وفيه نظر عندنا بل هذا تكرير مثل قوله تعالى {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} "القيلمة :34-35" وإذا تعذر معنى العهد حمل على الجنس ليكون تعريفا له مثل قولك فلان يحب الدينار أي هذا الجنس إذ ليس فيه عين
ـــــــ
إذا اشتدت بك العسرى ففكر في ألم نشرح ... فعسر بين يسرين إذا فكرتها فافرح
قال فحفظت الأبيات وفرج الله غمي وقال آخر :
توقع إذا ما عرتك الهموم
...
سرورا يشردها عنك قسرا
ترى الله يخلف ميعاده
...
وقد قال إن مع العسر يسرا .
قوله "وفيه نظر" ذكر في بعض الشروح معناه أن في الأصل المذكور وهو أن المعرفة إذا أعيدت معرفة كانت الثانية عين الأولى والنكرة إذا أعيدت نكرة كانت الثانية غير الأولى نظرا فإنه قد ينعكس كما في قوله تعالى . {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} المائدة :48". الكتاب الثاني غير الأول وإن ذكرا معرفين . وقوله عز اسمه . {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} الروم :54". الضعف الثاني عين الأول وإن ذكرا منكرين وكذا القوة الثانية عين الأولى وإن ذكرتا منكرتين . والظاهر أنه ليس براجع إلى هذا الأصل فإنه مذهب أهل البصرة والكوفة كذا ذكر في التيسير بل هو راجع إلى قول ابن عباس لن يغلب عسر يسرين يعني وثبت هذا القول منه يخرج عن هذا الأصل ويكون الجملة الثانية " ح " مذكورة على وجه الاستئناف ولكن الصحيح عند الشيخ أنها مذكورة على وجه التكرير للجملة الأولى لتقرير معناها في النفوس ويمكنها في القلوب كما كرر قوله تعالى . {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} المرسلات:15-19-24-28-24-37-40-45-47-49". {َوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} القيامة :34-35". وكما يكرر المفرد في قولك جاءني زيد زيد وعلي هذا التقدير لا يستقيم قول ابن عباس لن يغلب عسر يسرين فهذا هو معنى النظر . ثم الأصل المذكور قد يترك عند تعذر العمل به كما يترك العمل بالحقيقة عند التعذر وقد تحقق التعذر ههنا فيما ذكر فإن الكتاب الأول لما وصف بقوله {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ} المائدة :48" وجعل الكتاب الثاني بيانا . لما لا يمكن صرفه إلى الأول ولما لم يكن بعد قوة الشباب قوة أخرى لا يمكن صرف القوة الثانية إلى غير الأولى فترك(2/27)
معهودة وذلك مثل قوله أنت طالق الطلاق .وضرب آخر من دلائل العموم إذا اتصل بها وصف عام مثل قول الرجل والله لا أكلم أحدا إلا رجلا كوفيا ولا
ـــــــ
هذا الأصل للتعذر . فأما الضعف الثاني فهو غير الأول لإمكان صرف كل واحد إلى ضعف ; لأن المفسرين قالوا الضعف الأول النطفة والضعف الثاني ضعف الطفولة ومعناه خلقكم من ماء ذي ضعف وعنى بضعفه قلته أو حقارته كقوله تعالى . {ألَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} "المرسلات :20". {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ} "الروم :54" أي ضعف الطفولة "قوة" أي قوة الشباب ثم جعل من بعده قوة الشباب ضعفا وشيبة أي عند الكبر .
قوله "وإذا تعذر" متصل بأول كلام يعني لام المعرفة للعهد وإذا تعذر معنى العهد حمل على الجنس مجازا وفي الجنس معنى العموم على ما مر غير مرة . وذلك مثل قوله أنت طالق الطلاق اللام فيه لتعريف الجنس إذ ليس يمكن صرفه إلى معهود فيثبت فيه معنى العموم حتى إذا نوى الثلاث يقع ولكنه بدون النية يتناول الواحد ; لأنها أدنى الجنس وهي المتيقن بها .
قوله "وضرب آخر من دلائل العموم" وصف عام . والمراد بعمومة أنه يصح أن يوصف به كل فرد من أفراد نوع الموصوف ولا يختص بواحد كقوله رجل كوفي يصح أن يوصف بهذه النسبة كل رجال الكوفة فإذا وصفت النكرة بمثل هذا الوصف تتعمم ضرورة عموم الوصف وإن كانت في نفسها خاصة كما تتعمم بوقوعها في موضع النفي وبكلمة كل . فإذا قال والله لا أكلم أحدا إلا رجلا أو لا أتزوج أحدا إلا امرأة كان المستثنى رجلا واحدا وامرأة واحدة حتى لو كلم رجلين أو تزوج امرأتين يحنث ; لأن الاستثناء من النفي إثبات والنكرة في الإثبات تخص . ولو قال لا أكلم إلا رجلا عالما أو رجلا كوفيا كان له أن يكلم كل عالم أو كل كوفي وإن كان نكرة في الإثبات لعموم الوصف والنكرة يحتمل أن تصير عامة بدليل يقترن بها كما بينا فيجوز أن يتعمم باتصافها بالوصف العام إذ الوصف الموصوف كشيء واحد . ويؤيده قوله تعالى . {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} "الأنعام :145". حيث صار كل دم مسفوح مستثنى وهذا المعنى وهو أن النكرة إذا لم تكن موصوفة الاستثناء باسم الشخص فيتناول شخصا واحدا وإذا كانت موصوفة فالاستثناء بصفة النوع فتخص ذلك النوع لصيرورته مستثنى كذا في جامع شمس الأئمة رحمه الله .
واعلم أن الوصف من أسباب التخصيص والتقييد في النفي والإثبات جميعا فإن قولك رأيت رجلا عالما أخص بالنسبة إلى قولك رأيت رجلا ; لأنه وإن تناول واحدا من الجملة إلا أنه شائع في كل الجنس يصلح لتناول كل واحد من إفراده على سبيل البدل(2/28)
---------------------------------------------------------
ـــــــ
وقولك رأيت رجلا عالما شائع في بعض الجنس وهم العالمون منهم على سبيل البدل لا في كله . وكذا قولك ما رأيت رجلا عم النفي جميع الجنس كما مر بيانه وقولك ما رأيت رجلا عاما عم النفي بعض الجنس وهم العالمون لا كله حتى لو رأى رجلا غير عالم لا يكون كاذبا . وكذا لو قال لأكلمن اليوم رجلا عالما أو رجلا كوفيا أو قال لأتزوجن امرأة كوفية يتعلق البر بكلام رجل واحد وبتزوج امرأة واحدة لا غير وكلما ازداد وصف في الكلام ازداد تخصيص هذا هو موجب اللغة ومذهب عامة أهل الأصول . وإذا ثبت هذا عرفنا أن هذا الأصل لا يطرد في جميع المواضع .
وقد كنت في مجلس شيخنا العلامة وأستاذ الأئمة مولانا حافظ الملة والدين أسكنه الله بحبوحة جناته وكان المجلس غاصا بالعلماء النحارير والفضلاء الحذاق المهرة إذ جرى الكلام في هذه المسألة فقال بعض الكبار تعميم النكرة الموصوفة مختص بالاستثناء من النفي وبكلمة أي دون ما عداهما وتمسك بنحو ما ذكرنا من المسائل والنظائر فلم يقابل برد مسموع ولم يجبه أحد جوابا شافيا .
ورأيت مكتوبا على حاشية تقويم مقروء على شيخنا هذا قدس الله روحه أن هذا الأصل يختلف حكمه باختلاف المحال فالنكرة الموصوفة بصفة عامة في موضع الإباحة وفي موضع التحريض يتعمم فأما في موضع الجزاء والخبر فلا يتعمم كما في قوله تعالى : {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} "النساء:92". وكقولك جاءني رجل عالم .
ثم النكرة الموصوفة أنما يتعمم في الاستثناء من النفي وإن كان ذلك موضع إثبات ; لأنها كانت داخلة في صدر الكلام وأنه أخرجها بالاستثناء منه تقديرا والاستثناء ليس بمستقبل بنفسه فيؤخذ حكمه من صدر الكلام وهو موضع نفي فيتعمم ما دخل من النكرات تحته ضرورة وقوعها في موضع النفي وصار في التقدير كأنه قال لا أكلم رجلا كوفيا ولا رجلا بصريا ولا مكيا ولا مدنيا حتى عد جميع الأنواع ثم قال إلا رجلا كوفيا فلما كان المستثنى وهو رجل كوفي عاما في صدر الكلام لكونه نكرة واقعة في موضع النفي بقي كذلك بعد الاستثناء ; لأنه عين ما دخل في صدر الكلام . والاستثناء ليس بمستقل بنفسه فيؤخذ حكمه من المستثنى منه فصار كأنه بعد الاستثناء في موضع النفي أيضا فيتعمم .
وهذا مؤيد بما ذكر محمد رحمه الله في الجامع لو قال لامرأتين له كلما حلفت بطلاق واحدة منكما فهي طالق قاله مرتين طلقت كل واحدة منها واحدة وكان ينبغي أن(2/29)
أتزوج امرأة إلا امرأة كوفية والله لا أقربكما إلا يوما أقربكما فيه إن المستثنى في هذا كله يكون عاما لعموم وصفه والنكرة تحتمل ذلك .ومن هذا الضرب كلمة أي وهي نكرة يراد بها جزء مما تضاف إليه على هذا إجماع أهل اللغة قال
ـــــــ
يطلق إحديهما غير عين وكان الخيار إلى الزوج كما قال القاضي أبو حازم1 ; لأن قوله فهي كناية عن الواحدة المذكورة سابقة فصار كأنه صرح بالواحدة وعند التصريح بالواحدة تقع طلقة واحدة على إحديهما غير عين فكذلك هذا إلا أن الواحدة المذكورة في الشرط نكرة في موضع النفي ; لأن تقدير الكلام لا أحلف بطلاق واحدة منكما وإن حلفت بذلك فكذا والنكرة في النفي تعم والكناية وهي قوله فهي لا تستقل بنفسها ولا تفيد إذا انقطعت عن أول الكلام فلا بد من أن يؤخذ حكمها من أول الكلام لتصير مفيدة ولما عم المكنى بوقوعه في موضع النفي ولا بد من أن يؤخذ حكم الكناية من المكنى لعدم استقلالها صارت الكناية عامة أيضا فلما كرر فقد صار حالفا بطلاقهما فحنث في الأولى ومن حكم اليمين الأولى طلاق كل امرأة صارت محلوفا بطلاقها وقد صارتا كذلك فلذلك طلقتا بخلاف التصريح بقوله فواحدة منكما طالق لأن الواحدة مستقلة بنفسها وقد وقعت في موضع الإثبات ; لأن موضع الجزاء موضع إثبات فتخص فصار حالفا بطلاق واحدة منهما لا غير فلا تطلق إلا واحدة غير عين . يوضح جميع ما ذكرنا أنه لو قال زينب طالق ثلاثا وعمرة تطلق عمرة ثلاثا ولو قال زينب طالق ثلاثا وعمرة طالق لم تطلق عمرة إلا واحدة ; لأن قوله وعمرة طالق مفهوم المعنى مستند بنفسه فلا يحتاج إلى تعرف حكمه مما سبق بخلاف قوله وعمرة ; لأنه غير مفيد بنفسه فلا بد من أن يؤخذ حكمه مما سبق وأما عموم كلمة "أي" باعتبار الصفة فسنبينه إن شاء الله تعالى .
فصار الحاصل أن هذا الأصل مسلم في بعض المواضع دون البعض لما ذكرنا من المعاني .
قوله "والله لا أقربكما" إذا قال لامرأتين له والله لا أقربكما إلا يوما أقربكما فيه لم يكن موليا بهذا الكلام أبدا ; لأنه وصف يوم الاستثناء بصفة عامة فأوجب العموم فيمكنه أبدا أن يقربهما في كل يوم يأتي فلا يلزمه شيء فعدمت علامة الإيلاء فإن قربهما في يومين متفرقين حنث . فإن قال والله لا أقربكما إلا يوما لم يصر موليا لجواز أن يقربهما جميعا من غير حنث يلزمه فإذا قربهما في يوم صار موليا منهما بعد غروب الشمس من ذلك اليوم لذهاب الاستثناء ; لأن المستثنى يوم واحد .
ـــــــ
1 هو القاضي عبدالحميد بن عبدالعزيز السكونيب أبو حازم قاضي القضاة من أهل البصرة ولي القضاء بالشام والكوفة والكوخ من بغداد توفي سنة 292ه أنظر البداية والنهاية 11/99 .(2/30)
الله تعالى { أيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} " النمل :38" ولم يقل يأتونني ويقال
ـــــــ
قوله "ومن هذا الضرب" أي من القسم الآخر وهو النكرة التي عمت بالوصف العام كلمة أي . أو من جنس النكرة التي تعم بدليل العموم كلمة أي فعلى هذا الوجه يكون هذا إشارة إلى قوله وقسم آخر النكرة . واعلم أن "أيا" معناه أن يكون مدلوله بعضا من الكل غير معين ولذلك لزم أن يكون مضافا أبدا وأن لا يجوز إضافته إلى الواحد المعرف فلا يقال أي الرجال إلا إذا كان في معنى الجمع كقوله أي التمر أكلت أفضل وإنما يجوز إضافته إلى الواحد المنكر على تأويل الجمع أيضا فإن قولك أي رجل معناه أي الرجل وإذا لم يكن هذا التأويل لم يجز إضافة أي إليه أيضا كذا في حاشية المفضل المصنفة وذكر في الصحاح أي اسم معرب يستفهم به ويجازى فيمن يعقل وفيمن لا يعقل وهو معرفة للإضافة . وإذا كانت دلالته على جزء من الكل كان في أصل الوضع للخصوص ولذلك إذا قيل أي الرجال عندك وأي رجل عندك لم يستقم الجواب إلا بذكر واحد بأن يقول زيد أو عمرو كذا رأيت في بعض نسخ أصول الفقه . ويدل على أنه للخصوص قوله تعالى إخبارا عن سليمان . {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} . فإن المراد الفرد من المخاطبين بدليل أنه قال يأتيني ولم يقل يأتونني وكذا يقال أي الرجال أتاك بصيغة الفرد ولا بصيغة الجمع في الاستفهام والشرط جميعا . وهذا إذا كان ما أضيف إليه أي معرفة فإن أضيف إلى نكرة فالفعل المسند إليه والجزاء على وفق المضاف إليه تقل أي رجل قام وأي رجلين قاما وأي رجال قاموا وتقول أي عبد من عبيدي دخل الدار فهو حر وأي عبدين من عبيدي دخلا الدار فهما حران وأي عبيد من عبيدي دخلوا الدار فهم أحرار ولا يجوز أي من عبدين من عبيدي وأي عبيد من عبيدي دخل الدار فهو حر وذلك ; لأن كلمة أي وضعت للاستفهام في الأصل فإذا كان ما أضيف إليه معرفة كان الاستفهام عن واحد من الجملة ; لأن الاستفهام لا يتعدى عن المضاف والمضاف إليه , والمانع من انصرافه إلى المضاف إليه موجود ; لأن المتكلم أقر بكون المضاف إليه معلوما له فينصرف الاستفهام إلى المضاف لا محالة وهو أي ودلالته على واحد من الجملة التي أضيف إليها فيكون الفعل المسند إلى ضميره على صيغة الفرد وهذا هو الذي منع من إضافته إلى المفرد في المعرفة ; لأنه إنما يصح الاستفهام إذا كان هناك جملة لها واحد وهي المثنى والمجموع . وإذا كان ما أضيف إليه أي نكرة فالاستفهام ينصرف إلى المضاف إليه كله ; لأنه لا مانع ههنا من الانصراف إلى الكل فينصرف إليه لكونه جواب الاستفهام وهذا ; لأن أيا ههنا يقع في الحقيقة صفة للمضاف إليه فينصرف الاستفهام إلى كله بخلاف ما إذا كان المضاف إليه معرفة فإن أيا لا يكون في معنى الصفة ضرورة إن أيا نكرة والمضاف إليه معرفة وإذا كان كذلك لا بد من(2/31)
أي الرجل أتاك وقال محمد رحمه الله أي عبيدي ضربك فهو حر فضربوه فإنهم يعتقون ولم يقل ضربوك فثبت أنها كلمة فرد لكنها متى وصفت بصفة عامة
ـــــــ
أن يكون الضمير المسند إليه الفعل موافقا للمضاف إليه فلهذا يقال أي رجل قام وأي رجلين قاما وأي رجال قاموا. وما ذكرنا هو الذي جوز إضافته إلى النكرة المفردة; لأن المستفهم عنه كما يكون غير مفرد يكون أيضا مفردا إليه أشير في التخمير وغيره. ثم كلمة أي إن بقيت نكرة بعد الإضافة كما يشير إليه هذا التقرير كان قول الشيخ هي نكرة مجرى على إطلاقه وحقيقته وإن صارت معرفة بالإضافة كما هو مذهب عامة أهل النحو وكما هو المذكور في الصحاح, ولهذا يصلح مبتدأ ولا بد فيه من أن يكون معرفة, كان قوله وهي نكرة محمولا على المعنى; لأنها وإن تعرفت صورة بقيت الجهالة فيها معنى; لأنها تصلح لتناول كل واحد من آحاد ما أضيف إليه على البدل, ولهذا صح الاستفهام بها بعد الإضافة إلى المعرفة فكانت نكرة معنى. يوضحه ما ذكره القاضي الإمام في التقويم وأما كلمة أي فبمنزلة النكرة عندنا; لأنها تصحب النكرة لفظا أو معنى لاستحضارها تقول أي رجل فعل كذا وأي دار تريدها والنكرة معنى قوله تعالى. {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} "النمل:38". وهي نكرة معنى يعني أي رجل منكم; لأن المراد بها واحد منهم. وكذا قوله يراد بها جزء ما تضاف إليه مجرى على ظاهره إن كان المضاف إليه معرفة فأما المضاف إليه إذا كان نكرة فلا بد له من تأويل; لأن المراد بها " ح " كل ما أضيف إليه على ما بينا أن الاستفهام عن الكل لا عن الجزء. وتأويله أن المضاف إليه إذا كان نكرة لا بد من أن يكون جزءا من جملة فكان أي مع ما أضيف إليه جزءا من تلك الجملة. وبيانه أن المتكلم في قوله أي رجال قاموا قدر في نفسه أعدادا مما ينطلق عليه اسم رجال واشتبه عليه واحد من تلك الأعداد موصوف بالقيام فاستفهم عن ذلك ولو لم يكن هذا التقدير لما صح الاستفهام فكان تقديره أي رجل من الرجال قاموا فصار في التحقيق مضافا إلى الرجال بواسطة رجال فكان المراد به جزءا من تلك الجملة إلا أن ذلك الجزء جمع لا فرد.
قوله "أي عبيدي ضربك" إلى آخره. كلمة أي إذا وقعت في موضع الشرط لا بد من أن يتعقب ما دخل عليه فعل كما في "كل"; لأنها للزوم إضافتها لا تدخل إلا على الاسم وهو لا يصلح شرطا فلا بد من أن يليه فعل يكون هو شرطا في الحقيقة ثم إن كان ذلك الفعل مسندا إلى خاص لا يصلح وصفا لأي عرف أن المراد به الخصوص فلا يتناول إلا واحدا. وإن كان مسندا إلى ضمير راجع إلى أي حتى صلح وصفا له يعم بعموم تلك الصفة ففي قوله "أي عبيدي ضربك" فهو حر الفعل مسند إلى الضمير الراجع إلى أي فيصير وصفا له فيعم بعمومه كما يعم في قوله إلا رجلا كوفيا وقوله من شاء من عبيدي(2/32)
عمت بعمومها كسائر النكرات في موضع الإثبات وإذا قال أي عبيدي ضربك فقد وصفها بالضرب وصارت عامة وإذا قال أي عبيدي ضربته فقد انقطع الوصف عنها فلم يعتق إلا واحد وعلى ذلك مسائل أصحابنا وكذلك إذا قال:
ـــــــ
فإن ضربوه جميعا معا أو واحدا بعد واحد عتقوا. وإذا قال أي عبيدي ضربته فهو حر فقد أسند الضرب إلى خاص وهو المخاطب فلا يصلح أن يكون وصفا لأي فبقي على الخصوص كما كان لعدم ما يوجب تعميمه فإذا ضربهم على الترتيب عتق الأول; لأنه لا مزاحم له وإن ضربهم جملة عتق واحد منهم والخيار إلى المولى لا إلى الضارب ; لأن نزول العتق من جهته فكان التعيين إليه . ولا يقال قد صار أي موصوفا بالمضروبية; لأن الضمير المنصوب يرجع إليه فيصير عاما بهذا الوصف كما عم المستثنى في قوله والله لا أقربكما إلا يوما فيه وإن كان مفعولا فيه بعموم وصفه وهو القربان; لأنا نقول القربان وصف متصل باليوم حقيقة; لأن الفعل المحدث يتعلق بالزمان فيجوز أن يصير اليوم عاما به فأما الضرب فقد اتصل بالضارب وقام به فيستحيل اتصاله بالمضروب في الحقيقة; لأن الوصف الواحد يستحيل أن يقوم بشخصين والمتصل بالمضروب أثر الضرب لا الضرب فلهذا لم يعم به. ولأن المفعولية فضلة في الكلام يثبت ضرورة تعدي الفعل فلا يظهر أثره في التعميم; لأن ما ثبت بالضرورة يتقدر بقدرها بخلاف اليوم المستثنى في قوله إلا يوما أقربكما فيه; لأنه صرح بذكره وجعله موصوفا بصفة عامة قصدا ولما ذكرنا أن الفعل المحدث مع الزمان متلازمان كذا في فوائد الشيخ الإمام مولانا حميد الملة والدين رحمه الله.
قوله "وعلى ذلك" أي على أن النكرة تعم بالوصف العام وإن كانت في أصل الوضع للخصوص. أو على أن كلمة أي تعم بصفة عامة وإن كانت موضوعة لفرد يثبت مسائل أصحابنا. فإذا قال أي نسائي كلمتها فهي طالق فكلمهن طلقت واحدة ولو قال أي نسائي كلمتك فهي طالق فكلمته جميعا طلقن جميعا لما قلنا. وكذا لو قال أعتق أي عبيدي شئت فأعتقهم جميعا لا يعتق إلا واحد منهم والأمر في بيانه إلى المولى ولو قال أيكم شاء العتق فهو حر فشاءوا جميعا عتقوا. وكذا قوله أي نسائي شئت طلاقها فهي طالق وأي نسائي شاءت طلاقها على هذا أيضا.
قوله "كذلك" أي كما قالوا بعموم أي في قوله أي عبيدي ضربك قالوا أيضا بعموم في هذه المسألة. إذا قال لعبيده أيكم حمل هذه الخشبة فهو حر فإن حملها واحد بعد واحد عتقوا جميعا بكل حال. فإن حملوها جملة فإن كان يطيق حملها واحد لم يعتقوا وإن كان لا يطيق حملها واحد عتقوا وإن كانوا عشرة بعد أن تكون الخشبة بحيث(2/33)
أيكم حمل هذه الخشبة فهو حر وهي لا يحملها واحد فحملوا عتقوا وإن كان يحملها واحد فحملوا كلهم فرادى عتقوا وإذا اجتمعوا على ذلك لم يعتقوا; لأن المراد به فيما يخف حمله انفراد كل واحد منهم في العادة لإظهار الجلادة.فأما
ـــــــ
لا يستقل بحملها الاثنان فصاعدا لما ذكرنا أن كلمة أي نكرة تدل على جزء مما تضاف إليه وقد وصفت بصفة عامة وهو الحمل فتعم إلا أن العموم ههنا على وجهين: الاشتراك والانفراد فيتعين أحدهما بدلالة الحال. فإن كانت الخشبة يطيق حملها واحد كان المراد به العموم على وجه الانفراد; لأن المقصود حينئذ معرفة جلادتهم وقوتهم وذلك يحصل بحمل كل واحد لا بحمل الجميع جملة. وإن كان لا يطيق حملها واحد كان الغرض صيرورة الخشبة محمولة إلى موضع يريده وذلك يحصل بالحمل على طريق الاستعانة كما يحصل بالحمل على سبيل الانفراد فيتعلق العتق بمطلق الحمل.
ثم الكلام العام إما أن يتناول الأدنى أو الكل فأما ما بين ذلك فلا, فإذا لم يطق حملها واحد وجب التجاوز عن الواحد فإذا تجاوزنا لم يجز التعليق بشيء دون الكل فلذلك قلنا إذا حملوها جملة عتقوا وإن كان يطيق حملها اثنان.. واعلم أن من لم يسلم اطراد الأصل المذكور في جميع المواضع قال ليس عموم أي في هذه المواضع بمجرد الوصف فإن الرقبة في قوله تعالى. {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} "النساء:92". وصفت بوصف عام ولم تعم. وكذا لو كان له عبيد سود وبيض فقال:أي عبيدي ضربك فهو حر يتناولهم جميعا ولو قال أي عبد أسود من عبيدي ضربك فهو حر يتناول السود منهم دون البيض. ولو قال أي عبد أسود طويل ضربك يتناول الطوال من السود دون غيرهم وكذا لو قال أي عبيدي ضربك وشتمك لم يعتق إلا من جمع بين الشتم والضرب. وكذا لو قال مستفهما أي عبيدي ضربك لا يستقيم الجواب بأكثر من واحد كما أشرنا إليه من قبل فعرفنا أن العموم فيه ليس باعتبار نفس الصفة ولكنه إنما عم لوقوعه في موضع الشرط وذلك من أسباب التعميم في الأسماء المبهمة; لأن هذه الأسماء لإبهامها تحتاج إلى صلة فإذا وقعت في موضع الشرط صار الفعل الذي جعل صلة لها هو الشرط حقيقة فيعم هذا الفعل لصيرورته شرطا ولما عم هذا الفعل وهو مسند إلى مبهم لا يعرف إلا به عم ما أسند إليه ضرورة حتى لو كانت الصلة مسندة إلى غيره قائما به لا يوجب ذلك عمومه كما في قوله أي عبيدي ضربته فصار حاصل الكلام أن عند هذا القائل النكرة تعم بالوصف العام في الاستثناء من النفي وفيما إذا وقع الوصف العام شرطا وأما فيما وراء ذلك تعم النكرة بالوصف لما ذكر من الشواهد والنظائر لكن في عامة نسخ أصول الفقه لأصحابنا وعامة شروح الجامع ذكر هذا الأصل مطلقا من غير فصل فوجب الأخذ به احترازا عن مخالفة العامة.(2/34)
النكرة المفردة في موضع إثبات فإنها تخص عندنا ولا تعم إلا أنها مطلقة وقال الشافعي رحمه الله هي توجب العموم أيضا حتى قال في قول الله تعالى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} "النساء: 92" أنها عامة تتناول الصغيرة والكبيرة والبيضاء
ـــــــ
قوله "فأما النكرة المفردة" لما فرغت من بيان ما هو عام بنفسه وما هو عام بغيره وهو النكرة التي لحقها بعض دلائل العموم شرع في بيان النكرة المفردة فإنها من ألفاظ العموم عند البعض فقال: فأما النكرة المفرد أي المفردة صيغة ومعنى فيكون احترازا عن رجال ونساء وقوم ورهط منكرات. أو المطلقة المجردة عن دلائل العموم فإنها تخص في موضع الإثبات ولا تعم إنما تعرض للجانبين تأكيدا; لأنه في بيان الخلاف. إلا أنها مطلقة. نفى العموم عنها وأثبت الإطلاق. والفرق بين المطلق والعام أن المطلق دلالته على حقيقة الشيء وماهيته من غير تعرض لقيد زائد والعام هو الدال على تلك الحقيقة مع التعرض للكثرة الغير المتعينة كالناس فالنكرة مطلقة لا عامة; لأن دلالتها على نفس الحقيقة دون التكثر. وبعضهم فرقوا بين المطلق والنكرة فقالوا الماهية في ذاتها لا واحدة ولا لا واحدة ولا كثيرة ولا لا كثيرة فاللفظ الدال عليها من غير تعرض لقيد ما هو المطلق. ومع التعرض لكثرة متعينة ألفاظ الأعداد. ولكثرة غير متعينة هو العام ولوحدة معينة المعرفة ولوحدة غير معينة النكرة والصواب أنه لا فرق بينهما في اصطلاح أهل الأصول كما أشار الشيخ إليه إذ تمثيل جميع العلماء المطلق بالنكرة في كتبهم يشعر بعدم الفرق.
وقال الشافعي رحمه الله: هي أي النكرة في موضع الإثبات توجب العموم ورأيت في بعض كتبهم أن النكرة في موضع الإثبات إذا كان خبرا لا يقتضي العموم كقولك جاءني رجل وإذا كان امرأ فالأكثرون على أنها للعموم كقوله أعتق رقبة. وذكر في القواطع وغيره أنها تعم على سبيل البدل; لأن قوله رجل يتناول كل رجل على سبيل البدل من صاحبه وليس بعام على سبيل الجمع وعبارة بعضهم يعم من حيث الصلاحية لكل فرد فمن قال بالعموم وتمسك بقوله تعالى {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ} "النحل: 40" فإن قوله لشيء على العموم وإن كان في موضع الإثبات; لأن الله تعالى لم يرد شيئا دون شيء; لأن قدرته شاملة جميع الأشياء محيطة بها كلها وبأن قوله تعالى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} "النساء: 92" عام يتناول كل رقبة.
والدليل عليه أنه يخرج عن العهدة بإعتاق أيها كان ولولا أنها للعموم لما كان كذلك كذا في المحصول ألا ترى أنه قبل التخصيص حتى خصت العمياء والمجنونة والمدبرة من الجملة بالإجماع والتخصيص لا يرد إلا على العام وألا ترى أنه يحسن الاستثناء بإلا بأن يقول أعتق رقبة إلا أن يكون كافرة أو معيبة ويقول أعط هذا الدرهم(2/35)
والسوداء والكافرة والمؤمنة والصحيحة والزمنة وقد خص منها الزمنة بالإجماع فصح تخصيص الكافرة منها بالقياس بكفارة القتل قلنا نحن هذه مطلقة لا عامة; لأنها فرد فيتناول واحدا على احتمال وصف دون وصف والمطلق يحتمل التقييد وذلك مانع من العمل بالمطلق فصار نسخا وقد جعل وجوب التحرير
ـــــــ
فقيرا إلا أن يكون كافرا والاستثناء إخراج بعض ما تناوله اللفظ ولولا أنه عام لم يتصور فيه الاستثناء وإذا كان كذلك يجوز تخصيص الكافرة منها بالقياس على كفارة القتل إذ العام المخصوص منه يخص بالقياس بالاتفاق وقلنا نحن هذه مطلقة أي الرقبة المذكورة في النص مطلقة أو النكرة المفردة عن دلائل العموم مطلقة لا عامة; لأنها فرادى موضوعة لفرد من أفراد الجملة صيغة ومعنى أما صيغة فلأنها تثنى وتجمع. وأما معنى فلأن دلالتها على فرد لا على جمع فيقال رقبة من رقاب وعبد من عبيد ويراد به الواحد وقال تعالى {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً} "المزمل:15", والمراد بذلك الواحد ألا ترى أنه لو قال الله علي أن أعتق رقبة لا يجب عليه إلا إعتاق رقبة واحدة وكذلك يخرج عن عهدة الأمر في قوله تعالى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} بإعتاق رقبة واحدة ولو كان هذا اللفظ عاما لم يخرج عن عهدة النذر والأمر إلا بإعتاق ثلاث رقاب فصاعدا ويدل عليه ما ذكرنا أن النكرة إذا أعيدت نكرة كانت الثانية غير الأولى لغة ولو كان إطلاق اسم النكرة يوجب العموم ولم يكن الثانية غير الأولى فإن العام إذا أعيد بصيغته فالثاني لا يتناول إلا ما تناوله الأول بمنزلة اسم الجنس كذا في التقويم وأصول الفقه لشمس الأئمة وإذا ثبت أنها اسم لفرد تتناول واحدا ولكن على احتمال وصف دون وصف إذ المطلق لا يتعرض للصفات أصلا يعني يحتمل أن يكون ذلك الواحد صغيرا أو كبيرا أو كافرا أو مؤمنا أو أسود أو أبيض أو سنديا أو هنديا إلى غيرها من الصفات لعدم كونه متعينا وبمثله لا يثبت العموم إذ لا بد له من انتظام جمع لفظا أو معنى ولم يوجد فيكون مطلقة لا عامة والمطلق لا يحتمل التخصيص; لأنه من خصائص العام. وقوله والمطلق يحتمل التقييد تنبيه للخصم على الغلط ومزل القدم وإشارة إلى الجواب عند عدوله عن العموم إلى الإطلاق وتمسكه به يعني ما ذكرت من احتمال التخصيص في النكرة المطلقة ليس بثابت ولكنها تحتمل التقييد فإن تمسكت بإطلاقها وقلت لما كانت محتملة للتقييد فتقيدها بالقياس على كفارة القتل; لأن الكفارات جنس واحد فذلك فاسد أيضا; لأن التقييد مانع عن العمل بالإطلاق فإنه لو أعتق رقبة كافرة في كفارة القتل لا يجوز عن الكفارة فكان نسخا والنسخ بالقياس لا يجوز فلا يجوز التقييد به أيضا.
قوله "وقد جعل وجوب التحرير" جواب عن سؤال مقدر وهو أن يقال:الأمر لا(2/36)
جزاء الأمر فصار ذلك سببا له فيتكرر مطلقا بتكرر فإن ذلك يحتمل الخصوص إلى الثلاثة والطائفة يحتمل الخصوص إلى الواحد بخلاف الرهط والقوم وصار مقيدا بالملك لاقتضاء التحرير والملك لا على جهة الخصوص ولم يتناول الزمنة
ـــــــ
يوجب التكرار وإن كان متعلقا بشرط أو متقيدا بوصف على ما مر وقد تكرر وجوب التحرير بتكرر الحنث والظهار ونحوهما فعرفنا أن لفظ رقبة عام وإلا لم يستقم إيجاب التحريم ثانيا فقال: قد جعل وجوب التحرير جزاء لأمر أي لشأن وهو الحنث والظهار ونحوهما بدليل دخول حرف الفاء فيه فصار ذلك الأمر سببا لوجوب التحرير فيكرر وجوب التحرير مطلقا أي غير مقيد بوصف الإيمان بتكرر ذلك الأمر الذي صار سببا له كتكرر وجوب الصلاة بتكرر الوقت وليس تكرر الحكم بتكرر السبب من باب العموم في شيء.
قوله "وصار" أي المذكور وهو الرقبة مقيدا بالملك جواب سؤال آخر وتقريره من وجهين:
أحدهما أن يقال إن تقييد المطلق نسخ عندكم وقد قيدت الرقبة بالملك بالرأي من غير نص يوجبه حتى لم يجز إعتاق رقبة غير مملوكة وصار كأنه قيل فتحرير رقبة مملوكة ولم يلزم منه النسخ فنقيدها بوصف الإيمان أيضا بالقياس والخبر وهو قوله عليه السلام: "أعتقها فإنها مؤمنة1" فقال اشتراط الملك في الرقبة ثبت لضرورة التحرير المنصوص عليه واقتضائه فإن التحرير لا يصح إلا في الملك وما ثبت باقتضاء النص فهو بمنزلة الثابت بعين النص والثاني أن يقال قد خص غير المملوكة من هذا النص كما خصت الزمنة حتى لم يجز إعتاق غير المملوكة كما لم يجز إعتاق الزمنة والتخصيص يدل على العموم فقال اشتراط الملك ثبت باقتضاء النص; لأن التحرير الواجب لا يتأدى إلا بالملك كما لا يتأدى الصلاة إلا بالطهارة قال عليه السلام.: "لا عتق فيما لا يملكه ابن آدم2" لا بطريق التخصيص فلا يلزم منه العموم.
قوله "ولم يتناول الزمنة" جواب عن قوله خصت الزمنة بالإجماع فتخص الكافرة أيضا فقال التخصيص إنما يكون فيما تناول اللفظ إياه ظاهرا لولا المخصص وهذا النص لا يتناول الزمنة فلا يكون عدم جواز إعتاقها من باب التخصيص بل; لأنها ليست برقبة ذلك
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في المساجد حديث رقم 537 وأبو داود في الصلاة حديث رقم 930و931 والإمام أحمد في المسند 4/222.
2 أخرجه الترمذي في الطلاق حديث رقم 1181،وأبو داود في الطلاق حديث رقم 2190،وابن ماجة في الطلاق حديث رقم 2047 والإمام أحمد في المسند 2/190.(2/37)
; لأن الرقبة اسم للبنية مطلقا فوقعت على الكامل منه الذي هو موجود مطلق فلمن يتناول ما هو هالك من وجه وكذلك التحرير المطلق لا يخلص فيما هو هالك من وجه فلم يدخل الزمن فأما أن يكون مخصوصا فلا.
ـــــــ
لأن الرقبة اسم للبينة مطلقا والإطلاق يقتضي الكمال والزمنة قائمة من وجه مستهلكة من وجه فلا تكون قائمة على الإطلاق فلا يتناولها مطلق اسم الرقبة وكذلك التحرير المطلق أي الكامل لا يخلص أي لا يتحقق فيما هو هالك من وجه فلا يتناول الزمن, ولهذا شرط كمال الرق حتى لم يجز إعتاق المدبر وأم الولد; لأن التحرير منصوص عليه مطلقا وذلك إعتاق كامل ابتداء وإعتاق المدبر وأم الولد تعجيل لما صار مستحقا لهما مؤجلا فلا يكون إعتاقا مبتدأ مطلقا كذا ذكر شمس الأئمة رحمه الله. فأما الجواب عن تمسكهم بالآية فهو أن العموم ثبت في قوله لشيء من طريق المعنى لا من طريق اللفظ وذلك; لأن الأشياء متساوية في قدرته جل جلاله فإذا أخبر عن نفوذ قدرته في بعضها فقد دل بالمعنى على نفوذ قدرته في سائرها وما ذكروا من العموم على سبيل البدل أن عنوانه أن كل واحد من الجملة يكون في الصلاحية بدلا عن صاحبه والداخل تحت اللفظ واحد منها فهو مذهبنا وأن عنوانه أن اللفظ يتناول على سبيل الاجتماع والشمول فهو فاسد لما بينا أن الصيغة وضعت لفرد فلا يتناول العدد إلا بقرينة كذا في الميزان وأما تمسكهم بالاستثناء فضعيف أيضا; لأنا لا نسلم أن هذا الاستثناء إن صح استثناء حقيقي; لأنه لا بد في الاستثناء الحقيقي من أن يكون صدر الكلام متناولا للمستثنى وغيره حقيقة وليس كذلك ههنا; لأن صدر الكلام لم يتناول إلا الواحد فلا يمكن إخراجه عنه فيكون بمعنى لكن وذلك لا يدل على العموم أو يكون هذا استثناء من الأحوال أي أعتق رقبة واحدة على أي حال كانت إلا في حالة الكفر وحينئذ نثبت الأحوال في صدر الكلام بدلالة الاستثناء بضرورة صحته فأما إذا عدم الاستثناء بلا ضرورة في إثباتها مع أنها غير مذكورة فلا يثبت العموم.
قوله "وصار ما ينتهي إليه الخصوص" أي التخصيص نوعين بالياء لا بالألف كما وقع في بعض النسخ.(2/38)
وصار ماى ينتهي إليه الخصوص
...
"وصار ما ينتهي إليه الخصوص"
نوعان الواحد فيما هو فرد بصيغته أو ملحق بالفرد وأما الفرد فمثل الرجل
ـــــــ
"ما ينتهي إليه التخصيص"
وههنا مسألتان: إحداهما بيان ما ينتهي إليه جواز التخصيص والثانية بيان أقل ما ينطلق عليه اللفظ العام(2/38)
والمرأة والإنسان والطعام والشراب وما أشبه ذلك إن الخصوص يصح إلى أن يبقي الواحد وأما الفرد بمعناه فمثل قوله لا يتزوج النساء ولا يشتري العبيد
ـــــــ
. أما الأولى فنقول قد اختلف الأصوليون في الغاية التي يقع انتهاء التخصيص في ألفاظ العموم إليها فذهب الجمهور منهم إلى التخصيص يجوز في جميع الألفاظ إلى الواحد وذهب بعضهم إلى أنه يجوز إلى الثلاثة في جميع الألفاظ ولا يجوز إلى ما دونها إلا بما يجوز به النسخ وهو اختيار أبي بكر القفال الشاشي ومنهم من فصل فأجاز في لفظة من وما ونحوهما وأسماء الأجناس المعرفة إلى الواحد ولم يجز في المجموع المعرفة إلا إلى الثلاثة ومختار الشيخ أنه يجوز إلى الواحد في الجمع إلا في الجمع المنكر صيغة ومعنى كرجال ونساء أو معنى بلا صيغة كرهط وقوم لا يجوز التخصيص فيهما إلا إلى الثلاثة
وتمسك الجمهور بأن التخصيص لو امتنع إلى الواحد لامتنع التخصيص أصلا; لأنه لو امتنع لكان لصيرورته مجازا إذ لا مانع غيره وهذا المعنى موجود في جميع صور التخصيص وما ذكروا مبني على اشتراط الاستغراق في العموم وأنه شرط فيه عندهم فالتخصيص يجعله مجازا فيما دونه; لأن إطلاق اسم الكل على البعض من أقسام المجاز وتعلق الفريق الثاني بأن لفظ العموم دلالته على الجمع وأقل الجمع ثلاثة على ما بين فلا يجوز تخصيصه إلى ما دونها; لأنه يخرج به عن كونه دالا على الجمع فينزل منزلة النسخ فلا يجوز إلا بما يجوز به النسخ ألا ترى أن لفظ المشركين لا يصلح للواحد بحال فلا يجوز رده إلى ما لا يصلح له وإخراجه عن موضوعه
واعتمد من فصل على أن التخصيص إلى الواحد في لفظة من لا يخرج اللفظ عن موضوعه فقد بينا أنها تحتمل الخصوص فإنها يتناول الواحد والجماعة في قولك من دخل داري أكرمته فيجوز التخصيص فيها وأمثالها إلى الواحد بخلاف ألفاظ الجموع; لأن استعمالها في الآحاد إخراج لها عن موضوعاتها فلا يجوز, ألا ترى أن لفظ الجمع بعد التخصيص يسمى عاما مخصوصا وإذا خصص إلى اثنين أو واحد لم يجز تسميته بذلك على سبيل الحقيقة. ولنا ما ذكرنا أن لفظ العموم دلالته على الجمع والتخصيص لا يخرج العام عن حقيقته لبقاء معنى الجمع فيه بعد, بل هو تبيين أن اللفظ مصروف إلى بعض وجوه الحقيقة, ألا ترى أن التمسك به بعد التخصيص جاز لبقاء دلالة اللفظ بالوضع على أفراد مجتمعة كما كان قبله إلا أن دلالته قبل التخصيص كانت على أكثر مما دل عليه بعده فإذا آل أمر التخصيص إلى إخراج الكلام عن موضوعه وحقيقته لا يجوز القول به; لأنه يصير نسخا وهما متغايران ألا ترى أن النسخ لا يجوز إلا متراخيا بالاتفاق والتخصيص(2/39)
أنه يصح الخصوص حتى يبقى الواحد وأما ما كان جمعا صيغة ومعنى مثل قوله إن اشتريت عبيدا أو إن تزوجت نساء أو إن اشتريت ثيابا وهذا; لأن أدنى الجمع ثلاثة نص محمد رحمه الله في السير الكبير وعلى هذا عامة مسائل
ـــــــ
يجوز متصلا ومتراخيا عند العامة ولا يجوز إلا متصلا عندنا وإذا كان نسخا لا يجوز إلا بما يجوز به النسخ كما لا يجوز إلى ما دون الواحد في جميع ألفاظ العموم إلا بما يجوز به النسخ بالاتفاق
وهذا بخلاف اسم الجنس المعرف باللام حيث يجوز تخصيصه إلى الواحد; لأن دلالته في أصل الوضع على الفرد والعموم فيه ضمني فبالتخصيص إلى الواحد لا يخرج عن حقيقته وكذا الجموع المعرفة صارت في حكم أسماء الأجناس فيجوز تخصيصها إلى الواحد أيضا. قوله "وصار ما ينتهي" يعني لما بينا أن ألفاظ العموم على قسمين بعضها ينطلق على الثلاثة فصاعدا إلا على ما دونها بطريق الحقيقة وبعضها ينطلق على الواحد فصاعدا صار غاية التخصيص نوعين ضرورة الواحد والثلاثة.
قوله: "فإن ذلك" أي قوله عبيدا وأمثاله يحتمل الخصوص إلى الثلاثة وطريقه أن دليل العقل يبين أن الكل ليس بمراد وأن ما دون الكل إلى الثلاثة لا يمكن ترجيح بعضه على البعض لاستحالة الترجيح بلا مرجح فتعينت الثلاثة مرادا للتيقن بها فكان هذا الدليل مخصصا لما وراء الثلاثة إلى الكل.
"أقل الجمع"
قوله "وهذا لأن أدنى الجمع ثلاثة" ولما كانت المسألة الأولى مبنية على الثانية وهي معرفة أقل الجمع; لأن عدم جواز التخصيص إلى ما وراء الثلاثة في جميع الألفاظ عند البعض وفي الجمع المنكر عندنا بناء على أن أقل الجمع ثلاثة شرع في بيانها فقال وهذا أي انتهاء التخصيص إلى الثلاثة فيما ذكر من النظائر من قوله عبيدا ونساء وثيابا وأمثالها باعتبار أن أقل الجمع ثلاثة وهو مذهب عبد الله بن عباس وعثمان وأكثر الصحابة وعامة الفقهاء والمتكلمين وأهل اللغة وذهب بعض أصحاب الشافعي وعامة الأشعرية إلى أن أقل الجمع اثنان وهو مذهب عمر وزيد بن ثابت رضي الله عنهما كذا ذكر الغزالي وإليه ذهب نفطويه1 من النحويين ثم الفريق الأول اختلفوا في أنه هل يجوز استعمال صيغ الجموع في الاثنين مجازا فمنهم من منع عن ذلك وأكثرهم على أنه يجوز
ـــــــ
1 نفطوبه هو: إبراهيم بم محمد بن عرفة بن سليمان العتكي الأذدي الواسطي أبو عبدالله النحوي العالم بالعربية ولد سنة 240ه وتوفي سنة 323ه أنظر وفيات الأعيان 1/47-49.(2/40)
أصحابنا رحمهم الله وقال بعض أصحاب الشافعي إن أدنى الجمع اثنان لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الاثنان فما فوقهما جماعة" ولأن اسم الأخوة ينطلق على الاثنين في قوله تعالى {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ}
ـــــــ
وفائدة الاختلاف تظهر في جواز التخصيص إلى اثنين وعدمه وفيما إذا قال لله علي أن أتصدق بدراهم أو قال لفلان علي دراهم أو نذر أن يتصدق بشيء على فقراء أو مساكين يقع على الأقل بالاتفاق وهو الثلاثة عند العامة والاثنان عند غيرهم تمسك من قال بأن صيغ الجموع حقيقة في الاثنين كما في الثلاثة بالسمع والعقل واستعمال أرباب اللسان والحكم
أما السمع فقوله تعالى {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} "الأنبياء:78" إلى قوله {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} الأنبياء:78" أريد بضمير الجمع داود وسليمان وقوله تعالى {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} "ص: 21-22" فاستعمل في الاثنين ضمير الجمع وقوله عز اسمه {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} التحريم:4" والمراد قلباكما وقوله جل جلاله {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} "الشعراء 15" والمراد موسى وهارون وقوله جل ذكره إخبارا عن يعقوب {َعسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً} "يوسف:83" والمراد يوسف وبنيامين. وقوله {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} والأخوان يحجبانها إلى السدس كالثلاثة وقوله عليه السلام: "الاثنان فما فوقهما جماعة1" وهو أفصح العرب ولو نقل هذا عن واحد من الأعراب لكان حجة فمن صاحب الشرع أولى
وأما المعقول فهو أن اسم الجماعة حقيقة فيما فيه معنى الاجتماع وذلك موجود في الاثنين كما هو موجود في الثلاثة فيصح أن يتناوله اسم الجمع حقيقة وإن كان معنى الجمع في الثلاثة أكثر, ألا ترى أن الثلاثة جمع صحيح وإن كان معنى الاجتماع فيما وراء الثلاثة أكثر ونظيره الجسم لما كان عبارة عن اجتماع أجزاء وتركبها كان أقل الجسم جوهرين لوجود معنى الاجتماع والتركب فيهما وإن كان الاجتماع فيما وراء ذلك أكثر وأما استعمال أرباب اللسان فإنهم يستعلمون صيغة الجمع في الاثنين كاستعمالهم إياها في الثلاثة فإن الاثنين يقولان نحن فعلنا كذا ونحن نفعل كذا فوجب أن يكون حقيقة في الموضعين
ـــــــ
1 أخرجه ابن ماجة في الإقامة حديث رقم 972،الإمام أحمد في المسند: 5/254-269.(2/41)
"النساء:11"وصار ما ينتهي إليه الخصوص وفي المواريث والوصايا يصرف الجمع إلى المثنى ويستعمل المثنى استعمال الجمع في اللغة يقال نحن فعلنا في الاثنين وقال الله تعالى {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} "التحريم:4"ولا خلاف أن الإمام يتقدم إذا كان خلفه اثنان وفي المثنى اجتماع كما في الثلاثة ولنا قول النبي عليه السلام: "الواحد شيطان والاثنان شيطانان والثلاثة ركب" ولنا أيضا دليل من قبل الإجماع ودليل من قبل المعقول فإن أهل اللغة مجمعون على
ـــــــ
وأما الحكم فهو أن للمثنى حكم الجماعة في المواريث والوصايا حتى كان للاثنتين من الميراث ما للثلاث فصاعدا ولو أوصى لأقرباء فلان يتناول المثنى فصاعدا وكذا الإمام يتقدم على اثنين كما يتقدم على الثلاثة فثبت بما ذكرنا أن المثنى ملحق بالثلاثة في صحة إطلاق صيغة الجمع عليه. ومن منع استعمال أبنية الجمع في الاثنين مجازا قال لو صح إطلاق اسم الرجال على الرجلين لصح نعت أحدهما بما نعت به الآخر فيقال جاءني رجلان عاقلون ورجال عاقلان; لأنهما كشيء واحد وتمسك الجمهور بما هو المذكور في الكتاب وبما سنذكره وقوله في الكتاب ويستعمل المثنى استعمال الجمع بضم الياء من مقلوب الكلام مثل قولهم عرضت الناقة على الحوض أي يستعمل الجمع استعمال المثنى أي في محل يجب أن يستعمل فيه التثنية أو هو بفتح الياء وكسر الميم أي يستعمل الاثنان ما يستعمله الجمع فيقولان نحن فعلنا كما يقوله الجمع أو معناه يستعمل التثنية على هيئة الجمع فيقال نحن فعلنا في اثنين كما يقال كذلك في الجمع.
قوله "وفي المواريث" أي حجبا واستحقاقا بصرف الجمع إلى المثنى, إما حجبا فقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} "النساىء:11" كما ذكرنا, وإما استحقاقا فقوله عز اسمه {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} "النساء:11"صرف لفظ النساء إلى اثنتين مع تأكده بقوله فوق اثنتين.
قوله:"عليه السلام: "والثلاثة ركب"" 1 أي جماعة فصل بين التثنية والجمع وألحقها بالواحد دون الجمع فعلم أن التثنية ليست بجمع حقيقة ولا يقال الاتحاد في الحكم لا يوجب الاتحاد في الحقيقة حتى كان المثنى غير الواحد حقيقة وإن اتحدا حكما فكذا التفرقة في الحكم لا يدل على الافتراق في الحقيقة; لأنا نقول الافتراق بين الشيئين يوجب المغايرة بينهما فيما ثبت فيه الافتراق لا محالة وهنا ثبت الافتراق بينهما
ـــــــ
1 أخرجه أبو دواد في الجهاد حديث رقم: 2607، والترمذي في الجهاد حديث رقم: 1674 والإمام أحمد في المسند "2/186".(2/42)
أن الكلام ثلاثة أقسام آحاد ومثنى وجمع وعلى ذلك بنيت أحكام اللغة فللمثنى صيغة خاصة لا يختلف وللوحدان بنية مختلفة وكذلك الجمع أيضا يختلف أبنيته وليس للمثنى إلا مثال واحد وله علامات على الخصوص وأجمع الفقهاء أن الإمام لا يتقدم على الواحد فثبت أنه قسم منفرد وأما المعقول
ـــــــ
في حكم الجمع; لأن معنى الركب الجماعة لغة فثبتت المغايرة بينهما في هذا المعنى ضرورة فصار المعنى كأنه قيل الواحد ليس بركب والاثنان ليستا بركب أي بجمع والثلاثة ركب أي جمع وعلى ذلك أي على الأقسام المذكورة بنيت أحكام اللغة اسما وصفة ومظهرا ومضمرا فقالوا رجل رجلان رجال وقالوا عالم عالمان علماء. وقالوا هو فعل كذا هما فعلا كذا هم فعلوا كذا ولما قسموه ثلاثة أقسام وسموا كل قسم باسم على حدة دل ذلك على تغايرها; لأن تبدل الاسم يدل على تبدل المسمى على ما هو الأصل, ألا ترى أنهم لما لم يضعوا لما وراء الثلاثة اسما على حدة كان الكل في الدخول تحت صيغة الجمع على السواء.
قوله "وله علامات الخصوص" مثل الألف والنون المكسورة في حالة الرفع والياء الساكنة المفتوح ما قبلها والنون المكسورة في حالتي الجر والنصب. قال شمس الأئمة رحمه الله ثم للواحد أبنية مختلفة وكذلك للجمع وليس ذلك للتثنية إنما لها علامة مخصوصة فعرفنا أن المثنى غير الجماعة. قال صاحب القواطع والدليل على أن لفظ الجمع لا يتناول الاثنين أنه لا ينعت بالاثنين وينعت بالثلاثة فإنه يقال رأيت رجالا ثلاثة ولا يقال رجالا اثنين ويقال أيضا جماعة رجال ولا يقال جماعة رجلين فإذا كان لا ينعت بالاثنين بحال عرفنا أن اسم الجمع لا يتناولهما بحال وكذا لا يضاف العدد إلى التثنية فلا يقال اثنا رجلين ويضاف إلى الجمع فيقال ثلاثة رجال وأربعة رجال فلو كان حكم الاثنين حكم الجمع لجازت إضافة العدد إلى التثنية كما جازت إلى الجمع كذا ذكر في كتاب بيان حقائق حروف المعاني ولأن الثلاثة فصاعدا يتبادر إلى الفهم عند سماع صيغة الجمع من غير قرينة دون الاثنين والسبق إلى الفهم عند الإطلاق دليل الحقيقة. ولأنه يصح نفي اسم الجمع عن الاثنين دون الثلاثة فصاعدا فيقال ما في الدار رجال بل رجلان وما رأيت جمعا بل رأيت اثنين ولا يقال ما في الدار رجال بل ثلاثة وصحة النفي وعدم صحته من أمارات المجاز والحقيقة وأجمع الفقهاء على أن الإمام لا يتقدم على الواحد والإمام من الجماعة في غير الجمعة بالاتفاق والتقدم من سنة الجماعة بالاتفاق فإجماعهم على ترك التقدم دليل على أنه ليس بجمع وأنه قسم منفرد.(2/43)
فإن الواحد إذا أضيف إليه الواحد تعارض الفردان فلم يثبت الاتحاد ولا الجمع وأما الثلاثة فإنما يعارض كل فرد اثنان فسقط معنى الاتحاد أصلا وقد جعل الثلاثة في الشرع حدا في إيلاء الأعذار فأما الحديث فمحمول على المواريث والوصايا
ـــــــ
قوله "وأما المعقول فإن الواحد إذا أضيف" أي ضم إليه الواحد "تعارض الفردان" أي امتنع كل واحد كل منهما عن صيرورته تبعا للآخر فلم يثبت الاتحاد لوجود الانضمام ولم يثبت الجمع أيضا لبقاء معنى الفردية من وجه باعتبار عدم استتباع كل واحد منهما صاحبه وأما الثلاثة فإنما يعارض أي يقابل كل فرد اثنان فيستتبعانه ويصير الكل كشيء واحد فلم يبق معنى الاتحاد بوجه وكمل معنى الجمع فتطلق عليه الصيغة الموضوعة للجمع حقيقة وبهذا خرج الجواب عما قالوا في المثنى معنى الجمع كما في الثلاثة فيصح إطلاق صيغة الجمع عليه; لأن إطلاق الصيغة على الثلاثة ليس لنفس الاجتماع بل لاجتماع مخصوص وهو أن لا يتحقق فيه معنى تعارض الأفراد على التساوي وذلك في الثلاثة دون الاثنين واللغة على ما ورد لا على ما يدل عليه القياس ألا ترى أن الواحد يوجد فيه معنى الجمع وهو ضم بعض الأشياء إلى بعض; لأنه متركب من أجزاء متعددة ومع ذلك لا يطلق عليه اسم الجمع.
قوله "في إبلاء الأعذار" أي إظهارها كإمهال القاضي للخصم لدفع الحجة مقدر بثلاثة أيام وكذا إمهال المرتد للتأمل وكمدة المسح في حق المسافر ومدة أقل الحيض مقدرة بثلاثة أيام وكمدة التحجير مقدرة بثلاث سنين وكما في قصة موسى مع صاحبه وقصة صالح ولو كان الاثنان جمعا لم يكن للتجاوز عنه معنى بدون دليل يخصص الثلاثة; لأن ما وراء أقل الجمع يساوي بعضه بعضا ولما فرغ عن إقامة الدليل على مدعاه شرع في الجواب عن كلمات الخصوص فقال فأما الحديث يعني قوله عليه السلام: "الاثنان فما فوقهما جماعة" فمحمول على المواريث يعني للاثنين حكم الجمع في استحقاق الميراث حتى كان للبنتين الثلثان كالثلاث أو على سنة تقدم الإمام يعني يحمل على أن المراد منه أن الإمام يتقدم على الاثنين كما تقدم على الثلاثة بخلاف الواحد فإنه يقيمه عن يمينه وبخلاف ما نقل عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه لا يتقدم على الاثنين بل يقيم واحدا عن يمينه وواحدا عن يساره وإنما يتقدم على الثلاثة فصاعدا أو يحمل على أن للاثنين حكم الجماعة في إحراز فضيلة الجماعة وانعقادها إذ النبي صلى الله عليه وسلم مبعوث لتعليم الأحكام لا لبيان اللغات على أن هذا الخبر لا يصح من جهة النقل كذا ذكره أبو بكر الجصاص وغيره وقوله وفي المواريث ثبت الاختصاص جواب سؤال وهو أن يقال لم اختص(2/44)
أو على سنة تقدم الإمام في الجماعة أنه يتقدم على المثنى كما يتقدم على الثلاثة وفي المواريث ثبت الاختصاص بقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} "النساء:176" والحجب يبتني على الإرث أيضا والوصية
ـــــــ
المواريث من سائر الأحكام بأن يكون للاثنين فيها حكم الجمع فقال إنما ثبت الاختصاص فيها بكذا أو هو جواب عن كلامهم أن صيغة الجمع صرفت إلى المثنى في المواريث والوصايا والحجب فقال ثبت ذلك في المواريث بقوله تعالى {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} أي إن كانت الأختان لأب وأم أو لأب اثنتين فأثبت للأختين ثلثي المال تصريح هذا النص وقد ثبت بدلا له قوله تعالى {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} "النساء:11" أن ليس لما فوق الأختين أكثر من الثلثين فعرفنا أن للاثنتين حكم الجمع في الأخوات ولما كان للأختين الثلثان مع أن قرابتهما متوسطة إذ هي قربة مجاورة فلأن يكون للبنتين الثلثان مع أن قرابتهما قريبة إذ هي قرابة حروبة كان أولى فثبت أن للبنتين حكم الثلاث بهذا النص أيضا وليس في المواريث صورة أخرى ألحق فيه الإتيان بالجمع في الاستحقاق سوى البنات والأخوات فكان هذا النص موجبا لإلحاق الاثنتين بالثلاث فلهذا حمل الحديث عليه أو كان هذا النص هو الموجب لاستحقاق الاثنتين الثلثين لا النص الوارد بصيغة الجمع وهو قوله تعالى {فَإِِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} "النساء:11" والحاصل أن النزاع لم يقع فيما يفيد فائدة الجمع بل فيما يتناوله لفظ الرجال والمسلمين فأين أحدهما عن الآخر.
قوله "والحجب يبتنى على الإرث أيضا" يعني لما كان للمثنى حكم الجمع في استحقاق الميراث كان له حكم الجمع أيضا في الحجب; لأنه مبني على الإرث فإن الحاجب يكون وارثا بالفعل أو بالقوة حتى لا يحجب المحروم عند عامة الصحابة وهو مذهبنا أو معناه أن الحجب لا يتحقق حين لا إرث فكان الحجب مبنيا على الإرث فيثبت للاثنين فيه حكم الجمع أيضا فأيضا يتعلق بمحذوف في الوجهين كما ترى على أنا نقول ثبت الحجب بالأخوين باتفاق الصحابة لا بالنص على ما روي أن ابن عباس قال لعثمان رضي الله عنهم حين رد الأم من الثلث إلى السدس بالأخوين قال الله تعالى {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} "النساء:11" والأخوان ليسا بإخوة في لسان قومك قال نعم ولكن لا أستجيز أن أخالفهم فيما رأوا وفي رواية لا أستطيع أن أنقض أمرا كان قبلي وتوارثه الناس فلولا أن مقتضى اللسان أن الأخوين ليسا بإخوة حقيقة لما احتج به ابن عباس على عثمان ولأنكر عليه عثمان ولما عدل إلى التأويل فلما لم ينكر عليه وعدل إلى التأويل وقد كانا من فصحاء العرب دل على أن الأخوين ليسا إخوة حقيقة وأن هذا الحكم وهو الحجب(2/45)
تبتني عليه أيضا والثاني قلنا أن الخبر محمول على ابتداء الإسلام حيث نهى الواحد عن المسافرة وأطلق الجماعة على ما روينا فإذا ظهر قوة المسلمين قال الاثنان فما فوقهما جماعة وأما الجماعة فإنها تكمل بالإمام حتى شرطنا في الجمعة ثلاثة سوى الإمام وأما قوله {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} فلأن عامة أعضاء
ـــــــ
بالاثنين ثبت بالإجماع لا بالنص, ألا ترى أن الحجب يثبت بالأخوات المفردات بهذا الطريق فإن اسم الإخوة لا يتناول الأخوات المفردات بحال.
قوله "والثاني" أي التأويل الثاني لذلك الخبر أنه محمول على إباحة السفر للاثنين; لأن السفر للواحد والاثنين كان منهيا في ابتداء الإسلام مطلقا للجماعة على ما روينا من قوله عليه السلام: "الواحد شيطان والاثنان شيطانان والثلاثة ركب" إذ فيه نهي بطريق المبالغة عن اختيار حالة تستحق اسم الشيطان بناء على أن في أول الإسلام كانت الغلبة للكفار فإذا كانوا جماعة سلموا غالبا لقوتهم فإذا ظهر قوة المسلمين قال: "الاثنان فما فوقهما جماعة" يعني في جواز السفر وفي لفظ الشيخ نوع اشتباه فإنه قال والثاني ولو قال والثالث مكان قوله والثاني لكان أحسن; لأنه أول الحديث أولا بتأويلين وهذا ثالثهما إلا أنه جعل التأويلين الأولين بمنزلة تأويل واحد ثم بنى الكلام عليه فقال والثاني وقوله قلنا وقع زائدا; لأن المعنى يتم بدونه وقوله محمول على ابتداء الإسلام لا يصح بدون إضمار أيضا ومعناه محمول على نسخ ما ثبت في ابتداء الإسلام وهو حرمة السفر للاثنين ولم يكن هذا الكلام أعني قوله والثاني إلى آخره مذكورا في النسخ العتيقة.
قوله "وأما الجماعة" جواب عن قولهم إن الإمام يتقدم على اثنين فقال إنما يتقدم عليهما; لأن الإمام في غير الجمعة محسوب من الجماعة; لأن الإمام ليس بشرط لصحة أداء سائر الصلوات سوى الجمعة فيمكن أن يجعل الإمام من جملة الجماعة وإذا كان معه اثنان كملت الجماعة فيثبت حكما وهو تقدم الإمام واصطفاف من خلفه بخلاف الجمعة; لأن الإمام شرط أدائها كالجماعة فلا يمكن أن يجعل من جملة الجماعة فلهذا يشترط ثلاثة سوى الإمام.
قوله: "وأما قوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} " فإنما أطلق اسم الجمع على أربعة قلوب من حيث المعنى وإن كان في الصورة قلبان وذلك; لأن أكثر الأعضاء المنتفع بها في الإنسان زوج فألحق ما كان فردا منه لعظم منفعته بالزوج كما ألحق الزوج بالفرد في قولهم مشى برجله وسمع بأذنه وأبصر بعينه, ألا ترى أن من قطع لسان إنسان أو فرجه يلزمه كمال(2/46)
الإنسان زوج فالحق الفرد بالزوج لعظم منفعته كأنه زوج وقد جاء في اللغة خلاف ذلك وقوله نحن فعلنا لا يصلح إلا من واحد يحكي عن نفسه وعن غيره كأنه تابع فلم يستقم أن يفرد الصيغة فاختير لهما الجمع مجازا كما جاز للواحد أن يقول فعلنا كذا والله أعلم
ـــــــ
الدية لشرفه وعظم منفعته كما لو قطع اليدين فصار كل قلب من حيث المعنى قلبين وإن كان في الصورة واحدا فلهذا جاز إطلاق اسم الجمع عليهما ولأن القلب قد يطلق على الميل الموجود فيه فيقال للمنافق ذو قلبين ويقال للذي لا يميل إلا إلى الشيء الواحد له قلب واحد ولما خالفت حفصة وعائشة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في شأن مارية وقع في قلبهما دواع مختلفة وأفكار متباينة فيصح أن يقال المراد من القلوب هي الدواعي وإذا صح ذلك وجب حمل اللفظ عليها; لأن القلب لا يوصف بالصفو إنما يوصف الميل به كذا في المحصول
"وقد جاء في اللغة خلاف ذلك" أي خلاف ما ذكرنا من إطلاق الجمع على التثنية في مثل هذه الصورة قال الشاعر:
ظهراهما مثل ظهور الترسين
وذكر في التيسير وقلوبكما على الجمع مع إضافتها إلى اثنين هو الاستعمال الغالب في اللغة فيما كان في الإنسان من الأعضاء فردا غير مثنى. وفيه وجهان آخران الإفراد والتثنية قال الشاعر:
كأنه وجه تركبين قد غضبا ... مستهدف لطعان غير ترتيب
وقال آخر في التثنية والجمع ظهراهما مثل ظهور الترسين.
قوله: "وقولهم نحن فعلنا لا يصح إلا من واحد يحكي عن نفسه وعن غيره" يعني لا يصح التكلم بهذه الصيغة على سبيل الحقيقة إلا عن واحد يخبر عن نفسه وعن غيره ولا يمكن صدورها من اثنين; لأن المبتدئ بالكلام الواحد لا يكون اثنين بخلاف الخطاب فإن بالكلام الواحد يجوز أن يخاطب اثنان فصاعدا على الحقيقة وإذا كان كذلك كان ذلك الغير تبعا له في الدخول تحت هذه الصيغة فلم يفرد لهما صيغة لئلا يكون التبع مزاحما للأصل فاختير لهما صيغة الجمع مجازا ولأنهم وضعوا هذه العلامات المميزة لدفع الاشتباه عن السامع وذلك في الخطاب والغيبة لا في الحكاية; لأن المتكلم وذلك الغير الذي يخبر عنه في قوله فعلنا مشاهد للسامع فلا يحتاج إلى علامة التميز, ألا ترى أنه لم يوضع فيها علامة مميزة بين المذكر والمؤنث اعتمادا على المشاهدة بخلاف(2/47)
وأما المشترك فحكمه الوقف بشرط التأمل ليترجح بعض وجوهه للعمل به
ـــــــت
الخطاب والغيبة. وذكر في شرح أصول الفقه لابن الحاجب أنه لا خلاف في لفظ "ج م ع" أعني الجمع لغة وهو ضم شيء إلى شيء فإن ذلك متحقق في الاثنين من غير خلاف ولا في الضمير الذي يعني به المتكلم نفسه وغيره متصلا ومنفصلا, نحو نحن فعلنا لاتفاق اللسان على كونه موضوعا لتعبير المرء عن نفسه وعن غيره سواء كان واحدا أو جمعا ولا في نحو قوله تعالى {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} فإن ما يتعدد من شخصين فالتعبير عنه في اللغة الفصيحة عند إضافته إليهما أو إلى ضميرهما بصيغة الجمع حذارا من استنقال الجمع بين تثنيتين وإنما الخلاف في نحو رجال ومسلمين وضمائر الغيبة والخطاب التي يترتب في وضع اللسان مسبوقيتها بصيغ التثنية ولا يلزم على هذا قلوبكما فإنه مسبوق بصيغة التثنية; لأنا لا نسلم مسبوقيته بها إذ لا يقال قلباكما فتبين بهذا أن من استدل على كونه حقيقة في الاثنين بالصور المتفق عليها فقد حاد مسلكه عن محل النزاع; لأنها إنما تثبت بعلل مخصوصة ولكل باب وقياس واللغة لا تثبت قياسا. وأما الجواب عن قوله تعالى {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} : "الأنبياء:78" فنقول قد قيل المراد الحاكمان وهما داود وسليمان والمتحاكمان إذ المصدر يضاف إلى الفاعل والمفعول والمفعول وإذا اعتبر الجميع كانوا أربعة وقيل أضيف الحكم إلى المحكوم لهم وكانوا جماعة وعن قوله عز اسمه {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} "ص:21" إلى آخره أن الخصم الذي أسند الفعل إلى ضميره اسم للواحد والجمع كالضيف يقال هذا خصمي وهؤلاء خصمي كما يقال هذا ضيفي وهؤلاء ضيفي وقد كان المتخاصمون جماعة ومعنى قوله خصمان فريقان خصمان أو فينا خصمان والدليل عليه قراءة من قرأ {بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} "ص:22" ولا يقال قوله إن هذا أخي يأبى ما ذكرت فإنه يدل على اثنين; لأن ذلك قول البعض المراد بقوله بعضنا على بعض والتحاكم كان بين مليكين لكن صحبهما آخرون في صورة الخصم فسموا به وعن قوله تعالى {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} "الشعراء:15" إن المراد موسى وهارون وفرعون وعن قوله تعالى {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً} "يوسفل:83"أن المراد يوسف وبنيامين والأخ الكبير الذي قال {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} على أنا لا ننكر إطلاق اسم الجمع على الاثنين مجازا فتحمل هذه الإطلاقات على المجاز لما ذكرنا من الدلائل
وأما الجواب من كلام الفريق الثالث فهو أنهم يراعون صورة اللفظ حتى لم ينعتوا المثنى بالجمع وإن كان بمعناه ولا الجمع بالمثنى محافظة على التشاكل بين الصفة والموصوف مع كونهما كشيء واحد وقد التزم بعضهم النعت مع الاختلاف مجازا.(2/48)
وأما المؤول فحكمه العمل به على احتمال السهو والغلط والله أعلم بالصواب.
ـــــــ
"حكم المشترك الوقف"
قوله "وأما المشترك فحكمه الوقف" أي وقف النفس على اعتقاد أن الثابت به حق أو المراد من الوقف التوقف أي حكمه التوقف فيه من غير اعتقاد حكم معلوم سوى أن المراد به حق حتى يقوم دليل الترجيح; لأن الشركة تنبئ عن المساواة, ولهذا لو قال هو شريكي في هذا المال كان إقرارا له بالنصف وقد ذكرنا أن لا عموم للمشترك فكان الثابت به أحد مفهوماته عينا عند المتكلم غير عين عند السامع فلا يتعين المراد له إلا بدليل زائد لاستحالة الترجيح بلا مرجح فيجب التوقف ولكن لا يقعد عن الطلب كما لا يقعد في المتشابه بل يجب عليه التأمل; لأن إدراك المراد وترجح البعض فيه محتمل فيجب طلبه وهو معنى قوله بشرط التأمل بخلاف المجمل; لأنه لا يدرك بالتأمل فيجب عليه التوقف إلى أن يأتيه البيان. قال شمس الأئمة رحمه الله ويشترط أن لا يترك الطلب وله طريقان التأمل في الصيغة ليتبين به المراد أو طلب دليل آخر يعرف به المراد; لأن بالوقوف على المراد يزول معنى الاحتمال على التساوي فيجب الاشتغال به ليزول الخفاء والله أعلم بالصواب.(2/49)
"باب معرفة أحكام القسم الذي يليه "
وهو الظاهر والنص والمفسر والمحكم وحكم الظاهر وجوب العمل بالذي ظهر منه وكذلك حكم النص وجوب العمل بما وضح واستبان به على احتمال تأويل هو في حيز المجاز وحكم المفسر وجوب العمل على احتمال النسخ وحكم المحكم وجوب العمل به من غير احتمال لما ذكرنا من تفاوت معاني هذه الألقاب لغة وإنما يظهر تفاوت هذه المعاني عند التعارض ليصير
ـــــــ
"باب معرفة أحكام القسم الذي يليه".
قوله: "وحكم الظاهر وجوب العمل بالذي ظهر منه" لا خلاف في أنه موجب للعمل وإنما الخلاف في أنه يوجب الحكم على سبيل القطع أو الظن فعند العراقيين والقاضي أبي زيد1 ومتابعيه حكمه التزام موجبه قطعا عاما كان أو خاصا وعند الشيخ أبي منصور2 ومن تابعه من مشايخ ما وراء النهر وعامة الأصوليين حكمه وجوب العمل بما وضع له اللفظ ظاهرا لا قطعا ووجوب اعتقاد أن ما أراد الله تعالى منه حق وكذا حكم النص وقد بينا من قبل.
وقوله: "على احتمال تأويل هو في حيز المجاز" متصل بالقسمين أي يجعل ذلك التأويل الظاهر أو النص مجازا فإنك إذا أولت قوله جاءني زيد مثلا بان المراد خبره أو كتابه صار مجازا بخلاف المشترك فإنك إذا أولته وصرفته إلى بعض معانيه كان حقيقة.
قوله: "لما ذكرنا من تفاوت معاني هذه الألقاب لغة" يعني إنما سمي كل قسم من هذه الأقسام باسم روعي فيه معنى اللغة فسمي القسم الأول ظاهر لظهور معناه القسم الثاني نصا لازدياد وضوحه على الأول كما ينبئ عنه معناه اللغوي وكذا المفسر والمحكم. "ليصير الأدنى متروكا بالأعلى" اللام للعاقبة أي فائدة التفاوت وعاقبته ترك
ـــــــ
1 أي أبو زيد الدبوسي وقد تقدمت ترجمته
2 أي أبو منصور الماتريدي وقد تقدمت ترجمته(2/50)
الأدنى متروكا بالأعلى وهذا يكثر أمثلته في تعارض السنن والأحاديث ومثاله من مسائل أصحابنا باب ذكره في كتاب الإقرار في الجامع مع رجل قال لآخر لي عليك ألف درهم فقال الآخر الحق اليقين الصدق وكان كل ذلك تصديقا ولو قال
ـــــــ
الأدنى بالأعلى وترجح الأقوى على الأضعف وهذا أي صيرورة الأدنى متروكا بالأعلى السنن والأحاديث مترادفان ههنا وإن كانت السنة أعم من الحديث وقد ذكرنا بعض نظائر التعارض فيما تقدم ومن نظائره تعارض الظاهر والمحكم في قوله تعالى {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً} "النساء: 53" وقوله عز ذكره {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} "النساء: 3"فإن الأول محكم في حرمة نكاح أزواج النبي صلى الله عليه ورضي عنهن للتأبيد, والثاني ظاهر في إباحة جميع النساء فيتناول بعمومه أزواج النبي عليه السلام فيرجح المحكم على الظاهر
ومنها تعارضهما أيضا في قوله عليه السلام: "ألا إن لحوم الحمر الأهلية حرام إلى يوم القيامة" كذا في النافع وقوله صلى الله عليه وسلم لغالب بن أبجر: "كل من سمين مالك"1 فإن الأول محكم في التحريم والثاني ظاهر في التحليل فيرجح المحكم أيضا
وقيل نظير تعارض المفسر والمحكم قوله تعالى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} "الطلاق: 2"وقوله تعالى {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} "اىلنور: 4" فإن الأول مفسر في قبول شهادة العدول; لأن الإشهاد إنما يكون للقبول عند الأداء وهو لا يحتمل معنى آخر والثاني محكم; لأن التأبيد التحق به والأول بعمومه يوجب قبول شهادة المحدود في القذف إذا تاب والثاني يوجب رده فيرجح على المفسر ولقائل أن يقول لا نسلم كون الأول مفسرا; لأن ما لا يحتمل شيئا سوى مدلوله إلا النسخ وقوله تعالى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} "الطلاق: 2" يحتمل الإيجاب والندب ويتناول بإطلاقه الأعمى والعبد وليس بمرادين بالإجماع فكيف يسمى مفسرا مع هذه الاحتمالات. وكذا لا يلزم من صحة الإشهاد والقبول فإن إشهاد العميان والمحدودين في القذف في النكاح صحيح حتى انعقد النكاح بشهادتهم وإن لم تقبل شهادتهم. واعلم أن إيراد المثال ليس من اللوازم; لأن الأصل يتمهد بالدليل والبرهان لا بالمثال وإنما إيراد المثال للتوضيح والتقريب فلا بد من إقامة البرهان على المدعي أولا ثم إيراد المثال بعد إن شاء للإيضاح على سبيل التبرع فإذا تمهد الأصل فلا عليك أن لا يتعب في طلب المثال.
ـــــــ
1 أخرجه أىبو داود في الأطعمة حديث رقم 3809.(2/51)
البر الصلاح لم يكن تصديقا ولو جمع بين البر والحق أو البر واليقين أو البر والصدق حمل البر على الصدق والحق واليقين فجعل تصديقا ولو جمع بين الحق أو اليقين أو الصدق والصلاح جعل ردا ولم يكن تصديقا وحاصل ذلك أن الصدق والحق واليقين من أوصاف الخبر وهي نصوص ظاهرة لما وضعت له من دلالة الوجود للمخبر عنه فيكون جوابا على التصديق وقد يحتمل الابتداء مجازا أي الصدق أولى بك مما تقول وأما البر فاسم موضوع لكل نوع من
ـــــــ
قوله: "ومثاله" أي مثال ترك الأدنى بالأعلى من مسائل أصحابنا باب ذكره محمد رحمه الله في إقرار الجامع وأصله أن كلام المدعى عليه إذا صلح تصديقا لكلام المدعي ولا يصلح ردا يجعل تصديقا وإن كان يصلح ردا ولا يصلح تصديقا يجعل ردا وإن احتملهما يعتبر الغالب ويحمل عليه
والألفاظ المذكورة خمسة الحق اليقين الصدق البر الصلاح فالثلاثة الأولى تصلح صفة للخبر ظاهرا يقال خبر حق خبر يقين خبر صدق فأما البر فاسم لجميع أنواع الإحسان ولكنه يحتمل أن يصير صفة للخبر بقرينة, مثل أن يقول لمن أخبر بخبر صدق صدقت وبررت كما تقول لمن أخبر بخبر كذب كذبت وفجرت وأما الصلاح فلا يصلح صفة للخبر بحال لا يقال خبر صلاح ولا صدقت وصلحت فإذا قال لآخر لي عليك ألف درهم فقال الآخر الحق أو اليقين أو الصدق كان تصديقا وإقرارا; لأنه ذكر في محل الجواب ما يصلح أن يكون جوابا فيجعل محمولا على الجواب بظاهره وما تقدم من الخطاب يصير كالمعاد في الجواب فيصير كأنه قال الحق ما قلت الصدق ما قلت اليقين ما قلت وبيان أنه صالح للجواب أن الدعوى خبر وقد ذكرنا أن الخبر يوصف بالحق والصدق واليقين وبضدها هذا هو الحقيقة وإن كان يحتمل الابتداء أي الصدق أولى بك أو عليك بالصدق أو الحق واليقين أولى بالاشتغال من الدعوى الباطلة ولكن ذلك مجاز والمجاز لا يعارض الحقيقة كذا في شرح الجامع لشمس الأئمة
وقال بعض المشايخ هذا إذا لم يعرب أو ذكر مرفوعا أما إذا نصب فلا يكون إقرارا; لأن معناه ألزم الحق أو الصدق فيكون أمرا له بالصدق ونهيا له عن الكذب. وقال عامتهم لو قال بالنصب يكون تصديقا أيضا ومعناه أنك ادعيت الحق أو قلت وهذا هو الصحيح; لأن العرف لا يفصل بين الرفع والنصب; والأصل فيه هو العرف وإليه أشار محمد فقال إنما ينظر في هذا إلى معاني كلام الناس ولو قال البر أو الصلاح لم يكن تصديقا; لأن البر اسم لجميع أنواع الخير والإحسان كما قال تعالى {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} "البقرة:189"(2/52)
الإحسان لا اختصاص له بالجواب فصار بمعنى المجمل فلم يصلح جوابا بنفسه وإذا قارنه نص أو ظاهر وهو ما ذكرنا حمل عليه وأما الصلاح فلفظ لا يصلح صفة للخبر بحال وهو محكم في هذا المعنى فإذا ضم إليه ما هو ظاهر أو نص وجب حمل النص الذي هو محتمل على الحكم الذي لا يحتمل فلم يكن تصديقا وصار مبتدأ فترجح البعض على البعض عند التعارض ومثاله أيضا قولنا
ـــــــ
ففي محل الجواب هذا اللفظ في معنى المجمل; لأن صلاحيته له ولغيره واحتمال الجواب وغيره فيه على السواء وباللفظ المجمل لا يصير مقرا والجواب لا يتم بكلام مجمل
وأما الصلاح فلا يصلح صفة للخبر بوجه فصار معنى كلامه البر والصلاح أولى بك أو الزم الصلاح واترك الدعوى الباطلة ولو ضم أحد الثلاثة إلى البر فقال الصدق البر أو الحق البر أو اليقين البر أو قدم البر فقال البر الصدق أو البر الحق أو البر اليقين كان إقرارا; لأن البر لما صار مجملا صار ما ضم إليه بيانا له, ألا ترى أن البر مقرونا بالصدق يستعمل في موضع الجواب يقال صدقت وبررت فإن ضم شيئا من هذه الثلاثة إلى الصلاح لا يكون إقرارا لأنه لا يصلح صفة للخبر ولا يستعمل في التصديق أصلا لا يقال صدقت وصلحت بل هو محكم في هذا المعنى فإذا ضم إليه ما هو محتمل من نص أو ظاهر وجب حمله على المحكم فلا يكون تصديقا بل يكون ردا لكلامه بابتداء أمر له باتباع الحق والصلاح وترك الدعوى الباطلة.
قوله: "ومثاله أيضا" أي نظير ترجيح الأعلى على الأدنى وترك الأدنى به أيضا قول علمائنا رحمهم الله فيمن تزوج امرأة إلى شهر بأن قال تزوجتك شهرا أو إلى شهر فقالت زوجت نفسي منك أنه متعة وليس بنكاح وقال زفر رحمه الله هو نكاح صحيح; لأن التوقيت شرط فاسد فإن النكاح لا يحتمل التوقيت, والشرط الفاسد لا يبطل النكاح بل يصح النكاح ويبطل الشرط كاشتراط الخمر واشتراط الخيار ثلاثة أيام وكالطلاق إلى شهر يوضحه أنه لو شرط أن يطلقها بعد شهر صح النكاح وبطل الشرط فكذا إذا تزوجها شهرا ولنا حديث عمر رضي الله عنه قال: "لا أوتى برجل تزوج امرأة إلى أجل إلا رجمته ولو أدركته ميتا لرجمت على قبره1" والمعنى فيه أن النكاح إلى شهر كناية عن المتعة; لأن توقيت الملك بالمدة لا يكون إلا في المنافع التي تحدث في المدة وعقد المتعة حين كان مشروعا كان على المنفعة موقنا كالإجارة فلما قال إلى شهر وهذا لا يليق إلا في عقد
ـــــــ
1 أخرجه ابن ماجة في النكاح حديث رقم 1963.(2/53)
فيمن تزوج امرأة إلى شهر أنه متعة; لأن التزوج نص لما وضع له فكان محتملا أن يراد به المتعة مجازا فأما قوله إلى شهر فحكم في المتعة لا يحتمل النكاح مجازا فحمل المحتمل على الحكم.وضد الظاهر الخفي وحكمه النظر فيه
ـــــــ
المتعة لا يحتمله ملك النكاح على ما هو مشروع اليوم ولفظ التزوج والنكاح يحتمل معنى المتعة; لأنه في الحقيقة لملك التمتع بها صار المحتمل من صدر كلامه محمولا على المحكم من سياقه.
وهذا كالمضار به بشرط أن يكون الربح كله للعامل كناية على الإقراض ويشترط أن يكون الربح كله لرب المال كناية عن الإبضاع وإذا تعين كناية عن المتعة فسد لعدم ركنه وهو اللفظ الموضوع لهذا العقد لا لشرط فاسد دخل عليه وهذا بخلاف ما إذا شرط أن يطلقها بعد شهر; لأن الطلاق قاطع للنكاح فاشتراط القاطع بعد شهر دليل على أنهما عقدا العقد مؤبدا, ألا ترى أنه لو صح الشرط هناك لا يبطل به النكاح بعد مضي الشهر وهنا لو صح التوقيت لم يكن بينهما عقد بعد مضي الوقت كما في الإجارة. قال الحسن بن زياد إن ذكرا من الوقت ما يعلم أنهما لا يعيشان أكثر من ذلك كمائة سنة أو أكثر يكون النكاح صحيحا; لأن في هذا تأكيد معنى التأبيد فإن النكاح بعقد للعمر بخلاف ما إذا ذكرا مدة قد يعيشان أكثر منها وعندنا الكل سواء; لأن التأبيد من شرط النكاح فالتوقيت يبطله طالت المدة أو قصرت كذا في الأسرار والمبسوط; لأن التزوج لما وضع له وهو إثبات ملك البضع على المرأة ولكنه يحتمل المتعة; لأن النكاح في الحقيقة لملك التمتع بها والازدواج معها كما ذكرنا
"فمحكم في المتعة" أي في إفادة معنى المتعة "لا يحتمله النكاح" أي لا يحتمل التوقيت الذي هو مفهوم من إلى شهر.
قوله: "مثاله" أي مثال الخفي قوله تعالى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} "المائدة:38" فإنه ظاهر في إيجاب القطع على كل سارق لم يختص باسم آخر سوى السرقة خفي في حق من اختص باسم آخر كالطرار والنباش فإنه قد اشتبه الأمر أن اختصاصهما بهذا الاسم لنقصان في معنى السرقة أو زيادة فيه ولذلك اختلف العلماء في النباش, فقال أبو حنيفة ومحمد رحمه الله لا يقطع بحال سواء كان القبر في بيت أو لم يكن في ظاهر الراوية وقال أبو يوسف والشافعي رحمهم الله يقع ثم اختلف أصحاب الشافعي فقال بعضهم إنه إنما يقطع إذا سرق الكفن من قبر في بيت محرز أو في مقبرة متصلة بالعمران ولا يقطع إذا كان القبر في برية بعيدة من العمران وهو اختيار الغزالي وذكر بعضهم أنه يقطع وإن كان القبر في مفازة وهو اختيار القفال(2/54)
ليعلم اختفاءه لمزية أو نقصان فيظهر المراد ومثاله أن النص أوجب القطع على السارق ثم احتيج إلى معرفة حكم النباش والطرار وقد اختصا باسم خفي به المراد وطريق النظر فيه أن النباش اختص به لقصور في فعله من حيث هو سرقة; لأن السرقة أخذ المال على وجه المسارقة عن عين الحافظ الذي قصد حفظه
ـــــــ
وذكر شمس الأئمة في المبسوط واختلف مشايخنا فيما إذا كان القبر في بيت مقفل والأصح عندي أن لا يجب القطع سواء نبش الكفن أو سرق مالا آخر من ذلك البيت لأن بوضع القبر فيه اختل صفة الحرزية في ذلك البيت فإن لكل أحد من الناس تأويلا في الدخول فيه لزيارة القبر فلا يجب القطع على من سرق منه شيئا; لأن صفة الكمال في شرائط القطع معتبرة ثم من أوجب القطع تمسك بعموم قوله تعالى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} "المائدة:38"والآية وقال النباش سارق; لأن السارق اسم لمن يأخذ المال على سبيل الخفية وهو بهذه الصفة واختصاصه باسم آخر لا يمنع دخوله تحت اسم السارق; لأنه اختص بهذا الاسم لاختصاصه بنوع من السرقة فلا يمنع ذلك عن الدخول تحت اسم الجنس كاختصاص من يقطع عن اليقظان باسم الطرار وكاختصاص الآدمي باسم الإنسان لا يمنعه عن الدخول تحت اسم الحيوان. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه قطع نباشا" وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت سارق أمواتنا كسارق أحيائنا وعن ابن مسعود أنه كتب إلى عمر رضي الله عنهما في النباش فكتب إليه أن اقطعه والمعنى فيه أنه سرق نصابا كاملا من حرز مثله فيقطع كما لو سرق لباس الحي وكما لو سرق الشاة من الحظيرة, وهذا لأن الكفن مال كامل; لأن صفة المالية لا يتغير بأن ألبس ميتا; لأنه بعد صالح لإقامة المصالح والقبر حرز مثله; لأنه لا يحرز بأحصن من ذلك الموضع والناس تعارفوا إحراز الأكفان بالقبور فكان حرزا متعينا له باتفاق جميع الناس كالحظير للغنم والصندوق للدراهم. ولا يلزم عليه أنه لو سرق من القبر شيئا آخر وضع معه أو كفن الميت زيادة على العدد المسنون فسرق الزائد حيث لا يقطع; لأن القبر ليس بحرز لمال آخر غير الكفن; لأن الناس ما اعتادوا حفظ سائر الأشياء بالقبور كحظيرة الغنم حرز للغنم وليست بحرز للثياب والأمتعة وكذا الزائد على العدد المسنون بمنزلة مال آخر موضوع في القبر
وألا ترى أن الأب والوصي لو كفنا الصبي أو عبد الصبي من مال الصبي بالعدد المسنون لا يعد تضييعا ولا يضمنان شيئا; لأن ذلك إحراز منهما لماله ولو كفناه زيادة على العدد المسنون يضمنان الزيادة; لأنه تضييع ولأبي حنيفة ومحمد رحمهم الله أن هذا الفعل ناقص في كونه سرقة والملك ناقص والمالية ناقصة والحرز ناقص أو معدوم وكل واحد منها يمنع القطع لما عرف أن شرط السرقة أن يكون المأخوذ مالا مملوكا محرزا وأن الكمال فيها شرط كي لا تبقى شبهة العدم فمجموعها أولى.(2/55)
لكنه انقطع حفظه بعارض والنباش هو الآخذ الذي يعارض عين من لعله يهجم عليه وهو لذلك غير حافظ ولا قاصد وهذا من الأول بمنزلة التابع من المتبوع وكذلك معنى هذا الاسم دليل على خطر المأخوذ وهذا الذي دل عليه اسم النباش في غايه القصور والهوان والتعدية بمثله في الحدود خاصة باطل وأما
ـــــــ
أما بيان قصور الفعل ونقصانه فمن وجهين على ما ذكر الشيخ في الكتاب وأحدهما أن النباش ليس بسارق على الإطلاق ولأن السرقة اسم لأخذ المال على وجه المسارقة أي الإخفاء عن عين الحافظ الذي قصد حفظه لكنه انقطع حفظه باعتراض نوم أو غيبة بحيث يخاف هجومه عليه ومنه استراق السمع لاستماع كلام الغير حال غفلته ويقال فلان يسارق النظر إليه إذا اغتنم غفلته واحتال لينظر إليه والنباش يسارق عين من عسى يهجم عليه ممن ليس بحافظ للكفن ولا قاصد إلى حفظه من المارة لئلا يطلعوا على جنايته; لأنه يرتكب منكرا كالزاني وشارب الخمر يختفي من الناس كي لا يعثروا على قبح فعله والسرقة أخذ على سبيل المسارقة ليتمكن من أخذ ما أحرز عن الأيدي لا ليتمكن من فاحشة ترد شرعا فكان النباش سارقا صورة لا معنى فالميت إنسان صورة لا معنى, ولهذا يصح نفيه عنه فيقال نبش وما سرق فكان بمنزلة التبع من المتبوع لكون الأول أقوى فلا يدخل تحت مطلق اسم السارق والثاني أن هذا الاسم وهو السرقة تدل على خطر لمأخوذ أي على أنه ذو قدر ومنزلة فإن السرقة قطعة من الحرير قال عليه السلام لبعض نسائه: "أريت صورتك في سرقة من حرير1" أي في قطعة من حرير جيدة بيضاء. كذا فسره أبو عبيد ولذلك اتفق جمهور العلماء على اشتراط النصاب فيه ليخرج عن كونه تافها حقيرا وإن اختلفوا في مقداره وهذا الذي دل عليه اسم النباش وهو النبش في غاية القصور والهوان; لأن نبش التراب وأخذ الكفن من الأموات من أرذل الأفعال وأردأ الخصال بشهادة العرف والطبع السليم
"والتعدية بمثله" أي تعدية الحكم في مثل ما ذكرنا وهو ما إذا كان المعنى الموجب في الفرع دونه في الأصل باطلا لا سيما في الحدود فإنها تدرأ بالشبهات فكيف يحتال في إثباتها بما لا يجوز إثبات الحكم بمثله وتبين بما ذكرنا أن اختصاص النباش بهذا الاسم لنقصان في فعله وهو أن بخلاف الطرار فإن اختصاصه باسم آخر غير السارق لفضل في جنايته وحذاقة في فعله أي مهارة; لأنه يسارق الأعين التي ترصدت للحفظ مع
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في فضائل الصحابة حديث رقم 2438 والترمذي في المناقب حديث رقم 3880 والإمام أحمد 6/41و122.(2/56)
الطرار فقد اختص به لفضل في جنايته وحذق في فعله; لأن الطر اسم لقطع الشيء عن اليقظان بضرب فترة وغفلة يعتريه وهذه المسارقة في غاية الكمال وتعدية الحدود في مثله في نهاية الصحة والاستقامة وقد سبق بيان أحكام سائر الأقسام في هذا الفصل.
ـــــــ
الانتباه والحضور فكان فوق مسارقة الأعين حال نوم المالك وغيبته فكان أتم سرقة وأكمل حيلة فيكون داخلا تحت اسم السارق بالطريق الأولى إلا أنه خفي مرادا بالآية تعارض وهو زيادة حيلة من قبل الطرار لا لمعنى في الكلام, كذا ذكر الشيخ رحمه الله في شرح التقويم
وقوله: "وتعدية الحدود في مثله" أي في مثل ما ذكرنا وهو ما إذا كان المعنى الموجب في الفرع أكمل وأتم نوع تسامح; لأن هذا من قبيل دلالة النص والتعدية تستعمل في القياس إلا أنه سماها تعدية لشبه دلالة النص بالقياس وإخراجا للكلام على مقابلة كلام الخصم. وأما بيان ما ذكرنا من نقصان الملك فهو أن الكفن ليس بمملوك للوارث; لأنه إنما تملك ما فضل عن حاجة الميت, ألا ترى أن القدر المشغول بالدين لا يصير مملوكا له لحاجة الميت فالكفن أولى; لأنه مقدم على الدين ولا للميت حقيقة; لأن الموت ينافي الملكية; لأنها عبارة عن القدرة والاستيلاء وأدنى درجاتها الحياة وقد زالت
وأما نقصان المالية فلأنها عبارة عن التمول والادخار لوقت الحاجة وهذا المقصود يفوت في الكفن فإنه مع الميت يوضع في القبر للبلى, ولهذا يوضع في أقرب الأماكن من البلى وإليه أشار الصديق رضي الله عنه بقوله اغسلوا ثوبي هذين وكفنوني فيهما فإنهما للمهل والصديد والحي أحوج إلى الجديد فكانت مالية الكفن وقد سلم للتلف دون مالية ما يتسارع إليه الفساد وأما النقصان في الحرز فلأنه لا يخلوا إما أن يجعل القبر حرزا بنفسه أو بالميت والقبر ليس بحرز بنفسه; لأنه دفن فيه ثوب آخر من جنس الكفن فسرق لا يجب القطع وما كان حرزا لشيء كان حرزا لجنسه لا محالة; لأن معنى الصيانة لا يختلف من جنس واحد كحظيرة الغنم ولا يصير حرزا بالميت; لأنه جماد لا يحرز نفسه فكيف يحرز غيره وإنما يحفر القبر حرزا للميت عن السباع وإخفاء له عن الأعين لا إحرازا للكفن ولا يقال فإذا لم يكن إحرازا كان التكفين تضييعا ولأنا نقول ليس كذلك فإنه مصروف إلى حاجة الميت وصرف الشيء إلى الحاجة لا يكون تضييعا ولا إحرازا كتناول الطعام وإلقاء البذر في الأرض
"فإن قيل" يجوز أن لا يكون حرزا عند الانفراد ويصير حرزا عند الاجتماع(2/57)
---------------------------------------------------------
ـــــــ
كالحيطان ليست بحرز بدون الباب وكذا الباب بدونها عند الاجتماع يصير حرزا. "قلنا" نعم إذا حدث بالاجتماع معنى يصلح لإضافة الحكم إليه كما في الحيطان مع الباب يصلح بعد الاجتماع لحفظ الأمتعة لصيرورتها بيتا صالحا للحفظ فأما الاجتماع ههنا فلا يصير هذا المكان موضعا لحفظ الثياب والأمتعة, ألا ترى أنه لا يحفظ فيه ما سوى الكفن من الثياب ولو صار حرزا للكفن بعد الاجتماع لصار حرزا لجنسه من الثياب. وأما ما روي: "أنه عليه السلام قطع نباشا" فمعارض بما روي عنه عليه السلام أنه قال: "لا قطع في المختفي" وهو النباش بلغة أهل المدينة كذا فسر أبو عبيد وفي الصحاح اختفيت الشيء أستخرجته والمختفي والنباش; لأنه يستخرج الأكفان فيحمل على السياسية وكذا حديث عمر رضي الله عنه فإن للإمام ذلك, ألا ترى أن أبا بكر رضي الله عنه قطع أيدي نسوة أظهرن الشماتة بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وضربن الدفوف وكان ذلك سياسة لا حدا وأما حديث عائشة رضي الله عنها فمحمول على التشبيه في استحقاق الاسم; لأن كاف التشبيه لا يوجب التعميم وروى محمد في الأصل أن نباشا أخذ في زمن مروان بن الحكم فشاور من بقي من الصحابة رضي الله عنهم فأجمعوا أن لا قطع عليه وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان لا يرى القطع على النباش والله أعلم.(2/58)
"باب أحكام الحقيقة والمجاز"
"والصريح والكناية"
قال حكم الحقيقة وجود ما وضع له أمرا كان أو نهيا خاصا أو عاما وحكم المجاز وجود ما استعير له خاصا كان أو عاما وطريق معرفة الحقيقة التوقيف والسماع بمنزلة النصوص وطريق معرفة المجاز التأمل في مواضع الحقائق وأما في الحكم فهما سواء إلا عند التعارض فإن الحقيقة أولى منه ومن
ـــــــ
"باب أحكام الحقيقة والمجاز"
قال الشيخ الإمام الزاهد رحمه الله حكم الحقيقة وجود ما وضع له أي ثبوت ما وضع اللفظ أمرا كان أو نهيا خاصا كان أو عاما كقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} "الحج:77". وقوله جل ذكره {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} "الأنعام:151" و"الإسراء:33"فإن كل واحد من النصين خاص في المأمور به والمنهي عنه عام في المأمور والمنهي وهذا بلا خلاف
وحكم المجاز وجود ما استعير له أي ثبوت ما استعير اللفظ له خاصا كان أو عاما عند عامة العلماء كقوله تعالى {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} "النساء:43" {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} "يوسف:36" وقوله عليه السلام: "لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين ولا الصاع بالصاعين" وفيه خلاف بعض أصحاب الشافعي وسنبينه وطريق معرفة الحقيقة التوقيف أي التنصيص من الواضع والسماع من السامع يعني لا يوقف عليها إلا بالنقل عن واضع اللغة بمنزلة النصوص في الشرع فإنها لا تثبت حججا إلا بعد السماع من صاحب الشرع والنقل عنه وطريق معرفة المجاز التأمل في مواضع الحقائق ليمتاز الوصف الخاص المشهور من غير امتياز الوصف المؤثر في باب القياس عن غيره; لأن المجاز لا يصح بكل وصف وحاصله أن جواز استعمال المجاز لا يتوقف على السماع بل يتوقف على معرفة طريقه الذي سلكه أهل اللسان في استعماله وهو رعاية الاتصال بين(2/59)
أصحاب الشافعي من قال لا عموم للمجاز وبيان ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء" فاحتج الشافعي رحمه الله بعمومه وأبى أن يعارضه حديث ابن عمر في النهي عن بيع الدرهم بالدرهمين
ـــــــ
محل الحقيقة والمجاز بوجه وقد مر من قبل "أما في الحكم" أي في إثبات الحكم وإيجاب العمل فالحقيقة والمجاز سواء إلا عند التعارض يعني إذا تعارض في كلام واحد جهة كونه مستعملا في موضوعه وجهة كونه مستعملا في غير موضوعه كان حمله على الحقيقة أولى; لأن الحقيقة أصل والمجاز عارض. ويجوز أن يكون معناه إذا تعارض كلام هو حقيقة وكلام آخر هو مجاز كانت الحقيقة أولى من المجاز وراجحة عليه ورأيت في بعض نسخ أصول الفقه أن الحقيقة ترجح على المجاز لعدم افتقارها إلى القرينة المخلة بالتفاهم لخفائها وعدم الاطلاع عليها ولكني ما ظفرت به في شيء من كتب أصحابنا صريحا فكان حمل كلام الشيخ على المعنى الأول أولى لتأيده بما ذكر القاضي الإمام في التقويم أن المجاز أحد نوع الكلام وله من الأنواع العموم والأحكام ما للحقيقة; لأنه مستعمل بمنزلتها إلا أن المطلق من الكلام لحقيقته حتى يقوم الدليل على مجازه; لأن معنى الحقيقة أصل والثاني طارئ عليه فلا يثبت إلا بدليله.
قوله: "فاحتج الشافعي بعمومه وأبى أن يعارضه" إلى آخره. بيانه أن قوله عليه السلام: "لا تبيعوا الطعام بالطعام1" يدل بعبارته وعمومه على حرمة بيع المطعوم بالمطعوم قليلا كان أو كثيرا مساويا كان أو غير مساو; لأن الطعام معرف باللام فيقتضي الاستغراق إلا أن الاستثناء عارضه في الكثير; لأن المراد من قوله سواء بسواء المساواة في الكيل بالإجماع فبقي ما وراءه داخلا تحت العموم فيحرم بيع حفنة بحفنة وبحفنتين وتفاحة بتفاحة وبتفاحتين وبإشارته يقتضي كون الطعم علة; لأن الحكم متى ترتب على اسم مشتق كان مأخذه علة لذلك الحكم كالسرقة والزنا في قوله تعالى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} "المائدة:38" {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} "النور:2"على ما عرف والطعام اسم لما يؤكل مشتق من الطعم وهو الأكل فكان الطعم هو العلة. وإذا ثبت كونه علة وقد انعقد الإجماع على أن العلة ليست إلا أحد أوصاف النص لم يبق الكيل علة ضرورة فلا يحرم بيع الغير المطعوم كالجص والنورة متفاضلا لعدم العلة الموجبة للحرمة وهي الطعم وحديث الصاع وهو ما روى ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين ولا الصاع بالصاعين فإني أخشى عليكم"
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الكساقاة حديث رقم 1592 والإمام أحمد في المسند 6/400.(2/60)
والصاع بالصاعين; لأن الصاع مجاز عما يحويه ولا عموم له فإذا ثبت المطعوم به مرادا سقط غيره قال; لأن الحقيقة أصل الكلام والمجاز ضروري يصار إليه توسعة ولا عموم لما ثبت ضرورة تكلم البشر والصحيح ما قلنا; لأن المجاز أحد نوعي الكلام فكان مثل صاحبه; لأن عموم الحقيقة لم يكن لكونه حقيقة
ـــــــ
الرماء1" وفي بعض الراويات الرماء يعني الربا إذ الرماء الزيادة والربا وأرمى الشيء إرماء أي زاد وأرمى فلان أي أربى يدل بعبارته وعمومه أن الربا يجري في غير المطعوم كالجص والنورة; لأن الصاع محلى فاللام التعريف فاستغرق جميع ما يحله من المطعوم وغيره فيحرم بيع الجص والنورة متفاضلا وبإشارته يدل على أن الكيل هذا لعلة; لأنه لما كان المراد من الصاع ما يكال به صار تقدير الكلام ولا ما يكال بصاع بما يكال بصاعين أو ولا مكيل بمكيلين فيقتضي جواز بيع حفنة بحفنتين وتفاحة بتفاحتين لعدم معنى الكيل على خلاف ما اقتضاه الحديث الأول فهذا هو معنى المعارضة إلا أن الخصم قال هذا النص مجاز عبارة عما يحله ويجاوره بطريق إطلاق اسم المحل على الحال كما في قوله تعالى {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} "الأعراف:31"أي صلاة فلا يمكن القول بعمومه; لأن العموم لا يجري إلا في الحقائق وقد أريد المطعوم منه بالإجماع فلم يبق غيره مرادا وصار كأنه قيل ولا المطعوم المقدر بالصاع بالمطعوم المقدر بالصاعين وعلى هذا التقدير لم يبق له دلالة على حرمة بيع ما وراء المطعوم متفاضلا ولا على كون المكيل علة وصار موافقا للأول
وشبهة الخصم أن الأصل في الكلام هو الحقيقة; لأن الألفاظ وضعت دلالات على المعاني للإفادة. ولهذا لا يعارض المجاز الحقيقة بالاتفاق حتى لا يصير اللفظ المتردد بين الحقيقة والمجاز في حكم المشترك فكان الأصل أن لا يجوز استعمالها في غير موضوعاتها لتأدية ذلك إلى الإخلال بالفهم إلا أنهم جوزوا ذلك ضرورة التوسعة في الكلام بمنزلة الرخص الشرعية في الأحكام فإنها بنيت ضرورة التوسعة على الناس وهذه الضرورة يرتفع بدون إثبات حكم العموم للمجاز فلا يصار إليه من غير ضرورة وكان المجاز في هذا بمنزلة ما ثبت بطريق الاقتضاء فكما لا يثبت هناك وصف العموم عندكم; لأن الضرورة ترتفع بدونه فكذا هنا عندي ولكنا نقول المجاز أحد نوعي الكلام فكان مثل صاحبه في احتمال العموم والخصوص إلى آخر ما ذكر الشيخ في الكتاب وفي قوله أحد نوعي
ـــــــ
1 أخرجه الإمام أحمد في المسند 2/109.(2/61)
بل لدلالة زائدة على ذلك ألا ترى أن رجلا اسم خاص فإذا زدت عليه لام العريف من غير معهود ذكرته انصرف إلى تعريف الجنس فصار عاما بهذه الدلالة فالصاع نكرة زيد عليها لام التعريف وليس في ذلك معهود ينصرف إليه فانصرف إلى جنس ما أريد به ولو أريد به عينه لصار عاما فإذا أريد به ما يحله
ـــــــ
الكلام إشارة إلى أن المجاز ليس بضروري بل هو أحد قسمي الكلام حتى كاد المجاز يغلب الحقيقة فكيف يسمى هذا ضروريا.
قوله: "لأن عموم الحقيقة لم يكن لكونه حقيقة" إذا لو كان كذلك ينبغي أن لا يوجد حقيقة إلا وأن تكون عامة والأمر بخلافه بل لدليل زائد ليحقق به مثل الواو والنون أو الألف والتاء في قوله مسلمون ومسلمات أو الألف واللام فيما لا معهود فيه أو غير ذلك مما تقدم ذكره في باب ألفاظ العموم فإذا وجد ذلك الدليل في المجاز وجب القول بعمومه إذا كان المحل قابلا له كما في الحقيقة
"فإن قيل": سلمنا أن العموم في الحقيقة ليس لمجرد كونه حقيقة ولكنه يجوز أن يكون لذلك وللدليل الذي التحقق به فيثبت العموم بالمجموع ولم يوجد بالمجموع في المجاز فلا يصح القول بعمومه.
"قلنا": لا بد في مثل ذلك أن يكون لكل واحد من المعنيين نوع تأثير في إثبات ذلك الحكم ليصح إضافته إليهما وقد وجدنا التأثير فيما نحن فيه للدليل اللاحق لا لكونه حقيقة فلا يصح إضافته إليهما بل يجب إضافته إلى ذلك الدليل المؤثر وذلك أنا قد وجدنا الواو والنون ولام التعريف في اسم الجنس, وسائر دلائل العموم تدل على العموم دلالة مطردة ولم نجد الحقيقة كذلك إذ هي موجودة في مسلم وضارب ورجل ولا تدل على العموم بوجه فعرفنا أن لا تأثير لها فأضفنا ثبوت العموم إلى الدليل المؤثر إلى كونه حقيقة ولكن لهم أن يقولوا إنما اطرد دلالة الواو والنون وغيرهما على العموم; لأنها لا تنفك عن صيغة تلحق بها فتدل حقيقة تلك الصيغة مع الدليل اللاحق به على العموم لاجتماع الوصفين فأما الحقيقة فقد انفصلت عن دليل العموم فيما ذكر من النظائر فلا يثبت العموم بها وحدها; لأن الحكم المتعلق بالوصفين لا يثبت بوصف واحد فإذا لا بد من إقامة الدليل على انتفاء كون الحقيقة مؤثرا في العموم.
قوله: "والصاع نكرة" أي لفظ الصاع في قوله عليه السلام: "ولا الصاع بالصاعين" قبل دخول اللام عليه كان نكرة يعني لو تصورناه بدون اللام في هذا الموضع كان نكرة فزيد عليها لام التعريف وليس ثم معهود فانصرف إلى الجنس فأوجب التعميم وفي ضم(2/62)
ويجاوره مجازا كان كذلك لوجود دلالته ألا ترى أنه استعير له ذلك بعينه ليعمل في ذلك عمله في موضعه كالثوب يلبسه المستعير كان أثره في دفع الحر والبرد
ـــــــ
قوله ويجاوره إلى ما يحله إشارة إلى المعنى المجوز للمجاز أي جواز إرادة ما يحله باعتبار المجاورة, ألا ترى أنه استعير ذلك بعينه الضمير في أنه لشأن أي أن الشأن استعارة ذلك اللفظ الذي صار عاما بدليل وهو الصاع مثلا فيما نحن فيه ليعمل في ذلك أي فيما استعير له وهو ما يحله ويجاوره. "عمله" أي كعمله في محله وهو موضوعه الأصلي ولما كان عمله في محله إثبات العموم كان كذلك فيما استعير له أيضا لوجود دلالته وهي لام التعريف.
قوله: "إلا أنهما يتفاوتان" جواب عما ذكرنا أن الحقيقة تترجح عند التعارض أي هما مستويان في العموم والخصوص ولكنهما يفترقان في اللزوم والبقاء فإن الحقيقة لازمة باقية حتى لم يصح نفيها عن موضوعها والمجاز ليس بلازم باق حتى صح نفيه كالثوب الملبوس لا يسترد إذا كان مملوكا ويسترد إذا كان عارية, ولهذا تترجح الحقيقة عند التعارض; لأنها ألزم وأدوم والمطلوب بكل كلمة عند الإطلاق ما هي موضوعة له في الأصل فيترجح ذلك حتى يقوم دليل المجاز بمنزلة الملبوس يترجح جهة الملك للابس فيه حتى يقوم دليل العارية كذا قال شمس الأئمة رحمه الله وهذا الترجح لا يدل على كون المجاز ضروريا كترجيح المحكم على الظاهر لا يدل على كونه ضروريا وعلى انتفاء العموم عنه.
قوله: "والمجاز طريق مطلق" أي طريق جاز سلوكه من غير ضرورة فإنا نجد الفصيح من أهل اللغة القادر على التعبير عن مقصوده بالحقيقة يعدل إلى التعبير عنه بالمجاز لا لحاجة ولا لضرورة وقد ظهر استحسان الناس للمجازات فوق ما ظهر من استحسانهم للحقائق فتبين بهذا أن قولهم هو ضروري فاسد والدليل عليه أن القرآن في أعلى رتب الفصاحة وأرفع درج البلاغة, والمجاز موجود فيه عد من غريب بدائعه وعجيب بلاغته قوله تعالى {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} "الإسراء:24" وإن لم يكن للذل جناح وقوله {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} "الحجر:94" أي أظهره غاية الإظهار فكان التعبير عنه بالصدع أبلغ وهو في الأصل لصدع الزجاج وقوله عز اسمه {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} "هود:44"وقوله جل ذكره {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} "البقرة:25" والجري للماء لا للأنهار وقوله علت كلمته {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} "الكهف 77"وغير ذلك مما لا يعد ولا يحصى
"والله تعالى علي" أي منزه عن العجز والضرورات فثبت أنه ليس بضروري(2/63)
مثل عمله إذا لبس بحق الملك إلا أنهما يتفاوتان لزوما وبقاء.والمجاز طريق مطلق لا ضروري حتى كثر في كتاب الله تعالى وهو أفصح اللغات والله سبحانه
ـــــــ
ولا يقال المقتضى ضروري عندكم حتى أنكرتم جواز عمومه أصلا مع أنه موجود في القرآن فليكن المجاز كذلك
لأنا نقول الضرورة في المقتضى راجعة إلى الكلام والسامع فإنه إنما يثبت ضرورة تصحيح الكلام شرعا لئلا يؤدي إلى الإخلال بفهم السامع, والضرورة في المجاز لو ثبتت كانت راجعة إلى المتكلم; لأن ثبوته لتوسعة طريق التكلم على المتكلم. ولهذا ذكر المجاز في أقسام استعمال النظم الذي هو راجع إلى المتكلم والمقتضى في أقسام الوقوف على المراد الذي هو حظ السامع وإذا كان كذلك جاز أن يوجد المقتضى في القرآن بخلاف المجاز لو كان ضروريا وبهذا ظهر أن استدلالهم بالمقتضى ليس بصحيح; لأن العموم العوارض الألفاظ على ما مر والمجاز ملفوظ فإذا وجد دليل العموم فيه أمكن القول بعمومه فأما المقتضى فغير ملفوظ لا تحقيقا ولا تقديرا بل هو ثابت شرعا فلا يتصور فيه العموم بخلاف المحذوف فإنه ملفوظ تقديرا فأمكن القول بعمومه عند وجود دليله. قال أبو اليسر المقتضى إذا كان ثابتا لغة يوجب العموم فأما إذا كان ثابتا شرعا فلا; لأنه صير إليه للضرورة فيتقدر بقدرها وفي قوله حتى كثر ذلك في كتاب الله تعالى إشارة إلى رد قول من أنكر وقوع المجاز في القرآن من الرافضة وأهل الظاهر منهم داود الأصفهاني وأبو بكر الأصبهاني1 واتباعهما متمسكين بأن المجاز كذب بدليل أنه يصدق نافيه وإذا كان صدقا كان إثباته كذبا ضرورة وإذا كان كذبا يمتنع ذلك في كلام الله تعالى وبما ذكرنا أن المجاز هو استعارة الكلمة لغير ما وضعت وهذا لا يكون إلا من ذي الحاجة وأنه تعالى منزه عن الحاجة وبأن المجاز لو كان واقعا في القرآن لصح وصفه تعالى بكونه متجوزا لصدور التكلم بالمجاز والأمر بخلافه
وكل ذلك فاسد; لأن المجاز موجود في القرآن بحيث لا وجه إلى إنكاره ونظائره أكثر من أن تحصى وقولهم المجاز كذب فيمتنع وقوعه في كلامه تعالى وهم منهم; لأن كذبه إنما يلزم لو كان النفي والإثبات للحقيقة كقولنا هو أسد بالحقيقة ليس بأسد بالحقيقة لتناقضهما حينئذ وأما إذا كان أحدهما بالحقيقة والآخر بالمجاز كقولنا ليس بأسد بالحقيقة هو أسد بالمجاز فلا يلزم من صدق النفي كذب الإثبات; لأنهما لا يتنافيان وإنما
ـــــــ
1 هو أبوبكر محمد بن داود الظاهري تولي رئاسة المذهب الظاهري وكان أديبا توفي سنة297ه أنظر معجم المؤلفين 9/296(2/64)
وتعالى علا عن العجز والضرورات ومن حكم الحقيقة أنه لا تسقط عن المسمى بحال وإذا استعير لغيره احتمل السقوط يقال للوالد أب ولا ينفى عنه بحال ويقال للجد أب مجازا ويصح أن ينفى عنه لما بينا أن الحقيقة وضع
ـــــــ
لم يصح وصفه تعالى بكونه متجوزا; لأن مثل هذا الإطلاق يتوقف على الإذن; لأن أسماء الله تعالى توقيفية وذكر عبد القاهر البغدادي في أصوله بعد ذكر قول هذه الطائفة وذكر شبهتهم ثم افتراق هؤلاء في كلمات من القرآن طريقها المجاز فمنهم من تأول بعضهما على الحقيقة وتقول في مثل قوله تعالى {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} "يوسف:82" وقوله {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} "الىكهف:77" إنه محمول على الحقيقة; لأنه تعالى قادر على إنطاق الأرض لأنبيائه وعلى خلق الإرادة في الجدار ومنهم من شك في كون المجازات التي في القرآن أنها منه وقال لعلها من الجنس الذي غير منه ويدل عليه ما ذهب إليه الإمامية من الرافضة في دعواها أن الصحابة غيرت نظم القرآن وزادت فيه ما ليس منه ونقضت منه ما كان فيه من إمامة علي وأولاده وزعمهم أيضا أن ما فيه من مجازات فهو من زيادات المبدلين ثم قال في آخر هذه المسألة وأما الذين أنكروا وجود المجاز في القرآن وزعموا أنه لو كان فيه مجاز لكان كذبا فإنه يلزمهم أن يكون قوله تعالى {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} "الحجر:9" كذبا; لأن إنا ونحن للجماعة دون الواحد في أصل الوضع. وإن قالوا صح ذلك على وجه التعظيم فهو المجاز الذي أنكروه وأيضا فإن منكر المجاز في القرآن لا يخلو من أن يقول المعدوم شيء كما قالت القدرية أو يقول ليس بشيء كما قال غيرهم وعلى الأول يلزمه أن يكون قوله تعالى {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} "مريم:9" مجازا وعلى الثاني يلزم أن يكون قوله عز اسمه {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} "الحج:1" وأما الرافضة المدعية أن المجازات كلها مما غيرتها الصحابة فلا كلام معهم في هذه المسألة; لأنهم في حيرة في أحكام الشرع وفي تيه إلى أن يظهر إمامهم الذي ينتظرونه ومن لا يثق بشيء من القرآن فلا يناظر في صفات كلمات القرآن ولا في أحكام القرآن
قوله: "ومن حكم الحقيقة أنه" أي أن لفظ الحقيقة "لا يسقط عن المسمى بحال" أي يصح إطلاقه على موضوعه أبدا ولا يصح نفيه عنه بحال فإذا أطلق كان مسماه أولى به من غيره "إلا إذا كان مهجورا" الاستثناد متصل بقوله لا يسقط عن المسمى بحال يعني إذا كان المسمى مهجورا أي ترك الناس العمل به وإرادته عن هذا اللفظ " فح " بجواز أن يسقط عنه لفظه الموضوع له لا يتناوله عند الإطلاق سواء كان الهجران بالعادة أو بالتعذر بل يتعين المجاز "ويصير ذلك" أي كونه مجهورا دليل الاستثناء أي نازلا منزلته فيصير(2/65)
مستعار فكانا كالملك والعارية إلا أن يكون مهجورا فيصير ذلك دلالة الاستثناء كما قلنا فيمن حلف لا يسكن الدار فانتقل من ساعته وكمن حلف لا يقتل وقد كان جرح ولا يطلق وقد كان حلف كمن حلف لا يأكل من الدقيق لا يحنث
ـــــــ
المسمى المهجور مستثنى تقديرا من جملة محتملات اللفظ مع صلاحيته للدخول تحت اللفظ كمن حلف لا يسكن هذه الدار وهو فيها موجب هذا الكلام وجوب الامتناع عن السكنى من زمان الحلف إلى آخر العمر; لأن المصدر الذي دل عليه قوله " لا يسكن " نكرة وقعت في موضع النفي فيعم جميع ما يتصور من السكنى في العمر فكان القياس أن يحنث وإن أخذ في النقلة من ساعته كما قال زفر رحمه الله لوجود حقيقة السكنى بعد الفراغ من اليمين وإن قل لفوات شرط البر به وهو استغراق العدم جميع العمر كما لو دخل ثم خرج على الفور بعد الانتقال إلا أنه لا يحنث عندنا استحسانا; لأن ذلك القدر من السكنى صار مستثنى عن اليمين لكونه مهجورا في مثل هذا الكلام بدلالة أن مقصود الحالف منع نفسه عما في وسعه من السكنى إذ اليمين تعقد للبر لا للحنث ولا يتصور المنع ومحافظة البر إلا بإخراج هذا القدر من اليمين فوجب القول به تحقيقا للمقصود وصار كأنه قال لا أسكن هذه الدار إلا زمان الانتقال.
قوله: "وكمن حلف لا يقتل فلانا وقد كان جرحه قبل ذلك" فمات المجروح بعد يمينه من ذلك الجرح لا يحنث وإن وجد الانزهاق الذي به ويصير الجرح السابق قتلا بعد اليمين لما ذكرنا أن مقصود الحالف منع النفس عما في وسعه من القتل في المستقبل فصار هذا الموت باعتبار أنه لم يدخل تحت مقصوده مستثنى عن اليمين لكونه مهجورا وقس عليه مسألة الطلاق وكمن حلف لا يأكل من هذا الدقيق فأكل من عينه قال بعض مشايخنا يحنث; لأن عينه مأكول فيدخل تحت اليمين كأكل الخبز والأصح أنه لا يحنث; لأن أكل عين الدقيق مهجور عادة فصار ذلك دليل الاستثناء وينصرف يمينه إلى ما يتخذ منه من الخبز ونحوه, كذا ذكر شمس الأئمة في "أصول الفقه" "والمبسوط"
وذكر في شرح الجامع الصغير والأصح عندي أنه يحنث; لأن الدقيق يتأتى أكل عينه وما هو المقصود بالأكل يحصل بأكل عينه وقد تقلى فيؤكل أيضا فإذا كان حقيقة لفظه متعارفا أيضا من وجه "قلنا" يحنث به.
وفي المبسوط ولو نوى أكل الدقيق بعينه لم يحنث بأكل الخبز; لأنه نوى حقيقة كلامه وفي شرح الجامع الصغير للقاضي الإمام فخر الدين رحمه الله فإن عنى أكل الدقيق صحت نيته فيما فيه تغليظ حتى يحنث بأكل الدقيق ولا يصدق في صرف اليمين عن الخبز; لأنه خلاف الظاهر وكما إذا حلف لا يأكل من هذا الشجر فأكل من عينه لم يحنث(2/66)
بالأكل من عينه عند بعض مشايخنا وإذا حلف لا يأكل من هذا الشجر فأكل من عين الشجر لم يحنث أيضا.ومن أحكام الحقيقة والمجاز
ـــــــ
يعني في شجر لا يؤكل عينه عادة; لأن أكل عين الشجر لما كان مهجورا للتعذر انصرفت يمينه إلى المجاز وهو أكل ثمره إن كان له ثمر وثمنه إن لم يكن
قوله: "استحالة اجتماعهما مرادين بلفظ واحد" اختلف الأصوليون في جواز إطلاق اللفظ الواحد على مدلوله الحقيقي ومدلوله المجازي في وقت واحد فذهب أصحابنا وعامة أهل الأدب والمحققون من أصحاب الشافعي وعامة المتكلمين إلى امتناعه. وذهب الشافعي وعامة أصحابه وعامة أهل الحديث وأبو علي الجبائي وعبد الجبار بن أحمد من المتكلمين إلى جوازه مستروحين في ذلك إلى أنه لا مانع من إرادة المعنيين جميعا فإن الواحد منا قد يجد نفسه مريدة بالعبارة الواحدة معنيين مختلفين كما يجدها مريدة للمعنيين المتفقين جميعا ونعلم ذلك من أنفسنا قطعا فمن ادعى استحالته فقد جحد الضرورة وعاند المعقول. ألا ترى أن الواحد منا قد يجد في نفسه إذا قال لغيره لا تنكح ما نكح أبوك أو قال توضأ من لمس المرأة إرادة العقد والوطء وإرادة المس باليد والوطء حتى لو صرح به وقال تنكح ما نكح أبوك وطئا ولا عقدا وتوضأ من اللمس مساو وطئا صح من غير استحالة فكذا يجوز أن يحمل قوله تعالى {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} "النساء:22" على الوطء والعقد وقوله جل جلاله {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} النساء:43" و"المائدة:6" على الوطء والمس باليد من غير استحالة ويؤيده صحة استثناء كل واحد منهما عن النص مثل أن يقول أو لامستم النساء إلا أن يكون المس باليد وإلا أن يكون بالوطء وإذا صح الاستثناء صحت إرادة الجميع أيضا عند عدمه. قالوا وقد حكي عن سيبويه أنه قال يجوز أن يراد باللفظ الواحد الدعاء على الغير والخبر عن حاله مثل أن يقول لغيره له الويل فهذا دعاء عليه بالويل وخبر عن ثبوت الويل له وهذان معنيان مختلفان.
قالوا وهذا بخلاف ما إذا أريد باللفظ الواحد معنيان متضادان كما إذا أريد بالأمر الوجوب والندب أو الإباحة أو التهديد أو أريد بالمشركين الكل والبعض حيث لا يجوز مع صلاحيته لكل واحد; لأن العمل بهما مستحيل; لأن كون الفعل واجبا يأثم بتركه يضاد كونه ندبا أو مباحا لا نأثم بتركه فيستحيل الجمع بينهما. وكذا إرادة الكل يضاد إرادة البعض فأما إرادة وجوب الطهر من المس باليد فلا يضاد إرادة وجوب الطهر من الجماع فلا يستحيل الجمع فوجب القول بجواز إرادتهما.
ولمن ذهب إلى امتناعه وجهان. أحدهما أن القول بجواز إرادتهما يؤدي إلى(2/67)
استحالة
ـــــــ
المحال فيكون فاسدا. وبيان الاستحالة من وجوه أحدها ما أشار الشيخ إليه في الكتاب أن الحقيقة ما يكون مستقرا في موضوعه مستعملا فيه والمجاز ما يكون متجاوزا عن موضوعه مستعملا في غيره والشيء الواحد في حالة واحدة لا يتصور أن يكون مستقرا في موضعه ومتجاوزا عنه ضرورة أن الشيء الواحد لا يحل مكانين.
وثانيها أنه لو صح الإطلاق عليهما يكون المستعمل مريدا لما وضعت له الكلمة أولا لاستعمالها فيه غير مريد له أيضا للعدول بها عما وضعت له فيكون موضوعها مرادا أو غير مراد وهو جمع بين النقيضين. والاستحالة في الوجه الأول باعتبار اللفظ وفي الوجه الثاني باعتبار المعنى.
وثالثها أن استعمال الكلمة فيما هي مجاز فيه يوجب إضمار كاف التشبيه لما عرف واستعمالها فيما هي حقيقة فيه لا يوجب ذلك وبين الإضمار وعدمه تناف. ورابعها أن المجاز لا يعقل من الخطاب إلا بقرينة وتقييد, والحقيقة تفهم بالإطلاق من غير قرينة وتقييد ويستحيل أن يكون الخطاب الواحد جامعا بين الأمرين فيكون مطلقا ومقيدا في حالة واحدة.
ولكن الفريق الأول اعترضوا على هذه الأوجه فقالوا على الوجه الأول لا نسلم أن الحقيقة مستقرة في موضعه حقيقة والمجاز متجاوز عن موضعه كذلك بل اللفظ صوت وحرف يتلاشى كما وجد فيستحيل وصفه بالاستقرار والتجاوز ولكنه استعمل أي تلفظ به وأريد به موضوعه وغير موضوعه ولا استحالة في ذلك كما بينا.
وعلى الوجه الثاني أنا لا نسلم لزوم كونه غير مريد لما وضعت الكلمة له أو لا بل اللازم كونه مريدا لما وضعت له أولا وثانيا وهو المجموع ولا يلزم من إرادتهما معا أن لا يكون الأول مرادا.
وعلى الوجه الثالث أن الإنسان إذا قال رأيت الأسود وأراد به أسدا ورجالا شجعانا لا يمتنع أن يضمر كاف التشبيه في البعض دون البعض.
وعلى الوجه الرابع أن ما ذكرتم لا يلزمنا; لأنا إنما يجوز أن يحمل اللفظ على الحقيقة والمجاز إذا تساويا في الاستعمال لكن إذا عري عن عرف الاستعمال لم يجز أن يحمل على المجاز إلا أن يقوم الدليل عليه ثم قيام الدلالة على المجاز لا ينفي عن اللفظ إرادة الحقيقة لصحة تعلق القصد والإرادة بهما جميعا وفي بعض هذه الاعتراضات وهاء وفي الجواب عنها كلام طويل.(2/68)
اجتماعهما مرادين بلفظ واحد لما قلنا أحدهما موضوع والآخر مستعار منه فاستحال اجتماعهما كما استحال أن يكون الثوب على رجل لبسه ملكا له
ـــــــ
والوجه الثاني وهو اختيار أكثر المحققين أن إرادة المعنيين تجوز عقلا ولكن لا تجوز لغة; لأن أهل اللغة وضعوا قولهم حمار للبهيمة المخصوصة وحدها وتجوزوا به في البليد وحده ولم يستعملوه فيهما معا أصلا ألا ترى أن الإنسان إذا قال رأيت حمارا لا يفهم منه البهيمة والبليد جميعا وإذا قال رأيت حمارين لا يفهم منه أنه رأى أربعة أشخاص بهيمتين وبليدين بوجه وإذا كان كذلك كان استعماله فيهما خارجا عن لغتهم فلا تجوز
"فإن قيل" صحة إطلاق اللفظ على مفهوميه الحقيقي والمجازي إنما يتوقف على استعمالهم إذا جوزنا ذلك بطريق الحقيقة فأما إذا جوزناه بطريق المجاز كما ذهب إليه ابن الحاجب فلا يعد ما كان مبنيا على طريقة منقولة عنهم وهو إطلاق اسم الجزء على الكل
"قلنا" نعم ولكن إذا صح بناؤه على تلك الطريقة ونحن لا نسلم ذلك; لأن الكل الذي يجوز إطلاق اسم جزئه عليه لا بد من أن يكون داخلا تحت لفظ موضوع له ليثبت كليته بذلك الاعتبار ثم يطلق عليه اسم جزئه كإطلاق اسم الوجه أو الرقبة على الذات فإن جميع أجزاء البدن لما كان داخلا تحت اسم الذات أو الإنسان أو البدن أو النفس أو ما أشبهها جاز إطلاق اسم الجزء وهو الوجه أو الرقبة عليه وأنت لا تجد لفظا يدل على الهيكل المخصوص والإنسان الشجاع بالوضع ليثبت الكلية فيهما بوجه فكيف يجوز إطلاق لفظ الأسد عليهما بطريق إطلاق اسم الجزء على الكل ولا جزئية ولا كلية. ولا يقال الكلية ثابتة من حيث إن دلالة اللفظ لا يعدو عن المعنى الحقيقي والمجازي فكانا كلا من هذا الوجه.; لأنا نقول لا نسلم أن مثل هذه الكلية والجزئية من طرق المجاز فإنهم لم يعتبروه في شيء من استعمالاتهم فكانا بمنزلة وصف البخر والحمى في الأسد على أنه هو المتنازع فيه فلا بد من إقامة الدليل على أنه يصلح للمجاز. وبما ذكرنا خرج الجواب عن كلماتهم. ولا تمسك لهم فيما حكوه عن سيبويه إذ لم ينقل عنه أنه يجوز أن يستعمل فيهما معا بل معنى ما نقل عنه أنه يجوز أن يراد به الدعاء ويجوز أن يراد به الخبر ونحن نقول به. وقوله استحالة اجتماعهما أي اجتماع مفهوميهما.
"مرادين بلفظ واحد" قيد بقوله مرادين احتراز عن جواز اجتماعهما من حيث التناول الظاهري كما إذا استأمن على الأبناء والموالي. أو احترازا عن جواز اجتماعهما في احتمال اللفظ إياهما. لما قلنا إن أحدهما أي أحد المفهومين موضوع أي موضوع له.(2/69)
وعارية معا, ولهذا قلنا فيمن أوصى لمواليه وله موال أعتقهم ولمواليه موال أعتقوهم أن الثلث للذين أعتقهم وليس لموالي معتقيه شيء; لأن معتقيه مواليه حقيقة بأن أنعم عليهم وصار ذلك كأولاده لإحيائهم بالإعتاق فأما موالي الموالي
ـــــــ
"والآخر" أي المفهوم الآخر "مستعار منه" أي له "فاستحال اجتماعهما" أي اجتماع هذين المفهومين في لفظ واحد في حالة واحدة لتأديه إلى كون اللفظ الواحد حقيقة ومجازا في حالة واحدة. أو يقال لما قلنا إن أحدهما أي أحد المذكورين وهو الحقيقة موضوع. والآخر وهو المجاز مستعار منه أي مما وضع له; فاستحال اجتماعهما أي اجتماع الحقيقة والمجاز في لفظ واحد كما استحال أن يكون الثوب الواحد "على رجل لبسه" أي في حالة استعماله ملكا له وعارية في حقه أيضا. يعني الألفاظ للمعاني بمنزلة الكسوة للأشخاص فكما أن في الكسوة الواحدة يستحيل أن يجتمع صفة الملك والعارية في استعمال واحد فكذلك يستحيل أن يجتمع في اللفظ الواحد كونه حقيقة ومجازا في استعمال واحد.
ولا يقال إن أردتم باستحالة اجتماع الملك والعارية استحالته بنسبة شخصين فذلك ممنوع; لأن الثوب المستعار في حالة استعمال المستعير مملوك ومستعار فقد اجتمع الملك والعرية فيه ولكن بنسبة شخصين. وإن أردتم استحالته بنسبة شخص واحد فمسلم ولكن المذكور في الكتاب لا يطابقه; لأن المذكور فيه اجتماع الحقيقة والمجاز في لفظ واحد في حالة واحدة باعتبار معنيين مختلفين بالاعتبار معنى واحد فلا يستقيم التشبيه. لأنا نقول المراد هو التشبيه من حيث الاستعمال لا غير يعني كما أن استعمال الثوب الواحد في حالة واحدة بطريق الملك والعارية جميعا مستحيل سواء كان بنسبة شخص أو بنسبة شخصين فكذلك استعمال اللفظ في حالة واحدة بطريق الحقيقة والمجاز معا مستحيل سواء كان بنسبة معنى واحد أو بنسبة معنيين. وكان الأحسن في التشبيه أن يقال كما استحال أن يلبس الثوب الواحد لابسان كل واحد منهما لبسه بكماله أحدهما بطريق الملك والآخر بطريق العارية. إلا أن الشيخ اختار هذا الوجه من التشبيه; لأنه أظهر في الاستحالة وبين استحالة اجتماع الحقيقة والمجاز بالنسبة إلى معنيين لتعرف الاستحالة بالنسبة إلى معنى واحد بطريق الدلالة وليكون إشارة إلى رد قول من زعم من مشايخنا العراقيين أن الحقيقة والمجاز لا يجتمعان في لفظ واحد في محل واحد ولكن أن يجتمعا في لفظ واحد باعتبار محلين مختلفين حتى قالوا تثبت حرمة الجدات وبنات الأولاد بقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُم} "النساء:23". مع أن اسم الأم والبنت للجدة وبنت الولد مجاز; لأن ما ذكروا عين مذهب الخصوم. وأما حرمة الجدات وبنات(2/70)
فمواليه مجازا; لأنه لما أعتق الأولين فقد أثبت لهم مالكية الإعتاق فصار ذلك مسببا لإعتاقهم فنسبوا إليه بحكم السببية مجازا والحقيقة ثابتة فلم يثبت المجاز ألا ترى أن الاسم المشترك لا عموم له مثل الموالي لا يعم الأعلين والأسفلين
ـــــــ
الأولاد ونحوها فثابتة بالإجماع أو بعين النص باعتبار أن الأم في اللغة الأصل والبنت الفرع فصار كأنه قيل حرمت عليكم أصولكم وفروعكم فيدخل فيه الجميع. أو بدلالة النص وهي أن العمة والخالة لما حرمتا مع بعد قرابتهما وهي قرابة المجاورة فالجدات والبنات لأن يحرمن من قرب قرابتهن وهي قرابة الجزئية والبعضية كان أولى.
ولا يقال الثوب المرهون إذا استعاره الراهن ولبسه يكون ذلك بطريق الملك والعارية جميعا في زمان واحد. لأنا نسلم أن انتفاعه به بطريق العارية بل بأصل الملك الذي هو ثابت له إذ هو المطلق للانتفاع إلا أنه كان ممنوعا عنه لتعلق حق المرتهن وقد أبطل حقه بالإعارة. والدليل عليه أنه لو هلك في يده هلك غير مضمون على المرتهن ولم يسقط عن الدين شيء. وإطلاق العارية عليه مجاز; لأن تمليك المنافع ممن لا يملكها حقيقة لا يتصور إلا أنه لما كان للمرتهن أن يسترد لبقاء عقد الرهن تصور بصورة الإعارة فلذلك سمي إعارة.
قوله: "فصار ذلك" أي الإنعام عليهم بالإعتاق, "كولادهم لإحيائهم بالإعتاق" . يعني أن المولى بالإعتاق صار سببا لحياتهم كالأب صار سببا لوجود الولد. وهذا; لأن الكفر في حكم الموت قال الله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} "الأنعام:122". أي كافرا فهديناه وقال {إِِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} "النمل:80". والمعنى فيه أن الكافر لما لم ينتفع لحياته صار في حكم الأموات كما أنه إذا لم ينتفع بسمعه ونطقه وبصره وعقله صار في حكم عديم الحواس والعقل قال الله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} "البقرة:171". وإذا ثبت هذا قلنا إن الرق أثر الكفر, ولهذا لا يجوز ضرب الرق على المسلم ابتداء فالمولى بالإعتاق يصير مسببا لحياته بإزالة ما هو أثر الموت فكان إعتاقه بمنزلة الإحياء كالولادة فيكون متعلق بمنزلة الولد ومعتق المعتق بمنزلة ولد الوالد فيكون إطلاق اسم المولى على الأول حقيقة وعلى الثاني مجازا كما في الولد وولد الولد فلا يدخل الثاني تحت الوصية.
قوله: "ألا ترى متصل" بقوله ملكا وعارية وتوضيح لما ذكر من عدم جواز إرادة معنى الحقيقي والمعنى المجازي من لفظ واحد فقال الاسم المشترك لا عموم له لما مر في أول الكتاب مثل الموالي لا يعم المعتقين والمعتقين في مسألة الوصية ويبطل الوصية.(2/71)
حتى أن الوصية للموالي وللموصي موال أعتقهم وموال أعتقوه باطلة وهذه معان يحتملها الاسم احتمالا على السواء إلا أنها لما اختلف سقط العموم فالحقيقة والمجاز وهما مختلفان ودلالة الاسم عليهما متفاوتة أولى أن لا يجتمعا ولهذا قلنا في غير الخمر أنه لا يلحق بالخمر في الحد; لأن الحقيقة أريدت
ـــــــ
وفي رواية يصح الوصية ويكون بينهم على السوية النصف للمعتقين والنصف للمعتقين وبه قال الشافعي. وفي رواية ترجح الأعلى على الأسفل. وفي رواية على العكس. وهذه معان أي المعاني التي دل عليها الاسم المشترك. يحتملها الاسم احتمالا على السواء; لأن كل واحد منهما ثابت بالوضع. إلا أنها أي لكنها لما اختلف سقط العموم لما عرف أن من شرط العام تساوي الأفراد الداخلة تحته في المعنى الذي دل عليه اللفظ. فالحقيقة والمجاز أي مفهوماهما. وهما مختلفان; لأن الإنسان الشجاع مخالف الأسد. ودلالة الاسم عليهما أي على مفهومي الحقيقة والمجاز متفاوتة للاحتياج في الدلالة على أحدهما إلى القرينة دون الآخر. أولى أن لا يجتمعا لوجود ذلك المانع الموجود في المشترك وهو الاختلاف وزيادة وهي عدم التساوي في الدلالة.. واعلم أن هذا من قبيل الاستدلال بالمختلف على المختلف; لأن كل من جوز الجمع غير أصحابنا العراقيين قال بالعموم في المشترك بل استدل بجواز عموم المشترك على جواز التعميم ههنا وقال التعميم ههنا أولى من التعميم في المشترك; لأنه لا بد من تعلق بين محلي الحقيقة والمجاز ولما جاز تعميم المشترك بدون علاقة بين المعنيين كان التعميم هنا مع وجود التعلق أولى بالجواز وإذا كان كذلك لا يصلح ما ذكر الشيخ للإلزام على الخصم لكن لما تمهد وتقرر عند الشيخ انتفاء جواز التعميم في المشترك بدلائل قوية ذكرناها في أول هذا الكتاب لم يبال بالاستدلال به كما فعل محمد هكذا في غير موضع من كتبه.
قوله: "ولهذا قلنا" أي ولامتناع الجمع بين مفهومي الحقيقة والمجاز في لفظ واحد. قال الشافعي رحمه الله يجب الحد بشرب القليل من سائر الأشربة المسكرة وكثيره كما في الخمر واستدل بعض أصحابه على ذلك بعموم قوله عليه السلام.: "من شرب الخمر فاجلدوه1" . وقال سائر الأشربة يسمى خمرا باعتبار مخامرة العقل فيدخل تحت عموم هذا النص كالخمر. فقال الشيخ لا يصح إلحاق سائر الأشربة بالخمر
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في الحدود باب رقم 15 والحاكم من المستدرك 4/371.(2/72)
بذلك النص فبطل المجاز, ولهذا قلنا في قوله تعالى {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} "النساء:43" أن المس باليد غير مراد; لأن المجاز مراد بالإجماع وهو الوطء حتى حل للجنب التيمم فبطل الحقيقة, ولهذا قيل فيمن أوصى لأولاد فلان أو
ـــــــ
بهذا الطريق; لأن اسم الخمر للنيء من ماء العنب إذا غلى واشتد حقيقة ولسائر الأشربة مجاز باعتبار المخامرة وقد يثبت الحقيقة مرادة بهذا النص فيخرج المجاز من أن يكون مرادا. ولا يقال قد ألحق سائر الأشربة بالخمر عند حصول السكر في إيجاب الحد فيجوز أن يلحق بها القليل أيضا. لأنا نقول قد ثبت الحكم في الكثير بالإجماع وبقوله عليه السلام.: "والسكر من كل شراب1" . لا بطريق الإلحاق.
قوله: "ولهذا" أي وللامتناع المذكور قلنا في قوله تعالى. {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ}, "أن المس باليد غير مراد" حتى لا يكون مس المرأة حدثا خلافا لما يقوله الشافعي وعامة أهل الحديث فإن المنقول عن الشافعي أنه قال أحمل آية اللمس على المس والوطء جميعا كذا ذكره الغزالي وهكذا رأيت في بعض كتب أصحاب الحديث أيضا; لأن المجاز وهو الوطء أريد منه بالإجماع حتى حل للجنب التيمم بهذا النص ولا ذكر له في كتاب الله تعالى إلا ههنا فبطل أن يكون الحقيقة مرادة. ولهذا من حمل الآية على اللمس باليد لم يجوز التيمم للجنب مثل ابن مسعود رضي الله عنه ومن حملها على الوطء جوزه له مثل علي وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة
"فإن قيل" قد قرئت الآية بقراءتين لامستم ولمستم من الملامسة واللمس فيحمل أحدهما على الوطء والأخرى على المس باليد كما حملتم القراءتين في قوله تعالى. {حَتَّى يَطْهُرْنَ} "البقرة.:222" بالتشديد والتخفيف وقوله {وَأَرْجُلِكُمْ} "البقرة:222" بالنصب والجر على الحالين
"قلنا" لا نزاع فيه وإنما النزاع في حمل كل واحدة منهما على المعنيين كما هو المنقول عن الخصوم. وإنما يجوز ما ذكرتم إذا لم يمنع عنه مانع وقد وجد ههنا فإنه روي:"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل بعض نسائه ثم يخرج إلى الصلاة2". ولأن الصحابة والسلف رضي الله عنهم اختلفوا في تأويل الآية على قولين فبعضهم قالوا المراد منها المس باليد ولم يجوزوا التيمم للجنب وبعضهم المراد هو الجماع وجوزوا التيمم للجنب ولم يجعلوا المس
ـــــــ
1 أخرجه النسائي في الأشربة باب رقم 48
2 أخرجه أبو داود في الطهارة حديث رقم 179 والترمذي في الطهارة حديث رقم 86 وابن ماجة في الطهارة حديث رقم 502 والإمام أحمد في المسند 6/210(2/73)
لأبنائه وله بنون وبنو بنين جميعا أن الوصية لأبنائه دون بني بنيه لما قلنا..فإن قيل قد قالوا فيمن حلف أن لا يضع قدمه في دار فلان أنه يحنث إذا دخلها حافيا أو متنعلا وفيمن قال عبدي حر يوم يقدم فلان أنه إن قدم ليلا أو نهارا
ـــــــ
حدثا فالقول بجواز التيمم للجنب وكون المس حدثا أيضا عملا بالقراءتين كان خارجا عن أقوالهم وإجماعهم فيكون مردودا كذا ذكر في شرح التأويلات.
قوله: "ولهذا" أي ولامتناع الجمع قلنا فيمن أوصى لأولاد فلان. ذكر في المبسوط ولو أوصى بثلثه لبني فلان ولفلان ذلك أولاد فالثلث للذكور من ولده دون الإناث في قول أبي حنيفة الآخر وفي قوله الأول وهو قولهما إذا اختلط الذكور بالإناث فالثلث بينهم وإن انفرد الإناث فلا شيء لهن بالاتفاق. وإن كان له أولاد وأولاد ابن فعند أبي حنيفة رحمه الله الوصية لبنيه لصلبه دون بني ابنه; لأن الاسم لأولاد الصلب حقيقة ولبني الابن مجاز بدليل أنه يستقيم نفيه عنهم والمجاز لا يزاحم الحقيقة. وفي قولهما الكل سواء; لأن عموم المجاز يتناولهم فيطلق البنين في العرف على الفريقين وهو نظير مذهبهم في مسألة الحنطة والشرب من الفرات. ولو أوصى لولد فلان دخل فيه أولاده لصلبه الذكور والإناث في حالتي الاختلاط والانفراد; لأن اسم الولد للجنس. وإن كان له ولد لصلبه وأولاد ابن فالوصية لولده لصلبه دون أولاد ابنه. ذكر الخلاف في المسألة الأولى ولم يذكر في الثانية. فإن كانت على الخلاف كما يشير لفظ شمس الأئمة في أصول الفقه حيث قال قال أبو حنيفة فيمن أوصى لبني فلان أو لأولاد فلان فلا حاجة إلى الفرق. ولو كانت على الوفاق فالفرق لهما أن لفظ بني فلان قد استعمل في أولاد الصلب وأولاد البنين استعمالا شائعا فأما لفظ الولد فلم يستعمل في أولاد البنين استعمال الأول. فتبين أن ما ذكر الشيخ مذهب أبي حنيفة دون مذهبهما.
قوله: "فإن قيل" إلى آخره لما فرغ من تمهيد هذه القاعدة وإقامة الدليل عليهما شرع في بيان ما يرد نقضا على هذا الأصل من المسائل والجواب عنها وهي عدة مسائل.
إحداها مسألة وضع القدم فإنه إذا حلف لا يضع قدمه في دار فلان فدخلها حافيا أو متنعلا أو راكبا حنث وفيه جمع بين الحقيقة والمجاز; لأن الدخول حافيا حقيقة هذا اللفظ وغيره مجاز. وهذا إذا لم يكن له نية فإن نوى حين حلف أن لا يضع قدمه فيها ماشيا فدخلها راكبا لم يحنث; لأنه نوى حقيقة كلامه وهذه حقيقة مستعملة غير مهجورة كذا في المبسوط. وذكر في المحيط إذا عنى به حقيقة وضع القدم لا يحنث بالدخول راكبا; لأنه نوى حقيقة كلامه فيصدق ديانة وقضاء. والثانية قوله عبدي حر يوم يقدم فلان من غير نية فقدم فلان ليلا ونهارا يحنث وفيه جمع بين الحقيقة والمجاز; لأن اليوم للنهار(2/74)
عتق عبده وفي السير الكبير قال في حربي استأمن على نفسه وأبنائه أنه يدخل فيه البنون وبنو البنين وفيمن حلف لا يسكن دار فلان أنه يقع على الملك والإجارة و العارية جميعا قيل له وضع القدم مجاز عن الدخول لأنه موجبه والدخول مطلق فوجب العمل بإطلاق المجاز وعمومه.وكذلك اليوم اسم للوقت
ـــــــ
حقيقة ولليل مجاز. فإن نوى بياض النهار يصدق ديانة وقضاء وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله أنه يصدق ديانة لا قضاء; لأن اليوم متى ذكر مقرونا بما لا يمتد صار عبارة عن الوقت بعرف الاستعمال فكان لبياض النهار بمنزلة المجاز فيكون خلاف الظاهر فلا يصدقه القاضي. وجه الظاهر أنه اسم لبياض النهار حقيقة وبمجرد الاستعمال لا يصير الحقيقة كالمجاز كما أن قوله لا يضع قدمه في كذا ينصرف إلى الدخول بعرف الاستعمال ويصدق إذا نوى حقيقة وضع القدم في القضاء, كذا ذكر الإمام خواهر زاده رحمه الله.
والثالثة مسألة السير وهي ظاهرة.
والرابعة ما إذا حلف لا يدخل دار فلان ولم يسم دارا بعينها ولم يكن له نية يقع على الدار المملوكة والمستأجرة والعارية والإضافة إلى فلان بالملك حقيقة وبغيره مجاز بدليل صحة النفي في غير الملك وعدم صحته في الملك فيكون فيه جمع بينهما. وعند الشافعي إذا قال لا أدخل مسكن فلان فكذا الجواب. وإن قال بيت فلان أو دار فلان لا يحنث إلا في الملك; لأن سكنى فلان حقيقة موجودة في المسكن المستأجر والمستعار بخلاف البيت والدار.
قوله: "قيل له وضع القدم مجاز عن الدخول" أي عبارة عنه. ضمن لفظ المجاز معنى العبارة فلذلك ذكر بصلة عن أو كلمة عن بمعنى في; لأن حروف الصلات تنوب بعضها عن بعض يعني هو مجاز في هذا المعنى وهو الدخول. لأنه موجبه أي الدخول موجب وضع القدمين وهو سببه فاستعير لحكمه. وإنما حملناه على الدخول; لأن مقصود الحالف منع نفسه عن الدخول لا عن مجرد وضع القدم فيصير باعتبار مقصوده كأنه حلف لا يدخل والدخول مطلق لعدم تقيده بالركوب والتنعل والحفاء فيحنث في الكل باعتبار الدخول الذي هو المقصود لا باعتبار كونه راكبا أو حافيا كما في إعتاق الرقبة يخرج عن العهدة بمطلق الرقبة لا بكونها كبيرة أو صغيرة أو كافرة أو مؤمنة. ألا ترى أنه لو وضع قدميه ولم يدخل لا يحنث في يمينه كذا في فتاوى قاضي خان1; لأنه لما صار مجازا
ـــــــ
1 هو الحسن بن منصور بن محمد بن عبدالعزيز الأوزجندي والفرغاني فخر الدين أبو المفاخر المعروف بقاضي خان توفي سنة 592 أنظر الفوئد البهية 64 – 65.(2/75)
ولبياض النهار ودلالة تعين أحد الوجهين أن ينظر إلى ما دخل عليه فإن كان فعلا يمتد كان النهار أولى به; لأنه يصلح معيارا له وإذا كان لا يمتد كان الظرف أولى
ـــــــ
عن الدخول لا يعتبر حقيقته بعد قوله: "بإطلاق المجاز وعمومه بمنزلة الترادف" وإنما جمع الشيخ بينهما; لأن القاضي الإمام ذكر لفظة الإطلاق فقال يحنث بمطلق الدخول الذي هو مجازه وذكر غيره لفظة العموم فقال يحنث بعموم المجاز فجمع الشيخ بينهما. والمطلق يشابه العام من حيث الشيوع حتى ظن أنه عام.
قوله: "وكذلك اليوم" إلى آخره. اعلم أن لفظ اليوم يطلق على بياض النهار بطريق الحقيقة اتفاقا وعلى مطلق الوقت بطريق الحقيقة عند البعض فيصير مشتركا وبطريق المجاز عند الأكثر وهو الصحيح; لأن حمل الكلام على المجاز أولى من حمله على الاشتراك; لأن المجاز في الكلام أكثر فيحمل على الأغلب. ولأنه لا يؤدي إلى إبهام المراد; لأن اللفظ إن خلا عن قرينة فالحقيقة متعينة وإن لم يخل عنها فالذي يدل عليه القرينة وهو المجاز متعين بخلاف الاشتراك فإنه يؤدي إلى الاختلال في الكلام بعدم إفهام المراد. ثم لا شك في أنه ظرف على كلا التقديرين عند الفريقين فيرجح أحد محتمليه بمظروفه فإن كان مظروفه مما يمتد وهو ما يصح فيه ضرب المدة أي يصح تقديره بمدة كاللبس والركوب والمساكنة ونحوها فإنه يصح أن يقدر بزمان يقال لبست هذا الثوب يوما وركبت هذه الدابة يوما وساكنته في دار واحدة شهرا يحمل على بياض النهار; لأنه يصح مقدارا له فكان الحمل عليه.
وإن كان مظروفه مما لا يمتد كالخروج والدخول والقدوم إذ لا يصح تقدير هذه الأفعال بزمان يحمل على مطلق الوقت اعتبارا للتناسب. ثم في قوله أنت حر أو عبدي حر يوم يقدم فلان أو أنت طالق أو امرأته طالق يوم يقدم فلان اليوم ظرف للتحرير أو الطلاق; لأنه انتصب به إذ التقدير حررتك أو طلقتك يوم كذا وإنهما مما لا يمتد فيحمل اليوم على مطلق الوقت فيحنث إذا قدم ليلا أو نهارا بإطلاق المجاز كما في المسألة الأولى. وفي قوله أمرك بيدك يوم يقدم فلان أو اختاري نفسك يوم يقدم فلان التفويض والتخيير مما يمتد فيحمل اليوم على بياض النهار حتى لو قدم فلان ليلا لا يصير الأمر بيدها ولا يثبت لها الخيار.. واعلم أيضا أنه لا اعتبار لما أضيف إليه اليوم وهو القدوم في هذه المسائل مثلا في ترجيح أحد محتمليه به; لأن إضافة اليوم إليه لتعريفه وتمييزه من الأيام والأوقات المجهولة كقوله أنت طالق يوم الجمعة أو أنت حر يوم الخميس لا للظرفية, ولهذا لم يؤثر يقدم في انتصاب يوم باتفاق أهل اللغة إذ المضاف إليه لا يؤثر في المضاف بحال بل هو منصوب بمظروفه لما ذكرنا أن تقديره حررتك في يوم قدوم فلان أو فوضت أمرك إليك(2/76)
وهو الوقت ثم العمل بعموم الوقت واجب فلذلك دخل الليل والنهار بخلاف قوله ليلة يقدم فلان فإنه لا يتناول النهار; لأنه اسم للسواد الخالص لا يحتمل
ـــــــ
في يوم قدومه فكان اعتباره بمظروفه الذي يؤثر فيه أولى من اعتباره بما لا أثر له فيه فعرفنا أنه لا اعتبار للمضاف إليه في ترجيح أحد محتمليه. والدليل عليه ما ذكره شمس الأئمة رحمه الله في شرح كتاب الطلاق ولو قال امرأته طالق يوم أدخل دار فلان فدخلها ليلا أو نهارا طلقت; لأن اليوم إذا قرن بما لا يكون ممتدا كان بمعنى الوقت كالطلاق وإذا قرن بما يكون ممتدا كان بمعنى بياض النهار كقوله أمرك بيدك يوم يقدم فلان. وذكر في باب الخيار منه وإن قال اختاري يوم يقدم فلان فقدم ليلا فلا خيار لها ولو قدم بالنهار فلها الخيار في ذلك اليوم إلى غروب الشمس; لأن الخيار مما يتوقف فذكر اليوم فيه للتوقيت فيتناول بياض النهار خاصة بخلاف قوله أنت طالق يوم يقدم فلان; لأن الطلاق لا يحتمل التوقيت فذكر اليوم فيه عبارة عن الوقت وهكذا ذكر في كتاب الصوم أيضا. وذكر في الهداية في فصل إضافة الطلاق إلى الزمان في قول الرجل لامرأة يوم أتزوجك فأنت طالق فتزوجها ليلا طلقت أن اليوم إذا قرن بفعل لا يمتد يحمل على مطلق الوقت والطلاق من هذا القبيل. ففي هذه المسائل اعتبر الطلاق والأمر باليد والخيار الذي هو مظروف دون القدوم الذي هو مضاف إليه فثبت أن المعتبر ما ذكرنا
"فإن قيل": قد ذكر الشيخ المصنف رحمه الله في شرح الجامع الصغير في هذه المسألة أن التزوج مما لا يمتد فحمل فيه على الوقت المظروف فاعتبر التزوج الذي هو مضاف إليه ولم يعتبر الطلاق الذي هو مظروف. وكذا اعتبر صاحب الهداية المضاف إليه دون المظروف في كتاب الأيمان في قوله يوم أكلم فلانا فامرأته طالق أنه يقع على الليل والنهار حيث قال; لأن الكلام مما لا يمتد ولم يقل لأن الطلاق مما لا يمتد وهذا ذكر في عامة شروح الجامع الصغير أيضا في هذه المسألة. وكذا عامة المشايخ رحمهم الله اعتبروا المضاف إليه في هذا الباب دون المظروف. وذلك; لأن في اعتبار المضاف إليه اعتبار المظروف أيضا; لأن الظرف إذا أضيف إلى فعل لا بد أن يكون ذلك الفعل مظروفا للمضاف ويكون المضاف ظرفا له لا محالة لوقوع ذلك الفعل فيه فيكون هذا أولى بالاعتبار مما ذكرت وفيه موافقة العامة واحتراز عن نسبتهم إلى الخطأ
"قلنا": بعد ما ظفر بحقيقة المعنى مؤكدة بما ذكرنا من الدليل والشواهد يعض عليها بالناجذ ولا يصار إلى التقليد الصرف ثم يحمل ما نقل عن بعض المشايخ على وجه صحيح وذلك أن الفعل المظروف والمضاف إليه إن كان كل واحد منهما ممتدا كقولك أمرك بيدك يوم يركب فلان أو يسافر فلان. أو غير ممتد كقوله أنت طالق يوم يقدم فلان(2/77)
غيره مثل النهار اسم للبياض الخالص لا يحتمل غيره.وأما إضافة الدار فإنما يراد به نسبة السكنى إليه فيستعار الدار للسكنى فوجب العمل بعموم نسبة السكنى
ـــــــ
أنت حر يوم أدخل دار فلان لا يختلف الجواب إن اعتبر المظروف والمضاف إليه. وإن كان المظروف ممتدا والمضاف إليه غير ممتد كقوله أمرك بيدك يوم يقدم فلان أو على العكس كقوله أنت حر يوم يركب فلان أو يسافر فلان فحينئذ يختلف الجواب باعتبار المظروف والمضاف إليه فاعتبار المظروف يقتضي حمل اليوم في المسألة الأولى على بياض النهار وفي الثانية على مطلق الوقت فلا يصير الأمر بيدها في الأولى إن قدم فلان ليلا ويعتق العبد في الثانية إن سافر ليلا أو نهارا واعتبار المضاف إليه يقتضي حمله في الأولى على مطلق الوقت والثانية على بياض النهار فيصير الأمر بيدها إن قدم فلان ليلا أو نهارا ولا يعتق العبد إن سافر أو ركب ليلا. فبعض المشايخ تسامحوا في العبارة فيما لا يختلف الجواب واعتبروا المضاف إليه نظرا إلى حصول المقصود وهو استقامة الجواب وبعضهم سلكوا طريقة التحقيق ولم يلتفتوا إلى المضاف إليه أصلا كما ذكرنا.
فأما فيما يختلف الجواب فيه بالاعتبارين فالكل سلكوا طريق التحقيق واعتبروا المظروف ولم يلتفتوا إلى المضاف إليه أصلا. ففي مسألة الأمر باليد التي هي مسألة الجامع الصغير اعتبر الكل الأمر باليد الذي هو مظروف دون القدوم الذي هو المضاف إليه وكذا في مسألة الخيار التي هي مسألة المبسوط. فأما قوله يوم أكلم فلانا فامرأته طالق فإن كان الكلام مما يمتد وهو الظاهر; لأنه يصح ضرب المدة فيه كاللبس والركوب فهو يؤيد ما ذكرنا ويكون من القسم الذي يختلف الجواب فيه بالاعتبارين فيعتبر المظروف الذي هو غير ممتد دون المضاف إليه الذي هو ممتد.
وإن كان غير ممتد كما قاله بعض المشايخ وتابعهم فيه صاحب الهداية مع أن دليل عدم امتداده غير متضح فهو من القسم الذي لا يختلف الجواب فيه بالاعتبارين فيندرج في الجواب الذي ذكرنا وأما قوله في اعتبار المضاف إليه اعتبار المظروف أيضا ففاسد; لأن المظروفية التي لزمت من الإضافة ليست بمقصودة في الكلام فلذا لا تؤثر في اللفظ أصلا ولو اعتبرت لا تكون مطردة فلا يصح اعتبارها فأما المظروفية التي هي مقصودة في الكلام فهي التي أثرت في اللفظ ولو اعتبرت يكون مطردة في جميع المسائل فيجب اعتبارها إذ ترك ما هو مقصود واعتبار ما ليس بمقصود قلب المعقول وخلاف الأصول
قال العبد الضعيف جامع هذه المتفرقات هذا ما يخيل لي من الوجه الصواب في هذه المسألة وتراءى لي أنه هو الحق ولعل نظر غيري أدق وما قاله أصوب وأحق وهو أعلم بالحقيقة والصواب.(2/78)
وفي نسبة الملك نسبة السكنى موجودة لا محالة فيتناوله عموم المجاز.وأما مسألة السير ففيها رواية أخرى بعد ذلك الباب أنه لا يتناولهم ووجه الرواية
ـــــــ
قوله: "وأما إضافة الدار فإنما يراد به" أي بالمذكور أو بقوله دار فلان نسبة السكنى; لأن الدار لا تعادى ولا تهجر لذاتها عادة وإنما تهجر لبغض صاحبها فكان المقصود من هذه الإضافة نسبة السكنى لا إضافة الملك. فيستعار الدار للسكنى أي لموضع السكنى وصار كأنه قيل لا أدخل موضع سكنى فلان أو دارا مسكونة لفلان فيدخل في عمومه الملك والإجارة والعارية فيحنث في الدار المملوكة بعموم المجاز لا بالملك حتى لو كان الساكن فيها غير فلان لم يحنث وإن كانت مملوكة لفلان كذا ذكر شمس الأئمة في أصول الفقه. وذكر في فتاوى القاضي الإمام فخر الدين والفتاوى الظهيرية ولو حلف لا يدخل دار فلان ولم ينو شيئا فدخل دارا يسكنها فلان بإجارة أو بإعارة يحنث في يمينه وإن دخل دارا مملوكة لفلان وفلان لا يسكنها يحنث أيضا. فعلى هذه الرواية لا يندفع السؤال لبقاء الجمع بين الحقيقة والمجاز إلا أن يجعل قوله دار فلان عبارة عما يضاف إليه مطلقا فيدخل في عمومه الدار المضافة إليه بالسكنى وبالملك جميعا كما أشير إليه في المبسوط فقيل إذا حلف لا يسكن دار فلان ولم يسم دارا بعينها ولم ينوها فسكن دارا كانت مملوكة لفلان من وقت اليمين إلى وقت السكنى حنث وإن سكن دارا له قد باعها بعد يمينه لم يحنث; لأنه جعل شرط الحنث وجود السكنى في دار مضافة إلى فلان ولم يوجد.
قوله: "وأما مسألة السير" الكبير إذا قال الكفار أمنونا على أبنائنا ولهم أبناء وأبناء أبناء فالأمان على الفريقين جميعا استحسانا وكان القياس أن يكون الأمان للأبناء خاصة; لأن الاسم حقيقة للأبناء مجاز في حق أبناء الأبناء فلا يجمع بينهما, ولهذا جعل أبو حنيفة رحمه الله الوصية للأبناء خاصة بهذا اللفظ. ولكنا استحسنا وقلنا المقصود من الأمان حقن الدم أي صيانته وحفظه يقال حقنت دمه أي منعته أن يسفك وهو مبني على التوسع; لأن الأصل في الدماء أن يكون محقونة لقوله عليه السلام.: "الآدمي بنيان الرب" . ولهذا لم يجز القتل قبل الدعوة وبعد قبول الجزية فيثبت بأدنى شبهة واسم الأبناء من حيث الظاهر يتناول الفروع فإنهم ينسبون إليه بالبنوة يقال بنو هاشم وبنو تميم وقال الله تعالى. {يَا بَنِي آدَمَ} "الأعراف "26". إلا أن الحقيقة تقدمت على المجاز في الإرادة فبقي مجرد صورة الاسم شبهة فيثبت الأمان به; لأن الشبهة كافية لحقن الدم كما يثبت الأمان بمجرد الإشارة إذا دعا بها الكافر إلى نفسه بأن أشار أن انزل إن كنت رجلا أو إن كنت تريد القتال أو تعال حتى تبصر ما أفعل بك فظنه الكافر أمانا لصورة المسالمة وإن لم يكن ذلك(2/79)
الأولى أن الأمان لحقن الدم فبني على الشبهات وهذا الاسم بظاهره يتناولهم لكن بطل العمل به لتقدم الحقيقة عليه فبقي ظاهر الاسم شبهة.
ـــــــ
حقيقة. والدليل عليه حديث عمر رضي الله عنه. "أيما رجل من المسلمين أشار إلى رجل من العدو أن تعال فإنك إن جئت قتلتك فأتاه فهو آمن" يعني إذا لم يفهم قوله إن جئت قتلتك أو لم يسمع.
وما روي أن الهرمزان لما أتى به إلى عمر رضي الله عنه قال له تكلم فقال أتكلم كلام حي أم ميت فقال عمر كلام حي فقال كنا نحن وأنتم في الجاهلية لم يكن لنا ولا لكم دين لكنا نعدكم معشر العرب بمنزلة الكلاب فإذا عزكم الله بالدين وبعث رسوله فيكم لم نطقكم فقال عمر رضي الله عنه أتقول هذا وأنت أسير في أيدينا اقتلوه فقال أفيما علمكم نبيكم أن تؤمنوا أسيرا ثم تقتلوه فقال متى أمنتك فقال قلت لي تكلم كلام حي والخائف على نفسه لا يكون حيا فقال عمر رضي الله عنه قاتله الله أخذ الأمان ولم أفطن به فثبت أن مبنى الأمان على التوسع. وهذا بخلاف الوصية; لأنها لا يستحق بالصورة والشبهة. ولأن في إثبات المزاحمة في الوصية بين الحقيقة والمجاز إدخال النقص في نصيب الأبناء وليس ذلك في الأمان. ولأن طلب الأمان بهذه اللفظة لإظهار الشفقة على من ينسب إليه بالبنوة وربما يكون ذلك أظهر منه في حق الأبناء على ما قيل: النافلة أحب إلى المرء من الولد
"فإن قيل": فهلا اعتبرتم هذه الشبهة في إثبات الأمان للأجداد والجدات في الاستيمان على الآباء والأمهات فإنهم إذا قالوا أمنونا على آبائنا وأمهاتنا لا يدخل فيه الأجداد أو الجدات بحال مع أن الاسم يتناولهم صورة
"قلنا": لأن الحقيقة إذا صارت مرادة فاعتبار الصورة لثبوت الحكم في محل آخر يكون بطريق التبعية لا محالة وبنو البنين يليق صفة التبعية بحالهم فأما الأجداد والجدات فلا يكون اتباعا للآباء والأمهات وهم الأصول فلهذا ترك اعتبار الصورة هناك في إثبات الأمان لهم كذا أجاب شمس الأئمة في أصول الفقه. ولا يقال الجد أصل الأب خلقة ولكن تبع له في إطلاق اسم الأب عليه; لأن إطلاق هذا الاسم بطريق الاستعارة عن الأب كإطلاق اسم الابن على ابن الابن فيليق إثبات الأمان في حقهم بطريق التبعية أيضا ألا ترى أن استحقاق الميراث للجد وانتقال نصيب الأب إليه عند عدمه بهذا الطريق ولا يمنع عنه كونه أصلا للأب خلقة فلأن يثبت له الأمان الذي يثبت بأدنى شبهة ولا يمنع عنه كونه أصلا خلقة كان أولى. لأنا نقول إثبات الأمان بظاهر الاسم بعد إرادة الحقيقة منه إثبات له بدليل ضعيف فيعمل به إذا لم يمنع منه معارض كما في جانب الأبناء فإن ابن الابن تبع(2/80)
فإن قيل قد قال أبو يوسف ومحمد فيمن حلف لا يأكل من هذه الحنطة أنه يحنث إن أكل من عينها أو ما يتخذ منها وفيه جمع بينهما وكذلك قال
ـــــــ
للابن من كل وجه فأما إذا وجد معارض فلا كما في جانب الآباء فإن جهة كون الجد تبعا في الاسم إن كانت توجب ثبوت الحكم في حقه فجهة كونه أصلا من حيث الخلفة مانعة عنه فيسقط العمل به عند وجود المعارض; لأنه ضعيف في نفسه فأما باب الميراث فمبني على القرب ولا شك أن الأب أقرب إلى الميت من جده فلا جرم يستحق الميراث بعد الأب. وذكر شمس الأئمة في شرح السير الكبير أن الأجداد والجدات أصول للآباء والأمهات وأنهم مختصون باسم فلا يتناولهم اسم الآباء والأمهات على وجه الاتباع لفروعهم كما لا يتناول العم مع أنه سمي أبا في قوله تعالى. {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} "البقرة:133" وإسماعيل كان عما ليعقوب عليهم السلام وكما يتناول الخالة مع أنها سميت أما في قوله تعالى. {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} "يوسف:100". أي أباه وخالته وفي قوله عليه السلام: "الخالة أم1" . حتى لم يقل أحد إنهما يدخلان في الأمان للآباء والأمهات لما ذكرنا أنهما ليسا من الأتباع وإن كل واحد منهما تختص باسم آخر به ينسب إليه فكذلك الجد والجدة. ولهذا لو لم يكن لهم آباء وأمهات ولهم أجداد وجدات لا يدخلون أيضا بخلاف بني الأبناء فإنهم تفرعوا من الأبناء فكانوا تبعا لهم وإنهم ينسبون إليه باسم البنوة ولكن بواسطة الابن فكان الأمان بهذا الاسم متناولا لهم. وهذا بيان لسان العرب فإن كان قوم في لسانهم الذي يتكلمون به أن الجد أب كما أن ابن الابن ابن فهو داخل في الأمان وهكذا في لسان الفارسية فإنه يقال للجد بدر بدر كما يقال لابن الابن بسر بسر. هذا حاصل ما ذكر شمس الأئمة في شرح السير الكبير وقال هذا الفصل مشكل
"فإن قيل": إذا اشترى المكاتب أباه يصير مكاتبا عليه تبعا فليثبت الأمان ههنا أيضا لشبهة الاسم تبعا وفيه حقن الدم.
"قلنا": لو لم يحكم هناك بكتابته تبعا يلزم أن يكون الأب مملوكا لابنه وهو شنيع جدا أو لا طريق له إلى الاستخلاص عن ذلك فأما ههنا فقد أمكنه إحراز نفسه وماله بالاستيمان أو بالإسلام فلا حاجة إلى ارتكاب جعل المتبوع تبعا. ولأن الكتابة من شعب الحر لثبوت حرية اليد فيها وإفضائها إلى حرية الرقبة فكما تثبت له الحرية إذا اشتراه ابنه
ـــــــ
1 أخرجه مسلم حديث برقم 1783 وأبو داود في الطلاق حديث رقم 2278 والترمذي في البر والصلة حديث رقم 1904.(2/81)
-------------------------------------------------
ـــــــ
الحر فكذلك نثبت له صفة الكتابة إذا اشتراه ابنه المكاتب إثباتا للحكم بقدر دليله. والأوجه أن يقال ليس ما ذكرتم من قبيل ما نحن فيه; لأن كلامنا في أن لفظ الأب هل يتناول الجد ظاهرا ليثبت له الأمان ابتداء بصورة هذا الاسم لا أن يثبت له الأمان من جهة الابن بطريق السراية. والكتابة والحرية يثبتان له من جهة الابن بأمر حكمي لا باعتبار لفظ يدل عليهما فلم يكن من قبيل ما نحن فيه. وهذا الاسم أي اسم الأبناء يتناولهم يعني بني الأبناء. لكن بطل العمل به أي بذلك التناول يعني امتنع التناول لتقدم الحقيقة.
قوله: "فإن قيل" هذه ثلاث مسائل أخرى ترد نقضا على الأصل المذكور أيضا وإنما أفردها عن المسائل المتقدمة لكونها مختلفة بين أصحابنا بخلاف المسائل المتقدمة. ثم من الناس من زعم أن الجمع بين الحقيقة والمجاز جائز عندهما واستدلوا بهاتين المسألتين المذكورتين أولا وأبى القاضي الإمام وشمس الأئمة والشيخ المصنف وأخوه صدر الإسلام ذلك. قال صدر الإسلام إنهما أجل قدرا من أن يشتبه عليهما هذا. أما بيان المسألة الأولى فنقول إذا حلف لا يأكل من هذه الحنطة فإن أراد أن لا يأكلها حبا كما هي فيمينه على ما نوى حتى لو أكل من خبزها أو سويقها لا يحنث بالإجماع أما عند أبي حنيفة فظاهر وكذا عندهما; لأنه إذا نوى العين فقد نوى الحقيقة فيصح نيته كما لو حلف لا يأكل من هذا الدقيق ونوى أكل عينه صحت نيته عندهم وإن كانت يمينه بغير نية منصرفة إلى الخبز. وإن نوى أن لا يأكل ما يتخذ منها صحت نيته أيضا حتى لا يحنث بأكل عينها; لأنه نوى محتمل كلامه. وإن لم يكن له نية فعلى قوله تقع على العين لا غير حتى لا يحنث بالخبز وعلى قولهما يحنث بالخبز رواية واحدة وهل يحنث بأكل عين الحنطة. أشار محمد في الأيمان إلى أنه لا يحنث فإنه قال يمينه على ما يصنع منها وهذا إشارة إلى أنه لو أكل عينها لا يحنث. وذكر في الجامع الصغير وقال أبو يوسف ومحمد يحنث إن أكلها خبزا أيضا وهذا يدل على أنه يحنث بتناول عين الحنطة عندهما وإنما يرد السؤال على هذا الوجه; لأن أكل العين حقيقة هذا الكلام وأكل الخبز مجازه فيحصل الجمع بين الحقيقة والمجاز. وهذا الوجه الصحيح عند الشيخ وشمس الأئمة والقاضي الإمام فخر الدين وعامة المشايخ. وذكر الشيخ الإمام المعروف بخواهر زاده أن الصحيح رواية كتاب الأيمان; لأن اسم الحنطة للعين حقيقة وللخبز مجاز أنهما لا يجتمعان في لفظ واحد ألا ترى أنه لو نوى أكل العين لا يحنث بالخبز والسويق لما قلنا فكذا إذا لم ينو وانصرفت يمينه إلى الخبز لا يبقى الحقيقة مرادة. وما ذكر في الجامع مؤول فمعنى قوله وإن قضمها حنث أي إذا نوى العين وإن أكل من خبزها يحنث أيضا على قولهما إذا لم يكن له نية.(2/82)
فيمن حلف لا يشرب من الفرات أنه يحنث إن كرع واغترف وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله فيمن قال لله علي أن أصوم رجب أنه إن نوى اليمين كان نذرا ويمينا وهو جمع بينهما قيل له أما أبو يوسف ومحمد رحمهما الله فقد
ـــــــ
وأما المسألة الثانية فهي ما إذا حلف لا يشرب من الفرات فاليمين يقع على الكرع الذي هو حقيقة كلامه عند أبي حنيفة رحمه الله وذلك بأن يضع فاه عليه ويشرب منه بغير واسطة ولو نوى الاغتراف لا يصدق قضاء عنده; لأنه نوى المجاز وفيه تخفيف من وجه كذا ذكر القاضي الإمام المعروف بخان. وعندهما لو اغترف منه بيده أو إناء فشرب يحنث. ولو شرب كرعا قيل لا يحنث على قولهما إذا لم ينو ذلك كي لا يصير جامعا بين الحقيقة والمجاز وقيل يحنث وهو الصحيح ويلزم منه الجمع بين الحقيقة والمجاز. وأما المسألة الثالثة فمسألة النذر وهي قوله لله علي أن أصوم رجب وهذه المسألة على ستة أوجه. إن لم ينو شيئا.
أو نوى النذر ولم يخطر بباله اليمين.
أو نوى النذر ونوى أن لا يكون يمينا يكون نذرا بالاتفاق.
ولو نوى اليمين ونوى أن لا يكون نذرا يكون يمينا بالاتفاق.
ولو نواهما أو نوى اليمين ولم يخطر بباله النذر كان نذرا في الأول ويمينا في الثاني عند أبي يوسف وكان نذرا ويمينا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهم الله حتى يلزمه القضاء والكفارة جميعا بالفوات في الوجهين وفيه جمع بين الحقيقة والمجاز; لأن النذر مع اليمين مختلفان بلا شبهة; لأن موجب النذر الوفاء بالملتزم والقضاء عند الفوت لا الكفارة وموجب المحافظة على البر والكفارة عند الفوت لا القضاء واختلاف أحكامهما يدل على اختلاف ذاتيهما. ثم هذا الكلام للنذر حقيقة لعدم توقف ثبوته به على قرينة كما إذا لم ينو شيئا ولليمين مجاز لتوقف ثبوتها به على قرينة وهي النية والتوقف على القرينة من أمارات المجاز وإذا ثبت هذا لا يجوز الجمع بينهما لما مر من الدلائل فيترجح الحقيقة على المجاز في الوجه الأول وتسقط الحقيقة بتعين المجاز مرادا في الوجه الثاني. ورجب منصرف إذ ليس فيه إلا العلمية وفي الحديث: "إن رجبا شهر عظيم" . إلا أن الشيخ جعله ههنا غير منصرف; لأن المراد منه في هذه اليمين هو الرجب الذي يتعقب اليمين لا رجب منهم فكان معدولا عن الرجب المعروف بالأم فلا ينصرف لاجتماع العدل والعلمية كما في سحر إذا أردت سحر يومك على ما عرف.(2/83)
عملا بإطلاق المجاز وعمومه; لأن الحنطة في العادة اسم لما في باطنها ومن أكلها أو ما يتخذ منها فقد أكل ما فيها والشرب من الفرات مجاز للشرب من الماء الذي يجاور الفرات وينسب إليه وهذه النسبة لا تنقطع بالأواني لما ذكرنا
ـــــــ
قوله: "أما أبو يوسف ومحمد فقد عملا بإطلاق المجاز وعمومه" إذا كان للفظ حقيقة مستعملة ومجاز متعارف فالعمل بالمجاز أولى عندهما وستعرف السر فيه. ثم للمجاز ههنا وجهان. أحدهما أن يجعل أكل الحنطة عبارة عن أكل ما يتخذ منها; لأن الحنطة إذا ذكرت مقرونة بالأكل يراد بها في عرف الاستعمال ما يتخذ منها من الخبز ونحوه يقال أكلنا أجود حنطة في أرض كذا أي أجود خبز ويقال فلان يأكل الحنطة أي خبز الحنطة وما يتخذ منها ومطلق الاسم منصرف إلى المتعارف وإن كانت الحقيقة ممكن العمل بها كما في وضع القدم فصار كأنه قال لا آكل ما يتخذ منها فيحنث بأكل الخبز ونحوه ولا يحنث بأكل العين.
والثاني وهو المذكور في الكتاب أن يجعل أكل الحنطة عبارة عن أكل ما فيها بعرف الاستعمال يقال أهل بلد كذا يأكلون الحنطة ويراد ما فيها من الأجزاء أي طعامهم من أجزاء الحنطة لا من أجزاء الشعير وإذا صار عبارة عن أكل ما فيها يحنث بأكل العين كما يحنث بأكل الخبز لدخوله تحت عموم المجاز لا باعتبار الحقيقة كما في مسألة وضع القدم.
ولا يقال فعلى ما ذكرتم يلزم أن يحنث بأكل السويق عندهما لوجود أكل ما في باطنها. لأنا نقول السويق جنس آخر غير جنس الدقيق عند هما, ولهذا جوزا بيع الدقيق بالسويق متفاضلا فلا يكون ما أكل من جنس ما كان موجودا في الحنطة فلا يحنث كذا ذكر شمس الأئمة. وذكر الإمام خواهر زاده رحمه الله أن على قول محمد يحنث.
قوله: "والشرب من الفرات" تكلموا في كيفية المجاز هنا قال بعض مشايخنا بجعل قوله من الفرات مجازا لشرب ماء الفرات; لأن الشرب لا يتحقق في نفس الفرات فلا بد من أن يضمر فيه ماء الفرات. ولكن هذا ليس بصواب بدليل أنه لو شرب من نهر آخر يأخذ من الفرات لا يحنث ولو صار مجازا لشرب ماء الفرات ينبغي أن يحنث كما لو نص عليه بأن قال لا أشرب من ماء الفرات. بل الصحيح أن يجعل مجازا لشرب ماء منسوب إلى الفرات مجاور له بعرف الاستعمال فإنه يقال بنو فلان يشربون من الوادي ومن الفرات وإنما يراد به ما قلنا والأخذ بالأواني لا يقطع هذه النسبة فيحنث بالكرع والاغتراف جميعا لعموم المجاز لا باعتبار الحقيقة. فإن نوى في قوله لا أشرب من الفرات ماء الفرات يصح نيته عند البعض حتى لو شرب من نهر يأخذ من الفرات يحنث; لأنه نوى ما يحتمله لفظه(2/84)
في الجامع فصار ذلك عملا بعمومه لا جمعا بين الحقيقة والمجاز وأما مسألة النذر فليس بجمع بل هو نذر بصيغته ويمين بموجبه وهو الإيجاب; لأن إيجاب
ـــــــ
لأن الشرب لا يتحقق بدون الماء. وعند العامة لا يصح; لأن الماء غير مذكور نصا وإنما يصير مذكورا مقتضى الشرب والمقتضى لا عموم له فلا يصح نية التعميم فيه كما لا يصح نية الثلاث في قوله أنت طالق كذا في الجامع البرهاني.
قوله: "فأما مسألة النذر فليس بجمع" يعني ليس ما ذكر في تلك المسألة من ثبوت حكم النذر واليمين بجمع الحقيقة والمجاز باعتبار الصيغة وهو أن يكون صيغته دالة على النذر بطريق الحقيقة وتكون دالة على اليمين أيضا بطريق المجاز بل هو نذر بصيغته لا غير ولكنه يمين باعتبار موجبه أي حكمه وهو أن موجب النذر لزوم المنذور لا محالة, ولا بد من أن يكون المنذور قبل النذر مباح الترك ليصح التزامه بالنذر; لأن النذر بما هو واجب في نفسه لا يصح على ما عرف فإذا لزم المنذور بالنذر صار تركه الذي كان مباحا حراما به وصار النذر تحريم المباح بواسطة حكمه وهو لزوم المنذور, وتحريم المباح يمين عندنا; لأن النبي صلى الله عليه وسلم: "حرم مارية أو العسل1" على نفسه فسمى الله تعالى ذلك التحريم يمينا وأوجب فيه الكفارة حيث قال. {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} "التحريم:1". إلى أن قال. {قدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} "التحريم:2". أي شرع لكم تحليلها بالكفارة حتى روي عن مقاتل:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق رقبة في تحريم مارية" وهو مذهب أبي بكر وعمر وابن عباس وابن مسعود وزيد وطاوس والحسن والثوري وأهل الكوفة فكان النذر بواسطة موجبه يمينا لا بصيغته بل هو بصيغته نذر لا غير, ومثل هذا ليس بممتنع كشراء القريب سمي إعتاقا في الشرع ويستحيل أن يكون إثبات الملك إزالته لكنه بصيغته إثبات الملك والملك في القريب يوجب العتق بقوله عليه السلام.: "من ملك ذا رحم محرم منه عتق عليه" . فكان الشراء إعتاقا بواسطة حكمه وهو ثبوت الملك لا بصيغته. وكالهبة بشرط العوض هبة باعتبار الصيغة بيع باعتبار المعنى فكذا هذا.
"فإن قيل": لو كان النذر يمينا باعتبار موجبه ينبغي أن لا يحتاج في ثبوتها إلى نية كالعتق في شراء القريب وإليه ذهب سفيان الثوري حيث قال لو قال لله علي أن أصوم غدا فمرض في الغد فأفطر أو كان الحالف امرأة فحاضت كان عليهما القضاء والكفارة
"قلنا": باستعمال هذه الصيغة في محل آخر خرجت اليمين من أن يكون مراده بها فصارت كالحقيقة المهجورة فلا يثبت من غير نية كذا قيل. والجواب الصحيح أن التحريم
ـــــــ
1 أخرج حديث تحريمه صلي الله عليه وسلم العسل علي نفسه البخاري وابن سعد وعبدبن حميد(2/85)
المباح يصلح يمينا بمنزلة تحريم المباح وصار ذلك كشري القريب تملك بصيغته وتحرير بموجبه فهذه مثله.
ـــــــ
يثبت بموجب النذر ولا يتوقف على النية; لأن تحريم ترك المنذور به ثابت نواه أو لم ينوه إلا أن كونه يمينا يتوقف على القصد فإن النص جعله يمينا عند القصد ولم يرد الشرع بكونه يمينا عند عدم القصد وثبوته ضما فإذا نوى اليمين فحينئذ يصير التحريم الثابت به يمينا لوجود شرطه لكن بموجب النذر لا بطريق المجاز. وذكر شمس الأئمة في شرح كتاب الصوم أنه اجتمع في كلامه كلمتان. أحدهما يمين وهو قوله لله فإنه عند إرادة اليمين كقوله بالله قال ابن عباس دخل آدم الجنة فلله ما غربت الشمس حتى خرج وهذا; لأن الباء واللام يتعاقبان قال الله تعالى خبرا عن فرعون {آمَنْتُمْ لَهُ} "طه:71"وفي موضع آخر {آمَنْتُمْ بِهِ} "الأعراف:123". الأخرى نذر وهي قوله علي إلا أن عند الإطلاق غلب معنى النذر باعتبار العادة فحمل عليه فإذا نواهما فقد نوى بكل لفظ ما هو من محتملاته فتعمل نيته ولا يكون جمعا بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة بل في كلمتين وذلك غير مستبعد. فعلى هذا يكون قوله علي أن أصوم إيجابا في نفسه وجواب القسم أيضا إن جاز ذلك كلأكرمنك في قولك والله إن أكرمتني لأكرمنك جواب القسم والشرط جميعا وذلك; لأنه لما أضاف إيجاب الصوم إلى المستقبل صار كأنه قال والله لأصومن كذا فيحتمل أن يصلح جوابا للقسم من حيث المعنى.
وذكر في بعض شروح هذا الكتاب أن معنى قوله نذر بصيغته يمين بموجبه أن الصوم قبل صدور هذه الصيغة كان غير واجب فبالنذر يصير واجبا وباليمين أيضا يصير واجبا فهو يريد أن يثبت الوجوب لغيره كما يثبت لعينه وإرادة اليمين صحيحة بالإجماع من صيغة النذر بدليل أنه إذا نوى اليمين يكون يمينا فعلم أن إرادة الوجوب من هذه الصيغة صحيحة فإذا نوى اليمين حصل ههنا دليلان أحدهما يدل على الوجوب لعينه وهو الصيغة والآخر يدل على الوجوب لغيره فيعمل بهما إذ لا تنافي بينهما; لأن الواجب لعينه يجوز أن يكون واجبا لغيره كما لو حلف ليصلين ظهر هذا اليوم يصير واجبا لغيره بعد أن كان واجبا لعينه حتى لو فات وجب عليه القضاء والكفارة فكذا هذا.
