر من المسائل أن يقول الرجل لامرأته أنت طالق, ثم يقول عنيت به الطلاق من النكاح أي رفع قيد النكاح; لأن الطلاق وإن كان في الأصل رفع القيد غير مختص بالنكاح صار مختصا به في الشرع والعرف فصار الطلاق لرفع النكاح حقيقة شرعية وعرفية واحتمل رفع كل قيد باعتبار أصل الوضع ولهذا لو نوى صدق ديانة لا قضاء فكان ذلك بمنزلة المجاز لهذه الحقيقة فبقوله عنيت به الطلاق من النكاح قرر مقتضى الكلام وقطع احتمال المجاز, وكذا قوله أنت حر موجبه العتق عن الرق في الشرع ويحتمل التخلية عن القيد الحسي والحبس والعمل. ويستعمل في الخلوص يقال رجل حر أي خالص عن الأخلاق الذميمة ومنه طين حر أي خالص لا رمل فيه ويستعمل بمعنى الكريم يقال رجل حر أي كريم والحرة الكريمة وناقة حرة أي كريمة وسحابة حرة أي كثيرة المطر فبقوله عنيت به العتق عن الرق قرر موجب الحقيقة الشرعية وقطع احتمال غيرها.
قوله "وأما بيان التفسير" بيان التفسير هو بيان ما فيه خفاء من المشترك والمجمل ونحوهما مثل قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} فإنه مجمل إذ العمل بظاهره غير ممكن وإنما يوقف على المراد للعمل به بالبيان. وقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} فإنه مجمل في حق مقدار ما يجب به القطع وفي حق المجمل فإنه لا يعلم أنه يجب من الإبط أو من المرفق أو من الزند ونحو ذلك مثل آية الربا, ثم لحقه أي كل واحد من هذه الآيات البيان بالسنة فإنه عليه السلام بين الصلاة بالقول والفعل والزكاة(3/163)
يلحقه البيان بالسنة, وذلك مثل قول الرجل لامرأته أنت بائن إذا قال عنيت به الطلاق صح وكذلك في سائر الكنايات ولفلان علي ألف درهم وفي البلد نقود مختلفة فإن بيانه بيان تفسير, ويصح هذا موصولا ومفصولا هذا مذهب واضح لأصحابنا حتى جعلوا البيان في الكنايات كلها مقبولا وإن فصل قال الله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19] وثم للتراخي وهذا لأن الخطاب بالمجمل
ـــــــ
بقوله صلى الله عليه وسلم {هاتوا ربع عشر أموالكم} وبالكتاب أمر بكتابته لعمرو بن حزم وغير ذلك, والنصاب في السرقة بقوله عليه السلام "لا قطع فيما دون ثمن المجن1 أو "لا قطع في أقل من عشرة دراهم" . ومحل القطع بقطعه يد سارق رداء صفوان من الزند" والربا بقوله عليه السلام "الحنطة بالحنطة مثل بمثل" الحديث, وذلك أي مثاله من المسائل الفقهية قول الرجل لامرأته أنت بائن أو أنت علي حرام أو غير ذلك من الكنايات, ثم قال عنيت به الطلاق فإنه يكون بيان تفسير فإن البينونة أو الحرمة مشتركة محتملة للمعاني فإذا قال عنيت بهذا الكلام الطلاق فقد رفع الإبهام فكان بيان تفسير, ثم بعد التفسير يجب العمل بأصل الكلام فتقع البينونة والحرمة, وكذا إذا قال لفلان علي درهم وفي البلد نقود مختلفة كان مشكلا لدخول الألف المقر به في إشكاله فإذا قال عنيت به نقد كذا زال الإشكال وصار هذا الكلام تفسيرا له.
قوله "ويصح هذا" أي بيان التفسير موصولا ومفصولا لا يجوز تأخير بيان التفسير عن وقت الحاجة إلى الفعل إلا عند من يجوز تكليف المحال. وأما تأخيره إلى وقت الحاجة إلى الفعل فجائز عند عامة الفقهاء خلافا للجبائي وابنه أبي هاشم وعبد الجبار ومتابعيهم والظاهرية والحنابلة وإليه ذهب بعض أصحاب الشافعي كأبي إسحاق المروزي2 وأبي بكر الصيرفي والقاضي أبي حامد ذكر السمعاني والغزالي أن طائفة من أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله ذهبوا إليه فكان الشيخ يرد هذا القول بقوله هذا مذهب واضح لأصحابنا أي صحة بيان ما فيه خفاء متصلا ومنفصلا مذهب ظاهر لأصحابنا بحيث لا يمكن إنكاره فإن الرجل إذا أقر أن لفلان عليه شيئا, ثم بينه متصلا أو منفصلا يقبل قوله في قولهم جميعا. وكذا لو قال لامرأته أنت بائن يجوز له أن يبين متصلا ومنفصلا مع أنه تكلم بكلام مجمل فثبت أنه هو المذهب وأن قول أولئك الطائفة من أصحابنا إن ثبت
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الحدود حديث رقم 1684 ، وأبو داود في الحدود حديث رقم 4383.
2 هو أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن إسحاق الفقيه الشافعي. توفي سنة 340هـ وفيات الأعيان 1/26 – 27.(3/164)
صحيح لعقد القلب على حقيقة المراد به على انتظار البيان ألا ترى أن ابتلاء القلب بالمتشابه للعزم على حقيقة المراد به صحيح في الكتاب والسنة من غير انتظار البيان فهذا أولى وإذا صح الابتلاء حسن القول بالتراخي.واختلفوا في خصوص العموم فقال أصحابنا لا يقع الخصوص متراخيا, وقال الشافعي رحمه الله يجوز متصلا ومتراخيا, وقال علماؤنا فيمن أوصى بهذا الخاتم لفلان وبفصه لفلان غيره موصولا إن الثاني يكون خصوصا للأول فيكون الفص للثاني وإذا فصل لم يكن خصوصا بل صار معارضا فيكون الفص بينهما, وهذا فرع لما
ـــــــ
عنهم غير مستقيم على المذهب واحتج من أبى جواز تأخيره بأن المقصود من الخطاب هو إيجاب العمل والتكليف به, وذلك يتوقف على الفهم والفهم لا يحصل بدون البيان فلو جوز تأخير البيان أدى إلى تكليف ما ليس في الوسع ولا يقال كما أن العمل مقصود فالعلم والاعتقاد مقصودان أيضا والإجمال والاشتراك لا يمنعان من وجوب الاعتقاد; لأنهم قالوا العمل هو المقصود الأصلي والاعتقاد تابع وتأخير البيان يخل بالمقصود الأصلي فلا يجوز. وبأنه لو حسن الخطاب بالمجمل من غير بيان في الحال لحسن خطاب العربي بالزنجية مع القدرة على مخاطبته بالعربية من غير بيان في الحال, وكذا عكسه, وإذا لم يصح ذلك عرفنا أنه يقبح هاهنا أيضا بجامع أن السامع لا يعرف مراد المخاطب, ولا يقال إنما لم يحسن مخاطبة العربي بالزنجية; لأنه لا يفهم بهذا الخطاب شيئا, فأما في الخطاب بالمجمل فقد يفهم السامع أن المتكلم أراد إيجاب شيء عليه أو نهيه عن شيء وفي الخطاب بالمشترك يعلم أن المتكلم أراد أحد المعنيين أو المعاني; لأنهم قالوا المعتبر في حسن الخطاب إن كان المعرفة بكل المراد فلا تفيد هذا الفرق وإن كان المعرفة ببعض المراد ينبغي أن يجوز خطاب العربي بالزنجية; لأن العربي إذا عرف حكمة الزنجي المخاطب علم أنه أراد بخطابه له شيئا ما, إما الأمر أو النهي أو غيرهما, وقد اتفقنا على فساده وقبحه فعرفنا أن الفرق باطل وهذا بخلاف بيان النسخ حيث جاز تأخيره; لأن تأخيره لا يحل بالمعرفة بصفة العبادة في الحال فأمكنه الإقدام على الأداء. وأما تأخير بيان المجمل فمخل بمعرفة صفة العبادة فلم يمكن أداؤها في الحال وتمسك من جوز تأخيره بقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 18 – 19] وعده البيان بكلمة " ثم " فيما أشكل عليه من المعاني والأحكام وهي للتراخي بإجماع أهل اللغة فيدل ذلك على جواز تأخير بيان ما يحتاج إلى البيان عن وقت وروده., فإن قيل يجوز أن يكون المراد من البيان إظهاره بالتنزيل كما قاله بعض أهل التأويل بدليل أن الضمير في قوله بيانه راجع إلى جميع المذكور وهو القرآن ومعلوم أن جميع القرآن لا يحتاج إلى البيان فإن فيه(3/165)
مر أن العموم عندنا مثل الخصوص في إيجاب الحكم قطعا ولو احتمل الخصوص متراخيا لما أوجب الحكم قطعا مثل العام الذي لحقه الخصوص وعنده هما سواء ولا يوجب واحد منهما الحكم قطعا بخلاف الخصوص الذي
ـــــــ
المحكم والمفسر والنص فيكون البيان المضاف إلى جميعه إظهاره بالتنزيل قلنا قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18] أمر للنبي عليه السلام باتباع قرآنه وإنما يكون مأمورا بذلك بعد نزوله عليه فإنه قبل ذلك لا يكون عالما به فكان المراد من قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} [القيامة: 18] هو الإنزال. ثم إنه تعالى حكم بتأخير البيان عنه فوجب أن لا يكون المراد من البيان الإنزال لاستحالة كون الشيء سابقا على نفسه وبأن الخطاب بالمجمل قبل البيان صحيح فإنه يفيد الابتلاء باعتقاد الحقية فيما هو المراد في الحال مع انتظار البيان للعمل به والابتلاء باعتقاد الحقية فيه أهم من الابتلاء بالعمل به فكان حسنا صحيحا من هذا الوجه ألا ترى أن الابتلاء بالتشابه الذي آيسنا عن بيانه صح باعتبار اعتقاد الحقية فالابتلاء بالمجمل الذي ينتظر بيانه كان أولى بالصحة وليس فيه تكليف ما ليس في الوسع كما زعموا; لأن وجوب العمل قبل البيان ليس بثابت بل هو متأخر إلى البيان, وليس هو كخطاب العربي بالزنجية أيضا لا يفيد أصلا فإنه لا يعرف أنه أمر أو نهي أو خبر فأما العربي المخاطب بالمجمل أو المشترك فيتمكن من معرفة ما يفيده الخطاب في الجملة فإنه يعلم أنه أمر أو نهي أو خبر ويعرف مجموع ما وضع له اسم المشترك وأنه أريد واحد من مفهوماته فيفترقان., وهذا القدر من التعريف يصلح مقصودا في كلام الناس, فإن الرجل قد يقول لغيره لي إليك حاجة مهمة ولا يكون غرضه في الحال إلا إعلام هذا القدر ولهذا وضعت في اللغة أفهام مبهمة كما وضعت ألفاظ لمعان معينة, وأيضا قد يحسن من الملك أن يقول لبعض عماله قد وليتك موضع كذا فاخرج إليه وإما أكتب إليك تذكرة بتفصيل ما تعمله ويحسن من المولى أن يقول لغلامه أنا آمرك أن تخرج إلى السوق يوم الجمعة وتبتاع ما أبينه لك غداة الجمعة ويكون القصد بذلك إلى التأهب لقضاء الحاجة والعزم عليها, وإذا كان كذلك صح في الشرع إطلاق اللفظ المجمل أو المشترك من غير بيان في الحال ليفيد وجوب اعتقاد الحقية وصيرورة المخاطب به مطيعا بالعزم على الفعل على تقدير البيان وعاصيا بالعزم على الترك.
قوله "واختلفوا في تخصيص العام" لا خلاف أن العام إذا خص منه شيء بدليل مقارن يجوز تخصيصه بعد ذلك بدليل متراخ فأما العام الذي لم يخص منه شيء فلا يجوز تخصيصه بدليل متأخر عنه عند الشيخ أبي الحسن الكرخي وعامة المتأخرين من أصحابنا وبعض أصحاب الشافعي, وعند بعض أصحابنا وأكثر أصحاب الشافعي والأشعرية وعامة(3/166)
مر وليس هذا باختلاف في حكم البيان بل ما كان بيانا محضا صح القول فيه بالتراخي لأن البيان المحض من شرطه محل موصوف بالإجمال والاشتراك ولا يجب العمل مع الإجمال والاشتراك فيحسن القول بتراخي البيان ليكون الابتلاء
ـــــــ
المعتزلة يجوز تخصيصه متراخيا كما يجوز متصلا. وذكر في المحصول والمعتمد والقواطع وغيرها الخلاف في كل ظاهر استعمل في خلافه كالمطلق إذا أريد به المقيد والنكرة إذا أريد بها المعين. والمراد بعدم جواز التخصيص أنه إذا ورد متراخيا لا يكون بيانا أن المراد من العام بعضه من الابتداء بل يكون نسخا للحكم في البعض مقتصرا على الحال وفائدته أن العام لا يصير به ظنيا; لأن صيرورته ظنيا باعتبار خروج أفراد أخر عنه بالتعليل ودليل النسخ لا يقبل التعليل فلا يتطرق به احتمال إلى الباقي, وهذا أي الاختلاف المذكور. ولو احتمل الخصوص أي احتمل العام الذي لم يخص منه شيء التخصيص متراخيا لما أوجب الحكم قطعا لاحتمال ظهور كون البعض مرادا منه دون الكل ومع هذا الاحتمال لا يمكن القول بتناوله للكل بطريق القطع كالعام الذي لحقه الخصوص لا يمكنه القول بكونه موجبا للحكم في الباقي قطعا لاحتمال خروج بعض الأفراد الباقية بالتعليل. وهما سواء أي العام الذي لم يلحقه الخصوص والذي لحقه الخصوص.
قوله "لأن البيان المحض" كذا ذكر بعض الأصوليين أن الإشكال ليس من شرط البيان; لأن النصوص المعرية عن الأمور ابتداء بيان من غير أن يتقدمها إشكال فقال الشيخ رحمه الله في البيان المحض وهو البيان الحقيقي الذي هو بيان من كل وجه يشترط كون المحل موصوفا بالإجمال أو الاشتراك والواو بمعنى أو; لأن البيان هو الإظهار ولا بد لحقيقة الإظهار من سبق خفاء لاستحالة إظهار الظاهر. والنصوص المعرية عن الأمور ابتداء إنما سميت بيانا; لأن تلك الأمور كانت مجهولة قبل ورود النصوص فكان معنى الإجمال موجودا فيها وزيادة إذ معنى الإجمال والإشكال في التحقيق هو الجهل بمعنى الكلام قال شمس الأئمة رحمه الله بيان المجمل بيان محض لوجود شرطه وهو كون اللفظ محتملا غير موجب للعمل بنفسه واحتمال كون البيان الملتحق به تفسيرا وإعلاما لما هو المراد به فيكون بيانا من كل وجه ولا يكون معارضا فيصح مفصولا وموصولا فأما دليل الخصوص فليس ببيان من كل وجه بل هو بيان من حيث احتمال الصيغة للخصوص وهو ابتداء دليل معارض من حيث كون العام موجبا للعمل بنفسه فيما تناوله فيكون بمنزلة الاستثناء والشرط فيصح موصولا على أنه بيان ويكون معارضا ناسخا للحكم الأول إذا كان مفصولا. وما ليس ببيان خالص بل هو بيان من وجه لكنه تغيير أو تبديل من وجه لا يحتمل التراخي(3/167)
بالعقد مرة بالفعل مع ذلك أخرى وهذا مجمع عليه وما ليس ببيان خالص محض لكنه تغيير أو تبديل ويحتمل القول بالتراخي بالإجماع على ما نبين إن شاء الله تعالى وإنما الاختلاف أن خصوص دليل العموم بيان أو تغيير, فعندنا هو تغيير من القطع إلى الاحتمال فيفيد بالوصل مثل الشرط والاستثناء وعنده ليس بتغيير لما قلنا بل هو تقرير فصح موصولا ومفصولا ألا ترى أنه يبقى على أصله في الإيجاب, وقد استدل في هذا الباب بنصوص احتجنا إلى بيان تأويلها
ـــــــ
جعل شمس الأئمة رحمه الله الاستثناء بيان التغيير والتعليق بيان التبديل والمصنف جعلهما نوعي بيان التغيير وجعل النسخ بيان التبديل كما بينا لكنه أراد بالتبديل هاهنا أحد نوعي بيان التغيير وهو التعليق موافقا لشمس الأئمة رحمه الله لا النسخ; لأنه لا يصح إلا متراخيا بالاتفاق, والفرق بين التغيير والتبديل على ما اختاره هاهنا أن الكلام في التبديل بعدما تغير عن أصله ينقلب تصرفا آخر وفي التغيير لا ينقلب كذلك ففي الاستثناء يصير الكلام تكلما بالباقي لا غير وفي التعليق يتغير الكلام عن كونه إيجابا وينقلب تصرف يمين على ما عرف
وقوله ألا ترى توضيح لقوله بل هو تقدير ومعناه ألا ترى أن العام بعد التخصيص يبقى موجبا للحكم في الباقي كما كان قبل التخصيص فيكون التخصيص مقررا لما كان موجبا في الأصل لا مغيرا إذ لو كان مغيرا لم يبق موجبا كالتعليق بالشرط أو معناه أن العام بعد التخصيص يبقى على العموم الذي هو أصله حتى أوجب الحكم في الأفراد الباقية بعمومه فيكون مقررا ولو كان مغيرا لم يبق كذلك أو معناه أنه كان يوجب الحكم في الأصل بطريق الظن وبعد التخصيص يبقى على ما كان فيكون مقررا لا مغيرا فثبت بما ذكرنا أن هذا الاختلاف بناء على الاختلاف في موجب العام والحجة بطريق الابتداء لمن أبى جواز تأخير التخصيص أن العموم خطاب لنا في الحال بالإجماع والمخاطب به لا يخلو إما أن يقصد إفهامنا في الحال أو لا يقصد ذلك والثاني فاسد; لأنه إذا لم يقصد انتقض كونه مخاطبا إذ المعقول من قولنا إنه مخاطب لنا أنه قد وجه الخطاب نحونا ولا معنى لذلك إلا أنه قصد إفهامنا ولأنه لو لم يقصد الإفهام في الحال مع أن ظاهره يقتضي كونه خطابا لنا في الحال لكان إغراء بأن يعتقد أنه قصد إفهامنا في الحال فيكون قد قصد أن نجهل; لأن من خاطب قوما بلغتهم فقد أغراهم بأن يعتقدوا فيه أنه قد عنى به ما عنوا به ولأنه يكون عبثا إذ الفائدة في الخطاب ليست إلا إفهام المخاطب فثبت أنه أراد إفهامنا في الحال., وإذا أراد إفهامنا في الحال فإما أن يريد أن نفهم أن مراده ظاهره أو غير ظاهره, فإن أراد الأول وظاهره للعموم وهو مخصوص عنده فقد أراد منا اعتقاد الشيء على خلاف(3/168)
منها أن بيان بقرة بني إسرائيل وقع متراخيا هذا عندنا يقيد المطلق وزيادة على النص فكان نسخا فصح متراخيا لما نبين في بابه إن شاء الله تعالى واحتج
ـــــــ
ما هو عليه, وإن أراد منا أن نفهم غير ظاهره وهو لم ينصب دليلا على تخصيصه فقد أراد منا ما لا سبيل لنا إليه فيكون تكليفا بما ليس في وسعنا وهو باطل فإذا لا بد أن يبين التخصيص متصلا بالعموم أو يشعرنا بالخصوص بأن يقول هذا العام مخصوص من غير أن يبين الخارج عن العموم لئلا يكون إغراء باعتقاد غير الحق, وهذا بخلاف تأخير بيان المجمل فإنه جائز; لأن المجمل لا ظاهر له ليؤدي تأخير البيان فيه إلى اعتقاد ما ليس بحق. يوضحه أن البيان إن لم يقترن بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] اقتضى بعمومه وجوب قتل غير أهل الحرب واعتقاد ذلك, كما اقتضى وجوب قتل أهل الحرب, وذلك خلاف الحق وإن لم يقترن البيان بقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] اقتضى وجوب فعل على نفسه ووجوب شيء في ماله, وذلك ليس بخلاف الحق فافترقا قال شمس الأئمة رحمه الله لما وافقنا الخصم في القول بالعموم كان من ضرورته لزوم اعتقاد العموم فيه وجواز الإخبار بأنه عام, وتجويز تأخير البيان بدليل الخصوص يؤدي إلى القول بجواز الكذب في الحجج الشرعية, وذلك باطل.
،وهذا بخلاف النسخ فإن الواجب اعتقاد الحقية في الحكم النازل فأما في حياة النبي عليه السلام فما كان يجب اعتقاد التأبيد في الحكم ولا إطلاق القول بأنه مؤبد; لأن الوحي كان ينزل ساعة فساعة ويتبدل الحكم كالصلاة إلى بيت المقدس وإنما وجب اعتقاد التأبيد فيه وإطلاق القول به بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن شريعته لا تنسخ بعده بشريعة أخرى وتمسك من جوز تأخيره بنصوص من الكتاب والسنة وأجاب الشيخ عن بعضها فمنها قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] تمسكوا به بطريقين: أحدهما ما أشار إليه الشيخ في الكتاب وهو أن الله تعالى أمر بني إسرائيل بذبح بقرة مطلقة ليظهر أمر القتيل بينهم والمطلق عام عندهم على ما مر بيانه في باب بيان ألفاظ العموم. ثم بينها لهم بعد سؤالهم مقيدة بأوصاف كما نطق به النص والتقييد تخصيص لعموم المطلق; لأن بالتقييد يخرج غير المقيد عن عمومه فدل أن تأخير التخصيص جائز فأجاب الشيخ رحمه الله بأن تقييد المطلق ليس من باب تخصيص العموم إذ المطلق في ذاته ليس بعام لما مر بل هو من قبيل الزيادة على النص والزيادة على النص نسخ معنى فلذلك صح متراخيا والدليل على أن الأمر كان متناولا لبقرة مطلقة. ثم نسخ الإطلاق بالتقييد ما روي "عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم لو عمدوا إلى أدنى أي بقرة كانت فذبحوها لأجزأت عنهم ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم وهكذا(3/169)
بقوله في قصة نوح عليه السلام {فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} [المؤمنون: 27] أن الأهل عام لحقه خصوص متراخ بقوله: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} .[هود: 46] والجواب أن البيان كان متصلا به بقوله: { إلا من سبق عليه القول} وذلك هو ما سبق من وعد إهلاك الكفار وكان ابنه منهم ولأن الأهل لم
ـــــــ
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم" فدل أن الأمر الأول الذي فيه تخفيف صار منسوخا بانتقال الحكم إلى المقيدة وأن استقصاءهم في السؤال صار سببا لتغليظ الأمر عليهم وإليه مال عامة أهل التفسير. والثاني وهو المذكور في عامة كتبهم أنه تعالى أمر بذبح بقرة معينة غير نكرة, ثم أخر بيانها إلى حين السؤال فدل على جواز تأخير بيان ما له ظاهر والدليل على أن المراد بقرة معينة أن الشارع عينها بقوله عز اسمه {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ} [البقرة: 68] {إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} [البقرة: 69] {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ } ولو كانت نكرة لما سألوا عن تعيينها للخروج عن العهدة بأية بقرة كانت. وأنهم لم يؤمروا بأمور متجددة ولو كان تكليفهم بأمور متجددة غير ما أمروا به أولا لكان الواجب من تلك الصفات هي المذكورة آخرا دون ما ذكرت أولا, وقد وجب عليهم تحصيل تلك الصفات المذكورة أولا بإجماع فتبين أنه بيان ذلك الواجب المدلول عليه بقوله بقرة وأن المذبوح المتصف بجميع الصفات كان مطابقا للمأمور به أولا المدلول عليه بقوله فذبحوها أي البقرة المأمور ذبحها المذكور ألا ترى أنهم لو ذبحوا هذه البقرة الموصوفة عن الواجب قبل سؤالهم لخرجوا عن العهدة فثبت أنه بيان ذلك الواجب. قال الشيخ أبو منصور رحمه الله بأن المطلق لو كان مرادا, ثم صار المقيد مرادا يؤدي إلى القول بالنسخ قبل التمكن من الفعل والاعتقاد جميعا لضيق الزمان عن الاعتقاد إذ لا بد للاعتقاد من العلم ولم يكن حصل لهم العلم بالواجب قبل السؤال والبيان ولهذا قالوا {وَإنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [البقرة: 70] أي إلى البقرة المراد ذبحها والنسخ قبل التمكن من الاعتقاد بداء وجهل بعواقب الأمور تعالى الله عن ذلك فلا يمكن حمل الآية عليه, بل الأمر في الابتداء لا في بقرة مقيدة وإن أضيف إلى المطلقة لكن ظهر ذلك عند سؤالهم لا أنه تعالى أحدث حكما آخر عند السؤال والدليل عليه أنهم سألوا بيان تلك البقرة بقولهم {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} [البقرة: 68] {يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا} وتولى الله تعالى بيانها لهم فلو حمل على النسخ لا يكون بيانا لها بل يكون رفعا لذلك الحكم وهو خلاف النص., وأما ما روي من الخبر فمن الأخبار الآحاد وهو بظاهره إثبات البداء في حكم الله عز وجل وتغيير إرادته; لأن ظاهر قوله لو عمدوا إلى أدنى أي بقرة لأجزأتهم يقتضي أن مراد الله تعالى المطلق, وظاهر قوله لكن شددوا فشدد الله عليهم يقتضي إثبات الحكم في المقيد فيكون مردودا. ثم نحن إن(3/170)
يكن متناولا للابن; لأن أهل الرسل من اتبعهم وآمن بهم فيكون أهل ديانة لا أهل نسبة إلا أن نوحا عليه السلام قال فيما حكي عنه {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود: 45] لأنه كان دعاه إلى الإيمان فلما أنزل الله تعالى الآية الكبرى حسن ظنه به وامتد نحوه رجاؤه فبنى عليه سؤاله فلما وضح له أمره أعرض عنه وسلمه للعذاب وهذا سائغ في معاملات الرسل عليهم السلام بناء على العلم البشري إلى أن ينزل الوحي كما قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114]
ـــــــ
سلمنا جواز تأخير تقييد المطلق باعتبار أن التقييد نسخ للإطلاق كما يشير إليه كلام الشيخ فلا حاجة إلى الجواب; لأنه بمعزل عن محل النزاع وإن لم يجوز ذلك بطريق البيان; لأنه يؤدي إلى التجهيل واعتقاد غير الحق أو اعتقاد ما لا سبيل لنا إلى معرفته كما بينا في تخصيص العام في الجواب عنه أنا لا نسلم على هذا التقدير عدم اقتران بيان به لجواز إعلام موسى عليه السلام إياهم عند نزول الأمر أن المراد ذبح بقرة معينة لا مطلقة فكان هذا بيانا إجماليا مقارنا. ثم تأخير البيان التفصيلي إلى حين سؤالهم وتأخير مثل هذا البيان عندنا جائز أيضا ومنها قوله تعالى: {فَاسْلُكْ فِيهَا} [المؤمنون: 27] أي أدخل في السفينة يقال سلكه فيه سلكا فسلك سلوكا {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [هود: 40] أي من كل جنس من الحيوان ذكرا أو أنثى واثنين تأكيد لزوجين وقرئ بالإضافة أي من كل زوجين من أجناس الحيوان اثنين ذكرا وأنثى لئلا ينقطع تناسلها بالغرق واسلك عطف على زوجين أو على اثنين يعني أدخل فيها نساءك وأولادك. ووجه التمسك أن الأصل عام يتناول جميع بنيه ولذلك قال نوح {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود: 45] أراد به كنعان, وقد لحقه خصوص متراخ بقوله عز اسمه {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} فدل أن تأخير التخصيص جائز فأجاب الشيخ عنه بوجهين: أحدهما أنا لا نسلم لحوق التخصيص المتراخي به بل البيان كان متصلا به فإنه تعالى استثنى من الأهل من سبق عليه القول أي سبق وعد إهلاكه فإنه وعده بإهلاك الكفار جميعا وأراد به امرأته واغلة وابنه كنعان وكانا كافرين. والثاني أن الأهل مشترك يحتمل أهل النسبة وأهل المتابعة في الدين فتوهم نوح عليه السلام أن المراد أهل النسبة فسأل خلاص ابنه بناء عليه فبين الله تعالى أن المراد هو الأهل من حيث المتابعة في الدين لا أهل النسبة وأن ابنه الكافر ليس من أهله لكفره فلا يكون داخلا في وعد النجاة وتأخير بيان المشترك جائز وقوله إلا أن نوحا جواب سؤال يرد على الوجه الأول أن نوحا عليه السلام بعد الوعد بإهلاك الكفار كان منهيا عن الكلام فيهم قال تعالى: {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [هود: 37](3/171)
واحتج بقوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]ثم لحقه الخصوص بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء: 101] متراخيا عن الأول وهذا الاستدلال باطل عندنا; لأن صدر الآية لم يكن متناولا لعيسى والملائكة عليهم السلام; لأن كلمة ما لذوات غير العقلاء لكنهم كانوا متعنتين فزاد في البيان إعراضا عن تعنتهم واحتج بقوله: {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} [العنكبوت: 31] وهذا عام خص منه آل لوط
ـــــــ
فلو كان قوله: {إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} [هود: 40] منصرفا إلى ما ذكرتم لما استجاز نوح سؤال خلاص ابنه بقوله: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود: 45] فأجاب بما ذكر في الكتاب وهو ظاهر.
ومنها قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98" أي حطبها والحصب ما يحصب به أي يرمى يقال حصبتهم السماء إذا رمتهم بالحصباء فعل بمعنى مفعول. وهذا عام لحقه خصوص متراخ أيضا فإنه لما نزل "جاء عبد الله بن الزبعرى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد أليس عيسى وعزير والملائكة قد عبدوا من دون الله أفتراهم يعذبون في النار فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء: 101] أي السعادة أو البشرى أو التوفيق للطاعة {أُولَئِكَ عَنْهَا} [الأنبياء: 101] أي عن النار {مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101] فأجاب بأنا لا نسلم أن ذلك تخصيص إذ لا بد له من دخول المخصوص تحت العموم لولا المخصص وأولئك لم يدخلوا في هذا العام لاختصاص ما بما لا يعقل على أن الخطاب كان لأهل مكة وأنهم كانوا عبدة الأوثان وما كان فيهم من يعبد عيسى والملائكة فلم يكن الكلام متناولا لهم ولا يقال لو لم يدخلوا لما أوردهم ابن الزبعرى نقضا على الآية وهو من الفصحاء ولرد الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يسكت عن تخطئته; لأنا نقول لعل سؤال ابن الزبعرى كان بناء على ظنه أن ما ظاهرة فيمن يعقل أو مستعملة فيه مجازا كما استعملت في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [الليل: 3] {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 3], وقد اتفق على وروده بمعنى الذي المتناول للعقلاء إلا أنه أخطأ; لأنها ظاهرة فيما لا يعقل دون من يعقل والأصل في الكلام هو الحقيقة. وأما عدم رد الرسول عليه السلام عليه فغير مسلم لما روي "أنه عليه السلام قال لابن الزبعرى لما ذكر ما ذكر رادا عليه ما أجهلك بلغة قومك أما علمت أن ما لما لا يعقل ومن لمن يعقل" هكذا ذكر في شرح أصول الفقه لابن الحاجب. ولئن سلمنا أنه سكت إلى حين نزول الوحي فذلك لما(3/172)
متراخيا وهذا أيضا غير صحيح; لأن البيان كان متصلا به أما في هذه الآية فلأنه قال {إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} [العنكبوت: 31] وذلك استثناء واضح, وقال في غير هذه الآية {إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ}
ـــــــ
عرف من تعنت القوم ومجادلتهم بالباطل بعد تبين الحق لهم وعلمهم بأن الكلام لا يتناول الملائكة والمسيح فإنهم كانوا أهل اللسان فأعرض عن جوابهم امتثالا لقوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص: 55] ثم بين الله تعالى تعنتهم في معارضتهم بقوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء: 101] الآية ومثل هذا الكلام يكون ابتداء كلام حسن موقعه وإن لم يكن محتاجا إليه في حق من لا يتعنت وهو نظير انتقال إبراهيم صلوات الله عليه في محاجة اللعين عن التمسك بالإحياء والإماتة إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258] لتعنت القوم ومكابرتهم وكان ذلك تأكيدا للحجة الأولى ودفعا لتلبيس اللعين لا أنه انتقال حقيقة فكذلك هذا ابتداء بيان ودفع لمعاندة الخصم لا أنه تخصيص حقيقة
ومنها إخبار الله تعالى عن قصة ضيف الخليل وإخبارهم إياه بإهلاك قرية لوط بقوله عز اسمه {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} وهي سدوم والأهل عام يتناول لوطا وأهله كما يتناول غيرهم من سكان القرية ولهذا قال الخليل عليه السلام {إِنَّ فِيهَا لُوطاً} [العنكبوت: 32] ثم خص منه لوط وأهله بعد ما قال إبراهيم عليه السلام {إِنَّ فِيهَا لُوطاً} بقولهم: {لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [العنكبوت: 32] فدل على جواز انفصال المخصص عن العام
قال الشيخ رحمه الله وهذا أي احتجاجهم بهذه الآية غير صحيح أيضا كاحتجاجهم بالآيات المتقدمة. لاتصال البيان أي الدليل المخصص به أي بهذا العام فإنه تعالى قال: {إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} أي كافرين, ومثل هذا الكلام يذكر للتعليل كما يقال اقتله إنه محارب وارجمه إنه زان ولما علل إهلاكهم بكونهم ظالمين يكون هذا استثناء من حيث المعنى للوط وأهله منهم; لأنهم لم يكونوا ظالمين إلا امرأته وهو معنى قوله, وهذا استثناء واضح, وقد صرح في عين هذه القصة بالاستثناء في آية أخرى وهي قوله تعالى: {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ} فثبت أن التخصيص قد كان متصلا لكنه تعالى لم يذكره صريحا هاهنا اكتفاء بالإشارة المدرجة في التعليل, والاستثناء الأول منقطع إن كان من قوم; لأن القوم موصوفون بالإجرام فاختلف لذلك الجنسان, ومتصل إن كان من الضمير في مجرمين كأنه قيل إلى قوم قد أجرموا كلهم إلا آل لوط وحدهم فإنهم لم يجرموا وآل لوط على تقدير الانقطاع مخرجون من حكم الإرسال إليهم على معنى أن الملائكة أرسلوا إلى القوم المجرمين(3/173)
غير أن إبراهيم عليه السلام أراد الإكرام للوط بخصوص وعد النجاة أو خوفا من أن يكون العذاب عاما وذلك مثل قوله: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي
ـــــــ
خاصة ولم يرسلوا إلى آل لوط أصلا ومعنى إرسالهم إليهم كإرسال الحجر والسهم إلى المرمى في أنه في معنى التعذيب والإهلاك كأنه قيل إنا أهلكنا قوما مجرمين ولكن آل لوط نجيناهم وعلى تقدير الاتصال هم داخلون في حكم الإرسال على معنى الملائكة أرسلوا إليهم جميعا ليهلكوا هؤلاء وينجوا هؤلاء فلا يكون الإرسال مخلصا لمعنى الإهلاك والتعذيب كما في الوجه الأول. وقوله إنا لمنجوهم في المنقطع جار مجرى خبر لكن في الاتصال بآل لوط; لأن المعنى لكن آل لوط منجون وفي المتصل كلام مستأنف كأن إبراهيم قال لهم فما حال آل لوط فقالوا إنا لمنجوهم والاستثناء الثاني من الضمير المجرور في لمنجوهم لا من الاستثناء الأول; لأن الاستثناء من الاستثناء إنما يكون فيما اتحد الحكم فيه وأن يقال أهلكناهم إلا آل لوط إلا امرأته كما اتحد الحكم في قول المقر لفلان علي عشرة دراهم إلا ثلاثة إلا درهما فأما في الآية فقد اختلف الحكمان; لأن إلا آل لوط متعلق بأرسلنا أو بمجرمين وإلا امرأته قد تعلق بمنجوهم فكيف يكون استثناء من الأول.
قوله "غير أن" جواب عما يقال لو كان قوله: {إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} استثناء للوط لما كان لقول إبراهيم إن فيها لوطا معنى حينئذ فقال إنما قال ذلك مع أنه علم يقينا أن لوطا ليس من المهلكين معهم طلبا لزيادة الإكرام له بتخصيصه بوعد النجاة قصدا إذ في التخصيص بالذكر زيادة إكرام كما في تخصيص جبرائيل وميكائيل عليهما السلام بالذكر في قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ} {البقرة 98] الآية, وكما في تخصيص أولي العلم بالذكر في قوله عز وجل: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} "المجادلة: 11" أو خوفا من أن يكون العذاب عاما وإن كان سببه الظلم والمعصية فإن العذاب في الدنيا قد يختص بالظالمين كما في قصة أصحاب السبت, وقد يعم الكل على ما قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] فيكون خزيا وعذابا في حق الظالمين وابتلاء وامتحانا في حق المطيعين كالأمراض والأوجاع وكمن زنى ولم يتب يقام عليه الحد خزيا وعقوبة وإن تاب يقام عليه الحد ابتلاء وامتحانا فأراد الخليل عليه السلام أن يبينوا له أن عذاب أهل تلك القرية من أي الطريقين فلا يعلم أن لوطا هل ينجو منه أم يبتلى به., وذكر أبو اليسر في أصوله أن قول إبراهيم عليه السلام {إِنَّ فِيهَا لُوطاً} [العنكبوت: 32] طلب الرحمة من الله تعالى على أهل تلك القرية لبركة مجاورة لوط عليه السلام, وذكر في المطلع أن قول(3/174)
الْمَوْتَى} [البقرة: 260] واحتج بقوله: {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] أنه خص منه بعض قرابة النبي عليه السلام بحديث ابن عباس في قصة عثمان وجبير بن مطعم رضي الله عنهم وهذا عندنا من قبيل بيان المجمل; لأن القربى مجمل وكان الحديث بيانا
ـــــــ
إبراهيم عليه السلام للرسل {إِنَّ فِيهَا لُوطاً} [العنكبوت: 32] ليس إخبارا عن الحقيقة وإنما هو جدال في شأنه كما قال في موضع آخر {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 74], وذلك لأنهم لما عللوا إهلاك أهلها بظلمهم احتج عليهم ببراءة لوط من ظلمهم شفقة عليهم وتحزنا لأخيه المسلم وتشمرا إلى نصرته وحياطته كما هو موجب الدين فأجابه الرسل بقولهم " {نحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا} [العنكبوت: 32] يعنون بالبريء والظالم منهم {لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [العنكبوت: 32], وقوله أو خوفا عطف على الأول من حيث المعنى والتقدير غير أن إبراهيم قال إن فيها لوطا إرادة لإكرام لوط أو خوفا, وذلك أي سؤال إبراهيم عن لوط وجداله فيه مع علمه أنه لم يدخل تحت المهلكين طلبا لزيادة الإكرام مثل سؤاله ربه عن إحياء الموتى مع علمه بقدرته تعالى على ذلك طلبا لزيادة اطمئنان القلب بالمعاينة ومنها قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41] إلى قوله: {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] أوجب نصيبا من الخمس لذوي القربى عام يتناول جميع أقرباء الرسول. ثم تأخر خصوصه إلى أن كلم عثمان بن عفان وجبير بن مطعم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فدل على جواز تأخير التخصيص واعلم أنه كان لعبد مناف خمسة بنين هاشم أبو جد النبي والمطلب. ونوفل وعبد شمس وعمرو ولكل عقب ونسل إلا لعمرو ولما "قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى يوم خيبر بين بني هاشم وبني المطلب ولم يعط غيرهم جاءه عثمان وهو من بني عبد شمس فإنه عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن مناف وجبير بن مطعم وهو من بني نوفل فإنه جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف فقالا إنا لا ننكر فضل بني هاشم لمكانك الذي وضعك الله فيهم ولكن نحن وبنو المطلب إليك سواء في النسب فما بالك أعطيتهم وحرمتنا؟ فقال "إنهم لم يزالوا معي هكذا 1 وشبك بين أصابعه" وفي رواية "إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام" فبين أن المراد من ذوي القربى بنو هاشم وبنو المطلب ببيان متأخر فقال الشيخ رحمه الله هذا عندنا من قبيل بيان المجمل لا من قبيل تخصيص العام, وذلك لأن القربى لا يحتمل قربى
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الخراج والإمارة حديث رقم 29878 و 2979.والإمام أحمد في المسند 4/81.(3/175)
له وأن المراد قربى النصرة لا قربى القرابة وإجماله أن القربى يتناول غير النسب ويتناول وجوها من النسب مختلفة والله أعلم بالصواب.
ـــــــ
القرابة وقربى النصرة أي نصرة الشعب والوادي على ما يعرف في موضعه إن شاء الله عز وجل فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد السؤال أن المراد قربى النصرة لا قربى القرابة وتأخير بيان المجمل جائز. وقوله عند إشارة إلى أن الإجمال إنما يتحقق على مذهبنا لما حملنا لفظ القربى على قربى النصرة وهو يحتمل قربى النسب أيضا كان محتملا للمعنيين فأما عندهم فلا إجمال فيه; لأن المراد منه عندهم قربى النسب الذي هي موضوعة لا غير. ثم أشار في آخر كلامه إلى أنه يمكن إثبات الإجمال على المذهبين بقوله ويتناول وجوها من النسب مختلفة يعني ولئن سلمنا أن المراد قربى النسب كان مجملا أيضا; لأن القربى يتناول وجوها مختلفة من النسب لا يمكن العمل بجميعها فإنا علمنا أن المراد ليس من يناسبه إلى أقصى أب فإن ذلك يوجب دخول جميع بني آدم فيكون البعض مرادا وهو غير معلوم إذ لا يعلم أن المراد من يناسبه بأبيه خاصة أو بجده أو بأعلى منهما فكان مجملا فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المراد من يناسبه إلى هاشم والمطلب فلم يكن هذا البيان من تخصيص العام في شيء بل هو بيان المراد بالعام الذي تعذر العمل بعمومه وهو في حكم المجمل فيجوز تأخيره فهذا بيان النصوص المذكورة في الكتاب وتمسكوا أيضا بقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 18 – 19]. أمر بالاتباع وضمن البيان متراخيا ولا يمكن حمله على ما لا يمكن العمل به من الألفاظ; لأنه تكليف ما ليس في الوسع فيحمل على ما يمكن العمل بظاهره وهو العام فثبت أنه يجوز بيانه متراخيا وكذلك نص المواريث عام في إيجاب الإرث للأقارب كفارا كانوا أو مسلمين. ثم جاء التخصيص متراخيا بقوله عليه السلام: "لا يتوارث أهل ملتين شتى1" وكذلك الوصية شرعت عامة مقدمة على الميراث بقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء 11] ثم خص ما زاد على الثلث ببيان الرسول متراخيا وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة" على العموم فيما دون خمسة أوسق وفي أكثر من ذلك ثم خص ما دون خمسة أوسق ببيان متأخر وهو خبر العرايا.
والجواب عن الأول أن المراد من الأمر باتباع القرآن القراءة على ما قيل أي إذا قرأه جبرائيل عليك بأمرنا فاقرأه على قومك, ثم إن أشكل عليك شيء من معانيه فعلينا بيانه.
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الفرائض حديث رقم 2911.وابن ماجة في الفرائض حديث رقم 2731. والإمام احمد في المسند 2/178.(3/176)
---------------------------------------------------------
ـــــــ
وإذا كان كذلك يمكن حمله على المجمل ونحوه فحملناه عليه وتأخير بيانه جائز كما مر بيانه قال شمس الأئمة رحمه الله المراد من قوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19] ليس جميع ما في القرآن بالاتفاق فإن البيان من القرآن أيضا فيؤدي هذا إلى القول بأن لذلك البيان بيانا إلى ما لا يتناهى وإنما المراد بعض ما في القرآن وهو المجمل الذي يكون بيانه تفسيرا له ونحن نجوز تأخير البيان في مثله فأما فيما يكون مغيرا أو مبدلا للحكم إذا اتصل به فإذا تأخر عنه يكون نسخا ولا يكون بيانا محضا ودليل الخصوص في العام بهذه الصفة. وعن الثاني والثالث أن تقييد حكم الميراث بالموافقة في الدين وتقييد الوصية بالثلث من قبيل الزيادة على النص وهي تعدل النسخ فيجوز متراخيا, وقد ثبت بخبر اقترن به الإجماع فكان في معنى المتواتر أو المشهور فيجوز النسخ المعنوي به وخبر المزابنة لم يخص بخبر العرايا عندنا بل هو محمول على العطية لا على البيع كما بيناه في باب أحكام العموم والله أعلم.(3/177)
"باب بيان التغيير"
بيان التغيير نوعان التعليق بالشرط والاستثناء وإنما يصح ذلك موصولا ولا يصح مفصولا. على هذا أجمع الفقهاء
ـــــــ
"باب بيان التغيير"
أي البيان الذي فيه تغيير لموجب الكلام الأول. قوله "وإنما يصح ذلك" أي بيان التغيير موصولا أي ينحصر الجواز في الموصول, ثم أكده بقوله ولا يصح مفصولا, وأشار بقوله على هذا أجمع الفقهاء إلى الدليل وإلى خلاف غير الفقهاء فإنه أراد بالفقهاء مثل أبي حنيفة والشافعي ومالك والأوزاعي وأمثالهم من فقهاء الأمصار والحاصل أن اتصال الاستثناء بالمستثنى منه لفظا أو ما هو في حكم الاتصال لفظا وهو أن لا يعد المتكلم به آتيا به بعد فراغه من الكلام الأول عرفا بل يعد الكلام واحدا غير منقطع وإن تخلل بينهما فاصل بانقطاع نفس أو سعال أو عطاس أو نحوها شرط عند عامة العلماء وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول بصحة الاستثناء منفصلا عن المستثنى منه وإن طال الزمان وبه قال مجاهد سواء ترك الاستثناء ناسيا أو عامدا وفي بعض الروايات عنه قدر زمان الجواز بسنة, فإن استثنى بعدها بطل وعن الحسن وطاوس وعطاء أنهم جوزوا ما لم يقم عن مجلسه اعتبارا بالعقود وبه قال أحمد بن حنبل وعن أبي العالية أنه يجوز إلى أربعة أشهر اعتبارا بمدة الإيلاء ونقل عن بعض العلماء جوازه في القرآن خاصة. تمسك ابن عباس رضي الله عنهما بأن "اليهود سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن مدة لبث أهل الكهف وغيرها فقال غدا أجيبكم ولم يستثن فتأخر الوحي عنه مدة بضعة عشر يوما ثم نزل قوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 23 – 24] أي استثن إذا تركت الاستثناء, ثم ذكرت, فقال إن شاء الله بطريق إلحاقه إلى خبره الأول وهو قوله غدا أجيبكم وبأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والله لأغزون قريشا ثم قال بعد سنة إن شاء الله1" ولا يقال هذا شرط, وكلامنا في الاستثناء لأن من جواز أحدهما يلزم جواز الآخر إذ
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في سننه في الإيمان حديث رقم 3285.(3/178)
---------------------------------------------------------
ـــــــ
لا قائل بالفرق ومن خص الجواز بالقرآن قال الكلام الأزلي واحد وإنما الترتيب في جهات الوصول إلى المخاطبين وإن كان قد تأخر الاستثناء به فذاك في سماع السامعين وفهم الفاهمين لا في كلام رب العالمين واحتج الفقهاء بأن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت بالذي هو خير, ثم ليكفر عن يمينه" عين التكفير لتخليص الحالف ولو صح الاستثناء منفصلا لقال فليستثن وليأت الذي هو خير منها; لأن تعيين الاستثناء للتخليص أولى لكونه أسهل وبمثله استدل علي على ابن عباس رضي الله عنهم فقال لما حلف أيوب عليه السلام بضرب امرأته أمره الله تعالى بضرب ضغث عليها تحلة ليمينه وتخفيفا عليها كما قال تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص: 44] ولو صح الاستثناء متصلا لأمره به لا بالضرب بالضغث; لأنه أيسر وأخف وبأن الشرع حكم بثبوت الإقرارات والطلاق والعتاق وغيرها من العقود ولو صح الاستثناء منفصلا لم يثبت شيء من هذه العقود ولم يستقر وفساده ظاهر لتأديته إلى التلاعب وإبطال التصرفات الشرعية, وبأنه لو صح منفصلا لما علم صدق صادق ولا كذب كاذب ولم يحصل وثوق بيمين ولا وعد ولا وعيد وبطلانه لا يخفى على ذي لب وبمسألة أفحم أبو حنيفة رحمه الله أبا جعفر الدوانقي1 حين عاتبه على مخالفة جده في هذه المسألة فقال لو صح الاستثناء منفصلا كما هو مذهب جدك لقد بارك الله في بيعتك فإن الذين بايعوك على الخلافة لو استثنوا بعدما خرجوا من عندك أو حين ما بدا لهم ذلك لم تبق خلافتك ووسعهم خلافك فسكت ورده بجميل.
قال الغزالي رحمه الله نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما جواز تأخير الاستثناء ولعله لا يصح فيه النقل إذ لا يليق ذلك بمنصبه وإن صح فلعله أراد به إذا نوى الاستثناء أو لا, ثم أظهر نيته بعده فيدين فيما بينه وبين الله تعالى فيما نواه ومذهبه أن ما يدين فيه العبد يقبل ظاهرا فهذا له وجه. وأما تجويز التأخير لو أصر عليه دون هذا التأويل فيرده عليه اتفاق أهل اللغة على خلافه; لأنه جزء من الكلام يحصل به الإتمام فإذا انفصل لم يكن إتماما كالشرط وخبر المبتدأ فإنه إذا أخر الشرط أو الخبر لا يفهم منه شيء فلا يصير كلاما فضلا من أن يكون شرطا أو خبرا فكذا قوله إلا زيدا بعد شهر يخرج من أن يكون مفهوما فضلا من أن يكون إتماما للكلام. وأما استثناء النبي صلى الله عليه وسلم بعد النسيان فقد كان
ـــــــ
1 هو الخليفة أبو جعفر المنصور ، أنظر الكشاف 4/103.(3/179)
وإنما سميناه بهذا الاسم إشارة إلى أثر كل واحد منهما وذلك أن قول القائل أنت حر لعبده علة العتق نزل به منزلة وضع الشيء في محل يقر فيه فإذا حال الشرط بينه وبين محله فتعلق به بطل أن يكون إيقاعان للشيء الواحد يكون مستقرا في محله ومعلقا مع ذلك فصار الشرط مغيرا له من هذا الوجه ولكنه بيان مع ذلك; لأن حد البيان ما يظهر به ابتداء وجوده فأما التغيير بعد الوجود فنسخ وليس ببيان ولما كان التعليق بالشرط لابتداء وقوعه غير موجب والكلام كان يحتمله شرعا; لأن التكلم بالعلة ولا حكم لها جائز شرعا مثل البيع
ـــــــ
على وجه تدارك التبرك بالاستثناء للتخلص عن الإثم والامتثال لما أمر به وهو قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف 24] لا أن يكون استثناء حقيقة على وجه يكون مغيرا للحكم. وأما تخصيص الجواز بالقرآن بناء على ما ذكرنا فوهم; لأن النزاع ليس في الكلام الأزلي بل في العبارات التي بلغتنا وهي محمولة على معنى كلام العرب نظما وفصلا ووصلا ولا شك أنه لا ينتظم في وضع اللغة فصل صيغة الاستثناء عن العبارة التي تشعر بمستثنى منه.
قوله "وإنما سميناه" أي هذا النوع من البيان ببيان التغيير ولم نقتصر على تسميته بالتغيير ولا بالبيان للإشارة إلى وجود أثر كل واحد من البيان والتغيير فيه, وذلك أي وجود أثر كل واحد من المعنيين نزل به أي نزل أنت حر بالعبد شرعا منزلة وضع شيء محسوس في محل تقر فيه فإذا حال الشرط بينه أي بين قوله أنت حر وبين محله وهو العبد فتعلق أنت حر بالشرط بطل كونه إيقاعا جواب إذا ولكنه أي المتعلق بيان مع ذلك أي مع كونه تغييرا; لأن البيان ما يظهر به ابتداء وجوده أي وجود الشيء والضمير راجع إلى مدلول البيان وهو المبين فأما التغيير بعد الوجود فنسخ وليس ببيان; لأن النسخ رفع الحكم الثابت والتغيير بعد الوجود بهذه المثابة فلا يكون بيانا. وهذا الكلام إنما يستقيم على اختيار القاضي الإمام وشمس الأئمة رحمهما الله فإنهما لم يجعلا النسخ من أقسام البيان فأما على اختيار الشيخ رحمه الله فلا يستقيم; لأنه جعل النسخ أحد أقسام البيان وسماه بيان التبديل, ثم قال هاهنا إنه ليس ببيان ووجه التوفيق بينهما أنه إنما جعل النسخ من أقسام البيان باعتبار أنه عند الله تعالى بيان انتهاء مدة الحكم ولم يجعله بيانا هاهنا باعتبار الظاهر فإنه في الظاهر رفع الحكم الثابت وإبطاله فلا يكون بيانا له., ولما كان التعليق بالشرط لابتداء وقوعه غير موجب يعني, ولما كان التعليق لهذا الغرض وهو بيان ابتداء وقوع الكلام غير موجب والكلام كان يحتمله أي يحتمل كونه غير موجب حكمه في الحال شرعا مثل البيع بشرط الخيار وبيع الفضولي وتصرفات الصبي(3/180)
بالخيار وغيره سمي هذا بيانا فاشتمل على هذين الوصفين فسمي بيان تغيير وكذلك الاستثناء مغير للكلام; لأن قول القائل لفلان علي ألف درهم فالألف اسم علم لذلك العدد لا يحتمل غيره وإذا قال إلا خمسمائة كان تغييرا لبعضه, ألا ترى أن التعليق بالشرط والاستثناء لو صح كل واحد منهما متراخيا كان ناسخا ولكنه إذا اتصل منع بعض التكلم لا إن وقع بعد الوجود فكان بيانا فسمي بيان تغيير.
ـــــــ
"سمي" أي التعليق بيانا وهو جواب لما, وإنما قال والكلام كان يحتمله; لأنه لا بد لصحة البيان من أن يكون اللفظ المبين محتملا له بوجه ليكون البيان إظهارا لذلك المحتمل, فإن لم يحتمل لا يكون بيانا له بل يكون ابتداء كلام.
قوله "وكذلك الاستثناء" أي وكالتعليق بالشرط الاستثناء في اشتماله على وصفي البيان والتغيير. ألف درهم اسم علم لذلك العدد أي العدد الذي هو مدلول الألف وهو عشر مئين فإن اسم العدد كثلاثة وعشرة ومائة ونحوها علم جنس كأسامة للأسد والاسم العلم لا يحتمل غيره. أو هو بمنزلة العلم من حيث إنه لا يجوز إطلاقه على غيره فإن إطلاق اسم العدد على غيره لا يجوز بطريق الحقيقة وهو ظاهر ولا بطريق المجاز لانسداد بابه إذ لا مناسبة بينه وبين غيره من الأعداد معنى إلا نسبة عامة وهي كون كل واحد عددا والنسبة العامة لا تصلح طريقا للمجاز ولا صورة إلا من حيث الجزء والكل وهو لا يصلح طريقا له أيضا هاهنا; لأن من شرطه أن يكون الجزء مختصا بالكل ليصح إطلاق اسم الكل على لازمه وهو الجزء المختص به وهاهنا ما دون الألف مثلا كما يصلح جزء الألف يصلح جزء الألفين ولثلاثة آلاف وغيرهما وهذه الجزئية لا تصلح طريقا للمجاز أيضا فثبت أنه لا يحتمل غيره. ألا ترى: توضيح لكون الاستثناء والتعليق تغبيرا فإنه لو صح على واحد من التعليق والاستثناء متراخيا كان ناسخا; لأن قوله أنت حر إذا صدر من الأهل في المحل غير معلق بالشرط ثبت موجبه وهو الحرية فلو صح إلحاق الشرط به بعد ذلك يرتفع الحكم الثابت بالتعليق فكان نسخا. وكذا قوله علي ألف درهم لفلان إذا لم يقترن به الاستثناء ثبت موجبه وهو وجوب تمام الألف فلو صح إلحاق الاستثناء به بعد تقرره كان نسخا للحكم في بعض الألف كما في التعليق فثبت أن في كل واحد منهما معنى التغيير, لكنه أي الاستثناء إذا اتصل بالكلام وهو استدراك من قوله كان تغييرا لبعضه منع بعض التكلم أي منع التكلم أن يكون إيجابا في البعض لا إن رفعه بعد الوجود فإنه لو رفع لكان نسخا. فكان: أي الاستثناء بيانا من حيث إنه بين أن البعض هو المراد من الكلام ابتداء فلذلك سمي بيان تغيير كالتعليق بالشرط, وذكر في التقويم أن قوله إلا مائة ليس(3/181)
ومنزلة الاستثناء مثل منزلة التعليق بالشرط إلا أن الاستثناء يمنع انعقاد التكلم إيجابا في بعض الجملة أصلا والتعليق يمنع الانعقاد لأحد الحكمين
ـــــــ
بتغيير للألف بل رد لبعضه فمن حيث قرر البقية كان بيانا ومن حيث رفع بعضه كان تغييرا, وما ذكر في بعض الشروح أنه سمي بيانا; لأنه يبين المراد ابتداء والكلام يحتمله; لأن إطلاق اسم الكل على البعض جائز, لا يوافق ما ذكره الشيخ أن الألف اسم علم لذلك العدد لا يحتمل غيره إلا بتأويل متكلف وهو أنه يحتمل البعض ولكن بشرط لحوق الاستثناء به فكان التحاقه به بيان أن المراد محتمله والصحيح في بيان الاحتمال ما أشار إليه الشيخ في بعض مصنفاته أن الاستثناء بيان; لأنه بين أن الإيجاب السابق غير موجب كل الألف كما يقتضيه ظاهر اللفظ ويحتمل أن لا يكون موجبا في الجملة بأن وجد من الصبي أو المجنون فلما احتمل صدر الكلام هذا وبالاستثناء تبين ذلك سميناه بيان التغيير لا تغييرا محضا. وذكر صدر الإسلام أبو اليسر رحمه الله أن تسمية الاستثناء والتعليق بيانا مجاز فإن الاستثناء في قوله لفلان علي ألف درهم إلا مائة يبطل الكلام في حق المائة فإن الألف اسم لعشر مئين حقيقة وكذلك الشرط في قوله إن دخلت الدار فأنت طالق يبطل كونه إيقاعا ويصيره يمينا. إلا أن في الاستثناء يبطل بعض الكلام وفي التعليق يبطل أصله بانقلابه يمينا والإبطال لا يكون بيانا حقيقة ألا ترى أن البيان هو الإظهار والألف ظاهر في عشر مئين وأنت طالق ظاهر في كونه إيقاعا فلا يتصور إظهارهما حقيقة فلم يكن الاستثناء ولا التعليق إظهارا حقيقة بل كان إبطالا ولكنه بيان مجازا من حيث إنه يبين أن عليه تسعمائة درهم لا ألف درهم وأنه يحلف ولا يطلق.
قوله "ومنزلة الاستثناء مثل منزلة التعليق بالشرط" فرق القاضي الإمام وشمس الأئمة رحمهما الله بين الاستثناء والتعليق فجعلا الاستثناء بيان تغيير والتعليق بيان تبديل قال شمس الأئمة التعليق تبديل من حيث إن مقتضى قوله لعبده أنت حر نزول العتق في المحل واستقراره فيه وأن يكون علة للحكم بنفسه فبذكر الشرط يتبدل ذلك كله; لأنه تبين أنه ليس بعلة تامة للحكم قبل الشرط وأنه ليس بإيجاب للعتق بل هو يمين وأن محله الذمة حتى لا يصل إلى العبد إلا بعد خروجه من أن يكون يمينا بوجود الشرط والاستثناء تغيير لمقتضى صيغة الكلام وليس بتبديل إنما التبديل أن يخرج كلامه من أن يكون إخبارا بالواجب أصلا فجمع الشيخ بينهما وقال منزلة الاستثناء في التغيير مثل منزلة التعليق فيه; لأن كل واحد منهما يمنع انعقاد الكلام عن الإيجاب إلا أن الاستثناء يمنع انعقاده في بعض الجملة أصلا حتى لا يبقى موجبا لذلك البعض في الحال ولا يحتمل أن يصير موجبا له في ثاني الحال والتعليق يمنع انعقاده لأحد الحكمين وهو الإيجاب في(3/182)
أصلا وهو الإيجاب ويبقى الثاني وهو الاحتمال فلذلك كانا من قسم واحد فكانا من باب التغيير دون التبديل.واختلفوا في كيفية عمل كل واحد منهما فقال
ـــــــ
الحال ولا يمنع عن صلاحيته لانعقاده علة في ثاني الحال وهو حال وجود الشرط. وهو معنى قوله ويبقى الثاني وهو الاحتمال أي احتمال صيرورته علة موجبة للحكم فلذلك أي لكون كل واحد منهما مانعا من الانعقاد كانا من قسم واحد فكانا من باب التغيير دون التبديل فإن التبديل هو النسخ قال الله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} [النحل: 101] وأنهما ليسا من النسخ في شيء إذ النسخ رفع بعد الوجود ولم يوجد ذلك فيهما وفي التحقيق هذا الاختلاف في العبارة دون المعنى. ثم الفرق بين الاستثناء والتعليق بالشرط أن تقديم الشرط على الجزاء وتأخيره عنه جائزان وتقديم الاستثناء على المستثنى منه في الإثبات لا يجوز حتى لو قال طلقت إلا زينب جميع نسائي أو أعتقت إلا سالما جميع عبدي أو قال إلا زينب جميع نسائي طوالق أو إلا سالما جميع عبيدي أحرار لا يصح الاستثناء ويطلق جميع النساء ويعتق جميع العبيد; لأن معنى الاستثناء جعل بعض الأشياء مصروفا عن المعنى الذي دخل فيه سائره فلو جاز تقديمه على المستثنى منه لبطل هذا المعنى بخلاف الشرط; لأن معناه وهو تعليق الجزاء به لا يبطل بالتقديم والتأخير, وبخلاف التقديم في الاستثناء عن النفي حيث يجوز حتى لو قال ما أعتقت إلا سالما أحدا من عبيدي أو ما طلقت إلا عائشة أحدا من نسائي يعتق سالم وتطلق عائشة دون غيرهما لعدم الإخلال بالمعنى فإن حذف المستثنى منه في النفي جائز وكان المستثنى في هذه الصورة منصوبا على الاستثناء لا على البدل; لأن البدل لا يكون قبل المبدل.
قوله "واختلفوا في كيفية عمل كل واحد منهما" أي من التعليق والاستثناء, وقد تقدم الكلام في التعليق, وهذا بيان الاستثناء فيتكلم أولا في تعريفه وشروطه. ثم في تقديره وتحقق معناه والكلام في تعريفه يتوقف على مقدمة وهي أن الاستثناء في المنقطع حقيقة أم مجاز فذهب بعض الأصوليين إلى أنه حقيقة فيه كما في المتصل فيكون مشتركا بينهما إما بالاشتراك المعنوي كاشتراك الحيوان بين الإنسان وغيره أو بالاشتراك اللفظي كاشتراك العين بين مفهوماته; لأن المتصل إخراج, وخاصة المنقطع مخالفة من غير إخراج فلا يشتركان فيما يصلح جعل اللفظ له, وقد أطلق اللفظ عليهما فكان مشتركا إذ الأصل في الإطلاق الحقيقة وذهب أكثرهم إلى أنه مجاز فيه وليس بحقيقة; لأن اللفظ الدال على الشيء لا يدل على خلاف جنس مسماه واللفظ إذا لم يدل على شيء لا يحتاج إلى صارف يصرفه عنه فينبغي أن لا يصح الاستثناء إلا أنه إنما صح بإضمار في المستثنى(3/183)
أصحابنا الاستثناء يمنع التكلم بحكمه بقدر المستثنى فيجعل تكلما بالباقي بعده, وقال الشافعي رحمه الله إن الاستثناء يمنع الحكم بطريق المعارضة بمنزلة دليل الخصوص.كما اختلفوا في التعليق على ما سبق وقد دل على هذا
ـــــــ
منه كما في قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ِلَّا إِبْلِيسَ} [الحجر: 30] فإن معناه عند من قال لم يكن إبليس من جنس الملائكة فسجد الملائكة ومن أمر بالسجود إلا إبليس أو في المستثنى كما في قولك له علي مائة إلا دينارا أي إلا مقدار مائة دينار أو بتأويل إلا بجعله بمعنى لكن فكان مجازا والدليل عليه سبق الفهم إلى المتصل من غير قرينة وتوقفه في المنقطع على قرينة ألا ترى أنه مأخوذ من ثنيت عنان الفرس إذا عطفته وصرفته عند أهل اللغة ولا عطف ولا صرف إلا في المتصل إذ الجملة الأولى في المنقطع باقية على حالها لم تتغير., ولا يمكن حمل اللفظ على الاشتراك المعنوي كما قالوا; لأنه يؤدي إلى جواز استثناء كل شيء بطريق الحقيقة لوجود الاشتراك في الأشياء معنى بوجه من الوجوه, وذلك خلاف كلام العرب ولا على الاشتراك اللفظي مع إمكان حمله على المجاز في المنقطع; لأن الحمل على الأغلب وهو المجاز خصوصا عند قيام الدلالة أولى ولأنه لا يؤدي إلى إبهام المراد; لأن المجاز لا يخلو عن قرينة دالة على المراد بخلاف الاشتراك, ثم حده عند من قال بالاشتراك المعنوي هو ما دل على مخالفة بإلا غير الصفة أو إحدى أخواتها واحترز بقوله غير الصفة عن إلا التي هي صفة وهي التي كانت تابعة لجمع منكر غير محصور أي لجمع لا يدخل فيه المستثنى لو سكت عن الاستثناء نحو قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء 22] وبقوله بإلا أو إحدى أخواتها, عن المخالفة بغيرها مثل قوله جاءني القوم ولم يجئ زيد لا عمرو وأمثالهما فإنها ليست باستثناء وعند من قال بالاشتراك أو بالمجاز لا يمكن أن يجتمعا في حد واحد; لأن أحدهما مخرج من حيث المعنى والآخر ليس بمخرج فتعذر جمعهما بحد واحد; لأن كل أمرين فصل أحدهما مفقود في الآخر يستحيل جمعهما في حد واحد وتمحل بعضهم للجمع على هذا القول فقال هو المذكور بإلا أو إحدى أخواتها مخرجا أو غير مخرج وعلى تقدير التعذر قيل في المنقطع هو ما دل على مخالفة بإلا غير الصفة أو إحدى أخواتها من غير إخراج, وفي المتصل هو إخراج بإلا أو إحدى أخواتها ويقرب منه عبارة ابن الحاجب في المتصل هو لفظ أخرج به شيء من شيء بإلا وأخواتها وفي المنقطع هو لفظ من ألفاظ الاستثناء لم يرد به إخراج سواء كان من جنس الأول أو من غير جنسه فلو قلت جاء القوم إلا زيدا وزيد ليس من القوم كان منقطعا. وذكر الغزالي رحمه الله هو قول ذو صيغ مخصوصة محصورة دل على أن المذكور به لم يرد بالقول الأول(3/184)
---------------------------------------------------------
ـــــــ
قال واحترزنا بقولنا ذو صيغ محصورة عن قوله رأيت المؤمنين ولم أر زيدا فإن العرب لا تسميه استثناء وإن أفاد ما يفيد قولنا إلا زيدا, وقيل هو لفظ لا يستقل بنفسه متصل بجملة بإلا أو إحدى أخواتها دال على أن مدلوله غير مراد مما اتصل به
أما شروطه فثلاثة: أحدها الاتصال وقد بيناه.
والثاني أن يكون المستثنى داخلا في الكلام لولا الاستثناء كقولك رأيت القوم إلا زيدا وزيد منهم ورأيت عمرا إلا وجهه, فإن لم يكن داخلا كان الاستثناء منقطعا ولا يكون استثناء حقيقة فكان هذا الشرط لكونه حقيقة لا لصحته.
والشرط الثالث أن لا يكون مستغرقا; لأنه إذا كان مستغرقا كان رجوعا لا استثناء كذا قيل, وهذا ليس بصحيح; لأن استثناء الكل فيما يصح الرجوع عنه باطل أيضا مثل أن يقول أوصيت لفلان بثلث مالي إلا ثلث مالي كان الاستثناء باطلا والصحيح أنه إنما لا يجوز; لأن الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا وفي استثناء الكل لا يتوهم بقاء شيء بجعل الكلام عبارة عنه, وهذا بلا خلاف وإنما الخلاف في الاستثناء المساوي والأكثر نحو قوله علي عشرة إلا خمسة أو إلا ستة إلى تسعة فذهبت العامة إلى جوازهما وذهبت الحنابلة والقاضي أبو بكر الباقلاني إلى منعهما وذهب الفراء وابن درستويه1 إلى المنع في الأكثر خاصة; لأن العرب تستقبح استثناء الأكثر وتستهجن قول القائل رأيت ألفا إلا تسعمائة وتسعة وتسعين, وإذا ثبت كراهتهم واستثقالهم ثبت أنه ليس من كلامهم, واحتجت العامة بقوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} " الحجر: 42" وهو استثناء الأكثر بدليل قوله عز وجل: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103] {وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 107] {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} [هود: 17" فدل على الجواز, وبقوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً ِصْفَهُ} [المزمل: 2], ولما جاز استثناء النصف جاز استثناء الأكثر أيضا; لأنه لا فرق بينهما في أن كل واحد منهما ليس بأقل وقولهم هو مستقبح ممنوع بل استثقال وليس باستقباح ولئن سلمنا فالاستقباح لا يمنع الصحة كقوله علي عشرة إلا تسع سدس ربع درهم فإنه مع كونه في غاية الاستقباح يصح., وأما بيان موجبه فهو أن الاستثناء يمنع التكلم بحكمه أي مع حكمه بقدر المستثنى فيجعل تكلما بالباقي بعد
ـــــــ
1 هو عبدالله بن جعفر بن درستويه بن المزربان الفارسي النشوي النحوي واللغوي. المتوفي سنة 347هـ ، أنظر البداية والنهاية 11/233.(3/185)
--------------------------------------------------------
ـــــــ
الاستثناء وينعدم الحكم في المستثنى لعدم الدليل الموجب له مع صورة التكلم به بمنزلة الغاية فيما يقبل التوقيت فإن الحكم ينعدم فيما وراء الغاية لعدم الدليل الموجب له لا لأن الغاية توجب نفي الحكم فيما وراءها وعند الشافعي رحمه الله موجبه امتناع الحكم في المستثنى لوجود المعارض كامتناع ثبوت حكم العام فيما خص منه لوجود المعارض صورة وهو دليل الخصوص وأصل الخلاف في التعليق بالشرط وإليه أشار الشيخ بقوله كما اختلفوا في التعليق بالشرط فإن التعليق عنده لا يخرج الكلام من أن يكون إيقاعا بل يمتنع وقوعه لمانع وهو التعليق أو عدم الشرط فكذلك الاستثناء وعندنا التعليق يخرج الكلام من أن يكون إيقاعا ويمتنع ثبوت الحكم في المحل لعدم العلة مع صورة التكلم بها فكذا الاستثناء فإذا قال لفلان علي ألف إلا مائة صار عنده كأنه قال إلا مائة فإنها ليست علي فلا تلزمه المائة للدليل المعارض لأول كلامه لا; لأنه يصير بالاستثناء كأنه لم يتكلم به, وصار عندنا كأنه قال لفلان علي تسعمائة وأنه لم يتكلم بالألف في حق لزوم المائة وكأن الغزالي مال إلى هذا القول فإنه ذكر في المستصفى أن كل واحد من الشرط والاستثناء يدخل على الكلام فيغيره عما كان يقتضيه لولا الشرط والاستثناء فيجعله متكلما بالباقي لا أنه يخرج من كلامه ما دخل فيه فإنه لو دخل فيه لما خرج
نعم كان يقبل القطع في الدوام بطريق النسخ فأما رفع ما سبق دخوله في الكلام فمحال. قال فإن قيل قوله اقتلوا المشركين إلا أهل الذمة أو إن لم يكونوا ذميين يتناول الجميع لكن خرج أهل الذمة بإخراجه بالشرط والاستثناء قلنا هو كذلك لو اقتصر عليه ولذلك يمتنع الإخراج بالشرط والاستثناء منفصلا ولو قدر على الإخراج لم يفرق بين المتصل والمنفصل ولكن إذا لم يقتصر وألحق به ما هو جزء منه وإتمام له غير موضوع الكلام وجعله كالناطق بالباقي ودفع دخول البعض, ومعنى الدفع أنه كان يدخل لولا الشرط والاستثناء فإذا ألحقا قبل الوقوف دفعا. وذكر ابن الحاجب في شرح المفصل أن عقلية الاستثناء يعني معقوليته مشكلة; لأن في قول الرجل جاءني القوم إلا زيدا إن قلنا زيد غير داخل في القوم لم يستقم لإجماع أهل اللغة في الاستثناء المتصل أنه إخراج ما بعد إلا مما قبلها وإجماعهم مقطوع به في تفاصيل العربية. ولأنا قاطعون إذا قال العربي له عندي دينار إلا ثمنا ونصف ثمن بأن يحسب المذكور بعد إلا, ثم يخرجه من الدينار, ثم يقطع بأن القدر بعده هو الباقي وإن قلنا هو داخل فيهم فكذلك; لأن المتكلم إذا قال جاء القوم وزيد منهم فقد وجب نسبة المجيء إليه; لأنه منهم فإذا أخرج بعد ذلك فقد نفي عنه المجيء فيصير مثبتا منفيا باعتبار واحد فيؤدي إلى أن لا يكون الاستثناء في كلام إلا وهو كذب من(3/186)
الأصل مسائلهم فصار عندنا تقدير قول الرجل لفلان علي ألف درهم إلا مائة لفلان علي تسعمائة وعنده إلا مائة فإنها ليست علي وبيان ذلك أنه جعل قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} فلا تجلدوهم واقبلوا شهادتهم وأولئك هم الصالحون غير فاسقين وكذلك قال في قول النبي عليه السلام: "لا تبيعوا
ـــــــ
أحد الطرفين وهو باطل فإن القرآن مشتمل عليه. قال والصواب الذي يجمع رفع الإشكالين أن يقول لا يحكم بالنسبة إلا بعد كمال ذكر المفردات في كلام المتكلم فإذا قال المتكلم قام القوم إلا زيدا فهم القيام أولا بمفرده وفهم القوم بمفرده وأن منهم زيدا وفهم إخراج زيد منهم بقوله إلا زيدا, ثم حكم بنسبة القيام إلى هذا المفرد الذي أخرج منه زيد فحصل الجمع بين المسالك المقطوع بها على وجه يستقيم وهو أن الإخراج حاصل بالنسبة إلى المفردات وفيه توقية بإجماع النحويين وتوقية بأنك ما نسبت إلا بعد أن أخرجت زيدا فلا يؤدي إلى المناقضة المذكورة فاستقام الأمر في الوجهين جميعا.
قوله "وقد دل على هذا الأصل مسائلهم" يعني دل على الاختلاف المذكور أجوبة الفريقين في المسائل التي تتعلق بالاستثناء قال القاضي الإمام ولنا ولهم مسائل تدل على المذهبين أو دل على أن الاستثناء يعمل بطريق المعارضة عند الشافعي وأصحابه جوابهم في المسائل المتعلقة بالاستثناء يعني ما ذكرنا من الأصل ليس بمنقول عن السلف أو عن الشافعي نصا وإنما يستدل عليه بالمسائل., وبيان ذلك أي بيان أن المسائل تدل على ما ذكرنا أن الشافعي رحمه الله جعل قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} معارضا لصدر الكلام فقال إنه تعالى استثنى التائبين من جملة القاذفين فيكون هذا إثبات حكم على خلاف ما أثبته صدر الكلام بطريق المعارضة وصدر الكلام أمر بالجلد ونهي عن قبول الشهادة وتسمية بالفسق فيصير الاستثناء نفيا على خلافه ويصير كأنه قال إلا التائبين فإنهم ليسوا بفاسقين وتقبل شهادتهم ولا يجلدون فيبقى صفة الفسق ورد الشهادة به وكان ينبغي أن يسقط الجلد بالتوبة أيضا كرد الشهادة إلا أن رد الشهادة من حقوق الله تعالى فيشترط للسقوط التوبة إليه لا غير, فإذا تاب سقط كما إذا تاب عن شرب الخمر ونحوه وحد القذف خالص حق العبد أو حق العبد فيه غالب على أصل الشافعي رحمه الله حتى يجري فيه التوارث والعفو عنده فيشترط في سقوطه التوبة إلى العبد بعد التوبة إلى الله تعالى فلا يسقط بمجرد التوبة إلى الله عز وجل كالمظالم لا تسقط بمجرد التوبة إلى الله تعالى بدون إرضاء أربابها حتى إذا تاب إلى المقذوف واعتذر فعفا عنه المقذوف سقط أيضا كالقصاص.
قوله "وكذلك" أي كما جعل الاستثناء معارضا في هذه الآية جعله معارضا في(3/187)
الطعام بالطعام إلا سواء بسواء" إن معناه بيعوا سواء بسواء فبقي صدر الكلام عاما في القليل والكثير; لأن الاستثناء عارضه في المكيل خاصة وخصوص دليل المعارضة لا يتعدى مثل دليل الخصوص في العام وذلك مثل قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ} [البقرة: 237] هذا دليل معارض لبعض الصدر
ـــــــ
هذا الحديث وهو قوله عليه السلام "لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء" فإن معناه عنده لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا طعاما مساويا بطعام مساو فإن لكم أن تبيعوهما. أو معناه إلا سواء بسواء فإنهما إذا صارا متساويين جاز لكم أن تبيعوهما أثبتت حرمة البيع بصدر الكلام عامة في القليل والكثير أعني ما يدخل تحت الكيل وما لا يدخل فيه مثل الحفنة والحفنتين; لأن الطعام اسم جنس, وقد دخله لام التعريف فاستغرق الجميع فلما استثنى المساوي امتنع الحكم فيه بالمعارضة فيبقى ما وراءه داخلا تحت الصدر, ثم المراد من التساوي المساواة في الكيل بالاتفاق فيثبت المعارضة في المكيل خاصة فبقي بيع الحفنة بالحفنة وبالحفنتين داخلا في صدر الكلام فيحرم.
وقوله وخصوص دليل المعارضة لا يتعدى جواب سؤال وهو أن الاستثناء وإن عارض الصدر في المكيل على الخصوص بصيغته يحتمل أن يتعدى الحكم عنه بالتعليل فيثبت المعارضة حينئذ في غير المكيل فيثبت الجواز في بيع الحفنة عند التساوي كما يتعدى الحكم عن المخصوص إلى غيره بتعليل دليل الخصوص فقال خصوص دليل المعارضة يعني الدليل الذي ثبت به المعارضة وهو الاستثناء إذا كان خاصا لا يزول خصوصه بتعدي حكمه إلى غيره; لأنه لا يقبل التعليل كما يقبله دليل الخصوص في العام لعدم استقلاله بنفسه في إفادة المعنى بخلاف دليل الخصوص في العامة فإنه مستقل بنفسه فيقبل التعليل ومثل يقرأ بالنصب على المصدر لا بالرفع. وبعضهم قرأه بالرفع وزعم أن معناه أن دليل المعارضة خاص بصيغته فلا يتعدى إلى غير ما تناوله إذ لو تعدى لصار عاما كما أن دليل الخصوص لا يتعدى عن المخصوص نصا إلا بطريق التعليل لكن الفرق أن دليل المعارضة لا يتعدى ما تناوله بنفسه ولا بالتعليل إذ يلزم منه معارضة التعليل النص وهي باطلة, فأما دليل الخصوص فمبين لوجود حد البيان فيه وهو أن يظهر به ابتداء وجود الشيء فكان قابلا للتعليل, وهذا كله وهم والمعنى هو الأول, وذلك مثل قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} أي خصوص الاستثناء وعموم الصدر في هذا الحديث مثل خصوص الاستثناء وعموم الصدر في قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} فإنه تعالى أوجب على الأزواج نصف المفروض في الطلاق قبل الدخول في جميع المطلقات بقوله: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] فيدخل في(3/188)
وهو في حق من يصح منه العفو فبقي فيما لا معارضة فيه, وقال في رجل قال لفلان علي ألف درهم إلا ثوبا إنه يسقط من الألف قدر قيمته; لأن دليل المعارضة يجب العمل به على قدر الإمكان وذلك ممكن في القيمة واحتج في المسألة بالإجماع ودلالته وبالدليل المعقول
ـــــــ
عمومه العاقلة والمجنونة والصغيرة والكبيرة, ثم استثنى حالة العفو بقوله عز اسمه {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} أي إلا أن يعفون فيسقط الكل فيثبت المعارضة به في حق الكبيرة العاقلة التي يصح منها العفو دون المجنونة أو الصغيرة التي لا يصح العفو منهما فكان الاستثناء معارضا لبعض صدر الكلام لا لجميعه فبقي الصدر فيما لا يعارضه فيه على ما كان ويختص السقوط بالعفو بالعاقلة الكبيرة التي يصح العفو منها إلا أن تعفو المطلقات عن أزواجهن فلا يطالبنهم بنصف المهر وتقول المرأة ما رآني وما استمتع بي فكيف آخذ منه شيئا. {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} أي الولي الذي يلي عقد نكاحهن وهو مذهب الشافعي أو الزوج فإن إمساك العقدة وحلها بالطلاق بيده واللام في النكاح بدل الإضافة أي نكاحه أي أو أن يتفضل الزوج بإعطاء الكل صلة لها وإحسانا فيقول قد نسبت إلي بالزوجية فلا يليق بالمروءة استرداد شيء من مهرها يعني الواجب شرعا هو النصف إلا أن تسقط هي الكل أو يعطي هو الكل فإيجاب النصف إنصاف الشريعة وتركها وبذله من أخلاق الطريقة. قال صاحب الكشاف وتسمية الزيادة على الحق عفو باعتبار أن الغالب كان فيهم سوق المهر إليها عند التزوج فإذا كان طلقها استحق أن يطالبها بنصف ما ساق إليها فإذا ترك المطالبة فقد عفا عنها وقال في رجل قال لفلان علي ألف درهم إلا ثوبا إن الاستثناء صحيح ويسقط من الألف قدر قيمة الثوب; لأن معناه إلا ثوبا فإنه ليس علي من الألف; لأنه ليس بيانا إلا هكذا, ثم الدليل المعارض وهو الاستثناء واجب العمل بقدر الإمكان إذ لو لم يعمل به صار لغوا والأصل في كلام العاقل أن لا يكون كذلك, فإن كان المستثنى من جنس المستثنى منه يمكن إثبات المعارضة في عين المستثنى والإمكان هاهنا في أن يجعل نفيا لقدر قيمة الثوب لا لعينه فيجب العمل به كما قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله في قول الرجل لفلان علي ألف إلا كر حنطة أنه يصرف إلى قيمة الكر تصحيحا للاستثناء بقدر الإمكان. قال ولو كان الكلام عبارة عما وراء المستثنى كما قلتم ينبغي أن يلزمه الألف كاملا; لأن مع وجوب الألف عليه نحن نعلم أنه لا كر عليه فكيف يجعل هذا عبارة عما وراء المستثنى والكلام لم يتناول المستثنى أصلا فظهر أن الطريق فيه ما قلنا هذا بيان المسائل التي يظهر أثر الخلاف فيها على ما ذكر في كتب أصحابنا ولكنهم ينكرون هذا الأصل ويخرجون هذه المسائل على أصول(3/189)
أما الإجماع فإن أهل اللغة أجمعوا أن الاستثناء من الإثبات نفي ومن النفي إثبات وهذا إجماع على أن للاستثناء حكما وضع له يعارض به حكم المستثنى
ـــــــ
أخر فيقولون رد الشهادة بناء على أن الاستثناء إذا تعقب جملا معطوفة بعضها على بعض يرجع إلى الجميع عندنا إذا لم يمنع عنه مانع كما إذا تعقبها أو تقدمها شرط. أو بناء على أن قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] في معنى التعليل لعدم القبول أي ولا تقبلوا شهادتهم; لأنهم فاسقون وبالتوبة ينتفي الفسق فيثبت القبول لزوال المانع على أن الاستثناء معارضة. وكذا بقاء صدر الكلام على العموم في الحديث متناولا لحرمة بيع الحفنة بالحفنة ليس بناء على أن الاستثناء فيه بطريق المعارضة بحيث لو لم يجعل معارضا لا يثبت هذه الحرمة بل لو جعل تكلما بالباقي يثبت هذه الحرمة أيضا; لأن قوله عليه السلام "لا تبيعوا الطعام بالطعام" لما تناول القليل والكثير, ثم استثنى المساوي من الجميع بقي تكلما بالباقي وهو القليل والكثير الذي ليس بمساو لبدله وصار كأنه قال لا تبيعوا الطعام القليل بالطعام ولا الكثير بما ليس بمساو له, وكذا صحة الاستثناء في قوله علي ألف إلا ثوبا ليست مبنية على الاستثناء معارضة أيضا بل هي مبنية على أن الاستثناء المتصل حقيقة والاستثناء المنقطع مجاز فمهما أمكن حمل الاستثناء على الحقيقة وجب حمله عليها إذ الأصل في الكلام هو الحقيقة ومعلوم أنه لا بد في الاستثناء المتصل من المجانسة فوجب صرف الاستثناء إلى القيمة ليثبت المجانسة ويتحقق الاستخراج كما هو حقيقته ألا ترى أنه لا يمكن جعله معارضة إلا بهذا الطريق إذ لا بد لها من اتحاد المحل أيضا, وإذا وجب رد الثوب إلى القيمة تصحيحا للاستثناء لا ضرورة إلى جعله معارضة بل يجعل عبارة عما وراء المستثنى فيثبت بما ذكرنا أن هذه المسائل لا تدل على كون الاستثناء معارضة. ويؤيده ما ذكر في الميزان أن بعض مشايخنا قالوا الاستثناء يعمل بطريق البيان عندنا وعند الشافعي رحمه الله بطريق المعارضة ولا نص فيه عن الشافعي ولكنهم استدلوا على الخلاف بمسائل ولكن الصحيح أنه لا خلاف بين أهل الديانة أنه بطريق البيان لا بطريق المعارضة; لأنه خلاف إجماع أهل اللغة فإنهم قالوا الاستثناء استخراج بعض ما تكلم به وقالوا أيضا الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا والمعارضة قد تكون بين الحكمين المتضادين مع بقاء الكلام وهو غير استخراج بعض الكلام والتكلم. وقال وإنما حمل هؤلاء على جعل هذه المسألة مختلفة إشكالات يتراءى أنه من باب المعارضة وليس كذلك.
قوله "إن أهل اللغة أجمعوا على أن الاستثناء من الإثبات نفي ومن النفي إثبات" فلو لم يكن له موجب على خلاف الأول لما جعلوه كذلك فثبت أن الاستثناء حكما على ضد(3/190)
منه. وأما الثاني فلأن كلمة التوحيد لا إله إلا الله وهي كلمة وضعت للتوحيد ومعناه النفي والإثبات فلو كان تكلما بالباقي لكان نفيا لغيره لا إثباتا له فصح لما كانت كلمة التوحيد أن معناها إلا الله فإنه إله وكذلك لا عالم إلا زيد فإنه عالم, وأما الثالث فإنا نجد الاستثناء لا يرفع التكلم بقدره من صدر الكلام وإذا بقي التكلم صيغة بقي بحكمه فلا سبيل إلى رفع التكلم بل يجب المعارضة بحكمه فامتناع الحكم مع قيام التكلم سائغ, فأما انعدام التكلم مع وجوده مما
ـــــــ
موجب أصل الكلام يعارض الاستثناء بذلك الحكم حكم المستثنى منه, أو الراء بالفتح أي يعارض بذلك الحكم حكم المستثنى منه إلا أنه لم يذكر اختصارا لدلالة الصدر عليه, وقد نص عليه في بعض المواضع قال الله تعالى: {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الأعراف: 11] وفي موضع: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 31] {لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [العنكبوت:ٍ 32]ولهذا اتفق الفقهاء على أن لو قال لفلان علي عشرة دراهم إلا ثلاثة إلا درهمين يلزمه تسعة; لأن الاستثناء الأول من الإثبات فكان نفيا والاستثناء الثاني من النفي فكان إثباتا.