ولا يقال موجب هذا الكلام الوجوب لا الإيجاب وقد سماه في الكتاب إيجابا.; لأنا نقول إنما سماه إيجابا مجازا; لأن الوجوب لا يكون إلا بالإيجاب من الشرع فيثبت الإيجاب به اقتضاء فسمي الوجوب إيجابا بواسطة أنه مقتضاه. والأوجه أن يقال المراد من الموجب المعنى أي هو يمين بمعناه وهو الإيجاب على ما حققناه. ويؤيده ما ذكر في بعض الجوامع: فإذا نوى اليمين فقد نوى ما هو معنى النذر.(2/86)
وطريق الاستعارة عند العرب الاتصال بين الشيئين وذلك بطريقين لا
ـــــــ
قوله: "وطريق الاستعارة" كذا اعلم أن الاستعارة في اصطلاح علماء المعاني والبيان عبارة عن نوع من المجاز وهي أن تذكر أحد طرفي التشبيه وتريد الطرف الآخر مدعيا دخول المشبه في جنس المشبه به دالا على ذلك بإثباتك للمشبه ما يخص المشبه به كما تقول في الحمام أسد وأنت تريد الشجاع مدعيا أنه من جنس الأسود فيثبت للشجاع ما يخص المشبه به وهو اسم جنسه مع سد طريق التشبيه بأفراده في الذكر. وإنما سموا هذا النوع من المجاز استعارة للتناسب بينه وبين معنى الاستعارة, وذلك لأن المتكلم متى ادعى في المشبه كونه داخلا في حقيقة المشبه به فردا من أفرادها برز فيما صادف من جانب المشبه به في معرض نفس المشبه به نظرا إلى ظاهر الحال من الدعوى بروز المستعير مع الثوب المستعار في معرض المستعار منه من غير تفاوت إلا أن أحدهما إذا فتش مالك والآخر ليس كذلك فالشجاع حال دعوى كونه فردا من أفراد حقيقة الأسد يكتسي اسم الأسد اكتساء الهيكل المخصوص إياه نظرا إلى الدعوى. وذكر في نهاية الإيجاز أن المجاز أعم من الاستعارة; لأنها عبارة عن نقل الاسم عن أصله إلى غيره للتشبيه بينهما على حد المبالغة وليس كل مجاز للتشبيه. وأيضا ليس كل مجاز من باب البديع وكل استعارة فهي من البديع فلا يكون كل مجاز استعارة.. وأيضا فإن العارية أن يعطي المعير للمستعير ما عنده فإذا قلت رأيت أسدا فقد أثبت الأسدية للرجل فقد حصل للمستعير ما كان حاصلا للمعير فظهر وجوب تخصيص اسم الاستعارة بما كان النقل لأجل التشبيه على حد المبالغة ولكنها في اصطلاح الفقهاء عبارة عن مطلق المجاز يعني المرادف له كأنهم أرادوا بهذه التسمية إياه أن اللفظ استعير عن محل الحقيقة للمعنى المجازي لعلاقة بينهما استعارة الثوب. وعن هذا قيل لا بد في الاستعارة من المستعار عنه وهو الهيكل المخصوص مثلا. والمستعار له وهو الشجاع. والمستعير وهو المتكلم. والمستعار وهو اللفظ. والاستعارة وهي التلفظ. وما تقع به الاستعارة وهو الاتصال بين المحلين كما لا بد في استعارة الثوب من المستعار عنه وهو المالك. والمستعار له وهو الشخص الذي يريد لبس الثوب. والمستعير وهو الذي يلتمس الثوب. والمستعار وهو الثوب. والاستعارة وهي الالتماس. وما يقع به الاستعارة وهو الصداقة بين الشخصين. وإذا عرفت أنه لا بد من أن يكون بين محل الحقيقة والمجاز تعلق خاص يكون ذلك باعثا على استعمال للفظ في محل المجاز إذ لو لم يكن بينهما تعلق في نفس الأمر أو كان ولكن لم يعتبره المستعمل كان ذلك الاستعمال منه ابتداء وضع آخر وكان ذلك اللفظ مشتركا لا مجازا. فاعلم أن العلماء وإن حصروه بناء على الاستقراء في خمسة وعشرين نوعا.(2/87)
ثالث لهما الاتصال بينهما صورة أو معنى لأن كل موجود من الصور له
ـــــــ
1 - إطلاق اسم السبب على المسبب كقوله عليه السلام.: "بلوا أرحامكم ولو بالسلام" . أي صلوها فإن العرب لما رأت بعض الأشياء يتصل بالنداوة استعارت عنه البل لمعنى الوصل.
2 - وعكسه كقول الشاعر:
شربت الإثم حتى ضل عقلي ... كذاك الإثم يذهب بالعقول
سمي الخمر إثما لكونها مسببا لها.
3 - وإطلاق اسم الكل على البعض كقوله تعالى. {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} "البقرة:19". أي أناملهم
4 - وعكسه كقوله عز اسمه. {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} "القصص:88". أي ذاته.
5 - وإطلاق اسم الملزوم على اللازم كقوله تعالى. {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} "الروم:35". سميت الدلالة كلاما; لأنها من لوازمه. ومنه قيل كل صامت ناطق أي أثر الحدوث فيه يدل على محدثه فكأنه ينطق.
6 - وعكسه كقول الشاعر:
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم ... دون النساء ولو بانت بإظهار
أريد بشد المئزر الاعتزال عن النساء; لأن شد الإزار من لوازم الاعتزال.
7 - وإطلاق أحد المتشابهين على الآخر كإطلاق اسم الإنسان على الصورة المنقوشة لتشابههما شكلا وإطلاق اسم الأسد على الشجاع لتشابههما في الشجاعة التي هي من الصفات الظاهرة للأسد.
8 - وإطلاق اسم المطلق على المقيد كقول الشاعر:
فيا ليتنا نحيا جميعا وليتنا ... إذا نحن متنا ضمنا كفنان
ويا ليت كل اثنين بينهما هوى ... من الناس قبل اليوم يلتقيان
أو قبل يوم القيامة.
9 - وعكسه قال شريح أصبحت ونصف الخلق علي غضبان يريد أن الناس بين محكوم عليه ومحكوم له لا نصف الناس على سبيل التعديل والتسوية. ومنه قول الشاعر:
إذا مت كان الناس صنفان شامت ... وآخر مثن بالذي كنت أفعل(2/88)
صورة ومعنى لا ثالث لهما فلا يتصور الاتصال بوجه ثالث أما المعنى فمثل قولهم للبليد حمار وللشجاع أسد لاتصال ومشابهة في المعنى بينهما وأما الصورة فمثل تسمية المطر سماء قالوا مازلنا نطأ السماء حتى أتيناكم
ـــــــ
10 - وإطلاق اسم الخاص على العام كقوله تعالى {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} النساء:69". أي رفقاء. 11 - وعكسه كقوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام. {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} "الأعراف:143" لم يرد الكل; لأن الأنبياء كانوا قبله مؤمنين.
12 - وحذف المضاف سواء أقيم المضاف إليه مقامه كقوله تعالى إخبارا {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} "يوسف:82". أو لا كقول أبي داود1:
أكل امرئ تحسبين امرأ ... ونار توقد بالليل نارا
ويسمى هذا مجازا بالنقصان.
13 - وعكسه كقول الشاعر:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني
أي أنا ابن رجل جلا أي أوضح أمره.
14 - وتسمية الشيء باسم ما له به تعلق المجاورة كتسميتهم قضاء الحاجة بالغائط الذي هو المكان المطمئن من الأرض.
16 - وتسمية الشيء باسم ما يئول إليه كتسمية العنب بالخمر. وتسميته باسم ما كان كتسمية الإنسان بعد الفراغ من الضرب ضاربا.
17 - وإطلاق اسم المحل على الحال كقوله عليه السلام: "لا يفضض الله فاك" أي أسنانك.
18 - وعكسه كقوله جل جلاله. {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} "آل عمران:107". أي في الجنة; لأنها محل نزول الرحمة.
19 - وإطلاق اسم آلة الشيء عليه كقوله عز قائلا حكاية عن إبراهيم عليه السلام:
ـــــــ
1 هو أبو داؤد جويرية بن الحجاج الأيادي كان معاصرا للمنذر بن ماء السماء وهو مشهور بوصف الخيل أنظر بروكلمان 1/118-120.(2/89)
المطر لاتصال بينهما صورة; لأن كل عال عند العرب سماء والمطر من السحاب
ـــــــ
{اجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} "الشعراء:84". أي ذكرا حسنا, أطلق اسم اللسان وأراد به الذكر إذ اللسان آلته.
20 - وإطلاق اسم الشيء على بدله كقولهم فلان أكل الدم إذا أكل الدية. ومنه قول الشاعر:
يأكلن كل ليلة إكافا
أي ثمن أكاف.
21 - وإطلاق النكرة في موضع الإثبات للعموم قال تعالى. {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} "التكوير:14". أي كل نفس. ومنه دع امرأ وما اختاره أي اترك كل امرئ واختياره.
22 - وإطلاق المعرف باللام وإرادة واحد منكر كقوله تعالى. {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً} "البقرة:58". أي بابا من أبوابها كذا نقل عن أئمة التفسير.
23 - وإطلاق اسم أحد الضدين على الآخر كقوله تعالى. {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} "الشوري:40". فإنها من المبتدئ سيئة ومن الله حسنة. ومنه ما يقال قاتله الله ما أحسن ما قال يريدون به الدعاء له وإن كان هو الدعاء عليه.
24 - والحذف كقوله تعالى. {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} "النساء:176". أي لئلا تضلوا.
25 - والزيادة كقوله تعالى. {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} "الشوري:11". ولكن ما حصره الشيخ في قوله وذلك أي الاتصال الذي يقع به الاستعارة بطريقين لا ثالث لهما أضبط مما ذكروه إذ لا يكاد يشذ عنه شيء مما ذكروه ولا يخفى عليك تداخل بعضها في بعض.
قوله: "كل موجود من الصور" أي من المحسوسات التي يجري في أسمائها المجاز. ولفظ شمس الأئمة فإن كل موجود مصور يكون له صورة ومعنى ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم أي كنا في طين وردغة بسبب المطر إلى أن وصلنا إليكم وقال الشاعر:
إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا(2/90)
ينزل وهو سماء عندهم فسمي باسمه وقول الله عز وجل {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} "النساء:43" وهو المطمئن من الأرض يسمى الحدث بالغائط لمجاورته صورة في العادة وقال تعالى {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} "يوسف:43"أي عنبا لاتصال بينهما ذاتا; لأن العنب مركب بثفله ومائه وقشره.فسلكنا في الأسباب الشرعية والعلل هذين الطريقين في الاستعارة
ـــــــ
أي إذا نزل المطر بأرض قوم ونبت الكلأ رعيناه وإن كان ذلك القوم كارهين غضابا ولم نلتفت إلى غضبهم. "لاتصال بينهما" أي بين السحاب والمطر صورة; لأن السماء اسم لكل ما علاك فأظلك. ومنه قيل لسقف البيت سماء وقال تعالى. {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} "الحج:15" والمطر ينزل من السحاب وهو سماء عندهم فكان بين المطر والسحاب الذي هو السماء اتصال فسمي المطر باسمه وهو السماء. "سمى به الغائط" أي سمي الحدث باسم المكان المطمئن وهو الغائط. "لمجاورته" أي لمجاورة الحدث المكان المطمئن صورة في العادة; لأنه يكون في المطمئن من الأرض عادة وهو من قبيل إطلاق اسم المحل على الحال كقوله تعالى. {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} "الأعراف:21". "لاتصال بينهما" أي بين العصير الذي يصير خمرا وبين العنب.; لأن العنب مركب بثفله هو ما سفل من كل شيء ويقال تركت بني فلان مثافلين أي يأكلون الثفل يعنون الحب وذلك إذا لم يكن لهم لبن وكان طعامهم الحب.
قوله: "فسلكنا في الأسباب الشرعية والعلل" والأحكام أيضا أي في المشروعات جمع هذين الطريقين وهما الاتصال صورة والاتصال معنى وجوزنا بهما الاستعارة فيها فالاستعارة الجارية بين السبب والمسبب والعلة والمعلول في الشرعيات بالمجاورة التي بينها نظير الاستعارة في المحسوسات فالاتصال الصوري وهو معنى قوله فصار الاتصال في السبب نظير الصور فيما يحس; لأنه لا مناسبة بين السبب والمسبب معنى إذ معنى السبب الإفضاء إلى الشيء ومعنى المسبب ليس كذلك وكذا معنى العلة الإيجاب والإثبات ومعنى المعلول ليس كذلك فلا يمكن إثبات المناسبة بينهما معنى بوجه فكان هذا الاتصال من قبيل اتصال المطر بالسحاب.
والاستعارة الجارية في المشروعات بالمعنى الذي شرعت له نظير الاستعارة في المحسوسات بالاتصال المعنوي. فنظير الأولى استعارة الشراء للملك ولفظ العتق لإزالة ملك المتعة فإنها جائزة للاتصال الصوري كما في المطر والسحاب لا بالمعنوي إذ ليس بين معنى الشراء ومعنى الملك مناسبة. وكذا بين معنى العتق ومعنى زوال ملك المتعة.(2/91)
وهو الاستعارة بالاتصال في الصورة وهو السببية والتعليل; لأن المشروع ليس بصورة تحس فصار الاتصال في السبب نظير الصور فيما نحس والاتصال في معنى المشروع كيف شرع اتصال هو نظير القسم الآخر من المحسوس.ولا خلاف بين الفقهاء أن الاتصال بين اللفظين من قبل حكم الشرع يصلح طريقا
ـــــــ
ونظير الثانية استعارة الحوالة للوكالة فإن معنى الحوالة نقل الدين من ذمة إلى ذمة ومعنى الوكالة نقل ولاية التصرف فلذلك استعار محمد رحمه الله لفظ الحوالة للوكالة في الجامع الصغير فقال في المضارب ورب المال إذا افترقا وليس في المال ربح وبعض رأس المال دين لا يجبر المضارب على نقل الديون ويقال له أحل رب المال عليهم أي وكله بقبض الديون. وكذا الكفالة بشرط براءة الأصيل حوالة, والحوالة بشرط مطالبة الأصيل كفالة لتشابههما في المعنى, ومثل الميراث والوصية بينهما اتصال معنوي من حيث إن كل واحد منهما يثبت الملك بطريق الخلافة بعد الفراغ عن حاجة الميت فيجوز استعارة أحدهما للآخر قال الله تعالى. {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} "النساء:11". أي يورثكم.
قوله: "ولا خلاف بين الفقهاء" رد لقول من زعم أن المجاز لا يجزئ في الألفاظ الشرعية من البيع والهبة والنكاح والطلاق متمسكا بأن هذه الألفاظ إنشاءات في الشرع وأنها أفعال جارحة الكلام وهي اللسان ومخارج الحروف بمنزلة أفعال سائر الجوارح ومن فعل فعلا حقيقة وأراد أن يكون فاعلا فعلا آخر لا يكون كذلك فكذلك أفعال هذه الجارحة وإنما يدخل الاستعارة والمجاز في الألفاظ التي من باب الأخبار والأمر والنهي ونحوها. وعند العامة يجري الاستعارة في جميع الألفاظ الشرعية; لأن العرب لما وضعت طريق الاستعارة أو استعملت المجاز في كلامهم وعرف بالتأمل طريقة يكون إذنا منهم بالاستعارة لكل متكلم من جملتهم أو من غيرهم كصاحب الشرع متى وضع طريق التعليل كان إذنا بالقياس لكل من فهم ذلك الطريق. وقولهم إنها إنشاء أفعال والمجاز يجري في الأخبار قلنا المجاز لا يختص بالأخبار بل هو جار في سائر أقسام الكلام وهذه الألفاظ وإن جعلت إنشاءات شرعا لم يخرج من أن يكون كلاما والاستعارة جائزة في الكلام إذا وجد طريقها كما في الأمر والنهي فإذا أتى بكلام هو إنشاء لفعل وذلك الكلام شبيه كلام آخر هو إنشاء لفعل آخر من حيث المعنى الذي هو طريق الاستعارة فهو نظير الألفاظ اللغوية كذا في الميزان.
"إن الاتصال بين اللفظين" أي أن مدلوليهما من قبل حكم الشرع. وإنه ليس بحكم يختص باللغة أي طريق الاستعارة أو الاستعارة على تأويل المجاز. وذلك ثابت أي القرب(2/92)
للاستعارة فإنه ليس بحكم يختص باللغة; لأن طريق الاستعارة القرب والاتصال وذلك ثابت بين كل موجودين من حيث وجدا والمشروع قائم بمعناه الذي شرع له وسببه الذي تعلق به فصحت به الاستعارة.ولأن حكم الشرع متعلق بلفظ شرع سببا أو علة لا يثبت من حيث يعقل إلا واللفظ دال عليه لغة والكلام
ـــــــ
والاتصال يثبت ويتحقق "وبين كل موجودين" أي بين موجودين من حيث وجدا فإن كان وجودهما حسا يتحقق الاتصال بينهما ويعتبر باعتبار الوجود الحسي وإن كان وجودهما شرعا يتحقق الاتصال بينهما باعتبار ذلك الوجود. والمشروعات توجد شرعا وهي قائمة بمعناها متعلقة بأسبابها نحو الملك فإنه مشروع قائم بمعناه وهو كونه مطلقا وحاجزا وله سبب تعلق به وهو الشراء فيتحقق الاتصال بينها معنى وصورة كما في المحسوسات. فصحت به أي بذلك الاتصال الاستعارة.
وحاصله أن الاتصال الذي هو طريق الاستعارة يتحقق في المحسوس والمشروع جميعا صورة ومعنى فيجوز به الاستعارة في الكل لما مر أن جواز الاستعارة متوقف على معرفة الطريق وتحققه لا على التوقيف. والمشروع قائم بمعناه الذي شرع له وبسببه الذي تعلق به كالنكاح يتعلق وجوده بكلام المتعاقدين الذي هو سببه وبمعناه الذي شرع لأجله وهو الانضمام والازدواج وكذا البيع والهبة وجميع المشروعات.
قوله: "ولأن حكم الشرع متعلقا بلفظ" بيانه أن تعلق حكم الشرع بما جعل سببا له على نوعين. تعلق يدرك بالعقل ونعني به أنه كان ثابتا قبل الشرع وقد كانت اللغة دالة عليه كتعلق الملك بالبيع والهبة وتعلق الحل بالنكاح وأشباه ذلك, ولهذا لا ينكر ثبوت الملك بالبيع والحل بالنكاح أحد من أهل الملل. وتعلق لا يدرك بالعقل بل لم يكن ثابتا قبل الشرع ولا دل عليه اللغة كتعلق وجوب الحد بالقذف وشرب الخمر, ولهذا ترى أهل الملل ينكرونه سوى أهل الإسلام, والاستعارة إنما تجري بين الشيئين إذا عقل بينهما اتصال وتعلق لا فيما لا يعقل فكانت جارية في القسم الأول لا في القسم الثاني وإذا كان كذلك كانت هذه استعارة في اللفظ اللغوي في التحقيق; لأن الشرع لم يغيره عن موضوعه بل قرره على ما كان فيصح كما في سائر الألفاظ اللغوية وكما قبل تقرير الشرع إياه قال شمس الأئمة رحمه الله إذا تأملت في أسباب المشروعات وجدتها علة على الحكم المطلوب بها باعتبار أصل اللغة فيما يكون معقول المعنى والكلام فيه ولا استعارة فيما لا يعقل ألا ترى أن البيع مشروع لإيجاب الملك وموضوع له أيضا في اللغة. وقوله: "متعلقا" حال عن المفعول معنى وهو الحكم إذ هو(2/93)
فيما يعقل ولا استعارة فيما لا يعقل ألا ترى أن البيع لتمليك العين شرعا ولذلك وضع لغة فكذلك ما شاكله.وهذا في مسائل أصحابنا لا يحصى وقال الشافعي رحمه الله إن الطلاق يقع بلفظ التحرير مجازا والعتاق يقع بلفظ الطلاق مجازا ولم يمتنع أحد من أئمة السلف عن استعمال المجاز فقد انعقد نكاح النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الهبة. مجازا مستعارا لا أنه انعقد هبة; لأن تمليك المال في غير المال لا يتصور وقد كان في نكاحه وجوب العدل في القسم والطلاق والعدة ولم يتوقف الملك على القبض فثبت أنه كان مستعارا ولا اختصاص
ـــــــ
مضاف إلى الفاعل "وسببا" مفعول ثان لشرع "ولا يثبت" خبران "وما شاكله" نحو الهبة تدل على الملك لغة والإجارة تدل على ملك المنفعة لغة وكذا الإعارة والوكالة وأشباهها.
قوله: "وهذا" لما أقام الدليل على ما ذكر شرع في بيان كونه متفقا بين الجمهور فقال: وهذا أي استعمال المجاز في الألفاظ الشرعية كثير في مسائل أصحابنا. وكذا الشافعي رحمه الله يجيز استعارة لفظ التحرير للطلاق كما هو مذهبنا وعلى العكس على مذهبه وكذا لم يمتنع أحد من السلف عن استعمال المجاز في الألفاظ الشرعية فثبت أنه لا خلاف في هذا الفصل بين الجمهور.
قوله: "مجازا مستعارا" ترادف على وجه التأكيد وإنما أكد; لأنه في بيان الخلاف. لا أنه انعقد هبة نفي لقول بعض أصحاب الشافعي إن النكاح في حق النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة التسري في حق الأمة حتى يصح بلا ولي ولا شاهد وبلفظ الهبة وفي حال الإحرام وأن يزيد على التسع ولا يلزمه القسم ولا ينحصر عدد الطلاق منه ولا يجب المهر لا بالعقد ولا بالدخول فقال الشيخ نكاحه عليه السلام بلفظ الهبة ينعقد نكاحا لا هبة; لأن الهبة تمليك المال بغير عوض وذلك لا يتصور حقيقة فيما ليس بمال لعدم المحل ولذا لم يكن أحكام الهبة ثابتة من توقف الملك على القبض وحق الرجوع للواهبة بعد القبض حتى لم يكن لمن وهبت نفسها منه عليه السلام أن تتزوج بزوج آخر قبل تسليم النفس ولا أن ترجع عن الهبة بعد التسليم وقد كان في نكاحه عليه السلام وإن كان معقودا بلفظ الهبة وجوب القسم حتى كان يقول: "اللهم هذه قسمتي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما لا أملك1" يريد زيادة محبته عليه السلام لبعض نسائه. وقد قيل كانت الموهوبات أربعا. ميمونة بنت الحارث.
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في النكاح حديث رقم 2134 والترمذي في النكاح حديث رقم 1140والإمام أحمد في المسند 6/144.(2/94)
للرسالة بالاستعارة وجوه الكلام بل الناس في وجوه التكلم سواء فثبت أن هذا فصل لا خلاف فيه.
غير أن الشافعي رحمه الله أبى أن ينعقد النكاح إلا بلفظ النكاح أو التزويج; لأنه عقد شرع لأمور لا يحصى من مصالح الدين والدنيا, ولهذا شرع بهذين اللفظين وليس فيهما معنى التمليك بل فيهما إشارة إلى ما قلنا فلم يصح الانتقال عنه لقصور اللفظ عن اللفظ الموضوع له في الباب وهذا معنى
ـــــــ
وزينب بنت خزيمة أم المساكين الأنصارية. وأم شريك بنت جابر. وخولة بنت حكيم كذا في الكشاف.
وكذا الطلاق كان مشروعا في حقه عليه السلام حتى طلق حفصة وسودة ثم راجعهما. وكذا العدة كانت واجبة في طلاقه حتى لم يكن يحل لمطلقته الخروج عن المنزل ما دامت في العدة وهذه الأحكام كلها تنافي التسري فعرفنا أنه انعقد نكاحا لا هبة كما هو قول الجمهور وأصح أقوال الشافعي. فثبت أنه أي لفظ الهبة كان مستعارا للنكاح ولما ثبت جواز الاستعارة في حقه عليه السلام ثبتت في حق الأمة; لأنه ليس للرسالة أثر في معنى الخصوص بالاستعارة ووجوه الكلام فإن معنى الخصوصية هو التخفيف والتوسعة وما كان يلحقه حرج في استعمال لفظ النكاح فقد كان عليه السلام أفصح الناس.
قوله: "غير أن الشافعي" استثناء منقطع بمعنى لكن من قوله هذا فصل لا خلاف فيه يعني أن الشافعي يوافقنا في جواز جريان الاستعارة في الألفاظ الشرعية إلا أنه لا يجوز استعارة ألفاظ التمليك للنكاح ويأبى أن ينعقد النكاح إلا بلفظ النكاح والتزويج لما نذكر لا أن الاستعارة لا تجرى في الألفاظ الشرعية. أما بيان المسألة فقول النكاح ينعقد بلفظ النكاح والتزويج والهبة والصدقة والتمليك عندنا ولا ينعقد بلفظ الإعارة والإباحة والإحلال. واختلف مشايخنا في انعقاده بلفظ الإجارة والرهن والقرض والصحيح أنه لا ينعقد بها. واختلفوا أيضا في انعقاده بلفظ البيع والشراء فقيل لا ينعقد; لأن انعقاده بلفظ الهبة ثبت نصا بخلاف القياس فلا يلحق به إلا ما كان في معناه من كل وجه والبيع ليس في معنى الهبة وقيل ينعقد وهو الصحيح كذا في طريقة الحجاجية. وإنما ينعقد بلفظ الهبة إذا طلب الزوج منها النكاح حتى لو طلب منها التمكين من الوطء فقالت وهبت نفسي منك وقبل الزوج لا يكون نكاحا كذا في المطلع وإليه أشير في فتاوى القاضي الإمام فخر الدين. وكان شيخي رحمه الله يقول ناقلا عن بعض الفتاوى أنه يشترط النية في الهبة; لأن أبا البنت لو قال وهبتها منك لتخدمك فقال قبلت لا يكون نكاحا فلما احتملت الهبة الخدمة والنكاح لا يتعين النكاح إلا بالنية وما ظفرت بهذه الرواية.
وعند الشافعي رحمه الله لا ينعقد إلا بلفظ النكاح أو التزويج عربيا كان اللفظ أو(2/95)
قولهم عقد خاص شرع بلفظ خاص وهذا كلفظ الشهادة لما كان موجبا بنفسه بقوله أشهد لم يقم اليمين مقامه وهو أن يقول احلف بالله; لأنه موجب لغيره
ـــــــ
غيره في الأصح. وفي قول لا ينعقد بغير العربي فإن لم يحسن العاقد العربية يفوض إلى من يحسنها. وفي قول إن كان يحسن العربية لا ينعقد وإلا فينعقد. والمعنى فيه أن النكاح شرع لمقاصد جمة لا تحصى مما يرجع إلى مصالح الدين والدنيا من حرمة المصاهرة ووجوب النفقة والمهر وجريان التوارث وتحصين الدين وثبوت صفة الإحصان وغيرها وإنما يثبت الملك فيه تبعا ضرورة تحصيل هذه المقاصد المطلوبة شرعا بعد النكاح لا مقصودا في الباب فشرع بلفظ ينبئ عن هذه المعاني لغة وهو النكاح والتزويج فإن النكاح في اللغة عبارة عن الضم الذي يدل على الاتحاد بينهما في القيام بمصالح المعيشة. وكذا لفظ التزويج ينبئ عن هذه المقاصد; لأنه ينبئ لغة عن الازدواج والتلفيق بين الشيئين على وجه الاتحاد بينهما كزوجي الخف ومصراعي الباب وليس في هذين اللفظين ما يدل على التمليك, ولهذا لا يثبت بهما ملك العين أصلا
والهبة وسائر الألفاظ الموضوعة للتمليك لا ينبئ عن هذه المقاصد فلا يجوز الانتقال عنه أعني عن اللفظ الموضوع له وهو النكاح أو التزويج إلى هذه الألفاظ لقصورها عن اللفظ الموضوع له في هذا الباب في إفادة المقاصد المطلوبة بالنكاح كما لا يصح الانتقال إلى لفظ الإجارة والإحلال مع أن ملك النكاح أقرب إلى ملك المنفعة منه إلى ملك الرقبة ولفظ الإحلال أقرب إلى معنى النكاح من البيع; لأنه ليس في النكاح إلا استحلال الفرج فلما لم يجز الانتقال إلى الإجارة والإحلال فلأن لا يجوز إلى ألفاظ التمليك كان أولى. إلا أن في حق النبي صلى الله عليه وسلم كان ينعقد بلفظ الهبة مع قصور فيه تخفيفا عليه وتوسعة للغات في حقه كما قال تعالى {خَالِصَةً لَكَ} "الأحزاب:50". وهذا معنى قول أصحاب الشافعي أنه "عقد خاص" أي مختص بلفظ لا يثبت بدونه "شرع بلفظ خاص" أي بلفظ مختص بهذا العقد لا يستعمل في غيره. وذكر في بعض مصنفات الشيخ وهو معنى قول أصحاب الشافعي إن النكاح لفظ خاص وله حكم خاص فلا يجوز إقامة لفظ آخر مقامه كما في الشهادة لما كان لها لفظ خاص وله حكم وهو وجوب القضاء على القاضي لا يجوز إقامة لفظ آخر مقامه وهو اليمين حتى لو حلف وقال والله إن لهذا الرجل على هذا الرجل كذا وكذا من المال لا يجب القضاء به. وكان المعنى فيه هو أن اليمين ما وضعت للإثبات بل للدفع والإثبات إنما يتحقق فيه بواسطة الدفع, والبينة وضعت للإثبات في الأصل فلا يجوز إقامة لفظ وضع للإثبات بواسطة مقام لفظ وضع للإثبات بلا واسطة فهكذا بهذين اللفظين تثبت هذه المقاصد بلا واسطة وبلفظ الهبة وغيره إنما تثبت(2/96)
فلم يصلح الاستعارة وكذلك عقد المفاوضة لا ينعقد إلا بلفظ المفاوضة عندكم كذلك حكي عن الكرخي; لأن غيره لا يؤدي معناه ولهذا لم يجوزوا
ـــــــ
بواسطة ملك الرقبة فوجب أن لا يجوز إقامتها مقام ما يوجب المقاصد بلا واسطة فهذا معنى قوله لفظ الشهادة موجب بنفسه ولفظ اليمين موجب لغيره. ويجوز أن يكون معناه أن لفظ الشهادة موجب بنفسه إذ هو لفظ وضع للإثبات واستعمل فيه حتى ذكر الله تعالى في موضع إثبات الوحدانية لذاته لفظ الشهادة فقال جل ذكره. {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} "آل عمران 18". واليمين موجبة لغيرها وهو صيانة حرمة اسم الله تعالى عن الهتك فلا يجوز إقامة اليمين مقامه لقصور لفظ اليمين عن لفظ الشهادة, ولهذا لا يقوم قوله أعلم أو أتيقن مقامه; لأن لفظ الشهادة إنشاء وذلك إخبار فكان قاصرا عن الإنشاء فلا ينوب منابه.
قوله: "وكذلك عقد المفاوضة" أي وكالشهادة شركة المفاوضة فإنها لا تنعقد إلا بلفظة المفاوضة عندكم. وإنما قيد به; لأن عنده المفاوضة ليست بمشروعة أصلا حتى قال إن كان في الدنيا عقد فاسد فهو المفاوضة وربما قال إنه نوع من القمار. كذلك حكي عن الكرخي يعني حكي هذا المذهب عن أبي الحسن الكرخي.
"لأن غيره" أي غير لفظ المفاوضة من الألفاظ التي تؤدي معنى الشركة "لا يؤدي معناه" أي معنى عقد المفاوضة أو معنى لفظ المفاوضة, وذلك لأن اشتقاق هذا اللفظ إما من التفويض سمي به هذا العقد; لأن كل واحد منهما يفوض التصرف إلى صاحبه في جميع مال التجارة. أو من قولهم الناس فوضى في هذا الأمر أي سواء لا تباين بينهم وسمي به هذا العقد; لأنه مبني على المساواة في المال والربح والألفاظ التي تستعمل في الشركة وينوب بعضها عن البعض لا يؤدي هذا المعنى أصلا فلا يجوز استعارتها للمفاوضة. وفي المبسوط وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمهما الله أن المفاوضة لا ينعقد إلا بلفظة المفاوضة حتى إذا لم يذكر لفظ المفاوضة كان عنانا عاما والعنان قد يكون خاصا وقد يكون عاما قال وتأويل هذا إن أكثر الناس لا يعرفون جميع أحكام المفاوضة فلا يتحقق فيهما الرضاء بحكم المفاوضة قبل علمهما به ويجعل تصريحها بالمفاوضة قائما مقام ذلك كله. فإن كان المتعاقدان يعرفان أحكام المفاوضة صح العقد بينهما إذا ذكرا معنى المفاوضة وإن لم يصرحا بلفظها; لأن المعتبر هو المعنى دون اللفظ.
قوله: "ولهذا لم يجوزوا" أي ولما ذكرنا أن ما قصر من الألفاظ عن تأدية معنى اللفظ الآخر لا يجوز أن يقوم مقامه لم يجوز بعض أصحاب الشافعي نقل الأحاديث بالمعاني; لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أفصح العرب والعجم وكان مختصا بجوامع الكلم فلا يؤدي(2/97)
رواية الأحاديث بالمعاني والجواب أن لفظ البيع والهبة وضع لملك الرقبة وملك الرقبة سبب لملك المتعة; لأن ملك المتعة يثبت به تبعا فإذا كان كذلك قام هذا الاتصال مقام ما ذكره من المجاورة التي هي طريق الاستعارة فصحت الاستعارة بهذا الاتصال بين السبيين والحكمين والجواب عما قال أن هذه
ـــــــ
لفظ آخر معنى لفظه فلا يقوم مقامه لقصوره عنه. ولكن هذا القول غير مأخوذ عندهم فإن صاحب القواطع ذكر فيه وقال بعض أصحابنا كل ما أوجب العلم من ألفاظ الحديث فالمعول فيه على المعنى لا مراعاة اللفظ فيه, وأما الذي يجب العمل به منها ففيه لا يجوز الإخلال بلفظه كقوله عليه السلام: "تحريمها التكبير وتحليلها التسليم1" . وكقوله عليه السلام.: "خمس يقتلن في الحل والحرم2" . وما أشبه ذلك. قال والأصح هو الجواز بكل حال. وأما علماؤنا فاحتجوا بقوله تعالى {خَالِصَةً} "الأحزاب:50". أي أحللنا لك من وقع لها أن تهب لك نفسها ولا تطلب مهرا من النساء المؤمنات إن اتفق ذلك ومتى جاز نكاح النبي عليه السلام وهو قدوة الأمة جاز للأمة إلا حيث تثبت الخصوصية. وقوله تعالى {خَالِصَةً} "الأحزاب 50". مصدر مؤكد كوعد الله وكتاب الله أي خلص لك إحلال ما أحللنا لك خلوصا. والفاعل والفاعلة في المصدر غير عزيز كالخارج والقاعد والعافية والكاذبة كذا في الكشاف. أو هي صفة مصدر محذوف دل عليه قوله وهبت أي هبة خالصة لك بغير بدل وكان عليه السلام مخصوصا بذلك بخلاف سائر المؤمنين فإن الهبة لا تخلص لهم بل يجب البدل حكما. والدليل على ما ذكرنا صدر الآية وسياقها فإن المذكور في أول الآية {أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} "الأحزاب:50"وفي سياقها {قدَعلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} "الأحزاب:50". فعرفنا أن الخلوص له الإباحة بغير مهر وأن لا إباحة لغيره إلا بفرض ومهر. ولأن الخصوصية لإبانة الشرف ولا يتبين ذلك في التخصيص باللفظ إذ ليس في إطلاق العبارة بلفظ دون لفظ فائدة ولا عسر في العبارة ولا حرج خصوصا لمن كان أفصح العرب والعجم إنما الفائدة في الأحكام التي تتعلق بالألفاظ. وإمامنا في هذه المسألة علي رضي الله عنه روي أن رجلا وهب ابنته لعبيد الله بن الحر فأجاز علي رضي الله عنه ذلك. ولما ثبت الانعقاد بلفظ الهبة ثبت بلفظ البيع بالطريق الأولى; لأنه مثله في الإيجاب ويزيد
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الطهارة حديث رقم 61 والترمذي في الطهارة حديث رقم 3 وابن ماجة في الطهارة حديث رقم 2750 والإمام أحمد في المسند 1/123.
2 أخرجه مسلم في الحج حديث رقم 1199 وابو داود في المناسك حديث رقم 1846 وابن ماجة في المناسك حديث رقم 2087.(2/98)
الأحكام من حيث هي غير محصورة جعلت فروعا وثمرات للنكاح وبني النكاح على حكم الملك له عليها; لأنه أمر معقول معلوم ألا ترى أن المهر يلزم بالعقد لها ولو كان ما ذكرت أصلا وهو مشترك لما صح إيجاب العوض على أحدهما, ولهذا كان الطلاق بيد الزوج; لأنه هو المالك وإذا كان كذلك قلنا لما شرع هذا
ـــــــ
عليه بالعوض والنكاح لا يكون إلا بعوض فكان البيع أقرب إلى النكاح من الهبة. وأما الكلام من حيث المعنى فما أشار إليه الشيخ في الكتاب بقوله والجواب أي عما قال الشافعي أنه لا يجوز إقامة ألفاظ التمليك مقام لفظي النكاح والتزويج لانعدام المجوز هو أن لفظ الهبة والبيع وسائر ألفاظ التمليك. وضع أي كل واحد منهما لملك الرقبة. وملك الرقبة سبب لملك المتعة أي موجب له إذا كان المحل قابلا له; لأن ملك المتعة يثبت به تبعا له فكان ألفاظ التمليك سببا لملك المتعة وقد ثبت من مذهب العرب استعارة اللفظ لغيره إذا كان سببا له كما استعارت لفظ السماء للكلإ في قولهم: إذا سقط السماء بأرض قوم. أي الكلأ بدليل قوله: رعيناه وإن كانوا غضابا; لأن السماء سبب المطر والمطر سبب الكلأ وكما استعاروا لفظ المسيس للجماع; لأن المس سبب انبعاث الشهوة وذلك مؤدي إلى الجماع.
"وإذا كان كذلك" أي وإذا كان الشأن ما ذكرنا من وجود الاتصال بين ملك المتعة وألفاظ التمليك بواسطة الرقبة قام هذا الاتصال مقام الاتصال الذاتي بين المحسوسين. فصحت الاستعارة لهذا الاتصال أي لأجل هذا الاتصال الموجود بين السببين والحكمين. المراد بالسبيين ألفاظ التمليك وألفاظ النكاح ومن الحكمين ملك الرقبة وملك المتعة فالاتصال بين السببين ثابت من حيث إن كل واحد يوجب ملك المتعة أحدهما بواسطة والآخر بغير واسطة وكذا بين الحكمين; لأن ملك المتعة يثبت بملك الرقبة فيجوز أن يقوم هذه الألفاظ مقام ألفاظ النكاح; لأن ما هو المقصود بالنكاح وهو ملك المتعة يثبت بألفاظ التمليك بواسطة ملك الرقبة. قال شمس الأئمة رحمه الله ولا حاجة إلى النية يعني في انعقاد النكاح بألفاظ التمليك; لأن المحل الذي أضيف إليه متعين لهذا المجاز وهو النكاح لنبوته عن قبول الحقيقة بخلاف إيقاع الطلاق بألفاظ العتق لصلاحية المحل للوصف بالحقيقة
"فإن قيل": ملك المتعة في النكاح غير ما يثبت في ملك اليمين لتغايرهما في الأحكام المتعلقة بهما من ثبوت ملك الطلاق والإيلاء والظهار ونحوها في أحدهما دون الآخر وألفاظ التمليك لا يعرف سببا للنوع الأول من ملك المتعة بل عرف سببا للنوع الآخر فلا يجوز إثباته بها.(2/99)
الحكم بلفظ النكاح والتزويج ولا يختصان بالملك وضعا ولغة فلأن يثبت بلفظ التمليك والبيع والهبة وهي للتمليك وضعا أولى وإنما صلح الإيجاب بلفظ النكاح والتزويج وإن لم يوضعا للملك; لأنهما اسمان جعلا علما
ـــــــ
"قلنا" ملك المتعة عبارة عن ملك الانتفاع والوطء وهو لا يختلف في النكاح وملك اليمين لكن تغاير الأحكام لتغايرهما حالا لا ذاتا فإنه في باب النكاح يثبت مقصودا به وفي ملك اليمين يثبت تبعا له وقد يختلف الحكم بتغاير الحالة مع اتحاد الذات كالثمرة المتصلة بالشجر يتعلق بها حق الشفيع ولا يتعلق إذا كانت منفصلة فاختلف الحكم بتغاير الحال دون الذات ونحن إنما اعتبرنا اللفظ لإثبات ملك المتعة في المحل فيثبت على حسب ما يحتمله المحل فإذا جعلنا لفظ الهبة مجازا أثبتنا به ملك المتعة قصدا لا تبعا فيثبت فيه أحكام النكاح ولا يثبت أحكام ملك اليمين
قوله: "والجواب عما قال" أي عما قال الشافعي إن النكاح عقد شرع لأمور لا تحصى من مصالح الدين والدنيا فلا ينعقد إلا بلفظ النكاح والتزويج هو أنا لا نسلم ذلك بل هو مشروع لأمر واحد وهو ملك المتعة وما وراءه من فروع النكاح وثمراته لا من الأمور الأصلية فيه; لأنها غير محصورة لا يمكن ضبطها فلا يصلح وضع النكاح لأمور غير معلومة ولأنها ربما تحصل وربما لا تحصل وقد تحصل بعضها دون البعض فلا تصلح أن تكون هي المقصود الأصلي فيه وأن يكون النكاح مبينا لها إذ لا بد للأمر الأصلي أن يثبت عقيب علته لا محالة كسائر الأحكام عقيب أسبابها فيجعل مبينا على حكم الملك للرجل على المرأة; لأن ثبوت الملك به أمر معقول بدليل أن الرجل قوام على المرأة كالمولى على الأمة وبدليل أن البدل وهو المهر يلزم بالعقد لها عليه. ولو كان ما ذكر الشافعي من المصالح أصلا في النكاح لما كان إيجاب البدل على أحدهما خاصة; لأن تلك المصالح مشتركة بينهما. وكذا هو معلوم أيضا بلا شبهة ويثبت في حق الجميع قطعا فكان جعله أصلا في النكاح أولى. وإذا كان كذلك أي وإذا كان الحكم الأصلي في النكاح ما ذكرنا وهو الملك قلنا إلى آخره والتقريب ظاهر وقوله وضعا ولغة ترادف "أو وضعا" أي في أصل الوضع "ولغة" أي في استعمال أهل اللغة.
قوله: "وإنما صلح الإيجاب" جواب سؤال يرد على هذا التقرير وهو أن يقال لما كان المقصود الأصلي فيه إثبات الملك ينبغي أن لا ينعقد النكاح بلفظ النكاح والتزويج; لأنهما لا ينبئان عن إثبات الملك بوجه لغة. أو كان استعمال ألفاظ التمليك فيه أولى من استعمال لفظي النكاح والتزويج. فقال إنما صلح الإيجاب أي إثبات هذا الحكم بهذين اللفظين; لأنهما بمنزلة العلمين لهذا الحكم في إثبات هذا الملك بهما, والعلم يثبت(2/100)
لهذا الحكم والعلم يعمل وضعا لا بمعناه بمنزلة النص في دلائل الشرع وإنما تعتبر المعاني لصحة الاستعارة على نحو ما يستعمل للقياس فلما ثبت الملك
ـــــــ
الحكم بعينه لا بمعناه بمنزلة النص في دلائل الشرع. وبيانه أن الاسم الموضوع للشيء يدل على ما وضع له سواء عقل معناه أو لم يعقل; لأن الحقيقة تثبت بالسماع من غير أن يعقل معناها ألا ترى أن الأعلام تدل على مسمياتها من غير أن يوجد فيها معناها فإن القصير يسمى طويلا والأسود يسمى كافورا ويدلان على المسمى من غير وجود معنى الطول والبياض أصلا كما أن النصوص يوجب الأحكام بعينها سواء عقل معناها أو لم يعقل. وكما أن هناك إذا احتيج إلى القياس يعتبر المعاني فكذلك هنا إذا احتيج إلى الاستعارة تعتبر المعاني ليصح استعارة هذا اللفظ لمعنى آخر "فلما ثبت الملك" الذي هو مقصود في الباب "بهما" أي بلفظي النكاح والتزويج. وضعا من غير أن يكون لهما دلالة باعتبار أصل الاشتقاق على الملك "صحت التعدية به" أي صحت تعدية ثبوت الملك وكانت الباء زائدة. أو صحت تعدية ثبوت الملك "به" أي بكون الملك ثابتا بهما والباء للسببية. إلى ما هو صريح في التمليك وهو الألفاظ المتنازع فيها. وهذا بخلاف لفظ الإجارة والإعارة والإحلال وأخواتها فإن الإجارة والإعارة لتمليك ملك المنفعة بعوض وغير عوض وملك المنفعة لا يكون سببا لملك المتعة بحال. والإقراض بمعنى الإعارة أيضا على ما عرف في موضعه مع أن الإقراض في محل المتعة لا يصح; لأن محلها الآدمي والاستقراض في الحيوان لا يجوز. وأما لفظ الإحلال فلا يوجب ملك المتعة أصلا وكذا الإباحة والتمتع فإن من أحل لغيره طعاما أو أباحه له أو أذن له أن يتمتع به لا يملكه وإنما يتلفه على ملك المبيح فكذا إذا استعملت في النكاح لا يثبت بها الملك. وكذا لفظ الوصية لا يوجب الملك بنفسه أصلا بل موجبه الخلافة مضافة إلى ما بعد الموت ولو صرح بلفظ النكاح مضافا لا يصح أيضا
"فإن قيل": الهبة أيضا لا توجب الملك ما لم ينضم إليها القبض. "قلنا": الهبة لا توجب إضافة الملك ولكن لضعف في السبب لتعريه عن العوض بتأخر الملك إلى أن يتقوى بالقبض, وينعدم ذلك الضعف إذا استعمل في النكاح; لأن العوض يجب به بنفسه, ولهذا جاز استعماله في حق الصغيرة والكبيرة فلهذا كان موجبا ملك النكاح بنفسه مع أن المملوك بالنكاح بنفس العقد يصير كالمقبوض, ولهذا لو ماتت عقيب العقد تقرر البدل فكان هذا بمنزلة هبة عين فسد الموهوب له فيوجب الملك بنفسه كذا في "المبسوط". وقال القاضي الإمام رحمه الله إن تراخي الملك عن الهبة ليس من موجب الهبة فإن القبض لو سبق الهبة ملك بنفسها ولكن نفيا عن المتبرع عهدة ما لم يتبرع به وإذا كان كذلك(2/101)
بهما وضعا صحت التعدية به إلى ما هو صريح في التمليك فإن قيل فهلا صحت استعارة النكاح للبيع والمناسبة التي ذكرتم قائمة; لأنها تقوم بالطرفين جميعا لا محالة لا يناسب الشيء غيره إلا وذلك يناسبه كالأخوين قيل له الاتصال من هذا الوجه على نوعين أحدهما اتصال الحكم بالعلة والثاني اتصال الفرع بما هو سبب محض ليس بعلة وضعت له فالأول يوجب الاستعارة من الطرفين; لأن العلة لم تشرع إلا لحكمها والحكم لا يثبت إلا بعلته فاستوى الاتصال فعممت الاستعارة.ولهذا قلنا فيمن قال إن ملكت عبدا فهو حر فملك نصف عبد ثم
ـــــــ
صار عبارة عن نكاح مطلق ثم النكاح لا يقع تبرعا ليتأخر الملك نفيا للعهدة عنها على أن النكاح بشرط أن لا يملك صحيح والشرط باطل.
قوله: "فإن قيل فهلا صحت" هذا السؤال يرد على قوله فصحت الاستعارة لهذا الاتصال بين السببين والحكمين. وتوجيهه أن يقال لو صحت استعارة البيع للنكاح للاتصال بينهما من حيث السببية يلزم أن تصح استعارة النكاح للبيع والهبة أيضا لقيام الاتصال الذي ذكرتم; لأن الاتصال لا بد له من طرفين ليقوم بهما ولا يتصل الشيء بغيره إلا وأن يكون ذلك الغير متصلا به أيضا; لأنه من الإضافيات كالأخوة لما افتقرت إلى طرفين تثبت من الجانبين وقد وافقتمونا على فساد هذه الاستعارة فيدل على فساد الأولى. فأجاب وقال الاتصال من هذا الوجه على نوعين كامل وناقص.
فالأول هو أن يكون الاتصال من الجانبين وذلك بأن يكون كل واحد منهما مفتقرا إلى الآخر كاتصال كل واحد من العلة والمعلول بصاحبه; لأن الحكم لا يثبت إلا بعلته فيكون من حيث الوجود مفتقرا إليها وكذا العلة تشرع ولم تقصد لذاتها وإنما شرعت للحكم حتى لا يكون مشروعة في محل لا يتصور شرعية الحكم فيه, نحو بيع الحر ونكاح المحارم فكانت مفتقرة إلى الحكم من حيث الغرض. وهذا النوع من الاتصال يوجب أي يجوز الاستعارة من الطرفين لتحقق الاتصال من الجانبين بعدم استغناء كل واحد منهما عن صاحبه.
قوله: "ولهذا قلنا" أي ولأن جواز الاستعارة يعم الجانبين قلنا فيمن قال إلى آخره. والمسألة على أربعة أوجه. أحدها الحلف على ملك عبد منكر بأن قال إن ملكت عبدا فهو حر فملك نصف عبد وباعه ثم ملك النصف الباقي عتق هذا النصف في القياس وفي الاستحسان لا يعتق وجه القياس أن الشرط ملك العبد مطلقا من غير شرط الاجتماع وقد حصل فيعتق هذا النصف كما في فصل الشراء وكما في العبد المعين. وجه الاستحسان(2/102)
باعه ثم ملك النصف الباقي لم يعتق حتى يجتمع الكل في ملكه ولو قال إن اشتريت عبدا عتق النصف الباقي وإن لم يجتمع وفي العبد المعين يستويان وإن قال عنيت بالملك الشراء كان مصدقا في الحكم والديانة وإن قال عنيت
ـــــــ
أن ملك المطلق يقع على كماله وذلك بصفة الاجتماع فاختص به ألا ترى أن الرجل إذا قال إن ملكت مائتي درهم فعبدي حر أنه يقع على اجتماع الملك وهذا أيضا استحسان.
وألا ترى أن الرجل يقول والله ما ملكت مائتي درهم قط ولعله قد ملكها وزيادة متفرقة لكن لما لم يجتمع في ملكه يعد صادقا وذلك; لأن المطلق يتقيد بدلالة العادة كمطلق اسم الدراهم يتقيد بنقد البلد فههنا مطلق الملك يتقيد بالاجتماع بدلالة العادة أيضا. وكان أبو بكر الإسكاف1 إذا أراد تفهيم أصحابه هذه المسألة دعا بحمال كان على باب مسجده فيقول يا فلان هل ملكت مائتي درهم فيقول والله ما ملكتها قط ثم ينظر إلى أصحابه كم ترون أنه ملك من الدراهم متفرقا وأنفق على نفسه فعرفنا أن المراد بمثل هذا: المجتمع دون المتفرق.
والثاني الحلف على شراء عبد منكر بأن قال إن اشتريت عبدا فهو حر فاشترى نصف عبد وباعه ثم اشترى النصف الباقي لنفسه عتق هذا النصف بخلاف الملك. والفرق بينهما أن الاجتماع في الملك بصفة العبدية بعد الزوال لا يتحقق فأما الاجتماع في كونه مشتر له بعد الزوال فمتحقق; لأن كونه مشترى له لا يتوقف على ملكه ألا ترى لو قال إن اشتريت عبدا فامرأته طالق فاشتراه لغيره أنه يحنث في يمينه فإذا اشترى الباقي بعد بيع النصف الأول فقد اجتمع الكل في عقده فوجب الحنث. إلا أن يعني أن يشتري عبدا كاملا فيدين فيما بينه وبين الله تعالى ولا يدين في القضاء; لأنه نوى تخصيص العام. والثالث. والرابع أن ينعقد اليمين على ملك عبد بعينه أو شراء عبد بعينه والمسألة بحالها يعتق النصف الباقي في الفصلين بخلاف الفصل الأول. والفرق أن الاجتماع صفة مرغوبة فيعتبر في غير المعين ولا يعتبر في المعين; لأنه يعرف بالإشارة إليه كمن حلف لا يدخل هذه الدار لا يعتبر فيها صفة العمران ويعتبر في غير المعين. ولأن الإنسان في العادة إنما يستخبر من نفسه أن يقول ما ملكت ألف درهم مريدا بصفة الاجتماع لا بصفة الافتراق في غير المعين ولا يستخبر ذلك في المعين لا يقول ما ملكت هذا الألف إذا ملكه متفرقا. وذلك لأن بدون الإشارة إلى المعين قصده نفي الغناء عن نفسه ولم يحصل له
ـــــــ
1 هو أبو بكر محمد بن أحمد الإسكاف البلخي توفي سنة 333ه فقيه حنفي أنظر الفوائد البهية 160(2/103)
بالشراء الملك كان مصدقا في الديانة; لأنه استعار الحكم لسببه في الفصل الأول واستعار السبب لحكمه في الثاني.وأما الاتصال الثاني فيصلح طريقا للاستعارة
ـــــــ
الغناء إذا كان ملكه متفرقا وفي المعين قصده نفي ملكه عن المحل وقد كان ملكه على المشار إليه ثابتا وإن كان في أزمنة متفرقة كذا في جامع المصنف وشمس الأئمة رحمهما الله. والمراد من قوله عتق النصف في فصل الشراء هو أن يكون الشراء صحيحا فإن كان فاسدا لم يعتق وإن اشتراه جملة; لأن شرط حنثه ثم قبل أن يقبضه ولا ملك له فيه قبل القبض, ألا ترى أنه لو أعتقه لم ينفذ. فإن كان في يده حين اشتراه عتق إذا كان مضمونا بنفسه في يده حتى ينوب قبضه عن قبض الشراء فيصير متملكا بنفس الشراء فيعتق لوجود الشراء كذا في المبسوط. قال العبد الضعيف ينبغي أن يكون قوله يعتق النصف في هذه المسائل قول أبي حنيفة رحمه الله فأما عندهما فينبغي أن يعتق كله ثم يجب السعاية في النصف أو الضمان للاختلاف المعروف في تجزي الإعتاق.
قوله "وإن قال عنيت بالملك الشراء". هذا هو التقريب يعني إن عنى بالملك الشراء حتى لا يشترط الاجتماع فيه فيعتق النصف يصدق ديانة وقضاء; لأنه استعار الحكم وهو الملك. لسببه أي لعلته فيجوز وفيه تغليظ عليه فيصدقه القاضي أيضا. والسبب لفظ عام يطلق على العلة وعلى السبب المصطلح يقال النكاح سبب الحل والبيع سبب الملك, والمراد منه العلة. وإن نوى بالشراء الملك حتى يشترط الاجتماع فيه فلا يعتق النصف الباقي يصدق ديانة; لأنه استعار السبب أي العلة لحكمه فيجوز ولا يصدقه القاضي; لأنه نوى ما فيه تخفيف عليه فلا يقبل قوله للتهمة لا لعدم صحة الاستعارة.
ثم المراد من قوله يدين فيما بينه وبين الله تعالى ولا يدين في القضاء أنه إذا استفتى يجيبه المفتي على وفق ما نوى ولكن القاضي يحكم عليه بموجب كلامه ولا يلتفت إلى ما نوى إذا كان فيه تخفيف. وكان هذا نظير ما لو استفتى رجل عن فقيه أن لفلان علي ألف درهم وقد قضيته هل برئت من دينه فالفقيه يفتيه بأنك برئت منه وإذا سمع القاضي ذلك منه يقضي عليه بالدين إلا أن يقيم بينة على الإيفاء كذا في بعض شروح الجامع.
والثاني وهو الاتصال الناقص أن يكون الافتقار من أحد الجانبين دون الآخر كاتصال الفرع أي الحكم بما هو سبب محض ليس بعلة وضعت له.
لفظ السبب يطلق على العلة وغيرها يقال البيع سبب الملك والنكاح سبب الحل والزنا سبب الحد ويراد به العلة; لأن معنى الإفضاء في العلة أكثر منه في غيرها فبقوله محض(2/104)
---------------------------------------------------------
ـــــــ
احترز عن العلة إذ السبب المحض لا يكون موجبا للمسبب بذاته بحال, ثم من شرط المحض أن لا يكون الحكم مضافا إليه ولا العلة التي تخللت بينه وبين الحكم, والمراد ههنا انتفاء إضافة الحكم إليه دون علته بدليل أن العلة وهي زوال ملك الرقبة فيما ذكر من النظير أضيفت إلى السبب وهو أنت حرة وإن لم يضف الحكم وهو زوال ملك المتعة إليه فلذلك فسره بقوله ليس بعلة وضعت له يعني المراد من السبب المحض أن لا يكون علة موضوعة للفرع لا أن لا يكون العلة المتخللة مضافة إليه أيضا فإن ذلك ليس بشرط ههنا. وهذا النوع من الاتصال يصلح طريقا للاستعارة من أحد الطرفين وهو أن يستعار الأصل للفرع والسبب للحكم دون العكس; لأن الشرط في صحة الاستعارة أن يكون المستعار له متصلا بالمستعار منه ليصير بمنزلة لازم من لوازمه فيصح ذكر الملزوم وإرادة اللازم والمسبب مفتقر إلى السبب افتقار المعلول إلى العلة لقيامه به فيصلح ذكر السبب وإرادة ما هو من لوازمه تقديرا وهو المسبب فأما السبب فمستغن في ذاته عن المسبب لقيامه بنفسه وحصول حكمه الأصلي الذي وضع له به وثبوت المسبب به من الأمور الاتفاقية فإن شراء الأمة المجوسية والأخت من الرضاعة والعبد والبهيمة جائز لحصول موجبه الأصلي وهو الملك وإن لم يحصل ملك المتعة وإذا كان كذلك لا يصير السبب متصلا بالمسبب ولازما له لعدم افتقاره إليه فلا يتحقق الاستعارة إذ هي ذكر الملزوم وإرادة اللازم فلهذا لا يجوز استعارة المسبب للسبب. إلا إذا كان المسبب مختصا بالسبب فحينئذ تجوز استعارة المسبب له أيضا كقوله تعالى إخبارا. {إِِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} "يوسف:36". أي عنبا استعير اسم المسبب للسبب لاختصاص الخمر بالعنب. وكقولهم أمطرت السماء نباتا أي ماء سموه باسم مسببه وهو النبات لاختصاصه به. وكقول الراجز:
أقبل في المستن من ربابه ... أسنمة الآبال في سحابه
سمي الماء باسم مسببه وهو أسنمة الآبال; لأن الأسنمة لا يرتفع إلا بالنبات ولا يوجد النبات إلا بالماء. وذلك; لأنه إذا كان المسبب مختصا بالسبب صارا في معنى العلة والمعلول فيصير السبب إذ ذاك متعلقا بالمسبب أيضا من حيث إن المسبب لما لم يحصل إلا به والمسبب مطلوب صار كأن السبب موضوع له ومفتقر إليه نظرا إلى الغرض كافتقار العلة إلى المعلول فيحصل الاتصال من الجانبين. ألا ترى أن الخمر لما اختصت بالعنب صار العنب متصلا بها ومفتقرا إليها من حيث إن الخمر ماء العنب ولا قيام للعنب بدون مائه. وكذلك النبات أو ارتفاع السنام لما لم يحصل إلا بالمطر صار للمطر تعلق به من حيث الغرض والحكمة فيجوز الاستعارة من الجانبين فأما ثبوت ملك المتعة بالبيع(2/105)
من أحد الطرفين وهو أن يستعار الأصل للفرع والسبب للحكم; لأن هذا الاتصال ثابت في حق الفرع لافتقاره.ولا يصح أن يستعار الفرع للأصل; لأن هذا الاتصال في حق الأصل معدوم لاستغنائه وهذا كالجملة الناقصة إذا عطفت على الجملة الكاملة توقف أول الكلام على آخره لصحة آخره وافتقاره فأما الأول فتام في
ـــــــ
والهبة فقد حصل تبعا واتفاقا فكان اتصاله بالأصل عدما في حق الأصل فلا يصح استعارته له.
قوله "أن يستعار الأصل للفرع" والسبب للحكم. قيل قوله والسبب للحكم عطف تفسير وفائدته دفع وهم من يتوهم أن المراد من الأصل العلة ومن الفرع المعلول. وقيل الأصل والفرع أعم من السبب والمسبب فيتناول غير المشروعات والسبب والمسبب مختصان بالمشروعات ويؤيده ما ذكره شمس الأئمة لا يصح استعارة الحكم للسبب كما لا يصح استعارة الفرع للأصل.
قوله "وهذا كالجملة الناقصة". أي الاتصال بين السبب والمسبب الذي هو ثابت من أحد الجانبين مثل اتصال الجملة الناقصة بالكاملة في قوله زينب طالق وعمرة مثلا فقوله زينب طالق جملة تامة لوجود طرفيها وقوله وعمرة جملة ناقصة لافتقارها إلى الخبر, ولهذا لو انفردت لا يفيد شيئا لكنها بواسطة واو العطف تعلقت بالأولى فتوقف حكم الأولى ليصح اشتراكهما في الخبر وتصير الثانية مفيدة مثل الأولى فيقع الطلاق عليهما ولكن هذا التوقف ثابت بالنسبة إلى الجملة الناقصة لافتقارها إلى الخبر ولكنه بالنسبة إلى الأولى في حكم العدم لكمالها في نفسها. والدليل على التوقف في حق الثانية وقوع الطلقات الثلاث في قوله للمدخول بها أنت طالق وطالق وطالق. وعلى عدم التوقف في حق نفسها عدم وقوع الطلقة الثانية والثالثة في قوله لغير المدخول بها أنت طالق وطالق وطالق; لأن الجملة الأولى لما لم تتوقف في نفسها ثبت موجبها قبل التكلم بالجملة الثانية وقد بانت لا إلى عدة فيلغو ما بعدها.
ونظير ما ذكرنا من الأصول إضافة الحكم في المحل المنصوص عليه إلى المعنى بالنسبة إلى الفرع ليصح التعدية إليه وعدم إضافته إليه بالنسبة إلى نفس المنصوص عليه لعدم الافتقار إليه بوجود النص الذي هو أقوى منه. ومن الفروع صحة اقتداء المتنفل بمن يصلي صلاة مضمونة مع أنها غير مضمونة على الإمام مضمونة على المقتدي لكن عدم الضمان في حق الإمام بعارض ظن يخصه فلا يظهر في حق المقتدي فتكون صلاته هذه مضمونة في حق المقتدي غير مضمونة في حق نفسه.(2/106)
نفسه لاستغنائه وعلى هذا الأصل قلنا إن ألفاظ العتق تصلح أن تستعار للطلاق; لأنها وضعت لإزالة ملك الرقبة وذلك يوجب زوال ملك المتعة تبعا لا قصدا على نحو ما قلنا فصحت الاستعارة وقال الشافعي رحمه الله يصح أن
ـــــــ
قوله "وعلى هذا الأصل". أي على أن استعارة السبب للمسبب جائزة قلنا إن ألفاظ العتق يصلح أن يستعار للطلاق بأن قال لامرأته حررتك أو أعتقتك أو أنت حرة ناويا للطلاق وقع للطلاق لما ذكر في الكتاب. وإنما يحتاج إلى النية; لأن المحل المضاف إليه غير متعين لهذا المجاز بل هو محل لحقيقة الوصف بالحرية فيحتاج إلى النية ليتعين المجاز بخلاف استعارة ألفاظ التمليك للنكاح حيث يصح بدون النية; لأن إضافتها إلى الحرة لا تدل إلا على النكاح فإن الأب إذا قال لآخر بعت ابنتي منك أو وهبتها لك لا يمكن العمل لحقيقة البيع والهبة لعدم قبول المحل حكمهما فتعينت جهة الاستعارة فلذلك لا يحتاج إلى النية. قوله "وقال الشافعي" لا يجوز استعارة ألفاظ الطلاق للعتاق عندنا وقال الشافعي رحمه الله يجوز والخلاف في الصريح والكناية سواء حتى لو قال لأمته أنت طالق أو طلقتك أو أنت بائن أو أنت حرام ونوى به الحرية لا يعتق عندنا خلافا له. قال التشابه والتشاكل في المعاني من طرق الاستعارة كالشجاع تسمى أسدا والبليد حمارا وقد ثبتت المشاكلة بين الطلاق والعتاق في المعنى لغة وشرعا. أما لغة فلأن الطلاق معناه التخلية والإرسال يقال أطلقت البعير أي أرسلته وخليته وكذا العتاق موضوع لهذا فإنه يقال أعتقت العصفور وحررته أي أرسلته. وأما شرعا فلأن كل واحد منهما إزالة الملك بطريق الإبطال مبني على السراية فإنه لو طلق نصفها يسري إلى الكل وكذا لو أعتق نصفه يسري إلى الكل أيضا إذا كان موسرا وكذا كل واحد منهما لازم لا يرتد بالرد ولا يحتمل الفسخ ويحتمل التعليق بالشرط والإيجاب في المجهول وإذا ثبت الاتصال بينهما معنى جاز استعارة الطلاق للعتاق كما جاز عكسه.
"وقلنا" لا يصح هذه الاستعارة; لأن طريق صحتها منحصر على الاتصال ذاتا أو معنى كما تقدم ذكره وقد عدم الاتصال بينهما ذاتا; لأنه في الشرعيات من حيث السببية وانقطاع ملك النكاح قط لا يكون سببا لانقطاع ملك الرقبة كملك المنفعة لا يكون سببا لملك الرقبة وقد بينا أن اتصال المسبب بالسبب لا يصلح طريقا للاستعارة وقد سلم الخصم أيضا أنه لا اتصال بينهما من حيث السببية فلا يصح الاستعارة بهذا الطريق وكذا عدم الاتصال بينهما معنى لما ذكر في الكتاب فامتنعت الاستعارة بالكلية وصار بمنزلة قوله اسقني ناويا للعتق.(2/107)
يستعار الطلاق للعتق; لأنهما في المعاني يتشابهان; لأن كل واحد منهما إسقاط بني على السراية واللزوم والمناسبة في المعاني من أسباب الاستعارة مثل المناسبة في الأسباب وقلنا لا يصح هذه الاستعارة لما قلنا في المسألة الأولى أن اتصال الفرع بالأصل في حق الأصل في حكم العدم.
ولا تصح الاستعارة للمناسبة في المعاني من الوجه الذي قلنا; لأن طريق الاستعارة من قبل المعاني المشاكلة في المعاني التي هي من قبيل الاختصاص الذي به يقوم الموجود فأما بكل معنى فلا وهذا الطريق من الخصم نظير طريقه في أوصاف النص أن التعليل بكل وصف صحيح من غير أثر خاص وقلنا نحن هو باطل; لأن الابتلاء يسقط فكذلك
ـــــــ
قوله "من الوجه الذي قلنا" أي ذكرناه في جانب الشافعي أن كل واحد منهما إسقاط بني على السراية واللزوم. هي من قبيل الاختصاص الذي يقوم به الموجود أي من قبيل المعاني المختصة التي قيام الموجود بها بحيث لو زالت عنه لا يبقى الموجود على حقيقته ولا يريد به المعنى الداخل في الماهية وإنما يريد معنى هو مختص به وملازم له واشتهر به مثل الشجاعة للأسد والبلادة للحمار فإن قوامهما بهما يعني لا يتصور وجودهما بدونهما. فأما بكل معنى فلا أي فأما الاستعارة بكل معنى فلا يجوز; لأنها لو جازت بكل معنى جازت استعارة الأرض للسماء والجدار للإنسان باعتبار الجسمية والوجود والحدوث ولا يتفوه به عاقل. ولأن الاستعارة مأخوذة من العرب وإنهم استعاروا بالمعنى المخصوص المشهور وامتنعوا عن الاستعارة بالأوصاف العامة فعلم أنها لا يصح بكل معنى. ألا ترى أن البخر والحمى من لوازم الأسد كالشجاعة ولكن لما لم يشتهر بهذين الوصفين لا يجوز أن يستعار الأسد للأبخر والمحموم. وهذا الطريق أي الاستعارة بكل وصف مشهورا كان أو غيره نظير طريقه في اعتبار أوصاف النص حيث جوز التعليل بالوصف المؤثر وبغيره من الوصف المخيل والوصف المتعدي وغير المتعدي وجوز التعليل بقياس الشبه. هو باطل أي التعليل بكل وصف باطل; لأن الابتلاء يسقط; لأن الناس مبتلون بالاعتبار بالنص وهو قوله تعالى {فَاعْتَبِرُوا} "الحشر:2". فلو جاز التعليل بكل وصف لم يبق للابتلاء فائدة ولم يبق للعالم على الجاهل فضل ولقاس كل من له أدنى تمييز بأي وصف شاء وبطلانه لا يخفى على ذي لب. وذلك يبطل الامتحان أي الاستعارة بكل وصف يبطل الامتحان فإن المجاز طريق وضع يزداد الكلام به حسنا وطراوة وبهجة وفصاحة ويتميز الذكي من الغبي في إبداع الاستعارات والتعريضات واستخراج غرائب التشبيهات فلو جازت الاستعارة بكل وصف لزال حسن الكلام وذهبت طراوته وصار المجاز من عيوب الكلام بعد أن كان من محاسنه ولاستوى البليغ الماهر في فنون الكلام(2/108)
الاستعارة يقع بمعنى له أثر الاختصاص ألا ترى أن العرب تسمي الشجاع أسدا للاشتراك في المعنى الخاص وهو الشجاعة فأما بكل وصف فلا; لأن ذلك يبطل الامتحان ويصير الموجودات في الأحكام كلها متناسبة ولا مناسبة بينهما من هذا الوجه; لأن معنى الطلاق ما وضع له اسمه وما احتمله محله وهو رفع القيد; لأن الإطلاق عبارة عنه والنكاح لا يوجب حقيقة الرق ولا يسلب المالكية وإنما
ـــــــ
العالم بجهات الفصاحة ومن لم يشم رائحة منها وغفل عن لطائفها وهو خلاف العقل والإجماع.
قوله "ولا مناسبة بينهما" أي بين الطلاق والعتاق. من هذا الوجه أي الوجه الذي هو طريق الاستعارة وهو المشاكلة في المعنى الخاص المشهور الذي وضع كل واحد منهما له; لأن معنى الطلاق رفع القيد لغة وشرعا وإليه أشار بقوله ما وضع له اسمه وما احتمله محله. أما لغة فلأن معناه التخلية والإرسال يقال أطلق المقيد والمسجون إذا خلى سبيله وأرسله وأطلق البعير إذا رفع عقاله وخلى سبيله. ومنه أطلقت الأسير إذا حللت إساره وخليت عنه والتركيب يدل على الحل والانحلال.
أما شرعا فلأن النكاح لا يوجب الرق حقيقة ولا يسلب المالكية فإنها ثابتة لها بعد النكاح كما كانت قبله بدليل أنها بقيت أهلا للشهادات والتصرفات, ولو وطئت بشبهة كان العقر لها لا للزوج لكنها صارت محبوسة بحق الزوج مقيدة شرعا حتى لم يحل لها الخروج والبروز بدون إذنه ولم يحل لها تزويج نفسها من أحد فالطلاق يزيل الحبس ويرفع القيد الذي أثبته النكاح عنها فهذا القدر هو الذي احتمله المحل لا غير.
. فأما الإعتاق فإثبات القوة لغة وشرعا أما لغة فلأنه يقال عتق الفرخ إذا قوي حتى طار عن وكره ومنه عتاق الطير لكواسبها مثل الصقر والبازي لزيادة قوة وغلبة فيها وهو جمع عتيق ويقال عتقت البكر إذا أدركت وقويت. وهذا شائع بالشين المعجمة أي منتشر مشهور في كلام العرب. وأما شرعا فلأن الرق الذي هو في حكم الموت ثابت على الكمال, وسلطان المالكية أي تسلطها ساقط أي معدوم حتى التحق المرقوق بالبهائم ولم يبق له شهادة ولا ولاية فكان الإعتاق إحياء له وإثباتا للقوة الشرعية فيه وليس بين إزالة القيد ليعمل القوة الثابتة عملها وبين إثبات القوة بعدما عدمت مشابهة كما ليس بين إحياء الميت وبين إطلاق الحي مشابهة, ولهذا لم يصح احتجاج نمرود اللعين بقوله {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} "البقرة:258" في محاجته إبراهيم عليه السلام حيث جعل رفع القيد عن المحبوس معارضا للإحياء الحقيقي وإذا ثبت ذلك امتنعت الاستعارة لانسداد طريقها بالكلية(2/109)
يوجب قيدا فلا يحتمل إلا إطلاق القيد وأما الإعتاق فإثبات القوة الشرعية; لأن ذلك معناه لغة يقال عتق الطير إذا قوي وطار عن وكره ومنه عتاق الطير. ويقال عتقت البكر إذا أدركت وهذا شائع في كلام العرب وكذلك الرق ثابت على الكمال وسلطان المالكية ساقط فصح الإعتاق إثباتا وليس بين إزالة القيد لتعمل القوة الشرعية عملها وبين إثباتها بعد العدم مشابهة كما ليس بين إحياء الميت وبين إطلاق الحي مشابهة فما هذا إلا كمن استعار الحمار للذكي والأسد للجبان فإن قيل أليس لا يصح أن يستعار البيع للإجارة كما لا يستعار الإجارة للبيع
ـــــــ
"فإن قيل" لا نسلم أن الإعتاق إثبات القوة بإثبات المالكية والولاية بل هو إزالة المانع كالطلاق فإن المالكية إنما يثبت بكونه آدميا فإنه خلق حرا مالكا في الأصل وحلول الرق فيه يمنع القوة كالنكاح فكان الإعتاق إزالة المانع والدليل عليه أنه يصح تعليقه بالشروط والإثباتات لا تعلق بالشروط.
"قلنا" بل الإعتاق إثبات القوة; لأن الرق بسبب المالكية وأهلية الشهادة والولاية أصلا وتثبت بالعتق ابتداء, ولهذا صار منسوبا إلى العتق بالولاء; لأنه أحياه معنى. وقوله علة المالكية والولايات كونه آدميا غير مسلم بل العلة كونه حرا وقد زالت الحرية بالكلية بحلول الرق فبالإعتاق تثبت مالكية أخرى جديدة. وأما قوله يصح تعليقه بالشرط فلا يكون إثباتا فنقول إنما لا يجوز تعليق الإثبات الذي فيه معنى التمليك بالشرط أما الإثبات الذي ليس فيه معنى التمليك فهو قابل للتعليق بالشرط كقوله إن شفى الله مريضي فعلي كذا
"فإن قيل" ما ذكرتم إنما يستقيم على قولهما فإن عندهما الإعتاق إثبات القوة الشرعية التي يعبر عنها بالعتق ولكنه لا يستقيم على أصل أبي حنيفة رحمه الله; لأن الإعتاق عنده إزالة الملك على ما عرف في مسألة تحري الإعتاق وإذا كان الإعتاق إسقاطا عنده كان مشابها للطلاق معنى فيجوز أن يستعار الطلاق له.
"قلنا" الإعتاق عنده إثبات القوة أيضا لكن بواسطة إزالة الملك فكان فيه معنى الإثبات والإسقاط جميعا أما الطلاق فإسقاط محض فلا يثبت التشابه بينهما في المعنى الخاص فيمتنع الاستعارة
قوله "فما هذا إلا كمن استعار الحمار للذكي والأسد للجبان" يحتمل وجهين أحدهما أن الحمار إنما يستعار للبليد والأسد للشجاع للمناسبة بين المحلين في(2/110)
وملك المنفعة تابع لملك الرقبة قيل له قد قال بعض مشايخنا أن البيع لا ينعقد بلفظ الإجارة والإجارة تنعقد به وذلك يتصور في الحر تقول بعت نفسي منك شهرا بدرهم لعمل كذا وهذا جائز فأما إذا قال بعت منك منافع هذه الدار شهرا بكذا لم يجز كذا ذكره في أول كتاب الصلح وهذا ليس
ـــــــ
البلادة والشجاعة فاستعارة الحمار للذكي الذي هو ضد البليد والأسد للجبان الذي هو ضد الشجاع تكون الاستعارة فيما لا مناسبة فيه أصلا وهو قلب المعقول وخلاف الموضوع.
والثاني أن للحمار نوع ذكاء وذلك أنه إذا مشى في طريق أو اعتلف شعيرا في مكان يعرف ذلك الطريق والموضع بعد مدة حتى لو ضل صاحبه الطريق وأرخى حبله يخرجه إلى الطريق ولو أخفى شيئا في المفازة وقد علف حماره شعيرا في ذلك الموضع ثم نسي ذلك الموضع يهديه حماره إلى ذلك الموضع إذا أرخى رسنه وللجبان نوع شجاعة وهو أنه وإن كان فارا من القتال ولكنه إذا أقبل على القتال عند الاضطرار يقاتل قتالا شديدا لا يقاتل غيره مثله فاستعارة الحمار والأسد للذكي والجبان باعتبار هذين المعتبرين فاسدة لكونهما غير مشهورين فكذا استعارة ألفاظ الطلاق للعتاق بالمعاني التي ذكرها الخصم لكونها غير مشهورة.
قال القاضي الإمام أبو زيد رحمه الله في الأسرار فاعتبر الشافعي رحمه الله في مسألة العتاق تشاكل المعاني بين ألفاظ الطلاق والعتاق من حيث الظاهر وتباين المعاني بين ألفاظ التمليك والتزويج فإن التزويج للوصل على سبيل المساواة بين الزوجين والتمليك لإثبات الملك كله لأحدهما على الآخر بلا حظ للمملوك في المالكية بوجه وإنه وجه ظاهر صحيح على ما اعتبره إلا أنا جوزنا الاستعارة في باب النكاح لاتصال بينهما سببا متى كان حكم النكاح وقوع ملك على المرأة قبل فعل التمتع وإن افترقت المعاني وهو طريق كتشاكل المعاني ولم نجوز في باب العتاق لانعدام السببية وافتراق المعاني فما ذهبنا إليه أحق وأدق وذلك أظهر وأوضح.
قوله "فإن قيل" هذا السؤال وارد على جواب السؤال الأول وتوجيهه أن يقال قد ذكرتم أن استعارة السبب للمسبب تجوز وكما أن ملك الرقبة سبب لملك المتعة فهو سبب لملك المنفعة ولا يصح عندكم استعارة البيع للإجارة حتى لو قال بعت عبدي شهرا بدرهم أو بعتك نفسي مريدا للإجارة لا يصح فيلزم أن لا تصلح استعارة البيع للنكاح أيضا فمنع الشيخ ما ذكره هذا السائل أولا وقال لا نسلم عدم الانعقاد به بل الإجارة(2/111)
لفساد الاستعارة لكن لفساد في المحل لأن المنفعة لا يصلح محلا للإضافة; لأن
ـــــــ
تنعقد بلفظ البيع على ما اختاره بعض المشايخ. ثم سلم جواب هؤلاء المشايخ في صورة واحدة وإن كان جوابهم مطلقا شاملا لجميع الصور فقال. وذلك أي انعقاد الإجارة بلفظ البيع إنما يتصور في الحر إذا قال بعت نفسي منك شهرا بدرهم لعمل كذا يعني إذا أضاف البيع إلى نفسه دون منافعه وبين المدة والعمل والأجرة فإن ترك واحدا منها يفسد العقد كما في صريح الإجارة. وأجاب عن غيره هذه الصورة فقال لا تنعقد الإجارة بلفظ البيع في غير الصورة المذكورة لا لخلل في الاستعارة ولكن لمعنى آخر يمنع من الانعقاد.
وبيانه أنه لا يخلو من أن أضيف البيع إلى المنفعة أو إلى العين فإن أضيف إلى المنفعة بأن قال بعت منافع هذه الدار أو منافع هذا العبد منك بعشرة شهرا فالصحيح أنه لا يجوز لما ذكر في كتاب الصلح. ولو ادعى شقصا في دار في يد رجل فصالحه منه على سكنى بيت من هذه الدار معلوم عشر سنين فهو جائز; لأن ما وقع عليه الصلح منفعة معلومة ببيان المدة. ولو آجره من الذي صالحه جاز في قول أبي يوسف ولم يجز في قول محمد ولو آجره من غيره جاز. ولو باع هذا السكنى بيعا من رجل لم يجز بيع السكنى وإن ذكر في التقويم أنه ينعقد إجارة ولكن عدم الجواز للإضافة إلى غير محله على ما بين في الكتاب لا لخلل في الاستعارة.
وإن أضيف إلى العين فلا يخلو من أن يذكر المدة أو لا. فإن لم يذكر بأن قال بعت عبدي منك بعشرة فلا شبهة في أنه ينعقد بيعا لإضافته إلى محل قابل للبيع وإمكان العمل بالحقيقة وعدم إمكان حمله على المجاز وهو الإجارة لفقد الشرط وهو بيان المدة. وإن ذكر المدة بأن قال بعت منك عبدي شهرا بعشرة فلا رواية فيه ويجوز أن ينعقد إجارة إذا سمى جنس العمل مع ذلك بأن قال بعت منك عبدي شهرا بعشرة لعمل كذا; لأن أهل المدينة يسمون الإجارة بيعا فعلى ذلك التعارف يجوز وإذا جاز في تعارف أهل اللسان ببلد جاز في غيره إذا اتفق المتعاقدان عليه كذا في الأسرار.
ويجوز أن لا ينعقد إجارة كما أشار إليه الشيخ في قوله ويتصور ذلك في الحر. وينعقد بيعا صحيحا لإمكان العمل بالحقيقة بصرف ذكر المدة إلى تأجيل الثمن; لأن ذكر المدة في مثل هذا المقام إنما يكون لتأجيل الثمن كما في قوله بعتك إلى شهر لا لتوقيت المبيع; لأنه لا يقبل التوقيت. ويجوز أن ينعقد بيعا فاسدا; لأن الحمل على الحقيقة وإن كانت قاصرة أولى من الحمل على المجاز والبيع الفاسد بيع حقيقة ويثبت به الملك عند القبض فكان الحمل عليه أولى من الحمل على المجاز وهو الإجارة.(2/112)
ذلك معدوم ليس في مقدور البشر حتى لو أضاف إليها الإجارة لم يجز فكذلك فيما يستعار لها ولكن العين أقيمت مقامها في حق الإضافة في الأصل فكذلك ما يستعار لها وصار هذا كالبيع يستعار للنكاح في غير محله وهي المحرم من النساء فيثبت أن فساده إضافة إلى غير محله. من أحكام هذا القسم أيضا أن المجاز خلف عن الحقيقة في حق التكلم لا في حق الحكم عند أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله هو خلف عن الحكم
ـــــــ
قوله "لأن المنفعة لا يصلح محلا للإضافة" أي لإضافة العقد إليها. لأن ذلك أي المذكور وهي المنفعة معدومة ليس في مقدور البشر أي ليس في قدرته إيجادها أو ليست هي داخلة فيما هو مقدور البشر. حتى لو أضاف إليها الإجارة بأن قال آجرتك منافع هذه الدار لم يجز فكذلك ما يستعار لها أي للإجارة وهو البيع إذا أضيف إليها لا يجوز. في الأصل أي في حقيقة الإجارة. فكذلك ما يستعار لها أي فكالأصل المستعار في احتياجه إلى المحل فيقام العين فيه مقام المنفعة ليصح الاستعارة كما في الحر. وصار هذا أي عدم الجواز بناء على عدم المحل نظير البيع المستعار للنكاح في غير محله أي في محل النكاح وهي المحرم من النساء فإنها لما لم تكن محل حقيقة النكاح لم تكن محلا لما يستعار للنكاح أيضا وهو البيع فكذلك المنافع لما لم يصلح لإضافة الإجارة إليها لم يصلح لإضافة ما يستعار للإجارة أيضا وهو البيع; لأن الحقيقة أقوى من المستعار فعرفنا أن الفساد لعدم المحلية لا لفساد الاستعارة.
قوله "المجاز خلف عن الحقيقة في التكلم" إلى آخره اعلم أنه لا خلاف في أن المجاز خلف عن الحقيقة بدليل أنه لا يثبت إلا عند فوات معنى الحقيقة وتعذر العمل به, ولهذا يحتاج المجاز إلى القرينة والحقيقة لا تحتاج إليها. وإنه لا بد لثبوت الخلف من تصور الأصل; لأن الخلف من الإضافيات فلا يتحقق بدون الأصل كالابن مع الأب. وإن المصير إلى المجاز لا يجوز إلا عند تعذر الحقيقة كما أن المصير إلى الخلف لا يجوز إلا عند فوات الأصل, ولهذا لا يجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز. والحقيقة والمجاز من أوصاف اللفظ لا من أوصاف المعاني, ولهذا قالوا الحقيقة لفظ استعمل وكذا والمجاز لفظ استعمل في كذا. وإنما الخلاف في أن الخلفية في التكلم بأن صار التكلم بلفظ المجاز خلفا عن التكلم بلفظ الحقيقة ثم يثبت الحكم بناء على صحته بطريق الاستبداد لا خلفا عن حكم الحقيقة. أو في الحكم بأن تعذر حكم الحقيقة بعارض فصير إلى المجاز لإثبات لازم الحقيقة خلفا عن الحقيقة في إثبات حكمها احترازا عن إلغاء الكلام, فقال أبو(2/113)
بيانه فيمن قال لعبده وهو أكبر سنا منه هذا ابني لم يعتق عندهما; لأن هذا الكلام لم ينعقد لما وضع له أصلا فصار لغوا لا حكم له فلا يجب العمل بمجازه; لأنه خلف عنه في إثبات الحكم ومن شرط الخلف أن ينعقد السبب
ـــــــ
حنيفة رحمه الله المجاز خلف عن الحقيقة في التكلم وقالا هو خلف عنها في الحكم.
ويتضح لك ما ذكرنا في قوله للشجاع هذا أسد فعندهما هو خلف في إثبات الشجاعة عن قوله هذا أسد في محل الحقيقة لإثبات الهيكل المخصوص. وما قرع سمعك أن حكم المجاز خلف عن حكم الحقيقة عندهما فالمراد منه ما ذكرنا; لأن الخلفية بين المجاز والحقيقة اللذين هما من أوصاف اللفظ بالاتفاق لا بين شجاعة الشجاع والهيكل المعلوم. وعند أبي حنيفة رحمه الله التكلم بقوله هذا أسد للشجاع خلف عن التكلم بقوله هذا أسد للهيكل المعلوم من غير نظر في ثبوت الخلفية إلى الحكم ثم يثبت الحكم به وهو الشجاعة بناء على صحة التكلم لا خلفا عن شيء كما يثبت حكم الحقيقة بناء على صحة التكلم. وقوله لعبده الذي يولد مثله لمثله وهو معروف النسب من الغير هذا ابني فعندهما هو خلف في إثبات العتق عن قوله هذا ابني لابنه الحقيقي في إثبات البنوة والعتق. وعند أبي حنيفة رحمه الله نفس التكلم بقوله هذا ابني خلف عن التكلم بقوله هذا ابني في محل الحقيقة ثم يثبت العتق بناء على صحة التكلم كما يثبت البنوة والعتق في محل الحقيقة بناء على صحة الكلام. لهما أم الحكم هو المقصود لا نفس العبارة فاعتبار الخلفية والأصالة فيما هو المقصود أولى من اعتبارهما فيما هو وسيلة وهي العبارة.
ولأبي حنيفة رحمه الله أن الحقيقة والمجاز من أوصاف اللفظ بإجماع أهل اللغة فجعل المجاز خلفا عن الحقيقة في التكلم الذي هو استخراج اللفظ أولى مما ذكرا; لأن الحقيقة والمجاز لا يجريان في المعاني. وتحقيقه أن الاستعارة نقل وإنه لا يتصور في المعنى; لأن المعنى هو تمام ماهية المستعار عنه وإنه لا يقبل النقل إلى المستعار له بحيث يصير عينه عينه. وكذا صفته لا تقبل الانتقال; لأن صفة الشيء هي القائمة به فكيف تقبل النقل عنه وإنما يتصور الانتقال في اللفظ. ألا ترى أن الشجاعة التي في الأسد لا تنتقل إلى الإنسان باستعارة لفظ الأسد له ولكن اللفظ ينتقل إليه فعرفنا أن الخلفية في التكلم لا غير ويظهر أثر هذا الاختلاف في قوله لعبده الذي لا يولد مثله لمثله هذا ابني فعلى قولهما وهو قول أبي حنيفة الأول يلغو هذا الكلام ولا يتعلق به حكم وهو قول الشافعي أيضا. وفي قول أبي حنيفة الآخر يعتق هذا العبد ويصير هذا الكلام عبارة عن قوله عتق علي من حين ملكته بطريق ذكر الملزوم وإرادة اللازم. وجه قول أبي حنيفة الأول أن هذا الكلام لم ينعقد لإيجاب حكم الحقيقة أصلا وهو البنوة فيلغو كما لو قال أعتقتك قبل(2/114)
للأصل على الاحتمال وامتنع وجوده بعارض كمن حلف ليمسن السماء أن اليمين انعقدت للبر لاحتمال وجوده فانعقدت للكفارة خلفا عنه فأما الغموس فلم ينعقد للحكم الأصلي فلا ينعقد لخلفه وهذا نظير مسألة الغموس وقال أبو حنيفة "الاستعارة" رحمه الله إن المجاز خلف عن الحقيقة في التكلم لا في الحكم بل
ـــــــ
أن أخلق أو قبل أن تخلق أو قال هذا أخي أو قال لغلام صغير له هذا جدي أو قال لعبده هذه بنتي أو قال لأمته هذا غلامي. وإنما قلنا إنه لم ينعقد أصلا; لأن معنى قوله هذا ابني أنه مخلوق من مائي, وابن خمسين سنة يستحيل أن يكون مخلوقا من ماء ابن عشرين سنة وإذا كان كذلك لا يمكن جعله عبارة عن الإقرار بالحرية من حين ملكه لما ذكرنا أن المجاز خلف عن الحقيقة في إثبات الحكم ولا بد لثبوت الخلف من تصور الأصل فيشترط أن يكون الأصل في مخرجه صحيحا موجبا للحكم على الاحتمال ولكن يتعذر العمل به بعارض فيخلفه المجاز في إثبات الحكم وقد بينا أن هذا الكلام في نفسه غير منعقد لإيجاب حكم أصلا فلا يمكن أن يجعل المجاز خلفا عنه فيلغو كما في النظائر المذكورة
وهذا بخلاف قوله لمعروف النسب هذا ابني حيث يعتق وإن لم يثبت النسب; لأن كلامه في مخرجه صحيح موجب لحكمه وهو البنوة لولا العارض لجواز أن يكون مخلوقا من مائه بالزنا أو بالوطء بشبهة لكنه لما اشتهر نسبه من الغير لوجود ظاهر الدليل تعذر إثباته منه رعاية لحق الغير فيصح أن يخلفه المجاز. ونظير هاتين المسألتين الحلف على مس السماء واليمين الغموس فإن الأول موجب للكفارة لانعقاد السبب موجبا للأصل وهو البرهان بناء على أن السماء عين ممسوسة فيصلح لإيجاب الخلف وهو الكفارة عند تحقق العارض وهو العجز الحالي فأما الغموس فلم تنعقد لإيجاب الأصل وهو البر فلا تصلح موجبة للخلف وهو الكفارة وما نحن فيه نظير الغموس على أنا نقول في معروف النسب لا يعتق بطريق المجاز بل بطريق الحقيقة; لأن الولد كما ذكرنا يحتمل أن يكون موجودا من مائه وأن الفراش له في الباطن فيصدق فيما يرجع إلى حق نفسه ويجعل كأن النسب ثابت فيثبت أحكامه باعتبار الحقيقة لا باعتبار المجاز ولهذا صارت أم الغلام أم ولد له لو كانت في ملكه كما لو أقر بذلك لمجهول النسب وثبتت حقيقة البنوة وههنا لا تصير أم ولد له للاستحالة ولا يلزم على هذا الجواب إذا قال لامرأته وهي أصغر سنا منه هذه بنتي وهي معروفة النسب من الغير لا تثبت الحرمة ولو اعتبر النسب ثابتا في حقه لحرمت عليه لأنا نقول إن المقر إنما يصدق فيما يرجع إلى نفسه لا فيما يرجع إلى غيره وكلامه هذا إقرار على الغير; لأن حكم النسب في النكاح ليس إزالة الملك بعد ثبوته وإنما موجبه انتفاء(2/115)
هو في الحكم أصل.ألا ترى أن العبارة تتغير به دون الحكم فكان تصرفا في
ـــــــ
حل المحلية من الأصل وذلك حقها لا حقه فلا يصدق على إبطال حق الغير فأما قوله هذا ابني فإقرار على نفسه; لأن من حكم البنوة بطلان الملك بعد ثبوته فإنه يملك ابنه بالشراء ثم يبطل ذلك بالعتق عليه فيكون إقرارا على نفسه فيصدق.
وجه قوله الآخر أنه إن تعذر العمل بحقيقة كلامه فقد أمكن بمجازه فيعمل به كما في معروف النسب وذلك; لأن طريق المجاز وهو الاتصال من حيث السببية موجود; لأن البنوة من أسباب العتق فإنه إذا قال لمن هو يولد لمثله وهو مجهول النسب هذا ابني تثبت البنوة وتثبت الحرية من وقت الدخول في ملكه بواسطة البنوة فكان هذا اللفظ سببا للبنوة والبنوة سببا للحرية من وقت الدخول في الملك واستعارة السبب للمسبب طريق معهود فيجعل اللفظ مجازا لمسببه احترازا عن الإلغاء وصار كأنه قال عتق علي من حين ملكته ولا يقال العتق ليس من أحكام البنوة بل هو حكم الملك; لأن الحكم في علة ذات وصفين يضاف إلى آخرهما وجودا وهو الملك ههنا دون القرابة; لأنه حادث والقرابة من وقت العلوق فثبت أن البنوة ليست بسبب للعتق فلا تصح استعارتها له لأنا نقول الملك إذا كان ثابتا ولا نسب ثم ادعاه كان النسب آخرهما وجودا فتصح استعارته له ألا ترى أن العبد إذا كان بين وارثين وهو مجهول النسب فادعاه أحدهما عتق ويضمن نصيب شريكه إن كان موسرا ولا يضمن إن كان معسرا فلولا أنه صار معتقا بهذه الدعوى لما تعلق به ضمان يختلف بالإيسار والإعسار; لأنه لا صنع له في التمليك كذا في الطريقة البرغرية وأما قولهم لا بد للخلف من تصور الأصل فمسلم ولكن الخلفية في التكلم دون الحكم فيشترط صحة التكلم وهي بأن يكون الكلام صالحا لإفادة المعنى في نفسه بكونه مبتدأ وخبرا موضوعا للإيجاب أي إثبات معنى بصيغته وقد وجد ذلك فيما نحن فيه; لأن قوله هذا ابني موضوع لإثبات البنوة وقد تعذر العمل بحقيقته وله مجاز متعين فيعمل بمجازه. ولا معنى لما قالوا من اشتراط احتمال البنوة في هذا المحل; لأن أهل اللغة قاطبة اتفقوا على أن قوله للشجاع هذا أسد استعارة صحيحة ومعلوم أن الشجاع لا يتصور أن يكون الهيكل المعلوم بوجه ولكن قوله هذا أسد مبتدأ وخبر موضوع لإفادة معنى وهو الإخبار عن الهيكل المعلوم ثم استعير لإثبات لازمه وهو الشجاعة الموجودة في الشجاع الذي لا يتصور فيه الأسدية أصلا فكذا قوله هذا ابني مبتدأ وخبر موضوع للإخبار عن البنوة في محل وهو الابن الحقيقي واستعير لإثبات لازمه وهو الحرية في الأكبر سنا منه فيصح هذه الاستعارة أيضا إذ ليس بينهما فرق.
قوله "ألا ترى أن العبارة تتغير به دون الحكم" يعني أن التغير الذي هو من لوازم(2/116)
التكلم فتشترط صحة الأصل من حيث إنه مبتدأ وخبر موضوع للإيجاب بصيغته وقد وجد ذلك فإذا وجد وتعذر العمل بحقيقته وله مجاز متعين صار مستعارا لحكمه بغير نية كالنكاح بلفظ الهبة وقالا لفظ الهبة ينعقد لحكمه
ـــــــ
المجاز للعبارة دون الحكم; لأن اللفظ الموضوع لمعنى إذا استعمل في موضوعه فهو حقيقة وإذا نقل عنه واستعمل في غير موضوعه يتغير ذلك اللفظ ويصير مجازا فأما الحكم فلا يقبل الانتقال والتغير كما ذكرنا فعرفنا أن الخلفية في التكلم لا في الحكم وزعم بعض الشارحين أن معناه أن محل المجاز له لفظ موضوع إذا استعمل فيه يكون حقيقة كلفظ الشجاع في موضوعه فإذا استعمل فيه لفظ المجاز وهو الأسد تغيرت تلك العبارة فأما الحكم وهو إثبات الشجاعة له فلا يتغير بالشجاع والأسد وعن هذا توهموا أن قول الرجل هذا أسد للشجاع خلف عن قوله هذا شجاع وأن قوله هذا ابني في مسألتنا خلف عن قوله هذا حر من حين ملكته وإن عندهما ثبوت الشجاع بقوله هذا أسد خلف عن ثبوت الهيكل المعلوم به وثبوت الحرية بقوله هذا ابني لمعروف النسب الذي هو أصغر سنا منه خلف عن البنوة وكل ذلك وهم; لأن المجاز لا يكون خلفا إلا عن حقيقته التي نقلت عن محلها إلى محل المجاز فأما عن الحقيقة الثابتة لمحل المجاز فلا. ولو كان لفظ الأسد خلفا عن الشجاع ولفظ هذا ابني خلفا عن هذا حر كما زعموا لا يتأتى الخلاف في قوله هذا ابني الأكبر سنا منه; لأن حكم الأصل وهو الحرية التي ثبتت بقوله هذا حر ليس بممتنع في هذا المحل بل هو متصور كما في الأصغر سنا منه فيلزم أن يثبت العتق عندهما أيضا لوجود شرط المجاز وهو تصور حكم الأصل والأمر بخلافه ولا يصح أيضا أن يكون الشجاع خلفا عن الهيكل المعلوم لما ذكرنا أن الخلفية إذ ذاك تكون بين المعاني لا بين الألفاظ والحقيقة والمجاز من أوصاف اللفظ بل المراد من الخلفية في الحكم أو في التكلم ما ذكرنا في أول المسألة ولا يقال كيف يكون " هذا أسد " خلفا عن " هذا أسد " وليس بينهما تغاير ولا بد من أن يكون الخلف مغايرا للأصل إذ الشيء لا يكون خلفا عن نفسه لأنا نقول هذا الكلام في محل الحقيقة غيره في محل المجاز بسبب اختلاف في المحلين ألا ترى أن آثارهما مختلفة فإن قولك هذا أسد في محل الحقيقة يدل على ما لم يدل هو في محل المجاز وكذا قوله هذا ابني في محل الحقيقة يدل على البنوة التي لم توجد في محل المجاز فصحت الخلفية.
قوله "وله مجاز متعين" احتراز عن قوله هذا أخي على ما نبينه صار مستعارا لحكمه أي للازم حكمه وهو الحرية إذ هي لازمة البنوة عند ثبوت الملك.
قوله "كالنكاح بلفظ الهبة" يعني إذا قال وهبت ابنتي منك أو قالت وهبت(2/117)
الأصلي في الحرة; لأن احتمال بيع الحرة وهبتها مثل احتمال مس السماء وأما هذا فمستحيل بمرة وقال أبو حنيفة رحمه الله هذا تصرف في التكلم فلا يتوقف على احتمال الحكم كالاستثناء فإن من قال لامرأته أنت طالق ألفا إلا
ـــــــ
نفسي منك على وجه النكاح يصير هذا اللفظ مستعارا للنكاح وإن لم ينعقد لإيجاب حكم الحقيقة وهو ملك الرقبة في هذا المحل; لأن الحرة لا تقبل ذلك أصلا فكذا فيما نحن فيه وقالا لفظ الهبة كذا يعني أنهما لا يسلمان عدم انعقاده لحكمه الأصلي في هذا المحل ويقولان إن احتمال بيع الحرة وهبتها ثابت عقلا وشرعا وإن كان بعيدا كاحتمال مس السماء. ألا ترى أن تملك الحر كان مشروعا في شريعة يعقوب عليه السلام حتى قال بنوه {جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} "يوسف:75" فعرفنا أنه ليس بمستحيل ولكنه امتنع لعارض وهو عدم جواز النسخ
"فأما هذا" أي البنوة في الأكبر سنا منه "فمستحيل بمرة" أي بالكلية عقلا وشرعا على إنا لم نثبت النكاح بلفظ الهبة بطريق المجاز وإنما نثبته بطريق الحقيقة; لأن الهبة بحقيقتها توجب الملك في العين, وملك النكاح عندنا في حكم ملك العين; لأن عين المرأة تصير مملوكة للزوج في حق الوطء إلا أنه ثابت من وجه دون وجه وملك اليمين ثابت من كل وجه فكان ذلك أحق فإنه أمكن إثباته وإلا أثبتنا ملك النكاح بطريق الحقيقة لا بطريق المجاز ولأن منافع البضع في حكم العين على ما عرف وملك النكاح عبارة عن ملك منافع البضع والجواب أن بعدما تحققت الاستحالة في شريعتنا لا تصور لانعقاده سببا للحكم الأصلي كما لو ثبتت عقلا ألا ترى أن نكاح المحارم لما انتسخ ولم يبق مشروعا لم ينعقد سببا للحل أصلا لم يصر حتى شبهة في سقوط الحد عندهما مع بقاء المحلية في حق الأجنبي فهنا أولى لارتفاع المحلية بالكلية وهذا بخلاف الحلف على مس السماء; لأن الاحتمال مسه بطريق الكرامة ثابت في الحال فينعقد سببا. وما قالا: الهبة تعمل بحقيقتها ليس بمستقيم; لأن الثابت به أحكام النكاح من ملك الطلاق وصحة الإيلاء وعدم صحة النقل إلى الغير وسائر ما يترتب على النكاح ولو كانت عاملة بحقيقتها لملك النقل إلى الغير بأسباب الملك ولكان العقر له فيما إذا وطئت بشبهة ولملك تزويجها من غيره كالأمة فثبت أنها عاملة بطريق المجاز وإن تصور ثبوت حكم الأصل في هذا المحل ليس بشرط لصحة المجاز ولما رجع الشيخ إلى كلام أبي حنيفة أعاد ذكره فقال, وقال أبو حنيفة يعني مجيبا لكلامهما هذا تصرف في التكلم أي استعمال المجاز تصرف في اللفظ فكان الخلفية في التكلم فلا يتوقف على تصور الحكم كالاستثناء لما كان تصرفا في التكلم لم يتوقف صحته على تصور الحكم فإن من قال(2/118)
إلا تسعمائة وتسعة وتسعين أنه تقع واحدة ذكره في المنتقى وإيجاب ما زاد على الثلث من طريق الحكم باطل لكن من طريق التكلم صحيح والاستثناء تصرف في التكلم بالمنع فصح فكذلك هذا لما كان تصرفا في التكلم صحت الاستعارة به لحكم حقيقته وإن لم ينعقد لإيجاب تلك الحقيقة ومن حكم الحقيقة عتقه من حين ملكه فجعل إقرارا به فعتق في القضاء بخلاف النداء; لأنه لاستحضار
ـــــــ
لامرأته أنت طالق ألفا إلا تسعمائة وتسعة وتسعين صح الإيجاب والاستثناء حتى لا يقع إلا واحدة نص عليه في المنتقى وهو اسم كتاب للحاكم الشهيد أبي الفضل ومعلوم أن إيجاب ما وراء الثلاث واستثناءه من طريق الحكم باطل إذ لا مزيد للطلاق على الثلاث فكان هذا من حيث الحكم استثناء الكل من الكل فينبغي أن لا يصح ويقع ثلاث تطليقات إلا أنه لما صح من حيث التكلم والاستثناء تصرف في التكلم بالمنع من ثبوت المستثنى صح الإيجاب والاستثناء.
وكذلك لو قال نسائي طوالق إلا زينب وفاطمة وهند أو خديجة أو قال عبدي أحرار إلا سالما ويزيعا وفرقد أو ليس له من العبيد غيرهم صح هذا الاستثناء وإن كان في الحكم استثناء الكل من الكل لما ذكرنا فكذا هذا أي المجاز لما كان تصرفا في التكلم صحت الاستعارة به أي بقوله هذا ابني أو بهذا الطريق لحكم حقيقته أي للازم موضوعه وإن لم ينعقد لإيجاب تلك الحقيقة أي لإثبات موضوعه الأصلي في هذا المحل ومن حكم الحقيقة أي ومن لوازم موضوعه الأصلي العتق من حين ملكه فجعل هذا الكلام إقرارا به أي بالعتق من حين ملكه فعتق العبد في القضاء.
قوله "فعتق في القضاء" يعني لما صار قوله هذا ابني إقرارا بالحرية من حين ملكه لا إنشاء لعتق في الحال يحكم القاضي بعتقه وإن كان كاذبا في إقراره; لأنه حجة على نفسه كما لو أقر به صريحا كاذبا وكلام الشيخ يشير إلى أنه لا يعتق فيما بينه وبين الله تعالى كما في الإقرار كاذبا وقد صرح الشيخ الإمام البرغري في طريقته بما أشار الشيخ إليه فقال. فإن قيل لا وجه لتصحيح هذا الكلام; لأنه إما أن يجعل مجازا لإنشاء الحرية أو للإقرار بالحرية لا وجه إلى الأول; لأنه في موضع الحقيقة إخبار الإنشاء وقد ذكرتم أن معناه عتق علي من حين ملكته وهذا إقرار وليس بإنشاء والدليل عليه أن هذا الكلام يبطل بالإكراه والهزل ولا يصح تعليقه بالشرط وحكم الإنشاء على خلافه ولا وجه إلى الثاني; لأنه كذب محض بيقين; لأنا نعلم أنه لا يعتق بالبنوة; لأن ذلك مستحيل ولم يوجد إعتاق من جهة السيد والإقرار إذا اتصل به دليل الكذب يبطل كالإكراه والهزل فإذا كان كذبا بيقين أولى أن يبطل(2/119)
المنادى بصورة الاسم لا بمعناه فإذا لم يكن المعنى مطلوبا لم يجب الاستعارة لتصحيح معناه بخلاف قوله بأجر فإنه يستوي نداؤه وخبره; لأنه موضوع للتحرير فصار عينه قائما مقام معناه فصار المعنى مطلوبا بكل حال.
ـــــــ
قلنا هذا مجاز للإقرار بالحرية من حين الدخول في ملكه, ولهذا يبطل بالكره والهزل ولا يصح تعليقه بالشرط. وقوله إنه كذب بيقين وهو مستحيل قلنا الاستحالة في البنوة لا في الحرية فيصير كأنه قال عتق علي من حين ملكته ولو نص على هذا لم يكن محالا وقوله لم يوجد الإعتاق فلم يصح هذا الإقرار قلنا لو صرح بهذا الكلام فإنه يعتق عبده في القضاء ثم إن كان صادقا بأن سبق منه إعتاق يعتق العبد في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى وإن لم يسبق منه إعتاق لا يعتق فيما بينه وبين الله تعالى كذا هنا.
قوله "بخلاف النداء" جواب عن سؤال وهو أن يقال إذا قال لعبده يا ابني لا يعتق إلا في رواية شاذة عن أبي حنيفة رحمه الله وعلى ما ذكرت يلزم أن يجعل بمعنى قوله يا حر بطريق الاستعارة كما جعله أبو حنيفة في تلك الرواية كذلك فقال لا يلزم هذا; لأن النداء في اللغة موضوع لاستحضار المنادى بصورة الاسم لا لتحقيق معنى الاسم في المنادى ألا ترى أنك تنادي رجلا فتقول يا حسن ويكون قبيحا ولما لم يكن موضوعا لتحقيق المعنى في المنادى لم نشتغل بتصحيحه بإثبات موجبه اللغوي الحقيقي أو المجازي فأما الخبر فقد وضع لتحقيق المخبر به فيجب تصحيحه بإثبات معناه الحقيقي أو المجازي إن أمكن.
قوله "بخلاف قوله يا حر" جواب عن سؤال آخر يرد على هذا الجواب وهو أن يقال إذا قال لعبده يا حر أو يا عتيق يعتق كما لو قال هو حر فاستوى النداء والخبر وعلى ما ذكرت ينبغي أن لا يعتق في النداء فقال إنما استوى النداء والخبر فيه; لأنه موضوع للتحرير وعلم لإسقاط الرق به فكأن عينه قائمة مقام معناه, ألا ترى أنه لو أراد أن يسبح فجرى على لسانه عبدي حر يعتق فكان المعنى مطلوبا منه بكل حال فلهذا يعتق في الحالين. وذكر في المبسوط لو جعل اسم عبده حر أو كان ذلك معروفا عند الناس ثم ناداه به فقال يا حر لم يعتق وإذا لم يكن هذا الاسم معروفا له يعتق به في القضاء; لأنه ناداه بوصف يملك إيجابه بخلاف قوله يا ابني فإنه نداء بوصف لا يملك إيجابه فينظر إلى مقصوده فيه وهو الإكرام دون التحقيق فصار الضابط أن النداء لاستحضار المنادى بوصفه القائم به إن كان ثابتا كقوله يا طويل يا أسود وهو طويل أو أسود وإن لم يكن قائما به فإن كان وصفا يصح ثبوته من جهة المنادى يثبت اقتضاء كقوله يا حر يا عتيق وإن لم يكن كان استحضارا للمنادى بصورة الاسم كقوله يا طويل وهو قصير وقوله يا ابني الأكبر سنا منه أو الأصغر منه وهو معروف النسب(2/120)
ومن حكم هذا الباب أن العمل بالحقيقة متى أمكن سقط المجاز; لأن
ـــــــ
وبما ذكرنا خرج الجواب عن قوله أعتقتك قبل أن تخلق أو قبل أن أخلق; لأنه ليس له حقيقة أصلا فلم يصح التكلم به فلا يمكن تصحيحه بجعله عبارة عن لازم حقيقته إذ ليس له حقيقة فيلغو ضرورة. وأما قوله هذا أخي فقد روى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله أنه يعتق; لأن للأخوة في ملكه موجبا وهو العتق فيجعل كناية عن موجبه وفي ظاهر الرواية لا يعتق; لأن الأخوة اسم مشترك قد يراد بها الأخوة في الدين, قال الله تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} "الحجرات:10". وقد يراد بها الاتحاد في القبيلة قال الله تعالى {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} "الأعراف:65" وقد يراد بها الأخوة في النسب والمشترك لا يكون حجة بدون البيان حتى لو قال هذا أخي لأبي أو لأمي يعتق على هذا الطريق ولأن الأخوة لا يكون إلا بواسطة الأب أو الأم; لأنها عبارة عن مجاورة في صلب أو رحم وهذه الواسطة غير مذكورة نصا ولا تثبت بما ذكر أيضا فلم يصر العتق بدون الواسطة حكم نصه فلا يستقيم كناية عنه كشراء الأب لا يكون إعتاقا إلا بواسطة الملك فمتى لم يوجب الشراء ملكا للمشتري لم يكن إعتاقا.
وكذا الجواب عن قوله هذا جدي; لأن الجد إنما يعتق عليه بواسطة الأب فما لم يثبت الواسطة نصا أو مقتضى ثبوت النسب لم يوجب عتقا في ملكه فلا يصير حكما له فلا يصير كناية عنه فأما الولاد فنفسه علة العتق مع الملك وقد نطق بالولاد والملك ثابت فيصلح كناية عنه وقد ذكر الإمام البرغري أن لا رواية في قوله هذا جدي فنقول بأنه يعتق وأما قوله لعبده هذه بنتي فلا يوجب العتق وإن أقر بما هو سبب الحرية; لأن قوله هذه بنتي حكمه ثبوت الحرية بجهة البنتية وهذا الذات ليس بمحل لتلك الحرية أصلا فإضافتها إليه بمنزلة إضافة العتق إلى الحمار فتلغو. ولأن المشار إليه إذا كان من جنس المسمى تعلق الحكم بالمشار إليه وإذا كان من خلاف جنس المسمى تعلق الحكم بالمسمى فإنه إذا اشترى فصا على أنه ياقوت أحمر فإذا هو ياقوت أصفر ينعقد البيع لوجود المشار إليه ولو ظهر أنه زجاج لا ينعقد لعدم المسمى والذكر والأنثى في بني آدم جنسان مختلفان على ما عرف وقد أشار إلى العبد وسمي أنثى فكانت العبرة للمسمى وهو معدوم ولا يمكن تصحيح الكلام إيجابا ولا إقرارا في المعدوم ولا يمكن أن يجعل البنت مجازا للابن بوجه ألا ترى أنه لا يعتق وإن احتمل أن يكون ولده بأن كان أصغر سنا ولا يلزم عليه إذا قال فقأت عينك وعيناه صحيحتان فإنه لا يلزمه شيء ولا يجعل كناية عن الأرش الذي هو حكم الفقهاء; لأن الفقاء لا يوجب عليه أرشا في حال قيام العين فإنه ضرب حتى ذهب نور العين ووجب الأرش ثم برأت وعاد نورها أو كان قلع سنا فيثبت لم يلزم الجاني شيء فثبت(2/121)
المستعار لا يزاحم الأصل وذلك مثل قولنا في الأقراء أنها الحيض; لأن القرء للحيض حقيقة وللطهر مجاز من قبل أنه مأخوذ من الجمع وهو معنى حقيقة
ـــــــ
أن الجناية وإن تحققت لم يوجب أرشا حال عدم أثرها في المجني عليه وإذا كان كذلك لم يستقم كناية عنه فعلى هذا الطريق يدفع النقوض والله أعلم.
قوله "ومن حكم هذا الباب" أي باب الحقيقة والمجاز أو من حكم هذا النوع أن العمل بالحقيقة متى أمكن سقط المجاز يعني إذا دار اللفظ بين الحقيقة والمجاز فاللفظ لحقيقته إلى أن يدل الدليل على كونه مجازا كقوله رأيت اليوم حمارا أو استقبلني أسد في الطريق لا يحمل على البليد والشجاع إلا بقرينة زائدة فإن لم يظهر فاللفظ للبهيمة والسبع ولا يكون مجملا. ومن الناس من زعم أنه يصير مجملا يجب الوقف فيه; لأنه إذا استعمل فيهما وأمكن أن يراد به المجاز كما أمكن إرادة الحقيقة لم يكن حمله على أحدهما بأولى من حمله على الآخر لتساويهما في الاستعمال ولا مزية للحقيقة في هذا الموضع فصار بمنزلة الاسم المشترك ألا ترى أن المجاز الذي قد غلب عليه العرف والاستعمال أولى بإطلاق اللفظ من الحقيقة فعلم أن كونه حقيقة لا يؤثر في كونه أولى لحمل اللفظ عليه وإذا حمل عند الإطلاق على الغالب حقيقة كان أو مجازا وجب أن لا يكون حال التساوي لأحدهما مزية على الآخر. والصحيح ما ذهب إليه العامة; لأن الواضع إنما وضع اللفظ للمعنى ليكتفي به في الدلالة عليه فصار كأنه قال إذا سمعتم أني تكلمت بهذا اللفظ فاعلموا أني عنيت به هذا المعنى فمن تكلم بلغته وجب أن يريد به ذلك المعنى فوجب حمله عند الإطلاق عليه ولأنا نجد بالضرورة أن مبادرة الذهن إلى فهم الحقيقة أقوى من مبادرته إلى فهم المجاز وذلك يدل على صحة ما قلنا. وقولهم هما في الاستعمال سواء فاسد; لأن مجرد الاستعمال للحقيقة والمجاز لا يفهم إلا بقرينة تنضم إليه فأنى يتساويان وإذا لم يتساويا كان المعنى الأصلي أولى باللفظ من المعنى العارض عند عدم دليل يصرفه إليه.
قوله "وذلك" أي نظير هذا الأصل قولنا في الأقراء المذكورة في النص إنها الحيض لا الأطهار. وإنما ذكر لفظ الأقراء دون القروء المذكور في النص إشارة إلى أن المراد من القروء الذي هو جمع كثرة جمع القلة. قوله "لأن القرء للحيضة حقيقة وللطهر مجاز" اعلم أنه لا خلاف أن القرء استعمل في الحيض والطهر لغة وشرعا وقال عليه السلام لفاطمة بنت حبيش: "دعي الصلاة أيام أقرائك" يعني أيام حيضك وقال: "إن من السنة أن تستقبل الطهر استقبالا فتطلقها في كل قرء تطليقة" يعني الطهر وقال الشاعر:(2/122)
هذه العبارة لغة وذلك صفة الدم المجتمع فأما الطهر فإنما وصف به بالمجاورة مجازا ولأن معنى القرء الانتقال يقال قرأ النجم إذا انتقل والانتقال بالحيض لا بالطهر فصارت الحقيقة أولى وكذلك العقد لما ينعقد حقيقة وللغرم مجاز
ـــــــ
يا رب مولى حاسد مباغض ... على ذي ضغن وضب فارض
له قروء كقروء الحائض
وقال الأعشى:
أفي كل عام أنت جاشم غزوة ... تشد لأقصاها غريم غرائكا
مورثة مالا وفي الحي رفعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا
وأراد به الطهر; لأن الطهر هو الذي يضيع في زمان غيبة الزوج وأما الحيض فضائع في الأحوال كلها ولكن الاشتباه والخلاف في أن الاستعمالين بطريق الحقيقة أو أحدهما بطريق الحقيقة والآخر بطريق المجاز فبالنظر إلى نفس الاستعمال يجب أن يكون كلاهما بطريق الحقيقة; لأن الأصل في مطلق الاستعمال هو الحقيقة والاستعمال في المجاز لا يكون بدون قرينة فيلزم من هذا أن يكون الاسم مشتركا وهو الذي ذهب إليه عامة العلماء واختاره الشيخ في أول الكتاب حيث ذكره في نظائر المشترك
وبالنظر إلى أصل الاشتقاق يجب أن يكون في الحيض بطريق الحقيقة وفي الطهر بطريق المجاز وهو الذي اختاره بعض مشايخنا وأشار إليه الشيخ ههنا بقوله من قبل أنه مأخوذ من كذا يعني هذا الوجه يقتضي كونه حقيقة في الحيض مجازا في الطهر وإن كان الاشتراك هو المختار فيه عندي فبهذا عرف أن المذكور هنا لا يناقض المذكور في أول الكتاب. ثم ذكر للاشتقاق وجهين أحدهما أن أصل هذا التركيب يدل على الجمع يقال قرأت الشيء قرآنا أي جمعته وضممت بعضه إلى بعض ويقال ما قرأت هذه الناقة سلا قط وما قرأت جنينا أي لم تضم رحمها على ولد كذا في الصحاح ومنه قول الشاعر:
هجان اللون لم تقرأ جنينا
وحقيقة الاجتماع في الدم; لأن الحيض اسم لدم مجتمع في نفسه فإن نفس الدم لا يكون حيضا حتى تدوم فأما الطهر فليس بشيء مجتمع ولكنه حال اجتماع دم الحيض في الرحم فإنه يجتمع في زمان الطهر ثم يدر فكان الاسم للدم المجتمع في نفسه حقيقة ولزمان اجتماع الدم مجازا باعتبار المجاورة فعند الإطلاق كان حمله على الحيض أولى والضمير في به راجع إلى القرء وهذا إنما يستقيم إذا ثبت أن القرء بمعنى المفعول فأما إذا(2/123)
وكذلك النكاح للجمع في لغة العرب على ما عرف والاجتماع في الوطء ويسمى العقد به مجازا; لأنه سببه حتى يسمى الوطء جماعا فكانت الحقيقة
ـــــــ
كان بمعنى الفاعل فالأمر على العكس; لأن زمان الطهر هو الجامع للدم فكان الطهر أحق بهذا الاسم وكان إطلاقه على الحيض بطريق المجاز للمجاورة والثاني أن هذا التركيب يدل على الانتقال أيضا يقال قرأ النجم إذا انتقل وهذا المعنى وإن كان موجودا في الطهر والحيض; لأن المرأة تنتقل عن الطهر إلى الحيض وعن الحيض إلى الطهر غير أن الطهر أصل والحيض عارض فحقيقة الانتقال تكون بالحيض لا بالطهر إذ لولا الحيض لما وجد الانتقال فيكون الاسم للحيض حقيقة وللطهر مجازا للمجاورة أيضا; لأن الطهر مجاور للحيض فكانت الحقيقة أولى
وذكر الإمام البرغري أن الطهر لا يأخذ اسم القرء إلا بمجاورة الدم فإن كل طهر لا ينطلق عليه اسم القرء وإنما ينطلق على الطهر المتخلل بين الحيضتين فالطهر أحد اسم القرء لأجل الدم, والدم يستحقه لنفسه فكان جعله اسما للدم أولى. قال ولأن الحيض أول المنتقل إليه وأول المنتقل عنه; لأن الطهر الأصلي لا يسمى قرءا وإنما القرء هو الحيض والطهر الذي بعده فيثبت الانتقال أولا إلى الحيض ثم منه إلى الطهر فاستحق الاسم قبل الطهر فكان أولى بالأصالة.
قوله "وكذلك العقد" إلى آخره لا كفارة في اليمين الغموس عندنا وقال الشافعي يجب فيها الكفارة لقوله تعالى {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} "المائدة 89"والغموس معقودة; لأن المراد من العقد المذكور عقد القلب وهو قصده, ولهذا سميت العزيمة عقيدة, ألا ترى أن ما يقابله وهو اللغو ما جرى على اللسان من غير قصد وعندنا العقد هو ربط اللفظ باللفظ لإيجاب حكم, نحو ربط لفظ اليمين بالخبر المضاف إليه لإيجاب الصدق منه وتحقيقه وربط البيع بالشراء لإيجاب الملك وهذا أقرب إلى الحقيقة; لأن أصله عقد الحبل وهو شد بعضه ببعض وضده الحل ثم استعير للألفاظ التي عقد بعضها ببعض لإيجاب حكم ثم استعير لما يكون سببا لهذا الربط وهو عزيمة القلب فصار عقد اللفظ أقرب إلى الحقيقة بدرجة فكان الحمل عليه أحق كذا في التقويم وغيره فكان معنى قوله لما ينعقد حقيقة أنه أقرب إلى الحقيقة أو المراد منه الحقيقة الشرعية
قوله "وكذلك النكاح" لفظ النكاح قد استعمل في الوطء كقوله عليه السلام: "ناكح اليد ملعون" وكقول الشاعر:(2/124)
أولى وأمثلة هذا أكثر من أن تحصى ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله في
ـــــــ
إذا سقى الله أرضا صوب غادية ... فلا سقى الله أرض الكوفة المطرا
التاركين على طهر نساءهم ... والناكحين بشطأي دجلة البقرا
وقول الآخر:
يحب المديح أبو خالد ... ويهرب من صلة المادح
كبكر تحب لذيذ النكاح ... وتهرب من صولة الناكح
وقد استعمل في العقد أيضا كقوله تعالى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} "النساء:3". وقوله عليه السلام: "تناكحوا توالدوا تكثروا" ويقال كنا في نكاح فلان إلا أن استعماله في الوطء بطريق الحقيقة; لأنه اسم معنوي مأخوذ من الضم والجمع يقال انكح الصبر أي التزمه وضمه إليك ويقال في المثل أنكحنا الفري فسنرى أي جمعنا بين العير والحمار فسنرى ما يحدث كذا قيل وقال أبو الطيب:
أنكحت ضم صفاها جحف يعمله ... تغشمرت بي إليك السهل والجبلا
أي ألزمت وضممت ومعنى الضم والجمع إنما يتحقق حقيقة في الوطء بما يحصل من الاتحاد بين الذاتين ولذلك سمي جماعا وفي العقد بطريق المجاز; لأنه سبب يتوصل به إلى ذلك الضم, أو لأن فيه ضما حكميا فكانت الحقيقة أولى عند الإطلاق. وبهذا تبين أن حمل قوله تعالى {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} "النساء:22" على الوطء كما حمله بعض مشايخنا ليثبت بإطلاقه حرمة المصاهرة بالزنا أولى من حمله على العقد كما قاله الشافعي لما ذكرنا كذا قيل ولكن عامة مشايخنا وجمهور المفسرين على أن النكاح المذكور في الآية هو العقد قال صاحب الكشاف في تفسير سورة الأحزاب لم يرد لفظ النكاح في كتاب الله تعالى إلا في معنى العقد; لأنه في معنى الوطء من باب التصريح به ومن آداب القرآن الكناية عنه بلفظ المماسة والملامسة والقربان والتغشي والإتيان. وقوله حتى سمي الوطء متعلق بقوله والاجتماع في الوطء
"فإن قيل" فيما ذكرتم من المثالين استعارة اسم المسبب للسبب, وقد أثبتم ذلك
"قلنا" المسبب مخصوص بالسبب في هذين المثالين فكانا في معنى العلة والمعلول فيجوز استعارته للسبب كاستعارة اسم المعلول للعلة وذلك; لأن المسبب في المثال الأول وهو انعقاد اللفظين لا يصير عقدا حقيقة إلا بعزيمة القلب وقصده إذ اللسان(2/125)
الدعوى في رجل له أمة ولدت ثلاثة أولاد في بطون مختلفة فقال المولى أحد هؤلاء ولدي ثم مات قبل البيان أنه يعتق من كل واحد ثلثه ولا يعتبر ما يصيب كل واحد من قبل أمه حتى يعتق الثالث كله ونصف الثاني كما قال أبو يوسف
ـــــــ
معبر عما في الضمير, ولهذا لا ينعقد بلفظ من ليس له قصد صحيح كالصبي الذي لا يعقل والمجنون وكذا الوطء المقصود مخصوص بالعقد ليس له طريق سواه على ما يقتضيه الشرع والعقل, ووطء الإماء ليس بمقصود وهو باب الاستخدام على ما عرف كذا في بعض الشروح ولا يخلو عن تمحل وتكلف. قوله "ولهذا" أي ولأن المجاز لا يزاحم الحقيقة ولا يعارضها وقال أبو حنيفة إلى آخره أمة ولدت ثلاثة أولاد في بطون مختلفة بأن كان بين كل ولدين ستة أشهر فصاعدا وليس له نسب معروف فقال المولى في صحته: أحد هؤلاء ولدي ثم مات قبل البيان لم يثبت نسب واحد منهم; لأن المدعي نسبه مجهول, ونسب المجهول لا يمكن إثباته من أحد; لأنه إنما يثبت في المجهول ما يحتمل التعليق بالشرط ليكون متعلقا بخطر البيان والنسب لا يحتمل التعليق بالشرط. وتعتق الجارية; لأنه أقر لها بأمية الولد ويعتق من كل واحد ثلثه في قول أبي حنيفة رحمه الله; لأن دعوة النسب إذا لم تعمل في إثبات النسب كان إقرارا بالحرية على أصله كما في مسألة الأكبر سنا منه فصار كأنه قال أحدهم حر فيعتق ثلث كل واحد منهم من جميع المال. وقال محمد رحمه الله يعتق من الأكبر ثلثه ومن الأوسط نصفه والأصغر كله; لأن الأصل عنده أن هذه الكلمة متى لم يمكن اعتبارها على حكم الولاد يلغو أصلا ومتى أمكن من وجه نزل العتق على حكم الولاد كأنه ثابت على ما أشار إليه الشيخ بعد هذا في معروف النسب إذا ادعاه المولى أنه ابنه يعتق ولا يقضى بالنسب له; لأن الولاد ههنا ممكن في الجملة فكذا فيما نحن فيه لا يقضى بالنسب للجهالة ولكن الولاد ممكن على ما ادعى فينزل العتق على اعتباره وإذا نزل على اعتباره عتق من الأكبر ثلثه; لأنه إن عناه عتق ولا يعتق إن عنى الآخرين ويعتق نصف الأوسط; لأنه يعتق إن عناه وكذا إن عنى الأكبر; لأنه ولد أم الولد فيعتق بموت المولى كما تعتق أمه ولا تعتق إن عنى الأصغر وأحوال الإصابة حالة واحدة في الروايات الظاهرة بخلاف أحوال الحرمان فلهذا يعتق نصفه. وأما الأصغر فهو حر في جميع الأحوال إلا أن أبا حنيفة رحمه الله لم يعتبر هذه الأحوال; لأنها مبنية على ثبوت النسب ولم يثبت النسب ولأن جهة الحرية مختلفة وحكمها مختلف فإنه إذا كان مقصودا بالدعوة كان حر الأصل وإذا كان المقصود غيره كانت حريته بطريق التبعية للأم بعد موت المولى وبين كونه مقصودا أو تبعا(2/126)
رحمه الله; لأن إصابته من قبل أمه في مقابلة إصابته من قبل نفسه بمنزلة المجاز من الحقيقة وأمثلة هذا أكثر من أن تحصى.وإذا كانت الحقيقة متعذرة أو مهجورة صير إلى المجاز بالإجماع لعدم المزاحمة أما المتعذر فمثل الرجل يحلف لا يأكل من هذه النخلة أو الكرمة أنه يقع على ما يتخذ منه مجازا بخلاف ما إذا حلف لا يأكل من هذه الشاة أو من هذا اللبن أو من هذا الرطب فإنه يقع على عينه; لأن الحقيقة قائمة وكذلك إذا حلف لا يأكل من هذا الدقيق وقع على ما يتخذ منه; لأن الحقيقة متعذرة وكذلك لو حلف لا يشرب من هذا البئر
ـــــــ
منافاة وكذلك بين حرية الأصل وحرية العتق منافاة فلا يمكن اعتبار الجهتين جميعا فلهذا قال يعتق من كل واحد ثلثه كذا في المبسوط والأسرار.
قوله "ولا يعتبر ما يصيب كل واحد" يعني الأوسط والأصغر من قبل أمه لأن إصابته أي إصابة العتق إياه من قبل أمه بمنزلة المجاز من الحقيقة; لأنه ثابت بواسطة ومتوقف عليها توقف المجاز على الحقيقة وما يصيبه من قبل نفسه لا يتوقف على شيء فكان بمنزلة الحقيقة وقد روي عن أبي يوسف رحمه الله في هذه المسألة مثل قول محمد إلا في حرف واحد وهو أنه قال يعتق من الأكبر نصفه; لأن ترددت بين شيئين فقط إما أن يكون ثابت النسب من المولى فيكون حرا كله أو لا يكون ثابت النسب منه فلا يعتق شيء منه فلهذا عتق نصفه وسعى في نصف قيمته.
قوله "متعذرة أو مهجورة" المتعذرة ما لا يتوصل إليه إلا بمشقة كأكل النخلة, والمهجورة ما يتيسر إليه الوصول ولكن الناس تركوه كوضع القدم وقيل في الفرق بينهما أن المتعذر لا يتعلق به حكم وإن تحقق والمهجور قد يثبت به الحكم إذا صار فردا من أفراد المجاز.
قوله "لا يأكل من هذه النخلة" إذا حلف لا يأكل من هذه الشجرة فيمينه تقع على عينها إن كانت مما يؤكل كالريباس وقصب السكر الرطب وإن لم تكن فعلى ثمرتها إن كانت لها ثمرة كالنخلة والكرمة وإن لم يكن لها ثمرة فعلى ثمنها كالخلاف ونحوه وهذا إذا لم يكن له نية فأما إذا نوى شيئا فيمينه على ما نوى إن كان اللفظ يحتمل ذلك كذا نقل عن العلامة شمس الأئمة الكردري رحمه الله.
قوله "لا يشرب من هذا البئر" إذا حلف لا يشرب من هذا البئر وهي مليء فيمينه تقع على الكرع عند أبي حنيفة رحمه الله لا على الاغتراف وعندهما تقع على الاغتراف كذا في بعض شروح الجامع وإن لم يكن ملئ فيمينه على الاغتراف لا على الكرع(2/127)
لم يقع على الكرع وهو حقيقته لما قلنا واختلفوا فيما إذا أكل عين الدقيق أو تكلف فكرع من البئر فقيل لما كان متعذرا لم يكن مرادا فلا يحنث وقيل بل الحقيقة لا تسقط بحال فيحنث والأول أشبه; لأن أصحابنا قالوا فيمن حلف لا ينكح فلانة وهي أجنبية أنه يقع على العقد فإن زنى بها لم يحنث فأسقطوا حقيقته وأما المهجورة فمثل من حلف لا يضع قدمه في دار فلان أن الحقيقة مهجورة والمجاز هو المتعارف وهو الدخول فحنث كيف دخل ومثاله أن التوكيل بالخصومة صرف إلى جواب الخصم مجازا فيتناول الإنكار والإقرار
ـــــــ
بالاتفاق لتعذر الحقيقة فإن تكلف فكرع منها قيل يحنث; لأن الحقيقة إذا صارت موجودة لم تبق متعذرة فكان اعتبارها أولى من اعتبار المجاز ولأنها إذا صارت موجودة وانتفى التعذر كانت داخلة في عموم المجاز هو شرب الماء المجاور للبئر كما في مسألة الفرات عندهما وقيل لا يحنث; لأن المجاز لما صار مرادا لتعذر الحقيقة سقط اعتبارها لامتناع الجمع بين الحقيقة والمجاز بخلاف قوله لا يشرب من الفرات عندهما; لأن عموم المجاز وهو إرادة الماء المجاور للفرات تناول الحقيقة وهي الكرع فأما مسألة البئر فمجازها وهو إرادة الاغتراف لا يتناول الحقيقة فلا يحنث بالكرع. وإنما جعل كلامه في مسألة الفرات عبارة عن الماء المجاور له; لأن الحقيقة وهي الكرع مستعملة فيه عرفا وشرعا كالاغتراف فجعل عبارة عن الماء المجاور للفرات ليتناول الحقيقة والمجاز فأما مسألة البئر فالحقيقة فيها متعذرة غير مستعملة العرف فيها الاغتراف لا غير فجعل كلامه عبارة عنه فلم يدخل فيه الكرع قوله "حلف أن لا ينكح" إذا قال لأمته أو لمنكوحته إن نكحتك فكذا وقعت يمينه على الوطء لما مر أن النكاح للوطء حقيقة وللعقد مجاز فإن أعتق الأمة ثم تزوجها أو أبان المنكوحة ثم تزوجها لا يحنث وإن كانت المرأة أجنبية والمسألة بحالها وقعت يمينه على العقد; لأن الحقيقة مهجورة شرعا وعقلا فإن زنى بهذه الأجنبية لم يحنث; لأن اليمين لم يتناوله لتعذره شرعا فكذا في هذه المسألة; لأن المهجور عادة كالمهجور شرعا.
قوله "التوكيل بالخصومة" إلى آخره إذا وكل رجلا بالخصومة مطلقا فأقر على موكله في القياس لا يجوز إقراره وهو قول أبي يوسف الأول وزفر والشافعي; لأنه وكله بالخصومة وهي المنازعة والمشاجرة والإقرار مسالمة وموافقة فكان ضد ما أمر به والتوكيل بالشيء لا يتضمن ضده. وفي الاستحسان يجوز إقراره وهو قول علمائنا الثلاثة رحمهم الله; لأنا تركنا هذه الحقيقة وجعلنا كلامه توكيلا بالجواب مجازا إطلاقا لاسم السبب على(2/128)
بإطلاقه; لأن الحقيقة مهجورة شرعا والمهجور شرعا مثل المهجور عادة ألا ترى أن من حلف لا يتكلم هذا الصبي لم يتقيد بصباه; لأن هجران الصبي مهجور
ـــــــ
المسبب; لأن الخصومة سبب الجواب أو إطلاقا لاسم الجزء على الكل; لأن الإنكار الذي ينشأ منه الخصومة بعض الجواب فيدخل في عمومه الإنكار والإقرار
وإنما حملناه على هذا; لأن التوكيل إنما يصح شرعا بما يملكه الموكل بنفسه والذي يتيقن به أنه مملوك للموكل الجواب لا الإنكار فإنه إذا عرف المدعي محقا لا يملك الإنكار شرعا وتوكيله بما لا يملك لا يجوز شرعا والديانة تمنعه من قصد ذلك فكان مهجورا شرعا والمهجور شرعا كالمهجور عادة فلهذا حملناه على هذا النوع من المجاز كالعبد المشترك بين اثنين ببيع أحدهما نصفه مطلقا ينصرف بيعه إلى نصيبه خاصة لتصحيح عقده بهذا الطريق غير أن عند أبي يوسف في قوله الآخر يصح إقراره في مجلس القاضي وغير مجلس القاضي; لأن الموكل أقامه مقام نفسه مطلقا فيملك ما كان الموكل مالكا له والموكل يملك الإقرار في مجلس القضاء وغير مجلس القضاء فكذا الوكيل وعندهما يملك الإقرار في مجلس القاضي دون غيره; لأن الجواب إنما يسمى خصومة مجازا إذا حصل في مجلس القضاء; لأنه لما ترتب على خصومة الآخر إياه يسمى باسمه كما قال الله جل جلاله {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} "الشوري:40" والمجازاة لا يكون سيئة ولأن مجلس القضاء مجلس الخصومة فما يجري فيه يسمى خصومة مجازا وهذا لا يوجد في غير مجلس القضاء. وإلى قولهما أشار الشيخ بقوله صرف إلى جواب الخصم مجازا; لأن جواب الخصم لا يتحقق إلا في مجلس الخصومة على ما ذكرنا.
قوله "لم يتقيد بزمان صباه" إذا حلف لا يكلم هذا الصبي لا يتقيد بزمان صباه حتى لو كلمه بعد ما كبر يحنث والأصل فيه أن اليمين متى عقدت على شيء بوصف فإن صلح داعيا إلى اليمين يتقيد به سواء كان منكرا أو معرفا احتراز عن الإلغاء كما إذا حلف لا يأكل رطبا أو هذا الرطب يتقيد بالوصف حتى لو أكله بعدما صار تمرا لم يحنث; لأن هذا الوصف يصلح داعيا إلى اليمين لن يضره أكل الرطب وإن لم يصلح داعيا إلى اليمين فإن كان المحلوف عليه منكرا يتقيد به أيضا; لأن الوصف إذ ذاك يصير مقصودا باليمين; لأن المعرف للمحلوف عليه ولو ترك اعتباره بطلت اليمين فيجب اعتباره ضرورة كمن حلف لا يأكل لحم جمل فأكل لحم كبش لا يحنث وإن كان المحلوف عليه معرفا بالإشارة لا يتقيد اليمين بالوصف كما إذا حلف لا يأكل لحم هذا الحمل فأكله بعدما صار كبشا يحنث; لأن الوصف للتقييد أو التعريف ولا يصلح للتقييد هنا; لأنه لا يصلح داعيا إلى اليمين; لأن من امتنع عن أكل لحم الحمل لضرر يلحقه يكون أشد امتناعا من(2/129)
شرعا وعلى هذه الجملة يخرج قولهم في رجل قال لعبده - ومثله يولد لمثله وهو معروف النسب من غيره هذا ابني أنه يعتق عملا بحقيقته دون مجازه; لأن ذلك ممكن فالنسب قد يثبت من زيد ويشتهر من عمرو فيكون المقر مصدقا في حق نفسه وإليه أشار محمد رحمه الله في الدعوى والعتاق أن الأم تصير أم
ـــــــ
أكل لحم الكبش ولا للتعريف أيضا لحصول التعريف بمعرف أقوى منه وهو الإشارة إذ هي فوق الوصف في التعريف لكونها بمنزلة وضع اليد على المشار إليه فيحمل على المجاز وهو أن يجعل عبارة عن الذات كأنه قال لا آكل لحم هذا الحيوان. وإذا عرفت هذا كان ينبغي أن يتقيد اليمين في قوله لا أكلم هذا الصبي بوصف الصبا; لأنه يصلح داعيا إلى الحلف بترك الكلام مع الصبيان لسفاهتهم وقلة عقولهم وسوء آدابهم كوصف الرطوبة, ولهذا يصلح داعيا إلى اليمين في قوله لا أكلم صبيا إلا أن هجران الصبي بترك الكلام معه حرام مهجور شرعا لقوله عليه السلام: "من لم يرحم صغيرنا ولم يوقر كبيرنا فليس منا1" وفي ترك الكلام ترك الترحم فكان بمنزلة المهجور عادة فيترك الحقيقة ويصار إلى المجاز ويجعل كأنه قال لا أكلم هذا الذات بطريق إطلاق اسم الكل على البعض فإذا كلمه بعد زوال الصفة يحنث لبقاء الذات بخلاف قوله لا أكلم صبيا حيث يتقيد بالصبا وإن كان حراما مهجورا شرعا; لأنه صار مقصودا بالحلف لكونه هو المعرف للمحلوف عليه كما بينا فيجب تقييد اليمين به وإن كان حراما كمن حلف ليشربن اليوم خمرا أو ليسرقن الليلة ينعقد اليمين وإن كان حراما لصيرورة الشرب والسرقة مقصودين باليمين فيحنث إن لم يشرب أو لم يسرق كذا هنا.
قوله "وعلى هذه الجملة" أي الجملة التي ذكرنا أنه يعمل فيها بالحقيقة عند الإمكان لا بالمجاز يخرج قول أصحابنا في المسألة المذكورة أن إثبات العتق فيها بطريق الحقيقة لا بطريق أن اللفظ صار مجازا للتحرير. وذلك; لأن العمل بجهة الحقيقة ممكن فإن النسب قد يثبت من زيد بأن كان الفراش له في الباطن بأن كانت منكوحته أو أمته حقيقة ولا يمكنه الإثبات لعارض ويشتهر من عمرو لوجود ظاهر الدليل فلا يصدق المقر في إبطال حق الغير ولكن يصدق فيما يرجع إلى حقه ويجعل كأن النسب ثابت منه فيثبت أحكام النسب في حقه باعتبار الحقيقة لا باعتبار المجاز والدليل عليه أن الجارية تصير أم ولد له ولو صار مجازا لما صارت أم ولد له كما لو قال له أنت حر بل إنما يعتق لاحتمال
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في البر والصلة حديث رقم 1919 وأبو داود في الأدب حديث رقم 4943 والإمام أحمد في المسند 1/257(2/130)
ولد له قال في الجامع في عبد له ابن ولابنه ابنان فقال المولى في صحته أحد هؤلاء ولدي ثم مات وكلهم يصلح ابنا له أنه يعتق من الأول ربعه ومن الثاني ثلثه ومن كل واحد من الآخرين ثلاثة أرباعه وعلى قياس ذلك الجواب لو كان لابن العبد ابن واحد وكلهم يولد لمثله أنه يعتق من الأول ثلثه ومن الثاني نصفه
ـــــــ
أنه مخلوق من مائه وقد ذكر محمد ما يدل عليه وهو ما ذكرنا أن الرجل إذا كانت له جارية فولدت ثلاثة أولاد في بطون مختلفة فقال أحد هؤلاء ولدي ثم مات من غير بيان يعتق من الأول الثلث ومن الثاني النصف وكل الآخر ولو كان العتق في قوله هذا ابني بطريق المجاز لما عتق من كل واحد منهم إلا الثلث كما لو أنشأ العتق في أحدهم ومات من غير بيان ولما كان العتق منهم على الاختلاف علم أن ثبوت العتق باحتمال النسب وإنما قيد بقوله في صحته ليستقيم الجواب المذكور فإنه إن كان هذا الكلام في مرض الموت ولا مال له غير هؤلاء ولم يجز الورثة وقيمتهم على السواء يجعل كل رقبة ستة أسهم لحاجتنا إلى حساب له نصف وثلث وأقله ستة ثم يجمع سهام العتق وهي سهمان وثلاثة وستة فتبلغ أحد عشر سهما وقد ضاق ثلث المال وهو ستة عنه فيجعل كل رقبة أحد عشر سهما فيعتق من الأكبر سهمان ويسعى في تسعة ومن الأوسط ثلاثة أسهم ويسعى في ثمانية ومن الأصغر ستة أسهم ويسعى في خمسة ليستقيم الثلث والثلثان.
قوله "وقال في الجامع كذا" رجل له عبد ولعبده ابن وللابن ابنان في بطنين مختلفين فقال المولى في صحته أحد هؤلاء ولدي وكل واحد منهم يولد مثله لمثله ثم مات قبل البيان فإن من الأول يعتق منه ربعه ويسعى في الباقي ومن الثاني ثلثه ومن كل واحد من الآخرين ثلاثة أرباعه ولو كانا من بطن واحد يعتق كل واحد منهما بكماله; لأن أحد التوأمين لا ينفصل عن الآخر في النسب أما النسب فلا يثبت; لأنه لو ثبت في المجهول لبقي معلقا بالبيان وتعليق النسب بالشرط باطل; لأنه إخبار عن أمر كان والتعليق في أمر معدوم يحتمل الوجود أما العتق فقد قيل أن الذي ذكره قولهما فأما عند أبي حنيفة رحمه الله فينبغي أن يجعل كلمة النسب عبارة عن التحرير لما تعذر إثبات النسب فيعتق من كل واحد ربعه ولا يعتبر جهة النسب كما في مسألة كتاب الدعوى يعتق من كل واحد ثلثه ولا يعتبر جهة النسب. والصواب أن هذه المسألة بلا خلاف; لأن جهة النسب إذا احتملت الصحة لم يجعل لغوا عندهم وإن تعذر العمل بها لما بينا أن من قال لعبده وهو معروف النسب هذا ابني أنه يعتق وتصير أمه أم ولد له لاحتمال النسب منه فكذلك ههنا وليس هذا كمسألة كتاب الدعوى; لأن هناك يثبت العتق لهم على احتمال النسب على السواء وإنما التفاوت فيما يثبت بطريق السراية من الأم وذلك بمنزلة المجاز(2/131)
ومن الثالث كله لاحتمال النسب ولو كان تحرير العتق من كل واحد ثلثه وأما في الأكبر سنا منه فلأبي حنيفة رحمه الله طريقان أحدهما أنه إقرار بالحرية
ـــــــ
من الحقيقة فلا يجمع بينهما فأما العتق ههنا فلا يثبت بطريق السراية; لأن الأب لو كان حرا لا يلزم منه حرية الولد وإنما يثبت بجهة النسب لا غير; لأن الأول لو كان ابنه لكان أولاده حفدة له وهم في ملكه فيعتقون عليه; لأن من ملك ذا رحم محرم منه عتق عليه فلذلك وجب الجمع ويعتبر الأحوال. وإذا ثبت هذا قلنا إن الأول يعتق في حال ولا يعتق في ثلاثة أحوال فيعتق ربعه وأما الثاني فيعتق في حالين بأن يراد نفسه أو أبوه ولا يعتق في حالين بأن يراد ابنه الأكبر أو الأصغر وأحوال الإصابة حالة واحدة فوجب أن يعتق ثلثه وأحد الآخرين حر بيقين بأن يراد نفسه أو أبوه أو جده وأما الآخر فإن أريد به نفسه أو أبوه أو جده فكذلك وإن أريد به أخوه لم يعتق وأحوال الإصابة حالة واحدة فيعتق في حال ولا يعتق في حال فيعتق نصفه فصار لهما رقبة ونصف فيوزع عليهما; لأنه يحتمل أن يكون كل واحد هو الحر كله ويحتمل أن يكون هو الحر نصفه فيكون لكل واحد ثلاثة أرباعه وما قلنا إن أحوال الإصابة حالة واحدة رواية الجامع وفي الزيادات اعتبر أحوال الإصابة كما اعتبر أحوال الحرمان ووجه ذلك أن الرق لا يثبت أصله إلا بسبب واحد وهو القهر أما العتق فله أسباب متعددة مثل التنجيز والتعليق والكتابة والاستيلاد والتدبير فإذا اعتبر أحوال ما اتحد سببه فلأن يعتبر أحوال ما تعدد سببه أولى. وجه المذكور في الجامع وهو الأصح أن ازدحام الأسباب في الإصابة لا يتحقق; لأن الشيء إذا أصيب بسبب استحال حصوله بسبب آخر فأما الحرمان فيقبل الازدحام ألا ترى أن من أصاب شيئا بالشراء لم يصبه بالهبة والإرث ومن حرم شيئا بعدم الشراء فقد حرمه سائر الأسباب فلذلك وجب الجمع بين أحوال الحرمان دون الإصابة. وقوله في الكتاب في صحته احتراز عما إذا قال ذلك في مرضه ولم يكن له مال غيرهم ولم يجز الورثة حيث عتقوا من الثلث بحساب حقهم وذلك بأن يجعل كل رقبة اثني عشر لحاجتنا إلى حساب له ثلث وربع وأدناه اثنا عشر حق الأول في ربعه وهو ثلاثة أسهم وحق الثاني في ثلثه وذلك أربعة وحق كل واحد من الآخرين في ثلاثة أرباعه وهي تسعة فصارت سهام الوصية خمسة وعشرين وثلث المال ستة عشر فقد ضاق الثلث عن سهام الوصايا فنجعل الثلث خمسة وعشرين والمال خمسة وسبعين فنحتاج إلى معرفة الرقبة من الثلث ليظهر لنا مقدار ما يعتق عنها ومقدار ما يسعى فيه فنقول إن ثلث المال رقبة وثلث الرقبة منه ثلاثة أرباعه وليس لخمسة وعشرين ربع صحيح فنضربه في أربعة فيصير مائة والمال ثلاثمائة والرقبة ثلاثة أرباع المائة وهي خمسة وسبعون كان حق الأول في ثلثه فضربناها في أربعة فبلغ اثني عشر وصار حق الثاني ستة(2/132)
فيجب أن يصير مقرا بحق الأم أيضا; لأنه يحتمل الإقرار والثاني أنه تحرير مبتدأ من قبل أن الإقرار بالنسب لو ثبت ثبت تحريرا مبتدأ حتى قلنا في كتاب الدعوى في رجلين ورثا عبدا ثم ادعى أحدهما أنه ابنه غرم لشريكه كأنه أعتقه; لأن ثبوت النسب مضاف إلى خبره; لأن المخبر به قائم بخبره فإذا كان كذلك جعل مجازا عن التحرير وحق الأم لا يحتمل الوجود بابتداء تصرف المولى; لأنه ليس في وسع البشر إثبات أمومية الولد قولا; لأنها من حكم الفعل فلم يثبت
ـــــــ
عشر وصار حق كل واحد من الآخرين ستة وثلاثين فذلك مائة وتسعون في الباقي فحصل الثلث والثلثان كذا في شرح الجامع المصنف رحمه الله.
قوله "وأما في الأكبر سنا منه" يعني مهما أمكن في العمل بحقيقة النسب يعمل بها في قوله هذا ابني ويجعل العتق ثابتا بالنسب لا أن يجعل مجازا في الحرية فيثبت أمومية الولد به, فأما إذا لم يمكن كما في الأكبر سنا منه فأبو حنيفة رحمه الله يجعله مجازا في الحرية. وذلك بطريقين: أحدهما أن يجعل مجازا في الإقرار بالحرية كما بينا فيحصل مقرا بأن أم الغلام أم ولد له; لأن حق الحرية للأم حكم النسب كما أن حقيقة الحرية للولد حكمه فكما جعل قوله هذا ابني مجازا للإقرار بحقيقة الحرية يجعل مجازا للإقرار بحق الحرية للأم وصار كأنه قال عتق هذا علي من حين ملكته, وأمه أم ولدي والثاني أن قوله هذا ابني بمنزلة تحرير مبتدأ كأنه قال هو حر; لأنه ذكر كلاما هو سبب للحرية في ملكه فيصير به معتقا ابتداء ألا ترى أنه لو ورث رجلان عبدا مجهول النسب ثم ادعى أحدهما أنه ابنه غرم لشريكه إن كان موسرا كأنه أعتقه ولو لم يكن تحريرا مبتدأ لما غرم; لأن الشريكين إذا ورثا قريب أحدهما لا يضمن وارث القريب لعدم الصنع منه وعلى هذا الطريق لا يصير أم الغلام أم ولد له; لأنه ليس لتحرير الغلام ابتداء تأثير في إيجاب أمومية الولد لأمه ولا يمكن أن يجعل مجازا في إنشاء أمومية الولد; لأنه لا يمكن إثباتها بطريق الإنشاء قولا بأن يقول جعلتك أم ولد أو أنشأت فيك أمومية الولد وإنما هي من حكم الفعل الذي هو الاستيلاد. وقوله; لأن ثبوت النسب متصل بقوله تحريرا مبتدأ يعني ثبوت النسب مضاف إلى خبره; لأنه لم يكن ثابتا قبل خبره فيقصر على وقت الخبر; لأن المخبر به في حق علم السامع قائم أي ثابت بخبره فإذا كان كذلك أي إذا كان ثبوت النسب مضافا إلى خبره جعل هذا الخبر مجازا عن التحرير أي في التحرير أو عبارة عنه أو كناية عنه. والطريق الأول أصح; لأنه ذكر في كتاب الإكراه إذا أكره أن يقول هذا ابني لا يعتق عليه والإكراه يمنع صحة الإقرار بالعتق لا صحة التحرير ابتداء ووجوب الضمان في مسألة الدعوى بطريق الإقرار أيضا; لأنه موجب للضمان كالإنشاء ألا ترى أنه لو قال عتق(2/133)
بدونه.وقد يتعذر الحقيقة والمجاز معا إذا كان الحكم ممتنعا; لأن الكلام وضع لمعناه فيبطل إذا استحال حكمه ومعناه وذلك أن يقول الرجل لامرأته هذه بنتي وهي معروفة النسب وتولد لمثله أو أكبر سنا منه فإن الحرمة لا تقع به أبدا عندنا خلافا للشافعي رحمه الله; لأن الحقيقة في الأكبر سنا منه متعذر وفي
ـــــــ
علي من حين ملكته كان ضامنا لشريكه أيضا فعلم أن الضمان غير مختص بالإنشاء كذا قال شمس الأئمة رحمه الله.
قوله "وقد يتعذر" أي وقد يمتنع العمل بالحقيقة والمجاز في بعض الألفاظ فيلغو ضرورة وذلك إذا كان إثبات موجب اللفظ في المحل الذي استعمل فيه اللفظ ممتنعا; لأن الكلام وضع لإفادة المعنى فإذا تعذر إثبات معناه الموضوع له يجعل مجازا وكناية عن حكمه أعني لازم معناه الثابت به تصحيحا له فإذا تعذر إثبات ذلك أيضا يلغو ضرورة مثال ذلك أن يقول الرجل لامرأته, ومثلها لا يصلح بنتا له أو تصلح وهي معروفة النسب هذه بنتي لا تقع الفرقة به أبدا يعني سواء أصر على هذا القول أو أكذب نفسه بأن قال غلطت أو أوهمت إلا أنه إذا أصر على ذلك يفرق القاضي بينهما; لا لأن الحرمة ثابتة بهذا اللفظ بل; لأنه إذا أصر عليه صار ظالما يمنع حقها عن الجماع; لأنه يمتنع عن وطئها عند الإصرار وصارت هي كالمعلقة فيجب دفعه في التفريق كما في الجب والعنة.
ووافقنا الشافعي رحمه الله في التي لا تصلح بنتا له وقال في التي تصلح بنتا له أنها تحرم; لأن ملك النكاح أضعف من ملك اليمين والولاد أنفى لهذا الملك منه لملك اليمين ثم ملك اليمين ينتفي بهذه اللفظ ملكه فهذا أولى وهذا لأن موجبه الحرمة وإليه إثبات الحرمة فيؤخذ بموجب قوله فيما أمكن ولنا أن العمل بحقيقة كلامه في الفصلين أعني في التي تصلح بنتا له والتي لا تصلح بنتا له متعذر أما في الفصل الثاني فظاهر وأما في الفصل الأول فلأن الحقيقة إما أن جعلت ثابتة على الإطلاق بأن جعل النسب ثابتا منه بالنسبة إلى جميع الناس أو جعلت ثابتة في حق المقر لا غير ليظهر أثره في التحريم كما قلنا في قوله لعبده الذي يولد لمثله وهو معروف النسب هذا ابني ليظهر أثره في العتق لا وجه إلى الأول; لأنه أي لأن النسب مستحق من جانب من اشتهر نسبا منه فلا يؤثر إقراره في إبطال حق الغير ولا إلى الثاني; لأن هذا الكلام لو صح معناه أي لو ثبت موجبه وهو البنتية كان التحريم الثابت به منافيا لملك النكاح وليس إلى العبد إثبات ذلك إنما إليه إثبات حرمة هي من واجب النكاح دون تبديل حال المحل وهو المراد من قوله فلم يصلح حقا من حقوق الملك أي التحريم المنافي لا يصلح حقا من(2/134)
الأصغر سنا تعذر إثبات الحقيقة مطلقا; لأنه مستحق ممن اشتهر منه نسبها وفي حق المقر معتذر أيضا في حكم التحريم; لأن التحريم الثابت بهذا الكلام لو صح معناه مناف للملك فلم يصلح حقا من حقوق الملك وكذلك العمل بالمجاز وهو التحريم في الفصلين متعذر لهذا العذر الذي أبليناه فلا يمكن أن يجعل النسب ثابتا في حق المقر بناء على إقراره; لأن الرجوع عنه صحيح والقاضي كذبه ههنا فقام ذلك مقام رجوعه بخلاف العتاق; لأن الرجوع عنه لا يصح.ٍومن حكم
ـــــــ
من حقوق الملك; لأن الشيء لا يثبت ما ينافيه فلا يكون داخلا تحت ولايته بثبوت ملك النكاح له. ولأن حل المحلية ثبت شرعا كرامة لها, ولهذا يزداد بحريتها وينتقص برقها فيكون الإقرار بالبنتية في حق الحل إقرارا عليها فيكون باطلا.
وكذا العمل بمجازه وهو أن يجعل كناية عن التحريم في الأكبر سنا منه على أصل أبي حنيفة رحمه الله وفي الأصغر سنا منه على قول الكل وهو المراد من قوله في الفصلين متعذر أيضا لهذا العذر الذي أبليناه وهو أن التحريم الثابت بهذا الكلام أي التحريم الذي هو من لوازم البنتية مناف لملك النكاح فلم يصلح حقا من حقوقه فلا يجوز أن يستعار هذا الكلام لذلك التحريم; لأن الزوج لا يملك إثباته والتحريم الذي يملك الزوج إثباته وهو التحريم القاطع للحل الثابت بالنكاح ليس من موجبات هذا الكلام ولوازمه فلا يصح استعارته له أيضا فلذلك بطل.
قوله "بخلاف العتق" يعني بخلاف قوله هذا ابني; لأن العمل بحقيقته في الأصغر سنا منه ممكن على ما مر وكذا بمجازه فيه وفي الأكبر سنا منه; لأن البنوة بعد الثبوت موجبها لعتق يقطع الملك كإنشاء العتق, ولهذا تأدت به الكفارة وثبت به الولاء لا عتق ينافي الملك, ولهذا لو اشترى ابنه أو بنته صح الشراء وفي وسعه إثبات عتق يقطع الملك وهو موجب البنوة فيجعل كناية عنه.
وقرر القاضي الإمام أبو زيد رحمه الله ما ذكرناه بهذه العبارة فإن قيل يصير قوله هذه بنتي كناية عن قوله هي علي حرام قلنا أعن حرمة يملك الزوج إثباتها بملك النكاح أو عن حرمة لا يملكها فلا بد أن يقول عن تحريم يملك الزوج إثباته بحق الملك لينفذ منه ويلزمه بقوله فإن تحريما غير مملوك له بحق الملك غير لازم ولا نافذ كما لو أخبر بحرمة في ملك الغير أو أخبر به رجل آخر فقال إنها بنت هذا الزوج والتحريم المملوك للزوج بحق الملك تحريم بعد الملك من حيث قطع الملك لا من حيث إثبات حرمة مؤبدة فالحرمات المؤبدة علقت بأسباب حكمية تثبت قبل ملك المالك غير مملوك(2/135)
هذا الباب أن الكلام إذا كانت له حقيقة مستعملة ومجاز متعارف فالحقيقة
ـــــــ
للرجل بملك النكاح واللفظ الذي تكلم به لا يحتمل هذا الفراق الذي قلناه ولا يكون سببا له بحال بل هو سبب لحرمة مؤبدة منافية للنكاح من حيث يثبت لا من حيث تملك فإنا لو توهمناه صادقا لم يكن بينهما نكاح من الأصل ولا تحل له بحال وإذا لم يحتمله لم يصح كناية عنه فلغا صريحه وكفايته جميعا. وقوله أبليناه أي بيناه متعد إلى مفعولين يقال أبليت فلانا عذرا إذا بينته له بيانا وحقيقته جعلته باليا بعذري وعالما بكنهه من بلاه إذا أخبره وجربه وأحد المفعولين ههنا محذوف والتقدير أبليناك إياه
واعلم أن الحكم في مجهولة النسب أيضا ما عرفته في معروفته نص عليه في الأسرار فقيل إذا قال الرجل لامرأة هذه بنتي ويجوز أن يكون كذلك ولها نسب معروف أو ليس لها نسب معروف وقال غلطت أو أخطأت حل له أن يتزوجها. وإن قال ذلك بعد العقد لم يحرم إلا أنه إذا لم يكن لها نسب معروف ودام على قوله فرق بينهما وكذا ذكر الشيخ أبو الفضل الكرماني في إشارات الأسرار فقال إذا قال لامرأته هذه بنتي وهي مجهولة النسب وتصلح بنتا له ثم قال غلطت لم يفرق بينهما عندنا وهكذا ذكر في المبسوط وذلك; لأن الرجوع عن الإقرار بالنسب صحيح قبل تصديق المقر له إياه كما صح الرجوع عن الإيجاب في العقود قبل وجود القبول فلا يمكن العمل بموجب هذا الإقرار قبل تأكده بالقبول لاحتمال انتقاضه بالرجوع أو بالرد إلا أن الشيخ وضع المسألة في معروفة النسب; لأن تعذر العمل بالحقيقة فيها أظهر وقد أشار الشيخ إلى ما ذكرناه أيضا بقوله ولا يمكن أن يجعل النسب ثابتا إلى آخره على ما ذكر في بعض النسخ وهو في الحقيقة دليل آخر على تعذر العمل بالحقيقة في حق المقر لأن الرجوع عنه صحيح يعني قبل تصديق المقر له وإن كان مجهول النسب والقاضي كذبه ههنا أي في معروفة النسب فقام تكذيب القاضي إياه مقام تكذيبه نفسه وأوضح هذا المعنى في عتاق المبسوط بهذه العبارة إذا قال لامرأته هذه بنتي وهي معروفة النسب من الغير فإنه لا يقع الفرقة بينهما; لأنه صار مكذبا شرعا في حق النسب ولو أكذب نفسه بأن قال غلطت لا يقع الفرقة وإن لم يكن لها نسب معروف فكذلك إذا صار مكذبا في النسب شرعا وفي العتاق لو أكذب المولى نفسه في حق من لا نسب له كان العتق ثابتا فكذلك إذا صار مكذبا شرعا.
قوله "ومن حكم هذا الباب" إذا كانت الحقيقة مستعملة والمجاز غير مستعمل أو كانا مستعملين وكانت الحقيقة أكثر استعمالا أو كانا في الاستعمال على السواء فالعبرة للحقيقة بالاتفاق; لأن الأصل في الكلام هو الحقيقة ولم يوجد ما يعارض هذا الأصل فوجب العمل به وإن كان المجاز أغلب استعمالا فعند أبي حنيفة رحمه الله العبرة(2/136)
أولى عند أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله العمل بعموم المجاز أولى وهذا يرجع إلى ما ذكرنا من الأصل أن المجاز عندهما خلف عن الحقيقة في الحكم وفي الحكم للمجاز رجحان; لأنه ينطلق على الحقيقة والمجاز معا فصار مشتملا على حكم الحقيقة فصار أولى ومن أصل أبي حنيفة أنه خلف في التكلم دون الحكم فاعتبر الرجحان في التكلم دون الحكم فصارت الحقيقة أولى مثاله من حلف لا يأكل من هذه الحنطة يقع على عينها
ـــــــ
للحقيقة وعندهما العبر للمجاز وهذا أي هذا الاختلاف بناء على اختلافهم في خلفية المجاز فعند هما لما كانت الخلفية باعتبار إثبات الحكم; لأن الحكم هو المقصود دون العبارة كان العمل بعموم المجاز أولى; لأن حكمه راجع على حكم الحقيقة لدخول حكم الحقيقة تحت عمومه وعند أبي حنيفة رحمه الله لما كانت الخلفية في التكلم به لا في الحكم; لأنه تصرف من المتكلم في عبارته من حيث إنه يجعل عبارة قائمة مقام عبارة ثم يثبت الحكم بالمجاز مقصودا لا أنه خلف عن الحكم على ما عرفته لا يثبت المزاحمة بين الأصل والخلف فيجعل اللفظ عاملا في حقيقته عند الإمكان وإنما يصار إلى أعماله بطريق المجاز فيما تعذر إعماله في حقيقته هذا بيان كلام الشيخ وسياقه يدل على أن عندهما إنما يترجح المجاز المتعارف إذا كان عمومه متناولا للحقيقة ولا دلالة فيه على حكمه إذا لم يكن متناولا للحقيقة.
وذكر في شروح الجامع البرهاني ما يدل على ترجحه بكل حال فقيل إن كان المجاز أغلب استعمالا فعندهما العبرة للمجاز; لأن المرجوح بمقابلة الراجح ساقط فكانت هذه الحقيقة كالمهجورة وعند العبرة للحقيقة; لأن العمل بالأصل ممكن فلا يصار إلى المجاز إلا بدليل مرجح وغلبة الاستعمال لا تصلح مرجحة; لأن العلة لا تترجح بالزيادة من جنسها فكان الاستعمال في حد التعارض فبقيت العبرة للحقيقة بخلاف المهجورة; لأنه لا تعارض هناك في الاستعمال فبقيت العبرة للمجاز
ثم اختلفوا في تفسير التعارف قال مشايخ بلخ رحمهم الله المراد به التعارف بالتعامل وقال مشايخ العراق المراد التعارف بالتفاهم وقال مشايخ ما وراء النهر ما قال مشايخ العراق قول أبي حنيفة وما قاله مشايخ بلخ قولهما بدليل ما إذا حلف لا يأكل لحما فأكل لحم آدمي أو خنزير حنث عنده; لأن التفاهم يقع عليه فإنه يسمى لحما ولا يحنث عندهما; لأن التعامل لا يقع عليه; لأن لحمهما لا يؤكل عادة.
قوله "يقع على عينها"; لأن عينها مأكولة عادة فإنها تقلى فيؤكل ويتخذ منها(2/137)
دون ما يتخذ منها عند أبي حنيفة رحمه الله لما قلنا وعندهما يقع على مضمونها على العموم مجازا وكذلك إذا حلف لا يشرب من الفرات يقع على الكرع خاصة عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما يقع على شرب ماء مجاور للفرات وذلك لا ينقطع بالأواني; لأنها دون النهر في الإمساك.
ـــــــ
الكشك والهريسة وقد يؤكل أيضا نيا حبا فإن من اشترى حنطة يمضغها كما هي ليختبر أنها رخوة أم علكة ولما كانت عينها مأكولة ينصرف اليمين إلى الحقيقة دون المجاز كما في العنب والرطب. وعندهما لما كان المتعارف من أكل الحنطة أكل ما في بطنها كما مر بيانه يقع يمينه على مضمونها أي على الأجزاء التي تضمنتها هذه الحنطة للتعارف وكون الحقيقة داخلة في عموم المجاز, وأشار شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله في شرح الأيمان الأصل إلى أن قول أبي حنيفة مثل قولهما في أن الحقيقة تترك بالتعارف ولكنه خالفهما في هذه المسألة; لأنه قال التعارف في حنطة غير معينة لا في حنطة بعينها ألا ترى إنك في قولك فلان يأكل الحنطة لا تريد حنطة معينة ولا استغراق جنس الحنطة واللام فيها يفيد تعريفها كما في قوله: ولقد أمر على اللئيم يسبني وإذا لم يوجد التعارف في المعينة لا يترك العمل بالحقيقة; لأن الحقيقة إنما يترك بنية غيرها أو بالعرف ولم يوجد واحد منهما قال وعلى قياس قول أبي حنيفة يجب أن يكون الجواب كما قالا إذا عقد اليمين على حنطة بغير عينها بأن حلف لا يأكل حنطة وفي التهذيب لمحيي السنة رحمه الله ولو حلف على الحنطة فله أحوال ثلاث أحدها أن يشير إلى حنطة فيقول لا آكل هذه من غير أن يذكر لفظ الحنطة فيحنث بأكلها سواء أكلها كذلك أو طحنها فأكل الطحين أو خبزها فأكل الخبز والثانية أن يقول لا آكل حنطة فيحنث بأكل الحنطة سواء أكلها نيئا أو مطبوخا أو مبلولا أو مقليا ولا يحنث بأكل الدقيق والسويق والعجين والخبز والثالثة أن يقول لا آكل هذه الحنطة وأشار إلى صبرة فأكل من دقيقها أو عجينها أو خبزها لا يحنث لتبدل الاسم. وقال ابن شريح يحنث لوجود الإشارة كما لو حلف لا يأكل هذا الحمل فذبحه وأكله حنث والأول هو المذهب بخلاف الحمل; لأنه لا يمكن أكله حيا فكان يمينه على لحمه والحنطة يمكن أكلها حبا فكان يمينه على حبها.
قوله "يقع على الكرع خاصة"; لأن ذلك حقيقة كلامه وهي مستعملة عادة وشرعا فإن النبي عليه السلام مر بقوم فقال: "هل عندكم ماء بات في شن وإلا كرعنا في الوادي1" وذلك عادة أهل البوادي والقرى أيضا وإذا كانت مستعملة كان اللفظ محمولا
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الأشربة ر حديث رقم 3724 والإمام أحمد في المسند 3/328.(2/138)
---------------------------------------------------------
ـــــــ
عليها دون المجاز وعند هما يقع على شرب ماء يجاور الفرات; لأنه هو المراد من مثل هذا الكلام في العرف يقال بنو فلان يشربون من الوادي أو من الفرات ويراد به ماء منسوب إليه فيحمل الكلام عليه لكونه متناولا للحقيقة بعمومه والأخذ بالأواني لا يقطع هذه النسبة; لأنها لا تعمل عمل الأنهار في إمساك الماء فيحنث بالاغتراف والكرع جميعا لعموم المجاز فإن شرب من نهر يأخذ من الفرات لم يحنث; لأن هذا مثل الفرات في إمساك الماء فيقطع المجاورة عنه فخرج عن عموم المجاز والكرع تناول الماء بالفم من موضعه يقال كرع الرجل في الماء وفي الإناء إذا مد عنقه نحوه ليشربه ومنه كره عكرمة1 الكرع في النهر; لأنه فعل البهيمة يدخل فيه أكارعه كذا في المغرب وفي الصحاح كرع في الماء يكرع كروعا إذا تناوله بفيه من موضعه من غير أن يشرب بكفيه ولا بإناء وفيه لغة أخرى كرع بالكسر يكرع كرعا وفي الأساس كرع في الماء أدخل فيه أكارعه بالخوض فيه ليشرب والأصل في الدابة; لأنها لا تكاد تشرب إلا بإدخال أكارعها فيه. ثم قيل للإنسان كرع في الماء إذا شرب فيه خاض أو لم يخض والله أعلم.
ـــــــ
1 هو الحبر العالم عكرمة أبو عبدالله البربري المدني الهاشمي مولي عباس رضي الله عنه توفي سنة 7ه وفيات الأعيان 3/265- 226.(2/139)
باب جملة ما يترك به الحقيقة والمجاز والصريح والكناية
...
"باب جملة ما يترك به الحقيقة"
وهو خمسة أنواع قد تترك بدلالة الاستعمال والعادة وقد تترك بدلالة اللفظ في نفسه وقد تترك بدلالة سياق النظم وقد تترك بدلالة ترجع إلى المتكلم وقد تترك بدلالة في محل الكلام أما الأول فمثل الصلاة فإنها اسم للدعاء قال الله تعالى {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} "التوبة:103" أي ادع.
ـــــــ
"باب جملة ما يترك به الحقيقة"
لما ذكر أحكام الحقيقة والمجاز شرع في بيان القرائن التي يصرف بها الكلام إلى المجاز فقال جملة ما يترك به الحقيقة خمسة أنواع يعني به الشرعيات. والانحصار على الخمسة المذكورة عرف بالاستقراء قوله"بدلالة الاستعمال والعادة". قيل هما مترادفان. وقيل المراد من الاستعمال نقل اللفظ عن موضوعه الأصلي إلى معناه المجازي شرعا وغلبة استعماله فيه كالصلاة والزكاة حتى صار بمنزلة الحقيقة ويسمى إذ ذاك حقيقة شرعية. ومن العادة نقله إلى معناه المجازي عرفا واستفاضته فيه كوضع القدم في قوله لا أضع قدمي في دار فلان ويسمى حقيقة عرفية ويجوز أن يكون الاستعمال راجعا إلى القول يعني إنهم يطلقون هذا اللفظ في معناه المجازي في الشرع والعرف دون موضوعه الأصلي كالصلاة والدابة مثلا فإنهما لا تستعملان في الشرع والعرف إلا في الأركان المعهودة والفرس. والعادة راجعة إلى الفعل كما سنبينه وعلى هذا الوجه يدل سياق كلام الشيخ قوله "فإنها اسم للدعاء" الصلاة الدعاء لغة قال عليه السلام: "وإذا كان صائما فليصل1" أي فليدع.
وقال الأعشى:
تقول بنتي وقد قربت مرتجلا ... يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا
عليك مثل الذي صليت فاغتمضي عينا ... فإن لجنب المرء مضطجعا
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في النكاح حديث رقم 1431 والترمذي في الصوم حديث رقم 780 وأبو داود في الصوم حديث رقم 2460 والإمام أحمد في المسند 2/279.(2/140)
ثم سمي بها عبادة معلومة مجازا لما أنها شرعت للذكر قال الله تعالى {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} "طه: 14"وكل ذكر دعاء وكالحج فإنه قصد في اللغة
ـــــــ
أي دعوت يريد قولها يا رب جنب أبي الأوصاب, وقال أيضا:
وصهباء طاف يهوديا ... وأبرزها وعليها ختم
وأقبلها الريح في دنها ... وصلى على دنها وارتسم
أي استقبل بالخمر الريح ودعا, وارتسم من الروسم وهو الخاتم يعني ختمها, ثم نقلت إلى الأركان المعلومة لما ذكر قوله قال تعالى {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} إما من قبيل إضافة المصدر إلى المفعول أي لتذكرني فيها لاشتمالها على الأذكار الواردة في كل ركن. أو من قبيل إضافته إلى الفاعل أي أقمها لأن أذكرك بالمدح والثناء كما قيل في تفسير قوله تعالى " {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} "العنكبوت: 45"أي ذكر الله العبد أكبر من ذكر العبد إياه. أو أقمها لأني ذكرتها في كل كتاب ولم أخل منها شريعة وإيراده ههنا للمعنى الأول
قوله "وكل ذكر دعاء" فإن من ذكر الله تعالى يقال دعاه. وتحقيقه أن اشتغال العبد الفقير المحتاج بذكر مولاه الغني الكريم وثنائه تعرض منه لطلب حاجته منه فيكون كل ذكر دعاء أو الدعاء ذكر المدعو لطلب أمر منه. وقيل لسفيان بن عيينة ما حديث يروى عن رسول صلى الله عليه وسلم: " أفضل دعاء أعطيته أنا والنبيون قبلي أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير1" قال ما تنكر من ذا ثم حدث بقوله عليه السلام: "من تشاغل بالثناء على الله تعالى أعطاه الله فوق رغبة السائلين2" . ثم قال هذا أمية بن أبي الصلت يقول لابن جدعان:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء
وعلمك بالحقوق وأنت قرم ... لك الحسب المهذب والسناء
إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرضه الثناء
فهذا مخلوق يقول في مخلوق فما ظنك برب العالمين كذا في "ربيع الأبرار" وغيره
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في الدعوات حديث رقم 3585
2 أخرجه الترمذي في ثواب القرآن حديث رقم 2926(2/141)
فصار اسما لعبادة معلومة مجازا لما فيه من قوة العزيمة والقصد بقطع المسافة وكذلك نظائرها من العمرة والزكاة حتى صارت الحقيقة مهجورة وإنما صار هذا دلالة على ترك الحقيقة لأن الكلام موضوع لاستعمال الناس وحاجتهم فيصير المجاز باستعمالهم كالحقيقة ومثاله ما قال علماؤنا رحمهم الله فيمن نذر صلاة أو حجا أو المشي إلى بيت الله أو أن يضرب بثوبه حطيم الكعبة ينصرف إلى
ـــــــ
قوله "وكالحج فإنه قصد في اللغة" الحج القصد ومنه المحجة للطريق والحجة لأنها تقصد وتعتمد أو بها يقصد الحق المطلوب قال المخبل السعدي:
واشهد من عوف حلولا كثيرة ... يحجون سب الزبرقان المزعفرا.
أي يقصدونه ويختلفون إليه. والسب العمامة والزبرقان لقب حصين بن بدر الفزاري وهو في الأصل القمر ثم تعورف استعماله في القصد إلى مكة للنسك المعروف.
وكذلك نظائرها من العمرة. العمرة اسم من الاعتمار كالعبرة من الاعتبار وأصلها الزيارة يقال اعتمر أي زار. وفي المغرب أصلها القصد إلى مكان عامر ثم غلبت على هذه العبادة المعلومة وهي الإحرام والطواف والسعي والحلق أو التقصير والزكاة هذا التركيب يدل على الطهارة قال تعالى {وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} "التوبة :103" قيل وتطهرهم ويقال فلان زكى نفسه أي مدحها وطهرها عن رذائل الأخلاق, وعلى الزيادة والنماء وهو الظاهر يقال زكا الزرع يزكو زكاة أي نما ثم سمي بها القدر الذي يخرج من المال إلى الفقراء لأن إخراجه سبب لنماء المال واليمن والبركة فيه ولطهارة مؤديه عن الآثام وغلب استعمالها فيه بحيث صارت الحقيقة مهجورة. حتى صارت الحقيقة مهجورة فإنه لو حلف أن يصلي أو يحج أو يعتمر أو يزكي لم يلزم عليه إلا العبادات المعهودة ولا يخرج عن العهدة بمباشرة حقائقها اللغوية. وإنما صار هذا أي استعمال اللفظ في معناه المجازي واستفاضته فيه دلالة على ترك الحقيقة لأن الكلام موضوع للإفهام والمطلوب به ما يسبق إليه الأوهام فإذا تعارف الناس استعماله لشيء عينا كان بحكم الاستعمال كالحقيقة فيه وما سواه لعدم العرف كالمجاز لا يتناوله الكلام إلا بقرينة. وهذا كاسم الدراهم يتناول نقد البلد عند الإطلاق لوجود العرف الظاهر في التعامل به ولا يتناول غيره إلا بقرينة لترك التعامل به وإن لم يكن بين النوعين فرق فيما وضع الاسم له حقيقة كذا ذكر شمس الأئمة رحمه الله
قوله "أو المشي إلى بيت الله" إذا قال علي المشي إلى بيت الله لزمه حجة أو عمرة والخيار إليه استحسانا وفي القياس لا يلزمه شيء لأن الإلزام بالنذر إنما يصح إذا كان من(2/142)
المجاز المتعارف ومثاله كثير وقالوا فيمن حلف لا يأكل رأسا إنه يقع على المتعارف استحسانا على حسب ما اختلفوا ويسقط غيره وهو حقيقة وكذلك لو حلف لا يأكل بيضا إنه يختص ببيض الإوز والدجاجة استحسانا ولو حلف لا
ـــــــ
جنسه واجب عليه شرعا وليس من جنس المشي إلى بيت الله واجب عليه شرعا فلا يصح التزامه بالنذر كالمشي إلى الحرم وإلى المسجد الحرام عند أبي حنيفة رحمه الله. يوضحه أن الالتزام باللفظ ولم يلزمه ما تلفظ به وهو المشي بالاتفاق فلأن لا يلزمه ما لم يتلفظ به من حج أو عمرة كان أولى وصار كما لو قال علي الذهاب أو السفر إلى بيت الله. ولكنا تركنا القياس بالعرف الظاهر بين الناس أنهم يذكرون هذا اللفظ ويريدون به التزام النسك وتعارفوا ذلك واللفظ إذا صار عبارة عن غيره مجازا واشتهر فيه يسقط اعتبار حقيقته ويجعل كأنه تلفظ بما صار عبارة عنه والعرف مختص بلفظ المشي المضاف إلى الكعبة أو إلى بيت الله أو إلى مكة فبقي ما وراءها على القياس. وعندهما المشي المضاف إلى الحرم أو إلى المسجد الحرام كالمضاف إلى الكعبة على ما عرف في موضعه.
ولو قال لله علي أن أضرب بثوبي حطيم الكعبة فعليه أن يهديه استحسانا وفي القياس لا شيء عليه لأن ما صرح به في كلامه لا يلزمه لأنه ليس بقربة فلأن لا يلزمه غيره أولى. وجه الاستحسان أنه إنما يراد بهذا اللفظ الإهداء به فصار اللفظ عبارة عما يراد به عرفا فكأنه التزم أن يهديه لما ذكرنا أن اللفظ متى صار عبارة عن غيره سقط اعتبار حقيقته في نفسه. كذا في المبسوط. والمعنى المجوز للتجوز هو أن الضرب على حطيم الكعبة أمارة إخراجه عن ملكه على وجه القربة ودليل عليه فكان من قبيل ذكر السبب وإرادة المسبب. ومثاله كثير مثل ما لو قال علي أن أذبح الهدي يجب ذبح الهدي بالحرم وكما لو قال علي أن أنحر ولدي أو أذبح ولدي أو أضحي ولدي يلزمه ذبح شاة عند أبي حنيفة ومحمد استحسانا. قوله "وقالوا فيمن حلف" إنما فرق بين النظائر الأولى وبين هذه المسائل بقوله وقالوا لأن فيما تقدم لم تكن الحقيقة منظورا إليها أصلا وفي هذه المسائل بعض أفراد الحقيقة مقصود ولهذا قال هو شبيه بالمجاز. يقع على المتعارف. إذا حلف لا يأكل رأسا فهو على رءوس البقر والغنم استحسانا لأنا نعلم أنه لم يرد به رأس كل شيء فإن رأس الجراد والعصفور لا يدخلان تحته وهو رأس حقيقة فإذا علمنا أنه لم يرد به الحقيقة وجب اعتبار العرف وهو أن الرأس ما يكبس في التنانير ويباع مشويا. وكان أبو حنيفة رحمه الله يقول أولا يدخل فيه رأس الإبل والبقر والغنم لما رأى من عادة أهل الكوفة إنهم يفعلون ذلك في هذه الرءوس الثلاثة ثم تركوا هذه العادة في الإبل فرجع وقال يحنث في رأس البقر(2/143)
يأكل طبيخا أي شواء إنه يقع على اللحم خاصة استحسانا وكل عام سقط بعضه كان شبيها بالمجاز على ما سبق وهذا ثابت بدلالة العادة لا غير.وأما الثابت
ـــــــ
والغنم خاصة ثم إن أبا يوسف ومحمدا رحمهما الله شاهدا عادة أهل بغداد وسائر البلدان أنهم لا يفعلون ذلك إلا في رءوس الغنم فقالا لا يحنث إلا في رأس الغنم فعلم أن الاختلاف اختلاف عرف وزمان لا اختلاف حكم وبرهان والعرف الظاهر أصل في مسائل الأيمان
قوله "إنه يختص ببيض الإوز والدجاجة" هذا اللفظ يشير إلى أنه لا يحنث بأكل ما سواهما من البيض لأن التعارف مختص بهما وهكذا ذكر شمس الأئمة في أصول الفقه فقال يتناول يمينه بيض الدجاج والإوز خاصة لاستعمال ذلك عند الأكل عرفا ولا يتناول بيض الحمام والعصفور وما أشبه ذلك. وذكر في المبسوط إذا حلف لا يأكل بيضا فهو على بيض الطير من الدجاجة والإوز وغيرهما ولا يدخل بيض السمك فيه إلا أن ينويه لأنا نعلم أنه لا يراد بهذا بيض كل شيء فإن بيض الدود لا يدخل فيه فيحمل على ما ينطلق عليه اسم البيض ويؤكل عادة وهو كل بيض له قشر كبيض الدجاجة ونحوها. فهذا يدل على أنه يحنث بما سواهما كبيض النعام والحمام وسائر الطيور والدجاج معروف وفتح الدال فيه أفصح من كسرها الواحدة دجاجة للذكر والأنثى لأن الهاء دخلته على أنه واحد من جنس مثل حمامة وبطة كذا في الصحاح
قوله "ولا يأكل طبيخا" وإن حلف لا يأكل طبيخا فهو على اللحم خاصة ما لم ينو غيره استحسانا وفي القياس يحنث في اللحم وغيره مما هو مطبوخ ولكن الأخذ بالقياس ههنا يفحش فإن المسهل من الدواء مطبوخ ونحن نعلم أنه لم يرد به ذلك فحملناه على أخص الخصوص وهو اللحم لأنه هو الذي يطبخ في العادات الظاهرة وتتخذ منه المباحات. قالوا وإنما يحنث إذا أكل اللحم المطبوخ بالماء فأما القلية اليابسة فلا يسمى مطبوخا. فإن طبخ بالماء إياها فأكل من مرقه يحنث لأنه يسمى طبيخا في العادة ولما فيه من أجزاء اللحم. وكذا إذا حلف لا يأكل الشواء ولا نية له فهو على اللحم خاصة أيضا استحسانا دون البيض والباذنجان والسلق والجزر لما ذكرنا أن العمل بالعموم غير ممكن فيصرف إلى أخص الخصوص وهو ما وقع عليه العرف
قوله "وكل عام سقط بعضه كان شبيها بالمجاز" إنما ذكر هذا جوابا عن سؤال يرد عليه وهو أن يقال أنت في بيان ترك الحقيقة إلى المجاز وفيما ذكرت من المسائل اللفظ يتناول ما بقي تحته بطريق الحقيقة لكنه لا يتناول من وراء ذلك فكان من قبيل الحقيقة القاصرة وقد اخترت في باب موجب الأمر أن الحقيقة القاصرة لا يسمى مجازا فأنى يستقيم(2/144)
بدلالة اللفظ في نفسه فمثل قوله حلف لا يأكل لحما أنه لا يقع على السمك وهو لحم في الحقيقة لكنه ناقص لأن اللحم يتكامل بالدم فما لا دم له قاصر من وجه فخرج عن مطلقه بدلالة اللفظ وكذلك قول الرجل كل مملوك لي حر لا
ـــــــ
إيراد هذه المسائل في هذا الباب فقال العام إذا سقط بعضه صار شبيها بالمجاز لأنه انتقل عن موضوعه الأصلي من وجه وهو الكل إلى غيره وهو البعض . على ما سبق أي في باب العام الذي لحقه الخصوص بطريق الإشارة فإن الشيخ أبا الحسن الكرخي لم يعمل به لأنه لم يبق عاما حقيقة ونحن حكمنا بأنه تغير وصار ظنيا فتحقق به شبه المجاز فلذلك ناسب إيرادها ههنا
قوله "وهذا ثابت بدلالة العادة لا غير" أي تخصص هذه العمومات ثابت بالعرف العادي لا بالعرف الاستعمالي فإن لفظ الرأس كما يستعمل في رأس الغنم يستعمل في رأس العصفور والحمام وسائر الحيوانات على السواء إلا أن العادة في الأكل مختصة برأس الغنم . وكذا إطلاق لفظ البيض على بيض العصفور والحمام شائع كما شاع في بيض الدجاج والإوز لكن العادة الظاهرة في الأكل اختصت بأكل بيض الدجاج والإوز دون غيرهما . وهكذا في مسألة الطبيخ والشواء فتركت الحقيقة وهي العموم بالعادة . بخلاف ما تقدم فإن الحقيقة تركت فيه بغلبة استعمال اللفظ في تلك المعاني كما بينا لا بالعادة لأن الناس كما اعتادوا فعل الصلاة اعتادوا الدعاء أيضا . فتبين بهذا أن قوله بدلالة الاستعمال والعادة ليس بترادف كما زعم البعض وأن الواو فيه بمعنى أو .
قوله "وأما الثابت بدلالة اللفظ في نفسه" ترك الحقيقة الثابت بدلالة اللفظ في نفسه هو أن يكون اللفظ متناولا لأفراد بعمومه على سبيل الحقيقة ولكنه يكون معنويا فيتخصص بالبعض بالنظر إلى مأخذ اشتقاقه كما إذا حلف لا يأكل لحما كان القياس أن يدخل في عمومه لحم السمك كما هو مذهب مالك لأنه لحم حقيقة ولهذا لا يصح نفيه عنه وقد سماه الله تعالى لحما في قوله عز اسمه {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً} "النحل: 14". ولكنه تخصص بدلالة الاشتقاق كما تخصص ما تقدم بدلالة العرف وذلك لأن اللحم اسم معنوي وأصل تركيبه يدل على الشدة والقوة يقال التحم القتال أي اشتد والملحمة الواقعة العظيمة ثم سمي اللحم بهذا الاسم لقوة فيه باعتبار تولده من الدم الذي هو أقوى الأخلاط في الحيوان وليس للسمك دم فكان في لحمه قصور من حيث المعنى فكان صرف مطلق الاسم إلى ماله قوة أولى من صرفه إلى ما فيه قصور وإن كان الاسم له حقيقة كاسم الوجود بالجوهر أولى منه بالعرض وإن كان الاسم له حقيقة لقصور العرض في معنى الوجود لعدم ثباته ولتوقفه على وجود الجوهر . يوضحه أنه لا يذكر إلا بقرينة(2/145)
يتناول المكاتب, وكل امرأة لي طالق, لا يتناول المبتوتة المعتدة لما قلنا فصار مخصوصا وللمخصوص شبه بالمجاز ومن هذا القسم ما ينعكس وذلك مثل
ـــــــ
للقصور الذي ذكرنا فلا يدخل تحت مطلق الاسم كصلاة الجنازة لما لم تذكر إلا بقرينة لقصور فيها لا يتناولها مطلق اسم الصلاة
"فإن قيل" أليس أنه لو أكل لحم خنزير أو لحم إنسان فإنه يحنث في يمينه مع أنه لا يذكر إلا بقرينة
"قلنا" قد ذكر بعض مشايخنا فيه الخلاف. وبعضهم ذكروا أنه لا يحنث بأكل لحم الخنزير أو الآدمي لانعدام العرف في أكلهما فصار كالرأس والبيض وهو اختيار الإمام التمرتاشي. ولئن سلمنا أنه يحنث على ما هو المذكور في المبسوط وغيره فالجواب أن ذكر القرينة ههنا ليس لقصور معنى اللحمية فيه لأنه متولد من الدم كلحم الشاة وكذا معنى الغذاء المطلوب من اللحم يتم في لحم الخنزير والآدمي فعرفنا أن القرينة للتعريف كلحم الشاة والطير ولبيان الحرمة لا لقصور في معنى اللحمية وليس للحرمة تأثير في المنع من إتمام شرط الحنث كما لو حلف لا يشرب شرابا فشرب الخمر يحنث
قوله "لا يتناول المكاتب" إذا قال كل مملوك لي حر لا يدخل فيه المكاتبون لأنه أثبت العتق لكل مملوك يضاف إليه بالملك مطلقا بقوله لي وهذا غير موجود في المكاتبين لأنه يملكهم رقبة لا يدا بل المكاتب كالحر يدا حتى كان أحق بمكاسبه ولا يملك المولى استكسابه ولا وطء المكاتبة والثابت من وجه دون وجه لا يكون ثابتا مطلقا. وكذلك صرح بالإضافة إلى نفسه والمكاتب مضاف إليه من وجه دون وجه فللدلالة في لفظه وهي إطلاق الملك والإضافة لا يتناوله الكلام بدون النية ولكن يتناوله مطلق اسم الرقبة المذكورة في قوله تعالى {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} "المائدة: 83-9". لأنه يتناول الذات المرقوق والرق لا ينتقص بالكتابة لقوله عليه السلام: "المكاتب عبد ما بقي عليه درهم1" . ولأنها يحتمل الفسخ واشتراط الملك بقدر ما يصح به التحرير وذلك موجود في المكاتب فيتأدى به الكفارة. وهذا بخلاف المدبر وأم الولد حيث يدخل كل واحد منهما في عموم قوله كل مملوك لي حر ولا يتأدى بهما الكفارة لأن الملك فيهما كامل إذ المولى يملكهما يدا ورقبة ويملك استغلالهما واستكسابهما وطء المدبرة وأم الولد فكان كل واحد منهما مملوكا من كل وجه فيدخل في عموم قوله كل مملوك لي لكن الرق فيهما ناقص لأن ما ثبت من جهة العتق لا يحتمل الفسخ بوجه فلا يتأدى بهما الكفارة
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في العتق حديث رقم 3926(2/146)
رجل حلف لا يأكل فاكهة لم يحنث عند أبي حنيفة رحمه الله بأكل الرطب والرمان والعنب وقالا يحنث لأن الاسم مطلق فيتناول الكامل منه, وقال أبو حنيفة: الفاكهة اسم للتوابع ; لأنه من تفكه مأخوذ وهو التنعم قال الله تعالى {انْقَلَبُوا فَكِهِينَ} "المطففين: 31"أي ناعمين وذلك أمر زائد على ما يقع به القوام وهو الغذاء فصار تابعا والرطب والعنب قد يصلحان للغذاء وقد يقع
ـــــــ
قوله "لا يتناول المبتوتة المعتدة" يعني من غير نية لما قلنا من معنى القصور فإنها امرأته من وجه لبقاء ملك اليد والدواعي فلا يدخل ولو طلقها صح الطلاق أيضا, دون وجه لزوال أصل ملك النكاح حتى حرم الوطء والدواعي فلا يدخل تحت مطلق الاسم من غير نية. وفائدة القيدين أنها لو كانت مطلقة رجعية تدخل من غير نية لبقاء النكاح والحل ولو كانت منقضية العدة لا تدخل وإن نوى لبطلان النكاح بالكلية. فصار العام أي قوله لحما الواقع في موضع النفي وقوله كل مملوك وكل امرأة "مخصوصا" أي مخصوصا منه فصار شبيها بالمجاز. قوله "ومن هذا القسم ما ينعكس" أي ومن الترك الثابت بدلالة اللفظ ما هو على عكس ما ذكرنا من المسائل فإن الحقيقة تركت فيما ذكرنا باعتبار النقصان والقصور لأن أصل الاشتقاق يدل على الكمال وههنا تركت الحقيقة باعتبار الكمال لأن أصل الاشتقاق يدل على النقصان والتبعية. إذا حلف لا يأكل فاكهة ولا نية له لم يحنث بأكل الرطب والعنب والرمان عند أبي حنيفة وعندهما يحنث بأكلها وهو قول الشافعي وإن نواها عند الحلف يحنث بالإجماع كذا في التحفة. قالوا إن الفاكهة ما يؤكل على سبيل التفكه وهو التنعم وهذه الأشياء أكمل ما يكون من ذلك ومطلق الاسم يتناول الكامل وكذا الفاكهة ما يقدم بين يدي الضيفان للتفكه به لا لشبع والرمان والرطب والعنب من أنفس ذلك كالتين. وأبو حنيفة رحمه الله يقول هذه الأشياء غير الفاكهة قال تعالى {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} "الرحمن: 68". وقال جل ذكره {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} "عبس: 27 – 31". فتارة عطف الفاكهة على هذه الأشياء وتارة عطف هذه الأشياء عليها والشيء لا يعطف على نفسه مع أنه مذكور في موضع المنة ولا يليق بالحكمة ذكر الشيء الواحد في موضع المنة بلفظين ولأن الفاكهة اسم مشتق من التفكه وهو التنعم قال الله تعالى. {انْقَلَبُوا فَكِهِينَ} "المطفين: 31". أي ناعمين والتنعم زايد على ما به القوام والبقاء والرطب والعنب يتعلق بهما القوام وقد يجتزأ بهما في بعض المواضع والرمان في معنى الدواء قد يقع به القوام أيضا وهو قوت من جملة التوابل إذا يبس. وإذا كان كذلك أي كان الأمر كما ذكرنا. كان فيها أي في هذه الأشياء الثلاثة وصف زايد وهو الغذائية وقوام البدن بها فلهذه الزيادة لا(2/147)
بهما القوام والرمان قد يقع به القوام لما فيه من معنى الأدوية وإذا كان ذلك كان فيها وصف زائد والاسم ناقص مقيد في المعنى فلم يتناول الكامل وكذلك طريقه فيمن حلف لا يأكل إداما أنه يقع على ما يتبع الخبز لأن الأدم
ـــــــ
يتناولها مطلق اسم الفاكهة كما أن مطلق اسم اللحم لا يتناول لحم السمك والجراد للنقصان. ولا يلزم دخول الطرار تحت اسم السارق وإن كان في فعله وصف زائد وهو القاطع من اليقظان لأنا أثبتنا الحكم فيه بدلالة النص من غير مناقضة تلزم فإن ملك الزيادة مكملة لمعنى السرقة كالضرب والشتم كل واحد مكمل لمعنى الإيذاء فأما الاسم ههنا فواقع على ما هو تبع والزيادة ههنا مغيرة لمعناه وهو التبعية إذ الأصالة تنافي التبعية فلذلك لا يصح دخول هذه الأشياء تحت مطلق الاسم. ويؤيده ما ذكر الشيخ في شرح التقويم أن كمال المعنى فيه أي في التمر إخراجه من أن يكون فاكهة وجعله غذاء فلا يتناوله مطلق الاسم لأن المطعومات بعضها أصول وهي الأغذية وبعضها فروع كالفواكه والتمر والعنب والرمان التحقت بالأغذية لزيادة معان فيها وكثرة رغائب الناس إليها لا جرم خرجت عن مطلق اسم الفروع كالوالدين والمولودين خرجوا عن اسم الأقارب في الوصية وفي الطرار الأمر بخلافه
قوله "والاسم ناقص" أي اسم الفاكهة دال على ما هو ناقص في نفسه. مقيد أي بكونه تابعا في المعنى أي بالنظر إلى معناه في أصول اللغة. وذكر في التحفة ومشايخنا قالوا هذا اختلاف عرف وزمان فأبو حنيفة رحمه الله أفتى على حسب عرف زمانه فإنهم كانوا لا يعدونها من الفواكه وتغير العرف في زمانهما وفي عرفنا ينبغي أن يحنث في يمينه أيضا بالاتفاق
قوله "وكذلك" أي وكالطريق المذكور لأبي حنيفة رحمه الله في مسألة الفاكهة طريقة في مسألة الإدام وهي ما إذا حلف ولا يأكل إداما ولا نية له فإنه يقع على ما يصطبغ به مثل الخل والزيت واللبن دون الجبن والبيض واللحم والسمك في قول أبي حنيفة وهو الظاهر من مذهب أبي يوسف رحمهما الله لأن الإدام اسم لما يطيب الخبز ويصلحه فكان اسما لما يتبع الخبز ومدار التركيب يدل على الموافقة والملاءمة يقال أدم الله بينكما وآدم أي أصلح وألف. وفي الحديث: "لو نظرت إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما1: " يعني أن يكون بينكما المحبة والاتفاق وكمال التبعية والموافقة فيما يختلط بالخبز ولا يحتاج فيه
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في النكاح حديث رقم 1087 وابن ماجة في النكاح حديث رقم 1865 والإمام أحمد في المسند 4/245- 246.(2/148)
اسم للتابع فلم يجز أن يتناول ما هو أصل من وجه وهو اللحم والجبن والبيض وعند محمد يحنث في ذلك كما في المسألة الأولى وعن أبي يوسف رحمه الله روايتان في هذه المسألة.
وأما الثابت بسياق النظم فمثل قول الله تعالى {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً} "الكهف: 29"تركت حقيقة الأمر والتخيير بقوله عز وجل {إنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً} "الكهف: 29"وحمل
ـــــــ
إلى الحمل قصدا ولا إلى المضغ والابتلاع كذلك وكالخل وكذا كل ما يصطبغ بهذه الصفة فأما اللحم والجبن والبيض وأمثالها فتحمل مع الخبز ويقع عليها المضغ والابتلاع قصدا فيكون أصلا من هذا الوجه فكانت قاصرة في معنى التبعية فلا تدخل تحت مطلق اسم الإدام من غير نية وعند محمد رحمه الله يحنث في هذه الأشياء أيضا وهو رواية عن أبي يوسف في الأمالي لما ذكرنا أن الإدام مشتق من المؤادمة وهي الموافقة فما يؤكل مع الخبز غالبا فهو موافق له فيكون إداما وقال عليه السلام.: "سيد إدام أهل الجنة اللحم" . وأخذ لقمة بيمينه وتمرة بشماله فقال: "هذه إدام هذه:" . فعرفنا أن ما يوافق الخبز في الغالب إدام إلا أنا خصصنا منه ما يؤكل غالبا وحده كالبطيخ والتمر والعنب لأن الإدام تبع فما يؤكل وحده غالبا لا يكون تبعا فأما الجبن والبيض واللحم فلا يؤكل وحده غالبا فكان إداما كذا في المبسوط. ثم ما ذكر الشيخ ههنا عبارة كتاب الأيمان وفي الجامع الصغير بهذه العبارة حلف لا يأتدم بإدام قال الإدام كل شيء يصطبغ به قال الفقيه أبو جعفر في كشف الغوامض فعلى ما ذكر في الجامع لو أكل الإدام وحده لا يحنث لأن الائتدام به أن يأكل الخبز به وعلى عبارة كتاب الأيمان يحنث لأنه قد أكله وإن كان قد أكله وحده فإن اسم الإدام يلزمه أكله وحده أو مع الخبز
قوله "وعن أبي يوسف رحمه الله روايتان في هذه المسألة" أي في مسألة الإدام دون الفاكهة والفرق له على أحديهما شيوع إطلاق اسم الفاكهة على العنب والرطب والرمان حقيقة وعرفا ووجود معنى التنعم فيها وعدم شيوع إطلاق اسم الإدام على البيض واللحم والجبن ألا ترى أن الإدام يسمى صبغا لأن الخبز يغمس فيه ويلون به وهذا المعنى لم يوجد في هذه الأشياء فلم يكمل فيه معنى التبعية.
قوله "تركت حقيقة الأمر" أي حقيقة قوله فليؤمن متروكة ههنا بقرينة فمن شاء وحقيقة قوله فليكفر متروكة بدلالة العقل وبقرينة قوله {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ} . أي للذين عبدوا غير الله نارا وكذا تركت حقيقة التخيير بهذه القرينة لأن موجبه رفع المأثم(2/149)
على الإنكار والتوبيخ مجازا ومثاله ما قاله محمد رحمه الله في السير الكبير في الحربي استأمن مسلما فقال له أنت آمن كان أمانا فإن قال أنت آمن ستعلم ما يلقى لم يكن أمانا ولو قال انزل إن كنت رجلا لم يكن أمانا ولو قال لرجل طلق امرأتي إن كنت رجلا أو إن قدرت أو اصنع في مالي ما شئت إن كنت رجلا لم يكن توكيلا وقال رجل لرجل لي عليك ألف درهم فقال الرجل لك علي ألف درهم ما أبعدك لم يكن إقرارا وصار الكلام للتوبيخ بدلالة سياق نظمه وأما الثابت بدلالة من قبل المتكلم فمثل قول الله تعالى {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} "الإسراء: 64"إنه لما استحال منه الأمر بالمعصية
ـــــــ
وهذه القرينة لا تناسبه. "وحمل" أي الأمر في قوله. {فَلْيَكْفُرْ} . "على الإنكار" أي على أن المقصود منه الإنكار والرد على من صدر منه الكفر. "والتوبيخ" أي التهديد والوعيد كما في قوله تعالى {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} "فصلت: 40". مجازا أي بطريق المجاز لأنه مستعمل في غير موضوعه لمناسبة. وبيان ذلك أن موضوعه الأصلي هو الطلب, وفائدته إما أن يكون راجعة إلى الآمر كقولك خط لي هذا الثوب أو احمل لي هذا الطعام, أو إلى المأمور كقولك البس هذا الثوب أو كل هذا الطعام ثم الأمر الذي يرجع نفعه إلى المأمور أولى بالامتثال والقبول من غيره فمتى قابله المأمور بالرد والعصيان فذلك يوهم للآمر أنه إنما رد وعصى لظنه أن نفعه يعود إلى الآمر فيطلب منه ضد المطلوب الأول ويأمره بالاستدامة على العصيان والاستمرار على الرد لمعنيين أحدهما تنزيه نفسه عن عود عائدة المأمور به إليه إذا لو كانت راجعة إليه لما دفعها بطلب ضدها لأنه خلاف الطبع والعقل والثاني أنه لما خالف أمره أبغضه الآمر فطلب منه ما يستحق به العقوبة العظمى لما لم يمتثل ما يستجلب المثوبة الحسنى فصار معناه أني أطلب منك العصيان لتستحق به الخسران ولهذا لا يرد الأمر بمعنى التهديد إلا وقد سبقه أمر واجب الامتثال به وقد تلقاه المأمور بالعصيان فهذا هو المجوز لاستعمال هذه الصيغة في الإنكار والتوبيخ وكلام الله تعالى نزل على أساليب استعمالات الناس فلذلك ورد فيه الأمر بمعنى التوبيخ. وذكر في بعض الشروح أن هذا من قبيل ذكر الضد وإرادة الآخر لمعاقبة بينهما إذ المراد من مثل هذا الأمر والنهي وهذا وجه حسن
قوله قول الله تعالى {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} أي استزل أو حرك من استطعت منهم بوسوستك ودعائك إلى الشر. إنه لما استحال منه الأمر بالمعصية لأن الأمر لطلب الوجود من قبل المأمور وذلك يستحيل ههنا لأنه جل جلاله كريم حكيم(2/150)
والكفر حمل على إمكان الفعل وإقداره عليه مجازا لأن الأمر للإيجاب فكان من المعنيين اتصال ومثاله من دعي إلى غداء فحلف لا يتغدى أنه يتعلق به لما في غرض المتكلم من بناء الجواب عليه وكذلك امرأة قامت لتخرج فقال لها
ـــــــ
لا يليق بكرمه وحكمته أن يطلب من عدوه إبليس أن يستفز عباده, حمل على إمكان الفعل أي تمكينه منه وإقداره أي جعله قادرا عليه مجازا بطريق أن الأمر الموجب يقتضي تمكن العبد من الفعل وقدرته عليه أعني قدرة سلامة الآلات وصحة الأسباب لأن تكليف ما ليس في الوسع غير جائز فاستعير الأمر للإقدار والتمكين الذي هو من لوازم الأمر كاستعارة الأسد للشجاع فصار المعنى أني أمكنتك وأقدرتك على تهييجهم ودعائهم إلى الشر. وقوله لأن الأمر للإيجاب أو للإيجاد كما في بعض النسخ فكان بين المعنيين أي الإيجاب والإقدار يشير إلى ما ذكرنا يعني لما كان الأمر للإيجاب ولا إيجاب بدون القدرة كان بين الإيجاب والإقدار اتصال لكون القدرة من لوازم صحة الإيجاب فيجوز استعارته للإقدار
قوله "ومثاله" أي نظير ما تركت الحقيقة بدلالة حال المتكلم من الفروع قوله والله لا أتغدى جوابا لمن دعاه إلى الغداء فقال تعال تغد معي فإن حقيقة هذا الكلام للعموم لدلالته لغة على مصدر منكر واقع في موضع النفي إذ التقدير لا أتغدى تغديا فيقتضي أن يحنث بكل تغد يوجد بعد كما لو قاله ابتداء إلا أن هذه الحقيقة تركت بدلالة حال المتكلم لأن من المعلوم أنه أخرج الكلام مخرج الجواب لكلام الداعي وأنه قد دعاه إلى تغدي الفداء الذي بين يديه لا إلى غيره فيقيد به وإذا تقيد كلام الداعي به يقيد الجواب به أيضا لأنه بناء عليه وصار كأنه قال والله لا أتغدى الفداء الذي دعوتني إليه وقس على ما ذكرنا مسألة الخروج. ومن أمثلته ما لو قالت له زوجته إنك تغتسل في هذه الدار الليلة من الجنابة فقال إن اغتسلت فعبدي حر وسيأتي بيانه وهذا النوع من اليمين سبق به أبو حنيفة رحمه الله ولم يسبق به وكانوا يقولون قبل ذلك اليمين مؤبدة كقوله لا أفعل كذا ومؤقتة كقوله لا أفعل اليوم كذا فأخرج أبو حنيفة قسما ثالثا وهو ما يكون مؤبدا لفظا وموقتا معنى وأخذه من حديث جابر وابنه حيث دعيا إلى نصرة إنسان فحلفا أن لا ينصراه ثم نصراه بعد ذلك ولم يحنثا وبناء الكلام على ما هو معلوم من مقصود المتكلم أصل في الشرع والعرف لما بينا في قوله تعالى {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ} "الإسراء: 64"إنه محمول على الإقدار والتمكين لاستحالة الأمر بالمعصية من الله تعالى ولاتفاقهم على أن قول الداعي اللهم اغفر لي التماس لا أمر لمعنى في المتكلم وهو أن العبد ليس له ولاية الإلزام فكان المقصود منه الالتماس ضرورة(2/151)
زوجها إن خرجت فأنت طالق أنه يقع على الفور لما قلنا ومثاله كثير. وأما الثابت بدلالة محل الكلام فمثل قوله تعالى {مَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} "غافر: 58" سقط عمومه وذلك حقيقة لأن محل الكلام وهو المخبر عنه لا
ـــــــ
قوله "على الفور" أي على الحال وهو في الأصل مصدر فارت القدر إذا غلت فاستعير للسرعة ثم سميت به الحالة التي لا ريث فيها ولا لبث فقيل جاء فلان من فوره أي من ساعته وفي الصحاح ذهبت في حاجة ثم أتيت فلانا من فوري أي قبل أن أسكن والتحقيق الأول كذا في المغرب.
قوله قوله تعالى {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} حقيقة للعموم لأن المصدر الثابت بدلالة الفعل عليه لغة نكرة في موضع النفي فتعم إلا أن العمل بعمومها متعذر لوجود المساواة بينهما في كثير من الصفات مثل الإنسانية والعقل والذكورة وغيرها فوجب الاقتصار على البعض لنبوة المحل عن قبول العموم ثم اختلف فيه فذهب أصحابنا إلى أن ذلك البعض ما دل عليه فحوى الكلام وهو نفي المساواة في البصر في هذا النظير ونفي المساواة في الفوز في قوله تعالى {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} "الحشر: 20"وذهب أصحاب الشافعي إلى نفي المساواة بينهما على العموم فيما أمكن القول به متمسكين بأن العمل بالعموم واجب مهما أمكن فإذا تعذر العمل به في بعض الأفراد لم يلزم منه سقوط العمل به فيما بقي كالعام الذي خص منه ألا ترى إلى قوله تعالى {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} "الأنعام: 102"و"الرعد:16"و"الزمر:62" و"غافر:62" لما لم يكن العمل بعمومه بدلالة العقل فإن ذات الله تعالى وصفاته لم يدخل تحته بقي فيما وراء ذلك على العموم ولنا أن هذا الكلام لما لم يقبل العموم لعدم صدوره في محل العموم لم ينعقد للعموم أصلا لأن الشيء ينتفي بانتفاء محله وصار كأنه قيل إنهما لا يستويان في بعض الصفات فكان في معنى المجمل فيجب الاقتصار على ما يدل عليه صيغة النص وعلى ما يتيقن به أنه مراد بخلاف العام الذي خص منه لأنه قد انعقد للعموم ثم خص بعض الأفراد بعارض لحقه بطريق المعارضة فيقتصر على قدر المعارض فيبقى ما وراءه على العموم. وفائدة الاختلاف تظهر في أن المسلم لا يقتل بالذمي عنده وأن ديته لا يكون كدية المسلم وأن استيلاء الكافر على مال المسلم لا يكون سبب الملك كاستيلاء المسلم على ماله لقوله تعالى {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} "الحشر: 20"والقول بانتفاء المساواة في حق هذه الأحكام ممكن فوجب القول به وعندنا نفي المساواة مختص بالفوز بقوله جل ذكره {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} "الحشر: 20"فلا يظهر في حق هذه الأحكام ألا ترى أن نفي المساواة في قوله تعالى:(2/152)
يحتمله لأن وجوه الأستواء قائمة فوجب الإقتصار على ما دلت عليه صيغة الكلام وهو التغاير في البصر وكذلك كاف التشبيه لا يوجب العموم لما قلنا من قيام المغايرة من وجوه كثيرة حتى إذا قيل زيد مثلك لم يثبت عمومه إلا أن يقبل المحل العموم مثل قول علي رضي الله عنه في أهل الذمة إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا فإن هذا عام عندنا لأن المحل يحتمله
ـــــــ
{وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} "غافر :58" لم يظهر في حق هذه الأحكام حتى يقتصر البصير بالأعمى ويستويان في الدية والاستيلاء لاختصاصه بالبصر فكذا هذا
قوله "وهو التغاير في البصر" المراد والله أعلم عمى القلب وبصره لأن ذكر القضية المعلومة في ذهن كل أحد غير مستحسن ويؤيده ما ذكر في التفسير وما يستوي الأعمى أي المشرك الذي لا يبصر الرشد والبصير أي المؤمن الذي يبصره.
قوله "وكذلك كاف التشبيه" يعني كما أن نفي المساواة والمماثلة لا يوجب العموم عند نبوة المحل عنه فكذلك إثبات المماثلة بذكر حرف التشبيه أو بلفظ المثل أو بغيرهما لا يوجب العموم عند نبوة المحل أيضا فيحمل على ما هو المتيقن مثاله ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت سارق أمواتنا كسارق أحيائنا لا يمكن القول فيه بالعموم لانتفاء المماثلة والمساواة بينهما من وجوه كثيرة فيحمل على ما هو المتيقن وهو الإثم في الآخرة دون حكم الدنيا وهو القطع وإلا إذا قبل المحل العموم فيجب القول به حينئذ لارتفاع المانع لأن المحل يحتمله إذ المماثلة ثابتة من كل وجه حسا وطبعا وكذا يثبت حكما لأن الغرض من التشبيه إثبات المماثلة في الحكم فيكون عاما ورأيت في حاشية أنا إنما عملنا بالعموم في حديث علي رضي الله عنه لأن فيه حقن الدم ولم نعمل بالعموم في حديث عائشة رضي الله عنها لأن فيه إثبات الحد والحد يحتال لدرئه لا لإثباته قوله "ومن هذا الباب" أي ومما تركت الحقيقة فيه بدلالة محل الكلام قوله عليه السلام : "إنما الأعمال بالنيات" . وقوله عليه السلام : "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان, وما استكرهوا عليه" فإن ظاهر هذا الكلام يقتضي أن لا يوجد العمل إلا بالنية نظرا إلى كلمة الحصر وأن لا يوجد الخطأ والنسيان والإكراه أصلا نظرا إلى استناد الارتفاع إلى ما هو محلى باللام المستغرق للجنس وقد نرى أن العمل يوجد بلا نية وكذا يوجد الخطأ والنسيان والإكراه فعرفنا بنبوة محل الكلام وهو العمل والخطأ واختاره عن قبول الحقيقة أنها ساقطة وليست بمرادة وأن العمل في حديث النية والخطأ والنسيان والإكراه في حديث الرفع مجاز وكناية عن الحكم بطريق إطلاق اسم الشيء على موجبه أو بطريق حذف(2/153)
ومن هذا الباب قول النبي عليه السلام: "إنما الأعمال بالنيات" ورفع الخطأ والنسيان سقطت حقيقته لأن المحل لا يحتمله من قبل أن غير الخطأ غير مرفوع بل هو متصور فسقط حقيقته وصار ذكر الخطأ والعمل مجازا عن حكمه وموجبه وموجبه نوعان مختلفان أحدهما الثواب في الأعمال التي تفتقر إلى النية والمأثم في الحرمات والثاني الحكم المشروع فيه من الجواز والفساد وغير ذلك وهذان معنيان مختلفان ألا ترى أن الجواز والصحة يتعلق بركنه وشرطه والثواب أو المأثم يتعلق بصحة عزيمته فإن من توضأ بماء نجس ولم يعلم حتى صلى ومضى على ذلك ولم يكن مقصرا لم يجز في الحكم لفقد
ـــــــ
المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه كما في قوله تعالى {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} "يوسف: 82"فصار كأنه قيل حكم الأعمال بالنيات ورفع حكم الخطأ ثم ما صار هذا الكلام عبارة عنه وهو الحكم له معنيان مختلفان أحدهما ما يتعلق بالآخرة وهو الثواب في الأعمال التي يحتاج إلى النية على ما تضمنه الحديث الأول والإثم في الأفعال المحرمة على ما دل عليه الحديث الثاني فإنه وارد في المحرمات
والثاني ما يتعلق بالدنيا وهو الحكم المشروع في ذلك المحل مثل الجواز في الأعمال المنوية والفساد في الأفعال المحرمة وغير ذلك من الندب والكراهة والإساءة والدليل على اختلاف المعنيين أن الثواب على العمل الذي هو عبادة والإثم في العمل الذي هو محرم يبتني على العزيمة والقصد, والفساد الذي هو حكم يبتني على الأداء بالأركان والشرائط إلى آخر ما ذكر في الكتاب.
وإذا ثبت اختلاف المعنيين صار هذا اللفظ بمنزلة المشترك كاسم المولى والقرء فلا يجوز احتجاج الخصم به علينا في اشتراط النية في الوضوء وفي عدم فساد الصوم بالخطأ والإكراه حتى يقيم دليلا على أن المراد منه ليس إلا ما يتعلق بالدنيا من الصحة والفساد ولا يمكنه ذلك لأن ما يتعلق بالآخرة وهو الثواب والمأثم مراد بالإجماع لأن استحقاق الثواب متعلق بالعزم والإثم في الخطأ والنسيان والإكراه مرفوع بالاتفاق أو يقيم دليلا على جواز العموم في المشترك ولا يمكنه ذلك أيضا لما مر في أول الكتاب
"فإن قيل" لو كان المراد حكم الآخرة لا غير لم يكن لقوله من أمتي فائدة لأن عدم المؤاخذة في الآخرة يعم جميع الأمم إذ لا يجوز في الحكمة تعذيبهم(2/154)
شرطه واستحق الثواب لصحة عزيمته وإذا صارا مختلفين صار الاسم بعد صيرورته مجازا مشتركا فسقط العمل به حتى يقوم الدليل على أحد الوجهين فيصير مؤولا وكذلك حكم المأثم على هذا فصار هذا كاسم المولى والقرء وسائر الأسماء المشتركة
ـــــــ
"قلنا" ذلك مذهب المعتزلة فأما عند أهل السنة فهي جائزة في الحكمة بدليل قوله تعالى إخبارا {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} "البقرة: 286"فلو لم يكن الخطأ والنسيان جائزي المؤاخذة كان معنى الدعاء لا تجر علينا بالمؤاخذة فيهما إذ المؤاخذة فيما لا تجوز المؤاخذة فيه جور. وفساده ظاهر
قوله"صار الاسم" أي اسم العمل والخطأ وأختيه بعد صيرورته مجازا حيث أريد به غيره وهو الحكم مشتركا أي في معنى المشترك لأن ما هو مراد منه وهو الحكم مشترك
قوله "وحكم المأثم" أي حكم هو مأثم على هذا يعني كما أن الثواب ينفصل عن الجواز في مسألة المتوضئ بالماء النجس من غير علم فكذلك الإثم ينفصل عن الفساد كمن صلى مرائيا مراعيا للشروط والأركان يستوجب الإثم من غير فساد وكالكلام في الصلاة ناسيا أو مخطئا تحقق الفساد من غير إثم هذا تقرير كلام الشيخ وفيه نوع اشتباه فإن الاشتراك الذي لا يجري العموم فيه هو الاشتراك اللفظي بأن يكون اللفظ موضوعا بإزاء كل واحد من المعاني الداخلة تحته قصدا كاسم القرء والعين على ما مر في أول الكتاب دون الاشتراك المعنوي فإن العموم يجري فيه بلا خلاف وذلك بأن يكون اللفظ موضوعا بإزاء معنى يعم ذلك المعنى أشياء مختلفة كاسم الحيوان يتناول الإنسان والفرس وسائر أنواعه بالمعنى العام وهو التحرك بالإرادة وكاسم الشيء يتناول المتضادات بمعنى الوجود وكاسم اللون يتناول السواد والبياض وغيرهما باعتبار معنى اللونية والحكم من هذا القبيل لأن حكم الشيء هو الأثر الثابت به فيتناول الجواز والفساد والثواب والمأثم بهذا المعنى العام لا بكونه موضوعا بإزاء كل واحد من المعاني المنتظمة تحته فكان من قبيل الشيء والحيوان لا من قبيل العين والقرء ألا ترى أنه يتناول الثواب أو المأثم لا باعتبار كونه ثوابا أو إثما بل باعتبار كونه أثرا ثابتا بالفعل كالشيء يتناول الماء والنار باعتبار الوجود لا باعتبار كونه مرطبا أو محرقا. وما ذكر في بعض الشروح أنه من قبيل العين للينبوع والشمس لا من قبيل الشيء لأن الحكم يتناول الجواز والفساد والثواب والمأثم قصدا لأن هذه أحكام شرعية كالعين يتناول الينبوع والشمس قصدا فكان مشتركا لفظيا تحكم إذ لا نقل فيه ولا دليل عليه(2/155)
ومن الناس من ظن أن التحريم المضاف إلى الأعيان مثل المحارم والخمر
ـــــــ
واعلم أن القاضي الإمام أبا زيد رحمه الله لم يفرق بين المقتضى والمحذوف كما هو مذهب عامة أهل الأصول وجعل هذين الحديثين من نظائر المقتضى فقال في حديث الرفع عين هذه الأشياء غير مرفوعة إذ لو أريد عينها لصار كذبا وهذا لا يجوز على صاحب الشرع فاقتضى ضرورة زيادة وهي الحكم ليصير مفيدا وصار المرفوع حكمها وثبت رفع الحكم عاما عند الشافعي في الدنيا والآخرة حتى بطل طلاق المكره والمخطئ ولم يفسد الصوم بالأكل مخطئا لأن المقتضى له عموم عنده وعندنا يرتفع حكم الآخرة لا غير لأن بذلك القدر يصير مفيدا فيزول الضرورة فلا يتعدى إلى حكم آخر لأن المقتضى لا عموم له وقال في حديث النية لما ثبت حكم الآخرة مرادا وبه يصير الكلام مفيدا لم يتعد إلى ما وراءه وصار كأنه قال إنما ثواب الأعمال بالنيات هذا معنى كلامه رحمه الله ولما خالفه الشيخ المصنف وشمس الأئمة رحمهما الله في المحذوف وفرقا بين المحذوف والمقتضى وجوزا عموم المحذوف دون المقتضى والحديثان من قبيل المحذوف دون المقتضى على أصلهما اضطرا إلى تخريج الحديثين على وجه لا يرد نقضا على ما اختارا من جواز عموم المحذوف فبنيا انتفاء العموم فيهما على الاشتراك دون الاقتضاء وفيه من التمحل ما ترى. وقد كنت فيه برهة من الزمان فلم يتضح لي وجه يعتمد عليه وراجعت الفحول فلم يشيروا علي بجواب شاف وهو أعلم بالحقيقة
قوله "ومن الناس من ظن" اختلفوا في التحريم والتحليل المضافين إلى الأعيان مثل قوله تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} "النساء: 23" {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} "المائدة: 3" {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} "المائدة: 1". وقوله عليه السلام: "حرمت الخمر لعينها" : "أحلت لنا ميتتان1" على ثلاثة أقوال فذهب الشيخ المصنف وشمس الأئمة وصاحب الميزان ومن تابعهم إلى أن ذلك بطريق الحقيقة كالتحريم والتحليل المضافين إلى الفعل فيوصف المحل أولا بالحرمة ثم ثبتت حرمة الفعل بناء عليه فيثبت التحريم عاما
وذهب بعض أصحابنا العراقيين منهم الشيخ أبو الحسن الكرخي ومن تابعه إلى أن المراد تحريم الفعل أو تحليله لا غير وإليه ذهب عامة المعتزلة.
وذهب قوم من نوابت القدرية كأبي عبد الله البصري وأصحاب أبي هاشم إلى أنه
ـــــــ
1 أخرجه ابن ماجة في الصيد حديث رقم 3218 وأخرجه الإمام أحمد في المسند 2/97.(2/156)
مجاز لما هو من صفات الفعل فيصير وصف العين به مجازا وهذا غلط عظيم
ـــــــ
مجمل وأن الاحتجاج في تحريم وطء الأمهات وتحريم أكل الميتة والدم وإباحة أكل لحوم الأنعام بهذه الآيات غير صحيح. تمسكت هذه الطائفة بأن القول بثبوت التحريم والتحليل على العموم بحيث يوصف العين والفعل جميعا بهما متعذر وبهذه النسبة أورد الشيخ هذه المسألة في هذا الباب وذلك لأن الحل والحرمة لا يكونان وصفين للأعيان لأنهما من التكليف الذي هو متوقف على القدرة ولهذا يتعلق بهما الثواب والعقاب والأعيان ليست بمقدورة لنا فلا تصلح متعلقة للتحريم والتحليل وإنما يتعلقان بالأفعال المقدورة لنا وهي الأفعال الاختيارية وإذا كان كذلك لا بد من إضمار فعل يكون هو متعلق التحريم والتحليل حذرا من إهمال الخطاب ولا يمكن إضمار جميع الأفعال المتعلقة بالعين لأن الإضمار خلاف الأصل والضرورة تندفع بما دون الجميع فوجب الاقتصار على البعض ثم ذلك البعض غير متعين لعدم دلالة اللفظ عليه فكان مجملا وتمسك الفريق الثاني بأن العرف يدل قطعا على أن المراد من ذلك تحريم الفعل المقصود منه فإن من اطلع على أعرف أهل اللغة ومارس ألفاظ العرب لا يتبادر إلى فهمه عند قول القائل لغيره حرمت عليك الطعام والشراب وحرمت عليك النساء سوى تحريم الأكل والشرب في الطعام والشراب وتحريم الوطء والاستمتاع في النساء ولا يتخالجه شك في أن هذا التحريم ليس بتحريم لنفس العين وأنه تحريم الفعل المقصود فلا يكون مجملا وصار كأنه قيل حرم عليكم نكاح أمهاتكم أو الاستمتاع بهن وحرم عليكم أكل الميتة وأحل لكم أكل الطيبات وحرم عليكم شرب الخمر لعينه.
قال عبد القاهر البغدادي في أصول الفقه إن الأمة بأسرها أجمعت قبل هذه الطائفة من القدرية على أن الله سبحانه وتعالى قد دل على تحريم وطء الأمهات والبنات وتحريم الميتة والدم وتحليل أكل النعم بهذه الآيات إجماعا لا ريب فيه ويكفرون المتأول لها ويقولون إنما حكمنا بكفره لتأويله نصا لا يحتمل إلا على معنى واحد ولا يحتجون عليه إلا بظواهر هذه الآيات والمخالف في أن هذا دليل ثابت غير محتمل مكذب الأمة ولا فرق بين مخالفة الأمة في أن المراد بهذه الآيات ما ذكرنا وبين خلافها في تحريم الأمهات والبنات والميتة والدم فمن أجاز أحدهما لزمه تجويز الآخر قال ومما يدل عليه أن اللفظ إذا احتمل معنيين وبطل بدليل العقل أحدهما وجب المصير إلى الآخر ولم يجز التوقف فيه وقد ورد لفظ التحريم والتحليل متعلقا بالأعيان التي لا يصح كونها من أفعالنا ولا يصح النهي عنها لوجودها تعين القسم الآخر وهو رجوع التحريم والتحليل إلى تصرفنا فيها ولم يكن للتوقف فيهما معنى مع صحة أحد القسمين ببطلان الآخر ولكنا نقول يصح(2/157)
----------------------------------------
ـــــــ
وصف العين بالحرمة حقيقة كما يصح وصف الفعل بها ومعنى اتصافها بها خروجها من أن يكون محلا للفعل شرعا كما أن معنى وصف الفعل بالحرمة خروجه من الاعتبار شرعا فإذا أمكن العمل بحقيقته لا معنى للإضمار لأنه ضروري يصار إليه عند تعذر العمل بظاهر اللفظ ولأن الحرمة عبارة عن المنع قال تعالى {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} "القصص: 12"أي منعنا وقال جل جلاله. {إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} "الأعراف: 50"أي منعهم شراب الجنة وطعامها ومنه حرم مكة لمنع الناس عن الاصطياد فيه وغيره وحريم البئر لمنع الغير عن التصرف في حواليها فيوصف الفعل بالحرمة على معنى أن العبد منع عن اكتسابه وتحصيله فيصير العبد ممنوعا والفعل ممنوعا عنه وتوصف العين بالحرمة على معنى أن العين منعت عن العبد تصرفا فيها فيصير العين ممنوعة والعبد ممنوعا عنها فعرفنا أن وصف العين بالحرمة صحيح وأن المنع نوعان منع الرجل عن الشيء كقولك لغلامك لا تأكل هذا الخبز وهو موضوع بين يديه ومنع الشيء عن الرجل بأن رفع الخبز من يديه أو أكل فإذا أضيف التحريم إلى الفعل كان من قبيل النوع الأول وإذا أضيف إلى العين كان من النوع الثاني ونظيرهما الحفظ والحماية فإن الحماية أن يظهر أثرها في الحمى بدفع الأغيار عنه ويكون فعل الحامي في القاصد لذلك المحمي لا في عينه فيبقى المحمي على أصل الصيانة. والحفظ أن يظهر أثره في المحفوظ بصنع في المحفوظ لا في دفع القاصد إلا أن اندفاع القاصد عنه لعدم إمكان الوصول إليه فيحصل الصيانة. ومنه قول الشاعر:
ألا ذهب المحافظ والمحامي ... ومانع ضيمنا يوم الخصام
ذكر هذين الأمرين جميعا فكان المقصود حاصلا في الحالين وهو الصيانة ودفع الضرر عن صاحب المال لكن بطريقين مختلفين فكذلك ما نحن فيه كذا في شرح التأويلات وهذا النوع من التحريم في غاية التوكيد لانتفاء الفعل فيه بالكلية وانقطاع تصوره أصلا فإن من قال لعبده لا تشرب الماء الذي في هذا الكوز يحتمل أن يشربه لبقاء المحل والقدرة عليه فأما إذا صبه المولى بعد النهي أو شربه كان الانتفاء فيه أقوى لانقطاع ذلك الاحتمال بفوات المحل فإذا أمكن تحقيق إضافة التحريم إلى العين واتصافها بالحرمة بالطريق الذي قلنا كان جعل ذلك مجازا باعتبار عدم قبول المحل صفة الحرمة والحل كما زعموا خطأ فاحشا وذكر في الميزان وإنما أنكرت المعتزلة حرمة الأعيان احترازا عن مناقضة مذهبهم الفاسد في نفي خلق أفعال العباد عن الله تعالى بقولهم إن منها ما يوصف بالقبح والحرمة مثل الكفر والمعاصي ولا يجوز نسبة خلق القبيح إلى الله تعالى فيلزمهم خلق الأعيان القبيحة المستقذرة من الأنجاس والجعلان والخنافس والقردة والخنازير ونحوها فأنكروا قبح الأعيان. وقالوا إنها ليست بقبيحة وأنكروا المحسوس والثابت ببداية العقول(2/158)
لأن التحريم إذا أضيف إلى العين كان ذلك أمارة لزومه وتحققه فكيف يكون مجازا لكن التحريم نوعان تحريم يلاقي نفس الفعل مع كون المحل قابلا كأكل مال الغير. والنوع الثاني أن يخرج المحل في الشرع من أن يكون قابلا لذلك الفعل فينعدم الفعل من قبل عدم محله فيكون نسخا ويصير الفعل تابعا من هذا الوجه فيقام المحل مقام الفعل فينسب التحريم إليه ليعلم أن المحل لم يجعل صالحا له وهذا في غاية التحقيق من الوجه الذي يتصور في جانب المحل لتوكيد النفي فأما أن يجعل مجازا ليصير مشروعا بأصله فغلط فاحش ومما يتصل بهذا القسم حروف المعاني فإنها تنقسم إلى حقيقة ومجاز وشطر من مسائل الفقه مبني على هذه الجملة وهذا الباب لبيان ما يتصل بها من الفروع والله أعلم
ـــــــ
وأنكروا اتصافها بالحرمة لئلا يلزمهم اتصافها بالقبح فإن كل محرم يكون موصوفا بالقبح وعندنا الأعيان نوعان قبيحة وحسنة كالأفعال نوعان قبيحة وحسنة ونوع متوسط في الأعيان لا ينفر عنه الطباع ولا يميل إليه فيوصف بالحل والإباحة
قوله "كان ذلك أمارة لزومه وتحققه" يعني إذا أضيف التحريم إلى العين كان حرمة الفعل آكد وألزم واللزوم من أمارات الحقيقة حتى جعلنا الفارق بين الحقيقة والمجاز أن يكون الحقيقة لازمة لا تنفى والمجاز لا يكون لازما وينفى فما يؤكد اللزوم كيف يكون مجازا لكن التحريم استدراك عن قوله فكيف يكون مجازا أي لا يكون مجازا لكن يصير الفعل تابعا في التحريم بخلاف ما إذا أضيف إلى الفعل فإنه يكون مقصودا بالتحريم فيقام المحل مقام الفعل يعني لما لم يثبت تحريم الفعل مقصودا إذ لم يذكر الفعل صريحا أقيم العين مقام الفعل في إثبات حرمة الفعل لأن العين لما اتصفت بالحرمة ثبتت حرمة الفعل ضرورة كما بينا أو أقيمت مقامه في الاتصاف بالحرمة لأن الفعل لم يبق متصورا شرعا. وهذا أي تحريم الفعل بإخراج المحل عن المحلية في نهاية التحقيق وإن كان الفعل فيه تابعا لأن نفي الفعل فيه وإن كان تبعا أقوى من نفيه إذا كان مقصودا كما قررنا "فأما أن يجعله" أي التحريم المضاف إلى العين مجازا في العين ليصير الفعل فيها بالنظر إلى أصله مشروعا لبقاء محله كأكل مال الغير "فغلط فاحش" لأن فيه إخراج ما هو مقصود وأصل وهو العين عن الأصالة وإقامة ما هو تبع وهو الفعل مقامه ولأن فيه إبقاء جهته للفعل في الحل
قوله "وشطر من مسائل الفقه" شطر كل شيء نصفه إلا أنه يستعمل في البعض توسعا في الكلام واستكثارا للقليل كما قال عليه السلام في الحائض: "تقعد شطر عمرها" أي بعضه ومثله في التوسع قوله عليه السلام: "تعلموا الفرائض فإنها نصف العلم" كذا في المغرب والله أعلم(2/159)
"باب حروف المعاني":
"الواو"
ومن هذه الجملة حروف العطف وهي أكثرها وقوعا وأصل هذا القسم
ـــــــ
"باب حروف المعاني"
هذا باب دقيق المسلك لطيف المأخذ, كثير الفوائد, جم المحاسن, جمع الشيخ رحمه الله فيه بين لطائف النحو, ودقائق الفقه, واستودع فيه غرائب المعاني, وبدائع المباني, فاصغ لما يتلى عليك من بيان لطائف حقائقه, واستمع لما يلقى إليك من كشف غوامض دقائقه. بتوفيق الله جل جلاله تستزد به تبصرا في درك أسرار مستودعاته, وتستفد به تبحرا في الوقوف على عجائب مستبدعاته, إن شاء الله سبحانه وتعالى
واعلم أن لفظ الحروف يطلق على الحروف التسعة والعشرين التي هي أصل تراكيب الكلام ويطلق على ما يوصل معاني الأفعال إلى الأسماء وعلى ما يدل بنفسه على معنى في غيره على ما فسر في علم النحو بأن الحرف ما دل على معنى في غيره ويسمى الأول حروف التهجي أي التعدد من هجى الحروف إذا عددها والثاني حروف المعاني لما ذكرنا من إيصالها معاني الأفعال إلى الأسماء أو لدلالتها على معنى فإن الباء في قولك مررت بزيد حرف معنى لدلالتها على الإلصاق بخلاف الباء في بكر وبشر فإنها لا تدل على معنى. وكذا الهمزة في أزيد حرف معنى بخلافها في أحمد وكذا من في قولك أخذت من زيد حرف معنى بخلافه في منوال ثم إطلاق لفظ الحروف ههنا على المذكور في الباب بطريق التغليب لأن بعض ما ذكر في هذا الباب أسماء مثل كل ومتى ومن وإذا وغيرها لكن لما كان أكثرها حروفا سمي الجمع بهذا الاسم
قوله "حروف العطف" العطف في اللغة الثني والرد يقال عطف العود إذا ثناه ورده إلى الآخر فالعطف في الكلام أن يرد أحد المفردين إلى الآخر فيما حكمت عليه أو إحدى الجملتين إلى الأخرى في الحصول. وفائدته الاختصار وإثبات المشاركة
"الواو"
وأصل هذا القسم الواو لأن العطف لإثبات المشاركة ودلالة الواو على مجرد(2/160)
الواو وهي عندنا لمطلق العطف من غير تعرض لمقارنة ولا ترتيب وعلى هذا عامة أهل اللغة وأئمة الفتوى وقال بعض أصحاب الشافعي إن الواو يوجب الترتيب حتى قالوا في قول الله تعالى {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} "المائدة: 6" يوجب الترتيب واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالصفا في
ـــــــ
الاشتراك وسائر حروف العطف يدل على معنى زائد على الاشتراك فإن الفاء يوجب الترتيب معه وثم يوجب التراخي معه فلما كانت في تلك الحروف زيادة على حكم العطف صارت كالمركبة معنى والواو مفرد والمفرد قبل المركب والحاصل أن العطف لما كان عبارة عن الاشتراك والواو متمخضة لإفادة هذا المعنى دون غيره صارت أصلا في العطف
قوله "وهي عندنا لمطلق العطف" أي لمطلق الجمع من غير تعرض لمقارنة كما زعمه بعض أصحابنا على قول أبي يوسف ومحمد ولا ترتيب كما زعمه ذلك البعض على أصل أبي حنيفة وكما زعمه بعض أصحاب الشافعي يعني أنها تدل في عطف المفرد على المفرد على اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في الحكم فقط من غير أن يدل على كونهما معا بالزمان أو على تقدم أحدهما على الآخر به, وفي عطف الجملة على الجملة على اشتراكهما في الثبوت هذا هو مذهب جماهير العلماء من أهل اللغة وأئمة الفتوى أي أهل الشرع والفتى الشاب القوي الحدث واشتقاق الفتوى منه لأنها جواب في حادثة أو أحداث حكم أو تقوية لبيان مشكل كذا في المغرب
وقال بعض أصحاب الشافعي إنها للترتيب ونقل ذلك عن الشافعي رحمه الله أيضا قال شمس الأئمة وقد ذكر الشافعي ذلك في أحكام القرآن. وفي القواطع نقل عن الشافعي أنه قال في الوضوء يعتبر ذكر الآية ثم قال ومن خالف الترتيب الذي ذكره الله لم يجز وضؤه وروي عن الفراء أنها للترتيب حيث يستحيل الجمع أما في المفرد فكقولك زيد راكع وساجد وأما في الجملة فكقوله تعالى {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} "الحج : 77"قوله "واحتجوا" تمسك مثبتو الترتيب بما روي أن الصحابة لما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم عند السعي بين الصفا والمروة بأيهما نبدأ وقد نزل قوله عز وجل {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} "البقرة: 158"قال: "ابدءوا بما بدأ الله به1" ففيه دليل على أنها للترتيب من وجوه أحدها أن النبي صلى الله عليه وسلم فهم وجوب الترتيب حتى قال ابدءوا بكذا وأنه عليه السلام كان أعلم باللسان وأفصح العرب والعجم وإليه أشير في الكتاب
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الحج حديث رقم 1218 والترمذي في الحج حديث رقم 862 وأبو داود في المناسك حديث رقم 1905 وابن ماجة في الحج حديث رقم 3074.(2/161)
:"السعي وقال " نبدأ بما بدأ الله عز وجل" يريد به قوله تعالى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} "البقرة: 158"ففهم وجوب الترتيب ووجوب الترتيب بقوله تعالى {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} "الحج: 77"وهذا
ـــــــ
والثاني أنه عليه السلام نص على الترتيب عند اشتباهها عليهم أنها للجمع أو للترتيب فيثبت بتنصيصه عليه السلام أنها للترتيب. والثالث أنها لو كانت للجمع المطلق لما احتاجوا إلى السؤال لأنهم كانوا أهل لسان ولا يعارض بأنها لو كانت للترتيب لما احتاجوا إلى السؤال أيضا لأنهم يقولون يجوز أن يكون سؤالهم لتجويزهم إياها مستعملة في الجمع المطلق تجوزا بناء على الغالب
قوله "ووجوب الترتيب" وتمسكوا أيضا بأن الركوع مقدم على السجود بلا خلاف واستفيد هذا التقدم من الواو في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} "الحج: 77" فلو لم يكن الواو للترتيب لما استفيد ذلك منها
ومما تمسكوا به أن أعرابيا قال من أطاع الله ورسوله فقد اهتدى ومن عصاهما فقد غوى فقال النبي عليه السلام: "بئس خطيب القوم أنت قل ومن عصى الله ورسوله فقد غوى1" ولو كان الواو للجمع المطلق لما وقع الفرق بين العبارتين
قوله "وهذا حكم" ابتداء دليل العامة أي موجب الواو حكم لا يعرف إلا باستقراء كلام العرب أي تتبعه من استقريت البلاد إذا تتبعتها تخرج من أرض إلى أرض ومعناه أنه ينظر في استعمالاتهم أنها استعملت في الجمع المطلق أو في الترتيب وبالتأمل في موضوع كلامهم أي في قوانينهم التي بني عليها كلامهم أنها توجب كونها للترتيب أم للجمع المطلق كالحكم الشرعي يتعرف من اتباع الكتاب والسنة بأن يطلب فيهما وبالتأمل في موارد النصوص وقوانين الشرع الموضوعة لاستخراج الأحكام إن لم يوجد فيهما وكلاهما أي الاستقراء والتأمل حجة عليه أي على من ادعى أنها للترتيب لا للجمع المطلق من غير تعرض أي تصد له وهو استعارة يعني من غير دلالة لها على المقارنة والترتيب حتى لو جاء مقارنين أو على التعاقب بصفة الوصل أو التراخي كان صادقا في هذا الإخبار وقد ثبت ذلك بالنقل عن أئمة اللغة ونقل اللغة عن أربابها حجة وقد نص عليه سيبويه في سبعة عشر موضعا من كتابه. وقال الإمام عبد القاهر معنى الواو الجمع بين الشيئين في الحكم لا في الوقت ولا ترتيب فيه لأنها في الاسمين المختلفين بإزاء التثنية
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الجمعة حديث رقم 48 وأبو داود في الأدب حديث رقم 4981 والإمام أحمد 4/256(2/162)
حكم لا يعرف إلا باستقراء كلام العرب وبالتأمل في موضوع كلامهم كالحكم الشرعي إنما يعرف من قبل اتباع الكتاب والسنة والتأمل في أصول الشرع وكلاهما حجة عليه ودليل لما قلنا أما الأول فإن العرب تقول جاءني زيد وعمرو فيفهم منه اجتماعهما في المجيء من غير تعرض للقران أو الترتيب في المجيء ولأن الفاء يختص بالأجزئة ولا يصلح فيها الواو حتى أن من قال لامرأته إن دخلت الدار وأنت طالق طلقت في الحال ولو احتمل الواو الترتيب لصلح للجزاء كالفاء وقد صارت الواو للجمع في قول الناس جاءني الزيدون وأصله جاءني زيد وزيد وزيد وقالوا لا تأكل السمك وتشرب اللبن معناه لا
ـــــــ
في المتفقين فإذا قلت جاءني زيد وعمرو لم يجب أن يكون المبدوء به في اللفظ سابقا بل كل منهما بمنزلة صاحبه في جواز تقديمه كما إذا قلت جاءني الزيدان إن لم يكن اللفظ مقتضيا تقدم أحدهما بل مقتضاه اجتماعهما في وجود الفعل فقط ولأن الفاء يختص بالأجزئة وذلك لأن الجزاء متعقب على ما يوجبه من شرط أو نحوه والفاء هي التي تدل على التعقيب فلذلك اختصت بها ولا يصلح فيها الواو لما ذكر فلو كان موجبها الترتيب لما افترق الحال بين الفاء والواو
قوله "وأصله جاءني زيد وزيد وزيد" وإنما كان كذلك لأنه نظير جاءني بكر وبشر وخالد وهذا المجموع أسماء أعلام وضعت لأشخاص مختلفة من غير نظر إلى المعنى إلا أن الألفاظ إذا كانت مختلفة لا يمكن جمعها في لفظ واحد مع كمال المقصود وهو تعريف ذواتهم فلذلك يقال جاءني بكر وبشر وخالد فأما إذا كانت متفقة فيمكن اختصارها بصيغة الجمع والاكتفاء بلفظ واحد منها مع كمال المقصود فيقال زيدون احترازا عن التطويل والتكرير المستكرهين وهذا الواو لمطلق الجمع بالإجماع فيكون الواو في قوله جاءني بكر وبشر وخالد كذلك أيضا لأن هذه عين تلك كذا في بعض الشروح
قوله "وقالوا" أي أهل اللغة لا تأكل السمك وتشرب اللبن قال الشيخ الإمام عبد القاهر اعلم أن النصب في قولك لا تأكل السمك وتشرب اللبن. بإضمار أن والذي أوجب ذلك أنهم لو أدخلوا ما بعد الواو في إعراب ما قبلها لاشتمل النهي على كل واحد من الفعلين وليس الغرض ذلك وإنما المقصود النهي عن الجمع بينهما فلما لم يكن إدخال تشرب في إعراب تأكل وجب أن يضمر أن وينزل قولك لا تأكل السمك منزلة لا يكن منك أكل السمك ليكون تشرب, مع تقدير أن مصدرا معطوفا على مثله نحو لا يكن منك أكل السمك وشرب اللبن فحصل بهذا الإضمار معنى النهي عن الجمع بينهما وأن(2/163)
تجمع بينهما من غير تعرض لمقارنة أو ترتيب في الوجود ولو استعمل الفاء مكانه لبطل المراد ومثله قول الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم
ـــــــ
أحدهما مباح له وما ذكر عن بعض البغداديين أنه منصوب على الظرف فالمراد أنهم لما قصدوا أن يكون الثاني غير داخل في حكم الأول فنصبوه صار العدول به عن المعنى الأول كأنه نصبه إذ كان سببا لإضمار أن فأما أن يراد أن النصب بنفس مخالفته للأول حتى كان عامله ذلك المعنى فلا
قوله "ولو استعمل الفاء مكانه لبطل المراد" لأن الغرض ههنا الجمع بين الشيئين ولا يراد أن يجعل الأكل سببا للشرب نحو أن تقول إن أكلت السمك شربت اللبن كما يكون ذلك في قولك لا تنقطع عنا فنجفوك أي لا يكن منك انقطاع فجفاء منا وكقولك لا تدن من الأسد فيأكلك أي إنك إن دنوت منه أكلك ويصير دنوك سببا لأكله إياك وعليه قوله تعالى {وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} "طه: 81"أي لا تجاوزوا الحد في أكل الطيبات فإنكم إن فعلتم ذلك حل عليكم غضبي ويصير طغيانكم سبب حلول آثار الغضب عليكم وإذا كان المراد الجمع وجب الثبات على الواو دون الفاء لأن الواو تدل على الجمع والفاء تدل أن الثاني بعد الأول. وإذا ثبت أن الفاء لا تصلح في موضع الواو كما لا تصلح الواو في موضع الفاء في قوله إن دخلت الدار وأنت طالق علم أن كل واحد منهما وضعت لمعنى على حدة وأنها ليست للترتيب
قوله "ومثله" أي مثل قوله لا تأكل السمك وتشرب اللبن قول الشاعر:
"لا تنه عن خلق وتأتي مثله"
أي لا يكن منك نهي عن خلق وإتيان بمثله أي لا تجمع بين هذين فالنهي عن خلق مباح له, إذا لم يقترن بإتيان مثله وما حكي عن الأصمعي أنه كان ينشده بإسكان الياء ويقول إن سماعي كذلك فوجهه أن تكون الياء في تقدير النصب كقوله: كأن أيديهن بالقاع الفرق
أو يكون على الابتداء نحو لا تنه عن خلق وأنت تأتي مثله وقبله:
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك تقبل إن وعظت وتقتدى ... بالأمر منك وينفع التعليم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم(2/164)
أي لا تجمع بينهما فهذا لبيان الوضع وأما الثاني فلأن كلام العرب أسماء وأفعال وحروف والأصل في كل قسم منها أن يكون موضوعا لمعنى خاص يتفرد به فأما الاشتراك فإنما يثبت لغفلة من الواضع أو عذر دعا إليه وكذلك التكرار
ـــــــ
ومما تمسك به العامة قوله تعالى في سورة البقرة {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ} "البقرة: 58". وقوله عز اسمه في سورة الأعراف {وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً} "الأعراف: 161" والقصة واحدة آمرا ومأمورا وزمانا ثبت ذلك بنقل أئمة التفسير فلو كانت الواو للترتيب لتناقضا لدلالة الأول على تقدم الدخول على القول ودلالة الثاني على عكسه وكلامه تعالى عن ذلك منزه ولأنه لو أفاد الترتيب لكان قوله رأيت زيدا وعمرا قبله متناقضا ولكان قوله رأيت زيدا وعمرا بعده تكرارا والأول باطل والثاني خلاف الأصل قال الإمام عبد القاهر ومما يدل على أن الواو لا أصل له في الترتيب أنهم وضعوها حيث لا يتصور الترتيب كقولهم اشترك زيد وعمرو واختصم بكر وخالد وذلك أن الاشتراك والاختصام مما يقتضي فاعلين فلو قلت في قولك اشترك زيد وعمرو إن زيدا قبل عمرو في الرتبة كان بمنزلة أن تقول اشترك زيد وتسكت لأن أحدهما إذا تقدم على صاحبه لم يكن مساويا له ومجتمعا معه كما أنك إذا قلت جاءني زيد قبل عمرو لم يكن لزيد اجتماع مع عمرو في المجيء فمن ادعى أن الواو دليل على الترتيب لزمه أن يقول اشترك زيد واختصم بكر ويسكت ولهذا لا يصح بالفاء وثم لأنك لو قلت اختصم زيد فعمرو أو اشترك بكر ثم خالد كان بمنزلة قولك جاءني زيد فعمرو في جعلك الاختصام والاشتراك مما يسند إلى فاعل واحد حتى كأنك قلت اختصم زيد وسكت لما ذكرنا أن الترتيب يزيل الاجتماع.
قوله "والأصل في كل قسم كذا" يعني الأصل في الكلام الخصوص اسما كان أو فعلا أو حرفا وهو أن يكون بإزاء كل لفظ معنى واحد وأن لا يكون لمعنى واحد إلا لفظ واحد لأن الكلام وضع للإفهام والاشتراك يخل به والترادف يوجب إخلاءه عن الفائدة وذلك لا يليق بالحكمة. لغفلة من الواضع يعني إن كانت اللغات اصطلاحية بأن وضع الواضع اللفظ أولا بإزاء معنى واشتهر بين قوم وقد نسيه ثم وضعه بإزاء معنى آخر واشتهر بين قوم آخرين ثم اجتمعوا واشتهر الوضعان بين الكل أو عذر أي حكمة دعت إلى ذلك وهو الابتلاء إن كانت اللغات توقيفية ليتبين درجة العالم الذي يستخرج المراد من الكلام بقوة قريحته بالتأمل فيه.لتكرر الدلالة أي يلزم التكرار
"فإن قيل" لا يتكرر بل يكون لمطلق الترتيب
"قلنا" قد وضعت كلمة بعد لمطلق الترتيب فيلزم التكرر لا محالة على أنها(2/165)
وقد وجدنا حروف العطف وغيرها موضوعة لمعان يتفرد كل قسم بمعناه فالفاء للترتيب ومع للقران وثم للتعقيب والتراخي فلو كان الواو للترتيب لتكررت الدلالة وليس ذلك بأصل لكن الواو لما كانت أصلا في الباب كان ذلك دلالة على أنها وضعت لمطلق العطف مع احتمال كل قسم من أقسامه من غير تعرض لشيء منها ثم انشعبت الفروع إلى سائر المعاني وهذا كما وضع لكل جنس اسم مطلق مثل الإنسان والتمر ثم وضعت لأنواعها أسماء على الخصوص وصارت الواو فيما قلنا نظير اسم الرقبة في كونه مطلقا غير عام ولا مجمل ولهذا قلنا إن حكم النص في آية الوضوء التحصيل من غير تعرض لمقارنة أو ترتيب وقد ظن
ـــــــ
ليست لمطلق الترتيب عندكم فإن الولاء في الوضوء شرط في الجديد كما هو قول مالك ولو كان لمطلق الترتيب لم يشترط ولأنها لو كانت للترتيب لخلا الكلام عن حرف يدل على مطلق الجمع وهو معنى مقصود وذلك إخلال به ولا يتخالجن في وهمك أنها أوجبت الترتيب في قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} "البقرة: 277" حيث رتب العمل على الإيمان ولم يعتبر بدونه لأن ذلك استفيد من قوله تعالى {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} "طه: 112" لا من الواو لكن الواو استدراك من حيث المعنى أي ليست الواو للترتيب لكنها لما كانت أصلا في باب العطف لكونها أكثر وقوعا بدلالة الاستقراء كان ذلك أي كونها أصلا دلالة على أنها وضعت لمطلق العطف الذي هو أصل لما سواه من أقسامه للمناسبة. "ثم انشعبت الفروع" أي الحروف التي هي فروع لها نظرا إلى قلة وقوعها بالنسبة إلى الواو كالفاء وثم "إلى سائر المعاني" التي هي فروع لمطلق الجمع من تقيده بصفة الترتيب وصفة القران وصفة التراخي اعتبارا للتناسب ومحافظة على قوانينهم المستمرة في سائر الألفاظ فإنهم وضعوا لكل جنس اسما ثم فرعوا عليه أنواعه كالإنسان اسم جنس ثم يتنوع إلى رجل وامرأة وكالتمر اسم جنس ثم يتنوع إلى عجوة وبرني وسنجاني وقسب ودقل وغيرها
قوله "غير عام" كما زعم الشافعي رحمه الله وقد بينا ولا مجمل قد زعم بعض الناس أن اسم الرقبة مجمل لأن المراد لا يعرف منها. وقوله مؤمنة مفسر لها فلذلك يتقيد الرقبة في كفارة اليمين بصفة الإيمان وهذا فاسد لأنها اسم جنس وأسماء الأجناس معلومة المعاني عند أرباب اللسان وأصحاب الشريعة فكانت من قبيل المطلق لا من قبيل المجمل ولهذا قلنا أي ولكونها للجمع المطلق من غير تعرض لمقارنة كما قاله مالك إذ القران فيه لا يتصور إلا بالولاء. أو ترتيب كما قاله الشافعي والجواب عن متمسكهم أن قوله(2/166)
بعض أصحابنا أن الواو للمقارنة وليس كذلك وزعم بعضهم أنها عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله للمقارنة لأنهما قالا فيمن قال لامرأته قبل الدخول بها إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق وطالق أنها إذا دخلت طلقت ثلاثا وأنها عند أبي حنيفة رحمه الله تطلق واحدة فدل أنه جعلها للترتيب وليس كذلك بل
ـــــــ
تعالى {ِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} "البقرة: 158" لبيان أنهما من معالم الحج وشعائر الله وهذا لا يحتمل الترتيب وسيأتي بيانه. وكذلك قوله تعالى {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} "الحج: 77" لا يفيد الترتيب وما عرفنا وجوب الترتيب به كيف وأنه معارض بقوله عز اسمه {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} "آل عمران: 43" وإنما عرفناه بقوله عليه السلام: "صلوا كما رأيتموني أصلي" أو يكون الركوع مقدمة السجود والقيام مقدمة الركوع على ما عرف في موضعه وكذا رده عليه السلام على الأعرابي لم يكن لإفادة الواو الترتيب إذ لا ترتيب في معصيتهما لعدم انفكاك أحديهما من الأخرى بل لترك ذكر اسم الله تعالى على سبيل التعظيم قوله "وقد ظن بعض أصحابنا" أن الواو للمقارنة عند علمائنا الثلاثة استدلالا بما إذا قال لامرأته ولم يدخل بها أنت طالق وطالق وطالق إن دخلت الدار يتعلق الكل بالشرط وينزلن جملة ولو لم تكن للمقارنة لوقع الأول ولغا الثاني والثالث لعدم المحل وزعم بعضهم أنها للترتيب عند أبي حنيفة, وعند أبي يوسف ومحمد رحمهم الله للمقارنة استدلالا بالمسألة المذكورة في الكتاب وليس كذلك أي ليس الأمر كما زعموا إذ لا يلزم من وجود المقارنة أو الترتيب في صورة من الصور التي وجدت فيها الواو أن يكون الواو موضوعة له لجواز أن يكون المقارنة أو الترتيب بناء على معنى آخر غير الواو كما سنبينه والدليل عليه عدم اطرادها في الدلالة على المقارنة أو الترتيب في عامة الصور كيف والمطلق في الخارج لا يوجد إلا مقيدا بصفة وذلك لا يدل على كون اللفظ موضوعا للمقيد ألا ترى أن الإنسان لا يوجد في الخارج إلا مقيدا بصفة. وذلك لا يدل على أن لفظ الإنسان دال على تلك الصفة وموضوع لها بل الواو لمطلق العطف عند أصحابنا جميعا وإنما الاختلاف في المسألة بناء على كيفية تعلق الثاني والثالث بالشرط لا لأن الواو أوجبت المقارنة أو الترتيب ألا ترى أنهم اتفقوا على أنه لو نجز فقال أنت طالق وطالق وطالق لا يقع إلا واحدة وعلى أنه لو قدم الجزاء فقال أنت طالق وطالق وطالق إن دخلت الدار أنه يتعلق الكل بالشرط وينزلن جملة فلو كان اختلافهم في مسألة الكتاب بناء على اختلافهم في موجب الواو لثبت الاختلاف في المسألتين ولكنهما قالا موجبه الاجتماع أي موجب كلامه الاجتماع لأن موجب العطف الاشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه.(2/167)
اختلافهم راجع إلى ذكر الطلقات متعاقبة يتصل الأول بالشرط على التمام والصحة ثم الثاني والثالث ما موجبه فقال أبو حنيفة رحمه الله موجبه الافتراق لأن الثاني اتصل بالشرط بواسطة والثالث بواسطتين والأول بلا واسطة فلا يتغير هذا
ـــــــ
والجملة الأولى تامة لوجود الشرط والجزاء وقوله وطالق جملة ناقصة لأنه بغير شرط فيصير ما يتم به الأولى وهو الشرط شرطا للثانية لتصير كاملة ولهذا تعلقت الثانية والثالثة بالشرط ولم تقعا في الحال ولما ساوت الثانية والثالثة الأولى في التعليق بالشرط وليس بين الأجزئة ما يوجب صفة الترتيب إذ الواو لا توجب ذلك وتعلقت غير موصوفة بالترتيب وقعن كذلك كما لو كرر الشرط بأن قال إن دخلت الدار فأنت طالق إن دخلت الدار فأنت طالق إن دخلت الدار فأنت طالق أو قدم الجزاء كما ذكرنا إذ الجزاء يتأخر عن الشرط قدم الشرط عليه أو أخره ذكرا
وكما لو قال لها: إن دخلت الدار فأنت طالق تطليقة ونصفا فدخلت الدار تطلق ثنتين ولا فرق بين تطليقة ونصف تطليقة إذ الطلاق لا نصف له ولا يلزم ما إذا قال لامرأته التي لم يدخل بها أنت طالق وطالق وطالق فإنها تطلق واحدة لا ثلاثا خلافا لأحمد بن حنبل وبعض أصحاب مالك والليث بن سعد1 وربيعة2 "وابن" أبي ليلى لأن أزمنة الوقوع متفرقة فلا تقع مجتمعة فتبين بالأول فلا يصح الثاني وفيما نحن فيه زمان الوقوع زمان وجود الشرط ولم يوجد منه تفريق بعد الشرط ألا ترى أنه لو أرسل فقال أنت طالق واحدة لا بل ثنتين لم تطلق إلا واحدة ولو علق ثم وجد الشرط طلقت ثلاثا كذا في الأسرار وذكر بعض مشايخنا في بيان قولهما إن عطف الجملة الناقصة على الكاملة يوجب إعادة ما في الكاملة لتصير الناقصة كاملة أيضا بخلاف عطف الكاملة على مثلها ألا ترى أنه لو قال لامرأتيه هذه طالق ثلاثا وهذه طلقت الأخرى ثلاثا لأن خبر الأولى يصير معادا في حقها بخلاف ما لو قال هذه طالق ثلاثا وهذه طالق حيث تطلق الأخرى واحدة لأنها مفيدة بنفسها فلا تقتضي ذكر الخبر مرة أخرى.
وكذلك لو قال جاءني زيد وعمرو أو قال مررت بالبصرة والكوفة يصير المجيء والمرور مذكورين مرة أخرى لا طريق له إلا ذلك فكذلك ههنا قوله وطالق ناقص لا شرط
ـــــــ
1 هو الليث بن سعد بن عبدالرحمن الفهمي أبو فقيه مصر ولد سنة 94ه.توفي سنة 175ه أنظر وفيات الأعيان 4/127-128.
22 هو ربيعة بن أبي عبدالرحمن فروخ التيمي المعروف بريعة الرأي توفي سنة 136ه أنظر التهذيب 3/258-259.(2/168)
الأصل بالواو ولأنه لا يتعرض للقران وقالا موجبه الاجتماع والاتحاد لأن الثاني جملة ناقصة فشاركت الأول وهو في الحال تكلم بالطلاق وليس بطلاق فصح التحصيل والترتيب في التكلم لا في صيرورته طلاقا كما إذا حصل التعليق
ـــــــ
له فيصير الشرط كالمذكور مرة أخرى كأنه قال إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق إن دخلت الدار وطالق إن دخلت الدار فيقع ثلاث تطليقات بدخلة واحدة كما لو كرر الشرط صريحا وقد نص على هذا الوجه في الجامع الكبير فقيل في وقوله إن دخلت الدار فأنت طالق واحدة لا بل ثنتين تقديره لا بل ثنتين إن دخلت الدار وحاصل الطريقتين يرجع إلى حرف واحد وهو أن الطلقات تعلقن بالشرط بلا واسطة فلذلك ينزلن جملة عند وجود الشرط لا لأن الواو أوجبت المقارنة وقال أبو حنيفة رحمه الله موجبه أي موجب ذكر الطلقات متعاقبة الافتراق أي انفصال الثانية عن الأولى والثالثة عنهما في التعلق بالشرط والتعاقب في الوقوع لا الاجتماع كما لو قال إن دخلت الدار فأنت طالق ثم طالق ثم طالق أو قال وطالق بعده وطالق بعده لأن قوله إن دخلت الدار فأنت طالق جملة تامة مستغنية عما بعدها فلم تتوقف عليه فتعلق هذا الطلاق بالشرط بلا واسطة. وقوله وطالق جملة ناقصة فتتوقف على الأولى لا محالة لافتقارها إليها إذ الناقصة مفتقرة إلى الكاملة في إفادة المعنى فيتعلق الطلاق الثاني بعد تعلق الأول والتعليق بالشرط منفصلا عنه صحيح كما لو نص على كلمة بعد أو ثم فكان الأول متعلقا بالشرط بلا واسطة والثاني بواسطة والثالث بواسطتين وإذا تعلق بهذا الترتيب ينزلن كذلك أيضا لأن الجزاء ينزل على الوجه الذي تعلق كالجواهر إذا نظمت في سلك وعقد, رأسه تنزل عند الانحلال على الترتيب الذي نظمت به فلو غير موجب هذا الكلام وبطلت الواسطة إنما يبطل قضية الواو. وقد بينا أن الواو لا توجب القران كما لا توجب الترتيب
بخلاف ما إذا كرر الشرط لأن الكل تعلق بالشرط بلا واسطة وبخلاف ما إذا قدم الجزاء لأن أول الكلام يتوقف على آخره إذا كان في آخره ما يغير أوله, أول الكلام تنجيز لو لم يوجد الشرط آخرا فيتوقف عليه وإذا توقف تعلق الكل بلا واسطة بالشرط أيضا وبخلاف قوله إن دخلت الدار فأنت طالق تطليقة ونصفا لأنه لا يوجد في اللغة لفظ يدل عليه أو جزء منه فكان الواحد مع النصف كاسم واحد بمنزلة أحد عشر وأحد وعشرين ألا ترى أنه لو نجز لهذا اللفظ فقال أنت طالق تطليقة ونصف تطليقة تقع ثنتان كما لو قال أنت طالق إحدى وعشرين طلقة تقع الثلاث جملة ولم تقع الواحدة أولا ثم العشرون كما قال زفر فكذا ههنا فأما طالق وطالق فكلامان صيغة ولم يقم دليل يجعلهما كلاما واحدا لأنا وجدنا في اللغة ما يعبر به عن الاثنين بعبارة أو جزء منه وهي(2/169)
بشروط يتخللها أزمنة كثيرة فإن الترتيب لا يجب به وإذا كان موجب الكلام ما قلنا لم يتغير بالواو لأنها لا تتعرض للترتيب لا محالة ولا توجبه فلا يترك المقيد بالمطلق وإذا تقدمت الأجزية فقد اتحد حال التعليق فصار موجب الكلام الاجتماع والاتحاد فلم يترك بالواو لما قلنا فإن قيل فقد قال أصحابنا فيمن قال لامرأته أنت طالق وطالق وطالق قبل الدخول أنها تبين بواحدة وهذا من باب
ـــــــ
ثنتان أو ثلاث وبخلاف قوله لا بل ثنتين لأن هذه الكلمة لاستدراك الغلط والإضراب عما قبلها بإقامة الثاني مقام الأول فإذا اقتضت الالتحاق بالأول صرن جملة كما لو قال ومعها أخرى وأما قولهما يصير ما تم به الأولى كالمعاد مرة أخرى فسيجيء بيانه وقوله: وهو في الحال تكلم بالطلاق جواب عن كلام أبي حنيفة رحمه الله أن الثاني تعلق بواسطة.
واعلم أن القاضي الإمام أبا زيد رحمه الله ذكر في "الأسرار" أن هذه مسألة مشكلة فإنا متى اعتبرنا الطلاق المتعلق بمحسوس علق بحبل واحد أوجب التعليق بشرط واحد على التعاقب صفة ترتيب للمتعلق في نفسه كما قال أبو حنيفة رحمه الله بمنزلة حلق متعلقة بحبل واحد على التعاقب ولكن الشبهة في المسألة من وجهين أحدهما أن الترتيب إنما ثبت تكلما به فكان التعاقب في أزمنة التعليق ونحن نسلم التعاقب في أزمنة تعلق الأجزئة بالشرط تكلما بها ولكنه لا يوجب تعاقب الوقوع حين الشرط كما لو كرر الشرط وإنما الموجب للترتيب في الوقوع لفظ يوجب تفريق أزمنة الوقوع كثم أو ترتيب الواقع إن تعلقن جملة كما لو قال لها إن دخلت الدار فأنت طالق ثلاثا واحدة بعد واحدة والثاني وإليه أشير في الكتاب أن المتعلق ليس بطلاق للحال بل هو كلام له عرضية أن يصير طلاقا عند وجود الشرط فإذا لم يكن طلاقا للحال لا يقبل وصف الترتيب في الحال لأن الوصف لا يسبق الموصوف فكانت العبرة لحالة الوقوع فإن وجد ما يوجب تفريق أزمنة الوقوع ككلمة ثم, أو ما يبقى وصفا له بعد الوقوع ككلمة بعد يثبت الترتيب ويصير بكلمة ثم أو بعد ذلك الجزاء الذي يصير طلاقا في الثاني أنه يصير طلاقا بهذا الوصف فأما الواو فلا توجب ذلك. وكذا أزمنة التعليق لا تكون وصفا لما يقع زمان الشرط فيلغو اعتبار تفرقها واجتماعها في حق الواقع ذكر القاضي الإمام هاتين الشبهتين ولم يذكر الجواب ميلا إلى ترجيح قولهما فكأن الشيخ إنما أورد قولهما آخرا وذكر جوابهما عن كلام أبي حنيفة اتباعا للقاضي الإمام. قال شمس الأئمة وما قاله أبو حنيفة رحمه الله أقرب إلى مراعاة حقيقة اللفظ لأن من المعلوم أن عند وجود الشرط ذلك الملفوظ به يصير طلاقا فإذا كان من ضرورة العطف إثبات هذه الواسطة ذكرا فعند وجود الشرط يصير كذلك طلاقا(2/170)
الترتيب وقال في النكاح من الجامع فيمن زوج أمتين من رجل بغير إذن مولاهما وبغير إذن الزوج ثم أعتقهما المولى معا إنه لا يبطل نكاح واحدة منها ولو أعتقهما في كلمتين منفصلتين بطل نكاح الثانية فإن قال هذه حرة وهذه حرة متصلا بواو العطف بطل نكاح الثانية وهذا أيضا من باب الترتيب وقال في هذا الباب فيمن زوج رجلا أختين في عقدتين بغير إذن الزوج فبلغه فأجازهما معا بطلا وإن أجازه متفرقا بطل الثاني وإن قال أجزت نكاح هذه وهذه بطلا كأنه قال أجزتهما وهذا من باب المقارنة وقال في كتاب الإقرار من الجامع فيمن هلك عن ثلاثة أعبد قيمتهم سواء وعن ابن لا وارث له غيره فقال الابن
ـــــــ
واقعا ومن ضرورة تفرق الوقوع أن لا يقع إلا واحدة فإنها تبين لا إلى عدة كما لو نجز فقال أنت طالق وطالق وطالق
قوله "وإذا كان موجب الكلام ما قلنا" وهو الاجتماع والاتحاد "فلا يترك المقيد" أي المقتضي للاجتماع "بالمطلق" أي الواو. وقوله وإذا تقدمت الأجزية يجوز أن يكون جوابا عن استدلال الطائفة الأولى بهذه المسألة أن الواو للمقارنة عند أصحابنا جميعا يعني ثبت المقارنة باتحاد حال التعليق الذي يقتضي الاجتماع في الوقوع لا بموجب الواو ويجوز أن يكون متصلا بكلام أبي حنيفة رحمه الله على سبيل الفرق يعني إذا تأخرت الأجزية فموجب كلامه الافتراق فلا يتغير بالواو إذا تقدمت فموجبه الاجتماع فلا يترك بالواو أيضا لما قلنا إنها لا تتعرض للقران ولا للترتيب.ثم ذكر الشيخ ما يرد نقضا على هذا الأصل مع جوابه وهو أربع مسائل اثنتان منها تدلان على أن الواو للترتيب واثنتان على أنها للقران منها مسألة الأمتين وهي أن رجلا لو زوج أمتين لآخر برضاهما من رجل في عقدة أو عقدتين بغير إذن مولاهما وبغير إذن الزوج كان النكاح موقوفا على إجازة كل واحد منهما فإن نقض أحدهما انتقض وإن أجاز أحدهما توقف على إجازة الآخر فإن أعتقهما المولى بلفظ واحد بأن قال أعتقتهما أو قال هما حرتان لا يبطل نكاح واحدة منهما لأنه لم يتحقق الجمع بين الحرة والأمة لا في حال العقد ولا في حال الإجازة ولزم العقد من جانب المولى لسقوط حقه بالإعتاق وبقي موقوفا على إجازة الزوج إن شاء أجاز نكاحهما وإن شاء أجاز نكاح واحدة منهما بعينها ولو أعتقهما في كلمتين منفصلتين بأن قال أعتقت هذه أو قال هذه حرة ثم قال بعد زمان للأخرى مثل ذلك أو متصلتين كما ذكر الشيخ في الكتاب بطل نكاح الثانية لما ستقف عليه وبقي نكاح الأولى موقوفا على إجازة الزوج ولو وجد إذن المولى دون الزوج في المسألة توقف النكاح على إجازة(2/171)
أعتق أبي في مرض موته هذا وهذا وهذا فإن أقر به في كلام متصل عتق من كل واحد ثلثه وإن سكت فيما بين ذلك عتق الأول ونصف الثاني وثلث الثالث وهذا من باب القران قيل له أما في المسألة الأولى فقد قال مالك بن أنس إنه تقع الثلاث وجعلها للقران لكنه غلط لما قدمنا والواو للعطف المطلق ولذلك لم يقع الثاني لأن الأول وقع قبل التكلم بالثاني لما لم يكن الكلام نصا على المقارنة ولم يقف على التكلم بالباقي فسقطت ولايته لفوات محل التصرف لا
ـــــــ
الزوج لا غير ولو أعتقتا معا لا يبطل نكاح واحدة منهما وبقي موقوفا على إجازة الزوج كما كان ولو أعتقتا على التعاقب بكلامين منفصلين أو متصلين بطل نكاح الثانية وبقي نكاح الأولى موقوفا على ما كان ولو وجد إذن الزوج دون المولى توقف على إجازة المولى ولو أعتقهما معا نفذ نكاحهما ولو أعتقهما على التعاقب بطل نكاح الثانية ونفذ نكاح الأولى. ولو وجد إذنهما جميعا نفذ نكاحهما ولا يبطل بإعتاق بحال, فيما ذكرنا تعرف فائدة القيدين المذكورين في المسألة فتأمل
قوله "في عقدتين" احتراز عما إذا زوجهما في عقدة واحدة فإن ذلك لا ينفذ بحال قوله "ولو سكت فيما بين ذلك" بأن قال أعتق أبي هذا وسكت ثم قال للآخر أعتق هذا وسكت ثم قال وأعتق هذا عتق الأول ونصف الثاني وثلث الثالث لأنه لما أقر بعتق الأول فقد أقر بالثلث له فعتق من غير سعاية ثم لم يصح ما بعده في تغيير حقه لأن المغير إنما يصح بشرط الوصل وإذا أقر بالثاني فقد زعم أن الثلث بينه وبين الأول نصفين إلا أنه لم يصدق في إبطال حق الأول وصدق في إثبات حق الثاني ولما أقر بالثالث فقد زعم أن الثلث بينهم أثلاثا لكنه لم يصدق في إبطال حق الأولين كذا في شرح الجامع للمصنف
قوله "أما في المسألة الأولى" إذا قال لغير المدخول بها أنت طالق وطالق وطالق يقع واحدة عند عامة العلماء وقال مالك والشافعي في قوله القديم وأحمد بن حنبل والليث بن سعد وربيعة وابن أبي ليلى إنها تطلق ثلاثا لأن الواو توجب المقارنة. ولأن الجمع بحرف الجمع كالجمع بلفظ الجمع فصار كما لو قال لها أنت طالق ثلاثا ألا ترى أنه لو قال لها أنت طالق وطالق وطالق إن دخلت الدار طلقت ثلاثا عند وجود الشرط فكذا ههنا لكن ما قالوه غلط لما قدمنا أن للقران لفظا موضوعا وهو مع فلو حملنا الواو عليه كان تكرارا وهو خلاف ما عليه أهل اللغة أيضا والواو للعطف المطلق لا للقران ولذلك أي ولكونها للعطف المطلق لم يقع الثاني لأن الأول وقع قبل التكلم بالثاني لأن توقف الكلام الذي صدر من أهله في محله لا يكون إلا لما يوجب ذلك من تنصيص عليه بلفظ يوجبه ككلمة مع أو من مغير التحق بآخره كالشرط والاستثناء ولم يوجد ههنا تنصيص(2/172)
لخلل في العبارة وكذلك في مسألة نكاح الأمتين لأن عتق الأولى يبطل محلية الوقف في حق الثانية لأنه لا حل للأمة في مقابلة الحرة حال التوقف فبطل الثاني قبل التكلم بعتقها ثم لم يصح التدارك لفوات المحل في حكم التوقف لأن الواو لا تتعرض للمقارنة فأما في نكاح الأختين فإن صدر الكلام توقف على آخره لا لاقتضاء واو العطف لكن لأن صدر الكلام وضع لجواز النكاح وإذا اتصل
ـــــــ
عليه لأن الواو ليست بنص على المقارنة بل هي من محتملات الواو ولا مغير أيضا لأن ذكر الطلاق الثاني لا يؤثر في الطلاق الأول وهو معنى قوله ولم يقف على التكلم بالثاني وإذا لم يتوقف أوله على آخره بانت بالأول ولغا الثاني والثالث لفوات محل التصرف بحصول الإبانة بالطلاق الأول
"لا لخلل في العبارة" أي لا لفساد في التكلم والعطف فإن ذلك يقتضي وقوع الثاني والثالث ولكن من شرطه قيام المحل فإذا لم يبق لغا ضرورة ثم على قول أبي يوسف رحمه الله يقع الأول قبل أن يفرغ من التكلم بالثاني وعند محمد رحمه الله عند الفراغ من التكلم بالثاني يقع الأول لجواز أن يلحق بكلامه شرطا أو استثناء مغيرا. وما قاله أبو يوسف أحق فإنه ما لم يقع الطلاق ولا يفوت المحل فلو كان وقوع الأول بعد الفراغ من المتكلم بالثاني لوقعا جميعا لوجود المحل مع صحة التكلم بالثاني كذا قال شمس الأئمة رحمه الله
قوله "وكذلك في نكاح الأمتين" أي وكما أن عدم وقوع الثاني والثالث لفوات المحل لا لأن الواو توجب الترتيب فكذا في نكاح الأمتين بطلان نكاح الثانية لفوات المحل لا لاقتضاء الواو ذلك لأن عتق الأولى يبطل محلية الوقف في حق الثانية يعني بعدما عتقت الأولى لا تبقى الثانية محلا للنكاح الموقوف "لأنه لا حل للأمة في مقابلة الحرة حال التوقف" أراد به حل المحلية أي لا تبقى الأمة محل النكاح في مقابلة الحرة حال توقف نكاح الأمة فإنه إن تزوج أمة نكاحا موقوفا ثم تزوج حرة نكاحا نافذا أو موقوفا يبطل نكاح الأمة أصلا وذلك لأن حال التوقف حال انضمام الأمة إلى الحرة والنكاح الموقوف معتبر بابتداء النكاح لأنه غير لازم فكان في حق من يلزمه حكمه بمنزلة غير المنعقد والأمة ليست بمحل لابتداء النكاح منضمة إلى الحرة فلهذا بطل توقف نكاح الثانية بعدما عتقت الأولى قبل الفراغ عن التكلم بعتقها ثم لم يصح التدارك بعد إعتاقها لفوات المحل في حق التوقف قبله وإنما قيد بقوله في حق التوقف لأن بطلان المحلية في حقه لا غير حتى لو تزوجها بعد صح لأنها قد صارت حرة ولأن الواو لا تتعرض للمقارنة لتجعلهما(2/173)
به آخره سلب عنه الجواز فصار آخره في حق أوله بمنزلة الشرط والاستثناء في قول الرجل أنت طالق إن شاء الله وصدر الكلام يتوقف عليه بشرط الوصل لما نبين في باب البيان إن شاء الله فكذلك هذا, وهذا لا يوجد في قول الرجل أنت طالق وطالق وطالق قبل الدخول لأن صدر الكلام لا يتغير بآخره فلم يتوقف. وكذا في مسألة نكاح الأمتين لا يتغير صدر الكلام بآخره لأن عتق الثانية إن ضم إلى الأول لم يغير
ـــــــ
كلاما واحدا بمنزلة قوله أعتقتهما وهذا يشير إلى أنه لو قال أعتقت هذه مع هذه كان بمنزلة قوله أعتقتهما.
قوله "فأما نكاح الأختين" ذكر بعض مشايخنا أن اختلاف الجواب في المسألتين لاختلاف الوضع فإنه في مسألة الأمتين قال هذه حرة وهذه حرة والكلام الثاني جملة تامة لأنه مبتدأ وخبر فإذا عطفت على جملة تامة لا يوجب مشاركتها الأولى فلا يتوقف أول الكلام على آخره كقوله لامرأتيه: عمرة طالق ثلاثا, وزينب طالق إن زينب تطلق واحدة وقال في مسألة الأختين أجزت نكاح هذه وهذه والكلام الثاني جملة ناقصة فشاركت الأولى ضرورة حتى لو قال ههنا وأجزت هذه يجب أن يبطل نكاح الثانية ولو قال في مسألة الأمتين هذه حرة وهذه لم يبطل نكاح الثانية كما لو أعتقهما بكلمة واحدة والأصح أن بينهما فرقا فيما إذا كان المعطوف جملة تامة في المسألتين. والفرق ما أشار الشيخ إليه في الكتاب وهو أن آخر الكلام إذا كان يغير أوله توقف أول الكلام عليه كما وقف على الشرط والاستثناء وإذا لم يتغير به لم يتوقف عليه ففي مسألة الأختين آخر الكلام يغير أوله لأنه إذا لم يضم الثانية إلى الأولى صح نكاح الأولى وإذا ضم إليها بطل نكاحها للجمع بينهما وهو معنى قوله سلب عنه الجواز فنزل منزلة الاستثناء والشرط فتوقف الأول عليه فصار كالجمع بكلمة واحدة فبطلا وفي مسألة الأمتين إعتاق الأخيرة لا يغير الكلام الأول لأن النكاح يبقى موقوفا صحيحا كما كان وإنما أثر الثاني في صحة نفسه لا في تغيير الأول لو صح فلم يتوقف الكلام عليه وإذا لم يتوقف فسد الثاني
قوله "وصدر الكلام يتوقف عليه" أي على الآخر الذي هو مغير بشرط الوصل هذا جواب عما إذا أجاز نكاحهما متفرقا حيث لا يؤثر إجازة نكاح الثانية في إبطال نكاح الأولى ولا يتوقف الكلام الأول على الثاني وإن كان مغيرا فقال صدر الكلام إنما يتوقف على المغير إذا كان متصلا به فأما إذا كان منفصلا عنه فلا وهذا لا يوجد أي تغير صدر الكلام بالآخر في مسألتين لا يوجد ولا يقال قد يتغير في مسألة الطلاق صدر الكلام(2/174)
نكاح الأولى عن الصحة إلى الفساد وعن الوجود إلى العدم وكذلك في مسألة الإقرار صدر الكلام يتغير بآخره ألا ترى أن موجب صدره عتقه بلا سعاية وإذا انضم الأخرى إلى الأول تغير الصدر عن عتق إلى رق عند أبي حنيفة رحمه الله لأن المستسعى مكاتب عند أبي حنيفة وعندهما يتغير عن براءة إلى شغل بدين السعاية فلذلك وقف صدره على آخره ولهذا قلنا إن قول محمد في الكتاب
ـــــــ
بآخره لأنه يثبت به حرمة غليظة لأنا نقول ليس ذلك بتغيير بل هو تقرير حكم أوله وتأكيده لأن حكمه الحرمة الخفيفة وحكم آخره الحرمة الغليظة وكلاهما رافع للقيد وأما ما يثبت من زيادة الحرمة فباعتبار الطلقة الثالثة.
قوله "عن الصحة إلى الفساد وعن الوجود إلى العدم" المغير الذي يلتحق بآخر الكلام لا يخلو من أن يؤثر في الوصف كالشرط فإنه لا يبطل الكلام ولكن يؤخر حكمه إلى حين وجود الشرط أو في الأصل كالاستثناء فإنه إذا قال أنت حر إن شاء الله يبطل أصل الكلام بالاستثناء حتى لم يبق له موجب أصلا فالشيخ تعرض لهما فقال إعتاق الثانية لا يؤثر في وصف نكاح الأولى بالتغيير من الصحة إلى الفساد ولا في أصله بالإعدام
قوله "وكذلك في مسألة الإقرار" عطف على مسألة الأختين يعني كما أن صدر الكلام في تلك المسألة يتغير بآخره فكذلك في مسألة الإقرار يتغير الصدر بآخره أيضا. من أصحابنا من قال إنما يعتق من كل واحد ثلثه لأنه جمعهم بحرف الجمع وهو الواو والمجموع بحرف الجمع كالمجموع بلفظ الجمع فصار كأنه قال أعتقهم والدي ألا ترى أن قول الرجل علي ألف درهم لفلان وفلان بمنزلة قوله لهما علي ألف درهم وأن قوله بعت هذا العبد من فلان وفلان بمنزلة قوله بعته منهما فكذا هذا قال شمس الأئمة رحمه الله في "شرح الجامع" وهذا ليس بصحيح فإن الواو للعطف المطلق ليس لها عمل في القران ولا في الترتيب ولكن آخر الكلام ههنا يغير أوله لأن حكم الصدر لو سكت عليه سلامة نفس الأول له بلا سعاية لأنه يخرج من الثلث فإذا اتصل به الثاني والثالث تغير الصدر عن عتق إلى رق عند أبي حنيفة رحمه الله لأن السعاية وجبت عليه والمستسعى كالمكاتب عنده في الأحكام والمكاتب عندنا عبد ما بقي عليه درهم. وعندهما وإن لم يتغير إلى الرق ولكن يتغير من براءة إلى شغل لأنه لما كان يخرج من الثلث عتق مجانا فإذا اتصل به الثاني والثالث لم يبق له إلا ثلث الثلث ووجبت عليه السعاية في ثلثي قيمته فلذلك توقف صدره على آخره لا للواو
قوله "ولهذا قلنا" أي ولأن الواو لمطلق العطف قلنا إن قول محمد في الكتاب أي(2/175)
وينوي من عن يمينه من الرجال والنساء والحفظة أنه لا يوجب ترتيبا وكذلك قوله {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} لا يوجب ترتيبا أيضا ألا ترى أن المراد بالآية
ـــــــ
في الجامع الصغير وينوي أي في التسليمتين من عن يمينه من الرجال والنساء والحفظة لا يوجب ترتيبا كرر الشيخ لفظة أن لطول الكلام فلا يلزم منه تفضيل عامة المؤمنين على الملائكة فيظهر بهذا فساد قول من قال بتفضيلهم على الملائكة وادعى أن هذا مذهب أصحابنا استدلالا بهذه الرواية ألا يرى أنه قال في المبسوط وينوي بتسليمة الأول من كان عن يمينه من الحفظة والرجال والنساء وعن يساره مثل ذلك فعلم أنه أراد مطلق الجمع في النية لا الترتيب فيها وفي شرح الجامع الصغير لشمس الأئمة رحمه الله من أصحابنا من يقول ما ذكر في الصلاة قول أبي حنيفة الأول وما ذكر ههنا بناء على قوله الثاني فقد رجع إلى تفضيل بني آدم على الملائكة قال وهذه مسألة فيها كلام بين أهل الأصول ولكن لا معنى للاشتغال به ههنا فالواو لا توجب الترتيب والترتيب في النية لا يتحقق فإن من سلم على قوم لا يمكنه أن ينوي الرجال أولا ثم النساء ثم الصبيان ولكن مراده في الموضعين أن يجمعهم في نيته.
وفي شرح الجامع الصغير للمصنف فأما التقديم والتأخير فليس بشيء لازم لأن الواو لا توجب ترتيبا لكن للبداية أثر في الاهتمام كما في مسألة الوصية بالقرب فدل ما ذكر ههنا وهو آخر التصنيفين أن مؤمني البشر أفضل من الملائكة وهو مذهب أهل السنة والجماعة خلافا للمعتزلة
قال الإمام الكشاني والمختار عندنا أن خواص بني آدم وهم المرسلون أفضل من جملة الملائكة, وعوام بني آدم من المسلمين الأتقياء أفضل من عوام الملائكة وليسوا بأفضل من خواصهم بل خواص الملائكة أفضل من عوام بني آدم. وذكر الشيخ الإمام أبو منصور رحمه الله في تفسير قوله تعالى {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} "الأسراء: 70" أما الكلام في تفضيل البشر على الملائكة, والملائكة على البشر فإنا لا نتكلم فيه لأنا لا نعلم ذلك وليس لنا إلى معرفته حاجة فنكل الأمر فيه إلى الله عز وجل وذلك مثل الكلام بين الأنبياء والرسل وأتقياء الخلق وبين الملائكة وتفضيل هؤلاء على هؤلاء فنفوض ذلك إلى الله تعالى فأما أن يجمع بين شر البشر وأفسقهم وبين الملائكة الذين لم يعصوا الله طرفة عين فيقال هم أفضل من الملائكة فلا يجوز ذلك ولكن إن كان لا بد فإنه يجمع بين ما ذكرنا وبين الملائكة فيتكلم حينئذ بتفضيل بعض على بعض(2/176)
أنهما من الشعائر ولا يتصور فيه الترتيب وإنما ثبت السعي بقوله تعالى {أن يطوف بهما} غير أن السعي لا ينفك عن ترتيب والتقديم في الذكر يدل على قوة المقدم ظاهرا وهذا يصلح للترجيح فرجح به فصار الترتيب واجبا بفعله لا بنص الآية وهذا كما قال أصحابنا رحمهم الله في الوصايا بالقرب النوافل إنه يبدأ بما بدأ به الميت لأن ذلك دلالة على قوة الاهتمام وصلح للترجيح فأما قول الرجل لفلان علي مائة ودرهم ومائة وثوب ومائة وشاة ومائة وعبد فليس بمبني على حكم العطف بل على أصل آخر يذكر
ـــــــ
قوله "وكذلك" جواب عن متمسك الخصم يعني كما أن قول محمد من الرجال والنساء والحفظة لا يحتمل الترتيب فقوله تعالى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} "البقرة: 158" لا يحتمل الترتيب لأن الآية سيقت لبيان أنهما من الشعائر ومعالم الحج وهذا لا يحتمل الترتيب لأنه يجري في الفعل لا في العين ألا ترى أن في الزمان الذي كان الصفا فيه من المعالم كانت المروة فيه كذلك أيضا قوله "وإنما ثبت السعي" جواب عما يقال لما كانت الآية لبيان أنهما من الشعائر فيم ثبت وجوب السعي أو شرعيته فقال إنما ثبت ذلك بقوله تعالى {فلا جناح عليه أن يطوف بهما} "ابقرة: 158"ولهذا قال عطاء ومجاهد هو ليس بواجب وتركه لا يوجب شيئا لأنه قال فلا جناح ومثله يستعمل في المباح دون الواجب
وقال عامة العلماء هو واجب بهذا النص وبقوله عليه السلام: "إن الله تعالى كتب عليكم السعي فاسعوا" . وأما قوله تعالى {فَلا جُنَاحَ} "البقرة: 158"أي لا إثم عليه فلتحرج الناس عن الطواف بهما لمكان صنمين كانا عليهما في الجاهلية إساف ونائلة وكانوا يعبدونهما في الجاهلية فبعد الإسلام كرهوا التعبد لله تعالى في ذلك المكان فنفى ذلك عنهم بقوله فلا جناح عليه
قوله "غير أن السعي لا ينفك عن ترتيب" يعني أن النص الموجب للسعي لا يقتضي الترتيب لكن السعي في نفس الأمر لا ينفك عن ترتيب والبداية بالذكر في مصطلح الكلام يدل على زيادة عناية بذلك الشيء وقوة اهتمام به كما إذا فارقك من كنت مشغوفا به وقيل لك ما الذي تتمنى تقول وجه الحبيب أتمنى فتقدم وجه الحبيب لكونه نصب عينك ولزيادة التفات خاطرك إليه ولما دلت البداية على زيادة العناية ظهر بها نوع قوة صالحة للترجيح ألا ترى أن أبا بكر رضي الله عنه استدل في تفضيل المهاجرين أو تعيين الإمام منهم بتقديمهم في قوله عز اسمه {وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} "التوبة: 100"(2/177)
في باب البيان إن شاء الله.وقد تدخل الواو على جملة كاملة بخبرها فلا تجب به المشاركة في الخبر مثل قول الرجل هذه طالق ثلاثا وهذه طالق أن الثانية تطلق واحدة فسمى بعضهم هذه واو الابتداء أو واو النظم وهذا فضل من الكلام وإنما هي للعطف على ما هو أصلها لكن الشركة في الخبر كانت واجبة لافتقار الكلام الثاني إذا كان ناقصا فأما إذا كان تاما فقد ذهب دليل الشركة ولهذا قلنا إن الجملة الناقصة تشارك الأولى فيما تم به الأولى بعينه حتى قلنا في قول إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق أن الثاني يتعلق بذلك الشرط بعينه ولا يقتضي الاستبداد به كأنه أعاده وإنما يصار إلى هذه الضرورة استحالة الاشتراك
ـــــــ
فذلك رجح النبي عليه السلام بالتقديم فقال: "نبدأ بما بدأ الله تعالى به" أو قال: "ابدءوا بما بدأ الله به" . وصار الترتيب واجبا بفعله وبقوله لا بنص الآية
قوله "فأما قوله لفلان علي مائة ودرهم" إلى آخره جواب عن سؤال وهو أن يقال العطف يفسر المعطوف عليه كما في قوله مائة ودرهم حتى كانت المائة دراهم فأنى لم يجعل مفسرا في قوله مائة وثوب أو يقال الواو لمطلق العطف فكيف جعل مبينا للمعطوف عليه في قوله مائة ودرهم وإذا جعل مبينا في هذه الصورة فلم تخلف في الصورة الأخرى فقال ليس ذلك بناء على حكم العطف ليلزم اطراده بل على أصل الآخر يقرع سمعك إن شاء الله تعالى
قوله "بخبرها" الباء متعلقة بكاملة أي كما لها بخبرها فلا يجب به أي بهذا العطف. وهذا فضل أي تسميتهم إياها واو الابتداء أو النظم من فضول الكلام لا حاجة إليها بل هي واو العطف كهي في الجملة الناقصة إلا أن عملها في عطف الجملة الناقصة الجمع بينهما وبين الكاملة فيما تم به الكاملة وفي عطف الكاملة الجمع بين مضموني الجملتين في الحصول لكن الشركة استدراك عن قوله وإنما هي العطف على ما هو أصلها أي هي للعطف لكنها لا توجب الشركة في الخبر لأن الشركة إنما يثبت لافتقار الكلام الثاني إياها لعدم إفادتها بدونها لا بمجرد العطف فإذا كان الكلام الثاني مفيدا بنفسه ذهب دليل الشركة وهو الافتقار
قوله "ولهذا قلنا" أي ولأن ثبوت الشركة للافتقار والضرورة قلنا إن الجملة الناقصة تشارك الأولى فيما تم به الأولى بعينه ولا يجعل كأنه أعيد مرة أخرى لأن الإضمار خلاف الأصل إذ هو جعل غير المنطوق منطوقا وإنما يصار إليه عند الضرورة والضرورة ههنا متى ارتفعت بالأدنى وهو إثبات الشركة فيما تم به الأولى لا يصار إلى الأعلى وهو الإضمار لأن(2/178)
فأما عند عدم استحالة الاشتراك في الخبر الأول هو الأصل مثل قولك جاءني زيد وعمرو الثاني يختص بمجيء على حدة لأن الاشتراك في مجيء واحد لا يتصور فصار الثاني ضروريا والأول أصليا ومن عطف الجملة قول الله تعالى {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} النور: 4" في قصة القذف ومثل قوله تعالى
ـــــــ
ما ثبت بالضرورة متقدر بقدرها إلا إذا استحال إثبات الشركة " فح " يصار إليه ففي المسألة المذكورة في الكتاب وهي قوله إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق الطالق الثاني متعلق بذلك الشرط بعينه ولا يقتضي أي العطف الاستبداد أي التفرد بالشرط كأنه أعاد الشرط وأفرد الثاني به بمنزلة قوله إن دخلت الدار فأنت طالق إن دخلت الدار فأنت طالق لما ذكرنا أن المقصود وهو إفادة الكلام الثاني يحصل بتعلقه بذلك الشرط بعينه فلا يصار إلى الإضمار وفائدته تظهر فيما إذا قال كلما حلفت بطلاقك فأنت طالق ثم قال لها إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق كان يمينا واحدة حتى لا يقع إلا طلقة واحدة ولو كان كالمعاد لوقعت طلقتان. وكذا في مسألة الكتاب لو كان كالمعاد لوقعت طلقتان وإن كانت المرأة غير مدخول بها بلا خلاف أيضا وكذا لو قال لامرأته أنت طالق إن دخلت هذه الدار وإن دخلت هذه الدار الأخرى يتعلق بدخول الدار الثانية تلك التطليقة لا تطليقة أخرى حتى لو دخلت الدارين لا تطلق إلا واحدة ولو اقتضى الإعادة لطلقت ثنتين. وكذا لو قال إن دخلت الدار فأنت طالق وفلانة تعلق طلاق الثانية بدخول الأولى حتى لو دخلت الدار طلقتا جميعا ولا يجعل كأنه أفردها بالشرط وقال وفلانة إن دخلت الدار إذ لو جعل كذلك لم تطلق الثانية بدخول الأولى بل تطلق بدخول نفسها وفي هذا النظير نظر. ولا يلزم على ما ذكرنا قوله هذه طالق ثلاثا وهذه حيث لا تثبت الشركة في خبر الأولى ويجعل الخبر كالمعاد حتى طلقت الثانية ثلاثا ولو ثبتت الشركة لطلقت كل واحدة ثنتين لانقسام الثلاث عليهما كما لو قال لفلان علي ألف ولفلان يجعل الألف منقسما عليهما تحقيقا للشركة ولا يجعل كالمعاد حتى يكون لكل واحد منهما ألف لأنا نقول تعذر ههنا إثبات الشركة لأن في تنصيص الزوج على الثلاث إشارة إلى أن مقصوده إثبات الحرمة الغليظة وسد باب التدارك بالكلية وبالانقسام لا يحصل ذلك المقصود فيجعل الخبر كالمعاد ضرورة ولأن بالانقسام يفوت موجب الكلام أصلا إذ لا دلالة للثلاث على الأربع بوجه فأما إثبات المثل فأكثر من أن يحصى فيصار إليه عند التعذر قال الإمام البرغري اتفقوا أنه لو قال لغير المدخول بها إن دخلت الدار فأنت طالق ثم طالق ثم طالق أو قال فطالق فطالق أنه يقع عند وجود الشرط طلقة واحدة ولو كان الخبر كالمعاد لوقع ثلاث تطليقات كما لو كرر الشرط صريحا مع تخلل الأزمنة. وإنما يصار إلى هذا أي إلى الاستبداد ضرورة استحالة الاشتراك كما إذا قال فلانة طالق وفلانة فإنه يقع على الثانية(2/179)
{يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} "الشوري: 24" ومثل قوله تعالى {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} "آل عمران: 7" وقد يستعار الواو للحال وهذا معنى يناسب معنى الواو لأن الإطلاق يحتمله قال الله عز وجل {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا
ـــــــ
غير ما وقع على الأولى لأن الاشتراك بينهما في تطليقة لا يتحقق فصار الثاني أي استبداد الجملة الناقصة بخبر آخر ضروريا والأول وهو اشتراك الناقصة في خبر الأولى من غير استبداد أصليا
قوله "ومن عطف الجملة قوله تعالى {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} "النور: 4" فإنه جملة تامة بخبرها فلا يوجب العطف المشاركة فيما تم به الجملتان الأوليان وهو الشرط الذي تضمنه قوله تعالى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} "النور: 4" كقول الرجل إن دخلت الدار فأنت طالق وفلانة طالق لا يتعلق طلاق الثانية بالشرط وإذا كان كذلك كان الاستثناء اللاحق به مختصا به غير راجع إلى ما تقدمه فبقي المحدود في القذف غير مقبول الشهادة بعد التوبة كما كان قبلها ومن هذا القبيل قوله تعالى {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} "الشوري: 24" فإن قوله {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} جملة تامة معطوفة على ما تقدم غير داخلة تحت الشرط إذ لو دخلت كان ختم القلب ومحو الباطل معلقين بالشرط والمعلق بالشرط معدوم قبل وجوده وقد عدم ختم القلب ووجد محو الباطل فعرفنا أنه خارج عن الشرط وسقوط الواو في الخط واللفظ ليس للجزم بل سقوطه في اللفظ لالتقاء الساكنين وفي الخط إتباعا للفظ كسقوطه في قوله تعالى {وَيَدْعُ الْأِنْسَانُ} "الإسراء: 11" وقوله {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} "العلق: 18" ولهذا وقف يعقوب1 عليه بالواو نظرا إلى الأصل وإن وقف غيره بغير واو إتباعا للخط والدليل على أنه ابتداء إعادة اسم الفاعل إذ لو كان بناء لقيل ويمحو الباطل
واختلف في ختم القلب فقيل هو الصبر أي إن يشأ الله يختم على قلبك بالصبر حتى لا تجد مشقة استهزائهم وتكذيبهم وقيل هو الإنساء أي إن يشأ الله ينسك ما أوحى إليك فلا تبلغه إليهم فلا يستهزئون بك ولا يكذبونك
وقيل هو عدم الفهم أي إن يشأ الله يختم على قلبك فلا يفهم الحق من الباطل كما فعل بأولئك الكفرة. تذكرة إحسانه إليه وما أكرمه بأنواع الكرامات ليشكر ربه ويرحم على أولئك بما ختم على قلوبهم وما ينزل بهم من أنواع العذاب
ـــــــ
1 هو القاريء يعقوب بن اىسحاق بن زيد بن عبدالله بن أبي اسحاق أبو مولي الحضرميين 117-205ه أنظر وفيات الأعيان 6/390-392(2/180)
وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} أي إذا جاءوها وأبوابها مفتوحة واختلف مسائل أصحابنا على هذا الأصل فقالوا في رجل قال لعبده أد إلي ألفا وأنت حر أن الواو للحال حتى لا يعتق إلا بالأداء وكذلك من قال لحربي انزل وأنت آمن لم
ـــــــ
ويمح أي يطهر ويظفر أهل الحق على أهل الباطل وينصرهم حتى يصير أهل الحق ظاهرين على الباطل وقيل: يحق الحق بالحجج والبراهين ويمحو الباطل بالحجج والبراهين حتى يعرف كل أحد الحق من الباطل بالحجج التي أقامها إذا تأمل فيها حق التأمل. "بكلماته" أي بحججه كذا في شرح "التأويلات". ومثله {وَالرَّاسِخُونَ} أي ومن قبيل عطف الجملة الذي لا يوجب الاشتراك قوله عز اسمه {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ} "آل عمران: 7" فإنه غير داخل تحت الاستثناء في قوله جل ذكره {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} "آل عمران: 7"لما بينا في أول الكتاب وهذا على تقدير الوقف على قوله {إِلَّا اللَّهُ} "آل عمران: 7" فأما على تقدير الوصل فهو داخل تحت الاستثناء كما مر بيانه
قوله "وقد يستعار الواو للحال" اعلم أن الأصل في الجملة الواقعة موقع الحال أن لا يدخلها الواو لأن الإعراب لا ينظم الكلمات كقولك ضرب زيد اللص مكتوفا إلا بعد أن يكون هناك تعلق ينتظم معانيها فإذا وجدت الإعراب قد تناول شيئا بدون الواو كان ذلك دليلا على تعلق هناك معنوي فذلك يكون مغنيا عن تكلف معلق آخر إلا أن النظر إليها من حيث كونها جملة مستقلة بفائدة غير متحدة بالجملة السابقة كما في الحال المؤكدة وغير منقطعة عنها لجهة جامعة بينهما كما ترى في نحو جاء زيد وفرسه يعدو ويبسط العذر في أن يدخلها واو للجمع بينها وبين الأولى مثله في نحو قام زيد وقعد عمرو فهذا معنى استعارة الواو للحال
قوله "لأن الإطلاق يحتمله" يعني لما كانت الواو لمطلق الجمع كان الاجتماع الذي بين الحال وذي الحال من محتملاته لأن المطلق يحتمل المقيد فيجوز استعارتها لمعنى الحال عند الاحتياج. قال الله تعالى {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} "الزمر: 73" أي وقد فتحت أبوابها. قيل أبواب جهنم لا تفتح إلا عند دخول أهلها فيها وأما أبواب الجنة فمتقدم فتحها بدليل قوله {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} "ص: 50"وذلك لأن تقديم فتح باب الضيافة على وصول الضيف إكراما له وتأخير فتح باب العذاب إلى وصول المستحق له أليق بالكرم, فلذلك جيء بالواو كأنه قيل حتى إذا جاءوها وقد فتحت أبوابها قبل وجواب إذا محذوف أي إذا جاءوها وكانت هذه الأشياء التي ذكرت إلى(2/181)
يأمن حتى ينزل فيكون الواو للحال وقالوا فيمن قال لامرأته أنت طالق وأنت مريضة أو وأنت تصلين أو مصلية أنه لعطف الجملة حتى يقع الطلاق في الحال على احتمال الحل حتى إذا نوى بها واو الحال تعلق الطلاق بالمرض
ـــــــ
قوله {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} "الزمر: 73" دخلوها ونالوا المنى وإنما حذف لأنه في صفة ثواب أهل الجنة فدل بحذفه على أنه شيء لا يحيط به الوصف
قوله "واختلف مسائل أصحابنا على هذا الأصل" ففي بعضها جعلوا الواو للحال من غير نية وفي بعضها جعلوها لعطف الجملة لا غير وفي بعضها جعلوها للعطف محتملا للحال وفي بعضها اختلفوا فإذا قال لعبده أد إلي ألفا وأنت حر أنه لا يعتق ما لم يؤد. وكذا إذا قال لحربي انزل وأنت آمن لا يأمن ما لم ينزل جعلوا الواو في المسألتين للحال لأنه لا يحسن العطف ههنا لأن الجملة الأولى فعلية طلبية والجملة الثانية اسمية خبرية وبينهما كمال الانقطاع وذلك مانع من حسن العطف إذ لا بد لحسنه من نوع اتصال بين الجملتين على ما عرف فلذلك جعلناها للحال ولما صارت للحال والأحوال شروط لكونها مقيدة كالشرط تعلقت الجزية بالأداء والأمان بالنزول كما في قوله إن دخلت الدار راكبة فأنت طالق تعلق الطلاق بالركوب تعلقه بالدخول. وصار كأنه قال إن أديت إلي ألفا فأنت حر وإن نزلت فأنت آمن هذا تقرير عامة الكتب.
فإن قيل: ما ذكرت عكس ما يقتضيه هذا الكلام فإن الواو دخلت في قوله أنت حر وأنت آمن لا في قوله أد وانزل فيقتضي أن يكون الجزية شرطا للأداء والأمان شرطا للنزول كما في قوله أنت طالق وأنت مريضة إذا نوى التعليق كان المرض شرطا للطلاق لدخول الواو فيه لا عكسه وإذا ثبت ذلك كان الجزية والأمان سابقين على الأداء والنزول لأن الشرط مقدم على المشروط لا محالة فلا يكونان متعلقين بالأداء والنزول وإذا انتفى التعلق كان كل واحد واقعا في الحال
قلنا الجواب عنه من وجوه أحدها أنه من باب القلب كقوله عرضت الناقة على الحوض أي الحوض على الناقة وهو شائع في الكلام قال الله تعالى {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} الأعراف: 4" أي جاءها بأسنا فأهلكناها على أحد التأويلين وقال عز اسمه {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} "النجم 8" حمل على ثم تدلى فدنا وقال رؤبة:
ومهمة مغبرة أرجاؤه ... كأن لون أرضه سماؤه
أراد كأن لون سمائه من غبرتها أرضه. وقال آخر: يمشي فيقعس أو يكب فيعثر أراد(2/182)
والصلاة وقالوا في المضاربة إذا قال رجل لرجل خذ هذا المال مضاربة واعمل به في البز إن هذا الواو لعطف الجملة للحال حتى لا تصير شرطا بل تصير مشهورة ويبقى المضاربة عامة واختلفوا في قول المرأة لزوجها طلقني ولك
ـــــــ
أو يعثر فيكب وقال القطامي1 كما طينت بالفدن السياعا أي طينت بالسياع الفدن. وهو القصر فيكون التقدير كن حرا وأنت مؤد ألفا وكن آمنا وأنت نازل أي أنت حر وأنت آمن في هذه الحالة وإنما يحمل على هذا لأنه لا يصح تعليق الأداء والنزول بما دخل فيه الواو لأن التعليق إنما يصح ممن يصح منه التنجيز وليس في وسع المتكلم تنجيز الأداء أو النزول فكيف يصح تعليقه ألا ترى أن وجود المشروط من لوازم الشرط إذا لم ينزل قبله ولو وجدت الجزية أو الأمان ههنا لا يلزم منه الأداء والنزول ولما لم يصح العمل بظاهره ولا يمكن العمل بالعطف أيضا جعلناه من باب القلب الذي هو شعبة من إخراج الكلام لا على مقتضى الظاهر وأنه يورث الكلام قلاحة
والثاني أن قوله وأنت حر وقوله وأنت آمن من الأحوال المقدرة كقوله تعالى {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} "الزمر:73"أي مقدرين الخلود في حالة الدخول لا من الأحوال الواقعة فإن غرض المتكلم من هذا الكلام عدم وقوع الجزية والأمان في الحال فيكون معناه أد إلي ألفا مقدرا للجزية في حالة الأداء وانزل مقدرا للأمان في حالة النزول ولما أثبت المتكلم الجزية والأمان في حالتي الأداء والنزول كانا متعلقين بهما ومعدومين في الحال. والثالث أن الجملة الواقعة حالا قائمة مقام جواب الأمر بدلالة مقصود المتكلم فأخذت حكمه ويصير معنى الكلام أد إلي ألفا تصر حرا وإذا كان كذلك كانت الجزية متعلقة بالأداء والأمان متعلقا بالنزول تعلق الإكرام بالإتيان في قوله ائتني أكرمك
والرابع: أن قوله أنت حر يوجب الحرية للحال لولا قوله أد إلي كذا فبانضمام هذا الكلام إليه تأخر العتق كما يتأخر بانضمام إن دخلت الدار إليه فكان قوله أد إلي كذا بمنزلة إن دخلت الدار في تأخير الجزية عن وقت التكلم فكان كالشرط من هذا الوجه وذكرا في بعض الشروح أنه لما جعل الجزية حالا للأداء أي وصفا له لا يثبت سابقا عليه إذ الحال لا تسبق ذا الحال والصفة لا تسبق الموصوف
قوله "إنه لعطف الجملة" أي الواو للعطف لإمكان العمل بالحقيقة إذ الجملتان خبريتان ههنا بخلاف ما تقدم وذكر الضمير لأن حروف التهجي تذكر وتؤنث على
ـــــــ
1 هو الشاعر القطامي عمير بن شييمم بن عمرو بن عباد التغلبي توفي نحو 13ه الأغاني 2/118-132.(2/183)
ألف درهم فحمله أبو يوسف ومحمد على المعاوضة حتى إذا طلقها وجب له الألف وحمله أبو حنيفة رحمه الله على واو عطف الجملة حتى إذا طلقها لم يجب له شيء ولأبي يوسف ومحمد طريقان أحدهما أن الواو قد يستعار للباء كما استعير له في باب القسم على ما نبين إن شاء الله عز وجل فحمل على هذا المجاز بدلالة حال المعاوضة لأن حال الخلع حال المعاوضة كما قيل في قوله
ـــــــ
احتمال الحال لأن الطلاق يقبل الإضافة إلى حال المرض والمرض يصلح شرطا له فإذا نوى الحال صحت نيته ديانة وصار كأنه قال أنت طالق في حال مرضك أو أنت طالق في حال اشتغالك بالصلاة ولكن لا يصدقه القاضي لأنه نوى خلاف الظاهر وفيه تخفيف عليه
قوله "خذ هذا المال واعمل به مضاربة" في البز أي خذه مضاربة واعمل به في البز كذا لفظ المبسوط. وهذه الواو لعطف الجملة لأنها تصلح لذلك ههنا لكون الجملتين طلبيتين لا للحال لأنها لا تصلح للحال ههنا لأن حال العمل لا يكون وقت الأخذ وإنما يكون العمل بعد الأخذ مع أن استعارتها للحال لتصحيح الكلام, والكلام صحيح ههنا باعتبار الحقيقة فلا حاجة إلى حمل حرف الواو على المجاز فيكون مشورة أشار بها عليه لا شرطا في الأمر الأول كذا في المبسوط والبز متاع البيت من الثياب خاصة عن أبي دريد 1وعن الليث ضرب من الثياب وعن الجوهري2 هو من الثياب أمتعة البزاز والبزازة حرفة وقال محمد في السير البز عند أهل الكوفة ثياب الكتان والقطن لا ثياب الصوف والخز كذا في المغرب
قوله "أحدهما كذا" الواو تستعمل بمعنى الباء مجازا كما استعملت في القسم لمناسبة بينهما صورة ومعنى أما صورة فلأن كليهما شفوي وأما معنى فلأن الجمع موجود في الإلصاق الذي هو معنى الباء ثم المستعمل في المعاوضات الباء التي تؤدي معنى الإلصاق دون الواو لأنه لا يعطف أحد العوضين على الآخر والخلع معاوضة من جانب المرأة ولهذا صح رجوع المرأة قبل إيقاع الزوج فبدلالة المعاوضة حملناها على الباء كما في. قوله احمل هذا الطعام ولك درهم حملت على الباء حتى كان هذا وقوله احمله بدرهم سواء ووجب المال إذا حمله لأنه انعقد إجارة لا استعانة أو هي محمولة على الحال
ـــــــ
1 "أبو دريد" ابن دريد وهو محمد بن الحسن بن دريد بن عتاهية الآزدي البصري أبوبكر ولد سنة 223ه توفي سنة 321ه.
2 هو اسماعيل بن حماد الجوهري الفارابي أبو نصر توفي 393ه وقيل 400ه أنظر معجم الأدباء 6/151-165.(2/184)
الرجل لآخر احمل هذا الطعام إلى منزلي ولك درهم أنه يحمل على الباء أي بدرهم والثاني أن الواو للحال بدلالة حال المعاوضة أيضا ليصير شرطا وبدلا ونظيره قوله أد إلي ألفا وأنت حر وانزل وأنت آمن بخلاف خذ هذا المال واعمل به فإنه لا معنى للباء هنا وإنما حمل في مسألة الخلاف على الحال لدلالة
ـــــــ
بدلالة المعاوضة أيضا فإنها تقتضي العوض من الجانبين وذلك بأن يجعل الواو للحال ليصير وجوب الألف عليها شرطا للطلاق وبدلا عنه لأن نفسها تسلم لها بهذا المال فصار كأنها قالت طلقني في حال ما يكون لك علي ألف وقد علمت أن الأحوال شروط فكان معناه طلقني بشرط أن يكون لك علي ألف فلما قال الزوج طلقت أو فعلت كان تقديره طلقت بذلك الشرط أي طلقت إن قبلت الألف ونظيره أي نظير قوله طلقني ولك ألف "وهذا" أي قوله ولك ألف "لا معنى للباء هنا" أي لا يمكن أن يجعل الواو بمعنى الباء في مسألة المضاربة إذ لو جعلت بمعناها صار كأنه قال خذ هذا المال مضاربة بالعمل بالبز فيصير العمل بالبز عوضا عن الأخذ فيجب العمل بنفس الأخذ حينئذ والعمل ليس بواجب على المضارب بمجرد عقد المضاربة بالإجماع. ولا يمكن أن يجعل للحال أيضا لأنها إنما حملت في مسألة الخلاف وهي قوله طلقني ولك ألف على الحال بدلالة المعاوضة والمضاربة ليست بمعاوضة لأن المضارب في أول الأمر أمين وبعد الأخذ في العمل وكيل وعند ظهور الربح شريك وإذا لم يوجد معنى المعاوضة لا يمكن حملها على الحال فبقيت للعطف والابتداء فكان قوله واعمل به مشورة.
وكذا الكلام في قوله أنت طالق وأنت مريضة أو مصلية وقال أبو حنيفة رحمه الله الواو للعطف حقيقة والحمل على الحقيقة واجب حتى يقوم دليل يعارضها والمعاوضة لا يصلح دليلا معارضا يترك به الحقيقة لأن ذلك أي العوض أو معنى المعاوضة أمر زائد في الطلاق والدليل عليه أن العوض إذا دخله صار يمينا من جانب الزوج بأن قال أنت طالق على ألف أو أدي إلي ألفا وأنت طالق حتى لم يصح رجوعه قبل قبولها ويحنث به في قوله إن حلف بطلاقك فكذا وذلك لأنه يصير معلقا للطلاق بقبولها المال والتعليق بالشرط يمين لما عرف واليمين لازمة لا تقبل الرجوع لقوله عليه السلام ك "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد1" الحديث ولو كان معنى المعاوضة فيه أصليا صار يمينا ويصح رجوعه كما في النكاح وسائر المعاوضات. وكذلك يوجد الطلاق بدون العوض وهذا هو
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في الطلاق حديث رقم 1184 وأبو داود في الطلاق حديث رقم 6194 وابن ماجة في الطلاق حديث رقم 2039.(2/185)
المعاوضة ولم يوجد وكذلك في قوله أنت طالق وأنت مريضة وقال أبو حنيفة رحمه الله الواو في الحقيقة للعطف فلا تترك إلا بدليل ولا تصلح المعاوضة دلالة لأن ذلك في الطلاق أمر زائد ألا ترى أن الطلاق إذا دخله العوض كان يمينا من جانب الزوج فلم يستقم ترك الأصل بدلالة هي من باب الزوائد بخلاف
ـــــــ
الغالب وإيجاب المال فيه نادر فثبت أن العوض فيه أمر زايد فلا يصلح مغيرا لحقيقة العطف والطلاق لأن العارض لا يعارض الأصلي بخلاف الإجارة لأن معنى المعاوضة فيها أمر أصلي فجاز أن يعارض أمرا أصليا آخر
قوله "لأن الحال فعل أو اسم فاعل" نحو قولك جاءني زيد يتكلم أو متكلما وذلك لأن الأصل في الحال المطلقة أن تكون صفة غير ثابتة والفعل واسم الفاعل أدل على هذا المعنى من غيره لدلالة الفعل على التجدد والزوال ودلالة اسم الفاعل على اتصاف الشخص بالفعل كيف وقد أخذ حكم الفعل في كثير من المواضع. وقوله: ولك ألف. جملة اسمية أو ظرفية وليس بفعل ولا باسم فاعل فلا يكون صفة الحال بخلاف قوله وأنت حر فإن الحر اسم مشتق من الحرار يقال حر العبد يحر حرارا من باب علم فيصلح صفة الحال وحاصله أن الدلالة على الحال في قوله ولك ألف معدومة مع أن الصيغة لا تصلح للحال فلا يكون الواو للحال وفي قوله وأنت حر قد وجد المعنيان فجعلت للحال هذا تقرير كلام الشيخ وهو مشكل لأن المذكور في عامة كتب النحو أن الجمل الأربع وهي الاسمية والفعلية والشرطية والظرفية قد تقع حالا ثم الجملة إن كانت اسمية أو شرطية فالواو لازمة نحو جاءني زيد وأبوه منطلق ولقيته وإن تكرمه يكرمك وإن كانت فعلية والفعل مضارع مثبت فالترك لازم نحو جاءني زيد يسرع أو يتكلم أو يعدو فرسه.
وإن كان الفعل ماضيا أو مضارعا منفيا جاز الأمران وإن كانت ظرفية وليس بعد الظرف مظهر فالترك لازم نحو لقيته أمامك وأكرمته في الدار وإن كان بعده مظهر فالأمران جائزان نحو لقيته عليه جبة وشيء ولقيته وعليه جبة وشيء. وقوله ولك ألف. من هذا القبيل فيصلح أن يكون حالا وكيف ولا يصلح أن يكون الواو للعطف ههنا لأن الجملة الأولى طلبية مع كونها فعلية والثانية خبرية مع كونها اسمية وقد عرفت أن التناسب شرط بين المعطوف والمعطوف عليه ولما لم يستقم أن تكون الواو للعطف تجعل للحال تصحيحا لكلامه واحترازا عن الإلغاء. وكذا قوله وأنت حر صيغته للحال مشكل أيضا لأن قوله حر بنفسه لم يقع حالا وإنما وقع خبرا للمبتدأ ولو جعل حالا كان منصوبا مرفوعا معا وهو باطل بل الجملة بمجموعها وقعت في حيز الحال وهي ليست بفعل ولا باسم(2/186)
الإجارة لأنها شرعت معاوضة أصلية كسائر البيوع وقولها ولك ألف ليست بصيغة الحال أيضا لأن الحال فعل أو اسم فاعل وأما قوله أد ألفا وأنت حر وصيغته للحال وصدر الكلام غير مفيد إلا شرطا للتحرير فحمل عليه قوله أنت
ـــــــ
فاعل وإذا جاز وقوعها حالا مع أنها جملة اسمية من كل وجه كان وقوع قوله ولك حالا أقرب إلى الجواز لاحتمال كونها فعلية كما هو مذهب البعض. ويجوز أن يكون مراد الشيخ من قوله الحال فعل أو اسم فاعل أنها كذلك نظرا إلى الأصل أي الأصل فيها أن تكون فعلا أو اسم فاعل ووقوع غيرهما حالا على خلاف الأصل وإليه يشير قوله ليس بصيغة للحال أي صيغة الحال في الأصل فعل أو اسم فاعل وإن وقع غيرهما حالا أيضا وذكر في بعض الشروح أن ما يجيء من الحال التي ليست هي بفعل ولا باسم فاعل من الجملة الاسمية والظرفية كقولهم: فوه إلى في ولقيته وعليه جبة وشيء مقدر باسم الفاعل وهو مشافها ومستقرة عليه جبة وشيء فعلم أن قوله في الكتاب الحال فعل أو اسم فاعل صحيح ولكن للخصم أن يقول فلتكن هذه الجملة وهي قولها ولك ألف. حالا بمثل هذه التأويل أيضا أي طلقني مستقرا لك علي ألف درهم أو واجبا علي ذلك. وقيل معناه أن هذا التركيب لا يصلح للحال لأن الحال إذا كانت مفردة لا يقتضي الواو ألبتة. وكذا إذا كانت فعلا مضارعا مثبتا لأن فحواه فحوى المفرد إذ لا فرق بين قولك جاءني زيد مسرعا وجاءني زيد يسرع في إفادة معنى الإسراع ثم الظرف لافتقاره إلى العامل إما مقدر بالفعل كما هو مذهب البعض أو باسم الفاعل كما هو مذهب آخرين فإذا وقعت الجملة الظرفية في حيز الحال كانت مقدرة بالفعل أو باسم الفاعل فكان تقدير قوله لقيته عليه جبة وشيء لقيته تستقر عليه جبة وشيء أو مستقرة عليه جبة وشيء وعلى كلا التقديرين لا يستقيم الواو لأن الواقع حالا في التحقيق هو الفعل المقدر أو اسم الفاعل المقدر وكلاهما لا يقتضي الواو فكان هذا الترتيب مع الواو غير صالح للحال كما لو صرح بالمضمر فقيل لقيته يستقر عليه جبة وشيء أو مستقرة عليه بخلاف قوله وأنت حر فإنه جملة اسمية وقعت بمجموعها في حيز الحال ولا يصلح الجملة الاسمية لها إلا مع الواو فكانت هذه الصيغة صالحة للحال. وتبين بما ذكرنا أن اللام في قوله الحال فعل أو اسم فاعل للعهد أي الحال المستترة في هذا الظرف وهو قوله أو لك فعل أي يستقر أو اسم فاعل أي مستقر قلت هذا كلام حسن لو لم يكن مخالفا لروايات كتب النحو أجمع فإن المذكور فيها أن الجملة الواقعة حالا إذا كانت ظرفية وبعد الظرف اسم مظهر جاز فيها إثبات الواو وتركها أما تركها فلما ذكر هذا القائل, وأما إثباتها فلأنها أخذت شبها بالجملة الاسمية من حيث إن الظرف خبر وما بعده من المظهر مخبر عنه فجاز فيه الأمران(2/187)
طالق مفيد بنفسه. وقوله أنت مريضة جملة تامة لا دلالة فيها على الحال لكنه يحتمل ذلك فصحت نيته وأما قوله أد ألفا لا يصلح ضريبة فصلح دلالة على الحال وقوله واعمل به في باب المضاربة لا يصلح حالا للأخذ فبقي قوله خذ هذا المال مضاربة مطلقا وقوله انزل وأنت آمن فيه دلالة الحال لأن الأمان إنما يراد إعلاء الدين وليعاين الحربي معالم الدين ومحاسنه فكان الظاهر فيه الحال ليصير معلقا بالنزول إلينا والكلام يحتمل الحال
ـــــــ
قوله "وصدر الكلام" يعني قوله أد إلي ألفا غير مفيد شيئا إلا شرطا للجزية لأنه لا يصلح للإيجاب ابتداء إذ المولى لا يستوجب على عبده دينا ولا يصلح للضريبة أيضا لأنها لا يكون من غير عقد واصطلاح ولأنها لا يزيد في شهر على عشرين درهما أو ثلاثين أو نحوها والضريبة وظيفة يأخذها المالك فحمل عليه أي حمل صدر الكلام على كونه شرطا للتحرير بأن جعلت الواو للحال ليصير تعليقا للعتق بأداء المال بخلاف ما نحن فيه لأن أول الكلام إن صدر من الزوج بأن قال أنت طالق وعليك ألف درهم كان إيقاعا مفيدا منه بدون آخره فلا حاجة إلى الحمل على الحال وإن صدر منها فهو التماس صحيح منها فلهذا لا يحمل على الحال بل يكون معناه ولك ألف في تينك أو يكون وعدا منها إياه بالمال والمواعيد لا يتعلق بها اللزوم. ولأن أدنى ما في الباب أن يكون حرف الواو محتملا لجميع ما ذكرنا والمال بالشك لا يجب كذا في المبسوط فصلح أي قوله أد إلي ألفا دلالة على الحال أي على أن الواو للحال
قوله "لا دلالة فيها على الحال" لأن الأصل في التصرفات التنجيز والتعليق يثبت فيها بعارض الشرط وذلك لا يثبت بالاحتمال والشك ولأن الظاهر من حال المؤمن أنه لا يطلق حليلته في حال المرض لأنه حال شفقة ومرحمة ولما لم توجد دلالة على الحال حملت الواو على العطف الذي هو حقيقتها وقد صح الحمل عليه لاتفاق الجملتين ولكنها يحتمل الحال لأن المريض قد يصلح شرطا للطلاق والطلاق قد يتأخر إلى المرض ويتحقق فيه فإذا نوى التعليق يصدق ديانة لأنه محتمل كلامه. لا يصلح حالا للأخذ لأن العمل يوجد بعد الأخذ فلا يصلح حالا للأخذ الموجود قبله والكلام يحتمل الحال أيضا لأن قوله آمن نعت فاعل أو لأنه جملة اسمية مع الواو وأيضا نصب على المصدر من آض يئيض إذا رجع وينوب عن الحال تقول فعلت ذاك أيضا أي أيضا عائدا إليه ويقال قد أكثرت من أيض أي أكثرت التكلم بهذه الكلمة كذا ذكر الميداني1.
ـــــــ
1 هو أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم الميداني النيسابوري أبو الفضل المتوفي سنة 518ه. أنظر وفيات الأعيان 1/148.(2/188)
"الفاء"
وأما الفاء فإنه للوصل والتعقيب حتى أن المعطوف بالفاء يتراخى عن المعطوف عليه بزمان وإن لطف. هذا موجبه الذي وضع له ألا ترى أن العرب تستعمل الفاء في الجزاء لأنه مرتب لا محالة وتستعمل في أحكام العلل كما
ـــــــ
"الفاء"
قوله "الفاء للوصل والتعقيب" يعني موجبه وجود الثاني بعد الأول بغير مهلة حتى لو قلت ضربت زيدا فعمرا كان المعنى أن ضرب عمرو وقع عقيب ضرب زيد ولم يتطاول المدة بينهما ومعنى قوله تراخى عن المعطوف بزمان وإن لطف هو أن من ضرورة التعقيب تراخي الثاني عن الأول بزمان وإن قل ذلك الزمان بحيث لا يدرك إذ لو لم يكن كذلك كان مقارنا والقران ليس بموجب له قال الإمام عبد القاهر أصل الفاء الاتباع والعطف فرع على ذلك ألا ترى أنه لا يعرى عن الاتباع بوجه لأنك إذا قلت ضربت زيدا فعمرا فقد أتبعت عمرا زيدا مع عطفك على ما قبله لفظا وقد يكون للاتباع متجردا عن العطف كما في جواب الشرط بالفاء نحو إن تأتني فأنا أكرمك فعرفت أن أعرف المعنيين هو الاتباع وذكر في شرح الموجز أن الفاء في الترتيب على ثلاثة أوجه أحدها أن يكون الثاني من موجب الأول فيكون بعده بلا فصل كقوله ضربته فبكى لأنه من موجب الضرب والثاني أن لا يكون من موجب الأول فيكون بعد الأول ولكن يجوز أن يكون بينهما مهلة يسيرة كقولك جاء زيد فعمرو إذ يجوز أن يكون بين مجيء زيد وعمرو مهلة يسيرة. والثالث أن لا يكون من موجب الأول ويكون بينهما مسافة كقولك دخلت البصرة فالكوفة فإن الثاني بعده وبينهما قدر المسافة إذ لا يمكن أن يقع الثاني عقيب الأول
قوله "ألا ترى" توضيح لما ذكر أن الفاء للوصل والتعقيب يعني لما كان الفاء للترتيب مع الوصل استعملته العرب في الآخر به لأن من حق الجزاء أن يتعقب نزوله وجود الشرط بلا فصل لأن الحكم مرتب على العلة أي بلا فصل رتبة أو زمانا على حسب ما اختلفوا(2/189)
يقال جاء الشتاء فتأهب لأن الحكم مرتب على العلة ويقال أخذت كل ثوب بعشرة فصاعدا أي كان كذلك فازداد الثمن صاعدا مرتفعا ولما قلنا إن وجوه العطف منقسمة على صلاته فلا بد من أن يكون الفاء مختصا بمعنى هو موضوع له حقيقة وذلك هو التعقيب ولذلك قال أصحابنا فيمن قال لآخر بعت منك هذا العبد بكذا فقال الآخر فهو حر إنه قبول للبيع ولو قال هو حر أو
ـــــــ
قوله "أخذت كل ثوب بعشرة فصاعدا" معنى هذا أنك اشتريت عدل ثياب ووقع سعر أول ثوب بعشرة ثم غلا السعر فزاد على العشرة فتقول أخذت كل ثوب بعشرة فصاعدا فقوله فصاعدا انتصب على الحال بعامل مضمر والتقدير كان الأخذ بعشرة فازداد الثمن عقيب الأخذ صاعدا من غير تراخ أو ذهب الثمن صاعدا وليس انتصاب صاعدا على العطف لأنه لم يتقدم إلا ذكر الفاعل والمفعول والعشرة ولا يستقيم عطفه على الفاعل لفظا أو معنى وهو ظاهر. وكذا على المفعول معنى إذ ليس الغرض أنك أخذت المثمن والصاعد لأن الصاعد هو الثمن وكذا على العشرة لفظا وهو ظاهر وكذا معنى لأنك لم ترد أنك أخذت المثمن بعشرة فتصاعدا وإنما أردت أنك أخذت بعضه بعشرة وبعضه بأكثر فوجب حمله على أن يكون التقدير فازداد الثمن صاعدا أي ذهب على هذه الحالة في البعض.
قوله "وجوه العطف منقسمة على صلاته" أراد بالصلاة الحروف يعني قد ذكرنا أن أنواع العطف انقسمت على حروف العطف وأن كل حرف مختص بمعنى في أصل الوضع فالواو لمطلق العطف وثم للترتيب مع التراخي فلا بد من أن يكون الفاء لمعنى اختص به في أصل الوضع وذلك هو التعقيب بصفة الوصل إذ لم يوضع له لفظ آخر والاشتراك خلاف الأصل لما مر غير مرة
قوله "ولذلك" أي ولأن الفاء للتعقيب قال أصحابنا فيمن قال لغيره بعت هذا العبد منك بكذا وقال المشتري فهو حر إنه يعتق ويجعل الرجل قابلا للبيع ثم معتقا لأنه ذكر الحرية بحرف الفاء عقيب الإيجاب والفاء للترتيب ولا يترتب العتق على الإيجاب إلا بعد ثبوت القبول فيثبت ذلك بطريق الاقتضاء وصار كأنه قال قبلت فهو حر بخلاف قوله هو حر أو وهو حر لعدم ما يوجب التعقيب فبقي محتملا لرد الإيجاب بأن جعله إخبارا عن الحرية الباقية قبل الإيجاب ولقبول البيع بأن جعل إنشاء للحرية في الحال فلا يثبت القبول بالشك.
قوله "فإذا هو لا يكفيه أنه يضمن" وذلك لأن الفاء للوصل والتعقيب فبذكره تبين أنه شارط للكفاية في الإذن لأنه أمره بقطع مرتب على الكفاية فصار كأنه قال إن كفاني(2/190)
وهو حر لم يجز البيع وقال مشايخنا فيمن قال لخياط انظر إلى هذا الثوب أيكفيني قميصا فنظر فقال نعم فقال فاقطعه فقطعه فإذا هو لا يكفيه إنه يضمن كما لو قال فإن كفاني قميصا فاقطعه فإذا هو لا يكفيه أنه يضمن ولذلك قالوا فيمن قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق فطالق فدخلت الدار وهي غير مدخول بها أنه يقع على الترتيب فتبين بالأولى ولذلك اختص الفاء
ـــــــ
قميصا فاقطعه والمعلق بالشرط معدوم قبل وجود الشرط فإذا لم يكفه قميصا كان القطع حاصلا بغير إذن فكان موجبا للضمان بخلاف ما لو قال اقطعه فقطعه فإذا هو لا يكفيه لا يضمن لأن قوله اقطعه إذن مطلق فلا يكون القطع بعده موجبا للضمان لأن الغرور بمجرد الخبر إذا لم يكن في ضمن عقد ضمان لا يوجب الضمان على الغار كما لو قال هذه الطريق آمن فسلك فيه فأخذ اللصوص متاعه لا يضمن كذا في "المبسوط"
قوله "فتبين بالأول" قال بعض مشايخنا هذا قول أبي حنيفة فأما عندهما فينبغي أن تطلق ثنتين وذلك لأن العمل بموجب الفاء ههنا غير ممكن لأن الأجزية لا يترتب بعضها على بعض بعد وجود الشرط فيجعل الفاء بمعنى الواو مجازا وحكمه على الخلاف كما عرفت والصحيح أنها تطلق واحدة عندهم جميعا لأن الفاء للتعقيب فيثبت به ترتيب بين الأولى والثانية في الوقوع كما لو قال بكلمة بعد فلا يمكن القول بإيقاع الثانية لأنها تبين بالأولى ومع إمكان اعتبار الحقيقة لا معنى للمصير إلى المجاز كذا قال شمس الأئمة رحمه الله.
قوله "ولذلك" أي ولمعنى التعقيب اختص الفاء بكذا إنما أعاد هذا الكلام ليبني عليه ذكر الحديث الذي أورده وبظاهره تمسك أصحاب الظواهر منهم داود الأصبهاني فقالوا إن الرجل إذا ملك أباه أو ابنه يلزمه أن يعتقه ولكن لا يعتق عليه قبل إعتاقه لأن قوله فيعتقه تنصيص على أنه يستحق عليه إعتاقه ولو عتق بنفس الشراء لم يكن لقوله فيعتقه معنى ولأن القرابة لا تمنع ثبوت الملك ابتداء فلا تمنع البقاء بالطريق الأولى ألا ترى أنها لما منعت بقاء ملك النكاح منعت ثبوته ابتداء وقال عامة العلماء يعتق عليه من غير إعتاق لما عرف والمراد من قوله فيشتريه فيعتقه الإعتاق بذلك الشراء لا بسبب آخر كما يقال أطعمه فأشبعه وسقاه فرواه وعلمه فهداه وضرب فأوجع وكتب فقرمط وإنما أثبتنا به الملك ابتداء لأن انتفاء العبودية وثبوت العتق لا يتحقق إلا به فإذا لم يملكه لا يعتق بخلاف ملك النكاح لأنه لا فائدة في إثبات ملك النكاح له على ابنته ثم إزالته لأنها تعود إلى ما كانت عليه(2/191)
بعطف الحكم على العلل كما يقال أطعمته فأشبعته أي بهذا الإطعام وقال النبي عليه السلام: "لن يجزي ولد والده يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه1" فدل ذلك على أن كونه معتقا حكم للشرى بواسطة الملك ولهذا
ـــــــ
قوله "وأطعمته فأشبعته" أي بهذا الإطعام إذ لو كان الإشباع بغير هذا الإطعام لم يكن الإشباع متصلا بهذا الإطعام وليس ذلك بموجب الفاء وكذلك في قوله عليه السلام فيشتريه فيعتقه مقتضاه أن يكون الإعتاق متصلا بالشراء من غير تخلل زمان بينهما وذلك فيما قلنا فلو شرط إعتاق ابتدائي لا يكون ذلك عملا بالفاء لأنه وإن أعتقه متصلا بالشراء فذلك لا يكون إعتاقا حتى يتم كلامه فيتخلل بينهما زمان وذلك ليس بمقتضى الفاء كذا قيل وفيه تكلف. قوله "فدل ذلك" أي قوله فيشتريه فيعتقه على أن كونه معتقا حكم للشراء كالإشباع في قوله أطعمه فأشبعه وقوله بواسطة الملك احتراز عما يقال لا يصح أن يكون الإعتاق حكما للشراء لأن الشراء موضوع لإثبات الملك والإعتاق إزالة له فكان منافيا له والمنافي لحكم الشيء لا يصلح أن يكون حكما لذلك الشيء فقال إنه بنفسه لا يصلح حكما له ولكنه يصلح بواسطة الملك وذلك لأنه بالشراء يصير متملكا والملك في القريب إكمال لعلة العتق فيصير العتق مضافا إلى الشراء بواسطة الملك وإذا صار مضافا إليه يصير به معتقا لأن السبب الموجب للحكم بواسطة كالموجب بغير واسطة في كون الحكم مضافا إليه وإذا كان كذلك لا يحتاج إلى إعتاق آخر كما قاله أصحاب الظواهر وإذا اشتراه ناويا عن الكفارة يخرج به عن العهدة أيضا خلافا لما قاله زفر والشافعي رحمهما الله. وإنما حصر النبي صلى الله عليه وسلم مجازاة الولد الوالد على هذه الصورة لأن الوجود أعظم النعم وأعلاها وقد حصل للولد بواسطة الأب فلا يمكن للولد مجازاته لأن جميع ما يتصور من الولد من الإحسان إلى الأب لا يماثل بنعمة الوجود لأن جميع ذلك راجع إلى الأحوال وما صدر من الأب راجع إلى الذات لا إذا وجده مملوكا وأعتقه بالشراء " فح " يجوز أن يكون هذا منه نوع مجازاة لأن الرق أثر الكفر الذي هو موت حكما قال الله تعالى {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} "الأنعام: 122"أي كافرا فهديناه فإذا أزال عنه هذا الوصف بالشراء صار كأنه أحياه بعدما فني فيجوز أن يصير مقابلا بإحسانه ومجازاة لإنعامه وهذا على وجه التحريض والترغيب لا على طريق التحقيق فإن أحدا لا يقدر على مجازاة الأبوين ومكافأتهما بحال إذا أنصف من نفسه وتأمل في إحسانهما إليه وإشفاقهما
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في العتق حديث رقم 1510.وأبو داود في الأدب حديث رقم 5137.والترمذي في البر والصلة حديث رقم 1906.وابن ماجة في الأدب حديث رقم 3659.(2/192)
قلنا فيمن قال إن دخلت هذه الدار, فهذه الدار, فعبدي حر إن الشرط أن يدخل الأخيرة بعد الأولى من غير تراخ.وقد تدخل الفاء على العلل أيضا إذا كان ذلك مما يدوم فتصير بمعنى التراخي كما يقال أبشر فقد أتاك الغوث وقد نجوت ونظيره ما قال علماؤنا في المأذون فيمن قال لعبده أد إلي ألفا فأنت حر أنه يعتق للحال
ـــــــ
عليه اللهم اغفر لنا ما ضيعنا من حقوقهم واغفر لهم ما ضيعوا من حقك يا أكرم الأكرمين من غير تراخ أي من غير أن يشتغل بينهما بعمل آخر أو يؤخر الدخول في الثانية من غير اشتغال بعمل.
قوله "وقد تدخل الفاء على العلل" الأصل أن تدخل الفاء على الأحكام لأنها مترتبة على العلل ولا تدخل على العلل لاستحالة تأخر العلة عن المعلول إلا أنها قد تدخل على العلل على خلاف الأصل بشرط أن يكون لها دوام لأنها إذا كانت دائمة كانت في حالة الدوام متراخية عن ابتداء الحكم فيصح دخول الفاء عليها بهذا الاعتبار كما يقال لمن هو في قيد ظالم أو حبس ذي سلطان أو ضيق أو مشقة إذا ظهر آثار الفرج والخلاص له أبشر فقد أتاك الغوث وقد نجوت باعتبار أن الغوث الذي هو علة الإبشار باق بعد ابتداء الإبشار ويسمى هذه الفاء فاء التعليل لأنها بمعنى لام التعليل والإبشار لازم ومتعد يقال بشرته بمولود فأبشر أي صار فرحا مسرورا به وههنا بمعنى اللازم والمراد من الغوث المغيث
قوله "أنه يعتق للحال" لما ذكرنا أن الفاء في مثل هذا الموضع للتعليل فيصير معناه أد إلي ألفا لأنك حر فلذلك يتنجز به العتق.
وقوله ولم يجعل بمعنى التعليق كأنه أضمر الشرط جواب سؤال وهو أن يقال هلا جعلت قوله أد إلي ألفا علة وقولك فأنت حر ثابتا به كما هو حقيقة الفاء والأداء صالح لإضافة الحرية إليه فيصير كأنه قال إن أديت إلي ألفا فأنت حر كما في صورة الواو فقال لأنا إن جعلناه كذلك احتجنا إلى إضمار الشرط والإضمار خلاف الأصل فإذا صح الكلام بدونه لا يصار إليه من غير ضرورة ولا يقال دخول الفاء على العلة أيضا خلاف الأصل لأن موجبه الترتيب والعلة سابقة على الحكم كما بينا لأنا نقول فيما ذهبنا إليه عمل بحقيقة الفاء من وجه لأن العلة لما كانت مستدامة يحصل الترتيب فكان أولى من الإضمار ثم رجع الشيخ إلى أصل الكلام فقال ولهذا قلنا أي ولأن الفاء للعطف بالصفة التي ذكرت. قلنا إذا قال لفلان علي درهم فدرهم إنه يلزمه درهمان لأن الفاء للعطف ومن شرطه المغايرة فوجب أن يكون الثاني غير الأول عملا بحقيقة العطف لكن الترتيب من لوازم الفاء ولا يمكن رعايته ههنا لأن الترتيب الذي نحن بصدده هو التقدم والتأخر بين الشيئين زمانا وإنما يتحقق هذا فيما يتعلق بالزمان وهو الفعل دون العين ولهذا لا(2/193)
وتقديره أد إلي ألفا فإنك قد عتقت لأن العتق دائم فأشبه المتراخي وقالوا في السير الكبير انزل فأنت آمن إنه آمن نزل أو لم ينزل لما قلنا فلم يجعل بمعنى التعليق كأنه أضمر الشرط لأن الكلام صح بدون الإضمار وإنما الإضمار ضروري في الأصل ولهذا قلنا فيمن قال لفلان علي درهم فدرهم إنه يلزمه درهمان لأن المعطوف غير الأول ويصرف الترتيب إلى الوجوب دون الواجب أو يجعل
ـــــــ
يقال هذا أول وهذا آخر وإنما يقال هذا ثبت أولا أو جلس أو قام أو نحوه والدراهم في الذمة في حكم العين فلا يتصور فيها الترتيب فيصرف الترتيب إلى الوجوب أي وجب درهم وبعده آخر كما إذا قال درهم ثم درهم يلزمه درهمان بالإجماع ويصرف التراخي والترتيب إلى الوجوب أو يجعل الفاء عبارة عن الواو مجازا لمشاركتهما في نفس العطف كأنه قال درهم ودرهم وقال الشافعي رحمه الله لزمه درهم لأن موجب حرف الفاء لا يتحقق في الدراهم كما ذكرنا ولا يمكن صرفه إلى الوجوب أيضا لأن وجوب الثاني بعد الأول متصلا به لا يتصور إذ لا بد له من مباشرة سبب آخر بعد وجوب الأول فينفصل لا محالة فيحمل على أنه جملة مبتدأة محذوفة المبتدأ ذكرت لتحقيق مضمون الجملة الأولى وتأكيدها كأنه قال فهو درهم كقوله تعالى. {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ} "إبراهيم: 4" أي من قبلك {إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} "إبراهيم: 4" أي بلغتهم {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} "إبراهيم: 4" أي الدين الحق والصراط المستقيم {فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ} "إبارهيم: 4" أي يصير ذلك البيان سبب ضلال من شاء الله إضلاله والمذكور في التفاسير فيضل الله من يشاء بعد التبيين بإشارة الباطل {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} "إبراهيم 4" لاتباع الحق وكقول الشاعر وهو رؤبة في رواية صاحب الصحاح:
يريد أن يعربه فيعجمه أي إعرابه إعجامه ومعنى البيت أنه لا يقدر على إنشاء الشعر والتكلم به من وضعه في غير موضعه بأن مدح من لا يستحق المدح أو ذم من لا يستحق الذم لأن حسن الكلام وفصاحته بحسن موقعه فإذا فقد ذلك فسد فهذا معنى قوله يريد أن يعربه أي يفصحه ولا يلحن في إعرابه فيعجمه أي يأتي به عجميا يعني يلحن فيه قال الفراء رفعه على المخالفة يريد أن يعربه ولا يريد أن يعجمه وقال الأخفش لوقوعه موقع المرفوع لأنه أراد أن يقول يريد أن يعربه فيقع موقع الإعجام, فلما وضع قوله فيعجم موضع قوله فيقع رفعه. كذا في الصحاح وذكر صاحب الكشاف في رسالته الزاخرة راويا عن الحطيئة أنه كان يقول: قول جيد الشعر أشد من قضم الحجارة. وقال:
الشعر صعب وطويل سلمه ... إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه
زلت به إلى الحضيض قدمه ... يريد أن يعربه فيعجمه(2/194)
مستعارا بمعنى الواو وقال الشافعي لزمه درهم لأن معنى الترتيب لغو فحمل على جملة مبتدأة لتحقيق الأول فهو درهم كما قال الشاعر:
والشعر لا يسطيعه من يظلمه ... يريد أن يعربه فيعجمه
وقوله {ليُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ} "إبراهيم: 4" إلا أن هذا لا يصح إلا بإضمار فيه ترك الحقيقة والحقيقة أحق ما أمكن.
ـــــــ
قوله "إلا أن هذا" أي جعله جملة مبتدأة كما قال الشافعي لا يصح إلا بإضمار فيه ترك الحقيقة وهي العطف وإلغاء الفاء من كل وجه لأنه يساوي قوله
علي درهم درهم والحقيقة أحق بالاعتبار من الإلغاء ما أمكن وفيما ذهبنا إليه إن كان ترك الحقيقة من وجه ففيه اعتبارها من وجه لأنه إن فات العمل بصفة الوصل من الوجه الذي قاله فقد حصل العمل بمعنى العطف الذي هو أصل في هذا الحرف وبصفة التعقيب في الوجوب فكان أحق مما قاله الشافعي.(2/195)
"ثم"
وأما ثم فللعطف على سبيل التراخي وهو موضوعة ليختص بمعنى ينفرد به واختلف أصحابنا في أثر التراخي فقال أبو حنيفة رضي الله عنه هو بمعنى الانقطاع كأنه مستأنف حكما قولا بكمال التراخي وقال أبو يوسف ومحمد رحمة الله عليهما التراخي راجع إلى الوجود فأما في حكم التكلم فمتصل بيانه
ـــــــ
"ثم"
قوله "على سبيل التراخي" وهو أن يكون بين المعطوف والمعطوف عليه مهلة في الفعل المتعلق بهما فإذا قلت جاءني زيد ثم عمرو أو قلت ضربت زيدا ثم عمرا كان المعنى أنه وقع بينهما مهلة ولهذا جاز أن تقول ضربت زيدا ثم عمرا بعده بشهر ولا يصح ذلك بالفاء واختلف أصحابنا في أثر التراخي أي في ظهور أثره فقال أبو حنيفة رحمه الله يظهر أثره في الحكم والتكلم جميعا حتى كان بمنزلة ما لو سكت ثم استأنف قولا بكمال التراخي يعني هذه الكلمة وضعت لمطلق التراخي فيدل على كماله إذ المطلق ينصرف إلى الكامل وذلك بأن يثبت التراخي في التكلم والحكم جميعا إذ لو كان التراخي في الوجود دون التكلم كان ثابتا من وجه دون وجه ألا ترى أن هذه الكلمة دخلت على اللفظ فيجب إظهار أثر التراخي في نفس اللفظ أيضا تقديرا كما يظهر أثره في الحكم وإذا ظهر أثره في اللفظ صار كما لو فصل بالسكوت "وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله:التراخي راجع إلى الوجود أي يوجد ما دل اللفظ عليه متراخيا كما في كلمة بعد لا في التكلم لأنه متصل حقيقة وكيف يجعل التكلم منفصلا والعطف لا يصح مع الانفصال فيبقى الاتصال حكما مراعاة لحق العطف بيانه فيمن قال إلى آخره هذه المسألة على وجوه أربعة أما إن علق الطلاق بكلمة ثم في المدخول بها أو في غير المدخول بها وأما إن قدم الشرط أو أخره فإذا أخر الشرط في غير المدخول بها فقال أنت طالق ثم طالق ثم طالق إن دخلت الدار فعند أبي حنيفة رحمه الله يقع الأول في الحال ويلغو ما بعده لأنه لما صار كأنه سكت ثم استأنف لا يتوقف أول الكلام على آخره إن وجد المغير في آخره لفوات شرط التوقف وهو الاتصال فيقع الأول في الحال وتبين لا إلى عدة فيلغو ما بعده ضرورة كما إذا وجد حقيقة السكوت. وإذا قدم الشرط فقال إن دخلت الدار فأنت طالق ثم طالق ثم طالق تعلق الأول(2/196)
فيمن قال لامرأته قبل الدخول أنت طالق ثم طالق ثم طالق إن دخلت الدار قال أبو حنيفة رحمه الله الأول يقع ويلغو ما بعده كأنه سكت على الأول ولو قدم الشرط تعلق الأول ووقع الثاني ولغا الثالث كما إذا قال إن دخلت الدار فأنت طالق طالق طالق وقال أبو يوسف ومحمد يتعلقن جميعا وينزلن على الترتيب سواء قدم الشرط أو أخر ولو كانت مدخولا بها نزل الأول والثاني وتعلق الثالث إذا أخر الشرط وإذا قدمه تعلق الأول ونزل الباقي عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما يتعلق الكل ذكره في النوادر وقد يستعار ثم بمعنى واو العطف
ـــــــ
بالشرط ووقع الثاني لبقاء المحل إذ المعلق لا يترك في المحل ولغا الثالث لأنها بانت لا إلى عدة ولا يقال ينبغي أن يلغو الثاني أيضا لأن الكلام الثاني لما انقطع عن الأول حتى ظهر أثر الانقطاع في عدم التعلق بالشرط لا يثبت له شركة فيما تم به الأول ولا يصير ذلك كالمعاد فيه أيضا لأن ذلك إنما يثبت بشرط الاتصال وهو معدوم فيبقى قوله ثم طالق بلا مبتدأ ولو استأنف به حقيقة لا يقع شيء فكذا إذا صار مستأنفا حكما لأنا نقول صحة العطف مبنية على الاتصال صورة وذلك موجود ههنا فأما التعلق بالشرط فمبني على اتصال الكلام صورة ومعنى ولهذا اختص بحرف الفاء الذي يوجب الوصل حتى لو قال إن دخلت الدار وأنت طالق لا يثبت التعليق بالشرط يوضحه أنه لو قال إن دخلت الدار فأنت طالق طالق طالق لا يتعلق الثاني والثالث بالشرط لعدم ما يوجب التعليق وهو حرف الفاء ولكن يثبت الشركة فيما تم به الجملة الأولى للاتصال صورة ويمكن ذلك بدون العاطف بأن يجعل خبرا بعد خبر وإذا أخر الشرط في المدخول بها أو قدمه تعلق بالشرط ما يليه ووقع الثاني في الحال وهو ظاهر. وعندهما يتعلق الكل بالشرط في الوجوه الأربعة وينزلن على الترتيب عند وجود الشرط لأن كلمة ثم للعطف بصفة التراخي فلوجود معنى العطف يتعلق الكل بالشرط ولمعنى التراخي يقع مرتبا فإذا كانت مدخولا بها تطلق ثلاثا وإن كانت غير مدخول بها تطلق واحدة ويلغو الثاني لفوات المحل بالبينونة
قوله "كما إذا قال إن دخلت الدار فأنت طالق طالق طالق" يعني لغير المدخول بها تعلق الأول بالشرط ووقع الثاني ولغا الثالث ولو أخر الشرط طلقت واحدة في الحال ولغا ما سواها ولو قدم الشرط أو أخره وكانت المرأة مدخولا بها طلقت ثنتين للحال وتعلق بالشرط ما يليه وهذه الوجوه الأربعة مذكورة في المبسوط من غير ذكر خلاف فتصلح مقيسا عليها لأبي حنيفة رحمه الله في المسائل المذكورة
قوله "وقد يستعار ثم بمعنى الواو" وإذا تعذر العمل بحقيقة ثم يجوز أن يجعل(2/197)
مجازا للمجاورة التي بينهما قال الله تعالى {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} "البلد: 17" {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} "بونس: 46" ولهذا قلنا في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت بالذي هو خير ثم ليكفر يمينه" إنه يحمل على حقيقته لأن العمل به
ـــــــ
مستعارا له للواو احترازا عن الإلغاء للمجاورة أي للاتصال الذي بينهما في معنى العطف فالواو لمطلق العطف وثم لعطف مقيد والمطلق داخل في المقيد فيثبت بينهما اتصال معنوي فيجوز أن يستعمل بمعنى الواو قال الله تعالى {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} أي وكان لتعذر العمل بحقيقة ثم إذ الإيمان هو الأصل المقدم الذي يبتنى عليه سائر الأعمال الصالحة وهو شرط صحتها فلا يكون فك الرقبة والإطعام معتبرين قبله كالصلاة قبل الطهارة فعرفنا أنه بمعنى الواو وذكر صاحب الكشاف في مثل هذا الموضع أن كلمة التراخي لبيان تباين المنزلتين كما أنها لبيان تباين الوقتين في جاءني زيد ثم عمرو. وقال في هذه الآية جاء بثم لتراخي الإيمان وتباعده في الرتبة والفضيلة عن العتق والصدقة لا في الوقت لأن الإيمان هو السابق المقدم على غيره وذكر في التيسير أنها لترتيب الإخبار لا لترتيب الوجود أي ثم أخبركم أن هذا لمن كان مؤمنا وقال الله تعالى {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} قد تعذر العمل بحقيقة ثم لأنه تعالى شهيد على ما يفعلون قبل رجوعهم إليه كما هو شهيد بعد ذلك فكان بمعنى الواو كما في قول الشاعر:
إن من ساد ثم ساد أبوه ... ثم قد ساد قبل ذلك جده
قال صاحب الكشاف المراد من الشهادة مقتضاها ونتيجتها وهو العقاب كأنه تعالى قال ثم الله يعاقب على ما يفعلون وقال ويجوز أن يراد أن الله مؤد شهادته على أفعالهم يوم القيامة حين ينطق جلودهم وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم شاهدة عليهم
قوله "ولهذا قلنا" أي ولوجوب العمل بالحقيقة عند الإمكان ووجوب المصير إلى المجاز عند التعذر قلنا كذا. ولجواز استعارة ثم للواو قلنا كذا إذا عجل الكفارة بالمال قبل الحنث لا يجوز عندنا وقال الشافعي رحمه الله يجوز لقوله عليه السلام: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر يمينه ثم ليأت الذي هو خير1" شرع الكفارة قبل الحنث وما روي في رواية أخرى: "فليأت الذي هو خير ثم ليكفر يمينه" محمول على الوجوب وهذا على الجواز ولنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من حلف على يمين فرأى
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الأيمان حديث رقم 1650والترمذي في الأيمان حديث رقم 15.(2/198)
ممكن لأنا نعمل بحقيقة موجب الأمر فيجعل الكفارة واجبة بعد الحنث وروي: "فليكفر يمينه ثم ليأت بالذي هو خير" فحملنا هذا على واو العطف لأن العمل بحقيقته غير ممكن وهو موجب الأمر لأن التكفير قبل الحنث غير واجب فكان المجاز متعينا تحقيقا لما هو المقصود وإذا صح بأن يستعار ثم للواو فالفاء به أولى لأن جوازه بالفاء أقرب ولهذا قال مشايخنا فيمن قال لامرأته إن دخلت
ـــــــ
غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير ثم ليكفر يمينه" رتب والترتيب للوجوب في الشرع فحملنا ثم على حقيقته في هذه الرواية لإمكان العمل بها وذلك لأن الأمر بالتكفير وهو قوله ثم ليكفر يبقى على حقيقته إذ الكفارة واجبة بعد الحنث بالاتفاق وهذه الرواية هي المشهور ولا تعارضها الرواية الأخرى وهو قوله: "فليكفر يمينه ثم ليأت بالذي هو خير" لأنها غير مشهورة كذا في الأسرار ولو صحت كان ثم فيها محمولا على الواو لتعذر العمل بحقيقته إذ لو حمل على حقيقته لا يكون الأمر بالتكفير للوجوب حينئذ لأن التكفير قبل الحنث ليس بواجب بالإجماع وإنما الكلام في الجواز فإن قيل فيما ذكرتم ترك العمل بحقيقة ثم. وإن كان فيه عمل بحقيقة الأمر وفيما قلنا عكسه فبم ترجح ما ذكرتم قلنا يكون وجوب الكفارة هو المقصود من سوق الكلام إذ المقصود الأصلي من اليمين البر والكفارة خلف عنه فحمل ما هو راجع إلى المقصود على الحقيقة أولى من عكسه
وإليه أشار الشيخ بقوله تحقيقا لما هو المقصود وبأن فيما ذهبنا إليه ترك الحقيقة من وجه واحد وهو ترك العمل بحقيقة ثم وفيما ذهبوا إليه ترك الحقيقة من وجهين وهما حمل الأمر على الإباحة وترك العمل بالإطلاق لأن التكفير بالصوم قبل الحنث لا يجوز بالاتفاق والأمر بالتكفير ثبت مطلقا غير مقيد بالمال فكان ما قلناه أحق وفيما ذهبوا إليه ترك حقيقة الكلام من وجه آخر وهو أنه عليه السلام علق التكفير بأمرين بالحلف وبرؤية الحنث خيرا وجواز التعجيل لا يتعلق بالخيرية على أصلهم وإنما جعلناه عبارة عن الواو مجازا دون الفاء مع أن الفاء أقرب إليه لأن الفاء يوجب ترتيبا أيضا فلا يحصل الغرض إذ يبقى الأمر غير موجب كما كان ولا يقال لما صار بمعنى الواو يجب أن يجوز كيف ما كان عملا بمطلق العطف لأنا إنما حملناه على الواو ليبقى الأمر على حقيقته فلو قلنا بالجواز كيف ما كان لا يحصل هذا المقصود فجعلناه مقيدا بترتيب الكفارة على الحنث وإن صار بمعنى الواو ليبقى الأمر على حقيقته وليتوافق الروايتان. قوله عليه السلام: "من حلف على يمين" اليمين خلاف اليسار في الأصل وسمي القسم باليمين لأنهم كانوا يتماسحون بأيمانهم حالة التحالف وقد يسمى المحلوف عليه يمينا لتلبسه بها ومنه الحديث: "من حلف على يمين" وهي مؤنثة في جميع المعاني كذا في المغرب(2/199)
الدار فأنت طالق فطالق فطالق ولم يدخل بها إن هذا على الاختلاف مثل ما اختلفوا في الواو إلا أن الحقيقة أولى فلذلك اخترنا الاتفاق في هذا وإذا قدم الجزاء بحرف الفاء فعلى هذا أيضا..
ـــــــ
قوله "فالفاء به أولى" أي الواو أولى من ثم لأن جواز الفاء بالواو أقرب من جواز ثم بالواو لأن الواو للجمع ومعنى الجمع في التعقيب مع الوصل أقرب منه في التعقيب مع الفصل فكان أحق بجواز الاستعارة للواو من ثم ألا ترى أن من قال لفلان علي درهم فدرهم أنه يلزمه درهمان كما لو قال درهم ودرهم ولهذا أي ولقرب جوازه بالواو قال بعض مشايخنا منهم الطحاوي إن الفاء في قوله لغير المدخول بها إن دخلت الدار فأنت طالق فطالق فطالق بمعنى الواو لتعذر حمله على الحقيقة على ما بيناه فيقع عند وجود الشرط واحدة عند أبي حنيفة وعندهما ثلاث إلا أن الحقيقة أولى يعني لا نسلم تعذر العمل بالحقيقة وإذا لم تكن متعذرة كان العمل بالحقيقة أولى فكانت المسألة على الاتفاق لا على الاختلاف فلا يقع إلا واحدة عندهم جميعا لأن في كلامه تنصيصا على أن الثانية تعقب الأولى فتبين الأولى لا إلى عدة بخلاف الواو. وإذا قدم الجزاء بحرف الفاء فقال لها أنت طالق فطالق فطالق إن دخلت الدار فعلى هذا أيضا أي لا يقع إلا واحدة بالاتفاق كما إذا قدم الشرط لأن موجب الفاء لما كان هو الترتيب كان النزول على الترتيب عند وجود الشرط فلا يتفاوت الأمر بين تقديم الجزاء وتأخيره وعند أولئك البعض ينبغي أن تقع الثلاث بالاتفاق كما إذا قدم الجزاء بحرف الواو فقال أنت طالق وطالق وطالق إن دخلت الدار تطلق ثلاثا عند وجود الشرط بالاتفاق وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله إذا قال إن دخلت الدار أنت طالق فطالق فطالق بحرف الفاء لم يذكر محمد رحمه الله جوابه في الكتاب وذكر الفقيه أبو الليث1 في المختلفات أنه يقع عند الكل ثلاث تطليقات متى وجد الشرط سواء كانت مدخولا بها أو لم تكن وذكر الكرخي والطحاوي أن المسألة على الاختلاف وإن أخر الشرط فبالإجماع يقع ثلاث تطليقات لأنه لو ذكر بكلمة الواو يقع ثلاث تطليقات وإن كان لا يوجب الوصل فإذا ذكر بكلمة الفاء وأنه يوجب الوصل أولى وفي شرح الطحاوي فإن قدم الشرط فقال إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق وطالق أو قال بحرف الفاء والمرأة غير مدخول بها فدخلت الدار بانت بتطليقة واحدة عند أبي حنيفة وقالا تقع ثلاث, ولو كانت مدخولة تقع الثلاث بالإجماع, عنده متتابعة وعندهما جملة ولو أخر الشرط فقال أنت طالق وطالق وطالق إن دخلت الدار وذكره بالفاء فإنها تطلق ثلاثا سواء كانت مدخولا بها أو لم تكن فالطحاوي جعل كلمة الفاء مثل كلمة الواو قدم الشرط أو أخر. وذكر الفقيه أبو الليث أنها مثل كلمة بعد فقال إذا قال لها إن دخلت الدار فأنت طالق فطالق فطالق إن كانت مدخولا بها تقع الثلاث متتابعة وإن كانت غير مدخول بها وقعت واحدة بالإجماع
ـــــــ
1 هو نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السمرقندي الفقيه المتوفي سنة 383 أنظر الفوائد البهية 220.(2/200)
"بل"
وأما بل فموضوع لإثبات ما بعده والإعراض عما قبله على سبيل التدارك يقال جاءني زيد بل عمرو ولهذا قال زفر رحمه الله فيمن قال لفلان علي ألف درهم بل ألفان إنه يلزمه ثلاثة آلاف لأنه أثبت الثاني وأبطل الأول لكنه غير مالك إبطال الأول فلزماه كما لو قال لامرأته أنت طالق واحدة لا بل ثنتين إنها
ـــــــ
قوله "وأما بل" اعلم أن كلمة بل موضوعة للإضراب عن الأول منفيا كان أو موجبا والإثبات للثاني على سبيل التدارك للغلط فإذا قلت جاءني زيد بل عمرو كنت قاصدا للإخبار بمجيء زيد ثم تبين لك أنك غلطت في ذلك فتضرب عنه إلى عمرو فتقول بل عمرو وإذا قلت ما جاءني زيد بل عمرو يحتمل وجهين أحدهما أن يكون التقدير ما جاءني زيد بل ما جاءني عمرو فكأنك قصدت أن تثبت نفي المجيء لزيد ثم استدركت فأثبته لعمرو والثاني أن يكون المعنى ما جاءني زيد بل جاءني عمرو فيكون نفي المجيء ثابتا لزيد ويكون إثباته لعمرو ويكون الاستدراك في الفعل وحده دون الفعل وحرف النفي معا كذا قاله الإمام عبد القاهر وقد يدخل عليه كلمة "لا" تأكيدا للنفي الذي تضمنته هذه الكلمة. وإنما يصح الإضراب عن الكلام بهذه الكلمة إذا كان الصدر محتملا للرد والرجوع فإن كان لا يحتمل ذلك صار بمنزلة العطف المحض فيعمل في إثبات الثاني مضموما إلى الأول على سبيل الجمع دون الترتيب ألا ترى أن من قال لامرأته بعد الدخول بها أنت طالق واحدة لا بل ثنتين تطلق ثلاثا لأنه لا يملك الرجوع عما أوقع وبمثله لو قال لرجل طلق امرأتي فلانة لا بل فلانة يملك أن يطلق الثانية دون الأولى لأن الرجوع عن التوكيل منه صحيح كذا في شرح الجامع لشمس الأئمة
قوله "ولهذا" أي ولكونه إعراضا عما قبله وإثباتا لما بعده قال زفر رحمه الله إذا قال لفلان علي ألف درهم بل ألفان يلزمه ثلاثة آلاف وهو القياس لأن كلمة بل لاستدراك(2/201)
تطلق ثلاثا وقلنا نحن إنما وضعت هذه الكلمة للتدارك وذلك في العادات بأن ينفى انفراده ويراد بالجملة الثانية كمالها بالأولى وهذا في الإخبار ممكن كرجل يقول سني ستون بل سبعون زيادة عشر على الأول فأما الإنشاء فلا يحتمل تدارك الغلط وقع ثلاث تطليقات حتى إذا قال كنت طلقت أمس امرأتي واحدة بل ثنتين أو لا بل ثنتين وقعت ثنتان لما قلنا ولهذا قلنا فيمن قال لامرأته أنت طالق واحدة لا بل ثنتين أو بل ثنتين ولم يدخل بها إنها تطلق واحدة لأنه قصد إثبات الثاني مقام الأول ولم يملك لأنها بانت ولهذا قالوا جميعا فيمن قال لامرأته قبل الدخول بها إن دخلت الدار فأنت طالق واحدة لا
ـــــــ
الغلط بالرجوع عن الأول وإقامة الثاني مقامه ورجوعه عن الإقرار بالألف باطل وإقراره بالألفين على وجه الإقامة مقام الأول صحيح فيلزمه المالان كما لو قال علي ألف درهم بل ألف دينار أو قال لامرأته أنت طالق واحدة لا بل ثنتين وقلنا يلزمه ألفان لا غير وهو الاستحسان لأن هذه الكلمة وضعت لتدارك الغلط إلا أن المراد منه في مثل هذا الكلام في العادة تداركه بنفي انفراد ما أقر به أولا لا بنفي أصله ألا ترى أن أصله داخل في الكلام الثاني فلو صح التدارك بنفي أصله لاجتمع النفي والإثبات في شيء واحد وذلك باطل فعلم أن تدارك الغلط في هذا الكلام بإثبات الزيادة التي نفاها في الكلام الأول تقديرا فكأنه قال علي ألف ليس معه غيره ثم استدرك النفي بقوله بل ألفان أي غلطت في نفي الغير عنه بل مع ذلك الألف آخر كما يقال حججت حجة لا بل حجتين كان استدراكا لنفي الانفراد عنها وإخبارا لحجتين لا غير وكما يقال جاءني رجل بل رجلان كان استدراكا لانفراده لا لأصل مجيئه. وهذا بخلاف ما إذا اختلف جنس المال لأن عند اختلاف الجنس لا يمكن أن يجعل كأنه أعاد القدر الأول وزاد عليه لأن ما أقر به أولا غير موجود في الكلام الثاني بخلاف ما إذا اتفق الجنس ألا ترى أنه لا يقال حججت حجة لا بل عمرتين وبخلاف الطلاق أيضا لأنه إنشاء أي إخراج من العدم إلى الوجود وبعدما ثبت وجود شيء لا يمكن تداركه بأن يجعل غير موجود في تلك الحالة فلا يصح استدراكه حتى لو أخرج الكلام مخرج الإخبار كان إقرارا بالثنتين استحسانا خلافا له أيضا لما قلنا إن الغلط في الإخبار قد يتمكن وعلى هذا لو قال علي ألفان بل ألف أو علي ألف دينار لا بل زيوف يلزمه أزيد المالين وأفضلهما وهما الألفان والجياد في الاستحسان لأنه قصد استدراك الغلط بالرجوع عن بعض ما أقر به أولا أو وصفه فلم يعمل وفي القياس يلزمه المالان كذا في "المبسوط"
قوله "ولهذا" أي ولكونه للإعراض عما قبله وإقامة الثاني مقامه قلنا إذا قال لغير(2/202)
بل ثنتين أو بل اثنتين إنها إذا دخلت طلقت ثلاثا لأن هذا لما كان لإبطال الأول وإقامة الثاني مقامه كان من قضيته اتصاله بذلك الشرط بلا واسطة لكن بشرط إبطال الأول وليس في وسعه إبطال الأول ولكن في وسعه إفراد الثاني بالشرط ليتصل به بغير واسطة كأنه قال لا بل أنت طالق ثنتين إن دخلت الدار فيصير كالحلف باليمينين. وهذا بخلاف العطف بالواو عند أبي حنيفة رحمه الله لو قال إن دخلت الدار فأنت طالق واحدة وثنتين ولم يدخل بها إنها تبين بالواحدة لأن الواو للعطف على تقدير الأول فيصير معطوفا على سبيل المشاركة فيصير
ـــــــ
المدخول بها أنت طالق واحدة بل ثنتين إنها تطلق واحدة لأنه قصد الرجوع عن الأول بإثبات الثاني مقامه ولم يقدر على الرجوع لأنه لازم ولا على إقامة الثاني مقامه وإيقاعه لأنها لم تبق محلا بوقوع الأول فلغا آخر كلامه
قوله "ولهذا" أي ولما ذكرنا قالوا جميعا إلى آخره. قال أبو اليسر إنما يقع ثلاث تطليقات عند الشرط لأنه لما قال إن دخلت الدار فأنت طالق فقد تعلق الطلاق بالشرط فإذا قال لا بل تطليقتين فقد قصد الرجوع وإقامة التطليقتين مقامه فلا يصح الرجوع لأنه تعلق بالشرط على سبيل اللزوم وتعليق الثنتين بالشرط يصح لأنه في وسعه وقد أتى به لأن اللفظ ينبئ عنه فيجعل كأن الشرط ثبت هنا مذكورا إلا أنه حذف اختصارا فيصير كأنه قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق ثم قال إن دخلت الدار فأنت طالق ثنتين فدخلت مرة واحدة تقع الثلاث وهذا بخلاف قوله لامرأته قبل الدخول بها إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق وطالق حيث يقع واحدة عند أبي حنيفة رحمه الله لأن الواو ما وضعت للاستدراك ولكنها للعطف فالأول تعلق بالشرط بلا واسطة والثاني تعلق بذلك الشرط بواسطة فإذا وجد الشرط نزل على الوجه الذي تعلق وهذا لأن المعطوف عليه إنما يجعل مكررا إما لضرورة أو لأن اللفظ دال عليه لغة أما الضرورة فمثاله قوله جاءني زيد وعمرو. ثبت مجيء كل واحد منفردا ضرورة أنه لا يتصور مجيئهما بمجيء واحد وأما ما دل عليه اللفظ لغة فحرف "بل" فإنه دل على وجود الشرط لغة على ما بينا. قال الشيخ رحمه الله في بعض تصانيفه وإنما قلنا ذلك أي إنه يجعل بمنزلة يمينين لأنه لو لم يجعل الشرط مدرجا صار معطوفا وهو يقتضي المعطوف عليه لأنه بدونه لا يتصور فيثبت الواسطة ح بين الجملتين ولم يكن هذا موجب هذه الكلمة بل موجبها ما ذكرنا فصار كأنه أعاد الشرط وهذا تعليل محمد رحمه الله لأنه قال فصار بمنزلة قوله "لا بل ثنتين" إن دخلت
قوله "ويتصل بهذا" أي بباب العطف أن العطف متى تعارض له شبهان أي جهتان(2/203)
متصلا بذلك الشرط بواسطة ولا يصير منفردا بشرطه لأن حقيقة الشركة في اتحاد الشرط فيصير الثاني متصلا به بواسطة الأول فقد جاء الترتيب ويتصل بهذا أن العطف متى تعارض لها شبهان اعتبر أقواهما لغة فإن استويا اعتبر أقربهما مثاله ما قال في الجامع أنت طالق إن دخلت الدار لا بل هذه لامرأة أخرى أنه جعل عطفا على الجزاء دون الشرط لأنا لو عطفناه على الشرط كان قبيحا لأنه ضمير مرفوع متصل غير مؤكد بالضمير المرفوع المنفصل وهو التاء في قوله دخلت وذلك قبيح قال الله تعالى {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} "البقرة: 35"
ـــــــ
اعتبر أقواهما لغة وإن بعد ذلك الشبه لأن القرب لا يقابل القوة فيعتبر القوة أولا ثم القرب ثانيا نحو الكناية تنصرف إلى ما هو المقصود في الكلام أولا لأنه أقوى كقولك رأيت ابن زيد وكلمته ينصرف الكناية إلى الابن دون زيد ثم إلى المكني الأقرب ثانيا وكما في العصبات يعتبر قوة القرابة أولا ثم القرب ثانيا مثاله رجل له امرأتان فقال لأحديهما أنت طالق إن دخلت الدار لا بل هذه مشيرا إلى المرأة الأخرى لا إلى دار أخرى أنه أي قوله لا بل هذه يجعل عطفا على الجزاء دون الشرط حتى لو دخلت الأولى الدار طلقتا جميعا ولو دخلت الأخرى لم تطلق واحدة منهما
ولهذا الكلام وجوه ثلاثة: أحدها أن يجعل معطوفا على الجزاء وتقديره لا بل هذه إن دخلت الدار فأنت طالق
والثاني: أن يجعل معطوفا على الشرط وتقديره لا بل هذه إن دخلت الدار فأنت طالق
والثالث: أن يجعل معطوفا على المجموع وتقديره لا بل هذه طالق إن دخلت الدار فيكون طلاقها معلقا بدخولها والكلام لا يحمل على هذا الوجه بحال ويحمل على الوجه الثاني عند وجود النية فإذا عدمت حمل على الوجه الأول استدلالا بغرض المتكلم وصيغة الكلام. أما الاستدلال بالغرض فهو أن كلمة بل تستعمل للتدارك والظاهر أن يقصد الإنسان تدارك أعظم الأمرين والغلط في الجزاء أهم وأعظم من الغلط في الشرط لأنه هو المقصود في مثل هذا الكلام فوجب العمل به للرجحان فيما يرجع إلى قصد المتكلم وأما الاستدلال بصيغة الكلام فهو أن العطف على الضمير المرفوع المتصل بارزا كان أو مستترا من غير أن يؤكد بضمير مرفوع منفصل قبيح وإن كان جائزا تقول العرب فعلت أنا وزيد وقلما تقول فعلت وزيد بل هو شيء لا يكاد يوجد إلا في ضرورة الشعر قال الله تعالى {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ} "المؤمنون: 28" فلم يعطف على الضمير حتى أكده بالمنفصل(2/204)
و"الأعراف: 19"فأكده وذلك أن الفاعل مع الفعل كشيء واحد وإذا كان ضميره لا يقوم بنفسه تأكد الشبه بالعدم فقبح العطف بخلاف ضمير المفعول لأنه منفصل في الأصل لأنه يتم الكلام بدونه على ما ذكرنا نظيره أنت طالق إن ضربتك لا بل هذه ينصرف إلى الثانية فإذا عطفناه على الجزاء كان معطوفا على ضمير مرفوع منفصل وذلك أحسن فلذلك قدمناه
ـــــــ
وإنما وجب ذلك لأن من شرط العطف المجانسة بين المعطوف والمعطوف عليه ليفيد العطف فائدته وهو التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه في المعنى ولهذا لا يعطف الاسم على الفعل ولا على العكس ثم الضمير المرفوع المتصل بمنزلة الجزء من الكلمة ألا ترى أن إعراب الفعل يقع بعد هذا الضمير في نحو يضربان ويضربون إذ النون فيهما بدل عن الرفع في يضرب. وألا ترى أنهم أسكنوا لام الفعل مع هذا الضمير فقالوا ضربت وضربنا احترازا عن توالي الحركات وإنما يحترز عنه في كلمة واحدة لا في كلمتين فعرفنا أنه بمنزلة حرف من حروف الفعل فإذا كان كذلك كان العطف عليه عطفا على الفعل في الظاهر فوجب تأكيده بالمنفصل ليكون عطفا للاسم على الاسم ولأن الفعل والفاعل بمنزلة شيء واحد لافتقار كل منهما إلى الآخر إذ الفعل لا يتصور بدون الفاعل ومن قام به الفعل لا يتصف بالفاعلية بدون الفعل فكان له في ذاته شبه بالعدم نظرا إلى افتقاره إلى الفعل إلا أنه إذا كان قائما بنفسه بأن كان مظهرا منفصلا لا يعبأ بهذا الشبه اعتبارا للحقيقة فإذا كان غير قائم بنفسه بأن كان ضميرا مستكنا أو بارزا متصلا تأكد الشبه بالعدم والعطف على المعدوم حقيقة باطل فعلى ما تأكد شبهه بالعدم كان قبيحا فوجب التأكيد بالمنفصل ليحصل العطف على الموجود من كل وجه وهذا بخلاف العطف على الضمير المنصوب المتصل حيث جاز من غير مؤكد كقولك ضربته وزيدا لأنه متصل لفظا لا تقديرا لأن المفعول فضلة في الكلام فكان منفصلا في التقدير ولذلك لا يغير له الكلمة فإنك تقول ضربك وضربنا فيكون الباء على حالها فلذلك جاز العطف عليه فأما ما نحن في بيانه فمتصل لفظا وتقديرا لما بينا أن الفاعل كالجزء من الفعل فلذلك لم يحسن العطف عليه إذا ثبت هذا فنقول إذا عطفنا قوله لا بل هذه على الشرط صار عطفا على التاء في قوله إن دخلت وهو ضمير مرفوع متصل غير مؤكد بالمنفصل ولو عطفناه على الجزاء صار عطفا على قوله فأنت وهو ضمير مرفوع منفصل فكان هذا أولى.
فإن قيل قد جعل الفاصل قائما مقام المؤكد في جواز العطف على الضمير المرفوع المتصل من غير قبيح كما في قوله تعالى {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ} "المسد: 3"(2/205)
وأما إذا استويا فمثاله ما ذكرنا في الإقرار أن لفلان علي ألف درهم إلا
ـــــــ
فقوله امرأته معطوف على الضمير في سيصلى على قراءة من قرأ "حمالة" بالنصب وجاز ذلك للفاصل وهو قوله {نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} وكذا ولا آباؤنا في قوله عز اسمه {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} "الأنعام: 148" معطوف على الضمير في أشركنا للفاصل وهو كلمة لا وكذا وآباؤنا في قوله تعالى إخبارا {أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا} "النمل: 67" معطوف على الضمير في كنا باعتبار الفاصل وهو ترابا إلى غيرها من النظائر وههنا قد وجد الفاصل وهو لفظة الدار وكلمة لا فيقتضي جواز العطف على التاء في دخلت من غير قبح كما جاز على أنت واستواء الشبهين في صحة العطف وإذا استويا ترجح العطف على الشرط بالقرب كما في قوله أنت طالق إن ضربتك لا بل هذه كان معطوفا على الضمير المنصوب في ضربتك لا على قوله أنت طالق حتى كان طلاق الأولى معلقا بضرب كل واحدة منهما ولا تطلق الثانية بحال لاستواء الجهتين وترجح الأخيرة بالقرب قلنا إنما جعل الفاصل قائما مقام المؤكد في جواز العطف على الضمير المرفوع المتصل من غير قبح إذا لم يوجد في الكلام معطوف عليه آخر أقوى منه فأما إذا وجد ذلك فالعطف عليه أولى من العطف على الضمير المتصل وفي مسألتنا قد وجد الأقوى وهو قوله أنت لعدم احتياجه في صحة العطف عليه إلى مؤكد ولا فاصل فكان أولى مما يحتاج إلى ذلك إلا إذا تعذر العطف على الأقوى فحينئذ يصار إلى ما دونه في الدرجة كما في قوله أنت طالق إن دخلت الدار لا بل فلان فيتعين العطف على الشرط وإن كان ضميرا مرفوعا متصلا لتعذر العطف على الجزاء لاستحالة كونه محلا للطلاق. وقد جاء العطف على الضمير المستكن من غير فصل في قوله:
قلت إذ أقبلت وزهر تهادى ... كنعاج الملا تعسفن رملا
فمع الفصل أولى
ثم إنه إن نوى الوجه الثاني وهو العطف على الشرط صح لأنه نوى ما يحتمله كلامه فإن دخلت الثانية أو الأولى الدار طلقت الأولى واحدة ولو دخلتا فكذلك أيضا وذلك في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى وإن دخلت الأولى طلقت الأخيرة أيضا في الحكم لأنه لا يصدق في صرف الطلاق عن الثانية بدخول الأولى لأن ذلك ثابت بظاهر العطف فلا يصدق في إبطاله وإنما صدقناه فيما فيه تغليظ عليه دون التخفيف وإن نوى الوجه الثالث لم يصح لأن قضية العطف بهذه الكلمة القيام مقام الأول في الذي تم به الكلام الأول فإذا تعذر إبطال الأول وجب الشركة في ذلك بعينه فلو أفردناه بالشرط والجزاء لبطلت الشركة وذلك مما ينافيه العطف الناقص كذا ذكره الشيخ في شرح الجامع(2/206)
عشرة دراهم ودينارا أن الدينار صار داخلا في الاستثناء وصار مشروطا مع العشرة لا مع الألف لما ذكرنا أن عطفه على كل واحدة منهما صحيح فصار ما جاوره أولى.