وأما الثاني وهو التمسك بدلالة الإجماع فهو أن كلمة الشهادة وهي كلمة لا إله إلا الله كلمة توحيد بالإجماع وهي مشتملة على النفي والإثبات فقوله لا إله نفي للألوهية عن غير الله وقوله إلا الله إثبات الألوهية لله عز وجل وبهاتين الصفتين صارت كلمة الشهادة والتوحيد, وعلى ما ذكرتم لا تبقى كلمة التوحيد; لأن الاستثناء إذا جعل داخلا على التكلم ليمنع البعض صار كأنه لم يتكلم بالإثبات وإنما تكلم بالنفي على الإطلاق أي بنفي الألوهية عن غير الله لا بإثبات الألوهية له عز وجل, وذلك لا يكون توحيدا. ولا يعني به نفي ما هو ثابت أو إثبات ما لم يكن; لأن غير الله لم يكن إلها ولا يكون والله تعالى إله أزلا وأبدا وإنما يعني بالنفي التبرؤ عن غير الله وبالإثبات الإقرار بالوحدانية له تعالى فتبين بما ذكرنا أن معنى التوحيد إنما يتحقق في هذه الكلمة إذا جعل معناه إلا الله فإنه إله وكذلك لا عالم إلا زيد أي ومثل التقدير المذكور في كلمة التوحيد التقدير في قوله لا عالم إلا زيد; لأن معناه فإنه عالم إذ المقصود من هذا الكلام مدح زيد بأنه عديم النظير في العلم ولا يتحقق هذا المقصود إلا بهذا التقدير ولو جعل تكلما بالباقي لا يحصل هذا الغرض أصلا; لأن نفي العلم عن غيره يصير مقصودا حينئذ لا إثبات العلم له.
وأما الثالث وهو الدليل فهو أن الاستثناء لا يرفع التكلم بقدر المستثنى حقيقة; لأن الكلام بعدما وجد حقيقة يستحيل القول بكونه غير موجود حقيقة, وإذا نفي التكلم صيغة(3/191)
لا يعقل واحتج أصحابنا رحمهم الله بالنص والإجماع والدليل المعقول أيضا أما النص فقوله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت: 14] وسقوط الحكم بطريق المعارضة في الإيجاب يكون لا في الإخبار فبقاء التكلم بحكمه في الخبر لا يقبل الامتناع بمانع.
ـــــــ
نفي بحكمه إذا لم يمنع عنه مانع; لأن بقاء الدليل يدل على بقاء المدلول فعرفنا أنه لا سبيل إلى القول بارتفاع التكلم بالاستثناء; لأنه يؤدي إلى إنكار الحقائق فيجب القول بامتناع الحكم بالعارضة بين الاستثناء وصدر الكلام في القدر المستثنى مع قيام التكلم حقيقة. وامتناع الحكم لمانع مع بقاء التكلم سائغ كالبيع بشرط الخيار والطلاق المضاف وكالعام المخصوص منه يمتنع حكمه في القدر المخصوص لوجود المعارض صورة وهو دليل الخصوص لا لعدم التكلم بالدليل الموجب فأما القول بعدم التكلم مع وجوده حقيقة فغير معقول ولا نظير له, ثم المعارضة قد تقع بجنس الأول وبخلاف جنسه كما في المعارضات بين الحجج كلها وإنما الشرط لصحة المعارضة أن يكون بين المتعارضين تدافع, وقد وجد فإن صدر الكلام للإيجاب والاستثناء للنفي أو على العكس فيتدافع الحكم في قدر المعارضة, فإن كان من جنس الأول بطل بقدر المعارضة بلا اعتبار معنى وإن كان من خلاف جنسه احتيج إلى اعتبار المعنى كما يقولون إن عقد الارتهان عقد استيفاء للدين, فإن كان الرهن من جنس الدين يصير عين الرهن مستوفى بالدين عند حلول الأجل وإن كان من خلاف جنسه يصير المعنى منه مستوفى إذا هلك أو بيع بالدين على أصلي كذا في الأسرار.
قوله "واحتج أصحابنا بالنص والإجماع والدليل المعقول أيضا" فقوله أيضا راجع إلى الإجماع والدليل المعقول لا إلى النص فإن الخصم لم يمسك به أو معناه أن أصحابنا احتجوا بحجج ثلاث كما أنه تمسك بشبه ثلاث. أما النص فقوله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} أنه تعالى استثنى الخمسين عن الألف في الإخبار عن لبث نوح في قومه قبل الطوفان فلو كان عمل الاستثناء بطريق المعارضة لما استقام الاستثناء في الأخبار ولاختص بالإيجاب كدليل الخصوص, وذلك لأن صحة الخبر بناء على وجود المخبر به في الزمان الماضي والمنع بطريق المعارضة إنما يتحقق في الحال لا في الزمان الماضي.
وكذا في الإخبار عن أمر في المستقبل لا يتصور المنع بطريق المعارضة أيضا; لأنه ليس بموجود فثبت أن جعله معارضا لا يستقيم في الأخبار; لأن التكلم لما بقي بحكمه لا(3/192)
وأما الإجماع فقد قال أهل اللغة قاطبة إن الاستثناء استخراج وتكلم بالباقي بعد الثنيا وإذا ثبت الوجهان وجب الجمع بينهما فقلنا إنه استخراج وتكلم بالباقي بوضعه وإثبات ونفي بإشارته على ما نبين إن شاء الله تعالى, وأما الدليل المعقول فوجوه أحدها أن ما يمنع الحكم بطريق المعارضة استوى فيه البعض والكل
ـــــــ
يقبل الامتناع بمانع بخلاف الإيجاب; لأنه إثبات في الحال فإذا عارضه مانع يحتمل أن لا يثبت ألا ترى أنه لو ثبت حكم الألف بجملته في قوله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ} ثم عارضه الاستثناء في الخمسين لزم كونه نافيا لما أثبته أو لا فلزم الكذب في أحد الأمرين إما الأول أو الثاني تعالى الله عن ذلك ولزم أيضا إطلاق اسم الألف على ما دونه واسم الألف لا ينطلق على ما دونه بوجه, وقوله فبقاء التكلم بحكمه في الخبر لا يقبل الامتناع لمانع جواب عن قوله فامتناع الحكم مع قيام التكلم سائغ.
وأما الإجماع فهو أن أهل اللغة قاطبة أي جميعا قالوا إن الاستثناء استخراج وتكلم بالباقي بعد الثنيا كما قالوا الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي, وإذا ثبت الوجهان أي ما قالوا إنه استخراج وتكلم بالباقي وإنه إثبات ونفي وجب الجمع بينهما; لأنه هو الأصل فقلنا إنه استخراج وتكلم بالباقي بوضعه أي بحقيقته وإثبات ونفي بإشارة; لأن الإثبات والنفي غير مذكورين في المستثنى قصدا لكن لما كان حكمه على خلاف حكم المستثنى منه ثبت ذلك ضرورة الاستثناء; لأن حكم الإثبات يتوقف بالاستثناء كما يتوقف بالغاية فإذا لم يبق بعده ظهر النفي لعدم علة الإثبات فسمي نفيا مجازا ومعنى الاستخراج أنه يستخرج به بعض نص الكلام عن أن يكون موجبا ويجعل الكلام عبارة عما وراء المستثنى لا أنه يستخرج به بعض حكم الجملة بعد ثبوت الكلام, وهذا; لأن الاستثناء بيان بالاتفاق وإنما يكون بيانا إذا جعل المستثنى غير ثابت من الأصل كالتخصيص لما كان بيانا لم يكن المخصوص ثابتا من الأصل إلا أن الاستثناء تعرض للكلام فيتبين به أن بعضه غير ثابت والتخصيص تعرض للحكم بنص آخر بخلافه.
قوله "أحدها" أي أحد وجوه المعقول أن ما يمنع الحكم بطريق المعارضة يستوي فيه البعض والكل كالنسخ فإن نسخ الكل جائز كنسخ البعض ولم يستو البعض والكل هاهنا فإن الاستثناء المستغرق باطل كما ذكرنا فعرفنا أنه ليس بمعارضة وتصرف في الحكم بل هو تصرف في الكلام بجعله عبارة عما وراء المستثنى ألا ترى أنه لو تصور بعد الاستثناء بقاء شيء يجعل الكلام عبارة عنه صح الاستثناء وإن لم يبق من الحكم شيء(3/193)
كالنسخ. والثاني أن دليل المعارضة ما يستقل بنفسه مثل الخصوص والاستثناء قط لا يستقل بنفسه وإنما يتم بما قبله فلم يصلح معارضا لكنه لما كان لا يجوز الحكم ببعض الجملة حتى يتم كما لا يجوز ببعض الكلمة حتى ينتهي احتمل وقف أول الكلام على آخره حتى يتبين بآخره المراد بأوله وهذا الإبطال مذهب الخصم والثالث لتصحيح ما قلنا وبيان ذلك أن وجود التكلم ولا
ـــــــ
بأن قال عبيدي أحرار إلا سالما وبزيعا وفرقدا وليس له عبد سواهم أو قال نسائي طوالق إلا زينب وعمرة وفاطمة وليس له امرأة غيرهن فإن الاستثناء يصح ولو كان تصرفا في الحكم بطريق المعارضة لم يصح; لأنه يصير استثناء الكل من الكل., ولا يلزم على ذكرنا دليل الخصوص فإنه يعمل بطريق المعارضة, ثم لم يستو البعض والكل فيه حتى جاز تخصيص البعض ولم يجز تخصيص الكل; لأنه إنما يعمل بطريق المعارضة باعتبار سنة النسخ ومن هذا الوجه استوى فيه الكل والبعض حتى جاز نسخ الكل كنسخ البعض ولكنه بيان باعتبار شبه الاستثناء ولا يستقيم أن يكون بيانا بعد تخصيص الكل فلذلك امتنع تخصيصه.
والثاني أي من وجوه المعقول أن دليل المعارضة ما يستقل بنفسه أي يستبد في إفادة المعنى ولا يفتقر إلى شيء آخر مثل دليل الخصوص; لأنه إذا لم يستقل لا يصلح دافعا للحكم الثابت بالكلام المستقل والاستثناء قط لا يستقل بنفسه يعني على المذهبين بمنزلة الغاية لافتقاره في إفادة المعنى بأول الكلام أما عندنا فلأن قوله إلا مائة لا تفيد شيئا بدونه. وأما عند الشافعي فلأنه لو قال ابتداء إلا مائة فإنها ليست علي لا يكون مفيدا أيضا, وإذا كان كذلك لا يصلح أن يكون معارضا لفوات شرط المعارضة وهو تساوي المتعارضين في ذاتيهما في القوة بخلاف دليل الخصوص فإنه لاستقلاله بنفسه يصلح أن يكون معارضا وعبارة بعض المشايخ أن الاستثناء لا يقوم بنفسه وإنما يقوم بصدر الكلام فكان تبعا لغيره والتبع لا يعارض الأصل بالإجماع وقوله ولكنه أي الاستثناء جواب عما يقال لما كان غير مستقل بنفسه ولم يصلح معارضا ينبغي أن لا يكون له تأثير في الكلام بل يثبت موجب أول الكلام قبل التكلم به ولا يتوقف عليه. فقال لما لم يكن مستقلا بنفسه وكان قائما بالأول بمنزلة جزء منه والحكم ببعض الجملة قبل تمامها لا يجوز; لأن الكلام يتم بآخره وبه يتبين مقصود المتكلم كما لا يجوز الحكم ببعض الكلمة قبل تمامها, احتمل الكلام التوقف على آخره ليتبين المراد بأوله خصوصا إذا احتمل التغير بآخره كالتعليق بالشرط وقوله احتمل مسند إلى الضمير الراجع إلى الكلام معنى فإن الجملة في قوله ببعض الجملة في تأويل الكلام والكلام في قوله وقف أول الكلام من قبيل إقامة المظهر مقام المضمر أي لما لم يجز الحكم ببعض الكلام حتى يتم احتمل(3/194)
حكم له أصلا ولا انعقاد له بحكمه أصلا سائغ مثل الامتناع بالمعارض بالإجماع مثل طلاق الصبي وإعتاقه وإنما الشأن في الترجيح, وبيانه أن الاستثناء متى جعل معارضا في الحكم بقي التكلم بحكمه في صدر الكلام ثم لا يبقى من الحكم إلا بعضه وذلك لا يصلح حكما لكل التكلم بصدره ألا ترى أن الألف اسم علم له لا يقع على غيره ولا يحتمله لا يجوز أن يسمى التسعمائة ألفا بخلاف دليل الخصوص; لأنه إذا عارض العموم في بعض بقي الحكم المطلوب وراء دليل
ـــــــ
الكلام وقف أوله على آخره, وهذا أي ما ذكرنا من الدلائل لإبطال طريقة الخصم وهي أن الاستثناء يعمل بالمعارضة لا لإثبات المدعى.
قوله "والثالث": أي الوجه الثالث من المعقول لتصحيح ما قلنا أي لإثبات المدعى وهو أن الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا وبيان ذلك أي هذا الوجه هو أن التكلم بدون أن يكون له حكم أصلا أو يكون منعقد الحكم سائغ أي جائز كما جاز امتناع الحكم بعد الانعقاد لمعارض وقوله و لا انعقاد له بحكمه أصلا تأكيد لقوله ولا حكم له أصلا وقوله "مثل طلاق الصبي وإعتاقه" يتصل بقوله سائغ يعني قد يسقط حكم الكلام بعد الانعقاد بالمعارضة, وقد ينعقد للحكم أصلا مثل طلاق الصبي والمجنون وإعتاقهما فإنهما لم ينعقدا للحكم أصلا, وإذا كان كذلك جاز أن يكون الاستثناء من قبيل الممتنع لمعارض كما قاله الشافعي ومن قبيل ما لا انعقاد له للحكم أصلا كما قلنا فوجب الترجيح, وذلك فيما قلنا. بيانه أي بيان الترجيح أن الاستثناء متى جعل معارضا في الحكم كما قاله الخصم لزم إثبات ما ليس من محتملات اللفظية, وذلك لا يجوز فإنه إذا جعل معارضا بقي التكلم بحكمه أي مع حكمه أو منعقدا لحكمه في صدر الكلام, ثم لا يبقى من الحكم إلا بعضه بالاستثناء, وذلك البعض الباقي لا يصلح حكما لكل التكلم بصدر الكلام; لأن دلالته على تمام مسماه بالوضع لا على بعضه بل لا يحتمل غير مسماه أصلا في بعض المواضع كأسماء الأعداد فإن اسم الألف مثلا لا يقع على غيره بطريق الحقيقة ولا يحتمله أيضا بطريق المجاز فلا يجوز إطلاقه على تسعمائة أصلا ومتى جعل تكلما بالباقي بقيت صورة التكلم في المستثنى غير موجب لحكمه وهو جائز من غير لزوم فساد فكان القول به أولى وذكر في كتب بعض أصحابنا وأظنه مصنف الشيخ بهذه العبارة وهي أن الكلام قد يسقط حكمه بطريق المعارضة, وقد لا ينعقد بحكمه فيتأمل أن إلحاق الاستثناء بأيهما أولى فنقول ما قلناه أولى; لأنه عمل بالحقيقة وما قاله الخصم عمل بالمجاز. وبيانه أن الألف اسم لعدد معلوم لا يحتمل غيره فلو قلنا بأن الحكم بقدر المستثنى يسقط بطريق(3/195)
الخصوص ثابتا بذلك الاسم بعينه صالحا لأن يثبت به كاسم المشركين إذا خص منه نوع كان الاسم واقعا على الباقي بلا خلل ولهذا قلنا إن العام إذا كان كلمة فرد أو اسم جنس صح الخصوص إلى أن ينتهي بالفرد وإذا كانت صيغة جمع انتهى الخصوص إلى الثلاثة لا غير فلذلك بطل أن يكون معارضا فجعل تكلما بالباقي بحقيقته وصيغته وكان طريقا في اللغة يطول مرة ويقصر أخرى وجعل الإيجاب والنفي بإشارته, بيانه أن الاستثناء بمنزلة الغاية للمستثنى منه ألا ترى أن الأول ينتهي به وهذا لأن الاستثناء يدخل على نفي أو إثبات, والإثبات
ـــــــ
المعارضة مع أن الكلام منعقد في نفسه ولا يوجب الألف بل يوجب تسعمائة يؤدي إلى العمل بالمجاز فإن تسعمائة غير الألف حقيقة فكان إطلاق اسم الألف عليه إطلاقا لاسم الكل على البعض ولو جعلنا الاستثناء مانعا عن التكلم بقدر المستثنى بحكمه كان هذا عملا بالحقيقة; لأنه يصير كأنه لم يتكلم بالألف وأنه قال لفلان علي تسعمائة إلا أن قوله تسعمائة مختصر من الكلام والألف مع الاستثناء مطول., وهذا التقرير يشير إلى أن الألف لا يحتمل غيره بطريق الحقيقة ولكنه يحتمل بطريق المجاز وإليه أشير في المفتاح أيضا فقد ذكر فيه في فصل الاستثناء أن استعمال المتكلم للعشرة في التسعة مجاز إلا واحدا قرينة المجاز لكن ما ذكرناه أولا أولى; لأن أسماء الأعداد نصوص في مدلولاتها غير محتملة لغير مسمياتها كالأسماء الأعلام على ما مر غير مرة إذا كان كلمة فرد كمن وما ونحوهما أو اسم جنس كالرجل ونحوه فلذلك أي لفساد كون البعض حكما لكل الكلام بطل كون الاستثناء معارضا وقوله فجعل تكلما بالباقي تقريب يعني وإذا لم يمكن أن يجعل معارضا جعل تكلما بالباقي, فكان أي التكلم بما يدل المطلوب طريقا في اللغو يطول مرة وهي ما إذا قرن بالكلام الاستثناء ويقصر أخرى يعني صار للعدد الذي هو تسع مئين مثلا عبارتان طويلة وهي ألف إلا مائة وقصيرة وهي تسعمائة وجعل الإيجاب والنفي بإشارته أي ثابتا بإشارته وفي بعض النسخ وجعل للإيجاب والنفي أي جعل الاستثناء للإيجاب والنفي بإشارته وهو الأصح, وقد عرفت أن الثابت بالإشارة وإن كان ثابتا بنظم الكلام لكنه من قبيل الثابت بدلالة التزام لا بطريق القصد فكان مجازا والأول حقيقة; لأنه بطريق الوضع
"بيانه" أي بيان أن الإيجاب والنفي ثبتا بإشارته أن الأول موجب الكلام الأول ينتهي بالمستثنى, والإثبات بالعدم ينتهي والعدم بالوجود ينتهي; لأن كل واحد منهما مناف للآخر فيلزم من تحقق أحدهما انتفاء الآخر ضرورة فإذا قال الرجل جاءني القوم إلا زيدا كان الصدر إثباتا للمجيء على وجه العموم. قوله إلا زيدا انتهى ذلك الإثبات إذ(3/196)
بالعدم ينتهي, والعدم بالوجود ينتهي وإذا كان الوجود غاية للأول أو العدم غاية لم يكن بد من إثبات الغاية لتناهي الأول وهذا ثابت لغة فكان مثل صدر الكلام إلا أن الأول ثابت قصدا وهذا لا فكان إشارة ولذلك اختير في التوحيد لا إله إلا الله ليكون الإثبات إشارة والنفي قصدا; لأن الأصل في التوحيد تصديق القلب فاختير في البيان الإشارة إليه والله أعلم.
ـــــــ
لولاه لكان مجاوزا إلى زيد كما أن بالغاية ينتهي أصل الكلام, وكذا لو قال ما جاءني إلا زيد كان الصدر نفيا للمجيء على سبيل العموم فبقوله إلا زيد ينتهي ذلك النفي إذ لولاه لكان متعديا إلى زيد فإذا انتهى موجب الكلام الأول بالاستثناء كالليل ينتهي بوجود النهار وعكسه كان الاستثناء بمعنى الغاية فإذا كان الوجود غاية للأول أي لموجب أول الكلام إذا كان نفيا أو العدم غاية إذا كان الصدر إثباتا لم يكن بد من إثبات الغاية ليتناهى الأول فكان الاستثناء من النفي إثباتا ومن الإثبات نفيا لا محالة لكن بحكم أنه غاية لا لأنه موجب للنفي أو للإثبات قصدا, وهذا أي كونه نفيا أو إثباتا بالطريق الذي قلنا ثابت لغة أي ثابت بدلالة اللغة فكان مثل صدر الكلام أي فكان الاستثناء في دلالته على النفي والإثبات مثل صدر الكلام في دلالته على موجبه من حيث إن كل واحد منهما ثابت لغة فلذلك صح إجماعهم على أنه من النفي إثبات ومن الإثبات نفي إلا أن الأول أي موجب صدر الكلام ثابت قصدا., وهذا أي كون الاستثناء نفيا أو إثباتا ليس بثابت قصدا فكان إشارة أي ثابتا بإشارة الكلام قال القاضي الإمام أبو زيد رحمه الله فأما قول أهل اللغة الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي فإطلاق على ظاهر الحال مجازا لا حقيقة; لأنك إذا قلت لفلان علي ألف درهم إلا عشرة لم تجب العشرة كما لو بقيتها ولكن عدم الوجوب على المقر ليس بنص ناف للوجوب عليه بل لعدم دليل الوجوب وكما قالوا ذلك فقد قالوا إنه تكلم بالباقي بعد الثنيا فلا بد من الجمع بينهما فيجعل الأول مجازا, وهذا حقيقة.
قوله "ولذلك اختير في التوحيد" كذا أي ولكون موجب صدر الكلام ثابتا قصدا وكون الاستثناء نفيا أو إثباتا إشارة اختير في التوحيد لا إله إلا الله ليكون الإثبات أي الإقرار بالوحدانية بطريق الإشارة ونفي الألوهية عن غير الله بطريق القصد بأن يكون الاستثناء غاية للنفي فينتهي المستثنى منه بوجود تلك الغاية فيتحقق الإثبات إشارة والنفي قصدا; لأن الأصل في التصديق القلب يعني التصديق بالقلب هو الأصل في الإيمان والإقرار باللسان شرط لإجراء الأحكام أو ركن زائد على ما مر بيانه في باب بيان حسن المأمور به فاختير في البيان أي في الإقرار الذي ليس بمقصود أصلي الإشارة التي ليست(3/197)
والاستثناء نوعان متصل ومنقطع أما المتصل فهو الأصل وتفسيره ما ذكرناه. وأما المنفصل فما لا يصح استخراجه من الأول; لأن الصدر لم يتناوله فجعل مبتدأ مجازا قال الله تعالى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ}
ـــــــ
بمقصودة, فإن قيل إن النفي باللسان غير مقصود أيضا بل الأصل فيه القلب كالإثبات, وقد اختير فيه النفي قصدا فينبغي أن يكون في الإثبات كذلك أيضا قلنا إنما اختير النفي قصدا إنكارا لدعوى الخصوم فإن بعض الناس ادعوا الألوهية لغير الله واشركوا به غيره فاختير النفي باللسان قصدا ردا لدعواهم ولهذا ابتدئ بالنفي; لأنه أهم فأما الكل فقد أقروا بألوهية الله عز وجل كما أخبر الله جل جلاله بقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} "لقمان: 25" فيكتفى بالإثبات بالإشارة إليه لعدم النزاع فيه., ثم جعل الاستثناء في كلمة التوحيد غاية للنفي إنما يستقيم إذا جعل صدر الكلام نفيا لمطلق الألوهية لكن لو جعل نفيا للألوهية من غير الله لا يصح جعله غاية; لأن النفي لا ينتهي بالاستثناء حينئذ بل يبقى على ما كان قبل الاستثناء ويكون على هذا الوجه استثناء منقطعا بمنزلة قوله تعالى إخبارا {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} فيكون الإثبات قصدا أيضا فأما قوله لا عالم إلا زيد فنفي لوصف العلم عاما وقوله إلا زيد توقيت له بمنزلة الغاية ومقتضى التوقيت عدم الموقت بعد الوقت وعدمه يثبت بضده فلما كان نفي العلم موقتا إلى زيد ينتهي بوجود العلم في زيد فكان النفي عن غيره مقصودا وإثبات العلم له إشارة, وذلك لأن هذا الكلام رد لزعم من يزعم أن غير زيد موصوف بالعلم ولا ينكر علم زيد بل يقر بكونه عالما فكان نفي العلم هو المقصود; لأنه هو المتنازع فيه فالمتكلم بقوله لا عالم إلا زيد نفى العلم عن غيره قصدا وأثبت العلم له إشارة, فإن قيل لما جعل الاستثناء بمنزلة الغاية ينبغي أن ينتهي الحظر في قوله إن خرجت إلا بإذني بالإذن مرة كما في قوله إلا أن آذن لك أو حتى آذن لك قلنا الاستثناء في قوله إلا بإذني من الخروج الذي هو مصدر كلامه بدلالة حرف الإلصاق أي لا تخرجي خروجا إلا خروجا ملصقا بإذني فيكون جميع الخروجات الموصوفة غاية لا خرجة واحدة منها فلا ينتهي الحظر بالإذن مرة فأما في قوله إلا أن آذن لك أو حتى آذن لك فالغاية مطلق الإذن إذا وجد انتهى الحظر لا محالة.
وفرق بعضهم بأن الاستثناء في قوله إلا بإذني داخل على الخروج لا على الحظر والخروج فعل غير ممتد فلا يصلح الاستثناء غاية له; لأن الغاية إنما تدخل فيما يمتد فأما الاستثناء في قوله إلا أن آذن لك فداخل على الحظر والحظر مما يمتد فيصلح غاية له فلذلك ينتهي بالإذن مرة(3/198)
"الشعراء: 77" أي لكن رب العالمين وكذلك {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا
ـــــــ
قوله "والاستثناء نوعان" لما فرغ من إقامة الدليل على مدعاه شرع في بيان تخريج الفروع, وذكر له مقدمة فقال الاستثناء نوعان أي ما أطلق عليه لفظ الاستثناء نوعان: حقيقة وهو الاستثناء المتصل وتفسيره ما ذكرنا يعني قوله الاستثناء استخراج وتكلم بالباقي بعد الثنيا ومجاز وهو المنفصل ويسمى منقطعا فجعل مبتدأ أي بمنزلة نص مبتدأ حكمه بخلاف الأول يعمل به بنفسه لا تعلق له بأول الكلام إلا من حيث الصورة وقوله مجازا نصب على التمييز. والمراد أن إطلاق اسم الاستثناء على هذا النوع بطريق المجاز وإن كان اللفظ لا ينقاد له; لأن " جعل " مسند إلى الضمير الراجع إلى المنفصل أي جعل الاستثناء المنفصل مبتدأ فكان قوله مجازا تميزا عن الجملة أي جعل المنفصل مبتدأ من الكلام بطريق المجاز لا بطريق الحقيقة فينصرف المجازية إلى كونه مبتدأ من الكلام لا إلى كونه استثناء والمراد هو الباقي دون الأول. وكان من حق الكلام أن يقال فجعل مبتدأ وجعل استثناء مجازا وعبارة شمس الأئمة رحمه الله الاستثناء حقيقة ما بينا وما هو مجاز منه فهو الاستثناء المنقطع بمعنى لكن أو بمعنى العطف قوله تعالى: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} "الشعراء: 77" أي كل ما عبدتموه أنتم وعبده آباؤكم الأقدمون وهم الذين ماتوا في سالف الدهر فإني أعاديهم وأجتنب عبادتهم وتعظيمهم. إلا رب العالمين فإني أعبده وأعظمه كذا في التيسير.
وذكر في المطلع أي ما عبادة من عبد هذه الأصنام إلا عبادة أعداء له; لأنهم يعودون على عابديهم ضدا في الآخرة كما قال تعالى: {سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} "مريم: 82" ولأن المغري على عبادتها الشيطان الذي هو أعدى أعداء الإنسان وإنما قال عدو لي ولم يقل لكم فرضا للمسألة في نفسه على معنى أني فكرت في هذا الأمر فرأيت عبادتي لها عبادة للعدو فاجتنبتها وآثرت عبادة من الخير كله منه وأراهم بذلك أنها نصيحة نصح بها نفسه أولا وبنى عليها تدبير أمره لينظروا فيقولوا ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه فيكون أدعى إلى القبول وأبعث على الاستماع ولم تكن هذه المثابة لو قال عدو لكم; لأن التعريض يبلغ في التأثير في المنصوح له ما لا يبلغ التصريح; لأنه يتأمل فيه فربما قاده التأمل إلى التقبل. والعدو يقع على الجمع; لأن ضرر العدو وإن كان واحدا لكثير.
{إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} استثناء منقطع كأنه قال لكن رب العالمين الذي من صفته كيت وكيت فإنه تعالى ليس منهم قال الزجاج ويجوز أن يكون القوم عبدوا الأصنام مع(3/199)
تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً} "الواقعة: 25 – 26" وقوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} استثناء منقطع; لأن التائبين غير داخلين في صدر الكلام فكان معناه إلا أن يتوبوا أو يحمل الصدر على عموم الأحوال بدلالة الثنيا فكأنه قال {أُولَئِكَ هُمُ
ـــــــ
الله عز وجل فقال إن جميع من عبدتم عدو لي إلا رب العالمين; لأنهم سووا آلهتهم بالله تعالى فأعلمهم أنه قد تبرأ مما يعبدون إلا الله عز وجل فإنه لم يتبرأ من عبادته, وهذا قول مقاتل وعلى هذا يكون الاستثناء متصلا.
قوله وكذلك: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً} أي ومثل قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} قوله عز وجل: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً} في أن الاستثناء فيه منقطع أيضا; لأن السلام ليس من جنس اللغو واللغو ما يلغى من الكلام أي يسقط والتأثيم ما يؤثم فيه أي لا يسمعون في الجنة ما يلغى من الكلام ولا ما يؤثم فيه من الهذيان والتفسيق إلا قيلا أي لكن يسمعون فيها قولا سلاما سلاما هما بدلان من قيلا بدليل قوله: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلَّا سَلاماً} أو مفعول بهما لقيلا بمعنى إلا أن يقولوا سلاما سلاما ومعنى التكرير أنهم يفشون السلام بينهم فيسلمون سلاما بعد سلام أو يسلم عليهم الملائكة سلاما بعد سلام ويجوز أن يكون معنى الآية إن كان تسليم بعضهم على بعض أو تسليم الملائكة عليهم لغوا فلا يسمعون لغوا إلا ذلك فهو من قبيل. قوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
أو لأن معنى السلام هو الدعاء بالسلامة ودار السلام هي دار السلامة من الآفات, وأهلها عن الدعاء بالسلامة أغنياء فكان ظاهره من باب اللغو وفضول الحديث لولا ما فيه من فائدة الإكرام والتبجيل لأهلها كذا في الكشاف والمطلع.
قوله "وقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} استثناء منقطع" ذهب بعض مشايخنا منهم القاضي الإمام أبو زيد رحمهم الله إلى أن هذا استثناء منقطع وتقريره من وجهين أحدهما وهو المذكور في الكتاب أن التائبين غير داخلين في صدر الكلام وهو قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4]; لأن التائب من قام به التوبة وليس فيه صفة الفسق, والفاسق من قام به وصف الفسق وليس فيه وصف التوبة فلا يكون التائب فاسقا فلا يكون داخلا تحت الصدر لولا الاستثناء فلم يكن الاستثناء حقيقة فكان منقطعا. والثاني أن حقيقة الاستثناء لبيان أن المستثنى لم يدخل تحت الجملة أصلا ولولا الاستثناء لكان داخلا كقولك جاءني القوم إلا زيدا لم يدخل زيد في حكم المجيء أصلا ولولا الاستثناء(3/200)
الْفَاسِقُونَ} بكل حال إلا حال التوبة وكذلك قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة 237" استثناء حال وكذلك قوله "إلا سواء بسواء" استثناء حال
ـــــــ
لكان داخلا والتائبون هم القاذفون فهم الذين كانوا فسقة فكانوا داخلين في الفاسقين ألبتة وبالتوبة لم يخرجوا من أن يكونوا قاذفين فلا يمكن حمل الاستثناء على الحقيقة فيجعل منقطعا بمعنى لكن أي لكن إن تابوا فالله يغفر لهم. وإذا كان كذلك لا يتغير شيء مما ثبت بصدر الكلام من وجوب الحدود والشهادة ووصف الفسق بالاستثناء إلا أن التوبة والفسق متنافيان فيتغير بها وصف الفسق لاستحالة بقاء الشيء مع ما ينافيه لا للاستثناء, فأما التوبة فليست بمنافية لرد الشهادة كالعبد العدل الثابت لا يقبل شهادته وكالنساء المنفردات العادلات لا تقبل شهادتهن فلذلك بقي مردود الشهادة كما كان
وقوله "فكان معناه إلا أن يتوبوا" يعني لما لم يمكن استخراج التائبين عن صدر الكلام لكونهم داخلين فيه يحمل الاستثناء على التوقيت فكان معناه إلا أن يتوبوا أي حين يتوبوا, وإذا حمل على التوقيت لم يكن استثناء حقيقة; لأن بالتوقيت يتقرر موجب صدر الكلام ولا يخرج منه شيء وفي الاستثناء الحقيقي لا بد من أن يكون المستثنى خارجا من الصدر أي غير داخل فيه على وجه لولاه لكان داخلا وذكر في بعض نسخ أصول الفقه للشيخ أن معناه ولكن الذين تابوا, وهكذا ذكر الإمام السرخسي والقاضي الإمام أبو زيد وهو الأقرب إلى الصواب وذهب أكثرهم إلى أنه استثناء متصل; لأن الحمل على الحقيقة واجب مهما أمكن فجعلوه استثناء حال بدلالة الثنيا فإنها تقتضي المجانسة وحملوا الصدر على عموم الأحوال أي أضمروا فيه الأحوال فقالوا التقدير وأولئك هم الفاسقون في جميع الأحوال أي حال المشافهة والغيبة وحضور القاضي وحضور الناس وغيبتهم وحال الثبات والإصرار على القذف وحال الرجوع والتوبة إلا في حال التوبة., ثم على التقديرين لا تعلق له برد الشهادة; لأنه إن جعل استثناء متصلا يكون استثناء عن الجملة الأخيرة ولا ينصرف إلى ما سبق ذكره في عطف الجمل بعضها على بعض, ولا يصرف الاستثناء إلى الجميع عندنا بل يقتصر على الأخيرة; لأنه إنما وجب رجوع الاستثناء إلى ما قبله ليصح ضرورة عدم استقلاله بنفسه, وقد اندفعت بالرجوع إلى الأخيرة فلا حاجة إلى صرفه إلى غيرها; لأن ما ثبت بالضرورة يتقدر بقدرها وإن جعل استثناء منقطعا فكذلك; لأنه حينئذ يكون كلاما مبتدأ فيعمل بالمعارضة إن أمكن ولا معارضة له إلا في وصف الفسق على ما بينا فثبت أنه لا تعلق له برد الشهادة قال شمس الأئمة رحمه الله ولئن كان محمولا على الحقيقة فهو استثناء بعض الأحوال أي وأولئك هم الفاسقون في جميع الأحوال إلا أن يتوبوا فيكون هذا الاستثناء توقيتا بحال ما قبل التوبة فلا تبقى صفة الفسق بعد التوبة لانعدام الدليل الموجب لا لمعارض مانع كما توهمه الخصم.(3/201)
فيكون الصدر عاما في الأحوال وذلك لا يصلح إلا في المقدر
ـــــــ
قوله: وكذلك قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} أي ومثل قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} قوله عز اسمه {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} فإنه استثناء حال أيضا إذ لا يمكن استخراج العفو الذي هو حالهن عن نصف المفروض حقيقة لعدم المجانسة فيحمل الصدر على عموم الأحوال أي لهن نصف ما فرضتم أو عليكم نصف ما فرضتم في جميع الأحوال أي في حال الطلب والسكوت وحال الكبر والصغر والجنون والإفاقة إلا في حالة العفو إذا كانت العافية من أهله بأن كانت عاقلة بالغة فكان تكلما بالباقي نظرا إلى عموم الأحوال, وقال القاضي الإمام رحمه الله هو استثناء منقطع; لأنه يبين أن النصف لم يكن واجبا إذا جاء العفو بل سقوطه بالعفو بتصرف طارئ فكان الاستثناء منقطعا لا أنه لم يدخل في الصدر بالاستثناء.
قوله "وكذلك" أي ومثل قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} قوله عليه السلام: "إلا سواء بسواء" في أنه استثناء حال أيضا; لأن حمل الكلام على حقيقته واجب ما أمكن ولا يمكن استخراج المساواة من الطعام فيحمل صدر الكلام على ما يجانس المستثنى منه ليتحقق الاستثناء حقيقة والمستثنى حال وهي المساواة فيحمل الصدر على عموم الأحوال فصار كأنه قيل لا تبيعوا الطعام بالطعام في جميع الأحوال من المفاضلة والمجازفة والمساواة إلا في حالة المساواة ولا يتحقق هذه الأحوال إلا في الكثير وهو ما يدخل تحت الكيل; لأن المراد من المساواة هو المساواة في الكيل إذ المشترى في الطعام ليس إلا الكيل بالإجماع وبدليل قوله عليه السلام: "كيلا بكيل" وبدليل العرف فإن الطعام لا يباع إلا كيلا وبدليل الحكم فإن إتلاف ما دون الكيل في الطعام لا يوجب المثل بل يوجب القيمة لفوات المسمى, والمفاضلة والمجازفة مبنيتان على الكيل أيضا إذ المراد من المفاضلة رجحان أحدهما على الآخر كيلا. والمراد من المجازفة عدم العلم بتساويهما أو بتفاضلهما مع احتمال المساواة والمفاضلة فثبت بما ذكرنا أن صدر الكلام لم يتناول القليل الذي لا يدخل تحت الكيل لعدم جريان هذه الأحوال فيه فلا يصح الاستدلال به على حرمة بيع الحفنة بالحفنة أو الحفنتين, فإن قيل لا نسلم أن هذا استثناء متصل بل هو استثناء منقطع لاستحالة استخراج المساواة التي هي معنى من العين فيكون معناه لكن إن جعلتموهما سواء بسواء فبيعوا أحدهما بالآخر فيبقى الصدر متناولا للقليل والكثير وقولكم العمل بالحقيقة أولى مسلم ولكن إذا لم يتضمن العمل بها مجازا آخر, وقد تضمن هنا; لأنه لا يمكن حمله على الحقيقة إلا بإضمار الأحوال في صدر الكلام والإضمار من أبواب المجاز, ولئن سلمنا أن حمله على الحقيقة أولى فلا نسلم أنه يحتاج فيه إلى إضمار الأحوال في صدر الكلام; لأنه يمكن أن يجعل المستثنى الطعام الموصوف بالمساواة أي لا(3/202)
واتفق أصحابنا رحمهم الله أن قول الرجل لفلان علي ألف درهم إلا ثوبا أن
ـــــــ
تبيعوا الطعام بالطعام متساويين كانا أو غير متساويين إلا الطعام المتساوي بالطعام المتساوي فبقي القليل داخلا في عموم صدر الكلام وهو بيع الطعام بالطعام غير متساويين ولئن سلمنا أنه استثناء حال وأنه يجب إدراج الأحوال في صدر الكلام فلا نسلم أن الأحوال منحصرة على الثلاث المذكورة بل العلة من أحواله كالمفاضلة والمجازفة أي لا تبيعوا الطعام بالطعام في جميع الأحوال من القلة والكثرة والمفاضلة والمجازفة والمساواة إلا في حالة المساواة فيبقى القليل داخلا في الصدر. قلنا حمل الكلام على الحقيقة واجب فلا يجوز حمله على المنقطع الذي هو مجاز من غير ضرورة. قولهم حمله على الحقيقة يتضمن مجازا آخر قلنا قد قام الدليل على هذا المجاز وهو الإضمار فوجب العمل به فأما المجاز الذي ذكرتم فلم يقم عليه دليل فترجحت الحقيقة عليه ألا ترى أن استثناء الدينار والكر من الدراهم جاز بالاتفاق وأن استثناء الثوب والعبد جائز منها عند الخصم ولا وجه لصحته إلا الإضمار أي إلا مقدار مالية كذا فثبت أن حمله على المتصل مع الإضمار أولى من حمله على المنقطع وقولهم هو استثناء عين لا استثناء حال قلنا هو استثناء بيع الطعام في هذه الحالة لا استثناء عين وقولهم لا نسلم انحصار الأحوال في الثلاث قلنا إنما حكمنا بانحصارها في الثلاث; لأنه عليه السلام "نهى عن بيع الطعام بالطعام" والطعام إذا ذكر مقرونا بالبيع أو الشراء يراد به الحنطة ودقيقها. ويؤيده ما روي في رواية أخرى "لا تبيعوا البر بالبر إلا سواء بسواء" ولهذا قالوا إذا حلف لا يشتري طعاما أنه لا يحنث بشراء الشعير والفاكهة وإنما يحنث بشراء الحنطة ودقيقها, وكذا لو وكله بشراء طعام فاشترى فاكهة يصير مشتريا لنفسه. وسوق الطعام عندهم اسم لسوق الحنطة ودقيقها ويسمى ما يباع فيه غير الحنطة سوق الشعير وسوق الفواكه وأنه من أبواب اللسان لا من فقه الشريعة, ثم البيع لا يجزئ باسم الطعام أو الحنطة فإن الاسم يتناول الحبة الواحدة ولا يبيعها أحد ولو باعها لم يجز; لأنها ليست بمال متقوم فعرفنا أن المراد منه ما صار متقوما, ولا يعرف مالية الطعام إلا بالكيل فيثبت وصف الكيل بمقتضى النص ويصير كأنه قيل لا تبيعوا الطعام المكيل بالطعام المكيل إلا سواء بسواء, وإذا كان كذلك انحصر الأحوال فيما ذكرنا وهو معنى قوله, وذلك أي عموم الأحوال لا يستقيم إلا في المقدر وهو الذي يدخل تحت الكيل. يوضحه أنه إنما يدرج في المستثنى منه ما يناسب المستثنى بوصف خاص لا بوصف عام فإنك إذا قلت ليس في الدار إلا زيد يدرج في الكلام إنسان لا حيوان ولا شيء, فهنا إنما يدرج ما يناسب المساواة في الكيل وهو المفاضلة والمجازفة لا القلة التي هي بمنزلة الحيوان والشيء في تلك الصورة. وذكر(3/203)
هذا استثناء منقطع; لأن استخراجه لا يصح فجعل نفيا مبتدأ ونفيه لا يؤثر في الألف. وأما إذا استثنى المقدر من خلاف جنسه فقد قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله هو صحيح, وقال محمد رحمه الله ليس بصحيح لما قلنا من
ـــــــ
شمس الأئمة رحمه الله في أصول الفقه أن قوله عليه السلام "لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء" استثناء لبعض الأحوال أي لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا حالة التساوي في الكيل فيكون توقيتا للنهي بمنزلة الغاية وثبت بهذا النص أن حكم الربا الحرمة الموقتة في المحل دون المطلقة وإنما يتحقق الحرمة الموقتة في المحل الذي يقبل المساواة في الكيل, فأما في المحل الذي لا يقبل المساواة لو ثبت إنما ثبت حرمة مطلقة, وذلك ليس من حكم هذا النص فلهذا لا يثبت حكم الربا في القليل وفي المطعوم الذي لا يكون مكيلا أصلا.
قوله "واتفق أصحابنا" إلى آخره استثناء الثوب والغنم من الدراهم استثناء منقطع باتفاق من أصحابنا ويجعل إلا فيه بمعنى لكن لمناسبة بينهما من حيث الاستدراك; لأن استخراج الثوب من الدراهم غير متصور حقيقة; لأن الألف لا يتناول الثوب صورة وهو ظاهر ولا معنى; لأن الثوب لا يناسب الدراهم في وصف خاص فجعل نفيا مبتدأ لا تعلق له بالدراهم كأنه قال إلا ثوبا فإنه ليس علي أو لكن الثوب ليس علي ونفيه أي نفي الثوب لا يؤثر في الألف أي في وجوبه لعدم تعلقه به كما في قولك جاءني القوم إلا حمارا لا يؤثر الاستثناء في القوم بوجه لعدم التعلق ألا ترى أنه لو صرح بالنفي بأن قال لكن ليس له علي ثوب لا يمنع ذلك عن وجوب جميع الألف عليه فاللفظ الذي لا يدل على النفي أولى أن لا يمنع; لأن الدلالة دون الصريح. وأما إذا استثنى المقدر وهو الذي له مقدر في العرف أو الشرع مثل المكيل أو الموزون والعدد المتقارب من خلاف جنسه أي من مقدر آخر من خلاف جنس المستثنى منه بأن قال لفلان علي ألف درهم إلا دينارا أو فلسا أو إلا كر حنطة فقد قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله هو صحيح أي هذا الاستثناء صحيح وهو الاستحسان وقال محمد رحمه الله لا يصح وهو القياس.
والمراد بالصحة وعدمها كون الاستثناء مؤثرا في المستثنى منه بالمنع وعدم تأثيره فيه لا عدم صحة التلفظ به لغة كاستثناء الكل من الكل فإن التلفظ بالاستثناء المنقطع صحيح لغة بلا خلاف. لما قلنا من الأصل وهو أن استخراجه لا يصح فجعل نفيا مبتدأ, وبيانه أن الاستثناء استخراج وتكلم بالباقي بعد الثنيا وبيانه أن المستثنى لم يدخل تحت الجملة ولا يتصور ذلك إلا فيما يكون المستثنى داخلا تحت الجملة لولا الاستثناء, وخلاف الجنس لا يدخل تحت الصدر فلا يتصور استخراجه وبيان أنه لم يكن داخلا(3/204)
الأصل وجعل استثناء منقطعا فلم ينقص من الألف شيئا, وقال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله هو صحيح; لأن المقدرات جنس واحد في المعنى; لأنها تصلح ثمنا ولكن الصور مختلفة فصح الاستثناء في المعنى, وقد قلنا إن الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا معنى لا صورة فإذا صح الاستخراج من طريق المعنى بقي في القدر المستثنى تسمية الدراهم بلا معنى وذلك هو معنى حقيقة الاستثناء فلذلك بطل قدره من الأول بخلاف ما ليس بمقدر من الأموال; لأن المعنى مختلف فلم يصح استخراجه والله أعلم.
ـــــــ
فيجعل الاستثناء منقطعا بمعنى لكن أي لكن الدينار أو كر الحنطة ليس علي فلا يؤثر نفيه في الألف كما في استثناء الثوب والشاة فهذا بيان وجه القياس, وقوله فلم ينقص من النقص الذي هو معتدلا من النقصان أي لم ينقص هذا الاستثناء من الألف شيئا. وأما وجه الاستحسان فهو أن المقدرات جنس واحد في المعنى باعتبار أنها تصلح ثمنا حتى لو اشترى عبدا بكر موصوف من الحنطة أو بكذا منا من الدهن أو بكذا من الجوز جاز البيع ويتعين الكر أو الدهن أو الجوز ثمنا وتجب أيضا في الذمة ما هو مال وما ليس بمال حالة ومؤجلة ويجوز استقراضها فصار الجنس واحدا من حيث الثبوت في الذمة ثبوتا صحيحا ولكن الصور مختلفة فإن الدينار غير الدراهم والكر غيرهما فلا يمكن أن يجعل استخراجا باعتبار الصورة وتكلما بالباقي باعتبار المعنى فيمتنع الوجوب بقدر الدينار أو الكر من الألف, وقد قلنا إن الاستثناء تكلم بالباقي معنى لا صورة فإن صورة التكلم بالألف قد وجدت بلا شبهة ولكن من حيث المعنى صار كأنه قال علي تسعمائة في قوله علي ألف إلا مائة.
وإذا كان الاستثناء استخراجا وتكلما بالباقي معنى لا صورة صح استثناء الكر من الألف; لأنه استخراج معنوي أيضا, وإذا صح استثناؤه بقي المعنى أي معنى صدر الكلام وهو قوله علي ألف في القدر المستثنى وهو الكر تسمية الدراهم بلا معنى يعني صار كأنه تكلم بالدراهم من الألف بقدر مالية الكر من غير أن يكون لذلك المقدار من الدراهم معنى كما في الاستثناء من الجنس, وذلك أي بقاء صدر الكلام تسمية بلا معنى في القدر المستثنى هو معنى حقيقة الاستثناء فإن في الاستثناء الحقيقي وهو قوله علي ألف إلا مائة بقي التكلم بالألف في حق المائة المستثناة تسمية من حيث الصورة لا من حيث المعنى فلذلك أي فلأن استثناء الكر من الدراهم مثل استثناء بعضها منها معنى بطل قدره أي قدر المستثنى من الأول وهو المستثنى منه بخلاف ما ليس بمقدر من الأموال مثل الثوب والشاة ونحوهما.; لأن المعنى أي معنى المستثنى والمستثنى منه مختلف(3/205)
وعلى هذا الأصل قلنا فيمن قال لفلان علي ألف درهم وديعة أنه يصح موصولا; لأنه بيان مغير; لأن الدراهم تصلح أن تكون عليه حفظا إلا أنه تغيير للحقيقة فصح موصولا وكذلك رجل قال أسلمت إلي عشرة دراهم في كذا لكني لم أقبضها أو أسلفتني أو أقرضتني أو أعطيتني ففي هذا كله يصدق بشرط الوصل استحسانا; لأن حقيقة هذه العبارات للتسليم, وقد تحتمل العقد
ـــــــ
كاختلاف صورتهما فإن الثوب ليس من جنس الأول وجوبا فإنه لا يجب في الذمة إلا بطريق خاص وهو السلم فلا يصح استخراجه أي استخراج ما ليس بمقدر من الدراهم لانتفاء المجانسة صورة ومعنى. وأما ما اعتبره الشافعي رحمه الله من معنى المالية لإثبات المجانسة فذلك معنى عام لا يجوز اعتباره إذ لو اعتبر مثله أدى إلى جواز استثناء كل شيء من كل شيء باعتبار معنى الوجود, وذلك باطل فكذا هذا وذكر القاضي الإمام أبو زيد رحمه الله الفرق في الأسرار بهذه العبارة وهي أنه إذا قال لفلان علي ألف درهم إلا درهما فعين الدرهم بمعناها مستخرجة عن الألف فصح الاستثناء حقيقة, وإذا قال إلا دينارا أو قفيز حنطة صح الاستثناء عن صفة الوجوب للدراهم فإن الجملة قبل الاستثناء دراهم واجبة والمكيلات والموزونات في حق الوجوب في الذمة جنس واحد يجب في الذمة على الإطلاق من غير تقييد بسبب خاص بالإتلاف والالتزام والمداينات جميعا فسقط الوجوب من الدراهم بقدر ما استثنى منها من الحنطة فلا يمكن بيان القدر إلا بالمعنى فاعتبر به كما قاله الشافعي فأما إذا قال إلا ثوبا فالثياب ليست من جنس الدراهم عينا ولا وجوبا; لأنها لا تجب في الذمة إلا سلما فلم يمكن أن يجعل استخراجا لا في حق عين الدراهم ولا وجوبها فبقي ما مضى على ما كان قبل الاستثناء وصار مجازا بمعنى ولكن ليس له ثوب علي.
قوله "وعلى هذا الأصل" وهو أن البيان المغير لا يصح إلا موصولا قلنا إذا قال لفلان علي أو قبلي ألف درهم وديعة فإنه يصدق إن وصل ولا يصدق إن فصل وعند الشافعي رحمه الله يصدق وإن فصل; لأن الألف يحتمل الغصب والوديعة فكان بمنزلة المشترك أو المجمل فكان قوله وديعة بيان تفسير فيصح موصولا ومفصولا كما إذا قال هي زيوف وقلنا قوله وديعة بيان مغير لا مفسر; لأن قوله علي ألف درهم حقيقة الإقرار بوجوب نفس الألف عليه ولكنه يحتمل الإقرار بوجوب الحفظ عليه مجازا بطريق حذف المضاف أي على حفظ ألف درهم أو بطريق إطلاق اسم المحل على الحال كقولك جرى النهر وسال الميزاب; لأن الدراهم محل الحفظ الواجب بالعقد فكان قوله وديعة لبيان أن الواجب في ذمته حفظها وإمساكها إلى أن يؤديها إلى صاحبها لا أصل المال, وتغييرا لما اقتضاه حقيقة الكلام من وجوب أصل المال ورجوعه عما أقر به.(3/206)
فصار النقل إلى العقد بيانا مغيرا وإذا قال دفعت إلي عشرة دراهم أو نقدتني لكني لم أقبض فكذلك عند محمد; لأن النقد والدفع بمعنى الإعطاء لغة فيجوز أن يستعار للعقد أيضا, وقال أبو يوسف رحمه الله لا يصدق; لأنهما اسمان
ـــــــ
قوله "وكذلك" أي ومثل قوله لفلان علي ألف درهم وديعة في كونه مبنيا على البيان المغير قوله أسلمت إلي إلى آخره وقوله يصدق بشرط الوصل استحسانا يوهم أنه لا يصدق في القياس وإن وصل; لأن قوله ولكني أو إلا أني لم أقبضها رجوع كما في قوله دفعت إلي إلا أني لم أقبض في قول أبي يوسف رحمه الله والرجوع لا يصح موصولا ومفصولا فيكون قوله استحسانا متعلقا بيصدق ولكنه ليس بمتعلق به بل هو متعلق بقوله بشرط الوصل يعني: اشتراط الوصل للتصديق استحسان, والقياس أن لا يشترط الوصل بل يصدق وصل أم فصل فإنه ذكر في المبسوط في هذه الألفاظ أن القول قوله إذا وصل; لأن أول كلامه إقرار بالعقد وهو القرض والسلم الوديعة والعطية فكان قوله لم أقبضها بيانا لا رجوعا وإن قال ذلك مفصولا فالقول قوله أيضا في القياس لما بينا أنه إقرار بالعقد فكان هذا وقوله ابتعت من فلان بيعا سواء يوضحه أنه أقر بفعل الغير فإنه أضاف الفعل بهذه الألفاظ إلى المقر له فيكون القول قوله في إنكار القبض الموجب للضمان عليه. وفي الاستحسان لا يقبل قوله; لأن حقيقة هذه الألفاظ تقتضي تسليم المال إليه فإن القرض لا يكون إلا بالقبض, وكذا السلف والسلف أخذ عاجل بآجل, وكذا الإعطاء فعل لا يتم إلا بالقبض فكان كلامه إقرارا بالقبض على احتمال أن يكون هذه الألفاظ عبارات عن العقد مجازا فإن الإسلام كما يطلق على تسليم المال يطلق على عقد السلم يقال أسلم فلان إلى فلان عشرة في كذا ولم يسلم إليه رأس المال, ويقال فلان أقرض فلانا عشرة دراهم ولم يدفع إليه يريدون به العقد. وكذا الإيداع والإعطاء فكان قوله لم أقبض بيان تغيير فيصح موصولا لا مفصولا, وإذا قال دفعت إلي عشرة دراهم أو نقدتني لكني أو إلا أني لم أقبض فكذلك الجواب عند محمد رحمه الله يعني يصدق فيه واصلا لا فاصلا; لأن النقد والدفع والإعطاء سواء فيجوز أن يستعار النقد والدفع للعقد كالإعطاء إطلاقا لاسم المسبب على السبب ولأن الدفع إليه عبارة عن التسليم إليه, والقبض شرط لنفاذ حكم التسليم وتمامه فصار قوله إلا أني لم أقبض استثناء لبعض ما تكلم به فيصح موصولا وقال أبو يوسف رحمه الله لا يصدق أصلا; لأنهما أي النقد والدفع اسمان مختصان بالتسليم والفعل; لأنهما لم يطلقا على غير الفعل أصلا وليس في الشرع عقد يسمى دفعا أو نقدا فلا يتناولان العقد حقيقة ولا مجازا فكان قوله إلا أني لم أقبض أو لكني لم أقبض رجوعا لا بيانا فلا يقبل موصولا ولا مفصولا, فأما الإعطاء فهبة أي استعمل بمعنى الهبة يقال(3/207)
مختصان للتسليم والفعل. وأما الإعطاء فهبة فيصلح أن يستعار للعقد وإذا أقر بالدرهم قرضا أو ثمن بيع, وقال هي زيوف صح عندهما موصولا; لأن الدراهم نوعان جياد وزيوف إلا أن الجياد غالبة فصار الآخر كالمجاز فصح التغيير إليه
ـــــــ
عقد الهبة وعقد العطية ولو قال أعطيتك هذا يصير هبة فيصلح أن يستعار للعقد فكان قوله إلا أني لم أقبض فيه بيانا لا رجوعا. وذكر القاضي الإمام أبو زيد رحمه الله في الأسرار في تقرير هذه المسألة أن الدفع عبارة عن التسليم وقوله إلي عبارة عن الوصول فهما كلمتان تحت كل واحدة منهما ضرب إقرار فإذا استثني أحدهما بعينه لم يصح كما إذا قال لفلان علي درهم ودرهم إلا درهما وكذلك نقدتني عبارة عن فعل نقد يتعدى إليه كقولك ضربتني, ولو قال ضربتك إلا أنه لم يصل إليك أو قذفتك إلا إني لم أضف إليك لم يكن استثناء بل إبطالا لأصل ما تكلم به; لأن الباقي لا يبقى قذفا إياه; لأن الفعل المتعدي لا يبقى بدون المتعدى إليه بخلاف الإعطاء; لأنه عبارة عن عقد الهبة وكذلك الإسلام عبارة عن عقد السلم والعقد يتعدى إلى الآخر قبل القبض حتى إذا حلف لا يهب له فوهب ولم يسلم حنث, وكذلك السلم, وكذلك الإيداع عقد استحفاظ وأنه عقد معه قبل التسليم إليه ونظيره ما إذا قال بعتك عبدي بألف إلا أنك لم تقبله لم يصح; لأن البيع لا يكون بيعا إلا بقبول ولو قال لامرأته طلقتك أمس على ألف فلم تقبلي كان القول قول الزوج; لأنه يتم بغير قبول إنما القبول شرط النفاذ. قوله "وإذا أقر بالدراهم قرضا أو ثمن بيع" احترز به عما إذا أقر بالدراهم غصبا أو وديعة وقال هي زيوف فإنه يصدق وصل أم فصل بلا خلاف; لأنه ليس للغصب الوديعة, موجب في الجياد دون الزيوف ولكن الغاصب يغصب ما يجد والمودع يودع غيره ما يحتاج إلى الحفظ فلم يكن في قوله هي زيوف تغيير أول كلام فيصح موصولا ومفصولا وعما إذا أطلق ولم يبين السبب فقال علي درهم زيف فإنه يصدق إذا وصل بالاتفاق عند بعض مشايخنا; لأن صفة الجودة إنما تصير مستحقة بمقتضى عقد التجارة عند أبي حنيفة رحمه الله على ما تبين فإذا لم يصرح في كلامه بجهة التجارة لا تصير صفة الجودة مستحقة عليه فيحمل كلامه على جهة يصح ذلك منه فأما إذا بين جهة القرض أو البيع وقال هي زيوف فهو على الخلاف فنبين كل فصل على حدة, فنقول إذا قال لفلان علي ألف درهم ثمن بيع إلا أنها زيوف يصدق عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله إن وصل ولا يصدق إن فصل; لأن الزيوف من جنس الدراهم حتى حصل بها الاستيفاء في الصرف والسلم. وكذا نقد بلدة أخرى سوى بلدتهما يكون زيف بلدهما فكان قوله إلا أنها زيوف وقوله إلا أنها نقد بلد كذا سواء فيكون بيانا من هذا الوجه(3/208)
موصولا, وقال أبو حنيفة لا يقبل وإن وصل; لأن الزيافة عارضة وعيب فلا يحتمله مطلق الاسم بل يكون رجوعا كدعوى الأجل في الدين ودعوى الخيار في البيع.وإذا قال لفلان علي ألف درهم من ثمن جارية باعنيها لكني لم
ـــــــ
فينبغي أن يصح موصولا ومفصولا; لأنه يشابه بيان المشترك ويصير كقوله له علي كر حنطة من ثمن بيع أو قرض, ثم قال هو ردي يصدق وإن فصل إلا أن فيه تغييرا لما اقتضاه أول الكلام من حيث العادة; لأن بياعات الناس تكون بالجياد دون الزيوف فكانت الدراهم للجياد بمنزلة الحقيقة العرفية وللزيوف بمنزلة المجاز فيصح التغيير إليها موصولا كقوله لفلان علي ألف درهم إلا أنها وزن خمسة. وقال أبو حنيفة رحمه الله لم يصدق في دعوى الزيافة وصل أم فصل ويلزمه الجياد; لأن الزيافة اسم لعيب وغش فيها ثبت بعارض صنعة والبيع موجبه سلامة البدل المستحق به عن العيب فيصير دعوى الزيافة من المشتري دعوى أمر عارض يخالف موجب العقد فلا تصح كما لو ادعى البائع أن المبيع معيب, وقد كان المشتري عالما به لم يقبل قوله في ذلك إذا أنكره المشتري, وهذا; لأن دعواه العيب رجوع عما أقر به; لأن إقراره بالعقد مطلقا التزام ما هو مقتضى مطلق العقد وهو السلامة عن العيب فبقوله كان معيبا يصير راجعا عن الإقرار لا يصح موصولا كان أم مفصولا, وهذا بخلاف قوله إلا أنه نقد بلد كذا; لأن تسمية النقد لا تكون دعوى عيب; لأن النقد اسم للرايج بل يكون ذكر تنويع وما للبيع موجب في نوع بعينه من النقود بل يتعين نقد بلدهما عند الإطلاق بحكم العرف لا بموجب العقد فإذا عين نقدا آخر لم يعتبر العرف كما في ابتداء الشراء إذا أطلق يلزمه نقد البلد, وإذا سمى نقدا آخر لزمه ما سمى فأما الزيافة فاسم لخلل في النقد أينما كان بخلاف قوله علي كر حنطة إلا أنه رديء; لأن الرداءة في الحنطة ذكر نوع لا ذكر عيب كالهندي والحبشي والتركي في العبيد; لأن الحنطة تخلق جيدة وردية ووسطا كما يخلق العبد ذميما وحسنا ووسطا, والعيب ما يخلو عنه أصل الفطرة التي هي أساس في الأصل ألا ترى أنه لو قال بعتك هذه الحنطة وأشار إليها والمشتري كان رآها فوجد ردية ولم يكن علمها لم يكن له خيار الرد بالعيب ولو قال بعتك بهذه الدراهم وأشار إليها وهي زيوف استحق مثلها جيادا لا زيافة فيها ولو كانت النقود مختلفة. وما أشار إليها نقد فوقه نقد آخر استحق مثلها من ذلك لا مما هو فوقه فعلم أن الزيافة عيب فكان بمنزلة ما لو قال بعتك هذه الجارية وهي معيبة فإن المشتري يستحقها غير معيبة وبخلاف قوله إلا أنها وزن خمسة; لأنه استثناء لبعض القدر وما للبيع موجب في قدر فكان بمنزلة قوله إلا مائة كذا في الأسرار قال الشيخ أبو الفضل الكرماني رحمه الله فهما نظرا إلى العرف فوجدا الزيافة كثيرة الوجود عرفا واستعمالا وأبو(3/209)
أقبضها لم يصدق عند أبي حنيفة إذا كذبه المقر له في قوله لم أقبضها وصدقه في الجهة أو كذبه في الجهة وادعى المال, وقالا إن صدقه في الجهة صدق وإن
ـــــــ
حنيفة رحمه الله نظر إلى الأصل فقال الأصل هو السلامة فلا يعرض عنه إلا إذا صار مهجورا من كل وجه فهذا أقرب إلى الحقيقة وما قالاه أقرب إلى الفقه باعتبار العرف.
وأما إذا قال له علي ألف درهم من قرض إلا أنها زيوف فهو على الخلاف أيضا في ظاهر الرواية; لأن المستقرض مضمون بالمثل فكان هو وثمن البيع سواء والاستقراض متعامل بين الناس كالبيع, وذلك في الجياد عادة. وذكر في غير رواية الأصول عن أبي حنيفة رحمه الله أن هاهنا يصدق إذا وصل; لأن المستقرض إنما يصير مضمونا على المستقرض بالقبض فهو بمنزلة الغصب ولو أقر بألف درهم غصب وقال هي زيوف كان القول قوله فكذلك هاهنا إلا أن هاهنا لا يصدق إذا فصل ما فيه من شبه البيع من حيث المعاملة بين الناس بخلاف الغصب كذا في المبسوط كدعوى الأجل في الدين بأن قال له علي ألف درهم مؤجل أو علي درهم من ثمن متاع باعنيه وأجلني إلى كذا يقبل قوله في الآجل إذا أنكره الطالب; لأن الأصل في الدين الحلول والأجل إنما يثبت بعارض الشرط فكان ادعاء الأجل رجوعا لا بيانا ودعوى الخيار في البيع بأن أقر بدين من ثمن بيع على أنه فيه بالخيار ثلاثة أيام وكذبه صاحبه أو أقر البائع ببيع شيء على أنه بالخيار فيه ثلاثة أيام وكذبه المشتري لم يثبت الخيار; لأن مقتضى مطلق البيع اللزوم والخيار يثبت بعارض فمن ادعى تغييره باشتراط الخيار لا يقبل قوله إلا بحجة وكان راجعا عما أقر به لا مبينا.
قوله "وإذا قال لفلان علي ألف درهم" هذه المسألة من المسائل المبنية على بيان التغيير عندهما وبيانها أنه إذا قال علي ألف درهم من ثمن جارية باعنيها إلا أني لم أقبضها لم يصدق عند أبي حنيفة رحمه الله إذا كذبه المقر له في قوله لم أقبضها سواء صدقه في الجهة بأن يقول نعم كان الألف عليه ثمن جارية ولكنه قد قبضها أو كذبه في الجهة بأن يقول ما بعتك جارية ولكن الألف الذي عليك من قرض أو غصب أو ادعى الألف مطلقا وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله إن صدق المقر له المقر في الجهة بأن قال الألف من ثمن البيع صدق المقر في قوله لم أقبضها وصل أم فصل; لأن قوله لفلان علي ألف درهم إقرار بوجوب المال عليه وقوله له من ثمن كذا بيان لسبب الوجوب فإذا صدقه المقر له في هذا السبب يثبت بتصادقهما, ثم المال بهذا السبب يكون واجبا قبل القبض; لأن الثمن يجب بنفس البيع ولا يسقط بغيبة الجارية بإباق ولا غيره وإنما يتأكد بالقبض فصار البائع مدعيا عليه تسليم المعقود عليه وهو منكر لذلك فجعلنا قول(3/210)
فصل; لأنه إذا صدقه فيها ثبت البيع فيقبل قول المشتري إنه لم يقبض وعلى المدعي البينة وإن كذبه فيها صدق إذا وصل; لأن هذا بيان مغير من قبل أن الأصل في البيع وجوب المطالبة بالثمن, وقد يجب الثمن غير مطالب به بأن يكون المبيع غير مقبوض فصار قوله غير أني لم أقبضها مغيرا للأصل, ولما كان كون
ـــــــ
المنكر في إنكار القبض. وإن كذب المقر له المقر في الجهة بأن قال الألف عليه من جهة أخرى سوى البيع صدق المقر في قوله لم أقبضها إذا وصل ولم يصدق إذا فصل; لأن قوله لم أقبض تغيير لمقتضى مطلق الكلام; لأن مقتضى الكلام الأول أن يكون مطالبا بالمال في الحال ولكن على احتمال أن لا يكون مطالبا به حتى تحضر الجارية فإن الإنسان قد يشتري جارية بألف فتأبق فيبقى الثمن عليه ولا يطالب به وقد يشتري جارية غائبة ببلدة أخرى فيصح ولا يؤمر بتسليم الثمن حتى تحضر الجارية, وقد يكون الألف ثمنا وغير ثمن فكان قوله غير أنى لم أقبضها مغيرا للأصل فإنه يبطل المطالبة الواجبة بنفس العقد إلى أن تحضر الجارية, وبيانا لمحتمل الكلام فإن كون المبيع غير مقبوض أحد محتملي البيع لا من العوارض كشرط الخيار والأجل فكان قوله لم أقبض بيانا مغيرا إلى هذا النوع من الاحتمال فيصحح موصولا لا مفصولا
ولا يقال إن جارية لا يشار إليها هالكة وثمن الهالكة لا يكون عليه إلا بعد القبض فيصير إقرارا بالقبض; لأنا نقول إن جارية لا يشار إليها آبقة فزيادة صفة الهلاك لا تثبت إلا بدلالة أخرى ولا دلالة هاهنا سوى أنها غير مشار إليها كذا في الأسرار فالحاصل أنهما جعلاه بيانا محضا إذا صدقه المقر له في الجهة; لأن الاتفاق وقع على وجوبه بجهة ولا يجب تسليم الثمن إلا إذا كان المبيع مقبوضا ولم يوجد الإقرار بالقبض وإن كذبه في الجهة كان بيانا مغيرا على معنى أن الحكم لا بد له من سبب, وقضية مطلق الإقرار تستدعي أن يكون مطالبا به وباعتبار بيان السبب هو غير مطالب فكان بيانا بمعنى التغيير كذا في إشارات الأسرار
ولأبي حنيفة رحمه الله أن هذا أي قوله لم أقبضها رجوع عما أقر به وليس ببيان فلا يصح موصولا ولا مفصولا. وبيانه أنه أقر بوجوب ثمن جارية بغير عينها عليه وثمن المبيع الذي لا يعرف أثره أي لا يكون معينا لا يكون واجبا إلا بعد القبض; لأن ما لا يكون معينا فهو في حكم المستهلك إذ لا طريق إلى التوصل إليه فإنه ما من مبيع يحضره إلا وللمشتري أن يقول المبيع غير هذا وتسليم الثمن لا يجب إلا بإحضار المعقود عليه فعرفنا أنه في حكم المستهلك وثمن المبيع المستهلك لا يكون واجبا إلا بعد القبض فكأنه أقر بالقبض, ثم رجع عنه يوضحه أنه أقر بالمال وادعى لنفسه أجلا لا إلى غاية معلومة وهو إحضار المبيع ولا طريق للبائع إلى ذلك ولو ادعى أجل شهر أو نحو ذلك لم يصدق وصل أم فصل, وإذا ادعى أجلا مؤبدا أولى أن يكون مصدقا في ذلك كذا في المبسوط. وذكر القاضي الإمام رحمه الله في الأسرار أن المطالبة بالثمن موجب العقد كنفس(3/211)
المبيع غير مقبوض أحد محتمليه لا من العوارض كان بيانا مغيرا فصح موصولا ولأبي حنيفة رضي الله عنه أن هذا رجوع وليس ببيان; لأن وجوب الثمن مقابلا بمبيع لا يعرف أثره دلالة قبضه والثابت بالدلالة مثله إذا ثبت بالصريح فإذا رجع لم يصح وهذا فصل يطول شرحه.وعلى هذا الأصل إيداع الصبي الذي يعقل
ـــــــ
الوجوب ولا تتأخر إلا بعارض يعترض على البيع أو يقارنه من تأجيل أو غيبة للمبيع كنفس الملك لا يتأخر إلا بعارض نحو شرط الخيار فيصير المقر ببيان ما يتأخر عنه المطالبة وهو قوله لم أقبضها مدعيا أمرا عارضا يرفع موجب العقد بعد ما لزمه موجبه بالإقرار بالبيع فلا يصدق كما لو ادعى الأجل في الثمن, وإذا لم يصدق بقي مطالبا بالثمن ولا يجب المطالبة والجارية غائبة إلا بعد القبض صار مقرا بالقبض. بخلاف ما إذا قال لفلان علي ألف درهم من ثمن هذه الجارية إلا أني لم أقبضها فإنه يصدق وصل أم فصل; لأن هذا البيان لا يغير موجب العقد ولا يتأخر به عن المطالبة وإنما يتأخر بإنكار الآخر البيع وامتناعه عن التسليم إليه, فأما لو صدقه على البيان فيطالب المشتري بتسليم الثمن أولا, ثم قبض الجارية وهاهنا لو صدقه ما بقيت مطالبة على المشتري ما لم تحضر الجارية ولا يلزم ما إذا قال غصبت من فلان ألف درهم إلا أنها ستوقة فإنه يصدق إذا وصل; لأن الغصب كما يرد على الدراهم الجيدة يرد على الدراهم الستوقة موجبة ضمان المغصوب فكان قوله إلا أنها ستوقة استثناء لبعض ما كان يلزمه بالإطلاق وهو الحقيقة فخرجت وبقي المجاز لا رجوعا عما أقر وكان بمنزلة قوله إلا مائة وكذلك قوله لفلان علي ألف درهم وديعة مصدق إذا وصل; لأنه بين أنه أراد بقوله علي التزام الحفظ لا العين وكلمة علي كلمة تتناولهما جميعا بحكم شمول الكلمة لا بحكم الشرع فما للشرع حكم متعلق بكلمة علي في لزوم قدر بعينه وإنما اللزوم بحكم اللغة ومن حكم اللغة أن المستثنى لا يدخل تحت الجملة إنكارا على ما عليه اللغة, فأما فيما نحن فيه فالسلامة عن العيب ووجوب المطالبة بالثمن حكم شرعي ثبت للبيع لا يتغير شرعا إلا بمعنى عارض وبدون العارض لا يتصور تغيره فلا يكون التغير بدعوى العارض إنكارا من الأصل بل يكون دعوى.
قوله "والثابت بالدلالة مثل الثابت بالصريح" يعني لما دل إقراره بوجوب الثمن بمقابلة جارية بكرة على القبض صار كأنه صرح بالإقرار بالقبض بأن قال علي ألف من ثمن جارية قبضتها فكان قوله بعد ذلك لم أقبضها رجوعا لا بيانا فيبطل, فإن قيل إنما يعتبر الدلالة إذا لم يعارضها صريح بخلافها وهاهنا قد صرح بآخر كلامه أنه لم يقبض فلا يثبت بالدلالة شيء في مقابلته كالضرورة إذا حج بنية النفل يكون متنفلا لا مفترضا لسقوط الدلالة بمقابلة الصريح على ما مر بيانه قلنا إنما تبطل الدلالة بالصريح إذا كانا(3/212)
قال أبو يوسف هو من باب الاستثناء; لأن إثبات اليد والتسليط نوعان: الاستحفاظ وغيره فإذا نص على الإيداع كان مستثنى والاستثناء من المتكلم تصرف على نفسه فلا يبطل لعدم الولاية بل لا يثبت إلا الاستحفاظ ثم لا ينفذ الاستحفاظ
ـــــــ
في زمان واحد ليتحقق التدافع فيترجح الصريح على الدلالة فأما إذا كانا في زمانين فلا تدافع فيثبت موجب كل واحد منهما كما إذا حج ضرورة بنية النفل, ثم حج في سنة أخرى بمطلق النية يكون مفترضا في الثانية دلالة وهاهنا ثبت القبض بأول كلامه دلالة ولكن لا يمكن اعتبار الصريح; لأنه ليس في وسعه إبطال ما ثبت بالإقرار كما لو صرح بالقبض, ثم قال لم أقبض فيبطل الثاني ضرورة حتى لو كان في وسعه إبطال الأول ثبت موجب الصريح بأن منع من التقاط الثمار الساقطة تحت الأشجار ترتفع الإباحة الثابتة دلالة إذ في وسعه رفعها وإبطالها
قوله "وعلى هذا الأصل" أي على الاستثناء بنيت مسألة إيداع الصبي وهو إضافة المصدر إلى أحد المفعولين وحذف الآخر أي إيداع الصبي شيئا والخلاف فيما إذا أودع مالا سوى العبد والأمة صبيا عاقلا محجورا عليه فاستهلكه لا يضمن عند أبي حنيفة ومحمد ويضمن عند أبي يوسف والشافعي رحمهم الله, فإن هلك بغير صنعه لا ضمان عليه بالإجماع وإن قصر في الحفظ وإن كان مأذونا له في التجارة أو قبل الوديعة بإذن وليه فاستهلكها فهو ضامن بالإجماع وإن كان الوديعة عبدا أو أمة فقتله فالدية على عاقلته بالإجماع وإن كان الصبي غير عاقل فقد ذكر في بعض شروح الجامع الصغير أن الخلاف في العاقل وغير العاقل سواء فإن محمدا رحمه الله ذكر المسألة في الوديعة ولم يذكر, وقد عقل. وذكر القاضي الإمام فخر الدين وصدر الإسلام والإمام التمرتاشي في شروح الجامع الصغير والإمام الإسبيجابي رحمهم الله في المبسوط أن الخلاف فيما إذا كان عاقلا, فإن لم يكن عاقلا فلا يضمن في قولهم جميعا. وذكر الشيخ المصنف رحمه الله في شرح الجامع الصغير أن الخلاف في الصبي الذي يعقل فأما الذي لا يعقل فيجب أن يضمن بالإجماع; لأن تسليطه هدر وفعله معتبر. وجه قول أبي يوسف والشافعي رحمهما الله أن إيداعه من باب الاستثناء; لأن إثبات يد الغير على المال وتسليطه عليه يتنوع نوعين قد يكون للاستحفاظ, وقد يكون لغيره من الإباحة والتمليك والتوكيل ونحوها فإذا نص على الإيداع بقوله احفظه كان بيانا أنه أراد بالتسليط التمكين للحفظ لا غير وإن غير الاستحفاظ مستثنى مما تناوله مطلق التسليم; لأن الاستثناء يبين أن مراد المتكلم ما وراء المستثنى وهاهنا بهذه المثابة فكان استثناء معنى وفي بعض النسخ كان مستثنيا أي كان المودع بقوله احفظ مستثنيا لغير الاستحفاظ مما تناوله مطلق التسلط.(3/213)
لعدم الولاية فيصير كالمعدوم, وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله ليس هذا من باب الاستثناء; لأن التسليط فعل يوجد من المسلط فلا يصح استثناء ما وراء الاستحفاظ منه والفعل مطلق لا عام والمستثنى من خلاف جنسه فيصير ذلك من باب المعارضة فلا بد من تصحيحه شرعا ليعارضه ولم يوجد وصار هذا مثل قول الشافعي رحمه الله في الاستثناء,
ـــــــ
والاستثناء من المتكلم تصرف منه على نفسه مقصور عليه غير متناول لحق الغير; لأنه بيان المراد مما تكلم به وفي ولايته ذلك فلا يعتبر لصحته حال المخاطب أو ثبوت ولاية له عليه بل باستثنائه يخرج ما وراء الاستحفاظ من هذا التسليط ولا يثبت به إلا الاستحفاظ, ثم لم يتعد إلى الصبي لعدم ولايته عليه فيسقط ويصير كالمعدوم أيضا وبعد ما عدم كلا النوعين الاستحفاظ لعدم الولاية وغير الاستحفاظ للاستثناء معنى صار كأن التسليط على المال لم يوجد أصلا وكأنه ألقاه على قارعة الطريق بالاستحفاظ من الصبي فإذا استهلكه كان بعد ضامنا; لأنه ضمان فعل لا ضمان عقد فيستوي فيه الصبي والبالغ كما لو استهلكه قبل الإيداع وكما لو كانت الوديعة عبدا فقتله الصبي فإنه يضمن, ولا يقال لما مكن الصبي من المال مع علمه أنه لا يحفظه ويتلفه كان تسليطا كما لو قرب الشحم إلى الهرة وقال لها لا تأكلي فإنه يكون تسليطا على الاستهلاك ويلغو نهيه; لأنا نقول الاختلاف في صبي يعقل الحفظ لا في صبي لا يعقله ألا ترى أن هذا الصبي لو بلغ أو أجازه الولي صار مودعا ولو كان الخطاب مع من لا يعقل لكان يلغو ولا يصح بالبلوغ والإجازة. وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله ليس هذا أي ليس هذا الإيداع من باب الاستثناء يعني قوله احفظ ليس باستثناء لغير الاستحفاظ; لأن التسليط فعل يوجد من المسلط بنقل اليد إلى الغير لا قول فلا يصح استثناء ما وراء الاستحفاظ منه; لأن الاستثناء يجري في الألفاظ لا في الأفعال ولا لفظ هاهنا يستثنى منه شيء على أن هذا الفعل وهو التسليط والدفع مطلق لا عام; لأن العموم لا يجري في الأفعال فلا يصح تنويعه إلى نوعين وبناء الاستثناء عليه ولئن سلمنا أنه عام فلا يمكن جعل كلامه استثناء منه حقيقة; لأن قوله احفظ كلام ليس من جنس الفعل ولا بد لحقيقة الاستثناء من المجانسة كذا قيل وللخصم أن يقول على هذا الحرف أنا لا أجعل قوله احفظ مستثنى من الفعل بل أجعل قوله احفظ دلالة على أنه استثناء غير الاستحفاظ من هذا الفعل معنى وليس في ذلك عدم مجانسة كما ترى فيصير ذلك في باب المعارضة أي يصير قوله احفظ معارضا لفعل التسليط يعني لو جعل احفظ استثناء لجعل استثناء منقطعا يعمل بطريق المعارضة. فلا بد من تصحيحه شرعا لتعارضه أي من تصحيح قوله أودعتك هذا الشيء فاحفظه لتعارض ذلك الفعل; لأن(3/214)
---------------------------------------------------------
ـــــــ
ما كان بطريق المعارضة يعتمد الصحة شرعا كدليل الخصوص إنما يكون معارضا إذا صح في نفسه شرعا ولم يوجد في حق الصبي; لأن صحته بكون المخاطب من أهل الالتزام بالعقد, وذلك في حق البالغ دون الصبي فيبقى التسليط مطلقا في حق الصبي والدليل عليه أن الصبي لو ضيع الوديعة لا يضمن بأن رأى إنسانا يأخذها أو دله على أخذها والبالغ يضمن بمثله فعرفنا أن المعارض صحيح في حق البالغ دون الصبي ويحتمل أن يكون الواو في قوله والفعل وقوله والمستثنى للحال أي التسليط فعل فلا يصح استثناء ما وراء الاستحفاظ منه حقيقة والحال أن هذا الفعل مطلق لا عام وأن المستثنى من خلاف جنس المستثنى منه, ولما لم يمكن جعله استثناء حقيقيا لهذه الموانع يجعل استثناء منقطعا معارضا للمستثنى منه إن أمكن ولا يصح جعله معارضا أيضا لما ذكر فيبقى الفعل تسليطا مطلقا فلا يجب الضمان
"وصار هذا" أي كون هذا الاستثناء معارضا مثل قول الشافعي في الاستثناء الحقيقي فإنه يجعله معارضا كما جعلنا الاستثناء المنقطع معارضا واحتج محمد رحمه الله في الأصل بأنه صبي, وقد سلطه على الاستهلاك حين دفعه إليه قال شمس الأئمة رحمه الله وفي تفسير التسليط نوعان من الكلام: أحدهما أنه تسليط باعتبار العادة فإن عادة الصبيان إتلاف المال لقلة نظرهم في عواقب الأمور فهو لما مكنه من ذلك مع علمه بحاله يصير كالآذن له بالإتلاف وبقوله احفظ لا يخرج من أن يكون آذنا; لأنه إنما يخاطب بهذا من لا يحفظ فهو كمقدم الشعير بين يدي الحمار وقوله له لا تأكل. بخلاف العبد والأمة; لأنه ليس من عادة الصبيان القتل; لأنهم يهابون القتل ويفرون منه فلا يكون إيداعه تسليطا على القتل باعتبار عادتهم, وهذا بخلاف الدواب فإن من عادتهم إتلاف الدواب ركوبا فيثبت التسليط في الدابة بطريق العادة والأصح أن يقول معنى التسليط تحويل يده في المال إليه فإن المالك باعتبار يده كان متمكنا من استهلاكه فإذا حول يده إليه كان ممكنا له من استهلاكه بالغا كان المودع أو صبيا إلا أنه بقوله احفظ قصد أن يكون هذا التحويل مقصورا على الحفظ, وهذا صحيح في حق البالغ باطل في حق الصبي; لأنه التزام بالعقد والصبي ليس من أهله فيبقى التسليط على الاستهلاك بتحويل اليد إليه مطلقا, فإن قيل هذا تسليط وتمكين حسي والمعتبر هو التمكين شرعا, وذلك يكون بالملك ولم يوجد قلنا بالتمكين والتسليط حسا يحصل الرضاء بالإتلاف, وذلك كاف, ثم نقول المالك تمكن بيد حقيقة تفرعت على الملك وعين ما كان يتمكن به شرعا نقلت إلى المودع والنقل في الملك إن لم يوجد ففي اليد المتفرعة عن الملك قد وجد واليد تقبل(3/215)
وعلى هذا الأصل قال أصحابنا رحمهم الله في كتاب الشركة في رجل قال لآخر بعت منك بألف هذا العبد إلا نصفه أن البيع يقع على النصف بألف, ولو قال على أن لي نصفه يقع على النصف بخمسمائة; لأن الاستثناء تكلم بالباقي وإنما دخل في المبيع لا في الثمن فيصير المبيع نصفا فيبقى كل الثمن وقوله على أن لي نصفه شرط معارض لصدر الكلام فيكون موجبه أن يعارض
ـــــــ
الفصل عن الملك كملك الثمرة تقبل الفصل عن ملك الشجرة, وإذا ثبت أن اليد التي كانت للمالك انتقلت إليه يتمكن منه شرعا بخلاف العبد والأمة فإن المالك باعتبار يده ما كان متمكنا من قبل الآدمي فتحويل اليد إليه لا يكون تسليطا على قتله. ولأن الإيداع من المالك تصرف في ملكه والمملوك في حكم الدم مبقى على أصل الحرية فلا يتناوله الإيداع والتسليط ثبت باعتباره بخلاف ما لو قال اقتل عبدي فقتله فإنه لا يضمن; لأن ذلك استعمال والاستعمال وراء التسليط فإن بعد الاستعمال إذا لحقه ضمان يرجع على المستعمل وبعد التسليط يسقط حق المسلط في التضمين لرضاه به ولا يثبت لأحد حق الرجوع عليه ولهذا قلنا في هذا الموضع إن الصبي المستهلك إذا ضمن للمستحق لا يرجع على المودع بخلاف ما لو قال له أتلفه فذاك استعمال للصبي بالأمر ألا ترى أنه لو كان عبدا صار عاصيا بالاستعمال بأمره, وهذا تسليط له بمنزلة قوله أبحت لك أن تأكل هذا الطعام إن شئت ولو قال ذلك فأكله الصبي لم يضمن ولو جاء مستحق وضمنه لم يرجع على الذي قال له ذلك فهذا مثله كذا في المبسوط وغيره.
فإن قيل لو أودع رجلا مالا فأتلفه صبيه ضمن والإيداع عنده إيداع عند من يدخل في عياله. قلنا لأن القبول من المودع قبول على نفسه وعلى من يدخل في عياله أيضا كما يكون من رب الوديعة إيداعا إياه ومن يدخل في عياله فيصير الصبي على هذا مودعا بإذن وليه فيصير في حكم البالغ.