ـــــــ
وذكر شمس الأئمة في العطف الناقص إنما يجعل ما تقدم كالمعاد ضرورة الحاجة إلى تصحيح آخر كلامه فإن قوله لا بل هذه غير مفهوم المعنى وهذه الضرورة تندفع بصرفها إلى الطلاق أو إلى الشرط فلا يصار إلى غيره من غير ضرورة.
قوله "وأما إذا استويا" أي استوى الشبهان في صحة العطف وحسنه فمثاله ما لو قال إن لفلان علي ألف درهم إلا عشرة دراهم ودينارا كان الدينار معطوفا على العشرة لا على الألف حتى صارت قيمته مستثناة مثل العشرة فيلزمه تسعمائة وثمانون لو قدرنا قيمة الدينار عشرة أو سبعون لو قدرناها عشرين ولو جعلناه معطوفا على الألف لزمه تسعمائة وتسعون درهما ودينار وذلك لأنه تعارض في عطف الدينار شبهان إذ يحسن عطفه على المستثنى منه وهو الألف كما لو قال علي ألف درهم إلا عشرة دراهم ودينار ويحسن عطفه أيضا على المستثنى وهو عشرة لأن استثناء الدينار من الدراهم الألف صحيح استحسانا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله كاستثناء العشرة منها ألا ترى أنه لو قال علي ألف درهم إلا عشرة دراهم ودينارا كان معطوفا على العشرة لا غير وإذا صح العطف عليهما ترجح العطف على العشرة بالقرب والجوار وبأن فيه العمل بالأصل وهو براءة الذمة فيصير قيمته مستثناة مع العشرة من الألف.
قال العبد الضعيف أصلحه الله تعالى ويجب على أصل محمد وزفر رحمهما الله أن يكون الدينار معطوفا على الألف لأنا إن جعلناه معطوفا على العشرة يصير الدينار مستثنى من الدراهم وذلك غير جائز عندهما وهو القياس ولما بطل إحدى الجهتين تعينت الأخرى للعطف. فإن قيل إذا جعلناه معطوفا على المستثنى منه يصير الدراهم العشرة مستثناة من الألف ومن الدينار وذلك عندهما غير جائز أيضا ولما لم يصح العطف على الألف وعلى العشرة عندهما يجب أن يبطل كما لو قال لفلان علي ألف درهم إلا عشرة وثوبا قلنا لا نسلم عدم صحة عطفه على الألف عندهما بناء على ما ذكرتم فإن محمدا رحمه الله ذكر في الأصل إذا قال له علي ألف درهم ومائة دينار إلا درهم صح الاستثناء وينصرف إلى الدراهم لأنا إن جعلناه استثناء من الدنانير نظرا إلى القرب صح باعتبار المعنى دون الصورة وإن جعلناه استثناء من الدراهم صح باعتبار الصورة والمعنى فكان جعله من الدراهم أولى ثم قال إذا كان ذلك لإنسان واحد جعلنا الاستثناء من نوعه فعرفنا أن في مثل هذا ينصرف الاستثناء إلى الجنس فصح العطف على الألف.(2/207)
"لكن"
وأما لكن فقد وضع للاستدراك بعد النفي تقول ما جاءني زيد لكن عمرو فصار الثابت به إثبات ما بعده فأما نفي الأول فيثبت بدليله بخلاف كلمة
ـــــــ
"لكن"
قوله: "وأما لكن" اعلم أن لكن يستدرك به ما يقدر في الجملة التي قبلها من التوهم نحو قولك ما رأيت زيدا لكن عمرا فلمتوهم أن يتوهم أن عمرا غير مرئي أيضا فأماطت كلمة لكن هذا التوهم والفرق بينه وبين بل من وجهين
أحدهما: أن لكن أخص من بل في الاستدراك لأنك تستدرك بل بعد الإيجاب كقولك ضربت زيدا بل عمرا وبعد النفي كقولك ما جاءني زيد بل عمرو ولا تستدرك بلكن إلا بعد النفي لا تقول ضربت زيدا لكن عمرا وإنما تقول ما ضربت زيدا لكن عمرا وهو معنى قوله وضع للاستدراك بعد النفي وهذا في عطف المفرد على المفرد فإن كان في الكلام جملتان مختلفتان جاز الاستدراك بلكن في الإيجاب أيضا كقولك جاءني زيد لكن عمرو لم يأت فقولك عمرو لم يأت جملة منفية وما قبل لكن جملة موجبة فقد حصل الاختلاف وعمرو في قولك لكن عمرو لم يأت, مرفوع بالابتداء ولم يأت خبره وكذا قولك ضربت زيدا لكن لم أضرب عمرا فعمرا منصوب بلم أضرب وليس لحرف العطف فيه حظ كما يكون في قولك ما ضربت زيدا لكن عمرا كذا ذكره الإمام عبد القاهر
فتبين بهذا أن قوله للاستدراك بعد النفي مختص بعطف المفرد على المفرد دون عطف الجملة على الجملة. والثاني: أن موجب الاستدراك بهذه الكلمة إثبات ما بعده فأما نفي الأول فليس من أحكامها بل يثبت ذلك بدليله وهو النفي الموجود فيه صريحا بخلاف كلمة بل فإن موجبها وضعا نفي الأول وإثبات الثاني يوضحه أن في قولك ما جاءني زيد لكن عمرو انتفى مجيء زيد بصريح هذا الكلام لا بكلمة لكن فإنه لو سكت عن قوله لكن عمرو كان الانتفاء ثابتا أيضا وفي قولك جاءني زيد بل عمرو انتفى مجيء زيد بكلمة بل لا بصريح الكلام فإنه لو سكت عن قوله بل عمرو لا يثبت الانتفاء بل يثبت ضده وهو الثبوت فهذا هو الفرق بينهما(2/208)
بل غير أن العطف إنما يستقيم عند اتساق الكلام فإذا اتسق الكلام تعلق النفي بالإثبات الذي وصل به وإلا فهو مستأنف مثاله ما قال علماؤنا في الجامع في رجل في يده عبد فأقر أنه لفلان فقال فلان ما كان لي قط لكنه لفلان آخر فإن وصل الكلام فهو للمقر له الثاني وإن فصل يرد على المقر لأنه نفى عن نفسه فاحتمل أن يكون نفيا عن نفسه أصلا فيرجع إلى الأول ويحتمل أن يكون نفيا
ـــــــ
قوله "غير أن العطف" استثناء منقطع بمعنى لكن من قوله وضع للاستدراك بعد النفي وتقديره لكن للعطف بطريق الاستدراك بعد النفي إلا أن العطف بهذا الطريق إنما يستقيم عند اتساق الكلام والمراد من اتساق الكلام, انتظامه وذلك بطريقين أحدهما أن يكون الكلام متصلا بعضه ببعض غير منفصل ليتحقق العطف والثاني أن يكون محل الإثبات غير محل النفي ليمكن الجمع بينهما ولا يناقض آخر الكلام أوله كما في قولك ما جاءني زيد لكن عمرو فإذا فات أحد المعنيين لا يثبت الاتساق فلا يصح الاستدراك فيكون كلاما مستأنفا
مثال فوات المعنى الأول رجل في يده عبد فأقر به لإنسان فقال المقر له ما كان لي قط لكنه لفلان آخر فإن وصل الكلام فهو للمقر له الثاني وهو فلان وإن فصل يدرد على المقر الأول لأن هذا الكلام وهو قوله ما كان لي قط تصريح بنفي ملكه عن العبد فيحتمل أن يكون نفيا عن نفسه أصلا من غير تحويل إلى آخر فيكون هذا ردا للإقرار وهو الظاهر لأنه خرج جوابا له والمقر له متفرد برد الإقرار فيرتد برده ويرجع العبد إلى المقر الأول ويحتمل أن يكون نفيا عن نفسه إلى المقر له الثاني فيكون تحويلا لا ردا للإقرار ويصير قابلا له مقرا به لغيره.
"فإذا وصل" أي قوله لكنه لفلان "به" أي بقوله ما كان لي قط كان وصله به بيانا أنه نفاه أي الملك عن نفسه إلى الثاني لا أنه نفاه مطلقا وصار كالمجاز بمنزلة قوله لفلان علي ألف درهم وديعة فيصير قوله علي مجازا للحفظ إذا وصله بالكلام فكذلك ههنا "وإذا فصل" في قوله لكنه لفلان عن النفي "كان هذا نفيا مطلقا" أي نفيا عن نفسه أصلا لا نفيا إلى أحد فكان ردا للإقرار وتكذيبا للمقر حملا للكلام على الظاهر وكان قوله لكنه لفلان بعد ذلك شهادة بالملك للمقر له الثاني على المقر الأول وبشهادة الفرد لا يثبت الملك فيبقى العبد ملكا للمقر الأول ومثال آخر رجل ادعى دارا في يد رجل أنها داره والذي هي في يده يجحد ذلك فأقام المدعي بينة أنها داره فقضى القاضي بها له ثم أقر المقضي له أنها دار فلان ولم يكن لي قط أو قال ما كانت لي قط لكنها لفلان بكلام(2/209)
إلى غير الأول فإذا وصل كان بيانا أنه نفاه إلى الثاني وإذا فصل كان مطلقا فصار تكذيبا للمقر وقالوا في المقضي له بدار بالبينة إذا قال ما كانت لي قط لكنها لفلان وقال فلان إنه باعني بعد القضاء أو وهبني أن الدار للمقر له وعلى
ـــــــ
متصل فإن صدقه المقر له في الجميع ترد الدار على المقضي عليه ولا شيء للمقر له لأنهما تصادقا أن الدعوى والبينة والحكم كل ذلك كان باطلا فوجب رد الدار على المقضي عليه
بخلاف المسألة الأولى لأن المقر الأول. والثاني والمقر له الآخر اتفقوا على أن العبد ليس للأول لأن الثاني صدق المقر الأول في النفي وإن كذبه في الجهة والثالث صدق المقر الثاني على هذا الوجه فقد حصل الاتفاق على أن لا حق للأول في العبد فلم يستقم رده عليه مع اتفاقهم على خلافه فيرد إلى الثالث لأنه لا منازع له فيه فأما المقضي عليه في هذه المسألة فيدعيها ولم يزعم قط أنها ليست له ولكن استحقت عليه بالقضاء فإذا بطل القضاء بقول المقضي له إنها ما كانت لي قط لكن المقضي عليه من أخذها بزعمه فلهذا ترد عليه
وإن كان المقر له صدقه في الإقرار وكذبه في النفي عن نفسه بأن قال كانت الدار ملكا للمقر إلا أنه وهبها لي بعد القضاء وسلمها إلي أو باعها مني فهي للمقر له ويضمن قيمتها للمقضي عليه وهذا لا يشكل إذا بدأ بالإقرار ثم بالنفي لأن إقراره صح ظاهرا وثبت الاستحقاق للمقر له بتصديقه إياه في قوله هي لفلان فإذا قال بعده ما كانت لي قط فقط أراد إبطال إقراره والرجوع عنه وكذبه المقر في ذلك فلم يبطل في حقه وأما إذا بدأ بالنفي بأن قال ما كانت لي قط لكنها لفلان بكلام موصول فكذلك عندنا وعن زفر رحمه الله أن الدار ترد على المقضي عليه لأن قوله ما كانت لي قط كاف في نقض القضاء لو اقتصر عليه. وقوله: ولكنها لفلان كلام مبتدأ مقطوع عما قبله لأنه ليس ببيان مغير ليتوقف أول الكلام عليه ويصيرا كشيء واحد فيكون إقرارا بالملك للغير بعدما انتفى ملكه وعاد إلى المقضي عليه فلا يصح هذا الإقرار وإن صدقه المقر له كما لو فصل الإقرار عن النفي ولكنا نقول إن آخر كلامه مناف لأوله لأن آخره إثبات وأوله نفي والإثبات متى ذكر معطوفا على النفي متصلا به لا يقع عنه ولا يحكم لأول الكلام بشيء قبل آخره ألا ترى أن كلمة الشهادة تكون إقرارا بالتوحيد باعتبار آخره ولا فرق فإن ذلك كلام يشتمل على النفي والإثبات كما أن هذا كلام يشتمل على النفي والإثبات فيعتبر الحاصل وهو إثبات الملك للمقر له عند اتصال آخره بأوله كما في كلمة الشهادة ويكون قوله ما كانت لي(2/210)
المقضي له القيمة للمقضي عليه لأنه نفاها عن نفسه إلى الثاني أيضا حيث وصل به البيان إلا أنه بالإسناد صار شاهدا على المقر له فلم تصح شهادته على ما بينا في شرح الجامع وقال في نكاح الجامع في أمة تزوجت بغير إذن موليها
ـــــــ
قط باتصال الإثبات به نفيا للملك عن نفسه بإثباته للثاني وذلك محتمل بأن يملكه بعد القضاء فيحمل عليه في حق المقر له ولهذا قالوا إنما يصح هذا الإقرار إذا غابا عن مجلس القاضي حتى يمكن للقاضي تصديق المقر له فأما إذا قال ذلك في مجلس القضاء فقد علم القاضي بكذبه لأنه علم أنه لم يجر بينهما هبة وقبض ولا بيع والكذب لا حكم له فلا يصح إقراره في هذه الصورة ولأن اتصال النفي عن نفسه بالإثبات لغيره إنما يكون لتأكيد الإثبات عرفا وما ذكر تأكيدا للشيء كان حكمه حكم ذلك الشيء ولا يكون له حكم نفسه فصار من حيث المعنى كأنه قال هذا الدار لفلان وسكت ولأن النفي لما كان لتأكيد الإقرار كان مؤخرا عن الإقرار معنى لأن التأكيد أبدا يكون بعد المؤكد. ولأن المقر قصد تصحيح إقراره ولا يصح في هذه الصورة إلا بجعل الإقرار مقدما والكلام يحتمل التقديم والتأخير دون الإلغاء فوجب القول به بشرط أن يكون موصولا
قوله "إلا أنه" أي لكنه بالإسناد أي بإسناد نفي الملك إلى ما قبل القضاء فإن قوله ما كانت لي قط يتناول الأزمنة السابقة على القضاء صار شاهدا على المقر له لأن حق المقر له قد تعلق بالعين بقوله لكنها لفلان وهو بالإسناد يبطل هذا الحق لأن قوله ما كانت لي قط يتضمن بطلان القضاء وفي بطلانه بطلان حق المقر له لأنه ثبت بناء على صحة الإقرار الذي هو مبني على صحة القضاء فصار شاهدا عليه من هذا الوجه فلم يصح شهادته عند تكذيب المقر له لأنه رجوع عما أقر به للغير
ويتضح هذا بفصل تقديم الإقرار على النفي بأن قال هي لفلان ولم يكن لي قط فإن النفي فيه شهادة على المقر له وبطلان حقه الثابت بالإقرار السابق فكذلك في فصل تأخير الإقرار لأن الكلام باتصال النفي بالإثبات صار كشيء واحد فصار تقدم الإقرار وتأخره سواء ثم إنه وإن لم يصدق في حق المقر له فهو مصدق في حق نفسه وظاهر كلامه إقرار ببطلان القضاء وهو حقه فصار به مقرا بالدار للمقضي عليه فيضمن له قيمتها.
قال الشيخ الإمام المصنف رحمه الله في شرح الجامع وهذا على قول من يرى ضمان العقار بالغصب فيضمن بالقصر أيضا فأما عند أبي حنيفة وأبي يوسف فلا وذكر في شرح الجامع للفقيه أبي الليث رحمه الله أن هذا قولهم جميعا لأن العقار يضمن بالقول مثل سوم البيع الفاسد والرجوع عن الشهادة فكذا ههنا وذكر شمس الإسلام الأوزجندي(2/211)
بمائة درهم فقال المولى لا أجيز النكاح ولكن أجيزه بمائة وخمسين أو إن زدتني خمسين أن هذا فسخ للنكاح وجعل لكن مبتدأ لأن الكلام غير متسق لأنه نفي فعل وإثباته بعينه فلم يصلح للتدارك وفي قول الرجل لك علي ألف درهم قرض فقال المقر له لا ولكنه غصب الكلام متسق فيصح الوصل لبيان أنه نفي السبب لا الواجب.
ـــــــ
أنه بالإقرار لغيره صار متلفا للدار والدار يضمن بالإتلاف عند الكل كما يضمن بالشهادة الباطلة
واعلم أن هذين المثالين أعني قول المقر له بالعبد ما كان لي قط لكنه لفلان وقول مدعي الدار ما كانت لي قط لكنها لفلان ليسا من نظائر هذا الباب في الحقيقة لأن لكن المشددة ليست من حروف العطف بل هي من الحروف الناصبة أو إنما العاطفة هي المخففة إلا أنهما لما اشتركتا في الاستدراك واستوتا في الحكم أورد الشيخ هذين المثالين في هذا الفصل ومثال فوات المعنى الثاني أمة تزوجت إلى آخره وهو ظاهر. قوله "وفي قول الرجل لك علي كذا" هذه المسألة تخالف المسألة التي قبلها في أن الاستدراك فيها صرف إلى الجملة حتى صح ولم يصرف إلى أصل الإقرار وفي تلك المسألة صرف إلى أصل النكاح ولم يصرف إلى الجهة وهي نفي المائة وإثبات المائة والخمسين كما في قوله لا أجيز النكاح إلا بزيادة خمسين وذلك لأنه في تلك المسألة قد صرح برد النكاح بقوله لا أجيز النكاح فلا يمكن صرفه إلى الجهة وفي مسألة الإقرار لم يصرح برد أصل الإقرار وهو الألف بل قال لا وأنه يصلح ردا للجهة وردا للأصل فإذا وصل به قوله ولكنه غصب علم أنه نفى السبب لا أصل المال وأنه قد صدقه في الإقرار بأصل المال ولا تفاوت في الحكم بين السببين والأسباب مطلوبة للأحكام فعند عدم التفاوت يتم تصديقه له فيما أقر به فيلزمه المال.
وهذا بخلاف ما إذا شهد أحد الشاهدين بأن الألف عليه بسبب الغصب وشهد الآخر بأن الألف عليه بسبب القرض حيث لا تقبل وإن اتفقا في الأصل لأن المدعي يصير مكذبا أحد الشاهدين في بعض ما شهد به وذلك مبطل للشهادة فأما تكذيب المقر له للمقر في بعض ما أقر فلا يوجب بطلان الإقرار فافترقا وقوله الكلام متسق أي كلام المقر له مع كلام المقر متوافقان لا متنافيان لأنهما توافقا في أصل الواجب وإن اختلفا في السبب.(2/212)
"أو"
وأما أو فإنها تدخل بين اسمين أو فعلين فيتناول أحد المذكورين هذا موضوعها الذي وضعت له يقال جاءني زيد أو عمرو أي أحدهما ولم يوضع للشك وليس الشك بأمر مقصود يقصد بالكلام وضعا لكنها وضعت لما قلنا
ـــــــ
قوله "وأما أو" اعلم أن كلمة أو تدخل بين اسمين أو أكثر كقولك جاءني زيد أو عمرو أو بين فعلين أو أكثر كقوله تعالى {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} "التوبة: 80" وقوله عز اسمه {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ} "النساء: 66"وكقولك كل السمك أو اشرب اللبن فيتناول أحد المذكورين هذا موجب هذه الكلمة باعتبار أصل الوضع لأنها في مواضع استعمالها لا تخلو عن هذا المعنى فعرفنا أنها وضعت له قال الله تعالى {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} "المائدة: 89" والواجب أحد الأشياء حتى لو كفر بالأنواع كلها كان مؤديا بأحد الأنواع لا بالجميع كما قاله البعض. وكذلك في قوله تعالى {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} "البقرة: 196" الواجب واحد منها وكذا الجائي في قولك جاءني زيد أو عمرو أحدهما لا كلاهما
قوله "ولم يوضع للشك" نفي لما ذكره القاضي الإمام أبو زيد رحمه الله في التقويم أن كلمة أو عند عامة الناس للتخيير في الإثبات وللنفي في النفي والصحيح عندنا أن كلمة أو كلمة تشكيك فإنك إذا قلت رأيت زيدا أو عمرا لا تكون مخبرا عن رؤيتهما جميعا ولكنك تكون مخبرا عن رؤية كل واحد منهما على سبيل الشك فإنك قد رأيت أحدهما ولكنك شككت في معرفة ذلك منهما حتى احتمل كل واحد منهما أن يكون هو المرئي وأن لا يكون إلا أنها إذا استعملت في الإيجابات والأوامر والنواهي لم توجب شكا لأن الشك إنما يتحقق عند التباس العلم بشيء وذلك إنما يكون في الإخبارات فأما الإنشاءات فلا يتصور فيها شك ولا التباس لأنها لإثبات حكم ابتداء وما ذكره القاضي الإمام مذهب عامة النحاة.
وخالفه الشيخ وشمس الأئمة رحمهما الله في ذلك فقالا هذه الكلمة ليست للتشكيك لأن الشك ليس بمعنى يقصد بالكلام وضعا أي ليس بمقصود في المخاطبات(2/213)
فإن استعملت في الخبر تناولت أحدهما غير معين فأفضى إلى الشك وإذا استعملت في الابتداء والإنشاء تناولت أحدهما من غير شك تقول رأيت زيدا أو عمرا فيكون للتخيير لأن الابتداء لا يحتمل الشك فعلمت أن الشك جاء من
ـــــــ
بحيث يوضع كلمة توجب تشكيك السامع في معنى الكلام وليس معناه أن الشك ليس بمعنى يوضع له لفظ لأن لفظ الشك قد وضع لمعناه بل المعنى ما ذكرنا. وذلك لأن موضوع الكلام إفهام السامع لا تشكيكه فلا يكون الشك من مقاصده فلا يكون هذه الكلمة موضوعة لذلك بل هي موضوعة لأحد المذكورين غير عين كما قلنا إلا أنها في الإخبارات يفضي إلى الشك باعتبار محل الكلام لأنه أخبر عن مجيء أحدهما في قوله جاءني زيد أو عمرو ومعلوم أن فعل المجيء وجد من أحدهما عينا لا نكرة إذ لا تصور لصدور الفعل من غير العين وبإضافة الفعل إلى أحدهما غير عين لا ينتقل الفعل من العين إلى النكرة بل يبقى مضافا إلى العين كما وجد وإنما جهله السامع فوقع الشك في الذي وجد منه فعل المجيء فتبين أن التشكيك إنما يثبت حكما واتفاقا بكون الكلام خبرا لا مقصودا بحرف أو كالهبة وضعت لإفادة ملك الرقبة للموهوب له ثم إذا أضيف إلى الدين يكون إسقاطا حكما واتفاقا لا مقصودا بالهبة ألا ترى أنها إذا استعملت في الإنشاء لا تؤدي معنى الشك أصلا مع أنها حقيقة فيه لا مجاز وقد عرفت أن الحقيقة لا تخلو عن موضوعه الأصلي فثبت أنها لم توضع للتشكيك وكذا التخيير يثبت بمحل الكلام أيضا لأنها إذا استعملت في الابتداء كقولك اضرب زيدا أو عمرا تناولت أحدهما غير عين والأمر للائتمار ولا يتصور الائتمار بإيقاع الفعل في غير العين فيثبت التخيير ضرورة التمكن من الائتمار ولهذا لو اختار أحدهما قولا لا يصح لأنه لا ضرورة في ذلك إنما هي في حق الفعل وكذا إذا استعملت في الإنشاء كقوله هذا حر أو هذا. ويؤيد قول الشيخين ما ذكر في المفصل أن "أو" و "أم" وأما ثلاثتها لتعليق الحكم بأحد المذكورين إلا أن "أو" و "أما" يقعان في الخبر والأمر والاستفهام و "أم" لا يقع إلا في الاستفهام إذا كانت متصلة إلى آخره وما ذكر أبو علي الفارسي1 في "الإيضاح" أن أو لأحد الشيئين أو الأشياء في الخبر وغيره تقول كل السمك أو اشرب اللبن أي افعل أحدهما ولا تجمع بينهما وما ذكر عبد القاهر في التلخيص أن "أو" لأحد الشيئين أو الأشياء بيان ذلك أنك تقول جاءني زيد أو عمرو فيكون المعنى على أنك أثبت المجيء لأحدهما لا بعينه فهذا أصله ثم إن كان الكلام
ـــــــ
1 هو أبو الحسن بن أحمد بن عبدالغفار الفارسي الفسوي.النحوي العالم بالعربيةوالقراءات توفي سنة 377ه.(2/214)
قبل محل الكلاموعلى هذا قلنا في قول الرجل هذا حر أو هذا وهذه طالق أو هذه إنه بمنزلة قوله أحدكما وهذا الكلام إنشاء يحتمل الخبر فأوجب التخيير
ـــــــ
خبرا كانت أو للشك كما رأيت وإن كان أمرا كانت للتخيير كقولك اضرب زيدا أو عمرا فقد أمرته بأن يضرب أحدهما ثم خيرته في ذلك فأيهما ضرب كان مطيعا وما ذكر أيضا في المقتصد أن أو له ثلاثة أوجه.
أحدها الشك نحو قوله ضربت زيدا أو عمرا أردت أن تخبر بضربك زيدا فاعترضك شك صورت له أن تكون ضربت عمرا فأثبت بأو وعطفت عمرا على زيد فصار كلامك مفيدا أنك ضربت واحدا من زيد وعمرو بغير عينه.
والوجه الثاني التخيير كقولك اضرب زيدا أو عمرا فقد أمرته بضرب أحدهما بغير عينه ولم يجز أن تضربهما معا فليس في هذا شك وإنما هو تخيير ألا ترى أن الآمر إذا قال اضرب زيدا أو عمرا لم يكن هناك شيء موجود قد شك فيه كما يكون في الخبر
والوجه الثالث الإباحة نحو قولهم جالس الحسن أو ابن سيرين فهذا يشبه التخيير من وجه وهو أنه جالس أحدهما كان مطيعا ويفارقه من آخر وهو أنه إن جالسهما معا كان جائزا. ولو قلت اضرب زيدا أو عمرا فضربهما جميعا لم يجز قال ولما كان لأحد الشيئين أو الأشياء في جميع ما ذكرنا قالوا زيد أو عمرو قام ولم يقولوا قاما لأن المعنى أحدهما قام. فإن قيل أول هذا الكلام يؤيد المذهب الأول وكذا ما ذكرنا في المفصل ويقال في أو وأما في الخبر أنهما للشك وفي الأمر أنهما للتخيير والإباحة وما ذكر في المفتاح أن أو في الخبر للشك وفي الأمر للتخيير وهو الامتناع عن الجمع أو الإباحة وهي تجويز الجمع وفي الاستفهام لأحد ما يذكر لا على التعيين قلنا هذا منهم تسامح في العبارة وبيان لمواضع الاستعمال وتقسيم له بحسب العوارض والتحقيق ما ذكرناه
ورأيت في كتاب بيان حقائق الحروف أن معنى أو إثبات أحد الشيئين أو الأشياء مبهما مع إفراده عن غيره في المعنى بلا ترتيب لأنها في حروف العطف بمنزلة الواو وفي أنها لا ترتب إلا أن الواو للجمع وأو للإفراد وهي تجيء على ستة أوجه إبهام أحد الشيئين أو الأشياء والشك والتخيير والإباحة والتفصيل ومعنى الإفراد فقط, وبمعنى إلا أن. والأصل في الجميع هو الأول فقط لرجوعها في الجميع إليه إذا لم يكن في الكلام ما يوجب زيادة عليه
قوله "وعلى هذا" أي على أنها يتناول أحد المذكورين قلنا في قوله هذا حر أو هذا أو هذه طالق أو هذه إنه بمنزلة قوله أحدكما حر أو إحداكما طالق "وهذا الكلام"(2/215)
على احتمال أنه بيان حتى جعل البيان إنشاء من وجه وإظهارا من وجه على ما ذكرنا في مسائل العتاق في الجامع والزيادات ولهذا قلنا فيمن قال وكلت فلانا
ـــــــ
أي قوله هذا حر أو هذا أو قوله أحدكما حر إنشاء يحتمل الخبر أي يصلح أن يكون خبرا لأنه في وضعه الأصلي خبر كقولك للرجلين أحدكما عالم إلا أن الإخبار يقتضي تقدم المخبر عنه على ما عليه وضعه فاقتضى الإخبار عن الحرية وجود الحرية سابقا عليه ليصح الإخبار عنها فإذا لم تكن الحرية ثابتة جعلنا هذا الكلام إنشاء كأنه قال أنشئ الحرية احترازا عن الإلغاء والكذب أو جعلنا الحرية ثابتة قبيل هذا الكلام بطريق الاقتضاء تصحيحا له لأن إثباتها في ولايته فصار إنشاء شرعا وعرفا إخبارا حقيقة ولهذا إذا جمع بين حر وعبد وقال أحدكما حر يجعل إخبارا حتى لا يعتق العبد لأنه أمكن العمل بموضوعه الأصلي وهو الإخبار. وإذا كان إنشاء يحتمل الخبر أوجب التخيير من حيث إنه إنشاء حتى كان له أن يختار العتق في أيهما شاء بأن يبين العتق في أحدهما كما كان للمأمور في قوله اضرب زيدا أو عمرا أن يختار الضرب في أيهما شاء ومن حيث إنه خبر يوجب البيان أي الإظهار لا التخيير كما لو أعتق أحدهما عينا ثم نسيه فأخبر أن أحدهما حر لا يكون له أن يبين العتق في أيهما شاء بل وجب عليه أن يبين العتق في الذي أوقعه فيه إذا تذكر.
ثم إنه إذا تبين العتق في أحدهما كان له حكم الإنشاء من حيث إن الإيجاب الأول إنشاء وهو غير نازل في العين لأنه ما أوجبه إلا في النكرة والنكرة ضد المعرفة لغة فلا يمكن إثباته في غير ما أوجبه كما إذا أوقعه في سالم لا يمكن إثباته في بزيع والعتق إنما يتحقق في العين بالبيان فكان له حكم الإنشاء من هذا الوجه ولهذا شرط له أهلية الإنشاء وصلاحية المحل للإنشاء حتى لو مات أحد العبدين فبين العتق في الميت لا يصح ومن حيث إن الإيجاب يحتمل الخبر يكون البيان إظهارا أي هذا هو الذي أخبرت بحريته أو من حيث إن الذي أوقع العتق فيه معرفة من وجه لأنه لا يعدوهما بيقين كان العتق واقعا فيه فكان البيان إظهارا ولهذا يجبر عليه ولو كان إنشاء من كل وجه لما أجبر عليه وإذا اجتمع فيه جهتا الإنشاء والإظهار عمل بهما في الأحكام فاعتبرت جهة الإنشاء في موضع التهمة وجهة الإظهار في غير موضع التهمة. فإذا طلق إحدى نسائه الأربع ولم يكن دخل بهن فتزوج خامسة أو أخت إحداهن ثم بين الطلاق في أخت المتزوجة جاز له نكاح الخامسة ونكاح الأخت فاعتبر البيان إظهارا لعدم التهمة إذ يمكن له إنشاء الطلاق في التي عينها وتزوج أختها في الحال ولو كان دخل بهن لا يجوز نكاح الخامسة والأخت فاعتبر إنشاء في حق العدة لمكان التهمة ألا ترى أنه لا يتمكن من ذلك بإنشاء الطلاق في الحال ولو قال لامرأتيه أحديكما طالق فماتت أحديهما قبل البيان تعينت الباقية للطلاق لزوال(2/216)
أو فلانا ببيع هذا العبد إنه صحيح ويبيع أيهما شاء لأن أو في موضع الابتداء تخيير والتوكيل صحيح استحسانا وأيهما باعه صح وكذلك إذا قال وكلت به أحد هذين وكذلك إذا قال بع هذا أو هذا إنه صحيح ويبيع أيهما شاء لأن أو
ـــــــ
المزاحمة بخروج الميتة عن محلية الطلاق فإن قال عنيت الميتة حين تكلمت صدق في حق بطلان ميراثه عنها ولا يصدق في إبطال طلاق لأن الطلاق تعين فيها شرعا فلا يملك صرف الطلاق عنها بقوله ولو كانت تحته حرة وأمة قد دخل بهما فقال أحديكما طالق ثنتين ثم أعتقت الأمة ثم مرض الزوج وبين الطلاق في المعتقة فإنها تحرم حرمة غليظة ويصير الزوج فارا حتى ترث هي فاعتبر إظهارا في حق الحرمة لعدم التهمة وإنشاء في حق الإرث لمكان التهمة لأن حقها تعلق بماله في مرضه فهو بالبيان فيها يريد إبطال حقها. ولو قال لعبدين له قيمة أحدهما ألف وقيمة الآخر مائة أحدكما حر ثم مرض فبين العتق في كثير القيمة يصح ويعتبر من جميع المال فاعتبر جهة الإظهار لعدم التهمة لأن كل واحد من العبدين متردد بين أن يعتق وبين أن لا يعتق فكان بمنزلة المكاتب فلا يتعلق به حق الورثة بخلاف مسألة الفرار لتحقق التهمة هناك فاعتبر إنشاء وعلى هذا فقس المسائل في الزيادات
قوله "ولهذا" أي ولأن أو يتناول أحد المذكورين قلنا إذا قال وكلت هذا أو هذا ببيع هذا العبد صح التوكيل ولم يشترط اجتماعهما على البيع بخلاف ما لو قال وهذا وإذا باع أحدهما نفذ البيع ولم يكن للآخر بعد ذلك أن يبيعه وإن عاد إلى ملك موكله وقيل البيع يباح لكل واحد منهما أن يبيعه وفي القياس لا يجوز لجهالة من وكل ببيعه وجه الاستحسان أن هذه جهالة مستدركة فتحمل فيما هو مبني على التوسع
وكذلك إذا قال بع هذا أو هذا يصح التوكيل استحسانا أيضا ولم ينص محمد رحمه الله على القياس والاستحسان في هذه المسألة في الأصل كما نص في المسألة الأولى وفرق بعضهم فقالوا الجهالة فيما تناولته الوكالة بالبيع دون الجهالة فيمن هو وكيل بالبيع كما في الإقرار جهالة المقر به لا تمنع صحة الإقرار وجهالة المقر له تمنع من ذلك, والأصح أن الفصلين قياسا واستحسانا. ووجه القياس أن التوكيل بالبيع معتبر بإيجاب البيع وإيجاب البيع في أحدهما بغير عينه لا يصح للجهالة فكذلك التوكيل ووجه الاستحسان أن مبنى الوكالة على التوسع لأنه لا يتعلق اللزوم بنفسها وهذه جهالة مستدركة لا يفضي إلى المنازعة فلا يمنع صحة التوكيل يوضحه أن الموكل قد يحتاج إلى هذا لأنه لا يدري أي العبدين يروج فيوكله ببيع أحدهما توسعة للأمر عليه وتحصيلا لمقصود نفسه في الثمن.(2/217)
في موضع الابتداء للتخيير والتوكيل إنشاء والتخيير لا يمنع الامتثالوقلنا في البيع والإجارة إذا دخلت أو في المبيع أو في الثمن فسد العقد إلا أن يكون
ـــــــ
"قوله والتخيير لا يمنع الامتثال" جواب عما يقال إن الموكل إن ما أمره ببيع أحد الشيئين وهو مجهول فلا يمكنه الامتثال فينبغي أن لا يصح التوكيل فقال هذا الأمر يوجب التخيير وهو غير مانع عن الامتثال لأنه يمكنه الإتيان بأحدهما كما في قوله تعالى {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} "المائدة: 89"
قوله "وقلنا" معطوف على قلنا الأول أي ولأن أو لأحد الشيئين قلنا كذا وقلنا أيضا إذا دخلت أو في المبيع بأن قال بعت منك هذا الثوب أو هذا بعشرة أو في الثمن بأن قال بعت منك هذا الثوب بعشرة أو بعشرين فقال قبلت أو في المستأجر بأن قال آجرت اليوم هذا العبد أو هذا بدرهم أو في الأجرة بأن قال آجرت هذا العبد اليوم بدرهم أو بدرهمين فسد العقد في الفصول الأربعة لأن كلمة أو أوجبت التخيير ومن له الخيار منهما غير معلوم فبقي المعقود عليه أو المعقود به مجهولا جهالة مؤدية إلى المنازعة وهي مفسدة للعقد إلا أن يكون من له الخيار معلوما في اثنين أو ثلاثة بأن قال بعت هذا أو هذا على أنك بالخيار تأخذ أيهما شئت فحينئذ يصح العقد استحسانا. وقال زفر والشافعي رحمهما الله لا يجوز وهو القياس لأن المبيع أحد الثوبين أو الأثواب وأنه مجهول متفاوت فيمنع صحة العقد كما إذا لم يكن من له الخيار معلوما وكما لو اشترى أحد الأثواب الأربعة على أن يأخذ أيها شاء وجه الاستحسان أن هذه الجهالة بعد تعين من له الخيار لا يفضي إلى المنازعة لأن من له الخيار يستبد بالتعيين فلا تمنع جواز العقد بهذا الاعتبار لكن بقي في هذا العقد معنى الحظر لتردد عاقبته إذ يحتمل كل واحد من الثوبين أن يستقر العقد فيه وأن لا يستقر والحظر مفسد كالشرط فلما احتمل الشرط في الثلاثة الأيام في المحل الواحد دفعا للحاجة يتحمل الحظر ههنا أيضا في الثلاثة اعتبارا للمحل بالزمان لأن الحاجة متحققة ههنا أيضا لأنه يحتاج إلى اختيار من يثق به أو اختيار من يشتريه لأجله ولا يمكنه من الحمل إليه إلا بالتبع فكان في معنى ما ورد به الشرع
ولما لم يتحمل في الشرط أكثر من ثلاثة لاندفاع الحاجة بما دونه غالبا لم يتحمل ههنا أيضا في أكثر من ثلاثة لاندفاع الحاجة بما دونه إذ الثلاثة تشتمل على كل الأوصاف جيد ووسط ورديء فيصير الزيادة لغوا وصفا كذا في الأسرار
فإن قيل في البيع بشرط الخيار المعلق هو الحكم دون العقد وههنا المعلق نفس(2/218)
من له الخيار معلوما في اثنين أو ثلاثة فيصح استحسانا لأنه إذا لم يكن معلوما أوجب جهالة ومنازعة وإذا كان من له الخيار معلوما لم يوجب منازعة لكنه يوجب خطرا فاحتمل في الثلاث استحسانا
وقال أبو يوسف ومحمد في المهر
ـــــــ
العقد وهذا فوق ذلك فكيف يجوز الإلحاق به. قلنا نعم ولكن الحكم ثمة غير ثابت أصلا وههنا الحكم ثبت في أحدهما نكرة ففي حق الحكم تأثير شرط الخيار أكثر وفي حق العقد تأثير الشرط ههنا أكثر فاستويا فجاز الإلحاق ولا يقال لما جاز خيار الشرط عندهما في أكثر من ثلاثة بعد أن كانت المدة معلومة ينبغي أن يجوز خيار التعيين في أكثر من ثلاثة أيضا لأنا نقول إنهما إنما جوزا خيار الشرط في أكثر من ثلاثة بالأثر غير معقول المعنى فلا يمكن الإلحاق به.
وقوله "إلا أن يكون من له الخيار معلوما" يشير بعمومه إلى ثبوت خيار التعيين لكل واحد من المتبايعين وهو اختيار الشيخ أبي الحسن الكرخي وبعض المتأخرين من مشايخنا لأنه لما ثبت في جانب المشتري اعتبارا بخيار الشرط يثبت في جانب البائع أيضا اعتبارا به وذكر في المجرد أنه لا يجوز في حق البائع لأن الجواز في حق المشتري ثبت لدفع الحاجة وهو اختيار ما هو الأرفق بحضرة من يقع الشراء له ولا حاجة إلى ذلك في جانب البائع لأن المبيع قد كان معه قبل البيع
وتبين بما ذكرنا أن الاستثناء راجع إلى فصل المبيع دون الثمن حتى لو كان من له الخيار معلوما في فصل الثمن بأن قال بعت منك هذا الثوب بعشرة دراهم أو بدينار على أن آخذ منك أيهما شئت أو على أن تؤدي إلي أيهما شئت لا يصح لأن جوازه ثبت إلحاقا له بشرط الخيار وذلك إنما يثبت في المبيع دون الثمن ولأن الحاجة إليه في الثمن ليست مثل الحاجة في المبيع فيرد إلى القياس وكذا حكم الأجرة في عقد الإجارة فأما المستأجر فيه فمثل المبيع في خيار التعيين لأن خيار الشرط وخيار الرؤية وخيار العيب تجري فيه فيجري خيار التعيين أيضا
وذكر في الفصل السادس من إجارات "المحيط" الأصل أن الإجارة إذا وقعت على أحد شيئين وسمى لكل واحد أجرا معلوما بأن قال آجرتك هذه الدار بخمسة أو هذه الأخرى بعشرة أو كان هذا القول في حانوتين أو عبدين أو مسافتين مختلفتين نحو أن يقول إلى واسط بكذا أو إلى الكوفة بكذا فذلك جائز عند علمائنا. وكذا إذا خيره بين ثلاثة أشياء وإن ذكر أربعة أشياء لم يجز وكذا هذا في أنواع الصبغ والخياطة إذا ذكر ثلاثة جاز وإن زاد عليها لم يجز استدلالا بالبيع إلا أن فرق ما بين الإجارة والبيع أن الإجارة(2/219)
إذا دخله أوان التخيير إذا كان مفيدا أوجب التخيير مثل قوله في الجامع تزوجتك على ألف حالة أو ألفين إلى سنة أو ألف درهم أو مائة دينار أن للزوج أن يعطي أي المهرين شاء وإذا لم يفد التخيير مثل ألف أو ألفين لزمه الأقل إلا أن يعطي الزيادة لأن النكاح لما لم يفتقر إلى التسمية اعتبرت التسمية بالإقرار بالمال مفردا وبالوصايا وببدل الخلع والعتق والصلح عن المقصود وصار من
ـــــــ
يصح من غير شرط الخيار حتى أن من باع أحد العبدين لا يجوز إلا بشرط الخيار وإجارة أحد الشيئين يجوز من غير شرط الخيار
"قوله وقال أبو يوسف ومحمد" إلى آخره إذا تزوج امرأة على ألف حالة أو على ألفين إلى سنة أو على ألف درهم أو مائة دينار أو تزوجها على ألف أو ألفين أو على ألف حالة أو ألف نسيئة لا يحكم مهر المثل في هذه المسائل عندهما بحال بل يثبت الخيار للزوج إذا كان التخيير مفيدا بأن كان المالان مختلفين وصفا كما في الألف والألفين إلى سنة إذ كل واحد من المالين أنقص من الآخر من وجه وأزيد من وجه أو جنسا كما في الدراهم والدنانير فيعطي أي المهرين شاء لأن موجب هذه الكلمة التخيير وقد أمكن العمل به فوجب القول به وإن لم يكن التخيير مفيدا كما في الألف والألفين أو الألف الحالة والألف المؤجلة إذ لا فائدة في التخيير بين القليل والكثير في جنس واحد لزمه الأقل لأن تسمية المال في النكاح منفصلة عن العقد بدليل أنه لا يتوقف العقد على ذكره فكان ذلك بمنزلة التزام المال بغير عقد فيجب القدر المتيقن به وهو معنى قوله اعتبرت التسمية بالإقرار بالمال مفردا أي صار كأنه أقر لإنسان بألف أو ألفين أو أوصى لفلان بألف أو ألفين ولأن النكاح لا يحتمل الفسخ بعد تمامه والتخيير بين الألف والألفين لا يمنع صحة العقد فكان قياس الطلاق بمال والعتق بمال وهناك إذا سمى الألف والألفين يجب القدر المتيقن به فكذا ههنا ولا وجه للرجوع إلى مهر المثل لأنه موجب نكاح لا تسمية فيه وبالتخيير لا تنعدم التسمية كذا في "المبسوط".
وقوله وصار من يستفاد من جهته رد لما قاله أبو حنيفة رحمه الله في مسألة الجامع إن الخيار للمرأة إذا كان مهر مثلها ألفين أو أكثر فقالا من استفيد هذا الكلام من جهته أي صدر هذا الإيجاب منه أولى ببيانه لأنه هو المجمل فكان الخيار له بكل حال
قوله "وقال أبو حنيفة يصار إلى مهر المثل" أي يحكم مهر المثل في هذه المسائل كلها لأنه الواجب الأصلي في النكاح كالقيمة في باب البيع وأجر المثل في الإجارة وإنما يعدل عنه إذا كانت التسمية معلومة قطعا ولم يوجد فوجب المصير إليه.(2/220)
يستفاد من جهته أولى بالبيان والتخيير لأنه هو الموجب وقال أبو حنيفة رحمه الله يصار إلى مهر المثل لأن الثابت بطريق التخيير غير معلوم إلا بشرط الاختيار فلا يقطع الموجب المتعين بخلاف العتق والخلع والصلح عن القود لأنه لا يعارضه موجب متعين لأنه جائز بغير عوض فأما النكاح فلا ينعقد إلا بمهر المثلوعلى هذا قلنا في قول الله تعالى {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا
ـــــــ
فإن قيل إن الخلاف في النكاح الصحيح ما موجبه وموجبه المسمى فوجب المصير إليه ما أمكن وقد وجد في مسألة الألف والألفين تسميتان أحديهما لا شك فيها والأخرى فيها شك فتثبت الذي لا شك فيها فلم يجب مهر المثل.
قلنا النكاح لما صح بمهر المثل صار هو الواجب الأصلي لأن النكاح صحيح قبل التسمية فكانت التسمية زيادة لا محالة فحل محل أجر المثل في الإجارة الفاسدة فلا يجب العدول عنه بالشك كذا في "الأسرار" فصار الأصل عندهما أن الموجب الأصلي في النكاح هو المسمى فلا يمكن المصير إلى مهر المثل إلا إذا فسدت التسمية من كل وجه وأبو حنيفة رحمه الله يقول لما كان مهر المثل واجبا بنفس العقد كان هو الأصل فالعدول إلى المسمى حين صحت التسمية ولم يثبت ثم عند أبي حنيفة رحمه الله في مسألة الجامع وهي مسألة الألف الحالة والألفين إلى سنة إن كان مهر مثلها ألفي درهم أو أكثر فالخيار للمرأة إن شاءت أخذت الألف الحالة وإن شاءت كان لها الألفان إلى سنة لأنها التزمت أحد وجهي الحظ إما القدر وإما الأجل والمقاصد في ذلك مختلفة فوجب التخيير وإن كان مهر مثلها أقل من ألف درهم كان الخيار للزوج يعطيها أيهما شاء لأن مهر المثل هو الحكم وقد التزم الزوج أحد وجهين من الزيادة إما الزيادة إلى ألفي درهم لكن بصفة الأجل وإما ألف درهم من غير أجل وهما مختلفان فيختار أيهما شاء كذا في شرح الجامع للمصنف رحمه الله
قوله "وعلى هذا قلنا" أي على أن أو يتناول أحد المذكورين فيوجب التخيير في موضع الإنشاء قلنا في كفارة اليمين ما الواجبة بقوله تعالى {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} "المائدة: 89" وكفارة الحلق الواجبة بقوله عز اسمه {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} "البقرة: 196" وجزاء الصيد الثابت بقوله جل ذكره {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} "المائدة: 95" أن الواجب فيها وفي أمثالها واحد من الجملة غير عين والمكلف مخير في تعيين واحد منها فعلا لا قولا فيتعين في ضمن الفعل وهو مذهب جمهور الفقهاء ويسمى هذا واجبا مخيرا وذهبت شرذمة من الفقهاء العراقيين والمعتزلة(2/221)
تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} "المائدة:89" إن الواجب واحد من هذه الجملة يتعين باختياره من طريق الفعل لما ذكرنا أنها ذكرت في موضع الإنشاء فأوجب التخيير على احتمال الإباحة حتى إذا فعل الكل جاز فأما
ـــــــ
إلى أن الكل واجب عليه على سبيل البدل فإذا فعل أحدها سقط وجوب باقيها. ثم إنه إذا أتى بالكل كان الواجب واحدا منها عند الجمهور وهو الذي كان أعلاها قيمة ولو ترك الكل كان معاقبا على واحد منها وهو الذي كان أدناها قيمة لأن الفرض يسقط بالأدنى واختلف المخالفون في ذلك فعامتهم وافقونا فيه فكان الخلاف بيننا وبينهم لفظيا لا معنويا كما قال أبو الحسين البصري إنهم يعنون بوجوب الجميع أنه لا يجوز الإخلال بجميعها ولا يجب الإتيان به وللمكلف اختيار أي واحد كان وهو بعينه مذهب الفقهاء وقال بعضهم إنه إذا أتى بالجميع يثاب ثواب الواجب على كل واحد ولو ترك الجميع يعاقب على ترك كل واحد فعلى هذا كان الخلاف معنويا
قال صاحب "الميزان" وهذه المسألة بيننا وبين المعتزلة فرع مسألة أخرى وهي أن التكليف يبتنى على حقيقة العلم عندهم دون السبب الموصل إليه وإيجاب واحد من الأشياء غير عين تكليف بما لا علم للمكلف به لأن الواجب مجهول حالة التكليف فيكون تكليف ما ليس في الوسع. وعندنا التكليف يبتنى على سبب العلم لا على حقيقته كما يبتنى على سبب القدرة لا على حقيقتها وههنا طريق العلم قائم وهو الاختيار فلا يكون تكليف العاجز تمسكوا في ذلك بأن إيجاب أحد الأشياء إما أن يكون موجبه ثبوت الحكم في واحد منها عينا أو في واحد غير عين أو في الكل على سبيل الجمع أو على سبيل البدل لا وجه للأول والثالث لأنه خلاف النص والإجماع كيف والتخيير ينافيهما ولا للثاني لأنه تكليف بما هو غير معلوم للمكلف وقت التكليف والتكليف بإتيان المجهول تكليف ما ليس في الوسع وهو باطل فتعين القول بوجوب الكل على سبيل البدل وهو طريق مشروع موافق للأصول فإن فرض الكفاية مثل الجهاد وصلاة الجنازة يجب على الكل بطريق البدل حتى إذا قام به البعض سقط عن الباقين ولعامة العلماء أن الأمر بأحد الأشياء لما صح حتى لو ترك الكل أثم ولم يجز أن يكون أمرا بأحدها عينا ولا بالكل على سبيل الجمع لما ذكرنا ولا بالكل على سبيل البدل لأنه لو ترك الكل لا يأثم إلا إثم الواحد ولو أتى بالكل لا يثاب ثواب الواجب إلا على الواحد وذلك يخالف حد الواجب تعين أنه أمر بأحد الأشياء غير عين وهو جائز عقلا فإن السيد إذا قال لعبده أوجبت عليك خياطة هذا الثواب أو بناء هذا الحائط في هذا اليوم أيهما فعلت اكتفيت به وأثبتك به وإن تركتهما عاقبتك ولست أوجب الجميع وإنما أوجب واحدا لا بعينه أي(2/222)
أن يكون الكل واجبا فلا على ما زعم بعض الفقهاء وكذلك قولنا في كفارة الحلق وجزاء الصيد فأما قوله تعالى {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ} "المائدة:33" فقد جعله بعض الفقهاء للتخيير فأوجبوا التخيير في كل نوع من أنواع قطع الطريق وقلنا نحن هذه ذكرت على
ـــــــ
واحد أردت كان هذا كلاما معقولا ولا يفهم منه إيجاب الجميع للتصريح بنقيضه فكذا إذا ورد الشرع به وليس هذا تكليف ما ليس في الوسع لقيام سبب حصول العلم بالواجب عينا باختيار المكلف وشروعه في الفعل وذلك كاف لصحة التكليف.
قوله "فأوجب التخيير على احتمال الإباحة" التخيير الثابت بكلمة أو على وجهين أحدهما أن يثبت على وجه لا يجوز الجمع بين الكل كقولك اضرب زيدا أو عمرا كان له أن يضرب أيهما شاء ولا يجوز له الجمع لأن الأصل فيه الحظر وإنما يثبت الإباحة بعارض الأمر وأنه يتناول واحدا من الجملة فتقصر عليه والثاني: أن يثبت على وجه يجوز الجمع بين الكل كقولك جالس الفقهاء أو المحدثين كان له أن يجالس أي فريق شاء وأن يجالسهم جميعا لأن إباحة مجالستهم ومجالسة غيرهم قد كانت ثابتة قبل الأمر فبالأمر اقتصرت على المذكورين وصار معنى الكلام اقتصر على مجالسة هؤلاء ولا تجالس غيرهم
ثم إن كان الأمر للإباحة كما في النظير المذكور يحصل الامتثال بالجميع كما يحصل بالواحد لأن المقصود وهو الاقتصار حاصل بالجميع كما هو حاصل بالواحد وإن كان للوجوب كان الامتثال بالواحد لا غير وإن أتى بالجميع لأن الأمر لا يتناول إلا واحدا من الجملة ولكن لا يحرم عليه الإتيان بالجميع لأن الإباحة كانت ثابتة قبل الأمر فتبقى على ما كانت. فمن القسم الأول قول الرجل لآخر طلق من نسائي فلانة أو فلانة أو أعتق من عبيدي فلانا أو فلانا أو بع منهم فلانا أو فلانا وقول المرأة الطالبة للنكاح من أحد الكفوين لوليها زوجني فلانا أو فلانا يثبت التخيير في هذه الصور ولا يجوز الجمع لأن هذه الأشياء كانت محظورة على المأمور قبل الأمر ومن القسم الثاني خصال الكفارة وجزاء الصيد وصدقة الفطر فيثبت التخيير فيها على وجه يجوز الجمع لأن هذه الأشياء كانت مباحة قبل الأمر فبقيت على الإباحة فاتضح بما ذكرنا معنى قوله فأوجب التخيير على احتمال الإباحة وظهر أنه احتراز عن القسم الأول قوله تعالى {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} "اىلمائدة: 33" أي يحاربون أولياء الله ورسوله والمودة إذا استحكمت يضيف كل واحد من المحبين فعل صاحبه إلى نفسه وفي الخبر الإلهي: "من عادى لي(2/223)
سبيل المقابلة بالمحاربة والمحاربة معلومة بأنواعها عادة بتخويف أو أخذ مال أو قتل أو قتل وأخذ مال فاستغنى عن بيانها واكتفى بإطلاقها بدلالة تنويع الجزاء فصارت أنواع الجزاء مقابلة بأنواع المحاربة فأوجب التفضيل والتقسيم على حسب أحوال الجناية وتفاوت الأجزية وقد ورد بيانه على هذا المثال
ـــــــ
وليا فقد بارزني بالمحاربة1" أو ذكر اسم الله للتبرك وتشريف الرسول عليه السلام كما في قوله تعالى {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} "الأنفال :41" والمراد محاربة رسول الله ومحاربة المؤمنين في حكم محاربته {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} "المائدة 33" أي مفسدين أو لأن سعيهم لما كان على طريق الفساد نزل منزلة ويفسدون فانتصب فسادا على المعنى . ويجوز أن يكون مفعولا له أي للفساد والسعي هو المشي بسرعة واستعير في الكسب والتصرف لأنه يحصل به غالبا والمراد بالآية قطاع الطريق عند عامة أهل التفسير {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} ذهب الحسن والنخعي وسعيد بن المسيب ومالك إلى أن الإمام بالخيار في العقوبات المذكورة في حق كل قاطع طريق كذا في الكشاف "والمبسوط" وأشير في "شرح التأويلات" إلى أنه بالخيار بين القتل والصلب والقطع في كل نوع من أنواع قطع الطريق عندهم ولكن لا يجوز له الاقتصار على النفي لأن من أثبت التخيير لم يجعل النفي جزاء على حدة بل حمل كلمة "أو" في قوله {أَوْ يُنْفَوْا} "المائدة :33" على الواو والنفي على القتل فكان بمعناه وينفوا من الأرض بالقتل والصلب قالوا كلمة أو للتخيير بحقيقتها فيجب العمل بها إلى أن يقوم دليل المجاز لأن قطع الطريق في ذاته جناية واحدة وهذه الأجزية ذكرت بمقابلتها فيصلح كل واحد جزاء له فيثبت التخيير كما في كفارة اليمين ولكنا نقول لا يمكن القول بالتخيير ههنا لأن الجزاء على حسب الجناية يزداد بزيادتها وينتقص بنقصانها قال الله تعالى {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} "الشوري :40" فيبعد أن يقال عند غلظ الجناية يعاقب بأخف الأنواع وعند خفتها بأغلظ الأنواع تقريره أن الأمة أجمعت على أن القاتل أو آخذ المال لا يجازى بالنفي وحده وإن كان ظاهر الآية يقتضي التخيير بين الأجزية الأربعة في الكل فدل أنه لا يمكن العمل بظاهر التخيير كذا في شرح "التأويلات"
ثم المحاربة أنواع كل نوع منها معلوم من تخويف أو أخذ مال أو قتل نفس أو جمع بين القتل وأخذ المال وهذه الأنواع تتفاوت في صفة الجناية والمذكور أجزية متفاوتة في معنى التشديد فوقع الاستغناء بتلك المقدمة عن بيان تقسيم الأجزية على أنواع الجناية نصا وهذا التقسيم ثابت بأصل معلوم وهو أن الجملة إذا قوبلت بالجملة
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في الرقاق باب رقم 38 .(2/224)
بالسنة في حديث جبريل عليه السلام حين نزل بالحد على أصحاب أبي بردة على التفصيل فأما فيما سبق فلا أنواع للجناية على حسب اختلاف الأجزية فأوجب التخيير وهذا لأن مقابلة الجملة بالجملة يوجب التقسيم لا محالة والجناية بأنواعها لا تقع إلا معلومة فكذلك الجزاء
ـــــــ
ينقسم البعض على البعض كما يقال لمن يسأل عن حدود الكبائر هي جلد مائة أو ثمانين أو الرجم أو القطع يفهم منه التقسيم والتفصيل لا التخيير فكذا ههنا وتبين أن معنى النص أن جزاء المحاربين لا يخلو عن هذه الأنواع إما أن يقتلوا من غير صلب إن أفردوا القتل أو يصلبوا مع القتل إن جمعوا بين الأخذ والقتل {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ} إن أفردوا الأخذ قطع اليد لأخذ المال والرجل لإخافة السبيل أو لتغلظ الجناية بالمجاهرة {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} بالحبس إن أفردوا الإخافة, وذكر الشيخ أبو منصور رحمه الله في هذه الآية أن الأصل فيه أن كلمة أو متى ذكرت بين الأجزية المختلفة الأسباب يراد بها الترتيب كما في هذه الآية وإلا فهي للتخيير كما في كفارة اليمين.
قوله "وقد ورد بيانه" أي بيان الحد المذكور على هذا المثال وهو التقسيم على أحوال الجناية في حديث جبريل عليه السلام وهو ما روى محمد بن الحسن عن أبي يوسف عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم وادع أبا بردة وفي بعض الروايات أبا برزة هلال بن عويمر الأسلمي وهو الأصح على أن لا يعينه ولا يعين عليه فجاء أناس يريدون الإسلام فقطع عليهم أصحابه الطريق فنزل جبريل عليه السلام بالحد فيهم أن من قتل وأخذ المال صلب ومن قتل ولم يأخذ المال قتل ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف ومن جاء مسلما هدم الإسلام ما كان منه في الشرك" وفي رواية عطية عنه "ومن أخاف الطريق ولم يأخذ المال ولم يقتل نفي" ففي هذا الخبر تنصيص على أن كلمة أو ههنا للتفصيل دون التخيير
"فإن قيل" في هذا الحديث أنهم قطعوا على أناس يريدون الإسلام وبنفس الإرادة لا يثبت الإسلام ولا يخرج الكافر عن كونه حربيا وقد ثبت بالدليل أن من قطع على حربي طريقا لا يجب عليه الحد وإن كان مستأمنا
قلنا: قد قيل إنهم كانوا قد أسلموا فجاءوا يريدون الهجرة لتعلم أحكام الإسلام فكان معنى قوله يريدون الإسلام يريدون تعلم أحكام الإسلام. وقيل بل جاءوا على قصد أن يسلموا ومن جاء من دار الحرب على هذا القصد فوصل إلى دار الإسلام فهو بمنزلة أهل الذمة والحد يجب بقطع الطريق على أهل الذمة كما يجب بالقطع على المسلمين بخلاف المستأمنين.(2/225)
حتى قال أبو حنيفة رحمه الله فيمن أخذ المال وقتل إن الإمام بالخيار إن شاء قطعه ثم قتله أو صلبه وإن شاء قتله ابتداء أو صلبه لأن الجناية تحتمل الاتحاد والتعدد فكذلك الجزاء
ـــــــ
"فإن قيل" دل الحديث على أن من أخذ المال وقتل صلب ومن قتل ولم يأخذ المال قتل ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف فقد أوجب على كل فريق حدا على حدة بسبب قطع طريق واحد ومتى قطع الطريق جماعة فقتل البعض منهم وأخذ المال فإن الصلب يجب على الكل بلا تفصيل.
قلنا: الحد ذكر مطلقا في الحديث إذ لم يذكر فيه أن من أخذ المال وقتل منهم صلب فينصرف كل حد إلى نوع من قطاع الطريق على حدة ولا ينصرف كله إلى أصحاب أبي بردة فكان أصحابه سببا لبيان الحكم في كل نوع لا أن كان الحكم فيهم على التفصيل وأنه غير مضاف إليهم والعبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب كذا ذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله.
قوله "حتى قال أبو حنيفة" يعني لما انقسمت أنواع الجزاء على أنواع الجناية قال أبو حنيفة رحمه الله إذا جمع بين الأخذ والقتل كان للإمام الخيار إن شاء قطعه ثم قتله أو صلبه وإن شاء قتله أو صلبه من غير قطع لأنه اجتمع فيه جهة الاتحاد وجهة التعدد أما جهة التعدد فلأن السبب الموجب للقطع قد وجد والسبب الموجب للقتل قد وجد فيلزمه حكم السببين. وأما جهة الاتحاد فلأن الكل قطع المادة وهو واحد فكان له أن يقتصر على القتل أو الصلب وهذا نظير ما قال فيمن قطع يد رجل ثم قتله عمدا إن شاء الولي قطعه ثم قتله وإن شاء قتله من غير قطع لاجتماع جهتي التعدد والاتحاد كما مر بيانه في باب الأداء والقضاء وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله يصلبه الإمام لا غير لأن ظاهر قوله من قتل وأخذ المال صلب في حديث جبريل يدل على ما قالوا ولأن هذا الحد شرع جزاء قطع الطريق الآمن بأمان الله تعالى لإجراء أخذ المال وقتل النفس مجاهرة إذ الحق في تلك الحالة في المال والنفس لصاحبه إلا أن قطع الطريق يتقوى إذا خوف الناس بالقتل والأخذ جميعا فيزداد الحد كما ازداد الجناية فيزداد حد الزاني المحصن على حد البكر لقوة جنايته بزيادة الحرمة باجتماع الموانع من الزنا كذا في الأسرار.
قال القاضي الإمام وهذا هو الأصح عندنا وذكر الإمام خواهر زاده أن الجواب لأبي حنيفة عن الحديث أن المروي في رواية أبي صالح عن ابن عباس ما ذكرنا وقد روي في رواية الحجاج بن أرطاة عن عطية العوفي عن ابن عباس أن من أخذ المال وقتل قطعت يده(2/226)
ولهذا قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله فيمن قال لعبده ودابته هذا حر أو هذا إنه باطل لأنه اسم لأحدهما غير عين وذلك غير محل للعتق وقال أبو حنيفة رضي الله عنه هو كذلك لكن على احتمال التعيين حتى لزمه التعيين
ـــــــ
ورجله من خلاف وصلب فقد تعارضت الروايات في حديثه فسقط الاحتجاج به ووجب التمسك بما فعله النبي عليه السلام للعرنيين فإنه لم يتعارض فيه الروايات. وقد روي: "أن النبي عليه السلام أمر بقطع أيديهم وأرجلهم وأمر بتركهم في الحرة حتى ماتوا" فقد جمع بين القطع والقتل فأخذ أبو حنيفة بهذا لما تعارضت الروايات عن ابن عباس وأشار شمس الأئمة في "المبسوط" في جانب الجواب لأبي حنيفة رحمه الله إلى أن قوله من قتل وأخذ المال صلب بيان ما يختص بهذه الحالة لا بيان ما يختص هذه الحالة به فلا يجوز الصلب إلا في هذه الحالة ولكن يجوز فيها غيره عند قيام الدليل وقد وجد سبب القطع ولم يوجد عنه مانع فيجوز
قوله "ولهذا قال" أي ولأن أو لأحد المذكورين قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله لو جمع بين عبده ودابته فقال: هذا حر أو هذا لغا كلامه لأن أو لما كان لأحد الشيئين كان محل الإيجاب أحدهما غير عين وإذا لم يكن أحد المذكورين محلا للإيجاب فغير المعين منهما لا يكون صالحا وبدون صلاحية المحل لا يصح الإيجاب أصلا كذا في أصول شمس الأئمة. وهذا الكلام وسياق كلام الشيخ يشيران إلى أنه لو نوى عبده بهذا الإيجاب لا يعتق عندهما أيضا لأن اللغو والباطل لا حكم له أصلا وذكر في المبسوط ما يخالفه فقال إذا جمع بين عبده وبين ما لا يقع عليه العتق من ميت أو أسطوانة أو حمار فقال هذا حر أو هذا أو قال أحدكما حر لا يعتق عبده في قول أبي يوسف ومحمد إلا أن يعينه لأنه ردد الكلام بين عبده وغيره فلا يتعين عبده إلا بنيته كما لو جمع بين عبده وعبد غيره وقال أحدكما حر وهذا لأنه لما ضم إليه ما لا يتحقق فيه العتق صار كأنه قال لعبده أنت حر أو لا ولو قال ذلك لم يعتق إلا بالنية فكذا ههنا قوله "وقال أبو حنيفة" نعم هو كذلك أي سلم أبو حنيفة رحمه الله أن هذا الإيجاب يتناول أحدهما بغير عينه وأن غير العين ليس بمحل للعتق في مسألتنا ولكن لا يسلم أنه لا يحتمل التعين بل يقول يحتمله فإن المذكورين لو كانا عبدين له يتناول الإيجاب أحدهما على احتمال التعيين حتى وجب عليه التعيين وأجبر عليه كما في الإقرار ولو لم يكن محتمل كلامه لما أجبر عليه وكذا إذا مات أحدهما أو باع أحدهما يتعين الآخر للعتق فعلم أن التعيين يحتمله وإذا كان كذلك يحمل عليه عند تعذر العمل(2/227)
في مسألة العبدين والعمل بالمحتمل أولى من الإهدار فجعل ما وضع لحقيقته مجازا عما يحتمله وإن استحالت حقيقته كما ذكرنا من أصله فيما مضى وهما ينكران الاستعارة عند استحالة الحكم لأن الكلام للحكم وضع على ما سبق ولهذا قلنا فيمن قال هذا حر أو هذا وهذا إن الثالث يعتق ويخير بين الأولين لأن صدر الكلام تناول أحدهما عملا بكلمة التخيير والواو توجب الشركة فيما
ـــــــ
بحقيقته كما في قوله لأكبر سنا منه هذا ابني لأن العمل بالمحتمل أولى من الإلغاء ويلغو ذكر ما ضم إليه وصار كأنه قال لعبده هذا حر وسكت كما إذا أوصى بثلث ماله لحي وميت كانت الوصية كلها للحي بمنزلة ما لو قال ثلث مالي لفلان وسكت وهذا بخلاف عبد الغير لأنه محل لإيجاب العتق. ولكنه موقوف على إجازة المالك فلهذا لا يعتق عبده هناك وروى ابن سماعة عن محمد رحمهما الله أنه إذا جمع بين عبده وأسطوانة فقال أحدكما حر عتق عبده لأن كلامه إيجاب للحرية ولو قال هذا حر وهذا لم يعتق عبده لأن هذا اللفظ ليس بإيجاب للحرية بمنزلة قوله لعبده هذا حر أو لا.
قوله "ولهذا الأصل" وهو أن أو لإيجاب أحد الشيئين قلنا إذا قال لعبيده الثلاثة هذا حر أو هذا وهذا أنه يخير في الأولين ويعتق الثالث في الحال. وكذا الحكم في الطلاق إذا قال هذه طالق أو هذه وهذه وعند الفراء يخير بين الأول وبين الثاني والثالث إن شاء أوقع العتق على الأول وإن شاء على الثاني والثالث ولا يعتق أحد في الحال لأن الجمع بحرف الواو في مختلفي اللفظ كالجمع بكناية الجمع في متفقي اللفظ فصار كأنه قال هذا حر أو هذان ألا ترى أنه لو قال والله لا أكلم هذا أو هذا وهذا كان بمنزلة قوله لا أكلم هذا أو هذين حتى أنه إن كلم الأول حنث وإن كلم الآخرين حنث وإن كلم الثاني وحده أو الثالث وحده لم يحنث كذا في الجامع وعلى قياس ما ذكرتم يقتضي أنه لا يحنث إلا بأن يجمع في التكلم بين أحد الأولين وبين الثالث بمنزلة قوله لا أكلم أحد هذين وهذا. ولكنا نقول سوق الكلام لإيجاب العتق في أحدهما والعطف لإثبات الشركة فيما سبق له الكلام فصار قوله وهذا معطوفا على المقصود وهو المعتق منهما لا على الأول بعينه ولا على الثاني إذ ليس لكل واحد منهما عينا حظ من الإيجاب فلم يصلح العطف عليه وإنما الحظ لأحدهما غير عين فصار عطفا عليه كأنه قال أحدكما حر وهذا.
فأما مسألة اليمين فالقياس فيها ما ذكرنا وهو قول زفر رحمه الله ولكنا اخترنا الجواب الذي ذكرنا لأن الثابت بكلمة أو هنا نكرة في موضع النفي فأوجبت العموم على طريق الإفراد فكان تقدير صدر الكلام لا أكلم هذا ولا هذا فلما قال وهذا فقد عطف بواو(2/228)
سيق له الكلام فيصير عطفا على المعتق من الأولين كقوله أحدكما حر وهذا ثم يستعار هذه الكلمة للعموم بدلالة تقترن فيصير شبيها بواو العطف لا عينه فمن ذلك إذا استعملت في النفي صارت بمعنى العموم قال الله تعالى {وَلا
ـــــــ
الجمع وقضيتها الجمع فصار جامعا له إلى الثاني بنفي واحد فشارك الثاني وصار كأنه قال لا أكلم هذا ولا هذين والجمع في النفي يوجب الاتحاد في الحنث والتفريق يوجب الافتراق تقول والله لا أكلم فلانا وفلانا فلا تحنث حتى تكلمهما وتقول والله لا أكلم فلانا ولا فلانا فأيهما كلمته وجب الحنث فلذلك صار الجواب ما ذكرنا كذا في شرح الجامع للمصنف.
وذكر شمس الأئمة أنه لا وجه لتصحيح ما قاله الفراء لأن خبر المثنى غير خبر الواحد لفظا يقال للواحد حر وللاثنين حران والمذكور في كلامه من الخبر قوله حر وهو لا تصلح خبرا للاثنين ولا وجه لإثبات خبر آخر لأن العطف للاشتراك في الخبر المذكور أو لإثبات خبر مثل الأول لفظا لإثبات خبر آخر مخالفا له لفظا بخلاف مسألة اليمين لأن الخبر المذكور يصلح للمثنى كما يصلح للواحد فإنه يقول لا أكلم هذا لا أكلم هذين فلذلك صار كأنه قال لا أكلم هذا أو هذين. ولا يخلو هذا الكلام عن اشتباه والاعتماد على كلام الشيخ.
قوله "بدلالة تقترن" أي إنما يحمل على العموم بدليل يقترن بالكلام وقوله "فيصير شبيها بواو العطف" تفسير لذلك العموم أي يصير حرف شبيها بواو العطف من حيث إن كل واحد من المذكورين مراد من الكلام لا عينه أي عين الواو من حيث إن كل واحد على الانفراد مقصود والاجتماع ليس بحتم فيه بخلاف الواو فبقي فيه شبه الحقيقة من هذا الوجه وهو معنى قول الزجاج إن أو في النهي آكد من الواو لأنك لو قلت لا تطع زيدا وعمرا جاز للمنهي أن يطيع أحدهما ولو قلت لا تطع زيدا أو عمرا لم يجز له أن يطيع أحدهما كما لا يجوز له أن يطيعهما فمن ذلك أي من المذكور يعني من الدلالات المقترنة بها التي تدل على عمومها استعمالها في موضع النفي قال الله تعالى {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} "الإنسان: 24" أي ولا كفورا فحرم على النبي عليه السلام طاعتهما جميعا ولكن بصفة الانفراد. فإن قيل كانوا كلهم كفرة فما معنى القسمة في قوله {آثِماً أَوْ كَفُوراً} قلنا معناه ولا تطع منهم راكبا لما هو إثم داعيا لك إليه أو فاعلا لما هو كفر داعيا لك إليه لأنهم إما أن يدعوه إلى مساعدتهم إلى فعل هو إثم أو كفر أو غير إثم ولا كفر فنهي أن يساعدهم على الاثنين دون الثالث وقيل الآثم عتبة والكفور الوليد لأن(2/229)
تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} "الإنسان: 24" أي لا هذا ولا هذا وقال أصحابنا في الجامع في رجل قال والله لا أكلم فلانا أو فلانا إن معناه فلانا ولا فلانا حتى إذا كلم أحدهما يحنث ولو كلمهما لم يحنث إلا مرة واحدة ولا خيار له في ذلك حتى أنه لو استعمل هذا في الإيلاء بانتا جميعا ووجه ذلك أن كلمة أو لما تناولت أحد المذكورين كان ذلك نكرة وقد قامت فيها دلالة العموم وهو النفي
ـــــــ
عتبة كان ركابا للمأثم متعاطيا لأنواع الفسوق وكان الوليد غالبا في الكفر شديد الشكيمة في العتو كذا في الكشاف وإنما يعم في النفي لأن أو لما تناول أحد المذكورين غير عين كان من ضرورة صدق الكلام إذ نفاه انتفى الجميع إن كان خبرا كما مر تحقيقه وإن كان نهيا وليس في وسع العبد الانتهاء عن أحدهما غير عين كان من ضرورة حصول الانتهاء عن المنهي عنه وجوب الانتهاء عنهما ولهذا عمت في الإباحة أيضا لأنه لما أطلق المجالسة مثلا في قوله جالس الفقهاء أو المحدثين مع أحد الفريقين ومجالسة أحدهما غير عين لا يتصور ثبت العموم ضرورة تمكنه من العمل بحكم الإطلاق.
قوله "حتى إذا كلم أحدهما يحنث" بخلاف الواو فإنه في قوله وفلانا لا يحنث ما لم يكلمهما ولو كلمهما لم يحنث إلا مرة واحدة كما في الواو وكأنه جواب سؤال وهو أن يقال لما دخل كلام كل واحد منهما في اليمين على سبيل الانفراد ينبغي أن يكون يمينين فيحنث بالكلام معهما مرتين فقال لا يكون كذلك لأن تعدد الحنث بتعدد هتك حرمة اسم الله تعالى ولم يوجد إلا هتك واحد. وقوله "ولا خيار له في ذلك" بيان العموم يعني لو لم يكن للعموم بقي له الخيار كما في قوله لأكلمن اليوم فلانا أو فلانا فإن له أن يختار تكلم أحدهما للبر ولا يجب عليه التكلم مع الآخر ولو قال لا أكلم اليوم فلانا أو فلانا ليس له أن يختار الامتناع عن تكلم أحدهما مقتصرا عليه بل يجب عليه الامتناع عن تكلمهما جميعا.
قوله "لو استعمل هذا" أي الحرف أو في الإيلاء بأن قال لا أقرب هذه أو هذه أربعة أشهر يصير موليا منهما حتى لو لم يقربهما في المدة بانتا جميعا.
"فإن قيل" لما كانت كلمة أو لأحد المذكورين كان هذا بمنزلة قوله لا أقرب أحديكما كما في قوله هذه طالق أو هذه ولو قال والله لا أقرب أحديكما كان موليا من أحديهما لا منهما جميعا وإن كان في موضع النفي حتى لو مضت المدة ولم يقربهما بانت أحديهما والخيار إليه في التعيين والمسألة في إيمان الجامع فينبغي أن لا يتعمم ههنا أيضا(2/230)
على ما سبق فلذلك صار عاما إلا أنها أوجبت العموم على الإفراد لما أن الإفراد أصلها حتى أن من قال لا تطع فلانا أو فلانا فأطاع أحدهما كان عاصيا ولو قال وفلانا لم يكن عاصيا حتى يطيعهما وإذا حلف رجل لا يكلم فلانا وفلانا لم يحنث حتى يكلمهما ولو قال أو فلانا حنث إذا كلم أحدهما لأن الواو للعطف على سبيل الشركة والجمع دون الإفراد ومن ذلك إذا استعملت
ـــــــ
"قلنا" كان القياس في تلك المسألة أن يكون موليا منهما أيضا لأن إحدى كلمة تنبئ عن غير المعينة فكانت في معنى النكرة وقد وقعت في موضع النفي فيوجب التعميم كما لو قال والله لا أقرب واحدة منكما إلا أنها كلمة خاصة صيغة ومعنى لأنها لا تعم بسائر دلائل العموم فكذا بوقوعها في موضع النفي ألا ترى أنه لا تدخل عليها كلمة الإحاطة والعموم فلا يقال كل أحديكما وأنها لا توصل بكلمة التبعيض فلا يقال إحدى منكما فكانت في حكم المعارف فلا يتحقق فيها التعميم بالنفي أيضا بخلاف كلمة أو فإنها توجب العموم في موضع الإباحة فكذلك توجبه في موضع النفي وبخلاف الواحدة فإنها تعم بكلمة الإحاطة فكذلك بالنفي كذا في شرح الجامع للمصنف رحمه الله.
"على ما سبق أي" في باب ألفاظ العموم أن النفي من دلائل العموم في النكرة لما أن الإفراد أصلها لأنها في الأصل لتناول أحد المذكورين والعموم إنما يثبت فيه بعارض يقترن به وليس من ضرورة العموم الاجتماع بل يثبت العموم بصفة الإفراد أيضا كما في كلمة كل وكلمة من وهو أقرب إلى الحقيقة فيجب القول به رعاية للحقيقة بقدر الإمكان.
قوله "ومن ذلك إذا استعملت في موضع الإباحة" أي من القرائن التي تدل على عمومها استعمالها في موضع الإباحة لأن الإباحة دليل العموم لما ذكرنا أن الإباحة هي الإطلاق ورفع المانع وذلك في شيء غير معين يوجب العموم ضرورة التمكن من العمل به فإذا قيل جالس الفقهاء أو المحدثين يفهم منه جالس أحد الفريقين أو كليهما إن شئت ألا ترى إلى قوله تعالى {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} "الأنعام: 146" أن الاستثناء لما كان من التحريم حتى أوجب الإباحة تثبت الإباحة في جميع هذه الأشياء كما ثبتت في كل واحد منها وإلى قوله عز اسمه {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} "النور: 31" أن الاستثناء لما كان موجبا للإباحة جاز لهن إبداء مواضع الزينة لجميع المستثنيين كما جاز ذلك لكل واحد منهم فعرفنا أن موجبها في الإباحة العموم بمنزلة واو العطف.(2/231)
في موضع الإباحة تصير عامة لأن الإباحة دليل العموم فعمت بها النكرة كما يقال: جالس الفقهاء أو المحدثين. أي أحدهما أو كليهما إن شئت وفرق ما بين التخيير والإباحة أن الجمع بين الأمرين في التخيير يجعل المأمور مخالفا وفي الإباحة موافقا وإنما يعرف الإباحة من التخيير بحال تدل عليه وعلى هذا قال أصحابنا في الجامع فيمن حلف لا يكلم أحدا إلا فلانا أو فلانا إن له أن يكلمهما جميعا وكذلك قال لا أقربكن إلا فلانة أو فلانة فليس بمول منهما
ـــــــ
قال الإمام عبد القاهر إن أو في قولك جالس الحسن أو ابن سيرين للإباحة ومعناه أبحت لك هذا النوع وهو بمنزلة الواو من وجه ومفارق له من وجه آخر. أما موافقته للواو فمن حيث إن مجالستهما جميعا مما لا يكون فيه عصيان كما أنك إذا قلت جالس الحسن وابن سيرين كان كذلك وأما مفارقته للواو فهو أنه لو جالس واحدا منهما ولم يجالس الآخر كان جائزا ولو قال جالس الحسن وابن سيرين لم يجز إلا أن يجالس كل واحد منهما فأو يفيد إباحة الجمع والواو يوجبه.
قوله "وفرق ما بين الإباحة والتخيير" أي الفرق بين وقوع هذه الكلمة في موضع الإباحة وبين وقوعها في موضع التخيير أن الجمع بين الأمرين في الإباحة يجوز كما ذكرنا وفي التخيير لا يجوز ففي قولك اضرب زيدا أو عمرا لو ضربهما جميعا لم يجز ولو جمع بين خصال الكفارة كان ممتثلا بأحدها لا بالجميع لأنها لا يوجب العموم في موضع التخيير.
قوله "وإنما يعرف الإباحة من التخيير بحال تدل عليه" أي على أحد الأمرين وفي بعض النسخ عليها أي على الإباحة "وعلى هذا" أي على أن الإباحة عرفت بدلالة الحال قال أصحابنا أنها توجب العموم في هذه الأمثلة المذكورة لأن صدر الكلام في قوله لا أكلم أحدا وقوله لا أقربكن للحظر والاستثناء من الحظر إباحة فكانت كلمة أو في قوله إلا فلانا أو فلانا وإلا فلانة أو فلانة واقعة في موضع الإباحة فأوجبت العموم كما في قوله لا آكل طعاما إلا خبزا أو لحما كان له أن يأكلهما فكذلك ههنا. قال الشيخ في شرح الجامع الاستثناء نفي في اللغة ولكنه إن كان من الإثبات كان نفيا وإن كان من النفي كان إثباتا لأن نفي النفي إثبات والنفي من دلالات العموم فيعم بهذه الدلالة أيضا. وكذا في قوله قد برئ فلان من كل حق لي قبله يوجب حط الدعوى في جميع الحقوق فكان قوله إلا دراهم أو دنانير استثناء من الحظر معنى فيصلح دلالة على العموم.
قوله "وقال محمد" إلى آخره ذكر محمد رحمه الله في شروط الأصل إذا أراد(2/232)
وقالوا فيمن قال برئ فلان من كل حق لي قبله إلا دراهم أو دنانير إن له أن يدعي المالين جميعا لأن هذا موضع الإباحة فصار عاما ألا ترى أنه استثنى من الحظر فكان إباحة وقال محمد رحمه الله بكل قليل أو كثير على معنى الإباحة أي بكل شيء منه قليلا كان أو كثيرا وكذلك داخل فيها أو خارج أي داخلا أو خارجا ويجوز الواو فيهما وكذلك أحكام هذه الكلمة في الأفعال إن دخلت في
ـــــــ
الرجل أن يشتري دارا كتب هذا ما اشترى فلان بن فلان وساق الكلام إلى أن قال اشتراها بحدودها ومرافقها وطريقها وكل قليل وكثير هو فيها أو منها وكل حق هو فيها داخل فيها وخارج منها بكذا كذا درهما. قال شمس الأئمة ثم في هذا الكتاب يعني كتاب الشروط يقول بكل قليل وكثير وفي كتاب الوقف والشفعة قال بكل قليل أو كثير والذي ذكر ههنا أحسن لأن أو للشك وإنما يدخل عند ذكر حرف أو أحد المذكورين لا كلاهما فأشار الشيخ إلى أنهما سواء لأنها توجب العموم ههنا لأنها للإباحة في هذا الموضع إذ الأصل حرمة التصرف في حق الغير وهذا الكلام لإطلاق التصرف في الحقوق وإباحته فلذلك أوجبت العموم وهو معنى قوله على معنى الإباحة أي ذكر هذا اللفظ على معنى إباحة التصرف ومعناه بكل شيء منه أي من المبيع قليلا كان أو كثيرا فيوجب العموم ضرورة ألا ترى أن هذا الكلام يذكر على سبيل المبالغة في إسقاط حق البائع عن المبيع وعما هو متصل به حتى دخل فيه الثمرة والزرع وكذا يدخل فيه الأمتعة إن كان قال أو فيها ولذلك قال أبو يوسف لا يكتب هذا اللفظ يعني قوله بكل قليل أو كثير لأنه إذا كتب هذا دخل فيه الأمتعة الموضوعة فيها لأن ذلك كله مما يحتمل البيع. وقال محمد أرى أن يقيد ذلك الكتاب فيقول هو فيها أو منها من حقوقها وإذا كان كذلك كان حرف أو مساويا للواو في هذا الموضع ولا يقال لو ثبت الملك للمشتري في الطريق والشرب بطريق الإباحة لأمكن للبائع الرجوع فيها لأنا نقول لا يمكن الرجوع لأنها يثبت في ضمن عقد لازم وهو البيع فأعطى لها حكم المتضمن في اللزوم .
"قوله وكذلك داخل فيها أو خارج" يعني أو للعموم في هذا الكلام كهو في الكلام الأول فكان مساويا للواو قال الطحاوي المختار عندنا أن يكتب بكل حق هو لها داخل فيها وكل حق هو لها خارج منها لأنه إذا قال وخارج منها فإنما يتناول هذا شيئا واحدا منعوتا بالنعتين جميعا وهذا لا يتصور والمشروط في العقد بنعتين لا يدخل في العقد بأحد النعتين خاصة فالأحسن أن يقول بكل حق هو لها داخل فيها وكل حق هو لها خارج منها بخلاف قوله وكل قليل وكثير لأن القليل جزء من الكثير فلا حاجة إلى أن يقول وكل قليل وكل كثير وههنا الحقوق الداخلة غير الحقوق الخارجة فلهذا يذكرهما(2/233)
الخبر أفضت إلى الشك وإن دخلت في الابتداء أوجبت التخيير مثل قول الرجل والله لأدخلن هذه الدار أو لأدخلن هذه الدار أو لا أدخل هذه الدار أو لا أدخل هذه الدار إن له الخيار ولها وجه آخر هنا وهو أن يجعل بمعنى حتى أو إلا أن وموضع ذلك أن يفسد العطف لاختلاف الكلام ويحتمل ضرب الغاية
ـــــــ
جميعا على نحو ما بينا ويمكن أن يجاب عما ذكر الطحاوي بأنه لما لم يتصور اجتماع الوصفين بشيء واحد اقتضى الكلام إضمار منعوت آخر بدلالة العطف كما في قولك جاء زيد وعمرو لما لم يتصور اشتراكهما في مجيء واحد اقتضى إعادة الفعل حتى كان التقدير جاء زيد جاء عمرو فلا يحتاج إلى التكلف المذكور.
قوله "وإن دخلت في الابتداء أوجبت التخيير" يعني كان له أن يختار أحد المذكورين تحقيقا لموجب الكلام حتى كان له في قوله والله لأدخلن هذه الدار اليوم أو لأدخلن هذه الدار أن يختار دخول أيهما شاء للبر ولا يشترط دخولهما لأنه التزم دخول أحديهما فلو لم يبر بدخول أحديهما لصار ملتزما دخولهما وليس ذلك موجب هذه الكلمة في الإثبات فأما في النفي بأن قال والله لا أدخل هذه الدار أو لا أدخل هذه الدار فلا يوجب التخيير حتى لا يكون له أن يختار عدم دخول إحدى الدارين للبر بل يوجب العموم على سبيل الإفراد حتى يشترط للبر عدم دخولهما جميعا ويحنث بدخول أيتهما وجد إذ لو لم يحنث بدخول أحديهما لصارت اليمين واقعة عليهما جميعا وذلك باطل كذا في شروح الجامع فتبين بما ذكرنا أن قوله وإن دخلت في الابتداء أوجبت التخيير مختص بحالة الإثبات وأن. قوله أن له الخيار حكم المسألة الأولى دون الثانية.
قوله "ولها" أي لهذه الكلمة وجه آخر ههنا أي معنى آخر في الأفعال لا يوجد ذلك في الأسماء وهو أن يجعل بمعنى حتى أو إلا أن اعلم أن أو حرف عطف كما مر بيانه فإذا وجد الفعل بعده منصوبا من غير أن يوجد معطوف عليه منصوب كقولك لألزمنك أو تعطيني حقي فذلك بإضمار أن كأنك قلت لألزمنك أو أن تعطيني حقي وذلك أنك لو قلت لألزمنك أو تعطيني بالرفع عطفا على الأول لكنت قد أثبت الإعطاء كما أثبت اللزوم ولم تقدر أن اللزوم لأجل الإعطاء ونزول قولك منزلة قول الرجل اضرب زيدا أو عمرا فلما كان القصد أن اللزوم لأجل الإعطاء حتى كأنه قيل لألزمنك لتعطيني وجب إضمار أن ليعلم أن الثاني لم يدخل في حكم الأول وقدر ما قبل أو تقدير المصدر كأنه قيل ليكونن لزوم مني أو إعطاء منك وينزل الكلام منزلة قولك لألزمنك إلى أن تعطيني وحتى تعطيني ويكون حرف الجار أعني إلى أو حتى داخلا على الاسم في المعنى لا على الفعل وإن جعلت أو بمعنى إلا وجب إضمار أن أيضا لأن الاستثناء حينئذ من عام الظرف الزماني(2/234)
وذلك مثل قول الله عز وجل {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} "آل عمران: 128" أي حتى يتوب عليهم, أو إلا أن في بعض الأقاويل, لأن العطف لم يحسن الفعل على الاسم وللمستقبل على الماضي فسقطت حقيقته واستعير لما يحتمله وهو الغاية لأن كلمة أو لما تناولت أحد المذكورين كان احتمال كل واحد منهما متناهيا بوجود صاحبه فشابه الغاية من هذا الوجه فاستعير
ـــــــ
فيلزم أن يكون المثنى ظرفا زمانيا أيضا ولا يمكن ذلك إلا إذا كان ما بعد إلا مصدرا مضافا إليه الزمان على نحو إلا وقت إعطائك فوجب إضمار أن ليكون المضارع في تقدير المصدر وكان المعنى لزومي إياك واقع في كل الأوقات إلا وقت إعطائك وموضع ذلك أي موضع أن يجعل أو بمعنى حتى أو إلا أن أن يفسد العطف لاختلاف الكلام بأن يكون أحدهما اسما والآخر فعلا أو يكون أحدهما ماضيا والآخر مستقبلا ويحتمل ضرب الغاية بأن كان محتملا للامتداد. وذلك أي الموضع الذي جعل أو فيه بمعنى حتى أو إلا أن مثل قوله تعالى {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} فإن أو هنا بمعنى حتى أو إلا أن في بعض الأقاويل ومعناه على هذا القول ليس لك من الأمر في عذابهم أو استصلاحهم شيء حتى يقع توبتهم أو تعذيبهم وما عليك إلا أن تبلغ الرسالة وتجاهد حتى تظهر الدين وذلك لأن العطف لما لم يحسن لأن قوله أو يتوب إما إن كان معطوفا على شيء أو ليس على هذا القول فيلزم عطف الفعل على الاسم أو المستقبل على الماضي. سقطت حقيقته أي حقيقة أو ووجب العمل بمجازه فاستعير لما يحتمله وهو الغاية لأن معنى أو يناسب معنى الغاية لأنه لما تناول أحد المذكورين كان تعيين كل واحد منهما باعتبار الخيار قاطعا لاحتمال الآخر وهذا يناسب معنى الغاية. وكذا يناسب معنى الاستثناء لما قلنا فلذلك جعل بمعنى حتى أو إلا
وذكر في الكشاف أن قوله تعالى {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} عطف على ما قبله وليس لك من الأمر شيء اعتراض والمعنى أن الله تعالى مالك أمرهم فإما أن يهلكهم أو يهزمهم أو يتوب عليهم إن أسلموا أو يعذبهم إن أصروا على الكفر وليس لك من أمرهم شيء إنما أنت عبد مبعوث لإنذارهم ومجاهدتهم. وقيل أو يتوب منصوب بإضمار أن وأن يتوب في حكم اسم معطوف بأو على الأمر أو على شيء أي ليس لك من أمرهم شيء أو من التوبة عليهم أو من تعذيبهم أو ليس لك من أمرهم شيء أو التوبة عليهم أو تعذيبهم وقيل أو بمعنى إلا أن كقولك لألزمنك أو تعطيني حقي على معنى ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله عليهم فتفرح بحالهم أو تعذيبهم فيتشفى منهم.(2/235)
للغاية والكلام يحتمله لأنه للتحريم وهو يحتمل الامتداد وكذلك يقال والله لا أفارقك أو تقضيني حقي معناه حتى تقضيني حقي أو إلا أن تقضيني حقي وهذا كثير في كلام العرب لا يحصى وعلي هذا قال أصحابنا فيمن قال: والله لا أدخل هذه الدار أو أدخل هذه الدار الأخري أن معناه حتي أدخل هذه فإن دخل الأولي
ـــــــ
قوله "والكلام يحتمله" أي تقبل معنى الغاية لأنه للتحريم فإنه روي في سبب نزول الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم استأذن أن يدعو عليهم فنهي عن ذلك وروي أنه لما شج وجهه عليه السلام يوم أحد سأله أصحابه أن يلعنهم ويدعو بهلاكهم فقال عليه السلام: "ما بعثني الله لعانا ولا طعانا ولكن بعثني داعيا ورحمة اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون" فنزلت الآية ونهي عن سؤال الهداية لهم فلما كان الكلام للتحريم كان محتملا للغاية. "وهذا كثير في كلام العرب" يعني أو بمعنى حتى وإلا أن كثير في كلامهم مثل قول امرئ القيس:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه ... وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
فقلت له لا تبك عينك إنما ... نحاول ملكا أو نموت فنعذرا
ومثل قول الآخر:
لا أستطيع نزوعا عن مودتها ... أو يصنع البين بي غير الذي صنعا
قوله "وعلى هذا" أي على أن أو يحتمل معنى الغاية قال أصحابنا إذا قال: والله لا أدخل هذه الدار أو أدخل هذه الدار الأخرى أن أو في هذه المسألة بمعنى حتى فيحنث بدخول الأولى أولا وإن دخل الأخرى أولا بر في يمينه لأنه لما لم يكن بين النفي والإثبات ازدواج تعذر العطف والكلام يحتمل الغاية لأنه تحريم فتركت الحقيقة وحملت على الغاية مجازا فإذا دخل الأولى قبل الأخرى فقد باشر المحظور بيمينه فحنث وإذا دخل الثانية أولا فقد أصر على البر إلى وجود الغاية فصار بارا كما لو. قال والله لا أدخلها اليوم فلم يدخل حتى غربت الشمس كذا ذكر في عامة شروح الجامع إلا أن تعذر العطف باعتبار النفي والإثبات غير مسلم عند النحاة فإن النفي يعطف على الإثبات وعلى العكس يقال جاءني زيد وما جاءني عمرو وما رأيت عمرا لكن رأيت بشرا قال الله تعالى {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} "الأنعام: 82" فالأولى أن يقال تعذر العطف باعتبار عدم تقدم فعل منصوب يعطف الثاني عليه حتى لو قال أو أدخل بالرفع ينبغي أن يصح العطف ويثبت التخيير أو يقال تعذره باعتبار أن الفعل المضارع مع أن في حكم الاسم وانتصابه ههنا لا يصح إلا بإضمار أن فيلزم منه عطف الاسم على الفعل وهو فاسد فلذلك جعل بمعنى الغاية.(2/236)
أولا حنث وإن دخل الأخيرة أولا انتهت اليمين وتم البر لما قلنا إن العطف متعذر لاختلاف الفعلين من نفي وإثبات والغاية صالحة لأن أول الكلام حظر وتحريم فلذلك وجب العمل بمجازه والله أعلم
ـــــــ
وقوله والغاية صالحة احتراز عن قوله والله لا أدخل هذه الدار أبدا أو لأدخلن هذه الدار الأخرى اليوم فإن أو في هذه المسألة ليس بمعنى الغاية لأنه وإن جمع بين النفي والإثبات والازدواج بينهما لكن النفي مؤبد والإثبات موقت والموقت لا يصلح غاية للمؤبد لأن المؤبد لا ينتهي إلا بالموت وإذا تعذر جعله غاية وجب العمل بالتخيير فيصير ملتزما الكفارة بإحدى اليمينين كأنه قال: إن حنثت في هذه اليمين أو في هذه اليمين فعلي كفارة وشرط الحنث في اليمين الأولى الدخول في الدار الأولى وفي الثانية ترك الدخول في الدار الثانية في اليوم فإذا دخل الأولى حنث في اليمين الأولى وبطلت اليمين الثانية لأنه خير نفسه في التزام الحنث بإحدى اليمين فإذا لزمه الحنث بأحديهما بطلت الأخرى كما لو قال لامرأته أنت طالق إن دخلت هذه الدار أو لم أدخل هذه الدار اليوم فحنث في أحدهما لزمه جزاؤه وبطل الآخر. ولو لم يدخل الأولى ودخل الدار الثانية اليوم بر في اليمين الثانية وبطلت الأولى لأنه اختار يمين الإثبات وإن لم يدخلهما حتى مضى اليوم حنث في الثانية لأن شرط البر فيها الدخول في الدار الثانية في اليوم وقد فات فيحنث فيها وتبطل الأولى لما قلنا كذا في شرح الجامع لشمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله.(2/237)
"باب حتى"
هذه كلمة أصلها للغاية في كلام العرب هو حقيقة هذا الحرف لا يسقط ذلك عنه إلا مجازا ليكون الحرف موضوعا لمعنى يخصه وقد وجدناها تستعمل
ـــــــ
"باب كلمة حتى"
كلمة حتى من الحروف الجارة كما هي من الحروف العاطفة فأفردها الشيخ بباب على حدة وأورد الباب بين باب حروف العطف وباب حروف الجر رعاية للتناسب, "هذه كلمة أصلها للغاية" أي هي في أصل الوضع للغاية في كلامهم, "هو حقيقة هذا الحرف" أي معنى الغاية هو المعنى الحقيقي لهذا الحرف لا يسقط معنى الغاية عنه أي عن هذا الحرف, "إلا مجازا" أي إلا إذا استعملت مجازا كما إذا استعملت للعطف المحض في الأفعال فإن معنى الغاية غير مراد حينئذ كسائر الحقائق إذا استعملت في غير موضوعاتها ليكون الحرف موضوعا لمعنى يخصه اللام متعلقة بقوله هو حقيقة هذا الحرف والضمير المستكن في يخصه إما أن يكون راجعا إلى الحرف والبارز إلى معنى أو على العكس أي إنما قلنا معنى الغاية حقيقة هذا الحرف ليكون الحرف موضوعا لمعنى يخص ذلك الحرف بذلك المعنى فينتفي الاشتراك أو يخص ذلك المعنى بذلك الحرف فينتفي الترادف.
فإن قيل: كيف ينتفي الترادف وقد وضع للغاية حرف إلى أيضا. قلنا قد ثبت الفرق المانع من الترادف بينهما وذلك أن الغاية في حتى يجب أن تكون موضوعة بأن تكون شيئا ينتهي به المذكور أو عنده كالرأس للسمكة والصباح للبارحة ولا يشترط ذلك في إلى فامتنع قولك نمت البارحة حتى نصف الليل وصح نمتها إلى نصف الليل قال الله تعالى {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} "المائدة: 6". واليد من رءوس الأصابع إلى المنكب ومن ذلك لا يدخل حتى على مضمر فلا يقال حتاه بخلاف إلى فإنه يدخل على المضمر والمظهر جميعا لأن الغاية في "حتى" لما وجب أن يكون آخر جزء من الشيء أو ما يلاقي آخر جزء منه والمضمر لا يمكن أن يكون جزءا من الشيء بل هو نفسه امتنع دخوله على المضمر ولما لم يشترط ذلك في إلى لم يمتنع دخوله على المضمر. وذكر في كتاب(2/238)
للغاية لا يسقط عنها ذلك فعلمنا أنها وضعت له فأصلها كمال معنى الغاية فيها وخلوصها لذلك بمعنى إلى كقول الله عز وجل {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} "القدر: 5" وتقول أكلت السمكة حتى رأسها أي إلى رأسها فإنه بقي أي بقي الرأس وهذا
ـــــــ
بيان حقائق الحروف أن إلى لانتهاء له ابتداء فيما يدل عليه على نقيض من تقول خرجت من البصرة إلى الكوفة فمن لابتداء الغاية وإلى لانتهاء بها ولا يجوز أن يستعمل حتى في مقابلة من لا يقال خرجت من البصرة حتى الكوفة وذلك لأن إلى أصل في الغاية لا تخرج من معناها إلى معنى آخر وحتى ضعيف في معنى الغاية فإنها تخرج إلى غيرها من المعاني.
قوله "وقد وجدناها تستعمل للغاية" جواب عما يقال قد سلمنا أن الأصل في الكلمة أن تكون موضوعة لمعنى خاص ولكن لا نسلم أن ذلك المعنى هو الغاية هاهنا بل يحتمل أن يكون غيره لكونها مستعملة في غيره. فقال قد وجدناها مستعملة في الغاية بحيث لا تسقط معنى الغاية عنها وإن استعملت في معان أخر كما سنبين فعرفنا أن معنى الغاية هو المعنى الأصلي لهذا الحرف وأنه موضوع لهذا المعنى.
قوله "فإنه بقي" اعلم أن مذهب أكثر النحاة أن ما بعد حتى ليس بداخل فيما قبلها كما في إلى ففي قولهم أكلت السمكة حتى رأسها ونمت البارحة حتى الصباح لم يؤكل الرأس وما نيم الصباح وذلك لأن الأصل في الغاية أن لا تكون داخلة في المغيا لما عرف. ويؤيده قوله تعالى {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} "القدر: 5". فإنه إن وقف على سلام لم يدخل مطلع الفجر تحت حكم الليلة. وكذا إن لم يقف لأن سلام الملائكة ينتهي عند طلوع الفجر على ما روي في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "أن جبريل عليه السلام ينزل ليلة القدر في كبكبة من الملائكة ومعه لواء أخضر يركزه فوق الكعبة ثم يتفرق الملائكة في الناس حتى تسلموا على كل قائم وقاعد وذاكر وراكع وساجد إلى أن يطلع الفجر" . وقد صرح في شرح الملحمة فقيل ما أكل الرأس وما نيم الصباح في مسألتي السمكة والبارحة.
وذهب الإمام عبد القاهر إلى أن ما بعد حتى داخل فيما قبلها نص عليه في "المقتصد" فقال ويكون ما بعد حتى داخلا فيما قبله ألا ترى أنك إذا قلت أكلت السمكة حتى رأسها كان المعنى أن الأكل قد اشتمل على الرأس. وكذا قولك ضربت القوم حتى زيدا لمعنى أن زيدا قد ضربته. قال وإذا كانت عاطفة كان مجراها مجرى الجارة في تضمن معنى الغاية تقول ضربت القوم حتى زيدا ومررت بالقوم حتى زيد وجاءني القوم(2/239)
على مثال سائر الحقائق ثم قد يستعمل للعطف لما بين العطف والغاية من المناسبة مع قيام معنى الغاية تقول جاءني القوم حتى زيد ورأيت القوم حتى
ـــــــ
حتى زيد. وقد صرح بأن في مسائل السمكة الثلاث ومسائل البارحة الثلاث قد أكل الرأس ونيم الصباح. وتابعه في ذلك جار الله فقال في المفصل ومن حقها أن يدخل ما بعدها فيما قبلها ففي مسألتي السمكة والبارحة قد أكل الرأس ونيم الصباح. وذلك لأن الغرض أن ينقضي الشيء الذي تعلق به الفعل شيئا فشيئا حتى يأتي الفعل على ذلك الشيء كله فلو انقطع الأكل عند الرأس لا يكون فعل الأكل آتيا على السمكة كلها ولذلك امتنع أكلت السمكة حتى نصفها لأن الغرض لما كان ما ذكرنا وهو قد فات في الغاية الجعلية خلا الكلام عن الفائدة فلم يصح.
ورأيت في نسخة من شروح النحو أن كلمة حتى إذا كانت للغاية لا تدخل الغاية تحت ما ضربت له الغاية وهكذا قال ابن جني1 وإليه كان يميل الشيخ أبو منصور السفار والشيخ الإمام علي البزدوي ولكن لا يستقيم هذا على الإطلاق بل نقول إن كان المذكور بعد حتى بعضا للمذكور قبله يدخل تحت ما ضربت له الغاية وإن لم يكن لا يدخل على هذا نص المبرد2 في كتاب المقتضب وابن الوراق في الفصول3 والفراء في المعاني وهكذا ذكر السيرافي4 أيضا.
مثال الأول زارني أشراف البلدة حتى الأمير وسبني الناس حتى العبيد. ومثال الثاني قرأت القرآن حتى الصباح فالصباح لا يكون داخلا لأنه ليس بعض الليل وكان حتى هاهنا بمعنى إلى. فتبين بما ذكرنا أن ما ذكر الشيخ في الكتاب هو اختيار مذهب الأكثر وعرفت به أيضا أن ما وقع عند البعض أن ما ذكره الشيخ سهو لأنه خلاف ما في الكتب المشهورة أو تصحيف فإنه من النفي لا من البقاء ومعناه أكل وهم بين وتكلف ظاهر.
قوله "ثم قد يستعمل" أي حرف حتى للعطف أي فيه أو يضمن يستعمل معنى يستعار لما بين الغاية والعطف من المناسبة من حيث إن المعطوف يتصل بالمعطوف عليه ويتوقف عليه والغاية تتصل بالمغيا وتترتب عليه ولكن مع قيام معنى الغاية.
ـــــــ
1 هو عثمان بن جني الموصلي أبو القتح توفي سنة 392ه أنظر وفيات العيان 3/246-248.
2 هو العباس محمد بن يزيد بن عبدالأكبر بن عمير بن حسان الأزدي ولد سنة 210ه توفي سنة 285ه أنظر وفيات الأعيان 4/313-322.
3 ابن الوراق هو محمد بن عبدالله بن العباس البغدادي أبو الحسن هدية العارفين 2/52.
4 هو أبو سعيد السرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان ولد سنة 280ه توفي سنة 368ه أنظر معجم الأدباء 8/145-232.(2/240)
زيدا فزيدا إما أفضلهم وإما أرذلهم ليصلح غاية ألا ترى إلى قولهم استنت الفصال حتى القرعى فجعل عطفا هو غاية فكانت حقيقة قاصرة وعلى هذا أكلت السمكة حتى رأسها بالنصب أي أكلته أيضا وقد تدخل على جملة مبتدأة على مثال واو العطف إذا استعملت لعطف الجمل وهي غاية مع ذلك فإن
ـــــــ
قال الإمام عبد القاهر وإذا كانت هذه الكلمة عاطفة كانت مجراها مجرى الجارة في تضمن معنى الغاية تقول ضربت القوم حتى زيدا ومررت بالقوم حتى زيد وجاءني القوم حتى زيد بذلك على تضمنه معنى العطف إنك لو حررت كان المعنى صحيحا وإنما يتغير بالعطف الحكم وهو أنها تتبع الثاني الأول كالواو. ويكون لتعظيم نحو قولهم مات الناس حتى الأنبياء. أو تحقير مثل قولهم قدم الحاج حتى المشاة. وحتى هذه مخالفة لسائر حروف العطف في أن ما بعدها يجب أن يكون مجانسا لما قبلها فلا تقول ضربت القوم حتى حمارا وضربت الرجال حتى امرأة كما تقول ضربت القوم وحمارا وذلك لأنها للغاية والدلالة على أحد طرفي الشيء ولا يتصور أن يكون طرف الشيء من غيره فلو قلت رأيت القوم حتى حمارا كنت جعلت الحمار طرفا للقوم منقطعا لهم ولهذا كان فيها التعظيم والتحقير لأن الشيء إذا أخذ من أدناه فأعلاه غاية له وطرف فالأنبياء غاية جنس الناس إذا أخذنا من المراتب واستقويناها صاعدين. وإذا أخذ من أعلى الشيء فأدناه طرف له وذلك كالمشاة في الحاج تأخذ من الأقوياء الراكبين وتنزل فتنتهي إلى المشاة وهي منقطع الجنس كما كان الأنبياء في الوجه الأول.
وعلى هذا قالوا لو قال أعتقت غلماني حتى فلانة أو أعتقت إمائي حتى سالما لم يعتق ما دخل عليه كلمة حتى لأن الغلمان والإماء جنسان مختلفان. ولو قال أعتقت سالما حتى مباركا أو حتى مبارك لا يعتق مبارك لأنه ليس بجزء لسالم. بخلاف ما لو قال إلى مكان حتى في هذه المسائل فإنهم يعتقون جميعا لإمكان حمل إلى على معنى مع كما في قوله تعالى. {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} "النساء: 2". كذا في كتاب بيان حقائق الحروف.
قولهم استنت الفصال حتى القرعى. الاستنان هو أن يرفع يديه ويطرحهما معا وذلك في حالة العدو. والقرعى جمع قريع وهو الذي به قرع وهو بثر أبيض يخرج بالفصال. هذا مثل يضرب لمن يتكلم مع من لا ينبغي له أن يتكلم بين يديه لعلو قدره. فجعل عطفا هو غاية لانتهاء الاستنان باستنانها فكانت حقيقة قاصرة من حيث إنها لم تخلص للغاية. "وعلى هذا" أي على أنها تستعمل للعطف مع رعاية معنى الغاية. "وقد تدخل" أي هذه الكلمة على جملة لا للعطف بل تستأنف بعدها كما تستأنف بعد أما وإذا تقول خرجت(2/241)
كان خبر المبتدأ مذكورا فهو خبره وإلا فيجب إثباته من جنس ما قبله تقول ضربت القوم حتى زيد غضبان فهذه جملة مبتدأة هي غاية معنى ومن ذلك أكلت السمكة حتى رأسها إلا أن الخبر غير مذكور هنا فيجب إثباته من جنس ما سبق على احتمال أن ينسب إليه أو إلى غير أعني حتى رأسها مأكولي أو مأكول غيري ومواضعها في الأفعال أن يجعل غاية بمعنى إلى أو غاية هي جملة مبتدأة وعلامة الغاية أن يحتمل الصدر الامتداد وأن يصلح الآخر دلالة على الانتهاء.
ـــــــ
النساء حتى هند خارجة ولهذا جاز إدخال واو العطف عليها كما في قول امرئ القيس:
مطوت بهم حتى يكل غريمهم ... وحتى الجياد ما يقدن بأرسان.
فالجياد مبتدأ وما يقدن خبره والواو داخلة عليه لأن حتى هذه ليست بعاطفة ولو كانت حرف عطف لم يجز دخول حرف آخر عليها كما لم يجز إذا كان حرف عطف قطعا في قولك ضربت القوم حتى زيدا ألا تراك لا تقول ضربت القوم وفعمرا فقوله وحتى الجياد بمنزلة قوله وأما الجياد في كون ما بعدهما مبتدأ. على مثال واو العطف إذا استعملت لعطف الجمل فإنها في هذا المحل للابتداء لا للعطف عند البعض ولهذا سموها واو الاستئناف والابتداء "فهذه جملة هي غاية" أي للضرب فإنه ينتهي بها على احتمال أن ينسب أي ذلك الخبر المثبت من جنس ما قبله. إليه أي إلى المتكلم
قوله "ومواضعها" أي مواضع كلمة حتى في الأفعال أن يجعل غاية بمعنى إلى من غير أن تكون جملة, مبتدأة كقوله سرت حتى أدخلها. أو غاية هي جملة مبتدأة كقولك خرج النساء حتى خرجت هند وذلك لأن هذه الكلمة في الأصل للغاية فوجب العمل به ما أمكن.
فإن قيل لما جعلت بمعنى إلى كيف جاز دخولها على الفعل لأنها إذ ذاك حرف جر. قلنا إنما جاز ذلك لكون أن مقدرا في ذلك الفعل وأن مع الفعل في حكم الاسم فتكون داخلة على الاسم تقديرا ويكون ما دخل عليه مجرور المحل بها. وعلامة الغاية أن يحتمل الصدر الامتداد بأن صلح فيه ضرب المدة. وأن يصلح الآخر دلالة على الانتهاء كالصياح في قوله إن لم أضربك حتى تصيح فإن لم يوجد أحد المعنيين لا يمكن جعلها للغاية. فإذا قال عبدي حر إن لم نخبر فلانا بما صنعت حتى يضربك لا يمكن أن يجعل حتى هاهنا للغاية لأن الإخبار مما لا يمتد فيجعل بمعنى لام كي فإذا أخبره ولم يضربه بر في يمينه لأن شرط البر الإخبار لا غير وقد وجد. ولو قال عبده حر إن لم أضربك حتى تضربني أو تشتمني فضربه ولم يضربه المضروب بر أيضا لأن الضرب وإن كان فعلا ممتدا(2/242)
فإن لم يستقم فللمجازاة بمعنى لام كي وهذا إذا صلح الصدر سببا ولم يصلح الآخر غاية وصلح جزاء وهذا نظير قسم العطف من الأسماء فإن تعذر هذا جعل مستعارا للعطف المحض وبطل معنى الغاية وعلى هذا مسائل أصحابنا في
ـــــــ
لكن الضرب والشتم من المضروب لا يصلح دليلا على الانتهاء بل هو داع إلى زيادة الضرب فلا يمكن أن يجعل غاية فيحمل على الجزاء. قال شمس الأئمة رحمه الله مراده إظهار عجزه عن الضرب لا وجود فعل الضرب منه ومعناه أنا أضربك حتى تضربني إن قدرت على ذلك ولكنك لا تقدر فتبين للناس عجزك وضعفك بضربي إياك فإذا كان المقصود نفي فعل الضرب لا يمكن أن يجعل غاية. فإن لم يستقم "فللمجازاة" أي إن لم يستقم أن يجعل غاية لفوات المعنيين المذكورين أو أحدهما يحمل على المجازاة بمعنى لام كي لمناسبة بين المجازاة وبين الغاية لأن الفعل الذي هو سبب ينتهي بوجود الجزاء عادة كما ينتهي بوجود الغاية. "وهذا" أي الحمل على المجازاة إنما يكون إذا صلح الصدر سببا ولم يصلح الآخر غاية حتى لو صلح الآخر غاية مع كون الصدر صالحا للسببية يجعل للغاية كقوله إن أضربك حتى تصبح فعبدي حر. وهذا نظير قسم العطف من الأسماء أي حتى التي للمجازاة في الأفعال نظير حتى العاطفة في الأسماء من حيث إن معنى الغاية باق فيها من وجه.
"فإن تعذر هذا" أي جعلها للمجازاة يجعل للعطف المحض. "وعلى هذا" أي على المعاني الثلاثة التي ذكرناها لها في الأفعال ثبت مسائل أصحابنا في الزيادات. وحاصله ما ذكر في الذخيرة أن كلمة حتى في الأصل للغاية فيحمل عليها إذا أمكن وشرط الإمكان أن يكون الفعل المغيا ممتدا وأن يكون ما دخلت عليه مؤثرا في إنهاء المحلوف عليه. فإن تعذر حملها على الغاية تحمل على لام السبب إن أمكن وشرط الإمكان أن يكون الحلف معقودا على فعلين أحدهما من شخص والأخر من شخص آخر لأن فعل نفسه لا يصلح جزاء لفعله عادة إذ الجزاء مكافأة الفعل وهو لا يكافئ نفسه عادة. فإن تعذر ذلك يحمل على العطف. ومن حكم الغاية أن يشترط وجودها للبر فإن أقلع قبل الغاية يحنث في يمينه. ومن حكم لام السبب أن يشترط وجود ما يصلح سببا لا وجود المسبب. ومن حكم العطف أن يشترط وجودهما للبر قوله. قال الله تعالى {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} و {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} و {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} . كلمة حتى في هذه الآيات بمعنى إلى لأن صدر الكلام وهو قوله عز اسمه {قَاتِلُوا} "التوبة: 29". وقوله {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} "النساء: 43". وقوله. {لا تَدْخُلُوا} ."النور: 27" يحتمل الامتداد إذ المقاتلة تمتد يوما ويومين وأكثر(2/243)
الزيادات ولهذه الجملة ما خلا المستعار المحض ذكر في كتاب الله تعالى قال الله تعالى {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} "التوبة: 29" {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} "النساء: 43" هي بمعنى إلى وكذلك {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} "النور: 27" ومثله كثير {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} "البقرة: 193"
ـــــــ
وقبول الجزية يصلح منهيا لها. وكذا المنع من أداء الصلاة جنبا ممتد والاغتسال يصلح منهيا لها. وكذا المنع من دخول بيت الغير ممتد والاستئناس وهو الاستئذان يصلح منهيا له
قوله قال الله تعالى {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي كي لا يكون فتنة أي محاربة. وإنما جعلت حتى هذه بمعنى لام كي لأن آخر الكلام لا يصلح لانتهاء الصدر إذ القتال واجب مع عدم المحاربة فإنهم وإن لم يبدؤنا بالقتال وجب علينا محاربتهم وصدر الكلام يصلح سببا لانتفاء الفتنة فوجب الحمل على لام كي. وهذا إذا فسرت الفتنة بالمحاربة فإن فسرت بالشرك يكون حتى بمعنى إلى على ما ذكر في الكشاف {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} إلى أن يوجد منهم شرك قط {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ} ويضمحل عنهم كل دين باطل. ويبقى فيهم دين الإسلام وحده قوله قال الله تعالى {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} أول الآية {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} "البقرةى 214" أم منقطعة ومعنى الهمزة فيها للتقرير وإنكار الحسبان واستبعاده لما ذكر ما كانت عليه الأمم من الاختلاف على النبيين بعد مجيء البينات. ولما فيها معنى التوقع أي إتيان ذلك متوقع منتظر أي أحسبتم أن تدخلوا الجنة من غير بلاء ولا مكروه {وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ} "البقرة: 214". أي حالهم التي هي مثل في الشدة. ثم بين المثل فقال {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ} "البقرة: 214" الشدة {وَالضَّرَّاءُ} "البقرة: 214" المرض والجوع {وَزُلْزِلُوا} "البقرة: 214" وأزعجوا إزعاجا شديدا شبيها بالزلزلة بما أصابهم من الأهوال والأفزاع. {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} "البقرة: 214" قرئ بالنصب والرفع وللنصب وجهان. أحدهما أن تكون حتى بمعنى إلى أي حركوا بأنواع البلايا إلى الغاية التي قال الرسول وهو اليسع أو شعيب {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} أي بلغ بهم الضجر ولم يبق لهم صبر حتى قالوا ذلك. ومعناه طلب النصر وتمنيه واستطالة زمن الشدة {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} "البقرة: 214". على إرادة القول يعني فقيل لهم ذلك إجابة لهم إلى طلبتهم من عاجل النصر فعلى هذا الوجه لا يكون فعلهم أي زلزلتهم وامتحانهم بالبلايا سببا لمقالة الرسول بل ينتهي فعلهم عند مقالته.
ولا يقال ليس لهم فعل بل وقع الزلزال عليهم فكيف جعل ذلك فعلهم.
لأنا نقول لما زلزلوا كان التزلزل موجودا منهم لأنهم إذا حركوا كان التحرك موجودا(2/244)
و"الأنفال: 39" وقال {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} "البقرة: 214" بالنصب وجهين أحدهما إلى أن يقول الرسول فلا يكون فعلهم سببا لمقالة الرسول وينتهي فعلهم عند مقالته على ما هو موضوع الغايات أنها إعلام الانتهاء من غير أثر والثاني وزلزلوا لكي يقول الرسول فيكون فعلهم سببا لمقالته وهذا لا يوجب الانتهاء وقرئ حتى يقول بالرفع على معنى جملة مبتدأة أي حتى الرسول يقول ذلك فلا يكون فعلهم سببا ويكون متناهيا به وقال محمد في الزيادات في رجل قال لرجل عبدي حر إن لم أضربك حتى تصبح أو حتى تشكي يدي أو حتى يشفع فلان أو حتى يدخل الليل أن هذه غايات حتى إذا أقلع قبل الغايات حنث لأن الفعل بطريق التكرار يحتمل الامتداد في حكم البر
ـــــــ
منهم خصوصا على اصطلاح أهل النحو فإنهم هم الفاعلون بسبب أن الزلزال أسند إليهم على بناء المفعول. "على ما هو موضوع الغايات أنها أعلام الانتهاء من غير أثر" يعني أن الغاية علامة على انتهاء المغيا من غير أن يكون لها أثر في انتهائه كالميل للطريق والمنارة للمسجد والإحصان للرجم فإنها أعلام على هذه الأشياء من غير أن يضاف إليها وجود تلك الأشياء. أو معناه من غير أن يكون للمغيا أثر في إيجاد الغاية وإثباتها كحدود الدار أعلام على انتهائها من غير أن يكون للدار أثر في إيجادها.
والوجه الثاني أن يكون بمعنى لام كي كقولك أسلمت حتى أدخل الجنة أي وزلزلوا لكي يقول الرسول ذلك القول. فعلى هذا يكون فعلهم أي زلزلتهم سببا لمقالته وهو لا يوجب الانتهاء بل يكون داعيا إليه. ووجه الرفع أن يكون الفعل بعده بمعنى الحال كقولهم شربت الإبل حتى يجيء البعير يجر بطنه إلا أنها حال ماضية محكية فعلى هذا الوجه بقي فيه معنى الغاية ويكون هذا نظير قوله أو غاية وهي جملة مبتدأة قوله "لأن الفعل" أي الفعل المحلوف عليه وهو الضرب. يحتمل الامتداد بطريق التكرار يعني لا امتداد لفعل ما حقيقة لأنه عرض لا يبقى فلا يتصور امتداده لكن بعض الأفعال قد يحتمل الامتداد بتجدد الأمثال من غير فصل كالجلوس والركوب. والضرب من هذا القبيل فكان شرط البر وهو المد إلى الغاية المضروبة له متصورا وإذا كان محتملا للامتداد بالطريق الذي قلنا كان الكف عنه أي عن الفعل المحلوف عليه بأن يقلع قبل الغاية محتمل هذا الفعل لا محالة فيكون شرط الحنث متصورا أيضا ولا بد من تصور شرط الحنث لانعقاد اليمين حتى لو قال والله لأقتلن فلانا. وفلان ميت وهو لا يعلم بموته لا يحنث لأن شرط الحنث غير متصور هنا كشرط البر كذا في بعض الشروح.(2/245)
والكف عنه محتمله في حكم الحنث لا محالة وهذه الأمور دلالات الإقلاع عن الضرب فوجب العمل بحقيقتها فصار شرط الحنث الكف عنه قبل الغاية ولو قال عبدي حر إن لم آتك حتى تغديني فأتاه فلم يغده لم يحنث لأن قوله حتى تغديني لا يصلح دليلا على الانتهاء بل هو داع إلى زيادة الإتيان والإتيان يصلح سببا والغداء يصلح جزاء فحمل عليه لأن جزاء السبب غايته فاستقام العمل به فصار شرط بره فعل الإتيان على وجه يصلح سببا للجزاء بالغداء وقد
ـــــــ
وهذه الأمور أي الأفعال المذكورة من الصيام واشتكاء اليد أي تألمها وشفاعة فلان ودخول الليلة دلالات الإقلاع أي الإمساك والكف عن الضرب لأن الإنسان يمتنع عن الضرب بها. فوجب العمل بحقيقتها أي بحقيقة الغاية وحمل حتى عليها فإذا أقلع قبل الغاية كان حانثا.
فإن قيل شرط البر متصور الوجود في الزمان الثاني فلماذا يحنث في الحال. قلنا اليمين تقع على أول الوهلة لأن الحامل على اليمين غيظ لحقه من جهته في الحال هذا هو العادة فيتقيد به اليمين. وهذا الذي ذكرنا إذا لم يغلب على الحقيقة عرف كما في الأمثلة المذكورة فإن غلب عليها عرف ظاهر وجب العمل به لأن الثابت بالعرف بمنزلة الحقيقة حتى لو قال إن لم أضربك حتى أقتلك أو حتى تموت كان هذا على الضرب الشديد لا على حقيقة القتل والموت للعرف فإنه متى كان قصده القتل لا يذكر لفظة الضرب وإنما يذكر ذلك إذا لم يكن قصده القتل وجعل القتل غاية لبيان شدة الضرب معتاد متعارف. ولو قال حتى يغشى عليك أو حتى تبكي كان على حقيقة الغاية لأن الضرب إلى هذه الغاية معتاد كذا قال شمس الأئمة رحمه الله
قوله "حتى تغذيني لا يصلح دليلا على الانتهاء" التغذية لا تصلح دليلا على انتهاء الإتيان وكذا الإتيان ليس بمستدام أيضا. ألا ترى أنه لا يصح ضرب المدة فيه ففات شرطا الغاية جميعا ولكنه يصلح سببا للتغذية لأن الإتيان على وجه التعظيم والزيارة إحسان بدني إلى المزور فيصلح سببا لإحسان مالي منه إلى الزائر وعن هذا قيل من زار حيا ولم يذق عنده شيئا فكأنما زار ميتا. والتغذية صالحة للجزاء لأنها إحسان أيضا فيصلح مكافأة للإحسان.
وقوله "على وجه يصلح سببا للجزاء" بأن يكون على وجه التعظيم والزيارة احتراز عن الإتيان على وجه التحقير بأن أتاه ليضربه أو يشتمه أو يؤذيه فإنه لا يصلح سببا للتغذية فلا يكون شرطا للبر. وكذا الحكم في قوله إن لم تأتني حتى أغذيك. ولو قال:(2/246)
وجد ولو قال عبدي حر إن لم آتك حتى أتغدى عندك كان هذا للعطف المحض لأن هذا الفعل إحسان فلا يصلح غاية للإتيان ولا يصلح إتيانه سببا لفعله ولا فعله جزاء لإتيان نفسه فإذا كان كذلك حمل على العطف المحض وكذلك إن لم آتك حتى أغديك فصار كأنه قال إن لم آتك فأتغدى عندك حتى
ـــــــ
عبدي حر إن لم آتك حتى أتغذى عندك أو قال إن لم تأتني حتى تغذيني فعبدي حر كان حتى للعطف المحض من غير رعاية معنى الغاية فيه. لأن هذا الفعل أي التغذي من غذاء الغير عند الإباحة إحسان قال عليه السلام: "لو دعيت إلى كراع لأجبت" . ألا ترى أن ترك الأكل عند الإباحة إساءة ودليل على العداوة حتى أوجس الخليل صلوات الله عليه خيفة في نفسه من الضيف إذ لم يأكلوا من ضيافته وإذا كان كذلك لا يصلح منهيا للإتيان. أو المراد من الفعل التغذية أي التغذية التي يبتنى عليها الغذي إحسان لما ذكرنا فلا تصلح غاية للإتيان بل هي داعية إليه إذ الإنسان عبيد الإحسان فلا يمكن حمل حتى على الغاية ولا يصلح إتيانه سببا لفعله أي الفعل نفسه كما أن فعله لا يصلح جزاء لإتيانه فتعذر حمله على المجازاة أيضا فحمل على العطف بمعنى الفاء أو بمعنى ثم لأن التعقيب يناسب معنى الغاية فيتوقف البر على وجود الفعلين بوصف التعقيب كما لو قال إن لم آتك فأتغذى عندك.
قوله "حتى إذا أتاه فلم يتغذ" إلى آخره. اعلم أن هذه المسألة على وجهين. أما إن وقت باليوم بأن قال إن لم آتك اليوم حتى أتغذى عندك. أو لم يوقت. فإن وقت فشرط البر وجود الفعلين في اليوم وشرط الحنث عدم أحدهما فيه حتى إذ أتاه في اليوم وتغذى عنده في ذلك اليوم متصلا بالإتيان أو متراخيا عنه كان بارا لوجود شرط البر. إلا إذا عنى الفور فيشترط وجود الفعلين بصفة الاتصال. وإن لم يوقت كان شرط البر وجود الفعلين في العمر بصفة الاتصال أو التراخي إذا لم ينو الفور وشرط الحنث عدم أحدهما في العمر هذا حاصل ما ذكر في عامة نسخ الزيادات. وهكذا ذكر الشيخ في شرح الزيادات أيضا فقال إذا قال إن لم آتك حتى أتغذى عندك اليوم أو إن لم تأتني حتى تتغذى عندك اليوم فكذا فأتاه ثم لم يتغذ عنده في ذلك اليوم حنث لأن شرط البر وجود الأمرين في اليوم ولم يوجد. وإن لم يوقت باليوم لا يحنث لأنه يرجى البر وهو التغذي في وقت آخر وهكذا ذكر شمس الأئمة في شرح الزيادات أيضا.
وإذا تحققت هذا علمت أن في قوله في الكتاب حتى إذا أتاه فلم يتغذ ثم تغذى من بعد غير متراخ فقد بر نوع اشتباه لأن لقوله فلم يتغذ مع قوله تغذى من بعد غير متراخ نوع منافاة. وظني أن المسألة كانت موضوعة في الكتاب في اليوم مثلها في أصول شمس(2/247)
إذا أتاه فلم يتغد ثم تغدى من بعد غير متراخ فقد بر وإن لم يتغذ أصلا حنث وهذه استعارة لا يوجد لها ذكر في كلام العرب ولا ذكرها أحد من أئمة النحو واللغة فيما أعلم لكنها استعارة بديعة اقترحها أصحابنا على قياس استعارات العرب لأن بين العطف والغاية مناسبة من حيث يوصل الغاية بالجملة كالمعطوف وقد استعملت بمعنى العطف مع قيام الغاية بلا خلاف فاستقام أن يستعار لعطف المحض إذا تعذرت حقيقته وهذا على مثال استعارات أصحابنا في غير هذا الباب وينبغي أن يجوز على هذا جاءني زيد حتى عمرو
ـــــــ
الأئمة وعامة نسخ الزيادات فسقط لفظ اليوم عن قلم الكاتب. وعلى ذلك التقدير كان معنى ما ذكر في الكتاب حتى إذا أتاه أي في اليوم. فلم يتغذ عنده أي على فور الإتيان. ثم تغذى من بعد أي من بعد إن لم يتغذ على الفور. غير متراخ أي عن اليوم فقد بر. وإن لم يتغذ في اليوم أصلا حنث. فأما إذا أجريناها على إطلاقها كما هو المذكور في الكتاب فأنا لا أدري معنى قوله غير متراخ إذ لو قدرت غير متراخ عن الإتيان لا يستقيم ذلك مع قوله فلم يتغذ ولو قدرت غير متراخ عن العمر لا فائدة فيه إذ لا يتصور التغذي متراخيا عن العمر. وفي بعض الحواشي ثم تغذى من تغذى غير متراخ أي قبل الافتراق عن ذلك المجلس ولا أعرف صحته.
قوله "وهذه استعارة" أي استعارة حتى لمعنى العطف المحض من غير اعتبار معنى الغاية فيه بوجه استعارة لم توجد في كلامهم فإنهم لا يقولون رأيت زيدا حتى عمرا كما يقولون رأيت زيدا فعمرا أو ثم عمرا وكان ينبغي أن لا يجوز لأنها من باب اللغة ولم يوجد في لغتهم لكن هذه استعارة اقترحها محمد أي استخرجها بقريحته على طريقة استعاراتهم مع أن قوله مستغن عن الدليل فإن أئمة اللغة مثل أبي عبيد وغيره كانوا يحتجون بقوله فكان مستغنيا عن الدليل:
إذا قالت حذام فصدقوها. ... فإن القول ما قالت حذام.
وذكر ابن السراج1 أن المبرد سئل عن معنى الغزالة فقال هي الشمس كذا قاله محمد بن الحسن على أن في الاستعارة لا يشترط السماع بل يشترط المعنى المناسب الصالح للاستعارة على ما مر بيانه وقد وجد لما ذكر في الكتاب. "وهذا" أي ما ذكرنا من
ـــــــ
1 هو محمد السري بن سهل البغدادي أبو بكر توفي سنة 316ه أنظر الوافي بالوفيات 3/86-88.(2/248)
وهذا غير مسموع من العرب وإذا استعير للعطف استعير لمعنى الفاء دون الواو لأن الغاية تجانس التعقيب
ـــــــ
استعارة حتى للعطف المحض على مثال استعارات أصحابنا. "في غير هذا الباب" أي باب حتى مثل استعارتهم البيع للنكاح والعتاق للطلاق والحوالة للوكالة ونحوها. "وإذا استعير" أي حتى للعطف "استعير بمعنى الفاء" أي بمعنى حرف يوجب التعقيب مثل الفاء أو ثم دون الواو لأن التعقيب أشد مناسبة ومجانسة للغاية من مطلق الجمع لوجود الترتيب فيهما. والإمام العتابي جعله بمعنى الواو فقال وإن تعذر الحمل على الجزاء يحمل على العطف كقولك جاءني القوم حتى زيد أي وزيد ثم قال في قوله إن لم آتك اليوم حتى أتغذى عندك تقديره إن لم آتك اليوم وأتغذى عندك والله أعلم.(2/249)
"باب حروف الجر"
أما الباء فللإلصاق هو معناه بدلالة استعمال العرب وليكون معنى تخصه هو له حقيقة ولهذا صحبت الباء الأثمان فيمن قال اشتريت منك هذا العبد
ـــــــ
"باب حروف الجر"
سميت حروف الجر لأنها تجر فعلا إلى اسم نحو مررت بزيد أو اسما إلى اسم نحو المال لزيد. وسميت حروف الإضافة لأن وضعها على أن تفضي بمعاني الأفعال إلى الأسماء.
"الباء"
للإلصاق هو معناها بدلالة استعمال العرب وهو أقوى دليل في اللغة كالنص في أحكام الشرع. وليكون عطف على الدليل الأول معنى أي للاستعمال ولأجل أن يكون للباء معنى يختص الباء بذلك المعنى نفيا للاشتراك. "هو له حقيقة" أي يكون ذلك المعنى للباء معنى حقيقيا. ثم الإلصاق يقتضي طرفين ملصقا وملصقا به فما دخل عليه الباء فهو الملصق به والطرف الآخر هو الملصق ففي قولك كتبت بالقلم. الكتابة ملصق والقلم ملصق به ومعناه ألصقت الكتابة بالقلم. ولما كان المقصود في الإلصاق إيصال الفعل بالاسم دون عكسه إذ المقصود من قولك كتبت بالقلم ونحرت بالقدوم وقطعت بالسكين وضربت بالسيف ونحوها إلصاق هذه الأفعال بهذه الأشياء دون العكس كان الملصق أصلا والملصق به تبعا بمنزلة الآلة للشيء.
"ولهذا صحبت الباء الأثمان" أي لما ذكرنا أنها للإلصاق وأن الإلصاق يقتضي طرفين ملصقا وملصقا به والملصق هو الأصل والملصق به هو التبع صحبت الباء الأثمان لأن الثمن ليس بمقصود في البيع بل هو تبع بمنزلة الآلة. ألا ترى أن الغرض الأصلي في البيع الانتفاع بالمملوك وذلك يحصل بما هو مبيع لا بما هو ثمن لأنه في الغالب من النقود وهي ليست بمنتفع بها في ذواتها وإنما هي وسيلة إلى حصول المقاصد كالآلة(2/250)
بكر من حنطة ووصفها أن الكر ثمن يصح الاستبدال به بخلاف ما إذا أضاف العقد إلى الكر فقال اشتريت منك كر حنطة ووصفها بهذا العبد أنه يصير سلما لا يصح إلا مؤجلا ولا يصح الاستبدال به لأنه إذا أضاف البيع إلى العبد جعله أصلا وألصقه بالكر فصار الكر شرطا يلصق به الأصل وهذا حد الأثمان التي هي شروط واتباع ولذلك قلنا في قول الرجل إن أخبرتني بقدوم فلان فعبدي حر أنه يقع على الحق لأن ما صحبه الباء لا يصلح مفعول الخبر ولكن مفعول الخبر محذوف بدلالة حرف الإلصاق كما يقول بسم الله أي بدأت به فيكون
ـــــــ
للشيء ولهذا يجوز البيع وإن لم يملك الثمن ولا يجوز بيع ما ليس عنده. إذا أدخل الباء في الكر الموصوف صار ثمنا بدلالة الباء وينعقد البيع مساومة ووجب الكر في الذمة حالا كما إذا سمي دراهم أو دنانير لأن المكيل والموزون مما يجب في الذمة ويصح التصرف فيهما قبل القبض بالاستبدال كما في سائر الأثمان. وإن أدخل الباء في العبد المشار وأضاف العقد إلى الكر الموصوف انعقد سلما ويصير العبد رأس مال السلم بدلالة الباء لأن رأس المال هو الثمن في السلم ويصير الكر مبيعا لإضافة العقد إليه فيعتبر شرائط السلم من التأجيل وقبض رأس المال في المجلس وعدم صحة الاستبدال به قبل القبض وبيان مكان الإيفاء عند أبي حنيفة رحمه الله.
قوله "إن أخبرتني بقدوم فلان" إلى آخره قال الشيخ رحمه الله في شرح الجامع الإخبار يقتضي مفعولين أحدهما الذي يبلغه والثاني الكلام الذي يصلح دليلا على المعرفة فإذا قال إن أخبرتني بقدوم فلان كان القدوم مشغولا بالخافض فلم يصلح مفعول الخبر لا حقيقة ولا مجازا لأن المشغول لا يشغل فاحتيج إلى مفعول آخر هو كلام كأنه قال إن أخبرتني خبرا ملصقا بقدومه فبقي القدوم واقعا على حقيقته فعلا وإلصاق الخبر بالقدوم لا يتصور قبل وجوده والباء للإلصاق فلذلك اقتضى وجوده. فأما إذا قال إن أخبرتني أن فلانا قدم فالمخبر به هو القدوم وهو المفعول والقدوم بحقيقته لا يصلح مفعول الخبر فصار عبارة عن التكلم به فصار التكلم به شرطا للحنث كأنه قال إن تكلمت بهذا فعبدي حر. ولا يلزم عليه قوله إن كنت تحبيني بقلبك فكذا فقالت كاذبة أحبك حيث تطلق خلافا لمحمد مع أن محبته لم تلتصق بقلبها لأن اللسان جعل خلفا عن القلب لعدم إمكان الاطلاع على ما في القلب فلم يلتفت إليه فأما القدوم فأمر محسوس فاعتبر الإلصاق به. وهذا أيضا بخلاف قوله إن أعلمتني أن فلانا قدم فعبدي حر فأعلمه حيث لم يحنث إلا أن يكون حقا كما لو قال إن أعلمتني بقدومه لأن الإعلان ما يفيد(2/251)
معناه إن أخبرتني أن فلانا قدم فإنه يتناول الكذب أيضا لأنه غير مشغول بالباء فصلح مفعولا وأن ما بعدها مصدر ومعناه إن أخبرتني خبرا ملصقا بقدومه والقدوم اسم لفعل وجود بخلاف قوله إن أخبرتني قدومه ومفعول الخبر كلام لا فعل فصار المفعول الثاني التكلم بقدومه وذلك دليل الوجود لا موجب له
ـــــــ
العلم, والباطل لا يسمى علما وإنما العلم اسم للحق فلم يكن الإخبار بالباطل إعلاما. فإن قيل الإخبار الإعلام والخبر العلم قال تعالى إخبارا {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} "الكهف: 68". أي علما ألا ترى أن الخبير من أسماء الله تعالى كالعليم بل أبلغ منه لأنه اسم للعليم بالأسرار الخفية ولهذا سمي الأكار خبيرا لعلمه بخبايا الأرض ومنه سمي الامتحان اختبارا فكان الإخبار والإعلام سواء فينبغي أن يقع على الحق في الصورتين كما في الإعلام. قلنا الحقيقة ما ذكرت لكن الخبر قد استعمل في العرف لما يصلح دليلا على المعرفة فصار ينطلق على الحق والكذب ألا ترى أنه يقال هذا خبر باطل وزور وكذب ولا يقال مثل ذلك في العلم فلهذا افترقا
قوله "لأن ما صحبه الباء لا يصلح مفعول الخبر" أي الإخبار لكونه معمول الباء فلا يصلح معمولا لشيء آخر. ولقائل أن يقول قد سلمنا أنه لا يصح معمولا لعامل آخر في الظاهر ولكن لا نسلم أنه لا يصح معمولا لشيء آخر من حيث المعنى والمحل فيكون مجرورا بالباء ومنصوب المحل بالفعل ألا ترى أن في قوله أخبرني بهذا الخبر زيد كان الطرف وهو الجار والمجرور المفعول الثاني من غير إضمار بشيء آخر إذ لا يستقيم فيه أخبرني خبرا ملصقا بهذا الخبر زيد فكذا هذا.
ويمكن أن يجاب عنه بأن الباء للإلصاق حقيقة وقد يجيء للتعدية بمعنى الهمزة كقولك ذهب به وخرج به أي أذهبه وأخرجه والإخبار مما يتعدى إلى المفعول الثاني بنفسه وبالباء ففيما أمكن جعله متعديا بنفسه وجب القول به لتبقى الباء على حقيقتها وإن لم يمكن ذلك جعل متعديا بالباء فمسألة الكتاب من القسم الأول وما ذكرت من القبيل الثاني فلذلك افترقا.
"وأن مع ما بعدها مصدر" أي في تأويل المصدر كما في قولك أعجبني أن زيدا قام أو قائم وبلغني أن عمرا منطلق معناه أعجبني قيام زيد وبلغني انطلاق عمرو وإذا كان في معنى المصدر صار في تأويل المفرد فصلح مفعولا ومفعول الخبر أي الإخبار كلام وهو أن يقول قدم فلان لا حقيقة فعل القدوم لأن الإخبار قول والقدوم فعل والفعل لا يصلح مفعول القول. يوضحه أن في قولك ضربت زيدا لا يكون مسمى زيد مفعولا لضربت لأن الشخص(2/252)
لا محالة ولهذا قالوا في قول الرجل أنت طالق بمشيئة الله وبإرادته أنه بمعنى الشرط لأن الإلصاق يؤدي معنى الشرط ويفضي إليه وكذلك أخواتها على ما قال في الزيادات وقال الشافعي الباء للتبعيض في قول الله تعالى {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ}
ـــــــ
لا يتأثر بالقول حقيقة بل مفعوله لفظ زيد فكذلك حقيقة القدوم لا تصلح مفعول أخبرتني لأنه قول والقدوم فعل إلا أن مسمى زيد يصلح أن يكون متأثرا بمدلول ضربت وهو حقيقة الضرب وفعل القدوم هاهنا لا يصلح أن يكون متأثرا بمدلول أخبرتني وهو حقيقة الإخبار لأن حقيقته التكلم بالخبر وذلك لا يعدو إلى القدوم بوجه فلذلك لا يصلح مفعولا له. وإذا ثبت هذا كان معنى قوله إن أخبرتني أن فلانا قدم إن تكلمت بخبر قدوم فلان والخبر ما يصلح دليلا على وجود المخبر به لا ما يوجب وجوده لا محالة فصار شرط الحنث كلاما يصلح دليلا على القدوم وقد وجد ذلك في الإخبار كاذبا فيحنث
قوله "ولهذا" أي ولأن الباء للإلصاق. "قالوا" يعني أصحابنا في قول الرجل أنت طالق بمشيئة الله وبإرادته أنها لا تطلق أصلا لأن الإلصاق يؤدي معنى الشرط أي يفضي إليه. وذلك لأنه لما جعل الطلاق ملصقا بالمشيئة لا يقع قبل المشيئة إذ لا يتحقق الإلصاق بدون الملصق به وهذا هو معنى الشرط إذ لا وجود للمشروط بدون الشرط غير أن التعليق بمشيئة الله إبطال للإيجاب لما عرف فلهذا لا يقع شيء كما لو قال إن شاء الله.
ولو أضاف المشيئة إلى العبد بأن قال بمشيئة فلان كان تعليقا وتمليكا بمنزلة قوله إن شاء فلان فيقتصر على مجلس العلم. "وكذلك أخواتها" أي أمثال المشيئة كالرضا والمحبة. على ما ذكر في الزيادات... المذكور فيها عشرة ألفاظ المشيئة والإرادة والرضاء والمحبة والأمر والحكم والإذن والقضاء والقدرة والعلم وأنها قد تضاف إلى الله تعالى وتضاف إلى العبد أيضا ففي الأربعة الأول إن أضيفت إلى الله تعالى لا يقع شيء وإن أضيفت إلى العبد كان تمليكا فيقتصر على مجلس العلم وفي الستة الباقية يقع الطلاق في الحال سواء أضيفت إلى الله عز وجل أو إلى العبد. وذلك لأن معنى قوله بأمر فلان أو بحكمه أو بإذنه أو بعلمه بأمر فلان إياي أو بحكم فلان علي بذلك أو يأذن فلان لي بذلك أو يعلم فلان مني ذلك فيكون هذا كله تحقيقا للإيقاع ولا يمكن أن يجعل ذلك بمعنى الشرط لأنه لو قال لفلان احكم وأمر واعلم وأذن لا يكون شيء منه تخييرا بل يكون قوله احكم إلزاما له ذلك وفيما تقدم لو قال شاء كان تخييرا فكذلك قوله بمشيئة فلان يكون تخييرا منه لفلان كذا في زيادات شمس الأئمة.(2/253)
"المائدة: 6" حتى أوجب مسح بعض الرأس وقال مالك رحمه الله الباء صلة لأن المسح فعل متعد فيؤكد بالباء كقوله تعالى {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} "المؤمنون: 20" فيصير تقديره وامسحوا رءوسكم وقلنا: أما القول بالتبعيض فلا أصل له في اللغة والموضوع للتبعيض كلمة "من" وقد بينا أن التكرار والاشتراك لا يثبت في
ـــــــ
فإن قيل هلا حملت الباء في مسألة المشيئة و أخواتها على السببية لأنها قد تستعمل بمعنى السبب قال تعالى {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} "المائدة: 38" {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا} "البقرة: 61" {جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} "الأنعام: 146". وإذا حملت على السبب تطلق في الحال كما لو قال أنت طالق لمشيئة الله أو لمشيئة فلان لأن التعليل يدل على تحقيق الإيقاع لا على انتفائه.
قلنا الحمل على ما ذكرنا من الشرط أولى لأنه أقرب إلى الإلصاق لأن في الإلصاق معنى الترتب لأنه يقتضي ملصقا به متقدما على الملصق زمانا ليمكن الإلصاق به والترتب الزماني في الشرط والمشروط موجود بخلاف العلة مع المعلول لأن العلة مقارن للمعلول زمانا.
قوله "وقال الشافعي" إلى آخره. ذهب بعض أصحاب الشافعي إلى أن الباء في قوله تعالى {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} للتبعيض لأن الباء إذا دخلت في المحل أفادت. التبعيض لغة يقال مسحت الرأس إذا استوعبته ومسح بالرأس أي ببعضه هذا هو المفهوم منه في عرف الاستعمال. ولأن الاستيعاب ليس بشرط باتفاق بيننا وبينكم فثبت أن المراد بعض الرأس وإذا ثبت البعض مرادا يتأدى الواجب بأدنى ما ينطلق عليه الاسم كما لو قال امسحوا بعض رءوسكم فيكون تقدير الواجب بثلاثة أصابع أو بربع الرأس زيادة على النص بالرأي أو بخبر الواحد فيكون مردودا. ولا معنى لقول من يقول مطلق مسح البعض ليس بمراد لأن ذلك يحصل بغسل الوجه ولا يتأدى به الفرض بالاتفاق فعرفنا أن المراد بعض مقدر وذلك مجمل لعدم أولوية بعض على بعض فكان فعل النبي وهو: "ما روي أنه صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته بيانا له. لأنه يقول عدم الجواز لفوات الترتيب الواجب عندي إلا لعدم حصول مسح البعض فإنه لو استوعب رأسه بالمسح بعد غسل الوجه قبل غسل اليدين لا يعتد به عندي لفوات الترتيب فكذا هاهنا1".
"وقال مالك رحمه الله الباء صلة" أي مزيدة زيدت للتأكيد كما في قوله تعالى:
ـــــــ
1 أخرجه م في الطهارة حديث رقم 81 والنسائي في الطهارة باب رقم 86 وأبو داود في الطهارة حديث رقم 15 والإمام أحمد في المسند 4/244.(2/254)
الكلام أصلا وإنما هو من العوارض فلا يصار إلى إلغاء الحقيقة والاقتصار على التوكيد إلا بضرورة بل هذه الباء للإلصاق وبيان هذا أن الباء إذا دخلت في آلة المسح كان الفعل متعديا إلى محله كما تقول مسحت الحائط بيدي فيتناول كله لأنه أضيف إلى جملته ومسحت رأس اليتيم بيدي وإذا دخل حرف الإلصاق في محل المسح بقي الفعل متعديا إلى الآلة وتقديره وامسحوا أيديكم برءوسكم أي ألصقوها برءوسكم فلا تقتضي استيعاب الرأس وهو غير مضاف إليه لكنه
ـــــــ
{تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} "المؤمنون: 20". وقوله عز اسمه {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} "البقرة: 195". أي لا تلقوا أيديكم كذا قاله عبد القاهر وإذا كانت مزيدة وجب مسح الكل كما لو قيل وامسحوا رءوسكم. قال وما قلناه وإن كان فيه عمل بالمجاز لكنه أحوط لأن فيه الخروج عن العهدة بيقين فكان الأخذ به أولى على أنا إن عملنا بحقيقتها فذلك يوجب الاستيعاب أيضا لأن الباء للإلصاق حقيقة وقد ألصق المسح بالرأس وهو اسم لكله لا لبعضه فيقتضي مسح جميع الرأس.
قوله "وقلنا نحن أما القول بالتبعيض فلا أصل له" أي القول بالتبعيض كلام عن تشه لا دليل عليه إذ لم يثبت عن أحد من نقلة اللغة أنها للتبعيض إنما الموضوع للتبعيض كلمة من فلو أفادت الباء التبعيض لوجب التكرار أي الترادف لدلالة اللفظين على معنى واحد. والاشتراك أيضا لأن الباء للإلصاق بالاتفاق فلو أفادت التبعيض لكان لفظ واحد دالا على معنيين مختلفين وكل منهما خلاف الأصل لما مر غير مرة. هذا رد لكلام القائلين بالتبعيض وقوله ولا يصار إلى إلغاء الحقيقة رد لقول مالك أي إذا أمكن العمل بالحقيقة لا يصار إلى إلغائها من غير ضرورة ولا ضرورة هاهنا فوجب العمل بالحقيقة وبأن جاز ترك الحقيقة في موضع لقيام الدليل لا يلزم منه تركه في موضع لا دليل عليه فكانت الباء على حقيقتها في هذه الآية كما هو أصلها.
"وبيان هذا" أي بيان أنها للإلصاق في الآية وأن التبعيض ثبت بطريق آخر لا بالباء أن المسح لا بد له من آلة ومحل فإذا دخلت الباء في الآلة كان الفعل متعديا إلى المحل ويصير المحل مفعول فعله فيتناول جميع المحل كقولك مسحت الحائط بيدي أو مسحت بيدي الحائط وإذا دخلت في المحل كان الفعل متعديا إلى الآلة ولهذا ظهر عمله فيها حتى انتصبت بذلك الفعل بالمفعولية فهذا لا يقتضي الاستيعاب وإنما يقتضي إلصاق الفعل بالمحل كله أو بعضه لكن بهذه الآلة. وإذا تقرر هذا صار تقدير الآية وامسحوا أيديكم برءوسكم فلا يقتضي هذا الكلام استيعاب الرأس بالمسح كما ظنه مالك. لأنه أي المسح غير مضاف إلى الرأس بل أضيف إلى اليد.(2/255)
يقتضي وضع آلة المسح وذلك لا يستوعبه في العادات فيصير المراد به أكثر اليد فصار التبعيض مرادا بهذا الشرط فأما الاستيعاب في التيمم مع قوله {فَامْسَحُوا
ـــــــ
والواو في قوله "وهو غير مضاف" للحال والجملة في معنى التعليل. لكنه أي لكن هذا الكلام يقتضي وضع آلة المسح على الرأس وإلصاقها به. وذلك أي وضع الآلة لا يستوعب الرأس في العادات أيضا لأن اليد لا تستوعب الرأس عادة. إلا أن على هذا التفسير لا يصلح.
قوله "فصار المراد به أكثر اليد" نتيجة له فيجعل الضمير المنصوب في لا يستوعبه عائدا إلى الآلة على تأويل المذكور أي الوضع لا يستوعب الآلة في العادات يعني هذا التقدير وإن اقتضى أن يكون المسح متناولا لكل الآلة لكن في العادة لا توضع الآلة بجميع أجزائها على الرأس فإن ما بين الأصابع وظهر الكف لا يستعملان في المسح عادة فيكتفى فيه بالأكثر الذي يحكى حكاية الكل وهو ثلاثة أصابع. فصار التبعيض مرادا بهذا الشرط أي صار التبعيض مرادا بشرط أن يكون ذلك البعض مقدرا بآلة المسح أو بأكثرها لا أن يكون مطلق التبعيض مرادا عملا بالباء كما قال الشافعي رحمه الله.
وعبارة شمس الأئمة أوضح فإنه قال وإذا قرنت الباء بمحل المسح يتعدى الفعل إلى الآلة فلا يقتضي الاستيعاب وإنما يقتضي إلصاق الآلة بالمحل وذلك لا يستوعب الكل عادة ثم أكثر الآلة ينزل منزلة الكل فيتأدى المسح بإلصاق ثلاثة أصابع بمحل المسح ومعنى التبعيض إنما يثبت بهذا الطريق لا بحرف الباء. وذكر في بعض نسخ أصول الفقه لمشايخنا بهذه العبارة قوله تعالى {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} "المائدة: 6". أدخل حرف الباء في المحل فيتعدى الفعل إلى الآلة وهي اليد كأنه قيل وامسحوا برءوسكم أيديكم والأصل أن الجمع متى قوبل بالجمع ينقسم آحاد هذا على آحاد ذلك فيصير كأنه سبحانه قال وليمسح كل واحد منكم برأسه يده فإذا وضع اليد على الرأس جاز لأنه وجد المسح. ولو مسح بثلاثة أصابع جاز لأنها أكثر الآلة فيقوم مقام الكل فيجوز التبعيض بإقامة الأكثر لا بحرف الباء.
وذكر الشيخ رحمه الله في بعض مصنفاته في أصول الفقه أن الباء للإلصاق هاهنا كما في قوله كتبت بالقلم إلا أن كلمة الباء متى دخلت محل الفعل كان المراد إلصاق الفعل بالمحل لا إلصاق المحل بالفعل لأن الفعل معدوم لا يتصور إلصاق المحل به قبل الوجود وبعد الوجود لا يتصور الإلصاق به لأنه ينعدم كما وجد وإنما يتصور إلصاقه بالمحل فكان المقصود إلصاق الفعل بالمحل فيكون المراد منه إثبات وصف في الفعل هو الإلصاق فيصير الفعل هو المقصود لإثبات صفة الإلصاق فيه والمحل إنما يراعى لتصور(2/256)
بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} "النساء 43" فثابت بالسنة المشهورة أن النبي عليه السلام قال فيه ضربتان ضربة للوجه وضربة للذراعين فجعلت الباء صلة وبدلالة الكتاب لأنه شرع خلفا عن الأصل وكل تنصيف يدل على بقاء الباقي على ما كان وعلى هذا قول الرجل إن خرجت من الدار إلا بإذني أنه يشترط
ـــــــ
هذا المقصود لا أن يكون مقصودا بنفسه وما يراعى لتحصيل المقصود إنما يراعى بقدر ما يحصل به المقصود وهو إلصاق الفعل بالرأس وذلك يتحقق ببعض الرأس فيكون المراد منه البعض بهذا الطريق لا أن يكون المراد منه البعض لغة.
واعلم أن لمشايخنا رحمهم الله في تقدير فرض المسح طريقين. أحدهما ما ذكره الشيخ في الكتاب والثاني أن مطلق البعض لما لم يكن مرادا لأن المفروض في عامة الأعضاء بعض مقدر فينبغي أن يكون كذلك هاهنا ولهذا لو زاد على المقدار الذي قدر به لا يكون الزائد فرضا بالإجماع ولو كان الداخل تحت الأمر بعضا مطلقا لوقع الزائد فرضا كالزائد على الآيات الثلاث في فرض القراءة صار البعض مجملا فيتعرف بالسنة وهي توجب أن يقدر بالربع على ما عرف إلا أن في إثبات الإجمال بهذا الطريق نوع ضعف فإن الخصوم لم يسلموا الإجمال في الآية وقالوا بل مطلق المسح هو الثابت بالنص وهو معلوم فلذلك اختار الشيخ هاهنا الطريق الذي بينا لأنه أسلم
قوله "وأما الاستيعاب" إلى آخره جواب عما يقال قد دخلت الباء في قوله تعالى {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} . في المحل وقد شرط فيه الاستيعاب كما في الوضوء فقال لم يثبت الاستيعاب بدخول الباء في المحل ولكنه ثبت بالسنة المشهورة وهي: قوله عليه السلام لعمار " يكفيك ضربتان ضربة للوجه وضربة للذراعين" . وبمثلها يزاد على الكتاب فجعلت الباء صلة أي زائدة بهذه الدلالة مثلها في قوله تعالى {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} "المؤمنون: 20" فصار كأنه قيل فامسحوا وجوهكم وأيديكم فيجب الاستيعاب. "وبدلالة الكتاب" أي الكتاب دل على اشتراط الاستيعاب أيضا لأن التيمم شرع خلفا عن الأصل الوضوء بأن أقيم المسح بالصعيد في العضوين مقام الغسل والمسح بالماء في الأعضاء الأربعة فنصف الحلف تخفيفا وكل تنصيف يدل على بقاء الباقي على ما كان كصلاة المسافر وعدة الإماء وحدود العبيد وكمن له على آخر عشرة دراهم فصالحه على خمسة أو أبرأه عن خمسة يجب الباقي بصفة الأصل في الجودة والرداءة ثم الاستيعاب في غسل في هذين العضوين واجب بالنص فكذا فيما قام مقامهما على أن في رواية الحسن عن أبي حنيفة لا يشترط الاستيعاب بل الأكثر يقوم مقام الكل لأن في الممسوحات الاستيعاب ليس بشرط كما في مسح الخف والرأس(2/257)
تكرار الإذن لأن الباء للإلصاق فاقتضى ملصقا به لغة وهو الخروج فصار الخروج المصلق بالإذن الموصوف به مستثنى فصار عاما فأما قوله إلا أن آذن لك فإنه جعل مستثنى بنفسه وذلك غير مستقيم لأنه خلاف جنسه فجعل مجازا عن
ـــــــ
قوله "وعلى هذا" أي يبتنى على أن الباء للإلصاق. قول الرجل لامرأته إن خرجت من هذه الدار إلا بإذني فكذا أنه يشترط تكرار الإذن حتى لو خرجت بإذنه ثم خرجت بغير إذنه حنث لأن قوله إن خرجت يتناول المصدر لغة وهو نكرة في موضع النفي لأن معناه لا تخرجي خروجا فصار عاما واستثنى منه خروجا موصوفا بصفة الإذن فبقي سائر أنواع الخروج داخلا في الحظر فإذا فعلت وجب الجزاء كما لو قال إن خرجت إلا بقناع أو بملاءة فأنت طالق فمتى خرجت بقناع أو بملاءة لم تطلق ولم يسقط الخطر حتى لو خرجت بغير قناع أو ملاءة طلقت فكذا هذا
قوله "فاقتضى ملصقا به" أي شيئا يلتصق بالإذن إذ لا بد للجار والمجرور من متعلق. وهو أي الشيء الملصق بالإذن هو الخروج لدلالة الكلام عليه. فصار عاما أي صار الخروج الموصوف المستثنى عاما حتى تناول كل خرجة وصفت بالإذن وإن كان الخروج المستثنى نكرة في الإثبات لعموم صفته كما مر تقريره في قوله لا أتزوج إلا امرأة كوفية. وذلك أي جعله مستثنى بنفسه غير مستقيم. لأنه أي المستثنى وهو الإذن خلاف جنسه أي جنس المستثنى منه وهو الخروج. ألا ترى أنه لا يستقيم إظهار الخروج هاهنا بخلاف قوله إلا بإذني فإنه يستقيم أن يقول إلا خروجا بإذني ولو قال إلا خروجا أن آذن لك كان كلاما مختلا. قال الشيخ رحمه الله في شرح الجامع ولو قال إلا أن آذن فهو بمنزلة حتى عندنا حتى لو أذن في الخروج ثم نهى عنه ثم خرجت بغير إذنه لم يحنث وقال الفراء بل يحنث وهو بمنزلة قوله إلا بإذني. واحتج بقول الله تعالى {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} "الأحزاب: 53". وقد كان تكرار الإذن شرطا. ولأن كلمة أن مع الفعل مصدر ولا اتصال له بما تقدم إلا بصلة فوجب تقدير الصلة فيه وهي الباء فيصير بمنزلة قوله إلا بإذني. قال وفيما قلنا تحقيق الاستثناء والعمل به واجب ما أمكن لأنه حقيقة والغاية مجاز. واحتج أصحابنا بقول الله تعالى {إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} "البقرة 267". و إلا أن يحاط بكم ومعناه الغاية. ولأن الكلام إذا بطلت حقيقته تعين مجازه وحقيقة الاستثناء متعذرة هاهنا لأن أن مع الفعل مصدر فيصير مستثنيا للإذن من الخروج وذلك باطل فعمل بمجازه وهو أن يجعل غاية لأن كل استثناء يناسب الغاية من حيث أن حكم ما وراء الغاية على خلاف المغيا كما أن حكم ما وراء الاستثناء على خلاف المستثنى منه فإن من قال لفلان علي ألف درهم إلا مائة كان الحكم فيما وراء(2/258)
الغاية لأن الاستثناء يناسب الغاية
وأما "على" فإنها وضعت لوقوع الشيء على غيره وارتفاعه وعلوه فوقه فصار هو موضوعا للإيجاب والإلزام في قول الرجل لفلان علي ألف درهم أنه دين إلا أن يصل به الوديعة فإن دخلت في المعاوضات
ـــــــ
تسعمائة على خلاف الحكم الثابت في تسعمائة فيجعل غاية بمنزلة حتى وليس كذلك قوله إلا بإذني لأن حرف الإلصاق يقتضي ملصقا في كلام العرب وحذفه سائغ لقيام الدلالة عليه وهو حرف الإلصاق كما في {بِسْمِ اللَّه} أي بدأت أو أبدأ به فكذلك هاهنا صح الحذف لقيام الباء وذلك المحذوف هو الخروج الذي به تحقيق الاستثناء فكأنه قال إلا خروجا بإذني فصح الاستثناء فأما هاهنا فليس في الكلام ذكر الباء فلم يصح حذف الخروج من غير دليل فلذلك تعذرت حقيقته فتعين مجازه. ولا يلزم على ما ذكرنا قوله تعالى {إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} "الأحزاب: 53". لأن التكرار ثمة ما جاء من لفظ إلا أن لأنه لو ذكر بحرف حتى كان الحكم هكذا أيضا كما في قوله تعالى {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} "النور: 27". بل التكرار عرف بقوله تعالى. {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} "الأحزاب: 53". فإن نوى بقوله إلا أن آذن إلا بإذني صحت نيته قضاء وديانة لأنه نوى محتمل كلامه لأن حذف حرف الالتصاق سائغ وفيه تشديد عليه فيصدق. وإن نوى في قوله إلا بإذني الإذن مرة صحت أيضا لأن الاستثناء يفيد ما يفيد الغاية وهو إخراج بعض ما تناوله اللفظ لولا الاستثناء فكان بينهما مشابهة في المعنى فيصدق ديانة لا قضاء لأن فيه تخفيفا عليه كذا في الجامع البرهاني وغيره.
قوله "وأما على" إلى آخره كلمة على وضعت للاستعلاء ومنه يقال فلان علينا أمير لأن للأمير علوا وارتفاعا على غيره ولهذا يخاطب بالمجلس العالي والرفيع ويقال زيد على السطح لتعليه عليه. ومنه قولهم على فلان دين لأن الدين يستعلي من يلزمه ولذا يقال ركبه دين. وهو معنى قوله فصار موضوعا للإيجاب والإلزام في قوله لفلان علي ألف درهم يعني لما كانت هذه الكلمة موضوعة للاستعلاء والاستعلاء في لفلان علي كذا في الإيجاب دون غيره كانت في مثل هذا الموضع للإيجاب باعتبار أصل الوضع. أنه دين أي الثابت به دين لا غير لأن الاستعلاء فيه. "إلا أن يصل به الوديعة" فيقول لفلان علي ألف وديعة فحينئذ لا يثبت الدين لأن على يحتمل معنى الوديعة من حيث إن في الوديعة وجوب الحفظ فيحمل عليه بهذه الدلالة. وقوله إنه دين كلام مستأنف ولو قيل بالواو لكان أحسن. وعبارة شمس الأئمة أوضح فإنه قال وأما على فللإلزام باعتبار أصل الوضع لأن معنى حقيقة الكلمة من علو الشيء على الشيء وارتفاعه فوقه وذلك قضية الوجوب واللزوم ولهذا لو قال لفلان علي ألف درهم أن مطلقه محمول على الدين إلا أن(2/259)
المحضة كانت بمعنى الباء إذا استعملت في البيع والإجارة والنكاح لأن اللزوم يناسب الإلصاق فاستعير له وإذا استعملت في الطلاق كانت بمعنى الشرط عند أبي حنيفة رحمه الله حتى أن من قالت له امرأته طلقني ثلاثا على ألف درهم فطلقها واحدة لم يجب شيء وعندهما يجب ثلث الألف كما في قولها بألف درهم وقال أبو حنيفة رحمه الله كلمة "على" للزوم على ما قلنا وليس بين الواقع وبين ما لزمها مقابلة بل بينهما معاقبة وذلك معنى الشرط
ـــــــ
يصل بكلامه وديعة لأن حقيقة اللزوم في الدين. ثم أنها قد تستعار للباء لأن اللزوم يناسب الإلصاق فإن الشيء إذا لزم الشيء كان ملتصقا به لا محالة ولأن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض لأن كل واحد منها يوصل الفعل إلى الاسم. قال الإمام عبد القاهر على في قولك مررت على زيد أوصل الفعل الذي هو مررت إلى الاسم الذي هو زيد كما يفعل الباء كذلك في قولك مررت بزيد فكان بينهما مناسبة من هذا الوجه. وتستعمل بمعنى الشرط باعتبار أن الجزاء يتعلق بالشرط فيكون لازما عند وجوده فكان استعمالها في الشرط بمنزلة الحقيقة. فإذا استعملت في المفاوضات المحضة وهي التي تخلو عن معنى الإسقاط كالبيع فإنه معاوضة مال بمال. والإجارة فإنها معاوضة مال بمنفعة. والنكاح فإنه معاوضة مال بما ليس بمال كانت بمعنى الباء التي تصحب الأعواض لأن العمل لما تعذر بحقيقتها تحمل على ما يليق بالمعاوضات وهو الباء لما بين العوض والمعوض من اللزوم والاتصال في الوجوب ولا تحمل على الشرط لأن المعاوضات المحضة لا تحتمل التعليق بالخطر لما فيه من معنى القمار فتحمل على ما تحتمله تصحيحا للكلام. وإذا استعملت في الطلاق كانت بمعنى الشرط عند أبي حنيفة رحمه الله.
واعلم أن ما ثبت بطريق المقابلة يثبت مع مقابله بطريق المقارنة كالأخ مع الأخ والجار مع الجار إذ يستحيل أن يكون الشيء مقابلا لشيء قبل مقابلة ذلك الشيء إياه وثبوت العوض مع المعوض من هذا الباب وما ثبت بطريق المعاقبة يكون متأخرا عن صاحبه وصاحبه مقدما عليه كالمشروط مع الشرط لأن المشروط متوقف على الشرط فلا بد أن يثبت أولا ثم يتعقبه المشروط ثم إن أجزاء العوض يتوزع على أجزاء المعوض بالاتفاق لأن ثبوتهما بطريق المقابلة فيقابل كل جزء من العوض جزءا من المعوض وأجزاء الشرط لا يتوزع على أجزاء المشروط بالاتفاق أيضا لأن ثبوت المشروط والشرط بطريق المعاقبة فلو ثبت الانقسام لزم تقدم جزء من المشروط على الشرط فإنه إذا قال لامرأته إن دخلت هذه الدار وهذه الدار فأنت طالق ثنتين تعلقت الطلقتان بدخول الدارين فلو ثبت الانقسام تقع تطليقة بدخول إحدى الدارين ودخول الدارين شرط واحد فيكون بعض(2/260)
والجزاء فصار هذا بمنزلة حقيقة هذه الكلمة وقد أمكن العمل به لأن الطلاق وإن دخله المال فيصلح تعليقه بالشروط حتى إن جانب الزوج يمين فيصير هذا منها طلبا لتعليق المال بشرط الثلث فإذا خالف لم يجب وفي المعاوضات
ـــــــ
المشروط متقدما على الشرط وأنه فاسد. إذا عرفت هذا قلنا إذا قالت لزوجها طلقني ثلاثا على ألف درهم يحتمل على الشرط عند أبي حنيفة رحمه الله حتى لو طلقها واحدة لا يلزمها شيء وكان الطلاق رجعيا. وعندهما تحمل على الباء حتى لو طلقها واحدة يجب عليها ثلث الألف وكان الطلاق بائنا كما لو قالت طلقني ثلاثا بألف لأن الطلاق على مال معاوضة من جانب المرأة ولهذا كان لها أن ترجع قبل كلام الزوج وإنما يجب المال عليها عوضا عن الطلاق وكلمة على تحتمل معنى الباء أو قد صدرت من جانبها فتحمل على المعاوضة لاحتمال الطلاق إياها ودلالة الحال عليها وصار كقوله احمل هذا الطعام إلى منزلي على درهم فإنها تحمل على الباء وكما لو قالت طلقني وضرتي على ألف درهم فطلقها وحدها لزمها بقدر ما يخصها من الألف كما لو قالت بألف. وقال أبو حنيفة رحمه الله كلمة على للزوم كما بينا وليس بين الواقع وهو الطلاق وبين ما لزمها وهو الألف مقابلة لينعقد معاوضة فتحمل على الباء بل بينهما معاقبة لأنه يقع الطلاق أولا ثم يجب المال أو يجب المال ثم يقع الطلاق.
"وذلك" أي التعاقب معنى الشرط والجزاء لا معنى المعاوضة فصار معنى الشرط بمنزلة حقيقة هذه الكلمة لأن هذه الكلمة للزوم وبين الشرط والجزاء ملازمة فكان الحمل عليه لكونه أقرب إلى التحقيق أولى من الحمل على الباء. وقد أمكن العمل به أي بمعنى الشرط هاهنا. لأن الطلاق وإن دخله المال والمال غير قابل للتعليق بالشرط يصلح تعليقه بالشروط مثل أن يقول إن قدم فلان فأنت طالق على ألف صح ولم يمنع معنى المعاوضة عن صحة التعليق لأنه تابع. والفاء في قوله فيصلح زائدة وقعت غير موقعها لأنها لا تدخل في خبران. "حتى إن جانب الزوج يمين" يعني لو ابتدأ الزوج فقال طلقتك ثلاثا على ألف كان بمنزلة اليمين حتى لا يمكنه الرجوع قبل كلام المرأة ولا يقتصر على مجلس الزوج ولا يكون يمينا إلا بأن قدر معنى التعليق فيه كأنه قال إن التزمت ألفا فأنت طالق ثلاثا فعرفنا أن دخول المال في الطلاق لا يمنع معنى التعليق. وإذا كان كذلك يجعل قولها طلقني ثلاثا على ألف تعليقا لوجوب المال بإيقاع الثلاث كأنها قالت إن طلقتني ثلاثا فلك ألف وطلبا من الزوج إيجاد هذا الشرط وهو الثلاث.
"فإذا خالف" أي الزوج أمرها لم يجب المال كله لعدم الشرط وهو الثلاث ولا بعضه(2/261)
المحضة يستحيل معنى الشرط فوجب العمل بمجازه قال الله تعالى {حَقِيقٌ
ـــــــ
لعدم صحة انقسام المشروط على أجزاء الشرط هذا تقرير ما في الكتاب على وجه التقريب. وفي لفظ الشيخ نوع اشتباه فإنه قال فيصير هذا أي قولها طلقني ثلاثا على ألف منها طلبا لتعليق المال بشرط الثلاث وليس كذلك بل هو تعليق الالتزام بالطلقات الثلاث منها من حيث المعنى والغرض فإن مقصودها تحصيل الثلاث بالمال فصار كأنها قالت إن طلقتني ثلاثا فلك ألف. فينبغي أن يقال فيصير هذا تعليقا للزوم المال بالثلاث. ولا مطابقة أيضا بينه وبين قوله "لأن الطلاق وإن دخله المال يصح تعليقه بالشروط". وفي التحقيق لا حاجة إلى ذكر هذا الكلام لأن ما نحن فيه ليس تعليق الطلاق الداخل فيه المال بشرط بوجه بل هو تعليق التزام المال بالثلاث وطلب إيجاد الشرط من الزوج فكان المناسب أن يقال وقد أمكن العمل به لأن تعليق التزام المال من المرأة بشرط الطلاق يصح لتأديته إلى معنى المعاوضة في الآخرة فيصير هذا منها تعليقا للمال بشرط الثلاث في ضمن الطلب فإذا خالف لم يجب. وذكر الشيخ في شرح الجامع الصغير ولأبي حنيفة رحمه الله أن على بمعنى الشرط لأن أصلها اللزوم فاستعيرت للشرط لأنه يلازم الجزاء فصارت طالبة للثلاث بألف بكلمة هي للشرط وصار بحكم الاتحاد دخولها على المال مثل دخولها على الطلاق بأن قالت لك علي ألف على أن تطلقني ثلاثا وهناك لا يجب شيء إلا بإيقاع الثلاث فكذلك هاهنا. وذكر في الأسرار أن حقيقة كلمة على لإثبات الجزاء إذا خرج مخرج الجواب لا لإثبات العوض كقولك أكرمني على أن أكرمك معناه إن أكرمتني أكرمك فإذا دخلت على الإيجابات أو العدات لا تقتضي مقابلة فلا يجب المال به وجوب الأعواض بل يجب به وجوب الأجزئة مع الشروط لأن الكلمة للشرط بمنزلة الحقيقة وإذا كان كذلك اقتضى تعلق وجوب المال بالطلاق على سبيل المعاقبة كما لو قالت إن طلقتني فلك ألف لا على سبيل المقابلة فلذلك لم يتوزع. بخلاف الباء فإنها للمقابلة فإن لم يثبت المقابلة بينهما باعتبار أن المبدل وهو الطلاق ليس بصالح لكن يثبت التوزيع كي لا يبطل العمل به أصلا. وإنما حملناها على المقابلة في مسألة طلاق الضرة معها على ألف لأنا إن حملناها على الجزاء والمعاقبة كان البدل كله عليها كما لو قالت إن طلقتنا فلك ألف وإن حملناها على المقابلة وجب بعض البدل عليها إذا قبلت ولا يكون عليها إلا النصف فدل الظاهر من حالها على إرادة المقابلة لتستفيد بهذا الطلب نقصان البدل إذ لا فائدة لها في طلاق الضرة بعد طلاقها فأما هاهنا فالفائدة لها أكثر في أن يجعل الألف جزاء حتى لا يلزمها شيء ببعض الطلاق. ومما يؤيد مذهب أبي حنيفة رحمه الله ما ذكر في السير الكبير ولو أن مسلما وادع أهل الحرب سنة على ألف دينار جازت الموادعة. فإن رأى الإمام المصلحة في إبطالها رد المال إليهم ثم نبذ إليهم(2/262)
عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} "الأعراف: 105" وقال {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً} "الممتحنة: 12" وأما "من" فللتبعيض هو أصلها ومعناها
ـــــــ
وقاتلهم. وإن كان مضى نصف السنة ففي القياس يرد نصف المال ويمسك النصف للمسلمين اعتبارا بالإجارة بعوض معلوم. وفي الاستحسان يرد الكل لأنهم التزموا المال بشرط أن يسلم لهم الموادعة في جميع المدة والجزاء إنما يثبت باعتبار الشرط جملة ولا يتوزع على أجزائه وكلمة على للشرط في الحقيقة والموادعة في الأصل ليست من عقود المعاوضات فجعلنا هذه الكلمة عاملة فيها بحقيقتها فإذا لم يسلم لهم الموادعة سنة كاملة وجب رد المال كله عليهم. وإن كان وادعهم ثلاث سنين كل سنة بألف دينار وقبض المال كله ثم أراد الإمام نقض الموادعة بعد مضي سنة فإنه يرد عليهم الألفين لأن الموادعة كانت هاهنا بحرف الباء وهي تصحب الأعواض فينقسم العوض على المعوض باعتبار الأجزاء وفي المعاوضات المحضة يستحيل معنى الشرط لما فيه من تعليق التمليك بالخطر وهو فاسد بخلاف تعليق المال بالطلاق لأن المال وجب في ضمن ما يصح فيه التعليق وما ثبت في ضمن شيء لا يعطي لها حكم نفسه وإنما يعطي له حكم المتضمن كذا قيل. فوجب العمل بمجازه وهو أن يجعل بمعنى الباء
قوله "قال الله تعالى" متصل بقوله فصار هذا بمنزلة حقيقة هذه الكلمة {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} . أي أني جدير بأمر الرسالة بشرط أن لا أقول على الله إلا الحق. وقال تعالى {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً} . أي بشرط عدم الإشراك بالله هذا هو المذكور في كتب الفقه. فأما أئمة التفسير فلم يذكروا معنى الشرط فيه فقالوا معناه جدير بأن لا أقول على الله إلا الحق. أو ضمن حقيق معنى حريص فاستقام على صلة له. أو هو مبالغة من موسى عليه السلام في وصف نفسه بالصدق في ذلك المقام فإنه روي أن فرعون قال له لما قال {إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} كذبت فيقول أنا حقيق على قول الحق أي واجب علي قول الحق أن أكون قائله والقائم به ولا يرضى إلا بمثلي ناطقا به. وكذا قالوا في قوله تعالى. {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً} . أن على صلة المبايعة يقال بايعه على كذا إلا أنه لما أدى إلى معنى الشرط إذ المبايعة توكيد كالشرط, توسع الفقهاء في ذلك وقالوا إنه بمعنى الشرط.
قوله "فأما من فللتبعيض" ذكر النحاة أنها لابتداء الغاية يقال سرت من الكوفة إلى البصرة وهذا الكتاب من فلان إلى فلان. وقد تكون للتبعيض كقولهم أخذت من الدراهم وزيد من القوم. وللتبيين كقوله تعالى. {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} "الحج: 30". وكقولهم: خاتم من فضة وباب من ساج. وقد تكون مزيدة كقولك ما جاءني من(2/263)
الذي وضعت له لما قلنا وقد ذكرنا مسائلها في قوله أعتق من عبيدي من شئت وما يجري مجراه ومسائله كثيرة.وأما إلى فلانتهاء الغاية لذلك وضعت ولذلك استعملت في الآجال وإذا دخلت في الطلاق في قول الرجل أنت طالق إلى شهر فإن نوى التنجيز وقع وإن نوى الإضافة تأخر وإن لم يكن له نية وقع
ـــــــ
أحد وقال المحققون منهم الكل راجع إلى معنى ابتداء الغاية فإن قولك أخذت من الدراهم دال على أن الدراهم موضع أخذك وابتداء غايته كما أن قولك سرت من البصرة يدل على أن البصرة منشأ سيرك غير أنها في الدراهم أفادت التبعيض لأنه ممكن فيها ولم تفده في قولك سرت من البصرة لأنك إذا فارقتها فقد فارقت جميع نواحيها إذ لا يصح أن يكون خارجا منها وغير خارج. وكذا في قوله تعالى {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ} "الحج: 30" إذ الرجس من الأوثان وغيرها فلما قال من الأوثان بين ما هو المقصود وجعل مبدأ الاجتناب الأوثان. وكذا قولك ما جاءني من أحد معناه من واحد هذا الجنس إلى إقصاء فيكون معنى ابتداء الغاية مستفادا من الجميع كما ترى. ولهذا قال أبو العباس معناها ابتداء الغاية فقط. وذكر الشيخ في جامعه أيضا أن كلمة من ليست عينها بمعنى التبعيض وللانتزاع وابتداء الغاية فصارت للتبعيض. وهذا هو المختار إلا أن بعض الفقهاء لما وجدها أكثر استعمالا في التبعيض جعلوها فيه أصيلا وفيما سواه دخيلا وإليه مال الشيخ هاهنا فقال هو أصلها ومعناه الذي وضعت له لما قلنا إن الاشتراك خلاف الأصل فجعلناها للتبعيض ليكون له معنى يخصه. ورأيت في بعض نسخ أصول الفقه أنها للتبعيض وابتداء الغاية جميعا عند الفقهاء وكل واحد من موضعه حقيقة.
"ومسائله كثيرة". منها ما ذكر في الجامع: رجل قال إن كان ما في يدي من الدراهم إلا ثلاثة أو غير ثلاثة أو سوى ثلاثة فجميع ما في يدي صدقة في المساكين فإذا في يده أربعة دراهم أو خمسة دراهم لزمه أن يتصدق بذلك كله. ولو قال إن كان في يدي دراهم إلا ثلاثة, والمسألة بحالها لا شيء عليه لأنه جعل شرط حنثه في المسألة الأولى أن يكون في يده غير الثلاثة ما يكون من الدراهم والدرهم والدرهمان من الدراهم وجعل شرط حنثه في المسألة الثانية أن يكون في يده غير الثلاثة مما ينطلق عليه اسم الدراهم ولم يوجد لأن اسم الدراهم لا ينطلق على الدرهم والدرهمين.
قوله "وأما إلى فلانتهاء الغاية" هذه الكلمة لانتهاء الغاية على مقابلة من يقال سرت من البصرة إلى الكوفة فالكوفة منقطع السير كما كانت البصرة مبتدأ. ويقول الرجل إنما أنا إليك أي أنت غايتي وتقول قمت إلى فلان فتجعله منتهاك من مكانك هذا هو الحقيقة في اللغة. وقد يجيء لمعنى المصاحبة كقوله تعالى. {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى(2/264)
للحال عند زفر رحمه الله لأن إلى للتأجيل والتأجيل لا يمنع الوقوع وقلنا إن التأجيل لتأخير ما يدخله وهنا دخل على أصل الطلاق فأوجب تأخيره
ـــــــ
"النساء: 20". وقولهم الذود إلى الذود إبل لكنه راجع في التحقيق إلى معنى الانتهاء أيضا فإن الأكل في الآية ضمن معنى الضم إذ النهي لا يختص بالأكل فعدي بإلى أي لا تضموها إلى أموالكم في الإنفاق حتى لا تفرقوا بين أموالكم وأموالهم, قلة مبالاة بما لا يحل وتسوية بينه وبين الحلال. أو المعنى لا ينته أكل أموالهم إلى أموالكم فيكون إلى صلة فعل الانتهاء. وكذلك معنى قولهم الذود إلى الذود إبل الذود منضما إلى الذود إبل. ولذلك أي ولأنها وضعت لانتهاء الغاية استعملت في آجال الديون لأن آجال الديون غاياتها. واعلم أن كلمة إلى إذا دخلت في الأزمنة قد تكون للتوقيت وهو الأصل وقد تكون للتأجيل والتأخير. ومعنى التوقيت أن يكون الشيء ثابتا في الحال وينتهي بالوقت المذكور ولولا الغاية لكان ثابتا فيما ورائها أيضا كقولك والله لا أكلم فلانا إلى شهر كان ذكر الشهر لتوقيت اليمين إذ لولاه لكانت مؤبدة وكذلك قولك آجرتك هذه الدار إلى شهر. ومعنى التأخير والتأجيل أن لا يكون الشيء ثابتا في الحال مع وجود ما يوجب ثبوته ثم يثبت بعد وجود الغاية ولولا الغاية لكان ثابتا في الحال أيضا كالبيع إلى شهر فإنه لتأخير المطالبة إلى مضي الشهر ولولاه لكانت المطالبة ثابتة في الحال وبعد الشهر أيضا ما لم يسقط الدين بالأداء أو الإبراء فإذا قال أنت طالق إلى شهر ونوى التنجيز تطلق في الحال ويلغو آخر كلامه لأنه نوى حقيقة كلامه فإنه أراد أن يقع الطلاق في الحال وينتهي بمضي الشهر والطلاق لا يقبل التوقيت لأنه مما لا يمتد فيقع الطلاق ويلغو التوقيت. وإن نوى التأخير يتأخر الوقوع إلى مضي الشهر لأنه نوى محتمل كلامه إذ الطلاق يقبل الإضافة كقوله أنت طالق غدا وإلى تستعمل في التأخير كما تستعمل في التوقيت فصار تقدير كلامه أنت طالق مؤخرا إلى شهر. وإن لم يكن له نية وقع للحال عند زفر وهو رواية عن أبي يوسف رحمهما الله لأن إلى للتأجيل أو للتوقيت وكل ذلك صفة لوجود فلا بد من الوجود للحال ثم يلغو الوصف لأنه لا يقبله ألا ترى أنه لو باع عبده بألف إلى شهر يثبت الألف للحال ويتأجل بعد الثبوت. وعندنا يتأخر الوقوع إلى مضي الشهر لأن إلى كما تدخل في الشيء لتوقيته تدخل لتأجيل الثبوت أيضا فيصير كالمتعلق به والطلاق بعد وقوعه لا يقبل التأجيل والتأخير فأما الإيقاع فيقبله فانصرف الأجل إليه كي لا يكون إبطالا له وهو كالنصاب علة لوجوب الزكاة ولما أجل بحول تأجل الوجوب لا الزكاة الواجبة لأنها بعد الوجوب لا تقبل الأجل والوجوب نفسه يقبله فعمل الأجل عمله فيما يقبله. بخلاف البيع بألف إلى شهر لأن الألف مما يتأجل قبضه فانصرف إليه ولم ينصرف إلى الوجوب.(2/265)
والأصل في الغاية إذا كان قائما بنفسه لم يدخل في الحكم مثل قول الرجل من هذا البستان إلى هذا البستان وقول الله تعالى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} إلا أن يكون صدر الكلام يقع على الجملة فيكون الغاية
ـــــــ
وبخلاف اليمين الموقتة إلى شهر لأن اليمين ثابتة للحال وتقبل التوقيت فتتوقت كالإجارة فأما انعقاد اليمين فلا يقبل التأجيل فلم ينصرف إليه وانعقد للحال كذا في الأسرار. وبيان ما ذكر في الكتاب أن التأجيل لتأخير ما يدخل فيه كتأجيل الدين وهاهنا دخل على أصل الطلاق لأن قوله إلى شهر دخل في قوله أنت طالق كما دخل قوله بعتك بألف إلى شهر في الألف إلا أن ثبوت نفس الدين لا يقبل التأجيل فانصرف إلى المطالبة وثبوت الطلاق يقبله فانصرف التأجيل إليه فأوجب تأخيره
قوله "والأصل في الغاية" إلى آخره لما كان بعض الغايات الثابتة بهذه الكلمة غير داخلة في حكم المغيا كالليل في الصيام وبعضها داخلة فيه كالمرفق في غسل اليد لا بد من ضابط لذلك. فقال الأصل فيها أنها إذا كانت قائمة بنفسها بأن تكون موجودة قبل التكلم ولا تكون مفتقرة في وجودها إلى المغيا لم تدخل تحت الحكم الثابت له لأنها إذا كانت قائمة بنفسها لا يمكن أن يستتبعها المغيا مثل قوله بعت من هذا البستان إلى هذا البستان. وقوله لفلان من هذا الحائط إلى هذا الحائط فإن الغايتين لا تدخلان في البيع والإقرار. ولا يلزم على هذا قوله سبحانه {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} "الإسراء: 1". حيث دخل المسجد الأقصى تحت الإسراء فقد ثبت أن النبي عليه السلام دخل المسجد الأقصى. لأنا نقول ثبت ذلك بالأحاديث المشهورة لا بموجب هذا الكلام.
إلا أن يكون استثناء من قوله لم يدخل في الحكم أي لا تدخل الغاية تحت حكم المغيا إذا كانت قائمة بنفسها إلا إذا كان صدر الكلام واقعا على الجملة أي المغيا والغاية جميعا فحينئذ تدخل لأن صدر الكلام لما كان واقعا على الجملة قبل ذكر الغاية وبعد ذكرها لا يتناول إلا البعض منها كان المقصود من ذكر الغاية إسقاط ما وراءها ضرورة والاسم يتناول موضع الغاية فبقي داخلا تحت صدر الكلام لتناول الاسم إياه. مثل ما قلنا في المرافق أنها داخلة تحت الغسل وهو مذهب عامة العلماء لأن المقصود من ذكر المرافق إسقاط ما ورائها إذ لولا ذكرها لاستوعبت الوظيفة كل اليد فلا تدخل تحت الإسقاط بل بقيت داخلة تحت الوجوب بمطلق اسم اليد ولهذا فهمت الصحابة من إطلاق الأيدي في التيمم الأيدي إلى الإباط كذا في بيوع المبسوط.(2/266)
لإخراج ما وراءها فيبقى داخلا بمطلق الاسم مثل ما قلنا في المرافق ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله في الغاية في الخيار أنه يدخل وكذلك في الآجال
ـــــــ
فإن قيل لا بد للجار والمجرور من متعلق وهو قوله {فَاغْسِلُوا} "المائدة: 6" في هذه الآية فكيف يمكن جعله غاية للإسقاط وأنه ليس بمذكور ولا مضمر.