قوله "وعلى هذا الأصل" وهو أن الاستثناء تكلم بالباقي. أن البيع يقع على النصف أي نصف العبد بالألف. وإنما دخل أي الاستثناء في المبيع وهو العبد لا في الثمن وهو الألف; لأن الكناية تنصرف إلى ما هو المقصود في الكلام والمقصود هاهنا هو المبيع ولأنه ابتدأ في صدر كلامه بذكر المبيع والابتداء يقع بالأهم فكان هو المقصود فينصرف الضمير والاستثناء إليه لا إلى الألف والكلام المقيد بالاستثناء عبارة عما وراء المستثنى فصار كأنه قال بعت نصفه بألف درهم
وقوله "على أن لي نصفه شرط معارض" يعني صدر الكلام يتناول جميع العبد(3/216)
هذا الإيجاب الأول فيصير العقد واقعا للبائع والمشتري فيصير بايعا من نفسه ومن المشتري, والبيع من نفسه صحيح بحكمه إذا أفاد وفي الدخول فائدة حكم التقسيم فيصير داخلا ثم خارجا ليخرج بقسطه من الثمن مثل من اشترى عبدين بألف درهم أحدهما ملك المشتري أن الثمن ينقسم عليهما. ألا ترى أن شراء مال المضاربة يصح بمباشرة رب المال.وعلى هذا الأصل رجل وكل وكيلا بالخصومة على أن لا يقر عليه أو غير جائز الإقرار بطل هذا الشرط عند أبي يوسف; لأن على قوله الإقرار يصير مملوكا للوكيل لقيامه مقام الموكل لا لأنه من الخصومة حتى لا يختص بمجلس الخصومة فيصير ثابتا بالوكالة حكما
ـــــــ
وقوله على أن لي نصفه ليس باستثناء بل هو عامل بطريق المعارضة للأول وهو يصلح معارضا; لأنه كلام مستبد بنفسه وموجبه على خلاف الأول كذا في بعض الشروح فيتبين بالمعارضة أنه جعل الإيجاب في نصفه للمخاطب وفي نصفه لنفسه, وذلك صحيح منه إذا كان مفيدا, وقد أفاد هاهنا تقسيم الثمن على المستثنى والمستثنى منه ولو لم يدخل النصف المشروط لنفسه في البيع لصار بيعا بالحصة ابتداء وأنه لا يجوز ولصار قبول العقد في غير المبيع شرطا لانعقاد العقد في المبيع وهو شرط فاسد فيفسد به البيع أيضا, ولا يمكن التقسيم فعرفنا أن في الدخول فائدة فوجب القول به كما في مسألة شراء مال المضاربة من المضارب. وذكر في بعض الشروح أن في قوله " شرط معارض " إشارة إلى أن كل الشروط ليست بمعارضة بل هي مانعة للعلة من العمل كما عرف ولكن هذا شرط معارض; لأن عمل كلمة " على " يخالف عمل " أن ", وقد بينا ذلك في مسألة التعليق بالشرط ألا ترى أنه لو قال بعتك إن كان لي نصفه لا يجوز العقد.
قوله "وعلى هذا الأصل" وهو أن الاستثناء بيان تغيير قلنا إذا وكل بالخصومة والمسألة على وجوه
أحدها أن يوكله بالخصومة من غير تعرض لشيء آخر فيصير وكيلا بالإنكار بالإجماع وبالإقرار في مجلس عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وفي غير مجلس الحكم أيضا عند أبي يوسف رحمه الله, وقد مر بيانه في باب أحكام الحقيقة والمجاز.
والثاني أن يوكله بالخصومة غير جائز الإقرار عليه أو على أن لا يقر عليه بطل هذا الاستثناء عند أبي يوسف خلافا لمحمد رحمهما الله كذا ذكر الشيخ في شرح الجامع الصغير كما ذكر هاهنا. وذكر في المبسوط أن الاستثناء يصح في ظاهر الرواية وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يصح; لأن من أصله أن صحة الإقرار باعتبار أن الوكيل قام مقام(3/217)
لا مقصودا فلا يصح استثناؤه ولا إبطاله بالمعارضة إلا بنقض الوكالة, وقال محمد رحمه الله استثناؤه جائز وللخصم أن لا يقبل هذا الوكيل; لأن الخصومة تناولت الإقرار عملا بمجازها على ما عرف وانقلب المجاز هنا بدلالة الديانة حقيقة وصارت الحقيقة كالمجاز فإذا استثنى الإقرار وقيد التوكيل كان بيانا مغيرا فصح
ـــــــ
الموكل فيملك ما كان الموكل مالكا له لا باعتبار أنه من الخصومة, والموكل يملك الإقرار بنفسه في مجلس القضاء وفي غير مجلس القضاء فكذا الوكيل, وإذا كان كذلك يصير الإقرار على الموكل ثابتا للوكيل حكما للوكالة لا مقصودا فلا يصح استثناؤه بقوله غير جائز الإقرار ولا إبطاله بالمعارضة بقوله على أن لا يقر علي; لأن من شروط صحة الاستثناء ثبوت المستثنى مقصودا بصدر الكلام ليمكن جعل الكلام بعد الاستثناء تكلما بالباقي فإذا ثبت حكما وتبعا لا يصح استثناؤه كما لو وكله بالبيع على أن لا يقبض الوكيل الثمن أو لا يسلم المبيع كان الاستثناء باطلا وكذلك استثناء أطراف الحيوان في البيع لا يجوز; لأنها تدخل في العقد تبعا لا مقصودا.
وقد نص في الهداية أن ما يجوز إيراد العقد عليه بانفراده يجوز استثناؤه, وهذا لأن صحة الإقرار لما ثبت حكما للوكالة ما دامت الوكالة باقية كان حكمها باقيا; لأن الشيء إذا بقي بقي بحكمه ولأن الاستثناء تصرف لفظي فيقتصر عمله على ما يتناوله اللفظ ولا يعمل فيما ثبت بطريق الحكم إلا بنقض الوكالة أي لا يملك إبطال إقراره عليه إلا بأن ينقض الوكالة بالعزل; لأنه لما ثبت حكما للوكالة ينتقض بانتقاضها. وقال محمد رحمه الله وهو ظاهر الرواية استثناؤه جائز وللخصم أن لا يقبل هذا الوكيل; لأنه لما جاز استثناء الإقرار لا يمكنه الوصول إلى حقه إلا بإقامة البينة وربما لا يتمكن من ذلك فلا يفيده مخاصمته فكان له أن لا يقبل ولجواز الاستثناء وجهان أحدهما أن الخصومة تتناول الإقرار عملا بمجازها; لأن الخصومة لما كانت مهجورة شرعا صار التوكيل بالخصومة توكيلا بالجواب مجازا; لأن توكيله إنما يصح شرعا بما يملكه الموكل بنفسه والذي تيقن بأنه مملوك للموكل الجواب لا الإنكار فإنه إذا عرف المدعي محقا لا يملك الإنكار شرعا وتوكيله بما لا يملك لا يجوز شرعا فحملناه على هذا النوع من المجاز كالعبد المشترك بين اثنين يبيع أحدهما نصفه مطلقا ينصرف بيعه إلى نصيبه خاصة لتصحيح عقده, وإذا صار توكيلا بالجواب يدخل فيه الإقرار والإنكار; لأن الإقرار جواب تام كالإنكار, ثم هذا المجاز انقلب حقيقة شرعية بدلالة الديانة فإنها تحمله على الجواب الواجب وتمنعه عن الإنكار عند معرفته المدعي محقا وصارت الحقيقة وهي الخصومة كالمجاز فلما استثنى الإقرار تبين أنه صرف الكلام من الحقيقة التي هي مطلق الجواب إلى المجاز وهو الإنكار والخصومة وقيد التوكيل به, وتقييد الإطلاق تغيير له بلا شبهة فكان استثناء الإقرار بيانا مغيرا فيصح(3/218)
موصولا وعلى هذا يجب أن لا يصح مفصولا إلا أن يعزله أصلا; لأنه عمل بحقيقة اللغة فصح فلم يكن استثناء في الحقيقة وعلى هذا يصح مفصولا وهو اختيار الخصاف واختلف في استثناء الإنكار والأصح أنه على هذا الاختلاف على الطريق الأول لمحمد رحمه الله.
ـــــــ
موصولا ويجب أن لا يصح مفصولا إلا أن يعزل الوكيل عن الوكالة فحينئذ يسقط الإقرار ببطلان الوكالة. وقوله أصلا لدفع وهم من يتوهم أن الإقرار يسقط بعزله عن الإقرار وإن لم يسقط بالاستثناء منفصلا كمن وكل رجلا ببيع عبدين لا يصح استثناء أحدهما منفصلا ويصح عزله عن بيع أحدهما عينا فقال لا يسقط الإقرار هاهنا بعزله عنه كما لا يسقط بالاستثناء منفصلا; لأن الإقرار ثبت له حكما للوكالة فما لم يعزله عن الوكالة لا يسقط الإقرار والوجه الثاني أن صحة إقرار الوكيل باعتبار ترك حقيقة اللفظ إلى نوع من المجاز إذ الإقرار مسالمة وليس بخصومة فهو بقوله غير جائز الإقرار تبين أن مراده حقيقته اللغوية وهي الخصومة لا مطلق الجواب الذي هو مجاز بمنزلة بيع أحد الشريكين نصف العبد شائعا من النصيبين لا ينصرف إلى نصيبه خاصة عند التنصيص عليه بخلاف ما إذا أطلق فلم يكن هذا استثناء حقيقة بل كان بيان تقرير فيصح موصولا ومفصولا. والثالث أن يوكله بالخصومة غير جائز الإنكار عليه, وقد اختلف فيه فقال بعضهم لا يصح استثناء الإنكار بالاتفاق; لأنه يؤدي إلى تعطيل اللفظ فإن فيه إبطال حقيقته ومجازه فإن حقيقته المنازعة وهي تحصل بالإنكار ومجازه الجواب وهو يشمل الإقرار والإنكار فباستثناء الإنكار تعذر العمل بهما جميعا فيبطل وقال بعضهم هو على الخلاف أيضا وهو الأصح; لأنه لما صار عبارة عن الجواب والجواب يشمل الإنكار والإقرار جميعا صح استثناء الإنكار كما يصح استثناء الإقرار وينبغي أن يشترط الوصل; لأنه تقييد للإطلاق. وهذا معنى قوله على الطريق الأول لمحمد ولا يستقيم تخريجه على الطريق الثاني; لأنه ليس عملا بالحقيقة بوجه. وذكر في المبسوط ولو استثنى الإنكار فقال غير جائز الإنكار علي صح عند محمد خلافا لأبي يوسف رحمهما الله; لأن إنكار الوكيل قد يضر الموكل بأن كان المدعي وديعة أو بضاعة فأنكر الوكيل لم يسمع منه دعوى الرد والهلاك بعد صحة الإنكار ويسمع ذلك منه قبل الإنكار فإذا كان إنكاره قد يضر الموكل صح استثناؤه الإنكار كما يصح استثناؤه الإقرار والرابع أن يقول وكلتك بالخصومة غير جائز الإقرار والإنكار قالوا لا يصح هذا التوكيل أصلا وحكي عن القاضي الإمام صاعد النيسابوري1 أنه قال يصح
ـــــــ
1 هو القاضي صاعد بن محمد بن أحمد بن عبدالله الاستوائي "343 – 432هـ".أنظر الفوائد البهية 83 – 84.(3/219)
--------------------------------------------------------
ـــــــ
ويصير الوكيل وكيلا بالسكوت في مجلس الحكم حتى يسمع عليه البينة. والخامس أن يوكله بالخصومة جائز الإقرار عليه يصير وكيلا بالخصومة والإقرار جميعا عندنا خلافا للشافعي رحمه الله, ثم التوكيل بالإقرار صحيح ولا يصير الموكل مقرا عندنا إليه أشار محمد في باب الوكالة بالصلح وحكي عن الشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي1 رحمه الله أن معنى التوكيل بالإقرار هو أن يقول للوكيل وكلتك أن تخاصم وتذب علي فإذا رأيت مذمة تلحقني بالإنكار واستصوبت الإقرار فأقر علي فإني قد أجزت لك. كذا في المغني والله أعلم
ـــــــ
1 هو أحمد بن محمد بن حامد أبو بكر الطواويسي الفقيه الحنفي المتوفي سنة 344هـ.الفوائد البهية ص 31.(3/220)
"باب بيان الضرورة"
قال الشيخ الإمام رضي الله عنه وهذا نوع من البيان يقع بما لم يوضع له وهذا على أربعة أوجه نوع منه ما هو في حكم المنطوق ونوع منه ما يثبت بدلالة حال المتكلم, ونوع منه ما يثبت بضرورة الدفع, ونوع منه ما يثبت بضرورة الكلام أما النوع الأول فمثل قول الله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] صدر الكلام أوجب الشركة ثم تخصيص الأم بالثلث دل على أن الأب يستحق الباقي فصار بيانا لقدر نصيبه بصدر الكلام لا بمحض السكوت ونظير ذلك قول علمائنا رحمهم الله في المضاربة: إن بيان نصيب المضارب
ـــــــ
"باب بيان الضرورة"
أي البيان الذي يقع بسبب الضرورة فكأنه أضاف الحكم إلى سببه بما لم يوضع له وهو السكوت نوع منه ما هو في حكم المنطوق أي النطق يدل على حكم المسكوت فكان بمنزلة المنطوق وقوله: بدلالة حال المتكلم مجاز أي بدلالة حال الساكت المشاهد وكأنه لما جعل سكوته بمنزلة الكلام سمى نفسه متكلما ضرورة الدفع أي دفع الغرور كان بيانا بصدر الكلام لا بمحض السكوت يعني لم يحصل هذا البيان بمجرد السكوت عن نصيب الأب بل بدلالة صدر الكلام وهو قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} " يصير نصيب الأب كالمنصوص عليه عند ذكر نصيب الأم كأنه قيل فلأمه الثلث ولأبيه ما بقي قوله: "ونظير ذلك" أي مثال هذا النوع من المسائل ما إذا بين رب المال نصيب المضارب من الربح ولم يبين نصيب نفسه بأن قال: خذ هذا المال مضاربة على أن لك من الربح نصفه جاز العقد قياسا واستحسانا لأن المضارب هو الذي يستحق بالشرط وإنما الحاجة إلى بيان نصيبه خاصة وقد حصل ولو بين نصيب نفسه من الربح ولم يبين نصيب(3/221)
والسكوت عن نصيب رب المال صحيح للاستغناء عن البيان, وبيان نصيب رب المال والسكوت عن نصيب المضارب صحيح استحسانا على أنه بيان بالشركة الثابتة بصدر الكلام وعلى هذا حكم المزارعة أيضا وعلى هذا إذا أوصى رجل لفلان وفلان بألف لفلان منها أربعمائة كان بيانا أن الستمائة للباقي, وكذلك إذا أوصى لهما بثلث ماله على أن لفلان منه كذا. وأما النوع الثاني فمثل السكوت من صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم عند أمر يعاينه عن التغيير يدل على الحقية عليه.
ـــــــ
المضارب فقال: خذ هذا المال مضاربة على أن لي نصف الربح ولم يسم للمضارب شيئا جاز العقد استحسانا وفي القياس لا يجوز لأنه لم يبين ما هو المحتاج إليه وهو نصيب المضارب من الربح وإنما ذكر ما لا يحتاج إليه وهو نصيب نفسه لأنه لا يستحق بالشرط وليس من ضرورة اشتراط النصف له اشتراط ما بقي للمضارب فإن ذلك مفهوم والمفهوم ليس بحجة للاستحقاق ومن الجائز أن يكون مراده اشتراط بعض الربح لعامل آخر يعمل معه بخلاف ما إذا بين نصيب المضارب خاصة لأنه ذكر ما يحتاج إلى ذكره وهو بيان نصيب من يستحق بالشرط. ووجه الاستحسان أن عقد المضاربة عقد شركة في الربح والأصل في المال المشترك أنه إذا بين نصيب أحد الشريكين كان ذلك بيانا في حق الآخر أن له ما بقي كما بينا في قوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} فها هنا لما دفع المال إليه مضاربة كان ذلك تنصيصا على الشركة بينهما في الربح وهو معنى قوله بالشركة الثابتة بصدر الكلام, فإذا قال على أن لي نصف الربح صار كأنه قال: ولك ما بقي فصح العقد كما لو صرح بذلك وهذا عمل بالمنصوص لا بالمفهوم وهو المراد من قوله هو في حكم المنطوق
قوله "وعلى هذا حكم المزارعة أيضا" يعني إذا لم يسم نصيب صاحب البذر وسمى نصيب العامل بأن قال على أن لك ثلث الخارج فهو جائز قياسا واستحسانا; لأن من لا بذر من قبله إنما يستحق بالشرط فلا بد من بيان نصيبه ليثبت الاستحقاق له بالشرط فأما صاحب البذر فيستحق بملكه البذر فلا ينعدم استحقاقه بترك البيان في نصيبه, وإن سمى نصيب صاحب البذر ولم يسم ما للآخر بأن قال على أن لي ثلثي الخارج وسكت عن نصيب المزارع ففي القياس لا يجوز; لأنهم ذكروا ما لا حاجة إلى ذكره وتركوا ما يحتاج إليه لصحة العقد, ومن لا بذر من قبله يستحق بالشروط فبدونه لا يستحق شيئا. وفي الاستحسان الخارج مشترك بينهما والتنصيص على نصيب أحدهما يكون بيانا أن الباقي للآخر فكأن صاحب البذر قال على أن لي ثلثي الخارج ولك ثلثه كذا في المبسوط.
قوله "وأما النوع الثاني" وهو السكوت الذي يكون بيانا بدلالة حال المتكلم فمثل(3/222)
ويدل في موضع الحاجة إلى البيان على البيان مثل سكوت الصحابة رضوان الله عليهم عن تقويم منفعة البدن في ولد المغرور وما أشبه ذلك
ـــــــ
سكوت صاحب الشرع عند أمر يعاينه من قول أو فعل عن التغيير يدل خبر مبتدإ محذوف أي هو يدل على الحقيقة مثل ما شاهد من بياعات ومعاملات كان الناس يتعاملونها فيما بينهم ومآكل ومشارب وملابس كانوا يستديمون مباشرتها فأقرهم عليها ولم ينكرها عليهم فدل أن جميعها مباح في الشرع إذ لا يجوز من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقر الناس على منكر محظور فإن الله تعالى وصفه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قوله عز ذكره {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف] فكان سكوته بيانا أن ما أقرهم عليه داخل في المعروف خارج عن المنكر.
وذكر في في بعض نسخ أصول الفقه أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا علم بفعل أو قول صدر عن مكلف وسكت عنه وقرره ولم ينكر عليه مع كونه قادرا على الإنكار فلا يخلو إما أن يكون من الأفعال والأقوال التي سبق من النبي عليه السلام النهي عنها وتحريمها ومن المباشر الإصرار عليها واعتقاد إباحتها أو لا يكون كذلك فإن كان الأول كسكوته عند رؤيته كافرا يمشي إلى كنيسة عن الإنكار فلا يدل على جواز ذلك الفعل ولا على كون النهي منسوخا بالاتفاق وإن كان الثاني فقد اختلف فيه قال قوم إن لم يسبقه تحريم فتقريره دل على الجواز ونفي الحرج, وإن سبقه تحريم فتقريره يدل على النسخ وذهبت طائفة إلى أن تقريره لا يدل على الجواز والنسخ متمسكين بأن السكوت وعدم الإنكار محتمل إذ من الجائز أنه عليه السلام سكت لعلمه بأنه لم يبلغه التحريم فلم يكن الفعل عليه إذ ذاك حراما أو سكت; لأنه أنكر عليه مرة فلم ينجح فيه الإنكار وعلم أن إنكاره ثانيا لا يفيد فلم يعاود وأقره على ما كان عليه, وإذا كان كذلك لا يصلح دليلا على الجواز والنسخ
وحجة الفريق الأول أن سكوته عليه السلام لو لم يدل على الجواز إن لم يسبق تحريم وعلى النسخ إن سبق لزم ارتكاب محرم وهو باطل, وذلك لأن الفعل أو القول الصادر لو لم يكن جائزا لكان التقرير عليه والسكوت عن الإنكار مع القدرة عليه حراما في حق غير النبي فكيف في حقه مع قوله عليه السلام "الساكت عن الحق شيطان أخرس" وفيه أيضا تأخير البيان عن وقت الحاجة; لأن السكوت عن الباطل يوهم الجواز أو النسخ وأنه غير جائز بالإجماع إلا عند من يجوز تكليف المحال وقولهم: يحتمل أنه لم يبلغه التحريم فاسد; لأن عدم بلوغ التحريم إليه غير مانع من الإنكار والإعلام بأن تلك الفعل أو القول حرام بل الإعلام بالتحريم واجب حتى لا يعود إليه ثانيا وإلا كان السكوت موهما عدم التحريم أو النسخ وكذا إذا بلغه التحريم ولم ينزجر بالإنكار مرة مع كونه مسلما(3/223)
وسكوت البكر في النكاح يجعل بيانا لحالها التي توجب ذلك وهو الحياء
ـــــــ
متبعا للنبي عليه السلام يجب تجديد الإنكار دفعا للتوهم المذكور وهذا بخلاف اختلاف أهل الذمة إلى كنائسهم; لأنهم غير متبعين له ولا معتقدين تحريم ذلك فلا يتوهم نسخ ذلك بسكوت النبي عليه السلام عن الإنكار عليهم
قوله "ويدل في موضع الحاجة" إلى كذا لا يخلو عن اشتباه; لأن ضمير يدل إن رجع إلى ما رجع إليه ضمير يدل الأول لانعطافه عليه بواسطة الواو على معنى أن سكوت النبي عليه السلام يدل على الحقيقة وعلى البيان في موضع الحاجة إليه لا يطابقه المثال المذكور وهو سكوت الصحابة, وإن جعل ضميره لمطلق السكوت كما هو مراد المصنف يأباه العطف إذ لا بد في العطف من تقدير ما قدر في المعطوف عليه في المعطوف ولو قرئ مثل بالنصب على معنى أن سكوت النبي عليه السلام يدل على كذا مثل دلالة سكوت الصحابة عليه لا يستقيم أيضا; لأن فيه اعتبار سكوت النبي عليه السلام بسكوتهم وهو قلب الأصل. ولو جعل مثل معطوفا على " مثل " الأول بغير واو وهو جائز عند بعض النحاة على ما هو المذكور في التيسير وقد بينا ذلك في أول الكتاب لاستقام وصار موافقا لعبارة شمس الأئمة رحمه الله حيث قال: وأما النوع الثاني فنحو سكوت صاحب الشرع إلى أن قال وكذلك سكوت الصحابة المغرور من يطأ امرأة معتمدا على ملك يمين أو نكاح على ظن أنها حرة فتلد منه ثم تستحق وولده هذا حر بالقيمة فإن يزيد بن عبد الله بن فسيط قال: أبقت أمة فأتت بعض القبائل فانتمت إلى بعض قبائل العرب وتزوجها رجل من بني عذرة فنثرت وأبطنها ثم جاء مولاها فرفع ذلك إلى عمر رضي الله عنه فقضى بها لمولاها وقضى على أبي الأولاد أن يفدي أولاده الغلام بالغلام والجارية بالجارية أي الغلام بقيمة الغلام والجارية بقيمة الجارية فإن الحيوان ليس بمضمون بالمثل في الشرع وهكذا روي عن علي رضي الله عنه في فضل الشراء وكان ذلك بمحضر عامة الصحابة رضي الله عنهم فكان بمنزلة الإجماع منهم ثم إنهم حكموا برد الجارية على مولاها وبكون الولد حرا بالقيمة وبوجوب العقر وسكتوا عن بيان قيمة منفعة بدل ولد المغرور ووجوبها للمستحق على المغرور فيكون سكوتهم دليلا على أن المنافع لا تضمن بالإتلاف المجرد عن العقد وعن شبهة العقد بدلالة حالهم; لأن المستحق جاء طالبا حكم الحادثة وهو جاهل بما هو واجب له وكانت هذه الحادثة أولى حادثة وقعت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مما لم يسمعوا فيه نصا فكان يجب عليهم البيان بصفة الكمال والسكوت بعد وجوب البيان دليل النفي كذا قال شمس الأئمة رحمه الله. وما أشبه ذلك أي وما أشبه تقويم منفعة بدون الولد من تقويم منافع الجارية المستحقة وخدمتها وإكسائها فإنهم لما سكتوا عن بيان حكمها(3/224)
والنكول جعل بيانا لحال في الناكل وهو امتناعه عن أداء ما لزمه مع القدرة عليه وهو اليمين وقلنا في أمة ولدت ثلاثة أولاد في بطون مختلفة: إنه إذا ادعى أكبرهم كان نفيا للباقين بحال منه وهو لزوم الإقرار لو كانوا منه.وأما الثالث فمثل المولى يسكت حين يرى عبده يبيع ويشتري فجعل إذنا دفعا للغرور عن
ـــــــ
مع الحاجة إليه كان بيانا أنها ليست بمتقومة أو ما أشبه ذلك من سكوتهم في تقدير الحيض عما فوق العشرة مع أنه موضع الحاجة إلى البيان توجب ذلك أي توجب كونه بيانا وهو الحياء الضمير راجع إلى الحال وتذكيره باعتبار تذكير الخبر أي تلك الحال هي الحياء على ما أشارت إليه عائشة رضي الله عنها في قولها: "إن البكر لتستحيي يا رسول الله" فجعل سكوتها دليلا على جواب يحول الحياء بينها وبين التكلم به وهو الإجازة التي يكون فيها إظهار الرغبة في الرجال وكذلك النكول أي ومثل سكوت البكر وهو امتناع المدعى عليه عن الحلف بعد توجه اليمين عليه من نكل القرن إذا تأخر عن محاربة صاحبه جعل بيانا أي إقرارا بوجوب المدعى به عليه عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لحال في الناكل وهو أي تلك الحال امتناعه عن أداء ما لزمه مع القدرة عليه وهو اليمين فإنها قد لزمته بقوله عليه السلام: "واليمين على من أنكر" فلا يكون امتناعه عن أدائها بعد الوجوب مع القدرة عليه إلا للاحتراز عن الوقوع في أمر أعظم منه وهو اليمين الكاذبة إذ المسلم لا يمتنع عن أداء الواجب إلا لأمر أعظم منه على ما يدل عليه حاله فيكون إقرارا بهذه الدلالة إلا أن أبا حنيفة رحمه الله لم يجعله إقرارا; لأن الامتناع كما يدل على الاحتراز عن اليمين الكاذبة يدل على الاحتراز عن نفس اليمين والفداء عنها اقتداء بالصحابة وعملا بظاهر قوله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224], وإنما وجبت عليه اليمين لمعنى في غيرها وهو رعاية حق المدعي لا لذاتها ويحصل ذلك المعنى ببدل ما ادعى له فيحمل امتناعه عن اليمين على اختيار البذل والفداء لا الإقرار والامتناع عن أداء الواجب إذ الوجوب منتف على تقدير البذل احترازا عن نسبته إلى الكذب كان نفيا للباقين لحال فيه يعني كان تخصيصه الأكبر وسكوته عن دعوة الآخرين نفيا للباقين بدلالة حال فيه وهي أن الإقرار بنسب ولد هو منه واجب وأن نفي نسب ولد ليس منه عن نفسه واجب أيضا, فإذا سكت عن بيان نسب الآخرين بعدما وجب عليه الإقرار بثبوته لو كانا منه كان دليل النفي; لأنه موضع الحاجة إلى البيان فيجعل ذلك كالتصريح بالنفي ولا يقال: إن الجارية صارت أم ولد بدعوة الأكبر فينبغي أن يثبت نسب الآخرين بالسكوت; لأنهما ولدا أم ولد; لأنا نقول: إنما يثبت نسب ولد أم الولد بالسكوت إذا لم يقارنه نفي وهاهنا قد دل السكوت على النفي بدلالة حاله كما ذكرنا فلا يثبت به النسب.(3/225)
--------------------------------------------------------
ـــــــ
قوله "وأما الثالث" وهو السكوت الذي جعل بيانا ضرورة دفع الغرور فمثل المولى إذا رأى عبده يبيع ويشتري فسكت عن النهي كان سكوته إذنا له في التجارة عندنا. وقال الشافعي: رحمه الله لا يكون إذنا; لأن سكوته عن النهي محتمل قد يكون للرضاء بتصرفه وقد يكون لفرط الغيظ وقلة الالتفات إلى تصرفه لعلمه أنه محجور عن ذلك شرعا والمحتمل لا يكون حجة كمن رأى إنسانا يبيع ماله فسكت ولم ينهه لا ينفذ ذلك التصرف بسكوته والدليل عليه أن هذا التصرف الذي يباشره لا ينفذ بسكوت المولى فإنه إذا رآه يبيع شيئا من ملكه لا ينفذ هذا التصرف فكيف يصير مأذونا في سائر التصرفات فالحاجة إلى رضاه مسقط لحق المولى عن مالية رقبته وذلك لا يحصل بالسكوت كمن رأى آخر يتلف ماله فسكت لا يسقط الضمان بسكوته وهذا بخلاف سكوت البكر فإن ذلك محتمل ولكن قام الدليل الموجب لترجيح الرضاء فيه وهو أن لها عند تزويج المولى كلامين لا ونعم والحياء يحول بينها وبين نعم لما بينا ولا يحول بينها وبين لا فكان سكوتها دليلا على الجواب الذي يحول الحياء بينها وبين ذلك ولا يوجد مثل لا لك ها هنا فلا يترجح جانب الرضاء وكذلك سكوت الشفيع عن الطلب فإنه لا حق للشفيع قبل الطلب, وإنما له أن يثبت حقه بالطلب, فإذا لم يطلب لم يثبت حقه وهاهنا حق المولى في مالية الرقبة ثابت, وإنما الحاجة إلى الرضاء المسقط لحقه ونحن نقول لو لم يكن سكوت المولى عن النهي إذنا له بالتجارة أدى إلى الضرر والغرور ودفعهما واجب لقوله عليه السلام "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" وقوله عليه السلام: "من غشنا فليس منا1" . وذلك لأن الناس يعاملون العبد ولا يمتنعون منها عند حضور المولى إذا كان ساكتا, فإذا لحقه ديون ثم قال المولى: كان عبدي محجورا عليه بتأخر الديون إلى وقت عتقه ولا يدري متى يعتق وهل يعتق أو لا يعتق فيكون آتوا حقوقهم ويلحقهم فيه من الضرر ما لا يخفى ويصير المولى غارا لهم فلدفع الضرر والغرور جعلنا سكوته بمنزلة الإذن له في التجارة. والسكوت محتمل كما قال ولكن دليل العرف يرجح جانب الرضاء فالعادة أن من لا يرضى بتصرف عبده يظهر النهي إذا رآه يتصرف ويؤدبه على ذلك وربما يستحق عليه ذلك شرعا لدفع الضرر والغرور فبهذا الدليل رجحنا جانب الرضا لدفع الضرر عن المشتري والدليل عليه أنه بعدما أذن له في أهل سوقه لو حجر عليه في بيته لم يصح حجره لدفع الضرر والغرور
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الإيمان حديث رقم 101 ،والترمذي في البيوع حديث رقم 1315 ،وأبو داود في الإجارة حديث رقم 3452 ،وابن ماجة في التجارات حديث رقم 2224 والإمام أحمد في المسند 2/242.(3/226)
الناس وكذلك سكوت الشفيع جعل ردا لهذا المعنى.فأما الرابع فمثل قول علمائنا رحمهم الله في رجل قال: لفلان علي مائة ودينار أو مائة ودرهم أن العطف جعل بيانا للأول وجعل من جنس المعطوف, وكذلك لفلان علي مائة وقفيز حنطة وقال الشافعي رحمه الله: القول قوله في المائة; لأنها مجملة فإليه
ـــــــ
فلما سقط اعتبار حجره نصا لدفع الضرر فلأن يسقط احتمال عدم الرضاء من سكوته لدفع الضرر عن الناس كان أولى وقوله هذا التصرف بسكوت المولى لا ينفذ قلنا: لأن في هذا التصرف إزالة ملك المولى عما يبيعه وفي إزالة ملكه ضرر متحقق للحال فلا يثبت بسكوته وليس في ثبوت الإذن ضرر متحقق على المولى في الحال فقد يلحقه الدين وقد لا يلحقه ولو لم يثبت الإذن به لتضرر الناس الذي يعاملونه وكذا لا يثبت الرضاء بالسكوت إذا رأى إنسانا يتلف ماله; لأن الضرر متحقق في الحال وسكوته لا يكون دليل التزام الضرر حقيقة.
قوله "وكذلك سكوت الشفيع جعل ردا لهذا المعنى" أي ومثل سكوت المولى سكوت الشفيع عن طلب الشفعة بعد العلم بالبيع جعل ردا للشفعة لهذا المعنى وهو دفع الغرور عن المشتري فإنه يحتاج إلى التصرف في المشترى, فإذا لم يجعل سكوت الشفيع عن طلب الشفعة إسقاطا لها, فإما أن يمتنع المشتري من التصرف أو ينقض الشفيع عليه تصرفه فلدفع الضرر والغرور جعلنا ذلك كالتنصيص منه على إسقاط الشفعة, وإن كان السكوت في أصله غير موضوع للبيان بل هو ضده كذا ذكر شمس الأئمة رحمه الله ولأن الشفعة شرعت لدفع ضرر الدخيل عن نفسه فإذا سكت فقد رضي بالتزام الضرر على نفسه.
قوله "وأما النوع الرابع" وهو السكوت الذي جعل بيانا لضرورة الكلام فكذا والخلاف ليس في هذا الأصل فإن الشافعي رحمه الله يوافقنا في أن السكوت يجعل بيانا لصيرورة الكلام كما في عطف الجملة الناقصة على الكاملة وكما في عطف العدد المفسر على المبهم إنما الخلاف في هذه المسألة فعندنا هي مبنية على هذا الأصل وعنده ليست بمبنية عليه وجه قول الشافعي رحمه الله وهو القياس أنه أبهم الإقرار بالمائة وقوله ودرهم ليس بتفسير له; لأنه عطف عليه بحرف الواو والعطف لم يوضع للتفسير لغة ألا ترى أن من شرط صحة العطف المغايرة حتى لم يجز عطف الشيء على نفسه ومن شرط صحة التفسير أن يكون عين المفسر فإن الدراهم في قوله عشرة دراهم عين العشرة لا غيرها فكيف يصلح العطف مفسرا يوضحه أن المعطوف وهو الدرهم واجب عليه مثل المعطوف عليه وهو المائة ولو كان تفسيرا لها لم يجب به شيء كما لو قال مائة درهم; لأن الوجوب بالمفسر لا بالتفسير وإذا لم يصلح العطف مفسرا بقيت المائة مجملة(3/227)
بيانها والعطف لا يصلح بيانا; لأنه لم يوضع له كما إذا قال مائة وثوب وشاة ومائة وعبد ووجه قولنا أن هذا يجعل بيانا عادة ودلالة أما العادة فلأن حذف المعطوف عليه في العدد متعارف ضرورة كثرة العدد وطول الكلام يقول الرجل: بعت منك هذا بمائة وعشرة دراهم وبمائة وعشرين درهما وبمائة ودرهم ودرهمين على السواء, وليس كذلك حكم ما هو غير مقدر; لأنه لا يثبت دينا في الذمة ثبوت الأول. وأما الدلالة فلأن المعطوف مع المعطوف عليه بمنزلة شيء
ـــــــ
فيكون القول بالمفسر لا بالتفسير.وإذا لم يصلح العطف مفسرا بقيت المائة مجملة فيكون القول قوله في بيانها كما في قوله مائة وثوب ومائة وشاة ومائة وعبد بخلاف قوله على مائة وثلاثة دراهم; لأنه عطف أحد العددين المبهمين على الآخر. ثم فسره بالدراهم فينصرف التفسير إليهما لحاجة كل واحد منهما إلى التفسير كما لو قال: مائة وثلاثة أثواب ألا ترى أنه لا يلزمه بقوله دراهم زيادة على المذكور ويلزمه بقوله ودرهم زيادة على المائة لما قلنا وجه قولنا وهو الاستحسان أن هذا أي قوله ودرهم أو دينار جعل بيانا عادة ودلالة أي عرفا واستدلالا. وقيل العادة يستعمل في الأفعال والعرف يستعمل في الأقوال كما في قوله لا أضع قدمي أما العادة فلأن حذف المعطوف عليه أي حذف تفسير المعطوف عليه وتمييزه في العدد متعارف إذا كان في المعطوف دليل عليه بأن كان مفسرا بقول الرجل: بعت هذا منك بمائة وعشرة دراهم وبمائة وعشرين درهما أي بمائة درهم وعشرة دراهم وبمائة درهم وعشرين درهما. وفائدة إيراد النظيرين جواز حذف مميز المائة سواء كان مميز المعطوف بلفظ الفرد أو بلفظ الجمع وبمائة ودرهم ودرهمين على السواء يعني كما يقال بمائة وعشرة دراهم وبمائة وعشرين درهما ويراد بالجميع الدراهم يقال أيضا بمائة ودرهم وبمائة ودرهمين ويراد بالكل الدراهم من غير فرق فلما صلح عطف الدرهم على المائة في البيع مفسرا لها باعتبار العرف كما صلح عطف العدد المفسر لذلك يصلح عطفه عليها مفسرا لها في الإقرار أيضا كما صلح عطف العدد المفسر لذلك وليس كذلك أي كعطف الدراهم على المائة عطف ما ليس بمقدر مثل الثوب والشاة عليها فإن عطفه ليس بمفسر لها; لأن ما ليس بمقدر لا يثبت دينا في الذمة مثل ثبوت ما هو مقدر يعني الموجب للحذف كثرة الاستعمال التي هي من أسباب التخفيف وهي إنما تتحقق في المقدر الذي يثبت دينا في الذمة حالا ومؤجلا; لأنه لما ثبت دينا في الذمة كثر العقود والمبايعات به, فأما غير المقدر فلم يوجد فيه كثرة الاستعمال; لأنه لما لم يجب دينا في الذمة إلا في عقد خاص وهو السلم أو فيما هو في معناه وهو البيع بالثياب الموصوفة مؤجلا لم يقع العقود والمعاملات به وبكثرة الوجوب في الذمة في المعاملات(3/228)
واحد كالمضاف مع المضاف إليه للتعريف فإذا صلح العطف للتعريف صح الحذف في المضاف إليه بدلالة العطف والعطف إذا كان من المقدرات صلح للتعريف فجعل دليلا على المضاف إليه وإذا لم يكن مقدرا مثل الثوب والفرس لم يصلح للتعريف فلم يصلح دليلا على المحذوف واتفقوا
ـــــــ
جاز الحذف وصار العطف مفسرا, فإذا لم يوجد بقيت المائة مجملة فيرجع في تفسيرها إليه
وحاصله أن جواز الحذف ودلالة المعطوف عليه بكثرة الاستعمال وهي توجد في المقدر دون غيره.
وأما الدلالة فلأن المعطوف مع المعطوف عليه بمنزلة شيء واحد كالمضاف مع المضاف إليه بدليل اتحادهما في الإعراب واشتراكهما في الخبر والشرط إذا كان المعطوف ناقصا حقيقة أو تقديرا على ما مر بيانه ولهذا لم يحل الذبيحة إذا قيل بسم الله ومحمد رسول الله بالجر لحصول الاشتراك في التسمية وكذا العطف يقتضي المجانسة حتى لم يجز عطف الاسم على الفعل وكذا عكسه ثم المضاف إليه يعرف المضاف حتى صار الدار والعبد في قولك دار فلان وعبد فلان معرفا بالمضاف إليه فكذا المعطوف إذا صلح للتعريف يعرف المعطوف عليه أي يرفع إبهامه باعتبار أنهما كشيء واحد.
وقوله: "فإذا صلح العطف" أي المعطوف للتعريف "صح الحذف في المضاف" إليه معناه صح حذف المضاف إليه في المعطوف عليه بدلالة العطف فإن المحذوف في قوله: علي مائة ودرهم والدرهم المضاف إليه أي على مائة درهم ودرهم والعطف أي المعطوف إذا كان من المقدرات صلح للتعريف يعني صلاحية المعطوف لتعريف المعطوف عليه وتفسيره ودلالته على المحذوف إنما يثبت إذا كان المعطوف من المقدرات التي تثبت ديونا في الذمة على الإطلاق ليطابق قوله علي مائة فإن موجبه اللزوم في الذمة على الإطلاق, فأما إذا لم يكن مقدرا مثل الثوب فإنه لا يثبت دينا في الذمة إلا في السلم والفرس مائة لا يثبت دينا في المبايعات أصلا فلا يصلح دليلا على المحذوف وتفسيرا للمائة; لأن قوله: علي مائة عبارة عما يثبت في الذمة مطلقا ثبوتا صحيحا ليس وما ليس بمقدر كذلك فلهذا لا يصير المعطوف عليه مفسرا بالمعطوف. وتبين بما ذكرنا أنا لم نجعل المعطوف تفسيرا للمائة حقيقة بل جعلناه دليلا على المحذوف الذي هو تفسير وتمييز للمائة فلا يلزم علينا ما ذكر الخصم أن من شرط التفسير أن يكون عين المفسر والمعطوف ليس كذلك وذكر في الأسرار في تقرير هذه المسألة أن الأصل في العطف هو الشركة بين المعطوف والمعطوف عليه في الخبر كقولك: جاء زيد وعمرو وهذه طالق وهذه والتفسير للمجمل(3/229)
في قول الرجل: لفلان علي أحد وعشرون درهما أن ذلك كله دراهم; لأن العشرون مع الآحاد معدود مجهول فصح التعريف بالدرهم وكذلك إذا قال أحد وعشرون شاة أو ثوبا وأجمعوا في قوله لفلان علي مائة وثلاثة دراهم فصاعدا أن المائة من الدراهم; لأن الجملتين جميعا أضيفتا إلى الدراهم فصار بيانا وكذلك إذا قال مائة وثلاثة أثواب وثلاثة شياه وقد قال أبو يوسف رحمه الله في قوله لفلان علي مائة وثوب أو مائة وشاة أنه يجعل بيانا; لأن العطف دليل الاتحاد مثل الإضافة فكل جملة تحتمل القسمة فإنها تحتمل الاتحاد فلذلك
ـــــــ
يجري مجرى الخبر على الابتداء لتوقف فهم المقصود عليه توقفه على الخبر فيقتضي صحة العطف الشركة بين المعطوف والمعطوف عليه فيما هو تفسير كما يقتضي الشركة فيما هو خبر كما لو أخر التفسير عن العددين جميعا فإنه إذا أخره أو جعل العدد بنفسه مفسرا سواء في أنه يصير عددا مفسرا. فأما إذا قال: لفلان علي مائة وثوب فقوله وثوب ليس بمفسر; لأن الثياب مختلفة القدر والجنس كقوله مائة إلا أنه أقل جهالة فلم يلتحق بما وضع تفسيرا أو خبرا عن الجملة بل كان هذا إلى القياس أقرب والمسألة الأولى إلى التفسير المصرح به أقرب فاستحسن الرد إلى التفسير فيها; لأن الجملتين أضيفتا إلى الدراهم فإن قوله: " علي مائة " جملة ظرفية وقوله وثلاثة جملة أخرى ظرفية ناقصة عطفت على الأولى وقد أضيفتا جميعا إلى الدراهم فصار لفظ الدراهم بيانا لهما لكونهما مفتقرين إلى البيان
قوله "وقد قال أبو يوسف" روى ابن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله في قوله: لفلان علي مائة وثوب أو مائة وشاة أنه يجعل بيانا للمائة فيكون الكل من الثياب والشياه والقول في بيان جنسها قول المقر; لأنا إنما جعلنا المعطوف تفسيرا للمعطوف عليه باعتبار الاتحاد كما ذكرنا فكل جملة أي كل مال مجتمع يحتمل القسمة أي قسمة الجمع وهي أن يقسم الجميع قسمة واحدة بطريق الخبر ولا يحتاج إلى قسمة أخرى فهي محتملة للاتحاد; لأن قسمة القاضي جبرا لا تقع إلا فيما هو متحد الجنس, والثوب والشاة من هذا القبيل كالمكيل والموزون فيمكن أن يجعل المفسر منه تفسيرا للمبهم بدلالة العطف الموجب للاتحاد كالدرهم والدينار فلذلك أي فلاحتمال الاتحاد جعل قوله وثوب أو شاة بيانا للمائة بخلاف قوله مائة وعبد فإنه مما لا يحتمل القسمة مطلقا فلا يتحقق فيه معنى الاتحاد بسبب العطف فلا يصير المجمل بالمعطوف فيه مفسرا كذا ذكر شمس الأئمة رحمه الله في أصول الفقه والمبسوط(3/230)
جعل بيانا بخلاف قوله مائة وعبد والله أعلم بالصواب.
ـــــــ
وهذا الفرق مشكل فإن عنده يقسم الرقيق قسمة جمع وهي أن يقسم الجميع واحدة بطريق الجبر ولا يحتاج إلى قسمة أخرى كالثياب والغنم فينبغي أن يساوي العبد الثوب في صيرورته بيانا للمائة بالعطف. وأجيب بأن قولهما في الرقيق أنها تحتمل القسمة مؤول بما إذا اتفق رأي المتقاسمين على القسمة فيقسم القاضي بناء عليه ولا يكون هذا قسمة حقيقة بل يكون تبعا كذا ذكر في بعض الشروح منقولا عن شرح الجامع الصغير الحسامي ولكنه مخالف للروايات الظاهرة في المبسوط والهداية وغيرهما إذ المذكور فيها أن الرقيق إذا كانوا جنسا واحدا تقسم قسمة جمع عندهما بطلب بعض الشركاء, وإن أبى البعض وأجيب أيضا بأن على هذه الرواية يحتمل أن يكون أبو يوسف موافقا لأبي حنيفة رحمهما الله في أن الرقيق لا يقسم قسمة جمع ويحتمل أنه أراد أن الثوب والغنم يقسمان قسمة جمع بالاتفاق فيتحقق فيهما الاتحاد والرقيق لا يقسم هذه القسمة بالاتفاق بل هي على الخلاف فلا يثبت بمثلها الاتحاد والله أعلم.(3/231)
باب بيان التبديل وهو النسخ
قال الشيخ الإمام الكلام في هذا الباب في تفسير نفس النسخ ومحله وشرطه والناسخ والمنسوخ أما النسخ فإنه في اللغة عبارة عن التبديل قال الله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} [النحل: 101] فسمى النسخ تبديلا ومعنى التبديل أن يزول شيء فيخلفه غيره يقال نسخت الشمس الظل
ـــــــ
"باب بيان التبديل وهو النسخ"
تكلم الأصوليون في معنى النسخ لغة فقيل معناه الإزالة يقال نسخت الشمس الظل أي أزالته ورفعته ونسخ الريح الآثار إذا محتها ونسخ الشيب الشباب أي أعدمه وإليه أشار الشيخ في الكتاب بقوله ومعنى التبديل أن يزول شيء فيخلفه غيره إلى آخره وقيل معناه النقل وهو تحويل الشيء من مكان إلى مكان أو حالة إلى حالة مع بقائه في نفسه يقال نسخت النحل العسل إذا نقلته من خلية إلى أخرى ومنه تناسخ المواريث لانتقالها من قوم إلى قوم ومنه نسخت الكتاب لما فيه من مشابهة النقل بتحصيل مثل ما في أحد الكتابين في الآخر ثم قيل هي مشترك بين المعنيين; لأنه أطلق عليهما والأصل في الإطلاق هو الحقيقة وقيل هو حقيقة في الإزالة مجاز في الآخر; لأنه لم يستعمل إلا في المعنيين وليس حقيقة في النقل; لأن في قوله: نسخت الكتاب لم يوجد النقل حقيقة فتعين كونه حقيقة في الآخر تفاديا عن كثرة المجاز وقيل على العكس; لأن قوله: نسخت الكتاب إن كان حقيقة فهو المطلوب, وإن كان مجازا فلا يكون مستعارا من الإزالة; لأنه غير مزال ولا مشابه فتعين أن يكون مستعارا من النقل لمشابهته إياه وإذا كان مستعارا منه كان النقل حقيقة فكان مجازا في الآخر دفعا للاشتراك
والأولى في الشرع أن يكون بمعنى الإزالة; لأن نقل الحكم الذي هو منسوخ إلى ناسخه لا يتصور. وأما الإزالة وهي الإبطال والإعدام فمتصور وذكر في الميزان أنه اسم عرفي عند بعضهم فإن ما هو معناه وهو الرفع والإزالة لا يتحقق في النسخ الشرعي فكان الاستعمال عرفا فيكون الاسم منقولا كاسم الصلاة للأفعال المعهودة لما لم يكن فيها(3/232)
لأنها تخلفه شيئا فشيئا هذا أصل هذه الكلمة وحقيقتها حتى صارت تشبه
ـــــــ
معنى الاسم اللغوي يكون اسما منقولا لا اسما شرعيا فكذا هذا وقال بعضهم هو اسم شرعي; لأن فيه معنى لغويا وهو الإزالة من وجه على ما يذكر واختلفوا في معناه شريعة أيضا أي في حده فقيل هو الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا مع تراخيه عنه, وإنما اختير لفظ الخطاب دون النص ليشمل اللفظ والفحوى وغير ذلك مما يجوز النسخ به وفيه احتراز عن الموت ونحوه من الأعذار الدالة على ارتفاع الأحكام الزائلة بها مع تراخيها عنها وكونها بحيث لولاها لكانت الأحكام الزائلة بها مستمرة وقيد بالخطاب المتقدم احترازا عن الخطاب الدال على ارتفاع الأحكام العقلية الثابتة قبل ورود الشرع فإن ابتداء إيجاب العبادات في الشرع يزيل حكم العقل من براءة الذمة ولا يسمى نسخا; لأنه لم يزل حكم خطاب وقيد بقوله على وجه لولاه لكان ثابتا احترازا عما إذا ورد الخطاب بحكم موقت نحو قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] وبعد انتهاء ذلك الوقت ورد الخطاب بحكم مناقض للأول كما لو ورد عند غروب الشمس {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [البقرة: 187] فإنه لا يكون نسخا للأول; لأنا لو قدرنا انتفاء الثاني لم يكن الأول مستمرا بل كان منتهيا بالغروب وقوله مع تراخيه احتراز عن الخطاب المتصل كالاستثناء والتقييد بالشرط والغاية; لأنه يكون بيانا لا نسخا
وقيل هو الخطاب الدال على أن مثل الحكم الثابت بالنص المتقدم زائل على وجه لولاه لكان ثابتا, وإنما زيد لفظ المثل; لأن صاحب هذا الحد يقول تحقيق الرفع في الحكم ممتنع; لأن المرفوع إما حكم ثابت أو ما لا ثبات له والثابت لا يمكن رفعه وما لا ثبات له لا حاجة إلى رفعه فدل أن النسخ هو رفع مثل الحكم الثابت لا رفع عينه أو بيان مدة الحكم
وقيل هو الخطاب الدال على ظهور انتفاء شرط دوام الحكم الأول
وقيل هو الخطاب الدال على انتهاء أمد الحكم الشرعي مع التأخر عن مورده وزيفت هذه الحدود بأنها مع كونها تعريفات للناسخ لا للنسخ نفسه; لأن الخطاب دليل النسخ والطريق المعرف له لا نفسه غير مطردة; لأن العدل إذا قال نسخ حكم كذا يكون هذا القول خطابا ولفظا دالا على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم وزواله ظهور انتفاء شرط دوامه وانتهاء أمده ولا يكون نسخا بالإجماع وغير منعكسة لوجود النسخ بفعل النبي عليه السلام وهو ليس بخطاب ولهذا زاد بعضهم فقال هو إزالة مثل الحكم الثابت بقول منقول عن الله تعالى أو عن رسوله عليه السلام أو فعل منقول عن رسوله عليه السلام مع تراخيه عنه على وجه لولاه لكان ثابتا. ويندفع الأول بأن يقال: المراد من(3/233)
الإبطال من حيث كان وجودا يخلف الزوال وهو في حق صاحب الشرع بيان محض لمدة الحكم المطلق الذي كان معلوما عند الله تعالى إلا أنه أطلقه فصار ظاهره البقاء في حق البشر فكان تبديلا في حقنا بيانا محضا في حق صاحب
ـــــــ
الخطاب خطاب الشارع لا خطاب غيره فإن الخطاب إذا أطلق في مثل هذا الموضع يراد به خطاب الشارع لا كلام غيره على أنا لا نسلم أن كلام العدل دال على ما ذكرتم بل كلامه يدل على خطاب من الشارع دال على ارتفاع الحكم وكذا وكذا فلذلك لا يسمى نسخا. والثاني بأن يقال: فعله عليه السلام يدل على خطاب من الله تعالى دال على ارتفاع الحكم إذ ليس للرسول ولاية رفع الأحكام الشرعية من تلقاء نفسه فيكون فعله معرفا للخطاب الدال على ارتفاع الحكم ومختار بعض المتأخرين أنه عبارة عن رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر فقيد بالشرعي احترازا عن العقلي فإن رفع الأحكام العقلية الثابتة قبل ورود الشرع التي يعبر عنها بالمباح بحكم الأصل بدليل شرعي متأخر لا يسمى نسخا بالإجماع وبدليل شرعي احترازا عن الرفع بالموت وبقوله متأخرا احترازا عن التقييد بالغاية والاستثناء ونحوهما على ما بينا وقيل لا حاجة إلى هذا القيد; لأنه لما قال رفع الحكم خرج التقييد بالغاية ونحوها; لأن الخطاب المتصل بالخطاب الأول ليس برافع لحكم الخطاب الأول بل هو بيان وإتمام لمعناه بعد ثبوته وتقييد له بمدة وشرط ونحو ذلك
وذكر صاحب الميزان والحد الصحيح أن يقال: هو بيان انتهاء الحكم الشرعي المطلق الذي في تقدير أوهامنا استمراره لولاه بطريق التراخي ونعني بالحكم المحكوم لا الحكم الذي هو صفة أزلية لله تعالى. قال ولا يلزم عليه الموقت صريحا; لأنه ليس في وهمنا استمراره ولا التخصيص فإنه بيان أنه غير مراد من الأصل لا أنه انتهاء بعد الثبوت قال وما قالوا من الإزالة والرفع غير صحيح; لأن ما ثبت من الحكم في الماضي لا يتصور بطلانه وما في المستقبل لم يثبت بعد فكيف يبطل
قلت وهذه التعريفات كلها ليست بجامعة; لأن الرفع بطريق الإنساء نسخ عند الجمهور حيث أوردوا في كتبهم نظير نسخ التلاوة والحكم جميعا ما رفع من صحف إبراهيم بالإنساء وما رفع من القرآن بالإنساء مثل ما روي أن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة ثم إنه لم يدخل في هذه الحدود; لأن الإنساء ليس بخطاب رافع ولا دليل شرعي ولا بيان لشيء فإذا لا بد من زيادة تصير بها جامعة مثل أن يقال: هو رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي أو بإنساء وهكذا في كل حد, وهذا عند من جعل هذا القسم نسخا, فأما عند من لم يجعله نسخا كالرفع بالموت والجنون مستدلا بأنه عطف على(3/234)
الشرع وهو كالقتل بيان محض للأجل; لأنه ميت بأجله بلا شبهة في حق صاحب الشرع وفي حق القاتل تغيير وتبديل.والنسخ في أحكام الشرع جائز صحيح عند المسلمين أجمع وقالت اليهود لعنهم الله بفساده وهم في ذلك فريقان قال
ـــــــ
النسخ في قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} [البقرة: 106] والعطف يدل على المغايرة فلا حاجة إلى زيادة
قوله "هذا" أي التبديل أصل هذه الكلمة هي النسخ حتى صارت أي حقيقتها وهي التبديل تشبه الإبطال من حيث كان التبديل أي المبدل وهو الناسخ وجود الخلف الزوال أي زوال المنسوخ وهذا هو معنى الإبطال فإن المبطل للشيء يخلف زواله وهو أي النسخ في حق صاحب الشرع بيان محض لانتهاء الحكم الأول ليس فيه معنى الرفع; لأنه كان معلوما عند الله تعالى أنه ينتهي في وقت كذا بالناسخ فكان الناسخ بالنسبة إلى علمه تعالى مبينا للمدة لا رافعا إلا أنه أطلقه أي لم يبين توقيته الحكم المنسوخ حين شرعه فكان ظاهره البقاء في حق البشر; لأن إطلاق الأمر بشيء يوهمنا بقاء ذلك على التأبيد من غير أن نقطع القول به في زمن الوحي
فصار الحاصل أن معنى النسخ عند الشيخ هو التبديل والإبطال لغة وكذلك شرعا بالنسبة إلى علم العباد لكنه بالنسبة إلى علم صاحب الشرع بيان محض لمدة الحكم. قال صاحب الميزان هذا غير مستقيم; لأنه يؤدي إلى القول بتعدد الحقوق والحق عندنا واحد في الشرعيات والعقليات جميعا وأجيب عنه بأن الحق واحد بالنسبة إلى صاحب الشرع, فأما بالنسبة إلى العباد فمتعدد حتى وجب على كل مجتهد العمل باجتهاده ولا يجوز له تقليد غيره وهاهنا الحق بالنسبة إلى صاحب الشرع واحد وهو كونه بيانا لا رفعا وإبطالا; لأنه أي المقتول ميت بأجله أي بانقضاء أجله بلا شبهة عند أهل السنة إذ لا أجل له سواه كما نص الله تعالى بقوله: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34]و[النحل: 61] والموت الذي حصل فيه بخلق الله تعالى كما حصل في الميت حتف أنفه لا بفعل القاتل على ما عرف في مسألة المتولدات وفي حق القاتل تبديل وتغيير أي إبطال وقطع للحياة بالموت; لأنه هو المباشر لسبب الموت حتى وجب عليه القصاص إن كان عمدا والدية على عاقلته إن كان خطأ.
جواز النسخ
قوله "والنسخ في أحكام الشرع جائز صحيح" اختلف المسلمون وأهل الكتاب في جواز النسخ فأجازه عامة المسلمين سوى قوم لا اعتبار بخلافهم وفرق النصارى كلها وافترقت اليهود في ذلك على ثلاث فرق كذا ذكر في الميزان وغيره فذهبت فرقة منهم(3/235)
أحدهما: إنه باطل عقلا وقال بعضهم: هو باطل سمعا وتوقيفا وقد أنكر بعض المسلمين النسخ لكنه لا يتصور هذا القول من مسلم مع صحة عقد الإسلام أما من رده توقيفا فقد احتج أن موسى صلوات الله عليه قال لقومه تمسكوا بالسبت ما دامت السموات والأرض وأن ذلك مكتوب في التوراة وأنه
ـــــــ
وهم العيسوية إلى جوازه عقلا وسمعا وهم الذين يعترفون برسالة محمد صلى الله عليه وسلم لكن إلى العرب خاصة لا إلى الأمم كافة وذهبت فرقة أخرى منهم إلى امتناعه عقلا وسمعا وذهبت الفرقة الثالثة إلى جوازه عقلا وامتناعه سمعا وزاد عبد القاهر البغدادي فرقة أخرى فقال وزعمت فرقة أخرى من اليهود أنه يجوز نسخ الشيء بما هو أشد منه وأثقل على جهة العقوبة للمكلفين إذا كانوا لذلك مستحقين فكان المراد من قول الشيخ وقالت اليهود بفساده الفرقة الثانية والثالثة دون الجميع
"وقد أنكر بعض المسلمين النسخ" مثل أبي مسلم عمرو بن بحر الأصبهاني1 فإنه لم يجوز النسخ في شريعة واحدة وأنكر وقوعه في القرآن. والمراد بعض من انتحل الإسلام وزعم أنه مسلم لا أنه يكون مسلما على الحقيقة فإن إنكار النسخ مع صحة عقد الإسلام لا يتصور فتبين به أن قوله وقد أنكر بعض المسلمين النسخ لا ينافي قوله: النسخ جائز عند المسلمين أجمع وذكر في القواطع أن الأصوليين قد ذكروا الخلاف في هذا مع طائفة من اليهود وفرقة من المسلمين ونسبوه إلى أبي مسلم محمد بن بحر الأصبهاني وهو رجل معروف بالعلم. وإن كان يعد من المعتزلة وله كتاب كثير في التفسير وكتب كثيرة فلا أدري كيف وقع هذا الخلاف منه ومن خالف في هذا من أهل الإسلام فالكلام معه أن نريه وجود النسخ في القرآن مثل نسخ وجوب التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة ووجوب التربص حولا على المتوفى عنها زوجها بأربعة أشهر وعشر ووجوب ثبات الواحد للعشرة بثباته للاثنين والوصية للوالدين والأقربين بآية المواريث وغير ذلك مما لا يحصى فإن لم يعترف كان مكابرة واستحق أن لا يتكلم معه ويعرض عنه, وإن قال: قد كان كذلك ولكن لا أسميه نسخا كان هذا نعتا لفظيا ولزم أن يقال: إن رفع شرع ما قبلنا بشرعنا لا يكون نسخا أيضا وهذا لا يقوله مسلم
أما من رده توقيفا أي نصا لا عقلا فقد احتج بما يروى عن موسى صلوات الله عليه أنه قال تمسكوا بالسبت أي بالعبادة في السبت والقيام بأمرها ما دامت السموات والأرض
ـــــــ
1 هو محمد بن بحر الأصفهاني أبو مسلم وقد اختلف في اسمه المتوفي سنة 322هـ، أنظر معجم الأدباء 18/35 – 38.(3/236)
بلغهم بما هو طريق العلم عن موسى صلوات الله عليه أن لا نسخ لشريعته واحتج أصحاب القول الآخر أن الأمر يدل على حسن المأمور به والنهي عن الشيء يدل على قبحه والنسخ يدل على ضده ففي ذلك ما يوجب البداء والجهل بعواقب الأمور ودليلنا على جوازه ووجوده سمعا وتوقيفا أن أحدا لم ينكر
ـــــــ
وزعموا أن هذا مكتوب في التوراة عندهم. وزعموا أنه بلغهم بالطريق الموجب للعلم وهو التواتر عن موسى عليه السلام أنه قال: إن شريعتي لا تنسخ وأنه قال تمسكوا بشريعتي ما دامت السموات والأرض وأنه قال أنا خاتم النبيين قالوا: وإذا ثبت ذلك من قوله عندنا لم يجز لنا تصديق من ادعى نسخ شريعته كما أنكم لما زعمتم أن نبيكم قال لا نبي بعدي. وقال أنا خاتم النبيين لم تصدقوا من ادعى بعد ذلك نسخ شريعته وبهذا الطريق طعنوا في رسالة محمد صلى الله عليه وقالوا لا يجوز تصديقه من أجل العمل بالسبت ولا يجوز أن يأتي بمعجزة تدل على صدقه
وأما من أنكره ورده عقلا فقد احتج بوجوه من الشبه أحدها وهو المذكور في الكتاب أن الأمر بالشيء يدل على حسن المأمور به والنهي عن الشيء يدل على قبح المنهي عنه والنسخ يدل على ضده أي نسخ كل واحد من الأمر والنهي يدل على ضد ما دل عليه الأمر والنهي فإن نسخ الأمر يكون بالنهي ونسخ النهي بالأمر أو بالإباحة فيقتضي أن ما أمر به لحسنه كان قبيحا في ذاته وما نهي عنه لقبحه كان حسنا في نفسه أو غير قبيح والشيء الواحد لا يكون حسنا وقبيحا فكان القول بجواز النسخ مؤديا إلى القول بجواز البداء على الله عز وجل وذلك كفر; لأن البداء ينشأ من الجهل بعواقب الأمور فإنه عبارة عن الظهور بعد الخفاء من قولهم بدا لهم الأمر الفلاني إذا ظهر بعد خفائه وقوله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47] {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} [الزمر: 48] أي ظهر لهم بعد الخفاء وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
والثاني أن الخطاب المنسوخ حكمه على زعمكم إما أن يكون دالا على التأقيت أو التأبيد وعلى التقديرين يمتنع قبول الخطاب النسخ أما إذا كان موقتا فلأن ارتفاع الحكم فيما بعد الغاية ليس بنسخ لانتهائه بانتهاء ذلك الوقت وشرط النسخ أن لا يكون كذلك, وإن كان دالا على التأبيد فكذلك إذ لو قبل النسخ مع التأبيد يلزم التناقص بالإخبار بأنه مؤبد وغير مؤبد ويؤدي أيضا إلى نفي الوثوق بتأبيد حكم بناء على احتمال النسخ ويستلزم ذلك أن لا يبقى لنا وثوق بوعد الله ووعيده ولا بشيء من الظواهر اللفظية ولا يخفى ما فيه من اختلال الشريعة والنجاء قول الباطنية إليها ويؤدي أيضا إلى جواز نسخ شريعتكم وأنتم لا تقولون به(3/237)
استحلال الأخوات في شريعة آدم صلوات الله عليه واستحلال الجزء لآدم صلوات الله عليه وهي حواء التي خلقت منه وأن ذلك نسخ بغيره من الشرائع
ـــــــ
والثالث أنه لو جاز النسخ الذي هو رفع الحكم لكان رفعه قبل وجوده أو بعد وجوده أو معه وارتفاعه قبل وجوده أو بعده باطل لكونه معدوما في الحالين ورفع المعدوم ممتنع وارتفاعه مع وجوده أجدر بالبطلان لاستحالة اجتماع النفي والإثبات في شيء واحد لاستلزامه كونه موجودا ومعدوما في حالة واحدة وهو محال.
ومن أنكر جوازه ووقوعه ممن انتحل الإسلام تمسك بأن النسخ إبطال وهو ينافي الكتاب لقوله تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42] فلا يجوز وإذا لم يجز في الكتاب لم يجز في السنة لعدم القائل بالفصل ولمنافاتها الإبطال كالكتاب ودليلنا على جوازه بل على وجوده المستلزم لجوازه عقلا من حيث السمع أن نكاح الأخوات كان مشروعا في شريعة آدم عليه السلام وبه حصل التناسل وقد ورد في التوراة أن الله تعالى أمر آدم بتزويج بناته من بنيه وكذا الاستمتاع بالجزء كان حلالا لآدم عليه السلام فإن زوجته حواء كانت مخلوقة من ضلعه على ما نطق به الخبر ثم انتسخ ذلك بغيره من الشرائع حتى لا يجوز لأحد أن يتزوج أخته وأن يستمتع بعض منه بنكاح نحو ابنته. وكذا الجمع بين الأختين كان مشروعا في شريعة يعقوب عليه السلام وأنه جمع بين الأختين فقد ذكر في التوراة أنه خطب الصغرى فقال أبوهما: ليس من سنة بلدنا أن تزوج الصغرى قبل الكبرى فتزوجهما معا ثم حرم الجمع في حكم التوراة وكذا العمل في السبت كان مباحا قبل شريعة موسى عليه السلام لاتفاقهم على أن السبت مختص بشريعته ثم انتسخت تلك الإباحة بشريعة موسى عليه السلام وكذا ترك الختان كان جائزا في شريعة إبراهيم ثم انتسخ بالوجوب في شريعة موسى عليه السلام حيث أوجبه عليهم يوم ولادة الطفل
فتبين بما ذكرنا أنه لا وجه إلى إنكاره ولكنهم يقولون على الأول لا نسلم أن آدم أمر بتزويج بناته اللاتي كن في زمانه وحينئذ تحريم ذلك في شريعة من بعده لا يكون نسخا لكونه رفع مباح الأصل إذ لم يؤمر من بعده به حتى يكون تحريمه عليهم نسخا ولئن سلمنا كونه مأمورا بتزويج بناته مطلقا لكن يجوز أن يكون ذلك الأمر مقيدا بظهور شرع من بعده وعلى هذا لا يكون تحريمه ذلك على من بعده نسخا لانتهاء أمد الحكم الأول بظهور شريعة من بعده كما أن إباحة الإفطار بالليالي لا تكون نسخا لإيجاب الصوم إلى الليل وعلى الثاني لا نسلم أن حل الاستمتاع بالجزء ثبت على الإطلاق في شريعته بل أحل له ذلك في حق حواء خاصة حتى لم يحل له التزوج بسائر بناته ولا لأحد من بنيه أن(3/238)
والدليل المعقول أن النسخ هو بيان مدة الحكم للعباد, وقد كان ذلك غيبا عنهم. وبيان ذلك أنا إنما نجوز النسخ في حكم مطلق عن ذكر الوقت يحتمل أن يكون موقتا ويحتمل البقاء والعدم على السواء; لأن النسخ إنما يكون في حياة النبي عليه السلام والأمر المطلق في حياته للإيجاب لا للبقاء بل البقاء
ـــــــ
يتزوج بنت نفسه فلم يكن تحريم البنت على غيره نسخا لحل الاستمتاع بالجزء إذا لم يثبت ذلك في حق غيره بل كان الحل منتهيا بوفاته كانتهاء الصوم بالليل وعلى الباقي أن الجمع والعمل بالسبت والختان كان مباحا بحكم الأصل وتحريم مباح الأصل ليس بنسخ.
وأجيب عن الأول بأن الأصل في كل شريعة ثبوتها على الإطلاق وبقاؤها إلى أن يوجد المزيل وعدم اختصاصها بقوم دون قوم إلا بمخصص فلا يثبت والتقييد بالاحتمال بل يحتاج إلى دليل ولم يوجد ولا يقال لا يصح التمسك بالأصل فيما نحن فيه; لأن هذه مسألة علمية فلا يكتفى فيها بالدليل الظني; لأنا نقول قد ثبت بالتواتر أمر آدم عليه السلام بتزويج بناته من بنيه, ولم ينقل تقييد وتخصيص فوجب إجراؤه ولا يقدح فيه الاحتمال الذي ذكرتم لكونه غير ناشئ عن دليل وبمثله لا يخرج الدليل القطعي إلى الظن على ما مر بيانه غير مرة قال الغزالي رحمه الله لو صار الدليل ظنيا بكل احتمال لم يبق دليل قطعي لتطرق الاحتمال إلى جميع العقليات من دلائل التوحيد والنبوة وغيرها وعن الثالث بأن رفع الإباحة الأصلية نسخ عندنا; لأن الناس لم يتركوا سدى في زمان فالإباحة والتحريم ثبتا في جميع الأشياء بالشرائع في الأصل فكان رفعها رفعا لحكم شرعي فكان نسخا لا محالة, فأما الاعتراض الثاني فلا محيص عنه إن ثبت الاختصاص الذي ذكروه كما دل عليه الظاهر
قوله "والدليل المعقول أن النسخ" كذا يعني لو وقت الشارع حكما في ابتداء شرعه إلى غاية بأن قال شرعت الحكم الفلاني إلى الوقت الفلاني لصح ذلك من غير لزوم قبح وبداء, فكذا إذا بين أمده متراخيا عن زمان شرعه بالنسخ; لأن النسخ ليس في الحقيقة إلا بيان مدة الحكم التي هي غيب عن العباد لهم فلا يكون هذا من البداء في شيء. وبيانه أي بيان أن النسخ بيان المدة لا بداء أنا إنما يجوز النسخ في حكم يجوز أن يكون موقتا بعدما شرع وأن يكون مؤبدا ويحتمل البقاء بعدما شرع والعدم احتمالا على السواء, وإنما تعرض للاحتمالين; لأن النسخ توقيت بالنسبة إلى الماضي وإعدام بالنسبة إلى المستقبل والأمر المطلق في حياته للإيجاب لا للبقاء أي الأمر الوارد في حياة النبي عليه السلام يقتضي كون المأمور به واجبا من غير أن يتعرض لبقائه أصلا بل البقاء بعد الثبوت لعدم الدليل المزيل فكان ثابتا باستصحاب الحال لا بدليل يوجبه وهو الأمر السابق; لأن(3/239)
استصحاب الحال على احتمال العدم بدليله لا أن البقاء بدليل يوجبه; لأن الأمر لم يتناول البقاء لغة فلم يكن دليل النسخ متعرضا لحكم الدليل الأول بوجه إلا ظاهرا بل كان بيانا للمدة التي هي غيب عنا وهي الحكمة البالغة بلا شبهة بمنزلة الإحياء والإيجاد أن حكمه الحياة والوجود لا البقاء بل البقاء لعدم أسباب الفناء بإبقاء هو غير الإيجاد وله أجل معلوم عند الله فكان الإفناء والإماتة بيانا
ـــــــ
الأمر لا دلالة له على البقاء لغة; لأنه لطلب الفعل والائتمار لا لغيره وكذا الوجود ليس بعلة للبقاء ولهذا صح أن يقال وجد ولم يبق فلا يكون البقاء من مواجب الأمر السابق بوجه وإذا كان كذلك لم يكن دليل النسخ متعرضا لحكم الدليل الأول بوجه أي لم يكن مبطلا له بوجه لاقتصار عمله على حالة البقاء وهو ليس من أحكام الدليل الأول إلا ظاهرا أي إلا من حيث الظاهر وهو تقرر بقائه في أوهامنا باعتبار الظاهر لولا الناسخ وهو الحكمة البالغة بلا شبهة أي بيان المدة بالنسخ من باب الحكمة البالغة نهايتها لا من باب البداء; لأن شرعية الأحكام لمنافع تعود إلى العباد إذ الشارع منزه عن نفع وضرر يعود إليه وقد يتبدل المنفعة بتبدل الأزمان والأحوال ولا يعلم بذلك إلا العليم الخبير الحكيم القدير جل جلاله فكان تبديل الحكم بناء على تبديل الأحوال من باب الحكمة لا من باب البداء
قوله "بمنزلة الإحياء" متعلق بقوله للإيجاب لا للبقاء أو بجميع ما تقدم أي إحياء الشريعة بالأمر. وشرع الحكم ابتداء بمنزلة إحياء الشخص وإيجاده من العدم فإن حكم الأحياء الحياة, وأثر الإيجاد الوجود لا البقاء بل البقاء بعدم أسباب الفناء بإبقاء هو غير الإيجاد وكأن " أو " سقط من قلم الناسخ في هذا الكلام بدليل ما ذكر شمس الأئمة رحمه الله ثم البقاء بعد ذلك بإبقاء الله تعالى إياه أو بانعدام سبب الفناء وما ذكر الشيخ في شرح التقويم بل البقاء بدليل آخر أو بعدم ما يعدمه وهو أسباب الفناء أو معناه أن البقاء بعدم أسباب الفناء وعدمها بسبب إبقاء الله تعالى إياه فإنه إذا أراد إبقاءه لم يوجد أسباب الفناء قوله "بإبقاء هو غير الإيجاد"; لأن الإبقاء إثبات البقاء, والإيجاد إثبات الوجود وقد بينا أن البقاء غير الوجود حتى صح قولنا وجد ولم يبق فكان الإبقاء غير الإيجاد لو كان من أفعال العباد إلا أن الغيرية لا تجري في صفات الله تعالى حقيقة على ما عرف فكان تسمية الإبقاء غير الإيجاد توسعا باعتبار تغاير الأمارة وهو كالرمي الواحد يسمى جرحا وقتلا وكسرا إذا تحققت هذه الآثار منه, وإن كان القتل غير الجرح والكسر. وله أجل معلوم أي لهذا الموجود مدة معلومة عند الله تعالى لبقائه غيب عن العباد فكان الإفناء والإماتة بيانا محضا لمدة بقاء الحياة التي كانت معلومة عند الخالق حين خلقه, وإن كان غيبا عنا وهذا(3/240)
محضا فهذا مثله هذا حكم بقاء المشروع في حياة النبي عليه السلام فإذا قبض الرسول عليه السلام من غير نسخ صار البقاء من بعد ثابتا بدليل يوجبه فصار بقاء يقينا لا يحتمل النسخ بحال, فإذا غاب الحي بقيت حياته لعدم الدليل على
ـــــــ
لا يدل على البداء والجهل بعواقب الأمور ولم يتطرق إليه قبح وهذا أي النسخ مثله أي مثل الإفناء أيضا فلا يكون بداء وجهلا
قوله "هذا حكم بقاء المشروع في حياة النبي عليه السلام" كأنه جواب عما يقال يلزم على ما ذكرت أن لا يكون الأحكام الباقية إلى يومنا هذا مقطوعا بها لبناء بقائها على الاستصحاب الذي ليس بحجة وانقطاع بقائها عن الدلائل المثبتة لها فقال هذا أي بقاء الحكم باستصحاب الحل حكم بقاء المشروع في حياة النبي عليه السلام لاحتمال ورود النسخ في كل زمان, فأما بعد وفاته عليه السلام فقد صار البقاء ثابتا بدليل يوجبه وهو أن لا نسخ بدون الوحي وقد انسد بابه بوفاته عليه السلام فإنه قد ثبت بالنص القاطع أنه خاتم النبيين وأن لا نبي بعده فصار البقاء يقينا لا يحتمل الزوال أصلا بمنزلة موجود نص على بقائه أبدا كالجنة وأهلها هذا تقرير كلام الشيخ وحاصله أن النسخ بيان المدة في الحقيقة فلا يكون بداء وذكر الأصوليون وجها آخر في جواز النسخ عقلا وهو أن المخالف لا يخلو إما أن يكون ممن لا يعتبر المصالح في أفعال الله تعالى كما هو مذهب الأشعرية وعامة أهل الحديث ويقول له أن يفعل ما يشاء كما يشاء بحكم المالكية من غير نظر إلى حكمة ومصلحة أو يكون ممن يعتبر الغرض والحكمة في أفعاله كما هو مذهب عامة المتكلمين. فإن كان الأول فنقول لا يمتنع على الله تعالى أن يأمر بفعل في وقت وينهى عنه في وقت آخر كما أمر بصوم رمضان ونهى عن صوم يوم الفطر للقطع بأنه لا يلزم من فرض وقوعه محال عقلا وما نعني بالجواز العقلي إلا ذلك نبينه أنه إذا جاز أن يطلق الأمر. والمراد إلى أن يعجز عنه بمرض أو غيره جاز أيضا أن يطلق والمراد إلى أن ينسخه غيره وإذا جاز أن لا يوجب شيئا برهة من الزمان ثم يوجبه جاز أيضا أن يوجبه برهة من الزمان ثم ينسخه, وإن كان الثاني فكذلك إذ لا يمتنع أن يعلم الله تعالى استلزام الأمر بالفعل في وقت معين لمصلحة واستلزام النهي عنه في وقت آخر لمصلحة أخرى إذ المصالح كما تختلف باختلاف الأشخاص والأحوال تختلف باختلاف الأزمان والأوقات واعتبر هذا بأمر الطبيب للمريض بدواء خاص في وقت لمصلحة ونهيه عنه في وقت آخر لمصلحة أخرى يوضحه أنه تعالى لو نص على التوقيت بأن قال حرم عليكم العمل في السبت ألف سنة ثم هو مباح عليكم بعد ذلك كان حسنا ودالا على انتهاء حكمة التحريم بعد انتهاء المدة ولم يكن بداء فكذلك عند إطلاق اللفظ في التحريم ثم النسخ بعد ذلك وهو بمنزلة(3/241)
موته فكذلك المشروع المطلق في حياة النبي عليه السلام وأما دعواهم التوقيف فباطل عندنا; لأنه ثبت عندنا تحريف كتابهم فلم يبق حجة.
ـــــــ
تبديل الصحة بالمرض والغناء بالفقر وعكسهما إذ يجوز أن يكون كل واحد منها مصلحة في وقت دون وقت وبمنزلة تقلب أحوال الإنسان من الطفولية والبلوغ والشباب والكهولة والشيخوخة, فإن ذلك كله تصريف الأمور على ما توجبه الحكمة ويدعو إليه المصلحة وامتحان العباد وابتلاؤهم وقتا بعد وقت بما هو خير لهم وأدعى إلى صلاحهم. والجواب عن قولهم الخطاب المنسوخ حكمه إما أن يكون دالا على التأبيد أو على التوقيت إلى آخره هو أنه ليس بدال على التوقيت ولا على التأبيد صريحا بل هو مطلق يحتمل التأبيد إن لم يرد عليه ناسخ, والتوقيت إن ورد عليه ذلك, فإذا ورد تبين أنه كان موقتا وهذا التوقيت يسمى نسخا وعن قولهم لو جاز النسخ لكان قبل وجوده أو بعده أو معه إلى آخر ما ذكروا أن المراد من رفع الحكم أن التكليف الذي كان ثابتا بعد أن لم يكن زال بالناسخ كما يزول بالموت لكونه سببا من جهة المخاطب لقطع تعلق الخطاب عنه كما أن النسخ سبب من جهة المخاطب لقطع تعلقه عنه وليس المراد من الدفع أن الفعل الذي هو متعلق الحكم يرتفع لينتهض ما ذكرتم من التقسيم.
وأما دعواهم التوقيف فباطل; لأنه قد ثبت بالدليل القطعي عندنا تحريف كتابهم فلم يبق نقلهم عنه حجة ولهذا لم يجز الإيمان بالتوراة التي في أيديهم اليوم بل يجب الإيمان بالتوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام وكيف يصح نقلهم تأبيد شريعة موسى عليه السلام وقد ثبت رسالة رسل بعد موسى عليه السلام بالآيات المعجزة والدلائل القاطعة ولأن شرط التواتر لم يوجد في نقل التوراة إذ لم يبق من اليهود عدد التواتر في زمن بخت نصر فإنهم وافقوا أصحاب التواريخ أنه لما استولى على بني إسرائيل قتل رجالهم وسبى ذراريهم إلى أرض بابل وأحرق أسفار التوراة حتى لم يبق فيهم من يحفظ التوراة وزعموا أن الله تعالى ألهم عزيرا التوراة بعد خلاصه من أسر بخت نصر وقد روى أحبارهم أن عزيرا كتب ذلك في آخر عمره وعند حضور أجله دفعه إلى تلميذ له ليقرأه على بني إسرائيل فأخذوا التوراة عن ذلك التلميذ ونقول الواحد لا يثبت التواتر. وزعم بعضهم أن ذلك التلميذ قد زاد فيها شيئا وحذف منها فكيف يوثق بما هذا سبيله والدليل عليه أن نسخ التوراة ثلاث نسخة في أيدي العتابية ونسخة في أيدي السامرية ونسخة في أيدي النصارى وهذه النسخ الثلاث مختلفة متفاوتة ذكر فيها أعمار الدنيا وأهلها على التفاوت ففي نسخة السامرية زيادة ألف سنة وكثير على ما في نسخة العتابية وفي التوراة التي في النصارى زيادة بألف وثلثمائة سنة وفيها أيضا الوعد بخروج المسيح(3/242)
---------------------------------------------------------
ـــــــ
وخروج العربي صاحب الجمل وارتفاع تحريم السبت عند خروجهما فثبت أن التوراة التي في أيديهم ليست بموثوق بها وأن ما نقلوه من تأبيد شريعة موسى وتأبيد تحريم السبت افتراء على موسى عليه السلام وقيل أول من وضع لهم ذلك ابن الراوندي1 ليعارض به دعوى الرسالة من محمد عليه السلام وأقرب قاطع في بطلانه أن أحدا من أحبار اليهود لم يحتج به على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع حرصهم على دفع قوله ولو كان ذلك صحيحا عندهم لقضت العادة بالاحتجاج به على النبي صلى الله عليه وسلم ولو فعلوا ذلك لاشتهر منهم كما اشتهر سائر أمورهم. وأما قوله تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ} [فصلت: 42] الآية فتأويله أن هذا الكتاب لم يتقدمه من كتب الله تعالى ما يبطله ولا يأتيه من بعده ما يبطله والله أعلم.
ـــــــ
1 هو أحمد بن يحي بن إسحاق البغدادي المعروف بابن الراوندي المتكلم توفي سنة 298هـ وفيات الأعيان 1/94 – 95.(3/243)
باب بيان محل النسخ
محل النسخ حكم يحتمل بيان المدة والوقت وذلك بوصفين: أحدهما: أن يكون في نفسه محتملا للوجود والعدم, فإذا كان بخلافه لم يحتمل النسخ, والثاني: أن لا يكون ملحقا به ما ينافي المدة والوقت أما الأول فبيانه أن الصانع
ـــــــ
"باب بيان محل النسخ"
لما ثبت أن النسخ بيان مدة الحكم في الحقيقة, وإن كان رفعا له في الظاهر لا بد من أن يكون محله حكما يحتمل المدة والوقت أي يحتمل أن يكون موقتا إلى غاية وأن لا يكون كذلك احتمالا على السواء ليكون النسخ بيانا لمدته وذلك أي كونه محتملا للتوقيت يحصل بوصفين أي بمعنيين أحدهما أن يكون الحكم الذي ورد عليه النسخ محتملا في نفسه للوجود والعدم أي محتمل أن يكون مشروعا وأن لا يكون مشروعا إذ لو لم يحتمل أن يكون مشروعا كالكفر لاستمر عدم شرعيته والنسخ لا يجري في المعدوم ولو لم يحتمل أن لا يكون مشروعا كالإيمان بالله تعالى وصفاته لاستمر شرعيته ضرورة فلا يجري فيه النسخ أيضا; لأن النسخ توقيت ورفع وذلك مناف لما لزم استمرار وجوده. والثاني أن لا يكون ذلك الحكم بحيث يلحق به ما ينافي المدة والوقت أي ما ينافي بيان المدة بالنسخ يعني لم يلتحق به بعد أن كان في نفسه محتملا للوجود والعدم ما يمتنع لخوف النسخ الذي هو بيان مدة المشروعية به
أما الأول وهو الذي لا يحتمل النسخ باعتبار فوات الوصف الأول وإليه أشير في قوله وإذا كان بخلافه لم يحتمل النسخ فبيانه أن الصانع جل جلاله بجميع أسمائه أي مع جميعها مثل الرحمن والرحيم والعليم والحكيم وصفاته مثل العلم والقدرة والحياة التي هي من صفات الذات والخلق والرزق والإحياء والإماتة التي هي من صفات الفعل عند الأشعرية قديم دائم أزلا وأبدا فلا يحتمل شيء من أسمائه وصفاته النسخ بحال أي بوجه من الوجوه ولهذا لا يجوز أن يكون الإيمان بالله تعالى وصفاته غير مشروع بحال أعني في حال الإكراه وغيرها.(3/244)
بأسمائه وصفاته قديم لا يحتمل الزوال والعدم فلا يحتمل شيء من أسمائه
ـــــــ
الحاصل أن النسخ لا يجري في واجبات العقول, وإنما يجري في جائزاتها ولهذا لم يجوز جمهور العلماء النسخ في مدلول الخبر ماضيا كان أو مستقبلا; لأن تحقق المخبر به في خبر من لا يجوز عليه الكذب والخلف من الواجبات والنسخ فيه يؤدي إلى الكذب والخلف فلا يجوز. وقال بعض المعتزلة والأشعرية بجوازه في الخبر مطلقا إذا كان مدلوله متكررا والإخبار عنه عاما كما لو قال عمرت زيدا ألف سنة ثم بين أنه أراد به تسعمائة أو قال لأعذبن الزاني أبدا ثم قال: أردت به ألف سنة; لأنه إذا كان كذلك كان الناسخ مبينا أن المراد بعض ذلك المدلول كما في الأوامر والنواهي بخلاف ما إذا لم يكن متكررا نحو قوله أهلك الله زيدا ثم قوله ما أهلكه; لأن ذلك يقع دفعة واحدة فلو أخبر عن إعدامه وإيجاده جميعا كان تناقضا ومنهم من فصل بين الماضي والمستقبل فمنعه في الماضي وجوزه في المستقبل; لأن الوجود المتحقق في الماضي لا يمكن رفعه بخلاف المستقبل; لأنه يمكن منعه من الثبوت واستدل عليه بظاهر قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39] وبقوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: 39 – 40] فإنه نسخ بعد سؤال الرسول عليه السلام بقوله عز ذكره: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: 39 – 40]. وبقوله تعالى لآدم: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى} [طه: 118] فإنه نسخ بقوله تعالى: {فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} [طه: 121] وبظواهر آيات الوعيد مثل قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} [النساء: 93] {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا} [النساء: 14] وغيرها فإنها نسخت بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] وكل ذلك إخبار
والصحيح هو القول الأول لما بينا أن النسخ توقيت ولا يستقيم ذلك في الخبر بحال فإنه لا يقال: اعتقدوا الصدق في هذا الخبر إلى وقت كذا ثم اعتقدوا خلافه بعد ذلك فإنه هو البداء والجهل الذي يدعيه اليهود في أصل النسخ ونحن لا نسلم صحة إرادة تسعمائة من لفظ الألف ولا صحة ورود النسخ على ما التحق به تأبيد ما نبين, فأما قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39] فقد قيل معناه ينسخ ما يستصوب نسخه ويثبت بدله أو يتركه غير منسوخ وقيل يمحو من ديوان الحفظة ما ليس بحسنة ولا سيئة; لأنهم مأمورون بكتبة كل قول وفعل ويثبت غيره والكلام فيه واسع المجال وقوله تعالى: {ووثلة من الآخرين} [الواقعة 40] ليس بناسخ شيئا; لأنه لم يرفع حكما ثبت في الآية الأولى إذ الحكم في القليل المذكور فيها ثابت كما كان إلا أنه ألحق بهم(3/245)
وصفاته النسخ بحال.وأما الذي ينافي النسخ من الأحكام التي هي في الأصل محتملة للوجود والعدم فثلاثة تأبيد ثبت نصا وتأبيد ثبت دلالة وتوقيت أما التأبيد صريحا فمثل قول الله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} [النساء: 57] ومثل قوله جل وعلا: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}
ـــــــ
فرق أخرى بعد نزول الآية بتضرعهم أو بدعاء الرسول عليه السلام ثم أخبر عنهم بقوله: {وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: 40]. وقيل الآية الأولى في السابقين والثانية في أصحاب اليمين وعن الحسن سابقو الأمم أكثر من سابقي أمتنا وتابعو الأمم مثل تابعي هذه الأمة وكذا قوله تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى} [طه: 118]، من باب القيد والإطلاق لا من باب النسخ وكذا آيات الوعيد كلها مقيدة أو مخصوصة على ما عرف في مسألة تخليد أصحاب الكبائر وهذا إذا كان الخبر في غير الأحكام الشرعية فإن كان في الأحكام الشرعية فهو والأمر والنهي سواء حتى لو أخبر الله تعالى أو رسوله عليه السلام بالحل مطلقا في شيء ثم ورد الخبر بعده بالحرمة ينتسخ الأول بالثاني
قوله "وأما الذي ينافي" أي الحكم الذي ينافي النسخ من الأحكام لفوات الوصف الثاني وهو عدم لحوق ما ينافي بيان المدة مع وجود الوصف الأول وهو كونه محتملا للوجود والعدم فثلاثة أما التأبيد صريحا فمثل قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} وصف أهل الجنة بالخلود أي بالإقامة فيها وهو مطلق يقبل الزوال فلما اقترن به الأبد صار بحال لا يقبل الزوال; لأن فيها بعد التنصيص على التأبيد بيان التوقيت فيه بالنسخ لا يكون إلا على وجه البداء وظهور الغلط والله تعالى متعال عنه ومثل قوله عز وجل: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} قال قتادة والربيع ومقاتل والكلبي هم أهل الإسلام من أمة محمد عليه السلام اتبعوا دين المسيح وصدقوا بأنه رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فوالله ما اتبعه من دعاه ربا, ومعنى الفوقية هاهنا الغلبة بالحجة في كل الأحوال وبها وبالسيف حين أظهر محمدا عليه السلام وأمته على الدين كله كذا في المطلع. وفي الكشاف ومتبعوه هم المسلمون; لأنهم متبعوه في أصل الإسلام, وإن اختلف الشرائع دون الذين كذبوه من اليهود وكذبوا عليه من النصارى وعن ابن زيد فوق الذين كفروا أي فوق اليهود فلا يكون لهم مملكة كما للنصارى ثم هذا, وإن كان توقيتا إلى يوم القيامة في الظاهر فهو تأبيد في الحقيقة; لأن المؤمنين ظاهرون على الكافرين يوم القيامة لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة 212], فإذا كان متبعوه ظاهرين في الدنيا التي هي موضع غلبة الكفار كانوا غالبين يوم القيامة الذي هو محل غلبة المؤمنين فكانوا غالبين أبدا ضرورة وهذا من قبيل قول عمر رضي الله عنه "نعم الرجل(3/246)
يريد بهم الذين صدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقسم الثاني مثل شرائع محمد عليه السلام التي قبض على قرارها فإنها مؤبدة لا تحتمل النسخ بدلالة أن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ولا نبي بعده ولا نسخ إلا بوحي على لسان
ـــــــ
صهيب لو لم يخف الله لم يعصه" يعني لو لم يكن خائفا من الله تعالى لم يصدر عنه معصية فكيف يصدر إذا خافه ولا يقال لا يصح إيراد هذين المثالين هاهنا; لأنهما من الإخبار لا من الأحكام, وامتناع النسخ فيهما باعتبار ذلك لا بالتأبيد; لأنا نقول: المقصود إيراد النظير للتأبيد نصا ولم يوجد في الأحكام تأبيد صريح وقد حصل المقصود بإيرادهما فلذلك أوردهما ومن القسم الثاني تأبيد الجنة والنار; لأن أهلهما لما كانوا مؤبدين فيهما كانتا مؤبدتين ضرورة
والثالث واضح مثل أن يقول الشارع أذنت لكم أن تفعلوا كذا إلى سنة أو قال: أحللت هذا الشيء عشر سنين أو مائة سنة فإن المنع عنه قبل مضي تلك المدة لا يجوز; لأنه يكون من البداء والغلط والنسخ المؤدي إليه باطل. قال القاضي الإمام رحمه الله وليس لهذا القسم مثال من المنصوصات شرعا ولا يلزم عليه مثل قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة 222] {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ} [البقرة: 187]; لأن المقصود شرعية حرمة القربان في حالة الحيض وشرعية إباحة الأكل والشرب في الليل وهي ليست بموقتة بل هي ثابتة على الإطلاق.