قلنا تعلق الجار والمجرور بالغسل ظاهرا ولكن المقصود هو الإسقاط دون مد الحكم كما قال زفر رحمه الله فالمرفق غاية للغسل لفظا وظاهرا وغاية للإسقاط معنى ومقصودا والعبرة للمعاني دون الظواهر. وذكر صاحب الكشاف فيه في تفسير هذه الآية أن كلمة إلى تفيد معنى الغاية مطلقا فأما دخولها في الحكم وخروجها منه فأمر يدور مع الدليل. فما فيه دليل على الخروج قوله تعالى {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} "البقرة: 280". لأن الإعسار علة الإنظار وبوجود الميسرة تزول العلة ولو دخلت الميسرة فيه لكان منظرا في كلتا الحالتين معسرا أو موسرا فتبطل الغاية. وكذلك قوله تعالى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} . إذ لو دخل لوجب الوصال.
ومما يدل على الدخول قولك قرأت القرآن من أوله إلى آخره لأن الكلام سيق لحفظ القرآن كله فقوله إلى المرافق وإلى الكعبين لا دليل فيه على أحد الأمرين فأخذ عامة العلماء بالاحتياط فحكموا بدخولها في الغسل وأخذ زفر وداود بالمتيقن فلم يدخلاها. ولهذا أي ولما ذكرنا أن الصدر إذا كان متناولا للجملة تدخل الغاية قال أبو حنيفة رحمه الله إذا باع بشرط الخيار إلى الغد أو إلى الليل أو إلى الظهر تدخل الغاية في مدة الخيار لأن الغاية هاهنا حد الإسقاط فإنه لو شرط الخيار مطلقا يثبت الخيار مؤبدا ولهذا فسد العقد ألا ترى أنه لو أسقط الخيار في الثلاث عنده وبعد أي مدة كانت عندهما ينقلب جائزا فعرفنا أنه منعقد بصفة الفساد وإذا كان كذلك كان ذكر الغاية لإخراج ما وراءها فتبقى داخلة تحت الجملة كالمرافق في الوضوء. بخلاف الأجل في الدين لأن الغاية فيه لمد الحكم إلى موضع الغاية لأن الأجل للترفية فمطلق الاسم يتناول أدنى ما يحصل به الترفية. وبخلاف الإجارة فإن الغاية فيها لا تدخل في مدة الإجارة أيضا لأنها عقد تمليك المنفعة بعوض فمطلقها لا يوجب إلا أدنى ما يتناوله الاسم وذلك مجهول ولأجل الجهالة يفسد العقد فكان ذكر الغاية لبيان مقدار المعقود عليه وذلك بمد الحكم إلى موضع الغاية. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله لا تدخل الغاية في مدة الخيار لأن الغد جعل غاية والأصل أن الغاية لا تدخل في الصدر إلا بدليل ولهذا سميت غاية لأن الحكم ينتهي إليها دل عليه الصوم إلى الليل والأكل إلى الفجر ولهذا لو آجر داره إلى رمضان أو باع بأجل إلى رمضان أو حلف لا يكلمه إلى رمضان لم يدخل رمضان تحت الجملة لأنه غاية. ولا يلزم علينا(2/267)
في الأيمان في رواية حسن بن زياد عنه وقال في قوله لفلان علي من درهم إلى
ـــــــ
المرافق فإنها دخلت تحت الجملة لأن ذلك ثبت بالسنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم حين علم الوضوء الذي لا يقبل الله الصلاة إلا به غسل المرافق هكذا حكى الحاكي الوضوء كذا في المبسوط والأسرار. وذكر القاضي الإمام في آخر هذه المسألة أن مذهبهما أوضح لأن قوله إلى غد قرن بالخيار فصار مدا للخيار إليه وكذلك المرفق قرن بالغسل والكلام إذا قرن به غاية أو استثناء أو شرط لا يعتبر بالمفصول عن القيد ثم التعبير بالقيد عن حال الإطلاق بل يعتبر مع القيد جملة واحدة لما عرف في مسألة تعليق الطلاق للشرط ومتى جعل كلاما واحدا للإيجاب إلى غد لا الإيجاب والإسقاط لأنهما ضدان فلا يثبتان إلا بنصين والنص مع الغاية نص واحد. ولأن مسألة اليمين لازمة على طريق أبي حنيفة والاعتماد على رواية الأصل دون رواية الحسن
قوله "وكذلك في الآجال في الأيمان" أي وكما تدخل الغاية في الجملة في مسألة الخيار عنده لما ذكرنا من المعنى تدخل الآجال المذكورة في الأيمان أيضا بأن حلف لا يكلم فلانا إلى رجب أو إلى رمضان أو إلى الغد في الجملة عنده أيضا في رواية الحسن عنه لذلك المعنى فإن مطلق كلامه يقتضي التأبيد فيكون ذكر الغاية لإخراج ما ورائها. ولا تدخل في ظاهر الرواية عنه وهو قولهما لأن في حرمة الكلام ووجوب الكفارة بالكلام في موضع الغاية شكا كذا قال شمس الأئمة رحمه الله ولأن الكلام في أصل الوضع لا يقتضي العموم والتأبيد بل مطلقه يتناول أدنى ما ينطلق عليه الاسم كاسم الصيام يتناول أدنى الإمساك واقتضاؤه للتأبيد في قوله لا أكلم بالعارض وهو وقوعه في موضع النفي لا بأصل الوضع فكان عندنا في حكم الغاية لأن كون الغاية للمد أو للإسقاط بالنظر إلى أصل الوضع لا باعتبار العوارض فكان ذكر الغاية لمد الحكم بالنظر إلى أصل الوضع لا للإسقاط فلا تدخل الغاية تحت الجملة كما لو قال والله لأكلمن فلانا إلى الليل أو إلى الغد بخلاف اسم اليد فإنه يتناول جميع العضو المعلوم بأصل الوضع فيكون ذكر الغاية للإسقاط. ووقع في بعض النسخ وكذلك في الآجال والأيمان وفي بعضها في الآجال وفي الأيمان وفي بعضها وفي الأثمان بالثاء المثلثة وكل ذلك سهو لأن قوله في رواية الحسن إن اتصل بالجميع يقتضي أن يكون في الآجال روايتان وإن اتصل بالأخير يقتضي أن يكون الآجال داخلة في الجملة عند رواية واحدة وكل ذلك فاسد لأن الأجل في الدين والبيع المؤجل والإجارة لا يدخل في الجملة بالاتفاق.
قال شمس الأئمة وفي الآجال والإجارات لا يدخل الغاية لأن المطلق لا يقتضي(2/268)
عشرة لم يدخل العاشر لأن مطلق الاسم لا يتناوله وقالا يدخل لأنه ليس بقائم بنفسه وكذلك هذا في الطلاق وإنما دخلت الغاية الأولى للضرورة.وأما "في"
ـــــــ
التأبيد وفي تأخير المطالبة وتمليك المنفعة في موضع الغاية شك فثبت أن الصحيح من النسخ ما ذكرناه أولا
قوله "وقال" أي أبو حنيفة رحمه الله في قوله لفلان علي من درهم إلى عشرة لم يدخل الدرهم العاشر في الوجوب فيلزمه تسعة لأن مطلق اسم الدرهم لا يتناول العاشر فيكون ذكره لمد الوجوب إليه فلا يدخل. وقالا تدخل الغاية الأخيرة كالأولى. لأنه أي العاشر ليس بقائم بنفسه إذ لا تحقق للعاشر إلا بوجود تسعة أخرى قبله كما لا تحقق للأول إلا بوجود ثان بعده فلا يكون كل واحد منهما غاية ما لم يكن ثابتا وذلك بالوجوب. وكذلك هذا في الطلاق يعني ما ذكرنا من دخول الغاية الأولى دون الأخيرة عنده ودخول الغايتين عندهما ثابت في قوله أنت طالق من واحدة إلى ثلاث لما ذكرنا من الدليل من الجانبين.
وذكر الشيخ في بعض نسخة في هذه المسألة هما يقولان أنه جعل المشروع غاية فلا بد من وجوده ليصلح غاية ووجوده بوقوعه وثبوته. وتحقيق ذلك أنه أوقع طلاقا موصوفا بوصف أنه بين الأولى والثالثة فلا يقع حتى يوجد إذ وجودهما بوقوعهما فإذا وقعا لم يرتفعا بعد ذلك فلهذا اقتضى دخولهما في المغيا وإنما دخلت الأولى أي الغاية الأولى عند أبي حنيفة للضرورة وهي أنه إنما أوقع ما بين الأولى والثالثة بنصه فيكون ثانية والثانية على حقيقتها لا يتصور إلا بالأولى فاقتضى ذلك دخول الأولى لتصير هي ثانية ولم يقتض دخول الثالثة لأن الثابتة ثانية بلا ثالثة فعملنا بالغاية الأولى على مجازها عملا بحقيقة الثانية لأنها هي الواقعة والحكم المطلوب بهذا الإيجاب فكان طلب حقيقته أولى من طلب حقيقة الغاية بخلاف ما إذا قال أنت طالق ثانية فإنها تقع واحدة لأن الثانية تلغو ولم يمكن إثباتها بالواحدة قبلها لأنه لم يجر لها ذكر يحتمل الثبوت والطلاق لا يثبت إلا بلفظ وقد جرى في مسألة الغاية ما يحتمل الثبوت لأن الغاية قد تدخل في الجملة إذا قام دليله ألا ترى أن رجلا لو قال لآخر كل من هذا الطعام إلى عشر لقمات كان له أن يأكل اللقمة العاشرة ولو قال اشتر لي عبدا إلى ألف درهم دخل الألف وكذلك الكفالة عن رجل إلى ألف لأن دلالة الحال دلت عليه فإن الإنسان لا يكفل إلى ألف درهم إلا وهو راض بتمامها وكذا الشراء وكذا إباحة الطعام فإنه قل ما يجري الضمن بلقمة واحدة فأما الطلاق فدلالة الحال تمنع الدخول لأن الرجل يحترز عن الثالثة أشد الاحتراز. وكذا الإقرار لأنه إخبار فينتهي صحته على ثبوت المخبر عنه وثبوت تسعة لا يدل على ثبوت العاشر ليدخل تحته بدلالة الحال فبقي الأمر على ظاهره كذا في الأسرار.(2/269)
فللظرف وعلى ذلك مسائل أصحابنا رحمهم الله ولكنهم اختلفوا في حذفه وإثباته في ظروف الزمان وهو أن تقول أنت طالق غدا أو في غد وقالاهما سواء وفرق أبو حنيفة بينهما فيما إذا نوى آخر النهار على ما ذكرنا في موضعه
ـــــــ
قوله "وأما في فللظرف" هذه الكلمة تجعل ما تدخل هي عليه ظرفا لما قبلها ووعاء له فإذا قلت الخروج في يوم الجمعة فقد أخبرت أن اليوم قد اشتمل على الخروج وصار وعاء له وكذلك قولك الركض في الميدان وزيد في الدار هذا أصل هذه الكلمة ثم قيل زيد ينظر في العلم وأنا في حاجتك مجازا على معنى أن العلم جعل وعاء لنظره وتأمله وعلى معنى أنه لما صرف العناية إلى حاجته صارت كأنها قد اشتملت عليه لغلبتها على قلبه وهمه وعلى ذلك مسائل أصحابنا أي على أنها للظرف بنيت مسائل أصحابنا فإذا قال غصبتك ثوبا في منديل أو تمرا في قوصرة يلزمه كلاهما لأنه أقر بغصب مظروف في ظرف ولا يتحقق ذلك إلا بغصبه إياهما. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله هما سواء أي قوله أنت طالق غدا وأنت طالق في غد سواء في الحكم حتى لو نوى آخر النهار في قوله في غد لا يصدق قضاء لأن حذف حرف في وإثباته في الكلام سواء إذ لا فرق بين قوله خرجت يوم الجمعة وقوله خرجت في يوم الجمعة وسكنت الدار وسكنت في الدار وقد أجمعنا أنه لو قال غدا ونوى آخر النهار يصدق ديانة لا قضاء فكذا إذا قال في غد ألا ترى أن قوله غدا معناه في غد إلا أنه حذف عنه حرف الظرف اختصارا فكان كالمصرح به في الحكم.
وفرق أبو حنيفة رحمه الله بين المسألتين فيما إذا نوى آخر النهار فقال في قوله في غد يصدق ديانة وقضاء وفي قوله غدا يصدق ديانة لا قضاء. على ما ذكرنا في موضعه أي من شرح الجامع الصغير والمبسوط أن الظرف إذا اتصل به الفعل بغير واسطة اقتضى استيعابه إن أمكن لأنه حينئذ شابه المفعول به من حيث إنه صار معمولا للفعل ومنصوبا به ألا ترى أنه إذا اتسع في مثل هذا الظرف ولم يقدر فيه حرف في أخذ حكم المفعول به حتى إذا أخبرت عنه بالذي عملت به ما عملت بالمفعول به فقلت في مثل قولك متسعا سرت يوم الجمعة الذي سرته يوم الجمعة كما تقول الذي ضربته زيد ولم يقل الذي سرت فيه يوم الجمعة. وإذا اتصل به الفعل بواسطة حرف الظرف اقتضى وقوعه في جزء منه إذ ليس من ضرورة الظرفية الاستيعاب. وإذا ثبت ذلك قلنا إذا قال غدا ونوى آخر النهار لم يصدق قضاء لأن الطلاق اتصل بالغد بلا واسطة فاقتضى استيعاب الغد أعني كونها موصوفة بالطلاق في جميع الغد فلا بد من أن يكون واقعا في أوله ليحصل الاستيعاب فإذا نوى آخر النهار فقد غير موجب كلامه إلى ما هو تخفيف عليه فلا يصدق(2/270)
أن حرف الظرف إذا سقط اتصل الطلاق بالغد بلا واسطة فيقع في كله فيتعين وله فلا يصدق في التأخير وإذا لم يسقط حرف الظرف صار مضافا إلى جزء منه مبهم فيكون نيته بيانا لما أبهمه فيصدقه القاضي وذلك مثل قول الرجل إن صمت الدهر فعلي كذا أنه يقع على الأبد وإن صمت في الدهر يقع على ساعة
ـــــــ
قضاء ولكنه يصدق ديانة لأنه نوى محتمل كلامه. وأما إذا قال في غد فموجب كلامه الوقوع في جزء من الغد مبهم وإليه ولاية التعيين كما لو طلق إحدى نسائه فإذا نوى آخر النهار كانت نيته تعيينا لما أبهمه لا تغييرا للحقيقة فيصدق قضاء كما يصدق ديانة وإذا لم ينو شيئا كان الجزء الأول أولى لعدم المزاحم والسبق فلذلك يقع فيه. ثم استوضح ما ذكر من الفرق فقال وذلك أي الفرق الذي ذكرنا مثل الفرق بين هاتين المسألتين فإنه إذا قال: إن صمت الدهر فكذا. كان شرط الحنث صوم جميع العمر ولو قال: إن صمت في الدهر كان شرط الحنث صوم ساعة معناه أن ينوي الصوم إلى الليل في وقته ثم يفطر بعد ذلك.
قوله "وإذا أضيف" أي قوله أنت طالق إلى المكان بأن قيل أنت طالق في الدار أو في الظل أو في الشمس طلقت في الحال حيثما كانت لأن المكان لا يصلح ظرفا للطلاق إذ الظرف للشيء بمنزلة الوصف له وما كان وصفا للشيء لا بد من أن يكون صالحا للتخصيص والمكان لا يصلح مخصصا للطلاق بحال لأنه إذا وقع في مكان كان واقعا في الأمكنة كلها وكذا المرأة إذا اتصفت به في مكان توصف به في جميع الأمكنة وإذا لم يصلح مخصصا لا يمكن أن تجعل بمعنى الشرط. ألا ترى أنه لو جعل بمعنى الشرط وهو موجود كان تنجيزا أيضا لأن التعليق بأمر كائن تنجيز. بخلاف إضافته إلى الزمان لأن الزمان يصلح مخصصا له إذ الطلاق يكون واقعا في زمان دون زمان فإذا أضافه إلى زمان معدوم في الحال يمكن أن يجعل بمعنى المعلق به فلا يقع في الحال. ألا أن يراد به أو بقوله في الدار مثلا إضمار الفعل بأن أريد به في دخولك الدار فحينئذ لا تطلق في الحال لأنه ذكر المحل وإرادته الفعل الحال فيه. أو ذكر المسبب وأراد به السبب إذ الدخول في الدار سبب كينونتها فيها وكل ذلك من أنواع المجاز فكان ما نوى محتمل كلامه فيصح إرادته وصار الدخول مضمرا في الكلام وإذا صار مضمرا كان في معنى الشرط لما سنذكره. إذا قال أنت طالق في دخولك الدار لم تطلق قبل الدخول لأن الفعل لا يصلح ظرفا للطلاق على معنى أن يكون شاغلا له لأنه عرض لا يبقى فتعذر العمل بحقيقة في فيجعل مستعارا لمعنى المقارنة لأن في الظرف معنى المقارنة إذ من قضيته الاحتواء على المظروف فيقارنه بجوانبه الأربعة فصار بمعنى مع فيتعلق وجود الطلاق بوجود الدخول لأن قران الشيء بالشيء يقتضي وجوده ضرورة فكان من ضرورته تعلقه بوجود الدخول إلا أنه لا يكون شرطا(2/271)
وإذا أضيف إلى المكان فقيل أنت طالق في مكان كذا وقع للحال إلا أن يراد به إضمار الفعل فيصير بمعنى الشرط وقد يستعار هذا الحرف للمقارنة إذا نسب إلى الفعل فقيل أنت طالق في دخول الدار لأنه لا يصلح ظرفا وفي الظرف معنى المقارنة فجعل مستعارا بمعناه فصار بمعنى الشرط وعلى هذا مسائل
ـــــــ
محضا لأنه يقع الطلاق مع الدخول لا بعده فلهذا قال بمعنى الشرط. وقال بعضهم يجعل مستعارا لمعنى الشرط لمناسبة بينهما من حيث إن كل واحد من الظرف والشرط ليس بمؤثر فيتعلق الجزاء به فعلى هذا يقع الطلاق متأخرا عن الدخول كما لو قال إن دخلت الدار ولكن الأول أصح فإنه لو قال لأجنبية أنت طالق في نكاحك فتزوجها لا تطلق كما لو قال مع نكاحك ولو جعل مستعارا للشرط لطلقت كما لو قال أنت طالق إن تزوجتك إليه أشار القاضي الإمام فخر الدين رحمه الله.
والضمير في قوله بمعناه راجع إلى ما يرجع إليه ضمير جعل وهو حرف في والباء للسببية أي جعل حرف في مستعارا لمعنى المقارنة باعتبار معناه. أو الضمير راجع إلى المقارنة بتأويل القرآن والباء بمعنى اللام أي جعل حرف في مستعارا لمعنى المقارنة. "وعلى هذا" أي على أن في تصير بمعنى الشرط بنيت مسائل في الزيادات. قال شيخ الإسلام صاحب الهداية في شرح الزيادات إذا قال أنت طالق في مشيئة الله أو في إرادته أو في رضاه أو في محبته أو في أمره وفي إذنه أو في حكمه أو في قدرته لا يقع الطلاق أصلا إلا في علم الله فإنه يقع الطلاق فيه في الحال لأن كلمة في للظرفية حقيقة إلا إذا تعذر حملها على الظرفية بأن صحبت الأفعال فيحمل على التعليق لمناسبة بينهما من حيث الاتصال والمقارنة غير أنه إنما يصح حملها على التعليق إذا كان الفعل مما يصح وصفه بالوجود وبضده ليصير في معنى الشرط فيكون تعليقا والمشيئة والإرادة والرضاء والمحبة مما يصح وصف الله تعالى به, وبضده فإنه يصح شاء الله كذا ولم يشأ كذا وأراد ولم يرد وأحب ولم يحب وكذا الأمر والرضاء والحكم والإذن فكان إضافة الطلاق إليها تعليقا والتعليق بها بحقيقة الشرط إبطال للإيجاب فكذا هذا, أما العلم فلا يصح وصف الله تعالى بضده لأن علمه محيط بجميع الأشياء {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} فكان التعليق به تحقيقا وتنجيزا فيقع الطلاق في الحال. ويشكل على ما ذكرنا القدرة فإنه لا يصح وصفه تعالى بضدها ومع ذلك لم يقع الطلاق لكن الجواب عنه أن القدرة هاهنا بمعنى التقدير وقرئ قوله تعالى. {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} "المرسلات: 23". بالتخفيف والتشديد وكذا قوله تعالى {قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ} "النمل: 57"(2/272)
الزيادات أنت طالق في مشيئة الله وإرادته وأخواتهما فإن الطلاق لا يقع كأنه قال إن شاء الله إلا في علم الله لأنه يستعمل في المعلوم ولا يصلح شرطا بل يستحيل وإذا قال أنت طالق في الدار وأضمر الدخول صدق فيما بينه وبين الله تعالى فيصير بمعنى ما قلنا وعلى هذا قال لفلان علي عشرة دراهم يلزمه عشرة
ـــــــ
والتقدير مما يصح وصف الله تعالى به وبضده لأنه لا يصح أن يقال قدر الله كذا ولا يقدر كذا فيكون بمنزلة المشيئة والإرادة فلا يقع الطلاق بإضافته إليها.
قوله "إلا في علم الله" استثناء من قوله لا يقع. "لأنه" أي العلم يستعمل في المعلوم استعمالا شائعا يقال اغفر اللهم علمك فينا أي معلومك ويقال علم أبي حنيفة ويراد معلومه ولهذا لو حلف بعلم الله لا يكون يمينا وإذا كان مستعملا بمعنى المعلوم يستحيل أن يجعل بمعنى الشرط لأن الشرط ما يكون على خطر الوجود ومعلوم الله تعالى متحقق لا محالة وإذا كان كذلك كان واقعا في الحال لأنه جعل معلوم الله تعالى ظرفا للطلاق وإنما يكون الطلاق في معلومه أن لو كان واقعا في الحال لأنه لو لم يكن واقعا لكان عدمه في معلومه. قال شمس الأئمة في أصول الفقه. فإن قيل لو قال في قدرة الله لم يطلق وقد يستعمل القدرة بمعنى المقدور فقد يقول من يستعظم شيئا هذا قدرة الله. قلنا معنى هذا استعمال أنه أثر قدرة الله إلا أنه قد يقام المضاف إليه مقام المضاف ففهم المقدور من المضاف المحذوف لا من المضاف إليه ومثله لا يتحقق في العلم إذ القدرة من المؤثرات بخلاف العلم ألا ترى أنه يجوز أن يقال الله تعالى معلوم لنا ولا يجوز أن يقال الله مقدورنا.
قوله "وعلى هذا" أي على أن هذا الحرف يستعار للمقارنة حمل على مع في هذه المسألة عند النية فإذا قال لفلان علي عشرة دراهم في عشرة دراهم يلزمه عشرة دراهم عندنا إلا أن يعني معنى مع فيلزمه عشرون. وقال زفر رحمه الله يلزمه عشرون بكل حال. وقال الحسن يلزمه مائة ; لأن العشرة في العشرة في متعارف الحساب مائة فيحمل عليها. إلا أنا نقول أثر الضرب في تكثير الأجزاء إلا في زيادة المال وعشرة دراهم وزنا وإن تكثر أجزاؤها لا تصير أكثر من عشرة. وزفر رحمه الله يقول لما تعذر العمل بحقيقة هذا الحرف لأن العدد لا يكون ظرفا لمثله بلا شبهة حمل على مع أو واو العطف لما ذكرنا أن في الظرف معنى المقارنة والجمع قال الله تعالى {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} "الفجر: 29" أي معهم. وإنا نقول جهة المجاز هاهنا متعددة فإن في قد يكون بمعنى على وبمعنى من كما يكون بمعنى مع قال تعالى إخبارا {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} "طه: 71". أي عليها وقال(2/273)
دراهم لأنه لا يصلح للظرف فلغو إلا أن ينوي به معنى مع أو واو العطف فيصدق لما قلنا إن في الظرف معنى المقارنة فيصير من ذلك الوجه مناسبا لمع وللعطف فيلزمه عشرون وكذلك قوله أنت طالق واحدة في واحدة فهي واحدة وإن نوى معنى مع وقعا قبل الدخول وإن نوى الواو وقعت واحدة.
ـــــــ
عز اسمه {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا} "النساء: 5". أي منها وليس أحد الوجوه أولى من الباقي فيعتبر أول كلامه فيلزمه عشرة ويلغو آخره. إلا أن يقول عنيت هذه وهذه فحينئذ يعمل بيانه لأنه بين أنه استعمله بمعنى مع أو بمعنى الواو وفيه تشديد عليه فيصدق. ولا يقال معنى على أو من لا يستقيم هاهنا إذ لا يقال علي عشرة علي عشرة ولا علي عشرة من عشرة فكان معنى المقارنة متعينا فوجب الحمل عليه من غير نية كما قال زفر. لأنا نقول المال لا يجب بالشك لأن البراءة أصل وقد أمكن حمل كلامه على تكثير الأجزاء فلا وجه للمصير إلى المجاز وإيجاب الزيادة من غير قصد.
قوله "وكذلك" أي ومثل قوله لفلان علي عشرة في عشرة قوله أنت طالق واحدة في واحدة في أنه يعتبر المذكور الأول عند عدم النية فيقع واحدة سواء كانت المرأة مدخولا بها أو لم تكن ويصح إرادة مع أو الواو إلا أنه إذا أراد مع لا يفترق الحال بين المدخول بها وغير المدخول بها فتقعان جميعا وإن أراد الواو يقع ثنتان في المدخول بها وواحدة في غير المدخول بها كما لو صرح بالواو فقال أنت طالق واحدة وواحدة.(2/274)
"حروف القسم"
ومن ذلك حروف القسم وهي الباء والواو والتاء وما وضع لذلك وهو ايم الله تعالى وما يؤدي معناه وهو لعمر الله فأما الباء فهي للإلصاق وهي دالة على فعل محذوف معناه أقسم له أو أحلف بالله وكذلك في سائر الأسماء والصفات وكذلك في الكنايات تقول بك لأفعلن كذا وبه لأفعلن كذا فلم يكن لها اختصاص القسم.
وأما الواو فإنها استعيرت بمعنى الباء لأنها تناسب صورة ومعنى أما الصورة فإن صورتها وجودها من مخرجها بضم الشفتين مثل الباء وأما المعنى فإن عطف الشيء على غيره نظير إلصاقه به فاستعير له إلا أنه لا يحسن إظهار
ـــــــ
"حروف القسم"
قوله "ومن ذلك" أي ومن باب حروف الجر ومن باب حروف المعاني حروف القسم. والقسم جملة إنشائية يؤكد بها جملة أخرى ولهذا لم يجز السكوت عليه فلا تقول أحلف بالله وتسكت بل يجب أن تأتي بالمقسم عليه فتقول أحلف بالله لأفعلن لأنك لم تقصد الإخبار بالحلف وإنما قصدت أن تخبر بأمر آخر نحو لأفعلن إلا أنك أكدته ونفيت عنه الشك بأن أقسمت عليه. وهي الباء والواو والتاء فإنها مستعملة في القسم وإن لم توضع له في أصل الوضع ألا ترى أنها تستعمل في غيره أيضا. وما وضع لذلك أي للقسم وهو ايم الله فإنه لم يوضع إلا للقسم ولهذا لم يستعمل في غيره. وما يؤدي معنى القسم كما سنبينه. وأما الباء فهي التي للإلصاق أي الباء التي في القسم ليست بحرف موضوع للقسم بل هي الباء التي للإلصاق فإنهم لما احتاجوا إلى إلصاق فعل الحلف بما يقسمون به استعملوها فيه استعمالهم إياها في قولهم كتبت بالقلم إلا أنهم حذفوا الفعل لكثرة القسم في كلامهم اكتفاء بدلالة الباء عليه كما حذفوا في بسم الله فقالوا بالله لأفعلن مريدين أحلف بالله أو أقسم به فكانت الباء دالة على فعل محذوف. وكذلك في سائر الأسماء أي كما تدل الباء على فعل محذوف في بالله لأفعلن تدل على فعل محذوف في الحلف بسائر الأسماء مثل قوله بالرحمن وبالرحيم بالقدوس لأفعلن. والصفات مثل قوله بعزة الله وبجلاله وبعظمته وبكبريائه. فلم يكن لها أي للباء اختصاص بالقسم يعني لما كان دخولها في القسم باعتبار معنى الإلصاق لا أنها موضوعة له لم تكن مختصة بالقسم لأن الإلصاق لا يختص به.(2/275)
الفعل ها هنا تقول والله ولا تقول أحلف والله لأنه استعير للباء توسعة لصلات القسم فلو صح الإظهار لصار مستعارا بمعنى الإلصاق فتصير الاستعارة عامة في بابها وإنما الغرض بها الخصوص لباب القسم الذي يدعو إلى التوسعة ويشبه قسمين ولا يدخل في الكناية أعني الكاف ثم استعير التاء بمعنى الواو توسعة
ـــــــ
وأما الواو فإنها أستعيرت في القسم بدلا من الباء لمناسبة بينهما صورة ومعنى كما ذكر في الكتاب. وشرط إبدالها حذف الفعل ولهذا قيل إنها عوض عن الفعل ومن ثمة جاز أقسمت بالله وامتنع أقسمت والله كذا في بعض شروح المفصل فتبين أن معنى قوله لا يحسن إظهار الفعل لا يجوز. "لأنه" أي الواو "استعير للباء توسعة لصلات القسم" إذ الحاجة دعت إلى الاستعارة في باب القسم لكثرة دوره على الألسنة لا لمعنى الإلصاق فلو صح إظهار الفعل مع الواو لصار الواو مستعارا لمعنى الإلصاق إذ لا معنى له عند ظهور الفعل إلا الإلصاق كالباء. فتصير الاستعارة عامة في بابها في باب استعارة الواو للباء لأنه يلزم صحة استعماله مكان الباء في غير القسم أيضا فيقال مررت وزيد بالجر بمعنى بزيد وبعت هذا العبد وألف درهم بمعنى بألف درهم وفساده ظاهر إذ لم يسمع ذلك من أحد. ولأنه خروج عن الغرض إذ الغرض لها أي لاستعارة الواو للباء الخصوص لباب القسم إذ الداعي إليها وهو الحاجة إلى التوسعة مختص به.
قوله "ويشبه قسمين" يجوز أن يكون كلاما مستأنفا يعني لا يجوز إظهار الفعل مع الواو فلو أظهر مع ذلك كان في معنى قسمين لأن قوله أحلف بانفراده يمين. وكذا قوله والله فإذا جمع بينهما ولم يصلح الواو رابطة صار كأنه قال أحلف بالله ثم قال والله بخلاف الباء لأنها للإلصاق فيكون الكل كلاما واحدا فيكون يمينا واحدة. ويجوز أن يكون معطوفا على فيصير أي لو صح إظهار الفعل صارت الاستعارة عامة وأشبه كلامه قسمين لأنه لما قال أحلف والله بمعنى بالله كان بظاهره قسمان لما ذكرنا وغرضه قسم واحد فكان هذا الكلام بظاهره مخالفا لغرضه فلم يكن خاليا عن خلل فكان الاحتراز عنه أولى. وكأن الشيخ رحمه الله إنما قال لا يحسن إظهار الفعل فلم يقل لا يجوز إشارة منه إلى أن الكلام لا يلغو عند إظهار الفعل ولكنه يشبه قسمين وذلك مخالف للغرض. ولا تدخل أي واو القسم في الكناية أي في المضمر لا يقال وكلأفعلن ولما كان لفظ الكناية في اصطلاح الأصوليين متناولا للضمائر وغيرها احترز بقوله أعني الكاف عن غير الضمائر. ثم استعير التاء بمعنى الواو أي أبدل التاء عنها على طريقة الإبدال في نحو تراث, وتورية, وتجاه, وتخمة, وتهمة, إذ الأصل فيها وارث فعال من ورث وراثة, وووراة فوعلة من وري(2/276)
لشدة الحاجة إلى القسم لما بين الواو والتاء من المناسبة فإنهما من حروف الزوائد في كلام العرب مثل التراث لغة في الوارث والتورية وما أشبه ذلك ولما صار ذلك دخيلا على ما ليس بأصل انحطت رتبته عن رتبة الأول والثاني فقيل لا تدخل إلا في اسم الله لأنه هو المقسم به غالبا فجاز تالله ولم يجز تالرحيم وقد يحذف حرف القسم تخفيفا فيقال الله لأفعلن كذا لكنه بالنصب عند
ـــــــ
الزند يري وريا, إذا أخرج ناره ووجاه من الوجه, ووخمة من وخم الرجل وخامة إذا لم يهنأ الطعام له, وهمة من الوهم لأنه أمر يقع في قلب الإنسان كالظن.
وذكر في شرح "القصيدة الشاطبية" أن الناس اختلفوا في التورية فذهب البصريون إلى أنها مشتقة من وري الزند وهو الضوء الذي يظهر منه عند القدح فكأنها ضياء ونور ووزنها فوعلة كدوحلة وحوقلة فأبدلت واوها تاء على حد تجاه وتخمة وقلبت ياؤها ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها. وقال الكوفيون وزنها تفعلة كتنفل في تنفل وضعف ذلك لقلة هذا البناء وشذوذه. وقال بعضهم هي تفعلة كتوصية ففتحت عينها وقلبت تاؤها ألفا وقد فعل ذلك في ناصية وجارية فقيل ناصاة وجاراة في لغة طيئ وضعف ذلك أيضا لعدم إطراده في توصية وتوقية. وقال صاحب الكشاف فيه التوراة والإنجيل اسمان أعجميان وتكلف اشتقاقهما من الوري والنجل ووزنهما بفوعلة وإفعيل إنما يصح بعد كونهما عربيتين. قال وقرأ الحسن والإنجيل بفتح الهمزة وهو دليل على العجمة على أفعيل بفتح الهمزة عديم أوزان العرب فتبين بهذا أن الاستشهاد في الكتاب إنما يصح على القول الأول فقط.
ثم الشيخ ذكر أن المعنى المجوز للمجاز كونهما من حروف الزوائد وذكر الجوهري في الصحاح وجها آخر فقال اتكلت على فلان في أمري إذا اعتمدته وأصله اوتكلت قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها ثم أبدلت منها التاء فأدغمت في تاء الافتعال ثم بنيت على هذا الإدغام أسماء من المثال وإن لم يكن فيها تلك العلة توهما أن التاء أصلية لأن هذا الإدغام لا يجوز إظهاره في حال فمن تلك الأسماء التكل والتكلان والتخمة والنجاة والتراث والتقوى وإذا صغرت قلت تكيلة وتخيمى ولا تعيد الواو لأن هذه حروف ألزمت البدل فتثبت في التصغير والجمع. وذكر الشيخ عبد القاهر أن الواو في اتعد قلبت تاء لأن الواو قريبة من التاء وقد وقع بعدها تاء الافتعال وهي تقلب تاء بغير سبب كثيرا نحو تخمة وتجاه وتراث فلما كان كذلك صار بمنزلة اجتماع متقاربين ينقلب أحدهما إلى صاحبه ليقع الإدغام. ولا يجوز تالرحمن وتالرحيم قد حكى أبو الحسن الأخفش ترب الكعبة ولكنه شاذ لا يؤخذ به.(2/277)
أهل البصرة وهو مذهبنا وبالخفض عند أهل الكوفة وقد ذكر في الجامع ما يتصل بهذا الأصل مثل قول الرجل والله الله والله الرحمن والرحيم على ما ذكرنا في الجامع. وأما أيم الله فأصله أيمن الله وهو جمع يمين وهذا مذهب أهل
ـــــــ
قوله "لكنه" أي المقسم به بالنصب عند أهل البصرة. حاصله أن الخفض في القسم بإضمار حرف الخفض من غير عوض جائز عند أهل الكوفة وعند أهل البصرة لا يجوز إلا بعوض نحو همزة الاستفهام وهاء التنبيه في قولهم ءالله ما فعلت كذا وقولهم لا ها الله. احتج الكوفيون بما تقول العرب الله لتفعلن فيقول المجيب الله لأفعلن بهمزة واحدة مقصورة في الثانية فيخفض بتقدير حرف الخفض وإن كان محذوفا. وقد جاء في كلامهم إعمال حرف الخفض مع الحذف فقد حكى يونس بن حبيب1 أن من العرب من يقول مررت برجل صالح إلا صالح فطالح أي إلا أكن مررت برجل صالح فقد مررت بطالح.
وروي عن رؤبة العجاج أنه إذا قيل له كيف أصبحت كان يقول: خير. عافاك الله أي بخير وفي الشواهد على ذلك من الأشعار كثيرة. وأما البصريون فقالوا أجمعنا على أن الأصل في حروف الجر أن لا تعمل مع الحذف وإنما تعمل مع الحذف في بعض الماضي إذا كان عنها عوض فبقيت فيما عداه على الأصل. ولا تمسك لهم فيما ذكروا لأن الجواز في قوله الله لأفعلن ثبت مخالفا للقياس لكثرة استعماله كما ثبت دخول حرف النداء عليه مع الألف واللام فلا يدل على الجواز في غيره لشذوذه وقلته. وكذا ما حكى يونس وما روي عن رؤبة وما نقل من الأشعار في ذلك كلها من الشواذ التي لا يعتد بها فلا يصح التمسك بها كذا في كتاب الإنصاف للأنباري2. وذكر الإمام عبد القاهر في المقتصد وأما حذف حرف الجر الذي هو الباء في بالله فعلى وجهين أحدهما أن يحذف ويوصل الفعل إلى الاسم فينصبه فيقال الله لأفعلن كأنه قال حلفت الله لأفعلن وعلى ذلك ثبت الكتاب:
ألا رب من قلبي له الله ناصح ... ومن قلبه لي في الظباء السوانح.
التقدير ألا رب من قلبي له ناصح بالله
والوجه الثاني أن تضمر ويبقى الجر فيقال الله لأفعلن والأكثر النصب لأن الجار لا
ـــــــ
1 هو يونس بن حبيب أبو عبدالرحمن النحوي توفي سنة 182ه أنظر وفيات الأعيان 7/244-249.
2 هو أبو البركات كمال الدين عبدالرحمن بن محمد بن عبيدالله الأنباري توفي سنة 577ه أنظر شذرات الذهب 4/259.(2/278)
الكوفة وأما مذهب أهل البصرة وهو قولنا إن ذلك صلة وضعت للقسم لا
ـــــــ
يضمر إلا قليلا وإليه مال صاحب المفصل أيضا. فعلى هذا لا خلاف في المسألة إذ الخلاف في الأولوية لا في الجواز.
قوله "وقد ذكر في الجامع ما يتصل بهذا الأصل" وهو أن حذف حرف القسم جائز فقيل إذا قال والله الله لا أكلمك فكلمه فعليه كفارة واحدة لأن اسم الله إن لم يكن مشتقا كما ذهب إليه الجمهور كان قوله الله بمنزلة البدل عن الأول لأن غير المشتق لا يصلح نعتا فصار كأنه سكت واستأنف الحلف بقوله الله لا أفعل كذا والقسم بغير حرف صحيح وإن اختلف في إعرابه كما ذكرنا وإن كان مشتقا كما ذهب إليه البعض كان نعتا للأول فصار كأنه قال والله المعبود الحق المقصود لا أكلمك فلا يلزمه على التقديرين إلا كفارة واحدة لأنه يمين واحدة.
ولو قال والله الرحمن لا أكلمك فكلمه فعليه كفارة واحدة أيضا لأنه جعل الرحمن خارجا مخرج النعت للأول فصار الاستشهاد واحدا في كلام المتكلم وتسميته فلا يتعدد الهتك. ولو قال والله والرحمن لا أكلمك فكلمه لزمته كفارتان وقال أبو يوسف وزفر رحمهما الله لزمته كفارة واحدة لاتحاد المقسم عليه فإن قوام اليمين فعمرك به فعمرك عليه واتحاد الأول مع تعدد الثاني يوجب كونه يمينا واحدة فكذا عكسه. وقلنا إن قوله والله عمرك به. وقوله والرحمن معطوف عليه فكان غيره في تسمية الحالف فتعدد الاستشهاد فتعدد الهتك فتعددت الكفارة لأنها جزاء الهتك وصار في حق المقسم به بمنزلة اليمينين وإن كان البر واحدا. إلا أن ينوي بالواو في والرحمن واو القسم فيكون يمينا واحدة لأنه إذا نوى واو القسم انقطع الكلام وصار كأنه سكت ثم استأنف فقال والرحمن لا أكلمك ولم يحمل عليه بغير نية لأن الواو للوصل في الأصل وعلى اعتبار الوصل يصير واو القسم مدرجا كما تقول مررت بزيد وعمرو أي وبعمرو. وبخلاف قوله والله والله لا أكلمك فكلمه حيث يحمل على واو القسم من غير نية حتى تلزمه كفارة واحدة في ظاهر الرواية لأن عطف الشيء على نفسه قبيح فيجعل الواو للقسم فكان رد الأول كأنه سكت عليه واستأنف الكلام فكان يمينا واحدة فلا يلزمه بالهتك إلا كفارة واحدة.
قوله "وأما ايم الله" إلى آخره. اعلم أن قولهم في القسم أيمن الله لأفعلن اسم مفرد عند البصريين وليس بجمع يمين وعند الكوفيين هو جمع يمين لأن وزن أفعل مختص بالجمع ولا يكون في المفرد. يدل عليه أن التقدير في قولهم أيمن الله علي أيمن الله أي أيمان الله أو أيمن الله يميني. وقد جاء جمع يمين على أيمن كقوله:
يأتي لها من أيمن وأشمل.(2/279)
اشتقاق لها مثل صه ومه وبخ والهمزة للوصل ألا ترى أنها توصل إذا تقدمه حرف مثل سائر حروف الوصل ولو كان لبناء الجمع وصيغته لما ذهب عند الوصل والكلام فيه يطول وأما لعمر الله فإن اللام فيه للابتداء والعمر البقاء ومعناه لبقاء
ـــــــ
وكقول زهير:
فيجمع أيمن منا ومنكم ... بمقسمه تمور بها الدماء.
والأصل في همزتها أن تكون مقطوعة لأنها جمع إلا أنها وصلت لكثرة الاستعمال وبقيت فتحتها على ما كانت عليه في الأصل ولو كانت همزة وصل لكانت مكسورة. واحتج البصريون بأنه لو كان جمعا لوجب قطع الهمزة فيه ولما سقطت في بيد كما في أحرف وأكلب ولما سقطت علمنا أنه ليست بجمع. يؤيده أنهم قالوا في أيمن الله م الله ولو كان جمعا لما جاز حذف جميع حروفه إلا حرفا واحدا إذ لا نظير له في كلامهم. ولا نسلم أن هذا الوزن مختص بالجمع فقد جاء في المفرد أيضا مثل آنك وآسد. ولا معنى لقولهم أن الأصل في الهمزة القطع ولكنها وصلت لكثرة الاستعمال لأنه لو كان كذلك لما جاز كسرها وقد جاز ذلك بالإجماع فدل أن الوصل في الهمزة أصل وأنه ليس بجمع كذا في الإنصاف. وذكر الإمام عبد القاهر في المقتصد أن الأصل في همزة أيمن القطع لأنها جمع يمين ولكنهم وصلوها لكثرة الاستعمال وكذا إذا قيل ايم الله لأن اللام محذوفة من أيمن وقد دعاهم الحرص على التخفيف بكثرة تصرف هذه الكلمة على ألسنتهم إلى أن احتجفوا بها فردوها إلى حرف واحد فقالوا م الله فمال إلى قول الكوفيين في هذه المسألة. وذكر في الإقليد أنها أي كلمة أيمن عند سيبويه اشتقت من اليمن, ساكنة الأول فاجتلبت الهمزة للابتداء كما اجتلبت في ابن وأشباهه. وحاصل هذه الأقوال أن الأصل في ايم الله أيمن الله بالاتفاق إلا أن الأيمن جمع يمين عند البعض واسم مفرد مشتق من اليمن عند آخرين فتبين أن ما ذكر الشيخ أن ذلك أي ايم الله. صلة وضعت للقسم أي كلمة بنفسها يوصل بها القسم بمنزلة الباء في بالله لا اشتقاق لها أي لا أصل لها ترجع إليه قول آخر خارج عن هذه الأقوال ظفر الشيخ به واختاره. قوله "وأما العمر" إذا قلت لعمرك لأفعلن فعمرك مبتدأ وخبره محذوف والتقدير لعمرك قسمي أو ما أقسم به فهذا يجري مجرى قولك أقسمت بعمرك وإذا قلت لعمر الله كان بمنزلة قوله والله الباقي. وإضمار هذا الخبر لازم كإضمار خبر المبتدأ بعد لولا فلا يقال لعمر الله قسمي كما لا يقال لولا زيد موجود لكان كذا فإن لم تأت باللام نصبته(2/280)
الله هو الذي أقسم به فيصير تصريحا لمعنى القسم بمنزلة قول الرجل جعلت هذا العبد ملكا لك بألف درهم أنه تصريح لمعنى البيع فيجري مجراه فكذلك هذا
ـــــــ
نصب المصادر وهو القسم أيضا وقلت عمرك ما فعلت كذا وعمرك الله ما فعلت كذا أي بتعميرك الله وإقرارك له بالبقاء. والعمر والعمر وإن كانا متفقين في المعنى وهو البقاء لم يستعمل في اليمين إلا الفتح لأن ذلك يجري مجرى المثل وفي الاختصاص ضرب من تغيير اللفظ لتغيير المعنى. وهو في الأصل مصدر عمر الرجل من حد علم أي بقي عمرا وعمرا على غير قياس لأن قياس مصدره التحريك.(2/281)
"أسماء الظروف"
ومن هذا الجنس أسماء الظروف وهي مع وبعد وقبل وعند أما مع فللمقارنة
ـــــــ
"أسماء الظروف"
قوله "ومن هذا الجنس" أي من قسم حروف المعاني أسماء الظروف. ألحقها بحروف المعاني لمشابهتها بالحروف من حيث إنها لا تفيد معانيها إلا بإلحاقها بأسماء أخر كالحروف. أما مع فللمقارنة هذا معنى أصلي له لا ينفك عنه في أصل الوضع ألا ترى أن قولك جاء زيد مع عمرو يقتضي مجيئهما معا فلذلك وقعت تطليقتان في قوله أنت طالق واحدة مع واحدة أو معها واحدة دخل بها أو لم يدخل. وكذا لو قال لفلان علي عشرة مع كل درهم من هذه الدراهم العشرة درهم يلزمه عشرون درهما. وذكر في الهادي للشادي أن مع إذا كانت ساكنة العين فهي حرف وإن كانت متحركة العين فهي اسم وكلاهما بمعنى المصاحبة. وذكر في الصحاح قال محمد بن السدي الذي يدل على أن مع اسم حركة آخره مع تحرك ما قبله وقد يسكن وينون نقول جاءوا معا. وأما كونه من الظروف فمذكور في بعض كتب النحو. ويجوز أن يكون كذلك كعند لأن انتصاب العين فيه ليس للبناء بدليل أنه يقال جاء فلان من معهم بخفض العين كما يقال جاء من عندهم فدل أن انتصابه على الظرف كانتصاب عند وكذا يمكن أن يقدر فيه معنى في فإن قولك زيد مع عمرو معناه في مصاحبة عمرو كما يمكن تقديره في عند في قولك زيد عند عمرو أي في حضرته. وقبل للتقديم والسبق فإذا وصف الطلاق بالقبلية المطلقة كان إيقاعا في الحال ولا يقتضي وجود ما بعده فإن صحة التكفير في قوله تعالى. {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} "المجادلة: 3". لا يتوقف على وجود المسيس بعده. وصحة الإيمان في قوله تعالى {آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً} "النساء: 47". لا يتوقف على وجود الطمس بعده بل يستفاد به الأمن عنه. فإذا قال لامرأته أنت طالق قبل دخولك الدار أو قبل قدوم فلان طلقت للحال دخلت الدار بعد أو لم تدخل قدم فلان أو لم يقدم. إذا قال لغير المدخول بها أنت طالق واحدة قبل واحدة تقع(2/282)
في قول الرجل أنت طالق واحدة مع واحدة أو معها واحدة أنه يقع ثنتان معا قبل الدخول وقبل للتقديم حتى إن من قال لامرأته أنت طالق قبل دخولك الدار طلقت للحال ولو قال لامرأته قبل الدخول أنت طالق واحدة قبلها واحدة تقع ثنتان ولو قال قبل واحدة تقع واحدة وبعد للتأخير وحكمهما في الطلاق ضد
ـــــــ
واحدة. ولو قال أنت طالق واحدة قبلها واحدة وقعت ثنتان. ولو قال أنت طالق واحدة بعد واحدة تقع ثنتان. ولو قال بعدها واحدة تقع واحدة وهو معنى قوله وحكمها أي حكم كلمة بعد في الطلاق ضد كلمة قبل يعني في الصورتين.
والأصل في تخريج هذه المسائل شيئان. أحدهما أن الظرف إذا أدخل بين اسمين ولم يتصل به كناية كان صفة للمذكور أولا وإن اتصل به كناية كان صفة للمذكور آخرا فإذا قال جاءني زيد قبل عمرو كانت القبلية صفة لزيد وإذا قال قبله عمرو كانت القبلية صفة لعمرو والمراد بكون القبلية صفة لكذا كونها صفة من حيث المعنى أي التقدم الذي هو مدلول هذه الكلمة صفة معنوية لكذا فأما اللفظ فمنصوب على الظرف ولو كانت صفة لفظا لم يكن إلا للمذكور أولا.
والأصل الثاني من أقر بطلاق سابق يكون ذلك إيقاعا منه في الحال لأن من ضرورة الإسناد الوقوع في حال وهو مالك للإيقاع في الحال غير مالك للإسناد فيثبت الإيقاع في الحال تصحيحا لكلامه. فإذا قال أنت طالق واحدة قبل واحدة كانت القبلية صفة للواحدة الأولى ولو لم يقيدها بهذا الوصف لكن قال وواحدة لوقعت الأولى سابقة ولغت الثانية لعدم المحل فعند التأكيد به أولى وصار معناه قبل واحدة تقع عليك. وإذا قال واحدة قبلها واحدة كانت القبلية صفة للثانية وليس في وسعه تقديم الثانية وفي وسعه القران كما إذا قال معها واحدة فيثبت من قصده قدر ما كان في وسعه وصار كأنه قال قبلها واحدة وقعت عليك. وكذا إذا قال بعد واحدة وقعت ثنتان لأن البعدية تصير صفة للأولى فتقتضي تأخير الأولى وليس في وسعه ذلك بعدما أوجبها وفي وسعه الجمع فيثبت من قصده ذلك وصار معنى كلامه بعد واحدة تقع عليك. وإذا قال بعدها واحدة وقعت لأن البعدية صفة للثانية فلا تقع لأنه لو لم يؤكد الثانية بالبعدية لا تقع الثانية لما ذكر فعند التأكيد أولى وصار كأنه قال أنت طالق بعد الأولى التي وقعت عليك.
وعلى هذا الأصل لو قال له علي درهم قبل درهم يلزمه درهم واحد لأن قبلا نعت للمذكور أولا فكأنه قال درهم قبل درهم آخر يجب علي. ولو قال قبله درهم فعليه درهمان لأنه نعت للمذكور آخرا أي قبله درهم قد وجب علي. ولو قال درهم بعد درهم(2/283)
حكم قبل لما ذكرنا أن الظرف إذا قيد بالكناية كان صفة لما بعده وإذا لم يقيد كان صفة لما قبله هذا الحرف أصل هذه الجملة وعند للحضرة حتى إذا قال لفلان عندي ألف درهم كان وديعة لأن الحضرة تدل على الحفظ دون اللزوم والوقوع عليه على هذا قلنا وإذا قال أنت طالق كل يوم طلقت واحدة ولو قال
ـــــــ
أو بعده درهم يلزمه درهمان لأن معناه بعد درهم قد وجب أو بعد درهم قد وجب لا يفهم من الكلام إلا هذا. وفي قوله بعده درهم الإقرار مخالف للطلاق قبل الدخول لأن الطلاق بعد الطلاق هناك لا يقع والدرهم بعد الدرهم يجب دينا كذا في المبسوط. فتبين بهذا أن التقييد بالطلاق في قوله وحكمها في الطلاق ضد حكم قبل احتراز عن الإقرار وقوله لما ذكرنا إشارة إلى المذكور في شرح الجامع الصغير والمبسوط. لأن الحضرة تدل على الحفظ كما إذا قال لآخر وضعت هذا الشيء عندك يفهم منه الاستحفاظ وكما لو قال لناشد الضالة لا تطلب ضالتك فإنها عندي يفهم منه الحفظ أي هي محفوظة عندي. وكما لو كان رجلان في مجلس فخرج أحدهما وترك متاعه وجب على الآخر الحفظ حتى لو تركه صار ضامنا بترك الحفظ فثبت أن الحضرة تدل على الحفظ.
وفي "المبسوط" إذا قال لفلان عندي ألف درهم كان إقرارا الوديعة لأن هذه الكلمة عبارة عن القرب وهي تحتمل القرب من يده فيكون إقرارا بالأمانة ومن ذمته فيكون إقرارا بالدين فلا يثبت به إلا الأقل وهو الوديعة ولو قال عندي ألف درهم دين فهي دين لأن قوله عندي محتمل فسره بأحد المحتملين فكان تفسيره صحيحا. وعلى هذا قلنا أي على أن هذه الألفاظ تدل على الظرف على تفاوت معانيها قلنا إذا قال لامرأته وقد دخل بها أنت طالق كل يوم وليس له نية لم تطلق إلا واحدة عندنا وإذا ذكر الألفاظ المذكورة تطلق ثلاثا وقال زفر رحمه الله تطلق ثلاثا في ثلاثة أيام في المسألة الأولى أيضا لأن قوله أنت طالق إيقاع وكلمة كل تجمع الأسماء فقد جعل نفسه موقع الطلاق عليها في كل يوم وذلك بتجدد الوقوع إلى أن تطلق ثلاثا كما لو قال أنت طالق في كل يوم. ولكننا نقول صيغة كلامه وصف قد وصفها بالطلاق في كل يوم وهي بالتطليقة الواحدة يتصف به في الأيام كلها وإنما جعلنا كلامه إيقاعا لضرورة تحقيق الوصف وهذه الضرورة ترتفع بالواحدة ألا ترى أنه لو قال أنت طالق أبدا لم تطلق إلا واحدة. بخلاف قوله في كل يوم لأن حرف في للظرف والزمان ظرف للطلاق من حيث الوقوع فيه فما يكون اليوم ظرفا له لا يصلح الغد ظرفا له فتجدد الإيقاع لتحقيق ما اقتضاه حرف في كذا في المبسوط وفي قوله كل يوم إن قال أردت أنها طالق كل يوم تطليقة أخرى فهو كما نوى وتطلق ثلاثا في ثلاثة أيام لأنه أضمر حرف في. وكذا قوله أنت علي كظهر أمي كل يوم ينبغي أن(2/284)
عند كل يوم أو مع كل يوم طلقت ثلاثا وكذلك إذا قال أنت طالق في كل يوم ولو قال أنت علي كظهر أمي كل يوم فهو ظهار واحد ولو قال في كل يوم أو مع كل يوم أو عند كل يوم يجدد عند كل يوم ظهار وهذا لما قلنا أنه إذا حذف اسم الظرف كان الكل ظرفا واحدا فإذا أثبته صار كل فرد بانفراده ظرفا على نحو ما قلنا في مسألة الغد
ـــــــ
يكون على الخلاف فيتجدد في كل يوم ظهار عنده وعندنا وهو ظهار واحدة ويدخل فيه الليل والنهار كما لو قال أنت علي كظهر أمي أبدا. ولو قال في كل يوم أو مع كل يوم أو عند كل يوم تجدد عند كل يوم ظهار لكن لا يدخل الليل في الظهار حتى كان له أن يقربها بالليل لأن توقيت الظهار عندنا صحيح فصار كأنه قال في كل يوم أنت علي كظهر أمي هذا اليوم فلا يدخل فيه الليل.
"وهذا" أي التفرقة التي ذكرنا بين حذف الظرف وإثباته. "لما قلنا" في موضعه من المبسوط أنه إذا حذف لفظ الظرف "كان الكل" أي كل الأيام ظرفا واحدا للطلاق والظهار فلا يقع إلا تطليقة واحدة وظهار واحد. فإذا أثبته أي لفظ الظرف بأن قال عند كل يوم مثلا صار كل فرد أي كل يوم بانفراده ظرفا على حدة لأن الظرف حينئذ كلمة عند مضافة إلى كل يوم فيستدعي مظروفا على حدة فيتجدد الطلاق والظهار على نحو ما قلنا في مسألة الغد من التفرقة بين حذف في وإثباته على مذهب أبي حنيفة رحمه الله. وهذه المسألة تؤيد مذهبه في مسألة الغد. فإن قيل إن أبا يوسف ومحمدا لم يفرقا في مسألة الغد بين حذف في وإثباته وهاهنا فرقا بين حذف الظرف وإثباته فما وجه الفرق لهما بين الموضعين. قلنا وجهه أن الغد ظرف واحد بلا شبهة لا يتعدد بإثبات في وحذفه فاستوى فيه الحذف والإثبات فأما قوله كل يوم فيجوز أن يكون ظرفا واحدا نظرا إلى لفظ كل فإنه هو المنتصب بالظرفية وهو لفظ واحد. ويجوز أن يكون ظروفا متعددة نظرا إلى ما أضيف إليه كل فإنه متعدد وإنه أبدا يأخذ حكم المضاف إليه فإذا لم يذكر حرف في أو ظرف آخر ووقع عليه الفعل جعل ظرفا واحدا كالأبد وإذا ذكر حرف في أو ظرف آخر وانتقل عمل الفعل عنه إليه ثم أضيف ذلك الظرف إلى كل جعل ظروفا متعددة عملا بالشبهين.(2/285)
حروف الإستثناء"
ومن هذا الباب حروف الاستثناء وأصل ذلك إلا ومسائل الاستثناء من جنس البيان فنذكره في بابه إن شاء الله تعالى ومن ذلك غير وهو من الأسماء يستعمل صفة للنكرة ويستعمل استثناء تقول لفلان علي درهم غير دانق بالرفع
ـــــــ
حروف الإستثناء"
قوله "ومن هذا الباب" أي من باب حروف المعاني حروف الاستثناء. سماها حروفا لأن الأصل فيها كلمة إلا وهي حرف فيكون البواقي جارية مجرى التبع لها وهي عشرة: إلا , وغير , وسوى , وسواء , ولا يكون , وليس , وخلا , وعدا , وما خلا , وما عدا , وحاشا. وزاد أبو بكر بن السراج لا سيما , وضم بعضهم إليها بيد بمعنى غير. وزاد بعضهم بله بمعنى دع. وإنما يدخل ليس ولا يكون في هذا الباب إذا تقدمها كلام فيه عموم كما يكون فيما قبل إلا لما فيهما من معنى النفي على اختلافهما في الأصل فإن ليس ولا دخلتا على ما هو مثبت فصيرتاه نفيا. فإذا قال أعتقت عبيدي ليس سالما أو لا يكون سالما لا يعتق سالم لأن معناه إلا سالما والتقدير ليس بعضهم سالما أو لا يكون بعضهم سالما كذا ذكر في كتاب بيان حقائق الحروف.
"وأصل ذلك إلا" أي الأصل في الاستثناء والحقيقة فيه كلمة إلا لأنها لازمة للاستثناء في أصل الوضع وما عداها قد يكون استثناء وغير استثناء. ولأن الموضوع لنقل الكلام من معنى إلى معنى في سائر الأبواب هو الحروف لا الأسماء والأفعال كحروف الاستفهام وحروف النفي وحروف الشرط فكذا في هذا الباب.
"ومن ذلك" أي ومما يستثنى به غير. وهو من الأسماء للحوق علامات الاسم به من التنوين والألف واللام والإضافة. يستعمل صفة للنكرة لأنه نكرة بحيث لا تتعرف بالإضافة وإن أضيف إلى المعارف. وإنما وقع صفة للذين أنعمت عليهم في قوله عز اسمه {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} "الفتحة: 7". على أحد التأويلين لأن الذين أنعمت عليهم في معنى النكرة إذ هو غير مقصور على معنيين ومثله بمنزلة النكرة كقوله: ولقد أمر على اللئيم يسبني. ويستعمل استثناء لمشابهة بينه وبين إلا من حيث إن بعد كل واحد منهما مغاير لما قبله. ولهذه المشابهة تقع إلا مقام غير أيضا قليلا وتستحق إعراب المتبوع مع امتناعها عنه فيعطي ما بعدها وعليه قوله تعالى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} "الأنبياء: 22". وقوله عليه السلام: "الناس كلهم موتى إلا العالمون" . وقول الشاعر:
وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان.(2/286)
صفة للدرهم فيلزمه درهم تام ولو قال غير دانق بالنصب كان استثناء يلزمه درهم إلا دانقا وكذلك قال لفلان علي دينار غير عشرة بالرفع لزمه دينار ولو نصبه فكذلك عند محمد وعند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهم الله يلزمه دينار إلا
ـــــــ
أي غيرهما. ولهذا قالوا إذا قال له علي مائة إلا درهمان بالرفع يلزمه مائة لأن إلا هاهنا بمعنى غير فصار كأنه قال علي مائة هي غير درهمين. وعند من لا يعتبر الإعراب باعتبار أن العوام لا يميزون بين صحيح الإعراب وفاسده يلزمه ثمانية وتسعون كما لو قال إلا درهمين بالنصب. ولما استعمل استثناء ولا بد له من إعراب لأنه اسم جعل إعرابه كإعراب الاسم الواقع بعد إلا ليعلم أنه استثناء. والفرق بين كونه صفة واستثناء أنه لو قال جاءني رجل غير زيد لم يكن فيه دلالة أن زيدا جاء ولم يجئ بل كان خبرا أن غيره جاء ولو قال جاءني القوم غير زيد كان اللفظ دالا أن زيدا لم يجئ. والثاني أن استعماله صفة يختص بالنكرة على ما قلنا واستعماله استثناء لا يختص بالنكرة. وقد يقع بمعنى لا أيضا فينتصب على الحال كقوله تعالى. {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} "البقرة: و173"الأنعام: 145" و"النحل: 115". أي فمن اضطر جائعا لا باغيا ولا عاديا. وكذا {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} "الأحزاب: 53" {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} "المائدة: 1". لفلان علي درهم غير دانق أي درهم مغاير للدانق وقد كان في ذلك الزمان درهم على وزن دانق فأكد المقر أن الواجب علي ليس ذلك الدرهم وإنما هو درهم مطلق فيلزمه درهم تام وهو الذي وزنه وزن سبعة. والدانق بالفتح والكسر قيراطان والجمع دوانق ودوانيق.
"وما يقع من الفصل" إلى آخره يعني جعل محمد استثناء الدراهم من الدنانير من الاستثناء المنقطع وهو بطريق المعارضة كاستثناء الثوب منها. وجعل أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله ذلك من الاستثناء المتصل وذلك بطريق البيان وتبين الفرق بين المعارضة والبيان في ذلك الباب. والحاصل أن بيان هذا الفصل يأتي في باب البيان.
قوله "وسوى مثل غير" يعني في أنه يستثنى به. قال سيبويه كل موضع جاز فيه الاستثناء بإلا جاز بسوى ولذلك لا يكون استثناء إذا وقع بعد اسم مفرد نحو مررت برجل سواك لأنه لا يجوز فيه الاستثناء بإلا. والفرق بين غير وسوى أن غيرا لا يكون ظرفا وأصله أن يكون صفة بمنزلة مثل لأنه نقيضه تقول مررت برجل غيرك كما تقول برجل مثلك وسوى ظرف مكان منصوبا أبدا على الظرفية ولا يكون صفة تابعة لتضمنه معنى الظرف وإن كان فيه معنى غير.
وبيان ظرفيته أن العرب تجري الظروف المعنوية مجرى الظروف الحقيقة فيقولون(2/287)
قدر قيمة عشرة دراهم منه وما يقع من الفصل بين البيان والمعارضة نذكره في باب البيان إن شاء الله وسوى مثل غير وذلك في الجامع إن كان في يدي دراهم إلا ثلاثة أو غير ثلاثة أو سوى ثلاثة على ما ذكرنا.
ـــــــ
جلس فلان مكان فلان ولا يعنون إلا منزلة في الذهن مقدرة فينصبونه نصب الظرف الحقيقة ويستعملون سوى أيضا في هذا الموضع فيقولون مررت برجل سواك ويعنون مكانك وعوضا منك من حيث المعنى فلزم أن ينتصب انتصاب المكان للظرفية.
ومما يدل على ظرفيته وقوعه صلة نحو جاءني الذي سواك بخلاف غير. قال الإمام عبد القاهر ومما لا يستعمل إلا ظرفا سوى لا تقول في السعة هذا لسواك ولا على سواك وإنما تقول بمن سواك وبرجل سواك فتجريه مجرى قولك مررت برجل مكانك فيكون منصوبا في تقدير في مكانك قلت قام مقامك ونزل مكانك كما تقول أخذت هذا بدل ذلك. هذا الذي ذكرنا هو مذهب سيبويه ومن تابعه من البصريين. وذهب الكوفيون إلى أنه كما يستعمل ظرفا يستعمل اسما بمعنى غير فيعرب كغير متمسكين بالبيت الحماسي:
ولم يبق سوى العدوان دناهم كما دانوا.
بقول الآخر:
ولا ينطق المكروه من كان منهم ... إذا جلسوا منا ولا من سوائنا.
فلو لزم ظرفية سوى وسواء لما ارتفع الأول ولما انجر الثاني. والجواب أن إخراجه عن الظرفية لضرورة الشعر جائز عندنا والكلام في حالة الاختيار وأنهم لم يستعملوه في هذه الحالة إلا ظرفا. فعلى قول هؤلاء يجوز أن يقع سوى صفة مثل غير. قال الأخفش إذا كان سوى بمعنى غير ففيه ثلاث لغات كسر السين وضمها مع القصر وفتحها مع المد تقول مررت برجل سواك وسواك وسواءك أي غيرك كذا في الصحاح. وقد ذكرنا مسائل الجامع في فصل من فلا نعيدها.(2/288)
"حروف الشرط"
ومن ذلك حروف الشرط وهي إن وإذا وإذا ما ومتى ومتى ما وكل وكلما ومن وما وإنما نذكر في هذا الكتاب من هذه الجمل ما يبتني عليه مسائل أصحابنا على الإشارة وأما حرف إن فهو الأصل في هذا الباب وضع للشرط وإنما يدخل على كل أمر معدوم على خطر ليس بكائن لا محالة تقول إن زرتني أكرمتك ولا يجوز إن جاء غد أكرمتك وأثره أن يمنع العلة عن الحكم أصلا حتى يبطل
ـــــــ
"حروف الشرط"
قوله "ومن ذلك" أي من باب حروف المعاني حروف الشرط أي كلمات الشرط أو ألفاظ الشرط وتسميتها حروفا باعتبار أن الأصل فيها كلمة , إن وهو حرف فهو الأصل في هذا الباب لأنه اختص بمعنى الشرط ليس له معنى آخر سواه بخلاف سائر ألفاظ الشرط فإنها تستعمل في معان أخر سوى الشرط. وضع للشرط أي هو موضوع للدلالة على كينونة ما بعده شرطا. قالوا معنى كلمة "إن" ربط أحد الجملتين بالأخرى على أن تكون الأولى شرطا والثانية جزاء يتعلق وقوعها بوقوع الأولى كقولك إن تأتني أكرمك يتعلق الإكرام بالإتيان. وإنما تدخل أي حرف إن على كل أمر أي شأن معدوم لأنه للمنع أو للحمل ومنع الموجود والحمل عليه لا يتحقق.
"على خطر" أي تردد بين أن يوجد وبين أن لا يوجد وهو احتراز عن المستحيل وعن الفعل المتحقق لا محالة كمجيء الغد بالنظر إلى العادة قال الإمام عبد القاهر ما كان متحقق الوجود لا يجوز فيه إن ولا الأسماء الجازمة لا يقال إن طلعت الشمس خرجت ومتى تطلع الشمس أخرج لأنها طالعة خرجت أو لم تخرج والجزاء بإن موضوع على أن أحد الأمرين مفتقر إلى صاحبه في وجوده , وانتفاء أحدهما يوجب انتفاء الآخر. وقوله ليس بكائن لا محال تأكيد. قال شمس الأئمة رحمه الله الشرط فعل منتظر في المستقبل هو على خطر الوجود بقصد نفيه أو إثباته ولا يتعقب الكلمة اسم لأن معنى الخطر في الأسماء لا يتحقق ودخول هذا الحرف في الاسم في نحو قوله تعالى {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} "النساء: 176" {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ} "النساء: 128". من قبيل الإضمار على شرطية التفسير أو من باب التقديم والتأخير لأن أهل اللغة مجمعون على أن الذي يتعقب حرف الشرط هو الفعل دون الاسم. وأثره أي أثر حرف إن أن يمنع العلة عن الحكم أي يمنعها عن انعقادها علة للحكم. "حتى يبطل التعليق" أي إلى أن يبطل التعليق بوجود الشرط فحينئذ يصير ما ليس بعلة علة. وعند الشافعي أثره أن يمنع الحكم عن العلة ولا يمنع العلة عن الانعقاد وسيأتيك الكلام فيه مشروحا بعد إن شاء الله تعالى.(2/289)
التعليق وهذا يكثر أمثلته وعلى هذا قلنا إذا قال الرجل لامرأته إن لم أطلقك فأنت طالق ثلاثا أنها لا تطلق حتى يموت الزوج فتطلق في آخر حياته لأن العدم لا يثبت إلا بقرب موته وكذلك إذا ماتت المرأة طلقت ثلاثا قبل موتها في أصح
ـــــــ
"وعلى هذا" أي على أن إن للشرط المحض قلنا إذا قال لامرأته إن لم أطلقك فأنت طالق ثلثا لم تطلق حتى يموت أحدهما قبل أن يطلقها لأن إن للشرط وأنه جعل عدم إيقاع الطلاق عليها شرطا ولا يتيقن بوجود هذا الشرط ما بقيا حيين فهو كقوله إن لم آت البصرة فأنت طالق. ثم إن مات الزوج وقع الطلاق عليها قبل موته بقليل وليس لذلك القليل حد معروف ولكن قبيل موته يتحقق عجزه عن إيقاع الطلاق عليها فيتحقق شرط الحنث. فإن كان لم يدخل بها فلا ميراث لها وإن كان قد دخل بها فلها الميراث بحكم الفرار.
ولا يقال المعلق بالشرط كالملفوظ به لدى الشرط وقد تحقق العجز عن التكلم قبل الموت حين حكمنا بوجود الشرط فكيف يستقيم أن يجعل متكلما بالطلاق في هذه الحالة.
لأنا نقول هو أمر حكمي فلا يشترط فيه ما يشترط لحقيقة التطليق من القدرة وإنما يشترط ذلك عند التعليق ألا ترى العاقل إذا علق الطلاق أو العتق ثم وجد الشرط وهو مجنون فإنه ينزل الجزاء وإن لم يتصور منه حقيقة التطليق والإعتاق في هذه الحالة شرعا. وإن ماتت المرأة وقع الطلاق أيضا قبل موتها. وذكر في النوادر أنه لا يقع لأنها ما لم تمت ففعل التطليق فيتحقق من الزوج وإنما عجز بموتها فلو وقع الطلاق لوقع بعد الموت بخلاف جانب الزوج فإنه كما أشرف على الهلاك فقد وقع اليأس عن فعل التطليق.
وجه الظاهر أن الإيقاع من حكمه الوقوع وقد تحقق العجز عن الإيقاع قبيل موتها لأنه لا يعقبه الوقوع كما لو قال أنت طالق مع موتك فيقع الطلاق قبيل موتها بلا فصل. ولا ميراث للزوج لأن الفرقة وقعت بينهما قبل موتها بإيقاع الطلاق عليها كذا في "المبسوط".
واعلم أن "إذا" من الظروف اللازمة ظرفيتها وهو مضاف أبدا إلى جملة فعلية وفيه معنى المجازاة لأنه للاستقبال وفيه إبهام فناسب المجازاة إذ الشرط لا يكون إلا مستقبلا مجهول الشأن لتردده بين أن يكون وبين أن لا يكون ولهذا اختص إذا بالجملة الفعلية. وأنه(2/290)
الروايتين وأما إذا فإن مذهب أهل اللغة والنحو من الكوفيين فيها إنها تصلح للوقت وللشرط على السواء فيجازى بها مرة ولا يجازى بها أخرى فإذا جوزي بها فإنما يجازى بها على سقوط الوقت عنها كأنها حرف شرط وهو قول أبي حنيفة رحمه الله وأما البصريون من أهل اللغة والنحو فقد قالوا إنها للوقت وقد تستعمل
ـــــــ
قد يكون ظرفا غير متضمن للشرط كما في قوله تعالى {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} "الليل: 1". وذكر الإمام عبد القاهر أن إذا لا يجازى بها إلا في ضرورة الشعر: كبيت الكتاب:
ترفع لي خندف والله يرفع لي ... نارا إذا خمدت نيرانهم تقد
قال والاختيار أن لا يجزم بها لأنهم وضعوها على ما يناسب التخصيص ويبعد من الإبهام الذي يقتضيه إن الأتراك تقول آتيك إذا احمر البسر بمنزلة قولك آتيك الوقت الذي يحمر فيه البسر ولو قلت آتيك إن احمر البسر لم يستقم لأن احمرار البسر ليس بعلة للإتيان وإذا قلت أخرج إذا خرجت كان بمنزلة قولك أخرج الوقت الذي تخرج فيه ولا تكون موضوعة على تعليق خروج هذا بخروج ذلك كما في قولك أخرج إن خرجت. قال ومن جازى بها فالحمل على ظاهر الحال وهو أن خروجك لما تعلق بوقت خروج الآخر صار كأن هذا سبب له فدخله معنى الجزاء. ونظير إذا في أن معنى المجازاة دخله ولا يجزم به الذي فإنك تقول الذي يفعل كذا فله درهم بمعنى أن يفعل إنسان فله درهم ثم لا تجزم به.
"قوله فيجازي بها" أي بكلمة إذا مرة ولا يجازي بها أخرى أي تستعمل مرة للشرط ويرتب عليها الجزاء وتستعمل للوقت مرة. والحاصل أن كلمة إذا مشتركة بين الوقت والشرط عند الكوفيين فإذا استعملت في الشرط لم يبق فيها معنى الوقت وصارت بمعنى إن كما في سائر الألفاظ المشتركة إذا استعملت في أحد المعاني لم يبق فيها دلالة على غيره وإليه ذهب أبو حنيفة رحمه الله. وعند البصريين هي موضوعة للوقت وتستعمل في الشرط من غير سقوط معنى الوقت كمتى وإليه ذهب أبو يوسف ومحمد رحمهما الله. والخلاف المذكور في قوله إذا لم أطلقك فأنت طالق فيما إذا لم ينو شيئا فأما إذا نوى الشرط أو الوقت فهو على ما نوى بالاتفاق. والمجازاة بها أي بكلمة متى لازمة في غير موضع الاستفهام. وموضع الاستفهام مثل قولك متى القتال أو متى خرج زيد وذلك لأن الجزاء في مقابلة الشرط والاستفهام ليس بشرط لأنه طلب الفهم عن وجود شيء. وحاصل(2/291)
للشرط من غير سقوط الوقت عنها مثل متى فإنها للوقت لا يسقط عنها ذلك بحال والمجازة بها لازمة في غير موضع الاستفهام والمجازاة بإذا غير لازمة بل هي في حيز الجواز وإلى هذا الطريق ذهب أبو يوسف ومحمد رحمهما الله بيانه فيمن قال لامرأته إذا لم أطلقك فأنت طالق في قول أبي حنيفة رحمه الله لا يقع الطلاق حتى يموت أحدهما مثل قوله إن لم أطلقك وقال أبو يوسف يقع كما فرغ من اليمين مثل متى لم أطلقك لأن إذا اسم للوقت بمنزلة سائر الظروف وهو للوقت المستقبل وقد استعملت للوقت خالصا فقيل كيف الرطب إذا اشتد الحر أي حينئذ. ولا يصلح إن هنا ويقال آتيك إذا اشتد الحر ولا يجوز إن اشتد الحر لأن الشرط يقتضي خطرا أو ترددا هو أصله وإذا تدخل للوقت على أمر كائن أو منتظر لا محالة كقوله {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} "النكوير: 1" وتستعمل للمفاجأة قال الله تعالى {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} "الروم: 36" وإذا كان
ـــــــ
المعنى أن استعمال إذا للشرط لا يوجب سقوط معنى الوقت عنه لأن المجازاة في متى ألزم منها في إذا لأنها في متى لازمة في غير موضع الاستفهام وفي إذا جائزة ثم لم يسقط معنى الوقت عن متى في المجازاة فأولى أن لا يسقط عن إذا فيها. وإذا تدخل للوقت أي لإفادة الوقت الخالص. على أمر كائن أي موجود في الحال كقوله:
وإذا تكون كريهة أدعى لها ... وإذا يحاس الحيس يدعى جندب.
أو منتظر. لا محالة كقوله تعالى {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} . لأن ذلك سيوجد قطعا.
"وتستعمل للمفاجأة". إذا المفاجأة هي الكائنة بمعنى الوقت الطالبة ناصبا لها وجملة تضاف إليها وتلك الجملة مركبة من مبتدأ وخبر والعامل في إذا هذه معنى المفاجأة وهو عامل لا يظهر لاستغنائهم عن إظهاره بقوة ما فيه من الدلالة عليه. والذي يدل على ذلك قولك خرجت فإذا زيد بالباب إذ لو كان العامل خرجت يلزم الفصل بين العامل ومعموله بالفاء وهو باطل. وغرض الشيخ أنها استعملت للمفاجأة والمفاجأة لا يحتمل معنى الشرط بوجه. قال الإمام عبد القاهر ومما يجاب به الشرط إذا في قوله {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} "الروم: 36". فهم مبتدأ ويقنطون خبره وإذا بمنزلة الفاء في تعليقه الجملة بالشرط وذلك أن إذا المفاجأة دالة على التعقيب الذي يدل عليه الفاء فإنك إذا قلت مررت به إذا هو عبد معناه مررت فبحضرتي هو عبد فإذا بمنزلة قولك فبحضرتي ومتضمن لمعنى التعقيب الذي هو(2/292)
كذلك كان مفسرا من وجه ولم يكن مبهما فلم يكن شرطا إلا أنه قد يستعمل فيه مستعارا مع قيام معنى الوقت مثل متى الزم ومع هذا لم يسقط عنه حقيقته وهو الوقت فهذا أولى فصار الطلاق مضافا إلى زمان خال عن إيقاع الطلاق ألا ترى أن من قال لامرأته أنت طالق إذا شئت لم يتقدر بالمجلس مثل متى بخلاف إن ولا يصح طريق أبي حنيفة رحمه الله عليه إلا أن يثبت أن إذا قد يكون حرفا بمعنى الشرط مثل إن وقد ادعى ذلك أهل الكوفة واحتج الفراء لذلك بقول الشاعر:
استغن ما أغناك ربك بالغنى ... وإذا تصبك خصاصة فتجمل
ـــــــ
في الفاء وإذا كان كذلك كان قوله عز وجل {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} . في موضع جزم لوقوعه موقع يقنطوا إذا قيل وإن تصبهم سيئة يقنطوا. وإذا كان كذلك أي وإذا كان إذا مستعملا فيما ذكرنا من المعاني كان مفسرا أي معلوما من وجه من حيث إن وجوده في المستقبل معلوم للمتكلم وإن لم يعلم وقت وجوده عينا فلا يصلح شرطا لأن الشرط ما هو متردد الوجود في المستقبل على ما مر.
"إلا أنه" أي لكنه قد يستعمل في الشرط. مستعارا أي مجازا لما ذكرنا من المناسبة مع قيام معنى الوقت. ولا يقال حينئذ يصير جمعا بين الحقيقة والمجاز. لأنا نقول لا تنافي بينهما في هذه الصورة لأن الوقت يصلح شرطا وعدم جواز الجمع باعتبار التنافي. وإذا ثبت ما ذكرنا كان الطلاق مضافا إلى زمان خال عن الإيقاع وكما سكت وجد ذلك الوقت فتطلق. ثم استدل بالحكم فقال ألا ترى أن من قال لامرأته أنت طالق إذا شئت لم يتقدر بالمجلس كما لو قال متى فلو كان إذا للشرط لبطلت المشيئة إذا قامت عن المجلس كما لو قال أنت طالق إن شئت بطلت مشيئتها بالقيام عن المجلس فعلم أنه للوقت حقيقة.
"قد يكون حرفا بمعنى الشرط" لأن كونه اسما باعتبار دلالته على الوقت فإذا سقط عنه معنى الوقت عندهم بإرادة معنى الشرط كان حرفا كإن ويجوز أن يكون اللفظ الواحد اسما وحرفا كعن وعلى والكاف ونحوها واحتج الفراء وهو أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء لذلك أي لكونه للشرط المحض بقول الشاعر والشعر لواحد من الفضلاء يوصى ابنه وأوله:
أجميل إني كنت كارم قومه ... فإذا دعيت إلى المكارم فاعجل
أوصيك يا ابني إنني لك ناصح ... طبن بريب الدهر غير مغفل(2/293)
وإنما معناه وإن تصبك خصاصة بلا شبهة وإذا ثبت هذان الوجهان في إذا على التعارض أعني معنى الشرط الخالص ومعنى الوقت وقع الشك في وقوع الطلاق فلم يقع بالشك ووقع الشك في انقطاع المشيئة بعد الثبوت فيما استشهد به فلا تبطل بالشك وكذلك إذ.
فأما متى فاسم للوقت المبهم
ـــــــ
الله فاتقه وأوف بنذره ... وإذا حلفت مماريا فتحلل
واستغن ما أغناك ربك بالغنى ... وإذا تصبك خصاصة فتجمل
وإذا تجاسر عند عقلك مرة ... أمران فاعمد للأعسف الأجمل
وفي بعض الروايات. أبني إن أباك كارب يومه من كرب الشيء إذا دنا أوصيك إيصاء امرئ لك ناصح طبن بريب الدهر غير معقل من عقلت الإبل أي شددت عقالها والطبن الحاذق يقول إن أباك قريب يوم موته أو كريم قومه فاعمل بنصيحتي فإني بصروف الدهر عالم غير عاقل أو غير ممنوع عن العلم بها. فمن نصائحي أن تعد نفسك غنيا بالغنى وتظهر ذلك ما أغناك الله وإذا أصابتك مسكنة وفقر فتكلف بالصبر على الفعل الجميل أي اصبر صبرا جميلا من غير جزع وشكوى. أو معنى تجمل أظهر الغنى من نفسك بالتجمل والتزين كي لا يقف الناس على حالك. أو معناه كل الجميل وهو الشحم المذاب تعففا. إنما معناه إن تصبك خصاصة بلا شبهة لأن إصابة الخصاصة من الأمور المترددة وكلمة إذا إذا كانت بمعنى الوقت إنما تستعمل في الأمر الكائن أو المنتظر الذي لا ريب فيه عادة أو شرعا نحو مجيء الغد والقيام إلى الصلاة فلو لم تصر كلمة إذا هاهنا بمعنى الشرط وبقي معنى الوقت فيها لما جاز استعمالها في الأمر المتردد بخلاف متى لأنها لا تستعمل في الأمور الكائنة لا محالة فاستعمالها للشرط لا يدل على سقوط معنى الوقت عنها. فإن قيل ينبغي أن تحمل على متى حتى يبقى الوقت فيها معتبرا أو إن جوزي بها كما في متى. قلنا لو فعلنا ذلك يلزم منه ترك خاصيته وهي الدخول في الأمور الكائنة إذا كان بمعنى الوقت كما ذكرنا.
وذكر في بعض الحواشي أن الجزم به ودخول الفاء في جوابه دال على أنه بمعنى إن لكن للخصم أن يقول أنا أسلم أنه قد يجيء بمعنى الشرط إلا أن النزاع في سقوط معنى الوقت عنه وليس في البيت دليل على ذلك ألا ترى أنه لو قيل ومتى تصبك خصاصة فتجمل لاستقام اللفظ والمعنى أيضا من غير سقوط معنى الوقت.
قوله "وكذلك إذا ما" يعني لا يفترق الحال بين دخول ما على إذا وبين عدمه فيما ذكرنا من الأحكام. إلا أن دخول ما تحقق معنى المجازاة باتفاق بين البصريين والكوفيين.(2/294)
بلا اختصاص فكان مشاركا لأن في الإبهام فلزم في باب المجازاة وجزم بها مثل إن لكن مع قيام الوقت لأن ذلك حقيقتها فوقع الطلاق بقوله أنت طالق متى لم أطلقك عقيب اليمين وقوله متى شئت لم يقتصر على المجلس وكذلك متى ما وقد سبق تفسير كلما وكذلك من وما يدخلان في هذا الباب لإبهامهما والمسائل فيهما كثيرة خصوصا في من وقد روي عن أبي يوسف ومحمد فيمن
ـــــــ
وما هذه تسمى المسلطة ومعنى المسلطة أن تجعل الكلمة التي لا تعمل فيما بعدها عاملة فيه تقول إذا ما تأتني أكرمك فما هي التي سلطت إذا على الجزم لأنه كان اسما يضاف إلى الجمل غير عامل فجعلته ما حرفا من حروف المجازاة عاملة بمنزلة متى وعند بعضهم ما في إذا صلة كذا في كتاب بيان حقائق الحروف.
قوله "وأما متى" إلى آخره متى من الظروف أيضا وهو اسم للوقت المبهم وأنه يتضمن معنى الاستفهام والشرط وكأن المتكلم به في الاستفهام أراد أن يقول أكان ذلك يوم الجمعة أو يوم السبت أو يوم كذا وكذا إلى ما يطول ذكره فأتى بمتى للإيجاز فاشتمل على الأزمنة كلها وهو معنى قوله "هو اسم للوقت المبهم". ولهذا المعنى جعل نائبا عن إن في الشرط إذا كان اللازم في قولك متى تأتني أكرمك أن تقول إن تأتني يوم الجمعة أكرمك وإن تأتني يوم السبت أكرمك إلى حد يوجب الإطالة فجئت بمتى فحصل المقصود والفصل. بين إذا ومتى أن إذا للأمور الواجب وجودها ومتى لم يتوقع بين أن يكون وبين أن لا يكون تقول إذا طلعت الشمس خرجت وإذا أذن للصلاة قمت ولا يصلح في مثل هذا متى وتقول متى تخرج أخرج مع من لا يتيقن بخروجه فتبين بما قلنا إن معنى قوله بلا اختصاص أنه لا يختص وقتا دون وقت فلذلك كان مشاركا لأن في الإبهام لتردد ما دخل عليه متى بين أن يوجد وبين أن لا يوجد كما في كلمة إن. فلزم في باب المجازاة يعني فلهذه المشاركة لزم متى في باب المجازاة أي المجازاة به لازمة يعني في غير موضع الاستفهام مثل إن إلا أن التفاوت بينهما في قيام معنى الوقت وانتفائه. وأما في موضع الاستفهام فإنما لا يستعمل استعمال الشرط لأن الاستفهام عبارة عن طلب الفهم عن وجود الفعل فلا يستقيم إضمار حرف إن فوقع الطلاق عقيب اليمين بلا فصل لوجود شرط الحنث وهو الوقت الخالي عن الإيقاع. وقوله متى شئت لم يقتصر على المجلس لأنه باعتبار إبهامه يعم الأزمنة وكذلك متى ما يعني كما عرفت حكم متى في الشرط فكذلك حكم متى ما بل أولى لأنه إذا دخل ما عليه يصيره للجزاء المحض ولا يصلح للاستفهام. ومن وما يدخلان في هذا الباب أي باب الشرط لإبهامهما فإن كل واحد منهما لا يتناول عينا. وتحقيقه أن من وما لإبهامهما دخلا في باب العموم على ما مر فلما كان(2/295)
قال أنت طالق لو دخلت الدار أنه بمنزلة قوله إن دخلت الدار لأن فيها معنى
ـــــــ
يؤديان هذا المعنى مع الإيجاز وحصول المقصود نابا مناب إن فقيل من تأتني أكرمه وما تصنع أصنع. والمسائل فيهما كثيرة مثل قوله من شاء من عبيدي عتقه فهو حر. من دخل هذا الحصن فله رأس. ومن دخل منكم الدار فهو حر.
وأما إذا كان للشرط فهو اسم بمعنى أي تقول ما تصنع اصنع وفي التنزيل {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} "البقرة 106" {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا} "فاطر: 2". ولا يتعلق به من مسائل الفقه شيء ولم يستعمله الفقهاء في الفقه كذا في كتاب بيان حقائق الحروف.
قوله "وقد روي عن أبي يوسف" إلى آخره. اعلم أن لو فيه معنى الشرط لأن معناه تعليق إحدى الجملتين المتباينتين بالأخرى على أن يكون الثانية جوابا للأولى كان ولهذا يتعقبه الفعل تحقيقا أو تقديرا. إلا أن لو للماضي تقول جئتني لأكرمتك وهو معنى قولهم لو لامتناع الشيء لعدم غيره لأن الفعل الثاني لما تعلق وقوعه بوجود الأول وامتنع الأول لأن الفعل في الزمان الماضي إذا عدم استحال إيجاده فيه بعد كان الثاني أيضا ممتنعا ضرورة تعلقه به فعلى هذا لو قال لعبده لو دخلت الدار لعتقت ولم يدخل العبد الدار في الزمان الماضي ودخلها بعد كان ينبغي أن لا يعتق لأن معناه لو كنت دخلت الدار أمس لصرت حرا ولا تعلق لهذا الكلام بالمستقبل كما ترى إلا أن الفقهاء علقوا العتق بالدخول الذي يوجد في المستقبل لأن لو لمواخاتها كلمة إن في معنى الشرط يستعمل في الاستقبال كأن يقال لو استقبلت أمرك بالتوبة لكان خيرا لك أي إن استقبلت. وقال تعالى {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} "البقرة: 221". أي وإن أعجبكم {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} "التوبة: 32" {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} "التبة: 32". كما أن إن استعمل بمعنى لو قال تعالى إخبارا {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} "اىلمائدة 116". وعليه يخرج ما ذكر في الكتاب أنت طالق لو دخلت الدار فإن الطلاق لا يقع حتى تدخل الدار رواه ابن سماعة في نوادره عن أبي يوسف قال ولو بمنزلة إن كذا في كتاب بيان حقائق الحروف.
وليس فيه ذكر محمد وكذا لم يذكره شمس الأئمة في أصول الفقه وليس في هذه المسألة نص عن أبي حنيفة رحمه الله. وإلى أن هذه المسألة من النوادر أشار الشيخ بقوله وقد روي. وقوله لأن فيها معنى الترقب أي الانتظار معناه إذا كان الفعل الذي بعده بمعنى المستقبل لأنه حينئذ يصير مترددا فيتصور فيه الترقب. ثم اللام تدخل في جواب(2/296)
الترقب فعمل عمل الشرط وكذلك قول الرجل أنت طالق لولا صحبتك وما أشبه ذلك غير واقع لما فيه من معنى الشرط وذكر في السير الكبير بابا بناه
ـــــــ
لو لتأكيد ارتباط إحدى الجملتين بالأخرى قال الله تعالى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} "الأنبياء: 22". ويجوز حذفها كقوله تعالى. {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} "الواقعة: 70". ولا تدخل الفاء في جوابه لأن الفاء إنما تدخل في جملة لو كان مكانها الفعل المضارع انجزم وكلمة لولا تعمل في الجزم أصلا لأنها للماضي والجزم يختص بالمضارع على ما عرف ولهذا قال أبو الحسن الأهوازي1 إذا قال لامرأته لو دخلت الدار فأنت طالق يقع الطلاق في الحال كما لو قال إن دخلت الدار وأنت طالق لأن الفاء لا تدخل في جواب لو كما أن الواو لا تدخل في جواب إن قال صاحب كتاب بيان حقائق الحروف هو كما قال الأهوازي أن الفاء لا تدخل في جواب لو عند النجاة بلا خلاف فأما عند الفقهاء فليس كذلك لأني سألت القاضي الإمام أبا عاصم العامري2 عن هذه المسألة فقلت لو أن رجلا قال لامرأته لو دخلت الدار فأنت طالق فقال لا تطلق ما لم تدخل الدار وما سألته عن العلة والعلة فيه أن لو شرط صحيح كان وقد جاء كل واحد منهما بمعنى الآخر كما ذكرنا فيجوز أن يقع موقع أن في جواز دخول الفاء في جوابه. قال ولأن الفقهاء لا يعتبرون الإعراب لأن العامة تخطئ وتصيب فيه ألا ترى أن رجلا لو قال لرجل زنيت بكسر التاء أو لامرأته زنيت بفتح التاء يجب حد القذف في الصورتين لما ذكرنا.
قوله "وكذلك قول الرجل أنت طالق لو صحبتك". لولا لامتناع الشيء لوجود غيره زيدت على لو كلمة لا لتخرجه من امتناع الشيء لامتناع غيره. وتسمى لا هذه المغيرة لمعنى الحرف. ولا يقع بعدها إلا الاسم المتبدأ فإذا قلت لولا زيد كان مرفوعا بالابتداء أو خبره محذوف والتقدير لولا زيد موجود لكان كذا وحذف هذا الخبر حذفا لازما لطول الكلام بالجواب الذي هو قولك لكان كذا ولأن الحال يدل عليه. ويدخل في جوابها اللام للتأكيد أيضا فإذا قال أنت طالق لولا صحبتك أو لولا حسنك أو لولا حبك إياي لا يقع لما فيه من معنى الشرط وهو ربط إحدى الجملتين المتباينتين بالأخرى وامتناع الجزاء وأثر الشرط هو الربط والمنع إلا أن في الشرط الحقيقي يتوقع وقوع الجزاء بوجود الشرط وفي لولا لا توقع للجزاء أصلا لأنه لا يستعمل في المستقبل. ولهذا قالوا إنه بمنزلة الاستثناء نص عليه شمس الأئمة في أصول الفقه لأن الاستثناء وهو قوله إن شاء الله يخرج الكلام عن الإيجاب والاعتبار حتى لا يتعلق به حكم فكذلك هذه الكلمة ألا ترى أنه لو زال حسنها
ـــــــ
1 هو علي بن مهزيار الأهوازي الذورقي أبو الحسن فقيه شيعي أنظر معجم المؤلفين 7/247.
2 هو محمد بن أحمد القاضي أبو عاصم العامري. أنظر الفوائد البهية 160.(2/297)
على معرفة الحروف التي ذكرنا آمنوني على عشرة من أهل الحصن قال ذلك رأس الحصن ففعلنا وقع عليه وعلى عشرة غيره والخيار إليه ولو قال آمنوني وعشرة فكذلك إلا أن الخيار إلى إمام المسلمين ولو قال بعشرة فمثل قوله
ـــــــ
أو مات زيد في قوله أنت طالق لولا حسنك أو لولا زيد لا تطلق. وقد روى إبراهيم بن رستم1 عن محمد رحمهما الله في قوله أنت طالق لولا أبوك أو أخوك أو لولا حسنك أنها لا تطلق وهو استثناء. وكذا ذكر أبو الحسن الكرخي في مختصره عن محمد في قوله أنت طالق لولا دخولك الدار أنها لا تطلق ويجعل هذه الكلمة بمنزلة الاستثناء.
قوله "وذكر" أي محمد. في "السير الكبير بابا". إلى آخره. قال شمس الأئمة رحمه الله في شرح السير الكبير إذا حاصر المسلمون حصنا فأشرف عليهم رأس الحصن فقال آمنوني على عشرة من أهل هذا الحصن على أن أفتحه لكم فقالوا لك ذلك ففتح الحصن فهو آمن وعشرة معه لأنه استأمن لنفسه نصا بقول آمنوني والنون والياء يكني بهما المتكلم عن نفسه وكلمة على للشرط في قوله على عشرة وقد شرط أمان عشرة منكرة مع أمان نفسه فعرفنا أن العشرة سواه.
ثم الخيار في تعيين العشرة إلى رأس الحصن لأنه جعل نفسه ذا حظ من أمانهم لأن على للاستعلاء وهو ليس بذي حظ باعتبار أنه داخل في أمانهم فقد استأمن لنفسه بلفظ على حدة وليس بذي حظ باعتبار أنه مباشر لأمانهم فإن ذلك لا يصح منه فعرفنا أنه ذو حظ على أن يكون معينا لمن تناوله الأمان منهم باعتبار أن التعيين في المجهول كالإيجاب المتبدأ من وجه.
ولو قال أمنوني وعشرة على أن أفتح لكم فالأمان له ولو عشرة سواه لأن حرف الواو للعطف وإنما يعطف الشيء على غيره لا على نفسه ففي كلامه تنصيص على أن العشرة سواه. فإن لم يكن في الحصن إلا ذلك العدد أو أقل فهم آمنون كلهم لأن الأمان بذكر العدد بمنزلة الأمان لهم بالإشارة إلى أعيانهم. وإن كان أهل الحصن كثيرا فالخيار في تعيين العشرة إلى الإمام لأن المتكلم ما جعل نفسه ذا حظ في أمان العشرة وإنما عطف أمانهم على أمان نفسه فكان الإمام هو الموجب لهم للأمان فإليه التعيين. وإن رأى أن يجعل العشرة من النساء والولدان فله ذلك لأنهم من أهل الحصن إلا أن يكون المتكلم اشترط ذلك من الرجال
ـــــــ
1 هو إبراهيم بن رستم أبو بكر المروزي من فقهاء الحنفية توفي سنة 211ه أنظر معجم المؤلفين 1/31.(2/298)
وعشرة ولو قال في عشرة وقع على تسعة سواه والخيار إلى الإمام ولو قال آمنوا لي عشرة على عشرة لا غير ولرأس الحصن أن يدخل نفسه فيهم والخيار فيهم
ـــــــ
ولو قال أمنوني بعشرة من أهل الحصن كان هذا. وقوله وعشرة سواه لأن الباء للإلصاق فقد ألصق أمان العشرة بأمانه وإنما يتحقق ذلك إذا كانت العشرة سواه قال شمس الأئمة رحمه الله ولكن هذا غلط زل به قلم الكاتب والصحيح ما ذكر في بعض النسخ العتيقة أمنوني فعشرة لأن الفاء من حروف العطف وهو يقتضي الوصل والتعقيب فيستقيم عطفه على قوله أمنوني فعشرة فأما الباء فيصحب الأعواض فيكون قوله أمنوني بعشرة بمعنى عشرة أعطيكم من أهل الحصن عوضا عن أماني وهذا لا معنى له في هذا الجنس من المسائل فعرفنا أن الصحيح قوله أمنوني فعشرة
ولو قال أمنوني ثم عشرة كان هذا والأول سواء والعشرة سواه لأن كلمة ثم للتعقيب مع التراخي وبهذا تبين أيضا أن الصحيح في الأول قوله فعشرة لأنه بدأ بما هو للعطف مطلقا ثم بما هو للعطف على وجه التعقيب بلا مهلة ثم بما هو للتعقيب مع التراخي. ورأيت مكتوبا على حاشية شرح السير الكبير عند تقرير هذا الغلط قيل ولا يتمخض هذا غلطا لأنه من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه عند عدم الالتباس والتقدير أمنوني بأمان عشرة ولما كان لفظ الأمان مفهوما بقوله أمنوني استغنى عن ذكره ثانيا والباء حينئذ تفيد معنى الالتباس والامتزاج كقوله تعالى {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} "المؤمنون: 20". وكقولهم خرج زيد بسلاحه. ومثل هذا الحذف في قولهم اضرب السارق كالحداد أي كضرب الحداد ولما كان معنى الضرب مفهوما بقولهم اضربوا استغنى عن ذكره والباء غير مقصورة على معنى العوض بل هي لمعاني جمة فافهم. ولكن الموجب للقول بالغلط ما ذكر أن تخلل الباء بين حروف العطف غير مناسب لأن الظاهر نسق المتجانسات أما المعنى بالنظر إلى تلك المسألة وحدها فغير فاسد على ما ذكرنا.
ولو قال: أفتح لكم على أني آمن في عشرة من أهل الحصن أو على أن يؤمنوني في عشرة فهو آمن وتسعة معه لأن حرف في للظرف وقد جعل نفسه في جملة العشرة الذين التمس الأمان لهم فلا يتناول ذلك إلا تسعة معه لأنه لو تناول عشرة سواه كان هو آمنا في أحد عشر بخلاف الأول فهناك ما جعل نفسه في جملة العشرة. فإن قيل فقد جعل العشرة هنا ظرفا لنفسه والمظروف غير الظرف. قلنا هو كذلك فيما يتحقق فيه الظرف ولا يتحقق ذلك في العدد إلا بالطريق الذي قلنا وهو أن يكون هو أحدهم ويجعل كأنه قال اجعلوني أحد العشرة الذين تؤمنونهم.
فإن قيل فإذا لم يمكن حمله على معنى الظرف حقيقة ينبغي أن يجعل بمعنى(2/299)
إليه وذلك يخرج على هذه الأصول.ومن ذلك كيف وهو سؤال عن الحال وهو اسم للحال فإن استقام, وإلا بطل ولذلك قال أبو حنيفة رحمه الله في قوله
ـــــــ
مع كقوله تعالى {فادخلي في عبادي} "الفجر: 29" أو بمعنى كقوله عز اسمه. إخبارا {فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} "طه: 71". وباعتبار الوجهين يثبت الأمان لعشرة سواه.
قلنا الكلمة للظرف حقيقة فيجب حملها على ذلك بحسب الإمكان وذلك في أن يكون هو أحدهم داخلا في عددهم فلهذا لا تحملها على المجاز ثم الخيار في التسعة إلى الإمام لا إلى رأس الحصن لأنه جعل نفسه أحد العشرة فكما لا خيار لمن سواه من العشرة في التعيين لا خيار له وهذا لأنه جعل نفسه ذا حظ من أمان العشرة على أن يتناوله حكم أمانهم لا على أن يكون هو معينا لهم وقد نال ما سأل بقي الإمام موجبا الأمان لتسعة بغير أعيانهم فإليه بيانهم.
ولو قال آمنوا لي عشرة من أهل الحصن فله عشرة يختار أي عشرة شاء فإن اختار عشرة هو أحدهم فذلك له جائز وإن اختار عشرة سواه فالعشرة آمنون وهو فيء لأنه ما استأمن لنفسه عينا وإنما استأمن من لعشرة منكرة ولكن بقوله لي شرط لنفسه أن يكون ذا حظ ولا يمكن أن يجعل ذا حظ على وجه مباشرة الأمان لهم فإن ذلك لا يصح منه فعرفنا أنه ذو حظ على أن يكون هو المعين للعشرة ونفسه فيما وراء ذلك كنفس غيره إذا لم يتناوله الأمان نصا فإن عين نفسه في جملة العشرة صار آمنا بمنزلة التسعة الذين عينهم مع نفسه وإن عين عشرة سواه فقد تعين حكم الأمان فيهم وصار هو فيئا كغيره من أهل الحصن وكان معنى كلامه أمنوا لأجلي عشرة وأوجبوا لي حق تعيين عشرة تؤمنونهم. وروي أن مثل هذا وقع في زمان معاوية وكان الذي يسعى في طلب الأمان للجماعة قد آذى المسلمين فقال معاوية اللهم أغفله عن نفسه فطلب الأمان لقومه وأهله ولم يتذكر نفسه بشيء فأخذ وقتل. وقيل صاحب القصة أبو موسى الأشعري وذلك زمن عمر رضي الله عنهما استأمن إليه سابور ملك السوسي لعشرة من أهل بيته ونسي نفسه فقدمه أبو موسى وضرب عنقه. هذا كله من لطائف تقرير شمس الأئمة رحمه الله. وذلك أي ذلك الباب يخرج على هذا الأصل الذي ذكرنا في بيان الحروف في هذا الباب.
قوله "ومن ذلك" أي من باب حروف المعاني كلمة كيف كيف اسم مبهم غير متمكن وحرك آخره لالتقاء الساكنين وهي على الفتح دون الكسر لمكان الياء, وهو للاستفهام عن الأحوال وأنه وإن لم يكن ظرفا حقيقة ; لأنه لا يتضمن معنى في ولكنه جار(2/300)
الرجل: أنت حر كيف شئت أنه إيقاع وفي الطلاق أنه يقع الواحدة ويبقى الفضل في الوصف والقدر وهو الحال مفوضا بشرط نية الزوج, وقالا ما لا يقبل
ـــــــ
مجرى الظروف لتضمنه معنى على, فإذا قلت: كيف زيد ؟ كان معناه على أي حال هو أصحيح أم سقيم قاعد أم قائم إلى آخر ماله من الأوصاف. وإنما قلنا: إنه بما ذكرنا من التقدير جار مجرى الظرف; لأنه متضمن للحال, والحال جارية مجرى الظرف لأنها مفعول فيها على ما عرف. قال سيبويه كان القياس أن يكون شرطا; لأنه يدل على الحال والأحوال شروط, إلا أنه يدل على أحوال وصفات ليست في يد العبد كالصحة والسقم والشيخوخة والكهولة فلم يستقم أن تقول فيه كيف تكن أكن; لأنك بهذا اللفظ تضمن أن تكون على أحوال المخاطب وهو متعذر الوقوع منك, بخلاف متى تجلس اجلس وأين تكن أكن; لأنك شرطت على نفسك أن تساويه في الجلوس والحلول في المكان وهذا معنى يتصور وقوع الشرط عليه. وذكر في الصحاح إذا ضمت إليه ما صح أن يجازى به كقولك كيفما تفعل أفعل., وإذا ثبت أنه للسؤال عن الحال قال أبو حنيفة رحمه الله في قوله لامرأته أنت طالق كيف شئت أنها تطلق قبل المشيئة تطليقة, ثم إن لم تكن مدخولا بها فقد بانت لا إلى عدة ولا مشيئة لها, وإن كانت مدخولا بها فالتطليقة الواقعة رجعة والمشيئة إليها في المجلس بعد ذلك. فإن شاءت البائنة, وقد نواها الزوج كانت بائنة, أو إن شاءت ثلاثا, وقد نواها الزوج تطلق ثلاثا, وإن شاءت واحدة بائنة, وقد نوى الزوج ثلاثا فهي واحدة رجعية, وإن شاءت ثلاثا, وقد نوى الزوج واحدة بائنة فهي واحدة رجعية لأنها شاءت غير ما نوى ووقعت غير ما فوض إليها فلا يعتبر. وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لا يقع عليها شيء ما لم تشأ فإذا شاءت فالتفريع كما قال أبو حنيفة. وعلى هذا لو قال لعبده أنت حر كيف شئت عتق عند أبي حنيفة رحمه الله ولا مشيئة له وهو معنى قول الشيخ, وإلا بطل ولا يقع عندهما ما لم يشأ في المجلس, كذا في المبسوط. فلو شاء عتقا على مال أو إلى أجل أو بشرط أو شاء التدبير فذلك باطل عنده وهو حر. وعلى قياس قولهما ينبغي أن يثبت ما شاء بشرط إرادة المولى ذلك وما رأيته في كتاب. هما يقولان: إنه جعل الطلاق مفوضا إلى مشيئتها فلا يقع بدون مشيئتها كقوله أنت طالق إن شئت أو كم شئت أو حيث شئت لا يقع شيء ما لم تشأ وهذا لأنه لما فوض وصف الطلاق إليها يكون ذلك تفويضا لنفس الطلاق إليها ضرورة أن الوصف لا ينفك عن الأصل. يوضحه أن الرجعية من أوصاف الطلاق فتكون متعلقة بالمشيئة كالبينونة والعدد, وإذا تعلقت بالمشيئة فمن ضرورته تعلق الطلاق; لأن الطلاق بدون وصف لا يوجد, وهو معنى قول الشيخ فيتعلق الأصل بتعلقه فصار الطلاق على أي وصف شاءت مفوضا إليها.
وأبو حنيفة رحمه الله يقول: إنما يتأخر إلى مشيئتها ما علقه الزوج بمشيئتها دون(2/301)
الإشارة فحاله ووصفه بمنزلة أصله فتعلق الأصل بتعلقه وأما كم فاسم للعدد
ـــــــ
ما لم يعلق وكلمة كيف لا ترجع إلى أصل الطلاق فيكون هو منجزا أصل الطلاق ومفوضا للصفة إلى مشيئتها بقوله كيف شئت, إلا أن في غير المدخول بها وفي العتق لا مشيئة له في الصفة بعد إيقاع الأصل فيلغو تفويضه الصفة إلى مشيئتها بعد إيقاع الأصل وفي المدخول بها لها المشيئة في الصفة بعد وقوع الأصل عند أبي حنيفة بأن يجعله بائنا أو ثلاثا على ما عرف فيصح تفويضه إليها. فإن قيل: الطلاق بعد الوقوع يحتمل وصف البينونة بعد انقضاء العدة فيمكن أن يدخل في تصرف المرأة بتفويض الزوج, لكنه لا يحتمل الوصف بالثلاثة; لأنه يستحيل أن يصير الواحد ثلاثا فينبغي أن لا يدخل في تصرف المرأة بقوله كيف شئت قلنا:
يحتمل أن يصير ثلاثا بضم الثنتين إليه وإن كان الواحد لا يتبدل في نفسه حقيقة, ثم بانضمام الثنتين إليه بتغير حكمه بأن لا يبقى موجبا للرجعة وصار مؤثرا في الحرمة الغليظة فصار في معنى الصفة له فيصح تفويض الزوج إليها بلفظ كيف. يوضحه أن الاستخبار عن وصف الشيء وحاله لما كان من ضرورته وجود أصله يقدم وقوع أصل الطلاق في ضمن تفويضه المشيئة إليها فإن الاستخبار عن وصف الشيء قبل وجود أصله محال كما قال الشاعر:
يقول خليلي كيف صبرك بعدنا ... فقلت وهل صبر فيسأل عن كيف ؟
بخلاف قوله: كم شئت; لأن الكمية استخبار عن العدد فتقتضي تفويض العدد إلى مشيئتها, وأصل العدد في المعدودات الواحد, ألا ترى أن من قال لآخر: كم معك استقام الجواب عنه بالواحد. وبخلاف قوله حيث شئت أو إن شئت; لأنه عبارة عن المكان والطلاق إذا وقع في مكان يكون واقعا في الأمكنة كلها فكان ذلك تعليق أصل الطلاق بمشيئتها كأنه قال أنت طالق في أي مكان شئت الطلاق. فإن قيل كيف قد تضاف إلى موجود فيصير استيضافا, وقد يضاف إلى معدوم فيكون لتعليق الأصل بأوصافه بالمشيئة كما في قولك افعل كيف شئت, وطلقي كيف نفسك شئت فيكون كيف في قوله أنت طالق كيف شئت دالا على أن ذلك الطلاق بحيث يوجد بمشيئته كما أنه في قوله افعل كيف شئت يدل على أن الفعل يتكون منه بمشيئته. قلنا: إنا لا ننكر دخول كيف على معدوم سيوجد ولكن نقول: إنه لا يتعرض لأصل ما دخل عليه وإنما يتعرض لوصفه فقوله افعل وطلقي لطلب الفعل, والتفويض قبل دخول كيف عليه ولا يوجب وجود الفعل والطلاق في الحال فكذا بعد دخوله, وقوله أنت طالق يوجب وقوع الطلاق في الحال قبل دخول كيف عليه, فكذلك بعد دخوله; لأنه لا يتعرض للأصل.(2/302)
الذي هو الواقع وحيث اسم لمكان مبهم دخل على المشيئة, والله أعلم
ـــــــ
فما قاله أبو حنيفة رحمه الله حقيقة الكلام وما قالاه معاني كلام الناس عرفا واستعمالا, كذا في الأسرار "والمبسوط".
واعلم أن معنى الاستفهام قد يسلب عن كيف فيبقى دالا على نفس الحال كما حكى قطرب عن بعض العرب انظر إلى كيف يصنع أي إلى الحال صنعته, وإليه أشار الشيخ بقوله وهو اسم للحال بعد قوله وهو سؤال عن الحال, أي أنه قد يكون اسما للحال من غير معنى السؤال فيه كما في مسألتنا هذه فإنه يدل على الحال من غير معنى السؤال حتى لم يصح تقدير السؤال فيه وصح التعليق بالمشيئة, ولو بقي فيه معنى السؤال لوقع الطلاق في الحال من غير تعليق الوصف بمشيئتها أنه إيقاع لأنه لا وصف للحرية بعد الوقوع ليتعلق بالمشيئة ويبقى الفضل على أصل الطلاق في الوصف أي البينونة, والقدر أي العدد وهو الحال أي الفضل هو الحال التي تدل عليها كيف مفوضا إلى المرأة. بشرط نية الزوج يعني في حق المدخول بها; لأنه لا يبقى فضل بعد الوقوع في حق غير المدخول بها ليتعلق بالمشيئة كما في الحرية.
ولا يقال: ينبغي أن لا يحتاج إلى نية الزوج; لأنه لما فوض الأمر إليها يجب أن تستقل بإثبات ما فوض إليها اعتبارا بعامة التفويضات.
لأنا نقول: إنما فوض إليها حال الطلاق بكلمة كيف والحال مشتركة بين البينونة والعدد فيحتاج إلى النية لتعيين أحد المحتملين. وعن أبي بكر الرازي أن نية الزوج ليست بشرط. وذكر الطحاوي في مختصره أن لها أن يجعل الطلاق بائنا وثلاثا في قول أبي حنيفة رحمه الله فقد جعل الطحاوي المشيئة إليها في إثبات وصف البينونة والثلاث حتى قال بعض مشايخنا: إنه إذا لم ينو الزوج شيئا وشاءت المرأة ثلاثا أو واحدة بائنة يقع ما أوقعت بالاتفاق. أما على أصل أبي حنيفة فلأن الزوج أقام امرأته مقام نفسه في إثبات الوصف. والزوج متى أوقع طلاقا رجعيا يملك أن يجعله بائنا وثلاثا عنده فكذا المرأة. وأما على قولهما, فكذلك تملك إيقاع البائن وإيقاع الثلاث; لأنه فوض الطلاق إليها على أي وصف شاءت, كذا في الفوائد الظهيرية.
وقالا ما لا يقبل الإشارة أي ما لا يكون محسوسا يشار إليه مثل التصرفات الشرعية من الطلاق والعتاق والبيع والنكاح ونحوها. فحاله مثل كون الطلاق مثلا بائنا ورجعيا. ووصفه مثل كونه سنيا وبدعيا, وإلا ظهر أنه ترادف بمنزلة أصله; لأن وجوده لما لم يكن معاينا محسوسا كان معرفة وجوده بآثاره وأوصافه كوجود النكاح يعرف بأثره وهو ثبوت الحل ووجود البيع بأثره وهو الملك, وإذا كان كذلك كان معرفة وجوده مفتقرا إلى وصفه(2/303)
--------------------------------------------------------
ـــــــ
كافتقار وصفه في وجوده إليه فكان وصفه بمنزلة الأصل من هذا لوجه فإذا تعلق الوصف تعلق الأصل الذي هو بمنزلة التبع من وجه يتعلقه أيضا.
قوله "وأما كم فاسم" لكذا كم اسم غير متمكن موضوع للكناية عن الأعداد وفي الصحاح كم اسم ناقص مبهم مبني على السكون وإن جعلته اسما تاما شددت آخره وصرفته فقلت أكثرت من الكم والكمية. فإذا قال أنت طالق كم شئت لم تطلق قبل المشيئة ويتقيد بالمجلس وكان لها أن تطلق نفسها واحدة أو ثنتين أو ثلاثا بشرط مطابقة إرادة الزوج كذا رأيت بخط شيخي رحمه الله معلما بعلامة البزدوي.
وذلك لأن كلمة كم اسم للعدد المبهم كما ذكرنا والعدد هو الواقع في الطلاق إما مقتضى كما في قوله أنت طالق إذا التقدير أنت طالق طلقة أو تطليقة واحدة وإما مذكورا كما في قوله أنت طالق ثلاثا أو ثنتين أو واحدة وهو معنى قول الشيخ كم اسم للعدد الذي هو الواقع ولما كان كذلك, وقد دخلت المشيئة على نفس الواقع الذي هو العدد تعلق أصله بالمشيئة بخلاف كيف كأنه قال أنت طالق أي عدد شئت. ولما كان هذه الكلمة للعدد المبهم صارت عامة فكان لها أن تشاء الواحدة والثنتين والثلاث. ولما لم يكن في كلامه دلالة على الوقت تقيدت المشيئة بالمجلس إلى ما ذكرنا أشار الشيخ في شرح الجامع الصغير.
قوله "وأما حيث, فاسم لمكان مبهم" حيث اسم مبني من ظروف المكان كأين وحرك آخره لالتقاء الساكنين وبني على الضم تشبيها له بالغايات; لأنها لم تجئ الإضافة إلى جملة كذا قبل. ومنهم من يبنيها على الفتح استثقالا للكثرة مع الياء. ومنهم من كسر لالتقاء الساكنين. وحيث بالضم والفتح لغة فيه أيضا ولا يصح إضافته إلى المفرد وأما ما يقوله الناس من حيث اللغة بالكسر فخطأ وإنما الصواب هو الرفع على أن يكون مبتدأ والخبر مضمر أو هو ثابت أو نحوه. فإذا قال: أنت طالق حيث شئت لا تطلق قبل المشيئة ويتوقف بالمجلس لما بينا أنه من ظروف المكان ولا اتصال للطلاق بالمكان فيلغو ذكره ويبقى ذكر المشيئة في الطلاق فيقتصر على المجلس. فإن قيل: إذا لغا ذكر المكان بقي قوله أنت طالق إن شئت فينبغي أن يقع للحال كما في قوله أنت طالق إن دخلت الدار والمسألة في التجريد والكفاية. قلنا: لما تعذر العمل بالظرفية جعلناه مجازا لحرف الشرط لمشاركتهما في الإبهام فصار بمنزلة قوله إن شئت والاستعارة أولى من الإلغاء.
فإن قيل لم لم يجعل بمنزلة إذا ومتى حتى لا يبطل بالقيام عن المجلس وفيه رعاية معنى الظرفية. قلنا: جعله مجازا لحرف إن أولى إذ هو الأصل في باب الشرط وما وراءه ملحق به, كذا في الفوائد الظهيرية والله أعلم.(2/304)
"باب الصريح والكناية"
مثل قول الرجل بعت واشتريت ووهبت; لأنه ظاهر المراد وحكمه تعلق الحكم بعين الكلام وقيامه مقام معناه حتى استغني عن العزيمة, وكذلك الطلاق والعتاق وحكم الكناية أن لا يجب العمل به إلا بالنية; لأنه مستتر المراد وذلك مثل المجاز قبل أن يصير متعارفا ولذلك سمى أسماء الضمير كناية مثل أنا وأنت
ـــــــ
"باب الصريح والكناية"
إنما أعاد ذكر نظائر الصريح بعدما ذكر بعضها في أول الكتاب ليبني عليه بيان الحكم إذ هو مقصود الباب. "وحكمه" أي حكم الصريح تعلق الحكم الشرعي. تعين الكلام أي بنفسه. وقيامه أي قيام الكلام الذي هو الصريح مقام معناه الذي دل عليه سواء كان حقيقة أو مجازا من غير نظر إلى أن المتكلم أراد ذلك المعنى أو لم يرد. وهو معنى قوله حتى استغنى أي الصريح في إثبات الحكم عن العزيمة. فإذا أضاف الطلاق أو العتاق مثلا إلى المحل فبأي وجه أضافهما يثبت الحكم حتى لو قال يا حر أو يا طالق أو أنت حر أو أنت طالق أو حررتك أو طلقتك يكون إيقاعا نوى أو لم ينو; لأن عينه أقيم مقام معناه في إيجاب الحكم لكونه صريحا فيه., وكذلك لو أراد أن يقول سبحان الله فجرى على لسانه أنت حر أو أنت طالق ثبت العتاق والطلاق لما ذكرنا. أما لو أراد أن يصرف الكلام بالنية عن موجبه إلى محتمله فله ذلك فيما بينه وبين الله تعالى فإذا نوى في قوله أنت طالق رفع حقيقة القيد يصدق ديانة لا قضاء. وفصل الطلاق والعتاق عن النظائر المذكورة بقوله, وكذلك الطلاق والعتاق; لأنهما من الإسقاطات وتلك النظائر من العقود.
قوله "وحكم الكناية أن لا يجب العمل به" أي بهذا اللفظ, إلا بالنية أو ما يقوم مقامها من دلالة الحال لأنه أي لفظ الكناية مستتر المراد فكان في ثبوت المراد تردد فلا يوجب الحكم ما لم يزل ذلك الاستتار والتردد. وذلك مثل المجاز قبل أن يصير متعارفا أي من نظائر الكناية المجاز الذي لم يتعارف بين الناس; لأن المتكلم باستعماله في غير موضوعه ستر المراد عن السامع فصار المراد في حقه في حيز التردد فكان كناية.(2/305)
ونحن وسمى الفقهاء ألفاظ الطلاق التي لم يتعارف كنايات مثل البائن والحرام مجازا لا حقيقة; لأن هذه كلمات معلومة المعاني غير مستتر لكن الإبهام فيما يتصل به ويعمل فيه فلذلك شابهت الكنايات فسميت بذلك مجازا ولهذا الإبهام
ـــــــ
فأما إذا صار متعارفا فقد صار صريحا مثل قوله لا يضع قدمه في دار فلان فإنه عبارة عن الدخول مجازا وشاع استعماله فيه فصار صريحا. ولذلك أي ولاستتار المراد سمى أسماء الضمير كناية, وقد بيناه في أول الكتاب.
قوله "وسمى الفقهاء" يعني أنهم سموا الألفاظ التي لم يتعارف إيقاع الطلاق بها كنايات بطريق المجاز لا بطريق الحقيقة; لأن الكناية الحقيقية هي مستترة المراد, والمعنى وهذه الألفاظ معلومة المعاني غير مستترة على السامع; لأن كل أحد من أهل اللسان يعلم معنى البائن والحرام وألبتة ونحوها فلا يكون كنايات حقيقة. ثم بين وجه تسميتها كنايات بطريق المجاز بقوله لكن الإبهام فيما يتصل هذه الألفاظ به وتعمل فيه لأن البائن مثلا يدل على البينونة ولا بد لها من محل تحله, وتظهر أثرها فيه ومحلها الوصلة وهي مختلفة متنوعة قد تكون بالنكاح, وقد تكون بغيره فإذا كان كذلك استتر المراد لوقوع الشك في المحل الذي يظهر أثرها فيه لأنا لا ندري أي محل أراده.
"فلذلك" أي لهذا الإبهام الذي ذكرنا شابهت هذه الألفاظ الكنايات الحقيقية. فسميت هذه الألفاظ بذلك أي باسم الكناية مجازا ولهذا الإبهام الذي ذكرنا احتيج فيها إلى النية ليتعين البينونة عن وصلة النكاح عن غيرها. فإذا وجدت النية أي نوى وصلة النكاح وزال الإبهام ظهر أثر البينونة فيها وكان اللفظ عاملا بنفسه. وهو معنى قوله وجب العمل بموجباتها أي بمقتضيات هذه الألفاظ نفسها من غير أن يجعل عبارة عن صريح الطلاق وكناية عنه كما قال الشافعي رحمه الله. فإن قيل: لا نسلم إنما سميت كنايات مجازا بل هي كنايات على الحقيقة; لأن الكناية ما هو مستتر المراد على ما ذكر الشيخ في أول الكتاب, وإذا قال أنت علي حرام فالمراد مستتر على السامع بدون القرينة الدالة عليه فكان داخلا في حد الكناية بل الاستتار فيه أقوى منه في قوله طويل النجاد; لأنه يمكن أن يتوصل إلى مراد المتكلم وهو طول القامة بالتأمل في قرائن الكلام ولا يمكن أن يتوصل إلى المراد في قوله أنت علي حرام, إلا ببيان من جهة المتكلم بمنزلة المجمل. وقوله هذه الكلمات معلومة المعاني لا يجد به نفعا; لأنها مع كونها معلومة المعاني مستترة المراد وكل كناية بهذه المثابة فإن قوله طويل النجاد كثير الرماد معلوم المعنى لغة ولكنه مستتر المراد.
قلنا: قد ذكرنا في أول الكتاب أن مبنى الكناية على الانتقال من اللازم إلى الملزوم(2/306)
احتيج إلى النية فإذا وجدت النية وجب العمل بموجباتها من غير أن يجعل عبارة عن الصريح ولذلك جعلناها بوائن وانقطعت بها الرجعة إلا في قول الرجل اعتدي
ـــــــ
فإنك في قولك طويل النجاد تتنقل من طول النجاد مع أنك تريده إلى طول القامة ومن كثرة الرماد إلى ملزومه وهو الجود هذا هو الأصل في الكنايات, وفي هذه الألفاظ لا انتقال من معانيها إلى شيء آخر فإنك في قولك أنت بائن أو أنت حرام لا تتنقل من البينونة والحرمة إلى شيء آخر بل تقتصر عليهما إذ لم يكن شيء آخر هو المراد سواهما فلما لم يوجد فيها ما هو الأصل فيها وهو الانتقال إلى شيء آخر لا تكون كنايات على الحقيقة ولا نسلم على ما بينا أن ما هو المراد منها مستتر على السامع, فإن المراد منها البينونة والحرمة والقطع ونحوها وهو معلوم للسامع, إلا أن محل عملها مستتر عليه كما ذكرنا فلا يكون ما هو المراد مستترا مطلقا بخلاف قوله طويل النجاد فإن طوله ليس بمقصود أصلي بل المقصود الكلي طول القامة وذلك مستتر. وتبين بما ذكرنا أنه أراد بقوله "هذه كلمات معلومة المعاني غير مستتر" المعاني التي هي المراد للمتكلم يعني أنها معلومة المراد والاستتار في محل عملها فتخرج به عن حد الكناية الذي ذكره.
قوله "ولذلك" أي ولأن هذه الألفاظ عاملة بنفسها جعلناها بوائن; لأن معناها يدل على البينونة والقطع والحرمة على ما عرف. وقوله وانقطعت بها الرجعة تفسير لكونها بوائن. والمسألة مختلفة بين الصحابة رضي الله عنهم فذهب علي وزيد بن ثابت رضي الله عنهما إلى أن الواقع بهذه الألفاظ بوائن وبه أخذ علماؤنا وذهب عمر وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما إلى أن الواقع بها رواجع وبه أخذ الشافعي. ولقلب المسألة الكنايات بوائن أم لا وهذا اللقب على أصله مستقيم; لأن عنده هذه الألفاظ كنايات عن لفظ الطلاق حقيقة مثل كنايات العتاق وكنايات النكاح على أصلنا كالهبة والبيع والتمليك وعندنا هذا اللقب مجاز كما بينا.
والاختلاف في الحقيقة راجع إلى أن ما يملك الزوج إيقاعه نوع واحد عنده وهو الطلاق فأما إيقاع البينونة فليس في ولايته وإنما تقع حكما لسقوط العدة أو لثبوت الحرمة الغليظة ولوجوب العوض. وعندنا الطلاق نوعان: رجعي وبائن, فكما يملك الزوج إيقاع الرجعي يملك إيقاع البائن, وإذا ثبت هذا كانت هذه الألفاظ كنايات عن الطلاق حقيقة عنده; لأنه لا يمكن أن تجعل عاملة بنفسها إذ ليس في ولايته إيقاع البائن وعندنا لما كان في ولايته ذلك جعلناها عاملة بنفسها وحقيقتها إذ لا ضرورة في العدول عن الحقيقة إلى غيرها.
حجة الشافعي قوله تعالى. {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} "البقرة 229". الآية ذكر الطلاق(2/307)
----------------------------------------------------
ـــــــ
بغير بدل وشرع بعده الرجعة وذكر الطلاق ببدل ولم يذكر الرجعة وذكر الثلاث وبين أنها لا تحل له فمن قال: إن الطلاق القاطع للرجعة بغير بدل مشروع فقد خالف النص. ولأنه لما تبين أن السبب القاطع للرجعة في الشرع لم يجعل قاطعا إلا بالعوض أو بمعنى العدة أو بإثبات الحرمة لم يملك الزوج تغيير ذلك بالتنصيص على القطع كالهبة لما شرعت موجبة للملك مع القرينة وهي القبض لا يكون له أن يجعلها موجبة بنفسها بالتنصيص بأن قال وهبت لك هبة توجب الملك بنفسها قبل القبض; لأن العبد لا يملك تغيير حكم الشرع, ولا معنى لقولكم: إن الطلاق وقع في ضمن قوله: بائن, فلا يجوز أن يلغو صريحه; لأنا لا نوقع الطلاق في ضمنه بل نجعل قوله بائن عبارة عن الطلاق مجازا ومتى صار مجازا في غيره سقط حقيقة في نفسه وكان الرجل في هذه بمنزلة امرأة قال لها زوجها طلقي نفسك فقالت: أبنت نفسي أو أنا بائن فإنها تطلق تطليقة رجعية بلا خلاف; لأنها لم تملك إلا طلاقا وبائن إنما يعمل على سبيل العبارة عنه لا على حقيقته, فكذلك الزوج; لأن الله تعالى ما ملكه, إلا بأنه على حقيقتها وما شرعها له.
والدليل عليه أنه لو طلق امرأته بعد الدخول ثبت له خيار الرجعة ولو قال أسقطت الخيار أو قال طلقت على أن لا رجعة لي عليك لم يسقط لأنه لم يجعل إليه إسقاطه, فكذلك إذا قال أبنت أو أنت طالق بائن لا يثبت البينونة; لأنه لا يستفيد به, إلا إسقاط خيار الرجعة.
وحجتنا الإبانة تصرف من الزوج في ملكه فيصح كإيقاع أصل الطلاق. وبيانه أن الطلاق بالنكاح مملوك للزوج وما صار مملوكا إلا للحاجة إلى التقصي عن عهدة الملك وذلك بإزالة الملك والإبانة, وكذلك قبل الدخول الإبانة مملوكة للزوج بملك النكاح وبالدخول يتأكد ملكه فلا يبطل ما كان ثابتا له من ولاية الإزالة, وكذلك يملك الاعتياض عن إزالة الملك وإنما يملك الاعتياض عما هو مملوك له فثبت أن الإبانة مملوكة له فكان إيقاع البينونة تصرفا منه في ملك نفسه فيجب إعماله ما أمكن. وكان ينبغي على هذا الأصل أن يزول الملك بنفس الطلاق, إلا أن حكم الرجعة بعد صريح الطلاق ثبت شرعا بخلاف القياس وما ثبت بخلاف القياس لا يلحق به ما ليس في معناه والبائن ليس في معناه; لأنه لا يجامع النكاح بخلاف الطلاق فإنه يجامعه فإن من تزوج المطلقة صارت منكوحة ولم يرتفع الطلاق الأول ولا انقطع أصل حكمه حتى لو طلقت ثنتين حرمت حرمة غليظة فكانت مطلقة منكوحة, فكذلك مع خيار الرجعة بقيت مطلقة منكوحة ومع صفة الإبانة والتحريم لا يتصور قيام النكاح لا يقال حرام حلال مبادلة عن زوجها منكوحة فإذا لم يكن في معنى المنصوص يؤخذ فيه بأصل القياس وكان قوله أنت طالق محتملا للطلاق المبين(2/308)
لأن حقيقتها الحساب ولا أثر لذلك في النكاح والاعتداد يحتمل أن يراد به ما يعد من غير الأقراء فإذا نوى الأقراء فزال الإبهام وجب به الطلاق بعد الدخول اقتضاء وقبل الدخول جعل مستعارا محضا عن الطلاق; لأنه سببه فاستعير الحكم
ـــــــ
وغير المبين, فكان قوله: بائن, تعيينا لأحد المحتملين, كما إذا قال: بعت, يحتمل البيع بخيار والبيع البات فإذا قال: بيعا باتا, يزول هذا الاحتمال. وهذا بخلاف الهبة فإنها لا توجب الملك لضعفها في نفسها حتى يتأيد بما يقويها وهو القبض وبشرطه لا يتقوى, وههنا قوله أنت طالق لا يزيل الملك بنفسه لا لضعفه فإنه قوي لازم بل لأنه غير مناف للنكاح فإذا قال تطليقة بائنة فقد زال ذلك المعنى حين صرح بما هو مناف للنكاح. وما استدل به الخصم راجع إلى أن لا دليل على كون الإبانة مشروعة والاحتجاج بلا دليل ساقط, وقد أقمنا الدلالة على ذلك فتبين أن الخصم إن لم يقس فقد احتج بلا دليل وإن قاس قاس على المعدول عن القياس وإن الاستدلال الصحيح معنا, كذا في الأسرار "والمبسوط".
قوله "إلا في قول الرجل اعتدي" استثناء من قوله سميت كنايات مجازا أو من قوله وجب العمل بموجباتها من غير أن تجعل عبارة عن الصريح أي إلا في قوله: اعتدي, فإنه يجعل عبارة عن الصريح وكناية عنه حقيقة; لأنه لما تعذر إعمال اللفظ بحقيقته يجعل كناية عن الطلاق; لأن الاعتداد من لوازمه على ما هو الأصل فيكون " اعتدي " ذكر اللازم وإرادة الملزوم, كما قال الشافعي في سائر الألفاظ ولهذا يقع الطلاق به في غير المدخول بها بمنزلة قوله أنت واحدة. ويجوز أن يكون استثناء من قوله, ولهذا جعلناها بوائن وهو الأظهر يعني الواقع بهذا اللفظ عند النية تطليقة رجعية لا بائنة; لأن وقوع البينونة باعتبار دلالة اللفظ عليها بحقيقته هذا اللفظ للحساب يقال اعتدد مالك أي احتسب عدد مالك ولا أثر للحساب في قطع النكاح وإزالة الملك فلا يمكن أن يجعل عاملا بنفسه. إلا أن قوله اعتدي محتمل في نفسه يجوز أن يكون المراد اعتدي نعم الله عليك أو اعتدي نعمي عليك أو اعتدي الدراهم أو اعتدي من النكاح أي احسبي الأقراء فإذا نوى الأقراء. وجب أي ثبت بهذه النية أو بهذه النية بعد النية الطلاق بعد الدخول بطريق الاقتضاء; لأنه لما أمرها بالاعتداد أو لم تكن واجبا عليها قبل لا بد من تقديم ما يوجبه ليصح الأمر به فقدم الطلاق عليه ضرورة صحة الأمر والضرورة يرتفع بإثبات أصل الطلاق فلا حاجة إلى إثبات وصف زائد وهو البينونة. فلذلك أي لكونه ثابتا بطريق الاقتضاء كان رجعيا ولا تقع أكثر من واحدة وإن نوى.
قوله "وقبل الدخول جعل مستعارا محضا عن الطلاق; لأنه" لا يمكن إثباته بطريق الاقتضاء إذ لا بد للمقتضي من ثبوت المقتضى ولا وجود للمقتضي ههنا وهو الاعتداد(2/309)
لسببه فلذلك كان رجعيا وكذلك قوله استبرئي رحمك, وقد جاءت السنة: "أن
ـــــــ
لأنه غير ثابت قبل الدخول بالنص والإجماع فجعل مستعارا محضا عن الطلاق أي للطلاق; لأن الطلاق سبب لوجود الاعتداد فجاز أن يستعار الحكم لسببه. وفي قوله محضا إشارة إلى أن في إثبات الطلاق بعد الدخول بطريق الاقتضاء جهة من المجاز من حيث إنه ليس بمذكور حقيقة, وإن كان فيه جهة الحقيقة أيضا من حيث إنه بمنزلة المنطوق, فأما إثباته قبل الدخول فمجاز محض ليس فيه جهة الحقيقة; لأنه ليس بمنطوق تحقيقا ولا تقديرا. فإن قيل: كيف صحت استعارة المسبب للسبب, وقد تقدم في باب أحكام الحقيقة والمجاز أنها لا يجوز. قلنا: قد بينا في ذلك الباب أن المسبب إذا كان مختصا بالسبب جازت الاستعارة من الطرفين.
يؤيده ما ذكره الشيخ في بعض مصنفاته في أصول الفقه أن الطلاق يوجب العدة على ما عليه الأصل لا ينفك العدة عن الطلاق ولا الطلاق عن العدة على ما هو الأصل في النكاح, إذ النكاح للدخول لا لعدم الدخول فكان الدخول فيه أصلا لا عارضا والسبب إذا كان متصلا بالمسبب كاتصال المسبب بالسبب يجوز أن يصير أحدهما كناية من الآخر كما في قوله تعالى إخبارا {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} "يوسف: 36". وكما في العلة مع المعلول.
ولا يقال العدة لا تختص به فإنها تجب على أم الولد من غير طلاق. لأنا نقول لما صارت هي فراشا أخذت حكم المنكوحة وأخذ زوال هذا الفراش شبها بالطلاق فأوجب العدة; لأنها تثبت بالشبهة. أو نقول: المراد من السبب العلة كما يقال النكاح سبب الحل والبيع سبب الملك, والمراد العلة وهذا لأنهم يطلقون اسم السبب على ما وضعه الشرع علة لحكم واسم العلة على ما يستنبط بالرأي وكون الطلاق علة لوجوب العدة من أوضاع الشرع فسمي سببا وهو في الحقيقة علة. وفي كلام الشيخ إشارة إليه حيث قال فاستعير الحكم لسببه ولم يقل فاستعير المسبب لسببه إذ الحكم يذكر في مقابلة العلة والمسبب في مقابلة السبب. ولا يلزم عليه تخلف الحكم عنه في غير المدخول بها; لأن ذلك لفوات الشرط وهو الدخول. وقبل الطلاق وإن كان سببا في حق هذا الحكم على التحقيق; لأنه لم يوضع له لكنه في حق ما يبتنى عليه جواز الاستعارة وهو الاتصال بمنزلة العلة فإن الطلاق لا يعمل عمله, إلا بشرط انقضاء العدة والمشروط متصل بالشرط لا محالة. وفيه ضعف; لأن كلامنا في غير المدخول بها وليس انقضاء العدة شرطا فيها.
وفي الجملة القول بعدم جواز استعارة المسبب للسبب مشكل; لأنه خلاف مختار أهل اللغة وعامة الأصوليين. وذكر في بعض الشروح أنه لا يصح أن يجعل اعتدي مستعارا(2/310)
النبي عليه السلام قال لسودة بنت زمعة اعتدي, ثم راجعها", وكذلك أنت واحدة يحتمل نعتا للطلقة ويحتمل صفة للمرأة فإذا زال الإبهام بالنية كان دلالة على
ـــــــ
للطلاق; لأنه إما أن يجعل عبارة عن قوله أنت طالق أو مطلقة أو طلقتك أو طلقي نفسك. لا يجوز الثلاثة الأولى للاختلاف في الصيغة; لأن اعتدي أمر والأول والثاني ليسا بفعلين فضلا عن الأمر والثالث إنشاء أو إخبار وليس بأمر ولا بد للاستعارة من التوافق في الصيغة ألا ترى أن قوله وهبت ابنتي منك وقوله زوجت ابنتي منك متوافقان صيغة. وكذا الرابع; لأنه لو قال لها طلقي لا يقع الطلاق بهذا اللفظ وإن نوى. وأجيب بأنا نجعله مستعارا وعبارة عن قوله كوني طالقا, وقد صرح في الخلاصة بأنه لو قال لها تو طلاق باش أو طلاق شو تطلق من غير نية. والأظهر أن تقدير الكلام اعتدي; لأني طلقتك فاكتفى بذكر الحكم عن ذكر السبب فكان من باب الإضمار وأنه من أنواع المجاز. يؤيده ما ذكره شمس الأئمة في المبسوط والإمام البرغري في طريقته أن وقوع الطلاق بطريق الإضمار في كلامه فكأنه قال: طلقتك فاعتدي, ولهذا قلنا: إنه وإن تكلم بهذا اللفظ قبل الدخول يعمل نيته في الطلاق ولا عدة عليها قبل الدخول فعرفنا أن اللفظ غير عامل فيه ولكن الطلاق مضمر فيه عند نيته.
قوله "وكذلك" أي وكقوله اعتدي قوله استبرئي رحمك; لأنه بمنزلة التفسير لقوله: اعتدي إذ هو تصريح بما هو المقصود من العدة, إلا أن طلب الاستبراء يحتمل أن يكون للوطء وطلب الولد ويحتمل أن يكون للتزوج بزوج آخر فاحتاج إلى النية, فإذا وجدت النية يثبت الطلاق بعد الدخول اقتضاء وقبله استعارة كما بينا. وقد جاءت السنة يعني ما ذكرنا مؤيد بالسنة ومستفاد منها فإنه عليه السلام قال لسودة بنت زمعة بفتحتين اعتدي ثم راجعها وذلك حين دخل النبي عليه السلام عليها وهي تبكي على من قتل من أقاربها يوم بدر وترثيهم بإشعار أهل مكة فكره النبي عليه السلام ذلك منها فقال لها اعتدي فندمت على ذلك واستشفعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ووهبت نوبتها لعائشة رضي الله عنها وقالت إني أكتفي بأن أبعث من أزواجك يوم القيامة فراجعها النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله "وكذا أنت واحدة" يعني وكقوله اعتدي قوله أنت واحدة في أنه يقع به طلاق رجعي عند النية, وقال الشافعي رحمه الله: لا يقع بهذا اللفظ شيء وإن نوى; لأن واحدة صفة لها وهي لا يحتمل طلاقا فلغت النية كما إذا قال لها: أنت قاعدة ونوى طلاقا. إلا أنا نقول: يجوز أن يكون قوله واحدة نعتا لها أي واحدة عند قومك أو منفردة عندي ليس لي معك غيرك أو واحدة نساء البلد في الحسن والجمال. ويحتمل أن يكون نعتا لتطليقة بطريق حذف الموصوف وإقامة الوصف مقامه كقولك أعطيته جزيلا أي عطاء(2/311)
الصريح لا عام لا بموجبه.والأصل في الكلام هو الصريح وأما الكناية ففيها قصور من حيث يقصر عن البيان إلا بالنية, والبيان بالكلام هو المراد فظهر هذا التفاوت فيما يدرأ بالشبهات وصار جنس الكنايات بمنزلة الضرورات, ولهذا قلنا:
ـــــــ
جزيلا فلا يقع الطلاق بدون النية فإذا نوى صار كأنه قال أنت تطليقة واحدة ولو قال هكذا ونوى طلاقا صح فإنها بنفسها لا يكون تطليقة ولكن يكون طالقا تطليقة فيصير تطليقة قائمة مقام طالق فتنعت نعته, كذا في الأسرار والمبسوط. ورأيت في التهذيب لمحبي السنة من أصحاب الشافعي ولو قال لها أنت واحدة ونوى الطلاق ثنتين أو ثلاثا فيه وجهان. أحدهما لا يقع, إلا واحدة; لأن منويه خلاف ملفوظه والطلاق يقع باللفظ ومراعاة اللفظ أولى. والثاني وهو الأصح يقع ما نوى ومعنى واحدة أي تتوحدين مني بهذا العدد فكان ما ذكره أصحابنا غير مأخوذ عندهم. وعن بعض مشايخنا رحمهم الله أنه إذا رفع الواحدة لا تطلق وإن نوى; لأنها ولا تصلح نعتا للطلقة فيصير خبر المبتدأ وإن نصبها تطلق من غير نية; لأنها حينئذ لا يصلح نعتا, إلا للطلقة وإن أسكن الهاء فحينئذ يحتاج إلى النية. والمختار أن حكم الكل واحد في الاحتياج إلى النية; لأن العوام لا يميزون بين وجوه الإعراب كان دلالة يعني إذا نوى به الطلاق كان هذا اللفظ دالا على صريح الطلاق بالطريق الذي ذكرنا فكان معقبا للرجعة لا عاملا بموجبه إذ موجبه التوحيد, ولا أثر لذلك في البينونة وقطع النكاح بخلاف البائن ونحوه فإنه مؤثر بموجبه على ما بينا.
قوله "والأصل في الكلام هو الصريح" لأن الكلام موضوع للإفهام والصريح هو التام في هذا المقصود وصار جنس الكناية بمنزلة الضرورات يعني لما كان المقصود هو الإفهام من الكلام وذلك يحصل بالصريح لا يلتفت إلى غيره لقصوره في هذا المعنى, إلا عند الضرورة وهي عدم الصريح. ولهذا أي ولأن في الكناية قصورا عن البيان قلنا: إن حد القذف لا يجب إلا بتصريح النسبة إلى الزنا بأن قال: زنيت أو أنت زان. وكذا في الإقرار على نفسه ببعض الأسباب الموجبة للحد لا يستوجب العقوبة ما لم يذكر اللفظ الصريح فإذا قال جامعت فلانة أو واقعتها أو وطئتها لا يحد ما لم يقل نكتها. وكذا لو قال لامرأة جامعك فلان جماعا حراما, أو قال لرجل فجرت لفلانة أو جامعتها لا يجب عليه حد القذف; لأنه ما صرح بالقذف بالزنا. لم يحد المصدق عندنا وقال زفر رحمه الله: يحد; لأن معنى قوله صدقت أنه زان فيكون قاذفا له كما إذا قال له هو كما قلت. ولكنا نقول: إنه ما صرح بنسبته إلى الزنا فلا يحد وذلك لأنه إنما يلفظ بما هو شبيه بالكناية عن القذف لاحتمال التصديق وجوها مختلفة أي كنت صادقا فيما مضى فكيف تكلمت بهذه الكلمة القبيحة أو صدقت في إنجاز وعدك بنسبته إلى الزنا, ويحتمل السخرية والاستهزاء أيضا وإن كان باعتبار الظاهر يفهم منه تصديقه في نسبته إلى الزنا ولكن الظاهر لا يكفي(2/312)
إن حد القذف لا يجب, إلا بتصريح الزنا حتى أن من قذف رجلا بالزنا فقال له آخر صدقت لم يحد المصدق, وكذلك إذا قال: لست بزان يريد التعريض بالمخاطب لم يحد, وكذلك في كل تعريض لما قلنا بخلاف من قذف رجلا بالزنا فقال آخر: هو كما قلت حد هذا الرجل وكان بمنزلة الصريح لما عرف في كتاب الحدود والله أعلم.
ـــــــ
لإيجاب الحد. بخلاف قوله هو كما قلت لأنه بمنزلة الصريح في النسبة إلى الزنا لأنه لا يحتمل وجها آخر. ولأن أكثر ما في الباب أن يجعل قوله صدقت كصريح القذف بالزنا, إلا أنه لم يتصل بالمقذوف; لأنه خطاب للرامي لا للمقذوف, وإذا لم يتصل به لم يكن قذفا له وإنما يتصل به اقتضاء صدق الأول فيما رماه والحد يسقط بالشبهة فلا يثبت بالمقتضى; لأنه ضروري. بخلاف قوله هو كما قلت; لأنه اتصل به; لأن هو إخبار عنه على سبيل المغايبة كقولك أنت في المخاطبة, كذا في الأسرار. والتعويض نوع من الكناية يكون مسوقا لموصوف غير مذكور كما نقول في عرض من يؤذي المؤمنين المؤمن هو الذي يصلي ويزكي ولا يؤذي أخاه المسلم, ويتوصل بذلك إلى نفي الإيمان عن المؤذي, كذا في المفتاح. وفي الكشاف الفرق بين الكناية والتعريض هو أن الكناية أن تذكر الشيء بغير لفظه الموضوع والتعريض أن تذكر شيئا يدل به على شيء لم تذكره كما يقول المحتاج للمحتاج إليه جئتك لأسلم عليك ولأنظر إلى وجهك الكريم فكأن إمالة الكلام إلى عرض يدل على الغرض ويسمى التلويح; لأنه يلوح منه ما تريده فإذا عرض بالزنا قال: أما أنا فلست بزان فلا حد عليه عندنا, وقال مالك رحمه الله: يحد والاختلاف بين الصحابة فعمر رضي الله عنه كان لا يوجب الحد في مثل هذا ويقول: المقصود بهذا اللفظ في حالة المخاصمة مع الغير نسبة صاحبه إلى شين وتزكية نفسه لا أن يكون قذفا للغير وأخذنا بقوله لا لأنه إن تصور معنى القذف بهذا اللفظ فهو بطريق المفهوم والمفهوم ليس بحجة.
قوله "فكان بمنزلة الصريح لما عرف" قال شمس الأئمة في قوله هو كما قلت أن كاف التشبيه يوجب العموم عندنا في المحل الذي يحتمله ولهذا قلنا في قول علي رضي الله عنه: إنما أعطيناهم الذمة وبذلوا الجزية ليكون أموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا أنه مجرى على العموم فيما يندرئ بالشبهات كالحدود وما يثبت بالشبهات كالأموال فهذا الكاف أيضا موجبه العموم; لأنه حصل في محل يحتمله فيكون نسبة له إلى الزنا قطعا بمنزلة كلام الأول على ما هو موجب العام عندنا. وإنما لم يعتق العبد في قوله أنت كالحر; لأن العمل بحقيقة الأخبار ممكن في حرمة الدم ووجوب العبادات وغير ذلك فلا نصير إلى المجاز وهو الإنشاء ولو قلنا بالعموم يلزم منه الجمع بين الحقيقة والمجاز والله أعلم.(2/313)
"باب وجوه الوقوف على أحكام النظم"
وهو القسم الرابع وذلك أربعة أوجه: الوقوف بعبارته وإشارته ودلالته واقتضائه. أما الأول فما سيق الكلام له وأريد به القصد أو الإشارة ما ثبت بنظمه مثل الأول, إلا أنه غير مقصود ولا سيق الكلام له وهما سواء في إيجاب الحكم, إلا أن الأول أحق عند التعارض من ذلك قوله تعالى {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ
ـــــــ
"باب وجوه الوقوف على أحكام النظم"
قوله "أما الأول" أي الوجه الأول فيما سيق الكلام له وأريد به الضمير في له, وأريد راجع إلى ما, وفي به راجع إلى الكلام. وقوله ما سيق الكلام له تعرض لجانب اللفظ وأريد به قصد العرض للمعنى "والإشارة" أي الثابت بالإشارة ما ثبت بنظم الكلام أي بتركيبه من غير زيادة ولا نقصان. إلا أن الضمير عائد إلى ما أي لكن ذلك الثابت غير مقصود من الكلام ولا سيق الكلام له. وقيل في تفسير الإشارة: هي دلالة نظم الكلام لغة على ما ضمن فيه من المعنى غير مقصود وهما أي العبارة والإشارة سواء في إيجاب الحكم أي في إثباته; لأن الثابت بكل واحد منهما ثابت بنفس النظم, وأشار بقوله في إيجاب الحكم إلى أنه يجوز أن يقع بينهما تفاوت في غيره مثل كون كل واحد منهما قطعيا وغير قطعي; لأن العبارة قطعية والإشارة قد تكون قطعية وغير قطعية. قال القاضي الإمام في التقويم: ثم الإشارة من النص بمنزلة التعريض والكناية من الصريح والمشكل من الواضح إذ لا ينال المراد بها إلا بضرب تأويل وتبين, ثم قد يوجب العلم بموجبها بعد البيان, وقد لا يوجب.
وذكر في بعض الشروح أنهما سواء في إيجاب الحكم أي يثبت الحكم بهما قطعا., إلا أن الأول أي الوجه الأول وهو الثابت بالعبارة أحق عند التعارض لكونه مقصودا من الثابت بالإشارة لكونه غير مقصود. مثاله ما قال الشافعي رحمه الله: لا يصلى على الشهيد لقوله تعالى. {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} "آل عمران : 169". سيقت الآية لبيان منزلة الشهداء وعلو درجاتهم عند الله تعالى وفيه(2/314)
وكسوتهن} "البقرة: 233" سيق الكلام لإيجاب النفقة على الوالد وفيه إشارة إلى أن النسب إلى الأب; لأنه نسب إليه فاللام الملك, وفيه إشارة إلى أن للأب ولاية
ـــــــ
إشارة إلى أنه لا يصلى عليهم; لأنه تعالى سماهم أحياء وصلاة الجنازة غير مشروعة على الحي ولكن قوله تعالى. {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} "التوبة: 103". عبارة في إيجاب الصلاة في حق الأموات على العموم والشهداء أموات حقيقة وحكما بدليل جواز قسمة أموالهم وتزوج نسائهم وغير ذلك فترجح العبارة على الإشارة. هكذا ذكر في بعض الشروح. ولقائل أن يقول: الإشارة ليست بثابتة; لأن المراد من الحياة في قوله أحياء ليس الحياة التي يمنع جواز الصلاة وهي الحسية بلا شبهة وكذا العبارة غير ثابتة لأن المراد من الصلاة في قوله تعالى {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} "التوبة: 103". الدعاء لا صلاة الجنازة أي تعطف وترحم عليهم بالدعاء عند أخذ الصدقة منهم فإنهم يسكنون إليه وتطمئن قلوبهم بأن الله تعالى قد تاب عليهم وقبل منهم, كذا ذكره أئمة التفسير فلا يثبت التعارض إذ لا دلالة للآيتين على صلاة الجنازة نفيا وإثباتا. والنظير الملائم "قوله عليه السلام في النساء. "أنهن ناقصات عقل ودين" . فقيل ما نقصان دينهن قال. "تقعد إحداهن في قعر بيتها شطر دهرها" . أي نصف عمرها لا تصوم ولا تصلي سيق الكلام لبيان نقصان دينهن وفيه إشارة إلى أن أكثر الحيض خمسة عشر يوما كما ذهب إليه الشافعي. وهو معارض بما روى أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال.: "أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثرها عشرة أيام" . وفي بعض الروايات: "أقل الحيض للجارية البكر والثيب ثلاث أيام ولياليها وأكثره عشرة أيام"
وهو عبارة فترجح على الإشارة. وكذلك قوله عليه السلام "إنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استعمل عمالا فقال من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط فعملت اليهود إلى نصف النهار على قيراط قيراط, ثم قال من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط فعملت النصارى من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط, ثم قال من يعمل لي من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين ألا فأنتم الذين يعملون من صلاة العصر إلى مغرب الشمس ألا لكم الأجر مرتين. فغضبت اليهود والنصارى فقالوا: نحن أكثر عملا وأقل عطاء: "قال الله تعالى: وهل ظلمتكم من حقكم شيئا ؟ قالوا: لا, قال: فإنه فضلي أعطيته من شئت1" . سيق لبيان فضيلة هذه الأمة وفيه إشارة إلى أن وقت الظهر أكثر من وقت العصر وذلك بأن يبقى وقت الظهر أن
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في الإيجارة باب رقم 9 والترمذي في الأدب باب رقم 82 ولإمام أحمد في المسند 2/6.(2/315)
التمليك في مال ولده وأنه لا يعاقب بسببه كالمالك بمملوكه; لأنه نسب إليه فاللام الملك وعليه تبنى مسائل كثيرة وفيه إشارة إلى انفراد الأب بتحمل نفقة
ـــــــ
يصير ظل الشيء مثليه كما قاله أبو حنيفة رحمه الله; لأنه لو انتهى بصيرورة ظل الشيء مثله لكان وقت العصر أكثر من وقت الظهر. وهو معارض بما روي في حديث إمامة جبريل عليه السلام أنه صلى الظهر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثل ظله, وقال بعدما صلى الصلوات الوقت ما بين هذين الوقتين. وهو عبارة فرجحها أبو يوسف ومحمد والشافعي وعامة العلماء على الإشارة وجواب أبي حنيفة مذكور في موضعه.
قوله "فمن ذلك" أي من الثابت بالإشارة أو مما اجتمع فيه العبارة والإشارة نسب إليه فاللام التمليك وأنه يوجب الاختصاص فدل على كونه أحق بالولد بالإجماع لا يصير أحق به ملكا; لأن الولد لا يصير ملكا لأبيه بحال فدل أنه صار أحق به نسبا فإن قيل الولد ينسب إلى الأم كما ينسب إلى الأب ويرث منها كما يرث من الأب فما فائدة تخصيصه بالأب قلنا: فائدته تظهر في الأمور التي يميز لها بين نسب ونسب كالإمامة الكبرى والكفاءة واعتبار مهر المثل فيعتبر فيها جانب الأب دون الأم. أن للأب ولاية التملك أي له حق أن يتملك مال الابن عند الحاجة ولكن ليس له حق ملك في الحال حتى جاز للابن التصرف في ماله بغير رضاه وحل له وطء جاريته بمنزلة الشفيع فإن له أن يتملك الدار المبيعة ولكن ليس له فيها حق ملك بوجه بخلاف المكاتب فإن له حق الملك في اكتسابه باعتبار اليد ولكن ليس له ولاية التملك حتى لم يحل وطء جاريته فهذا هو الفرق بين حق التملك وحق الملك. وأنه لا يعاقب بولده أي بسبب ولده حتى لو قتل ابنه لا يقتص منه ولو قذفه بأن قال زنيت لا يجب عليه حد القذف ولا يحبس في دينه كالمالك بمملوكه أي كما لا يعاقب المالك بسبب مملوكه; لأن الولد نسب إليه فاللام الملك كالعبد.
"وعليه" أي على ثبوت حق التملك للأب مسائل كثيرة.
منها أنه لا يحد بوطء جارية ابنه وإن قال علمت أنها علي حرام.
ومنها أنه لا يجب عليه العقر بوطئها لثبوت الملك قبل الوطء بناء على حق التملك.
ومنها أنه إذا استولد جارية الابن يثبت النسب ولا يجب عليه رد قيمة الولد على الابن لما قلنا.
ومنها أنه إذا أنفق ماله على نفسه عند ضرورة لا يؤاخذ بالضمان.
وفيه أي وفي قوله تعالى {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} "البقرة: 233"إشارة إلى انفراد(2/316)
الولد; لأنه أوجبها عليه بهذه النسبة ولا يشاركه أحد فيها, فكذلك في حكمها, وفيه إشارة إلى أن الولد إذا كان غنيا والوالد محتاجا لم يشارك الولد أحد في تحمل نفقة الوالد لما قلنا من النسبة فاللام التمليك وفيه إشارة إلى أن النفقة
ـــــــ
الأب بتحمل نفقة الولد لأن الشرع أوجب النفقة على الأب, بناء على هذه المسألة النسبة أي كون الولد منسوبا إليه ولا يشاركه أحد في هذه النسبة, فكذلك في حكمها بمنزلة نفقة العبد فإنها تجب على المولى من غير مشاركة أحد فيها لاختصاصه بنسبته الملك إليه. وقد روى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله في الولد الكبير مثل الابن الزمن والبنت البالغة أن النفقة تجب على الأب والأم أثلاثا بحسب ميراثهما من الولد بخلاف الولد الصغير; لأنه اجتمعت للأب في الصغير ولاية ومؤنة حتى وجبت عليه صدقة فطره فاختص بنفقته ولا كذلك الكبير لانعدام الولاية فتشاركه الأم قوله وفيه أي في هذا النص فإنه جعل مجموع الآية بمنزلة نص واحد.
قال شمس الأئمة وفي قوله تعالى {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} "دليل منه على كذا إشارة أن النفقة يستحق بغير الولادة حتى يجبر الرجل على نفقة كل ذي رحم محرم منه من الصغار والنساء وأهل الزمانة من الرجال إذا كانوا ذوي حاجة عندنا وقال الشافعي رحمه الله: لا يجب النفقة على غير الوالدين والمولودين وقال ابن أبي ليلى: يجب النفقة على كل وارث محرما كان أو غير محرم لظاهر قوله تعالى. {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} "البقرو: 233". ولكن قد ثبت في قراءة ابن مسعود رضي الله عنه وعلى الوارث ذي الرحم المحرم مثل ذلك. والشافعي يبني على أصله فإن عنده استحقاق الصلة باعتبار الولادة دون القرابة حتى لا يعتق أحد على أحد, إلا الوالدان والمولودون عنده وجعل قرابة الأخوة في ذلك كقرابة بني الأعمام, فكذلك في استحقاق النفقة وفيما بين الآباء والأولاد الاستحقاق بعلة الجزئية دون القرابة. وحمل قوله {وَعَلَى الْوَارِثِ} "البقرة: 233" على هي المضارة دون النفقة وذلك مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما. ولكنا نستدل بقول عمر وزيد رضي الله عنهما فإنهما قالا: وعلى الوارث أي وارث الولد. مثل ذلك أي مثل ذلك الواجب الذي على الأب من النفقة والكسوة. ثم نفي المضارة لا يختص به الوراث بل يجب ذلك على غير الوارث كما تجب على الوارث. ولأن المراد لو كان نفي المضارة لقيل ولا الوارث واقتصر عليه أو قيل والوارث مثل ذلك فلما قال وعلى الوارث دل أنه معطوف على قوله {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} "البقرة: 233". وكذا قوله ذلك دل عليه فإنه للإشارة إلى الأبعد.
والمعنى فيه أن القرابة القريبة يفترض وصلها وقطعها لما ورد في ذلك من النصوص(2/317)
تستحق بغير الولادة وهي نفقه ذوي الأرحام, خلافا للشافعي رحمه الله لقوله عز وجل {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} "البقرة: 233" وذلك بعمومه يتناول الأخ والعم وغيرهما ويتناولهم بمعناه; لأنه اسم مشتق من الإرث مثل الزاني والسارق, وفيه إشارة إلى أن من عدا الوالد يتحملون النفقة على قدر المواريث حتى أن النفقة تجب على الأم والجد أثلاثا لقوله عز وجل {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} "البقرة: 233" وهو اسم مشتق من معنى فيجب بناء الحكم على معناه وفي قوله {رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} "البقرة 233" إشارة إلى أن أجر الرضاع يستغني
ـــــــ
ومنع النفقة مع يسار المنفق وصدق حاجة المنفق عليه يؤدي إلى قطيعة الرحم ولهذا اختص له ذو الرحم المحرم; لأن القرابة إذا بعدت لا يفترض وصلها ولهذا لا تثبت المحرمية بها وذلك أي لفظ الوارث بعمومه يتناول كذا لأنه اسم جنس محلى بالألف واللام فكان عاما فيتناول كل من يسمى وارثا ويتناولهم بمعناه وهو الإرث; لأنه اسم مشتق من الإرث وموضع الاشتقاق علة في كل مساق لوجوب الحكم المضاف إلى الاسم; لأن الموضع للاشتقاق أثر إلى الإيجاب كما في السارق والزاني فيكون الإرث علة لوجوب هذه النفقة والدليل على أن الاستحقاق بعلة الإرث أن النفقة تجب بقدر الميراث.
فإن قيل يفهم بسوق الكلام وجوب النفقة على الوارث فكان من باب العبارة فكيف سماه إشارة. قلنا: نحن نسلم أن سوقه لا يجاب النفقة ولكن لا نسلم أن سوقه لبيان أن مأخذ الاشتقاق علة لهذا الحكم فيكون بهذه النسبة إشارة. وفيه أي وفي قوله {وَعَلَى الْوَارِثِ} "البقرة: 233". فيجب بناء الحكم على معناه وهو الإرث والحكم يثبت بقدر العلة; لأن الغرم بإزاء الغنم.
قوله "وفي قوله تعالى {رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} . إشارة إلى" كذا قيل المراد من الآية المنكوحات بدليل ذكر الرزق والكسوة وأنهما من موجبات النكاح ألا ترى أنه تعالى ذكر الأجر في حق المطلقات فقال {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} "الطلاق: 6". والمراد من الرزق والكسوة فضل طعام وكسوة تحتاج إليه في حالة الإرضاع; لأن أصل النفقة واجب بالنكاح.
وقيل المراد الوالدات المطلقات بدليل أنه أوجب ذلك على الوارث وإنما تجب على الوارث أجرة الرضاع لا نفقة النكاح فعلى هذا التأويل يكون في الآية إشارة إلى جواز استئجار الظئر بطعامها وكسوتها من غير وصف كما قاله أبو حنيفة رحمه الله.
ووجهه أن الآية سيقت لبيان وجوب أجر الإرضاع على الأب وفيها إشارة إلى أن أجرة(2/318)
عن التقدير بالكيل والوزن كما قال أبو حنيفة رضي الله عنه ومن ذلك قوله تعالى {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} "البقرة: 187"سياق الكلام لإباحة هذه الأمور في الليل ونسخ ما كان قبله من التحريم وفيه إشارة إلى استواء الكل في الحظر; لأنه قال {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ} "البقرة: 187" أي الكف عن هذه الجملة فكان بطريق واحد فلم يكن للجماع اختصاص ولا مزية, وفيه إشارة إلى أن النية في النهار منصوص عليه لقوله تعالى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ} "البقرة: 187" بعد إباحة الجماع إلى
ـــــــ
الرضاع إذا كانت طعاما وكسوة لا يحتاج إلى بيان التقدير بالكيل والوزن; لأنه تعالى أوجب أجرة الرضاع مع الجهالة بدليل أنه قال بالمعروف وإنما يقال هذا فيما إذا كان مجهول الصفة والنوع كما: قال عليه السلام لهند "خذي من مال أبي سفيان ما يكفيك وولدك بالمعروف1" . وما يكون معلوم القدر والصفة له بالمعروف فدل على أن الطعام والكسوة مع الجهالة يصلحان أجرة والمعنى فيه أن هذه الجهالة لا تفضي إلى المنازعة لأنهم لا يمنعون الظئر في العادة كفايتها من الطعام لعود منفعته إلى ولدهم, وكذلك لا يمنعونها كفايتها من الكسوة لكون ولدهم في حجرها فصار كبيع قفيز من صبرة. وذكر في شرح التأويلات أنه لا بد من إعلام جنس الثياب وفي الطعام يجوز كيفما كان; لأن الظئر لا تكسى كسوة الأصل وتطعم طعامهم فكانت الكسوة مجهولة جهالة تفضي إلى المنازعة بخلاف الطعام عادة.
قوله "ومن ذلك" أي ومن الثابت بالإشارة أو ومما اجتمع فيه العبارة والإشارة قوله تعالى {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} "البقرة: 187" الآية الخيط الأبيض طرف بياض النهار, والخيط الأسود طرف سواد الليل شبه دقتهما بالخيط {مِنَ الْفَجْرِ}" البقرة: 187" متعلق بالخيط الأبيض. والمراد تبين ضوء النهار من ظلام الليل بطلوع الفجر وهو الضوء المعترض في الأفق. "ونسخ ما كان قبله" أي قبل الإباحة على تأويل الإحلال من التحريم فإن في ابتداء الإسلام كان الرجل إذا صلى العشاء الأخيرة أو رقد يحرم عليه الطعام والشراب والجماع إلى أن تغرب الشمس من الغد وكان ذلك صوما فنسخ بهذه الآية. وفيه إشارة إلى استواء الكل في الحظر
قال الشافعي رحمه الله: إذا أكل أو شرب متعمدا في نهار رمضان لا يجب عليه
ـــــــ
1 اخرجه مسلم في الأقضية حديث رقم 1714 وأبو داود في البيوع حديث رقم 3532 وابن ماجة في التجارات حديث رقم 2293 ولإمام أحمد في المسند 6/39.(2/319)
طلوع الفجر وحرف " ثم " للتراخي فتصير العزيمة بعد الفجر لا محالة لأن الليل لا ينقضي, إلا بجزء من النهار, إلا أنا جوزنا تقديم النية على الفجر بالسنة فأما أن يكون الليل أصلا فلا وفي إباحة أسباب الجنابة إلى آخر الليل إشارة إلى أن الجنابة لا تنافي الصوم فيمن أصبح جنبا ومن ذلك قوله تعالى {إِطْعَامُ عَشَرَةِ
ـــــــ
الكفارة وإنما الوجوب مختص بالجماع عامدا; لأن النص ورد فيه وله مزية على غيره من محظورات الصوم لوجوه تذكر بعد فلا يمكن إلحاق الأكل والشرب به قياسا ولا دلالة لأنهما دونه فبقي وجوب الكفارة مختصا بالجماع فقال الشيخ في هذه الآية إشارة إلى استواء الكل في الحظر; لأنه تعالى ذكر المباشرة والأكل والشرب ليلائم الأمر بالكف عنهما جملة بقوله {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ} "البقرة: 187". أي الكف عن هذه الأشياء فكان حظر الكل بطريق واحد لثبوته بخطاب واحد فصار الركن هو الكف عنها جملة وصارت الجملة تقايض هذا الكف, كذا في الأسرار فلم يكن للجماع مزية على الأكل والشرب ولا اختصاص بالكفارة, وإذا وجبت الكفارة بالجماع وجبت بالأكل والشرب دلالة لاستواء الكل في الحظر والجناية على الصوم. ولا يلزم عليه الصلاة فإنها وجبت بخطاب واحد وهو قوله تعالى {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} "البقرة: 43" ثم تفاوتت أركانها في القوة والمزية حتى كان السجود أقوى من الركوع والقيام ولهذا قالوا بسقوط القيام والركوع عن القادر عليهما العاجز عن السجود.
لأنا نقول ثبت ذلك بقوله عليه السلام: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء1" : "وقوله عليه السلام لثوبان حين سأله عن عمل يدخله الله به الجنة "عليك بكثرة السجود2" ولمن سأل مرافقته في الجنة "أعني على نفسك بكثرة السجود3" وبأن مبنى العبادة على التواضع والتذلل, والسجود هو النهاية في ذلك وغير ذلك ولم يوجد فيما نحن فيه دليل يوجب مزية الجماع على غيره فكان مساويا للأكل مع أن أركان الصلاة فيما يرجع إلى ذلك الخطاب وهو الوجوب متساوية أيضا.
على أنا لا نسلم أن أركانها تثبت بذلك الخطاب بل ثبت كل ركن بعد وجوب أصل الصلاة مجملا بخطاب على حدة مثل قوله تعالى {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} "البقرة 238". {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} "الحج: 77" {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} "البقرة: 43". ونحوها.
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الصلاة حديث رقم 482 وألو داود في الصلاة حديث رقم 875.
2 أخرجه مسلم في الصلاة حديث رقم 488 والترمذي في الصلاة حديث رقم 388.
3 أخرجه مسلم في الصلاة حديث رقم 489 أبو داود في الصلاة حديث رقم 1320.(2/320)
مساكين} "المائدة: 89"الآية سياقها الإيجاب نوع من هذه الجملة على سبيل التخيير, وفيه إشارة إلى أن الأصل في جهة الإطعام الإباحة والتمليك ملحق به; لأن الإطعام فعل متعد مطاوعه طعم يطعم وهو الأكل فالإطعام جعله أكلا
ـــــــ
"وفيه" أي وفي هذا النص إشارة إلى أن النية من النهار هي التي ثبتت بالنص فإنه تعالى أباح الأفعال المذكورة إلى الانفجار, ثم أمر بالصيام بعد الانفجار بقوله {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} "البقرة: 187" وحرف ثم للتراخي فإذا ابتدأ الصيام بعده حصلت النية بعدما مضى جزء من النهار; لأن الأصل اقتران النية بالعبادة فبالنظر إلى موجب هذا النص ينبغي أن لا تجوز النية من الليل; لأنه لا معنى لاشتراط نية الأداء قبل وقت الأداء حقيقة والليل ليس بوقت للأداء لكنا جوزناها بالسنة وهي قوله عليه السلام.: "لا صيام لمن لم ينو الصيام من الليل" . وهو خبر الواحد وخبر الواحد وإن كان يوجب العمل ولكن لا يجوز نسخ الكتاب به, فلو قلنا بأنه لا يجوز إلا من الليل أدى إلى نسخ الكتاب بخبر الواحد فقلنا بالجواز فيهما عملا بالكتاب والسنة جميعا. فإن قيل كيف يستقيم هذا والنية من الليل أفضل بالاتفاق ؟ قلنا: إنما صارت أفضل لما فيها من المسارعة إلى الأداء والتأهب له لا لإكمال الصوم كما أن الابتكار يوم الجمعة أولى للمسارعة لا لتعلق كمال الصلاة نفسها به, وكذا المبادرة إلى سائر الصلاة أو للأخذ بالاحتياط ليخرج عن حد الخلاف.
قال الشيخ أبو المعين رحمه الله: إن أبا جعفر الخباز السمرقندي هو الذي استدل بالآية على الوجه الذي ذكرنا ولكن للخصوم أن يقولوا: إنه تعالى أمر بالصيام بعد الانفجار وهو اسم للركن لا للشرط وما أمر الله تعالى بتحصيل الشرط بعد الانفجار فلا دلالة في الآية على ما قلتم على أن الآية دليل على ما قلنا; لأنه تعالى لما أمر بالصوم بعد انفجار الصبح ينبغي أن يوجد الإمساك الذي هو الصوم الشرعي عقيب آخر جزء من أجزاء الليل متصلا به بلا فصل ليصير المأمور ممتثلا وأن يكون الإمساك صوما شرعيا بدون النية فينبغي أن تكون النية مقارنة للإمساك الموجود في أول أجزاء اليوم ليكون صوما وأن يكون كذلك, إلا بأحد طريقين أحدهما وجودها للحال مقارنة له والآخر وجودها في الليل لتجعل باقية حكما إلى وقت انفجار الصبح فتصير مقارنة في أول أجزاء النهار فإذن كانت الآية دليلا لنا هكذا ذكر في طريقته. وفي كذا إشارة إلى أن الجنابة لا تنافي الصوم; لأن المباشرة لما كانت مباحة إلى آخر جزء من الليل فالاغتسال يكون بعد الفجر يكون ضرورة, وإلا وجب أن تحرم المباشرة قبل آخر الليل بمقدار ما يسع للغسل فيكون ردا لما ذهب إليه بعض أصحاب الحديث أن الجنابة تمنع صحة الصوم معتمدين على حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "من أصبح جنبا فلا صوم له1" قاله محمد ورب الكعبة مع أن هذا
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الصيام حديث رقم 1109 والإمام احمد في المسند حديث رقم 1702.(2/321)
كسائر الأفعال إذا تعدت بزيادة الهمزة لم تبطل وضعها وحقيقتها فإذا لم يكن مطاوعه ملكا لم يكن متعديه تمليكا هذا واضح جدا فمن جعل التمليك أصلا كان تاركا حقيقة الكلام ومعنى إلحاق التمليك به خلافا لبعض الناس أن الإباحة
ـــــــت
الحديث معارض بحديث عائشة رضي الله عنها : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنبا من غير احتلام, ثم يتم صومه وذلك في رمضان" . ومؤول بأن المراد من أصبح بصفة توجب الجنابة وهي أن يكون مخالطا لأهله فلا صوم له
قوله: "قوله تعالى {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} "البقرة: 89" الضمير يرجع إلى ما في " بما عقدتم " أي فكفارة نكث ما عقدتم. والكفارة الفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة ثم أنها تتأدى بطعام الإباحة غداء وعشاء من غير تمليك عندنا وهو مذهب علي رضي الله عنه فإنه قال في تفسير الآية لكل مسكين غداؤه وعشاؤه. وإليه ذهب محمد بن كعب والقاسم وسالم والشعبي وإبراهيم وقتادة ومالك والثوري والأوزاعي. وقال الشافعي رحمه الله: عليه لا يتأدى, إلا بالتمليك وهو مذهب سعيد بن جبير. فالشافعي يقول الإطعام يذكر للتمليك عرفا فإن من قال لآخر أطعمتك هذا الطعام كان بمنزلة قوله وهبته لك حتى إذا سلمه إليه صار ملكا له, وإنما يكون إباحة إذا قال أطعمتك هذا الأرض لأن عينها لا تطعم فينصرف إلى منافعها التي تطعم معنى بالزراعة مجازا. ولأن المقصود سد خلة المسكين وإغناؤه وذلك يحصل بالتمليك دون التمكين فلا يتأدى الواجب به كما في الزكاة وصدقة الفطر ألا ترى أن في الكسوة التي هي أحد أنواع التكفير لا تتأدى بالتمكين والإباحة حتى لو أعار المساكين ثيابا بنية الكفارة فلبسوا لا يجوز فكذا الطعام.
وعلماؤنا رحمهم الله تمسكوا بهذه الآية وقالوا: إنها تشير إلى أن الأصل في الإطعام الإباحة; لأن حقيقته للتمكين لا للتمليك فإن الإطعام فعل متعد أي إلى مفعولين "مطاوعه" أي لازمه طعم يطعم; لأنه متعد إلى مفعول واحد فكان بمنزلة اللازم بالنسبة إليه, وقد بينا هذا في باب موجب الأمر والطعم الأكل فبإدخال الهمزة فيه يصير متعديا إلى مفعول آخر ولكنه لا يصير شيئا آخر بمنزلة الإجلاس من الجلوس والإدخال من الدخول فكان معنى الإطعام جعل الغير طاعما أي آكلا; فعرفنا أن صحة التكفير يتعلق بفعل يصير هو به مطعما ويصير الغير به طاعما وذلك يحصل بالإباحة والتسليط على الطعام ولكن بشرط أن يطعم المسكين ليتم فعله إطعاما ويحصل به إتلاف الطعام عينه ويتم زواله عن ملكه. وأن التمليك أمر زائد على الكتاب فلا يصار إليه من غير حاجة وضرورة. ألا ترى أن من قدم الطعام إلى غيره واستوفى الغير منه صح أن يقال أطعمه ولا(2/322)
جزء من التمليك في التقدير والتمليك كله; لأن حوائج المساكين كثيرة يصلح الطعام لقضاء كل نوع منها, إلا أن الملك سببا لقضائها فأقيم الملك مقامها فصار التمليك بمنزلة قضائها كلها باعتبار الخلافة عنها, ومن هذه الحوائج الأكل فصار النص واقعا على الذي هو جزء من هذه الجملة فاستقام تعديته إلى الكل
ـــــــ
يشترط الزيادة. والدليل عليه أنه تعالى قال {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} "المائدة:89". والمتعارف من إطعام الأهل طعام الإباحة دون التمليك. وأنه حل ذكره أضاف الإطعام إلى المساكين والمسكنة هي الحاجة وحاجة المسكين إلى الطعام في أكله دون تملكه فكان إضافة الإطعام إلى المساكين دليلا على أن المراد هو الفعل الذي يصير المسكين به طاعما دون التمليك وكذا التمليك أقرب إلى دفع الجوع وسد المسكنة من تمليك حنطة لا يصل إليها, إلا بعد طول المدة وتحمل المؤنة. وكان ينبغي أن لا يجوز التمليك كما ذهب حمدان بن سهل وداود بن علي الأصبهاني لما ذكرنا أن الإطعام لازمه الطعم وهو الأكل دون الملك وفي التمليك لا يوجد حقيقة الإطعام لجواز أن لا يطعمه المسكين وإنما يوجد ذلك في التمكين لأنه لا يتم, إلا بأن يطعم المسكين والكلام محمول على حقيقته. إلا أنا جوزنا التمليك لما قلنا: إن المقصود سد خلة المسكين والإطعام قضاء حاجة واحدة وهي حاجة الأكل وله حوائج كثيرة والملك سبب لقضاء الحوائج وهي أمر باطن فأقيم الملك مقام قضاء الحوائج فكان التمليك بمنزلة قضاء الحوائج كلها تقديرا. ألا ترى أن التمليك إلى الفقير في باب الزكاة قام مقام دفع حوائجه لما عرف في مسألة دفع القيم فثبت أن الإباحة بمنزلة الجزء من التمليك فكان الجواز فيه ثابتا بالطريق الأول. ولقائل أن يقول: التمليك سبب لقضاء الحوائج جملة أم على سبيل البدل. فإن أردت الأول فلا نسلم أن تمليك منوين من البر سبب لقضاء جميع الحوائج. وإن أردت الثاني فلا نسلم أن الإباحة جزء منه; لأنه على تقدير أن يصرفه إلى حاجة لا يمكن صرفه إلى غيرها فكيف يكون شاملا لدفع حاجة الأكل. وذكر في شرح التأويلات أن التمليك إنما جاز لأنه طريق يتوصل به إلى التطعم والأكل وتمكين لذلك فأقيم مقامه بطريق التيسير. والضمير في مقامها وعنها راجع إلى قضاء الحوائج والتأنيث لتأنيث المضاف إليه.
"فاستقام تعديته" أي تعدية حكم النص بطريق الدلالة هو مشتمل على هذا المنصوص عليه وهو الإطعام الذي يدل على الإباحة, وغير المنصوص عليه من قضاء حاجة الدين وأجرة المسكن وشراء الثوب وغيرها, فإن قيل: التمليك مراد بالاتفاق وهو مجاز فينبغي أن تتنحى الحقيقة. قلنا: إنما جوزنا التمليك بدليل النص لا بعينه; لأن المقصود(2/323)
الذي هو مشتمل على هذا المنصوص عليه وعلى غيره فيكون عملا بعينه في المعنى وهذا بخلاف الكسوة; لأن النص هناك تناول التمليك; لأنه جعل الفعل في الأول كفارة وهو الإطعام وجعل العين في الثاني كفارة وهو الثوب; لأن الكسوة بكسر الكاف اسم للثوب وبفتح الكاف اسم للفعل فوجب أن يصير
ـــــــ
من الإطعام رد الجوعة وهو بالتمليك أتم; لأنه بردها متى شاء والعمل بدليل النص لا يمنع حقيقته كحرمة الشتم الثابتة بدليل النص لا يمنع التأفيف.
قوله "الكسوة كذا" ذكر في المغرب الكسوة اللباس. وفي الصحاح الكسوة واحدة الكسى. وإذا كان الكسوة اسما للثوب ونفس الثوب لا يكون كفارة لأنها اسم لنوع عبادة وهي اسم لفعل العبد احتجنا إلى زيادة فعل يصير الثوب به كفارة كما في الزكاة فإن الشاة لا تكون عبادة بنفسها فزدنا فعلا صارت الشاة به عبادة وصدقة وهو الإيتاء, ثم الفعل قد يكون تمليكا, وقد يكون إتلافا بلا تمليك كالتحرير والكسوة لا تصير كفارة بالإتلاف لأنها لا تبقى بعده كسوة والله تعالى سمى الكسوة وهي ثياب يكتسى فلم يبق, إلا التمليك. وإذا أعارهم الثوب فما فيها تمليك ثوب ولا إتلافه فلا يصير المحل كفارة بل فيها تمليك المنفعة والله تعالى لم يجعل المنافع كفارة إنما جعل الثوب كفارة فأما الإطعام فإتلاف للطعام بالأكل فيصير الطعام بالإطعام خارجا عن ملكه على سبيل التلف بالفقير وذلك القدر من الفعل يصلح فعل تكفير كالتحرير فلم يضطر إلى الزيادة عليه, كذا في الأسرار.
وأما إذا قال: أطعمتك هذا الطعام فإنما يجعله هبة مجازا بدلالة الحال; لأنا متى جعلناه حقيقة كان كاذبا; لأنه لا يسمى مطعما, إلا بأن يصير الطعام مأكولا وأنه جعل الطعام مفعول إطعامه فمتى كان الطعام قائما لا يكون مفعول الأكل ويصلح مفعول التمليك مع قيامه فجعل كناية عنه.
وتحقيقه أن الإطعام متعد إلى مفعولين وتأثيره في المفعول الأول يجعله طاعما كما بينا وفي المفعول الثاني إذا كان يطعم عينه يجعله مملوكا للطاعم; لأنه تصرف في العين ولا يمكن أن يجعل تصرفا فيها يجعلها مطعومة للطاعم; لأن الطعم فعل اختياري منه فلم يصلح أن يثبت بالإطعام من غير اختيار فيجعل تصرفا فيها بالتمليك الذي هو سبب الطعم ومفض إليه ولم تجعل إباحة وإن صلحت سببا للطعم لأنها ليست بتصرف في العين ولأنها قد حصلت بجعل المفعول الأول طاعما إذ أدنى طرقه الإباحة فلا بد من زيادة تأثير له في الثاني وذلك بالتمليك فتبين بهذا أنه إذا ذكر كلا مفعوليه كان دالا على التمليك فأما إذا(2/324)
العين كفارة لا المنفعة وإنما يصير كذلك بالتمليك دون الإعارة فصار النص هنا واقعا على التمليك الذي هو قضاء لكل الحوائج في المعنى فلم يستقم التعدية إلى ما هو جزء منها وهو مع ذلك قاصر; لأن الإعارة في الثياب منقضية قبل الكمال والإباحة في الطعام لازمة لا مرد لفعل الأكل فيها فهما في طرفي نقيض
ـــــــ
حذف المفعول الثاني منه فقد انقطع عمله عنه بالكلية وصار كأن ليس له مفعول ثان على ما عرف في مسألة: فلان يعطي ويمنع, في علم المعاني فلم يصح أن يجعل تمليكا لعدم محله بل يكون معناه جعل الغير طاعما لا غير لاقتصار عمله على المفعول الأول وذلك يحصل بالإباحة ففي النصوص حذف المفعول الثاني لأن فيها ذكر المساكين لا ذكر ما يدفع إليهم فلا يدل الإطعام فيها على التمليك فجعل إباحة فأما في قولك أطعمتك هذا الطعام فكلا مفعوليه مذكور فيصح أن يجعل بمعنى التمليك فلذلك جعلناه هبة. فإن قيل: الكسوة بالكسر مصدر أيضا يقال كساه كسوة بالفتح والكسر, كذا ذكره صاحب الكشاف والنظيري. وفي تاج المصادر الكسوة بوشانيدن. وذكر في التيسير في قوله تعالى {َوْ كِسْوَتُهُمْ} أن معناه الإلباس وهي مصدر, وإذا كان كذلك كان الفعل ههنا منصوصا عليه أيضا ومع ذلك لم يتأد بالإعارة فكذا في الطعام لا يتأدى بالإباحة.
قلنا: إن ثبت هذا كان هذا اللفظ مشتركا بين الإلباس واللباس وعلى تقدير كون اللباس مرادا منه لا يجوز فيه إلا التمليك وعلى تقدير كونه مصدرا, فكذلك; لأن المقصود وهو دفع الحاجة وزوال ملك المكفر لا يحصل بالإعارة بخلاف الإطعام على ما بينا.
"وهذا" أي الإطعام يخالف الكسوة, "وهو مع ذلك" الضمير عائد إلى ما مع ذلك أي مع كونه جزءا من الجملة قاصر عن دفع حاجة المسكين; لأن الإعارة منقضية أي منتهية تامة قبل الكمال أي قبل كمال دفع الحاجة وحصول المقصود من دفع الحر والبرد ونحوه; لأنه لو استرده بعدما لبسه المسكين يوما مثلا كانت الإعارة منتهية مع بقاء الحاجة فلا يجوز تعدية الجواز من التمليك إليها فإنها لو كانت كاملة في دفع الحاجة لا يجوز التعدية لكونها جزءا من الكل فكيف إذا كانت قاصرة. بخلاف الإباحة في الطعام لأنها لا تتم, إلا بالأكل الذي به يتم دفع الحاجة ولا يمكن رده بوجه.
"فهما في طرفي نقيض", أي الإعارة في الثوب والإباحة في الطعام لو كانتا متساويتين لكانتا متناقضتين أي مخالفتين من حيث إن الإباحة في الطعام كل المنصوص والإعارة في الثوب جزء المنصوص ولم يلزم من عدم الجواز في أحدهما عدمه في الآخر(2/325)
مع التفاوت الذي بينا وكان قول الشافعي رحمه الله في قياس الطعام بالكسوة في الفرع والأصل معا غلطا وفيه إشارة إلى أن المساكين صاروا مصارف بحوائجهم فكان الواجب قضاء الحوائج لأعيان المساكين ثبتت هذه الإشارة
ـــــــ
فكيف إذا كانتا متفاوتتين باعتبار كمال حصول المقصود في الإباحة وقصوره في الإعارة. ويجوز أن يكون الضمير راجعا إلى الإطعام والكسوة أي الكسوة تخالف الإطعام من حيث أن المنصوص عليه في الكسوة العين وفي الإطعام الفعل أو من حيث إنه يمكن إلحاق التمليك بالإباحة في الإطعام ولا يمكن عكسه في الكسوة مع التفاوت الذي بينا أن الإباحة لا يؤدي معنى التمليك ههنا والتمليك يؤدي معنى الإباحة هناك. ويجوز أن يكون راجعا إلى الإباحة والتمليك في الكسوة أي كل واحد منهما مخالف للآخر لا موافق; لأن المنصوص عليه كل والآخر جزء مع التفاوت الذي بينا من حصول المقصود بالتمليك دون الإعارة بخلاف الطعام لأنهما فيه متوافقان على ما بينا في الفرع والأصل معا غلطا. أما في الفرع فلأنه قاس في المحل المنصوص عليه على خلاف ما اقتضاه النص ومن شرط صحة القياس أن لا يكون الفرع منصوصا عليه, وأما في الأصل وهو الكسوة فلأن المنصوص عليه فيه العين دون الفعل الذي هو تمليك وإنما ثبت التمليك ضرورة صيرورة العين كفارة وتعدية ما ليس بمنصوص في الأصل وهو التمليك إلى الفرع لا سيما إذا كان منصوصا عليه غير مستقيم فكان غلطا.