واعلم أن الأصوليين اختلفوا في هذا الفصل فذهب الجمهور منهم إلى جواز نسخ ما لحقه تأبيد أو توقيت من الأوامر والنواهي وهو مذهب جماعة من أصحابنا وأصحاب الشافعي وهو اختيار صدر الإسلام أبي اليسر وذهب أبو بكر الجصاص والشيخ أبو منصور والقاضي الإمام أبو زيد والشيخان وجماعة من أصحابنا إلى أنه لا يجوز ولا خلاف أن مثل قوله: الصوم واجب مستمر أبدا لا يقبل النسخ لتأدية النسخ فيه إلى الكذب والتناقض
تمسك الفريق الأول بأن الخطاب إذا كان بلفظ التأبيد فغايته أن يكون دالا على ثبوت الحكم في جميع الأزمان لعمومه ولا يمتنع أن يكون المخاطب مع ذلك مريدا لثبوت الحكم في بعض الأزمان دون البعض كما في الألفاظ العامة لجميع الأشخاص وإذا لم يمتنع ذلك لم يمتنع ورود الناسخ المعرف لمراد المخاطب ولذلك لو فرضنا ذلك لم يلزم عليه محال. تنبيه: إن في العرف قد يراد بلفظ التأبيد المبالغة لا الدوام كقول القائل لازم فلانا أبدا وفلان يكرم الضيف أبدا واجتنب فلانا أبدا إلى غير ذلك فيجوز أن يكون كذلك في استعمال الشرع ويتبين بلحوق الناسخ به أن المراد منه المبالغة لا(3/247)
نبي. والثالث واضح والنسخ فيه قبل الانتهاء باطل; لأن النسخ في هذا كله بداء وظهور الغلط لا بيان المدة والله يتعالى عن ذلك
ـــــــ
الدوام ولأنه لا خفاء أن قوله صوموا أبدا مثلا لا يربوا في الدلالة على تعيين الوقت والتنصيص على قوله صم غدا فكما جاز نسخ هذا قبل الغد لما سنبين جاز نسخ الآخر أيضا وتمسك الفريق الثاني بأن نسخ الخطاب المقيد بالتأبيد أو التوقيت يؤدي إلى التناقض والبداء; لأن معنى التأبيد أنه دائم والنسخ يقطع الدوام فيكون دائما غير دائم وصاحب الشرع منزه عن ذلك فلا يجوز القول بنسخه كما لو قيل الصوم دائم مستمر أبدا يوضحه أن التأبيد بمنزلة التنصيص على كل وقت من أوقات الزمان بخصوصه والنسخ لا يجري فيه بالاتفاق فكذا فيما نحن فيه والدليل عليه أن التأبيد يفيد الدوام والاستمرار قطعا في الخبر كما في تأبيد أهل الجنة والنار حتى إن من قال بجواز فناء الجنة والنار وأهلهما وحمل قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} [النساء: 57 – 122 – 169] و[المائدة 119] و[التوبة 22و100] و[الأحزاب: 65"و"التغابن: 9"و"الجن: 23"والبينة: 8" على المبالغة ينسب إلى الزيغ والضلال فكذا في الأحكام إذ لا فرق في دلالة اللفظ على الدوام لغة في الصورتين وقولهم: لا يمتنع أن يكون المخاطب مريدا لبعض الأزمان دون البعض كما في الألفاظ العامة غير صحيح; لأن ذلك إنما يصح إذا اتصل قرينة بالكلام نطقية أو غير نطقية دالة على المراد من غير تأخر عنه, فإذا خلا الكلام عن مثل هذه القرينة كان دالا على معناه الحقيقي قطعا لما مر فكان ورود النسخ عليه من باب البداء ضرورة فلا يجوز. وليس هذا كجريان النسخ في اللفظ المتناول للأعيان فإن النسخ فيه لا يؤدي إلى أنه أريد به البعض بقرينة متأخرة بل الحكم ثبت في حق الكل ثم انقطع في حق البعض بالناسخ فكان هذا البعض بمنزلة ما لو ثبت الحكم في حقه بنص خاص ثم انقطع بناسخ فإن قيل قد يجوز تخصيص اللفظ العام متأخرا وليس ذلك إلا بيان أنه أريد به البعض بقرينة متأخرة قلنا: ذلك ليس بتخصيص عندنا بل هو نسخ على ما بينا فأما من جعله تخصيصا فقد بنى ذلك على أن موجب العام ظني عنده وأن التخصيص بيان مقرر فيجوز متأخرا وقد تقدم الكلام فيه والفريق الأول لم يسلموا لزوم البداء والتناقض; لأن الأمر المقيد بالتأبيد مثل قوله: صم رمضان أبدا يوجب أن يكون جميع الرمضانات في المستقبل متعلق الوجوب ولا يلزم من تعلق الوجوب بالجميع استمرار الوجوب مع الجميع فإذا لا يلزم من صم رمضان أبدا الإخبار بكون الصوم مؤبدا مستمرا حتى يلزم من نفي الاستمرار بالنسخ التناقض والبداء كما لو كان الوقت معينا بأن قال: صم رمضان هذه السنة ثم نسخه قبل مجيئه إذ لا منافاة بين إيجاب صوم رمضان وانقطاع التكليف عنه قبله بالنسخ(3/248)
فصار الذي لا يحتمل النسخ أربعة أقسام في هذا الباب والذي هو محل النسخ قسم واحد وهو حكم مطلق يحتمل التوقيت لم يجب بقاؤه بدليل يوجب البقاء كالشراء يثبت به الملك دون البقاء فينعدم الحكم لانعدام سببه
ـــــــ
كانقطاع التكليف عنه قبله بالموت ويكون التأبيد معلقا بشرط عدم النسخ أي افعلوا أبدا إن لم أنسخه عنكم كما كان قوله: افعل كذا في وقت كذا مقيدا بشرط عدم النسخ أي افعل كذا في ذلك الوقت إن لم أنسخه عنك.
هذا حاصل كلام الفريقين ولا طائل في هذا الخلاف إذ لم يوجد في الأحكام حكم مقيد بالتأبيد أو التوقيت قد نسخ شرعيته بعد ذلك في زمان الوحي ولا يتصور وجوده بعد فلا يكون فيه كثير فائدة.
قوله "فصار الذي لا يحتمل النسخ أربعة أقسام" ما لا يحتمل إلا وجها واحدا وهو الوجود وما يحتمل الوجود والعدم وقد التحق به تأبيد نصا أو دلالة أو توقيت وهو حكم مطلق احترازا عن المقيد بالتأبيد أو التوقيت يحتمل التوقيت احترازا عما لا يحتمله كالإيمان بالله تعالى وصفاته لم يجب بقاؤه بدليل يوجب البقاء احترازا عن الشرائع التي قبض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صفة بعد صفة كالشراء يثبت به الملك دون البقاء يعني أنه يوجب الملك في المبيع للمشتري ولا يوجب إبقاءه له بل بقاؤه بدليل آخر مبق أو بعدم الدليل المزيل وكذا يوجب الثمن للبائع في ذمة المشتري ولا يوجب بقاءه له في ذمته قوله "فينعدم الحكم" إلى آخره تقريب وجواب عن كلام اليهود الذين ادعوا لزوم البداء والتناقض في النسخ يعني لما لم يكن بقاء الحكم بدليل موجب للبقاء بل بعدم الدليل المزيل كان عدم الحكم عند ورود الناسخ لعدم سببه أي بسبب بقائه وهو عدم الدليل المزيل لتبدل ذلك العدم بوجود الناسخ لا أن يكون الناسخ بنفسه متعرضا له بالإبطال والإزالة ليلزم منه البداء والتناقض كما زعموا بل عدمه لعدم سببه كالحياة تنعدم بعدم سببها لا بالموت. ونظيره خروج شهر ودخول آخر فإن الأول ينتهي به لا أن يكون الثاني مزيلا له فكذا الحكم الأول ينتهي بالناسخ لا أن يكون الناسخ مزيلا فلا يكون تناقضا وبداء أو المراد من السبب المعنى الداعي إلى شرعيته يعني انعدم الحكم لعدم المعنى الداعي إليه لا بالناسخ كانتهاء شرعية إعطاء المؤلفة قلوبهم نصيبا من الزكاة بانتهاء سببه وهو ضعف المسلمين وحصول إعزاز الدين به فإن تأليفهم على الإسلام بإعطاء المال ودفع أذاهم عن المسلمين به كان إعزازا للدين في ذلك الزمان فلما قوي أمر الإسلام كان(3/249)
لا بالناسخ بعينه فلا يؤدي إلى التضاد والبداء ولا يصير الشيء الواحد حسنا وقبيحا في حالة واحدة بل في حالين, فإن قيل: إن الأمر بذبح الولد في قصة إبراهيم عليه السلام نسخ فصار الذبح بعينه حسنا بالأمر وقبيحا بالنسخ قيل له لم يكن ذلك بنسخ للحكم بل ذلك الحكم بعينه ثابت, والنسخ هو انتهاء الحكم ولم يكن بل كان ثابتا إلا أن المحل الذي أضيف إليه لم يحله الحكم على طريق الفداء دون النسخ وكان ذلك ابتلاء استقر حكم الأمر عند المخاطب وهو
ـــــــ
إعطاؤهم دنية في الدين لا إعزازا له فانتهى بانتهاء سببه وإذا كان كذلك لا يكون النسخ بداء ولا تناقضا لعدم تعرض الناسخ للحكم الأول أصلا ولا مستلزما لاجتماع الحسن والقبح في شيء واحد في حالة واحدة كما زعموا بل يلزم منه اجتماعهما في شيء واحد في حالتين وذلك ليس بمستحيل إذ من شرطه اتحاد المكان والزمان جميعا
قوله "فإن قيل" هذا سؤال يرد على قوله ولا يصير الشيء الواحد حسنا وقبيحا في حالة واحدة وتقريره أنكم أنكرتم في النسخ لزوم اجتماع الحسن والقبح في شيء واحد في حالة واحدة وقد وجد ذلك في قصة إبراهيم عليه السلام فإنه أمر بذبح الولد ثم نسخ ذلك بذبح الشاة بدليل أن ذبح الولد قد حرم بعد ذلك فصار الذبح منهيا عنه مع قيام الأمر حتى وجب ذبح الشاة فداء عنه ولا شك أن النهي عن ذبح الولد الذي به ثبت الانتساخ كان دليلا على قبحه وقيام الأمر بالذبح دليل على حسنه وفيه اجتماع الحسن والقبح في شيء واحد في وقت واحد فأجاب عنه وقال لا نسلم أن الحكم الذي كان ثابتا انتسخ بذبح الشاة وكيف يقال ذلك وقد سماه الله تعالى محققا رؤياه بقوله جل جلاله: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} "الصافات: 105". أي حققت ما أمرت به بل نقول المحل الذي أضيف إليه الذبح وهو الولد لم يحله الحكم على طريق الفداء كما نص الله تعالى عليه بقوله: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} "الصافات: 107" على معنى أن هذا الذبح تقدم على الولد في قبول الذبح المضاف إلى الولد إذ الفداء في اللغة اسم لما يقوم مقام الشيء في قبول المكروه المتوجه عليه يقال: فديتك نفسي أي قبلت ما توجه عليك من المكروه وكذلك من رمى سهما إلى غيره فتقدم على المرمى إليه آخر وقبل ذلك السهم يقال فداه بنفسه مع بقاء خروج السهم من الرامي إلى المحل الذي قصده ولما سميت الشاة فداء علم أن الذبح المضاف إلى الولد أقيم في الشاة وصارت الشاة قائمة مقام الولد في قبول الذبح مع بقاء الأمر مضافا إلى الولد فيصير محل إضافة السبب الولد, ومحل قبول الحكم الشاة ولهذا قال عليه السلام: "أنا ابن الذبيحين" وما ذبحا حقيقة بل فديا بالقربان ولكن لما كان القربان قائما مقام الولد صار الولد بذبحه مذبوحا حكما وإذا ثبت أن ذلك كان بطريق(3/250)
إبراهيم صلوات الله عليه في آخر الحال على أن المبتغى منه في حق الولد أن يصير قربانا بنسبة حسن الحكم إليه مكرما بالفداء الحاصل لمعرة الذبح مبتلى بالصبر والمجاهدة إلى حال المكاشفة وإنما النسخ بعد استقرار المراد بالأمر لا قبله, وقد سمي فداء في الكتاب لا نسخا فيثبت أن النسخ لم يكن لعدم ركنه والله أعلم بالصواب.
ـــــــ
الفداء كان هو ممتثلا للحكم الثابت بالأمر فلا يستقيم القول بالنسخ فيه; لأن ذلك يبتني على النهي الذي هو ضد الأمر ولا تصور لاجتماعهما في شيء واحد في وقت واحد فتبين به أن الحسن والقبح لم يجتمعا في شيء واحد لانتفاء النهي الموجب للقبح الناسخ للأمر بل نفى الأمر كما كان موجبا للحسن إلا أن الفعل انتقل إلى الشاة لما قلنا
قوله. "وكان ذلك ابتلاء" كأنه جواب عما يقال ما الحكمة في إضافة إيجاب الذبح إلى الولد إذا لم يتحقق فعل الذبح فيه فقال كان ذلك ابتلاء في حق الخليل عليه السلام حتى يظهر منه الانقياد والاستسلام والصبر على ما به من حرقة القلب على ولده وفي حق الولد بالمجاهدة والصبر على معرة الذبح إلى حال المكاشفة واستقر حكم الأمر عند المخاطب وهو إبراهيم عليه السلام في آخر الحال على أن المبتغى أي المطلوب منه أي من الأمر في حق الولد أن يصير قربانا بهذه الجهة وهي نسبة الذبح إليه بأن يقال ذبيح الله لا أن يصير قربانا بحقيقة القتل مكرما خبر آخر ليصير أي وأن يصير مكرما بالفداء الحاصل لمعرة الذبح اللام متعلقة بالحاصل وضمن الحاصل معنى الدافع أي بالفداء الذي حصل دافعا لمعرة الذبح أي لشدته أو بالفداء الذي حصل لأجل دفع معرته مبتلى خبر آخر له أيضا أي وأن يصير مبتلى بالصبر والمجاهدة إلى حالة المكاشفة وهي حالة الفداء فإنه صبر إلى هذه الحالة وقال لأبيه {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} "الصافات: 102" وإليه أشار الله تعالى بقوله: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} "الصافات: 103" فتبين أنه ليس بنسخ وقد سمي أي ذبح الشاة فداء في الكتاب أي في كتاب الله تعالى في قوله: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} "الصافات: 107" والفداء اسم لما يكون واجبا بالسبب الموجب للأصل فثبت أن النسخ لم يكن لعدم ركنه وهو كونه بيانا لانتهاء الحكم الأول; لأن الحكم الأول وهو وجوب الذبح باق بعد صيرورة الشاة فداء وإذا لم يكن نسخا لم يلزم اجتماع الحسن والقبح في شيء واحد في زمان واحد لما ذكرنا.
"فإن قيل" لا نسلم أن ذبح الشاة وجب بحكم الأمر بالذبح المضاف إلى الولد; لأن أحدا لا يفهم من الأمر بذبح الولد ذبح الشاة بل نسخ ذلك الأمر بأمر مبتدأ مضاف إلى الشاة وانتهى نهايته كما ذهب إليه عامة الأصوليين وتبين أنه كان مأمورا بالاشتغال(3/251)
---------------------------------------------------------
ـــــــ
بمقدمات الذبح وهو قدر ما أتى به على ما قال تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} "الصافات: 103" ألا ترى أنه لما ائتمر بذلك القدر سماه الله تعالى محققا للرؤيا والدليل عليه أنه قال: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} "الصافات: 102" وهذا ينبئ عن الاشتغال بمقدمة الذبح لا عن الاشتغال بحقيقته إذ لو كان مأمورا بحقيقته لكان ينبغي أن يقول: إني أرى في المنام أني ذبحتك إلا أن الشاة سميت فداء لتصورها بصورة الفداء وهو أن ذبحها كان عقيب الذبح المضاف إلى الولد قلنا لا يمكن إثبات أمر آخر وهو غير مذكور في القرآن ولو جعلنا الشاة مذبوحة بأمر مبتدأ لا يكون فداء لما ذكرنا أن الفداء ما يقبل مكروها متوجها على غيره فمتى أقيم حكم الأمر في الولد وحصل الائتمار لا تكون الشاة قابلة مكروها متوجها عليه فلا تكون فداء ولأنه إنما رأى في المنام ذبح الولد مقدمة الذبح فلا يجوز حمله على أنه كان مأمورا بمقدماته; لأن فيه مخالفة النص ونسبة إبراهيم وولده عليهما السلام إلى أنهما اعتقدا وجوب ما لا يحل وهو ذبح الولد, وإنما لم يقل ذبحتك; لأنه ينبئ عن فعل ماض قد تم ووقع الفراغ عنه وما رأى في المنام ذلك, وإنما رأى مباشرة فعل الذبح فتكون العبارة عنه أذبحك; لأن مثله ينبئ عن الحال., فأما تسميته مصدقا للرؤيا فلأنه باشر فيما وسعه من أسباب الذبح وإمرار السكين على محل الذبح بطريق المبالغة مرارا وهذا هو مباشرة فعل الذبح من العبد فصار به ذابحا محققا لما أمر به فلذلك صح قوله تعالى: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} "الصافات: 105", فأما حصول حقيقة الذبح فلم يكن في وسعه إذ المتولدات تحدث بخلق الله تعالى على أنا نسلم نسخ محلية الذبح في الولد بصيرورة الشاة فداء عنه ولكن لا نسلم انتساخ الأمر والإضافة بل نقول بعد صيرورة الشاة فداء بقي الأمر مضافا إلى ولد حرام ذبحه وحكم ذلك الأمر وجوب ذبح الشاة وبقي الولد محلا لإضافة الإيجاب إليه وقد انتسخت محلية الفعل لا محلية الإضافة كذا في الأسرار والطريقة البرغرية والله أعلم(3/252)
باب بيان الشرط
وهو التمكن من عقد القلب فأما التمكن من الفعل فليس بشرط عندنا وقالت المعتزلة: إنه شرط وحاصل الأمر أن حكم النص بيان المدة لعمل القلب والبدن جميعا أو لعمل القلب بانفراده وعمل القلب هو المحكم في هذا عندنا
ـــــــ
"باب بيان الشرط"
اعلم أن للنسخ شروطا بعضها متفق عليه وبعضها مختلف فيه أما المتفق عليه فكون الناسخ والمنسوخ حكمين شرعيين فإن العجز والموت كل واحد يزيل التعبد الشرعي ولا يسمى نسخا وكذا إزالة الحكم العقلي بالحكم الشرعي لا يسمى نسخا وكون الناسخ منفصلا عن المنسوخ متأخرا عنه فإن الاستثناء والغاية لا يسميان نسخا وقد تضمن التعريفات المذكورة للنسخ هذه الشروط وأما المختلف فيه فاشتراط كون الناسخ والمنسوخ من جنس واحد واشتراط البدل للمنسوخ. واشتراط كونه أخف من المنسوخ أو مثله فإنها شرط لصحة النسخ عند قوم على ما سيأتيك بيانها بعد ومن الشروط المختلف فيها التمكن من الفعل الذي تضمنه هذا الباب فهو ليس بشرط لصحته عند أكثر الفقهاء وعامة أصحاب الحديث وذهب جماهير المعتزلة إلى أنه شرط وإليه ذهب بعض أصحابنا وأبو بكر الصيرفي من أصحاب الشافعي وبعض أصحاب أحمد بن حنبل ومعنى التمكن من الفعل أن يمضي بعدما وصل الأمر إلى المكلف زمان يسع الفعل المأمور به.
قوله "وحاصل الأمر" أي حاصل الخلاف أن حكم النسخ عندنا بيان لمدة عمل القلب والبدن تارة ولعمل القلب بانفراده وهو العقد أخرى وعمل القلب هو المحكم في هذا أي اشتراط التمكن من الاعتقاد وكون النسخ بيانا لمدته هو الأمر الأصلي الذي لا يحتمل السقوط والتغير; لأنه لازم على كل التقادير والآخر أي التمكن من العمل من الزوائد أي يحتمل أن يكون النسخ بيانا للمدة فيه ويحتمل أن لا يكون وهذا بمنزلة التصديق والإقرار في الإيمان فإن الأول ركن أصلي دائم لا يحتمل السقوط بحال والثاني ركن زائد(3/253)
والآخر من الزوائد وعندهم هو بيان مدة العمل بالبدن قالوا: لأن العمل بالبدن هو المقصود بكل نهي وبكل أمر نصا يقال: افعلوا كذا أو لا تفعلوا فيقتضي حسنه
ـــــــ
لا يشترط دوامه ويسقط في بعض الأحوال "وعندهم هو" أي النسخ بيان مدة العمل بالبدن أي بيان مدة الحكم في حق العمل بالبدن وذلك لا يتحقق إلا بعد الفعل أو التمكن منه حكما; لأن الترك بعد التمكن منه تفريط من العبد فلا ينعدم به معنى بيان مدة حكم العمل بالنسخ. وصورة المسألة على وجهين: أحدهما: أن يرد الناسخ بعد التمكن من الاعتقاد قبل دخول وقت الواجب كما إذا قيل في رمضان حجوا هذه السنة ثم قيل في آخره لا تحجوا أو قيل صوموا ثم قيل قبل انفجار الصبح لا تصوموا والثاني أن يرد بعد دخول وقته قبل انقضاء زمان يسع الواجب كما إذا قيل لإنسان اذبح ولدك فبادر إلى أسبابه فقبل إحضار الكل قيل له لا تذبحه أو شرع في الصوم في قوله صم غدا فقيل له قبل انقضاء اليوم لا تصم هكذا ذكر في الميزان وعامة نسخ أصول الفقه. قال صاحب الميزان هذه مسألة مشكلة ودلائل الخصوم ظاهرة لو بنيت المسألة على أن حكم الأمر وجوب الفعل إذ وجوب الفعل في زمان لا يتمكن فيه من الفعل تكليف ما لا يطاق وكذا لو بنيت على وجوب الاعتقاد; لأنه يقال يجب عليه اعتقاد فعل واجب أو غير واجب والأول باطل; لأن الفعل لا يجب بالإجماع وإيجاب اعتقاد ما ليس بواجب واجبا محال من الشرع وكذا إيجاب اعتقاد فعل غير واجب محال أيضا
ولكن المسألة مبنية على أن الأمر صحيح, وإن لم يتعلق به وجوب الفعل ولا وجوب الاعتقاد حقيقة عند الله تعالى فإن أمر الله تعالى أزلي عندنا وتعلقه بالمأمور يقتضي أن يكون فيه فائدة في الجملة فإن الأمر بما لا يريد الله تعالى وجوده جائز عندنا لفائدة الوجوب في الجملة فكذا إذا لم يرد به الوجوب أيضا لكن فيه نوع فائدة يصح الأمر وهاهنا كذلك فإن المأمور إذا كان لا يعلم بحدوث النسخ ويبني الأمر على ظاهر الأمر في حق وجوب العمل يعتقده ظاهرا ويعزم على الأداء ويهيئ أسبابه ويظهر الطاعة من نفسه فيتحقق الابتلاء إن كان الله تعالى عالما بأنه لا يجب عليه الفعل وهذا في الأمر بذبح الولد أظهر فإنه لما اشتغل بأسباب الذبح وانقاد لحكم الله تعالى الثابت ظاهرا تعظيما لأمره يظهر منه الطاعة فكان النسخ مفيدا في حق المأمور وصحة الأمر لفائدة المأمور لا غير أو لما حسن منه العزم والاعتقاد واشتغل بأسبابه اجتزئ بذلك منه بفضل الله تعالى وكرمه وجعل قائما مقام حقيقة الفعل في حق الثواب فيصير كأن النسخ ورد بعد وجود الفعل تقديرا هذا طريق تخريج هذه المسألة.
قوله "قالوا" أي الخصوم إنما يشترط التمكن من العمل; لأن العمل بالبدن هو(3/254)
بالأمر لا محالة وقبحه بالنهي وإذا وقع النسخ قبل الفعل صار بمعنى البداء والغلط والحجة لنا أن "النبي صلى الله عليه وسلم أمر بخمسين صلاة ليلة المعراج" ثم نسخ ما زاد
ـــــــ
المقصود بكل أمر ونهي نصا أي العمل هو المقصود بكل أمر والمنع من العمل هو المقصود بكل نهي; لأن صيغة الأمر والنهي بصريحهما تدلان على وجوب الفعل والمنع عنه لدلالتهما على المصدر لا على العزم والقصد والمنع منه فيقتضي كون الفعل والامتناع عنه هو المقصود بالأوامر والنواهي حسن الفعل بالأمر وقبحه بالنهي يعني لما كان الفعل هو المأمور به والمنهي عنه اقتضى ذلك أن يكون نفس الفعل حسنا إذا ورد الأمر به وذاته قبيحا إذا ورد النهي عنه والنسخ قبل التمكن من الفعل يؤدي إلى اجتماعهما في شيء واحد في وقت واحد; لأنه إذا أمر بشيء في وقت دل ذلك على حسن ذلك الشيء في ذلك الوقت وإذا نهي عن ذلك الشيء في ذلك الوقت دل على قبحه في ذلك الوقت لكون الحسن والنسخ من ضرورات الأمر والنهي, وقد علمت أن اجتماعهما في وقت واحد لشيء واحد محال فكان القول بجواز النسخ الذي يؤدي إليه فاسدا. وكان هذا النسخ من باب البداء والغلط الذي هو على صاحب الشرع محال نبينه أن الشارع إذا أمر في صبيحة يوم بأداء ركعتين عند غروب الشمس بطهارة ثم عند الزوال نهى عن أدائهما عند الغروب بطهارة كان الأمر والنهي متناولا فعلا واحدا على وجه واحد في وقت واحد وقد صدر عن مكلف واحد إلى مكلف واحد وفي تناول النهي لما تناوله الأمر على الحد الذي تناوله دليل على البداء والغلط; لأنه إنما ينهى عما أمر بفعله إذا ظهر له من حال المأمور ما لم يكن معلوما له حين أمر به لعلمنا أنه بالأمر إنما طلب من المأمور اتحاد الفعل بعد التمكن منه لا قبله إذ التكليف لا يكون إلا بحسب الوسع, والبداء على الله تعالى لا يجوز قالوا ولا معنى لقولكم إن صحة الأمر مبنية على الإفادة وقد أفاد اعتقاد الوجوب والعزيمة على الفعل فيجوز نسخه ولا يلزم منه بداء; لأن المسألة مصورة فيما إذا كان النهي تناول عين المأمور به والأمر تناول الفعل فلو جوزنا نسخه قبل وقت الفعل لم يبق للأمر فائدة فيما وضع الأمر له, فأما اعتقاد الوجوب والعزم على الفعل فليس الأمر بموضوع لهما فلا يدل الأمر عليهما بطريق الحقيقة ولا بطريق المجاز أيضا; لأن قوله: افعلوا لا يصلح عبارة عن اعزموا واعتقدوا بوجه فثبت أن الأمر أمر بالفعل لا غير فكان النسخ قبل وقت الفعل مؤديا إلى سقوط الفائدة عن الأمر وإلى البداء والحجة لعامة العلماء السنة, والدليل المعقول أما السنة كما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بخمسين صلاة ليلة المعراج ثم نسخ ما زاد على الخمس" وكان ذلك نسخا قبل التمكن من الفعل إلا أنه كان بعد عقد القلب عليه فدل وقوعه على الجواز وزيادة. فإن قيل هذا خبر غير ثابت والمعتزلة ينكرون المعراج(3/255)
على الخمس فكان ذلك بعد العقد; لأنه صلى الله عليه وسلم أصل هذه الأمة فصح النسخ بعد وجود عقده ولم يكن ثمة تمكن من الفعل ولأن النسخ صحيح بالإجماع بعد
ـــــــ
أصلا ومن أقر به منهم ومن غيرهم يقولون لم يرو في حديث المعراج ذكر نسخ خمسين صلاة بخمس صلوات وذلك شيء زاده القصاص فيه كما زادوا غيره والدليل عليه أنه لا بد فيه من التمكن من الاعتقاد وكان الأمر بخمسين صلاة على ما زعمتم للأمة لا للنبي عليه السلام خاصة ولم يوجد التمكن من الاعتقاد للأمة; لأنه لا يتصور قبل العلم ولئن سلمنا أنه ثابت فهو مخالف للدليل العقلي الذي بينا ومن شرط قبول الخبر أن لا يخالف الدليل العقلي ولئن سلمنا أنه ليس بمخالف له فلا نسلم أن ذلك كان فرضا بطريق العزم بل فوض ذلك إلى رأي رسوله ومشيئته, فإذا اختار الخمس تقرر الفرض قلنا الحديث ثابت مشهور تلقته الأمة بالقبول وهو في معنى التواتر فلا وجه إلى إنكاره وأهل النقل وناقدوا الحديث كما رووا أصل المعراج رووا فرض خمسين صلاة ونسخها بخمس وذلك مذكور في الصحيحين وغيرهما من كتب الأحاديث فوجب قبوله كما وجب قبول أصل المعراج ولم يجز القول بكونه من زيادات القصاص قال عبد القاهر البغدادي وليس إنكار القدرية المعراج إلا كإنكارهم خبر الرؤية والقدر وأخبار الشفاعة وعذاب القبر والحوض والميزان والخبر صحيح لا يرد بطعن مخالفة من أهل الأهواء كما لم يرد خبر المسح على الخفين بطعن الروافض والخوارج فيه وكما لم يرد خبر الرجم بإنكار الخوارج الرجم وهو ليس بمخالف للدليل العقلي على ما نبينه. وقولهم لم يوجد التمكن من الاعتقاد في حق الأمة فاسد; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأصل لهذه الأمة وقد وجد منه عقد القلب على ذلك قال أبو اليسر رحمه الله ظهر في الانتهاء أن المبتلى بالقبول والاعتقاد كان النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته, وإنه كان مبتلى بالقبول في حق نفسه وفي حق أمته فإنه عليه السلام يجوز أن يبتلى بأمته كما يبتلى بنفسه لتوفر شفقته على أمته كشفقة الأب على الولد والأب يبتلى بالولد كما يبتلى بنفسه وقولهم لم يكن ذلك فرضا عزما كلام فاسد; لأنه ثبت في الحديث أنه سأل التخفيف على أمته غير مرة وكان موسى عليهما السلام يحثه على ذلك وما زال يسأل ذلك ويجيبه ربه إليه حتى انتهى لخمس فقيل له لو سألت التخفيف أيضا فقال أنا أستحي فتبين أن ذلك لم يكن مفوضا إلى اختياره بل كان نسخا على وجه التخفيف بسؤاله بعد الفرضية
وقد تمسك عامة الأصوليين بقصة إبراهيم عليه السلام فإن الأمر بذبح الولد قد نسخ قبل التمكن من الفعل بطريق التحويل إلى الشاة كنسخ التوجه من بيت المقدس إلى الكعبة وقد مر الكلام فيه
قوله "ولأن النسخ" بيان للدليل المعقول وتقريره أن النسخ جائز بالإجماع بعد(3/256)
وجود جزء من الفعل أو مدة يصلح للتمكن من جزء منه وإن كان ظاهر الأمر يحتمل كله; لأن الأدنى يصلح مقصودا بالابتلاء فكذلك عقد القلب على جنس المأمور به وعلى حقيته يصلح أن يكون مقصودا منفصلا عن الفعل ألا ترى أن الله ابتلانا بما هو متشابه لا يلزمنا فيه إلا اعتقاد الحقية فيه فدل ذلك على أن عقد القلب يصلح أصلا ولأن الفعل لا يصير قربة إلا بعزيمة القلب وعزيمة
ـــــــ
وجود جزء من الفعل أو مدة تصلح للتمكن من جزء منه يعني إذا أمر بالفعل مطلقا بأن قيل: افعلوا كذا في مستقبل أعماركم يجوز نسخه بالنهي عنه بعد وجود أصل الفعل الذي هو جزء مما تناوله مطلق الأمر أو بعد مضي جزء من الزمان يسع أصل الفعل ولولا النسخ لكان الأمر متناولا جميع العمر. وليس المراد منه أن الأمر إذا ورد بفعل مثل أن يقال صلوا ركعتين أو صوموا غدا فبعد أداء جزء من الصلاة أو جزء من الصوم أو بعد مضي زمان يسع جزءا من الصلاة والصوم يجوز نسخه بالإجماع على ما يوهم ظاهر الكلام; لأن ذلك من الصور المتنازع فيها بل المراد ما ذكرنا; لأن الأدنى يصلح مقصودا يعني إنما صح النسخ بعد ما ذكرنا; لأن الأدنى أي أدنى ما ينطبق عليه اسم ذلك الفعل يصلح أن يكون مقصودا بالابتلاء ولا يؤدي ذلك النسخ إلى البداء والجهل بعاقبة الأمر فكذا عقد القلب على حسن المأمور به وحقيته أي وجوبه وثبوته يصلح أن يكون مقصودا بالابتلاء منفصلا عن الفعل أي بدون الفعل وكان النسخ بعد عقد القلب على الحكم وحقيته قبل التمكن من الفعل بيانا أن المراد كان عقد القلب عليه إلى هذا الوقت واعتقاد الفرضية فيه دون مباشرة العمل وهذا في الحقيقة استدلال بجواز أصل النسخ على جوازه قبل التمكن من الفعل وعبارة بعض المشايخ فيه أن الدليل لما قام على جواز النسخ دل ذلك على جوازه قبل وقت الفعل إذ لا فرق بين أن ينسخ قبل وقت الفعل أو بعد وقته; لأنه يجوز أن يكون المراد بالأمر اعتقاد الوجوب والعزم على الفعل إذا حضر وقته. ويكون الابتلاء بهذا القدر وهذا ابتلاء صحيح; لأن الإيمان رأس الطاعات فيجوز أن يبتلي الله تعالى عباده بقبول هذه العبادة إيمانا ولا يلزم منه البداء والدليل عليه أن الأمر كما يسقط عن المأمور بنسخه يسقط عنه بموته وعجزه عن الفعل ثم إذا لم يكن مستحيلا أن يؤمر بالشيء ثم لا يصل إلى فعله بعارض من عجز يحول بينه وبين المأمور به أو موت يقطعه عنه وقد يؤمر المسلم بقتل الكافر فيتوجه إليه بسيفه ثم يقتل قبل أن يصل إليه أو يصيبه آفة تحول دون قصده لا يستحيل أن لا يصل إلى فعله بعارض النسخ أيضا يوضحه أنه لو قرن البيان صريحا بالأمر بأن قال: افعل كذا في وقت كذا إن لم أنسخه عنك صح ذلك واستقام كما لو قال: افعل في وقت كذا إن تمكنت منه وتكون الفائدة في الحال هي القبول بالقلب واعتقاد الحقية فكذلك يصح بعد الأمر بطريق النسخ.(3/257)
القلب قد تصير قربة بلا فعل والفعل في احتمال السقوط فوق العزيمة, فإذا كان كذلك صلح أن يكون مقصودا دون الفعل ألا يرى أن عين الحسن لا يثبت بالتمكن من الفعل وقول القائل افعلوا على سبيل الطاعة أمر بعقد القلب لا
ـــــــ
قوله "ولأن الفعل لا يصير قربة" دليل آخر على صلاحية الاعتقاد مقصودا بدون الفعل وهو يتضمن إبطال قول الخصم أن الفعل هو المقصود لا غير وبيانه أن الفعل لا يصير قربة أي سبب نيل الثواب إلا بعزيمة القلب بالاتفاق ولقوله عليه السلام "إنما الأعمال بالنيات" . وعزيمة القلب قد تصير قربة بدون الفعل بدليل قوله عليه السلام "من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة1" الحديث والفعل في احتمال السقوط فوق العزيمة فإن الإقرار الذي هو فعل يحتمل السقوط وكذا الطاعات التي هي من أفعال الجوارح مع كونها من أركان الإيمان عند قوم تحتمل السقوط بعوارض والتصديق الذي هو عزيمة القلب لا يحتمل السقوط بحال ولهذا كان ترك العزيمة أي ترك الاعتقاد كفرا وترك العمل فسقا, فإذا كان كذلك أي كان الشأن كما ذكرنا صلح أن يكون عقد القلب مقصودا بالابتلاء دون الفعل لكونه أهم ولا يكون ذلك بداء ألا ترى أن الواحد منا قد يأمر عبده بشيء ومقصوده من ذلك أن يظهر عند الناس حسن طاعته وانقياده له ثم ينهاه عن ذلك بعد حصول هذا المقصود قبل أن يتمكن من مباشرة الفعل ولا يجعل ذلك دليل البداء, وإن كان الآمر ممن يجوز عليه البداء فلأن لا يجعل النسخ قبل التمكن من الفعل بعد عزم القلب واعتقاد الحقية موهما للبداء في حق من لا يجوز عليه البداء أولى
قوله "ألا ترى أن غير الحسن لا يثبت" توضيح لصلاحية الاعتقاد مقصودا وجواب عن لزوم اجتماع الحسن والقبح في شيء واحد يعني لا يثبت حقيقة الحسن للفعل المأمور به بالتمكن من الفعل قبل وجوده; لأن الحسن صفة له فلا يتحقق قبل وجوده ولا بد للنسخ من تحقق المأمور به ليكون الناسخ بيانا لانتهاء حسنه ومثبتا لقبح ما يتصور من أمثاله في المستقبل ثم لما جاز النسخ بالإجماع بعد التمكن من الفعل قبل حصول حقيقته لا بد من أن يكون صحته مبنية على كون الاعتقاد مقصودا بالأمر كالفعل ليصلح الناسخ بيانا لانتهاء حسنه إذ لم يصلح أن يكون بيانا لانتهاء حسن الفعل لاستحالة انتهاء الشيء قبل وجوده ولما جاز ذلك بعد التمكن لما ذكرنا ولم يلزم منه بداء واجتماع الحسن والقبح في شيء واحد جاز قبل التمكن أيضا لوجود هذا المعنى.
ـــــــ
1 أخرجه البخاري باب رقم 31 ،ومسلم في الإيمان حديث رقم 203 ،والترمذي في التفسير باب رقم 6.(3/258)
محالة فيجوز أن يكون أحد الأمرين مقصودا لازما والآخر يتردد بين الأمرين والله أعلم.
ـــــــ
وقوله وقول القائل كذا جواب عن قولهم الفعل هو المقصود أي إذا قال افعلوا على سبيل الطاعة يكون أمرا بعقد القلب كما هو أمر بالفعل; لأن الطاعة لا يتصور بدون عقد القلب على حقية المأمور به فكان الأمر موجبا للعقد والفعل جميعا فيجوز أن يكون أحد الأمرين وهو العقد مقصودا لازما لكونه أهم والآخر وهو الفعل مترددا بين أن يكون مقصودا وبين أن لا يكون كذلك وتبين بما ذكرنا أن الفعل بعينه ليس بمقصود في أوامر الله تعالى بل المقصود هو الابتلاء ولا يحصل الابتلاء إلا بكون وجوب الاعتقاد من مواجب الأمر ولهذا لو فعل المأمور به ولم يعتقد وجوبه لا يصح فعله فكان هو مقصودا لازما بخلاف أوامر العباد فإن المقصود منها ليس إلا طلب الفعل; لأنها لا تكون بطريق الابتلاء, وإنما تكون لجر النفع وذلك يحصل بالفعل لا بعقد القلب فإن قيل: الابتلاء كما يحصل بوجوب العقد يحصل بوجوب الفعل فكان كلاهما مقصودا قلنا نعم من حيث الظاهر كلاهما مقصود ولكن تبين بالنسخ المراد كان هو الابتلاء بالاعتقاد كما إذا نسخ بعد الفعل مرة وقد كان الأمر مطلقا يتبين أن الابتلاء كان بالفعل مرة أو مدة الفعل كانت مقصورة على هذا الزمان, وإن كان مطلق الأمر يتناول الأزمنة كلها بدليل أنه لو لم يرد النسخ وجب الفعل في الأزمنة كلها بقضية الأمر والله أعلم.(3/259)
"باب تقسيم الناسخ"
قال الشيخ الإمام رضي الله عنه الحجج أربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس أما القياس فلا يصلح ناسخا لما نبين إن شاء الله تعالى والإجماع
ـــــــ
"باب تقسيم الناسخ"
اعلم أن الناسخ يطلق على الله تعالى يقال نسخ الله تعالى التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة ومنه قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106"، وقوله عز اسمه: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} [الحج: 52" وعلى الحكم الثابت كما يقال وجوب صوم رمضان نسخ وجوب صوم عاشوراء وعلى من يعتقد نسخ الحكم كما يقال فلان ينسخ القرآن بالسنة أي يعتقد ذلك وعلى الطريق المعرف لارتفاع الحكم من الآية وخبر الرسول ونحوهما عند من جوز النسخ بغيرهما وهو المراد هاهنا ولا خلاف أن إطلاقه على المتوسطين مجاز, وإنما الخلاف في الطرفين فعندنا إطلاقه على الله تعالى حقيقة وعلى الطريق المعرف مجاز وعند المعتزلة على العكس والنزاع لفظي الحجج أربع وفي بعض النسخ أربعة على تأويل الدلائل
قوله "أما القياس فلا يصلح ناسخا لما نبين" كأنه أراد بقوله لما نبين ما ذكر في باب شروط القياس أن من شرطه أن يتعدى إلى فرع لا نص فيه إذ التعدية بمخالفة النص مناقضة حكم النص وهو باطل واعلم أن القياس المظنون لا يكون ناسخا لشيء عند الجمهور سواء كان جليا أو خفيا ونقل عن أبي العباس بن شريح من أصحاب الشافعي رحمهم الله أن النسخ يجوز به; لأن النسخ بيان كالتخصيص فما جاز التخصيص به جاز النسخ به أيضا. وكان أبو القاسم الأنماطي1 من أصحابه لا يجوز ذلك بقياس الشبه ويجوز بقياس مستخرج من الأصول وكان يقول كل قياس هو مستخرج من القرآن يجوز
ـــــــ
1 هو أبو القاسم عثمان بن سعيد بن بشار الأنماطي وتوفي سنة 288هـ أنظر وفيات الأعيان:3/241.(3/260)
فقد ذكر بعض المتأخرين أنه يصح النسخ به والصحيح أن النسخ به لا يكون إلا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم والإجماع ليس بحجة في حياته; لأنه لا إجماع دون رأيه, والرجوع
ـــــــ
نسخ الكتاب به وكل قياس هو مستخرج من السنة يجوز نسخ السنة به; لأن هذا في الحقيقة نسخ الكتاب بالكتاب ونسخ السنة بالسنة فثبوت الحكم بمثل هذا القياس يكون محالا به على الكتاب والسنة إذ القياس بكثير محال النص
وذكر في بعض الكتب أن النسخ يجوز عند أبي القاسم بالقياس الجلي دون الخفي قال الغزالي رحمه الله لفظ الجلي مبهم إن أراد به المقطوع به فهو صحيح وأما المظنون فلا. تمسك الجمهور باتفاق الصحابة رضي الله عنهم فإنهم كانوا مجمعين على ترك الرأي بالكتاب والسنة, وإن كانت السنة من الآحاد حتى قال عمر رضي الله عنه في حديث الجنين كدنا أن نقضي فيه برأينا وفيه سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال علي رضي الله عنه لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف بالمسح أولى من ظاهره ولكني "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر الخف دون باطنه1" وبأن ما تقدم على القياس المظنون الذي ينسخ به لا يخلو من أن يكون قطعيا أو ظنيا فإن كان قطعيا فلا يجوز نسخه به لانعقاد الإجماع على وجوب تقديم القاطع على غيره وترك الأضعف بالأقوى, وإن كان ظنيا فلا نسخ أيضا; لأن العمل بالمظنون المتقدم إنما يثبت مشروطا برجحانه على ما يعارضه وينافيه إذ لو ترجح عليه قياس آخر يبطل شرط العمل به وخرج عن كونه مقتضيا للحكم فتبين من القياس الراجح أن حكم المظنون المتقدم لم يكن ثابتا وإذ لا ثبوت له فلا رفع ولا نسخ
وأما اعتبار النسخ بالتخصيص فمنقوض بدليل العقل والإجماع وخبر الواحد فإن التخصيص بها جائز دون النسخ وكيف يتساويان والتخصيص بيان والنسخ رفع وإبطال. وما ذكره الأنماطي ضعيف أيضا فإن الوصف الذي به يرد الفرع إلى الأصل المنصوص عليه في الكتاب والسنة غير مقطوع بأنه هو المعنى في الحكم الثابت بالنص حتى لو كان ذلك المعنى مقطوعا به بأن كان منصوصا عليه جاز النسخ فيه أيضا كالنص واختلفوا أيضا في جواز كون القياس منسوخا فمنهم من منع من ذلك مطلقا كالحنابلة وعبد الجبار في قول مصير منهم إلى أن القياس إذا كان مستنبطا من أصل فالقياس باق ببقاء الأصل فلا يتصور رفع حكمه مع بقاء أصله
ومنهم من جوز نسخ القياس الموجود في زمن النبي عليه السلام دون ما وجد بعده كأبي الحسين البصري واختيار العامة أن لا يكون منسوخا كما لا يكون ناسخا; لأن ما بعد
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الطهارة حديث رقم 162.(3/261)
إليه فرض وإذا وجد منه البيان كان منفردا بذلك لا محالة وإذا صار الإجماع واجب العمل به لم يبق النسخ مشروعا وإنما يجوز النسخ بالكتاب والسنة وذلك أربعة أقسام نسخ الكتاب بالكتاب والسنة بالسنة ونسخ السنة بالكتاب
ـــــــ
القياس قطعيا كان أو ظنيا يبين زوال شرط العمل بالقياس المظنون وهو رجحانه لرجحان القاطع والظني المتأخر عنه وإلا لما صلح لنسخ المتقدم, وإذا زال شرط العمل به فلا حكم له فلا رفع ولا نسخ. وذكر في الميزان نسخ القياس لا يجوز بالقياس ولا بدليل فوقه لما ذكرنا أن النسخ انتهاء الحكم الشرعي وبالدليل المعارض إذا كان فوقه تبين أن ذلك القياس لا يصح, وإذا كان مثله لا يبطل حكم الأول ويعمل المجتهد بالثاني إذا ترجح عنده على ما مر قال أبو الحسين نسخ القياس في المعنى يجوز بنص متقدم وبإجماع وبقياس نحو أن يجتهد بعض الناس فيحرم شيئا بقياس بعدما اجتهد في طلب النصوص ثم يظفر بنص بخلاف قياسه أو تجمع الأمة على خلاف قياسه أو يظفر هو بقياس أولى من قياسه الأول فيلزم في كل الأحوال ترك قياسه الأول ولا يسمى ذلك نسخا; لأن القياس الأول إنما عمل به بشرط أن لا يعارضه قياس أولى منه ولا نص ولا إجماع. هذا إنما يتم هذا على القول بأن كل مجتهد مصيب; لأنه يقول: إن هذا القياس قد تعبد به ثم رفع, فأما من لا يقول كل مجتهد مصيب فإنه لا يقول قد تعبد به فلا يمكن نسخ التعبد به
قوله "وأما الإجماع" فكذا الإجماع يجوز ناسخا للكتاب والسنة والإجماع عند بعض مشايخنا منهم عيسى بن أبان وإليه ذهب بعض المعتزلة تمسكوا بما روي أن عثمان رضي الله عنه لما حجب الأم عن الثلث إلى السدس بأخوين قال ابن عباس رضي الله عنهما كيف تحجبها بأخوين وقد قال الله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11" والأخوان ليسا بإخوة فقال حجبها قومك يا غلام فدل على جواز النسخ بالإجماع وبأن المؤلفة قلوبهم سقط نصيبهم من الصدقات بالإجماع المنعقد في زمان أبي بكر رضي الله عنه وبأن الإجماع حجة من حجج الشرع موجبة للعلم كالكتاب والسنة فيجوز أن يثبت النسخ به كالنصوص ألا ترى أنه أقوى من الخبر المشهور والنسخ بالخبر المشهور جائز حيث جاز به الزيادة على النص التي هي نسخ فبالإجماع أولى
وعند جمهور العلماء لا يجوز النسخ به; لأن الإجماع عبارة عن اجتماع الآراء في شيء ولا مجال للرأي في معرفة نهاية وقت الحسن والقبح في الشيء عند الله تعالى ثم أوان النسخ حال حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم لاتفاقنا على أن لا نسخ بعده وفي حال حياته ما كان ينعقد الإجماع بدون رأيه وكان الرجوع إليه فرضا, وإذا وجد البيان منه فالموجب للعلم قطعا هو البيان المسموع منه., وإنما يكون الإجماع موجبا للعلم بعده ولا نسخ بعده فعرفنا أن النسخ بدليل الإجماع لا يجوز(3/262)
ونسخ الكتاب بالسنة وذلك كله جائز عندنا وقال الشافعي رحمه الله بفساد القسمين الآخرين واحتج بقوله تبارك وتعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106" وذلك يكون بين الآيتين والسنتين فأما في القسمين الآخرين فلا واحتج بقوله تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} [يونس: 15" فثبت أن السنة لا تنسخ
ـــــــ
وهذا الدليل, وإن لم يفصل بين كون الإجماع ناسخا للكتاب والسنة وبين كونه ناسخا للإجماع في عدم الجواز إلا أن الشيخ رحمه الله ذكر في آخر باب حكم الإجماع أن نسخ الإجماع بإجماع آخر جائز فيكون ما ذكر هاهنا محمولا على عدم جواز نسخ الكتاب والسنة به دفعا للتناقض والفرق على ما اختاره أن الإجماع لا ينعقد ألبتة بخلاف الكتاب والسنة فلا يتصور أن يكون ناسخا لهما ولو وجد الإجماع بخلافهما لكان ذلك بناء على نص آخر ثبت عندهم أنه ناسخ للكتاب والسنة ويتصور أن ينعقد إجماع لمصلحة ثم تتبدل تلك المصلحة فينعقد إجماع آخر على خلاف الأول ولكن عامة الأصوليين أنكروا كون الإجماع ناسخا لشيء أو منسوخا بشيء لما بينا أنه لا يصلح ناسخا للكتاب والسنة ولا يصلح أن يصير منسوخا بهما أيضا لعدم تصور حدوث كتاب أو سنة بعد وفاة النبي عليه السلام وكذا لا يصلح ناسخا للإجماع ولا منسوخا به; لأن الإجماع الثاني إن دل على بطلان الأول لم يجز ذلك إذ الإجماع لا يكون باطلا. وإن دل على أنه كان صحيحا لكن الإجماع الثاني حرم العمل به من بعد لم يجز ذلك إلا لدليل شرعي متجدد وقع لأجله الإجماع من كتاب أو سنة أو لدليل كان موجودا أو خفي عليهم من قبل ثم ظهر لهم وكل ذلك باطل لاستحالة حدوث كتاب أو سنة بعد وفاته عليه السلام ولعدم جواز خفاء الدليل الذي يدل على الحق عند الإجماع الأول على الكل لاستلزامه إجماعهم على الخطأ وكذا لا يصلح ناسخا للقياس ولا منسوخا به لما مر وأما تمسكهم بقصة عثمان رضي الله عنه فضعيف; لأنها إنما تدل على النسخ بالإجماع لو ثبت كون المفهوم حجة قطعا حتى يكون معنى الآية من حيث المفهوم, فإن لم يكن له إخوة فلا يكون لأمه السدس بل الثلث وثبت أيضا أن لفظ الإخوة لا ينطلق على الأخوين قطعا ولم يثبت واحد منهما كذلك فلا يلزم النسخ على أنه لا يلزم النسخ بالإجماع على تقدير ثبوتهما أيضا لإمكان تقدير النص الدال على الحجب إذ لو لم يقدر ذلك كان الإجماع على الحجب خطأ وحينئذ يكون الناسخ هو النص لا الإجماع وكذا تمسكهم بسقوط نصيب المؤلفة قلوبهم; لأن ذلك لم ينسخ بالإجماع بل هو من قبيل انتهاء الحكم بانتهاء موجبه على ما عرف في موضعه.
قوله "وقال الشافعي بفساد القسمين الآخرين" هما مسألتان إحداهما نسخ(3/263)
الكتاب واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم "إذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله تعالى, فإن وافق الكتاب فاقبلوه وإلا فردوه" وقال ولأن في هذه صيانة الرسول صلى الله عليه وسلم عن شبهة الطعن; لأنه لو نسخ القرآن به أو سننه كما نسخت بالكتاب لكان
ـــــــ
الكتاب بالسنة المتواترة وهو جائز عند جمهور الفقهاء والمتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة وإليه ذهب المحققون من أصحاب الشافعي ونص الشافعي رحمه الله في عامة كتبه أنه لا يجوز وهو مذهب أكثر أهل الحديث
ثم اختلفوا في ذلك فقال بعضهم لا يجوز ذلك عقلا وهو الظاهر من مذهب الشافعي وإليه ذهب الحارث المحاسبي وعبد الله بن سعيد والقلانسي من متكلمي أهل الحديث وأحمد بن حنبل في رواية عنه وقال بعضهم يجوز ذلك عقلا ولكن الشرع لم يرد به ولو ورد به كان جائزا وبه قال ابن شريح في إحدى الروايتين عنه وقال بعضهم قد ورد الشرع بالمنع من ذلك وهو قول أبي حامد الإسفراييني.
والثانية نسخ السنة بالكتاب وهو جائز أيضا عند جميع من قال بالجواز في المسألة الأولى وعند بعض من أنكر الجواز فيها منهم عبد القاهر البغدادي وأبو المظفر السمعاني وذكر عن الشافعي رحمه الله في كتاب الرسالة القديمة والجديدة ما يدل على أن نسخ السنة بالقرآن لا يجوز ولوح في موضع آخر بما يدل على جوازه فخرجه أكثر أصحابه على قولين أحدهما أنه لا يجوز وهو الأظهر من مذهبه والآخر أنه يجوز وهو الأولى بالحق كذا ذكره السمعاني في القواطع
واستدل من أنكر الجواز عقلا في المسألة الأولى بأن المنسوخ ما كان منسوخا في عهد النبي عليه السلام والخبر يصير متواترا بعده فلا يجوز أن تكون المعرفة بكونه منسوخا موقوفة عليه ولهذا لم يجز النسخ بالإجماع إذ لو جاز به النسخ لصارت المعرفة بنسخه موقوفة على انعقاد الإجماع في الزمان المستقبل على نسخه. وربما بنوا هذه المسألة على جواز الاجتهاد للنبي عليه السلام فقالوا لما جاز له الاجتهاد فيما لم يوح إليه لم نأمن في تجويز نسخ القرآن بالسنة أن تكون السنة الناسخة صادرة عن الاجتهاد فيقع حينئذ نسخ القرآن بالاجتهاد وهو غير جائز. قالوا: ولهذا أخرنا التخصيص بالسنة لجوازه بالاجتهاد والقياس عندنا
واستدل من قال بعدم الجواز شرعا بقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106", فإنه يدل على أن الآية لا تنسخ إلا بآية; لأنه تعالى قال: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} [البقرة: 106" وهو يدل على أن البدل خير أو مثل وعلى(3/264)
مدرجة إلى الطعن فكان التعاون به أولى وقد احتج بعض أصحابنا في ذلك بقوله تبارك وتعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} في الآية فرض هذه الوصية ثم نسخت بقول
ـــــــ
أنه من جنس المبدل; لأن قول القائل: لا آخذ منك درهما إلا آتيك بخير منه يفيد أنه يأتي بدرهم خير من الدرهم المأخوذ والسنة ليست خيرا من القرآن ولا مثلا له ولا من جنسه بلا شك; لأن القرآن كلام الله تعالى وهو معجز والسنة كلام الرسول عليه السلام وهي غير معجزة فلا يجوز نسخه بها. ولأنه تعالى قال {نَأْتِ} وهو يدل على أن الآتي بالخير أو المثل هو الله تعالى; لأن الضمير له وذلك لا يكون إلا والناسخ قرآن لا سنة ويؤكده سياق الآية وهو قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 106" لإشعاره بأن الآتي به هو الله تعالى وتمسك بعضهم بهذه الآية لعدم الجواز في المسألة الثانية فقالوا: لما دلت الآية على اشتراط المماثلة والمجانسة في النسخ حتى لم يجز نسخ الكتاب بالسنة لعدم الشرطين لا يجوز نسخ السنة بالكتاب لفوات الشرطين وإليه أشار الشيخ بقوله وذلك بين الآيتين أي الإتيان بالمثل أو بالخير إنما يتحقق بين الآيتين أو السنتين لوجود المجانسة التي هي شرط النسخ بينهما, فأما في القسمين الآخرين فلا أي فلا يتحقق ذلك ولكن هذا التمسك ضعيف; لأن ظاهر هذا النص يقتضي الإتيان بالمثل أو بالخير في نسخ الآية لا في مطلق النسخ إذ لم يقل ما ننسخ من شيء فلا يصح هذا الاستدلال ولهذا لم يذكر شمس الأئمة وعامة الأصوليين هذا التمسك في كتبهم بل تمسكوا بهذه الآية في المسألة الأولى لا غير.
واستدلوا في المسألة الأولى أيضا بقوله تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس: 15". أخبر أن الرسول عليه السلام ليس إليه ولاية التبديل وأنه متبع لما أوحي إليه لا مبدل له والتبديل بإطلاقه يتناول تبديل اللفظ وتبديل الحكم فينتفي الأمران جميعا ولا يكون له ولاية تبديل الحكم كما لا يكون له ولاية تبديل اللفظ وبقوله عليه السلام "إذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله تعالى فما وافق كتاب الله تعالى فاقبلوه وما خالف فردوه" أمر بالرد عند المخالفة ولا بد للنسخ من المخالفة فكيف يجوز النسخ بها وفي المسألة الثانية بقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44" جعل قول الرسول عليه السلام بيانا للمنزل فلو نسخت السنة به لخرجت عن كونها بيانا لانعدامها وبقوله عز اسمه {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89" والسنة شيء فيكون الكتاب بيانا لحكمه لا رافعا له وذلك في أن يكون مؤيدا لها إن كان موافقا ومبينا للغلط فيها إن كان مخالفا ثم(3/265)
النبي صلى الله عليه وسلم "لا وصية لوارث" وهذا الاستدلال غير صحيح لوجهين: أحدهما أن النسخ إنما ثبت بآية المواريث. وبيانه أنه قال {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11" فرتب الميراث على وصية نكرة والوصية الأولى
ـــــــ
بين الشيخ لهم من المعقول دليلا يشمل المسألتين فقال ولأن في هذا أي في عدم جواز نسخ أحدهما بالآخر صيانة الرسول عليه السلام عن شبهة الطعن; لأنه لو نسخ الكتاب به أي بالحديث يقول الطاعن هو أول قائل وأول عامل بخلاف ما يزعم أنه أنزل إليه فكيف يعتمد على قوله ولو نسخت سنة بالكتاب يقول الطاعن قد كذبه ربه فيما قال فكيف نصدقه وهو معنى قوله لكان مدرجة إلى الطعن أي طريقا ووسيلة إليه فكان التعاون به أي بكل واحد أولى من المخالفة يعني جعل كل واحد منهما معينا للآخر ومؤيدا له أولى من جعله رافعا ومبطلا لصاحبه سدا لباب الطعن لعلمنا أنه مصون عما يوهم الطعن. ولا يقال في نسخ الكتاب بالكتاب مثل هذه المدرجة أيضا, فإن الطاعن يقول كيف نعتمد قوله في أن هذا الكلام من الله تعالى وقد يمكنه أن يقول: إن الله تعالى يقول بخلافه; لأنهم يقولون: إن الله تعالى أجاب عن هذا الطعن بقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 102" فلا يكون في تجويز نسخ الكتاب بالكتاب تعريضه للطعن بخلاف ما نحن فيه.
قوله "واحتج بعض أصحابنا" منهم الشيخ أبو منصور رحمه الله في ذلك أي في جواز نسخ الكتاب بالسنة بقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} , فإن الوصية لهم كانت فرضا بموجب هذه الآية ثم نسخت بقوله عليه السلام: "لا وصية لوارث" وهذا الحديث في قوة المتواتر إذ المتواتر نوعان متواتر من حيث الرواية ومتواتر من حيث ظهور العمل به من غير نكير, فإن ظهوره يغني الناس عن روايته وهو بهذه المثابة, فإن العمل ظهر به مع القول من أئمة الفتوى بلا تنازع فيجوز النسخ به, وقد ذكر أبو الحسن الكرخي عن أبي يوسف رحمهما الله أنه يجوز نسخ الكتاب بمثل خبر المسيح لشهرته ولا يجوز أن يقال: إنما ثبت النسخ بآية المواريث; لأن فيها إيجاب حق آخر بطريق الإرث وثبوت حق بطريق لا ينافي ثبوت حق آخر لطريق آخر كما في حق الأجانب وبدون المنافاة لا يثبت النسخ ولا يجوز أن يقال لعل ناسخه مما أنزل في القرآن ولكن لم يبلغنا لانتساخ تلاوته مع بقاء حكمه; لأن فتح هذا الباب يؤدي إلى القول بالوقف في جميع أحكام الشرع إذ ما من حكم إلا ويتوهم فيه أن ناسخه نزل ولم يبلغنا لانتساخ تلاوته. وإلى الامتناع تعيين ناسخ ومنسوخ أبدا إذ ما من ناسخ إلا ويحتمل أن يقدر أن يكون الناسخ غيره وما من منسوخ حكمه إلا ويحتمل أن(3/266)
كانت معهودة فلو كانت تلك الوصية باقية مع الميراث ثم نسخت بالسنة لوجب ترتيبه على المعهود فصار الإطلاق نسخا للقيد كما يكون القيد نسخا للإطلاق والثاني أن النسخ نوعان أحدهما ابتداء بعد انتهاء محض والثاني بطريق الحوالة كما نسخت القبلة بطريق الحوالة إلى الكعبة وهذا النسخ من القبيل الثاني وبيانه أن الله تعالى فوض الإيصاء في الأقربين إلى العباد بقوله تعالى: {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة 180"، ثم تولى
ـــــــ
يقدر إسناد ذلك الحكم إلى غيره وفيه خرق الإجماع لانعقاده على أن ما وجد صالحا لإثبات الحكم هو المثبت وما وجد صالحا لنسخ الحكم هو الناسخ, وإن احتمل إضافة الحكم والنسخ إلى غير ما ظهر مع عدم الظفر به بعد البحث التام عنه
قال الشيخ: رحمه الله وهذا الاستدلال غير صحيح لوجهين أحدهما أنا لا نسلم أن نسخ الوصية ثبت بهذا الحديث بل ثبت بآية المواريث, فإنها نزلت بعد آية الوصية بالاتفاق وبيانه أي بيان ثبوت النسخ بالآية أنه تعالى رتب الإرث على وصية منكرة بقوله عز ذكره {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11". والوصية الأولى كانت معهودة معرفة باللام, فإنه تعالى قال: {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} ، فلو كانت تلك الوصية المفروضة باقية مع الميراث ثم نسخت بالحديث كما زعموا لوجب ترتيب الميراث على الوصية المعهودة المفروضة ثم على الوصية النافلة بأن قال من بعد الوصية للوالدين والأقربين ومن بعد وصية أوصيتم بها للأجانب فلما رتب الإرث على الوصية المطلقة النافلة دل على نسخ الوصية المقيدة المفروضة; لأن الإطلاق بعد التقييد نسخ كما أن التقييد بعد الإطلاق نسخ لتغاير المعنيين ولا يقال المعرفة إذا أعيدت نكرة كانت الثانية عين الأولى على ما مر في باب ألفاظ العموم فيكون هذه الوصية عين الأولى فلا يكون في الآية إشارة إلى نسخها فيتحقق النسخ بالسنة; لأنا نقول ذلك الأصل غير مسلم عند بعض العلماء, فإن صدر الإسلام أبا اليسر في أصول الفقه أن الشيء إذا ذكر بلفظ النكرة بعدما ذكر بلفظ المعرفة كانت النكرة غير المعرفة, فإن من قال رأيت الرجل ثم قال رأيت رجلا يكون المذكور آخرا غير المذكور أولا ولئن سلم فذلك إذا لم يمنع عنه مانع وقد تحقق المانع هاهنا, فإنهم أجمعوا أن الميراث بعد الوصية للأجانب ومستند الإجماع هذا النص فلو صرفت الوصية المذكورة فيه إلى المعهودة وقد نسخت المعهودة بلا خلاف لم يبق فيه دلالة على تأخر الميراث عن الوصية وهو خلاف الإجماع والثاني أي الوجه الثاني لبيان فساد هذا الاستدلال أن النسخ نوعان أحدهما ابتداء بعد انتهاء محض أي إثبات حكم ابتداء على وجه يكون دليلا على انتهاء حكم كان قبله بالكلية(3/267)
بنفسه بيان ذلك الحق وقصره على حدود لازمة تعين بها ذلك الحق بعينه فتحول من جهة الإيصاء إلى الميراث وإلى هذا أشار بقوله {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11" أي الذي فوض إليكم تولى بنفسه إذ عجزتم عن مقاديره الإيصاء ألا ترى قوله {لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} [النساء: 110", وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله تعالى أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية
ـــــــ
كنسخ المسالمة بالمقابلة ونسخ إباحة الخمر بحرمتها. والثاني نسخ بطريق الحوالة وهو أن تحول الحكم من محل إلى محل آخر من غير أن ينتهي بالكلية كنسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة, فإن أصل فرض التوجه إلى القبلة لم يسقط به ولكن حول من بيت المقدس إلى الكعبة وكنسخ الأمر بذبح الولد إلى الشاة عند أكثر الأصوليين
"وهذا النسخ" أي نسخ الوصية للوالدين والأقربين من النوع الثاني. وبيانه أي بيان كونه نسخا بطريق التحويل أن الله تعالى فوض الإيصاء في الوالدين والأقربين إلى العباد بشرط أن يراعوا الحدود وبينوا حصة كل قريب بحسب قرابته وإليه أشار بقوله: {بِالْمَعْرُوفِ} ثم لما كان الموصي لا يحسن التدبير في مقدار ما يوصي لكل واحد منهم بجهله وربما كان يقصد إلى المضارة في ذلك تولى الله تعالى بنفسه بيان ذلك الحق على وجه يتيقن به بأنه هو الصواب وأن فيه الحكمة البالغة وقصره على حدود لازمة لا يمكن تغييرها نحو السدس والثلث والثمن وغيرها تغير بها الحق أي تحول من جهة الإيصاء إلى الميراث وقوله فتحول تفسير التغيير "وإلى هذا" أي إلى ما ذكرنا أنه نسخ بطريق التحويل أشار الله تعالى بقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} حيث أطلق لفظ الإيصاء أي الإيصاء الذي فوض إليكم تولاه بنفسه إذ عجزتم عن مقاديره لجهلكم. وبقوله جل ذكره: {لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} أي لا تعلمون من أنفع لكم من هؤلاء في الدنيا والآخرة فتولى الله تعالى قسمة الميراث بينكم كما يقتضيه علمه وحكمته ولم يكلها إليكم أن الله كان عليما بالحكمة حكيما في القسمة ولما بين بنفسه ذلك الحق بعينه انتهى حكم تلك الوصية لحصول المقصود بأقوى الطرق كمن أمر غيره بإعتاق عبده ثم أعتقه بنفسه ينتهي به حكم الوكالة لحصول المقصود بمباشرة الموكل الإعتاق بنفسه وإلى هذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "إن الله تعالى أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث" , فإن الفاء يدل على سببية الأول كقولك زارني فأكرمته يعني انتفاء الوصية باعتبار أن الله تعالى أعطى كل ذي حق حقه, فإن الوصية إنما وجبت لتبين حق القريب, فإذا تبين حقه ببيان صاحب الشرع لم تبق الوصية مشروعة وهو معنى قوله بهذا الفرض أي المذكور في الآية نسخ الحكم الأول وهو وجوب الوصية قال شمس الأئمة رحمه الله بعد تقرير هذا(3/268)
لوارث" أي بهذا الفرض نسخ الحكم الأول وانتهى ومنهم من احتج بأن قول الله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} نسخ بإثبات الرجم بالسنة إلا أنا قد روينا عن عمر أن الرجم كان مما يتلى ولأن قوله جل وعلا: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} مجمل فسرته السنة واحتج بعضهم بقوله تبارك وتعالى: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة:
ـــــــ
الوجه ولكنا نقول بهذا الطريق يجوز أن يثبت انتهاء حكم وجوب الوصية للوالدين والأقربين, فأما انتفاء حكم جواز الوصية لهم فلا يثبت بهذا الطريق ألا ترى أن بالحوالة, وإن لم يبق الدين واجبا في الذمة الأولى فقد بقيت الذمة محلا صالحا لوجوب الدين فيها وليس من ضرورة انتفاء وجوب الوصية لهم انتفاء الجواز كالوصية للأجانب فعرفنا أنه إنما انتسخ وجوب الوصية لهم لضرورة نفي أصل الوصية وذلك ثابت بالسنة وهو قوله عليه السلام "لا وصية لوارث" فمن هذا الوجه يتقرر الاستدلال بهذه الآية
قوله. "ومنهم من احتج" يعني في جواز نسخ الكتاب بالسنة بأن حكم الإمساك في البيوت في حق الزواني الثابت بقوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} نسخ بالسنة وهي قوله عليه السلام: "والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة" إذ ليس في الكتاب ما يمكن إضافة إيجاب الرجم ونسخ الإمساك إليه وهو ضعيف أيضا; لأنهم يقولون لا نسلم نسخه بالسنة, فإنها لا تصلح ناسخة بالاتفاق لكونها من الآحاد بل النسخ ثبت بالكتاب على ما روي عن عمر رضي الله عنه أن الرجم كان مما يتلى في القرآن. وقال لولا أن الناس يقولون زاد عمر في كتاب الله لكتبت على حاشية المصحف الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالا من الله والله عزيز حكيم فكان هذا نسخ الكتاب بالكتاب أولا ثم نسخ تلاوة الناسخ وبقي حكمه وقيل نسخ حكم الإمساك بآية الجلد وهي تتناول البكر والثيب ثم خصت الثيب بحديث الرجم وخبر الواحد يصلح مخصصا عندهم, وإن لم يصلح ناسخا {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} مجمل فسرته السنة يعني ولئن سلمنا أن الرجم ثبت بالسنة فذلك بطريق تفسير المجمل لا بطريق النسخ, فإن حكم الإمساك في البيوت كان موقتا بما هو مجمل وهو قوله تعالى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} , فإن أو هذه بمعنى إلى أن ثم فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك المجمل بقوله: "خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب" الحديث, وتفسير المجمل بالسنة جائز بالاتفاق فانتهى ذلك الحكم بهذا البيان كانتهاء الصوم بالليل فلا يكون من باب النسخ
قوله "واحتج بعضهم" أي بعض من جوز نسخ الكتاب بالسنة بقوله تعالى: {وَإِنْ(3/269)
11"الآية هذا حكم نسخ بالسنة وهذا غير صحيح; لأن هذا كان فيمن ارتدت امرأته ولحقت بدار الحرب أن يعطى ما غرم فيها زوجها المسلم معونة له وفي ذلك أقوال مختلفة, وقد قيل: إنه غير منسوخ إن كان المراد به الإعانة من الغنيمة فيكون معنى قوله تعالى: {فَعَاقَبْتُمْ} [الممتحنة: 11" أي غنمتم ومن الحجة الدالة أن التوجه إلى الكعبة في الابتداء إن ثبت بالكتاب فقد نسخ بالسنة
ـــــــ
فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} فإن هذا الحكم وهو إيتاء الزوج مثل ما أنفق حكم نسخ بالسنة إذ لا يتلى ناسخه في القرآن. وهذا الاستدلال غير صحيح أيضا; لأن هذا أي قوله تعالى: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ} الآية فيمن أي في شأن من ارتدت امرأته ولحقت بدار الحرب أن يعطى زوجها بدلا من مال أي في إعطاء من ارتدت امرأته ولحقت بدار الحرب ما غرم فيها من الصداق معونة له في دفع الخسران ويحتمل أن يكون ذلك على سبيل الندب كما قال شمس الأئمة فلا يكون منسوخا ويحتمل أن يكون بطريق الوجوب ولكن من مال الغنيمة لا من كل مال, فإن معنى قوله: {فَعَاقَبْتُمْ} أصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم كما قال الزجاج أو أصبتم عقبى منهم أي كانت الغلبة لكم حتى غنمتم وعلى هذا التقدير قيل هو غير منسوخ أيضا وقيل هو منسوخ وناسخه آية القتال كذا في التيسير وقيل ناسخه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29" كذا في شرح التأويلات, وإذا كان كذلك لا يصح الاحتجاج به في موضع النزاع وذكر في المطلع روي أنه لما نزل قوله تعالى: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلوا مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10" أدى المؤمنون مهور المهاجرات إلى أزواجهن المشركين وأبى المشركون أن يؤدوا شيئا من مهور المرتدات إلى أزواجهن المسلمين فنزلت هذه الآية وقال ابن زيد خرجت امرأة من المسلمين إلى المشركين وأتت امرأة من المشركين فقال القوم هذه عقبتكم قد أتتكم فنزلت والمعنى, وإن سبقكم وانفلت منكم شيء من أزواجكم أي أحد منهن إلى الكفار فعاقبتم من العقبة وهي النوبة شبه ما حكم به على المسلمين والكافرين من أداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارة وأولئك مهور نساء هؤلاء أخرى بأمر يتعاقبون فيه أي يتناوبون كما يتعاقب في الركوب وغيره ومعناه فجاءت عقبتكم من أدائكم فآتوا من فاتته امرأته من الكفار مرتدة مثل مهرها من مهر مهاجرة جاءتكم ولا تؤتوه زوجها الكافر ليكون قصاصا. قالوا وهذه الأحكام التي ذكرها الله في هاتين الآيتين من الامتحان ورد المهر وأخذه من الكفار وتعريض الزوج المسلم من الغنيمة أو من صداق وجب رده على أهل الحرب كل ذلك منسوخ عند جميع أهل العلم(3/270)
الموجبة للتوجه إلى بيت المقدس والثابت بالسنة من التوجه إلى بيت المقدس نسخ بالكتاب, والشرائع الثابتة بالكتب السالفة نسخت بشريعتنا وما ثبت ذلك إلا بتبليغ الرسول عليه السلام "وترك رسول الله آية في قراءته فلما أخبر به قال ألم يكن فيكم أبي فقال: بلى يا رسول الله لكني ظننت أنها نسخت فقال عليه السلام لو نسخت لأخبرتكم" وإنما ظن النسخ من غير كتاب يتلى ولم
ـــــــ
قوله.: "ومن الحجة" كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوجه إلى الكعبة في الصلاة حين كان بمكة ولما هاجر إلى المدينة كان يتوجه إلى بيت المقدس في الصلاة ستة عشر شهرا ثم نسخ ذلك بالتوجه إلى الكعبة فقال الشيخ رحمه الله إن كان التوجه إلى الكعبة1 في الابتداء يعني كان بمكة ثابتا بالكتاب فقد نسخ بالسنة الموجبة للتوجه إلى بيت المقدس, فإنه ثابت بالسنة ظاهرا; لأنه لا يتلى في القرآن فيكون دليل جواز نسخ الكتاب بالسنة, وإن لم يثبت ذلك فلا شك في أن التوجه إلى بيت المقدس الثابت بالسنة ظاهرا قد نسخ بالكتاب وهو قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144" فيكون دليلا على جواز نسخ السنة بالكتاب.
فإن قيل لا نسلم أن التوجه إلى بيت المقدس كان ثابتا بالسنة بل هو ثابت بالكتاب, فإنه كان من شريعة من قبلنا وشريعة من قبلنا تلزمنا حتى يقوم الدليل على انتساخه وهذا حكم ثابت بالكتاب وهو قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام 90". قلنا عندك شريعة من قبلنا تلزمنا بطريق أنها تصير شريعة لنا بسنة رسول الله عليه السلام قولا أو عملا فلا يخرج بهذا من أن يكون نسخ السنة بالكتاب مع أن ناسخ ما كان في شريعة من قبلنا قد ثبت بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كان بمكة, فإنه كان يصلي إلى الكعبة ثم بعدما قدم المدينة لما صلى إلى بيت المقدس انتسخت السنة بالسنة ثم لما نزلت فرضية التوجه إلى الكعبة انتسخت السنة بالكتاب والشرائع الثابتة بالكتب السالفة نسخت بشريعتنا بلا خلاف وما ثبتت هي إلا بتبليغ الرسول عليه السلام وتبليغه قد يكون بالوحي المتلو وغير المتلو فيكون ذلك دليلا على جواز نسخ الكتاب بالسنة. وعبارة شمس الأئمة فيه ولا خلاف أن ما كان في شريعة من قبلنا ثبت انتساخه في حقنا بقول أو فعل من رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلافه وهذا نسخ الكتاب بالسنة, وإنما ظن النسخ من غير كتاب يتلى, فإنه كان كاتب الوحي ولم يرد النبي عليه السلام عليه ظنه ولم ينكر عليه فعله فدل على جواز نسخ التلاوة بغير الكتاب, وإذا ثبت جواز نسخ التلاوة ثبت
ـــــــ
1 أخرجه الإمام أحمد في المسند 1/250. وأخرجه الترمذي في التفسير ،باب رقم 2.(3/271)
يرد عليه وقالت عائشة "ما قبض رسول الله حتى أباح الله تعالى له من النساء ما شاء" فكان نسخا للكتاب بالسنة وصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة على رد نسائهم ثم نسخ بقوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10" والدليل المعقول أن النسخ لبيان مدة الحكم وجائز للرسول بيان حكم
ـــــــ
جواز نسخ الحكم; لأن وجوب التلاوة والعمل بحكم المتوكل واحد منهما ثابت بالكتاب قال أبو اليسر رحمه الله هذا ليس بقوي; لأن في ذلك الزمان كان القرآن ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فربما اعتقد أنها نسخت بآية أخرى قبيل هذا الزمان ولم تبلغه لضيق الوقت فلا يتعين النسخ بالحديث ولعله ظن النسخ بالإنساء. وكان نسخا للكتاب وهو قوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52] أي لا يحل لك النساء سوى هؤلاء اللاتي اخترنك من بعد أي من بعد ما اخترن الله ورسوله بالسنة وهي إخبار النبي عليه السلام إياها أن الله تعالى أباح له ذلك وأشار شمس الأئمة رحمه الله إلى أن الصحابة اتفقوا على كونه منسوخا وناسخه لا يتلى في الكتاب فعرفنا أنهم اعتقدوا جواز نسخ الكتاب بغيره قال أبو اليسر وهذا لا يقوى; لأن هذا الحل لم يثبت يعني حل ما زاد على التسع بعدما حرم بقوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52] لم يثبت; لأن تحريم ما زاد على التسع محكم لا يحتمل النسخ بدليل قوله: {مِنْ بَعْدِ} فإنه بمنزلة التأبيد إذ البعدية المطلقة تتناول الأبد يوضحه أن ذلك ثبت جزاء لحسن عملهن وهو اختيارهن رسول الله عليه السلام ومصابرتهن على الفقر والشدة فكيف يجوز أن يبطل ذلك بالنسخ مع بقائهن على ذلك الاختيار ولئن سلمنا نسخه فذلك ثبت بقوله تعالى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} [الأحزاب: 50] على ما قيل لا بالسنة فلا يصح هذا الاحتجاج "وصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة عام الحديبية على أن من لحق بالكفار من المسلمين لم يردوه ومن لحق بالمسلمين منهم ردوه وكانت المصلحة فيه في ذلك الوقت فلما ختم كتاب الصلح جاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية مسلمة فأقبل زوجها مسافر المخزومي وقيل صيفي بن الراهب فقال: يا محمد اردد علي امرأتي كما هو الشرط وهذه طينة الكتاب لم تجف فنزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} "الممتحنة: 10" إلى آخر الآية" ونسخ ذلك الحكم في حق النساء وهذا السنة بالكتاب.
قوله "والدليل المعقول" وهو معتمد الجمهور أن نسخ أحدهما أعني الكتاب(3/272)
الكتاب فقد بعث مبينا وجائز أن يتولى الله تعالى بيان ما أجرى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ولأن الكتاب يزيد بنظمه على السنة فلا يشكل أنه يصلح ناسخا وأما السنة, فإنما ينسخ بها حكم الكتاب دون نظمه والسنة في حق الحكم وحي مطلق يوجب ما يوجبه الكتاب, فإذا بقي النظم من الكتاب وانتسخ الحكم
ـــــــ
والسنة بالآخر ليس بممتنع عقلا ولم يرد منه منع سمعا فوجب القول بالجواز أما بيان عدم امتناعه عقلا فلأن النسخ في الحقيقة بيان مدة الحكم كما بينا, فإذا ثبت حكم بالكتاب لم يمتنع أن يبين رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة بقائه بوحي غير متلو كما لا يمتنع أن يبينها بوحي متلو وكما لم يمتنع أن يبين مجمل الكتاب بعبارته لم يمتنع أن يبين مدة الحكم المطلق بعبارته ألا ترى أن النسخ إسقاط الحكم في بعض الأزمان الداخلة تحت العموم كما أن التخصيص إسقاط الحكم في بعض الأعيان الداخلة تحت العموم, فإذا لم يمتنع تخصيص الكتاب بالسنة المتواترة لم يمتنع نسخه بها أيضا, وإذا ثبت حكم بالسنة لم يمتنع أيضا أن يتولى الله تعالى بيان مدته لعلمه بتبدل المصلحة كما لو بينها الرسول عليه السلام بنفسه وكما لو بين الله تعالى مدة الحكم الثابت بالكتاب; لأن الحكم الثابت على لسان الرسول عليه السلام أي الثابت بعبارته هو حكم ثابت من الله تعالى بدليل مقطوع به بمنزلة الثابت بالكتاب فثبت أن ذلك ليس بممتنع عقلا ولم يرد السمع بعدم جوازه أيضا; لأن ما تلوا من الآيات لا يدل على عدم جوازه على ما نبين فثبت أنه جائز. وعبارة بعض الأصوليين أنه لو امتنع نسخ أحدهما بالآخر لكان لغيره لا لذاته; لأن كل واحد من الكتاب والسنة وحي من الله تعالى على ما قال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} "النجم: 3 - 4" إلا أن الكتاب متلو والسنة غير متلوة ونسخ أحد القولين بالآخر غير ممتنع بذاته ولهذا فرض خطاب الشارع بجعل القرآن ناسخا للسنة أو بجعل السنة ناسخة للقرآن لما لزم لذاته محال عقلا فإذا لو امتنع لكان لغيره والأصل عدمه قال صاحب الميزان إذا أخبر النبي عليه السلام أن هذا الحكم نسخ من غير أن يتلو قرآنا أيقبل خبره أم لا, فإن قال الخصم لا يقبل فقد انسلخ عن الدين, وإن قال يقبل فقد ترك مذهبه إذ هو تفسير جواز نسخ الكتاب بالسنة.
قوله "ولأن الكتاب" دليل آخر على الجواز متضمن للجواب عما قالوا: إن نسخ أحدهما بالآخر لا يجوز لفوات المماثلة المشروطة بالنص فقال ليس كذلك; لأن الكتاب يزيد بنظمه لكونه معجزا على السنة فيصلح ناسخا لها لكونه خيرا منها كما يصلح ناسخا للكتاب لكونه مثلا له والسنة مثل الكتاب في إثبات الحكم وإيجاب العلم كما قرر في الكتاب فيصح نسخه بها أيضا.(3/273)
منه بالسنة كان المنسوخ مثل الناسخ لا محالة ولو وقع الطعن بمثله لما صح ذلك في الكتاب بالكتاب والسنة بالسنة بل في ذلك إعلاء منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيم سنته والله أعلم وظهر أنه ليس بتبديل من تلقاء نفسه; لأنه جل وعلا قال {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} "النجم: 3" وأما الحديث فدليل على أن
ـــــــ
"فإن قيل" قوله: فإنما ينسخ بها حكم الكتاب دون نظمه يناقض ما سبق أن أبيا ظن نسخ النظم من غير كتاب يتلى, فإنه يدل على جواز نسخ النظم بالسنة قلنا المراد هاهنا بيان الوقوع أي لم يقع نسخ النظم بالسنة, وإنما وقع نسخ الحكم بها وفيما سبق بيان الجواز أي ظنه يدل على جواز نسخ النظم بدون الكتاب فلا يكون تناقضا أو المراد من قوله, فإنما ينسخ بها حكم الكتاب دون نظمه أنه لا يجوز نسخ النظم بالسنة على وجه تقوم السنة مقامه في جواز أداء الصلاة بها. والمراد من حديث أبي رضي الله عنه أنه يدل على جواز نسخ النظم بالسنة على وجه يكون بيانا لانتهاء حكمه فقط فيندفع التناقض وقوله ولو وقع الطعن جواب عما قالوا نسخ أحدهما بالآخر مدرجة إلى الطعن فقال لو وقع الطعن بمثله أي بمثل ما نحن فيه من نسخ الكتاب بالسنة والسنة بالكتاب وامتنع به لما صح ذلك أي النسخ في الكتاب بالكتاب والسنة بالسنة; لأن الطاعن يقول: إنه يناقض في كلامه وينقل عن الله تعالى كلاما متناقضا فكيف يعتمد عليه وإليه أشار الله تعالى بقوله: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} [النحل: 101] قالوا: إنما أنت مفتر ثم لم يندفع نسخ الكتاب بالكتاب والسنة بالسنة بهذا الطعن فكذا ما نحن فيه وهذا; لأنه لما علم بالمعجزات الدالة على صدق وصحة رسالته وأنه مبلغ وأن الجميع من عند الله تعالى لم يبق للطعن مجال بل في ذلك أي في جواز نسخ الكتاب بالسنة وعكسه إعلاء منزلة الرسول عليه السلام وتعظيم سنته من حيث إن الله تعالى فوض بيان الحكم الذي هو وحي في الأصل إليه ليبينه بعبارته وجعل لعبارته من الدرجة ما يثبت به انتهاء مدة الحكم الذي هو ثابت بوحي متلو حتى يتبين به انتساخه. ومن حيث إنه جعل سنته في إثبات الحكم مثل كلامه وتولى بيان مدته بنفسه كما تولى بيان مدة الحكم الذي أثبته بكلامه
قوله "وظهر أنه ليس بتبديل" جواب عن تمسكهم بقوله تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} [يونس: 15] فقال ظهر بما بينا أن نسخ الكتاب بالسنة ليس بتبديل من عند نفسه كما زعموا بل بوحي من الله تعالى إلا أنه غير متلو ولا يقال يحتمل أنه كان عن اجتهاد لجواز الاجتهاد له فيما لم يوح إليه; لأنا نقول: الإذن بالاجتهاد من الله تعالى أيضا, وإنه في اجتهاده لا يقر الخطأ فكان اجتهاده مع التقرر بمنزلة(3/274)
الكتاب يجوز أن ينسخ السنة وتأويل الحديث أن العرض على الكتاب إنما يجب فيما أشكل تاريخه أو لم يكن في الصحة بحيث ينسخ به الكتاب فكان تقديم الكتاب أولى فأما قوله جل وعلا {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} فإن المراد بالخيرية ما يرجع إلى العباد دون النظم بمعناه فكذلك
ـــــــ
الوحي أيضا وذكر الغزالي رحمه الله أن الناسخ في الحقيقة هو الله تعالى على لسان رسوله عليه السلام وليس الشرط أن ينسخ حكم القرآن بل بوحي على لسان رسوله وكلام الله تعالى واحد وهو الناسخ باعتبار وهو المنسوخ باعتبار وليس له كلامان أحدهما قرآن والآخر ليس بقرآن, وإنما الاختلاف بالعبارات فربما دل على كلامه بلفظ منظوم يأمر بتلاوته ويسمى قرآنا وربما دل عليه بلفظ غير متلو ويسمى سنة والكل مسموع من الرسول عليه السلام والناسخ هو الله تعالى بكل حال قوله وتأويل الحديث قال شمس الأئمة رحمه الله وما روي من قوله عليه السلام فاعرضوه على كتاب الله تعالى فقد قيل هذا الحديث لا يكاد يصح; لأن هذا الحديث بعينه مخالف لكتاب الله تعالى, فإن في الكتاب فرضية اتباعه مطلقا وفي هذا الحديث فرضية اتباعه مقيدا بأن لا يكون مخالفا لما يتلى في الكتاب ظاهرا ولئن ثبت فالمراد اختبار الآحاد لا المسموع عنه بعينه أو الثابت عنه بالنقل المتواتر وفي اللفظ ما دل عليه وهو. قوله عليه السلام إذا روي لكم عني حديث ولم يقل: إذا سمعتم مني ونحن نقول: إن خبر الواحد لا يثبت نسخ الكتاب به; لأنه لا يثبت كونه مسموعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعا ولهذا لا يثبت به علم اليقين على أن المراد من قوله عليه السلام وما خالف فردوه عند التعارض إذا جهل التاريخ بينهما حتى لا يوقف على الناسخ والمنسوخ منهما, فإنه يعمل بما في كتاب الله ولا يجوز ترك ما هو ثابت في كتاب الله تعالى نصا عند التعارض ونحن هكذا نقول, وإنما الكلام فيما إذا عرف التاريخ بينهما
قوله: فأما قوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} جواب عن تمسكهم بهذه الآية فقال المراد بالخيرية هو الخيرية فيما يرجع إلى مرافق العباد دون النظم بمعناه أي مع معناه أو ملتبسا بمعناه; لأن نظم القرآن لا يفضل بعضه على بعض بل الكل سواء في الإعجاز وفي كونه قرآنا فكذلك المماثلة أي فكالخيرية المماثلة في أنها راجعة إلى مرافق العباد لا إلى المماثلة في النظم فكان المعنى نأت بخير منها أو مثلها في المحبة والمصلحة والثواب ونحوها لا بلفظة خير من لفظها أو مثلها فالحاصل أن الخيرية والمثلية باعتبار الحكم لا باعتبار اللفظ وقد يكون حكم السنة الناسخة خيرا أو مثلا لحكم الآية المنسوخة من حيث كونه أصلح للمكلف من الحكم المتقدم أو مساويا له(3/275)
المماثلة على أنا قد بينا أن نسخ حكم الكتاب بالسنة خارج عن هذه الجملة ونسخ السنة بالسنة مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم "إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا
ـــــــ
باعتبار الثواب وغيره والمجانسة حاصلة في هذا التقدير; لأن الأحكام جنس واحد مع أننا لا نسلم أن الخيرية تقتضي المجانسة; لأن قول القائل من لقيني بحمد وثناء لقيته بخير منه يراد به المنحة والعطاء لا الحمد والثناء. وأجيب عن الآية أيضا بأنها لا تفيد أن الخير أو المثل هو الناسخ; لأنه رتب الإتيان بأحدهما على نسخ الآية فلو كان الخير أو المثل هو الناسخ لترتب نسخ الآية على الإتيان بأحدهما وهو دور واعترض عليه بأن غاية ما يلزم منه أن الخير أو المثل يجوز أن لا يكون ناسخا بل شيئا آخر مغايرا للناسخ يحصل بعد حصول النسخ وهذا إنما كان يفيد لو كان مدعى المستدل أن الخير أو المثل هو الناسخ وليس كذلك بل مدعاه أن الناسخ يجب أن يكون خيرا من المنسوخ أو مثله; لأن الناسخ بدل عن المنسوخ والآية تدل على أن بدل المنسوخ خير أو مثل خارج على هذه الجملة أي على وفاق هذه الجملة, فإنا قد بينا أن السنة مثل الكتاب فيما يقع فيه النسخ وهو الحكم وفي بعض النسخ عن هذه الجملة أي الآية على أن الكتاب ينسخ بالكتاب ولا تدل على أنه لا ينسخ بالسنة لما تقدم أن المفهوم ليس بحجة وأما الجواب عن تمسكهم بقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] فهو أنا لا نسلم دلالة الآية على كون السنة بيانا لجواز أن يكون المراد من قوله لتبين لتبلغ إذ حمل البيان على التبليغ أولى من حمله على بيان المراد تفاديا عن لزوم الإجمال والتخصيص فيما أنزل; لأن التبليغ عام فيه بخلاف بيان المراد لاختصاصه ببعضه كالعام والمجمل والمطلق والمنسوخ ولو سلم أن المراد لتبين العام والمجمل والمطلق والمنسوخ إلى غير ذلك فلا نسلم أن النسخ ليس ببيان; لأنه بيان.أيضا
قوله "ونسخ السنة بالسنة" كذا لم يذكر الشيخ رحمه الله أمثلة نسخ الكتاب بالكتاب كما ذكرها غيره لظهورها وكثرتها مثل نسخ آيات المسالمة التي هي أكثر من مائة آية بآيات القتال ونسخ وجوب ثبات الواحد للعشرة الثابت بقوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 66] بوجوب ثباته للاثنين بقوله عز اسمه {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66] الآية وهذا النص, وإن كان طريقه طريق الخبر لكنه أمر في الحقيقة روي عن بريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إني نهيتكم عن الثلاث عن زيارة القبور فزوروها فقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه ولا تقولوا هجرا وعن لحم الأضاحي أن تمسكوه فوق ثلاثة أيام فأمسكوه ما بدا لكم وتزودوا, فإنما نهيتكم ليتسع به موسركم على معسركم وعن النبيذ في الدباء والحنتم والمزفت فاشربوا(3/276)
فزوروها" فقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه وكنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي أن تمسكوها فوق ثلاثة أيام فأمسكوها ما بدا لكم وكنت نهيتكم عن النبيذ في الدباء والحنتم والنقير والمزفت, فإن الظرف لا يحل شيئا ولا يحرمه" ونسخ خبر الواحد مثله جائز أيضا.ويجوز أن يكون حكم الناسخ أشق من حكم
ـــــــ
في كل ظرف, فإن الظرف لا يحل شيئا ولا يحرمه ولا تشربوا مسكرا" وفي رواية ابن مسعود رضي الله عنه لهذا الحديث قال: "وعن الشرب في الدباء والحنتم والنقير والمزفت فاشربوا في الظروف ولا تشربوا مسكرا" فهذا نسخ السنة بالسنة لانتهاء حكم النهي بالإذن ثم قيل المراد بالنهي عن الزيارة هو النهي عن زيارة قبور المشركين, فإنهم ما منعوا عن زيارة قبور المسلمين قط ألا ترى أنه قال فقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه وكانت مشركة وروي أنه زار قبرها في أربعمائة فارس فوقفوا بالبعد ودنا هو من قبرها فبكى حتى سمع نشيجه. وقيل إنما نهوا عن زيارة القبور في الابتداء على الإطلاق لما كان من عادة أهل الجاهلية أنهم كانوا يندبون الموتى عند قبورهم وربما يتكلمون بما هو كذب أو محال ولهذا قال: ولا تقولوا هجرا أي لغوا من الكلام ففيه بيان أن الممنوع كان هو التكلم باللغو عند القبور وذلك موضع ينبغي للمرء أن يتعظ به ويتأمل في حال نفسه وهذا قائم لم ينتسخ إلا أنه في الابتداء نهاهم عن زيارة القبور لتحقيق الزجر عن الهجر من الكلام ثم أذن لهم في الزيارة بشرط أن لا يقولوا هجرا وقيل الإذن ثبت للرجال دون النساء فالنساء يمنعن من الخروج إلى المقابر لما روي "أن فاطمة رضي الله عنها خرجت في تعزية لبعض الأنصار فلما رجعت قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لعلك أتيت المقابر قالت لا قال لو أتيت ما فارقت جدك يوم القيامة أي كنت معه في النار" والأصح أن الرخصة ثابتة للرجال والنساء جميعا فقد روي أن عائشة رضي الله عنها كانت تزور قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل وقت وأنها لما خرجت حاجة زارت قبر أخيها عبد الرحمن وأنشدت عند القبر قول القائل:
وكنا كندمى في حزيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن تتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
والنهي عن إمساك لحوم الأضاحي في الابتداء كان للضيق والشدة فنهاهم عن الإمساك ليتسع توسعهم على معسرهم ولما عدم ذلك الضيق أذن لهم في الإمساك. فأما النهي عن الشرب في الأواني المغتلمة فقد كان تحقيقا للزجر عن شرب المسكر الحرام فقد كانوا ألفوا شربها وقد كان يشق عليهم الانزجار عن العادة المألوفة ولهذا أمر بكسر الدنان وشق الزوايا ولما حصل الانزجار أذن لهم في الشرب في الأواني وبين أن المحرم شرب المسكر وأن الظرف لا يحل شيئا ولا يحرمه كذا في أشربة المبسوط عن النبيذ أي عن أخذ النبيذ أو شرب النبيذ والنبيذ التمر ينبذ في جرة الماء أو غيرها أي يلقى فيها حتى(3/277)
المنسوخ عندنا; لأن الله تبارك وتعالى نسخ التخيير في صوم رمضان بعزيمة الصيام ونسخ الصفح والعفو عن الكفار بقتال الذين يقاتلون فقال : {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} " ثم نسخه بقتالهم كافة بقوله: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36] والناسخ أشق ههنا وقال بعضهم لا يصح إلا بمثله أو بأخف لقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] والجواب أن ذلك فيما يرجع إلى مرافق العباد وفي الأشق فضل ثواب الآخرة والله أعلم.
ـــــــ
يغلي وقد يكون من الزبيب والعسل والدباء القرع والحنتم جرار حمر وقيل خضر تحمل فيه الخمر إلى المدينة الواحد حنتمة والنقير الخشبة المقورة والمزفت الوعاء المطلي بالزفت وهو القار وهذه أوعية ضارية تسرع بالشدة في الشراب وتحدث فيه التغير ولا يشعر به صاحبه فهو على خطر من شرب المحرم كذا في المغرب.
قوله "ويجوز أن يكون حكم الناسخ أشق من حكم المنسوخ" اختلف القائلون بالنسخ بعد اتفاقهم على جواز النسخ ببدل أخف كنسخ تحريم الأكل بعد النوم في ليالي رمضان بحله وببدل مماثل كنسخ وجوب التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة في جواز النسخ إلى بدل أثقل فذهب جمهور الفقهاء والمتكلمين إلى جوازه وذهب بعض أصحاب الشافعي وبعض أصحاب الظاهر منهم محمد بن داود إلى امتناعه قال شمس الأئمة ذكر الشافعي رحمه الله في كتاب الرسالة أن الله تعالى فرض فرائض أثبتها وأخرى نسخها رحمة وتخفيفا لعباده فزعم بعض أصحابه أنه أشار بهذا إلى وجه الحكمة في النسخ وقال بعضهم أراد به أن الناسخ أخف من المنسوخ وكان لا يجوز نسخ الأخف بالأثقل تمسكوا في ذلك بقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] أخبر أن الناسخ ما هو خير من المنسوخ أو مثله. والمراد بالخيرية أو المثلية هو الخيرية أو المثلية في حقنا وإلا فالقرآن خير كله من غير تفاضل فيه والأشق ليس بخير ولا مثل فلا يجوز النسخ به وبقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وقوله جل ذكره: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28], فإنهما يدلان على إرادة اليسر والتخفيف والنقل إلى الأشق يدل على إرادة العسر والتثقيل فيكون خلاف النص فلا يجوز وبأن النقل إلى الأشق أبعد في المصلحة لكونه إضرارا في حق المكلفين; لأنهم إن فعلوا التزموا المشقة الزائدة. وإن تركوا تضرروا بالعقوبة وذلك لا يليق بحكمة الشارع ورأفته على عباده وتمسك الجمهور بدلالة العقل والشرع على الجواز(3/278)
---------------------------------------------------------
ـــــــ
أما دلالة العقل فلأن مصلحة المكلف قد تكون في الترقي من الأخف إلى الأثقل كما يكون في ابتداء التكليف ورفع الحكم الأصلي كما يكون في النقل من الأثقل إلى الأخف ألا ترى أن الطبيب ينقل المريض من الغذاء إلى الدواء تارة ومن الدواء إلى الغذاء أخرى بحسب ما يعلم من منفعته فيه
وأما دلالة الشرع فلأن الله تعالى نسخ التخيير بين صوم رمضان والفدية عنه في ابتداء الإسلام على ما روى ابن عمر ومعاذ رضي الله عنهم ذلك فعزيمة الصيام أي بالصوم حتما بقوله عز اسمه {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] ولا شك أن الصوم حتما أشق من التخيير ونسخ الصفح والعفو عن الكفار الثابتين بقوله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} [المائدة: 13] بآيات القتال ونسخ الحبس والإيذاء باللسان في حد الزنا بالجلد والرجم ونسخ إباحة الخمر ونكاح المتعة ولحوم الحمر الأهلية بتحريمها ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان وكون الحج مندوبا بكونه فرضا وإباحة تأخير الصلاة عند الخوف بوجوب أدائها في أثناء القتال وكل ذلك نسخ بالأشق والأثقل
وأما تمسكهم بالآية الأولى فضعيف; لأنا لا نسلم أن الأشق ليس بخير بل هو خير باعتبار الثواب في الآخرة كما أن الأخف خير باعتبار السهولة في الدنيا, فإن الأشق أكثر ثوابا على ما قال عليه السلام لعائشة رضي الله عنها "أجرك على قدر تعبك" 1 وقال أفضل الأعمال أحمزها أي أشقها على البدن" وكذا تمسكهم بالآيتين الأخريين; لأن الآيتين لا تدلان على اليسر والتخفيف في كل شيء بل في صور مخصوصة. وما ذكروا من المعقول فهو لازم عليهم في نقل الخلق عن الإباحة والإطلاق إلى مشقة التكليف وعن الصحة إلى المرض وعن القوة إلى الضعف وعن الغنى إلى الفقر فما هو الجواب لهم عن صور الإلزام فهو جوابنا في محل النزاع والله أعلم
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الحج حديث رقم 1211.(3/279)
"باب تفصيل المنسوخ"
قال الشيخ الإمام رضي الله عنه المنسوخ أنواع أربعة التلاوة والحكم والحكم دون التلاوة والتلاوة بلا حكم ونسخ وصفه في الحكم أما نسخ التلاوة والحكم جميعا فمثل صحف إبراهيم عليه السلام فإنها نسخت أصلا إما بصرفها عن القلوب أو بموت العلماء, وكان هذا جائزا في القرآن في حياة النبي عليه السلام قال الله تبارك وتعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ}
ـــــــ
"باب تفصيل المنسوخ المنسوخ"
اسم للحكم المرتفع أو اسم للحكم الذي انتهى بالدليل المتأخر وقد يسمى الدليل الأول منسوخا وهو أنواع: نسخ الدليل الذي ثبت به الحكم الأول, ونسخ الشرط الذي تعلق به الحكم الأول, ونسخ الحكم الأول وهو أنواع: نسخ كل الحكم, ونسخ بعض الحكم, والزيادة على الحكم الأول, والنقصان عنه أما نسخ الدليل فعلى ضربين نسخ وحي متلو ونسخ وحي غير متلو وهو خبر الرسول عليه السلام
أما نسخ الكتاب فأنواع نسخ التلاوة والحكم جميعا ونسخ التلاوة دون الحكم وعكسه كذا ذكر في الميزان فظهر بهذا أن مراد الشيخ من تفصيل المنسوخ في هذا الباب تفصيل المنسوخ من الكتاب لا تفصيل مطلق المنسوخ. المنسوخ أنواع أربعة التلاوة والحكم أي اللفظ والحكم المتعلق بمعناه جميعا والحكم دون اللفظ وعكسه ونسخ وصفه نحو نسخ فرضية صوم عاشوراء مع بقاء أصله فمثل صحف إبراهيم فإنا قد علمنا حقيقة أنها كانت نازلة تقرأ ويعمل بها قال الله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} "الأعلي: 18 - 19" ثم نسخت أصلا ولم يبق شيء من ذلك بين الخلق تلاوة ولا عملا به فلا طريق لذلك سوى القول بانتساخ التلاوة والحكم فيما يحتمل ذلك بصرفها عن القلوب أي برفعها عنها أو هو من مغلوب الكلام أي تصرف القلوب عنها أي عن حفظها وكان هذا أي هذا النوع وهو نسخ التلاوة والحكم جميعا بصرف القلوب عنهما جائزا في القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم للاستثناء المذكور في قوله(3/280)
وقال جل جلاله {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} [البقرة: 106] فأما بعد وفاته فلا لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] أي نحفظه منزلا لا يلحقه تبديل صيانة للدين إلى آخر الدهر وأما القسم الثاني والثالث فصحيحان عند عامة الفقهاء, ومن الناس من أنكر ذلك فقال لأن النص لحكمه فلا يبقى بدونه والحكم بالنص ثبت فلا يبقى بدونه
ـــــــ
تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} إذ لو لم يتصور النسيان لخلا ذكر الاستثناء عن الفائدة. وقوله تعالى أو ننسها يدل على الجواز أيضا وذلك مثل ما روي عن عائشة أنها قالت كان فيما أنزل عشر رضعات محرمات فنسخن بخمس وروي أن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة وقال الحسن رحمه الله إن النبي صلى الله عليه وسلم أوتي قرآنا ثم نسيه فلم يكن شيئا أو لم يبق منه شيء لما رفع الله تعالى عن قلبه ذلك
"فأما بعد وفاته فلا" أي فلا يجوز قال بعض الرافضة والملحدة ممن يتستر بإظهار الإسلام وهو قاصد إلى إفساده هذا جائز بعد وفاته أيضا وزعموا أن في القرآن كانت آيات في إمامة علي وفي فضائل أهل البيت فكتمها الصحابة فلم تبق باندراس زمانهم واستدلوا في ذلك بما روي أن أبا بكر رضي الله عنه كان يقرأ لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم وأنس رضي الله عنه كان يقول قرأنا في القرآن بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا. وقال عمر رضي الله عنه قرأنا آية الرجم وعيناها وروي في حديث عائشة رضي الله عنها أن ذلك كان مما يتلى بعد وفاة رسول الله عليه السلام
والدليل على بطلان هذا القول قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ومعلوم أنه ليس المراد الحفظ لديه فإن الله تعالى يتعالى من أن يوصف بالنسيان والغفلة فعرفنا أن المراد الحفظ في الدنيا فإن الضياع محتمل منا قصدا كما فعله أهل الكتاب والغفلة والنسيان متوهم منا وبه ينعدم الحفظ إلا أن يحفظه الله عز وجل وهو معنى قوله أي يحفظه منزلا لا يلحقه تبديل ولأنه لا يخلو شيء من أوقات بقاء الخلق في الدنيا عن أن يكون فيما بينهم ما هو ثابت بطريق الوحي فيما ابتلوا به من أداء الأمانة التي حملوها إذ العقل لا يوجب ذلك وليس به كفاية بوجه من الوجوه وقد ثبت أنه لا ناسخ لهذه الشريعة بوحي ينزل بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو جوزنا هذا في بعض ما أوحي وجب القول بتجويز ذلك في جميعه فيؤدي إلى القول بجواز أن لا يبقى شيء مما ثبت بالوحي بين الناس في حال بقاء التكليف وهذا قبيح فعرفنا أنه لصيانة الدين إلى آخر الدهر أخبر جل جلاله أنه هو الحافظ لما أنزله على رسوله عن التغيير والمحو عن القلوب فلا يجوز نسخ شيء منه بعد وفاته بطريق الاندراس وذهاب حفظه من قلوب العباد وما نقلوا من(3/281)
ولعامة العلماء أن الإيذاء باللسان وإمساك الزواني في البيوت نسخ حكمه وبقيت تلاوته, وكذلك الاعتداد بالحول ومثله كثير ولأن للنظم حكمين: جواز الصلاة وما هو قائم بمعنى صيغته, وجواز الصلاة حكم مقصود بنفسه وكذلك الإعجاز الثابت بنظمه حكم مقصود فبقي النص لهذين الحكمين ودلالة أنهما يصلحان مقصودين ما ذكرنا أن من النصوص ما هو متشابه لا يثبت به إلا ما
ـــــــ
أخبار الآحاد فبعضها شاذ لا يكاد يصح وما ثبت منها محمول على أن المحو عن قلوب الصحابة سوى قلب الراوي كان قبل وفاته لا بعده. وأما حديث عائشة فغير صحيح لأنه ذكر في ذلك الحديث وكانت الصحيفة تحت السرير فاشتغلنا بدفن رسول الله عليه السلام فدخل داجن البيت فأكلها ومعلوم أن بهذا لا ينعدم حفظه عن القلوب ولا يتعذر إثباته في صحيفة أخرى فعرفنا أنه لا أصل لهذا الحديث كذا في أصول الفقه لشمس الأئمة.
قوله "وأما القسم الثاني" وهو نسخ الحكم دون التلاوة والثالث وهو نسخ التلاوة دون الحكم صحيحان عند جمهور الفقهاء والمتكلمين ومن الناس وهم فرقة شاذة من المعتزلة من أنكر الجواز في القسمين متمسكين بأن المقصود من النص حكمه المتعلق بمعناه إذ الابتلاء يحصل به والنص وسيلة إلى هذا المقصود فلا يبقى النص بدون حكمه لسقوط اعتبار الوسيلة عند فوات المقصود كوجوب الطهارة لا يبقى بعد سقوط الصلاة بالحيض, والحكم بالنص يثبت لا بغيره فلا يبقى بدونه كالملك الثابت بالبيع لا يبقى بدون البيع بأن انفسخ وعبارة بعضهم أن التلاوة مع الحكم بمنزلة العلم مع العالمية والمفهوم مع المنطوق وكما لا ينفك العلم من العالمية والمفهوم من المنطوق فكذلك التلاوة والحكم لا ينفكان ومنهم من أنكر نسخ التلاوة مع بقاء الحكم دون عكسه لأن الاعتقاد واجب في المتلو أنه قرآن وأنه كلام الله تعالى ولا يصح أن يعتقد فيه خلاف هذا في شيء من الأوقات والقول بجواز نسخ التلاوة يؤدي إليه فلا يجوز وتمسكت العامة في كل واحد من القسمين بالمنقول والمعقول أما بيان المنقول في القسم الأول وهو نسخ الحكم دون التلاوة فهو أن الإيذاء باللسان للزانيين الثابت بقوله تعالى: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء 16] وإمساك الزواني أي الزانيات الثابت بقوله عز اسمه {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} [النساء: 15] نسخا بالجلد والرجم مع بقاء تلاوة النصين الدالين عليهما. وقوله: نسخ حكمه أي نفس هذا الحكم ومشروعيته وبقيت تلاوته أي تلاوة النص المثبت له ولو قيل: إن النص الموجب للإيذاء والإمساك نسخ حكمه وبقيت تلاوته لكان أحسن وكذلك الاعتداد بالحول أي(3/282)
ذكرنا من الإعجاز وجواز الصلاة فلذلك استقام البقاء بهما وانتهى الآخر. وأما نسخ التلاوة وبقاء الحكم فمثل قراءة ابن مسعود رضي الله عنه في كفارة اليمين {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196]متتابعات لكنه لما صح عنه إلحاقه عنده بالمصحف ولا تهمة في روايته وجب الحمل على أنه نسخ نظمه وبقي حكمه
ـــــــ
وكالإيذاء باللسان, والإمساك الاعتداد بالحول الثابت بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240]،نسخ مع بقاء تلاوة هذا النص ومثله كثير مثل نسخ تقديم الصدقة على نجوى الرسول عليه السلام ونسخ التخيير في الصوم ونسخ المسالمة مع الكفار وثبات الواحد للعشرة مع بقاء تلاوة الآيات الموجبة لها. وأما المعقول فهو ما ذكر في الكتاب أن للنظم حكمين إلى آخره وحاصله أن ما يتعلق بالنص من الأحكام على قسمين قسم يتعلق بالنظم مثل جواز الصلاة والإعجاز وغيرهما وقسم يتعلق بالمعنى وهو ما يترتب عليه من الوجوب والحرمة ونحوهما فيجوز أن يكون أحدهما مصلحة دون الآخر, فإذا انتسخ ما يتعلق بالمعنى جاز أن يبقى ما يتعلق بالنظم لكونه مقصودا والدليل على أن ما يتعلق بالنظم يصلح مقصودا أن في القرآن ما هو متشابه ولم يثبت به من الأحكام إلا ما يتعلق بالنظم من جواز الصلاة والإعجاز فإذا حسن ابتداء إنزال النظم له فالبقاء أولى فلذلك أي فلصلاح الحكمين المذكورين لكونهما مقصودين استقام البقاء بهما أي بقاء النص ببقائهما وانتهى الآخر أي الحكم المتعلق بالمعنى كالصلاة مع الصوم لما كان كل واحد منهما مقصودا جاز بقاء أحدهما مع عدم الآخر وبه خرج الجواب عما قالوا المقصود من النص حكمه فلا يبقى النص بدونه لأن الحكم المتعلق بالنظم لما كان مقصودا جاز أن يبقى النظم ببقائه
فأما القسم الثالث وهو نسخ التلاوة دون الحكم فتمسكوا بالمنقول والمعقول أيضا أما المنقول فمثل قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في كفارة اليمين فصيام ثلاثة أيام متتابعات وقد كانت هذه قراءة مشهورة إلى زمن أبي حنيفة رحمه الله ولكن لم يوجد فيها النقل المتواتر الذي يثبت بمثله القرآن. ومثل قراءة ابن عباس رضي الله عنهما فأفطر فعدة من أيام أخر ومثل قراءة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وله أخ أو أخت لأم فلكل واحد منهما السدس وكرواية عمر رضي الله عنه الشيخ والشيخة إلى آخره ثم لا يظن بهؤلاء أنهم اخترعوا ما رووا من أنفسهم فيحمل على أنه كان مما يتلى ثم انتسخت تلاوته في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم بصرف الله تعالى القلوب عن حفظها إلا قلوب هؤلاء ليبقى الحكم بنقلهم فإن خبر الواحد موجب للعمل به فكان بقاء الحكم بعد نسخ التلاوة بهذا الطريق لا أن يكون نسخ التلاوة بعد وفاة رسول الله عليه السلام(3/283)
وهذا لأن للنظم حكما يتفرد به وهو ما ذكرنا فيصلح أن يكون هذا الحكم متناهيا أيضا ويبقى الحكم بلا نظم وذلك صحيح في أجناس الوحي وأما القسم الرابع فمثل الزيادة على النص فإنها نسخ عندنا وقال الشافعي إنه
ـــــــ
فإن قيل لا يتصور نسخ التلاوة مع بقاء الحكم لأن القرآن لا يثبت إلا بالنقل المتواتر ولم يثبت بالنقل المتواتر أن ما رووا كان قرآنا ثم نسخت تلاوته وبقي حكمه والدليل عليه أن الحكم الباقي ليس بقطعي ولو كان حكم القرآن لكان قطعيا قلنا القرآنية تثبت بالسماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإخباره أنه من عند الله تعالى, وقد ثبت ذلك في حق هؤلاء الرواة وغيرهم إلا أن بصرف قلوب غيرهم عنه لم يثبت القرآنية في حقنا فلا يخرج به من أنه كان قرآنا حقيقة غاية ما فيه أنه يلزم كونه قرآنا في الزمان الماضي بالظن وهو ليس بقادح فيما نحن فيه لأن الثبوت بطريق القطع مشروطة فيما بقي بين الخلق من القرآن لا فيما نسخ. وأما المعقول فما هو المذكور في الكتاب وهو ظاهر ويبقى الحكم بلا نظم أي بلا نظم القرآن وذلك أي الحكم بلا نظم متلو صحيح في أجناس الوحي مثل الأحكام الثابتة بالسنة فإنها تثبت بالإلهام وهو من أقسام الوحي قال شمس الأئمة رحمه الله قد ثبت أنه يجوز إثبات الحكم ابتداء بوحي غير متلو فلأن يجوز بقاء الحكم بعدما انتسخ حكم التلاوة من الوحي المتلو كان أولى وتبين بما ذكرنا أن قولهم: الحكم ثابت بالنص فلا يبقى بدونه فاسد لأن بقاء الحكم لا يكون ببقاء السبب الموجب له فانتساخ التلاوة لا يمنع بقاء الحكم ولا نسلم أن هذا كالعلم مع العالمية إذ لا مغايرة بين قيام العلم بالذات وبين العالمية فإن العالمية هي قيام العلم بالذات وإذ لا تغاير فلا تلازم
ولا يقال الكلام في تلازم العلم والعالمية لا في تلازم العالمية وقيام العلم بالذات لأنا نقول نفس العلم من غير اعتبار قيامه لا يستلزم عالمية تلك الذات وكذا لا نسلم ملازمة المفهوم للمنطوق ولو سلم عدم الانفكاك بين العلم والعالمية وبين المفهوم والمنطوق فلا نسلم التساوي في الشبه إذ العلم والمنطوق علة العالمية والمفهوم بخلاف التلاوة فإنها أمارة الحكم ابتداء لا دواما فلا يلزم من انتفاء الأمارة انتفاء ما دلت عليه ولا من انتفاء مدلولها انتفاؤها
قوله."وأما القسم الرابع" وهو نسخ الوصف فمثل الزيادة على النص اتفق العلماء على أن الزيادة على النص إن كانت عبادة مستقلة بنفسها كزيادة وجوب الصوم أو الزكاة بعد وجوب الصلوات لا يكون نسخا لحكم المزيد عليه لأنها زيادة حكم في الشرع من غير تغيير للأول وما نقل عن بعض العراقيين أن زيادة صلاة سادسة على الصلوات الخمس نسخ فقد بنوا ذلك على أنها تزيل وجوب المحافظة على الصلاة الوسطى المأمور(3/284)
تخصيص وليس بنسخ وذلك زيادة النفي على الجلد وزيادة قيد الإيمان في كفارة اليمين والظهار قال لأن الرقبة عامة في الكافرة والمؤمنة فاستقام فيها
ـــــــ
بالمحافظة عليها في قوله عز اسمه {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة 238] لأن السادسة تخرجها عن كونها وسطى وهو باطل لأن كونها وسطى أمر حقيقي لا شرعي فلا يكون رفعه نسخا ولأنه يلزم عنه أن الشارع لو أوجب أربع صلوات ثم أوجب صلاة خامسة أو صوما أو زكاة أن ذلك يكون نسخا لإخراج العبادة الأخيرة عن كونها أخيرة وإخراج العبادات السابقة عن كونها أربعا وهو خلاف الإجماع واختلفوا في غير هذه الزيادة إذا ورد متأخرا عن المزيد عليه تأخرا يجوز القول بالنسخ في ذلك القدر من الزمان كزيادة شرط الإيمان في رقبة الكفارة وزيادة التغريب على الجلد في جلد الزاني بعد اتفاقهم على أن مثل هذه الزيادة لو وردت مقارنة للمزيد عليه لا تكون نسخا كورود رد الشهادة في حد القذف مقارنا للجلد فإنه لا يكون نسخا له للقرآن فقال عامة العراقيين من مشايخنا وأكثر المتأخرين من مشايخ ديارنا إنها تكون نسخا معنى وإن كان بيانا صورة وهو مختار الشيخ في الكتاب. وقال أكثر أصحاب الشافعي: إنها لا يكون نسخا وإليه ذهب أبو علي الجبائي وأبو هاشم وجماعة من المتكلمين ونقل عن بعض أصحاب الشافعي أن الزيادة إن غيرت المزيد عليه تغييرا شرعيا بحيث لو فعله كما قد كان يفعله قبل الزيادة يجب استئنافه كان نسخا كزيادة ركعة على ركعتي الفجر وإن لم يكن كذلك لا يكون نسخا كزيادة التغريب في حد الزاني وزيادة عشرين على الثمانين في حد القاذف لو فرضنا ورود الشرع بها وإليه ذهب الغزالي وعبد الجبار الهمداني من المعتزلة ونقل عن الشيخ أبي الحسن الكرخي وأبي عبد الله البصري أن الزيادة إن كانت مغيرة حكم المزيد في المستقبل كانت نسخا كزيادة التغريب على الجلد إذا وردت متأخرة وكزيادة عشرين على حد القاذف فإنها توجب تغير الحكم الأول في المستقبل من الكل إلى البعض وإن لم تكن مغيرة لا يكون نسخا كزيادة وجوب ستر الركبة بعد وجوب ستر الفخذ فإنها لا تكون نسخا لوجوب ستر كل الفخذ لأن ستر الفخذ لا يتصور بدون ستر بعض الركبة فلا تكون الزيادة مغيرة للحكم الأول في المستقبل بل تكون مقررة له, ومختار بعض الأصوليين أن الزيادة إن رفعت حكما شرعيا بدليل شرعي متأخر فهي نسخ لوجود حقيقة النسخ على ما مر في بيان حده وما خالفه بأن لا يكون الحكم المرفوع شرعيا أو لا تكون الزيادة متأخرة عنه أو لا يكون إثباتها بدليل شرعي ليس بنسخ لأن النسخ لا يتحقق بدون الأمور الثلاثة فينتفي بانتفاء كل منها.
تمسك من قال بأن الزيادة ليست بنسخ أصلا بوجوه من الكلام أحدها أنهم بنوا(3/285)
الخصوص وإنما النسخ تبديل وفي قيد الإيمان تقرير لا تبديل, وكذلك في شرط النفي تقرير للجلد لا تبديل فلم يكن نسخا وليس الشرط أن يكون الزيادة تخصيصا لا محالة بل ليس نسخا بكل حال, ولنا أن النسخ بيان مدة الحكم وابتداء حكم آخر, والنص المطلق يوجب العمل بإطلاقه, فإذا صار مقيدا صار
ـــــــ
على أصلهم أن المطلق من أنواع العام عندهم وأن العام لا يوجب العلم قطعا بل يجوز أن يراد به البعض وبالمطلق المقيد وإذا كان كذلك ظهر بورود الزيادة المقيدة للمطلق أن المراد من العام البعض ومن المطلق المقيد فيكون تخصيصا وبيانا لا نسخا, وذلك مثل الرقبة المذكورة في كفارة اليمين والظهار فإنها اسم عام يتناول المؤمنة والكافرة والزمنة وغيرها فإخراج الكافرة منها بزيادة قيد الإيمان يكون تخصيصا لا نسخا, كإخراج الزمنة والعمياء منها وكإخراج أصل الذمة من لفظ المشركين. والثاني: أن حقيقة النسخ لم توجد في الزيادة لأن حقيقته تبديل ورفع للحكم المشروع, والزيادة تقرير للحكم المشروع وضم حكم آخر إليه والتقرير ضد الرفع فلا يكون نسخا ألا ترى أن إلحاق صفة الإيمان بالرقبة لا يخرجها من أن تكون مستحقة للإعتاق في الكفارة وإلحاق النفي بالجلد لا يخرج الجلد من أن يكون واجبا بل هو واجب بعده كما كان قبله فيكون وجوب التغريب ضم حكم إلى حكم وذلك ليس بنسخ كوجوب عبادة بعد عبادة وهو بمنزلة من ادعى على آخر ألفا وخمسمائة وشهد له شاهدان بألف وآخران بألف وخمسمائة حتى قضي له بالمال كله كان مقدار الألف مقضيا به بشهادتهم جميعا وإلحاق الزيادة بالألف بشهادة الآخر يوجب تقرير الأصل في كونه مشهودا به لا رفعه فتبين بهذا أن الزيادة لا تتعرض لأصل الحكم المشروع فيكون فيها معنى النسخ بوجه يوضحه أن النسخ إنما يثبت بدليل متأخر مناف للأول بحيث لو وردا معا لا يمكن الجمع بينهما لتنافيهما وهاهنا إن وردت الزيادة مقارنة للمزيد عليه وجب الجمع ولا تكون منافية له فكيف يثبت بها النسخ إذا وردت متأخرة بل يكون بيانا وإلى هذين الوجهين أشير في الكتاب وقوله: وليس الشرط أن تكون الزيادة تخصيصا اعتذار عن. قوله: إنه تخصيص وليس بنسخ بأن يكون تخصيصا يستقيم في تقييد الرقبة على أصل الشافعي ولا يستقيم في إيجاب النفي فقال: ليس الشرط أي شرط الزيادة أن تكون تخصيصا يعني لا ندعي أنها تخصيص لا محالة بل تكون تخصيصا وقد لا تكون كذلك ولكنها ليست بنسخ بوجه.
والثالث: أن الزيادة على النص لو كان نسخا لكان القياس باطلا لأن القياس إلحاق غير المنصوص وزيادة حكم لم يوجبه النص بصيغته وحين كان القياس جائزا ودليلا شرعيا علم أن الزيادة ليست بنسخ(3/286)
شيئا آخر لأن التقييد والإطلاق ضدان لا يجتمعان, وإذا كان هذا غير الأول لم يكن بد من القول بانتهاء الأول وابتداء الثاني وهذا لأنه متى صار مقيدا صار المطلق بعضه وما للبعض حكم الوجود كبعض العلة وبعض الحد حتى أن شهادة القاذف لا تبطل ببعض الحد عندنا; لأنه ليس بحد فثبت أن هذا نسخ بمنزلة نسخ جملته, فأما التخصيص فتصرف في النظم ببيان أن بعض الجملة غير مراد بالنظم مما يتناوله النظم
ـــــــ
والرابع: أن النسخ أمر ضروري لأن الأصل في أحكام الشرع هو البقاء, والقول بالتخصيص والتقييد يوجب تغير الكلام من الحقيقة إلى المجاز ومن الظاهر إلى خلافه لكنه متعارف في اللغة فكان الحمل عليه أولى من الحمل على النسخ واحتج من قال بأن الزيادة نسخ معنى بأن النسخ بيان انتهاء حكم بابتداء حكم آخر وهذا عند من شرط البدل في النسخ فأما عند من لم يشترط ذلك فلا حاجة إلى قوله بابتداء حكم آخر وهذا المعنى موجود في الزيادة على النص فيكون نسخا. وبيانه أن الإطلاق معنى مقصود من الكلام وله حكم معلوم وهو الخروج عن العهدة بالإتيان بما يطلق عليه الاسم من غير نظر إلى قيد والتقييد معنى آخر مقصود على مضادة المعنى الأول; لأن التقييد إثبات القيد والإطلاق رفعه وله حكم معلوم وهو الخروج عن العهدة بمباشرة ما وجد فيه القيد دون ما لم يوجد فيه ذلك, فإذا صار المطلق مقيدا لا بد من انتهاء حكم الإطلاق بثبوت حكم التقييد لعدم إمكان الجمع بينهما للتنافي فإن الأول يستلزم الجواز بدون القيد, والثاني يستلزم عدم الجواز بدونه. وإذا انتهى الحكم الأول بالثاني كان الثاني ناسخا له ضرورة وقوله: وهذا لأنه كذا توضيح لما ذكر من انعقاد الأول بالثاني وجواب عن قولهم: لا نسلم انتهاء الأول بل هو باق ولكن ضم إليه شيء آخر يعني إنما قلنا بانتهاء الأول بالثاني; لأن المطلق متى صار مقيدا صار المطلق بعضه أي صار ما كان مطلقا قبل التقييد بعض المقيد لاشتمال المقيد على معنيين:. أحدهما: ما دل عليه المطلق والثاني ما دل عليه المقيد وما للبعض حكم الوجود أي ليس لبعض ما يجب حقا لله تعالى من عباده أو عقوبة أو كفارة حكم وجود الجملة بوجه ولا حكم وجوده في نفسه بدون انضمام الباقي إليه, فإن الركعة من صلاة الفجر لا يكون فجرا ولا بعض الفجر بدون انضمام الأخرى إليها, والركعتان من صلاة الظهر في حق المقيم كذلك وكذا المظاهر إذا صام شهرا ثم عجز فاطعم ثلاثين مسكينا لا يكون مكفرا بالإطعام ولا بالصوم كبعض العلة وبعض الحد, فإنه ليس لبعض العلة حكم الوجود ولبعض الحد حكم الحد حتى إن بعض العلة لا يوجب شيئا من الحكم الثابت بالعلة وبعض الحد لا يتعلق به شيء من أحكام الحد من طهرة المحدود وخروج(3/287)
والقيد لا يتناوله الإطلاق ألا ترى أن الإطلاق عبارة عن العدم والتقييد عبارة عن الوجود فيصير إثبات نص بالمقايسة أو بخبر الواحد ولأن المخصوص إذا لم يبق مرادا بقي الباقي ثابتا بذلك النظم بعينه فلم يكن نسخا, وإذا ثبت قيد الإيمان لم يكن المؤمنة ثابتة بذلك النص الأول بنظمه
ـــــــ
الإمام عن عهدة إقامة الواجب وسقوط شهادة القاذف إذا كان الحد حد القذف; لأنه متعلق بالحد عندنا وبعض الحد ليس بحد.
وإنما قال عندنا; لأن سقوط الشهادة عند الشافعي رحمه الله متعلق بالقذف الذي هو فسق عنده على ما عرف فيثبت أن الحكم الأولى قد انتهى وإن هذا أي التقييد في المطلق نسخ لوصف الإطلاق بمنزلة نسخ جملته أي بمنزلة نسخ أصله ثم بين الشيخ رحمه الله أن التقييد ليس بتخصيص على ما زعم الخصم بوجهين أحدهما أن التخصيص تصرف في اللفظ ببيان أن بعض ما تناوله النظم بظاهره لولا دليل التخصيص غير مراد به.
والقيد لا يتناوله الإطلاق أي لا دلالة للمطلق على القيد بوجه كاسم الرقبة لا يتناول صفة الإيمان والكفر; لأن المطلق هو المتعرض للذات دون الصفات فكان التقييد تصرفا فيما لم يكن اللفظ متناولا له فلا يكون تخصيصا ألا ترى توضيح قوله: والقيد لا يتناوله الإطلاق يعني الإطلاق عبارة عن العدم أي عدم القيد, والتقييد عبارة عن الوجود أي وجود القيد فكيف يتناول الإطلاق التقييد مع تنافيهما, وإذا لم يتناوله لا يكون التقييد تخصيصا بل يكون إثبات نص ناسخ للإطلاق بالمقايسة أو بخبر الواحد وذلك باطل. وبيانه أن الخصم لما أثبت التقييد في رقبة كفارة اليمين أو الظهار بالقياس بأن قال: تحرير في تكفير فكان الإيمان من شرطه قياسا على كفارة القتل أو بخبر الواحد وهو ما روي أن "معاوية بن الحكم جاء بجارية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: علي رقبة أفأعتقها فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم "أين الله" فقالت: في السماء قال "من أنا" قالت: أنت رسول الله قال "أعتقها فإنها مؤمنة1" فامتحانها بالإيمان دليل على أن الواجب لا يتأدى إلا بالمؤمنة وأن المراد من المطلق المقيد كان هذا منه إثبات نص مقيد للرقبة المذكورة في الكفارة كأنه تعالى قال في الكفارتين {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} كما قال كذلك في كفارة القتل, وإثبات مثل هذا النص بالقياس وخبر الواحد لا يجوز. والثاني أن العام إذا خص منه شيء وخرج المخصوص من أن يكون مرادا به بقي الحكم فيما وراءه ثابتا بذلك النظم بعينه كلفظ
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في المساجد حديث رقم 537 ،وأبو داود في الإيمان حديث رقم 3283 ،وأبو داود في الإيمان والنذور حديث رقم 3282، والإمام أحمد في المسند 2/291.(3/288)
بل بهذا القيد فيكون للإثبات ابتداء ودليل الخصوص للإخراج لا للإثبات. ولا يشكل أن النفي إذا ألحق بالجلد لم يبق الجلد حدا، ولهذا لم
ـــــــ
المشركين إذا خص منه أهل الذمة ومن بمعناهم بقي الحكم في غيرهم ثابتا بذلك اللفظ بعينه حتى وجب قتل من لا أمان له لأنه مشرك فلم يكن أي التخصيص نسخا; لأن النسخ بيان هذا الحكم الثابت, وهذا لم يكن ثابتا, وإذا ثبت قيد إيمان في الرقبة المذكورة في كفارة اليمين أو الظهار وخرجت الكافرة من الجملة لم يكن الحكم في المؤمنة ثابتا بذلك النص الأول وهو الرقبة بنظمه أي بصيغته لما قلنا: إنه لا دلالة للمطلق على المقيد بوجه بل يكون ثابتا بهذا القيد فيكون التقييد لإثبات ابتداء من غير أن يكون للمطلق دلالة عليه ودليل الخصوص لإخراج ما كان ثابتا لولا التخصيص لا للإثبات ابتداء ولا تشابه بين إخراج ما كان داخلا في الجملة وبين إثبات ما ليس بثابت فعرفنا أنه نسخ وليس بتخصيص. وعبارة القاضي الإمام رحمه الله هي أن الزيادة ليست بتخصيص, فإن حكم العموم إذا أخص منه بقي الحكم فيما لم يخص منه بالنص العام نفسه لا بشيء آخر فلم يكن نسخا إذا بقي من الحكم بقدر ما بقي على ما كان ومتى زيدت لم يبق للنص الأول حكم, فإن نص الزنا جعل الجلد حدا ولا يبقى حد بنفسه بعد ثبوت النفي حدا معه وآية الكفارة جعلت الرقبة بدون صفة الإيمان كفارة ولا تبقى بعد قيد الإيمان كفارة; لأن الكافرة تخرج من الجملة والمؤمنة تجوز لا لأنها رقبة على ما قال الله تعالى بل للوصف الزائد الذي ليس في الكتاب وبدونه لا يكون ما يبقى كفارة ولا بعضها فالزيادة نسخ معنى وبيان صورة.
قوله "ولا يشكل أن النفي" كذا جواب عن قولهم: النفي تقرير للجلد فلم يكن نسخا فقال نحن لا ندعي أنه نسخ لنفس الجلد بل هو نسخ لكونه حدا لصيرورته بعض الحد وليس لبعض الحد حكم الحد وذكر أبو الحسين البصري في المعتمد أن النظر في هذه المسألة يعني في الزيادة على النص يتعلق بأمور ثلاثة: أحدها أن الزيادة على النص تقتضي زوال شيء لا محالة, وأقله زوال عدمها الذي كان ثابتا وثانيها أن المزال بهذه الزيادة إن كان حكما شرعيا وكان الزيادة متراخيا سميت تلك الزيادة نسخا وإن كان حكما عقليا وهو البراءة الأصلية لا تسمى نسخا وثالثها أن الزائل بالزيادة إن كان حكم العقل يجوز الزيادة بخبر الواحد والقياس, وإن كان الزائل حكما شرعيا, فإن كان دليل الزيادة بحيث يجوز أن يكون ناسخا لدليل الحكم الزائل جاز إثبات الزيادة وإلا فلا وخرج عليه الفروع فقال: زيادة التغريب لا تزيل إلا نفي وجوب ما زاد على المائة وهذا النفي غير معلوم بالشرع; لأن الشرع لم يتعرض لما زاد عليها نفيا ولا إثباتا بل هو معلوم بالعقل(3/289)
نجعل قراءة الفاتحة فرضا; لأنه زيادة ولم نجعل الطهارة في الطواف شرطا
ـــــــ
بالبراءة الأصلية وأما كون المائة وحدها مجزئة وكونها كمال الحد وحصول الخروج عن عهدة الواجب للإمام بإقامتها فكلها تابع لنفي وجوب الزيادة ولما كان نفي الزيادة معلوما بالعقل جاز قبول خبر الواحد فيه كما أن الفروض لو كانت خمسة لتوقف على أدائها الخروج عن عهدة التكليف وقبول الشهادة فلو زيد فيها شيء آخر لتوقف الخروج عن العهدة على أداء ذلك المجموع مع أنه يجوز إثباته بخبر الواحد والقياس فكذا هاهنا, فأما لو قال الله تعالى المائة وحدها كمال الحد وإنها وحدها مجزئة فلا يقبل في الزيادة هاهنا خبر الواحد والقياس; لأن نفي الزيادة ثبت بدليل شرعي. وحاصله أن كلية الحد فيها ليست بحكم شرعي فلا يكون رفعها نسخا وأجاب صاحب الميزان عنه بأنا لا نسلم أنه ليس بحكم شرعي; لأن حكم الشرع ما لا يثبت إلا بالشرع وتقدير الحد لا يعرف إلا بالشرع فكان شرعيا ولأن الحد متى كان واجبا ثم جاء نص التغريب متراخيا فيكون النبي عليه السلام ساكتا عن حكم التغريب والسكوت عند الحاجة بيان فصار وجوب انتفاء التغريب حكما شرعيا بدلالة السكوت, فإذا جاء خبر الواحد بإيجاب التغريب كان نسخا لحكم شرعي وهو وجوب انتفاء التغريب بسكوته ولو أمر صاحب الشرع نصا فقال: اجلدوا ولا تغربوا وعرف ذلك قطعا ثم جاء خبر الواحد في إيجاب التغريب أليس يكون نسخا فكذا هذا ولكن يلزم عليه إيجاب عبادة بعد أخرى, فإن سكوته عليه السلام بعد إيجاب عبادة يدل على أن غيرها ليس بواجب بمنزلة ما لو نص عليها ثم جاز إيجاب عبادة بعدها بخبر الواحد والقياس بالإجماع فيجوز هاهنا أيضا
وأجاب غيره بأن زيادة النفي نسخ لتحريم الزيادة على المائة, فإنه حكم شرعي معلوم ثبوته في الشرع بطريقه كزيادة ركعة على ركعتي الفجر, فإنها نسخ لتحريم الزيادة على الركعتين, فإنه قد ثبت في الشرع في الفرائض المقدرة تحريم الزيادة على مقاديرها بخلاف زيادة عبادة, فإنها لا تقتضي تغيير حكم مقصود
وذكر عبد القاهر البغدادي أن زيادة التغريب على الجلد إن كان نسخا لزمكم أن يكون إدخال نبيذ التمر بين الماء والتراب نسخا; لآية الوضوء وأن يكون وجوب الوضوء بالقهقهة نسخا لما ذكر الله تعالى من الأحداث الناقضة للطهارة. وإذا أثبتم ذلك فكأنكم أجزتم الزيادة على النص بأخبار ضعاف ولم تجيزوا بأخبار صحاح قال: ومن زاد الخلوة على آيتي الطلاق قبل المسيس في إيجاب العدة وتكميل المهر بخبر عمر رضي الله عنه مع مخالفة غيره له وامتنع عن الزيادة على النص بخبر صحيح كان حاكما في دين الله برأيه. وأجيب عنه بأن النبيذ في حكم الماء; لأن النبي عليه السلام أشار بقوله: "تمرة طيبة(3/290)
لأنه زيادة ولهذا قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله: إن القليل من المثلث لا يحرم; لأنه بعض المسكر وليس لبعض العلة حكم العلة
ـــــــ
وماء طهور1" إلى أن المائية لم تزل بإلقاء التمر فيه فيكون داخلا في عموم قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء: 43] فلا يكون نسخا وأما جعل القهقهة من الأحداث أو من النواقض فنظير إيجاب عبادة بعد عبادة فلا يكون من النسخ في شيء وأما تكميل المهر بالخلوة فثبت عندنا بقوله تعالى: {كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: 21] وبدلائل أخر عرفت في موضعها فلا يكون من باب الزيادة على النص بخبر الواحد
قوله "ولهذا" أي ولأن الزيادة على النص نسخ ونسخ الكتاب بخبر الواحد لا يجوز لم يجعل قراءة الفاتحة في الصلاة فرضا; لأن إطلاق قوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20]. وعمومه يقتضي الجواز بدون الفاتحة فكان تقييد القراءة بالفاتحة نسخا لذلك الإطلاق فلا يجوز بخبر الواحد وهو قوله عليه السلام "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" ولهذا قال أبو حنيفة وأبو يوسف يعني ولأنه ليس لبعض الشيء حكم جملته قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله شرب القليل من المثلث وهو ما ذهب ثلثاه بالطبخ ثم صار مسكرا لا يحرم وهو رواية عن محمد رحمه الله; لأن المحرم في غير الخمر هو السكر بالنص وهو قوله عليه السلام "حرمت الخمر لعينها والسكر من كل شراب" وذلك يحصل بشرب الكثير منه دون القليل فكان شرب القليل مباشرة بعض علة السكر وليس لبعض العلة حكم العلة فلا يكون داخلا تحت التحريم وقال محمد رحمه الله في رواية يكره شربه وفي رواية يحرم شربه وهو قول مالك والشافعي رحمهما الله لما روي أنه عليه السلام قال: "كل مسكر حرام2" وفي رواية "ما أسكر كثيره فقليله حرام3" وفي رواية "ما أسكر الجرة منه فالجرعة منه حرام" ولأن المثلث بعدما اشتد خمر; لأن الخمر إنما سميت بهذا الاسم لمخامرتها العقل لا لكونها نيا وهي موجودة في سائر الأشربة المسكرة وقد نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل مسكر خمر" ولو سماه
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الطهارة حديث رقم 84، والترمذي في الطهارة حديث رقم 147،وابن ماجة في الطهارة حديث رقم 384، والإمام أحمد في المسند 1/402.
2 أخرجه البخاري في الأدب باب رقم 80، ومسلم في الأشربة حديث رقم 73، والنسائي في الأشربة باب رقم 563، وابن ماجة في الأشربة باب رقم 9.
3 أخرجه الترمذي في الأشربة باب رقم 1865 وأبو داود في الأشربة باب رقم 3681 الإمام أحمد في المسند 3/343 وابن ماجة حديث رقم 3393 وابن ماجة في الأشربة حديث رقم 3394.(3/291)
بوجه وكذلك الجنب والمحدث لا يستعملان الماء القليل عندنا; لأنه بعض
ـــــــ
أحد من أهل اللغة لكان يستدل بقوله على إثبات هذا الاسم, فإذا سماه صاحب الشرع به وهو أفصح العرب كان أولى. والجواب عنه أن الجمع إذا أمكن بين الآثار فهو أولى من الأخذ ببعضها والإعراض عن البعض وقد أمكن هاهنا بأن يحمل هذا الحديث على الشرب على قصد السكر, فإن شرب القليل والكثير على هذا القصد حرام والحديث الأول على الشرب لاستمراء الطعام, فإن القليل بهذا القصد حرام وبدونه لا يحرم كالمشي على قصد الزنا يكون حراما وعلى قصد الطاعة يكون طاعة أو بأن يحمل على أن التحريم كان في الابتداء لتحقيق الزجر كتحريم الانتباذ في الدباء والحنتم ثم ثبت الرخصة بعد ذلك في شرب القليل منه. والمراد بقوله عليه السلام "كل مسكر خمر" تشبيه بالخمر في حكم خاص وهو الحد فقد بعث مبينا للأحكام دون الأسامي والمعقول الذي ذكروه قياس في اللغة فلا يقبل قال أبو الفضل رحمه الله في إشارات الأسرار واعلم أن من وقع في أبي حنيفة رحمه الله في هذه المسألة وشنع عليه في أنه أباح مثل هذا الشراب ولم يسلك فيه طريقة الاحتياط فهذا من القائل سفه وقلة ديانة إذ الأصل أن تحريم ما أحله الله تعالى بمنزلة تحليل ما حرمه لا فرقان بينهما ومتى لم يقم لأبي حنيفة رحمه الله دليل يدل على حرمته وبلغته الآثار المشهورة عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أنهم كانوا يشربونه ويسقون الأضياف ويجلدون على السكر منه كيف يسوغ له في الشرع الفتوى بالحرمة وفيه تعرض لحدود الدين من تحريم شيء لم يرد به الشرع وأمر التقوى والأخذ بالثقة يرجع إلى العمل به دون الفتوى التي هي بيان حدود الدين ولهذا قال محمد بن مقاتل الرازي لو أعطيت الدنيا بحذافيرها ما شربته ولو أعطيت الدنيا بحذافيرها ما أفتيت بأنه حرام
قوله "وكذلك" أي وكما أن شرب القليل من المثلث لا يحرم; لأنه بعض العلة لا يجب على الجنب والمحدث استعمال الماء القليل لصحة التيمم وصورته إذا وجد المحدث ماء لا يكفي الوضوء أو الجنب ماء لا يكفي الاغتسال يجوز له التيمم عندنا وفي أحد قولي الشافعي رحمه الله لا يجوز قبل استعماله; لأن الله تعالى قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} ذكره منكرا في موضع النفي من غير اعتبار قدر منه فيكون عدمه شرطا لجوازه فما لم يوجد الشرط لا يكون التراب طهورا ثم استعمال هذا القدر مفيد للطهارة حقيقة وحكما بدليل أنه لو استعمله ثم أصاب ماء آخر لم يجب عليه إعادة الأول فكان بمنزلة العاري إذا وجد ما يستر به بعض عورته يلزمه استعماله بقدره وكذا إذا كان به نجاسة حقيقة فوجد ما يزيل بعضها يجب استعماله في ذلك القدر كذا هاهنا ولنا أن عدم الطهور قد تحقق فيباح له التيمم وذلك; لأن قولنا طهور لا يراد به(3/292)
المطهر فلم يكن مطهرا كاملا.ولأن دليل النسخ ما لو جاء مقارنا كان معارضا والقيد بعارض الإطلاق بمنزلة سائر وجوه النسخ ونظير هذا الأصل اختلاف الشهود في قدر الثمن أن البيع لا يثبت; لأن الزيادة على الثمن يجعل الأول بعضه
ـــــــ
طهارة حسية بل المراد به طهارة حكمية أي محللة للصلاة وباستعمال هذا الماء لا يحصل شيء من الحل يقينا بل الحل موقوف على الكمال, فإنه حكم والعلة غسل الأعضاء كلها ولا يثبت شيء من حكم العلة كبعض النصاب في حق الزكاة وبعض علة الربا في حق الربا وهذا كمن وجد بعض الرقبة في باب الكفارات دون الكمال حل له التكفير بالصوم كما لو عدم الرقبة أصلا; لأن الأصل رقبة تكون كفارة, وهذا البعض لا يصلح كفارة; لأنها لا تتجزأ كحكم الطهارة هاهنا وتبين بهذا أن المراد بقوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء: 43] ماء طهور أي محلل للصلاة باستعماله في هذه الأعضاء أو رافع للحدث عنها, فإن الآية سيقت لبيان هذه الطهارة لا غير, والماء المحلل ماء مقدر لا نفس الماء. وهذا بخلاف النجاسة الحقيقية وستر العورة; لأن الواجب مما يزال فيهما أمر حسي عورة ظاهرة ونجاسة حقيقية, وإذا كان حسيا اعتبر الزوال حسيا لا حكما والزوال حسا ثابت بقدر الماء الذي معه, وكذا زوال الانكشاف ثابت بقدر الثوب كذا في الأسرار.
قوله "ولأن دليل النسخ" دليل آخر على أن القيد نسخ للإطلاق وجواب عما قال بعضهم إنه ليس بنسخ له بدليل إمكان الجمع بينهما إذا كانا مقارنين بأن جهل التاريخ بينهما فقال لا نسلم ذلك بل لو جهل التاريخ بينهما كان القيد معارضا للإطلاق ومانعا عن العمل يعني إذا كانا في الحكم كسائر دلائل النسخ فعند معرفة التاريخ يكون التقييد نسخا للإطلاق أيضا.
قوله "ونظير هذا الأصل" وهو أن الزيادة نسخ معنى اختلاف الشهود في قدر الثمن جواب عن اعتبارهم الزيادة بحقوق العباد, فإن الزيادة فيها من جنسها لا توجب تغيير ما كان كما ذكرنا من شهادة الشاهدين على ألف وشهادة الآخرين على ألف وخمسمائة فقال الشيخ ليس ذلك الفرع نظير هذا الأصل; لأن تلك الزيادة لا توجب تغييرا بل نظيره اختلاف الشهود في قدر الثمن بأن شهد أحد الشاهدين بالبيع بألف والآخر بالبيع بألف وخمسمائة لا تقبل الشهادة في إثبات العقد بألف, وإن اتفق عليه الشاهدان ظاهرا; لأن الذي شهد بألف وخمسمائة قد جعل الألف بعض الثمن. وانعقاد البيع بجميع الثمن المسمى لا ببعضه فمن هذا الوجه كل واحد منهما في المعنى شاهد بعقد آخر والألف المذكور في شهادة الآخر كان بحيث يثبت به العقد لو لا وصل شيء آخر به بمنزلة التخيير في الطلاق والعتاق فيصير شيئا آخر إذا اتصل به التعليق بالشرط فحكم الزيادة يكون بهذه الصفة أيضا والله أعلم(3/293)
وقد صار كلا من وجه فصارا غيرين ولم يكن للبعض حكم الوجود والله أعلم.
ـــــــ
"فصل"
ذكر الأصوليون فروقا بين التخصيص والنسخ ونقل عن الشيخ الإمام العلامة مولانا حميد الملة والدين رحمه الله فروق أيضا بين التقييد والنسخ والتعليق وغيرها فألحقتها بهذا الباب تتميما للفائدة ثم النسخ والتخصيص وإن اشتركا من حيث إن كل واحد منهما بيان ما لم يرد باللفظ إلا أنهما يفترقان من جهة أن التخصيص يبين أن العام لم يتناول المخصوص والنسخ يرفع بعد الثبوت وأن التخصيص لا يرد إلا على العام والنسخ يرد عليه وعلى غيره وأنه يجب أن يكون متصلا عندنا, والنسخ لا يكون إلا متراخيا وأنه لا يجوز إلى أن لا يبقى شيء والنسخ يجوز كذلك وأنه قد يكون بأدلة السمع وغيرها والنسخ لا يجوز إلا بالسمع وأنه يكون معلوما ومجهولا والنسخ لا يكون إلا معلوما وأنه لا يخرج المخصوص منه من كونه معمولا به في مستقبل الزمان والنسخ يخرج المنسوخ عن ذلك وأنه يرد في الأخبار والأحكام والنسخ لا يرد إلا في الأحكام وأن دليل الخصوص يقبل التعليل ودليل النسخ لا يقبله
والفرق بين التخصيص والتقييد أن التقييد تصرف فيما كان الأول ساكتا عنه والتخصيص تصرف فيما تناوله اللفظ ظاهرا وأن التقييد مفرد والتخصيص جملة وأن في التقييد يعمل بالقيد لا بالأصل وفي التخصيص يعمل بالأصل وهو المخصوص منه والفرق بين التخصيص والاستثناء أن التخصيص مستبد بنفسه وأنه يقبل التعليل بخلاف الاستثناء
وأن لدليل الخصوص حكما بخلاف الاستثناء. والفرق بين الاستثناء والنسخ أن الاستثناء غير مستقل بنفسه وأنه يرد في الأخبار والأحكام وأنه لا يكون إلا متصلا بخلاف النسخ في هذه الجملة كلها
والفرق بين التقييد والنسخ من كل وجه أن التقييد مفرد والنسخ جملة وأنه وصف للأول والنسخ ليس كذلك وأنه قد يكون مقارنا والنسخ لا يكون إلا متأخرا
والفرق بين التعليق والاستثناء أن الاستثناء لا يعمل في جميع المستثنى منه بل يعمل في بعضه بالإبطال, والتعليق يعمل في جميع المعلق بالتغيير وأن الاستثناء مع المستثنى منه ليس بيمين بل هو إيجاب, والتعليق يمين وأن التعليق يصح في الإيجاب دون الخبر والاستثناء يصح فيهما
والفرق بين التعليق والتقييد أن التعليق تبديل من الإيجاب إلى اليمين والتقييد ليس بتبديل صورة بل زيادة أمر آخر.(3/294)
-------------------------------------------------------
ـــــــ
والفرق بين التقييد والاستثناء أن التقييد يثبت أمرا لم يكن ثابتا بالأول والاستثناء يخرج عن الأول ما كان ثابتا صورة وأن التقييد لا يخرج الأول عن حقيقته صورة, فإن الرقبة بزيادة وصف لا تخرج عن كونها رقبة بل تبقى رقبة لكن لم يبق الجواز بها والاستثناء قد يخرج الأول عن حقيقته كما لو استثني من الألف شيء لا يبقى ألفا.
والفرق بين النسخ والتعليق أن التعليق لا يصح إلا مقارنا والنسخ على عكسه. وأن الشرط مع المشروط يمين والناسخ مع المنسوخ ليس كذلك وأن المعلق بعرضية أن يصير إيجابا والمنسوخ ليس كذلك والفرق بين التخصيص والتعليق أن التخصيص لا يرد إلا على العام ولا يشترط في التعليق ذلك وأن التخصيص له حكم على ضد الأول وليس في التعليق ذلك وأن دليل الخصوص مستقل والشرط ليس كذلك وأنه يقبل التعليل والتعليق لا يقبله وقس عليه والله أعلم.(3/295)
"باب أفعال النبي صلى الله عليه وسلم"
وهي أربعة أقسام: مباح, ومستحب, وواجب, وفرض, وفيها قسم آخر وهو الزلة لكن ليس من هذا الباب في شيء; لأنه لا يصلح للاقتداء ولا يخلو عن بيان مقرون به من جهة الفاعل أو من الله تبارك وتعالى كما قال جل وعز {وَعَصَى آدَمُ} وقال جل وعز حكاية عن موسى من قتل القبطي {قَالَ هَذَا
ـــــــ
"باب أفعال النبي: عليه السلام"
والأفعال على ضربين ما ليس له صفة زائدة على وجوده كبعض أفعال النائم والساهي, فإنه لا يوصف بحسن ولا قبح, وماله صفة زائدة على وجوده كسائر أفعال المكلفين وإنها تنقسم إلى حسن وقبيح والحسن منها ينقسم إلى واجب ومندوب ومباح والقبيح منها ينقسم إلى محظور ومكروه وهذه الأقسام سوى القسم الأخير يصح وقوعها عن جميع المكلفين من الأنبياء وغيرهم فأما القسم الأخير فيصح وقوعه عن غير الأنبياء من بني آدم ولكن لا يصح وقوع ما هو معصية منه عن الأنبياء عليهم السلام, فإنهم عصموا عن الكبائر عند عامة المسلمين وعن الصغائر عند أصحابنا خلافا لبعض الأشعرية وإن لم يعصموا عن الزلات فتبين بهذا أن المراد من الأفعال في هذا الباب الأفعال التي تقع عن قصد ولم تكن من قبيل الزلة; لأن الباب لبيان الاقتداء وما وقع بطريق الزلة أو وقع لا عن قصد مثل ما يحصل في حالة النوم والإغماء لا يصلح للاقتداء. وقد يقترن البيان بالزلة لا محالة إما من جهة الفاعل كقوله تعالى إخبارا عن موسى عليه السلام حين قتل القبطي {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [القصص: 15] أي هيج غضبي حتى ضربته فوقع قتلا فأضافه إليه تسببا وإنما جعل قتل الكافر من عمل الشيطان; لأن قتله كان قبل الإذن في القتل وقيل; لأنه كان مستأمنا فيهم وليس للمستأمن قتل الكافر الحربي وهو لم يقصد قتله فكان زلة أو من الله تعالى كما قال: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ} أي بأكل الشجرة التي نهي عنها والعصيان ترك الأمر أو ارتكاب المنهي عنه إلا أنه إن كان عمدا كان ذنبا وإن كان خطأ كان زلة {فَغَوَى} [طه: 121] أي فعل ما لم يكن فعله وقيل أخطأ حيث طلب الملك والخلد بأكل ما نهي عنه, وإذا كان البيان مقترنا به لا محالة علم أنه غير صالح للاقتداء به(3/296)
من عمل الشيطانإِنَّهُ} [القصص: 15] والزلة اسم لفعل غير مقصود في عينه لكنه اتصل الفاعل به عن فعل مباح قصده فزل بشغله عنه إلى ما هو حرام ولم يقصده أصلا بخلاف المعصية فإنها اسم لفعل حرام مقصود بعينه اختلفوا في سائر أفعال النبي صلى الله عليه وسلم مما ليس بسهو ولا طبع لأن البشر لا يخلو عما جبل
ـــــــ
ثم الشيخ وشمس الأئمة رحمهما الله قسما أفعاله عليه السلام سوى الزلة وما ليس عن قصد على أربعة أقسام فرض وواجب ومستحب ومباح والقاضي الإمام وسائر الأصوليين قسموها على ثلاثة أقسام واجب مستحب ومباح وأرادوا بالواجب الفرض وهذا أقرب إلى الصواب; لأن الواجب الاصطلاحي ما ثبت بدليل فيه اضطراب ولا يتصور ذلك في حقه عليه السلام; لأن الدلائل الموجبة كلها في حقه قطعية ويمكن أن يحمل على أن المراد تقسيم أفعاله بالنسبة إلينا كما أشير إليه في آخر الباب وحينئذ يتحقق فيها الواجب الاصطلاحي لتصور ثبوت وجوب بعض أفعاله في حقنا بدليل مضطرب
قوله "والزلة اسم" لكذا قال شمس الأئمة رحمه الله أما الزلة, فإنه لا يوجد فيها القصد إلى عينها ولكن يوجد القصد إلى أصل الفعل. قال وبيان هذا أن الزلة أخذت من قول القائل زل الرجل في الطين إذا لم يوجد القصد إلى الوقوع ولا إلى الثبات بعد الوقوع ولكن وجد القصد إلى المشي في الطريق فعرفنا بهذا أن الزلة ما يتصل بالفاعل عند فعله ما لم يكن قصده بعينه ولكنه زل فاشتغل به عما قصده بعينه والمعصية عند الإطلاق إنما يتناول ما يقصده المباشر بعينه وإن كان قد أطلق الشرع ذلك على الزلة مجازا.
فإن قيل لما لم يكن الفعل الحرام مقصودا في الزلة ففيم العتاب قلنا: إن الزلة لا تخلو عن نوع تقصير يمكن للمكلف الاحتراز عنه عند التثبت فاستحقاق العتاب بناء عليه كمن زل في الطريق يستحق اللوم لترك التثبت والتقصير قال الشيخ أبو الحسن الأشعري رحمه الله في عصمة الأنبياء وليس معنى الزلة أنهم زلوا عن الحق إلى الباطل وعن الطاعة إلى المعصية ولكن معناها الزلل عن الأفضل إلى الفاضل والأصوب إلى الصواب وكانوا يعاقبون لجلال قدرهم ومنزلتهم ومكانتهم من الله تعالى.
قوله "بشغله عنه" الباء للسببية, والضمير الأول للفاعل والثاني للفعل المباح أي زل الفاعل بسبب شغله عن الفعل المباح الذي قصده أي بسبب غفلته عنه إلى ما هو حرام لم يقصد أصلا, فإنها أي المعصية اسم لفعل حرام مقصود بعينه أي نفس الفعل مقصود مع العلم بحرمته دون مخالفة الأمر, فإنها لو كانت مقصودة لكان كفرا.
قوله "واختلفوا في سائر أفعال النبي" أي باقي أفعاله صلى الله عليه وسلم بعد الزلة مما ليس بسهو مثل تسليمه على رأس الركعتين في الظهر حتى قال ذو اليدين أقصرت الصلاة أم(3/297)
عليه فقال بعضهم: يجب الوقف فيها وقال بعضهم بل يلزمنا اتباعه فيها وقال الكرخي نعتقد فيها الإباحة فلا يثبت الفضل إلا بدليل ولا يثبت
ـــــــ
نسيت ولا طبع مثل الأفعال التي لا يخلو ذو الروح عنها كالتنفس والقيام والقعود والأكل والشرب ونحوها, فإنها على الإباحة بالنسبة إليه وإلى أمته بلا خلاف ولا بد لتلخيص محل النزاع من قيود أخرى وهي أن لا يكون هذا الفعل بيانا لمجمل الكتاب, فإنه حينئذ يكون تابعا للمبين في الوجوب والندب والإباحة وأن لا يكون امتثالا وتنفيذا لأمر سابق, فإنه تابع للأمر أيضا بالاتفاق في الوجوب والندب وأن لا يكون مختصا به كوجوب الضحى والتهجد والزيادة على الأربع في النكاح وصفي المغنم وخمس الخمس, فإنه لا يدل على التشريك بيننا وبينه بالاتفاق.
ثم بعد ذلك إما أن علمت صفة ذلك الفعل في حقه عليه السلام أو لم تعلم, فإن علمت فالجمهور على أن أمته مثله في كونهم متعبدين في التأسي به بإتيان مثل ذلك الفعل على تلك الصفة وذهب شرذمة إلى أن حكم ما علمت صفته كحكم ما لم تعلم صفته هكذا ذكر بعض الأصوليين. قال أبو اليسر رحمه الله: وأما إذا قام دليل صفة فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو الحسن الكرخي من أصحابنا وجميع الأشعرية وأبو بكر الدقاق من أصحاب الشافعي بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مخصوص به حتى يقوم دليل على مشاركة غيره إياه وقال أبو بكر الرازي وأبو عبد الله الجرجاني من أصحابنا والشافعي وجميع المعتزلة أنه يثبت لأمته عليه السلام شركة حتى يقوم دليل على الخصوص وإن لم تعلم صفته بأن كان ذلك الفعل من جملة المعاملات ففعله يدل على الإباحة بالإجماع كذا قال أبو اليسر.
وإن كان من جملة القرب فاختلف فيه فقال بعضهم يجب الوقف فيها أي في هذه الأفعال التي لم تعرف صفتها فلا يحكم فيها بوجوب ولا ندب ولا إباحة ولا يثبت لنا فيها متابعة حتى يقوم دليل يبين الوصف ويثبت الشركة وإليه ذهب عامة الأشعرية وجماعة من أصحاب الشافعي كالغزالي وأبي بكر الدقاق وأبي القاسم بن كج1 وقال بعضهم يلزمنا اتباعه أي اتباع النبي فيها أي في تلك الأفعال وتكون واجبة في حقه وفي حقها وهو مذهب مالك وبه قال من أصحاب الشافعي أبو العباس بن شريح والإصطخري وأبو علي بن أبي هريرة وأبو علي بن خيران2 والحنابلة وجماعة من المعتزلة وقال أبو الحسن
ـــــــ
1 هو أبو القاسم يوسف بن أحمد بن يوسف بن كج الدينوري القاضي الشافعي قتله العيارون سنة 405، وفيات الأعيان 7/65.
2 هو أبو علي الحسين بن صالح بن خيران البغدادي الفقيه الشافعي.توفي سنة 320هـ.طبفات السبكي 2/213 - 214.(3/298)
المتابعة منا إياه فيها إلا بدليل وقال الجصاص مثل قول الكرخي
ـــــــ
الكرخي يعتقد الإباحة فيها في حق النبي صلى الله عليه وسلم ولا يثبت الفضل على الإباحة وهو الوجوب أو الندب في حقه إلا بدليل.
قوله "ولا يثبت المتابعة" ذكر في التقويم قال أبو الحسن رحمه الله يعتقد الإباحة حتى يقوم دليل بيان سائر الأوصاف, وإذا قام الدليل على وصف زائد نحو الوجوب مثلا كان النبي عليه السلام مخصوصا به حتى يقوم دليل المشاركة وذكر شمس الأئمة رحمه الله وقال أبو الحسن إن علم صفة فعله أنه فعله واجبا أو ندبا أو مباحا, فإنه يتبع فيه بتلك الصفة وإن لم يعلم, فإنه يثبت فيه صفة الإباحة ثم لا يكون الاتباع فيه ثابتا إلا بقيام الدليل. فعلى ما ذكر في التقويم يكون معنى قوله ولا يثبت المتابعة منا إياه لا يصح متابعتنا للنبي عليه السلام في أفعاله سواء علمت صفاتها أو لم تعلم إلا بدليل يوجب المشاركة وعلى ما ذكر شمس الأئمة يكون معناه ولا يثبت المتابعة في الأفعال التي لم يعرف صفاتها إلا بدليل وما ذكر أبو اليسر يؤيد المذكور في التقويم وما ذكرناه أولا يؤيده ما ذكره شمس الأئمة.
قوله "وقال الجصاص" ذكر في التقويم وقال أبو بكر الرازي يعتقد الإباحة ما لم يقم دليل البيان على صفة فعل رسول الله عليه السلام ثم يلزمنا يعني بعد البيان على ذلك الوصف حتى يقوم دليل اختصاصه به. وقال شمس الأئمة وكان الجصاص يقول بقول الكرخي إلا أنه يقول إذا لم يعلم فالاتباع له في ذلك ثابت حتى يقوم الدليل على كونه مخصوصا فما ذكر في التقويم يشير إلى أنه إنما يثبت الاتباع عنده إذا عرف وصف ذلك الفعل كما صرح به أبو اليسر وما ذكر شمس الأئمة يدل على أن الاتباع ثابت عنده بكل حال ويحتمل أن يكون المذكور في التقويم موافقا لما ذكر شمس الأئمة أيضا يعرف بالتأمل وقوله إلا أنه قال علينا اتباعه معناه لنا جواز متابعته فيه لا يترك ذلك أي لا يحمل على الخصوصية إلا بدليل أو معناه وجب علينا اعتقاد إباحته في حقنا لا يترك ذلك الاعتقاد إلا بدليل والفرق بين قول الجصاص وبين قول الفريق الثاني أن الاتباع واجب عندهم على اعتقاد أن ذلك الفعل واجب في حقه وفي حقنا, والاتباع في قول أبي بكر ثابت على اعتقاد أنه مباح في حقه وفي حقنا كما لو ثبت بالتنصيص إباحة فعل له من غير تخصيص وجه قول الواقفية أن الاتباع ليس بواجب في أفعاله; لأن التكليف بحسب المصالح وليس يجب اشتراك المكلفين في المصالح إذ يجوز أن يكون فعل مصلحة في حق شخص ولا يكون مصلحة في حق آخر فإذا يجوز أن يكون الفعل مصلحة في حق النبي عليه السلام ولا يكون مصلحة في حقنا ألا ترى أنه قد أبيح له ما لم يبح لنا من العدد في(3/299)
إلا أنه قال علينا اتباعه لا نترك ذلك إلا بدليل وهذا أصح عندنا أما الواقفون فقد قالوا إن صفة الفعل إذا كانت مشكلة امتنع الاقتداء; لأن الاقتداء في المتابعة في أصله ووصفه, فإذا خالفه في الوصف لم يكن مقتديا فوجب الوقف إلى أن يظهر. وأما الآخرون فقد احتجوا بالنص الموجب لطاعة الرسول عليه السلام قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63]
ـــــــ
النكاح والصفي من المغنم وغيرهما وقد أوجب عليه ما لم يوجب علينا مثل قيام الليل والضحى ونحوهما, وإذا كان كذلك لا يلزمنا متابعته حتى يقوم دليل على الشركة. لئن سلمنا أن الاتباع واجب فذلك ليس بممكن هاهنا; لأن المتابعة في الفعل عبارة عن إتيان مثل فعل الغير على الوجه الذي فعله من أجل أنه فعله حتى لو لم يكن هذا الفعل مثل الأول كالقيام والقعود أو لم يكن على الوجه الذي فعله بأن كان أحدهما واجبا والآخر نفلا أو لم يكن من أجل أنه فعله بأن صلى رجلان الظهر منفردين امتثالا للأمر لا يكون متابعة, وإذا كان كذلك لا يتحقق المتابعة قبل معرفة صفة الفعل ولا وجه إلى المخالفة أيضا فيجب التوقف إلى أن يظهر وصف الفعل بالدليل قال شمس الأئمة رحمه الله وهذا الكلام عند التأمل باطل; لأن هذا القائل إن كان يمنع الأمة من أن يفعلوا مثل فعله بهذا الطريق ويلومهم على ذلك فقد أثبت صفة الحظر في الاتباع وإن كان لا يمنعهم من ذلك ولا يلومهم عليه فقد أثبت صفة الإباحة فعرفنا أن القول بالوقف لا يتحقق في هذا الفصل.
وأما الآخرون وهم الذين قالوا بوجوب الاتباع فقد احتجوا بالنصوص الموجبة لطاعة الرسول عليه السلام على الإطلاق مثل قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] أي عن شأن الرسول وسمته وطريقته كما في قوله: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] أي شأنه وطريقته ومذهبه قالوا وحمل الأمر على الشأن هاهنا أولى من حمله على القول لانتظام الشأن القول والفعل على وجه واحد. والنصوص فيها أي في طاعة الرسول ووجوب اتباعه كثيرة مثل قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59]و[المائدة: 92]و[النور: 54]، {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 58] {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7], فإن هذه النصوص وأمثالها توجب اتباعه مطلقا من غير فصل بين القول والفعل ومثل ما روي أنه عليه السلام خلع نعله في الصلاة فخلعوا استدلالا بفعله فأقرهم على استدلالهم1 ولم ينكر عليهم بل بين العلة بقوله أخبرني جبرائيل أن فيها قذرا.وأمرهم بالحلق عام
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الصلاة حديث رقم: 650، وأخرجه الإمام أحمد في المسند 3/92.(3/300)
والنصوص في ذلك كثيرة وأما الكرخي فقد زعم أن الإباحة من هذه الأقسام هي ثابتة بيقين فلم يجز إثبات غيره إلا بدليل ووجب إثبات اليقين كمن وكل رجلا بماله يثبت الحفظ به; لأنه يقين وقد وجدنا اختصاص الرسول ببعض ما فعله ووجدنا الاشتراك أيضا فوجب الوقف فيه أيضا, ووجه قول الآخر أن الإتباع
ـــــــ
الحديبية فتربصوا وتوقفوا فلما فعل بنفسه تبادروا إلى الحلق1 فدل أن للفعل من المكانة في القلوب ما ليس للقول ولما "قبل عمر رضي الله عنه الحجر قال: إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولكني رأيت رسول الله يقبلك2" فرأى أن متابعته على الظاهر من فعله واجبة والصحابة رضي الله عنهم كانوا يرون المبادرة إلى متابعة أفعاله مثل المبادرة إلى متابعة أقواله وأما الكرخي فقد زعم أي قال بأن الإباحة من هذه الأقسام وهي الوجوب والندب والإباحة هي الثابتة في حقه عليه السلام بيقين لتحققها في كل الأحوال فوجب إثباتها ولم يجز إثبات غيرها إلا بدليل لوقوع الشك فيه ثم لما ثبتت الإباحة بهذا الطريق على ما اختاره شمس الأئمة أو قام دليل يبين صفة الفعل على ما نقله القاضي الإمام لم يجز متابعة فيه إلا بدليل; لأنا قد وجدنا اختصاص الرسول عليه السلام ببعض الأفعال كما ذكرنا ووجدنا الاشتراك أي اشتراك النبي والأمة في البعض وهذا الفعل يحتمل أن يكون مما اختص هو به ويحتمل أن يكون مما هو غير مخصوص به فعند احتمال الوجهين على السواء يجب التوقف حتى يقوم الدليل لتحقق المعارضة.
قوله "ووجه القول الآخر" بكسر الخاء وهو الجصاص أن الاتباع أصل إلى آخره قال شمس الأئمة رحمه الله الصحيح ما ذهب إليه الجصاص; لأن في قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] تنصيص على جواز التأسي به في أفعاله فيكون هذا النص معمولا به حتى يقوم الدليل المانع وهو ما يوجب تخصيصه بذلك وقد دل عليه قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} [الأحزاب: 37] وفي هذا بيان أن ثبوت الحل في حقه مطلقا دليل ثبوته في حق الأمة ألا ترى أنه نص على تخصيصه فيما كان هو مخصوصا به بقوله: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} وهو النكاح بغير مهر فلو لم يكن مطلق
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الجهاد حديث رقم 2765.