ثم المعتبر في الإباحة أكلتان مشبعتان مما يكون معتادا في كل موضع الغداء والعشاء أو الغداءان أو العشاءان; لأن المعتبر حاجة اليوم وذلك بالغداء والعشاء عادة. ولأنه تعالى قال {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} "المائدة: 89". والغداء والعشاء هو الوسط من حيث المرة; لأن الأقل هو المرة التي تسمى وجبة وهي في ذلك وقت الزوال إلى اليوم الثاني والأكثر ثلاث مرات غداء وعشاء ونصف النهار فكان الوسط ما ذكرنا, ألا ترى أنه تعالى وصف طعام أهل الجنة بذلك فقال {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} "مريم: 62"
قوله "وفيه" أي وفي هذا النص إشارة إلى كذا إذا صرف الطعام إلى مسكين واحد في عشرة أيام جاز عندنا, وقال الشافعي رحمه الله: لا يجوز; لأن الواجب عليه بالنص إطعام عشرة مساكين, والمسكين الواحد بتجدد الأيام والحاجة لا يصير عشرة مساكين كالشاهد الواحد لا يصير شاهدين بتكرار الأداء. وقلنا نحن: في هذه الآية إشارة إلى الجواز كما قرر الشيخ في الكتاب صاروا مصارف بحوائجهم; لأن الكفارة حق خالص لله تعالى وجبت بهتك حرمته خالصة لله تعالى فلم يكن الفقير مستحقا لها بحال وإنما يأخذها عن الله تعالى برزقه لحاجته كما في الزكاة فعرفنا أنهم صاروا مصارف صالحة لأداء الكفارة(2/326)
بالعقل وهو الإطعام; لأن إطعام الطاعم الغني لا يتحقق كتمليك المالك لا يتحقق ومن قضية الإطعام الحاجة إلى الطعم وثبتت أيضا بالنسبة إلى المساكين; لأن اسمهم ينبئ عن الحاجة فدل ذلك على أن إطعام مسكين واحد في عشرة أيام مثل إطعام عشرة مساكين في ساعة لوجود عدد الحوائج كاملة فإن قيل: هذا لا يوجد في كسوة مسكين عشرة أثواب في عشرة أيام, وقد جوزتم ذلك ولا
ـــــــ
باعتبار الحاجة كما في الزكاة. ثبتت هذه الإشارة بالفعل أي بإيجاب الفعل وهو الإطعام;
"لأن إطعام الطاعم الغني" أي إطعام من قد طعم واستغنى عن الأكل لا يتحقق إذ لا بد للإطعام من الحاجة إلى الأكل فثبت أن الواجب إطعام الجائع لما كان إطعام الشبعان متعذرا وإن صرف الطعام إليهم باعتبار الحاجة لا لأعيانهم وإن ذكر العدد لبيان عدد الحوائج فعرفنا أن الواجب في الحقيقة قضاء عشر حاجات. وثبت أيضا أي وثبت أنهم صاروا مصارف لحوائجهم بالنسبة إلى المساكين أي بإضافة الواجب وهو الإطعام إلى المساكين; لأنه نص على صفة تنبئ عن الحاجة في المصروف إليه وهي المسكنة. فدل ذلك أي دل ما ذكرنا من أن المقصود قضاء الحوائج لا أعيان المساكين على كذا.
وذكر في شرح التأويلات أن التخصيص بالدفع إلى عشرة مساكين ليتمكن من الخروج عن الذي ارتكب بأسرع الأوقات فإنه لو لم يجز التفريق على المساكين في يوم ربما عجلته منيته فيبقى ذنبه غير مكفر لا أن ذلك يفوت المعنى الذي يقع به التكفير أو يوجب خللا فيه فلا يمنع الجواز إلى مسكين عشرة أيام على أن هذا دفع إلى عشرة مساكين; لأنه مسكين في كل يوم بتجدد الحاجة كالرأس الواحد والنصاب الواحد يصير متعددا بتجدد المؤنة والنماء.
وثبت بما ذكرنا أنه مفارق للشهادة; لأن المعنى الذي يحصل بالعدد وهو طمأنينة القلب وتقليل تهمة الكذب لا يحصل بتكرار الواحد شهادته فلا يحصل المقصود. يوضح ما ذكرنا أن أربعة أمناء من شعير لما صلحت أن يصير أربعين منا تقديرا بأن يؤديها إلى الفقير, ثم يستردها منه بشراء أو هبة, ثم يؤديها إلى فقير آخر, ثم هكذا إلى أن تتم الكفارة جاز أيضا أن يصير المسكين الواحد في اليوم الثاني مسكينا آخر حكما لما عرف أن لتجدد الوصف تأثيرا في تبدل العين.
"فإن قيل" هذا أي عدد الحوائج كاملة في عشرة أيام لا يوجد في كسوة مسكين عشرة أثواب إلى آخره. أجاب شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله عن هذا السؤال بأن حقيقة الحاجة أمر باطن لا يوقف عليها فسقط اعتبارها ووجب إقامة سبب ظاهر مقامها(2/327)
حاجة إلا بعد ستة أشهر أو نحو ذلك, قيل له: هذا الذي تقول حاجة اللبوس وهو غلط; لأن النص تناول التمليك على ما قلنا, وقد أقمنا التمليك مقام قضاء الحوائج كلها والثوب قائم إذا اعتبرت اللبوس, وإذا اعتبرت جملة الحوائج صار مالكا في التقدير فكان يجب أن يصح الأداء على هذا متواترا, غير أن الحاجات إذا قضيت لم تكن بد من تجددها ولا تجدد إلا بالزمان وادنى ذلك يوم لجملة الحوائج حتى قال بعض مشايخنا: يجوز الأداء في يوم واحد إلى مسكين واحد العشرة كلها في عشرة ساعات لما قلنا إلا أنه غير معلوم فكان اليوم أولى, وكذلك
ـــــــ
وقد وجدنا في الطعام سببا ظاهرا لتحقق الحاجة وهو تجدد اليوم فإنه سبب لتجدد الحاجة إلى الطعام غالبا فأقمناه مقامه وفي الكسوة لا يتجدد الحاجة بمضي اليوم ونحوه, إلا أن قدر ما يتجدد به الحاجة إليه غير معلوم; لأنه مما يتفاوت فيه الناس ولا بد من سبب ظاهر يقام مقام تجدد الحاجة فأقمنا تجدد اليوم مقامه; لأنه أقيم في نظيره وهو الطعام مقام تجدد الحاجة فيقام مقامه في الكسوة أيضا وأن يوجد في الكسوة ما يوجد في الطعام.
قال القاضي الإمام أبو زيد رحمه الله: ولما لم يكن مدة تجدد الحاجة إلى الكسوة معلومة شرط نفس التفريق بأقل ما تيسر العبادة عنه وذلك بالأيام; لأن ما دونها ساعات غير معلومة. حتى قال متعلق بقوله صار هالكا وكذا قوله لما قلنا راجع إليه أيضا للعشرة أي للأثواب العشرة, إلا أنه أي الزمان الذي اعتبروه وفي بعض النسخ أنها أي الساعات غير معلومة أي غير مضبوطة, وكذلك الطعام في حكم التمليك مثل الثوب فيجوز التفريق في يوم واحد في عشر ساعات عند ذلك البعض. قال شمس الأئمة في المبسوط: ولم يذكر أي محمد ما لو فرق الفعل أي الإطعام في يوم واحد ولا إشكال في طعام الإباحة أنه لا يجوز, إلا بتجدد الأيام; لأن الواحد لا يستوفى في اليوم الواحد طعام عشرة فأما في التمليك فقد قال بعض مشايخنا: يجوز; لأن التمليك أقيم مقام حقيقة الإطعام والحاجة بطريق التمليك ليس لها نهاية فإذا فرق الدفعات جاز ذلك في يوم واحد كما يجوز في الأيام.
واستدلوا على هذا بما ذكرنا في كتاب الإيمان أنه لو كسا مسكينا واحدا في عشرة أيام كسوة عشرة مساكين أجزأه لتفرق الفعل وإن انعدم تجدد الحاجة في كل يوم. وأكثرهم قالوا: لا يجوز لأن المعتبر سد الخلة ولهذا لا يجوز صرفه إلى الغني لأنه طاعم يملكه وإطعام الطاعم لا يتحقق. وبعدما استوفى في وظيفته في هذا اليوم لا يحصل سد خلته بصرف وظيفة أخرى في هذا اليوم إليه بخلاف كفارة أخرى لما سنذكر. وبخلاف الثوب لما ذكرنا أن تجدد الأيام فيه أقيم مقام تجدد الحاجة تيسيرا. ولا يلزم إلى آخر.(2/328)
الطعام في حكم التمليك مثل الثوب والإباحة لا يصح, إلا في عشرة أيام ولا يلزم إذا قبض المسكين كسوتين من رجلين فصاعدا جملة أنه يجوز; لأن أداء كل واحد في غيره في حكم العدم فلم يؤخذ بالتفريق.
ـــــــ
تقرير السؤال أنه إذا قبض كسوتين من واحد في ساعة واحدة لا يجوز عن الكسوتين; لأن تملك أحدهما حصل قضاء حوائجه فلم يجز الآخر وهذا المعنى موجود فيما إذا قبض كسوتين من رجلين في ساعة واحدة ومع ذلك يجوز. فقال أو آكل واحد في حق صاحبه في حكم العدم; لأنه فقير في حقه فلم يوجد في حق المؤدي, إلا كسوة واحدة; لأن كلا مكلف بفعله لا بفعل غيره. فلم يؤخذ بالتفريق أي لم يكلف المؤدي بالتفريق بين الفعلين بأن يعطيه في حال لا يعطيه غيره بخلاف الواحد; لأنه فعله فيكلف بالتفريق.(2/329)
"دلالة النص"
وأما دلالة النص فما ثبت بمعنى النظر لغة وإنما نعني بهذا ما ظهر ومن معنى الكلام لغة وهو المقصود بظاهر اللغة مثل الضرب اسم لفعل بصورة معقولة ومعنى مقصود وهو الإيلام والتأفيف اسم لفعل بصورة معقولة ومعنى مقصود وهو الأذى والثابت بهذا القسم مثل الثابت بالإشارة والعبارة, إلا أنه
ـــــــ
قوله "وأما دلالة النص" أي الثابت بدلالة النص بدليل قوله فما ثبت بمعنى النص لغة. قال الشيخ في نسخة أخرى: ولا نعني به المعنى الذي يوجبه ظاهر النظم فإن ذلك من قبيل العبارة وإنما نعني به المعنى الذي أدى إليه الكلام كالإيلام من الضرب فإنه يفهم من اسم الضرب لغة لا شرعا بدليل أن كل لغوي يعرف ذلك المعنى ثابتا بالضرب لغة.
وذكر أيضا في بعض مصنفاته دلالة النص ما يعرفه أهل اللغة بالتأمل في معاني اللغة مجازها وحقيقتها, وقد ذكرنا تعريف دلالة النص في أول الكتاب فلا نعيده. وإنما نعني بهذا أي بمعنى النظم ما ظهر من معنى الكلام كلمة من لابتداء الغاية لا للبيان أي تبين وفهم ذلك المعنى من المعنى اللغوي للكلام لا من اللفظ نفسه, وهو راجع إلى ما ولغة متعلقة بالمقصود لا بظاهره أي ذلك المعنى المفهوم من المعنى اللغوي يكون مقصودا لغة بظاهر الكلام وإن لم يوضع له الكلام مثل الضرب اسم لفعل بصورة معقولة أي معلومة وهو استعمال آلة التأديب في محل صالح للتأديب ومعنى مقصود وهو الإيلام فإن المقصود من هذا الفعل ليس إلا الإيلام, ولهذا لو حلف لا يضرب فلانا فضربه بعد موته(2/329)
عند التعارض دون الإشارة حتى صح إثبات الحدود والكفارات بدلالات
ـــــــ
لا يحنث لفوات معنى الإيلام هو المقصود, ثم استعمال آلة التأديب هو المعنى اللغوي الذي دل عليه اللفظ بالوضع ومعنى الإيلام هو المفهوم لغة من ذلك المعنى اللغوي لا من اللفظ فإنه لم يوضع للإيلام فالثابت بمعنى الإيلام ثابت بدلالة النص, وكذا التأفيف اسم لفعل بصورة معلومة وهو إظهار التبرم والسآمة بالتلفظ بكلمة أف. ومعنى مقصود وهو الإيذاء فإظهار التبرم هو المعنى الذي وضع له اللفظ والإيذاء هو المعنى المفهوم من ذلك المعنى الموضوع له فالثابت به هو الثابت بدلالة النص.
ثم من المعلوم أن الحرمة متعلقة بالإيذاء لا بصورة التأفيف; لأنه هو المقصود والإيذاء في الضرب والشتم والقتل فوق الإيذاء في التأفيف فتثبت الحرمة فيها بمعنى النص لغة وكان النص بمعناه دالا على تحريمها ولذلك سمي دلالة النص لا عين النص; لأن النص لم يتناولها لفظا لكن لما كان المعنى الذي تعلق الحكم به ثابتا بالنص لغة كان الحكم الثابت به مضافا إلى النص كأن النص تناوله, إلا أنه أي هذا القسم وهو الدلالة عند التعارض دون الإشارة; لأن في الإشارة وجد النظم والمعنى اللغوي وفي الدلالة لم يوجد, إلا المعنى اللغوي فتقابل المعنيان وبقي النظم سالما عن المعارضة في الإشارة فترجحت بذلك.
ومثال تعارض الدلالة والإشارة ما قال الشافعي رحمه الله: إن الكفارة تجب في القتل العمد; لأنها لما وجبت في القتل الخطإ للجناية مع قيام العذر بقوله تعالى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} "النساء: 92"الآية; لأن تجب بالعمد ولا عذر فيه كان أولى ويعارضها قوله تعالى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} "النساء: 93" فإنه يشير إلى عدم وجوب الكفارة فيه وذلك لأنه تعالى جعل كل جزائه جهنم إذ الجزاء اسم للكامل التام على ما مر بيانه فلو وجبت الكفارة معه كان المذكور بعض الجزاء فلم يكن كاملا تاما ألا ترى أن في جانب الخطأ لما وجبت الدية مع الكفارة جمع بينهما فقال {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} "النساء: 92" فعرفنا بلفظ الجزاء أن من موجب النص انتفاء الكفارة فرجحنا الإشارة على الدلالة, حتى صح متعلق بقوله مثل النابت بالإشارة والعبارة الاستثناء معترض. ومثال إثبات الحدود بها إيجاب حد قطاع الطريق على الردء; لأن عبارة النص المحاربة وصورة ذلك بمباشرة القتال ومعناها لغة قهر العدو والتخويف على وجه ينقطع به الطريق وهذا معنى معلوم بالمحاربة لغة والردء مباشر لذلك كالمقاتل ولهذا اشتركوا في الغنيمة فيقام الحد على الردء بدلالة النص. وإيجاب الرجم على غير ماعز فإنه روي أن ماعزا زنى وهو محصن فرجم ومعلوم أنه لم يرجم لأنه ماعز وصحابي بل لأنه زنى في حالة الإحصان فيثبت هذا الحكم في حق غيره بدلالة النص.(2/330)
النصوص ولم يجز بالقياس; لأنه ثابت بمعنى مستنبط بالرأي نظرا لا لغة حتى اختص بالقياس الفقهاء واستوى أهل اللغة كلهم في دلالات الكلام مثاله أنا أوجبنا الكفارة على من أفطر بالأكل والشرب بدلالة النص دون القياس, وبيانه
ـــــــ
قوله "ولم يجز بالقياس" إثبات الحدود والكفارات بالقياس لا يجوز عندنا وعند الشافعي رحمه الله يجوز; لأن القياس من دلائل الشرع فيجوز أن يثبت به الحدود والكفارات كما يثبت بالكتاب والسنة. ولأن الدلائل التي قامت على صحة القياس لا تفصل بين موضع وموضع فصح استعماله في كل موضع إلى أن يمنع مانع ولم يوجد. ولنا أن الكفارات شرعت ماحية للآثام الحاصلة بارتكاب أسبابها وفيها معنى العقوبة والزجر أيضا لما عرف, وكذا الحدود شرعت عقوبة وجزاء على الجنايات التي هي أسبابها وفيها معنى الطهرة أيضا بشهادة صاحب الشرع ولا مدخل للرأي في معرفة مقادير الأجرام وآثامها ومعرفة ما يحصل به إزالة آثامها ومعرفة ما يصلح جزاء لها وزاجرا عنها ومقادير ذلك فلا يمكن إثباتها بالقياس الذي مبناه على الرأي. بخلاف الاستدلال فإن مبناه على المعنى الذي تضمنه النص لغة فيكون مضافا إلى الشرع. ولأن الحدود مما يندرئ بالشبهات فلا يجوز إثباتها بالقياس الذي فيه شبهة بخلاف الاستدلال; لأن المعنى الذي تعلق الحكم به لما صار مضافا إلى الشرع انتفت عنه الشبهة فيجوز إثباتها به. وإنما نعني بالشبهة المانعة اختلال المعنى الذي يتعلق به الحدود والكفارات في نفسه لا الشبهة الواقعة في طريق دليل الثبوت لأنها لا تمنع لاتفاق أكثر الناس على التعلق بإخبار الأحاد في الحدود والكفارات ولإجماعهم على صحة إثبات أسباب الحدود في مجالس الحكام بالبينات وإن صدرت عمن ليس بمعصوم عن الكذب والغلط والخطأ والنسيان.
قوله "مثاله" أي مثال الثابت بالدلالة. وقوله "دون القياس" رد لما ادعى أصحاب الشافعي علينا وقالوا: إنكم أنكرتم صحة المقايسة في الكفارات, ثم أثبتم الكفارة في الأكل والشرب بالقياس على الواقع فكان ذلك منكم مناقضة قال ما أثبتناه بالقياس بل بدلالة النص. وحديث الأعرابي ما روي أن: "أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ينتف شعره ويقول: هلكت وأهلكت. فقال: "ماذا صنعت" ؟ فقال: واقعت أهلي في نهار رمضان متعمدا, فقال: "أعتق رقبة" ; فضرب بيده على صفحة عنقه وقال: "لا أملك, إلا رقبتي هذه; فقال عليه السلام "صم شهرين متتابعين" ; فقال هل أتيت ما أتيت, إلا من الصوم, فقال: "أطعم ستين مسكينا" , فقال: لا أجد فقال: "اجلس" , فجلس فأتي بصدقات بني زريق فقال: "خذ خمسة عشر صاعا فتصدق بها على المساكين" , فقال: أعلى أهل بيت أحوج إليها مني ومن عيالي, والله ما بين لابتي المدينة أحوج إليها مني ومن عيالي فقال عليه السلام "كلها أنت وعيالك" . وزيد في بعض الروايات: "يجزيك ولا يجزي أحدا بعدك" .(2/331)
أن سؤال السائل وهو قوله واقعت امرأتي في شهر رمضان وقع عن الجناية والمواقعة عينها ليست بجناية بل هو اسم لفعل واقع على محل مملوك, إلا أن معنى هذا الاسم لغة من هذا المسائل هو الفطر الذي هو جناية وإنما أجاب رسول
ـــــــ
بيانه أي بيان أنها ثابتة بالدلالة لا بالقياس أن سؤال الأعرابي وهو قوله واقعت امرأتي في نهار رمضان وقع عن الجناية على الصوم بدليل قوله: هلكت وأهلكت, ومعلوم أن المواقعة عينا لم تكن جناية; لأنها وقعت على محل مملوك فإنه قد نص على مواقعة امرأته لكنها في ذلك الوقت تؤدي إلى معنى آخر وهو الجناية على الصوم يفهم هذا من ذلك الكلام لغة; لأنه لما اشتهر فريضة الصوم في رمضان واشتهر أن معناه الإمساك عن اقتضاء الشهوتين عرف كل أحد من أهل اللسان أن المواقعة في ذلك الوقت جناية على الصوم وأن المقصود من السؤال حكم الجناية فكان المفهوم من قوله واقعت في نهار رمضان لغة الإفطار كما أن المفهوم من قوله تعالى {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} "الإسراء: 23" المنع عن الإيذاء, ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاب عن السؤال فكان جوابه بيانا لحكم الجناية الذي هو الغرض من السؤال; لأن الجواب يكون مبنيا على السؤال خصوصا عن أفصح العرب والعجم لا بيان نفس الوقاع فإنه ليس بمقصود بل هو آلة للجناية., ثم معنى الجناية على الصوم في الأكل والشرب أكثر منه في الوقاع فيثبت الحكم فيهما بذلك المعنى بعينه. وبيان ذلك أن الصوم اسم لفعل له صورة ومعنى. أما الصورة فهي الإمساك عن اقتضاء الشهوتين. وأما المعنى فقهر عدو الله تعالى بمنعه عن الشهوات ومنعه من شهوة البطن أشد قهرا له من منعه عن شهوة الفرج; لأن دعاءه إليها أكثر وشهوة الفرج تابعة لها, ولهذا شرع الصوم في النهار التي هي وقت اقتضاء هذه الشهوة غالبا فكان الامتناع عن هذه الشهوة هو الأصل في الصوم والامتناع عن الأخرى بمنزلة التبع وكانت الجناية على الصوم بالأكل والشرب أفحش لورودها على معنى هو المقصود الأصلي في الباب من الجناية بالوقاع لورودها على معنى هو جار مجرى التبع, ولما كانت الجناية على التبع موجبة للكفارة كانت الجناية على ما هو المقصود أولى لكونها أقوى بمنزلة الضرب والشتم من التأفيف فتبين أنا أثبتنا الكفارة في الأكل والشرب بالدلالة لا بالقياس.
فإن قيل: الثابت بالدلالة هو الذي يصير معلوما بمعنى اللغة بمجرد السماع فيكون الفقيه في إصابته وغيره سواء, ثم ههنا وجوب الكفارة بالأكل مما يشتبه على الفقيه المبرز العالم بطرق الفقه بعد أن بلغه حديث الأعرابي فضلا عن غيره فكيف يكون هذا من باب الدلالة ؟ قلنا: الشرط في الدلالة أن يكون المعنى الذي تعلق به الحكم ثابتا لغة بحيث يعرفه أهل اللسان فأما أن يكون الثابت بهذا المعنى في غير موضع النص مما يعرفه أهل(2/332)
الله عليه السلام عن حكم الجناية فكان بناء على معنى الجناية من ذلك الاسم والمواقعة آلة الجناية فأثبتنا الحكم بذلك المعنى بعينه في الأكل; لأنه فوقه في الجناية لأن الصبر عنه أشد والدعوة إليه أكثر فكان أقوى في الجناية على نحو ما قلنا
ـــــــ
اللسان فليس بشرط, وقد بينا أن معنى الجناية في سؤال الأعرابي ثابت لغة مفهوم لأهل اللسان بلا شك فيكون من باب الدلالة, إلا أن الثابت بذلك المعنى في غير موضع النص وهو الكفارة في المتنازع فيه, وقد اشتبه على البعض بناء على أن تعلق الحكم بنفس معنى الجناية أم بالجناية المقيدة بالآلة المعينة وهي الوقاع لا لخفاء معنى الجناية فلا يقدح ذلك في كونه من باب الدلالة.
فصار الحاصل أن الثابت بالدلالة قد يكون ظاهرا كحرمة الضرب الثابتة بنص التأفيف, وقد يكون خفيا كثبوت الكفارة في المتنازع فيه بمنزلة الثابت بالإشارة, وقد يكون ظاهرا وخفيا فأما المعنى الذي تعلق به الحكم فلا بد من أن يكون ظاهرا يعرفه أهل اللسان, وإلا كان قياسا لا دلالة. فإن قيل: لا يمكن إلحاق الأكل والشرب بالجماع بالدلالة إلا بإثبات التسوية بين البابين إذ لا بد فيها أن يكون المعنى الموجب في غير المنصوص مثله في المنصوص عليه أو فوقه وليس كذلك ههنا; لأن للوقاع مزية في معنى الجناية على الأكل والشرب من وجوه أحدها: أن حرمة الفعل تتفاوت بتفاوت احترام المحل فإن إتلاف النفس المعصومة أشد حرمة من إتلاف المال المعصوم لكون الآدمي أشد احتراما من المال ولمنافع البضع حرمة الآدمي لكونها سببا لحصوله ولهذا كانت الجناية عليها موجبة قتل النفس لذي الإحصان والألم الشديد عند عدمه فكانت الجناية بالوقاع أشد حرمة من الجناية بالأكل فلا يمكن إلحاقه به.
وثانيها: أن الجناية بالجماع واردة على الصوم والجناية بالأكل غير واردة عليه; لأن الجماع محظور الصوم والأكل نقيضه; لأن معنى الصوم هو الامتناع عن معتاد الأكل والشرب فأما الامتناع عن الجماع فتابع على ما مر فصار الركن في الباب هو الإمساك عن الأكل والشرب فصار ذلك نقيضا له فأما الامتناع عن الجماع فمحظور إذ الصوم ليس هو الإمساك عنه معنى كما في الاعتكاف الخروج عن المسجد نقيضه لأنه مناف للبث والجماع محظوره غير أن الصوم يفسد بالمحظور كما يفسد بالمناقض, ثم الجناية على العبادة بالمحظور فوق الجناية عليه بالنقيض; لأن الجناية بالمحظور ترد على العبادة فإنها تبقى عند ورود المحظور عليها لعدم المضادة فيرد عليها الجناية, ثم تبطل بعد ذلك فأما ورود الجناية عليها بالنقيض فغير متصور; لأن النقيض لا يرد على العبادة فإن وجود أحد الضدين يمنع تحقق الآخر فلا يتصور بقاؤها عند وجود النقيض فتنعدم العبادة سابقة(2/333)
في الشتم مع التأفيف, فمن حيث إنه ثابت بمعنى النص لا بظاهره لم نسمه عبارة ولا إشارة ومن حيث إنه ثابت بمعنى النص لغة لا رأيا سميناه دلالة لا قياسا ومن ذلك أن النص في عذر الناسي ورد في الأكل والشرب ويثبت حكمه
ـــــــ
على وجود النقيض, ثم يوجد النقيض ولهذا قلت من أصبح مجامعا لأهله تلزمه الكفارة; لأن الجماع لا يمنع من انعقاد الصوم لكونه محظورا فيه لا نقيضا فينعقد, ثم ينعدم بعد وجوده كما لو أحرم مجامعا لأهله فصار في التحقيق طاريا عليه وإن كان مقارنا له في الصورة ولا شك أن الجناية الواردة على العبادة الموجبة لإبطالها فوق الجناية التي لم تصادف العبادة.
وثالثها: أن الجماع فعل يوجب فساد صومين صوم الرجل وصوم المرأة لو كانت صائمة; ولهذا قال الأعرابي: هلكت وأهلكت والأكل والشرب لا يوجب إلا فساد صوم واحد فكان الجماع أقوى.
ورابعا: أن في الجماع داعيين طبع الرجل وطبع المرأة وفي الأكل داع واحد وهو طبع الأكل فشرع الزاجر فيما له داعيان لا يكون شرعا فيما له داع واحد كما قال أبو حنيفة رحمه الله: في اللواطة مع الزنا.
وخامسها: أن غلبة الجوع متى تناهت أباحت الإفطار فبوجود بعضها وجد بعض المبيح فيورث شبهة الإباحة فلا يصلح موجبا للكفارة وفي الجماع لو تناهى الشبق لا يوجب الإباحة فوجود بعضه لا يورث شبهة فصلح موجبا للكفارة.
أجيب عن الأول بأنا لا نسلم أن منافع البضع أشد احتراما من الطعام ولكن الحرمة التي شرعت الكفارة لها هي حرمة إفساد الصوم لا حرمة إتلاف منافع البضع; لأن إتلاف منافع بضع مملوكة للرجل ليس بمحرم وإنما المحرم هو إفساد الصوم ولو كانت المنافع غير مملوكة بأن زنى لا ينمحي حرمة إتلافها بالكفارة ولو زنى ناسيا للصوم لا كفارة عليه; لأن إتلاف المنافع وإن وجد فإفساد الصوم لم يوجد وفي الطعام إيجابها عندنا لهذه الجناية أيضا لا لحرمة إتلاف الطعام فإنه لو أكل طعام نفسه تجب الكفارة مع أنه لم يوجد حرمة التناول ولو أكل طعام غيره ناسيا للصوم لا يجب الكفارة مع حرمة التناول فعرفنا أنهما مستويان في معنى الجناية.
وعن الثاني بأن ذلك دعوى ممنوعة بل الجماع نقيض الصوم لما بينا أن الصوم هو الإمساك عن اقتضاء الشهوتين جميعا لإباحة الله تعالى الكل بالليل وأمره بالامتناع عن الكل في النهار فيفوت الصوم بوجود كل واحد منهما على الكمال وكون الامتناع عن(2/334)
في الوطء دلالة; لأن النسيان فعل معلوم بصورته ومعناه إما صورته فظاهرة وأما
ـــــــ
قضاء شهوة البطن أصلا لا يمنع من استوائهما في تفويت الصوم وإفساده لما بينا والمأثم إفساد الصوم, وقد استويا في الإفساد فيستويان في المأثم.
وعن الثالث بأن الكفارة إنما تجب عليه بالجماع بفعله وفعله لا يوجب عليه إلا فساد صومه وإنما فسد صومها بفعلها وهو قضاء شهوتها ولهذا وجبت عليها الكفارة أيضا كما وجب عليها الحد بالتمكين في باب الزنى ألا ترى أنها لو لم تكن صائمة أو كانت ناسية للصوم فجامعها تلزمه الكفارة والجماع ههنا لم يوجب إلا فساد صوم واحد فعلمنا أن الكفارة وجبت عليه بإفساد صوم واحد لا بإفساد صومين.
وعن الرابع بأن الترجيح بالقلة والكثرة تكون عند اتحاد الجنس كما فعله أبو حنيفة رحمه الله: في مسألة اللواطة مع الزنا فأما جهة قضاء الشهوة فيما نحن فيه فمختلفة وهما جنسان مختلفان فلا عبرة فيه للقلة والكثرة وإنما العبرة فيه للغلبة أو القوة وهما جميعا لقضاء شهوة البطن دون قضاء شهوة الفرج فإنها تتجدد في كل يوم مرتين عادة وبقيت ما دام الروح في البدن وشهوة الفرج لا تتجدد في مثل هذه المدة وتنقطع باستيلاء الكبر, وكذا الإنسان يصبر عن الوقاع دهرا طويلا ولا يصبر عن الأكل, إلا قليلا فكانت شهوة البطن أغلب وأقوى فكانت أولى بشرع الزاجر, على أن الفعل إذا كان قيامه باثنين كان حصوله أقل مما إذا كان قيامه بواحد خصوصا إذا كان الفعل معصية فإن أحدهما إن قصد العصيان فالآخر لا يساعده على ذلك وكذا هيجان الشهوة الذي لا يقع الجماع إلا به من الشخصين في وقت مع وجود الحرمة شرعا قل ما يتفق.
وعن الخامس بأنا لا نسلم أن تناهي الجوع مبيح بل المبيح خوف التلف وكيف يكون الجوع مبيحا للإفطار والصوم ما شرع, إلا لحكمة الجوع بقي أن خوف التلف شرطه تناهي الجوع ولكن بعض العلة لا عبرة به أصلا فبعض الشرط مع عدم العلة أولى أن لا يكون له عبرة والله أعلم. كذا في طريقة الشيخ أبي المعين وغيرها.
قوله "ومن ذلك" أي ومن الثابت بالدلالة أن النص ورد في كذا يعني ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن: "رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أكلت وشربت في نهار رمضان ناسيا وأنا صائم, فقال: "إن الله أطعمك وسقاك فتم على صومك1" . لأن النسيان فعل وإن لم يكن اختياريا كالسقوط ونحوه ولهذا يقال نسي ينسى. معلوم بصورته وهي الغفلة
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الصوم حديث رقم 2398 ومسلم في الصيام حديث رقم 1155 والترمذي حديث رقم 721 والإمام أحمد في المسند 2/395.(2/335)
معناه أنه مدفوع إليه خلقة وطبيعة وكان ذلك سماويا محضا فأضيف إلى صاحب الحق فصار عفوا, هذا معنى النسيان لغة وهو كونه مطبوعا عليه فعلمنا بهذا المعنى في نظيره فإن قيل هما متفاوتان; لأن النسيان يغلب في الأكل والشرب; لأن الصوم يحوجه إلى ذلك ولا يحوجه إلى الواقعة بل يضعفه عنها فصار كالنسيان في الصلاة لم يجعل عذرا; لأنه نادر قلنا للأكل والشرب مزية في أسباب الدعوة وفيه قصور في حالة; لأنه لا يغلب البشر وأما المواقعة فقاصرة
ـــــــ
عن الشيء بعدما كان حاضرا في الذهن, وصورة كل شيء تناسبه. ومعناه وهو أنه أي الناسي مدفوع إليه خلقة أي واقع فيه من غير اختيار. ولم يذكر شمس الأئمة لفظ الصورة. فقال: النسيان معنى معلوم لغة وهو أنه محمول عليه طبعا على وجه لا صنع له فيه ولا لأحد من العباد. فكان ذلك أي عذر النسيان, فأضيف أي الفعل وهو الأكل والشرب بسبب هذا العذر إلى صاحب الحق فصار عفوا. هذا معنى النسيان لغة وهو كونه مطبوعا عليه يعني كون الناسي مطبوعا على النسيان يفهم لغة من النسيان, وإن لم يكن موضوعا له كالإيذاء من التأفيف إذ لا حاجة في فهمه إلى اجتهاد واستنباط بل يعرفه كل أحد فعملنا بهذا المعنى وهو أنه مدفوع إليه طبعا في نظيره أي نظير المنصوص عليه وهو الجماع فكان الحكم ثابتا فيه بالدلالة لا بالقياس لما عرف أن المعدول به عن القياس لا يقاس عليه غيره. قال القاضي الإمام أبو زيد رحمه الله: الجماع بمنزلة الأكل في منافاة ركن الصوم أو دونه فلا يبقى منافيا مع النسيان استدلالا بالأكل. فإن قيل هما متفاوتان أي المنصوص والجماع; لأن الصوم يحوجه إلى ذلك أي إلى الأكل والشرب; لأن الصوم شرع في وقت الأكل والشرب ووقت الأسباب المفضية إلى الأكل والصوم يزيد في شهوته فيبتلى الإنسان فيه بالنسيان غالبا ولا يحوجه إلى المواقعة; لأن النهار ليس بوقت للجماع عادة وللصوم أثر في إزالة هذه الشهوة فإن الصوم وجاء على ما نطق به النص وهو قوله عليه السلام: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء1" . فكان النسيان فيه من النوادر فلا يمكن أن يلحق بالمنصوص; لأنه دونه.
وصار أي الجماع ناسيا في الصوم كالنسيان في الصلاة أي مثل الأكل ناسيا في الصلاة حيث لم يجعل عفوا; لأنه نادر فكذا هذا. وبما ذكرنا تمسك سفيان الثوري رحمه الله: فجعل النسيان عذرا في الأكل والشرب بالنص ولم يجعله عذرا في الجماع. والجواب ما ذكر في الكتاب.
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في الصوم باب رقم 10 ومسلم في النكاح حديث رقم 1 وأبو داود في النكاح باب رقم 1 وابن ماجة في النكاح باب رقم 1 والإمام أحمد في المسند 1/378.(2/336)
في أسباب الدعوة ولكنها كاملة في حالها; لأن هذه الشهوة تغلب البشر فصار سواء فصح الاستدلال, ومن ذلك قال النبي عليه السلام : "لا قود إلا بالسيف" وأراد به الضرب بالسيف ولهذا الفعل معنى مقصود وهو الجناية بالجرح وما يشبهه
ـــــــ
. وأجاب الشيخ في بعض مصنفاته هذه العبارة وهي أن للأكل غلبة الوجود من حيث عموم السبب وللجماع غلبة الوجود من حيث ذات الفعل; لأن الشهوة إذا غلبت لا يقدر الإنسان أن يمنع نفسه عن الجماع لوجود الداعي في الفاعل والمحل فثبت أن للجماع غلبة الوجود من حيث ذاته وللأكل من حيث أسبابه فلا يكون عين الأكل غالبا في ذاته فالغلبة التي تنشأ من الذات فوق ما تنشأ من السبب فلما عفي عنه فلأن يعفى عن الجماع كان أولى. وذكر في المبسوط قد ثبت بالنص المساواة بين الأكل والجماع في حكم الصوم فإذا ورد نص في أحدهما كان واردا في الآخر كمن يقول لغيره: اجعل زيدا وعمرا في العطية سواء, ثم يقول: أعط زيدا درهما كان ذلك تنصيصا على أنه يعطي عمرا أيضا درهما وقوله عليه السلام.: "لا قود, إلا بالسيف1" . يحتمل وجهين: أحدهما لا قود يستوفى إلا بالسيف. والثاني: لا قود يجب إلا بالقتل بالسيف; لأن للقصاص طرفين طرف الاستيفاء وطرف الوجوب. فإن أريد نفي الاستيفاء يكون حجة لنا على الشافعي في أنه لا يفعل بالقاتل مثل ما فعل بالمقتول من الخرق والغرق والرضح بالحجارة ونحوها. وإن أريد نفي الوجوب يكون حجة عليه أيضا في مسألة الموالاة. ورجح الإمام الوجه الأول فقال: القود اسم لقتل هو جزاء القتل كالقصاص, إلا أن القود خاص في جزاء القتل والقصاص عام فصار كأنه قال لا قتل قصاصا, إلا بالسيف. فإن قيل: يحتمل أنه أراد لا قود يجب, إلا بالسيف. قلنا: القود عبارة عن فعل القتل على سبيل المجازاة دون ما يجب شرعا وإن حمل عليه كان مجازا كنفس القتل عبارة عن الفعل حقيقة لا عن الواجب. ولأن القود قد يجب بغير السيف وإنما السيف مخصوص الاستيفاء, كذا في الأسرار.
وعلى الوجه الأخير خرج الشيخ مسألة المثقل على القولين فقال المراد من قوله: "لا قود إلا بالسيف" هو الضرب بالسيف; لأن الباء إذا دخلت في الآلة اقتضت فعلا ومعلوم أن القود لا يجب بأخذ السيف وقبضه فكان الضرب هو المراد. ولهذا الفعل وهو الضرب بالسيف معنى مقصود يفهم منه لغة وهو الجناية بالجرح وما يشبهه كالتأفيف له معنى مقصود وهو الإيذاء بإظهار التضجر وما يشبهه من الشتم والضرب, ثم ما يشبه الجرح عند أبي حنيفة رحمه الله استعمال آلة الجرح مثل سنجات الميزان على أحد الطريقين له في
ـــــــ
1 أخرجه ابن ماجة في الديات حديث رقم 2667.(2/337)
والحكم جزاء يبتني على المماثلة في الجناية وكان ثابتا بذلك المعنى واختلف فيه قال أبو حنيفة: وذلك المعنى هو الجرح الذي ينقض البنية ظاهرا وباطنا, وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: معناه ما لا تطيق البنية احتماله فتهلك جرحا كان أو لم يكن حتى قالا: يجب القود بالقتل بالحجر العظيم; لأنا نعلم أن القصاص وجب عقوبة وزجرا عن انتهاك حرمة النفس وصيانة حياتها وانتهاك حرمتها بما لا تطيق حمله ولا تبقى معه. فأما الجرح على البدن فلا عبرة
ـــــــ
مسألة الثقل وعندهما استعمال ما لا يطيق البدن احتماله مثل الحجر العظيم والعصا الكبيرة. والحكم وهو القود جزاء يبتني على المماثلة في الجناية يعني شرع الحكم على وجه يكون مماثلا للجناية فإن القصاص ينبئ عن المساواة. وكذا قوله تعالى {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} "البقرة: 178"الآية, وقوله عز ذكره {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} "المائدة: 45" الآية يشيران إلى المساواة أيضا والغرض من هذا الكلام تأسيس الجواب لأبي حنيفة رحمه الله: عن كلامهما كما سنبينه. فكان أي الحكم وهو وجوب القود ثابتا بهذا المعنى أي متعلقا به دون صورة الضرب بالسيف كتعلق حرمة التأفيف بمعناه لا بصورته.
واختلف في ذلك المعنى فقال أبو حنيفة رحمه الله: ذلك المعنى المفهوم بذكر السيف لغة هو الجرح الذي ينقض البنية ظاهرا وباطنا, وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله معناه أي المعنى المفهوم من الضرب بالسيف لغة ما لا تطيق البنية احتماله فيثبت الحكم بهذا المعنى في القتل بالمثقل ويكون ثابتا بدلالة النص. فإن قيل: الثابت بدلالة النص ما يعرفه كل أحد من أهل اللسان على ما تقدم تفسيره فإذا كان الحكم ثابتا بمعنى مختلف بين الفقهاء كيف يعد هذا من باب الدلالة. قلنا: لا خلاف لأحد في أن القود في قوله عليه السلام.: "لا قود إلا بالسيف" ثابت بمعنى الجناية على النفس وإن هذا معنى فهم منه لغة إنما الخلاف فيما وراء ذلك وهو أن المعتبر مجرد معنى الجناية أو الجناية المنتهية في الكمال وهذا وإن كان من باب الفقه لكنه لا يقدح في كون الحكم ثابتا بالدلالة; لأن أصل المعنى الذي تعلق الحكم به مفهوم لغة, وصورة المسألة إذا قتل إنسانا معصوما بالحجر العظيم أو الخشب الكبير الذي لا تطيق البنية احتماله لا يجب القصاص عند أبي حنيفة وهو قول زفر.
وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله: يجب القصاص وهذا إذا لم يجرح فإن جرح الحجر أو الخشب فإن القصاص يجب بالاتفاق. وفي الحديد يجب القود جرح(2/338)
به إنما البدن وسيلة فما يقوم بغير الوسيلة كان أكمل والجواب لأبي حنيفة عن هذا أن معنى الجناية هو ما لا تطيق النفس احتماله لكن الأصل في كل فعل الكمال والنقصان بالعوارض فلا يجب الناقص أصلا بل الكامل يجعل أصلا, ثم تعدى
ـــــــ
أو لم يجرح في ظاهر الرواية. وروى الطحاوي عن أبي حنيفة رحمهما الله إذا قتله جرحا يجب القود بأي آلة كانت وإن لم يجرح لا يجب القود بأي آلة كانت. قالوا: إنا نعلم أن القصاص وجب عقوبة يعني بعدما ارتكب الجناية وزجرا عن انتهاك حرمة النفس وصيانة حياتها يعني قبل ارتكاب الجناية فإن شرعه زاجر عن مباشرة القتل على ما قال الله تعالى {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} "البقرة: 179" وانتهاك الحرمة تناولها بما لا يحل, كذا في الصحاح. وانتهاك حرمتها إنما يحصل بما لا تطيق النفس احتماله ولا تبقى معه; لأنها إذا تلفت بذلك فقد انتهكت حرمتها. فأما الجرح على البدن فلا عبرة به يعني في تعلق العقوبة, إنما البدن أي الجرح على البدن وسيلة إلى الجناية على النفس وانتهاك حرمتها باعتبار السراية, ألا ترى أنه لو لم يشر إلى النفس لا يجب القصاص فيما يكون بغير وسيلة كان أكمل فما يكون جناية على النفس بغير وسيلة وهو القتل بحجر الرحى والأسطوانة العظيمة مثلا كان أكمل في الجناية من الجرح لأن ما لا يلبث ولا تطيق النفس احتماله مزهق للروح بنفسه والفعل الجارح مزهق له بواسطة الجراحة فالجرح وسيلة يتوصل بها إلى إزهاق الروح وما يكون عاملا بنفسه أبلغ مما يكون عاملا بواسطة السراية. ولما كان هذا أتم في المعنى المعتبر وهو عدم احتمال البنية يثبت الحكم فيه بالدلالة كما في الضرب مع التأفيف وكما يثبت في القتل بالرمح والسكين والنشابة بالدلالة.
يوضح ما ذكرنا أن هناك قد يجب القصاص بفعل لا يكون قتلا لا محالة, كقطع الأصبع والغرز بالإبرة والضرب بسنجات الميزان على ما ذكر في كتاب الديات فلما وجب القصاص بهذا الفعل وأنه قد يحصل به القتل, وقد لا يحصل فلأن يجب بإلقاء حجر الرحى أولى; لأنه لا يرجى معه الحياة أصلا. والدليل عليه أن قطاع الطريق لو قتلوا بالحديد وبالحجر يجب عليهم القتل ولا شك أن وجوب القتل على قاطع الطريق يتعلق بالقتل كالقصاص, ثم لم يقع الفرق فيه بين الحديد وغيره وبين الجرح والدق, فكذلك ههنا, كذا في طريقة الإمام البرغري.
والجواب لأبي حنيفة رحمه الله عن هذا المعنى الذي ذكراه أنا قد سلمنا أن معنى الجناية هو ما لا تطيق النفس احتماله. لكن الأصل في كل فعل الكمال يعني إذا صار الحكم مرتبا على شيء فالاعتبار فيه للكامل منه; لأن للناقص شبهة العدم, ثم إن كان ذلك الحكم من جنس ما يثبت مع الشبهات يلحق الناقص بالكامل ويثبت الحكم فيه كما(2/339)
حكمه إلى الناقص إن كان من جنس ما يثبت بالشبهات, فأما أن يجعل الناقص أصلا خصوصا فيما يدرأ بالشبهات فلا وهنا الكامل فيما قلنا ما ينقض البنية ظاهرا وباطنا هو الكامل في النقض على مقابلة كمال الوجود قولهما: إن البدن وسيلة وهم وغلط; لأنا نعني بهذا الجناية على الجسم لكنا نعني به الجناية
ـــــــ
يثبت في الكامل وإن لم يكن كذلك لا يلحق الناقص بالكامل لما ذكرنا أن له شبهة العدم فلا يثبت به ما لا يثبت مع الشبهة. فالأصل في الزنا وقوعه في محل محترم خال عن الملك وعن شبهة الملك; لأنه هو الكامل في الجناية على ذلك المحل, ثم تعدى أحد حكميه وهو الحرمة إلى ما هو ناقص في معنى الجناية وهو مواضع الشبهة; لأن الحرمة تثبت مع الشبهة ولم يتعد الحكم الآخر وهو وجوب الحد; لأنه لا يثبت مع الشبه.
وكذا الأصل في ثبوت حرمة المصاهرة معنى الجزئية والبعضية لأنه هو الكامل في الباب, ثم تعدى إلى الناقص وهو التقبيل والمس لما ذكرنا. وكذا وجوب الكفارة والدية في القتل ثبت في الكامل منه وهو ما ينقض البنية ظاهرا وباطنا بدليل سبب نزول الآية وهي قوله. تعالى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً} "النساء: 92" على ما عرف في التفسير فجعل هذا هو الأصل فيه, ثم تعدى إلى الناقص منه وهو سائر أنواع الخطأ; لأن الكفارة والدية مما يثبت مع الشبهات. وهنا الكامل مما قلنا أي من معنى الجناية ما ينقض البنية ظاهرا بتخريب الجثة وباطنا بإراقة الدم وإفساد طبائعه الأربع. هذا هو الكامل في النقض; لأن حياة الآدمي باعتدال البنية ظاهرا وباطنا وكان التفويت الكامل بإفساد البنية ظاهرا وباطنا فيجعل هذا الكامل أصلا في قوله عليه السلام: "لا قود إلا بالسيف" ; لأن القود مما يندرئ بالشبهات ويعتبر فيه المماثلة في الاستيفاء بالنص فلا بد من اعتبار صفة الكمال فيه, فأما اعتبار مجرد عدم احتمال البنية إياه مع سلامة البنية ظاهرا وجعله أصلا فغير مستقيم فيما يندرئ بالشبهات; لأنه ناقض لكونه قتلا من وجه دون وجه. ودليل النقصان حكم الذكوة فإنه يختص بما ينقض البنية ظاهرا أو باطنا ولا يعتبر فيه مجرد عدم احتمال البنية حتى لو قتل الصيد بالمثقل لا يحل ولو جرحه يحل وإن كان في غير المذبح. وقولهما البدن وسيلة وهم وغلط; لأنا لا نعني بهذا أي بفعل القتل أو باشتراط الجرح الجناية على الجسم أي على البدن ليندفع بقولكم: الجرح وسيلة وتبع, والمقصود هو الجناية على النفس فلا يلتفت إلى الوسيلة بعد حصول المقصود بغيرها, بل نعني الجناية على النفس التي هي معنى الإنسان وهي دمه وطبائعه عند أهل الإسلام. والقصاص مقابل بذلك أي بالجناية على النفس بالنص وهو قوله تعالى {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ(2/340)
على النفس التي هي معنى الإنسان خلقة فالقصاص مقابل بذلك أما الجسم ففرع وأما الروح فلا يقبل الجناية ومعنى الإنسان خلقة بدمه وطبائعه فلا يتكامل الجناية عليه, إلا بجرح يريق دما ويقع على معناه قصدا فصار هذا أولى خصوصا في العقوبات ومن ذلك أن أبا يوسف ومحمدا أوجبا حد الزنا باللواطة بدلالة النص; لأن
ـــــــ
بِالنَّفْسِ} "المائدة: 45" أما الجسم ففرع يعني بالنسبة إلى المعنى لأنه هو المقصود, ولا نريد أن البدن غير داخل في معنى الإنسان كما هو مذهب البعض. وأما الروح فلا يقبل الجناية يعني من العباد لكن الجناية على المعنى وهو الطبائع الأربع لا يتكامل, إلا بجرح يخرب البنية ويريق الدم; لأنه إذا أراق الدم فقد اتصل أثر فعله به قصد أو المجموع يبطل ببطلان بعضه فيكون مبطلا معنى الإنسان بالإراقة قصدا فيتكامل الجناية. ولهذا كان الغرز بالإبرة في المقتل موجبا للقصاص; لأنه مسيل للدم مؤثر في الظاهر والباطن, إلا أنه لا يكون موجبا الحل في الذكاة; لأن المعتبر هناك تسييل جميع الدم ليتميز به الطاهر من النجس ولهذا اختص بقطع الأوداج والحلقوم عند التيسر. فصار هذا أي اعتبار الكمال في معنى الجناية. أولى مما قالاه. خصوصا في العقوبات; لأنها تندرئ بالشبهات. ولا يلزم علينا ما ذكروا من مسألة قطاع الطريق; لأن القتل في ذلك الباب ما وجب قصاصا وإنما وجب جزاء على قطع الطريق وذلك يحصل بأي قتل كان ولهذا لو قتلوا بالسوط يجب أيضا فأما القتل قصاصا فقد وجب جزاء على فعل كامل بصفة العمدية وفي العمدية خلل وقصور. قال القاضي الإمام جعل أبو حنيفة سلامة الظاهر شبهة فلم يوجب معها القصاص وهذا منه استقصاء في الاحتيال للدرء أو ما قاله أبو يوسف ومحمد هو الطريق الواضح في تفسير عمد القتل عند الناس, والله أعلم.
قوله "ومن ذلك" أي ومما ثبت بالدلالة وجوب حد الزنا في اللواطة على قولهما. والباء الأولى للسببية والثانية للاستعانة يعني أوجبا بدلالة النص حد الزنا بسبب اللواطة فقالا اللواطة وإتيان المرأة الأجنبية في الموضع المكروه منها يوجب حد الزنا على الفاعل والمفعول فيرجمان إن كانا محصنين ويجلدان إن لم يكونا محصنين وهو قول جمهور العلماء.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يجب فيها الحد ولكن يجب فيها أشد التعزير وللإمام أن يقتله إن اعتاد ذلك, كذا في عامة الكتب. وذكر القاضي الإمام ظهير الدين رحمه الله في فتاواه ناقلا عن الروضة أن الخلاف في الغلام أما في وطء المرأة في الموضع المكروه(2/341)
الزنا اسم لفعل معلوم ومعناه قضاء الشهوة بسفح الماء في محل محرم مشتهى وهذا المعنى بعينه موجود في اللواطة وزيادة; لأنه في الحرمة فوقه وفي سفح الماء فوقه وفي الشهوة مثله وهذا معنى الزنا لغة. والجواب عن هذا أن الكامل أصل في كل باب خصوصا في الحدود والكامل في سفح الماء ما يهلك البشر حكما وهو الزنا; لأن ولد الزنا هالك حكما لعدم من يقوم بمصالحه فأما تضييع الماء فقاصر; لأنه قد يحصل بالعزل ولا تفسد الفراش, وكذلك الزنا كامل بحاله;
ـــــــ
فيوجب الحد بلا خلاف ولو فعل ذلك بعبده أو أمته ومنكوحته لا يجب الحد بلا خلاف; لأن الملك مقتض إطلاق الانتفاع فأورث شبهة في الفعل.
تمسك الجمهور بأن الزنا شرعا ولغة اسم لفعل معلوم وهو إيلاج الفرج في محل مشتهى يسمى قبلا على سبيل الحرمة. ومعناه أي المقصود منه اقتضاء شهوة الفرج بسفح الماء في ذلك المحل لا لقصد الولد; ولذلك يسمى سفاحا. وهذا المعنى أي معنى الزنا بعينه موجود في اللواطة وزيادة; لأنه أي لأن فعل اللواطة في الحرمة فوق الزنا; لأنها لا تنكشف بحال فصار نظير الزنا بالأم فإنه أفحش من الزنا بالأجنبية; لأن حرمتها لا تنكشف بوجه. وفي سفح الماء فوقه; لأن معنى النسل في الزنا معدوم قصدا وفي اللواطة معدوم قصدا أو زيادة; لأن المحل لا يصلح للنسل فيكون أشد تضييعا للماء فإنه بذر وإلقاء البذر في محل لا ينبت يكون أشد تضييعا له من إلقائه في محل ينبت على قصد أن لا ينبت لمانع من الوقت وغيره. وفي الشهوة مثله; لأن معاني الاشتهاء من الحرارة واللين وغيرهما محسوسة في هذا المحل كما هي محسوسة في محل الحرث.
ألا ترى أن الذين قالوا بالطبع دون الشرع لم يفصلوا بين المحلين وأن كفارة الفطر يجب فيها بنفس الإيلاج في الجماع; لأن الكفارة تبتني على الفطر باقتضاء الشهوة وهما سواء فيه. وفيما دون الفرج لا يتحقق الفطر حتى ينزل; لأنه دون ذلك. وكذلك وجوب الاغتسال في اللواطة يثبت بنفس الإيلاج كما في الجماع; لأنهما سواء في استجلاب المني الذي هو سبب الغسل وفي جماع البهيمة لا يجب إلا بالإنزال فثبت أنهما سواء في اقتضاء الشهوة, إلا أنه تبدل الاسم من الزنا إلى اللواطة باعتبار تبدل المحل وذلك لا يضر كتبدل اسم الطرار لا يمنع ثبوت حكم السارق في حقه بعد وجود كمال العلة. ألا ترى أن حكم الرجم تعدى من ماعز إلى غيره وإن كان يفارقه باسمه لاستوائهما في المعنى الذي تعلق الحكم به فكذا فيما نحن فيه. وهذا معنى الزنا لغة أي ما ذكرنا من معنى الزنا ثابت لغة لا اجتهادا إذ يعرفه كل واحد من أهل اللسان فكان الحكم الثابت به ثابتا بالدلالة(2/342)
لأنه غالب الوجود بالشهوة الداعية من الطرفين وأما هذا الفعل فقاصر بحاله; لأن الداعي إليه شهوة الفاعل فأما صاحبه فليس في طبعه داع إليه بل الطبع مانع ففسد الاستدلال بالكامل على القاصر في حكم يدرأ بالشبهات والترجيح بالحرمة باطل; لأن الحرمة
ـــــــ
لا بالقياس. والجواب لأبي حنيفة رحمه الله: "عن هذا" أي عما ذكرنا في جانبهما أنا لا نسلم صحة الاستدلال فإن من شرط المساواة بين المحلين في المعنى الموجب للحكم وهي معدومة ههنا; لأن المتنازع فيه قاصر عن المنصوص عليه في المعنى الذي تعلق الحكم به لوجهين: أحدهما: أن الحكم في الزنا إنما تعلق بسفح الماء على وجه يؤدي إلى فساد الفراش وإهلاك البشر حكما لا بمجرد السفح; لأن الولد يخلق من ماء الزنا ولا يمكن إيجاب تربيته على الزاني لعدم ثبوت النسب منه ولا على الأم لعجزها عن الكسب والإنفاق عليه, فيهلك; ولذا سمى تربيته إحياء قال عليه السلام: "من أخذ لقيطا فقد أحياه" ولهذا لو أكره الرجل الرجل بالقتل على الزناء لا يرخص له الإقدام حتى لو أقدم يأثم كما لو أكره على قتل إنسان, وفي اللواطة لم يوجد هذا المعنى وإنما وجد مجرد تضييع الماء وأنه قد يحل بالعزل في الأمة بغير إذنها وفي المنكوحة الحرة بإذنها والمنكوحة الأمة بإذنها أو بإذن مولاها. وليس فيه إفساد الفراش أيضا; لأن ذلك باشتباه النسب ولا تصور لذلك في الرجل إذ الرجل لا يتصور أن يكون فراشا فكان قاصرا ولا يجوز أن يجبر هذا النقصان بزيادة الحرمة من الوجه الذي قالا; لأن ذلك يكون مقايسة ولا مدخل لها في الحدود.
فإن قيل: لا نسلم أن الحكم تعلق بما ذكرتم فإنه لو زنى بعجوز أو بعقيم لا زوج لها يجب الحد ولم يوجد إفساد الفراش ولا إهلاك الولد. وكذا زناء الخصي يوجب الحد ولا ماء له ليؤدي إلى فساد الفراش وإهلاك الولد.
قلنا: المعتبر والمنظور إليه في أحكام الشرع الجنس لا الإفراد وجنس الزنا لا يخلو عن إفساد الفراش وإهلاك الولد بل هو الغالب فيه على أن محلية الماء لا ينعدم أصلا في العجوز والعقيم فإن حرمة المصاهرة تثبت بوطئهما وكذا الخصي لا ينعدم فيه أهلية الماء ولهذا يثبت النسب منه ولو انعدم الماء أصلا لا يثبت النسب منه كما في الصبي.
والثاني: أن الزنا كامل بحال إلى آخر ما ذكره الشيخ في الكتاب. وتقريره بعبارة الإمام البرغري أن الحدود شرعت زواجر عن الإقدام على الجنايات وإنما يحتاج إلى الزاجر الشرعي فيما يميل الطبع إليه, فأما فيما ينزجر الإنسان عنه بطبعه فلا يحتاج فيه إلى الزاجر الشرعي كشرب البول لا يوجب الحد لما ذكرنا والحاجة إلى الزاجر في اللواطة ليست كالحاجة إلى الزاجر في الزنا. أما في جانب المفعول فلأن الحد لو وجب عليه إنما يجب(2/343)
المجردة بدون هذه المعاني غير معتبر لإيجاب الحد ألا ترى أن شرب البول لا يوجب الحد مع كمال الحرمة, ومن ذلك أن الشافعي رحمه الله قال وجبت الكفارة بالنص في الخطأ من القتل مع قيام العذر وهو الخطأ فكان دلالة على وجوبها بالعمد لعدم العذر; لأن الخطأ عذر مسقط حقوق الله
ـــــــ
استدلالا بالزنا والزانية إنما تحملها الشهوة على الزنا فأما المفعول به ههنا فيمتنع بطبعه عن هذا الفعل أشد الامتناع على ما عليه أصل الجبلة السليمة فلا يحتاج إلى الزاجر الشرعي فشرع الحد على الزانية لا يدل على شرع الحد على هذا,
وكذلك الكلام في جانب الفاعل لأن طبعه وإن كان يميل إلى هذا الفعل ولكن الفعل لا يقوم به وحده وإنما يقوم به وبآخر لا يميل طبعه إليه وفي الزنا يقوم باثنين طبع كل واحد منهما مائل إليه فكان أغلب وجودا أو أسرع حصولا فكان أحوج إلى الزاجر فشرع الزاجر فيه لا يدل على شرعه في المتنازع فيه; "لأن الحرمة المجردة" يعني في الزنا بدون هذه المعاني وهي أن يكون غالب الوجود وأن يكون فيه إهلاك البشر حكما وأن يكون فيه إفساد الفراش غير معتبرة لإيجاب حد الزنا. يعني هي ليست بموجبة للحد حتى ترجحوا اللواطة عليه بالحرمة فتوجبوا فيه الحد بالطريق الأولى بل المعتبرة ما ذكرنا من المعاني وهي في اللواطة غير موجودة. والدليل على أن الحرمة المجردة غير معتبرة أن شرب البول لا يوجب الحد مع كمال الحرمة أي مع كونه آكد في الحرمة من الخمر فإن حرمته لا ينكشف بحال وشرب الخمر يوجبه مع أن حرمتها تزول بالتخليل وأنها لم تكن محرمة في الملل المتقدمة لوجود دعاء الطبع في الخمر وعدمه في البول.
قوله "ومن ذلك" أي ومن الثابت بالدلالة أن الشافعي رحمه الله أوجب الكفارة في القتل العمد واليمين الغموس استدلالا بالقتل الخطإ واليمين المنعقدة فقال: الكفارة إنما تجب في الخطإ لارتكاب الجناية; ولهذا سميت كفارة أي ستارة للذنب لا للخطأ فإنه عذر مسقط للحقوق فلا يجوز أن يكون علة للوجوب ولما وجبت الكفارة في الخطإ مع قيام العذر المسقط بمعنى الجناية وهو قتل النفس المعصومة فلأن يجب في العمد وهو في معنى الجناية أقوى كان أولى; لأن ازدياد سبب الوجوب لا يسقط الواجب بل يؤكده ألا ترى أن قتل الصيد خطأ في الإحرام لما أوجب الكفارة أوجبها العمد لازدياد معنى الجناية فيه,
وكذلك أي وكما وجبت الكفارة في الخطأ بالجناية وجبت في اليمين المعقودة وهي التي على أمر في المستقبل بمعنى الجناية وهو صيرورتها كاذبة باعتبار الحنث, وإذا(2/344)
تعالى, وكذلك وجبت الكفارة في اليمين المعقودة إذا صارت كاذبة فلأن يجب في الغموس وهي كاذبة من الأصل أولى فصارت دلالة عليه لقيام معنى النص لكن قلنا: هذا الاستدلال غلط; لأن الكفارة عبادة فيها شبه بالعقوبات لا تخلو الكفارة عن معنى العبادة والعقوبة فلا يجب إلا بسبب دائر بين الحظر والإباحة. والقتل العمد كبيرة بمنزلة الزنا والسرقة فلم يصح سببا كالمباح المحض لا يصلح سببا مع رجحان معنى العبادة في الكفارة, وكذلك الكذب حرام محض
ـــــــ
وجبت باعتبار صيرورتها كذبة مع أنها لم تكن في الأصل كذلك فلأن تجب في الغموس وهي كاذبة من الأصل كان أولى; لأن حظر الغموس من جنس حظر المعقودة إذا حنث فيها; لأنه حظر من حيث الاستشهاد بالله كاذبا, إلا أنه في الغموس آكد.
يوضحه أن اليمين نوعان يمين بالله تعالى ويمين بالطلاق ونحوه, ثم اليمين بالطلاق بشرط ماض على الكذب توجب ما توجبه اليمين بالطلاق بشرط في المستقبل ووجد الشرط فكذا اليمين بالله تعالى توجب ما توجبه في المستقبل إذا تحقق الكذب فيها. وما ذكرنا من المعنى ثابت لغة; لأن كل أحد من أهل اللسان يعرف أن الكفارة باعتبار معنى الجناية فإنها شرعت لدفع الإثم وهو يحصل بالجناية. وعندنا لا تجب الكفارة في العمد سواء وجب القود به أو لم يجب كقتل الأب ولده عمدا وقتل المولى عبده عمدا وقتل المسلم مسلما لم يهاجر إلينا في دار الحرب عمدا وكذا في الغموس; لأن العمد كبيرة محضة وكذا الغموس محظور فلا يصلح سببا للكفارة كالزنا والسرقة وشرب الخمر. وتحقيقه أن حقوق الله تعالى على ثلاثة أقسام: عبادات محضة: وأنها لا تتعلق بأسباب محظورة; لأن العبادات حكمها الثواب ونيل الدرجات ويستحيل أن يصير الجنابة سببا لذلك وأنها تتعلق بأسباب مباحة كالنصاب للزكاة والوقت للصوم والصلاة.
وعقوبات محضة: وأنهما تتعلق بمحظورات محضة; لأن العقوبة شرعت زاجرة محضة وإنما يجب الزجر عن المعاصي لا عن المباح.
وكفارات وهي تتردد بين عبادة وعقوبة. أما معنى العقوبة فيها فلأنها لا تجب الإجزاء كالحدود والعبادات تجب ابتداء تعظيما لله تعالى أما معنى العبادة فيها فلأنها تتأدى بالصوم وما يقوم مقامه وما شرع الصوم خاليا عن معنى العبادة ولأنها تكفر الذنب وتمحوه ولن يقع التكفير إلا بما هو طاعة وقربة ولهذا كانت النية فيها شرطا وفوض أداؤها إلى من وجبت عليه ليؤديها باختياره والعقوبات تقام كرها وجبرا, وإذا ثبت أنها مترددة بين العبادة والعقوبة وجب أن يكون سببها مشتملا على صفتي الحظر والإباحة ليكون(2/345)
وأما الخطأ فدائر بين الوصفين واليمين عقد مشروع والكذب غير مشروع ولا
ـــــــ
معنى العبادة مضافا إلى صفة الإباحة ومعنى العقوبة مضافا إلى صفة الحظر; لأن الأثر أبدا يكون على وفق المؤثر والقتل العمد محظور محض. وكذا الغموس; لأن الكذب بدون الاستشهاد بالله حرام ليس فيه إباحة فمع الاستشهاد بالله أولى فكان العمد والغموس بمنزلة السرقة والزنا فلا يصلحان سببين للكفارة. ألا ترى أن المباح المحض لا يصلح سببا للكفارة مثل القتل بحق واليمين المعقودة قبل الحنث مع أن معنى العبادة فيها راجح سوى كفارة الفطر فلأن لا يصلح المحظور المحض كان أولى.
"وأما الخطأ فدائر بين الوصفين" أي الحظر والإباحة لأنه من حيث الصورة رمي إلى الصيد أو إلى كافر وهو مباح. وباعتبار ترك التثبت أو باعتبار المحل هو محظور; لأنه أصاب آدميا محترما معصوما فيصلح سببا لها.
وكذا اجتمع في المعقودة صفتا الحظر والإباحة من وجهين: أحدهما: أنها تعظيم الله تعالى وذلك مندوب إليه, ولهذا شرعت في بيعة نصرة الحق فإنهم كانوا يحلفون في البيعة مع النبي صلى الله عليه وسلم على أنهم لا يتركون ولا يؤثرون أنفسهم على نفسه. وعلي رضي الله عنه كان يحلف في المبايعة للبعض وهي أيضا منهي عنها بقوله تعالى {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} "البقرة: 224" أي بذله في كل حق وباطل وقوله {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} "البقرة: 89" أي امتنعوا عن اليمين واحفظوا أنفسكم عنها والثاني أن اليمين الصادقة عقد مشروع يحلف بها في الخصومات وتلزمنا شرعا فكانت مباحة, إلا أنها تأخذ معنى الحظر باعتبار الحنث وهو معنى قوله "والكذب غير مشروع" أي الحنث غير مشروع فكانت دائرة بين الحظر والإباحة فتصلح سببا للكفارة وهذا الوجه يشير إلى اليمين مع الحنث سبب والوجه الأول يشير إلى أن نفس اليمين سبب والحنث شرط وإلى كل واحد ذهب فريق من العلماء فتبين بما ذكرنا أن تعليق الكفارة بوصف الجناية منفردا غلط وأن الاستدلال المذكور غير صحيح.
ولا يلزم على ما ذكرنا الإفطار سبب في رمضان بشرب الخمر أو بالزنا; لأن شرب الخمر والزنا ليسا بسببين للكفارة بدليل أنه لو كان ناسيا لصومه لا يجب الكفارة وإنما الموجب للكفارة الفطر وأنه جناية من وجه دون وجه فإنه من حيث إنه تناول شيء يحصل به قضاء الشهوة مشروع ومن حيث إن الصوم حق الله تعالى وأنه يبطل بالفطر محظور فيصلح سببا للكفارة على أن في كفارة الفطر شبه العقوبة راجح على ما عرف فجاز إيجابها بما يترجح معنى الحظر فيه, كذا في طريقة الإمام البرغري. ورأيت في بعض النسخ أما الفطر فإنه دائر بينهما أما الإباحة فمن حيث إنه يلاقي فعل نفسه الذي هو مملوك له, وأما(2/346)
يلزم إذا قتل بالحجر العظيم فإنه يوجب الكفارة عند أبي حنيفة رحمه الله ذكره الطحاوي; لأن فيه شبهة الخطأ وهي مما يحتاط فيها فتثبت بشبهة السبب كما ثبت بحقيقته وذكره الجصاص في أحكام القرآن, وقد جعله في الكتاب شبه
ـــــــ
الحظر فمن حيث إنه جناية على العبادة وبه ترتفع النقوض من أنه إذا أفطر بالخمر أو بالزنا عمدا فإنه تجب الكفارة. وفي الأسرار بهذه العبارة ولا تلزم كفارة الإفطار فإنها لا تجب مع شبهة الإباحة; لأن كفارة الفطر إنما تجب بفعل مباح في نفسه محظور بصومه كجماع الأهل وأكل خبزه وإنما يشترط تمحض الحظر لحق الفطر أن لا يكون فيه شبهة إباحة الفطر لا شبهة إباحة ذلك الفعل في نفسه حتى إذا زنى في رمضان وذلك الزنا حرام في نفسه لا لحق الصوم وحرام بغيره وهو الصوم وجب بكونه حراما في نفسه الحد الذي هو عقوبة وبسبب المعنى الآخر كفارة فلا بد من إلغاء حرمة الفعل في نفسه لإيجاب الكفارة وإلحاقه بالحلال في نفسه لولا الصوم. وتحقيقه أن الكفارة تجب بالإفطار لا بالجماع نفسه والإفطار باقتضاء شهوة بطنه وفرجه والاقتضاء في نفسه حلال وإنما حرم لغيره وهو الصوم في مسألتنا فلم يصر حراما محصنا لما حل في نفسه لوجوده في محله. ولا يلزم على ما ذكرنا وجوب التوبة والاستغفار فإنها طاعة محضة, وقد وجبت بسبب الكبيرة المحضة فما هو طاعة من وجه أولى; لأنا لا نسلم أنها وجبت بالجناية لأنها رجوع عن الجناية ونقض لها ونقض الشيء لا يصلح أن يكون من حكمه فلا يضاف إليه وإنما يضاف وجوبها إلى ديانته واعتقاده حرمة ما ارتكبه.
قوله "ولا يلزم إذا قتل بالحجر العظيم" يعني ولا يلزم على ما قلنا القتل بالمثقل فإنه يوجب الكفارة عند أبي حنيفة رحمه الله: وإن كان محظورا محضا; لأن فيه أي في القتل بالحجر العظيم شبهة الخطإ فإنه من خطإ العمد عنده, وقد دخل تحت قوله عليه السلام: "ألا إن قتيل الخطإ العمد قتيل السوط والعصا1" على ما عرف في تلك المسألة وذلك لأن المثقل ليس بآلة القتل بأصل الخلقة وإنما هو آلة التأديب ألا ترى أن إجراءه للتأديب بها والمحل قابل للتأديب مباحا فتمكنت فيه شبهة باعتبار الآلة. ولما كان هذا خطأ العمد أي شبه العمد كان محظورا من حيث العمدية ومن حيث الخطأ لا يخلو عن شبهة إباحة ولهذا يسقط القصاص.
والكفارة مما يحتاط في إيجابها لرجحان جهة العبادة فيها فيثبت بشبهة الخطأ كما يثبت بحقيقته, وقد جعله أي جعل محمد القتل بالمثقل على أصل أبي حنيفة في
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الديات حديث رقم 4547 وابن ماجة في الديات حديث رقم 2627.(2/347)
العمد في إيجاب الدية على العاقلة فكان نصا على الكفارة, وإذا قتل مسلم حربيا مستأمنا عمدا لم تلزمه الكفارة مع قيام الشبهة; لأن الشبهة في محل الفعل
ـــــــ
الكتاب أي في "المبسوط" شبهة العمد حيث أوجب الدية فيه على العاقلة فكان هذا تنصيصا على إيجاب الكفارة; لأن شبه العمد يوجب الكفارة. وإنما أكد الشيخ وجوب الكفارة بالرواية عن الطحاوي والجصاص وبدلالة رواية المبسوط لأنه قد روي عن أبي حنيفة رحمه الله أن الكفارة فيه لا تجب فقد قال أبو الفضل الكرماني في الإيضاح وجدت في كتب أصحابنا لا كفارة في شبه العمد على قول أبي حنيفة رحمه الله فإن الإثم كامل متناه وتناهيه يمنع شرع الكفارة; لأن ذلك من باب التخفيف.
قوله "وإذا قتل مسلم حربيا مستأمنا عمدا لم يلزمه الكفارة" يعني إذا قتله بالسيف حتى يكون عمدا بالإجماع فإنه لو قتله بالمثقل يجب الكفارة عند أبي حنيفة رحمه الله وهذه المسألة ترد إشكالا على الجواب الذي ذكره عن القتل بالمثقل وبيانه أن المسلم إذا قتل مستأمنا عمدا لا يجب عليه القصاص استحسانا وفي القياس يلزمه وهو رواية أحمد بن عمران1 أستاذ الطحاوي عن أصحابنا ورواية ابن سماعة عن أبي يوسف; لأن الشبهة المبيحة تنتفي عن الدم بعقد الأمان فلا جرم يجب القصاص بقتله على المستأمن والمسلم جميعا.
وجه الاستحسان أن الشبهة المبيحة بقيت في ذمة فإنه حربي ممكن من الرجوع إلى دار الحرب فجعل في الحكم كأنه في دار الحرب ولهذا يرث الحربي ولا يرث الذمي وإن كانا في دار الإسلام فلا يتحقق المساواة بينه وبين من هو من أهل دارنا في العصمة, والقصاص يعتمد المساواة فلا يجب القصاص على المسلم بقتله ولكن يجب عليه دية الحر المسلم; لأن أصل العصمة يثبت التقوم في نفسه حين استأمن كما يثبت التقوم في ماله حتى يضمن بالإتلاف فصار حاله في قيمة نفسه كحال الذمي فكما يسوى بين دية المسلم والذمي عندنا, فكذلك يسوى بين دية المسلم والمستأمن,
ثم الشبهة في المسألة الأولى أعني مسألة المثقل أثرت في إيجاب الكفارة كما أثرت في إسقاط القصاص والشبهة في هذه المسألة أثرت في إسقاط القصاص ولم تؤثر في إيجاب الكفارة. فأجاب وقال: الشبهة هاهنا في محل الفعل لا في الفعل فإن دم المستأمن لا يماثل دم المسلم في العصمة حتى لو ثبت المماثلة بأن قتل المستأمن في دارنا مستأمنا آخر أو قطع طرفه وجب القصاص, كذا في السير الكبير. فاعتبرت في القود
ـــــــ
1 هوأحمد بن أبي عمران بن عيسي أبو جعفر البغدادي توفي سنة 280ه.(2/348)
فاعتبرت في القود; لأنه يقابل بالمحل من وجه حتى نافى الدية فأما الفعل فعمد محض خالص لا تردد فيه والعقوبة جزاء للفعل المحض وفي مسألة الحجر الشبهة في نفس الفعل فعم القود والكفارة; ولهذا قلنا: إن سجود السهو لا يجب بالعمد ولا يصلح أن يكون السهو دليلا على العمد لما قلنا خلافا للشافعي
ـــــــ
أي أثرت في إسقاطه; لأن القود مقابل بالمحل من وجه حتى امتنع وجوب الدية التي هي بدل المحل مع وجوب القصاص; لأن تفويت المحل الواحد لا يوجب بدلين ولو لم يكن القصاص في مقابلة المحل لما امتنع وجوب الدية معه كما لم يمتنع مع وجوب الكفارة ألا ترى أن المحرم لو قتل صيدا مملوكا لإنسان يجب عليه الجزاء وقيمة المقتول لمالكه أيضا; لأنه لا تنافي بينهما إذ الكفارة جزاء الفعل والقيمة بدل المحل فلو لم يكن القصاص مقابلا بالمحل بوجه لأمكن الجمع بينه وبين الدية أيضا.
وإنما قال من وجه; لأن القود عندنا جزاء الفعل حتى يثبت للمقتول حكم الشهادة ويقتل جماعة بواحد ولكن فيه شبهة كونه بدل المحل لما ذكرنا وهذا القدر من الشبهة كاف لانتفاء القصاص. فأما الفعل فعمد محض خالص لا تردد فيه أي لا يدور بين الحظر والإباحة وليس فيه شبهة الإباحة بوجه فلا يصلح سببا للكفارة إذ الكفارة جزاء الفعل المحض ليس فيها شبهة البدلية عن المحل بوجه حتى يؤثر فيها الشبهة الواقعة في المحل. وفي مسألة الحجر أي القتل بالمثقل الشبهة في نفس الفعل باعتبار أن الآلة ليست بآلة القتل خلقة على ما بينا ووضع الآلة لتتميم القدرة الناقصة فكانت داخلة في فعل العبد فتمكنت الشبهة في الفعل. فعمت القود والكفارة أي أثرت في إسقاط القود وإيجاب الكفارة جميعا.
قوله "ولهذا" أي ولما ذكرنا أن الكفارة المشروعة في الخطإ والمعقودة لا يجب في العمد والغموس قلنا: السجود المشروع في السهو لا يجب بالعمد أي بترك الواجب عمدا. والعمد لغة ما حصل من الفعل عن قصد صحيح من الفاعل إليه بعد علمه به. وقال الشافعي رحمه الله: يجب بالعمد; لأنه إنما وجب في السهو لتمكن النقصان في صلاته وذلك موجود في العمد وزيادة فيثبت الحكم بالدلالة. ولكنا نقول السبب الموجب بالنص شرعا هو السهو على ما قال عليه السلام: "لكل سهو سجدتان بعد السلام1" والسهو ينعدم إذا كان عامدا وهو معنى قوله ولا يصلح أن يكون السهو
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الصلاة حديث رقم 1038 وابن ماجة في إقامة الصلاة حديث رقم 1219.والإمام أحمد في المسند 5/280(2/349)
أيضا وقلنا نحن: إن كفارة الفطر وجبت على الرجل بالمواقعة نصا ومعنى الفطر فيه معقول لغة فوجبت الكفارة على المرأة أيضا استدلالا به.وأما المقتضي فزيادة على النص ثبت شرطا لصحة المنصوص عليه لما لم يستغن عنه وجب تقديمه لتصحيح المنصوص عليه فقد اقتضاه النص فصار
ـــــــ
دليل العمد أي الوجوب في السهو دليل الوجوب في العمد; لما قلنا في وجوب الكفارة أن وجوبها في الخطإ والمعقودة لا تدل على وجوبها في العمد والغموس وذلك لأن السجدة عبادة شرعت لله تعالى جبرا للفائت فلا يصلح المحظور سببا له وهو تأخير واجب أو تركه عمدا.
قوله "وقلنا نحن" إشارة إلى خلاف الشافعي فإن عنده لا يجب على المرأة الكفارة في قول; لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين حكم الكفارة في جانبه لا في جانبها فلو لزمتها لبين كما بين الحد في جانبها في حديث العسيف. ولأن سبب الكفارة المواقعة المعدمة للصوم والرجل هو المباشر لذلك دونها إذ هي محل المواقعة وليست بمباشرة لها فكان فعلها دون فعل الرجل فيما دون الفرج بخلاف الحد فإن سببه الزنا وهي مباشرة له فإن الله تعالى سماها زانية. وفي قول آخر يجب عليها الكفارة ويتحمل الزوج عنها إذا كانت مالية; لأن ما تعلق بالمواقعة إذا كان بدنيا اشتركا فيه كالاغتسال, وإذا كان ماليا تحمل الزوج عنها كثمن ماء الاغتسال.
فقال الشيخ: إنما وجبت الكفارة على الرجل بالمواقعة ومعنى الفطر الذي هو جناية كاملة مفهوم منه أي من الوقاع لغة كالإيذاء من التأفيف وهذا المعنى يتحقق في جانبها كما يتحقق في جانبه فتلزمها الكفارة بطريق الدلالة كما لا يلزمها الحد بسبب الزنا إذ تمكينها فعل كامل فإن الحد مع النقصان وبيان النبي عليه السلام في جانبه بيان في جانبها; لأن كفارتهما واحدة بخلاف حديث العسيف فإن الحد في جانبه كان الجلد وفي جانبها الرجم ولا معنى للتحمل; لأن الكفارة إما أن تكون عقوبة أو عبادة وبسبب النكاح لا تجري التحمل في العبادات والعقوبات إنما ذلك في مؤن الزوجية, كذا في المبسوط.
قوله "وأما المقتضي فزيادة على النص ثبت" أي المقتضي أو الزيادة على تأويل المزيد فكانت الجملة صفة لها. وانتصب شرطا على أنه مفعول له أي يثبت تلك الزيادة لأجل أن يكون شرطا لصحة المنصوص عليه شرعا. وقوله لما لم يستغن أي المنصوص عليه عنه متعلق يثبت شرطا. وقوله وجب تقديمه مستأنف. وقوله فقد اقتضاه النص في معنى التعليل له أي وجب تقديم المقتضى أو تقديم تلك الزيادة لأجل(2/350)
المقتضي بحكمه حكما للنص بمنزلة الشراء أوجب الملك والملك أوجب العتق في القريب فصار الملك بحكمه حكما للشراء فصار الثابت به بمنزلة
ـــــــ
تصحيح المنصوص شرعا; لأن النص اقتضاه أي طلبه. أو لما لم يستغن مستأنف ووجب تقديم جوابه وقوله فقد اقتضاه النص بيان تسميته بهذا الاسم يعني لما لم يستغن النص عن تلك الزيادة وجب تقديمها ليصح فكان النص مقتضيا إياها فسميت بهذا الاسم وهو المقتضى., وقد صرح الشيخ به في بعض مصنفاته فقال الاقتضاء الطلب تقول اقتضيت الدين أي طلبته وسمي المقتضى مقتضى; لأن النص طلبه. فصار المقتضي بحكمه أي مع حكمه حكمين للنص أي مضافين إليه; لأن حكم المقتضي تابع له وهو تابع للمقتضي فيكون المقتضى مضافا إليه بنفسه وحكمه بوساطته كما إذا وقع خبر المبتدأ جملة مركبة من مبتدأ وخبر كان المبتدأ الثاني مع خبره خبرا للأول كقولك زيد أبوه منطلق.
ولا يقال هذا يقتضي أن يكون المقتضي هو الأصل وتوقفه على المقتضي وافتقاره إليه يقتضي أن يكون هو تبعا للمقتضي والشيء الواحد لا يجوز أن يكون أصلا لشيء وتبعا له;
لأنا نقول: المراد من كون المقتضي أصلا أنه لا يثبت في ضمن المقتضي وإنما يثبت ابتداء قصدا ومن تبعية المقتضي أنه يثبت ضمنا وتبعا له ولا يلزم من توقفه عليه تبعيته له كالصلاة توقفت على الوضوء وهي أصل له وليست بتبع. فإن قيل شرطية المقتضي لصحة النص توجب تقدم ثبوته عليه وكونه حكما له يوجب تأخره عنه وذلك مستحيل في شيء واحد في حالة واحدة. قلنا: قد قيل في جوابه: إنه يجوز أن يكون متقدما تقديرا من حيث إنه شرط ومتأخرا تقديرا من حيث إنه حكم فيمكن القول باجتماعهما في حالة واحدة ولكنه ليس بصحيح إذ لا بد من تقدم الشرط على المشروط تحقيقا فمتى كان متأخرا تحقيقا لا يصلح شرطا لما تقدمه بوجه بل الجواب الصحيح أنه ليس بحكم للنص حقيقة بل هو بحكم اقتضاء النص لأنه ثبت به وإنما يضاف إلى النص لإضافة الاقتضاء إليه ولكنه شرط صحة النص أي المنصوص عليه لتوقفها عليه, ألا ترى أن البيع في قولك أعتق عبدك عني بألف ثبت باقتضاء هذا الكلام فكان حكما له ولكنه يثبت لأجل صحة الإعتاق المطلوب بهذا الكلام فكان شرطا له لا للاقتضاء الذي أوجبه والاقتضاء غير النص فكان اجتماع الشرطية والحكمية فيه باعتبار أمرين متغايرين فيجوز, فصار الثابت به أي بالمقتضي بمنزلة الثابت بها أي بالصيغة أو بالعبارة بنفس النظم يدل تكرير العامل ولم يذكر كلمة بها في بعض النسخ وهو الأصح أي الثابت به بمنزلة الثابت بنفس نظم النص دون معناه المستنبط منه حتى أن القياس لا يعارضه وهذا بلا(2/351)
الثابت بنفس النظم دون القياس حتى أن القياس لا يعارض شيئا من هذه الأقسام والثابت بهذا يعدل الثابت بالنص, إلا عند المعارضة به واختلفوا في هذا القسم قال أصحابنا رحمهم الله: لا عموم له. وقال الشافعي رحمه الله فيه بالعموم; لأنه
ـــــــ
خلاف. والثابت بهذا أي بالمقتضي يعدل أي يساوي الثابت بالنص, إلا عند المعارضة فإن الثابت بالنص أو إشارته أو دلالته يكون أقوى من الثابت بالمقتضي; لأنه ثابت بالنظم أو بالمعنى اللغوي فكان ثابتا من كل وجه والمقتضي ليس من موجبات الكلام لغة وإنما يثبت شرعا للحاجة إلى إثبات الحكم به فكان ضروريا ثابتا من وجه دون وجه إذ هو غير ثابت فيما وراء ضرورة تصحيح الكلام فيكون الأول أقوى. وما جدت لمعارضة المقتضي مع الأقسام التي تقدمته نظيرا, وقد تحمل بعض الشارحين في إيراد المثال فقال إذا باع من آخر عبدا بألفي درهم, ثم قال البائع للمشتري قبل نقد الثمن أعتق عبدك عني هذا بألف درهم فأعتقه لا يجوز البيع لأن دلالة النص الذي ورد في حق زيد بن أرقم بفساد شراء ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن توجب أن لا يجوز والاقتضاء يدل على الجواز فترجح الدلالة على الاقتضاء. وإنما قلنا: إنه دلالة; لأن ثبوت الحكم في حق غير زيد كان بمعنى النص لا بالنظم كثبوت الرجم في حق غير ماعز. ولكن لقائل أن يقول: لا نسلم المعارضة; لأن من شرطها تساوي الحجتين ولا تساوي; لأن المقتضي الذي قام المقتضى به كلام الآمر والدلالة ثابتة بالنسبة فأنى يتعارضان. ولأن عدم الجواز فيما ذكر من الصورة إن ثبت ليس لترجح الدلالة على المقتضي فإنهما لو صرحا بالبيع بأن قال المشتري بعت هذا العبد منك بألف وقال البائع قبلت, لا يجوز أيضا بل لأن موجب ذلك النص عدم الجواز من غير معارضة نص آخر إياه فلا يكون هذا نظير معارضة الدلالة المقتضى.
قوله "واختلفوا في هذا القسم" يعني في عمومه. وقال أصحابنا رحمهم الله لا عموم له أي لا يجوز أن يثبت له صفة العموم. وقال الشافعي رحمه الله: له عموم أي يجوز أن يثبت فيه العموم; لأن المقتضي بمنزلة النص حتى كان الحكم الثابت به بمنزلة الثابت بالنص لا بالقياس فيجوز فيه العموم كما يجوز في النص.
وقلنا: العموم من عوارض النظم وهو غير منظوم حقيقة فلا يجوز فيه العموم وذلك; لأن ثبوت المقتضى للحاجة والضرورة حتى إذا كان المنصوص مفيدا للحكم بدونه لا يثبت المقتضي لغة ولا شرعا والثابت بالضرورة يتقدر بقدرها ولا حاجة إلى إثبات صفة العموم للمقتضي فإن الكلام مفيد بدونه فبقي فيما وراء موضع الضرورة وهو صحة الكلام على أصله وهو العدم فلا يثبت فيه العموم. وهو نظير تناول الميتة لما أبيح للحاجة يتقدر(2/352)
ثابت بالنص فكان مثله, وقلنا: إن العموم من صفات النظم والصيغة وهذا أمر لا نظم له لكنا أنزلناه منظوما شرطا لغيره فيبقى على أصله فيما وراء صحة المذكور.
ومثال هذا الأصل اعتق عبدك عني بألف درهم أنه يتضمن البيع مقتضى
ـــــــ
بقدرها وهو سد الرمق وفيما وراء ذلك من الحمل والتمول والتناول إلى الشبع لا يثبت حكم الإباحة بخلاف النص فإنه عامل بنفسه فيكون بمنزلة حل الزكية يظهر في حكم التناول وغيره مطلقا كذا ذكره شمس الأئمة. وذكر الغزالي في المستصفى لا عموم للمقتضي وإنما العموم للألفاظ لا للمعاني التي تضمنتها ضرورة الألفاظ. بيانه أن قوله عليه السلام لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل ظاهره لنفي صورة الصوم حسا لكن وجب رده إلى الحكم وهو نفي الإجزاء والكمال, وقد قيل إنه متردد بينهما وهو مجمل. وقيل: إنه عام لنفي الإجزاء والكمال وهو غلط نعم لو قال: لا حكم لصوم بغير تبييت لكان الحكم لفظا عاما في الإجزاء والكمال أما إذا قال لا صيام فالحكم غير منطوق به وإنما أثبت ذلك بطريق الضرورة, وكذلك قوله عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" معناه حكم الخطأ ولا عموم له ولو قال لا حكم للخطأ لأمكن حمله على نفي الإثم والعزم وغيره على العموم.
ورأيت في بعض كتب أصحاب الشافعي أنه متى دل العقل أو الشرع على إضمار شيء في كلام صيانة له عن التكذيب ونحوها وثمة تقديرات يستقيم الكلام بأيها كان لا يجوز إضمار الكل وهو المراد من قولنا المقتضي لا عموم له أما إذا تعين أحد تلك التقديرات بدليل كان كظهوره في العموم والخصوص حتى لو كان مظهره عاما كان مقدره كذلك وكذا لو كان خاصا.
قوله "ومثال الأصل" أي نظير هذا الأصل وهو المقتضى. وكأنه ذكر لفظ الأصل لئلا يتوهم أنه مثال العموم. أو معناه مثال المقتضى إذ هو الأصل للمقتضى قول الرجل لغيره كذا. أنه أي هذا الكلام الذي هو طلب الإعتاق, يتضمن البيع مقتضى العتق أي ضرورة صحة الإعتاق; لأنه متوقف على الملك والملك على البيع في هذه الصورة لتعينه سببا له بدلالة قوله على ألف. وشرطا له يعني يثبت البيع متقدما على الإعتاق; لأنه بمنزلة الشرط لتوقف صحة الإعتاق عليه. قال شمس الأئمة وهذا المقتضى ثبت متقدما ويكون بمنزلة الشرط; لأنه وصف في المحل والمحل للتصرف كالشرط فكذا إما يكون وصفا للمحل ولما كان شرطا كان تبعا إذ الشروط اتباع فيثبت بشروط العتق لا بشروط نفسه; لأن الشيء إذا ثبت تبعا يعتبر فيه شرائط المتبوع إظهارا للتبعية كالعبد يصير مقيما وإن كان في غير موضع الإقامة بنية الإقامة من المولى وكذا الجندي بنية السلطان والمرأة(2/353)
العتق وشرط له حتى يثبت بشروط العتق لما كان تابعا له ولو جعل بمنزلة المذكور كما قال الخصم لثبت بشروط نفسه ولهذا قال أبو يوسف رحمه الله:
ـــــــ
بنية الزوج فيعتبر في الآمر أهلية الإعتاق حتى لو لم يكن أهلا له بأن كان صببا عاقلا قد أذن له وليه في التصرفات لم يثبت البيع بهذا الكلام ولا يشترط فيه القبول ولا يثبت فيه خيار العيب والرؤية.
"ولو جعل" أي المقتضى "بمنزلة المذكور" صريحا كما قال الشافعي لثبت بشروط نفسه أي اعتبر فيه أهلية البيع لا غير وشرط فيه القبول وثبتت فيه الخياران ألا ترى أنه لو صرح المأمور بالبيع في هذه الصورة بأن قال بعته منك بالألف وأعتقته لم يجز عن الآمر; لأنه ما أمره ببيعه مقصودا وإنما أمره ببيع ثابت ضرورة العتق, فإذا أتى به مقصودا لم يأت بما أمره به فتوقف على القبول فإذا أعتقه قبل القبول وقع عن نفسه ولم يقع عن الأمر فتبين بما ذكرنا أن المقتضى ليس كالمنصوص فيما وراء موضع الحاجة. وفي هذا المثال خلاف زفر فإنه قال: يقع العتق في قوله أعتق عبدك عني بألف درهم عن المأمور فيكون الولاء له وهو القياس; لأن أمره بالإعتاق عنه فاسد; لأنه أضافه إلى عبد غيره وعبد غيره لا يحتمل أن يعتق عنه بحال لقوله عليه السلام: "لا عتق فيما لا يملكه ابن آدم" ولا يجوز إضمار التمليك ههنا; لأن الإضمار لتصحيح المصرح به لا لإبطاله, وإذا أضمر التمليك صار معتقا عبد الآمر لا عبد نفسه. ولأنه لو أعتقه عن نفسه بنفسه لم ينفذ فلأن لا ينفذ بأمره أولى وكان هذا كما لو قال لآخر: بع عبدك عني من فلان بألف درهم أو آجره عني من فلان بكذا أو كاتبه بكذا ففعل لا يصح ولا يقع عن الآمر فكذا ههنا.
وفي الاستحسان صح هذا الأمر; لأنه صدر من أهل الإعتاق إلى من هو أهله أيضا وأمكن إثبات المطلوب بإثبات شرطه فوجب إثباته تصحيحا لكلامه كما إذا باع المكاتب برضاه أو باع شيئا بألف, ثم باعه بألفين من ذلك المشتري أو بخمسمائة ينفسخ الكتابة والبيع الأول تصحيحا للتصرف الثاني. وهذا; لأن العبد محل لحلول العتق والملك الذي هو شرط النفاذ وصف له والمحال بصفاتها شروط والشروط اتباع وكل متبوع يقتضي تبعة لا محالة كالأمر بالصلاة والنذر بها أمر بالطهارة ونذرها لأنها شرط, وكذا النذر بالاعتكاف نذر بالصوم وكذا استئجار الأرض للزارعة يقتضي شربها; لأنه شرط إمكان الزراعة فكان طلب الإعتاق عنه طلبا للتمليك أو لا بألف, ثم الإعتاق عنه وكانت الإجابة من المأمور تمليكا منه أو لأثم إعتاقا منه فيثبت تمليك بألف في ضمن الإعتاق كأنهما عقدا البيع, ثم حصل الإعتاق بعده كمن يقول لغيره: أد عني زكاة مالي أو كفر عني ففعل أجزأه وإن لم يصح أداء الزكاة والكفارة, إلا بمال نفسه; لأنه يثبت تمليك أو إقراض منه أو لا اقتضاء ثم,(2/354)
إنه لو قال اعتق عبدك عني بغير شيء أنه يصح عن الآمر ويثبت الملك بالهبة من غير قبض; لأنه ثابت مقتضى بالعتق فيثبت بشروطه فيستغني عن التسليم كما استغنى البيع عن القبول وهو الركن فيه فالاستغناء عن القبض وهو شرط
ـــــــ
توكل عنه بالتسليم إلى الفقير فكذا هذا. وتبين بما ذكرنا أنه أمر بإعتاق ملك نفسه لا ملك غيره وأن معنى قوله عبدك العبد الذي هو لك للحال لا عند مصادفة العتق إياه فمقصوده من هذا تعريف العبد لا إضافته إليه بالملك والخلاف ثابت فيما لو قال أعتق هذا العبد عني. وقوله لو أعتقه بنفسه لا يصح قلنا على الوجه الذي ذكرنا لو باشره بنفسه يصح بأن يشتريه أولا, ثم يعتقه.
وليس هذا كالأمر بالبيع والإجارة والكتابة لأنه لا يمكن تصحيح ما أمر به بتقديم الملك; لأنا إذا فعلنا ذلك وجعلنا العبد مملوكا له صار هذا بيع العبد وإجارته وكتابته قبل القبض وكل ذلك فاسد فأما الإعتاق قبل القبض فجائز فأمكن التصحيح. ولا يلزم على ما ذكرنا ما إذا قال لامرأته: تزوجي, فإنه لا يقتضي طلاقا إلا بالنية; لأنا إنما أثبتنا المقتضى لتصحيح الملفوظ ولا يحصل ذلك ههنا; لأنا إذا حكمنا بوقوع الطلاق لا يصح الأمر بالتزوج فإنها تتزوج بمالكيتها أمر نفسها لا بأمر الزوج فإنه لا ولاية له عليها, وإذا لم يصح الأمر به لا يمكن إثباته اقتضاء; ولأن من شرط تزوجها الفراغ عن الأول لا الطلاق فلم يصر مقتضيا له; لأنه لا يثبت الاقتضاء, إلا ضرورة.
قوله "ولهذا" أي ولأن البيع يثبت بشروط العتق في المثال المذكور لا بشروط نفسه قال أبو يوسف والشافعي رحمهما الله إذا قال أعتق عبدك عني بغير شيء فأعتقه أنه يقع عن الأمر وتثبت الهبة اقتضاء كما يثبت البيع في المثال المذكور ولا يشترط فيها القبض; لأنه أي لأن عقد الهبة أو الملك بطريق الهبة ثابت بطريق الاقتضاء بالإعتاق فيثبت بشروط الإعتاق ويسقط اعتبار شرطه وهو القبض مقصودا كما يسقط اعتبار القبول في البيع بل أولى; لأن القبول ركن في البيع والقبض شرط في الهبة فلما سقط اعتبار ما هو الركن لكونه ثابتا باقتضاء العتق فلأن يسقط اعتبار ما هو شرط أولى, كذا ذكر شمس الأئمة وهو أوضح من تركيب الكتاب.
ولما ثبت بشروط العتق والعتق يثبت بلا قبض فكذا الهبة التي في ضمنه. وهذا أي ثبوت الهبة بلا اشتراط قبض مقتضى مثل ثبوت البيع الفاسد بلا اشتراط قبض مقتضى فيما إذا قال: أعتق عبدك عني بألف ورطل من خمر. وهو في الحقيقة جواب عما يقال: القبض فعل حسي فلا يجوز أن يسقط اعتباره بطريق الاقتضاء; لأن المقتضى قول وهو دون(2/355)
أولى, وهذا كما قال: اعتق عبدك هذا عني بألف درهم ورطل من خمر أنه يصح ويعتق عنه وإن لم يوجد التسليم والبيع الفاسد مثل الهبة لما قلنا. وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: يقع العتق عن المأمور; لأن القبض والتسليم بحكم الهبة لم يوجد لأن رقبة العبد بحكم العتق يتلف على ملك المولى في يد
ـــــــ
الفعل فلا يجوز أن يبطل لأجله ما هو أقوى منه بخلاف القبول فإنه قول اعتبر شرعا فيصح أن يسقط شرعا تصحيحا لكلام آخر فقال: قد سقط اعتباره أيضا اقتضاء كما في هذه الصورة. والبيع الفاسد مثل الهبة أي في توقف ثبوت الملك على القبض في كل واحد منهما. لما قلنا أن ما يثبت مقتضى يثبت بشروط المقتضي لا بشروط نفسه. وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: يقع العتق عن المأمور وهو القياس; لأنه لما طلب العتق بغير بدل ولا صحة للعتق, إلا بالملك صار طالبا للهبة والهبة لا توجب الملك, إلا بالقبض ولم يوجد إما حقيقة فظاهر وإما تقديرا فلأن رقبة العبد أي ماليته بحكم الإعتاق تتلف على ملك المولى; لأنه في حالة العتق ملكه والإعتاق إبطال للملك والمالية في يد نفسه أي في يد المولى; لأنه في يده أو في يد العبد; لأن ماليته في ذاته حقيقة وله يد معتبرة شرعا حتى صح اشتراط العمل على عبد رب المال في المضاربة ولم يكن للمولى ولأنه استرداد ما أودعه العبد من المودع وذلك أي المتلف وهو المالية لا يصلح أن يكون مقبوضا للطالب ولا للعبد; لأنه لم يحصل في يده شيء ولا هو محتمل للقبض لأنه هالك, وإذا لم يوجد ما هو شرط ثبوت الملك للآمر لم يثبت العتق عنه; لأنه لا عتق في غير الملك فوقع عن المأمور لأنه لا مرد له. واندرج في كلام الشيخ الجواب عما يقال القبض قد وجد تقديرا; لأن العبد هو الذي يتصرف إليه المالية والهبة تقع في تلك المالية والعبد في يد نفسه فيقع الملك مسلما إليه لقيام يده فصار كهبة الشيء ممن هو في يده حيث يكتفى بذلك القبض ولا يجب قبض جديد وكقوله لآخر أطعم عني كفارتي عشرة مساكين حيث يجوز ويجعل الفقير قابضا نيابة عن الآمر. والدليل عليه أن البائع لا يملك جنس المبيع بالثمن فيما إذا قال لعبد اشتر لي نفسك من مولاك ففعل; لأن العبد في يد نفسه فلما باع صار مسلما بنفس البيع لأن يد العبد يد الطالب بطريق النيابة فكذا ههنا. فقال: المالية لم تصل إلى العبد بل تلف على ملك المولى فلا يمكن أن يجعل أحد قابضا لها.
بخلاف مسألة الطعام فإن المسكين يقبض عين الطعام فيمكن أن يجعل قابضا للآمر أولا, ثم لنفسه. وكذا في مسألة البيع لم يتلف الملك والمالية بل انتقلا إلى المشتري فيمكن أن يجعل العبد نائبا عنه في القبض. "وقوله إن القبض يسقط بالاقتضاء باطل; لأن(2/356)
نفسه وذلك غير مقبوض للطالب ولا للعبد ولا هو محتمل له وقوله: إن القبض يسقط, باطل; لأن ثبوت المقتضي بهذا الطريق أمر مشروع وإنما يسقط به ما يحتمل السقوط والقبض والتسليم في الهبة شرط لا يحتمل السقوط بحال ودليل السقوط يعمل في محله, وأما القبول في البيع فيحتمل السقوط, ألا ترى أن الكل يحتمل السقوط فينعقد بالتعاطي فالشطر أولى, ومن قال لآخر بعتك هذا الثوب بكذا فاقطعه فقطعه ولم يتكلم صح, وكذلك البيع الفاسد مشروع
ـــــــ
ثبوت المقتضى بهذا الطريق" وهو أن يثبت بشروط المقتضي ويسقط اعتبار شروطه أمر شرعي فيؤثر في إسقاط ما يحتمل السقوط دون ما لا يحتمله والقبض والتسليم شرط لا يحتمل السقوط في الهبة بحال إذ لم يوجد صورة أوجبت الهبة الملك بدون القبض ودليل السقوط وهو الاقتضاء يعمل في محل يحتمل السقوط دون ما لا يحتمله.
"وأما القبول في البيع فيحتمل السقوط" لما ذكر فيجوز أن يسقط بالاقتضاء على أنا لا نجعل تقدير الكلام بعه مني, ثم أعتقه لأنه على هذا الوجه يحتاج إلى القبول بل نجعل تقديره كأنه قال اشتريته منك فأعتقه عني وكان المأمور إذا أعتقه قال بعته منك, ثم أعتقه عنك, كذا في طريقة الإمام البرغري. وكذلك أي وكالبيع الصحيح البيع الفاسد مشروع بأصله فيعتبر به في الحكم; لأن الفاسد لا يمكن أن يجعل أصلا ليعرف حكمه من نفسه. فاحتمل أي الفاسد سقوط القبض عنه نظرا إلى أصله وإن لم يحتمل بالنظر إلى وصفه فصح إسقاطه بطريق الاقتضاء; لأنه دليل السقوط فيعمل فيما يحتمله, وقد وقع أحد اللفظين وهما كذلك ومثل البيع الصحيح زائدا. وذكر الإمام البرغري وأما البيع الفاسد فليس القبض فيه بشرط أصلي فإن الجائز يعمل بدون القبض والفاسد ليس بأصل بنفسه بل هو ملحق بالجائز لكنه لضعفه احتاج إلى قبض مقو, وإذا ثبت في ضمن العتق تقوى به فصار مثل الجائز في هذه الحالة فاستغنى عن القبض فعمل عمله على أن القبض ساقط لا على أنه حاصل فأما الهبة فلا يمكن إسقاط القبض فيهما; لأنه شرط أصلي فيها ألا ترى أن الهبة الجائزة لا تعمل, إلا به. وذكر في المبسوط والأسرار أن مالية العبد وإن تلفت بالإعتاق ولم يحصل في يد العبد شيء منها ولكن من حيث إن العبد ينتفع بهذا الإعتاق يندرج فيه أدنى قبض وذلك يكفي في البيع الفاسد دون الهبة كالقبض مع الشيوع فيما يحتمل القسمة ومع الاتصال في الثمار على رءوس الأشجار يكفي لوقوع الملك في البيع الفاسد دون الهبة, على أن عند الشيخ أبي الحسن الكرخي يقع العتق عن المأمور في البيع الفاسد أيضا; لأن الملك لا يقع, إلا بالقبض ولما يوجد كما في الهبة.(2/357)
مثل الصحيح فاحتمل سقوط القبض عنه فصح إسقاطه بطريق الاقتضاء ومثاله ما قلنا إذا قال الرجل لامرأته بعد الدخول: اعتدي ونوى الطلاق وقع مقتضى الأمر بالاعتداد ولهذا لم يصح نية الثلاث ولهذا كان رجعيا ومثال خلاف
ـــــــ
قوله "ومثاله" أي مثاله الآخر قوله لامرأته التي دخل بها اعتدي ناويا للطلاق فإن الطلاق يقع مقتضي الأمر بالاعتداد; لأن من ضرورة الاعتداد عن النكاح تقدم الطلاق فيصير كأنه قال قد وقع عليك الطلاق فاعتدي. ولا يلزم عليه قوله لها في العدة اعتدي ناويا للطلاق حيث يقع مع أنه لا ضرورة; لأن للأمر صحة بدون تقديم الطلاق عليه لقيام وجوب العدة. لأنا نقول: لا أثر لقيام العدة في تصحيحه; لأن موجبه أن يجب عليها اعتداد لهذا الكلام أثر في إيجابه ووجوب هذه العدة قد كان ثابتا قبله فلا يمكن أن يضاف إليه.
ثم لتصحيح هذا الكلام وجهان: أحدهما: أن يقدم الطلاق عليه والآخر أن يجعل مستعارا للطلاق على ما مر ولا يمكن تصحيحه بتقديم الطلاق فإنه لو قدم لا يجب عليها شيء سوى تتميم تلك العدة كما لو طلقها صريحا فيجعل مستعارا للطلاق تصحيحا له واحترازا عن الغاية. ولهذا أي ولكون الطلاق ثابتا اقتضاء لم يصح نية الثلاث فيه ولم يكن بائنا; لأن الضرورة تندفع بالواحدة الرجعية فلا يصار إلى الثلاث والبائن من غير ضرورة.
قوله "ومثال خلاف الشافعي" أي مثال المقتضي الذي يجري العموم فيه عنده ولا يجري عندنا قوله إن أكلت فعبدي حر أو أن شربت. ونوى خصوص الطعام والشراب أي نوى طعاما دون طعام أو شرابا دون شراب لم يصدق أصلا عندنا لا قضاء ولا ديانة; لأن الأكل اسم للفعل والمأكول محل الفعل واسم الفعل لا يكون اسما للمحل ولا دليلا عليه لغة, إلا أن الفعل لا يكون بدون المحل فيثبت المحل مقتضى فكان ثابتا في حق ما يلفظ به من الأكل دون صحة النية إذ هو فيما وراء الملفوظ غير ثابت فكانت النية واقعة في غير الملفوظ فتلغو.
وكذلك في مسألة الخروج إذا نوى مكانا دون مكان بأن نوى الخروج إلى بغداد مثلا لم يصدق قضاء ولا ديانة; لأن قوله إن خرجت وإن دل على المصدر لغة لا يتناول مكانا من حيث اللغة وإنما يثبت ذلك مقتضى; لأن الخروج مكانا لا محالة فلا يصح تخصيصه بالنية.
وكذا في مسألة الاغتسال إذا نوى تخصيص الأسباب بأن قال: عنيت الاغتسال عن الجنابة لم يصدق قضاء ولا ديانة. وعن أبي يوسف رحمه الله: أنه يصدق ديانة; لأنه نوى(2/358)
الشافعي إن أكلت فعبدي حر أو إن شربت ونوى خصوص الطعام أو الشراب لم يصدق عندنا, ومن قال إن خرجت فعبدي حر ونوى مكانا دون مكان لم يصدق عندنا ومن قال: إن اغتسلت فعبدي حر ونوى تخصيص الأسباب لم يصدق عندنا لما قلنا ولو قال: إن اغتسل الليلة في هذه الدار فعبدي حر فلم
ـــــــ
التخصيص في المصدر. ولنا أنه ذكر الفعل ولم يذكر السبب وإنما ثبت السبب مقتضى; لأن الاغتسال يقتضي سببا ولا عموم له فبطل.
فإن قيل: المصدر في ذكر الفعل مذكور لغة فكان بمنزلة ما لو صرح به وهو نكرة في موضع النفي فيصير عاما فيصح الخصوص كما لو قال إن خرجت خروجا ونوى خروجا دون خروج أنه يصدق ديانة وكما لو قال: إن اغتسلت غسلا الليلة فعبدي حر, ثم قال عنيت به الجنابة خاصة يصدق فيما بينه وبين الله تعالى.
قلنا: نعم المصدر وهو اغتسال مذكور لغة لا اقتضاء ولكنه اسم يرجع إلى صفة الفعل وحاله فلم يكن له عموم من قبل الأسباب والاسم الموضوع للسبب هو الغسل فأوجب العموم في الأسباب فصح الخصوص في ذلك وفي مسألة الخروج نوى خصوص صفة الفعل وحاله فلذلك صح كذا ذكر الشيخ في شرح الجامع. فعلى هذا لو قال: إن اغتسلت اغتسالا ونوى الاغتسال عن جنابة يجب أن لا يصدق أيضا ولو نوى اغتسالا فرضا أو نفلا يجب أن يصدق, إلا أنه ذكر في بعض شروح الجامع ما يدل على خلافه فقيل: ولا يقال: إن لم يصح يعني ما نوى حيث إنه تخصيص ينبغي أن يصح من حيث إنه متنوع إلى نقل وفرض وتبرد; لأنا نقول: إنه غيره متنوع في نفسه; لأنه غسل جميع البدن لغة وتلك أوصاف زائدة لا يتناولها اللفظ والنية تعمل فيما يحتمله اللفظ لغة لا في غيره.
وذكر في "الجامع البرهاني" إذا قال: إن اغتسلت اغتسالا صحت نية التخصيص فيه; لأن المصدر يقوم مقام الاسم وللاسم عموم فقد نوى الخصوص من العموم فيصح نيته فيما بينه وبين ربه بخلاف قوله إن اغتسلت; لأن المصدر فيه غير مذكور فلا يقوم مقام الاسم. ولا يقال: إنه مذكور معنى إن لم يذكر صريحا; لأنه مذكور في حق صحة الفعل لا في إقامته مقام الاسم فصار في حق إقامته مقام الاسم كأنه غير ثابت. ولو قال: إن اغتسل الليلة في هذه الدار فكذا أو نوى تخصيص الفاعل بأن قال عنيت فلانا دون غيره لم يصدق أصلا; لأن الفاعل مذكور بطريق الاقتضاء لا من حيث اللغة; لأن الصيغة مبنية للمفعول لا دلالة لها على الفاعل من حيث اللغة أصلا فبطل نية التخصيص. وفي هذه المسائل كلها خلاف الشافعي لأن للمقتضي عموما عنده فيقبل(2/359)
يسم الفاعل ونوى تخصيص الفاعل لم يصدق عندنا بخلاف قوله إن اغتسل أحد أو إن اغتسلت غسلا.
وقد يشكل على السامع الفصل بين المقتضي وبين
ـــــــ
التخصيص. بخلاف قوله إن اغتسل أحد فإنه إذا نوى فيه تخصيص الفاعل يصدق ديانة لا قضاء; لأن الفاعل مذكور وهو نكرة وقعت في موضع النفي; لأن الشرط في معنى النفي فعمت فقبلت التخصيص. وكذا إذا قال اغتسلت غسلا ونوى غسل الجنابة يصدق ديانة; لأن الغسل اسم للفعل وضع له من قبل أسبابه وليس بمصدر, وقد وقع في موضع النفي منكرا فصح القول بتخصيص لكنه خلاف الظاهر إذ الظاهر للعموم فلا يصدق قضاء. فصار أصل هذا الفصل ما أشير إليه في المبسوط وغيره أن نية التخصيص في غير الملفوظ لغو فإذا ذكر الفعل ونوى التخصيص في المفعول به كما ذكرنا أو الوقت كما إذا قال أنت طالق وأراد يوم الجمعة. أو الحال كما إذا قال لرجل قائم لا أكلم هذا الرجل وأراد حال قيامه. أو الصفة كما إذا قال لا أتزوج امرأة وأراد امرأة كوفية أو بصرية كانت نيته لغوا. ولا يقال في هذه المسائل: يحنث بكل طعام وكل شراب وكل مكان ولو كان اليمين بالطلاق أو العتاق حصل الطلاق والعتاق بالجمع وهذا آية العموم; لأنا نقول: ليس ذلك لأجل العموم بل لحصول المحلوف عليه فإنه لو تصور هذه الأفعال بدون الطعام والشراب والمكان لحصل الحنث أيضا وهو كالوقت والحال فإنه لو أكل وهو خارج الدار أو داخلها أو راكب أو راجل يحنث لا لعموم اللفظ لكن لحصول الملفوظ في الأحوال كلها فكذا هذا.
واعلم أن كون مسألة الأكل والشرب والخروج من قبيل المقتضى على قول من شرط في المقتضى أن يكون أمرا شرعيا كما أشار الشيخ إليه في الفرق بينه وبين المحذوف فقال: فأما الاقتضاء فأمر شرعي ضروري وكما قال شمس الأئمة وثبوت المقتضى شرعا لا لغة مشكل; لأن لافتقار الأكل إلى الطعام والشرب إلى الشراب والخروج إلى المكان لا يستفاد من الشرع بل يعرفه من لم يعرف الشرع أصلا, إلا أن يقال المقتضى هو الذي ثبت ضرورة تصحيح الكلام شرعا أو عقلا لا لغة كما ذكر بعض المحققين في مصنفه في أصول الفقه أن المقتضى هو الذي لا يدل عليه اللفظ ولا يكون منطوقا به لكن يكون من ضرورة اللفظ. أما من حيث يمتنع وجود الملفوظ شرعا, إلا به كقوله أعتق عبدك عني. أو يمتنع وجوده عقلا بدونه مثل قوله تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} "النساء 23" فإنه يقتضي إضمار الفعل وهو الوطء أو النكاح لأن الأحكام لا تتعلق بالأعيان بل لا يعقل تعلقها, إلا بأفعال المكلفين. أو يمتنع كون المتكلم صادقا, إلا به مثل قوله عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان", "إنما الأعمال بالنيات ","لا صيام لمن لم ينو الصيام من الليل" فحينئذ يمكن أن يجعل هذه المسائل من باب الاقتضاء لكن لا يتحقق الفرق بين(2/360)
المحذوف على وجه الاختصار وهو ثابت لغة وآية ذلك أن ما اقتضى غيره ثبت عند صحة الاقتضاء وإذا كان محذوفا فقدر مذكورا انقطع عن المذكور مثل قوله تعالى {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} "يوسف: 82"أن الأهل محذوف على
ـــــــ
المقتضى والمحذوف إذ ذاك; لأن المقدر فيما ذكر من نظائر المحذوف ثابت بدلالة العقل أيضا فيصير المقتضى والمحذوف قسما واحدا وهو خلاف ما اختاره الشيخ على أن كون هذه المسائل من الاقتضاء ممنوع على ذلك التقدير أيضا فإنه ذكر في تلك النسخة أن هذه المسائل ليست من قبيل المقتضى; لأن اللفظ المتعدي يدل على المفعول بصيغته ووضعه لغة فأما المقتضي فإنما يثبت ضرورة صدق الكلام أو ضرورة وجود المذكور.
قوله "وقد يشكل على السامع" إلى آخره اعلم أن عامة الأصوليين من أصحابنا المتقدمين وأصحاب الشافعي وغيرهم جعلوا المحذوف من باب المقتضي ولم يفصلوا بينهما فقالوا: هو جعل غير المنطوق منطوقا لتصحيح المنطوق وأنه يشمل الجميع وإنما اختلفوا في عمومه فذهب أصحابنا جميعا إلى انتفاء العموم عنه وذهب الشافعي وعامة أصحابه إلى القول بالعموم والقاضي الإمام أبو زيد رحمه الله تابع المتقدمين وجعل الكل قسما واحدا فقال: المقتضى زيادة على النص لم يتحقق معنى النص بدونها فاقتضاها النص ليتحقق معناه ولا يلغو ففي تعريفه هذا دخل المحذوف أيضا ثم قال ومثاله قوله تعالى {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} "يوسف: 82" أي أهلها اقتضاء لأن السؤال للتبيين فاقتضى موجب هذا الكلام أن يكون المسئول من أهل البيان ليفيد فثبت الأهل اقتضاء ليفيد قال: وقال عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" وعينها غير مرفوع فاقتضى ضرورة زيادة وهو الحكم ليصير مفيدا وصار المرفوع حكمها وثبت رفع الحكم عاما عند الشافعي المؤاخذة في الآخرة والصحة في الدنيا وعندنا إنما يرتفع حكم الآخرة لا غير لأن بذا القدر يصير مفيدا فتزول الضرورة. قال: وقال: عليه السلام: "الأعمال بالنيات" والمراد حكم الأعمال فإن عينها تثبت بلا نية وعند الشافعي يتعلق كل حكم بالنية على سبيل العموم.
وعندنا لا يتعلق إلا حكم الآخرة من الثواب فإنه مراد بالإجماع ولما ثبت هذا مرادا وصار الكلام مفيدا لم يتعد إلى ما ورائه كأنه قال: ثواب الأعمال بالنيات
ثم الشيخ المصنف رحمه الله لما رأى أن العموم متحقق في بعض أفراد هذا النوع مثل قوله: طلقي نفسك وإن خرجت فعبدي حر على ما ذكر بعد هذا سلك طريقة أخرى وفصل بين ما يقبل العموم وما لا يقبله وجعل ما يقبل العموم قسما آخر غير المقتضى(2/361)
سبيل الاختصار لغة لعدم الشبهة ألا ترى أنه متى ذكر الأهل انتقلت الإضافة عن القرية إلى الأهل والمقتضي لتحقيق المقتضى لا لنقله ومثله قوله عليه السلام: "رفع الخطأ والنسيان" لما استحال ظاهره كان
ـــــــ
وسماه محذوفا ووضع علامة تميز بها المحذوف عن المقتضى فقال "وقد أشكل على السامع الفصل" أي يتحقق الاشتباه عليه في الفصل بين المقتضى وبين المحذوف "على وجه الاختصار" أي الشيء الذي حذف لأجل الاختصار ولكنه ثابت لغة وآية ذلك أي علامة الفصل والفرق بينهما أن الذي اقتضى غيره وهو الذي نسميه مقتضيا ثبت عند صحة الاقتضاء أي تقرر عند التصريح بالمقتضى وإذا "كان محذوفا" أي إذا كان الشيء محذوفا "فقدر مذكورا انقطع عن المذكور" أي انقطع ما أضيف إلى المذكور وتعلق به عنه وانتقل أي المقدر "لعدم الشبهة" أي لعدم الاشتباه والالتباس يعني الحذف إنما يجوز إذا كان في الباقي دليل عليه ولم يكن ملبسا وليس هنا التباس فجاز الحذف. ثم استوضح أنه من قبيل المحذوف لا من قبيل المقتضي وأدرج فيه الدليل على الفرق بينهما فقال "ألا ترى" أنه الضمير للشأن "متى ذكر الأهل" أي صرح به "انتقلت الإضافة" أي إضافة السؤال إلى القرية عنها إلى الأهل فكان من قبيل المحذوف دون المقتضي لأن المقتضي لتحقيق المقتضى وتقريره "لا لنقله" أي نقل المقتضي عن المذكور إلى المحذوف فإن قيل قد يتقرر الكلام بعد إظهار المحذوف أيضا مثل تقرره في الاقتضاء كما في قوله تعالى {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ} "البقرة: 60" أي فضرب فانشق الحجر فانفجرت. وقوله جل ذكره {فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى} "يوسف: 19" أي فنزع فرأى غلاما متعلقا بالحبل فقال: يا بشرى وفي نظائره كثرة ولا يمكن أن يجعل هذا من باب الاقتضاء على ما ذكرتم لأنه ليس بأمر شرعي وإذا كان كذلك لا يتحقق الفرق بينهما بهذه العلامة.
قلنا ما ذكرنا من العلامة في جانب المقتضي وهو التقرر عند التصريح به لازم وذلك في جانب المحذوف غير لازم فإن الكلام عند التصريح به وقد يتقرر وقد لا يتقرر كما في قوله {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} "يوسف: 82" فبلزومه في المقتضي وعدم لزومه في المحذوف يتحقق الفرق بينهما وفيه ضعف سنبينه.
وحقيقة الفرق أن المحذوف أمر لغوي والمقتضي أمر شرعي قوله "ومثله" أي مثل المحذوف يعني من نظائره أو مثل قوله تعالى {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} . قوله عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" لما استحال ظاهره أي العمل بظاهره وإجراؤه عليه لأن ظاهره يقتضي رفعها بالكلية عن جميع الأمة لكون الأمة عبارة عن جميع من آمن(2/362)
الحكم مضمرا محذوفا حتى إذا ظهر المضمر انتقل الفعل عن الظاهر وكذلك قوله عليه السلام: "الأعمال بالنيات" فلم يسقط عموم الحديث من قبل الاقتضاء لكن لأن المحذوف من الأسماء المشتركة على ما مر وما حذف
ـــــــ
بالنبي عليه السلام إلى يوم القيامة وكون الألف واللام في الخطأ والنسيان للماهية أو للاستغراق إذ لا عهد بالإجماع والعمل به غير ممكن لإفضائه إلى الكذب في كلام صاحب الشرع ضرورة تحققها في حق الأمة فلا بد من تقدير شيء يمكن إضافة الرفع إليه تصحيحا للكلام وهو الحكم لأنه هو الذي يقتضيه هذا الكلام لأن تصرف صاحب الشرع في الأحكام ولما ثبت أن الحكم وهو المقدر كان من قبيل المحذوف لا من قبيل المقتضي لتغير ظاهر الكلام على تقدير التصريح به من انتقال الفعل وهو الرفع عن الظاهر وهو الخطأ واختاره إليه.
ومعنى جمع الشيخ بين المضمر والمحذوف في قوله كان الحكم مضمرا محذوفا مع تحقق الفرق بينهما وهو أن المضمر ما له أثر في الكلام مثل قوله تعالى {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ} "يسن: 39"والمحذوف لا أثر له مثل قوله تعالى {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} "يوسف: 82" هو أن بعض الأصوليين سموا هذا النوع مضمرا وقد سماه الشيخ محذوفا فجمع بينهما إشارة إلى أنه أراد به ذلك النوع لا غيره وإلى أنه لا فرق بينهما فيما نحن بصدده وكذلك قوله عليه السلام أي ومثل قوله تعالى {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} أو ومثل الحديث المذكور قوله عليه السلام: "الأعمال بالنيات" في أن المقدر فيه من قبيل المحذوف لا من قبيل المقتضي وذلك لأن العمل بظاهره لما اقتضى أن لا يوجد عمل بلا نية لدخول اللام المستغرق للجنس في الأعمال ثم الحكم بأنها تفتقر إلى النية وقد تعذر العمل به لتأديته إلى الكذب الذي هو مستحيل في كلام الرسول عليه السلام لتحقق كثير من الأعمال بدون النية لم يكن بد من إدراج شيء يصح به الكلام ويمكن العمل به وهو الحكم أو الاعتبار وعلى ذلك التقدير يتغير الكلام لأن الحكم حينئذ يصير هو المبتدأ المحكوم عليه ويرتفع بالابتداء وينجر لفظ الأعمال الذي كان مرفوعا بالابتداء ومحكوما عليه بالإضافة فكان من قبيل المحذوف لا من قبيل المقتضي.
ولما سلك الشيخ هذه الطريقة لزم عليه أن يقول بعموم المقدر وهو الحكم في الحديثين المذكورين كما قال الشافعي رحمه الله لأنه ثابت لغة لا اقتضاء فكان مثل المصرح به ولو صرح به لوجب القول بعمومه أو بإطلاقه فكذا هذا ثم مع ذلك لم يقل به وقد اتفق مشايخنا أن القول بعمومه لا يجوز فثبت أنه من باب الاقتضاء إذ ليس مانع من العموم غيره فأجاب عن ذلك وقال: سقوط عمومه ليس من قبل الاقتضاء ولكنه من(2/363)
اختصارا وهو ثابت لغة كان عاما بلا خلاف لأن الاختصار أحد طريقي اللغة فأما الاقتضاء فأمر شرعي ضروري مثل تحليل الميتة بالضرورة فلا يزيد عليها
ـــــــ
قبل الاشتراك فإن الاشتراك لا يقبل العموم أيضا كالمقتضي عندنا فلا يلزم من عدم جواز عمومه كونه من باب الاقتضاء وقد مر بيان الاشتراك فيه في باب ما يترك به الحقيقة فثبت بما ذكرنا الفرق بين المقتضي والمحذوف وأما ما حذف اختصارا كان عاما أي يقبل العموم لأن الاختصار أحد طريقي اللغة فكان المختصر ثابتا لفظا والعموم من أوصاف اللفظ بخلاف المقتضي فإنه أمر شرعي ثبت ضرورة وإنها تندفع بالخاص فلا يصار إلى العموم من غير ضرورة لأنه إثبات الشيء بلا دليل هذا بيان الطريقة التي اختارها الشيخ هاهنا وشمس الأئمة وعامة المتأخرين.
وقد اختار الشيخ في شرح التقويم طريقة المتقدمين كما هو اختيار القاضي في التقويم. ومن سلك تلك الطريقة يمكنه أن يجيب عن كلام المتأخرين بأن يقول: العلامة التي ذكرتموها لا يصلح فارقة بينهما لأن الكلام في المقتضي قد يتغير أيضا فإن قوله: أعتق عبدك عني يتغير بالتصريح بالمقتضي وهو البيع لأنه لم يبق العبد على تقدير ثبوته ملكا للمأمور بل يصير ملكا للأمر وصار على ذلك التقدير كأنه قال: أعتق عبدي عني وهذا تغيير وكذا في قوله إن اغتسل الليلة في الدار فكذا يتغير الفعل والمسند إليه بتصريح المقتضي وهو الفاعل فإنه ثابت اقتضاء على ما نص عليه الشيخ. وفي المحذوف قد لا يتغير الكلام بعد إظهاره كما بينا في قوله تعالى {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ} "البقرة: 60" وأمثاله وكما في قوله إن خرجت فعبدي حر فإن المصدر فيه من قبيل المحذوف حتى صح فيه نية التخصيص لوقوعه في موضع النفي ولم يتغير الكلام بتصريحه وما ذكرتم من الجواب لا يغني شيئا لأنه لو وجد كلام يحتاج فيه إلى إضمار ولا يتغير الكلام بتصريحه لا يعرف بلزوم تقرر الكلام في المقتضي وعدم لزومه في المحذوف أنه في هذه الصورة من أي القسمين لاشتراكهما في التقرر وإن امتاز أحدهما لجواز التغير وإذا كان كذلك يجعل الكل بابا واحدا وكذا المقدر في الحديثين المذكورين ليس من باب الحذف الذي بينتموه لأن الكلام بدونه مفيد للمعنى لغة ولهذا لو صدر مثله عن غير الرسول لما قدر فيه شيء بل يحمل على حقيقته إن أمكن وإلا فعلى الكذب وإنما قدر فيهما ما ذكرنا ضرورة صدق الرسول فكيف يكون هذا من باب اللغة بل هو من باب الاقتضاء مع ذلك التغيير.
وقولكم المقتضي لتصحيح المقتضى وتقريره فلا يصلح مغيرا له مسلما ولكن المقتضي لتصحيح مجموع الكلام وتقويم معناه لا لإفراد كلماته وذلك حاصل مع التغير(2/364)
ولهذا قلنا فيمن قال لامرأته: أنت طالق ونوى به الثلاث: إن نيته باطلة لأن
ـــــــ
الذي ذكرتم فلا يكون مبطلا له بل يكون مقررا ومصححا وأما المسائل التي صحت فيها نية العموم وهي التي حملتكم على مخالفة المتقدمين فليست من باب الاقتضاء على هذه الطريقة أيضا لأن المصدر في قوله: طلقي نفسك مثلا ليس بمقدر ولا غير مذكور بل معناه افعلي فعل التطليق والكلامان ينبئان عن معنى واحد إلا أن أحدهما أوجز مثل الأسد والغضنفر فكان المصدر مذكورا فيصح فيه نية التعميم.
واعلم أن المحذوف عند القاضي الإمام أبي زيد رحمه الله لما كان من قبيل المقتضي عرف المقتضى بتعريف دخل فيه المحذوف أيضا على ما ذكرنا ووافقه الشيخ في التعريف ولكن لما خالفه في المحذوف لا بد له من أن يزيد في التعريف قيدا ينفصل به المقتضي من المحذوف ليصير به الحد مانعا بأن يقول: وأما المقتضى فزيادة على النص ثبت شرطا لصحة المنصوص عليه شرعا أو نحوه وإلا فلم يستقم الحد وقد ذكر الشيخ في بعض مصنفاته المقتضى عبارة عن زيادة ثبتت شرطا لصحة حكم شرعي.
قوله "ولهذا قلنا" أي ولأن المقتضى أمر شرعي ضروري قلنا إذا قال لامرأته: أنت طالق أو طلقتك ونوى به الثلاث بطلت نيته ولم يقع إلا واحدة كما لم ينو شيئا وقال الشافعي رحمه الله: يعمل نيته ويقع ما نوى لأن قوله طالق يقتضي طلاقا والمقتضى بمنزلة المنصوص عليه فكان محتملا للتعميم فيعمل نية الثلاث فيه كما لو صرح به وقال: أنت طالق طلاقا أو قال لها: طلقي نفسك أو أنت بائن ونوى الثلاث والدليل على أنه يحتمل التعميم أنه لو ألحق الثلاث به فقال: أنت طالق ثلاثا صح ذلك وكان ثلاثا منتصبا على التفسير والتفسير إنما يقع ببيان محتمل اللفظ لا بغيره. وكذا إذا قيل: فلان طلق امرأته صح الاستفسار عن العدد فيقال: كم طلقها ولو لم يحتمل العدد لما استقام الاستفسار ولنا أنه نوى ما لا يحتمله لفظه فلغت نيته كما لو قال لها: زوري أباك أو حجي ونوى به الطلاق وهذا لأن المذكور وهو طالق نعت المرأة لا اسم الطلاق وهو بنفسه لا يحتمل العدد والتعميم لأنه نعت فرد والفرد لا يحتمل العدد بوجه لا يقال للمثنى وللثلاث طالق بل يقال طالقان وطوالق وهذا لا خلاف فيه فإن عند الخصم عمل النية في الطلاق الذي دل عليه طالق لا في طالق ولكن ذلك الطلاق ثبت مقتضى لأنه لا يكون صادقا في هذا الوصف إلا بوقوع طلاق عليها سابق ليصح الوصف بناء عليه وذلك يقتضي إيقاعا من قبل الزوج وفي تصرفه ذلك فأثبتناه ليتحقق هذا الوصف منه صدقا وإذا كان ثابتا اقتضاء كان فيما وراءه تصحيح الكلام في حكم غير الملفوظ فلا تعمل نية التعميم فيه لأنها لا تعمل إلا في الملفوظ.(2/365)
المذكور نعت المرأة والطلاق الواقع مقدم عليه اقتضاء لكنه ضروري لا عموم له لأن المذكور هي المرأة بأوصافها وقد نوى عموم ما لم يتكلم به والعلم من أوصاف النظم ولم يكن المصدر ههنا ثابتا لغة لأن النعت يدل على المصدر
ـــــــ
وقوله "لأن المذكور نعت المرأة" أي المذكور وصفها الذي هو ليس بمحل للنية لا الطلاق الذي هو محل النية والطلاق الواقع بهذا الكلام ثابت شرعا مقدما على المذكور اقتضاء لا لغة لأن المذكور هي المرأة بأوصافها أي بوصفها لا الطلاق لأن قوله: أنت عبارة عن المرأة وطالق عبارة عن الوصف والمرأة بجميع أوصافها ليست باسم للطلاق ولا لفعل الإيقاع الذي يصدر من الزوج ولا لأثر الفعل وهو الوقوع فلم يكن شيء منها ثابتا لغة لكنه أي لكن الاقتضاء يعني المقتضى أو لكن الطلاق الواقع ضروري لا عموم له لما مر فلم يكن الطلاق ثابتا في حق نية الثلاث فكان ناويا عموم ما لم يتكلم به فلم يصح وقد عرفت بهذا أن في كلام الشيخ تقديما وتأخيرا وترتيبه والطلاق الواقع مقدم عليه الاقتضاء لأن المذكور هي المرأة بأوصافها لا الطلاق لكن الاقتضاء ضروري لا عموم له وأنه قد نوى عموم ما لم يتكلم به فلم يصح. وقوله "ولم يكن المصدر هاهنا" أي في قوله أنت طالق ثابتا لغة جواب عما يقال لا نسلم أن الطلاق ثابت اقتضاء بل هو ثابت لغة كما في قوله: طلقي نفسك لأن كل مشتق اسما كان أو فعلا دال على المصدر لغة فكان ثبوت الطلاق في قوله أنت طالق من حيث اللغة فيصح نية التعميم فيه فأجاب وقال: نعم الأمر كما قلت إلا أن دلالته لغة على مصدر قائم بالموصوف ليصح بناء الوصف عليه كضارب وقائم وجالس يدل على الضرب والقيام والجلوس في الذوات الموصوفة بها لا على المصدر قائم بالواصف وهاهنا وصف المرأة بالطالقية فتدل لغة على طلاق قائم بها هو مصدر كقولك طلقت المرأة طلاقا لا على طلاق قائم بالزوج هو بمعنى التطليق وإنما ثبت ذلك ضرورة ثبوت الطلاق في المرأة فكان أمرا شرعيا لا لغويا ولأن النعت لغة يدل على وجود الوصف ولكن لا أثر له في إيجاده فإن قولك ضارب أو جالس مثلا يدل على قيام الضرب والجلوس بالموصوف ولكن لا أثر له في إثبات الضرب والجلوس أصلا بل كانا ثابتين كان الكلام صدقا وإلا وقع كذبا ولغوا وهاهنا يثبت بهذا الكلام الطلاق الذي لم يكن موجودا أصلا تصحيحا له فكان شرعيا لا لغويا.
ولا يقال: أنت طالق جعل إنشاء في الشرع وخرج عن كونه إخبارا وصار معناه أنشئ الطلاق فلم يكن ثبوت الطلاق به من باب الاقتضاء لأن ذلك من ضرورة صحة(2/366)
الثابت بالموصوف لغة ليصير الوصف من المتكلم بناء عليه فأما أن يصير الوصف ثابتا بالواصف بحقيقته تصحيحا لوصفه فأمر شرعي ليس بلغوي وكذلك ضربت بناء على مصدر ماض وطلقتك يوجب مصدرا من قبل المتكلم فكان شرعيا وأما البائن وما يشبه ذلك فمثل طالق من حيث إنه نعت مقتض للواقع
ـــــــ
الإخبار لأنا نقول معنى صيرورته إنشاء هو الذي ذكرنا من ثبوت الطلاق اقتضاء لا غير فمن حيث إن الطلاق لم يكن ثابتا وثبت به سمي إنشاء ولكن طريق ثبوته ما ذكرنا فلم يخرج عن معنى الإخبار بالكلية ولهذا كان جعله إنشاء ضروريا حتى لو أمكن العمل بكونه إخبارا لم يجعل إنشاء بأن قال للمطلقة والمنكوحة: أحديكما طالق لا يقع الطلاق فعرفنا أن كونه إنشاء مبني على الاقتضاء.
"وكذلك ضربت بناء على مصدر ماض" يعني وكما أن النعت يدل على مصدر قائم بالموصوف لا بالواصف كذا قولك ضربت يدل على مصدر ماض لا على مصدر ثابت في الحال. وقوله طلقتك موضوع على مثاله فبدل على مصدر ماض لغة لا على مصدر في الحال فينبغي أن يلغو لأن التطليق لم يكن موجودا في الزمان الماضي ليصح بناؤه عليه لكنه جعل إنشاء شرعا تصحيحا له وأوجب مصدرا من قبل المتكلم في الحال فكان المصدر الثابت شرعيا لا لغويا فلم تصح فيه نية التعميم لثبوته اقتضاء.
قوله "وأما البائن" جواب عما يقال: إن البائن في قوله أنت بائن نعت مثل طالق في قوله أنت طالق فيدل لغة على قيام البينونة بالموصوف ليصح بناؤه عليه وهي لم تكن موجودة قبل التكلم وإنما ثبتت شرعا بطريق الاقتضاء تصحيحا له ثم صحت نية التعميم فيها عندكم حتى لو نوى الثلاث يقع فليكن كذلك في طالق أيضا لأن الصريح أقوى من الكناية فقال: قد سلمنا أن البائن وما ; يشبهه من الكنايات كالخلية والبرية مثل طالق من حيث إنه نعت فرد ولا دلالة على العدد وإن ثبوت البينونة به بطريق الاقتضاء مثل ثبوت الطلاق في طالق وهو معنى قوله مقتض للواقع. إلا أنهما افترقا من حيث البينونة الثابتة به وإن كانت ثابتة بالاقتضاء تتصل بالمرأة للحال أي يظهر أثرها في الحال حتى حرم الوطء والدواعي على الزوج.
"ولاتصالها وجهان" أي ولثبوت البينونة في المحل اقتضاء طريقان ثبوت بينونة تقطع الملك أي الحل الثابت للزوج في الحال وثبوت بينونة تقطع الحل أي حل المحلية بأن لا تبقى المرأة محلا للنكاح في حقه فكان الثابت بطريق الاقتضاء متنوعا في نفسه فتعدد المقتضي حكما وهو قوله أنت بائن بواسطة تعدد المقتضى وهو البينونة يعني(2/367)
غير أن البينونة يتصل بالمرأة للحال ولاتصالها وجهان انقطاع يرجع إلى الملك وانقطاع يرجع إلى الحل فتعدد المقتضى بتعدد المقتضي على الاحتمال فصح تعيينه وأما طالق لا يتصل بالمرأة للحال لأن حكمه في الملك معلق بالشرط وحكمه في الحل معلق بكمال العدد وإنما حكمه للحال انعقاد العلة وذلك غير متنوع فلم يتنوع المقتضى إلا بواسطة العدد فيصير العدد
ـــــــ
صار قوله أنت بائن محتملا للبينونتين بسبب انقسام البينونة إلى كاملة وناقصة فإن أريد به الكاملة كانت هي الثابتة اقتضاء دون الثانية ومن شرطها وقوع الثلاث وإليه إثباته فتضمنت شرطها فوقع الثلاث وإن أريد به الناقصة فهي تثبت اقتضاء دون الأولى وهو معنى قوله على الاحتمال فثبت أن كل واحد منهما يثبت مقتضى للفظ ومحتملا له فإذا نوى الثلاث فقد عين أحد محتمليه فصح تعيينه وإذا نوى مطلق البينونة تعين الأدنى لأنه متيقن به.
"وأما طالق فلا يتصل بالمرأة للحال" أي في الحال واللام للوقت أي لا يثبت حكمه وأثره في الحال لبقاء جميع أحكام النكاح من حل الوطء ووجوب النفقة والسكنى. لأن حكمه في الملك أي في إزالته معلق بالشرط وهو انقضاء العدة أو جعله بائنا عند أبي حنيفة رحمه الله وحكمه في الحل أي في إزالة حل المحلية معلق بكمال العدد وهو إيقاع الطلقتين الأخريين وإنما حكمه للحال أي الثابت في الحال ولفظ الحكم توسع انعقاد العلة أي انعقاد علة توجب الحكم في أوانه ويحتمل أن يكون أثرها زوال الملك بانقضاء العدة ويحتمل أن يكون زوال الحل بانضمام مثليها إليها وهذا الانعقاد في ذاته غير متنوع فلا تعمل فيه النية ولو تنوع إنما يتنوع بواسطة العدد أي إذا أردت أن تقسمه على نوعين لا يمكنك ذلك إلا بالتحاق العدد به فيصير حينئذ نفس الطلاق مؤثرا في إزالة الملك والطلاق الثلاث مؤثرا في إزالة الحل مثل البينونة الخفيفة والغليظة وإذا لم ينقسم إلا بواسطة العدد صار العدد في التنويع وإزالة الحل فلم يثبت مقتضى لقوله أنت طالق إذ لا دلالة له على العدد بخلاف البينونة لأنها متنوعة بنفسها فيصلح كل نوع مقتضى لقوله أنت بائن.
وذكر في الطريقة البرغرية بهذه العبارة ولا يلزم إذا قال : أنت بائن أو أنت حرام لأنه وإن كان نعتا ولكن لما كانت البينونة متنوعة إلى خفيفة وغليظة وهذا النعت يثبت بإحدى البينونتين كان له أن يعين أحديهما فإذا عين ثبت ذلك الوجه اقتضاء وصار كالمنصوص عليه ومعلوم أن البينونة الغليظة لا تثبت إلا بسببها وهو التطليقات الثلاث.(2/368)
أصلا إذا قال لامرأته: طلقي نفسك صحت نية الثلاث لأن المصدر ههنا ثابت لغة لأن الأمر فعل مستقبل وضع لطلب الفعل فكان مختصرا من الكلام على سائر الأفعال فصار مذكورا لغة فاحتمل الكل والأقل كسائر أسماء الأجناس وأما طلقت فنفس الفعل ونفس الفعل في حال وجوده لا يتعدد بالعزيمة وذلك مثل
ـــــــ
فثبت الثلاث اقتضاء أيضا فأما النعت في قوله أنت طالق فلا يثبت إلا بالطلاق والطلاق الواحد يثبت هذا الوصف والثاني والثالث ضم عدد آخر إليه فيكون تعميم المقتضى وفي البائن ما أثبتنا عموم البينونة لأنا لا نجمع بين البينونة الخفيفة والغليظة بل تثبت أحديهما لإثبات النعت اقتضاء إلا أن ذلك المقتضى لا يثبت إلا بسببه فيثبت بسببه اقتضاء.
قوله "ولذا قال لها طلقي نفسك" يحتمل أن يكون ابتداء كلام مثالا لعموم المحذوف. ويجوز أن يكون من تتمة المسألة الأولى بيانا للفرق بينه وبين قوله طلقتك والمسائل المذكورة يعني قوله طلقي نفسك يخالف ما ذكرنا من المسائل حيث صحت نية الثلاث فيه دونها لأن المصدر هاهنا ثابت لغة لا اقتضاء لأن الأمر فعل مستقبل وضع لطلب الفعل أي المصدر الذي دل عليه في المستقبل ولا يتوقف ذلك على وجود الفعل في المستقبل بل يتوقف على تصور وجوده فيه وهو ثابت فصح الأمر لغة وإذا صح كان المصدر ثابتا لغة لأنه مختصر من قوله افعلي التطليق على مثال سائر الأفعال أي الأمر بها فإن قولهم اكتب واضرب واجلس ونحوها مختصر من قولهم افعل الكتابة وافعل الضرب وافعل الجلوس. وكذا ضربت ويضرب مختصر من قولهم فعل الضرب في الزمان الماضي ويفعل الضرب في الزمان المستقبل وإذا كان المصدر ثابتا لغة احتمل الكل والأقل كما لو قال لها: طلقي نفسك طلاقا وكسائر أسماء الأجناس فإنها تحتمل العموم والخصوص على ما مر بيانه وأما طلقت فنفس الفعل أي إخبار عن نفس الفعل ووجوده في الزمان الماضي ونفس الفعل في حال وجوده لا يتعدد بالعزيمة أو معناه طلقت ذاته نفس الفعل فإنه جعل إنشاء وتطليقا في الشرع لا أنه إخبار عن طلاق موجود قبله فصار قوله طلقت كسائر أفعال الجوارح والفعل حال وجوده يستحيل أن يتعدد بالعزيمة كالخطوة لا يصير خطوتين بالعزيمة فلهذا لا يعمل نية الثلاث فيه. وذلك أي قوله طلقي نفسك في دلالته على المصدر لغة مثل قوله إن خرجت فعبدي حر في دلالته عليه فإنه إذا قال: إن خرجت فعبدي حر وعنى به السفر خاصة صدق فيما بينه وبين الله تعالى ولم يصدق في الحكم وقال القاضي أبو هيثم1 من القضاة الأربعة: لا يصدق ديانة
ـــــــ
1 هو عتبة بن خيثمة بن محمد أبو الهيثم النيسابوري أنظر الفوائد البهية 115.(2/369)
قول الرجل إن خرجت فعبدي حر أنه تصح نية السفر لأن ذكر الفعل لغة ذكر المصدر فأما المكان فثابت اقتضاء ففسدت نية مكان دون مكان ولا يلزم إذا حلف لا يساكن فلانا ونوى السكنى في بيت واحد أنه يصح والمكان ثابت اقتضاه لأن تعيين المكان لغو حتى لا تصح نيته لو نوى بيتا بعينه لكن نية جمل البيوت تصح لأنه راجع إلى تكميل فعل المساكنة لأنها مفاعلة وإنما تتحقق
ـــــــ
أيضا لأنه ذكر الفعل وأنه لا عموم له فلا يحتمل التخصيص كما في الاغتسال قال: وجواب الكتاب أي الجامع محمول على ما إذا قال: إن خرجت خروجا وهكذا كان في بعض النسخ العتيقة. ولكن جواب الظاهر ما ذكرنا لأن ذكر الفعل ذكر للمصدر لغة والمصدر نكرة في موضع النفي فصار عاما بصفاته ومن صفاته أنه قد يكون مديدا ومثل الخروج إلى السفر وقد يكون قصيرا مثل الخروج إلى السوق والمسجد ويعرف اختلافهما باختلاف أحكامهما فإنه يتعلق بالسفر أحكام لا تتعلق بغيره فصح التخصيص فيما بينه وبين الله تعالى ولم يصدقه القاضي لأن فيه تخفيفا عليه وهذا بخلاف قوله طلقتك لأن صيغته تدل على مصدر ماض ولا مصدر في الماضي إلى آخر ما ذكرنا وهذا مستقبل لدخول حرف الشرط فيه فكان مثل قوله طلقي نفسك فيقبل التعميم فيصح تخصيصه.
قوله "ولا يلزم" إلى آخره إذا حلف لا يساكن فلانا ولا نية له فاليمين واقعة على الدار والبيت لأن المساكنة مفاعلة من السكنى وهي المكث في مكان على سبيل الاستقرار والدوام فيكون المساكنة بوجود هذا الفعل منهما على سبيل المخالطة والمقارنة وذلك إذا سكنا بيتا أو سكنا في دار كل واحد منهما في بيت منها لأن جميع الدار مسكن واحد فإن نوى حين حلف أن لا يساكنه في بيت واحد صحت نيته ولم يحنث بالمساكنة في الدار وكان ينبغي أن يلغو نيته لأن المسكن غير ملفوظ وإنما ثبت اقتضاء ونية التخصيص فيما لا لفظ له باطلة إلا أنها صحت من حيث إنه نوى محتمل كلامه بأن المساكنة فعل يقوم بهما وذلك في أن يتصل فعل كل واحد منهما بفعل صاحبه وإنما يحصل ذلك في بيت واحد على الكمال وأما في الدار فيحصل الاتصال في توابع السكنى من إراقة الماء وغسل الثوب ونحوهما لا أصل السكنى فإذا لم ينو شيئا يحنث بمجاز السكنى لأن السكنى في دار واحدة تسمى مساكنة عرفا وإن كان كل واحد ساكنا في بيت وفي البيت الواحد يحنث حينئذ بعموم المجاز وإذا نوى البيت الواحد فقد نوى نوعا من أنواع المساكنة فيصح لكن نية جمل البيوت يصح يعني نية جملة البيوت أي مطلق البيوت من غير أن يعين واحد منها تصح من أجمل في الكلام إذا أبهم عادة متصل بالدار وقوله(2/370)
بين اثنين على الكمال إذا جمعهما بيت واحد لكن اليمين وقعت على الدار وهذا قاصر عادة فصح نية الكامل والمساكنة ثابتة لغة فصح تكميل ولا يلزم عليه رجل قال لصغير: هذا ولدي فجاءت أم الصغير بعد موت المقر وصدقته وهي أم معروفة أنها تأخذ الميراث وما ثبت الفراش إلا مقتضى لأن النكاح ثبت بينهما مقتضى النسب فكان مثل ثبوت البيع في قوله: أعتق عبدك عني بألف
ـــــــ
وهو قاصر معترض يعني اليمين واقعة على المساكنة في الدار وإن كان معنى المساكنة فيها قاصرا باعتبار العرف فإن المساكنة فيها تسمى مساكنة في العرف.
قوله "ولا يلزم عليه" أي على ما ذكرنا أن المقتضي لا يقبل العموم وأنه فيما وراء تصحيح الكلام في حكم العدم المسألة المذكورة فإن الفراش فيها ثبت مقتضى للنسب وقد ظهر ثبوته فيما وراءه وهو الإرث فقال قد سلمنا أنه ثبت مقتضى إلا أن النكاح غير متنوع لا يقال نكاح يوجب الإرث ونكاح لا يوجبه بل الإرث من لوازم النكاح وأحكامه كالملك في البيع فإذا ثبت النكاح مقتضى ثبت حكمه وهو الإرث مثل النكاح المعقود عليه قصدا.
ألا ترى أن بطلان النكاح لما كان من لوازم الملك يثبت بالبيع الثابت مقتضى أيضا كالمالك مثل ما إذا قالت امرأة لمولى زوجها: أعتق عبدك هذا عني بألف درهم أو قال رجل لمولى منكوحته: أعتق أمتك هذه عني بألف ففعل يثبت البيع ويبطل النكاح أيضا لأنه من لوازمه فكذا هذا.
ولا يقال لا نسلم أن الإرث من لوازم النكاح وأحكامه فإنه قد يوجد بدونه كنكاح الكافرة والأمة لأنا نقول إنما امتنع الإرث هناك بعارض الكفر والرق كما يمتنع الحل بعارض الظهار والاعتكاف والحيض ألا ترى أنه لو زال المانع بأن أسلمت المرأة أو عتقت الأمة كان الإرث ثابتا بذلك النكاح مثل ثبوت الحل بزوال تلك العوارض ولو لم يكن موجبا للإرث في الأصل لم يثبت الإرث به عند زوال المانع وذكر شمس الأئمة رحمه الله أن ثبوت النكاح هاهنا بدلالة النص لا بمقتضاه إذ لا يتصور ولد فينا إلا بوالد ووالدة فكان التنصيص على الولد تنصيصا على الوالد والوالدة دلالة كالتنصيص على الأخ يكون تنصيصا على أخ آخر إذ الأخوة لا يتصور إلا بين شخصين وقد بينا أن الثابت بدلالة النص يكون ثابتا بمعنى النص لغة لا أن يكون ثابتا بطريق الاقتضاء مع أن اقتضاء النكاح هاهنا كاقتضاء الملك في قوله: أعتق عبدك عني على ألف وبعدما ثبت العقد بطريق الاقتضاء يكون باقيا لا باعتبار دليل مسبق بل لانعدام دليل مزيل فعرفنا أنه منته بينهما بالوفاة(2/371)
درهم لكن المقتضى غير متنوع فيصير في حال بقائه مثل النكاح المقعود قصدا.
والثابت بدلالة النص لا يحتمل الخصوص أيضا لأن معنى النص إذا ثبت كونه علة لا يحتمل أن يكون غير علة وأما الثابت بإشارة النص فيصلح أن يكون عامة يخص.
ـــــــ
وانتهاء النكاح بالموت سبب لاستحقاق الميراث وهو معنى قول الشيخ فيصير في حال بقائه مثل النكاح المعقود قصدا.
قوله "والثابت بدلالة النص لا يحتمل الخصوص أيضا" يعني كما أن المقتضى لا يحتمل التخصيص لأنه يقبل العموم فكذا الثابت بالدلالة لا يحتمل التخصيص أيضا لأن معنى التخصيص بيان أن أصل الكلام غير متناول له وقد بينا أن الحكم الثابت بالدلالة ثابت بمعنى النص لغة وبعدما كان معنى النص متناولا له لغة لا يبقى احتمال كونه غير متناول وإنما يحتمل إخراجه من أن يكون موجبا للحكم فيه بدليل يعترض عليه وذلك يكون نسخا لا تخصيصا وأما الثابت بإشارة النفس فعند بعض مشايخنا منهم القاضي أبو زيد رحمهم الله لا يحتمل الخصوص أيضا لأن معنى العموم مما يكون سياق الكلام لأجله فأما ما يقع الإشارة إليه من غير أن يكون سياق الكلام له فهو زيادة على المطلوب بالنص ومثل هذا لا يسع فيه معنى العموم حتى يكون محتملا للتخصيص قال القاضي الإمام: الإشارة زيادة معنى على معنى النص وإنما يثبت بإيجاب النص إياه لا محالة فلا يحتمل الخصوص وبيان أنه غير ثابت قال شمس الأئمة: والأصح أنه يحتمل ذلك لأن الثابت بإشارة النص كالثابت بالعبارة من حيث إنه ثابت بصيغة الكلام فكما أن الثابت بعبارة النص يحتمل الخصوص فكذا الثابت بإشارته وذكر بعض الشارحين أن صورته ما قال الشافعي رحمه الله لا يصلى على الشهيد لأنه حي حكما ثبت ذلك بإشارة قوله تعالى {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} "آل عمران: 169" والآية مسوقة لبيان علو درجاتهم فأورد عليه ما روي: "أنه عليه السلام صلى على حمزة سبعين صلاة". فأجاب بأن تلك الإشارة خصت في حقه أو هو خص من عموم تلك الإشارة فبقيت في حق غيره على العموم وقد بينا ضعف هذا فيما تقدم.(2/372)
"تقسبمات الشافعية للدلالة"
ومن الناس من عمل بالنصوص بوجوه أخر هي فاسدة عندنا من ذلك أنهم قالوا. إن النص على الشيء باسمه العلم يدل على الخصوص قالوا. وذلك مثل قوله عليه السلام. "الماء من الما" فهم الأنصار رضي الله عنهم من ذلك
ـــــــ
"تقسبمات الشافعية للدلالة"
قوله "ومن الناس من عمل في النصوص" أي استدل بها بوجوه أخر غير ما ذكرنا وهي فاسدة عندنا واعلم أن عامة الأصوليين من أصحاب الشافعي قسموا دلالة اللفظ إلى منطوق ومفهوم وقالوا. دلالة المنطوق ما دل عليه اللفظ في محل النطق وجعلوا ما سميناه عبارة وإشارة واقتضاء من هذا القبيل وقالوا. دلالة المفهوم ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق ثم قسموا المفهوم إلى مفهوم موافقة وهو أن يكون المسكوت عنه موافقا في الحكم للمنطوق به ويسمونه فحوى الخطاب ولحن الخطاب أيضا وهو الذي سميناه دلالة النص وإلى مفهوم مخالفة وهو أن يكون المسكوت عنه مخالفا للمنطوق به في الحكم ويسمونه دليل الخطاب وهو المعبر عندنا بتخصيص الشيء بالذكر ثم قسموا هذا القسم من المفهوم على ثمانية أقسام فمنها ما بدأ الشيخ بذكره في التمسكات الفاسدة أن النص على الشيء باسمه العلم أي بالاسم الذي ليس بصفة سواء كان اسم جنس كالماء في حديث الغسل والأشياء الستة في حديث الربا أو اسما علما كقولك زيد قام أو قائم.
"يدل على الخصوص" أي على تخصيص الحكم بالمنصوص عليه وقطع المشاركة بينه وبين غيره من جنسه عند قوم منهم أبو بكر الدقاق1 وأبو حامد المروذي وبعض الحنابلة والأشعرية ويسمى هذا مفهوم اللقب وعند جمهور العلماء لا يدل على التخصيص ونفي الحكم عما عداه تمسك الفريق الأول في ذلك بأن مفهوم اللقب لو لم يوجب التخصيص لم يظهر للتنصيص عليه فائدة إذ لا فائدة له سواء ولا يجوز أن يكون كلام صاحب الشرع غير مفيد ولأنه لو قال لمن يخاصمه ليست أمي بزانية ولا أختي زنت تبادر إلى الفهم نسبة الزنا إلى أم خصمه وأخته ولهذا قال مالك وأحمد بن حنبل يجب حد القذف على القائل بعد استجماع شرائطه ولو لم يكن دليلا لما تبادر إلى الفهم ذلك إذ لا موجب للتبادر إلى الفهم إلا الدلالة يؤيده قوله عليه السلام. "الماء من الماء2"
ـــــــ
1 هو أبوبكر محمد بن محمد بن جعفر البغدادي 306-392ه أنظر كشف الظنون 2/1300.
2 أخرجه ابن ماجة في الطهارة حديث رقم 607 ومسلم في الحيض حديث رقم 343 والإمام أحمد فيى المسند 5/421 وأبو داود في الطهارة حديث رقم 217.(2/373)
أن الغسل لا يجب بالإكسال لعدم الماء وقلنا نحن: هذا باطل وذلك كثير في الكتاب والسنة قال الله تعالى {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} "التوبة: 36" والظلم حرام في كل وقت ولأنه يقال له: إن أردت أن هذا الحكم غير ثابت في غير المسمى بالنص فكذلك عندنا لأن حكم النص في غيره لا يثبت به بل بعلة النص وإن عنى لا يثبت فيه يكون النص مانعا فهذا غلط ظاهر
ـــــــ
فإن الأنصار رضي الله عنهم فهموا التخصيص منه حتى استدلوا به على نفي وجوب الاغتسال بالإكسال لعدم الماء وأنهم كانوا من أهل اللسان وفصحاء العرب.
ومن أوجب الغسل بالإكسال لم يمنعوا الفريق الأول من الاستدلال بمفهوم هذا الحديث ولكنهم قالوا بنسخ مفهومه بقوله عليه السلام: "إذا التقى الختانان وجب الغسل1" فكان هذا دليلا على اتفاق الفريقين على القول بالمفهوم والمراد بالماء الأول في الحديث الماء الطهور وبالثاني المني وكلمة من للسببية أي استعمال الماء لأجل الاغتسال واجب بسبب المني. والإكسال أن يجامع الرجل ثم يفتر ذكره بعد الإيلاج بلا إنزال يقال أكسل الفحل أي صار ذا كسل كذا في الفائق وتمسك الجمهور في ذلك بالكتاب والسنة فإنه تعالى قال {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} أي في الأشهر الأربعة الحرم وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ولم يدل ذلك على إباحة الظلم في غيرها وقال تعالى {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} "الكهف: 23-24" أي إلا إن شاء الله ثم لم يدل ذلك على تخصيص الاستثناء بالغد دون غيره من الأوقات في المستقبل ومثله قوله تعالى {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً} "لقمان: 34" وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسلن فيه من الجنابة2" ثم لم يدل ذلك على التخصيص بالجنابة دون غيرها من أسباب الاغتسال.
وقوله "ولأنه" عطف على ما تقدم من حيث المعنى وتقدير الكلام وقلنا نحن هذا أي ما قالوا: إن التنصيص بالاسم العلم يدل على التخصيص باطل لأن ذلك أي التنصيص بالاسم العلم بدون الدلالة على الخصوص كثير ولأنه يقال إلى آخره لأن النص لم يتناوله
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الحيض حديث رقم 349 والترمذي في الطهارة حديث رقم 108 وابن ماجة في الطهارة حديث رقم 608 والإمام أحمد في المسند 6/47.
2 أخرجه مسلم في الطهارة حديث رقم 282 وأبو داود في الطهارة حديث رقم 79 والترمذي في الطهارة حديث رقم 68 وابن ماجة في الطهارة حديث رقم 605 والإمام أحمد في المسند 2/259.(2/374)
لأن النص لم يتناوله فكيف يمنع ولأنه لا يجاب الحكم في المسمى فكيف يوجب النفي وهو ضده وقد أجمع الفقهاء على جواز التعليل ولو كان لخصوص
ـــــــ
قال الشيخ في "شرح التقويم" النص متى أوجب حكما مقيدا باسم يكون ذلك دليلا على ثبوته في ذلك المسمى ولا يتناول غيره فلا يصير النص بذلك الاسم مانعا ثبوت الحكم في سائر المحال لأنه لم يتناولها ألا ترى أنه لم يتناول سائر المحال في إيجاب ذلك الحكم مع أنه وضع للإيجاب فلأن لا يتناول سائر المحال لنفي الحكم مع أنه لم يوضع للنفي أولى "فكيف يوجب النفي وهو ضده" وذكر في بعض الشروح أن الثبوت مع الانتفاء ضدان ولهذا يستحيل اجتماعهما في محل واحد في زمان واحد كالحركة والسكون والسواد والبياض فما يوجب السواد لا يوجب البياض وإن كانا في محلين فكذلك الثبوت والانتفاء لا يصلحان موجبين لعلة واحدة وإن اختلف المحل كالسواد والبياض. واعترض عليه بأن ما ذكرتم عند اختلاف المحل غير مسلم لأن من شرائط التنافي اتحاد المحل ألا ترى أن النكاح يوجب الحل في حق الزوج والحرمة في حق غيره. وكذا الاستيلاء على المباح يوجب الحل في حق المستولي والحرمة في حق غيره وكذا الأمر بالشيء إيجاب في حقه ونهي عن ضده فكذا النص يجوز أن يكون مثبتا للحكم في المنصوص عليه ونافيا عن غيره.
وأجيب بأنا لم ندع استحالة اجتماعهما بسببين مختلفين وإنما قلنا: إن ما يكون مؤثرا في إثبات شيء لا يجوز أن يكون مؤثرا في إثبات ضده والحرمة على الغير فيما ذكرتم لم يثبت بالنكاح نفسه ولا بالاستيلاء ولكن لأن المحل لا يقبل إلا حلا واحدا فإذا ثبت في حق الزوج والمستولي انتفى عن غيرهما ضرورة فكان المثبت للحرمة على الغير ثبوت الحل. وكذا الأمر لما وجب المأمور به ومن ضرورة الإتيان به ترك ضده لأن الاشتغال بضده يؤدي إلى تفويته ثبت حرمة الضد أو كراهته بوجوب المأمور به لا بالأمر نفسه ولكن الحرمة على الغير وحرمة الضد أضيفت إلى النكاح والأمر لإضافتهما إليها فأما ثبوت الحكم في محل فقد يستغني عن النفي عن غيره فلا يجوز أن يضاف النفي بلا ضرورة إلى المثبت وهو النص.
"وقد أجمع الفقهاء على جواز التعليل" وفيه دليل على أن القول بالتخصيص باطل إذ لو كان لخصوص الاسم أثر في نفي الحكم عن غيره لامتنع القياس لأن الحكم بالعلة لا يتعدى مع قيام المانع ولا مانع أقوى من النص إذ التعليل في مقابلته يؤدي إلى إبطاله وهو باطل ولكنهم قالوا النص الوارد في الأصل وإن دل على نفي الحكم في الفرع وهو المسكوت عنه لكنه يدل عليه بمفهومه لا بصريحه والمفهوم لا يمنع من القياس فلا(2/375)
الاسم أثر بالمنع في غيره لصار التعليل على مضادة النص وهو باطل وأما: "الماء من الماء" فإن الاستدلال منهم كان فاللام المعرفة وهي لاستغراق الجنس وتعريفه
ـــــــ
يفضي القول به إلى إبطال القياس بل إلى التعارض ولأن من شرط القياس مساواة الفرع الأصل في المصلحة المناسبة للحكم ومن شرط مفهوم المخالفة عدم مساواة المسكوت المنطوق في تلك المصلحة إذ لو كان مساويا له لكان مفهوم موافقة فإذا أمكن قياس المسكوت على المنطوق ثبت أن لا مفهوم لانتفاء شرطه وهو عدم المساواة وتخصيص الشيخ الفقهاء بالذكر في قوله وقد أجمع الفقهاء لا يوهمنك أن القول بعدم جواز القياس كما ذهب إليه نفاته يدل على ثبوت التخصيص بالتنصيص على الشيء بالاسم وأن عدم جواز القياس بناء عليه فإنهم إنما لم يجوزوه لتردده بين أن يكون صوابا وخطأ لا لنص يمنع منه بمنزلة العمل بخبر الفاسق فإنه لا يعمل بخبره لضعف في سنده لا لنص مانع من العمل به وإنما خصهم لأن الاحتجاج على الخصم يثبت بقولهم لا بقول نفاة القياس
ورأيت في بعض النسخ لو كان مفهوم اللقب حجة لكان يلزم من قول القائل زيد موجود ومحمد رسول الله كفر القائل ظاهرا لأنه يؤدي بظاهره إلى أن غير زيد ليس بموجود وفيه إنكار وجود الصانع جل جلاله وأن غير محمد عليه السلام ليس برسول وفيه إنكار الأنبياء المتقدمين وكل ذلك باطل فكذا ما يؤدي إليه.
ثم أجاب الشيخ عما استدلوا به من قوله عليه السلام: "الماء من الماء" بأن الاستدلال من الأنصار رضي الله عنهم على انحصار الحكم على الماء لم يكن لما توهم الخصم من دلالة التنصيص على التخصيص بل فاللام المعرفة المستغرقة للجنس المعرفة له عند عدم المعهود الموجبة للانحصار أو ما روي في بعض الروايات: "لا ماء إلا من الماء" وفي بعضها: "إنما الماء من الماء" فإن ذلك يوجب الحصر والتخصيص بالاتفاق.
"وعندنا هو كذلك" أي هذا الكلام موجب للاستغراق والانحصار كما قالت الأنصار ومعناه وجوب جميع الاغتسالات من المني أي بسببه لكن لما دل الدليل على وجوب الاغتسال من الحيض والنفاس أيضا نفي الانحصار فيما وراء ذلك مما يتعلق بالمني وصار معناه جميع الاغتسالات التي تتعلق بقضاء الشهوة منحصر في المني لا يثبت بغيره وهو معنى قوله فيما يتعلق بالماء فعلى هذا ينبغي أن لا يجب الاغتسال بالإكسال لعدم الماء لكن الماء فيه ثابت تقديرا لأن الماء يثبت عيانا مرة وهو ظاهر ومرة دلالة فإن التقاء الختانين وتواري الحشفة لما كان سببا لنزول الماء كان دليلا عليه فأقيم مقامه عند تعذر الوقوف عليه كالنوم أقيم مقام الحدث والسفر مقام المشقة فثبت أن(2/376)
وعندنا هو كذلك فيما يتعلق بعين الماء غير أن الماء يثبت عيانا مرة وتارة دلالة.ومن ذلك ما حكي عن الشافعي أن الحكم إذا أضيف إلى مسمى بوصف
ـــــــ
وجوب الغسل في الإكسال مضاف إلى الماء أيضا فكان هذا منا قولا بموجب العلة وأما فائدة التخصيص عندنا فهي أن يتأمل المستنبطون في علة النص فيثبتون الحكم بها في غير المنصوص من المواضع لينالوا درجة المستنبطين وثوابهم وهذا لا يحصل إذا ورد النص عاما متنا ولا للجنس.كذا ذكر الإمام شمس الأئمة رحمه الله.
قوله "ومن ذلك" أي ومن العمل بالوجوه الفاسدة أن الحكم إذا أضيف إلى مسمى بوصف خاص يعني إذا تعلق الحكم باسم عام مقيد بوصف كقوله عليه السلام: "في الغنم السائمة زكاة" فإن اسم الغنم عام في جنسه ووصف السوم مختص ببعضه لا بكله بخلاف قوله تعالى {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} "المائدة: 44" فإنه وصف يعم النبيين أجمع وقوله عليه السلام: "في كل ذات كبد رطبة أجر1" فإن وصف رطوبة الكبد يعم جميع الحيوانات "كان ذلك دليلا على نفيه" أي نفي الحكم عند عدم ذلك الوصف كما لو نص عليه ويسمى هذا مفهوم الصفة. وحقيقته أن يكون للمنصوص عليه صفتان فتعلق الحكم بإحدى الصفتين يدل على نفيه عما يخالفه في الصفة كقوله تعالى {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً} "المائدة: 95" وقوله عليه السلام: "في سائمة الغنم زكاة ","من باع نخلا مؤبرة فثمرتها للبائع2" فتخصيص العمد والسوم والتأبير بالذكر يدل على نفي الحكم عما عداها عند مالك والشافعي وجمهور أصحابهما وهو قول داود وأصحاب الظواهر وجماعة من المتكلمين وأبي عبيدة معمر بن المثنى وجماعة من أهل العربية وعندنا لا يدل وإليه ذهب أبو العباس بن شريح وأبو بكر القفال الشاشي والغزالي من أصحاب الشافعي والقاضي أبو بكر الباقلاني وجمهور المتكلمين.
واحتج الفريق الأول بما روي أن أبا عبيد القاسم بن سلام وهو من أئمة اللغة حكى عن العرب استعمالهم المفهوم وقال في قوله عليه السلام: "لي الواجد يحل عقوبته وعرضه3" أنه يدل على أن لي من ليس بواجد أي مطل من ليس بغني لا يحل عقوبته أي
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في المساقاة باب رقم 9 ومسلم في السلام حديث رقم 153 وابن ماجة في الأدب باب رقم 8 والإمام أحمد في المسند 2/222.
2 أخرجه البخاري في البيوع باب رقم 90 ومسلم في البيوع حديث 9 وأبو داود في البيوع باب رقم 42.
3 أخرجه أبو داود في الأقضية حديث رقم 3628 وابن ماجة في الصدقات حديث رقم 2427 والإمام أحمد في المسند 4/222(2/377)
خاص كان دليلا على نفيه عند عدم ذلك الوصف وعندنا هذا باطل أيضا
ـــــــ
من جنسه وعرضه أي مطالبته وبأن من قال لغيره: اشتر لي عبدا أسود يفهم منه نفي الأبيض وإذا قال: اضربه إذا قام يفهم منه المنع إذا لم يقم وبأن تخصيص الوصف لو لم يدل على نفي الحكم عما عداه لم يكن لذكره فائدة فإنه لو استوت العلوفة والسائمة في وجوب الزكاة لم تبق لذكر السائمة فائدة وتخصيص آحاد الفقهاء والبلغاء بغير فائدة ممتنع فتخصيص الشارع أولى.
واحتج الفريق الثاني بأن نفي الحكم عن غير المنصوص لا يفهم من مجرد الإثبات إلا بنقل متواتر عن أهل اللغة أو جار مجرى التواتر كعلمنا بأن قولهم ضروب وقتول وأمثالهما للتكثير وأن قولهم عليم وأعلم وقدير وأقدر للمبالغة ونقل الآحاد لا يكفي إذ الحكم على لغة ينزل عليها كلام الله تعالى بقول الآحاد مع جواز الغلط لا سبيل إليه ولم يوجد. ولا يحسن الاستفهام فإن من قال: إن ضربك زيد عامدا فاضربه حسن أن يقال إن ضربني خاطئا هل أضربه وإذا قال: أخرج الزكاة من ماشيتك السائمة حسن أن يقال: هل أخرجها من العلوفة فحسن الاستفهام دل على أنه غير مفهوم فإنه لا يحسن ذلك في المنطوق ولا يقال: إنما حسن لأنه قد يراد به النفي مجازا لأنا نقول: الأصل أنه إذا احتمل ذلك كان حقيقة وإنما يرد إلى المجاز لضرورة دليل ولا دليل وبأن الخبر عن ذي الصفة لا يبقى غير الموصوف فإن الرجل إذا قال: قام أسود أو خرج لم يدل على نفيه عن الأبيض بل هو مسكوت عن الأبيض فكذلك الأمر. وبمفهوم الاسم واللقب فإن الأسماء موضوعة لتمييز الأجناس والأشخاص كالإنسان فريد والصفات موضوعة لتمييز النعوت والأحوال كطويل وقصير وقائم وقاعد فإذا كان تقييد الخطاب بالاسم لا يدل على نفيه عما عداه فإنه إذا قيل في الإبل الزكاة لا يدل ذلك على نفيها عن البقر وجب أن يكون التقييد بالصفات بمثابته.
وبأن أهل اللغة فرقوا بين العطف وبين النقض وقد قالوا: اضرب الرجال الطوال والقصار عطف وليس بنقض ولو كان قوله اضرب الرجال الطوال بدلا على نفي ضرب القصر لكان قوله والقصار نقضا لا عطفا وقولهم لو لم يدل تخصيص الوصف على نفي الحكم عما عداه لم يبق له فائدة غير مسلم إذ الباعث على التخصيص يجوز أن يكون غيره لأن في البواعث عليه كثرة فإن قيل لو كان عليه باعث سوى اختصاص الحكم لعرفناه مع كثرة خوضنا في طلبه وتوفر دواعينا على طلب الحق قلنا: ولو قلتم إن كل فائدة ينبغي أن تكون معلومة لكم فلعلها حاصلة ولم تعثروا عليها فكأنكم جعلتم عدم العلم بالفائدة علما بعدم الفائدة وهو خطأ.(2/378)
وذلك مثل قول الله تعالى {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ
ـــــــ
والدليل عليه أن التخصيص بالاسم لم يدل على النفي حتى عم الحكم في المكيلات والمطعومات في حديث الربا وقد اختص بالأشياء الستة مع أن كلام الشارع لا يخلو عن الفائدة وإذا طلبت الفائدة قيل: لعل الداعي إليه سؤال أو حاجة أو سبب لم نعرفه فليكن في التخصيص بالوصف كذلك ثم نقول للتخصيص فوائد الأول ما بينا أنه لو استوعب جميع محل الحكم لم يبق للاجتهاد مجال ففي التخصيص ببعض الألقاب والأوصاف بالذكر تعريض للمجتهدين للثواب الجزيل الذي في الاجتهاد ليتوفر دواعيهم على العلم ويدوم العلم محفوظا بإقبالهم ونشاطهم في الفكر والاستنباط ولولا هذا لذكر لكل حكم رابطة عامة جامعة لجميع مجازي الحكم لا يبقى للقياس مجال.
الثانية أنه لو قال: في الغنم زكاة ولم تخصص السائمة لجاز للمجتهد إخراج السائمة عن العموم بالاجتهاد فخص السائمة لقياس العلوفة عليها إن رأى أنها في معناها أو لا يلحق بها فيبقى السائمة بمعزل عن محل الاجتهاد.
الثالثة يجوز أن يكون الباعث على التخصيص عموم وقوع أو اتفاق معاملة خاصة أو غير ذلك من أسباب لا نطلع عليها فعدم علمنا بذلك لا ينزل منزلة علمنا بعدم ذلك بل نقول لعل إليه داعيا لم نعرفه وما يستدلون به من تخصيصات في الكتاب والسنة خالف الموصوف فيها غير الموصوف بتلك الصفات فالجواب عنها أن ذلك إما لبقائها على الأصل أو معرفتها بدليل آخر أو بقرينة مع أنها معارضة بتخصيصات لا أثر لها في نقيضها كقوله تعالى {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً} "المائدة: 95" في جزاء الصيد إذ يجب الجزاء على الخاطئ وقوله تعالى {وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} "الأحزاب: 50" والحل ثابت في اللاتي لم يهاجرن معه بالاتفاق. وقوله جل ذكره {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً} "النساء: 6" {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} "النازعان: 45" {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} "يس: 11" {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ} "النساء: 101" {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} "النساء: 35" لي أمثال لها لا تحصى وهذه المسألة أصل عظيم في الفقه وللفريقين كلام طويل يؤدي ذكره إلى الإطناب فلنقتصر على هذا القدر والله أعلم.
قوله "وذلك مثل قوله تعالى" أي نظير ما ذكرنا من الأصل قوله تعالى {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ} "النساء: 23" علق حرمة الربيبة بالدخول بامرأة موصوفة بأن تكون مضافة إلينا فوجب أن لا تثبت هذه الحرمة عند عدم(2/379)
اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} "النساء: 23" أن وصف كون المرأة من نسائنا يوجب أن لا يثبت عند عدمه وذلك في الزنا وذلك مثل قوله عليه السلام: "في خمس من الإبل السائمة شاة" وهذه المسألة بناء على مسألة التعليق بالشرط على مذهبه لأن التعليق عنده يوجب الوجود عند وجوده والعدم عند عدمه والوصف بمعنى الشرط بيانه أن الشرط لما دخل على ما هو موجب لولا هو صار الشرط مؤخرا ونافيا حكم الإيجاب والوصف لولا هو لكان الحكم ثابتا بمطلق الاسم أيضا فصار للوصف أثر الاعتراض بمنزلة الشرط فألحق به بخلاف العلة لأنها
ـــــــ
هذا الوصف "وذلك في الزنا" أي عدم الوصف يتحقق في الزنا فلا تثبت حرمة المصاهرة به. وقوله "وذلك" دليل على المدعي أي تعلق الحكم بالوصف فيما ذكرنا مثل تعلق الحكم بالوصف في هذا الحديث وقد دل عدم الوصف وهو السوم فيه على عدم الحكم إذ لو لم يدل على النفي لوجبت الزكاة في العوامل بالخبر المطلق وهو قوله عليه السلام: "في خمس من الإبل شاة" فكذا فيما نحن فيه ثم ألحق الشيخ هذه المسألة بمفهوم الشرط وجعلها مبنية عليه وبين وجه البناء فقال: الوصف بمنزلة الشرط من حيث إن الشرط إنما يدخل على ما هو موجب للحكم في الحال لولا دخوله عليه فكان الشرط مؤخرا حكم الإيجاب إلى زمان وجود الشرط ونافيا له في الحال فكذا النص موجب بنفسه لولا الوصف فإذا قيد به تأخر الحكم في ذلك المسمى إلى زمان وجوده فكانا بمنزلة واحدة.
يوضحه أن قوله أنت طالق إن دخلت الدار لا يكون موجبا وقوع الطلاق ما لم يوجد الشرط وبدونه كان موجبا في الحال فكذا قوله أنت طالق إن دخلت الدار راكبة لا يكون موجبا ما لم يوجد الركوب مع الدخول وقد تقرر من أصله أن التعليق بالشرط يوجب النفي عند عدمه لما ذكرنا أنه مؤخر فكذا التقييد بالوصف. "وهذا بخلاف العلة" أي الشرط أو الوصف يخالف العلة في أنها لا توجب العدم عند العدم لأنها توجب الحكم ابتداء لا أنه وجد موجب قبلها ثم صارت هي مؤخرة حكم ذلك الموجب إلى حين وجودها فتوجب الوجود عند الموجود والعدم عند العدم بل هي بمنزلة التخصيص بالاسم العلم فإنه لم يوجب النفي لأنه أوجب الحكم ابتداء إذ لم يسبقه موجب قبله حتى صار التنصيص عليه مؤخرا إلى حين وجوده فلذلك لا يوجب العدم عند العدم يوضحه أن التخصيص إنما يوجب النفي إذا تم الكلام بدونه كما في قوله عليه السلام: "في الغنم السائمة زكاة" إذ لو سقطت السائمة لما اختل الكلام بخلاف قوله في الغنم زكاة فإنه لو أسقط الغنم لاختل الكلام ولم يبق فيه ما يوجب الحكم بدونه فلا يكون التخصيص به مؤخرا نافيا.(2/380)
لابتداء الإيجاب لا للاعتراض على ما يوجب فصار بمنزلة الاسم العلم فيتعلق بها الوجود ولم يوجب العدم عند عدمها ولنا أن أقصى درجات الوصف إذا كان موثرا أن يكون علة الحكم مثل السارق والزاني ولا أثر للعلة في النفي ومثال هذا أيضا قوله تعالى {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} "النساء: 25" فهذا لا يوجب تحريم نكاح الأمة الكتابية عندنا لما قلنا ولا يلزم على هذا الأصل ما قال أصحابنا في كتاب الدعوى في أمة ولدت ثلاثة أولاد في بطون مختلفة فادعى المولى نسب الأكبر أن نسب من بعده لا يثبت فجعل تخصيصه نفيا لولا ذلك
ـــــــ
ولنا أن أقصى درجات الوصف أي أعلاها إذا كان مؤثرا احتراز عن مثل قول الراوي: "نهى النبي عليه السلام عن بيع الحيوان نسيئة1" فإن وصف الحياة ليس بمؤثر في حرمة البيع وإنما المؤثر وصف النسيئة ومثال هذا أيضا في قوله أيضا رفع إبهام وهو أن قوله هذا يحتمل أن يكون إشارة إلى ما قبله من قوله ولا أثر للعلة في النفي فرفع ذلك الإبهام بقوله أيضا وبين أنه نظير التعليق بالوصف كقوله تعالى {مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} ولم يبين أنه إذا كان بمعنى الشرط ما حكمه مع أن النزاع فيه لأنه قد تبين حكم الشرط بعد هذا أنه لا أثر له في النفي فيفهم منه حكم ما ألحق به أيضا لما قلنا متعلق بقوله وهذا باطل. قوله "ولا يلزم على هذا الأصل" وهو أن التخصيص بالوصف لا يدل على النفي ما ذكر في المبسوط أمة ولدت ثلاثة أولاد من غير زوج في بطون مختلفة بأن كان بين الولدين ستة أشهر فصاعدا فقال المولى الأكبر ولدي لم يثبت نسب الآخرين منه لأنه لما خص الأكبر بالدعوى صار كأنه نفى نسب الآخرين وقال: هو ولدي دونهما ولولا التخصيص لثبت نسبهما أيضا لأنهما ولدا أم الولد ولهذا قال زفر رحمه الله: يثبت نسبهما لأنه لا أثر للتخصيص في النفي وقد تبين بثبوت نسب الأكبر من وقت العلوق أنها صارت أم ولد له من ذلك الوقت وأنها ولدتهما على فراشه ونسب ولد أم الولد يثبت من المولى من غير دعوة إلا أن ينفيه ولم يوجد وقال في الشهادات عطف على قال الأول أي ولا يلزم أيضا ما قال محمد في كذا أما في المسألة الأولى وهي مسألة الدعوى فلم يثبت النفي بالخصوص أي بالتقييد بالوصف فإنه لو أشار إلى الأكبر وسماه باسمه فقال: هذا ولدي أو فلان لم يثبت نسب الآخرين أيضا مع أن التخصيص بالعين أو الاسم العلم لا
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في البيوع حديث رقم 1237 وأبو داود في البيوع حديث رقم 3356 وابن ماجة في التجارات حديث رقم 2270 والإمام أحمد في المسند 5/12.(2/381)
لثبت لأنهما ولد أم ولده وقال في الشهادات والدعوى إذا قال شهود الميراث لا نعلم له وارثا في أرض كذا أن هذه الشهادة لا تقبل عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وجعل النفي في مكان كذا إثباتا في غيره أما في المسألة الأولى فلم يثبت النفي بالخصوص لكن لأن التزام النسب عند ظهور دليله واجب شرعا
ـــــــ
يوجب نفي الحكم عن غير المشار والمسمى باتفاق بين العامة ولكن إنما لا يثبت نسبهما لأن السكوت عن البيان بعد تحقق الحاجة إليه بيان وهذا لأن السكوت محتمل والمحتمل لا يجوز إهداره فلا بد من الترجيح إلا أنه يرجح بقدر الدليل.
ألا ترى أن سكوت الشفيع والبكر حمل على الرضاء فكذلك هاهنا وجب أن يرجح وترجيحه أن يثبت نسب الأول لا غير لأن من علم أن هذا الولد مخلوق من مائه لا يحل له الامتناع عن الإقرار بنسبه بل يفترض عليه دعوة النسب فلو لم يجعله نفيا لبقي في عهدة الفرض ولو جعلناه نفيا لسكوت محتمل تضرر الصبي به وضرر المولى فوق ضرر الصبي فرجحنا جانبه لئلا يبقى تحت عهدة الخطاب وإنما لا يبقى تحت عهدته بانتفاء نسب الآخرين وهذا هو المراد من كلامنا أنه محل الحاجة إلى البيان فإن المولى محتاج إلى إسقاط الفرض عن ذمته ومحتاج إلى أن لا يلتحق به من ليس له منه والولد محتاج إلى النسب إلا أن حاجة المولى فوق حاجة الصبي فترجحت عليها.
وإذا تقرر بما ذكرنا تحقق الحاجة إلى البيان كان سكوته عن دعوة نسب الآخرين دليل النفي لا تخصيصه الأكبر بالدعوة ودليل النفي كصريح النفي ونسب أم الولد ينتفي بالنفي فكذا بدليل النفي وهذا نظير ما قيل إن سكوت صاحب الشرع عن البيان بعد وقوع الحاجة إليه بالسؤال دليل النفي لأن البيان وجب عند السؤال فكان تركه بعد الوجوب دليل النفي كذا في المبسوط وغيره.
ولا يقال لا حاجة إلى الدعوة لأنهما ولدا أم ولده لأن أمومية الولد يثبت بدعوة الأكبر فيكون ما هو دليل النفي مقارنا لأمومية الولد فلم يثبت النسب وذكر في المبسوط أيضا أن الفراش إنما يثبت لها من وقت الدعوة فكان انفصال الولدين الآخرين قبل ظهور الفراش فيهما فلا يثبت نسبهما إلا بالدعوة وأما الشهادة فإنما ترد عندهما لأن التخصيص وإن لم يوجب الحكم في مخالفه فلا أقل من أن يورث تهمة وشبهة فكان في تخصيص الشهود مكان إبهام أنهم يعلمون له وارثا في غير ذلك المكان وتحرزوا بهذا التخصيص عن الكذب فيورث تهمة والشهادة ترد بالتهمة ألا ترى أنهم لو قالوا: لا نعلم له وارثا سواه في هذا المجلس لا يقضى بشهادتهم فكذا هذا فأما الأحكام فلا يصح إثباتها ونفيها(2/382)
والتبري عند ظهور دليله واجب أيضا والالتزام بالبيان فرض صيانة عن النفي فصار السكوت عند لزوم البيان لو كان ثابتا نفيا حملا لأمره على الصلاح حتى لا يصير تاركا للفرض وفي مسألة الشهادات زاد الشهود ما لا حاجة إليه وفيه شبهة وبالشبهة ترد الشهادات وبمثلها لا يصح إثبات الأحكام وقال أبو حنيفة رحمه الله: هذا سكوت في غير موضع الحاجة لأن ذكر المكان غير واجب
ـــــــ
بالشبهة بل بالحجة المعلومة. وقال أبو حنيفة رحمه الله: هذا أي تخصيصهم مكانا وسكوتهم عن سائر الأمكنة ليس في موضع الحاجة لأن ذكر المكان غير واجب فإنهم لو سكتوا عنه واكتفوا بقولهم لا نعلم له وارثا يرثه تقبل شهادتهم بالاتفاق فلا يصلح دليلا على وجود وارث في غير ذلك المكان لأن السكوت في غير موضع الحاجة ليس بحجة وكما يحتمل تخصيصهم المكان علمهم بالوارث يحتمل المبالغة في نفي الوارث ومعناه أن يلده كذا مولده ومسقط رأسه ولا نعلم له وارثا غيره فيها بعد تفحص وإتقان فأحرى أن لا يكون له وارث آخر في مكان آخر ويحتمل التحرز والتورع عن المجازفة أي أنا تفحصنا في ذلك الموضع دون سائر المواضع فنخبر عما تحققنا ولا نخبر مجازفة عن سائر الأمكنة لأنا لم نتفحص فيها فعارض هذان الاحتمالان ذلك الاحتمال فلا يمنع العمل بشهادتهم بمثل هذه التهمة.
والأصل فيه ما روي: "أن الثابت بن الدحداح لما مات قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل "قبيلته هل تعرفون له فيكم نسبا" قالوا: لا إلا ابن أخت فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراثه لابن أخته إلى لبابة بن عبد المنذر" فقد ذكروا أنهم لا يعرفون له وارثا غيره فيهم نسبا ولم يكلفهم أكثر من ذلك وعمل بشهادتهم كذا ذكر في المبسوط.