2 أخرجه البخاري في الحج باب رقم 57، ومسلم في الحج حديث رقم:1270، وأبو داود في المناسك حديث رقم 2943، والإمام أحمد في المسند 1/21.(3/301)
أصل; لأنه إمام يقتدى به كما قال تعالى لإبراهيم: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة 124] فوجب التمسك بالأصل حتى يقوم الدليل على غيره هذا الذي ذكرنا تقسيم السنن في حقنا وهذا
ـــــــ
فعله دليلا للأمة في الإقدام على مثله لم يكن لقوله تعالى: {خَالِصَةً لَكَ} فائدة, فإن الخصوصية ثابتة بدون هذه الكلمة والدليل عليه أنه لما "قال عليه السلام لعبد الله بن رواحة حين صلى على الأرض في يوم قد مطروا في السفر "ألم يكن لك في أسوة" فقال أنت تسعى في رقبة قد فكت وأنا أسعى في رقبة لم يعرف فكاكها فقال: "إني مع هذا أرجو أن أكون أخشاكم لله" ولما "سألت امرأة أم سلمة رضي الله عنها عن القبلة للصائم قالت: إن رسول الله يقبل وهو صائم فقالت لسنا كرسول الله صلى الله عليه وسلم فقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ثم سألت أم سلمة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سؤالها فقال "هلا أخبرتها أني أقبل وأنا صائم" فقالت: قد أخبرتها بذلك فقالت كذا فقال: "إني أرجو أن أكون أتقاكم لله وأعلمكم بحدوده1" ففي هذا بيان أن اتباعه فيما يثبت من أفعاله أصل حتى يقوم الدليل على كونه مخصوصا بفعل. وهذا لأن الرسل عليهم السلام أئمة يقتدى بهم كما قال الله تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} فالأصل في كل فعل يكون منهم جواز الاقتداء بهم إلا ما يثبت فيه دليل الخصوصية باعتبار أحوالهم وعلو منازلهم, وإذا كان الأصل هذا ففي كل فعل يكون منهم بصفة الخصوص يجب بيان الخصوصية مقارنا به إذ الحاجة إلى ذلك ماسة عند كل فعل يكون حكمه بخلاف هذا الأصل والسكوت عن البيان بعد تحقق الحاجة إليه دليل النفي فترك بيان الخصوصية يكون دليلا على أنه من جملة الأفعال التي هو فيها قدوة أمته والله أعلم فصار الحاصل أن عند أبي الحسن الأصل هو الاختصاص والاشتراك لعارض وعند الجصاص الأصل هو الاتباع والخصوصية بعارض كما أن الأصل في الكلام الحقيقة والمجاز بعارض والعارض لا يثبت إلا بدليل.
قوله "وهذا الذي ذكرنا تقسيم السنن في حقنا" أي هذا الباب لتقسيم أفعال النبي عليه السلام في حقنا, فإنه لبيان أنواع الاتباع الذي هو راجع إلينا ولهذا أدخل فيه الواجب كما أشرنا إليه أو ما ذكرنا من أول أقسام السنة إلى ما انتهينا إليه تقسيم السنة وما يتصل بها بالنسبة إلينا وهذا الباب الذي نشرع فيه.
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الصيام حديث رقم 1108.(3/302)
"باب تقسيم السنة"
في حق النبي صلى الله عليه وسلم ولولا جهل بعض الناس والطعن بالباطل في هذا الباب لكان الأولى منا الكف عن تقسيمه فإنه هو المنفرد بالكمال الذي لا يحيط به إلا الله تعالى والوحي نوعان ظاهر وباطن أما الظاهر فثلاثة أقسام. ما ثبت بلسان
ـــــــ
"باب تقسيم السنة في حق النبي صلى الله عليه وسلم"
أي بيان طريقته في إظهار أحكام الشرع قوله: "ولولا جهل بعض الناس والطعن بالباطل" بأن قالوا: لا يجوز للنبي عليه السلام أن يحكم بالرأي والاجتهاد وأن يعتمد في بيان الأحكام على غير الوحي; لأن ذلك مؤد إلى انحطاط درجة النبوة إلى درجة الاجتهاد لكان الأولى منا الكف عن تقسيمه أي تقسيم سنته وطريقته في إظهار أحكام الشرع على تأويل المذكور; لأن معنى التعظيم في حق من هو دونه عدم اشتغاله بمثل هذا التقسيم, فإن النبي صلى الله عليه وسلم هو المتفرد بالكمال الذي لا يحيط به إلا الله عز وجل وفي الاشتغال بالتقسيم نوع إحاطة وفيه أيضا نسبة الخطأ في بعض الصدور إليه عليه السلام مع عدم التقرير عليه وفيه سوء أدب فكان الأولى تركه ولكن طعن الجاهل وتعنته بأن قال: كيف ساغ له الاشتغال بالاجتهاد مع توصله إلى ما يوجب علم اليقين وهو الوحي حمل على هذا التقسيم ورخص في الاشتغال به دفعا لعنتهم وكشفا عن شبهتهم.
قوله: "والوحي نوعان" يعني أنه عليه السلام كان معتمدا على الوحي في إظهار جميع أحكام الشرع إلا أن الوحي نوعان ظاهر وباطن إلى آخر ما ذكر.
وقسم شمس الأئمة رحمه الله ذلك على ثلاثة أقسام إلى وحي ظاهر وإلى وحي باطن وإلى ما يشبه الوحي وجعل القسمين الأولين من الوحي الظاهر والقسم الثالث من الوحي الباطن وعمله بالاجتهاد مما يشبه الوحي ولكل وجه يعرف بالتأمل وبعد علمه أي علم النبي عليه السلام بالمبلغ وهو الملك بآية قاطعة ظهرت له توجب على اليقين بأنه ملك يبلغه عن الله عز وجل كما ظهرت لنا الآيات القاطعة الدالة على وجود الصانع جل جلاله والمعجزات الظاهرة الدالة على صدق الأنبياء عليهم السلام وهو أي ما ثبت(3/303)
الملك فوقع في سمعه بعد علمه بالمبلغ بآية قاطعة وهو الذي أنزل عليه بلسان الروح الأمين عليه السلام والثاني ما ثبت عنده ووضح له بإشارة الملك من غير بيان بالكلام كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها ألا فاتقوا الله وأجملوا في الطلب" والثالث ما تبدى لقلبه بلا شبهة ولا مزاحم ولا معارض بإلهام من الله تعالى بأن أراه بنور عنده كما قال جل وعلا {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 15] فهذا وحي ظاهر كله مقرون بما هو ابتلاء أعني به الابتلاء في درك حقيته بالتأمل, وإنما اختلف طريق الظهور وهذا من خواص النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان حجة بالغة
ـــــــ
بلسان الملك هو الذي أنزل عليه بلسان الروح الأمين وهو جبرائيل عليه السلام المراد من قوله جل ذكره {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير: 19] {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ} [النحل: 102] {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ} .[الشعراء: 193 - 194] قوله "كما قال النبي عليه السلام "إن روح القدس نفث في روعي" أي أوقع في قلبي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أي تستوفي رزقها بكماله فاتقوا الله أي اجهدوا في طلب التقوى وجدوا في تحصيلها كل الجهد والجد, فإنها لا تحصل إلا بالسعي لا في طلب الرزق, فإنه لا يفوت أحدا بل أجملوا في طلبه بمباشرة الأسباب المشروعة وترك المبالغة فيه المؤدية إلى الوقوع في المحظور معتقدين أن الرزق من الله تعالى لا من الكسب بل الاشتغال به للامتثال بالأمر ويجوز أن يكون فاتقوا الله متعلقا ب أجملوا أي فاتقوا الله في طلب الرزق بالإجمال في طلبه بالاحتراز عن الاشتغال بالأسباب المحظورة والتصرفات المنهي عنها والثالث ما تبدى أي ظهر لقلبه يعني من الحق بلا شبهة وقوله بلا معارض ولا مزاحم تأكيد والإلهام من أقسام الوحي بدليل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً} [الشوري: 51] أي بطريق الإلهام وهو القذف في القلب كما قذف في قلب أم موسى عليه السلام إلا أن النبي لما عرف قطعا أنه من الله تعالى كان ذلك حجة قاطعة فهذا أي ما ذكرنا من الأقسام الثلاثة وحي ظاهر كله لظهوره في حق النبي صلى الله عليه وسلم في درك حقيته أي النبي عليه السلام مبتلى بدرك حقيته بالتأمل فيما ظهر له من الآية الدالة على حقيته ونحن مبتلون بدرك حقيته أيضا بعد تبليغه إلينا بالتأمل في المعجزات الدالة على صدقه. وإنما اختلف طريق الظهور بأن ظهر البعض بتبليغ الملك والبعض بإشارته والبعض بإظهار الله عز وجل من غير واسطة وهذه أي هذه الأقسام الثلاثة من خواص النبي صلى الله عليه وسلم لا شركة للأمة فيها إذ الوحي من خصائصه بلا شبهة وكذا الإلهام الذي لا يبقى معه شبهة لا يوجد في حق غيره ولو وجد وأكرم غيره بذلك كان ثبوته له لحق النبي عليه السلام أي(3/304)
وإنما يكرم غيره بشيء منها لحقه على مثال كرامات الأولياء وأما الوحي الباطن فهو ما ينال باجتهاد الرأي بالتأمل في الأحكام المنصوصة.واختلف في هذا الفصل فأبى بعضهم أن يكون هذا من حظ النبي صلى الله عليه وسلم وإنما له الوحي الخالص لا غير وإنما الرأي والاجتهاد لأمته, وقال بعضهم: كان له العمل في أحكام الشرع بالوحي والرأي جميعا والقول الأصح عندنا وهو القول الثالث وهو أن الرسول مأمور بانتظار الوحي فيما لم يوح إليه من حكم الواقعة ثم العمل بالرأي بعد انقضاء مدة الانتظار
ـــــــ
لحرمته على مثال كرامات الأولياء, فإنها تثبت لحرمة النبي عليه السلام وإتماما لمعجزته على ما عرف, وإذا كان كذلك لا يخرج بثبوته للغير من خصائصه عليه السلام على أنه إن ثبت للغير لا يكون حجة في أحكام الشرع فثبت أن كون الإلهام حجة مخصوص بالنبي عليه السلام قوله "وأما الوحي الباطن" فكذا جعل الاجتهاد منه عليه السلام وحيا باطنا باعتبار المآل, فإن تقديره عليه السلام على اجتهاده يدل على أنه هو الحق حقيقة كما إذا ثبت بالوحي ابتداء وجعله شمس الأئمة مشابها للوحي بهذا الاعتبار أيضا فقال: وأما ما يشبه الوحي في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو استنباط الأحكام من النصوص بالرأي والاجتهاد, فإن ما يكون من رسول الله عليه السلام بهذا الطريق فهو بمنزلة الثابت بالوحي لقيام الدليل على أنه يكون صوابا لا محالة, فإنه كان لا يقر على الخطأ فكان ذلك منه حجة قاطعة, ومثل هذا من الأمة لا يجعل بمنزلة الوحي; لأن المجتهد يخطئ ويصيب وقد علم أنه كان له عليه السلام من الكمال ما لا يحيط به إلا الله فلا شك أن غيره لا يساويه في إعمال الرأي والاجتهاد.
قوله: "واختلف في هذا الفصل" أي في جواز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم وفي كونه متعبدا به فأبى بعضهم وهم الأشعرية وأكثر المعتزلة والمتكلمين أن يكون الاجتهاد حظ النبي عليه السلام في الأحكام الشرعية إلا أن بعضهم قالوا: إنه غير جائز عليه عقلا وهو منقول عن أبي علي الجبائي وابنه أبي هاشم وبعضهم قالوا: إنه جائز عليه عقلا ولكنه لم يتعبد به شرعا وقال بعضهم وهم عامة أهل الأصول كان له العمل في أحكام الشرع بالوحي والرأي جميعا أي بالوحي الظاهر والباطن وهو منقول عن أبي يوسف من أصحابنا وهو مذهب مالك والشافعي وعامة أهل الحديث وقال أكثر أصحابنا بأنه عليه السلام كان متعبدا بانتظار الوحي في حادثة ليس فيها وحي, فإن لم ينزل الوحي بعد الانتظار كان ذلك دلالة للإذن بالاجتهاد ثم قيل: مدة الانتظار مقدرة بثلاثة أيام وقيل بخوف فوت الغرض وذلك يختلف بحسب الحوادث كانتظار الولي الأقرب في النكاح مقدر بفوت الخاطب الكفء.(3/305)
احتج الأول بقول الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4] ولأن الاجتهاد محتمل للخطأ ولا يصلح لنصب الشرع ابتداء; لأن الشرع حق الله تعالى فإليه نصبه بخلاف أمر الحروب; لأنه يرجع إلى العباد بدفع أو جر فصح إثباته بالرأي, ووجه القول الآخر أن الله تبارك وتعالى أمر بالاعتبار عاما بقوله: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2]وهو عليه السلام أحق الناس
ـــــــ
وكلهم اتفقوا أن العمل يجوز له بالرأي في الحروب وأمور الدنيا احتج الفريق الأول بالنص وهو قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} أخبر أنه لا ينطق إلا عن وحي والحكم الصادر عن اجتهاد لا يكون وحيا فيكون داخلا تحت النفي وبالمعقول وهو أن النبي عليه السلام كان ينصب أحكام الشرع ابتداء والاجتهاد دليل محتمل للخطاء; لأنه رأي العباد فلا يصلح لنصب الشرع ابتداء; لأن نصب الشرع حق الله تعالى فكان إليه نصبه لا إلى العباد بخلاف أمور الحرب وما يتعلق بالمعاملات; لأن ذلك من حقوق العباد إذ المطلوب إما دفع ضر عنهم أو جر نفع إليهم مما يقوم به مصالحهم واستعمال الرأي جائز في مثله لحاجة العباد إلى ذلك وليس في وسعهم فوق ذلك والله تعالى يتعالى عما يوصف به العباد من العجز والحاجة فما هو حقه لا يثبت ابتداء إلا بما يكون موجبا علم اليقين يبينه, أن المصير إلى الرأي الذي هو محتمل للخطأ إنما يجوز عند الضرورة حتى لم يجز الاشتغال به مع وجود النص والضرورة إنما تثبت في حق الأمة لا في حقه عليه السلام إذ الوحي يأتيه في كل وقت فكان اشتغاله بالرأي كاشتغالنا به مع وجود النص وهذا كتحري القبلة, فإنه يجوز لمن بعد عن الكعبة ولم يجد سبيلا إلى الوقوف عليها للضرورة لا لمن كان مشاهدا للكعبة ولا لمن يجد سبيلا إلى الوقوف عليها لعدم الضرورة المحوجة إلى التحري ولأنه لو جاز له الاجتهاد لجاز مخالفته لمجتهد آخر; لأن جواز المخالفة من أحكام الاجتهاد وبالاتفاق لا يجوز لأحد أن يخالفه في حكمه فعلم أن الاجتهاد غير سائغ له لانتفاء موجبه في حقه ألا ترى أن في أمور الحرب لما جاز له الرأي جازت مخالفته حتى خالفه السعدان في إعطاء شطر ثمار المدينة وأسيد بن حضير في النزول يوم بدر على ما سيأتي بيانه. ولأن الاجتهاد منه عليه السلام سبب لتنفير الناس عنه; لأنهم متى سمعوا أنه يحكم برأيه في شريعته يسبق إلى أوهامهم قبل أن يتأملوا حق التأمل أنه ينصبه من تلقاء نفسه, وذلك سبب للنفرة إذ الطبع ينفر عن اتباع ميله وما يؤدي إلى النفرة لا يكون هو مأذونا فيه لتأديته إلى المناقشة لكونه مبعوثا للدعوة إليه لا للنفرة عنه.ووجه القول الآخر وهو قول العامة الكتاب والسنة والدليل المعقول أما الكتاب فقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} أمر بالاعتبار عاما لأولي البصائر إذ المراد من البصر البصيرة وكأن قوله: {يَا(3/306)
بهذا الوصف, وقال الله تبارك وتعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] وذلك عبارة عن الرأي من غير نص, وكذلك قوله تبارك وتعالى: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} [ص: 24] جواب بالرأي وقال النبي صلى الله عليه وسلم للخثعمية: "أرأيت
ـــــــ
أولي الأبصار} تعليل للاعتبار أي اعتبروا يا أولي الأبصار لاتصافكم بالبصيرة والنبي عليه السلام أعظم الناس بصيرة وأصفاهم سريرة وأصوبهم اجتهادا وأحسنهم استنباطا وهو معنى قوله: أحق الناس بهذا الوصف أي بوصف البصيرة فكان أولى بهذه الفضيلة وبالدخول تحت هذا الخطاب وقال تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} روي أن رجلين تحاكما إلى داود وعنده سليمان عليهما السلام أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم فقال صاحب الحرث: إن هذا انفلتت غنمه ليلا فوقعت في حرثي فلم يبق منه شيئا فقال لك رقاب الغنم فقال سليمان أو غير ذلك ينطلق أصحاب الحرث بالغنم فيصيبون من ألبانها ومنافعها ويقوم أصحاب الغنم على الحرث حتى إذا كان ليلة نفشت فيه دفع هؤلاء إلى هؤلاء غنمهم ودفع هؤلاء إلى هؤلاء حرثهم وأكثر المفسرين على أن الحرث كان كرما قد تدلت عناقيدهم فقال داود عليه السلام القضاء ما قضيت وحكم بذلك فأخبر الله تعالى عن تلك القضية بقوله عز اسمه {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79] إلى أن قال: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} الهاء ضمير الحكومة المدلول عليها بقوله إذ يحكمان في الحرث وذلك أي ذلك التفهيم عبارة عن الرأي من غير نص أي المراد أنه وقف على الحكم بطريق الرأي لا بطريق الوحي; لأن ما كان بطريق الوحي فداود وسليمان عليهما السلام فيه سواء وحيث خص سليمان بالفهم علم أن المراد به الفهم بطريق الرأي ولأن القضية التي قضاها داود أولا لو كانت بالوحي لما وسع سليمان خلافه ولما خالف ومدح على ذلك علم أنه كان بالرأي. وذكر في المطلع قيل: إنهما اجتهدا جميعا فجاء اجتهاد سليمان عليه السلام أشبه بالصواب فرجع داود إلى اجتهاد سليمان قبل الحكم; لأن الحكم إذا وقع بالاجتهاد لا ينتقض باجتهاد آخر وكذلك قوله تعالى أي ومثل قوله: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} قوله تعالى إخبارا عن داود عليه السلام {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} جواب من داود عليه السلام بالرأي, فإنه كان بطريق التنبيه وإنما يحسن ذلك إذا فوض الحكم إلى رأيه وعبارة شمس الأئمة أوضح, فإنه قال وقد حكم داود بين الخصمين حين تسوروا المحراب, فإنه قال: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} وهذا بيان بالقياس الظاهر ونقل عن أبي يوسف رحمه الله أنه تمسك فيه بقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105] فإنه بعمومه يتناول الحكم بالنص وبالاستنباط منه إذ الحكم لكل منها حكم بما أراه الله.وأورد عليه أن المراد بما أراك مما أنزله إليك لدلالة السابق عليه إذ لا(3/307)
لو كان على أبيك دين فقضيته أما كان يقبل منك" قالت نعم قال: " دين الله أحق" وقال لعمر وقد سأله عن القبلة للصائم "أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكان تضرك" وهذا قياس ظاهر وقيل فيمن أتى أهله أنه يؤجر فقيل أيؤجر أحدنا في شهوته فقال أرأيت لو وضعه في حرام أما كان بإثم وقال
ـــــــ
مناسبة بين قول القائل أنفذت إليك ذلك الكتاب لتحكم بغيره وأجيب عنه بأن الحكم الذي استنبط من المنزل حكم بالمنزل; لأنه حكم بمعناه وبأن التقييد بالمنزل خلاف الأصل. وقرر أبو علي الفارسي هذا التمسك فقال الإراءة هاهنا لا تستقيم أن تكون لإراءة العين لاستحالتها في الأحكام ولا لمعنى الإعلام لوجوب ذكر المفعول الثالث كذكر الثاني; لأن المعنى ما أراكه الله لتتم الصلة فتبين أن المعنى لتحكم بين الناس بما جعله الله لك رأيا وأجيب بأن الإراءة بمعنى الإعلام وما مصدرية لا موصولة لتحتاج إلى ضمير ويكون قد حذف المفعولان وهو جائز.
وأما السنة فحديث الخثعمية, فإنه عليه السلام اعتبر فيه دين الله بدين العباد, وذلك بيان بطريق القياس وقد مر بيانه في باب الأداء والقضاء وحديث القبلة للصائم وهو ما روي أن "عمر رضي الله عنه سأل النبي عليه السلام فقال: إني أتيت اليوم أمرا عظيما فقال: "وما ذاك" فقال هششت إلى امرأتي فقبلتها فقال: "أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكان يضرك" قال لا قال "ففيم إذا1 " أي ففيم تشك إذ قد عرفت ذلك فاعتبر فيه مقدمة الجماع وهي القبلة بمقدمة الشرب وهي المضمضة في عدم فساد الصوم وهو قياس ظاهر بل عدم الفساد في القبلة أظهر; لأنها تهيج الشهوة ولا تسكنها والتمضمض تسكن شيئا من العطش.
وقال فيمن أتى أهله إنه يؤجر روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديث طويل "وفي بضع أحدكم صدقة" قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر قال: " أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيه وزر فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر2" اعتبر مباشرة الحلال في استحقاق موجبها وهو الأجر بضدها وهو مباشرة الحرام في استحقاق موجبها وهو الوزر, وهذا بيان الرأي والاجتهاد, والمج رمي الماء من الفم مما يطلب., وأما المعقول فهو أن الاجتهاد مبني على العلم بمعاني النصوص ورسول الله صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الصوم حديث رقم 2385، والإمام أحمد في المسند 1/12.
2 أخرجه مسلم في الزكاة حديث رقم 1006، وأبو داود في الصلاة حديث رقم 1285، والإمام أحمد في المسند 5/167.(3/308)
في حرمة الصدقة على بني هاشم أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكنت شاربه وهذا قياس واضح في تحريم الأوساخ لحكم الاستعمال ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم أسبق الناس في العلم حتى وضع له ما خفي على غيره من المتشابه فمحال أن يخفى عليه معاني النص وإذا وضح له لزمه العمل به; لأن الحجة
ـــــــ
أسبق الناس في العلم أي أكملهم فيه حتى كان يعلم بالمتشابه الذي لا يعلمه أحد من الأمة بعده وكان عالما بمعنى النص الذي هو متعلق الحكم لا محالة وبعد العلم به والوقوف على طريق الاستعمال لا وجه لمنعه عن ذلك; لأنه نوع حجر وذلك لا يليق بعلو درجته مع اطلاع غيره فيه يوضحه أنه لو لم يجز له العمل بالاجتهاد الذي هو أعلى درجات العلم للعباد وأكثر صوابا لاشتماله على المشقة وجاز لأمته ذلك لكانت الأمة أفضل منه في هذا الباب وإنه غير جائز ولا يقال: إنما يلزم ذلك أن لو لم يكن له منصب أعلى منه; لأنه كان يستدرك الأحكام وحيا وهو أعلى من الاجتهاد; لأنا نقول الوحي وإن كان أعلى من الاجتهاد لكن ليس فيه تحمل المشقة في استدراك الحكم فلا يظهر فيه أثر جودة الخاطر وقوة القريحة, وإذا كان هذا نوعا مفردا من الفضيلة لم يخل الرسول عنه بالكلية.
ثم الشيخ رحمه الله ذكر هاهنا أن المتشابه وضح للرسول عليه السلام دون غيره وهكذا ذكر شمس الأئمة رحمه الله وهو يتراءى مخالفا لظاهر الكتاب; لأن الوقف إن وجب على قوله عز وجل: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} كما هو مختار السلف والشيخين فذلك يقتضي أن لا يعلمه الرسول كما لا يعلمه غيره من العباد وإن كان الوقف على قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} كما هو مختار الخلف يلزم أن لا يكون الرسول عليه السلام مخصوصا بعلمه بل الراسخون يعلمونه أيضا, فأما أن يعلمه الرسول ولا يعلمه غيره فمخالف لما دل عليه النص من كل وجه. وأجيب عنه بأن معنى الآية على تقدير الوقوف على إلا الله وما يعلم أحد تأويله بدون تعلم الله إلا الله كما في قوله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65] أي لا يعلم بدون تعليم الله إلا الله فيكون إلا حينئذ بمعنى غير, وإذا كان كذلك جاز أن يكون الرسول مخصوصا بالتعليم بدون إذن بالبيان لغيره فيبقى غير معلوم من حق غيره واعترض بأن الآية تقتضي حصر العلم على الله عز وجل, وإذا صار الرسول عليه السلام عالما بالمتشابهات النازلة قبل نزول هذه الآية بالتعليم لا يستقيم الحصر وكان ينبغي أن يقول وما يعلم تأويله إلا الله ورسوله وأجيب عنه بأنه يجوز أن يكون التعليم حاصلا بعد نزول هذه الآية فلا يكون الرسول عليه السلام عالما بالمتشابه قبل نزولها فيستقيم الحصر بقوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا(3/309)
للعمل شرعت إلا أن اجتهاد غيره يحتمل الخطأ واجتهاده لا يحتمل ولا يحتمل القرار على الخطأ, فإذا أقره الله تعالى على ذلك دل على أنه مصيب بيقين وذلك مثل مشاورته في أمور الحرب وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يشاور في سائر الحوادث عند عدم النص مثل مشاورته في أمور الحرب ألا يرى أنه شاورهم في أسارى بدر فأخذ برأي أبي بكر وكان ذلك هو الرأي عنده فمن عليهم حتى نزل قوله: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ
ـــــــ
اللَّهُ} وبأن الآية دلت على حصر العلم على الله عز وجل وعلى من علمه الله بالتأويل الذي ذكر ألا ترى أن تلك الآية توجب حصر علم الغيب على الله تعالى ثم إنه لا يمنع أن يعلم غير الله بتعليمه كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:26 - 27] فكذا هاهنا.
قوله "إلا أن اجتهاد غيره" جواب عما يقال لما جاز له الاجتهاد وكان ينبغي أن يكون منزلته دون النص فيكون ظنيا كاجتهاد غيره, ويجوز مخالفته إذ ذاك فقال ليس كذلك; لأن اجتهاد غيره يحتمل الخطأ والقرار عليه واجتهاده لا يحتمل الخطأ عند أكثر العلماء; لأنا أمرنا باتباعه في الأحكام بقوله عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] وبغيره من الآيات فلو جاز الخطأ عليه لكنا مأمورين باتباع الخطأ, وذلك غير جائز وإن احتمل الخطأ كما هو مذهب أكثر أصحابنا بدليل قوله عز اسمه: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة:43], فإنه يدل على أنه عليه السلام أخطأ في الإذن لهم وبدليل نزول العتاب في أسارى بدر وغيرهما من الدلائل فلا يحتمل القرار على الخطأ لما ذكرنا أنه يؤدي إلى الأمر باتباع الخطأ, فإذا أقره الله على اجتهاده دل أنه كان هو الصواب فيوجب علم اليقين كالنص فيكون مخالفته حراما وكفرا وهو نظير الإلهام, فإن إلهام النبي عليه السلام حجة قاطعة لا يسع مخالفته بوجه, وإلهام غيره ليس بحجة.
قوله "وذلك مثل أمور الحرب" أي الاجتهاد والعمل بالرأي في سائر أحكام الشرع مثل العمل بالرأي في أمور الحرب من غير فرق, والغرض منه إبطال الفرق الذي ادعته الطائفة الأولى ألا ترى أنه شاورهم في أسارى بدر وهو مشاورة في حكم الشرع; لأن مفاداة الأسير بالمال جوازها وفسادها من أحكام الشرع ومما هو حق الله تعالى فعلم أنه كان يشاورهم في الأحكام كما في الحروب. وقصة ذلك ما روي أنه لما كان يوم بدر وهزم المشركون وقتل منهم سبعون رجلا وأسر منهم سبعون استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأسارى فقال أبو بكر رضي الله عنه هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان وأرى أن نأخذ منهم الفدية فيكون ما أخذنا قوة لنا على الكفار وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضدا.فقال رسول الله(3/310)
اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68] وكما شاور سعد بن معاذ وسعد بن عبادة يوم الأحزاب في بذل شطر ثمار المدينة ثم أخذ برأيهما وكذلك أخذ برأي أسيد بن حضير في النزول على الماء يوم بدر وكان
ـــــــ
صلى الله عليه وسلم لعمر: رضي الله عنه ما ترى يا ابن الخطاب فقال: إنهم كذبوك وأخرجوك وهؤلاء أئمة الكفر وقادة المشركين فأرى أن تمكنني من فلان قريب لعمر وعليا من عقيل وحمزة من العباس فلنضربن أعناقهم حتى يعلم الله أنه ليس في قلوبنا مودة للمشركين فقال عليه السلام مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم حيث قال: {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36] ومثلك يا عمر كمثل نوح قال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} [نوح: 26] فهوي ما قال أبو بكر ولم يهو ما قال عمر فأخذ منهم الفداء فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال: 67] إلى قوله: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ } [الأنفال: 68] أي لولا حكم سبق إثباته في اللوح المحفوظ وهو أنه لا يعاقب أحدا بخطاء وهذا خطأ في الاجتهاد; لأنهم نظروا في أن استبقاءهم ربما يؤدي إلى إسلامهم وتدينهم وخفي عليهم أن قتلهم أعز للإسلام وأهيب لمن وراءهم وقيل كناية أنه يستحل لهم الفدية التي أخذوها وقيل: إن أهل بدر مغفور لهم وقيل: إن الله لا يعذب قوما إلا بعد تأكيد الحجة وتقديم النهي ولم يتقدم النهي عن ذلك لمسكم فيما أخذتم من الفداء عذاب عظيم فقال صلى الله عليه وسلم "لو نزل بنا عذاب ما نجا إلا عمر" وإنما أمضى ذلك الحكم; لأن الحكم إذا أمضي بالاجتهاد ثم نزل نص بخلافه وظهر خطؤه عمل به في المستقبل لا فيما مضى كذا قيل والأصح أن الله تعالى أمضى ذلك الحكم بعد العتاب بقوله: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} [الأنفال: 69].
قوله "وكما شاور سعد بن معاذ" روي أن الأمر لما ضاق على المسلمين في حرب الأحزاب وكان في الكفار قوم من أهل مكة عونا لهم رئيسهم عيينة بن حصن الفزاري وأبو سفيان بن حرب "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عيينة وقال: "ارجع أنت وقومك ولك ثلث ثمار المدينة" فأبى إلا أن يعطيه نصفها فاستشار في ذلك الأنصار وفيهم سعد بن معاذ وسعد بن عبادة أحدهما رئيس الأوس والآخر رئيس الخزرج فقالا هذا شيء أمرك الله به أم شيء رأيته من نفسك فقال: "لا بل رأي رأيته من عند نفسي" فقالا يا رسول الله إنهم لم ينالوا في الجاهلية من ثمار المدينة إلا بشراء أو بقرى, فإذا أعزنا الله بالإسلام لا نعطيهم الدنية فليس بيننا وبينهم إلا السيف وفرح بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة فأردت أن أصرفهم عنكم, فإذا ثبتم فذاك" ثم قال للذين جاءوا بالصلح " اذهبوا فلا نعطيهم إلا السيف"(3/311)
يقطع الأمر دونهم فيما أوحي إليه في الحرب كما في سائر الحوادث, والجهاد محض حق الله تعالى ما بينه وبين غيره فرق وكان يقول لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما قولا فإني فيما لم يوح إلي مثلكما ولا يحل المشورة مع قيام الوحي وإنما الشورى في العمل بالرأي خاصة ألا يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم عن القرار على الخطأ أما غيره فلا يعصم عن القرار على الخطأ, فإذا كان كذلك كان
ـــــــ
وكذلك أخذ برأي أسيد بن حضير لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر النزول فقال له أسيد بن حضير أو حباب بن المنذر إن كان عن وحي فسمعا وطاعة وإن كان عن رأي, فإني أرى أن ننزل على الماء ونأخذ الحياض فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيه ونزل على الماء ثم المشاورة في أسارى بدر" نظير لقوله شاورهم في سائر الحوادث لما قلنا: إنها مشاورة في حكم شرعي فأما المشاورة في بذل شطر الثمار والنزول على الماء فلا يصح نظيرا له; لأنها مشاورة في أمور الحرب فلا تصلح إلزاما على الخصم وظني أن الواو في قوله وكما شاور سعد بن معاذ وقعت زائدة من الناسخ فبدونها يستقيم الكلام فيصير المشاورة في الأسارى نظيرا لقوله شاور في سائر الحوادث ومشاورة السعدين والأخذ برأي أسيد نظيرين لقوله: مثل مشاورته في أمور الحرب, وكذا رأيت مكتوبا بدون الواو في نسخة عتيقة مقروءة على العلامة شمس الأئمة الكردي رحمه الله وعلى من قبله أيضا.
"قوله وقد كان يقطع الأمر" أي الشأن دونهم متصل بقوله مثل مشاورته في أمور الحرب يعني كان يحكم في أمر الحرب الأمر بطريق القطع إذا كان فيه وحي كما كان يفعل كذلك في سائر الحوادث وحاصله أنه أبطل الفرق المذكور بإثبات المساواة بين أمور الحرب وسائر الحوادث فيما إذا وجد فيها الوحي وفيما إذا لم يوجد فقال إذا لم يوجد الوحي كان يستشيرهم فيهما جميعا, وإذا وجد الوحي يقطع الأمر فيها من غير مشاورة والتفات إلى رأي أحد فلا معنى للفرق الذي ذكروه ثم أكد هذا المعنى وهو إبطال الفرق بقوله والجهاد محض حق الله تعالى ليس بينه وبين غيره فرق, فإذا جاز له العمل بالرأي جاز في غيره من الأحكام أيضا وقوله: ولا تحل المشورة مع قيام الوحي متصل بقوله شاور في سائر الحوادث يعني وإذا ثبت أنه شاورهم في سائر الحوادث ولا تحل المشورة مع قيام الوحي بل تحل لأجل العمل بالرأي علم أنه إنما شاورهم للعمل بالرأي وفي قوله خاصة إشارة إلى دفع سؤال وهو أن يقال: يجوز أن تكون المشورة لتطبيب قلوبهم فقال ليس كذلك بل للعمل بالرأي خاصة قال شمس الأئمة رحمه الله ولا معنى لقول من يقول إنما كان يستشيرهم في الأحكام لتطييب قلوبهم; لأن فيما كان الوحي ظاهرا معلوما ما كان يستشيرهم وفيما كان يستشيرهم لا يخلو إما إن كان يعمل برأيهم أو لا يعمل, فإن كان لا(3/312)
اجتهاده ورأيه صوابا بلا شبهة إلا أنا اخترنا تقديم انتظار الوحي; لأنه مكرم بالوحي الذي يغنيه عن الرأي وعلى ذلك غالب أحواله في أن لا يخلى عن الوحي, والرأي ضروري فوجب تقديم الطلب لاحتمال الإصابة غالبا كالتيمم لا يجوز في موضع وجود الماء غالبا إلا بعد الطلب وصار ذلك كطلب النص النازل الخفي بين النصوص في حق سائر المجتهدين ومدة الانتظار على ما يرجو نزوله إلا أن يخاف الفوت في الحادثة والله أعلم ومما يتصل بسنة نبينا صلى الله عليه وسلم شرائع من قبله وإنما أخرناه; لأنه اختلف في كونه شريعة له.
ـــــــ
كان لا يعمل برأيهم وكان ذلك معلوما لهم فليس في هذه الاستشارة تطييب النفس بل هي نوع من الاستهزاء وظن ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم محال وإن كان يستشيرهم ليعمل برأيهم فلا شك أن رأيه كان أقوى من رأيهم. وإذا جاز له العمل برأيهم فيما لا نص فيه فجواز ذلك برأيه أولى ويتبين أنه إنما كان يستشيرهم لتقريب الوجوه وتخمير الرأي على ما كان يقال المشورة تلقيح العقول ويقال من الحزم أن تستشير ذا رأي ثم تطيعه ثم إنما أعاد قوله إلا أن النبي معصوم عن القرار على الخطأ وبعده ما ذكره مرة ردا لكلام الخصم وجوابا عن قولهم الاجتهاد يحتمل للخطأ فلا يصلح لنصب الشرع, وإذا كان كذلك أي وإذا كان الأمر كما قلنا: إنه معصوم عن القرار على الخطأ كان اجتهاده ورأيه بعدما قرر عليه صوابا بلا شبهة ويجوز أن يصدر الحكم عن الاجتهاد ثم ينضم إليه ما يوجب القطع بالصحة وينضم تحريم المخالفة كالإجماع الصادر عن الاجتهاد وقوله إلا أنا اخترنا تقديم انتظار الوحي استثناء من القول الثاني وبيان للمذهب المختار وهذا على قول من جعل الحق في المجتهدات واحدا فأما على قول من قال بتعدد الحقوق فلا يتصور الخطأ في اجتهاده عنده; لأن اجتهاد غيره لا يحتمل الخطأ فاجتهاده أولى فوجب تقديم الطلب أي طلب النص بانتظار الوحي لاحتمال الإصابة أي إصابة النص بنزول الوحي وصار ذلك أي انتظار الوحي في حقه عليه السلام كطلب النص النازل الخفي بين النصوص في حق سائر المجتهدين يعني النص الذي اختفى بين النصوص ولم يصل إلى المجتهد إذ لم يحل له الاجتهاد قبل طلبه قال القاضي الإمام وكان تربصه عليه السلام لنزول الوحي بمنزلة تربصنا للتأمل في المنزل وقال شمس الأئمة وكان الانتظار في حقه بمنزلة التأمل في النص المؤول والخفي في حق غيره ومدة الانتظار على ما نرجو نزوله أي نزول الوحي يعني هي ما فيه ما دام رجاء نزول الوحي باقيا إلا أن يخاف الفوت أي فوت الغرض أو فوت الحكم في الحادثة يعني يخاف أن يفوت الحادثة بلا حكم وحينئذ ينقطع طمعه عن الوحي فيحكم بالرأي. قال صاحب الميزان وهذا القول حسن يعني اشتراط الانتظار(3/313)
--------------------------------------------------------
ـــــــ
ما دام يرجى نزول الوحي أحسن لكن قول العامة أحق وكان عليه العمل لجميع أنواع الوحي والتبليغ عند الحاجة والانتظار للوحي الظاهر في غير موضع الحاجة.
وأما تمسك الخصم بقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] ففاسد إذ لا دليل على موضع النزاع, فإنه نزل في شأن القرآن ردا لما زعم الكفار أنه افتراء من عنده فكان معناه أن ما ينطق به قرآنا فهو وحي لا عن هوى لا أن ما ينطق به مطلقا كذلك ولئن سلمنا أن المراد به التعميم; لأن بخصوص السبب لا يتخصص عموم اللفظ فلا نسلم أن اجتهاده مع التقرير عليه ليس بوحي بل هو وحي بان كما أشار إليه الشيخ ولأنه إذا تعبدنا بالاجتهاد بالوحي يكون نطقه بذلك الحكم عن وحي لا عن هوى ولأن المراد من الهوى هو النفس الباطل لا الرأي الصواب الصادر عن عقل ونظر في أصول الشرع واندرج فيما ذكرنا الجواب عن بقية كلماتهم فلا نعيده. قوله "ومما يتصل بسنة نبينا شرائع من قبله"; لأنها لما بقيت إلى مبعث النبي عليه السلام وصارت شريعة له لما سنبين كانت من سننه وإنما أخرناه للاختلاف في كونها شريعة لنبينا عليه السلام وذكر الضمائر الثلاثة الأواخر مع كونها راجعة إلى الشرائع على تأويل المذكور أو لكون الشرائع مضافة إلى المذكور وهو من قبله والله أعلم(3/314)
"باب شرائع من قبلنا"
قال بعض العلماء: يلزمنا شرائع من قبلنا حتى يقوم الدليل على النسخ بمنزلة شرائعنا وقال بعضهم لا يلزمنا حتى يقوم الدليل وقال بعضهم يلزمنا على أنه شريعتنا والصحيح عندنا أن ما قص الله تعالى منها علينا من غير إنكار
ـــــــ
"باب شرائع من قبلنا"
أي باب بيان الاختلاف في شرائع من قبلنا فقال بعضهم كذا فهو معنى إيراد الفاء في أول الباب واعلم أنه يجوز أن يتعبد الله تعالى نبيه عليه السلام بشريعة من قبله من الأنبياء ويأمره باتباعها ويجوز أن يتعبده بالنهي عن اتباعها وليس في دين استبعاد ولا استنكار وإن مصالح العباد قد تتفق وقد تختلف فيجوز أن يكون الشيء مصلحة في زمان النبي الأول دون الثاني ويجوز عكسه ويجوز أن يكون مصلحة في زمان النبي الأول والثاني فيجوز أن تختلف الشرائع وتتفق. ولا يقال: إذا جاء الثاني بمثل ما جاء به الأول لم يكن لبعثته وإظهار المعجزة على يده فائدة; لأن شريعته معلومة من غيره; لأنا نقول: إنهما وإن اتفقا في بعض الأحكام يجوز أن يختلفا في بعضها ويجوز أن يكون الأول مبعوثا إلى قوم والثاني إلى غيرهم ويجوز أن تكون شريعة الأول قد اندرست فلا يعلم إلا من جهة الثاني ويجوز أن يكون قد حدث في الأولى بدع فيزيلها الثانية فعلم أن الأمرين جائزان إلا أن العلماء اختلفوا في وقوع التعبد بها في موضعين: أحدهما أنه عليه السلام هل كان متعبدا بشرع أحد من الأنبياء قبل البعث فأبى بعضهم ذلك كأبي الحسين البصري وجماعة من المتكلمين وأثبته بعضهم مختلفين فيه أيضا فقيل كان متعبدا بشرع نوح وقيل بشرع إبراهيم وقيل بشرع موسى وقيل بشرع عيسى وقيل بما ثبت أنه شرع وتوقف فيه بعضهم كالغزالي وعبد الجبار وغيرهما ومحل بيان هذه المسألة من أصول التوحيد. والثاني أن النبي عليه السلام بعد البعث وأمته هل كانوا متعبدين بشرع من تقدم وهي المسألة التي عقد الباب لبيانها فذهب كثير من أصحابنا وعامة أصحاب الشافعي وطائفة من المتكلمين إلى أنه عليه السلام كان متعبدا بشرائع من قبلنا من الأنبياء عليهم السلام(3/315)
أو قصه رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير إنكار فإنه يلزمنا على أنه شريعة رسولنا عليه السلام احتج الأولون بقوله تبارك وتعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] والهدى اسم يقع عن الإيمان والشرائع ولأنه ثبت حقيقته دينا لله تبارك وتعالى ودين الله تعالى حسن مرضي عنده قال الله تبارك وتعالى:
ـــــــ
وأن كل شريعة ثبتت لنبي فهي باقية في حق من بعده إلى قيام الساعة إلا أن يقوم الدليل على الانتساخ فعلى هذا يلزمنا شريعة من قبلنا على أنها شريعة ذلك النبي إلا أن يثبت نسخها وذهب أكثر المتكلمين وطائفة من أصحابنا وأصحاب الشافعي إلى أنه عليه السلام لم يكن متعبدا بشرائع من قبلنا وأن شريعة كل نبي ينتهي بوفاته على ما ذكر صاحب الميزان أو يبعث نبي آخر على ما ذكر شمس الأئمة ويتجدد للثاني شريعة أخرى إلا ما لا يحتمل التوقيت والانتساخ فعلى هذا لا يجوز العمل بها إلا بما قام الدليل على بقائه ببيان الرسول المبعوث بعده.
وقال بعضهم يلزمنا العمل بما نقل من شرائع من قبلنا فيما لم يثبت انتساخه على أن ذلك شريعة لنبينا ولم يفصلوا بين ما يصير معلوما منها بنقل أهل الكتاب أو برواية المسلمين عما في أيديهم من الكتاب وبين ما لم يثبت من ذلك ببيان في القرآن أو السنة. وذهب أكثر مشايخنا منهم الشيخ أبو منصور والقاضي الإمام أبو زيد والشيخان وعامة المتأخرين رحمهم الله إلى أن ما ثبت بكتاب الله تعالى أنه كان من شريعة من قبلنا أو ببيان من رسول الله صلى الله عليه وسلم يلزمنا العمل به على أنه شريعة نبينا ما لم يظهر ناسخه, فأما ما علم بنقل أهل الكتاب أو بفهم المسلمين من كتبهم, فإنه لا يجب اتباعه لقيام دليل موجب للعلم على أنهم حرفوا الكتب فلا يعتبر نقلهم في ذلك ولا فهم المسلمين ذلك مما في أيديهم من الكتب لتوهم أن المنقول أو المفهوم من جملة ما حرفوا وبدلوا وكذا لا يعتبر قول من أسلم منهم فيه; لأنه إنما عرف ذلك بظاهر الكتاب أو بقول جماعتهم ولا حجة في ذلك لما قلنا احتج الأول أي الفريق الأول أو العامل الأول بالنصوص وهي قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} يعني الأنبياء الذين ذكروا {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} أي فاختص هديهم بالاقتداء ولا تقتد إلا بهم والهاء للسكت يوقف عليها في الوقف وتسقط في الوصل وقرأ ابن عامر بكسر الهاء في الوصل جاعلا الهاء كناية عن المصدر أي اقتد الاقتداء كما في الدعاء المأثور واجعله الوارث منا, أمر النبي عليه السلام بالاقتداء بهدي الأنبياء والهدي اسم للإيمان والشرائع جميعا; لأن الاهتداء يقع بالكل فيجب عليه اتباع شرعهم والدليل على أن الهدي شامل الإيمان والشرائع أن الله تعالى وصف المتقين بالإيمان وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة في قوله عز ذكره {فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ(3/316)
{لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285] وقال: {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [المائدة: 48] فصار الأصل هو الموافقة واحتج أهل المقالة الثانية بقول الله تبارك وتعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة: 48]; لأن الأصل في الشرائع الماضية الخصوص في المكان
ـــــــ
بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} ثم قال: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} .[ البقرة:2 - 5] وقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [النحل: 123] والأمر للوجوب, وقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} [المائدة: 44] والنبي عليه السلام من جملتهم فوجب عليه الحكم بها وقوله جل جلاله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} [الشوري: 13] والدين اسم لما يدان الله من الإيمان والشرائع وبالمعقول وهو أن الرسول الذي كانت الشريعة منسوبة إليه لم يخرج من أن يكون رسولا ببعث رسول آخر بعده فكذا شريعته لا يخرج من أن يكون معمولا بها ببعث رسول آخر ما لم يقم دليل النسخ فيها.
يوضحه أن ما يثبت شريعة لرسول فقد ثبتت حقيته وكونه مرضيا عند الله وبعث الرسول لبيان ما هو مرضي عند الله عز وجل فما علم كونه مرضيا ببعث رسول لا يخرج عن أن يكون مرضيا ببعث رسول آخر. وإذا بقي مرضيا كان معمولا به كما كان قبل بعث الرسول الثاني وكان بعث الثاني مؤيدا لها وإليه وقعت الإشارة في قوله تعالى إخبارا: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِه} ; لأن كلهم يدعون الخلق إلى دين الله عز وجل وقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} أي القرآن {بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} أي لما قبله من جنس الكتب السماوية {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [المائدة: 48] أي أمينا وشاهدا على الكتب التي خلت قبله فتبين بهذا أن الأصل في شرائع الرسل عليهم السلام الموافقة إلا إذا ظهر تغيير حكم بدليل النسخ. وذكر في الميزان ما ينسب من الأنبياء عليهم السلام من الشريعة فهو شريعة الله تعالى لا شريعة من قبلنا من الأنبياء فهو الشارع للشرائع والأحكام قال الله {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} [الشوري: 13] أضاف الشرع إلى نفسه, وإذا كان كذلك يجب على كل نبي الدعاء إلى شريعة الله تعالى وتبليغها إلى عباده إلا إذا ثبت الانتساخ فيعلم به أن المصلحة قد تبدلت بتبدل الزمان فينتهي الأول إلى الثاني فأما مع بقائها شريعة لله تعالى ومع قيام المصلحة والحكمة في البقاء فلا يجوز القول بانتهائها بوفاة الرسول المبعوث الآتي بها فيؤدي إلى التناقض تعالى الله عن ذلك.
واحتج أهل المقالة الثانية وهم الذين قالوا باختصاص كل شريعة بنبيها وانتهائها بوفاته أو ببعث رسول آخر بالنص وهو قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ} أي جعلنا لكل(3/317)
ألا ترى أنها كانت تحتمل الخصوص في المكان كرسولين بعثا في زمان واحد في مكانين إلا أن يكون أحدهما تبعا للآخر كما قال في قصة إبراهيم عليه السلام {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت: 26] وكما كان هارون لموسى عليهما
ـــــــ
أمة منكم أيها الناس {شِرْعَةً} ببعث الأنبياء أي شريعة وهي الطريق الظاهر {وَمِنْهَاجاً} [المائدة: 48] طريقا واضحا يجرون عليه وهذا يقتضي أن يكون كل نبي داعيا إلى شريعته وأن يكون كل أمة مختصة بشريعة جاء بها نبيهم وبالمعقول وهو أن الأصل في الشريعة الماضية الخصوص; لأن بعث الرسول ليس إلا لبيان ما بالناس حاجة إلى بيانه, وإذا لم يجعل شريعة رسول منتهية ببعث رسول آخر ولم يأت الثاني بشرع مستأنف لم يكن بالناس حاجة إلى البيان عند بعث الثاني لكونه مبينا عندهم بالطريق الموجب للعلم فلم يكن في بعثه فائدة والله تعالى لا يرسل رسولا بغير فائدة فثبت أن الاختصاص هو الأصل.
"ألا ترى أنها" أي شريعة من قبلنا كانت تحتمل الخصوص في المكان أي قد كانت مختصة بمكان حين وجب العمل بها على أهل ذلك المكان دون مكان آخر كرسولين بعثا في زمان واحد في مكانين مثل شعيب وموسى عليهما السلام, فإن شريعة شعيب كانت مختصة بأهل مدين وأصحاب الأيكة وشريعة موسى عليهما السلام كانت مختصة ببني إسرائيل ومن بعث إليهم إلا أن يكون متصل بقوله يحتمل الخصوص أي إلا أن يكون أحد الرسولين تبعا للآخر فحينئذ لا يثبت الخصوص. وكان التبع داعيا إلى شرائع الأصل كإبراهيم ولوط, فإن لوطا وإن كان من المرسلين كان تبعا لإبراهيم عليهما السلام وداعيا إلى شريعته كما أشار إليه عز وجل في قوله: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} وكذلك هارون كان تابعا لموسى عليهما السلام في الشريعة وردءا له كما أخبر الله عز وجل في قوله إخبارا عن موسى عليه السلام {فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي} [القصص: 34] {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي} [طه: 29 - 30] فكذلك في الزمان أيضا متصل بقوله يحتمل الخصوص في المكان يعني كما احتملت الخصوص في المكان يحتمل الخصوص في الزمان قال شمس الأئمة: إن الأنبياء قبل نبينا عليهم السلام أكثرهم إنما بعثوا إلى قوم مخصوصين ورسولنا عليه السلام هو المبعوث إلى الناس كافة على ما قال: "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي بعثت إلى الأسود والأحمر وقد كان النبي قبلي يبعث إلى قومه1" الحديث, فإذا ثبت أنه قد كان في المرسلين من يكون وجوب العمل بشريعته على أهل مكان دون أهل مكان آخر, وإن كان ذلك مرضيا عند الله تعالى علمنا أنه يجوز أن
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في المساجد, حديث رقم 521.(3/318)
السلام فكذلك في الزمان أيضا فصار الاختصاص في شرائعهم أصلا إلا بدليل. واحتج أهل المقالة الثالثة بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أصلا في الشرائع وكانت شريعته
ـــــــ
يكون وجوب العمل بها على أهل زمان دون أهل زمان آخر وأن ذلك الشرع يكون منتهيا ببعث نبي آخر فقد كان يجوز اجتماع النبيين في ذلك الوقت في مكانين على أن يدعو كل واحد منهما إلى شريعته فعرفنا أنه يجوز مثل ذلك في زمانين وأن المبعوث آخرا يدعو إلى العمل بشريعته ويأمر الناس باتباعه ولا يدعو إلى العمل بشريعة من قبله.
واحتج أهل المقالة الثالثة وهم الذين قالوا بأنها يلزمنا على أنها شريعتنا مطلقا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أصلا في الشرائع بدليل ما ذكر شمس الأئمة رحمه الله أن أخذ الميثاق على النبيين بالتصديق في قوله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ} [آل عمران: 81] من أبين الدلائل على أنهم بمنزلة أمة من بعث آخرا في وجوب اتباعه ولهذا ظهر شرف نبينا صلى الله عليه وسلم, فإنه لا نبي بعده فكان الكل ممن تقدم وممن تأخر في حكم المتبع له وهو بمنزلة القلب يطيعه الرأس ويتبعه الرجل. وإذا كان كذلك لا يستقيم أن يكون متعبدا بشريعة من سلف; لأن فيه جعل الرسول كواحد من أمة من تقدمه وهذا غض من درجته وحط من رتبته واعتقاد أنه تبع لكل نبي تقدمه ولا يستجيز ذلك أحد من أهل الملة بل فيه التنفير عنه; لأنه لا يكون تابعا بعد أن كان متبوعا ومدعوا بعد أن كان داعيا.
فإن قيل: إن الأنبياء عليهم السلام كانوا قبله فكيف يكون هو أصلا في شرائع الذين مضوا قبله قلنا: لا يمنع تقدمهم في الزمان عن ذلك, فإن السنة الأربع قبل الظهر وهي تابعة له ولا يمنع عن كونه أصلا فالأنبياء مع تقدمهم مؤسسون بقاعدته, فإن المقصود من فطرة الخلق إدراكهم سعادة القرب من الحضرة الإلهية ولا يمكن ذلك إلا بتعريف الأنبياء عليهم السلام فكانت النبوة مقصودة بالإيجاب والمقصود كمالها لا أولها, وإنما يكمل بحسب سنة الله جل جلاله بالتدريج فتمهد أصل النبوة بآدم ولم يزل تنمو وتكمل حتى بلغت الكمال بمحمد صلى الله عليه وسلم فكان تمهيد أوائلها وسيلة إلى الكمال كتأسيس البناء, وتمهيد أصول الحيطان وسيلة إلى كمال صورة الدار التي هي غرض المهندسين ولهذا كان خاتم النبيين, فإن الزيادة على الكمال نقصان فثبت أنه هو الأصل في النبوة والشريعة, وغيره بمنزلة التابع له وكانت شريعته عامة لكافة الناس على ما قال به {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ: 28] وغرض الشيخ من هذا أنه مبعوث إلى جميع الناس حتى وجب على المتقدمين والمتأخرين اتباع شريعته فكان الكل تابعا له. والدليل عليه أن عيسى عليه السلام حين ينزل إلى الدنيا يدعو الناس إلى شريعة محمد عليه السلام لا إلى شريعة نفسه(3/319)
عامة لكافة الناس وكان وارثا لما مضى من محاسن الشريعة ومكارم الأخلاق قال الله تبارك وتعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32]، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في يد عمر رضي الله عنه صحيفة فقال " ما هي" فقال التوراة فقال "أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى؟ والله لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي" فصار الأصل الموافقة والألفة لكن بالشرط الذي قلنا ومعروف لا ينكر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم العمل بما وجده صحيحا فيما
ـــــــ
كما نطقت به الأخبار المشهورة. ألا ترى أنه يقاتل الدجال والقتال لم يكن مشروعا في شريعته فثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان أصلا في الشرائع ثم الشيخ بقوله وكان وارثا لما مضى من محاسن الشريعة مستدلا بإشارة قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} أشار إلى أن شرائع من قبلنا إنما تلزمنا على أنها شريعة لنبينا لا أنها بقيت شرائع لهم, فإن الميراث ينتقل من المورث إلى الوارث على أنه يكون ملكا للوارث ومضافا إليه لا أنه يكون ملكا للمورث فكذلك هذا ومحاسن الشريعة مثل إيجاب شكر المنعم وإيجاب العبادات والأمر بالعدل والإنصاف ونحوها ومكارم الأخلاق مثل العفو عند القدرة والإحسان إلى المسيء وكظم الغيظ على ما تضمن بيانهما كتاب محاسن الشريعة وكتاب مكارم الأخلاق. وقيل: مكارم الأخلاق في ثلاثة: إعطاء من يحرمه ووصل من يقطعه والعفو عمن اعتدى عليه وإليه أشار حكيم العجم مودود بن آدم النسائي إنك سميت نداد ذر بخشش, وإنك بايت برند سر بخشش, وإنك زهرت دهد بدوده فتد, وإنك أزتوبر دند وبيوند تاشوي درجهان وصل وفراق دفترى أز مكارم أخلاق.
ثم استدل على أن نبينا كان أصلا بالحديث المذكور في الكتاب, فإن قوله: "والله لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي1" يدل على أن الرسل المتقدمة صاروا ببعث نبينا بمنزلة أمته في لزوم اتباع شريعته لو كانوا أحياء وأن شرائعهم قد انتهت بشريعته وصارت ميراثا له والتهوك التحير والتحوك أيضا مثل التهور وهو الوقوع في الشيء لقلة مبالاة وروية فصار الأصل الموافقة والألفة متصل بقوله وكان وارثا يعني لما ثبت أنه وارث لما مضى من محاسن الشريعة صار الأصل في الشرائع الموافقة لما قلنا إن الميراث ينتقل من المورث إلى الوارث من غير تغيير لكن بالشرط الذي قلنا وهو أن يصير شريعة لنبينا عليه السلام تحقيقا لمعنى الإرث ومعروف لا ينكر من فعل النبي عليه السلام أي من شأنه العمل بما وجده صحيحا فيما سلف من الكتب غير محرف كرجم اليهوديين اللذين زنيا
ـــــــ
1 أخرجه الإمام احمد في المسند 3/387.(3/320)
سلف من الكتب غير محرف إلا أن ينزل وحي بخلافه فثبت أن هذا هو الأصل إلا أن التحريف من أهل الكتاب كان ظاهرا وكذلك الحسد والعداوة والتلبيس كثير منهم ووقعت الشبهة في نقلهم فشرطنا في هذا أن يقص الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم من غير إنكار احتياطا في باب الدين وهو المختار عندنا من الأقوال بهذا الشرط الذي ذكرنا قال الله تبارك وتعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} وقال "قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا" فعلى هذا الأصل يجري هذا, وقد احتج محمد رحمه الله في تصحيح المهايأة والقسمة بقول الله تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} .[القمر:
ـــــــ
بحكم التوراة ونصه بقوله:"أنا أحق بإحياء سنة أماتوها1" على وجوب الرجم على أهل الكتاب وعلى أن ذلك صار شريعة له إلا أنه زيد في شرائط الإحصان لإيجاب الرجم الإسلام ولمثل هذه الزيادة حكم النسخ عندنا فببيان هذا أي ما قلنا من الموافقة والألفة الشرط المذكور هو الأصل. وقوله إلا أن التحريف أي التغيير استثناء من القول الثالث أو من قوله هذا هو الأصل بمعنى لكن وبيان للمختار من الأقوال بهذا الشرط الذي ذكرنا وهو أن يقص الله تعالى أو رسوله من غير إنكار قوله قال الله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} أي اتبعوها واحفظوها وقال تعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} يتصلان بقوله فصار الأصل الموافقة والألفة فثبت بهذين النصين أن هذه الشريعة ملة إبراهيم وقد امتنع ثبوتها ملة له للحال لما ذكرنا في القول الثاني فثبت أنها ملته على معنى أنها كانت له فبقيت حقا كذلك وصارت لرسول الله محمد عليه السلام كالمال الموروث مضافا إلى الوارث للحال وهو عين ما كان للميت لا ملك آخر لكن الإضافة إلى المالك ينتهي بالموت إلى الوارث فكذلك الشريعة في حق الأنبياء عليهم السلام كذا في التقويم ثم بين الشيخ بقوله وقد احتج محمد أن ما اختاره هو مذهب أصحابنا, فإنه احتج في تصحيح المهايأة والقسمة بقوله تعالى في قصة صالح {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} وقوله: {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} ومعلوم أنه ما احتج به إلا بعد اعتقاده بقاء ذلك الحكم شريعة لنبينا عليه السلام, فإنه يبين أحكام شريعة محمد صلى الله عليه وسلم لا شرائع من قبله ثم قيل: إن المهايأة في المنفعة والقسمة في العين, وإن قوله ونبئهم دليل جواز القسمة وقوله عز وجل إخبارا {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} دليل على جواز
ـــــــ
1 أخرجه مسلم مطولا من حديث البراء حديث رقم 1700، وأبو داود في الحدود حديث رقم 4447، وابن ماجة حديث رقم 2558، والإمام أحمد في المسند 4/286.(3/321)
28] وقال {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء: 155] فاحتج بهذا النص لإثبات الحكم به في غير المنصوص عليه بما هو نظيره فثبت أن المذهب هو القول الذي اخترناه والله أعلم وما يقع به ختم باب السنة.
ـــــــ
المهايأة والصحيح أنهما بمنزلة المترادفين هاهنا, فإن المراد قسمة الماء بطريق المهايأة, فإن شمس الأئمة رحمه الله ذكر أن محمدا استدل في كتاب الشرب على جواز القسمة أي قسمة الشرب بطريق المهايأة بالآيتين المذكورتين والمهايأة مفاعلة من الهيئة وهي الحالة الظاهرة للمتهيئ للشيء كأن المتهايئين لما تواضعا على أمر رضي كل واحد بحالة واحدة واختارها إليه أشير في المغرب. وفي الطلبة المهايأة مقاسمة المنافع وهي أن يتراضى الشريكان ينتفع هذا بهذا النصف المفرز وذاك بذلك النصف وهذا بكله في كذا من الزمان وذاك بكله في كذا من الزمان بقدر الأول بما هو نظيره أي فيما هو نظير المنصوص عليه كالطاحونة والبئر والبيت الصغير قوله: "وما يقع به باب السنة".(3/322)
"باب متابعة أصحاب"
"النبي عليه السلام والاقتداء بهم"
قال أبو سعيد البردعي تقليد الصحابي واجب يترك به القياس قال وعلى هذا أدركنا مشايخنا وقال الكرخي: لا يجب تقليده إلا فيما لا يدرك
ـــــــ
"باب متابعة أصحاب النبي عليه السلام والاقتداء بهم" : ; لأن في قول الصحابي لما كانت شبهة السماع ناسب أن يلحق بآخر أقسام السنة إذ الشبه بعد الحقيقة في الرتبة لا خلاف أن مذهب الصحابي إماما كان أو حاكما أو مفتيا ليس بحجة على صحابي آخر إنما الخلاف في كونه حجة على التابعين ومن بعدهم من المجتهدين فقال أبو سعيد البردعي وأبو بكر الرازي في بعض الروايات وجماعة من أصحابنا: إنه حجة وتقليده واجب يترك به أي بقوله أو بمذهبه القياس وهو مختار الشيخين وأبي اليسر وهو مذهب مالك وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين والشافعي في قوله القديم, فإنه ذكر أصحابه في رسالته القديمة وأثنى عليهم بما هم أهله ثم قال: وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل ليستدرك به علم أو ليستنبط وآراؤهم أولى من آرائنا عندنا; لأنفسنا ونص في موضع آخر أن الصحابة إذا اختلفت فالأئمة الأربعة أولى, فإن اختلفت الأئمة الأربعة فقول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أولى وذكر في موضع آخر أنه يجب الترجيح بقول الأعلم والأكبر قياسا; لأن زيادة علمه يقوي اجتهاده ويبعده عن التقصير وقال أبو الحسن الكرخي وجماعة من أصحابنا لا يجب تقليده إلا فيما لا يدرك بالقياس وإليه ميل القاضي الإمام أبي زيد على ما يشير تقريره في التقويم وقال الشافعي رحمه الله أي في قوله الجديد لا يقلد أحد منهم أي لا يكون قوله حجة, وإن كان فيما لا يدرك بالقياس وإليه ذهبت الأشاعرة والمعتزلة وهذا اللفظ كما يدل على عدم وجوب التقليد يشير إلى عدم جوازه أيضا وهو المختار عندهم, وقد جوز بعضهم التقليد, وإن كان لا يوجبه.
وذكر في القواطع أن مذهب الصحابي إن كان موافقا للقياس فهو حجة إلا أن(3/323)
بالقياس وقال الشافعي لا يقلد أحد منهم, ومنهم من فصل في التقليد فقلد الخلفاء رضي الله عنهم وقد اختلف عمل أصحابنا في هذا الباب فقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله إن إعلام قدر رأس المال ليس بشرط وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما خلافه وقال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله في الحامل: إنها تطلق ثلاثا للسنة وقد روي عن جابر وابن مسعود خلافه
ـــــــ
الأصحاب اختلفوا فقال بعضهم الحجة في القياس وقال بعضهم الحجة في قوله. وأما إذا كان بخلاف القياس أو كان مع الصحابي قياس خفي والجلي يخالف قوله فقد اختلف قول الشافعي فيه قال في القديم: قول الصحابي أولى من القياس وقال في الجديد: القياس أولى ومنهم أي من العلماء من فصل في التقليد أي في تقليد الصحابة فقلد أي أوجب تقليد الخلفاء الراشدين وأمثالهم أي في الفضيلة والتخصيص بتشريف مثل ابن مسعود وابن عباس ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم ومن قلد الخلفاء الأربعة ومنهم من قلد الشيخين لا غير وعن الشيخ أبي منصور عن أصحابنا أن تقليد الصحابي واجب إذا كان من أهل الفتوى ولم يوجد من أقرانه خلاف ذلك أما إذا خالفه غيره فلا يجب تقليد البعض ولكن وجب الترجيح بالدليل.
قوله "وقد اختلف عمل أصحابنا" يعني أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدا رحمهم الله في هذا الباب أي في تقليد الصحابة لم يستقر مذهبهم في هذه المسألة ولم يثبت عنهم رواية ظاهرة فيها فقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله في إعلام قدر رأس مال السلم أي تسمية مقداره ليس بشرط أي فيما إذا كان رأس المال مشارا; لأن الإشارة أبلغ في التعريف من العبارة والتسمية. والإعلام بالعبارة يصح بالإجماع فكذا بالإشارة فعملا بالقياس وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما خلافه, فإن أبا حنيفة رحمه الله شرط الإعلام فيما ذكرنا لجواز السلم وقال: بلغنا ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما وقال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله في الحامل أنها تطلق ثلاثا للسنة قياسا على الآيسة والصغيرة; لأن الحيض في حقها غير مرجو إلى زمان وضع الحمل كما هو غير مرجو في حق الصغيرة إلى زمان البلوغ فيجوز أن يقام الشهر في حقها مقام الطهر أو الطهر والحيض في كونه زمان تجدد آخر عنه بخلاف ممتدة الطهر; لأن الحيض في حقها مرجو ساعة فساعة فلا يجوز إقامة الشهر في حقها مقام تجدد آخر عنه فعملا بالقياس, وقال محمد: رحمه الله لا تطلق للسنة إلا واحدة بلغنا ذلك عن جابر وابن مسعود والحسن البصري رضي الله عنهم.
وقال أبو يوسف ومحمد في الأجير المشترك وهو الذي لا يستحق الأجر إلا بالعمل كالصباغ والقصار إنه ضامن لما ضاع في يده إذا كان الهلاك بسبب يمكن الاحتراز عنه(3/324)
وقال أبو يوسف ومحمد في الأجير المشترك: إنه ضامن ورويا ذلك عن علي وخالف ذلك أبو حنيفة بالرأي. وقد اتفق عمل أصحابنا بالتقليد فيما لا يعقل بالقياس فقد قالوا في أقل الحيض إنه ثلاثة أيام, وأكثره عشرة أيام ورووا ذلك عن أنس وعثمان بن أبي العاص الثقفي وأفسدوا شراء ما باع بأقل مما باع عملا بقول عائشة رضي الله
ـــــــ
كالسرقة ونحوها, فأما إذا لم يكن الاحتراز عنه كالغرق الغالب والحرق الغالب والغارة العامة فلا ضمان فيه بالاتفاق ورويا ذلك أي وجوب الضمان عن علي رضي الله عنه, فإنه كان يضمن الخياط والقصار صيانة لأموال الناس وخالف ذلك أي المروي عن علي أبو حنيفة رحمه الله بالرأي فقال: إنه أمين فلا يضمن شيئا كالأجير الواحد والمودع وذلك; لأن الضمان نوعان: ضمان جبر وضمان شرط لا ثالث لهما, وضمان الجبر يجب بالتعدي والتفويت, وضمان الشرط يجب بالعقد ولم يوجد التعدي والتفويت; لأن قطع يد المالك حصل بإذنه والحفظ لا يكون خيانة ولم يوجد عقد موجب للضمان أيضا فبقيت العين أمانة في يده فلا يضمن بالهلاك كالوديعة.
"قوله وقد اتفق عمل أصحابنا" يعني المتقدمين والمتأخرين بالتقليد فيما لا يعقل بالقياس أي بالرأي مثل المقادير الشرعية التي لا تعرف بالرأي, فإنهم قالوا أقل الحيض ثلاثة وأكثره عشرة ورووا ذلك عن أنس رضي الله عنه وقد رووا أكثر النفاس بأربعين يوما بقول عثمان بن أبي العاص الثقفي كذا ذكر شمس الأئمة في أصول الفقه إلا أن النفاس لما كان مبنيا على أكثر الحيض لكونه أربعة أمثال أكثر الحيض يلزم أن يكون أكثر الحيض عشرة أيام عند هذا القائل فلذلك قال الشيخ ورووا ذلك أي تعدي الحيض عن أنس وعثمان مع أنه قد أسنده إلى عثمان صريحا في المبسوط فقال: روى أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة أيام" وهو مروي عن عمر وعلي وابن مسعود وعثمان بن أبي العاص الثقفي وأنس بن مالك رضي الله عنهم وأفسدوا شراء ما باع بأقل مما باع يعني قبل أخذ الثمن مع أن القياس يقتضي جوازه كما قال الشافعي; لأن الملك في المبيع قد تم بالقبض للمشتري فيجوز بيعه من البائع بما شاء كالبيع من غيره وكالبيع بمثل الثمن منه عملا بقول عائشة رضي الله عنها وهو ما روت أم يونس أن امرأة جاءت إلى عائشة رضي الله عنها وقالت: إني بعت من زيد بن أرقم خادما بثمان مائة درهم إلى العطاء فاحتاج إلى ثمنه فاشتريته منه قبل محل الأجل بستمائة, فقالت عائشة رضي الله عنها بئسما شريت واشتريت أبلغي زيد بن أرقم أن الله تعالى أبطل جهاده وحجه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب فأتاها زيد بن أرقم معتذرا فتلت قوله(3/325)
عنها في قصة زيد بن أرقم رضي الله عنه أما فيما لا يدرك بالقياس فلا بد من العمل به حملا لذلك على التوقيف من رسول الله عليه الصلاة والسلام لا وجه
ـــــــ
تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 257] فتركنا القياس به; لأن القياس لما كان مخالفا لقولها تعين جهة السماع فيه والدليل عليه أنها جعلت جزاءه على مباشرة هذا العقد بطلان الحج والجهاد وأجزئة الجرائم لا تعرف بالرأي فعلم أن ذلك كالمسموع من رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتذار زيد إليها دليل على ذلك أيضا, فإن بعضهم كان يخالف بعضا في المجتهدات وما كان يعتذر إلى صاحبه.
ولما فرغ من بيان الأقوال شرع في إقامة الدلائل عليها وبدأ بما اتفق أصحابنا على وجوب التقليد فيه فقال: أما فيما لا يدرك بالقياس نحو المقادير وغيرها فلا بد من العمل به أي بقول الصحابي فيه حملا لقوله على التوقيف أي السماع والتنصيص من رسول الله صلى الله عليه وسلم; لأنه لا يظن بهم المجازفة في القول ولا يجوز أن يحمل قولهم على الكذب, فإن طريق الدين من النصوص إنما انتقل إلينا بروايتهم وفي حمل قولهم على الكذب والباطل قول بفسقهم وذلك يبطل روايتهم فلم يبق إلا الرأي والسماع ممن ينزل عليه الوحي ولا مدخل للرأي في هذا الباب فتعين السماع وصار فتواه مطلقة كروايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا شك أنه لو ذكر سماعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ذلك حجة لإثبات الحكم به فكذا إذا أفتى به ولا طريق لفتواه إلا السماع, فإن قيل: يجوز أنه إنما أفتى لخبر ظنه دليلا ولا يكون كذلك ومع جواز أن لا يكون دليلا لا يلزم غيره كالاجتهاد لما احتمل أن لا يكون دليلا لا يكون حجة على مجتهد آخر ألا ترى أن قوله ليس بحجة على صحابي مثله ولو كان كالمسموع لكان حجة عليه. وألا ترى أن هذا المعنى يوجد في حق التابعي وسائر المجتهدين إذ لا يظن المجازفة في القول بالمجتهد في كل عصر ولا يجوز حمل كلامه على الكذب ثم لا يكون فتواه حجة فيما لا مدخل للقياس فيه كما لا يكون حجة فيما يعرف بالقياس. قلنا هذا محمل فاسد; لأن تقدمهم في العلم والورع واحتياطهم في أمور الدين ودقة نظرهم فيها يرد ذلك كيف وإنه يؤدي إلى سقوط روايتهم وترك الاعتماد على قولهم; لأن ظن ما ليس بدليل دليلا والاعتماد عليه للفتوى من باب المساهلة وقلة المبالاة وترك الاحتياط, ورواية المتساهل لا تقبل وقد بينا أن مثل هذا الظن بهم فاسد لا يؤدي إليه كذلك ولا نسلم أن قوله ليس بحجة على صحابي آخر; لأن ذلك فيما كان للقياس مدخل فيه لاحتمال السماع والرأي فأما فيما لا مدخل للقياس فيه فلا يتعين إلا جهة السماع فيه فيكون حجة على الكل فأما قول التابعي فليس بحجة; لأن احتمال اتصال قوله بالسماع يكون بواسطة وتلك الواسطة لا يمكن إثباتها بغير دليل وبدونها لا يثبت السماع بوجه فأما الصحابي فقد كان(3/326)
له غير هذا إلا التكذيب, وذلك باطل فوجب العمل به لا محالة فأما فيما يعقل بالقياس فوجه قول الكرخي أن القول بالرأي من أصحابه صلى الله عليه وسلم مشهور
ـــــــ
مصاحبا لمن نزل عليه الوحي فكان الأصل في حقه السماع فلا يجعل قول منقطعا عن السماع إلا إذا ظهر دليل غيره وهو الرأي فلم يوجد فلا يثبت الانقطاع بالاحتمال إليه أشار القاضي الإمام في التقويم والدليل على الفرق أن الحديث في حق الصحابي قطعي بمنزلة المتواتر في حقنا لسماعه من الرسول عليه السلام وفي حق التابعي ومن دونه ظني لتخلل الواسطة فعرفنا أن لتخللها أثرا في الضعف على أنا لا نسلم أن الفتوى فيما لا مدخل للرأي فيه قد وجد ممن بعد الصحابة من غير ظهور نص كما نقل عن الصحابة بل إنما أفتوا بنص ظهر لهم أي برأي استنبطوه من نص ولو ثبت عنهم قول فيما لا مدخل للقياس فيه لقلنا: إنه مبني على نقل ولجعلناه حجة أيضا ولكنه لم يثبت., فإن قيل قد قلتم في المقادير بالرأي من غير أثر فيه, فإن أبا حنيفة رحمه الله قدر مدة البلوغ بالسن بثمان عشرة سنة أو بسبع عشرة سنة بالرأي وقدر مدة وجوب منع المال من السفيه الذي لم يؤنس منه الرشد بخمس وعشرين سنة بالرأي وقدر أبو يوسف ومحمد رحمهما الله مدة تمكن الرجل من نفي الولد بأربعين يوما بالرأي وقدر أصحابنا جميعا ما يطهر به البئر عند وقوع الفأرة فيها بعشرين دلوا فبهذا تبين فساد قول من يقول إنه لا مدخل للرأي في معرفة المقادير, وإنه يتعين جهة السماع في ذلك إذا قاله صحابي قلنا: إنما أردنا بما قلنا المقادير التي تثبت لحق الله تعالى ابتداء دون مقدار يكون فيما يتردد بين القليل والكثير والصغير والكبير, فإن المقادير في الحدود والعبادات نحو أعداد الركعات في الصلوات مما لا يشكل على أحد أنه لا مدخل للرأي في معرفة ذلك فكذلك فيما يكون بتلك الصفة مما أشرنا إليه فأما ما استدللتم به فهو من باب الفرق بين القليل والكثير فيما يحتاج إليه, فإنا نعلم أن ابن عشر سنين لا يكون بالغا وأن ابن عشرين سنة يكون بالغا ثم التردد فيما بين ذلك فيكون هذا استعمال الرأي في إزالة التردد وهو نظير معرفة القيمة في المغصوب والمستهلك ومعرفة مهر المثل والتقدير في النفقة, فإن للرأي مدخلا في معرفة ذلك من الوجه الذي قلنا وكذلك حكم دفع المال إلى السفيه, فإن الله تعالى قال: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]، وقال: {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6] فوقعت الحاجة إلى معرفة الكبر على وجه يتيقن معه بنوع من الرشد وذلك مما يعرف بالرأي فقدر أبو حنيفة رحمه الله ذلك بخمس وعشرين سنة; لأنه يتوهم أن يصير جدا في هذه المدة, ومن صار فرعه أصلا فقد تناهى في الأصلية نتيقن له بصفة الكبر ونعلم إيناس رشد ما منه باعتبار أنه بلغ أشده, فإنه قيل(3/327)
واحتمال الخطأ في اجتهادهم كائن لا محالة فقد كان يخالف بعضهم بعضا وكانوا لا يدعون الناس إلى أقوالهم وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول إن أخطأت فمن الشيطان, وإذا كان كذلك لم يجز تقليد مثله بل وجب الاقتداء
ـــــــ
في تفسير الأشد المذكور في سورة يوسف إنه هذه المدة وكذلك ما قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله, فإنه يتمكن من النفي بعد الولادة لساعة أو ساعتين لا محالة ولا يتمكن من النفي بعد سنة أو أكثر, فإنما وقع التردد فيما بين القليل والكثير من المدة فاعتبر الرأي فيه بالبناء على أكثر مدة النفاس فأما حكم طهارة البئر بالنزح, فإنما عرفنا بآثار الصحابة بأن فتوى علي وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما في ذلك معروفة مع أن ذلك من باب الفرق بين القليل من النزح والكثير فقد بينا أن للرأي مدخلا في معرفته كذا في أصول الفقه لشمس الأئمة رحمه الله.
قوله: "فوجه قول الكرخي كذا" تمسك الشيخ أبو الحسن الكرخي ومن وافقه في القول بعدم جواز تقليد الصحابة بأنه قد ظهر فيهم الفتوى بالرأي ظهورا لا وجه لإنكاره, واحتمال الخطأ في اجتهادهم ثابت لكونهم غير معصومين عن الخطأ كسائر المجتهدين فكان قولهم مترددا بين الصواب والخطأ كقول غيرهم. والدليل على أنه محتمل للخطأ أنه كان يخالف بعضهم بعضا ويرجع الواحد منهم عن فتواه إلى فتوى غيره وكانوا لا يدعون الناس إلى أقوالهم ولو لم يكن محتملا للخطأ لما جاز لهم المخالفة بآرائهم ولوجب عليهم دعاء الناس إليه; لأنه حينئذ يكون دليلا قطعيا ومخالفة الدليل القطعي حرام والدعوة إليه واجبة كالدعوة إلى العمل بالكتاب والسنة والإجماع وقال ابن مسعود رضي الله عنه في مسألة المفوضة, فإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان فثبت أن احتمال الخطأ فيه ثابت, وإذا كان كذلك أي وإذا كان قول الصحابي محتملا للخطأ لم يجز لمجتهد آخر تقليد مثله أي تقليد مثل الصحابي وترك القياس الذي هو حجة بالكتاب والسنة بقوله كما لا يجوز بقول التابعين ومن بعدهم من المجتهدين ولأن الصحابي لا يخلو من أن يقول عن اجتهاد أو حديث عنده, فإن كان عن اجتهاد فهو راجع إلى أصل من الكتاب أو السنة أو الإجماع, وذلك الأصل موجود في حق التابعين ومن بعدهم فيجب عليهم النظر والتأمل في ذلك الأصل ليتبين لهم أن هذا الحكم فرع ذلك الأصل فيتبعونه لا فرع أصل آخر فيخالفونه. وإن كان عن حديث فهو محتمل للغلط والسهو وأنه سمع بعض الحديث وبدون الباقي يختلف معناه وحكمه فلا يترك الحجة بالاحتمال ولأن قول الصحابي لو كان حجة لكان لكونهم أعلم وأفضل من غيرهم لمشاهدتهم التنزيل وسماعهم التأويل ووقوفهم على أحوال النبي عليه السلام ومراده من كلامه على ما لم يقف عليه غيرهم لو كان كذلك(3/328)
بهم في العمل بالرأي مثل ما عملوا, وذلك معنى قول النبي عليه السلام "أصحابي كالنجوم" الخبر.ومن ادعى الخصوص احتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر وبما روي في هذا الباب من اختصاصهم مما دل على ما قلنا
ـــــــ
لكان قول الأعلم الأفضل صحابيا كان أو غيره حجة على غيره لوجود العلة والأمر بخلافه إذ ليس للمجتهد تقليد من هو أفضل منه.
قوله "بل وجب الاقتداء بهم" جواب عما تمسك القائلون بوجوب تقليدهم بقوله عليه السلام: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم" فقال لا حجة لهم في ذلك; لأن المراد الاقتداء بهم في الجري على طريقتهم من أخذهم الحكم من الكتاب أولا ثم من السنة ثم استعمال الرأي والاجتهاد فيما لا نص فيه لا تقليدهم في أقوالهم ألا ترى أنه عليه السلام شبههم بالنجوم, وإنما يهتدى بالنجوم من حيث الاستدلال به على الطريق مما يدل عليه لا أن نفس النجم يوجب ذلك قال القاضي الإمام هذا النص عم الصحابة وفيهم من لا يجوز تقليده بالإجماع كأعراب فثبت أنه أراد به أهل البصر وأهل البصر عملوا بالرأي بعد الكتاب في السنة فيجب الاقتداء بهم في ذلك.
قوله "ومن ادعى الخصوص" أي ومن قال بتقليد الخلفاء وأمثالهم دون غيرهم استدل بقوله عليه السلام "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي" وبما روي في هذا الباب أي باب الاقتداء والتقليد من اختصاصهم أي اختصاص الخلفاء وأمثالهم بفضائل مما دل على ما قلنا من وجوب تقليدهم. وكلمة " من " في " مما " بيان للاختصاص وفي من اختصاصهم بيان بما روي يعني للتمسك وهو الأحاديث التي رويت في اختصاصهم بالفضائل التي توجب الاقتداء مثل قوله عليه السلام "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ورضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد" "ولكل شيء فارس وفارس القرآن عبد الله بن عباس" "وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل وأفرضكم زيد بن ثابت1 " لا الأحاديث التي توجب نفس الفضيلة من غير أن يكون فيها دلالة على وجوب الاقتداء مثل قوله عليه السلام "أول من يقرع باب الجنة بلال وأبو عبيدة أمين هذه الأمة, وإن الجنة إلى سلمان أشوق من سلمان إلى الجنة ومن أراد أن ينظر إلى زهد عيسى فلينظر إلى زهد أبي ذر" وأمثالها.
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في المناقب حديث رقم 3890، وابن ماجة في المقدمة حديث رقم 154.(3/329)
ووجه قول أبي سعيد أن العمل برأيهم أولى لوجهين: أحدهما احتمال السماع والتوقيف وذلك أصل فيهم مقدم على الرأي وقد
ـــــــ
قوله "ووجه قول أبي سعيد" احتج القائلون بوجوب التقليد بالنص والمعقول أما النص بقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} مدح الصحابة والتابعين لهم بإحسان, وإنما استحق التابعون لهم هذا المدح على اتباعهم بإحسان من حيث الرجوع إلى رأيهم دون الرجوع إلى الكتاب والسنة; لأن في ذلك استحقاق المدح باتباع الكتاب والسنة لا باتباع الصحابة, وذلك إنما يكون في قول وجد منهم ولم يظهر من بعضهم فيه خلاف, فأما الذي فيه اختلاف بينهم فلا يكون موضع استحقاق المدح, فإنه إن كان يستحق المدح باتباع البعض يستحق الذم بترك اتباع البعض فوقع التعارض فكان النص دليلا على وجوب تقليدهم إذا لم يوجد بينهم اختلاف ظاهر كذا في الميزان وذكر في المطلع نقلا عن ابن عباس رضي الله عنهما أن معنى قوله: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة: 100] اتبعوهم على دينهم من أهل الإيمان إلى أن تقوم الساعة وقيل: يقتدون بأعمالهم الحسنة ولا يقتدونهم في غير ذلك وقيل يذكرون المهاجرين والأنصار بالرحمة والدعاء لهم بالجنة ويذكرون محاسنهم. وأما المعقول فمن وجهين: أحدهما أن احتمال السماع والتوقيف في قول الصحابي ثابت بل الظاهر الغالب من حاله أنه يفتي بالخبر, وإنما يفتي بالرأي عند الضرورة ويشاور مع القرناء لاحتمال أن يكون عندهم خبر, فإذا لم يجد اشتغل بالقياس وإليه أشار الشيخ بقوله وذلك أي السماع أصل فيهم مقدم على الرأي يعني أنهم كانوا يصاحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم آناء الليل وأطراف النهار فكان السماع أصلا فيهم فلا يجعل فتواهم منقطعة عن السماع إلا بدليل.
قوله "وكانوا يسكتون عن الإسناد" جواب عما يقال لو كان قوله مبينا على السماع لأسنده إلى النبي وقال سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ التبليغ واجب وليس من عادتهم كتمان ما بلغ إليهم ولما لم يسنده دل على أنه بناه على الاجتهاد فقال: قد ظهر من عادتهم أنهم كانوا يسكتون عن الإسناد عند الفتوى إذا كان عندهم خبر يوافق فتواهم كما كانوا يسندونه إلى النبي عليه السلام وليس هذا من باب الكتمان إذ الواجب بيان الحكم عند السؤال لا غير إلا إذا سئل عن مستند الحكم فح يجب الإسناد, وإذا ثبت احتمال السماع في قوله كان مقدما على الرأي الذي ليس عند صاحبه خبر يوافقه ويقره فكان تقديم قول الصحابي على الرأي من هذا الوجه بمنزلة تقديم خبر الواحد على القياس. والثاني وإليه أشار الشيخ بقوله ولاحتمال فضل إصابتهم أن قوله: إن كان صادرا عن الرأي(3/330)
كانوا يسكتون عن الإسناد ولاحتمال فضل إصابتهم في نفس الرأي فكان
ـــــــ
فرأي الصحابة أقوى من رأي غيرهم; لأنهم شاهدوا طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان أحكام الحوادث وشاهدوا الأحوال التي نزلت فيها النصوص والمحال التي يتغير باعتبارها الأحكام ولأن لهم زيادة جد وحرص في بذل مجهودهم في طلب الحق والقيام بما هو تثبيت قوام الدين وزيادة احتياط في حفظ الأحاديث وضبطها وطلبها والتأمل فيما لا نص عندهم غاية التأمل وفضل درجة ليس ذلك لغيرهم كما نطقت به الأخبار مثل قوله عليه السلام "خير القرون قرني الذين بعثت فيهم" . وقوله "لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه1" وقوله عليه السلام "أنا أمان لأصحابي وأصحابي أمان لأمتي2" إلى غير ذلك من الأخبار ولمثل هذه الفضيلة أثر في إصابة الرأي وكونه أبعد عن الخطأ فبهذه المعاني ترجح رأيهم على رأي غيرهم وعند تعارض الرأيين إذا ظهر لأحدهما نوع ترجيح وجب الأخذ بذلك فكذلك إذا وقع التعارض بين رأي الواحد منهم ورأي الواحد منا يجب تقديم رأيه على رأينا لزيادة قوة في رأيه من الوجوه التي ذكرناها وذكر في الميزان أن في قول الصحابي جهة الإجماع أيضا; لأن الظاهر أنه لو كان بينهم خلاف لظهر لاتحاد مكانهم وطلب العلم من كل واحد منهم على السواء ومشاورة كل واحد قرنائه في كل مسألة اجتهادية لاحتمال أن يكون عند صاحبه خبر يمنعه عن استعمال الرأي, ولو ظهر الخلاف بينهم لوصل إلينا من جهة التابعين لنصب أنفسهم لتبليغ الشرائع والأحكام ولو تحقق الإجماع يجب العمل قطعا, فإذا ترجح جهة وجود الإجماع فيه كان العمل به أولى من العمل بقياس ليس فيه هذا المعنى وبما ذكرنا خرج الجواب عن قولهم إنه محتمل فلا يجوز تقليده; لأنا وإن سلمنا ذلك لكن ليست الدلائل المحتملة على نمط واحد, فإن خبر الواحد مع احتماله مقدم على القياس فكذا قول الصحابي لكونه أقرب إلى الصواب لما ذكرنا وأما قولهم: إن قول الصحابي يحتمل الرجوع ولا يلزم غيره من الصحابة فكذلك ولكن كلامنا وقع فيما إذا وجد من الصحابي ولم يظهر رجوعه عن ذلك ولا خلاف غيره إياه في ذلك القول على ما سنبينه., وإنما لم يلزم غيره من الصحابة لمساواته إياه فيما ذكرنا من الوجوه بخلاف غيرهم لوجود التفاوت بينهم من الوجوه التي مرت. وأما قولهم ليس للمجتهد تقليد غيره, وإن كان أفضل منه فممنوع; لأن عند أبي حنيفة رحمه الله إذا كان عند مجتهد أن من يخالفه في الرأي أعلم بطريق الاجتهاد وأنه مقدم عليه في
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في فضائل الصحابة حديث رقم 2531.