قوله "ومن ذلك" أي ومن العمل بالوجوه الفاسدة ما قال بعض أهل النظر إن القران في النظم يوجب القران في الحكم وصورته أن حرف الواو متى دخل بين جملتين تامتين فالجملة المعطوفة تشارك المعطوف عليها في الحكم المتعلق بها عندهم خلافا لعامة العلماء وأجمعوا أن المعطوف إذا كان ناقصا يشارك الجملة المعطوف عليها في خبره وحكمه جميعا ولهذا قالوا: إن القران بين الجملتين بواو النظم في قوله تعالى {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} "البقرة: 43" يوجب سقوط الزكاة عن الصبي كسقوط الصلاة عنه تحقيقا للمساواة في الحكم وشبهتهم أن الواو للعطف في اللغة ولهذا يسمى واو العطف عندهم وموجب العطف هو الاشتراك ومطلق الاشتراك يقتضي التسوية ولهذا إذا كان المعطوف متعريا عن الخبر فإنه يشارك الأول في خبره وحكمه فيجب القول بالشركة(2/383)
وذكر المكان يحتمل الاحتراز عن المجازفة.ومن ذلك أن القران في النظم يوجب القران في الحكم عند بعضهم مثل قول بعضهم في قوله تعالى {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} "البقرة: 43" إن القرآن يوجب أن لا يجب على الصبي الزكاة وقالوا: لأن العطف يوجب الشركة واعتبروا بالجملة الناقصة وقلنا نحن: إن عطف الجملة على الجملة في اللغة لا يوجب الشركة لأن الشركة إنما وجبت بينهما لافتقار الجملة الناقصة إلى ما تتم به فإذا تم بنفسه لم
ـــــــ
في الحكم إذا كانا كلامين تامين وهو معنى قوله "واعتبروا" بالجملة الناقصة والدليل عليه أن في كلام الناس يوجب القران الاشتراك فإن قوله إن دخلت الدار فأنت طالق وعبدي حر يوجب تعليق الطلاق والحرية جميعا بالشرط وإن كان كل واحد من الكلامين تاما مفيدا بنفسه فكذا في كلام صاحب الشرع وقلنا نحن إن عطف الجملة على الجملة في اللغة لا يوجب الشركة لأن الأصل في كل كلام أن يستبد بنفسه وينفرد بحكمه لا يشاركه فيه كلام آخر كقولك جاءني زيد وذهب عمرو لأن في إثبات الشركة جعل الكلامين كلاما واحدا وهو خلاف الحقيقة فلا يصار إليه إلا عند الضرورة وهي في الجملة الناقصة فإنها لما احتاجت إلى الخبر أوجب عطفها على الكاملة الشركة في الخبر ضرورة الإفادة وهذه الضرورة عدمت في عطف الجملة التامة على مثلها فلم يثبت الشركة. وهذا أي عطف الجملة على الجملة بدون الشركة كثير في كتاب الله تعالى مثل قوله تعالى {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} "الشوري: 24". وقوله تبارك اسمه {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ} "اىلحج: 5" وقوله عز ذكره {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} "التوبة 15" وقوله جل جلاله {قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى} "الأعراف: 26"وغير ذلك فهذه جمل مستأنفة لم تشارك ما تقدمها في الإعراب فأنى تشاركها في المعنى والحكم ولهذا أي ولأن الشركة تثبت للافتقار قلنا في المسألة المذكورة إن العتق يتعلق بالشرط كالطلاق لأن قوله عبدي حر وإن كان تاما إيقاعا لكنه قاصر تعليقا أي ناقص لأنه عرف بدلالة الحال أن غرضه تعليق العتق بالشرط لا التنجيز ولم يذكر له شرطا على حدة فصار ناقصا من حيث المعنى والغرض وقد عطفه على المعلق بالشرط فيثبت الشركة للافتقار يؤيد ما ذكرنا أنه لو قال: إن دخلت الدار فأنت طالق وعمرة طالق لا يتعلق طلاق عمرة بالشرط بل يتنجز لأنه لو كان غرضه التعليق لاقتصر على قوله وعمرة لأن خبر الأول يصلح خبرا له فيثبت الشركة بالعطف وحيث لم يقتصر دل على أن مراده التنجيز بخلاف مسألتنا لأن خبر الأول لا يصلح خبرا(2/384)
تجب الشركة إلا فيما يفتقر إليه وهذا أكثر في كتاب الله تعالى من أن يحصى ولهذا قلنا في قول الرجل: إن دخلت الدار فأنت طالق وعبدي هذا حر: إن العتق بالشرط وإن كان تاما لأنه في حكم التعليق قاصر وعلى هذا قلنا في قول الله
ـــــــ
للثاني وهو نظير ما لو قال: إن دخلت الدار فزينب طالق ثلاثا وعمرة طالق أن طلاق عمرة يتعلق بالشرط أيضا لأن غرضه تعليق الثلاث في حق زينب وتعليق نفس الطلاق في حق عمرة ولا يمكنه ذلك إلا بإعادة الخبر كما في قوله عبدي حر فإن قيل: قد ثبت في قوانين علم المعاني أن رعاية التناسب شرط في عطف الجمل حتى لو قال قائل: زيد منطلق ودرجات الحمل ثلثون وكم الخليفة في غاية الطول وفي عين الذباب جحوظ وكان جالينوس ماهرا في الطب والختم في التراويح سنة والقرد شبيه بالآدمي سجل عليه بكمال السخافة أو عد مسخرة من المساخر فدل أن القران في النظم يوجب القران في الحكم. قلنا لا ننكر أن التناسب من محسنات الكلام ولكنا ننكر ثبوت الحكم به فإنه محتمل وبالمحتمل لا يثبت الحكم وهذا كالمفهوم فإنا لا ننكر أنه من محتملات الكلام وعليه بني علم المعاني ولكنه لا يصلح مثبتا للحكم لأنه لا يثبت بالاحتمال.
قوله "وعلى هذا" أي على أن افتقار الثاني إلى الأول في أمر يوجب الشركة وإن كان الثاني تاما بنفسه قلنا في قوله تعالى إلى آخره المحدود في القذف لا تقبل شهادته قبل التوبة بالاتفاق واختلف في طريق الرد فعندنا لا يقبل شهادته تتميما للحد وعند الشافعي رحمه الله لا يقبل للفسق فإنه بالقذف بلا شهود هتك ستر العفة على المسلم فصار به فاسقا ولهذا لزمه الحد وأنه لا يجب إلا بارتكاب جريمة موجبة للفسق وإذا ثبت فسقه بالقذف لا تقبل شهادته قبل الحد أيضا لوجود الفسق ويقبل إذا تاب قبل الحد أو بعده لزوال الفسق بالتوبة كسائر الفسقة إذا تابوا وعندنا ترد شهادته تتميما للحد وسببه القذف مع العجز عن إتيان أربعة من الشهداء لا نفس القذف لأنه خبر متميل بين الصدق والكذب. وربما يكون حسبة من القاذف إذ علم إصراره ووجد أربعة من الشهود فإذا عجز لم يكن قذفه حسبة وإقامة لحق الشرع بل كان هتكا للستر لا غير وأنه حرام شرعا فصار سببا للحد والدليل عليه أنا نسمع بينة القاذف على إثبات ما قذف ولو كان قذفه كبيرة بنفسه لم يكن مسموعا ولا معمولا بحكمه بالبينة فثبت أنه إنما صار كبيرة بالعجز فإذا عجز وصار القذف حينئذ فسقا لزم القاضي إقامة الحد ولا تقبل شهادته في تلك الحالة لظهور فسقه ولكنها بعد القذف في مدة المهلة مقبولة لأنه لم يفسق بعد وإذا أقيم عليه الحد لا يقبل بعد وإن تاب لأن رد الشهادة من تمام حده وأصل الحد لا يسقط بالتوبة فما هو بمنزلته لا يسقط أيضا وإذا عرفت هذا فاعلم أن كل واحد من الفريقين تمسكوا في(2/385)
تعالى {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} "النور: 4" إن قوله: {فَاجْلِدُوهُمْ} جزاء وقوله لا تقبلوا وإن كان تاما ولكنه من حيث إنه يصلح جزاء واحدا مفتقرا إلى الشرط فجعل ملحقا بالأول ألا ترى أن جرح الشهادة
ـــــــ
إثبات مذهبهم بظاهر الآية فقال الشافعي إن قوله تعالى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} "النور: 4" متضمن معنى الشرط. وقوله {فَاجْلِدُوهُمْ} جزاء له ولهذا دخل فيه الفاء أي من رمى محصنة فاجلدوه وقوله تعالى {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً َبَداً} "النور: 4" جملة تامة منقطعة عن الأولى لما بينا أن الأصل في كل كلام تام أن يكون مستندا بنفسه والواو للنظم فلا يوجب القران في الحكم وقوله عز اسمه {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} "النور: 4" جملة تامة أيضا ولكنها في معنى التعليل للجملة التي تقدمتها أي ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا لأنهم فاسقون بذلك الرمي فكانت متصلة بما تقدمها بالاستثناء اللاحق بها يكون منصرفا إليهما فيصير كأنه قال: إلا الذين تابوا فإنهم ليسوا بفاسقين بعد التوبة فاقبلوا شهادتهم ولأن الاستثناء بعد الجمل المعطوفة بعضها على بعض بالواو منصرف إلى الكل على ما عرف فكان ينبغي أن يسقط الكل بالتوبة رد الشهادة لزوال الفسق والجلد لزوال القذف بإكذاب النفس إلا أن الجلد حق المقذوف فتوبته في ذلك أن يستعفيه فلا جرم إذا استعفاه فعفا عنه سقط الحد أيضا.
وأصحابنا رحمهم الله قالوا: إن قوله تعالى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} "النور: 4" متضمن معنى الشرط كما قال: ولكن نفس الرمي لا يصلح لإيجاب الحد لأنه أمر متردد بين الحسبة والجناية ولا يترجح جانب الجناية إلا بالعجز عن الإتيان بالشهود فعطف عليه ثم لم يأتوا لترجح جانبها وقد علمت أن المعطوف على الشرط فكان الكل شرطا للجزاء المذكور كما لو قال لنسائه التي تدخل منكن: الدار ثم تكلم زيدا فهي طالق كان دخول الدار مع كلام زيد شرطا لوقوع الطلاق. وإنما عطف بكلمة ثم لأن إقامة الشهود تتراخى عن القذف في العادة الغالبة ولا تقام عقيب الرمي متصلا به ثم رتب عليه الجزاء بقوله {فَاجْلِدُوهُمْ} فتعلق الجلد به وصار من حكمه مثله في قوله تعالى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} "النور: 2" ثم عطف عليه قوله تعالى {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} فشاركه في كونه جزاء واحدا لأنه وإن كان تاما من الوجه الذي ذكره الخصم ولكنه من حيث إنه يصلح جزاء واحدا مفتقر إلى الشرط كما بينا في قوله إن دخلت الدار فأنت طالق وعبدي هذا حر وإذا كان كذلك يلحق بالأول ويصير الكل حدا للقذف كما قال الشافعي في قوله: وتغريب عام أنه من تمام البكر للعطف ولكنا لم نجعل التقريب حدا لأنه ثبت بخبر الواحد فلا يجوز الزيادة به على الكتاب ولأنه لا يصلح(2/386)
إيلام كالضرب وألا ترى أنه فوض إلى الأئمة فأما قوله {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} "النور: 4" فلا يصلح جزاء لأن الجزاء ما يقام ابتداء بولاية الإمام فأما الحكاية عن حال قائمة فلا فاعتبر تمامها بصيغتها فكانت في حق الجزاء
ـــــــ
أن يكون حدا لما فيه من الإغراء على ارتكاب الفاحشة دون الزجر فأما رد الشهادة فثابت بالكتاب معطوف على الجلد وأنه صالح لتتميم الحد لأن حد القذف تقام حقا لله تعالى وللمقذوف على ما عرف وحقه في زوال ما لحقه من العار بتهمة الزنا وذلك إنما يحصل بأن يصير القاذف مكذب الشهادة مردود الكلام ولأن الإنسان يتألم برد الشهادة وإبطال كلامه فوق ما يتألم بالضرب فيصلح عقوبة فيحصل به الزجر ثم جريمة القاذف باللسان ورد الشهادة حد في المحل الذي حصل به الجريمة فكان جزاء وفاقا كشرعية حد السرقة في اليد التي هي آلة الأخذ والمقصود من الحد وهو دفع العار عن المقذوف في إهدار قوله أظهر منه في إقامة الجلد فلذلك جعلنا رد الشهادة متمما للحد وكان ينبغي أن يكتفي به لأنه إيلام باطنا كالقذف إلا أن كل أحد لا يتألم به ولا ينزجر به عن القذف فضم إليه الإيلام الحسي ليشمل الزاجر الجميع ويحصل الانزجار عاما وجعل الرد تتميما له ليكون جزاء وفاقا. فإن قيل: المراد من قوله تعالى {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} شهادة يقيمها القاذف على صدق مقالته بدليل اللام في قوله لهم يعني إذا أقيم عليهم الحد لا تقبلوا لأجلهم شهادة على صدق مقالتهم ونحن نقول به فإن القاذف صار مكذبا شرعا ولو كان المراد ما ذكرتم لقيل ولا تقبلوا شهادتهم قلنا: المراد شهادته في الحوادث بإجماع الصحابة فإنهم كانوا يقولون لمن حد حد القذف بطلت شهادته على المسلمين كيف والصحيح من المذهب عندنا أنه إذا قام أربعة من الشهود على صدق مقالته بعد إقامة الحد تقبل ويصير مقبول الشهادة وقوله تعالى لهم شهادة بمنزلة قوله شهادتهم كما يقال هذه دارك وهذه دار لك والدال عليه أن شهادة نكرة وقعت في النفي فيوجب العموم ولو حمل على ما ذكرتم لا يمكن تعميمها لأن شهادة تقيمها على سائر حقوقه مقبولة بالإجماع فكان ما قلناه أولى فإن قيل: ولا تقبلوا كلام مبتدأ لأنه تحريم القبول وهو لا يصلح حدا لأن الحد فعل يلزم للإمام إقامته لا حرمة فعل وليس فيها فعل ولأن النهي يدل على وجود المنهي عنه وتصوره وأنتم أبطلتم والإبطال فوق النهي. قلنا قولكم النهي لا يصلح لإقامة الحد مسلم غير أن النهي المحرم لقبول الشهادة دلنا على بطلان أداء الشهادة بالحد الذي أمضي على القاذف كما أن الأمر بالجلد دلنا على الوجوب بسبب سابق على الأمر وهو القذف إذ الأمر والنهي لإقامة ما وجب من فعل أو كف بسبب وإذا دل النهي عن(2/387)
في حكم الجملة المبتدأة مثل قوله تعالى {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} "الشوري: 44" ومثل قوله {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ} "الحج: 5" {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} "التبة: 15" والشافعي رحمه الله قطع قوله {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ}
ـــــــ
القبول على سبب متقدم أبطلتها وقامت الدلالة على أن القذف غير مبطل بنفسه علم أنه بطل حدا كأنه قال عز وجل {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} "النور: 4" مؤلمة محرمة لقبول شهادتهم أو مبطلة لأداء شهادتهم وقولكم النهي يدل على تصور المنهي عنه. قلنا: المحدود في القذف شهادة تحرم قبولها حتى انعقد النكاح بحضوره ولا ينعقد بحضور العبد وأما قوله تعالى {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} فجملة تامة بنفسها منقطعة عما تقدمها لأن ما تقدمها جملتان فعليتان أمر بفعل ونهي عن آخر خوطب بهما الأئمة وهذه الجملة إخبار عن حالة قائمة بالقاذفين وبيان لجريمتهم فلا يصلح جزاء على القذف حتى يكون متمما للحد بل المقصود به إزالة إشكال عسى يقع وهو أن القذف خبر متميل وربما يكون حسبة إذا كان الرامي صادقا له أربعة من الشهود والزاني مصرا فكان يقع الإشكال أنه لماذا كان سببا لوجوب عقوبة تندرئ بالشبهات فأزال الله تعالى هذا الإشكال بقوله {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} أي العاصون بهتك ستر العفة من غير فائدة حين عجزوا عن إقامة أربعة من الشهداء.
وإذا لم يصح عطفه على الأول بقي كلاما مبتدأ وكانت الواو للنظم وكان الاستثناء منصرفا إليه لا غير لأن الاستثناء إنما يرجع إلى جميع ما تقدم إذا كان الكلام متصلا بعضه ببعض صورة ومعنى وهاهنا قد انقطع هذا الكلام عما تقدمه فاقتصر الاستثناء عليه فإذا تاب لا يقبل شهادته عملا بقوله {أَبَداً} ولا معنى لما قال: إنه مذكور على وجه التعليل لرد الشهادة لأنه لو كان كذلك لكان من حق الكلام أن يقال {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} بالفاء فلما قيل بالواو علم أنه إخبار لا تعليل.
قال شمس الأئمة في المبسوط ولو كان رد الشهادة بسبب الفسق لكان في الآية عطف العلة على الحكم وذلك لا يحسن في البيان ولهذا الأصل قلنا بقبول شهادته قبل إقامة الحد عليه وإن لم يتب لأنه من تمام حده وأوانه بعد إقامة الحد وذكر في طريقة الإمام البرغري وغيرها أن شهادته بعد العجز عن إتيان الشهود قبل إقامة الحد مردودة ولكن بسبب الفسق لا بطريق الحد إذا تاب قبل إقامة الحد يقبل لأن تحقق العجز تحقق فسقه ولكن توقف بطلانها حدا على الجلد لأن الحد ورد الشهادة وإن وجبا بعد العجز ولكن بطلان الشهادة حكم الإبطال لا حكم وجوب الإبطال كما أن الألم الذي يلحقه حكم الجلد لا حكم وجوب إيقاعه. لأن الجزاء ما يقام ابتداء بولاية الإمام أي الجزاء إنما(2/388)
"النور: 4" مع قيام دليل الاتصال وكل ذلك غلط وقلنا نحن بصيغة الكلام أن القذف سبب والعجز عن البينة شرط بصفة التراخي والرد حد مشارك للجلد لأنه عطف بالواو والعجز عطف بثم.ومن ذلك قول بعضهم إن العام يختص بسببه
ـــــــ
يحصل بفعل يحدث بولاية الإمام لا بالإخبار عن حالة قائمة بالجاني أحدثها بنفسه. فاعتبر تمامها أي تمام هذه الجملة بصيغتها أي بنفسها فإنها مبتدأ وخبر من غير تعلق لها بالأولى فكانت هذه الجملة في حق الجزاء أي في كونها جزاء في حكم المبتدأ أي الكلام المستأنف المنقطع عما سبق وإن كانت من حيث إنها متضمنة اسم الإشارة والضمير متعلقة بأول الكلام إذ لا بد لها من متعلق سابق فلا يجعل في هذا مبتدأ والشافعي قطع قوله تعالى {وَلا تَقْبَلُوا} ما سبق مع قيام دليل الاتصال وهو كونه جملة فعلية صالحة للجزاء مفوضة إلى الأئمة مثل الأولى بما قبله وهو قوله تعالى {وَلا تَقْبَلُوا} مع قيام دليل الانفصال وهو كونه جملة اسمية غير صالحة للجزاء أو غير صالحة للتعليل.
وقلنا نحن بصيغة الكلام أي عملنا بما هو موجب الكلام وهو أن القذف سبب لوجوب الحد والعجز عن البينة شرط له بصفة التراخي يعني ليس الشرط هو العجز المتصل بالقذف في الحال لكن الشرط هو العجز بعد مضي مدة المهلة المؤقتة إلى آخر مجلس الحكم أو إلى ثلاثة أيام أو إلى ما يراه القاضي كما في سائر الدعاوى فإن عجز بعد ذلك تحقق الشرط وصار القذف حينئذ فسقا مقتصرا على الحال لا أنه ظهر كونه جناية من الأصل لاحتمال أنه قذف حسبة بأن كانت له بينة عادلة على صدق مقالته ولكنه عجز عن إقامتها لموتهم في مدة المهلة أو لغيبتهم أو لامتناعهم من أداء الشهادة فلذلك يقتصر على حالة العجز والرد حد مشارك للجلد فيثبت الرد مقارنا للجلد لأنه عطف بالواو على الجلد فلا يثبت قبله لكنه يثبت مقارنا لأن الواو لا توجب التراخي والعجز عطف بثم وهي توجب التراخي.(2/389)
وهذا عندنا باطل لأن النص ساكت عن سببه والسكوت لا يكون حجة ألا ترى أن عامة الحوادث مثل الظهار واللعان وغير ذلك وردت مقيدة بأسباب ولم
ـــــــ
"العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب"
قوله "ومن ذلك قول بعضهم" إلى آخره اللفظ العام إذا ورد بناء على سبب خاص يجري على عمومه عند عامة العلماء سواء كان السبب سؤال سائل أو وقوع حادثة ومعنى الورود على سبب صدوره عند أمر دعاه إلى ذكره ومعنى الاختصاص بالسبب اقتصاره عليه وعدم تعديه عنه وقال مالك والشافعي رحمهما الله يختص بسببه وهو اختيار المزني والقفال وأبي بكر الدقاق وأبي ثور وذهب بعض العلماء منهم أبو الفرج من أصحاب الحديث إلى أن السبب إن كان سؤال سائل يختص به وإن كان وقوع حادثة لا يختص به احتج من قال بالتخصيص مطلقا بأن السبب لما كان هو الذي أثار الحكم لأنه لم يكن موجودا قبله تعلق به تعلق المعلول بالعلة فيختص به وبأنه لو كان عاما لم يكن في نقل السبب فائدة إذ لا فائدة له إلا اقتصار الخطاب عليه وقد اتفقوا على نقله وبأنه لو كان عاما لجاز تخصيص السبب وإخراجه عن العموم بالاجتهاد كما يجوز تخصيص غيره لأن نسبة العموم إلى جميع الصور الداخلة تحته متساوية وبأن من شرط الجواب أن يكون مطابقا للسؤال وإنما يكون مطابقا بالمساواة وإذا أجريناه على عمومه لم يبق مطابقا بل يصير ابتداء كلام واحتج من فرق بين وروده بناء على وقوع حادثة وبين وروده بناء على سؤال سائل بأن الشارع إذا ابتدأ بيان الحكم في حادثة قبل أن يسأل عنه فالظاهر أنه أراد مقتضى اللفظ إذ لا مانع منه وليس كذلك إذا سئل عنه لأن الظاهر أنه لم يورد الكلام ابتداء وإنما أورده ليكون جوابا عن السؤال وكونه جوابا عنه يقتضي قصره عليه.
وحجة العامة أن الاعتبار للفظ في كلام الشارع لأن التمسك به دون السبب واللفظ يقتضي العموم بإطلاقه فيجب إجراؤه على عمومه إذا لم يمنع عنه مانع والسبب لا يصلح مانعا لأنه لا ينافي عمومه والمانع هو المنافي يبينه أنه لو كان مانعا لكان تصريح الشارع بإجرائه على العموم إثبات العموم مع انتفاء العموم وهو فاسدا وإبطال الدليل المخصص وهو خلاف الأصل. ولأن النص وهو العام ساكت عن سببه أي عن اقتصاره على سببه والسكوت لا يكون حجة يؤيد ما ذكرنا إجماع الصحابة والتابعين رضي الله عنهم على إجراء النصوص العامة الواردة مقيدة بأسباب على عمومها فإن آية الظهار نزلت في خولة امرأة أوس بن الصامت وآية اللعان نزلت في هلال بن أمية حين قذف امرأته لشريك ابن سحماء أو في عويمر العجلاني وآية القذف نزلت في قذفة عائشة رضي الله عنها(2/390)
تختص بها وهذه الجملة عندنا على أربعة أوجه الوجه الأول ما خرج مخرج الجزاء فيختص بسببه والثاني ما لا يستقل بنفسه والثالث ما خرج مخرج
ـــــــ
وآية السرقة في سرقة رداء صفوان أو سرقة المجن وقوله عليه السلام: "أيما إهاب دبغ فقد طهر1" في شاة ميمونة ولم يخصوا هذه العمومات بهذه الأسباب فعرفنا أن العام لا يختص بسببه.
أما قولهم: السبب مؤثر للحكم فصار كالمعلول مع العلة فنقول: ليس الكلام في مثل هذا السبب حتى لو كان السبب المنقول هو المؤثر كان الحكم متعلقا به أيضا. وقولهم إن من شرط الجواب أن يكون مطابقا للسؤال قلنا: إن أردتم باشتراط المطابقة أن يكون الجواب مساويا للسؤال فهو ممنوع عادة وشريعة أما عادة فلأن المجيب قد يزيد على قدر الجواب من غير إنكار يرد عليه. وأما شريعة فلأنه تعالى لما سأل موسى عليه السلام عما في يمينه بقوله عز اسمه {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} "طه: 17" زاد موسى عليه السلام على قدر الجواب فقال {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} "طه: 18" والنبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن التوضؤ بماء البحر قال: "هو الطهور ماؤه والحل ميتته2" فأجاب وزاد وإن زاد باشتراطها الكشف عن السؤال وبيان حكمه فلا نسلم عدم المطابقة لأنه طابق وزاد
فإن قيل الأولى ترك الزيادة في الجواب رعاية للتناسب بينهما قلنا: بأن إفادة الأحكام الشرعية أولى من رعاية الأحكام اللفظية وقولهم لو كان عاما لجاز تخصيص السبب بالاجتهاد قلنا: إنما لا يجوز لأنه داخل في الخطاب قطعا إذ الكلام في أنه بيان له أو لغيره أم بيان له خاصة فإنه لا يجوز أن يسأل عن شيء فيجيب عن غيره ولكن يجوز أن يجيب عنه وعن غيره. وقولهم لو كان عاما لم يكن في نقل السبب فائدة قلنا: فائدته معرفة أسباب التنزيل والسير والقصص واتساع علم الشريعة وأيضا امتناع إخراج السبب بحكم التخصيص بالاجتهاد.
قوله "وهذه الجملة" ولما بين الشيخ الخلاف في تخصيص العام بالسبب ولم يبين أن المراد بالسبب سبب الوجوب أو سبب الورود وأن المراد لو كان سبب الورود أريد به السبب الخاص أو العام ولا بد من تفصيل ذلك ليتضح صورة المسألة شرع فيه
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في اللباس حديث رقم 1728 وابن ماجة في اللباس حديث رقم 3609.
2 أخرجه أبو داود في الطهارة حديث رقم 83 والترمذي في الطهارة حديث رقم 69 وابن ماجة في الطهارة حديث رقم 386 والإمام أحمد في المسند 2/361.(2/391)
الجواب واحتمل الابتداء والرابع ما زيد على قدر الجواب فكان ابتداء يحتمل البناء أما الأول فمثل ما روي: "عن النبي عليه السلام أنه سها فسجد" وروي أن ماعزا زنى فرجم والفاء للجزاء فتعلق الأول على ما مر بيانه
ـــــــ
فقال: وهذه الجملة أي جملة ما يختص بالسبب وما لا يختص به سواء كان سبب وجوب أو سبب ورود وسواء كان اللفظ عاما أو خاصا أربعة أوجه
الأول ما خرج مخرج الجزاء لما تقدمه فيختص به لأنه جعل جزاء لما تقدمه تبين أن المتقدم سبب وجوبه كقوله تعالى {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} "النور: 2" وقوله عز اسمه {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} "المائدة: 38" لما أخرجا مخرج الجزاء لقوله {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} "النور: 2". وقوله {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} "المائدة: 38" كان الزنا والسرقة سببي وجوبهما وإذا تبين أن ما تقدمه سبب وجوبه يختص به أي يرتبط به لأن الحكم يختص بسببه بلا خلاف لأن الحكم كما لا يثبت بدون علته لا يبقى بدون العلة مضافا إليها بل البقاء بدونها يكون مضافا إلى علة أخرى إليه أشار شمس الأئمة رحمه الله
والثاني: ما لا يستقل بنفسه أي لا يفهم بدون ما تقدمه من السبب فيختص به أي يتعلق به أيضا لأنه لما لم يستقل بنفسه ما لم يرتبط بما قبله من السبب صار كبعض الكلام من جملته فلا يجوز فضلة للعمل به والثالث: ما يستقل بنفسه ولكنه خرج مخرج الجواب وهو غير زائد على مقدار الجواب فهذا يتقيد بما سبق ويصير ما ذكر في السؤال كالمعاد في الجواب لأنه بناء عليه ولكنه يحتمل الابتداء لاستقلاله فإذا نواه يصدق ديانة وقضاء
والرابع: ما يكون مستقلا بنفسه زائدا على قدر الجواب فهذا من صور الخلاف
وذكر في بعض نسخ الأصول بهذا الترتيب وهو أن الخطاب الوارد جوابا لسؤال سائل إما أن يكون مستقلا بنفسه دون السؤال أو لم يكن والثاني تابع للسؤال في عمومه وخصوصه أما في عمومه فمثل ما روي: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال "أينقص الرطب إذا يبس فقالوا نعم قال فلا إذن1" فالسؤال لما كان غير مختص بأحد فكذلك الجواب وهو عدم الجواز عم الكل عند من قال بصحة الحديث وأما في خصوصه
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في البيوع حديث رقم 1225 وأبو داود في البيوع حديث رقم 3359 وابن ماجة في التجارات حديث رقم 2264 والإمام أحمد في المسند 1/75.(2/392)
وأما الثاني فمثل الرجل يقول لآخر: ليس لي عليك كذا فيقول: بلى أو يقول: كان كذا فيقول: نعم يجعل إقرارا وكذلك إذا قال: أجل هذا أصل بلى
ـــــــ
فكما لو سأله سائل أيجزئني التوضؤ بماء البحر؟ فيقول: نعم فهذا وأمثاله لا يدل على التعميم في حق الغير. والأول وهو أن يكون مستقلا لا يخلو من أن يكون مساويا للسؤال أو أخص أو أعم فإن كان مساويا فالحكم في عمومه وخصوصه عند كون السؤال عاما كما: "سئل النبي صلى الله عليه وسلم عمن يركب البحر أيتوضأ بماء البحر فقال عليه السلام "البحر هو الطهور ماؤه" أو خاصا كما سأله الأعرابي عن وطئه امرأته في نهار رمضان فقال أعتق رقبة كالحكم في غير المستقل حتى عم جواب الأول للكل ويختص جواب الثاني بالأعرابي وإن كان أخص كما لو سئل عن التوضؤ بماء البحر فنقول يجوز لك فالجواب يختص بالسائل ولا يثبت الحكم في حق غيره إلا بدليل آخر من دلالة أو قياس أو نحوهما إذ اللفظ لا عموم له وإن كان أعم من السؤال أو الحادثة التي ورد فيها فلا يخلو من أن يكون أعم في حكم آخر أو في ذلك الحكم فإن كان الأول كما: "سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن التوضؤ بماء البحر فقال "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" فلا خلاف في عمومه في الحكم الآخر وهو حل ميتته في المثال لأنه عام مبتدأ به لا في معرض الجواب إذ هو غير مسئول عنه. وإن كان الثاني كقوله عليه السلام: "هو الطهور ماؤه" لمن قال أيجزئني التوضؤ بماء البحر: وكقوله عليه السلام لما مر بشاة ميتة كانت لميمونة "أيما إهاب دبغ فقد طهر" فهو محل الخلاف على ما بينا فتبين بما ذكرنا أن المراد من السبب سبب الورود وأنه لا بد من أن يكون السبب أخص لأنه لو كان عاما أيضا عم الحكم بالاتفاق لكن لعموم اللفظ عند العامة ولعموم السبب عندهم على ما مر بيانه يعني في مسألة القذف أن الجزاء مفتقر إلى الشرط متعلق به "قوله وأما الثاني" فكذا اعلم أن نعم وبلى وأجل من حروف التصديق فأما نعم فموجبه تصديق ما قبله من كلام منفي أو مثبت كما إذا قيل لك قام زيد فقلت نعم كان المعنى قام أو قيل لك لم يقم زيد فقلت نعم كان المعنى لم يقم وكذلك إذا وقع الكلامان بعد حرف الاستفهام فإذا قيل أقام زيد أو ألم يقم زيد فقد حققت ما بعد الهمزة وأما بلى فالإيجاب ما بعد النفي استفهاما كان أو خبرا فإذا قيل: لم يقم زيد أو ألم يقم زيد فقلت بلى كان معناه قد قام وأما أجل فلا يصدق به إلا في الخبر خاصة نفيا كان أو إثباتا يقول القائل: قد أتاك زيد أو لم يأتك فتقول أجل ولا يستعمل في جواب الاستفهام.
هذا هو المذكور في كتب النحو واختار الشيخ أن الاستفهام لازم فيما وقع بلى أو(2/393)
ونعم أن يكون بلى بناء على النفي في الابتداء مع الاستفهام ونعم لمحض الاستفهام وأجل يجمعهما وقد يستعملان في غير الاستفهام على إدراج
ـــــــ
نعم جوابا له باعتبار أصل الوضع وأن أجل يستعمل في الاستفهام أيضا فإذا قال: أليس لي عليك ألف درهم ؟ فقال: بلى يكون إقرارا لأنه لما كان تصديقا لما بعد النفي كان معناه لك علي ألف ولو قال: نعم ينبغي أن لا يكون إقرارا لأنه تصديق لما بعد الهمزة في الاستفهام فكان معناه ليس لك علي ألف ولو قال: أكان لي عليك كذا فقال: نعم يكون إقرارا لما ذكرنا ولو قال: بلى ينبغي أن لا يكون إقرارا لأنه لا يستعمل إلا في النفي وذكر صاحب كتاب بيان حقائق الحروف إذا قال الرجل لآخر: اقض الدرهم الذي لي عليك فقال: نعم فقد أقر به لأنه صدقه فيما قال وإذا قال: بلى لا يكون إقرارا لأن بلى لم يأت في القرآن ولا في كلام العرب إلا بعد نفي ولم يتقدم هاهنا نفي.
وإن قال: أليس قد أقرضتني ألف درهم فقال الطالب بلى فجحد المقر لزمه المال لأن هذا استفهام فيه معنى التقرير كما قال الله تعالى {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} "الزمر: 36". ومعنى التقرير أنك قد أقرضتني وقول الطالب بلى تصديق له في الإقرار فإن قال: نعم لا يكون إقرارا لأنه صدقه في النفي وكذا إذا قال: مالك علي شيء فقال: نعم يكون تصديقا ولو قال: بلى يكون ردا قال: وهذا حقيقة العربية إلا أن الفقهاء يجوزون أن يستعمل بلى في موضع نعم ونعم في موضع بلى ولا يفرقون في الجواب في هذه المسائل بينهما.
قال وذكر الحاكم الشهيد في المنتقى في رجل قال لآخر: أطلقت امرأتك فقال "ن ع م" أو قال "ب ل ى" قال: هي طالق ولم يفرق بين نعم وبلى وهذه المسألة جوابها نعم أو لا , لا بلى لأنه لم يتقدم فيها نفي هذا أصل بلى ونعم أي ما ذكرنا هو الموجب الأصلي لهاتين الكلمتين وهو أن يكون بلى جوابا للنفي مع الاستفهام ونعم لمحض الاستفهام نفيا كان أو إثباتا بشرط الاستفهام فيهما وهكذا ذكر شمس الأئمة أيضا لأن أكثر استعمالها في جواب الاستفهام وأجل يجمعهما أي يشمل المعنيين فيستعمل في موضع بلى وفي موضع نعم وقد عرفت أن هذا خلاف موضوعه في اللغة ولكنهم اعتبروا في استعمال هذه الحروف العرف فبنوا الأحكام عليه على أنه ذكر في الصحاح أن أجل جواب مثل نعم قال الأخفش: إلا أنه أحسن من نعم في التصديق ونعم أحسن منه في الاستفهام فإذا قال: أنت سوف تذهب ؟ قلت: أجل وكان أحسن من نعم وإذا قال: أتذهب ؟ قلت: نعم وكان أحسن من أجل وذكر ابن الحاجب في شرح المفصل أن أجل يجوز أن يقع بعد الاستفهام عند بعضهم وليس ذلك بمعروف.(2/394)
الاستفهام أو مستعار لذلك وقد ذكر ذلك محمد في كتاب الإقرار في نعم من غير الاستفهام أيضا.
وأما الثالث فمثل قول الرجل لرجل تغد معي فيقول الآخر: إن تغديت
ـــــــ
"وقد يستعملان" أي نعم وبلى "في غير الاستفهام" أي في غير موضع الاستفهام الذي هو محل استعمالهما في أصل الوضع على ما اختاره الشيخ "على إدراج الاستفهام" أي إضمار حرف الاستفهام في الكلام أو مستعارا لذلك أي يستعار هذا الكلام الخالي عن الاستفهام للاستفهام باعتبار كونهما كلامين خبريين لأصل الوضع أو باعتبار مساواتهما في الصورة كما إذا قال: عليك لي ألف درهم فقال: نعم يجعل إقرارا أو يضمر حرف الاستفهام كأنه قال: أعليك لي ألف درهم كما أضمر في قوله تعالى إخبارا {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ} "الشعراء: 22" أي أتلك أو يجعل قوله عليك لي ألف مستعارا لقولك أعليك لي ألف وقد ذكر ذلك أي الاستعمال في غير المحل محمد في كتاب الإقرار في كلمة نعم خاصة من غير استفهام صريحا ومن غير احتمال الاستفهام إدراجا فقال: إذا قال لآخر: اقض الألف التي لي عليك فقال: نعم يجعل إقرارا. وكذا إذا قال الطالب لرجل: أخبر فلانا أن لفلان عليك كذا أو أعلمه أو بشره أو قل له فقال المطلوب نعم يكون إقرارا ولا يمكن هاهنا إضمار حرف الاستفهام لأنه أمر ومحل الاستفهام الخبر فكان هذا طريقا آخر اختاره محمد بناء على العرف ويؤيده ما قال شمس الأئمة وقد يستعمل بلى ونعم في جواب ما ليس باستفهام على أن يقدر فيه معنى الاستفهام أو يكون مستعارا هذا مذهب أهل اللغة فأما محمد فقد ذكر في كتاب الإقرار مسائل بناها على هذه الكلمات من غير استفهام في السؤال أو احتمال استفهام وجعلها إقرارا صحيحا بطريق الجواب وكأنه ترك اعتبار حقيقة اللغة فيها بعرف الاستعمال.
ووجه آخر أن يقال معناه أنهما يستعملان في غير الاستفهام على إدراج الاستفهام إن أمكن ذلك أو مستعارا للاستفهام إن لم يمكن وقد ذكر ذلك أي هذا الوجه الأخير محمد في كلمة نعم من غير استفهام صريحا ومن غير احتمال الاستفهام إضمارا فكان مستعارا كقوله اقض الألف التي لي عليك لما لم يحتمل الاستفهام يجعل مستعارا للاستفهام لتضمنه معنى الخبر وصلاحية الخبر للاستفهام فيجعل كأنه قال: قضاء الألف واجب لي عليك فاقضها ثم يجعل ذلك بمنزلة قوله أتقضي الألف. وقوله نعم لما تضمن إعادة ما سبق صار كأنه قال: اقض الألف التي لك علي فتصلح جوابا.
قوله "وأما الثالث" وهو أن يكون مستقلا بنفسه ولكنه خرج مخرج الجواب غير(2/395)
فعبدي حر أنه يتعلق به وكذلك إذا قيل: إنك تغتسل الليلة في هذه الدار من جنابة فقال: إن اغتسلت فعبدي حر هذا خرج جوابا فتضمن إعادة السؤال الذي سبق وقد يحتمل الابتداء ولو قال: إن اغتسلت الليلة أو في هذه الدار فعبدي حر صار مبتدأ احترازا عن إلغاء الزيادة فإن عنى به الجواب صدق فيما بينه
ـــــــ
زائد عليه فمثل قول الرجل لآخر تغد معي فقال: إن تغديت فعبدي حر انصرف إلى ذلك الغداء حتى لو رجع إلى أهل فتغدى أو تغدى معه في يوم آخر لم يحنث وقال زفر رحمه الله: هو واقع على كل غداء على الأبد كما لو ابتدأ اليمين به لكنا خصصناه وقيدناه بالفور بدلالة الحال وهي أنه أخرج الكلام مخرج الجواب ردا عليه وهو إنما دعاه إلى ذلك الغداء فيتقيد به ويصير كأنه قال: إن تغديت الغداء الذي دعوتني إليه وهذا كالشراء بالدراهم ينصرف إلى نقد البلد بدلالة الحال. وكذا إذا قالت له امرأته: إنك تغتسل الليلة في هذه الدار من جنابة فقال: إن اغتسلت فعبدي حر فإن يمينه يختص بذلك الاغتسال المذكور لأن كلامه خرج جوابا للكلام الأول فاختص به بهذه الدلالة ولم يزد هو على قدر الجواب لأن جواب الكلام أن يقول: إن فعلت فعبدي حر. وقوله إن اغتسلت مثله من غير زيادة لكنه مفسر والتفسير يؤكد ولا يغير.
قوله "ولو قال: إن اغتسلت الليلة أو في هذه الدار فعبدي حر صار مبتدأ" ولا يتعلق بالكلام الأول وهذا هو القسم الرابع الذي هو من صور الخلاف وذلك لأنا لو جعلناه متعلقا به كان فيه اعتبار الحال وإلغاء الزيادة ولو جعلناه مبتدأ كان فيه اعتبار الزيادة وإلغاء الحال فكان هذا الوجه أولى لأن العمل بالكلام لا بالحال لأنه ظاهر والحال أمر مبطن فيكون الكلام صريحا في إفادة العموم والحال دلالة في اختصاصه بالسبب ولا قوام لها مع الصريح فلذلك رجحنا اللفظ وجعلناه ابتداء. وعند المخالف هذا يحمل على الجواب أيضا اعتبار الحال لكنه عمل بالمسكوت وترك للعمل بالدليل فإن عنى به الجواب صدق فيما بينه وبين الله تعالى لأنه مع الزيادة يحتمل الجواب فإنه قد يزاد على الجواب للتأكيد كما مرت أمثلته ولكن لا يصدقه القاضي لأنه خلاف الظاهر وفيه تخفيف عليه.
وذكر في بعض الشروح أن العموم في الأقسام الأربعة ثابت فقوله فرجم عام من حيث الأسباب لأنه يحتمل أنه وقع لردة أو قتل بغير حق أو فساد في الأرض أو سياسة أو زنا بعد إحصان فعند ذكر الزنا تخصيص به وكذلك قوله فسجد يحتمل أنه وقع للتلاوة أو لقضاء المتروكة أو لشرع زيادة في الصلاة أو للسهو فلما نقل السبب معه تخصص به وكذلك بلى أو نعم عام لإبهامه من حيث إنه يصلح جوابا لأنواع من الكلام فعند ذكر السبب يتعلق به وعموم القسمين الأخيرين ظاهر لأن المصدر الذي دل عليه الكلام نكرة(2/396)
وبين الله تعالى فيصير الزيادة توكيدا وأمثلته كثيرة.ومن ذالك: ان الشافعي رحمه الله جعل التعليق بالشرط موجب العدم وعندنا للعدم لم يثبت به بل بقي
ـــــــ
واقعة في موضع النفي لأن الشرط في معنى النفي فتعم ولكنه لا يخلو عن تمحل وتكلف وما ذكرناه أولا أظهر وأوفق لعامة الكتب.
قوله "ومن ذلك" أي ومن العمل بالوجوه الفاسدة أن الشافعي رحمه الله جعل التعليق بالشرط يوجب العدم لا خلاف أن المعلق بالشرط معدوم قبل وجود الشرط ولكن هذا العدم عندنا هو العدم الأصلي الذي كان قبل التعليق وعنده هو ثابت بالتعليق ففي قوله إن دخلت الدار فأنت طالق عدم الطلاق قبل وجود الشرط ولكن بالعدم الأصلي الذي كان قبل التعليق واستمر إلى زمان وجود الشرط وعنده هو ثابت بالتعليق مضاف إلى عدم الشرط وحاصله أن وجود الشرط يدل على وجود المشروط وعدمه يدل على انتفائه عند القائلين بالمفهوم أجمع وإليه ذهب بعض من أنكر المفهوم مثل أبي الحسن الكرخي من أصحابنا وابن شريح من أصحاب الشافعي وأبي الحسين البصري من متكلمي المعتزلة وعند عامة من أنكر المفهوم عدمه لا يدل على انتفاء المشروط ويسمى هذا مفهوم الشرط تمسك القائلون به بأن قوله إن دخل عبدي الدار فأعتقه يفهم منه لغة ولا تعتقه إن لم يدخل الدار فكما أن الدخول يوجب جواز الإعتاق فعدمه يمنع عنه فكان العدم مضافا إليه وبأن الشرط هو الذي يتوقف عليه الحكم فلو ثبت الحكم مع عدمه لكان كل شيء شرطا في كل شيء حتى يكون دخول زيد الدار شرطا في كون السماء فوق الأرض وإن وجد ذلك مع عدم الدخول كذا ذكر في القواطع. والدليل عليه ما روي أن يعلى بن أمية قال لعمر رضي الله عنهما: ما بالنا نقصر الصلاة وقد أمنا وقد قال الله تعالى {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} "النساء: 101" فقال عمر رضي الله عنه: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنما هي صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته1" فلو لم يعقل من التعليق نفي الحكم عند عدم الشرط لم يكن لتعجبهما معنى مع أنهما من فصحاء العرب وفرق أبو الحسن الكرخي ومن واقفه من منكري المفهوم بين التقييد بالصفة ونحوها وبين التقييد بالشرط فقالوا: التقييد بالشرط يدل على أن ما عداه بخلافه بخلاف غيره من
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في صلاة المسافرين حديث رقم 686 والترمذي في التفسير حديث رقم 3034 وأبو داود في الصلاة حديث رقم 1199 وابن ماجة في إقامة الصلاة حديث رقم 1065 وأخرجه الإمام أحمد في المسند 1/36.(2/397)
المعلق علي أصل العدم وحاصله أن المعلق بالشرط عندنا لم ينعقد سببا وإنما
ـــــــ
التقييدات لأن التعليق بالشرط يقتضي إيقاف الحكم على وجود الشرط وإذا وقف عليه انعدم بعدمه وليس في غيره من التقييدات إيقاف الحكم عليها فيبقى ما وراء المذكور موقوفا على حسب ما يقوم عليه الدليل وحجة العامة في مفهوم الشرط ما ذكرنا في مفهوم الصفة لأن مرجع مفهوم الشرط إلى مفهوم الصفة وقد بيناه مفصلا فلا نحتاج إلى إعادته هاهنا قال الغزالي: الشرط يدل على ثبوت الحكم عند وجوده فقط فيقصر عن الدلالة على الحكم عند عدم الشرط بأن لا يدل على وجوده عند عدم الشرط فأما أن يدل على عدمه عند العدم فلا. والدليل عليه أنه يجوز تعليق الحكم بشرطين كما يجوز بعلتين فإذا قال: احكم بالمال للمدعي إن كانت له بينة لا يدل على نفي الحكم بالإقرار هذا هو الطريق المشهور المذكور في عامة الكتب.
والطريق الذي ذكره الشيخ هو مختار القاضي الإمام وهو أن التعليق بالشرط لا يمنع السبب عن الانعقاد عند الشافعي رحمه الله وإنما أثره في تأخير الحكم إلى زمان وجود الشرط فلما لم يكن التعليق مانعا من الانعقاد كان السبب موجودا موجبا للحكم في الحال لكن التعليق منع وجود الحكم وأخره إلى زمان وجود الشرط فكان عدمه مضافا إلى عدم الشرط وعندنا المعلق لا ينعقد سببا وإنما الشرط أي التعليق بالشرط يمنع عن الانعقاد فلا يكون السبب موجودا موجبا للحكم في الحال فيكون عدم الحكم بناء على العدم الأصلي الذي كان قبل التعليق لا على عدم الشرط هو يقول: التعليق يؤثر في الحكم دون السبب فإن من قال لامرأته: أنت طالق إن دخلت الدار لا يؤثر التعليق في قوله أنت طالق وإنما يوثر في حكمه بمنعه من الثبوت فإنه لولا التعليق لكان الحكم ثابتا في الحال ألا ترى أن قوله أنت طالق ثابت مع الشرط كما هو ثابت بدون الشرط وهو علة تامة بنفسه ولكن حكمه لا يثبت لمكان الشرط فتبين أن أثر التعليق في منع الحكم دون السبب بمنزلة التأجيل والإضافة وبمنزلة شرط الخيار في البيع فإنه يدخل على الحكم دون السبب فيوجب نفي الحكم قبل وجود الشرط وهو نظير التعليق الحسي فإن تعليق القنديل لا يؤثر في ثقله الذي هو سبب السقوط بالإعدام وإنما يؤثر في حكمه وهو السقوط. وهذا بخلاف العلة فإن عدمها لا يوجب عدم الحكم لأن الحكم يثبت ابتداء لوجود العلة فلا يكون عدم الحكم قبل وجود العلة مضافا إلى عدم العلة باعتبار أن العلة نفت الحكم قبل وجودها بل عدم لعدم سببه فأما الشرط فمغير للحكم بعد وجود سببه فكان مانعا من ثبوت الحكم قبل وجوده مع وجود الموجب كما كان مثبتا وجود الحكم عند وجوده.(2/398)
الشرط يمنع الانعقاد.وقال الشافعي رحمه الله هو مؤخر ولذلك أبط تعليق الطلاق والعتاق بالملك وجواز تعجيل النذر المعلق وجوز تعجيل كفارة اليمين وقال في قول الله: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} "النساء: 25"إن تعليق
ـــــــ
قوله "ولذلك" أي ولأن أثر التعليق في تأخير الحكم لا في منع السبب عن الانعقاد أبطل الشافعي رحمه الله تعليق الطلاق والعتاق بالملك بأن قال لأجنبية: إن تزوجتك أو نكحتك فأنت طالق أو قال: إن تزوجت امرأة أو كلما تزوجت امرأة فهي طالق أو قال إن اشتريت عبدا فهو حر وقال لعبد الغير: إن ملكتك أو اشتريتك فأنت حر كان هذا كله باطلا حتى لا يقع الطلاق والعتاق بهذه الأيمان بحال لأن السبب لما كان موجودا عند التعليق لا بد من وجود الملك في المحل لأنه لا يتحقق بدون الملك فيشترط قيام الملك في المحل ليتقرر السبب ثم يتأخر الحكم إلى وجود الشرط بالتعليق.
"وجوز تعجيل النذر المعلق" أي المنذور المالي بأن قال: لله علي أن أتصدق بعشرة دراهم إن فعلت كذا فتصدق بها عن النذر قبل وجود الشرط جاز عنده لأن قوله لله علي أن أتصدق بعشرة سبب تام لإيجاب العشرة في الحال غير أن الشرط أخر وجوب الأداء إلى زمان وجوده فإذا أدى قبل وجود الشرط كان الأداء واقعا بعد وجوب السبب الموجب فيجوز. "وجوز تعجيل كفارة اليمين" يعني الكفارة بالمال بأن أعتق قبل الحنث رقبة عن الكفارة أو أطعم أو كسا عشرة مساكين جاز عنده ويخرج عن عهدة اليمين لأن اليمين سبب للكفارة ولهذا تضاف الكفارة إليها فيقال: كفارة اليمين إلا أن الحنث شرط لوجوب أدائها فكان التعليق به بقوله تعالى {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} "المائدة: 89" أي حلفتم وحنثتم مؤخرا للحكم إلى حين وجوده بمنزلة التأجيل فلا يمنع جواز التعجيل لأن الأداء بعد سبب قبل وجوب الأداء جائز كتعجيل الزكاة والدين المؤجل وقال في قوله تعالى {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} "النساء: 25"أي ومن لم يملك زيادة في المال يملك بها نكاح الحرة {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} "النساء: 25" أي فلينكح مملوكة من الإماء المسلمات والطول الفضل والفتاة الأمة فإن نكاح الأمة علق بعدم طول الحرة فتوجب الجواز عند وجود الشرط بمنظومه والفساد عند عدم الشرط وهو وجود الطول بمفهومه وكذلك وصفت الفتيات بالمؤمنات فيوجب الجواز عند وجود هذه الصفة والعدم عند عدمها فعند وجود الطول لا يجوز نكاح الأمة أصلا وعند عدمه يجوز نكاح الأمة المؤمنة دون الكافرة.
والحاصل أن جواز نكاح الأمة معلق بشرطين بعدم الطول وبصفة الإيمان فيثبت(2/399)
الجواز بعدم طول الحرة يوجب الفساد عند وجوده وقال: لأن الوجوب يثبت بالإيجاب لولا الشرط فيصير الشرط معدما ما وجب وجوده لولا هو. فيكون الشرط مؤخرا لا مانعا ولا يلزم أن تعجيل البدن في الكفارات لا يجوز علي قوله
ـــــــ
عند وجودهما وينتفي بانتفاء أحدهما ورأيت في بعض النسخ أن جواز نكاح الأمة عنده متعلق بشروط أربعة سوى الشرط المتفق عليه من عدم الحرة تحته وهي عدم الطول للحرة وكون الأمة مؤمنة. وخشية العنت وهو الزنا وأن لا يكون تحته أمة أخرى بنكاح أو بملك يمين لأن جواز نكاح الأمة عنده ضروري وهي إنما تتحقق عند استجماع هذه الشرائط ولا يلزم عليه أنه لم يعمل بمفهوم قوله {الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} "النساء 25" حيث جعل طول الحرة الكتابية مانعا من نكاح الأمة كطول الحرة المؤمنة ومفهومه يقتضي أن لا يكون طول الكتابية مانعا إذ لو كان مانعا لما كان لقيد الإيمان فائدة لأنه يقول العمل بالمفهوم إنما يجب إذا لم يعارضه دليل آخر وقد عارضه هاهنا فإن صيانة الجزء عن الاسترقاق واجب ما أمكن وقد أمكن ذلك بنكاح الحرة الكتابية مع رعاية وصف الإيمان في الولد فإنه يتبع خير الأبوين دينا فلا يجب العمل بالمفهوم وذكر عبد القاهر البغدادي في أصول الفقه أن الواجد لطول حرة ذمية واجد لطول حرة مؤمنة عندنا فلذلك منعناه من نكاح الأمة وقد قال بعض أصحابنا وهو أبو سعيد الإصطخري: إذا وجد طول ذمية ولم يجد مؤمنة ترضى منه بذلك الطول كان له نكاح الأمة قال: والجواب الأول أصح. وذكر في التهذيب إن كان قادرا على نكاح حرة كتابية فهل يجوز له نكاح الأمة فيه وجهان: أحدهما يجوز لأن الله تعالى قال {أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} وهذا غير قادر على طول حرة مؤمنة والثاني وهو الأصح لا يجوز لأنه قادر على نكاح الحرة كما لو كانت في نكاحه حرة ذمية لا يجوز له نكاح الأمة وذكر في الإيمان في المحصنات ليس على سبيل الشرط بل ذكره تشريفا كما قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} "الأحزاب:49" الآية ثم المسلمة والذمية في هذا الحكم سواء وهو أن لا عدة عليها إذا طلقت قبل الدخول بها وإن أثبت الحكم في المؤمنات ولا يلزم أي على ما ذكر من جواز تعجيل الكفارة بالمال والمنذور المالي بناء على وجود السبب عدم جواز تعجيل البدني في الكفارة أو في النذر حتى لو كفر اليمين بالصوم قبل الحنث أو كفر بالصوم بعد الجرح قبل انزهاق الروح في كفارة القتل أو نذر لله علي أن أصوم أو أصلي ركعتين إن فعلت كذا فأتى بالمنذور قبل الشرط لا يجوز في هذا كله بخلاف تعجيل المالي حيث يجوز لأن الحقوق المالية ينفصل وجوب أدائها عن نفس الوجوب لأن المال مع الفصل يتغايران فجاز أن يتصف المال بالوجوب ولا يثبت وجوب الأداء الذي هو الفعل ألا ترى أن من اشترى شيئا إلى شهر يثبت الوجوب بنفس(2/400)
لأن الوجوب بالسبب حاصل ووجوب الأداء متراخ بالشرط والمال يحتمل الفصل بين وجوبه ووجوب أدائه وأما البدني فلا يحتمل الفصل فلما تأخر الأداء لم
ـــــــ
العقد ولا يثبت وجوب الأداء قبل حلول الأجل فلا يدل عدم وجوب الأداء على عدم الوجوب. فأما البدني فلا يحتمل الفصل بين وجوبه ووجوب أدائه لأن الصلاة ليست إلا أفعالا معلومة وكذا الصوم فوجوب الصلاة والصوم لا يكون إلا وجوب الأداء فعدم وجوب الأداء فيه يكون دليلا على عدم الوجوب ضرورة ولما تأخر وجوب الأداء هاهنا بالإجماع انتفى الوجوب فلا يجوز الأداء قبل الوجوب ولهذا لا يجوز تعجيل الصوم قبل الشهر ويجوز تعجيل الزكاة قبل الحول.
ونحن نقول: تأثير التعليق في منع السبب لا في حكمه فكان امتناع الحكم لعدم سببه لا لمنع التعليق إياه قصدا وهذا لأن التعليق دخل في السبب وهو قوله أنت طالق مثلا لأنه هو المذكور دون غيره فإذا قال: إن دخلت الدار فأنت طالق فقد علقه بهذا الشرط وقصد التطليق عند دخول الدار لا في الحال فلم يكن السبب موجودا قبل وجود الشرط ألا ترى أنه جعل قوله أنت طالق جزاء لدخول الدار والجزاء عند أهل اللغة يتعلق وجوده بوجود الشرط فإن من قال لغيره: إن تكرمني أكرمك كان معلقا إكرامه بإكرام صاحبه إياه وكان إكرامه معدوما قبل إكرام صاحبه إياه فكذلك هاهنا لما جعل التطليق جزاء دخول الدار كان التطليق معدوما قبل وجود الشرط.
ولا معني لقولهم أنت طالق قد صار موجودا فلا وجه إلى جعله معدوما بالتعليق فيجعل التعلق مانعا لحكمه وهو وقوع الطلاق كشرط الخيار في البيع لأنا لا نجعل قوله أنت طالق معدوما ولكن نجعل التعليق مانعا من وصوله إلى المحل وذلك مانع من انعقاده علة لأن العلة الشرعية لا تصير علة قبل وصولها إلى محلها كما لا يصير علة قبل تمامها ألا ترى أن شطر البيع كما لا يكون علة لعدم تمام الركن لا يكون بيع الحر سببا أيضا لعدم إضافته إلى المحل وكما لا يكون قوله أنت سببا للطلاق قبل قوله طالق فكذا إذا أضيف أنت طالق إلى ميتة أو بهيمة أو أجنبية لا يكون سببا لعدم المحل وكذلك بعض النصاب لما لم يكن سببا لوجوب الزكاة فكذلك النصاب لكماله في ملك كافر لا يكون سببا أيضا.
ولما دخل التعليق على قوله أنت طالق منعه من الوصول إلى المحل كالقنديل المعلق لا يكون واصلا إلى الأرض ولأن الاتصال الشرعي يعرف تأثيره ولم يثبت شيء من أحكام الطلاق فيها فكيف يكون واصلا واعتبر هذا بالاتصال الحسي فإن فعل النجار ما لم يؤثر في المحل وهو الخشب لا ينعقد نجرا. وكذا الكسر مع الانكسار وإذا لم يتصل إلى المحل لم يصر قوله أنت طالق علة وكان ينبغي أن يلغو ما لم يتصل بالمحل كقوله(2/401)
يبق الوجوب ولنا أن الإيجاب لا يوجد إلا بركنه ولا يثبت إلا في محله كشرط البيع لا يوجب شيئا وبيع الحر باطل أيضا وههنا الشرط حال بينه وبين المحل فبقي غير مضاف إليه وبدون الاتصال بالمحل لا ينعقد سببا ألا ترى أن السبب
ـــــــ
لأجنبية أنت طالق إلا أن وصوله إلى المحل لما كان مرجوا بوجود الشرط وانحلال التعليق جعلناه كلاما صحيحا له عرضية أن يصير سببا كشطر البيع له عرضية أن يصير سببا بوجود الشطر الآخر في المجلس حتى لو علقه بشرط لا يرجى وجوده ولا يمكن الوقوف عليه لغا أيضا بأن قال: أنت طالق إن شاء الله قال الشيخ أبو المعين: لو لم يكن الشرط مانعا للعلة وإنما يكون مانعا للحكم أدى ذلك إلى تخصيص العلة وهو مذهب فاسد ونظيره من الحسيات الرمي فإن نفسه ليس بقتل ولكنه بعرض أن يصير قتلا إذا اتصل السهم بالمحل وإذا حال بينه وبين الرمي ترس منع الرمي من انعقاده علة للعقل لا أنه منع القتل مع وجود سببه فكذا التعليق بالشرعيات وتبين بهذا أن المعلق بالشرط يصير كالمنجز عند وجود الشرط لأن الشرط إذا وجد ارتفع التعليق فصار ذلك الكلام تنجيزا في هذه الحالة فإن قيل: الصحيح إذا قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق ثم جن فدخلت الدار تطلق ولو نجز في هذه الحالة لم يقع. قلنا: إنما يصير ذلك الكلام المعلق تنجيزا عقد وجود الشرط وذلك الكلام كان صحيحا منه والتنجيز إنما لا يصح من المجنون لأن كلامه غير معتبر شرعا فإذا كان هذا تنجيزا بكلام صحيح شرعا عمل في حقه أيضا وإذا ثبت أنه بمنزلة التنجيز يراعى للوقوع وجود المحل عند وجود الشرط فالحاصل أن التكلم من الحالف يوجد عند التعليق فيراعى أهلية التكلم في ذلك الوقت والوصول إلى المحل عند وجود الشرط فيراعى وجود المحل في ذلك الوقت كذا في جامع شمس الأئمة رحمه الله.
فإن قيل إذا قال لامرأته: إن دخلت الدار فأنت طالق ثم قال لعبده: إن طلقت امرأتي فأنت حر ثم دخلت الدار حتى طلقت لا يعتق العبد ولو صار مطلقا عند وجود الشرط للزم أن يعتق العبد قلنا: إنما لا يعتق لأنه عرف بدلالة الحال أن غرضه من قوله إن طلقت فكذا منع نفسه عن تطليق بكلام مستأنف بعد اليمين يقدر على الامتناع عنه والإقدام عليه فينصرف اليمين إليه كما لو جرح رجلا ثم قال إن قتلته فعبدي حر ثم مات المجروح من جرحه لا يعتق العبد وصار قتلا بعد اليمين لأن غرضه المنع عن قتل يباشره في المستقبل ويقدر على الامتناع عنه إن شاء فكذا هذا.
قوله "فبقي غير مضاف إليه" أي غير متصل بالمحل. ألا ترى توضيح لقوله لا ينعقد سببا يعني السبب ما يكون مفضيا إلى ثبوت الحكم ومتقررا عند ثبوته والسبب المعلق أي الكلام المعلق بالشرط الذي يصير سببا عند وجود الشرط ليس بمفض إلى(2/402)
ما يكون طريقا والسبب المعلق يمين عقدت علي البر والعقد علي البر ليس بطريق إلي الكفارة لأنه لا بجب إلا بالحنث وهو نقض العقد فكان بينهما تناف
ـــــــ
الحكم قبل وجود الشرط بل الشرط مانع عنه فكيف يجعل سببا وهذا لأنه جعل جزاء للشرط لينعقد يمينا إذ الشرط والجزاء يمين على ما عرف وقصده من هذا التصرف تحقيق موجبه وهو البر إلا أن البر لا يتأكد إلا بضمان يلزمه عند الهتك فجعل مضمونا بالجزاء ليتحرز عن الهتك وإذا كان المقصود من هذا التصرف تحقيق البر وفي تحقيقه إعدام موجب ما علق بالشرط لا وجوده لا يكون المعلق مفضيا إلى وجود الحكم بل يكون موجبا عدمه فلا يكون سببا قبل وجود الشرط وربما ذكرنا يتبين الفرق بين الإضافة والتعليق فإن الإضافة لثبوت الحكم بالإيجاب في وقته فإن قوله أنت حر غدا لوقوع الحرية فيه لا يمنع الحرية فيتحقق السبب لوجوده حقيقة وعدم ما يمنعه عن السببية لأن الغد وما يشبهه تعيين زمان الوقوع والزمان من لوازم الوقوع كما إذا قال: أنت حر الساعة فكانت الإضافة تحقيقا للسببية والتعليق مانعا عنها ولهذا ذكر في نوادر الصوم من المبسوط إذا قال: لله علي أن أتصدق بدرهم غدا فعجل يجوز ولو قال: إذا جاء غد فلله علي أن أتصدق بدرهم فتصدق به قبل مجيء الغد لا يجوز لوجود السبب في الإضافة وعدمه في التعليق.
والعقد على البر ليس بطريق إلى الكفارة لأنها لا تجب إلا بالحنث أي عند الحنث واليمين مانعة من الحنث موجبة لضده وهو البر فكيف يكون مفضية إلى ما هي مانعة عنه. وقوله وهو نقض العقد أي الحنث نقض اليمين دليل آخر يعني كما أن اليمين لا تصلح سببا للكفارة لأنها مانعة من الحنث لا تصلح سببا لها أيضا لأنها لا تبقى مع الحنث لأن الحنث ينافي اليمين لأنه نقض اليمين وما ينقض العقد ينافيه لا محالة وإذا لم يبق اليمين عند الحنث الذي تعلق وجوب الكفارة به لا تصلح أن تكون سببا لها قبل الحنث لأن من أوصاف السبب أن يتصور تقرره عند وجود المسبب فإن قيل هذا خلاف النص والعرف فإن الله تعالى أضاف الكفارة إلى اليمين بقوله عز اسمه: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} يقال في العرف أيضا كفارة اليمين والإضافة دليل السببية والدليل عليه أن الصبي أو المجنون لو حلف بالله أو بالطلاق ثم بلغ أو أفاق فحنث لا كفارة عليه ولو حلف مخاطب ثم جن فحنث تلزمه الكفارة وكذا في اليمين بالطلاق فلما شرطت أهليته وجوب الكفارة عند اليمين لا عند الحنث علم أن السبب هو اليمين.
وقولكم اليمين لا تصلح طريقا إلى الكفارة غير مسلم لأنه يتوصل بها إلى الكفارة(2/403)
فلا يصلح سببا وتبين أن الشرط ليس بمعنى الأجل لأن هذا داخل على السبب الموجب فمنعه عن اتصاله بمحله فصار كقوله أنت مني لم يتصل بقوله حر لم يعمل فصار الحكم معدوما بعد الشرط بالعدم الأصلي كما كان قبل اليمين
ـــــــ
فإنه لولا اليمين لما وجبت الكفارة إلا أنه إنما يتوصل بواسطة الحنث لا بنفس اليمين وهذا هو حد السبب وهو أن يوصل إليه بواسطة كالجرح سبب للكفارة لأنه يفضي إلى القتل بواسطة السراية. قلنا: نحن لا ننكر أن اليمين سبب للكفارة ولكن نقول هي سبب لها بعد الحنث وفوات البر بطريق الانقلاب والكفارة مضافة إلى تلك اليمين لا إلى اليمين قبل الحنث كذا قال الإمام البرغري رحمه الله ونظيره الصوم والإحرام فإنهما يمنعان عن ارتكاب محظورهما وبعد الارتكاب يصيران سببين لوجوب الكفارة بطريق الانقلاب وذكر في الأسرار أنا نسلم أن اليمين فيما مضى سبب لإيجاب الكفارة ولكن خلفا عن البر لا أصلا والخلف يجوز أن يبقى بعد انقطاع العلة لأن العلة علة لإيجاب الأصل لا للبقاء والخلف يخلفه في البقاء ألا ترى أن ملك الثمن لا يثبت ابتداء بغير بيع ويبقى بعد انقطاع البيع بهلاك المبيع أو بيعه من إنسان آخر وكذا المهر يبقى بعد انقطاع النكاح بالطلاق فأما اشتراط الأهلية وقت اليمين فليست لكونها سببا للكفارة أو الطلاق ولكن لكونها سببا للبر والأسباب الملزمة لا تصح إلا من الأهل فأما العاقل إذا حلف ثم جن فقد أجبنا عنه وأما قوله يتوصل بها إلى الكفارة بواسطة الحنث فلا معنى له لأن السبب إذا كان يصير سببا بواسطة لا بد من أن يكون مفضيا إلى تلك الواسطة موصلا إلى الحكم كالجرح يفضي إلى الألم والألم يفضي إلى تلف النفس وهاهنا الحنث ممنوع بحكم اليمين على ما ذكرنا فكيف أن يكون اليمين مفضية إلى الحكم كذا في طريقة الإمام البرغري. وتبين أن الشرط ليس بمعنى الأجل يعني تبين أن التعليق ليس كالتأجيل فإن التأجيل لا يمنع وصول السبب بالمحل لأن سبب وجوب التسليم في الدين والعين جميعا العقد ومحل الدين الذمة والتأجيل لا يمنع ثبوت الدين في الذمة ولا ثبوت الملك في المبيع وإنما يؤخر المطالبة والأجل مما يحتمل السقوط فيسقط بالتعجيل ويتحقق أداء الواجب وأما التعليق فيمنع وصوله إلى المحل وقبل الوصول لا يتم السبب ولا يتصور ثبوت الحكم قبل تمام السبب داخل على السبب الموجب وهو قوله أنت طالق فصار الحكم معدوما بعد الشرط أي بعد ذكر الشرط قبل وجوده بالعدم الأصلي أي العدم لعدم الدليل الموجب للحكم لا لمانع يمنع كما كان قبل اليمين فإن وجد الدليل الموجب للحكم مع قيام التعليق يجب الحكم به كما قبل التعليق وإلا فلا ففي قوله تعالى {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ} "النساء: 25" الآية قد قام الدليل على الجواز(2/404)
وهذا بخلاف البيع بخيار الشرط لأن الخيار ثمة داخل على الحكم دون السبب حقيقة وحكما أما الحقيقة فلأن البيع لا يحتمل الخطر وإنما يثبت الخيار بخلاف القياس نظرا فلو دخل على السبب لتعلقه بحكمه لا محالة ولو دخل على الحكم لنزل سببه وهو مما يحتمل الفسخ فيصلح التدارك به بأن يصير غير لازم بأدنى المخطرين فكان أولى وأما هذا فيحتمل الخطر فوجب القول بكمال
ـــــــ
بدون الشرط مثل قوله تعالى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} "النساء: 24", {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} "النساء: 3", {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} "النور: 32" فيجب القول به إذ لم يعارضه التعليق بالشرط وفي مثل قوله تعالى {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} "البقرة: 196" {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} "المجادلة: 4" {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} "النساء: 43" و"المائدة: 6" لم يقم دليل على ثبوت هذه الأحكام المعلقة بهذه الشروط قبل وجود هذه الشروط فبقيت على ما كانت. قوله "وهذا" أي ما ذكرنا من تعليق الطلاق وأخواته بالشرط بخلاف البيع بشرط الخيار فإن الشرط فيه داخل على الحكم دون السبب لأن البيع لا يحتمل الخطر لأنه من قبيل الإثباتات وهي لا تحتمل الخطر لأنه يؤدي إلى القمار الذي هو حرام وفي جعله متعلقا بالشرط خطر تام فكان القياس أن لا يجوز البيع مع خيار الشرط إلا أن الشرع جوز ذلك ضرورة دفع الغبن فكان نظير أكل الميتة حالة المخمصة فيتقدر بقدر الضرورة وهي تندفع بجعله داخلا على الحكم دون السبب لأنه لو جعل داخلا على السبب لتعلق حكمه أيضا ضرورة استحالة ثبوت الحكم قبل السبب ولو جعل داخلا على الحكم لنزل سببه أي انعقد ونفذ في الحال ولم يتعلق بالشرط إلا أن حكمه يتأخر عنه والحكم مما يحتمل التأخر عن السبب فكان جعله داخلا على الحكم أولى تقليلا للخطر وفيه تحصيل المقصود أيضا وكان قوله وهو أي السبب مما يحتمل الفسخ جواب سؤال يرد عليه وهو أن يقال السبب لما نزل ولم يتعلق بالشرط لا يمكن فسخه بدون رضاء صاحبه لأنه من العقود اللازمة فلا يحصل المقصود لصاحب الخيار فقال: البيع مما يقبل الفسخ فيمكن تدارك زوال السبب أو تدارك دفع الغبن بأن يجعل غير لازم ليمكنه فسخه بدون رضاء صاحبه فيحصل مقصوده والضمير في به راجع إلى الطريق الثاني. وقوله بأن يجعل بدل من به والباء في بأدنى متعلقة بيجعل أي يمكن تدارك دفع الغبن بإدخال الشرط على الحكم دون السبب بأن يجعل السبب وهو البيع غير لازم بأدنى الخطرين وهو تعليق الحكم دون السبب فكان هذا الطريق من تعليق السبب. فأما هذا أي ما نحن بصدده من الطلاق والعتاق ونحوهما فيحتمل الخطر أي التعليق بالشرط والخطر الإشراف على(2/405)
التعليق في هذا الباب وأما الحكم فإن من حلف لا يبيع فباع بشرط الخيار حنث ولو حلف لا يطلق فحلف بالطلاق لم يحنث وإذا بطلت العلقة صار ذلك الإيجاب علة كائنة ابتداء ولهذا صح تعليق الطلاق قبل الملك به ولهذا لم يجز
ـــــــ
الهلاك ومنه الخطر لما يتراهن عليه كذا في المغرب فوجب القول بكمال التعليق في هذا الباب بأن يجعل الشرط داخلا على أصل السبب إذ لو جعل داخلا على الحكم كان تعليقا من وجه دون وجه والأصل هو الكمال في كل شيء إذ النقصان بالعوارض وقد عدم العارض هاهنا فوجب القول بكمال التعليق وقيل في الفرق بين شرط الخيار وسائر التعليقات إن ثبوت الشرط في البيع بكلمة على أن إذ هي المستعملة فيه فيقال بعتك على أني بالخيار أو على أنك بالخيار وهذه الكلمة وإن كانت للشرط لكن عملها على خلاف عمل كلمة التعليق فإنك إذا قلت أزورك إن زرتني كنت معلقا زيارتك بزيارة صاحبك وإذا قلت أزورك على أن تزورني كنت معلقا زيارة صاحبك بزيارتك ويكون زيارتك سابقة على زيارته على هذا إجماع أهل اللغة وإذا كان كذلك لا توجب هذه الكلمة تعليق نفس البيع بهذا الشرط بل توجب تعليق الخيار بالبيع وثبوته به فينعقد البيع سابقا ثم يثبت الخيار وإذا ثبت الخيار امتنع اللزوم وثبوت الحكم وهو الملك لأن ذلك خيار الحكم في الشرع.
قوله "ولو حلف لا يطلق فحلف بالطلاق" بأن قال: إن دخلت الدار فأنت طالق يحنث يعني قبل وجود الشرط وهو مذهب الشافعي أيضا فإنه ذكر في الوجيز والتهذيب إذا قال: إن طلقتك فأنت طالق ثم علق طلاقها على صفة أي شرط ووجدت فهو تطليق ومجرد الصفة ليس إيقاعا وهو وقوع ومجرد التعليق ليس بإيقاع ولا وقوع وذكر في الملخص أيضا ولو علق بالتطليق ثم قال: إن دخلت الدار فأنت طالق لم يقع شيء فإذا دخلت وهي ممسوسة وقعت حينئذ تطليقتان فثبت أن مذهبه مثل مذهبنا في هذه المسألة وأما مسألة البيع فلا أعرف مذهبه فيها وما ظفرت بها في كتبهم صريحا فإن كان موافقا لمذهبنا فقد صح الفرق وتم الإلزام وهذا هو الظاهر من مذهبه فقد ذكر في الوسيط للغزالي أن الثابت يشترط الخيار جواز العقد واستحقاق الفسخ ولا يؤثر في تأخير الملك في قول بل يثبت الملك للمشتري لأن البيع سبب الملك ولا يقطع الحكم عن سببه إلا لضرورة ولا ضرورة إلا من جهة الخيار المشروع لاستدراك الغبنية وأمكن تحصيل هذا المقصود بنفي اللزوم فلا حاجة إلى نفي الملك والأصح أن الملك موقوف إن كان الخيار لهما وإن كان لأحدهما فالملك لمن له الخيار فهذا يدل على أن مذهبه في انعقاد البيع بشرط الخيار مثل مذهبنا وإن كان مخالفا لم يتم الإلزام وكان تفريعا على المذهب.(2/406)
تعجيل لنذر المعلق وتعجيل الكفارة وهو كالكفارة بالصوم وفرقه باطل لأنا قد
ـــــــ
وإذا بطلت العلقة أي التعليق بوجود الشرط صار ذلك الإيجاب علة كأنه ابتداء يعني يصير علة في الحال مقتصرة عليها وهو قول المشايخ المعلق بالشرط كالملفوظ به لذا الشرط ولهذا شرطنا الأهلية حالة التعليق كما بينا لأن ذلك الإيجاب لما صار علة يشترط أن يكون صادرا من الأهل ليصير كالملفوظ لذا الشرط.
قوله "ولهذا" أي ولما ذكرنا أن المعلق ليس بسبب صح تعليق الطلاق والعتاق بالملك لأن المعلق قبل وجود الشرط يمين ومحل الالتزام باليمين الذمة فأما الملك في المحل فإنما يشترط لإيجاب الطلاق والعتاق وهذا الكلام ليس بإيجاب ولكنه بغرض أن يصير إيجابا فإن تيقنا بوجود الملك في المحل حين يصير إيجابا بوصوله إلى المحل صححنا التعليق باعتباره وإن لم نتيقن بذلك بأن كان الشرط مما لا أثر له في إثبات الملك في المحل شرطنا الملك في الحال ليصير كلامه إيجابا عند وجود الشرط باعتبار الظاهر وهو أن ما علم ثبوته فالأصل بقاؤه ولكن هذا الظاهر دون الملك الذي نتيقن به عند وجود الشرط فصحة التعليق باعتبار ذلك النوع من الملك دليل على صحته باعتبار هذا الملك بالطريق الأولى فإن قيل جميع ما ذكرتم يبطل بما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه خطب امرأة فأبوا أن يزوجوها إلا بزيادة صداق فقال: إن تزوجتها فهي طالق ثلاثا فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا طلاق قبل النكاح" "فهذا كلام مفسر لا يقبل التأويل قلنا: إن صح هذا الحديث فنحن نقول به ولكنه لم يصح لأن مداره على الزهري وأنه قد عمل بخلافه فإنه أول قوله عليه السلام: "لا طلاق قبل النكاح1" على أن الرجل كان تعرض عليه المرأة فيقول: هي طالق ثلاثا فتحرم عليه فقال عليه السلام لا طلاق فرده الحديث إلى المرسل دليل على أنه كان يرى صحة المعلق بالنكاح ومثله روي عن سعيد بن المسيب ومكحول وجماعة من التابعين وهو مذهب إبراهيم النخعي وعامر الشعبي وسالم بن عبد الله ولا يجوز أن يجتمع هؤلاء الثقات على خلاف النص لا يحتمل التأويل أو يتوهم أنه لم يبلغ كافتهم أو لم يحتج به عليهم مع ظهور الفتوى منهم بخلافه كذا ذكر في الأسرار.
قوله "ولهذا" أي ولأن التعليق مانع للإيجاب عن الانعقاد لم يجز تعجيل النذر المعلق لأنه ليس بسبب لما لم يصل إلى ذمة قابلة للحكم والشرط منع وصوله إلى المحل فلا يكون سببا كبعض النذر والأداء قبل السبب لا يجوز. وكذا لا يجوز تعجيل الكفارة قبل
ـــــــ
1 أخرجه ابن ماجة في الطلاق حديث رقم 2049 واب ماجة حديث رقم 2048.(2/407)
بينا أن حق الله في المالي فعل الأداء لا عين المال إنما يقصد عين المال في حقوق العباد أما في حقوق الله تعالى فلا لأن العبادة فعل لا مال وإنما المال آلته
ـــــــ
الحنث كالكفارة بالصوم لأن اليمين سبب الوجوب بشرط الحنث والتقدير إن حنثت فعلي إطعام عشرة مساكين بتلك اليمين فمنع اليمين عن كونها سببا في الحال ولكنها بعرضية أن تصير سببا فصحت إضافة الكفارة إليها فقبل أن تصير سببا بالحنث لا يتصور الأداء كما لا يتصور قبل اليمين وكما لا يتصور تعجيل الصوم قبل الحنث وفرقه بين المالي والبدني باطل فإن بعد تمام السبب وجوب الأداء قد ينفصل عن نفس الوجوب في البدني أيضا فإن المسافر إذا صام في رمضان جاز بالاتفاق وإن تأخر وجوب الأداء إلى ما بعد الإقامة بالإجماع لحصول أصل الوجوب بالسبب وهذا لأنا قد بينا يعني في المبسوط وغيره أن الواجب لله تعالى على العبد فعل هو عبادة وإنما المال ومنافع البدن آلتان يتأدى الواجب بهما فكما أن في البدني مع تعلق وجوب الأداء بالشرط لا يكون السبب تاما فكذلك في المالي بخلاف حقوق العباد فإن الواجب للعبد مال لا فعل لأن المقصود حصول ما ينتفع به العبد أو يندفع عنه الخسران به وذلك بالمال دون الفعل ولهذا إذا ظفر بجنس حقه وأخذه تم الاستيفاء وإنما يجب الفعل بطريق التبع وفي الأجير المشترك وجوب الفعل بطريق التبع والمستحق هو ما يحصل بالفعل وهو صيرورة الثوب مخيطا أو مقصورا. فأما حقوق الله تعالى فواجبة بطريق العبادة ونفس المال ليست بعبادة إنما العبادة فعل يباشره العبد بخلاف هوى النفس لابتغاء مرضاة الله تعالى وفي هذا المال والبدن سواء ولا يقال لو كان الفعل هو المطلوب لم يتأدبا بالنائب كالصلاة لأنا نقول. المقصود وهو حصول المشقة بقطع طائفة من المال يحصل بالنائب والإنابة فعل منه فاكتفي به عند حصول المقصود بخلاف الصلاة لأن المقصود وهو إتعاب النفس بالقيام للخدمة لا يحصل بفعل النائب فلذلك لم يتأد بفعله.
وعلى هذا الأصل وهو أن التعليق بالشرط لا يوجب العدم عند العدم جوزنا نكاح الأمة حال طول الحرة لأنه تعالى أباح نكاح الأمة حال عدم الطول بقوله جل ذكره {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} "الىنساء.25" الآية ولم يحرم حال وجوده بل لم يذكره والتعليق بالشرط لا يوجب نفي الحكم قبل وجود فيجعل الحل ثابتا قبل وجود الشرط بالآيات الموجبة للحل وهكذا نقول في قوله إن دخل عبدي الدار فأعتقه فإن ذلك لا يوجب نفي الحكم قبل وجود الشرط حتى لو كان قال له أولا. أعتق عبدي ثم قال. أعتقه إن دخل الدار جاز له أن يعتقه قبل دخول الدار بالأمر الأول ولا يجعل الثاني نهيا عن الأول حتى لو عزله عن أحدهما بقي له الآخر .(2/408)
قال زفر: ولما بطل الإيجاب لم يشترط قيام المحل لبقائه فإذا حلف بالطلاق الثلاث ثم طلقها ثلاثا لم يبطل اليمين وكذلك العتق وإنما شرط قيام الملك لأن
ـــــــ
فإن قيل: لا خلاف أن الحكم المتعلق بالشرط يثبت عند وجود الشرط وإذا كان الحكم ثابتا هاهنا قبل وجود الشرط فكيف يتصور ثبوته عند وجود الشرط إذ لا يجوز أن يكون الحكم الواحد ثابتا في الحال ومتعلقا بشرط منتظر. قلنا: حل الوطء ليس بثابت قبل النكاح ولكنه متعلق بشرط النكاح في الآيات التي ليس فيها هذا الشرط الزائد ومتعلق به وبهذا الشرط في هذه الآية وإنما يتحقق ما ادعى من التضاد فيما هو موجود فأما فيما هو متعلق فلا لأنه يجوز أن يكون الحكم متعلقا بشرط وذلك الحكم متعلقا بشرط آخر قبله أو بعده ألا ترى أن من قال لعبده: إذا جاء الخميس فأنت حر ثم قال: إذا جاء يوم الجمعة فأنت حر كان الثاني صحيحا وإن كان مجيء يوم الجمعة بعد يوم الخميس حتى لو أخرجه عن ملكه فجاء يوم الخميس ثم أعاده إلى ملكه فجاء يوم الجمعة يعتق باعتبار التعليق الثاني فإن قيل مع هذا لا يجوز أن يكون الشيء الواحد كمال الشرط لإثبات حكم وهو بعض الشرط لإثبات ذلك الحكم أيضا وما قلتم يؤدي إلى هذا فإن عقد النكاح كمال الشرط في سائر الآيات وهو بعض الشرط في هذه الآية إذا قلتم بأن الحكم يثبت ابتداء عند وجود هذا الشرط قلنا: إنما لا يجوز هذا بنص واحد فأما بنصين فهو جائز ألا ترى أنه لو قال لعبده: أنت حر إن أكلت ثم قال: أنت حر إن أكلت وشربت صح كل واحد منهما ويكون الأكل كمال الشرط في التعليق الثاني حتى باعه فأكل في غير ملكه ثم اشتراه فشرب فإنه يعتق لتمام الشرط بالتعليق الأول وبعض الشرط في التعليق الثاني وهو ملكه.
قوله. "قال زفر رحمه الله" إلى آخره يعني بنى زفر مذهبه في أن تنجيز الثلاث لا يبطل التعليق سواء كان الثلاث معلقا أو دونه على هذا الأصل فقال: لما بطل الإيجاب أي بالتعليق يعني لم ينعقد سببا في الحال لعدم وصوله إلى المحل لم يشترط قيام المحل أي بقاؤه لبقائه أي بقاء الإيجاب المعلق يعني التعليق لأن اشتراطه لتمام السبب وثبوت الحكم عند الوصول إليه بمنزلة اشتراط الملك فكما لا يبطل التعليق بزوال الملك بأن باع العبد المحلوف بعتقه أو أبان المرأة المحلوف بطلاقها لتوهم الوجود عند الشرط لا يبطل بزوال المحلية أيضا لتوهم حدوثها عند الشرط بأن تزوجت بزوج آخر ثم عادت إلى الأول وكذلك العتق أي وكالطلاق المعلق العتق المعلق في أنه لا يبطل بالتنجيز حتى لو قال لأمته: إن دخلت الدار فأنت حرة ثم أعتقها قبل دخول الدار لم يبطل التعليق حتى لو ارتدت ولحقت بدار الحرب ثم سبيت وملكها الحالف ثم دخلت الدار عتقت عنده ولم تعتق عندنا.(2/409)
حال وجود الشرط متردد فوجب الترجيح بالحال فإذا وقع الترجيح بالملك في الحال صار زوال الحل في المستقبل من حيث إنه لا ينافي وجوده عند وجود الشرط لا محالة وزوال الملك في المستقبل سواء ألا ترى أن التعليق بالنكاح يجوز وإن كان الحل للحال معدوما فلو كان التعليق يتصل بالمحل لما صح تعليق الطلاق في حق المطلقة ثلاثا بنكاحها وطريق أصحابنا لا يصح إلا أن
ـــــــ
وقوله "وإنما شرط الملك" جواب عما يقال لما لم يشترط الملك والمحل حال بقاء التعليق لعدم انعقاد الإيجاب سببا فيها ينبغي أن لا يشترط في حال الابتداء أيضا لأن المعنى المذكور يشمل الحالين فيصح قوله لأجنبية أو للمطلقة ثلاثا إن دخلت الدار فأنت طالق والإجماع بخلافه فعرفنا أنه لا يستغنى عن المحل فبفواته يبطل فقال: إنما شرط الملك في الابتداء لانعقاد هذا الكلام يمينا لا لحاجة الإيجاب إلى المحل وذلك لأن المقصود من اليمين تأكيد البر بإيجاب الجزاء في مقابلته فلا بد من أن يكون الجزاء غالب الوجود أو متحققه عند فوات البر ليحمله خوف نزوله على المحافظة على البر وذلك لقيام الملك حال وجود الشرط وتلك الحالة مترددة بين أن يوجد فيها الملك فيتحقق الجزاء وتظهر فائدة اليمين وبين أن لا يوجد فيها الملك فلا يلزمه الجزاء فتخلوا اليمين عن الفائدة فشرط الملك في الابتداء ليترجح جانب وجود الملك على عدمه حال وجود الشرط لأن الأصل في كل ثابت بقاؤه باعتبار الظاهر فينعقد اليمين فتبين أن اشتراط الملك لانعقاد اليمين لا لحاجة الإيجاب إلى المحل حتى لو كان الملك متيقن الوجود عند نزول الجزاء لا يشترط الملك ولا الحل في الحال أيضا بأن قال لأجنبية أو للمطلقة ثلاثا: إن تزوجتك فأنت طالق صح وانعقد اليمين.
"فإن وقع الترجيح" أي جعل بوجوده في الحال حصل وثبت رجحان وجود الملك على عدمه حال فوات البر وانعقد اليمين صار زوال الحل في المستقبل بإيقاع الثلاث وزوال الملك بالإبانة بما دون الثلث سواء من حيث إن زوال كل واحد منهما لا ينافي وجوده عند الشرط لا محالة إذ يحتمل أن يحدث كل واحد منهما بعد الزوال فإذا بقيت اليمين بعد زوال الملك بناء على هذا الاحتمال تبقى بعد زوال الحل بناء عليه أيضا. وقوله ألا ترى توضيح لتعليل بطلان الإيجاب يعني بطلانه باعتبار عدم اتصاله بالمحل في الحال فلا يشترط المحل لبقائه والدليل على عدم اتصاله بالمحل صحة تعليق طلاق المطلقة ثلاثا بنكاحها ولو كان للتعليق اتصال بالمحل لما صح هذا التعليق لبطلان المحلية بالكلية.
قوله "وطريق أصحابنا لا يصح" إلى آخره لعلمائنا رحمهم الله في هذه المسألة(2/410)
----------------------------------------------------
ـــــــ
طريقتان: أحدهما أن اليمين تبطل بفوات الجزاء كما تبطل بفوات الشرط بأن جعلت الدار بستانا أو حماما في قوله إن دخلت الدار فأنت طالق لأن اليمين لا تنعقد إلا بهما بل افتقارها إلى الجزاء أكثر من افتقارها إلى الشرط لأنها تعرف بالجزاء لا بالشرط ولما بطلت بفوات الشرط فلأن تبطل بفوات الجزاء كان أولى وهاهنا قد فات الجزاء لأن هذه اليمين إنما صحت باعتبار الملك القائم ولم يكن في ملكه إلا ثلاثة تطليقات وقد استوفاها كلها فبطل الجزاء ضرورة فبطلت اليمين وبهذا علل محمد رحمه الله فقال: لما طلقها ثلاثا فقد ذهب طلاق ذلك الملك كله. وهذا بخلاف ما إذا طلقها واحدة أو اثنين وانقضت عدتها حيث لا تبطل به اليمين لأنه لما لم يستوف الجزاء بتمامه كان الباقي مملوكا له إلا أنه لا يقدر على تنفيذه لعدم شرطه فبقيت اليمين ببقائه وعدم القدرة على التنفيذ لا يمنع الملك كاستيفاء القصاص من الحامل واستيفاء منافع البضع حالة الحيض وكالصبي لا يملك التصرفات وإن كان الملك ثابتا له.
والثاني أن المحلية بالتطليقات الثلاث تبطل لأن محلية الطلاق بمحلية النكاح وقد فاتت بثبوت الحرمة الغليظة وإذا بطلت محلية الطلاق لم تبق اليمين بالطلاق ببطلان محلها كما إذا فاتت برضاع أو مصاهرة وهذا لأن التعليق وإن لم يكن طلاقا في الحال لكنه يعرض أن يصير طلاقا والعرضية إنما ثبتت باعتبار قيام الحل والملك في الحال فإذا بطل الحل بطلت العرضية فلم تبق اليمين فحاصل الطريق الأول تعيين طلقات هذا الملك للجزاء وبناء بطلان اليمين على فواتها. وخلاصة الطريق الثاني اشتراط المحلية لليمين انعقادا وبقاء وبناء بطلان اليمين على زوالها ولما كان الطريق الأول منتقضا بما إذا علق الثلاث بالشرط ثم طلقها ثنتين ثم عادت إليه بعد زوج آخر ووجدت الشرط تقع الثلاث عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله ولو تعين طلقات ذلك الملك ينبغي أن تقع واحدة لأنه لم تبق من الجزاء إلا طلقة واحدة كما لو كان له ثلاثة أعبد فقال: إن كلمت زيدا فأنتم أحرار فأعتق عبدين منهم واشترى آخرين ثم وجد الشرط لا يعتق إلا العبد الذي كان في ملكه وقت اليمين والطريق الثاني لا يتم إلا بأن يثبت للمعلق نوع اتصال بالمحل بنى الشيخ رحمه الله الكلام على الطريق الثاني وبين وجه تصحيحه ورد الطريق الأول فقال: وطريق أصحابنا لا يصح يعني الطريق الأول والثاني جميعا إلا أن يثبت للمعلق نوع اتصال بمحله فحينئذ يصح الطريق الثاني وبعدما ثبت ذلك يشترط قيام المحل لأن كل ما يرجع إلى المحل يستوي فيه الابتداء والبقاء كالمحرمية في باب النكاح ثم أشار إلى فساد الطريق الأول وبين وجهه فقال: فأما طلاق هذا الملك فلم يتعين أي للجزاء وصحة(2/411)
يثبت للمعلق ضرب اتصال بمحله ليشترط قيام محله وأما قيام هذا الملك فلم يتعين لما بينا أنه ليس بتصرف في الطلاق ليصح باعتبار الملك والطريق في ذلك أن تعليق الطلاق له شبه بالإيجاب وبيانه أن اليمين تعقد للبر ولا بد من
ـــــــ
التعليق بل الجزاء طلاق مملوك له عند وجود الشرط سواء كان طلاق هذا الملك أو ملك حادث بعد.
ل"ما بينا أنه" أي المعلق "ليس بتصرف في الطلاق" لا من حيث الإيقاع ولا من حيث انعقاده سببا "ليصح باعتبار الملك" أي باعتبار ملكه هذه الطلقات دون غيرها والتعليل داخل في النفي ولهذا صح التعليق بالملك. وإلى هذا الطريق مال شمس الأئمة رحمه الله أيضا فقال: إنما يبطل التعليق بانعدام المحل لأن صحة التعليق باعتبار المحلوف به وهو ما يصير طلاقا عند وجود الشرط ولا تصور لذلك بدون المحل وبالتطليقات الثلاث تحقق فوات المحل لأن الحكم الأصلي للطلاق إزالة صفة الحل عن المحل ولا تصور لذلك بعد حرمة المحل بالتطليقات الثلاث فلانعدام المحلوف به من هذا الوجه يبطل التعليق لا لأن المتعلق بالشرط تطليقات ذلك الملك وفي بعض النسخ فأما قيام هذا الملك فلم يتعين إلى آخره ومعناه تحقق الفرق بين زوال الحل وبين زوال الملك فإن اليمين بالأول يبطل ولا يبطل بالثاني لأنه لما كان للمعلق ضرب اتصال وإن لم ينعقد سببا حقيقة لا بد من بقاء المحل وذلك ببقاء حل النكاح فأما قيام هذا الملك في المحل أي الملك القائم حالة التعليق فيه فلم يتعين أي لم يشترط لبقاء التعليق صحيحا لأن التعليق ليس بتصرف في الطلاق بالإيقاع ولا المتعلق بالشرط هو الطلاق المملوك حتى يشترط الملك لصحة التصرف وكان ينبغي أن لا يشترط الملك إلا حال وجود الشرط إلا أنه شرط في الابتداء لما ذكرنا من تردد حال وجود الشرط إلى آخره والطريق في ذلك أي في إثبات اتصال الإيجاب المعلق بالمحل وافتقاره إليه أن تعليق الطلاق له شبهة الإيجاب أي الطلاق المعلق. وإن لم يكن سببا حقيقة له شبهة كونه سببا لأن اليمين تعقد للبر ولا بد للبر من أن يكون مضمونا بلزوم الجزاء عند الفوات تحقيقا للمقصود وهو تأكيد جانب المحلوف عليه فإذا حلف بالطلاق كان البر هو الأصل أي موجبه الأصلي لأنه هو الغرض من عقد اليمين وهو مضمون بوقوع الطلاق عند الفوات وإذا كان مضمونا به يثبت للمعلق في الحال شبهة الإيجاب كالمغصوب لما لزم الغاصب رده وصار مضمونا بالقيمة عند الفوات ثبت شبهة وجوب القيمة حال قيام المغصوب حتى صح الإبراء والرهن والكفالة بالمغصوب وحتى لم يجب على الغاصب زكاة قدر قيمة المغصوب في ماله حال قيامه كذا نقل عن بعض الثقات. وكذا لو أدى الضمان بتملكه من وقت الغصب ولو لم يعتبر هذه الشبهة لثبت الملك من وقت الضمان لا من وقت الغصب.(2/412)
كون البر مضمونا ليصير واجب الرعاية فإذا حلف بالطلاق كان البر هو الأصل وهو مضمون بالطلاق كالمغصوب يلزمه رده ويكون مضمونا بالقيمة فيثبت شبهة وجوب القيمة فكذلك ههنا تثبت شبهة وجوب الطلاق وقدر ما يجب لا
ـــــــ
وذكر في الجامع ولو أقر أن هذا الألف في يدي غصب غصبته منك يقول المقر له: لا بل لي عليك ألف درهم من ثمن بيع قد قبضته فإنه يقتضى عليه بألف درهم لأنهما اتفقا على وجوب الألف دينا واختلفا في سببه وذلك لا يمنع من صحة الإقرار وقال الشيخ في شرح الجامع ودلت هذه المسألة على أن الغصب يوجب الضمان بنفسه إذ لو لم يكن كذلك لما وجب القضاء به كما لو قال: هذا الألف وديعة لك عندي فقال المقر له: لا ولكن لي عليك ألف درهم من ثمن بيع فأنكر المقر ذلك لا شيء للمقر له لأنه ليس بين ضمان الدين وبين ملك العين موافقة بوجه فلا يمكن الجمع ولما ثبت أن للضمان شبهة الثبوت قبل فوات المضمون صار للجزاء هاهنا وهو الطلاق شبهة الثبوت وشبهة الشيء لا تستغني عن المحل كحقيقته ألا ترى أن شبهة النكاح لا تثبت في غير المحل وشبهة البيع لا تثبت في غير المال وذلك لأن الشبهة دلالة الدليل على المدلول مع تخلف المدلول لمانع وقط لا يدل دليل على مدلول في غير المحل ألا ترى أنه لا يمكن دلالة الدليل على ثبوت الطلاق في البهيمة لعدم المحل فإذا بطل المحل بطل اليمين لما ذكرنا أن كل حكم يرجع إلى المحل فالابتداء والبقاء فيه سواء. وذكر الشيخ في بعض مصنفاته من أصول الفقه في إثبات شبهة الثبوت للجزاء أن البر وإن كان واجبا لكنه غير واجب لنفسه وإنما وجب لغيره وهو الاحتراز عن هتك حرمة الاسم أو التحرز عن لزوم الجزاء فمن حيث إنه واجب ثبت له حكم الوجود ومن حيث إنه غير واجب لنفسه ثبت له عرضية العدم والجزاء حكم يلزم عند فوات البر فإذا ثبت لهذا البر عرضية العدم من حيث إنه غير مقصود ثبت بقدره عرضية الوجود للجزاء وإذا ثبتت عرضية الوجود للجزاء ثبتت عرضية الوجود لسببه حتى يكون المسبب ثابتا على قدر السبب وعرضية السبب لا بد لها من محل تبقى فيه كما لا بد لها من محل تنعقد فيه لأن شبهة الشيء لا تثبت فيما لا تثبت حقيقة ذلك الشيء كشبهة النكاح لا تثبت في المحارم عندهما وإنما لا نشترط الملك للبقاء كما شرطنا الحل أن الملك عبارة عن القدرة وإنما يحتاج إليها عند الفعل وقبل وجود الشرط عدم الفعل فلهذا لم نشترط الملك وفي الابتداء شرطناه لما ذكرنا. ثم لزم على ما ذكر من ثبوت شبهة الإيجاب في التعليق واشتراط المحلية لها تعليق الطلاق بالنكاح في المطلقة ثلاثا فإنه صحيح وإن لم تبق محلا للطلاق فأجاب عن ذلك وقال: فأما تعليق الطلاق بالنكاح فتعليق بما هو علة ملك الطلاق لأن ملك الطلاق يستفاد بملك(2/413)
يستغنى عن محله فأما تعليق الطلاق بالنكاح فتعليق بما هو علة ملك الطلاق فيصير قدر ما ادعينا من الشبهة مستحقا به فتسقط هذه الشبهة بهذه المعارضة
ـــــــ
النكاح فكان النكاح للطلاق بمنزلة علة العلة فكان له شبهة العلة والإيجاب متى علق بحقيقة العلة يبطل التعليق والإيجاب بأن قال لعبده: إن أعتقتك فأنت حر فالإيجاب إذا علق بشبهة العلة يبطل به شبهة الإيجاب اعتبارا للشبهة بالحقيقة ولا يبطل به أصل التعليق لأنه إنما يبطل بالتعليق بحقيقة العلة والشبهة لا تماثل الحقيقة ونظيره ثبوت حرمة حقيقة الفضل بحقيقة العلة التي هي الكيل والجنس وثبوت حرمة شبهة الفضل وهي النسيئة بشبهة العلة وهي أحد الوصفين وعدم ثبوت حرمة الفضل بأحد الوصفين لأن بالشبهة لا تثبت الحقيقة وإذا بطلت شبهة الإيجاب ولم يبطل أصل التعليق كان التعليق يمينا مجردة فتعلقت بذمة الحالف ولم يشترط لها قيام محل الطلاق ولا يقال لا نسلم أن تعليق الشيء بعلته يوجب بطلانه فإنه إذا قال: إن طلقتك فأنت طالق صح حتى لو طلقها واحدة يقع ثنتان مع أن التطليق علة للطلاق لأنا نقول: الطلاق متعدد والتطليق ليس بعلة للجميع وإنما هو علة لطلقة واحدة فلا يلزم من تعليق الطلاق بالتطليق تعليق الشيء بعلته فيصح حتى لو نوى بالتعليق الطلاق الذي هو موجب هذا التطليق كان التعليق باطلا أيضا ولم يقع إلا طلقة واحدة ولكن لا يصدقه القاضي بخلاف تعليق الحرية بالإعتاق فإنها ليست بمتعددة. وبخلاف تعليق الطلاق بالنكاح فإن النكاح علة لملك جميع الطلقات فيكون تعليقا بالعلة أو بشبهتها لا محالة.
"فيصير قدر ما ادعينا من الشبهة" أي شبهة الثبوت "مستحقا به" أي ساقطا بالتعليق بالنكاح أو معارضا به وكأن هذه الشبهة كانت ثابتة نظرا إلى أصل التعليق فاستحقها التعليق بشبهة العلة فلم تبق بهذه المعارضة أي بمعارضة كون التعليق تعليقا بشبهة العلة واعترض عليه بأنا قد سلمنا أن في التعليق شبهة الثبوت في الحال وأن الشبهة ليفتقر إلى المحل كالحقيقة وأن بفوات المحل يبطل هذه الشبهة ولكن لا نسلم أن في بطلان هذه الشبهة يبطل أصل التعليق فإن هذا الكلام من حيث إنه يمين له تعليق بذمة الحالف وهي محله ومن حيث إن له شبهة الوقوع على ما زعمتم له تعلق بالمرأة فإذا بطلت الشبهة بفوات المحل بقي أصل التعليق لبقاء محله وهو ذمة الحالف كما قلتم في التعليق بالنكاح في المطلقة ثلاثا بل هذا أولى لأنه لما صح ابتداء بدون تعلق له بالمرأة لأن يبقى بدون ذلك كان أولى.
وأجاب الإمام البرغري رحمه الله عنه فقال: صحة اليمين في تلك المسألة كانت باعتبار الإضافة إلى حل في المستقبل فإن النكاح لا يوجد إلا في المرأة المحللة وذلك لم(2/414)
ومسألة تعليق الطلاق بالنكاح بعد الثلث منصوصة في كتاب الطلاق وفي
ـــــــ
يفت بل هو بعرض الوجود فصحت اليمين فأما هاهنا فصحة اليمين مبنية على الحل القائم في الحال وقد بطل. وهذا لأن الإضافة إلى المستقبل لما لم توجد تعيين الحل القائم للحال شرطا لصحة اليمين لأن الإيجاب وإن لم يكن طلاقا للحال ولكنه بعرض أن يصير طلاقا وعرضية الطلاق باعتبار قيام الملك والحل في الحال فإذا بطل الحل بطلت العرضية فتبطل اليمين.
ووجه آخر وهو أنا إنما أثبتنا شبهة ثبوت الجزاء في الحال تأكيدا لكون البر مضمونا وذلك لأن ضمان البر بوقوع الجزاء حالة وجود الشرط لما كان بالاستصحاب لا بالتيقن احتاج إلى تأكيد ليلتحق بالمتيقن به فجعل كأنه واقع في الحال وفي تعليق الطلاق بالنكاح لا حاجة إلى هذا النوع من التأكيد للتيقن بوجود الجزاء حالة الشرط لكونه تعليقا بما هو علة ملك الطلاق فيكون الجزاء موجودا في تلك الحالة لا محالة فيصير قدر ما ادعينا من الشبهة مستحقا بهذا النوع من التعليق أي ساقطا لعدم الحاجة إليها فتسقط هذه الشبهة بهذه المعارضة أي بمعارضة كون البر مضمونا بالجزاء يقينا لكونه تعليقا بما له حكم العلة وذكر في بعض الشروح بهذه العبارة فأما تعليق الطلاق بالملك فصحيح وإن لم يكن المحل والملك في الحال موجودين لأن التعليق بعلة ملك الطلاق يحصل فائدة اليمين وهي المنع لكون البر مضمونا بالجزاء لا محالة فصار مثل التعليق بغير علة ملك الطلاق حال قيام الحل والملك بل هو أولى بالصحة لأن في حال قيام الملك يكون البر مضمونا ظاهرا غالبا وكون البر مضمونا هاهنا جزمي فكان أحق بالصحة فعلى هذا تسقط الشبهة التي ذكرناها في التنازع فيه وهو شبهة ثبوت الطلاق لأنه لما صح تعليق الطلاق بالنكاح يلزم سقوط تلك الشبهة لاستحالة حقيقة الطلاق قبل النكاح والشبهة إنما تعتبر عند إمكان الحقيقة وما ذكرنا من الشبهة في حال قيام النكاح فيما نحن فيه وحقيقة التطليق به ممكن وعدمت الحقيقة بالدليل فتعتبر الشبهة وهو المعنى بقوله فتسقط هذه الشبهة بهذه المعارضة يعني تعليق الطلاق بالنكاح يوجب سقوط هذه الشبهة وهي أن لتعليق الطلاق شبها بالإيجاب فصار هذا معارضا للشبهة السابقة على الشرط فتسقط وقوله فيصير قدر ما ادعينا من الشبهة مستحقا به يعني به أن البر مضمون جزما فلا حاجة إلى إثبات تلك الشبهة سابقة على الشرط.
واعترض على ما ذكرنا بأنه إذا حلف بالظهار أو بالإيلاء فقال: إن دخلت الدار فأنت علي كظهر أمي أو قال: إن دخلت الدار فوالله لا أقربك ثم طلقها ثلاثا لا يبطل ذلك التعليق(2/415)
--------------------------------------------------------
ـــــــ
حتى لو عادت إليه بعد زوج آخر ووجد الشرط ينجز الظهار والإيلاء فأجاب أبو الفضل الكرماني رحمه الله عنه بأن محل عمل الظهار الرجل في التحقيق وهو منعه عن الوطء والمحل بحاله كما كان بمنزلة اليمين فإذا كان محل نزول حكم الظهار قائما من غير تجدد نزل وأجاب غيره بأن الظهار لا يعقد لإبطال حل المحلية حتى إذا فات المحل لا يبقى الظهار لفوات محله وإنما أثره في منع الزوج عن الوطء الحلال إلى وقت التكفير فلما كان حكمه المنع وبعد التطليقات الثلاث يثبت المنع باعتبار حرمة المحل وإن لم يبق بذلك الطريق فيبقى الظهار إلا أن ابتداء الظهار في غير الملك لا يتصور وإن كان المنع متصورا لأن الظهار تشبيه المحللة بالمحرمة وفي غير الملك لا يتحقق ذلك فأما الطلاق فعلمه في إبطال الحل وقطع الملك وبعد وقوع الثلاث فات محل الحكم فلا تبقى اليمين بالطلاق فأما الإيلاء المعلق فلا حاجة له إلى أن تكون المرأة محللة فإنه ينعقد في غير الملك فلا يبطل لعدم الملك والإيلاء المنجز على الخلاف أيضا.
واعترض أيضا بأن المرأة إذا ارتدت والعياذ بالله وقد علق طلاقها بالشرط فإن اليمين لا تبطل وقد بطل حل المحلية وبأن الأمة إذا استولدت حتى تعلق عتقها بموت السيد فأعتقها المولى ثم ارتدت وسبيت وعادت إلى المولى استحقت العتق. وأجيب عن الأول بأن المحلية لا تبطل بالردة بدليل أن المرأة إذا ارتدت حتى بانت من زوجها ثم طلقها في العدة وقع طلاقها ولو ارتدا جميعا لا يبطل النكاح وإنما تقع الفرقة لانقطاع العصمة بينهما ولما بقيت المحلية بقيت اليمين وعن الثاني بأن العتق حين وقع بطل التعليق بالموت وبالملك ثانيا لا يعود ذلك ولكن يتعلق بالموت عتق آخر بسبب جديد له وهو قيام نسب الولد في الحال كما لو استولدها بنكاح فإنها لا تصير أم ولد له فإن ملكها صارت أم ولد له الآن لقيام النسب في الحال.
"ومسألة تعليق الطلاق إلى آخره" إنما ذكر هذا لأن بعض أصحابنا لما عجزوا عن الجواب حين أورد عليهم هذه المسألة نقضا أنكروا صحة التعليق فقال الشيخ: لا وجه إلى ذلك لأنها منصوصة في كتاب الطلاق وفي إيمان الجامع نص في نظيره أي نظير المذكور وهو ما إذا قال لحرة إن ارتددت فسبيت فملكتك فأنت حرة ثم كان كذلك فملكها عتقت قال الشيخ في شرح الجامع: قد قال أصحابنا رحمهم الله: إن إيجاب التحرير باليمين لا يبقى بعد العتق وقد صح استئنافه هاهنا عند عدمه وهذا نص قد ذكرنا نظيره قبل هذا في الطلاق إذا علقه بالنكاح وقد حرمت عليه بالثلاث أنه يصح وهذه المسألة أوضح نص في هذا كذا في أيمان الجامع في باب الحنث في ملك العبد والمكاتب.(2/416)
الجامع أيضا نص في نظيره وهو العتاق.وأبعده من هذه الجملة ما قاله
ـــــــ
قوله "وأبعد من هذه الجملة" إلى آخره يعني حمل المطلق على المقيد كما قال الشافعي أبعد من الصواب من الجملة التي سبق تقريرها لأن فيه إضافة النفي إلى النص الموجب وإبطال الإطلاق بما هو ساكت فكان الخطأ فيه من وجهين وفيما سبق الخطأ من وجه واحد وهو إضافة النفي إلى الموجب فلهذا كان أبعد من الصواب والمطلق هو اللفظ المعترض للذات دون الصفات لا بالنفي ولا بالإثبات والمقيد هو اللفظ الدال على مدلول المطلق بصفة زائدة وقيل: المطلق لفظ دل على شائع في جنسه مثل رجل ورقبة فيخرج عن التعريف المعارف لكونها غير شائعة لتعينها بحسب الاستعمال فإن أنت مثلا لا يفهم منه عند الاستعمال إلا معين بخلاف رجل فإنه لا يفهم منه معين ويخرج منه أيضا النكرة في سياق النفي والنكرة المستغرقة في سياق الإثبات مثل كل رجل ونحوه لاستغراقها إذ المستغرق لا يكون شائعا في جنسه والمقيد هو اللفظ الدال على مدلول معين كزيد وهذا الرجل وأنت.
وذكر في أصول الفقه للإمام الرازي أن كل شيء له ماهية وحقيقة وكل أمر لا يكون المفهوم منه عين المفهوم من تلك الماهية كان مغايرا لها سواء كان لازما لها أو مفارقا لأن الإنسان من حيث إنه إنسان فأما أنه ليس إلا الإنسان واحدا أو لا واحدا فهما قيدان مغايران لكونه إنسانا وإن كنا نعلم أن المفهوم من كونه إنسانا لا ينفك عنهما فاللفظ الدال على الحقيقة من حيث إنها هي من غير أن تكون فيه دلالة على شيء من قيود تلك الحقيقة هو المطلق فتبين بهذا أن قول من يقول المطلق هو اللفظ الدال على واحد لا بعينه سهو لأن الوحدة وعدم التعين قيدان زائدان على الماهية. ثم ورود المطلق مع المقيد على وجوه.
إما أن يكون ورودهما في سبب حكم في حادثة أو شرطه مثل نصي صدقة الفطر على ما سيأتي.
أو في حكم واحد في حادثة واحدة إثباتا كما لو قيل في الظهار أعتق رقبة ثم قيل أعتق رقبة مسلمة.
أو نفيا كما لو قيل لا تعتق مدبرا لا تعتق مدبرا كافرا وفي حكمين في حادثة واحدة مثل تقيد صوم الظهار بأن يكون قبل المسيس وإطلاق إطعامه عن ذلك.
أو في حكمين في حادثتين كتقييد الصيام بالتتابع في كفارة القتل وإطلاق الإطعام في كفارة الظهار.(2/417)
الشافعي رحمه الله: من حمل المطلق على المقيد في حادثة واحدة بطريق الدلالة لأن الشيء الواحد لا يكون مطلقا ومقيدا مع ذلك والمطلق ساكت
ـــــــ
أو في حكم واحد في حادثتين كإطلاق الرقبة في كفارة الظهار واليمين وتقييدها بالأيمان في كفارة القتل فهذه ستة أقسام.
واتفق الأصوليون على أنه لا حمل في القسم الثالث والرابع والخامس لعدم المنافاة في الجمع بينهما وذكر بعض أصحاب الشافعي الحمل في القسم الرابع واتفق أصحابنا وأصحاب الشافعي على وجوب حمل المطلق على المقيد في القسم الثاني واختلفوا في القسم الأول والأخير فعند بعض أصحابنا وجميع أصحاب الشافعي الحمل واجب في القسم الأول من غير حاجة إلى قياس ونحوه وعند عامة أصحابنا لا حمل فيه واتفق أصحابنا في القسم الأخير على أن لا يحمل المطلق على المقيد فيه وعند أصحاب الشافعي يجب الحمل لكنهم اختلفوا فقال بعضهم: يحمل المطلق على المقيد بموجب اللغة من غير نظر إلى قياس ودليل وجعلوه من باب المحذوف الذي سبق إلى الفهم معناه كقوله {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} "الأحزاب 35" وقال أهل التحقيق منهم: إنه يحمل على المقيد بقياس مستجمع لشرائطه وهذا هو الصحيح عندهم. هذا حاصل ما ذكر في عامة كتب أصحابنا وأصحاب الشافعي.
وتبين بهذا أن المراد من استبعاد الشيخ حمل المطلق على المقيد في حادثة واحدة ما إذا كان القيد والإطلاق في السبب أو الشرط لإمكان الجمع بينهما فيهما دون الحكم لاستحالة الجمع بينهما فيه على ما تبين في آخر هذا الفصل واستدل من أوجب الحمل في حادثة واحدة سواء كان القيد والإطلاق في السبب والشرط أو في الحكم بأن الحادثة إذا كانت واحدة كان الإطلاق والقيد في شيء واحد إذا لم يكونا في حكمين والشيء الواحد لا يجوز أن يكون مطلقا ومقيدا للتنافي فلا بد من أن يجعل أحدهما أصلا ويبنى الآخر عليه والمطلق ساكت عن القيد أي لا يدل عليه ولا ينفيه والمقيد ناطق به أي يوجب الجواز عند وجوده وينفيه عند عدمه فكان أولى بأن يجعل أصلا ويبنى المطلق عليه ولأن المطلق محتمل والمقيد بمنزلة المحكم فيحمل المحتمل عليه ويكون المقيد بيانا للمطلق على ما هو المختار لا نسخا فيثبت الحكم مقيدا بهما كما قيل في نصوص الزكاة فإن المطلق عن السوم وهو قوله عليه السلام: "في خمس من الإبل شاة" محمول على المقيد بصفة السوم بالاتفاق مثل قوله عليه السلام: "في خمس من الإبل السائمة شاة" .
وكما قيل في نصوص العدالة فإن النصوص المطلقة عن صفة العدالة في الشهادات(2/418)
والمقيد ناطق فكان أولى كما قيل في قوله عليه السلام: "في خمس من الإبل شاة" وكما قيل في نصوص العدالة وإذا كانا في حادثتين مثل كفارة القتل وسائر الكفارات فكذلك أيضا لأن قيد الإيمان زيادة وصف يجري مجرى التعليق بالشرط فيوجب النفي عند عدمه في المنصوص وفي نظيره من الكفارات لأنها جنس واحد بخلاف زيادة
ـــــــ
مثل قوله {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} "سورة البقرة: 282 " {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} "النور: 4" وقوله عليه السلام: "لا نكاح إلا بشهود" محمولة على النصوص المقيدة بها بالاتفاق حتى شرطت العدالة لقبول الشهادة مثل قوله تعالى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} "الطلاق: 2" " {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} "البقرة: 282" وقوله عليه السلام: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل" وحاصل هذا الدليل راجع إلى أن المفهوم حجة شرعية
"وإذا كانا" أي الإطلاق والقيد في حادثتين في حكم واحد مثل كفارة القتل فإن الرقبة فيها مقيدة بصفة الإيمان وسائر الكفارات فإن الرقبة فيها مطلقة فكذلك أيضا أي يحمل المطلق فيها على المقيد أيضا لكن بقياس صحيح عند بعضهم وبدونه عند آخرين واستدل من أوجب الحمل مطلقا من غير حاجة إلى قياس بأن أهل اللغة يتركون التقييد في كل موضع اكتفاء بذكره في موضع كقوله تعالى {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} "الأحزاب: 35" أي والحافظاتها والذاكراته كثيرا وكقول الشاعر:
نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف
أي نحن بما عندنا راضون وبأن القرآن كله كالكلمة الواحدة في وجوب بناء بعضه على بعض فإذا نص على الإيمان في كفارة القتل لزم في الظهار كان القيد متصلا به أيضا وهذا كلام ساقط لأن الأصل في كل كلام حمله على ظاهره إلا أن يمنع عنه مانع وإذا كان كذلك لا يجوز ترك ظاهر الإطلاق إلى التقييد من غير ضرورة ودليل بمجرد الظن والتشهي كما لا يجوز عكسه ويجوز أن يكون حكم الله تعالى في أحدهما الإطلاق وفي الآخر التقييد. وأما قولهم القرآن كله بمنزلة كلمة واحدة فكذلك في أنه لا تناقض في شيء منه ولا اختلاف فأما في دلالة عباراته على المعنى فلا لأنها متعددة ودلالاتها مختلفة فلا يلزم من دلالة بعضها على بعض الأشياء المختلفة دلالته على غيره وثبوت القيد في الحافظات والذاكرات والشعر للعطف وعدم الاستقلال وأما من جوز الحمل بالقياس فبنى كلامه(2/419)
الصوم في القتل فإنه لم يلحق به كفارة اليمين والطعام في اليمين لم يثبت في القتل وكذلك إعداد الركعات ووظائف الطهارات وأركانها ونحو ذلك لأن التفاوت ثابت باسم العلم وهو لا يوجب إلا الوجود وعندنا لا يحمل مطلق على
ـــــــ
أيضا على أن المفهوم حجة وإليه أشار الشيخ رحمه الله في الكتاب فقال: التقييد بالوصف بمنزلة التعليق بالشرط وإنه يوجب عدم الحكم عند عدمه كما يوجب الوجود عند الوجود على ما مر بيانه فلما كان النفي حكم النص المقيد كالإثبات يتعدى إلى نظيره بعلة جامعة كما إذا كان النفي منصوصا وكما يتعدى الإثبات والرقبة في كفارة القتل مقيدة بوصف الإيمان فأوجب عدم الجواز عند عدمه فيتعدى هذا الحكم إلى نظائرها من الكفارات كما تعدى تقييد الأيدي بالمرافق في الوضوء إلى نظيره وهو التيمم لأن كل واحد منهما طهارة ولا يقال هذا تعدية إلى ما فيه نص بالإبطال لأنا قد بينا أن المطلق ساكت عن القيد غير متعرض له بالنفي ولا بالإثبات فصار المحل في حق الوصف خاليا عن النص فيجوز تعدية حكم الوصف إليه بالقياس ولهذا لم يجز حمل المقيد على المطلق لأن المقيد ناطق وفي حمله على المطلق بالقياس وبدونه إبطال القيد المنطوق به فلا يجوز. ثم أجاب عما يرد نقضا على الشافعي فقال بخلاف زيادة الصوم في القتل يعني صوم القتل زائد على صوم اليمين ثم لم يثبت تلك الزيادة في صوم اليمين حملا لهذا الصوم المطلق عن تلك الزيادة على الصوم المقيد بها بالقياس حتى لم يجب على الحانث صوم شهرين مع أن الكل جنس واحد. وكذا الطعام الثابت في اليمين لم يثبت في كفارة القتل حملا لها على اليمين بالقياس باعتبار اتحاد الجنس وخص الشيخ طعام اليمين لأن طعام الظهار ثابت في القتل في أحد قولي الشافعي فإنه إذا عجز عن الصوم يطعم ستين مسكينا بالقياس على الظهار.
قال شمس الأئمة في المبسوط: وهذا بناء على أصله أن المقيد والمطلق في حادثتين يحمل أحدهما على الآخر وكذلك أعداد الركعات يعني لم نثبت زيادة الركعات الثابتة في الظهر والعصر والعشاء في الفجر والمغرب حملا للمطلق عن تلك الزيادة على المقيد بها بالقياس مع أن الكل صلاة وظائف الطهارات يعني وظيفة الوضوء تطهير الأعضاء الأربعة ووظيفة الغسل تطهير جميع البدن ثم لم تثبت الزيادة الثابتة في الغسل في الوضوء بالحمل عليه مع أن الكل طهارة حتى لم يجب غسل جميع البدن في الحدث. وكذا لم يثبت الزيادة الثابتة في الوضوء وهي تطهير الأعضاء الأربعة في التيمم بالقياس على الوضوء حتى لم يجب مسح الرأس والقدمين في التيمم بحمله على الوضوء باتحاد الجنس وأركانها يعني الوضوء مشتمل على الغسل والمسح والغسل زائد على المسح(2/420)
مقيد أبدا لقوله تعالى {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} "المائدة:
ـــــــ
لأنه إسالة والمسح إصابة ثم لم يثبت تلك الزيادة فبالمسح حتى لم يجب غسل الرأس مع اتحاد الجنس نظرا إلى الركنية في الوضوء. ونحو ذلك كالحدود فإن جلد المائة الثابت في الزنا لم يثبت في القذف بطريق الحمل وكاشتراط الأربعة في شهود الزنا لا يثبت في غيره من الحدود بطريق الحمل لأن التفاوت ثابت باسم العلم وهو لا يوجب إلا الوجود يعني التفاوت بين هذه الأشياء التي ذكرناها ثابت بالاسم العلم وهو اسم الشهرين وثلاثة أيام واسم الركعتين وثلاث وأربع واسم الغسل والمسح والتنصيص بالاسم العلم يوجب الوجود عند الوجود ولا يوجب العدم عند العدم وإذا لم يثبت العدم به في المحل المنصوص لا يمكن تعديته إلى غيره لأن تعدية المعدوم محال.
قوله "وعندنا لا يحمل المطلق على المقيد أبدا" يعني لا في حادثتين ولا في حادثة بعد أن يكونا حكمين ولا تلتفت إلى ما توهم البعض أن المراد منه نفي الحمل بالكلية وإن كان القيد والإطلاق في حكم واحد في حادثة واحدة فإن ذلك مخالف للروايات أجمع فقد ذكر في التقويم وكذلك الجواب عندنا في المطلق أنه على إطلاقه والمقيد على تقييده في الحادثة الواحدة بعد أن يكونا حكمين. وذكر في الأسرار فإن قيل: إنك لا تحمل المطلق على المقيد قلنا: نعم إذا كانا غيرين حكمين أو شرطين أو علتين فأما الواحد إذا ثبت بوصف فدونه لا يكون ثابتا لا محالة ضرورة وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله في شرح كتاب الصوم إنما لا يحمل المطلق على المقيد عندنا إذا وجد القيد والإطلاق في سبب الحكم في صدقة الفطر أو في نوعين مختلفين من حكم السبب كما في كفارة الظهار فإنه ذكر الإعتاق والصوم فيها مقيدين بالقبلية على المسيس والإطعام مطلقا ولم يحمل المطلق على المقيد فأما إذا وردا في شيء واحد من حكم السبب فإنه يحمل المطلق على المقيد كما في حديث الأعرابي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "صم شهرين متتابعين" وروي أنه قال له: "صم شهرين" وهذا لأن الحكم الواحد لا يجوز أن يكون مطلقا ومقيدا وذكر شمس الأئمة رحمه الله في شرح كتاب الزكاة في أثناء مسألة أن المطلق محمول على المقيد في هذا الباب لأنهما في حادثة واحدة في حكم واحد وذكر في شرح كتاب الإيمان في اشتراط التتابع في صوم كفارة اليمين وهاهنا المطلق والمقيد في الحكم وهو الصوم الواجب كفارة وبين التتابع والتفرق منافاة في حكم واحد فمن ضرورة ثبوت صفة التتابع أن لا يبقى مطلقا.
وذكر في الميزان واختلف عندنا يعني في حمل المطلق على المقيد قال بعضهم بحمل إذا كان السبب واحدا والحادثة واحدة فأما في حادثتين فلا يحمل وقال(2/421)
101" فنبه أن العمل بالإطلاق واجب وقال ابن عباس رضي الله عنهما أبهموا ما أبهم الله واتبعوا ما بين الله وهو قول عامة الصحابة رضي الله عنهم
ـــــــ
أهل التحقيق منهم بأنه لا يحمل سواء كانت الحادثة واحدة أو لا إلا إذا كان حكما واحدا والسبب واحدا وذكر في شرح التأويلات في تفسير قوله تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً} "النساء: 92" أن الحادثة إذا كانت واحدة وورد فيها نصان مقيد ومطلق في الحكم وهو من باب الواجب أن المطلق يقيد إذا كان لا يعرف التاريخ لأن الشرع متى أوجب الحكم بوصف لا بد من اعتبار الوصف فيكون بيانا للمطلق أن المراد منه المقيد وأما إذا كانا من باب الأسباب والشروط فإنه لا يحمل المطلق على المقيد ولكن يعمل بهما لعدم التنافي ورأيت في التلخيص في أصول الفقه إذا أطلق الحكم ثم ورد بعينه مقيدا في موضع آخر فلا خلاف أنه يجب الحكم بتقييده لأن التقييد زيادة لا يفيدها الإطلاق كقوله تعالى في موضع {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} "النساء: 43" وفي موضع آخر {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} "النساء: 43" وقوله تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} "المائدة: 3". وقوله عز اسمه {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} الأنعام: 145" وهكذا ذكر في عامة نسخ أصحابنا وعامة نسخ أصحاب الشافعي من القواطع والمستصفى والمحصول وغيرها فتبين أن الحمل في حكم واحد حادثة واحدة واجب وأن معنى قوله أبدا ما ذكرنا.
قوله لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ} الآية الجملة الشرطية والمعطوفة عليها وهما قوله {إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} "المائدة 101" صفة لأشياء. والمعنى لا تكثروا مسألة رسول الله عن تكاليف شاقة عليكم إن أفتاكم بها وكلفها إياكم تغمكم وتشق عليكم فتندموا عن السؤال عنها وإن تسألوا عن هذه التكاليف الصعبة في زمان الوحي وهو ما دام الرسول بين أظهركم يوحى إليه تبد لكم تلك التكاليف التي تسؤكم وتؤمروا بتحملها فتعرضون أنفسكم لغضب الله بالتفريط فيها وقال إمام الهدى: يحتمل أن يكون هذا نهيا عن سؤالهم عن أشياء لم يكن لهم حاجة إليها على وجه الاستبانة والاستيضاح فنهوا عنه حتى تمس الحاجة إذا مست الحاجة فقد أطلق لهم السؤال لقوله {وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا} الآية فجعل الثانية مستأنفة لا صفة لأشياء ثم ظاهر الآية دليل على أن العمل بالإطلاق واجب لأن الوصف في المطلق مسكوت عنه والسؤال عن المسكوت عنه منهي بهذا النص فكان بالظاهر وهو الإطلاق واجبا في الرجوع إلى المقيد لنعرف حكم المطلق إقدام على هذا المنهي عنه لما فيه من ترك الإبهام فيما أبهم الله كما أن في السؤال ذلك(2/422)
في أمهات النساء ولأن المقيد أوجب الحكم ابتداء فلم يجز المطلق لأنه غير مشروع لا لأن النص نفاه لما قلنا: إن الإثبات لا يوجب نفيا صيغة ولا دلالة ولا اقتضاء فيصير الاحتجاج به احتجاجا بلا دليل وما قلنا عمل بمقتضى كل نص على ما وضع له الإطلاق من المطلق معنى متعين معلوم ويمكن العمل به مثل
ـــــــ
يوضحه أن النهي ليس عن السؤال عن المجمل والمشكل والله أعلم لأن ذلك واجب ولا يرد السؤال عما هو مفسر أو محكم فعلم أن النهي ورد عن السؤال عما هو ممكن العمل به مع نوع إبهام إذ السؤال حينئذ يكون تعمقا وذلك لا يجوز. والدليل عليه قوله عليه السلام: "اتركوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسألتهم عن أنبيائهم1" قال ابن عباس رضي الله عنهما أبهموا ما أبهم الله أي أطلقوا ما أطلق الله ولا تقيدوا الحرمة في أمهات النساء بالدخول بالبنات يقال فرس بهيم إذا كان مطلق اللون أي له لون واحد واتبعوا ما بين الله من تقييد حرمة الربائب بالدخول بالأمهات "وهو" أي العمل بالإطلاق قول عامة الصحابة رضي الله عنهم في أمهات النساء لورودها مطلقة في قوله عز اسمه {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} "النساء: 23" قال عمر رضي الله عنه: أم المرأة مبهمة في كتاب الله فأبهموها أي حال تحريمها عن قيد الدخول الثابت في الربيبة فأطلقوها وعليه انعقد إجماع من بعدهم كذا في التقويم وما روي عن علي رضي الله عنه وغيره من شرط الدخول بالبنت لثبوت الحرمة في الأم فذلك ليس بطريق الحمل لكن باعتبار العطف فإنه يقتضي المشاركة في الخبر "ولأن المقيد أوجب الحكم ابتداء" يعني لا نسلم أن المقيد يوجب النفي عند عدم القيد بدليل انتفاء الجواز لفواته كما قال الشافعي بل المقيد أوجب الحكم في محله ابتداء من غير تعرض له بالنفي عند العدم. وأما عدم جواز المطلق عند عدم الوصف فلكونه غير مشروع على ما كان قبل ورود المقيد لا لأن النص أي المقيد نفاه فإن الرقبة الكافرة إنما لم تجز في كفارة القتل لأنها لم تشرع كفارة كما لم يجز تحريم النصف وذبح الشاة لا لأن المقيد نفي جوازه أو الكفارة في نفسها وقدرها لا تعرف إلا شرعا فلا يحتاج إلى الشرع لانعدام كفارة كذا في التقويم صيغة يعني عبارة وإشارة ولا دلالة لأن النفي ضد الإثبات فلا يثبت بالدلالة ضد موجب النص ولا اقتضاء لأن إثبات الحكم في محل بوصف مستغن عن النفي عند عدم الوصف فإنه لو صرح بالجواز عند عدم الوصف لا يختل الكلام شرعا ولا عرفا فيصير الاحتجاج به
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الحج حديث رقم 1337 والترمذي في العلم حديث رقم 2679 وابن ماجة في المقدمة حديث رقم 2.(2/423)
التقييد فترك الدليل إلى غير الدليل باطل مستحيل ولا نسلم له أن القيد بمعنى الشرط ألا ترى أن قوله {مِنْ نِسَائِكُمْ} "النساء: 23"معرف بالإضافة فلا يكون القيد معرفا ليجعل شرطا ولأنا قلنا: إن الشرط لا يوجب نفيا بل الحكم الشرعي إنما يثبت بالشرع ابتداء فأما العدم فليس بشرع ولأنا إن سلمنا له النفي
ـــــــ
أي بأن الإثبات موجب للنفي فيلزم منه حمل المطلق على المقيد "احتجاجا بلا دليل" لأن السكوت عدم والعدم ليس بدليل أو لأن إثبات الحكم بالنص مقتصر على هذه الطرق الأربعة فما وراءه يكون احتجاجا بلا دليل بمقتضى كل نص أي بموجبه الإطلاق من المطلق معنى متعين معلوم أي الإطلاق ليس بمعنى الإجمال لأن معناه معلوم يمكن العمل به وهو نفي لما قال بعضهم: المطلق بمنزلة المجمل لاحتمال كل واحد من الأفراد الداخلة فيه على البدل من غير ترجح للبعض فكان كالمشترك الذي انسد فيه باب الترجيح فلا يجب العمل به لا بالبيان. والدليل عليه قصة أصحاب البقرة فإنهم لم يعملوا بإطلاقها إلا بعد البيان وارتفاع الاشتباه فقال: الإطلاق معنى معلوم وله حكم معلوم يمكن العمل به ألا ترى أنه لو لم يرد المقيد وجب العمل بإطلاقه بالاتفاق من غير بيان وإذا كان كذلك لا يترك الإطلاق الذي هو دليل يمكن العمل به إلى غير الدليل وهو العمل بالمفهوم كما لا يجوز ترك التقييد لإثبات حكم الإطلاق بالاتفاق. وقوله ولا نسلم له أن القيد بمعنى الشرط جواب عن قوله القيد جار مجرى الشرط فيوجب النفي عند العدم وتحقيقه أن الأصل في إيجاب النفي عند العدم هو الشرط عند الشافعي رحمه الله ثم إنه ألحق الوصف به في هذا المعنى فجعله نافيا للحكم عند العدم لكونه بمعنى الشرط على ما مر بيانه فالشيخ رحمه الله منع أولا كون القيد بمعنى الشرط مطلقا فقال: لا نسلم له أي الشافعي أن القيد بمعنى الشرط في جميع الصور فإن القيد في قوله تعالى {مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} "النساء: 23" ليس بمعنى الشرط لأن النساء معرفة بالإضافة إلينا فلا يكون القيد معرفا ليجعل شرطا إذ القيد إنما جعل في معنى الشرط إذا كان ما قيد به منكرا لفظا ومعنى كما في قول الرجل المرأة التي أتزوجها فهي طالق لحصول التعريف به كما مر بيانه في باب ألفاظ العموم. فأما إذا كان معرفا كقوله هذه المرأة التي أتزوجها فهي طالق فليس القيد فيه بمعنى الشرط بل لزيادة البيان كقوله تعالى {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} "المائدة: 44" وإذا كان كذلك لا بد له من إقامة الدليل على أن القيد المتنازع فيه مثل قيد الإيمان في مسألتنا بمعنى الشرط ولأنا قلنا يعني ولئن سلمنا أن هذا القيد بمعنى الشرط فلا نسلم أن الشرط يوجب نفيا أيضا لما ذكرنا بل الحكم الشرعي إنما يثبت بالشرع ابتداء يعني الحكم الشرعي أمر وجودي يثبت بالشرع ابتداء لا(2/424)
ثابتا بهذا القيد لم يستقم الاستدلال به على غيره إلا إذا صحت المماثلة وقد جاءت المفارقة في السبب وهو القتل فإنه أعظم الكبائر وفي الحكم صورة ومعنى حتى وجب في اليمين التخيير ودخل الطعام في الإظهار دون القتل فبطل
ـــــــ
عدم شيء يتحقق بناء على عدم شيء آخر لأن العدم ليس بشرع لتحققه قبل الشرع وإذا لم يكن العدم حكما شرعيا لم يمكن تعديته إلى الغير.
ولأنا إن سلمنا أن هذا القيد بمعنى الشرط وأنه يوجب النفي في محله وأنه يمكن تعديته لا نسلم له الاستدلال به على غيره يعني لا نسلم أنه يثبت النفي في غير المحل المنصوص استدلالا به إذا ثبت المماثلة بينهما في المعنى الذي تعلق الحكم به ولم يثبت ذلك بل المفارقة تثبت في السبب والحكم صورة ومعنى أما المفارقة في السبب صورة فظاهر لأن الظهار واليمين غير القتل صورة. وكذا معنى لأن القتل بغير حق من أعظم الكبائر فلا يكون في معنى الجناية كالظهار واليمين ولا يقال: لا نسلم أن القتل الذي تعلقت به الكفارة وهو القتل خطأ أعظم جناية من الظهار واليمين لأن عند الخصم الكفارة تتعلق بالقتل بالعمد كما تتعلق بالخطأ وباليمين الغموس كما تتعلق بالمعقودة والقتل العمد أعظم من الغموس ولما ثبت التفاوت بينهما تثبت بين القتل الخطأ واليمين المعقودة أيضا. وأما المفارقة في الحكم صورة فلأن حكم القتل وجوب التحرير والصوم على الترتيب مقتصرا عليهما وحكم الظهار وجوب التحرير والصوم والإطعام وهذا مفارق للأول وكذا حكم اليمين وجوب البر ثم الكفارة بأحد الأشياء الثلاثة ثم صوم ثلاثة أيام وهو مفارق لحكم القتل أيضا وأما المعنى فلأن في هذين الحكمين ضرب تيسير فإن للطعام مدخلا في الظهار عند العجز والتخيير ثابت في الأشياء الثلاثة في اليمين مع النقل إلى صوم الثلاثة عند العجز وليس هذا النوع من التيسير في القتل وإذا ثبتت المفارقة بينهما لم يصح الاستدلال إذ لا بد له من المماثلة وذكر في الأسرار ولا مدخل للقياس فيها يعني في هذه المسألة من وجوه لأن الحوادث كلها منصوص عليها فلا قياس لبعضها على بعض ولأن القياس يوجب زيادة على النص وهذا لا يجوز عندنا ولأن الحكم مما لا يعرف بالقياس بالإجماع لأنه يرجع إلى إثبات قدر الكفارة لأن الوصف زيادة معنى كالقدر وكما لا يجوز إثبات زيادة القدر بالقياس كذلك الوصف ولو جاز ذلك لصارت الصلوات كلها على هيئة واحدة وكذلك الكفارات مقدارا على أن الكفارات وإن اتفقت اسما فهي مختلفة الجنس حكما لأنها وجبت بأسباب مختلفة الجنس من يمين وظهار وقتل وإفطار والحكم يختلف جنسه باختلاف سببه وإذا اختلف لم يكن الواجب بها سواء فلم يجز رد بعضها إلى بعض كما لم يرد إلى الكفارة النذر.(2/425)
الاستدلال فإن قال: أنا أعدي القيد الزائد ثم النفي يثبت به قيل له: إن التقييد بوصف الإيمان لا يمنع صحة التحريم بالكافرة لما قلنا لكن لأنه لم يشرع وقد
ـــــــ
فالمقاييس باطلة بما ذكرنا والاستدلال باطل بهذا الوجه الخاص وهو أن الجنس مختلف حكما وقد ظهر أثر الاختلاف في الإطعام وقدر الصيام على أن باب القتل مغلظ قد ظهر ذلك في أنواع الكفارة وفي وجوب الترتيب وهذا مخفف ولم يجز قياس ما خفف فيه على ما غلظ لإثبات التغليظ ولو احتمل القياس لكان اليد لنا لأن التحرير نوع من أنواع كفارة اليمين فيجب أن يكون أخف من القتل قياسا على سائر أنواعه وكان أخذ حكم اليمين من حكم اليمين أولى من أخذه من القتل وقال: هذا إن سلمنا لهم أن المطلق يحمل على المقيد وعندنا لا يحمل بل كل يعمل بنفسه وإن كانا في حادثة واحدة بعد أن يكونا حكمين.
قوله "فإن قال" متصل بقوله أما العدم فليس بشرع يعني لو قال: أنا لا أعدي العدم الذي زعمت أنه ليس بحكم شرعي بل أعدي القيد الزائد على المطلق وهو قيد الإيمان ثم النفي يثبت به في هذا المحل كما ثبت في المنصوص عليه يقال له إن سلمنا صحة هذه التعدية وثبوت القيد في المتنازع فيه فذلك لا يمنع من صحة تحرير الكافرة هاهنا أيضا لأن عدم الجواز في المنصوص عليه أعني كفارة القتل ليس باعتبار منع القيد عن الجواز لما قلنا: إن المقيد يوجب الحكم ابتداء غير متعرض للنفي لكن عدم الجواز لعدم الشرعية وهاهنا الشرعية ثابتة بدلالة ورود المطلق فكان الجواز ثابتا فصار الحاصل أن في المنصوص عليه ليس إلا نص مقيد فيثبت موجبه وبقي ما وراءه على العدم وهاهنا بعد التعدية يجتمع نصان مطلق ومقيد تقديرا لأن تعدية القيد إن سلمت لا تصلح لإبطال الإطلاق لأن الرأي لا يصلح مبطلا للنص بوجه فصار بعد التعدية كأنه اجتمع منه مطلق ومقيد فيثبت موجب كل واحد منهما فيجوز تحرير الكافرة بالنص المطلق وتحرير المؤمنة به وبالنص المقيد أيضا.
وهذا معنى كلام الشيخ رحمه الله ولكن يلزم منه اجتماع المقيد والمطلق في حكم واحد في حادثة واحدة وذلك موجب للحمل لا محالة على ما بينا ونبين بعد فكان الجواب الصحيح أن هذا الاستدلال والتعدية فاسدة للمفارقة وللمعاني المذكورة في الأسرار إلا أن الشيخ تسامح فيه لأن التعدية لما فسدت لا يلزم اجتماع المقيد والمطلق في التحقيق وإنما يلزم ظاهرا على تقدير التسليم فتساهل في جوابه فإن قيل لعل من مذهب الشيخ عدم جواز الحمل في حكم واحد في حادثة واحدة أيضا كما أشار إليه هذا الجواب. وقوله أبدا قلنا منع من هذا الاحتمال قوله فيما بعد بخطوط والحكم الواحد لا(2/426)
شرع في المطلق لما أطلق فصارت التعدية لمعدوم لا يصلح حكما شرعيا فكان هذا أبعد مما سبق وهذا أمر ظاهر التناقض فأما قيد الإسامة فلم يوجب نفيا عندنا لكن السنة المعروفة في إبطال الزكاة عن العوامل أوجبت نسخ الإطلاق وكذلك قيد العدالة لم يوجب النفي لكن نص الأمر بالتثبت في نبأ الفاسق أوجب نسخ الإطلاق وكذلك قيد التتابع في كفارة القتل والظهار لم يوجب
ـــــــ
يقبل وصفين متضادين فإذا ثبت تقييده بطل إطلاقه ويمكن أن يجاب عنه أيضا بأن مثل هذا الاجتماع لا يوجب الحمل فإن من شرطه استواءهما في الدرجة ولم يوجد ألا ترى أن الزيادة على النص لا تجوز بخبر الواحد لاستلزامه إبطال الإطلاق القطعي بالدليل الظني فلما لم يجز إبطاله بالقيد الثابت بخبر الواحد فلأن لا يجوز بالقيد الثابت بالرأي الذي هو دونه كان أولى فصارت التعدية لمعدوم وهذه اللام تتعلق بالتعدية وهي في: لإبطال العاقبة. وقوله لإبطال مع متعلقه خبر صار أي صارت تعدية الشافعي عدم الجواز الذي لا يصلح حكما شرعيا من المقيد في كفارة القتل إلى المطلق في كفارة الظهار واليمين تعدية لأجل إبطال موجود يصلح حكما شرعيا وهو الإطلاق أو جواز التحرير للكافرة يعني أدى تلك التعدية إلى الإبطال وآل عاقبتها إليه. أو اللام في المعدوم هي الدالة على الغرض أي صارت تعدية الشافعي وصف الإيمان من كفارة القتل إلى غيرها تعدية لأجل معدوم لا يصلح حكما شرعيا أي الغرض من التعدية إثبات ذلك المعدوم لإبطال الموجود وهو وصف الإطلاق لا إثبات المعدى وهو جواز المؤمنة لأن ذلك ثابت بدون التعدية فكان هذا أبعد عن الصواب مما سبق وهو إضافة عدم الحكم إلى عدم الشرط أو الوصف لأن فيما سبق إن وجد العمل بالمسكوت الذي ليس بدليل فليس فيه إبطال حكم موجود وفيما نحن فيه وجد الأمران وهذا أمر ظاهر التناقض أي اعتبار ما ليس بحكم شرعي وتعديته لإبطال حكم شرعي أمر متناقض لأن فيه اعتبار ما وجب إسقاطه وإهداره وإهدار ما وجب اعتباره والسنة المعروفة قوله عليه السلام: "ليس في العوامل والحوامل ولا في البقر المثيرة صدقة" وما روى علي رضي الله عنه: "وفي البقر في كل ثلاثين تبيع وفي الأربعين مسنة وليس على العوامل شيء"
قوله "وكذلك قيد التتابع في كفارة القتل والظهار لم يوجب نفيا" أي نفيا للجواز بدونه في كفارة اليمين يعني لم يثبت اشتراط التتابع في صوم اليمين بحمله على صوم الظهارة والقتل بل ثبت زيادة على المطلق بقراءة ابن مسعود رضي الله عنه فصيام ثلاثة أيام متتابعات كما ثبت زيادة اشتراط الوطء على قوله تعالى {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}(2/427)
نفيا في كفارة اليمين بل يثبت زيادة على المطلق بحديث مشهور وهو قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ولا يلزم عليه ما قلنا في صدقة الفطر: إن النبي عليه السلام قال: "أدوا عن كل حر وعبد مطلقا" وقال في حديث آخر عن كل حر وعبد من المسلمين وعملنا نحن بهما بخلاف كفارة اليمين فإنا لم نجمع بين قراءة عبد الله بن مسعود من القراء المعروفة ليجوز الأمران والفرق
ـــــــ
"البقرة: 230" بحديث العسيلة وقراءته إن لم يثبت قرآنا بقيت خبرا مسندا لأن القراءة منقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والزيادة بالخبر المسند صحيحة إذا كان مشتهرا وقراءته كانت مشتهرة في السلف حتى كانت تتعلم في المكاتب كذا في الأسرار. قال الغزالي رحمه الله: هذا ضعيف لأنه إن نقله من القرآن فهو خطأ قطعا لأنه وجب على الرسول تبليغ القرآن إلى جماعة تقوم الحجة بقولهم وكان لا يجوز له مناجاة الواحد وإن لم ينقله من القرآن احتمل أن يكون ذلك مذهبا له لدليل قد دل عليه واحتمل الخبر وما تردد بين أن يكون خبرا أو لا يكون لا يجوز العمل به وإنما يجوز العمل بما يصرح الراوي بسماعه قلت: هذا كلام واه لأن ابن مسعود نقله وحيا متلوا مسموعا من رسول الله عليه السلام فإن لم يثبت كونه وحيا متلوا لعدم شرطه وهو التواتر يبقى كلاما مسموعا من الرسول عليه السلام منقولا عنه فكان بمنزلة خبر رواه عنه. وقوله وجب على الرسول التبليغ إلى جماعة تقوم الحجة بقولهم مسلم ولكن لم قلت: إنه لم يبلغ بل بلغ ولكن أنساه الله تعالى على القلوب نسخا لتلاوته سوى قلب ابن مسعود إبقاء لحكمه كما قلنا جميعا بنسخ تلاوة الشيخ والشيخة إذا زانيا فارجموهما ألبتة نكالا من الله وبقاء حكمه بهذا الطريق وإنكم قد قبلتم خبر عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "أنزل عشر رضعات محرمات فنسخن بخمس وكان مما يتلى1" مع أن عائشة نسيت النظم أيضا فخبر ابن مسعود مع حفظه النظم كان أولى بالقبول. وكيف يحمل على أنه نقل بناء على اعتقاده إذ لا يظن بأحد من عوام المؤمنين أنه يزيد حرفا من عند نفسه في كتاب الله بناء على اعتقاده ذلك فكيف يظن ذلك بمن هو من كبار الصحابة وأجلائهم؟
ولا يلزم عليه أي على ما قلنا من سقوط الإطلاق بقراءة ابن مسعود رضي الله عنه عدم سقوطه في صدقة الفطر فإنا عملنا بالحديثين فيها فأوجبناها بسبب العبد الكافر والمسلم ولم نعمل بالقراءتين في اليمين بل عملنا بالمقيدة وهي قراءة ابن مسعود حملا
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الرضاع حديث رقم 1452 وأبو داود في النكاح حديث رقم 2062 والترمذي في الرضاع حديث رقم 1150(2/428)
بينهما أن النصين في كفارة اليمين وردا في الحكم والحكم هو الصوم في وجوه لا يقبل وصفين متضادين فإذا ثبت تقييده بطل إطلاقه وفي صدقة الفطر دخل النصان على السبب ولا مزاحمة في الأسباب فوجب الجمع وهذا نظير ما
ـــــــ
للمطلقة عليها لأن النصين في كفارة اليمين وردا في الحكم وهو الصوم الواجب باليمين وهو في وجوده أعني وجوبه في نفسه لا يقبل وصفين متضادين لأنه حكم واحد غير متعدد والإطلاق والتقييد ضدان فلا يجتمعان في وقت واحد في شيء واحد ولو عملنا بالنصين يلزم صوم ستة أيام ثلاثة بالمطلق وثلاثة بالمقيد وذلك خلاف الإجماع فعلمنا أن المقيد انصرف ما انصرف إليه الآخر وأوجب تقييد ذلك الصوم بعينه فإذا صار ذلك الصوم مقيدا لم يبق مطلقا ضرورة فأما في صدقة الفطر فأحد النصين جعل الرأس المطلق سببا والآخر جعل رأس المسلم سببا ولا مزاحمة أي لا تنافي في الأسباب إذ يجوز أن يكون لشيء واحد أسباب متعددة شرعا وحسا على سبيل البدل كالملك والموت وإذا انتفت المزاحمة وجب الجمع.
فإن قيل: فهلا أوجبتم التتابع في قضاء رمضان كما أوجب البعض بقراءة أبي بن كعب رضي الله عنه: "فعدة من أيام من أخر متتابعة" مع أن التقييد والإطلاق في حكم واحد. قلنا: قراءته شاذة غير مشهورة وبمثلها لا تثبت الزيادة على النص فأما قراءة ابن مسعود رضي الله عنه فقد كانت مشهورة إلى زمن أبي حنيفة رحمه الله حتى كان الأعمش يقرأ ختما على حرف ابن مسعود وختما من مصحف عثمان رضي الله عنهما والزيادة عندنا يثبت بالخبر المشهور كذا في المبسوط فإن قيل: إذا لم يحمل على المقيد أدى إلى إلغاء المقيد فإن حكمه يفهم من المطلق ألا ترى أن حكم العبد المسلم يستفاد من إطلاق اسم العبد في صدقة الفطر كما يستفاد حكم الكافر وإذا كان كذلك لم يبق في ذكر المقيد فائدة.
قلنا: ليس كذلك فإن قيل: ورود المقيد يعمل به من حيث إنه مطلق وبعد وروده يعمل به من حيث إنه مقيد وفيه فائدة وهي أن يكون المقيد دليلا على الاستحباب والفضل أو على أنه عزيمة والمطلق رخصة ويجوز ذلك متى أمكن العمل بها جميعا واحتمال الفائدة قائم لا يجعل النصان نصا واحدا كيف والحمل يؤدي إلى إبطال صفة الإطلاق على وجه لم يبق معمولا وعدم الحمل لا يؤدي إلى إبطال شيء فكان أولى إليه أشير في الميزان. فإن قيل: إنكم قد حملتم المطلق على المقيد في قوله عليه السلام: "إذا اختلف المتبايعان تحالفا وترادا" وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة(2/429)
سبق أنا قلنا: إن التعليق بالشرط لا يوجب النفي فصار الحكم الواحد معلقا ومر سلفا مثل نكاح الأمة تعلق بعدم طول الحرة بالنص وبقي مرسلا مع ذلك لأن الإرسال والتعليق يتنافيان وجودا فأما قبل ابتداء وجوده فهو معلق أي معدوم ويتعلق بالشرط وجوده ومرسل عن الشرط أي محتمل للوجود قبله والعدم
ـــــــ
تحالفا وترادا" حيث قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله: لا يجري التحالف حال هلاك السلعة مع أن الإطلاق والقيد في السبب أو الشرط دون الحكم قلنا: ما حملنا المطلق على المقيد ولكن فهمنا بإشارة النص أن المراد من المطلق ما هو المراد من المقيد فإن قوله وترادا إشارة إلى أن المدار منه إيجاب التحالف حال قيام السلعة لأن التراد لا يتصور إلا في حال قيامها.
وقد ترك الشافعي رحمه الله أصله هاهنا حيث قال: يجري التحالف حال هلاك السلعة كما يجري حال قيامها ولم يحمل المطلق على المقيد معتذرا بأن التحالف وجب لبيان الثمن والاشتباه حال قيام السلعة أقل من الاشتباه حال هلاكها لأنه يمكن تعرف الثمن من القيمة إذ بياعات الناس تكون بالقيمة في الأغلب فإيجاب التحالف حال قيام السلعة مع قلة الاشتباه يكون إيجابا له حال هلاكها دلالة. ولكن أصحابنا قالوا: هذا غير مستقيم لأنا لا نسلم أن البياعات بالقيمة في الأغلب فإن الإنسان يبيع ماله بأقل من القيمة ويشتري بأكثر منها للحاجة ولهذا لم يرجع إلى القيمة عند الاختلاف ولو كان البيع بالقيمة غالبا لرجع إليها بل التحالف موجب للفسخ والعقد إنما يقبل الفسخ حال قيام السلعة دون هلاكها فإيجاب ما يؤدي إلى الفسخ حال قبول العقد إياه لا يكون إيجابا له في حال لا يقبله كذا في أصول الفقه لأبي اليسر.
قوله "وهذا نظير ما سبق" أدرج الشيخ رحمه الله في هذا الكلام جواب سؤال يرد على مسألة تعليق نكاح الأمة بعدم طول الحرة ولم يذكره هناك وهو أن يقال لما علق حل الأمة بشرط عدم الطول لا يمكن أن يجعل ذلك الحل بعينه ثابتا قبل وجود الشرط بقوله {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} "النساء: 24" لأن الشيء الواحد لا يجوز أن يكون منجزا ومعلقا كالقنديل إذا علق لا يبقى موضوعا في المكان فقال: وهذا أي العمل بالمطلق والمقيد الواردين في السبب وعدم حمل أحدهما على الآخر نظير ما سبق أن التعليق بالشرط لما لم يوجب النفي عند عدمه جاز أن يكون الشيء الواحد قبل وجوده معلقا ومرسلا مثل نكاح الأمة تعلق بطول الحرة أي بعدم طولها بقي مرسلا أي مطلقا عن الشرط مع ذلك أي مع تعلقه بالشرط يعني جواز نكاحها قبل وجوده متعلق بالشرط وغير متعلق به لأن الإرسال والتعليق يتنافيان وجودا يعني وجود الحكم لا يجوز أن(2/430)
الأصلي كان محتملا للوجود ولم يتبدل العدم فصار محتملا للوجود بطريقتين وذلك جائز في كل حكم قبل وجوده بطريقين وطرق كثيرة وقد قال الشافعي رحمه الله إن صوم كفارة اليمين غير متتابع , ولم يحمله على الظهار والقتل وهذا متناقض فإن قال: إن الأصل متعارض ; لأني وجدت صوم المتعة لا يصح إلا
ـــــــ
يثبت بالإرسال والتعليق جميعا كالملك لا يجوز أن يثبت بالبيع والهبة جميعا لاستحالة ثبوت معلول واحد بعلتين تامتين. فأما قبل ثبوته فيجوز أن يثبت بالبيع والهبة على سبيل البدل فكذا ما علق بالشرط يجوز أن يكون قبل وجوده معلقا أي معدوما يتعلق وجوده بالشرط ومرسلا أي محتملا للوجود قبل الشرط بسبب آخر كالطلقات الثلاثة المعلقة بالشرط يحتمل أن يتحقق وجودها عند وجود الشرط ويحتمل أن توجد قبل وجود الشرط بالتنجيز. وكذا العتق فكذا جواز نكاح الأمة وذلك لأن العدم الأصلي كان محتملا للوجود بطريق الإرسال قبل التعليق وبعد التعليق لم يتبدل ذلك العدم فيبقى محتملا للوجود بطريقين وهما الإرسال والتعليق كما كان وذلك أي احتمال الوجود جائز أي ثابت كل حكم قبل ثبوته بطريقتين وأكثر كالملك قبل أن يثبت يحتمل الوجود بالبيع والهبة والميراث والوصية وغيرها.
قوله "وقد قال الشافعي" ثم ذكر الشيخ ما يرد نقضا على أصل الشافعي فقال: قال الشافعي رحمه الله صوم اليمين غير متتابع في قول عملا بإطلاق قوله تعالى {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} "المائدة: 89" ولم يحمله على صوم الظهار والقتل المقيدين بالتتابع كما حمل الرقبة المطلقة في اليمين على المقيدة بالإيمان في القتل وهذا منه تناقض لأنه قول بوجوب حمل المطلق على المقيد وعدم وجوبه واعتذر الشافعي عنه بأن المطلق إنما يحمل على المقيد إذا كان له أصل واحد في المقيدات وكان مثله في القوة فأما إذا كان له أصلان متعارضان في التقييد فلا لأن حمله على أحدهما ليس بأولى من حمله على الآخر من غير دلالة وهاهنا الصوم المطلق وقع بين صومين مقيدين مختلفين في التقييد. أحدهما صوم القتل والظهار المقيد بالتتابع والآخر صوم التمتع المقيد بالتفريق فلم يمكن حمله على أحدهما فبقي على إطلاقه فجاز التفريق والتتابع قال: ولا يجوز تقييده أيضا بقراءة ابن مسعود لفوات الاستواء في الدرجة فإن أحدهما خبر واحد أو خبر مشهور والآخر نص قاطع فرد الشيخ اعتذاره وقال: ليس في كلام الله تعالى صوم مقيد بالتفريق ولا نسلم أن صوم المتعة متفرق بدليل أنه لو صام العشرة بعد الرجوع جملة جاز عنده ولو صامها متفرقة قبل الرجوع لا يجوز بالاتفاق فعرفنا أنه غير مقيد بالتفريق إلا أنه(2/431)
متفرقا قيل له: ليس كذلك فإن صوم السبعة قبل أيام النحر لا يجوز لأنه لم يشرع لا لأن التفريق واجب ألا ترى أنه أضيف إلى وقت بكلمة إذا فكان كالظهر لما أضيف إلى وقت لم يكن مشروعا قبله وذلك معنى ما ذكرناه في موضعه وأحكام هذه الأقسام ينقسم إلى قسمين إلى العزيمة والرخصة وهذا
ـــــــ
أعني صوم المتعة صومان مطلقان مؤقتان أحدهما وقته وقت الحج والآخر وقته بعد الرجوع فإن صوم السبعة أضيف إلى وقت بكلمة إذا وأنها للوقت فلم يجز الأداء قبله لعدم شرعيته كما لا يجوز صوم رمضان قبل الشهر وأداء الظهر قبل الوقت لا لوجوب التفريق وإذا ثبت أنه ليس بمقيد بالتفريق لم يبق للمطلق إلا أصل واحد فيجب حمله عليه ثم إنه لم يحمل فلزم التناقض على أنا إن سلمنا أن صوم التمتع مقيد بالتفريق فكلامه ساقط أيضا لأن صوم المتعة لا يصلح مقيدا لصوم اليمين لأنه ليس من جنس الكفارات ليتعدى حكمه إليه بل المطلق في الكفارة يحمل على المقيد فيها لإمكان المقايسة بالنظر إلى الجنسية وليس في الكفارة صوم مقيد بالتفرق فلم يثبت تعارض الأصلين ووجب الحمل وإذا لم يحمل كان متناقضا. ومن أصحاب الشافعي من قال فيما إذا تعارض أصلان يحمل على الأحوط ليخرج عن العهدة بيقين فأوجب التتابع في صوم اليمين وهو الأصح عندهم كذا في التهذيب وذلك أي عدم شرعية صوم السبعة أو عدم جوازه قبل الرجوع أو وقوع التفريق فيه لمعنى ذكرناه في موضعه قال الشيخ رحمه الله في بعض مصنفاته في أصول الفقه: صوم المتعة لم يشرع متفرقا وإنما جاء التفرق ضرورة تخلل أيام لا صوم فيها وهي أيام النحر بمنزلة تخلل الليالي وتخلل أيام الحيض في صوم كفارة الفطر أو القتل قال: فإن قيل: إن الشارع شرعه متفرقا مع إمكان أن يشرعه جملة قبل أيام النحر أو بعدها فدل أنه شرع متفرقا لا أنه وقع ضرورة قلنا: الصوم في حق المتمتع وجب بدلا والبدل إنما يجب في الوقت الذي يجب فيه المبدل هذا هو الأصل في الإبدال إلا أن وقت الأصل في يوم النحر وصوم العشرة لا يتصور أداؤه فيه فلضرورة عدم الإمكان جعله الشرع متفرقا فلم يجعل الكل قبله أو بعده ليكون جملة بل جعل البعض قبل أيام النحر متصلا بأيام النحر والبعض بعدها ليكون متصلا بطرفي أيام النحر لما تعذر الأداء فيها فيكون التفريق ضرورة الاتصال بطرفي وقت النحر الذي هو أصل ولم يشرع فيه لأنه وقت ضيافة الله عباده وكان ينبغي أن يكون أداء السبعة بعد أيام النحر قبل الرجوع بلا فصل غير أن الشرع علقه بالرجوع لعذر السفر نظرا له ومرحمة عليه ولا يقال: ينبغي أن يكون قبله خمسة وبعده خمسة لأن ما ذكرنا معقول وذلك غير معقول ففوض إلى الشرع والله أعلم.
ولما فرغ الشيخ من بيان أقسام الكتاب وما يتعلق بها شرع في بيان أقسام الأحكام الثابتة بها فقال:(2/432)
"باب العزيمة والرخصة"
قال الشيخ الإمام رضي الله عنه العزيمة في الأحكام الشرعية اسم لما هو أصل منها غير متعلق بالعوارض سميت عزيمة ; لأنها من حيث كانت أصولا
ـــــــ
"باب العزيمة والرخصة"
اختلفت عبارات الأصوليين في تفسير العزيمة والرخصة بناء على أن بعضهم جعلوا الأحكام منحصرة على هذين القسمين وبعضهم لم يجعلوها كذلك. فبعض من حصرها عليهما قال العزيمة الحكم الثابت على وجه ليس فيه مخالفة دليل شرعي. والرخصة الحكم الثابت على خلاف الدليل لمعارض راجح. واعترض عليه بجواز النكاح فإنه حكم ثابت على خلاف الدليل إذ الأصل في الحرة عدم الاستيلاء عليها. وبوجوب الزكاة والقتل قصاصا فإن كل واحد ثابت على خلاف الدليل إذ الأصل حرمة التعرض في مال الغير ونفسه ولا يسمى شيء منها رخصة.
وقيل: العزيمة ما سلم دليله عن المانع , والرخصة ما لم يسلم عنه. وبعض من لم يعتبر الانحصار قال العزيمة ملزم العباد بإيجاب الله تعالى كالعبادات الخمس ونحوها والرخصة ما وسع للمكلف فعله لعذر فيه مع قيام السبب المحرم. فاختصت العزيمة بالواجبات على هذا التفسير , وخرج الندب والكراهة عن العزيمة من غير دخول في الرخصة فلم ينحصر الأحكام في القسمين. وعليه يدل كلام القاضي الإمام أيضا فإنه قال العزيمة ما لزمناه من حقوق الله تعالى من العبادات والحل والحرمة أصلا بحق أنه إلهنا ونحن عبيده فابتلانا بما شاء. والرخصة إطلاق بعد حظر بعذر تيسيرا.
ثم أول كلام الشيخ يشير إلى أنه اعتبر الانحصار حيث قال , وأحكام هذه الأقسام ينقسم إلى قسمين ولا شك أن الإباحة والكراهة من أحكام هذه الأقسام كوجوب الفعل والترك فتدخلان في القسمين , وكذا تفسيره العزيمة والرخصة يدل عليه أيضا فإن حاصل معناهما على ما ذكر العزيمة ما هو أصل من الأحكام والرخصة ما ليس بأصل. أو العزيمة ما لم يتعلق بالعوارض والرخصة بخلافه , وهذا يدل على انحصار الأحكام فيهما كما ترى(2/433)
كانت في نهاية التوكيد حقا لصاحب الشرع , وهو نافذ الأمر واجب الطاعة والرخصة اسم لما بني على أعذار العباد وهو ما يستباح بعذر مع قيام المحرم والاسمان معا دليلان على المراد. أما العزم فهو القصد المتناهي في التوكيد
ـــــــ
لكن آخر كلامه , وهو تقسيمه العزيمة يدل على خلافه ; لأن الإباحة لم تذكر في هذا التقسيم , ولا في تقسيم الرخصة فكان مشتبها. إلا أن يقال الأحكام منحصرة في القسمين عنده كما يدل عليه أول كلامه , والإباحة داخلة في العزيمة لوكادة شرعيتها كالنفل إذ ليس إلى العباد رفعها لا أن الشيخ لم يذكرها في تقسيم العزيمة ; لأن غرضه بيان ما تعلق به الثواب من العزائم وذلك في الأقسام المذكورة دون الإباحة ; لأنها تتعلق بمصالح الدنيا. وقوله العزيمة اسم لما هو أصل منها أي من الأحكام تمام التعريف. وقوله غير متعلق بالعوارض تفسير لأصالتها لا تقييد. ويدخل في هذا التعريف ما يتعلق بالفعل كالعبادات , وما يتعلق بالترك كالحرمات. ويؤيده ما ذكره صاحب الميزان بعد تقسيم الأحكام إلى الفرض والواجب والسنة والنفل والمباح والحرام والمكروه وغيرها أن العزيمة اسم للحكم الأصلي في الشرع على الأقسام التي ذكرنا من الفرض والواجب والسنة والنفل ونحوها لا لعارض سميت أي الأحكام الأصلية عزيمة. ; لأنها من حيث كانت أصولا أي مشروعة ابتداء. حقا لصاحب الشرع مفعول له أي كانت في نهاية التوكيد من حيث إنها كانت أصولا لأجل أنها حق له أو هو مصدر مؤكد لغيره. وهو نافذ الأمر واجب الطاعة فكان أمره مفترض الامتثال وشرعه واجب القبول فكان مؤكدا. وقوله والرخصة اسم لما بني على أعذار العباد تعريف الرخصة. وقوله , وهو ما يستباح مع قيام المحرم تفسير له يعني أريد بقوله ما بني على أعذار العباد ما يستباح بعذر مع قيام المحرم. فقوله ما يستباح عام يتناول الفعل والترك. وقوله لعذر احتراز عما أبيح لا لعذر ونظائره كثيرة. وقوله مع قيام المحرم احتراز عن مثل الصيام عند فقد الرقبة في الظهار إذ لا يمكن دعوى قيام السبب المحرم عند فقد الرقبة مع استحالة التكليف بإعتاقها حينئذ بل الظهار سبب لوجوب الإعتاق في حالة ولوجوب الصيام في حالة أخرى. واعترض عليه بأنه إن أريد بالاستباحة الإباحة بدون الحرمة فهو تخصيص العلة ; لأن قيام المحرم بدون حكمه لمانع تخصيص له. وإن أريد بها الإباحة مع قيام الحرمة فهو جمع بين المتضادين وكلاهما فاسد. ولا يفيد تغيير العبارة بأن الرخصة هي ما رخص مع قيام المحرم ; لأن الترخيص غير خارج عن الإباحة فكان في معنى الأول وزيادة , وهي أنه استعمل رخص في حد الرخصة , وإن أمكن تأويله باللغوي دون الاصطلاحي ; لأن أقله استعمال اللفظ المبهم في التعريف , وهو قبيح. وأجيب عنه بأن المراد من قوله يستباح يعامل به معاملة(2/434)
حتى صار العزم يمينا وقال الله تعالى {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} "طه: 115" أي لم يكن له قصد مؤكد في العصيان, وقال جل ذكره: {كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} "الأحقاف: 32" وأما الرخصة فتنبئ عن اليسر والسهولة يقال: رخص السعر إذا تيسرت الإصابة لكثرة الأشكال وقلة الرغائب.
ـــــــ
المباح لا أنه يصير مباحا حقيقة ; لأن دليل الحرمة قائم إلا أنه لا يؤاخذ بتلك الحرمة بالنص وليس من ضرورة سقوط المؤاخذة انتفاء الحرمة فإن من ارتكب كبيرة وعفا الله عنه, ولم يؤاخذه بها لا تسمى مباحة في حقه لعدم المؤاخذ. ولهذا ذكر صدر الإسلام الرخصة ترك المؤاخذة بالفعل مع وجود السبب المحرم للفعل وحرمة الفعل وترك المؤاخذة بترك الفعل مع قيام السبب الموجب للفعل, وكون الفعل واجبا. وذكر في الميزان الرخصة اسم لما تغير عن الأمر الأصلي إلى تخفيف ويسر ترفيها وتوسعة على أصحاب الأعذار. وقال بعض أصحاب الحديث: الرخصة ما وسع على المكلف فعله بعذر مع كونه حراما في حق من لا عذر له أو وسع على المكلف تركه مع قيام الوجوب في حق غير المعذور. وسوى بين الرخص كلها, وقال لا يجوز أن تكون الرخصة حرام التحصيل قال النبي عليه السلام: "إن الله تعالى يحب أن يؤتى برخصه كما يحب أن يؤتى بعزائمه" , "وقال عليه السلام لعمار حين أجرى كلمة الكفر على لسانه بالإكراه: "فإن عادوا فعد" . كيف وفي بعض الرخص يجب تحصيله كما في تناول الميتة والدم عند الإكراه والمخمصة. قال صاحب الميزان: وهذا صحيح ويجب أن يكون قول أصحابنا هذا فإن معنى الرخصة السهولة واليسر وذلك في سقوط الحظر والعقوبة جميعا. والاسمان معا دليلان على المراد أي يدلان لغة على الوكادة واليسر المرادين في الشرع منهما فكانا اسمين شرعيين مراعى فيهما معنى اللغة. حتى كان العزم يمينا. ولو قال أعزم أن أفعل كذا كان يمينا عندنا وقال الشافعي رحمه الله لا يكون يمينا ; لأنه لم يحلف بالله, ولا بصفة من صفاته. ولكنا نقول العزم لغة أقصى ما يراد من الإيجاب والتوكيد, والإنسان يؤكد كلامه باليمين. وعن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال لامرأته أسماء بنت عميس عزمت عليك أن لا تصومي اليوم الذي مت فيه فأفطرت وقالت ما كنت لأتبعه حنثا فعرفت العزم يمينا فإن عرفته لغة فقولها حجة, وإن عرفته شرعا فكذلك كذا في الأسرار. وفي الصحاح عزمت عليه أي اقتسمت عليه قوله تعالى. {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} "الأحقاف: 32". أي فاصبر على أذى قومك كما صبر أولوا الحزم والرأي الصواب من الرسل على بلايا ابتلوا بها تظفر بالثواب كما ظفروا به ثم أنهم خصوا من بين الأنبياء, وإن كان الكل على الحق لانتفاء الوهن وشبهته في طلبهم للحق وزيادة ثباتهم عليه عند توجه الشدائد والمكاره(2/435)
والعزيمة أربعة أقسام فريضة وواجب وسنة ونفل فهذه أصول الشرع وإن كانت متفاوتة في أنفسها أما الفرض فمعناه التقدير والقطع في اللغة قال الله تعالى {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} "الةنور: 1" أي قدرناها وقطعنا الأحكام
ـــــــ
إليهم وقوة صبرهم عليه فيها. وقيل هم ستة. نوح فإنه صبر على أذى قومه مدة طويلة., وإبراهيم صبر على النار وذبح الولد., وإسحاق على الذبح. ويعقوب على فقد الولد وذهاب البصر. ويوسف على الجب والسجن. وأيوب على الضر. وقيل هم أصحاب الشرائع نوح, وإبراهيم, وموسى وعيسى, ومحمد فعلى هذا يكون من للتبعيض. وقيل الرسل كلهم أولوا العزم, ولم يبعث الله رسولا إلا كان ذا عزم وحزم ورأي, وكمال عقل, ومن على هذا القول للتبيين, وهو الصحيح إليه أشير في التيسير وغيره.
"والعزيمة أربعة أقسام الفرض" إلى آخره. يدخل في هذه الأقسام الفعل والترك فإن ترك المنهي عنه فرض. إن كان الدليل مقطوعا به كترك أكل الميتة وشرب الخمر. وواجب إن دخل فيه شبهة كترك أكل الضب واللعب بالشطرنج. وسنة أو نفل إن كان دونه كترك ما قيل فيه لا بأس به. ويؤيده ما ذكر شمس الأئمة الواجب ما يكون لازم الأداء شرعا أو واجب الترك فيما يرجع إلى الحل والحرمة. ذكر في بعض نسخ الأصول لأصحابنا الفعل الصادر عن المكلف لا يخلو من أن يترجح جانب الأداء فيه أو جانب الترك أو لا هذا, ولا ذلك. أما الأول فذلك إما أن يكفر جاحده ويضلل, وهو الفرض. أو لا يكفر وذلك أما أن يتعلق العقاب بتركه, وهو الواجب. أو لا يتعلق وذلك إما أن يكون ظاهرا واظب عليه النبي عليه السلام, وهو السنة المشهورة أو لا يكون, وهو النفل والتطوع والمندوب. وأما الثاني فإما أن يتعلق العقاب بالإتيان به, وهو الحرام. أو لا يتعلق, وهو المكروه. وأما الثالث فهو المباح إذ ليس في أدائه ثواب, ولا في تركه عقاب.
وذكر بعضهم العزيمة لا تخلو من أن يكفر جاحدها أو لا والأول هو الفرض. والثاني لا يخلو من أن يعاقب بتركه أو لا والأول هو الواجب. والثاني لا يخلو من أن يستحق بترك الملازمة أو لا والأول هو السنة والثاني النفل. ويدخل في القسم الأخير المباح إن جعل المباح من العزائم. فهذه أصول الشرع أي هذه أحكام شرعت ابتداء في الشريعة من غير نظر إلى أعذار العباد فكانت من العزائم, وإن كانت متفاوتة في أنفسها. وكأنه أشار إلى رد قول من قال من أصحابنا إن النوافل ليست من العزائم ; لأنها شرعت جبرا للنقصان في أداء ما هو عزيمة من الفرائض أو قطعا لطمع الشيطان في منع العباد من أداء الفرائض من حيث إنهم لما رغبوا في أداء النوافل مع أنها ليست عليهم فذلك دليل رغبتهم في أداء الفرائض بالطريق الأولى. فقال هذه الأقسام الأربعة سواء في أنها شرعت(2/436)
فيها قطعا, والفرائض في الشرع مقدرة لا تحتمل زيادة ولا نقصانا أي مقطوعة ثبتت بدليل لا شبهة فيه مثل الإيمان والصلاة والزكاة والحج وسميت مكتوبة وهذا الاسم يشير إلى ضرب من التخفيف ففي التقدير والتناهي يسر, ويشير إلى شدة المحافظة والرعاية.
وأما الواجب فإنما أخذ من الوجوب, وهو السقوط قال الله تعالى فإذا {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} "الحج: 36" ومعنى السقوط أنه ساقط علما هو الوصف الخاص فسمي به أو لما لم يفد العلم صار كالساقط عليه لا
ـــــــ
ابتداء لا بناء على أعذار العباد فكانت عزائم لوكادة شرعيتها, وإن تفاوتت في ذواتها ألا ترى أن النفل مشروع ابتداء لا يحتمل التغير بعارض يكون من العباد فكان عزيمة كالفرض, وما ذكروا مقصود الأداء, وليس كلامنا فيه.
"الواجب"
"والفرائض" أي المفروضات في الشرع مقدرة يعني روعي فيها كلا المعنيين فهي مقدرة لا تحتمل زيادة, ولا نقصانا. مقطوعة عما يغايرها من جنسها المشروع كذا في الميزان. أو مقطوعة عن احتمال أن لا تكون ثابتة ; لأنها تثبت بدليل لا شبهة فيه. فصار الفرض اسما لمقدر ثابت بدليل قطعي مثل الإيمان فإنه مقدر بتصديق ما جاء من عند الله حتى لو نقض شيئا منه أو زاد لا يجوز فإنه لو قال أنا أؤمن بما جاء من عند الله وبما جاء من عند غير الله لا يكون مؤمنا. وسميت مكتوبة ; لأنها كتبت علينا في اللوح المحفوظ. وهذا الاسم أي اسم الفرض يشير إلى ضرب من التخفيف ; لأنه ينبئ عن التقدير, وفيه يسر بالنسبة إلى ما ليس بمقدور ولله تعالى أن يأمر عباده بشغل جميع العمر بخدمته بحكم الملكية فترك ذلك إلى مقدر قليل يكون دلالة التخفيف واليسر, وكأنه تعالى لما أوجبه علينا جعله مقدرا لئلا يصعب علينا أداؤه ويصير مؤدى لا محالة فكان التقدير فيه لشدة المحافظة والملازمة عليه. ألا ترى أنه تعالى كيف أعقب قوله {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} "البقرة 183". بقوله جل اسمه {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} "البقرة: 183-184". منها على التخفيف بإيراد جمعي القلة, وهما الأيام المعدودات كأنه قيل كتب عليكم الصيام أياما قلائل ليتيسر عليكم الأداء ويسهل المحافظة عليه فعرفنا أن الغرض من التقدير التيسير والمقصود من التيسير شدة المحافظة على الأداء.
قوله "أخذ من الوجوب, وهو السقوط" فسر الشيخ الوجوب بالسقوط والوجبة بالاضطراب والمذكور في كتب اللغة أن الوجوب هو اللزوم والوجبة هو السقوط مع الهدة والوجب الاضطراب. "ومعنى السقوط أنه ساقط علما" أي في إثبات العلم اليقيني هو(2/437)
كما يحمل ويحتمل أن يؤخذ من الوجبة, وهو الاضطراب سمي به لاضطرابه, وهو في الشرع اسم لما لزمنا بدليل فيه شبهة مثل تعيين الفاتحة وتعديل الأركان والطهارة في الطواف وصدقة الفطر والأضحية والوتر. السنة معتناها الطريق والسنن ويقال سن الماء إذا صبه. وهو معروف الإشتقاق. وهو في الشرع اسم للطريق المسلوك في الدين.والنفل اسم للزيادة
ـــــــ
ساقط في نفسه ملحق بالمعدوم, وإن كان في إيجاب العمل ثابتا موجودا. هو الوصف الخاص أي كون الواجب ساقطا في حق العلم وصف مختص به لا يوجد ذلك في الفرض يعني سقط عنه أحد نوعي ما تعلق بالفرض, وهو العلم وبقي العلم لازما به فسمي بهذا الاسم ليقع التمييز بينه وبين الفرض. أو سمي به ; لأنه لما لم يفد العلم اليقيني صار كالساقط على المكلف بدون اختياره. لا كما يحمل أي يتحمل يعني لا يكون مثل الذي يتحمل ويرفع باختيار, وهو الفرض فإنه لما كان ثابتا قطعا يتحمل اختيار وشرح صدر. قال الإمام العلامة مولانا حميد الملة والدين رحمه الله: ونظيره أن أميرا أمر واحدا من غلمانه بحمل شيء إلى موضع فتحمله فلما غاب عن بصره, وأخذ في الطريق أخبره واحد أن الأمير قد أمر بحمل هذا الشيء الآخر أيضا إلى ذلك الموضع, ولم يحصل العلم له بإخباره فتحمله أيضا كان المأمور في تحمل الأول مختارا طائعا, وفي تحمل الثاني بمنزلة المدفوع إليه كأنه سقط عليه من غير رضاه واختياره.
قوله "والسنة" كذا السنة لغة الطريقة مرضية كانت أو غير مرضية وسنن الطريق معظمه ووسطته والسن الصب برفق من باب طلب فإن أخذت السنة منه فباعتبار أن المار ينصت ويجري فيها جريان الماء, ومنه قول الشاعر:
وسالت بأعناق المطي الأباطح.
"وهو" أي لفظ السنة في الشريعة "اسم للطريق المسلوك في الدين" يعني من غير افتراض, ولا وجوب كما أشار إليه في بيان الحكم سواء سلكه الرسول أو غيره ممن هو علم في الدين. وذكر في بعض النسخ لا خلاف في أن السنة هي الطريقة المسلوكة في الدين, وإنما الخلاف في أن اللفظ السنة إذا أطلق ينصرف إلى سنة الرسول أو إليها, وإلى سنة الصحابي على ما تبين بعد بل زيادة على ما شرع له الجهاد, وهو إعلاء دين الله, وكبت أعداء الله وتحصيل الثواب في الآخرة.
وفي المغرب النفل ما ينفله الغازي أي يعطاه زائدا على سهمه, وهو أن يقول الإمام أو الأمير من قتل قتيلا فله سلبه أو قال للسرية ما أصبتم فهو لكم أو ربعه أو نصفه, ولا يخمس وعليه الوفاء به وسمي ولد الولد نافلة ذلك أي(2/438)
في اللغة حتى سميت الغنيمة نفلا لأنها غير مقصودة بل زيادة على ما شرع له الجهاد وسمي ولد الولد نافلة لذلك أما الفرض فحكمه اللزوم علما وتصديقا بالقلب, وهو الإسلام وعملا بالبدن, وهو من أركان الشرائع ويكفر جاحده ويفسق
ـــــــ
لكونه زائدا على مقصود النكاح فإنه شرع لتحصيل الولد من صلبه والحافد زيادة عليه فكذا النافلة اسم لما شرع زيادة على الفرائض والواجبات.
ثم اختلفت العبارات في حدود هذه الأقسام فقيل الفرض هو ما يعاقب المكلف على تركه ويثاب على تحصيله. واعترض عليه بالصلاة في أول الوقت فإنها تقع فرضا, ولو تركها لا يأثم بتركه حتى لو مات قبل آخر الوقت لا شيء عليه. وبصوم رمضان في السفر فإنه يقع فرضا, ولا يعاقب على تركه. وبأن تارك الفرض قد يعفى عنه ولا يعاقب, ولا يخرج الفرض بذلك عن كونه فرضا. وقيل هو ما يخاف أن يعاقب على تركه. وقيل هو ما فيه وعيد لتاركه. ويعترض عليهما بترك الصلاة في أول الوقت وترك صوم السفر أيضا.
والصحيح ما قيل الفرض ما ثبت بدليل قطعي واستحقق الذم على تركه مطلقا من غير عذر. فقوله ما ثبت بدليل قطعي يتناول المندوب والمباح إذ قد يثبت كل واحد منهما بدليل قطعي أيضا كقوله تعالى {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} "الحج 77" {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} "البقرة: 60و187 و"الأعراف: 31" و"الوطور:19" و"الحاقة: 24" و"المرسلات: 43". واحترز بقوله واستحق الذم على تركه عنهما. وبقوله مطلقا عمن ترك الصلاة في أول الوقت على عزم الأداء في آخره وعن ترك الصوم في السفر إلى خلفه, وهو القضاء وأمثالها ; لأن ذلك ليس بترك مطلقا فلا يستحق الذم به. وبقوله من غير عذر عن المسافر والمريض إذا تركا الصوم, وماتا قبل الإقامة والصحة فإنهما لا يستحقان الذم ; لأن تركهما بعذر. وإذا بدل لفظ القطعي بالظني فهو حد الواجب. وحد السنة هو الطريقة المسلوكة في الدين من غير افتراض, ولا وجوب. وأما حد النفل, وهو المسمى بالمندوب والمستحب والتطوع فقيل ما فعله خير من تركه في الشرع. وقيل هو ما يمدح المكلف على فعله, ولا يذم على تركه. وقيل هو المطلوب فعله شرعا من غير ذم على تركه مطلقا. واحترز بقوله من غير ذم على تركه عن الواجب المضيق. وبقوله مطلقا عن الموسع والمخير والكفاية.
قوله "وأما الفرض فحكمه اللزوم علما وتصديقا بالقلب" أي يجب الاعتقاد بحقيته قطعا ويقينا لكونه ثابتا بدليل مقطوع به. "وهو الإسلام" أي الاعتقاد بهذه الصفة يكون إسلاما حتى لو تبدل بضده يكون كفرا. "وعملا بالبدن" أي يجب إقامته بالبدن حتى لو ترك العمل به غير مستخف به يكون عاصيا, وفاسقا إذا كان بغير عذر, ولكنه لا(2/439)
تاركه بلا عذر. وأما حكم الوجوب فلزومه عملا بمنزلة الفرض لا علما على اليقين لما في دليله من الشبهة حتى لا يكفر جاحده ويفسق تاركه إذا استخف بأخبار الآحاد فأما متأولا فلا. وأنكر الشافعي رحمه الله هذا القسم. وألحقه
ـــــــ
يكون كافرا إلا أنه ترك ما هو من أركان الشرائع لا ما هو أصل الدين لبقاء الاعتقاد على حاله. ويكفر جاحده أي ينسب إلى الكفر من أكفره إذا ادعاه كافرا. ومنه لا تكفر أهل قبلتك. وأما لا تكفروا أهل قبلتكم فغير ثبت رواية. وإن كان جائزا لغة قال الكميت1 يخاطب أهل البيت. وكان شيعيا:
وطائفة قد كفروني بحبكم ... وطائفة قالوا مسيء ومذنب
كذا في المغرب. "وأما حكم الوجوب" أي الواجب فلزومه عملا لا علما أي يجب إقامته بالبدن. ولكن لا يجب اعتقاد لزومه; لأن دليله لا يوجب اليقين ولزوم الاعتقاد مبني على الدليل اليقيني. ويفسق تاركه إذا استخف. إذا ترك العمل به فهو على ثلاثة أوجه أما إن تركه مستخفا بأخبار الآحاد بأن لا يرى العمل بها واجبا أو تركه متأولا لها أو تركه غير مستخف. ولا متأول. ففي القسم الأول يجب تضليله. وإن لم يكفر; لأنه راد لخبر الواحد وذلك بدعة. وفي القسم الثاني لا يجب التضليل. ولا التفسيق; لأن التأويل سيرة السلف والخلف في النصوص عند التعارض. وفي القسم الأخير يفسق. ولا يضلل; لأن العمل به لما وجب كان الأداء طاعة والترك من غير تأويل عصيانا. وفسقا هذا هو المذكور في عامة الكتب وعليه يدل كلام شمس الأئمة رحمه الله أيضا. وهو الصحيح.
والمذكور هاهنا يشير إلى أن تركه لا يوجب التضليل أصلا ويوجب التفسيق بشرط أن يكون مستخفا. ولا يوجبه إذا كان متأولا. وليس فيه دلالة على التفسيق في القسم الثالث بل هو ساكت عنه والمذكور بعده بخطوط يدل على إثبات التضليل في القسم الأول فيكون معنى ما ذكر هنا ويفسق تاركه ويضلل إذا استخف. والمذكور في التقويم يدل على أنه لا تضليل فيه أصلا. ولا تفسيق إلا في القسم الأول فإنه ذكر فيه الواجب كالمكتوبة في لزوم العمل والنافلة في حق الاعتقاد حتى لا يجب تكفير جاحده. ولا تضليله وحكمه أن لا يكفر المخالف بتكذيبه. ولا يفسق بتركه عملا إلا أن يكون مستخفا بأخبار الآحاد فيفسقه.
قوله "وأنكر الشافعي هذا القسم" أي أنكر التفرقة بين الفرض والواجب وقال هما
ـــــــ
1 هو الشاعر المشهور الكميت بن زيد بن خنيس بن مجالد الأسدي الكوفي المتوفي سنة 126ه معجم المؤلفين 8/147.(2/440)
بالفرائض فقلنا أنكر الاسم فلا معنى له بعد إقامة الدليل على أنه يخالف اسم الفريضة, وأنكر الحكم بطل إنكاره أيضا; لأن الدلائل نوعان ما لا شبهة فيه من الكتاب والسنة, وما فيه شبهة, وهذا أمر لا ينكر, وإذا تفاوت الدليل لم ينكر تفاوت الحكم وبيان ذلك أن النص الذي لا شبهة فيه أوجب قراءة القرآن في الصلاة, وهو قوله تعالى {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} "المزمل: 20" وخبر
ـــــــ
مترادفان وينطلقان على معنى واحد, وهو الذي يذم تاركه ويلام شرعا بوجه سواء ثبت بطريق قطعي أو ظني. قال: واختلاف طريق الثبوت لا يوجب اختلافه في نفسه فإن اختلاف طرق النوافل لا يوجب اختلاف حقائقها, وكذلك اختلاف طرق الحرام بالقطع والظن غير موجب اختلافه في نفسه من حيث الحرام. قال وتخصيص اسم الفرض بالمقطوع والوا جب بالمظنون تحكم; لأن الفرض لغة هو التقدير مطلقا سواء كان مقطوعا أو مظنونا به. وكذا الواجب هو الساقط سواء كان مظنونا به مقطوعا به فكان تخصيص كل واحد بقسم تحكما.