2 أخرجه مسلم في فضائل الصحابة حديث رقم 2531.(3/331)
هذا الطريق هو النهاية في العمل بالسنة ليكون السنة بجميع وجوهها وشبهها مقدما على القياس ثم القياس بأقوى وجوهه حجة وهو المعنى الصحيح بأثره الثابت شرعا فقد ضيع الشافعي عامة وجوه السنن ثم مال إلى القياس الذي هو قياس الشبه وهو ليس بصالح لإضافة الوجوب إليه فما هو إلا كمن ترك القياس وعمل
ـــــــ
العلم, فإنه يدع رأيه لرأي من عرف زيادة قوة في اجتهاده كما أن العامي يدع رأيه لرأي المعني المجتهد وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لا يدع المجتهد في زماننا رأيه لرأي من هو مقدم عليه في الاجتهاد من أهل عصره لوجود المساواة بينهما في الحال وفي معرفة طريق الاجتهاد ولكن هذا لا يوجد فيما بين المجتهد منا والمجتهد من الصحابة فالتفاوت بينهما في الحالة لا يخفى في طريق العلم كذلك فهم قد شاهدوا أحوال من ينزل عليه الوحي وسمعوا منه, وإنما انتقل ذلك إلينا بخبرهم وليس الخبر كالمعاينة., فإن قيل: أليس أن تأويل الصحابي للنص لا يكون مقدما على تأويل غيره ولم يعتبره في هذه الأحوال فكذلك في الفتوى بالرأي قلنا: إن التأويل يكون بالتأمل في وجوه اللغة ومعاني الكلام ولا مزية لهم في ذلك الباب على غيرهم ممن يعرف من معاني اللسان فأما الاجتهاد في الأحكام, فإنما يكون التأمل في النصوص التي هي أصل في أحكام الشرع وذلك يختلف باختلاف الأحوال ولأجله يظهر لهم المزية بمشاهدة أحوال الخطاب على غيرهم ممن لم يشاهد ولا يقال هذه أمور باطنة, وإنما أمرنا ببناء الحكم على ما هو الظاهر; لأن بناء الحكم على الظاهر مستقيم عندنا ولكن في موضع يتعذر اعتبار الباطن فأما إذا أمكن اعتبارهما جميعا فلا شبهة أن اعتبارهما يتقدم على مجرد اعتبار الظاهر وفي الأخذ بقول الصحابي اعتبارهما وفي العمل بالرأي اعتبار الظاهر فقد كان الأول أولى كذا قرر الإمام شمس الأئمة رحمه الله.
قوله "فكان هذا الطريق" أي إيجاب متابعة الصحابي وتقليدهم أو الطريق الذي اخترناه في باب السنة من قبول المسند والمرسل رواية والمعروف والمجهول وإيجاب تقليد الصحابة هو النهاية في العمل بالسنة ليكون للسنة بجميع وجوهها من المتواتر والمشهور والآحاد والمسند والمرسل وغيرها وشبهها من أقوال الصحابة مقدما على القياس ثم القياس أي ثم يكون القياس بأقوى وجوهه وهي الإحالة والسنة والطرد والقياس بالوصف المؤثر حجة بعد جميع أقسام السنة وشبهها فقد ضيع الشافعي رحمه الله عامة وجوه السنن, فإنه رد المراسيل مع كثرتها ولم يقبل رواية المجهول من القرون الأولى مع شهادة الرسول عليه السلام لهم بالخيرية وفيه تعطيل كثير من السنة ولم ير تقليد الصحابة وفيه إعراض عن كثير مما فيه شبهة السماع لإضافة الوجوب أي ثبوت الحكم إليه كمن(3/332)
باستصحاب الحال فجعل الاحتياط مدرجة إلى العمل بلا دليل فصار الطريق المتناهي في أصول الشريعة وفروعها على الكمال هو طريق أصحابنا بحمد الله إليهم انتهى الدين بكماله وبفتواهم قام الشرع إلى آخر الدهر بخصاله لكنه بحر عميق لا يقطعه كل سانح والشروط كثيرة لا يجمعها كل طالب وهذا الاختلاف في كل ما ثبت عنهم من غير خلاف بينهم ومن غير أن يثبت أنه بلغ غير قائله فسكت مسلما له, فأما إذا اختلفوا في شيء فإن الحق في أقوالهم لا يعدوهم عندنا على ما نبين في باب الإجماع إن شاء الله تعالى ولا يسقط البعض بالبعض بالتعارض; لأنهم لما اختلفوا ولم تجر المحاجة بالحديث المرفوع سقط احتمال التوقيف وتعين وجه الرأي والاجتهاد فصار تعارض أقوالهم كتعارض وجوه القياس, وذلك يوجب الترجيح فإن تعذر الترجيح وجب العمل بأيها شاء
ـــــــ
ترك القياس أي لم يجوز العمل به وعمل باستصحاب الحال مثل داود الأصفهاني الظاهري وأمثاله من نفاة القياس فجعل أي الشافعي الاحتياط, فإنه يرد المراسيل ورواية المجهول وقول الصحابي احتياطا مدرجة أي طريقا ووسيلة إلى الوقوع في العمل بما ليس بدليل موجب وهو قياس الشبه وفي أصله شبهة أي في أصل القياس الصحيح شبهة ففي قياس الشبه أولى أو جعله وسيلة إلى العمل بما ليس بدليل موجب وهو نفس القياس, وإنه مظهر وليس بمثبت وفي أصله شبه أنه صواب أو خطأ ولا شبهة في أصل السنة إنما الشبهة في طريقها قام الشرع بخصاله أي ملتبسا بخصاله وهي محاسنه وأحكامه. فإن قيل: إنكم قدمتم شبهة السماع على القياس من حيث أوجبتم تقليد الصحابي ثم قدمتم القياس على حقيقة السماع في حديث المصرات وأمثاله مع كون الراوي معروفا بالضبط والإتقان والعدالة وكونه من أجل الصحابة, وهذا تناقض ظاهر قلنا: ليس كذلك, فإن المراد من الصحابة فيما ذكرنا الفقهاء منهم دون غيرهم بدليل ما ذكر صدر الإسلام أبو اليسر في أصول الفقه أنه روي عن أبي حنيفة رحمه الله في تقليد الصحابي ثلاث روايات في رواية يجب تقليد كل صحابي وتقديم قوله على القياس وفي رواية لا يجب التقليد إلا أن يكون قوله موافقا للقياس وإليه مال أبو الحسن مع جماعة وفي رواية يجب تقليد الفقهاء من الصحابة ولا يجب تقليد غيرهم وإليه مال أبو سعيد البردعي وأكثر أصحاب أبي حنيفة وما ذكر شمس الأئمة رحمه الله في شرح الإيمان من المبسوط ولكن قول الواحد من فقهائهم فيما يخالف القياس حجة يترك به القياس وفي شرح البيوع في مسألة اشتراط إعلام قدر رأس المال, ومذهب أبي حنيفة رحمه الله مروي عن ابن عمر رضي الله عنهما وقول الفقيه من الصحابة مقدم على القياس وفي باب البيع إذا كان فيه شرط وقول الواحد من فقهاء(3/333)
المجتهد على أن الصواب واحد منها لا غير ثم لا يجوز العمل بالثاني من بعد إلا بدليل على ما مر في باب المعارضة. وأما التابعي فإن كان لم يبلغ درجة الفتوى في زمان الصحابة ولم يزاحمهم في الرأي كان أسوة سائر أئمة الفتوى من
ـــــــ
الصحابة مقدم على القياس عندنا وما أشار إليه القاضي الإمام في التقويم على ما ذكرنا أن المراد من قوله : "أصحابي كالنجوم" أهل البصر منهم أي أهل الرأي وهم الفقهاء, وإذا ثبت أن المراد فقهاؤهم دون غيرهم اندفع التناقض فكان قوله على احتمال السماع مقدما على القياس كما إذا روي خبر أو على احتمال عدمه كذلك لما ذكرنا من الوجوه ولئن سلمنا أن المراد كل واحد من الصحابة فلا تناقض أيضا; لأن القياس إنما كان مقدما فيما إذا كان الراوي غير فقيه إذا انسد باب الرأي فيه بالكلية كما مر بيانه في حديث المصراة وهاهنا لم ينسد بقوله باب الرأي بالكلية; لأنه لما احتمل أنه قاله عن رأي كان موافقا للقياس من وجه حتى لو لزم منه انسداد باب الرأي لا يكون مقدما على القياس إذا لم يكن من فقهاء الصحابة أيضا إليه أشار شيخنا العلامة مولانا حافظ الملة والدين قدس الله روحه في بعض الحواشي.
ثم بين الشيخ محل النزاع فقال وهذا الاختلاف أي الاختلاف المذكور في كذا وذكر في الميزان وصورة المسألة ما إذا ورد عن الصحابي قول في حادثة لم تحتمل الاشتهار فيما بين الصحابة بأن كانت ممن لا يقع بها البلوى والحاجة للكل فلم يكن من باب ما اشتهر عادة ثم ظهر نقل هذا القول في التابعين ولم يرو عن غيره من الصحابة خلاف ذلك فأما إذا كان القول في حادثة من حقها الاشتهار لا محالة ولا تحتمل الخفاء بأن كانت الحاجة والبلوى يعم العامة واشتهر مثلها فيما بين الخواص ولم يظهر خلاف من غيره فيه فهذا إجماع يجب العمل به على المعروف في الإجماع وكذا إذا اختلفوا في شيء فالحق لا يعدو أقاويلهم إلى آخر ما ذكر في الكتاب. وذكر في بعض الكتب وصورة المسألة فيما إذا ورد قول من صحابي فيما يدرك بالقياس ولم ينقل من غيره تسليم ولا إنكار ورد إذ لو كان وروده فيما لا يدرك بالقياس كان حجة بلا خلاف بين أصحابنا ولو نقل من غيره تسليم كان إجماعا فلا يجوز خلافه ولو نقل من غيره رد, وإنكار كان ذلك اختلافا منهم في ذلك الحكم بالرأي وذلك يوجب الترجيح أو العمل عند تعذر الترجيح بأيها شاء وعدم جواز إحداث قول آخر على ما مر في باب المعارضة وهو قوله: وإذا عمل بذلك أي بأحد القياسين لم يجز نقضه إلا بدليل فوقه فوجب نقض الأول حتى لم يجز نقض حكم أمضي بالاجتهاد بمثله كان أسوة أي مثل سائر المجتهدين يقال: هم أسوة في هذا المثال أي متساوون وذكر في المغرب أن الأسوة بمعنى التبع بطريق المجاز.(3/334)
السلف لا يصح تقليده وإن ظهر فتواه في زمن الصحابة كان مثلهم في هذا الباب عند بعض مشايخنا لتسليمهم مزاحمته إياهم وقال بعضهم بل لا يصح تقليده وهو دونهم لعدم احتمال التوقيف فيه وجه القول الأول أن شريحا خالف عليا في رد شهادة الحسن وكان علي يقول له في المشورة قل أيها العبد الأبظر
ـــــــ
قوله: "وإن كان ممن ظهر فتواه في زمن الصحابة" كالحسن وسعيد بن المسيب والنخعي والشعبي وشريح ومسروق وعلقمة كان مثلهم في هذا الباب أي مثل الصحابة في وجوب التقليد عن البعض. ذكر الصدر الشهيد حسام الدين رحمه الله في شرح أدب القاضي أن في تقليد التابعي عن أبي حنيفة رحمه الله روايتين إحداهما أنه قال: لا أقلدهم هم رجال اجتهدوا ونحن رجال نجتهد وهو الظاهر من المذهب والثانية ما ذكر في النوادر أن من كان من أئمة التابعين وأفتى في زمن الصحابة وزاحمهم في الفتوى وسوغوا له الاجتهاد فأنا أقلده; لأنهم لما سوغوا له الاجتهاد وزاحمهم في الفتوى صار مثلهم بتسليمهم مزاحمته إياهم ألا ترى أن عليا تحاكم إلى شريح وكان عمر ولاه القضاء فخالف عليا في رد شهادة الحسن له للقرابة وكان من رأي علي رضي الله عنه جواز شهادة الابن لأبيه وخالف مسروق ابن عباس رضي الله عنهم في النذر بذبح الولد فأوجب مسروق فيه شاة بعدما أوجب ابن عباس فيه مائة من الإبل فرجع إلى قول مسروق وسئل ابن عمر رضي الله عنهما عن مسألة فقال: سلوا عنها سعيد بن جبير فهو أعلم بها مني وكان أنس بن مالك رضي الله عنه إذا سئل عن مسألة فقال: سلوا عنها مولانا الحسن فثبت أن الصحابة كانوا يسوغون الاجتهاد للتابعين ويرجعون إلى أقوالهم ويعدونهم من جملتهم في العلم ولما كان كذلك وجب تقليدهم كتقليد الصحابة وجه الظاهر أن قول الصحابي إنما جعل حجة لاحتمال السماع ولفضل إصابتهم في الرأي ببركة صحبة النبي عليه السلام وذانك مفقودان في حق التابعي. وإن بلغ الاجتهاد وزاحمهم في الفتوى ولا حجة لهم فيما ذكروا من الأمثلة; لأن غاية ذلك أنهم صاروا مثلهم في الفتوى وزاحموهم فيها وأن الصحابة سلموا لهم الاجتهاد ولكن المعاني التي بني عليها وجوب التقليد من احتمال السماع ومشاهدة أحوال التنزيل وبركة صحبة الرسول عليه السلام مفقودة في حقهم أصلا فلا يجوز تقليدهم بحال وذكر شمس الأئمة رحمه الله أنه لا خلاف في أن قول التابعي ليس بحجة على وجه يترك به القياس فقد روينا عن أبي حنيفة رحمه الله ما جاءنا عن التابعين زاحمناه يعني في الفتوى فنفتي بخلاف رأيهم باجتهادنا إنما الخلاف في أن قوله هل يعتد به في إجماع الصحابة رضي الله عنهم حتى لا يتم إجماعهم مع خلافه فعندنا يعتد به, وعند الشافعي لا يعتد به فكأن شمس الأئمة لم يعتبر رواية النوادر والشيخ اعتبرها(3/335)
وخالف مسروق ابن عباس في النذر بنحر الولد ثم رجع ابن عباس إلى فتواه ولأنه بتسليمهم دخل في جملتهم رضي الله عنهم أجمعين.
ـــــــ
وأثبت الخلاف, فإن قيل: إذا لم يكن قوله حجة فما فائدة ذكر أبي حنيفة أقوالهم في المسائل قلنا: إنما ذكرها لبيان أنه لم يستند بهذا القول مخترعا بل سبقه غيره فيه وأنه وافقه فيه من هو من كبار التابعين لا لبيان أنه يقلدهم والأبظر هو الذي في شفتيه بظارة وهي هنة نابتة في وسط الشفة العليا ولا تكون لكل أحد وقيل الأبظر الصحار الطويل اللسان وجعله عبدا; لأنه وقع عليه سبي في الجاهلية كذا في المغرب والله أعلم.(3/336)
باب الإجماع
الكلام في الإجماع في ركنه وأهلية من ينعقد به وشرطه وحكمه وسببه وأما ركنه فنوعان عزيمة ورخصة أما العزيمة فالتكلم منها بما يوجب الاتفاق
ـــــــ
"باب الإجماع"
الإجماع في اللغة هو العزم يقال: أجمع فلان على كذا إذا عزم عليه ومنه قوله تعالى إخبارا {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} [يونس: 71] أي اعزموا عليه وقوله عليه السلام: "لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل" أي لم يعزم, والاتفاق أيضا ومنه قولهم أجمع القوم على كذا أي اتفقوا عليه والفرق بين المعنيين أن الإجماع بالمعنى الأول متصور من واحد وبالمعنى الثاني لا يتصور إلا من الاثنين فما فوقهما وفي الشريعة قيل هو عبارة عن اتفاق أمة محمد عليه السلام على أمر من الأمور الدينية واعترض عليه بأنه يلزم من هذا التفسير أن الإجماع لا يوجد إلى يوم القيامة; لأن أمة محمد عليه السلام جملة من اتبعه إلى يوم القيامة ومن وجد في بعض الأعصار منهم, فإنما هم بعض الأمة لا كلها وليس هذا مذهبا لأحد وبأنه غير مطرد, فإنه لو خلا عصر عن المجتهدين واتفقوا على أمر ديني, فإن اتفاقهم عليه لا يكون إجماعا شرعيا بالاتفاق مع انطباق هذا الحد عليه وغير منعكس, فإن الأمة والمجتهدين لو اتفقوا على عقلي أو عرفي كان إجماعا مع خروجهما عن هذا الحد لكونهما غير دينيين وأجيب عن الأول والثاني بأن المراد المجتهدون الموجودون في عصر من الأعصار وعن الثالث بأن كون الاتفاق على عقلي أو عرفي إجماعا غير مسلم عند هذا القائل.
وقيل هو اجتماع جميع آراء أهل الإجماع على حكم من أمور الدين عقلي أو شرعي عند نزول الحادثة. وقيل: وهو الأصح: إنه عبارة عن اتفاق المجتهدين من هذه الأمة في عصر على أمر من الأمور فأريد بالاتفاق الاشتراك في الاعتقاد أو القول أو الفعل. وإذا أطبق بعضهم على الاعتقاد وبعضهم على القول أو الفعل الدالين على الاعتقاد, واحترز بلفظ المجتهدين معرفا باللام المستغرق بالجميع عن اتفاق غيرهم كالعامة واتفاق بعضهم(3/337)
منهم أو شروعهم في الفعل فيما كان من بابه لأن ركن كل شيء ما يقوم به أصله والأصل في نوعي الإجماع ما قلنا.
ـــــــ
وبقوله من هذه الأمة عن المجتهدين من أرباب الشرائع السالفة وبقوله في عصر عن إيهام أن الإجماع لا يتم إلا باتفاق مجتهدي جميع الأعصار إلى يوم القيمة لتناول لفظ المجتهدين جميعهم, وإنما قيل على أمر من الأمور ليكون متناولا للقول والفعل والإثبات والنفي والأحكام العقلية والشرعية ثم انعقاد الإجماع متصور.
وأنكر بعض الروافض والنظام من المعتزلة تصور انعقاد الإجماع على أمر غير ضروري مستدلين بأن انتشار أهل الإجماع في مشارق الأرض ومغاربها يمنع نقل الحكم إليهم عادة, فإذا امتنع ذلك امتنع الاتفاق الذي هو فرع تساويهم في نقل الحكم إليهم وبأن اتفاقهم لا بد من أن يكون عن قاطع أو ظن إذ لا ثالث ولا بد للإجماع من مستند, فإن كان عن قاطع فالعادة تحيل عدم نقله وتواطؤ الجمع الكثير على إخفائه وحيث لم ينقل دل على عدمه, وإن كان عن ظن فالاتفاق فيه ممتنع عادة أيضا لاختلاف القرائح كما أن العادة تحيل اتفاقهم على أكل طعام واحد معين في يوم واحد قال صاحب القواطع وهذا فاسد; لأن الإجماع لما كان متصورا في الأخبار المستفيضة يكون متصورا في الأحكام أيضا; لأنه كما يوجد سبب يدعو إلى إجماعهم على الأخبار المستفيضة لوجد أيضا سبب يدعو إلى إجماعهم باعتقاد الأحكام, والانتشار إنما يمنع عن النقل عادة إذا لم يكونوا مجدين وباحثين فأما إذا كانوا كذلك فلا والعادة لا تحيل أيضا عدم نقل القاطع إذا استغني عن نقله بدلالة غيره على حكمه كالإجماع في مثالنا, فإنه أغنى عن ذكره. وكذا اختلاف القرائح إنما يمنع من الاتفاق فيما هو خفي من الظن لا فيما هو جلي منه بحيث لا يختلفون فيه بل يؤدي اجتهاد الكل بالنظر فيه إلى حكم واحد ويبطل جميع ما ذكروا بالوقوع, وإنا نعلم علما لا مراء فيه بإجماع الصحابة على تقديم النص القاطع على ما ليس كذلك وبإجماع جميع الحنفية على وجوب إخفاء التسمية في الصلاة وبإجماع جميع الشافعية على بطلان النكاح بغير ولي والوقوع دليل الجواز وزيادة.
وإذا ثبت أنه متصور بل واقع لا بد من بيان ركنه كما أشار إليه الشيخ وهو ما يقوم به الإجماع وأهلية من ينعقد الإجماع به أي برأيه أو بقوله إذ لا بد لكون الشيء معتبرا من صدور ركنه من الأهل وشرطه وهو ما يكون الإجماع متوقفا عليه بعد صدوره من الأهل وحكمه أي الأثر الثابت به وسببه وهو المعنى الداعي إلى الإجماع الجامع للآراء وهو المسمى بمستند الإجماع, عزيمة وهي ما كان أصلا في باب الإجماع إذ العزيمة هي الأمر الأصلي ورخصة وهي ما جعل إجماعا لضرورة إذ مبنى الرخصة على الضرورة وأما(3/338)
وأما الرخصة فأن يتكلم البعض ويسكت سائرهم بعد بلوغهم وبعد مضي مدة التأمل والنظر في الحادثة وكذلك في الفعل وقال بعض الناس لا بد من
ـــــــ
العزيمة فالتكلم بما يوجب الاتفاق منهم أو شروعهم في الفعل فيما يكون من باب الفعل على وجه يكون ذلك موجودا من الخاص والعام فيما يستوي الكل في الحاجة إلى معرفته لعموم البلوى العام فيه كتحريم الزنا والربا أو تحريم الأمهات وأشباه ذلك ويشترك فيه جميع علماء العصر فيما لا يحتاج العام إلى معرفته لعدم البلوى العام لهم فيه كحرمة نكاح المرأة على عمتها وخالتها, وفرائض الصدقات مما يجب في الزروع والثمار وما أشبه ذلك كذا ذكر شمس الأئمة رحمه الله وذكر في القواطع أن كل فعل ما لم يخرج مخرج الحكم والبيان لا ينعقد به الإجماع كما أن ما لم يخرج من أفعال الرسول عليه السلام مخرج الشرع لم يثبت به الشرع. وأما الذي خرج من الأفعال مخرج الحكم والبيان فيصح أن ينعقد به الإجماع, فإن الشرع يؤخذ من فعل الرسول عليه السلام كما يؤخذ من قوله وذكر في الميزان إذا وجد الإجماع من حيث الفعل, فإنه يدل على حسن ما فعلوا وكونه مستحبا, ولا يدل على الوجوب ما لم توجد قرينة تدل عليه على ما روي ما اجتمع أصحاب رسول الله عليه السلام على شيء كاجتماعهم على الأربع قبل الظهر وأنه ليس بواجب ولا فرض.
قوله: "وأما الرخصة" فكذا سمي هذا القسم رخصة; لأنه جعل إجماعا ضرورة للاحتراز عن نسبتهم إلى الفسق والتقصير في أمر الدين على ما سنبينه, وصورة المسألة ما إذا ذهب واحد من أهل الحل والعقد في عصر إلى حكم في مسألة قبل استقرار المذاهب على حكم تلك المسألة وانتشر ذلك بين أهل عصره ومضى مدة التأمل فيه ولم يظهر له مخالف كان ذلك إجماعا مقطوعا به عند أكثر أصحابنا, وكذلك الفعل يعني إذا فعل واحد من أهل الإجماع فعلا وعلم به أهل زمانه ولم ينكر عليه أحد بعد مضي مدة التأمل يكون ذلك إجماعا منهم على إباحة ذلك الفعل ويسمى هذا إجماعا سكوتيا عند من قال إنه إجماع وذكر صاحب الميزان فيه أن الإجماع إنما يثبت بهذا الطريق إذا كان ترك الرد والإنكار في غير حالة التقية وبعد مضي مدة التأمل; لأن إظهار الرضاء وترك النكير في حالة التقية أمر معتاد بل أمر مشروع رخصة فلا يدل ذلك على الرضا وكذا السكوت والامتناع عن الرد قبل مضي مدة التأمل حلال شرعا فلا يدل على الرضاء فلهذا شرطنا مع السكوت وترك الإنكار زوال التقية ومضي مدة التأمل ثم قال لا يخلو من أن يكون المسألة من مسائل الاجتهاد أو لم يكن, فإن لم يكن لا يخلو من أن يكون عليهم في معرفتها تكليف أو لم يكن عليهم, فإن لم يكن عليهم في معرفتها تكليف يجوز أن يقال: إن أبا هريرة أفضل أم أنس بن مالك فترك الإنكار على من قال فيها بقول لا يكون إجماعا; لأنه لما لم(3/339)
النص ولا يثبت بالسكوت وحكي هذا عن الشافعي رحمه الله قال; لأن عمر رضي الله عنه شاور الصحابة في مال فضل عنده وعلي ساكت حتى قال له ما تقول يا أبا الحسن فروى له حديثا في قسمة الفضل فلم يجعل سكوته تسليما وشاورهم في إملاص المرأة فرأوا بأن لا غرم عليه وعلي ساكت فلما
ـــــــ
يكن عليهم تكليف في معرفة ذلك الحكم لم يلزمهم النظر فيه فلم يحصل لهم العلم بكونه صوابا أو خطأ فلا يلزمهم الإنكار إذ ذلك الإنكار إنما يلزمهم عند معرفة كونه خطأ. وإذا كان كذلك لن يبعد أن يتركوا الإنكار فيه بناء على عدم معرفة كونه خطأ فلا يكون سكوتهم دليل التسليم والرضاء. وأما إذا كان عليهم تكليف في معرفة حكم الحادثة يكون سكوتهم تصويبا ورضاء بذلك الحكم إذ لو لم يكن كذلك يلزمه منه إجماعهم على ترك الواجب عليهم من النهي عن المنكر المستلزم للمحال وهو الخلف في إخبار الله عز وجل, فإنه تعالى مدحهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وشهد لهم بذلك في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] وما يؤدي إلى المحال فاسد.
فأما إن كانت المسألة اجتهادية بأن كانت من الفروع التي هي من باب العمل دون الاعتقاد فالجواب فيها وفي المسألة الاعتقادية سواء يعني يكون ذلك إجماعا عند أكثر أصحابنا وهو اختيار بعض أصحاب الشافعي كصاحب القواطع ومن تابعه ونقل عن أبي الحسن الكرخي وبعض أصحاب الشافعي أنه حجة وليس بإجماع وقيل هو مذهب الشافعي, فإنه قد نص في موضع أن قول الصحابي إذا انتشر ولم يخالف فهو حجة. وروي عنه أنه قال من نسب إلى ساكت قولا فقد افترى عليه فعرفنا أنه حجة عنده وليس بإجماع وإليه ذهب أبو هاشم وجماعة من المعتزلة ونقل عن الشافعي رحمه الله أنه ليس بإجماع ولا حجة وإليه أشير في الكتاب وهو مذهب عيسى بن أبان من أصحابنا والقاضي الباقلاني من الأشعرية وداود الظاهري وبعض المعتزلة منهم أبو عبد الله البصري ويحكى عن الشافعي أنه كان يقول: إن ظهر القول من أكثر العلماء والساكتون نفر يسير يثبت به الإجماع, وإن انتشر من واحد أو اثنين والساكتون أكثر علماء العصر لا يثبت به الإجماع ونقل عن الجبائي أنه إجماع وحجة بشرط انقراض العصر وقال أبو علي بن أبي هريرة إن كان ذلك فتوى وانتشر ولم يعرف مخالف يكون إجماعا, وإن كان حكما لا يكون إجماعا ولا حجة وقال أبو إسحاق المروزي إن كان حكما يكون إجماعا, وإن كان فتوى لا يكون إجماعا وقوله لا بد من النص أي من التنصيص على الحكم من الكل لثبوت الإجماع إن كان قوليا ومن شروعهم جميعا في الفعل إن كان فعليا ولا يثبت بالسكوت أي لا يثبت التنصيص بالسكوت, فإنه لا ينسب قول إلى ساكت أو ولا يثبت الإجماع بالسكوت.(3/340)
سأله قال أرى عليك الغرة ولأن السكوت قد يكون مهابة كما قيل لابن عباس رضي الله عنهما ما منعك أن تخبر عمر بقولك في العول فقال درته وقد
ـــــــ
احتج من قال: إنه ليس بحجة أصلا بالآثار والمعقول أما الآثار فما روي في حديث "ذي اليدين أنه لما قال أقصرت الصلاة أم نسيتها نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وقال: أحق ما يقوله ذو اليدين" ولو كان ترك النكير دليل الموافقة لاكتفى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما استنطقهم في الصلاة من غير حاجة. وما روي عن عمر رضي الله عنه أنه لما شاور الصحابي في مال فضل عنده من الغنائم أشاروا عليه بتأخير القسمة والإمساك إلى وقت الحاجة وعلي رضي الله عنه في القوم ساكت فقال له ما تقول يا أبا الحسن قال لم نجعل يقينك شكا وعلمك جهلا أرى أن تقسم ذلك بين المسلمين وروى فيه حديثا فعمر لم يجعل سكوته تسليما ودليلا على الموافقة حتى سأله واستجاز علي رضي الله عنه السكوت مع كون الحق عنده في خلافهم وما روي أن امرأة غاب عنها زوجها فبلغ عمر رضي الله عنه أنها تجالس الرجال وتحدثهم فأشخص إليها ليمنعها عن ذلك فأمصلت من هيبته فشاور الصحابة في ذلك فقالوا لا غرم إنما أنت مؤدب وما أردت إلا الخير وعلي رضي الله عنه ساكت في القوم فقال ما تقول يا أبا الحسن فقال إن كان هذا جهد رأيهم فقد أخطئوا, وإن قاربوك أي طلبوا قربتك فقد غشوك أي خانوك أرى عليك الغرة فقال: أنت صدقتني فقد استجاز علي السكوت مع إضمار الخلاف ولم يجعل عمر رضي الله عنهما سكوته دليل الموافقة حتى استنطقه.
وأما المعقول فهو أن السكوت كما يكون للموافقة يكون للمهابة والتقية مع إضمار الخلاف كما قيل لابن عباس رضي الله عنهما لما أظهر قوله في العول وقد كان ينكره هلا قلت هذا في زمن عمر, وإنه كان يقول بالعول فقال كان رجلا مهيبا فهبته وفي رواية منعني عن ذلك درته وقد يكون للعامل; لأنهم لم يتأملوا في المسألة أي لم يجتهدوا لاشتغالهم بالجهاد أو سياسة الرعية أو اجتهدوا فلم يؤد اجتهادهم إلى شيء فتوقفوا. وقد يكون لاعتقادهم أن كل مجتهد مصيب فلم يروا الإنكار في المجتهدات معنى لكون هذا القول صوابا في حق قائله عندهم كالقاضي إذا قضى في مسألة مجتهدا فيها برأي واحد منهم وسكت المخالفون لا يكون سكوتهم دليل الرضاء والإجماع, وقد يكون لكون العامل أكبر سنا وأعظم حرمة وأقوى في الاجتهاد فلا يزول التدارك والإنكار مصلحة احتراما له, وإذا كان محتملا لهذه المعاني لا يكون حجة خصوصا فيما هو موجب للعلم قطعا ألا ترى أن السكوت فيما هو مختلف فيه لا يكون دليلا على شيء لكونه محتملا فكذا فيما لم يظهر فيه خلاف.واحتج من قال: إنه حجة وليس بإجماع بأن سكوتهم مع هذه الاحتمالات(3/341)
يكون للتأمل فلا يصلح حجة ولنا شرط النطق منهم جميعا متعذر غير معتاد بل المعتاد في كل عصر أن يتولى الكبار الفتوى ويسلم سائرهم ولأنا إنما نجعل
ـــــــ
يدل ظاهرا على الموافقة فيكون حجة يجب العمل بها كخبر الواحد والقياس وقد احتج الفقهاء في كل عصر بالقول المنتشر في الصحابة إذا لم يظهر له مخالف فدل أنهم اعتقدوه حجة إلا أنه لا يكون إجماعا مقطوعا به للاحتمالات المذكورة.
ووجه قول من اعتبر الأكثر أن يجعل الأقل تبعا للأكثر, فإذا كان الأكثر سكوتا يجعل ذلك كسكوت الكل, وإذا ظهر القول من الأكثر يجعل ذلك كظهور من الكل. وأما ابن أبي هريرة فقد تمسك بأن الموجود إذا كان حكما من بعض القضاة لا يدل السكوت من الباقين على الرضاء منهم; لأن حكم الحاكم يسقط الاعتراض; لأن في الإنكار اقتياتا عليه قال ونحن نحضر بعض الأحكام ونراهم يقضون بخلاف مذهبنا ولا ننكر عليهم ذلك ولا يكون سكوتنا رضاء منا بذلك بخلاف قول المفتي, فإن فتواه غير لازمة ولا مانعة من الاعتراض ووافقه أبو إسحاق فقال: إن الأغلب أن الصادر من الحاكم يكون عن مشورة والصادر عن فتوى يكون عن استبداد, فإذا صدر القول عن مشاورة دل ذلك على الإجماع, وإذا صدر عن استبداده لا يدل ذلك على الإجماع. وأما الجبائي فقال: انقراض العصر يضعف احتمالات المذكور; لأنه لا يبعد سكوت العلماء على مجتهد في مسألة ظنية لكن استمرارهم على السكوت في الزمن المتطور يبعد ويخالف العادة قطعا; لأنه إذا كان يتكرر تذاكير الواقعة والخوض فيها لم يتصور دوام السكوت من كل المجتهدين على تكرر الواقعة في حكم العادة ولهذا أظهر ابن عباس خلافا في مسألة العول من بعد فلذلك شرطنا انقراض العصر لصيرورته إجماعا.
قوله: "إن شرط النطق منهم جميعا متعذر" إلى آخره وبيانه ما ذكر شمس الأئمة رحمه الله أنه يشترط لانعقاد الإجماع التنصيص من كل واحد منهم على قوله وإظهار الموافقة مع الأخرس قولا إلا أنه لا ينعقد الإجماع; لأنه لا يتصور إجماع أهل العصر كلهم على قول يسمع ذلك منهم إلا وفي العادة إنما يكون ذلك بانتشار الفتوى من البعض وسكوت الباقين وفي اتفاقنا على كون الإجماع حجة وطريقا لمعرفة الحكم دليل على بطلان قول هذا القائل وهذا; لأن المتعذر كالممتنع ثم تعليق الشيء بشرط هو ممتنع يكون نفيا فكذا تعليقه بشرط هو متعذر وهذا; لأن الله تعالى رفع عنا الحرج كما لم يكلفنا ما ليس في وسعنا وليس في وسع علماء العصر السماع من الذين كانوا قبلهم بقرون فكان ذلك ساقطا عنهم فكذلك يتعذر السماع من جميع علماء العصر والوقف على كل واحد منهم في حكم حادثة حقيقة لما فيه من الحرج البين فينبغي أن يجعل اشتهار الفتوى من البعض والسكوت من الباقين كافيا في انعقادالإجماع.(3/342)
السكوت تسليما بعد العرض وذلك موضع وجوب الفتوى وحرمة السكوت لو كان مخالفا, فإذا لم يجعل تسليما كان فسقا أو بعد الاشتهار والإشهار ينافي الخفاء فكان كالعرض وذلك أيضا بعد مضي مدة التأمل وذلك ينافي الشبهة فتعين وجه التسليم. وأما سكوت علي فإنما كان; لأن الذين أفتوا
ـــــــ
قوله "ولأنا إنما نجعل" دليل آخر متضمن للجواب عما ذكر الخصم من تحقق الاحتمالات. وبيانه أنا إنما نجعل سكوت الباقين تسليما لقول هذا القائل بعد عرض الحادثة وجواب هذا القائل فيها عليهم وذلك أي العرض موضع وجوب الفتوى وحرمة السكوت لو كان الساكت مخالفا إذ الساكت عن الحق شيطان أخرس, فإذا لم يجعل السكوت تسليما لقوله كان فسقا; لأنه امتناع عن إظهار الحق وترك للواجب احتشاما للغير, والعدالة مانعة عنه فلا يظن بهم ذلك خصوصا بالصحابة, فإنه ظهر من صغارهم الرد على الكبار وقبول الكبار ذلك منهم إذا كان ذلك حقا وقوله أو بعد الاشتهار عطف على قوله بعد العرض أي يجعل السكوت تسليما بعد العرض أو بعد الاشتهار إذ الاشتهار ينافي الخطأ فكان كالعرض, وذلك أيضا أي جعل السكوت تسليما بعد مضي مدة التأمل أيضا كما هو بعد العرض أو الاشتهار فيندفع بإسقاطهما احتمال السكوت للخفاء والتأمل وهو معنى قوله, وذلك أي مضي مدة التأمل بعد العرض أو الاشتهار باشتراطهما ينافي الشبهة أي شبهة عدم التسليم في السكوت فتعين وجه التسليم فيه يبينه أن أهل الإجماع معصومون عن الخطأ والعصمة واجبة لهم كما للنبي عليه السلام, وإذا رأى النبي عليه السلام مكلفا يقول قولا في أحكام الشرع فسكت كان سكوته تقريرا منه إياه على ذلك ونزل منزلة التصريح بالتصديق له في ذلك فكذلك سكوت أهل الإجماع ينزل منزلة التصريح بالموافقة قال صاحب الميزان: ولما كان القول المنتشر مع السكوت من الباقين إجماعا صحيحا في الحكم الذي يرجع إلى الاعتقاد كان إجماعا في الفروع أيضا لمعنى جامع بينهما وهو أن الحق واحد. فإذا كان القول المنتشر عندهم خطأ لا يحل لهم السكوت وترك الرد في المعتقدات وكذا في الفروع وهذا على قولنا, فأما على قول من قال كل مجتهد مصيب فيجب أن يكون كذلك; لأن عنده, وإن كان كل مجتهد مصيبا فيما أدى اجتهاده لا يرضى بقول صاحبه قولا لنفسه بل يعتقد فيه خلافه ويدعو الناس إلى معتقده ويناظر مع خصمه فلو لم يكن القول المنتشر معتقد الباقين لظهر وانتشر إلا عن خوف وتقية وحينئذ ظهر سبب التقية لا محالة فلما لم يظهر سبب التقية ولا الخلاف منهم لذلك القول المنتشر دل أنهم رضوا بذلك قولا; لأنفسهم. فإن قيل: إن العلماء الحنفيين والشافعيين وغيرهم لو اجتمعوا في مجلس فقام سائل إلى واحد منهم(3/343)
بإمساك المال وبأن لا غرم عليه في إملاص المرأة كان حسنا إلا أن تعجيل
ـــــــ
وسأله عن مسألة اختلف فيها العلماء فأجاب بما يوافق مذهبه وسكت الحاضرون من سائر المذاهب عن الرد لا يحمل سكوتهم على التسليم والرضاء بقوله فكذا فيما نحن فيه. قلنا قد احترزنا عنه بقولنا قبل استقرار المذاهب في بيان صورة المسألة, وإنما لا يدل سكوتهم فيما ذكر على الرضاء; لأن مذاهب الكل قد تقررت وصارت معلومة فلا يدل السكوت على الموافقة وليس كلامنا في مثل هذه الصورة, وإنما الكلام في حادثة تقع بين أهل الاجتهاد وليس لأحد فيها قول فيذكر واحد منهم قولا فيه وينتشر في الباقين ولا يظهر منهم إنكار.
والفرق بين الصورتين أن المذاهب إذا كانت معلومة والإنكار من الباقين لذلك معلوم, وإن لم يظهروه في ذلك الوقت فكان سكوتهم على ما عرف من قبل لا على إظهار الموافقة أما فيما نحن فيه فلا يمكن حمل السكوت على مثل هذا; لأنه لم يعرف من قبل خلاف منهم لذلك والسكوت على مثل هذا بعد أن علموا أنه خطأ لا يجوز فدل أن سكوتهم كان محض الموافقة. وذكر بعض الأصوليين أن إثبات الإجماع بهذا الطريق مبني على أن أهل العصر لا يجوز إجماعهم على الخطأ وعلى أن الحق واحد, فإذا ظهر قول من واحد فسكوت سائر العلماء إما لأنهم لم يجتهدوا أو اجتهدوا فلم يؤد اجتهادهم إلى شيء أو أدى إلى بطلان ذلك القول أو صحته ولا يجوز أن لا يكون اجتهدوا; لأن العادة تخالفه, فإن ترك الاجتهاد من الجم الغفير في حادثة نزلت خلاف العادة ومؤد إلى إهمال حكم الله تعالى فيما حدث مع وجوبه عليهم لكونهم مجتهدين والظاهر عدم ارتكابها من المسلم المتدين ومؤد إلى خروج الحق عن أهل العصر بعضهم بترك الاجتهاد وبعضهم بالعدول عن طريق الصواب لو لم يكن ذلك القول حقا ولا يجوز أن يكونوا اجتهدوا فلم يؤد اجتهادهم إلى شيء; لأن ذلك يؤدي إلى خفاء الحق مع ظهور طرقه على جميع الأمة وهو محال ولا يجوز أن يكونوا اجتهدوا فأدى اجتهادهم إلى خلافه إلا أنهم كتموا; لأن إظهار الحق واجب لا سيما مع ظهور قول هو باطل عندهم والتعليق بالهيبة والتقية تعليق باطل; لأنهم قد كانوا يظهرون الحق ولا يهابون أحدا, وإذا بطلت هذه الأوجه تعين الوجه الأخير وتبين أنهم إنما سكتوا لرضاهم بما ظهر من القول فصار كالنطق.
فإن قيل: يجوز أنهم سكتوا لاعتقادهم أن كل مجتهد مصيب قلنا: لا يمنع ذلك من مباحثته وطلب الكشف عن مأخذه لا بطريق الإنكار كالعادة الجارية بمناظرة المجتهدين في طلب الحق كمناظرتهم في مسائل الجد والإخوة والعول ودية الجنين على أن في الصحابة لم يكن من يعتقد ذلك على ما يعرف في موضعه وذكر صدر الإسلام أبو اليسر وصاحب القواطع أن هذا الإجماع لا يخلو عن نوع شبهة لما ذكره الخصوم فيكون(3/344)
الإمضاء في الصدقة والتزام الغرم من عمر صيانة عن القيل والقال ورعاية لحسن الثناء وبسط العدل كان أحسن فحل السكوت عن مثله, وبعد فإن السكوت
ـــــــ
إجماعا مستدلا عليه ويكون دون القواطع من وجوه الإجماع لكنه مع هذا مقدم على القياس قلت فعلى هذا لم يبق فرق بين قول من قال: إنه حجة وليس بإجماع وبين قول من قال: إنه إجماع وكان النزاع لفظيا إلا أن يثبت عن الفريق الأول أنه لا يقدم على القياس عندهم فيظهر الفرق. ويمكن أن يقال: الفرق ثابت, فإن من قال: إنه إجماع أراد أنه إجماع مقطوع به ولكنه دون الإجماع قولا كالنص. والمفسر دون المحكم, وإن كان كل واحد قطعيا ومن قال: إنه حجة وليس بإجماع أراد أنه حجة ظنية كخبر الواحد والقياس فيتحقق الفرق ولا يقال لو كان قطعيا يلزم أن يكفر جاحده أو يضلل كجاحد سائر الحجج القطعية; لأنا نقول: إنما لم يكفر لكونه متمسكا بدليل يصلح شبهة. ألا ترى أن موجب العام قطعي عندنا ثم لا يكفر جاحده لتمسكه بما يصلح شبهة ثم أجاب الشيخ رحمه الله عما تمسكوا به من الآثار فقال سكوت علي رضي الله عنه في حديث القسمة والإملاص ليس مما نحن بصدده; لأن ذلك من باب الحسن والأحسن لا من باب الجواز والفساد, فإن الذين أفتوا بإمساك المال في حديث القسمة وبأن لا غرم عليه أي على عمر في إملاص المرأة كان حسنا; لأن حفظ المال الفاضل ليصرف إلى نوائب المسلمين ولا يحتاج إلى القسمة عليهم عند نزولها حسن وكذا الحكم بعدم لزوم الغرة عليه إذ لم يوجد منه خيانة بطريق المباشرة ولا بطريق التسبيب إلا أن أي لكن تعجيل الإمضاء في الصدقة أي تعجيل قسمة الغنيمة وسماها صدقة مجازا من حيث إنها لا تجب بعوض مالي ويتولى الإمام قسمتها كالصدقات وأكثر مصارفها مصارف الصدقات. والتزام الغرم أي غرم الغرة من عمر رضي الله عنه صيانة عن القيل والقال أي لأجل صيانة النفس عن ألسن الناس فيقولوا: إنه أمسك أموال المسلمين ومنعها عن مستحقها لموهوم عسى لا يقع وخوف امرأة مسلمة من غير جناية تحققت منها حتى أملصت وتلفت نفس بذلك ودعائه أي على نفسه بحسن الثناء أي بحسنه وبسط العدل كان أحسن وأقرب إلى أداء الأمانة والخروج عما تحمل من العهدة وهو كتأخير أداء الزكاة إلى انقضاء الحول يكون حسنا وتعجيله قبل انقضائه يكون أحسن, وإذا كان كذلك حل السكوت عن مثله ولا يجب إظهار الخلاف فعرفنا أنه بمعزل مما نحن فيه إذ الكلام فيما لا يجوز السكوت عنه بحال إذا كان الأمر بخلافه وبعد أي بعدما ذكرنا هذا الجواب أو بعدما نسلم أنه لم يكن من باب الحسن والأحسن وكان من جنس ما وقع النزاع فيه لا يدل هذا السكوت على الرضاء أيضا, فإن السكوت بشرط الصيانة عن الفوات أي بشرط أن لا يفوت الحق جائز تعظيما للفتيا. فإن(3/345)
بشرط الصيانة عن الفوت جائز تعظيما للفتيا وذلك إلى آخر المجلس وكلامنا في السكوت المطلق, فأما حديث الدرة فغير صحيح; لأن الخلاف والمناظرة بينهم أشهر من أن يخفى وكان عمر رضي الله عنه ألين للحق وأشد انقيادا له من غيره وإن صح فتأويله إيلاء العذر في الكف عن مناظرته بعد ثباته على
ـــــــ
ترك التعجيل في الفتيا والتأمل فيها والسكوت إلى أن يبرز كل واحد ما في ضميره ثم إنه يظهر الحق الذي وضح له تعظيم لها وفيه احتراز عن المخالفة أيضا, فإنهم ربما يرجعون إلى الحق فلا يحتاج إلى إظهار مخالفتهم. وذكر شمس الأئمة رحمه الله أن مجرد السكوت عن إظهار الخلاف لا يكون دليل الموافقة عندنا ما بقي مجلس المشاورة ولم يفصل الحكم بعد, فإنما يكون هذا حجة أن لو فصل عمر رضي الله عنه الحكم بقولهم أو ظهر منه توقف في الجواب ويكون علي رضي الله عنه ساكتا بعد ذلك ولم ينقل هذا, فإنما يحمل سكوته في الابتداء على أنه لتجربة أفهامهم أو لتعظيم الفتوى التي يريد إظهارها باجتهاده حتى لا يزدري بها أحد من السامعين أو ليروي النظر في الحادثة ويميز من الاشتباه حتى يتبين له ما هو الصواب فيظهره والظاهر أنه لو لم يستنطقه عمر رضي الله عنه لكان هو ذكر ما يستقر عليه رأيه من الجواب قبل إبرام الحكم وانقضاء مجلس المشاورة.
قوله "وأما حديث الدرة" وهو قول ابن عباس منعني درته فغير صحيح; لأنهم كانوا يناظرون ولا يهابون أحدا من إظهار الحق; لأنهم كانوا يعتقدون قبول الحق ويقدرون إظهاره نصحا والسكوت عنه غشا في الدين, والمناظرة في مسألة العول كانت مشهورة بينهم فمن البعيد أن ابن عباس لم يخبر بقوله عمر رضي الله عنهم مهابة له مع أن عمر كان يقدمه ويدعوه في الشورى مع الكبار من الصحابة لما عرف من فطنته وقوة ذهنه وقد أشار إليه بأشياء فقبلها منه واستحسنها وكان يقول له غص يا غواص شنشنة أعرفها من أحزم يعني أنه شبه ابن العباس في روايته ودهائه ومع أن عمر رضي الله عنه كان ألين للحق وأشد انقيادا له من غيره حتى كان يقول لا خير فيكم ما لم تقولوا ولا خير في ما لم أسمع, وكان يقول: رحم الله امرأ أهدى إلي عيوبي, وقال: الحمد لله الذي جعلني بين قوم إذا رغبت عن الحق قوموني ولما نهى عن المغالاة في المهور في خطبته قالت امرأة: أما سمعت قول الله عز وجل {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} [النساء:20] فتمنعنا عما أعطانا الله تعالى فقال امرأة خاصمت رجلا فخصمته. وفي رواية قيل وقال: كل الناس أفقه من عمر حتى النساء في البيوت ولما عزم على جلد الحامل قال له معاذ إن جعل الله لك على ظهرها سبيلا فلم يجعل لك على ما في بطنها سبيلا فقال لولا معاذ لهلك عمر وسمع رجلا يقرأ قوله(3/346)
مذهبه وعلى هذا الأصل يخرج أيضا أنهم إذا اختلفوا عن أصحاب النبي عليه السلام كان إجماعا على أن ما خرج من أقوالهم فباطل وكل عصر مثل ذلك
ـــــــ
تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ} [التوبو: 100] بالواو وهو كان يقرأ بغير واو فقال من أقرأك فقال أبي فدعاه فقال أقرأنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنك لتبتع القرط بالبقيع فقال صدقت, وإن شئت قلت شهدنا وغبتم ونصرنا وخذلتم وآوينا وطردتم, وإذا كان كذلك كيف يستقيم أن يقال: إنه امتنع عن إظهار قوله وحجته مهابة له فثبت أنه غير صحيح ولئن صح هذا القول منه فتأويله إبلاء العذر أي إظهاره في الامتناع عن مناظرته يعني لما عرف فضل رأي عمر رضي الله عنهما وفقهه منعه ذلك من الاستقصاء في المحاجة معه كما يكون من حال الشبان مع ذوي الأسنان في كل عصر, فإنهم يهابون الكبار فلا يستقصون في المحاجة معهم حسب ما يفعلون مع الأقران بعد ثباته على مذهبه أي بعد ثبات عمر على مذهبه يعني لما علم أنه ثابت على مذهبه ولا يرجع عنه لقوله ترك مناظرته لعدم الفائدة أو بعد ثبات ابن عباس على مذهبه يعني لما كان هو ثابتا على مذهبه لا يضره الامتناع عن مناظرة من فوقه في الدرجة احتشاما له.
قوله "وعلى هذا الأصل" وهو أن السكوت يدل على الوفاق وينعقد به الإجماع يخرج المسألة المذكورة وهي أن الصحابة ومن بعدهم إذا اختلفوا في حادثة على قولين أو أقاويل محصورة كان ذلك إجماعا منهم على أنه لا قول في هذه الحادثة سوى هذه الأقوال, وأن ما خرج منها باطل فلا يجوز إحداث قول آخر وهو مذهب الجمهور, وإنما فسر قوله: إنهم إذا اختلفوا بقوله أعني أصحاب النبي وعطف قوله وكل عصر مثل ذلك أيضا عليه; لأن في اختلاف الصحابة لا خلاف بين أصحابنا أنه إجماع وفي اختلاف من بعدهم اختلاف كما ذكرنا في آخر الباب
وزعم بعض من أنكر الإجماع السكوتي من أهل الظاهر وبعض المتكلمين أن هذا سكوت أيضا يعني اختلافهم على الأقوال المذكورة في المسألة سكوت عما وراءها وهو محتمل في نفسه فلا يدل على نفي قول آخر كما لا يدل على نفي الخلاف في المسألة الأولى إذ المحتمل ليس بحجة بل اختلافهم دليل على تسويغ الاجتهاد في الحادثة والمصير إلى ما أدى إليه الاجتهاد فيها فجاز إحداث قول آخر فيها كما لو لم يستقر الخلاف من غير تعيين أي لا يعين سكوتهم أن ما ذكروا من الأقوال هو الثابت لا غير; لأن نفي الغير نوع تعيين لها, والتعين لا يثبت بالمحتمل.
وفصل بعض الأصوليين فقال إن كان القول الحادث رافعا لما اتفقوا عليه يكون مردودا أي اختلاف الصحابة في الجد مع الأخ على قولين استحقاق كل المال والمقاسمة.(3/347)
أيضا ومن الناس من قال هذا سكوت أيضا بل اختلافهم يسوغ الاجتهاد من غير تعيين ولكنا نقول: إن الإجماع من المسلمين حجة لا يعدوه الحق والصواب بيقين, وإذا اختلفوا على أقوال فقد أجمعوا على حصر الأقوال في الحادثة ولا يجوز أن يظن بهم الجهل فلم يبق إلا ما قلنا وكذلك إذا اختلف العلماء في كل عصر على أقوال فعلى هذا أيضا عند بعض مشايخنا وقد قيل إن هذا بخلاف
ـــــــ
اتفاقا منهم على أنه له قسطا من المال فالقول الثالث وهو أنه لا يستحق شيئا يكون مردودا لاستلزامه خلاف ما اتفقوا عليه, وإن لم يكن رافعا لما اتفقوا عليه بل وافق كل قول من وجه وخالفه من وجه لا يكون مردودا مثل اختلافهم في أم وزوج أب أو زوجة وأب على قولين فقيل لها ثلث الكل في الصورتين وقيل ثلث ما يبقى في الصورتين. فالقول الثالث وهو أن يكون لها ثلث الكل في إحدى الصورتين وهي امرأة وأبوان وثلث الباقي في الأخرى لا يكون مردودا; لأنه لا يستلزم مخالفة الإجماع ولا إبطال القولين بالكلية والمانع من إحداث القول الثالث ليس إلا أحد هذين, فإذا انتفيا لزم الجواز لانتفاء المانع ووجود المقتضي وهو الاجتهاد كما لو حكم أحد الفريقين في مسألتين بحكمين والفريق الآخر بنقيضها فيهما والثالث وافق كلا في إحدى المسألتين دون الأخرى, فإنه جائز بالاتفاق لعدم استلزامه مخالفة الإجماع وبطلان القولين بالكلية فكذا هذا ولكننا نقول بأن الإجماع حجة لا نعده الحق والصواب لما سنبين, فإذا اختلفوا على أقوال كان هذا إجماعا منهم على حصر الأقوال في الحادثة إذ لو كان وراء أقوالهم قول آخر محتمل للصواب لكان اجتماعهم على هذه الأقوال إجماعا على الخطأ ولوجب نسبة الأمة إلى تضييع الحق إذ لا بد للقول الخارج من دليل ولا بد من نسبة الأمة إلى تضييعه والغفلة عنه وهو معنى قوله ولا يجوز أن يظن بهم أي بجميع الأمة الجهل بالحق والعدول عنه فكان اختلافهم على هذه الأقوال بعد استقرارهم عليها بمنزلة التنصيص منهم على أن ما هو الحق حقيقة في هذه الأقوال وماذا بعد الحق إلا الضلال وذكر بعض الأصوليين أن الأمة إذا اجتمعت على قولين فقد اجتمعت في المعنى على المنع من إحداث قول ثالث; لأن كل طائفة تحرم الأخذ إلا بما قالته أو قاله مخالفها فقط فجواز إحداث قول آخر يقتضي جواز الأخذ به وقد منعوا منه. ولا يقال إنما حظروا الأخذ إلا بما قالوه بشرط أن لا يؤدي اجتهاد غيرهم إلى قول ثالث; لأنا نقول لو جوزنا هذا الاحتمال يلزم منه أنه إنما أوجبوا التمسك بالإجماع على القول الواحد بشرط أن لا يظهر قول آخر وهو فاسد ولا يقال أيضا إنما جوزنا القول الحادث; لأن المصيب إن كان واحدا لا يلزم من تجويز القول به حقيقة إذ الاجتهاد الخطأ قد يعمل به, وإن كان كل مجتهد مصيبا لا يلزم من حقيقته بطلان ما اجتمعوا عليه; لأنا(3/348)
الأول إنما ذلك للصحابة خاصة رضي الله عنهم أجمعين أجمعين وكذلك ما خطب به بعض الصحابة من الخلفاء فلم يعترض عليه فهو إجماع لما قلنا والله أعلم.
ـــــــ
نقول لو صح هذا لصح مخالفة أي إجماع كان وهو باطل وقولهم اختلاف الصحابة يوجب تسويغ الاجتهاد قلنا إنه يوجب جواز الاجتهاد في طلب الحق من القولين فأما في قول ثالث فلا لتأديته إلى إبطال إجماعهم أو أنه يوجب جواز الاجتهاد مطلقا ولكن قبل تقرر الخلاف المستلزم للإجماع على بطلان القول الحادث فأما بعد تقرر الخلاف فلا والقول بالتفضيل يخالف الإجماع أيضا; لأن أحدا من الأمة لم يفضل ولأنه يستلزم تخطئة كل الأمة لاستلزامه تخطئة كل واحد من الفريقين في بعض ما ذهب إليه فيكون فاسدا., فإن قيل إن مسروقا أحدث في مسألة الحرام وهي ما إذا قال لامرأته أنت علي حرام قولا آخر بعد اختلاف الصحابة فيها على خمسة أقوال فقال لا أبالي أحرم امرأتي أو قصعة من ثريد يعني أنه ليس بشيء وأحدث محمد بن سيرين في أم وزوج أو زوجة وأب قولا ثالثا بعد اختلاف الصحابة فيها على قولين وهما استحقاقها ثلث كل المال في الصورتين أو ثلث الباقي في الصورتين فقال لها ثلث الكل في امرأة وأبوين وثلث الباقي في زوج وأبوين وأقرهما سائر العلماء ولم ينكروا عليهما مخالفة الإجماع فدل أن إحداث قول آخر جائز قلنا يجوز أن يكون إحداث القول منهما قبل استقرار الخلاف وربما كان بعضهم في مهلة النظر فيجوز إحداث قول آخر مع أنهما كانا معاصرين للصحابة وكانا من أهل الاجتهاد في زمانهم فلا ينعقد لهم إجماع بدون رأيهما ولم يلزم من مخالفتهما الصحابة مخالفة الإجماع على أنا نقول أنهما محجوجان بأقوال الصحابة, وإن قولهما مردود لمخالفتهما الإجماع.
قوله "وكذلك" أي وكاختلاف الصحابة اختلاف العلماء في كل عصر على أقوال, فإنه يوجب رد القول الحادث بعد استقرار الخلاف; لأن الدليل الذي ذكرنا لا يفصل بين اختلاف الصحابة واختلاف غيرهم وبعض مشايخنا قالوا إن هذا أي اختلاف من بعد الصحابة يخالف اختلاف الصحابة فيما ذكرنا إنما ذلك أي رد القول الحادث مختص بأقوال الصحابة لما لهم من الفضل والسابقية في الدين ما ليس لغيرهم ولكن هذا إنما يستقيم على قول من جعل إجماع الصحابة حجة دون إجماع من بعدهم وسيظهر لك فساد ذلك. وكذلك أي وكتنصيص البعض وسكوت الباقين ما خطب به بعض الصحابة من الخلفاء أي بين حكما من أحكام الشرع في خطبته فلم يعترض عليه فهو إجماع لما قلنا من وجوب إظهار الحق وحرمة السكوت لو كان مخالفا فلو لم يجعل سكوتهم تسليما كان فسقا ألا ترى أن أبا ذر قال لعمر رضي الله عنهما في خطبته لا يقبل قولك; لأنك خالفت النبي وأبا(3/349)
-----------------------------------------------------
ـــــــ
بكر فإني مررت على بابك فرأيت قدرين يغليان ولم يكن للنبي ولا لأبي بكر إلا قدر واحد فاعتذر عمر وقال إن في أحديهما دواء وفي الأخرى طعاما وقسم عمر رضي الله عنه حللا بين الصحابة فأعطى لكل واحد حلة ثم خطب في حلتين وقال في خطبته اسمعوا فقال سلمان رضي الله عنه لا نسمع; لأن فعلك يخالف قولك, فإنك قد جرت في القسمة وأخذت حلتين وأعطيت غيرك حلة حلة فقال قد استعرت أحديهما من ابني وليس لي إلا حلة واحدة فقال الآن نسمع قولك فلما لم يسكتوا عما هو داخل في حد الإباحة ولكنه مخل بدقائق التقوى فكيف يظن بهم السكوت فيما كان الحق بخلافه عندهم وقوله من الخلفاء ليس بقيد لازم بل لو خطب غيرهم وسكتوا كان إجماعا إلا أن في ذلك الزمان لم يكن يخطب إلا الخلفاء والأمراء فلذلك قال من الخلفاء.(3/350)
"باب الأهلية"
قال الشيخ الإمام رضي الله عنه أهلية الإجماع إنما تثبت بأهلية الكرامة وذلك لكل مجتهد ليس فيه هوى ولا فسق أما الفسق فيورث التهمة ويسقط
ـــــــ
"باب الأهلية"
اعلم أن الإجماع إنما صار حجة بالنصوص الواردة بلفظ الأمة مثل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143] وقوله جل ذكره: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 10] وقوله عليه السلام: "لا تجتمع أمتي على الضلالة1" وهذا اللفظ, وإن لم يتناول الكفار في عرف الشرع, ويتناول بظاهره كل مسلم لكن له طرفان واضحان والنفي والإثبات وأوساط متشابهة أما الواضح في النفي فالأطفال والمجانين والأجنة فإنهم, وإن كانوا من الأمة فقد نعلم أنه ما أريد بالأمة في قوله عليه السلام "لا تجتمع أمتي على الضلالة" وأمثاله إلا من يتصور منه الوفاق الخلاف في المسألة بعد فهمها ولا مدخل فيه من لا يفهمها وكذا كل من سيوجد إلى يوم القيامة, وإن كان اللفظ ظاهرا فيه; لأن ما دل على كون الإجماع حجة دل على وجوب التمسك به ولا يمكن التمسك بقول الكل قبل يوم القيامة لعدم كمال المجمعين ولا في يوم القيامة لانقطاع التكليف وأما الواضح في الإثبات فكل مجتهد مقبول الفتوى; إذ هو من أهل الحل والعقد قطعا فلا بد من موافقته في الإجماع وأما الأوساط المتشابهة فالعوام المكلفون, والفقيه الذي ليس بأصولي, والأصولي الذي ليس بفقيه, والمجتهد الفاسق والمبتدع وأمثالهم ثم من الناس من اشترط موافقة الأوساط أيضا فقال: إن الإجماع الموجب للعلم لا يكون إلا باتباع فرق الأمة خواصهم وعوامهم من أهل الحق وأهل البدعة, وإليه ذهب القاضي أبو بكر الباقلاني; لأن الحجة إجماع الأمة, ومطلق اسم الأمة يتناول الكل لكن خص منه الصبي والمجنون ومن لم يوجد لعدم الفهم التام ولعدم تصور الوفاق
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في الفتن حديث رقم 2167. وابن ماجة في الفتن حديث رقم 3950.والإمام أحمد في مسنده 6/396.(3/351)
العدالة وبأهلية أداء الشهادة وصفة الأمر بالمعروف ثبت هذا الحكم وأما الهوى
ـــــــ
والخلاف منهم فيبقي الباقي ألا تري أن قوله عليه السلام: "ستفترق أمتي علي كذا1" تناول الكل فكذا ها هنا ولأن قول الأمة إنما صار حجة بعصمتها عن الخطأ ولا بعد أن تكون العصمة من صفات الهيئة الاجتماعية من الخاصة والعامة, والشيخ لم يعتبر إلا اتفاق أهل الاجتهاد الموصوفين بالعدالة ومجانبة البدعة كما هو مذهب الجمهور فقال: أهلية الإجماع إنما يثبت بأهلية الكرامة; لأن الإجماع إنما صار حجة كرامة لهذه الأمة فلا بد من أهلية الكرامة فيهم وذلك أي ثبوت الأهلية لكل مجتهد ليس فيه هوى أي بدعة ولا فسق أي فسق ظاهر يعني أهلية الإجماع تثبت بصفة الاجتهاد والاستقامة في الدين عملا واعتقادا; لأن النصوص والحجج التي جعلت الإجماع حجة تدل على اشتراط هذه المعاني أما اشتراط الاستقامة عملا وهي العدالة فلأن حكم الإجماع وهو كونه ملزما إنما ثبت بأهلية أداء الشهادة كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] وبصفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال عز وجل {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] وأهلية أداء الشهادة تثبت بصفة العدالة وكذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر; لأنهما يوجبان اتباع الآمر والناهي فيما يأمر وينهى; إذ لو لم يلزم الاتباع لا يكون فيهما فائدة, وإنما يلزم اتباع العدل المرضي فيما يأمر به وينهى عنه دون غيره; لأن ذلك بطريق الكرامة, والمستحق للكرامات على الإطلاق من كان بهذه الصفة, والفسق يسقط العدالة فلم يبق به أهلا لأداء الشهادة ولا يوجب اتباع قوله; لأن التوقف في قوله واجب بالنص وذلك ينافي وجوب الاتباع ويورث التهمة; لأنه لما لم يتحرز من إظهار فعل ما يعتقده باطلا لا يتحرز عن إظهار قول يعتقده باطلا أيضا فثبت أن الفاسق ليس من أهل الإجماع وإنه لا اعتبار لقوله وافق أم خالف وقال بعض أصحاب الشافعي كأبي إسحاق الشيرازي وإمام الحرمين: يعتبر قوله: ولا ينعقد الإجماع بدونه; لأن الفاسق المجتهد لا يلزمه أن يقلد غيره بل يتبع فيما يقع له ما يؤدي إليه اجتهاده فكيف ينعقد الإجماع عليه في حقه, واجتهاده يخالف اجتهاد من سواه, وقال بعضهم: إن الفاسق يدخل في الإجماع من وجه ويخرج من وجه. وبيان ذلك أن المجتهد الفاسق إذا أظهر خلافه يسأل عن دليله لجواز أنه يحمله فسقه على اعتقاد شرع لغير دليل فإذا أظهر من استدلاله دليلا صالحا على خلافه يرتفع الإجماع بخلافه وصار داخلا في جملة أهل الإجماع وإن كان فاسقا; لأنه
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في السنة، حديث رقم 4596، والترمذي في الإسيمان حديث رقم 2640، وابن ماجة في الفتن، حديث رقم 3991، وافمام أحمد في المسند 2/332.(3/352)
فإن كان صاحبه يدعو الناس إليه فسقطت عدالته بالتعصب الباطل وبالسفه وكذلك إن مجن به, وكذلك إن غلا حتى كفر به مثل خلاف الروافض والخوارج في الإمامة فإنه من جنس العصبية وصاحب الهوى المشهور به ليس من الأمة على الإطلاق فأما صفة الاجتهاد فشرط في حال دون حال أما في أصول الدين
ـــــــ
من أهل الاجتهاد, وإن لم يظهر دليلا صالحا على خلافه لم يعتد بخلافه ويفارق العدل الفاسق في هذا; لأن العدل إذا أظهر خلافه جاز الإمساك عن استعلام دليله; لأن عدالته مانعة من اعتقاد شرع لغير دليل والجواب عنه ما ذكرنا أن ثبوت الإجماع بطريق الكرامة بناء على صفة وهو الوساطة بقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143] فلا يثبت بدون هذه الصفة ألا ترى أن كافرا لو خالف الإجماع وذكر دليلا صالحا لم يلتفت إلى خلافه; لأنه ليس بأهل فكذا الفاسق.
قوله: "وأما الهوى" فكذا يعني اتباع الهوى والبدعة مانع من أهلية الإجماع بشرط أن يكون صاحبه داعيا إليه أو ماجنا به, أو يكون غالبا فيه بحيث يكفر به فإنه إذا كان يدعو الناس إلى معتقده سقطت عدالته; لأنه يتعصب لذلك حينئذ تعصبا باطلا حتى يوصف بالسفه فيصير متهما في أمر الدين فلا يعتبر قوله في الإجماع والتعصب تفعل من العصبية, وهي الخصلة المنسوبة إلى العصبة, وهي التقوية والنصرة ورأيت في بعض الحواشي أن المتعصب من يكون عقيدته مانعة من قبول الحق عند ظهور الدليل, وكذلك إن مجن بالهوى أي لم يبال بما قال وما صنع وما قيل له; لأن ترك المبالاة مسقط للعدالة أيضا ومصدره المجون والمجانة اسم منه, والفعل من باب طلب وكذلك إن غلا فيه حتى وجب إكفاره به لا يعتبر خلافه ووفاقه أيضا لعدم دخوله في مسمى الأمة المشهود لها بالعصمة وإن صلى إلى القبلة واعتقد نفسه مسلما; لأن الأمة ليست عبارة عن المصلين إلى القبلة بل عن المؤمنين وهو كافر وإن كان لا يدري أنه كافر.
وقوله: "مثل خلاف الروافض والخوارج في الإمامة" أي خلاف الروافض في إمامة الشيخين وخلاف الخوارج في إمامة علي رضي الله عنه نظير القسم الأول ولهذا قال: فإنه من جنس العصبية ونظير القسم الثاني ما نقل عن الروافض من الهذيانات في حق الصحابة والحكايات التي افتروها عليهم حملهم على ذلك تحابيهم وتعصبهم في هواهم ونظير القسم الثالث ما نقل عن بعض المجسمة من الغلو في التشبيه وعن بعض الروافضة من الغلو في أمر علي حتى قالوا: غلط جبريل في تبليغ الوحي إلى محمد وعن بعض أهل الأهواء من نفي علم الله تعالى بالمعدوم حتى قالوا: لم يعلم الله شيئا حتى خلق الأشياء فهذا كله كفر. قوله: "وصاحب الهوى المشهور به" أي الذي غلا في هواه حتى خرج عن ربقة(3/353)
الممهدة مثل نقل القرآن, ومثل أمهات الشرائع فعامة المسلمين داخلون مع الفقهاء في ذلك الإجماع فأما ما يختص بالرأي والاستنباط وما يجري مجراه فلا يعتبر فيه إلا أهل الرأي والاجتهاد وكذلك من ليس من أهل الرأي والاجتهاد من
ـــــــ
الإسلام ليس من الأمة على الإطلاق جواب عما ذكروا أنه من الأمة بدليل قوله عليه السلام: "ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة" فيشترط وفاقه لثبوت الإجماع فقال: إنه ليس من الأمة على الإطلاق; لأنه من أمة الدعوة كسائر الكفار لا من أمة المتابعة, ومطلق الأمة تتناول أمة المتابعة دون أمة الدعوة قال شمس الأئمة رحمه الله: وإن كان لا يدعو الناس إلى هواه ولكنه مشهور به فقال بعض مشايخنا فيما يضلل هو فيه: لا معتبر بقوله; لأنه إنما يضلل لمخالفته نصا موجبا للعلم, وكل قول كان بخلاف النص فهو باطل, وفيما سوى ذلك يعتبر قوله: ولا يثبت الإجماع مع مخالفته; لأنه من أهل الشهادة; ولهذا كان مقبول الشهادة في الأحكام. قال: والأصح عندي أنه إن كان متهما بالهوى, ولكنه غير مظهر له فالجواب هكذا, فأما إذا كان مظهرا لهواه فإنه لا يعتد بقوله في الإجماع; لأن المعنى الذي لأجله قبلت شهادته لا يوجد ها هنا فإنه يقبل لانتفاء تهمة الكذب على ما قال محمد رحمه الله قوم عظموا الذنوب حتى جعلوها كفرا لا يهتمون بالكذب في الشهادة, وهذا يدل على أنهم لا يؤتمنون في أحكام الشرع, ولا يعتبر قولهم فيه فإن الخوارج هم الذين يقولون الذنب نفسه كفر, وقد كفروا أكثر الصحابة الذين عليهم مدار أحكام الشرع, وإنما عرفناها بنقلهم فكيف يعتمد على قول هؤلاء, وأدنى ما فيه أنهم لا يتعلمون ذلك إذا كانوا يعتقدون كفر الناقلين, ولا معتبر بقول الجهال في الإجماع قال الغزالي رحمه الله: لو خالف المبتدع في مسألة بعد ما حكمنا بكفره بدليل عقلي لم يلتفت إلى خلافه, فإن تاب وهو مصر على المخالفة في تلك المسألة التي أجمعوا عليها في حال كفره لم يلتفت إلى خلافه بعد الإسلام; لأنه مسبوق بإجماع كل الأمة, وكان المجمعون في ذلك الوقت كل الأمة دونه فصار كما لو خالف كافر جميع كافة الأمة ثم أسلم, وهو مصر على ذلك الخلاف فإن ذلك لا يلتفت إليه إلا على قول من يشترط انقراض العصر في الإجماع.
قوله: "فأما الاجتهاد فشرط في حال دون حال" إن الشريعة تنقسم إلى ما يشترك في دركه الخواص والعوام ولا يحتاج فيه إلى رأي كالصلوات الخمس ووجوب الصوم والزكاة ونحوها وهو المراد من قوله: ومثل أمهات الشرائع أي أصولها, وهذا مجمع عليه من جهة الخواص والعوام, ويشترط في انعقاد الإجماع عليه اتفاقهم جميعا حتى لو فرض خلاف بعض العوام فيه لا ينعقد الإجماع إلا أنه غير واقع وإلى ما يختص بدركه الخواص من أهل الرأي والاجتهاد وهو ما يحتاج فيه إلى الرأي كتفصيل أحكام الصلاة والنكاح والطلاق(3/354)
العلماء فلا يعتبر في الباب إلا فيما يستغنى عن الرأي ومن الناس من زاد في هذا,
ـــــــ
والبيع فما أجمع عليه الخواص فالعوام متفقون على أن الحق فيه ما أجمع عليه أهل الحل والعقد لا يضمرون فيه خلافا فهو مجمع عليه من جهة الخواص والعوام أيضا إلا أن الشرط في انعقاد الإجماع في هذا القسم اتفاق أهل الرأي والاجتهاد دون غيرهم حتى لو خالف بعض العوام فيما أجمعوا عليه لا يعتبر بخلافه عند الجمهور; لأن العامي ليس بأهل لطلب الصواب; إذ ليس له آلة هذا الشأن فهو كالصبي والمجنون في نقصان الآلة, ولا يفهم من عصمة الأمة من الخطاب إلا عصمة من يتصور منه الإصابة لأهليته, ولأن العصر الأول من الصحابة قد أجمعوا على أنه لا عبرة بالعوام في هذا الباب, ولأن العامي إذا قال قولا علم أنه يقول عن جهل, وأنه ليس يدري ما يقول, وأنه ليس أهلا للوفاق والخلاف فيه, وعن هذا لا يتصور صدوره من عامي عاقل; لأنه يفوض ما لا يدري إلى من يدري وهذه مسألة فرضت, ولا وقوع لها أصلا كذا ذكره الغزالي رحمه الله وما يجري مجراه الضمير عائد إلى ما أي ما يجري مجرى ما يختص بالرأي مثل المقادير, فإن الرأي وإن كان لا مدخل له فيها, ولكن أجروا بعضها مجرى ما يدخل فيه الرأي كتقدير البلوغ بالسن ونحوه على ما مر بيانه فلا يعتبر فيه إلا أهل الرأي والاجتهاد أي لا يعتبر فيه العوام كما اعتبر في القسم الأول فينعقد الإجماع بدونهم وكذلك أي ومثل العوام في عدم الاعتبار من ليس من أهل الرأي والاجتهاد من العلماء كالمتكلم الذي لا يعرف إلا علم الكلام والمفسر الذي لا معرفة له بطريق الاجتهاد والمحدث الذي لا بصر له في وجوه الرأي وطرق المقاييس والنحوي الذي لا علم له بالأدلة الشرعية في الأحكام; لأن هؤلاء باعتبار نقصان آلاتهم في درك الأحكام بمنزلة العوام.
واختلف فيمن يحفظ أحكام الفروع ولا معرفة له بأصول الفقه ويعبر عنه بالفروعي وفيمن تفرد بأصول الفقه ولم يحفظ الفروع ويعبر عنه بالأصولي فمنهم من اعتبر الأصولي دون الفروعي لكونه أقرب إلى مقصود الاجتهاد لعلمه بمدارك الأحكام وأقسامها وكيفية دلالاتها وكيفية تلقي الأحكام من منطوقها ومفهومها ومعقولها إلى غير ذلك بخلاف الفروعي ومنهم من اعتبر الفروعي دون الأصولي لعلمه بتفاصيل الأحكام ومنهم من اعتبرهما نظرا إلى وجود نوع من الأهلية الذي عدم ذلك في العامة, ومنهم من نفاهما وإليه يشير كلام الشيخ نظرا إلى عدم الأهلية المعتبرة الموجودة في أئمة الحل والعقد من المجتهدين وأما قولهم: لفظ الأمة يتناول الجميع فيشترط اشتراط الكل فيقول: إنه عام قد خص منه فنحمله على الفقهاء العارفين بطرق الأحكام, ونقول أيضا: إنما كان قول الأمة حجة إذا قالوه عن استدلال, وهي إنما عصمت عن الخطأ في استدلالها, والعامة ليست من أهل النظر والاستدلال ليعصموا من الخطأ فصار وجودهم وعدمهم بمنزلة إلا فيما يستغنى عن الرأي(3/355)
وقال: لا إجماع إلا للصحابة لأنهم هم الأصول في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقال بعضهم: لا يصح إلا من عترة الرسول عليهم السلام فهم
ـــــــ
مثل ما ذكرنا من أصول الدين وأمهات الشرائع فإنه يعتبر قولهم فيه كما يعتبر قول العامة وكذا إذا وقع الخلاف في مسألة تتبنى على علومهم مثل النحو أو الكلام فإنه يعتبر قول كل عالم فيما هو منسوب إليه قوله: "ومن الناس من زاد على هذا" أي على اشتراط الاجتهاد في الإجماع كون المجمعين من الصحابة فقال: لا إجماع إلا للصحابة وهو مذهب داود وشيعته من أهل الظاهر وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه; لأن الإجماع إنما صار حجة بصفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قلنا والصحابة هم الأصول في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر; لأنهم كانوا هم المخاطبين بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وبقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} دون غيرهم إذ الخطاب يتناول الموجود دون المعدوم وكذا قوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] وقوله عليه السلام "لا تجتمع أمتي على الضلالة" خاص بالصحابة الموجودين في زمن النبي عليه السلام إذ هم كل المؤمنين وكل الأمة; لأن من لم يوجد بعد لا يكون موصوفا بالإيمان فلا يكون من الأمة ولأنه لا بد في الإجماع من اتفاق الكل, والعلم باتفاق الكل لا يحصل إلا عند مشاهدة الكل مع العلم بأنه ليس هناك أحد سواهم, وذلك لا ينافي إلا في الجمع المحصور كما في زمان الصحابة أما في سائر الأزمنة فيستحيل معرفة اتفاق جميع المؤمنين على شيء مع كثرتهم وتفرقهم في مشارق الأرض ومغاربها ولأن الصحابة أجمعوا على أن كل مسألة لا تكون مجمعا عليها يسوغ فيها الاجتهاد فالمسألة التي لا تكون مجمعا عليها بين الصحابة تكون محلا للاجتهاد بإجماعهم فلو اعتبر إجماع غيرهم لخرجت عن أن تكون محلا للاجتهاد وذلك يفضي إلى تناقض الإجماعين.
قوله: "وقال بعضهم" وهم الزيدية والإمامية من الروافض: لا يصح الإجماع إلا من عترة الرسول عليه السلام أي قرابته متمسكين في ذلك بالكتاب وهو قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب:33] أخبر بنفي الرجس عنهم بكلمة إنما الحاصرة الدالة على انتفائه عنهم فقط, والخطأ من الرجس فيكون منفيا عنهم فقط, وبالسنة, وهي قوله عليه السلام: "إني تارك فيكم الثقلين فإن تمسكتم بهما لم تضلوا كتاب الله وعترتي1" حصر التمسك بهما فلا يقف إقامة الحجة
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في المناقب حديث رقم3786. والإمام أحمد في المسند 3/14. ومسلم في نحوه حديث رقم 3408.(3/356)
المخصوصون بالعرق الطيب المجبولون على سواء السبيل, ومنهم من قال ليس ذلك إلا لأهل المدينة فهم أهل حضرة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن هذه أمور زائدة على
ـــــــ
على غيرهما وبالمعقول وهو أنهم اختصوا بالشرف والنسب فكانوا أهل بيت الرسالة ومهبط الوحي والنبوة ووقفوا على أسباب التنزيل ومعرفة التأويل وأفعال الرسول وأقواله بكثرة المخالطة فكانوا أولى بهذه الكرامة.
قوله: "ومنهم من قال ليس ذلك" أي لا إجماع إلا لأهل المدينة نقل عن مالك رحمه الله أنه قال: أهل المدينة إذا أجمعوا على شيء لم يعتد بخلاف غيرهم متمسكا بقوله عليه السلام: "إن المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد1" والخطأ من الخبث فكان منفيا عن أهل المدينة وإذا انتفى عنهم وجب متابعتهم ضرورة, وقوله عليه السلام: "إن الإسلام ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها2" أي ينضم إليها ويجتمع بعضه إلى بعض فيها, وقوله عليه السلام: "لا يكيد أحد أهل المدينة إلا اماع كما يماع الملح في الماء3" إلى غيرها من الأخبار التي تدل على زيادة خطرها وكثرة شرفها وبأن المدينة دار هجرة النبي عليه السلام وموضع قبره ومهبط الوحي, ومجمع الصحابة ومستقر الإسلام ومتبوأ الإيمان, وفيها ظهر العلم, ومنها صدر فلا يجوز أن يخرج الحق عن قول أهلها, وإنهم شاهدوا التنزيل وسمعوا التأويل, وكانوا أعرف بأحوال الرسول عليه السلام من غيرهم فوجب أن لا يخرج الحق من قولهم.
"قوله: إلا أن هذه" جواب عن هذه الأقوال أي لكن هذه الأشياء وهي اشتراط كون المجمعين من الصحابة أو من عترة الرسول أو من أهل المدينة أمور زائدة على أهلية الإجماع فإنها تثبت بصفة الوساطة والشهادة والأمر بالمعروف, وهذه المعاني لا تختص بزمان ولا بمكان ولا بقوم وما ثبت به الإجماع حجة من نحو قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143] {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] وقوله عليه السلام "لا تجتمع أمتي" ، "عليكم بالسواد الأعظم" وغيرها لا يوجب اختصاص الإجماع بشيء من هذا أي مما ذكرنا; لأن الصحابة وعترة الرسول وأهل المدينة كما كانوا أمة محمد عليه السلام كان عترتهم من مؤمني أهل كل عصر ومصر كذلك أما الجواب عما قالوا فنقول: ما قال الفريق الأول من أن
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الحج، حديث رقم 1383.
2 أخرجه مسلم في الإيمان حديث رقم 147.
3 أخرجه مسلم في الحج حديث رقم 1368.(3/357)
الأهلية وما ثبت به الإجماع حجة لا يوجب الاختصاص بشيء من هذا وإنما هذا كرامة الأمة ولا اختصاص للأمة بشيء من هذا والله أعلم.
ـــــــ
النصوص الموجبة لكون الإجماع حجة تتناول الموجودين في ذلك الزمان دون غيرهم فاسد; لأنه يلزم منه أن لا ينعقد إجماع الصحابة بعد موت من كان موجودا عند ورود تلك النصوص; لأن إجماعهم ليس إجماع جميع المخاطبين وقت ورودها وقد أجمعنا على صحة إجماع من يبقى من الصحابة بعد الرسول عليه السلام وبعد من مات بعده من الصحابة وليس ذلك إلا; لأن الماضي غير معتبر كما أن الآتي غير منتظر وقولهم: العلم باتفاق الكل لا يحصل إلا عند مشاهدة الكل فاسد أيضا; لأن حاصله يرجع إلى تعذر حصول الإجماع في غير زمان الصحابة وهذا لا نزاع فيه إنما النزاع في أنه لو حصل كان حجة وكذا شبهتهم الثالثة فاسدة أيضا; لأنه لو صح ما قالوا لزم امتناع إجماع الصحابة على المسائل الاجتهادية بعين ما ذكروا, وهو باطل لإجماعهم على كثير من المسائل الاجتهادية ولئن سلمنا إجماعهم على تجويز الاجتهاد فهو مشروط بعدم الإجماع وحينئذ لا يلزم التعارض; لأن الإجماع إذا وجد على حكم المسألة زال شرك الإجماع على التجويز فيزول بزوال شرطه وكذا ما تمسك به الفريق الثاني; لأن المراد من قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب: 33] أزواج النبي عليه السلام عند عامة أهل التفسير, ولئن سلمنا أن المراد قرابة الرسول عليه السلام فالمراد من الرجس الشرك أو الإثم أو الشيطان أو الأهواء والبدع أو البخل والطمع على ما ذكر في التفسير فلا يصح الاجتماع به وكذا قوله عليه السلام "تركت فيكم الثقلين" من الآحاد, وخبر الواحد ليس بحجة عندهم على أنه يفيد وجوب التمسك بالكتاب والعترة لا بالعترة وحدها مع أنه معارض بنحو "أصحابي كالنجوم" الدال على جواز التمسك بقول كل واحد من الصحابة وكون المتمسك به مهتديا, وإن خالف ذلك الصحابي أهل البيت وحينئذ لا يكون قولهم واجب الاتباع. وكذا ما تمسك به مالك; لأن النصوص تدل على زيادة فضلها لا على أن إجماع أهلها دون غيرهم حجة قطعية يجب متابعته ضرورة بل موافقة الغير شرط في وجوب المتابعة, ولأن الخبث محمول على من كره المقام بها; إذ كراهة ذلك مع جوار الرسول عليه السلام ومسجده وما ورده من البناء على المقيمين بها يدل على ضعف الدين أو; لأن نفيها الخبث مخصوص بزمان الرسول عليه السلام وقوله "المدينة دار الهجرة" إلى آخره مسلم, ولكن لا يدل ذلك على الاحتجاج بإجماع أهلها فإن مكة مع اشتمالها على البيت والمقام والزمزم والصفا والمروة ومواضع المناسك وكونها مولد النبي ومنشأ إسماعيل ومنزل إبراهيم عليهما السلام لا يكون إجماع أهلها حجة, ولم يذهب إليه أحد فعرفنا أنه لا أثر(3/358)
----------------------------------------------------
ـــــــ
للبقاع في ذلك بل الاعتبار لعلم العلماء واجتهاد المجتهدين, ولو كانوا في دار الحرب مثلا قال السمعاني: وكما أن المدينة كانت مجمع الصحابة ومهبط الوحي فقد كانت دار المنافقين ومجمع أعداء الدين وفيهم من قال: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون: 7], ومن قال: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8] ومنها الماردون على النفاق وفيها طعن عمر وحوصر عثمان رضي الله عنهما حتى قتل وقال بعض أهل المدينة لبعض أهل العراق من عندنا خرج العلم فقال نعم ولكن لم يعد إليكم قال الغزالي رحمه الله: إن أراد مالك أن المدينة هي الجامعة للصحابة فذلك ليس بمسلم له; لأنها لم تجمع جميع العلماء لا قبل الهجرة ولا بعدها بل لا يزالون متفرقين في الأسفار والغزوات والأمصار, وقد ارتحل جماعة كثيرة إلى الشام ونيف وثلاثمائة إلى العراق وفرقة جمة إلى خراسان وسائر البلاد, وأقاموا بها حتى ماتوا وإن أراد أن قولهم حجة; لأنهم الأكثرون والعبرة بقول الأكثر فهو فاسد أيضا لما سيذكر, وإن أراد أن لاتفاقهم في قول أو عمل على أنهم استدلوا إلى سماع قاطع فإن الوحي نزل فيهم فلا يشذ عنهم مدارك الشريعة فهو تحكم; إذ لا يستحيل أن يسمع غيرهم حديثا من رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر أو في المدينة لكنه يخرج منها قبل نقله فالحجة في الإجماع ولا إجماع.(3/359)
باب شروط الإجماع"
قال الشيخ الإمام رضي الله عنه قال أصحابنا رحمهم الله انقراض العصر ليس بشرط لصحة الإجماع حجة, وقال الشافعي رحمه الله: الشرط أن يموتوا على ذلك لاحتمال رجوع بعضهم لكنا نقول ما ثبت به الإجماع حجة لا فصل
ـــــــ
"باب شروط الإجماع" الانقراض الانقطاع وانقراض العصر أي أهله عبارة عن موت جميع من هو من أهل الاجتهاد في وقت نزول الحادثة بعد اتفاقهم على حكم فيها, واختلفوا في اشتراطه لانعقاد الإجماع فقال عامة العلماء: إنه ليس بشرط لانعقاد الإجماع ولا لصيرورته حجة, وهو أصح مذاهب الشافعي, وذهب أحمد بن حنبل وأبو بكر بن فورك إلى أنه شرط لانعقاد الإجماع وإليه ذهب الشافعي في قول, وقال بعض أصحابه كأبي إسحاق الإسفراييني إن كان الإجماع لاتفاقهم على الحكم قولا وفعلا لا يشترط الانقراض لانعقاد الإجماع وإن كان الإجماع بنص البعض وسكوت الباقين يشترط, وهو قول بعض المعتزلة, وقال بعضهم: إن كان الإجماع عن قياس كان شرطا, وإلا فلا وإليه ذهب إمام الحرمين.
ثم القائلون بالاشتراط اختلفوا في فائدته, فقال أحمد بن حنبل ومن تابعه: إنها جواز الرجوع قبل الانقراض لا دخول من سيحدث في إجماعهم واعتبار موافقته للإجماع حتى لو أجمعوا وانقرضوا مصرين على ما قالوا يكون إجماعا, وإن خالفهم المجتهد اللاحق في زمانهم, وقياس هذه الطريقة أن لا يكون المخالف عارفا للإجماع أيضا لوقوع الخلاف قبل الحكم بانعقاد الإجماع إذ اتفاقهم ليس إجماعا بعد بل الأمر موقوف فإذا انقرضوا لم يبق ذلك الخلاف معتبرا ويكون قول المخالف إذ ذاك خرقا للإجماع. وذهب الباقون منهم إلى أنها جواز الرجوع وإدخال من أدرك عصرهم من المجتهدين في إجماعهم أيضا واعتبار موافقتهم لا إدخال من أدرك عصر من أدرك عصرهم فيه; لأنه يؤدي إلى ألا ينعقد الإجماع أصلا.
احتج من شرط الانقراض بأن الإجماع إنما صار حجة بطريق الكرامة بناء على وصف(3/360)
فيه وإنما ثبت مطلقا فلا يصح الزيادة عليه, وهو نسخ عندنا ولأن الحق لا يعدو الإجماع كرامة له لا لمعنى يعقل فوجب ذلك بنفس الإجماع فإذا رجع
ـــــــ
الاجتماع فلا يثبت الاجتماع إلا باستقرار الآراء واستقرارها لا يثبت إلا بانقراض العصر; لأن قبله يكون الناس في حال تأمل وتفحص, وكان رجوع الكل أو البعض محتملا ومع احتمال الرجوع لا يثبت الاستقرار فلا يثبت الإجماع. يوضحه أن أبا بكر رضي الله عنه كان نهى التسوية في القسمة ولا يفضل من كان له فضيلة من سبق الإسلام والعلم وقدم العهد على غيره ولم يخالفه في ذلك أحد من الصحابة, ولما صار الأمر إلى عمر رضي الله عنه خالفه فيه وفضل في القسمة بالسبق في الإسلام والعلم ولم ينكر عليه أحد وإنما صحت هذه المخالفة باعتبار أن العصر لم ينقرض وأن عمر رضي الله عنه كان يرى عدم جواز بيع أمهات الأولاد ووافقه عليه الصحابة, ثم إن عليا رضي الله عنه خالفه من بعد, حتى قال له عبيدة السلماني بأنك في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك ولم يكن ذلك إلا; لأن العصر لم ينقرض فعرفنا أن بدون الانقراض لا يثبت حكم الإجماع. لكنا نقول ما ثبت به الإجماع حجة من النصوص الواردة في الكتاب والسنة لا يفصل بين ما إذا انقرض العصر ولم ينقرض أي يدل على أنه حجة قبل الانقراض كما هو حجة بعد الانقراض, فلا يصح الزيادة أي زيادة اشتراط الانقراض عليه أي على ما ثبت به الإجماع; لأنه إثبات شيء لم يدل عليه دليل أو لأن الزيادة تجري مجرى النسخ, وهو لا يجوز بما ذكروا من الدليل, ولأن الحق لا يعدو الإجماع أي لا يجاوزه كرامة أي كرم الله تعالى بها لأهل الإجماع من هذه الأمة لا لمعنى يعقل بدليل أنه مختص بهذه الأمة فلو كان لمعنى معقول لم يختص بأمة دون أمة, فإذا كان كذلك يثبت ذلك أي عدم مجاوزة الحق عنهم بنفس الإجماع من غير توقف على انقراض العصر; لأنه لو توقف عليه جاز أن يكون الأمة حين اتفقت أجمعت على الخطأ وأنه غير جائز. وقولهم الاستقرار لا يثبت إلا بانقراض العصر; لأن قبله حال تأمل وتفحص فاسد; لأن الكلام فيما إذا مضت مدة التأمل وقطعت الأمة على الاتفاق وأخبروا عن أنفسهم أنهم معتقدون ما اتفقوا عليه فيكون اشتراطه بلا حاجة فيكون فاسدا. وكذا تعلقهم بحديث التسوية في القسمة; لأن عمر قد خالف أبا بكر رضي الله عنه في زمانه وناظره في ذلك فقال: أتجعل من جاهد في سبيل الله بماله ونفسه طوعا كمن دخل في الإسلام كرها؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه: إنما عملوا لله فأجرهم على الله, وإنما الدنيا بلاغ أي بلغة العيش وهم في الحاجة إلى ذلك سواء. ولم يرو عن عمر رضي الله عنه أنه رجع عن قوله إلى قول أبي بكر فلا يكون الإجماع بدون رأيه منعقدا, فلما آل الأمر إليه عمل برأيه في حال إمامته وكذا مخالفة علي رضي الله عنه في بيع أمهات الأولاد لم يكن بعد(3/361)
بعضهم من بعد لم يصح رجوعه عندنا, وقال الشافعي: يصح لأنه ما كان ينعقد إجماعهم إلا به فكذلك لا يبقى إلا به ولكنا نقول بعد ما ثبت الإجماع لم يسعه الخلاف وصار يقينا كرامة وفي الابتداء كان خلافه مانعا عندنا.وقال بعض الناس: لا يشترط اتفاقهم بل خلاف الواحد لا يعتبر ولا خلاف الأقل; لأن
ـــــــ
انعقاد الإجماع; فإنه روي عن جماعة من أصحابه أنهم كانوا يرون بيع أمهات الأولاد في زمان عمر رضي الله عنه منهم جابر بن عبد الله وغيره فلا يكون الإجماع منعقدا أيضا. وقول عبيدة: رأيك في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك دليل على أن مع عمر جماعة لا أن معه جميع الصحابة. وإنما اختار أبو عبيدة أن يكون قول علي منضما إلى قول عمر رضي الله عنهما لأنه كان يرجح قول الأكثر على قول الأقل وعلي لا يرى الترجيح بالكثرة بل بقوة الدليل.
قوله "فإذا رجع بعضهم من بعد" أي من بعد ما اتفقوا على حكم تقرير وبيان لثمرة الاختلاف, ولهذا قال بالفاء يعني لما ثبت أن الحق يثبت بنفس الإجماع من غير توقف على انقراض العصر لم يصح رجوع البعض عما اتفق الكل عندنا, وقال الشافعي رحمه الله: ومن شرط انقراض العصر يصح رجوعه; لأن في الابتداء ما لم يوجد الاجتماع من الكل عليه لا ينعقد الإجماع, فكذا في حال البقاء ما لم يوجد الاجتماع من الكل لا يبقى إجماعا; لأن الإجماع إنما صار حجة بطريق الكرامة بوصف الاجتماع على ما ذكرنا فإذا رجع البعض لم يبق وصف الاجتماع فلا يبقى استحقاق الكرامة ولا يبقى حجة بخلاف ما بعد الانقراض لبقاء الاجتماع وعدم تصور الرجوع وهذه النكتة تشير إلى أن عندهم ينعقد الإجماع لكن لا يبقى حجة بعد الرجوع وما ذكرناه أولا يدل على أنه لا ينعقد مع احتمال الرجوع, ولكنا نقول بعدما ثبت الإجماع من غير توقف على انقراض العصر لم يجز لأحد خلافه كما لو تحقق الانقراض; لأن باتفاقهم تبين أن الحق فيما اتفقوا عليه, وصار اتفاقهم دليلا قطعيا كرامة لهم فكان الرجوع مخالفة للدليل القطعي ومبينا أن إجماعهم انعقد على الخطأ فيكون مردودا بخلاف الابتداء; فإن خلاف البعض كان مانعا من انعقاد الإجماع فلم يثبت الحق بيقين فيجوز لكل واحد منهم العمل بما أدى إليه اجتهاده لاحتمال الصواب فظهر أن الابتداء مخالف للبقاء فلا يجوز اعتبار حالة البقاء به, والضمير في به ولم يسعه وخلافه راجع إلى البعض.
قوله "وقال بعض الناس لا يشترط اتفاقهم" يحتمل أن الشيخ رحمه الله ذكر هذا الكلام على سبيل المنع لما قاله الشافعي بعدما أجاب عنه كما ذهب إليه بعض الشارحين, يعني ما ذكر الشافعي أنه ما كان ينعقد إجماعهم في الابتداء إلا به ممنوع أيضا(3/362)
الجماعة أحق بالإصابة وأولى بالحجة قال النبي عليه السلام: "عليكم بالسواد الأعظم" . والجواب أن النبي عليه السلام جعل إجماع الأمة حجة فما بقي منهم أحد يصلح للاجتهاد والنظر مخالفا لم يكن إجماعا وإنما هذا كرامة ثبتت على
ـــــــ
على قول من لم يشترط في الإجماع اتفاق الجميع بعدما أجبنا عنه وفرقنا بين الابتداء والبقاء ويجوز أنه ذكر على سبيل الدرج والاستطراد; فإن كلامه لما آل إلى أن خلاف البعض في الابتداء مانع ذكر الخلاف الذي فيه, وقال هذا عندنا, وهو مذهب الجمهور أيضا., وقال بعض الناس مثل محمد بن جرير الطبري وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه وأبي الحسين الخياط1 من المعتزلة أستاذ الكعبي: لا يشترط في انعقاد الإجماع اتفاق الجميع بل ينعقد باتفاق الأكثر مع مخالفة الأقل, وقال بعضهم: إن كان الأقل قد بلغ عدد التواتر منع خلافه من انعقاد الإجماع, وإلا فلا. ونقل عن أبي عبد الله الجرجاني وأبي بكر الرازي من أصحابنا أن الجماعة إن سوغت الاجتهاد للمخالف فيما ذهب إليه كان خلافه معتدا به مثل خلاف ابن عباس رضي الله عنهما في توريث الأم ثلث جميع المال مع الزوج والأب أو مع المرأة والأب وخلاف أبي بكر رضي الله عنه في قتال مانعي الزكاة وإن لم يسوغوا له ذلك الاجتهاد لا يعتد بخلافه, مثل خلاف ابن عباس في تحريم ربا الفضل وخلاف أبي موسى الأشعري في أن النوم ينقض الوضوء, وهو اختيار شمس الأئمة رحمه الله. وقيل يكون قول الأكثر حجة ولا يكون إجماعا, وهو اختيار بعض المتأخرين تمسك من لم يعتبر خلاف الأقل بقوله عليه السلام "عليكم بالسواد الأعظم" والسواد الأعظم عامة المؤمنين وأكثرهم لا جميعهم فدل هذا الخبر على أن الواحد المنفرد بقوله مخطئ, وأن قول الأقل لا يعارض قول الجماعة وبقوله عليه السلام "يد الله مع الجماعة فمن شذ شذ في النار2" كان لفظ الأمة الوارد في قوله عليه السلام "لا تجتمع أمتي على الضلالة" يصح إطلاقه على أهل العصر وإن شذ واحد منهم أو اثنان كما يقال: بنو تميم يحمون الجار, ويراد أكثرهم. ويقال: رأيت بقرة سوداء وإن كانت فيها شعرات بيض وبأن الأمة في خلافة أبي بكر اعتمدت على الإجماع, وقد خالف جماعة منهم سعد بن عبادة وعلي وسليمان رضي الله عنهم ولم يعتدوا بخلافهم وبأن خبر الجماعة إذا بلغت حد التواتر مفيد للعلم مقدم على خبر الواحد, فكذا في باب الاجتهاد وبأن الصحابة أنكرت على ابن عباس خلافه في ربا الفضل, ولو لم يكن اتفاق الأكثر حجة لما جاز لهم
ـــــــ
1 هو أبو الحسن عبدالرحيم بن محمد بن عثمان الخياط من أعلام المعتزلة، توفي سنة 290هـ.أنظر معجم المؤلفين5/213.
2 أخرجه الترمذي في الفتن حديث رقم 2166.(3/363)
الموافقة من غير أن يعقل به دليل الإصابة فلا يصلح إبطال حكم الأفراد, وقد اختلف أصحاب النبي عليه السلام وربما كان المخالف واحدا وربما قل عددهم في مقابلة الجمع الكثير وتأويل قوله عليه السلام "عليكم بالسواد الأعظم" هو عامة المؤمنين وكلهم من هو أمة مطلقا.
ـــــــ
الإنكار عليه لكونه مجتهدا. ومتمسك الجمهور ما أشار إليه الشيخ في الكتاب وتقريره أن الإجماع عرف حجة بالدلائل السمعية من نحو قوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143] {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110] وقوله صلى الله عليه وسلم "لا تجتمع أمتي على الضلالة" وهذه النصوص بحقيقتها تتناول كل أهل الإجماع فما بقي واحد من أهل الإجماع مخالفا لهم لا ينعقد الإجماع. وإنما هذا كرامة أي كون الإجماع حجة يثبت بطريق الكرامة من غير أن يعقل به أي باتفاقهم أو بإجماعهم دليل إصابة الحق يعني ثبت كونه حجة غير معقول المعنى, ولهذا لو كان في عصر اثنان أو ثلاثة من أهل الاجتهاد واتفقوا على حكم يثبت به الإجماع مع أن العقل لا يحيل اتفاقهم على الخطأ كما لا يحيل اتفاقهم على الكذب إذا أخبروا بخبر, وإذا كان كذلك لا يصح إبطال حكم الأفراد أي عدم اعتبار مخالفتهم وإثبات حكم الإجماع بدون رأيهم; لأن فيما ثبت غير معقول المعنى وجب رعاية جميع أوصاف النص, وقد اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم في الأحكام وربما كان المخالف واحدا كمخالفة ابن عباس رضي الله عنه في العول وفي اشتراط ثلاثة من الإخوة لحجب الأم من الثلث إلى السدس ومثل مخالفة ابن مسعود رضي الله عنه فيما تفرد به من مسائل الفرائض وربما قل عددهم في مقابلة الجمع الكثير كخلاف ابن عمر وأبي هريرة أكثر الصحابة رضي الله عنهم في جواز أداء الصوم في السفر وكانوا يعدون الكل اختلافا لا إجماعا, ولهذا لم ينكروا على خلاف الواحد الجميع والأقل الأكثر ولو كان مذهب الأكثر إجماعا بحيث لا يجوز خلافه لأحالت العادة عدم الإنكار على المخالف من الخلق الكثير الذين لا يخافون لومة لائم في إظهار الحق. فإن قيل: قد تفرد قوم من الصحابة بأشياء, وقد أثبتم الإجماع مع خلافهم مثل خلاف حذيفة في وقت السحور وخلاف أبي طلحة في أكل البرد في حال الصوم, وقوله: إنه لا يفسد الصوم وخلاف ابن عباس في ربا الفضل قلنا: إنما يعتد بخلاف الواحد إذا لم يكن على خلاف النص.
فأما إذا كان بخلاف النص فلا يعتد بخلافه وخلاف حذيفة مخالف للنص, وهو قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187](3/364)
واختلفوا في شرط آخر وهو أن لا يكون مجتهدا في السلف, فقد صح
ـــــــ
وكذا خلاف أبي طلحة; لأن الله تعالى قال: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] والصيام هو الإمساك ولا يتحقق الإمساك مع أكل البرد, وكذا خلاف ابن عباس في الربا مخالف للحديث المشهور, وهو قوله عليه السلام: "الحنطة بالحنطة مثل بمثل" , ولهذا أنكرت الصحابة عليه ورجع إلى قولهم بعدما بلغه الخبر لا لأنه خالف الإجماع.
قوله "وتأويل قوله عليه السلام" جواب عن تمسك الخصم فقال: المراد من السواد الأعظم عامة المؤمنين أي جميعهم, ولهذا قال وكلهم تفسيرا وتأكيدا للعامة; لأن هذا اللفظ يطلق على الأكثر ممن هو أمة مطلقة أي ممن هو من الأمة على الإطلاق وهم المؤمنون الذين ليس فيهم أهواء وبدع; فإن الكفار وأهل الأهواء ليسوا من الأمة على الإطلاق بل هم أمة دعوة لا أمة متابعة. وذكر في الميزان أن المراد من السواد الأعظم هو الكل الذي هو أعظم مما دون الكل ويجب الحمل عليه توفيقا بين الدلائل السمعية كلها أو المراد من متابعة السواد الأعظم متابعة الأكثر, ولكن فيما إذا وجد الإجماع من جميع أهله, ثم خالف البعض بشبهة اعترضت لهم لأن رجوعهم ليس بصحيح بعد صحة الإجماع وانعقاده, وهو الجواب عن قوله من شذ شذ في النار; لأن الشاذ من خالف بعد الموافقة يقال: شذ البعير وند إذا توحش بعدما كان أهليا فإن قيل: هذا الحديث يقتضي أن يكون السواد الأعظم حجة على غيرهم إذ المخاطب لا يدخل فيمن أمر بملازمتهم واتباعهم فلو لم يكن مخالف لا يتحقق كونه حجة. قلنا: يلزم مما ذكرتم أن يكون في كل إجماع مخالف شاذ ليكون الإجماع حجة عليه ولا يكون حجة بدون المخالف وبطلانه ظاهر ثم نقول: يكون السواد الأعظم حجة على من يأتي بعدهم ممن هو أقل عددا من الأول فسمي الأول السواد الأعظم ويكون حجة على كل واحد منهم في منعهم عن الرجوع عن هذا القول, ويكون قوله عليكم خطابا لكل واحد أو يكون حجة عليهم في حق وجوب العمل والاعتقاد به; فإن الإجماع حجة لله تعالى على عباده في وجوب العمل والاعتقاد بموجبه كالنصوص. وأما قولهم لفظة الأمة تطلق على ما دون الكل فذلك من باب المجاز, ولهذا إذا شذ عن الأمة واحد يصح أن يقال الباقي ليس كل الأمة والأصل هو العمل بالحقيقة, وأما إمامة أبي بكر فلم تكن ثابتة قبل موافقة علي وسعد وسلمان بالإجماع بل بالبيعة من الأكثر وهي كافية لانعقاد الإمامة, ثم رجع هؤلاء إلى ما اتفق عليه العامة فتقرر الإجماع وتأكدت الإمامة إذ ذاك بالإجماع واعتبارهم الإجماع بالتواتر ليس بصحيح; لأن الإجماع إنما صار حجة بالنصوص الدالة على عصمة الأمة عن الخطأ والأكثر ليس كل الأمة وذلك غير معتبر في التواتر فافترقا.(3/365)
القول عن محمد رحمه الله أن ذلك ليس بشرط وأن إجماع كل عصر حجة فيما سبق فيه الخلاف من السلف على بعض أقوالهم وفيما لم يسبق الخلاف من الصدر الأول فقد صح عن محمد رحمه الله أن قضاء القاضي ببيع أمهات الأولاد باطل. وذكر
ـــــــ
قوله "واختلفوا في شرط آخر" إذا اختلف أهل عصر في مسألة على قولين واستقر خلافهم بأن اعتقد كل واحد حقية ما ذهب إليه ولم يكن خلافهم على طريق البحث عن المأخوذ من غير أن يعتقد أحد في المسألة حقية شيء من طرفيها ولم يكن بعضهم في مهلة النظر فذلك هل يمنع انعقاد الإجماع في العصر الذي بعده على أحد قوليهم في تلك المسألة وهل يكون عدم الاختلاف شرطا لصحته؟ وذهب عامة أهل الحديث وأكثر أصحاب الشافعي إلى أنه يمنع وتبقى المسألة اجتهادية كما كانت واختلف مشايخنا في ذلك فقال أكثرهم: إنه لا يمنع من انعقاد الإجماع ويرتفع الخلاف السابق به, وإليه مال أبو سعيد الإصطخري وابن أبي خيران وأبو بكر القفال من أصحاب الشافعي, وقال بعضهم فيه اختلاف بين أصحابنا عند أبي حنيفة رحمه الله يمنع من الانعقاد وعن محمد رحمه الله لا يمنع إلى آخر ما ذكر في الكتاب, وإذا ثبت هذا يخرج قوله واختلفوا إلى آخره إلى وجهين: أحدهما: أن معناه اختلف علماؤنا الثلاثة في اشتراط عدم الاختلاف السابق لصحة الإجماع فقد صح القول عن محمد رحمه الله أن ذلك أي عدم الاختلاف ليس بشرط. وذكر الكرخي عن أبي حنيفة رحمه الله ما يدل على أنه شرط عنده فثبت أنه مختلف فيه بينهم والثاني: أن معناه اختلف في أن عدم اشتراط هذا الشرط وهو عدم الاختلاف متفق عليه عند علمائنا الثلاثة أو هو مختلف فيه بينهم فقد صح عن محمد أنه ليس بشرط ونقل عن أبي حنيفة رحمه الله ما يصلح دليلا على اشتراطه من وجه ولا يصلح من وجه فعلى الوجه الأول يكون الاختلاف متحققا بينهم وعلى الوجه الثاني لا يكون, فلهذا اختلف المشايخ في أن عدم اشتراطه على الاتفاق أو على الاختلاف عندهم, ولم يذكر الشيخ قول أبي يوسف في الكتاب; لأنه في بعض الروايات مع أبي حنيفة رحمه الله على ما ذكر في أصول شمس الأئمة وفي بعضها مع محمد على ما ذكر في الميزان, وقد حكي عنه أيضا أن الإجماع بعد الاختلاف ينعقد ويرتفع الخلاف, كذا رأيت في بعض نسخ أصول الفقه.
قوله "فقد صح عن محمد رحمه الله أن قضاء القاضي" متصل بقوله فيما سبق فيه الخلاف. واعلم أن بيع أمهات الأولاد كان مختلفا فيه بين الصحابة فأكثرهم لم يجوزوه حتى قال عمر رضي الله عنه كيف تبيعونهن, وقد اختلطت لحومكم بلحومهن ودماؤكم بدمائهن. وجوزه علي وجابر وغيرهما حتى قال علي اتفق رأيي ورأي عمر(3/366)
الكرخي عن أبي حنيفة رحمه الله أن قضاء القاضي ببيع أمهات الأولاد لا ينقض, فقال بعض مشايخنا: هذا دليل على أن أبا حنيفة رحمه الله جعل الاختلاف الأول مانعا من إجماع المتأخر, وقال بعضهم: بل تأويل قول أبي حنيفة أن هذا إجماع مجتهد وفيه شبهة فينفذ قضاء القاضي ولا ينقض عند الشبهة أما من أثبت الخلاف فوجه قوله أن المخالف الأول لو كان حيا لما
ـــــــ
على أن لا تباع أمهات الأولاد والآن رأيت بيعهن, وقال جابر رضي الله عنه كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم التابعون أجمعوا قاطبة على أنه لا يجوز فلو قضى قاض بجواز بيع أم الولد يكون قضاؤه باطلا عند محمد رحمه الله; لأنه قضاء في فصل مجمع على خلافه فدل هذا الجواب على أن عنده قد ارتفع الاختلاف السابق بهذا الإجماع وأن المسألة لم تبق اجتهادية. وروى الشيخ أبو الحسن الكرخي عن أبي حنيفة رحمهما الله أن قضاء القاضي ببيع أمهات الأولاد لا ينقض; لأنه قضاء في فصل مجتهد فيه, فقال بعض مشايخنا وهم الذين أثبتوا الاختلاف في اشتراط هذا الشرط بين أصحابنا منهم شمس الأئمة الحلواني.
"هذا" أي هذا الجواب دليل على أن عند أبي حنيفة لم يرتفع الاختلاف السابق وأنه منع من انعقاد إجماع المتأخر حيث صح القضاء ولم ينقض, وقال بعضهم: بل تأويل قول أبي حنيفة كذا يعني لا يدل هذا الجواب منه على أن ذلك الاختلاف منع من انعقاد الإجماع المتأخر بل تأويل قوله إن هذا أي الإجماع الذي تقدمه خلاف إجماع مجتهد فيه أي مختلف فيه فعند أكثر العلماء هو ليس بإجماع, وفيه شبهة أي عند من جعله إجماعا هو إجماع فيه شبهة بمنزلة خبر الواحد حتى لا يكفر جاحده ولا يضلل, وإذا كان كذلك ينفذ قضاء القاضي فيه أي في بيع أمهات الأولاد ولا ينقض; لأنه ليس بمخالف للإجماع القطعي بل هو مخالف لإجماع مختلف فيه فكان هذا قضاء في مجتهد فيه فينفذ, وهو نظير ما إذا قضى القاضي في فصل اختلف فيه العلماء يصير لازما ومجمعا عليه حتى لو قضى قاض آخر في هذه الحادثة على خلاف القضاء الأول كان باطلا لأنه خلاف الإجماع ولو كان نفس القضاء مختلفا فيه بأن استقضي محدود في قذف فقضي بقضية أو استقضيت امرأة فقضيت في الحدود والقصاص فرفع إلى آخر فأبطله جاز; لأن نفس القضاء الأول لما كان مختلفا فيه كان القضاء الثاني في مجتهد فيه لا في أمر مجمع عليه فينفذ كذا هاهنا. وذكر في فصول الأسروشني في القضاء بجواز بيع أم الولد روايات وأظهرها أنه لا ينفذ, وفي قضاء الجامع أنه يتوقف على إمضاء قاض آخر إن أمضى ذلك القضاء نفذ وإن أبطل بطل وهذا أوجه الأقاويل.(3/367)
انعقد الإجماع دونه, وهو من الأمة بعد موته ألا ترى أن خلافه اعتبر بدليله لا لعينه. ودليله باق بعد موته ولأن في تصحيح هذا الإجماع تضليل بعض الصحابة, مثل قول عبد الله بن عباس في العول, وقد قال فيمن قال لامرأته: أنت خلية برية بتة بائن ونوى الثلاث ثم وطئها في العدة لا يحد لقول عمر رضي الله عنه: إنها رجعية ولم يقل به أحد عند نية الثلاث, ووجه القول الآخر أن دليل كون الإجماع حجة هو اختصاص الأمة بالكرامة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذلك إنما
ـــــــ
قوله "وأما من أثبت الخلاف" الخلاف الأول ولم يجعله مرتفعا بالإجماع المتأخر وجعل عدم الاختلاف شرطا لانعقاد الإجماع فوجه قوله أن الحجة اتفاق كل الأمة ولم يحصل اتفاقهم; لأن المخالف الأول من الأمة ولم يخرج بموته عن الأمة ولم يبطل قوله به إذ لو بطل لم يبق المذاهب بموت أصحابها كمذهب أبي حنيفة والشافعي وغيرهما, ولصار قول الباقين من الأمة فيما إذا اختلفوا في حكم على قولين ومات أحد الفريقين إجماعا لكونهم كل الأمة في هذا الوقت, وهو باطل, وإذا لم يحصل اتفاق كل الأمة لا يكون إجماعا, ثم استوضح هذا الكلام فقال ألا ترى أن خلافه أي خلاف المخالف اعتبر لدليله لا لعينه أي لا لذات المخالف; لأن قول غير صاحب الشرع لا يعتبر إلا بالدليل ودليل المخالف باق بعد موته وكان كبقاء نفسه مخالفا; ولأن في تصحيح هذا الإجماع وهو الذي سبقه اختلاف تضليل بعض الصحابة أي يلزم من تصحيحه نسبة بعض الصحابة إلى الضلال; لأن إجماع التابعين لو انعقد على أحد قولي الصحابة فيما اختلفوا فيه لتبين أن الحق هو القول الذي ذهب المجمعون إليه وأن القول الآخر خطأ بيقين فكان فيه نسبة بعض الصحابة إلى الضلال إذ الخطأ بيقين هو الضلال وأحد لا يظن بابن عباس أنه ضل في إنكاره العول وفي توريثه الأم ثلث كل المال في زوج وأبوين وإن أجمع التابعون على خلاف قوله في المسألتين ولا بابن مسعود ذلك في تقديمه ذوي الأرحام على مولى العتاقة, وإن أجمعوا بعده على خلاف ذلك.
قوله "وقد قال محمد رحمه الله" لم يرد أنه قول محمد خاصة; فإنه قول علمائنا جميعا لكن محمدا هو الذي أورده في الأصل فأسنده إليه فإذا قال لامرأته أنت خلية أو برية أو بائن أو بتة أو حرام, وقال: أردت بذلك ثلاث تطليقات, ثم جامعها في العدة, وقال علمت أنها علي حرام لا يجب عليه الحد; لأن بين الصحابة في هذا اختلافا ظاهرا. وكان عمر رضي الله عنه يقول: إنها أي الطلقة الواقعة بهذا اللفظ رجعية وإن نوى الزوج ثلاثا فيصير ذلك شبهة في درء الحد ولم يقل أحد بعد الصحابة: إن الواقع بالكناية يعقب الرجعة عند نية الثلاث أما عندنا فلأن الواقع بالكنايات بوائن فأما عند الشافعي فلأن(3/368)
يتصور من الأحياء في كل عصر, فأما قوله: إن الدليل باق فهو كذلك لكنه نسخ
ـــــــ
الواقع بالكتابة وإن كان رجعيا إلا أن نية الثلاث تصح ولا رجعة بعد الثلاث ووطء المعتدة عن طلاق بائن يوجب الحد بالاتفاق إذا قال: علمت أنها علي حرام ولم يوجب الحد هاهنا فعرفنا أن الاختلاف السابق منع من انعقاد الإجماع. ووجه القول الآخر, وهو أن الاختلاف السابق لا يمنع من انعقاد الإجماع أن الدلائل التي عرفنا بها كون الإجماع حجة لا يوجب الفصل بين إجماع سبقه وبين إجماع لم يسبقه خلاف فصرفها إلى إجماع لم يسبقه خلاف تقييد لها من غير دليل يوجبه فكان باطلا., ألا ترى أن اختصاص هذه الأمة لهذه الكرامة ثبت باعتبار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذلك إنما يتصور من الأحياء في كل عصر دون من مات قبلهم, فكما أنه لا يعتبر توهم قول ممن يأتي بعدهم بخلاف قولهم في منع ثبوت حكم الإجماع, فكذا لا يعتبر قول من مات قبلهم إذا اجتمعوا في عصرهم على خلافه; لأنهم كل الأمة في هذا الوقت. يبينه أن الصحابة لو اختلفوا في مسألة على قولين, ثم أجمعوا على أحدهما لسقط الاختلاف المتقدم بالإجماع المتأخر, فكذا في مسألتنا; لأن الحجة في إجماع التابعين مثل الحجة في إجماع الصحابة فلما سقط اختلاف الصحابة بإجماعهم سقط بإجماع الباقين أيضا فإن قيل: لو كان الإجماع بعد الاختلاف حجة لتعارض الإجماعات; لأن استقرار خلاف العصر الأول بعد النظر والاجتهاد دليل على إجماعهم على تجويز الأخذ بكل واحد من القولين باجتهاد أو تعليل, وهو يعارض إجماع العصر الثاني على امتناع الأخذ بكل واحد من القولين, ويلزم من هذا التعارض تخطئة أحد الإجماعين, وهو ممتنع سمعا قلنا: لا نسلم لزوم التعارض; لأنه إنما يلزم لو كان اتفاق العصر الأول على قولين دليلا على إجماعهم على جواز الأخذ بكل واحد منهما, وهو باطل; لأن أحد القولين لا بد من أن يكون خطأ إذ المصيب واحد وإجماع الأمة على تجويز الأخذ بالخطأ خطأ, ولئن سلمنا إجماعهم على جواز الأخذ بكل واحد منهما إلا أنا نقول: وهو مشروط بأن لا ينعقد إجماع على أحد الطرفين كما أن نسوغهم بالأخذ بكل منهما قبل استقرار الخلاف مشروط بانتفاء القاطع فإن قيل: لو جاز تقدير الاشتراط في ذلك الإجماع لجاز أن ينعقد إجماع ثان على خلاف إجماع أول ولجاز أن يخالف واحد الإجماع ويقدر أن الأول كان مشروطا بعدم الثاني أو بعدم الواحد المخالف, وهو باطل. قلنا: فيه إبطال أصل الإجماع فلا يلزم من الجواز فيما ذكرنا الجواز هاهنا ولو سلم فالإجماع يمنع منه فيما ذكرتم من الصورتين ولم يمنع فيما نحن فيه كما لو لم يستقر خلافهم, ثم أجاب عن كلام الخصم فقال: "أما قوله" أي قول الخصم أن الدليل باق فهو كذلك أي هو كما قال لكنه نسخ أي لم يبق معتبرا معمولا به بعدما انعقد الإجماع على خلافه كنص ينزل بخلاف القياس يخرج القياس عن أن يكون معتبرا معمولا به. قال صاحب(3/369)
كنص يترك بخلاف القياس وأما التضليل فلا يجب; لأن الرأي يومئذ كان حجة لفقد الإجماع فإذا حدث الإجماع انقطع الدليل الأول للحال وذلك كالصحابة إذا اختلفوا بالرأي فلما عرضوا ذلك على النبي عليه السلام فرد قول البعض لم ينسب صاحبه إلى الضلال وكصلاة أهل قباء بعد نزول النص قبل بلوغهم, وإنما
ـــــــ
الميزان: هذا ضعيف; لأن بوفاة الرسول عليه السلام خرج الأحكام عن احتمال النسخ لانقطاع الوحي الذي توقف النسخ عليه بوفاته بل الجواب الصحيح أن إجماع التابعين يبين أن ذلك لم يكن دليلا بل كان شبهة; لأن الدليل لا يظهر خطأ أبدا بل يتقرر بمضي الزمان فأما الشبهة فتزول, وقد قام الدليل على البطلان فتبين أنه شبهة ويمكن أن يجاب عنه بأن بوفاة الرسول عليه السلام لم يبق مشروعية النسخ بالوحي وبقيت الأحكام الثابتة في زمانه على ما كانت, فأما الأحكام الثابتة بالاجتهاد أو بالإجماع بعد الرسول صلى الله عليه وسلم فيجوز أن تنسخ, وهو مختار المصنف بأن يوفق الله تعالى بعد ثبوت حكم بإجماع أو باجتهاد أهل عصر آخر أن يتفقوا على خلافه بناء على اجتهاد نسخ لهم على خلاف اجتهاد أهل العصر المتقدم ويكون هذا بيانا لانتهاء مدة الحكم الأول كما في النصوص ولا يقال هذا غير جائز; لأنه لا مدخل للرأي في معرفة انتهاء مدة الحكم; لأنا لا ندعي أنهم يعرفون انتهاء مدة الحكم بآرائهم بل نقول لما انتهى ذلك الحكم بانتهاء المصلحة وفقهم الله تعالى للاتفاق على خلاف الفريق الأول فتبين به أن الحكم قد تبدل بتبدل المصلحة من غير أن يعرفوا عند الاتفاق تبدل المصلحة ومدة الحكم.
قوله "وأما التضليل فلا يجب; لأن الرأي كان حجة يومئذ" إلى آخره, وهو ظاهر ولأن التضليل هو الخطأ من حيث الاعتقاد, فأما من حيث وجوب العمل فلا بل هو خطأ معذور فيه وذلك لأن المجتهدين في الشرعيات يجب عليه العمل باجتهاده ولكن لا يجب عليه الاعتقاد بحقية قوله إلا من حيث الظاهر وإنما يجب عليه الاعتقاد على الإبهام أن ما أراد الله مما اختلفا فيه حق, وإذا لم يعتقد حقية مذهبه بطريق القطع لا يكون ضلالا ولا يكون تخطئته تضليلا للحال أي مقتصرا على الحال وذلك أي اختلاف الصحابة وحدوث الإجماع بعده نظير اختلافهم بالرأي ورد الرسول عليه السلام قول البعض وكصلاة أهل قباء; فإنهم صلوا إلى بيت المقدس بعدما نزلت فرضية التوجه إلى الكعبة حتى أخبروا بأن القبلة قد حولت إلى الكعبة, ثم لم يكن ذلك منهم ضلالا وإن ظهر خطؤه بيقين; لأن ذلك كان قبل العلم بالنص الناسخ, فكذا هذا وقباء بالضم والمد من قرى المدينة ينون ولا ينون., وقال شمس الأئمة رحمه الله كان ابن عباس يقول بإباحة المتعة, ثم رجع إلى قول الصحابة وثبت الإجماع برجوعه لا محالة ولم يكن ذلك موجبا تضليله فيما كان يفتي به قبل الرجوع, فكذا ما نحن فيه.(3/370)
أسقط محمد رحمه الله الحد بالشبهة ومن شرطه اجتماع من هو داخل في أهلية الإجماع وبعض مشايخنا شرط الأكثر والصحيح ما قلنا; لأنه إنما صار حجة كرامة تثبت على اتفاقهم فلا تثبت بدون هذا الشرط.
ـــــــ
قوله "وإنما أسقط محمد بالشبهة" أي بالشبهة المتمكنة في هذا الإجماع; فإن على قول من لم يجعله إجماعا يكون الاختلاف الأول باقيا فيورث الاختلاف فيه شبهة بقاء الاختلاف الأول والحد يسقط بأدنى شبهة., ألا ترى أن أبا حنيفة رحمه الله نفذ قضاء القاضي ببيع أمهات الأولاد لهذه الشبهة فلأن يسقط الحد لهذه الشبهة كان أولى.
قوله "ومن شرطه" أي من شرط الإجماع كذا إنما أعاد ذكر هذه المسألة بعدما ذكرها مرة; لأنه ذكرها هناك بطريق الاستطراد وهاهنا ذكرها قصدا وليبين أن فيها اختلافا لبعض مشايخنا وليبين اختياره في هذه المسألة.(3/371)
باب حكم الإجماع"
قال الشيخ الإمام رضي الله عنه حكمه في الأصل أن يثبت المراد به حكما شرعيا على سبيل اليقين ومن أهل الهوى من لم يجعل الإجماع حجة
ـــــــ
"باب حكم الإجماع"
حكم الشيء, وهو الأثر الثابت إنما يتحقق بعد وجود ركنه ممن هو أهله وبعد وجود شرطه فلذلك أخره عنهما "حكم الإجماع في الأصل" أي أصل الإجماع, وهو أن يتحقق بجميع شرائطه أن يثبت المراد به على سبيل اليقين يعني الأصل في الإجماع أن يكون موجبا للحكم قطعا كالكتاب والسنة فإن لم يثبت اليقين به في بعض المواضع فذلك بسبب العوارض كما في الآية المؤولة وخبر الواحد, وقوله حكما شرعيا منتصب على الحال من المراد ويصح للحال لاتصافه بصفة كقوله تعالى: {قُرْآناً} [فصلت: 3] في قوله عز اسمه { كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} [فصلت: 3], وقد مر بيانه في أول الكتاب وإنما قيد بقوله حكما شرعيا أي أمرا دينيا إشارة إلى أن محل الإجماع الأمور الدينية لا غير واعلم أن الإجماع لا يكون حجة فيما يتوقف صحة الإجماع عليه كوجود الباري جل جلاله وصحة الرسالة لاستلزامه الدور لتوقف صحة الإجماع على النصوص المتوقفة على وجود الرب عز وجل وصحة النبوة فلو توقفا عليه لزم الدور. وأما ما لا يتوقف صحة الإجماع عليه فإن كان أمرا دينيا يكون الإجماع حجة اتفاقا سواء كان من الفروع الشرعية كوجوب الصلاة والزكاة وأحكام الدماء والفروع أو من الأحكام العقلية كرؤية الباري لا في جهة ونفي الشريك وغفران المذنبين وإن كان أمرا دنيويا كتجهيز الجيوش وتدبير الحروب والعمارة والزراعة وغيرها فقد اختلفوا فيه قال بعضهم: يكون الإجماع فيه حجة حتى لو اتفق أهل عصر على شيء من هذه الأمور لا يجوز المخالفة فيه بعده; لأن النصوص الدالة على عصمة الأمة من الخطإ ووجوب اتباعهم فيما أجمعوا عليه لم يفصل بين اتفاقهم على أمر ديني أو دنيوي, وقال بعضهم: لا يكون حجة; لأن الإجماع لا يكون أعلى حالا من قول الرسول عليه السلام, وقد ثبت أنه حجة في أحكام الشرع دون مصالح(3/372)
قاطعة; لأن كل واحد منهم اعتمد ما لا يوجب العلم لكن هذا خلاف الكتاب والسنة والدليل المعقول
ـــــــ
الدنيا فكذلك الإجماع, ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في قصة التلقيح "أنتم أعلم بأمور دنياكم1" وكان إذا رأى رأيا في الحرب راجعه الصحابة في ذلك وربما كان يترك رأيه برأيهم ولم يكن أحد يراجعه فيما كان من أمر الدين. وذكر في الميزان أن على قول من جعل الإجماع حجة فيه هل يجب العمل به في العصر الثاني كما في الإجماع في أمور الدين فإن لم يتغير الحال يجب وإن تغير لا يجب ويجوز المخالفة; لأن أمور الدنيا مبنية على المصالح العاجلة وذلك يحتمل الزوال ساعة فساعة والحاصل أن الإجماع حجة مقطوع بها عند عامة المسلمين ومن أهل الأهواء من لم يجعله حجة مثل إبراهيم النظام والقاشاني من المعتزلة والخوارج وأكثر الروافض, وقالت الإمامية منهم: إنه ليس بحجة من حيث الإجماع ولكنه حجة من حيث إن الإمام داخل فيهم, وقوله مقطوع بصحته فالحجة قول الإمام عندهم دون الإجماع. وقوله ومن أهل الهوى من لم يجعل الإجماع حجة قاطعة يشير إلى أنه يكون حجة عندهم غير قاطعة ويحتمل أن يكون كذلك عند من رأى الاجتهاد منهم حجة; لأن اجتهاد واحد من أهل الإجماع إذا كان حجة في حق نفسه حتى وجب عليه العمل به كان اجتهاد الجميع حجة في حقهم أيضا إلا أنه يكون حجة ظنية يجوز مخالفتها إذا تبدل الاجتهاد ولكن المذكور في الكتب أن الإجماع عند هؤلاء ليس بحجة مطلقا تمسك من لم يجعله حجة بوجوه: أحدها: أن وقوعه مستحيل; لأنه لا يمكن ضبط أقاويل العلماء مع كثرتهم وتباعد ديارهم, ألا ترى أن أهل بغداد لا يعرفون أهل العلم بالمغرب ولا بالمشرق فضلا عن أن يعرفوا أقاويلهم في الحوادث فثبت أن معرفة قول الأمة بإجماعهم في الحوادث متعذر وكيف يتصور اتفاق آرائهم في الحادثة مع تفاوت الفطن والقرائح واختلاف المذاهب والمطالب وأخذ كل قوم صوتا من أساليب الطيور فيكون تصوير إجماعهم في الحكم المظنون به بمنزلة تصوير العالمين في صبحية يوم على قيام أو قعود وأكل نوع من الطعام.
والثاني: أنه لو انعقد إما أن ينعقد عن نص أو إما لا إذ لا بد من مستند ولا يجوز أن ينعقد عن نص; لأنه لو انعقد عن نص وجب نقله عليهم إذا تعلق وقع الاستغناء به عن الإجماع ويكون هو الحجة دون الإجماع ولا يجوز أن ينعقد عن أمارة; لأنهم مع كثرتهم واختلاف هممهم لا يتفقون على رأي واحد مظنون على أنه إن انعقد عن أمارة يكون الأمارة هي الحجة دون الإجماع أيضا.
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الفضائل حديث رقم 2363.(3/373)
أما الكتاب; فإن الله تعالى قال {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء: 115] فأوجب هذا
ـــــــ
والثالث: وهو المعتمد لهم في هذا الفصل ما أشار الشيخ إليه في الكتاب, وهو أن انعقاد الإجماع على وجه يؤمن معه الخطأ غير متصور; لأن كل واحد منهم اعتمد ما لا يوجب العلم ويحتمل الخطأ ويستحيل أن يجوز على كل واحد منهم الخطأ, ثم لا يجوز الخطأ على جماعتهم كما يستحيل عكسه, وهو أن يكون كل واحد مصيبا ولا يكون جميعهم على الصواب وكما يستحيل أن يكون محل كل واحد من الجماعة أسود أو أبيض ولا يكون الجميع بتلك الصفة, وإذا كان كذلك لا يكون إجماعهم حجة قاطعة كقول كل واحد منهم. قوله "لكن هذا" أي ما ذكره المخالف خلاف الكتاب والسنة والدليل المعقول; فإن هذه الدلائل توجب أنه حجة كما ذهب إليه الجمهور من أهل القبلة.
أما الكتاب فقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} وجه التمسك به على ما هو المذكور في عامة الكتب أنه تعالى توعد على متابعة غير سبيل المؤمنين كما توعد على مخالفة الرسول والسبيل ما يختار الإنسان لنفسه قولا وعملا ولو لم يكن ذلك محرما لما توعد عليه ولما حسن الجمع بينه وبين مشاق الرسول في الوعيد كما لا يحسن الجمع بين الكفر وأكل الخبز المباح في الوعيد, وإذا حرم اتباع غير سبيل المؤمنين وجب اتباع سبيلهم فيكون الإجماع حجة; لأنه سبيلهم وعلى ما ذكر في هذا الكتاب أنه تعالى جعل متابعة غير سبيل المؤمنين بمنزلة مشاقة الرسول في استيجاب النار وسوى بينهما فكان ترك كل واحد منهما واجبا قطعا. ثم ترك المشاقة إنما وجب قطعا; لأن قول الرسول حق بيقين فكذلك ترك اتباع غير سبيل المؤمنين إنما وجب قطعا; لأن سبيلهم حق بيقين ولا معنى لقول من يقول: إن اتباع غير سبيل المؤمنين متوعد عليه بشرط مشاقة الرسول فلا يثبت التوعد بدونها إذ المعلق بالشرط معدوم قبل وجود الشرط; لأنه إن أراد بكونه مشروطا بها الاشتراط اللفظي فهو ممنوع إذ ليس في اللفظ ما يدل على تعلق الاتباع بالمشاقة في صحة ترتب الوعيد عليه, وإن أراد به أن الوعيد ترتب على المشاقة والاتباع المذكورين مجموعا فلا يثبت ترتب الوعيد على الاتباع بانفراده; لأن الحكم المعلق بشرطين لا يثبت عند وجود أحدهما كما لو قال إن دخلت الدار وكلمت زيدا فأنت طالق لا يثبت الطلاق بأحد الأمرين فذلك فاسد أيضا قد ثبت أن المشاقة بانفرادها سبب لاستحقاق الوعيد بقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:.13], وقد ساعدنا الخصم في ذلك فلو كان(3/374)
---------------------------------------------------------
ـــــــ
المجموع شرطا وسببا لاستحقاق العذاب يلزم منه أن لا يكون المشاقة بانفراده سببا لذلك, وهو خلاف النص والإجماع, وإذا كانت المشاقة بانفرادها سببا لذلك كان الاتباع بانفراده سببا له أيضا إذ لو لم يجعل سببا له لم يبق لذكره فائدة وصار كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان: 68]، في أن كل واحد من الأمور الثلاثة سبب للإثم فإن قيل: الاستدلال بهذه الآية إنما يتم لو ثبت أن الاتباع عبارة عن مجرد الإتيان بمثل فعل الغير وليس كذلك, وإلا يلزم أن يقال المسلمون أتباع اليهود في الإيمان بالله ونبوة موسى عليه السلام بل متابعة الغير عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير لأجل أنه فعله, فأما الآتي بمثل فعل الغير لا لأجل أن الغير فعله بل لأن الدليل ساقه إليه لم يكن متبعا للغير, وإذا كان كذلك حصل بين متابعة سبيل المؤمنين وبين متابعة غير سبيل المؤمنين واسطة وهي أن لا يتبع أحد أصلا بل يتوقف إلى ظهور الدليل, وإذا حصلت هذه الواسطة لم يلزم من تحريم اتباع غير سبيل المؤمنين وجوب اتباع سبيل المؤمنين فيسقط الاستدلال قلنا: الاستدلال تام فإن المراد من الاتباع في الآية نفس الموافقة والسلوك بدليل أنه لو قيل فلان يتبع السبيل الفلاني يفهم منه نفس السلوك وبدليل أنه لو سلك غير سبيل المؤمنين من غير قصد إلى اتباع أحد بل لشبهة صرفته إليه كان مستحقا للوعيد بلا خلاف. ويؤيده قراءة عبد الله ويسلك غير سبيل المؤمنين فعرفنا أن المراد من الاتباع هاهنا نفس السلوك والموافقة, وإذا كان كذلك انتفت الواسطة التي ذكرها الخصم ولزم من حرمة اتباع غير سبيل المؤمنين لزوم اتباع سبيل المؤمنين ضرورة.
يوضح ما ذكرنا أن شرب الخمر وترك الصلاة مثلا غير سبيل المؤمنين فإذا حرم عليه شرب الخمر وترك الصلاة لزم عليه ترك الشرب والتحرز عن ترك الصلاة وهما غير سبيل المؤمنين فثبت أنه لا واسطة بينهما فيلزم من انتفاء أحدهما ثبوت الآخر لا محالة.
فإن قيل: لفظ السبيل متروك الظاهر; فإن حقيقته الطريق الذي يحصل فيه المشي, وهو غير مراد منه فيحمل على ما يدل عليه ظاهر الكلام, وهو الطريق الذي صاروا به مؤمنين, وهو الإيمان وغيره, وهو الكفر بالله وتكذيب الرسول عليه السلام; فإن أحدا لو قال لغيره لا تتبع غير سبيل الصالحين فهم منه سبيلهم الذي صاروا صالحين لا سبيلهم في كل شيء حتى الأكل والشرب. ويؤيده أن الآية نزلت في طعمة بن أبيرق; فإنه سرق درعا والتحق بالمشركين مرتدا فنزل قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} [النساء: 115] أي يخالفه {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} [النساء: 115] أي ظهر له الدين الحق {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ}(3/375)
أن يكون سبيل المؤمنين حقا بيقين وقال {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ
ـــــــ
[النساء: 115] أي غير طريقهم بالارتداد كما فعله طعمة {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء: 115]، نتركه وما تولى من ولاية الشيطان وقيل: ندعه وما اختار لنفسه من الدين غير دين الإسلام {وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} [النساء: 115] ندخله فيها كذا ذكر في التفاسير, وإذا حمل السبيل على ما ذكرنا لم تبق حجة في الإجماع قلنا. الأصل إجراء الكلام على عمومه وإطلاقه والسبيل مطلق أو عام بالإضافة إلى المؤمنين إذ الإضافة بمنزلة لام التعريف الموجبة للتعميم فتقتضي النص بعمومه وإطلاقه لحوق الوعيد عند ترك اتباع سبيلهم فيما صاروا به مؤمنين وفيما لم يصيروا به مؤمنين ألا ترى أنه لو قيل لأحد اتبع سبيل العلماء يقتضي أن يتبع سبيلهم فيما صاروا به علماء وفيما لم يصيروا به علماء. وأيضا فإنه لا معنى لمشاقة الرسول إلا ترك اتباع سبيل المؤمنين الذي صاروا به مؤمنين فلو حملنا السبيل على ذلك لزم التكرار ولا يعتنى لقولهم نزل في رجل مرتد; لأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب.
وذكر بعض الأصوليين أن هذه الآية ليست بقاطعة في وجوب متابعة الإجماع لاحتمال أن يكون المراد "ويتبع غير سبيل المؤمنين" في متابعة النبي عليه السلام أو مناصرته أو الاقتداء به أو في الإيمان به لا فيما أجمعوا عليه ومع الاحتمال لا يثبت القطع وغاية ما في الباب أنها ظاهرة فيه فيستقيم التمسك بها لما يرى الإجماع حجة ظنية لا يكفر ولا يفسق مخالفها كما هو مختار بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي لا لمن يرى أنه حجة قطعية يكفر أو يفسق مخالفها; لأن التمسك بالمحتمل الظني في مقام القطع غير مفيد وأجيب عنه أن كل احتمال لا يقدح في كون الدليل قطعيا; فإن الاحتمال قد تطرق إلى جميع العقليات من دلائل التوحيد والنبوة وغيرهما فلو اعتبر كل احتمال لم يبق دليل قطعي, وقد بينا فيما تقدم أن الظواهر والعمومات من الدلائل القطعية عند أكثر مشايخ العراق والقاضي أبي زيد وعامة المتأخرين.
يوضحه أن أهل الأهواء تمسكوا فيما ذهبوا إليه بشبهة من الكتاب والسنة يحتملها اللفظ لكنها لما كانت خلاف الظاهر لم تقدح في قطعية النصوص حتى وجب تضليلهم فعرفنا أنه لا اعتبار لاحتمال لم ينشأ عن دليل.
وقال بعض المحققين: إنه لا يجوز أن يثبت بخطاب الشارع إلا ما يقتضيه ظاهره إن تجرد عن قرينة وإن احتمل غير ظاهره أو ما يقتضيه مع قرينة إن وجدت معه قرينة إذ لو جاز أن يثبت به غير ما يدل عليه ظاهره لما حصل الوثوق بخطابه لجواز أن يكون المراد به غير ظاهره مع أنه لم يبينه وذلك يفضي إلى اشتباه الأمر على الناس., ألا ترى أنا نعلم الشيء جائز الوقوع قطعا, ثم نقطع بأنه لا يقع; فإنه(3/376)
تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] والخيرية توجب
ـــــــ
يجوز انقلاب ماء جيحون دما وانقلاب الجدران ذهبا وظهور الإنسان الشيخ لا من الأبوين دفعة واحدة ومع ذلك نقطع بأنه لا يقع, فكذا هاهنا وإن جوزنا من الله تعالى كل شيء ولكنه تعالى خلق فينا علما بديهيا; فإنه لا يعني لهذه الألفاظ إلا ظواهرها فكذلك أمنا عن الالتباس وعرفنا أن الظواهر قاطعة يجوز التمسك بها في الأحكام القطعية.
قوله: وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} كان عبارة عن وجود الشيء في زمان ماض على سبيل الإبهام وليس فيه دليل على عدم سابق ولا على انقطاع طارئ. ومنه قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء: 96] ومنه قوله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} كأنه قيل: وجدتم وخلقتم خير أمة وقيل: كنتم في علم الله خير أمة وقيل كنتم في الأمم قبلكم مذكورين بأنكم خير أمة موصوفين به, {أُخْرِجَتْ} أظهرت, وقوله جل ثناؤه {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} كلام مستأنف بين به كونهم خير أمة كما يقال: زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بمصالحهم وجه التمسك به على ما هو المذكور في عامة الكتب أنه تعالى أخبر عن خيريتهم بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ولام التعريف في اسم الجنس يقتضي الاستغراق فيدل على أنهم أمروا بكل معروف ونهوا عن كل منكر فلو أجمعوا على خطإ قولا لكانوا أجمعوا على منكر قولا فكانوا آمرين بالمنكر ناهين عن المعروف هو يناقض مدلول الآية. وعلى ما هو المذكور في الكتاب أنه تعالى أخبر عن خيريتهم بكلمة التفضيل; فإن كلمة "خير" هاهنا بمعنى التفضيل فتدل على النهاية في الخيرية وذلك يوجب حقية ما اجتمعوا عليه; لأنه لو لم يكن حقا لكانوا آمرين بالمنكر ناهين عن المعروف ومن كان بهذه الصفة لا يكون خيرا مطلقا فيلزم منه خلاف النص. وعبارة التقويم أن كلمة " خير " بمعنى أفعل فتدل على نهاية الخيرية ونفس الخيرية في كينونة العبد مع الحق والنهاية في كينونته مع الحق على الحقيقة فدل لفظ الخير, وهو بمعنى أفعل على أنهم يصيبون لا محالة الحق الذي هو حق عند الله تعالى إذا اجتمعوا على شيء وإن ذلك الحق لا يعدوهم إذا اختلفوا. فإن قيل: الآية متروكة الظاهر; لأنها تقتضي اتصاف كل واحد بوصف الخيرية والأمر بالمعروف والمعلوم خلافه, وإذا لم يمكن إجراؤها على الظاهر يحمل على أن المراد بعضهم, وهو الإمام المعصوم عندنا. قلنا: ليس المخاطب بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} كل واحد من الأمة; لأنه يلزم منه وصف كل واحد من الأمة بأنه خير أمة والشخص الواحد لا يوصف بأنه أمة حقيقة ولأنه يلزم منه أن يكون كل واحد خيرا من صاحبه, وهو مستحيل فكان المخاطب به مجموع الأمة فكان هذا بمنزلة قول الملك لعسكره أنتم خير عسكر في الدنيا تفتحون القلاع وتكسرون الجيوش.(3/377)
الحقية فيما أجمعوا وقال {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] والوسط العدل وذلك يضاد الجور, والشهادة على الناس
ـــــــ
فإنه لا يفهم منه أن الملك وصف كل واحد من آحاد العسكر بذلك بل يفهم منه أنه وصف المجموع به بمعنى أن في العسكر من هو كذلك, فكذا هاهنا وصف مجموع الأمة بالخيرية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمعنى أن فيهم من هو كذلك أو بمعنى أن أكثرهم موصوفون به كقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} [البقرة: 55] {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [البقرة: 72] وكقول الرجل بنو هاشم حلماء وأهل الكوفة فقهاء أي فيهم من هو موصوف بهذه الصفة أو أكثرهم موصوف بها.
قوله: وقال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143] أي ومثل ذلك الجعل العجيب, وهو جعل الكعبة قبلة جعلناكم أي صيرناكم أمة وسطا أي خيارا وهي صفة بالاسم الذي هو وسط الشيء ولذلك استوى فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث وقيل للخيار وسط; لأن الأطراف يتسارع إليها الخلل والأوساط محمية. وقيل عدولا لأن الوسط عدل بين الأطراف ليست إلى بعضها أقرب من بعض, والتمسك به من وجهين: أحدهما: أنه تعالى وصف هذه الأمة بكونهم وسطا والوسط هو العدل الذي يرتضى بقوله قال تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} [القلم: 28] أي أعدلهم وأرضاهم قولا, وقال الشاعر: هم وسط يرضى الأنام بحكمهم
إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم
فيقتضي ذلك أن يكون مجموع الأمة موصوفا بالعدالة إذ لا يجوز أن يكون كل واحد موصوفا بها; لأن الواقع خلافه فوجب أن يكون ما أجمعوا عليه حقا; لأنه لو لم يكن حقا كان باطلا وكذبا والكاذب المبطل يستحق الذم فلا يكون عدلا, وهو معنى قوله وذلك أي كونهم وسطا يضاد الجور أي الميل عن سواء السبيل قال القاضي الإمام: الوسط في اللغة من يرتضى بقوله ومطلق الارتضاء في إصابة الحق عند الله تعالى; لأن الخطأ في الأصل مردود ومنهي عنه إلا أن المخطئ ربما يعذر بسبب عجزه ويؤجر على قدر طلبه للحق بطريقه لا أن يكون الخطأ مرضيا عند الله عز وجل. فإن قيل: وصفهم بذلك لا يقتضي كونهم عدولا في كل شيء; لأن الوصف في جانب الثبوت يتحقق في صورة واحدة; فإن قولنا زيد عالم يقتضي كونه عالما بشيء ولا يقتضي كونه عالما بكل الأشياء ولئن سلمنا أنه يقتضي كونهم عدولا في كل شيء فذلك لا يقتضي كونهم محقين في الإجماع; فإن الخطأ إن كان معصية فهو من الصغائر لا من الكبائر فلا يقدح في العدالة. قلنا: إنه تعالى عالم بالظاهر والباطن فلا يجوز أن يحكم بعدالة أحد إلا والمخبر عنه يكون عدلا حقيقة كالمزكي إذا أخبر بعدالة شاهد يقتضي أن يكون عدلا ظاهرا وهاهنا قد أطلق القول بعد(3/378)
تقتضي الإصابة والحقية إذا كانت شهادة جامعة للدنيا والآخرة وقال النبي صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
التهم فيجب أن يكونوا عدولا في كل شيء وأن لا يجري عليهم الخطأ فيما أجمعوا عليه; لأنه نوع من الكذب, وهو ينافي العدالة المطلقة الحقيقة. بخلاف شهود الحاكم حيث تثبت عدالتهم وتجوز شهادتهم مع جواز الصغيرة عليهم واحتمال الكذب والخطأ في شهادتهم لأنه لا سبيل له إلى معرفة الباطن فلا جرم اكتفى بالظاهر. والثاني: أنه تعالى وصفهم بكونهم شهداء, والشاهد اسم لمن يخبر بالصدق حقيقة ويكون قوله حجة والكاذب لا يسمى شاهدا على الحقيقة فدل ذلك على أنهم عند الاجتماع صدقة فيما أخبروا وإن قولهم حجة; فإن الحكيم لا يحكم بخيرية قوم ليشهدوا, وهو عالم بأن كلهم يقدمون على الكذب فيما يشهدون فدل أنه تعالى علم أنهم لا يقدمون إلا على الحق حيث وصفهم بما وصفهم. فإن قيل: المراد به شهادتهم في الآخرة على الأمم بأن الأنبياء بلغت إليهم الرسالة على ما نطق به الخبر فهذا يقتضي أن يكونوا صدقة في شهادتهم في الآخرة لا فيما أجمعوا عليه وأن يكونوا عدولا في الآخرة لا في الدنيا; لأن عدالة الشهود إنما تعتبر حال الأداء لا حال التحمل. قلنا: لا تفصيل في الآية فتتناول شهادة الدنيا والآخرة, وكذا لم يذكر المشهود به, وترك ذكر المفعول به يوجب التعميم كما في قولك: فلان يعطي ويمنع; فيكون الآية متناولة شهادة الدنيا والآخرة ومن شهادتهم حكمهم فيما أجمعوا عليه; لأنه شهادة على الناس بحكم من أحكام الله تعالى فيجب أن يكونوا صادقين فيه ولو كان المراد صيرورتهم عدولا في الآخرة كما قالوا لقال سنجعلكم أمة وسطا كيف وجميع الأمم عدول في الآخرة لا يبقى في الآية تخصيص لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الفضيلة وإلى ما ذكرنا أشار الشيخ بقوله إذا كانت شهادة جامعة للدنيا والآخرة يعني إذا كانت شهادتهم معتبرة في الدنيا والآخرة ينبغي أن يكون صوابا وحقا لا محالة. فإن قيل: إنه تعالى كما جعل هذه الأمة شهداء جعل أهل الكتاب كذلك في قوله عز اسمه {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ} [آل عمران: 99], ثم لم يلزم منه أن يكون إجماعهم حجة, فكذا إجماع هذه الأمة. قلنا: يحتمل أنه كان حجة حين كانوا متمسكين بالكتاب شهداء به ولم يبق اليوم حجة لكفرهم, على أن تأويل الآية وأنتم شهداء بما فيه من نبوة محمد عليه السلام فلم لا تشهدون بالحق. فإن قيل: إن كان المراد من قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ} جميع من صدق النبي عليه السلام إلى يوم القيامة فلا يتصور إحاطة علمنا بإجماع كل من صدق النبي عليه السلام وإن كان المراد من وجد في زمان نزول الآية فينبغي أن لا يكون إجماع حجة حتى يعلم أن جميع من كان حاضرا وقت نزول الآية قد قال بذلك القول. قلنا: لما وصفهم الله تعالى بالعدالة(3/379)
"لا تجتمع أمتي على الضلالة" وعموم النص ينفي جميع وجوه الضلالة في الإيمان والشرائع جميعا, وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر ليصلي بالناس فقالت عائشة: إنه رجل رقيق, فمر عمر ليصلي بالناس قال النبي عليه السلام: "أبى الله ذلك
ـــــــ
والشهادة فقد أوجب علينا قبول قولهم في ذلك فلا يجوز أن يقسم تقسيما يؤدي إلى سد باب الوصول إلى شهادتهم فيكون المراد بالآية أهل كل عصر على ما مر بيانه واعتمد جماعة من المحققين منهم الشيخ أبو منصور وصاحب الميزان في إثبات كون الإجماع حجة على قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] ووجه التمسك به أنه تعالى أمر بالكون مع الصادقين. والمراد من الصادق هو الصادق في كل الأمور, إذ لو كان المراد هو الصادق في البعض لزم منه الأمر بموافقة كلا الخصمين; لأن كل واحد منهما صادق في بعض الأمور, ثم لا يجوز أن يكون هذا أمرا بالمتابعة في بعض الأمور; لأنه غير متبين في هذه الآية فيلزم منه الإجمال والتعطيل, ثم يقول ذلك الصادق في كل الأمور الذي يجب متابعته في كل الأمور إما مجموع الأمة أو بعضهم والثاني باطل; لأن التكليف بالكون معهم يستلزم القدرة عليه ولا تثبت القدرة إلا بمعرفة أعيانهم. وقد نعلم بالضرورة أنا لا نعرف واحدا نقطع فيه بأنه من الصادقين الذين أمرنا بالكون معهم فثبت أنهم مجموع الأمة وذلك يدل على أن الإجماع حجة.
قوله "وقال النبي عليه السلام "لا تجتمع أمتي على الضلالة" هذا من الحجج المتعلقة بالسنة في إثبات كون الإجماع حجة وهي أدل على الغرض من نصوص الكتاب وإن كانت دونها من جهة التواتر وتقرير هذا الدليل أن الروايات تظاهرت عن الرسول صلى الله عليه وسلم بعصمة هذه الأمة عن الخطأ بألفاظ مختلفة على لسان الثقات من الصحابة كعمر وابنه وابن مسعود وأبي سعيد الخدري وأنس بن مالك وأبي هريرة وحذيفة بن اليمان وغيرهم مع اتفاق المعنى كقوله عليه السلام "لا تجتمع أمتي على الخطأ" "ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن1" "لا تجتمع أمتي على الضلالة أو على ضلالة" "سألت ربي أن لا تجتمع أمتي على ضلالة فأعطانيه" وروي " على خطإ يد الله على الجماعة لم يكن الله ليجمع أمتي على الضلالة" وروي ولا على خطأ "عليكم بالسواد الأعظم" "يد الله على الجماعة ولا يبالي بشذوذ من شذ" "من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام عن عنقه2" "من خرج من الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة
ـــــــ
1 أخرجه الإمام أحمد في مسنده 1/379.
2 أخرجه الترمذي في الأمثال حديث رقم 2863.وأخرجه نحوه الإمام أحمد في المسند5/180.وأبو داود في السنة حديث رقم 4758.(3/380)
والمسلمون", وسئل عن الخميرة يتعاطاها الجيران, فقال: "ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن"
ـــــــ
جاهلية1" "لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى يخرج الدجال" "لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى يأتي أمر الله2" "ثلاث لا يغل عليهن قلب المؤمن إخلاص العمل لله والنصح لأئمة المسلمين ولزوم الجماعة; فإن دعوتهم تحيط من ورائهم3" "من سره بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة; فإن الشيطان مع الواحد, وهو من الاثنين أبعد4" "لن يزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من ناوأهم أي عاداهم إلى يوم القيامة" وروي لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله ستفترق أمتي كذا وكذا فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة قيل: ومن تلك الفرقة؟ قال: هي الجماعة إلى غيرها من الأحاديث التي لا تحصى كثرة ولم تزل كانت ظاهرة مشهورة بين الصحابة والتابعين إلى زماننا هذا لم يدفعها أحد من أهل النقل من سلف الأمة وخلفها من موافقي الأمة ومخالفيها ولم تزل الأمة تحتج بها في أصول الدين وفروعه. ثم الاستدلال بهذا الدليل من وجهين: أحدهما: حصول العلم الضروري; فإن كل من سمع هذه الأحاديث يجد من نفسه العلم الضروري بأن قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم من جملة هذه الأخبار وإن لم يتواتر آحادها تعظيم شأن هذه الأمة والإخبار بعصمتها عن الخطإ كما علم بالضرورة شجاعة علي وجود حاتم وخطابة حجاج من آحاد وقائع نقلت عنهم.
وثانيهما حصول العلم الاستدلالي, وهو أن هذه الأخبار لم تزل ظاهرة مشهورة بين الصحابة والتابعين ومن بعدهم متمسكا بها في إثبات الإجماع من غير خلاف فيها ولا نكير إلى زمان المخالف والعادة قاضية بإحالة اتفاق مثل هذا الخلق الكثير والجم الغفير مع تكرر الأزمان واختلاف مذاهبهم وهممهم ودواعيهم مع كونها مجبولة على الخلاف على الاحتجاج بما لا أصل له في إثبات أصل من الشريعة, وهو الإجماع المحكوم به على الكتاب والسنة من غير أن ينبه أحد على فساده وإبطاله وإظهار النكير فيه واعترض عليه من وجوه: أحدها: أنه ربما خالف واحد ولم ينقل وأجيب بأنه مما تحيله العادة إذ
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في الفتن حديث رقم 2. وأخرجه مسلم في الإمارة حديث رقم 1849. وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده 1/275.
2 أخرجه مسلم في الإمارة حديث رقم 1920. وأبو داود في الفتن حديث رقم 4252. والترمذي في الفتن حديث رقم 2176.
3 أخرجه ابن ماجة في المقدمة حديث رقم 230. والإمام أحمد في المسند 3/225.
4 أخرجه الترمذي في الفتن رقم 2165. والإمام أحمد في المسند 1/26.(3/381)
----------------------------------------------------
ـــــــ
الإجماع من أعظم أصول الدين فلو خالف فيه مخالف اشتهر إذ لم يندرس خلاف الصحابة في دية الجنين وحد الشرب وغيرهما فكيف اندرس في أصل عظيم يلزم منه التضليل والتبديع لمن أخطأ في نفيه أو إثباته ألا ترى أنه اشتهر خلاف النظام مع سقوط قدره فكيف اختفى خلاف أكابر الصحابة والتابعين؟.
والثاني: أن هذا إثبات الإجماع بالإجماع; لأنكم استدللتم بالإجماع على صحة الخبر وبالخبر على صحة الإجماع وأجيب بأنا استدللنا على الإجماع بالخبر وعلى صحة الخبر بخلو الأعصار عن المدافعة والمخالفة مع أن العادة تقتضي إنكار إثبات أصل قاطع بحكم على القواطع بخبر غير معلوم فعلمنا بالعادة كون الخبر مقطوعا به لا بالإجماع والعادة أصل يستفاد منها معارف بها يعرف بطلان دعوى معارضة القرآن وبطلان دعوى نص الإمامة وغير ذلك.
والثالث: لعلهم أثبتوا الإجماع بغيرها وأجيب بأن تمسك الصحابة والتابعين رضي الله عنهم بها في معرض التهديد لمخالف الجماعة دليل أن الإثبات إنما كان بها.
الرابع: لو كانت معلومة الصحة لعرفت الصحابة التابعين طرق صحتها دفعا للشك والارتياب. وأجيب بأن عدم التعريف يجوز أن يكون لكون تلك الطرق قرائن أحوال لا تدخل تحت الحكاية دلت ضرورة على قصده إلى بيان نفي الخطأ عن هذه الأمة وتلك القرائن لا تدخل تحت الحكاية ولو حكوها لتطرق إلى آحادها احتمالات فاكتفوا بعلم التابعين بأن الخبر المشكوك فيه لا يثبت به أصل مقطوع به.
الخامس: حملهم الضلال في قوله عليه السلام "لا تجتمع أمتي على ضلالة على الكفر والبدعة" وقوله على الخطإ لم يتواتر وإن صح فالخطأ عام يمكن حمله على الكفر ودفع بأن اللفظ لا ينبئ عنه ويؤكده قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} [الضحي: 7], وقد فهم على الضرورة من هذه الألفاظ تعظيم شأن هذه الأمة وتخصيصها بهذه الفضيلة أما العصمة عن الكفر فقد أنعم بها في حق علي وابن مسعود وأبي وزيد على مذهب النظام; لأنهم ماتوا على الحق وكم من آحاد عصموا عن الكفر حتى ماتوا فأي خاصة للأمة فدل على أنه أراد ما لا تعصم عنه الآحاد من سهو وخطأ وكذب ويعصم عنه الأمة تنزيلا لجميع الأمة منزلة النبي في العصمة عن الخطإ في الدين وأشار الشيخ إلى جواب هذا السؤال بقوله عموم النص, وهو نفي الضلالة محلاة فاللام التعريف إن كانت الرواية باللام, وكونها نكرة في موضع النفي إن كانت الرواية بغير لام ينفي جميع وجوه الضلالة في(3/382)
وأما المعقول فلأن رسولنا عليه السلام خاتم النبيين وشريعته باقية إلى آخر الدهر وأمته ثابتة على الحق إلى أن تقوم الساعة. قال النبي عليه السلام: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين حتى تقوم الساعة, وقال حتى تقاتل آخر
ـــــــ
الإيمان والشرائع جميعا; لأن الضلالة ضد الهدى والهدى اسم يقع على الإيمان والشرائع والأصل في الكلام العام إجراؤه على عمومه فلا يجوز الحمل على الكفر خاصة من غير دليل.
السادس: حملهم الخطأ على بعض أنواعه من الشهادة في الآخرة أو مما يوافق النص المتواتر أو دليل العقل دون ما يكون بالاجتهاد والقياس وأجيب بأن أحدا من الأمة لم يذهب إلى هذا التفصيل; لأن ما دل الدليل على تجويز الخطأ عليهم في شيء دل على تجويزه في شيء آخر فإذا لم يكن فارق لم يثبت تخصيص بالتحكم, ثم هذه الأخبار إنما وردت لإيجاب متابعة الأمة والحث عليها والزجر عن المخالفة فلو لم يكن الخطأ محمولا على جميع أنواعه بل على بعض غير معلوم لامتنع إيجاب المتابعة فيه لكونه غير معلوم ولبطلت فائدة تخصيص الأمة بما ظهر منه عليه السلام قصد تعظيمها لمشاركة آحاد الناس إياهم في العصمة عن بعض أنواع الخطأ إذ ما من شخص يخطئ في كل شيء بل كل إنسان يعصم عن الخطإ في بعض الأشياء, وبهذا خرج الجواب أيضا عن قولهم الأمة عبارة عن كل من آمن بالله إلى يوم القيامة وأهل كل عصر ليس كل الأمة فلا يمتنع الخطأ والضلال عليهم; لأن المقصود لما كان من هذه الأخبار, هو الزجر عن مخالفة الجماعة والحث على متابعتهم لا يتصور حمل الأمة على كل من آمن بالله إلى يوم القيامة إذ لا زجر ولا حث فيها.
قوله "وأما المعقول فكذا" وتقريره ما ذكر في الميزان أنه ثبت بالدليل العقلي القطعي أن نبينا عليه السلام خاتم الأنبياء وشريعته دائمة إلى قيام الساعة فمتى وقعت حوادث ليس فيها نص قاطع من الكتاب والسنة وأجمعت الأمة على حكمها ولم يكن إجماعهم موجبا للعلم وخرج الحق عنهم ووقعوا في الخطأ أو اختلفوا في حكمها وخرج الحق عن أقوالهم; فقد انقطعت شريعته في بعض الأشياء فلا تكون شريعته كلها دائمة فيؤدي إلى الخلف في أخبار الشارع وذلك محال يوجب القول بكون الإجماع حجة قطعية لتدوم الشريعة بوجوده حتى لا يؤدي إلى المحال ولا يقال: إن الإجماع يكون في حق العمل كالقياس وخبر الواحد فلا يؤدي إلى انقطاع الشريعة; لأنا نقول: إنما يعمل بالقياس وخبر الواحد على اعتبار إصابة الحق ظاهرا وعلى الجملة لا يخرج الحق عن أقوال أهل الاجتهاد فمتى جوزتم خروج الحق عن أقوال أهل الاجتهاد فيما اختلفوا فيه وفيما أجمعوا(3/383)
عصابة من أمتي الدجال" وإنما المراد بالأمة من لا يتمسك بالهوى والبدعة ولو جاز الخطأ على جماعتهم, وقد انقطع الوحي بطل وعد الثبات على الحق فوجب القول بأن إجماعهم صواب بيقين كرامة من الله تعالى صيانة لهذا الدين وهذا حكم متعلق بإجماعهم صيانة للدين وذلك جائز, مثل القاضي يقضي في المجتهد برأيه فيصير لازما لا يرد عليه نقض وذلك فوق دليل الاجتهاد صيانة
ـــــــ
عليه لم يجب العمل بما هو باطل, وتبين أن ما أتوا به لم يكن شريعة النبي عليه السلام بل يكون عملا بخلاف شريعته فتنقطع شريعته في حق ذلك الحكم أبدا. فإن قيل: لا نسلم أنه يلزم منه انقطاع الشريعة لأن الحكم الذي أجمعوا عليه إن كان ثابتا في الشرع قبل الإجماع بنص مثل وجوب الصلوات الخمس يبقى ببقاء ذلك النص ولا أثر للإجماع في إثباته, وإن لم يكن ثابتا لم يكن النص الموجب لبقاء الشريعة متناولا له; لأنه إنما يتناول الأحكام الموجودة في الشريعة وقت وروده لا ما يحدث بعده فلا يلزم من انقطاعه انقطاعها. على أنا إن سلمنا أنه دخل تحت هذا النص لا يلزم من انقطاعه انقطاع أصل الشريعة لبقاء أمهات الأحكام كما لا يلزم من عدمه قبل الإجماع عدم الشريعة. قلنا: جميع الأحكام ثابتة مشروعة قبل الاجتهاد حقيقة بعضها بظواهر النصوص وبعضها بمعانيها الخفية إلا أن البعض كان خفيا يظهر بالاجتهاد لا أنه يثبت بالاجتهاد; فإن القياس مظهر للحكم لا مثبت له, وإذا كان كذلك كان الجميع داخلا تحت النص الموجب بقاء الشريعة فيلزم من انقطاع البعض خلاف النص, وقولهم: لا يلزم من انتفاء البعض انتفاء أصل الشريعة فاسد; لأن الشريعة اسم لجميع ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم والكل ينتفي بانتفاء بعضه, ألا ترى أن الشرائع الماضية نسخت بهذه الشريعة بالاتفاق وليس ذلك إلا نسخ بعض أحكامها فكان القول بأنه يؤدي إلى انقطاع بعض أحكام الشريعة باطلا فكان الإجماع حجة قاطعة ضرورة.
قوله "وإنما المراد بالأمة من لم يتمسك بالهوى والبدعة" احتراز عما يقال لعل المراد من الطائفة المحقة منكرو الإجماع; لأنهم من الأمة فقال: المراد من الأمة من لم يتمسك بالهوى والبدعة; لأن مطلق الأمة يتناول أمة المتابعة دون أمة البدعة وأهل الأهواء الذين منكرو الإجماع منهم من أمة الدعوة كالكفار دون أمة المتابعة وهذا حكم أي إصابة الحق بيقين حكم متعلق بإجماعهم فيجوز أن لا يثبت حالة الانفراد وذلك جائز أي يجوز أن يكون الدليل غير موجب لليقين فإذا انضم إليه معنى آخر يصير موجبا له مثل الحكم المجتهد فيه فيكون غير لازم, فإذا انضم إليه قضاء القاضي يصير لازما بحيث لا يرد عليه نقض, وذلك أي قضاء القاضي إنما جعل فوق دليل الاجتهاد لأجل صيانة القضاء(3/384)
للقضاء الذي هي من أسباب الدين ولا ينكر في المحسوس والمشروع أن يحدث باجتماع الأفراد ما لا يقوم به الأفراد, والله أعلم. فصار الإجماع كآية من الكتاب أو حديث متواتر في وجوب العمل والعلم به.فيكفر جاحده في الأصل
ـــــــ
الذي هو من أسباب الدين عن البطلان فلأن يثبت الإجماع حجة لأجل صيانة أصل الدين كان أولى, وهذا بخلاف الشرائع المتقدمة; فإن نسخها لما كان جائزا لم يقع الحاجة فيها إلى عصمة الأمة عن الخطأ فأما شريعتنا هذه فلا يجوز عليها النسخ بل هي شريعة مؤبدة فعصمت أمتها من الخطأ ليبقى الشرع بإجماع الأمة محفوظا, ثم أجاب عن كلامهم فقال ولا ينكر في المحسوس والمشروع أن يحدث باجتماع الأفراد ما لا يقوم به الأفراد; فإن الأفراد لا يقدرون على حمل خشبة ثقيلة, وإذا اجتمعوا قدروا عليه. واللقمة الواحدة لا تكون مشبعة, وإذا اجتمعت اللقمات تصير مشبعة وخبر الواحد لا يكون موجبا للعلم وعند اجتماع المخبرين على نقله يصير موجبا له, والكلمة الواحدة بل الآية الواحدة من القرآن لا تكون معجزة وإذ اجتمعت الآيات صارت معجزة. قال أبو الحسين البصري في جوابهم: المستحيل أن يقال كل واحد من الأمة يجوز أن يكون مخطئا في القول الذي اتفقوا عليه وجماعتهم غير مخطئين فيه ونحن لا نقول كذلك وإنما نقول: كل واحد منهم يجوز أن يكون قوله خطأ إذا انفرد, وإذا اجتمع مع كافة الأمة لم يكن قوله خطأ وليس بممتنع أن يفارق الواحد الجماعة ونظير ما ذكرنا أن يقال كل واحد من الناس يجوز أن يكون أسود في الموضع الفلاني فإذا اجتمعوا في موضع آخر لم يكونوا سودا بل بيضا, وقد مرت الإشارة إلى الجواب عن بقية كلامهم في أول باب الإجماع.
قوله "فيكفر جاحده في الأصل" أي يحكم بكفر من أنكر أصل الإجماع بأن قال: ليس الإجماع بحجة أما من أنكر تحقق الإجماع في حكم بأن قال: لم يثبت فيه إجماع وأنكر الإجماع الذي اختلف فيه فلا. واعلم أن العلماء بعدما اتفقوا على أن إنكار حكم الإجماع الظني كالإجماع السكوتي والمنقول بلسان الآحاد غير موجب للكفر اختلفوا في إنكار حكم الإجماع القطعي كإجماع الصحابة مثلا فبعض المتكلمين لم يجعله موجبا للكفر بناء على أن الإجماع عنده حجة ظنية فإنكار حكمه لا يوجب الكفر كإنكار الحكم الثابت بخبر الواحد أو القياس. وذكر هذا القائل في تصنيف له والعجب أن الفقهاء أثبتوا الإجماع بعمومات الآيات والأخبار وأجمعوا على أن المنكر لما تدل عليه هذه العمومات لا يكفر إذا كان الإنكار لتأويل, ثم يقولون الحكم الذي دل عليه الإجماع مقطوع به ومخالفه كافر فكأنهم قد جعلوا الفرع أقوى من الأصل وذلك غفلة عظيمة, وبعضهم جعلوه موجبا للكفر; لأن الإجماع حجة قطعية كآية من الكتاب قطعية الدلالة أو خبر متواتر(3/385)
قال الشيخ الإمام ثم هذا على مراتب فإجماع الصحابة مثل الآية والخبر المتواتر وإجماع من بعدهم بمنزلة المشهور من الحديث, وإذا صار الإجماع مجتهدا في السلف كان كالصحيح من الآحاد. والنسخ في ذلك جائز بمثله حتى إذا ثبت حكم بإجماع عصره يجوز أن يجتمع أولئك على خلافه فينفسخ به الأول ويجوز
ـــــــ
قطعي الدلالة فإنكاره يوجب الكفر لا محالة, ومنهم من فصل فقال إن كان الحكم المجمع عليه مما يشترك الخاصة والعامة في معرفته مثل أعداد الصلوات وركعاتها وفرض الحج والصيام وزمانهما ومثل تحريم الزنا وشرب الخمر والسرقة والربا كفر منكره; لأنه صار بإنكاره جاحدا لما هو من دين الرسول قطعا فصار كالجاحد لصدق الرسول عليه السلام. وإن كان مما ينفرد الخاصة بمعرفته كتحريم تزوج المرأة على عمتها وخالتها وفساد الحج بالوطء قبل الوقوف بعرفة وتوريث الجدة السدس وحجب بني الأم بالجد ومنع توريث القاتل لا يكفر منكره ولكن يحكم بضلاله وخطئه; لأن هذا الإجماع وإن كان قطعيا أيضا إلا أن المنكر متأول حيث جعل المراد من الأمة والمؤمنين جميعهم على ما مر بيانه والتأويل مانع من الإكفار كتأويل أهل الأهواء النصوص القاطعة, وتبين بهذا التفصيل أن تعجب من قال بالقول الأول من الفقهاء ليس في محله; فإنهم ما حكموا بكفر منكر كل إجماع ولم يجعلوا الفرع أقوى من الأصل ولم يغفلوا عنه, ثم قوله فيكفر جاحده في الأصل يحتمل أن يكون إشارة إلى القول الأخير أي يكفر جاحد الإجماع الذي ثبت باتفاق الخاصة والعامة; لأنه هو الإجماع الداخل تحت أدلة الإجماع بلا شبهة, ويحتمل أن يكون إشارة إلى القول الثاني أي يكفر جاحد الإجماع المنعقد باتفاق أهل الاجتهاد من الصحابة; فإنه بمنزلة الآية والخبر المتواتر لكونه متفقا على صحته لاشتمالهم على أهل المدينة وعترة الرسول ويضلل جاحد إجماع من بعدهم; فإنه بمنزلة المشهور من الأخبار, وإذا صار الإجماع مجتهدا أي مختلفا فيه كان كالصحيح من الآحاد فيجب العمل به بشرط أن لا يكون مخالفا للأصول وهذا كله إذا بلغ إلينا بطريق التواتر فأما إذا بلغ بطريق الآحاد فسيأتي بيانه.
قوله "والنسخ في ذلك" أي في الإجماع جائز بمثله حتى جاز نسخ الإجماع القطعي بالقطعي ولا يجوز بالظني وجاز نسخ الظني بالظني والقطعي جميعا فلو أجمعت الصحابة على حكم, ثم أجمعوا على خلافه بعد مدة يجوز ويكون الثاني ناسخا للأول لكونه مثله, ولو أجمع القرن الثاني على خلافهم لا يجوز; لأنه لا يصلح ناسخا للأول لكونه دونه ولو أجمع القرن الثاني على حكم, ثم أجمعوا بأنفسهم أو من بعدهم على خلافه جاز; لأنه مثل الأول فيصلح ناسخا له, وإنما جاز نسخ الإجماع بمثله; لأنه يجوز أن تنتهي مدة(3/386)