ونحن نقول إنه إن أنكر الاسم أي أنكر كونهما متباينين لغة فلا معنى له لما بينا من معنى كل واحد منهما, ومباينة أحد المعنيين للآخر, وإن أنكر الحكم أي أنكر التفرقة بينهما حكما بأن قال لا تفاوت بينهما في لزوم العمل بطل إنكاره أيضا; لأن التفرقة بين ما ثبت بدليل مقطوع به وبين ما ثبت بدليل مظنون ظاهرة, إذ ثبوت المدلول على حسب الدليل فمتى كان التفاوت ثابتا بين الدليلين لا بد من ثبوته بين المدلولين. وأما قولهم تخصيص كل لفظ بقسم تحكم فليس كذلك; لأنا نخص الفرض بقسم باعتبار معنى القطع ونخص الواجب بقسم باعتبار معنى السقوط على الوجه الذي بينا, ولا يوجد معنى القطع في الواجب, ولا معنى السقوط على الوجه الذي بينا في الفرض فأنى يلزم التحكم, وسائر الأسماء الشرعية والعرفية بهذه المثابة. قال الغزالي رحمه الله: وأصحاب أبي حنيفة رحمه الله قد اصطلحوا على تخصيص اسم الفرض بما يقطع بوجوبه وتخصيص اسم الواجب بما ثبت ظنا ونحن لا ننكر انقسام الواجب إلى مقطوع ومظنون, ولا حجر في اصطلاحات بعد تفهم المعاني. فصار الحاصل أن وجوب العمل في الواجب عند الشافعي مثل وجوب العمل في الفرض والتفاوت بينهما في ثبوت العلم وعدمه وعندنا التفاوت بينهما ثابت في وجوب العمل أيضا حتى كان وجوب العمل في الفرض أقوى من وجوبه في الواجب. وبيان ذلك أي بيان التفاوت الذي بينا أن النص المقطوع به, وهو قوله تعالى {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} "المزمل 20". أوجب قراءة القرآن في الصلاة إذ المراد منه القرآن في الصلاة بالإجماع(2/441)
الواحد وفيه شبهة تعين الفاتحة فلم يجز تغير الأول بالثاني بل يجب العمل بالثاني على أنه تكميل لحكم الأول مع قرار الأول وذلك فيما قلنا وكذلك الكتاب أوجب الركوع وخبر الواحد أوجب التعديل, وكذلك الطواف مع الطهارة فمن رد خبر الواحد فقد ضل عن سواء السبيل ومن سواه بالكتاب والسنة المتواترة
ـــــــ
. وبدليل قوله عز اسمه {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} "المزمل: 20". وكان قيام ثلث الليل فرضا فانتسخ أصله في قوله أو تقديره في قوله بقوله تعالى. {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} "المزمل: 20" أي في كل صلاة على القول الأول أو في صلاة الليل على القول الثاني. وبأن الأمر للإيجاب, ولا وجوب خارج الصلاة فيتعين القراءة في الصلاة, وهذا النص بإطلاقه وعمومه يتناول الفاتحة وغيرها فيخرج عن العهدة بقراءة غير الفاتحة كما يخرج بقراءتها. وخبر الواحد, وهو قوله عليه السلام: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" أوجب الفاتحة علينا فوجب العمل بخبر الواحد على وجه لا يلزم منه تغيير موجب الكتاب, وذلك بأن يجعل قراءة الفاتحة واجبة يجب العمل بها من غير أن يكون فرضا ليتقرر الكتاب على حاله ويحصل العمل بالدليلين على مرتبتهما. ولا يقال قد خص من النص ما دون الآية بالإجماع, وهو قرآن حتى لو أنكره يكفر فيخص ما دون الفاتحة بالخبر أيضا.; لأنا نقول عدم جواز ما دون الآية ليس باعتبار التخصيص, ولكن ذلك لا يسمى قراءة عرفا فلا يدخل إطلاق قوله تعالى { فَاقْرَؤُوا} . ولهذا لا يحرم قراءة ما دون الآية على الجنب والحائض; لأنها لا تسمى قراءة عرفا كما لو تكلم بكلمة واحدة أو حرف واحد منه, ولكن ما دون الآية من القرآن حقيقة فإنكاره يكون كفرا كإنكار كلمة أو حرف. فمن رد خبر الواحد كما رده الرافضة وغيرهم فقد ضل عن سواء السبيل أي عن وسطه, ومن سواه بالكتاب والسنة المتواترة في إثبات الفرضية كما فعله أصحاب الظواهر من أهل الحديث حتى كان الثابت به مثل الثابت بالكتاب في العمل من غير تفاوت بينهما فقد أخطأ كما بيناه في باب أحكام الخصوص. وما ذكروا أن ثبوت العلم بالكتاب وخبر المتواتر وعدم ثبوته بخبر الواحدة كاف لإثبات التفاوت بينهما لا يغنيهم شيئا; لأنه لا بد من ظهوره في وجوب العمل الثابت بهما لتفاوت الدليلين في ذاتيهما ضعفا وقوة وذلك فيما قلنا حيث راعينا حد الكتاب الثابت باليقين بأن لم يلحق خبر الواحد به زيادة عليه وراعينا حد خبر الواحد بأن أوجبنا العمل به. وكذا السعي في الحج والعمرة بالجر يعني السعي بين الصفا والمروة في الحج والعمرة واجب عندنا, وليس بركن حتى لو تركه رأسا في حج أو عمرة يجبر بالدم ويتم الحج والعمرة وعند الشافعي رحمه الله هو ركن, ولا يتم حج, ولا عمرة إلا به ; لأنه عليه السلام سعى بين الصفا والمروة وقال لأصحابه.: "إن الله تعالى كتب عليكم(2/442)
فقد أخطأ في رفعه عن منزلته ووضع الأعلى عن منزلته, وإنما الطريق المستقيم ما قلنا وكذلك السعي في الحج والعمرة وما أشبه ذلك وكذلك تأخير المغرب إلى العشاء بالمزدلفة واجب ثبت بخبر الواحد, وإذا صلى في الطريق أمر بالإعادة
ـــــــ
السعي فاسعوا". ولقوله عليه السلام: "ما أتم الله لامرئ حجة, ولا عمرة لا يطوف لها بين الصفا والمروة" . إلا أنا تمسكنا في ذلك بقوله تعالى {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} "البقرة: 158"., ومثل هذا اللفظ يوجب الإباحة لا الإيجاب إلا أنا تركنا ظاهره في حكم الإيجاب بدليل الإجماع فبقي ما وراءه على ظاهره وعملنا بخبر الواحد في إثبات الإيجاب دون الركنية على ما بينا. وإن قرأت والعمرة بالرفع فمعناه, وكذا العمرة واجبة, وليست بفريضة. وقال الشافعي رحمه الله هي فريضة مثل الحج لما روى زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العمرة فريضة كفريضة الحج1" . وعندنا لما ضعف الدليل عن إثبات الفرضية لكونه خبرا لواحد ثبت به الوجوب. وما أشبه ذلك أي المذكور مثل صدقة الفطر والأضحية وقراءة التشهد والصلاة على النبي; لأن هذه الأشياء لما ثبتت بأخبار الآحاد كانت من الواجبات لا من الأركان. ولا يلزم القعدة الأخيرة; لأنها تثبت باتفاق الآثار إنه عليه السلام ما سلم إلا بعد القعدة الأخيرة كذا في الأسرار.; ولأن الخبر الموجب لها التحق بيانا بمجمل الكتاب على ما عرف.
قوله "وكذلك تأخير المغرب" أي مثل وجوب ما ذكرنا من الأحكام تأخير المغرب إلى العشاء بالمزدلفة ليلة النحر حيث أفاض الناس من عرفات واجب ثبت بخبر الواحد, وهو ما روي أن أسامة بن زيد رضي الله عنه كان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق إلى المزدلفة فقال الصلاة يا رسول الله. فقال: "الصلاة أمامك2" . ومراده من هذا اللفظ إما الوقت أو المكان; لأن الصلاة فعل المصلي, وفعله لا يتصور أمامه فثبت أن التأخير واجب. فإذا صلى المغرب بعرفات أو في الطريق بعد غيبوبة الشمس أو بعد غيبوبة الشفق يؤمر بالإعادة عند أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف رحمهم الله لا يجب الإعادة, وكان مسيئا; لأنه أداها في وقتها الثابت بالكتاب أو السنة المتواترة إلا أن التأخير سنة فيكون مسيئا بتركه. ولهما أن وقت المغرب في هذا الوقت وقت العشاء, ومكان الأداء مزدلفة بالحديث فإذا أداها قبل وقتها أو في غير مكانها وجب عليه الإعادة عملا بالسنة كما في
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الحج حديث رقم 1277 وابن ماجة في المناسك حديث رقم 2986
2 أخرجه مسلم في الحج حديث رقم 1280 وأبو داود في المناسك حديث رقم 1925 وابن ماجة في المناسك حديث رقم 3019 ولإمام أحمد في المسند 5/200(2/443)
عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله عملا بخبر الواحد فإن لم يفعل حتى طلع الفجر سقطت الإعادة; لأن تأخير المغرب إنما وجب إلى وقت العشاء وقد انتهى وقت العشاء فانتهى العمل فلا يبقى الفساد من بعد إلا بالعلم, وخبر الواحد لا يوجبه ولا يعارض حكم الكتاب فلا يفسد العشاء وكذلك الترتيب في الصلوات واجب بخبر الواحد فإذا ضاق الوقت أو كثرت
ـــــــ
سائر الصلوات إذا أديت قبل وقتها, وكالجمعة وصلاة العيد إذا أديتا في غير المصر أو فنائه, وكالظهر المؤدى في المنزل يوم الجمعة فإن لم يفعل أي لم يعد حتى طلع الفجر سقطت الإعادة; لأن الإعادة إنما وجبت ليحصل الجمع بينهما في الوقت والمكان كما يوجبه الحديث فإذا طلع الفجر وانتهى وقت الجمع, وهو وقت العشاء سقطت الإعادة; لأنا إنما أوجبناها بالخبر فلو أوجبناها بعد طلوع الفجر لحكمنا بفساد ما أدى مطلقا وذلك من باب العلم, وخبر الواحد لا يوجب العلم. ولا يعارض أي خبر الواحد مقتضى الكتاب, وهو جواز المغرب المؤداة فلا يفسد العشاء أي بفتح الياء العشاء الأولى, وهي المغرب المؤداة. أو بضمها يعني لا يفسد تذكر الصلاة التي وجبت إعادتها العشاء الأخيرة; لأنها ليست بفائتة بيقين الأول أظهر.
قوله "وكذلك الترتيب في الصلوات". أي الترتيب بين الفوائت والوقتية واجب ثبت بخبر الواحد, وهو قوله عليه السلام: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها" . وما روى ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاة أو نسيها فلم يذكرها إلا, وهو مع الإمام فليصل التي هو فيها ثم ليصل التي ذكرها ثم ليصل التي صلى مع الإمام" . وأنه يوجب العمل دون العلم فوجب العمل به ما لم يعارض الكتاب والخبر المتواتر فعند سعة الوقت لا معارضة; لأن الكتاب, وهو قوله تعالى {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} "النساء: 103". يوجب الأداء في مطلق الوقت بحيث لا يفوته عنه, ولا يوجب الأداء في وقت التذكر لا محالة, وخبر الواحد يوجب تقديم الفائتة, وأدائها في وقت التذكر, وأمكن الجمع بينهما فوجب العمل به. فأما عند ضيق الوقت تحقق التعارض لتعين الوقت للوقتية بحيث لا يجوز التأخير عنه واقتضاء خبر الواحد تقديم الفائتة المستلزم لتفويتها عن الوقت وعدم جوازها قبل الفائتة فوجب ترجيح الكتاب على خبر الواحد فلذلك سقط العمل به.
وكذا الحكم في كثرة الفوائت; لأنه في معنى ضيق الوقت لتأدية رعاية الترتيب فيها إلى تفويت الوقتية أيضا. فإن قيل العمل بخبر الواحد غير ممكن عند سعة الوقت إلا بعد(2/444)
الفوائت فصار معارضا بحكم الكتاب بتغير الوقتية سقط العمل به وثبت
ـــــــ
رفع موجب الكتاب أيضا فإنه وإن لم يوجب الأداء في الحال لكنه يقتضي الجواز أو الخروج عن العهدة إذا تحقق الأداء وخبر الواحد ينفي فلا يجب العمل به على الوجه الذي ذكرتم; لأنه يكون إبطالا لا لموجب الكتاب بخبر الواحد وذلك باطل كما قلتم في خبر التعيين والتعديل واشتراط الطهارة في الطواف. قلنا هذا لا يلزم أبا حنيفة رحمه الله فإنه يقول بالفساد الموقوف حتى لو ترك صلاة ثم صلى صلوات كثيرة مع تذكرها يسقط الترتيب, ولا يكون عليه إلا قضاء الفائتة عنده; لأن فساد المؤديات بعدها لم يكن بدليل مقطوع به ليجب قضاؤها مطلقا, وإنما كان لوجوب الترتيب بخبر الواحد وقد سقط ذلك عملا عند كثرة الصلوات فلا يلزمه إلا قضاء المتروكة, والقول بالوقف لا يوجب رفع الجواز كيف ومختار الشيخ أن بمجرد خروج الوقت تنقلب الوقتية المؤداة صحيحة فإنه ذكر في شرح المبسوط في هذه المسألة محتجا لأبي حنيفة رحمه الله أن حكم الفساد ليس بمتقرر فيما أدى بل هو شيء يفتى به في الوقت حتى يعيده ثانيا في الوقت ليكون عملا بخبر الواحد وبكتاب الله تعالى بقدر الإمكان فمتى مضى الوقت لو حكمنا بفساد الوقتية كان ذلك تركا للعمل بالكتاب والخبر المتواتر بناء على ما يقتضيه خبر الواحد, وذلك لا يجوز بل يجب القول بالجواز مطلقا, ولا يعتبر خبر الواحد في مقابلته معارضا له. قال: وإلى هذا أشار محمد في الكتاب فإنه استدل بمسألة الحاج إذا صلى المغرب في الطريق فإنه يعيد فإذا لم يعد حتى طلع الفجر أخرت عنه; لأنها صلاة أديت في وقتها إلى آخر ما ذكرنا فكذلك هاهنا. وأما أبو يوسف ومحمد رحمهما الله فيقولان إن الجواز, وإن ارتفع في أول الوقت لكنه مباح; لأن تفويت الجواز منه مباح بترك الصلاة مختارا فلأن يجوز ذلك الخبر أولى, ولما لم يجز تفويته عن الوقت اختيارا لا يجوز بخبر الواحد أيضا; ولأنا ما رفعنا الجواز لكن أخرناه إلى ما بعد الفائتة, وإذا لم تقدم الفائتة لم يحصل العمل بالخبر أصلا فالأول تأخير والثاني إبطال. والتأخير أهون منه فوجب القول به كذا قال شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله.
وذكر في بعض الفوائد أن كثرة الفوائت لما التحقت بضيق الوقت في سقوط الترتيب كان قلتها بمنزلة سعة الوقت في وجوب الترتيب فوجوب الإعادة عند القلة بعد خروج الوقت كان بمنزلة وجوبها في الوقت وبمنزلة وجوب الإعادة لتغرب قبل طلوع الفجر; لأن القلة بمنزلة سعة الوقت فكان وقت العمل بخبر الواحد باقيا تقديرا. وتبين بما ذكرنا الفرق بين وجوب تعيين الفاتحة ووجوب التعديل واشتراط الطهارة في الطواف وبين وجوب الترتيب فإنا لو أوجبنا التعيين أو التعديل أو الطهارة على وجه يؤدي إلى فساد(2/445)
الحطيم من البيت بخبر الواحد فجعلنا الطواف واجبا لا يعارض الأصل.وحكم
ـــــــ
الصلاة والطواف يلزم نسخ الكتاب بخبر الواحد, ولو أوجبنا الترتيب عند سعة الوقت على وجه يؤثر في فساد الوقتية لا يؤدي إلى نسخ الكتاب بل يكون تأخيرا لحكمة مع أن له ولاية التأخير فوجب القول به عملا بخبر الواحد.
فإن قيل لما تعين آخر الوقت للوقتية حتى وجب تقديمها على الفائتة ينبغي أنه لو قدم الفائتة لا يجوز كما لو قدم الوقتية على الفائتة في أول الوقت لا يجوز لتعينه وقتا للفائتة. قلنا المنع عن تقديم الوقتية في أول الوقت لمعنى يختص بها بدليل أنه لو تنفل أو عمل عملا آخر لم يمنع عنه فيوجب الفساد أما المنع عن تقديم الفائتة في آخر الوقت فقد ثبت لمعنى في غيرها, وهو أن لا يؤدي إلى تفويت الوقتية عن الوقت ولهذا يكره له الاشتغال بالنافلة وبعمل آخر فلم يوجب الفساد كذا ذكر في شرح القدوري1 لأبي نصر البغدادي2 رحمه الله.
قوله "وثبت الحطيم من البيت", وهو اسم لموضع متصل بالبيت من الجانب الغربي بينه وبين البيت فرجة. وسمي بالحطيم; لأنه حطم من البيت أي كسر فعيل بمعنى مفعول كالقتيل والجريح. أو; لأن من دعا على من ظلمه فيه حطمه الله كما جاء في الحديث فكان فعيلا بمعنى فاعل كالعليم. ثم يجب على الطائف أن يطوف وراء الحطيم من البيت ولا يدخل تلك الفرجة في طوافه لأنه قد ثبت أنه من البيت بخبر الواحد, وهو ما روي: "أن عائشة رضي الله عنها نذرت أن تصلي في البيت ركعتين إن فتح الله تعالى مكة على رسوله فجاء بها النبي عليه السلام عام حجة الوداع ليلا إلى البيت فصدها خزنة البيت وقالوا إنا نعظم هذا البيت في الجاهلية والإسلام, ومن تعظيمها أن لا نفتح بابه في الليالي فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها, وأدخلها في الحطيم وقال: "صلي هاهنا فإن الحطيم من البيت إلا أن قومك قصرت بهم النفقة فأخرجوه من البيت, ولولا حدثان عهد قومك بالجاهلية لنقضت بناء الكعبة, وأظهرت قواعد الخليل, وأدخلت الحطيم في البيت, وألصقت العتبة بالأرض وجعلت له بابين بابا شرقيا وبابا غربيا, ولئن عشت إلى قابل لأفعلن ذلك3" .
ـــــــ
1 هو الفقيه الحنفي أحمد بن محمد بن أحمد أبو الحسين البغدادي القدوري ولد سنة 362ه توفي سنة 428ه أنظروفيات الأعيان 1/78-79.
2 هو شارع مختصر القدوري أبو نصر أحمد بن محمد بن محمد الأقطع الحنفي توفي سنة 474ه أنظر الفوائد البهية ص 40.
3 أخرجه مسلم في الحج حديث رقم 1333 والإمام أحمد في المسند 6/57.(2/446)
السنة أن يطالب المرء بإقامتها من غير افتراض ولا وجوب لأنها طريقة أمرنا بإحيائها فيستحق اللائمة بتركها إلا أن السنة عندنا قد تقع على سنة النبي عليه
ـــــــ
"فجعلنا الطواف به". أي بالحطيم واجبا بهذا الخبر أو جعلنا الطواف على الحطيم به أي بهذا الخبر واجبا. لا يعارض الأصل أي لا يساويه حتى لو تركه يؤمر بإعادة الطواف من الأصل أو إعادته على الحطيم ما دام بمكة ليتحقق العمل بخبر الواحد. ولو رجع من غير إعادة يجزيه ويجبر بالدم لوجود أصل الفرض, وهو الدوران حول البيت مع تمكن النقصان فيه بترك الطواف على الحطيم. ولو توجه إلى الحطيم لا يجوز صلاته; لأن كونه من البيت ثبت بخبر الواحد فلا يتأدى به ما ثبت فرضا بالكتاب, وهو التوجه إلى الكعبة.
قوله "وحكم السنة" كذا قال شمس الأئمة رحمه الله حكم السنة هو الاتباع فقد ثبت بالدليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم متبع فيما سلك من طريق الدين, وكذا الصحابة بعده, وهذا الاتباع الثابت بمطلق السنة خال عن صفة الفرضية والوجوب إلا أن تكون من أعلام الدين نحو صلاة العيد والآذان والإقامة والصلاة بالجماعة فإن ذلك بمنزلة الواجب على ما نبينه بعد وذكر أبو اليسر, وأما السنة فكل نفل واظب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل التشهد في الصلوات والسنن الرواتب وحكمها أنه يندب إلى تحصيلها ويلام على تركها مع لحوق إثم يسير وكل نفل لم يواظب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بل تركه في حالة كالطهارة لكل صلاة وتكرار الغسل في أعضاء الوضوء والترتيب في الوضوء فإنه يندب إلى تحصيله, ولكن لا يلام على تركه, ولا يلحق بتركه وزر. وأما التراويح في رمضان فإنه سنة الصحابة فإنه لم يواظب عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بل واظب عليها الصحابة, وهذا مما يندب إلى تحصيله ويلام على تركه, ولكنه دون ما واظب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن سنة النبي أقوى من سنة الصحابة., وهذا عندنا, وأصحاب الشافعي يقولون السنة نفل واظب عليه النبي عليه السلام فأما النفل الذي واظب عليه الصحابة فليس بسنة, وهو على أصلهم مستقيم فإنهم لا يرون, أقوال الصحابة حجة فلا يجعلون أفعالهم أيضا سنة وعندنا أقوال الصحابة حجة فيكون أفعالهم سنة; لأنها طريقة أمرنا بإحيائها بقوله تعالى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} "الأحزاب: 21". وقوله عز اسمه {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} "الحشر: 7". وبقوله عليه السلام: "عليكم بسنتي" الحديث. وقوله صلى الله عليه وسلم: "من ترك سنتي لم ينل شفاعتي1" . والإحياء في الفعل فترك الفعل يستوجب اللائمة أي الملامة في الدنيا
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في السنة حديث رقم 4607 والتزمذي في العلم حديث رقم 2676 وابن ماجة في المقدمة حديث رقم 42 والإمام أحمد في المسند 4/126.(2/447)
السلام وغيره وقال الشافعي رحمه الله مطلقها طريقة النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك
ـــــــ
وحرمان الشفاعة في العقبى. "إلا أن السنة" استثناء منقطع أي لا خلاف في أن تفسير السنة وحكمها ما ذكرنا الاختلاف في أن إطلاق لفظ السنة يقع على سنة الرسول أو يحتمل سنته وسنة غيره. والحاصل أن الراوي إذا قال من السنة كذا فعند عامة أصحابنا المتقدمين, وأصحاب الشافعي وجمهور أصحاب الحديث يحمل على سنة الرسول عليه السلام, وإليه ذهب صاحب الميزان من المتأخرين. وعند الشيخ أبي الحسن الكرخي من أصحابنا وأبي بكر الصيرفي من أصحاب الشافعي لا يجب حمله على سنة الرسول إلا بدليل, وإليه ذهب القاضي الإمام أبو زيد والشيخ المصنف وشمس الأئمة, ومن تابعهم من المتأخرين.
وكذا الخلاف في قول الصحابي أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا. تمسكوا في ذلك بأن لفظ السنة يطلق على طريقة غير الرسول من الصحابة فإن الصحابة قد سنوا أحكاما كما قال علي رضي الله عنه: "جلد الرسول في الخمر أربعين وجلد أبو بكر أربعين وجلد عمر ثمانين وكل سنة1". وقد قال عليه السلام "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي" . أطلق اسم السنة على طريقتهم. وقال عليه السلام: "من سن سنة حسنة فله أجرها2" . الحديث, وقد عنى بذلك سنة غيره. والسلف كانوا يطلقون اسم السنة على طريقة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. وقد حكي عن الشافعي أنه قال إذا قال مالك السنة عندنا أو السنة ببلدنا كذا فإنما يريد به سنة سليمان بن بلال, وكان عريف السوق, وإذا كان كذلك لم يدل على إطلاق لفظ السنة على أن المراد طريقة الرسول عليه السلام أو غيره فلا يجوز تقييده بطريقته إلا بدليل. واحتج الفريق الأول بأن الرسول هو المقتدى والمتبع على الإطلاق فلفظ السنة على الإطلاق لا يحمل إلا على سننه كما لو قيل هذا الفعل طاعة لا يحمل إلا على طاعة الله وطاعة رسوله, وأما إضافتها إلى غير الرسول فجاز لاقتدائه فيها بسنة الرسول فوجب أن يحمل عند الإطلاق على حقيقته دون مجازه., وما ذكروا من الحديث والإطلاق لا يلزم; لأنا لا ننكر جواز إطلاق هذا اللفظ على طريقة غير الرسول مع التقييد, وإنما نمنع أن يفهم من إطلاق اسم السنة غير سنة الرسول كذا في "الميزان" "والمعتمد". وقولهم اللفظ مطلق فلا يجوز تقييده من غير دليل قلنا لا بد من
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الحدوح حديث رقم 1707 وابن ماجة في الحدود رقم 2571 زافمام أحمد في المسند 1/82.
2 أخرجه مسلم في الزكاة حديث رقم 1017 والترمذي مختصرا في العلم حديث رقم 2675 وابن ماجة في المقدمة حديث رقم 203 والإمام أحمد في المسند 4/357.(2/448)
في أرش ما دون النفس في النساء أنه لا ينتصف إلى الثلث لقول سعيد بن المسيب رضي الله عنه السنة وقال في ذلك في قتل الحر بالعبد وعندنا هي مطلقة لا قيد فيها فلا يقيد بلا دليل وكان السلف يقولون سنة العمرين والسنن نوعان سنة
ـــــــ
تقييده إما بطريقة الرسول عليه السلام أو بطريقة غيره فتقييده بالأولى أولى لما ذكرنا قوله
"قال ذلك في أرش ما دون النفس" إلى آخره دية المرأة عندنا على النصف من دية الرجل في النفس, وما دونها وعند الشافعي رحمه الله المرأة تساوي الرجل إذا كان الأرش بقدر ثلث الدية أو دونه فإن زاد على الثلث فحينئذ حالها فيه على النصف من حال الرجل لما حكي عن ربيعة أنه قال قلت لسعيد بن المسيب ما تقول فيمن قطع إصبع امرأة قال عليه عشر من الإبل قلت فإن قطع إصبعين منها قال عليه عشرون من الإبل قلت فإن قطع ثلاثة أصابع قال عليه ثلاثون من الإبل قلت فإن قطع أربعة أصابع قال عليه عشرون من الإبل قلت سبحان الله لما كثر ألمها واشتد مصابها قل أرشها قال أعراقي أنت؟ قلت لا بل جاهل مسترشد أو عاقل مستثبت فقال إنه السنة.
وهذا اللفظ إذا أطلق فالمراد به سنة الرسول عليه السلام, ومراسيل سعيد عنده مقبولة فكان هذا بمنزلة حديث مسند فيجب العمل به. وحجتنا في ذلك ما ذكره ربيعة فإنه لو وجب بقطع ثلاثة أصابع منها ثلاثون من الإبل ما سقط بقطع الإصبع الرابع عشرة من الواجب لا تأثير القطع في إيجاب الأرش لا في إسقاطه فهذا شيء يحيله العقل وقول سعيد إنه السنة محتمل يجوز أنه أراد سنة نفسه أو سنة غيره من الصحابة رضي الله عنهم; لأن التأمل في الدين لإثبات حكم أو استنباط معنى طريقة حسنة فيطلق عليه اسم السنة كما يقال سنة العمرين كما ذكرنا كيف وقد أفتى كبار الصحابة مثل علي وعمر رضي الله عنهما بخلافه. وفي المبسوط إن ما روي نادر مثل هذا الحكم الذي يحيله عقل كل عاقل لا يمكن إثباته بالشاذ النادر. وقال ذلك في قتل الحر بالعبد. يقتل الحر بالعبد عندنا وعند الشافعي رحمه الله لا يقتل لما روي عن ابن عمر وابن الزبير رضي الله عنهم أنهما قالا من السنة أن لا يقتل الحر بالعبد والسنة تحمل على سنة الرسول عند الإطلاق.
وقلنا لما كان هذا اللفظ محتملا لا يصح الاحتجاج به. ومن قال من مشايخنا: إن مطلق السنة محمول على سنة الرسول عليه السلام أجاب. عن قول سعيد بأن السنة إنما تحمل على سنة الرسول إذا لم يقم دليل على أن المراد طريقة الغير, وقد قام هاهنا فإن أهل النفل خرجوه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه كذا قال عبد القاهر البغدادي من أئمة(2/449)
الهدى وتاركها يستوجب إساءة وكراهية والزوائد وتاركها لا يستوجب إساءة كسير النبي عليه السلام في لباسه وقيامه وقعوده وعلى هذا مسائل باب الأذان كتاب الصلاة اختلفت فقيل مرة يكره ومرة أساء ومرة لا بأس به لما قلنا
ـــــــ
الحديث. وإليه أشير في المبسوط فقيل وقول سعيد إنه السنة يعني سنة زيد. وعن قول ابن عمر وابن الزبير إنه محمول على السيد إذا قتل عبده فقد كانوا مختلفين في ذلك فمنهم من يوجب القصاص مستدلا بقوله عليه السلام: "من قتل عبده قتلناه1" . فقالا ذلك ردا على من قال منهم يقتل السيد بعبده كذا في المبسوط
قوله "سنة الهدى" يعني سنة أخذها من تكميل الهدى أي الدين, وهي التي تعلق بتركها كراهية أو إساءة. والإساءة دون الكراهة, وهي مثل الأذان والإقامة والجماعة والسنن الرواتب. ولهذا قال محمد في بعضها إنه يصير مسيئا في بعضها إنه يأثم, وفي بعضها يجب القضاء, وهي سنة الفجر, ولكن لا يعاقب بتركها; لأنها ليست بفريضة, ولا واجبة.
"والزوائد" أي والنوع الثاني الزوائد, وهي التي لا يتعلق بتركها كراهة, ولا إساءة نحو تطويل القراءة في الصلاة وتطويل الركوع والسجود وسائر أفعاله التي يأتي بها في الصلاة في حالة القيام والركوع والسجود, وأفعاله خارج الصلاة من المشي واللبس والأكل فإن العبد لا يطالب بإقامتها, ولا يأثم بتركها, ولا يصير مسيئا والأفضل أن يأتي بها كذا في بعض مصنفات الشيخ. وذكر في المبسوط قال مكحول: السنة سنتان سنة أخذها هدى وتركها لا بأس به كالسنن التي لم يواظب عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسنة أخذها هدى وتركها ضلالة كالآذان والإقامة وصلاة العيد. وعلى هذا قال محمد رحمه الله: إذا أصر أهل مصر على ترك الآذان والإقامة أمروا بهما فإن أبوا قوتلوا على ذلك بالسلاح كما يقاتلون عند الإصرار على ترك الفرائض والواجبات. وقال أبو يوسف رحمه الله المقاتلة بالسلاح عند ترك الفرائض والواجبات فأما السنن فإنما يؤدبون على تركها, ولا يقاتلون على ذلك ليظهر الفرق بين الواجب وغيره. ومحمد رحمه الله يقول ما كان من أعلام الدين فالإصرار على تركه استخفاف بالدين فيقاتلون على ذلك لهذا.
"وعلى هذا" أي على أن السنن نوعان اختلفت أجوبة مسائل باب الآذان فقيل مرة يكره, ومرة أساء, ومرة لا بأس لما قلنا أن ترك ما هو من سنن الهدي يوجب الكراهة والإساءة, وترك ما هو من السنن الزوائد لا يوجب شيئا منهما. وذلك مثل قول محمد يكره الآذان قاعدا
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الديات حديث رقم 4515 والترمذي في الديات حديث رقم 1414 وابن ماجة في الديات حديث رقم 2663 والإمام أحمد في المسند 5/10.(2/450)
وإذا قيل يعيد فذلك من حكم الوجوب وأما النفل فما يثاب المرء على فعله, ولا يعاقب على تركه ولذلك قلنا إن ما زاد على القصر من صلاة السفر نفل,
ـــــــ
لما روي في حديث الرؤيا أن الملك قام على جذم حائط أي أصله. ويكره تكرار الآذان في مسجد محلة. ويكره ترك استقبال القبلة لمخالفة السنة, وإن صلى أهل المصر بجماعة بغير آذان, ولا إقامة فقد أساءوا لترك السنة المشهورة., وإن صلين يعني النساء بآذان وإقامة جازت صلاتهن مع الإساءة فالإساءة لمخالفة السنة والتعريض للفتنة. ولا بأس بأن يؤذن رجل ويقيم آخر لأن كل واحد منهما ذكر مقصوده فلا بأس بأن يأتي بكل واحد منهما رجل آخر, ولا يؤذن لصلاة قبل دخول وقتها ويعاد في الوقت; لأن المقصود, وهو إعلام الناس بدخول الوقت لم يحصل ويعاد آذان الجنب, وكذا آذان المرأة فما ذكرنا, وأمثاله يخرج على هذه الأصل.
قوله "وأما النفل فما يثاب المرء على فعله, ولا يعاقب على تركه" عرف النفل ببيان حكمه إذ المذكور حكم النفل ولهذا قال شمس الأئمة وحكم النفل شرعا أنه يثاب على فعله, ولا يعاقب على تركه. وقال القاضي الإمام نوافل العبادات هي التي يبتدئ بها العبد زيادة على الفرائض والسنن المشهورة, وحكمها أن يثاب العبد على فعلها, ولا يذم على تركها; لأنها جعلت زيادة له لا عليه بخلاف السنة فإنها طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن حيث سبيلها الإحياء كان حقا علينا فعوتبنا على تركها. "ولذلك" أي, ولما ذكرنا أن النفل كذا قلنا أن ما زاد على القصر في صلاة السفر, وهو الشفع الثاني نفل; لأن العبد لا يلام على تركه رأسا, وأصلا ويثاب على فعله في الجملة. وإذا ثبت أنه نفل لا يصح خلطه بالفرض كما في الفجر. ولا يلزم عليه صوم المسافر فإنه يثاب على فعله, ولا يعاقب على تركه ثم إنه لو أداه يقع فرضا; لأن المراد من الترك, وهو الترك مطلقا وصوم المسافر ليس كذلك فإنه يعاقب على تركه في الجملة. ألا ترى أنه لو أدرك عدة من أيام أخر يجب عليه قضاء الصوم ويعاقب على تركه فلم يكن الصوم في السفر نفلا. ولا الزيادة على الآية أو الثلاث في القراءة في الصلاة فإنه يثاب عليها, ولا يعاقب على تركها مع أنها تقع فرضا.; لأنا لا نسلم أنها قبل وجودها وتحققها كانت فرضا بل هي كانت نفلا إذا لم يكن في ذمته الإتيان بها, ولذلك استقام عليها حد النفل, ولكنها انقلبت فرضا بعد وجودها لدخولها تحت مطلق الأمر وعمومه, وهو قوله تعالى {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} "المزمل: 20". كانقلاب اليمين سببا للكفارة بعد فوات البر ألا ترى أن النافلة تصير فرضا بالشروع حتى لو أفسدها يجب القضاء ويعاقب على تركها بعد أن لم يكن كذلك قبل الشروع فكذا الزيادة على الثلاث يجوز أن يصير فرضا بعد الوجود لتناول(2/451)
والنفل شرع دائما فلذلك جعلناه من العزائم ولذلك صح قاعدا وراكبا; لأنه ما شرع بلازم العجز لا محالة فلازم اليسر, وهذا القدر من جنس الرخص وقال الشافعي رحمه الله لما شرع النفل على هذا الوصف وجب أن يبقى كذلك غير لازم وقد غيرتم أنتم وقلت إن ما لم يفعل بعد فهو مخير فيه فبطل المؤدى
ـــــــ
الأمر إياها فإن الأمر إنما وقع على الأدنى, ولم ينصرف إلى ما فوقه; لأنه لم يكن مقداره معلوما في نفسه فإذا أتى به فقد صار مقدارا معلوما فأمكن صرف الأمر إليه كذا ذكره أبو اليسر.
فأما الأمر بالصلاة فيتناول أفعالا مقدرة فالزيادة عليها لا تدخل تحت الأمر بحال فلا تقع فرضا. "ولذلك جعلناه من العزائم" أي; ولأن النفل شرع دائما جعلناه من العزائم; لأن دوام شرعيته يدل على وكادته وأصالته, إذ لو بني على أعذار العباد لشرع في وقت العذر لا دائما. ولا يقال لا نسلم أنه شرع دائما لأنه منهي عنه في الأوقات الثلاث وبعد الفجر والعصر.; لأنا نقول هو مشروع في هذه الأوقات مع كونه منهيا عنه حتى لو شرع فيه, وأفسده يجب القضاء عليه في الأصح. ولذا صح قاعدا أي ولأجل أنه شرع دائما صح أداؤه قاعدا مع القدرة على القيام. لو راكبا مع القدرة على النزول بالإيماء. وإن لم يكن متوجها إلى القبلة; لأن النفل على الوصف الذي شرع, وهو وصف الدوام يلازم العجز والحرج فلا يمكن إقامته آناء الليل والنهار قائما; لأنه يعترض عليه الحوادث من المرض والضعف والحاجة إلى الركوب ونحوها باعتبار الأصل تعتبر هذه العوارض في الحال إذ لو لم تعتبر العوارض أدى إلى الحرج فلذلك جوزنا الأداء على أي وصف نشط قائما وقاعدا وراكبا. وهذا القدر أي شرعية الأداء قاعدا أو راكبا من غير عذر من جنس الرخص; لأن العذر قدر موجودا باعتبار الأصل فكان شرعيته بناء عليه فكان له شبهة بالرخصة من هذا الوجه. وكأنه أخر ذكره عن سائر أقسام العزائم; لأنه لم يخلص عزيمة.
قوله "وقال الشافعي" إلى آخره إذا شرع في صلاة النفل أو في صوم النفل يؤاخذ بالمضي فيه, ولو لم يمض يؤاخذ بالقضاء عندنا وعند الشافعي رحمه الله لا يؤاخذ بواحد منهما; لأن النفل للشرع على هذا الوصف, وهو أنه غير لازم حتى يثاب على فعله, ولا يعاقب على تركه وجب أن يبقى كذلك بعد الشروع. ولا يصير لازما; لأن حقيقة الشيء لا يتغير بالشروع ألا ترى أنه بعد الشروع نفل كما كان قبله, ولهذا يتأدى بنية النفل, ولو أتمه كان مؤديا للنفل لا مسقطا للواجب, ولا يمنع صحة الخلوة ويباح الإفطار بعذر الضيافة, ولو صار فرضا لما ثبتت هذه الأحكام. وإذا كان نفلا حقيقة وجب أن يكون مخيرا في الباقي كما كان مخيرا في الابتداء تحقيقا للنفلية; لأن آخره من جنس أوله. وقد غيرتم أنتم(2/452)
حكما له كالمظنون وقلنا نحن إن ما أداه فقد صار لغيره مسلما إليه وحق غيره محترم مضمون عليه إتلافه ولا سبيل إليه إلا بالإلزام الباقي, وهما أمران متعارضان
ـــــــ
حيث قلتم باللزوم في الباقي. "وقلت" أنا إن ما لم نفعل بعد أي بعد ما أدى جزءا منه. وهو مخير فيه أي فيما لم يؤد; لأنه نفل فيكون على وفق الابتداء فمن أخرج عشرة دراهم للتصدق نفلا فتصدق بدرهم وسلم كان بالخيار في الباقي, وكذا إذا تصدق, ولم يسلم كان الخيار في التسليم فكذا إذا صلى ركعة كان بالخيار في الركعة الأخرى. وإذا ثبت له الخيار في الباقي وحل له ترك ما لم يأت به; لأنه لم يلتزمه يبطل المؤدى ضمنا له وتبعا لترك ما ليس عليه فلا يكون إبطالا حكما كمسافر صلى الظهر لا يحل له إبطالها لكن يحل له إقامة الجمعة ثم الظهر يبطل حكما لما جعل ذلك إليه وحل له, وكمن أحرق حصائد أرض نفسه فاحترق زرع جاره أو سقى نفسه فنزت أرض جاره لا يجعل ذلك إتلافا; لأنه ثبت تبعا لما هو حلال له. ولما كان بطلان المؤدى أمرا حكميا لا بصنعه لا يضمن بالقضاء كالمظنون, وهو ما إذا شرع في صلاة أو صوم على ظن أنه عليه فتبين أنه ليس عليه يصير شارعا في النفل بالاتفاق, ولو أفسده لا يجب عليه القضاء لما ذكرنا أنه مخير في الأداء, وإن البطلان ضمني فكذا هاهنا. ولا معنى لاعتبار الشروع بالنذر; لأن النذر التزام بالقول, وله ولاية ذلك فإذا أتى بكلمة الالتزام لزمه, وأما الشروع فليس بالتزام بل هو أداء بعض العبادة, ولم يوجد فيما بقي التزام فلا يلزمه. ونظيره الكفالة مع الفرض أو الصدقة فإن الكفيل لما التزم بالقول فيلزمه ما التزم فأما المقرض والمتصدق فلا يلتزم بالقول, ولكن شرع في الإعطاء فبقدر ما أدى يصح, ولا يلزمه ما لم يعط. يوضح الفرق بينهما لو نذر أربع ركعات يلزمه, ولو شرع ينوي أربع ركعات لا يلزمه. ولو نذر الصلاة قائما يلزمه القيام, ولو شرع قائما لا يلزمه. ولو نذر صوم يوم النحر يلزمه عندكم, ولو شرع فيه لا يلزمه على أن الشروع أداء بالفعل والنذر إيجاب في الذمة بالقول ثم في النذر يلزمه بقدر ما سمى فكذلك بالشروع يلزمه بقدر ما أدى, وما لم يؤده لا يلزمه كما أن ما لم يسمه بالنذر لا يلزمه. فبطل المؤدى يعني عند الامتناع عن أداء الباقي. حكما له أي للامتناع الثابت بالتخيير.
قوله "وقلنا نحن إن أداه فقد صار لغيره" يعني صار عبادة لله تعالى مسلما إليه; لأنه لما شرع في الصوم أو في الصلاة, وأدى جزءا منه فقد تقرب إلى الله تعالى بأداء ذلك الجزء وصار العمل لله تعالى حقا له بالنص ولهذا لو مات كان مثابا على ذلك. وحق غيره محترم أي حرام التعرض بالإفساد ومضمون عليه إتلافه بالنص والإجماع فوجب صيانته وحفظه احترازا عن ارتكاب المحرم ووجوب الضمان, ولا سبيل إليه أي إلى حفظه(2/453)
أعني المؤدي وغير المؤدي فوجب الترجيح لما قلنا بالاحتياط في العبادة
ـــــــ
وصيانته أو إلى كونه مضمونا إلا بإلزام الباقي, وهما أمران متعارضان أعني المؤدى وغير المؤدى يعني لو نظر إلى المؤدى يلزم إلزام الباقي صيانة له عن البطلان, ولو نظر إلى غير المؤدى نفسه يلزم أن يكون غير لازم; لأنه في ذاته نفل كما قاله الشافعي. فوجب الترجيح لما قلنا اللام ليست للتعليل بل هي صلة الترجيح أي وجب ترجيح ما قلنا بالاحتياط في العبادة فإن قيل لا نسلم أن المؤدى صار عبادة لله تعالى; لأن ما شرع فيه عبادة صوم أو صلاة, وهي مما لا يتجزأ فلا يكون الموجود طاعة إلا بانضمام الباقي إليه, وإذا لم يكن طاعة لا يحرم إبطاله. ولئن سلمنا كونه عبادة فلا نسلم أن أداء الباقي شرط لبقائه عبادة; لأنه عرض يستحيل بقاؤه فكما وجد انقضى وعدم, ولا تصور للغير بعد العدم.
والدليل عليه أن المؤدى باعتراض الموت لا يخرج عن كونه عبادة حتى ينال به الثواب بلا خلاف بين الأمة, ولو كان أداء الباقي شرطا لبقائه عبادة لبطل بفوات الشرط. يوضحه أن أداء الباقي لو جعل شرطا لا يخلو من أن يجعل شرطا لانعقاد المؤدى عبادة أو لبقائه عبادة فإن قلتم بالأول فالامتناع عن مباشرة شرط الانعقاد لا يعد إبطالا, وإن قلتم بالثاني فهو خلاف المعقول; لأنه لما انعقد عبادة بدون الباقي فلأن يبقى بدونه كان الأولى; لأن البقاء أسهل من الابتداء. ولئن سلمنا كون الباقي شرط لبقائه عبادة فلا نسلم أن الامتناع عن أداء الباقي إبطال له; لأن الإبطال إنما يحصل بمصادفة الفعل وذلك فيما مضى من الأفعال محال, ولكنه إذا امتنع فات وصف العبادة عن المؤدى فلا يكون مضافا إلى فعله كما ذكرنا من النظائر. قلنا نحن لا ندعي أن المؤدى صوم أو صلاة في الحال, ولكنا نقول هو أفعال الصوم والصلاة على معنى أنه يصير مع غيره صوما تاما شرعيا فكان له عرضية أن يصير صوما أو صلاة بضم الغير إليه فيكون المؤدي متقربا إلى الله تعالى بهذا الفعل فيكون عبادة من هذا الوجه, ولكنه باعتبار أنه جزء مما لا يتجزأ لا حكم له بدون الأجزاء الأخر ضرورة ثبوت الاتحاد فكان كل جزء عبادة متعلقة بما قبله وبما بعده من الأجزاء إذ لا بد له من التعلق لضرورة الاتحاد فجعل هذا الجزء عبادة وجعل كل جزء مقدما عليه شرطا لانعقاده عبادة وكل جزء يوجد بعده شرط لبقائه على وصف العبادة. فانعقد الجزء المتقدم عبادة وجعل شرطا لانعقاد الأجزاء التي بعده عبادة وانعقد الجزء الأخير عبادة وجعل شرطا لبقاء الأجزاء التي تقدمته على وصف العبادة وكل جزء من الأجزاء المتوسطة انعقد عبادة, وكان شرطا لبقاء ما تقدمه على وصف العبادة وشرطا لانعقاد ما تعقبه عبادة فقلنا هكذا عملا بالدلائل بقدر الإمكان. ولا معنى لقولهم إنه لا يحتمل التغيير بعد العدم; لأن ذلك خلاف النص والإجماع فإنه تعالى قال {أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} .(2/454)
وهو كالنذر صار لله تعالى تسمية لا فعلا ثم وجب لصيانته ابتداء الفعل
ـــــــ
"التوبة: 17-69" وقال عز اسمه: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} "محمد: 33". ولا يرد النهي إلا عما يتصور, ولا خلاف بين الأمة أيضا أن بالردة تبطل الأعمال المتقدمة, وإن كان قد أعطي لها حكم التمام والفراغ, ولما كان الختم على الإيمان شرطا لبقاء ما مضى فلم لا يجوز أن يكون وجود الجزء المتعقب شرطا لبقاء ما تقدم على وصف العبادة., وأما في اعتراض الموت فجعل في التقدير كأن اليوم في حقه لم يكن إلا هذا القدر, وإن الصلاة لم تكن مشروعة إلا هذا القدر; لأنه تعالى هكذا جعل في فضل المهاجر, وإن لم يحصل ما هو المقصود بالهجرة من تأيد البعض بالبعض والتقوي على الذب عن الجورة فكذا فيما نحن فيه وذلك لأن الموت منه لا مبطل على ما عرف. وقولهم انعقد عبادة بدون الباقي فبقي بدونه; لأن البقاء أسهل من الابتداء ينتقض بقبض بدلي الصرف ورأس مال السلم فإنه شرط للبقاء دون الابتداء. وقولهم الامتناع عن أداء الباقي ليس بإبطال قلنا لما أتى بما يناقض العبادة فسدت الأجزاء المتقدمة, ولم يوجد سوى فعله ووجه الفساد لا محالة عند هذا الفعل فجعل مفسدا; لأن الإفساد فعل يحصل به الفساد, وليس من ضرورته أن يضاف المحل الذي حصل فيه الفساد كمن قطع حبلا مملوكا علق به قنديل غيره فسقط القنديل وانكسر جعل متلفا له حقيقة وشرعا, وإن لم يصادف فعله القنديل. وكذا شق زق نفسه فيه مائع لغيره. ومسألتنا إحراق الحصائد وسقي الأرض لا تلزمان فإن ذلك غير مضاف إلى فعله بل إلى رخاوة الأرض, وهبوب الريح, وأشباه ذلك. ألا ترى أن ذلك ينفصل عن فعله عن العادة الجارية بخلاف ما نحن فيه حتى لو كان ذلك على وجه يحصل به الفساد لا محالة بأن كان الماء كثيرا بحيث يعلم أنه لا يحتمله أرضه أو كان الإحراق في يوم ريح لأضيف إليه فيضمن ما فسد من الأرض والزرع. وأما مصلي الظهر إذا راح إلى الجمعة فنقول هو مبطل لصفة الفرضية غير أنه ليس بمنهي عنه; لأنه أبطل ونقض ليؤدي أحسن منه والهادم ليبني أحسن مما كان لا يعد هادما كهادم المسجد ليبني أحسن منه لا يعد ساعيا في خرابه. وصار حاصل الكلام أن ما أدى يوجب عليه حفظ المؤدى, وطريق حفظه أداء الباقي فصار الشروع موجب أداء الباقي بهذه الواسطة وكل صوم أو صلاة يجب أداؤه يجب قضاؤه إذا فسد.
قوله "وهو كالنذر". ثم استدل بالنذر على ما ادعاه فقال, وهو أي الجزء المؤدى بمنزلة المنذور من حيث إن كل واحد منهما صار حقا لله تعالى. أما المؤدى فلما ذكرنا أنه وقع لله تعالى مسلما إليه, وأما المنذور فلأنه جعل لله تعالى تسمية, ولا شك أن ما وقع لله تعالى فعلا أقوى مما صار له تسمية; لأنه بمنزلة الوعد, وأن إيجاب ابتداء الفعل أقوى من(2/455)
فلأن يجب لصيانة ابتداء الفعل بقاؤه أولى والسنن كثيرة في الصلاة والحج وغير ذلك.
ـــــــ
إيجاب بقائه لما عرف أن البقاء أسهل من الابتداء ثم وجب لصيانة أدنى الأمرين, وهو التسمية ما هو أقوى الأمرين, وهو ابتداء الفعل فلأن يجب لصيانة ما هو أقوى الأمرين, وهو ابتداء الفعل أدنى الأمرين, وهو إيفاء الفعل, وإتمامه كان أولى. وما ذكر الخصم أن النذر والشروع بمنزلة الكفالة والإقراض فليس كذلك; لأن الكفالة, وإن كانت كالنذر باعتبار أنه التزم فالشروع ليس كالإقراض; لأن الإقراض أو التصدق تبرع بالعين والمقصود منه دفع حاجة المستقرض أو الفقير فلا يثبت ذلك قبل التسليم فكان كل واحد قبل التسليم نظير الصلاة في النية والتطهر واستقبال القبلة. فأما المقصود في البدنيات فعمل يستوفى وقد حصل البعض منه فكان كبعض المال المسلم إلى الفقير أو المستقرض, وإليه أشار الشيخ بقوله مسلما إليه ثم إذا تصدق ببعض المال لزمه أن لا يبطله بالرجوع فكذا إذا أتى ببعض العمل وصار مسلما إلى الله تعالى لزمه أن لا يبطله بالامتناع عن أداء الباقي, وإنما افترقا من حيث إن القدر الموجود من الصدقة يبقى صدقة بدون ما لم يوجد, والقدر الموجود من فعل الصلاة والصوم لا يبقى قربة بدون الباقي فيلزمه المضي هاهنا, ولا يلزمه في الصدقة. فأما إباحة الإفطار بعذر الضيافة فرخصه مع بقاء الحظر ولذا كان الامتناع أفضل وذلك كمن صلى الفرض ورأى بقربه صبيا كاد يحترق أو يغرق, وهو قادر على الاستنقاذ أبيح له قطع الفرض واستنقاذ الصبي بل يجب عليه ذلك صيانة للصبي عن الهلاك, وفيه إبطال حق الله تعالى لحق الآدمي فكذا فيما نحن فيه يرخص له الإفطار احترازا عن أذى المسلم, وصحة الخلوة ممنوعة أيضا بل هي فاسدة كذا ذكر الشيخ أبو المعين في طريقته.
وأما الشروع في النفل قائما, وإتمامه قاعدا أو نية الأربع مع التسليم على رأس الركعتين ففارقا النذر; لأن وجود ما وراء الركعتين وصفة القيام ليسا بشرطين لبقاء المؤدى عبادة وذكر الشيخ في شرح التقويم أن وجوب الباقي لمعنى في غيره, وهو صيانة المؤدى لا لمعنى في نفسه فلا يمنع صحة الخلوة, وإباحة الإفطار بعذر الضيافة واقتداءه بالمتنفل; لأنه في حق نفسه نفل. وأما فضل المظنون فالقياس فيه ما قاله زفر رحمه الله; لأن المؤدى انعقد عبادة فيجب صيانتها بالمضي فيه إلا علماءنا استحسنوا وقالوا إن سبب الوجوب, وهو الشروع صادف الواجب فيلغو; لأن الوجوب لا يتكرر في شيء واحد كما لو قال لله علي ظهر اليوم وذلك; لأن العبد إنما يؤاخذ بما عنده لا بما عند الله تعالى; لأن ذلك ليس في وسعه عنده أنه شرع في الواجب فكان كما لو شرع في الظهر أو صوم القضاء ثم أفسده(2/456)
---------------------------------------------------------
ـــــــ
لا يجب بهذا الشروع والإفساد شيء فكذا هذا. ونحن لا نقول إن جميع القرب يلزم حفظها ويضمن بإفسادها بل يجب عبادة نفل التزمها وحصلها باختياره, وهذه القربة حصلت له بدون اختياره من جهة الشرع, وإذا لم يلتزمه باختياره لم يصر ضامنا للعهدة فلا يجب عليه صيانته, وهذا; لأن القياس يوجب أن لا ينعقد فعله عبادة أصلا; لأن الواجب الذي قصد إليه ليس بموجود والنفل لا ينعقد قربة بدون القصد إليه إلا أن الشرع جعله نفلا من غير قصده نظرا له فجعله منعقدا فيما له فيه نظر, وهو أنه لو أتمه يصلح سببا للثواب, ولا يجعل منعقدا فيما له فيه ضرر, وهو وجوب الصيانة عليه. وهو كالقرب في حق الصبي لما شرعت نظرا له تجعل مشروعة فيما له فيه نظر, وهو الصحة بعد الأداء, ولم تجعل مشروعة فيما له فيه ضرر, وهو الوجوب. والسنن كثيرة يعني لا احتياج إلى إيراد النظائر فإنها كثيرة في باب الصلاة والحج وغير ذلك من الطهارة والصوم والاعتكاف على ما تضمنتها كتب الفروع.(2/457)
"أنواع الرخص"
وأما الرخص فأربعة نوعان من الحقيقة أحدهما أحق من الآخر ونوعان من المجاز أحدهما أتم من الآخر أما أحق نوعي الحقيقة فما استبيح مع قيام المحرم وقيام حكمه جميعا فهو الكامل في الرخصة مثل المكره على إجراء
ـــــــ
"أنواع الرخص"
قوله "وأما الرخص", ولما إذا كانت الرخص مبنية على أعذار العباد, وأعذارهم مختلفة اختلفت أنواع الرخص فانقسمت على أنواع أربعة. أحق من الآخر يجوز أن يكون أفعل تفضيل من حق الشيء إذا ثبت أي أحدهما في كونه حقيقة أقوى من الآخر. ويجوز أن يكون من حق لك أن تفعل كذا أي أنت خليق به يعني في إطلاق اسم الرخصة أحدهما أولى من الآخر. أتم من الآخر أي أكمل في كونه مجازا. فما استبيح أي سقطت المؤاخذة به مع القيام المحرم وقيام حكمه جميعا; لأن الحرمة لما كانت قائمة مع سببها, ومع ذلك شرع للمكلف الإقدام عليه من غير مؤاخذة بناء على عذره كان في أعلى درجات الرخص; لأن كمال الرخصة بكمال العزيمة فلما كانت العزيمة حقيقة كاملة ثابتة من كل وجه كانت الرخصة في مقابلتها كذلك أيضا وذلك مثل الترخص بإجراء كلمة الكفر على اللسان فإنه يرخص فيه بعذر الإكراه التام مع اطمئنان القلب, ولكن العزيمة في الصبر والامتناع عنه; لأن حرمة الكفر ثابتة مصمتة لا تنكشف بحال بناء على أن حق الله تعالى في وجوب الإيمان به قائم لا يحتمل السقوط; لأن الموجب وهو وحدانية الله تعالى وحقية صفاته وجميع ما أوجب الإيمان به لا يحتمل التغيير لكنه أي لكن العبد رخص له الإجراء عند الإكراه; لأن حقه في نفسه أي في ذاته يفوت عند الامتناع صورة بتخريب البينة, ومعنى بزهوق الروح وحق الله تعالى لا يفوت معنى; لأن التصديق الذي هو الركن الأصلي باق, ولا تفوت صورة من كل وجه; لأنه لما أقر مرة وصدق بقلبه حتى صحح إيمانه لم يلزم عليه الإقرار ثانية إذ التكرار في الإقرار ليس بركن في الإيمان, ولما صار حقه مؤدى لم يفت حقه من هذا الوجه لكن يلزم من إجراء كلمة الكفر بطلان ذلك الإقرار في حال البقاء فيبطل حقه في الصورة من هذا الوجه فلهذا كان التقديم حق نفسه بإجراء كلمة الكفر على اللسان(2/458)
الكفر أنه يرخص له إجراؤها والعزيمة في الصبر حتى يقتل; لأن حرمة الكفر قائمة لوجوب حق الله تعالى في الإيمان لكنه رخص لعذر, وهو أن حق العبد في نفسه يفوت بالقتل صورة ومعنى وحق الله تعالى لا يفوت معنى; لأن التصديق باق ولا يفوت صورة من كل وجه; لأن الأداء قد صح, وليس التكرار ركنا لكن في إجراء كلمة الكفر هتك لحقه ظاهرا فكان له تقديم حق نفسه كرامة من الله, وإن شاء بذل نفسه حسبة في دينه لإقامة حقه فهذا مشروع قربة فبقي عزيمة
ـــــــ
ترخصا, وإن شاء بذل نفسه في دين الله لإقامة حقه حسبة أي طلبا للثواب وعدالة فيما يدخر للآخرة فهذا أي البذل مشروع قربة كالجهاد أنه لما بذل نفسه, ولم يهتك حرمة دينه كان فيه إعلاء دين الله عز وجل, وهذا هو عين الجهاد. والأصل فيه ما روي: "أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأحدهما أتشهد أن محمدا رسول الله فقال نعم فقال أتشهد أني رسول فقال لا أدري ما تقول فقتله وقال للآخر أتشهد أن محمدا رسول الله فقال نعم فقال أتشهد أني رسول الله فقال نعم فخلى سبيله فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أما الأول فقد أتاه الله أجره مرتين, وأما الآخر فقد أخذ برخصة الله فلا إثم عليه" ففيه دليل على أنه إن امتنع منه حتى قتل كان أعظم للأجر; لأنه إظهار للصلابة في الدين. وما روي من قصة عمار وخبيب رضي الله عنهما: "أن المشركين أخذوا عمارا فلم يتركوه حتى سب رسول الله عليه السلام وذكر آلهتهم بخير فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال, "وما وراك يا عمار" قال شر ما تركوني حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير قال "كيف وجدت قلبك قال مطمئنا بالإيمان قال فإن عادوا فعد" أي فإن عادوا إلى الإكراه فعد إلى الترخص. أو فإن عادوا إلى الإكراه فعد إلى طمأنينة القلب فإنه لا يظن برسول الله عليه السلام أنه يأمر أحدا بالتكلم بكلمة الكفر كذا في المبسوط. وفي عين المعاني لو عادوا لك فعد لهم لما قلت ففيه دليل أنه لا بأس للمسلم أن يجري كلمة الكفر على اللسان مكرها بعد أن يكون مطمئن القلب., وأخذوا خبيب بن عدي وباعوه من أهل مكة فجعلوا يعاقبونه على أن يذكر آلهتهم بخير ويسب محمدا, وهو يسب آلهتهم ويذكر رسول الله عليه السلام بخير فاجتمعوا على قتله فلما أيقن أنهم قاتلوه سألهم أن يدعوه ليصلي ركعتين فأجابوه فصلى ركعتين, وأوجز ثم قال إنما أوجزت كي لا تظنوا أني أخاف القتل ثم سألهم أن يلقوه على وجهه ليكون هو ساجد لله تعالى حين يقتلونه فأبوا عليه ذلك فرفع يديه إلى السماء وقال اللهم إني لا أرى هاهنا إلا وجه عدو فأقرئ رسولك مني السلام اللهم أحص هؤلاء عددا واجعلهم بددا, ولا تبق منهم أحدا ثم أنشأ يقول:
ولست أبالي حين أقتل مسلما ... على أي جنب كان في الله مصرعي(2/459)
وصار بها مجاهدا وكذلك الذي يأمر بالمعروف إذا خاف القتل رخص له في الترك لما قلنا من مراعاة حقه, وإن شاء صبر حتى يقتل, وهو العزيمة; لأن حق الله تعالى في حرمة المنكر باق في بذل نفسه إقامة للمعروف; لأن الظاهر أنه إذا قتل تفرق جمع الفسقة, وما كان غرضه إلا تفريق جمعهم فبذل نفسه لذلك فصار مجاهدا بخلاف الغازي إذا بارز, وهو يعلم أنه يقتل من غير أن ينكي فيهم; لأن
ـــــــ
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع.
فلما قتلوه وصلبوه تحول وجهه إلى القبلة وجاء جبريل إلى رسول الله عليهما السلام يقرئ سلام خبيب فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "هو أفضل الشهداء, وهو رفيقي في الجنة" فبهذا تبين أن الامتناع والأخذ بالعزيمة أفضل كذا في المبسوط.
"قوله", وكذلك الذي يأمر بمعروف أي, وكالمكره على الكفر من يأمر بمعروف مثل أن يأمر بالصلاة ونحوها في أنه إذا خاف التلف على نفسه رخص له أن يتركه قال تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} "آ عمران: 28". وأنه إن فعل فقتل كان مأجورا; لأن الأمر بالمعروف فرض مطلق والصبر عليه عزيمة قال الله تعالى إخبارا {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} "لقمان: 17". وإذا تمسك بالعزيمة كان مأجورا.
وكذلك النهي عن المنكر إلا أن الشيخ لم يذكره; لأن الأمر بالمعروف يتضمن النهي عن المنكر, وكذا العكس. ولهذا قال بعده; لأن حق الله تعالى في حرمة المنكر باق. لما قلنا من مراعاة حقه فإنه لو أقدم يفوت حقه صورة ومعنى, ولو ترك يفوت حق الله تعالى صورة بمباشرة المحظور وترك المنع عنه لا معنى; لأن الإنكار بالقلب واعتقاد الحرمة باق. قوله "بخلاف الغازي إذا بارز" ذكر في السير الكبير, ولو أن رجلا حمل على ألف رجل وحده فإن كان يطمع أن يظفر بهم أو ينكأ فيهم فلا بأس بذلك; لأنه يقصد النيل من العدو بصنعه وقد فعل ذلك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم غير واحد من أصحابه, ولم ينكر ذلك عليهم وبشر بعضهم بالشهادة حين استأذنه في ذلك على ما روي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى يوم أحد كتيبة من الكفار فقال "من لهذه الكتيبة" فقال وهب أنا لها يا رسول الله فحمل عليهم حتى فرقهم ثم رأى كتيبة أخرى وقال "من لهذه الكتيبة" فقال وهب أنا لها فقال "أنت لها, وأبشر بالشهادة فحمل عليهم حتى فرقهم وقتل هو1" , وإن كان لم يطمع في نكاية فإنه يكره له هذا الصنيع; لأنه يتلف نفسه من غير منفعة للمسلمين, ولا نكاية في
ـــــــ
1 هو وهب بن قابس أو قابوس المزني أنظر الإصابة لابن حجر 3/607.(2/460)
جمعهم لا يتفرق بسببه فيصير مضيعا لدمه لا محتسبا مجاهدا. وكذلك فيمن أكره على إتلاف مال غيره رخص له لرجحان حقه في النفس فإذا صبر حتى قتل كان شهيدا لقيام الحرمة, وهو حق العبد وكذلك إذا أصابته مخمصة فصبر عن
ـــــــ
المشركين فيكون ملقيا نفسه في التهلكة, ولا يكون عاملا لربه في إعزاز الدين. وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يسعه الإقدام, وإن كان يعلم أن القوم يقتلونه, وأنه لا يتفرق جمعهم بسببه; لأن القوم هناك مسلمون معتقدون لما يأمرهم به فلا بد من أن ينكئ فعله في قلوبهم, وإن كانوا لا يظهرون ذلك, وهاهنا القوم كفار لا يعتقدون حقية الإسلام وقتله لا ينكئ في باطنهم فيشترط النكاية ظاهرا لإباحة الإقدام. وإن كان لا يطمع في نكاية, ولكنه يجرئ به المسلمين عليهم حتى يظهر بفعلهم النكاية في العدو فلا بأس بذلك إن شاء الله تعالى; لأنه لو كان على طمع من النكاية لفعله جاز له الإقدام فكذا إذا كان يطمع النكاية فيهم بفعل غيره, وكذلك إن كان يطمع النكاية في إرهاب العدو, وإدخال الوهن عليهم بفعله; لأن هذا أفضل وجوه النكاية, وفيه منفعة للمسلمين وكل أحد يبذل نفسه لهذا النوع من المنفعة. وفي المغرب يقال نكأت القرحة قشرتها ونكأت في العدو ونكأ إذا قتلت فيهم أو جرحت وقال الليث ولغة أخرى نكيت في العدو نكاية وعن أبي عمر ونكيت في العدو لا غير. وعن الكسائي كذلك, ولم أجده معدى بنفسه إلا في جامع الغوري قال يعقوب نكيت العدو إذا قتلت فيهم وجرحت قال عدي بن زيد:
إذا أنت لم تنفع بودك أهله ... ولم تنك بالبوسى عدوك فابعد
قوله "وكذلك هذا" أي, وكثبوت الحكم في المكره على القتل ثبوته فيمن أكره على إتلافه مال غيره بالقتل رخص له ذلك لرجحان حقه في النفس; لأن حقه يفوت في النفس صورة ومعنى, وحق غيره لا يفوت معنى لانجباره بالضمان فإذا صبر حتى قتل كان شهيدا; لأن السبب الموجب للحرمة, وهو الملك وحكمه, وهو حرمة التعرض قائمان فإن حرمة إتلاف ماله لمكان عصمته واحترامه وذلك لا يختل بالإكراه فكان في الصبر آخذا بالعزيمة مقيما فرض الجهاد; لأنه أتلف نفسه صيانة لحق ذلك الرجل في ماله من حيث الصورة فيكون مثابا كذا ذكر الشيخ في بعض كتبه. وذكر محمد رحمه الله في هذه المسألة فإن أبى أن يفعل حتى قتل كان مأجورا إن شاء الله قيده بالاستثناء ولم يذكر الاستثناء فيما سواها; لأنه لم يجد فيها نصا بعينه, وإنما قاله بالقياس على الإكراه على الإفطار, وإفساد الصلاة, وإجراء كلمة الكفر ونحوها, وليس هذا في معنى تلك المسائل من كل وجه; لأن الامتناع من الإتلاف هاهنا لا يرجع إلى إعزاز الدين فلهذا قيده به, وكذلك صائم أكره على الإفطار أو اضطر إليه بمخمصة يرخصه له ذلك; لأن حقه في نفسه يفوت(2/461)
مال غيره حتى مات وكذلك صائم أكره على الفطر ومحرم أكره على جناية وما أشبه ذلك من العبادات والحقوق المحترمة, وأمثلته كثيرة.وأما القسم الثاني فما يستباح بعذر مع قيام السبب موجبا لحكمه غير أن الحكم متراخ مثل المسافر رخص له أن يفطر بناء على سبب تراخي حكمه
ـــــــ
أصلا وحق الله تعالى يفوت إلى بدل, وهو القضاء فله أن يقدم حق نفسه. وإن صبر, ولم يفطر حتى قتل, وهو صحيح مقيم كان مأجورا; لأن حق الله تعالى في الوجوب لم يسقط فكان له بذل نفسه لإقامة حق الله عز وجل, وفيه إظهار الصلابة في الدين, وإعزازه. إلا أن يكون مسافرا أو مريضا فلم يفطر حتى قتل كان آثما; لأن الله تعالى أباح لهما الإفطار بقوله. {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} "ابقرة: 184". فعند خوف الهلاك رمضان في حقهما كشعبان في حق غيرهما فيكون آثما بالامتناع حتى يموت بمنزلة المضطر في فصل الميتة كذا في المبسوط. وما أشبه ذلك من العبادات مثل الصلاة ونحوها والحقوق المحترمة مثل ما لو أكره على الدلالة على مال نفسه أو مال إنسان رخص له الدلالة, ولو لم يفعل حتى قتل لم يكن آثما; لأنه قصد الدفع عن ماله أو مال غيره وذلك عزيمة قال عليه السلام: "من قتل دون ماله فهو شهيد1" .
قوله "وأما القسم الثاني", وهو الذي دون القسم الأول في كونه رخصة فما يستباح بعذر مع قيام السبب أي السبب المحرم موجبا لحكمة, وهو الحرمة. إلا أن الحكم متراخ عنه فمن حيث إن السبب الموجب قائم كانت الرخصة حقيقة, ومن حيث إن الحكم متراخ غير ثابت في الحال كان هذا القسم دون الأول فإن كمال الرخصة بكمال العزيمة فإذا كان الحكم ثابتا مع السبب فهو أقوى مما تراخى حكمه عنه كالبيع بشرط الخيار مع البيع البات والبيع بثمن مؤجل مع البيع بثمن حال فإن الحكم, وهو الملك في البيع والمطالبة بالثمن ثابت في البات متراخ عن السبب المقرون بشرط الخيار والأجل كذا ذكر شمس الأئمة - رحمة الله عليه - مثل المسافر رخص له أن يفطر مع السبب الموجب للصوم المحرم للفطر, وهو شهود الشهيد وتوجه الخطاب العام نحوه, وهو قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} "البقرة: 185". ولهذا لو أدى كان فرضا إلا أن الحكم, وهو حرمة الإفطار وترك الصوم تراخى في حقه إلى إدراك عدة من أيام أخر فكانت العزيمة أدنى حالا منها في المكره على الإفطار في الصوم; لأن الحكم هناك, وهو حرمة الإفطار لم يتأخر
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في الديات 1419 وأبو داود ةفي السنة رقم 4771 ومسلم في الإيمان حديث رقم 141.(2/462)
فكان دون ما اعترض على سبب حل حكمه وإنما يكمل الرخصة بكمال العزيمة لكن السبب لما تراخى حكمه من غير تعليق كان القول بالتراخي بعد تمام السبب رخصة فأبيح له الفطر وكانت العزيمة أولى عندنا لكمال سببه
ـــــــ
عن السبب فلا جرم كانت الرخصة المبنية على هذه العزيمة أدنى حالا من الرخصة المبنية على العزيمة بالأدنى; لأن كمالها وانتقاصها بكمال العزيمة وانتقاصها فمن هذا الوجه أخذت شبها بالمجاز; لأن الحكم, وهو الوجوب وحرمة الإفطار لما تراخى لم يكن ثابتا في الحال فلم يعارض الرخصة, وهي إباحة الإفطار وترك الصوم حرمة فكانت شبيها بالإفطار في غير رمضان فلم يكن رخصة محضة حقيقة. لكن السبب لما تراخى حكمه من غير تعليق يعني من حيث إن حكم السبب تراخى عنه من غير أن يكون معلقا بشيء إذ لو كان معلقا لما جاز الأداء قبله; لأن المعلق بالشرط معدوم قبل وجوده, ولكان السبب غير تام في الحال لما مر. كان القول بتراخي الوجوب وحل الإفطار بعدما تم السبب رخصة حقيقة فلهذا كان هذا القسم دون الأول إذ ليس في الأول مدخل للمجاز يوجه, وفي الثاني للمجاز مدخل.
والدليل على تراخي الحكم أنه لو مات قبل إدراك عدة من أيام أخر لقي الله تعالى, ولا شيء عليه كما لو مات قبل رمضان, ولو كان الوجوب ثابتا للزمه الأمر بالفدية عنه; لأنه ترك الواجب بعذر يرفع الإثم, ولكن لا يسقط الحلف كالمكره على الفطر في رمضان إذا أفطر, ومات قبل إدراك زمان القضاء يلزمه الأمر بالفدية, وكذلك الحائض فعرفنا أن الحكم ليس بثابت في الحال. ثم الشيخ أشار بقوله من غير تعليق إلى نفي قول من قال من أصحاب الظواهر منهم داود بن علي أن الصوم في السفر لا يجوز عن فرض الوقت ويلزمه القضاء عند إدراك العدة سواء صام في السفر أو لم يصم, وهو منقول عن ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم. قالوا إن الله تعالى علق الوجوب في حقه بإدراك العدة بقوله {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} "البقرة: 184" فلا يجوز الأداء قبله كما لا يجوز من المقيم قبل رمضان وقد قال عليه السلام.: "الصائم في السفر كالمفطر في الحضر1" . ومذهب أكثر الصحابة وجمهور الفقهاء أنه لو صام عن فرض الوقت يجوز لقوله تعالى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} "البقرة: 185". فإنه يعم المسافر والمقيم. وقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ } "البقرة: 184". لبيان الترخيص بالفطر فينتفي به وجوب الأداء لا جوازه, وفي الأحاديث الدالة على
ـــــــ
1 أخرجه ابن ماجة في الصيام حديث رقم 1666.(2/463)
ولتردد في الرخصة حتى صارت العزيمة تؤدي معنى الرخصة من وجه فلذلك تمت العزيمة على ما نبين في آخر هذا الفصل إن شاء الله تعالى وقد أعرض الشافعي عن ذلك فجعل الرخصة أولى اعتبارا لظاهر تراخي العزيمة إلا أن
ـــــــ
الجواز كثرة. وحديثهم محمول على ما إذا أجهده الصوم حتى خيف عليه الهلاك على ما عرف تمامه في الأسرار وغيره.
قوله "وكانت العزيمة أولى أي" الصوم في السفر أولى من الإفطار; لأن السبب الموجب, وهو شهود الشهر بكماله لما كان قائما وتأخر الحكم بالأجل غير مانع من التعجيل كالدين المؤجل كان المؤدي للصوم عاملا لله تعالى في أداء الفرض والمترخص بالفطر عاملا لنفسه فيما يرجع إلى الترفه فكان الأول أولى. ولتردد في الرخصة يعني اليسر لم يتعين في الفطر بل في العزيمة نوع يسر أيضا فإن الصوم مع المسلمين في شهر رمضان أيسر من التفرد به وبعد مضي الشهر بخلاف قصر الصلاة على ما سيجيء بيانه. فكانت العزيمة تؤدي أي تحصل معنى الرخصة وتفضي إليه, وهو اليسر من هذا الوجه. فلذلك أي لتأديتها معنى الرخصة تمت العزيمة أي كملت بحصول معنى الرخصة مع تحقق معنى العزيمة, وهو إقامة حق الله تعالى. وحقيقة المعنى فيه أن العزيمة كانت ناقصة باعتبار تأخر حكمها إلى زمان الإقامة, وهذا يقتضي أن تكون الرخصة أولى كما قال الشافعي رحمه الله إلا أن هذا التأخر ثبت رفقا بالمسافر وتيسيرا للأمر عليه, وفي الصوم نوع يسر أيضا فانجبر ذلك النقصان بهذا اليسر فتمت, وكملت فكان الأخذ بها أولى كما في القسم الأول. وقد أعرض الشافعي عن ذلك أي عن ترجيح العزيمة, وجعل الرخصة أي العمل بها أولى في أحد قوليه اعتبارا لظاهر تراخي العزيمة أي تراخي حكمها فإن وجوب أداء الصوم لما تأخر إلى إدراك عدة من أيام أخر اقتضى أن لا يجوز الأداء قبله كما قاله أصحاب الظواهر إلا أنه ترك في حق عدم الجواز للأحاديث الواردة فيه فبقي معتبرا في أفضلية الفطر, وهو نظير قول من قال أداء الصلاة في آخر الوقت أفضل; لأن وجوب الأداء يتقرر في آخر الوقت فالأداء قبله يكون أداء قبل الوجوب فينبغي أن لا يجوز إلا أنه ترك في حق عدم الجواز بالإجماع فبقي معتبرا في أفضلية التأخير. ويؤيده قوله عليه السلام: : "إن الله تعالى وضع عن المسافر شطر الصلاة والصوم1" . ثم الأفضل له في الصلاة القصر فكذا الفطر في الصوم يكون أفضل. ولنا ما ذكرنا, وما روي عن النبي عليه السلام أنه قال في المسافر: "يترخص بالفطر, وإن صام فهو أفضل له2" وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصوم
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود فلي الصوم حديث رقم 2408 والترمذي في الصوم رقم 715 وابن ماجة في الصيام حديث رقم 1667 وافمام أحمد في المسند 5/29
2 أخرجه مسلم في الصيام حديث رقم 1121.(2/464)
يضعفه الصوم فليس له أن يبذل نفسه لإقامة الصوم; لأنه يصير قتيلا بالصوم فيصير قاتلا نفسه بما صار به مجاهدا وفي ذلك تغيير المشروع فلم يكن نظير من بذل نفسه لقتل الظالم حتى أقام الصوم حقا لله تعالى; لأن القتل مضاف إلى
ـــــــ
حتى شكا الناس إليه ثم أفطر فدل على أن الصوم أفضل والأحاديث في الباب كثيرة. وذكر الغزالي في الوجيز والصوم أحب من الفطر في السفر لتبرئة الذمة إلا إذا كان يتضرر به. وذكر الخطابي1 في معالم السنن اختلف أهل العلم في أفضل الأمرين فقالت طائفة أفضل, وإليه ذهب ابن المسيب والشعبي والأوزاعي وأحمد وإسحاق. وقالت طائفة مثل النخعي وسعيد بن جبير ومالك والثوري والشافعي, وأصحاب الرأي الصوم أفضل. وقالت طائفة منهم مجاهد وقتادة وعمر بن عبد العزيز أفضل الأمرين ما هو الأيسر منهما.
قوله "إلا أن يضعفه الصوم" استثناء من قوله, وكانت العزيمة أولى يعني إذا أضعفه الصوم فحينئذ كان الفطر أولى, ولو صبر حتى مات كان آثما; لأن الإفطار لزمه في هذه الحالة فلو بذل نفسه لإقامة الصوم صار قتيلا بالصوم, وهو المباشر لفعل الصوم فيصير قاتلا نفسه بما صار به مجاهدا, وهو الصوم من غير تحصيل المقصود, وهو إقامة حق الله تعالى; لأنه أخره عنه, وهو حرام كمن قتل نفسه بالسيف الذي يجاهد به مع الكفار كان حراما., وفي ذلك تغيير المشروع; لأن المشروع في حقه إما التأخير أو جواز التعجيل على وجه يضمن يسيرا فأما التعجيل على وجه يؤدي إلى الهلاك فليس بمشروع فكان فعله تغييرا للمشروع. أو معناه أن الصوم شرع لترتاض النفس لخدمة خالقها على ما مر في أبواب الأمر فإذا أدى إلى الهلاك لا يحصل المقصود, وهو الارتياض للخدمة فكان خلاف المشروع. فلم يكن نظير من بذل نفسه بقتل الظالم أي لا يكون المسافر فيما ذكر مثل المقيم المكره على الفطر بالقتل الصابر عليه إلى أن يقتل إقامة لحق الله تعالى; لأن القتل هناك صدر من المكره وأضيف إليه فلم يكن الصابر مغيرا للمشروع بفعله بل هو في الصبر مستديم للعبادة مظهر للطاعة وذلك عمل المجاهدين. وذكر الشيخ في شرح التقويم إذا لم يفطر في السفر أو المرض حتى مات كان آثما; لأن الله تعالى أحسن إليه بتأخير حقه وبالتعجيل مع الهلاك صار رادا عفوا لله تعالى, ومبتدئا من نفسه بالإحسان لا مقيما حق الله تعالى, وهذا لا يحسن شرعا وعقلا. وذكر في شرح التأويلات أن المسافر أو المريض إذا أكره على الإفطار فامتنع حتى قتل ينبغي أن لا يكون آثما بل يكون شهيدا لكونه مقيما حق الله تعالى إذ حقه لم يسقط ولهذا وجب القضاء, ولو سقط حقه أصلا لما وجب البدل إلا أنه
ـــــــ
1 هو حمد بن محمد بن إبراهيم الخطاب الخطابي البستي 319-388ه أنظر وفيات الأعيان 2/214- 217.(2/465)
الظالم فلم يصر الصابر مغيرا للمشروع فصار مجاهدا, وأما أتم نوعي المجاز فما وضع عنا من الإصر والأغلال فإن ذلك يسمى رخصة مجازا; لأن الأصل ساقط لم يبق مشروعا فلم يكن رخصة إلا مجازا من حيث هو نسخ تمحض تخفيفا وأما القسم الرابع فما سقط عن العبادة مع كونه مشروعا في الجملة فمن حيث سقط
ـــــــ
ورد في حق المسافر والمريض نصوص على إلحاق الوعيد بهما بترك الإفطار مثل قوله عليه السلام: "من صام في السفر فقد عصى أبا القاسم" . وقوله عليه السلام: "الصائم في السفر كالمفطر في الحضر" . والمراد حالة خوف التلف على نفسه لورود الأخبار في إباحة الامتناع, وفعل الصوم في حال عدم خوف التلف فدلت على إباحة الإفطار مطلقا في هذه الحالة فلا يكون الأداء واجبا, ولا يكون مقيما حق الله تعالى في الامتناع فيكون آثما والإكراه في حالة السفر والمرض نظير خوف التلف من كل وجه فيلحق به تسمية ما حط عنا من الأسرار والأغلال التي وجبت على من قبلنا رخصة مجازا; لأن ما لم يجب علينا, ولا على غيرنا لا يسمى رخصة أصلا, وهي لما وجبت على غيرنا فإذا قابلنا أنفسنا بهم كان السقوط في حقنا توسعة وتخفيفا فحسن إطلاق اسم الرخصة عليه باعتبار الصورة تجوزا لا تحقيقا; لأن السبب الموجب للحرمة مع الحكم معدوم أصلا بالرفع والنسخ, والإيجاب على غيرنا لا يكون تضييقا في حقنا, والرخصة فسحة في مقابلة التضييق. والإصر الأعمال الشاقة والأحكام المغلظة كقتل النفس في التوبة وقطع الأعضاء الخاطئة. والأغلال المواثيق اللازمة لزوم الغل كذا في غير المعاني. وفي الكشاف: الإصر الثقل الذي يأصر صاحبه أي يحبسه لثقله, وهو مثقل لثقل تكليفهم وصعوبته نحو اشتراط قتل النفس في صحة التوبة., وكذلك الأغلال مثل لما كان في شرائعهم من الأشياء الشاقة نحو بت القضاء بالقصاص عمدا كان أو خطأ من غير شرع الدية وقطع الأعضاء الخاطئة, وقرض موضع النجاسة من الجلد والثوب, وإحراق الغنائم وتحريم العروق في اللحم وتحريم السبت. وعن عطاء كانت بنو إسرائيل إذا قامت تصلي لبسوا المسوح وغلوا أيديهم إلى أعناقهم وربما ثقب الرجل ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة, وأوثقها إلى السارية يحبس نفسه على العبادة.
قوله "وأما النوع الرابع" وهو القسم الأخير من أنواع الرخص فما سقط عن العباد بإخراج السبب من أن يكون موجبا للحكم في محل الرخصة مع كون ذلك الساقط مشروعا في الجملة فمن حيث سقط في محل الرخصة أصلا كان نظير القسم الثالث فكان مجازا إذ ليس في مقابلته عزيمة, ومن حيث إنه بقي السبب والحكم مشروعا في الجملة أخذ شبها بالحقيقة فضعف وجه المجاز فكان دون القسم الثالث, ولكن جهة(2/466)
أصلا كان مجازا ومن حيث بقي مشروعا في الجملة كان شبيها بحقيقة الرخصة فكان دون القسم الثالث مثاله ما روي أن النبي عليه السلام رخص في السلم وذلك أن أصل البيع أن يلاقي عينا, وهذا حكم باق مشروع لكنه سقط في باب السلم أصلا تخفيفا حتى لم يبق تعيينه في السلم مشروعا ولا عزيمة; وهذا لأن
ـــــــ
المجاز غالبة على شبه الحقيقة; لأن جهة المجاز بالنظر إلى محل الرخصة وشبه الحقيقة بالنظر إلى غير محلها فكان جهة المجاز أقوى. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم. كان من عادتهم أنهم يبيعون الشيء الذي لا يملكونه ثم يشترونه بثمن رخيص ويسلمونه إلى المشتري فالنبي عليه السلام نهى عن ذلك ورخص في السلم للحاجة فشرطت العينية في عامة البياعات لتثبت القدرة على التسليم ثم سقط هذا الشرط في السلم بحيث لم يبق مشروعا حتى كانت العينية في المسلم فيه مفسدة للعقد لا مصححة له وذلك; لأن سقوط هذا الشرط للتيسير على المحتاجين ليتوصلوا إلى مقاصدهم من الأثمان قبل إدراك غلاتهم مع توصل صاحب الدراهم إلى مقصوده من الربح فكانت رخصة مجازا من حيث إن العينية سقط أصلا فيه للتخفيف, ولم تبق مشروعة كالأصرار والأغلال, ولكن لها شبه بالحقيقة من حيث إن العينية مشروعة في الجملة وذلك أي كون السلم من هذا القسم أو تسميته رخصة باعتبار أن الأصل في البيع أن يلاقي عينا لما روينا ولقوله عليه السلام لحكيم بن حزام.: "لا تبع ما ليس عندك1" ولنهيه عليه السلام عن بيع الكالئ بالكالئ. وقوله, "ولا عزيمة" بعد قوله مشروعا تأكيدا لاحتمال أن عدم بقائه مشروعا بطريق الرخصة أو تقديره لم يبق عزيمة, ولا مشروعا., وهذا أي سقوط العينية في باب السلم باعتبار تعين اليسر فيه; لأن العجز عن التعيين متحقق; لأن البيع بطريق السلم دليل العجز إذ لو لم يكن عاجزا لما باع بأوكس الأثمان, ولباعه مساومة لا سلما فلذلك لم يبق التعيين مشروعا أصلا كشرط الصلاة في حق المسافر.
قوله "وكذلك المكره", ومثل السلم المكره أي فعل المكره على شرب الخمر أو أكل الميتة رخصة مجازا بطريق حذف المضاف, وإقامة المضاف إليه مقامه أو كذلك المكره أو المضطر في الإقدام على الفعل مرخص بطريق إطلاق اسم المصدر على مفعول من جنسه.
واعلم أن العلماء اختلفوا في حكم الميتة والخمر والخنزير ونحوها في حالة
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في البيوع رقم 1232 وأبو داود في الإجازة حديث رقم 3503 وابن ماجة في التجارات حديث رقم 2187 والإمام أحمد في المسند 3/402.(2/467)
دليل اليسر متعين لوقوع العجز عن التعيين فوضع عنه أصلا وكذلك المكره على شرب الخمر أو الميتة أو المضطر إليهما رخصة مجازا; لأن الحرمة ساقطة حتى إذا صبر صار آثما لأن حرمته ما ثبتت إلا صيانة لعقله ودينه عن فساد الخمر ونفسه عن الميتة فإذا خاف به فوات نفسه لم يستقم صيانة البعض
ـــــــ
الاضطرار أنها تصير مباحة أو تبقى على الحرمة ويرتفع الإثم. فذهب بعضهم إلى أنها لا تحل, ولكن يرخص الفعل في حالة الاضطرار إبقاء للمهجة كما في الإكراه على الكفر, وأكل مال الغير, وهو رواية عن أبي يوسف, وأحد قولي الشافعي وذهب أكثر أصحابنا إلى أن الحرمة ترتفع في هذه الحالة. وفائدة الاختلاف تظهر فيما إذا صبر حتى مات لا يكون آثما عند الفريق الأول, ويكون آثما عندنا. وفيما إذا حلف لا يأكل حراما فتناول هذه المحرمات في حالة الاضطرار يحنث عندهم, ولا يحنث عندنا. تمسكوا في ذلك بقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} "البقرة: 173". وقوله عز اسمه: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} "المائدة: 3". أي فمن دعته الضرورة إلى تناول شيء من هذه المحرمات المذكورة في مجاعة غير مائل إلى ما يؤمه, وهو أن يأكل الميتة فوق سد الرمق تلذذا فإن الله غفور يغفر له ما أكل مما حرم عليه حين اضطر إليه. رحيم بأوليائه في الرخصة لهم في ذلك كذا قال ابن عباس فدل إطلاق المغفرة على قيام الحرمة إلا أنه تعالى رفع المؤاخذة رحمة على عبادة كما في الإكراه.
وبأن حرمة هذه الأشياء بناء على صفات فيها من الخبث والضرر, ولا تنعدم تلك الصفات في حالة الضرورة فبقيت محرمة كما كانت ورخص الفعل بسبب الضرورة. ولنا قوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} "الأنعام: 119". فاستثنى حالة الضرورة, والكلام المقيد بالاستثناء يكون عبارة عما وراء المستثنى فيثبت التحريم في حالة الاختيار وقد كانت مباحة قبل التحريم فبقيت في حالة الضرورة على ما كانت. وهذا على مذهب من جعل الأصل في الأشياء الإباحة قبل الشرع, وأما على مذهب من قال الحل والحرمة لا يعرفان إلا شرعا فيقال الاستثناء من الحظر إباحة فصار كأنه قال هذه الأشياء محرمة في حالة الاختيار مباحة في حالة الاضطرار فتثبت الإباحة في حالة الاضطرار بالنص أيضا. ولا يلزم عليه استثناء إجراء كلمة الكفر في حالة الإكراه بقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} "النحل: 106". فإنه لم يدل على إباحته.; لأنا لا نسلم أنه استثناء من الحظر ليدل على الإباحة بل هو استثناء من الغضب إذ التقدير من كفر بالله من بعد إيمانه فعليهم غضب إلا من أكره فينتفي الغضب بالاستثناء, ولا يدل انتفاؤه على(2/468)
بفوات الكل فسقط المحرم وكان إسقاطا لحرمته فإذا صبر لم يصر مؤديا حق الله تعالى فكان مضيعا دمه إلا أن حرمة هذه الأشياء مشروعة في الجملة ومن ذلك ما قلنا في قصر الصلاة بالسفر أنه رخص إسقاطا حتى لا يصح أداؤه من
ـــــــ
ثبوت الحل. وما ذكر الشيخ في الكتاب, وهو أن حرمته أي حرمة المذكورة, وهو أكل الميتة وشرب الخمر ونحوهما. ما ثبتت إلا صيانة لعقله عن الاختلاط ودينه عن الخلل الواقع فيه بسبب الخمر كما قال تعالى: {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} "المائدة: 91". ونفسه أي بدنه عن تعدي خبث الميتة ونظائرها إليه كما أشار الله تعالى إليه في قوله: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} "الأعتراف: 157" فإذا خاف به أي بالامتناع فوات نفسه لم يستقم صيانة البعض بفوات الكل; لأن في فوات الكل فوات البعض ضرورة. فسقط المحرم أي معنى المحرم, وهو صيانة العقل والنفس. فكان هذا أي إطلاق الفعل في هذه الحالة إسقاطا لحرمة هذه الأشياء. فإذا صبر لم يصر مؤديا حق الله تعالى; لأنه قد سقط بل صار مضيعا دمه من غير تحصيل ما هو المقصود بالحرمة فكان آثما. ويؤيده ما نقل عن مسروق وغيره من اضطر إلى ميتة, ولم يأكل دخل النار. إلا أن حرمة هذه الأشياء مشروعة في الجملة فلم تكن هذه الرخصة مثل سقوط الإصر والأغلال بل كانت دونه في المجازية. والاستثناء يتصل بقوله; لأن الحرمة ساقطة أو بقوله فسقط المحرم, وهو بمعنى لكن. وأما إطلاق المغفرة مع الإباحة فباعتبار أن الاضطرار المرخص للتناول يكون بالاجتهاد وعسى يقع التناول زائدا على قدر ما يحصل به سد الرمق وبقاء المهجة إذ مثل من ابتلي بهذه المخمصة يعسر عليه رعاية هذا الاضطرار المرخص, والتناول بقدر الحاجة فالله تعالى ذكر المغفرة لهذا التفاوت, وفي التيسير {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} "البقرة: 126" أي غفور لمن تاب من تحريم ما أحل الله واستحلال ما حرم الله. رحيم بشرع التوبة. وقيل غفور للذنوب الكبار فكيف يؤاخذ بتناول الميتة عند الاضطرار. رحيم بعباده فيما يتعبدهم به. وقيل غفور بالعفو عمن أكل من غير ضرورة. رحيم برفع الإثم عند الضرورة, وفي عين المعاني فإن الله غفور بإزاحة المغفرة عند المضرة رحيم بإباحة المحظور للمعذور.
قوله "ومن ذلك" أي, ومن وقت القسم الرابع ما قلنا في قصر الصلاة بالسفر. وقال الشافعي رحمه الله القصر رخصة حقيقة والعزيمة هي الأربع حتى لو فات الوقت يقضي أربعا سواء قضاها في السفر أو في الحضر في قول, وفي قول له أن يقضي ركعتين في السفر دون الحضر. واحتج بقوله تعالى {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} "النساء: 101". شرع بلفظ لا جناح, وأنه للإباحة دون الإيجاب. وبأن الوقت(2/469)
المسافر, وإنما جعلناها إسقاطا استدلالا بدليل الرخصة ومعناها أما الدليل فما روي أن عمر رضي الله عنه قال: انقصر ونحن آمنون فقال النبي عليه السلام: "إن هذه صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" سماه صدقة والتصدق
ـــــــ
سبب الأربع والسفر سبب للقصر لا على رفع الأول وتغييره فإنه لو اقتدى بمقيم صح ويلزمه الأربع, ولو ارتفع لما لزمه كمصلي الفجر إذا اقتدى بمن يصلي الظهر فيعمل بأيهما شاء إلا أن القصر سبب عارض فما لم يعمل به لا يرتفع حكم الأصل, وهذا كالعبد إذا أذن له مولاه بالجمعة يتخير بين أن يؤدي الجمعة ركعتين وبين أن يؤدي الظهر أربعا فكذا المسافر يميل إلى أيهما شاء. وكذا المسافر في حق الصوم بالخيار إن شاء أخر, وإن شاء عجل, ولا يسقط به أصل الفرضية المتعلقة بالوقت إلا أن يترخص بالترك والتأخير. وعندنا القصر رخصة إسقاط أي القصر ليس برخصة حقيقة بل هو إسقاط للعزيمة, وهي الأربع. حتى لا يصح أداؤه من المسافر أي أداء ما سقط عنه كما لو صلى الفجر أربعا; لأن السبب في حقه لم يبق موجبا إلا ركعتين فكانت الأخريان نفلا لما بينا وخلط النفل بالفرض قصدا لا يحل, وأداء النفل قبل إكمال الفرض مفسد للفرض فإذا صلى أربعا, ولم يقعد على رأس الركعتين فسدت صلاته.
وإنما جعلناها أي هذه الرخصة إسقاطا للعزيمة استدلالا بدليل الرخصة أي بدليل يثبت الرخصة واستدلالا بمعنى هذه الرخصة. أما الدليل فما روي عن علي بن ربيعة الوالبي قال سألت عمر رضي الله عنه ما بالنا نقصر الصلاة, ولا نخاف شيئا وقد قال الله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ} "البقرة: 239" فقال أشكل علي ما أشكل عليك فسألت رسول الله عليه السلام فقال: "إن هذه صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ." وفي بعض الروايات "إنها صدقة" . والضمير أو اسم الإشارة راجع إلى الصلاة المقصورة أو إلى القصر, والتأنيث لتأنيث الخبر كقوله تعالى: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} "الزمر: 49". أو لتأويله بالرخصة أي هذه الرخصة صدقة. فالشافعي رحمه الله تمسك بهذا الحديث وقال أخبر النبي عليه السلام أن القصر صدقة والصدقة لا تثبت, ولا تتم إلا بقبول المتصدق عليه ولهذا قال فاقبلوا فقبل القبول بقي على ما كان. فالشيخ أدرج في تقريره رد هذا الكلام وقال سماه أي القصر صدقة والتصديق بما لا يحتمل التمليك إسقاط محض لا يحتمل الرد فلا يتوقف على قبول العبد فيكون معنى قوله فاقبلوا صدقته فاعملوا بها واعتقدوها كما يقال فلان قبل الشرائع أي اعتقدها. وأراد بقوله مما لا يحتمل التمليك ما لا يحتمله من كل وجه فأما ما يحتمله من وجه فالتصدق به. وتمليكه لا يكون إسقاطا محضا حتى لو قال لمديونه تصدقت بالدين عليك أو ملكتكه فإنه لو قبل أو سكت يسقط الدين, وإن قال لا أقبل(2/470)
بما لا يحتمل التمليك إسقاط محض لا يحتمل الرد, وإن كان المتصدق من لا يلزم طاعته كولي القصاص إذا عفا فمن تلزم طاعته أولى, وأما المعنى فوجهان
ـــــــ
يرتد; لأن الدين يحتمل التمليك من المديون, ولا يحتمله من غيره; لأنه قال من وجه دون وجه فلا يكون التصدق به إسقاطا محضا بل فيه معنى التمليك ولهذا لم يصح تعلقه بالحظر كتمليك العين فيرد بالرد. وإنما قلنا إن التصدق بما لا يحتمل التمليك إسقاط محض; لأن التصدق أحد أسباب التمليك والتمليك المضاف إلى محل يقبله مثل أن يقول لآخر, وهبت هذا العبد لك أو ملكتكه أو تصدقت به عليك إذا صدر من العباد قد يقبل الرد حتى لو قال الآخر لا أقبل لا يثبت له ولاية التصرف فيه, وإذا صدر من الله تعالى لا يرتد بالرد; لأنه مفترض الطاعة لا يمكن رد ما أوجبه, وأثبته سواء كان لنا أو علينا مثل الإرث فإنه تمليك من الله تعالى إلى الوارث فإذا قال لا أقبل لا يعتبر قوله. والتمليك المضاف إلى محل لا يقبله إذا صدر من العباد لا يقبل الرد مثل أن يقول لامرأته, وهبت ملك الطلاق أو النكاح منك أو تصدقت به عليك أو يقول ولي القصاص لمن عليه القصاص, وهبت القصاص لك أو ملكتكه أو تصدقت به عليك فتطلق المرأة ويسقط القصاص من غير قبول, ولا يرتد بالرد; لأن معناه الإسقاط والساقط لا يحتمل الرد فالتصدق الصادر من الله تعالى بما لا يحتمل التمليك, وهو شطر الصلاة أولى أن لا يحتمل الرد, ولا يتوقف على قبول العبد; لأنه مفترض الطاعة فثبت أن المراد من أن التصديق الإسقاط وقد سمى الله تعالى الإسقاط تصدقا في قوله عز ذكره: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} "البقرة: 280".ومن الدليل ما روي: "عن عمر رضي الله عنه صلاة المسافر ركعتان تام غير قصر على لسان نبيكم". وعن ابن عباس رضي الله عنهما صلاة المسافر ركعتان, ومن خالف السنة فقد كفر. وعن ابن عمر رضي الله عنهما من صلى في السفر أربعا كان كمن صلى في الحضر ركعتين. وسأل ابن عباس رجلان أحدهما كان يتم الصلاة والآخر يقصر عن حالهما فقال للذي قصر أنت أكملت وقال للآخر أنت قصرت كذا في الأسرار والمبسوط. وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: : "المتم الصلاة في السفر كالمقصر في الحضرة" . كذا أورده سفيان الثوري في كتابه, وأسنده والمراد بالآية قصر الأحوال على ما بين في آخر هذا الكتاب فأما قصر الذات فثابت بالسنة
قوله "وقد تعين اليسر في القصر بيقين". إذا ثبتت الرخصة الحقيقية في شيء للعبد الخيار بين الإقدام على الرخصة وبين الإتيان بالعزيمة; لأن الرخصة, وإن تضمنت يسرا فالعزيمة إما إن تضمنت فضل ثواب كما في الإكراه على الكفر فإن العزيمة تضمنت ثواب الشهادة, وأما إن تضمنت يسرا آخر ليس ذلك في الرخصة كالصوم في السفر تضمن يسر(2/471)
أحدهما أن الرخصة لليسر وقد تعين اليسر في القصر بيقين فلا يبقى الإكمال إلا مؤنة محضة ليس فيها فضل ثواب; لأن الثواب في أداء ما عليه فالقصر مع مؤنة السفر مثل الإكمال كقصر الجمعة مع إكمال الظهر فوجب القول بالسقوط أصلا والثاني أن التخيير إذا لم يتضمن رفقا كان ربوبية, وإنما للعباد اختيار الأرفق فإذا لم يتضمن رفقا كان ربوبية, ولا شركة له فيها ألا ترى أن
ـــــــ
موافقة المسلمين فأما إذا لم يكن فيها فضل ثواب, ولا نوع يسر فسقطت لحصول المقصود بالرخصة وتعين اليسر فيها, وفيما نحن فيه تعين اليسر في القصر, وهو ظاهر ولا يتضمن إلا كمال فضل ثواب; لأن تمام الثواب في فعل العبد جميع ما عليه لا في أعداد الركعات قال الله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} "الملك: 2". اعتبر حسن العمل لا كثرته وقال عليه السلام: "أفضل الصدقة جهد المقل" . أي طاقته فجعل جهده أفضل, وإن لم يملك إلا درهما وتصدق به; لأنه تصدق بكل ماله ثم المسافر قد أتى بجميع ما عليه كالمقيم فكان كالجمعة والفجر مع الظهر فإنه لا فضل لظهر المقيم على فجره, ولا لظهر العبد على جمعة الحر, وإذا كان كذلك وجب القول بالسقوط قوله.
"والثاني أن التخيير" كذا ذكر الخصم أن ثبوت القصر متعلق بمشيئته واختياره. فإن اختار القصر كان فرضه ركعتين, وإن لم يختر ذلك كان فرضه أربعا., وفيه فساد من وجهين. أحدهما أن هذا تخيير لم يتضمن رفقا بالعبد والاختيار الخالي عن الرفق ليس إلا لله جل جلاله فإنه تعالى يفعل ما يشاء ويختار من غير نفع يعود إليه أو مضرة تندفع عنه فإثبات مثل هذا التخيير للعبد ينزع إلى الشركة فيما هو من خصائص الربوبية فيكون فاسدا وثانيهما أن هذا التخيير يقتضي أن يكون نصب شريعة وحكم مفوضا إلى رأي العبد, ومعلقا به كأنه تعالى قال شرعية القصر ثابتة في حقكم إن اخترتم ذلك وذلك فاسد; لأنها متى علقت برأيهم لم يكن شرعا في الحال كالطلاق المعلق بالمشيئة, وإذا شاء العبد كان الثبوت مضافا إلى المشيئة كما في الطلاق المعلق بالمشيئة, ولا يجوز إضافة نصب الشريعة إلا إلى الله تعالى أو إلى الرسل فإضافته إلى غيرهم تؤدي إلى الشركة في خاصة الربوبية أو الرسالة.
وإذا ثبت هذا فاعلم أن الشيخ أدرج في كلامه المعنيين فقال التخيير إذا لم يتضمن رفقا بالعبد كان ربوبية; لأن الشيئين اللذين ثبت التخيير بينهما إن كان كل واحد منهما ثابتا قبل اختياره كان هذا تخييرا له بينهما من غير جر نفع ودفع ضر, ومثل هذا الاختيار لا يليق بالعبد, وإن لم يكن كل واحد منهما ثابتا بل الثابت أحدهما وثبوت(2/472)
الشرع تولى وضع الشرائع جبرا بخلاف التخيير في أنواع الكفارة ونحوها; لأنه يختار الأرفق عنده ولهذا لم نجعل رخصة الصوم إسقاطا; لأن النص جاء بالتأخير بقوله تعالى {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} "البقرة: 184" لا بالصدقة بالصوم وإنما إسقاط البعض من هذا نظير التأخير والحكم هو التأخير, واليسر فيه متعارض; لأن الصوم في السفر يشق عليه من وجه لسبب السفر ويخف عليه من وجه بشركة المسلمين, وهي من أسباب اليسر والتأخير إلى أيام الإقامة يتعذر من وجه, وهو الانفراد ويخف من وجه, وهو الرفق بمرافق الإقامة, والناس في الاختيار متفاوتون فصار التخيير لطلب الرفق فصار الاختيار ضروريا وللعبد اختيار ضروري فأما مطلق الاختيار فلا; لأنه إلهي وصار الصوم أولى; لأنه أصل وقد يشتمل على معنى
ـــــــ
الآخر متعلق باختياره كان هذا تعليقا للشرع باختيار العبد وكل واحد منهما ينزع إلى الشركة في الربوبية ثم استوضح المعنى الأخير بقوله ألا ترى أن الشرع أي الشارع تولى وضع الشرائع جبرا حتى نفذ أوامر الله تعالى قدر ما أريد منها من إباحة وندب أو وجوب من غير أن يكون للعباد اختيار في ذلك فلو علق القصر باختيار العبد أدى إلى الشركة في الربوبية, وهي باطلة.
فإن قيل: المشروع بالسفر تعلق القصر بقول العبد, وإنه ثابت بنفسه. قلنا إن المشروع الذي ابتلينا بفعله هو الصلاة لا القصر فإنه سقوط والعبرة لما هو الأصل فلا يكون صيرورة الصلاة ركعتين أو أربعا إلينا, وإنما يكون إلينا الأداء لا غير هذا أصل الشرع, وإلى العبد مباشرة العلل من سفر أو إقامة دون إثبات الأحكام ثم الأداء بعد ثبوت الأحكام كذا في الأسرار ويجوز أن يكون قوله ألا ترى ابتداء كلام ردا لما علق الخصم السقوط بمشيئة العبد بخلاف التخيير في أنواع الكفارة أي كفارة اليمين. ونحوها مثل التخيير الثابت في جزاء الصيد بقوله تعالى {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} "المائدة: 95". الآية والتخيير الثابت في الحلق بعذر بقوله عز اسمه: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} "البقرة: 196". فإنه أي من يثبت له التخيير. ولهذا أي; ولأن لفظة التصدق هو الذي دل على الإسقاط في القصر لم نجعل رخصة الصوم إسقاطا; لأن النص جاء فيه بلفظ التأخير لا بالصدقة بالصوم وإنما إسقاط البعض في هذا أي في المتنازع فيه نظير التأخير في الصوم, وهو ثابت بلا مشيئة منا, ولا رأي فكذا القصر في الصلاة فعلى هذا كان ينبغي أن لا يجوز الصوم في السفر إلا أن السبب لما لم يخرج عن السببية وبقي موجبا كما كان حتى لزمه القضاء إذا أدرك عدة من أيام أخر جاز التعجيل; لأن المؤجل مما يقبل التعجيل كالدين(2/473)
الرخصة لما قلنا, وهو الذي وعدناه في أول هذا الفصل, وإنما تمسك وكذلك من قال إن دخلت الدار فعلي صيام سنة ففعل, وهو الشافعي في هذا الباب بظاهر العزيمة كما هو دأبه في درك حدود الفقه والله أعلم.
ولا يلزم رجل أذن لعبده في الجمعة أنه إن شاء صلى أربعا, وهو الظهر, وإن شاء صلى ركعتين; لأن الجمعة هي الأصل عند الإذن; ولأنهما مختلفان فاستقام طلب الرفق معسر كان له أن يصوم سنة أو يكفر بصيام ثلاثة أيام عند محمد رحمه الله, وهو مروي في النوادر عن أبي حنيفة رضي الله عنه فأما في ظاهر
ـــــــ
المؤجل, وأداء الزكاة قبل الحلول; ولأن التأخير ثبت للتيسير, واليسر متعارض إلى آخر ما ذكرنا في الكتاب. وهي من أسباب اليسر; لأن البلية إذا عمت طابت. فصار الاختيار ضروريا أي ثبت ضرورة طلب الرفق والعبد أهل لهذا النوع من الاختيار. فأما مطلق الاختيار من غير رفق فلا أي لا يثبت للعبد; لأنه إلهي كما بينا. وصار الصوم أولى; لأنه أصل باعتبار قيام السبب ولاشتماله على معنى الرخصة أيضا.
وإنما تمسك الشافعي في هذا الباب أي باب العزيمة والرخصة بظاهر العزيمة والرخصة فقال العزيمة في الصوم متأخرة إلى عدة من أيام أخر; لأنه ليس بمطالب بالصوم إلا بعد إدراكها فلم يكن الصوم ثابتا في الحال فكان الفطر أولى, وفي الصلاة لم يتأخر الحكم إلى زمان الإقامة وجبت الصلاة في الحال والقصر رخصة فكانت العزيمة أولى.
ثم شرع في جواب ما يرد نقضا على هذا الأصل, فقال ولا يلزم إذا أذن العبد في الجمعة فهو مخير بين أن يصلي أربعا, وهو الظهر وبين أن يصلي ركعتين, وهما الجمعة, وهذا تخيير بين القليل والكثير; لأنا لا نسلم أنه مخير بينهما بل الواجب عليه حضور الجمعة عينا عند الإذن كما في الحر, وهو المراد من قوله; لأن الجمعة هي الأصل حتى لو تخلف عن الجمعة بعد الإذن يكره له ذلك كما في الحر كذا ذكره في المغني, ولئن سلمنا أن التخيير ثابت فهو غير لازم أيضا; لأنهما أي الظهر والجمعة مختلفان فيصح التخيير طلبا للرفق بخلاف ظهر المسافر والمقيم; لأنهما واحد. والدليل على اختلافهما أن أداء أحديهما بنية الأخرى لا يجوز, وكذا لا يصح اقتداء مصلي الظهر بمصلي الجمعة وعكسه ويشترط للجمعة ما لا يشترط للظهر, وإذا كان كذلك إن شاء تحمل زيادة الأربع, وإن شاء تحمل زيادة السعي والخطبة. وكذلك لو قال يعني كما لا يلزم تخيير العبد المأذون في الجمعة على ما قلنا لا يلزم تخيير من قال إن دخلت الدار فعلي صيام سنة ففعل, وهو معسر يخير بين صوم سنة وبين صوم ثلاثة أيام عند محمد, وهكذا روي عن أبي(2/474)
الرواية فيجب الوفاء لا محالة; لأن ذلك مختلف في المعنى أحدهما قربة مقصودة والثاني كفارة في مسألتنا هما سواء فصار كالمدبر إذا جنى لزم مولاه الأقل من الأرش ومن القيمة من غير خيار بخلاف العبد لما قلنا ولا يلزم أن موسى عليه السلام كان مخيرا بين أن يرعى ثماني حجج أو عشرا فيما ضمن من
ـــــــ
حنيفة رحمهما الله أنه رجع إليه قبل موته بأيام مع أنه تخيير بين القليل والكثير في جنس واحد; لأن ذلك صوم السنة والثلاثة مختلف في المعنى أي مختلفان معنى, وإن اتفقا صورة; لأن صوم السنة قربة مقصودة خالية عن معنى الزجر والعقوبة, وصوم الثلاث كفارة لما لحقه من خلف الوعد المؤكد باليمين, وفيها معنى العقوبة والزجر فصح التخيير طلبا للأرفق عنده, وهذا إذا كان التعليق بشرط لا يريد وقوعه كما ذكر الشيخ فإن المقصود منه المنع من الدخول. فإن كان التعليق بشرط يريد وقوعه مثل أن يقول إن شفى الله مريضي أو إن قدم غائبي فعلي كذا فلا تخيير بل الواجب هو الوفاء بالنذر لا غير هو الصحيح. وفي مسألتنا أي مسألة ظهر المسافر هما سواء أي القصر والإكمال سواء بدليل اتفاق الاسم والشرط. والضمير راجع إلى المفهوم لا إلى المذكور كقوله تعالى {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} "القدر: 1" {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} "النحل: 61". فصار أي ما ذكرنا من تعين القص ر في حق المسافر وتخير العبد المأذون في الجمعة نظير تعين لزوم الأقل من الأرش والقيمة على الموالي في جناية المدبر وتخيره بين الدفع والفداء في جناية العبد فإن المدبر إذا جنى لزم المولى الأقل من الأرش, ومن قيمته المدبر من غير خيار له في ذلك لاتحاد الجنس إذ المالية هي المقصودة لا غير وتعين الرفق في الأقل كالقصر في حق المسافر. بخلاف العبد إذا جنى حيث خير المولى بين الدفع والفداء, وإن كانت قيمة العبد أقل أو أكثر من الفداء; لأن الدفع مع الفداء مختلفان صورة, ومعنى فإن أحدهما مال والآخر رقبة فاستقام التخيير طلبا للرفق كتخيير العبد المأذون بالجمعة بينهما وبين الظهر. ولا يلزم على ما ذكرنا تخيير موسى صلوات الله عليه في الرعي بين ثماني سنين وعشر سنين على ما أخبر الله تعالى عنه بقوله: {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ} "القصص: 28"., وأنه تخيير بين الأقل والأكثر في جنس واحد; لأنا لا نسلم أن الزيادة على الثماني كانت واجبة بل المهر هو الرعي ثماني سنين لا غير, والفضل كان برا منه بدليل قوله: {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ} "القصص: 27". وهكذا نقول الفرض في مسألتنا ركعتان والزيادة على الركعتين نفل مشروع للعبد يتبرع من عنده إلا أن الاشتغال بأداء النفل قبل إكمال الأركان مفسد للفرض وبعد إكمالها قبل انتهاء التحريمة مكروه كذا قال شمس الأئمة.(2/475)
المهر; لأن الثمانية كانت مهرا لازما, والفضل كان برا منه ويتصل بهذه الجملة معرفة حكم الأمر والنهي في ضد ما نسبا إليه, وهذا تابع غير مقصود في جنس الأحكام فأخرناه.
ـــــــ
ولا يلزم على هذا ما ذكر في باب النوافل ويصلي أربعا قبل العصر, وإن شاء ركعتين, وأربعا بعد العشاء, وإن شاء ركعتين, وما ذكر في باب الآذان, ولو فاتته صلوات أذن للأولى وأقام, وكان مخيرا في الثانية إن شاء أذن وأقام, وإن شاء اقتصر على الإقامة فإن هذا كله تخيير بين القليل والكثير في جنس واحد; لأنا لا نسلم أن الرفق تعين في القليل بل في الكثير زيادة الثواب, وإن كان في القليل يسر الأداء فكان التخيير مفيدا, وعلى هذا الحرف يخرج جميع ما يرد نقضا عليه والله أعلم.
قوله "ويتصل بهذه الجملة" أي بما تقدم من الأقسام حكم الأمر والنهي في ضد ما نسبا إليه يعني ضد المأمور به والمنهي عنه فإن طلب الفعل في قولك اضرب منسوب إلى الضرب وطلب الامتناع في قولك لا تشتم منسوب إلى الشتم. ولم يقل في ضدهما; لأن الضمير حينئذ يرجع إلى نفس الأمر والنهي فيوهم أن للأمر أثرا في ضد نفسه, وهو انتهى, وكذا العكس فيفسد المعنى إذن; لأنه لا حكم لهما في ضد أنفسهما بالإجماع فإنه لا أثر لقولك تحرك في لا تتحرك, ولا قولك لا تسكن في السكن أصلا بالإجماع. فأما ضد المأمور به, وهو الحركة فالسكون ضد المنهي عنه, وهو السكون هو الحركة فهل للأمر, وهو قوله تحرك أثر في المنع عن السكون حتى كان بمنزلة قوله لا تسكن, وهل للنهي, وهو قوله لا تسكن أثر في طلب الحركة حتى كان بمنزلة قوله تحرك فهو محل الخلاف, وهذا الباب لبيانه.(2/476)
"باب حكم الأمر والنهي في أضدادهما"
اختلف العلماء في الأمر بالشيء هل له حكم في ضده إذا لم يقصد ضده
ـــــــ
"باب حكم الأمر والنهي في أضدادهما"
أي أضداد ما نسبا إليه. وذهب عامة العلماء الذين قالوا بأن موجب الأمر الوجوب من أصحابنا وأصحاب الشافعي, وأصحاب الحديث إلى أن الأمر بالشيء نهي عن ضده إن كان له ضد واحد كالأمر بالإيمان نهي عن الكفر, وإن كان له أضداد كالأمر بالقيام فإن له أضدادا من القعود والركوع والسجود والاضطجاع ونحوها يكون الأمر نهيا عن الأضداد كلها. وقال بعضهم يكون نهيا عن واحد منها غير عين. وفصل بعضهم بين أمر الإيجاب والندب فقال أمر الإيجاب يكون نهيا عن ضد المأمور به أو أضداده لكونها مانعة من فعل الواجب, وأمر الندب لا يكون كذلك فكانت أضداد المندوب غير منهي عنها لا نهي تحريم, ولا نهي تنزيه.
ومن لم يفصل جعل أمر الندب نهيا عن ضد المأمور به نهي ندب حتى يكون الامتناع عن ضده مندوبا كما يكون فعله مندوبا., وأما النهي عن الشيء فأمر بضده إن كان له ضد واحد باتفاقهم كالنهي عن الكفر يكون أمرا بالإيمان والنهي عن الحركة يكون أمرا بالسكون, وإن كان له أضداد فعند بعض أصحابنا وبعض أصحاب الحديث يكون أمرا بالأضداد كلها كما في جانب الأمر وعند عامة أصحابنا وعامة أهل الحديث يكون أمرا بواحد من الأضداد غير عين. وقال الشيخ أبو منصور رحمه الله لا فرق بين الأمر والنهي في أن لكل واحد منهما ضدا واحدا حقيقة, وهو تركه فالأمر بالشيء نهي عن ضده, وهو تركه والنهي عن الشيء أمر بضده, وهو تركه أيضا غير أن الترك قد يكون بفعل واحد بطريق التعيين كالتحرك يكون تركه بالسكون وقد يكون بأفعال كثيرة كترك القيام يكون بالقعود والاضطجاع والاستلقاء فهذا بيان الاختلاف بين أهل السنة. فأما المعتزلة فقد اتفقوا على أن عين الأمر لا يكون نهيا عن ضد المأمور به, وكذا النهي عن الشيء لا يكون أمرا بضد المنهي عنه لكنهم اختلفوا في أن كل واحد منهما هل يوجب حكما في ضد ما أضيف(2/477)
----------------------------------------------------
ـــــــ
إليه فذهب أبو هاشم, ومن تابعه من متأخري المعتزلة إلى أنه لا حكم له في ضده أصلا بل هو مسكوت عنه, وإليه ذهب الغزالي وإمام الحرمين من أصحاب الشافعي. وذهب بعضهم منهم عبد الجبار وأبو الحسين إلى أن الأمر يوجب حرمة ضده. وقال بعضهم يدل على حرمة ضده. وقال بعضهم يقتضي حرمة ضده هكذا ذكر في الميزان وغيره, وذكر صاحب القواطع فيه الأمر بالشيء نهي عن ضده من طريق المعنى, وهذا مذهب عامة الفقهاء وذهبت المعتزلة إلى أنه لا يكون نهيا عن الضد وبين الدلائل ثم قال والمسألة مصورة فيما إذا وجد الأمر وحكمنا أنه على الفور فلا بد من ترك ضده عقيب الأمر كما لا بد من فعله عقيب الأمر, وأما إن قلنا إن الأمر على التراخي فلا يظهر المسألة بهذه الظهور. وإليه أشار أبو اليسر أيضا فقال أبو بكر الجصاص وأبو منصور الماتريدي, وأصحاب الشافعي: الأمر إذا أوجب تحصيل المأمور به على طريق الفور يقتضي النهي عن ضده إلى آخره. وكذا ذكر شمس الأئمة أيضا. وقال عبد القاهر البغدادي إنما يكون الأمر بالشيء نهيا عن ضده إذا كان المأمور به مضيق الوجوب بلا بدل, ولا تخيير كالصوم فأما إذا لم يكن كذلك فلا يكون نهيا عن ضده كالكفارات واحدة منها واجبة مأمور بها غير منهي عن تركها لجواز تركها إلى غيرها, وذكر الشيخ أبو المعين في التبصرة ثم إن أصحابنا مع أوائلهم يعني أوائل المعتزلة اتفقوا أن كل مأمور به كان تركه وهو فعل يضاده منهيا عنه, وكل منهي عنه تركه وهو فعل يضاده مأمور به إذا كان لكل واحد منهما ترك مخصوص وضد متعين, وكذا عندنا في كل ما له أضداد من الجانبين جميعا. وعندهم فيما له أضداد تقسيم يطول ذكره. غير أن عندنا كان الأمر بالشيء نهيا عن ضده وعلى القلب; لأن كلام الله تعالى عندنا واحد, وهو بنفسه أمر بما أمر ونهي عما نهى فكان ما هو الأمر بالشيء نهيا عن ضده وعلى العكس وعند المعتزلة كلام الله تعالى هذه العبارات وللأمر صيغة مخصوصة, وكذا للنهي فلا يتصور كون الأمر نهيا لا كون النهي أمرا, ولا شك أن ضد المأمور به منهي عنه وضد المنهي عنه مأمور به فاختلفت عباراتهم فزعم بعضهم أن الأمر بالشيء يدل على النهي عن ضده والنهي عن الشيء يدل على الأمر بضده وقال بعضهم الأمر بالشيء يقتضي نهيا عن ضده, وكذا على القلب, ومنهم من يطلق ما يتفق له من اللفظ, ولا يفرق بين لفظ الدلالة, ولفظ الاقتضاء.
ثم في تحقيق هذه الأقوال وترجيح بعضها على بعض كلام طويل طوينا ذكره, ومن طلبه في مظانة ظفر به والغرض بيان المذاهب, والتنبيه على أن ما اختار الشيخ في الكتاب خلاف اختيار العامة, وهو اختيار القاضي الإمام أبي زيد وشمس الأئمة وصدر الإسلام, ومتابعيهم.(2/478)
بنهي فقال بعضهم لا حكم فيه أصلا وقال الجصاص رحمه الله يوجب النهي عن ضده إن كان له ضد واحد أو أضداد كثيرة, وقال بعضهم يوجب كراهة ضده وقال بعضهم يقتضي كراهة ضده, وهذا أصح عندنا, وأما بالنهي عن الشيء فهل له حكم في ضده فعلى هذا أيضا قال الفريق الأول لا حكم له فيه وقال الجصاص رحمه الله إن كان له ضد واحد كان أمرا به, وإن كان له أضداد لم يكن أمرا بشيء منها وقال بعضهم يوجب أن يكون ضده في معنى ستة واجبة, وعلى القول المختار يحتمل أن يقتضي ذلك احتج الفريق الأول بأن كل واحد من القسمين ساكت عن غيره وقد بينا أن السكوت
ـــــــ
قوله "إذا لم يقصد ضده بنهي" احتراز عما إذا قصد الضد بالنهي مثل قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ} "البقرة: 222". فإن الضد في مثل هذه الصورة حرام بلا خلاف. وقال بعضهم يقتضي كراهة ضده يعني إذا كان الأمر للإيجاب, والفرق بين قوله يقتضي. وقوله يوجب ظاهر فإن الإيجاب أقوى من الاقتضاء; لأنه إنما يستعمل فيما إذا كان الحكم ثابتا بالعبارة أو الإشارة أو الدلالة فيقال النص يوجب ذلك فأما إذا كان ثابتا بالاقتضاء فلا يقال يوجب بل يقال يقتضي على ما عرفت. في معنى سنة واجبة أي سنة مؤكدة قريبة إلى الواجب وعلى القول المختار يحتمل أن يقتضي ذلك أي يقتضي كون الضد في معنى سنة مؤكدة يعني إذا كان النهي للتحريم.
قوله "وقد ذكرنا" يعني ذكرنا أن التعليق بالشرط لا يوجب نفي المعلق بالشرط قبل وجود الشرط; لأنه مسكوت عنه فيبقى على ما كان قبل التعليق فكذا الضد هاهنا مسكوت عنه فيبقى على ما كان قبل الأمر والنهي. ألا ترى أنه لا يصلح دليلا لما وضع له أي الأمر بالشيء وضع لطلب ذلك الشيء وإيجابه, ولا دلالة له على ثبوت موجبه فيما لم يتناوله إلا بطريق التعليل فلأن لا يكون دليلا على ثبوت ما لم يوضع له, وهو التحريم فيما لم يتناوله كان أولى. بيانه في قوله عليه السلام: "الحنطة بالحنطة" . أي بيعوا الحنطة فموجبه إيجاب التسوية كيلا وحرمة الفضل فيما تناوله النص, وهو الأشياء الستة, ولا دلالة في ثبوت موجبه في غير هذه الأشياء أصلا إلا بطريق التعليل فلما لم يصلح دليلا في غير ما تناوله لما وضع له كيف يصلح دليلا فيما لم يتناوله لغير ما وضع له. فعلى قول هؤلاء الذم والإثم على تارك الائتمار باعتبار أنه لم يأت بما أمر به لا بمقابلة فعل الكف أو الضد; لأنه ليس بحرام عندهم, وكذا المدح والثواب لمن لم يشرب الخمر أو لم يباشر الزنا باعتبار أنه لم يباشر المنهي عنه القبيح لا بمقابلة فعل الضد أيضا. قالوا ولهذا يذم(2/479)
لا يصلح دليلا ألا ترى أنه لا يصلح دليلا لما وضع له فيما يتناوله إلا بطريق التعليل فلغير ما وضع له أولى واحتج الجصاص رحمه الله بأن الأمر بالشيء وضع لوجوده, ولا وجود له مع الاشتغال بشيء من أضداده فصار ذلك من ضرورات حكمه, وأما النهي فإنه للتحريم ومن ضرورته فعل ضده إذا كان له ضد واحد كالحركة والسكون فأما إذا تعدد الضد فليس من ضرورة الكف عنه
ـــــــ
العقلاء تارك الصلاة بأنه لم يصل لا بالقيام والأكل والشرب ونحوها مما يضاد الصلاة ويمدحون تارك شرب الخمر بأنه لم يشرب الخمر لا باشتغاله بما يضاده من الأفعال. إلا أن هذا فاسد; لأنه يؤدي إلى استحقاق العقوبة على ما لم يفعله, وهذا مما يرده العقل والسمع; لأن المرء لا يعاقب على عدم الفعل كيف والعدم الأصلي غير مقدور أصلا وقد قال الله تعالى {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} "السجدة "17".و"الأحقاف 14:" و"الواقعة: 24" و {يَكْسِبُون} "التوبة 82-95". ونحوهما. وأما المدح فليس على العدم الذي ليس في وسعه, وإنما هو على الامتناع الذي هو مقدوره. ولا يلزم عليه قوله تعالى: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} "المثر: 43". فإنه رتب العقوبة على عدم الصلاة; لأن ذلك ترتيب العقوبة على الفعل في الحقيقة فإن المراد والله أعلم لم تك من المعتقدين لها وترك الاعتقاد فعلي, وهو كفر فكانت العقوبة بناء على الكفر.
قوله "واحتج الجصاص" يعني في فصل الأمر بكذا. قال شمس الأئمة رحمه الله بنى أبو بكر الجصاص مذهبه على أن الأمر المطلق يوجب الائتمار على الفور فقال من ضرورة وجوب الائتمار على الفور حرمة الترك الذي هو ضده والحرمة حكم النهي فكان موجبا النهي عن ضده بحكمه. يوضحه أن الأمر طلب الإيجاد للمأمور به على أبلغ الجهات والاشتغال بضده بعدم ما وجب بالأمر, وهو الإيجاب فكان حراما منهيا عنه بمقتضى حكم الأمر. ولهذا يستوي فيه ما يكون له ضد واحد, وما يكون له أضداد; لأنه بأي ضد اشتغل يفوت ما هو المطلوب ألا ترى أنه إذا قال لغيره اخرج من هذه الدار سواء اشتغل بالقعود فيها أو الاضطجاع أو القيام يفوت ما أمر به, وهو الخروج.
"وأما النهي فإنه للتحريم" أي النهي لإثبات الحرمة, وإعدام المنهي عنه بأبلغ الوجوه فإذا كان له ضد واحد لا يمكن إعدام المنهي عنه إلا بإتيان ضده فيكون النهي حينئذ أمرا بضده, وإذا كان له أضداد لا يوجب أمرا يوجد منها; لأن الأمر بالضد إنما يثبت هاهنا ضرورة النهي, وإما ترتفع بثبوت الأمر بضد واحد فلا يجعل أمرا بجميع الأضداد ثم لا يمكن إثبات الأمر بضد واحد أيضا; لأن بعض الأضداد ليس بأولى من البعض فلا يثبت. بخلاف جانب الأمر; لأن إتيان المأمور به لا يمكن إلا بترك جميع الأضداد, وترك جميع(2/480)
إتيان كل أضداده ألا ترى أن المأمور بالقيام إذا قعد أو نام أو اضطجع فقد فوت المأمور به, والمنهي عن القيام لا يفوت حكم النهي بأن يقعد أو ينام أو يضطجع. قال: وأجمع الفقهاء رحمهم الله أن المرأة منهية عن كتمان الحيض بقوله تعالى {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} "البقرة: 228" ثم كان ذلك أمرا بالإظهار; لأن الكتمان ضده واحد, وهو الإظهار واتفقوا أن المحرم منهي عن لبس المخيط ولم يكن مأمورا بلبس شيء متعين من غير المخيط,
ـــــــ
الأضداد متصور فإن ترك أفعال كثيرة من واحد في ساعة واحدة متصور أما هاهنا فيمكن تحقيق حكم النهي بإثبات ضد واحد فإن الساعة الواحدة لا يتصور فيها إثبات أفعال شتى, وإنما يتصور إثبات فعل واحد, ولكن ذلك الفعل غير متعين فلم نجعله أمرا به أيضا.
يوضح الفرق بينهما أن مع التصريح بالنهي فيما له ضد واحد لا يستقيم التصريح بالإباحة فإنه لو قال نهيتك عن التحرك. وأبحت لك السكون أو أنت مخير في السكون كان كلاما مختلا; لأن موجب النهي تحريم المنهي عنه وذلك يوجب الاشتغال بالضد والإباحة والتخيير ينافيانه. فأما إذا كان للمنهي عنه أضداد فيستقيم التصريح بالإباحة في جميع الأضداد بأن يقول لا تسكن, وأبحت لك التحرك من أي جهة شئت أو يقول لا تقم, وأبحت لك ما شئت من القعود والاضطجاع, وكذا فثبت أنه لا موجب لهذا النهي في شيء من الأضداد. ولكن من اختار أنه يكون أمرا بواحد من الأضداد غير عين يقول لما كان النهي مقتضيا أمرا بضده ضرورة تحقيق حكم النهي, ولا يمكنه تحقيقه إلا بترك المنهي عنه إلى ضد واحد يثبت الأمر بضد واحد غير عين, والأمر قد يثبت في المجهول كما في أحد أنواع الكفارة ثم استدل الجصاص على الفرق بين ما له ضد واحد وبين ما له أضداد في النهي بإجماع الفقهاء على ما قرر في الكتاب. وقوله تعالى. {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} "البقرة: 228". أي من الحيض والحبل بالإظهار ولهذا وجب قبول قولها فيما تخبر به; لأنها مأمورة بالإظهار. والمحرم منهي عن لبس المخيط بحديث ابن عمر رضي الله عنهما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: "لا يلبس المحرم القباء, ولا القميص, ولا السراويل, ولا الخفين إلا أن لا يجد النعلين فيقطعهما أسفل من الكعبين1" .
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الحج حديث رقم رقم 1177 والترمذي في الحج حديث رقم 833 وأبو داود في المناسك حديث رقم 1823 وابن ماجة في المناسك حديث رقم 2929 والإمام أحمد في المسند 2/3و4و8(2/481)
واحتج الفريق الثالث بأن الأمر على ما قال الجصاص رحمه الله إلا أنا أثبتنا بكل واحد من القسمين أدنى ما يثبت به; لأن الثابت لغيره ضرورة لا يساوي المقصود بنفسه, وأما الذي اخترناه فبناء على هذا, وهو إن هذا لما كان أمرا
ـــــــ
ولم يكن مأمورا بلبس شيء معين من غير المخيط; لأن للمنهي عنه, وهو المخيط أضدادا., ولا يقال المنهي عنه المخيط فيكون ضده غير المخيط, وهو شيء واحد فصار نظير الإظهار مع الكتمان; لأنا نقول ليس للإظهار والكتمان أنواع بخلاف المخيط وغير المخيط فإن كل واحد منهما أنواع, وهو كالقيام مع ترك القيام فإن تركه لما كان يحصل بأنواع من الفعل عد القيام مما له أضداد لا مما له ضد واحد. واحتج الفريق الثالث بما احتج به الجصاص إلا أنهم يقولون نحن نثبت بكل واحد من القسمين أي النهي الثابت في ضمن الأمر والأمر الثابت في ضمن النهي.
"أدنى" أي "دون ما يثبت به" أي بكل واحد من الأمر والنهي إذا ورد مقصودا; لأن الثابت ضرورة الغير لا يكون مثل الثابت مقصودا بنفسه فكان هذا النهي بمنزلة نهي ورد لمعنى في غير المنهي عنه فيثبت به الكراهة والأمر بمنزلة أمر ورد لحسن في غير المأمور به فيثبت به كون المأمور به سنة قريبة إلى الواجب. ألا ترى أن النهي عن البيع وقت النداء لما كان لمعنى في غيره, وهو تأخير السعي أو فواته اقتضى كراهة المنهي عنه لا حرمته حتى بقي مباحا في نفسه, ولم يكن فاسدا فكذا هذا النهي; لأنه ثبت ضرورة فوات المأمور به لا مقصودا بنفسه. والدليل عليه أنهم أجمعوا على أنه إذا قضى الفائتة عند ضيق الوقت بحيث لا يسع إلا للوقتية يجوز ويخرج عن العهدة مع أنه منهي عن الاشتغال بها في هذه الحالة إلا أن النهي لما ثبت ضرورة فوات المأمور به لم يؤثر في نفسها بالتحريم, وأوجب الكراهة بخلاف النهي عن أداء الواجب في الأوقات المكروهة فإنه ورد قصدا فلذلك أثبت الحرمة في نفسه. وأوجب الفساد قوله "وأما الذي اخترناه" وهو أن الأمر بالشيء يقتضي كراهة فبناء على هذا أي على ما ذكر الفريق الثالث أن الثابت بغيره لا يساوي الثابت بنفسه, إلا أنا نقول النهي الثابت بالأمر ثابت بطريق ضرورة الاقتضاء; لأن طلب الوجود بالأمر يقتضي انتفاء ضده فكان ينبغي أن تثبت الحرمة في الضد باقتضاء الأمر إلا أن الضرورة تندفع بإثبات الكراهة فلا يثبت الحرمة فلذلك قلنا بأن الأمر يقتضي كراهة الضد لا إنه يوجبها أو يدل عليها; لأن الثابت بالدلالة مثل الثابت بالنص أو أقوى منه, وكذلك النهي يقتضي سنية الضد إن كان له ضد واحد على قياس الأمر, وإن كان له أضداد يثبت هذا القدر من المقتضي في أي أضداده الذي يأتي به المخاطب كذا ذكر شمس الأئمة رحمه الله. ورأيت في بعض النسخ, وكذا إذا كان له أضداد يوجب ترغيبا في واحد(2/482)
ضروريا سميناه اقتضاء ومعنى الاقتضاء ههنا أنه ضروري غير مقصود فصار شبيها بما ذكرنا من مقتضيات أحكام الشرع وأما قوله تعالى {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ} "البقرة: 228" فليس بنهي بل نسخ له أصلا مثل قوله تعالى: {لا
ـــــــ
من تلك الأضداد غير عين ويجوز مثل هذا على ما بينا في الأمر بأحد الأشياء في الكفارة.
"ومعنى الاقتضاء هاهنا" كذا يعني لا نعني به الاقتضاء الذي هو جعل غير المنطوق منطوقا لتصحيح المنطوق إذ لا توقف لصحة المنطوق عليه بل المراد أنه ثابت بطريق ضرورة غير مقصود كما أن المقتضى ثابت بطريق الضرورة فكان شبيها بمقتضيات الشرع من حيث إن كل واحد منهما ثابت بالضرورة فلذلك يثبت موجب النهي والأمر هاهنا بقدر ما تندفع به الضرورة, وهو الكراهة والترغيب كما يجعل المقتضى مذكورا بقدر ما تندفع به الضرورة, وهو صحة الكلام. وبما ذكرنا خرج الجواب عن قول الفريق الأول إن الضد مسكوت عنه; لأنه, وإن كان مسكوتا عنه لكنه ثابت بطريق الاقتضاء, ولا خلاف بيننا وبينهم أن الاقتضاء طريق صحيح لإثبات المقتضى, وإن كان مسكوتا عنه بعد أن يكون الأصل محتاجا إليه, وليس هذا نظير التعليقات فإنها لابتداء الوجود عند وجود الشرط, ومن ضرورة وجود الحكم عند وجود الشرط أن لا يكون موجودا قبله, ولكن عدمه قبل وجود الشرط عدم أصلي والعدم الأصلي غير مفتقر إلى دليل معدوم يضاف إليه فلا يضاف إلى التعليق نصا, ولا اقتضاء فأما وجوب الإقدام على الإيجاد فيقتضي حرمة الترك والحرمة الثابتة بمقتضى الشيء يكون مضافا إليه فلذلك جعلنا قدر ما يثبت من الحرمة مضافا إلى أمر اقتضاء.
وذكر الشيخ أبو المعين رحمه الله في التبصرة في مسألة الاستطاعة أن بعض المتأخرين ممن تكلم في أصول الفقه من أهل ديارنا ذكر أن الأمر بالشيء يقتضي كراهة ضده, ولا أقول إنه نهي عن ضده, ولا أقول إنه بدل, ولست أدري ما إذا كان رأيه أن توجه الوعيد على تارك المأمور به لارتكابه ضد المنهي عنه, وهو الترك الذي هو فعل كما هو مذهب جميع أهل القبلة أم لانعدام ما أمر به من غير فعل ارتكبه كما هو مذهب أبي هاشم فإن كان الوعيد متوجها لانعدام المأمور به كما هو مذهب أبي هاشم فأي حاجة إلى إثبات الكراهة في الضد, والوعيد بدونه متوجه, وإن لم يكن بد لتوجه الوعيد من فعل محظور يرتكبه وذلك فعل الترك فكيف يزعم بتوجه كل الوعيد لتارك الفرائض وثبوت العقوبة له لو لم يتغمده الله برحمته لمباشرة فعل مكروه ليس بمنهي عنه, ولا محظور, وهذا مما يأباه جميع أهل العلم. وإليه أشار صاحب الميزان أيضا فقال, وما قاله بعض(2/483)
يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} "الأحزاب: 52" فلا يصير الأمر ثابتا بالنهي بل لأن الكتمان لم يبق مشروعا لما تعلق بإظهاره من أحكام الشرع فصار بهذه الواسطة
ـــــــ
المشايخ إنه يقتضي كراهة ضده خلاف الرواية فإن ترك صلاة الفرض والامتناع عن تحصيلها حرام يعاقب عليه والمكروه لا يعاقب على فعله. ويمكن أن يجاب عنه بأن الضد إنما يجعل مكروها إذا لم يكن الاشتغال به مفوتا للمأمور فأما إذا تضمن الاشتغال به تفويته لا محالة فحينئذ يحرم بالنظر إلى التفويت, ويصير سببا لتوجه الوعيد واستحقاق العقوبة, وإن كان في ذاته مباحا كصوم يوم النحر حرام وسبب للعقوبة باعتبار ترك الإجابة, ومباح بل عبادة وسبب للثواب باعتبار قهر النفس على ما مر تحقيقه في باب النهي. وكونه حراما لغيره لا يمنع استحقاق العقوبة كأكل مال الغير.
قوله: "وأما قوله" جواب عن تمسك الجصاص بالإجماع في فصل النهي أي قول الله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ} . الآية ليس بنهي كما زعم الجصاص حتى يكون الأمر بالإظهار ثابتا به على ما زعم بل هو نسخ له أي رفع لجواز الكتمان أصلا; لأنه صيغة نفي لا نهي. مثل قوله تعالى: {لا يحل لك النساء من بعد} . فإنه ليس بنهي للنبي عليه السلام عن التزوج بل هو نسخ لقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} "الأحزاب 50". وللإباحة المطلقة الثابتة للنبي عليه السلام في حق النساء وذلك; لأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهن لما اخترن الله ورسوله بعد نزول آية التخيير جازاهن من الله عز وجل بقصر النبي عليه السلام عليهن بقوله عز اسمه {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} . أي لا يحل لك النساء سوى هؤلاء اللاتي اخترنك من بعدما اخترن الله ورسوله. ثم قالت عائشة رضي الله عنها: "ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى حل له النساء1" يعني أن الآية قد نسخت. وناسخها إما السنة أو قوله تعالى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} "الأحزاب 50". وترتيب النزول ليس على ترتيب المصحف كذا في المطلع. فلا يصير الأمر أي الأمر بالإظهار. ثابتا بالنهي أي النهي عن الكتمان لما ذكرنا أنه ليس ينهي عنه. بل; لأن الكتمان لم يكن مشروعا أي بل ثبت الأمر بالإظهار باعتبار أن كتمان ما في الأرحام لم يكن مشروعا لتعلق أحكام الشرع بإظهاره من حمل القربان وحرمته وانقضاء العدة, وإباحة التزوج بزوج آخر وغيرها. فصار أي هذا النص بواسطة عدم شرعية الكتمان أمرا بالإظهار إذ لا مرجع إلى معرفة ما في أرحامهن إلا إليهن, ولذلك غلظ عليهن في الإظهار بقوله تعالى: {إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} "البقرة: 228". أي الكتمان
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في التفسير حديث رقم 32.(2/484)
أمرا, وهذا مثل قوله: "لا نكاح إلا بشهود" وفائدة هذا أن التحريم إذا لم يكن مقصودا بالأمر لم يعتبر إلا من حيث يفوت الأمر فإذا لم يفته كان مكروها كالأمر بالقيام ليس بنهي عن القعود قصدا حتى إذا قعد ثم قام لم تفسد صلاته بنفس القعود, ولكنه يكره, ولهذا قلنا إن المحرم لما نهي عن لبس المخيط كان من السنة لبس الإزار والرداء ولهذا قلنا إن العدة لما كان معناها النهي عن التزوج
ـــــــ
ليس من فعل المؤمنات لكونه من باب الخيانة والكذب, والإيمان بالله وبعقابه مانع من الاجتراء على مثل هذه الجريمة. وهذا أي قوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ} "البقرة: 228". مثل قوله عليه السلام: "لا نكاح إلا بشهود" . في أن كل واحد منهما نفي, وليس بنهي.
قوله "وفائدة هذا" الأصل, وهو ما ذكرنا أن الأمر بالشيء يقتضي كراهة ضده والنهي عن الشيء يقتضي أن يكون ضده في معنى سنة واجبة أن التحريم إذا لم يكن مقصودا بالأمر; لأن الأمر لم يوضع للتحريم, وإنما ثبت التحريم ضرورة على ما بينا. لم يعتبر أي لم يجعل التحريم في الضد ثابتا. إلا من حيث تفويت الأمر أي المأمور به يعني إنما يجعل التحريم ثابتا في الضد إذا أدى الاشتغال به إلى فوات المأمور به فحينئذ يحرم; لأن تفويت المأمور به حرام. فإذا لم يفوته أي لم يفوت الضد المأمور به كان الضد مكروها لا حراما. ثم سياق كلام الشيخ هذا ينزع إلى ما قال الجصاص في التحقيق; لأن الجصاص بنى حرمة الضد على فوات المأمور به أيضا كما بناه الشيخ فلا يظهر الخلاف معه إلا في الأمر المطلق; لأن الواجب المضيق على الفور بالاتفاق مثل الصوم فيفوت المأمور به بالاشتغال بضده في أي جزء من أجزاء الوقت حصل فيحرم بالاتفاق للتفويت والواجب الموسع مثل الصلاة على التراخي بالاتفاق فلا يحرم الضد إلا عند تضيق الوقت بالاتفاق; لأن التفويت لا يتحقق قبله. ويكون مكروها على ما اختار الشيخ وينبغي أن لا يكون مكروها إذا لم يكن التأخير مكروها لعدم تأديته إلى أمر حرام أو مكروه.
والأمر المطلق على التراخي عندنا كالموسع وعلى الفور عنده كالمضيق فلا يحرم الضد عندنا لعدم التفويت ويكره على ما ذكره الشيخ, وكان ينبغي أن تكون الكراهة على تقدير كراهة التأخير كما قلنا وعنده يحرم الضد لفوات المأمور به. فالخلاف في التحقيق راجع إلى أن الأمر المطلق على التراخي أم على الفور, ولم ينكشف لي سر هذه المسألة.
"كالأمر بالقيام" يعني في الصلاة ليس بنهي عن القعود بطريق الأصالة والقصد. "فإذا قعد ثم قام لم تفسد صلاة بنفس القعود"; لأنه لم يفت به ما هو الواجب بالأمر,(2/485)
لم يكن الأمر بالكف مقصودا حتى انقضت الأعداد منها بزمان واحد بخلاف
ـــــــ
"ولكنه" أي القعود "يكره"; لأن الأمر بالقيام اقتضى كراهته. ولهذا أي; ولأن النهي يقتضي سنية الضد. ولهذا أي, ولما ذكرنا أن النهي عن الضد أمر به بطريق الضرورة لا بطريق القصد قلنا لما كان معنى العدة الثابتة بقوله تعالى {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} "البقرة: 228". النهي عن التزوج أي المقصود منها حرمة التزوج. لم يكن الأمر بالكف عن التزوج الذي هو ضد التزوج انتهى عنه مقصودا فلا يثبت به وجوب الكف بل يثبت به سنيته فلا يمنع تداخل العدتين.
وبيانه أن ركن العدة عندنا حرمات تنقضي والمدة ضربت أجلا لانقضاء هذه الحرمات والكف عن الفعل يجب احترازا عن الوقوع في الحرمة لا أنه ركن العدة, وقال الشافعي رحمه الله الركن كف المرأة نفسها عن التزوج والخروج والبروز, والمدة لتقدير الكف الواجب عليها, وحرمة الأفعال تثبت ضرورة وجوب الكف الذي هو ركن. والمسألة التي تخرج عليها أن العدتين تتداخلان وتمضيان بمدة واحدة عندنا, وهو مذهب معاذ بن جبل وجابر بن عبد الله وعنده لا تتداخلان, وهو مذهب عمر وعلي رضي الله عنهم.
وصورة المسألة ما إذا تزوجت المعتدة بزوج آخر ووطئها ثم فرق القاضي بينهما يجب عليها عدة أخرى وتحتسب ما ترى من الأقراء من العدتين, وإن كانت حاملا انقضت العدتان بوضع الحمل وعنده يجب استئناف العدة بعد انقضاء الأولى. وإن تزوجت بالزوج الأول في العدة ووطئها فهاهنا تتداخلان بالاتفاق. احتج الشافعي رحمه الله بقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} "البقرة: 228" أي يكففن ويحبسن أنفسهن عن نكاح آخر ووطء آخر هذه المدة. وقال {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} "الأحزاب: 49". وقال {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} فثبت أن العدة فعل استحقها الزوج على المرأة. والدليل عليه أن هذه النصوص تدل على أن العدة مأمور بها, والثابت بالأمر الأفعال لا الحرمات فصار ركن العدة كف النفس عن التزوج وخلط المياه لحق الزوج, وثبوت حرمة الأفعال ضرورة تحقق الكف كما في الصوم وتسميتها أجلا مجاز, وهو في الحقيقة تقدير لركن الكف كتقدير الصوم إلى الليل, وإذا ثبت أن الركن هو الكف لا يتصور كفان من واحد في مدة واحدة لاستحالة صدور فعلين متجانسين من واحد في زمان واحد ولهذا لم يتصور أداء صومين من واحد في يوم واحد. ولعلمائنا قوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} "الطلاق: 4". وقوله عز وجل: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} "البقرة:234" وقوله: {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} "البقرة 235". فالله تعالى سمى العدة أجلا والآجال إذا اجتمعت على واحد أو لواحد انقضت بمدة(2/486)
الصوم; لأن الكف وجب بالأمر مقصودا به ولهذا قال أبو يوسف رحمه الله إن
ـــــــ
واحدة كمن عليه ديون مؤجلة لا بأس بآجال متساوية ينقضي جميع الآجال بمدة واحدة; ولأنه تعالى لما سماها أجلا, والأجل مدة مضروبة لامتناع شيء وجد سببه كالآجال المضروبة في الديون لامتناع المطالبة مع وجود سببها عرفنا أنها مدة ضربت لامتناع حكم الطلاق إلى زمان انقضائها, وحكم الطلاق حل التزوج والخروج; لأن النكاح قد كان حرمها على سائر الأزواج وحرم عليها الخروج والبروز, والطلاق شرع لإزالة ما أثبته عقد النكاح فكان حكمه الإطلاق, وإزالة تلك الحرمات.
وكان ينبغي أن يثبت حكمه في الحال إلا أن الشرع أدخل الأجل على حكمه فتأخر بعد انعقاد السبب إلى انقضائه كما تأخرت المطالبة في الدين المؤجل إلى انقضاء الأجل, وإذا تأخرت حكمه, وهو إزالة الحرمات كانت الحرمة ثابتة في الحال كما كانت في حالة النكاح فثبت أن الركن فيها الحرمات والدليل على أنه تعالى ذكر ركن العدة بعبارة النهي فقال: {وَلا يَخْرُجْنَ} "النساء 1". وقال: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} "البقرة: 235". والثابت بالنهي الحرمة إلا أن الحرمة لما كانت ثابتة وجب على المرأة التربص في بيت الزوج لا; لأنه ركن لكن لئلا تباشر فعلا حراما كما يجب على الرجل الكف عن الزنا إذا دعت نفسه إليه لا; لأنه ركن إذ الركن حرمة الزنا في نفسه بل لئلا يقع في الحرام. ثم الحرمات قد تجتمع لعدم التضايق فيها كصيد الحرم حرام على المحرم لحرمة الحرم ولحرمة الإحرام, وكخمر الذمي حرام على الصائم الذي حلف لا يشرب خمرا لكونها خمرا ولكونها للذمي ولصومه وليمينه, وإذا كان كذلك جاز أن يثبت حرمة التزوج والخروج مؤجلة إلى انقضاء مدة الأقراء بسبب الزوج حقا له, وإن نثبت بسبب الواطئ بشبهة أيضا حقا له في وقت واحد ثم ينتهي الحرمتان بانقضاء مدة واحدة لحصول مقصود كل واحد من صاحبي العدة بانقضائها, وهو العلم بفراغ رحمها من مائة كمن حلف مرتين لا يكلم فلانا يوما لزمه يمينان, ولو حنث يلزمه كفارتان ثم تنقضي اليمينان بيوم واحد, وكالمرأة تحرم على أزواج بتطليقات ثلاث فإن الحرمات كلها تنقضي بإصابة زوج واحد. وهذا بخلاف الصوم; لأن الركن فيه, وهو كف النفس عن اقتضاء الشهوات ثبت مقصودا بالأمر, وهو قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} "البقرة: 185". وقوله عز وجل {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} "البقرة: 187". والصوم عبارة عن الكف والإمساك, وأنه فعل والمرء لا يتصف في زمان واحد بكفين كما لا يتصف بجلوسين., ومما يدل على صحة ما ذكرنا أنا متى جعلنا الواجب كفا على المرأة عن الخروج والتزوج ثم يحرم الخروج والتزوج ضرورة الكف لم يكن الخروج, ولا النكاح حراما في نفسه; لأنه حرم لغيره. ألا ترى أن الصوم لما كان كفا لم يكن(2/487)
من سجد على مكان نجس لم تفسد صلاته; لأنه غير مقصود بالنهي, وإنما المقصود بالأمر فعل السجود على مكان طاهر, وهذا لا يوجب فواته حتى إذا أعادها على مكان طاهر جاز عنده ولهذا قال أبو يوسف: إن إحرام الصلاة لا ينقطع بترك القراءة في مسائل النفل; لأنه أمر بالقراءة ولم ينه عن تركها قصدا فصار الترك حراما بقدر ما يفوت من الفرض, وذلك لهذا الشفع. فأما احتمال شفع
ـــــــ
الأكل, ولا الشرب, ولا جماع الأهل حراما في نفسه, وإذا فعل لا يأثم إثم الأكل والشرب الحرام والجماع الحرام مثل أكل الميتة وشرب الخمر والزنا, وإنما يأثم إثم إفساد الصوم حتى كان إثم الكل واحدا, وهاهنا تأثم المرأة إثم الخروج الحرام, وإثم الجماع الحرام إذا تزوجت وجومعت حتى وجب الحد على أصله فعلم أن الحرام هو الفعل نفسه وعليها عن الفعل الحرام, وإذا لم تكف لم تأثم إثم تارك الكشف فهذا دليل بين على أن المقصود والركن حرمة أفعال لا كف بخلاف الصوم. وأما التربص فمعناه الانتظار والتربص بنفسها أن تحملها على الانتظار, وهو توقف الكينونة أمر في الثاني لا لنفسه كالرجل ينتظر قدوم رجل أو مطر أو إدراك غلة أو نحوها فيكون بمعنى الأجل, وإذا صار المقصود من الانتظار أمرا آخر لا نفسه صلح الواحد لإعداد كيوم واحد ينتظر فيه قدوم أناس وزوال حرمات بأيمان موقتة بيوم وشهر واحد ينتظر فيه حلول ديون فدل صيغة الانتظار على فعل وجب لغيره, وهو زوال الحرمات وقد سلمنا نحن هذا القدر من الفعل, ولكن الواحد يكفي لأداء حرمات كثيرة إقامة لمحظور العدة لا لركنها, والله أعلم, كذا في الأسرار.
قوله "ولهذا" أي; ولأن الأمر بالشيء يوجب كراهة ضده إذا لم يؤد إلى التفويت لا تحريمه قال أبو يوسف رحمه الله إن من سجد على مكان نجس لا تفسد صلاته; لأن السجود على المكان النجس غير مقصود بالنهي; لأن النهي عنه ثابت بالأمر بالسجود على مكان طاهر, وهو قوله تعالى. {وَاسْجُدُوا} . إذ المراد منه السجود على مكان طاهر بالإجماع, وهذا أي السجود على مكان نجس لا يوجب فوات المأمور به; لأنه يمكنه أن يعيده على مكان طاهر فيكون مكروها لا مفسدا. ولهذا أي; ولأن الأمر بالشيء لا يوجب تحريم ضده إلا إذا حصل التفويت به قال أبو يوسف رحمه الله: إحرام الصلاة لا ينقطع بترك القراءة في مسائل النفل, وهي ثمان مسائل; لأنه مأمور بالقراءة غير منهي عن تركها قصدا بل اقتضاء وضرورة فلا يكون الترك حراما إلا بقدر ما يحصل به تفويت المأمور به, وهو القراءة, وفواتها تحقق في الشفع الأول فيظهر تحريم الترك في حق هذا الشفع حتى فسد أداؤه فأما احتمال أداء شفع آخر بهذه التحريمة فلم ينقطع بهذا الترك فلا يظهر حرمة الترك في حق التحريمة فتبقى صحيحة قابلة لبناء شفع آخر عليها, وإن فسد أداء الشفع(2/488)
آخر فلا ينقطع به ولا يلزم أن الصوم يبطل بالأكل; لأن ذلك الفرض ممتد فكان ضده مفوتا أبدا ولهذا قلنا إن السجود على مكان نجس يقطع الصلاة عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وهو ظاهر الجواب; لأن السجود لما كان فرضا صار
ـــــــ
الأول بترك القراءة, وليس من ضرورة فساد الأداء بطلان التحريمة كما إذا فسد الفرض بتذكر الفائتة. ولأن التحريمة صحت قبل الأداء شرطا للأداء فلا تبطل بفساد الأداء بمنزلة الطهارة. ولا يلزم يعني على أبي يوسف أن الصوم يبطل بالأكل بالكلية, وإن لم يوجد الأكل إلا في جزء منه مع أن التحريم لم يثبت مقصودا بل ثبت في ضمن الأمر بالكف; لأن ذلك الفرض, وهو الصوم ممتد حتى كان الكل فرضا واحدا فوجود ضده يكون مفوتا له لا محالة لفوات امتداده به كالإيمان لما كان فرضا دائما كان وجود ضده, وهو الكفر مفوتا له, وإن قل. فأما النفل فكل شفع منه صلاة على حدة ففساد الأداء في أحد الشفعين لا يؤثر في الآخر ولهذا قلنا أي ولما ذكر أبو يوسف رحمه الله أن الفرض الممتد يبطل بوجود الضد في جزء منه قلنا إن عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله السجود على مكان نجس يقطع الصلاة حتى لو أعاده لا يعتد به; لأن السجود لما كان فرضا صار الساجد على النجس مستعملا للنجس بحكم الفرضية أي فرضية وضع الوجه على الأرض في السجود بمنزلة حامل النجاسة; لأن السجود يتأدى بالوجه والأرض إذ هو عبارة عن وضع الوجه على الأرض, والأرض إذا اتصلت بالوجه صار ما كان صفة لذلك الموضع بمنزلة الصفة للوجه بحكم الاتصال فيصير الساجد على النجس كالحامل بمنزلة ما لو كانت النجاسة في وجهه ثم الكف عن حمل النجاسة مأمور به في جميع الصلاة بدلالة قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} "المثر: 4". أي للصلاة على ما قيل وقد عرف أن تعلق الصلاة بالمكان والبدن أكثر من تعلقها بالثوب فيثبت الكف مطلقا بالسجود على المكان النجس يفوت ذلك الكف فيكون مفسدا كالكف في الصوم لما كان مأمورا به في جميع اليوم يكون الأكل في جزء منه مفسدا له. ثم النجاسة إذا كانت في موضع اليدين أو الركبتين لا يمنع عن الجواز, وقال زفر رحمه الله: يمنع عنه; لأن أداء السجدة بوضع اليدين والركبتين والوجه جميعا فكانت النجاسة في موضع اليدين والركبتين مثلها في موضع الوجه, وأكثر ما في الباب أن له بدا من وضع اليدين والركبتين, وهذا لا يدل على الجواز إذا وضع على مكان نجس كما لو لبس ثوبين في أحدهما نجاسة كثيرة لا يجوز صلاته, وإن كان له منه بد. فالشيخ بقوله صار مستعملا للنجس بحكم الفرضية أشار إلى الفرق, وهو إنما جعلناه حاملا للنجس باعتبار أن وضع الوجه على المكان الطاهر, ووضعه على المكان النجس مانع عن أداء الفرض فيعتبر هذا الاستعمال ويجعل قاطعا فأما وضع اليدين(2/489)
الساجد على النجس بمنزلة الحامل مستعملا له بحكم الفريضة والتطهير عن حمل النجاسة فرض دائم في أركان الصلاة في المكان أيضا فيصير ضده مفوتا للفرض ولهذا قال محمد رحمه الله: إن إحرام الصلاة ينقطع بترك القراءة في النفل; لأن القراءة فرض دائم في التقدير حكما على ما عرف فينقطع الإحرام بانقطاعه بمنزلة أداء الركن مع النجاسة وقال أبو حنيفة رحمه الله الفساد بترك
ـــــــ
والركبتين فليس بفرض فكان وضعها على النجاسة بمنزلة ترك الوضع وذلك لا يمنع من الجواز فلا يكون هذا الوضع بمنزلة حمل النجاسة. بخلاف الثوبين فإن اللابس للثوب مستعمل له حقيقة فإذا كان نجسا كان هو حاملا للنجاسة لا محالة فتفسد صلاته كما لو كان ممسكه بيده فأما المصلي فليس بحامل للمكان حقيقة.
وقوله, "وهو ظاهر الجواب" احتراز عما روى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله أن النجاسة في موضع السجود لا تمنع عن الجواز; لأن فرض السجود يتأدى بوضع الأرنبة على الأرض عنده وذلك دون قدر الدرهم فلا يمنع الجواز. والجواب عنه أنه إذا وضع الجبهة والأنف تأدى الفرض بالكل كما إذا طول القراءة والركوع كان مؤديا للفرض بالكل والجبهة والأنف أكثر من قدر الدرهم فلذلك منع الجواز.
قوله "ولهذا" قال محمد أي; ولأن الفرض الممتد يفوت بمطلق وجود الضد قال محمد رحمه الله إن إحرام الصلاة ينقطع بترك القراءة في التنفل, وإن كان في ركعة واحدة; لأن القراءة فرض دائم في التقدير حكما; لأنها مع كونها ركنا شرط صحة الأفعال لا اعتبار لها بدونها في الشرع قال عليه السلام: "لا صلاة إلا بقراءة" . ألا ترى أنه لو استخلف أميا بعدما رفع رأسه من السجدة الأخيرة وقد أتى بفرض القراءة في محلها فسدت الصلاة عندنا لفوات القراءة فيما بقي من الصلاة تقديرا; لأن التقدير إنما يصح في حق الأهل لا في حق غير الأهل, والأمي ليس بأهل. وإذا ثبت أنها فرض دائم يتحقق الفوات بالترك في ركعة وتفسد الأفعال ويتعدى الفساد إلى الإحرام بواسطة فساد الأفعال; لأنها حينئذ تصير بمنزلة أفعال ليست من الصلاة فيوجب فساد الإحرام ضرورة. واحتج أبو حنيفة بما احتج به محمد رحمهما الله إلا أنه شرط أن يكون الفساد بترك القراءة ثابتا بدليل مقطوع به ليصير قويا في نفسه ويصلح للتعدي إلى الإحرام وذلك بأن يتركها في الشفع كله فأما إذا وجدت في إحدى الركعتين فهو موضع الاجتهاد; لأن من العلماء من قال تجوز الصلاة بالقراءة في ركعة واحدة وظاهر قوله عليه السلام: "لا صلاة إلا بقراءة" . يقتضي ذلك أيضا فكان الفساد ثابتا بدليل فيه قصور فلا يتعدى إلى الإحرام فقلنا ببقاء التحريمة حتى صح شروعه في الشفع الثاني وقلنا بفساد الأداء أيضا أخذا بالاحتياط في كل باب, فعلى ما ذكرنا تخرج(2/490)
القراءة في ركعة ثابت بدليل محتمل فلم يتعد إلى الإحرام, وإذا ترك في الشفع كله فقد صار الفساد مقطوعا به بدليل موجب للعلم فتعدى إلى الإحرام ولهذا قال في مسافر ترك القراءة إن إحرام الصلاة لا ينقطع, وهو قول أبي يوسف رحمه الله; لأن الترك متردد محتمل للوجود لاحتمال نية الإقامة فلم يصح مفسدا فصار هذا الباب أصلا يجب ضبطه يبتنى عليه فروع يطول تعدادها, والله أعلم بالحقائق.
ـــــــ
المسائل. فإذا قرأ في الأولين لا غير أو في الآخرين لا غير أو في الأوليين, وإحدى الأخريين. أو في الأخريين, وإحدى الأوليين كان عليه قضاء ركعتين بالاتفاق. ولو قرأ في إحدى الأوليين لا غير. أو في إحدى الأوليين, وإحدى الأخريين كان عليه قضاء ركعتين عند محمد وقضاء الأربع عندهما. ولو قرأ في إحدى الأخريين لا غير. أو لم يقرأ فيهن شيئا عليه قضاء الأربع عند أبي يوسف وقضاء ركعتين عندهما.
قوله "ولهذا" أي, ولما ذكرنا أن الفساد متى ثبت بطريق محتمل لم يتعد إلى الإحرام قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله في مسافر صلى الظهر ركعتين وترك القراءة فيهما لا ينقطع به الإحرام حتى لو نوى الإقامة يتم صلاته أربعا ويقرأ في الأخريين. وقال محمد رحمه الله صلاته فاسدة بكل حال; لأن فساد الصلاة بترك القراءة مؤثر في قطع التحريمة عنده فصار ظهر المسافر كفجر المقيم يفسد بترك القراءة فيهما أو في أحديهما على وجه لا يمكنه إصلاحه فكذا الظهر في حق المسافر إذ لا تأثير لنية الإقامة في رفع صفة الفساد. وعندهما لما كان الاحتمال مانعا من تعدي الفساد إلى الإحرام لم تفسد الصلاة فإن صلاة المسافر بعرض أن تصير أربعا بنية الإقامة فكان الترك مترددا محتملا للوجود أي وجود القراءة في الأخريين بنية الإقامة ونية الإقامة في آخر الصلاة مثلها في أولها, ولو كانت في أولها لم تفسد صلاته بترك القراءة في الأوليين فهاهنا مثله بخلاف فجر المقيم; لأنه ليس بعرض أن تصير أربعا. يبتنى عليه فروع يطول تعدادها. مثل الاعتكاف فإنه يبطل بالخروج من غير ضرورة; لأن اللبث الدائم ينقطع به كالصوم بالأكل. ومثل الصلاة يبطل بالانحراف عن القبلة بالبدن من غير ضرورة; لأن استقبال القبلة فرض دائم فيفوت بالانحراف. وقس عليه ستر العورة, وأما الصلاة بقرب النجاسة فتكره, ولا تفسد; لأن فرض تطهير المكان لا يفوت به, ولكن يقرب إلى الفوات., وكذا أداء النصاب بنية الزكاة إلى فقير واحد يجوز; لأن المأمور به, وهو الإيتاء إلى الفقير لم يفت, ولكن يكره; لأنه أخذ شبها بالأداء إلى الغني لاتصال الغني بالأداء, والله أعلم.
ولما فرغ الشيخ عن بيان المقاصد وتقسيمها, وهي الأحكام شرع في بيان الوسائل إليها, وهي الأسباب فقال:(2/491)
"باب بيان أسباب الشرائع"
اعلم أن الأمر والنهي على الأقسام التي ذكرناها إنما يراد بها طلب الأحكام
ـــــــ
"باب بيان أسباب الشرائع"
أي بيان الطرق التي تعرف بها المشروعات. قال عامة أصحابنا وبعض أصحاب الشافعي وعامة المتكلمين إن لأحكام الشرع أسبابا تضاف إليها والموجب للحكم في الحقيقة والشارع له هو الله تعالى دون السبب; لأن الإيجاب إلى الشرع دون غيره, وهو اختيار الشيخ أبي منصور رحمه الله فإنه ذكر في مأخذ الشرائع أن أوقات الصلاة أسباب لوجود العبادات., وقال جمهور الأشعرية للعقوبات وحقوق العباد أسباب يضاف وجوبها إليها فأما العبادات فلا تضاف إلا إلى إيجاب الله تعالى وخطابه.
وأنكر بعضهم الأسباب أصلا, وقالوا الحكم في المنصوص عليه يثبت بظاهر النص, وفي غير المنصوص عليه يتعلق بالوصف الذي جعل علة, ويكون ذلك أمارة لثبوت الحكم في الفرع بإيجاب الله تعالى, وإثباته متمسكين في ذلك بأن الموجب للأحكام والشارع لها هو الله جل جلاله كما أن موجب الأشياء المحسوسة وخالقها هو الله سبحانه, وصفة الإيجاب صفة خاصة له لا يجوز اتصاف الغير بها كصفة التخليق فكان في إضافة الإيجاب إلى الأسباب قطعه عن الله سبحانه, وذلك لا يجوز لكنه تعالى جعل بعض أوصاف النص علامة, وأمارة على الحكم في الفروع فيقال أسباب موجبة أو علل موجبة مجازا لظهور أحكام الله تعالى عندها. وبأن الأسباب في أفعال العباد بمنزلة الآلات والجوارح السليمة باعتبار أن قدرة العباد ناقصة لا يظهر أثرها في المحال إلا بأسباب وآلات فيكون عملها في تتميم القدرة الناقصة, والله تعالى موصوف بالقدرة التامة فلا يجوز أن يتعلق وجوب أحكامه ووجودها بالأسباب حقيقة. وبأن الأسباب كانت موجودة قبل الشرع, ولا أحكام معها, وقد توجد بغير الشرع أيضا بلا أحكام كما في المجانين والصبيان وغيرهم, ولو كانت عللا للأحكام لم يتصور انفكاكها عن الأحكام كما في العلل العقلية فإن الكسر لا يتصور بدون الانكسار, والدليل على أن العباد لا تجب على من لم تبلغه الدعوة, وهو الذي أسلم في دار الحرب, ولم يهاجر إلينا, ولو كان الوجوب بالأسباب دون الخطاب لوجب عليه العبادات لتحقق الأسباب في حقه.(2/492)
المشروعة, وأداؤها, وإنما الخطاب للأداء ولهذه الأحكام أسباب تضاف إليها شرعية وضعت تيسيرا على العباد, وإنما الوجوب بإيجاب الله تعالى لا أثر
ـــــــ
وتمسك من فرق بين العبادات وغيرها بأن العبادات وجبت لله تعالى على الخلوص فتضاف إلى إيجابه; لأنا ما عرفنا وجوبها إلا بالشرع, وأما العقوبات فتضاف إلى الأسباب; لأنها أجزية الأفعال المحظورة فتضاف إليها تغليظا, وكذا المعاملات تضاف إلى الأسباب; لأنها حاصلة بكسب العبد فتضاف إليه. وبأن الواجب في العبادات ليس إلا الفعل ووجوبه بالخطاب بالإجماع فلا يمكن إضافته إلى شيء آخر فأما المعاملات فالواجب فيها شيئان المال والفعل فيمكن إضافة وجوب المال إلى السبب, وإضافة وجوب الفعل إلى الخطاب, وكذا العقوبات فإن الواجب على الجاني ليس إلا تسليم النفس وتحمل العقوبة, وإنما وجب الفعل على الولاة فيجوز أن يضاف ما وجب عليه إلى السبب, وما وجب على الولاة إلى الخطاب إليهم حيث قيل {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} "المائدة: 38" {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} "النور: 4" {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} "النور: 2". فعلى هذا الطريق يجوز أن تضاف العبادات المالية إلى الأسباب عندهم أيضا. وأما العامة فقالوا: إن الله تعالى شرع للعبادات أسبابا يضاف وجوبها إليها والموجب في الحقيقة هو الله تعالى كما شرع لوجوب القصاص والحدود أسبابا يضاف الوجوب إليها, والموجب هو الله تعالى فجعل سبب وجوب القصاص القتل وسبب وجوب الضمان الإتلاف وسبب ملك الواطئ النكاح, فكذا شرع لوجوب العبادات أسبابا أيضا. فمن أنكر جميع الأسباب وعطلها, وأضاف الإيجاب إلى الله تعالى فقط خالف النص والإجماع وصار جبريا خارجا عن مذهب السنة والجماعة ومن أنكر البعض, وأقر بالبعض فلا وجه له أيضا; لأنه لما جاز إضافة بعض الأحكام إلى الأسباب بالدليل فلم لا يجوز أن يضاف سائرها إلى الأسباب أيضا بالدليل. وقولهم لو أضيف الوجوب إلى الأسباب لزم أن لا يكون مضافا إلى الله عز وجل فاسد; لأنا لا نجعل الأسباب موجبة بذواتها إذ الإيجاب والإلزام لا يتصور إلا من مفترض الطاعة لكن السبب ما يكون موصلا إلى الحكم وطريقا إليه فإضافة الحكم إلى السبب لا يمنع من إضافته إلى غيره فإن من قتل إنسانا بالسيف يحصل القتل حقيقة بالسيف ثم لا يمنع ذلك من إضافته إلى القاتل حتى يجب القصاص عليه, وكذا الشبع يحصل بالطعام والري بالماء ثم يضافان إلى المطعم والساقي فكذا هذا. وقولهم الأسباب كانت, ولا حكم فاسد أيضا; لأنا نجعلها موجبة بجعل الله تعالى إياها كذلك لا بأنفسها فلا تكون أسبابا قبل ذلك كأسباب العقوبات وحقوق العباد كانت موجودة قبل الخطاب, ولم تكن أسبابا ثم صارت أسبابا بجعل الله تعالى.(2/493)
للأسباب في ذلك, وإنما وضعت تيسيرا على العباد لما كان الإيجاب غيبا فنسب الوجوب إلى الأسباب الموضوعة وثبت الوجوب جبرا لا اختيار للعبد فيه ثم الخطاب بالأمر والنهي للأداء بمنزلة البيع يجب به الثمن ثم يطالب بالأداء ودلالة صحة هذا الأصل إجماعهم على وجوب الصلاة على النائم في وقت
ـــــــ
وأما الذي أسلم في دار الحرب, ولم يهاجر إلينا فإنما لا يجب عليه العبادات قبل بلوغ الخطاب; لأنه لا وجه إلى إيجاب الأداء في حقه تحقيقا, ولا تقديرا إذ لا ثبوت للخطابات في حقه أصلا, ولا إلى إيجاب القضاء; لأنه مبني على وجوب الأداء; ولأن في إيجابها عليه حرجا لاجتماع عبادات كثيرة عليه لطول مدة بقائه في دار الحرب عادة فيسقط عنه دفعا للحرج والقصير لندرته ملحق بالكثير وباقي الكلام مذكور في الكتاب.
وقوله "على الأقسام التي ذكرناها" من كون الأمر مطلقا عن الوقت, ومقيدا به, وكونه إيجابا على سبيل التوسع أو التضييق والتخيير وغيرها. إنما يراد بها أي بالأقسام المذكورة طلب الأحكام المشروعة الثابتة قبل الخطاب. وأداؤها تأكيد يعني الخطاب لطلب أداء المشروعات بأسباب نصبها الشرع, وإن استقام الإيجاب بمجرد الأمر. لا أثر للأسباب في ذلك أي في حقيقة الوجوب بخلاف السبب العقلي والحسي فإن لهما أثرا في إثبات المعلول بحيث لا يتخلف عن السبب كالكسر مع الانكسار والإحراق مع الاحتراق. وإنما وضعت الأسباب لأجل التيسير على العباد ليتوصلوا إلى معرفة الواجبات بمعرفة الأسباب الظاهرة إذ الإيجاب الذي هو فعل الله تعالى كان غيبا عنا, وفي الوقوف على معرفته حرج خصوصا عند انقطاع زمان الوحي فوضعت الأسباب ونسب الوجوب إليها تيسيرا, وهي في الحقيقة أمارات على الإيجاب وثبت الوجوب جبرا يعني لم يشترط لأصل الوجوب اختيار العبد, وقدرته بل يثبت بدون اختيار منه كما يثبت السبب بدون اختياره فأما وجوب الأداء الثابت بالخطاب فلا ينفك عن اختيار العبد عنى به أنه إنما يثبت في حال لو اختار العبد فيها الأداء لقدر عليه لا أن وجوب الأداء متوقف على اختياره على معنى أنه إن اختار وجوبه ثبت, وإلا فلا.
والحاصل أن أصل الوجوب يثبت بالسبب خبرا, ولا يشترط فيه القدرة على الأداء ووجوب الأداء يثبت بالخطاب جبرا, ولكن يشترط فيه القدرة على الأداء أعني قدرة الأسباب والآلات, ووجود الأداء يتوقف على اختياره الفعل. ولا يقال ما ذكرتم لا يستقيم في النهي; لأن العبد لا يخاطب بأداء المنهي عنه; لأنا نقول: الواجب بالنهي انتهاء العبد عما نهي عنه فانتهاؤه وامتناعه عنه يكون أداء لموجب النهي.
قوله "ودلالة صحة هذا الأصل" أي الدليل على صحة هذا الأصل, وهو أن نفس(2/494)
الصلاة والخطاب عنه موضوع ووجوب الصلاة على المجنون إذا انقطع جنونه دون يوم, وليلة وعلى المغمى عليه كذلك والخطاب عنهما موضوع, وكذلك الجنون إذا لم يستغرق شهر رمضان كله والإغماء والنوم, وإن استغرقه لا
ـــــــ
الوجوب بالسبب ووجوب الأداء بالخطاب إجماعهم., وهو جواب عما يقال نحن لا نعلم إيجابا من الله تعالى إلا بالأمر فبم عرفتم أن وجوب العبادات بالأسباب. فقال عرفنا ذلك بإجماع المسلمين على إيجاب الصلاة والصوم على من لا يصلح للخطاب مثل النائم في وقت الصلاة والصوم فإنه مؤاخذ بالقضاء بعد الانتباه. وكذا المغمى عليه والمجنون عندنا يؤاخذان بالقضاء بعد الإفاقة إذا لم يزدد الإغماء والجنون على يوم وليلة في الصلاة, ولم يستغرق الجنون والقضاء إنما يجب بدلا عن الفائت من عند من وجد منه التفويت كضمان المتلفات, ولولا التفويت لما وجب القضاء, ولولا الوجوب لما تصور التفويت. ولا يقال ذلك ابتداء عبادة تجب بعد الانتباه أو الإفاقة بخطاب جديد يتوجه عليه; لأنا نقول يجب رعاية شرائط القضاء فيه كنية القضاء وغيرها, ولو كان ذلك ابتداء فرض لما روعيت فيه شرائط القضاء بل كان ذلك أداء في نفسه كالمؤدى في الوقت. ألا ترى أن الصلاة متى لم تجب في الوقت لا يجب قضاؤها بعد خروجه كالكافر والصبي والحائض إذا أسلم أو بلغ أو ظهرت بعد خروج الوقت لا يجب عليهم القضاء لعدم الوجوب في الوقت وحيث وجب هاهنا, ومع الوجوب روعيت شرائط القضاء دل أن الأمر على ما ذكرنا.
واعلم أن قوله "ووجوب الصلاة على المجنون" ينبغي أن يقرأ بالرفع على الابتداء أو عطفا على إجماعهم لا بالجر إذ لو قرئ بالجر كما يدل عليه سوق الكلام لصار معطوفا على الوجوب المتقدم, ولدخل وجوب الصلاة على المجنون والمغمى عليه تحت الإجماع أيضا كوجوبها على النائم. وهو ليس بمجمع عليه فإن عند الشافعي لا تجب الصلاة على المجنون والمغمى عليه إذا استغرق الجنون والإغماء وقت الصلاة وحينئذ لا يصح الاستدلال بهاتين المسألتين على الخصم. إلا إذا كان الكلام مع من أنكر سببية الأوقات للصلوات من أصحابنا فحينئذ يستقيم أن يقرأ بالجر عطفا على الوجوب المتقدم ويصح الاستدلال بالمسألتين أيضا ويكون المراد من الإجماع اتفاق أصحابنا خاصة دون اتفاق الجميع.
وقوله: "وكذلك الجنون إذا لم يستغرق" مذهبنا أيضا دون مذهب الشافعي, وقد قال الشافعي بوجوب الزكاة على الصبي والمجنون وبوجوب كفارات الإحرام والقتل مع أن الخطاب عنهما موضوع بالإجماع, وقالوا أي الفقهاء جميعا بوجوب العشر وصدقة الفطر على الصبي إذا كان له مال عند تقرر السبب, وهو الأرض النامية والرأس الذي يمونه(2/495)
يمتنع بهما الوجوب ولا خطاب عليهما بالإجماع. وقد قال الشافعي رحمه الله بوجوب الزكاة على الصبي, وهو غير مخاطب وقالوا جميعا بوجوب العشر وصدقة الفطر عليه فعلم بهذه الجملة أن الوجوب في حقنا مضاف إلى أسباب شرعية غير الخطاب.
وإنما يعرف السبب بنسبة الحكم إليه وتعلقه به; لأن الأصل في إضافة الشيء إلى الشيء أن يكون سببا له حادثا به
ـــــــ
مع أن الخطاب عنه موضوع, وكذلك يجب عليه وعلى المجنون حقوق العباد عند تحقق الأسباب منهما. ويثبت العتق للقريب عليهما عند دخوله في ملكهما بالإرث لتقرر السبب, وهو الملك, وإن كان الخطاب موضوعا عنهما. ألا ترى أن الأداء لما وجب بالخطاب لم يلزم عليهما, وإنما لزم على المولى. قال شمس الأئمة رحمه الله, وقد دل على ما بينا قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} "البقرة: 43 و83 و و110" و"الحج: 78" و"النساء: 77" و"النور: 56" و"المزمل: 20" فالألف واللام دلتا على أن المراد أقيموا الصلاة التي أوجبتها عليكم بالسبب الذي جعلته سببا لها, وأدوا الزكاة الواجبة عليكم بسببها كقول القائل: أد الثمن إنما يفهم منه الخطاب بأداء ثمن الواجب بسببه, وهو البيع.
قوله "وإنما يعرف السبب" ثم بين الشيخ أمارة كون الشيء سببا فقال: إنما يعرف السبب بنسبة الحكم إليه أي إضافته إليه كقولك صلاة الظهر وصوم الشهر وحج البيت وحد الشرب, وكفارة القتل. وتعلقه به أي تعلق الحكم بالسبب بأن لا يوجد بدونه ويتكرر بتكرره; لأن الأصل في إضافة الشيء إلى الشيء أن يكون الشيء المضاف إليه سببا للمضاف, وأن يكون الشيء المضاف حادثا بالمضاف إليه كقولك كسب فلان أي حدث بفعله واختياره; لأن الإضافة لما كانت موضوعة للتمييز كان الأصل فيها الإضافة إلى أخص الأشياء به ليحصل التمييز, وأخص الأشياء بالحكم سببه; لأنه ثابت به فكانت الإضافة إليه أصلا فأما الشرط فإنما يضاف إليه; لأنه يوجد عنده فكانت الإضافة إليه مجازا, والمعتبر هو الحقيقة حتى يقوم دليل المجاز وتحقيقه أن الإضافة للتعريف فإن المضاف نكرة قبل الإضافة, وقد تعرف بعدها بالمضاف إليه; لأن الإضافة توجب الاختصاص, والشيء متى اختص في نفسه تعرف فإذا قلت جاءني غلام نكرة لشيوعه في الغلمان, ولو قلت جاءني غلام زيد صار معرفة لاختصاصه به. ثم اختصاص الشيء بغيره قد يكون بمعان فاختصاص الغلام بزيد بمعنى الملك واختصاص الابن بالأب في قولك ابن فلان بمعنى النسب واختصاص اليد بزيد في قولك يد زيد بمعنى الجزئية, وقس عليه. ثم تعرف الصلاة والصوم بإضافتهما إلى الوقت إما بمعنى السببية بأن يكون كل واحد منهما واجبا بما أضيف إليه. أو بمعنى الشرطية على معنى أن الوجوب يثبت(2/496)
------------------------------------------------------
ـــــــ
عنده. أو بمعنى الظرفية باعتبار أن وجود الواجب يحصل في هذا الوقت. ثم ترجح معنى السببية على الشرطية والظرفية; لأن مطلق إضافة الحادث إلى شيء يدل على حدوثه به كقولك عبد الله وناقة الله, وكفارة القتل, وكسب فلان وتركته والوجوب هو الحادث فدل على أنه كان بالوقت.
واعترض الشيخ أبو المعين رحمه الله على هذا الكلام فقال هذا كلام فاسد; لأن أهل اللغة ما وضعوا الإضافة لمعرفة الحدوث, ولا فهموه منها ألبتة, وإنما وضعوها للتعريف, وفهموا منها الاختصاص الموجب للتعريف. وكذا الإضافة إلى غير الله تعالى في اللغة شائع, ولو كان وضع الإضافة دالا على الحدوث لما جازت إضافة الأشياء إلى غير الله عز وجل حقيقة لتأديها إلى الشركة في الأحداث. وقد يضاف الأجسام والجواهر إلى العباد فيقال دار عبد الله, وفرس زيد وسيف خالد ويقال هذا عبد فلان كما يقال عبد الله فثبت أن الإضافة لا تدل على الحدوث. وكذا ما استدل به من قولهم كسب فلان وتركته يوجب بطلان هذا الكلام لا تصحيحه; لأن الكسب قد يكون عبدا وجارية ودارا وضيعة, وكذا التركة وربما كانت هذه الأشياء أقدم وجودا من الكاسب والتارك فكيف يتصور حدوثها به. ولو كان هو أسبق وجودا منها فأنى يتصور حدوثها به. ولو قيل كان ملكها حادثا بسببه تقول لم يضف إليه الملك إنما أضيف إليه أعيانها فإذن لم تدل الإضافة على حدوث المضاف بالمضاف إليه بل دلت على حدوث غير المضاف بالمضاف إليه فيبطل هذا الكلام. ثم قال في قوله صوم الشهر وصلاة الظهر لا يمكن أن يجعل حدوث كل واحد منهما بالوقت; لأن حدوثهما بإحداث الله تعالى عند مباشرة العبد واكتسابه إياهما, وهما يتعلقان بفعل فاعل مختار فإضافة حدوثهما إلى الأزمنة محال, ولا يمكن أن يجعل وجوبهما حادثا بالوقت; لأن الوجوب ليس بمضاف إلى الوقت بل نفس العبادة هي المضافة, وهي ليست بحادثة بالوقت, ولا يصح إضافة ما يحدث على زعم هذا القائل بالوقت إلى الوقت فإنك لو قلت وجوب الوقت كان فاسدا لا يفهم حدوثه به, ولو قلت وجوب الصوم والصلاة لا يفهم حدوث الوجوب بفعل الصوم والصلاة.
والعجب من قوله والوجوب هو الحادث فدل أنه كان بالوقت كان ما اتصف بالوجوب ليس بحادث أو كان الوجوب هو المضاف أو ما اتصف بالوجوب ليس بمضاف وساق كلاما طويلا إلى أن قال: والوجه الصحيح لترجيح جهة السببية على جهتي الشرط والظرف أن يقول ثمرة الإضافة التعريف, ولن يحصل هو إلا بالاختصاص, وهو تميز الشيء عن غيره بما يوجب ذلك من صفة لا يشاركه فيها غيره أو اسم علم أو نحو ذلك ثم قولك(2/497)
وكذلك إذا لازمه فتكرر بتكرره دل أنه مضاف إليه فإذا ثبت هذه الجملة قلنا : وجوب الإيمان بالله تعالى كما هو بأسمائه وصفاته مضاف إلى إيجابه في
ـــــــ
صوم الشهر وصلاة الظهر تعريف لهما فيختص كل واحد منهما بصفة لا يشاركه فيها غيره من جنسه, وذلك إما وجوده في الوقت, وإما وجوبه به أو وجوبه فيه وجانب الوجود منتف لزوال الاختصاص بهذا الوصف فإن في وقت الظهر يوجد غيرها من الصلوات من القضاء والنذر والنوافل والسنن الرواتب, وكذا الصوم في وقته غالب الوجود لا متيقن الوجود فإن نية النفل ممن يعلم أنه من رمضان يصح عند مالك ويقع عن النفل. وكذا المسافر لو صام عن واجب آخر يقع عنه عند أبي حنيفة رحمه الله. وكذا يتصور الانفكاك بين الوجود وبين الوقت فإن الامتناع عن أداء الصلاة والصوم من جملة الناس متصور, وإذا كان كذلك لم يحصل الاختصاص بطريق اليقين فلم يحصل التعريف يقينا. فأما الوجوب بالوقت أو فيه فمتيقن فكان صرف مطلق الكلام إليه أولى. فصار مطلق الإضافة دليل تعلق الصوم به وجوبا إما بطريق السببية أو بالشرطية. ثم يرجح جانب السببية على الشرطية; لأن الحكم أقوى اختصاصا وآكد لزوما بالسبب منه بالشرط; لأن تعلقه بالسبب تعلق الوجود وتعلقه بالشرط تعلق المجاورة كما في الظرف فكان اتصال الثبوت والوجود أقوى منه, وكذا تعلق الحكم بالسبب بغير واسطة وتعلقه بالشرط بواسطة بل لا تعلق للشرط بالحكم فإنه لم يجعل شرطا لثبوت الحكم بل جعل لانعقاد العلة, ولا شك أن ذلك الاختصاص بمقابلة هذا عدم, واختصاص الحكم بالسبب حقيقي وبالشرط جار مجرى المجاز بمقابلة هذا فانصرفت الإضافة في الدلالة إلى هذا النوع من الاختصاص, والله أعلم.
قوله "وكذلك إذا لازمه" دليل قوله وتعلقه به يعني كما أن الإضافة تدل على السببية تدل على ملازمة الشيء الشيء وتعلقه به وتكرره بتكرره على السببية أيضا; لأن الأمور تضاف إلى الأسباب الظاهرة فلما تكرر الحكم بتكرر شيء دل على أنه حادث به إذ هو السبب الظاهر لحدوثه. ثم الوجوب فيما نحن فيه أمر حادث, ولا بد له من سبب يضاف إليه, وليس هاهنا إلا الأمر أو الوقت, ولا يجوز أن يضاف إلى الأمر; لأن الأمر بالفعل لا يقتضي التكرار, ولا يحتمله, وإن تعلق بوقت أو شرط فإن من قال لعبده تصدق من مالي بدرهم إذا أمسيت أو إذا دلكت الشمس لا يقتضي التكرار كما لو قال تصدق من مالي بدرهم مطلقا على ما مر بيانه والتكرار ثابت هاهنا فتعين أن الوقت هو السبب, وأن أصل الوجوب مضاف إليه, وأن تكرره بسبب تكرره كسائر الأحكام المتعلقة بالأسباب مثل الحدود والكفارات فإنها تكرر بتكرر أسبابها. قوله "فإذا ثبت هذه الجملة" ولما أثبت الشيخ أن للمشروعات أسبابا بين سبب(2/498)
الحقيقة لكنه منسوب إلى حدث العالم تيسيرا على العباد, وقطعا لحجج المعاندين, وهذا سبب يلازم الوجوب لأنا لا نعني بهذا أن يكون سببا لوحدانية الله وإنما نعني به أنه سبب لوجوب الإيمان الذي هو فعل العباد, ولا وجوب إلا
ـــــــ
كل واحد منها وبدأ ببيان سبب وجوب الإيمان; لأنه رأس العبادات. فقال وجوب الإيمان بالله تعالى كما هو أي الإيمان الذي هو مطابق للحقيقة بأن يؤمن بوجوده وبوحدانيته جل جلاله, وبأسمائه مثل العليم والقادر والحكيم وسائر أسمائه الحسنى, وصفاته مثل العلم والقدرة والحياة وجميع صفاته العلى. والباء بمعنى مع والأسماء بمعنى التسميات يعني يصدق بقلبه ويقر بلسانه أنه تعالى واحد لا شريك له, ولا مثل, وأن له أسماء كاملة أي تسميات يصح إطلاقها على ذاته على الحقيقة كما يصح إطلاق العالم على زيد مثلا, وهي قائمة بالواصف ووصف للموصوف, وأن له جل جلاله صفات ثبوتية قديمة قائمة بذاته ليست عين ذاته, ولا غيره تقدست أسماؤه وتنزهت صفاته, لا كما زعمت المجسمة أنه جسم, وأن صفاته حادثة. ولا كما ذهبت المعطلة والفلاسفة إليه من إنكار الصفات, ولا كما ظن البعض أن بعض الصفات قديم وبعضها حادث تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا فهو معنى قوله بأسمائه وصفاته.
"مضاف إلى إيجابه" أي إيجاب الله تعالى كسائر الإيجابات. "لكنه" أي لكن وجوب الإيمان في الظاهر "منسوب إلى حدث العالم تيسيرا على العباد"; لأن إيجابه غيب عنا فنسب إلى سبب ظاهر يمكن الوصول إلى معرفة الإيجاب بواسطته تيسيرا للأمر علينا., "وقطعا لحجج المعاندين" إذ لو لم يوضع له سبب ظاهر ربما أنكر المعاند وجوبه, ولم يمكن الإلزام عليه فوضع السبب الظاهر إلزاما للحجة عليه, وقطعا لشبهته بالكلية; ولأنه لو لم يجعل حدث العالم سببا ربما احتجوا يوم القيامة, وقالوا ما ثبت لنا دليل الإيمان بك فلذلك لم نؤمن بك فجعل العالم سببا لوجوب الإيمان قطعا للجاجهم. ثم حدث العالم يصلح سببا لوجوبه; لأنه يدل على الصنعة والحدوث, وهما يدلان على الصانع والمحدث فيستدل بهما على أزله محدثا موصوفا بصفات الكمال منزها عن النقيصة والزوال فيكون سببا لوجوبه كذا ذكر أبو اليسر. وإليه أشار عمر رضي الله عنه في قوله البعرة تدل على البعير, وآثار المشي تدل على المسير, فهذا الهيكل العلوي والمركز السفلي أما يدلان على الصانع العليم الخبير. وهذا السبب يلازم الوجوب يعني لا ينفك عن الوجوب, ولا الوجوب عنه; لأن المراد من كونه سببا أنه موجب لفعل العبد, وهو التصديق والإقرار, ولا يتصور وجوب الفعل إلا على من هو أهله إذ الحكم لا يثبت بدون الأهلية كما لا يثبت بدون السبب., ولا وجود لمن هو أهل وجوب الإيمان على ما أجرى الله به سنته إلا(2/499)